نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين

آمال صادق

مقدمة

مقدمة ... تقديم الطبعة الرابعة: تصدر الطبعة الرابعة من كتاب "نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين" بعد أن استقبلت طبعاته السابقة بحمد الله وتوفيقه استقبالًا كريمًا طيبًا من الأروقة الأكاديمية في مصر والعالم العربي, وهو ما يحمل من معاني المسئولية أكبر مما يحمل من الشعور بالفخر والاعتزاز. وهذا الكتاب هو كتابنا المشترك الثاني بعد كتابنا الأول: "علم النفس التربوي", وإذا كان موضوع هذا الكتاب هو "نمو الإنسان", فإنه بذلك يعد امتدادًا وتوسيعًا لآفاق كتابنا الأول، فعلم نفس النمو لم يستقل أبدًا عن ميدان علم النفس التربوي مجاله الرحب وأفقه الواسع، فكل بحث في النمو الإنساني وكل دراسة حوله إنما تتم وعين الكاتب وقلب الباحث على طرق تويجه هذا النمو؛ بحيث يتحقق للإنسان في كل مراحل حياته هذا التآلف السعيد بين عالمه الشخصي وعالمه الاجتماعي، وعلماء النفس التربويون هم كتيبة من فيلقٍ عظيم من المتخصصين في العلوم الإنسانية, يسعون جاهدين ليحققوا للإنسان حلمه المنشود. والكتاب الذي بين يديك هو وصف لأبدع رحلات الإنسان، هذه الرحلة المعجزة التي تبدأ به خلية أحاديث التكوين, ويتحول خلالها إلى جنين, فطفل, فمراهق, فشاب, فراشد, فكهل, ثم إلى شيخ, فهرم فانٍ. هذه الرحلة التي وصفها القرآن الكريم في مواضع كثيرة، والتي تتضمن الكثير من آيات الله -سبحانه وتعالى- وسنته في خلقه. وقد وجَّه تصنيف مراحل النمو في هذا الكتاب تقسيم القرآن الكريم لها. يقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} . [الروم: 54] . وقد عبَّر الكتاب عن هذه المراحل الثلاث الكبرى بما نسميه: "المراحل الكبرى" في حياة الإنسان, أو "الأعمال الثلاثة" للإنسان, ومعنى ذلك أن هذا الكتاب لم يلتزم بالتقسيم الشهير لنمو الإنسان, وإنما سار على نحو يتفق مع التقسيم

القرآني إلى مرحلتين للضعف, بينهما مرحلة قوة, هي مرحلة الرشد, والضعف الأول "ضعف الطفولة والصبا والشباب" هو ضعف التحول إلى الرشد، أما الضعف الثاني: "ضعف الشيخوخة والهرم" فهو ضعف التحول عن الرشد. وقد جاءت الطبعة الرابعة من الكتاب في ستة أبواب. تناول الباب الأول الأسس العامة التي تقوم عليها دراسة النمو الإنساني, ويتألف من خمسة فصول. تناول الفصل الأول طبيعة النمو الإنساني وقضاياه الأساسية, وفي الفصل الثاني: عرض لأصول علم النفس في الغرب، وفي الفصل الثالث: محاولة لتحديد الوجهة الإسلامية لعلم نفس النمو, وتطلَّبَ ذلك السعي البحثَ في النمو الإنساني كما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ثم عند فقهاء المسلمين ومفكريهم وفلاسفتهم, ثم بناء نموذج النمو الإسلامي في هذا الإطار الإسلامي الشامل. وفي الفصل الرابع: عرض لمناهج البحث في النمو الإنساني؛ بدأناه بتوصيف مركز للصلة الوثيقة بين المنهج العلمي في البحث والتصور الإسلامي للمعرفة، ثم تناولنا بشيء من التفصيل والتقويم الطرق المنوعة التي يستخدمها الباحثون المحدثون في هذا الميدان. أما الفصل الخامس: فقد خصصناه للنماذج النظرية للنمو الإنساني, مع التركيز خاصةً على نموذج بياجيه في النمو المعرفي، ونموذ إريكسون في النمو الانفعالي والوجداني، ونموذج كولبرج في النمون الخلقي والاجتماعي. أما الباب الثاني: فيتناول مرحلة الجنين, والتي تعد جزءًا من العمر الأول للإنسان, والعمر الأول للإنسان هو تلك المرحلة الكبرى التي تبدأ بتكوين الجنين في الرحم, وتنتهي بدخول الإنسان عالم الراشدين, هي مرحلة تتسم بالضعف حسب الوصف القرآني لها، إلّا أنه ضعف التحول إلى القوة "أي: الرشد". ولهذا نلاحظ على هذه المرحلة الكبرى تحسنًا مستمرًّا مضطردًا يومًا بعد يوم, وعامًا بعد عام, تحقيقًا لهذه الغاية. وقد جاء الباب الثاني حول أطوار مرحلة الجنين في ثلاثة فصول, التزمنا فيها بالتقسيم القرآني لها؛ ففي الفصل السادس تناولنا تكوين النطفة, وفي الفصل السابع عرضنا لأطوار نمو الجنين ابتداءً من طور النطفة الأمشاج, فطور العلقة, فطور المضغة, فطور تكوين العظام والعضلات "اللحم", فطور التسوية، ثم خصَّصّنا الفصل الثامن لرعاية الجنين والأم الحامل. ويمتد العمر الأول للإنسان إلى الباب الثالث الذي خصصناه لمرحلة الطفولة. ومرة أخرى التزمنا في تصنيف أطوار هذه المرحلة بالتقسيم الإسلامي لها, وقد

جاء هذا الباب في أربعة فصول, فتناول الفصل التاسع طور الوليد، والفصل العاشر طور الرضيع، والفصل الحادي عشر طور الحضانة، والفصل الثاني عشر طور التمييز. ومع تقدم الإنسان في النمو في عمر ضعفه الأول تزداد قوته توجهًا نحو الرشد، ولهذا خصصنا الباب الرابع للمرحلة الأخيرة من مراحل هذا العمر الأول, وهي مرحلة المراهقة والشباب, وقد جاء تناولها في فصلين موجهين مرةً أخرى بالمنظور الإسلام؛ ففي الفصل الثالث عشر تناول لطور بلوغ الحلم "أو المراهقة"، وفي الفصل الرابع عشر معالجة لطور بلوغ السعي "أو الشباب". ويتناول الباب الخامس "العمر الثاني للإنسان" وهو الرشد الإنساني والقوة البشرية, والذي يمتد إلى أن يصل بالإنسان إلى ضعفه الجديد مع الشيخوخة, وقد جاء عرضنا لهذه الفترة الكبرى في أربعة فصول، فيعرض الفصل الخامس عشر لحدود الرشد, وكان موجهًا في هذا التحديد بالمحك الإسلامي، وفي تقيسم هذا العمر إلى مراحله وأطواره, وكان التزامنا -كالشأن في المراحل والأطوار السابقة- بالتوجيه الإسلامي، ولهذا تناول الفصل السادس عشر طور بلوغ الرشد "أو ما يسمى الرشد المبكر"، والفصل السابع عشر طور بلوع الأشد "أو ما يسمى وسط العمر", ثم خصصنا الفصل الثامن عشر لموضوعٍ هو الشغل للمربين المعاصرين, وهو التعلم مدى الحياة للإجابة على السؤال الهام: كيف يتعلم الراشدون؟ وفي الباب السادس والأخير: يتناول الكتاب "العمر الثالث للإنسان" أي: مرحلة ضعف المسنين, وقد جاء عرضنا لهذه المرحلة في أربعة فصول موجهة كلها بالمنظور الإسلامي؛ ففي الفصل التاسع عشر عرضنا لحدود الضعف الثاني, وهي حدود الشيخوخة والهرم، وقد تطلَّب ذلك مناقشة مفصلة للمحكّات الشائعة في الوقت الحاضر, ومناقشتها في ضوء المحك الإسلامي، وقد خصصنا لهذا الموضوع الفصل التاسع عشر، أما الفصل العشرون: فقد تناول التغيرات التي تطرأ على الإنسان في طور الشيخوخة، وهو الذي يسميه القرآن الكريم أرذل العمر. وكان لابد أن ينتهي هذا الباب كما ينتهي الكتاب بفصلٍ عن رعاية المسنين, وهو الفصل الثاني والعشرون. وهكذا نجد بإزاء تصور للنمو على أنه "دورة حياة", وليس مراحل منفصلة متقطعة, وإذا كان هذا التصور لم يشع في كتابات علم نفس النمو إلّا منذ سنوات

قليلة، فإن القرآن الكريم بإعجازه العلميّ الرفيع, عبَّر عنه بأبلغ تعبير منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا. يقول الله تعالى في سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ... } . وهذا الكتاب ما هو إلّا محاولة علمية لخدمة هذه الآيات البينات، ونحن نفضل أن يكون "العلم في خدمة القرآن الكريم", وقد حاولنا ما استطنا أن نعيد تنظيم المعرفة السيكولوجية المتاحة في هذا الإطار القرآني العظيم، سعيًا لتحديد وجهة إسلامية لعلم نفس النمو، ونرجو من الله -سبحانه وتعالى- أن نكون قد وفقنا في تحقيق هذه الغاية النبيلة. ولم يبق لنا أن نقول إلّا ما قلناه عند تقديم كتابنا الأول "علم النفس التربوي" وأيضًا في الطبعات السابقة من هذا الكتاب, من أننا نعتبر الجهد الذي بذلناه فيه رسالة ولاء لوطن أحببناه, وعلم كرسّنا حياتنا له، وهو ثمرة أخرى من ثمار عمرنا المشترك الذي قضيناه زوجين ووالدين وجدين ومعلمين وباحثين في علم النفس، والله نسأل أن ينفع به قارئه ودارسه, إنه سبحانه وتعالى هو الموفق إلى سواء السبيل. أ. د فؤاد عبد اللطيف أبو حطب أستاذ علم النفس التربوي كلية التربية جامعة عين شمس ومدير المركز القومي للإمتحانات والتقويم التربوي أ. د آمال أحمد مختار صادق أستاذ علم النفس التربوي كلية التربية جامعة حلوان نائب رئيس جامعة حلوان لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة القاهرة صفر 1419 هـ يونية 1998 م

الباب الأول: الأسس العامة

الباب الأول: الأسس العامة الفصل الأول: طبيعة النمو الإنساني مدخل ... الباب الأول: الأسس العامة الفصل الأول: طبيعة النمو الإنساني إن الذين يبحثون عن إجاباتٍ سهلة لأسئلتهم, وحلول جاهزة لمشكلاتهم, سوف يجدون النمو الإنساني موضوعًا محبطًا لتوقعاتهم، أما الذين يتسامحون مع الغموض, ويحبون التعامل مع الأسئلة التي لم يجب عنها بعد, بل الذين يفضلون الموضوعات التي تطرح المزيد من الأسئلة أكثر مما تقدم من إجابات, فسوف يجدون فيه موضوعًا للتحدي والاستثارة، بل والإبداع العلمي. والسؤال الذي نبدأ به هذا الكتاب هو: ما النمو؟ إن معظم دارسي هذا الموضوع -كغيرهم من دارسي الفروع الأخرى من علم النفس- يختلفون عن دارسي العلوم الطبيعية والبيولوجية, في أنهم يشعرون بأن موضوعهم مألوفٌ لديهم قبل البدء في أي دراسة منظمة له، فنحن جميعًا نعرف شيئًا عن أنفسنا في مراحل عمرنا المختلفة, وكلٌّ منا لاحظ عن قرب شخصًا آخر ينمو، طفلًا أو شابًا أو راشدًا أو كهلًا أو شيخًا، وكثيرون منا ساهموا في هذه العملية من خلال أدوار الوالدية, أو عمليات التنشئة والتطبيع، ومعظمنا سمع البرامج, وشاهد الأفلام, وقرأ ما هو شائع عن تقدم الإنسان وتدهوره في مختلف مراحل حياته، ولهذا السبب ربما يكون موضوع النمو هو الموضوع الوحيد من بين موضوعات مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية الذي يجعل قارئه مشاركًا مع كاتبه في حوار دائم، يتفق معه ويختلف، بل قد يشعر في كثير من الأحيان أن خبرته الشخصية لا تدعم النتائج التي تَمَّ التوصل إليها. إلَّا أن الألفة الشديدة بموضوع البحث قد تكون عائقًا أكثر منها ميزة؛ فهناك خطر حقيقيٌّ على الفهم العلمي عندما يقترب المرء من موضوع البحث مزودًا بأفكار مسبقة راسخة عنه، وخاصة إذا كانت هذه الأفكار هي من نوع المعتقدات الشائعة في الحكمة الشعبية أو الفهم العام, وبالطبع فإن الفهم العام قد يتفق أحيانًا مع الملاحظة العلمية, إلّا أنه في كثير من الأحيان لا يتفق, خذه بعض الأمثلة على ذلك: يذكر الفولكلور التربوي أن الأطفال الذين يحظون بالاهتمام الوالديّ المباشر عند كل صيحة تصدر عنهم, سوف يصبحون مدلَّلِين معتمدين. كما يذكر أيضًا

إنه إذا غابت العصا "أي: العقاب" يفسد الطفل. ويذكر ثالثًا أن الأطفال الذين ينشأون وسط عائلات كبيرة يكون محصولهم اللغوي أكبر من أطفال الأسر الصغيرة, ناهيك أنه قد ظهرت على مدى التاريخ الإنساني وجهات نظر متباينة حول طبيعة الطفل، ومن ذلك مثلًا: هل يولد الطفل وشخصيته الأساسية كاملة التكوين؟ أم أن هذه الشخصية تحددها أساليب التنشئة الاجتماعية وخاصة التنشئة الوالدية؟ هل الأطفال متوحشون صغار؟ ودور المجتمع أن يعلمهم السلوك المدني؟ أم أنهم يولدون كائنات أخلاقية ويعلمهم المجتمع الجشع والأنانية؟ هذه بعض أفكار الفهم العام التي لا يوجد دليل علمي يدعمها، بل إن بعضها توجد حوله ثروة من الأدلة التي تدحضه. ولم يتطور العلم إلّا عندما أنشأ مناهجه في البحث وطرقه في الدراسة, والتي بها نزداد فهما للقضايا الخلافية، فالخبرة الشخصية والفهم العام قد يكون نقطة البداية في دراسة النمو، إلّا أن اللجوء إلى الملاحظة العلمية المنظمة يساعد على ترشيد فهمنا لنمو السلوك الإنساني على أساس أدلة الواقع وشواهده، بالإضافة إلى أنها تعيننا على تغيير نظرتنا, وتوسيع آفاق وعينا، وكلما ازددنا تعلمًا بالأسلوب العلمي, يمكننا أن نرى أبعادًا جديدة في التفاصيل الكثيرة المألوفة في دورة الحياة الإنسانية.

موضوع علم نفس النمو

موضوع علم نفس النمو: النمو الإنساني أرض مشتركة لعدد من العلوم الإنسانية الاجتماعية والبيولوجية الفيزيائية، وتشمل علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم الأجنة وعلم الوراثة وعلم الطب، إلّا أن علم النفس يقف بين هذه العلوم بتميزه الواضح يتناول هذه الظاهرة, وأنشأ فرعًا منه يختص بدراستها, هو علم نفس النمو "أو علم النفس الارتقائي, كما يسمى أحيانًا" Developmental psychology, ومع ذلك فإن تنوع المعارف التي زودتنا بها العلوم الأخرى، ووفرة هذه المعلومات تدعونا إلى وصف هذا المجال بأنه من نوع المجالات العلمية المشتركة Interdisciplinary, التي يحتاج أصحابها إلى كل ما توفر مصادر المعرفة الأخرى الوثيقة الصلة به. وعلم نفس النمو هو فرع علم النفس الذي يهتم بدراسة التغيرات التي تطرأ على سلوك الإنسان من المهد -بل وقبله- إلى اللحد, ويحدد بجنر "Bigner, 1983: 5" الاهتمامات التي تشغل العلماء في هذا الميدان بالأسئلة العشرة الآتية:

"1" ما نمط التغير الذي يطرأ على الإنسان مع نموه؟ "2" ما التنظيم الذي تتخذه حياة الإنسان في دورتها الكلية أو مداها الكامل؟ "3" ما الخصائص المميزة للنمو في كل مرحلة من مراحل دورة الحياة؟ "4" ما الذي نتوقعه من الفرد في كل مرحلة من مراحل حياته؟ "5" ما درجة الاتساق في التغير من مرحلة إلى أخرى في حياة الإنسان؟ "6" ما درجة العمومية والتفرد في الشخصية الإنسانية في مراحل حياة الإنسان المختلفة؟ "7" ما الذي يمكن أن نقدمه للإنسان حتى يفهم مسيرة حياته تجنبًا لمشاعر القلق أو الخوف من المستقبل؟ "8" ما الذي يمكن أن تقدمه دراستنا لنمو سلوك الآخرين في فهم نمونا الذتي؟ "9" ما العوامل والقوى والمتغيرات التي تؤثر في النمو الإنساني عبر مدى الحياة؟ "10" ما الذي يمكن أن تقدمه دراسة النمو في مواجهة متطللبات الإنسان في الماضي والحاضر والمستقبل؟ وقد حاول علماء النفس الإجابة على بعض هذه الأسئلة طوال أكثر من مائة عام انقضت حتى الآن "عام 1998" منذ النشأة العلمية المنظمة لعلم نفس النمو. وفي كل مرحلة من مراحل نمو هذا العلم سادت بعض الاهتمامات وتضاءلت أخرى. فعندما ظهر هذا العلم في أواخر القرن التاسع عشر, كان تركيزه على فترات عمرية خاصة, وظلَّ على هذا النحو لعقود طويلة متتابعة, وكانت الاهتمامات المبكرة مقتصرة على أطفال المدارس، ثم امتدَّ الاهتمام إلى سنوات ما قبل المدرسة، وبعد ذلك إلى سن المهد "الوليد والرضيع"، فإلى مرحلة الجنين "مرحلة ما قبل الولادة". وبعد الحرب العلامية الأولى بقليل, بدأت البحوث حول المراهقة في الظهور والذيوع, وخلال فترة ما بين الحربين ظهرت بعض الدراسات حول الرشد المبكر، إلّا أنها لم تتناول النمو في هذه المرحلة بالمعنى المعتاد، بل ركزت على قضايا معينة مثل ذكاء الراشدين وسمات شخصياتهم, ويذكر مايلز miles, 1933" أنه حتى عام 1933 لم تتجاوز بحوث سيكولوجية النمو السنوات الخمس والعشرين الأولى من حياة الإنسان، بينما تركت السنوات الخمسون أو الستون التالية "والتي

تشمل مراحل الرشد والشيخوخة" للتراث القصصي والفولكلور النفسي والاجتماعي والانطباعات الشخصية. ومنذ الحرب العالمية الثانية ازداد الاهتمام التدريجي بالرشد، وخاصةً مع زيادة الاهتمام بحركة تعليم الكبار, أما الاهتمام بالمسنين فلم يظهر بشكلٍ واضحٍ إلّا منذ مطلع الستيات من هذا القرن، وكان السبب الجوهري في ذلك الزيادة السريعة في عددهم, ونسبتهم في الإحصاءات السكانية العامة، وما تتطلب ذلك من دراسة لمشكلاتهم, وتحديد أنواع الخدمات التي يجب أن توجه إليهم. وتذكر هيرلوك "Hurlock, 1980" سببين جوهرين لهذا الاهتمام غير المتكافئ بمراحل العمر المختلفة في مجال علم نفس النمو هما: 1- الحاجة إلى حل المشكلات العملية التطبيقية: من الدوافع الهامة التي وجَّهَت البحث في مجال علم نفس النمو الضروروات العملية, والرغبة في حلِّ المشكلات التي يعاني منها الأفراد في مرحلة عمرية معينة, ومن ذلك أن بحوث الطفولة بدأت في أصلها للتغلب على الصعوبات التربوية والتعليمية لتلاميذ المدرسة الابتدائية، ثم توجهت إلى المشكلات المرتبطة بطرق تنشئة الأطفال على وجه العموم، ووجّه البحث في محلة المهد الرغبة في معرفة ما يتوافر لدى الوليد من استعدادات يولد مزودًا بها، أما البحث في مرحلة الرشد فقد وجهه الدافع إلى دراسة المشكلات العملية المتصلة بالتوافق الزواجي, وأثر تهدم الأسرة على الطفل, وقد أشرنا فيما سبق إلى العوامل التي وجهت البحث في مجال الشيخوخة. 2- الصعوبات المنهجية في دراسة بعض مراحل العمر: على الرغم من الاهتمام بدراسة المراحل المختلفة لدورة الحياة لدى العامة المتخصصين على حدٍّ سواء، إلّا أن البحث في بعض هذه المراحل عاقته بعض الصعوبات المنهجية، فالحصول على عينات البحث مثلًا أسهل في حالة تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات، وتؤثر بعض الاتجاهات الوالدية في تعويق البحث في بعض المراحل، كأن ترفض الأمهات والآباء تعرض أطفالهم الرضع للبحث العلمي خوفًا عليهم من الأذى، وبالإضافة إلى ذلك, فإن الحصول على المعلومات من الراشدين سواء بتطبيق الاختبارات عليهم, أو إجراء المقابلات الشخصية معهم دونه خرط القتاد، وتزداد هذه الصعوبة مع تقدم الإنسان في السن، ولعل هذا يفسر لنا تركيز بحوث المسنين الحديثة على المودعين بمؤسسات الرعاية، وهم عادةً لا يمثلون الأصل الإحصائي العام في المجتمع.

أهداف البحث في علم نفس النمو

أهداف البحث في علم نفس النمو: يمكن القول أن لسيكولوجية النمو هدفين أساسيين: أولهما الوصف الكامل والدقيق قدر الإمكان للعمليات النفسية عند الناس في مختلف أعمارهم, واكتشاف خصائص التغير الذي يطرأ على هذه العمليات في كل عمر. وثانيهما تفسير التغيرات العمرية "الزمنية" في السلوك, أي: اكتشاف العوامل والقوى والمتغيرات التي تحدد هذه التغيرات، والهدف الثاني حديث نسبيًّا، فمن الوجهة التاريخية يمكن القول أن البحث في هذا الميدان منذ نشأته حتى وقتنا الحاضر, تركز على دراسة طبيعة التغير ومعدلاته في الجوانب المختلفة للسلوك؛ مثل: القدرة الحسية والحركية، ووظائف الإدراك والذكاء, والاستجابات الاجتماعية والانفاعالية وغيرها, وهي جميعًا تدخل في باب الوصف, وقد ازداد الاهتمام في السنوات الأخيرة بهدف التفسير, ثم أضيفت أهداف أخرى تتصل بالرعاية والمعاونة والتحكم والتنبؤ، أو باختصار التدخل في التغيرات السلوكية. 1- وصف التغيرات السلوكية: على الرغم من أن هدف الوصف هو أبسط أهداف العلم إلّا أن أكثرها أساسية، فبدونه يعجز العلم عن التقدم إلى أهدافه الأخرى، والوصف مهمته الجوهرية أن يحقق للباحث "فهمًا" أفضل للظاهرة موضع البحث. ولذلك, فالباحث في علم نفس النمو عليه أن يجيب أولًا على أسئلة هامة مثل: متى تبدأ عملية نفسية معينة في الظهور؟ وما هي الخطوات التي تسير فيها, سواءً نحو التحسن أو التدهور؟ وكيف تؤلف مع غيرها من العمليات النفسية الأخرى أنماطًا معينة من النمو؟ خذ مثلًا على ذلك: إننا جميعًا نلاحظ تعلق الرضيع بأمه، وأن الأم تبادل طفلها هذا الشعور، والسؤال هنا: متى يبدأ شعور التعلق attachment في الظهور؟ وما هي مراحل تطوره؟ وهل الطفل المتعلق بأمه تعلقًا آمنًا يكون أكثر قدرة على الاتصال بالغرباء, أم أن هذه القدرة تكون أكبر لدى الطفل الأقل تعلقًا بأمه؟ هذه وغيرها أسئلة من النوع الوصفي. ويجاب عن هذه الأسئلة بالبحث العلمي الذي يعتمد على الملاحظة، أي: من خلال مشاهدة الأطفال والاستماع إليهم، وتسجيل ملاحظتنا بدقة وموضوعية. وكانت أقدم الملاحظات المنظمة المسجلة التي تتعلق بنمو الأطفال ما يسمى: "سير الأطفال", والتي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر, وخلال القرن التاسع

عشر، وتتلخص في وصف نمو طفل واحد "هو في العادة ابن الباحث أو قريبه" في محاولة لتتبع التغيرات في النواحي الحسية والحركة واللغوية والقدرة العقلية. وعلى الرغم من أن هذه الأعمال لا تعد من نوع الملاحظات العلمية؛ لأنها تتسم بالتحيز والانتقائية, إلّا أنها أثارت اهتمامًا كبيرًا بدراسة الأطفال, وبالمشكلات الجوهرية في سيكولوجية النمو. وفي نهاية القرن التاسع عشر, أجرى عالم النفس الأمريكي ج. ستانلي هول, أول بحث منظم حول ما أسماه: "محتويات عقول الأطفال"، وقد استخدم لأول مرة مجموعة من الأسئلة يمكن أن يجيب عنها كتابة مجموعات كبيرة من الأطفال. وأعدت هذه "الاستخبارات" لجمع معلومات عن سلوك الأطفال والمرهقين، واتجاهاتهم وميولهم, وقد كان غرض هول -مثل غرض كتاب سير الأطفال- وصف طبيعة "محتويات العقول" وصفًا دقيقًا، ويشمل ذلك الأفكار والمشاعر والانفعالات. وبزيادة الاهتمام بميدان سيكولوجية النمو ابتكر علماء النفس طرقًا أفضل, وجمعوا بيانات أدق تصف لنا الجوانب المختلفة للنمو, وقد زودتنا نتائج هذه البحوث الوصفية بثروة هائلة من الحقائق الجزئية التفصيلية إلى حد يدفعنا إلى القول بأنه: لا يوجد فرع آخر من فروع علم النفس توافر له ما توافر لعلم نفس النمو من تفاصيل ودقائق المعرفة. والغرض الذي يسعى إليه الوصف في العلم هو تحقيق درجة عالية من الفهم، ولا شك أن ما يعيننا على مزيد من الفهم, أن ملاحظتنا الوصفية في مجال علم نفس النمو لا تكون عادة منفصلة، وإنما تتخذ في الأغلب صورة النمط أو المتوالية، وحالما يستطيع الباحث أن يصف اتجاهات نمائية معينة, ويحدد موضع الطفل أو المراهق أو الراشد فيها, فإنه يمكنه الوصول إلى الأحكام الصحيحة حول معدل نموه، وهكذا نجد أن هدف الوصف في علم نفس النمو يمر بمرحلتين أساسيتين؛ أولاهما: الوصف المفصل للحقائق النمائية، وثانيتهما: ترتيب هذه الحقائق في اتجاهات أو "أنماط" وصفية كما يسميها فشبن "Fishbein, 1984: 7", وهذه الأنماط قد تكون متآنية في مرحلة معينة، أو متتابعة عبر المراحل العمرية المختلفة. 2- تفسير التغيرات السلوكية: الهدف الثاني لعلم نفس النمو هو التعمق فيما وراء الأنماط السلوكية التي تقبل الملاحظة، والبحث عن أسباب حدوثها, أي: هدف التفسير, والتفسير يعين الباحث على تعليل الظواهر موضع البحث من خلال الإجابة على سؤال: لماذا؟ بينما

الوصف يجب على السؤال: ماذا؟ وكيف؟ وقد ظلَّ وصف اتجاهات النمو هدفًَا سائدًا في هذا الميدان لسنوات طويلة، ولم تتحول البحوث إلّا في الربع الأخير من القرن العشرين إلى الهدف الثاني, وهو تفسير التغيرات السلوكية التي نلاحظها مع تقدم الإنسان في العمر. ومن الأسئلة التفسيرية: لماذا يتخلف الطفل في المشي, أو يكون أكثر طلاقة في الكلام، أو أكثر قدرة على حل المشكلات المعقدة بتقدمه في العمر؟ وإلى أيّ حدٍّ ترجع هذه التغيرات إلى "الفطرة" التي تشمل فيما تشمل الخصائص البيولوجية والعوامل الوراثية ونضج الجهاز العصبي، أو إلى "الخبرة" أي: التعلم واستثارة البيئة؟ والإجابة على مثل هذه الأسئلة تتطلب من الباحث أن يسير في اتجاهين؛ أحدهما: يجيب على السؤال: لماذا تبدأ متوالية سلوكية معينة في الظهور؟ وثانيهما: لماذا تستمر هذه المتوالية السلوكية في النمو؟ وعادة ما تبدأ الإجابة بتقصي الدور النسبي للفطرة "الوراثة", والخبرة "البيئة". فمثلًا إذا كان الأطفال المتقدمون في الكلام في عمر معين يختلفون وراثيًّا عن المتخلفين نسبيًّا فيه, نستنتج من هذا أن معدل التغير في اليسر اللغوي يعتمد ولو جزئيًّا على الوراثة, أما إذا كشفت البحوث عن أن الأطفال المتقدمين في الكلام يلقون تشجيعًا أكثر على إنجازهم اللغوي, ويمارسون الكلام أكثر من غيرهم, فإننا نستنتج أن التحسن في القدرة اللغوية الحادث مع التقدم في العمر يمكن أن يعزى -جزئيًّا على الأقل- إلى الزيادة في الاستثارة البيئية. وفي الأغلب نجد أن من الواجب علينا لتفسير ظواهر النمو أن نستخدم المعارف المتراكمة في ميادين كثيرة أخرى من علم النفس وغيره من العلوم؛ مثل: نتائج البحوث في مجالات التعلم والإدراك والدافعية, وعلم النفس الاجتماعي, وسيكولوجية الشخصية, والوراثة, وعلم وظائف الأعضاء "الفسيولوجيا", والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع. وإليك بعض الأمثلة على العلاقات بين هذه الموضوعات المتعددة؛ فبعض الخصائص مثل المظهر الجسمي ومعدلات النمو الجسمي والذكاء, وبعض صور الضعف العقلي والمرض العقلي, تتحدد جزئيًّا بالوراثة، ولكي نفهم هذه النواحي فهمًا كاملًا, فإن الأخصائي في سيكولوجية النمو يحتاج إلى بعض المعلومات من علم الوراثة, كما أن التغيرات الجسمية والسلوكية السريعة التي تحدث في فترة المراهقة تتحدد كثيرًا بعمليات فسيولوجية أساسية, منها نشاط الغدد الصماء, والكيمياء الحيوية لجهاز الدم في الجسم، ولبحث هذه الظواهر يجب على علم

النفس أن يحصل على نتائج علم الفسيولوجيا وعلم الغدد الصماء، ومن البحوث التي تجرى في ميدان طب الأطفال تحصل على معلومات هامة عن تأثيرات المرض وسوء التغذية والعقاقير في النمو الجسمي والنفسي. وكثير من دوافع الشخص ومشاعره واتجاهاته وميوله, تتحدد إلى حدٍّ كبير بالجماعة التي ينتمي إليها, سواء كانت طبقة اجتماعية, أو جماعة دينية, أو جغرافية, أو عنصرية، وقد قدَّم لنا علم الأنثربولوجيا وعلم الاجتماع حقائق هامة عن أثر البيئة الاجتماعية والثقافة في نمو الشخصية, وفي النمو الاجتماعي للإنسان. ومن الواضع من هذا كله أن الفهم الشامل لسيكولوجية النمو, والتغيرات النمائية والميكانيزمات والعمليات المحددة له, يتطلب تكامل أنواع عديدة من المعارف التي نحصل عليها من مصادر متعددة للعلم. وحتى يمكننا الحكم على نتائج البحوث التي أجريت في ميدان النمو, يجب أن نميِّز دائمًا بين الوصف والتفسير؛ فالظواهر يجب أن توصف قبل أن تفسير، ولكن الوصف في حدِّ ذاته لا يعطينا تعليلًا يوضح لماذا تحدث الظاهرة, أو يشرح العوامل أو المحددات التي تؤثر فيها. خذ مثلًا على ذلك إذا وجد الباحث أن الطفل من سن 3 سنوات يميل إلى أن يصبح أكثر ميلًَا إلى السلوك السلبي والمعارضة والعناد من طفل سن الثالثة, هذه النتيجة هي مجرد وصف، ولا تعطي أي معلومات عن الأسباب التي تؤدي بالطفل إلى هذا السلوك, وأخطر ما في الأمر أن يميل المرء إلى تفسير سلوك هذا الطفل في ضوء العمر الزمني وحده، وكأنه بذلك يقول: إن الطفل يميل إلى المعارضة لأن عمره ثلاث سنوات, إن هذه العبارة ليست دقيقة علميًّا, كما أنها ليست مقنعة منطقيًّا. 3- التدخل في التغيرات السلوكية: الهدف الثالث من أهداف الدراسة العلمية لنمو السلوك الإنساني هو التدخل في التغيرات السلوكية سعيًا للتحكم فيها, حتى يمكن ضبطها وتوجيهها والتنبؤ بها. ولا يمكن أن يصل العلم إلى تحقيق هذا الهدف إلّا بعد وصف جيد لظواهره وتفسيرٍ دقيق صحيح لها من خلال تحديد العوامل المؤثرة فيها, لنفرض أن البحث العلمي أكد لنا أن التاريخ التربوي الخاطيء للطفل يؤدي به إلى أن يصبح بطيئًَا في عمله المدرسي، ثائرًا متمردًا في علاقاته مع الأفراد، إن هذا التفسير يفيد في أغراض العلاج؛ من خلال تصحيح نتائج الخبرات الخاطئة، والتدريب على مهارات التعامل الاجتماعي مع الآخرين، وقد يتخذ ذلك صورًا عديدة لعل أهمها

التربية التعويضية Compensatory education, والتعلم العلاجي Rmedial Learning. ولعل هذا الهدف يقودنا إلى مهمة عاجلة لسيكولوجية النمو، وهي مهمة الرعاية والمساعدة, والمتخصص في علم نفس النمو لا يستطيع ذلك إلّا إذا توافر له من الفهم من خلال الوصف والقدرة على التعليل من خلال التفسير ما يمكِّنُه من اقتراح نوع الرعاية المناسبة, وبالطبع فإن الرغبة في المساعدة والرعاية يشترك فيها الأخصائي النفسي مع آخرين غيره؛ منهم الآباء والأمهات والمعلمون والأطباء والممرضون والأخصائيون الاجتماعيون والدعاة والوعاظ والإعلاميون, ومهمة علم نفس النمو أن يقدم لهؤلاء وغيرهم الفهم الواضح, والتعليل الدقيق لظواهر النمو الإنساني.

خصائص النمو الإنساني

خصائص النمو الإنساني النمو عملية تغير ... خصائص النمو الإنساني: حتى يتوجه فهمنا لطبيعة النمو الإنساني وجهةً صحيحةً نعرض فيما يلي الخصائص الجوهرية لهذه العملية الهامة. 1- النمو عملية تغير: كل نمو في جوهره تغير، ولكن ليس كل تغير يعد نموًّا حقيقيًّا, وتستخدم كلمة نمو في التراث السيكولوجي العربي المعاصر ترجمة لكلمة Development، ولو أنها ليست الترجمة الدقيقة، فالأصح أن تترجم هذه الكلمة الإنجليزية بكلمة "تنمية", وهناك ترجمة محدودة للكلمة بمعنى: "ارتقاء", حين يستخدم مصطلح "علم النفس الارتقائي"، ترجمة لعبارة Developmental Psychology كما أشرنا. وفي هذا الصدد قد يقتصر استخدام كلمة نمو على أن تكون ترجمة لكلمة Growth, والتي يقصر البعض استخدامها على الزيادة الإضافية في مقدار الخاصية أو الصفة السلوكية. وعمومًا يمكن القول أن علم نفس النمو يهتم بالتغيرات السلوكية التي ترتبط ارتباطًا منتظمًا بالعمر الزمني, فإذا كانت هذه التغيرات تطرأ على النواحي البيولوجية والفسيولوجية والنيرولوجية, وتحدث في بنية الجسم الإنساني ووظائف أعضائه نتيجة للعوامل الوراثية "الفطرة" في أغلب الأحيان، فإن هذه التغيرت تسمى نضجًا Maturation, أما إذا كانت هذه التغيرات ترجع في جوهرها إلى آثار الظروف البيئية "الخبرة", تسمى تعلمًا Learing.

وفي كلتا الحالتين: النضج والتعلم, قد تدل التغيرات على تحسن أو تدهور, وعادة ما يكون التدهور في الحالتين في المراحل المتأخرة من العمر "فؤاد أبو حطب 1972، 1975". وهكذا يمكن القول أن المعنى السابق لكلمتي "تنمية" و"ارتقاء", متضمن في استخدام كلمة "نمو", الأكثر شيوعًا واستخدامًا في اللغة السيكولوجية العربية، ولهذا فإن موقفنا في هذا الكتاب هو اسخدام كلمة "نمو" لتدل على التغيرات الارتقائية أو التنموية التي أشرنا إليها, ولعل مما يفيد أغراض هذا الاستخدام أن من معاني كلمة Development الإنجليزية, كلمات مثل: نمو Growth, وتطور Evolution, وفيهما لا تتبع حالة معينة حالة أخرى فحسب، وإنما لا بد أيضًا أن تنبثق الحالة الراهنة من حالة سابقة, وقد يكون النمو أو التنمية في هذه الحالة تدريجيًّا "أي: تطور", أو تحوليًّا "أي: ثورة" Revolution. أما التغيرات غير النمائية, فإنها على العكس تعد نوعًا من حالة الانتقال التي لا تتطلب ثورة, أو تطورًا, أو تنمية بالمعنى السابق؛ فالشخص قد يغير ملابسه إلّا أن ذلك لا يعني نموًّا, فتتابع الأحداث في هذا المثال لا يتضمن وجود علاقة بين الحالة الراهنة للشخص وحالته السابقة, ومن السخف، بل من العبث، أن نفترض مثلًا أن ملابس الشخص التي كان يرتديها في العام الماضي نمت بالتطور أو الثورة إلى ما يرتديه الآن. وهناك خاصية أخيرة في التغيرات النمائية أنها شبه دائمة باعتبارها نتاج كلٍّ من التعلم والنضج، وفي هذا تختلف عن التغيرات المؤقتة أو العارضة أو الطارئة؛ مثل: حالات التعب أو النوم أو الوقوع تحت تأثير مخدر، فكلها ألوان من التغير المؤقت في السلوك, ولكنها ليست نموًّا؛ لأن هذه التغيرات جميعًا تزول بزوال العوامل المؤثرة فيها, وتعود الأحوال إلى ما كانت عليه من قبل.

النمو عملية منتظمة

2- النمو عملية منتظمة: توجد أدلة تجريبية على أن تغيرات النمو تحدث بطريقة منتظمة، على الأقل في الظروف البيئية العادية, ومن هذه الأدلة ما يتوافر من دراسة الأطفال المبتسرين "الذين يولدون بعد فترة حمل تقل عن 38 أسبوعًا", والذين يوضع الواحد منهم في محضن يتشابه مع بيئة الرحم لاكتمال نموه كجنين، فقد لوحظ أنهم ينمون بيولوجيًّا وفسيولوجيًّا وعصبيًّا بنفس معدل نمو الأجنة الذين يبقون في الرحم نفس الفترة الزمنية. وتحدث تغيرات منتظمة مماثلة بعد الولادة, واشهر الأدلة على ذلك جاء من بحوث جيزل وزملائه الذين درسوا النمو الحركي للأطفال في السنوات الأولى من حياتهم, فقد لاحظوا الأطفال في فترات منتظمة, وفي ظروف مقننة, ووصفوا سلوكهم وصفًا دقيقًا, ووجدوا نمطًا تتابعيًّا للنمو الحركي، حتى أن جيزل اقترح لوصف هذ التتابع المنتظم الثابت تسمية خاصة هي "المورفولوجيا النفسية". ومن أمثلة ذلك "الاتجاه من أعلى إلى أسفل" الذي أشار إليه كوجهل وغيره، و"الاتجاه من الوسط إلى الأطراف", كما تظهر خصائص الانتظام في سلوك الحبو والوقوف والمشي واستخدام الأيدي والأصابع والكلام, هذه الألوان من السلوك تظهر في معظم الأطفال بترتيبٍ وتتابعٍ يكاد يكون واحدًا؛ ففي نضج المهارات الحركية عند الأطفال نجد أن الجلوس يسبق الحبو، والحبو يسبق الوقوف، والوقوف يسبق المشي, وهكذا. فكل مرحلة تمهد الطريق للمرحلة التالية، وتتابع المراحل على نحو موحد. وقد تثير هذه الخاصية مرةً أخرى مسألة العلاقة بين النمو والعمر الزمني التي أشرنا إليها في وصفنا للتغيرات النمائية, لقد أدَّى ذلك بكثير من الباحثين إلى الاهتمام بوضع قوائم بالأحداث التي تطرأ على حياة الإنسان مع تقدمه في العمر. ومع ذلك لم يقدم ذلك الجهد إسهامًا يذكر في فهمنا لطبيعة عملية النمو, والأجدى بالطبع هو وصف الأنماط السلوكية التي تنتج عن التكامل بين الذخيرة السلوكية المتوافرة لدى الفرد في وقت ما, والخبرات الجديدة التي يتعرض لها, ولهذا نجد كيسن "Kessen, 1960" يقول: إن العمر في حد ذاته ليس هو المعادل الموضوعي للنمو, والعمر -في رأينا- ليس "زمنًا أجوف"، كما أن النمو لا يمكن أن يحدث في "فراغ زمني" وإنما يحدث فيه دائمًا هذا التفاعل والتكامل بين الخبرة الراهنة والبنى السلوكية التي تكونت من قبل لدى الفرد، وهو التفاعل والتكامل الذي يؤدي إلى تغيير طريقة الفرد في التفاعل مع البيئة, وعلى نحوٍ يؤدي به إلى مستويات أعلى من هذا التفاعل والتكامل "في حالة التحسن", أو إلى مشتويات أدنى منهما "في حالة التدهور"، وهما وجها النمو. والخلاصة هنا أن النمو الإنساني يحدث في فترة محددة من الزمن، إلّا أن الزمن وحده ليس شرطًا كافيًا لحدوث النمو, وباختصار نقول: إن التغيرات النمائية هي المحتوى السلوكي للزمن.

النمو عملية كلية

3- النمو عملية كلية: يلجأ بعض مؤلفي كتب النمو إلى تناول الموضوع حسب مظاهر النمو ومجالاته، فيخصصون فصولًا أو كتبًا كاملة حول النمو الجسمي أو النمو العقلي أو النمو الوجداني أو النمو الاجتماعي عبر عدة مراحل لحياة الإنسان, وهذا أسلوب له حدوده، فقد يوحي بأن المكونات الجسمية والعقلية والاجتماعية والوجدانية الانفعالية من النشاط الإنساني, أو الشخصية الإنسانية, يمكن الفصل بينها, وتداول كل منها على أنه مظهر مستقل بالفعل, وهذا بالطبع مستحيل؛ فالنمو عملية كلية Holistic تحدث مظاهرها كلها متآنية وبينها علاقات متداخلة. والتركيز على تحليل المكونات قد يوقع القارئ في خطأ تجاهل ما يجب أن تكون عليه كل مرحلة من مراحل الحياة من تكامل واتساق. وأيّ مبتدئ في علم النفس يعلم أن تحليل النمو إلى مكوناته هو أمر اصطناعي، على الرغم من أهميته. فالباحثون الذين يعملون في أي مجال من مجالات النمو, يلاحظون أن التغير في أحد مظاهر النمو له تضميناته وآثاره في المظاهر الأخرى؛ فالنمو اللغوي لا يعتمد فقط على المهارات اللغوية والنمو العقلي, وإنما يعتمد في كثير من جوانبه على النمو الاجتماعي والوجداني للطفل, وعلى ذلك فمن الواجب على المهتم بعلم نفس النمو أن يتبع منهجه التحليلي بنظرة تركيبية, وإلّا افتقد "وحدة" الشخصية، "وتكامل" السلوك. وقد وصف أحد مؤلفي هذا الكتاب دور كل من التحليل والتركيب في دراسة السلوك الإنساني في موضع آخر "فؤاد أبو حطب، 1996", وفي جميع الأحوال يجب أن نكون على وعيٍ بأن الكائن الإنساني هو مخلوق جسمي ومعرفي ووجداني واجتماعي في آنٍ واحد، وكل مكون من هذه المكونات يعتمد -جزئيًّا على الأقل- على التغيرات التي تحدث في المكونات الأخرى. وعلى الرغم من أن المنحى الكليّ في النظر إلى النمو يعود بأصوله إلى سمتس عام 1962. "Smuts, 1926", حين نحت مصطلح Holism, إلّا أن توظيفه في علم نفس النمو لم يظهر بشكل جادٍّ إلّا على يد شوستر وآشبورن "Schuster & Ashburn 1992", والذي ظهر في الطبعة الأولى من كتابهما عام 1980, وعندهما أن المنظور الكلي يجب أن يتسع ليشمل المنحى التكاملي Inregrated في دراسة النمو الإنساني, والذي يتطلب دراسة أسرة الفرد وتاريخه وبيئته وأهدافه وأدواره, ولعل هذا يذكرنا بالمنظور التكاملي للنمو الذي قدمه عالم النفس المصري الرائد يوسف مراد, منذ أواخر الأربعينيات, وهو ما تناوله أحد مؤلفي هذا الكتاب في دراسة مستقلة "فؤاد أبو حطب 1996".

النمو عملية فردية

4- النمو عملية فردية: يتسم النمو الإنساني بأنَّ كل فرد ينمو بطريقته وبمعدله، ومع ذلك فإن الموضوع يخضع للدراسة العلمية المنظمة، فمن المعروف أن البحث العلمي يتناول حالات فردية من أي ظاهرة فيزيائية أو نفسية، ثم يعمم من هذه الحالات إلى الظواهر المماثلة، إلّا أن شرط التعميم العلمي الصحيح أن يكون عدد هذه الحالات عينة ممثلة للأصل الإحصائي الذي تنتسب إليه, وبالطبع فإن هذا التعميم في العلوم الإنسانية يتم بدرجة من الثقة أقل منه في العلوم الطبيعية, وذلك بسبب طبيعة السلوك الإنساني, الذي هو موضوع البحث في الفئة الأولى من هذه العلوم. والنمو الإنساني -على وجه الخصوص- خبرة فريدة، ولهذا فإن ما يسمى القوانين السلوكية قد لا تطبق على كل فرد بسبب تعقد سلوك الإنسان، وتعقد البيئة التي يعيش فيها، وتعقد التفاعل بينهما, ومن المعلوم في فلسفة العلم أن التعميم لا يقدِّم المعنى الكلي للقانون إذا لم يتضمن معالجة مفصلة لكل حالة من الحالات التي يصدق عليها, ومعنى هذا أن علم نفس النمو له الحق في الوصول إلى قوانينه وتعميماته، إلّا أننا يبقى معنا الحق دائمًا في التعامل مع الإنسان موضع البحث فيه على أنه كائن فريد, ولعلنا بذلك نحقق التوازن بين المنحى الناموسي العام Nomothtic, والمنحى الفردي الخاص Ldiographic، وهو ما لا يكاد يحققه أي فرع آخر من فروع علم النفس.

النمو عملية فارقة

5- النمو عملية فارقة: على الرغم من أن كثيرًا من العلومات التي تتناولها بحوث النمو تشتق مما يسمى المعاير السلوكية، إلّا أننا يجب أن نحذر دائمًا من تحويل هذه المعايير إلى قيود, وهذا ما نبَّه إليه نيوجارتن وزملاؤه "Neugartten et al 1965" منذ عام 1965. وهذا التحفظ ضروري وإلّا وقع الناس في خطأ فادحٍ يتمثل في إجبار أنفسهم وإجبار الآخرين على الالتزام بما تحدده هذه المعايير، ويدركونه بالطبع على أنه النمط "المثالي" للنمو, ومعنى ذلك أن ما يؤديه الناس على أنه السلوك المعتاد أو المتوسط، أو ما يؤدى بالفعل، "وهو جوهر المفهوم الأساسي للمعاير" يتحول في هذه الحالة ليصبح ما يجب أن يؤدى, ولعل هذا هو سبب ما يشيع بين الناس من الاعتقاد في وجود أوقات ومواعيد "ملائمة" لكل سلوك. وهكذا يصبح المعيار العملي البسيط تقليدًا اجتماعيًّا، ويقع الناس أسرى لما يسميه هيوز ونوب "Hughes & Noppe, 1985" بالساعة الاجتماعية؛ بها يحكمون على كل نشاط من الأنشطة العظمى في حياتهم بأنه في "وقته تمامًا" أو أنه "مبكر" أو "متأخر" عنه, يصدق هذا على دخوله المدرسة أو إنهاء الدراسة أو الالتحاق بالعمل أو الزواج أو التقاعد, ما دام لكل ذلك معاييره, فحينما ينتهي الفرد من تعليمه الجامعيّ مثلًا في سن الثلاثين, فإنه يوصف "بالتأخير" حسب الساعة الاجتماعية، بينما إنجازه في سن السابعة عشرة يجعله "مبكرًا".

وتوجد بالطبع أسباب صحيحة لكثير من قيود العمر, فمن المنطقي مثلًا أن ينصح طبيب الولادة سيدة في منتصف العمر بعدم الحمل, كما أن من العبث أن نتوقع من طفل في العاشرة من عمره أن يقود السيارة, إلّا أن هناك الكثير من قيود العمر التي ليس لها معنى على الإطلاق فيما عدا أنها تمثل ما تعود الناس عليه، كأن تعتبر العشرينات أنسب عمر للزواج في المعيار الأمريكي "Neugarten et al, 1965", وهذه المجموعة الأخيرة من القيود هي التي نحذّر منها, حتى لا يقع النمو الإنساني في شرك "القولية" والجمود, بينما هو في جوهره مرن على أساس مسلمة الفروق الفردية التي تؤكد التنوع والاختلاف بين البشر.

النمو عملية مستمرة

6- النمو عملية مستمرة: الخاصية السادسة والأكثر أهمية من خصائص النمو تتصل في جوهرها بمفهوم مدى الحياة Life-span, والذي يؤكده المنظور الإسلامي للنمو كما سنبين فيما بعد, ومعنى ذلك أن التغيرات السلوكية التي تعتمد في جوهرها على النضج والتعلم تحدث باستمرار في جميع مراحل العمر, ويمكن التدليل على ذلك من شواهد كثيرة من مختلف مراحل العمر, ابتداءً من مرحلة الجنين, وحتى الشيخوخة. وهكذا يصبح النمو تيارًا متصلًا لا نقاطًا متقطعة, ويمكن أن نشبه دراستنا لأجزاء منفصلة من مدى الحياة الإنسانية بدراسة أجزاء مقتطفة من فيلم أو رواية أو مسرحية, ولك أن تتصور مدى الصعوبة التي تنتابك في الفهم أو في تتبع شخصيات الرواية أو أحداثها, إذا لم تشاهد منها إلّا الفصل الثاني من بين فصولها الثلاثة. وبالمثل كيف يمكننا فهم نمو الفرد الإنساني إذا لاحظناه فقط في مرحلة الطفولة أو المراهقة أو الشيخوخة؟ فكما أن الفصل الثاني في المسرحية يتطور من الفصل الأول, ويعتمد عليه, وفي نفس الوقت يؤلف الأساس الذي يبنى عليه الفصل الثالث، فإن مراهقة الإنسان تتطور من خبرات طفولته, وتعتمد عليها وتؤلف أساس خبرات الرشد التالية. ولأغراض الفهم العلمي تنقسم دورة الحياة في العادة إلى مراحل متعددة, وقد أطلق عليها ليفنسون "Levinson, 1978" مصطلح "مواسم" الحياة, بل إن معظم كتب علم نفس النمو تركز على بعض المراحل دون سواها, ولعل المرحلتين الأكثر شيوعًا هما الطفولة والمراهقة، وهو الطابع الغالب على معظم ما صدر في هذ الميدان من كتب باللغة العربية إذا استثنينا كتاب الرائد الراحل فؤاد البهي السيد "الأسس النفسية للنمو من الطفولة إلى الشيخوخة" "فؤاد أبو حطب، 1997"، بل إن معظم الكليات والمعاهد الجامعية تقدم مقررات حول نمو الطفل ونمو المراهق ونمو الراشد وهكذا.

وعلى الرغم من ملائمة مفهوم المرحلة النمائية للأغراض الأكاديمية إلّا أنه قد يؤدي إلى نوعين من سوء الفهم: أولهما: الشعور بأن مراحل الحياة منفصلة منعزلة, بينما هي ليست كذلك بحكم أنها جزء من تيار الحياة المتدفق، والواقع أن هذه المراحل يتطور بعضها من بعض بشكل مستمر, وثانيهما: الحصول على انطباع زائف عن أن مراحل الحياة ثابتة, بينما هي في الواقع تتضمن تغيرت وتحولات دائمة في داخلها, ومن ذلك مثلًا أن الفرد لا يبقى معطلًا في مرحلة المراهقة, حتى يصبح مستعدًا للقفز إلى الأمام في مرحلة الرشد المبكر. وما يحدث بالفعل أنه يوجد نمو دائم داخل المراهقة, كما هو الحال في جميع مراحل الحياة. والرشد المبكر لا يتبع المراهقة فحسب, ولكنه يتطور تدريجيًّا منها, ومعظم ما نحن عليه في مرحلة معينة من مراحل حياتنا هو نتاج لما كنا عليه في المراحل السابقة. ولعل هذا هو ما دفعنا إلى أن يتمركز كتابنا هذا حول مفهوم "النمو مدى الحياة" Life - Span Edvelopment، حتى يتجنب القارئ سوء الفم الذي ينشأ حتميًّا على التركيز المستمر على مراحل الحياة مع الفشل في إدراك الاستمرار والتواصل في أنماط النمو لدى الفرد, ونحن حين نركز على مفهوم "مدى الحياة" في دراسة النمو, فإننا بذلك ندمج الماضي في المستقبل على نحوٍ يقودنا إلى وعي "حاضر" باتصال الحياة, فالماضي والمستقبل هما المحوران الرئيسيان للزمن السيكولوجي "فؤاد أبو حطب، آمال صادق، 1985". ولعل مفهوم "مدى الحياة" الذي شاع كثيرًا في دراسات سيكولوجية النمو ابتداء من الربع الأخير من القرن العشرين "على الرغم من جذوره الأصيلة في الثقافة العربية الإسلامية كما سنتبين فيما بعد" هو الذي دفع مارجريت ميد "mead, 1972" إلى المطالبة بتوظيف هذا المفهوم في فهم طبيعة العلاقة بين الأجيال "وخاصة جيل الأحفاد وجيل الأجداد", فكل منهما يتعلم من الآخر معنى اتصال الحياة؛ فالجد يقدِّمُ لحفيده آصرة الماضي، والحفيد يقدم لجده الإحساس بالمستقبل, ومن خلال تفاعلهما يتشكل الماضي والمستقبل في بوتقة الحاضر. ومفهوم مدى الحياة يقودنا إلى مسألة هامة أخرى، وهي أن النمو لا يعني التحسن المستمر في مختلف مراحل العمر, وقد اقترح أحد مؤلفي هذا الكتاب "فؤاد أبو حطب، 1983، 1985" نسقًا ارتقائيًّا تطوريًّا لدورة الحياة, وجوهر هذا النسق أن مسار الحياة Life -Path, أو مدى الحياة يتضمن متوالية معقدة حتى الأحداث والظواهر التي يشهدها الإنسان من لحظة الإخصاب في رحم الأم حتى

لحظة الاستلقاء على فراش الموت, إلّا أن هذه المتوالية لا تتضمن تصورًا خطيًّا لحدوثها، وإنما هي في معناها الحقيقي دورة، أو إذا شئت الدقة: منحنى يصوره الإعجاز الإلهي في قول القرآن الكريم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] . منحنى يمثل قوة بين ضعفين، ووسطًا بين طرفين، ويعد الصبا young-hood بكل ما فيه من نمو في الطفولة والمراهقة طرف الضعف الأول، أما الشيخوخة ageing بكل ما فيها من تدهور, فهي طرف الضف الثاني، وبينهما قوة الرشد Adulthood, وهذ التصور القرآني للنمو مدى الحياة هو الموجه العام لبناء هذا الكتاب.

الفصل الثاني: أصول علم نفس النمو في ثقافة الغرب

الفصل الثاني: أصول علم نفس النمو في ثقافة الغرب أولاً: المنظور اليوناني للنمو الإنساني ... الفصل الثاني: أصول علم نفس النمو في ثقافة الغرب لمفاهيم النمو الإنساني ماضٍ طويل يمتد بأصوله إلى التصور الديني والتأمل الفلسفي والخبرة الشخصية للإنسان. أما الدراسة المنظمة لهذا الموضوع, والتي تعتمد في جوهرها على الأسلوب العلمي في البحث القائم على الملاحظة, فلها تاريخ قصير لا يتجاوز المائة عام. ونعرض فيما يلي هذا الماضي الطويل والتاريخ القصير بشيء من الاختصار يتسع له المقام, وهذا العرض ليس هدفه مجرد الاستطراد التاريخي, وإنما الإشارة إلى الأصول النظرية والفلسفية التي استندت إليها الدراسات العلمية الحديثة, سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، أو بشكل مضمر أو صريح، وبهذا قد تتحدد أوجه الاتفاق والخلاف التي تبدو لنا غير مفهومة إذا نظرنا إليها من السطح، بينما التعمق فيها وسبر أغوارها يكشف لنا الكثير من الفهم والحكمة والتبصر. ونتناول هذا العرض من خلال منظورين للنمو, هما: المنظور الغربي والمنظور الإسلامي, ونخصص هذا الفصل للمنظور الأول من خلال الفكر اليوناني ودوره في تطور مفاهيم الحضارة الغربية عن الطبيعة البشرية ونمو الإنسان، ثم نخص الفصل التالي للمنظور الإسلامي, مع إشارة خاصة إلى كيفية توجيه بحوث النمو في العالمين العربي والإسلامي, على نحوٍ جديد. أولًا: المنظور اليوناني للنمو الإنساني على الرغم من أن الحضارة اليونانية هي أحدث الحضارات القديمة نشأت، إلّا أن هناك إشارات متكررة لدى الحضارات القديمة الأخرى السابقة عليها إلى مسائل تتصل بطبيعة الإنسان، وعلى وجه الخصوص في الحضارة المصرية القديمة التي أظهرت رعايةً واهتمامًا كبيرين بالطفل, باعتباره كائنًا عاجزًا وضعيفًا, وفي حاجة إلى إشباع متطلباته الجسمية؛ من تغذية وحركة، بالإضافة إلى حاجته الاجتماعية للعب. "فؤاد أبو حطب، تحت الطبع". كما أن قوانين حمواربي

في حضارة بابل تضمنت ضرورة المحافظة على الطفل "Borstelmanm 1983" ونجد استبصارات لا تقل أهميةً في حضارات فارس والهند والصين، إلّا أن هذا التراث العظيم لم يعرض بالتنظيم والتفصيل الكافيين الذين عرض بهما تراث اليونانيين لأسباب تعود في جوهرها إلى تحيز مؤرخي العلم لدى الغرب, الذين يبدأون عادة باليونان, ثم يقفزون إلى عصر النهضة الأوربية، وهي قضية تناولها بالتفصيل فؤاد أبو حطب في عدد من دراساته "فؤاد أبو حطب، تحت الطبع 197، 1993"، Abou-hatab, 1996, 1997", ولا يتسع المقام لتناول هذه المسألة بالتفصيل, وحسبنا أن نحيل القارئ للدراسات التي أشرنا إليها. وما دام هذا الفصل قد خصصناه لأصول علم نفس النمو في ثقافة الغرب، فسوف نعرض لهذه الأصول ابتداءً من اليونان, على النحو الذي عرفته كتابات مؤرخي الغرب للعلم والثقافة، ثم نتولى تصحيح هذا الموقف في الفصل التالي من خلال عرض النمو الإنساني من المنظور الإسلامي. وبالطبع, لا يتسع المقام لعرض تفاصيل الفكر الفلسفي اليوناني حول الموضوع منذ عصر ما قبل سقراط، وحسبنا أن نشير إلى الاتجاهين الأساسين الذين مثلهما أفلاطون وأرسطو على وجه الخصوص, وهما الاتجاه المثالي من ناحية, والاتجاه الواقعي من ناحية أخرى. 1- مثالية أفلاطون: يرى أفلاطون "427-347ق. م" في تصوره للطبيعة البشرية, أن النفس "وهي مفهوم فلسفي يقابل ما يسمى في علم النفس الحديث الشخصية" تتألف من الشهوة والإرادة والعقل, وتظهر الشهوات "وهي الرغبات والانفعالات" في الإنسان عند ميلاده, وتسيطر على حياة الوليد, وسنوات طفولته المبكرة، وتبدو على وجه الخصوص في الحاجات الجسيمة والانفعالية للفرد, وتنمو الإرادة خلال الطفولة المتأخرة والمراهقة, وتمثل نزوع الشخص وشجاعته وخلقه واعتقاده, ومع النضج يسيطر المكون العقلي للنفس. ويصور لنا أفلاطون في محاورة فيداروس العلاقةَ بين هذه المكونات الثلاثة في أسطورة العربة التي يشبه فيها النفس بعربة يجرها جوادان ويقودها سائق. وأحد الجوادين عريق الأصل, سلس القيادة "الإرادة"، أما الآخر فرديء الطبع, جامح غضوب عصي "الرغة أو الشهوة", وسائق العربة هو العقل؛ فالعقل هو الذي يقود سلوك الإنسان, والمكونان الآخران يزودانه بالقوة والطاقة. وفي الفلسفة المثالية لأفلاطون, أن القدرة على الاستدلال والتفكير والتعقل هي

التي تميز جوهريًّا بين الإنسان والحيوان, وعلى الرغم من أنه لم ينكر الجانب اللاعقلاني في الطبيعة البشرية إلّا أنه يرى أن التدريب على التفكير قد يعين الإنسان على تخطي الشهوة والنزوع, ومع ذلك فإنه يرى أنه نتيجة للتكوين الفطري للإنسان, فقد يكون لأحد هذه المكونات الثلاثة الغلبة والسيطر على "نفس" معينة, ولهذا يرى أفلاطون في "الجمهورية" أن تحدد المهام التي يسمح للطفل أن يقوم بها لمصلحة الدولة في ضوء إمكاناته الفطرية، ثم تربيته تبعًا لذلك, فمعظم الناس عند أفلاطون تحكمهم الشهوات والعواطف, وبالتالي يجب تدريبهم على أن يصبحوا عمّالًا، وبعضهم تسيطر عليه الإرادة والنزوع, ولهذا يجب عليهم خدمة الأمة كجنود، أما الأقلية التي يسيطر عليها العقل, فهم ساسة المجتمع وفلاسفته. وهكذا, فإن الطبيعة البشرية عند أفلاطون تحكمها الفطرة، ومهمة البيئة أو الخبرة, أن تنشط هذه الفطرة وتصل إلى أقصى حدودها الممكنة، وهي ما يسميه أفلاطون "المثل" الموجودة بالفعل داخل العقل, أما الخبرة أو التعلم فهما محض خداع. وكذا كان أفلاطون أول فيلسوف يصوغ الاتجاه الذي عرف في تاريخ الفكر الإنساني بالمثالية أو العقلانية, والتي تتميز بثنائي الجسم والعقل, وهو الاتجاه الذي أثَّر في علم النفس الغربي الحديث بمعالمه الأربعة: الفطرة، ولكلية، والحدس، والحيوية، وهي المعالم التي عرضها هولس وزميلاه "ترجمة فؤاد أبو حطب، آمال صادق، 1982". 2- واقعية أرسطو: في مقابل مثالية وفطرية أفلاطون, كان أرسطو "384-323 ق. م" يرى أن جوهر الطبيعة البشرية ليس "مثلًا" محددة مقدمًا بالفطرة، وإنما هي طبيعة محددة أساسًا بالخبرة, وهكذا ظهر أول صراع في التاريخ بين أنصار الفطرة وأنصار الخبرة؛ فالعقل عند أرسطو يتألف من الإحساسات الأساسية التي تترابط معًا بقوانين التداعي, ولعله بذلك كان أول من عَبَّر عن الفكرة التي شاعت بعد ذلك في الفلسفة الغربية وفي علم النفس الغربي الحديث, وهي أن الطفل يولد وعقله صفحة بيضاء, وفي هذا الصدد يوحد أرسطو بين العقل والجسم. وخبرات الإنسان عنده "وخاصة ملاحظاته الدقيقة" تعين على توضيح الحقيقة, وليس تشويهها, أو سوء عرضها "ما يرى أفلاطون". وبيما كان أفلاطون يشك في الدليل الذي تقدمه الانطباعات الحسية, فإن أرسطو كان أكثر شكًّا في قدرة العقل وحده على إدراك الحقيقة دون خطأ, وعنده أن الحقيقة لا يتم البرهان عليها إلّا بالاتفاق المتبادل على الملاحظات. وأي

ملاحظات يتفق عليها على أنها تمثل الحقيقة, يجب التعبير عنها منطقيًّا، وهي وحدها التي تقودنا إلى تفسير الأحداث أو السلوك، أي: بالبحث عن أسبابها، وعللها، ومرة أخرى نقول: إن أرسطو كان أول من صاغ معالم هذا الاتجاه المضاد الذي يُسَمَّى الواقعية أو المادية, والذي تتحدد معالمه الأربعة في الطرفية والاختزالية والترابطية والأمبريقية، وهي المعالم التي لعبت دورًا خطيرًا في تطور علم النفس الحديث "هولس وآخران، ترجمة فؤاد أبو حطب، آمال صادق، 1982". 3- طفل إسبرطة: كانت إسبرطة هي المقابل الحضاري لأثينا, وإذا كانت أثينا "الديمقراطية" قد أنتجت عمالقة للفكر الإنساني؛ مثل: أفلاطون وأرسطو، فإن إسبرطة "الديكتاتورية" لم تنتج فكرًا, وإنما أفرزت ممارسة عملية في تنشئة الطفل يكمن وراءها تصور معين للطبيعة البشرية, وتتلخص هذه الممارسة في أن الطفل عقب ولادته مباشرة يعرض على "مجلس الحكماء", الذي يتولى فحصه لتحديد مدى قوته وصحته وصلاحيته للبقاء في المدينة, فإذا كان الطفل ضعيفًا أو معوقًا يؤخذ إلى البرية ويتترك فيها ليموت "أليس في هذا بذور فكرة البقاء للأصلح التي أشاعتها نظرية التطور في القرن التاسع عشر؟! ", أما الطفل السعيد: فهو الذي يعلن المجلس أنه صحيح. وعندئذ يتعرض لبرنامج من التدريب القاسي لتقويته وتدريبه للمهنة الشاقة, وهي خدمة الدولة العسكرية, وفي هذا التدريب "الذي يشمل حمامات الماء البارد في عز الشتاء الأوروبي" لا يسمح للطفل بالصراخ؛ لأنه علامة على ضعف الخلق, وفي سن السابعة يؤخذ الطفل من منزل أسرته ويعيش في معسكرات عامة, ويتعرض في حياته الجديدة لنظام أكثر مشقة وقسوة. وحتى يكتسب الطفل صفات النظام والصلابة العقلية, كان قادة هذه المعسكرات يستخدمون أساليب العقاب البدني العنيف والحرمان من الطعام لعدة أيام, وطوال حياة الأطفال في هذه المعسكرات, والتي تستمر لأكثر من عشر سنوات, يغلب على تربيتهم الاهتمام بالجانب الجسمي على حساب النواحي العقلية والوجدانية. وفي سن الثامنة عشرة وحتى سن العشرين, يتدرب الشاب تدريبًا مباشرًا على العمل العسكري وفنون القتال، ثم يلتحق بصفوف الجيش ويظل فيه لمدة عشر سنوات أخرى, في حياة أكثر خشونة وقسوة, وفي سن الثلاثين يتم الاعتراف للفرد بحقوق المواطنة الكاملة, وعندئذ يمكنه أن يتزوج وأن يسهم في إدارة المدينة. ولم يعترف الإسبرطيون بالفروق بين الجنسين, إلّا أن تدريب البنات على المهام لم يتطلب التحاقهم بمعسكرت، وإنما كان يتم في ساحات المدينة العامة بإشراف الأمهات, أما الهدف في الالتين فكان واحدًا: إعداد الذكور الأقوياء جسميًّا للدفاع عن الدولة، وإعداد الإناث القويات جسميًّا لإنجاب الأطفال الأقوياء للقيام بنفس المهام.

ثانيا: النمو الإنساني في العصور ر الوسطى في أوربا

ثانيًا: النمو الإنساني في العصور ر الوسطى في أوربا ... ثانيًا: النمو الإنساني في العصور الوسطى في أوربا من الملفت للنظر حقًّا أنه في الوقت الذي كان الطفل يتمتع بحقوقه التي نظمتها الشريعة في المجتمعات الإسلامية، كان يعامل في أوروبا العصور الوسطى على أنه من "ممتلكات" الأسرة, أو من مواردها التي تعطي لللآباء حق استخدامها على النحو الذي يشاءون, وظل الأمر كذلك حتى القرن الثاني عشر الميلادي, حينما صدر تشريع مدني جعل قتل الأطفال جريمة قتل كاملة, وقبل ذلك كان الطفل يلقى الرعاية حتى سن السادسة حين يستطيع الاعتماد على نفسه, وعند السادسة يلبس ملابس الكبار, ويبدأ العمل معهم في المنزل أو المتجر أو الحقل "وعادة ما يكون هؤلاء الكبار هم الآباء أو الأقارب", ولم تكن القوانين حينئذ تميز بين الأطفال والراشدين في الممارسات الاجتماعية السوية أو غير السوية؛ فمثلًا حين كان طفل العاشرة يسرق يعامل كلص, وتطبق عليه العقوبة الواجبة على الكبار, ويستنتج آريس "Aries, 1962" من ذلك "أنه حتى مطلع القرن السابع عشر الميلادي, لم يكن في أوروبا مفهوم واضح "للطفولة"، وإنما كان الطفل يعامل كما لو كان "راشدًا مصغرًا". وهكذا يمكن أن تعتبر فترة العصور الوسطى في أوربا فترة تجاهل كامل للمسائل الخاصة بالنمو الإنساني، وزاد من هذا التجاهل طبيعة النظام السياسي الاجتماعي الاقتصادي السائد "وهو النظام الإقطاعي"، وسيطرة الأمية الكاملة، وعدم الاعتراف بوجود أيّ حاجات خاصة بالأطفال والمراهقين، والاهتمام الضئيل بفضل العقل على النحو الذي كان موجودًا في الفلسفة اليونانية من ناحية, وعند علماء المسلمين من ناحية أخرى. ولم يحدث تغير في البنية المعرفية للعصور الوسطى في أوروبا إلّا بعد أن انتقلت أفكار علماء المسلمين إلى أوروبا, "ومعها بالطبع أفكار أفلاطون وأرسطو التي حافظت عليها الحضارة الإسلامية من الزوال بفضل الترجمة", وعندئذ حاول بعض الفلاسفة المسيحيين في العصور الوسطى المواءمة بين الفلسفة اليونانية والديانة المسيحية, وظهر لديهم اهتمام غير مباشر بالنمو الإنساني. ومن ذلك مثلًا: أن توماس الأكويني وأغسطين كانا يريان أن هذا النمو يجب أن يسير في طريق محدد, وهو طريق التربية الدينية الصارمة للتغلب على "الخطيئة الأصلية".

الذي وقع فيها آدم, وفي هذا لا يوجد أي اعتراف بالفروق الفردية, وقد ارتبط ذلك بخرافة سيطرت على الفكر السيكولوجي في ذلك الوقت، وخاصة ما يتصل بالنمو، ترى أنه يوجد في الحيوان المنوي قبل الإخصاب شخص صغير مكون تكوينًا كاملًا يسمى الراشد الصغير A homunculus, ومعنى ذلك: أنه لا يوجد موضع للفردية في التعلم والنمو، وتوضح الرسوم التي عبَّرت عن الأطفال في هذه العصور أنهم كانوا أشبه بالأقزام, وظل الأمر كذلك حتى تغيرت هذه الاتجاهات تمامًا في أوروبا مع بداية عصر النهضة.

ثالثا: احياء النزعة الإنسانية

ثالثًا: إحياء النزعة الإنسانية شهدت أوروبا في الفترة بين نهاية العصور الوسطى في القرن الخامس عشر, وعصر التنوير في القرن الثامن عشر, إحياء للنزعة الإنسانية، وشمل ذلك ما سمي بعصر النهضة Renaissance, خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر. لقد شهر عصر النهضة ازدهارًا للأدب والثقافة في معظم الأقطار الأوروبية "في الوقت الذي بدأ يخيم على العالم الإسلامي ظلام التخلف والتدهور", وظهر اهتمام واضح بالفروق الفردية والنمو الإنساني, ولعل أوضح الأمثلة أفكار جون آموس كومنيوس Comenius في آخر القرن السادس عشر, التي لخَّص فيها النمو الإنساني في أربع مراحل تتوافق مع المتطلبات التربوية في كل مرحلة, وهي: مرحلة الإدراك "من الولادة حتى 6 سنوات"، مرحلة الخيال "من 6-12 سنة"، مرحلة التعقل والاستدلال "من12-18 سنة 9، مرحلة الطموح "من 18-24 سنة". وفي القرن السابع عشر طرح جون لوك في إنجلترا أفكاره الفلسفية حول الأمبريقية، وهو الاتجاه الفلسفي الذي يرى أن الحواس -وليس العقل- هي مصدر المعرفة الوحيد، وكان بذلك يضاد الموقف الفلسفي الذي طرحه رينيه ديكارت في فرنسا، وهو المذهب العقلي الذي يرى أن العقل -وليس الحواس- هو مصدر المعرفة, إلّا أن ما حدث بعد ذلك أن السيطرة والسيادة كانت للاتجاه الأمبريقي الذي تطورت في إطاره جميع العلوم الإنسانية، ومنها علم النفس. وأصبح المفهوم الأرسطي القديم "العقل كصفحة بيضاء" tabule rasa نموذجًا للعقل الإنسان, واعتبر النمو عملية تدريجية تراكمية ناتجة عن التعلم المكتسب من الخبرات المختلفة, ولم يعد الطفل "راشدًا مصغرًا", وإنما أبرزت الفروق الجوهرية بين الطفل والراشد, وهكذا سيطرت الخبرة على الفطرة في الفكر الفلسفي والسيكولوجي في أوروبا خلال تلك الفترة.

رابعا: النمو الإنساني في عصر التنوير في أوربا

رابعًا: النمو الإنساني في عصر التنوير في أوربا ... رابعًا: النمو الإنساني في عصر التنوير في أوروبا يوصف القرنان السابع عشر والثامن عشر في أوروبا بأنهما عصر التنوير، ويتسم هذا العصر بسيادة روح الحرية والاعتراف بقدرات الإنسان, وظهرت كتابات دينية تهتم بطرق معاملة الأطفال والشباب في الأعمار المختلفة، وعلى الرغم من أن هذه الكتابات لم تقدِّم وصفًا جيدًا كاملًا لمستويات النمو, إلّا أن توماس "Thomas. 1979", يقترح وجود أربع مراحل, معتمدًا على تحليل المهام المتوقعة من كل مرحلة كما ظهرت في هذه الكتابات، وهي: 1- الرضاعة: "من الولادة حتى سن عام ونصف أو عامين" وتتسم هذه المرحلة بالاعتماد الكامل على الكبار في إشباع الحاجات الجسمية. 2- الطفولة المبكرة: "من عامين وحتى سن 5 إلى 7", وتتسم بظهور نشاط الحركة والكلام ويسيطر عليها نشاط اللعب. 3- الطفولة المتأخرة: "من سن 5 إلى 7 سنوات وحتى سن 11 إلى 14 سنة", وتتسم بالاندماج في الأعمال المفيدة بالمنزل, ودخول المدرسة إذا كان ذلك ممكنًا, والمهارة الأساسية هي القراءة, وبعدها تأتي مهارة الحساب والكتابة, ويمكن للبنات في هذه المرحلة تعلم الأعمال المنزلية، أما الذكور فيمكنهم تحت إشراف الآباء أو الأخوة الكبار, القيام بأعمال الرجال في الحقل أو المتجر أو المنزل. 4- الشباب: "من سن 11 إلى 14 سنة وحتى 18 إلى 21", وتتسم بالاستقلال الاقتصادي. وهكذا تغيرت الاتجاهات نحو الأطفال والمراهقين في أوروبا تغيرًا جذريًّا خلال هذه الفترة, ويمكن أن نرجع ذلك إلى كتابات كبار الفلاسفة الاجتماعيين في ذلك الوقت، والتي أدت إلى تكوين نظرية جديدة نحو الطفل ورعايته, وتركزت خلافات هؤلاء الفلاسفة حول ثلاث مسائل رئيسية هي: 1- هل الطفل خيِّر أم شرير بالفطرة؟ 2- هل تحرك الطفل دوافعه وغرائزه الفطرية, أم إنه نتاج البيئة؟ 3- هل الطفل مخلوق سلبي تشكله الأسر والمدرسة وغيرهما من المؤسسات الاجتماعية, أم أنه يشارك إيجابيًّا في عملية تشكيل شخصيته؟ ولعل أشهر مظاهر الاختلاف حول هذه القضايا الثلاثة تمثل في هذا العصر في كتابات توماس هوبز, الذي تحيز لاتجاه الفطرة الشريرة, نتيجةً للمفهوم الديني

"الخطيئة الأصلية" وركز على تأثير البيئة، وكتابات جان جاك روسو التي وقفت في الاتجاه المضاد, ونتيجة فلسفة روسو في الطبيعة البشرية زاد الاتجاه نحو ما يسميه الطبيعة؛ فالأطفال عنده أخيار بطبيعتهم ما لم تفسده شرور المجتمع والبيئة, وتعد روايته "إميل" التي نشرت عام 1762 أوضح تعبير عن موقفه الفلسفي والسيكولوجي, ولم يكن "إميل" مصدره الوحيد, فقد اعتمد أيضًا على ذكريات طفولته هو, والتي وصفها بصراحة في اعترافاته، وخبرته في الإشراف على أطفال الأسر الأرستقراطية في عصره، وقراءاته في الفلسفة وحول الشعوب البدائية التي أوحت إليه بفكرة الهمجيّ النبيل، وملاحظاته العارضة لأطفال الفلاحين الأوربيين, وتمتد فترة الطفولة عنده من الميلاد حتى سن 25 سنة. وتنقسم إلى أربع مراحل فرعية هي: 1- الرضاعة: "من الميلاد وحتى سنتين من العمر", وفيها يعتمد الطفل على الرضاعة الطبيعية من الأم, وتمثل مرحلة حرجة لنمو الصحة الجسمية والحواس, وتسيطر على هذه المرحلة المشاعر الحيوانية باللذة والألم. 2- الطفولة: "من 2-12سنة", وتتطلب تعلم القراءة والكتابة, وهي مرحلة حرجة لتنمية القوة الجسمية والنشاط الحركي وتخزين المعلومات, وتسيطر على السنوات الأولى من هذه المرحلة المشاعر الحيوانية باللذة والألم المسيطرة على المرحلة السابقة إلّا أنه بعد ذلك يتحول إلى ما يسميه روسو: "الوحشي النبيل" Noble Savage. 3- البلوغ: "من 12-15 سنة", وتمثل المرحلة الحرجة للسلوك الاجتماعي وتنمية الحس الأخلاقي الحقيقي، ونمو الوظائف لجنسية. أما مرحلة الرشد, والتي تمثل النضج الروحي عنده, فلم يحددها تحديدًا دقيقًا, ولعل مما يستحق الإشارة هنا لتنبيه روسو إلى ما يسميه المراحل الحرجة في النمو, ومعناه أن الطفل لكي يفيد من البيئة وآثارها, يجب أن يحرز درجة ملائمة من النضج الداخلي, ويتم التعلم عنده عن طريق استكشاف الطفل للمبادئ التي تحكم العالم المادي والاجتماعي، وعنده أن التدريس غير المباشر أفضل وأكثر فعالية من التدريس المباشر, وفي جميع الحالات علينا أن ندرك أن الطفل خير بطبيعته

ويمكنه أن ينمو ويصل إلى نموذج الحكمة والمعرفة والفضيلة إذا سمح له باتباع طريقته الطبيعية, وليس بالتطفل على مجتمع فاسد, وقد أسيء فهم رأي روسو حول هذه المسألة حين رأى البعض أن ذلك يعني ترك الأطفال يفعلون ما يشاءون. إلّا أن هذا لم يقصده روسو، فمسئولية الراشد الناضج أن يحلل الطريقة الطبيعية في التعلم, كما فعل "إميل"، وعلى أساس هذا التحليل يعامل خبرات الطفل حتى تتواءم مع مسار المراحل الحرجة التي صورها على أنها تتضمن جوانب النمو المطلوب في كل منها, ومعنى ذلك أن النمو الطبيعي للطفل يحتاج إلى نوع من التنظيم من جانب الراشد. ومع اقتراب القرن الثامن عشر من نهايته, ظهر عدد من الفلاسفة والمربين والعلماء وجهوا انتباههم إلى وصف مسار النمو الإنساني نذكر منهم: 1- جوهان نيكولاس تيتنس: Tetens 1736-1807, وكان أستاذًا للفلسفة في عدد من الجامعات التي أنشئت في عصر النهضة، وقدَّم نظرية مبدئية حول النمو الإنساني تهتم بالفروق الفردية في النواحي الجسمية والنفسية طوال مدى الحياة. 2- ديتريش تيدمان Tiedman "1748-1803", وقد نشر كتابًا تناول فيه بالتفصيل سيرة طفله؛ حيث وصف مهاراته الحركية ولغته وإمكاناته العقلية وسلوكه الاجتماعي والانفعالي، فكان أول كتاب في علم نفس النمو بالمعنى المباشر. 3- جون هنري بستالوتزي pestalozzi "1827-1746", والذي يعتبر أعظم مصدر للأفكار حول تربية الأطفال, وكان له أثر كبير فيمن جاء بعده من فلاسفة في هذا المضمار, وقد لخصت "أميمة أمين، آمال صادق، 1985" أفكاره, وقد اعتمد في معظم ما كتب على ما جمعه من معلومات عن تعلم طفله البالغ من العمر 4 سنوات. 4- فردريك أوجست كاروس carus 1808-1770, وهو عالم ألماني, سجل بعض انطباعاته حول مراحل النمو مدى الحياة, مستقلة عن العمر الزمني, واهتم على وجه الخصوص بالفروق بين الجنسين, والاختلافات بين الثقافات في النمو الإنساني. ولعلنا نلاحظ أن معظم الكتابات التي ظهرت في عصر التنوير تعتمد على الخبرة الشخصية لمفكري هذا العصر، إلّا أن ما يلفت النظر هو توجه بعضهم إلى جمع معلومات عن نمو أطفال حقيقيين قاموا بملاحظتهم، وهم في العادة أبناء الباحثين أنفسهم، وهذا الاتجاه خاصة بشَّرَ بالاتجاه العلمي الحديث في دراسته النمو, والذي نعرض أصوله وبداياته في الأقسام التالية من هذا الفصل.

خامسا: المقدمات الاجتماعية والثقافية لدراسة النمو الإنساني

خامسًا: المقدمات الاجتماعية والثقافية لدراسة النمو الإنساني لآراء الفلاسفة حول الطفل وتنشئته طرافتها بالطبع، ولكن وجه القصور فيها أنها لا تتخذ لنا الطريقة التي نحكم بها على صحتها، كما لا تتوافر عنها بيانات موضوعية تدعمها، والملاحظات القليلة التي توافرت من الخبرة الشخصية, أن الدراسة غير المنظمة للطفل لا تكفي؛ لأنها لا تصف لنا المنهج المستخدم في جمع هذه البيانات, وطرق التحقق من صحتها، وهذا هو جوهر العلم الحديث. ومع ذلك, فإنه حالما أصبح الطفل موضوعًا للتأمل الفلسفي, أدّى ذلك في ذاته إلى تطور كبير, وقد شهد القرن التاسع عشر بالفعل اهتمامات عملية بالطفولة, تمثلت في إنشاء جماعات لحماية الطفل من القسوة في إنجلترا، وفرضت قيودًا على العمر الذي يسمح فيه للطفل بالعمل ونوع العمل وساعات عمله، كما انتشر التعليم في عدد من الأقطار الأوروبية، وجعل المرحلة الابتدائية إلزامية في بعضها "مثل فرنسا"، وتطوير أساليب تعليم الصغار, والاعتماد في ذلك على اللعب خاصة، والاعتراف بطب الأطفال, واعتباره تخصصًا طبيًّا جديرًا بالاحترام, وهذه الاهتمامات بالطفل لم تكن مجرد انعكاس لاهتمام الفلاسفة والمفكرين بالطفولة فحسب, وإنما كان مظهرًا من مظاهر التغير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي شهدته الحضارة الغربية في القرن التاسع عشر, ومن ذلك ما شهدته تلك الفترة من تقدم طبي أدى إلى خفض نسب وفيات الرضع والأطفال, والزيادة النسبية في متوسطات الأعمار, وأدى ذلك بدوره إلى ضررة الاهتمام بطرفي دورة الحياة: الأطفال والمسنين. وأدى التقدم العلمي إلى ثورات صناعية وتكنولوجية غيَّرت من الآراء السائدة حول الطفولة, وأدت إلى اكتشافات جديدة, وتهيئة فرص جديدة للعمل, وأثرت في بنية الأسر ودور المرأة، وساعدت على سيادة المشاعر القومية لدى الشعوب المرتبطة ثقافيًّا وجغرافيًّا, وبالطبع لم تكن جميع التغيرات التي شهدها القرن التاسع عشر موجبة, فقد ظهر الاستغلال للعمال الصناعيين، ونشأت حروب إقليمية عديدة، وبدأ عصر تلوث البيئة واستنزاف مواردها، وزادت ضراوة الغزو الاستعماري لإفريقيا وآسيا, مما أدى إلى وقوع معظم أقطار العالم العربي والإسلامي تحت وطأته, ومع ذلك, فإن كشف حساب القرن التاسع عشر كان لصالح قيمة الحياة الإنسانية والاعتراف بكرامة الإنسان, وكان لهذا أثره البالغ في الاهتمام بدراسة النمو الإنساني بطرق علمية عند نهاية القرن التاسع عشر, ونعرض فيما يلي بعض مقدمات هذا الاهتمام العلمي الذي تجاوز الكثير من كتابات الفلاسفة.

سادسا: المقدمات العلمية لدراسة النمو الإنساني

سادسًا: المقدمات العلمية لدراسة النمو الإنساني يمكن القول أن كتابات ثلاثة من العلماء على وجه الخصوص, تعد المقدمة العلمية لدراسة النمو الإنساني, وهم كيتيليه وداروين وجالتون، وفيما يلي نعرض إسهاماتهم في هذا الصدد. 1- كيتيليه والبحث الإحصائي للنمو: يعد عالم الفلك والرياضيات البلجيكي أدولف كيتيليه Quetelet 1874-1796 أول من أحيا دراسة النمو الإنساني على أسس علمية, وتناولها على نطاق مدى الحياة؛ فقد أجرى ما يمكن أن يعد أول بحث مستعرض في التاريخ, تناول فيه النمو من الطفولة إلى الشيخوخة مستخدمًا الإجراءات المنهجية والإحصائية التي كانت وليدة حينئذ, وشملت دراسته موضوعات مثل: الانتحار والجريمة والجناح والمرض العقلي والابتكار, إلى جانب بعض الخصائص الجسمية مثل: ضربات القلب والقوة العضلية والطول والوزن, ولعل إسهاماته أنه نبه إلى بعض مشكلات هذا النوع من البحوث, وأشار إلى الحاجة إلى البحوث الطولية التتبعية "وسوف نناقش في هذا الفصل الرابع طبيعة كلّ من نوعي البحوث المستعرضة والطولية"، واقترح ضرورة مراعاة الاختلافات في الجنس والثقافة والبيئة الجغرافية، وهذه جميعًا تشغل اهتمامات الباحثين في علم نفس النمو منذ نشأته, وحتى الوقت الحاضر. 2- تشارلز داروين: النمو الإنساني في الإطار البيولوجي, ومنهج كتابة سير الأطفال: جاءت المقدمة الثانية لدراسة النمو الإنساني دراسة علمية من مجال علم الأحياء, وكان هذا العلم قد شهد تطورًا هامًّا عندما أصدر دارون darwin 1882-1809 كتابه الشهير أصل الأنواع 1859, والذي صاغ فيه نظريته في التطور التي أثرت تاثيرًا كبيرًا في الفكر الغربي الحديث. ولا يتسع المقام لعرض معالم النظرية، وحسبنا أن نشير إلى أنها أثرت في

مفهوم النمو الإنساني, وخاصة حين اعتبر الإنسان فيها جزءًا من الطبيعة الحيوانية, وأنه الصورة الأرقى من صور الحياة, ابتداء من الكائنات أحادية الخلية، وعلى الرغم من أن داروين اعتبر الإنسان أكثر الكائنات الحية تعقيدًا في سلم التطور, إلّا أن أفكاره الأساسية تعارضت جوهريًّا مع التعاليم الدينية، ومع المفاهيم الراسخة في الفكر الإنساني -منذ عهد أرسطو- التي تميز تمييزًا كيفيًّا بين الإنسان والحيوان1. وقد أدت هذه الأفكار بداروين إلى إجراء المقارنات بين الإنسان والأنواع الحيوانية, وكان يعتقد أن الأطفال الصغار يشتركون مع الحيوانات الأدنى في خصائص كثيرة، بالإضافة إلى أنهم "أي الأطفال" يلخصون التاريخ التطوري. بالإضافة إلى أن فكرتيه عن الانتقاء الطبيعي، والبقاء للأصلح, أثرتا تأثيرًا كبيرًا في فهمه لطبيعة عملية النمو الإنساني منه والحيواني، حيث لا يستمر في البقاء عن طريق التناسل إلّا تلك الأنواع "والأفراد داخل النوع الواحد" التي يتوافر لها أفضل وسائل التكيف للبيئة المتغيرة, وقد أثرت هذه الأفكار من ناحية أخرى في شيوع مفاهيم التكيف والتوافق في العلوم الإنسانية الناشئة حينئذ، ومنها علم النفس، وفي ظهور الاهتمام بالفروق الفردية والسلالية بين البشر. وتوجد فكرة أخرى لداروين أثرت تأثيرًا كبيرًا في بحوث النمو التالية, وهي وجود علاقة بين تطور النوع ونمو الطفل داخل النوع، وظهر أثرها في الاهتمام بالبحث عن أصول سلوك الراشد وخصائصه في خبرات الطفولة المبكرة، وهي فكرة شاعت على وجه الخصوص في مدرسة التحليل النفسي "عند فرويد". وقد لجأ داروين في دراسته للنمو الإنساني إلى المنهج الذي ظهرت بدايته في القرن الثامن عشر، وشاع في القرن التاسع عشر, وهو كتابة سير الأطفال وتراجم حياتهم, ويتلخص هذا الأسلوب في قيام الآباء بتسجيل يوميات عن نمو أبنائهم, وبعض هذه التسجيلات صدر عن أدباء وفلاسفة, كما صدر بعضه عن علماء. وهذا الأسلوب كان من الشيوع في القرن التاسع عشر حتى أن بعض المؤرخين يذكرون أنه كان من الممارسات العادية للآباء من الطبقات المتوسطة والعليا.

_ 1 تعرضت نظرية التطور منذ ظهورها للنقد الشديد من مختلف الأورقة الدينية والعلمية, وتتوافر في الوقت الحاضر أدلة علمية كافية لدحض النظرية في صورتها الأصلية، ولعل أكثر هذه الأدلة وضوحًا ما تأكد من وجود الخصائص المميزة للنوع, والتي أدت إلى تأكيد فكرة استقلال الأنواع، وقد بينت دراسات علم النفس المعرفي المقارن في السنوات الأخيرة أن بحوث اكتساب اللغة, وتعلم أنماط التفكير, تؤكد أن الفروق بين الإنسان والحيوان فروق كيفية, تجعل الإنسان فئة بيولوجية وسلوكية متميزة عن الحيوان "راجع هلوس وآخرين. ترجمة فؤاد أبو حطب، آمال صادق، 1982, وكذلك فؤاد أبو حطب، 1995".

ولهذا نجد داروين في عام 1877 ينشر مقالًا عن النمو المبكر لطفله الرضيع Darwin, 1877, ووجهت كتابة المقال فكرته العامة حول أهمية النمو الفردي في فهم التطور الإنساني, والواقع أن أسلوب كتابة سير الأطفال وتراجم حياتهم فيه شكٌّ كبيرٌ, وخاصة فيما يتصل بموضوعية البيانات التي سجلها الآباء عن أبنائهم, وذلك للأسباب الآتية: 1- الملاحظات التي أجريت وسجلت في معظم الكتابات كانت تتم على فترات زمنية غير منتظمة، كما ركَّزت على جوانب متفاوتة من سلوك الأطفال، ولهذا كانت البيانات التي هيأتها لنا هذه الطريقة غير قابلة للمقارنة. 2- الملاحظون الذين قاموا بجمع هذه البيانات وتسجيلها, كانوا في الأغلب هم آباء الأطفال موضع الملاحظة, ولهذا غلب على تسجيلاتهم الأسلوب الانتقائي والتحيز الذاتي؛ حيث كانوا ينتبهون في معظم الأحيان إلى الأحداث السارَّة والشواهد الإيجابية، ولا ينتبهون إلى الأحداث غير السارة والشواهد السلبية. 3- الباحثون الذين قاموا بجمع هذه الشواهد والأدلة لديهم أفكار قبلية وافتراضات مسبقة حول طبيعة النمو الإنساني، وعلى الرغم من أنها أقرب إلى الفروض التي تتطلب الاختبار منها إلى البديهيات التي يتم التسليم بصحتها, ولهذا كان من الواجب وضعها موضع الاختبار للتحقق من صحتها، إلّا أن ما حدث أن هذه الأفكار والافتراضات القبلية وجهت ملاحظات وتسجيلات هؤلاء الباحثين, ولهذا يلاحظ القارئ لمعظم هذه السير والتراجم للأطفال أنها لم تجمع إلّا الملاحظات التي تتفق مع وجهة نظر الباحث، ويتضح ذلك على وجه الخصوص في السيرة التي كتبها داروين عن طفله، ولهذا لا تعد في الوقت الحاضر دليلًا عمليًّا يعتد به. 4- جميع هذه السير والتراجم أجريت على طفل واحد فقط، وبالطبع فإن المنهج العلمي يحذرنا من التعميم من حالة واحدة على حالات أخرى, ويحتاج هذا التعميم إلى أن نجري الدراسات على "عينات" ممثلة للأطفال الذين نسعى إلى وصفهم ودراستهم, وهذا المنهج لم يتقدم إلّا في القرن العشرين. وعلى الرغم من أن أسلوب سير الأطفال وتراجم حياتهم لم يكن مفيدًا

كمصدر للمعرفة حول النمو الإنساني، إلّا أن هذه السير تضمنت إلى جانب ما فيها من أخطاء فادحة بعض الاستبصارات الهامة, ولعل أهم ما فيها أنها كانت خطوة في اتجاه الاهتمام بالطفل, فمجرد أن يكتب كبار الفلاسفة والمفكرين والعلم عن الطفل وجَّه الانتباه إلى نمو الإنسان ليصبح موضوعًا يستحق البحث العلمي المنتظم. 3- فرنسيس جالتون وبحوث وراثة السلوك الإنساني: قدَّم العالم البريطاني فرنسيس جالتون Galton 1991-1822, إسهامًا هامًّا آخر في ميدان الدراسة الناشئة حينئذ للنمو الإنساني؛ فقد كان من بين اهتمامات جالتون العديدة التعرف على مصادر الفروق الفردية، وتطلَّب منه ذلك إجراء دراسات مسحية منظمة على مئات الأشخاص من مختلف الأعمار، وأدَّى ذلك إلى اقتناعه بأن الانتقال الوراثي للسمات من جيلٍ إلى آخر هو المسئول الأكبر عن تنوع السلوك الإنساني, واستخدم في سبيل البرهان على صحة أفكاره طرقًا شتَّى؛ منها المقارنة بين التوائم المتطابقة, والتوائم الأخوية، ودراسة شجرة الأنساب, وخاصَّةً لعدد كبير من العباقرة في مختلف جوانب الحياة, وبهذه الدراسات هيأ جالتون المسرح العلمي لإعادة بحث المسألة الخلافية الأساسية في تاريخ الفكر الإنساني, والتي تدور حول الفطرة والخبرة. ولعل أهم إسهامات جالتون أنه تجاوز مرحلة التأمل النظري حول هذه المسألة وغيرها، ولجأ إلى الأسلوب العلمي الذي يعتمد في جوهره على الملاحظة المنظمة، وابتكر الوسائل التي تعين على هذه الملاحظة، ومن ذلك بناء الاختبارات العقلية Tests، والاستخبارت أو الاستبيانات النفسية Questonnaires, وابتكر الكثير من الأساليب الإحصائية, وطوَّرَ معظمها بحيث تصبح ملائمة للاستخدام في دراسة السلوك الإنساني، وهكذا كان الجو مهيأ لظهور علم نفس النمو الحديث.

سابعا: ظهور علم نفس النمو الحديث

سابعًا: ظهور علم نفس النمو الحديث مع اقتراب القرن التاسع عشر من نهايته, بدأ في التشكيل مجال للدراسة العلمية جوهر اهتمامه هو النمو الإنساني, ولأول مرة نجد أشخاصًا ليسوا في الأصل من الفلاسفة أو الفسيولوجيين أو البيولوجيين يكرسون جهودهم لملاحظة الإنسان وجمع البيانات لبناء هذا العلم الجديد, وعلى الرغم من أنه من الصعب أن نختار تاريخًا بذاته يحدد نشأة النمو الإنساني كعلم, فإننا نرى أن فترة نصف القرن التي تمتد بين ثمانينات القرن التاسع عشر "1880 وما بعدها" وعشرينات القرن العشرين "1920-1952", هي الفترة التكوينية لهذا العلم، وهي في نفس الوقت فترة الخصوبة العلمية للعالِمِ الأمريكي العظيم ج. ستانلي هول "1844-1924" الذي يعد المؤسس الشرعي لهذا العلم. لقد تنبيه ستانلي هول إلى نقائص سير الأطفال المعتمدة على دراسة طفل واحد، فاتجه إلى جمع بيانات أكثر موضوعية من عينات كبيرة من الأطفال, وتركز اهتمامه خاصة على طبيعة تفكير الطفل، واستعان على دراستها بالطريقة التي ابتكرها جالتون وهي الاستخبار "أو الاستبيان", وحاول توظيفها في مجال اكتشاف محتوى عقول الأطفال، على حد تعبيره, ونشر أول دراسة له حول الموضوع عام 1891 S. Hall, ولعل أهم ما لفت نظره أن فهم الأطفال للعالم المحيط بهم يتزايد بسرعة فائقة خلال مرحلة الطفولة المبكرة, كما اكتشف أيضًا أن طريقة الطفل في الاستدلال تبتعد كثيرًا عن القواعد التي يحددها المنطق الصوري, وكانت هذه الدراسة أول بحث علمي في التاريخ يلتزم بأصول وقواعد منهج البحث, يجري على نطاق واسع ويشمل عينة كبيرة من الأطفال النامين, وربما لهذه الزيادة العلمية يستحق ج. ستانلي هول, فضل أن يكون مؤسس علم نفس النمو الحديث. وفي عام 1904 ثم في عام 1905 نشر له كتابه الشهير عن المراهقة في مجلدين "S. Hall, 1904, 1905", ويعود الفضل إلى ستانلي هول في ابتكار مصطلح المراهقة Adolscence للعبير عن هذه المرحلة الهامة في النمو الإنساني. وكانت لستانلي هول إنجازاته الأخرى التي تدعم له مكانته في الريادة, لقد كان أول أمريكي يحصل على درجة الدكتوراه في علم النفس عام 1878 بعد دراسته في جامعة هارفارد على يد الفيلسوف والمربي العظيم وليم جيمس "لاحظ أنها قبل إنشاء معمل فوندت في ليبزج عام 1879", وله شهرته في إنشاء الجمعية الأمريكية لعلم النفس "أشهر الجمعيات السيكولوجية في العالم"، وفي إصدار وتحرير عدد من المجلات العلمية السيكولوجية, لعل أهمها مجلة علم النفس النشوئي journal of Genetic Psychology التي لا تزال تصدر حتى الآن, والتي اهتمت على مدى القرن العشرين ببحوث النمو الإنساني, بالإضافة إلى تدريب عدد كبير من علماء نفس النمو, ونشر الكثير حول جوانب النمو الإنساني خلال مراحل الطفولة والمراهقة والشيخوخة. وعلى الرغم من هذه الإنجازات الكبيرة فإن أثر ستانلي هول هبط بسرعة بعد وفاته, ولعل من أسباب ذلك اتساع نطاق اهتماماته, والتي لم تسمح له بتناول أيّ موضوع على نحو أكثر عمقًا من التحليل العام السطيح. ولهذا لم يقدم

نموذجًا نظريًّا واضحًا للنمو الإنساني, كما يلاحظ على كتاباته أنها لم تتسم بدرجة كافية من الدقة بحيث تسمح بالتعرف على فروض قابلة للاختبار, وعلى الرغم من أنه ركَّزَ على قيمة الملاحظة غير المتحيزة والبحث التطبيقي والأسس البيولوجية للسلوك, إلّا أنه تحيز في بعض كتاباته عند تناول المسائل الخلافية, ومن ذلك: المبالغة في تأكيد دور الفطرة على حساب الخبرة؛ فالنضج عنده -وهو نتاج الوراثة- هو الأكثر مسئولية في التأثير على مسار النمو الإنساني, وربط في سبيل ذلك بين البيولوجيا التطورية عند داروين، والفلسفة الطبيعية عند روسو. وشاعت في كتاباته العبارة الشهيرة "النمو الفردي هو تكرار ملخص للتطور البشري" وهي فكرة دحضتها البحوث الحديثة في النمو, ومن أفكاره الأخرى التي لم تعد مقبولة في علم النفس الحديث افتراضه أن المراهقة هي سلسلة حتمية في كل الأحوال من الصراعات الانفعالية, تصل إلى حدِّ وصفها بأنها مرحلة "العواصف والشداد" storm and stress، وهو افتراض أكدت الدراسات الثقافية المقارنة أنه حالة خاصة للمراهق في المجتمع الغربي الصناعي الحديث. ومع ذلك, فإن فضل ستانلي هول أنه ارتاد الميدان، ولعله في ذلك لا يختلف عن ولهلهم فلوندت, منشيء علم النفس التجريبي الحديث, لقد كان الإنجاز العملي التطبيقي لكلٍّ منهما يفوق كثيرًا إبداعه السيكولوجي.

الفصل الثالث: نحو وجهة إسلامية لعلم نفس النمو

الفصل الثالث: نحو وجهة إسلامية لعلم نفس النمو مدخل ... الفصل الثالث: نحو وجهة إسلامية لعلم نفس النمو من حقائق تاريخ علم النفس, أن الدين هو أحد المصادر العظمى التي انبثق منها هذا العلم "فؤاد أبو حطب، تحت الطبع", وربما لهذا السبب لعب الدين دورًا أساسيًّا في البدايات المبكرة لعلم النفس في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين, وتتوافر إسهامات كبرى لعدد من الرواد الأوائل, نذكر منهم على وجه الخصوص فوندت، ستانلي هول، وليم جيمس، كارل يونج, وغيرهم. إلّا أن هذا الاهتمام سرعان ما تناقص أو تلاشى لأسباب عديدة, لعل أهمها سيطرة السلوكية على التيار الرئيسي لعلم النفس. وحينما شهد علم النفس بعثًا جديدًا منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين, عادت المفاهيم التي أهملت لزمن طويل, وعلى رأسها مفهوما "العقل" و"الروح" إلى بؤرة الاهتمام العلمي, وقاد هذا التحول الأساسي في الوجهة العلمية Paradigm في الثقافة الغربية كل من علماء النفس المعروفيين وأصحاب الاتجاه الإنساني، ونتج عن ذلك كله تغير كامل في مفهوم العلم وطبيعته. لقد أقيم المفهوم الكلاسيكي للعلم والذي عاش طويلًا في ثقافة الغرب على النزعة "الوضعية", والتي تطورت في القرن العشرين إلى صورتها الأحديث وهي "الوضعية المنطقية", وكانت السلوكية في كل مراحل تطورها مرآة عاكسة للوضعية في كل أحوالها وتجلياتها "1997Abou - Hatab, 1972, 1978, 1992", وهو تصور يتسم في جوهره بالمادية والفيزيائية والميكانيكية والموضوعية. ولهذا كان التضاد صريحًا بين العلم بهذا المعنى، والدين الذي افترض فيه أنه يتسم بالذتية والقيمية والخصوصية "Abou - Hatab, 1997". وشهد عقد الخمسينات من القرن العشرين صعود تيار "ما بعد الوضعية" Post Positivistic وفيه يتأسس العلم على أربعة مسلمات أساسية هي: 1- معطيات العلم وخصائصه ونظرياته ذت طابع تفسيري وليست محايدة تمامًا كما افترضت الوضعية "والسلوكية".

2- العلم مشروع ثقافي لا يمكن اختزاله إلى مجموعة من الخطوات الإجرائية كما ادعت الوضعية. 3- التطور العلمي ليس نتاج التراكم التدريجي للمعرفة كما زعمت الوضعية, وإنما هو نتاج تطور في النظريات العلمية وفلسفات العلم وفي وجهاته Paradigms. في هذ الإطار العام للعلم المعاصر, نعرض في هذا الفصل المنظور الإسلامي للنمو الإنساني, ونبدأ بعرض آيات القرآن الكريم المتصلة بالنمو، والتي تتضمن الكثير من جوانب الإعجاز العلمي لكتاب الإسلام الخالد، وهي الجوانب التي أشار إليها في السنوات الأخيرة علماء الأجنة وعلماء النفس "فؤاد أبو حطب، 1985". وبعد ذلك نننتقل إلى تناول النمو في السنة النبوية الشريعة، ثم عند فقهاء المسلمين ومفكريهم وفلاسفتهم، وننتهي بعرض لنموذج للنمو الإنساني في هذا الإطار الإسلامي الشامل, ونربطه بالسياق المعاصر للعلم عامة ولعلم النفس خاصة.

أولا: النمو الإنساني في القرآن الكريم

أولًا: النمو الإنساني في القرآن الكريم: يتناول القرآن الكريم في مواضع كثيرة خلق الإنسان ونموّه، ويمكن أن تنقسم آيات خلق الإنسان إلى قسمين: ما يتصل منها بخلق آدم -عليه السلام، وهو من باب الغيب الذي على المسلم أن يؤمن به، ثم ما يتصل منها بخلق الإنسان من سلالة آدم، والذي حدّدَ القرآن الكريم معالمه، وهو ما نتناوله هنا لاتصاله المباشر بموضوع علم نفس النمو. 1- آيات الله في تكوين الإنسان: يحدد القرآن الكريم الطريق العادي لوجود الإنسان كنتاجٍ لاتصال الذكر بالأنثى1 وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] 2. وفي هذا إشارة صريحة إلى أن خلق الإنسان من جزء من الذكر "وهو الحيوان المنوي" وجزء آخر من الأنثى "وهو البويضة الأنثوية", ويفسر لنا ذلك

_ 1 يستثنى من ذلك، كما يقول المفسرون، خلق آدم -عليه السلام- من دون أب وأم، وخلق حواء من أب دون أم، وخلق عيسى -عليه السلام- من أم دون أب، فخلق هؤلاء جميعًا يدخل في باب الغيب الذي يجب على المسلم الإيمان به. 2 في ذكر الآيات القرآنية الكريمة سوف نشير دائمًا إلى اسم السورة متبوعًا برقم الآية فيها.

قول مريم حين بُشِّرَتْ بعيسى -عليه السلام: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي} [آل عمران: 47] . ويحدد القرآن الكريم المادة التي يُخْلَقُ منها الإنسان نتيجةً لهذا الاتصال الجنسي في قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِين} [السجدة: 7-8] . فإذا كان خلق آدم عليه السلام -أبو البشرية- من طين، فإن خلق نسله -وهم البشر جميعًا- من ماء مهين. والماء المهين -بإجماع المفسرين- هو المني الذكري. والمقصود بالسلالة هنا "الخلاصة"، ومعنى ذلك أن خلق نسل آدم من خلاصة المني الذكري الذي يفرزه الرجل عند الاتصال الجنسي بالمرأة, وهذه الخلاصة هي التي يشير إليها علماء الأجنة والوراثة في الوقت الحاضر بالحيوان المنوي, وفي هذا القول القرآني إعجاز علمي رائع, فلم يتوصل هؤلاء العلماء إلّا في القرن العشرين إلى الحقيقة العلمية القائلة بأن الحيوانات المنوية تؤلف فقط ما بين 0.05%، 1% من مجموع المني الذكري "الماء المهين"، وأن من بين هذه الحيوانات المنوية التي يبلغ عددها في المرة الواحدة بضع مئات الملايين لا ينجح إلّا حيوان منوي واحد -بتقدير الله تعالى- في تقليح البويضة الأنثوية، وهو بذا يصبح "خلاصة"الماء المهين على حد معنى التعبير القرآني المعجز "محمد علي البار، 1986". ويحدد القرآن الكريم خصائص المني الذكري بأنه سائل سهل التدفق، ويصفه بأنه {مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37] . {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 5-6] . {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8] . كما يحدد أيضًا الموضع الذي يخرج منه، فيقول تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 6-7] . ويذكر العلماء المحدثون "عبد الخالق همت شبانه، 1985" أن المفسرين القدامى ذهبوا إلى أن الصلب هو العمود الفقري للرجل، والترائب هي عظام صدر المرأة، وأن ماء الرجل الدافق يلتقي بماء المرأة الدافق الذين يشتركان في تكوين

الجنين، وهو كلام غير صحيح من منظور العلم الحديث, إلّا أن العلم الحديث ينسب كلًّا من الصلب والترائب إلى الرجل, وهو تفسير يتفق أيضًا مع السياق القرآني، كما يتفق مع العلم الحديث الذي يؤكد أن الحيوان المنوي للذكر يلعب الدور الحاسم في تكوين الجنين كما سنبين فيما بعد. إلّا أن المني وحده لا يكفي لتكوين الإنسان جنينًا في رحم الأم, وقد أشار القرآن الكريم إلى النطفة باعتبارها المادة التي يتم منها هذا التكوين, وقد وردت كلمة "نطفة" في القرآن الكريم في اثني عشر موضعًا, ومن ذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77] . ويرى عدنان الشريف "1987-1988" أن معنى "النطفة" هنا يجب ألّا يقتصر على المني الذكري "أي ماء الرجل" -وهو المتعارف عليه في بعض التفاسر- وإنما يجب أن يمتد ليشمل ماء المرأة. وهذا ما يراه أيضًا محمد علي البار "1985"؛ حيث يذكر أن النطفة قد تكون مذكرة أو مؤنثة، والنطفة المذكرة هي جميط الذكر، والنطفة المؤنثة هي جميط الأنثى, ويدعم هذا الرأي أن الخطاب في هذه الآية الكريمة للرجل والمرأة وليس للرجل فقط, كما يدعمه أيضًا الحديث النبوي الشريف الذي يشير إلى نطفة الرجل ونطفة المرأة كما سنبين فيما بعد. هذه النطفة المذكرة "الحيوان المنوي", وتلك النطفة المؤنثة "البويضة الأنثوية", يندمدجان معًا ليتكون من بعض كلٍّ منهما نطقة جديدة مخصبة من كلٍّ منهما, هي التي يسميها علم الأجنة "اللاقحة" أو "الزيجوت", وهي تمثل الطور الأول من تكوين الجنين كما سنوضح في الباب الثاني فيم بعد, ويعبر القرآن الكريم عن هذه العملية تعبيرًا معجزًا بقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2] . والأمشاج هي الأخلاط الناتجةعن امتزاج ماء الرجل بماء المرأة, وفي هذا تفسير لقةوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] . الذي سبق الإشارة إليه, ويذكر محمد علي البار "1986" أن الإعجاز العلمي الباهر لهذه الآية الكريمة يتمثل في أن الباحثين لم يعلموا شيئًا عن النطفة الأمشاج المكونة من نطفة الرجل ونطفة المرأة إلّا عام 1875 على يد هيرتفج

Hertwig, وفي عام 1883 استطاع فان بندن Van Benden أن يثبت الإسهام المتساوي لكلٍّ من الحيوان المنوي والبويضة الأنثوية في تكوين النطفة الأمشاج "اللاقحة أو الزيجوت كما تسمى في علم الأجنة". ويتضح الإعجاز العلمي للقرآن في هذ الموضوع إذا علمنا أن أرسطو الذي ظلت آراؤه مسيطرة على الفكر الإنساني لأكثر من ألفي عام, كان يعتقد أن الجنين يتكون من دم حيض المرأة النشط, ولم يقابل هذا الاعتقاد بأي معارضة علمية إلّا من علماء القرآن والحديث المسلمين في العصر الإسلامي على أساس الآيات القرآنية. كما فند القرآن الكريم أيضًا الاعتقاد اليهودي القائل بأن إتيان المرأة في فرجها من جهة ظهرها ينتج عنه طفل أحول, أضف إلى ذلك رفض الاعتقاد الذي ظلَّ سائدًا -حتى قرب نهاية القرن التاسع عشر- وخلاصته أن الجنين كامل التكوين يكون موجودًا بصورة مصغرة في المشيج الذين ينشط عن طريق الحيوان المنوي, وكان هذا كله ضد ما أثبته العلم الحديث الذي وافقت حقائقه آيات القرآن الكريم المعجزة، ابتداء من عام 1858 على يد ردي، ثم عام 1864 على يد باستير، ثم ما أثبته علم الوراثة بعد ذلك حول وجود الجينات "محمد طاهر وآخرون، 1985". ويحدد القرآن الكريم موضع النطفة الأمشاج أو اللاقحة في رحم الأم، وهذا ما أجمع المفسرون على معنى قوله -سبحانه وتعالى "القرار المكين" {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] . {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات: 20-21] . ويرى عدنان الشريف "1987-1988" أن للقرار المكين ثلاث معانٍ قرآنية تبعًا للمعاني الثلاث للنطفة. أ- رحم المرأة: بشرط أن يفهم معنى الماء المهين أو النطفة في الآيات القرآنية السابقة بمعنى البويضة المخصبة، والتي تمثل الطور الأول في تكوين الجنين؛ ففي الرحم لا يستقر إلّا هذه البويضة الملقحة, وكل من الحيوانات المنوية والبويضة سرعان ما تموت إذا لم تتلاقح في أنبوب الرحم. ب- مبيضا المرأة: بشرط أن يفهم الماء المهين أو النطفة بمعنى ماء المرأة في الآيات الكريمة "فمن الوجهة العلمية يستقر ماء المرأة, أي: نطفها, في المبيضين عندها منذ الشهر الرابع من حياتها, حتى تخرج النطف دوريًّا من المبيضين مرةً كل شهر بعد بلوغها سن النضج الجنسي الذي يمتد

عادة بين سن التاسعة وسن السادسة عشرة كحد أدنى وحد أقصى "عدنان الشريف، 1987"1. ج- الحويصلة المنوية عند الرجل: بشرط أن يفهم معنى الماء المهين أو النطفة بمعنى ماء الرجل, فمن الوجهة العلمية يستقر ماء الرجل الذي تفرزه خصيتاه بصورة دائمة منذ بلوغه سن النضج الجنسي في الحويصلة المنوية2 ويخرج منها وقت الاستمناء. ويؤكد علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء أن الرحم والمبيضين والحويصلة المنوية هي كلها قرار مكين "أو مكان آمنٍ" لاستقرار النطفة التي تبقى في هذه الأعضاء لوقت معلوم في كل حالة3, والرحم والمبيضان والحويصلة المنوية هي أماكن آمنة لنطف من خلال موضعها في الجسم. فالرحم والمبيضان عند المرأة والحويصلة المنوية عند الرجل تقع في الحوض, وهو عبارة عن جسم عظمى يحيط بها من جميع الجهات، كما أنها معلقة بأحزمة وأربطة متينة ومرنة في نفس الوقت, وهي تتصل بمختلف العضلات والأعضاء الموجودة في الحوض. ويزداد فهمنا للمعنى المعجز للوصف القرآني "القرار المكين" إذا علمنا التفاصيل الدقيقة التشريحية والفسيولوجية للرحم والمبيضين والحويصلة المنوية, وهو ما لا يتسع له نطاق هذا الكتاب، ويمكن للقارئ المهتم الرجوع إلى الكتب الطبية المتخصصة. 2- آيات الله في نمو الإنسان قبل الولادة: تشير الآيات القرآنية الكريمة بشكل صريح إلى أن نمو الإنسان بعد تكوينه من المادة الأساسية التي يخلق منها، إنما يمر بمراحل يتطور بعضها من بعض ويتلو بعضها بعضًا، وفي ذلك يقول الله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13-14] .

_ 1 يحوي مبيضا المرأة عادةً ما يقرب من مليوني بويضة عند ولادتها, ولا يبقى منها إلّا ثلاثون ألفًا تقريبًا عند بلوغها النضج الجنسي، ويخرج من المبيض أربعمائة بويضة تقريبًا خلال فترة خصوبة المرأة الممتدة من سن النضج وحتى سن انقطاع الدورة الشهرية. 2 جسيم يشكل خزان, مركزه في أسفل المثانة عند الرجل, يتجمع فيه السائل المنوي الذي تفرزه الخصيتان. 3 هذا الوقت المعلوم قد يكون تسعة أشهر للنطفة المستقرة في الرحم، أو الفترة منذ الشهر الرابع من حياة المرأة إلى سن بلوعها النضج الجنسي, ثم تخرج دوريًّا كل شهر حتى سن انقطاع الدورة الشهرية للنطفة بمعنى البويضة الأنثوية، أو الفترة منذ البلوغ الجنسي للرجل, وتخرج وقت الاستمناء للنطفة بمعنى المني الذكري.

ويقول تعالى أيضًا: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] . ويفصِّلُ القرآن الكريم المراحل التي يمر بها نمو الإنسان في مرحلة الجنين, يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الحج: 6] . ونعرض في هذه المراحل كما وردت في القرآن الكريم، أما خصائصها العلمية كما كشف عنها العلم الحديث فسوف نتناولها بالتفصيل في الباب الثاني من هذا الكتاب. أ- مرحلة النطفة: ورد ذكر النطفة في القرآن الكريم في اثنى عشر موضعًا على ثلاث معانٍ -كما ذكرنا- وهي: النطفة المذكرة والنطفة المؤنثة والنطفة الأمشاج, وهي النطفة المختلطة من الحيوان المنوي والبويضة عندما يتم الإخصاب, والمعنى الثالث هو الذي يمثل المرحلة الأولى من تكوين الجنين ونموه وتطوره. وتشير الآيات القرآنية الكريمة إلى الدور الحاسم للوراثة مع التكوين الأولي للنطفة, ويعبر القرآن الكريم عن الوراثة بتعبيره البليغ "التقدير", يقول الله تعالى: {قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 17-19] . وهذه الحقيقة لم يكتشفها إلّا علم الأجنة والوراثة الحديثين, فلم يتأكد دور الجينات -وهي أجزاء صغيرة من الخلية الحية- إلّا عام 1912, حين أثبت مورجان أن هذه الجينتات تنتقل عبر الحيوان المنوي الذكر والبويضة الأنثوية. ومن حقائق الوراثة أيضًا التي أشار إليها القرآن الكريم, أن الذكورة والأنوثة في الجنين إنما تكون تابعة لماء الرجل, قال تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم: 45-46] . والنطفة التي تمنى هي نطفة الرجل لا ريب؛ إذ ليس للمرأة مني ولا هو من خصائصها1.

_ 1 يرى عدنان شريف "1987-1988" إطلاق لفظ المني على ماء الرجل والمرأة, وفي رأينا أن يقتصر اللفظ على معناه الأصلي وهو ماء الرجل.

وتوجد إشارة قرآنية أخرى إلى ذلك, يقول الله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة: 36-39] . والضمير في كلمة "من" يرجع إلى المني, وهو للرجل وليس للمرأة, وهذا حقيقة علمية مؤكدة في علم الوراثة الحديثة, سنوضحها بالتفصيل فيما بعد "في الباب الثاني". ب- مرحلة العلقة: ورد ذكر العلقة في القرآن الكريم في خمسة مواضع, ويحدد علماء الأجنة المحدثون هذه المرحلة بالفترة التي تعلق فيها الكرة الجرثومية بجدار الرحم وتنتهي بظهور الكتل البدنية, والتعبير القرآني عن هذه الرحلة بكلمة "علقة" هو أفضل وأدق وصف لها, وهذا ما سنفصله فيما بعد عند تناولنا لهذه المرحلة في نمو الجنين. ج- مرحلة المضغة: ورد ذكر المضغة في القرآن الكريم في موضعين؛ أحدهما في سورة "الحج", والآخر في سورة "المؤمنون" والمضغة في علم الأجنة الحديث هي مرحلة يشبه فيها الجنين في مظهره لقمة ممضوغة, وتظهر فيها بالفعل ما يشبه آثر أسنان مغروزة, ومرة أخرى فإن التعبير القرآني عن هذه المرحلة بكلمة "مضغة" لا يطابق فقط الوصف العلمي لها في علم الأجنة بل يتفوق عليه, وسوف نفصل ذلك عند عرضنا لهذه المرحلة في الباب الثاني من هذا الكتاب. ويذكر القرآن الكريم أن هذه المضغة قد تكون مخلقة أو غير مخلقة. ويفسر بعض العلماء المعاصرين ذلك "عدنان الشريف، 1987-1988" بثلاثة معانٍ هي: 1- خلال مرحلة المضغة يكتمل تكوين الأغشية والحبل السري وجزء من المشيمة, وهي أجزاء من المضغة تحيط بالجنين وتحميه وتغذيه, إلّا أنها تسقط وتموت بعد الولادة، وهي بهذا المعنى تؤلف المضغة غير المخلقة، أما الجزيء الرئيس من المضغة الذي يكون الجنين نفسه, فهو المضغفة المخلقة.

2- خلال مرحلة المضغة تبدأ مختلف أعضاء الجنين في التكوين إلّا أنها لا تكتمل إلّا في المراحل التالية, ومعنى ذلك أن الجنين في هذه المرحلة هو مضغة مخلقة وغير مخلقة في وقت واحد. 3- خلال مرحلة المضغلة تصنف الخلايا إلى قسمين؛ أحدهما خلايا متخصصة تشكل مختلف أعضاء الجنين، وثانيهما خلايا غير متخصصة, أو خلايا الاحتياط التي تتحول إلى خلايا متخصصة تحل محل خلايا القسم الأول عندما تموت, والنوع الأول يؤلف القسم المخلق من المضغة، أما النوع الثاني فهو القسم غير المخلق, إلّا أن المعنى الذي يشير إليه معظم المفسرين للمضغة المخلقة أنها المضغة التي يكتمل تكوينها, وتبدأ فيها أجهزة الجسم في التكوين, أم المضغة غير المخلقة فهي التي لا يكتمل لها التكوين، ويقصد بها السقط كما جاء في تفسير القرطبي, وهو المعنى الذي نفضله هنا بدليل قوله تعالى بعد ذلك مباشرة. {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الحج: 5] . د- مرحلة تكوين العظام والعضلات: يصف القرآن الكريم عمليات التكوين النهائي للإنسان في قوله تعالى: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: 14] . وفي هذه المرحلة تبدأ الخلايا العظمية في التكوين, وتحل محل الخلايا الغضروفية التي كانت موجودة من قبل, كما يتم تكوين العضلات "اللحم" التي تحيط بعظام الجسم, وتساعد على حركتها. هـ- مرحلة تكوين الطفل السوي "التسوية": يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] . وقد أجمع المفسرون على أن المقصود من الخلق نفخ الروح في الجنين؛ بحيث يتحرك ويصير له "سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب" "محمد علي البار: 1896". فقبل هذه المرحلة يكون الجنين أقرب إلى النبات, ليس له حس أو حركة إرادية، وكل ما فيه فقط حركة النمو والاغتذاء, أما في هذه المرحلة فإن قوى الحس والإدراك والإرادة تتكون فيه، وتتضح هذه الصلة الوثيقة بين نفخ الروح وتكوين الحس والإدراك في قوله تعالى:

{ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9] . وتحديد بدء هذه المرحلة له أهمية خاصة، فمتى نفخت الروح حرم الإجهاض حرمة تامة كما أجمع الفقهاء, وتمتد هذه المرحلة حتى الولادة. ويمكن أن تسمى مرحلة التسوية، أي: إعطاء الشكل الإنساني للجنين، بعد أن كانت الأطوار السابقة من طور النفطة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام إلى الرحم في أطوار "خلق" و"تجميع" و"تعديل في أعضاء الجنين" "عدنان الشريف، 1987-1988". وهذه المرحلة هي التي يتميز بها المخلوق البشري عن غيره من المخلوقات؛ فقبلها لا يستطيع علم الأجنة أن يميز بين الجنين وغيره من أجنة الفقاريت الأخرى، كما وجد علم الأجنة المقارن؛ أما عندها فيأخذ الجنين عند الإنسان شكله الإنساني الذي يتميز به عن غيره من الأجنة, ولعل هذا التشابه في الشكل الخارجي بين جنين الإنسان وجنين غيره من الثدييات في مراحل ما قبل التسوية, هو الذي أوقع تشارلز دارووين في خطأه العلمي الفادح في افتراض أن الإنسان "تطور" عن الفقاريات الأخرى, وهو الفرض الذي دحضته العلوم البيولوجية والإنسانية الحديثة, ولعل أكثر هذه الأدلة أهمية ما يطرأ على الجنين الإنسان من تحول كيفي جوهري في مرحلة التسوية، وفي هذا كله إعجاز علمي جديد لكتاب الله الخالد, وصدق الله العظيم في قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] . والتي تعني أيضًا -والله أعلم: أنه خلق مختلف عن جميع المخلوقات الأخرى. 3- آيات الله في نمو الإنسان بعد الولادة: يذكر القرآن الكريم المراحل التي يمر بها نمو الإنسان بعد الولادة, والملاحظة التي تدهش الباحث العلمي بإعجازها البديع, أن القرآن الكريم لا يفصل بين مرحلتي ما قبل الولادة وما بعدها، وإنما يربط بين المرحلتين برباط وثيق، يوضحه قوله -سبحانه وتعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] .

ثم يحدد القرآن الكريم الحد الأقصى لفترة الرضاعة حتى الفصال "الفطام" بعامين، يقول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] . ومعنى ذلك أننا لو طرحنا فترة الرضعة هذه ومقدارها 24 شهرًا من الفترة الكلية للحمل والرضاعة "30 شهرًا", يمكن أن نستنتج أن الطفل يحتاج للبقاء داخل رحم الأم أثناء فترة الحمل إلى فترة زمنية لا تقل عن ستة أشهر حتى يولد ويبقى حيًّا بعد ولادته، وبالطبع, فإن فترة الحمل قد تمتد إلى مدة تمام الحمل "280 يومًا في المتوسط, أو حوالي 40 أسبوعًا"، وهذه المدة من تقدير الله -سبحانه وتعالى, يقول القرآن الكريم في ذلك: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الحج: 5] . ثم يحدد القرآن الكريم المراحل الثلاث الكبرى للنمو بعد الولادة في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] . وهذه هي المراحل الكبرى الثلاث لنمو الإنسان. أ- المرحلة الأولى: الضعف الأول للإنسان: وهي مرحلة طفولة وصبا طويلة, يصفها القرآن الكريم بأنها مرحلة ضعف، وهو ضعف يشمل أيضًا مرحلة ما قبل الولادة, كما هو واضح من التداخل بين مرحلتي ما قبل الولادة وما بعدها, والذي أوضحناه فيما سبق، ويصفها القرآن الكريم وصفًا مطلقًا بأنها مرحلة "طفولة" في قوله تعالى: { ... ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ... } [الحج: 5] { ... ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طفْلًا ... } [غافر: 67] . وهذا ما تنبهت إليه التشريعات الحديثة للطفولة؛ حيث وسَّعَتْ نطاق المفهوم ليمتد إلى نهاية المراهقة. ويميز القرآن الكريم في هذه الرحلة الكبرى بين أربعة أطوار فرعية هي: 1- الرضاعة: ومدتها القصوى عامان, كما أوضحت الآيات الكريمة التي عرضناها فيما سبق.

2- الطفل غير المستأذن "غير المميز للعورة": وتمتد من الفصال "الفطام" وحتى سن الاستئذان "التمييز المبكر للعورة", يقول الله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] . يقول القرطبي في تفسير ذلك: "أي الأطفال الذين لم يكشفوا عن عورات النساء للجماع لصغرهم". 3- الاستئذان المقيد "التميز": وهي المرحلة التي يعقل فيها الطفل معاني الكشفة والعورة ونحوها, يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ} [النور: 58] . 4- الاستئذان المطلق "بلوغ الحلم": وهي مرحلة هامة تتحدد فيها مستويات قريبة من مستويات الكبار؛ حيث الاستئذان على وجه الإطلاق وليس لفترات محددة كما هو واضح من الآية السابقة، والتي يتبعها قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] . ثم يطلق القرآن الكريم "الاستئذان" باعتباره محكًّا للسلوك الإنساني الناضج، فيقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62] . ب- المرحلة الثانية: قوة الإنسان: وهي مرحلة التحول إلى الرشد، ويصفها القرآن الكريم بالقوة, وقسَّمَها إلى ثلاثة أطوار فرعية هي:

1- بلوغ السعي: يقول الله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] . ويذكر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن في تفسير ذلك، فلما بلغ معه المبلغ الذي يسعى مع أبيه في أمر دنياه معينًا له على أعماله. قال مجاهد: أي شبَّ وأدرك سعيه سعي إبراهيم, ويضيف الحسن ومقاتل أن السعي هذا هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة. 2- بلوغ الرشد: يقول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن الرشد يعني: الاهتداء إلى ضبط الأموال "باعتباره المؤشر الأساسي للنضج الاجتماعي" وحسن التصرف فيها, والصلاح وسداد الرأي، وففيه جمع بين القوتين، قوة البدن وهو بلوغ النكاح، وقوة المعرفة وهو إيناس الرشد، فلو مُكِّنَ اليتيم من ماله قبل حصول المعرفة وبعد حصول قوة البدن لأذهبه في شهواه وبقي صعلوكًَا, ومن الإشارات القرآنية اللطيفة هنا طلب "إيناس" الرشد والتعرف على علاماته ومؤشراته، وهذا يعني أن الرشد ليست له حدود زمنية محددة يصل إليها الجميع في زمن واحد. 3- بلوغ الأشد1 "اكتمال الرشد": يقول الله تعالى: { ... ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ... } [الحج: 5] { ... ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ... } [غافر: 67] . ويذكر القرطبي في هذا الصدد أن بلوغ الأشد هو بلوغ القوة، وقد تكون في البدن، وقد تكون في المعرفة بالتجربة، ولابد من حصول الوجهين, فإن الأشد وقعت هنا مطلقة وتعني -والله أعلم- البلوغ على إطلاقه, وهو هنا البلوغ الجنسي والجسمي والعقلي وهو معنى الرشد.

_ 1 يقال بلغ أشده, أي: قوته، وهو مفرد، أو جمع لا واحد له من لفظه، أو جمع اختلف في مفرده.

وقد أشار القرآن الكريم إلى الأشد بمعنى الرشد في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] . إلّا أن القرآن الكريم يحدد تحديدًا صريحًا في موضعٍ واحدٍ معنى الأشد بمعنى اكتمال الرشد؛ حيث يصبح في هذه الحالة طور المسئوليات الكبرى، بقول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} [الأحقاف: 15] . ولعل هذا هو ما يشير إليه القرآن الكريم -والله أعلم- بمرحلة الكهولة, يقول الله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 46] . {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [المائدة: 110] . ويذكر القرطبي أن الكهولة فيها مجتمع الأشد، وهي سن التكليف بالمسئوليات الكبرى، فقد كُلِّفَ الرسل بحمل الرسالة في هذا السن. ج- المرحلة الثالثة: الضعف والشيبة: على الرغم من أن هذه المرحلة هي مرحلة ضعف، إلّا أنه ضعف مختلف عن الضعف الأول السابق على الرشد، فالقرآن الكريم يضيف إلى هذه المرحلة وصف "الشيبة", والتي تحمل معنى الخبرة والحكمة إلى جانب التقدم في السن. ويقسِّم القرآن الكريم هذه المرحلة الكبرى إلى طورين هما: 1- مرحلة الشيخوخة: يقول الله تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر: 67] . 2- مرحلة أرذل العمر "الهرم" يقول الله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5] . ويذكر القرآن الكريم شواهد كثيرة على خصائص مرحلة "الضعف والشيبة".

ومن ذلك قوله تعالى في تحديد المعالم الجسمية الرئيسية للمرحلة, وهي وهن العظام وشيبة الرأس: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] . وكذلك خاصية انقطاع خصوبة المرأة والرجل، يقول تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: 72] . {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} [النور: 60] . وانتكاس الخصائص النفسية والجسمية المختلفة إلى مراحل سابقة، وخاصة عند أولئك الذين يبلغون من العمر أرذله، يقول الله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس: 68] . وفقدان القدرة على العلم "أو نقص القدرة على التعلم" وخاصة عند المعمرين الذين يبلغون مرحلة الهرم أو أرذل العمر, يقول تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5] . [النحل: 70] . وقد نَبَّه القرآن الكريم إلى أن هذه المرحلة فيها اعتماد جديد، كما كان الحال في مرحلة الطفولة والصبا، إلّا أن الاعتماد في مرحلة الضعف الأولى كان على الوالدين، أما الاعتماد في مرحلة الضعف الثاني فلا مناص من أن يكون على الأبناء، ومعنى ذلك أن هذه المرحلة هي أقرب إلى رد دين الأبناء إلى الوالدين، وكما تحددت حقوق الأبناء على والديهم في المرحلة الأولى، يحدد القرآن الكريم حقوق الوالدين على أبنائهم في المرحلة الثانية, يقول تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] . وقد قرن القرآن الكريم الإحسان إلى الوالدين بعبادة الله -سبحانه وتعالى, فقد ورد القول القرآني:"لا تعبدوا إلا الله وبالوالدين إحسانا" في المواضع الآتية [البقرة: 83، 233] ، [النساء: 36] ، [الأنعام: 151] ، [الإسراء: 23] ، [مريم: 214] ، [العنكبوت: 8] ، [لقمان: 14] ، [الأحقاف: 15، 17] ، [إبراهيم: 41] ، [نوح: 28] .

ثانيا: النمو الإنساني في السنة النبوية الشريفة

ثانيًا: النمو الإنساني في السنة النبوية الشريفة السنة النبوية المطهرة, وهي ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أقوال وأفعال وتقارير, هي تفصيل لما أجملته آيات الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العزيز، وهي السلوك العملي والممارسة الفعلية لمبادئ الإسلام كما حددها القرآن الكريم, وقد ورد في الحديث الصحيح إشارات إلى تفصيل بعض ما أجمله القرآن الكريم في مجال النمو الإنساني, نتناولها فيما يلي: 1- في مرحلة ما قبل الولادة: "أ" يوضح الحديث الشريف طبيعة النطفة الذكرية بقوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي أخرجه مسلم: "ما من كل الماء يكون الولد" , ومعنى ذلك أن الجنين يتكون من جزء يسير من المني, وفي هذا تفصيل لمعنى الآية القرآنية {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} والسلاسلة كما أشرنا في القسم الأول من هذا الفصل تعني الخلاصة، والماء المهين هو المني. ب- كما يحدد الحديث النبوي طبيعة المضغة المخلقة وغير المخلقة، فقد روي عن عبد الله بن مسعود فيما أخرجه ابن أبي حاتم وغيره, وذكره ابن رجب في "جامع العلوم والحكم", وابن القيم في "طريق الهجرتين" أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "النُّطفة إذا استقرَّتْ في الرَّحم جاءها مَلَكٌ فأخذها بكفه، فقال: أي ربِّ، مخلَّقة أم غير مخلَّقة؟ فإن قيل: غير مخلَّقة، لم تكن نسمة، وقذفتها الأرحام، وإنْ قيل: مخلَّقة، قالَ: أي ربِّ، أذكرٌ أم أنثى؟ شقيٌّ أم سعيد؟ ما الأجل؟ وما الأثرُ؟ وبأيِّ أرضٍ تموتُ؟ " وفي هذا الحديث الشريف تفصيل صريح لمعنى المضغة غير المخلقة بأنها تعني السقط. ج- وإذا كانت النطفة المؤنثة لم ترد صريحة في القرآن الكريم, فقد أوردتها السنة المطهرة تفصيلًا لآيات الله في كتابه العزيز, فقد أخرج مسلم في مسنده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لليهودي الذي سأله من أيّ شيء يخلق الإنسان؟ "يا يهودي: من كلٍّ يخلق، من نطفة الرجل ونطفة المرأة" وفي هذا توضيح صريح لطبيعة النطفة الأمشاج, والتي أجمع المفسرون على أنها تعني نطفة الرجل ونطقة المرأة إذا اجتمعا. ويتضح الإعجاز العلمي للقرآن الكريم والسنة المطهرة في هذا السياق إذا درسنا معتقدات الأطباء حتى زمن متأخر جدًّا بعد عصر البعثة النبوية الشريفة, والتي يرويها ابن حجر العسقلاني الذي عاش بين عامي 773

هـ ,520هـ "أي: بعد تسعة قرون من الرسالة المحمدية" يقول: "زعم كثير من أهل التشريح أن منيّ الرجل لا أثر له في الولد إلّا في عقدة, وأنه إنما يتكون من دم الحيض" وقد كانت هذه هي نظرية أرسطو الأساسية في تكوين الجنين, وقد فند ابن حجر هذه المزاعم في ضوء الأحاديث النبوية الشريفة؛ لأنها صريحة في الإشارة إلى أن الولد إنما يخلق من نطفة المرأة ونطفة الرجل "محمد على البار، 1986". د- جاء في الصحيحين البخاري ومسلم عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ؟ أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ؟ أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ؟ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الْأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ". وأشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي ورد في الصحيحين أيضًا عن عبد الله بن مسعود إلى الفترة الزمنية التي يقضيها الجنين في مراحل نموه المختلفة في قوله: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا, ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ, وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ" ومعنى الحديث الشريف أن الجنين ينمو في مراحل ثلاث هي: تجميع الخلق وتستمر40 يومًا، وتكون العلقة والمضغة وتستمر ما قبل 120يومًا، والجنين المكتمل التكوين يبدأ من بعد ذلك, وتستمر حتى لحظة الوضع والولادة. كما قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم: "إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا". ومن جوانب الإعجاز العلمي في السنة النبوية المطهرة -فيما يتصل بهذين الحديثين الشرفين- ما أكده علم الأجنة من أن انقضاء أربعين يومًا يعد شرطًا جوهريا حتى تتمايز النطفة "اللاقحة" أو"الزيجوت" من خلية واحدة إلى جنين طوله سنتيمتر واحد تجتمع فيه جميع الإمكانات اللازمة للتمايز العادي وظهور جميع الأعضاء الأساسية، ومع بلوغ الجنين يومه الثاني والأربعين تبدأ العظام في التكوين، ويبدأ الجنين في النمو السريع Simpsan, et al, 1985 & Persaud, أي أن الحدود الزمنية لبداية التخليق التي جاءت في الحديثين الشريفين "40 يوما" و"42 ليلة" لم يكتشفها العلم الحديث إلّا بعد انقضاء أربعة عشر قرنًا.

2- مراحل النمو بعد الولادة: أ-0 يحدد الحديث النبوي مراحل ما بعد الولادة, فقد ورد في الحديث الصحيح, عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الغلام يعق عنه -أي: تذبح عنه العقيقة- يوم السابع، ويسمى، ويماط عنه الأذى، فإذا بلغ ست سنين أدب، فإذا بلغ تسع سنين عزل فراشه، فإذا بلغ ثلاث عشرة سنة ضرب على الصلاة، فإذا بلغ ست عشرة سنة زوجه أبوه، ثم أخذ بيده وقال: "قد أدبتك وعلمتك وأنكحتك، أعوذ الله من فتنتك في الدنيا وعذابك في الآخرة، ويذكر الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" أن هذا الحديث أخرجه أبو الشيخ بن حيان في كتاب "الضحايا والعقيقة" إلّا أنه قال: "وأدبوه لسبع، وزوجوه لسبع عشرة". وفي هذا الحديث الشريف تمييز واضح بين المراحل الآتية: 1- مرحلة الوليد "الأسبوع الأول من حياته". 2- مرحلة ما قبل التمييز: ما قبل سن السادسة "وفي أحاديث صحيحة أخرى ما قبل سن السابعة". 3- مرحلة التمييز: وهي التي يبدأ فيها تأديب الطفل "أو تعليمه المنظم". 4- مرحلة البلوغ الجنسي: وعندها يبدأ التكليف بالعبادات. 5- مرحلة الرشد: ومؤشرها الأساسي الزواج. ب- وتحدد أحاديث نبوية أخرى مؤشرًا هامًّا لسن التمييز وهو الأمر بالصلاة، ومنها الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود أن الرسول -عليه السلام قال: "مروهم بالصلاة لسبع, واضربوهم عليها لعشر, وفرقوا بينهم في المضاجع" ومعنى ذلك: أن حقوق الله تعالى تصحّ عن الصبي المميز؛ كالأيمان والصلاة والصيام والحج، ولكن لا يكون ملزمًا بأداء العبادات إلّا على مهمة التأديب والتهذيب، ولا يستتبع فعله عهدة في ذمته، فلو شرع في صلاة لا يلزمه المضي فيها، ولو أفسدها لا يجب عليه قضاؤها" "وهبة الزحيلي، 1984". ج- وتحدد أفعال الرسول -عليه السلام- وأقواله الشريفة طرق معاملة الوالدين للأبناء ومنها:

1- حسن أدب الطفل وحسن اختيار اسمه, يقول -عليه الصلاة والسلام: "من حق الولد على الوالد أن يحسن أدبه ويحسن اسمه"، أخرجه البيهقي. 2- المساواة في المعاملة: يقول -صلى الله عليه وسلم: "ساووا بين أولادكم في العطية". 3- الرحمة والرأفة بالصغير: فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قَدِمَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ, فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمْ الرَّحْمَةَ" متفق عليه في البخاري ومسلم. وكذلك رأى الأقرع بن حابس النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقبل ولده الحسين بن علي -رضي الله عنهما- فقال: "إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا, فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ثُمَّ قَالَ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ" أخرجه البخاري ومسلم عن حديث لأبي هريرة. وقال عبد الله بن شداد: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بالناس إذ جاءه الحسين فركب عنقه وهو ساجد،, فأطال السجود بالناس حتى ظنوا أنه قد حدث أمر, فلما قضى صلاته قالوا: قد أطلت السجود يا رسول الله حتى ظننا أنه قد حدث أمر، فقال: "إن ابني قد ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته" رواه النسائي والحاكم. د- تحدد الأحاديث النبوية الشريفة حقوق الوالدين على الولد, فقد قال -عليه السلام: "لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ" أخرجه مسلم. وقال أيضًا: "بر الوالدين أفضل من الصلاة والصدقة والصوم والحج والعمرة والجهاد في سبيل الله". وقال أيضًا: "بر أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك". أخرجه النسائي وأحمد والحاكم. 3- في الوراثة والبيئة: أ- يشير الحديث الصحيح إلى أن الوراثة تتحدد مع تكوين الجنين, يقول -صلى الله عليه وسلم: إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله

تعالى كل نسب بينها وبين أدم؟. أخرجه ابن جرير, وقد أشرنا في القسم السابق إلى أن التقدير الوراثي على مستوى الجينات لم يكتشف إلّا في مطلع القرن العشرين. ب- من الأحاديث الصحيحة التي تؤكد أهمية الوراثة في تكوين الجنين ونموه قوله -صلى الله عليه وسلم: $"تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" أخرجه ابن ماجه والديلمي, كما أكدت أحاديث صحيحة أخرى دور البيئة, ومنها قوله -عليه الصلاة والسلام: "إياكم وخضراء الدمن" قالوا وما خضراء الدمن؟ قال: "المرأة الحسناء في المنبت السوء" أخرجه الدارقطني, وقد كشفت البحوث الحديثة في ميدان وراثة السلوك الأثر التفاعلي لكل الوراثة والبيئة. ج- سبقت الأحاديث النبوية الشريفة العلم الحديث في الإشارة إلى ظاهرة الصفات المتنحية التي لم يكشف عنها العلم الحديث أيضًا إلّا في القرن العشرين, فقد أُثِرَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رجلًا من الأنصار أقبل عليه فقال له: يا رسول الله هذه بنت عمي, وأنا فلان حتى عدَّ عشرة من آبائه, وهي ابنة فلان حتى عدَّ عشرة من آباء ها, وليس في حسبي ولا في حسبها حبشي، وإنها وضعت هذا الحبشي, فأطرق النبي -عليه السلام- ثم رفع رأسه وقال له: "إن بك تسعة وتسعين عرقًا، ولها تسعة وتسعين عرقًا, فإذا اشتملت اضطربت العروق, وسألت الله -عز وجل- كل عرق منها أن يذهب الشبه إليه, قم فإنه ولدك، ولم يأتك إلّا من عرق منك أو عرق منها". وفي حديث آخر عن أبي هريرة قال: "جاء رجل من بني فزاره إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ولدت امرأتي غلامًا أسود, وهو يعرض بأن ينفيه, فقال رسول الله عليه السلام: "هل لك من إبل؟ " قال: نعم, قال: "ما ألوانها؟ " قال: حمر, قال: "هل فيها من أروق -أسمر أو ما كان لونه كلون الرماد؟ " قال: إن فيها لورقًا, قال: "فأنى أتاها ذلك؟ " قال: عسى أن يكون نزعه عرق, قال: "فهذا عسى أن يكون نزعه عرق", ولم يخرص له في الانتفاء منه" متفق عليه عند البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة والدارقطني. د- الفطرة -ومن شواهدها الوراثة- لا تعمل في فراغ بيئي، وأهم البيئات التي تؤثر في نمو الطفل الأسرة, لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ... ". وفي هذا كشف نبوي شريف آخر لحقائق التفاعل بين البيئة والوراثة. هـ- وجهت السنة الشريفة نظام الأسرة بحيث تصبح بيئة صالحة لنمو الأطفال, وهناك ثروة هائلة من الأحاديث النبوية الصحيحة حول نظام الأسرة الإسلامي, تفيض بها كتب الفقه الإسلامي، ويمكن للمهتم الرجوع إليها في مصادرها الأصلية.

ثالثا: النمو الإنساني عند الصحابة

ثالثًا: النمو الإنساني عند الصحابة: من المأثور عن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وهم مدرس النبوة- أقوال في مجال النمو الإنساني نذكر منها ما يلي: 1- مراحل ما قبل الولادة: يذكر ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم أن قومًا كانوا عند عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقالوا: إن قومًا زعموا أن العزل هو الموؤدة الصغرى، فقال علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه: "لا تكون موؤدة حتى تمر على التارات السبع، تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظامًا، ثم تكون لحمًا، ثم تكون خلقًا آخر, فلقال عمر: صدقت, أطال الله بقاءك". 2- دور الوراثة: رُوِيَ عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "لا تنكحوا القرابة القريبة, فإن الولد يخلق ضاويًا", وقال أيضًا: "اغتربوا لا تضووا" ولا يصح رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, وفي هذا تنبيه لخطر زواج الأقارب لأسباب وراثية لم يكشف عنها العلم الحديث إلّا في القرن العشرين أيضًا. 3- مراحل النمو بعد الولادة: ورد في الأثر "لاعب ابنك سبعًا, وأدبه سبعًا, وصادقه سبعًا, ثم أطلق له الحبل على الغارب" ولا يصح رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وإنما صحَّ عن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه. وقال الإمام علي بن أبي طالب أيضًا: "علموا أولادكم على غير شاكلتكم, فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم". وفي هذا سبق تربوي رائع لم يتنبه إليه المربون إلّا في النصف الثاني من القرن العشرين, حين أكدوا مفاهيم المرونة والتعليم المستمر مدى الحياة.

رابعا: النمو الإنساني في الفقه الإسلامي

رابعًا: النمو الإنساني في الفقه الإسلامي يطلق مصطلح "الفقه" على مجموعة الأحكام الشرعية العملية في الإسلام, وتطلق كلمة "الفقيه" على الشخص العارف بهذه الأحكام التي تتصل في جوهرها بسلوك الناس وأفعالهم, وقد ظهرت الحاجة إليه مع إقامة الدولة الإسلامية على يد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة, وكان الفقه في العهد النبوي مأخوذًا من كتاب الله وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم. وفي عهد الخلفاء الراشدين كانت مصادر الفقه كتاب الله وسنة رسول الله -عليه السلام, وكانوا إذا سُئِلُوا عن مسألة بحثوا فيها, فإن وجدوا حكمها أفتوا به، وإن لم يجدوه اجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم, واجتهدوا في إعطاء الحكم، فإن وجدوا لها نظيرًا في كتاب الله أو سنة رسوله ألحقوا حكم المسألة السابقة، وهذا هو القياس الذي مارسه بعض القضاة والولاة في عهد الرسول -عليه السلام, وإن لم يجدوا سعوا إلى الاتفاق على هذا الحكم, ويُسَمَّى ذلك إجماعًا، وإلّا ظل اجتهادًا, ولم يظهر الإجماع إلّا بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم. وفي عهد التابعين كانت مصادر الفقه الإسلامي هي: القرآن الكريم والسنة والنبوية وإجماع المجتهدين وقياسهم، وهذه هي الأدلة الأصلية التي تستفاد منها الأحكام الشرعية العملية كما يسميها علماء أصول الفقه، وهي الأدلة التي اتفق عليها جماهير علماء المسلمين, وقد ظهرت في العصور المختلفة أدلة أخرى, يسميها علماء أصول الفقه الأدلة الفرعية للتشريع الإسلامي، وقد اختلف حولها الفقهاء، وهي ستة: العرف والاستصحاب والمصالح المرسلة "الاستصلاح" وسد الذرائع والاسحسان وقول الصحابيّ وشرع من قبلنا. وهذه الأدلة اختلف العلماء فيها، فهناك من يقصر مصادر التشريع الإسلامي على الأدلة الأصلية فقط, ولا يرى مصدرًا غير الكتاب والسنة والإجماع والقياس, ومن العلماء مَنْ رأى أن المصادر الفرعية يمكن استخدامها, وهناك خلاف حول حجية كلٍّ منها. وقد أنجز فقهاء المسلمين طوال تاريخ الحضارة الإسلامية ثروة هائلة من المعرفة, وابتكروا وسائل للبحث والتقصي والاستدلال, وخاصة في عصور الاجتهاد الزاهرة, والسؤال الذي نطرحه هنا، لماذا أُغْلِقَ باب الاجتهاد في بعض العصور المتأخرة؟ ويجيب على السؤال محمد الخضري في كتابه الكلاسيكي "أصول الفقه" بأنه حين دخل ميدان الاجتهاد مَنْ ليس أهلًا له, خاف العلماء من أن تأتي الأحكام الشرعية نتيجة للأهواء والأغراض الشخصية, فاختاروا أهون الضررين وهو سد هذا الباب أمام هؤلاء الأدعياء, إلّا أن ما يجب التنبيه عليه أن ذلك لم يكن

ليعني أن الاجتهاد كان له زمن معين انتهى بانتهائه, وإنما معناه وقف التدهور مؤقتًا، لما لحق الهمم من القصور عن تحصيل ما يجب على المجتهد تحصيله. ويجيب على هذا السؤال أيضًا بعض المحدثين "محمد عبد القادر أبو فارس وآخرون، 1985" بأن باب الاجتهاد مفتوح لكل من يملك آلته, ولا يملك إنسان أن يسده، ذلك لأنه يجد للناس من الحوادث والنوازل ما لم يفت به الفقهاء المجتهدون، وهي بحاجة إلى معرفة الحكم الشرعي فيه ليلتزم الناس به, ولا يكون هذا إلّا إذا كان باب الاجتهاد مفتوحًا". وقد قدَّم فقهاء المسلمين الكثير في ميدان النمو الإنساني، ولا يكاد يخلو باب من أبواب الفقه الإسلامي من الإشارة إلى نمو الإنسان على نحوٍ أو آخر. وسوف يتناول هذا القسم بعض ما توافر لنا في هذا الصدد. 1- في مرحلة ما قبل الولادة: أجمع الفقهاء على تحريم الإجهاض حرمة تامة متى نفخت الروح, حتى ولو كان الجنين مشوهًا أو غير ذلك، ولم يسمحوا بذلك إلّا إذا كانت الأم في خطر، فقدَّموا حياتها على حياته, أما ما عدا ذلك فلا يجوز الإجهاض على وجه الإطلاق بعد نفخ الروح, وقد أجمعوا أيضًا على أن وقت نفخ الروح يتم عند إكمال الجنين 120يومًا من حياته داخل الرحم, لحديث ابن مسعود الذي أخرجه الشيخان. ويذكر وهبة الزحيلي "1984" أن للعلماء كلام طويل في التوفيق بين هذا الحديث وحديث حذيفة بن أسيد الذي أخرجه مسلم في كتاب القدر "حديث الاثنتين والأربعين ليلة"، وخلاصة رأيهم أن التخليق يحصل في العلقة، ويتم بعد ذلك في المضغة، وأما نفخ الروح والتسوية فلا يكون إلّا بعد اكتمال المضغة. ويتصل بهذه المرحلة أيضًا تناول الفقهاء لموضوع عدة المرأة المطلقة والأرملة, والمقصود بها مدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها منعًا لاختلاط الأنساب، أو للتعبد, أو لتفجعها على زوجها الميت، أو إعطاء الفرصة الكافية للزوج بعد الطلاق ليعود إلى زوجته المطلقة, وهي مدة حددها الشارع بحيث تبقى المرأة فيها بدون زواج, ويميز الفقهاء في هذا الصدد بين ثلاثة أنواع: أ- عدة الطلاق: يقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . ومعنى القروء "وهي جمع قرء" ما يشترك بين الطهر والحيض، والمقصود بذلك عند الحنفية والحنابلة الحيض،

ويرى المالكية والشافعية أنه الطهر, ويشترط في الزوجة هنا أن تكون ممن يحضن. ب- عدة الوفاة: يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . وفي ذلك يرى الفقهاء أن المقصود الأعظم من العدة هنا حفظ حق الزوج والوفاء له, إلى جانب معرفة براءة الرحم, ولهذا اعتبرت عدة الوفاة بالأشهر, وتجب حتى على المتوفى عنها زوجها حتى ولو لم يدخل بها. ج- عدة الصغيرة واليائس والحامل: لقول الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وهنا يحدد القرآن الكريم عدة الحامل المؤكد حملها أن تضع حملها، أما عدة الصغيرة واليائس فهو ثلاثة أشهر. ويحدد الفقهاء لمرحلة الجنين من بدء الحمل وحتى الولادة ما يسمى "أهلية الوجوب الناقصة" وتعني: الصلاحية لثبوت الحقوق فقط, أي: أن هذه الأهلية تجعله موضوعًا لإلزام الآخرين نحوه، وليس موضعًا للالتزام من جانبه بشيء, وفي هذا تتحدد له أربعة حقوق ضرورية هي: أ- النسب من والديه. ب- الميراث من قريبه المورث؛ فيوقف له أكبر النصيبين على تقدير كونه ذكرًا أو أنثى. ج- استحقاقه الوصية الموصى له بها. د- استحقاقه حصته من غلات الوقف الموقوف عليه. ويرى الفقهاء "وهبة الزحيلي، 1984" أن الحقوق المالية الثلاثة الأخيرة ليست للجنين فيه ملكية نافذة في الحال، بل تتوقف على ولادته حيًّا, فإن وُلِدَ حيًّا تثبت له ملكية مستندة إلى وقت وجود سببها، أي: بأثر رجعي, وإن ولد ميتًا رُدَّ نصيبه إلى أصحابه المستحقين له. وهناك سببان لنقص الأهلية للجنين؛ أولهما: أن الجنين جزء من أمه، وثانيهما: أنه متهيأ للانفصال والاستقلال عنها بعد اكتمال تكوينه, ولهذا أثبت له الفقه الإسلامي بعض الحقوق الضرورية النافعة له، وهي التي لا تحتاج إلى قبول, أما تلك التي تحتاج إلى قبول "كالشراء والهبة" فلا تثبت له ولو مارسها عنه وليه

أو الوصي عليه "كالأب أو الجد" لأنها تلزمه وهو ليس أهلًا للالتزام, وخلاصة رأي الفقهاء في مرحلة الجنين أن له "ذمة ناقصة تؤهله لاكتساب بعض الحقوق فقط، وليست له ذمة كاملة صالحة لاكتساب الحقوق والالتزام بالواجبات" "وهبة الزحيلي، 1984". 2- في مراحل ما بعد الولادة: منذ ولادة الشخص حيًّا تثبت له -كما يقول الفقهاء- أهلية الوجوب الكاملة، أي: تصبح لديه الصلاحية لثبوت الحقوق له وتحمل الواجبات، أي: أهلية إلزام والتزام جميعًا, وأهلية الوجوب الكاملة هذه لا تفارق الإنسان مطلقًا في جميع أدوار حياته, ولا يوجد إنسان حيّ فاقد لهذه الأهلية. إلّا أن الفقهاء يميزون بين التصرفات الواجبة قبل سن التمييز وتلك الواجبة بعده, ومن ذلك أن أهلية الوجوب ولو كانت كاملة إلّا أنها ليس لها أثر في بعض التصرفات قبل هذا السن "مثل إنشاء العقود", كما لا يجب على الطفل غير المميز شيء من العبادات الدينية, أما الحقوق الثابت له بعد الولادة فهي التي تنشأ له نتيجة التصرف الذي يمكن للولي أو الوصي أن يمارسه نيابة عنه، وأما الالتزامات الواجبة عليه فهي كل ما يستطيع أداؤه عنه من ماله؛ سواء من حقوق الله؛ كالزكاة, أو حقوق العباد؛ كالنفقات, ويطلق الفقهاء على المرحلة منذ الولادة وحتى سن التمييز اسم "الحضانة". ومع التمييز تنشأ ما يسميه الفقهاء أهلية الأداء، وهي صلاحية الشخص لصدور التصرفات عنه أو لمباشرتها على وجه يُعْتَدُّ به شرعًا, وهي ترادف ما يسمى في المصطلح الحديث "المسئولية", وتشمل حقوق الله من صلاة وصوم وحج وسواها، والتصرفات القولية والفعلية الصادرة عن الشخص. وعلى هذا فمن تثبت له أهلية الأداء، بهذا المعنى، صحت عباداته الدينية؛ كالصلاة وتصرفاته الدينية؛ كالعقود, وبالطبع لا وجود لهذه الأهلية للجنين أصلًا، ولا للطفل قبل بلوغ سن التمييز، كما قلنا. ويفرق الفقهاء بين نوعين من أهلية الأداء: 1- أهلية أداء ناقصة: وهي صلاحية الشخص لصدور بعض التصرفات عنه دون البعض الآخر, وتثبت للشخص مع بدء التمييز وحتى سن البلوغ الجنسي, ويفرق بالنسبة للصبي في هذا السن بين حقوق الله وحقوق العباد. أما حقوق الله "العبادات" فتصح من الصبي المميز ولا يكون ملزمًا

بأدائها إلا على مهمة التأديب والتهذيب "التعليم المنظم", أما حقوق العباد فقد اختلف حولها الفقهاء على نحوٍ لا يتسع له المقام, ويمكن للقارئ المهتم الرجوع إلى كتب المتخصصين في الفقه الإسلامي على مختلف المذاهب. ب- أهلية أداء كاملة: وهي صلاحية الشخص لمباشرة التصرفات على وجهٍ يُعْتَدُّ به شرعًا دون توقف على رأي غيره، وتثبت عند بلوغ الحلم عاقلًا، أي: للبالغ الرشيد، فله بموجبها ممارسة كل الأفعال والأقوال من غير توقف على إجازة أحد غيره؛ كالولي أو الوصي, كما يكون مسئولًا مسئولية كاملة عن كل ما يقترفه من مخالفات شرعية أو اعتداءات مادية أو معنوية على الآخرين. إلّا أن الفقهاء ينبهون إلى وجود مرحلة تقع بين البلوغ الجنسي والبلوغ عاقلًا "الرشد"، وهي ما تسمى مرحلة البلوغ "أو المراهقة بالمصطلح الحديث"، وفيهما يكون الشخص مكلفًا بجميع التكاليف الشرعية, وتكتمل لديه أهلية الأداء الدينية، فتنفذ تصرفته المالية وتسلم إليه أمواله, فإذا لم يؤنس منه الرشد، فيظل تحت وصاية الولي في هذه الأمور. وهكذا يصبح الرشد أكمل مراحل الأهلية، ومعناه عند الفقهاء: "حسن التصرف في المال من الوجهة الدنيوية"، وشرطه الأساسي البلوغ، ويضيف بعض الفقهاء الصلاح في أمور الدين والدنيا، ويتوافر بتحقق الخبرة بتدبير الأمور الدنيوية, وحتى استثمارها، وهو أمر يختلف بالطبع باختلاف الأشخاص والبيئة والثقافة، فقد يرافق البلوغ, وقد يتأخر عنه قليلًا أو كثيرًا، وقد يتقدمه, ولكن لا اعتبار له قبل البلوغ, ومرجعه إلى الاختبار والتجربة عملًا بالآية القرآنية الكريمة {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى.....} الآية. "وهبة الزحيلي، 1984". وهكذا لا يكون للرشد سن معينة عند جمهور الفقهاء، وإنما الأمر متروك لاستعداد الشخص وتربيته وتنشئته وبيئته، وليس في النصوص الشرعية تحديد صريح له, ويرى بعض علماء الفقه الإسلامي المحدثون أن رفع سن الرشد إلى 21 سنة، كما هو الحال في معظم القونين الحديثة، يتفق مع ظروف الحياة التي نعيشها اليوم وما طرأ عليها من تعقد في المعاملات تحتاج إلى مزيد من الخبرة، ولا مانع في الشريعة الإسلامية من ذلك عملًا بما تقتضيه المصلحة في حماية الناشئة, وصيانة تصرفاتهم.

ولعل ما يهمنا أيضًا في هذا الصدد -ونحن نتناول مراحل النمو الإنساني- أن نشير إلى ما يشير إليها الفقهاء بحالة مَنْ بلغ رشيدًا ثم صار سفيهًا, وفيها قال جمهور الفقهاء "باستثناء أبي حنفية" والصاحبان "أبو يوسف ومحمد, وبرأيهما يُفْتَى في المذهب الحنفي" أنه يجوز الحجر على السفيه "أي يمنع نفاذ تصرفاته التي تحتمل الفسخ ويبطلها الهزل؛ كالبيع والإجارة والرهن"1 رعايةً لمصلحته ومحافظةً على ماله, حتى لا يكون عالة على غيره, ويكون حكمه حينئذ حكم الصبي المميز، لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] . وقوله أيضًا: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] . مما يدل على ثبوت الولاية على السفيه ولو كان قد بلغ الرشد, إلّا أن الحَجْرَ على السفيه في هذه الحالة لا يكون إلّا بحكم قضائي يتثبت فيه القاضي من السفيه أو التبذير، منعًا من إلحاق الضرر بالسفيه أو بمن يتعامل معه من غير بينة وفهم لطبيعة حاله, وهذا هو رأي أبي يوسف والشافعي وأحمد ومالك. وهكذا يمكن أن نلخص مراحل النمو الإنساني كما تناولها الفقهاء على النحو الآتي: أ- مرحل الجنين القابل للإجهاض: من بدء الحمل وحتى سن 120 يومًا. ب- مرحلة الجنين ذي أهلية الوجوب الناقصة: من بدء الحمل وحتى الولادة. ج- مرحلة الحضانة: وتبدأ من وقت الولادة حتى سن التمييز. د- مرحلة الطفولة: وتبدأ من سن التمييز وحتى البلوغ الجنسي. هـ- مرحلة البلوغ "أو المراهقة بالتعبير الحديث": وتبدأ من البلوغ الجنسي إلى وقت الرشد. و مرحلة الرشد: وتبدأ بالتحقق من قدرة الشخص على التصرف في أموره الدنيوية، وسن الرشد بهذا المعنى يختلف حسب الأشخاص والبيئات والثقافات. ز- مرحلة مَنْ بلغ رشيدًا ثم صار سفيهًا: وتتطلب الحجر بحكم قضائي، وهي حالة غير عادية عند الراشدين، وقد تكون عادية عند من يبلغون مرحلة أرذل العمر "الهرم".

_ 1 أجمع الفقهاء على أنه لا يجوز الحجر على التصرفات التي لا تحتمل الفسخ ولا يبطلها الهزل؛ كالزواج والطلاق والرجعة والخلع.

خامسا: النمو في تراث علماء المسلمين وفلاسفتهم

خامسًا: النمو في تراث علماء المسلمين وفلاسفتهم لم يكتب للأفكار اليونانية أن تبقى طويلًا في صورتها الأصلية، ولكنها أثرت تأثيرًا كبيرًا في الفلسفة الإسلامية وفي فلسفة العصور الوسطى في أوربا, وفي كل الأحوال اعتبر العقل أو الذهن الخاصية المشتركة في الإنسان, والتي تميزه عن الحيوان, ومن المعروف أن آراء أرسطو في النفس لم تنتقل إلى أوروبا إلّا عن طريق فلاسفة العرب والمسلمين؛ كالفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد وموسى بن ميمون. إلّا أننا لا نكاد نجد إلّا إشارات متفرقة إلى موضوع النمو الإنساني, ومن ذلك مثلًا ما نلاحظه في تنظيم جماعة إخوان الصفا التي ظهرت في القرن العاشر الميلادي "الرابع من الهجرة" والذي يتكون من أربع طبقات "دي جور، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريده، 1983": 1- شبان يتراوح عمرهم بين 15-30 عامًا, تنشأ نفوسهم على الفطرة، وهم في دور التلمذة وعليهم الانقياد لأساتذتهم. 2- رجال بين 30-40 سنة, تفتح لهم أبواب الحكمة الدنيوية, ويتلقون معرفة بالأشياء بطريق الرمز. 3- أفراد بين 40-50 سنة, وهم يعرفو الناموس الإلهيّ معرفةً كاملة مطابقة لدرجتهم. 4- أفراد تتجاوز أعمارهم الخمسين عامًا وهم أرقى الطبقات، ويشهدون حقائق الأشياء على ما هي عليه. ومن الواضح من التقسيم السابق أنه لم يشر إلى مرحلة الطفولة، إلّا أنهم في بعض رسائلهم أشاروا إليها، ووصفوا نفس الطفل في أول أمرها "كصحيفة بيضاء" لم ينقش عليها شيء، وكل ما تحمله إليها الحواس الخمس تتناوله القوة المتخيلة وتحميه.. ثم تدفعه إلى القوة المفكرة.. فتميز بعضه من بعض، وتعرف الحق من الباطل، ثم تؤديه إلى الحافظة.." "دي جور، ترجمة عبد الهادي أبو ريده، 1938: 180". ويبدو لنا في هذا القرن آثار الأمبريقية التي وضع أصولها أرسطو.

وقد شاعت عند فلاسفة المسلمين ابتداءً من الكندي فكرة أخرى تعود بأصولها إلى أرسطو أيضًا، وهي التمييز بين العقل الذي هو في نفس الإنسان بالقوة والعقل كعادة, وهو الذي في النفس بالفعل, وتستطيع استعماله, وهو التمييز الذي طوَّره فيما بعد ابن سينا, وشاع في علم النفس والحديث بين ما يمكن أن يسمى "الاستعداد" و"التحصيل" والذي يتصل اتصالًا وثيقًا بتنمية السلوك الإنساني. "فؤاد أبو حطب، 1996". ويشير مؤرخ علم النفس الشهير برت brett, voi. 2, 1921: 57-58. إلى إسهام ابن سينا خاصة في هذا المجال بقوله: إن الطفل يولد مثلًا مزودًا بالقدرة على الكتابة, ومع ذلك فهو لا يستطيع الكتابة، وبعد أن يتلقى نوعًا من التعلم يصبح قادرًا على الكتابة في صورة محاكاة أو تقليد، وأخيرًا يصل إلى المرحلة العليا حين يصبح قادرًا على الكتابة عن طريق الحثّ الداخلي الذي يحدثه عقله هو. وفي هذا التطور تتمثل عملية النمو الإنساني والانتقال من محض الاستعداد إلى محض الفعل, والمرحلة الأخيرة هي مرحلة المعرفة الحدسية المباشرة، وهي أرقى صور المعرفة, وهو بهذا يضع الحدس في موضعه الصحيح كما عَبَّرَ عنه بعد ذلك عدد كبير من الفلاسفة المحدثين. ويوجد مبدأ هام آخر، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنمو، وعَبَّر عنه بدقة الفارابي، وخلاصته أن النفس تترقى من المحسوس إلى المعقول بواسطة القوة المتخيلة، ويمثّل هذا المبدأ الوجهة الأساسية للنمو العقلي من الطفولة إلى المراهقة, كما سيتضح في الفصول التالية من هذا الكتاب. وتتضح معالم اهتمام خاص بالنمو عند حجة الإسلام الغزالي, ويركز الغزالي خاصةً على دور التعلم الذي يسميه "الاعتياد" في النمو الإنساني, يقول في كتابه الشهير "إحياء علوم الدين": وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملًا وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية والغذاء، فكذلك النفس تخلق ناقصةً قابلةً للكمال، وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم" عن خلف الجراد، 1986: 93" وتفيدنا كتابات الغزالي على وجه الخصوص في مجال النمو الخلقي والاجتماعي, وهو في كل كتاباته "التربوية" يركز على مفهوم "الصفحة البيضاء" للعقل، وهي الفكرة التي أشار إليها غيره من فلاسفة المسلمين، وسيطرت على الفكر الأوروبي فلسفيًّا وسيكولوجيًّا بعد ذلك, إلّا أنه لا ينكر أثر الاستعدادات الفطرية، ومهمة التربية تعديل هذه الاستعدادات وتنميتها, وهو يشبه الأمر هنا بالنواة التي ليست بتفاح ولا نخل، إلا أنها خلقت على نحوٍ يجعلها يمكن أن تتحول إلى نخلة إذا تعرضت للرعاية، ولكنها لا تحول أبدًا إلى تفاح مهما

أعطيناها من الرعاية, وفي جميع الأحوال لا تتم هذه التنمية بطريقة واحدة, وإنما هناك دائمًا الفروق الفردية. كما ينبه إلى استخدام أساليب الثواب والعقاب على نحوٍ يتفق مع المستوى النمائي للطفل، مع تفضيلٍ واضح لأسلوب الثواب على العقاب "خلف الجراد، 1968". ولعل أوضح ما كتبه علماء المسلمين عن النمو الإنساني بشكلٍ صريح قصة حي بن يقظان لابن طفيل، والتي يعرض فيها نمو طفل في جزيرة متوحشة, أرضعته ظبيةٌ حتى وصل إلى إشباع حاجاته المادية اعتمادًا على وسائله الخاصة، ثم استطاع بالملاحظة والتفكير أن يتوصل إلى أن معرفة الطبيعة والسماء ومعرفة الله ومعرفة نفسه, وقد بدأ حياته أشبه بحيوان، ثم غلب عليه في مراحل تالية من نموه التفكير الحسي أو العياني، ثم انتقل إلى الاهتمام بالمسائل العقلية، وبعدها يتحول إلى نمط من السلوك لا ينطبق على السلوك الإنساني المعتاد، وهو الذي يصفه ابن طفيل بأنه "عقل صرف". مراحل النمو من المنظور الإسلامي: من العرض الذي تناولناه في هذا الفصل حول توجيه علم نفس النمو وجهةً إسلاميةً يمكن أن نخلص إلى تخطيطٍ لمراحل النمو الإنساني في هذا الإطار، وهو المخطط الذي سيزاد تفصيلًا في فصول الكتاب التالية. ونعرض هذ المخطط بإيجاز على النحو الآتي: أولًا: يمكن تصنيف مراحل النمو الإنساني من المنظور الإسلامي إلى ثلاث مراحل كبرى, والمرحلة الأولى في هذا التصنيف تشمل ما يصفه القرآن الكريم بالضعف السابق على القوة، وهو ضعف التحول إلى الرشد، وتشمل هذه المرحلة طور الجنين وأطوار الطفولة والبلوغ المختلفة، وهي المرحلة التي تشهد أعظم التحولات في حياة الإنسان, والتي تبدأ منذ تكوين الجنين في الرحم من خلية واحدة مخصبة, إلى كائنٍ إنسانيٍّ بالغٍ عاقلٍ راشد، وهي فترة تستغرق من حياة الإنسان ما يقرب من عشرين عامًا. والمرحلة الثانية في تصنيفنا تشمل ما يصفه القرآن الكريم بمرحلة "القوة", وهي مرحلة الرشد، وهي تكاد تكون أطول المراحل الثلاثة, وتبدأ من بلوغ الإنسان عاقلًا راشدًا وحتى بداية مرحلة الشيخوخة, والطول الزمني لهذه الفترة يكاد يمتد بها إلى ما يقرب من أربعين عامًا. أما المرحلة الثالثة للإنسان في تصنييف هذا الكتاب للنمو الإنساني فهي التي

يصفها القرآن الكريم مرةً أخرى بالضعف، ولكنه ليس؛ كالضعف الأول -أي: ضعف التحول إلى القوة أو الرشد، وإنما هو ضعف التحول عن هذه القوة وذلك الرشد, ويضيف إليه القرآن الكريم وصفًا هامًّا وهو وصف "الشبيه", ويمثل ذلك مرحلتي الشيخوخة والهرم "أرذل العمر". ثانيًا: تنقسم كل مرحلة من المراحل الثلاث إلى أطوارها الفرعية الكبرى والصغرى على النحو الآتي: 1- المرحلة الأولى في نمو الإنسان: وتنقسم إلى الأطوار الآتية: أ- طور الجنين, وتعني مرحلة ما قبل الولادة, والتي تنقسم بدورها إلى الفترات الأساسية التي حددها القرآن الكريم والسنة الشريفة واجتهادات المسلمين إلى ما يلي: 1- فترة النطفة. 2- فترة العلقة. 3- فترة المضغة. 4- فترة العظام والعضلات "اللحم" أو طور التكوين. 5- فترة التسوية. ب- طور الطفولة: وتمتد من ولادة الطفل حيًّا وحتى وصوله إلى البلوغ الجنسي، وتنقسم في المنظور الإسلامي إلى الفترات الآتية: 1- فترة الوليد: وتشمل الأسبوع اللأول والثاني من حياته بعد الولادة. 2- فترة الرضاعة: ويحدد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة حدودها الزمنية القصوى بعامين لتمام الرضاعة، ويمكن أن تقلَّ عن ذلك في حالات الفصال "الفطام" المبكر. 3- فترة الاستئذان المقيد, والذي يعقل فيه الطفل معاني الكشفة والعورة ونحوها، وهو طور التمييز الجنسي، وقد حدَّدَ الأوزاعي بدايته بالسنة الرابعة من العمر, كما يذكر القرطبي في تفسيره. 4- فترة الطفولة غير المميزة "الحضانة": ويمتد هذا الطور من الولادة "شاملًا فترتي الرضاعة والاستئذان" وحتى سن التمييز, وتتسم هذه المرحلة بأن ما يسودها هو جوّ اللعب والملاعبة من الوالدين والمربين. 5- طور التميز "الطفولة المميزة": ويمتد من سن التمييز وحتى سن البلوغ الجنسي, ويوصف هذا التطور بخاصتين؛ هما: بدء التأديب والتهذيب

والتعليم المنظم، والفصل في المضاجع بين الأخوة من الجنسين في حوالي سن 9-10 سنوات. ج- طور البلوغ "المراهقة" وتبدأ بالبلوغ الجنسي, أو بلوغ الحلم, مرورًا ببلوغ السعي, وتنتهي ببلوغ الرشد, على أن يتم التحقق من حدوثه "بالإيناس، والاختبار والتعرف على علاماته ومؤشراته". 2- المرحلة الثانية في نمو الإنسان: وتنقسم إلى التطورات الآتية: أ- طور الرشد, ويبدأ بظهور العلامات الأساسية الدالة عليه, والتي يجب أن يأنسها الآخرون في الشخص. ب- طور بلوغ الأشد "اكتمال الرشد أو الكهولة" ويبدأ من سن الأربعين وينتهي بظهور بوادر الشيخوخة. 3- المرحلة الثالثة في نمو الإنسان: وتنقسم إلى الأطوار الآتية: أ- طور الشيخوخة. ب- طور أرذل العمر "الهرم". ويوضح الشكل رقم "1" النموذج الكامل للنمو الإنساني من الوجهة الإسلامية كما عرضناه.

الفصل الرابع: مناهج البحث في النمو الإنساني

الفصل الرابع: مناهج البحث في النمو الإنساني مقدمة في طبيعة المنهج العلمي في البحث: البحث في علم نفس النمو هو عمل علمي ينتمي إلى فئة العلم التجربي1 "الأمبريقي", والباحثون في هذا النوع من المعارف يلتزمون بنظام قيمي يسمى: الطريقة العلمية, يوجه محاولاتهم للوصف "الفهم", والتفسير "التعليل", والتحكم "التوجيه والتطبيق", وهي أهداف العلم التقليدية، والتي تناولناها بالتفصيل في الفصل الأول. الطريقة العلمية في البحث إذن: هي لون من الاتجاه أو القيمة, وهذا الاتجاه العلميّ أو القيمة العلمية يتطلب من الباحث الاقتناع والالتزام بمجموعة من القضايا هي "فؤاد أبو حطب، آمال صادق 1995": 1- الملاحظة هي جوهر العلم التجربي "الأمبريقي"، وعلم النفس ينتمي بالطبع إلى فئة هذه العلوم، والمقصود هنا الملاحظة المنظمة لا الملاحظة العارضة أو العابرة. 2- تتمثل أهمية الملاحظة في العلم في أنها تنتج أهم عناصره, وهي مادته الخام, أي: المعطيات Data والمعلومات أو البيانات Information. 3- لا بد للمعطيات والمعلومات, أو البيانات التي يجمعها الباحث العلمي بالملاحظة أن تتسم بالموضوعية Objectivity, والموضوعية في جوهرها هي اتفاق الملاحظين في تسجيلاتهم لبياناتهم وتقديراتهم وأحكامهم اتفاقًا مستقلًّا.

_ 1 آثرنا استخدام اللفظ "تجربي" -وليس اللفظ "تجريبي", للدلالة على المقابل العربي لكلمة empirical التي تستخدم أحيانًا مقابلها المباشر "أمبريقي", والمصطلح "تجربي" منسوب مباشرة إلى "التجربة", وجوهرها الملاحظة, أما المصطلح "تجريبي" فهو نسبة "التجريب", والذي يشير إلى العملية الخاصة التي تتضمن المنهج التجريبي بمواصفاته وأصوله الخاصة.

4- تتطلب الموضوعية أن يقوم بعمليات التسجيل والتقدير والحكم "وهي المكونات الجوهرية للملاحظة العلمية" أكثر من ملاحظ واحد، على أن يكونوا مستقلين بعضهم عن بعض، وهذا يتضمن قابلية البحث العلمي للاستعادة والتكرار Replicability. 5- المعطيات والبيانات والمعلومات التي يجمعها الباحثون بالملاحظة العلمية هي وحدها الشواهد والأدلة التي تقرر صحة الفرض أو النظرية, وعلى الباحث أن يتخلى عن فرضه العلمي أو نظريته إذا لم تتوافر أدلة وشواهد كافية على صحتها. وهكذا يصبح البحث العلمي في النمو مختلفًا عن الآراء ووجهات النظر التي عرضها الفلاسفة والمفكرون حول طبيعة الطفل وتنشئته. لقد عوملت هذه الآراء في الماضي على أنها حقائق, وكان الافتراض الأساسي وراء ذلك أن العقول الكبرى تصدر آراؤها عن استبصارات كبرى, إلّا أن من بديهيات الطريقة العلمية في عصرنا أن نميِّزَ دائمًا بين الرأي والحقيقة. فإذا كانت الحقيقة هي ما يمكن أن نتفق حوله اتفاقًا مستقلًّا, وبالتالي ما يمكن أن يكون من نوع المعطيات والبيانات والمعلومات الموضوعية، بالمعنى الذي عرضناه, فإن الرأي هو ما يمكن أن نختلف فيه, وهو عادة نوع من التفسير والتأويل وإعطاء المعنى والمغزى للحقائق, ويظل الرأي له هذه الطبيعة الخلافية حتى تتوافر عليه شواهد وأدلة إيجابية كافية، وبهذا يتحول الرأي الذي يكون في بدايته نوعًا من "الفرض العلمي" إلى مستوى "القانون العلمي"، وحينئذ يقترب القانون العلمي من طبيعة الحقيقة. ومن المعروف في فلسفة العلم أن القانون العلمي ليس ثابتًا مطلقًا, فإن شاهدًا مضادًا أو دليلًا سلبيًّا واحدًا ضد الفرض أو القانون العلمي, يرجح مئات الشواهد والأدلة الإيجابية التي تؤيده، وحينئذ لا بدَّ أن يوضع هذا القانون العلمي موضع الاختبار من جديد, وتصاغ آراء وفروض جديدة, وبهذا يتطور العلم ويتقدم.

المنهج العلمي في البحث والتصور الإسلامي للمعرفة

المنهج العلمي في البحث والتصور الإسلامي للمعرفة: لعل من الواجب أن نشير هنا إلى أن هذا المنهج العلمي في البحث يتفق مع التصور الإسلامي للمعرفة؛ ففي القرآن الكريم دعوة صريحة لتأمل الكون والنفس جميعًا، والجمع بين المجالين في الآيات القرآنية الكريمة دليل -والله أعلم- على أن طبيعة المنهج في تأملها ودراستهما واحدة. يقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً} [الروم: 8] . ويقول أيضًا: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [التغابن: 3] . والهدف الأعظم من هذه الدراسة هو التعرف على أيات الله في خلق الكون والحيوان والإنسان, وفي ذلك يقول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] . {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] . وهذا التعرف على آيات الله التي هي علامات قدرته في خلقه يكون بالكشف عن سنن الله في مخلوقاته, وسنة الله هي ما جرى به نظامه في خلقه, وفي سعي الإنسان للكشف عن سنن الله بالأسلوب العلمي يستخدم ما زوده الله به -سبحانه وتعالى- من نعمٍ, وخاصة الحواس والعقل, مع التنبيه الكامل إلى حدودها كإمكانات بشرية معرضة للوقوع في أخطاء الضعف والقصور والخداع, وهذا السعي البشري للكشف عن سنن الله في مخلوقاته هو ما يسمى قوانين العلم, والتي لا تكون في أحسن حالاتها إلّا تقريبًا تتابعيًّا لسنن الله دون أن تتطابق معها. ولعل هذا يفسر لنا التغير المستمر والتحسن التدريجي الذي يطرأ على القوانين العلمية على مَرِّ العصور في مقابل الثبات البديهي المطلق لسنن الله. وقد عرضنا في الفصل الثالث آيات الله في تكوين الإنسان ونموه قبل الولادة أو بعدها, كما وردت في القرآن الكريم, ومهمة علم نفس النمو أن يكشف عن سنن الله في نمو مخلوقاته ومنها الإنسان, وهذا هو المنظور الحقيقي الذي يجب أن ننظر من خلاله إلى نتائج العلم, سواء أجريت بحوثه في الشرق أو الغرب, وبهذا التصور الصحيح لمغزى المنهج العلمي في بحوث النمو وغيره من مجالات المعرفة, يمكن أن تتوقف تلك الصيحات العاتية التي تطالب بالتوقف عن الاهتمام بالعلم الحديث؛ لأنه من نتاج معامل الغرب وجامعاته. وهي دعوة في رأينا إلى الجهل والتخلف, ناهيك عن أنها ضد روح الإسلام العظيم الذي دعا رسوله الكريم إلى طلب العلم وحث عليه.

أما التصور الذي عرضناه لطبيعة المنهج العلمي فلم يكن معروفًا في العلوم الإنسانية -ومنها علم النفس- قبل القرن التاسع عشر, ولهذا وجدنا اتجاهًا يوحِّد بين آراء الفلاسفة والمفكرين، الذين أوردنا عينة من أفكارهم في الفصلين الثاني والثالث، وبيَّنَ حقائق السلوك الإنساني، وبالطبع لم يكن متوافرًا في ذلك الوقت أسلوب يضع هذه الآراء موضع الاختيار، وكانت المواقف إزاءها إما "القبول" أو"الرفض" على أساس الجدل العقلي المحض, أو الاندماج الانفعالي الوجداني الكامل دون مراعاة لحقائق السلوك الإنساني بالفعل, كما يلاحظ عندما يصدر عن البشر؛ كأطفال ومراهقين وشباب وكهول وشيوخ ومسنين. وعلى الرغم من هذه المبادئ الواضحة بذاتها, والتي أصبحت من بديهيات الفكر العلمي الحديث الذي لا يتضاد كما بينا مع الأصالة الإسلامية، فإننا نجد بعض من يركبون "الموجة" في كل العصور -ومنهم للأسف من ينتسبون إلى علم النفس- ينتقون نماذج من تراث علماء المسلمين، والتي كتبها أصحابها بالطبع قبل رسوخ قواعد المنهج العلمي في البحث، ويبالغون في تقديرها على نحوٍ لو أدركه أصحابها أنفسهم لأنكروه، ويصل بعضهم في عبثه بالعقل المسلم الحديث إلى حَدِّ الادعاء بأن بعض ما قرأوه قراءةً متعجلة من كتب تراث علماء المسلمين سبق نتائج البحوث الحديثة، وهو قول أقرب إلى الجهل, إذا توافر في أصحابه حسن النية، أو إلى العبث العلمي, إذا توافر لديهم سوء المقصد, وفيه من سوء الفهم للتراث الذي يشيرون إليه والعجز عن فهم طبيعة العلم الذي يدعون الانتساب إليه1. وهذا القول لا يقلل من شأن عبقرية المفكرين المسلمين وغيرهم من مفكري الحضارة الإنسانية في مختلف العصور؛ فعلماء نفس النمو المعاصرون يدينون لهم -كما يدين أطفال اليوم ومراهقوه وشبابه وكهوله وشيوخه- بفضل النظرة التي ينظر بها المجتمع إليهم وكيف يعاملهم, وتظل أفكارهم في أحسن حالاتها "تخمينات جيدة" أو "فروضًا" تنتظر الاختبار، وبهذا وحده يمكن فرز "الجيد" من "الرديء" فيها، حتى نحمي المجتمع وأفراده من التضمينات النظرية والتطبيقات العلمية للأفكار "السيئة" -أي: التي لا يوجد دليل موضوعي يؤكد صحتها- وبهذا يصبح العلم قيمة في ذاته يحمي المجتمع العلمي -والمجتمع بصفة عامة- من الاستدلال المعيب والتفكير الملتوي, وعلينا أن نتذكر دائمًا أنه

_ 1 يستثنى من هذا الحكم بعض الجهود الطيبة التي بذلها فريق جليل من علماء النفس المسلمين المعاصرين في تناولهم لتراث مفكري الإسلام، ونذكر منهم على وجه الخصوص محمد عثمان نجاتي في دراسته عن ابن سينا، ومحمد أحمد خلف الله في دراسته عن ابن الجوزي، وسيد أحمد عثمان في دراسته عن برهان الإسلام الزرنوجي.

لا توجد سلطة بشرية تفوق الدليل الموضوعي، وعلينا دائمًا أن نقبل الأفكار أو نرفضها في ضوء هذه الأدلة والشواهد وحدها, وليس على أساس المكانة السياسية أو الاجتماعية لصاحب الفكرة, وعلى الباحث العلمي أن يكون مستعدًّا هو نفسه للتخلي عن فكرته إذا لم يتوافر لديه دليل يؤكد صحتها. تنوع طرق البحث العلمي في دراسة النمو الإنساني: تتوافر للباحثين في الوقت الحاضر طرق عديدة يمكن استخدامها في اختبار فروضهم حول النمو الإنساني, وهذا التنوع في مناهج البحث أحد مظاهر قوة العلم؛ لأن معنى ذلك أن النتائج التي نتوصل إليها بأحد هذه المناهج يمكن التحقق منها باستخدام مناهج أخرى, ويوفر هذا للباحثين ما يسمى: الدليل التقاربي Converg ing evidence, وهذا الدليل إذا حصلنا عليه يؤكد أن نتائج البحث اكتشافات حقيقية وليست محض اصطناع يرجع إلى طبيعة المنهج المستخدم, وعلى القارئ لهذا الكتاب أن يفكر دائمًا بهذه الطريقة، وعليه حين يقرأ بعض نتائج البحوث أن يبحث دائمًا عن طرق أخرى يمكن أن تستخدم في دراسة نفس الموضوع؛ بحيث تتوافر لدينا أدلة تقاربية تحقق لنا أهداف العلم: الوصف والتفسير والتحكم, التي تناولناها بالتفصيل في الفصل الأول, ولعلنا بهذا نفتح للباحثين وطلاب الدراسات العليا في علم نفس النمو آفاقًا جديدة للبحث في هذا الميدان.

الملاحظة الطبيعية

الملاحظة الطبيعية: من طرق البحث التي يفضلها علماء النفس ما يسمى الملاحظة الطبيعية Nautralistic Observation أي: ملاحظة الإنسان في محيطه الطبيعي اليومي المعتاد, ويعني هذا بالنسبة للأطفال مثلًا ملاحظاتهم في المنزل أو المدرسة أو الحديقة العامة أو فناء الملعب، ثم تسجيل ما يحدث, ويصنف رايت wright 1960 طرق الملاحظة الطبيعية إلى نوعين: أحدهما يسميه الملاحظة المفتوحة, وهي التي يجريها الباحث دون أن يكون لديه فرض معين يسعى لاختباره، وكل ما يهدف إليه هو الحصول على فهمٍ أفضل لمجموعة من الظواهر النفسية التي تستحق مزيدًا من البحث اللاحق, أما النوع الثاني فيسميه رايت الملاحظة المقيدة, وهي تلك التي يسعى فيها الباحث إلى اختبار فرض معين، وبالتالي يقرر مقدمًا ماذا يلاحظ ومتى؟ ونعرض فيما يلي طرق الملاحظة التي تصنف إلى كلٍّ من الفئتين:

أولًا- طرق الملاحظة المفتوحة: تشمل طرق الملاحظة المفتوحة Open Observation طريقتين أساسيتين؛ هما دراسة الحالة وتسجيل اليوميات من ناحية, ووصف العينة من ناحية أخرى. أ- دراسة الفرد: وتشمل مجموعة من الطرق؛ منها المقابلة الشخصية, ودراسة الحالة, وتسجيل اليوميات, والطريقة الكلينيكية, وفي هذه الطرق يسجل الباحث المعلومات عن كل فرد من الأفراد موضوع الدراسة, بهدف إعداد وصف مفصل له دون أن تكون لديه خطة ثابتة تبين أيّ هذه المعلومات له أهمية أكثر من غيره. وقد يلجأ الفاحص إلى تسجيل هذه المعلومات في يومياته في صورة "سجلات قصصية"، وقد يطلب من المفحوص أن يروي عن فترة معينة من حياته في موقف تفاعل مباشر بينه وبين الفاحص "المقابلة الشخصية". وقد تمتد هذه الطريقة لتصبح سجلًّا للفرد أو الحالة, يستخدم فيه الباحث مصادر عديدة للمعلومات, مثل: ظروف المفحوص الأسرية, والوضع الاقتصادي والاجتماعي، ودرجة التعليم, ونوع المهنة, وسجله الصحيّ, وبعض التقارير الذاتية عن الأحداث الهامة في حياة الفرد، وأدائه في الاختبارات النفسية, وكثير من المعلومات التي تتطلبها دراسة الحالة؛ تتطلب إجراء مقابلات شخصية مع الفرد، وعادةً ما تتسم هذه المقابلات بأنها "غير مقننة", أي: تختلف الأسئلة التي تطرح فيها من فرد لآخر. وتعد من قبيل دراسة الحالة وتسجيل اليوميات سِيَرُ الأطفال التي كتبها الآباء من الفلاسفة والأدباء والعلماء عن أبنائهم، والتراجم التي كُتِبَتْ عن بعض العباقرة والمبدعين، والسير الذاتية التي كتبوها عن أنفسهم، وكذلك أدب الاعترافات, كما يعد من قبيل الطريقة الكلينيكية أسلوب الاستجواب Questioning الذي استخدمه جان بياجيه وتلاميذه في بحوثهم الشهيرة في النمو, وعلى الرغم من أن هذه الطريقة، باعتبارها من نوع الملاحظة المفتوحة، فيها ثراء المعرفة وخصوبة المعلومات وحيوية الوصف, إلا أن فيها مجموعة من النقائص نذكر منها: 1- تعتبر هذه الطريقة من جانب الفاحص مصدرًا ذاتيًّا وغير منظم للمعلومات، أما من جانب المفحوص فإنه إلى جانب الطابع الذاتي لتقاريره, قد تعوز المعلومات التي يسجلها الدقة اللازمة، وخاصة حين يكون عليه استدعاء أحداث هامة وقعت له منذ سنوات طويلة. 2- المعلومات -أو البروتوكولات كما تسمى أحيانًا- التي نحصل عليها بهذه الطريقة من فردين أو أكثر, قد لا تكون قابلة للمقارنة مباشرة،

وخاصة إذا كانت الأسئلة التي توجه إلى كلٍّ منهما مختلفة. صحيح أنه في بعض الطرق الكلينيكية قد تكون الأسئلة مقننة في المراحل الأولى من المقابلة, إلا أن إجابات المفحوصين على كل سؤال قد تحدد نوع الأسئلة التي تطرح على المفحوص فيما بعد، يصدق هذا على طريقة الاستجواب عند بياجيه, وعلى بعض المقابلات المقننة. ولهذا نجد في النهاية أن البروتوكولات التي نحصل عليها تختلف من فرد إلى آخر، وتهيئ لنا صورةً للمفحوص ككائن فريد متميز. 3- النتائج التي نستخلصها من خبرات أفراد بذواتهم تمَّت دراستهم بهذه الطريقة قد تستعصي على التعميم، أي: قد لا تصدق على معظم الناس. 4- التحيزات النظرية القبلية للباحث قد تؤثر في الأسئلة التي يطرحها والتفسيرات التي يستخلصها، ولعل هذا هو أشهر الانتقادات التي وجهت إلى فرويد. وباختصار, فإن طريقة دراسة الحالة قد تفيد كمصدر خصب للأفكار حول النمو الإنساني، وهي بهذا قد توحي للباحثين بفروضٍ هامَّة تستحق الدراسة, والتي يجب التحقق منها باستخدام أساليب أخرى للبحث ومن الصعب -إن لم يكن من المستحيل- استخدام هذه الطريقة في اختبار الفروض. ب- الوصف على سبيل المثال: في هذه الطريقة التي تسمى الوصف على سبيل المثال Specimen Description, يحاول الملاحظ أن يسجِّل بإسهابٍ وتفصيل كل ما يحدث في وقت معين, على نحوٍ يجعله أقرب إلى آلة التسجيل، ولعل هذا ما دفع الباحثين الذين يستخدمون هذه الطريقة إلى الاستعانة بالتكنولوجيا المتقدمة في هذا الصدد؛ فباستخدام آلات التصوير وكاميرات الفيديو، وأجهزة التسجيل السمعي, يمكن للباحث أن يصل إلى التسجيل الدقيق الكامل لما يحدث, وهذه الطريقة في الملاحظة المفتوحة أكثر دقة وموضوعية ونظامًا من الطريقة السابقة، إلّا أن المشكلة الجوهرية هنا, هي أننا بطريقة وصف العينة نحصل على معلومات كثيرة للغاية إذا استمر التسجيل لفترة طويلة, ويوضح لنا هذه الصعوبة مثال البحث الذي قام به باركب ورايت "Barker & Wright, 1951", لقد تطلَّب تسجيل كل ما يفعله ويقوله طفل عمره 8 سنوات في يومٍ واحدٍ أن يصدر في كتاب ضخم مؤلَّف في 435 صحفة. ثانيًا- طرق الملاحظة المقيدة: تعتمد طرق الملاحظة المقيدة Closed Ovservation على استراتيجية

اختيار بعض جوانب السلوك فقط لتسجيلها, وبالطبع فإن هذا التقييد يفقد الملاحظة خصوبة التفاصيل التي تتوافر بالطرق السابقة، إلّا أن ما تفقده في جانب الخصوبة تكسبه في جانب الدقة والضبط, ولعل أعظم جوانب الكسب أن الباحث يستطيع أن يختبر بسهولةٍ بعض فروضه العلمية باستخدام البيانات التي يحصل عليها بهذه الطرقة، وهو ما يعجز عنه تمامًا إذا استخدم الأوصاف القصصية التي يحصل عليها بالطرق الحرة السابقة, وتوجد ثلاث طرق من نوع الملاحظة المقيدة هي: أ- عينة السلوك: وفي هذه الطريقة يكون على الباحث أن يسجل أنماطًا معينة من السلوك في كل مرة يصدر فيها عن المفحوص؛ كأن يسجل مرات الصراخ التي تصدر عن مجموعة أطفال سن ما قبل المدرسة، أو مرات العدوان بين أطفال المرحلة الابتدائية, وقد يسجل الباحث معلومات وصفية إضافية أيضًا؛ ففي تسجيل السلوك العدواني قد يلاحظ الباحث أيضًا عدد الأطفال المشاركين في العدوان وجنس الطفل، ومن يبدأ العدوان، ومن يستمر فيه إلى النهاية، وما إذا كانت نهاية العدوانية تلقائية أم تطلبت تدخل الكبار، وهكذا. ويحتاج هذا إلى وقت طويل بالطبع, وتزداد مشكلة الوقت حدة إذا كان على الباحث أن يلاحظ عدة مفحوصين في وقت واحد؛ فمثلًا إذا كان الباحث مهتمًّا بالسلوك العدواني الذي يصدر عن ستة أطفال خلال فترة لعب طولها 60 دقيقة, فإن عليه أن يلاحظ كل طفل منهم بكل دقة لخمس فترات طول كل منها دقيقتان طوال الزمن المخصص للملاحظة، ويسجل كل ما يصدر عن الطفل مما يكن أن ينتمي إلى السلوك العدواني, وبالطبع ييسر عليه الأمر استخدام وسائل التسجيل الكنولوجية الحديثة التي أشرنا إليها فيما سبق. وقد يسهل عليه الأمر -إذا لجأ لى التسجيل الشخصي المباشر- أن يستخدم نوعًا من الحكم والتقدير للسلوك الذي يلاحظه، وتفيده في هذا الصدد مقاييس التقدير التي تتضمن نوعًا من الحكم على مقدار حدوث السلوك موضع البحث, ومن ذلك أن يحكم على السلوك العدواني للطفل بأنه: يحدث دائمًا - يحدث كثيرًا - يحدث قليلًا - نادرًا ما يحدث - لا يحدث على الإطلاق. وعليه أن يحدد بدقة معنى "دائمًا - كثيرًا - قليلًا - نادرًا - لا يحدث" حتى لا ينشأ غموض في فهم معانيها، وخاصةً إذا كان من الضروري وجود ملاحظ آخر لنفس السلوك يسجل تقديراته مستقلًّا تحقيقًا لموضوعية الملاحظة "وهو شرط واجب الحدوث كما سنبين فيما بعد".

ب- عينة الوقت: في هذه الطريق يتركز اهتمام الباحث بمدى حدوث أنماط معينة من السلوك في فترات معينة يخصصها للملاحظة, ويتم تحديد أوقاتها مقدمًا, والمنطق الرئيسي وراء هذه الطريقة أن الإنسان يستمر في إصدار نفس السلوك لفترات طويلة نسبيًّا من الزمن, وعلى هذا يمكننا الحصول على وصف صحيح لهذا السلوك, وحكم صحيح عليه إذا لاحظناه بشكل متقطع في بعد الزمن. وتختلف الفترات الزمنية التي يختارها الباحثون لهذا الغرض ابتداءً من ثوانٍ قليلةٍ لملاحظة بعض أنواع السلوك، إلى دقائق أو ساعات عديدة لبعض الأنواع الأخرى, وفي جميع الأحوال يجب أن يكون المدى الزمني للملاحظة واحدًا تبعًا لخطة معدة مقدمًا. وخلال هذه الفترات يسجل الباحث عدد مرات السلوك موضع الاهتمام, ومن أمثلة ذلك: أن يختار الباحث حصة في أول النهار, وحصة في آخره, مرتين في الأسبوع على مدار العام الدراسي لبحث بعض جوانب سلوك تلميذ المدرسة الابتدائية. وإذا عدنا لمثال السلوك العدواني قد يقرر الباحث ملاحظة سلوك العدوان عند الأطفال خلال الدقائق العشر الأولى من كل ساعة, من أربع ساعات متصلة خلال مرحلة. ومن مزايا هذه الطريقة أنها تسمح بالمقارنة المباشرة بين المفحوصين ما دام الوقت الذي تجري فيه الملاحظة والزمن الذي تستغرقه واحدًا. ج- وحدات السلوك: في هذه الطريقة يلاحظ الباحث خلال فترة زمنية معينة وحدات معينة من السلوك behaviour units, وليس عينة سلوك أو عينة وقت, ومعنى ذلك: أن تتم ملاحظة إحدى جزئيات السلوك بدلًا من ملاحظته ككتلة مركبة غير متجانسة, وتبدأ وحدة السلوك في الحدوث في أيّ وقت يطرأ فيه أي تغير على استجابات المفحوص وما قد يصاحبه من تغير في بيئته؛ فمثلًا إذا لاحظنا أن الطفل وهو يلعب برمال الشاطيء تحول فجأة إلى وضع كمية من الرمل في شعر طفل آخر, فإننا نسجل في هذه الحالة حدوث ذلك، باعتباره وحدة سلوك تختلف عما كان يحدث من قبل حين كان الطفلان يتبادلان الابتسام مثلًا, فأصبحا يتبادلان الهجوم, ويسجل الباحث ما طرأ على بيئة الطفلين من تغير في هاتين الحالتين حين كان الطفل الأول يمسك في المرة الأولى كرة يلعب بها وحده، فجاء أبوه وأخذها منه ليعطيها للطفل الثاني الذي كان يلح في طلبها, وهكذا يكون على الباحث في كل مرة أن يسجل حدوث وحدة السلوك على أنها تَغَيُّر في استجابات الطفل وفي بيئته, وحين تنتهي فترة الملاحظة يقوم الباحث بفحص وحدات السلوك التي تَمَّ تجميعها ثم تحليلها, ويتطلب ذلك بالطبع تصنيفها في فئات.

تعليق عام على طريق الملاحظة الطبيعية: إن الباحث الذي يستخدم طريقة الملاحظة الطبيعية عليه أن يكون متنبهًا إلى سلوكه هو أثناء الملاحظة حتى لا يقع في أخطاء التحيز, والذي يتمثل في ميله إلى تدعيم فكرته المسبقة عن السلوك الإنساني, وقد يؤدي به هذا إلى المبالغة في جمع بعض الملاحظات عن طريق الاهتمام الزائد، أو التهوين من بعضها عن طريق الإهمال, وهو بهذا يتجاوز مهمته كمسجل للأحداث كما تقع بالفعل, وكما تسجلها الكاميرا العادية إلى آلة تضخم بعض الأحداث عن طريق التكبير, أو تقلل من شأنها عن طريق التصغير. ومن مشكلات طرق الملاحظة الطبيعية أن الملاحظ قد يتجاوز حدد مهمته أيضًا إذا تدخل في عملية التسجيل التي يقوم عليها الوصف الدقيق للظواهر وحوَّلها إلى مستوى التفسير، ولذلك فإن كثيرًا من تقارير الملاحظة لا يعتد بها إذا تضمنت الكثير من آراء الباحث وطرقه في فهم الأحداث بدلًا من أن يتضمن وصفًا دقيقًا للأحداث ذاتها, وإحدى طرق زيادة الدقة في هذا الصدد تحديد أنواع الأنشطة التي تعد أمثلة للسلوك موضوع الملاحظة، وتكون هذه الأنشطة تعريفًا إجرائيًّا لهذا السلوك. وتتضمن المشكلة السابقة قضية الموضوعية في الملاحظة, فإذا لم تكن ملاحظتنا إلّا محض تفسيراتنا وتأويلاتنا وفهمنا للأحداث؛ فبالطبع لن يحدث بيننا "الاتفاق المستقلّ" في الوصف؛ لأنها سمحت بأن تلعب جوانبنا الذاتية دورًا في ملاحظاتنا, ومن الشروط التي يجب أن نتحقق منها في طريق الملاحظة شرط الثبات, وهو هنا ثبات الملاحظين, ويتطلب ذلك أن يقوم بملاحظة نفس الأفراد في نفس السلوك موضع البحث أكثر من ملاحظ واحد, على أن يكونوا مستقلين تمامًا بعضهم عن بعض، ثم تتم المقارنة بين الملاحظين, فإذا كان بينهم قدر من "الاتفاق المستقل" فيما يسجلون, أمكننا الحكم على الملاحظة بالدقة والثبات، وإلّا كانت نتائج الملاحظة موضع شك. وبالطبع فإن هذا الثبات يزداد في طرق الملاحظة المقيدة عنه في طرق الملاحظة المفتوحة. وتحتاج طرق الملاحظة الطبيعية إلى التدريب على رؤية أو سماع ما يجب رؤيته أو سماعه وتسجيله, وتدلنا خبرة رجال القضاء أن شهادة شهود العيان في كثير من الحالات تكون غير دقيقة؛ لأنهم بالطبع غير مدربين على الملاحظة, وما لم يتدرب الملاحظ تدريبًا جيدًا على الملاحظة, فإن تقاريره لن تتجاوز حدود الوصف الذاتي المحض، وهي بهذا تكون عديمة الجدوى في أغراض البحث

العلمي, وفي كثير من مشروعات البحوث يتمّ تدريب الملاحظين قبل البدء في الدراسة الميدانية حتى يصلوا في دقة الملاحظة إلى درجة الاتفاق شبه الكامل بينهم "بنسة اتفاق لا تقل عن 90%". ومن المشكلات الأخرى في طرق الملاحظة الطبيعية, أن محض وجود ملاحظ غير مألوف بين المفحوصين يؤثر في سلوكهم, ويؤدي إلى انتفاء التلقائية والطبيعة في اللعب أو العمل أو غير ذلك من المواقف موضع الملاحظة, وقد بُذِلَت جهود كثيرة للتغلب على هذه المشكلة، ومن ذلك تزويد معامل علم النفس بالغرف التي تسمح حيطانها الزجاجية بالرؤية من جانب واحد "هو في العادة الجانب الذي يوجد فيه الفاحص", وفي هذه الحالة يمكن لفاحص أن يكون خارج الموقف ويلاحظ سلوك الشخص وهو يتم بتلقائية, ومنها أيضًا استخدام آلات التصوير بالفيديو أو السينما، وآلات التسجيل السمعي, بشرط أن توضع في أماكن خفية لا ينتبه إليها المفحوصون، أو توضح في أماكن مرئية لهم على أن تظل في مكانها لفترة طويلة نسبيًّا من الزمن قبل استخدامها حتى يتعود على وجودها المفحوصون, وقد يلجأ بعض الباحثين للتغلب على هذه المشكلة إلى الاندماج مع المفحوصين في محيطهم الطبيعي قبل الإجراء الفعلي؛ بحيث يصبح وجودهم جزءًا من البيئة الاجتماعية للبحث، وهذه الطريقة تسمى الملاحظة بالمشاركة. وبالطبع كلما أجريت الملاحظة في ظروف مقننة ومضبوطة زودتنا بمعلومات أكثر قابلية للتعميم، فمثلًا عند داسة نمو القدرة على القبض على الأشياء ومعالجتها, قد يتطلب الأمر ملاحظات دقيقة وتفصيلية للأطفال من مختلف الأعمار، كل منهم يقوم بمعالجة نفس الشيء في موقف مقنن أو موحد, وحتى نوضح ذلك فقد نختبر اختبارًا "فرديًّا" 40طفلًا, كل عشرة منهم في مجموعة عمرية معينة, ولتكن 20 أسبوعًا، 30 أسبوعًا، 40 أسبوعًا، 50 أسبوعًا, بينما هم جالسون جلسة معتدلة في مقعد مرتفع، ثم نضع مكعبًا على لوح خشبي أمام كل طفل، وفي هذه الحالة يمكننا أن نلاحظ ونسجل بالتفصيل جهود الطفل للقبض على المكعب الخشبي ومعالجته. وبالطبع فإن التصوير السنيمائي لاستجابات الأطفال يعطي تسجيلًا موضوعيًّا وكاملًا, ويمكننا أن نحلله بدقة, ونعود إليه إذا اختلفنا في ملاحظة أساليب الطفل في القبض على الأشياء "مثلًا استخدام الذراع أو الرسغ أو اليد أو الأصابع", وتعطينا المقارنة بين سجلات الأطفال من مختلف الأعمار أساسًا لوصف اتجاهات النمو في القدرة على معالجة الأشياء. والملاحِظ لا يستطيع أن يلاحظ كل شيء في سلوك الطفل، وإنما يحدد

ملاحظاته بنمطٍ معين من أنماط السلوك؛ فمثلًا عند دراسة النمو الاجتماعي قد يقتصر اهتمام الباحث على العدوان بين أطفال دار الحضانة, وفي هذه الحالة يسجل بدقة جميع الأفعال التي تصدر عنهم في هذا الصدد؛ مثل الخبط والضرب والعراك والسباب وتحطيم لعب الطفل الآخر, وحيث إنه أيضًا لا يستطيع أن يلاحظ الطفل -أو الأطفال- طول الوقت, فلا مناص من لجوئه إلى منهج عينة الوقت, كما يجب على الباحث أن يصوغ بياناتٍ عن العدوان في صورة كَمٍّ أو مقدار أو درجة قدر الإمكان. وبالطبع فإن سلوكًا مثل معالجة الأشياء أو العدوان, يمكن ملاحظته مباشرةً، إلّا أن كثيرًا من التغيرات التي يهتم بها المتخصص في سيكولوجية النمو ليست كذلك؛ فالذكاء وسمات الشخصية والدوافع الأساسية جميعًا لا يمكن ملاحظتها مباشرة, ويجب الاستدلال عليها واستنتاجها من الأداء للظاهر؛ فالبنسبة للذكاء مثلًا, نجد أن المتخصص في علم النفس يلاحظ أداء الطفل لمهامٍّ معينة, وحلوله لمشكلات من نوع خاصٍّ يشتمل عليها اختبار جيد الصنع, يسمى اختبار الذكاء، ومن ملاحظاته هذه يستنتج مستوى القدرة العقلية العامة للطفل, ومثل هذه الاستنتاجات لا يمكن أن تكون صادقة ولها معنًى إلّا إذا كانت ملاحظات السلوك تتم في ظروف مقننة أو مضبوطة، وإلّا إذا كانت الإجراءات امستخدمة موحدة ومتطابقة بالنسبة لجميع المفحوصين, وإذا كان علينا أن نقارن بين أداء المفحوصين المختلفين, فإن الظروف التي نلاحظهم فيها يجب أن تكون موحدة للجميع قدر الإمكان, وبذلك يمكننا أن نتأكد من أن الاختلافات في أداء المفحوصين ترجع إلى الفروق في مستويات الذكاء وليس إلى غير ذلك من المتغيرات الدخيلة. لنفرض مثلًا أن طفلًا في حجرة مليئة بالضوضاء, أو ضعيفة الإضاءة, أو أن الفاحص الذي يقوم بتطبيق الاختبار كان شخصًا غير خبير، وأن طفلًا آخر يتم اختباره بفاحص خبير, وفي مكان هادئ جيد الإضاءة، إن اداء السيء الذي يظهره الطفل الأول قد يرجع إلى هذه الظروف المحيطة به, أو إلى إجراءات الاختبار نفسها وليس إلى انخفاض مستوى الذكاء, أما إذا كانت ظروف الاختبار متطابقة للطفلين قدر الإمكان, يمكننا أن نستنتج استنتاجًا معقولًا أن الطفل الذي يؤدي في الاختبار أداء أسوأ من الآخر يكون أقل ذكاء منه. وبالمثل يمكننا أن نستنتج مدى القوة النسبية لانفعال العدوان لدى الأطفال من ملاحظاتنا لسلوك العراك والسباب اللفظي والتحطيم, ومرة أخرى, فإن هذه الملاحظات إذا لم تتم في ظروف مضبوطة ومقننة فإن استنتاجاتنا قد لا تكون

صحيحة, فمقدار العدوان الذي يظهره الطفل يختلف تبعًا لطبيعة الموقف الذي يكون فيه، وبالتالي فإذا اختلفت المواقف يصعب علينا أن نعرف القوة النسبية لهذا الانفعال لدى طفلين مختلفين. وأخيرًا فإن الملاحظة الطبيعية فيها كل خصائص التعقد والتركيب لمواقف الحياة الطبيعية التي تتحرر منها قدر الإمكان المواقف المعملية, إلّا أن هذا ليس عيبًا في الطريقة وإنما هو أحد حدودها، فالواقع أننا في حاجة إلى البحوث التي تعتمد على وصف دراسة السلوك الإنساني في سياقه الطبيعي والمعتاد, والتي قد تقودنا إلى بحوث أخرى تعتمد على طرق أخرى, تستند في جوهرها على منطق "العلية" توجهًا إلى التفسير والتنبؤ والتوجيه والتحكم في هذا السلوك.

المنهج التجريبي

المنهج التجريبي: التجربة هي نوع من الملاحظة المقننة أو المضبوطة، إلّا أنها تتميز عن محض الملاحظة في أنها تتطلب معالجة يقوم بها الباحث أو المجرب. فالجرب هو الذي يصطنع أحد العوامل أو المتغيرات ويتحكم فيه ويعالجه, ولهذا يسمى المتغير المستقل، ثم يلاحظ ما إذا كان عاملًا أو متغيرًا آخر "أو مجموعة أخرى من العوامل والمتغيرات" تختلف تبعًا لاختلاف المتغير المستقل, وكيف يحدث هذا الاختلاف، ويسمى هذا العامل الآخر المتغير التابع، أما باقي العوامل والمتغيرات فيجب أن تظل ثابتة, أي: لا يسمح لها بالتغير، وفي هذه الحالة توصف هذه المتغيرات الدخيلة بأنها تَمَّ التحكم فيها حتى لا تتداخل في تفسير النتائج, وقلَّ أن يقوم الباحث بتجربته عادةً ما يصوغ "فرضًا" يتطلب الاختبار، ولكي نوضح ذلك نضرب المثال التالي: نفرض أن باحثًا تجريبيًّا أراد أن يدرس آثار الدرجات المختلفة من الإحباط في سلوك العدوان لدى الأطفال, في هذه الحالة يكون الفرض هو أنه كلما زادت درجة الإحباط يؤدي ذلك إلى زيادة مقدار السلوك العدواني لدى الطفل، ويمكن للباحث أن يختبر هذا الفرض تجريبيًّا باستخدام ثلاث مجموعات من الأطفال, يتعرض كلٍّ منها لظرفٍ خاصٍّ أو معالجة خاصة؛ مجموعتان تجريبيتان ومجموعة ضابطة، بحيث تتساوى المجموعات الثلاث تقريبًا في الخصائص التي لا تهم الباحث في هذه التجربة, ولكنها قد تؤثر في التعبير عن العدوان؛ مثل: العمر الزمني, ومستوى التعليم, والجنس, والصحة, والذكاء, والمستوى الاقتصادي والاجتماعي، وبعبارة أخرى: فإن الباحث يثبت هذه العوامل، وعندئذ يمكنه أن يعالج على النحو الذي يشاء المتغير المستقل الذي يهتم به وهو مقدار الإحباط، وبعد ذلك يمكنه أن يعرض المجموعات الثلاث لدرجات

مختلفة من الإحباط، فمثلًا قد يعرض على المجموعة الأولى من الأطفال عددًا من المشكلات التي تستعصي على الحل, ويعطيهم تعليمات تتضمن وصف هذه المشكلات بالسهولة وقابليتها للحل, ويطلب منهم أن يعملوا على حلِّها خلال فترة زمنية محددة، وبها تتعرض هذه المجموعة لأكبر قدر من الإحباط, والمجموعة الثانية قد تعرض عليهم مشكلات صعبة, ولكنها تقبل الحل, ويطلب منهم حلها في نفس الفترة الزمنية، وبالطبع فإن هذه المجموعة تتعرض أيضًا للإحباط ولكن بمقدار أقل, أما المجموعة الثالثة الضابطة فيطلب منها أداء أعمال سهلة لا تؤدي إلى إحباط, ويضع الباحث المجموعات الثلاث في موقف اجتماعي أثناء حل المشكلات حتى يمكن ملاحظة وتسجيل سلوكهم العدواني. في هذه الحالة يمكن للباحث أن يحدد ما إذا كانت زيادة درجة الإحباط تؤدي إلى زيادة مقدار العدوان, وهو ما يتوقعه فرض البحث, وتتحقق صحة هذا الفرض إذا وجد الباحث أن المجموعة التي تعرضت لأكبر قدر من الإحباط سلكت سلوكًا عدوانيًّا أكبر من غيرها, وأن المجموعة الضابطة سلكت سلوكًا عدوانيًّا أقل من غيرها. والميزة الفريدة والهامة في التجربة هي أنه حين يتم التحكم في العوامل الدخيلة, فإن المتغير المستقل يؤثر تأثيرات واضحة؛ لأن التغيرات فيه تنعكس بآثارها في المتغير التابع, وهو ما يمكن البرهنة عليه مباشرة من نتائج البحث التجريبي. وبدون الإجراءات التجريبية يكون من الصعب الحكم على مدى إسهام جميع العوامل التي تؤدي إلى نتيجة معينة أو تحدث أثرًا خاصًّا حكمًا دقيقًا؛ فمثلًا نجد أن شدة الاستجابات العدوانية لدى الأطفال تتأثر بعوامل كثيرة, مثل: الجنس والمستوى الاقتصادي والاجتماعي, وخبرات الإحباط السابقة, ووجود سلطة الكبار أو عدم وجودها, ثم الخوف من العقاب على السلوك العدواني, وبالطبع يمكن للدراسات التي تعتمد على الملاحظة المباشرة أن تعطي بيانات هامة عن أثر هذه المتغيرات, إلّا أن إجراء التجارب المضبوطة يعطينا بيانات أكثر دقة ووضوحًا, كما أن التفسير السببي لا يزودنا به بوضوح إلّا المنهج التجريبي. وتوجد تصميمات تجريبية كثيرة لا يتسع المقام لتناولها في هذا الكتاب، إلّا أن ما يهمنا أن نشير إليه هو مسألة الضبط والتحكم التجريبي التي ترددت كثيرًا فيما سبق, وأشهر الطرق لتحقيق ذلك ما يسمى التوزيع العشوائي للمفحوصين على المعالجات التجريبية المختلفة, وهي طريقة تهيئ لكل مفحوص فرصة متساوية لأن يتعرض لأيّ معالجة أو شرط في الموقف لتجريبي دون أيّ قصد متعمد من الباحث, وبهذا يمكن للعوامل المختلفة التي قد تؤثر في المتغيرات التابع أن تتوزع

عشوائيًّا داخل كل شرط "أو معالجة" من الشروط أو المعالجيات التجريبية, وبين هذه الشروط والمعالجات. وعلى الرغم من أن المنهج التجريبي هو أقوى المناهج في اختبار العلاقات السببية, والتي تقود إلى تفسيرات مقنعة, فإن فيه بعض المشكلات التي نلخصها فيما يلي: 1- مجرد وجود المفحوص ضمن إجراء تجريببي قد يؤثر في سلوكه ويجعله يفتقد التلقائية والطبيعية التي تميز طرق الملاحظة المباشرة, وإذا حدث ذلك فإن نتائج التجربة لن تصدق على أحداث الحياة الواقعية. 2- البيئة "المعملية" المضبوطة المقننة التي عادة ما تجرى فيها البحوث التجريبية هي أيضًا بيئة اصطناعية للغاية, ومن المتوقع للمفوحصين أن يسلكوا على نحوٍ مختلف في مواقف الحياة الفعلية, ولهذا يجب ألَّا تنتقل نتائج بحوث المعمل إلى الميدان انتقالًا مباشرًا، وإنما على الباحث أن يمر بخطوات عديدة في سبيل ذلك, وقد عرفنا هذه الخطوات في موضعٍ سابقٍ "فؤاد أبو حطب، آمال صادق، 1995". وإحدى طرق التغلب على هذه المشكلة تصميم تجارب تبدو طبيعية للمفحوصين, ويمكن جعل الموقف التجريبي أكثر طبيعية للأطفال, مثلًا بأن تجرى التجربة في موقفٍ معتادٍ؛ كالبيت أو المدرسة, كما أن الأطفال قد يسلكون على نحوٍ أكثر طبيعية إذا قام والدوهم أو معلموهم بدور المجريين بدلًا من وجود شخص غريب لا يعرفونه, بشرط تدريب هؤلاء على شروط التجربة وإجراءاتها, كما يمكن عرض الموقف التجريبي على نحوٍ يتفق مع ميول الأطفال؛ كأن تعرض أسئلة اختبار الذكاء أو الابتكار عليهم على أنها نوع من الألعاب أو الألغاز بدلًا من القول بأنها أسئلة في اختبار، كما يمكن للباحث إجراء تجربة ميدانية في البيئة الطبيعية بالفعل على نحوٍ يجعل المفحوصين لا يشعرون بأنهم موضع "تجربة", وهذا الأسلوب يجمع بين مزايا الملاحظة الطبيعية والضبط الأكثر إحكامًا في الموقف التجريبي. 3- التوزيع العشوائي للمفحوصين على مجموعات المعالجة يحدث في بعضهم استجابات سلبية إزاء الموقف التجريبي، وخاصة إذا كان على المفحوص أن يعمل مع مجموعة لا يحب الانتساب إليها, ومعنى ذلك أن الباحث التجريبي عليه أن يتعامل مع مفحوصيه على أنها بشر، وإذا نشأت مثل هذه المشكلات عليه أن يواجهها ويحلها في الحال لا أن يتجاهلها؛ لأن مثل هذه الاتجاهات السلبية

لدى بعض المفحوصين قد يهدد صدق نتائج البحث. 4- الأجهزة والأدوات والمواد التي تستخدم في الموقف التجريبي وخاصة داخل المعمل, قد تؤدي بالمفحوص إلى الاعتقاد بأن عليهم أن يسلكوا على نحوٍ غير عادي, ومن ذلك مثلًا: أن يطلب منه حفظ مقاطع عديمة المعنى, وهو ما لا يفعله عادةً في حياته اليومية. 5- توقعات المجرب قد تؤثر في نتائج التجربة؛ فالباحث الذي يعتقد بشدة في صحة فرضه فإنه قد يلجأ -ولو عن غير قصد- إلى تهيئة الشروط التي تدعم هذا الفرض, ولعل هذا يفسر لنا كثرة الفروض التي "تتحقق" في بحوثنا العربية، بينما نسبة كبيرة منها لم يتحقق في البحوث التي أجريت في بيئات مختلفة, بل لعل هذا يفسر لنا ما نلاحظه على بعض الباحثين الذين يشعرون بالضيق والقلق حين لا تتحقق فروضهم, وهذا لونٌ من الخطأ الفاحش في فهم طبيعة البحث العلمي. لقد صارت الفروض عند بعض الباحثين جزءًا من نظامهم "العقيدي" لا قضايا تقبل الصحة والخطأ على أساس الأدلة والشواهد الموضوعية. وللتغلب على هذه المشكلة يقترح علماء مناهج البحث المعاصرون استخدام أسلوب إجراء التجارب بطريقة "معماة" على الفاحصين، وفي هذه الحالة لا يعلم الفاحصون ولا المفحوصون أيّ معالجة يشاركون فيها إلّا بعد انتهاء التجربة. وبالرغم من هذه المشكلات تبقى للمنهج التجريبي قيمته العظمى في تزويدنا بأدق فهم لعلاقات السبب -النتيجة في دراسة السلوك الإنساني.

المنهج شبه التجريبي

المنهج شب التجريبي: حينما يستعصي على الباحث تطبيق المنهج التجريبي بمعناه الكامل الذي تناولناه آنفًا, نجده يحاول فرض قدر من التحكم على العوامل الدخيلة التي لها بعض الآثار المحتملة في السلوك موضوع الاهتمام, وتوجد في الوقت الحاضر عدة تصميمات من هذا القبيل, تجمعها تسمية عامة هي "المنهج شبه التجريبي" Quasi -Experimenta. لنفرض أن أحد الباحثين أراد أن يدرس أثر الحرمان من الأسرة في النمو الاجتماعي للطفل, إن تطبيق المنهج التجريبي الكامل في هذه الحالة يتطلب تقسيم المفحوصين عشوائيًّا إلى نصفين، أحدهما يظل يعيش مع أسرته, بينما يودع الآخر في إحدى دور الرعاية وذلك طوال فترة التجربة, ثم تقارن المجموعتان في النمو الاجتماعي, وبالطبع فإن معظم الأسر ترفض أن تسمح لأطفالها بالمشاركة

في تجربة من هذا النوع, كما أن النظام الاجتماعي لا يوافق على أن ينفصل الطفل عن والديه وأن يُودَعَ طواعيةً أو قسرًا في مؤسسة من أي نوعٍ, إلّا في بعض الاستثناءات القليلة الشاذة في التاريخ "معسكرات إسبرطة في التاريخ القديم والكيوبتزات الإسرائيلية في التاريخ الحديث"، بل إن مثل هذا الإجراء يستحيل حدوثه في المجتمع الإسلامي الذي تضع شريعته الأسرة في مكانة رفيعة من البناء الاجتماعي, ولهذا فلا مناص من أن يلجأ الباحث في هذه الحالة إلى تصميم شبه تجريبي, وفي هذه الحالة يقارن بين مجموعتين من الأطفال إحداهما تعيش مع أسرها الطبيعية, والأخرى تعيش في إحدى دور الرعاية "ملجأ أو مؤسسة اجتماعية أو مدرسة داخلية أو دار حضانة" نتيجةً لظروفها الاجتماعية. ومعنى ذلك أن شبه التجربة: هي دراسةٌ يلاحظ فيها الباحث نتائج حدث طبيعي, أو قرار متصل بالظروف الاجتماعية للإنسان يُفْتَرَضُ فيه أن له أثر على حياته، ويشمل ذلك على سبيل المثال الالتحاق بدور الرعاية الاجتماعية أو مؤسسات الإيواء أو برامج ما قبل المدرسة؛ في دور الحضانة ورياض الأطفال, أو التعليم في المدارس الخاصة وغيرها. ويكون المتغير المستقل في هذه الحالة هو الحدث أو الظرف الذي يُفْتَرَضُ فيه أن تؤثر نواتجه على الذين يتعرضون له, والباحث هنا لا يستطيع أن يتحكم في المتغير المستقل -كما يفعل الباحث التجريبي- كما لا يستطيع أن يوزع المفحوصين على مختلف المعالجات، فالتوزيع أحدثته بالفعل ظروف الإنسان في حياته اليومية, وعلى الباحث أن يدرس آثار ذلك حينما وأينما وكيفما يحدث بالفعل. وتتفاوت البحوث شبه التجريبية في الكيف, ولعل أفضل تصميمات هذا النوع من البحوث أن يختار الباحث لمجموعته الضابطة أفرادًا من الذين يوضعون في قوائم الانتظار للالتحاق بالبرنامج أو المعالجة موضع الاهتمام، مثل قوائم الانتظار للالتحاق بالمدارس الخاصة أو دور الحضانة، ولعل هذا يوفر قدرًا من القابلية للمقارنة بين المجموعة الضابطة والمجموعة التجريبية, على الأقل في متغير الرغبة في المشاركة في البرنامج أو المالجة إن كانت لها جاذبية، أو عدم الرغبة في ذلك إن لم تكن لها هذه الجاذبية, وهذا أفضل بالطبع من اختيار المجموعة الضابة من "غير الملتحقين بالمدارس الخاصة" أو "غير الملتحقين بدور الحضانة" مثلًا، وهم أولئك الذين لم يسع آباؤهم لالتحاقهم بالبرنامج, وفي هذه الحالة قد تكون هناك اختلافات جوهرية بين الآباء في المجموعتين، وقد تكون لمتغيرات أخرى مثل حجم الأسرة والدخل والمستوى التعليمي للوالدين, أهمية أكبر من برنامج دار الحضانة أو المدرس الخاصة في إحداث الفروق بين مجموعتي الأطفال, وهكذا تظل نتائج شبه التجربة مفتوحة لتفسيرات متعددة، ولا تؤدي إلى تحديد قوي لعلاقة السبب والأثر, كما هو الحال في المنهج التجريبي الكامل، ومع ذلك فهو المنهج الأفضل في هذه الظروف الخاصة.

المنهج الارتباطي

المنهج الارتباطي: توجد مشكلات هامة في سيكولوجية النمو لا يمكن تناولها بالبحوث التجريبية أو شبه التجريبية, ومن ذلك مثلًا إذا أراد الباحث أن يحدد العلاقة بين الاتجاهات الوالدية "كاتجاه الرفض" ونمو شخصية الطفل, فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يطلب من بعض الأمهات أن يرفضن أبناءهن حتى يجري الباحث تجربة كاملة عليهن وعلى الأبناء, كما قد يصعب عليه أن يجد في الحياة الاجتماعية العامة آباء يرفضون أطفالهم بحيث يصنفهم في مجموعة في مقابل مجموعة أخرى تقبل الأبناء, حتى يجرى عليهم بحثًا شبه تجريبي, ولهذا فإن إجراء بحوث على مثل هذه المشكلات يكون من نوع مختلف تمامًا. إن الباحث قد يستخدم بعض الاستخبارات أو الاستفتاءات, أو يجري بعض المقابلات مع الأمهات ليتقصى الاتجاهات الوالدية لديهن, وحينئذ قد يجد أن بعض الأمهات ترفضن أبناءهن سيكولوجيًّا, كما يجد مجموعة أخرى مقارنة من الأمهات تقبلن أبناءهن؛ فإذا كان أطفال مجموعتي الأمهات متكافئين تقريبًا في العمر الزمني والذكاء والمستوى الاجتماعي والاقتصادي, وغير ذلك من العوامل الدخيلة، يمكن للباحث أن يقارن بين سمات الشخصية لدى مجموعتي الأطفال, مما يعطي معلومات عن العلاقة بين الاتجاه الوالدي الرافض وشخصية الطفل, ويعد هذا البحث ارتباطيًّا؛ لأن علاقة السبب والأثر فيه غير واضحة, كما هو الحال في البحث التجريبي وشبه التجريبي. إن نتائج هذا البحث التي قد تتمثل في أنه مثلًا كلما زاد رفض الأم للطفل تزداد عدوانية الطفل، وتقل عدوانيته مع نقص رفض الأم له, لا تتضمن علاقة سببية مباشرة, فهل يؤدي رفض الأم للطفل إلى زيادة عدوانيته؟ أم أن عدوانية الطفل تؤدي بالأم إلى رفضه؟ أم أن كلًّا من رفض الأم وعدونية الطفل يتأثران بعامل ثالث غير معلوم؟ إن كل ما نحصل عليه من معنى هو وجود علاقة بين المتغيرين1.

_ 1 يعد من قبيل المنهج الارتباطي أيضًا الأسلوب الذي شاع في البحث السيكولوجي في السنوات الأخيرة, والذي يطبق فيه الباحث أحد الاختبارات على عينة من المفحوصين, ثم يختار منها عينتين فرعيتين, إحداهما ذات مستوى عالٍ, والأخرى ذات مستوى منخفض في السمة موضع القياس؛ كالذكاء أو الابتكار أو التحصيل, ثم يقارن بينهما في متغيرات أخرى.

وقد يتطلب المنهج الارتباطي قياس متغيرين على الأقل, ثم تحديد درجة العلاقة بينهما, وفي هذه الحالة يمكن أن يجري البحث الارتباطي على مجموعة واحدة, ومن ذلك مثلًا: أن يقيس الباحث عدد الساعات التي يخصصها الطالب ليلًا للاستذكار المنزلي, والدرجة التي يحصل عليها في الاختبارات التحصيلية، ثم يحسب العلاقة بين المتغيرين بالنسبة لمجموعة من الأطفال, والأسلوب الإحصائي الذي يستخدم في هذه الحالة يسمى معامل الارتباط، وبه يتحدد التغير الاقتراني بين المتغيرين, وهذا التغير الاقترني يمتد بين العلاقات الموجبة الكاملة والعلاقات الموجبة السالبة الكاملة، وفي منزلةٍ بينهما توجد العلاقات الجزئية موجبة أو سالبة، والعلاقات الصفرية "التي تدل على عدم وجود علاقة بين المتغيرين". وبعبارة أخرى: فإن معامل الارتباط يتراوح بين +1، -1, وعادة ما يكون في صورة كسر عشريٍّ أعلى من الصفر "عدم العلاقة", وأقل من الواحد الصحيح "العلاقة الكاملة", وتوجد معادلات إحصائية لحساب مقدار معامل الارتباط. وتدل العلاقة الموجبة "+1 وما هو أقل منها" على أن العلاقة طردية, بمعنى أن الزيادة في المتغير الأول تقترن معها زيادة في المتغير الثاني، والنقص في المتغير الأول تقترن معها زيادة في المتغير الثاني، ومن ذلك العلاقة بين الذكاء والتحصيل المدرسي التي تكون عادة في صورة معامل ارتباط مقداره "0.85", ومعناه أن الطفل الأعلى ذكاءً يزداد تحصيله, والطفل الأقل ذكاءً يقل تحصيله. أما العلاقة السالبة "-1 وما هو أكبر منها" فقد تدل على العلاقة العكسية, ومن ذلك العلاقة بين القلق والتحصيل المدرسي التي قد يصل معامل ارتباطهما إلى "-0.65", ومعنى ذلك أن الزيادة في القلق ترتبط بالنقص في التحصيل المدرسي، والنقص في القلق بالزيادة في التحصيل المدرسي, وقد تكون العلاقة صفرًا "أو مقدار إحصائي ليس له دلالة إحصائية"، ومن ذلك العلاقة بين الذكاء وطول القامة اللذين يبلغ معالم ارتباطهما 0.25 "وهو معامل غير دالٍّ إحصائيًّا, ويعتبر صفرًا بهذ المعنى". ومعنى ذلك أن الطفل الذكي قد يكون قصير القامة أو طويلها، وكذلك الطفل الأقل ذكاءً قد يكون أيضًا طويلًا أو قصيرًا، أي: لا توجد وجهة محددة لاتجاه العلاقة بين المتغيرين.

ولمعامل الارتباط جانب آخر هامّ وهو مقداره؛ فمعامل الارتباط البالغ 0.9 لا يساوي معاملًا آخر يبلغ 0.5 أو 0.2, حتى ولو كانت جميعها دالة إحصائيًّا. فمقدار معامل الارتباط الذي يقترب من الواحد الصحيح يدل على قوة العلاقة بين المتغيرين، وكلما اقترب معامل الارتباط من الصفر دلَّ ذلك على ضعف هذه العلاقة, وفي جميع الحالات علينا أن نضع البحث الارتباطي في سياقه الصحيح، أي: أنه لا يتضمن علاقة سببية, وإنما هو محض تغير اقتراني بين متغيرين. صحيح أنه توجد في الوقت الحاضر محاولات لتوسيع أفق معامل الارتباط؛ ليتضمن بعض المعاني السببية فيما يسمى تحليل المسار path analysis، إلّا أن المنهج الارتباطي يظل على وجه الإجمال منهج غير سببي.

المنهج المقارن

المنهج المقارن: يلاحظ على جميع المناهج السابقة أنها تقصر اهتماها على النظر إلى سلوك الإنسان في وقت معين, إلّا أن البحث في النمو يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى تحديد كيف يتطور السلوك الإنساني عبر الزمن, ولهذا كان لابد من ابتكار منهجٍ يتفق مع هذه الضرورة، ومن هنا كان ظهور المنهج المقارن في هذا الميدان، وهذا المنهج يعد في جوهره منهجًا تطوريًّا نمائيًّا ارتقائيًّا. والمنهج المقارن يتضمن في جوهره دراسة الأفراد من مختلف الأعمار، على افتراض أنه توجد أدلة على التغير في سلوك الإنسان خلال مدى الحياة, كما بينا في الفصل الأول، وفي هذا يعتبر العمر المتغير التقليدي الذي يتحدد من خلاله مسار النمو، ولابد من الاعتراف بضرورته لأي معالجة لنمو الإنسان. فالتحسن والتدهور في الخصائص الفسيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية يرتبطان بالعمر إلى الحد الذي يدفعنا إلى القول بأنه -أي العمر- يتداخل في كل العلاقات الوظيفية المرتبطة بالسلوك, إلّا أن ما يجب أن ننبه إليه ضررة التمييز بين المظهر والجوهر، فالعمر نفسه لا يزودنا بأي معلومات عن أسباب التغيرات التي تحدث مع الزمن، على الرغم من أننا يجب أن نعترف بأن هذا الأمر لم يشغل بال معظم الباحين في ميدان علم نفس النمو. ويمكن أن نميِّزَ في هذا الصدد بين مشكلتين جوهريتين, يمثل كل منهما مرتكزًا لبحوث سيكولوجية النمو من حيث علاقتها بالعمر، وهي: 1- تحديد درجة التحسن والاستقرار والتدهور في مختلف جوانب السلوك الإنساني مع التقدم في العمر. 2- تحديد العوامل المسئولة عن التحسن أو التدهور حين يلاحظ على سلوك

الإنسان، وإلى أيِّ حَدٍّ ترجع هذه العوامل إلى التغيرات التي تطرأ على البناء البيولوجي للإنسان, أو إلى الظروف البيئية والثقافية والاجتماعية التي تحيط به. وهاتان المشكلتان تستثيران الاهتمام بطبيعة الصعوبات المنهجية في ميدان بحوث النمو, وتتناول فيما يلي هذه الصعوبات مصنفةً تبعًا لطرق البحث المقارن المستخدمة في هذا المجال. أولًا: الطريقة المستعرضة الطريقة المستعرضة وقرينتها الطريقة الطولية -التي سنشير إليها فيما بعد- هما أكثر طرق البحث في ميدان النمو استخدامًا، بالرغم من مشكلاتهما المنهجية، وسوف نتناول هاتين الطريقتين أولًا, ثم نعرض لطريقة ثالثة أكثر ملاءمة ودقة, وهي طريقة التحليل التتابعي. والطريقة المستعرضة Cross- Sectional تعتمد في جوهرها على انتقاء عينات مختلفة من الأفراد من مختلف الأعمار، ثم نلاحظ فيهم بعض جوانب السلوك موضع الاهتمام, أو تطبق عليهم مقاييس لهذه الجوانب من السلوك، على أن تتم الملاحظة أو القياس في نفس الوقت تقريبًا، ويفترض في هذه المقاييس التي تطبق على العينات أنها على درجة كافية من التكافؤ، ويقارن أداء العينات المختلفة في كل مقياس على حدة، وتتم هذه المقارنات في ضوء متوسطات العينات, أي: أن المقارنة بين مختلف الأعمار تتم في ضوء الفروق بين المجموعات, وتفترض هذه الطريقة أن هذه المتوسطات توضح مسار النمو العادي, وتقترب بنا إلى حَدٍّ كبير من الدرجات التي نحصل عليها لو أجرينا البحث على أفرادٍ من عمر معين, ثم أعيد اختبارهم تتبعيًّا عدة مرات حتى يصلوا إلى الحد الأقصى من العمر موضع البحث, ومن أمثلة ذلك إذا أراد الباحث دراسة النمو العقلي باستخدام هذه الطريقة, فإنه يختار عينات من الأطفال والمراهقين والشباب والكهول والمسننين يطبق عليهم خلال فترة زمنية معينة قد لا تتجاوز الأسبوع الواحد اختبارات تقيس الذكاء, يفترض فيها أنها تقيس نفس الخاصية السلوكية، ثم يقارن بين متوسطات أدائهم في هذه الاختبارات، إلّا أن لهذه الطريقة مشكلاتها المنهجية التي تتلخص فيما يلي: 1- العوامل الانتقائية في العينات المختلفة: فجماعات العمر المختلفة قد لا يكون بينها وجه للمقارنة نظرًا لآثار العوامل الانتقائية والمتتابعة، ويظهر أثر هذه العوالم خاصَّةً حين تجرى البحوث على التلاميذ والطلاب؛ فطلبة الجامعات الذين نختارهم لفئة الشباب أكثر انتقائية من طلبة المدراس الثانوية الذين نختارهم

لفئة المراهقين، وأولئك أكثر انتقائية من تلاميذ المدارس الابتدائية الذين نختارهم لفئة الأطفال، وذلك لأن الطلاب الأقل قدرةً يتم استبعادهم خلال مسار العمل التعليمي, وهكذا فإن المتوسط المرتفع لطلاب الجامعات قد ينتج عن عمليات التصفية هذه, ولذلك لكي تستخدم هذه الطريقة بفعالية أكثر في بحوث النمو, لابد أن تكون ممثلة للأصول الإحصائية العامة للسكان من مختلف الأعمار وأن تشتق منها. لا أن يتم اختيار مجموعة الأفراد من مؤسسات تعليمية أو مهنية, وتمثل هذه المسألة إحدى عوائق البحث الكبرى في دراسات الراشدين خاصة؛ فجميع جماعات الراشدين باستثناء الجيش, منتقاة على نحو ما: الجماعات الدينية، وجماعات أندية، وأعضاء النقابات والاتحادات، وبيوت المسنين. 2- اللاتاريخية: تفتقد هذ الطريقة المعنى التاريخي الذي هو جوهر البحث في النمو، فالطريقة كما هو ملاحظ تقتصر على دراسة الفرد الواحد في لحظة زمنية معينة, وبالتالي لا توفر لنا معلومات عن السوابق التاريخية للسلوك، أي: ما هي الخبرات المبكرة التي تؤثر في السلوك موضع البحث، كما لا تقدم لنا شيئًا من المعرفة عن مدى استقرار السلوك أو عدم استقراره في الفرد الواحد، أي: إلى أيِّ حَدٍّ يظل السلوك الملاحظ في وقت معين هو نفسه حين يلاحظ في وقت آخر. ويرجع ذلك في جوهره إلى أن التصميم المستعرض يوفر لنا معلومات عن الفروق الجماعية, أكثر مما يقدم أية معلومات عن النمو داخل الفرد. 3- اختلاف رصيد الخبرة: قد لا يكون هناك درجة للمقارنة بين أرصدة الخبرة المختلفة عند جمعات الأعمار المختلفة التي تُدْرَس في لحظة زمنية معينة, فمن المستحيل الحصول على عينات مختلفة الأعمار في وقتٍ معين, ونفترض أنها عاشت في ظروف ثقافية موحدة عندما كانت متساوية في العمر, وواقع الأمر أن المقارنة في هذا النوع من البحوث تكون بين جماعات عمرية تفصل بينها فوارق زمنية مختلفة, قد تصل إلى حَدِّ الفروق بين الأجيال، كما هو الحال عند المقارنة في لحظة معينة بين سلوك عينات من الأطفال والمراهقين والراشدين. فمثلًا لا يستطيع أحد أن يعزي الفروق بين من هم اليوم في سن الأربعين, ومن هم الآن في سن 15 سنة أو 8 سنوات, إلى عوامل تتعلق بالعمر وحده, فعندما كان الأفراد الذين هم الآن في سن الأربعين في سن الخامسة عشرة أو الثامنة, كان التعليم أكثر تواضعًا, والفرص المتاحة للأطفال والشباب أقل تنوعًا، والاتجاهات الاجتماعية أكثر اختلافًا، ومعنى هذا أن الاختلافات بين مجموعات العمر قد ترجع في جوهرها إلى ظروف متباينة نتيجة للتغيرات الثقافية والحضارية, وبالتالي لا يمكن الجزم بأن التغير المشاهد يرجع إلى العمر وحده, ولعل هذا يدفعنا إلى أن ننبه

دائمًا إلى ضرورة حساسية الباحث لعينة المفحوصين في هذا النوع من البحوث, والتي تختلف في جوهرها من عمر لآخر، ومن جيل لآخر؛ فالمفحوصين في الدراسات المستعرضة لا ترجع الفروق بينهم إلى العمر الزمني وحده, ولكن أيضًا إلى الفترة الزمنية التي ولدوا ونشأوا فيها, ومعنى ذلك: أن الجماعات العمرية في هذه البحوث تؤلف أجيالًَا مختلفة, ومفهوم الجيل يعني مجموعة الأفراد الذين وُلِدُوا وعاشوا خلال نفس الفترة الزمنية, ولهذا يُفْتَرَضُ منهم أن يشتركوا في كثير من الخبرات الثقافية والاجتماعية التي قد تؤثر في جوانب من نموهم. تأمل مثلًا أثر التنشئة في عصر الكمبيوتر والفيديو ومن قبلهما التليفزيون؛ فالإنسان المعاصر يجني ثمار هذا الانفجار الاتصالي بتعرضه لمدى أكثر اتساعًا من المعلومات لم يسبق إلى مثله في الماضي, فإذا قورن أطفال اليوم بالأشخاص الذين يبلغون الآن من العمر 50 أو60 عامًا حين كانوا في طفولتهم, فإننا نتوقع أن نجد لدى شباب اليوم اتجاهًا مختلفًا نحو التكنولوجيا, ومن الصعب حينئذ أن نحدد بحسمٍ ما إذا كان هذا الاختلاف هو نتاج التغيرات التي ترجع إلى النمو, أم أنها ببساطة ترجع إلى اختلاف فرص التعرض للتكنولوجيا الحديثة. 4- المقارنة الجماعية: لا تسمح الطريقة المسعرضة -كما أشرنا- إلّا برسم منحنيات المتوسطات موضوع البحث, والسبب في هذا أن الأشخاص مختلفون في كل مستوى عمري من مستويات البحث، ويستحيل في هذه الحالة رسم المنحنيات الفردية, إلّا أنّ مثل هذا الإجراء قد يخفي اختلافات هامة بين الأفراد من ناحية, وداخل الأفراد من ناحية أخرى, وقد ينشأ عن رسم المنحنيات الجماعية "على صورة متوسطات" أن تتلاشى هذه الاختلافات أو تزول، ولهذا قد يكون منحنى المتوسطات الناجم مختلفًا اختلافًا بيّنًا عن منحنى النمو لكل فرد على حدة, ومن أشهر النتائج التي توضح لنا خطورة هذه المسألة, حالة التقدم الفجائي في النمو الذي يسبق المراهقة؛ فمنحنيات النمو الفردية بالنسبة لكثير من السمات الجسمية تكشف عن زيادة فجائية تطرأ على معدل النمو الجسمي قبيل البلوغ، ولمَّا كان الأفراد يختلفون في سن البلوغ, فإن هذه الوثبة تحدث في فترات مختلفة لكل فرد على حدة, وبالتالي يمكن أن تظهر في المنحنيات الفردية للأفراد المختلفين، فإذا رسمت المنحنيات الجماعية نجد أن هذه الاختلافات الفردية يلغي بعضها بعضًا, ونجد المنحنى الناجم عن الفروق الجماعية لا يكشف عن الزيادة الفجائية إلّا إذا اشتملت عينة الدراسة على أفراد يصلون إلى البلوغ في نفس السن، وهو احتمال صعب الحدوث. وبالرغم من مشكلات الطريقة المستعرضة إلّا أنها الأكثر شيوعًا في بحوث

المقارنات بين الأعمار ربما لسهولتها النسبية, وسرعتها الظاهرة، واقتصادها الواضح في الوقت والجهد. أضف إلى ذلك أنها تهيئ للباحث في مجال النمو الإنساني نظرةً مجملة للظاهرة النمائية موضع البحث. ثانيًا: الطريقة الطولية الطريقة الثانية من طرق البحث المقارن هي الطريقة الطولية longitudinal, وفيها تتمُّ ملاحظة نفس العينة من الأفراد التي تكون من نفس العمر لحظة البدء في البحث, وإعادة ملاحظتهم أو اختبارهم عدة مرات على فترات زمنية مختلفة, وهذه الفترات تختلف حسب طبيعة البحث, أي أن هذه الطريقة تتطلب تكرار الملاحظة والقياس لنفس المجموعة من الأفراد لفترة زمنية معينة, وبالطبع فإن مدى الزمن المستغرق, والفواصل الزمنية بين الملاحظات والاختبارات, تختلف من بحثٍ لآخر وذلك حسب طبيعة موضوعه؛ ففي بحثٍ حول نموّ تفضيل إحدى اليدين في العمل اليدوي, يُخْتَبَرُ الأطفال ابتداءً من سن 10 شهور مرةً كل شهر, حتى يصلوا إلى العمر الذي يظهر فيه تفضيل لإحدى اليدين على الأخرى، وهو عادةً ما يكون سن 18 شهرًا. وفي بحث النمو العقلي قد نحتاج لفترات زمنية أطول؛ فالأطفال يختبرون كل شهر عندما يكون عمرهم بين شهر واحد و 15 شهرًا، ثم كل 3 شهور بعد ذلك, حتى يصلوا إلى سن 2.5 سنة، ثم كل 6 شهور حتى يصلوا إلى سن الخامسة، ثم كل سنة حتى سن المراهقة. وبعض البحوث تتطلب نظامًا مختلفًا وفترات زمنية أطول, وخاصة حين يكون اهتمامها بالنمو عبر مدى الحياة. والطريقة الطولية بهذا تتغلب على بعض مشكلات الطريقة المستعرضة, وتوفر للباحثين إمكانات بحث أفضل. إنها تقدم صورة جيدة عن النمو داخل الأفراد, وليس صورة مجملة عن الفروق بين الجماعات العمرية, ثم إنها تحدد لنا أيّ الظروف السابقة أو الخبرات السابقة يؤثر في النمو السلوكي موضع البحث؛ ففيها لا تتداخل الفروق بين الأجيال, والفروق داخل الجماعات من فروق العمر، كما هو الحال في الدراسات المستعرضة, ولعل من أهم مميزات التحكم في أثر اختلاف الأجيال أن الآثار فيها ترجع إلى زمن ولادة المفحوص أو الجيل الذي ينتسب إليه, ولا ترجع في الواقع إلى محض عمره؛ فالأجيال كما بينا قد تختلف في سنوات التعلم, وممارسات تنشئة الأطفال والصحة والاتجاهات نحو الموضوعات الحساسة؛ كالجنس أو الدين, وهذه الآثار التي ترجع إلى الأجيال لها أهميتها؛ لأنها تؤثِّر بقوة في المتغيرات التابعة في الدراسات التي تبدو ظاهريًّا مهتمَّة بالعمر. وآثار اختلاف الأجيال قد تبدو كما لو كانت آثار أعمار, مع أنها ليست كذلك

بالفعل, ومن ناحيةٍ أخرى, فإن هذه الطريقة تسمح للباحثين بتحليل الاستقرار أو الاختلاف الذي يحدث داخل الفرد بمرور الزمن "willerman, 1979". أضف إلى ذلك أن هذه الطريقة تستغرق وقتًا طويلًا في دراسة كل الفروق بين أفراد العينة حتى يكتمل البحث, ومعنى ذلك أنها أقلّ جاذبية من الطريقة المستعرضة في ضوء معيار الزمن, ومع ذلك فإننا بها وحدها نستطيع أن نحدد أيّ الشروط أو الخبرات السابقة تؤثر في نمو السلوك موضع البحث. ومع هذه المزايا الظاهرة للطريقة الطولية, إلّا أنَّ لها مشكلاتها أيضًا تلخصها أنستازي "Anstasi, 1958" فيما يلي: 1- العوامل الانتقائية في العينة الأصلية؛ فالأفراد الذين يشاركون في بحثٍ من طبيعته أن يستمر لعدة سنوات يتم انتقاؤهم في الأغلب تبعًا لعوامل تحكمية وليست عشوائية, ومن هذه العوامل استقرار محل الإقامة، والتعاون المستمر مع الباحث, وبالطبع فإن المفحوصين الذين يتم انتقاؤهم بهذه الطريقة قد تتوافر فيهم خصائص أخرى بالمستوى الثقافي والميول والاتجاهات, بل والظروف الطبيعية والصحية تختلف عن الأصل السكاني العام على نحوٍ يجعلها منذ البداية عينة متحيزة وليست عشوائية، فقد تكون العينة أعلى نسبيًّا من المستوى العام للأصل الإحصائي السكاني. وقد يكون العكس صحيحًا أيضًا في بعض عينات هذه البحوث, ومن ذلك الأفراد الذين يقيمون في المؤسسات "كالأطفال والمراهقين الذين يعيشون في الملاجئ, والشيوخ الذين يقيمون في بيوت المسنين". فأطفال ومراهقو الملاجئ والإصلاحيات يمثلون مستوى أدنى من الأصل الإحصائي العام, بينما شيوخ دور المسنين قد يكونون من مستويات اقتصادية واجتماعية عالية نسبيًّا إذا كانت هذه البيوت بمصروفات تديرها جمعيات خاصة، وقد يكونون من مستويات دنيا إذا كانت هذه البيوت من النوع المجاني الذي تديره هيئات حكومية للإيواء العام، وفي الحالتين يصعب تعميم نتائج مثل هذه البحوث الطولية على المجتمع الأصلي, ومع ذلك, فإن لهذه البحوث فائدتها إذا تَمَّ توصيف الأصل المشتقة منه العينات توصيفًا دقيقًا، أو تَمَّ توصيف العينة موضوع البحث توصيفًا مفصّلًا؛ بحيث يمكن تعميم النتائج التي تتوصل إليه البحوث على أيِّ أصلٍ إحصائيٍّ مشابه لها. 2- النقصان التتابعي للعينة: فلا شك في أن البحث الطولي يستغرق فترةً طويلةً نسبيًّا من الزمن، ولهذا نتوقع أن يتناقص عدد المفحوصين تدريجيًّا, ولذلك فإن المتابعات المتأخرة لنفس العينة نجدها تتمّ على أعداد قليلة إلى حَدٍّ كبير

لو قورنت بالحجم الأصلي لهذه العينة عند بدء البحث منذ سنوات بعيدة, وهذا التسرب في العينة لا يتم بطريقة عشوائية؛ فالمفحوصون الذين يستمرون في المشروع التتبعي حتى نهايته هم في العادة من الذين يتسمون بأنهم أكثرتعاونًا وأكثر دافعية وأكثر مثابرة وأكثر كفاءة من أولئك الذين يتسربون طوال الطريق. وعلى هذا, فإنه عند نهاية أيّ دراسة طولية نجد أن المتبقي من عينة المفحوصين قد يكون متحيزًا على نحوٍ يجعل من الصعب مرةً أخرى الوصول إلى استنتاجات وتعميمات إلى الأصل الإحصائي العام "المجتمع الأصلي". 3- أثر إعادة الملاحظات: توجد مشكلة منهجية ثالثة في البحوث الطولية تتمثل في الأثر المحتمل الذي تحدثه المشاركة المستمرة في سلوك المفحوص. فالممارسة المتكررة للاختبارات, وزيادة الألفة بفريق البحث، والتوحد بإحدى الجماعات لفترة طويلة نسبيًّا من الزمن، هي جماعة البحث، وغير ذلك من ظروف البحث الطولي التتبعي ذته، قد تؤثر جميعًا في أداء المفحوص في الاختبارات, وفي اتجاهاته ودوافعه، وفي توافقه الانفعالي، وغير ذلك من جوانب السلوك, ومن ذلك مثلًا أن المفحوص حين يُعْطَى نفس الاختبارات أو ما يشبهها عدة مرات, فإنه يصبح على درجة كبيرة من الخبرة بها, وفي مثل هذه الحالات سوف يؤدي المفحوصون جيدًا على الاختبارات اللاحقة لا بسبب النمو, وإنما بسبب آثار تكرار الممارسة. وعلى الرغم من أن هذه الطريقة تستغرق وقتًا طويلًا, وتتطلب تكلفة هائلة, فإنها لها قيمتها في أنها تهيئ لنا تتبع مسار التغيرات في المفحوصين؛ كأفراد عبر الزمن. تخيل باحثًا يجري دراسة على النمو العقلي خلال مدى الحياة, إنه يواجه المهمة المستحيلة إذا صمَّمَ بحثه لجمع البيانات بنفسه؛ لأنه إذا بدأ بحثه على مفحوصين من الأطفال وعمره مثلًا 25 سنة، فإنه حين يبلغ مفحوصوه سن 65سنة مثلًا, ويدخلون في مرحلة الشيخوخة, ربما يكون قد مات هو نفسه "من أمثلة ذلك بحث ترمان الشهير حول نمو الأطفال من ذوي الذكاء الرفيع" بل إنه حتى في الحدود الزمنية الأقل تطرفًا توجد عوائق كثيرة من الوجهة العملية, ولهذا السبب نجد أن القاعدة هي وحود بحوث طولية قصيرة المدى, لا تجاوز في العادة خمس سنوات. 4- أثر وقت القياس: يمكن لبعض الآثار التي تحدث في المفحوصين من عينة البحث الطولي أن ترجع إلى وقت القياس وليس إلى النمو في ذاته, لنتأمل مثلًا دراسة فرضية فحصت التغيرت المرتبطة بالعمر في الاتجاه نحو العمل اليدوي أثناء الرشد, إن هؤلاء المفحوصين إذا كانوا قد اختبروا أو تمت ملاحظتهم

ومقابلتهم في أوائل الخمسينات, حين كانوا في بداية المراهقة, قد يظهرون اتجاهات محافظة نسبيًّا حول هذا الموضوع، ولكنهم عندما يختبرون اليوم بعد أكثر من ثلاثين عامًا, فإن هؤلاء المفحوصين أنفسهم قد يكونوا أكثر تحررًا وتسامحًا في اتجاهاتهم, وقد تُفَسَّر هذه النتيجة بأنها تعني أن الاتجاه نحو العمل اليدوي يصير أقل محافظة عند التحول من المراهقة إلى الرشد الأوسط, إلّا أن السبب الحقيقي أن الزمن قد تغير طوال هذه الفترة مع تغير المجتمع ككل؛ حيث أصبح أكثر تقبلًًا للعمل اليدوي؛ فالتغيرات الملاحظة في هذه الدراسة الفرضية قد تعكس بنفس القدر التغير التاريخي في المجتمع, وليس التغير الارتقائي العادي الذي يحدث خلال الرشد فحسب, ومعنى ذلك أن التصميم الطفولي في ذاته لا يساعدنا بالضرورة على الوصول إلى تعميمات جيدة حول آثار النمو, وكما هو الحال بالنسبة للبحوث المستعرضة, لابد أن تكون حذر شديد في تفسير النتائج. ثالثًا: طريقة التحليل التتابعي يبدو من مناقشتنا السابقة أنه حتى لم توافر لنا الوقت والإمكانات لاستخدام الطريقة الطولية في بحوث المقارنة بين الأعمار, فإن هذه الطريقة لا توفر لنا حلًّا كافيًا لمشكلات البحث في هذا الميدان، وخاصة ما يتصل منها بتفسير معنى نتائج البحث, كما أن لكلٍّ من المنهج الطولي والمستعرض نواحي الضعف والقوة التي يكمل بعضها بعضًا, ولهذا السبب اقترح بعض الباحثين نموذجًا يجمع بين مزايا المنهج الطولي والمنهج المستعرض, يمكن أن نسميه نموذج التحليل التتابعي Sequential analysis model. والفكرة الجوهرية في هذا التصميم هي الجمع في وقت واحد بين دراسة الأفراد من مختلف الأعمار "كما هو الحال في الدراسة المستعرضة" مع تتبعهم وإعادة ملاحظتهم واختبارهم بعد انقضاء فترات مختلفة من الزمن "كما هو الحال في الدراسة الطولية", والميزة الرئيسية في هذا النظام أنه يزودنا بمعلومات مباشرة عن وجود الفروق بين الأجيال، كما يسمح لنا بإجراء الدراسة بطريقة أكثر اختصارًا واقتصادًا. ومن التصميمات المبكرة في هذا الميدان ما استخدم في بحث bell, 1953, وفيه استخدام المنهج المستعرض لمجموعات عمرية مختلفة, مع متابعات قصيرة الأمد؛ فمثلًا قد نلاحظ مجموعتين من الأفراد أولاهما في سن 18 سنة, والأخرى في سن 20 سنة, ونعيد اختبارهم مرتين خلال فترة زمنية طولها عامان, كما هو موضح في الجدول رقم "4-1".

جدول "4-1": تصميم تتابعي على نسق "بل" ان مراجعة امكانية المقارنة والاستمرار لمجموعتي العمر تتم في ضوء أداء المجموعتين في سن العشرين، وكذلك في ضوء اتجاه التغيرات عند اعادة الملاحظة والقياس في كل مرة داخل المجموعتين، فإذا أمكن أن تتم المقارنة فإن البيانات التي يحصل عليها الباحثون من المجموعتين خلال العامين يمكن معالجتها معًا للكشف عن التغيرات الحادثة بين عمري 18، 22 عامًا. ويوجد تصميم تجريبي آخر اقتراحه "1957، Pressey & Kuhlen" وفيه يتم الربط أيضًا بين الدراسة الطولية والمسح المستعرض لمجموعات عمرية مختلفة للتمييز بين التغيرات التي ترجع إلى العمر والتغيرات التي ترجع إلى الثقافة، فمثلًا يمكن اختبار أفراد من سن 20 عامًا وسن 40 عامًا في عام 1940، ثم اختبار عينات مشابهة من نفس الأعمار عام 1960. ويوضح الجدول رقم "4-2" هذا التصميم. جدول رقم "4-2" تصميم تتابعي على نسق "بريسي وكولن" ومن هذا الجدول يتضح أن أي فروق بين الأفراد من سن 20 عامًا في عام 1940، 20 عامًا في عام 1960 يمكن ارجاعها إلى التغيير الثقافي "ونفس النتيجة يمكن الحصول عليها من الأفراد من عمر 40 عامًا في المرتين". أما الفروق بين الأفراد من سن 20 عامًا، 40 عامًا الذين لوحظوا معًا "في عام 1940 أو عام 1960" فقد تعكس فروقًا في الأعمار بالإضافة إلى الاختلافات الثقافية وخاصة الظروف التي تمت فيها تنشئة المجموعتين. وأخيرًا فإن المقارنة بين الأفراد من

سن 20 عامًا في عام 1940، والأفراد من سن 40 عامًا في عام 1960, تدل على الاثار المتداخلة للعمر والتغيرات الثقافية التي حدثت في الفترة الوسيطة التي ربما قد تكون قد عدَّلت في سلوك المفحوصين بعد سن العشرين, أما المقارنة بين سن40 عامًا سنة 1940، 20 عامًا سنة1960, فقد تعكس الآثار الثقافية وحدها إذ كانت لصالح المجموعة الأصغر سنًّا في هذه الحالة. وقد استطاع "Schaie, 1965" أن يصل بهذا التصميم التجريبي إلى مستوى التصميم, وأطلق عليه التصميم التتابعي Sequential design, والذي طوَّرَه بعد ذلك عام 1977, وأطلق عليه اسم "التصميم الأكثر فعالية", وفي هذه الطريقة تتم ملاحظة أو قياس جيلين أو أكثر, مرتين أو أكثر، بالإضافة إلى عينة مستقلة من مختلف الأجيال في المرة الثانية وما بعدها, وفي هذا التصميم يوجد كلٌّ من المنهج الطولي والمستعرض, فعند كل وقت للملاحظة أو القياس تختار وتلاحظ موجة جديدة من المفحوصين في كل مجموعة عمرية، كما أن المفحوصين الذين سبقت ملاحظتهم وقياسهم من قبل تتم ملاحظتهم وقياسهم مرة أخرى. وبتحليل النتائج الخاصة بالموجة الجديدة من المفحوصين, ومقارنتها بنتائج من سبق اختبارهم من قبل في سنوات سابقة نحصل على معلومات عن آثار الاختبار والملاحظة من نوعٍ ما إذا كانت الممارسة والتدريب على الاختبارات تحسن الأداء. وعلى الرغم من أن التصميم التتابعي يقدم لنا ثروة من البيانات عن التغيرات العمرية والفروق بين الأجيال والآثار التاريخية, إلّا أننا يجب علينا أن نكون واعين بالصعوبات الفائقة في جمع هذه البيانات على مدى سنوات عديدة باستخدام جماعات كثيرة مختلفة من البشر. والخلاصة: أننا في هذا المنهج نستخدم أفرادًا من مختلف الأعمار, تتم ملاحظتهم أو قياسهم في وقت واحد معًا, وعلى نحوٍ متكررٍ في عدد من المرات المختلفة, وفي هذه الحالة يمكن أن تعتبر فروق العمر في أي مناسبة من مناسبات الملاحظة والقياس, تنتمي في جوهرها إلى البيانات التي نحصل عليها بالطريقة المستعرضة، والتغيرات أو أنماط الدرجات التي نحصل عليها من مجموعة عمرية معينة في المناسبات المختلفة للقياس والملاحظة من نوع البيانات التي نحصل عليها بالطريقة الطولية, ويضاف إلى هذا نوع جديد من البيانات تمثله المجموعات ذات الأعمار المتساوية في المناسبات المختلفة للقياس، وذلك لمعرفة ما إذا كان لميلاد الفرد في وقت معين أو انتمائه لجيلٍ بذاته, له آثار فارقة "مثلًا أن يكون طفلًا أثناء حرب فلسطين عام 1948، في مقابل أن يكون طفلًا في خلال حرب 1967، أو خلال حرب أكتوبر 1973".

ولكي نوضح هذا التصميم نفرض أن لدينا ثلاث مجموعات عمرية من الأفراد, تنتمي إلى أربعة أجيال هم الذين كانوا أطفالًا عند قيام ثورة يوليو 1952؛ حيث وُلِدُوا عام 1945 أو قبله بقليل، أو كانوا في مرحلة المراهقة ومطلع الشباب؛ حيث وُلِدُوا عام 1935 أو قبله بقليل، أو كانوا في مرحلة تمام الرشد المبكر حين وُلِدُوا عام 1925 أو قبله بقليل، أو كانوا في مرحلة تمام الرشد حين وُلِدُوا عام 1915 أو قبله بقليل. ولنفرض أيضًا أنه تمت ملاحظتهم واختبارهم لأول مرة عام 1955, ثم أعدنا ملاحظتهم وقياسهم في ثلاث مناسبات ومواقيت أخرى "كل 10 سنوات" فإن الجدول رقم "4-3" يوضح التصميم الكامل لهذا البحث. جدول رقم "4-3" تصميم تتابعي من نوع التصميم الأكثر فعالية "لسكاي" لأربعة مجموعات عمرية تمثل أربعة أجيال كما يوضح الشكل رقم "4-1" هذا التصميم

الشكل رقم "4-1" تصميم تتابعي من نوع التصميم الأكثر فعالية لسكاي, ومن هذا التصميم يتضح أنه توجد أربع مجموعات عمرية من سن 40 عامًا؛ لأن الاختبار تكرر كل 10 سنوات، وتمثل هذه المجموعات الأربع قطر الجدول، ولكن مجموعةً منها عام ميلاد مختلف, كما توجد مجموعات عمرية أخرى متساوية في العمر مع اختلاف عام ميلادها، ومن ذلك وجود ثلاث مجموعات عمر كلٍّ منها 30 عامًا، وثلاث مجموعات أخرى عمر كلٍّ منها 50 عامًا، ومجموعتان عمر كلٍّ منهما إمَّا 20 عامًا أو 60 عامًا، ولا توجد إلّا مجموعة واحدة عمرها 10 سنوات, ومجموعة واحدة أخرى عمرها 70 عامًا. ومن هذا الجدول يمكن أن يقارن الأفراد من نفس العمر في أيِّ وقت, بصرف النظر عن عام الميلاد، وفي هذه الحالة يمكن الحصول على بعض المعلومات عن آثار العمر مستقلة عن الفترة الزمنية التي يولد فيها الإنسان, ثم إذا تربع نفس الأفراد في السنوات المتتابعة, يكون من السهل الحصول على معلومات عن التغيرت طويلة الأمد داخل الأفراد, وخلال سنوات البحث المختلفة, وباستخدام أسلوب إحصائي ملائم من نوع تحليل التباين, يمكن الحصول على الإسهام النسبي لفروق بين الأجيال, كما يمكن تقدير معدّل التغير عبر الزمن بطريقة أفضل.

4- بعض المشكلات العامة في المنهج المقارن: نتناول في هذا القسم بعض المشكلات العامة في بحوث الفروق بين الأعمار, بصرف النظر عن طبيعة المنهج المستخدم. أ- منحنيات النمو: تمثل منحنيات النمو بالنسبة إلى الخصائص السلوكية المختلفة أفضل صورة عامة وبسيطة للتعبير عن التغير في هذه الخصائص مع العمر, ومع ذلك فإن هذه المنحنيات تتضمن خطأين أساسين أشار إليهما "Guilford, 1967", أولهما: أننا حين نستخدم الدرجات المركبة "كنسب الذكاء" نفتقد الحقيقة التي تؤكد أن السمات السلوكية المختلفة التي تتألف منها هذه الدرجات تنمو بمعدلات مختلفة في الفرد الواحد, وثانيهما: أننا حين نستخدم متوسطات درجات الأفراد المختلفين نفتقد معالم الفروق بين الأفراد في معدلات النمو في مستويات الأعمار المختلفة, سواء استخدمت درجة بسيطة أو مركبة. ب- تكافؤ المجموعات: قد يضطر الباحث في ميدان النمو إلى استخدام تصميمات تجريبية تتطلب المجموعات التجريبية والضابطة، وفي هذه الحالة نجد أن الوضع المثالي هو أن يقوم الباحث بالحصول على المجموعات المتكافئة من أصل إحصائي سكاني واحد, إلّا أن الضرورات العملية تجبر الباحثين على القيام بهذا التكافؤ بعديًّا؛ فعند المقارنة بين المسنين الذين يقيمون في دور الرعاية, وأولئك الذين يستمرون في الإقامة مع أسرهم, يجد الباحث نفسه في موقفٍ خلاصته أن يختار عينة الراشدين المقيمين في دور الرعاية أولًا, ثم بعد ذلك يحاول انتقاء مجموعة ضابطة تتكافأ معها في الخصائص التي يجدها الباحث ضرورية, وفي هذه قد نجد مجموعتين متميزتين إذا قورنتا بالمجتمع الأصلي، فلا شك أن أولئك الذين يلتحقون بهذه الدور نتيجة لظروف اقتصادية - اجتماعية ميسرة في بعض الحالات، أو نتيجة للعجز الكامل في البعض الآخر، إنما يعكسون خصائص تميزهم اقتصاديًّا واجتماعيًّا عن الأصل الإحصائي السكاني العام, والأخطر من هذا، أن الباحث في محاولته جعل المجموعتين متكافئتين قد يغفل خاصية أو أكثر، ويؤدي هذا إلى وجود فروق بين المجموعتين لا يمكن ردَّها مباشرة إلى المتغير المستقل. ج- وحدات القياس: حتى يمكن المقارنة بين الأعمار المختلفة لابد أن تتوافر في القياس المستخدم خاصية تساوي الوحدات، وهذا يعني أن أيّ زيادة في السمة في أحد الأعمار, يجب أن تساوي نفس الزيادة فيها في المستويات العمرية الأخرى, إلّا أن ما حدث أن معظم المقاييس المستخدمة لم تتوافر فيها هذه الخاصية، وأشهرها معيار العمر العقلي، ففي هذا المعيار نجد أن الكسب الذي يبلغ مقداره عامًا واحدًا في سن الخامسة عشرة, ليس مساويًا لنفس الكسب "البالغ عام

واحد" في سن الخامسة. وكذلك لا تعطينا الدرجات الخام التي نحصل عليها من الاختبارات النفسية إلّا أرقامًا، وهي في هذا لا تفيد في إعطائنا حكمًا على ما إذا كنت زيادة مفردة صحيحة واحدةً في الاختبار عند مستوى الدرجة 75, يساوي نفس الزيادة لمفردة واحدة صحيحة عند مستوى 50. وتوجد مقترحات عديدة للتغلب على هذه المشكلة, تتمثل في تحويل درجات المقياس للحصول على هدف الوحدات المتساوية "أو المسافات المتساوية", ومن أشهر هذه الحلول ما قدَّمه ثرستون فيما يسميه: "القياس المطلق" Absolute scaling, والذي يقوم في جوهره على وحدات الانحراف المعياري أو أجزائه كمسافات عن المتوسط. د- بنية المقاييس: تستحيل المقارنة بين الأعمار المختلفة إذا كان ما تقيسه الاختبارات المستخدمة يختلف من عمر لآخر، ولذلك فإن شروط هذه المقارنة أن تكون هذه الاختبارات متكافئة من حيث البنية والتركيب, ولا تتحدد هذه البنية إلّا باستخدام منهج التحليل العاملي على نتائج القياس في مراحل العمر المختلفة "سواءً استخدم الباحث المنهج الطولي أو المنهج المستعرض", وهذا المطلب يصفه "Guilford, 1967" بأنه مطلب بالغ الأهمية, ومع هذا, لم يتوافر في جميع بحوث المقارنة بين الأعمار, وعدم توافره يمثل نقصًا شديدًا في بحوث هذا الميدان؛ فالاختبار الواحد قد لا يقيس نفس المكون أو المكونات في الأعمار المختلفة، وبهذا تصبح المقارنة شبه مستحيلة.

اختبار منهج البحث الملائم

اختبار منهج البحث الملائم: كيف يختار الباحث استراتيجية معينة من البحث؟ وهل يوجد منهج في البحث أفضل من غيره؟ ولماذا يختار بعض الباحثين أساليب بحثية تختلف عن غيرهم؟ للإجابة على هذه الأسئلة نجد من المناسب في ختام هذا الفصل أن نحدد العوامل التي تحدد اختيار الباحثين لمنهج بحثهم. 1- الاتجاه النظري: كثيرًا ما يحدد التوجه النظري طريقة البحث الملائمة، فالنظرية تحدد أي نوع من المعطيات يرتبط بها, وأي نوعٍ من اجراءات البحث هو الأكثر ملاءمة للحصول عليها "Nesserlroade & Reese, 1973", وسوف نعرض في الفصل التالي الاتجاهات النظرية الأساسية, ومنها نجد أنه إذا كان الباحث من أنصار الاتجاه السلوكي في النمو, يحبذ استخدام المنهج التجريبي أو أساليب الملاحظة المقننة بدلًا من أساليب المقابلة, كما أنهم يحبذون استخدام أدوات القياس التي تساعدهم على تقدير السلوك بشكل مباشر بدلًا من الأدوات الأخرى -كالأساليب الإسقاطية- التي يفترض فيها قياس البنى السيكولوجية الداخلية, وبالتالي لا تخضع للملاحظة, بينما

نجد أصحاب النظريات المعرفية مثل: جان بياجيه, يستخدمون بوفرةٍ أساليب المقابلة لسبب جوهريٍّ وهو أن هذا الأسلوب يتناسب جيدًا مع دراسة البنية المحددة لعمليات التفكير لدى الفرد. 2- الهدف من البحث: يحدد هدف البحث أدواتنا ووسائلنا ومناهجنا وليس العكس, فإذا كان الباحث مهتمًّا بسلوك الإنسان في الظروف الواقعية, ومواقف الحياة اليومية, إنه سيختار منهج الملاحظة الطبيعية, أما إذا كان الضبط التجريبي هو الأكثر أهمية, فإنه سيتوجه نحو استراتيجية التجريب. 3- الاعتبارات الأخلاقية: قد يكون اختيار إحدى طرق البحث خارج نطاق تحكم الباحث؛ فالاعتبارات الأخلاقية تحول دون استخدام اجراءات معينة مع الإنسان, ومن ذلك البحث حول أثر استغلال الطفل والطلاق والرعاية البديلة وأساليب التنشئة الوالدية السيئة في نمو الطفل, وفي مثل هذه الحالات يقتصر الباحث على الحالات التي توجد تلقائيًّا في المجتمع, ومن هنا يستخدم الباحث المنهج شبه التجريبي. 4- الضرورات العملية: تحدد الضرورات العملية أيضًا منهج البحث المناسب؛ فالاختيار بين التصميم المستعرض أو الطولي مثال على ذلك, فعلى الرغم من أن معظم الباحثين يوافقون على أن التصميم الطولي أفضل لدراسة النمو, إلّا أن معظم البحوث استخدمت الطريقة المستعرضة؛ لأنها أرخص تكلفة وأقل استهلاكًا للوقت كما بينا. 5- فلسفة العلم: إن اختيار طريقة معينة في البحث يتأثر بسؤال هامٍّ حول مدى ونوع عدم اليقين التي يتسامح معه الباحث؛ فعند السلوكي المتمسك بمذهبه تكون الدراسة المعملية التي تعالج السلوك, والتي تقلل من عدم اليقين بالنسبة للتحكم في متغيرات البحث هي نموذج البحث العلمي, بينما نجد بعض الباحثين الآخرين لديهم بعض القلق حول معنى مثل هذه البحوث, ودرجة قابليتها للسلوك المعملي بدلًا من أن يكون سيكولوجية للسلوك بالمعنى الأكثر عمومية. وهؤلاء النقاد يكون لديهم عادةً اتجاه أكثر قوة نحو التسامح مع عدم اليقين الذي ياتينا من نقص الضبط التجريبي الصارم, أكثر من التسامح مع عدم اليقين الناجم عن عدم صدق موقف البحث. والخلاصة: أن البحث العلمي في النمو هو أمر معقَّدٌ لا يتضمن فقط نواحي القوة والضعف في المنهج، ولكن يرتبط بمسائل هامة حول أخلاق البحث واقتصادياته وأهدافه, وفلسفة العلم الكامنة وراءه.

الفصل الخامس: النماذج النظرية للنمو الإنساني

الفصل الخامس: النماذج النظرية للنمو الإنساني الاتجاهات النظرية الوصفية معايير النمو ... الفصل الخامس: النماذج النظرية للنمو الإنساني الاتجاهات النظرية الوصفية: لقد ظلَّ علم نفس النمو منذ نشأته على يد ج. ستانلي هول "1844-1924" في أواخر القرن التاسع عشر, وحتى بدايات الأربعينيات من هذا القرن العشرين "وخاصة أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية" علمًا وصفيًّا، وتمثل ذلك خاصة في الاهتمام بمسألتين هما: معايير EDevelopmental norms, ومهام النمو Developmental tasks. معايير النمو: منذ نشر ستانلي هول دراسته الأولى الهامة عام 1891, أُرْسِيَتْ تقاليدُ اتجاهٍ سيطر على بحوث علم نفس النمو طوال النصف الأول من عمر هذا العلم. ويتلخص هذا الاتجاه في قياس وملاحظة مجموعات من الأطفال، ثم تلخيص النتائج على هيئة "مستويات" عمرية مختلفة في صورة متوسطات, ومثل هذا النوع من البحوث تناول مجموعة واسعة النطاق من الخصائص؛ تبدأ بالخصائص الجسمية؛ كالطول والوزن، وتشمل القدرات الجسمية والحركية والإدراكية والعقلية، وتتناول عادات الطفل اليومية؛ كالنوم والطعام والإخراج، ونوباته الانفعالية؛ كالخوف والغضب، وعلاقاته الاجتماعية. وعلى الرغم من أن هذه البحوث سُمِّيَتْ في المؤلفات التقليدية لعلم نفس النمو بالبحوث المعيارية Normative, إلّا أنها في جوهرها بحوث وصفية؛ لأنها لم تتجاوز وصف المستوى "العادي" أو "المتوسط" لسلوك الأطفال في الخصائص موضع البحث, وعادةً ما تُسَمَّى النتائج التي تلخصها هذه البحوث معايير العمر Agy Norms. ويعد العالم الأمريكي أرنولد جيزل Gesell "188-1961" أكبر ممثلي هذا الاتجاه، وهو اتجاه يعود بأصوله إلى عالم النفس الفرنسي ألفريد بيينيه, الذي توصَّلَ إلى معيار العمر العقلي في بحوثه عن قياس الذكاء، إلّا أن جيزل وسَّعَ

إطار المفهوم واستخدامه, وطبَّقَه على عدد كبير من الظواهر النفسية, وأشاع ما يُسَمَّى العمر العظمي والعمر الفسيولوجي والعمر التحصيلي, وهكذا. ولإجراء بحوثه العديدة ابتكر جيزل وزملاؤه مجموعة من الاختبارات, ووسائل القياس, وأساليب الملاحظة التي تعين على وصف الطفل بدقةٍ في كثير من مجالات النمو, وجمع فريق البحث معلومات كثيرة عن الأطفال الذين تمت دراستهم في العيادة النفسية التي أنشأها في كلية الطب بجامعة ييل, والتي تحولت إلى معمل كامل هدفه الدراسة الشاملة لنمو الطفل, كما قام فريق البحث بإجراء مقابلات مع الآباء والأمهات لمعرفة سلوك الطفل في المنزل, وقد أفادت المعلومات في وصف الخطوات والمراحل التي يسير فيها الطفل العادي في كل مرحلة عمرية, وقد انحاز جيزل انحيازًا واضحًا في كل مراحل بحثه إلى طرف النضج, واعتبره العامل الأهم في نمو الطفل؛ فالتغيرات في بنية الطفل وسلوكه ترجع في جوهرها -عنده- إلى العوامل الوراثية، أما البيئة الاجتماعية فإن آثارها محدودة للغاية, ولعل هذا الاعتقاد هو الذي جعله يرى ان مهمهته الكبرى في مجال دراسة النمو "جدولة" الخصائص الجسمية والعقلية والانفعالية والاجتماعية في كلِّ مستوى عمري على نحوٍ أشبه "بالكتالوج" الذي يشمل الخصائص المتوسطة أو العادية. وفي رأيه أن "قوائم الخصائص" هذه تزود المربين والوالدين وأطباء الأطفال وغيرهم من المهتمين بشئون الطفل بالسمات التي يتوقع لها الظهور في كل مرحلة عمرية, ويوضح الجدول "5-1" أمثلة من جداول معاييره أثاء الطفولة, والتي شاعت لفترة طويلة, واستخدمها الكثيرون في الحكم على مدى سواء معدل النمو عند الأطفال.

جدول "5-1" أمثلة من جداول معايير النمو لجيزل

وتوجد فكرة هامة أخرى عند جيزل, وهي فكرة "دورات السلوك"؛ حيث يرى أن النمو تتناوبه أطوار من "الجودة" و"السوء", وهذه الأطوار موحدة عند الجميع, ويوصف الطور بأنه جيد إذا أظهر فيه الطفل تكيفًا طيبًا مع ذاته ومع الآخرين, أما الطور السيئ فهو الذي تسود فيه الصراعات بين الطفل وبيئته الاجتماعية والمادية, ويشعر فيه بعدم التوافق مع نفسه, ويرى أن تناوب هذه الأطوار أمر حتمي, وتحكمه مباديء النضج وحدها. ويلخص إلج وآمس & IIg ames. 1981"، وهما من تلاميذ جيزل، هذه الأطوار في الجدولين "5-2"، "5-3". جدول "5-2" الأطوار الجديدة والسيئة في الأسابيع الأولى من حياة الطفل. جدول "5-3" الأطوار الجيدة والسيئة في سنوات عمر الطفل المختلفة "إبتداء من عمر سنتين"

وخلاصة ذلك أن دورات النمو الإنساني "التي قد تمتد إلى مراحل تالية في الرشد والشيخوخة, على الرغم من أن البحوث لجيزل وتلاميذه لم تتجاوز سن السادسة عشرة" هي في جوهرها دورات من السلوك النفسي والاجتماعي تعكس الحالات الداخلية للتوافق مع البيئة, وكل دورة منها تزداد طولًا بالتدريج مع نمو الشخص, وتتآلف كل دورة من ستة أطوار, ويبدأ الطفل كل دورة بطور من التوازن الجيد, يتبعه طور من عدم التوازن الملحوظ بين الذات والبيئة, وبعد ذلك يظهر طورٌ من التوازن النسبي, يتلوه طور من الانسحاب الظاهر والاستبطان الداخلي والحساسة الفائقة للأحداث، والتشاؤم، ويتبع ذلك طور من التوافق الجيد, يتسم بالتوسع الكبير في النشاط الاجتماعي على نحوٍ قد ينجم عنه بعض المخاطر للطفل, ثم يتحول الطفل إلى طور آخر من التكيف السيئ, على هيئة عدم توازن عصابي قبل أن ينتقل إلى طور جيد من التوافق الجيد، وهكذا. وتركزت اهمامات جيزل وتلاميذه على عشر فئات كبرى من سلوك الإنسان, مع وجود أقسام فرعية داخل كل فئة، وهذه الفئات هي: 1- الخصائص الحركية: أ- نشاط الجسم. ب- تآزر العين واليد. 2- الصحة الشخصية: أ- الأكل. ب- النوم. ج- الإخراج. د- الاستحمام. هـ- الآلام والأمراض الجسمية. 3- التعبير الانفعالي: أ- الاتجاهات الوجدانية. ب- الصراخ والسلوك المرتبط به. ج- العناد والعدوان والغضب. 4- المخاوف والأحلام. 5- الذات والدور الجنسي.

6- العلاقات الشخصية: أ- الأم والطفل. ب- الطفل والأطفال والآخرون. ج- التجمعات أثناء اللعب. 7- اللعب وقضاء وقت الفراغ: أ- الميول العامة. ب- القراءة الحرة. ج- الموسيقى والراديو والسينما, وغيرها من الوسائل المستحدثة بعد ذلك". 8- الحياة المدرسية "في المدرسة الابتدائية خاصة": أ- التكيف للمدرسة. ب- جو حجرة الدراسة. ج- القراءة المنظمة. د- الكتابة. هـ- الحساب. 9- الحس الخلقي: أ- اللوم والاعتذار. ب- الاستجابة للتوجيه وأساليب الثواب والعقاب. ج- التمييز بين الخير والشر. د- التمييز بين الصواب والخطأ. 10- النظرة الفلسفية: أ- الزمن. ب- المكان. ج- الحرب. د- الموت. هـ- الدين. وينشأ عن هذا التصور للنمو في ضوء معايير العمر سؤالان هامان: أولهما: ما هو موضع الفروق الفردية في نسق يرى أن الأطفال في كل مرحلة عمرية متشابهون في نواحٍ كثيرة؟ يجيب جيزل على هذا السؤال بتقبل فكرة الفروق الفردية؛ فالسلوك المميز لأي عمر لا يعني عنده أن جميع الأطفال في هذا العمر

يسلكون على نفس النحو, والمعيار باعتباره نوعًا من المتوسطات يتضمن في جوهره وجود اختلافات حوله بالزيادة أو النقص, إلّا أنه في نفس الوقت يرى أن من الواجب مساعدة الطفل "المختلف عن المعيار" على التكيف؛ فالاختلاف عن "المعيار" عنده علامة على عدم التكيف. والسؤال الثاني: ما هي النصيحة التي توجه للمهتمين بالنمو, حول ما يمكن أن يفعلوه لمواجهة الدورات الجيدة والسيئة للنمو من ناحيةٍ, والانحراف عن المعيار المتوسط من ناحية أخرى؟ الإجابة عند أصحاب مدرسة جيزل بإيجاز هي الصبر والانتظار حتى تمر دورة النمو السيئة الحتمية. أمّا بالنسبة لعلامات سوء التكيف فإنهم لا يوصون بأي أسلوب علاجي واضح أو صريح، وفي هذا كان الخطأ الفادح لأصحاب اتجاه معايير العمر على وجه العموم. إلّا أن أهم أخطاء جيزل على وجه الخصوص تشبثه المتطرف بفكرة الأثر شبه الوحيد الذي تلعبه الوراثة في نمو الإنسان؛ فالنمو هو أيضًا انعكاس للبيئة التي ينشط فيها، ومما يؤكد ذلك ما تَبَيَّنَ من أنه حتى الجوانب العامة نسبيًّا في سلوك الإنسان, والتي درسها جيزل, ثبت أنها تظهر درجة كبيرة من التفاوت؛ فالأطفال من مختلف الثقافات والبيئات لا يظهرون نفس الدرجة من القدرة في عمر زمني ثابت, بالإضافة إلى أن تأكيد جيزل على فكرة "المعالم الرئيسية للنمو" أدى إلى إخفاء الحقيقة العلمية الواضحة, وهي أن المكونات المختلفة للنمو تظهر بدرجات مختلفة في فترت زمنية مختلفة من مدى حياة الإنسان. ناهيك عن أن النضج الذي يلعب دورًا هامًّا في النمو أثناء الطفولة التي كانت موضوع جيزل الرئيسي يقلّ دروه في بعض المراحل الأخرى "الرشد مثلًا"، ففي مرحلة الرشد تلعب البيئة والثقافة ومتطلبات المجتمع الدور الحاسم, ولعل هذا ما جعل ليفنسون "Levinson, 1978" في نظريته حول مراحل نمو الذكور، وفريز "Frieze" في نظريتها حول مراحل نمو الإناث يحلان ما يسميانه "الساعة الاجتماعية" في مرحلة الرشد محل "الساعة البيولوجية" التي تسود مرحلة الطفولة.

مهام النمو

مهام النمو: ظهرت فكرة مهام النمو Developmental tasks كمفهوم وصفي لنمو الإنسان خلال الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، وذلك خلال حركة التربية التقدمية التي سيطرت على الفكر التربوي في الولايات المتحدة في ذلك الوقت, وقد صيغ المفهوم بشكل منظم ودقيق على يد العالم الأمريكي روبرت ج. هارفيجهرست "Harvighutst, 1953, 1972", وهو المفهوم الذي شاع في الكتابات المبكرة باللغة العربية باسم "مطالب النمو", وأشهر من وظَّفَه واستخدمه الرائد المصري الراحل أحمد زكي صالح. ويشبه اتجاه مهام النمو اتجاه معايير النمو لجيزل في أنه يسعى إلى تعيين الخطوات "النموذجية" للنمو في فترات العمر المختلفة في كثير من الجوانب الجسمية والعقلية والاجتماعية والانفعالية، إلّا أنه يختلف عنه في أن أصحابه لم يقتصروا على استخدام وسائل القياس والاختبار والملاحظة لأطفالٍ يتم اختيارهم كعينات ممثلة، وإنما اعتمدوا أيضًا في وصف مراحل النمو على البيانات التي توافرت من مصادر مختلفة, بعضها أمبريقي يشبه ما توافر لجيزل، إلّا أن معظمها من نتائج البحوث الأنثروبولوجية والاجتماعية، ومن ملاحظات المعلمين للأطفال في المدرسة، ومن أفكار الفهم العام والفولكلور الثقافي السائد عن تنشئة الطفل. وهناك وجه خلاف آخر بين مفهومي مهام النمو ومعاييره, يتمثل في أن جيزل كان مهتمًّا بوصف ما يكون عليه الأطفال في المستويات العمرية المختلفة، بينما اهتم أصحاب اتجاه مهام النمو بتأمل ما يحاول الأطفال إنجازه خلال كل مرحلة من مراحل العمر المتتابعة. وقد ابتكر المصطلح ليعكس اعتقاد أصحاب هذا الاتجاه؛ فعندهم أن النمو هو حثّ الطفل على أداء المهام التي يجب عليه أن ينجزها في كل مرحلة جديدة من العمر, وهذه المهام عبارة عن المهارات وأنماط السلوك التي تحددها الثقافة والمجتمع اللذين يعيش فيهما المرء وتعكس حاجتهما إلى الاستمرار والبقاء، والتي يتوقع لكل فرد القيام بها في كل مرحلة من عمره، وعليه أن يكتسبها حتى يتحقق له التوافق الشخصي والاجتماعي فيها، كما يتحقق له الانتقال إلى مهام جديدة في مرحلة نمو تالية, ويؤدي الفشل في إنجازها إلى سوء التوافق مع المرحلة العمرية التي هو فيها من ناحية, وإلى الصعوبة في التعامل مع المهام التالية من ناحية أخرى. وتنشأ بعض المهام عن النضج الجسمي, مثل: تعلم المشيء، وينشأ بعضها الآخر عن الضغوط الثقافية للمجتمع, مثل: تعلم القراءة، وينشأ بعضها الثالث عن الميول والاتجاهات والقيم والمطامح والتطلعات الشخصية للفرد, مثل: اختيار مهنة والإعداد

لها, وفي معظم الحالات تنشأ مهام النمو عن هذه المصادر الثلاثة جميعًا، وبالطبع فإن هذا الترتيب لمصادر المهام يعكس الوعي بأهمية الأساس البيولوجي للنمو, إلّا أن هذا وحده لا يكفي, فجميع المكونات المختلفة للمجتمع؛ كالأسرة والمدرسة والإعلام والاقتصاد والحكومة, تشارك بدرجات متفاوتة في تعلم هذه المهام, وبعض هذه المؤسسات تقتصر مسوليتها على فترة زمنية محددة من مدى الحياة، بينما يمتد أثر البعض الآخر طوال حياة الإنسان "كالأسرة", وتلعب مؤسسات أخرى أدوارًا غير مباشرة "كالاقتصاد" في تحديد فرص العمل مثلًا، بينما يكون دور مؤسسات أخرى مباشرًا، ومن ذلك الحكومة حين تسن تشريعات معينة حول مهام النمو "قوانين الطفولة مثلًا". ويوصف السن الذي تحدده ثقافة المجتمع وتتوقع فيه أن يتقن المرء مهمة معينة بأنه "سن حرج" critical لهذه المهمة؛ ولأن معظم مهام النمو "ثقافية" في طبيعتها, فإننا نتوقف لها أن تتغير تبعًا لتغير القيم الثقافية السائدة في كل مجتمع من المجتمعات, كما أنها تختلف في المجتمع الواحد من عصر إلى آخر؛ فبعض المهام النمائية التي تسود في المجتمع في عصرٍ معينٍ قد يتجاوزها عصر جديد, وتحل محلها مهام جديدة، أو قد تتغير أهميتها النسبية, ولعل أشهر الأمثلة الحديثة ما حدث في الولايات المتحدة في منتصف الخمسينيات حين أطلق الاتحاد السوفيتي أول قمر صناعي في التاريخ "سبوتنيك الأول"، فقد أصبحت مهام تعلم الرياضيات والعلوم على رأس ما يجب على الطفل والمراهق أن يتعلمه في المدرسة الأمريكية. ويرى هافيجهرست أن مهام النمو لها أهميتها من ناحيتين: فهي أولًا: تحدد التوقعات الأساسية التي يرغب المجتمع أن ينجزها كل عضو فيه, وثانيًا -وقد يكون الأهم: تحديد الخدمات التي يجب على المجتمع أن يوفرها لأعضائه في مختلف الأعمار, فإذا كان المجتمع يتوقع من أطفاله في سن السادسة أن يبدأوا في تعلم المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب, فمن واجبه أن يوفر لهم المدارس التي تحقق هذه المهمة, وإذا كان يتوقع أن الناس في مرحلة الرشد المبكر أن يبدأوا حياتهم الزوجية وتكوين الأسرة, فعليه أن يوفر لهم الخدمات الاجتماعية والاقتصادية التي تيسر هذه المهمة, وهكذا يحدد لنا اتجاه مهام النمو نظامًا كاملًا للخدمات التي يجب أن تتوفر في كل رحلة عمرية من حياة الإنسان. وقد أعد هافيجهرست أكثر قوائم النمو شمولًا، إلّا أن قائمته مشتقة بالطبع

من الثقافة الأمريكية التي ينتمي إليها، ونذكر أمثلة منها في الجدول "5-4" على سبيل التوضيح، وسوف نعرضها بالتفصيل في مواضعها من مراحل النمو المختلفة, والمرجو من الباحثين العرب والمسلمين في مجال علم نفس النمو أن يبذلوا بعض الجهد في دراسة مهام النمو في مختلف المراحل العمرية كما تحددها ثقافتنا, وعلى كل حالٍ سنحاول في هذا الكتاب عرض اجتهادنا في هذا الصدد, راجين أن يكون في ذلك بداية لجهد منظم في هذا الميدان الهام. جدول "5-4" أمثلة من مهام النمو عتند هافجيهرست ويعتبر هافيجهرست "Havighurst, 1953:26" أن قوائم المهام التي أعدها هي نتاج "القيم الديمقراطية في المجتمع الأمريكي كما تدركها الطبقة المتوسطة, مع بعض المحاولة للإشارة إلى التنوع الذي يظهر عند كلٍّ من الطبقتين الدنيا والعليا في الولايات المتحدة الأمريكية". ولكي نحدد مهام النمو في المجتمعات العربية والإسلامية علينا أن نضع في الاعتبار المصادر الثلاثة الآتية: 1- البيئة البيولوجية للإنسان, ومن أمثلة ذلك تعلم التحكم في الإخراج، أو تعلم المشي, أو تعلم تقبل التغيرات الجسمية في المراهقة، إلخ, وهذا النوع من المهام مشترك في جميع المجتمعات الإنسانية.

2- بنية المجتمع والثقافة التي يعيش فيها الإنسان: ونجد المهام في هذه الحالة قد توجد بصور مختلفة في المجتمعات المختلفة، أو قد توجد في بعض الثقافات دون غيرها, ومن ذلك أن مهمة انتقاء إحدى المهن والإعداد لها, تعد مهمة معقدة في المجتمعات الصناعية التي تتسم بالتخصص الدقيق وتقسيم العمل, بينما هي مهمة أبسط في المجتمعات غير الصناعية، ويمكن إحرازها فيها في سن مبكرة إذا قورنت بالمجتمعات الصناعية. كما أن مهمة تعلم القراءة والكتابة تركز عليها المجتمعات المتعلمة، بينما قد لا تكون لها نفس القيمة في المجتمعات الأمية, بل إن مفهوم الأمية قد يختلف من مجتمعٍ لآخر, فهي أحيانًا أمية كتابية، وأحيانًا أخرى أمية وظيفية، وأحيانًا ثالثة أمية كمبيوترية, كما هو الحال في الوقت الحاضر. 3- القيم والاتجاهات الشخصية للأفراد: ومن أمثلة ذلك تنمية القيم الدينية والأخلاقية، فهذه المهمة تختلف باختلاف معتقدات الفرد بالطبع. وفي تحديد مهمة النمو يرى هافيجهرست أن ذلك يعتمد على طريقة الباحث في تناولها, فمهمة تعلم الحركة المستقلة مثلًا, يمكن أن يدركها أحد الباحثين على أنها مهمة معقدة واحدة مؤلفة من ستة أنشطة فرعية هي الحبو والمشي والهرولة والجري والوثب والقفز, بينما قد نجد باحثًا آخر يدرك هذه الأنشطة على أنها ست مهام صغيرة منفصلة. ويميز هافيجهرست بين مهام المدى القصير ومهام المدى الطويل، والنوع الأول هو تلك المهام التي تنشأ في وقت معين ولا تتجاوزه، أما النوع الثاني فهو تلك المهام التي تعد مستمرة, والتي تحتاج من المرء عدة سنوات لإنجازها, ومن أمثلة النوع الأول تعلم المشي والكلام والإخراج, وانتقاء الدراسة أو المهنة, ومن أمثل النوع الثاني تعلم المشاركة في المواطنة والمسئولية الاجتماعية وتعلم الدور الملائم للجنس, والنوع الأخير يتألف بالطبع من مهام فرعية يجب أن تتم في أوقات معينة من مراحل نمو الطفل والمراهق والراشد.

الاتجاه نحو النماذج النظرية

الاتجاه نحو النماذج النظرية مدخل ... الاتجاه نحو النماذج النظرية: هذان هما الاتجاهان الوصفيان الرئيسيان للنمو الإنساني، وقد سيطرا على الكتابات الأكاديمية والممارسات العملية للنمو لأكثر من نصف قرن, إلّا أن الميدان تحول في السنوات الأخيرة إلى الاهتمام بالنماذج النظرية التي تحاول الإجابة على السؤال الهام: كيف يحدث النمو؟ وهي إجابة تتجاوز مجرد وصف التحول في النشاط الإنساني خلال مسار النمو؛ لأن السؤال الكامل هو: كيف ينمو السلوك الإنساني في اتجاهٍ معينٍ أو نحو غاية محددة بدلًا من التوجه إلى اتجاهات أخرى محتملة؟ ثم كيف يصبح السلوك الإنساني مع هذا التوجه جيد التوافق مع العالم الداخلي للفرد, والعالم الخارجي للبيئة التي يعد الفرد النامي جزءًا منه؟ الإجابة على هذا السؤال الكامل لا تكون إلّا بنموذج نظري, والنموذج النظري هو مجموعة من المفاهيم والقضايا ترتبط فيما بينها، وتصف وتشرح جوانب معينة من الظواهر موضع البحث "وهي هنا ظواهر النمو الإنساني". وحتى تصبح للنموذج النظري قدرة على الوصف والشرح والفهم والتفسير, لابد أن يعتمد على الحقائق والمعطيات الأكثر ارتباطًا وأهميةً في فهمنا للنمو، وتحديد طبيعة العلاقات بين هذه الحقائق والمعطيات, والتي تكون أكثر أهميةً في الوصول إلى هذا الفهم. ويذكر توماس "Thomas, 1979" قائمة كبيرة مما يطلق عليه "نظريات النمو", ويشمل ذلك عنده المدارس الكبرى في علم النفس: السلوكية والجشطالت والتحليل النفسي الفرويدي، كما يشمل بعض المدارس الصغرى في التعلم؛ مثل: نموذج سكنر وباندورا وغيرهما، بالإضافة إلى النظريات التي تنتمي مباشرة إلى النمو, إلّا أن تناول نظريات النمو الإنساني على هذا النحو الواسع لا يقدم، في رأينا، فائدة تذكر في فهم النمو، وهو أقرب إلى التناول السيكولوجي العام. صحيح أن ظواهر النمو هي جزء من الميدان السيكولوجي العام إلّا أننا نلاحظ أن التنظير فيه يتجه إلى بناء "نماذج نظرية" ترتبط ارتباطًا وثيقًا بموضوعٍ محددٍ، وهو في هذا أشبه بالحال الذي عليه الموضوعات الأخرى؛ كالتعلم والإدراك والشخصية وغيرها. وفي مجال النمو نجد ثلاثة نماذج رئيسية, تمثل في رأينا الوجهات الرئيسية في هذا الميدان, هي نماذج بياجيه وإريك إريكسون ولورنس كولبرج, ومن الملفت للنظر أن كل نموذج منها ركَّزَ اهتمامه على أحد جوانب النمو، فنموذج جان بياجيه تناول بالاهتمام النمو العقلي، ونموذج إريك إريكسون ركز على النمو الوجداني والانفعالي, وانشغل نموذج لورنس كولبرج بالنمو الخلقي "الاجتماعي". صحيح أن كل نموذج من هذه النماذج الثلاثة يقبل الانتقال والتعميم إلى الجوانب الأخرى للنمو، وهذا ما فعله بياجيه حين مَدَّ آفاق نموذجه النظري إلى الجوانب غير المعرفية، إلّا أنه يبقى لكل نموذج طمعه الخاص ولونه المميز حين نتناوله في سياقه الأصلي الذي نشأ فيه، وهذا ما نخصص له ما بقي من هذا الفصل.

نموذج بياجيه في النمو المعرفي

نموذج بياجيه في النمو المعرفي: بد عالم النفس السويسري جان بياجيه "1896-1980" نشاطه في علم النفس عام 1920, وظلَّ معمله في جامعة جنيف من أنشط معامل علم النفس في العالم, ومع ذلك فقد اعتادت المؤلفات المتخصصة في علم النفس -ومعظمها أمريكي المنشأ- لا تشير إليه إلّا لمامًا، وظلَّ الأمر كذلك حتى بداية الستينات, حين نشر مكايفر هنت كتابه المشهور "الذكاء والخبرة" عام 1961، ثم صدر كتاب مؤلف عنه كتبه جون فلافل عام 1963, فازداد الاهتمام ببحوثه ونتائجه ونظريته زيادةً منتظمة حتى وصل مقدار ما كُتِبَ عنه في السنوات الأخيرة من حياته أضعاف ما كُتِبَ عنه لأكثر من أربعين عامًا. وقد نتج هذا التجاهل عن مصدرين من الخطأ أو سوء الفهم, أولهما جاء من علماء النفس التجريبيين الذين اعتبروا أدلته من النوع القصصي وليس من النوع الذي يعتمد على الملاحظة المنظمة, وقد يصدق هذا على بعض بحوث بياجيه المبكرة, إلّا أن بحوثه اللاحقة تتمثل فيها خصائص التجريب الدقيق, والخطأ الثاني جاء من رجال التربية الذين افترضوا أنه ما دام بياجيه قد كتب عن تفكير الأطفال, فإن نتائجه يجب أن تكون لها تطبيقات مباشرة وبسيطة في حجرة الدراسة, وقد لجأوا في ذلك إلى التبسيط المخلّ, مما أدى إلى كثير من سوم الفهم لنظرياته. وقد تركز اهتمام بياجيه على النمو العقلي والمعرفي الذي يطرأ على الشخص خلال التحول من مرحلة الوليد الذي تصدر عنه الأفعال المنعكسة الصريحة البدائية غير المرتبطة، حتى مرحلة الرشد التي تتميز بالأفعال الماهرة. وقد أعطت نظريته -والأدلة التي تدعمها- بعض الإجابات على الأسئلة التي يثيرها المهتمون بسيكولوجية النمو حول منشأ السلوك المركب, ومما يلفت النظر في هذا النموذج النظري أن بياجيه لم يركز اهتمامه على ربط العمر الزمني بأنماط معينة من السلوك كما فعل جيزل وهافيجهرست، وإنما حدَّدَ لمدى الحياة المراحل الكبرى من النمو التي تتحدد في ضوء أنماط العمليات العقلية التي تتوافر للإنسان في هذه المراحل المختلفة, وتفيد هذه العمليات العقلية في القيام بدور المصفاة التي يفهم من خلالها الإنسان أحداث البيئة من حوله. وكان بياجيه ملاحظًا عظيمًا لسلوك الإنسان, وقد بهرته طوال حياته تلك الحقيقة المذهلة أن نظرة الطفل للعالم ليست مجرد صيغة غير كاملة أو خاطئة من نظرة الكبار والراشدين إليه، وإنما لنظرة الطفل للعالم منطقها الخاصِّ بها, ومعنى ذلك وجود اختلافات كيفية بين الصغار والكبار في إدراك العالم, وقد كرَّسَ

بياجيه حياته العملية كلها لمحاولة فهم هذه الاختلافات, ومن ذلك أن الطفل من سن 3 سنوات يريد دائمًا جذب انتابه أمه, ولا يدرك أن لها أدوارًا كثيرة أخرى بالإضافة إلى دور الأمومة, كما أن الطبيعة "قبل العملياتية لبنيته المعروفة" على حَدِّ تعبير بياجيه, تمنعه من إدراك الناس والأحداث من أكثر من منظور واحد, أما الأم فهي على وعيٍ بأدوارها الكثيرة والمتعارضة أحيانًا, والطفل من سن 8 سنوات يعتمد في استدلاله على خبرته السابقة, فإذا طلب منه والده مثلًا ألَّا يسير بدراجة في عرض الطريق حتى لا تصدمه سيارة, فإنه يجيب بأنه ركب دراجته في عرض الطرق أمس ولم تقترب منه سيارة واحدة؛ فطبيعة استدلاله التي تعتمد على "العمليات العيانية" -على حد تعبير بياجيه- تمنعه من التحقق من أن الخبرة السابقة بأنه لم تصدمه سيارة بالأمس هو أحد احتمالين ممكنين، والاحتمال الثاني أنه ربما يصدم بسيارة في المستقبل إذا فعل نفس الشيء. العمليات الأساسية: يرى بياجيه أن التفكير والسلوك ينشآن من فئة بيولوجية معينة، وهي فئة تمتد وتتسع بسرعة تبعًا لعملية شبيهة بالنمو الحركي، وتتوازى إلى حَدٍّ ما مع النمو البيولوجي أو النضج, ومحور هذه العملية وظيفتان ثابتتان هما: التنظيم organiztion والتكيف "التوافق" Adabtation، وهما خاصيتان فطريتان تقودان النمو السلوكي الكلي للإنسان, وعلى ذلك, فإن كل ما يعرفه الإنسان ويستطيع عمله, ويريد عمله بالفعل في كل مرحلة من مراحل نموه, يميل إلى أن يكون على درجة كبيرة من التنظيم والتكامل, وهكذا يدل التنظيم على البناء المعرفي القائم لدى الفرد, ويتألف من وحدات معرفية مترابطة متكاملة, بالإضافة إلى أن ما يتعلمه الفرد "أي يصير قادرًا على عمله" يرجع في جوهره إلى التكيف مع الظروف البيئية, والتكيف هو التعبير البنائي أو الوظيفي الذي يحقق للكائن العضوي بقاؤه، وهكذا يربط بياجيه ربطًا وثيقًا بين العمليات النفسية والبيولوجية. ويتضمن التكيف السلوكي للفرد ما يسمى التوازن الذي يعد الأساس الجوهري لنمو الفرد، ويشمل وظيفتين فرعيتين ومتكاملتين هما: التمثيل assimilation والمواءمة accomodation, والتمثيل هو عملية تلقي المعلومات عن أحداث البيئة وفهمها واستخدامها في نشاط معينٍ موجود بالفعل في ذخيرة الكائن العضوي من الأنشطة، وهذا الفهم والاستخدام لا يحدث إلّا إذا نجح المرء في إحداث التكامل بين الخبرات الجديدة والخبرات السابقة لديه, وهذه العملية ليست محض مطابقة, أو مزاوجة بين نوعي الخبرات, كما أن عملية بناء الحقيقة أو الواقع ليست نسخة

طبق الأصل من هذا الواقع؛ فالإنسان يتعامل مع معلومات البيئة على نحوٍ أشبه بطريقة هضم الطعام, فهذه المعلومات شأنها في ذلك شأن الطعام يجب أن تطرأ عليها تحويلات معينة قبل أن تصبح مفيدة, ومن الحقائق البيولوجية والفسيولوجية أن الطعام يتحول من خلال ما يتعرض له من عمليات في مختلف أعضاء الجهاز الهضمي, وبالمثل فإن المعلومات تتعرض لعمليت معينة, أو يتم تمثيلها في بنى معرفية قائمة, ويعكس الناتج النهائي لعملية التمثيل هذه طبيعة المعلومات والبنى المعرفية, وبالطبع فإننا لا نستطيع هضم بعض أنواع الطعام كما لا نستطيع تمثيل بعض أنواع المعلومات في المراحل المختلفة من حياتنا. والتمثيل ليس إلّا نصف عملية التكيف، أما نصفها الآخر فهو المواءمة التي تعني إضافة أنشطة جديدة إلى ذخيرة الكائن العضوي, أو تعديل أنشطته القائمة استجابةً لظروف البيئة, فنحن نتغير نتيجة للخبرة الجديدة والنضج البيولوجي المستمر، ونتيجة لذلك نتكيف للمواقف الجديدة التي يمكن تمثيلها في بنى معرفية قائمة بالفعل, وذلك بتعديل هذه البنى فينا، أي: بالمواءمة مع هذه الخبرة الجديدة. وعلى الرغم من أن هذه العملية تدريجية في معظم الحالات، إلّا أنها تظهر أحيانًا في بعض الفترات بشكلٍ يؤدي فيها الأثر المستمر للمواءمات المتتابعة إلى إنتاج إعادة تنظيم للبنى المعرفية يتسم بالمفاجأة والجدة النسبيتين, وهذه القفزات تميز الانتقال السريع بين مراحل النمو الكبرى الأربعة في نموذجه؛ فالسلوك في هذه الفترات الانتقالية يبدو إلى حَدٍّ ما غير منظَّم ومبدئيًّا إذا قورن بالسلوك السابق. فالطفل عند سن 5 سنوات كان في السابق متأكدًا أنه حين نصب الماء من إناءٍ قصيرٍ واسعٍ إلى إناء طويل ضيق يحصل على كمية أكبر، ويفسر ذلك بأن الإناء الثاني أطول، ولكنه يصبح في سن 5 سنوات غير متأكد من ذلك, فأحيانًا يقول أن كمية الماء لم تتغير, وفي تفسير إجاباته يذكر كلًّا من الطول والعرض للإناءين، ولكنه فيما يبدو يكون غير قادرٍ على الربط بين البعدين, وهكذا يكون مختلفًا وغير راضٍ عن إجاباته. إنه يشعر إلى حدٍّ ما أن إجاباته القديمة خاطئة, ولكنه غير متأكد لماذا؟ وبعد سنتين تاليتين "في سن 7 سنوات", حين تعرض عليه المشكلة مرة أخرى تكون إجاباته عندئذ سريعة ومؤكدة "أن الماء هو نفس الكمية؛ لأننا لم نضف إليه شيئًا ولم نأخذ منه شيئًا أيضًا" وهذه الخبرة الانتقالية التي عاناها هذا الطفل هي مثال لمعظم الفترات الانتقالية بين المراحل التي نشعر بها طوال مدى الحياة. وبعض الأحداث أو سلاسلها تنتج اضطرابات في السلوك أكثر من غيرها, فإذا كان الانتقال يتضمن تغيرات في علاقات قوية, أو أنماط سلوك طويلة الأمد

ينشأ نتيجةً لذلك سلوك غير منتظم, وغالبًا ما يتسم بأنه غير فعّالٍ ومتناقضٍ؛ فأنماط السلوك القديمة لم تعد فعالة, وفي نفس الوقت لم تستقر بعد أنماط السلوك الجديدة لتحل محلها, وبالتدريج تظهر أنماط جديدة من السلوك المنظم والفعَّال والمتسق نسبيًّا. هاتان الحالتان اللتان تكمل إحداهما الأخرى, هما: الوسيلتان اللتان بهما يتفاعل الكائن العضوي البيولوجي المتزايد النضج مع البيئة الاجتماعية المتغيرة؛ بحيث يتكون من ذلك الشخص السيكولوجي النامي, والنمو السيكولوجي يتضمن عند بياجيه ما ياتي: 1- زياد في الوعي. 2- تعلم إدراك الذت في علاقتها بالآخرين. 3- تعلم فهم الأحداث التي تقع في الأبعاد الكانية والزماينة للخبرة. 4- اكتساب القدرة على التكيف للتغير. وخلال هذه العملية ينمو الإحسا بالإتقان mastery، أي: الإحساس بكون الإنسان مشارك فعال في مسار نموه وموجِّهٌ له, وعند بياجيه يتميز المستوى النفسي عن كلٍّ من المستوى البيولوجي والاجتماعي, فعلى الرغم من أن كليهما يسهم في النمو النفسي, إلّا أن عملية التفاعل تنتج مستوى من النشاط لا يمكن اختزاله إلى البيولوجيا أو البيئة الاجتماعية تمامًا, كما يستحيل اختزال "سيولة" أو "رطوبة" الماء إلى أحد العنصرين: الهيدروجين أو الأكسجين, وكما أن السيولة "خاصية ناتجة عن تفاعل الهيدروجين والأكسجين", فإن الوعي السيكولوجي هو خاصية ناتجة عن التفاعل بين البيولوجي والاجتماعي. وهكذا تتمثل نواتج عمليتي التمثيل والمواءمة في صورة وحدات للبناء المعرفي, تسمى: البنى Structures أو المخططات schemas, والتي يفَضّل سيد غنيم "1970، 1973" تسميتها "الصور الإجمالية العامة", وهي عبارة عن تمثيلات داخلية لفئة من الأفعال أو أنماط الأداء المتشابهة؛ فهي تسمح للمرء أن يفعل شيئًا "داخل الذهن"، أي: تجربة عقلية، دون أن يلزم نفسه بالقيام بنشاط ظاهر أو صريح. والمخططات أو الصور الإجمالية العامة ليست أجزاء من المعرفة جامدة التماسك والبنية، وإنما هي أنساق أو شبكات من المعلومات المنظمة المتفاعلة التي تَمَّ استيعابها, وهي ليست ثابتة, وإنما هي متكيفة دائمًا ومرنة أبدًا بسبب حدوث عمليات جديدة من التمثيل والمواءمة في المواقف البيئية المختلفة، وتدل على

استعداد الكائن العضوي -في أيّ وقت- للتكيف للظروف والمشكلات الجديدة, ومن أمثلة ذلك: المصّ والرضاعة؛ كمخططات حسية وحركية, ومفاهيم المكان والزمان والعدد وقوانين المنطق؛ كمخططات معرفية, وهكذا فإن المخطط أو الصورة الإجمالية العامة يكون وحدة معرفية، أو تصديقًا لهذه الوحدات المعرفية، كما قد يكون تصنيفًا ذهنيًّا للأشياء. والمبدأ العام في نظرية بياجيه أنه لا يمكن فهم مرحلة معينة من النمو الإنساني إلّا في سياق المراحل السابقة التي نشأت منها, والنمو المعرفي عنده هو تحسن ارتقائي منظم للأشكال المعرفية التي تنشأ من تاريخ خبرات الفرد. والسمات العامة لهذا النمو تتخذ صورة المتوالية الثابتة من المراحل، وهدفه تحقيق نوع من التوازن بين عمليتي التمثيل والمواءمة؛ بحيث يصبح الطفل أقدر على تناول الأشياء البعيدة عنه في الزمان والمكان، وعلى استخدام الطرق غير المباشرة في حَلِّ المشكلات. وإذا كان إعداد بياجيه المبكر في ميدان البيولوجيا قد ظهرت آثاره في مفاهيمه السابقة، فإن اهتمامه بميدان الفلسفة "وخاصة علم المنطق" أثَّرَ من نواحٍ أخرى, فقد تناول العلاقة بين المنطق وعلم النفس, وفي رأيه أن هذه العلاقة مزدوجة, فمن ناحية يمكن بناء نظرية نفسية عامة في ضوء علم المنطق الحديث؛ لأن المنطق الحديث بالنسبة إلى علم النفس مثل الرياضيات إلى الفيزياء النظرية, ومن ناحيةٍ أخرى, فإن نمو النشاط المعرفي للفرد يسير سيرًا مطردًا في اتجاه المنطق الحديث, كما تفيد نتائج البحث في علم النفس في إلقاء مزيد من الضوء على علم المنطق نفسه، وهذا ما جعل بياجيه يتجه في السنوات الأخيرة إلى محاولة بناء "إيستمولوجيا تكوينية Genetic Epistemology" و "منطق نفسي Psychologic". مراحل النمو: لقد بذل بياجيه جهدًا علميًّا لا نظير له في تحديد خصائص المراحل المختلفة للنمو العقلي، ويمكن تحديد السمات العامة التي تميز هذا النمو فيما يلي: 1- التحسن المتزايد في استيعاب مختلف جوانب السلوك، كأن يتحول المرء إلى التفكير في الأفعال ونتائجها بدلًا من إصدار النشاط الصريح. 2- التمايز المتزايد للمخططات، وبالتالي توسيع نطاق القدرات لدى الفرد. 3- تكامل المخطات في تنظيمات هرمية أكثر تركيبًا وتعقيدًا, مما يجعل سلوك المرء أكثر استقرارًا وأكثر قابلية للتحكم والضبط.

4- التتابع المنتظم لمراحل النمو؛ حيث تكون إحدى الفترات سابقة لما يليها؛ وبحيث يكون ظهور أي عملية معرفية معتمدًا على المرحلة وليس على العمر الزمني في حد ذاته، وهو حين يشير إلى الأعمار في نظريته فإنه يشير إليها على سبيل الاسترشاد وليس القطع. ويصب بياجيه النمو العقلي في ضوء فترات periods ومراحل stages, فمن حيث الفترات ينقسم هذا النمو إلى ثلاث فترات رئيسية: 1- المرحلة الحسية الحركية "من الولادة حتى نهاية العام الثاني": ومن مهاراتها المميزة التآزر بين أنماط السلوك البسيط، والتمييز البدائي بين الوسائل والغايات، والوعي بدوام وجود الأشياء واستمراراها في العالم المادي. 2- مرحلة ما قبل العمليات "من سنتين حتى سن 7 سنوات": وتتسم بظهور القدرة التمثيلية المبكرة "الاحتفاظ بالصور الذهنية للأشياء", واستخدام اللغة واللعب الإيهامي أو المتخيل, وظهور المفاهيم البدائية عن العلية والعدد والعلاقات المكانية. 3- مرحلة العمليات المحسوسة "من سن 7-12 سنة أو المراهقة": وفيها تتطور المفاهيم التقليدية للزمن والعلية والعدد والعلاقات المكانية لتصبح أكثر تحديدًا من المرحلة السابقة، بالإضافة إلى قدرة الطفل على تطبيق قواعد التفكير المنطقي على الأحداث الواقعية, وزيادة الحساسية لوجهة نظر الشخص الآخر. 4- مرحلة العمليات الشكلية أو الصورية "من سن 12 سنة وما بعدها": وتتميز باستخدام التفكير المجرد وقواعد المنطق الصوري, وتظهر وتنمو فيها القدرة على استخدام المنطق الفرضي الاستنباطي، والتحليل الاستنباطي "تأمل الذات", وتقدير المفاهيم المجردة والمجاز. وتنقسم كل مرحلة من هذه المراحل إلى أطوار مختلفة, سوف نتناولها بشيء من التفصيل في موضعها في هذا الكتاب.

نموذج إريكسون في النمو الوجداني

نموذج إريكسون في النمو الوجداني: يعد النموذج الذي اقترحه إريك إريكسون "ولد عام 1902" من أهم النماذج في مجال نمو الشخصية أو النمو الوجداني, وهو نموذج تطور من نظرية التحليل النفسي الكلاسيكي, وقد تَقَبَّلَ إريكسون المفاهيم الأساسية عند فرويد1, وأهمها وجود اللاشعور وطبيعته، والتكوين الثلاثي للشخصية الذي يشمل الهوَ والأنا, والأنا الأعلى, ولم يضف جديدًا إلى هذه المفاهيم, ولهذا نجده بدلًا من أن يعيد الكتابة حولها يحاول أن يركز على جوانب نظرية التحليل النفسي التي كان يرى أنها في حاجة إلى التوسيع أو التطوير والتعديل, ولما كان اهتمامه الأساسي هو الطفولة، وكانت ملاحظاته العلمية المبكرة تتركز حول سلوك اللعب عند الأطفال, وجدنا أن موضوع نمو الإنسان هو موضوعه الأثير, وفي رأيه أن متوالية الإحساسات الجسمية التي حددها فرويد تنعكس أيضًا في متوالية من الخبرات الاجتماعية التي تكون لها معانٍ وجدانية وانفعالية لدى الأطفال الذين يعيشون في ثقافة معينة "Erickson, 1963". ولهذا سوف يتركز تناولنا لنموذجه النظري على إسهاماته المتميزة في هذا المجال الوجداني والانفعالي التي جعلته أشهر المنظرين فيه. الشخصية السلمية: يتفق إريكسون مع نقاد فرويد الذين يرون أنه كان يركز فقط على الحالات المرضية، وأنه كرَّسَ اهتمامه على نمو وعلاج السلوك العصابي على وجه الخصوص، وبالتالي لم يصرف جهدًا يُذْكَرُ في تحديد طبيعة الشخصية السليمة أو السوية، وتتبع نموها, وحاول إريكسون أن يصحح هذا الخطأ في صميم نظرية التحليل النفسي, وبدأ جهده النظري في تحديد خصائص هذه الشخصية السليمة، وفي رأيه أن هذا الخصائص يمكن أن تكون أهداف وعلامات النمو الإنساني المرغوب فيه. يرى إريكسون أن هناك ثلاث خصائص للشخصية السليمة هي: السيطرة

_ 1 يضمن بعض المؤلفين في مجال علم نفس النمو نظرية التحليل النفسي الكلاسكية لفرويد على أنها نظرية في النمو، والواقع أننا نعتبرها نظرية متخصصة في النمو الجنسي وحده. صحيح أن كل جانبٍ من جوانب النمو يؤثر في الجوانب النفسية الأخرى, كما بينا في الفصل الأول، إلّا أن هذا لا يعني أن نعتبر كل تصور نظري حول السلوك الإنساني "كنظريات التعلم", أو حول بعض جوانبه الضيقة النطاق "كنظرية فرويد" نظرية في النمو أيضًا. وسوف نقتصر هنا على عرض النماذج النظرية التي تنتمي إلى ميدان النمو بشكل صريحٍ, والتي استخدمت أساليب البحث فيه.

الفعالة والإيجابية على البيئة، وإظهار قدر من وحدة الشخصية، والقدرة على إدراك الذات والعالم إدراكًا صحيحًا "Erickson, 1950,1968, 1980". ويلاحظ على الطفل الصغير أنه لا يظهر أية خاصية من هذه الخصائص الثلاث، وأن شخصية الراشد السويّ تظهرها جميعًا، وعلى هذا, فإن النمو الانفعالي الوجداني عنده هو التحسن التدريجي لهذه الخصائص في مراحل متتابعة معقدة من التمايز المتزايد. ويستخدم إريكسون وصفًا آخر للنمو الانفعالي والوجداني بأنه عملية إحراز الهوية الشخصية Ego Identity والتي لها مظهران: أولهما يتمركز على العالم الداخلي للفرد, ويتمثل في معرفة الشخص بوحدة ذاته, واستمراراها عبر الزمن, ويشمل ذلك معرفة الذات وتقبلها, أما المظهر الثاني فيتمركز على العالم الخارجي, ويتمثل في معرفة الشخص وتقمصه لمثل عليا وأنماط جوهرية في ثقافته التي يعيش فيها, ويعني ذلك الاشتراك مع الآخرين في بعض الخصائص الجوهرية, وهكذا يتسم الشخص الذي أحرز الهوية الشخصية بأن لديه صورة واضحة وتقبلًا كاملًا لعالمه الذاتي وثقافته الاجتماعية. وما دام النمو الإنساني هو هذا التحول من عدم الشعور بالهوية الشخصية إلى الشعور بها, فإن ذلك يعتمد على مسلمة هامة، وهي أن النمو يحخدث من خلال مجموعة "أزمات" يهشدها هذا النمو السيكولوجي. وتتخذه هذه الأزمات صورة صراعات داخلية خارجية, وتؤدي هذه الأزمات إمّا إلى تحسين وتقدم, أو نكوص وتدهور في نمو الشخصية، وتؤدي أيضًا إما إلى تكامل الشخصية أو تفككها وانحلالها. المراحل النفسية الاجتماعية: يرى إريكسون أن المراحل التي تقترحها نظرية فرويد للنمو النفسي تحتاج إلى أن تضاف إليها مجموعة من العناصر الرئسية هي: 1- لم تهتم نظرية فرويد بعملية التطبيع الاجتماعي للطفل, وخاصة أنماط السلوك التي تعتبرها الثقافات المختلفة هامة ومرغوبًا فيها، وهي الأنماط السلوكية التي يجب على الطفل أن يستوعبها أو يعدل فيها إذا أراد أن يحصل على اعتراف الجماعة التي ينمو فيها به. 2- اقتصرت نظرية فرويد على مرحلة المراهقة كحد للنمو, فلم يكن يعتقد أن هناك تغييرات جنسية نفسية هامة تحدث بعد المراهقة، ويرى إريكسون أن هناك مراحل نمو أخرى فيما بعد المراهقة, تمتد بالإنسان إلى مرحلة

الشيخوخة، وبذلك فإن نظرية إريكسون تعد من النظريات القلائل التي امتدت لتشمل النمو خلال المدى الكلي لحياة الإنسان. 3- تنعكس كل مرحلة من مراحل النمو النفسي - الجنسي, التي اقترحها فرويد في صورة خبرات اجتماعية, ولها معانٍ وجدانية لدى الأطفال وغيرهم ممن يعيشون في ثقافة معينة, فالمرحلة الفمية "مرحلة التغذية" مثلًا هي أيضًا مرحلة ينجح فيها الرضيع أو يفشل في تكوين الشعور بالثقة في الشخص الذي يتولى تغذيته. وفي المرحلة الشرجية "مرحلة الإخراج" يكتسب الطفل القدرة على التحكم في الدوافع الأخرى التي تعد موضوعًا للنظام الذي يفرضه الوالدان, ويرى إريكسون أن الانتقال من المرحلة الفمية إلى المرحلة الشرجية هو أيضًا تحول من العلاقة مع والدٍ مهتمه التغذية ويكون موضع الثقة أو عدم الثقة, إلى علاقة والدٍ مسئول عن النظام "التدريب على الإخراج", ومنه يشتق مشاعر الشعور بالعار والشك. وعلى عكس فرويد تركز اهتمام إريكسون على الطريقة التي تؤثر بها القوى النفسية الاجتماعية, وليس القوى النفسية الجنسية في نمو الشخص. 4- اهتمت نظرية إريكسون بوصف سلسلة من الأزمات التي تحدث استجابة للمطالب التي يفرضها المجتمع على الشخص النامي، وهي مطالب المسايرة لتوقعات الكبار والراشدين حول التعبير الذاتي والاعتماد على الذات. أي: أنها تنشأ في جوهرها من تفاعل الفرد مع البيئة الاجتماعية والثقافية التي يعيش فيها، وهي الأزمات التي يجب أن يتغلب عليها حتى يحرز الهوية الشخصية والصحة النفسية, ولذلك تعد مراحل النمو عنده ذات طبيعة نفسية اجتماعية. 5- يتفق إريكسون مع فريد في أن الخبرة المبكرة تلعب دورًا مؤثرًا ومستمرًا في النمو؛ فالإنسان لا يتجاوز مثلًا المرحلة الفمية ومعه حلّ كامل لأزمة الثقة. فبعض الأزمات لا يحل نهائيًا أثناء مرحلة النمو الخاصة بها, ولهذا فإن هذه الأزمات يشعر بها المرء مرة أخرى في جميع مراحل النمو التالية. صحيح أنها قد تكون أقل حدة وأضعف خطرًا ولكنها موجودة, وعند إريكسون، كما هو الحال عند فرويد، أن كل مرحلة من مراحل النمو النفسي والاجتماعي تتأسس على نواتج المراحل السابقة وتشملها, وهذه أشبه بمهمة التكامل الهرمي, أو الهيراركي, أو التراتبي, عند هاينز فرنر "WERNER, 1957" الذي يصف النمو الإنساني على أنه يسير من الحالة البسيطة العامة وغير المتمايزة, إلى الحالة المعقدة المتمايزة والمتكاملة "Brodzinsky, et al, 1986".

مصفوفة النمو ومراحله: يرى إريكسون أن أفضل تصور لمفاهيم النمو أن ينظر إليها على هيئة مصفوفة أو شبكة توضح العلاقات بين مختلف جوانب النمو, وبالطبع لم تنتبه نظرية فرويد إلى هذا التصور, وفي هذه المصفوفة أو الشبكة تتفاعل الأزمات النفسية التي تمثل مراحل النمو، والأشخاص المهمين في حاية المرء، والأنشطة المهمة التي يركز عليها الفرد في كل مرحلة، والمراحل النفسية المقابلة لها، وفي جميع الحالات تعرض كل مرحلة من مراحل النمو مهمة ذات طبيعة نفسية اجتماعية يجب أن تحلَّ بشكل ملائم إذا كان على هذا النمو أن يستمر. وعند إريكسون تُعَدُّ كل مرحلة أساسًا تكوينيًّا للمرحلة التالية, والحل غير الكامل للمهمة النفسية الاجتماعية في إحدى المراحل يؤثر تأثيرًا سلبيًّا في المرحلة التالية لها, وفي ذلك مثلًا أن المهمة النفسية الاجتماعية للمرحلة الأولى "من الولادة وحتى سن 24 شهرا" هي تنمية الشعور بالثقة؛ فالبيئة التي تحيط بالطفل الوليد غريبة عليه ولا يمكنه التنبؤ بها, وخلال العامين الأولين يجب على الرضيع اكتشاف أن هذه البيئة يمكن التنبؤ بها، وأن رؤية ثدي الأم أو زجاجة حليب الرضاعة ترتبط بالطعام, وخلال هذه الخبرات المبكرة مع بيئةٍ يمكن التنبؤ بها, ينمو لدى الطفل الشعور بالعواطف المتبادلة مع الأشخاص الذين يقومون برعايته أو الثقة فيهم. وخلال هذا الشعور يبدأ الرضيع في تعلم أنماط السلوك التي تتسم بالأخذ والعطاء, والتي تُعَدُّ ضرورية للتطبيع المستمر. وهذا الشعور بالثقة في الذات وفي البيئة يُعَدُّ شرطًا ضروريًّا للمرحلة التالية في النمو النفسي الاجتماعي, أي: الشعور بالاستقلال الذاتي، فالأطفال الذين لديهم ثقة ضعيفة في أنفسهم أو في بيئتهم, تقل لديهم فرص المخاطرة بالتعامل مع أي بيئة جديدة تبدو من جديد غير قابلة للتنبؤ. ويوضح الجدول رقم "5-5" مراحل النمو عند إريكسون وما يقابلها عند فرويد, وفيه نجد كلًّا من الحل الإيجابي والحل السلبي للأزمة التي يواجهها الإنسان في كل مرحلة من مراحل نموه منذ ميلاده وحتى وفاته، وكذلك السن التقريبي لكل مرحلة. وعلى الرغم من أن التركيز الرئيسي في نظرية إريكسون على حلِّ الأزمة الخاصة بكل مرحلة, إلّا أن إريكسون يرى أن هناك مهمة أخرى ثانوية لكل مرحلة جديدة, وهي تكامل المهام السابقة مع المستوى الجديد للنشاط الإنساني "Erickson, 1980", فنمو الشعور بالثقة مثلًَا لا يقتصر على مرحلة الرضاعة فحسب, فكل مرحلة جديدة تعرضنا لعلاقات ومواقف جديدة, وحتى يمكن للمرء التعامل بنجاح مع هذه الخبرات الجديدة عليه، يجب أن يكون المرء قادرًا على أن

يمتد بشعوره بالثقة بالنفس وبالآخرين إلى هذه الخبرات الجديدة أيضًا, وبالمثل فإن المراهق ينمي الشعور بالهوية لأول مرة إلّا أن ذلك يجب أن يستمر؛ فإنه مع نموه يمتد ويتوسع ويتعدل هذا الشعور مع التعامل مع المهام المختلفة للرشد, وخاصة عند القيام بالأدوار الزوجية والوالدية, وهو في هذا يشبه بياجيه في افتراض أن النمط العام للنمو عبر المدى الكلي لحياة الإنسان هو المواجهة المتكرة لأحداث نمائية عند مستويات متتابعة من النشاط, تتسم بأنها بأنهم أكثر تطورًا وأعمق معنًى. ويرى إريكسون أن تنمية الشخصية السليمة أو السوية تحقق للمرء سمات الذات المتحققة, والشخص النشط نشاطًا كاملًا كما وصفها أصحاب الاتجاه الإنساني في علم النفس الحديث, وبخاصة كارل روجرز وإبراهام ماسلو. كما يرى إريكسون أن تحقيق الهوية الشخصية لا يحدث إلّا بعد الوصول إلى حلول مقبولة للأزمات أو المشكلات النفسية الاجتماعية الأساسية المتتابعة, ويقصد إريكسون بمصطلح أزمة Crisis: الوقت الذي تتزايد فيه القابلية للوقوع في مشكلة نفسية معينة، وترتبط كل أمة بغيرها من الأزمات، ويوجد كل منها على نحوٍ أو آخر قبل الوصول إلى اللحظة الحاسمة لحلها, وحين يتوصل المرء إلى حلول إيجابية لكلٍّ منها, فإن ذلك يسهم في القوة القصوى والنشاط النهائي للشخصية النامية، ويعرض إريكسون لثماني زمات ارتقائية موضحة في الجدول رقم "5-5".

جدول "5-5" مراحل النمو في إطار نماذج إريكسون "عن 1979 TOHMAS بتصرف"

وهكذا يتضمن هذا النموذج العام للنمو الوجداني جميع احتمالات تكوين الشخصية كما تلاحظ فينا وفي الآخرين من حولنا, فكل سمات الشخصية لها جذورها في الأزمات والحلول في مراحل العمر المختلفة كما وصفها إريكسون, إلّا أننا نحب أن ننبه إلى أن إريكسون يعزي أهمية خاصة للدور الذي يقوم به المجتمع ومؤسساته في النمو, ولعل أهم دراساته التي أكدت ذلك, تلك التي تناولت موضوع اللعب والترويح "Erickson, 1977"؛ فاللعب له دور حاسم في النمو من ناحية، ثم إن له طابعه الثقافي الذي تختلف فيه المجتمعات والجماعات الفرعية في المجتمع الواحد من ناحية أخرى. وهو أيضًا يشبه بياجيه في إدراكه للنمو على أنه عملية نسبية, فإذا كان بياجيه يرى أن الفرد يسعى لتحقيق التوازن مع البيئة, فإن إريكسون يركز على ما يسميه "الاتزان الأمثل", فعنده أن الثقة الزائدة في البيئة ضارة بالنمو مثلها في ذلك مثل نقص هذه الثقة، وبالمثل, فإن الشعور المبالغ فيه بالإنجاز والكفاءة يتداخل مع حاجة طفل المدرسة إلى اكتساب المهارات التعليمية الأساسية التي يتطلبها المجتمع من أعضائه, شأنه في ذلك شأن القدر الضئيل من هذا الشعور الذي يؤدي إلى الشعور بأن الآخرين يقدرونه فقط ما دام قادرًا على الإنتاج. ويصدق هذا على جميع المراحل الست في نظريته.

نموذج كولبرج في النمو الخلقلي الإجتماعي

نموذج كولبرج في النمو الخلقلي الإجتماعي ... نموذج كولبرج في النمو الخلقي الاجتماعي: عادةً ما يعد النمو الخلقي أحد مظاهر التطبيع الاجتماعي, وهو العملية التي يتعلم بها الطفل مسايرة توقعات المجتمع والثقافة التي يعيش فيها, إلّا أنه في حالة النمو الخلقي لا يتعلم الطفل محض المسايرة, وإنما عليه أن يستوعب في داخله معايير الحكم الخلقي, ويقبلها على أنها صحيحة, وعلى أنها تمثل نظامه القيمي الشخصي. وتوصف القيمة الخلقية بأنها تَمَّ استيعابها داخليًّا, وليست مفروضة من الخارج حين نلاحظ على السلوك الإنساني أنه لا يخرق "معيار الحكم الخلقي", بالرغم من وجود الإغراءات التي تدفعه إلى ذلك، وعدم وجود السلطة الخارجية التي تكشف وتعاقب على ذلك. "فؤاد أبو حطب، 1972". ويُعَدُّ العالم الأمريكي المعاصر لورنس كولبرج "kohlberg" أشهر المنظرين المعاصرين في هذا الميدان, ولكي نوضح موقفه النظري من الاتجاهات والطرق الثلاثة التي وجهت الباحثين في ميدان السلوك الخلقي, هي على وجه الخصوص: السلوك الملاحظ, ومشاعر الذنب, وأساس الحكم الخلقي, نقول: إنه بالنسبة للسلوك

الملاحظ يركز الباحثون على ما إذا كان الطفل يظهر السلوك الخلقي "مثل: الأمانة أو العدل" مع التقدم في العمر, وقد وجد الباحثون أن الأطفال والمراهقين يسلكون في الالتزام بالقواعد الخلقية أو خرقها, إما سلوك التدبر والضغط الاجتماعي؛ حيث يكون السؤال ما إذا كانت الجماعة تستهجن السلوك غير الخلقي, وقد فرض كولبرج هذه الطريقة باعتبارها لا تقدم محكًّا مفيدًا للنمو الخلقي. أما الطريقة الثانية التي اهتم بها الباحثون في هذا الميدان, فهي دراسة نمو الشعور بالذنب لدى الطفل والمراهق، ويتمثل هذا الشعور في سلوك نقد الذات وعقابها المصاحب للقلق والأسف الناجمين عن خرق قاعدة أخلاقية أو معيار اجتماعي وثقافي, والافتراض هنا أن الطفل يطيع القواعد ليتجنب الشعور بالذنب. ويرى كولبرج أن هذا الافتراض هو أساس مفهوم الضمير لدى كلٍّ من أصحاب نظرية التحليل النفسي ونظرية التعلم, ويرى أنه بالرغم من أن البحوث التي أجريت على الأطفال باستخدام الأساليب الإسقاطية تؤكد الظهور المفاجيء لهذه المشاعر في السنوات السابقة مباشرة على المراهقة, إلّا أن هذه الأساليب لم تستطع أن تتنبأ على نحوٍ منتظمٍ بمقاومة الأطفال للإغراء، ولهذا استبعد أيضًا هذه الطريقة من نموذجه النظري. ويركز كولبرج على الاتجاه الثالث والذي يتمثل في تتبع أحكام الأطفال على المسائل الخلقية, وفي هذا الجانب يكون السؤال هو: هل يستوعب الطفل داخليًّا المعيار الخلقي؟ وهل يستطيع تبرير هذا المعيار لنفسه وللآخرين؟ وبالطبع, فإن هذه الطريقة استخدمها لأول مرةٍ جان بياجيه في مطلع الثلاثينات، ثم عدَّلَها باحثون آخرون, إلّا أن كولبرج كان أكثرهم حماسًا واهتمامًا بها طوال الربع الأخير من القرن العشرين. طريقة كولبرج في البحث: ويعود اهتمام كولبرج بالحكم الخلقي moral judgment إلى رسالته للدكتوراه التي تَقَدَّمَ بها إلى جامعة شيكاغو عام 1958, وفيها حَدَّدَ محركات السلوك الخلقي التي استمدها من بياجيه وبالدوين وهير ودوركايم وميد، والتي يلخصها فيما يلي: 1- الفعل الخلقي لابد أن يكون موجهًا أو مسبوقًا بحكم قيمي. 2- الأحكام الخلقية لها أولوية على الأحكام القيمية الأخرى. 3- الأفعال والأحكام الخلقية ترتبط بالحكم على الذات. 4- الأحكام الخلقية عادةً ما تبرز, أو تؤسس على أسبابٍ لا تقتصر على نواتج الفعل في موقف معين.

5- الأحكام الخلقية يعتبرها من يصدرها موضوعية، أي: أنها تميل إلى أن يتفق عليها الناس بصرف النظر عن الفروق في الشخصية أو الميول. ولكي يتمكَّنَ من دراسة الموضوع اتجه إلى نفس وجهة بالدوين وبياجيه, وهي التركيز على بُعْدٍ نمائيٍّ عامٍّ في الحكم الخلقي، وأفادته في ذلك طريقة ماكس فبر, المساماة "النمط المثالي", التي تتلخص في ملاحظة وتحليل مقدار كبير من المواد الكيفية. وفي دراسته الأصلية للدكتوراه عام 1958 فحص كولبرج "التفكير الخلقي" لدى 72 طفلًا أعمارهم 10، 13، 16 سنة, عند التعامل مع مواقف معضلة فرضية ذات طابع خلقيٍّ تتضمن صراعًا بين الانصياع للقواعد القانونية الاجتماعية, وأوامر السلطة من ناحيةٍ, وبين الحاجة البشرية لتحقيق رفاهية الأفراد الآخرين من ناحية أخرى, وصاغ هذه المواقف المعضلة في صورة قصصية، لعل أشهرها وأكثرها شيوعًا القصة التالية. "كانت السيدة هاينز على وشك الموت نتيجة الإصابة بنوع خاصٍّ من مرض السرطان, وكان أطباؤها يرون أن إنقاذ حياتها يتوقف على دواء معين, إلّا أن الكيميائي الذي اكتشف الدواء المطلوب كان يبيعه بسعر يفوق ثمنه الأصلي عشرة أضعاف, ولم يكن لدى الزوج المبلغ المطلوب لشراء الدواء, وحاول اقتراض المبلغ من كل من يعرف, ولكنه لم يستطع أن يجمع إلّا نصف ثمن الدواء, واضطر الزوج أن يسأل الكيميائي أن يبيع له الدواء بسعر أرخص, أو يسمح له بتقسيط ثمنه؛ لأن زوجته على وشك الموت, ولكن رفض، وقال له: إنه اكتشف الدواء وهو يسعى لتكوين ثروة من ورائه, شعر الزوج باليأس، وما كان منه إلّا أن اقتحم معمل الكيمائي ليسرق الدواء لزوجته". واعتمد كولبرج على إجراء مقابلات مع كل مفحوصٍ استمر كل منها ساعتين حتى يتفحص التفكر الخلقي لدى مفحوصيه بطريقة أكثر مرونة, وحللت بروتوكولات الاستجابة للتوصل إلى مستويات النمو الخلقي ومراحله في ضوء 30 جانبًا من جوانب السلوك الخلقي, مصنفة إلى ثلاث فئات هي: طرق الحكم القيمي, ومبادئ هذا الحكم, ومحتواه. جوانب السلوك الخلقي: يرى كولبرج أن الإنسان يظهر مستوى نموه الخلقي والمرحلة السائدة لديه من هذا النمو, في كل مرة يعبر عن رأيه, وحكمه في جوانب معين من جوانب الحياة, والتي يبلغ عددها عنده حوالي 30 جانبًا, وقد توَصَّلَ إلى وجود معاملات

ارتباط مرتفعة بين مرحلة النمو الخلقي لدى الفرد بالنسبة لأحد هذه الجوانب, وبين مرحلة نموه الخلقي في الجونب الأخرى؛ فالشاب مثلًا يظهر لونًا من الاتساق في الحكم الخلقي إذا كان عليه أن يصدر حكمًا على الحياة أو الصدق أو الواجب أو الالتزام، فهذه الأحكام حول هذه الجوانب وغيرها من جوانب الحياة تميل إلى أن تكون عند مستوى معين ومرحلة معينة من النمو الخلقي. ويقسِّم كولبرج -كما أشرنا- جوانب الحياة الخلقية أو السلوك الخلقي "وهي المواقف التي تسمح للحكم الخلقي بالظهور" إلى ثلاث فئات هي: 1- طريقة الحكم الخلقي: وتشمل المحكّات التي يصدر في صورتها الحكم الخلقي وهي: أ- الصواب. ب- له الحق في مقابل عليه الواجب. ج- الواجب بمعنى الالتزام. د- المدح واللوم. هـ- الثواب والعقاب. و الخير والفضيلة". ز- التبرير والشرح. 2- مبادئ الحكم الخلقي: وتشمل عناصر الالتزام أو القيمة التي تتضمن الحكم الخلقي وهي: أ- النظر في العواقب "نواتر مرغوبة أو غير مرغوبة للذات". ب- الرفاهة الاجتماعية "نواتج مرغوبة أو غير مرغوبة للآخرين". ج- الحب. د- الاحترام. هـ- العدالة باعتبارها حرية. و العدالة باعتبارها مساواة. ز- العدالة باعتبارها تبادل مصالح وتعاقد مشترك. 3- محتوى الحكم الخلقي: ويشمل الموضوعات التي تؤلف مضمون الحكم الخلقي، وقد تكون موضوعات أو مؤسسات أو قضايا اجتماعية, وتشمل على سبيل المثال: أ- المعايير الاجتماعية "وتشمل القوانين والقواعد". ب- الضمير الشخصي. ج- الأدور الشخصية والنواحي الوجدانية. د- الأدوار والمسائل المتصلة بالسلطة والديمقراطية.

هـ- الحريات المدنية "حقوق العيش في حرية ومساواة كبشر أو مواطنين أو أعضاء في جماعات". و عدالة الأفعال التي تصدر عن الإنسان بعيدًا عن الحقوق الثابتة "الثقة في الأفعال التي تصدر عن المرء, ومدى قابليتها للتبادل والتعاقد حولها". ز- العدالة العقابية. ح- الحياة. ط- الملكية. ي- الصدق. ك- الجنس. وقد استمرت بحوث كولبرج، وتطورت بالطبع مفاهيمه، وتنوعت مناهج البحث لديه بين البحوث الطولية والمستعرضة، بالإضافة إلى البحوث الثقافية المقارنة، ومنها توصل إلى وصفه الشهير لمستويات النمو ومراحله التي نتناولها في الفقرة التالية. مستويات النمو الخلقي ومراحله: تعرضت مراحل النمو الخلقي في بحوث كولبرج لتعديلات مستمرة، ولعل الصورة التي استقرت عليها حتى الآن تلك التي عرضها عام 1976 "kohlverg, 1976". وفي وصفه لهذه المراحل يتحدث عن ثلاث مستويات للنمو الخلقي، لكلٍّ منها مرحلتان, وفيما يلي عرض موجز للمستويات والمراحل. أولًا: المستوى الأول: ما قبل العرف والتقاليد: 1- المرحلة الأولى: أخلاق الخضوع: ويتحدد الصواب فيها في صورة تجنب الخروج على القواعد التي يسندها العقاب، كما تسودها الطاعة لغرض الطاعة في حَدِّ ذاتها، وتجنب أيّ أذى مادي للأشخاص أو الممتلكات. ويسلك الطفل في هذه المرحلة سلوكًا خلقيًّا تجنبًا للعقاب وانصياعًا للسلطة, وتتسم المرحلة من الوجهة الاجتماعية بسيادة النظرة المتمركزة حول الذات؛ فالطفل لا يضع في الاعتبار وجهة نظر الآخر، ولا يعتبره مختلفًا عنه, ولا يستطيع أن يربط بين وجهتي نظر, ويسود الطابع الجسمي على الأفعال بدلًا من أن تكون موجهة بالاهتمامات النفسية لدى الآخرين, كما يحدث في هذه المرحلة خلط بين منظور السلطة والمنظور الذاتي للطفل.

4- المرحلة الرابعة: أخلاق النظم الاجتماعية والضمير: وفي هذه الرحلة يدل الصواب على تنفيذ الواجبات الحقيقة التي يوافق الفرد على القيام بها, والقوانين تكون موضع احترام إلّا في الحالات المتطرفة التي ينشأ فيها صراع مع الواجبات الاجتماعية الثابتة, ويُدْرَكُ الحق في هذه المرحلة على أنه يسهم في تكوين المجتمع أو الجماعة أو المؤسسة, ويرى الفرد في هذه المرحلة أن السبب الرئيسي لفعل السلوك الخلقي هو المحافظة على بقاء المؤسسة أو الجماعة ككل، وتجنب انهيار النظام الاجتماعي "إذا فعل كل شخص ما يشاء", وهناك سبب آخر للسلوك الخلقي في هذه المرحلة, هو إطاعة أوامر الضمير في أن يقوم الشخص بواجباته المحددة "وعادةً ما يحدث هنا خلط مع المرحلة الثالثة, والتي تتطلب الاعتقاد في القواعد والسلطة", وتتطلب هذه المرحلة من الوجهة الاجتماعية تمايز وحهة النظر "المجتمعية" عن محض الاتفاق بين الأشخاص أو الدوافع لتكوين علاقات مع الآخرين, وتضع هذه المرحة في الاعتبار وجهة نظر النظام الاجتماعي في تحديد الأدوار والقواعد، وتحدد علاقات الفرد في ضوء موضعه في هذا النظام. ثالثًا: المستوى الثالث: ما بعد العرف والتقاليد, أو مستوى المبادئ الخلقية: 5- المرحلة الخامسة: أخلاق التعاقد الاجتماعي: ويسمي كولبرج هذه المرحلة أيضًا بأنها مرحلة تجمع بين "أخلاق المنفعة وحقوق الفرد"، وفيها يكون الفرد واعيًا بأن لدى الناس قيمًا مختلفة، وأن هذه القيم تتضمن قواعد نسبية تبعًا للجماعة التي تتواضع عليها، ومع ذلك, فإن هذه القواعد النسبية يجب احترامها حتى يوصف الفرد بالنزاهة والتجرد واللا تحيز من ناحية، ولأنها تؤلف التعاقد الاجتماعي من جهة أخرى, وفي هذه المرحلة تحترم أيضًا بعض القيم والحقوق غير النسبية "مفهوم المطلق لم يتحدد بشكل نهائي بعد"، ومن أمثلة هذه القيم: قيمة الحياة وحق الحرية، وهي قيم وحقوق يجب تقديرها في أي جماعة أو مجتمعٍ بصرف النظر عن رأي الأغلبية فيه, ومن أسباب السلوك الخلقي في هذه المرحلة الشعور بالواجب نحو القانون؛ لأن هذا مطلب التعاقد الاجتماعي من جانب الفرد, وهنا يكون الخضوع للقوانين لرفاهية ومصلحة الجميع ولحماية حقوق الجميع, ويشعر الفرد بهذا الاحترام التعاقدي نحو الأسرة والأصدقاء ومجال العمل, ويرى أن القوانين والواجبات تستند على حساب وتقدير المنفعة الكلية "أي: مبدأ تحقيق الخير لأكبر عدد من الناس", ويستند السلوك الخلقي في هذه المرحلة

إلى منظور "سابق على المجتمع", يتضمن فردًا يسلك سلوكًا "عقلانيًّا" ويعي القيم والحقوق قبل أي ارتباط أو تعاقد اجتماعي، ويتم التكامل بين مفاهيم الأفراد المختلفة بعمليات الاتفاق والتعاقد والنزاهة الموضوعية والواجب, وهنا توضع وجهات النظر الخلقية والقانونية معًا، مع إدراكٍ لإمكان حدوث صرعٍ بينهما، وفي هذه الحالة قد يشعر الفرد ببعض الصعوبة في إعادة التكامل بينهما. 6- المرحلة السادسة والأخيرة: أخلاق المبادئ العامة: وفي هذه المرحلة يتوجه الفرد نحو الالتزام بمبادئ أخلاقية يختارها, وبالطبع فإن بعض ما في المجتمع من قوانين واتفاقياتٍ وعقودٍ يكون صحيحًا في العادة؛ لأنه يستند إلى مثل هذه المبادئ الأخلاقية, أما حينما تخرق هذه القوانين والاتفاقيات والعقود مثل هذه المبادئ "كأن يسود الغش في الامتحانات", فإن الشخص يسلك تبعًا للمبدأ. والمبادئ الأخلاقية هي مبادئ عامة مطلقة, ومن أمثلتها: العدالة والمساواة بين البشر في الحقوق والواجبات، واحترام كرامة الإنسان كإنسان. وهناك سببان للسلوك الخلقيّ في هذه المرحلة الراقية: أولهما: اعتقاد الفرد في صحبة المبادئ الأخلاقية العامة، وهذا الاعتقاد ليس محض إحساس وجداني, وإنما يقوم على الاستدلال والتعقل, والسبب الثاني: هو الإحساس بالاتزام الشخصي نحو هذه المبادئ المطلقة, والمنظور الاجتماعي الذي يصدر من خلال هذا السلوك الأخلاقي يكون في إطار "وجهة نظر أخلاقية محضة", توجه جميع التنظيمات الاجتماعية, ومعنى ذلك: أن كل شخص ناضج عاقل راشد يدرك طبيعة "الأخلاق"، أو حقيقة أن للإنسان قيمة في ذاته, ويجب معاملته على هذا الأساس.

تعليق عام على النماذج النظرية

تعليق عام على النماذج النظرية: أشرنا إلى أن النماذج النظرية الثلاثة التي عرضناها آنفًَا تتسم بقدرٍ من التخصص، فنموذج بياجيه ذو طبيعة معرفية، بينما يتسم نموذج إريكسون بسمة وجدانية، ويغلب على نموذج كولبرج الطابع الاجتماعي، ومع ذلك فكلٌّ من هذه النماذج الثلاثة يقبل التوسع والامتداد إلى المجالات الأخرى، ولعل أكثر من حاول ذلك كان جان بياجيه الذي أجرى دراسات كثيرة حول نمو الجوانب الوجدانية والاجتماعية للسلوك, موجهة بالإطار المعرفي العام لنموذجه. والسؤال الآن: هل توجد نظرية أصح من غيرها؟ للإجابة على هذا السؤال نقول: إن من المستحيل عادةً أن نختبر إحدى النظريات العلمية في مقابل نظرية أخرى, حتى نحدد أيهما النظرية الصحيحة؛ لأن كل نظرية تحدد مجالات بحثها, ومناهج البحث الملائمة لها, ومعنى هذا: أن تختلف نظريات النمو الإنساني

بعضها عن بعض تبعًا للجوانب الأكثر أهمية من السلوك الإنساني التي يسعى كلٌّ منها لدراسته, وعلى ذلك يصعب على الباحثين الذين يتناولون هذه النظريات المختلفة أن يتفقوا على مجموعة مشتركة من المشكلات ما دام كلٌّ منهم يتناول جوانب مختلفة من النمو, ومعنى ذلك: أن كل نظرية تعد صحيحة أو خاطئة في إطار مجال البحث الذي تتناوله, ولا يمكن القول أن هذه النظريات يتنافس بعضها مع بعض, فمثل هذا القول غير صحيح طالما أن النظريات تتناول النمو بطرق مختلفة، وتركز على موضوعات مختلفة للبحث، وتستخدم مناهج بحث مختلفة, ويوضح ذلك الجدول "5-6"، وفيه تُجْرَى مقارنة بين النماذج الثلاثة التي عرضناها في ضوء مراحل النمو الرئيسية التي حددناها في الإطار الإسلامي في الفصل الثالث من هذا الكتاب. وهناك سؤال آخر تطرحه تلقائيًّا إجابتنا على السؤال السابق, وهو: كيف يمكن لنا أن نقوّم النظرية؟ للإجابة على هذا السؤال الجديد لابد لنا من القول بأن من العبث الاعتقاد في أن بيانات البحث ومعطياته وحدها يمكن أن تثبت صحة النظرية أو خطأها, فالنظريات العلمية لا يمكن البرهنة عليها أو عدم البرهنة عليها، وإنما يكون دعمها بالبحث أو عدم دعمها, ولكي نوضح هذا التمييز يمكن أن نشبه ما يحدث في مجال البحث بما يحدث في مجال القضاء؛ فعادة ما يجري في كلٍّ من المجالين نوع من الموازنة بين شواهد وأدلة الدعم والتأييد, في مقابل أدلة وشواهد الدحض والتفنيد, ووزن نوعي أدلة يحول الميزان لصالح النظرية أو ضدها "في مجال العلم", أو مع المتهم أو ضده "في مجال القضاء". وحتى يمكن للنظرية أن يزداد قبولها على نطاق واسع, فلابد للأدلة والشواهد المتوافرة أن تكون مدعِّمَةً لها تدعيمًا واضحًا, وكذلك حتى تحظى النظرية بالدعم لابد لها أن تكون قابلة للاختبار والتحقق, ومعنى ذلك: أن يستطيع الباحثون صياغة بعض جوانب النظرية على هيئة "فروض" يمكن اختبارها والتحقق منها بمنهج البحث العلمي الملائم. وهناك محل آخر للحكم على جودة "النظرية", وهو مدى قدرتها على خلع المعنى على الظواهر السلوكية المتعددة والمتفرقة التي تبدو غير مرتبطة، وبالتالي تهيئ للإنسان فرصة المزيد من الفهم والاستبصار بطبيعة السلوك الإنساني, وكلما زاد اتفاق "المجتمع" العلمي على ذلك, فإن النظرية تعيش وتزدهر، وتكتسب قدرًا أكبر من القبول, وبالتالي تنمو وتتطور, إلّا أنه قد يحدث ما يسميه توماس كون في كتابه الشهير "بنية الثورة العلمية" تحوُّل في "الوجهة", ونحن نتوقع لعلم نفس النمو -إذا زاد الاهتمام بين الباحثين المسلمين والعرب بتناوله من الوجهة الإسلامية كما فعلنا في هذا الكتاب- أن يحدث له هذ التحول العظيم.

جدول رقم "5-6" مقارنة بين نماذج بياجيه وأريكسون وكولبرج

الباب الثاني: المرحلة الأولى لنمو الإنسان - أطوار الجنين

الباب الثاني: المرحلة الأولى لنمو الإنسان - أطوار الجنين مدخل ... الباب الثاني: المرحلة الأولى لنمو الإنسان "1"أطوار الجنين أهمية طور الجنين: تمهيد للباب الثاني: عندما يُسْأَلُ شخصٌ عن سنه, فإن الإجابة تتحد عادةً بيوم الميلاد, إلّا أن بعض الثقافات الشرقية تحدد سن الإنسان منذ تكوينه جنينًا في رحم الأم، ولهذا تضيف إلى عمره تلك الشهور التسعة أو نحوها التي عاشها قبل أن يولد, ويبدو لنا أن هذا الموقف الصحيح؛ فهذه الفترة التي يقضيها الإنسان في طور التكوين هي أخطر مراحل عمره على الإطلاق, وليس السبب في ذلك أن تغيرات هائلة تحدث قبل الولادة فحسب، وإنما لأن هذه التغيرات تحدث في فترة قصيرة للغاية, بعضها لا يتجاوز الأسابيع الثمانية الأولى منذ الإخصاب, ولعلنا حين نتتبع التطور المعجز للاقحة "النطفة" Zygote, التي تنتج من اندماج الحيوان المنوي للذكر مع بويضة الأنثى, والتي تتخذ صورة مخلوق أحادي الخلية محدد وراثيًّا, إلى إنسانٍ مكتملٍ في أحسن تقويم -كما يصفه القرآن الكريم، فإننا نقتنع اقتناعًا كاملًا بأن أسرع وأخطر جوانب النمو الإنساني هو ما يحدث خلال تلك الفترة، أي: فترة قبل الولادة. وإذا سأل سائل، ولكن متى تُحْدِثُ البيئة آثارها؟ إن الإجابة مرةً أخرى على هذا السؤال, هي أن الآثار البيئية تظهر أيضًا قبل الولادة؛ فنمو الجنين لا يحدث في فراغ بيئيّ، فالرحم بيئةٌ بكل معاني الكلمة، وهو بيئة تختلف من أمٍّ لأخرى، وقد يؤثر في الوليد الذي يخرج منه أثناء الولادة, وقد تعوَّدْنَا في الماضي على النظر إلى بيئة الرحم، على أنها بيئة آمنة حامية للجنين، تعينه على التكوين والنمو واكتشاف مزيد من القوة استعدادًا للولادة, وقد نتج ذلك عن أثر كتابات القرن الثاني عشر التي وصفت الرحم على أنه وعاء فارغ محكم يختزن الجنين ويحميه من جميع الآثار الخارجية, إلّا أن البحوث الحديثة تؤكد أن درجة الأمان والحماية التي يوفرها الرحم للجنين تتوقف على عوامل كثيرة؛ منها: عمر الأم، وصحتها, وحالتها الانفعالية، ونظام تغذيتها، وأنواع العقاقير "الطبية وغيرها"

التي تتناولها، وأنواع العناصر الكيمائية ومستويات الإشعاع التي تتعرض لها, وهي جميعًا خبرات تؤثر مباشرة على البيئة الداخلية للرحم, وتؤثر بالطبع على الجنين, وهكذا تتحدد العلاقة الوثيقة بين الأم وطفلها منذ تكوينه؛ لأنه بالفعل جزء من تكوينها، بالمعنى الماديّ وليس المجازي. ويبلغ الطول المعتاد لطور الجنين 280 يومًا, تؤلف40 أسبوعًا أو تسعة شهور شمسية "أو ميلادية", أو عشرة شهور قمرية "هجرية"، ومع ذلك, فإن له أهميةً خاصَّةً أشرنا إلى بعضها في الفقرات السابقة، وتذكر هيرلوك "Hurlock 1980" أربعة أسباب لهذه الأهمية هي: 1- تتحدد الخصائص الوراثية للإنسان في هذا الطور، وهي المكونات التي تُعَدُّ أساس النمو اللاحق. 2- الظروف الملائمة في جسم الأم قد تساعد على تنمية الخصائص الوراثية، بينما تؤدي الظروف غير الملائمة إلى تعويق هذه التنمية على نحوٍ قد يؤدي إلى تعويق النمو اللاحق. 3- يحدث في هذا الطور أكبر نموٍّ نسبيٍّ في حياة الإنسان, لا يقارن بأي مرحلة أخرى أو طور آخر, وبمعدلات سريعة لا نجدها في أي مرحلة نمائية أخرى. 4- تتشكل في هذا الطور اتجاهات الأشخاص المهمين في حياة الطفل إزاءه. فهذه الاتجاهات تؤثر فيه بعد الولادة من خلال تربيته وتنشئته, وخاصة خلال سنوات التكوين في الطفولة. أطوار الجنين: تتحدد أطوار الجنين من وجهة النظر الإسلامية "رجع الفصل الثالث" إلى خمسة أطوارٍ, هي محور التناول في هذا الباب: 1- طور النطفة. 2- طور العلقة. 3- طور المضغة. 4- طور تكوين العظام والعضلات "اللحم". 5- طور التسوية.

الفصل السادس: تكوين النطفة

الفصل السادس: تكوين النطفة التكوين الأساسي للخلية ... الفصل السادس: تكوين النطفة أشرنا في الفصل الثالث من هذا الكتاب إلى أن معاني النطفة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة تشمل الحيوان المنوي الذكري sperm والبويضة الأنثوية Ovum باعتبارهما المادة التي يتم منها تكوين الجنين, ويطلق عليها معًا في كلٍّ من علم الوراثة وعلم الأجنة الحديث تسميةً واحدةً, هي gamate, وهو لفظ استخدمه البعض في العربية بصورته الأصلية فقالوا: "الجميط" كما استخدم البعض الآخر كلمة "اللاحقة", والأصح في رأينا أن نستخدم اللفظ القرآني البديع "النطفة". النطفة سواء أكانت مذكرة "حيوان منوي" أو مؤنثة "بويضة", فإنها خلية حية، إلّا أنها خلية ذات طبيعة خاصة وتكوينٍ مختلف عن باقي خلايا الجسم الإنسان, ولهذا يطلق عليها العلماء تسميات مميزة, ومن ذلك مثلًا: الخلية التناسلية أو الخلية الجرثومية, وحتى نوضح الفرق بين نوعي الخلايا نبدأ بوصف الخلية الحية العادية, ثم نتبع ذلك بوصف النطفة "الخلية التناسلية أو الجرثومية". التكوين الأساسي للخلية: الجسم الإنسان -والحيواني عامة- هو في جوهره بناء خلوي, وتؤلف الخلايا بدورها الأنسجة, ثم الأعضاء, ويبلغ عدد الخلايا في جسم الإنسان حوالي 15 تريليونًا1 عند الولادة، هي نتاج انقسام الخلية الواحدة الأصلية المخصبة "النطفة", التي بدأت بها حياة الإنسان قبل ذلك تسعة أشهر تقريبًا, والتي سوف نصف تكوينها بعد قليل في هذا الفصل. ومن المعروف الآن أن كل خلية من خلايا الجسم -سواء أكانت من خلايا العظام أم العضلات أم الجهاز العصبي أم غيرها, لها نواة nucleus, عبارة عن كتلة داكنة تحتوي على الكروموزومات أو الصبغيات Chrmomsomes, وهي أبينة

_ 1 التريليون Trillion, هو رقم مؤلف من واحد وإلى يمينه 12 صفرًا.

بيولوجية على هيئة شريط أو خيط, وتسمى الوحدات الوظيفية التي تؤلف الصبغيات "الكروموزمات" الجينات أو المورثات Genes, وتعد المورثات مسئولة عن تكوين بروتين الجسم الذي يؤثر في نشاط الخلية, بالإضافة إلى أنها هي المسئولة عن توجيه التغيرات التي تطرأ على الجسم ونموه. وتختلف الصبغيات من حيث عددها وبنائها في الخليفة الحية باختلاف الأنواع الحيوانية المختلفة, وفي الإنسان فإن جميع خلاياه الحية "ما عدا النطفة لكلٍّ منها نظيره"، منها 22 زوجًا متشابهًا في كلٍّ من الجنسين, وتسمى الصبغيات المتشابهة "الأوتوزومات" autosomes, أما الزوج الثالث والعشرين "وهو كرموزوم الجنس" فيختلف في الذكور عنه الإناث "وهو ما سنوضحه فيما بعد". ويزداد عدد الخلايا في الجسم الإنساني عن طريق الانقسام الفتيلي Mitosis, وفيه يحدث أولًا أن يزداد عدد أزواج الصبغيات في الخلية الواحدة إلى الضعف، وينتج عن ذلك أن تنقسم هذه الخلية إلى خليتين, يستقل كلٌّ منهما بمجموعة كاملة من أزواج الصبغيات, ولهذا يطلق على هذا النوع "الانقسام غير المباشر", وهو يختلف عن انقسام النطفة أو الخلية التناسلية الذي يحدث بطريقة مختلفة, ويسمى الانقسام النصفي meiosis كما سنوضح فيما بعد. أما المورثات "الجينات" التي تتألف منها الصبغيات "الكروموزمات", والتي تُعَدُّ من أهم الاكتشافات العلمية في القرن العشرين, ففي عام 1962, حصل ثلاثة علماء بريطانيون2 على جائزة نوبل في العلوم بسبب جهودهم في وصف بنية ووظيفة هذه المادة. ويقدر حجم جزئي DNA بسمك لا يتجاوز 20 وحدة انجستروم3, وله بناؤه الأساسي بالإضافة إلى عدد من الجزيئات الفرعية, ويتألف البناء الأساسي

_ 1 اسمها المطول: deoxyribomucleicd. 2 هم فرنسيس كريك F. crick, وجيمس واطسون J.Watson, وموريس ولكنز M.Wilkins, وتوجد عالمة رابعة هي: روزالين فرانكلين R.Franklin, لها جهود مكافئة لهؤلاء العلماء الثلاثة, ويذكر تاريخ العلم الحديث أنه -لولا وفاتها في ريعان الشباب في سن 37 عامًا- لشاركت زملاءها الثلاثة في هذه الجائزة الرفيعة.

لجزيء DNA من حوالي 3000 جزيء من سكر الكربون، لكلٍّ منها أساس بروتيني, وتوجد أربعة أنواع من هذه الأسس البروتينية تؤلف الجزيئات الفرعية لهذه المادة, وتتشكل هذه العناصر على هيئة سلالم لولبية حلزونية مزدوجة double helix, يبلغ عددها بضعة مئات في المورث الواحد. وتصنف الأسس البروتينية الأربعة التي يتكون منها DNA إلى فئتين: اثنان منها أكبر حجمًا من نوع البيورين purine "وهي مركبات بيضاء متبلورة" يسميان الأدنين adinine والجوانين guanine، والآخران أصغر حجمًا من نوع البيريميدين Pyrimidine, ويعرفان بالثيمين thymine, والسيتوزين cytosine. ويمسك اثنان من هذه الجزيئات الفرعية، أحدهما من المجموعة الكبرى والآخر من المجموعة الصغرى، معًا جزيئين من جزيئات السكر, ويقع واحد من كلٍّ منهما عند إحدى حافتي السلم الحلزوني الذي أشرنا إليه، ويقع الآخر عند الحافة الأخرى؛ بحيث تؤلف الأسس البروتينية الأربعة درجات هذا السلم. ويرى علماء الوراثة أن الأسس البروتينية الأربعة السابقة هي المادة الخام "لأبجدية" الوراثة المعقدة, كما أن البناء الأساسي لجزيء DNA, يعطيه خصائص مميزة: منها أنه في موضع جيد للتحكم في النشاط البيوكيميائي للخلية, وخاصة إنتاج بروتينات جسم الخلية التي تؤثر في النمو مدى الحياة, ومنها أنه يكرر نفسه بشكل مذهل, فعند انقسام الخلية تنفك شرائط وخيوط DNA, وتنفصل أزواج الأسس البروتينية، وتتحول خيوط منفصلة مع وحدات DNA أخرى منفصلة أيضًا تنتجها الخلية، وتتم المزاوجة بينهما بدقة مع الأسس البروتينية، وبهذا يكون الجزيء الجديد مطابقًا تمامًا للأصل. والسؤال الآن هو: كيف تنتقل الخصائص الوراثية إلى عظام الجنين وعضلاته وأحشائه وجهازه العصبي؟ لقد أثبتت تجارب علم الأجنة الحديث أن المادة النووية -التي هي متطابقة في جميع الخلايا- توجه نمو السيتوبلازم الذي يختلف نوعيًّا في كل خلية عن الأخرى، كما يخلتف اختلافات جوهرية في الأنسجة المختلفة للجسم. ومن الأسرار الغامضة لحدوث ذلك ما حاول العلماء الكشف عنه في الوقت الحاضر, ومن ذلك أن حامض DNA فيه ذخيرة كبيرة من الوسائط التي يرسلها مباشرة إلى ستوبلازم الخلية، ومنها عنصر كيميائي هام يسمى اختصارًا RNA1, وتؤدي المعلومات التي ينقلها هذا العنصر الكيميائي من نواة الخلية إلى

_ 1 الاسم المطول لهذا العنصر هو ribonucleic acid

خارجها في توجيه إنتاج البروتين, والبروتينات هي مواد مركبة تؤلف أجزاء كثيرة من الجسم الإنساني, كما تؤلف مادة الهيموجلوبين hemogloabin في الدم. وتُعَدُّ التغيرات في إنتاج البروتين عملية أساسية في التغير النمائي الارتقائي مدى الحياة. وتسمى المورثات التي تقوم بدور مباشر في إنتاج البروتين, المورثات البنوية structrural genes, وتتحكم في هذه المورثات البنوية مورثات أخرى تتحكم فيها بالتشغيل أو عدم التشغيل، ويسمى هذا النوع الثاني من المورثات باسم المورثات المنظمة regulator genes, وتقوم هذه المورثات المنظمة بدورها الحاسم في تحديد درجة النشاط العام للكائن العضوي, وتوقيت عمليات النمو, ولعل أشهر مثالين لهذا التوقيت في حياة الإنسان التغيرات البيولوجية في مرحلة ما قبل الولادة "الجنين", وفي مرحلة البلوغ، وكلاهما تحدده هذه المورثات المنظمة. ويقدر عدد المورثات "الجنيات" في الصبغي "الكروموزوم" الواحد بحوالي خمسين ألف مورث في المتوسط1 ومعنى ذلك أن يبلغ عدد هذه المورثات في الخلية الحية الواحدة أكثر من ربع مليون مورث، تنقل جميعًا لغة الوراثة بأبجديتها الرباعية التي أشرنا إليها, وتحمل التعليمات الخاصة بنمو الخلية وانقسامها, ويهيئ كلّ منها الفرصة لإنتاج إنزيمه الخاص المميز له. والإنزيمات enzymes, هي مواد تؤدي إلى حدوث التغيرات الكيميائية في الخلية, ومعنى ذلك: أن المورثات تتحكم في النشاط البيوكيميائي للخلايا كما بينَّا، وتلعب هذه الإنزيمات باعتبارها مواد حفازة أو نشطة كيميائيًّا catalysts أدوارًا حاسمة في النمو الجسمي؛ لأنها تنتج في النهاية الخلايا المتخصصة التي توجد في الجسم الإنساني المكتمل النمو.

_ 1 لا يوجد حتى الآن تحديد دقيق لعدد هذه الموروثات في الكروموزوم, وتتفاوت هذه التقديرات بين عشرين ألفًا ومائة ألف.

النطفة

النطفة مدخل ... النطفة: تفرز الأنثى البالغة الصحيحة جسميًّا من المبيضين في قناة فالوب بويضة تامَّة النضج كل 28 يومًا, "أو كل أربعة أسابيع" على وجه التقريب, فإذا اتصلت بالحيوانات المنوية التي تفرزها خصيتا الرجل أثناء الاتصال الجنسي، ونجح أحد هذه الحيوانات المنوية في اختراق جدار خلية البويضة, يحدث الحمل. وكلٌّ من البويضة "الأنثوية" والحيوان المنوي "الذكر" من نوع الخلايا, إلّا أنها خلايا من نوعٍ خاصٍّ تختلف من حيث البنية وطريقة الانقسام عن الخلايا العادية التي وصفناها في القسم السابق, ولذلك يسميها علماء الأحياء الخلايا التناسلية أو الخلايا الجرثومية، كما يسميها علماء الوراثة gamate, وسوف نستخدم في هذا الكتاب الوصف القرآني البليغ لها وهو "النطفة". وتنشأ النطفة عند كلٍّ من الذكر والأنثى من الخلية الأولى التي تبدأ منها حياة الإنسان "والتي سوف نصف تكوينها بعد قليل"، والتي تكون مؤلفة -كأي خلية عادية- من 46 صبغيًّا "أو23 زوجًا من الصبغيات", ولكنها تنتج بطريقة مختلفة في انقسام الخلية, تختلف عن الانقسام غير المباشر "الذي وصفناه". أنها طريقة تسمى الانقسام النصفي meisosis, وهي عملية يتم بها انقسامان متتابعان في الخلية، وبها يتم اختزال عدد الصبغيات من ثنائية الصبغيات "أي: أزواج" إلى أحادية الصبغيات "أي: صبغيات منفردة", ومعنى ذلك: أن كل زوج من الصبغيات في الخلية الأصلية ينفصل, فيتوجه كل صبغي من الصبغين إلى إحدى الخليتين الجديدتين, وينتج عن ذلك أن تتألف كل خلية من 23 صبغيًّا فرديًّا فقط, وهذا هو التكوين الأساسي للنطفة، سواء كانت ذكرية "حيوان منوي", أو أنثوية "بويضة". وهكذا, فإن ما يحدث خلال الانقسام النصفي للخلية الأصلية أن هذه الخلية تنقسم إلى أربع خلايا, كلٍّ منها يتألف من 23 صبغيًّا فرديًّا، وهو نصف العدد الذي يوجد في الخلية الأصلية "أو الخلية العادية", وبالإضافة إلى ذلك, فإنه قبل انفصال الصبغيات وتوزيعها على الخلايا الجديدة يحدث الكثير من العلميات الوراثية منها: 1- التبادل exchange في جزئيات DNA: مما يؤدي إلى حدوث شفرة وراثية جديدة، ويتكون نمط وراثي جديد داخل النطفة, يكون خليطًا من الإسهام الوراثي لكلٍّ من الوالدين، كما لا يتطابق تمامًا مع ما لدى أيٍّ منهما. 2- التقاطع cross over: وفيه تحل مورثات أحد ثنائي الصبغي محل مورثات الثنائي الآخر، وتسمى هذه الحالة أحيانًا العبور. 3- القفز jrmping: وفيه تتحرك المورثات من موضعٍ إلى آخر داخل الصبغيات, وتؤدي إلى تعديل آثار مورثات أخرى. 4- الطفرة mrtation: وفيه تمر المورثات بتغيرات تلقائية, تنتقل من جيلٍ إلى آخر بعد ذلك.

النطفة الأمشاج

النطفة الأمشاج: ذكرنا أنه حين تتصل النطفة الأنثوية "البويضة"1 بالنطف الذكرية "الحيوانات المنوية", وينجح أحدها في اختراق جدار خلية البويضة يحدث الحمل conception, وفي هذه العملية تندمج نواتا الخليتين لتصير أول خلية في حياة الإنسان, وهذا ما يسمى الإخصاب fertilization, وإخصاب البويضة بالحيوان المنوي يحدث عادةً في قناة فالوب, وبعد الإخصاب مباشرة تبدأ الخلية الجديدة رحلتها إلى الرحم. ويسمي علماء الأجنة والوراثة الخلية المخصبة Zygote, وقد أُطْلِقَ عليها في اللغة العربية إما اسمها الأصلي "الزيجوت", أو ترجمة للفظ هي "اللاقحة", إلّا أن الأصح في رأينا أن نستخدم التعبير القرآني الكريم "النطفة الأمشاج" وسوف نشير إليها في هذا الكتاب بذلك, أو بلفظ "المشيج" "وهو مفرد أمشاج" اختصاراً. حين تندمج نواتا النطفتين الأنثوية والذكرية عند الحمل, تؤلف الصبغيات الثلاث والعشرون داخل كل نطفة منهما أزواجًا ليصبح عددها في المشيج الناتج 23 زوجًا، ومعنى ذلك أن المشيج هو أول خلية عادية في حياة الإنسان, وبالطبع فإن نصف هذه الأزواج يأتي من كلٍّ من الوالدين، ويرتبط النصفان في الخلية الجديدة ليكونا العدد الصحيح من الصبغيات اللازم لتكوين الكائن الإنساني الحي ونموه, فإذا زاد عدد الصبغيات -أونقص- في المشيج عن 46 صبغيًّا فإنه قد يعيش, إلّا أنه سوف ينمو وفيه نقائص خطيرة, أو ربما لا يتمكن من العيش فيموت. وبسبب العلميات الكثيرة التي تحدث أثناء الانقسام النصفي, فإن الشفرة الوراثية التي يحملها المشيج الجديد لا تتطابق تمامًا مع أيٍّ مما لدى الوالدين, ولعل هذا هو سر ما وجده علم الوراثة الحديث من أنه -باستثناء التوائم المتطابقة -لا تتوافر لدى شقيقين -من نفس الوالدين- نفس الأنماط الوراثية, والتوائم المتطابقة -أو التوائم أحادية المشيج monozygote, تتكون حين ينقسم المشيج بعملية الانقسام غير المباشر "الذي يحدث للخلية العادية"، وينشأ عن ذلك خليتان مخصبتان "مشيجان" مستقلتان, إلّا أنهما متطابقتان في مادتهما الوراثية, ما دامتا قد نتجتا عن انقسام نفس الخلية, ويستمر المشيجان المتطابقان في النمو حتى يصبح كلٌّ منهما جنينًا منفصلًا, ويكون التوأمان المتطابقان دائمًا من نفس الجنس ما دام الوراثي متطابقًا. ويوجد نوع آخر من التوائم, هو التوائم الأخوية, أو التوائم متعددة المشيج mul- tizygote, وتتكون حين يفرز مبيضا الأم بويضتين أو أكثر, لكلٍّ منها نمطها الوراثي الخاص، ثم تخصب هذه النطف الأنثوية بحيوانات منوية "نطف ذكرية" مختلفة، فينتج عن ذلك أكثر من جنين واحد يولدون معًا. صحيح أنهم يولدون في نفس الوقت, إلّا أن لكلٍّ منهم شفرة وراثية مختلفة, وعلى ذلك فإنهم قد يكونون من نفس الجنس أو من الجنسين.

_ 1 لم تكشف البويضة عند الثدييات إلّا عام 1831.

ميكانيزمات الوراثة

ميكانيزمات الوراثة مدخل ... ميكانيزمات الوراثة 1: تعود البداية الحديثة لفهمنا العلمي لميكانيزمات الوراثة إلى العالم النمسوي الشهير جوهان جريجور مندل J G Mendel "1828-1884", الذي بدأ حياته راهبًا يتسلّى بإجراء التجارب على نباتات حديقة الدير الذي يتنسك فيه, وقد نشر أول دراساته عام 1865, إلّا أنها لم تحظ باهتمام يذكر, ومع بداية القرن العشرين أُعِيدَ اكتشاف جهود مندل, وأعيد تقديره باعتباره مؤسس علم الوراثة الحديث. ولعل أهم اكتشافات مندل أنه لاحظ أن بعض الخصائص التي توجد في الجيل الأول أو الأصلي "جيل الوالدين" تختفى في الجيل الثاني, ثم تعود للظهور في حوالي 25% من الحالات في الجيل الثالث, وقد حاول أن يفسر هذه النتائج, فافترض أنه في الجيل الأصلي يكون لدى كلٍّ من الوالدين عاملان وراثيان "أو مورثان بالتعبير الذي شاع فيما بعد" هما صورتان متضادتان لخاصية واحدة, وهذا النوع من المورثات يسمى الآن المورثات متضادة الصفات Allele, واقترح مندل أن كلًّا من الوالدين ينقل إلى النسل أحد قطبي هذه الصفة, ويتفق هذا مع ما أثبته علم الوراثة الحديث الذي يؤكد أن النطفة -باعتبارها تحمل نصف صبغيات الخلية الأصلية- تحمل في نفس الوقت أحد قطبي هذا النوع من المورثات المتضادة الصفات, فإذا انتقل إلى النسل نفس الصورة للخاصية من كلٍّ من الوالدين, تكون نطفة الأمشاج من النوع المتجانس homozygous بالنسبة للخاصية، أما إذا انتقلت إليه من أحد الوالدين إحدى صورتي الخاصية المتضادة, ومن الوالد الآخر الصورة الأخرى, تكون الأمشاج من النوع المتغاير heterozy gous, كما اقترح مندل أيضًا أن إحدى الصورتين قد تسيطر على الصورة الأخرى, وتسمى في هذه الحالة الخاصة السائدة dominant, وبسبب قوتها تظهر نفسها دائمًا في النسل التالي, وتسمى الصورة المتضادة في هذه الحالة بالخاصية المتنحية rececssive, والتي لا تظهر إلّا في حالة غياب الخاصية السائدة, وبالطبع

_ 1 يمكن الرجوع إلى تفاصيل إضافية عن ميكانيزمات الوراثة في المرجع الآتي: فؤاد أبو حطب: القدرات العقلية "الطبعة السابعة" تحت الطبع.

فإن الخاصية المتنحية -على الرغم من أنها قد لا تظهر- إلّا أنها تظل كامنة في جميع الأجيال اللاحقة, وهكذا ميَّزَ مندل -لأول مرة أيضًا- بين ما يسمى الآن النمط الوراثي genotype والمظهر الموروث phenotype, وهما مفهومان هامان سنتناولهما بالتفصيل فيما بعد. وبهذه الطريقة كان مندل قادرًا على تفسير نتائجه الطريفة التي حصل عليها من بحوثه على نبات الفاصوليا, ففي تجاربه كان يجعل الجيل الأصلي من النبات "الوالدان" يحمل كل منهما مورثين لكل خاصية, إلّا أن أحدهما كان يجعل مورثات من النوع السائد فقط "ولتكن مثلًا مورثات البذور الصفراء اللون" "ويحمل الوالد الآخر مورثات متنحية فقط "مورثات البذور الخضراء اللون", وبهذا ترث نباتات الجيل الثاني جميعًا مورثات الخاصية السائدة, ومورثات الخاصية المتنحية، ومع ذلك لا تظهر إلّا الخاصية السائدة فقط "بذور صفراء", وحين تخصب هذه النباتات الجديدة ذاتيًّا, ورث 25% من النباتات الجديدة مورث الخاصية المتنحية, فإن هذه الخاصية "أي: البذور الخضراء اللون" تظهر. وهكذا كانت بحوث مندل المبكرة, البداية العلمية الصحيحة لعلم الوراثة الحديث, وقد أفادت افتراضاته في تفسير أنماط معينة من الوراثة, لا تقتصر على النبات فحسب, وإنما تمتد إلى الأنواع الحيوانية أيضًا, إلّا أن التطورات التي شهدها هذا العلم بعد ذلك أثبتت أن ميكانيزمات الوراثة التي اقترحها مندل تقتصر على وراثة الخصائص التي تتأثر بزوج واحد من الموروثات أو عدد قليل منها, وقد أيدت هذه البحوث كثيرًا من فروضه إلّا أنه في بعض الحالات الأخرى تطلبت نتائج البحوث تفسيرات كثيرة عديدة أخرى, ومن ذلك مثلًا أن المورثات السائدة والمتنحية لا تظهر دائمًا على النحو الدقيق الذي وصفه مندل, وذلك للأسباب الآتية: 1- الأدوار العديدة التي تلعبها بعض الموروثات الأخرى, بالإضافة إلى الدور الهام الذي تقوم به البيئة. 2- توجد لبعض الصفات مورثات عديدة من النوع المتضاد الصفات alleles, وليس مورثًا واحدًا كما افترضت النظرية الأساسية لمندل. 3- المورثات التي توجد على صبغي الجنس تعمل بطريقة مختلفة عن تلك التي تعمل بها المورثات التي على الصبغيات الأخرى في الخلية الواحدة. 4- يتأثر كثير من الخصائص بأزواج عديدة من المورثات, وليس بزوج واحد فقط، وتسمى هذه الحالة بالوراثة المتعددة الأصول polygene.

كيف تنتقل الخصائص الوراثية

كيف تنتقل الخصائص الوراثية: يوجد في أزواج الصبغيات في الخلية جميع عوامل الوراثة التي تحمل التعليمات البيوكيميائية التي تؤدي إلى إنتاج فروق ملحوظة بين الأجنة, ثم بين الأفراد بعد ولادتهم, في الخصائص الجسمية وفي السلوك, ويؤكد علم الوراثة الحديث أن ما يورث بالفعل ليس سمة أو خاصية معينة؛ كالذكاء أو الشعر المجعد، وإنما التعليمات الجسمية للخلية لإنتاج أو عدم إنتاج البروتينات التي تُعَدُّ مسئولة في نهاية الأمر عن حدوث الفعل الذكي, أو ظهور الشعر المجعد في الرأس. ووصف نشاط المورثات يفيدنا في تحديد معنى مصطلحين هامين أشرنا إليهما فيما سبق, هما النمط الوراثي genotype, والمظهر الموروث phenotype, ويشير أولها إلى التنظيم الوراثي الحقيقي والأصلي الموجود في خلايا الفرد, أما المصطلح الثاني "المظهر الموروث", فيشير إلى الخصائص التي يتم التعبير عنها وملاحظتها في الفرد, والتي تُعَدُّ نتاجًا للنمط الأول "النمط الوراثي", ونحن لا نزال لا نعرف الكثير عن النمط الوراثي الخاص للسمات أو الخصائص التي نلاحظها في الفرد؛ لأننا لا نعرف الكثير بعد عن نشاط المورثات في الخلية الإنسانية, وكثير من الخصائص المرتبطة بالسلوك الإنساني "كالذكاء والانسباط" هي تنظيمات معقدة لأنماط سلوكية عديدة، كل منها يمثل مظهرًا لموروثات كثيرة جدًّا, أما بالنسبة للسمات الأقل تعقدًا "وأغلبها من نوع الخصائص الجسمية؛ كلون الشعر وفصيلة الدم" فمن السهل نسبيًّا وصف الشفرة الوراثية لها, أو نمطها الوراثي, ونعرض فيما يلي بعض الأمثلة لانتقال الخصائص الوراثية. 1- وراثة الخصائص السائدة ذات المورث الواحد: حين تنتقل الخاصية بواسطة مورث سائد واحد, فإنها سوف تظهر دائمًا في النسل, ومن أمثلة هذه الخصائص التي أكدت نتائج علم الوراثة الحديث أن لها مورثًا سائدًا: اللون البني للعين، وطول النظر، وغمازات الوجه، والشعر المجعد، وأصابع اليد أو القدم الزائدة، وشحمة الأذن السائبة، والشعر الأرقط "الشعر ذو الخصلة البيضاء في مقدمة الرأس، والقدرة على لف اللسان إلى الخلف، والقدرة على لف اللسان نحو المركز، ومرض هانتنجتون Huntington "هو مرض قاتل من نوع اضطرابات الجهاز العصبي ويظهر في صورة اختلاجات تشنجية, وتقلصات عضلية لا إرادية في الوجه والأطراف, بالإضافة إلى تدهور النشاط العقلي". وحين يوجد المورث السائد في النمط الوراثي, فإنه يتم التعبير عنه دائمًا في صورة مظهر موروث, وإذا تزاوج معه مورث مختلف عنه في

صورة متنحية, فإنه يتفوق عليه دائمًا, وأحد الأنماط الوراثية التي يرثها الجنين يكون على هيئة انتقال المورث السائد من أحد الوالدين دون الوالد الآخر على الإطلاق، وتتشكل النطفة الأمشاج حينئذ في صورة متغايرة -كما بينا, وفي هذه الحالة يكون انتقال المورث وظهوره في النسل بنسبة 50%. 2- وراثة الخصائص المتنحية ذات المورث الواحد: يعرف علماء الوراثة المتنحي بأنه: ذلك الذي لا يتم التعبير عنه في صورة مظهر موروث إلّا إذا تمت مزاوجته مع مورث آخر مشابه له، أو إذا غاب المورث السائد في النمط الوراثي للجنين, ومن الخصائص المتنحية التي أكدتها بحوث علم الوراثة الحديث: اللون الأزرق للعين، وعمى الألوان، ونمش الجلد، والشعر السبط "المستقيم الناعم غير المجعد"، وشحمة الأذن الملتصقة بالوجه، والصملاخ الجاف الذي تفرزه الأذن، والمهق albinism "حين يكون الشخص أو الحيوان لبني البشرة أبيض الشعر قرنفلي العين"، والتليف المراري cystic fibr sis "وينتج عن سوء نشاط الغدد"، ومرض تاى -ساكس Tay-Sacks ", وهو لون من اضطرابات الجهاز العصبي"، والفدامة cretinism "وهي حالة مرضية تنشأ عن اضطرابات نشاط الغدة الدرقية, وتتسم بالتشوه الجسمي وقصر القامة والضعف العقلي"، والمرض الناتج عن الأيض غير السوي المسمى phenylketonuria, واختصار "PKU" ويتمثل في العجز عن تذوق مادة الفينيل. ومن الأنماط الوراثية أن يكون الوالدان معًا حاملين لمورث منتج لخاصية معينة؛ مثل: مرض العجز عن تذوق مادة الفينيل PKU الذي أشرنا إليه، وينتج عن ذلك نطفة أمشاج متغايرة, وفي هذه الحالة يكون لكلٍّ من الوالدين فرصة متساوية لنقل كلٍّ من المورث المتنحي للصفة "ح", والمورث العادي لها "ع", الدال على السواء, والذي يكون سادئًا عندهما في هذه الحالة، ويكون الناتج احتمال أن يرث النسل المورث المتنحي من الوالدين معًا بنسبة 25%, وفي هذه الحالة ينتقل المرض إلى الجنين، كما ينقله هو إلى جيل آخر, أما احتمال أن ينتقل إلى النسل مورث متنجٍ واحد, ومورث عادي واحد, فيكون 50%, وفي هذه الحالة لن يظهر على الجنين المرض، ولكنه يصبح حاملًا له, والاحتمال الثالث والأخير: فهو أن يرث الجنين مورثين عاديين سائدين وحينئذ يكون الجنين عاديًّا, ونسبة هذا الاحتمال 25%. وهكذا فإن نمط الوراثة المتنحية لزوجٍ واحدٍ من المورثات, يحدد الكثير من الاضطرابات والأمراض التي يرثها الإنسان, وهذا هو السبب الجوهري في

التوصية بعدم زواج الأشخاص من ذوي القرابة القريبة, وهي الحكمة التي عبَّر عنها الرسول الكريم -كما بينا في الفصل الثالث, فجميع الأسر تحمل مورثات متنحية ضارة، والزواج الداخلي -أي: داخل الأسر- يزيد من فرصة أن يحمل كل من الزوجين نفس المورثات المتنحية. 3- وراثة الخصائص ذات المورثات المتعددة: ناقشنا فيما سبق الأنماط الوراثية البسيطة التي تعود في جوهرها إلى مورث واحد, سواء أكان سائدًا أم متنحيًا، وهي الأنماط التي تنطبق عليها القوانين الكلاسيكية للوراثة منذ أن صاغها مندل, وفي هذا النوع من الوراثة لا يوجد كما بينا إلّا زوج واحد من المورثات تنتج فئات من نوع "إما ... أو.." فعمى الألوان مثلًا إما أن يوجد أو لا يوجد, وتؤكد بحوث علم الوراثة الحديث أنه يوجد حوالي 2000 خاصية من هذا القبيل, بعضها معروف وبعضها متوقع اكتشافه, كما توجد أكثر من 150 سمة وراثية مرضية من هذا النوع ينتج عنها التخلف العقلي "Libert et al 1986". إلّا أنه توجد خصائص أخرى لا تقع تحت حصر تتأثر بعدة مورثات, وهذه الخصائص ليست من نوع الكم المنفصل "إما ... أو ... " الذي أشرنا إليه، وإنما تظهر في صورة كَمّ متصل, ففي حالة الطول مثلًا لا يكون الأفراد إما عمالقة أو أقزام، وإنما يتوافر تنوع هائل بين الناس في هذه الخاصية, ويصدق هذا على كثير من الخصائص الجسمية؛ مثل: الوزن ولون الجلد وحرارة الجسم، كما يصدق على الخصائص النفسية؛ مثل: الذكاء. ففي هذه الأمثلة وغيرها, يسهم كل مورث من المورثات العديدة المسئولة عن الخاصية بأثر صغير يضاف إلى آثار المورثات الأخرى, ومع زيادة عدد المورثات المسئولة عن الخاصية يزداد تنوع المظاهر الموروثة إلى الحد الذي لا يمكن عنده تمييز فئات مستقلة لمظاهر موروثة منفصلة. وفي دراسة الوراثة متعددة المورثات لا يستطيع الباحث تتبع أثر كل مورث على حدة "تذكر أنه يوجد في الصبغي الواحد حوالي 50000 مورث في المتوسط", وبدلًا من ذلك, فإن الباحثين يفحصون بعناية توزيع الخصائص في المجتمع الأصلي باستخدام بعض الطرق الإحصائية المعقدة, ومن المفترض دائمًا أن خصائص أي مجتمع أصلي هي نتائج التفاعل بين الآثار الوراثية والبيئة، ولهذا يحاول الباحثون دراسة هذين المكونين بالمقارنة بين جماعات مختلفة بينهم درجات مختلفة من القرابة, ويتعرضون لظروف بيئية متشابهة أو مختلفة. "راجع فؤاد أبو حطب 1996".

صبغيات (كروموزمات) الجنس

صبغيات (كروموزمات) الجنس ... صبغيات "كروموزومات" الجنس: من الخصائص الرئيسية التي تتحكم فيها الوراثة وحدها خاصية جنس الجنين, والنمط الوراثي المرتبط ببناء جسم كلٍّ من الجنسين يوجد في كروموزومات" نواة النطفة الأمشاج "الزيجوت", وعلى هذا, فإنه من بين الأزواج الثلاث والعشرين من الصبغيات التي تؤلف الخلية البشرية الأولى, يوجد 22 زوجًا تسمى الأوتوزومات autosomes, وهي المسئولة عن التغيرات المختلفة خلال النمو, أما الزوج الثالث والعشرون من هذه الصبغيات فهو وحده المسئول عن النمو الجنسي للجنين. ويوجد نوعان من صبغيات الجنس، أحدهما يسمى "الكروموزوم "س" أو "X", والآخر أصغر كثيرًا ويسمى الكروموزم "ص" أو "Y", وحين يكون زوج هذه الصبغيات في النطفة الأمشاج من نوع "س س", فإن المظهر الموروث يكون أنثويًّا، أما إذا كان زوج صبغيات الجنس في هذه النطفة من نوع "س ص" يصبح المظهر الموروث ذكريًّا. ومن حقائق علم الوراثة أن بويضة الأم لا تحتوي إلّا على الكروموزم "س" فقط في جميع الحالات، بينما تحتوي بعض الحيوانات المنوية للأب على الكروموزوم "س", وبعضها الآخر على الكروموزوم "ص", وعلى ذلك, فعند إخصاب البويضة وحدوث الحمل "حيث تندمج نواة البويضة ونواة أحد الحيوانات المنوية ليؤلفا النطفة الأمشاج أو الزيجوت" وتكوين أزواج الصبغيات في الخلية الأولى في حياة الإنسان، فإن النمط الوراثي لجنس الجنين يكون إما من النوع "س", أي: "أنثى" حين ينقل كروموزوم من النوع "س" من كلٍّ من الأب والأم، أو "س ص", أي: "ذكر", حين ينقل من الأم كروموزم من النوع "س" -وليس عندها سواه كما قلنا, ومن الأب كروموزوم من النوع "ص"؛ لأن عنده النوعين. والاعتماد في الحالتين يكون على تكوين الحيوان المنوي للوالد الذي نجح في الاندماج مع بويضة الأم، أي: ما إذا كان كروموزم الجنس في هذا الحيوان المنوي من النوع س أو ص, ومعنى ذلك: أن جنس الجنين يحدده الأب أساسًا، ما دامت الأم لا تسهم إلّا بنوع واحد من كروموزوم الجنس وهو النوع "س". ولا توجد طريقة تتحكم في نظام إخصاب البويضة؛ بحيث تتحول إلى نطفة أمشاج من جنس نريده, فتوزيع الكروموزومات الجنسية تحكمه قوانين الوراثة, وهي قوانين يصفها علماء الوراثة الغربيون بأنها نتيجة المصادفة، وهو مصطلح يطلق على النظام الذي يخرج عن نطاق التحكم البشري المباشر، والأصح في

رأينا أن نقول أن هذه القوانين تحكمها مشيئة الله تعالى, فما يخرج عن نطاق التحكم البشري ليس محض مصادفة، وإنما هناك المشيئة الأعلى والقدرة الأسمى التي خلقت الكون والإنسان, وحددت لهما سنن وجودهما, والتي يسميها القرآن الكريم "التقدير", يقول الله تعالى: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَه} "عبس: 19" راجع الفصل الثالث", وتقدير الله -جَلَّ شأنه تعالى- على أوصاف المصادفة والعشوائية وغيرها من المصطلحات الراهنة في علم الإحصاء الحديث, والتي انتقلت بدورها إلى علم الوراثة, والأصح من الوجهة الإسلامية أن نقول: إنه إذا أراد الله -سبحانه وتعالى- أن يلتقي الحيوان المنوي الحامل لكروموزوم الذكورة "ص", بالبويضة التي تحمل دائمًا كروموزوم الأنوثة "س", فإن الجنين يكون أنثى بأمر الله, وقد نَبَّه القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة العلمية, يقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم: 45-46] . أي: أن الذكورة والأنوثة تابعة لماء الرجل "راجع الفصل الثالث". وحالما يتم تكوين النطفة الأمشاج باتحاد النطفة الذكرية والنطفة الأنثوية يتحدد نهائيًّا جنس الجنين, ولا يوجد وسيلة على أيّ نحو تغير من هذا الجنس, وعلينا أن ننبه هنا الأزواج الذين يلومون زوجاتهم على ولادة "البنات"؛ لعلهم يدركون من مناقشتنا السابقة أن كروموزوماتهم هي المسئولة -بمشيئة الله- عن تحديد "الجنس" وليس كروموزومات الأم، ربما لعلهم بهذا يخففون من غلوائهم، فهم وحدهم الملومون، إن كان هناك من يلام! ويختلف نوعا صبغيات الجنس بعضهما عن بعض في الحجم, وعدد الموروثات داخل كلٍّ منهما؛ فالكروموزوم "ص" أصغرهما -كما بينا- بالإضافة إلى أنه يحتوي على عدد من المورثات أقل من الكروموزوم "س", وهذه الحقيقة تفسر لنا حدوث الاضطرابات الوراثية المرتبطة بالجنس.

وراثة الخصائص المرتبطة بالجنس

وراثة الخصائص المرتبطة بالجنس: توجد خصائص وراثية معينة تسمى الخصائص المرتبطة بالجنس، والتي تتأثر بالمورثات التي توجد على صبغيات الجنس, ومن المعروف أن الكروموزوم "ص" أقل في عدد مورثاته من الكروموزوم "س" كما ذكرنا, لهذا نجد أن معظم تلك الخصائص تحملها مورثات النوع الأخير, أي: "س"، وهو في جوهره صبغي أنثوي, ومن الاضطرابات الوراثية التي يحملها هذا الكروموزوم مرض الهيموفيليا "سيولة الدم", وعمى الألوان المرتبط باللونين الأحمر والأخضر، والصلع، وبعض صور الصمم، وبعض صور خلل الجهاز العضلي. وفي بعض حالات الوراثة المرتبطة بالجنس يكون المورث متنحيًا, خذ على سبيل المثال: الاضطراب الجسمي المعروف باسم الهيموفيليا "سيولة الدم" الذي قد يظهر في الجنين إذا كان مورثه متنحيًا, ولا يوجد في النمط الوراثي مورث سائد خاص بتجلط الدم, إلّا أنه في معظم الحالات نجد أن الأجنة الذين لديهم مورث متنحٍ لسيولة الدم يكون لديهم أيضًا مورث سائد خاص بالتجلط الصحي للدم، ولذلك لا يظهرون هذا الخلل، ويصبحون فقط حاملين وراثيين له, وبالطبع إذا كانت الأم حاملة لهذا المورث المرضي فإنها تنقله إلى نسلها، إلّا أن هذا الانتقال يختلف في الذكور عن الإناث, فإذا كان الجنين ذكرًا, فإن نسبة وراثيته لهذا الاضطراب تصبح 50%, ما دام لا يوجد مورث صحي سائد في الكروموزوم الأصغر "ص", الذي يرثه الذكر عن والده؛ بحيث يمنع ظهور الهيموفيليا, أما إذا كان الجنين أنثى لهذه الأم الحاملة للمرض في صورة مورث متنحٍ, فإن الفرصة حينئذ تصبح أكبر بألا تصاب بالمرض؛ لأنها قد ترث عن والدها مورث سائد لتجلط الدم, وقد تكون أحيانًا حاملة للمرض, والطريق الوحيد لانتقال المرض وراثيًّا إلى الجنين الأنثى في هذه الحالة, وظهوره عندها بشكل صريح في في شكل مظهر موروث, أن يكون مورث الأب من النوع المريض أيضًا، وبالتالي يسهم في الجنين الأنثى بمورث متنحٍ له, أي: أن الأنثى المصابة بالهيموفيليا -وغيره من الأمراض السابقة كعمى الألوان- تتلقى مورثة من كلٍّ من الاب والأم في صورة متنحية. ولعل هذه الحقائق العلمية تفسر لنا ما نلاحظه من أن الخصائص المرتبطة بالجنس أكثر حدوثًا بين الذكور منها بين الإناث, ومن ذلك مثلًَا: أن عمى الألوان "بالنسبة للونين الأحمر والأخضر" ينتشر بين الذكور بمعدل يبلغ ثمانية أضعاف انتشاره بين الإناث "Mussen 1970", وبالمنطق الوراثي السابق نقول: إن جميع النساء المصابات بعمى الألوان لا بد أن يكون أباؤهن لديهم مورثه أولًا. خلل صبغيات الجنس: في معظم الحالات يكون نمط صبغي الجنس في الجنين من النوع "س س" للأنثى، و"س ص" للذكر على النحو الذي بيناه, إلّا أنه في بعض الحالات يحدث تنظيم مختلف يترتب عليه حدوث اضطرابات هامة يرثها الطفل، ومنها: 1- زملة1 النقص في أحد الصبغيين "س" عند الإناث، ويكون النمط

_ 1 كلمة زملة هي ترجمة المرحوم أ. د: يوسف مراد لكلمة syndrome الأجنبية، وقد شاعت في الوقت الحاضر ألفاظ أخرى مثل: متزامنة، إلّا أن هذه الترجمة الأصلية في رأينا هي الأصوب, وتدل على مجموعة أعراض مرضية خاصة بمرض واحد.

الوراثي عندهن من النوع "س صفر" أي: عدم وجود الكروموزوم "س" الآخر, وتسمى زملة ترنر Turner, ويظهر هذا النقص بنسبة 1: 250 حالة ولادة, والأنثى التي تولد بهذا النقص الوراثي يكون نموها محدودًا, وعلى الرغم من أنها قد لا تظهر تخلفًا عقليًّا شاملًا, إلّا أنها تظهر بعض مظاهر العجز في القدرات المكانية على وجه الخصوص "أي: القدرة على التعامل مع الأشكال في المكان". 2- زملة الزيادة في بعض صبغيات "س" عند الإناث أيضًا، وفي هذه الحالة يكون النمط الوراثي "س س س" أو أكثر, وفي هذه الحالة تظهر مظاهر العجز الجسمي والعقلي مع كل كروموزوم "س" إضافي. 3- زملة الزيادة في بعض صبغيات "س" عند الذكور, ويكون النمط الوراثي من النوع "س س ص", وتسمى زملة كلاينفلتر Klinefelret, ويحدث بنسبة 1: 500 حالة ولادة, ويؤدي ذلك الاضطراب إلى طول في القامة وإلى نمو جنسي معوق, وقد يصاحبه تخلف عقلي طفيف, وبعض الاضطراب في الشخصية. 4- زملة الزيادة في الصبغي "ص" عند الذكور أيضًا، وتسمى اضطراب الذكورة الزائدة supermale disorder, ويكون النمط الوراثي في هذه الحالة "س ص ص" أو أكثر, وهذا الخلل يصاحبه طول في القامة مع تآزر حركي ضعيف, ونقص في الذكاء وكثرة بثور الوجه, وقد افترض في الماضي -في ضوء الدراسات المبكرة التي أجريت على الذكور المسجونين بسبب جرائم العنف والاغتصاب- أن هذه الزملة تمثل أحد الأنماط "الوراثية" للجريمة, إلّا أن هذا الفرض يوضع في وقتنا الحاضر موضع التشكك بسبب نقص الضوابط المنهجية في البحوث المبكرة, وأهمها: عدم استخدام المجموعات الضابطة, ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن ارتفاع معدل الجريمة المرتبط بهذا الاضطراب الوراثي لدى الذكور, لا يتربط بزيادة مستويات العدوان بقدر ما يرتبط بنقص الذكاء لديهم. "Brodzinsky et al 1986" الخلل العام في الصبغيات: يوجد نوعان من الخلل العام في الصبغيات, أحدهما: يتمثل في العدد غير العادي من الكروموزومات، وثانيهما: البنية غير العادية لها, ويحدث النوع الأول أثناء الانقسام النصفي للنطف الأصلية للأم والأب "البويضة والحيوان المنوي", وقد يحدث أيضًا أثناء مراحل النمو المبكر للنطفة الأمشاج "الزيجوت", وفي كلتا

الحالتين فإن زوج الصبغيات لا ينفصل كما يجب، ويترتب على ذلك زيادة أو نقص أحد صبغيات الخلية. أما الخلل الثاني، وهو خلل بنية الصبغيات في الخلية فيتضمن أنواعًا عديدة، لعل أهمها تحطم الكروموزوم، أو إعادة بنائه بطريقة غير طبيعية, ومن أسباب ذلك التعرض للإشعاع أو العناصر الكيميائية أو الفيروسات أو حدوث طفرة وراثية, كما يزيد من احتمال خلل الكروموزومات تقدم الأم في السن. ويعد الخلل العام في الصبغيات مسئولًا عن حوالي 50% من حالات الإجهاض التلقائي في بداية الحمل، وعن حوالي 6% من حالات الوفاة عقب الولادة, ومن المعروف أن حوالي 6. % "أي: 6 في الألف" من الأطفال الذين يولدون أحياء, يحملون بعض صور الخلل العام في الصبغيات، على الرغم من أنه ليس من الضروري أن يظهروا جميعًا نقائص من نوعٍ ما "Liebert et al" "1986، ولحسن الحظ, فإن التطورات الراهنة في ميدان الفحص الوراثي والإرشاد الوراثي, يمكن أن تعين في منع حدوث هذه الحالات من الخلل الوراثي أو في التحكم فيها، وهذا ما سنتناوله فيما بعد. ومن صور خلل الصبغيات الشائعة ما يسمى زملة داون Downُs syndrome, وقد كشف العلماء منذ عام 1959 أن معظم حالات هذا الخلل يتسبب فيها وجود كروموزوم إضافي من النوع رقم 21, وأنه موروث, ويزيد احتمال حدوثه مع تقدم الأم في السن, وربما لهذا السب يطلب من الأم التي يتجاوز عمرها الخامسة والثلاثين أن تفحص بشكل روتيني قبل الحمل أو أثناءه, للتأكد من عدم وجود مثل هذا الخلل الوراثي الخطير. وتظهر زملة داون في صورة تخلف عقلي متوسط أو شديد, بالإضافة إلى مظاهر جسمية خارجية واضحة: صغر حجم الجمجمة والذقن والأذنين، وقصر الرقبة والأيدي والأقدام، بالإضافة إلى غلظ الرقبة وفلطحة الأنف، وخفة الشعر، وانشقاق اللسان، ووجود ثنية فوق جفن العين, ولهذا يبدو مظهر الشخص في هذه الحالة وكأنه من المغول "سكان منغوليا"، ولهذا يطلق على هذه الحالة اسم المغولية mongolism 1 "نسبة إليهم"، وهي حالة شائعة في ميدان التخلف العقلي.

_ 1 شاعت ترجمة هذا اللفظ بالمنغولية, وهي ترجمة مباشرة للفظ الأجنبي، والأصح استخدام اللفظ الذي شاع في التراث العربي وهو "المغول" وتنسب إليهم المغولية.

الفصل السابع: أطوار نمو الجنين

الفصل السابع: أطوار نمو الجنين أولًا: طور النطفة الأمشاج يعتبر طور النطفة الذي تناولناه في الفصل السابق, المرحلة التكوينية الأولى للجنين, وهو طور حاسم, فمع تكوين النطفة الأمشاج "الزيجوت أو اللاقحة" تتحدد نهائيًّا -بتقدير العزيز الحكيم- الخصائص الوراثية للإنسان. وإيجازًا لما عرضناه مفصلًا في الفصل السابق نقول: إن المرأة في فترة التبويض ovulaion "أي: مرحلة خروج البويضة من المبيض", تخرج البويضة أو النطفة الأنثوية إلى قناة فالوب؛ حيث تتكون النطفة الأمشاج التي هي عبارة عن خلية عادية, تتألف من 46 صبغيًّا "كروموزومًا"، بعد أن كانت قبل تكوينها عبارة عن نطفتين "خليتين تناسليتين أو جرثومتين" كل منها يتألف من 23 صبغيًّا "كروموزومًا" فقط. راجع تفاصيل ذلك في الفصل السادس. والنطفة الأمشاج "البويضة المخصبة أو الزيجوت أو اللاقحة" Zygote لا يزيد طولها عن 10/ 1 الميللميتر، ولا يزيد وزنها عن جزء من المليون من الجرام, ويحيط بها الماء كما يكون الماء الجزء الأكبر منها, ومن هنا كانت التسمية القرآنية للنطفة بالماء المهين, وهو وصف للنطفة الأمشاج أيضًا, ويمتد هذا الطور من اللحظة الأولى للحمل وحتى اليوم السادس أو السابع من بدايته, ولا يمكن لهذا الطور أن يتحدد مجهريًّا, ولذلك يتحدد كيميائيًّا, ويطلق علماء الأجنة على اللحظة التي يتم فيها إخصاب البويضة مرحلة التلقيح fertlization. وعقب ذلك تنقسم البويضة الأمشاج -وهي خلية واحدة كما بينا- إلى خليتين، انظر الشكل رقم "7-1" ثم أربع ثم ثماني.

الشكل رقم "7-1" انقسام النطفة الأمشاج إلى خليتين وخلال الآيام الثلاثة الأولى من الحمل تصبح النطفة الأمشاج مؤلفة من 16 خلية, وتأخذ عندئذ شكل ثمرات التوت، ولذلك يطلق علماء الأجنة على هذا الطور "طور التوتة" morula ويوضح الشكل رقم "7-2" ذلك. الشكل رقم "7-2" شكل تقريبي لتحول النطفة الأمشاج إلى شكل ثمرة التوت. وطوال الفترة السابقة تتحرك النطفة الأمشاج متنقلة من قناة فالوب في المبيض ومتوجهة إلى الرحم، وتدفعها الشعيرات الدقيقة cilia الموجودة بقناة فالوب حتى تصل إلى الرحم بالفعل, وخلال هذه المرحلة يكمل باطن الرحم استعداده لاستقبال النطفة الأمشاج، ويشمل هذا الاستعداد زيادة عدد الأوعية الدموية والنظم الغددية في جدار الرحم, حتى يصبح أملس على نحوٍ يسمح ببقاء النطفة والتصاقها بجداره -فيما بعد- بحيث تتلقى غذاءها منه, وإذا لم يتم الرحم هذه الاستعدادات تسقط النطفة الأمشاج مع أول دورة شهرية "حيض" للأم. وحين تدخل "التوتة" الرحم يطرأ عليها تغير جوهري في الشكل، فبسبب

دخول السائل الموجود في تجويف الرحم إلى التوتة فإنها تبدأ في التجويف، وفي اليوم الخامس من الحمل تتحول التوتة إلى ما يسمى علميًّا الكرة الجرثومية blastula, وهو طور تصبح فيه النطفة الأمشاج كالكرة من حيث الشكل الخارجي والفراغ الداخلي الذي يملؤه جزء من السائل الدقيق في التجويف الرحمي, كما هو موضح في الشكل رقم "7-3". الشكل رقم "7-3" شكل توضيحي للكرة الجرثومية وتحول النطفة الأمشاج من طور التوتة إلى طور الكرة الجرثومية يتضمن ما هو أكثر من محض التغير في الشكل, إنه يتضمن أيضًا بداية التمايز أو التخصص في وظائف الخلايا, مع زيادة عددها إلى ما بين 50-60 خلية.

ثانيا: طور العلقة

ثانيًا: طور العلقة لم يتنبه علماء الأجنة إلى هذا الطور الهامِّ من أطوار نمو الجنين إلّا منذ بضع سنوات، على الرغم من أن القرآن الكريم أشار إليه منذ أربعة عشر قرنًا؛ كطور واضح صريح في مرحلة النمو قبل الولادة "راجع الفصل الثالث", فقد ورد ذكر العلقة في القرآن الكريم في خمسة مواضع, وفي معظمها ورد هذا الطور بعد طور النطفة "ما عدا سورة العلق", ويغلب على فهم أغلب المفسرين القدامى, وكثير من المحدثين وصف العلقة بأنها "دم غليظ متجمد"، وعلى هذا النحو تمت الترجمات التي وضعت لمعاني القرآن الكريم, وقد اختلف مع هذا الرأي قليل من الأقدمين مثل ابن الجوزي في "زاد المسير في علم التفسير"؛ حيث قال: "وسميت علقة لرطوبتها وتعلقها بما تمر فيه" وهو رأي في كثير من الصواب في ضوء العلم الحديث؛ فالأطباء المحدثون يفسرون اللفظ القرآني تفسيرًا علميًّا بالقول, بأن العلقة

هي الطور الذي تعلق فيه الكرة الجرثومية -والتي اكتمل تكوينها في الطور السابق- بجدار الرحم, وتتشبث به وتنشب فيه "محمد على البار، 1986". وعلى الرغم من أن كلمة "علقة" تحمل المعنيين السابقين من الوجهة اللغوية، فهي تعني: كل ما ينشب ويعلق، كما تعني: الدم الغليظ، فلا يوجد دليل يحبذ تفضيل المفسرين للمعنى الثاني على المعنى الأول الذي يشير إلى التعلق بجدار الرحم، سوى ما يشاهد عند حدوث الإجهاض المبكر؛ حيث لا يرى إلّا دم غليظ؛ إذ أن حجم العلقة في هذا الطور لا يتجاوز 1/4 ميلليمتر، وتكون محاطة بدم غليظ, ولهذا يكون الانتباه لهذا الدم الغليظ، أما النطفة التي لا تتجاوز ربع الميلليمتر فلا ينتبه إليها أحد. وتصف لنا الأدلة العلمية الحديثة هذا الطور؛ فبعد أن يتم الرحم استعداده لاستقبال النطفة الأمشاج وبقائها فيه، والتي تكون قد تحولت فيه بالفعل إلى كرة جرثومية، لا يمكن أن يكتب لها الاستمرار أو البقاء فيه إلّا إذا تعلقت بجداره, ويحدث ذلك في اليوم السادس أو السابع بعد الحمل, ويصف علم الأجنة ما يحدث بأنه تعلق attachment أو انزراع implantation, وتعني جميعًا -كما قلنا- تعلق الكرة الجرثومية بجدار الرحم؛ حيث تقوم خلايا الجدار الخارجي للكرة الجرثومية والتي تسمى طبقة التغذية trophobast التعلق بالطبقة الداخلية لجدار الرحم وتزرع نفسها فيه, وحينئذ تكون أشبه بالطفيليات العالقة leech-like "Sympson et al 1985" endometerirm. وتحاط الكرة الجرثومية، بعد تحولها إلى علقة، ببرك من الدماء blood lacunae، ولذلك, فإن تعبير القدماء عن العلقة بأنها دم غليظ هوتعبير فيه شيء من الصحة، بمعنى أن العلقة تكون محاطة بالدم الغليظ، وهو ما نراه تحت الميكروسكوب, وتتغذى العلقة من هذه الدماء، ومن إفرازات الغدد الرحمية التي يبلغ عددها 15 ألف غدة، والتي يسميها علماء الأجنة لبن الرحم "محمد علي البار، 1986", وفي هذا الطور يبدأ الغشاء المشيمي chorion في التكوين، ويكون له زغب "نتوءات أشبه بنتوءات منابت ريش الطيور"، ويتفرع مثل الشجرة, وصورته تمثل التعلق أصدق تمثيل. والتعلق الثالث يجيء بواسطة المعلاق connecting slalk، أو الساق الموصلة، الذي يعلق الكرة الجرثومية بالغشاء المشيمي، وهذا المعلاق يشبه الساق المنبارية في الطيور والحيوانات. وحالما تلتصق العلقة بجدار الرحم تبدأ عملية التغذية، وهو مالم يكن موجودًا في الطور السابق؛ حيث كان تكاثر النطفة الأمشاج، وطوال الأيام الستة الأولى

من حياة الجنين عن طريق الانقسام, إلّا أن زيادة عدد الخلايا في هذا الطور "النطفة الأمشاج" لا يؤدي إلى زيادة الحجم تغيرًا محسوسًا، ولذلك تظل النطفة الأمشاج ذات حجم ثابت تقريبًا؛ لأنها لا تتلقى غذاء، اللهم إلّا القليل الذي يوفره صفار البويضة, إلّا أنها حالما تلتصق بجدار الرحم -وتصحب علقة- تبدأ عملية التغذية التي تؤدي إلى زيادة الحجم. وإذا كانت تسمية النطفة الأمشاج -كما بينا- تسمية كيميائية، فإن تسمية الطور الثاني من تكوين الجنين "العلقة" تسمية تشريحية مجهرية "ميكروسكوبية", وكلا الطورين وتسميتهما القرآنية إعجاز علميٌّ لا يمكن أن يصدر إلّا ممن هو بكل خلق عليم؛ فالميكروسكوب لم يخترع إلّا في القرن السابع عشر الميلادي, ولم يتطور علم الأجنة إلّا بعد ذلك بقرنين. والجنين في طور العلقة لا يتجاوز قطره أجزاء من الميلليمتر يتعلق برحم أمه لتغديه من دمها, كما تتعلق "علقة الحجام بجسد المخلوقات التي تتغذى عليها" "عدنان الشريف، 1987-1988". والجنين منذ هذا الطور من حياته وحتى ولادته, يعيش في محيطٍ مائيٍّ معلقًا برحم أمه بواسطة الحبل السري أو المعلاق, والعلق يعيش في الماء. ويمتد طور العلقة لمدة أسبوع، وبنهايته يكون الجنين قد بلغ من العمر 15 يومًا تقريبًا, وحالما تلتصق العلقة بجدار الرحم في اليوم السابع من الحمل تقريبًا يمكن لها الاستمرار في الحياة، بسبب التغذية التي تأتيها من الرحم، ولعل أهم إنجازٍ يحدث حينئذٍ هو إفراز هورمون يمنع الأم من إفراز العادة الشهرية، وبالتالي تهيئة الرحم الذي تلتصق به العلقة "أو العلق" على نحوٍ أفضل, ويتوزع هذا الهرمون على جسم الأم كله, ويظهر في البول، وظهوره علامة إيجابية على الحمل في الاختبارات التي يجريها الأطباء, وفي بعض الحالات تستمر المرأة في الحيض حتى يملأ الجنين تجويف الرحم, وحينئذ فقط لا يمكن للعادة الشهرية أن تحدث, وهذه هي العدة كما حددها الفقه الإسلامي, والتي يمكن أن يحدث فيها الحمل مع وجود الحيض, أي: الشهور الثلاثة الأولى للحمل, وبعدها تنقطع العادة الشهرية تمامًا, ولم يكن العرب أو غيرهم من الشعوب وقت نزول القرآن الكريم يعرفون هذه الحقائق العلمية، ولكن القرآن الكريم ذكرها وأصبحت الشريعة الإسلامية تنص عليها في عدة المطلقة والأرملة "راجع الفصل الثالث".

ثالثا: طور المضغة

ثالثًا: طور المضغة ورد لفظ "المضغة" في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة باعتبارها طورًا تاليًا لطور العلقة "راجع الفصل الثالث", والمضغة في اللغة: هي ما يمضغ من اللحم, وهي تدل في علم الأجنة على طورٍ في النمو يشبه فيها الجنين في مظهره لقمة ممضوغة "Simpson et al chewed substance 1985" ويبدأ هذا الطور بعد تعلق الكرة الجرثومية بالرحم؛ حيث تتكون عندئذ ككتل داخلية من الخلايا, نتيجة نشاط ما يسمى الشريط الأولى primitive steak, ويؤدي تمايز هذه الطبقات إلى ظهور ما يسمى الكتل البدنية somites التي تبدأ بالتكثف حول المحور, ثم تنمو بسرعة على جانبيه، وتلامس الميزاب أو الشق العصبي neural groove. وتبدأ هذه الكتل في الظهور من أعلى بعد انقضاء ثلاثة أسابيع تقريبًا على الحمل, وتظهر منها أولًا كتلتان: واحدة على كل جانب، ثم يتوالى ظهورها تباعًا, وبنهاية الشهر الأول من حياة الجنين تتمايز هذه الكتل إلى ثلاث طبقات هي: الطبقة الخارجية ectoderm والتي منها ينمو بعد ذلك الجلد وأعضاء الحس والجهاز العصبي، والطبقة الداخلية endoderm والتي منها تنمو فيما بعد الأجهزة الهضمية والتنفسية والغدية، والطبقة المتوسطة mesoderm التي منها تنمو فيما بعد الأجهزة الدورية والإخراجية والعضلية. ويبدأ طور المضغة منذ أوائل الأسبوع الثالث من حياة الجنين, ويمتد إلى نهاية الأسبوع السادس من عمره, أي: أن مدته الكلية حوالي أربعة أسابيع, وخلال هذا الطور تظهر الكتل البدنية التي أشرنا إليها، والتي يبلغ عددها من 42-45 زوجًا، فتعطي للجنين شكل اللحم الممضوغ, والنظر إلى صور الجنين في هذا الطور من حياة الإنسان يكشف لنا مرةً أخرى عن إعجاز التسمية القرآنية له بأنه طور "المضغة". وتنمو المضغة من كتل كبيرة من الخلايا خلال فترة قصيرة لا تتجاوز ستة أسابيع إلى "طفل مصغر"، وهذا ما يصفه القرآن الكريم "بالمضغة المخلقة"؛ ففيها نجد جميع السمات الجوهرية للجسم الإنساني, سواء أكانت داخلية أو خارجية, ويتبع النمو في هذا الطور الاتجاه من أعلى إلى أسفل؛ فأكبر مقدار من النمو يطرأ على منطقة الرأس أولًا, بينما تكون الأطراف آخر ما ينمو, ومع مرور الوقت يمتد النمو إلى الجزء الأسفل من الجسم. ولعل أهم تغير يطرأ على الطبقة الخارجية "وهو المسئولة عن التغذية" تكوين أربعة أغشية تهيئ للمضغة النمو. وأحد هذه الأغشية الكيس الأميني amniotic sac, وهو عبارة عن كيس ماءٍ محكمٍ يحيط بالمضغة ويمتلئ بالسوائل التي تصل إليه من أنسجة الأم, ووظيفة الكيس الأميني والسائل الأميني فيه "وهو

سائل ملحي يحيط بالمضغة" حماية المضغة النامية من الإصابة، ومن آثار الجاذبية، والمحافظة على درجة حرارة دافئة ثابتة, يقوم بإحداثها جسم الأم، وتهيئة بيئة عديمة الوزن تسهل حركة الكائن النامي وتساعده على تدريب أجزاء الجسم النامي, ويطفو بجانب المضغة الصغيرة كيس ممتلئٌ بصفار البويضة على شكل بالونة ينتج خلايا دموية للمضغة, ويظل يعمل حتى تستطيع المضغة إنتاج خلاياها الدموية, وهذا الكيس متصل بغشاء ثالث هو المشيمة Chorion التي تحيط بكلٍّ من الغشاء الأميني والمضغة, وأحد جوانب كيس المشيمة مغطى بأبنية أشبه بالجذور أو الزغب, تقوم بعملية جمع الغذاء للكائن من أنسجة الرحم, وهذه المنطقة تتحول بالتدريج إلى باطن المشيمة, أما الغشاء الرابع فيسمى Allantosis, ويؤلف الحبل السري والأوعية الدموية في المشيمة. وحالما تتكون المشيمة وتنمو تتم تغذيتها من الأوعية الدموية لكلٍّ من الأم والمضغة، على الرغم من وجود غشاء يسمى الحاجز المشيمى, يمنع هذين المسارين الدمويين من الامتزاج, وهذا الحاجز شبه منفذ، أي: أنه يسمح لبعض المواد بالنفاذ من خلاله إلى المشيمة دون سواها, ومن ذلك الغازات مثل: الأوكسجين وثاني أوكسيد الكربون والأملاح وأغذية عديدة؛ مثل: السكر والبروتين والدهون, أما خلايا الدم فهي من الكبر في الحجم بحيث لا تستطيع اجتياز الحاجز المشيمى. وترتبط المضغة بالمشيمة عن طريق الحبل السري "أو أنبوب الحياة", والذي يتكون من شريانين ووريد, ويحمل الوريد الأوكسجين ومواد الغذاء إلى المضغة، أما الشريانان فيحملان ثاني أوكسيد الكربون وفضلات عمليات الأيض "عمليات بناء البروتوبلازم" التي تصدر عن المضغة, وهذه الفضلات تعبر الحاجز المشيمى وتدخل المجرى الرئيسي لدم الأم, وتطرد من جسمها خلال فضلات عمليات الأيض الخاصة بها, ومن هذا الوصف يتضح لنا أن الجنين النامي هو أقرب إلى الطفيليات، فهو معتمد اعتمادًا كاملًا على أمه في الحصول على الأوكسجين والطعام, وفي علميات الإخراج أيضًا. وخلال مرحلة المضغة يحدث النمو بمعدل فائق السرعة, فمع بداية هذا الطور، "أي: بعد أسبوعين من الإخصاب" يتحول جزء من طبقة المضغة الخارجية إلى أنبوب عصبي, سرعان ما يصبح الرأس والمخ والنخاع الشوكي, وبنهاية الأسبوع الثالث يتكون قلب بدائي وأوعية دموية, وفي الأسبوع الرابع يبدأ القلب في النبض دافعًا الدم خلال الشرايين والأوردة الصغيرة في المضغة, وتتشكل العينان والأذنان والأنف والفم, وفي الأسبوع الخامس تنشأ فجأة براعم صغيرة

تتحول إلى الذراعين والساقين, ثم تنمو في الاتجاه من الوسط إلى الأطراف "من الداخل إلى الخارج", ومعنى ذلك أن الذراع الأعلى ينمو أولًا, ثم الذراع الأدنى فالأيدي فالأصابع, ويتبع نمو السيقان نفس النمط بعد عدة أيام, وبعد شهرٍ من الإخصاب لا يزيد طول المضغة عن ربع بوصة, ولكن حجمها يزيد على حجم اللاقحة أو النطفة الأمشاج التي تطورت منها بمقدار عشرة ألاف مرة, ولن يتعرض الإنسان في حياته فيما بعد لأي معدل في النمو, أو يتغير بمعدل من السرعة يصل إلى هذه الدرجة بحالٍ من الأحوال "Shaffer 1985". وخلال الشهر الثاني يتحول الجسم إلى الشكل الإنساني من حيث المظهر, فينمو بمعدل 30/ 1 من البوصة يوميًّا, ويظهر فيه ذيل بدائي, إلّا أن سرعان ما يحاط بالأنسجة الواقية, ويتحول إلى نهاية العمود الفقري "العصص", وفي منتصف الأسبوع الخامس يتكون في كلٍّ من العينين القرنية والعدسة, وينمو المخ أيضًا بسرعة مع بداية الشهر الثاني من الحمل, الذي يوجه التقلصات العضلية الأولى للمضغة عند نهاية هذه المرحلة, وبعد أقل من شهرين من الإخصاب تكون المضغة أطول قليلًا من بوصة "أي: 2,5سم" وتزن حوالي 10/ 1 أوقية "14 جرامًا", ومع ذلك فلها شكل الإنسان, على الرغم من أن طول رأسها يساوي طول باقي الجسم. وهكذا تتخلق المضغة بإرادة الله -سبحانه وتعالى, والمضغة المخلقة هي التي تكون فيها بدايات أجهزة الجسم المختلفة, إلّا أن المضغة قد لا تتخلق كما يتحدث القرآن الكريم, وحينئذ لا تكون إلّا من خلايا فقط في هذه الحالة، وقد يقصد بذلك -والله أعلم- السقط كما جاء في تفسير القرطبي. ويؤكد علم الأجنة أن هذه الفترة -فترة المضغة- ذات طبيعة حساسة في النمو الإنساني، فالشهران الأولان من الحمل حاسمان من نواحٍ كثيرة؛ ففيهما يقع معظم السقط, أو حالات الإجهاض التلقائي, وبالطبع هو أخطر من سقط العلقة؛ لأنه يحدث بعد أن تكون العلقة قد علقت بحائط الرحم ثم تطرد منه, وتدل الإحصاءات الطبية أن ما بين 30-50% من حالات الحمل تنتهي بالإجهاض التلقائي أو السقط, ومعظم هذه الحالات تكون من النوع الذي يوصف "بالشذوذ التكويني" أو بعبارة القرآن الكريم تكون حالات "مضغة غير مخلقة". إلّا أننا يجب أن ننبه إلى أنه حتى المضغة السوية تكوينيًّا, والتي ترتبط بجدار رحمٍ سليمٍ قد تتعرض لبعض المخاطر خلال الشهرين الأولين من الحمل, والواقع أن الفترة من أسبوعين إلى ثمانية أسابيع بعد الإخصاب هي الفترة الحرجة في الحمل؛ فالمضغة خلالها تكون أكثر حساسية للفيروسات والعناصر الكيميائية والعقاقير والإشعاع التي قد تتداخل مع النمو وتحدث عيوب الولادة, فهي تؤثر على أعضاء الجسم وأجزائه التي تكون قد تكونت, وتلك التي في سبيلها للتكوين جميعًا.

رابعا: طور تكوين العظام والعضلات (اللحم)

رابعًا: طور تكوين العظام والعضلات "اللحم" يشير القرآن الكريم إلى طورٍ تالٍ لطور المضغة, هو طور تحوّل المضغة إلى عظام, ثم كساء العظام باللحم "راجع الفصل الثالث". وقد لاحظ علماء الأجنة أنه بعد أن تتكون المضغة تتكثف الطبقة المتوسطة التي بجانب المحور على هيئة كتل بدنية, وتنقسم هذه الكتل إلى قسمين. 1- قسم أوسط داخلي ventro medial, والذي يتحول قرب نهاية طور المضغة إلى النسيج العظمي أو الهيكلي، ولذلك تعرف الكتل البدنية في هذا القسم باسم القطاع الهيكلي Selerotome، ولخلايا هذه الكتل القدرة على التشكيل، فمنها تتكون الخلايا المكونة للعظام osteoblasts, وتنمو خلايا هذا القسم من الجانبين أمام القناة العصبية، وبذلك تتكون هذه الكتل من مؤخرة الرأس حتى تلتحم أربع كتل بدنية معًا مكونةً جزءًا من قاع الجمجمة, ثم تأتي بعدها ثماني فقرات عنقية، تليها اثنتا عشرة فقرة صدرية, ثم خمس فقرات قطنية، وخمس أخرى عجزية، وبعدها ثماني إلى عشر فقرات عصعصية, يتلاشى معظمها مع عظم العصعص, وتبدأ هذه التحولات في الأسبوع الخامس والسادس من عمر الجنين, ثم تزداد ظهورًا بعد ذلك, ويمكن أن يسمى هذا القسم من الكتل البدنية القسم العظمى. 2- قسم جانبي خارجي dorso lateral, وهو قسم يمكن أن نسميه القسم العضلي أو اللحمي, وهذه الكتلة البدنية من الخلايا تظهر من الفقرات الأولية, وتمايزها إلى طبقتين: أولاهما: تُكَوّن الأدمة "باطن الجلد الواقع تحت البشرة"، وما تحت الأدمة، أما الطبقة الثانية فتكوّن عضلات الهيكل myotome, وتظهر هذه العضلات لتكسو عظام الجنين بعد انقضاء الأسبوع السابع أو الثامن من الحمل, بينما تظهر العظام الأولية بعد انقضاء الأسبوع السادس أو الثامن من الحمل؛ ففي الأسبوع السابع يتشكل مثلًا غضروف الأذن على نحو أفضل, ويصبح للمضغة شكل عظمي غضروفي. ومن الحقائق التي يؤكدها علم الأجنة أن الكتل البدنية التي تكون قد بدأت في الظهور في الأسبوع الثالث من حياة الجنين "مع بداية طور المضغة" يكتمل

ظهورها في اليوم الثلاثين من حياته "أي: بعد انقضاء شهر على الحمل"، ولا تكاد تتكون كتل جديدة خلال طور المضغة إلّا بعد أن تكون الكتل القديمة قد تمايزت إلى قطاعٍ هيكليّ "عظمي" وقطاع عضلي "لحمي". وتتكون فقرة العظام من قطعتين هيكليتين متجاورتين، ولهذا يؤدي هذا الالتحام إلى تحرك القطع العضلية لتغطيتها, وذلك للمساعدة في حركتها، ويعبر القرآن الكريم عن هذه العملية بالتعبير المعجز {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} . أما بالنسبة لتكوين الأطراف, فقد أشرنا إلى أنه في الأسبوع الخامس -حيث لا يزال الجنين في طور المضغة- تظهر هذه الأطراف في صورة براعم صغيرة، ثم تتحول في طور العظام والعضلات إلى ذراعين وساقين. وحسب مبدأ النمو -الذي سبق أن أشرنا إليه- يسبق الطرف العلوي الطرف السفلي في الظهور ببضعة أيام, نتيجة تكثف خلايا من النسيج المتوسط messenchyme, تأتي من الطبقة المتوسطة للكتل البدنية التي أشرنا إليها عند حديثنا عن طور المضغة, وفي الأسبوع السادس تتحول خلايا النسيج المتوسط إلى خلايا غضروفية, وفي نفس الأسبوع أيضًا تظهر بوضوح الهياكل الغضروفية السفلية والعلوية. وأول علامة على وجود العضلات في الأطراف تظهر في الأسبوع السابع نتيجةً لتكثف خلايا النسيج المتوسط في قاعدة برعم الطرف، ومن هنا يتضح أن العظام تتكون أولًا, ثم تليها العضلات لتكسوها, وصدق الله العظيم. وتتكون عظام العمود الفقري والأطراف عن طريق تكوين الغضاريف أولًا، ولهذا تسمى العظام الغضروفية, أما عظام الرأس فتتكون بطريقتين: أولاهما العظام الغضروفية, والتي تشكل قاع الجمجمة وعظام الوجه، وثانيهما العظام الغشائية, وتشكل عظام قحفة الجمجمة, وفيها يتكَوّن العظم مباشرة فوق الغشاء دون أن تسبقه مرحلة غضروفية. ومع اقتراب الجنين من بداية الشهر الثالث من عمره, تبدأ العظام في الصلابة, وتسرع العضلات في النمو، وتتحول المضغة غير المشكلة إلى الشكل الإنساني, ويطلق علماء الأجنة على هذه المرحلة مرحلة الكتلة المنتفخة, أو ما يصح أن يطلق عليه حقًّا الجنين embryo, وهكذا تؤلف الشهور الثلاث الأولى من الحمل الفصل الأول من حياة الجنين.

خامسا: طور التسوية

خامسًا: طور التسوية ... طور التسوية: بعد اكتمال نمو المضغة, وتحول المضغة غير المشكلة إلى كتلةٍ منتفخة لها الشكل الإنساني "أي: جنين" بسبب تكَوّن العظام وكسوتها بالعضلات تدخل طورًا جديدًا في حياة الإنسان, هو طور التسوية كما يسميه القرآن الكريم "راجع الفصل الثالث", ويبدأ هذا الطور مع بداية الشهر الرابع من حياة الجنين, ويمتد حتى الولادة, ويطلق علماء الأجنة على هذه المرحلة تسمية خاصة هي مرحلة الحميل fetus. فمع نهاية الشهر الثالث يظهر جنس الجنين؛ ففي الأسبوعين السابع والثامن يبدأ النمو الجنسي مع غدة جنسية محايدة, فإذا كان الجنين ذكرًا يحدث أحد جينات الكروموزم "ص" فيه رد فعلٍ كيميائيًّا حيويًّا يوجه الغدة المحايدة إلى أن تنتج الخصيتين، أما إذا كان الجنس أنثى, لا تتلقى الغدة المحايدة مثل هذه التعليمات, وتنتج المبيضين, ومع نضج الخصيتين خلال الأسبوعين التاسع والعاشر تفرزان الهرمون الجنسي للذكور, والذي يستثير نمو الجهاز التناسلي الذكرى, وبالمثل ينمو لدى الجنين الأنثى جهاز تناسلي أنثوي. ومع نهاية الشهر الثالث أيضًا يكون الجنين قادرًا على القيام ببعض الأنشطة الطريفة في بيئته داخل الرحم. يحرك ذراعيه, ويخبط بساقيه، ويحرك جسمه, بل يقوم ببعض الحركات البهلوانية، على الرغم من أن هذه الحركات قد لا تتنبه لها الأم في هذه المرحلة, وفي هذه الفترة يكون للجنين جفنان وأحبال صوتية وشفتان وأنف بارز, وتعمل بعض الأعضاء بحيث تسمح للجنين بالبلع والهضم والتبول, وتظهر معالم الجنس وتنشأ في الجهاز التناسلي للذكور خلايا غير ناضجة للحيوانات المنوية، وللإناث خلايا للبويضات, وكل هذه التفاصيل تظهر بعد 12 أسبوعًا من الإخصاب، مع أن طول الجنين لا يتجاوز ثلاث بوصات "أي حوالي 7،5", ووزنه يتراوح بين 1/ 2، 3/ 4 أوقية "أي ما بين 15جرامًا، 23جرامًا". وتسمى الأشهر من الرابع إلى السادس الفصل الثاني من حياة الجنين، وهي فترة نمو سريع؛ فخلال الشهر الرابع "سن 16 أسبوعًا" تظهر أظافر أصابع اليد والقدم، وتنمو العضلات بسرعة، ويكون طول الجنين من 8-10 بوصات "بين 20-25", ووزنه يصل إلى 6 أوقيات "180جرامًا" ونشاطه الحركي يشمل أنشطة أكثر دقة؛ مثل: مص الأصابع، وحركات أكثر عنفًا, مثل: الرفس الذي تشعر به الأم, ويمكن لدقات قلبه أن تسمع بسماعة الطبيب, ويمكن التعرف على مدى صلابة الهيكل العظمى بأشعة إكس أو الأشعة فوق الصوتية, وتبدأ في هذه الفترة استجابات الجنين البصرية والسمعية, فإذا أسقط ضوء مباشر على بطن الأم في هذه الفترة فإنه قد يؤدي إلى حركة الجنين في الرحم, وكذلك فإن التغيرات في معدل نبض قلب الجنين استجابةً للأصوات المختلفة, قد تدل على تمييزه بينها.

وبنهاية الشهر الرابع يكون للجنين مظهر بشري متميز, ولكنه لا يستطيع العيش خارج الرحم. وخلال الشهرين الخامس والسادس تزداد الأظافر صلابةً والجلد سمكًا، وتظهر فجأة الحواجب والرموش وشعر الرأس, وعند 20 أسبوعًا تنشط الغدة الدرقية، وتزداد دقات القلب قوةً؛ بحيث يمكن سماعها بوضع الأذن على بطن الأم, ويصل طول الجنين حينئذ إلى 12 بوصة, ويزن ما بين 12، 16أوقية, وبنهاية الأسبوع الرابع والعشرين يمكن للجنين أن يفتح ويغلق جفنيه بإرادته, على الرغم من أنه لا يستطيع أن يرى شيئًا في ظلمة الرحم "إحدى الظلمات الثلاث الواردة في القرآن الكريم", ويستطيع الجنين أن يسمع؛ فالأصوات العالية تحدث فيه استجابة جفول, وتزيد من نشاطه الحركيّ، بينما الأصوات الداخلية؛ مثل: دقات قلب الأم, لها أثر مهدئ, وبعد ستة أشهر من الإخصاب يصل طول الجنين إلى ما بين 14-15 بوصة "حوالي 35سم", ويصل وزنه إلى حوالي رطلين "أقل من كيلو جرام واحد". وتمثل نهاية الفصل الثاني من مرحلة الجنين فترة حرجة أخرى في نمو الإنسان؛ فخلال الفترة من الأسبوع الرابع والعشرين والثامن والعشرين من الإخصاب, يكون مخ الجنين وجهازه التنفسي قد نضجا إلى الحد الذي يجعل الحياة خارج الرحم ممكنة, بشرط ألّا يقل وزنه عن 1500جرام, فإذا قَلَّ وزنه عن ذلك، وهو الأكثر حدوثًا, فإن الطفل عادةً لا يعيش حتى ولو تهيأت له أفضل خدمة طبية ممكنة, وبصفة عامة نقول: إن كل يومٍ إضافيٍّ يعيشه الطفل داخل رحم الأم, يهيئ له فرصةً أكبر للحياة بعد الولادة. وتمثل الشهور من السابع إلى التاسع الفصل التاسع من حياة الجنين, وهي كذلك مرحلة نمو سريع, فمع نهاية الشهر السابع يكون وزن الجنين قد بلغ حوالي أربعة أرطال "أقل من كيلو جرام" وطوله ما بين 16-17 بوصة "حوالي 41سم" وفي هذه الفترة يبدأ الجنين في البحث عن مصادر الضوء وهو لا يزال داخل الرحم, وذلك بتوجيه رأسه وفتح عينيه مع اختلاف موضعه بالنسبة لجدار بطن الأم "Comparetti1981", كما تزداد الحواس الأخرى فعاليةً ومنها حاسة اللمس، على نحوٍ يؤدي إلى إمكانية التوصل بين الوالدين والجنين من خلال ملامسة بطن الأم, وبعد شهر ينمو طوله إلى 18 بوصة "حوالي 45سم", ويزداد وزنه إلى ما بين 5-6 1/2 رطلًا "ما بين 2.7- 3.4 كيلو جرامًا", ومعظم الزيادة في الوزن في هذه المرحلة تنتج عن الدهون المختزنة تحت الجلد, وعند الميلاد تحمي هذه الطبقة الدهنية الطفل من تقلبات درجة الحرارة, ويمكن للطفل المبتسر

"الذي يولد قبل إكمال الشهور التسعة" أن يعيش، فإذا قلَّ وزنه عن خمسة أرطال, لابد من وضعه في محضن شبيه ببيئة الرحم. وفي هذه الفترة يستطيع الجنين التمييز بين الأصوات, كما يتمثل ذلك في زيادة حركة الجنين؛ كمؤشر على الانتباه, واتضح أن الجنين يفضل الأصوات ذات الدرجة العالية, سواء في الصوت البشري "صوت المرأة على صوت الرجل"، أو في المقطوعات الموسيقية "الموسيقى الكلاسيكية المركبة مثل أعمال فيفالدى على أعمال بيتهوفن", كما يفضل الموسيقى الإيقاعية على موسيقى الروك "Verny 1982". وعند بلوغ الجنين النصف الثاني من الشهر التاسع من عمره, يصل طوله إلى حوالي 20 بوصة "أو50 سنتيمترًا"، ووزنه إلى حوالي 7 أرطال "أو 3،6 كيلو جرامًا", وهو وزن وطول تضيق به بيئة الرحم, ولهذا تشعر بعض الأمهات بأن يدًا أو رأسًا تضغط في اتجاه الخروج, وإذا لمس المرء بطن الأم يشعر بشكل الجنين كاملًا، وقد يتحرك الجنين استجابةً لهذا الملمس, وهكذا يصبح الطفل مستعدًّا للخروج من بيئة الرحم إلى بيئة العالم الخارجي الواسع.

سادسا: تعلم الأجنة

سادسًا: تعلم الأجنة ... تعلم الأجنة: من النتائج الطريفة التي توصل إليها ديكاسبر وفيفر، DeCasper Fifer 1980" أنه لو تحدث رجل وامرأة في وقتٍ واحدٍ إلى الجنين، وكلٌّ منهما في جانب من جوانب الغرفة، فإن الجنين يتحول نحو الصوت الأنثوي, والسؤال هنا: هل هذه استجابة فطرية للصوت ذي الدرجة الأعلى كما بينا, أم هي ناتجة عن زيادة ألفة الجنين بصوت الأم, وبالتالي فهي نتاج التعلم؟ للإجابة على هذا السؤال نقول: إن هناك أدلة على تعلم الأجنة, ومن ذلك أن البحث السابق, وبحث آخر قام به ديكاسبر أيضًا مع سبنس DeCasper Spence 1986", أظهر أن الطفل يفضل صوت أمه على غيره من أصوات النساء, إلّا أن البحوث حتى وقتنا الحاضر تبين أن الجنين لا يظهر أيّ تفضيل لصوت الأب "De Casper Prescott 1984", ومع ذلك, فإن زيادة تعود الجنين لهذا الصوت قد يؤدي به للإستجابة له "تفضيلَا له على غيره من الأصوات" حتى في غرفة الولادة, إلّا أن الأدلة لا تزال غير كاملة. وعمومًا فإن النتائج المتناثرة تقول لنا: إن أطفال الأمهات البكماوات نادرًا ما يصرخون, ويعقب "Truby Lind"1965" على ذلك بقولهما: أن أمثال هؤلاء الأطفال يفتقدون دروس الكلام أثناء وجودهم في أرحام أمهاتهم", وحيث أن الصراخ من مؤشرات القدرة على الكلام

عند الطفل، بالإضافة إلى أنه من وسائل التعبير عن الانفعالات، فإن مثل هؤلاء الأطفال ربما يعانون بعد ذلك من صعوبات التواصل. وتوجد أدلة على قدرة الجنين على تذكر المثيرات الصوتية "والتذكر من علامات التعلم"؛ ففي الدراسة التي قام بها ديكاسبر وسبنس عام 1986 التي أشرنا إليها, قاما بتعريض الأجنة لثلاث قصص قصيرة, إحداها قيلت بصوت الأم مرتين يوميًّا خلال الفصل الأخير "الثالث" من طور الجنين, وأظهرت النتائج أن الأجنة أظهروا تفضيلًا للقصة الأكثر مألوفية "المقروءة عددًا أكبر من المرات وبصوت الأم"، سواء قرئت في موقف الاختبار "بعد التدريب" بصوت الأم, أو بصوت إمرأة أخرى, والسؤال هو: هل يؤدي استماع الجنين إلى صوت الأم وأنماطها في الكلام والتحدث إلى إعداد الطفل لتعلم لغة الأم؟ "ولعلنا نشير هنا إلى أن اللغة القومية؛ كاللغة العربية في مجتمعاتنا تسمى اللغة الأم "Mother rongue". ربما يدعم الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب تلك النتيجة الطريفة التي توصل إليها "Lind Hardgrove 1978" منذ أواخر السبعينيات, وخلاصتها: أن الجنين يظهر استجابات تفضيلية للأنماط المختلفة من الأصوات, والموسيقى التي تقوم الأم أثناء الحمل بغنائها, أو بإصدارها ببعض الآلات الموسيقية، بل إن الأكثر أهميةً أن الطفل يظهر تفضيلًا لنفس الأنماط الصوتية بعد الولادة, بل إن هذه الدراسة، ودراسة أخرى قام بها جاكسون "Jackson 1978" أكدتا أن تفضيل الطفل لهذه الموسيقى قد يظهر بعد فاصل زمني, قد يمتد إلى ما بين ثلاثة وخمسة شهور بعد الولادة "حين يتعرض الطفل لنفس المثيرات الصوتية", بل إن هذا الأثر قد يمتد لبضعة سنوات. ومن علامات تعلم الأجنة أن الجنين في الفصل الثالث من طور نموه, يتعلم الاستجابة الحركة "بالرفس مثلًا" عند لمس بطن أمه في أماكن معينة تعود الجنين عليها, كما أكدت دراسة قام بها ماديسون وزميلاه "Madison et al 1986" أن الجنين الذي يتعرض لخبرات صوتية, ويتعود عليها بسرعة قبل ولادته, يظهر قدرةً عاليةً على التوجه المكاني, والاستجابة للمثيرات البيئية عقب الولادة, وبالطبع فإن النمط الأساسي للتعلم في هذه الحالة هو التعلم بالاشتراط, وهذه مسألة تحتاج لمزيد من البحث. ومن الدراسات الحديثة حول هذا الموضوع بحث "Wilkin 1991" التي أجرته على مجموعتين من النساء الحوامل؛ إحداهما: تجريبية, والأخرى ضابطة؛ حيث تعرضت المجموعة التجريبية لخبرة موسيقية تصل مباشرة للجنين من خلال جهاز تسجيل موصل مباشرة لبطن الأم, بينما لم تتعرض المجموعة الضابطة

لهذه الخبرة, وتَمَّ قياس معدل القلب والنشاط الحركي للجنين في الحالتين, ثم عرضتت نفس المثيرات الموسيقية على الأطفال من المجموعتين بعد الولادة, وسجلت نفس الاستجابات التي قيست لهؤلاء الأطفال حين كانوا أجنة, لقد أظهرت النتائج فروقًا جوهرية بين مجموعتى الأطفال, مما يدل على حدوث تعلم أثناء مرحلة الجنين. خلاصة المرحلة المعجزة: هكذا نأتي إلى نهاية الطور الأول من رحلة حياة الإنسان: طور الجنين, وهي مرحلة معجزة، وصفها القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنًا، ولم يكشف العالم الحديث عن بعض أسرارها إلّا منذ بضعة عقود. وحتّى يتضح لنا المعنى الكلي لهذه المرحلة نعرض خلاصة لها في الجدول رقم "7-1", يوضح التغيرات الجوهرية التي تطرأ على كل طور منها.

جدول رقم "7-1" خلاصة التطورات الجوهرية التي تطرأ على الجنين في أطواره المختلفة

الفصل الثامن: رعاية الجنين والأم الحامل

الفصل الثامن: رعاية الجنين والأم الحامل العوامل المؤثرة في النمو خلال طور ماقبل الولادة خصائص الأم ... الفصل الثامن: رعاية الجنين والأم الحامل يتناول هذا الفصل الأسس العامة لرعاية الجنين والأم الحامل, ونبدأ بعرض العوامل المؤثرة في النمو خلال طور ما قبل الولادة, ثم ننتقل إلى أساليب الإرشاد اللازمة للوالدين عامة والأم خاصة في هذه المرحلة. العوامل المؤثرة في النمو خلال طور ما قبل الولادة: يتأثر النمو في طور ما قبل الولادة بمجموعةٍ من العوامل, تؤدي إلى السواء أو الخلل في التتابع العادي الذي وصفناه في هذا الباب, ونعرض فيما يلي العوامل التي أكدتها البحوث التجريبية. 1- خصائص الأم: من العوامل المؤثرة في نمو الطفل في طور ما قبل الولادة عمر الأم, فقد تأكد أن الحمل قبل سن العشرين قد يؤدي إلى فقدان الطفل أو نموه مشوهًا, وقد يكون سبب ذلك أن كثيرًا من النساء لا يبلغ النضج الجسمي قبل هذا السن "ربما عند سن 18", وعلى هذا, فإن الأم الصغيرة التي لا تزال في مرحلة النمو الجسمي قد يكون جهازها التناسلي أقلّ اكتمالًا, أو أنها قد تكون في حاجة أكثر إلى معظم غذائها في نموها هي، ويؤدي ذلك إلى بعض الأخطار على الجنين. وبالمثل, فإن الأمهات بعد سن الخامسة والثلاثين يواجهن مشكلاتٍ أثناء الولادة, بالإضافة إلى احتمال وفاة الجنين وتشوهه إذا وُلِدَ حيًّا, ومعظم هذه الحالات تنشأ لدى الأم الكبيرة التي تلد في هذا السن لأول مرة, والمشكلات في هذه الحالة تفوق مشكلات الأم الصغيرة, أما بالنسبة للأمهات الكبيرات اللاتي سبق لهن الولادة, فعادةً ما يكمل الجنين مدة الأشهر التسعة ويلدن بطريقة طبيعية. ويؤثر في نمو الجنين عدد مرات الحمل السابقة للأم؛ فالأم التي تحمل أكثر من أربع مراتٍ يتعرض جنينها في هذه الحالة إلى مشكلات نمو أكثر من الأم التي تحمل عددًا أقل من المرات, إلّا أن الملاحظ أن الولادة الثانية للأم تكون عادةً

أيسر من الولادة الأولى, ويرتبط عدد مرات الحمل بالطبع بسن الأم, فمن البديهي أن تكون الأم التي تلد أكثر من 4مرات أكبر سنًّا من تلك التي تلد عددًا أقل من المرات إذا تساوى سن الزواج. ويؤثر في نمو الجنين الحالة الانفعالية للأم, إلّا أننا يجب أن نذكر أن هذا العامل لم يدرس بعد دراسة كافية على أمهات الأجنة البشرية, بسبب صعوبة تصميم مثل هذه البحوث التي تنتمي إلى دراسة التفاعل بين الأم والجنين, وتقدير أثر هذا التفاعل في نموه, وقد اقتصرت معظم البحوث على الظواهر التي يمكن أن تقاس بموضوعية, وخاصة النشاط البيولوجي والنشاط الحسي, ولهذا فإن معظم هذه البحوث أجريت على الحيوانات، ومنها اتضح بصفةٍ عامَّةٍ أن تعرض الأم الحيوانية الحامل للضغوط الانفعالية يؤدي إلى تغير سلوك النسل, ومن ذلك زيادة الانفعالية لديه "Mussen 1970", ويبدو من ذلك أن من المنطقي استنتاج: أن الحالة الانفعالية للأم تؤثر في نمو جنينها؛ فالأم غير السعيدة في حياتها الزوجية تشعر بالقلق نتيجة للحمل, وحتى الأم السعيدة تشعر أحيانًا بالقلق من عملية الولادة, وخاصة إذا كانت للمرة الأولى, وقد تأكد تأثير هذه الحالات على الجنين بالرغم من عدم وجود ارتباط مباشر بين الجهاز العصبي لكلٍّ من الأم والطفل, وقد ينشأ الأثر عن نشاط الجهاز العصبي المستقل للأم الذي يستثير الغدد الصماء لإفراز هورمونات؛ مثل: الأدرينالين الذي يصاحب الحالات الانفعالية مثل القلق, والهورمونات يمكنها أن تخترق المشيمة, وتدخل في المسمار الرئيسي لدم الجنين, وفي دراسة مبكرة قام بها سونتاج "Sontage 1987" أن الأطفال الذين يتَّسِمون بكثرة النشاط أثناء الحمل ربما نتيجة لقلق الأم، يظهرون فيما بعد الكثير من الصراخ والتلوي والإسهال ومشكلات التغذية, كما أكَّدَ باحثون آخرون "Copans 1974" بعد ذلك أعراضًا أخرى لأطفال هؤلاء الأمهات؛ مثل: القئ المتكرر, والحساسية للأصوات, وقد تؤثر الحالة الانفعالية للأم أيضًا في زيادة النشاط الحركي للجنين "Ridgway 1987"؛ فإذا استمر التوتر الانفعالي والقلق طوال فترة الحمل, فإنه قد يؤدي إلى صعوبات جمة أثناء الولادة. وحالما يولد الطفل من أمٍّ شديدة القلق, وعلى درجةٍ من الاعتمادية على الآخرين, ولديها اتجاهات متناقضة أو سلبية إزاء الحمل, فإن طفلها يكون زائد النشاط, مفرط الحساسية, وغير منتظم في طعامه ونومه وعادات الإخراج عنده، بالإضافة إلى ما قد يعانيه من أمراضٍ خلال السنوات الثلاث الأولى من حياته "Stott 1971", وهذه الحالة المزاجية قد تكون وراثية، وقد ترجع مباشرة إلى القلق الزائد عند الأم. إلّا أننا نحب أن ننبه إلى أن النتائج السابقة ترتبط بالحالة الانفعالية الشديدة طويلة المدى لدى الأم, ولا نتوقع أن يؤدي الضغط النفسي العادي أو القلق المتوسط أو المؤقت, إلى آثارٍ خطيرة في الجنين.

التغذية

2- التغذية: التغذية غير الكافية للأم تؤدي أيضًا إلى مشكلاتٍ في نمو الجنين؛ لأن الأم هي المصدر الوحيد لغذائه، ولهذا ينصح أطباء النساء والولادة الأمهات في الوقت الحاضر بأن يزيد وزنهن خلال الشهور الثلاثة الأولى من الحمل بمعدل ثلاثة أو أربعة أرطال على الأقل "ما بين 1,5-2،8 كيلو جرامًا"، ثم بمعدل رطل "حوالي نصف كيلو جرام" في الأسبوع تقريبًا بعد ذلك، بزيادة كلية مقدارها 24 -28 رطلًا "بين 12-14جرامًا". ويتوقف ذلك على التوازن الغذائي للطعام الذي تتناوله الأم؛ حيث يجب أن يشمل البروتين والدهون والكربوهيدرات والمعادن والفيتامينات. ومعظم النتائج التي حصل عليها الباحثون عن علاقة التغذية بنمو ما قبل الولادة, جاءت من البحوث التي أُجْرِيَت على الأمهات سيئات التغذية, وتأكد أن خطر هذا العامل على الأم الحامل يكون أشد حين يحدث في الشهور الثلاثة الأولى من حياة الجنين، كما أن هذه المخاطر قد تظهر حين يحدث سوء التغذية في الفصل المتآخر من الحمل "أي: الشهور الثلاثة الأخيرة"؛ ففي هذه المرحلة يتزايد بسرعة عدد خلايا مخ الجنين كما يصل فيها الجنين إلى معظم وزنه المعتاد عند الولادة, وقد أكدت البحوث التي أجريت على الحيوانات أن الغذاء غير الملائم للأم ينتج في الجنين عدد أقل من الخلايا العصبية "Liebert et 1986", ولهذا فإن من المتوقع للأمهات سيئات التغذية في هذه الفترة, أن يلدن أطفالًا ذوي مخٍّ أقل في عدد خلاياه العصبية, وذوي وزن منخفض, وبالإضافة إلى ذلك فإن كثيرًا من الدراسات الارتباطية أكدت وجود علاقة بين النقص الغذائي لدى الأم والولادة المبتسرة, أو نقص الوزن عند الولادة, أو ولادة الجنين ميتًا, أو التخلف في النمو, بالإضافة إلى التخلف العقلي. وتتوقف الآثار طويلة الأمد لسوء التغذية أثناء الحمل على نظام تغذية الطفل بعد ولاته, فإذا تعرض الطفل الوليد لسوء التغذية بسبب انخفاض المستوى الاقتصادي الاجتماعي؛ فالأرجح أنه سينمو بنقائص جسمية وعقلية, ومن حسن الحظ أن التعويض الغذائي الذي يُقَدَّمُ للأم خلال النصف الثاني من فترة الحمل, أو يقدَّم للأطفال عقب الولادة مباشرة, يساعد في خفض آثار سوء التغذية المبكر. وعلى أية حالٍ, فلا يزال موضوع سوء التغذية وأثره في الجنين في حاجةٍ إلى مزيد من البحث, والسؤال هو: هل سوء التغذية لدى الأم لا يقابل ببساطة الحاجات الغذائية لدى الجنين، أم أنه أيضًا يلعب دورًا غير مباشر في زيادة تعرض الأم للأمراض وتعقيدات الولادة؟

الأمراض

3- الأمراض: من المعلوم في الوقت الحاضر أن كثيرًا من الفيروسات تستطيع أن تخترق المشيمة, وتؤثر بشدة في الجنين, ويزداد ذلك وضوحًا إذا علمنا أن الجنين لا يتوافر له جهاز مناعة ناضج يقاوم الأمراض المختلفة. ومن الأمراض التي تؤثر في الجنين تلك تتعرض لها الأم بالطبع، وأشهر هذه الأمراض الحصبة الألمانية التي عرفت بخطرها على الجنين منذ عام 1942؛ فإصابة الأم بهذا المرض قد يؤدي إلى فقدان الطفل بصره وسمعه, وقد يعاني من اضطراب القلب والكبد والبنكرياس والتخلف العقلي, ويزداد خطر الحصبة الألمانية خلال الشهور الأولى من الحمل؛ حين يزداد احتمال السقط أو ولادة الطفل ميتًا، أو الولادة قبل الأوان، ويقدر عدد النقائص التي تحدث نتيجة لهذا المرض خلال الشهر الأول من الحمل بحوالي 50%، كما تأكد أن خطر الحصبة الألمانية لا يكون بنفس الدرجة من الشدة على الطفل إذا أصيبت الأم بعد ثلاثة أشهر من الحمل. ومن الأمراض المعدية الخطيرة أيضًا مرض الزهري, الذي يؤثر في الجنين، إلّا أن أثره عكس اتجاه الحمى الألمانية؛ فهو أشد خطرًا بعد أن يبلغ الجنين ثلاثة أشهر من العمر إذا أصيبت به الأم في هذه الفترة. وتوجد أمراض أخرى لها أثار مختلفة في الجنين, يوضحها الجدول رقم "8-1".

جدول رقم "8-1" بعض الأمراض التي تتعرض لها الأم وأثرها في الجنين

العقاقير والمخدرات

4- العقاقير والمخدرات: يتأثر الجنين بما تتعاطه الأم من العقاقير "ويشمل ذلك الأدوية"؛ فبعض الأدوية التي تشمل المهدئات أو بعض الهرمونات "وخاصة الهرمونات الجنسية" تؤثر تأثيرًا سلبيًّا على نمو الجنين، ويشمل ذلك حبوب منع الحمل إذا تعاطتها الأم دون أن تعلم أنها حامل. ويدخل في باب العقاقير المسكرات والمخدرات, وقد تأكَّد منذ زمنٍ طويلٍ أن تعاطي الأم للخمور "حتى ولو بمقدار بسيط" يؤدي إلى ضمور رأس الجنين, وسوء نشاط قلبه وأطرافه ومفاصله ووجهه, ويتوقع لهذا الجنين أن يظهر نشاطًا زائدًا وبعض النوبات التشنجية, وقد حدد بعض الباحثين "راجع: Shaffer 1985 136" عرضًا مرضيًّا يسمى "كحولية الجنين"، ويلاحظ على الطفل الذي يولد ولديه هذا المرض أنه يكون أصغر حجمًا, وأخفّ وزنًا, بالنسبة للطفل العادي، وأن نموه الجسمي يتخلف عن أقرانه طوال الطفولة والمراهقة. كما أن معظم هؤلاء الأطفال يحصلون على درجات أقل من المتوسط في اختبارات الذكاء، وكثيرون منهم يصنفون على أنهم متخلفون عقليًّا. وقد أجريت دراسات على تدخين الأم للحشيش, أكدت أنه يؤدي إلى حدوث شذوذ سلوكي يظهر في الطفل الوليد, كما أجريت دراسات على عقاقير الهلوسة LSD1, أكدت أن الأم التي تتعاطى هذه العقاقير قبل الحمل أو أثناءه, تتعرض للإجهاض التلقائي، أو إلى أن يولد الطفل وفيه عيوب تكوينية, ومنها شذوذ الكرموزومات, فإذا أضفنا إلى ذلك أن الأمهات اللاتي يتعاطين هذه المخدرات وغيرها عادةً ما يكنّ من المريضات, أو من سيئات التغذية, أو من المدمنات على أنواعٍ من العقاقير الأخرى كالخمور, يمكننا أن ندرك المخاطر المحدقة بأطفالهن. ولعل من أخطر النتائج التي تَمَّ التوصل إليها, هي ما يدور حول تعاطي المخدرات المهدئة مثل: الأفيون والهيروين والكودين والميثادون والمورفين, فقد تأكد أن أطفال المدمنات على هذه المواد يصبحون مدمنين وهم في الرحم, وحين يولدون يكون حجمهم أقل من الحجم المعتاد, بل لوحظ على هذا الطفل بعد ولادته "وقد توقف بالطبع عن التعاطي بسبب انفصاله الجسدي عن الأم" أنه يعاني من القيء والإسهال والتشنج, والتي قد تؤدي بحياة الطفل إذا لم تعالج, وإذا عاش الطفل فإنه يظهر أعراض التهيج وحَدَّةَ الطبع والصراخ الحاد والارتعاش الشديدة, وعدم القدرة على النوم، والنشاط الزائد، ومشكلات التنفس، والشهية الكبيرة للطعام، والإسهال، والقيء "Householder et al 1982", وهذه الاضطرابات قد تستمر لمدة شهرين أو ثلاثة, وقد يصبح بعضها طويل الأمد, ويظهر في صورة نشاط زائد, وضعف في مدى الانتباه.

_ 1 الاسم الكامل لهذا المخدر الخطير هو Lysertic acid dicthylamide

التدخين

5- التدخين: أكدت نتائج البحوث التي أجريت حول أثر تدخين الأمهات على نمو الجنين, أن تدخين الأم يؤثر مباشرة في الجنين بتعطيل أو تأخير معدل نموه، كما يزيد المخاطرة بحدوث الإجهاض التلقائي "السقط" أو موت الجنين. وقد تأكد أيضًا أن أطفال الأمهات المدخنات "وخاصة أولئك اللاتي يدخن بشراهة" قد يولدون بنقائص واضحة في النمو الجسمي والعقلي والانفعالي, وقد يكون السبب في ذلك إلى جانب أثر التدخين المباشر الناتج عن النيكوتين والآثار الجانبية لأول أكسيد الكربون, أن الأمهات المدخنات عادةً ما يكن سيئات التغذية, أو قد يكنَّ من اللاتي يتعاطين الخمور والمخدرات، وقد تضاف هذه الآثار السلبية إلى آثار التدخين؛ فتحدث نتائج أكثر خطرًا "Lefkowittz 1981". ويوضح الجدول رقم "8-2" الآثار المحتملة على الجنين الناتجة عن تناول الأم العقاقير والعناصر الكيميائية والمخدرات والتدخين.

جدول رقم "8-2" آثار تناول الأم لبعض العقاقير والعناصر الكيميائية في الجنين

مخاطر البيئة

6- مخاطر البيئة: توجد مجموعة عوامل تؤثر في الإنسان على وجه العموم، ويمتد أثرها إلى الجنين في رحم الأم بالطبع, تجمعها تسمية عامة هي مخاطر البيئة، ويشمل ذلك آثار الإشعاع؛ فقد تأكد أن كل امرأة حامل عاشت في نطاق نصف ميل, بعيدًا عن الانفجار الذري الذي تعرضت له اليابان في الحرب العالمية الثانية, ولدت طفلًًا ميتًا، وأن 75% من النساء الحوامل اللاتي عشن في نطاق ميل وربع من هذا الانفجار الذري ولدن أطفال مشوهين أو معوقين, ومعظمهم مات عقب الولادة, بل إنه حتى التعرض الكلينيكي لجرعة من الإشعاع، كما هو الحال في أشعة أكس، يؤدي إلى الخلل الوراثي والإجهاض التلقائي ونقائص جسمية خطيرة, أهمها الكروموزمات وسيولة الدم, وخاصة إذا تعرضت الأم لهذه الأشعة في المرحلة الأولى من الحمل, ولعل أهم الابتكارات التكنولوجية التي أفادت الإنسانية، وخاصة صحة الأم والجنين، التصوير بالموجات فوق الصوتية الذي حلَّ محل التصوير بالإشعاع. وقد امتدَّ الاهتمام في السنوات الأخيرة إلى تلوث البيئة, وقد تأكد أن تلوث الماء الذي تشربه الأم, والطعام الذي تأكله, والهواء الذي تستنشقه, يؤذي نمو المضغة والجنين, وبالطبع, فإن معدَّل التلوث يزداد في المناطق الصناعية. إن مخلفات المصانع التي تتألف من الرصاص والزنك والزئبق والأنتيمون، والتي تصب في الهواء وفي مصادر مياه الشرب، ناهيك عن مخلفات فضلات البشر التي تلجأ بعض دول العالم الثالث إلى التخلص منها بصرفها في الأنهار والبحار، لها آثار ضارة في تعويق الصحة الجسمية للإنسان وقدراته العقلية، وتؤثر بدورها على الأجنة في الأرحام.

أثار الوراثة (عامل الريصص)

7- آثار الوراثة "عامل الريصص": أشرنا في الفصل السابق إلى بعض الآثار التي تنتجها الوراثة في تكوين الجنين, ولابد من الرجوع إليها لتكوين صورة كاملة عن العوامل التي تؤثر في هذه المرحلة الهامة من حياة الإنسان, ونكتفي هنا بالإشارة إلى عامل وراثي هام يلعب دورًا خطيرًا في نمو الجنين, وهو ما يسمى عامل الريصص, ويشار إليه باختصار المصطلح1 "Rh" وهو بروتين وراثي يوجد في دماء حوالي 85% من الأصل العام للسكان, وتنشأ المشكلة حين يحمل الأب هذا العامل ولا تحمله الأم

_ 1 هذا العامل منسوب إلى قرد الريصص Rhesus, وهو قرد هندي صغير قصير الذيل, وقد اكتشف العلماء هذا العامل فيه أولًا.

فحينئذ يصبح الجنين حاملًا له, فإذا اتصل دم الجنين بدم الأم, فإن جهاز المناعة لدى الأم قد ينتج أجسامًا مضادة antibodies تحمى جسمها من بروتين Rh الغريب عليه, وتؤدي هذه الأجسام المضادة إلى القضاء على خلايا الدم الحمراء لدى الطفل, والتي تحمل الأوكسجين، وهذه الحالة تسمى الحمراوية erythroblas tosis, وتؤدي إلى وفاة الطفل قبل الولادة أو بعدها, أو إلى تخلفه العقلي إذا عاش. وهذه الآثار لا تظهر عادةً أثناء الحمل لأول مرة؛ لأن عامل الريصص لا يستطيع أن يخترق المشيمة حينئذ، إلّا أن دم الأم قد يستقبل هذا العالم بعد ذلك عند انشقاق المشيمة لحظة الولادة، وحينئذ يبدأ جسم الأم في إنتاج الأجسام المضادة, فإذا حملت مرة أخرى تخترق هذه الأجسام المضادة المشيمة وتقضي على الجنين, ويمكن الوقاية من ذلك بتناول الأم عند ولادة طفلها الأول مادةً تمنع تكوّن الأجسام المضادة, تسمى: rho GAM. الإرشاد الوراثي: يعد الإرشاد الوراثي genetic couseling أحد المجالات الحديثة التي ظهرت في السنوات الأخيرة بهدف المساعدة في إعطاء المهتمين المعلومات الطبية الناجمة عن التطورات المتزايدة في ميدان الوراثة الإنسانية، وتفسير هذه المعلومات، وبخاصة للزوجين, وتشمل هذه المعلومات ما يتصل باحتمال وراثة الطفل خصائص مرضية وراثية معينة "ومنها الاضطرابات التي أشرنا إليه في الفصل السادس, وعامل الريصص الذي أشرنا إليه أنفًا". وهذه المعلومات تفيد الوالدين في اتخاذ قرارهما بالنسبة للزواج أولًا, وإنجاب الأطفال بعده. ويهتم الإرشاد الوراثي أيضًا بالعوامل الأخرى التي تؤثر في الجنين, بالإضافة التي العوامل الوراثية، ومنها نوعية بيئة ما قبل الولادة التي قد تؤثر في حياة الطفل قبل ولادته, ومهمة المرشد الوراثي هي تزويد الوالدين بأكبر قدر من المعلومات لزيادة فرص الحصول على طفلٍ سويّ. وتوجد عدة طرق في الوقت الحاضر لتوفير هذه المعلومات عن الوراثة للوالدين قبل الحمل, ومن ذلك الحصول على تاريخ الأسرة الطبي لملاحظة وجود أي مشكلات صحية, أو أمراض معينة في عائلتي الوالدين. وأما الطريقة الأخرى -وهي الأكثر دقة- فتتمثل في فحص الحاملات الوراثية لأمراض معينة لدى كلٍّ من الوالدين من خلال الفحص المعملى لدم كلٍّ منهما وبوله وإفرازاته العرقية. أما في حالة الحمل, فتوجد بعض الطرق المتاحة لتشخيص اضطرابات الصبغيات "الكروموزومات" أو الأمراض, أو غير ذلك من النقائص في الجنين

النامي في رحم الأم, وتسمى هذه الطرق الحديثة بالتشخيص قبل الولادي natal diagnosin pre, وقد أصبحت هذه الطرق ممكنة بعد التوصل إلى إجراء علمي هام يسمى التحليل الأميني المصغر aminocentesis, وهو إجراء لا يجب استخدامه قبل انقضاء 14 أسبوعًا على الحمل، وفيه تؤخذ عينة صغيرة من السائل الأميني المحيط بالجنين, وذلك باستخدام إبرة مفرغة دقيقة طويلة تغرز في بطن الأم لتصل إلى الرحم, ومن المعروف أن هذا السائل يحتوي على خلايا الجلد التي يتلخص منها الجنين النامي, وبعد الحصول على هذه العينة يتم تنميتها في مزرعة معملية، ثم تحلل ميكروسكوبيًّا لمعرفة الخصائص الكروموزومية والوراثية والأيضية للجنين, وبهذه الطريقة يمكن تشخيص جنس الجنين, بالإضافة إلى حوالي مائة نقص وراثي. ويوصي الأطباء بإجراء مثل هذا التشخيص للأمهات اللواتي يحتمل أن يظهرن خللًا وراثيًّا, ويشمل ذلك الأمهات اللاتي يتجاوز عمرهن 35سنة، أو اللواتي ولدن لأسر لها تاريخ من الخلل الوراثي, ومما يدعونا إلى الاطمئنان أن حوالي 97% من هذه الحالات يؤكد التحليل الأميني لأجنتهن أنهم خالون من أي خلل مشكوك فيه, أما إذا وجد الطبيب أن الجنين يعاني من خلل وراثي, فإنه يستطيع أن يقلل من خطره، بل قد يستطيع أن يصححه بإجراء مباشر عند الولادة أو بعدها مباشرة، بل أن بعض التطورات الحديثة في التكنولوجيا الطبية جعلت من الممكن تصحيح الخلل أثناء فترة الحمل ذاتيًّا باستخدام أساليب الجراحة أو التطبيب. وهكذا يعين المرشد الوراثي الوالدين أثناء حمل الأم أو عند الولادة؛ من خلال تزويدها بالمعلومات المبكرة عن نقائص طفلها, كما يساعدهما على الوصول إلى قرارٍ حكيمٍ حول الاختبارات والمخاطر, حتى يمكنهما التعامل مع المشكلات التي يمكن أن تحدث، أو التخطيط لأسرتهما في المستقبل. رعاية الأم الحامل: يتضح لنا من مناقشتنا السابقة, أن الأم الحامل في حاجة إلى برنامج كامل للرعاية، يطلق على هذا البرنامج في الوقت الحاضر برنامج رعاية الأمومة والطفولة mother-child care, وتوجه هذه البرامج إلى الأمهات من مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية، إلّا أن الفئات الأولى بالرعاية تلك التي تعاني من الضغوط الاقتصادية على وجه الخصوص, ويؤكد ذلك البحوث التي أُجْرِيَتْ في السنوات الأخيرة حول ما يسميه بيرش وجاسو، Birch Gussow" 1970] دورة الفقر cycle of poverty, وهي نظرية تؤكد أن آثار انخفاض المستوى

الاقتصادي الاجتماعي تنتقل بالفعل من جيل إلى جيل, ويوضح ذلك الشكل رقم "8-1". ويرى بيرش وجاستو أن آثار الفقر تبدأ منذ أمد طويل قبل الحمل؛ لأنها جزء من التاريخ النمائي للأم؛ فالأم التي تنشأ في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة, لا تصل عادةً إلى درجة كافية من النمو في مختلف النواحي، ومن ذلك النمو الطولي, وحيث أن نمو الطول يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالصحة الجسمية, فإنه يعد أيضًا منبئًا جيدًّا بمدى ملاءمة رحم الأم كبيئة للطفل قبل ولادته. ويزداد الموقف تعقيدًا في أن الأم التي تعيش في ظروف اقتصادية اجتماعية سيئة, تكون أكثر احتمالًا من الأخرى التي تعيش في ظروفٍ أفضل؛ من حيث الولادة المبكرة, وإنجاب عدد أكبر من الأطفال، والحمل حتى مرحلة أكثر تأخيرًا من عمرها, وهذه العوامل الثلاثة تتنبأ أيضًا بتعقيدات الحمل والولادة. وتستمر الظروف الاجتماعية الاقتصادية السيئة في تجميع آثارها خلال فترة الحمل ذاتها, وتعد التغذية أحد الجوانب الأساسية من المشكلة, فعلى الرغم من أنّ الأم الحامل تحصل عادةً على احتياجاتها من السعرات الحرارية, إلّا أن نظامها الغذائي قد تنقصه بعد القيم الغذائية, وتظهر هذه المشكلة خاصة بالنسبة لنقص الألبان والخضروات والفواكة الطازجة والبروتين, وقد أكدت البحوث وجود علاقة وثيقة بين غذاء الأم وكثير من الظروف السيئة التي يتعرض لها الطفل قبل الولادة وبعدها. ومن المكونات الهامة لبرامج رعاية الحامل، إلى جانب الاهتمام بنظام تغذيتها، ما تحصل عليه من رعاية طبية، والتي يجب أن تقوم بدورها الوقائي، بمعنى: أن الإشراف المستمر على صحة الأم الحامل يفيد في حمايتها من الاضطرابات التي قد تتعرض لها أثناء الولادة, وتقليل آثار العوامل التي لا تخضع للتحكم, ومن المهم أن نشير هنا إلى أن الأمهات اللواتي يحتمل أن يتعرضن لمخاطر نتيجة نقص المناعة الطبية قبل الولادة, هن أولئك اللاتي لا يحصلن عليها، بصرف النظر عن المستوى الاقتصادي والاجتماعي للأم. ويزداد هذا الخطر استفحالًا إذا كانت برامج الرعاية لا تُقَدَّمُ لهنَّ بالفعل, وخاصة اللاتي ينتمين إلى المستويات الاقتصادية الاجتماعية المنخفضة, وإذا كانت الإحصائيات في الولايات المتحدة تؤكد أن حوالي 75% من هؤلاء الأمهات لا تُقَدَّمُ لهن رعاية طبية أثناء الحمل إلّا بعد انقضاء ستة أشهر من الحمل "Goldhaber 1986", فما بال الحال في الدول النامية؟!

الشكل "8-1" دورة الفقرة وانتقالها من جيل إلى جيل

وجميع هذه الظروف السابقة على الولادة تستمر في إحداث آثارها بعد ولادة الطفل، فالتاريخ النمائي والتعليمي للوالدين يجعلهما أقلّ كفاءة في الحصول على مهن من مستوى مرتفع, كما أن عمر الأم, وعدد الأطفال في الأسرة, وقصر الفاصل الزمني بين كل ولادة لطفل وآخر, يؤدي إلى موقفٍ يجعل الرعاية الوالدية للأطفال أكثر صعوبة, وتاريخ الأطفال قبل الولادة يجعلهم أكثر تعرضًا للأمراض, وصعوبة الشفاء, وهذه الظروف جميعًا تؤدي إلى سوء الأداء في المدرسة, ونقص التعليم، وبهذا تبدأ دورة الفقر من جديد.

الباب الثالث: المرحلة الأولى لنمو الإنسان - أطوار الطفولة

الباب الثالث: المرحلة الأولى لنمو الإنسان - أطوار الطفولة مدخل ... الباب الثالث: المرحلة الأولى لنمو الإنسان"2"أطوار الطفولة تمهيد للباب الثالث: أهمية طور الطفولة: إذا كان طور الجنين هو في جوهره طور التكوين البيولوجي للإنسان، فإن طور الطفولة هو في أساسه طور التكوين السيكولوجي له, إنه بالطبع امتدادٌ للطور السابق، إلّا أنه -وهذا هو الأهم- أساس للمراحل والأطوار التالية, وهذا هو جوهر النمو على أنه "دورة حياة" أو"مدى حياة"، وهو التصور الذي يلتزم به هذا الكتاب. وإذا كان طور الجنين يمثل الفصل الأول من المرحلة الأولى في رحلة الإنسان في الحياة، فإن الطفولة هي فصلها الثاني، والمراهقة هي فصلها الثالث, والمرحلة الأولى للإنسان بفصولها الثلاثة تمثل الضعف الذي خلق عليه تمهيدًا للقوة والرشد الذي سوف يتحول إليهما فيما بعد, يقول الله -سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً.....} . ويدور هذا الباب حول طور الطفولة, وهي فترةٌ تمتد من ميلاد الطفل حيًّا حتى بداية بلوغه الجنسي "مطلع المراهقة", وهي فترة زمنية يبلغ طولها حوالي اثنتي عشرة سنة, تطرأ فيها على الطفل تغيرات هائلة, تمثلها المقارنة البسيطة بين وليد عمره بضعة أيام, وصبي عمره بضعة أعوام؛ فالكائن العاجز الضعيف الصغير يتحول بمعدلاتٍ متفاوتة من السرعة, إلى شخص له قدرات مختلفة في المجال الحركي واللغوي والمعرفي، ناهيك عن الوعي المتزايد بالعالم المحيط به، والقدرة على معالجته بطرق مختلفة، والاستجابة له بمختلف العواطف والمشاعر والانفعالات، والتصدي لمشكلاته بالحل, وهذا هو التوجه المتدرج المستمر نحو المرحلة الثانية من نموه, وهي مرحلة الرشد، وهو توجه سوف يزداد وضوحًا في الطور التالي، أي: مرحلة المراهقة. وهذا الباب حول طور الطفولة، وقد التزمنا في تناولها بالإطار الإسلامي الذي عرضناه في الفصل الثالث من هذا الكتاب، وتنقسم إلى الأطوار الفرعية الآتية: 1- طور الوليد. 2- طور الرضاعة.

3- طور الحضانة "الطفولة غير المميزة", ويشمل طور الاستئذان. 4- طور التمييز. وقد خصصنا لكلِّ طورٍ منها فصلًا مستقلًّا.

الفصل التاسع: طور الوليد (من الولادة حتى نهاية الأسبوع الثاني)

الفصل التاسع: طور الوليد (من الولادة حتى نهاية الأسبوع الثاني) ولادة الطفل مدخل ... الفصل التاسع: طور الوليد"من الولادة حتى نهاية الأسبوع الثاني" ولادة الطفل: تُعَدُّ عملية ولادة الطفل حدثًا هامًّا لجميع الأطراف؛ فخلال الأسابيع الأخيرة من الحمل يزداد اهتمام الوالدين بالولادة, وخاصة إذا كانت تحدث لأول مرة, وحالما تتم الولادة تشعر الأم "والأب إن كان حاضرًا للحدث" بالإنهاك والراحة معًا, ومع لمس الأم للمولود, تشعر حقًّا بالإعجاز الإلهي العظيم, الذي خلق من جسدها هذا الكائن الإنساني الجديد. والسؤال التقليدي الذي يطرحه الوالدان دائمًا هو: كيف يمكن حساب الموعد التقريبي للولادة؟ وللإجابة على هذا السؤال نقول: إن أطباء النساء والتوليد كانوا يستخدمون لزمنٍ طويلٍ قاعدة مشهورة اقترحها نايجيلي Naegele, تتخلص في معرفة تاريخ بداية آخر دورة شهرية للأم، ثم يضاف إلى هذا التاريخ7 أيام، ويطرح منه 3شهور, مع تعديل السنة الشمسية إذا تطلب الأمر ذلك. ونوضح ذلك بالمثال الآتي: نفرض أن بداية آخر دورة شهرية للأم كانت يوم 8 نوفمبر "الشهر الحادي عشر من سنة" عام 1996، فإن تقدير الموعد التقريبي للولادة حسب هذه القاعدة, يكون يوم 15 أغسطس عام 1997 على النحو التالي: أما إذا كانت بداية آخر دورة شهرية هو 18 فبراير عام 1996 مثلًا, فإن موعد الولادة المتوقع يصبح 25 نوفمبر من نفس العام "1996". وبالطبع فإن دقة هذه القاعدة تتوقف على التقدير الصحيح لبداية آخر دورة شهرية, والتي تقررها المرأة وحدها, وهناك عوامل قد لا تجعل تقديرها لهذا التاريخ صحيحًا، إلّا أنه مع ظهور تكنولوجيا التصوير فوق الصوتي, أمكن تصوير الأجنة؛ بحيث يمكن الوصول إلى تقديرات أكثر دقة.

ومن حقائق علم التوليد أن الجنين قبيل ولادته ببضعة أيام أو أسابيع, عادةً ما يتخذ وضعًا خاصًّا داخل الرحم؛ حيث تكون رأسه إلى أسفل, ورجلاه وقدماه إلى أعلى, وهو وضع الاستعداد البيولجي للولادة, ويسمى التخفف Lightening. ومن العلامات الأساسية المميزة لاقتراب الولادة المخاض Labour "وهو ما يسمَى بالعامية الطلق"، وهو العملية التي يدفع بها الجنين خارج الرحم، وتحدث خلال فترة تمتد بين بضع ساعات وبضع أسابيع بعد عملية التخفف, وتنقسم عملية المخاض إلى ثلاث مراحل: 1- المرحلة الأولى وهي الأطول، وتستمر لفترة تمتد من 12-15 ساعة, في حالة الولادة الأولى، وما بين 6-8 ساعات للولادات التالية, وفيها يتسع عنق الرحم من خلال سلسلة من التقلصات العضلية, تتم في البداية على فترات زمنية طولها 20 دقيقة, ثم تصبح أكثر حدوثًا مع اقتراب الولادة, ومن نتائج هذه التقلصات تمزق الأغشية التي تحيط بالجنين، والذي يصاحبه تدفق السائل الأميني إلى الخارج, وبانتهاء هذه المرحلة يصل اتساع عنق الرحم إلى حوالي أربعة بوصات. 2- المرحلة الثانية أقصر من المرحلة السابقة, ولكنها أكثر حدّةً, وتبدأ مع اكتمال اتساع عنق الرحم, وتنتهي بخروج الجنين, وعند الأمهات اللاتي يلدن لأول مرةٍ تستغرق هذه المرحلة حوالي 90 دقيقة، ثم تستغرق حوالي نصف هذا الوقت في الولادات التالية, ومن الخصائص المميزة لهذه المرحلة, أن الأم تلعب دورًا إيجابيًّا في دفع الجنين خلال قناة الولادة، ويمثل جهدها حوالي 50% من المجهود المطلوب، بينما كانت تقلصات الرحم في المرحلة السابقة لا إرادية, وتلعب عضلات البطن دورًا أساسيًّا في هذه المرحلة؛ بحيث تعين على دفع الجنين إلى العالم الخارجي, ويبدأ ذلك بظهور رأس الطفل أولًا، وعادةً ما تخرج, وبعدئذٍ يتم قطع الحبل السري, الذي يكون بالطبع لا يزال متصلًا بالمشيمة حتى هذه اللحظة, وحالما تستقبل رئتا الطفل الوليد الهواء خلال القناة الأنفية تتوقف تمامًا وظيفة الحبل السري في استقبال الأوكسجين من المشيمة, ويحدث ذلك من خلال إفراز مادةٍ هلامية داخل الحبل السري, تؤدي إلى غلق أنبوبة الهواء فيه, وفي بعض المستشفيات يتم تقويم حالة الجسمية -عقب ولادته مباشرة- باستخدام مقياسٍ أعددته فيرجينيا أبسجر منذ عام 1953، ويتم ذلك بعد دقيقة واحدة من الولادة, ثم يتكرر بعد 5دقائق, ثم بعد 10 دقائق بعد الولادة, ويشمل هذا المقياس تقديرة الحالة الجسمية في ضوء خمس علامات هي: معدل القلب، الجهد التنفسي، الحساسية للأفعال المنعكسة، العضلات، لون البشرة, فإذا كانت الدرجة

في هذه الأبعاد منخفضة, دلَّ ذلك على أن الحالة التي عليها الطفل تستدعي رعاية خاصة. 3- المرحلة الثالثة من المخاض: تحدث بعد حوالي20 دقيقة من الوضع, وحينئذ تشعر الأم ببعض التقلصات القوية، وتدل على إخراج الأم للمشيمة والحبل السري, والأغشية الأخرى التي كانت تحيط بالطفل, وبإخراج هذه الأشياء تكون عملية الولادة قد اكتملت. ويؤثر في الوليد يسر الولادة أو عسرها, والسرعة التي يتنفس بها عقب خروجه من الرحم, ومن الأخطار الهامة التي تنشأ عن الولادة العسرة, النزيف الذي ينتج عن الضغط على رأس الجنين, والذي قد يؤدي إلى تهتك بعض الأوعية الدموية في المخ, ومن هذه الأخطار أيضًا صعوبة أن يبدأ الطفل في التنفس عقب انفصاله مباشرةً عن المصدر الأمومي للأوكسجين, وكلٌّ من نزيف المخ, والفشل في التنفس, يؤثر في كمية الأوكسجين في الخلايا العصبية للمخ, ويؤدي إلى حالة مرضية تسمى نقص أوكسجين الأنسجة Anoxia. ومن المعروف أن الخلايا العصبية في الجهاز العصبي المركزي تحتاج إلى الأوكسجين, فإذا حُرِمَتْ منه تموت, وإذا فقد الوليد كميةً كبيرةً من خلاياه العصبية في هذه الفترة, فإنه يعاني من تلفٍ خطيرٍ في المخ, وقد يؤدي به ذلك إلى الوفاة، وإذا عاش, فإنه قد يعاني من نقائص جسمية وعقلية ونفسية خطيرة.

خبرة الولادة لدى الوليد

خبرة الولادة لدى الوليد: هل خبرة الولادة تُعَدُّ من الخبرات السارة أو الأليمة لدى الوليد؟ يمتلئ الفولكلور النفسي إجابات عديدة على هذا السؤال، لعل أشهرها هذا التفسير الدرامي لصرخة الميلاد، والتي اعتبرها بعض الأدباء والفنانين صرخة احتجاج على الميلاد ورفض له، بينما هي في جوهرها ميكانيزم فيزيائي طبيعي ناتج عن دخول الهواء إلى الجهاز التنفسي للطفل لأول مرة. من العلماء الذين أجابوا بهذه الإجابة على هذا السؤال "أي: اعتبار خبرة الميلاد خبرة أليمة" عالم التحليل النفسي أوتو رانك O. Rank, الذي استخدم عام 1929 هذا التعبير الذي شاع في التراث السيكلولوجي باسم "صدمة الميلاد" Trauma, وعنده أن الطفل الذي كان يعيش، وهو جنين، في بيئة دافئة ناعمة مشبعة للحاجات هي بيئة الرحم، تأتي عليه لحظة الميلاد فيطرد من هذه البيئة إلى عالم مختلف, وفي لحظة المواجهة الأولى لهذا العالم يعاني الطفل فجأةً البرد والألم والجوع واندفاع الأوكسجين إلى الرئتين, وتزداد صدمة الميلاد حدةً عند

الأطفال الذين يعانون من عسر الولادة, وفي رأي رانك, أن هذه الصدمة إذا كانت شديدةً تجعلهم على درجة عالية من القلق والعصابية طوال حياتهم. وعلى الرغم من أن هذه الأفكار يعوزها الأساس العلمي، ورفضها الكثيرون, وعلى رأسهم أستاذ رانك نفسه وهو سيجموند فرويد، فإن طبيبًا فرنسيًّا معاصرًا, يسمى فردريك ليبويير, أعاد إحيائها في كتاب شهير ظهر له عام 1975 "Leboyer 1975", ويعترض ليبويير على بعض الممارسات الشائعة في طب التوليد؛ مثل: القطع المتسرع للحبل السري، والاستثارة المفاجئة للطفل حتى يتنفس، ووزن الطفل في ميزان معدني بارد، وترويع الوليد بوضع نترات الفضة في عينيه، وفصل الطفل عن أمه عقب ولاته مباشرة, ويصف هذه الإجراءات وغيرها بأنها أساليب لتعذيب الأطفال الأبرياء, وفي رأيه أن الولادة يمكن أن تكون أقل "صدمية" إذا استخدم الأطباء طريقته الرقيقة الحانية في التوليد, والتي يصفها في كتابه بالتفصيل. ومن التطورات الهامة التي حدثت أيضًا في فن التوليد الحديث, إعادة الاهتمام بالجوانب المتصلة بالعلاقات الإنسانية أثناء خبرة الولادة، وزيادة مشاركة الآباء في هذه العملية, ومن ذلك السماح للأب بالوجود داخل غرفة المخاض والوضع بالمستشفيات؛ بحيث يقترب موقف الولادة من الجو العائلي الذي يعيش فيه الوالدان, مع السماح للوليد بعد ولادته بالبقاء معظم اليوم مع أمه, بالإضافة إلى تنظيم فصول خاصة "للإعداد للولادة" تنظمها بعض المستشفيات, ويشترك فيها الوالدان، وتعتمد دروس هذه الفصول على أفكار طبيبين شهيرين, أحدهما بريطاني هو جرانتلي ديك-ريد، والثاني فرنسي هو فرنادر لاميز, والهدف منها تزويد الوالدين بالمعلومات الأساسية عن عملية الولادة تمهيدًا لاستقبال الطفل.

الاتجاهات الوالدية ازاء الولادة

الاتجاهات الوالدية إزاء الولادة: من العوامل الهامة التي تؤثر في الوليد اتجاهات والديه نحوه, ومن أهم هذه الاتجاهات نظرة الأم نحو الحمل "تقبلها للطفل وهو جنين أو رفضها له", ومعلوماتها عن عملية الولادة, وحضور الزوج عملية الولادة، كل هذه العوامل وغيرها تؤثر في استجابات الأم نحو الولادة. ومما يفيد في تغيير اتجاهات الأم نحو عملية الولادة, ما تلجأ إليه بعض المجتمعات الحديثة من تنظيم فصول حول ولادة الطفل ورعايته, وفي هذه الفصول تقدم للأمهات من غير ذوات الخبرة السابقة "وربما الأزواج أيضًا" معلومات حول ما يحدث أثناء الوضع، كما تتدرب أمهاتٌ على أفضل أساليب

التنفس والاسترخاء التي تسهل هذه العملية, وتؤكد البحوث التي أجريت على فعالية هذه الفصول, أنها تؤثر في خبرة الأم، فهي تشعر باسترخاءٍ أكثر أثناء الوضع، وتدرك العملية على أنها أكثر يسرًا وسهولة "Shaffer 1985". ويؤدي وجود الزوج في غرفة الولادة إلى شعورٍ أخف بآلام الوضع، وقد يكون ذلك ناتجًا عن الدعم العاطفي الذي يقدمه الزوج لها في هذا الموقف الحرج, وخبرة الأب بعملية الولادة تجعله يزداد ارتباطًا بالطفل فيما بعد. ومع ذلك, فإن الخبرات الشائعة عند معظم الأمهات أنهن يشعرن ببعض الاكتئاب والضيق والتوتر خلال فترة تمتد من 3-8 أيام بعد الولادة, ومن الغريب أن هذه المشاعر تكون أكثر حِدَّةً لدى الأمهات اللاتي يشعرن بسعادةٍ أكبر خلال الأشهر الأخيرة من الحمل، كما لا توجد فروق جوهرية في هذه المشاعر بين الأمهات اللاتي يلدن أطفالًا أصحاء, أو يلدن أطفال غير أسوياء, أو يموت أطفالهن بعد الولادة, إلّا أن هذه المشاعر عادةً ما تكون مؤقتة, وسرعان ما تزول بعد عدة أيام أو أسابيع, ويرجع بعض الباحثين هذه المشاعر إلى ما تتناوله بعض الأمهات من أدوية خلال الوضع, كما أن بعض الأمهات قد يشعرن بهذه المشاعر السلبية نتيجة إهمالهنّ عقب الولادة, والاهتمام المبالغ فيه بالوليد من جانب الأهل والأصدقاء, ويعتبر البعض الآخر من الباحثين أن هذه المشاعر نوعٌ من الاستجابة السيكلوجية للتغيرات الهورمونية التي تحدث في جسم الأم, حتى تحوله من الحالة التي كان عليها أثناء الحمل إلى الحالة العادية التي يجب أن يكون عليها, ومهما كان السبب, فإن محض وجود هذه المشاعر التي لم نتنبه إليها إلّا في السنوات الأخيرة, يدعونا إلى ضرورة العناية بالأم عقب الولادة, وأن يسعى المقربون إليها بتقديم الدعم, والانتباه لها خلال هذه الفترة الحرجة.

اتجاهات الأخوة ازاء الوليد

اتجاهات الإخوة إزاء الوليد: يُعَدُّ ميلادُ طفلٍ جديد لأسرة لديها أطفال آخرون حدثًا تمتزج في اتجاهاتهم نحوه استجابات القبول باستجابات الرفض, فعادة ما يشعر الإخوة أن الأم تهجرهم بذهابها إلى مستشفى الولادة, وتهملهم عقب عودتها منها. ولهذا نجد هؤلاء الأطفال يبحثون عن الاهتمام والرعاية بإصدار بعض الأفعال الشاذة, حينما تكون الأم مشغولة بإطعام الوليد الجديد أو رعايته, ويصدرون هذه الأفعال عادةً بسبب مشاعر الغيرة. ومعنى هذا: أن على الوالدين أن يخصصا بعض الوقت للاهتمام بأطفالهم الكبار, حتى يشعروا بأنهم لا يزالون موضع رعايتهم وحبهم، مع ضرورة الحرص على عدم المبالغة في ذلك, ولعل حكمة الأبوة والأمومة هي التي تعين الوالدين على مواجهة تحدي الشعور بالغيرة عند الإخوة الكبار, وذلك من خلال تهيئة جَوٍّ يشعرهم بأهميتهم كأعضاء في الأسرة, وقد يحل هذه المشكلة أن يتناوب الوالدان في مهمة رعاية الوليد؛ بحيث يحظى الأطفال الكبار برعاية كلٍّ منهما, كما قد يساعد في حلها أن يُطْلَبَ من الأخ الكبير أن يظهر كفاءته من خلال تقديم يد العون للوليد, سواء في إطعامه أو حمامه أو تغيير ملابسه.

الاتجاهات نحو جنس الطفل

الاتجاهات نحو جنس الطفل: يحدد جنس الطفل نموه الكليّ منذ لحظة ميلاده, فالضغوط الثقافية من الوالدين, ثم من المعلمين وجماعات الأقران, ومن المجتمع ككل بعد ذلك, تستخدم وتمارس على الطفل منذ ولادته, وتزداد عامًا بعد عام, حتى يكوّن الطفل الاتجاهات المناسبة لجنسه, ويظهر أنماط السلوك التي تتناسب مع معايير الثقافة, والطفل الذي يتعلم أن يسلك على النحو "المطلوب" من جنسه, يحظى بالتقبل الاجتماعي, كما أن بعض خبرات التعلم التي يتعرض لها الطفل في المنزل وفي المدرسة وفي الملعب وغير ذلك من المجالات يحددها أيضًا الجنس. ولا شكَّ أن أهم الآثار الناتجة عن جنس الطفل هو اتجاهات الوالدين نحوه؛ فقد أثبتت الدراسات التي أجريت على تفضيل الوالدين لأيّ الجنسين, أن التفضيل التقليدي للولد, وخاصة للطفل الأول, لازالت له السيادة في كثير من الثقافات، فإذا وُجِدَ طفل واحد في الأسرة، يفضل الآباء الحصول على أخٍ له لا أخت, وحينما يوجد عدد من الأطفال في الأسرة, فإن الأبوين يفضلان في العادة أسرة تتكون من أطفال من الجنسين بأعداد متساوية تقريبًا. وبالطبع, فإن التفضيل القوي لطفل من جنس معين, له تأثيراته الواضحة على الاتجاهات الوالدية, والتي تؤثر بدورها في سلوك الوالدين نحو الطفل, وفي علاقاتهما معه؛ فالأمهات اللاتي يفضلن الأبناء الذكور يكن أكثر ميلًا للقسوة على البنات, وبالمثل, فإن الآباء يعاملون الطفل بما يتفق مع درجة تقبلهم لجنسه.

الاتجاهات نحو التوائم

الاتجاهات نحو التوائم: من الشائع أن الأم تنتج بويضة واحدة في المرة الواحدة, ويترتب على ذلك توأمان من النوع الذي يسمى توائم أخوية, والتي يعوزها التشابه في النواحي الجسمية والنفسية, وقد تكون التوائم الأخوية من نفس الجنس أو من الجنسين, ومعنى ذلك أنها تكون مختلفة في الخصائص الوراثية، بل قد تختلف في بيئة ما قبل الولادة "الرحم" من حيث موضع كل منهما في مشيمته وحبله السري. وقد يحدث أن تنقسم البويضة الواحدة المخصبة إلى قسمين أو أكثر في المراحل الأولى من الإخصاب، وينمو كل قسم إلى شخص كامل مستقلٍّ، وينتج عن ذلك توأمان, أو أكثر, من النوع الذي يسمى التوائم المتطابقة؛ وحيث أن هذه التوائم تنتج من نفس الخلية المخصبة, فإنها تتطابق تطابقًا تامًّا في الخصائص الوراثية. وبالطبع, فإن لعدد الأجنة في الرحم في المرة الأولى تأثيره على سير النمو, سواء قبل الولادة أو بعدها؛ فالتوائم المتطابقة مثلًا تتشابه كثيرًا في النمو الجسمي والعقلي, بسبب التشابه في العوامل الوراثية, ويؤثر ذلك في أنماط شخصياتهم تأثيرًا يختلف عن الإخوة العاديين, أو حتى التوائم الأخوية "غير المتطابقة", وفي فترة ما قبل الولادة نجد أن وجود أكثر من جنينٍ واحدٍ يجعل الطفل يشارك غيره في مكانٍ مهيأ لطفل واحد، وقد يؤثر هذا التزاحم في النمو الطبيعي لعضلات الأجنة، بل قد يؤدي إلى ولادة مبتسرة "أي: قبل الموعد"، والتي يزيد احتمال حدوثها كلما زاد عدد الأجنة في الرحم, ولذلك كثيرًا ما نجد أن احتمال استمرار حياة التوائم بعد الولادة أقل من احتمال حياة الوليد الواحد. وفي بيئة ما بعد الولادة, نجد أن اتجاهات الوالدين وطرق تربيتهما للأطفال تختلف بالنسبة للوليد الواحد عنها للتوائم, مما يؤثر في النمو في كلِّ حالة؛ فالأمهات يرفضن أحيانًا التوائم, وكثير من الآباء يحاول أن يهيئ للتوائم بيئةً متشابهة بعد الولادة، ولذلك فعادةً ما يعاملونهم كما لو كانوا ينتمون بعضهم لبعض, ويصدق هذا على التوائم المتطابقة, وعلى التوائم الأخوية من نفس الجنس, وبالطبع يؤثر ذلك في النمو الاجتماعي للتوائم. ففي سنوات ما قبل المدرسة يظهر عليهم ميلٌ للتنافس في جذب انتباه الكبار, وفي محاكاة بعضهم بعضها، وفي اعتماد بعضهم على بعضٍ, أكثر من اعتمادهم على غيرهم, وحين يكبر التوائم يظهر بينهم سلوك التنافس المعتاد بين الأخوة، وكذلك مشاعر النقص؛ لأن كلًّا منهما يعوزه الاستقلال, ويقارن دائمًا بتوأمه في جميع صور السلوك, ولذلك قد ينتج عن ذلك كله مشاعر الإحباط, وكما هو الحال في جميع العلاقات الاجتماعية, قد يقوم أحد التوأمين بدور القيادة, ويقوم الآخر بدور التبعية، ويؤثر ذلك بالطبع في علاقاتهم الاجتماعية بالآخرين. وقد يصعب على التوائم المتطابقة تنمية الإحساس بالذات؛ لأنه من المستحيل أحيانًا على الطفل في هذه الحالة أن يميز بين ذاته والتوأم باعتباره جزءًا من الآخرين, وهذا النقص في مفهوم الذات يؤدي في كثير من الأحيان إلى الإحباط والصراع, واستجابات العدوان التي تترك أثرها على الشخصية.

خصائص نمو الوليد

خصائص نمو الوليد: هذه المرحلة هي أقصر مراحل النموّ؛ فهي تبدأ مع الولادة, وتنتهي عندما يبلغ الطفل أسبوعين تقريبًا, وفي هذه المرحلة لا يحدث نموٌّ كبيرٌ, وإنما تحدث عدة صورٍ من التكيف مع الحياة الجديدة, ولذلك في العادة توصف مرحلة الوليد بأنها مرحلة هضبة في النمو, وهذا التكيف الذي أشرنا إليه يحدث عقب الولادة وقطع الحبل السري مباشرةً, ويتمثل في أربعة أنواع هي: 1- تكيف للتغيرات في درجة الحرارة بعد الانتقال من درجة حرارة ثابتة في الرحم, إلى درجة متغيرة تتراوح بين 28، 37 درجة مئوية في المستشفى أو المنزل. 2- تكيف لعملية التنفس, والذي يعني: اتساع الرئتين باعتبارهما مصدر الإمداد بالأوكسجين, بدلًا من المشيمة والحبل السريّ اللذين كان يعتمد عليهما الجنين في التنفس قبل الولادة. 3- تكيف لعملية المصِّ والبلع باعتبارهما وسيلتا الحصول على الغذاء بعد الولادة, بدلًا من التغذية التي كان يتلقاها الجنين من المشيمة والحبل السري. 4- تكيف لعملية الإخراج من خلال أجهزة التبول والتبرز, بدلًا من أن يكون ذلك خلال الحبل السري والمشيمة. هذه الأنواع الأربعة من التكيّف عادةً ما تكون صعبة على الوليد، ويتضح ذلك من أن وزنه ينقص خلال الأسبوع الأول بعد الولادة الذي يستغرقه في هذه التكيفات, ثم يبدأ بعد ذلك في الزيادة، وقد يجد بعض الأطفال عملية التكيف هذه في غاية الصعوبة، وربما لذلك تكون أعلى نسبة وفياتٍ بين الأطفال في هذه الفترة. وبالطبع توجد عدة عوامل تؤثر في تكيف الوليد لحياة ما بعد الولادة, هي على وجه الخصوص نوع الولادة, وصحة الأم, وحالتها الانفعالية فترة ما قبل الولادة, والظروف التي توجد في بيئة ما بعد الولادة، وهي عوامل تناولناها بالتفصيل فيما سبق. ونعرض فيما يلي خصائص النمو خلال هذه الفترة القصيرة، وقبل ذلك, يجب أن نؤكد أن مولد الوليد لا يعني أن فترة حمله بالضرورة 280يومًا، فبعض الأطفال يولدون قبل الأوان, والبعض الآخر يولد بعده, وفي هذه الأحوال, فإن من الواضح أن نفس المستوى من النمو لن يظهر في جميع الأطفال حديثي الولادة.

1- النمو الجسمي: عند الميلاد يكون وزن الوليد في المتوسط 1/2 7رطلًا "حوالي 4كيلو جرامات" وطوله 1/2 19 بوصة "حوالي 39سنتيمترًا", ويكون الذكور أطول وأثقل قليلًا من الإناث, وتوجد بالطبع فروق فردية داخل الجنس الواحد في ذلك, وهذ الفروق تكون أكبر في الوزن منها في الطول, والاختلاف والتباين في الحجم لا يعتمد على الجنس بقدر اعتماده على العوامل الموجودة في بيئة ما قبل الولادة, وخاصة طعام الأم أثناء الحمل, وقد ناقشنا ذلك في الفصل السابق, ويسبب وجود علاقة بين نظام تغذية الأم أثناء الحمل وحجم الطفل عند الميلاد, نجد أن متوسط حجم أطفال المناطق المنخفضة في المستوى الاقتصادي والاجتماعي يكون أقل من أطفال المناطق المرتفعة في هذا المستوى, والطفل الأول يكون وزنه في العادة أقل من الطول والوزن من إخوته الذين يولدون بعده. وخلال الأيام الأولى بعد الولادة ينقص وزن الطفل في العادة، ولو أن ذلك ليس قاعدة عامة, فمن الشائع أن ينقص الوزن بمقدار 6-7% من الوزن عند الميلاد, وفي اليوم العاشر بعد الميلاد تقريبًا يستعيد معظم الأطفال جزءًا كبيرًا من وزنهم المفقود, وقد سبق لنا أن فسرنا ذلك بظروف التكيف لبيئة ما بعد الولادة. وتكون عضلات الوليد ملساء صغيرة, وصعبة التحكم فيها, ووقت الميلاد يكون النمو الحادث في عضلات الرقبة والساقين أقل من اليدين والذراعين, وتكون العظام شأنها شأن العضلات لينة ومرنة, ولذلك تكون سهلة التشوه, ويكون الجلد ناعمًا, ولونه أقرب إلى اللون القرنفلي, وكثيرًا ما نجد في الوليد شعرًا ناعمًا أزغب في الرأس والظهر، إلّا أنه سرعان ما يزول, وتكون الغدد الدمعية عند الولادة غير نشطة, إلّا أنه مع بلوغ الطفل يومه الخامس يبدأ في البكاء بدموع. ومن حيث نسب الجسم نلاحظ أن الرأس تبلغ ربع طول الجسم تقريبًا, بمقارنتها برأس الراشد التي تبلغ حوالي 1/7 طول الجسم كله, وتكون منطقة الجمجمة أكبر بكثير من باقي الرأس، بينما تكون منطقة الذقن صغيرة جدًّا، وتكون الرقبة قصيرة جدًّا, ويبلغ حجم العينين درجة النضج تقريبًا, إلّا أن حركة العين لا تخضع للتحكم بسبب ضعف عضلاتها, وتكون الأنف صغيرة ومسطحة تقريبًا بالنسبة للوجه, ويبدو الفم كما لو كان فتحة ضيقة بسبب ضيق الشفتين. وفي الجذع تكون الأكتاف ضيقة, بينما تكون البطن كبيرة ومنتفخة, ومن حيث تناسب الأذرع والسيقان لدى أطفال هذه الفترة, نجدها أقصر من الرأس والجذع, وتكون الأيدي والأقدام صغيرة منمنمة.

2- النمو الفسيولوجي: مع الميلاد تبدأ وظائف الجسم في العمل حتى تقوم بمهام الاتزان البدني "الهوميوستازى", التي كان يقوم بها جسم الأم أثناء الحمل, وبالطبع فإن هذا النشاط يكون صعبًا عقب الولادة بسبب ضعف الجهاز العصبي المستقل, إلّا أن هذه الحالة سرعان ما تتغير مع النضج التدريجي لهذا الجهاز, ومن أسباب وفيات الأطفال في هذه المرحلة ضعف الاتزان البدني, ومع الولادة تبدأ وظائف التنفس في العمل. ومن الملاحظ على الوليد أن دقات قلبه تكون سريعة حتى يحافظ على ضغط الدم العادي مع قلب صغير الحجم, وتكون درجة حرارة الطفل أعلى من المعتاد, وتظهر حركات منعكس المصّ مع الميلاد، وبالطبع يتطلب الأمر بعض الوقت "عدة أسابيع" حتى ينتظم إيقاع الجوع، وبالتالي, فإن مطالب الجوع لدى الطفل حديث الولادة غير منتظمة, ليس بالنسبة للزمن فقط, وإنما بالنسبة للكمية أيضًا, كما أن وظائف الإخراج تبدأ في العمل بعد ساعات قليلة من الميلاد, ويتفاوت مقدار ما يخرجه الوليد من البول والبراز حسب الزمن والكمية أيضًا. وينام الوليد حوالي 80% من الوقت، ولا يوقظه إلّا بعض المثيرات الداخلية؛ مثل: عدم الراحة, أو الألم, أو الجوع، ولا يؤثر فيه من المثيرات الخارجية إلّا الضوضاء الشديدة جدًّا, أو التغييرات المفاجئة في درجة الحرارة. 3- حركات الوليد: يبدأ النشاط الحركي عند الإنسان مبكرًا أثناء فترة الحمل، ويزداد قوةً, ويصبح أكثر حدوثًا مع نمو الجنين, وبعد الولادة وخروج الجنين من الرحم تظهر بوضوح حركات الوليد التي تتسم بأنها غير متآزرة, وغير موجهة, بسبب عدم النضج الفسيولوجي العصبي، ولعل هذا أحد أسباب عجز الوليد, وبالرغم من الطبيعة العشوائية في حركات اليد, فإنها يمكن أن تنقسم إلى فئتين: أ- النشاط الكتلى: ويشمل الحركات العامة للجسم كله، ومن الملاحظ أنه لو تعرَّض أيّ جزء من أجزاء جسم الوليد لمثيرٍ حسيٍّ تكون الاستجابة هي حركة الجسم كله, فمثلًا حين تستثار اليد اليسرى لا يحرك الطفل الذراع الأيسر فقط, وإنما الذراع الأيمن أيضًا, وقد يحرّك ساقيه, ويلوي جذعه, ويحرك رأسه ذات اليمين وذات الشمال، فإذا كان المثير شديدًا يصرخ أيضًا, وبسبب هذا النشاط الكتلي غير المميز, يبذل الوليد مقدارًا هائلًا من الطاقة, يُقَدَّرُ بضعفٍ أو ثلاثة أمثال ما يبذله الشخص الراشد, إذا وضعنا نسبة وزن كلٍّ منهما في الاعتبار, فإذا أضفنا إلى ذلك الصراخ, نجد أن الطفل سرعان ما يجهد ويتعب, ويزداد النشاط في حالات الجوع والألم وعدم الراحة، وأكثر أجزاء الجسم حركةً هي الجذع والساقان

وأقلها الرأس, ويتحرك الوليد بالطبع أثناء اليقظة أكثر منه أثناء النوم. ب- النشاط النوعي, والذي يشتمل على أجزاء معينة محددة من الجسم, ومن هذه الأنشطة النوعية التي توجد منذ الميلاد, الأفعال المنعكسة1؛ كمنعكس الصراخ, وطرف العين, والشفتين, واللسان, والمصّ, وانتفاض الركبة, والانثناء, والعطش, وغيرها, وأول ما يظهر من هذه الأفعال المنعكسة ماله أهمية في المحافظة على بقاء الكائن الحي, أما الأفعال المنعكسة الأخرى الأخرى, التي ليس لها نفس الأهمية في بقاء الوليد, فإنها تظهر متأخرة نسبيًّا بعد الولادة بعدة ساعات أو أيام, ثم تختفي بعد أشهر قليلة, ومن أشهر هذه الأفعال المنعكسة منعكس بابينسكي Babinski "ثنى أصابع القدم"، ومنعكس داروين Darwin "القبض", ومنعكس مورو Moro "العناق, والذي يظهر حين يستلقي الوليد على ظهره على مائدة أو حشية صلبة, فإنه يقذف ذراعيه في حركة أشبه بالعناق". وتظهر أيضًا عند الميلاد استجابات عامة غير الأفعال المنعكسة "والتي تستخدم مجموعة من العضلات أكبر مما يستخدم في الأفعال المنعكسة" مثل: تثبيت البصر على الضوء, والحركات التلقائية للعين, وإفراز الدموع, واستجابات الأكل؛ كالمصِّ والبلع وحركات اللسان والشفتين ومصِّ الأصابع والحركات الإيقاعية للفم والفواق, بالإضافة إلى حركات تقطيب الحاجبين وتحريك الرأس وإدارة الجذع وانتفاض الجسم وحركات اليد والذراعين, وحركات الرفس وحركات الساقين والقدمين, وجميع هذه الحركات تكون غير تآزرية, وغير محددة وغير موجهة, ومع ذلك فهي مهمة؛ لأنها الأساس الذي تُبْنَى عليه الحركات الماهرة, التي تكون على أعلى درجات التآزر فيما بعد, نتيجة للتعلم. 4- أصوات الوليد: يظهر الصراخ في العادة منذ الميلاد أو بعده بقليل, وصراخ الوليد هو فعلٌ منعكسٌ تمامًا, وينتج عن اندفاع الهواء بسرعةٍ إلى الأحبال الصوتية, مما يسبب حركتها، وله وظيفة فسيولوجية مباشرة, فوظيفةُ الصرخة الأولى عقب الميلاد, هي توسيع الرئتين؛ بحيث تسمحان بالتنفس وتزويد الدم بكمية الأوكسجين. وبعد الميلاد بقليل تظهر هذه الصرخات تغيرات في الشدة والحدة والاستمرار, وعادةً ما تصبح لها معانٍ مرتبطة بالأحوال الفسيولوجية للوليد؛ مثل: الجوع والألم وعدم الراحة والتعب, ويصاحب صراخ الوليد حركات جسمية

_ 1 الأفعال المنعكسة Refexes, هي استجابات محددة لمثيرات حسية خاصة, تظل ثابتة, وتصدر بشكل آليّ متكرر سريع, مع تكرار حدوث المثير.

مختلفة، وكلما زاد الصراخ حدةً زادت معه الحركات الجسمية, وهذه الحركات الجسمية التي تصاحب الصراخ تكون إشارةً إلى أن الوليد يريد الانتباه إليه, أي أنها تصبح نوعًا من الاتصال غير اللفظي, وبالإضافة إلى الصراخ, فإن الوليد قد يصدر أصواتًا انفجارية تشبه التنفس العميق, وتصدر دون أن يكون لها معنًى أو قصد, وإنما تحدث بالصدفة البحتة حينما تتصل الأحبال الصوتية بعضها ببعض، وتسمى هذه الأصوات قرقرات "وهي أشبه بصوت السائل الذي يمر فيه الهواء"، ثم تقوى هذه الأصوات وتتحول إلى ما يسمى المناغاة في المرحلة التالية, والتي تعتبر أساس الكلام. 5- النمو الحسي: تنتاب دراسة النمو الحسيّ عند الوليد صعوبات منهجية خاصة, لعجز الوليد عن استخدام أسلوب التقرير الذاتي, وهو الأسلوب الأكثر شيوعًا في بحوث سيكلوجية الحواس, والمحكّ الوحيد للحكم على وجود النشاط الحسي أو عدم وجوده عند الوليد, هو الاستجابة الحركية لمثيرٍ حسيٍّ, ويقع على عضو الحس موضع الاهتمام "وهو المحك الذي استخدم مع الجنين أيضًا كما بينا في الفصل السابق" وذلك على الرغم من أن الباحث قد يصعب عليه التمييز أحيانًا بين ما إذا كانت الاستجابة الحركية صدرت نتيجة استثارة المثير, أو هي جزء من النشاط الكتلي العام للوليد، ومن ناحيةٍ أخرى, فإن عدم صدور الاستجابة لا يعني بالضرورة عدم وجود الإحساس، فربما يكون المثير المستخدم ضعيفًا، واستخدام المثيرات الأقوى قد يؤذي أعضاء الحسّ التي لا تزال رقيقة عند الوليد, ومع ذلك يمكن القول: إننا نعرف في الوقت الحاضر أن الطفل يكون قادرًا على التمييز الحسيّ منذ ميلاده, وخاصة بالنسبة لحاستي البصر والسمع؛ فبالنسبة للبصر نجد أن الشبكية في العين, والتي تحتوي على خلايا الإحساس البصري, لا تصل إلى نموها الكامل عند الميلاد, ومعنى ذلك أن الوليد قد يكون لديه عند الميلاد عمى ألوان كلي أوجزئي, وخلال الأسبوع من الميلاد يمكن لمعظم الأطفال الاستجابة للضوء بعلامات عدم الارتياح. أما السمع: فيكون عند الميلاد في أدنى الدرجات, إذا قارنا هذه الحاسة بالحواس الأخرى؛ فمعظم الأطفال يكونون في حالة صمم كليٍّ تقريبًا عند الميلاد, ولعدة أيام, بسبب انسداد الأذن الوسطى بالسائل الأميني. فحتى الأصوات العالية القريبة من الأذن لا تنتج إلّا استجابات ضئيلة في أحسن الحالات, وتظهر علامات الاستجابة للصوت في الفترة من اليوم الثالث إلى اليوم السابع بعد الولادة. أما حاستا الشم والذوق, فتكونان على درجة كبيرة من النموِّ عند الميلاد

وكذلك توجد الحساسية الجلدية للمس والضغط والحرارة والألم, وبعض أجزاء الجسم تكون أكثر حساسية من البعض الآخر، ولعل أشدها حساسية الشفاه, أما بالنسبة للحساسية العضوية, فإن تقلصات الجوع تكون على درجة كبيرة من النمو عند الولادة, وتظهر بعدها بوقت وجيز. وبسبب القصور النسبي في نمو عضوي الحسِّ الأساسيين, وهما العين والأذن, فلا نتوقع للوليد أن يكون على درجة من الوعي بما يحدث في البيئة المحيطة به، فقد يكون" شعوره مضطربًا مختلطًا" على النحو الذي يصفه وليم جيمس. وبسبب أن عقل الوليد يختلف عن عقل الطفل الأكبر منه, وبسبب أن خبرته ترتبط بخبرته السابقة في الرحم, فإن الوليد يشعر بالعالم شعورًا مختلفًا، يشبهه كيرت كوفكا بما يحدث عندما يستمع الشخص غير الموسيقيّ لمقطوعة موسيقية بطريقة تختلف عن استماع الخبير بالموسيقى لها. ونتيجةً لعدم توافر الوعي بالبيئة المحيطة، وعدم نموّ المخ بدرجة كافية, فإننا نستطيع أن نصف الوليد بأنه "كائن غير قادر على التعلم" وخاصة خلال الأيام الأولى من ولادته، ويصدق هذا على أبسط صور التعلم؛ كالتعلم الشرطي والتعلم الترابطي، إذا استثينا بعض صور الاشتراط, والتي تحدث في موقف التغذية. 6- انفعالات الوليد: بسبب عدم التآزر في نشاط الوليد, فإن من غير المنطقيّ أن نتوقع أن تكون حالات الانفعالية عند الميلاد محددة تحديدًا دقيقًا في شكل انفعالات معينة, ولهذا نجد الباحثين في العادة يصنفون استجابات الوليد إلى نوعين: استجابات سارة وإيجابية, واستجابات غير سارة أو سالبة "Hurlock". ويمكن أن تظهر الاستجابات غير السارة بتغيير وضع الوليد بطريقة مفاجئة, أو بإحداث أصواتٍ مزعجةٍ عالية جدًّا أو مفاجئة, أو بتعطيل حركاته التلقائية، أو بوضعه في فراشٍ مبلل, أو وضع شيء بارد جدًّا على جلده. فقد لوحظ أنه يبكي ويصرخ استجابةً لمثل هذه المثيرات, أما الاستجابات السارة فيمكن إظهارها بالربت والهزّ والحضن والمصّ. الواقع أن الاستجابات السارة أقلّ تحديدًا وأكثر غموضًا من الاستجابات غير السارة, وتقترب من حالات الهدوء والسكون أكثر من كونها حالات انفعالية, والخاصية المميزة للتكوين الانفعالي لدى الوليد هي عدم وجود تدرج في الاستجابات يشير إلى درجات مختلفة من الحدة، فمهما كان المثير, تكون الاستجابة الناتجة بنفس الدرجة من الحدة. 7- بداية تكوين الشخصية: توجد أدلة على وجود فروق بين الأطفال

منذ الولادة في بعض الخصائص المزاجية, تظهرها الفروق في معدل النشاط، وتؤلف الاستعدادات التي تنمو فيما بعد, وتتطور إلى سماتٍ للشخصية, وتظهر هذه الفروق على وجه الخصوص في استجابات الطفل للطعام, وفي سلوك البكاء, وفي النشاط الحركي, ولا شكّ أن بعض العوامل المؤثرة في الشخصية تعود إلى فترة ما قبل الولادة، فأيّ اضطراب في بيئة ما قبل الولادة نتيجةً للعمليات الانفعالية للأم, قد تحدث تغيرات في سلوك الوليد، وقد تؤدي إلى حالات النشاط الزائد, أو عدم الاستقرار في سلوكه. ولا يوجد دليل علميّ -كما قلنا- على تأثير ما يسمى صدمة الميلاد "أي: الصدمة النفسية التي يقال أن الوليد يشعر بها نتيجة الانفصال عن الأم بالولادة" في الشخصية, وربما يكون العامل الأكثر أهمية هو اتجاه الأم نحو الوليد, كما ينعكس في سلوكها، وخاصة اتجاهات الرفض، وكذلك القلق والتوتر والاضطراب الذي تبديه الأم إزاء وليدها، وهو ما ناقشناه بالتفصيل في بداية هذا الفصل.

أحكام الشريعة الإسلامية بالنسبة لطور الوليد

أحكام الشريعة الإسلامية بالنسبة لطور الوليد: تحدد الشريعة الإسلامية مجموعة من المبادئ التي تتصل بطور الوليد, نوجزها فيما يلي1: 1- استحباب البشارة والتهنئة عند الولادة: ويشمل ذلك الذكر والأنثى دون تمييزٍ أو تفرقةٍ بين الجنسين. 2- استحباب التأذين والإقامة عند الولادة: بحيث يكون أول ما يسمعه الوليد كلمة التوحيد. 3- استحباب تحنيك الوليد عقب ولادته: وذلك لتقوية عضلات الفم بحركة اللسان مع الفم والفكين. 4- استحباب حلق رأس الوليد. 5- استحباب ذبح شاةٍ عن المولود في يومه السابع "العقيقة". 6- تسمية الوليد: وفي السنة النبوية أن تتم التسمية في اليوم السابع "يوم العقيقة" من الولادة، كما أن هناك أحاديث أخرى صحيحة تفيد أن تكون التسمية في يوم الولادة. 7- انتقاء أحسن الأسماء وأجملها للوليد.

_ 1 يمكن للقارئ المهتم الرجوع، في تفصيل ذلك إلى المرجع الآتي: عبد الله ناصح علوان: تربية الأولاد في الإسلام: بيروت: دار السلام 1981.

الفصل العاشر: طور الرضيع (من الولادة حتى نهاية العام الثاني)

الفصل العاشر: طور الرضيع (من الولادة حتى نهاية العام الثاني) مدخل ... الفصل العاشر: طور الرضيع"من الولادة حتى نهاية العام الثاني" ما إن تضع الأم وليدها بعد مشقة الحمل والمخاض والولادة حتى تبدأ في إرضاعه, ولقد أوجب القرآن إرضاع الأم لطفلها، وحدَّدَ لطور الرضاعة حده الأقصى وهو عامان, يقول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] . وفي أثناء مدة الرضاعة أوجب الله تعالى حسن رعاية الوالدة ورقة معاملتها, وإذا كانت هناك ظروف تمنع الأم من إرضاع الطفل فيجوز الاسترضاع، قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233] . وهكذا, فإن طور الرضيع يطلق على المرحلة العمرية التي تمتد من الولادة وحتى نهاية العام الثاني من عمر الطفل، وتشمل الطور السابق "طور الوليد" بالطبع, وقد لجأنا إلى تخصيص طور الوليد لنوضح أهمية الأسبوعين الأولين من حياة الإنسان, والتي لو اجتازها بنجاحٍ يؤثر ذلك تأثيرًا إيجابيًّا على نموه التالي. وتحديد نهاية العام الثاني بدايةً للانتقال إلى مرحلةٍ عمرية تالية بعد الرضاعة, هو في جوهره تحديدٌ قرآنيّ -كما بينا, فقد أوضحت الآيات القرآنية السابقة أن الفطام "الفصال" يمكن أن يحدث قبل ذلك، ومع ذلك تظل فترة "الحولين الكاملين" هي مرحلة رضاعة بالنسبة للنمو الإنساني؛ حيث لا يقتصر

المعنى على محض الإطعام والتغذية بالأسلوب المعروف بالرضاعة فحسب, وإنما يمتد ليشمل تربية الطفل وتنشئته في أحضان أمه, وفي كنف رعايتها، وعدم اللجوء إلى طرق "التربية غير الطبيعية" التي تبعد الطفل عن الأم وتفصله عنها فصلًا صناعيًّا, فهذه المرحلة كلها هي مرحلة التنشئة في حجر الأم. إن طور الرضاعة هو الطور التي توضع فيه وتتحدد أسس السلوك الإنساني؛ ففيه تتكون الاتجاهات نحو الذات ونحو الآخرين، وأساليب التعبير الانفعالي, إلّا أننا يجب أن ننبه إلى أن هذه الأسس لا تكون ثابتةً مع نهاية هذا الطور, وبالتالي يمكن أن تتغير وتتعدل وتتحسن إذا كانت غير ملائمة, أو غير مقبولة اجتماعيًّا، وأيّ تغير فيها يعني بالطبع إعادة التعلم, وما يصاحب ذلك من توتر واضطراب, وبسبب أن التطورات اللاحقة سوف تتشكل بناء على هذه الأسس, فإن طور الرضاعة يعتبر مرحلة "حرجة أو حاسمة" في نمو الإنسان.

النمو الجسمي والحركي

النمو الجسمي والحركي: مرحلة الرضاعة هي إحدى مرحلتين تتميزان بالنمو الجسمي السريع في مدى الحياة، والمرحلة الأخرى هي البلوغ في بداية المراهقة, فخلال الأشهر الست الأولى من الحياة يستمر النمو بمعدل يشبه معدل النمو في فترة ما قبل الولادة, ثم يبدأ في البطء, وخلال العام الأول تكون الزيادة في الوزن أكبر من الزيادة في الطول, وفي العام الثاني يحدث العكس, ولا ينمو جسم الطفل في هذه المرحلة ككل, وفي كل الاتجاهات في وقت واحد، وإنما تحدث تغيرات في أبعاد الجسم ونسبه بسرعة، وخاصة في النصف الثاني من العام الأول، فيلاحظ بطء نمو الرأس, وزيادة نمو الجذع والأطراف، وهذا هو عكس ما يحدث في المرحلة السابقة, وبالتدريج تظهر الرأس بشكلٍ أقل ضخامة مما كانت عليه عند الولادة، ويزداد طول الذراعين واليدين خلال سنتي الرضاعة بمعدل 60-75%، كما يزداد معدل الساقين فيهما بمعدل أبطأ "40%". ويتبع نمو العظام في هذه الفترة نفس الاتجاه العام في نمو الحجم, والذي يعني أن النمو يكون أسرع في العام الأول, وتتبعه فترة من البطء النسبي في العام الثاني, وطوال هذه الفترة تتحول الأنسجة الإسفنجية الناعمة في عظام الوليد إلى عظام صلبة بمعدلات مختلفة في أجزاء الجسم المختلفة. وعادة ما يظهر السن الأول "وهو سن سفلى أمامي" في الشهر الرابع، وعندما يبلغ الطفل عامه الأول يكون لديه ستة أسنان, وعمومًا تتفوق البنات في نمو العظام ونمو الأسنان تفوقًا ضيئلًا على البنين, ويؤدي ظهور الأسنان إلى

بعض الاضطرابات الجسمية، وبعض مشاعر عدم الراحة لدى الطفل, والتي تنعكس بدورها على الأم، ويوصف الطفل حينئذ بأنه في حالة "تسنين". أما العضلات فإنها تنمو بمعدلات مختلفة, وعمومًا يمكن القول أن العضلات التي تكون قريبةً من الرأس والرقبة تنمو مبكرًا عن العضلات التي تتصل بالأطراف السفلى. ويمثل التحكم في العضلات مجالًا هامًّا للنمو خلال مرحلة الرضاعة، وما لم تتدخل عوائق البيئة فإن الطفل يجب أن يخرج من هذه المرحلة كشخصٍ مستقلٍّ نسبيا في نشاطه الحركي, ونمو التحكم في العضلات يتبع المبدأ الذي سبق أن أشرنا إليه وهو الاتجاه من الرأس إلى القدم, وفي هذه المرحلة ينمو السلوك الحركي من جلوسٍ وحبوٍ وزحفٍ ومشيٍ بالاستناد إلى الأشياء, وفي منتصف العام الثاني يمكن للرضيع أن يمشي بدون مساعدة, ونتيجةً لهذا النمو الحركي المتزايد توصف مرحلة الرضاعة بأنها المرحلة التأسيسية لمعظم المهارات الحركية, كما يمكن للطفل في هذه المرحلة أن يتعلم بعض هذه المهارات, وخاصةً المهارات اليدوية, ومهارات استخدام الساق, ولا بُدَّ من التدريب عليها في هذه المرحلة, وعدم تأجيلها حتى لا تنشأ مشكلات خطيرة فيما بعد.

النمو الحسي والإدراكي

النمو الحسي والإدراكي: تنمو أعضاء الحسِّ بسرعة خلال هذه المرحلة، ففي الشهر الثالث تزداد عضلات العين تآزرًا, وعندئذ يصبح الطفل قادرًا على رؤية الأشياء بوضوحٍ وتميز؛ ولأن عضلات العين تظل ضعيفة لأشهر عديدة, فإن عدم تآزر العين شائع, وخاصة في أوقات التعب والجوع والصراخ, ويزداد السمع دقةً في الرضيع، ونستدل على ذلك من استجاباته المبكرة لسماع الصوت البشري, وحين يصل الطفل إلى نهاية شهره الثاني يستجيب بنفس الجودة للأصوات من جميع الأنواع, كما أن الشمَّ والذوقَ يزدادان نموًّا خلال هذه المرحلة, وبالإضافة إلى ذلك, فإنَّ الرضيع يكون حساسًا للغاية لجميع المثيرات الجلدية؛ فيشعر بالحرارة والبرودة والألم. إلّا أن النمو الحسي يتحول تدريجيًّا في هذا الطور ليصبح نموًّا إدراكيًّا, ويتسم الإدراك في هذا الطور بأنه ليس عملية "معرفية" كاملة, وإنما هو نوعٌ من الإدراك "الحسي - حركي" وفقًا للوصف الذي أطلقه بياجيه على هذ المرحلة, ومن النماذج المفسرة للإدراك الحسي عند الأطفال في هذا الطور النموذج الذي اقترحته آمال أحمد مختار صادق "1990", والذي يفترض أن الطفل في العامين الأولين من حياته يتعامل مع المثيرات من خلال توظيف الحواسّ جميعًا سعيًا لتبين detecrion طبيعة المثير, فجميع المثيرات مهما كانت طبيعتها يبدأ الطفل بالنظر إليها, ثم لمسها وتحريكها, "للاستماع إلى ما يمكن أن يصدر عنها من أصوات", ثم وضعها في فمه حيث يتعرف على خصائصها بحاستي التذوق والشم, وبهذه الطريقة تلعب الحواس المتعددة multi-sensory دورها في تحديد طبيعة المثير. وبنهاية هذا الطور يتحول الرضيع من الخصائص المعممة إلى تمييز الخصائص "الفارقة" للمثير, والتي تجعله مثلًا يمكن وضعه في الفم كطعام, أو التعامل معه كشيء خارجي يصدر الأصوات أو الحركة، إلخ ... وعمومًا فإن النموذج في حاجة إلى دراسات مصرية وعربية تُجْرَى في إطاره.

نمو الكلام

نموّ الكلام: توجد ثلاثة صور من المواد الأولية للغة الطفل تظهر بالتتابع هي: الصراخ والمناغاة والإيماءات, والصراخ هو أكثر شيوعًا خلال الشهور الأولى من الحياة، أما المناغاة فهي الأكثر أهميةً؛ لأن منها تنمو لغة الكلام العاديّ عند الإنسان. وفي مرحلة الرضاعة يطرأ على الصراخ تغيرات هامة، فصراخ الوليد يصبح بعد عدة أسابيع متميزًا إلى الحدِّ الذي يمكن أن نفهم من نغمة الصرخة وحِدَّتها, ومن الحركات الجسمية المصاحبة لها, ماذا يريد الطفل؛ فالألم مثلًا يتم التعبير عنه بصرخات عالية مرتعشة تقطعها تأوهات "وما يشبه الأنين" وتشنجات, وصرخات الجوع تكون عالية وتقطعها حركات المصّ، وبصفة عامة تتمايز صرخات الرضيع بِحِدَّتِهَا وليس بمعناها. وعادةً ما يكون الجوع والشعور الزائد بالحَرِّ هما السببان الرئيسيان لمعظم صراخ الأطفال في الأسابيع الأولى من حياتهم, ومع نموّ الطفل يكون الألم هو السبب الرئيسي, "وخاصة الآم سوء الهضم", كما يسبب الصراخ أيضًا تعرض الطفل لمثيراتٍ حسية قوية، أو الاضطراب العنيف له أثناء النوم، أو الفشل في القيام باستجابة مقصودةٍ؛ مثل العجز عن الحركة بسبب إحكام الأغطية، أو فقدان اللعبة أو بعدها عنه، أو البعد عن الاتصال بالآخرين، أو الوجود في أماكن غريبة. وحالما يصل الطفل إلى شهره الثالث يتعلم أنَّ الصراخ طريقةٌ مؤكدةٌ للحصول على انتباه الآخرين؛ ففي الشهر الرابع يصرخ الطفل عندما تتوقف الأم "أو الأب" عن اللعب معه, وفي الشهر الخامس يزيد صراخه إذا دخلت الأم الغرفة دون أن تعيره انتباهًا, ويزداد معدل صراخ الأطفال الأعلى ذكاءً عن أولئك الأقل ذكاءً. كما أن الأطفال الذين تشبع حاجاتهم بانتظامٍ يكونون أقلَّ صراخًا من أولئك الذين تشبع حاجاتهم بتقطع أو يُؤَجَّلُ إشباعها.

ومع نموّ الجهاز الصوتي للطفل يصبح قادرًا على إصدار عددٍ كبيرٍ من الأصوات الانفجارية, وبعض هذه الأصوات يبقى ويتحول إلى مناغاة, والتي تبدأ كنوعٍ من اللعب العشوائيّ, ويهدف منها الطفل إلى الاتصال أو التعبير، ومع مرور الوقت تتحول إلى كلامٍ حقيقيٍّ, وتبدأ المناغاة بمقطَعٍ واحد يتكرر, ثم بمقطعين وأكثر, وهذا ما يجعلها وكأنها حديثٌ أو لغةٌ يوجهها الطفل كيفما اتفق وحينما يشاء, وبعض هذه المقاطع يبقى ليكوّن أساس الكلام الفعلي, كما أن عدد الأصوات التي يحدثها الطفل في المناغاة يتزايد بالتدريج, وبالممارسة والتدريب يربط الطفل بين عددٍ من الحروف الساكنة والمتحركة مثل "ما -ما" و"داد- داد" و"نا-نا", وتبدأ المناغاة في الشهر الثاني أو الثالث, وتصل إلى قمتها في الشهر الثامن، ثم تختفي بالتدريج ليظهر الكلام العادي. ويستخدم الطفل الصغير الإيماءات كبديلٍ للكلام, بينما يستخدمها الطفل الكبير كإضافات إلى الكلام وتأكيد له, ومن الإيماءات التي تشيع في هذه المرحلة مد الذارعين والابتسام, وهو ما ينقل فكرة أن الطفل يرغب في أن تحمله الأم, ويستطيع الطفل في هذه المرحلة أن يُفْهَمَ من تعبيرات الوجه ونغمة الأصوات وإشارات المتحدث ما يقصده، ولا يستطيع بلوغ هذا الفهم من محض أصواته فقط, والطفل يمكنه أن يفهم السرور والغضب والخوف منذ الشهر الثالث, ويحتاج الطفل حين يبلغ الشهر الثامن إلى أن يُعَزَّزَ بالإيماءات التي تصدر عن الكبار حتى يمكنه فهم المعاني, وفي سن سنتين يستطيع الطفل المتوسط أن يفهم إلى الحد الذي يمكنه الاستجابة الصحيحة لبعض التعليمات على النسق الذي نجده في بعض اختبارات ذكاء الأطفال "مثل اختبار ستانفورد -بينيه". وتعلم الكلام في هذه المرحلة يتضمن التدريب على نطق الكلمات على النحو الذي يجعلها مفهومة للآخرين، والربط بين المعاني والكلمات التي تدل عليها، وبالتالي تتكون مفردات من الكلمات المستخدمة في أغراض الاتصال, والربط بين هذه الكلمات لتؤلف الجمل, وهذه المهام لا تتضمن فقط التحكم في الجهاز الصوتي, وإنما القدرة على فهم المعاني والربط بينها وبين الكلمات التي تقوم بدور الرموز على هذه المعاني, وتَتَكَوَّنُ المفردات اللغوية لدى الرضيع من الأسماء التي ترتبط بالأشخاص والأشياء في بيئته، والأفعال التي تدل على نشاط معين, وفي نهاية هذه المرحلة يكتسب بعض الكلمات الدالة على النعوت والظروف, ويندر استخدام الجمل الخبرية والجمل الربطية والضمائر في هذه المرحلة, وهكذا تتحدد في هذه المرحلة أسس النشاط اللغوي الذي يزداد نموًّا وتحسنًا ورقيًّا في المراحل التالية, ولابد من التنبيه إلى مخاطر تأجيل النموّ الكلامي في هذه المرحلة.

النمو العقلي المعرفي

النمو العقلي المعرفي: يقسم بياجيه النمو العقلي للطفل في هذا الطور -الذي يسميه الطور الحسي الحركي Sensorimotor- إلى الفترات الست الآتية: أ- الفترة الأولى: من الميلاد حتى نهاية الشهر الأول, وفيها يمارس الطفل المخططات الوراثية "المصّ، الرضاعة، الإخراج، النشاط البدني الغليظ، ... إلخ", وقد لاحظ بياجيه في الشهر الأول من حياة الطفل تحولًا من الاستخدام السلبي إلى الاستخدام الإيجابي لهذه المخططات، كما تظهر بعض صور الاشتراط بين الاستجابات ومثيراتٍ جديدةٍ لهذه المخططات، وكذا تظهر بوادر تعديل الأفعال المنعكسة الفطرية, وتصبح أكثر فعالية بالتعلم، فإلى جانب التثبيت على الضوء يمكن للطفل أن يتابعه بعينه, ويظهر اهتمامه به, وتتميز هذه المرحلة بالتمرين على ذخيرة حسية حركية جاهزة، وفيها لا يتم التمايز بين التمثيل والمواءمة. ب- الفترة الثانية: من شهر واحدٍ حتى 4شهور، وهي مرحلة الأرجاع "الاستجابات" الدائرية الأولية, أو التكرار الأعمى الآلي للاستجابات أو الأرجاع؛ حيث يكرر الطفل المخططات الوراثية مراتٍ عديدةٍ؛ كأن يمسك بالشيء ويتركه عدة مرات حتى تظهر تعديلات على المخططات الأصلية، وتنشأ مثيرات عديدة قادرة على إحداثها, ويظهر التآزر بين المخططات، فالأشياء التي يراها الطفل يمكنه أن يصل إليها، والأصوات التي يسمعها ينظر إلى مصدرها، والأشياء التي تلمسها اليد ينظر إليها, ويظهر التمييز مثلًا بين ما يمصه وما لا يمصه, وفي هذه المرحلة تبدأ علميتا التمثيل والمواءمة في التمايز. جـ- الفترة الثالثة: من سن 4شهور إلى 8شهور، وهي مرحلة الأرجاع الدائرة الثانوية والتكرار, والتي يتعلم فيها الطفل إصدار استجابة معينة, وينتظر حدوث نتيجة، كأن يحرك الشخشيخة ليسمع الصوت, وفي هذه المرحلة تظهر بعض علامات الحركات المقصودة وتَوَقُّع الآثار؛ فالطفل يحاول إطالة زمن شيء يراه، ويظهر الاهتمام بأشياء أبعد من نطاق جسمه، ويحاول تحريكها، ويميِّز بين الأشياء الغريبة والمألوفة, ويبحث بحثًا قصيرًا عن الشيء الغائب، والأشياء التي تجذب انتباهه لا تكون غريبة كلية أو مألوفة تمامًا, ويتوافر لديه بعض المفهوم عن استمرار وبقاء الأشياء، فإذا سقط الشيء على الأرض ينظر إليه, كما تنمو مفاهيم المكان، فيراقب حركة يده من شيءٍ لآخر وإلى فمه, كما يحاول الوصول إلى بعض الأشياء دون البعض الآخر, مما يدل على نوعٍ من إدراك

العمق, ويتحقق من أنه يستطيع أن يكون سببًا في حركة الأشياء, وذلك بإصدار حركات منه, وتظهر بدايات المحاكاة, وهكذا يتحرك الطفل نحو القصد أو التوجه نحو الهدف. د- الفترة الرابعة: من 8شهور حتى 12شهرًا، وهي مرحلة تآزر المخططات المتعلمة, كأن يقلب الزجاجة ليصل إلى الحلمة في حالة الرضاعة الصناعية، وفيها يكتسب الطفل تمييزات إضافية بين الوسائل والغايات، وإصدار حركة معينة للوصول إلى هدف معين, فإذا وضع عائق في طريق الوصول لشيء مرغوب يمكن رؤيته فإنه يتعلم الدوران حوله أو معه, أو إزالته, أو تنحيته جانبًا, كما يلاحظ أن شيئًَا خارج ذاته قد يسبب حدوث شيء ما، مما يدل على التمييز بين الذات والعالم، ويبدأ ظهور مفهوم "الواقع والحقيقة" والبعد عن التمركز الشديد حول الذات, ويتعلم أن حدثًا ما قد يتبع آخر, ويمكن أن يحاكي إحدى الاستجابات الجديدة. هـ- الفترة الخامسة: من 12شهرًا حتى 18 شهرًا، وهي مرحلة الأرجاع الدائرية من الدرجة الثالثة، وتعني: التكرار الذي يهدف إلى التجريب, وفيها يظهر الطفل اهتمامًا بالجدة في ذاتها، كما ينوّع من حركاته, ويراقب هذه الحركات، ويظهر اتجاهاتٍ أكثر نشاطًا وقصدًا وإيجابيةً نحو التجريب، وزيادة نموِّ مفهوم الواقع والموضوع والشيء والحقيقة. إن الطفل في هذه المرحلة يستطلع الأشياء الجديدة بنوعٍ من التجريب بحثًا عن جوانب الجدة فيها، ويتعلم استخدام الوسائل لتحقيق غايةٍ؛ مثل الوصول إلى ساعةٍ موضوعةٍ على مخدة, وذلك بجذب المخدة كلها نحوه. و الفترة السادسة: من 18 شهرًا حتى 24 شهرًا، وهي مرحلة تمثيل المخططات، ففي هذه المرحلة تنمو اللغة مما يسهّل على الطفل كثيرًا تكوين المفاهيم السيمانتية أو التمثيلات "الصور" اللفظية للأشياء, كما يظهر الطفل إتقانًا لمشكلات الاستجابات المرجأة, فإذا أعطي الطفل بعض الدلالات على موضع شيءٍ خفيٍّ فإنه يتجه إليه، ويمتد التوجه المكاني إلى إطار أكبر ومدًى أوسع، فمثلًا: حين يكون بعيدًا بعدًا مكانيًّا قليلًا عن المنزل, فإنه يستطيع أن يشير إلى اتجاهه، وترجأ بعض صور المحاكاة مما يدل على نموّ ذاكرة الأعمال والأحداث, كما يظهر الطفل ذاكرة للأشياء, وفي هذه الحالة يستطيع حلَّ مشكلات الالتفاف والانعطاف detour, وذلك بالدوران حول العائق حتى ولو أدى ذلك إلى البعد مؤقتًا عن الهدف, كما يستطيع أن يستنتج الأسباب، ويبتكر تطبيقات جديدةً لما تَمَّ تعلمه في سياق مختلف.

وبإيجازٍ يمكن القول أن الصورة المبكرة للنشاط العقلي للطفل تتمثل في استخدام الاستشكاف الحسي, ثم من خلال المعالجة اليدوية, وفي العام الأول يمكن للطفل أن يفسِّرَ الخبرات الجديدة في ضوء خبراتٍ قديمة, وفي العام الثاني يمكنه الوصول إلى تعميمات بسيطة تعتمد على خبرات محدودة يكتشف بينها علاقات. وقد أكدت دراسات النموّ العقلي التي قام بها بياجيه, أن الرُّضَّعَ يظهرون السلوك العقلي قبل أن يتكلموا بكثير، ويسمي هذه المرحلةَ المرحلةُ الحسيةُ الحركيةُ, باعتبار الإدراك الحسي والنشاط هما الطابعان الغالبان على النشاط العقلي في هذه المرحلة. وفي نموّ المفاهيم نجد أن مفاهيم المكان والزمان والوزن والحجم تتكون جميعًا في هذه المرحلة, ولو على نحوٍ غير دقيق, ويظهر مفهوم الذات قبل مفهوم الآخر, ورغم ذلك, فإن الطفل لا يستطيع أن يميز بين نفسه والبيئة في مرحلة مبكرة مثلما يميِّزُ بين الآخرين والبيئة في الجزء الأخير من العام الأول "في صورة الخجل من الآخرين". وأبسط صورة للإدراك الجمالي توجد في تفضيل الألوان, فابتداءً من الشهر السادس حتى نهاية العام الثاني يستجيب الأطفال بطريقة مختلفة للألوان المختلفة, ويكون ترتيب التفضيل: هو الأحمر فالأصغر فالأزرق فالأخضر, ويظهر التذوق الموسيقي في ميل الطفل للموسيقى التي تشبه الأغنيات التي تهدهده بها أمه في المهد حتى ينام. "آمال صادق، 1989".

النمو الانفعالي

النمو الانفعالي: تنمو الانفعالات في هذه المرحلة بسبب النضج والتعلم من الأشكال البسيطة غير المتمايزة تمامًا, التي تظهر عند الولادة إلى حالات انفعالية متمايزة, يمكن أن تستثيرها أنواع مختلفة من المثيرات, ومع التقدّم في العمر تكون الاستجابات الانفعالية أقلّ اختلاطًا وعشوائيةً وأكثر تحديدًا, وبدلًا من الاستثارة الانفعالية العامة عند الولادة تظهر بالتدريج انفعالات الخوف والغضب والتقزز والحزن والسرور والغرور والحب. وتظهر تغيرات هامة على صور الاستجابات الانفعالية؛ فالصراخ والبكاء يظهران كما قلنا منذ الولادة, وحينما يصل الطفل إلى الشهر الثامن يستخدم النداء مع الصراخ والبكاء, وخلال الفترة من 16-20 شهرًا يبدأ في النطق بكلمة "لا", وتظهر استجابة إخفاء الوجه، وبين الشهر العشرين والشهر الرابع والعشرين يطلب الصحبة, أما الجري عند الخوف فلا يظهر إلّا عند نهاية هذه المرحلة "بعد بلوغ الطفل سنتين على الأقل". وتتسم انفعالات الطفل في هذه المرحلة بأن استجاباتها أكبر كثيرًا من المثيرات التي تحدثها, وخاصة في حالتي الغضب والخوف, وهي قصيرةٌ في مدتها الزمنية, ولكنها تكون حادَّةً إذا استمرت فترة طويلة, ويتكرر حدوثها, ولكنها عادةً ما تكون مؤقتة، ويمكن للطفل أن يتحول من انفعالٍ إلى آخر إذا تشتت انتباهه. ويحتاج الطفل في هذه المرحلة إلى أن يعبِّرَ عن انفعالاته بالطرق العادية, ومن حسن الحظِّ أن معظم الأطفال لا يتعرضون للحرمان من التعبير الانفعالي, ولا يحدث هذا إلّا للأطفال الذين يرفضهم الوالدان, ويعيشون في المؤسسات بدلًا من الأسر البديلة, وهذا الحرمان له آثاره الضارَّة على النموّ في مختلف الجوانب الأخرى: النمو الجسمي والحركي واللغوي والاجتماعي, فالتعبير الانفعالي في هذه المرحلة ليس محض تصريف طاقة, وإنما هو فرصة للتعبير الوجداني نحو الآخرين.

النمو الاجتماعي

النمو الاجتماعي: تلعب الخبرات الاجتماعية المبكرة دورًا هامًّا في تحديد اتجاهات الطفل نحو الذات والآخرين, ولأن حياة الرضيع تتمركز داخل المنزل, فإن أسس السلوك الاجتماعي والاتجاهات الاجتماعية عنده تُعَدُّ "صناعة منزلية أسرية". ولكي يصبح الطفل كائنًا اجتماعيًّا ليس مسألة فطرية، وإنما هي من نواتج التعلم والخبرة, فبعد الميلاد يكون الطفل كائنًا غير اجتماعيٍّ يغلب عليه الطابع العضوي واتباع الحاجات البيولوجية الجسمية, ولا يميز بين من يشبع له هذه الحاجات، فالمهم بالنسبة إليه إشباعها. وفي الأسبوع السادس من العمر تبدأ أول ابتسامة اجتماعية حقيقية, وعادةً ما تكون مصحوبةً بنشاطٍ بدنيٍّ كبير, وحين تتحسن قدرة الطفل على الإدراك البصري خلال الفترة بين الشهر الثاني والشهر الثالث يمكنه التمييز بين الأشخاص, ويكتشف أن الأشخاص وليس الأشياء هم الذين يشبعون حاجاته, ويبدأ بالتعبير عن الرضا حين يوجد مع الناس, ولا يهمه مَنْ يكون الشخص الذي يوجد معه، المهم أن يحظى باهتمام شخصٍ ما، ويدل ذلك على بداية "السلوك الاجتماعي" الذي يتخذ صورة "استجابة غير تمييزية للآخرين"، وهكذا تكون الاستجابات الاجتماعية الأولى مُوجَّهَة نحو الكبار، وفي الشهر الثالث تظهر بدايات الاهتمام بالناس فيبكي حين يتركونه، ويظهر عدم السرور حين لا ينظر إليه الشخص, أو ينصرف عنه بالحديث مع شخص آخر، كما يراقب تعبيرات

الوجه عند الآخرين, وهنا تظهر على وجه الخصوص "استجابة تمييزية" للأم مع استمرار الاستجابة للآخرين, ويستخدم الأصوات والإيماءات والمناغاة ولغته البدائية في الاتصال بالآخرين. كما يمكنه التمييز بين "الأصدقاء والغرباء", وفي هذا الوقت يظهر الطفل تعلقًا واضحًا ومحددًا بالأم, ويظهر سلوك التعلق Attchment هذا في صورٍ عديدةٍ؛ منها: الابتسام للأم, وإصدار الأصوات لها دون غيرها من الآخرين, وبالصراخ والبكاء حين يحمله شخصٌ آخرٌ غير الأم، والصراخ والبكاء أيضًا حين تتركه أمه. وقد شغلت مسألة العلاقة بين الأم وطفلها الرضيع اهتمام الباحثين منذ زمن بعيد, ولعلَّ أفضل من عَبَّرَ عنها في العصر الحديث العالم البريطاني بولبي Bowlby, حين صَكَّ في عام 1958 مصطلحه الشهير "التعلق"، وهو سلوك يظْهَرُ في الطفل منذ شهره السادس, يهيئ له شعورًا بالأمن، كما يزوده مصدر للشعور بالقوة والهوية يتطور فيما بعد ليصبح نقطة انطلاقٍ للشعور بالتمايز والاستقلال, ويُعَدُّ هذا السلوك مهمًّا في تكوين علاقات اجتماعية وانفعالية لها مغزًى, والتي تلعب دورًا رئيسيًّا في النمو الاجتماعي في المستقبل. وفي الشهر الثامن أو التاسع يحاول الطفل محاكاة كلام الآخرين ونشاطهم وإيماءاتهم, وعند اكتمال العام الأول يتوقف عن الفعل عندما يسمع التحذير أو النهي, وفي منتصف العام الثاني يبدو سلوك "الخُلْفَة" Negativism, في صورة سلوك العناد والمقاومة لمطالب الكبار, وتتمثل الخُلْفَةُ في المقاومة الجسمية والصمت والانسحاب, وفي نهاية العام الثاني يمكنه أن يتعاون مع الكبار في أداء بعض الأعمال الروتينية، ويكون في حالة أكثر اتزانًا تجعله أكثر اجتماعية في سلوكه. بداية الاهتمام باللعب: يتسم لعب الرُّضَّعِ بأنه حُرٌّ تلقائيٌّ وأنه تعوزه القواعد والتنظيمات, وأَمْيَلُ إلى اللعب الفرديّ, ويحصل الرضيع على أبسط صور المتعة حينما تتعرض حواسه للاستثارة, ومن اللعب بأطرافه, وعندما يصل الطفل إلى سن ثلاثة شهور يمكنه استخدام لعب الأطفال بعد نموّ قدرته على التحكم في يديه, وفي هذه الفترة يشتق المتعة أيضًا من تقلبه على الظهر والجنبين والرفس, والوصول إلى أصابع القدم ومراقبة حركة أصابعه, وبين الشهر الخامس والثامن يصبح اللعب أقلّ عشوائية, ويزداد انتظامًا خلال السنة الثانية من العمر، ويمكن أن يستخدم اللعب في أنشطة عديدة, ومع تعلم المشي يندمج الطفل في هذا النشاط. وبسبب نقص التآزر العضلي في هذه المرحلة فإنه عادةً ما يكون "مخربًا" للعبه, وفي محاولاته للأشياء الموجودة في بيئته, وبالطبع هو لا يعني تحطيم الأشياء. وفي سن 18شهرًا يحاكي الكبار, فيحضن اللعب المفضلة, ويقلدهم في قراءة الصحف, وفي هذه الفترة يكون لِعْبَه فرديًّا، ويكون دوره في حالة وجود أطفال آخرين هو دور المشاهد, وفي النصف الثاني من العام الأول يكون اللعب مع الآخرين متوازيًا, وفي تعامل الطفل مع أقرانه لا يوجد تفاعل "الأخذ والعطاء" ذو الطابع الاجتماعي، وإنما الشائع هو انتزاع الأشياء من الآخرين.

نمو الشخصية

نمو الشخصية: يولد الطفل كما أشرنا وهو مزوّدٌ بإمكاناتٍ نموِّ الشخصية، ومنها تنمو الشخصية بالفعل، وهو النموّ الذي تتحكم فيه ثلاث فئاتٍ من العوامل هي: الوراثة, والخبرات المبكرة داخل الأسرة, وأحداث الحياة اللاحقة. وبسبب اختلاف هذه العوامل من فردٍ لآخر, فإننا لا نجد شخصين يتحولان إلى شخصيتين متطابقتين. ولعل أشهر وصفٍ لمرحلة الرضاعة أنها "مرحلة حرجة" في نموِّ الشخصية, وقد جاء هذا الوصف من أنها مرحلة بناء الأسس التي تقوم عليها شخصية الإنسان فيما بعد, وعلى الرغم من أن الشخص الراشد قد لا يتذكر إلّا القليل مما حدث له أثناء هذه المرحلة, فإن خبرات مرحلة الرضاعة لها أهمية قصوى في تشكيل الشخصية فيما بعد. ولأن بيئة الرضيع محدودة "ببيئة المنزل"، ولأن والديه "وبخاصة أمه" هما رفيقاه الدائمان, يرى معظم علماء نفس النمو أن شخصية الفرد تتأثر تأثرًا كبيرًا بالعلاقة بين الطفل ووالديه في هذه المرحلة. ومن المسائل الهامة التي يجب أن ننوِّهَ بها في هذه المرحلة, أن الرضيع لا يمكن وصفه بأنه كائنٌ خلقي أو لا خلقي؛ فالضمير لا يكون قد تَكَوَّنَ عنده بعد، كما لا يتوافر له مقياس للقيمة, ويمكن وصفه بأن سلوكه لا توجهه المعايير الخلقية بعد, ومع مرور الوقت يتعلم من والديه, ثم بعد ذلك من رفاقه ومعلميه, القواعد الخلقية للجماعة وضرورة مسايرتها. وبالطبع, فإن تعلُّمَ الطفل السلوك على نحوٍ مقبولٍ اجتماعيًّا عمليةً طويلة المدى, بطيئة السرعة, ومع ذلك نستطيع القول أن أسس هذه السلوك- كغيرها من أسس بناء الشخصية الإنسانية- توضع في هذه المرحلة، وعليها يقيم بناءه الأخلاقي الذي يوجه سلوكه مع نموِّه فيما بعد.

فالطفل في هذه المرحلة حين يحكم بالخطأ أو الصواب, يكون هذا الحكم في ضوء محكِّ اللذة والألم الناتجين عن الفعل, وليس في ضوء ما ينشأ عنه بالنسبة للجماعة من خيرٍ أو ضُرٍّ, وبسبب نقص النمو العقلي في هذه المرحلة لا يستطيع الرضيع الحكم على السلوك إلّا في ضوء آثاره المباشرة فيه هو, ولا يتجاوز ذلك إلى آثاره في الآخرين, وعلى هذا يحكم الطفل على الفعل بأنه "خطأ" إذا كان مكدِّرًا له هو, ولا يشعر الطفل في هذه المرحلة بالذنب على "خطأ" يقع فيه؛ لأنه تعوزه المعايير المحددة للصواب والخطأ, فمثلًا لا يشعر "بالذنب" لأنه يستولي على لعب الآخرين وأشيائهم؛ لأنه لم تتوافر لديه بعد معايير حقوق الملكية. ومعنى ذلك أن الأخلاق في هذا الطور هي -كما يصفه كولبرج- أخلاق الفردية والأنانية مع أخلاق الخضوع؛ حيث يظل في حاجة دائمة إلى من يوجهه إلى الخطأ والصواب. ومع ذلك, فإن واجب الوالدين -طوال مرحلة الرضاعة- تدريب الطفل على إصدار الاستجابات الصحيحة في المواقف الخاصَّة, سواء في البيت أو خارجه, والفعل الخطأ يجب أن يظل الحكم عليه كذلك, بصرف النظر عن الموقف الذي يصدر فيه، وإلّا فإن الطفل سوف يقع في الخلط وسوء التمييز إذا كان الفعل الواحد يحكم عليه مرةً بالخطأ, ومرةً أخرى بالصواب, ومرةً ثالثةً يقابل بالتجاهل أو الإهمال، إنه في هذه الحالة لن يستطيع تحديد ما هو متوقع منه. ومع أسلوب التدريب الحازم التي يستخدم أساليب الثواب والعقاب, يمكن أن يتوجه الطفل إلى أنماط السلوك الذي تجعله أقلّ إزعاجًا لوالديه خلال العام الثاني من هذه المرحلة، وهي الفترة التي يزداد فيها السلوك الاستكشافي والاستطلاعي للطفل, ويزداد رفضه لمطالب الوالدين, إلّا أن الهدف من هذا التدريب يجب أن يكون في جميع الحالات أن يميِّزَ الطفل بين الخطأ والصواب, وهذا التعليم التمييزي جهدٌ تربويٌّ طويل الأمد, مع ملاحظة أن إثابة الطفل على السلوك الصحيح بإظهار التقبل له والعاطفة نحوه, أكثر فعالية من عقابه على السلوك الخاطئ, وفي رأينا أن العقاب في هذه المرحلة "ولا يجب أن يتضمن على أيّ نحوٍ العقاب البدني" يجب أن يقتصر على الخطأ المتعمد, وفي حالة الضرورة القصوى, حين لا يستجيب الطفل لمطالب الوالدين بشكل متكرر. أزمة الثقة في مقابل عدم الثقة: يرى أريكسون في نموذجه للنمو الوجداني أن هذه الأزمة أخطر الأزمات الوجدانية في هذا الطور؛ ففي طور الرضاعة تؤثِّرُ نوعية الحياة التي يعيشها الطفل

في مشاعره الجوهرية والبدائية نحو البيئة؛ من حيث الثقة أو عدم الثقة فيها، ويشمل ذلك علاقات الحب والانتباه واللمس والتغذية. ويقصد بالشعور بالثقة: قدرة الطفل على التنبؤ بسلوكه وسلوك الآخرين والاعتماد عليهما, وهو يشتق أساسًا من خبرات السنة الأولى من حياة الطفل "جزء من مرحلة الرضاعة", ومعنى ذلك أن اتجاه الطفل الأساسي نحو "اعتمادية العالم بعضه على بعض" يتكون من طبيعة العلاقات التي يتعرض لها خلال تلك المرحلة التي يسميها فرويد "المرحلة الفمية", والتي تحتل فيها الأشياء المتصلة بالتغذية ونشاط الفم أهمية بالغة, وتُعَدُّ الأم "أو بديل الأم" الشخص المهم في حياة الطفل في هذ المرحلة, وتؤثر طبيعة العلاقات بين الطفل والشخص القائم بدور الأمومة خلال هذه السنة الأول في تحديد المستوى الذي يصل إليه الطفل في مقياس الثقة - عدم الثقة, فإذا كانت حاجة الطفل إلى الطعام تحبط بشكل متكرر, فإن الطفل سوف يبدأ حياته وهو أقرب إلى بعد عدم الثقة, وقد يقضي على الشعور بالثقة سوء العلاقة الانفعالية الوجدانية, ورفض الأم للطفل انفعاليًّا أثناء إشباع حاجاته الجسمية. ويرى أريكسون أن الخلل في الثقة الذي تتعرض له العلاقة الانفعالية بين الطفل والأم خلال السنة الأولى, يمكن إصلاحه إلى حَدٍّ ما في السنوات التالية, إذا تعرَّضَ الطفل لبيئةٍ اجتماعية ملائمة, إلّا أن هذا الخلل لا يتم التغلب عليه تمامًا مهما كانت الخبرات التالية إيجابية, وبالمثل فإن الطفل الذي يكوّن اتجاه الثقة خلال السنة الأولى, قد يتعرض لبعض الخبرات السلبية في المستقبل من أشخاصٍ مهمين بالنسبة إليه, تهز فيه هذا الشعور، ومع ذلك سوف يحتفظ بقدرٍ من الإحساس بالثقة في الذات, والثقة في الآخرين, ينشأ نتيجة لنجاحه في اجتياز أزمة الثقة - عدم الثقة في مرحلة الرضاعة, وهذه الفكرة حول دوام واستمرار الثقة أو عدم استمرارها تُعَدُّ المصدر الأساسي للنمو الوجداني في هذا الطور. دور العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة في مرحلة الرضاعة: الأسرة هي البيئة الاجتماعية الأولى التي يعيش فيها الطفل, ولهذا تلعب العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة دورًا هامًّا في تشكيل سلوك الرضيع, فوالداه وأخوته وأقاربه الذين يتصلون به اتصالًا مباشرًا ومنتظمًا خلال هذه السنوات التكوينية الهامة, يحددون جميعًا اتجاهاته نحو الناس والأشياء والحياة, وعلى الرغم من أن هذه الاتجاهات تتغير وتتعدل بلا شكٍّ مع نموِّ الطفل ومع اتساع آفاق البيئة التي يعيش فيها، إلّا أن جوهر هذه الاتجاهات ومحورها يظلُّ ثابتًا لفترةٍ طويلةٍ من الزمن.

وتأتي الأدلة على أهمية العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة في حياة الرضيع من مصدرين، أحدهما: دراسة الأطفال الذين حُرِمُوا من أمهاتهم وأودعوا في المؤسسات الإيوائية "كالملاجئ وغيرها", لقد لوحظ على هؤلاء الأطفال أنهم حين يُحْرَمُون من أن يحبوا, وأن يكونوا محبوبين, تتأثر شخصايتهم بشكل خطير؛ فالطفل في هذه الحالة يصبح هادئًا ساكنًا غير مستجيبٍ لابتسامات الآخرين، ويظهر حِدَّةً انفعالية بالغة, كما لو كان بذلك يبحث عن اهتمام الآخرين، وتظهر عليه بوجهٍ عامٍّ مظاهر الشقاء والتعاسة. أما المصدر الآخر: فهو دراسة الأمهات العاملات, فمن المعروف أن نسبةً متزايدةً من الأمهات يستوعبهن في الوقت الحاضر سوق العمل في معظم دول العالم, وقد تَرَتَّبَ على ذلك إنشاء "مراكز الرعاية النهارية" للرضَّعِ, والتي يطلق عليها أحيانًا تسمية "دور الحضانة"، وهي مؤسسات يتلقى فيها الأطفال رعاية جماعية في فترة غياب الأم في عملها، وقد تعرضت فكرة هذه المؤسسات للنقد في كثيرٍ من الأحيان, على أساس افتراض أن الطفل في هذه المرحلة في حاجةٍ إلى شخصٍ مهمٍّ واحدٍ يوجِّه إليه مشاعر التعلق, بالإضافة إلى الاعتقاد بأن الرضَّع يتلقون في هذه المؤسسات اهتمامًا ورعايةً وعاطفةً واستثارةً أقلَّ مما يتلقونه في المنزل، وهذا في حَدِّ ذاته يؤثر على النمو الاجتماعي والانفعالي والمعرفي للطفل. ويصدق هذا القول بالطبع إذا كانت دور الحضانة هذه نوعًا من "مخازن الأطفال" كما وصفها فؤاد أبو حطب "1983"، إلّا أن نتائج البحوث تؤكد لنا أن رعايةً جماعيةً صحيحةً من الوجهة النفسية يمكن أن تهيئ ظروفًا مناسبة للنموِّ السليم، كما يحدث تمامًا في بيئة المنزل، وخاصةً إذا توافرت فيها التغذية المنظمة والتفاعل الاجتماعي المتكرر وفرص الاستطلاع والاستكشاف والاستثارة، ومع عدد مناسب من الصغار الذين ترعاهم المشرفة في دار الحضانة، وهو ما لا يجب أن يتجاوز ثلاثة أطفال بحالٍ من الأحوال, بشرط أن يقضي الطفل معظم يومه مع أمِّه بعد انتهاء فترة عملها. والسؤال الآن: ما هو دور الأب في مرحلة الرضاعة؟ لقد أثير هذا السؤال في السنوات الأخيرة بسبب التنبه إلى الفائدة التي يجنيها الرضيع من الرعاية التي يقدمها له أبوه إلى جانب رعاية الأم, وقد أكدت البحوث أن الآباء يظهرون قدرًا كبيرًا من الحساسية والعاطفة والمهارة في التعامل مع أطفالهم الرضع، إلّا أن نمط السلوك في الحالتين مختلف؛ فالأب يمارس مع طفله أنماط النشاط التي تتطلب اللعب الجسمي "مثل قذف الطفل في الهواء" أما الأم, فإنها تمارس مع الطفل لعبًا أكثر رقَّةً "كاستخدام اللعب"، بالإضافة إلى أنها تتصل بطفلها اتصالًا فيزيائيًّا أكثر

"وخاصةً في حالة الرضاعة الطبيعية, وبصفة عامَّةٍ يُلَاحَظُ أن الأم أكثر قدرةً من الأب على توجيه عاطفتها واهتمامها نحو الطفل, ويدل هذا على أن الأمومة هي الدافع الأقوى في هذه المرحلة، فهي الدافع الذي يهيئ الأم للقيام برسالتها الهامة في الحياة, وهي بقاء النوع "الحمل والولادة والرضاعة"، وهذه جميعًا ترتبط بها مشاعر العناية والحُنُوِّ على الطفل حتى ينمو, وهذه الوظائف لا ترتبط بدور الأبوة، وربما لهذا السبب أننا لا نجد في الحيوانات إلّا "أمومة" فقط, وقد جاء تكريم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة للأمومة تتويجًا لهذا الدور الهامِّ في حياة الإنسان. وتتغير علاقة الرضيع بوالديه مع تحوله من طفلٍ عاجزٍ معتمدٍ إلى طفلٍ أكثرَ استقلالًا نسبيًّا "مع النمو الحركي خاصة", ولعلَّ أهم ما يشغل الوالدين في هذه المرحلة الظروف الجسمية للطفل, ويُسَبِّبُ هذا قلقًا زائدًا لدى الأمهات "وخاصة أولئك اللاتي يمارسن دور الأمومة لأول مرة"، فهن يخشين الفشل في رعاية الطفل, وقد يؤدي هذا القلق إلى توتر الطفل الذي قد يؤثر على أكله ونومه. ولعلَّ من أخطر المشكلات في هذه المرحلة "الحماية الزائدة" التي يخلعها الوالدان على الطفل "وخاصة الطفل الأول" بسبب شعورهما بعجزه الكامل, وقد يؤدي ذلك بالطفل إلى تنمية اتجاه الاعتمادية, ومن المؤكَّد أن في مرحلة الرضاعة فترتين حرجتين لاتجاه الحماية الزائدة؛ أولاهما: في نهاية العام الأول, حين يختبر الطفل أمه لمعرفة ما إذا كان يمكنه الاعتماد عليها, والطفل في هذه الفترة لا يزال عاجزًا ولا يزال في حاجةٍ إلى من يشبع له حاجته، إلّا أن ما يلاحظ أحيانًا أن بعض الأمهات يتجاوزن حاجات الطفل, ولا يشجعن فيه الاستقلال قدر الإمكان, أما الفترة الثانية: فهي في نهاية العام الثاني "ونهاية المرحلة ككل" حين تكون هناك مطالب اجتماعية من الطفل لتغيير أساليبه السابقة في السلوك، ومع ذلك تسبغ الأمهات عليه طابع الحماية الزائدة، ولهذا نجد بعض الأطفال يتشبثون بالوضع الذي هم فيه "الاعتماد الطفولي الزائد". ومع نموِّ الطفل يزداد سعيه للاستقلال وضوحًا وتحديدًا، إلّا أنه بسبب عجزه عن القيام بالمهارات المطلوبة واللازمة لهذا الاستقلال نتيجةً للحماية الزائدة, يبدأ الصراع بين الطفل والوالدين في الظهور، ثم يتحول بغضبه إلى نفسه, وإلى كلِّ من يحيط به, عندما يعجز عن القيام بما يريد. وقد يُوجَدُ الطفل في أسرةٍ لها أطفالٌ آخرون هم أخوة الرضيع, وبالطبع فإن اتجاه الرضيع نحو هؤلاء الإخوة يتوقف على طرق معاملتهم له، فإذا كانوا يلعبون معه, ويبدون العاطفة نحوه, فإنه يتوجه إلى حبهم, ويتوقف هذا على نجاح الوالدين

في تهيئة الإخوة لاستقبال الطفل قبل مولده, وعادةً ما تظهر الأخت هذا الاتجاه الإيجابي نحو الرضيع أكثر من الأخ؛ لأن رعاية الطفل تعتبر في معظم المجتمعات وظيفة أنثوية, ولهذا فإننا كثيرًا ما نجد الرضيع يُفَضِّلُ أخته الكبرى على أخيه الأكبر. ويتركز اهتمام الأسرة خلال فترة الرضاعة على تدريب الطفل على الطعام "الفطام التدريجي" والنوم والإخراج, وقد لوحظ أن الوالدين الأكثر تفتحًا يميلون إلى أن يكونوا أكثر تسامحًا في هذا التدريب، إلّا أن المهم أن يكون ذلك جزءًا من برنامج واضح لرعاية الطفل في هذه المرحلة, يهدف إلى إشاعة الثقة في الطفل وتجاوزه أزمة الشك التي تشير إليها إيرك أريكسون "راجع الفصل الثالث". ويحدد محمد عماد الدين إسماعيل "1986" أربعة مبادئ عامة تحدد دور الوالدين في هذه الرعاية هي: 1- الفورية والثبات في استجابة الأم "أو من يقوم برعاية الطفل" بشكل عامٍّ لمؤشرات التوتر التي تصدر عن الطفل. 2- ضرورة التفاعل المستمر بين الطفل والأم، على ألَّا تكون محض مستجيب لحاجات الطفل, وإنما يجب أن يكون لها دور المبادأة في استثارة نموه المعرفي والانفعالي والوجداني, وهذان العاملان يؤديان إلى كسب ثقة الطفل, ويحققان له "التعلق" المستقر بها. 3- تشجيع الطفل عل استطلاع البيئة التي يعيش فيها, سواء باستخدام الحواس والحركة, أو من خلال نشاطه الاجتماعي. 4- تشكيل البيئة المادية للطفل؛ بحيث تكون ملائمة لمستوى نموه؛ وبحيث تشجعه على على الاستكشاف والاستطلاع المستمر.

بعض مشكلات طور الرضاعة

بعض مشكلات طور الرضاعة: 1- التغذية: تُعَدُّ تغذية الرضيع من المسائل الرئيسية في هذا الطور، بل إحدى المهام الهامة التي يجب إنجازها بنجاح, ولعل أهم ما يتصل بهذا الموضوع كيفية هذه التغذية, وخاصةً المفاضلة بين الرضاعة الطبيعية والرضاعة الصناعية. وقد فَضَّلَ القرآن الكريم الرضاعة الطبيعية منذ أربعة عشر قرنًا في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} إلّا إذا كانت هناك ظروف قاهرة تمنع الأم من ذلك, فأجاز حينئذ "الاسترضاع"؛ فالأصل في تغذية الطفل في هذا الطور إذن, هو أن يرضع الطفل لبن أمه من صدرها, أما الاعتماد على الرضاعة الصناعية -والتي تشيع في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا "في مقابل السويد والصين التي تشبع فيهما الرضاعة الطبيعية"- فقد حسم الأمر بالنسبة إليها في ضوء نتائج البحوث التي بدأت منذ مطلع الستينات من القرن العشرين، ومنها تأكد نهائيًّا أن هذه الطريقة في تغذية الطفل لا تقبل المقارنة مطلقًا بطريقة التغذية الطبيعية، وفي هذا إعجاز علميٌّ جديدٌ لكتاب الله الخالد. فالرضاعة الطبيعية لها مزاياها لكلٍّ من الرضيع والأم, فلبن الأم يفوق كل ما عداه من ألوان الغذاء الذي يمكن أن يُقَدَّمَ للطفل -مهما استخدم فيها من وسائل التعقيم الصحي- من حيث قدرته على وقاية الطفل من الإصابة من الأمراض المختلفة، ناهيك عن أنه غذاء صحي متكامل متوازن, لا توازيه أبدًا أية وجبة غذائية اصطناعية, أضف إلى ذلك أن الألبان الصناعية قد تحدث آثارًا ضارةً في صحة الطفل, بسبب بعض المستحضرات الكيميائية التي تؤلفها، بالإضافة إلى قابليتها السريعة للتلوث من خلال عمليات التحضير، ولهذا السبب فهي من أكثر الأسباب شيوعًا لتعرض الطفل للنزلات المعوية، وهي السبب الرئيسي لوفيات الأطفال الرضع. والرضاعة الطبيعية لها جوانبها السيكولوجية التي تفوق طبيعتها كموقف تغذيةٍ فحسب, إنها موقف "رابطة طبيعية" و"تعلق مباشر" بين الطفل وأمه, يعين على الإسراع بالنمو الانفعالي والوجداني والاجتماعي للطفل, ولذلك يرى بعض العلماء أنه لو اضطرت الأم إلى الرضاعة الصناعية لأسبابٍ قاهرةٍ, فعليها أن تجعل موقف التغذية أقرب ما يكون إلى الرضاعة الطبيعية؛ من حيث الاتصال "الجسدي" المباشر بالطفل. وللرضاعة الطبيعية آثارها المفيدة للأم أيضًا، فهي تساعد على سرعة

انكماش الرحم وعودته إلى حجمه الطبيعي بعد الولادة، بالإضافة إلى عودة نسب جسمها, وخاصة الصدر والبطن إلى حالتهما الطبيعية قبل الحمل, وتقلل من احتمالات إصابة الأم بأمراض الثدي والرحم التي شاعت في السنوات الأخيرة, ربما بسبب شيوع الرضاعة الصناعية. وحتى تكون الرضاعة الطبيعية مفيدةً لكلٍّ من الطفل والأم, لابد لتغذية الأم نفسها أن تكون جيدة، وأن تمتنع الأم عن تناول العقاقير التي قد تؤثر في لبنها, أضف إلى ذلك أن استمرار ثدي الأم في إفراز اللبن يتوقف على قوة مصّ الطفل له, وقد تلعب الأم دورًا في امتناع الطفل عن التغذية من صدرها, فقد تأكَّدَ أن الأطفال الرضَّعَ يميلون إلى التغذية الطبيعية الهادئة والكافية, إذا كانت أمهاتهم على درجة كافية من الرضا والسعادة والاسترخاء, ومعنى ذلك أن نجاح الرضاعة الطبيعية يتوقف على أن تكون الأم راغبة، أما الأم التي ترضع طفلها أداءً للواجب دون رغبةٍ منها في ذلك, تصاب بالتوتر, وتنعكس اضطرابات الأم هنا على الطفل, فيبدي علامات الضيق "دافيدوف، 1983". ومن هنا ينشأ رفض الطفل للتغذية الطبيعية. 2- الفصال "الفطام": يُقْصَدُ بالفطام تحول الطفل تدريجيًّا من التغذية عن طريقة الرضاعة, سواء أكانت طبيعية أم صناعية, إلى الشرب من كأسٍ أو كوبٍ, وتناول الأطعمة الأكثر صلابة, ولا يوجد مسحٌ شاملٌ يوضح لنا السن الأكثر تكرارًا في عالمنا العربيّ والإسلاميّ الذي عنده يحدث الفصال, وتتوافر مثل هذه الدراسات المسحية في المجتمعات الغربية, ومن ذلك أنه في الولايات المتحدة يحدث الفطام عادةً بين سن 6 شهور, 12 شهرًا, ويمتد إلى بلوغ الطفل عامين أو أكثر. وقد أوضح القرآن الكريم الحد الأقصى لرضاعة الطفل بعامين، وقد بيَّنَ بحكمته البالغة أنها قد تقل عن ذلك, ويذكر العلم الحديث بعض المؤشرات التي قد تفيد المهتمين برعاية الطفل في هذه المرحلة في تحديد حاجة الطفل إلى الفطام، ومن ذلك ما أوردته الأكايمية الأمريكية لطب الأطفال منذ عام 1958 Harris" 1986 من أن الطفل يكون جاهزًا من الوجهة الفسيولوجية لتناول الأطعمة الصلبة إذا أظهر ما يلي: أ- أن يستهلك من التغذية بالرضاعة أكثر من 32 أوقية "أي: ما يعادل960 ميللميتر" يوميًّا. ب- أن يشعر بالجوع على الرغم من أنه يتغذى برضاعة جيدة كل ثلاث أو أربع ساعات.

وقد لاحظ بعض الباحثين أن كثيرًا من الأطفال يفطمون أنفسهم بالتدريج, وخاصة إن كان هناك أخٌ "أو أختٌ" أكبر منه يحاول تقليده، وكان الوالدان يشجعانه على تناول الطعام مستقلًّا، وفي جميع الحالات يجب أن يتنبه الوالدان "وخاصة الأم" إلى أن يتمَّ ذلك بالتدريج, ودون عقاب أو تعسف أو قهر، وألَّا تحوِّلَ الفطامَ إلى خبرة صدمية. وأفضل طريقة لفطام الطفل دون تعرضه لمشكلاتٍ حادَّةٍ أن تقوم الأم بإنقاص كمية الطعام الذي يتناوله الطفل عن طريق الرضاعة, حالما أن الطفل يستطيع الحصول على طعامه من مصادر أخرى، فإذا كان من الواجب توقف الطفل عن الرضاعة الطبيعية في سنٍّ مبكرٍ "قبل سن 6 شهور مثلًا" فمن الأفضل أن يتحول إلى التغذية برضاعة صناعية "باستخدام الزجاجة" حتى تتوافر للطفل طريقة لإشباع حاجة المصِّ لديه في هذا السن, وبعدئذ تبدأ الأم بملء الزجاجة بالماء دون المواد الغذائية المرغوب فيها "كاللبن أو العصائر" وذلك لتشجيعه على التوقف عن استخدام الزجاجة في تناول طعامه. أما إذا كان علينا وقف الطفل عن الرضاعة الطبيعية في سنٍّ متأخر, فيجب أن يتمَّ الفطام بتحويله تدريجيًّا إلى الشرب من الكوب, وإذا كان الطفل لا يزال يظهر حاجته إلى المصِّ فيمكن أن تقدم مصادر بديلة كالمصاصات وألعاب الأسنان, ومن المعروف أن الحرمان المفاجئ من المصِّ قد يؤدي إلى مصِّ الأصابع حتى بعد انتهاء فترة الفطام, وقد يتحول بعد ذلك إلى لازمة عصبية يظهرها الأطفال "والكبار أحيانًا" في مواقف التوتر والقلق. 3- التسنين: يُعَدُّ التسنين إحدى المشكلات الهامة في طور الرضاعة، ويتمثل في ظهور الأسنان اللبنية "وعددها 20سنًّا", ويعتبر هذا الحدث مشكلة للطفولة في هذا الطور لما يصاحبه من بعض مظاهر الاضطراب التي تعتري كلًّا من الطفل والوالدين. ويختلف الرضع اختلافات جوهرية في موعد ظهور السن اللبنية الأولى, ويذكر "Smith 1886" أنه يولد طفل واحد من بين كل ألف وخمسمائة طفل وفي فمه سن لبنية واحدة، كما أن بعض الأطفال لا يظهرون سنهم اللبنية الأولى إلّا بعد أن يبلغوا من العمر 15شهرًا، إلّا أنه عند معظم الأطفال تبدأ هذه الأسنان في الظهور في الفترة العمرية بين 6، 7شهور. ويعاني الأطفال أثناء التسنين من بعض آلام اللثة والفم وضعف الصحة، بل

والمرض أحيانًا، وهي جميعًا أعراض مؤقتة تنتج عن تمزق بعض الأوعية الدموية, وإحلال بعض الأنسجة محل بعضها الآخر، ولهذا السبب قد تضعف شهية الطفل للطعام, بالإضافة إلى الضيق والتوتر، كما قد تظهر أعراض مثل ارتفاع درجة الحرارة والقيء والإسهال وآلام الأذن والنوبات التشنجية. 4- التدريب على الإخراج: يُعَدُّ تدريب الطفل على الإخراج خبرةً هامَّة في حياته, يُطْلَبُ منه فيها التعود على المعايير الاجتماعية, ولعل مصدر المشكلة هنا هو قلق الوالدين الزائد, وخاصة حين يعتبر تحكم الطفل في المثانة والأمعاء مؤشرًا على النموّ الصحيح, ولعلنا هنا نشير إلى أن المؤشر الصحيح على الحاجة إلى التدريب على الإخراج هو معدل النموّ الجسمي للطفل, وليس رغبات الوالدين وحاجاتهما؛ لأنه حتى يتم هذا التدريب بنجاحٍ لابد أن يظهر أنماطًا سلوكية معينة, يلخصها ويلي وونج Whaley Wong 1986" فيما يلي: أ- التحكم اللاإرادي في الأمعاء والمثانة, يجب أن يحل محله التحكم الإرادي فيهما، وهذا لا يحدث إلّا خلال الفترة العمرية من 18-24شهرًا, وقد يحتاج الطفل الذي يُولَدُ قبل الأوان, كما قد يحتاج الذكور إلى فترة أطول, بل إن بعض الأطفال من ذوي النقائص النيرولوجية قد لا يصلون إلى هذا التحكم الإرادي مطلقًا, وعلى هذا, فإن التدريب على الإخراج لا يجب أن يبدأ أبدًا قبل وصول الطفل إلى هذه المرحلة, وأيّ تدريب يحدث قبل ذلك هو تدريب للوالدين على الالتزام بمواعيد وأفعال معينة, دون أن يكون له أثر يُذْكَرُ على الطفل. ب- القدرة العضلية على المشي إلى الحمَّاِم, وخلع الملابس, والجلوس على "القصرية", أما نظافة الطفل والمكان بعد ذلك تظل مسئولية الكبار من الوالدين أو الإخوة الكبار, فلا يمكن أن يُطَالَبَ الطفلُ بما لا يستطيع. جـ- القدرة على الشعور بحركة البول أو البراز أو هما معًا, والحاجة إلى إخراجهما, ويمكن للوالدين أن يستعينا ببعض المنبهات غير اللفظية التي يظهرها الطفل لتوقع أنه على وشك التبول أو التبرز, ومن هذه المنبهات التعبيرات الوجهية والإيماءات ووضع قامة الطفل, وبهذا يتم التعبير عن الحاجة إلى الإخراج وإشباعها بالذهاب إلى الحمَّامِ. د- القدرة على استخدام بعض المهارات اللغوية للتعبير عن الحاجة إلى الإخراج، كما يجب أن يكون الطفل قادرًا على فهم التعليمات اللفظية التي يقدمها له الوالدان في مثل هذا الموقف حتى يتتبعها، كما يجب أن يكون قادرًا أيضًا على

فهم الأساليب اللغوية التي يستخدمها الوالدان في مدحِ أو ذمِّ أنماط السلوك غير المرغوب التي تصدر عنه في مثل هذه المواقف. وحالما يُظْهِرُ الطفل استعدادًا للتحكم في الإخراج, يمكن أن يبدأ تدريبه, والمهم في جميع الحالات أن يتسم الوالدان بالصبر أثناء هذه الفترة الحرجة من حياة الطفل, وعمومًا فإن أفضل سن التدريب على الإخراج هو بعد أن يتجاوز الطفل عامين من العمر، وعلى هذا, فإنه يصبح إحدى مسئوليات ومهام الطور التالي "Walkar Roberts 1983".

الفصل الحادي عشر: طور الحضانة (من سن عامين إلى سن التميز)

الفصل الحادي عشر: طور الحضانة (من سن عامين إلى سن التميز) النمو الجسمي والفسيولوجي ... الفصل الحادي عشر: طور الحضانة"من سن عامين حتى سن التمييز" يبدأ هذا الطور من نهاية الرضاعة حيث يقلُّ الاعتماد ويتزايد الاستقلال تدريجيًّا, وينتهي بدخول الطفل المدرسة الابتدائية، ويطلق على هذه المرحلة عدة تسميات, أشهرها "مرحلة الحضانة ورياض الأطفال"، ومرحلة طفل ما قبل المدرسة" ومرحلة "الطفل الدارج" Toddler, وتتميز هذه المرحلة بوضوح الفروق الفردية في مختلف جوانب السلوك، ويستقر فيها كثير من خصائص الشخصية, وقد حظيت هذه المرحلة باهتمام كبير من علماء النفس، وخاصة من أصحاب نظريات الشخصية, بسبب الاعتقاد الذي كان شائعًا لزمنٍ طويلٍ من أن هذه المرحلة هي الأكثر أهمية في دورة حياة الإنسان، وهي التي تحدد مسار النمو اللاحق, إلّا أن كثيرًا من هذه الأفكار قد تغير في ضوء نتائج البحث, وأصبح الاهتمام بالنموِّ في هذه المرحلة بسبب ما يمثله في النمو الكلي للإنسان, ونعرض فيما يلي لخصائص النموِّ في هذه المرحلة. النمو الجسمي والفسيولوجي: يتزايد الطول والوزن في هذه المرحلة تزايدًا سريعًا, إلّا أن هذه التغيرات لا تحدث بنفس المعدل الذي كانت تحدث به في المرحلة السابقة "مرحلة الرضاعة", فالمعدل هنا أبطأ, ويزداد بطأً في المرحلة التالية, ويكون معدل الطول أكبر من الوزن في هذه المرحلة, ويكون الذكور أطول وأثقل قليلًا من الإناث, وتؤكد إحصائيات إدراة الصحة المدرسية بوزارة التربية والتعليم في مصر, أن متوسط طول الطفل في بداية العام الثالث من عمره يكون 84سم تقريبًا لكلٍّ من الذكور والإناث، وحينما يصل الطفل إلى نهاية العام الخامس من عمره يكون متوسط طول الولد 108سم, ومتوسط طول البنت 107سم, أما متوسط وزن الطفل في بداية مرحلة الطفولة المبكرة فيكون 12 كليو جرامًا تقريبًا للجنسين, وفي نهاية

المرحلة يكون متوسط وزن الولد حوالي 18 كيلو جرامًا, ومتوسط وزن البنت 17،5 كيلو جرامًا, وهكذا يكون طول الطفل في نهاية هذه المرحلة ضعف طوله عند الولادة, بينما يصل وزنه إلى سبعة أمثال وزنه عند الولادة. ويشهد النموّ الجسمي في هذه المرحلة تغيرات في نسب أجزاء الجسم؛ فالعظام والعضلات تنمو بمعدل أكثر تدرجًا مع تحول مظهر الطفل من شكل الرضيع إلى شكل الطفل الصغير, وفي حوالي سن الرابعة يبدأ الطفل في التخلص من الشكل المترهل للرضيع, إلّا أن الرأس والوجه تظل نسبتهما أكبر بالمقارنة بأجزاء الجسم الأخرى، على الرغم من أن معدل نموّ الرأس يكون في هذه المرحلة أبطأ من المرحلة السابقة, ومع استمرار النموّ في منطقة الجذع والأطراف يصبح مظهر الطفل أكثر خطية وأقل استدارة, ويرجع المظهر النحيل للطفل في هذه المرحلة أيضًا إلى عمليات الأيض "الهدم والبناء" التي تتعرض لها الأنسجة الدهنية التي تراكمت على جسم الطفل في المرحلة السابقة, ويؤثر النشاط المتزايد والحركة الدائبة للطفل في هذه المرحلة في تخلص الطفل من هذه الدهون. وحين يصل الطفل إلى العام السادس تكون نسبة أجزاء الجسم أقرب إلى نسب جسم الشخص الكبير, كما أنه في هذه المرحلة يزداد نضج الجهاز العظمي والعضلي والتي تؤثر في زيادة الوزن, فبينما يرجع معظم وزن الجسم في المرحلة السابقة إلى زيادة الدهون, فإن هذه الزيادة تعود في هذه المرحلة إلى النمو في أنسجة العضلات والعظام؛ فالعضلات تكون ضعيفة والعظام لا تزال لينة, وتكتمل الأسنان, وخاصة فيما بين العام الثاني والثالث, وتظل هذه الأسنان "اللبنية" حتى سن السادسة أو السابعة, حين تستبدل بالأسنان الدائمة، ومع ذلك, فإن أسنان الطفولة في حاجة إلى الرعاية الطبية على الرغم مما هو شائع من عدم حاجة أسنان الطفل إلى ذلك لندرة تسوسها؛ ولأنها ستتغير بعد ذلك, فالرعاية الطبية للأسنان مهمة للتأكد من أثر التغذية وغيرها من العوامل التي تؤثر في نموّ الأسنان الدائمة. وقد يكون الجهاز العصبي هو أكثر أجهزة جسم الطفل استمرارًا في النموّ في هذه المرحلة، ويتفوق معدل نموه عليها في هذ الصدد, فمع بلوغ الطفل سن الثالثة يصل وزن مخه إلى حوالي 75% من وزن مخ الراشد، ويصل إلى 90% من وزنه الكامل في العام السادس, ويتقدم نموّ لحاء المخ خلال هذه المرحلة, وهذا الجزء من المخِّ يتألف من عدد كبير من الخلايا والألياف العصبية, وهو أكثر أجزاء المخ تطورًا، ويرتبط بالسلوك الإرادي والنشاط العقلي, ويفسِّر لنا نموَّ هذا الجزء من المخِّ في هذه المرحلة السرعة والسهولة التي يكتسب بها الطفل المعلومات والمشاركة في أنشطة التفكير وحلّ المشكلة, ومعنى هذا أن النموَّ العقلي والمعرفي في هذه المرحلة قد يكون وثيق الارتباط بنموّ لحاء المخ, ويستمر في هذه المرحلة ترسيب الأنسجة الدهنية المحيطة بنهايات الخلايا العصبية على نحوٍ يجعل التواصل العصبي في المخ أكثر يسرًا وكفاءة, وتتفاعل هذه العمليات معًا لتجعل التعليم عند أطفال هذه المرحلة أكثر سهولة من المرحلة السابقة.

النمو الحسي والادراكي

النموّ الحسي والإدراكي: تشهد هذه المرحلة تحسنًا واضحًا في قدرة الطفل على الإبصار والتركيز البصري، ومع بلوغ الطفل سن السادسة لا يكون جهازه البصري قد اكتمل "لا يكتمل نضج الجهاز البصري إلّا مع البلوغ"، وهذا يعني أن مزيدًا من النموِّ البصريِّ تشهده مراحل العمر التالية حتى يتحقق تركيز بصري واضح, وقد يحتاج بعض الأطفال في هذه المرحلة إلى نظارات طبية, أما المشكلات السمعية فلا تظهر إلّا لدى عدد قليل من الأطفال, ونسبة هؤلاء في المجتمع الأصلي للأطفال لا تتجاوز 2%. ومع تقدُّمِ الطفل في العمر تزداد قدرته على التمييز بين المثيرات، ويزداد نصيب المثيرات من التمايز كلما أطلق على كلٍّ منها اسم خاص به، أي أن المثيرات المختلفة تصبح عنده مرتبطة بتسميات لغوية, والطفل في بداية هذه المرحلة "في سن الثالثة" يميل إلى الاستجابة للمثير ككلٍّ لا إلى أجزائه المنفصلة، كما ينمو لديه الإدراك المكاني، ولو أن الأطفال في هذه المرحلة من بدايتها حتى نهايتها تقريبًا يجدون صعوبة بالغة في الكشف عن الفرق بين الشكل والصورة في المرآة, ويصدق مبدأ إدراك الكلّ قبل الأجزاء على الإدراك السمعي.

النمو الحركي

النموّ الحركي: يتبع النمو الحركي في الطفولة المبكرة النسق الذي بدأ في المرحلة السابقة؛ فالطفل يستطيع في هذه المرحلة أن يجري بسهولة, ويتمكن من الوقوف, ويصعد الدرج دون مساعدة، ويستطيع القفز وبناء المكعبات, ويكتسب قدرًا كافيًا من التوجه المكاني, والدقة في الحركة, وفي سن الخامسة يكون قد اكتسب القدرة على الاتزان, وتزداد حركاته الدقيقة تمايزًا واستقلالًا, ويتبع النموّ الحركي في هذه المرحلة الاتجاه من العام إلى الخاصِّ. ويطرأ على المهارات الحركية الغليظة التي اكتسبت في مرحلة الرضاعة قدر كبير من التحسن والتعديل، ويبدأ ظهور المهارات الحركية الدقيقة, والحركات الغليظة هي تلك التي تتطلب نشاط مجموعة عديدة من العضلات مثل المشي

والجري وغيرهما, أما المهارات الحركية الدقيقة فإنها ترتبط أساسًا بالمهارات اليدوية ومهارات اللعب وغيرها. ويلعب التكرار دورًا هامًّا في نموِّ المهارات الحركية في الطفولة المبكرة؛ فالأطفال يستمتعون بهذا التكرار, ويعينهم ذلك على تحسن المهارات المكتسبة, والوصول بها إلى درجة عالية من الكفاءة "Binger 1983". ويتدعم في هذه المرحلة تفضيل إحدى اليدين في الاستخدام, وبالطبع فإن الأطفال يستمرون في استطلاع استخدام إحدى اليدين أو الأخرى, أو استخدام أحد جانبي الجسم أو الآخر، كما توجد اختلافات واسعة في استخدام اليد المفضلة, واستخدام إحدى اليدين أو القدمين أو أحد جانبي الجسم أكثر من الآخر يرتبط في جوهره بسيطرة أحد النصفين الكرويين في المخِّ على النصف الآخر, ويمكن للأطفال أن يتعلموا استخدام يد معينة في أداء مهارات حركية كثيرة, وبالطبع يُعَدُّ العسر "أو سيطرة اليد اليسرى" عند معظم الكبار سمة غير مرغوب فيها في عالمٍ يسوده استخدام اليد اليمنى، وبالتالي, فإنهم يشجعون الأطفال على تفضيل هذه اليد اليمنى. ويعتمد نوع المهارات التي يمكن للطفل تعلمها جزئيًّا على مستوى نضجه واستعداده، وعلى الفرص التي تتاح له لتعلمها, والتوجيه التي يلقاه لإتقانها بسرعة وكفاءة, ومن الملاحظ أن الأطفال الذين يعيشون في البيئات الفقيرة يكتسبون المهارات مبكرين عن أطفال البيئات الميسرة, ويبدو أن السبب في ذلك رغبة الآباء من ذوي المستوى الاقتصادي الاجتماعي المنخفض في تدريب أطفالهم على هذه المهارات إلى الحد الذي يجعلهم لا ينتظرون، ما دام الانتظار غير مطلوب "Hulock 1980". وتوجد فروق بين الجنسين في نوع المهارات الحركية التي يتعلمها أطفال هذه المرحلة؛ فالضغوط الثقافية تركز على الذكور أن يتعلموا مهارات اللعب الملائمة ثقافيًّا لجنسهم، وتجنب المهارات التي ترتبط ثقافيًّا "بالأنوثة", ولهذا يشيع بين الذكور مثلًا تعلم ألعاب الكرة, بينما تشجع الإناث على المهارات المرتبطة بألعاب البيت, ومع ذلك يتعلم كلٌّ من الجنسين مهارات مشتركة, والتي قسَّمَتْهَا هيرلوك إلى فئتين: المهارات اليدوية ومهارات استخدام الساقين, ومن أهم المهارات اليدوية مهارات إطعام الذات, وارتداء الملابس, وهي مهارات يبدأ ظهورها في المرحلة السابقة -كما أشرنا- ويكتمل نموها في هذه المرحلة, ومن هذه المهارات أيضًا تمشيط الشعر والاستحمام, ويمكن استخدام اليد في الدَّقِّ بمطرقةٍ أو شاكوش،

وحين يصل الطفل إلى سن السادسة يمكنه استخدام أدوات النجار في صنع أشياء بسيطة, ويمكن لطفل دار الحضانة أو روضة الأطفال أن يستخدم المقصَّ, والتشكيل بالصلصال, واستخدام أدوات الخياطة, كما يمكنه استخدام أقلام الرصاص وأقلام التلوين والألوان المائية، وبهذا يمكنه رسم الصور وتلوينها, ويمكنه في هذا السن رسم الرجل, وبين العام الخامس والسادس يمكنه رسم بعض حروف الأبجدية، على الرغم من بطء القدرة على الكتابة في هذه المرحلة. أما بالنسبة لمهارات الساقين: فإنه حالما يتعلم الطفل القدرة على المشي يتوجه انتباهه إلى تعلم مهارات أخرى تتطلب استخدام القدم, فيتعلم في سن الخامسة أو السادسة الحجل "القفز برجل واحدة" والطفر "وثب كل درجتين من درجات السلم في المرة الواحدة", والعدو "كالفرس"، والقفز، وألعاب الجري "دون سقوط"، ومهارات التسلق.

صحة الطفل ما قبل المدرسة

صحة الطفل ما قبل المدرسة: يتحسَّن المستوى الصحي للطفل مع تقدمه في السن, ويحدد صحة الطفل في هذه المرحلة عوامل التغذية والمستوى الاقتصادي الاجتماعي, ولا شك أن توافر صحة جيدة لطفل ما قبل المدرسة يُعَدُّ من الأمور الجوهرية التي يتطلبها النموّ وتحتاجها طاقة الطفل, ونعرض فيما يلي بعض المسائل المتصلة بهذا الموضوع: 1- التغذية: توجد علاقة وثيقة بين تغذية الطفل ونموِّه الجسمي والنفسي, وقد أشرنا إلى أن النموَّ الاجتماعي والوجداني للطفل يتأثر تأثيرًا شديدًا بخبرات التغذية, ويبدأ ذلك منذ مرحلة الرضاعة التي تهيئ للطفل خبرة هامة في بناء الشعور بالثقة, في مقابل الشعور بالشكِّ "كما حدده أريكسون", وتتشكل عادات الطعام وتفضيل الأطعمة وأنماط التفاعل الاجتماعي في موقف الطعام في هذه المرحلة, وأي نقصٍ في التغذية أو سوء فيها, يؤدي إلى خفض مستوى الصحة ونقص المقاومة, ومن هنا يسهل تعرض الطفل للأمراض. ولأن معدلات النموِّ تهبط قليلًا في مرحلة الطفولة المبكرة, يُلَاحَظُ على الطفل نقص شهيته للطعام, وهنا ينشأ الموقف المشكل, وهو أنه في الوقت الذي يكون فيه الطفل أقل رغبة في الطعام، نجد الوالدين يسيئان في الأغلب فهم سلوك الطعام عند الطفل, ويشجعانه على أن يبالغ في الأكل, وقد يؤدي ذلك إلى سوء التغذية من مختلف الأنواع, وقد حلَّلَ بعض الباحثين الوجبات التي يتناولها طفل ما قبل المدرسة, وتوصلوا إلى النتائج الآتية: أ- يزيد تناول السعرات الحرارية والبروتين والكالسيوم مع زيادة دخل

الأسرة. ب- معظم الأطفال لديهم نقص في الحديد وفي فيتامين أ، جـ. جـ- تظهر نقائص التغذية في المستويات الاقتصادية الاجتماعية المنخفضة. 2- الحوادث والإصابات والجروح: يتعرض طفل ما قبل المدرسة للحوادث التي تنتج عنها إصابات وجروح, وخاصةً خلال الفترة العمرية من عام واحد وأربعة أعوام, ويبلغ عدد هذه الحوادث التي تقع للأطفال في البيوت حوالي 40%، وهذا يعني حاجة الطفل في هذه المرحلة إلى الرعاية والإشراف, وكثير من الحوادث المنزلية تنتج عن بلع الأطفال أشياء ضارة أو مؤذية؛ فالأطفال في هذه المرحلة يستمرون في إصدار السلوك الذي كان سائدًا في المرحلة السابقة, وهو وضع الأشياء في الفم ومحاولة أكلها, كما أنهم قد يحاولون تقليد الكبار في تعاطيهم للأدوية, مما يسبب لهم حوادث التسمم, وأشهر المواد الكيميائية التي تسبب وفاة الأطفال في هذا السن: الأسبرين والمبيدات الحشرية وزيوت الدهان ومشتقات البترول التي تترك عادة في المنزل دون حرص. 3- الأمراض: يمكن حماية طفل مرحلة ما قبل المدرسة من معظم الأمراض المعدية بالتطعيم، وهو إجراء يبدأ منذ المرحلة السابقة, ويستمر خلال هذه المرحلة، ومع ذلك يشيع بين أطفال هذه المرحلة بعض الأمراض المتصلة بالجهاز التنفسي "ربوَ الأطفال" والجهاز الهضمي, وآلام الأذن, والحصبة, والجديري, وتوجد فروق فردية في ذلك، فالذكور أكثر تعرضًا للمرض، وأمراضهم أكثر خطورة من الإناث, وعلى الرغم من أن وفيات الأطفال في هذه المرحلة أقلّ منها في المرحلة السابقة، إلّا أن نسبة هذه الوفيات بين الذكور أكبر منها في الإناث, ويعاني أطفال المستويات الاقتصادية الاجتماعية المنخفضة من المرض أكثر من أطفال المستويات الأعلى. ومعظم أمراض الطفولة ذات أصل جسمي، وبعضها ذو طبيعة سيكوسوماتية، وينشأ عن توتر العلاقة بين الطفل ووالديه, وحين يستجيب الوالدان لمرض الطفل على أنه كارثة عائلية، ويظهرون مشاعر الذنب، أو يلومون الطفل على الظروف السيئة التي أحدثها مرضه, فإن اتجاه الطفل يصبح أكثر سلبيةً, ويؤدي به إلى مزيدٍ من التوتر الذي يزيد من حدة المرض وإطالة مدته، أما إذا كان سلوك الوالدين على عكس ذلك، فإن اتجاهات الطفل تكون إيجابية, ومعنى هذا أن المرض قد يكون إحدى حيل الطفل اللاشعورية للهرب من عالم الواقع. وأشهر الأمراض السيكوسوماتية التي تنشأ عن توتر العلاقة بين الطفل ووالديه هي: الفقدان العصبي للشهية للطعام، والتهاب القولون، التبول اللاإرادي، أمراض الحساسية، والبول السكري، والوهن العام.

النمو اللغوي

النمو اللغوي: مع بلوغ الطفل عامه الأول تبدأ أول كلمة حقيقية في الظهور, وقد يتأخر بعض الأطفال الأسوياء عن النطق بالكلمة الأولى عدة شهور بعد ذلك، والبعض يبدأ قبل ذلك بقليل, وتنمو اللغة لدى الرضيع خلال عامه الثاني, ويكون مقدار ما يعرفه ويفهمه من الكلمات في هذه الفترة أكبر مما ينطق به بالفعل, ومعنى ذلك أن الفهم اللغويّ ينمو مبكرًا وبسرعة أكبر من إنتاج الكلمات, ويلاحظ على الطفل خلال العام الثاني من عمره أنه يستجيب للأسئلة والتعليمات بالإيماءات والأفعال قبل أن يقول كلمة, وبصفةٍ عامَّةٍ يمكن تقدير عدد الكلمات التي يفهمها الطفل بخمسة أمثال ما يمكن إنتاجه منها, ويكون معدل الزيادة في الفهم اللفظي خلال العام الثاني من العمر أكثر من 20 كلمة جديدة يفهمها الطفل كل شهر، بينما يكون معدل الزيادة في عدد الكلمات التي ينتجها الطفل هو 9 كلمات جديدة في الشهر. ويرى بعض الباحثين أن مستوى الفهم اللفظي لا يرتبط إلّا قليلًا بنضج القدرة على إنتاج الكلمات؛ فالطفل الذي لا ينطق إلّا بقليلٍ من الكلمات, قد يفهم أكثر من طفلٍ آخر ينتج الكلمات بكثرة "Mussen et al 1984", ويصل محصول الطفل عند بلوغه سن ما بين 18 شهرًا وعامين, حوالي 50 كلمة، والتي تشير غالبًا إلى الأشياء الهامة أو البارزة في بيئة الطفل، والأفعال والأنشطة التي يقوم بها، والأشخاص الهامين في حياته، وأنواع الأطعمة، وأجزاء الجسم، وأسماء الملابس والحيوانات, وأدوات المنزل, ووسائل النقل, ولا يشير الطفل إلى الأشياء الثابتة المعتادة "كالمناضد والنوافذ" ولا يعطي لها أسماء، ويتوجه انتباهه إلى الفعل؛ فيعطي الأسماء للأشياء التي تتحرك أو تتغير, أو يمكن استخدامها في النشاط. ويمكن للطفل حينئذٍ أن يستخدم الكلمة الواحدة مصحوبة بالإيماءة أو التنغيم لينقل الأفكار أو الملاحظات أو المطالب أو التعبيرات الانفعالية, ويكتسب الطفل الكلمات الجديدة ومعانيها من خلال عملية "تسمية" مفصلة, يتفاعل فيها الوالدان مع الطفل منذ أن ينطق الطفل بأيِّ شيءٍ له هيئة الكلمة؛ فالوالدان يشيران إلى الشيء ويسميانه, ويصححان محاولة الطفل تكرار الأسماء, ويستخدم الوالدان مع طفل الثانية والثالثة ما يسميه ميوسن وزملاؤه "Meussen et al 1984".

المستوى المتوسط من التعميم في "عَنْوَنَةِ" الأشياء، وهو الأسلوب الشائع لدى الطفل ابتداءً من العام الأول وحتى نهاية العام الثالث من العمر, فالطفل يُعَنْوِنُ أيَّ نوعٍ من الكلاب على أنه "كلب" لا على أنه "ولف" أو "حيوان". وتشير الكلمة الواحدة من مفردات الطفل إلى كلٍّ من الاسم والفعل؛ فالطفل قد يستخدم كلمة "باب" للإشارة إلى أن الباب يفتح أو يغلق، بينما يستخدم طفل آخر كلمة "فتح" للإشارة إلى هذه الأفعال, وقد يعطي الأطفال للكلمات معاني تختلف عن معانيها عند الكبار, فقد يبالغون في توسيع المعنى حين يشيرون إلى القطط والخيول والأرانب وغيرها من الحيوانات ذات الأربع على أنها كلاب, وهذا النوع من تعميم المثيرات يعتمد على التشابه الإدراكي, سواء في الشكل أو الوظيفة. وهناك أسلوب آخر يستخدمه الأطفال في هذه المرحلة وهو تضييق نطاق المعنى, فمثلًا نجد أن طفل الشهر التاسع يستخدم كلمة "سيارة" للإشارة إلى السيارات الحقيقية التي تتحرك في الشارع لا السيارات الواقفة أو المرسومة في صورة, وكلمة "قطة" لا تشير إلّا إلى هذا الحيوان الموجود في بيته فقط. وحين تصل مفردات الطفل المنطوقة إلى 50 كلمة مع بلوغه نهاية عامه الثاني, يمكنه حينئذ أن يضع كلمتين معًا, وتزداد تدريجيًّا أنواع المجموعات الثنائية من الكلمات, ويبدو أول تجمع من كلمتين في البداية على هيئة صيغة مختصرة للجمل عند الكبار، وتتألف في جوهرها من الأسماء والأفعال وقليلٍ من الصفات أو النعوت, وهي أشبه بالتلغراف الذي لا يحتوي إلّا على الكلمات الأساسية، وعادةً ما تحذف منها حروف العطف والجر وأدوات التعريف وغيرها من الإضافات اللغوية. إنك إذا طلبت من طفلٍ عمره عامان أو ثلاثة أعوام أن يكرر الجملة الآتية "أنا أقدر أشوف قطة", يقول الطفل: "أشوف قطة", وعلى الرغم من أن بعض الكلمات الهامة قد حُذِفَتْ, إلّا أن الترتيب الصحيح للكلمات يظل موجودًا، وكأن الطفل يتبع قواعد بسيطة للنحو, وهكذا يدرك الطفل "نموذج الجملة" على أنها نوعٌ من البنية, وليس مجرد مجموعة من الكلمات. وهذه الجمل التلغرافية تعبر عن مدى واسع من المعاني, ويمكن أن يُسْتَنْتَجَ قصد الطفل من ترتيب الكلمات, ومن الموقف الذي تصدر فيه الجملة, وقد وجد علماء النفس اللغويون تشابهًا كبيرًا في السلوك اللغوي للأطفال الذين يتحدثون لغات مختلفة, ويظهر هذا التشابه خاصةً في محتوى هذه الجمل التي تتألف من كلمتين. ويبدأ الأطفال تدريجيًّا في استخدام أدوات التعريف والضمائر وبعض الصيغ

الصرفية وحروف الجر وغيرها من الإضافات اللغوية, ويتجه النموّ في هذه الحالة من البسيط إلى المركب, ويحاول الأطفال إظهار معرفتهم النامية بقواعد النحو "هناك نحو للهجات العامة كما هو للغة الفصحى"، إلّا أن الطفل أحيانًا يبالغ في الإلتزام بالقواعد بطريقة قد توقعه في "أخطاء النحو", ومن الطريف أن الطفل قبل أن يتعلم هذه القواعد يطبقها على هذه الصيغ غير العادية, فيقع في الأخطاء التي أشرنا إليها. وقبل وصول الطفل إلى نهاية العام الثالث من العمر, يكون قد اكتسب القدرة على تكوين جمل بسيطة مؤلفة من حوالي أربع كلمات, كما تبدأ الجمل المركبة في الظهور التلقائي في كلام الطفل، وهي تتألف من جملتين بسيطتين أو أكثر, يربطهما "بالواو" كحرف عطف، أو يدمجهما معًا دون استخدام لحرف العطف, وهذا الحرف هو الأكثر شيوعًا في لغة الطفل خلال عامه الثالث، وتستخدم الحروف الأخرى بالتدريج بعد ذلك. ويزداد النمو اللغوي تحسنًا بإنتاج الجمل الاستفهامية وفهمها والإجابة عليها إذا استخدمها معه الكبار, ويجيب الأطفال في البداية على أسئلة متى وكيف ولماذا, كما لو كانت أسئلة ماذا وأين, وتتحسن قدرة الطفل على الإجابة الصحيحة على السؤال طوال الفترة من سن 3-5 سنوات. وهكذا حين يصل الطفل إلى سن المدرسة, أو سن التمييز, تكون لديه ثروة من المحصول اللفظي الذي يفهمه -والذي قد يقلُّ بالطبع عَمَّا يستخدمه بالفعل, كما يكون قادرًا على فهم التعليمات التي تعطى له, وقادرًا على فهم معاني القصص والحكايات التي تروى له, ويتوقف هذا المحصول اللغوي بالطبع على ذكاء الطفل، والظروف البيئية المحيطة به, والتي تهيئ له ظروف الاستماع اللغوي؛ كوجود الراديو أو التليفزيون ودخول الطفل مدرسة الحضانة, وزيادة وقت الفراغ للآباء؛ بحيث يقضونه مع أطفالهم، والطبقة الاجتماعية. أما بالنسبة للفروق بين الجنسين: فإن البنات يتفوقن تفوقًا بسيطًا على الذكور في مهارات التعبير، أما الذكور فيتفرقون بمقدار بسيطٍ أيضًا في المحصول اللغوي ومعرفة معاني الكلمات, من المعاني المختلفة, وبصفة عامة تكون ثروة الطفل من الكلمات بعد نهاية العام الرابع من العمر أكثر من ألفي كلمة, ومع نهاية العام الخامس قد يصل هذا العدد إلى حوالي ثلاثة آلاف كلمة. ويتميز السلوك اللغوي في هذه المرحلة بأنه يتمركز حول الذات تبعًا للدراسات التي أجراها بياجيه منذ عام 1926, إلّا أن هذه النتائج عليها بعد التحفظ الآن, ويمكن قصرها على بعض الحالات في بداية هذه المرحلة, ومعنى

التمركز حول الذات: أن الطفل لا يتحرَّى معرفة من يتحدث إليه, أو إذا كان هناك من يستمع له، يتكلم لنفسه وقد يلذ له أن يربط شخصًا تصادف وجوده بالنشاط الذي يقوم به حينئذ، وهو لا يحاول أن يضع نفسه بحيث يراه السامع, وفي هذه المرحلة يصعب على الطفل أن يضع نفسه موضع الآخر, ويكشف كلامه بصفة عامة عن قلة اهتمامه بفهم الآخرين له. وقد يبدو على الأطفال في بداية هذه المرحلة أن أحدهم يتحدث إلى الآخر, أي: أن بينهما نوع من الاتصال، إلّا أن حديثهما في واقع الأمر لا يقوم على التفاعل. إننا إذا تأملنا ما يحدث نجدُ أن كلًّا منهما يتحدث عن شيء مختلف, ومن المعروف أن الاتصال الفعَّال يقوم على ما هو أكثر من معرفة قواعد النحو, وما هو أكثر من معرفة معاني الكلمات، وإنما هو القدرة على إدراك الكلام المناسب في الوقت والمكان المناسبين للمستمعين المناسبين, والذي يرتبط بموضوعاتٍ مناسبة, أي: إنه نوعٌ مما يسميه تشومسكي القواعد العملية للغة Pragmatics, صحيح أن بعض صور التبادل اللغوي تظهر عند طفل الثانية من العمر؛ حيث يمكن للطفل أن يتحدث مباشرةً إلى طفلٍ آخر, أو إلى بعض الكبار, في إشارته إلى الأشياء المألوفة في بيئته المباشرة.

النمو العقلي المعرفي

النموّ العقلي المعرفي: يصف بياجيه طور النمو من سن سنتين وحتى سن 7سنوات, بأنه طور ما قبل العمليات -Pre Operational، والذي ينقسم إلى فترتين رئيسيتين هما: أ- فترة ما قبل المفاهيم: من سنتين حتى 4سنوات, ويعوز الطفل في بداية هذه المرحلة استخدام المفاهيم, وبخاصة مفهوم الفئة, ومفهوم علاقة الانتماء إلى فئة معينة, ولذلك يتميز التفكير في هذه المرحلة بأنه في منزلة متوسطة بين مفهوم الشيء "هذه المنضدة مثلًا" ومفهوم الفئة "المناضد ذات الأربعة أرجل", وهذا ما يسميه بياجيه "ما قبل المفهوم Per-concept, ويتميز بأنه نوعٌ من التفكير التحولي transdudctive من الخاصِّ إلى الخاصِّ، وهو نوع من التفكير يختلف عن التفكير الاستنباطي deductive من العام إلى الخاص، والتفكير الاستقرائي inductive من الخاص إلى العام, وهو نوع من التفكير باستخدام قياس التماثل analogy "أو التشابه الجزئي" من نوع "أ" يشبه "ب" في إحدى النواحي، إذن "أ" يجب أن يشبه "ب" في النواحي الأخرى, وبالطبع قد يؤدي الاستدلال التحولي إلى نتائج صحيحة في بعض الأحيان، إلّا أنه في معظم الأحوال يؤدي إلى الوقوع في الخطأ, ويبدو أن هذه المرحلة هي مرحلة تجميع وحدات المعلومات عند الطفل.

ومن أمثلة الاستدلال التحولي عند الطفل أن يتعامل مع كلبٍ أليف في المنزل "أ", فإذا رأى كلبًا غير أليف في الشارع "ب", فإنه قد يتعامل معه بنفس الطريقة التي يتعامل بها مع كلب الأسرة, ويكون استدلاله في هذه الحالة على النحو التالي: أ- كلب. أ- كلب أليف. ب- كلب. ب- كلب أليف. وقد يقتنع الطفل في هذا الطور بهذه الطريقة في التفكير, ويخدعه مظهرها المنطقي, وتبدو مقنعة تمامًا كما تبدو طريقة التفكير الاستقرائي والتفكير الاستنباطي عند الكبار، على الرغم من أن النتيجة التي توصَّلَ إليها غير صحيحة بالضرورة. وهناك خاصية أخرى لمرحلة ما قبل المفاهيم, هي خاصية التمركز حول الذات، وهي خاصية تختلف عَمَّا كان سائدًا في الطور السابق, إن التمركز حول الذات في طور الرضاعة يتمثل في الخلط بين الذات والبيئة، أما في هذا الطور فيظهر في صورة عدم قدرة الطفل على تمييز منظوره الشخصيّ عن منظور الآخرين, ويسلك الطفل في هذا الطور كما لو أن الآخرين يدركون عالمه بنفس الطريقة التي يدرك بها هو هذا العالم, ولعل من الأشياء الطريفة التي يلاحظها الوالدان على أطفالهم حينئذ, أن يغمض الطفل عينيه ثم يقول لهما "إنكما لا ترياني"، وهو ما يمكن أن نسميه "سلوك النعامة"، فهو طالما لا يراهما, فإنه يفترض أنهما بالضرورة لا يريانه، فمنظوره الشخصي هو منظورهما أيضًا كآخرين, ويوجد مثال آخر يذكره الطفل كثيرًا, وهو أن الشمس أو القمر يتبعاه حيثما يكون, وهناك مثال ثالث من حياتنا الشخصية حينما رأى نجلنا خالد "وهو في الطور من النمو" من نافذة السيارة وهي واقفة في الطريق الزراعي, ومن بعد جمالًا تحمل أحمالًا من النباتات الخضراء فصاح قائلًا "شجر بيمشي", وهكذا يتسم تفكير الطفل في هذا الطور بعدم القدرة على إدراك الموضوع, وقد استنتج البعض من ذلك: أن قدرات الطفل على التقمص الوجداني للآخرين أو التعاطف معهم تكون محدودة للغاية, إلّا أن البحوث الحديثة أكدت أن الطفل الصغير الذي لا يتجاوز عمره سنتين لديه القدرة على إظهار بعض علامات التعاطف نحو طفلٍ مصابٍ أو مضطرب, بل إن البحوث أكدت أيضًا أن صغار الأطفال يعرفون أن للآخرين إدراكاتهم الخاصة "Flavel Flavel 1977", وقد تكون الصعوبة الجوهرية لديه عدم إدراك ذاته كأحد موضوعات البيئة.

وتغلب خاصية التمركز حول الذات على لغة الطفل في هذا الطور، فهو لا يستطيع مواءمتها مع وجود الآخرين, ولا تختلف لغته حين يكون وحده عن لغته مع وجود غيره من الأطفال أو الكبار, ولا يبذل جهدًا في نقل أفكاره لغيره, وتتناقص بالطبع نسبة الكلام المتمركز حول الذات مع زيادة التفاعل الاجتماعي للطفل, ومع بلوغ الطفل سن السابعة "نهاية هذا الطور" يكون واعيًا بالمستمع, ويعدل في لغته؛ بحيث تصبح مفهومة منه, ويفسر بياجيه هذا التحول من اللغة الذاتية إلى اللغة الاجتماعية على أنه دليل على النمو العقلي للطفل نحو وضع عدة وجهات نظرٍ موضع الاعتبار في وقت واحد. وبالطبع, فإن تفكير الطفل في فترة ما قبل المفاهيم يعتمد على الأشياء والأحداث, ومعظم التمثيلات "الصور" الذهنية عنده تشير دائمًا إلى هذه الأشياء والأحداث كوقائع فيزيائية مادية، سواء استخدم في عمليات التمثيل الذهني الرموز أو الإشارات؛ فالعصا عند الطفل ترمز إلى البندقية, وحينما يتقدم به العمر قد يستخدم الكلمة لتدل على عملية عدوانية كاملة، ويكون السلوك المعرفي حينئذ أقرب إلى التجريد "أي: دون الإشارة إلى شيء فيزيائي". ب- فترة التفكير الحدسي: من 4 سنوات حتى 7سنوات, وفيها يتحرر الطفل من كثير من نقائص المرحلة السابقة, ومع ذلك يظلُّ محكومًا بحدودٍ كثيرة، والسبب الرئيسي في ذلك: أن تفكير الطفل لم يتحرر تمامًا من الإدراك المباشر, ومن أهم خصائص التفكير في هذه المرحلة أنه -حسب تفسير بياجيه- من النوع الحدسي lntuitiv. وحتى يمكن فهم معنى الحدس عنده نذكر ما لاحظه على الأطفال من سن 4 حتى 5سنوات, الذين يذهبون وحدهم إلى المدرسة ويعودون منها, ومع ذلك لا يستطيعون رسم خريطة للطريق باستخدام المكعبات, كما أن الطفل في هذا السن يستطيع أن يفهم أن لديه أخًا هو "س", ولكنه ينكر أن "س" لديه أخ؛ فالعلاقة عنده من جانب واحد, وهذه إحدى الصفات الهامة للتفكير في هذا الطور, ويسميها بياجيه اللامقلوبية irreversibility, وتعد إحدى الاكتشافات الهامة في تاريخ علم النفس. ومن خصائص التفكير في هذا الطور أيضًا أن الميل للاستجابة لأحد جوانب الموقف لا يزال سائدًا، أي: الاستجابة تكون مقيدة بخصائص المثير، وهذه إحدى الخصائص الهامة للتفكير في هذه الفترة -أي: فترة التفكير الحدسي- ويسميها بياجيه خاصية التمركز Centering على أحد الجوانب الإدراكية الخاصة. ولهذا

نلاحظ على الطفل في هذا الطور أنه غير قادر على التناول الدقيق للمعلومات التي توفرها المواقف والأحداث والأشياء, ومن أشهر تجارب بياجيه التي أكدت وجود هذه الخاصية: تجربة أواني الماء، وفيها عرض على الطفل كوبين متطابقين ممتلئين بمقدارٍ متساوٍ من الماء "أي: إلى نفس المستوى", وتم تصنيف الكوبين إلى أن أحدهما يخص الطفل, والآخر يخص المجرب, وبعد أن عرف الطفل أن الكوبين يحتويان على نفس المقدار من الماء يقوم المجرب بصب السائل الموجود في كوب الطفل في كوب آخر أطول وأضيق, ثم يسأل الطفل أي الكوبين فيه كمية أكبر من السائل؟ أو هل تتساوى كمية السائل في الكوبين؟ أو أيّ الكوبين تختار لتشرب ما فيه من سائل؟ وكانت الإجابة المعتادة للطفل أن يختار الكوب الذي به ما أطول, على أساس أن فيه مقدارًا أكبر من الماء, وقد لا يختاره على أساس أنه به ماء أقل بسبب ضيقه. إن هذا الطفل في المثال السابق يركز انتباهه على طول السائل في الكوب، أو على عرض الكوب, فيختار الإناء الأصلي، وتكون إجابته في هذه الحالة: أن الإناء الأوسع أو الأطول يكون فيه ماء أكثر, وفي كلتا الحالتين يعتمد الطفل في الحكم على بعدٍ واحدٍ وليس على البعدين معًا "الطول والاتساع", ولا يستطيع الطفل التعامل مع هذه المشكلة بكفاءةٍ إلّا إذا تحرر من هذه الخاصية, وتحول إلى سلوك التحرر من التمركز decentering, وعندئذ يمكنه أن يحوّل انتباهه من أحد جوانب المشكلة "أو خصائص المثير"، وهو في المثال السابق طول السائل، إلى جانبٍ آخرٍ وهو اتساع الكوب, وفي هذه الحالة وحدها يمكنه أن يصل إلى الاستنتاج الصحيح, وهو أن الكوبين يحتويان على مقدارين متساويين من الماء, أي: لا بُدَّ من التركيز على كلتا الخاصيتين ليصل إلى الاستنتاج الصحيح، وهو ما يفعله المراهق والراشد كما سيتضح فيما بعد. ويطلق بياجيه على هذه الخاصية: عدم قدرة الطفل على إدراك بقاء الكم أو المقدار Conservation أو ثباتهما invariance، وهي خاصية أخرى هامّة تميز التفكير في هذا الطور, وتُعَدُّ هي وخاصية اللامقلوبية من أعظم ما قدمه بياجيه لعلم النفس في القرن العشرين. وبسبب خبرات الطفل المحدودة بالأشخاص والأشياء, وقصور محصوله اللغوي, فإننا نجد أن مفاهيم الطفل تتسم بأنها غير دقيقة, بل وخاطئة, بالإضافة إلى خاصية مقاومة التغيير التي أشرنا إليها, ويشيع في هذه المرحلة كثير من المفاهيم التي تؤكدها الثقافة التي يعيش فيها الطفل، وبعضها يكون خاصًّا بالطفل, نتيجة الظروف التي يعيش فيها هو, وتتصف جميع المفاهيم في هذه المرحلة بخصائص

"التفكير قبل العملياتي" التي عرضها بياجيه، يصدق هذا على المفاهيم الاجتماعية والمفاهيم الفيزيائية على حَدٍّ سواء. ويحتاج الأمر إلى أن نشير مرةً أخرى إلى ظاهرة التمركز حول الذات في تفكير الأطفال في هذا الطور، فمحض وجود هذه الظاهرة يفسر لنا أثر انفعالات الطفل على تفكيره، وخاصةً فيما يتصل بنمو المفاهيم عنده, فعادةً ما تصاحب المفاهيم لديه بشحنة انفعالية على نحوٍ يجعلها تقاوم التغير والتعديل إذا تطلب الأمر ذلك؛ فمفهوم شهر رمضان قد يُبْنَى عند الطفل في هذه المرحلة حول الشحنة الانفعالية المصاحبة للفوازير والمسلسلات فيه، ويصعب على الطفل بعد ذلك تغيير هذا المفهوم حين يكتشف فيما بعد المعنى الديني الصحيح لشهر الصوم.

النمو الانفعالي والوجداني

النمو الانفعالي والوجداني: تتميز هذه المرحلة بأن الانفعالات فيها أكثر شيوعًا وأكثر حِدَّةً من المعتاد, وتصفها هيرلوك "Hurlock 1980" بأنها مرحلة "عدم التوازن"؛ حيث يكون الطفل سهل الاستثارة، ويصدق هذا الوصف خاصةً على الفترة من 2.5-3.5 سنة, ومن 5.5-6.5 سنة, وتظهر علامات شدة الانفعالات خاصةً في صورة حدة المزاج وشدة المخاوف وقوة الغيرة, وترجع حدة الانفعالات في هذه المرحلة جزئيًّا إلى التعب الذي يسببه للطفل اللعب المستمر، ورفض النوم والراحة, وتناول مقدار أقل مما يحتاجه من الطعام نتيجة الثورة على النظام الثابت لوجبات الطعام، وهي مشكلة شائعة في هذا السن. ويرجع علماء النفس معظم الانفعالية الحادة في هذه المرحلة إلى أسباب نفسية, وليس إلى أسباب فسيولوجية, فمعظم الأطفال يشعرون أنهم يستطيعون القيام بكثيرٍ مما لا يسمح لهم الآباء به, ويثورون على هذه القيود التي يفرضها عليهم الوالدان, ثم يغضبون مرةً أخرى لأنهم يجدون أنفسهم عاجزين عن أداء ما يعتقدون أنهم قادرون على أدائه بسهولة ونجاح. ومع اتساق أفق الحياة الاجتماعية للطفل بخروجه إلى النادي وزيادة الأصدقاء, والذهاب إلى دار الحضانة أو روضة الأطفال, ينشأ توتر جديد من النوع الذي يصاحب أيّ عمليات توافق أو تكيف في العادة. ومن الأسباب التي تجعل هذه المرحلة أقلَّ جاذبية للكبار إذا قورنت بالمرحلة السابقة, تلك الانفعالية الزائدة, وتعد الانفجارات الانفعالية مصدر ضيقٍ للوالدين, كما أنها تدفع الأقارب وأصدقاء الأسرة إلى تجنب التعامل مع الطفل, وبالطبع توجد فروق فردية بين الأطفال ترجع إلى الظروف الصحية للطفل أولًا، وإلى الظروف البيئية الاجتماعية المحيطة به ثانيًا، وإلى أنماط السلوك الانفعالي التي تكونت لديه في مرحلة الرضاعة ثالثًا, بالإضافة إلى ترتيب الطفل بين إخوته؛ فالطفل الأول أكثر تعرضًا لكشف انفعالاته من باقي الإخوة.

النمو الاجتماعي

النموّ الاجتماعي: يتسم النمو الاجتماعي في مرحلة الطفولة المبكرة باتساع عالم الطفل وزيادة وعيه بالأشخاص والأشياء, وفي هذه المرحلة يزداد اندماج الأطفال في كثير من الأنشطة، فهم يتعلمون الجديد والمتنوع من الكلمات والعناوين والأفكار والمفاهيم، ويمرون بخبراتٍ جديدة مع العالمين الفيزيائيّ والاجتماعيّ, وهذا التعلم يهيئ للطفل الأرضية المناسبة للتحول إلى كائن اجتماعي. ومع اتساع العالم الاجتماعي للطفل يَقِلُّ تعلق الطفل بالوالدين تدريجيًّا, وتحلّ محله علاقات يكونها الطفل مع أطفال آخرين خارج نطاق الأسرة, وعادةً ما تكون الخبرات الاجتماعية للطفل خارج المنزل مصدر اضطراب انفعالي له, وخاصة إذا كان أصغر من الأطفال الآخرين, ونجاح الطفل في التكيف مع العلاقات الاجتماعية الخارجية يتأثر بنوع الخبرات الاجتماعية التي يتلقاها داخل المنزل؛ فالأطفال الذين تتم تنشئتهم اجتماعيًّا بالمنزل, يحققون تكيفًا اجتماعيًّا خارجيًّا أفضل من غيرهم, كما أن طبيعة علاقات الطفل مع إخوته تؤثر في تكيفه الاجتماعي الخارجي, والطفل الذي يظلُّ معتمدًا على الوالدين تتأثر علاقاته بأقرانه, وتجعله غير مرغوب فيه، مما يدعوهم إلى رفضه كرفيق لعب. وأهم صور السلوك الاجتماعي اللازمة للنجاح في التكيف الاجتماعي تبدأ في الظهور والنمو في هذه المرحلة، وخاصةً أن الاتجاهات الاجتماعية الأساسية وأنماط السلوك الاجتماعي يتمُّ تشكيلها في هذه المرحلة. وإذا كان الطفل حتى سن ثلاث سنوات لا يظهر إلّا مستوًى منخفضًا من التفاعل الاجتماعي مع الأطفال الآخرين, فإنه بعد سن الثالثة يظهر زيادة ملحوظة في هذا التفاعل، وعلى هذا يمكننا القول أن الفترة من 3-6 سنوات هي العمر "الحرج" في عملية التطبيع الاجتماعي للطفل, ويتوقف إلى حَدٍّ كبيرٍ كيفُ وكمُّ السلوك الاجتماعي الذي ينمو في هذه الفترة على الظروف البيئية التي يتعرض لها الطفل وعلاقاته بها، ويشمل ذلك سلوك القيادة والسيطرة والتبعية والاعتماد والمسايرة وغيرها.

اللعب في مرحلة الطفولة المبكرة

اللعب في مرحلة الطفولة المبكرة: تتفق ميول اللعب عند أطفال هذه المرحلة مع النمط التي يظهره كلٌّ من الاستعداد الناتج عن النضج والبيئة التي يحدث فيها النمو, وتوجد بالطبع بعض الفروق، فالأطفال ذوو الذكاء المرتفع يفضلون اللعب الدرامي والأنشطة الابتكارية, وفي ألعابهم الإنشائية يميلون إلى التصميمات الأكثر تعقيدًا, والتي يظهرون فيها بعض خصائص الإبداع. وتظهر أيضًا فروقٌ في اللعب تبعًا للجنس، فهناك ألعاب للذكور وأخرى للإناث, ويؤثر ذلك على أدوات اللعب التي يستخدمها كلٌّ منهما, وطرق استخدامها, كما يؤثر في نمط اللعب عند الطفل ما يتاح له من هذه الأدوات, والمساحة المخصصة للعب، وكلٌّ منهما يعتمد على المستوى الاجتماعي والاقتصادي للأسرة, ومع وجود هذه الاختلافات إلّا أنه توجد أنماط عامة بين الأطفال, لعل أهمها: استخدام اللعب، اللعب الإيهامي، اللعب الإنشائي، وتنظيم المباريات والقراءة "عند الطفل الذي تعلَّم مبكرًا هذه المهارة"، السينما، الراديو، التليفزيون, وتوجد في كل ثقافة فرعية في المجتمع أنواع من اللعب تشيع بين الأطفال فيها؛ فألعاب أطفال القرية تختلف عن ألعاب أطفال المدينة, إلّا أن ما يلفت النظر حقًّا في برامج الأطفال في محطات الإذاعة والتليفزيون أنها لا تقدِّمُ البرامج الملائمة لهذه الثقافات الفرعية, وقد حَلَّلَ أحد مؤلفي هذا الكتاب "فؤاد أبو حطب، 1986" البرامج التي تُقدَّم للأطفال في وسائل الإعلام المصرية, فوجد أن صورة الطفل الشائعة فيها هي صورة طفل المدن الكبرى, أو العواصم الكبرى من أبناء الطبقة المتوسطة أو العليا, أما أطفال الشرائح الأخرى في المجتمع المصري فليس لها نصيب, وهي صورة تصدق بدرجات متفاوتة على معظم وسائل الإعلام في العالم الثالث. وإذا تأملت اللعب الجماعي في هذه المرحلة, نجد أن أكثر صور اللعب تبكيرًا ما يسمى "اللعب المتوازي" حيث يلعب الطفل بجوار الأطفال الآخرين وليس معهم, وبعد ذلك يظهر "اللعب الارتباطي", وفيه يلعب الطفل مع الأطفال الآخرين بأنشطة متشابهة إن لم تكن متطابقة، ثم اللعب "التعاوني"؛ حيث يصبح الطفل عضوًا في جماعة, إلّا أن الشائع أن يقوم الطفل بدور المراقب حيث يلاحظ الأطفال الآخرين أثناء اللعب, وقد يتحدث معهم, ولكنه لا يشاركهم في عضوية الجماعة, وفي سن 4 سنوات يظهر لعب الفريق, ومعه يصبح واعيًا بوجود الآخرين, ويمارس دوره المحدد معهم, ويسعى لجذب الانتباه عن طريق الاستعراض.

النمو الخلقي

النمو الخلقي: لا يستطيع طفل ما قبل المدرسة أن يتعلم ويستخدم المبادئ المجردة للخطأ والصواب بسبب طبيعة النمو العقلي في هذا المرحلة, ولهذا فهو يدرك السلوك الخلقي ويتعلمه خلال مواقف نوعية خاصة. ويزداد تعلم السلوك الخلقي تعقدًا حين يطلب من الطفل أداء أعمال مختلفة في المواقف المتشابة من أفراد مختلفين " ومن نفس الأفراد أحيانًا" في أوقات مختلفة, إنه لا يستطيع أن يدرك في هذه الحالة لماذا يكون السلوك "خطأ" أحيانًا و"صوابًا" أحيانًا, وقد يقع في شرك سوء التمييز والخلط. وفي هذه المرحلة يحكم الطفل على السلوك بأنه صواب أو خطأ في ضوء نتائجه, دون أن يعرف لماذا توصف بعض الأعمال بالصواب وأخرى بالخطأ, ومع ذلك, فإنه يصنف الأفعال إلى "صواب" و"خطأ", وعلى أساس هذا التصنيف يقيم بناءه الأخلاقيّ الذي سوف يوجِّهُ سلوكه مع النمو اللاحق, وعلى الرغم من أن الطفل قد يحاول الخروج على القواعد من طريق اللجوء إلى شخص آخر غير الوالدين "أو غير الوالد المتشدد" ليسمح له بالقيام بأعمال توصف عادة بأنها "مشاغبات"، أو أنه قد يحاول اختبار الحدود، فإن طفل هذه المرحلة لا يحاول وضع القواعد موضع التساؤل، أو اقتراح أعمال بديلة لتلك التي يرفضها الكبار، أو المساومة مع سلطة الكبار كما يفعل عادةً الأطفال الأكبر سنًّا، بل أن الطفل في هذه المرحلة لا يشعر بالذنب إذا ضبط وهو "يقترف" فعلًا من الأفعال "السيئة"، فاستجاباته في هذه الحالة قد تكون إمَّا الخوف من العقاب المتوقع, أو اللجوء إلى حيلة "التبرير" لتفسير ما حدث. ولعلَّ من أهم خصائص النموّ الخلقي في هذه المرحلة أن الطفل قد يتعلم أنه لو صدر عنه سلوك "عدم الطاعة الإرادي" من النوع البسيط, فإن ذلك يلفت إليه الأنظار أكثر من إصداره للسلوك الذي يوصف عادة بأنه سلوك "طيب", وحين يكشف الطفل ذلك فإنه يلجأ إلى الخروج على القواعد لفتًا للانتباه عندما يتجاهله الكبار المسئولون عن رعايته "الأم أو الأب أو مشرفة الحضانة", وعندئذ لا يوازي الألم المؤقت الناجم عن العقاب الشعور الكبير بالرضا الناجم على تركيز انتباه الكبار عليه. إلّا أن هذا ليس السبب الوحيد "لسوء سلوك" الأطفال في بعض الأحيان, فقد يكون من أسباب ذلك التغطية على الفشل في أداء واجبٍ مطلوبٍ منه, أو الخلط الناتج عن تغير القواعد التي يفرضها الكبار يومًا بعد يوم، أو الرغبة في اختبار سلطة الكبار لتحديد المدى الذي يمكن السماح به دون التعرض للعقاب. وتوجد فروق بين الجنسين في أنواع السلوك الذي يتسم بالخروج على القواعد, فالأولاد يميلون إلى التخريب, بينما تميل البنات إلى العناد, وأكثر مشكلات السلوك ظهورًا في هذه المرحلة التبول اللاإرادي والاستعراضية والتخريب, ونوبات الغضب العصبية, ومحاولات جذب الانتباه بأي طريقة.

نمو الشخصية

نمو الشخصية: إن نمط شخصية الطفل التي توضح أسسه في مرحلة الرضاعة, تبدأ في التشكيل في مرحلة الطفولة المبكرة؛ ففي هذه المرحلة يتعلَّمُ الطفل أن يفكر في ذاته ويشعر بنفسه كما تتحدد بالآخرين, وتنمو صورته عن نفسه, أو مفهومه لذاته, من طريقة معاملته من جانب والديه وغيرهما من الآخرين؛ كالإخوة والأقارب، وإدراكه هو لمفهومهم عنه, وهكذا تحدد العلاقات الأسرية خاصةً طبيعة مفهوم الذات, وقد يكون لاتجاهات الأم نحو الطفل ومعاملتها له أثرٌ مميزٌ هنا, بسبب الدور الخطير الذي تلعبه في حياة الطفل, كما يلعب دورًا هامًّا أيضًا نظام التدريب الذي يُسْتَخْدَمُ مع الطفل في المنزل؛ فإذا كان النظام تسلطيًّا عقابيًّا فإنه يؤدي بالطفل إلى تنمية الشعور بالتمرد على السلطة والعدوان من ناحية، أو إلى الاستجابات الانسحابية الانطوائية من ناحيةٍ أخرى. وتلعب المطامح والتطلعات التي يحددها الوالدان للطفل دورًا هامًّا في تكوين مفهوم الذات عنده, فإذا كانت أعلى من مستوى الطفل, فإن الفشل يسلمه إلى الإحباط والقلق, وعلى الرغم من أن بعض الأطفال يتجاهلون الفشل في هذه المرحلة إلّا أن معظمهم يستجيبون له بطلب المساعدة أو استخدام التبرير, أو الإسقاط, ومهما كانت طبيعة استجابة الطفل, فإن الفشل يترك أثرًا واضحًا في مفهوم الذات, ويضع الأساس لمشاعر النقص والدونية وعدم الكفاءة. وعندما تقترب هذه المرحلة من نهايتها، ويصبح الطفل على أعتاب دخول المدرسة, تكون معالم شخصيته قد تحددت؛ بحيث يمكن تمييز خصائصها وسماتها, فبعض الأطفال يتسمون بالقيادة, والآخرون بالتبعية, وبعضهم يميلون إلى الظهور, والآخرون ينشدون البعد عن الأضواء, وهكذا يتوجه الطفل إلى أن تصبح معالم ذاتيته متفردة, وهذه الفردية تتأثر كثيرًا بالخبرات الاجتماعية المبكرة خارج المنزل. ولكي تنمو شخصية الطفل في هذا الطور نموًّا سليمًا, فيجب أن يتجاوز أزمتين هامتين أشار إليهما إريك إريكسون، وهما:

1- أزمة الاستقلال الذاتي في مقابل الشعور بالعار والشك: تحدث هذه الأزمة خلال المرحلة التي يسميها فرويد: المرحلة الشرجية خلال السنة الثانية من العمر, وفيها يختبر الطفل والديه وبيئته, ويتعلم ما يستطيع وما لا يستطيع التحكم فيه, ويتطلب ذلك تنمية الشعور بالتحكم الذاتي دون فقدانٍ لتقدير الذات؛ حيث يشعر الطفل بحرية الإرادة, والتحكم الزائد من جانب الوالدين يغرس في الطفل شعورًا بالشكِّ في إمكاناته, وبالعار بالنسبة إلى حاجاته أو جسمه, ويبدأ شعور الطفل بالاستقلال الذاتي في النموّ منذ لحظة تحرره من الأم "بالفطام", ويعتمد ذلك على نموِّ مشاعر الثقة في المرحلة السابقة. وتتأثر هذه المرحلة بنضج الجهاز العضلي مع زيادة قدرة الطفل على الاحتفاظ بالأشياء أو طردها وإخراجها، وخاصة فضلات الجسم؛ فإفراغ المثانة "من البول", والأمعاء "من البراز", لا يؤدي بالطفل إلى الشعور بالراحة فحسب، ولكن يؤدي به أيضًا إلى الشعور بقدرته على التحكم في نظام الإخراج لديه. ويرى إريكسون أن هذا الشعور الجديد بالقوة لدى الطفل, هو أساس نموِّ شعوره بالاستقلال الذاتي، وإحساسه بقدرته على أن يصنع الأشياء بنفسه, وفي نفس الوقت فإنه يخاطر بالتسرع على نحوٍ يوقعه تحت طائلة رقابة المحيطين به, ومعنى ذلك أن الطفل في هذه المرحلة عليه أن يحقق التوازن بين صرامة الأب التي تجعل الطفل يدرك أنه يعيش في عالمٍ يمنعه من تجاوز الحدود من ناحية، ومرونة الأم وصبرها، واللذان يسمحان للطفل بإحراز تحكمٍ مناسبٍ وبالتدريج في المثانة والأمعاء من ناحيةٍ أخرى, فإذا كان الضبط الخارج جامدًا متصلبًا ملحًّا, فإن الطفل يحاول التحكم في المثانة والأمعاء قبل أن يكون قادرًا على ذلك، وهنا يواجه الطفل ما يسميه إريكسون "Erikson 1959" بالتمرد المزدوج والفشل المزدوج". إنه يكون عاجزًا عن التعامل مع جسمه ومع بيئته الاجتماعية "الوالدين" معًا, وهنا يجد الطفل في البحث عن الحلِّ إما بالنكوص إلى الوراء إلى أنشطة المرحلة الفمية "مثل مصّ الأصابع" أو التظاهر بالتقدم إلى الأمام عن طريقة التحول إلى العدوان والعناد؛ فقد يتظاهر بأنه أحرز التحكم, وذلك برفض مساعدة الآخرين, على الرغم من أنه عاجز في الواقع عن تحقيق هذا الاستقلال. ويرى إريكسون أن الوالدين اللذين يفرضان على العقل قواعد تدريب صارمة على الإخراج في هذه المرحلة "أي: في سن سنتين" قد يؤثران في النموّ الوجداني والانفعالي بتحويله في المراحل التالية "ومنها مرحلة الرشد" إلى شخصٍ يشعر بالقهر والقسر والإلزام, ويتسم بالبخل في المال وبالتقتير في الوقت

والطاقة والبذل, وبالشح في العاطفة, ويصاحب هذا السلوك القهريّ الزائد شعورٌ مستمرٌّ بالشكِّ من ناحيةٍ والعار من ناحيةٍ أخرى, والود والحنان والشفقة يؤدي بالطفل إلى تنمية شعوره بالتحكم الذاتي دون فقدان التقدير للذات, والذي يتطور في المستقبل "عند الرشد" إلى شعور الاستقلال الذاتي الذي يقبله المجتمع. 2- أزمة المبادأة في مقابل الشعور بالذنب: تنشأ هذه الأزمة في المرحلة التي يسميها فرويد: الجنسية الطفلية من سن 3-6 سنوات, فمع زيادة مشاعر الثقة والاستقلال الذاتي, ومع اكتساب الطفل لمهارات جديدة في استخدام اللغة والحركة وتناول الأشياء ومعالجتها, وخاصة في السنتين الثالثة والرابعة من العمر, يتسع خيال الطفل؛ بحيث يحتوي على أشياء كثيرة بعضها يخفيه وبعضها يحلم بالحصول عليه، وحينئذ ينمو لدى الطفل شعور بالمبادأة، فيستطيع الذهاب إلى أماكن جديدة, ويمارس حب الاستطلاع والاستكشاف، ويبدأ في الظهور شعورٌ بتحديد الهدف, مع صور مبدئية للطموح, ويؤدي نموّ المبادأة وما يتلوها من خبرات الشعور بالذنب إلى تكوين الضمير, ويتعرض الطفل لأوامر ونواهي الوالدين, فإذا تجاوز المحظور، سواء في عالم الواقع أو الخيال، فإنه يشعر بالذنب, إلّا أنه حين يبالغ الوالدان والمعلمون في كَفِّ مبادأة الطفل, فإن ذلك يؤدي إلى أن يصبح الطفل محدود الأفق، ممتلئًا بمشاعر الذنب, أما حين لا يستخدمون هذه النواهي إلّا قليلًا, فإن الطفل لا ينمو لديه ضمير مكتمل, ولهذا لا بُدَّ من الوصول إلى حَلٍّ متوازنٍ لأزمة المبادأة والشعور بالذنب.

الخبرات التعليمية في طور الحضانة

الخبرات التعليمية في طور الحضانة: يواجه الطفل في سن ما قبل التمييز "الحضانة" عددًا أكبر من الراشدين الجدد حين يذهب إلى دار للحضانة أو روضة للأطفال, ومن الشائع أن يكون المعلمون في هذه المؤسسات التربوية لطفل ما قبل المدرسة من الإناث، إلّا أن السنوات الأخيرة شهدت عددًا من الرجال يعلمون في هذه المؤسسات أيضًا، وخاصةً في المجتمعات الغربية, ووجود كلٍّ من الذكور والإناث كمعلمين لأطفال ما قبل المدرسة, يهيئ لهؤلاء الأطفال جوًّا أقرب إلى الجوِّ الأسريّ، كما يهيئ لهم نماذج سلوكية من الجنسين، بالإضافة إلى ما يعنيه من معانٍ بالغة, وأهمها أن رعاية طفل ما قبل المدرسة هي مهمة الرجال والنساء على حَدٍّ سواء. ونحب أن نشير هنا إلى أن برامج طفل ما قبل المدرسة وُجِدَتْ في معظم العصور "آمال صادق، أميمة أمين 1985" إلّا أن الاهتمام بها تزايد خلال السنوات التاريخية الماضية، مع زيادة مطردة في عدد الأطفال الذين يلتحقون بها

وقد اختلفت المبررات، ولعل أشهرها شيوعًا, استخدامَ برنامج مدرسة الحضانة في أغراض التربية التعويضية "Harris 1986", فقد لُوحِظَ في الولايات المتحدة الأمريكية أن الأطفال الذين يُولَدُون وينشأون في ظروف اجتماعية واقتصادية غير ملائمة, يلحقهم آباؤهم في مؤسساتٍ تقدِّم برامج للتدخل التعويضي سعيًا وراء إكسابهم المهارات التي تتوافر لدى الأطفال من ذوي المستويات الاجتماعية والاقتصادية الأفضل, والتي تُعَدُّ ضروريةً للنجاح في المدرسة الابتدائية في الطور النمائي التالي. وهناك سبب آخر وراء الاهتمام الزائد في السنوات الأخيرة بإلحاق الأطفال في هذه المؤسسات التربوية، وهو الإسراع بتنميتهم المعرفية, وفي هذه الحالة يعتقد بعض الآباء والأمهات أنه لو توافرت لأطفالهم فرصة اكتساب المهارات الأكاديمية في وقتٍ مبكرٍ فإنهم سوف يتفوقون على أقرانهم حين يحين أوان الالتحاق بالمدرسة الابتدائية, ويتفق هذا الشعور مع الطبيعة التنافسية الإنجازية للمجتمع الحديث, إلّا أنه قد لا يتفق مع طبيعة الطفل "فؤاد أحمد أبو حطب، أمال صادق، 1995"؛ فنتائج هذا ضارة, وخاصةً إذا تحولت روضة الأطفال إلى "مدرسة", ثم إلى مدرسة من نوعٍ شديد المطالب, على النحو الذي نلاحظه اليوم في مجتمعنا؛ حيث تقدم للأطفال برامج "تعليم" منظمة, ثم يزداد الأمر خطرًا على الصحة النفسية والاجتماعية والثقافية للطفل حين يتعلم طفل الحضانة لغة أجنبية, أويتعلم بلغة أجنبية، إننا وحينئذ تبذر بذور "الاغتراب" الثقافي في وجدان الطفل. ويوجد سبب ثالث لزيادة عدد الأطفال الذين يلتحقون في الوقت الحاضر بدور الحضانة ورياض الأطفال, يتصل أساسًا بالتغيرات التي طرأت على بنية الأسرة المعاصرة, وعلى رأسها خروج المرأة للعمل, ولعل المفهوم الشائع لدى هؤلاء الأمهات العاملات عن دار الحضانة أنها مجرد مكانٍ لإيواء الطفل خلال الفترة التي تنشغل فيها عنه بالعمل, وبالطبع فإن بعض المؤسسات تعمل في ضوء هذا التصور، حتى تحولَّت إلى "مخازن" للأطفال كما بينا آنفًا. أما السبب الرابع والأخير: فهو رغبة الآباء والآمهات في أن تكون دار الحضانة أو الروضة فرصةً تهيئ للطفل أن يلتقي بغيره من الراشدين وبالأطفال الآخرين, وتعلم مهارات التفاعل الاجتماعي في مواقف أكثر اتساعًا وشمولًا، وأداء مهام جديدة لا تتوافر عادةً داخل البيت، وكل ذلك بغرض مزيد من التطبيع الاجتماعي للطفل, وهذه المجموعة من الآباء والأمهات هم الأقلية بمقارنتهم

بالمجموعات الثلاث السابقة، وهم الأصوب في إدراك طبيعة الخبرات التربوية في هذا الطور من النموّ. وعلى كلٍّ, فإن وجود الطفل في دارٍ جيدةٍ للحضانة, قد يؤثر تأثيرات إيجابية في نموه في هذا الطور، وخاصة إذا كانت الأنشطة التي يقوم به الطفل في هذه الدار مصممة بحيث تستثير النموّ في مختلف مجالاته، فاللعب "والذي يجب أن يكون هو جوهر النشاط في مثل هذه المؤسسات" ينمي الطفل جسميًّا وحركيًّا ومعرفيًّا واجتماعيًّا. ومن مزايا النشاط الحر هنا أن الطفل عادةً يختار نشاطه بإرشاد معلمه أو معلمته، وبهذا تتهيأ له الفرصة للنجاح فيما يختار, وهذا النجاح ينمي في الطفل مشاعر الثقة وتقدير الذات, وبالإضافة إلى ما يتوافر للطفل من ممارسة بعض الأنشطة المعرفية؛ كالعَدِّ وتمييز الألوان, فإن الفرص تتوافر له أيضًا لتنشيط الخيال وحب الاستطلاع والإبداع, كما أنه يتعلم تقدير حاجات الآخرين مع اكتساب المهارة في التفاعل مع الأقران والكبار, وهذه الخبرات لا تتوافر كلها داخل البيت, وبها يتم انتقاله "بسلام" من طور اللعب والملاعبة -الذي يشغل حيزه الزمني السنوات السبع الأولى من حياة الطفل- إلى طور التأديب والتهذيب والتعليم الرسمي في المدرسة الابتدائية في طور التمييز. وتوجد طرق كثيرة يستخدمها المربون مع أطفال ما قبل المدرسة, تتناولها المؤلفات المتخصصة "آمال صادق، أميمة أمين، 1985، سعد مرسي أحمد، كوثر كوجك 1984". ولتحقيق أهداف تربية الطفل في سن ما قبل المدرسة, لا بُدَّ من إعداده لذلك, وخاصة أن دخوله دار الحضانة يُعَدُّ خطوةً هامةً في حياته, ولعل أهم ما يجب الحرص على تحقيقه تكوين اتجاهات إيجابية لدى الطفل نحو التعلم ونحو المدرسة، وذلك من خلال جعل هذه المؤسسات التربوية مصدرًا للبهجة في التعلم "سيد أحمد عثمان، 1977"، ولعل هذا يبرر إشارتنا إلى أهمية أن يكون اللعب محور النشاط في هذا الطور, أما الربط بين "فكرة المدرسة"، ومظاهر التهديد والعقاب والعمل الشاق, فإنه له أضراره على مستقبل الطفل التعليمي. ولعلنا نشير هنا إلى أن تكوين "الاتجاه الموجب" نحو المدرسة منذ هذا الطور المبكر, قد ينتقل إلى جميع مراحل التعليم التالية, حتى ولو تضمنت بعد ذلك مظاهر التهديد "التقويم، والامتحانات"، والعقاب "الالتزام بقواعد ونظم المدرسة كمؤسسة اجتماعية"، والعمل الشاق باعتبار التعليم سوف يصبح أكثر تنظيمًا وتوجيهًا نحو المستقبل, وكل هذا قد ينقلب إلى ضده إذا كان الاتجاه المبكر نحو المدرسة سلبيًّا منذ إلحاق الطفل بدار الحضانة أو الروضة.

الفصل الثاني عشر طور التمييز

الفصل الثاني عشر طور التمييز النمو الجسمي والفسيولوجي ... الفصل الثاني عشر: طور التمييز تمتد مرحلة سن التمييز أو "الطفولة المتأخرة كما تسمى أحيانًا في المؤلفات المتخصصة" من سن 6 أو 7 سنوات حتى بداية البلوغ الجنسي في سن 12سنة تقريبًا، أي: أنها تشمل مرحلة المدرسة الابتدائية تقريبًا, وفيها يبطؤ معدل النمو، إلّا أن الطفل يواجه فيها تحديات كثيرة تتطلب أساليب توافق جديدة؛ ففيها يُعَدِّلُ الوالدان وغيرهما من الأشخاص المهمين في حياة الطفل "ومنهم المدرسون" التوقعات من الطفل بالنسبة للسلوك الملائم, كما أنها مرحلة الجهد المركَّز لمعرفة الذات والبيئة, بطريقة تختلف عن المراحل السابقة في الحياة. وخلال هذه المرحلة يتمُّ التركيز على اكتساب وإتقان المهارات الأساسية, وهي مهمة تقع مسئولياتها على عاتق المدرسة, إلّا أن المجتمع يتوقع لطفل هذه المرحلة أيضًا أن يتقن بعض المهارات الشخصية والاجتماعية الأخرى, وتسهم الأسرة مع المدرسة في إكساب الطفل هذ المهارات, كما ينشغل أطفال هذه المرحلة في كثيرٍ من الأنشطة التي تنمِّي فيهم الشعور بالإنجاز على حد تعبير إريكسون "راجع الفصل الثالث". ونجاح الطفل في اكتساب هذه المهارات المتوقعة يؤدي إلى تدعيم مفهومٍ صحيٍّ وسليمٍ للذات من خلال المهام المطلوبة لهذه المرحلة. ونعرض فيما يلي خصائص النمو في هذه المرحلة. النمو الجسمي والفسيولولجي: مرحلة الطفولة المتأخرة هي فترة نموٍّ جسميٍّ بطيءٍ وموحَّد تقريبًا؛ فبالنسبة للطول نجد في بداية المرحلة "في سن السادسة" أن متوسط طول الطفل الولد في مصر كما تحدده إحصاءات إدارة الصحة المدرسية هو 110.7 سم, والبنت 109.8، وحين يصلا إلى سن 12 سنة, يكون متوسط طول الولد 138.5 سم, بينما يكون متوسط طول البنت 141.5 سم، ومعنى ذلك أن الفروق الفردية الطفيفة التي كانت لصالح الذكور في البداية تصبح لصالح الإناث في النهاية. ويرجع تفوّق البنات على البنين في الطول في نهاية هذه المرحلة إلى أن الذكور يبدأون البلوغ بعد البنات بسنة تقريبًا, ولذلك فإنهم في العادة يكونون في

المتوسط أقصر من البنات في نفس السن, وطول مرحلة الطفولة المتأخرة يكون نموّ الجسم بطيئًا بمعدل 8سم تقريبًا في السنة, ويعطي مقياسَا عظام الرسغ واليد "بأشعة إكس في هذه المرحلة" تنبؤًا بالطول في مرحلة الرشد أكثر دقة من قياس هذه العظام في مرحلة الطفولة المبكرة, وكذلك نلاحظ أن الزيادة في الوزن بطيئة وموحدة أيضًا في هذه المرحلة؛ فيتغير الوزن من 18 كيلو جرامًا تقريبا في سن السادسة لكلٍّ من الجنسين إلى 32 كيلو جرامًا للذكور، 34 كيلو جرامًا للإناث في سن 12سنة, ويتأثر الوزن بعوامل عديدة أهمها التغذية, وخلال هذه المرحلة تعتبر الدهون مسئولة عن نسبة من الوزن الكلي للجسم تصل إلى ما بين 21% و29%. وتؤثر العوامل السيكولوجية في وزن الطفل في هذه المرحلة، فحين يفشل الطفل في تكيفه الاجتماعي فإنه يميل إلى المبالغة في تناول الطعام؛ كتعويضٍ عن عدم التقبُّل الاجتماعي, ويصدق هذا على وجه الخصوص على الأطفال الذين يعيشون في أسر صغيرة, وعادة ما تنشأ عادات المبالغة في الأكل من ضغوط الوالدين على الأطفال في السنوات السابقة, وقد ينشأ عن المبالغة في الطعام سمنةٌ ظاهرةٌ يكون من نتيجتها عدم استطاعة الطفل القيام بنشاط بدنيٍّ كبيرٍ, وتضيع منه فرصة اكتساب المهارات اللازمة للتكيف الاجتماعي. وتتغير نسب الجسم خلال سنوات الطفولة المتأخرة, فيتناقص سوء توزيع النسب الشائع في المراحل السابقة للنموّ بالرغم من أن الرأس يظل أكبر نسبيًّا إذا قورن بباقي أجزاء الجسم، وعمومًا يمكن القول أن نسب الجسم في هذه المرحلة تشبه كثيرًا ما هي عليه في مرحلة الرشد. وفي هذه المرحلة يفقد الطفل معظم أسنانه اللبنية, وما أن يبلغ نهاية المرحلة تكون قد نمت معظم أسنانه الثابتة, ونتيجةً لذلك يتغير شكل الفم, ويزداد حجم الجزء الأسفل من الوجه, وبالتالي تزول بعض مظاهر عدم التناسب في الوجه والتي نلاحظها في المراحل السابقة, كما تحدث تغيرات في مدى انطباق الأسنان "أو درجة التطابق بين أسنان الفكّ العلوي وأسنان الفكّ السفلي، وخاصة في المرحلة الانتقالية بين الأسنان اللبنية والأسنان الدائمة, وحين يكون الانطباق غير كاملٍ بين الفكين يتأثر الوجه تأثرًا خطيرًا, وينشأ ما يسمى بالعامية "الضب". وخلال هذه الفترة تتسطح الجبهة وتبرز الشفاه وتكبر الأنف وتأخذ شكلًا محددًا, وهذه التغيرات تغير الصورة التي عليها مظهر الطفل في مرحلتي الرضاعة والطفولة المبكرة. ومع النمو يصبح الجذع أكثر نحافةً, ويزداد الصدر عرضًا واتساعًا, وتزداد

الرقبة طولًا، على نحوٍ يسمح بوضوح الأكتاف, كما يزداد حجم الحوض, وتصبح الأذرع والسيقان أكثر نحافةً مع بطءٍ شديدٍ في نمو الجهاز العضلي, كما يتطور نموّ الأيدي والأقدام, وهذه التغيرات تُعَدُّ مسئولةً عن تلك الصورة الكاريكاتيرية لطفل هذه المرحلة: كائن نحيل يبدو كما لو كان كله ذراعين وساقين. أما بالنسبة لنموِّ الجهاز العصبي -وخاصة المخ- فلعلنا نذكر أن معظم نموّ المخ يحدث في مرحلة ما قبل الولادة, ويزداد نموّ المخ خلال مرحلتي الرضاعة والطفولة المبكرة حتى يصل في نهاية المرحلة السابقة "أي في عمر السادسة" إلى حوالي 90% مع حجم مخ الراشد, ومع ذلك فهناك وظيفتان هامَّتان من وظائف المخ تستمران في النموِّ خلال مرحلة الطفولة المتأخرة، أولاهما: تكوين نخاع الألياف العصبية في المخ والنخاع الشوكي وفي الأنسجة العصبية المرتبطة، وثانيتهما: تنظيم وظائف المخ, والعملية الأولى تساعد على زيادة كفاءة الخلايا العصبية، وفيها يتم ترسيب المواد الدهنية المحيطة بهذه الخلايا؛ بحيث تسمح باستثارة توصيل النبضات الكهربائية على نحوٍ يسمح لها بالانتقال من خلية إلى أخرى, وفي العملية الثانية يتم التخصص العصبي حيث يصبح النصف الكروي الأيسر للمخ مسئولًا عن المهارات اللغوية, ويحدث التآزر بالنسبة للسلوك الحركي، أما النصف الكروي الأيمن فيصبح مسئولًا عن المعلومات الإدراكية وتفسير العلاقات المكانية. وتحدث في هذه المرحلة فروقٌ بين الجنسين نتيجةً للمعدلات المختلفة لنموِّ كلٍّ من النصفين الكرويين؛ ففي الذكور يكون النصف الكروي الأيمن أكثر فعالية، ويساعدهم ذلك على أداء الأنشطة غير اللغوية بفعالية أكبر من البنات, أما في البنات فإن النصف الكروي الأيمن يكون أكثر نموًّا، ولهذا نلاحظ أنهن أكثر تفوقًا من الذكور في المهارة اللغوية, بينما يتفوق عليهن الذكور في مهارات التمييز المكاني.

النمو الحركي

النمو الحركي: تلعب المهارات الحركية دورًا هامًّا في نجاح الطفل في مرحلة الطفولة المأخرة, سواءً في أداء نشاطه المدرسي أو في لعبه مع غيره من الأطفال، ولذلك فإن الطفل الذي يكون نموَّه الحركيّ أقل من أقرانه من الأطفال يشعر عادةً بالعجز والضعف، وقد ينسحب من الجماعة، وتتكَوَّنُ لديه اتجاهات سلبية نحو نفسه ونحو الحياة الاجتماعية, وحين تتهيأ للطفل الفرصة فإنه يشارك في النشاط الحركي بمختلف أنواعه. وتتوقف المهارات التي يتعلمها الطفل في هذه المرحلة على البيئة التي يعيش فيها من ناحية، وعلى فرص التعلم من ناحيةٍ أخرى، وعلى ما هو شائع بين أقرانه من ناحيةٍ ثالثة. وتظهر فروقٌ بين الجنسين ليس فقط في مهارات اللعب في هذا السن, ولكن في مستوى اكتمال هذه المهارات، فتتفوق البنات على البنين في المهارات التي تشتمل على العضلات الدقيقة مثل: الرسم والخياطة والنسيج والتريكو, بينما يتفوق البنون في المهارات التي تشتمل على العضلات الغليظة؛ مثل: لعب الكرة والجري وقفز الحواجز. وابتداءً من سن 6 سنوات تنمو في هذه المرحلة مهارات مساعدة الذات التي ترتبط بالأكل واللبس والاستحمام؛ بحيث لا يحتاج الطفل في هذه النواحي إلّا إلى مساعدة ثانوية, إلّا أن الكبار في بيئة الطفل قد لا يقتنعون بذلك, ويستمرون في تقديم المساعدة للطفل, وباستمرار الممارسة تكتمل هذه المهارات إلى حيث يمكن للطفل أن يؤديها بنفس القدر من السرعة والامتياز مثل الكبير, وفي المدرسة تنمو لدى الطفل المهارات المطلوبة في الكتابة والقراءة والرسم والموسيقى والغناء وصنع الأشياء. أما المهارات الاجتماعية التي يتعلمها الطفل والتي تتصل بالأعمال المنزلية؛ مثل: تنظيف الأطباق, وكنس الحجرات, وتوضيب السرير, والطبخ, لا تعطي للطفل السعادة فحسب, وإنما تعطيه شعورًا بأهمية الذات. وتتحدد مهارات الطفل باليد التي لها السيادة في مهاراته الحركية, وهل هو أيسر أو أعسر أو أن يديه يمكن استخدامها معًا بنفس السهولة, فعند بلوغ الطفل العام السادس من عمره يكون قد تكوَّنت لديه عادة سيادة إحدى اليدين؛ بحيث يصعب عليه الانتقال منها إلى اليد الأخرى, وبالطبع إذا تعلَّمَ الطفل استخدام اليد اليمنى فإن تكيفه يكون أكثر سهولة مما لو تعلَّم استخدام اليد اليسرى، ليس فقط لأن الأدوات والآلات والمواد معدة للاستخدام باليد اليمنى فحسب, ولكن لأن نماذج التدريس معدة لأولئك الذين يستخدمون اليد اليمنى أيضًا؛ فالطفل الأعسر سوف يصبح الأمر صعبًا عليه, ويشعر بالإحباط حين يحاول استخدام المواد المعدة لغيره من الناس، أو حين يحاول تَعَلُّمَ مهارة جديدة بمحاكاة نماذج معدة لمستخدمي اليد اليمنى. والطفل الذي لا يصل إلى مستوى سيادة إحدى اليدين عند دخوله المدرسة، أي: أنه يستطيع استخدام إحدى اليدين في بعض المهارات, واليد الأخرى في مهاراتٍ أخرى, لن يجد صعوبةً في الانتقال من يدٍ إلى أخرى، ولكن قد تكون

مهاراته أقلّ في مستواها من طفلٍ آخر لديه سيادة إحدى اليدين, إلّا أن المشكلة في هذه الحالة أن الطفل حين يصل إلى مرحلة المراهقة يكون من المتَعَذَّرِ عليه محاولة تكوين سيادة إحدى اليدين, أو الانتقال من استخدام اليد اليسرى إلى اليد اليمنى, فعند هذه المرحلة "أي: المراهقة" تصل المهارات إلى درجة من التعلُّمِ بحيث تؤدي أيّ محاولة لتغييرها إلى الخلط بالنسبة للطفل, وسوف يقاوم التغيير الذي يجده صعبًا ومحبطًا معًا. وعادة ما ينتج عن ذلك القلق والتوتر الذي يعبر عن نفسه في شكل اضطرابات الكلام وصعوبات القراءة واللوازم العصبية.

أمراض طفل المدرسة

أمراض طفل المدرسة: خلال السنوات الأولى من هذه المرحلة يتعرض معظم الأطفال للأنواع المختلفة من أمراض الأطفال الشائعة؛ كالحصبة والسعال الديكي والجديري وغيرها, وباستثناء هذه الأمراض, فإن مرحلة الطفولة المتأخرة يمكن وصفها بصفةٍ عامَّةٍ بأنها مرحلة صحة جسمية, وبالطبع قد يحدث أحيانًا أن يعاني الطفل من اضطرابات المعدة أو أمراض البرد, إلّا أنها عادةً ما تكون لفترات قصيرة, ولا تترك أثرًا في البنية الجسمية للطفل, وحتى لو كان المرض متكررًا, فإنه نادرًا ما يؤدي إلي موت الطفل في هذه المرحلة إذا قارنَّا ذلك بالمراحل السابقة. وفي السنوات الأخيرة انخفض معدَّل وفيات الأطفال بصفة عامة, ويرجع ذلك بالطبع إلى التقدُّم في ميدان الخدمات الطبية للأطفال, وخاصة في ميدان الأمراض المعدية والتدرن الرئوي والتهاب اللوزتين وغيرها. وتُعْتَبَرُ الآثار النفسية للأمراض في هذه المرحلة أشد من آثارها الجسمية؛ فالمرض يحدث اضطرابًا في التوازن العضوي للجسم, ويؤثِّرُ بالتَّالى على سلوك الطفل واتجاهاته؛ بحيث يجعله متوترًا لحوحًا في مطالبه, بالإضافة إلى ما يسببه له المرض من غيابٍ عن المدرسة, وحرمانه من الاشتراك مع الأقران في اللعب بعد المدرسة, مما يؤثِّرُ على اكتسابه للمهارات اللازمة للتكيف في هذه المرحلة. وقد ثبت أن من أهم أسباب التغيب عن المدرسة في هذه المرحلة الأسباب الطبية, في حين لا يزيد عدد حالات الغياب لغير هذه الأسباب عن 13% فقط, وبالإضافة إلي ذلك توجد نسبة من الأطفال ينتظمون في الدراسة, ومع ذلك يعانون من نقائص جسمية مختلفة؛ كنقص البصر وضعف السمع وسوء التغذية وتسوس الأسنان, وبالإضافة إلى ذلك يعاني بعض الأطفال من أمراضٍ متوطنةٍ متنوعةٍ, وأمراض مزمنةٍ؛ كأمراض القلب والكساح والحساسية والسكر, بالإضافة إلى البلهاريسيا والأنكلوستوما.

وبعض الأطفال في هذه المرحلة يمكن وصفهم بأنهم مستَهْدَفُون للمرض, بمعنى أنهم يتعرضون للمرض أكثر من غيرهم من الأطفال الذين هم في مثل سنهم, وقد يرجع ذلك إلى ضعفٍ وراثيٍّ أو ظروف بيئية سيئة، إلّا أن السبب الأهم يرجع إلى الظروف التي تكون عليها حياة الطفل في هذه المرحلة, فقد يكون أسلوب التنشئة الوالدية فيه قدر كبير من التسامح يصل إلى حَدِّ الفوضى, وفي هذه الحالة يأكل الطفل وينام ويفعل ما يشاء، وقد يكون فيما يأكل ويفعل ضرر على صحته, وقد يكون الأسلوب تسلطيًّا؛ بحيث يضع الطفل طول الوقت تحت ظروف التوتر والضغط إلى الحدِّ الذي يستثير فيه مشاعر القلق, ويجعله مستهدفًا للمرض. وبعض خبرات المرض والاستهداف للمرض التي يعاني منها الطفل يكون حقيقيًّا, وبعضها الآخر قد يكون متوهمًا؛ فالطفل يتعلم من خبراته السابقة أنه حين يكون مريضًا فإنه لا يتوقع منه القيام بالأنشطة المعتادة، ويلقى اهتمامًا ورعايةً أكبر، ويتحرر بعض الشيء من قيود النظام المنزلي, وعلى هذا فحين تنشأ ظروف غير سارّة في حياته, أو حين يُطْلَبُ منه أداء عملٍ مدرسيٍّ أو منزليٍّ لا يحبه, أو يشعر بعدم القدرة عليه, فإنه يستخدم المرض كحيلة هروبية, وقد يتحول ذلك إلى حيلة لا شعورية من نوع الميكانيزمات النفسية. وقد يعاني الطفل من أيّ نوعٍ من أنواع التعويق الجسمي، بعضه قد يكون فيه منذ الولادة, والبعض الآخر يحدث له في أوقات مختلفة من مراحل نموِّه بسبب المرض أو الحوادث أو الإهمال في الرعاية الصحية له, وأشهر أنواع التعويق ضعف السمع والبصر وشلل الأطفال, وهذه العوائق تؤثِّرُ في الطفل وخاصةً حين تحرمه من المشاركة مع أقرانه في النشاط المدرسي وغير المدرسي، ويتوقف هذا الأثر على معاملة الآخرين له, وخاصة أعضاء جماعة الأقران, في هذه الحالة لا نجد إلّا القليل منهم من يشارك الطفل المعوَّق وجدانيًّا ويهتم به, أما الأغلبية فغالبًا ما يتجاهلونه أو يرفضونه. وتعتبر الحوادث من أهم أسباب وفيات الأطفال في هذه المرحلة, فعلى الرغم من أن الحوادث تكون عادةً أقل حدوثًا في هذا السن، إلّا أنها إذا وقعت تكون أخطر, ومعظم هذه الحوادث يقع خارج المنزل -على عكس حوادث المراحل السابقة, وهي بين الذكور أكثر حدوثًا من الإناث, وقد يرجع ذلك إلى أن طبيعة الدور الجنسي للذكور يتطلب قدرًا من الجسارة والإقدام, وإصابة الرأس هي الأكثر حدوثًا, بينما إصابة الساقين أقل حدوثًا, وقد يكون بعض الأطفال من النوع المستهدف للحوادث والإصابات, وهم عادةً أولئك الذين يتسمون بالنشاط الزائد وعدم الاستقرار والقلق والاندفاعية والمخاطرة ومقاومة السلطة, والأقل تقبلًا من الزملاء, وعكس هؤلاء هم الأقل استهدافًا للحوادث.

النمو اللغوي

النموّ اللغوي: باتساع عالم الطفل يكتشف أن الكلام أداةٌ هامةٌ في السلوك الاجتماعي, ويدفعه ذلك إلى إتقان الكلام, وكذلك يتعلم أن الصور البسيطة من الاتصال مثل الصراخ والإيماءات ليست مقبولةً اجتماعيًّا, ويعطيه هذا حافزًا إضافيًّا لتحسين قدرته على الكلام، بالإضافة إلى أن المدرسة تؤكد على النواحي اللغوية مثل حصيلة المفردات وبناء الجمل, وحين يتعلم الطفل القراءة يضيف إلى مفرداته اللغوية إضافاتٍ جديدةٍ, ويصبح أكثر ألفةً بالنمط الصحيح للكلمات والبناء الصحيح للجمل. ويتوقف النموّ اللغوي في هذه المرحلة على عوامل كثيرةٍ؛ منها المستوى العقلي, والمركز الاجتماعي والاقتصادي والجنس, وبالنسبة للجنس يُلَاحَظُ أن الذكور في هذه المرحلة أقلّ من الإناث في المحصول اللغوي, وفي صحة بناء الجمل, وفي القدرة على التعبير عن المعاني, كما أن لديهن نقائص كلامية أكثر من البنات. وكما هو الحال بالنسبة لكل مرحلة, فإن فهم الطفل للكلمات يتفوق على استعماله لها, فهو يعرف معاني كثيرة بطريقة غامضة, ويمكنه أن يفهمها عندما تستخدم الكلمة في ارتباطها بكلماتٍ أخرى، ولكنه لا يعرف تلك المعاني بحيث يمكنه استخدامها بنفسه, وخلال هذه المرحلة يتزايد المحصول اللغوي العام زيادةً كبيرةً, فمن دارسته في المدرسة, وقراءته, واستماعه للآخرين والراديو, ومشاهدته للتليفزيون, ينشئ الطفل المفردات التي يستخدمها في كلامه وكتابته, ويُقَدَّرُ عدد الكلمات التي يعرفها الطفل الذي ينهي الصف الأول الابتدائي بما يقع بين 20 ألف و24 ألف كلمة, أي بنسبة 5% إلى 6% من كلمات معجم عادي, وحين يصل إلى الصف السادس الابتدائي يصل محصوله اللغوي حوالي 50 ألف كلمة. ولا يقتصر الأمر على أن الطفل يتعلم كلمات جديدة كثيرة, ولكنه بالإضافة إلى ذلك يتعلم معانٍ جديدة للكلمات القديمة, وبالتالى تزداد مفرداته ثراءً, كما يتمُّ تعلم الكلمات ذات المعاني المحدودة والخاصة, وتظهر في هذا الجانب فروقٌ بين الجنسين أيضًا؛ فمفردات الألوان عند البنات مثلًا أكثر منها عند البنين, بسبب اهتمام البنات بالألوان, كما يتفوق الذكور على الإناث في الكلمات الجافة التي قد يكون بعضها بذيئًا, وبالطبع فإن عدد الكلمات التي يعرفها الطفل بدرجة كافية بحيث يستخدمها في كلامه وكتابته، تحدد إلى حَدٍّ كبير نجاحه في المدرسة.

وتظهر في هذه المرحلة صورة جديدة من اللغة, هي ما يسمى باللغة السرية, والتي يستخدمها الطفل في اتصاله بأصدقائه المقربين, وتتخذ اللغة السرية شكل تشويه للكلام العادي, أو قد تكون محاكاة للغة السرية كما تستخدم عند الطفل الأكبر, وتتكون هذه اللغة في شكلها المكتوب من شفرةٍ تتألف من رموز أو رسوم للتعبير عن كلماتٍ أو أفكارٍ كاملة, كما قد تكون لغة حركية تتكون في الأغلب من استخدام الإشارات والإيماءات, ومن تكوين كلماتٍ بواسطة الأصابع, كما هو الحال في لغة الصم والبكم, وتستخدم البنات اللغة السرية أكثر من الذكور, ويقضين وقتًا أطول في تأليف رموزٍ جديدة وإشارات للكلمات, وابتداءً من سن العاشرة حتى مرحلة المراهقة المبكرة, تُعَدُّ الفترة التي يصل فيها استخدام اللغة السرية إلى قمتها، رغم أن معظم الأطفال يبدأ في استخدام هذ اللغة السرية ابتداءً من الصف الثاني من المرحلة الابتدائية, وعلى خلاف مرحلة الطفولة المبكرة, فإن الطفل هنا يستطيع أن ينطق الكلمات صحيحة بدون أخطاء، فيما عدا الأطفال الذين لديهم عيوب كلامية. والكلمة الجديدة التي يسمعها الطفل لأول مرةٍ قد ينطقها خطأً عند استخدامها، ولكن بعد الاستماع إلى النطق الصحيح مرةً أخرى, أو أكثر, يكون قادرًا على النطق الصحيح لها, والطفل في هذه المرحلة لديه ميلٌ إلى التحدث بصوتٍ عالٍ كما لو كان المستمع إليه أصم, وهذه الظاهرة لا تؤثر في المستمع إليه بعدم التقبل له, أو الرفض للاستماع إليه فحسب, ولكنها قد تؤدي إلى الخشونة في صوت الطفل أيضًا, وعادة ما يلجأ الأولاد إلى هذا لأنهم يعتقدون أن التحدث بصوتٍ هادئٍ رخيمٍ خاصية "أنثوية". وطفل العام السادس لديه القدرة على التحكم في كل أنواع أبنية الجمل, وابتداءً من هذا العام وحتى العام التاسع أو العاشر من العمر, يتزايد بالتدرج طول الجمل التي يستخدمها, وبعد سن التاسعة يبدأ الطفل مرةً أخرى في استخدام الجمل الأقصر والأدق, وعند التحدث مع الأطفال الآخرين يستخدم أشباه الجمل بدلًا من الجمل الكاملة. ويُعَدُّ تكوين الجمل الصحيحة من الأعمال الصعبة في ثقافتنا العربية, بسبب الازدواج اللغوي الذي نعيشه بين العامية والفصحى، فإن طفل المدرسة الابتدائية يقع كثيرًا في الأخطاء النحوية حتى بعد تعلمها في الصفوف المتأخرة من المرحلة الابتدائية, وقد يرجع ذلك إلى سوء تدريس النحو لطلاب هذه المرحلة. أما عن عيوب الكلام فليست بنفس الدرجة التي عليها في المرحلة السابقة, فالتهتهة واللجلجلة وإبدال الحروف وكل صور الحبسة التي تظهر عند الطفل في مراحل نموّه السابقة, قد تظل كما هي بمرور الزمن ما لم تبذل جهود علاجية

لتصحيحها, ولأن هذه الاضطرابات جميعًا تعود بأصولها إلى التوتر العصبي, فإنها قد تزداد سوءًا بدخول الطفل المدرسة الابتدائية, بسبب الارتباك الذي سوف يعانيه حين يضحك الأطفال على طريقته في الكلام, وما لم يكن هناك سبب عضويّ محدد؛ مثل وجود مسافة بين السنتين الأماميتين العلويتين، أو سوء في انطباق الفكين يمكن أن يعالجه ظهور الأسنان الدائمة للطفل, فإن العيوب الكلامية الأخرى التي تنشأ عن أسبابٍ أخرى لا بُدَّ أن تحظى بدراسة طبية ونفسية خاصة. أمَّا عن محتوى كلام الطفل في هذه المرحلة, فإنه أقلّ تمركزًا حول الذات من الطفل في المرحلة السابقة, وانتقاله من التمركز حول الذات إلى ما يسميه بياجيه: اللغة الاجتماعية, لا يعتمد فقط على العمر, وإنما على بعض سمات شخصية الطفل التي تكون قد تحددت في هذه المرحلة، وما إذا كانت سمات من النوع المتمركز حول الذات أو من النوع الاجتماعي, كما تعتمد على الاتصالات الاجتماعية التي يقوم بها, وعلى حجم الجماعات التي يتحدث معها أو إليها, فكلما زاد حجم الجماعة تحولت لغته إلى الوجهة الاجتماعية, وحين يكون الطفل مع أقرانه تكون لغته أكثر اجتماعية مما لو كان مع الكبار والراشدين. وعلى الرغم من أن الأطفال يمكنهم التحدث في أيِّ موضوع, فإن من الموضوعات المفضلة التي يتحدثون فيها معًا في هذا السن هي خبراتهم الخاصة, وحياة المنزل والأسرة, والألعاب الرياضية, واللعب والسينما, ونشاط الشلل والجنس, والأعضاء الجنسية والحوادث. ويشعر الطفل بحريةٍ أكثر في مناقشة هذه الموضوعات والتعبير عن آرائه حولها حين لا يوجد الكبار, وحين يعبر طفل هذه المرحلة عن نفسه ويتباهى "بل قد يتبجح" بها, فإن مصادر مباهاته ليس ما لديه من نواحي مادية, وإنما حول مهاراته في الألعاب وقوته, وسلوك الزهو أكثر شيوعًا في الفترة بين سن 9 و12 سنة وخاصة بين الأولاد. ويحب الطفل في هذ المرحلة أن ينتقد الآخرين ويسخر منهم, وقد يلجأ إلى ذلك صراحة أو خفية, وحين ينقد الكبار يلجأ إلى ذلك في صورة شكوى أو اقتراح, أما نقد الأطفال من أقرانه, فإنه يأخذ شكل السباب أو السخرية أو المضايقة, وبدراسة كلام الطفل في هذه المرحلة نجدُ الأسئلة أصبحت أكثر تحديدًا في صيغتها من أسئلة طفل المرحلة السابقة, وتصل أسئلة "لماذا" إلى قمتها في الصفين الثاني والثالث الابتدائي، أما الأنواع الأخرى من الأسئلة، وخاصة أسئلة "ماذا", فتكون أكثر حدوثًا من المرحلة السابقة, كما يحتوي كلام طفل هذه المرحلة على كثيرٍ من الأوامر والتعليمات.

النمو العقلي المعرفي

النمو العقلي المعرفي: يطلق بياجيه على هذا الطور من النموّ الإنساني اسم طور العمليات العيانية أو المحسوسة Concrete Operations، وفيه تظهر العمليات الاستدلالية التي يمكن أن تتفق مع أسس المنطق, فالتفكير المنطقي -أو ما يسميه بياجيه التفكير الإجرائي Operational- لا يظهر إلّا حين تتوافر للطفل ذخيرة من المفاهيم التي تنتظم فيما بينها في نسقٍ متماسكٍ "أي: على هيئة مبدأ". وهذه الأنساق التي تشكِّل التفكير المنطقي أو الإجرائي تسمى العلميات Operations, والعمليات في هذا الطور توصف بأنها محسوسة أو عيانية Concrete, أي: تكون على اتصالٍ وثيق بأصولها الحسية الحركية, وهي في ذلك تشبه الإدراك بصفة عامة في أنها مقيدة بالزمن, ومحددة بترتيب زمني طبيعي معين, وتتضمن قدرًا ضيئلًا من التجريد Abstraction "ومعناه أن تكون الأفكار منفصلة عن الأشياء والأحداث في العالم الواقعي", وما يعين الطفل على القيام بالعمليات المحسوسة في هذا الطور اكتساب الطفل لمبدئي ثبات الكم والمقلوبية "راجع شرحهما بالتفصيل في الفصل السابق". وتُفْهَمُ العمليات بطريقة أفضل في إطار الأبنية المنطقية -الرياضية التي تمثل الطبيعة الجوهرية للتفكير, فالمنطق -عند بياجيه- هو مرآة الفكر، ولكنه مثل مرآة سنووايت Snow White, تعكس الحقيقة وليس المظهر. وهذا لا يعني أن سلوك التفكير يمكن اختزاله إلى صيغ المنطق أو معادلات الرياضيات، كما لا يعني أن أحدهما يُعَدُّ نموذجًا للآخر، وإنما يعني أن الأبنية المنطقية الرياضية تُعَدُّ المستوى الأكثر عمومية, وتجريدًا في تحليل عمليات التفكير. ومن أمثلة عمليات التفكير، الجمع والطرح والضرب والقسمة والمطابقة والتصنيف والترتيب, كما توجد عمليات "دون منطقية" infra-logical تتناول علاقات الموضع والمساقة، وعلاقات الجزء بالكل, وذلك بالنسبة للأشياء الحقيقية؛ لأن العمليات محسوسة كما قلنا. وقد اهتم بياجيه في هذه المرحلة بأبنية منطقية تظهر فيها العمليات, يسميها "التجمعات groupments", ويوجد منها 9 أنواع، ثمانية أنواع منها أولية, ونوع واحد فقط يعد ثانويًّا, ومن بين الأنواع الثمانية الأولية تظهر أربعة منها في عمليات أو قواعد يمكن تطبيقها على الفئات "التي تعتمد على التصنيف", وتظهر الأربعة الأخرى في علمياتٍ تطبق على العلاقات "التي تعتمد على الترتيب", وتوحد في كل حالة عمليات ثابتة لا تتغير هي عمليات التركيب والارتباط والذاتية والمقلوبية.

ولعل التغير الجوهري الذي يطرأ على الطفل في هذا الطور أنه يستطيع التفكير باستخدام المعلومات التي يدركها إدراكًا مباشرًا، كما يصبح أكثر مرونةً في استخدام هذه المعلومات, فعلى عكس طور ما قبل العمليات الذي يعتمد فيه الطفل في حَلِّ المشكلات على خاصية واحدة في الشيء المدرك, نجده يصبح الآن قادرًا على أن يحوّلَ انتباهه من خاصيةٍ إدركيةٍ في الشيء الذي يدركه إلى خاصية أخرى، بل قد يتعامل مع عدة خصائص في وقت واحد، ويترتب على ذلك قدرة الطفل على تجميع ملاحظات وعمليات عديدة في مفهوم واحد, متجاوزًا بذلك الحاجة إلى المعالجة الفيزيائية للتحول من حالة لأخرى. إن الطفل في هذه المرحلة يبدأ في الانتباه إلى ما هو مهم, وتجاهل ما هو غير مرتبط أو منبت الصلة, وبالتالي يميز السمات والخصائص الجوهرية لتجميع الشياء تجميعًا منطقيًّا في فئات فيما يسمى تكوين المفاهيم Concep Formition. ويؤدي التحرر من كلٍّ من التمركز حول الذات والمركزية في الإدراك في زيادة المرونة في التفكير، كما تزداد القدرة على بناء فئات فرعية, وكذلك الوصول إلى تصنيفات متعددة منفصلة أو متداخلة أو هرمية. ومن أهم خصائص تفكير الأطفال في هذه المرحلة, ما أشرنا إليه من التحرر من التركيز على خاصية واحدة, أو بُعْدٍ واحدٍ في الشيء أو الحدث, وهذه العملية تسمى اللا تمركز decentration, وتبدأ بالفعل قبل ظهور التفكير باستخدام العمليات المحسوسة, ثم تصبح أكثر عمومية وشيوعًا في الاستخدام مع مشكلات أكثر تعقدًا خلال طور التمييز. أما الإنجاز العرفي الهام الآخر الذي يظهر في هذا الطور, فيتمثل في قدرة الطفل على قلب أو عكس عمليات تفكيره, ومثال ذلك: أن الطفل يستطيع أن يجري ذهنيًّا عمليات قلب أو عكس مكاني حين يحاول وضع فردة الحذاء اليمنى في القدم الأيمن لشخص آخر بالمقارنة بقدمه, وتسمى هذه العملية "المقلوبية" Reversibiliy"، وتعتمد على عملية أساسية أخرى هي عملية التعدي Transitivity, أو ما يسميه بياجيه: الاستدلال التحويلي Transformational Reasoning, فحالما يستطيع الطفل أن يبدأ تفكيره من نقطة معينة "أ", ويفهم جميع الخطوات التي تؤدي إلى نقطة أخر "ب", فإنه يستطيع أيضًا أن يمتد بهذا المسار إلى نقطة ثالثة "جـ", وهذه العملية تظهر في طفل المرحلة الابتدائية في صورة تعدي لخاصية التساوي من نوع أ=ب، ب=جـ, إذن: أ=جـ, وهي عملية أساسية في التفكير المنطقي. ونعود إلى خاصية المقلوبية, فحالما يستطيع الطفل القيام بعملية التعدي

يمكنه أن يتابع هذا المسار المعرفي من نقطة إلى أخرى, أو يعكسه, أو يدور حوله, أو يغيره دون أن يفقد خصائصه الأصلية, ومن ذلك مثلًا أن يصنع الطفل طائرة ورقية, ثم يفرد الورقة ليرى خطوط الطي، كما يستطيع استخدام نفس السلم الموسيقي صعودًا وهبوطًا، وقد يفك اللعبة إلى أجزائها, ثم يعيد تركيبها, وتعد هذه أيضًا من العمليات الأساسية في فهم عمليات الجمع والطرح في الحساب. ولكي نوضح ذلك أكثر, نذكر مثال بياجيه المشهور في تجارب ثبات الكم conservation أو المقدار، فإذا عُرِضَ على الطفل في هذا الطور إناءين متساوين مليئين بالماء, ثم صُبَّ أحدهما في إناءٍ أطول وأضيق, فإنه يحكم على مقدار الماء في هذ الحالة بأنه لم يتغير "على عكس حكمه في الطور السابق بأن المياء يزداد مقداره بعد صبه في الإناء الثاني"؛ لأن الطفل أصبح يستطيع أن يسترجع الخطوات بتتابع صب الماء من الإناء الأصلي إلى الإناء الآخر, كما أن الطفل أصبح أكثر قدرة على اللا تمركز؛ بحيث أصبح إدراكه يشمل كلًّا من طول الإناء وعرضه معًا عند الحكم على مقدار الماء في كلٍّ من الإناءين، ولهذا يحكم عليهما بأنهما متساويان. وفي الحكم على أن مقدار السائل لم يتغير رغم تغير الأواني, يظهر الطفل ما يسميه بياجيه القدرة على إدراك ثبات الكم أو المقدار, وهكذا يدرك الطفل أن بعض جوانب الأشياء أو المواد لا تتغير, حتى ولو تعرضت لبعض التحولات, وبذلك يظهر الطفل بعض الثبات الإدراكي للعالم الخارجي, ومع اكتساب هذ المهارة يصبح قادرًا على التنبؤ بما يحدث للأشياء المادية التي يحتك بها في حياته اليومية. وكان بياجيه وإنهلدير "Piaget & lnhelder" يريان أن جميع الأطفال يمرون بنفس المراحل في اكتساب ثبات الحكم لجميع خصائص الأشياء, إلّا أن البحوث التالية كشفت عن أن ثبات الخصائص المختلفة تظهر في أعمار مختلفة, فثبات الأعداد يظهر في حوالي السادسة من العمر, فعند هذه السن يدرك الطفل أن الأعداد متساوية بصرف النظر عن طريقة تنظيمها "في أكوام أو صفوف، إلخ", ويظهر ثبات الكتلة في سن السابعة, وحينئذ يدرك الطفل بأن كتلتين من الصلصال تكونان متساويتين من حيث كمية ما فيهما من الصلصال, بصرف النظر عن الشكل الذي تكون عليه "كرة أو خيط طويل", وفي سن التاسعة يظهر ثبات الوزن حيث يدرك أن كرتي الصلصال متساويتان في الوزن, بصرف النظر عن الشكل الذي يكون عليه كل منهما, أما ثبات الحجم volum

فلا يظهر إلّا في سن الحادية عشرة أو الثانية عشرة "مطلع المراهقة", ويقاس ثبات الحجم بإدراك الطفل لمقدار السائل المزاح "حجم الماء" نتيجة وضع إسطوانتين معدنيتين فيه على التوالي تكونان متساويتين في السعة, ومختلفتين في الوزن, ويحتاج الأمر أن يكون الطفل أكثر نضجًا لكي يدرك أن المتغير الأساسي في تغيير حجم السائل هو سعة size الشيء الذي يوضع فيه, وليس وزنه، فالأشياء ذات السعة الأكبر تزيح كمية من السائل أكبر من الأشياء الأصغر. وكان بياجيه يعتقد أن الأطفال من جميع الثقافات يظهرون القدرة على ثبات المقدار لمختلف الخصائص بنفس الترتيب السابق، على الرغم من أن معدَّل اكتسابهم للمفاهيم المختلفة قد يختلف تبعًا لاختلاف الخبرات التي يتعرضون لها "كخبرة دخول المدرسة أو عدم دخولها". ومعنى ذلك عنده: أن ثبات العدد يسبق ثبات الكم، ويسبق هذا ثبات الوزن, ويكون ثبات الحجم هو آخر ما يكتسبه الطفل "Brainred 1978", إلّا أن بعض الدراسات التي أجريت على ثقافاتٍ غير غريبة -ومنها مصر- أظهرت أن هذا التتابع ليس بالضرورة صحيحًا "سنية جمال عبد الحميد، 1987". ويوجد مظهر آخر لاختلاف تفكير الطفل في هذا الطور عن تفكير طفل طور ما قبل العمليات, في أن تفكير طور التمييز يتسم بالقدرة على إدراك التحويلات transformations, والتي تؤدي إلى تغيير الشيء من حالة إلى أخرى, ويمكن للطفل أن يكوِّن صورة ذهنية كلية عن سلسلة من الأحداث، كما يستطيع أن يصف هذه السلسلة التي قد تتضمن الماضي والحاضر والمستقبل, دون أن يكون في حاجة إلى أدائها مرة أخرى. وهذا على عكس طفل الطور السابق الذي لا يستطيع مثل هذا الوصف, ويحتاج إلى أداء الأحداث أداءً فعليًّا؛ لأنه متمركز في الحاضر فقط, وإحدى النتائج العملية لهذا الوعي أن الطفل يصبح أكثر قدرة على الاستفادة من قواعد التحكم في سلوكه, وخاصة حين يخبر عن نواتج أخطائه السلوكية نحو ذاته والآخرين. فالطفل في الطور السابق يركز انتباهه على حالة العقاب الراهنة، بينما هو الطوار الحالي أكثر قدرة على ربط العقاب الذي يتعرض له بسلوكه في الماضي والمستقبل. ومن العمليات المعرفية الهامة التي تظهر في هذا الطور القدرة على التصنيف classification, التي تعتمد على القدرة على تكوين المفهوم وبناء الفئات التي أشرنا إليها, ويشمل ذلك القدرة على تحديد العناصر الراهنة التي تؤلف الفئة, أو ما يسميه بياجيه: مفهوم النطاق الداخلي للفئة class intension, والقدرة على

إعداد قائمة بالعناصر الجديدة التي يمكن أن تتضمنها الفئة, أو ما يسميه بياجيه: النطاق الخارجي للفئة class extension, وخلال سنوات المدرسة تزداد مهارات الطفل في التجمع وربط هذه التجمعات بعضها إلى بعض؛ ففي سن السابعة يستطيع الجمع باستخدام فئة العدد "5" أو"10" ومضاعفاتها، وفي سن الثامنة يستطيع استخدام فئة العدد "2" ومضاعفاته, وإحدى الهوايات الشائعة لدى أطفال هذا الطور "من 7-12 سنة" جمع الأشياء "طوابع البريد، الملصقات، العينات، إلخ", ثم تصنيفها تبعًا لأبعاد مختلفة عديدة: اللون، الحجم، المحتوى، النوع، إلخ. وتوجد عملية معرفية هامة أخرى تظهر في هذا الطور, وهي عملية التسلسل seriation, ويُقْصَدُ بها: القدرة على ترتيب الأشياء تبعًا لمتصل كمي, فإذا عرضت على الطفل مجموعة من العصي ذات الأطوال المختلفة, فإنه يستطيع ترتيبها من الأقصر إلى الأطول أو العكس "piaget lnheldr 1959". ولعلنا نذكر أن طفل الطور السابق "قبل العمليات" يستخدم في مثل هذه الحالة المقارنات العشوائية بين أزواج الأشياء بدلًا من المقارنة المنظمة المنسقة التي تبدو في طور العمليات العيانية. وهكذا فإن قدرة الطفل في طور التمييز على التفكير تكون أكبر من قدرة الطفل الأصغر سنًّا, إنه يستطيع التعامل مع عدة متغيرات في وقت واحد, ويتضح هذا على سبيل المثال من التعامل مع عدة متغيرات في وقت واحد, ويتضح هذا على سبيل المثال من التعامل مع الزمان والمكان معًا "كما هو الحال في الجغرافيا والتاريخ" أو مع السرعة والمسافة "كما هو الحال في الرياضيات"، إلّا أن ما يجب أن نؤكده أن قدرة الطفل في هذه المرحلة على التعامل مع عدة متغيرات في وقت واحد تكون في بدايتها, ولا تعني نهاية هذه المرحلة وصول هذه الخاصية إلى اكتمال النضج المعرفي, وعلى هذا, فعلى الرغم من أن طفل المدرسة الابتدائية يظهر قدرًا من الموضوعية، إلّا أنه توجد فروق بين الأطفال في بداية هذه المرحلة ونهايتها، وهي فروق تؤثر في قدرة الطفل على التفكير, ومن ذلك مثلًا: أن قدرة طفل هذه المرحلة على فهم الأفكار والمفاهيم أكبر بوضوح من قدرة الطفل في المراحل السابقة, ومع ذلك فإن طفل المدرسة الابتدائية قد يواجه صعوبة مع التجريدات التي تقع خارج نطاق خبرته, أو التي لا يدركها بالتمثيل Representaion "أو التصور الذهني". وعمومًا نستطيع القول أنه باتساع عالم الطفل عند دخوله المدرسة تتزايد أيضًا ميوله, ومع تنوّع ميوله وألعابه يزداد فهمه للناس والأشياء التي لم يكن لها

معنى في المراحل السابقة, ولا يزيد فهمه للبيئة عن طريق التعليم الرسمي الذي يتلقاه في المدرسة فحسب, ولكنه يزيد أيضًا من وسائل الإعلام, وخاصة السينما والراديو والتليفزيون والفيديو, ومن تبادل الأفكار مع أقرانه، ومن قدرته على القراءة, وبالنمو السريع في تكوين مفاهيم جديدة في هذا العمر مع عدم وجود وفرة كافية من المعلومات تقوم بدور المراجعة النقدية على تكوين هذه المفاهيم, تكثر لدى الطفل الأخطاء؛ فكثيرًا ما يخطئ في تقدير الزمن، كما قد يكوّنُ مفهومًا خاطئًا عن الذات إذا قلَّلَتْ الجماعة من قدراته, أو بالغت في تقديرها, وقد يمارس حاسة الفكاهة بشكل فج، وقد يحكم على الشخصية الكلية للآخر في ضوء سمة أو سمتين فقط, وليس في ضوء نمط الشخصية ككل, وبمرور الوقت, وبزيادة الخبرة, يصبح الطفل أكثر نقدًا في تقديراته, ويصاحب ذلك نقصان تدريجي في أخطاء الإدراك. ومن خبرات الطفل المباشرة يكتشف معنى المكان، وباستخدام المقاييس المختلفة "الأوزان والأطوال" يتعلم معنى الوزن بالجرام والكيلو جرام, والقياس بالسنتيمتر والمتر والكيلو متر, ويساعده العمل المدرسي في الحساب على تكوين أفكار أوضح عن المكان والمسافة, مما لو ترك وحده لخبراته الشخصية. كما أن الأعداد تأخذ معانٍ جديدة عندما يبدأ في استخدام النقود, وحين يبدأ في حلِّ مسائل الحساب, ودراسة التاريخ والجغرافيا, مع التأكيد على عادات وتقاليد وطرق حياة الناس في البلدان الأخرى, وفي عصور مختلفة من التاريخ تزيد من معنى مفهوم الزمن, حتى الجدول المدرسي واليوم المدرسي, وما يصاحب ذلك كالجرس والحصص على فترات منتظمة, تساعد الطفل على تقدير الزمن بدقة أفضل مما كان يفعل في المراحل السابقة. ومن الخبرات الواسعة في المدرسة يمكن لطفل مرحلة الطفولة المتأخرة أن يكوّن مفاهيم واقعية عن الأشياء الصحيحة, فلم يعد مستساغًا أن يعزو صفات الحياة إلى جميع الأشياء غير الحية, كما كان يفعل من قبل. وبعض الأطفال في هذا السن يواجهون صعوبة التمييز بين ما هو حي, وما فيه صفات حية؛ مثل القمر والنهر. كما أنه يصبح واقعيًّا حول مفهوم الموت ويدرك معناه, إلّا أنه لا يهتم كثيرًا بما بعد الموت, ويعود هذا إلى عدم اهتمامه عمومًا في هذا السن بالدين كموضوع شخصي, ويزداد مفهوم الذات وضوحًا عندما يرى الطفل نفسه في عيون المعلمين والأقران, وليس في عيون الوالدين فقط, ويستفيد أيضًا في توضيح مفهومه عن ذاته بالمقارنة بين قدراته الآخرين من زملائه, ويصبح واعيًا بالفروق الجنسية, والأدوار الجنسية التي هي بطبيعتها جزء من مفهوم الذات.

النمو الاجتماعي

النمو الاجتماعي: يحدث في هذه المرحلة نموّ اجتماعي سريع؛ حيث ينتقل الطفل بسرعة من كائنٍ متمركزٍ حول ذاته أناني, تتميز تصرفاته الاجتماعية بالصراع الدائم, إلى كائنٍ متعاونٍ وعضوٍ متوافقٍ في جماعة اجتماعية تتكون مع أقرانه, وإذا أردنا أن تتضح لنا معالم النمو الاجتماعي في هذه المرحلة نجري مقارنة سريعة بينها وبين المرحلة السابقة, وخاصة فيما يتعلق بنمو الحاجة للارتباط بالآخرين. إن المشاعر الجماعية لدى أطفال سن ما قبل المدرسة "الطفولة المبكرة" ليست قوية, ولذلك فإنهم لا يبذلون جهدًا للامتثال للمعايير التي يضعها الكبار لهم, والأطفال في هذا السن لا يكونون شبكة وثيقة من العلاقات تؤلف جماعات يمكن تناولها بالبحث, وحينما يوجدون معًا يكونون أقرب إلى "تجمعات من الأفراد" أكثر من كونهم "جماعات حقيقية", ومن المعروف أن العلاقات التي يكوّنها الشخص مع الآخرين تستخدم كؤشر مبدئي على مستوى النضج الانفعالي والاجتماعي الذي يصل إليه. وفي هذا الصدد نجد أن اتجاهات الرضيع أو الطفل الصغير تكون -كما أشرنا في الفصلين السابقين- متمركزة حول الذات، واهتمامه بالآخرين يقتصر على آثار اتجاهاتهم وسلوكهم في شعوره بالراحة، وعلاقته بوالديه هي علاقة شخص صغير يطلب الانتباه والحب والرعاية والحماية, وهو في الأساس يأخذ أكثر مما يعطي, وحينما يلعب مع الأطفال الآخرين يظهر تمركزه حول الذات في قاعدة "كل ما عندهم هو لي, وكل ما لي هو لي أيضًا". وبالطبع يحاول أبواه وإخوته ورفاق اللعب الأكبر والأكثر نضجًا أن يساعدوه على أن يتعلم المشاركة والقيام بدور محدد، إلّا أنه قد يتعلم هذا السلوك الذي يدل على التطبيع الاجتماعي؛ كنوع من المساومة تجنبًا للقلق الذي يعانيه حينما يعارض الوالدان سلوكه المتمركز حول الذات, وربما تعمل هذه العوامل جميعًا وغيرها في وقت واحد, ومهما كان السبب, فإن الطفل حينما يصل إلى نهاية سنوات ما قبل المدرسة "أي: في حوالي سن السادسة" يصبح أكثر اهتمامًا بحقوق ومشاعر ورفاهية الوالدين ورفاق اللعب، إلّا أن ذلك يكون في حده الأدنى؛ لأن الطفل لا يزال في موقف المتلقي أكثر من موقف المعطي, ومع ذلك فإن هذا التغير يمثل اتساعًا لمدى حياته العاطفية والاجتماعية. أما عن علاقات الطفل بالآخرين في مرحلة الطفولة المتأخرة, فلا شك في أن المدرسة هي أهم وسيط للتطبيع الاجتماعي في هذه المرحلة؛ فالمعلمون يشجعون عن وعيٍ وقصدٍ أنواعًا كثيرة من السلوك الجماعي من خلال أمور مثل اللعب

الجماعي والدراسة الجماعية والنشاط الجماعي وغيرها, وتحقيق هذا الهدف يتطلب في الطفل كثيرًا من المهارات والنضج, لذلك فإن الأطفال يتقدمون في ذلك بدرجات بطيئة؛ فخلال الصفوف الأولى من المدرسة الابتدائية نجد أن أفضل تنظيم اجتماعي هو علاقة زميل اللعب, والتي قد تتكوّن بشكلٍّ فجٍّ في مرحلة مبكرة خلال مرحلة الحضانة "الطفولة المبكرة". وهذه الظاهرة من ظواهر النمو الاجتماعي "أي: علاقة زميل اللعب" تظهر بوضوحٍ في مرحلة الطفولة المتأخرة, عندما يريد الطفل أن يشاركه في خبراته شخص آخر يمكنه أن يتواصل معه بسهولة وسرعة, فلم يصبح قانعًا أن يقضي كثيرًا من الوقت يلعب وحده, أو يراقب الأطفال أثناء اللعب, كما أنه لا يريد أن يقضي وقتًا أطول مع الكبار، وخاصةً إذا علمنا أن مرحلة الطفولة المتأخرة هي فترة استكشاف الأشياء والأشخاص والأحداث الموجودة في العالم خارج المنزل، وهنا تظهرحاجته إلى زميل اللعب. تكوين جماعات الأطفال: مع تركيز المدرسة الابتدائية على السلوك الاجتماعي ينمو طفل هذه المرحلة نموًّا سريعًا من الوجهة الاجتماعية، ويتحول بسرعة من فردٍ أنانيٍّ متمركزٍ حول الذات, تتسم علاقاته الاجتماعية بالصراع والعراك المستمر, إلى عضوٍ متعاونٍ جيد التوافق مع جماعة اجتماعية تتألف من الأقران في نفس السن. ويحدث في هذه المرحلة أيضًا تغير في أنماط السلوك؛ حيث يحل السلوك الأكثر نضجًا محل السلوك غير الناضج في المرحلة السابقة؛ فالخلفة "أو المعارضة المستمرة" تتناقص حدتها مع بلوغ الطفل سن السادسة، رغم أن الأطفال الذكور يصلون إلى قمة أخرى للمخالفة عند بلوغ سن العاشرة أو الحادية عشرة؛ حيث يتمردون على سلطة الكبار؛ كطريقة لتأكيد دورهم الجنسي, وهكذا يصبح طفل المدرسة الابتدائية غير قانع باللعب منفردًا، أو العمل مع أفرد أسرته وحدهم, بل إن وجود زميل واحد للعب، بل وزميلين لم يعد كافيًا. إنه يحب أن يكون وسط "شلة" من الأطفال، يؤلفون جماعة من عدد كافٍ من الأفراد, يمكنها أن تمارس الألعاب المناسبة لهذ السن, وطوال الفترة التي تمتد من دخول المدرسة الابتدائية, وحتى البلوغ الجنسي, تتزايد تدريجيًّا لدى الطفل الرغبة في الانتماء إلى جماعةٍ, والحصول على تقبلها الاجتماعي له, ويصدق هذا على كلٍّ من البنين والبنات. ومن مؤشرات هذه الرغبة المتزايدة زيادة الوقت الذي يقضيه الطفل خارج المنزل مع نموه المتزايد.

وشِلَلُ الأطفال في هذه المرحلة هي جماعات لعب, وتختلف عن شِلَلِ وعصابات المراهقين التي سنتناولها بالتفصيل فيما بعد، في أنها لا تتجاوز حدود اللهو "البريء", صحيحٌ أن الأطفال وهم يمارسون هذا "اللهو" البريء قد يقعون في بعض الأخطاء, إلّا أنها تكون في العادة "غير مقصودة", على عكس "أخطاء المراهقين" التي تكون في الأغلب مقصودة, وتتألف شِلَلُ الأطفال في هذه المرحلة من أفرادٍ من نفس الجنس لا يتجاوز عددهم في البداية "في الفترة من 5-8سنوات" ثلاثة أو أربعة أطفال, فمن الصعب على الطفل في هذه الفترة أن يركِّزَ على علاقات الجماعات الكبيرة طويلًا، ويشعر بالراحة أكثر إذا عمل ولعب في جماعات صغيرة, وحين يلعب أطفال هذه الجماعات الصغيرة معًا وحاول طفلٌ آخر أن ينضم إليهم, فإن الجماعة الأصلية تعترض على ذلك, إلّا أن هذا الطفل سرعان ما يؤلِّفُ مع طفلين أو ثلاثة آخرين جماعة أخرى, وهذه مرحلة طبيعية وعادية في النمو الاجتماعي, ومن العبث أن يفرض الوالد أو المعلم على جماعات الأطفال طفلًا آخر لينضمَّ إليها, وبعض هذه الجماعات يكون على درجة لا بأس بها من الاستقرار, فقد تستمر لأشهر أو سنوات، وبعضها الآخر وقتيّ, ويختلف ذلك تبعًا لتوافر الزملاء واهتمامهم, إلّا أنه مع زيادة الاهتمام بالألعاب الرياضية يتسع نطاق "الشلة"؛ بحيث يصبح عددها كافيًا لتشكيل فريق, ومن الملاحظ بصفة عامة أن جماعات الذكور تكون أكبر عددًا من جماعات الإناث, ويتأثر حجم الجماعة في كل حالة بالعدد المتاح من الأطفال, والأنشطة التي يرغب أعضاء الجماعة في ممارستها. ومعظم شِلَلِ الذكور تقوم في بعض الأحيان بأنشطة ليست مرغوبة من الكبار، بينما يقل حدوث ذلك في شِلَلِ الإناث, وبالطبع تختلف أنشطة شِلَلِ الأطفال من الجنسين من ثقافةٍ لأخرى، ومن ثقافةٍ فرعيةٍ لأخرى داخل المجتمع الواحد, كما تختلف تبعًا للمستوى الاقتصادي والاجتماعي, ومع ذلك يوجد قدر من التشابه بين هذه الجماعات، فشِلَلُ الأولاد تنشغل عادةً بالأنشطة الرياضية العنيفة "مثل كرة القدم", بينما تنشغل شِلَلُ البنات بالأنشطة الرياضية الأقل عنفًا "مثل التنس", وبينما قد تمارس جماعات الذكور هواية "إزعاج الآخرين", تقتصر أنشطة جماعات الإناث على مجرد الجلوس معًا والتحدث بعضهن إلى بعض. وعادةً ما يكون لشِلَّةِ الأطفال مكان محدد للالتقاء, ويكون هذا المكان عند الذكور بعيدًا كلما أمكن عن رقابة الوالدين وتدخلهم، بينما يكون عند الإناث بيت إحداهن تتوافر فيه المساحة والحرية التي تسمح لهن بالنشاط.

ولجماعات الأطفال أثر كبير في أفرادها؛ فالطفل يساير المعاير التي تحددها هذه الجماعة إلى درجة أننا نجد الأطفال من شِلَّةٍ معينةٍ يتشابهون في المظهر والآراء وأنماط السلوك, وكل طفل يحاول الالتزام بهذه المعايير خوفًا من رفض الجماعة له، وحين تتعارض معايير الوالدين مع معايير الجماعة, فإن الطفل يساير معايير جماعته. ومن خلال علاقات الطفل مع أعضاء شِلَّتِِهِ يتعلم التنافس والتعاون مع الآخرين كعضوٍ في فريق، ويتحمَّل المسئوليات التي تًوَكَّلُ إليه، ويشارك الآخرين مشاعرهم حين تُسَاءُ معاملتهم, أو يُنْبَذُونَ, أو يُهْمَلُونَ، وتغلب عليه تدريجيًّا الروح الرياضية, سواء في الفشل أو النجاح, وفي هذا كله تدريب على التطبيع الاجتماعي لا يوفره للطفل إلّا وجوده وسط جماعاتٍٍ اجتماعية من أقرانه. وآثار هذا التدريب لها قيمتها في حياة الطفل اللاحقة, حتى ولو كان ذلك على حساب بعض الاضطراب الذي يحدث في علاقة الطفل بوالديه. الصداقة في مرحلة الطفولة المتأخرة: يُفَضِّلُ الأطفال في هذه المرحلة رفقة الأقران من نفس الجنس, ويصل العداء للجنس الآخر إلى قمته قبيل البلوغ, وتكون اتجاهات الأولاد نحو البنات أكثر موضوعية وحيادًا من اتجاهات البنات نحو الأولاد, وترجع غلبة الطابع الانفعالي على اتجاهات البنات نحو الجنس الآخر إلى شعورهن بالضيق نتيجةً لمقدار الحرية الأكبر الذي يسمح به للذكور دون الإناث, بالإضافة إلى أن النضج الجنسي المبكر للبنات "سن البلوغ عند البنات يسبق هذا السن عن الأولاد" يجعلهن يشعرن بأنهن أكثر نضجًا من الناحية الاجتماعية بمقارنتهن بالأولاد من نفس السن. وتوجد عوامل كثيرة تحدد اختيار الطفل في هذه المرحلة لأصدقائه, وكقاعدة عامة لُوحِظَ أن الطفل يختار أولئك الذين يدركهم على أنهم يشبهونه, وبسبب حدود المساحة التي يتاح للطفل فيها اختيار أصدقاءه, فإن اختياراته عادةً لا تتجاوز نطاق جيران المنزل أو المدرسة "زملاء مقعد الدراسة أو الفصل", ومن العوامل التي تحدد اختيار الأصدقاء في هذه المرحلة سمات الشخصية, وتحصل سمات المرح والألفة والتعاون والأمانة والكرم والروح الرياضية على أعلى التقديرات عند الأطفال في اختيار أصدقائهم. وحالما يكوّن الأطفال في هذه المرحلة مجموعة من الأصدقاء يبدأون في معاملة الأخرين بقسوة؛ لأنهم ليسوا أصدقاء, ومعظم معايير الشِّلَّةِ التي يتمُّ الاتفاق عليها, تهدف إلى عدم السماح للآخرين الذين لا يعدون من الأصدقاء بالانتساب

إليها, ويصل هذا التحيز لجماعة الشِّلَّةِ إلى قمته في حوالي سن الحادية عشرة, وعادةً ما يجد أيّ طفل جديد في الحي أو المدرسة صعوبة بالغة في الحصول على تَقَبُّلِ شِلَّةٍ أو تكوين صداقات, وعليه أن يبادر بتكوين علاقاتٍ إذا كان يرغب في الحصول على أصدقاء، ويتمُّ ذلك على مراحل متتابعة: محاولة الكلام أو اللعب مع إحدى هذه الجماعات الموجودة بالفعل، ثم مراقبتهم وهم يلعبون, ومحاولة تقليدهم ومحاكاتهم، ثم محاولة جذب انتباههم إليه, وفي البداية تتجاهله الجماعة أو تهمله، وعليه أن يحاول عدة مرات، فإذا نجح في جذب انتباه أحد أعضاء هذه الجماعة يستطيع من خلال هذه العلاقة الثنائية أن يخترق الجماعة، وقد ينجح في أن يكون له مكان في الشِّلَّةِ. وعلى الرغم من هذا, فإن الشِّلَّةَ تكون عبارة عن وحدة اجتماعية، يحكمها قدر من السرية يمنع الآخرين من الانضمام إليها بسرعة وسهولة, ومع ذلك يُوجَدُ مقدارٌ كبيرٌ من الصراع والعراك بين أعضائها, وقد يتخاصمون, وبعض هذه الخصومات ينتهي بسرعة وتعود الصداقة إلى مجاريها، وبعضها الآخر ينتهي بالقطيعة, ومعنى ذلك أن من النادر أن تكون صداقات الأطفال استاتيكية؛ فالطفل يتحوَّل في نظر زميله في الشِّلَّةِ من "أفضل الأصدقاء" إلى "عدو"، ومن "أحد الزملاء" إلى "أخلص الأصدقاء", يحدث هذا بسرعة ولأتفه الأسباب, ومع تَقَدُّمِ الطفل في السن تصبح صداقاته أكثر استقرارًا. القيادة عند طفل المدرسة الابتدائية: قائد شِلَّةِ الأطفال في هذه المرحلة يجب أن تتوافر فيه الخصائص الطيبة التي تحبذها الجماعة, ومن المهم أن نشير هنا إلى أن الأولاد والبنات في هذه المرحلة يتسمون ببداية نموّ الاتجاه نحو "تقدير البطل"، والذي سيبلغ ذروته في مرحلة المراهقة, ويظهرون هذا الاتجاه نحو أيّ شخص تتوافر فيه الصفات التي يعجبون بها, والطفل الذي يحظى باحترام الشِّلَّةِ, وتتأكد شعبيته بينهم, هو ذلك الذي يكون متميزًا في هذه الصفات عن باقي الأعضاء, ويذكر الأطفال من هذه الصفات خاصةً الذكاء والكياسة والثقة بالنفس والاتزان الانفعالي والقدرة على النشاط البدني والوعي برغبات الآخرين والاهتمام بها والجدارة بالثقة فيه "Hurlock 1980". وقد يكون الأكثر أهميةً أن يُظْهِرَ القائدُ تميزه وتفوقه بالفعل؛ فالطفل الهادئ المنطوي قد يتجاهله أعضاء الجماعة مهما كان ممتازًا في صفاته, وفي جميع القادة -من الأطفال وغيرهم- لُوحِظَ أن الانبساط هو السمة الغالبة, وبالطبع كلما زاد حجم الجماعة تَطَلَّبَ ذلك في القائد أن تكون مهاراته القيادية أكبر, كما أن الطفل الذي كانت له خبرة سابقة بالقيادة في مرحلة العمر السابقة "الطفولة المبكرة" تتوافر له فرصة أكبر ليكون قائد جماعة في المدرسة الابتدائية. ومن خصائص القيادة أن تتوافر في صاحبها بين أعضاء جماعته, وقد لُوحِظَ بصفة عامة أن الطفل الأكثر شعبية تتوافر فيه من السمات الإيجابية, ما يجعله على درجة كبيرة من التوافق الشخصي والاجتماعي.

اللعب في مرحلة الطفولة المتأخرة

اللعب في مرحلة الطفولة المتأخرة: على الرغم من أن الطفل في مرحلة الطفولة المتأخرة لا يتوافر له وقت اللعب الكبير الذي كان متاحًا في المرحلة السابقة بسبب انشغاله بالأعمال المدرسية, إلّا أنَّ اللعب يظل له أهمية في جميع الأنشطة التي يقوم بها الطفل في هذه المرحلة؛ فخصوبة اللعب واتساع نطاقه يصل إلى قمته خلال هذه السنوات, وخاصة مع سعي الطفل المستمر لاستطلاع واستكشاف مجالات وصور جديدة للعب. وبالطبع, فإن صورة طفل "المدرسة الابتدائية" على أنه أكثر جدية وأكثر انشغالًا بالعمل, هي التي تدفع البعض إلى اعتبار اللعب في هذه المرحلة غير مفيد، بل ومضيَّعًا للوقت, إلّا أن هذا غير صحيح في ضوء النظريات والتفسيرات العديدة التي حاولت فهم قيم ووظائف اللعب في هذه المرحلة, وتشمل هذه النظريات "Bigner 1983" مفهوم اللعب كمتنَفَّسٍ مشروعٍ للطاقة الزائدة عند الطفل "هربرت سبنسر"، وكوسيلة للتعبير عن الانفعالات العميقة من خلال أنشطة مقبولة "سيجموند فرويد", وكخبرة يشعر فيها الطفل بالنمو الاجتماعي "ستانلي هول"، وكوظيفة للاستمتاع والسرور والسعادة "تشارلوت بوهلر", وكإعداد لأدوار الطفل في المستقبل، وخاصة دور الراشد "جروس"، وكعملية تعلُّمٍ تسمح للطفل بتنمية مهارات التفكير "جان بياجيه", ويضيف آخرون إلى هذه الوظائف تنمية الابتكارية وتشجيعها، والتدريب على العلاقات الاجتماعية بين الأشخاص, وغيرها من المهارات الاجتماعية، وبلورة سمات الشخصية ومفهوم الذات, واللعب أيضًا هو وسيلةٌ لخفض التوتر وتنمية الجسم الإنساني, ويزوّد موقف اللعب الأطفال بمعملٍ يمكنهم فيه اختبار قدراتهم في تفاعلها مع البيئة. وتُظْهِرُ أنشطةُ اللعب في هذه المرحلة التتابعَ الذي بدأ في مرحلة الطفولة المبكرة؛ فأنشطة اللعب الجماعية تتوازى مع التوجه المتزايد لدى الطفل نحو الأقران, وقدرته على التفاعل الفعَّال معهم في موقف جماعيّ, وتظهر قدرة الأطفال على اللعب في جماعات بين سن 5، 8سنوات، ويساير تطور جماعات

اللعب الخطوات التي تناولناها في وصف النموّ الاجتماعي. ويذكر بعض الباحثين "Bigner 1983" أن نمو اللعب يمر بالمراحل الأربعة الآتية: أ- الأنشطة البسيطة الحسية الحركية التكرارية. ب- اللعب الإنشائي أو الاستخدام الابتكاري للمواد. جـ- اللعب الرمزي والدرامي. د- الألعاب ذات القواعد. ويقل في هذه المرحلة النوع الأول من اللعب، ويظهر اللعب الإنشائي والذي يتمثَّلُ في صنع الأشياء كهدف في ذاته دون التفكير في استخدامها الفعلي، ويشيع بين الذكور التركيب باستخدام العدد والآلات، أما البنات فيفضِّلْنَ أنشطة تركيبية أكثر دقة مثل الخياطة, ويتناقص الاهتمام في هذه المرحلة تدريجيًّا بالرسم والتشكيل بالصلصال, ويزيد الاهتمام بالموسيقى والغناء, وتشيع هوايات الجمع "طوابع البريد، العينات، إلخ". أما بالنسبة للألعاب ذات القواعد, فمن المعتاد أن يزداد اهتمام الطفل بها بعد دخوله المدرسة تخلصًا من أنماط اللعب غير المميزة التي تسود في مرحلة الطفولة المبكرة, وحينما يصل إلى سن العاشرة أو الحادية عشرة تكون ألعابه من النوع التنافسيّ، ويتركز اهتمامه على المهارة والتفوق, وليس محض المتعة والسرور. وفي الأوقات التي لا يستطيع فيها الطفل أن يكون مع أصدقائه يقضي وقت فراغه من العمل المدرسي ومن المسئوليات المنزلية في ممارسة بعض الهوايات، وبالطبع ليس منها اللعب المنفرد, فقد يقرأ "بعد تعلم القراءة في المدرسة", أو يستمع إلى الراديو، أو يشاهد التليفزيون والفيديو، أو يذهب إلى السينما، أو يقضي وقته في أحلام اليقظة. وما يهمنا أن نشير إليه هنا هو نموّ هواية القراءة عند الطفل, لقد أُجْرِيَتْ دراساتٌ حول ما يفضله أطفال نهاية المرحلة الابتدائية من قصص، ومنها يتَّضِحُ أن الأطفال الأعضاء في جماعات الأقران "أي: أعضاء في جماعات زملاء لعب, وأصدقاء من نفس العمر" كانوا أقلَّ اهتمامًا بقصص الحيوان, وهذه النتيجة لها أهمية خاصة حينما نتذكر أن تفضيل قصص الحيوان وصوره هو خاصية من خصائص سلوك الأطفال الصغار, وبعبارة أخرى: يمكن أن نعتبره مؤشرًا للنضج السيكولوجي, ومعنى ذلك أن الأطفال الذين كانت لديهم القدرة على الاستقلال بأنفسهم في جماعاتٍ خارج الأسرة, يميلون إلى أن يكونوا أكثر نضجًا من أولئك الذين ليست لديهم القدرة على تكوين هذه العلاقات, كما تأكَّدَ أيضًا أن الفروق كانت أوضح عند البنات منها عند الذكور, وأن عدد البنات في هذا السن اللاتي فضَّلْنَ قصص الحيوان كُنَّ أقل من البنين, وهذا يعني أن البنات عند نهاية المرحلة الابتدائية يَكُنَّ أكثر نضجًا من الذكور من نفس العمر.

النمو الانفعالي والوجداني

النمو الانفعالي والوجداني: يكتشف طفل مرحلة الطفولة المتأخرة أن التعبير العنيف عن الانفعالات, وخاصة الانفعالات غير السارة, سلوك غير مُحَبَّذٍ اجتماعيًّا لدى أقرانه؛ فهم يعتبرون الانفعالات الحادة سلوكًا "طفوليًّا", واستجابة الانسحاب عند الخوف نوعًا من الجبن, وعلى ذلك يكون لدى الطفل دوافع قوية ليتعلَّم التحكم في التعبيرات الصريحة عن الانفعالات, إلّا أن مثل هذه الدوافع لا يكون عادةً قويًّا داخل المنزل, ولهذا كثيرًا ما نجد الطفل يعبر عن انفعالاته في البيت بقوةٍ كما كان يفعل في مراحل نموه السابقة, وعادةً ما تكون التعبيرات الانفعالية في هذه المرحلة من النوع السارِّ؛ كالضحك والقهقهة والجري والقفز والارتماء على الأرض, ورغم أن هذه التعبيرات الانفعالية "ليست ناضجة" بمعايير الكبار، فإنها تدل على أن الطفل سعيد ومتوافق, إلّا أن انفعالات الطفل في هذه المرحلة ليست كلها من هذا النوع، فقد تحدث حالات تقلب المزاج، وقد يعاني الطفل من القلق أو الإحباط, وعادةً ما تلجأ البنات إلى البكاء، أما الأولاد فََيَقِلُّ في هذا السن لجوؤهم إلى البكاء, ويظهرون بدلًا منه العبوس وتقطيب الجبين, والطفل الذي يشعر بأن لا مكان له في المدرسة -إما لأنه شديد التفوق أو شديد التخلف- والذي تكون بيئته الأسرية مقيدة لنشاطه, والذي يتوقع منه الآباء أكثر مما يستطيع، أو الذي تكون مستويات طموحه غير واقعية -وبالتالي يفشل- قد يعاني من الانفعالات غير السارة, وقد يؤدي إلى توافق سيئ في المنزل والمدرسة. والانفعالات الشائعة في هذ السن هي نفسها التي نجدها في مرحلة الطفولة المبكرة, إلّا أنها تختلف عنها في ناحيتين هما: طبيعة الموقف الذي يستثير الانفعالات, وصور التعبير عن هذه الانفعالات, وهذه التغيرات ناتجة عن اتساع خبرات الطفل, وتعلمه أكثر من أن تكون ناتجة عن زيادة النضج الفسيولوجي, فزيادة ذكاء الطفل واتساع خبراته يؤديان به إلى أن يفسِّرَ المواقف تفسيرات مختلفة عما كان يحدث في المرحلة السابقة، وبالتالي يستجيب لها استجابات مختلفة ناتجة عن اتصاله بأشخاص أكثر خارج نطاق الأسرة، مما يساعد على

اكتشاف كيف يشعر الناس المختلفون إزاء التعبيرات الانفعالية المختلفة, وسعيًا للحصول على التَّقَبُّلِ الاجتماعي يحاول أن يتعلَّم مسايرة هذه الأنماط الاجتماعية المقبولة للتعبير الانفعالي. وأشهر الانفعالات في هذه المرحلة هي الخوف والغضب والغيرة والاستطلاع والسرور. وبالنسبة لانفعال الخوف نلاحظ أنه في الوقت الذي تتناقض فيه المخاوف المستثارة من الأشياء المحسوسة, تزداد المخاوف من الأشياء المتخيلة ومن ذلك الظلام وما يرتبط به "كالجن والعفاريت"، والموت وما يرتبط به, وتظهر أنواع جديدة من المخاوف مثل: الخوف من أن يوصف الطفل بأنه "مختلف" عن أقرانه, فيتعرض للسخرية منهم, والخوف من الفشل في المهامِّ التي يقوم بها, وحتى لا تبدو عليه أعراض الخوف أمام أقرانه فيسخرون منه, يحاول الطفل في هذه المرحلة أن يتجنب قدر الإمكان أن "يُضْبَطَ متلبسًا بحالة الخوف". وعلى الرغم من أن الخوف انفعالٌ طبيعيٌّ عند الإنسان, إلّا أنه قد يتحول إلى خوفٍ مرضيٍّ أو رهاب "فوبيا" إذا زاد عن حدِّه, أو كان غير واقعيٍّ, أو غير مسيطر عليه؛ بحيث يستدعيه أو يستثيره موضوع أو موقف بذاته. وقد أُجْرِيَتْ دراسةٌ حديثةٌ قامت بها مها فؤاد أبو حطب "M Abou Hatab 1995" للحصول على الماجستير في الطب النفسي للأطفال Child Psychiatry لتحديد المخاوف المرضية الشائعة لدى أطفال المدرسة من سن 8-14 سنة من الجنسين, ومن المستويات الاقتصادية الاجتماعية المختلفة, وكانت عينة الدراسة مؤلفة من 460 طفلًا في المدى العمرية المشار إليه، من الجنسين "206 من الذكور، 254 من الإناث" من تلاميذ المدارس الابتدائية والإعدادية بمحافظة القاهرة, وكشفت الدراسة عن أن الأطفال من مختلف الأعمار يظهرون مخاوف مرضية من أشياء كثيرة؛ منها الظلام والأحلام المفزعة والكوابيس والموت والعقاب والامتحان والمدرسة, وعلى الرغم من وجود اختلافات بين الجنسين وبين المستويات الاقتصادية والاجتماعية في نوعية المخاوف, إلّا أن الجميع اتفقوا على الخوف من المدرسة والخوف من الامتحان, وهذه نتيجةٌ تستحق أن يضعها المربون في مصر موضع الاعتبار, حتى لا تصبح المدرسة مصدرًا للاضطراب النفسي للأطفال. وتظهر بوادر القلق في هذه المرحلة, وأهم مصادر القلق المشكلات المدرسية, والمشكلات المرتبطة بالتوافق الشخصي والاجتماعي والمشكلات الصحية, ويتغلب قلق المدرسة على غيره من مصادر القلق، وأشهر أنواعه قلق الاختبارات، والقلق

من التأخير عن المدرسة، والقلق من التخلف الدارسي, وبصفة عامة, فإن الأشياء التي تسبب للطفل القلق هي تلك التي لها أهميتها عند الوالدين أو عند جماعة الأقران, ويعتمد ذلك على النظام القيمي لدى كلٍّ منهما, ويزداد القلق العام لدى الطفل الأقل تقبلًا من أقرانه, وبصفة عامة يمكن القول أن القلق لدى البنات أكثر حدوثًا من البنين, ويزداد القلق مع نموِّ الطفل وزيادة الضغط عليه. أما بالنسبة للغضب: فإنه أكثر حدوثًا في هذه المرحلة من المرحلة السابقة؛ لأن طفل المدرسة الابتدائية لديه رغبةٌ أقوى في الاستقلال, وهذه الرغبة كثيرًا ما تتعرض للإحباط, ويشعر طفل هذه المرحلة بالغضب أيضًا حين يقاطع أثناء اندماجه في أداء أحد الأنشطة، أو حين يتعرض للنقد، أو حين تُجْرَى مقارنة غير عادلة بينه وبين غيره من الأطفال, كما يشعر بالغضب حين يُعَاقَبُ أو يُلَامُ على عملٍ يفعله، وحين يرى شخصًا يغش أو يظلم الآخرين، أو حين يُتَّهَمُ بالكذب. وبالنسبة لانفعال الغيرة: يلاحظ أن الطفل الذي يشعر بالغيرة من إخوته داخل المنزل, قد ينقل هذا الشعور إلى زملاء الفصل, وخاصة الذين يظهرون التفوق عليه, أو الشعبية دونه بين التلاميذ. أما عن انفعال الاستطلاع: فيتسم في هذه المرحلة بأنه أقلّ قوةً من المرحلة السابقة, وقد يرجع ذلك إلى أن معظم البيئة من حوله أصبحت مألوفة له, فإذا ظهرت في هذه البيئة أشياء جديدة, أو إذا أصبحت الأشياء الممنوعة في الماضي موضع اهتمامه في هذه المرحلة "كاللعب بالكبريت أو إشعال موقد الغاز", فإنها تستثير الاستطلاع فيه من جديد, ويستخدم في الاستطلاع طرقه السابقة؛ فهو يفحص الأشياء للكشف عن غموضها، وقد يفكها ليعرف كيف تعمل, وبالإضافة إلى هذا الاسكتشاف المباشر يلجأ طفل هذه المرحلة إلى الأسئلة لمزيد من المعرفة, وحين يصل الطفل إلى الصف الثالث الابتدائي يلجأ إلى القراءة, ومنذ ذلك الحين تزداد أهمية القراءة كمصدر للمعلومات, ولا يحب الطفل في هذه المرحلة أن يُقَبِّلَهُ أحد الوالدين أو يحتضنه وخاصة في وجود الآخرين, ويرفض أن ينادى باسم "الدلع". وبدلًا من ذلك يظهر الطفل مشاعره بشكل غير مباشر عن طريق البقاء مع من يحب, وأن يؤدي الأشياء التي يطلبونها منه، وأن يساعدهم قدر الإمكان, وتكون لديه شخصايته المفضلة بين الإخوة ورفاق اللعب وبين الوالدين. ويظهر الطفل انفعال السرور والفرح بالابتسام والضحك, ويزداد اهتمامه باللعب بالألفاظ وتذوق الفكاهة, وفي هذه المرحلة تنتاب الطفل فترات من الانفعالية العنيفة, وهي فترات عدم التوازن الناتج عن عدم الاهتمام به أو عن بعض الصعوبات التي يواجهها.

النمو الخلقي

النموّ الخلقي: يُولَدُ الحسّ الخلقي لدى طفل المرحلة السابقة "الطفولة المبكرة", حين يدرك أن أنماطًا سلوكية معينة تُصَنَّفُ على أنها صواب أو جيدة وتثاب, وأخرى خطأ أو سيئة وتعاقب, ومع نمو الطفل يؤلّفُ السلوك الخلقي مجموعة معقدة من الأفكار والقيم والمعتقدات. وفي مرحلة الطفولة المتأخرة يواجه الطفل أحد التحديات الهامة في حياته, وهو تنمية الضمير واكتساب قيم المجتمع التي يعتبرها هامَّة في ضبط السلوك, ويرى كولبرج "راجع الفصل الخامس" أن النمو الخلقي في هذه المرحلة له مستويان: أحدهما يظهر في أواخر الطفولة المبكرة ويستمر معظم مرحلة الطفولة المتأخرة, وهو الذي يسميه مستوى ما قبل العرف والتقاليد "أو ما قبل الأخلاقية", ويسود خلال الفترة من 4-10 سنوات, أما المستوى الثاني: فهو مستوى الالتزام بالعرف والتقاليد أو مستوى المسايرة. ويتأثر النظام الأخلاقي في هذه المرحلة بمعايير الجماعة التي ينتمي إليها الطفل, وهذا لا يعني أنه يرفض معايير الأسرة لصالح الشِّلَّةِ، وإنما يعني ببساطة: أنه لو كان عليه أن يختار فإنه يقبل معايير جماعة الأقران حين يكون مع الجماعة؛ كوسيلة للحصولِ على مكانة فيها, فإذا حدث أن الجماعة ككلٍّ تحبِّذُ نمط السلوك الذي يتعارض مباشرةً مع معايير الكبار, فإن الطفل يساير الجماعة. ولم تَعُدْ المفاهيم الأخلاقية عند الطفل ضيقة أو محدودة, كما كان الحال في المرحلة السابقة, إنه يعمِّمُ بالتدريج المفاهيم؛ بحيث تشير إلى أيِّ موقف مشابه, وليس إلى موقف بذاته, فقد يتعلم أن السرقة سلوك خاطئ بصرف النظر عَمَّا إذا كان الأمر يتصل بسرقة النقود أو ممتلكات الآخرين أو عملهم, كما هو الحال في الغش, وكذلك يعتبر الطفل الكذب سلوكًا خاطئًا, سواء كانت الكذبة تقال للوالد أو المعلم أو زميل الفصل, ونتيجةً لذلك يقلّ سلوك الكذب عنده إذا قورن بالمرحلة السابقة "معظم الكذب في المرحلة السابقة من نوع التخيل". وبوصول الطفل إلى نهاية مرحلة الطفولة يقترب نظامه الأخلاقيّ من مستوى الرشد، ويتفق سلوكه مع معايير الكبار, ويُلاحَظُ أن الأطفال ذوي الذكاء المرتفع يكونون أكثر نضجًا في أحكامهم الخلقية وسلوكهم الخلقي من ذوي الذكاء المنخفض, وأن الإناث بصفة عامة أكثر نضجًا من الوجهة الأخلاقية من الذكور.

ويعتمد نظام التدريب الخلقيّ على العناصر الثلاثة المتضمنة فيه, وهي: تعليم المفاهيم الأخلاقية, وعقاب السلوك الخاطئ المتعَمَّد، وإثابة السلوك الصائب، مع شيءٍ من التعديل يلائم الحاجات النمائية لأطفال هذه المرحلة. فالتعليم يجب أن يهتم بشرح الأسباب التي تؤدي إلى الحكم على بعض صور السلوك بأنها مقبولة أو مرفوضة, وطبيعة المكافأة أو الإثابة يجب أن تتفق مع المستوى العمريّ والنمائيّ للطفل, فمكافآت المرحلة السابقة قد لا تصلح مع طفل المدرسة الابتدائية, وتكون الغلبة للمكافآت اللفظية بدلًا من المكافآت المادية التي تصلح لمرحلة الطفولة المبكرة, وينطبق هذا المبدأ على أساليب العقاب, ومع ذلك, فإن من الملاحظ أن العقاب البدنيّ أكثر شيوعًا في المستويات الاقتصادية الاجتماعية الدنيا, وهو أسلوب أقل فعالية في تكوين الضمير أو الضبط الداخلي, أما الأطفال الذين يعاقبون لفظيًّا فإنهم لا يلجأون إلى أسلوب كبش الفداء؛ كالذين يعاقبون بدنيًّا، وقد يعانون من مشاعر الذنب والعار التي تُعَدُّ بداية تكوين الضمير.

نمو الشخصية

نموّ الشخصية: الأزمة الجوهرية التي يواجها الطفل في طور التمييز "طور المرحلة الابتدائية" هي تلك التي يسميها إريك إريكسون: أزمة الإنجاز والكفاءة في مقابل الشعور بالنقص، ولعلنا نذكِّرُ القارئ بأن هذا الطور هو الذي يقابل ما يسميه فرويد: "مرحلة الكمون"؛ فالطفل في هذا الطور يريد أن ينشغل بأنشطة كثيرة تحظى بانتباهه واهتمامه، كما يريد أن يمارسها مع أقرانه, ويرى إريكسون أن أطفال المدرسة الابتدائية يحتاجون إلى بعض اللعب واللعب الإيهامي, كما أنهم يستمتعون بهذا النشاط، ولكنهم يشعرون بعدم الرضا إذا بُولِغَ في هذا النشاط, ويرغبون في القيام بعمل "مفيد". إنهم يودون الحصول على التقدير من خلال إنتاج شيءٍ ما، وإحراز الرضا من خلال إكمال عملٍ ما بمثابرة واضحة, ومعنى ذلك: أن الطفل يجب أن يصبح قادرًا على القيام بالأعمال وصنع الأشياء بدرجة كافية من الجودة قد تصل إلى حَدِّ الكمال كما يراه, فإذا لم يشعر بالإنجاز فإن ذلك يقوده إلى تنمية مشاعر النقص وعدم الكفاءة, ومسئولية المعلمين في هذه المرحلة هي تهيئة خبرات نجاحٍ لكل طفل، ويَتَطَلَّبُ ذلك معرفة إمكاناته والتحكم في بيئته, إلّا أنّ ما يحذر منه إريكسون أن يصبح الإنجاز غاية في ذاته، إنه حينئذ يصبح معوقًا للنمو اللاحق للفرد. ولهذا فإنه لو استطاع الكبار أن يقدموا للطفل بعض الأعمال والمهام التي يستطيع إنجازها, والتي يعتبرها جذابة وذات قيمة، ولو استطاع الكبار أن يقدموا له

التوجيه اللازم لإكمال الأعمال وإتقانها, تكون لديه فرصة أفضل للخروج من مرحلة الكمون بشعور صحيٍّ بالكفاءة والمهارة, إلا أن الطفل الذي لم يحل حلًّا مناسبًا الأزمة السابقة، أو الطفل الذي لم تهيؤه أسرته جيدًا لحياة المدرسة، فإن هذه المرحلة تُحْدِثُ فيه شعورًا عكسيًّا، أي: الشعور بالعجز والنقص وعدم الكفاءة. وتنشأ مشاعر النقص أيضًا إذا كان ما تعلمه الطفل وأتقنه يعتبره المعلمون والأقران في الفصل غير ذي أهمية وقيمة. وعلى الرغم من أن هذا التحدي يُعَدُّ الاهتمام الرئيسي للأطفال خلال هذه المرحلة, فإنه توجد مهام نمائية إضافية تتم فيها أيضًا، وهذه المهام تؤدي إلى استكمال الشعور النامي بالذات، وإنجاز هذه المهام يعين على تنمية مفهومٍ صحيحٍ للذات. والشعور بالواجب والإنجاز والدأب الذي يتحدث عنه إريكسون, هو نتيجة للخبرات الناجحة التي يمر بها طفل هذه المرحلة, وهذا الاتجاه يمكن وصفه بطرق مختلفة منها ما يلي: أ- اتجاه موجب نحو العمل. ب- إتقان المهارات العقلية أو الاجتماعية التي تتوقع الثقافة من الأطفال في هذا السن أن يكتسبوها. جـ- القدرة النامية على تحمُّل الشخص لمسئوليات أفعاله وسلوكه. وباتساع العالم الاجتماعي للطفل بدخوله المدرسة, تبدأ عوامل لها أهميتها في التأثير على نموّ شخصيته؛ فمفهومه للذات يصبح في حاجةٍ إلى التعديل, لقد كان الطفل طوال الفترة السابقة من حياته يرى نفسه من خلال والديه فقط، ولهذا فإن مفهومه للذات قد لا يخلو من التحيز, والآن أصبح يرى نفسه من خلال معلميه وزملائه في الفصل والمدرسة وجيرانه, بل إن والديه أصبحا يستجيبان له بطريقة مختلفة أيضًا, ولأن اتجاه الطفل نحو ذاته يتأثر باتجاهات الأشخاص المهمين نحوه, فإن مفهومه لذاته يتكوَّن من تقديراتهم له, وأحكامهم عليه؛ فإذا كانت هذه التقديرات والأحكام إيجابية, يتكون لدى الطفل مفهوم إيجابي للذات لتقديرات الآخرين له مختلفًا عن تقديراتهم الحقيقية, ومع ذلك يقوم مفهومه لذاته على إدراكه هو لهذه التقديرات والأحكام, وليس على أساس حقيقتها, ولعل هذا ما يجعل الذات لها طبيعة فينومينولوجية "أي: على أساس الإدراك الشخصي أو الذاتي, وليس

الواقع الموضوعي", وطفل هذه المرحلة يميل إلى التفكير في نفسه كفردٍ متميزٍ ومختلف عن الآخرين, ولا تكون لديه أفكار واضحة ومحددة عن قدراته ونواحي قصوره, كما لا يكون متأكدًا من الطريقة التي يتقبله بها الآخرون, وبسبب هذه المشاعر الخاصة بانعدام الأمن يحاول الطفل أن يتَّبِعَ النمط المقبول لدى الجماعة التي ينتمي إليها, ويشكل نفسه في هذا النمط تشكيلًا كبيرًا قدر الإمكان. وحين تقترب هذه المرحلة من نهايتها, ويبدأ الطفل في تقدير البطولة كما تتمثَّل في الشخصيات التاريخية أو نجوم المسرح أو السينما أو عالم الألعاب الرياضية أو القادة السياسيين, يبدأ في تكوين مفهوم الذات المثالية، أي: نوع الشخص الذي يجب أن يكون عليه, وفي البداية يكون هذا المثل الأعلى منمطًا على أساس ما يوجد في عالمه الواقعي من آباء ومعلمين وغيرهم ممن هم في بيئته المباشرة, ولكن مع اتساع آفاقه تمتد مثله العليا ويصبح بعض الأشخاص الذين لا يعرفهم, ولكن يسمع عنهم أو يقرأ حولهم, هم نواة هذه الذات المثالية. ولأن الطفل في هذه المرحلة يقضي وقتًا أطول مع الأطفال الآخرين, فإنه يكون أكثر وعيًا بوجود بعض صفات الشخصية التي يقدِّرُها الأطفال الآخرون, ووجود صفات أخرى لا يحبونها. وبالطبع لكلِّ جنسٍ من الجنسين قائمة الصفات التي يقدرها, ويؤدي ذلك إلى تكوين عادات معينة ترتبط بجنس الطفل, وبذلك تلعب ضغوط الجماعة دورًا هامًّا في تشكيل شخصية الطفل، فيسعى إلى بناء شخصيته بالصورة التي تقبلها الجماعة على أمل أن يكسب الاعتراف والتقبل اللذين يسعى إليهما. وتتغير بالطبع المثل العليا لسمات الشخصية المقبولة بالتقدم في العمر, كما توجد فروقٌ في هذه السمات حسب المستوى الاقتصادي الاجتماعي, ومع ذلك توجد بعض السمات المشتركة؛ ففي جميع الفئات الثقافية نجد أن من المستحب أن يكون الولد أكثر عدوانية من البنت, كما أن الفروق الثقافية تتضح في درجة نمو المسئولية لدى الطفل, ومع التقدُّمِ في العمر, فإن شخصية الطفل تصبح أقل مرونةً وأكثر ثبوتًا في نمط محدد. وفي بداية حياة الطفل داخل المدرسة تظهر أعراض بعض اضطراب الشخصية, وقد تتزايد هذه الأعراض وتزداد سوءًا ما لم تُقَدَّمُ خدماتٌ علاجية, والصور الشائعة لأنماط الشخصية التي تنبئ باضطرابات في المستقبل هي ما يتميز بالانسحاب والاستثارة الشديدة ورفض السلطة ومقاومتها والاكتئاب المزمن والقلق المستمر.

دور المدرسة في طور التمييز

دور المدرسة في طور التمييز: طور التمييز -في الإطار الإسلامي- هو طور التأديب والتهذيب والتعليم المنظم, صحيحٌ أن كثيرًا من الأطفال في الوقت الحاضر يتعرضون لنوعٍ من التعليم المنظَّم في طور الحضانة "السابق على التمييز", إلّا أن فلسفة تعليم الطفل في مرحلة ما قبل المدرسة مختلفة ومتميزة عن تلك التي توجه المدرسة الابتدائية، وهذا يجعل خبرة الطفل مع هذه المدرسة خبرةً جديدةً حقًّا, ولعلنا نعيد الإشارة هنا إلى أن برامج دور الحضانة ورياض الأطفال يجب أن تعتمد على خبرات اللعب عند الطفل, وتركز برامجها حول حاجاته, وهذا الأسلوب من التعليم غير الرسميّ الموجَّه ذاتيًّا, يختلف عن التعليم المنظَّم الموجَّه بأهدافٍ تربويةٍ تعليميةس واضحةٍ في المدرسة الابتدائية. والسن الذي تحدده معظم النظم التعليمية الحديثة لدخول المدرسة الابتدائية، هو سن السادسة, وقد اقتبست معظم نظم التعليم في بلادنا العربية والإسلامية هذا المحك, وقد اعتمد ذلك على نتائج البحوث المبكرة التي ظلت لفترة طويلة تؤكد على السنوات الخمس الأولى من حياة الطفل باعتبارها مرحلة متميزة, تختلف عما يليها من سنوات الطفولة, إلّا أن نتائج بحوث النموّ الراهنة تؤكد لنا أن العمر الأكثر ملاءمة لتلقي التعليم المنظَّم هو سن السابعة, ويؤكد ذلك ما أوردناه في الفصل الحالي من شواهد من النموّ الجسمي والعقلي والمعرفي والاجتماعي والانفعالي وغيرها, وإذا عدنا إلى شريعتنا الإسلامية الغرَّاء سوف نجد أن سن السابعة -بإجماع الفقهاء- هو سن التمييز, وفي هذا دلالات إعجاز علمي جديد لشريعتنا السمحة, ولهذا فإن الأمر في رأينا يحتاج إلى نظر ٍجديدٍ أبسط إجراءاته الإدارية رفع سن القبول في المرحلة الابتدائية إلى سن السابعة, باعتباره أنسب الأعمار لبدء التعليم المنظم, ولعل هذا يحدث -في مصر خاصة- بعض المواءمة مع ما تقرر من خفض سن سنوات المرحلة الابتدائية إلى خمس سنوات؛ حيث ينتهي التعليم الأساسي بصورته الراهنة مع بلوغ الطفل سن 14 عامًا1, وهو عمر أصغر من حد بلوغ السعي "العمل وكسب العيش" كما سنبين فيما بعد. أما السنوات من سن الرابعة "حد الاستئذان" وسن السابعة "حد التمييز", فيمكن للطفل أن يقضيها في دار الحضانة أو روضةٍ للأطفال, بشرط أن تقوم هذه المؤسسات بدورها المناسب

_ 1 يوجد إتجاه قوي في الوقت الحاضر لمد مظلة التعليم الأساسي إلى نهاية المرحلة الثانوية, وقد يكون هذا أفضل حلّ تربوي يتجاوز ما يطالب به البعض من عودة الصف السادس إلى المرحلة الابتدائية، وهو الحل الذي يحبذه مؤلفا هذا الكتاب.

لسن ما قبل المدرسة, وألا تتحول إلى مرحلة جديدة لها خصائص التعليم المنظَّم، أو سنوات إعدادٍ وإجهادٍ للطفل تمهيدًا لدخوله مرحلة التعليم الأساسي، كما هو الحال الآن. ويقضي الطفل في المدرسة الابتدائية في مصر خمس سنوات، أي: أنه ينتهي منها مع مطلع البلوغ وبداية سن المراهقة, والسؤال الآن: كيف تؤثر هذه السنوات في طفل طور التمييز؟ الإجابة المباشرة والأكثر وضوحًا, أن هذه المدرسة هي المكان الذي يكتسب فيه الطفل الكثير من المعلومات والمعارف عن العالم من حوله، والكثير من المهارات التي تفيده في التعامل مع هذه المعلومات، والكثير من القيم والاتجاهات الدينية والاجتماعية والأخلاقية, فهو يتعلم كيف يقرأ ويكتب ويتكلم بطريقة صحيحة, ويشمل ذلك التهجّي الصحيح للكلمات, وبناء الجمل والفقرات والموضوعات, ويتعلم أيضًا كيف يجمع ويطرح ويضرب ويقسم ويتعامل مع الكسور, كما يتعلَّم حقائق العلم والتاريخ والجغرافيا والأدب، ويتذوق فنون الرسم والموسيقى، ويمارس النشاط البدني بطريقة منظمة، كما يمارس بعض المهارات العملية المفيدة, ويتعرف على بعض مظاهر تكنولوجيا العصر "كالكومبيوتر", ومع إنهاء الطفل لهذه المرحلة، ببلوغه سن الحادية عشرة تقريبًا, يكون قد اكتسب معظم المهارات والمعلومات والاتجاهات التي لا بُدَّ له منها في حياته اليومية. وعلى الرغم من أن هذه المعلومات والمهارات لها أهمية كبيرة في تحديد مستقبل نموّ الطفل, إلّا أنَّ النظام المدرسي الذي يتعرض له الطفل خلال هذا الطور قد يكون أكثر أهمية؛ فالمدرسة تزوّد الطفل بقواعد النظام والاستقلال والتقويم، كما تهيئ له التعامل مع قيم المجتمع الذي يعيش فيه, وأخصها قيم المجتمع العربي الإسلامي الذي يعيش فيه الطفل, والتي توجه سلوكه في المستقبل، وهو دور لا يزال مفقودًا في المدرسة العربية الحديثة.

الباب الرابع: المرحلة الأولى لنمو الإنسان أطوار المراهقة والشباب

الباب الرابع: المرحلة الأولى لنمو الإنسان أطوار المراهقة والشباب مدخل ... تمهيد للباب الرابع: أهمية أطوار المراهقة والشباب يُعَدُّ تخصيص مرحلة خاصة في النموّ الإنساني تسمى مرحلة المراهقة والشباب اختراعًا اجتماعيًّا ولغويًّا حديث العهد, فمنذ عهد قريب كان التوحيد بين البلوغ الجنسي والرشد شائعًا, إلّا أنه منذ نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وظهور تغيرات اجتماعية وثقافية عديدة في المجتمع الحديث, تَطَلَّبَ الأمر تناول مرحلة خاصة للنمو الإنساني بين هذين الحدثين، نقصد: البلوغ الجنسي والرشد, ويعود الفضل إلى ج. ستانلي هول مؤسس علم نفس النمو في اقتراح المصطلح الذي يدل على هذه المرحلة, وهو Adolescence1 في اللغة الإنجليزية. وأجرى بحوثه المبكرة في مجال النموّ في هذه المرحلة بالفعل, ونشرها في كتابٍ شهير من مجلدين عام 1891, وشاعت أفكاره حول طبيعة المراهقة, وظلت مسيطرة على الميدان لفترة طويلة من الزمن. لقد اعتمدت أفكار ستانلي هول -كما بينا في الفصل الثاني- على نظرية التطور لداروين وخاصة مفهوم "التلخيص", والذي يعني أن الأفراد يمرون خلال مراحل النمو ما يعكس التطور الاجتماعي للجنس البشري, والنمو من الميلاد إلى النضج يتبع نمط النمو الاجتماعي من البدائية إلى التحضر, وفي هذا السياق تكون المراهقة -في رأيه- مرحلة "الضغوط والعواصف" التي تعكس خصائص مراحل الانتقال المضطربة في تطور المجتمعات البشرية, وفي رأيه أن البيئةَ لا تؤثِّرُ في الميكانيزمات ذات الطبيعة البيولوجية, والتي تتحكم في التغيرات التي تحدث في المراهقة, وهو الرأي الذي تحدّاه أصحاب وجهة النظر البيئية, وأكدت بحوثهم أن المراهقين في الثقافات المختلفة يتعرضون لخبرات مختلفة، ولعل أشهر هذه البحوث ما قامت به عالمة الأنثروبولوجيا مارجريت ميد, ففي بعض المجتمعات يعزى للأطفال بعض أدوار الراشدين, وفيها يتحدد الرشد بالبلوغ الجنسي, ولهذا يرى البعض أن مفهوم المراهقة بمعناه وخصائصه وحدوده الزمنية صنعته ظروف المجتمع الصناعي الحديث بتعقده وتركيبه, ولا ندري ماذا سيحدث في المستقبل في المجتمعات التي يطلق عليها توفلر مجتمعات "الموجة الثالثة" في عصر ما بعد

_ 1 الأصل اللغوي لهذه الكلمة هو الفعل اللاتيني Adolesscere, ومعناه: "أن ينمو" أو "يتحول إلى النضج".

الصناعة, وقبل ذلك لم تكن هذه الفترة الانتقالية موجودة؛ ففي المجتمعات الريفية الزراعية, ومجتمعات المدن الصغيرة التي تسودها حضارة الموجة الأولى "كما يسميها توفلر" كان الأطفال حالما يبلغون السن الذي يستطيعون فيه من الناحية الجسمية أداء الأعمال والمهن, يتم الاعتراف بهم كراشدين، وتُوكَلْ إليهم المسئوليات, ويكلفون بالواجبات, ويعطون الحقوق والامتيازات التي يحظى بها الكبار, بل إن بعض الأطفال ما بين سن 7سنوات وقبل البلوغ كانوا يمارسون النشاط المهني, ويدخلون عالم العمل على نحوٍ أذاب الحدود بين عالم الرشد وما قبله "Conger Peterson 1984". أما في المجتمع الصناعي الحضري الحديث الذي أنتجته الموجة الثانية من الحضارة "على حَدِّ تعبير توفلر أيضًا" فقد حدثت تغيرات في حياة الأسرة, وتغيرت النظرة إلى الطفل وإلى عملية نموه تبعًا لذلك, واعتُبِرَتْ المراهقة فترة إعدادٍ لدور الرشد التالي, وتطلَّبَ ذلك ظهور النظم التعليمية الحديثة التي أدت بدورها إلى إطالة فترة الإعداد هذه، ومع إطالة هذه الفترة تزداد اعتمادية الفرد, ويؤجل بلوغه مرحلة الرشد، ويظل في هذه المرحلة الانتقالية التي لا يكون فيها طفلًا ولا راشدًا، ثم يزداد وضعه غموضًا حين يعامل كطفلٍ, ومع ذلك فعندما يتصرف كطفلٍ يُلامُ على ذلك, وعمومًا فإن المراهقة هي إعداد للرشد, وهي مرحلة تحل فيها اتجاهات الكبار وتصرفاتهم محل التصرفات الطفلية السابقة. وهكذا تطلَّب الأمر الانتظار حتى نهاية القرن التاسع عشر ليظهر الاهتمام الحديث بالمراهقة كمرحلة هامة اجتماعيًّا وسلوكيًّا, وأسباب ذلك كما بينَّا ديموجرافية وثقافية؛ فإدراك المراهقة كمرحلةٍٍ متميِّزَةٍ في النمو الإنساني اعتمد على وجود جماعة من الأفراد في مرحلة ما قبل الرشد وبعد البلوغ الجنسي, تجمعهم خبرات مشتركة تجعل منهم نهايةً لمرحلة الطفولة. أما من الناحية الثقافية, فقد شهدت أواخر القرن التاسع عشر زيادة الهجرة إلى المدن ونموّ التصنيع, وعلى الرغم من أن معظم المراهقين استمرّ في العمل إلّا أن طبيعة العمل بدأت تتغير, فمع نموّ الميكنة ازداد تقسيم العلم وضوحًا, وأدرك المراهقون أن الأعمال الأقل مهارة لا تحمل أملًا في رفع المستوى الاقتصادي, بينما الأعمال الأكثر تعقيدًا والتي كان يتزايد عددها تحمل أملًا أكبر، إلّا أن هذه الأعمال الجديدة تَتَطلَّبُ نضجًا أكثر وتعليمًا أرقى, وهنا ظهرت الحاجة إلى إطالة فترة التعليم وإرجاء سن دخول العمل والزواج, وتكوين الأسرة, وكانت الطبقات

الأكثر استفادة من التطور الجديد الطبقة العليا في المجتمع، ثم الطبقة الوسطى النامية حينئذ؛ لأن الثروة المتاحة وحجم الأسرة المحدود سمح لهم بما اعتُبِرَ "استثمارات" في التعليم من أجل المستقبل, ثم انتقل ذلك إلى الطبقات الأخرى مع شيوع التعليم الإلزامي والمجاني، إلّا أن هذا لم يحدث إلّا بعد ثمنٍ فادحٍ من تشغيل الأطفال والنساء في الأعمال الشاقة, والذي كان في ذاته أحد الثمار المرة للثورة الصناعية, وكان من نتائج ذلك الزيادة السريعة في عدد المدارس والكليات والجامعات، وسرعان ما أصبحت هذه المؤسسات أكثر تنظيمًا، كما ازدادت مطالبها وتعددت مستوياتها, وهكذا تهيأت الظروف طوال النصف الأول من القرن العشرين للتحديد الواضح لمرحلةٍ واضحةٍ في نموّ الإنسان, هي مرحلة المراهقة التي لم تَعُدْ محض نهاية للطفولة, وإنما أصبحت طليعةً لمرحلة أخرى إضافية, هي مرحلة الشباب, والذي تحددت معالمه خاصة منذ أواخر الستينات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين, فيما أطلق عليه "ثقافة الشباب"، ولو أن القرآن الكريم قد نبه منذ أربعة عشر قرنًا إلى ذلك فيما أسماه "بلوغ السعي" كما سوف نبين فيما بعد. من العرض السابق يتبين أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الحديثة أدت إلى ظهور جماعة المراهقة، ومع مزيدٍ من التعقد في ظروف المجتمع ظهرت جماعة الشباب، وهكذا ظهرت جماعتان تمثلان طورين "انتقاليين" في عمر الإنسان قبل تحوله الرشد, وهيأ ذلك كله الظروف للبحث حول الطبيعة السيكلولوجية لهاتين الفئتين العمريتين، وطرق توجيهما ووسائل التنبؤ بمستقبلهما. وكل هذه المسائل تغيرت مع مرور الزمن ومع تغير المجتمعات ذاتها، إلّا أن المهم أن نقول: إنه مع مطلع القرن العشرين بدأ "عصر المراهقة" بالمعنى الحديث للكلمة. أما الوعي الاجتماعي بمسألة الشباب فلم يظهر بشكلٍ جادٍّ إلّا بعد الحرب العالمية الثانية, ثم وصل إلى قمته في تمرد "صراع الأجيال" الذي شهدته الستينات, ثم ظهر منذ أواخر السبعينات اهتمام جديد سنتناوله بالتفصيل فيما بعد, وهو الاهتمام بالشيخوخة, وهكذا يمكننا القول أنه إذا كان القرن التاسع عشر هو "قرن الطفولة", فإن النصف الأول من القرن العشرين هو "عصر المراهقة"، وعقدي الستينات والسبعينات فيه هما "زمن الشباب". أما فترة أواخر هذا القرن فربما يسودها استشراف خصائص المرحلة الثالثة في نمو الإنسان، أي: شيخوخته. وإذا كانت المراهقة تتحدد بدايتها بوضوح بالبلوغ الجنسي, فإن نهايتها التي تتحدد ببلوغ السعي, ثم الرشد أقل وضوحًا للأسباب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أوضحناها, وقد نبَّه الفقه الإسلامي إلى هذه الحقيقة السيكلوجية

الهامة في إشارته إلى ضرورة أن يُؤْنَسَ الرشد في الإنسان حتى تكتمل له أهلية الأداء المدنية، ويرجع ذلك إلى الاختبار والتجربة، ولهذا السبب لم يحدد جمهور فقهاء المسلمين سنًّا معينة مطلقة لبلوغ كلٍّ من السعي "الشباب" والرشد، وترك الأمر للظروف الاجتماعية والنفسية المتغيرة "راجع الفصل الثالث". وحتى نضع الظروف التي تعرَّضَ له المجتمع الإنساني الحديث في الاعتبار ونحن نتناول مرحلتي المراهقة والشباب, لا يمكن لنا القفز مباشرة الآن من البلوغ الجنسي إلى الرشد, ولهذا نقسِّمُ هذه المرحلة إلى طورين رئيسيين ملتزمين بالإطار الإسلامي: 1- طور بلوغ الحلم "المراهقة": وتشمل بداية واكتمال التغيرات الجسمية المرتبطة بالبلوغ الجنسي, وتنتهي في حوالي الخامسة عشرة, وتشمل المرحلة التعليمية التي تسمى المرحلة الإعدادية, أو المرحلة المتوسطة, أو المرحلة الثانية من التعليم الأساسي, أو المرحلة الأولى من التعليم الثانوي, حسب أحوال النظام التعليمي وطبيعته. 2- طور بلوغ السعي "الشباب": وهي تسميةٌ أفضل من التسمية الشائعة باسم المراهقة المتأخرة، وتبدأ مع اكتمال التغيرات الجسمية, وتمتد إلى سن الرشد الحقيقي "18عامًا", أو القانوني "21عامًا", وتشمل المرحلة الثانوية، وقد تمتد إلى المرحلة الجامعية حسب مؤشرات الاستقلال السيكولوجي "التي تدل على الرشد" التي يبديها الفرد, وتسمية هذا الطور بالوصف القرآني البديع "بلوغ السعي", يحمل معنى إمكان سعي الشباب في أمور دنياه كسبًا لعيشه إذا لم يشأ إكمال تعليمه, ثم إنه يحمل تضمينًا هامًّا حول توجيه طبيعة التعليم في هذا الطور؛ بحيث يحقق للشباب السعي أيضًا في أمور دنياه, وهي مسألة هامَّة سنتناولها بالتفصيل عند عرضنا لهذا الطور في النمو الإنساني, ومعنى ذلك أن هذا الطور هو في واقع الأمر في منزلة بين المراهقة والرشد.

الفصل الثالث عشر: طور بلوغ الحلم"المراهقة"

الفصل الثالث عشر: طور بلوغ الحلم "المراهقة" البلوغ الجنسي: يعتبر بلوغ الحلم أو البلوغ الجنسي حدثًا هامًّا في حياة الإنسان حين يتغير الفرد من كائنٍ غير جنسيٍّ إلى كائن جنسي, وهي فترة قصيرة تتداخل مع نهاية الطفولة, وتمتد إلى بداية المراهقة, ويسمي بعض العلماء بداية البلوغ فترة "قبيل المراهقة", وحيث إنه من المعتاد الفصل بين الطفولة والمراهقة بوصول الطفل إلى النضج الجنسي, فإن فترة البلوغ هي فترة تداخل، وفيها لا يعتبر الطفل نفسه طفلًا بسبب ما يطرأ على جسمه من تغيرات جسمية وفسيولوجية سريعة, ومع ذلك يُنْظَرُ إليه على أنه لا يزال طفلًا, وخاصة من جانب الوالدين والمعلمين, وعادةً ما يؤدي ذلك التناقض إلى الاضطراب, وإلى الشعور بعدم الأمن, وفي كثير من الأحيان إلى سلوك غير مرغوب فيه. ولقد كانت ولا تزال لهذا الحدث أهمية في الجماعات البدائية التي تقوم بعملية "تدشين الشباب" مع البلوغ؛ لأنه مقبل على واجبات النضج والتزاماتها, سواء أكانت رجولة أم أنوثة, وفي المجتمعات الحديثة يتوقع الناس أيضًا من الفتى أو الفتاة سلوكًا مختلفًا ببلوغه النضج الجنسي. وتوجد محكَّات عديدة تُسْتَخْدَمُ في تحديد بداية البلوغ ومرحلة النمو التي يصل إليها الطفل عنده, ومن هذه المحكات عند البنات الطمث "الحيض" لأول مرة, إلّا أن هذا المحك لا يُعَدُّ بداية أو نهاية التغيرات الجسمية الهامة التي تحدث مع البلوغ، فقبل حدوثه تكون الأعضاء الجنسية قد بدأت في النمو، كما تكون الخصائص الجنسية الثانوية قد بدأت في الظهور، وتستمر هذه التغيرات في الحدوث لفتراتٍ مختلفة بعد ظهور الطمث الأول, ولهذا يرى بعض الباحثين اعتبار هذا المحك نقطة متوسطة في حدث البلوغ الجنسي عند البنات Hurlorck 1980". أما محك البلوغ الجنسي عند الذكور فيتحدد بإفراز السائل المنوي لأول مرة.

وهو حدث يتمُّ تلقائيًّا، وأثناء نوم الطفل في معظم الحالات, وبلوغ الحلم عند البنين مثل الطمث الأول عند البنات تسبقه بعض التغيرات الجسمية الهامة، وبالتالي لا يُعَدُّ في ذاته محكًّا دقيقًا لبداية البلوغ, وإذا ظهرت هذه التغييرات على الطفل سواء كان ذكرًا أو أنثى, فإنه يكون قد بلغ مرحلة النمو التي يسميها القرآن الكريم "بلوغ الحلم". ومن الطرق المستخدمة في تحديد البلوغ, التحليلُ الكيميائيُّ لعيناتٍ من البول عقب الاستيقاظ من النوم مباشرة, وهذا أسلوب دقيق على الرغم من صعوباته, ويحلل بول الذكور لمعرفة مدى وجود الحيوانات المنوية فيه، وتحديد مقدار ما يوجد فيه من مادة الكرياتين وهورمون الأندروجين, ومادة الكرياتين توجد عادةً في بول الذكور قبل النضج الجنسي، فإذا وجدنا أن بول الطفل أصبح خاليًا من هذه المادة, نستنتج من ذلك بلوغه الجنسي, أما هورمون الأندروجين "وهو الهورمون الجنسي عند الذكور" فهو لا يوجد عادةً في البول قبل سن 1/2 12 سنة, ويُحَلَّلُ بول الإناث لمعرفة مقدار ما فيه من هورمون الأستروجين "وهو الهورمون الجنسي الأنثوي", وعادة ما يزيد مقدار هذا الهورمون في بول البنت بعد بلوغها سن الحادية عشرة. وتوجد طريقة أخرى في تحديد البلوغ, تتمثل في استخدام أشعة أكس في تصوير أجزاء مختلفة من الجسم, وتدل صور اليدين والركبتين على تحديد بدء البلوغ ومعدل حدوثه، كما تفيد صور اليد والرسغ في التنبؤ بالعمر الذي يحدث فيه الطمث عند البنت, وحين تستخدم هذه الطريقة مع الأطفال في المدرسة الابتدائية يمكن التنبؤ بالبلوغ الجنسي المبكر أو المتأخر, وهذه الطريقة هي أكثر الطرق دقةً، على الرغم من أنها، كطريقة التحليل الكيميائي للبول، تكتنفها صعوبات عملية تحول دون استخدامها على نطاقٍ واسع. والشائع في الوقت الحاضر تحليل البلوغ الجنسي إلى ثلاثة أحداث متتالية: بدء ظهور الخصائص الجنسية الثانوية دون نضوج للوظيفة التناسلية، ثم استمرار نموّ الخصائص الجنسية الثانوية دون أن تكتمل مع إنتاج الخلايا الجنسية في الأعضاء التناسلية، وأخيرًا حين يكتمل نمو الخصائص الجنسية الثانوية مع ممارسة الأعضاء الجنسية لوظائفها بشكلٍ ناضجٍ تمامًا. ويصعب أن نحدد تحديدًا دقيقًا سن البلوغ الجنسي, أو بلوغ الحلم؛ لأن النضج الجنسي يختلف من فرد لآخر, وعمومًا يمكن القول أن النبات يصلن إلى النضج

الجنسي مبكرين عن الذكور بعامٍ أو عامين في المتوسط, ومن العوامل المسئولة عن هذه الفروق سرعة نموّ الجهاز العصبي لدى الإناث. وتُوجَدُ فروق بين الأفراد "داخل الجنس الواحد" في سن البلوغ الجنسي, والاختلافات التي تنشأ في ذلك ترجع إلى الاختلافات في سرعة نشاط الغدد الصماء المسئولة عن بداية التغيرات التي تحدث في هذا السن, ويتأثر ذلك بدوره بعامل الوراثة, وبالظروف الصحية العامة للفرد, وطبيعة الغذاء؛ فالتغذية التي تسودها البروتينات تؤدي إلى الإسراع بالبلوغ عند البنات, أما التغذية التي تسودها الكربوهيدرات فتؤدي إلى تأجيل النضج, كما أن البنية الجسمية للطفل تؤثر في تحديد سن نضجه الجنسي, أضف إلى ذلك أن بعض الأمراض المزمنة "كالسكر" تؤجل البلوغ الجنسي.. ويبلغ أطفال المناطق الجغرافية الحارة والمعتدلة أسرع من أطفال المناطق الباردة, كما أن الأطفال الذين يعيشون في البيئات الحضرية يبلغون أسرع من أطفال الريف, بسبب الاستثارة الثقافية. ومن الأدلة على أن الظروف الثقافية والاجتماعية تؤثر في سن البلوغ الجنسي, ما حدث في الغرب من خفض سن بداية الطمث من 17سنة في أوربا عام 1850, إلى 14،5 سنة في الولايات المتحدة عام 1900، وذلك بسبب التحسُّن في الأحوال الصحية والغذائية للأطفال, وقد استقرَّ هذا السن في أوربا طوال السنوات الأربعين الماضية عند سن يتراوح بين 12،5، 12،8 سنة, مما يدل على وصول الأحوال الصحية والغذائية إلى حدِّها الأمثل في هذه الأقطار Schuster" "Ashburn 1992" وتُوجَدُ أدلةٌ على ضرورة وصول وزن البنت إلى مقدارٍ يتناسب مع الطول لبدء البلوغ الجنسي، ويتمثل ذلك في التناسب بين وزن الجسم ومقدار الدهون فيه, ويفسِّر ذلك تأجيل الطمث لدى البنات اللاتي يمارسن الأنشطة البدنية العنيفة؛ مثل: رقص الباليه والسباحة والجري, إلى سن 15 سنة "Roy Benner 1986". وتفسر نظرية "الحد الحرج من الدهون" في الجسم, السبب في تأجيل البلوغ الجنسي لدى الإناث اللاتي يعشن في ظروف الفقر، كما تفسر خفض هذا السن في المجتمعات الصناعية المتقدمة. وعمومًا فإن ظهور الطمث لدى البنت يكون بين سن 9،5، 15،5 سنة, بمتوسط 12،5, ويُعَدُّ ذلك المدى العادي للبلوغ الجنسي لدى الإناث، ولو أن

ظهوره قبل سن 11سنة يُعْتَبَرُ مبكرًا, أما بالنسبة للذكور فإن سن البلوغ كما يتحدد ببدء إفراز السائل المنوي فيمتد بين 11،5، 17،5 سنة بمتوسط يبلغ 14،5سنة, ويوضح الجدول "13-1" ذلك. "جدول "13-1" حدود البلوغ الجنسي للذكور والإناث ويحتاج المراهق إلى فترة 3 سنوات في المتوسط حتى يكتمل لديه النضج الجنسي, وهي الفترة التي يحددها نظام التعليم الحديث بالمرحلة الإعدادية أو المتوسطة، ولهذا فإن هذا التنظيم أكثر اتفاقًا مع الحقائق السيكولوجية من أيّ نظام بديلٍ يعْتَبِرُ هذه المرحلة جزءًا من المرحلة التالية "المراهقة المتأخرة أو الشباب", بدمج المرحلة الإعدادية "المتوسطة" في المرحلة الثانوية، أو جزءًا من المرحلة السابقة "الطفولة المتأخرة", بدمج المرحلة الإعدادية في المرحلة الابتدائية، وهو البديل الذي طرأ على التعليم المصري "وبعض نظم التعليم الأخرى في العالم العربي" في السنوات الأخيرة, فيما يُسَمَّى التعليم الأساسي, وهو نظامٌ كان فيه من التسرع والغفلة عن حقائق النمو الإنساني مما يدعو إلى تعديله, والعودة إلى البديل الصحيح.

النمو الجسمي

النمو الجسمي: مع البلوغ تحدث طفرة كبيرة في النمو, ويُعَدُّ البلوغ ثاني فترةٍ يحدث فيها أسرع تغيرات جسمية، وأولها مرحلة ما قبل الولادة, والنصف الأول من العام الأول بعد الولادة, ولذلك شاع وصف المراهقة بأنها مرحلة "انفجار في النمو"، وهو انفجار يحدث قبل البلوغ أو يتزامن معه، ويستمر لمدة عام أو عامين "تبعًا للفروق الفردية" قبل أن يصل الفرد إلى النضج الجنسي، ثم يستَمِرُّ لفترةٍ تمتد من ستة أشهر إلى عام كامل بعد ذلك. ومعنى ذلك: أن فترة التغير السريع تمتد لحوالي ثلاث سنوات تؤلف في مجموعها مرحلة المراهقة. ويحدث مع البلوغ أربعة تغيرات جسمية هامة, تشمل حجم الجسم، ونسب أعضاء الجسم، ونموّ الخصائص الجنسية الأولية، ونموّ الخصائص الجنسية

الثانوية, وبعد اكتمال هذه التغيرات يتحول جسم الطفل الذي كان عليه طوال المراحل السابقة إلى جسم الراشد الذي سيصير إليه طوال مراحل عمره التالية. وتأتي التغيرات في حجم الجسم من التغيرات في الطول والوزن, ويحدث الانفجار في نموّ الطول قبل الوزن, وأكبر زيادةٍ في الطول تحدث قبيل بداية البلوغ, وتكون فترة النمو السريع هي العام السابق عليه. ولا تُعَدُّ الزيادة في الدهون المصدر الوحيد لزيادة الوزن في المراهقة عند الذكور، وإنما يضاف إلى ذلك الزيادة في أنسجة العظام والعضلات؛ فعند البلوغ تنمو العظام أسرع, وتتغير في الشكل والنسب والبنية الداخلية "حيث تصير أكبر صلابة", وتؤلف العضلات 45% من وزن الجسم "وكانت في مرحلة الطفولة لا تزيد عن 25%", وأكبر زيادة في العضلات تحدث خلال الفترة من 12-15 سنة. وتصاحب التغيرات في الطول والوزن تغيرات في نسب الحجم، فتصل الأنف والرأس واليدان والقدمان إلى حجمها الكامل أولًا, وتنمو الأذرع والسيقان أسرع من الجذع، وهو آخر ما يكتمل نموه, وتؤدي هذه الفروق في معدل نمو أجزاء الجسم إلى مشاعر مؤقتة بالصعوبة والحرج, وأحيانًا يشعر المراهق بأن يديه وقدميه أطول من اللازم, ويظل الأمر كذلك طوال فترة المراهقة, ولا يصل الجسم الإنساني إلى نسبه المعتادة التي نلاحظها في الراشدين إلّا في مرحلة بلوغ السعي أو الشباب. وتظهر بوضوحٍ الفروق بين الجنسين في شكل الجسم, صحيحٌ أن بعض هذه الفروق تظهر في الطفولة حين تتراكم الدهون في بعض أجزاء جسم البنت أكثر من الولد, إلّا أن هذه الخاصية تزداد وضوحًا وتحديدًا مع البلوغ, وعلى العكس من ذلك, يزداد جسم الذكور كثافةً مع زيادة حجم العظام وكثرة أنسجة العضلات, كما تزداد الأكتاف لديهم عرضًا, ونتيجةً لذلك يصبح الفتى أقوى من الفتاة "وخاصة بالنسبة للجزء العلوي من جسمه", ومن الأسباب الأخرى التي تعطي للذكور قوةً جسميةً بالنسبة لحجم الجسم في هذه المرحلة الزيادة في نمو القلب والرئتين، وزيادة ضغط الدم، ونموّ القدرة على نقل الأوكسجين إلى الدم، وانخفاض معدل نشاط القلب عند الراحة, كما أنهم يكونون أكثر مقاومةً للتعب الناتج من التدريب "Mussen et al 1984". ومع تَقَدُّمِ البلوغ يزداد عدم التشابه بين الفتى والفتاة في المظهر، والسبب

في ذلك هو النمو التدريجي للخصائص الجنسية الثانوية, والتي تُمثِّلُ السمات الجسمية التي تميز الذكر عن الأنثى؛ ففي الذكور يصير الصدر مسطحًا ويظهر شعر العانة، ثم شعر الإبط وشعر الوجه "الذقن والشارب"، ثم شعر الجسم "الذراع والساق والكتف والصدر", وتنشط الغدد الدهنية مع المراهقة, وقد يؤدي ذلك إلى ظهور حب الشباب, كما تطرأ تغيرات على صوت الولد, ويتحول إلى نوع الخشونة غير الكاملة, تجعله في منزلةٍ متوسطةٍ بين صوت الطفولة الناعم وصوت الرجولة الخشن. أمَّا في الإناث فتزداد الأرداف عرضًا واستدارةً نتيجة اتساع عظام الحوض, وزيادة سمك الطبقة الدهنية تحت الجلد, وينمو الصدر ويزداد كبرًا واستدارة, كما يزداد الصوت نعومة, أما الخصائص المشتركة بين الجنسين فهي ظهور شعر العانة وشعر الإبط, ونشاط الغدد الدهنية وما تسببه من ظهور حَبِّ الشباب. وعلى عكس التغيرات السريعة في بنية الجسم ووظائفه مع البلوغ, فإن الجهاز العصبي المركزي يكون قد وصل إلى اكتمال نموِّه تقريبًا في سن العاشرة، ولذلك لا يطرأ على هذا الجهاز أيِّ تغيُّرٍ مفاجئٍ مع المراهقة. أما الزيادة التدريجية في نمو التحكم في المهارات الحركية الدقيقة وفي النشاط العضلي "كما سنوضح فيما بعد" فيبدو أنها ترجع إلى التعليم والتدريب والممارسة. ومن حقائق النمو الإنساني أن المراهق قادرٌ على أداء أيِّ مهارةٍ يمارسها الراشدون، إلّا أن السياق الاجتماعي والأسري يحدد أيّ المهارات يستحق التقدير والتعزيز, فإذا علمنا أن المراهق في الأغلب يكون منخرطًا في مراحل تعليميه حاسمة, نجد أن القيم الاجتماعية السائدة المرتبطة بتقدير أو عدم تقدير ما تقدمه المدرسة يؤثر في نشاط المراهق, ومن ذلك مثلًا المبالغة في تقدير المواد الأكاديمية على حساب مواد الأنشطة والفنون والموسيقى، كما هو الحال في منظومة التعليم الحالية في مصر. أثر التغيرات الفسيولوجية والجسمية أثناء البلوغ في السلوك: يصاحب النموّ السريع والتغيرات الجسمية في هذه الفترة أعراضٌ غير ملائمة؛ كالتعب والكسل, وعادةً ما يقع الآباء في خطأ أن يتصوروا أنه ما دام الطفل صار كبيرًا جسميًّا على النحو الذي أصبح عليه في سن البلوغ, فإنه يمكنه القيام

بمسؤلياتٍ أكبر مما كان يستطيع في طفولته, وقد يحدث نفس الشيء في المدرسة, مع أنه في مرحلة نموٍّ يكون فيها أقل قدرة على القيام بهذه المسئوليات بنجاح, وقد يؤدي ذلك به إلى العصبية والتوتر والانفعالية العامة. وعادةً ما تحدث في هذه الفترة اضطرابات في الجهاز الهضمي ينتج عنها تذبذب في سرعة التحول الغذائي, والسبب في ذلك التغيرات الغدِّيَّة والتغيرات في حجم وموضع الأعضاء الداخلية في الجسم, وهذه التغيرات قد تتداخل مع وظائف الهضم, كما أن فقر الدم "الأنيميا" شائع الحدوث في هذا السن, ليس بسبب التغيرات الملحوظة في كيمياء الدم, وإنما بسبب عادات الطعام غير المستقرة لدى المراهق, وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة الشعور بالتعب والكسل. ويعاني المراهق على فترات متقطعة من آلام الصداع وآلام الظهر والهزال، إلّا أن هذه الأعراض أكثر شيوعًا عند البنات, وخاصة في فترة الدورة الشهرية, وباستثناء ذلك لا توجد إلّا أمراض قليلة تميز هذه الفترة العمرية "قارن ذلك بالطفولة", وعمومًا إذا كانت طفولة المراهق أكثر صحةً, وخاصةً من حيث التوازن الغذائي وتكوين عادات جيدة للنوم, فإن فترة البلوغ تَمُرُّ بسلامٍ أكبر من وجهة الصحة الجسمية, ولا تظهر إلّا التغيرات النفسية المصاحبة للتغيرات الجسمية والفسيولوجية. ولا بُدَّ أن ننبه هنا إلى أن التغيرات التي تطرأ على سلوك المراهق واتجاهاته إزاء البلوغ هي في جوهرها نتاج تغيرات اجتماعية أكثر منها نتاج التغيرات الغُدِّيَّة, ونحن في هذا لا ننكر أهمية التغيرات الفسيولوجية في التوازن الجسمي, فكلما كانت البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها المراهق أقل تعاطفًا، وكان الآباء والإخوة والمعلمون والأقران أقل تفهمًا لأحواله، وكانت التوقعات الاجتماعية منه في هذا الوقت أكبر من حدود قدرته, كانت الآثار النفسية للتغيرات الفسيولوجية والجسمية بالغة, فإذا أصَرَّ الوالد مثلًا على معاملة المراهق على أنه لا يزال طفلًا, فإن هذا قد يعوق كثيرًا من نموِّه فيما بعد. ويعتمد مقدار وعمق هذه التأثيرات للبلوغ على سرعة النضج وتأثيره على التكوين الجسمي العام للفرد من ناحية, وعلى المعلومات السابقة المتوفرة لديه والإعداد السيكولوجي اللاحق لهذه التغيرات من ناحية أخرى؛ ففي حالة عدم وجود أيِّ تمهيدٍ, أو حينما يكون هذا الإعداد في صورة معلومات غير دقيقة أو غير كاملة, فإن ذلك يؤدي إلى تكوين اتجاهات غير صحيحة, وحينئذ تكون تأثيرات

البلوغ على السلوك بالغة السوء, ومن هذه التأثيرات تذكر هيرلوك،Hurlock 1980 ما يلي: 1- الرغبة في التفرد والانعزال: أشرنا إلى أن الطفل في مرحلة المدرسة الابتدائية يكون لديه ميلٌ لمصاحبة الآخرين, ويصل هذا الميل إلى قمته في نهاية فترة الطفولة المتأخرة, ثم سرعان ما يحدث مع البلوغ -وفي وقت وجيز- أن يفقد الطفل ميله لرفاق اللعب، فينسحب من الجماعة ويقضي معظم وقته وحده، وإذا كانت له حجرته الخاصة فإنه يغلقها على نفسه, وهذا الانسحاب من الجماعة يصاحبه نزاعٌ مع الأصدقاء القدامى, وبالتالي انهيار لكثير من صداقات الطفولة, كما يحدث أيضًا انعزال مفاجئ وواضح عن نشاط الأسرة. 2- النفور من العمل والنشاط: في هذه الفترة نلاحظ أيضًا على المراهق الذي كان في طفولته ممتلئًا حيويةً ونشاطًا, والذي لم يكن يبدو عليه التعب من العمل أو اللعب "كما نشاهد في فناء مدرسة ابتدائية مثلًا" يبدو عليه التعب بشكلٍ واضحٍ, ونتيجة لذلك فهو يعمل عملًا ضئيلًا ويؤدي أقل ما يمكن في المنزل, ويهمل واجبات المدرسة, ومن المؤكد أن هذا النفور ليس كسلًا إراديًّا, كما أنه ليس نتيجةً للتغير في المستوى العقلي للفرد، وإنما هو نتيجة مباشرة للنمو الجسمي السريع الذي يفوق طاقته, وكلما كانت التغيرات مفاجئة عند البلوغ كانت التغيرات في أداء الطفل في المدرسة وفي تحصيله مفاجئة أيضًا, وعادةً ما يُلَامُ التلميذ على هذا الكسل في المنزل والمدرسة, وقد يؤدي ذلك إلى مزيدٍ من النتائج غير السارة. 3- عدم التآزر: في بداية البلوغ وما يصاحبه من نموٍّ سريعٍ وغير مُنَظَّمٍ, يطرأ على المراهق تأخر مؤقت في أنماط معينة من التآزر والتوازن والرشاقة؛ فتتناقص القدرة الحركية ويختل المشي, وبعد أن يعود النمو إلى معدله البطيء, وبعد أن يتكيف الفتى أو الفتاة للتغيرات الحادثة في نسب الجسم, يعود النشاط إلى التآزر تدريجيًّا. 4- الملل: يظهر على المراهق مللٌ من اللعب بالألعاب التي كان يستمتع بها في المراحل السابقة, سواء كانت مع أقران المدرسة أو في الحياة الاجتماعية العامة, ويظهر ذلك في رفضه الاشتراك في هذه الأنشطة, ويصفها بأنها "طفلية", وحين لا يقابل سلوكه بالتقبل من الآخرين يظهر عليه اتجاه اللامبالاة, أو الإحساس بالنبذ والرفض.

5- عدم الاستقرار: تتغير ميول المراهق كما يتغير جسمه، إلّا أنه عند البلوغ لا يكون عادةً قد كَوَّنَ ميولًَا جديدة تمتص انتباهه كما كان يحدث في الطفولة, ولذلك نجده ينتقل من نشاطٍ لآخر, ولا يشعر بالرضا من أيٍّ من هذه الأنشطة, ويصاحب ذلك مشاعر التوتر والقلق. 6- الرفض والعناد: تتميز اتجاهات المراهق عند البلوغ بأنها اتجاهات رفض ومعاداة للأسرة والأصدقاء والمجتمع عمومًا، ولذلك كثيرًا ما نجده مهمومًا محزونًا، ولا يقتصر همه على نفسه, بل يمده إلى الغير؛ فيفسد على الآخرين سرورهم بالمخالفة والمعارضة وعدم التعاون ورفض رغباتهم, وفي المنزل يكون غيورًا من إخوته وناقدًا لهم؛ فيسبهم ويتعارك معهم دون سببٍ واضحٍ, ويعاندهم عن قصد, ويجادل مع أفراد الأسرة "الأم والأب وغيرهما"، لمجرد إثارة المتاعب وخاصةً لإخوته, ويسلك خارج المنزل بنفس الطريقة تقريبًا مع أصدقائه, وتنشأ بينه وبينهم المعارك لأتفه الأسباب. وينتج عن ذلك انهيار الصداقات القديمة, ومع التَّقَدُّمِ في البلوغ يزداد المراهق نضجًا في سلوكه الاجتماعي, ويصبح أكثر صداقة وتعاونًا مع الآخرين. 7- مقاومة السلطة: يظهر على الطفل خلال فترة الطفولة ميلٌ لمقاومة السلطة يصاحبه رغبة في الاستقلال، إلّا أن هذا الميل يزداد حِدَّةً أثناء فترة البلوغ, ولذلك يحدث في هذه الفترة أكبر مقدار من الصراع والنزاع بين المراهقين ووالديهم "وخاصة الأم" وخاصة عند حوالي سن 13سنة, والسبب في كثرة الصراعات مع الأم أنها الأكثر اتصالًا بالمراهق داخل المنزل منذ طفولته, فإذا كانت الأم أقل تقييدًا وأكثر تسامحًا تقل هذه المنازعات معها, ويسعى المراهق إلى مقاومة كل ألوان السلطة، وحين يكتشف أن محاولاته تبوء بالفشل يزداد عنادًا. وقد يلجأ إلى الانسحاب من مثل هذه المواقف التي قد تؤدي إلى العقاب بسبب عدم الطاعة, وقد يصدر عنه ما يمكن أن يصنف بأنه "سوء سلوك"، ومعظمه من النوع البسيط, والمراهق العادي في هذه الفترة لا يصدر عنه ما يمكن أن يضعه في فئة "الأحداث الجانحين"، على الرغم من أن عدم استقراره يجعله مثيرًا لإزعاج الآخرين, وتصدر عنه أفعال مزعجة، إلّا أن هذا كله يتناقص خلال النموِّ أثناء المراهقة, وخاصةً مع اكتمال النضج الجنسي. 8- رفض الجنس الآخر: يظهر سلوك رفض الجنس الآخر في نهاية الطفولة المتأخرة, ويصل قمته في فترة البلوغ, ومن الأمور الشائعة في هذا السن

العداء الصريح بين الجنسين, ويكون رفض الإناث للذكور أكثر من رفض الذكور للإناث, ويظهر هذا الرفض في صورة مختلفة عن المرحلة السابقة, فلم يعد الأمر مجرد انسحاب كلٍّ من الجنسين بعيدًا عن الآخر, وإنما تظهر في البلوغ صور العداء الصريح بينهما، ويتمثل ذلك في النقد المستمر والتعليق اللاذع. 9- الانفعالية الشديدة: يؤدي التوتر والاضطراب الناتجان عن الاتجاهات والميول المتغيرة من ناحيةٍ, وعن التغيرات الجسمية والغددية من ناحيةٍ أخرى, إلى حِدَّةِ الانفعالات التي تظهر في فترة البلوغ, ويكون المراهق شديد الحساسية, ويفسِّرُ معظم ما يسمعه من الكبار أو الأقران على أنه مُوَجَّهٌ إليه، وتزداد هذه الحساسية بالنسبة للإخوة، كما تزداد في هذه الفترة المخاوف المتوهمة, فيشعر المراهق بالقلق من المشكلات التي تتعلق بكفاءاته الشخصية والاجتماعية, ويتحول من تذوق الفكاهة الذي كان عليه في المرحلة السابقة إلى الشعور بالكآبة, وقد تكون حالته الانفعالية موضع تعليق الكبار في بيئته ونقدهم, مما يزيد من شعوره بأنه لم يَعُدْ محبوبًا من أحدٍ, وأن "العالم كله ضده". 10 - نقصان الثقة بالنفس: إن الطفل الذي كانت ثقته بنفسه زائدة, وتسيطر عليه مشاعر الزهو والغرور, يصبح عند البلوغ أقل ثقة بنفسه، فيشك في قدراته, ويشعر بأنه أصبح أقل كفاءة من الناحيتين الشخصية والاجتماعية, وقد يختفي هذا الشعور وراء كثيرٍ من أنماط العناد التي يبديها؛ فرفضه للأعمال والمهام المتوقعة منه ينشأ من خوفه من العجز, كما قد يختفي وراء كثير من التباهي والتفاخر بقدراته, ثم الانسحاب عندما يطلب منه أداء المهام والأعمال موضع هذا التباهي, وهكذا يكون "مفهوم الذات" عنده غير مُسْتَقِرٍّ, وقد يقود هذا أحيانًا إلى وقوع بعض المراهقين في هذه الفترة في جناح الأحداث؛ فالقيام بالأعمال التي توقعه تحت طائلة العقاب من الوالدين أو المعلمين أو السلطة الجنائية "الشرطة والقضاء" تُعَدُّ أحيانًا من قبيل تأكيد الذات المفتقدة في هذه الفترة, وينشأ معظم الشعور بعدم الثقة لدى المراهقين في فترة البلوغ من الأسباب الآتية: أ- نقص المقاومة الجسمية والقابلية الشديدة للتعب. ب- الضغوط الاجتماعية المستمرة التي تطلب منه القيام بما هو أكثر مما كان يؤديه من قبل. جـ- نقد الكبار لطريقته في أداء العمل, أو لعدم قيامه به. 11- الاهتمام بمسائل الجنس: يؤدي نمو الأعضاء الجنسية الأولية

والثانوية في فترة البلوغ إلى تركيز اهتمام المراهق على مسائل الجنس إلى الحدِّ الذي يشغل معظم وقته وتفكيره, فيقارن بين شكل جسمه وأجسام الآخرين من أقرانه من نفس الجنس، ويقرأ بعض الكتب على أمل الحصول على بعض المعلومات عن الجنس، ويلجأ إلى بعض المصادر غير الدقيقة؛ مثل الأصدقاء أو الخدم أو الشارع أو الكتب الرخيصة أو أفلام الجنس التي شاعت في السنوات الأخيرة, وتمثل خطرًا بالغًا على المراهقين في هذه الفترة بالذات، بالإضافة إلى خطرها على الإنسان في مختلف مراحل عمره, وقد يقود ذلك كله المراهق إلى بعض المشكلات الجنسية, وخاصة ممارسة العادة السرية, وتتناقص هذه المشكلات وتَقِلُّ حدتها مع اكتمال النضج الجنسي, وخاصة إذا توافرت ظروف تربوية مناسبة. 12- أحلام اليقظة: أحلام اليقظة هي أفضل وسائل قضاء الوقت لدى المراهق في سن البلوغ, وعادةً ما تدور أحلامه حول "بطل مظلوم مغبون الحق", والبطل بالطبع هو المراهق نفسه، وقد يكون الظلم الذي يتخيله من نوع سوء الفهم أو سوء المعاملة التي يلقاها من الأبوين أو المعلمين أو الأصدقاء أو المجتمع, وتكون أحلام اليقظة بهذه الطريقة مصدرًا هامًّا للتعبير عن الانفعالات وإشباع الدوافع, فهو يستمتع بدوره في حلم اليقظة مهما اشتدت المعاناة؛ لأنه يعلم أن نهاية الحلم ستكون دائمًا لصالحه. ومهما كانت هذه الأحلام سارّة للمراهق, إلّا أنها تُدَعِّمُ فيه اعتقاده -الذي أشرنا إليه- وهو أنه لا أحد يحبه, وبالطبع كلما ازداد المراهق اندماجًا في هذه الأحلام يزداد بُعْدًا عن الواقع, ويزداد تكيفه الاجتماعي سوءًا. 13- شدة الحياء: يصاحب فترة البلوغ شعور المراهق بالحياء, ويصبح أكثر وعيًا بجسمه وأعضائه؛ فيشعر بالغضب إذا دخل عليه أحدٌ غرفته فجأة وهو يُغَيِّرُ ملابسه، أو يقتحم عليه الحمام وهو يغتسل، وهي أمور لم تكن تثير فيه مشاعر القلق في مرحلة الطفولة, وبالطبع فإن هذا الشعور هو نتاجٌ مباشرٌ للتغيرات الجسمية السريعة في هذه الفترة, إلّا أنه يُعَدُّ أساس الشعور الأخلاقي فيما بعد، "فالحياء شعبة من الإيمان" كما قال الرسول -عليه الصلاة والسلام.

النمو العقلي المعرفي

النمو العقلي المعرفي: يستمر النمو العقلي في المراهقة سواءً من الوجهة الكمية أو الكيفية؛ فالتغَيُّر يكون كميًّا, بمعنى أن المراهق يصبح أكثر قدرة على إنجاز المهامِّ العقلية على نحوٍ أكثر سهولة وسرعة وكفاءة من الطفل, كما أن هذا التغيُّر يكون كيفيًّا, بمعنى أنه تحدث في المراهقة تغيرات في طبيعة العمليات المعرفية تجعلها مختلفة عنها في مرحلة الطفولة. فمع بداية مرحلة المراهقة تنمو في الفرد القدرة على التفكير باستخدام العمليات الصورية أو الشكلية Formal opertions كما يسميه بياجيه، ويُعَدُّ ظهور هذه القدرة في رأيه المرحلة الرابعة والأخيرة في النمو العقلي والمعرفي عند الإنسان, والتي يتم الوصول إليها خلال الفترة العمرية بين 11، 15 عامًا، وهو رأيٌ تَعَرَّضَ للنقد في السنوات الأخيرة, وسوف نعرض لذلك في تناولنا لمرحلة الرشد. إن المراهق والراشد -بعد ذلك- يستطيع باستخدام العلميات الصورية أن يفكر بدرجة كافية من المرونة حول العالم الذي يعيش فيه، ويتناول العموميات المجردة من حوله؛ كمفاهيم الحرية والعدالة, كما يستطيع أن يدرك الخصائص الداخلية للأشياء, ولا يقتصر عند حدود الخصائص الخارجية التي يحكمها الإدراك الحسي. إلّا أن هذا لا يعني أن المراهق يفكِّرُ كما يفكر الراشد, وإنما يعني أن المراهق أصبحت تتوافر لديه القدرة على استخدام نفس المنحى الذي يستخدمه الراشد في حل المشكلات. وكلٌّ من التفكير باستخدام العمليات الصورية, والتفكير باستخدام العمليات العيانية "في الطور السابق", يعتمد على العمليات المنطقية, والفرق الجوهريّ بينهما: أن التفكير العياني يرتبط بالموقف الراهن والخصائص المحسوسة في البيئة، أما التفكير الصوري فيتعامل مع المشكلات المجردة واللفظية, سواء أكانت حقيقية أم مفترضة، وسواء في الحاضر أو الماضي أو المستقبل؛ فالتفكير الصوري يحرر تفكير المراهق -ثم الراشد فيما بعد- من المحتوى النوعي الخاص للمشكلات. والتفكير الصوري هو عملية "من مستوى رفيع", ويتسم بالخصائص الخمس الآتية: 1 - الاستدلال المجرد: بالطبع تنمو لدى الأطفال -قبل مرحلة المراهقة- القدرة على التعميم قبل سن 11 سنة, إلّا أنَّهم لا يكونون مستعدين لفهم الخصائص المجردة مثل التطابق والكتلة, ومع بلوغ المراهقين سن 15 سنة يمكن لمعظمهم التعامل مع معظم هذه المفاهيم، ومنها المفاهيم الفلسفية؛ مثل الديمقراطية والحق والعقيدة وغيرها, بل قد تكون لديه مشاعر واتجاهات نحو المفاهيم والأفكار, وليس مجرد الأشياء والأشخاص.

ويمكن للمراهق كذلك أن يبدأ في التفكير على المستوى النظري بدلًا من الاقتصار على حدود الحقائق الملاحظة والواقع الظاهريّ للموقف الذي يوجد فيه "Flavell Flavell", ومن ذلك مثلًا: أن طفل المدرسة الابتدائية "طور التمييز" إذا أُعْطِيَ المقدمتين الآتيتين: البقرة أكبر من القطة. القطة أكبر من الفأر. فإنه يستطيع أن يستنتج بسهولة النتيجة الآتية: البقرة أكبر من الفأر. إلّا أن نفس هؤلاء الأطفال يرفضون الاستدلال الآتي على الرغم من صحته المنطقية: الفأر أكبر من القطة. القطة أكبر من البقرة. إذن: الفأر أكبر من البقرة. والصعوبة التي يواجهونها في تَقَبُّلِ منطق هذه النتيجة الأخيرة أنها تتعارض مع خبراتهم اليومية الملاحظة، ولا يستطيع الطفل في طور التمييز أن يفصل بين الشكل والمحتوى في المشكلة التي يقوم بحلها, أمَّا في المراهقة، ومع وصول الشخص إلى مستوى العمليات الصورية, فإنه يكون قادرًا على هذا الفصل, وبالتالي يستطيع أن يحلل التضمينات المنطقية لمواقف وعبارات افتراضية تمامًا. وعلى الرغم من أن الطفل في مرحلة التفكير العياني "المرحلة السابقة" يفكر باستخدام الرموز, مما يعينه على إتقان العلميات الرياضية, إلّا أنه يستخدم هذه الرموز في الإشارة إلى مدلولاتٍ محسوسة، ولذلك يسمى الاستدلال في هذه المرحلة "التفكير الإجرائي من الدرجة الأولى". أمَّا التفكير الإجرائي في مرحلة العمليات الصورية "المراهقة", فإنه يتَّسِمُ بالقدرة على التفكير في "الرموز التي تمثل رموزًا أخرى"، ومن أمثلة ذلك استخدام الرموز س، ص, ع, في الجبر؛ لتحل محل الرموز من الدرجة الأولى, أي الأعداد 1، 2، 3, وغيرها في الحساب, وهكذا يصبح المراهق في طور التفكير الصوري في غير حاجة إلى أمثلة محسوسة, أو رموزٍ من الدرجة الأولى حتى يفكر, وهكذا يصبح التفكير مجردًا تمامًا، أي: يصبح قدرةً على المعالجة المنطقية للقضايا والرموز المشتقة من الحقيقة العيانية والمعتمدة عليها، أي: يصبح -بلغة

بياجيه- "تفكيرًا إجرائيًّا من الدرجة الثانية", وبالتالي يستطيع المراهق إيجاد قيمة أكبر الثلاثة في العلاقتين "أ < ب، جـ < ب". 2- التمييز بين الواقع والمحتمل: لعلَّ القدرة على التمييز بين الحقيقي "أي: الموجود في عالم الواقع", والافتراضي "أي: الذي يحتمل وجوده, ولا يوجد بالضرورة في عالم الواقع" هي أهم خصائص التفكير الصوري الإجرائي, باعتباره أعلى صور التفكير المجرد, معنى ذلك أن المراهق -ثم الراشد فيما بعد- قادران على معالجة جميع ما يحتمل أن يُوجَدَ, وليس فقط تمثيلات "صور" الأشياء التي توجد بالفعل, ومعنى ذلك أيضًا: أن المراهق يستطيع أن يفكِّرَ على النحو التالي: أنه إذا كان أحد جوانب الواقع أو الحقيقة صحيحًا, فإن بعض النواتج يمكن أن تستنتج, ثم يمكن أن تختبر, ويصبح التفكير في هذه الحالة حول القضايا وليس حول الحقائق. فمن الملاحظ في مرحلة التفكير العياني أن المحتمل أو الممكن يترادف مع الواقعي أو الحقيقي، بينما في التفكير الصوري يُعَدُّ الواقع أو الحقيقة أحد الاحتمالات العديدة الممكنة. إن المراهق في هذا الطور لم يَعُدْ قانعًا بالتعامل مع الخبرة المباشرة, ولكنه يفكِّرُ بشكلٍ مستمرٍّ في البدائل المختلفة, ويستثمر المراهق هذه القدرة الجديدة في التعامل مع مختلف جوانب الحياة: السياسة، الدين، التربية، المستقبل المهني، الألعاب الرياضية، العلاقات الاجتماعية, وغيرها؛ فهو يتعامل مع الأفكار والمثل العليا والأيديولوجيات, وربما لهذا السبب يوصف المراهق بأنه "غير واقعي" أو "مثالي" أو "حالم". ومع ذلك, فإن التفكير في الإطار الاحتمالي بعين المراهق على تناول البدائل والاختيارات المختلفة للمشكلة الواحدة، فسرعان ما يتحقق من أنه لا توجد طريقة واحدة فقط لحل المشكلة أو المسألة, وهذه المرونة الجديدة في التفكير تسمح له بالتعامل مع الأفكار العيانية والمجردة من منظورات مختلفة، بل قد يفكر في المستحيل, أو في الموقف المضاد, أو بطريقة لا تتفق مع حقائق الواقع "بنظرة ابتكارية أو إبداعية". وكذلك يمكن للمراهق أن يتوقع وجهة نظر الآخر المعارِضِ له, ويصوغ حُجَجًا مضادة لها, ويمكن استثمار هذه القدرة في أنشطة المناظرات في المدرسة الثانوية. ومن أهم النواتج المترتبة على نموِّ القدرة على التفكير الاحتمالي ما يلي: أ- زيادة اهتمام المراهق بمستقبله التعليمي والمهني, ويتمثَّل ذلك في الحاجة

إلى تحديد الأهداف وتنظيم الأنشطة لبلوغ هذه الأهداف, مع تنمية القدرة على تقويم البدائل, ومعرفة ما لكلٍّ منها وما عليه. ب- زيادة اهتمام المراهق بالمقارنة بين الحال الذي عليه الواقع, وما يجب أن يكون عليه الحال, وهذه المقارنات تؤدي بالمراهقين إلى الانشغال بالقضايا السياسية والاجتماعية والدينية؛ مثل قضايا البيئة أو حقوق الإنسان أو المسائل الدينية والأخلاقية، وقد يقود ذلك إلى الإندماج في بعض الجماعات النشطة في المسائل، وربَّمَا يؤدي هذا النشاط إلى صراعٍ مع الوالدين والمعلمين والقيادة والسلطة, وربما يؤدي ببعض المراهقين إلى الانتساب إلى جماعات العنف والتطرف, ولحمايتهم يجب على الراشدين تقدير وجهة نظر المراهق ومعاونته على إدراك الفجوة بين الواقع والمحتمل "ومنه المستحيل"، وتعميم برامج تهيء له أهدافًا بديلة من خلال النشاط الاجتماعي المشروع، وهذه هي مسئولية المدرسة الإعدادية أو الثانوية, وبرامج رعاية الشباب على وجه الخصوص. 3- اتساع نطاق التفكير: إلى جانب التغير في طبيعة التفكير في هذا الطور تظهر زيادةٌ في المدى أو الاتساع, فيصبح المراهق أكثر قدرةً على التعامل مع المثيرات الأكثر بُعْدًا في الزمان والمكان, كما أن العمليات المعرفية تصبح أكثر ارتباطًا بمعظم أنماط السلوك؛ بحيث تصبح هذه الأنماط أيسر في التحكم فيها معرفيًّا, وهكذا لا يصبح المراهق قادرًا على التفكير في المسائل العقلية وحدها, وإنما يستطيع أن يفكر أيضًا في المشكلات الانفعالية, ومشكلات العلاقات الإنسانية, وامشكلات الأخلاقية, والمشكلات العامة "مثل مشكلات مستقبل الجنس البشري", وغيرها, ويتميِّز المراهق بحماسه في التأمل، وهو يمارس العمليات الصورية في فهم عالمه كما يفعل الطفل في مرحلة الذكاء الحسي -الحركي, حين كان يستطلع عالمه بأصابعه وفمه. 4- التفكير العلمي: تظهر العمليات الصورية في مجالاتٍ عديدةٍ من حياة الإنسان, وخاصةً ما يتصل منها بسلوك حل المشكلة؛ ففي إحدى تجارب بياجيه كان يعرض على المفحوصين شيئًا معلقًا بحبلٍ "أشبه ببندول الساعة", ويمكن لهذا البندول أن يتعدل بتغيير عدة عوامل منها: طول الحبل، وزن الشيء، الارتفاع الذي عنده يتحرك البندول، القوة التي يدفع بها، وكان على المفحوص أن يحدد أيّ هذه العوامل يحدد سرعة حركة البندول, والإجابة الصحيحة هي أن طول الحبل هي العامل الحاسم، كما أن على المفحوص أن يدرك أن اختبار أثر

أحد هذه المتغيرات يتطلب التحكم "أو تثبيت" العوامل الأخرى حتى يمكنه الحصول على نتائج دقيقة. وقد لاحظ بياجيه أن الأطفال في طور العمليات المحسوسة "طور التمييز" يبدأون مثل هذه التجربة بالتعامل الماديّ مع العوامل المختلفة التي يمكن أن تؤثر في معدل سرعة البندول, وكانوا بذلك أكثر تعليلًا وانتظامًا ودقةً من أطفال طور ما قبل العلميات "طور الحضانة"، كما أنهم أكثر قدرةً على الملاحظة الموضوعية، إلّا أن استنتاجاتهم لا تكون في أحسن الحالات صحيحةً إلّا صحة جزئية؛ لأنهم لم يخططوا لأيّ تحكم أو ضبط أو تثبيت، بالإضافة إلى عجزهم عن تجاوز النتائج القابلة للملاحظة مباشرة؛ ففي إحدى التجارب قارن الطفل بين بندول مؤلف من حبل طويل وشيء ثقيل, ببندول آخر مكون من حبل قصير وشيء خفيف، واستنتج من ذلك أن كلًّا من الطول والارتفاع له أهميته, أما في مرحلة العمليات الصورية "وهي طور التفكير العلمي الصحيح" لا يغير المراهق إلّا وزن الشيء فقط, ويبقى طول الحبل وارتفاع البندول وقوة الدفع متساوية في كلٍّ من البندولين. 5- الاستدلال الترابطي: من خصائص التفكير الصوري ما يسميه إنهلدير وبياجيه: الاستدلال الترابطي Combinatorial, وقد اكتشفا هذه الخاصية من التجربة الآتية, لقد أعطيا للمفحوص 4 زجاجات متشابهة, تحتوي على سوائل لا لون لها ولا رائحة, ومتطابقة إدراكيًّا، ورمز لكلٍّ منها بالرموز الآتية 1 حامض كبريتيك مذاب, 2 ماء, 3 ماء مشبع بالأوكسيجين, 4 كبريتات مخففة, ثم أضاف زجاجة "لها قطارة" رمز لها بالرمز "ج", تحتوي على البوتاسيوم اليودي، ومن المعروف أن الماء المشبع بالأوكسجين يؤكسد البوتاسيوم اليودي في وسيط حمضي، وعلى ذلك فإن المزيج "1 × 3 × ج" يعطي لونًا أصفر, أما الماء فهو محايد، وبالتالي فإن إضافته لا تغير اللون، بينما الكبريتات المخففة "4", تحول المزيج "1 × 3 × ج" إلى اللون الأبيض, ويعرض الفاحص على المفحوص كأسين؛ أحدهما يحتوي على "1 × 3", والثاني يحتوي على "2"، ويصب أمام المفحوص قطرات عديدة من "ج" في كلٍّ من الكأسين, ويلاحظ ردود الأفعال المختلفة, وبعد ذلك يطلب من المفحوص ببساطةٍ أن يحضر اللون الأصفر باستخدام الزجاجات "1، 2، 3، 4، ج" حسبما شاء. لقد طلب من المفحوص في هذه التجربة إنتاج السائل الملون المعروض أمامه, دون أن يعرف طريقة الحصول عليه. إن هذه التجربة لو عرضت على الطفل في طور التفكير العياني فسوف يحلّ المشكلة بالمزاوجة بين كل سائلين فقط،

وقد يتسم ذلك بالعشوائية وتكرار المزاوجات, أما المراهق في طور التفكير الصوري, فإنه يستطيع اختبار جميع الروابط الممكنة، ويشمل ذلك المزاوجة بين أكثر من سائلين، وهو بذلك يفكر في إطار العلل "الأسباب" الضرورية والكافية, ومن ذلك مثلًا أن المراهق قد يكتشف أن المزج بين العناصر الكيميائية الثلاثة التي تنتج السائل الأصفر قد يكون ضروريًّا لإنتاج هذا اللون، ولكنه قد لا يكون كافيًا، ولذلك قد يستمر المراهق في إجراء اختباراته للبحث عن صور أخرى للمزج تؤدي إلى نفس النتيجة, أي أن المراهق باحث عن "الأسباب المتعددة" التي تتفاعل معًا، وبالتالي فإن تفكيره لا يكون "أحاديّ الرؤية", أو "حتميّ السببية", أي لا يكون من نوع التفكير في السبب الواحد والوحيد. 6- الاستدلال متعدد الأبعاد: تعتمد هذه الخاصية على الخاصية السابقة؛ فالمراهق الذي يستطيع الربط بين عللٍ وأسبابٍ متعددةٍ للحدث الواحد, يمكنه التفكير في حلولٍ متعددة للمشكلة الواحدة, ويتطلب ذلك قدرةً على تناول البدائل متآنية "أي: في وقت واحد" من حيث الإيجابيات والسلبيات, ويؤدي ذلك بالمراهق إلى ترتيب البدائل, كما يعينه على الاختيار على تفضيل البديل الأكثر ملاءمة وفعالية في تحقيق هدف "أو أهداف" معينة بأقل قدرٍ من الآثار السلبية, وهذه إحدى القدرات الهامة في التفكير المستقبلي والتخطيطي, ويتطلب ذلك توافر مصادر كافية من المعلومات. 7- التفكير الفرضي الاستنباطي: في المثال السابق نشير إلى أن المراهقين حين تُعْرِضُ عليهم هذه المشكلة يبدأون في التفكير في جميع الارتباطات المحتملة للعناصر، أو على الأقل, الاحتمالات الضرورية للوصول إلى تحديدٍ كاملٍ للسببية "العلية", وتتوافر لديهم عادةً طريقة منظمة للوصول إلى هذه الارتباطات مثل "1 × ج" إلخ، ثم "1 × 2 × ج" إلخ, وتفصح لغة المفحوصين بوضوحٍ عن استخدام المنهج الفرضي الاستنباطي hypothetico- deductive في التعامل مع البيانات، مثل استخدام العبارات الشرطية "إذا ... إذن". ومن ذلك العبارة التي جاءت في بروتوكولات أحد المراهقين "إذا كان السائل "4" ماء, فإنك حين تضعه على المزيج "1 × 3" لن يمنع ذلك اللون الأصفر من الظهور، وعلى ذلك, فإنه ليس ماء؛ لأنه في الواقع حال دون ظهور اللون الأصفر", وبهذه الطريقة لم يعد المراهق يصوغ عبارات بسيطة حول المعطيات فحسب "السائل 4ماء"، وإنما أصبح قادرًا على صياغة "عبارة حول العبارات", أو "قضية حول القضايا"، "مثال ذلك عبارة أن السائل 4 ماء, تتضمَّنَ منطقيًّا أنه لا يمنع ظهور اللون

الأصفر", وهذا نوعٌ من التضمين المنطقي يدل على ما يسميه بياجيه "التفكير بين القضايا", وتعليمات من الدرجة الثانية كما سبقت الإشارة؛ فعبارة السائل 4 لا يمنع اللون الأصفر من الظهور, لا تدرك في عالم الواقع, وبالتالي تتناول بوضوح "الممكن" و"الحقيقي", وهكذا فإن من خصائص التفكير الفرضي الاستنباطي أنه يتطَلَّبُ من المراهق أن يستدل من حقائق الواقع "الأمبريقي" على المحتمل أو الممكن، ثم العودة إلى الحقيقة الأمبريقة, وهذا النمط من التفكير هو أساسٌ آخر للتفكير العلمي, ويمكن وصفه بالبدء في صياغة فروض من نوع "إذا.... إذن ... ", ويتألف الجزء بعد حرف الشرط "إذا" من فكرة نظرية "أو احتمال"، أما الجزء بعد كلمة "إذن" فيدل على ما يتوقعه المرء من نتيجةٍ إذا كانت الفكرة صحيحة, ويتضمن التفكير الفرضيّ أيضًا القدرة على الوصول إلى الخاصية المشتركة أو المحورية بين مجموعة من الأشياء أو الأحداث التي تبدو غير مرتبطة لتؤلف فئة أو تظرية جديدة, فإذا كان التصنيف أو المبدأ أو القانون صحيحًا, إذن "بالاستدلال الاستنباطي" يمكن التنبؤ بأن أشياء أو أحداث أخرى يمكن أن تنتسب إلى هذه الفئة, أو ينطبق عليها المبدأ. وهذا هو أساس بناء القانون في العلم, بل يفيد التفكير الفرضي في بناء الفرد لفلسفته في الحياة وقيمه وأهدافه. وجميع سمات التفكير الصوري تجعله أداةً جيدةً للاستدلال العلمي, فقد أظهرت بروتوكولات المراهقين أنهم قادرون على الوصول إلى الحل الصحيح بطريقةٍ قد تُعَدُّ من قبيل الاكتشاف العلمي؛ فالاستدلال الفرضي الاستنباطي، والطريقة الترابطية، وغيرهما من خصائص التفكير الصوري, تزود المراهقين بالأدوات اللازمة لتمييز المتغيرات التي تُعَدُّ سببية، وتثبيت أحد العوامل لتحديد الأثر السببي لعامل آخر، وهكذا, والمراهق يستطيع أن يتخيل التحويلات المختلفة التي تسمح بها البيانات حتى يمكن اختبارها تجريبيًّا، كما يستطيع إعطاء تفسير منطقي صحيح لنتائج هذه الاختبارات التجريبية؛ فمثلًا إذا حدث أنه حصل على اللون الأصفر من المزيج "1 × 3 × ج" دون غيره، فإنه يستطيع أن يستنتج أن "1 × 3 × ج" هو السبب الضروري والكافي، أي أن "1 × 2 × 3 × ج" قد ينتج هذا اللون, إلّا أن "2" ليس ضروريًّا, وبهذا يعرف المفحوص أن المشكلة قد حلت. وهكذا نجد المراهق حين يعمل بأقصى قدرته العقلية فإنه يستخدم هذا النوع من الأسلوب العلمي. إنه لا يندمج ببساطة في التجربة، كما أن تفكيره ليس مقيدًا بالنتائج المباشرة القابلة للملاحظة, إنه يبدأ أولًا بتأمل جميع الاحتمالات "أو الفروض" حول: ما الذي يساعد على سرعة البندول؟ أو كيف نحضر سائلًا

ذا لونٍ أصفر؟ وبهذا يكون قادرًا على تخيُّل أن هناك عاملًا أو مجموعة من العوامل تحدث النتيجة، ويستطيع أن يستنبط ما يمكن أن يحدث إذا اختبر بعض هذه الحالات "أو الفروض", وعلى هذا فإنه حتى قبل أن يبدأ التجربة يكون قادرًا على وضع خطة أو تصميمٍ لاختبار كل احتمال بديلٍ بطريقةٍ منظمةٍ. وهذا التطور المعرفي الذي يجعل المراهق يفكر "ذهنيًّا" في المشكلة, دون أن يؤدي بالفعل جميع الخطوات, يمكن أن يلاحظ في جميع مظاهر الحياة اليومية للمراهق, ويصاحب ذلك كله نمو مفهوم الزمن وزيادة القدرة على إدراك المستقبل ووضع أهداف طويلة المدى, فعلى عكس الطفل الذي ينشغل بما هو حاضر الآن, وماثل في المكان, لا يستطيع المراهق أن يدرك الحالة الراهنة المباشرة التي عليها الأشياء فحسب، وإنما يمكنه أن يدرك أيضًا ما يمكن أن تتضمنه وتفترضه. إنه يستطيع عندئذ أن يدرك الفرق بين الواقع والممكن, ولعل هذا يفسر لنا نقد المراهقين لبعض جوانب الواقع الاجتماعي, وانشغالهم ببدائل لما هو واقع. وهذا مثال على القدرة النامية لدى المراهق على استخدام التفكير المؤسس على العلميات الصورية أو الشكلية, إلّا أن هذا قد لا يتجاوز حدود الانشغال في "لعبة الأفكار", ولعل هذا ما دعا بعض الباحثين إلى وصف الاهتمامات المعرفية للمراهقين بأنها لا تتجاوز "الأقوال إلى الأفعال" "Mussen et al 1984". وبالإضافة إلى ذلك, فإن المراهق يكون أكثر وعيًا بالتمييز بين مجرد إدراك الأشياء واختزانها في الذاكرة, والمراهقون أكثر قدرةً على استخدام استراتيجيات أكثر تطورًا كمعينات للذاكرة, بالإضافة إلى أن منظور "زمن المستقبل" لديهم أكثر اتساعًا منه عند الأطفال. ويشير جون فلافل إلى خاصيةٍ عامةٍ في تفكير المراهقين, وهي ما يسميه "الإحساس باللعبة", أي: وعي المراهق بأن كثيرًا من جوانب الحياة يتطلب توقع الاستراتيجيات وصياغتها وتنميتها حتى يمكنه التعامل مع المشكلات، سواء كانت هذه المشكلات تتصل بالسلوك الشخصي أو السلوك الاجتماعي. والتغيرات العقلية والمعرفية في هذه المرحلة تلعب دورًا هامًّا في معاونة المراهق على التفاعل مع المطالب التربوية والمهنية المعقدة, فمن المستحيل على طالب المرحلة الإعدادية "أو المرحلة الثانية من التعليم الأساسي" أن يتقن المواد الأكاديمية التي يدرسها دون أن يتوافر لديه مستوى رفيع من التفكير المجرد، أو القدرة على التفكير باستخدام صيغ لفظية ورمزية لا ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالأشياء

العيانية الملموسة في عالم الواقع "من أمثلة ذلك الرياضيات واللغة". وتعتمد جوانب أخرى كثيرة من نموِّ المراهق على التقدُّم المعرفي الذي يحرزه في هذه المرحلة؛ فالتغير في علاقات المراهق بوالديه، وفي سمات الشخصية، وفي التخطيط للمستقبل التعليمي والمهني، وفي زيادة الاهتمام بالمسائل الاجتماعية والسياسية والدينية والشخصية، بل وفي نمو الشعور بالهوية الشخصية، كلها تتأثر بالتغيرات العقلية والمعرفية في هذه المرحلة. وانشغال المراهق بالتفكير في ذاته, وخاصة أفكار المراهق عن نفسه, من خصائص مرحلة العمليات الصورية. فمن المعتاد أن نلاحظ على المراهق تحولًا إلى التأمل الذاتي "الاستبطان", ولهذا يبدو على التفكير والسلوك في هذه المرحلة طابع التمركز حول الذات, ولا يعني هذا الوصف أن تفكير المراهقين هو عودة إلى التفكير الطفولي في مراحله المبكرة, فالفرق الجوهري هنا: أن تمركز المراهق حَوْلَ ذاته يتضمن فحص أفكاره ومشاعره وسمات شخصيته ومظهره الجسمي, ويؤدي به ذلك إلى زيادة الشعور بالذات، وهو شعور قوي في حَدِّ ذاته. والشعور بالذات لدى المراهقين ليس غرضًا في ذاته؛ فالفتى الذي يقف أمام المرآة يتأمل عضلاته، أو الفتاة التي تقف أمام المرآة أيضًا تغيِّرُ في تسريحة شعرها, قد يتضمن ذلك الرغبة في جذب انتباه أقرانهم في زيارة أو حفلة, إلّا أن من المآسي البسيطة في حياة المراهقين أنهم حين يلتقون يكون كلٌّ منهم منشغلًًا بنفسه أكثر من انشغاله بالمراهقين الآخرين, على الرغم مما بذله كلٌّ منهم لجذب انتباه الأقران إليه. وانصراف المراهق إلى المسائل العقلية قد يستخدمه كحيلةٍ نفسيةٍ للتعامل مع مشاعر القلق التي يعانيها, ويتمثَّل ذلك في اهتمام المراهق بالمسائل المجردة الفلسفية غير الشخصية, والتي يهتم بها اهتمامًا شخصيًّا مباشرًا, ومن ذلك مسائل الدين والحرية والمسئولية وطبيعة الصداقة, وتفيد هذه الممارسات العقلية -إلى جانب دورها في خفض قلق المراهقين- في تدريبهم على التفكير المجرد, وصَوْغِ الفروض واختبارها, وبصفة عامة فإن "العقلانية" -كحيلة دفاعية- تُسْتَخْدَمُ عادةً من قِبَلِ المراهق الذكيّ المثقف من أبناء المستويات الاقتصادية الاجتماعية المتوسطة, ويحتاج الميدان إلى بحوثٍ لمعرفة ما إذا كانت هذه الحيلة تشيع في الفئات الأخرى للمراهقين، ومعرفة محتوى "العقلانية" لديهم, وخاصة في بيئاتنا العربية والإسلامية, وعمومًا فإن النمو العقلي -كالنمو الجسمي- يسير في مرحلة المراهقة تدريجيًّا نحو الاستقرار الذي سوف نشهده عامةً مع الرشد.

النمو الانفعالي

النمو الانفعالي: يوجد اتفاق عام على أن مرحلة المراهقة هي مرحلة "أزمة"، ولعل جورج ستانلي هول كان أوَّلَ من أطلق هذا الوصف في عبارته الشهيرة "مرحلة الضغوط والعواصف", وهو وصفٌ يتضمن المعنى التقليدي, وهو أن المراهقة مرحلة توتر انفعالي شديد, مصدره التغيرات الجسمية والسيكولوجية التي تحدث في هذه المرحلة, إلّا أننا إذا علمنا أن النموَّ يستمر طوال مرحلة المراهقة بمعدلٍ بطيءٍ، بعد البلوغ خاصة، وأن معظم النمو ليس إلّا محض تكملة للتغيرات التي حدثت بالفعل أثناء البلوغ، فإن هذا التفسير البيولوجي الحتمي للأزمة يصبح موضع شك, والأصح أن نضع في الاعتبار نتائج بحوث علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا التي أكدت أن أزمة المراهقة "تختلف في شكلها ومضمونها وحِدَّتِهَا من مجتمعٍ إلى مجتمعٍ، ومن حضارةٍ إلى حضارةٍ، وأنَّ المراهق أو الشاب يعكس في أزمته -في المحل الأول- ظروفًا اجتماعية وحضارية معينة, لا ظروفًا بيولوجية ونفسية. فالأزمة لا تكون استجابةً لتغيرات داخل الفرد نفسه، وإنما تكون نتيجة لاستجابة البيئة -أي المجتمع والحضارة- التي يعيش فيها للتغيرات التي تطرأ عليه "عزت حجازي، 1978: 53". وهذا ما تؤكده أيضًا البحوث النفسية الحديثة, فعلى الرغم من أن كلَّ مراهقٍ يواجه بعض الظروف الضاغطة المجتهدة Strissors التي يمكن التنؤ بها, إلّا أن معظم المراهقين لا يشعرون بأن مرحلة المراهقة أكثر صعوبة من غيرها في حياة الإنسان "Simmon 1987", ويعتمد ذلك في جوهره على النواحي المزاجية للمراهق، وعلاقته بوالديه, والخبرات والفرص التي تتهيأ له في بيئته الاجتماعية, وعلى هذا فإن "زملة الضغوط والعواصف" ليست عرضًا ملازمًا للمراهقة, وتلعب الأسرة دورها الحاسم، فكلما كانت علاقة المراهق بوالديه -في أطوار ما قبل المراهقة- على درجة كافية من السواء النفسي, كانت الظروف أكثر ملاءمة لاجتياز مرحلة المراهقة، وخاصةً في طورها المبكر، بنجاح. تفسير الأزمة إذن يجب أن نبحث عنه في الظروف الاجتماعية التي تحيط بالمراهق, ومن ذلك ضغوط وتوقعات الجماعة على الفرد الذي لا يتزود طوال سنوات الطفولة بأيّ إعداد لمواجهة الظروف المتغيرة التي يتعرض لها خلال المراهقة, وفي ضوء هذا نقول: إننا لا نتوقع لجميع المراهقين أن يمروا بخبرة

"الضغوط والعواصف" التي أشار إليها ستانلي هول. صحيحٌ أن معظمهم يعاني من عدم الاستقرار الانفعالي من وقت لآخر, وهذا طبيعيٌّ بسبب التكيفات التي يجب أن تتمَّ لأنماطٍ جديدةٍ من السلوك, ولتوقعاتٍ اجتماعيةٍ جديدة, إلّا أن هذا كله لا يؤدي بالمراهق -حتمًا- إلى سوء التوافق أو الاضطراب النفسي. ويؤكد هذا القول النتائج الهامة التي توصَّلَ إليها رائد بحوث المراهقة في مصر صموئيل مغاريوس "1957"؛ ففي دراسته الهامة التي قام بها عام 1957 على 67 حالة من الشباب المصري الذين تجاوزوا مرحلة المراهقة, مستخدمًا طريقة تحليل الوثائق الشخصية "في صورة السير الذاتية", توصَّلَ من تحليل محتوى المذكرات التي كتبها هؤلاء المفحوصون إلى تصنيف "أشكال" المراهقة في مصر إلى أربعة أنواع هي: المراهقة التكيفية، والمراهقة الانسحابية المنطوية، والمراهقة العدوانية المتمردة، والمراهقة المنحرفة. وعلى الرغم من أن انفعالات المراهق تكون في العادة حادةً، والتعبير عنها لا يخضع للتحكم، وبالرغم من ظهور بعض أعراض سوء التوافق نتيجةً لهذا, فإننا عادةً ما نلاحظ تحسنًا في السلوك الانفعالي عامًا بعد عامٍ, ومرةً أخرى نجد أن النموَّ الانفعالي يتجه تدريجيًّا نحو الاستقرار مع الاقتراب من مرحلة الرشد، شأنه في ذلك شأن النمو العقلي والجسمي. وعمومًا فإن الأنماط الانفعالية لدى المراهق, تشبه إلى حَدٍّ كبيرٍ ما لدى الطفل، ولكنها تختلف عنها في نوع المثيرات التي تثير لدى المراهق انفعالاته، وفي صور التعبير عنها؛ فالغضب يستثار في المراهقة المبكرة نتيجة النقد أو السخرية, أو حين يشعر المراهق أن أصدقاءه يُعَامَلُونَ معاملةً غير ملائمة من الوالدين أو المعلمين، أو حين يُحْرَمُ من بعض الامتيازات التي يعتبرها من حقوقه، أو حين يُعَامَلُ "كطفلٍ", كما يشعر بالغضب حين لا تستقيم في نظره الأمور، أو حين يعجز عن إتمام ما أَعَدَّ نفسه لإنجازه، أو حين يُقَاطَعُ أثناء الانشغال بعمل، أو حين يقتحم الآخرون عالمه الخاص, أو يتم التعدي على ممتلكاته الشخصية. ويشعر المراهق الصغير بكثير من مشاعر الإحباط حين يُعَاقُ إشباع حاجاته, وخاصةً حاجته إلى الاستقلال, كما تُوجَدُ مصادر كثيرة للتوتر, بعضها ينشأ عن سلوك الآخرين إزاءه "وخاصة الوالدين والمعلمين وغيرها من ممثلي السلطة الاجتماعية", وبعضها من الأشياء التي توجد في بيئته ولا يحبها، وبعضها الثالث من سلوكه هو, وقد يستخدم المراهق في هذه المرحلة الاستجابات الصريحة

للتعبير عن العدوان "كالعنف البدني عند الذكور, والصراخ والبكاء عند الإناث"، إلّا أنه يدرك بالتدريج أن مثل هذه الاستجابات تُعَدُّ من علامات عدم النضج، ويتعلم التحكم فيها, وتحل وسائل التعبير اللفظي محل الوسائل المباشرة في التعبير عن العدوان, ولا يكاد يصل المراهق إلى نهاية مرحلة المراهقة المبكرة إلّا ويكون تحكمه في استجابات الغضب قد وصل إلى درجة جيدة من النموّ؛ بحيث لا تظهر علامات التعبير المباشر عن العدوان إلّا في قليلٍ من الأحيان, وبالطبع تختلف صور التعبير عن العدوان تبعًا للمستوى الاقتصادي والاجتماعي وحسب الجنس. ويتعلم المراهق أن معظم الأشياء التي كان يخاف منها أثناء الطفولة ليست مصدر خطرٍ أو أذًى كما يتوهم, ولهذا تزول معظم مخاوفه السابقة, وتحل محلها مخاوف جديدة يرتبط معظمها بالمواقف الاجتماعية التي قد يتعرض لها، كالوجود مع الغرباء, أو مع عدد كبير من الناس, أو في عزلة عن الآخرين, وتصل هذه المخاوف إلى قِمَّتِها في سن الثانية عشرة, ثم تبدأ في الزوال تدريجيًّا "M.Abou- Hatab 1994", ويصبح مع المخاوف معتدل الحدة, ومع ذلك يؤدي به إلى الشعور بالخجل أو الارتباك, ومن ذلك حين يسعى المراهق إلى السلوك على النحو الذي يسلكه الراشدون، أو حين يجهل أفضل طريقة للسلوك في موقف اجتماعي معين, وقد يشعر بالارتباك من ملابسه, وخاصة في بعض المجتمعات التي تعد الملابس نوعًا من رموز المكانة الاجتماعية, ولعل هذا يفسر لنا كثيرًا من الخلل الاجتماعي الذي طرأ على مراهقينا نتيجةً لسيطرة فكرة "المستَوْرَد" على ما يلبسون، وأصبح أقصى ما يتمناه المراهق أن يحصل على "بنطلون مستورد", والمراهقة على "بلوزة" مستوردة تحقيقًا للوجاهة الاجتماعية التي أشاعها بهذا المعنى عصر "الانفتاح" في مصر, وخاصة في مراحله العشوائية المبكرة، وقد سقط في سبيل هذا الهدف كثير من الضحايا, ولعل الدعوات التي ظهرت في السنوات الأخيرة للتركيز على شعار "صُنِعَ في مصر" تؤدي إلى تعديل هذا السلوك في الاتجاه الصحيح. ويمثِّلُ العمل المدرسي وما يرتبط به من امتحانات مصدر كثيرٍ من القلق لدى المراهق الصغير, ومن المصادر الأخرى لقلق المراهق مظهره, ونقص التفاهم مع والديه، والعلاقة بين الجنسين، وصعوبة تكوين صداقات، ونقص وسائل الترفيه الملائمة, والاختيار التعليمي والمهني، والمسائل الدينية والصحية، والملابس والنقود، وبعض المشكلات الشخصية مثل نقص التحكم الانفعالي.

النمو الاجتماعي

النمو الاجتماعي: لعل من أهم مطالب النموّ في مرحلة المراهقة تحقيق التكيف الاجتماعي, ولا شكَّ أن المراهق الذي تَتَكَوّنُ لديه قاعدة هذا التكيف خلال أطوار الطفولة, سوف يواجه المطالب الاجتماعية الجديدة بتكيفٍ ناجح, وبعض المراهقين يفشلون في تحقيق هذه المطالب, فيتوقفون عن المحاولة, وينكصون على أعقباهم إلى صور العلاقات الاجتماعية التي كانوا يمارسونها في مرحلة الطفولة، أو تصدر عنهم صور تعويضية من السلوك تحل محل السلوك الاجتماعي المعتاد. ولعل أكثر صور التوافق الجديد أهميةً لدى المراهق الصغير، وأكثرها صعوبةً في نفس الوقت، ما يجب عليه أن يفعله إزاء الأثر المتزايد لجماعة الأقران، بالإضافة إلى الجماعات الاجتماعية الجديدة التي تظهر الحاجة إليها في هذه المرحلة، وأنماط السلوك الاجتماعي الجديد التي لم تكن شائعة في المراحل السابقة. فمع اقتراب الطفل من نهاية مرحلة الطفولة وبداية مرحلة المراهقة, يزداد بُعْدُ الفرد عن الأبوين والمنزل إلى حَدٍّ كبيرٍ, ومعظم الوقت الذي يقضيه خارج المنزل "وهو أكثر مما يقضيه داخل المنزل" يكون مع جماعة الأقران, وهذا يعني بالضرورة أن هذه الجماعة لها أثر بالغ في اتجاهات المراهق الصغير وميوله وقيمه وسلوكه قد يفوق أثر الأسرة, إلّا أن هذا ليس قاعدة عامة, فتحديد الأثر النسبي لكلٍّ من الأسرة وجماعة الأقران يعتمد إلى حَدٍّ كبير على نظرة المراهق إلى كفاءةٍ كلٍّ منهما في توجيه سلوكه, فحين تكون مشكلاته مرتبطة بالحياة على وجه العموم, نجد المراهق الصغير يتوجه إلى والديه، أما إذا كانت هذه المشكلات مرتبطة بالمواقف الراهنة والخاصة, يلجأ إلى جمعة الأقران, وبصفة عامة يمكن القول أن مراهقي الحضر أكثر تأثرًا بجماعة الأقران، وأن مراهقي الريف أكثر تأثرًا بالأسرة, ويزداد أثر جماعة الأقران حدَّةً مع زيادة رغبة المراهق بالنمط السلوكي الذي تحدده الجماعة؛ فحين يكتشف المراهق الصغير مثلًا أن تفوقه الدارسي يجعله "مختلفًا" عن أعضاء الجماعة, فإنه يصبح أقل شغفًا بالحصول على تقديرات عالية في الامتحانات, ويفضِّلُ أن يكون "واحدًا من القطيع", بل إن البعض يبالغ في تصرفاته التزامًا بمعيار الجماعة حتى يتخلص من الصورة التي كانت له عند الآخرين حينما كان طفلًا، أي: صورة "الطفل الطيب المؤدب". ولعل من أخطر مصادر المشكلات للمراهق الصغير تفضيله لمعايير جماعة

الأقران التي قد تتعارض مع معايير الكبار "وخاصة الوالدين", وعلى ذلك فإن الأب الذي يُصِرُّ على أن يذهب ابنه المراهق إلى النوم في تمام الساعة الثامنة مساء، كما كان طفلًا، قد يجد نفسه في موقف صراعٍ مع ابنه حين تكون معايير جماعة الأقران التي ينتسب إليها هي اعتبار الساعة العاشرة أو العاشرة والنصف مثلًا وقتًا معقولًا للنوم, وفي هذه الحالة يعيش المراهق في عالمٍ يحكمه معياران؛ أحدهما يقوم على توقعات الكبار منه، والآخر يعتمد على توقعات جماعة الأقران, وينشأ لدى المراهق الذي يحب والديه, والذي يريد في نفس الوقت أن يكون مقبولًا من جماعة الأقران, مشكلة اتخاذ قرارٍ مناسبٍ حول أيّ المعيارين سوف يتحكم في سلوكه، وهو عادةً ما يختار معيار جماعة الأقران بسبب الاتجاه الخارجي للنموّ في هذه المرحلة، وهذا التعامل مع المعايير المتضادة قد يخلق لدى المراهق مشكلات عامة وخاصة لدى الذكور. إلّا أن أهم تَغَيُّرٍ يطرأ على السلوك الاجتماعي في هذه المرحلة أن "شِلَلَ" gangs الأطفال تتلاشى بالتدريج مع البلوغ الجنسي, وفي بداية المراهقة, مع تحوّل اهتمامات الفرد من نشاط اللعب في الطفولة إلى الأنشطة الاجتماعية في المراهقة, ولهذا تحل جماعات جديدة محل الشِّلَلِ القديمة, وعادة ما تكون جماعات الذكور أكبر وأقل تحديدًا, بينما جماعات الإناث أصغر وأكثر تحديدًا. وأشهر أنواع التجمعات الاجتماعية في مرحلة المراهقة المبكرة ما تسميه هيرلوك "Hurlock" الرفقة الحميمة, والثلة clique, والجمهرة corwd, والجماعة المنظمة, ثم العصابة, وتتألف جماعة الرفقة الحميمة من أفضل الأصدقاء؛ فمع البلوغ يختار الفتى صديقًا وثيق الصلة به, يكون موضع سره، وكذلك تفعل الفتاة. هذا الرفيق يشبع لدى المراهق الكثير من حاجاته الاجتماعية؛ فنجده يقضي معه وقتًا أطول مما يقضيه مع الأصدقاء الآخرين, وعادةً ما يكون الرفيق من نفس الجنس لديه نفس الميول والقدرات, والعلاقة بينهما تكون وثيقةً إلى الحدِّ الذي يتأثر فيه كلٌّ منهما بالآخر, وعلى الرغم مما ينشأ بينهما من اختلاف، بل وصراعٍ قد يكون مريرًا، فإن صلة الصداقة بينهما تكون من القوة بحيث تتجاوز كل ذلك, وتعود الأمور بينهما إلى طبيعتها من جديد, وهكذا فإن جماعة الرفقة الحميمة هي في جوهرها من نوع المثنى diad. أما الثلة فهي تجمع أكبر, إنها تشكل ثلاثة أو أربعة من الأصدقاء الحميمين الذين تجمعهم ميول وقدرات مشتركة أيضًا, وقد تتألف من عدة أزواج من الرفاق

الحميمين, وتكون الثلل في مراحل تكوينها المبكر من نفس الجنس، وتجمع أعضاؤها روابط قوية لا تتوافر في صداقات الطفولة, ويقضي أفراد الثلة أكبر وقت مستطاع مع بعضهم, وتتركز أنشطتهم على الأنشطة الجماعية؛ كالاستذكار الجماعي، أو الذهاب إلى الأفلام السينمائية، أو مشاهدة المباريات الرياضية، أو حضور الحفلات, أو التواصل سواء بالحديث المباشر, أو باستخدام التليفون "أكبر عدد من المكالمات التليفونية التي يقوم بها المراهق الصغير تكون مع أفراد ثلته", ومن المتوقع للمراهق حين ينتمي إلى ثلةٍ معينةٍ أن يساير معايير السلوك فيها, حتى لو اختلفت أو تعارضت مع معايير أسرته. والجمهرة هي أكبر التجمعات الاجتماعية في مرحلة المراهقة، ولهذا توجد فيها مسافات اجتماعية بين أعضائها, وعادة ما تبدأ بثلةٍ ثم يزداد حجمها بانضمام أعضاء جدد؛ كأفراد أو كرفاق حميمين أو كثلل أخرى, وفي مثل هذه الظروف لا يكون جميع أعضاء الجمهرة متجانسين, وقد تكونه الجمهرة في البداية من نفس الجنس، ومع نموّ الاهتمام بالجنس الآخر تصبح هذه الجماعات مختطلة, وعادةً ما تكون أنشطة هذه الجماعات ذات طابع اجتماعي. أما الجماعة المنظمة فهي تلك التي تنظمها المدارس والأندية وغيرها من المؤسسات الاجتماعية لتهيئة الفرصة للمراهقين لممارسة الأنشطة الاجتماعية, ولو نظمت هذه الجماعات تنظيمًا جيدًا لأشبعت الكثير من الحاجات الاجتماعية لدى المراهقين، إلّا أنه لسوء الحظِّ لا تحقق ذلك, بسبب الفشل في إكسابهم المهارات الاجتماعية، وروح السيطرة التي يفرضها أحيانًا قادة هذه الجماعات "الذين هم في العادة من الكبار". ويوجد بعض المراهقين الأقل توافقًا من الوجهة الاجتماعية, وليس لديهم إلّا قليل من الصداقات بين زملائهم, ولهذا نجدهم يقضون وقتهم يتسكعون في الطرقات وعلى نواصي الشوارع والميادين, مؤلفين ما يمكن أن يسمى عصابة, وعادةً ما تكون هذه العصابات من نفس الجنس, وعلى الرغم من أن أفراد هذه العصابات لا يتحولون بالضرورة إلى أحداثٍ جانحين، إلّا أننا نلاحظ أن معظم الوقت يُقْضَى في سلوكٍ مضادٍّ للمجتمع, وفي بعض أحداث العنف, ولعل هذه الفئة تؤلف الجمهور الأعظم لأحداث العنف الجماعي التي تعرضت لها مصر في السنوات الأخيرة. ومن أهم مظاهر التغير التي تطرأ على السلوك الاجتماعي للمراهق الصغير

محاولة تقمص شخصية أحد الراشدين، يفعل ما يفعلون في المواقف الاجتماعية المختلفة, ويلجأ بعضهم في سبيل تحقيق ذلك إلى الميل إلى إصدار أنماطٍ سلوكيةٍ تعبر عن مكانة الراشد، وأشهر الأمثلة في هذا الصدد التدخين, وقد يظهر هذا الميل لدى مراهق الأسر القادرة في صورة رغبة قوية في قيادة السيارة, ويزداد استخدام هذين النمطين السلوكيين كرموزٍ لمكانة الرشد عند المراهقين مع تقدمهم في السن. ومن أنواع السلوك الاجتماعي الهامة التي تطرأ على حياة المراهقين الصغار العلاقات بين الجنسين؛ فالمراهق يتحول من النفور من الجنس الآخر في مرحلة الطفولة المتأخرة والمراهقة المبكرة, إلى الشغف والاهتمام به في أطوار المراهقة المتوسطة والمتأخرة, وهذا التحوّل يرتبط بالطبع بالنمو الفسيولوجي الذي يحدث بسرعة فائقة في هذه المرحلة. ميول المراهقين: تنشأ في مرحلة المراهقة ميول جديدة نتيجةً للتغيرات الجسمية والاجتماعية, وما يميل إليه المراهق يتوقف على جنسه وذكائه والبيئة التي يعيش فيها, وفرص التعليم المتاحة له, وما يهتم به أقرانه, وقدراته وميوله, وأسرته, وغير ذلك من العوامل الكثيرة, ويمكن تصنيف ميول المراهقين إلى ثلاثة أنواع على النحو الذي تقترحه هيرلوك "Hurlock 1980", أي: الميول الاجتماعية، والميول الشخصية، وميول الترويج. والميول الاجتماعية هي تلك التي تتعلق بالمواقف الاجتماعية, ويميل المراهق بإخلاصٍ شديدٍ إلى الآخرين, وخاصة أولئك الذين يشعر أنهم في حاجة إلى الرعاية، ويتمثّل هذا الميل في مشاركته النشطة في النشاط الاجتماعي المدرسي، وفي مشروعات خدمة البيئة التي تنظم عادة لمساعدة سكان المنطقة التي توجد فيها المدرسة, كما تظهر على المراهق ميول سياسية, سواء كانت تتعلق بالسياسة الداخلية أو بالسياسة الدولية, وتتمثل هذه الميول في كتاباته وفي نشاطه العملي، وقد يقوى هذا الميل عنده فيظهر في شكل جهد واضح لإصلاح الأسرة والأصدقاء والمدرسة.

أما عن الميول الشخصية فلها أهميةٌ خاصةٌ لدى المراهق, وخاصةً بسبب التغيرات البدنية التي تطرأ عليه خلال البلوغ, والتي تستمر ولو بمعدل بطيء بعد ذلك في مرحلة المراهقة المبكرة, وبعض هذا الاهتمام يعود جزئيًّا إلى معرفة المراهق أن كلًّا من التقبُّل الاجتماعي وتحقيق الذات يتأثر بالمظهر العام للفرد, ويرجع إلى هذا السبب معظم السلوك الذي يصدر عن المراهقين الصغار, ويبدو لنا غريبًا, وخاصةً عند محاولتهم ارتداء أزياء غير مألوفة, وتصفيف الشعر بطرقٍ غير عادية, وتكوين اتجاهات وعادات غريبة. هذه كلها جهود من قبل المراهق للحصول على التقبُّلِ الاجتماعيّ من خلال الالتزام بمعايير الجماعة من ناحية، وللوصول إلى تحقيق ذاته كشخص له حقوق وامتيازات الراشد من ناحية أخرى, وقد ينتج عن هذا ما يسميه الراشدون "البدع" أو "التقاليع"؛ لأنها تتغير تغيرًا سريعًا ومفاجئًا. وبزيادة الاهتمام بالجنس الآخر تظهر على المراهق ميولٌ واهتماماتٌ بمظهره وملبسه وزينته, وخاصةً لدى البنات، كما يظهر عند المراهق ميلٌ ورغبةٌ في الاستقلال، والذي يظهر بصورة مخففة في نهاية الطفولة, ويتزايد مع بداية المراهقة, ويتمثل ذلك في مقاومة سلطة الكبار, سواء أكانوا آباء أم معلمين, ويؤدي ذلك إلى كثير من الصراعات والمشكلات معهم, كما تظهر على المراهق ميولًا للتمرد, وهي جميعًا أعراضٌ لرغبته في السلوك مستقلًّا عن الكبار, وحتى يحقق تلك الرغبة في الاستقلال تكون للنقود أهمية خاصة، ولا يتمثَّل ذلك في مناقشة مقدار ما يأخذ من مصروف، ولا حريته في إنفاقه فقط، وإنما يتساءل المراهق أيضًا كيف يمكنه أن يكسب نقودًا إضافية ليواجه احتياجاته، ولذلك قد يعمل بعض المراهقين في هذه المرحلة بعض الوقت, ثم يتزايد ميل المراهق نحو الامتلاك؛ كالحصول على الملابس وأدوات الرياضة، ويكون هذا الميل لدى الفتيان أقوى منه لدى الفتيات, وتتوقف حدة هذه الميول على القيم المسيطرة في المجتمع, فحين تكون القيم المادية هي السائدة تسود هذه الميول. وطالب المدرسة الإعدادية والثانوية مشغولٌ منذ دخوله فيها بمستقبله الدارسي والمهني, والمفروض أن مستويات الطموح المهنية غير الواقعية في مرحلة الطفولة تتحول إلى الواقعية في المراهقة, وحتى تصبح هذه المستويات واقعية؛ فالمفروض أن يتعرف المراهق على قدراته وميوله وإمكاناته واستعداداته عن طريق خدمات نفسية منظمة, وقد توجهت وزراة التربية والتعليم منذ عام 1990 إلى تقديم هذه الخدمات في المرحلة الثانوية, وذلك بتعيين أخصائيين

نفسيين في هذه المدارس, ونحن في حاجة إلى امتداد هذه الخدمات إلى جميع مراحل التعليم "المرحلة الإعدادية والمرحلة الابتدائية". أما عن علاقة المراهق بالمدرسة: فعادة ما نجده يشكو من قيودها وواجباتها ومقرراتها وطريقة إدارتها؛ فهو ناقدٌ لمعلميه, وناقدٌ لطريقة تدريسهم, ومع هذا فكثيرٌ من المراهقين ينجح أكاديميًّا واجتماعيًّا ويحب المدرسة، فالمدرسة الإعدادية والثانوية للمراهق طريقٌ لتحقيق أهداف مهنية وتعليمية أعلى, ولهذا نجده في أغلب الأحوال يعمل بجدٍّ, ويقرأ باتساعٍ, ويشارك في النشاط, ويتأثر ميل المراهق للدراسة بتفوقه في مواد معينة, واتجاهه نحو معلميه, والفتيان يفضلون عمومًا المواد التي يعتقدون أن لها قيمة واقعية؛ كالعلوم والرياضيات. وأغلب المراهقين يكوّنون اتجاهات عدم التقبل نحو المواد التي اشتهرت بأنها صعبة وقد يفشلون فيها. والواقع أن مشكلة الفقد التعليمي هي من أخطر مشكلات التعليم الإعدادي والثانوي على الإطلاق، والفشل في هاتين المرحلتين ليس في أغلب الأحوال لأسباب أكاديمية, وإنما قد تكون وراءه أسباب اجتماعية، كالفشل في تكوين علاقات اجتماعية ناجحة. أما عن الميول الترويحية: فإنها تختلف في هذه المرحلة عن ميول الطفولة, فنتيجةً لضغوط العمل المدرسي, سواء أكان رسميًّا أم خلال النشاط المدرسي, لا يجد المراهق وقتًا كافيًا للترويح, ولهذا فإنه لا بُدَّ أن يختار أنواع النشاط التي يمكن أن يستمتع بها مما يحدِّدُ هذه الأنشطة, ويفضل المراهق الصغير الأعمال الرياضية التي تتطلب بذل مقدار كبير من الطاقة, ويصل هذا الميل إلى قمته في مرحلة المراهقة المبكرة, ومن بين جميع الألعاب, تحتل السباحة قائمة الهوايات الرياضية لكلٍّ من الجنسين, وتزداد نسبة الفتيات اللاتي يفضلن الاستمتاع بالرياضة كمتفرجات, بينما يفضل الفتيات القيام بدور المشارك, وخاصة في كرة القدم. أما عن ميول القراءة الحرة: فهي أقل في مرحلة المراهقة المبكرة منها في السنوات المتأخرة من الطفولة, وقد يكون سبب ذلك ضغوط العمل المدرسي, وعمومًا فإن الفتيان في هذا السن يفضلون القراءة حول العلوم والاختراعات، وتفضل البنات القصص الأدبية, وخاصةً القصص الرومانسية, كما يفضِّل المراهقون ذكورًا وإناثًا قراءة المجلات بصفة عامة على قراءة الكتب، كما يحبون قراءة القصص الفكاهية, سواء كانت في المجلات أو الكتب. ويفضل المراهقون من بين الأفلام السينمائية الأفلام الرومانسية "وتفضيلها

أعلى عند البنات", وأفلام المغامرات "وتفضيلها أعلى عند البنين", كما يحبون الأفلام الكوميدية, ولا يميلون إلى الأفلام التعليمية من أيّ نوع, ويُعَدُّ الذهاب إلى السينما أحد الأنشطة الهامة لجماعات المراهقين. ويحب المراهقون الاستماع إلى الراديو والكاسيت السمعي ومشاهدة التليفزيون وأفلام الفيديو, وبعضهم يفضل الاستماع إلى الراديو والكاستيات السمعية أثناء الاستذكار, بحجة أن ذلك يعين على مزيدٍ من التركيز, وتتعرض برامج التليفزيون إلى نقد المراهقين, ويفضل الكثيرون أفلام الفيديو عليها، ولعل ذلك يرجع إلى أن هذه البرامج لا تكاد تشبع حاجات هذه الفئة العمرية الحرجة؛ لأنها في العادة إما أن تكون للأطفال أو الكبار, دون وعي بالمراهقة التي تقع في منزلة بين المنزلتين. ويقضي المراهقون الصغار جزءًا من الوقت الذي يخصص لأداء العمل المدرسي وغيره من واجبات هذه المرحلة في أحلام اليقظة, والمحتوى الغالب على أحلام اليقظة في هذه المرحلة هو صورة "البطل المنتصر"، وفيه يتقمص شخصية بطل يحبه، وقد يؤدي هذا النشاط إلى تكوين مفهوم غير واقعي عن الذات، إلّا أنه مع ذلك يفيد كميكانيزم لا شعوري في حل الصراع النفسي لدى المراهق.

النمو الخلقي والاهتمامات الدينية

النمو الخلقي والاهتمامات الدينية: من المهام النمائية الهامة في مرحلة المراهقة المبكرة, تعلُّم المراهق ما تتوقعه منه الجماعة, وتشكيل سلوكه ليتوافق مع هذه التوقعات, دون إشراف مستمر ودون تهديد بالعقاب على النحو الذي كان سائدًا في مرحلة الطفولة, ولهذا نجد المراهق يحل المبادئ الخلقية العامة محل المفاهيم الخلقية النوعية أو الخاصة، كما يحل الضوابط الداخلية للسلوك محل الضوابط الخارجية. وإذا كان المراهق قد اجتاز مرحلة الطفولة ولديه أساس أخلاقي قوي, فإنه يستطيع أن يواجه ضغوط المراهقة بنجاح، وخاصة حين يصبح السلوك الخلقي مسئولية ذاتية، لقد أصبح هو مصدر الضبط، ولم يعد الأمر في يد المعلمين أو الوالدين كما كان الحال في مرحة الطفولة, ولعل من الأخطاء التي يقع فيها الوالدان والمعلمون في هذه المرحلة أنهم لا يهتمون بتدريب المراهق على إدراك العلاقة بين المبادئ الخاصة التي تعلمها في الطفولة والمبادئ العامة التي تُعَدُّ جوهريةً في ضبط السلوك في المراهقة، وبالتالي في مرحلة الرشد، ويكتفون في هذا الصدد بالقول بأنه قد تَعَلَّمَ أثناء الطفولة القواعد التي تميز بين الخطأ والصواب،

الحق والباطل، الفضيلة والرذيلة, وغيرها. والواقع أن المراهق لا يكون مستعدًّا لتقبُّلِ المفاهيم الخلقية دون مناقشةٍ كما كان الحال عليه أثناء الطفولة, إنه يحاول بناء نظامه الأخلاقي معتمدًا على المبادئ الخلقية التي تكونت لديه أثناء الطفولة, والتي يجب أن تتعدَّلَ وتتغيَّرَ لتلائمَ المستوى الأكثر نضجًا من النمو في هذه المرحلة, ويقوده ذلك إلى اكتشاف أوجه التناقض في بعض المبادئ الخلقية، وخاصةً التناقض بين القول والعمل في سلوك الوالدين والمعلمين, وهذا الاكتشاف بالذات يؤدي بالمراهق إلى كثيرٍ من الخلط والاضطراب, كما قد يكتشف المراهق ما يمكن أن يسمى "المعيار المزدوج" Double Standard؛ فالكذب يمكن أن يكون أبيض, وسرقة الممتلكات الشخصية أسوأ من سرقة الملكية العامة, ويعض أنماط السلوك في العلاقة بين الجنسين تُعَدُّ خطأً إذا صدرت عن البنات, بينما هي ليست كذلك بالنسبة للبنين، والأخطر من هذا شيوع اتجاه تسامحي نحو الغش في الامتحانات، ويبرر المراهقون ذلك بأن الكثيرين يلجأون إلى هذه الوسيلة للنجاح في الامتحان من ناحية، وبأن هناك ضغوطًا على الطلاب للحصول على درجاتٍ عالية لتحقيق أهدافهم التعليمية والمهنية, وشيوع هذه المعايير المزدوجة بين المراهقين مؤشرٌ على الانهيار القيمي العام, والمراهقة في هذه الحالة ليست إلّا مرآة تنعكس عليها هذه الصورة المدمرة للمجتمع, ومن الواجب أن ننبه إلى ذلك, وخاصة بعد شيوع كثير من الظواهر الخطيرة في مجتمعنا في الوقت الحاضر, والتي تهدد بالشر المستطير. ولعل أشدَّ مصادر الخطر ضررًا أن يعجز الضمير -وهو قوة الضبط الداخلي عند الإنسان الراشد الذي تعتبر مرحلة المراهقة المقدمة الطبيعية له- عن النموّ بالمعدل المطلوب, والضمير هو الذي يحوّل سلطة التحكم في سلوك الفرد إلى داخله, وليس إلى سلطة خارجية, والمفروض أنه مرحلة نموّ طبيعية في المراهقة, بعد أن تكون قد ظهرت بوادر مشاعر الذنب والعار في الطفولة المبكرة عند القيام بسلوك لا يتفق مع المعيار الاجتماعي، وهي المشاعر التي يُفْتَرَضُ فيها أن تسود هذه المرحلة "وخاصة الشعور بالذنب" لتنقل المراهقين من المستوى الخلقي التقليدي إلى المستوى بعد التقليدي, على حد تعبير كولبرج "راجع الفصل الخامس", ومن الواجب التمييز بين الشعور بالذنب والشعور بالعار؛ فالأول قوةُ ضبطٍ داخليةٍ, بمعنى: أنه يحدث استجابات انفعالية غير ملائمة حين يدرك الفرد أن سلوكه لا يلتزم بالمعيار القيمي، أما الشعور بالعار فينتج استجابات انفعالية فقط, حين يشعر الفرد بأن الآخرين يحكمون على سلوكه بعدم الملاءمة, وعلى هذا فإن

السلوك حين يوجه بالشعور بالذنب يكون موجهًا داخليًّا, بينما سيادة الشعور بالعار يعني أن السلوك لا يزال موجهًا من الخارج, وعلى أية حالٍ, فكلٌّ من الشعورين يتحكَّم في السلوك الخلقي للمراهق الصغير. والمراهقة هي مرحلة سعي إلى الكمال, ونتيجة لذلك نجد المراهقين يصنعون لأنفسهم وللآخرين معايير أخلاقية مرتفعة يصعب أحيانًا الوصول إليها, وحين يعجز عن تحقيق نموذج "الكمال الأخلاقي" الذي حدده، يشعر المراهق بالذنب, ويعاني من اضطراب الضمير, ولهذا نجد المراهق أكثر استعدادًا من الطفل في تقبل اللوم, إلّا أنه لو زادت حدة مشاعر الذنب عنده، وتكرر حدوثها, قد يشعر المراهق بعدم الكفاءة الشخصية، ويلجأ نتيجةً لذلك إما إلى الهرب في أحلام اليقظة، أو إلى تكوين اتجاه الامبالاة, ومن المؤكَّدِ أن كثيرًا من أسباب شقاء المراهقين الصغار, هي مشاعر ذنبٍ ناجمة عن شعورٍ, بعضه حقيقيّ, ومعظمه متوهم. وتتميز المراهقة أيضًا بأنها فترة يقظة دينية توضع فيها المعتقدات الدينية التي قد كوَّنَها الفرد في طفولته موضع الفحص والمناقشة والنقد، وتتعرض للتعديل حتى تتفق مع حاجاته الجديدة الأكثر نضجًا, وتستغرق هذه الأمور منه وقتًا طويلًا, ولذلك فإن مرحلة المراهقة يصبغها الاهتمام الديني, ويزيد من اهتمام المراهق بالمسائل الدينية أنه مطالبٌ بممارسة العبادات بشكلٍ أكثر جديةٍ مما كان عليه الحال في الطفولة, بالإضافة إلى أن مناقشاته مع أصدقائه يغلب على موضوعاتها المسائل الدينية، كما أن بعض الحوادث التي تقع له؛ كموت صديق أو قريب, أو الصعوبات التي يواجهها, تجعله يزداد تركيزًا على الدين. والفحص الناقد لمعتقدات الطفولة قد يقود المراهق إلى الشك, وبالطبع تُوجَدُ فروق فردية وجماعية في خبرة الشكّ الديني لدى المراهقين؛ فهو أشد لدى الذكور منه لدى الإناث, كما أنه أقل حدوثًا لدى المراهقين الذين ينشأون في أسرٍ تهتم بالدين دون مبالغة, وقد يزداد هذا الشعور أو يقل مع نموِّ المراهق, ويتوقف ذلك على طبيعة الخبرات التعليمية التي يتعرض لها في المدرسة؛ فإذا كانت التربية الدينية تُقَدَّمُ للمراهق بشكل صوري، وإذا كانت مقررات العلوم الحديثة التي يدرسها في المدرسة تزيد لديه الفجوة بين العلم والدين, فإن ذلك قد يزيد حدة الشعور بالشك لديه, ويصاحب هذا الشك توتر انفعالي تزداد حدته مع عمق معتقداته الطفلية.

وهذا الشك هو جزءٌ من النموِّ المعرفيّ العام للمراهق الذي تناولناه فيما سبق, وإذا أمكن للمراهق تجاوز أزمة الشك بسلام من خلال برنامج جيد للرعاية النفسية, يتضمن بين مكوناته رعاية دينية مستنيرة، فإن ذلك يقوده إلى ما يسميه سترانج "Strang 1957" "حكمة الاعتقاد", وإذا نجحنا في ذلك, فإن مراهقنا لا يكاد يتجاوز المرحلة الثانوية إلّا وتكون لديه مفاهيم صحيحة عن عقيدته الدينية, ولعلنا بذلك نحمي مراهقينا من الوقوع في براثن الذين يمارسون هواية "اللعب بالدين"، وهي هواية وصلت بالمجتمع المصري إلى حافة الخطر, ثم لعلنا بذلك نفتح باب الاجتهاد البحثي في هذا الموضوع الهامِّ الذي لم يحظ من علماء النفس المصريين والعرب باهتمامٍ يُذْكَرُ منذ أجريت الدراسة الهامة حول نمو الشعور الديني لدى الطفل والمراهق, والتي قام بها في مطلع الخمسينيات أحد أعلام الجيل الثاني لعلم النفس في مصر "عبد المنعم المليجي 1955".

نمو الشخصية في مرحلة المراهقة المبكرة

نمو الشخصية في مرحلة المراهقة المبكرة: مع بداية المراهقة يشعر الفتيان والفتيات بما فيهم من صفات حميدة أو ذميمة، ويحكمون عليها بالمقارنة بأصدقائهم, كما يشعرون بدور سمات الشخصية في العلاقات الاجتماعية، ويعطيهم ذلك دافعًا لتحسين شخصياتهم, على أمل زيادة تقبلهم الاجتماعي, ولتحقيق ذلك لا يجب على المراهق أن يكوّنَ مفهومًا واقعيًّا عن الذات فحسب, ولكن يجب أن يكون راغبًا أيضًا في تقبُّل هذا المفهوم. والمراهق يمكنه أن يكوّنَ صورة مثالية عن نفسه, وتحقيقها بالفعل في عالم الواقع، ويمكنه أن يقبل نفسه بمعنى أن يحب نفسه, ويشعر بأن الآخرين يجدون فيه صفات حميدة, ونتيجةً لذلك يكون أكثر تكيفًا من الناحيتين الشخصية والاجتماعية من مراهقٍ آخر تكون صورة ذاته المثالية غير واقعية, وتجعله يعجز عن تحقيقها بالفعل, وقد يؤدي به ذلك إلى عدم تقبل ذاته، وإلى أن يسلك على نحوٍ يجعل من الصعب على الآخرين تقبله. ويؤثر في نموِّ الشخصية في هذه الفترة عوامل لم تكن لها قوة مماثلة أثناء الطفولة, ويتحدد الأثر الذي تحدثه بالأسس التي قد تكون تكوّنت لدى المراهق بالفعل خلال مراحل نموه السابقة, فإذا كان عانى كثيرًا من مشاعر النقص, والتي قد تكون قد تدعمت مع بدء المراهقة، فإن مكانته في جماعات المراهقين سوف تزيد لديه حدة هذا الشعور, ومن هذه العوامل المظهر الشخصي للمراهق وملابسه

واسمه وأسرته وأقرانه ومستوى طموحه وتطلعه, وهي جميعًا عوامل تحتاج إلى دراسات جادة في بيئتنا العربية والإسلامية. وترجع بعض التغيرات التي تطرأ على شخصية المراهق إلى أثر الضغوط الاجتماعية التي يتعرض لها, ويتضح ذلك خاصةً في السمات المتصلة بجنس المراهق؛ فسمات المخاطرة والإقدام مثلًا تميز الفتيان، بينما تميز الفتيات سمات الرقة والمحافظة, وتوجد سمات أخرى تُعَدُّ مقبولةً اجتماعيًّا, وأخرى غير مقبولة اجتماعيًّا لكلٍّ من الجنسين, ويسعى المراهق لتنمية الصفات المقبولة في شخصيته, ونحن في حاجة إلى دراسات جادة تحدد لنا هذه السمات الفارقة لدى كلٍّ من الجنسين في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. وهنا يجب أن نؤكد أن الوالد والمعلم يُقَدِّرُ التلاميذ المراهقين على أسسٍ تختلف عن أسس تقدير بعضهم البعض؛ فهو قد يقدر التلميذ مثلًا لأنه مؤدب أو متدين أو يستذكر دروسه ويؤدي واجباته المدرسية، بينما يُقَدِّرُ المراهقون بعضهم بعضًا على أسسٍ مختلفة، وليس معنى ذلك أن يتبنى المعلم والأب أسس تقدير المراهقين لأنفسهم عند تقديره هو لهم، ولكن معرفة المدرس والوالد بهذه الحقيقة يفيده في فهم شخصية المراهق؛ فالمعلم حين يمتدح التلميذ لأنه متفوق في المدرسة قد يؤدي ذلك به إلى نبذه من جماعة المراهقين التي ينتسب إليها, والتي قد تكون عادةً من ذوي الأداء المدرسي العادي, وقد يؤدي به ذلك إلى أن يتخلف دراسيًّا عن قصدٍ كما بينا من قبل, والمهم للمعلم وهو يتعامل مع المراهقين أن يتعرف على أسس تقدير المراهقين بعضهم لبعض حتى لا يتعارض أسلوبه في معاملة المراهق مع مواضع هذا التقدير. وربما لا يُوجَدُ عاملٌ يلعب دورًا في مفهوم الذات لدى المراهق يفوق مستوى الطموح، فمن المعتاد أن يحدد المراهق أهدافه؛ بحيث تتجاوز قدراته بسبب ضغوط الوالدين من ناحية، وبسبب عدم قدرته على تقدير قدراته التقدير الصحيح من ناحيةٍ أخرى, وحين يفشل في تحقيق أهدافه يشعر بعدم الكفاية, ويدفعه هذا بدوره إلى الخضوع لمزيد من الضغط للقيام بمزيدٍ من العمل، ويؤدي ذلك كله به إلى القلق, أو اللجوء إلى بعض الحيل اللاشعورية, ومنها الإسقاط "أي: عزو الفشل إلى الآخرين". وتؤكد الدراسات الكلينيكية "Hurlock 1980" أن عدد الحالات التي تعاني سوء التوافق لأول مرة في مرحلة المراهقة المبكرة قليل بصفة عامة, مالم يحدث

تغير جسمي أو غُدِّي ملحوظ في الفرد، أو مالم يعانِ الفرد من صدمة انفعالية عنيفة, ومعظم حالات سوء التوافق في هذه المرحلة لها تاريخٌ مع السلوك المشكَّلِ, يمتد إلى السنوات المبكرة من مرحلة الطفولة, وبالطبع تتهيأ في المراهقة لهؤلاء المراهقين سوء التوافق فرصةً لزيادة هذه المشكلات الشخصية لديهم, وذلك بسبب التغيرات الشديدة التي تحدث في هذه المرحلة, وخاصة في مطلعها, ولهذا وجدنا البحوث التي تتناول مشكلات الشباب تتخذ بدايتها في العادة مرحلة المراهقة المبكرة, وقد أُجْرِيَتْ بحوثٌ كثيرةٌ في هذا الميدان, سنتناولها بالعرض عند الحديث عن طور السعي "الشباب". ويقودنا هذا إلى الإشارة إلى التمييز العام بين الشخصية "العادية" والشخصية "السليمة" في هذه المرحلة؛ فعادةً ما يُوصَفُ المراهق المبكر بأنه "عادي", لمحض أنه يقوم بأدواره تبعًا للتوقعات الاجتماعية، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أنه سليم, من وجهة نظر الصحة المدرسية, فالشخصية "السليمة" هي التي تشتق إشباعًا شخصيًّا ورضًا ذاتيًّا من القيام بالدور الذي تحدده التوقعات الاجتماعية, ولعلنا بهذا التمييز ننبه إلى ضرورة تهيئة بيئة مدرسية ومنزلية واجتماعية على نطاق المجتمع الشامل، تهيئ للمراهق تنمية مشاعر الإشباع والرضا الشخصي فيه، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلّا إذا توافرت في هذه البيئات شروط الصحة الاجتماعية والنفسية. أزمة الهوية: من بين جميع أزمات النموِّ تحتل أزمة تحديد الهوية في مقابل الغموض بؤرة اهتمام إريكسون في بناء نموذجه للنمو الوجداني والانفعالي, فمع البلوغ ينمو الجسم بسرعة, وتطرأ عليه تغيرات هائلة, وهذه التغيرات تحدث قدرًا من الاضطراب لدى المراهقين من الذكور والإناث؛ فتنشأ لهم أدوارٌ اجتماعيةٌ جديدةٌ، بالإضافة إلى أن صورهم عن ذواتهم كأطفال, لم تعد ملائمة للمظهر الجديد الذي هم عليه, ولمشاعرهم الجديدة نحو الجنس الآخر, وكذلك تنشأ مطالب وتوقعات جديدة لدى الكبار والأقران, تختلف عن تلك التي كانت في الطفولة, ويؤدي ذلك كله إلى خلطٍ شديدٍ لدى المراهق المبكِّر, يسميه إريكسون أزمة الهوية identity. ومن العوامل التي تؤثر في طور المراهقة المبكِّرَةِ نتائج الخبرات التي تعرَّضَ لها المراهق في مراحل نموه السابقة، وهي التي تضمن التكامل الناجح بين الدوافع الأساسية لدى الفرد وقدراته الجسمية والعقلية وفرص الحياة التي توفرها له البيئة الاجتماعية, ومعنى ذلك أن نموَّ الطفل السابق على البلوغ "لفترة تصل إلى

12 سنة أو نحوها" يتم تركيبه وتوليفه مع مطلع المراهقة ليعطي للفرد شعورًا بالهوية الشخصية أو بتحديد الذات. وهذا الشعور بالهوية الشخصية يتضمن أن يحتفظ الفرد لنفسه بصورة لذاته, فيها التماثل والاستمرار, والتي تتطابق مع التماثل والاستمرار الذي يكوّنه الآخرون عنه, والإضافة إلى ذلك, فإن المراهق يكون في حاجةٍ إلى أن يكتسب وعيًا متزايدًا بأهدافه, وفهمًا واضحًا للعالم الواقعيّ الذي يتعامل معه بأسلوبه في الحياة. والخطر الحقيقيّ في هذه المرحلة يسميه إريكسون "خلط الأدوار" أو "خلط الهوية"؛ فالمراهق لا يعرف أحيانًا مَنْ يكون بالنسبة لنفسه وبالنسبة للآخرين؛ فالأولاد والبنات يتحولون فيها إلى صورة مصغرة من الرجال والنساء، ويعانون نتيجةً لهذه الصورة من الخلط والاغتراب والانفصال, ويُعَدُّ الشعور بالهوية المشكلة الجوهرية في هذه الفترة؛ فالمراهق يسعى إلى معرفة مَنْ يكون؟ وما دوره في المجتمع؟ وهل هو طفلٌ أم راشدٌ؟ هل يمكنه أن يصبح زوجًا وأبًا, أو يمكنها أن تصبح زوجةً وأمًّا؟ وكيف يكسب عيشه؟ وأيّ مهنة يعمل؟ وفوق هذا كله هل ينجح أم يفشل؟ ولهذا نجد المراهق مهتمًّا بإدراك الآخرين له, ومقارنته بإدراكه لذاته, ويؤدي به عدم القدرة على فهم الذات -أو نقصان الهوية- إلى الخلط والغموض, والفشل في حل هذه الأزمة يؤدي إلى إطالة مرحلة المراهقة، وفشل تكامل الشخصية في مرحلة الرشد. ومن نوع الميكانيزمات الدفاعية ضد خلط الهوية التي يلجأ إليها المراهقون, التَّقَمُصُ الزائد للأبطال والجماعات والجماهير والغايات, وهو ميكانيزم قد يُفْقِدُ المراهق فرديته مؤقتًا, وبه يعاون المراهقون بعضهم بعضًا على التغلب على أزمة الهوية، وذلك من خلال المجتمع معًا, ويفسر لنا ذلك ظهور الجماعات التي تصبّ المراهقين في قالبها من حيث الملبس والكلام والسلوك والمثل العليا، وهي جماعات لا تتسامح عادةً مع من هم خارجها, وقد ينجم عن ذلك صراعٌ مع الوالدين والإخوة والآخرين القريبين منهم، وقد يمتد ذلك إلى الصراع مع السلطة في المجتمع, وقد يفسر لنا ذلك ظهور الجماعات المتطرفة التي يكون معظم أعضائها من المراهقين والشباب. أما المراهقون الذين يستطيعون حل مشكلات المراهقة بنجاحٍ, فإنهم يحرزون شعورًا قويًّا بالفردية، بالإضافة إلى اعتراف المجتمع بهم كأعضاء فيه يقبلهم ويقبلونه، وهو شعور صحيٌّ يقود إلى المواطنة الصحيحة والسلوك الاجتماعي السليم.

مدرسة المراهقين: تختلف خبرات المراهق في المدرسة عن خبرات الطفل, ومع ذلك فإن النتائج تكون متشابهة بين مدرسة الأطفال ومدرسة المراهقين. وقبل أن نبدأ في عرض أثر المدرسة, نتناول إحدى مشكلات النظام التعليمي لهذه المرحلة, فقد ساد لفترةٍ من الوقت تخصيص مرحلة تعليمية منفصلة للطور النمائي الخاص بالبلوغ والمراهقة المبكرة "اصطلح على تسميتها المرحلة الإعدادية أو المرحلة المتوسطة", إلّا أنه منذ بضع سنوات شاعت "موجة" التعليم الأساسي الذي تَرَتَّبَ عليها دمج المرحلتين الابتدائية "التي تتطابق مع طور التمييز", والإعدادية "التي تتطابق مع طور المراهقة المبكرة أو بلوغ الحلم", في مرحلة واحدة مكونة من تسع سنوات, ثم طرأ تعديل جديد فخفض المدة الكلية لهذه المرحلة إلى ثماني سنوات, وفي جميع الأحوال اعتُبِرَ الطوران النمائيان مرحلة واحدة. والواقع أن جميع الشواهد السيكولوجية تؤكد لنا أن طور البلوغ أو المراهقة هو مرحلة وسط بين المرحلة الأعلى "الشباب ثم الرشد", والمرحلة الأدنى "الطفولة", والأصح في رأينا أن تظل بوضعها الذي ظلَّ قائمًا لسنوات طويلة، فترة انتقالية بين الطفولة والشباب أو بلوغ السعي. ويزيد من صحة الرأي الأخير أن الخبرات المدرسية في طور المراهقة المبكرة تختلف عن كلٍّ من تلك التي تقدَّمَ في كلٍّ من طور الطفولة والشباب؛ فالمعلمون عادةً ما يكونون أقل تعاطفًا وأقل اهتمامًا بالمشكلات الفردية إذا قورنوا بمعلمي المرحلة الابتدائية, أضف إلى ذلك أن خبرة البلوغ تدع المراهقين أكثر وعيًا بذواتهم, بمقارنتهم بالمرحلتين الأخريين, بالإضافة إلى ذلك فإنهم يشعرون بأنهم ينأون تدريجيًّا عن الطفولة, إلّا أنهم في نفس الوقت أبعد ما يكونون عن الرشد "على عكس الشباب في المرحلة الثانوية", ولهذا لا يُعَدُّ التعليم بالنسبة إليهم دافعًا للتخطيط الجادِّ للمستقبل المهني أو النشاط الأكاديمي, وعلى الرغم من أن حوالي 25% من المراهقين المبكرين يهتمون بالحصول على درجات عالية في الامتحانات, إلّا أن معظمهم أكثر اهتمامًا بالجوانب الاجتماعية للمراهقة "Golhaber 1986".

الفصل الرابع عشر: طور بلوغ السعي"الشباب"

الفصل الرابع عشر: طور بلوغ السعي"الشباب" طبيعة طور بلوغ السعي (الشباب) ... الفصل الرابع عشر: طور بلوغ السعي "الشباب": يشير القرآن الكريم إلى طورٍ في النمو الإنساني هو "بلوغ السعي", في حوار إبراهيم مع ابنه, حيث يقول تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَي ... } [الصافات: 102] ويذكر القرطبي في تفسير ذلك, أن المقصود به أن الولد بلغ المبلغ الذي يسعى مع أبيه في أمور دنياه, معينًا له على أعماله, وقال مجاهد: أي شبَّ وأدرك سعيه سعي إبراهيم، وقال الفراء: كان إسماعيل يومئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة, وقال ابن عباس: هو الاحتلام، وقال قتادة: مشى مع أبيه، وقال الحسن ومقاتل: هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة، وقال ابن زيد: هو السعي في العبادة, وقال ابن عباس: صام وصلى. وهكذا نجد أن التفسيرات القديمة تختلف فيما بينها في معنى "بلوغ السعي", وتمتد بهذ الطور من مطلع البلوغ أو المراهقة "ابن ثلاث عشرة سنة، الاحتلام", وحتى بلوغ الرشد "سعي العقل الذي تقوم به الحجة", إلّا أننا نرى -والله سبحانه وتعالى أعلم- أن هذا الطور يمثل مرحلة انتقالية أخرى قبل وصول الإنسان إلى الرشد, ويمكن أن نطلق عليه طور "الشباب"، وهو طورٌ أعلى من المراهقة وأدنى من الرشد. طبيعة طَوْرِ بلوغ السعي "الشباب": بلوغ السعي "مثله مثل البلوغ الجنسي أو المراهقة"، مرحلة جديدة في الحياة الإنسانية, أحدثها في حياة الإنسان المجتمع الحديث الذي يتسم بالتعقد والتغير Kimmel 1980" 1" وقد قدم مصطلح الشباب "الذي يقابل المصطلح القرآني بلوغ السعي" في سيكولوجية النموِّ الحديثة ليتعامل مع فترة ما بعد اكتمال البلوغ الجنسي أو المراهقة, وقبل ظهور علامات الرشد التي يجب أن نأنسها في الإنسان, ويذكر كنيستون "Kinistan 1971" أن الأشخاص الذين يستغرقون فترة طويلة

_ 1 من مظاهر الإعجاز السيكولوجي للقرآن الكريم أنه أشار إلى هذا الطور منذ أربعة عشر قرنًا, على الرغم من أن ضروراته لم تظهر إلّا في القرن العشرين.

من الزمن حتى يصلوا إلى الرشد بمعناه الاقتصادي الاجتماعي التعليمي "وهو في وقتنا الحاضر يكون عند حوالي سن الخامسة والعشرين" يمكن أن يقال عنهم أنهم دخلوا مرحلة نمو اختيارية optional period هي طور الشباب. ووصف هذا الطور بأنه "مرحلة اختيارية" وصفٌ هامٌّ؛ لأن بعض الأشخاص قد تظهر عليهم علامات الرشد دون حاجة إلى ذلك، وخاصةً أولئك الذين ينهون تعليمهم مع نهاية المرحلة الإعدادية "عند حوالي سن 15سنة" ويدخلون سوق العمل مبكرين "عند حوالي هذا السن"، وقد يتزوجون ويكوّنون أسرة حالما يسمح القانون بذلك "عند حوالي سن 18 سنة"، فهؤلاء جميعًا اختاروا -أو اختير لهم- الانتقال مباشرة من المراهقة إلى الرشد. وهكذا يصبح الشباب كطورٍ جديدٍ في حياة الإنسان مرحلة انتقالية أخرى, تتم فيها التغيرات اللازمة للتحول إلى الرشد, وهذا التغيرات وما تتطلبه من تكيفات لمكانة الرشد ومستوياته من السلوك, تبدأ -كما بينا في الفصل السابق- أثناء البلوغ والمراهقة، إلّا أن ظروف العصر الذي نعيش فيه تطلَّبَت أن تظل مستمرة في الحدوث حتى تكتمل في مرحلة الشباب, إنها فترة وسيطة بين الحريات السابقة والمستويات والمسئوليات اللاحقة، وهي آخر مواقف التردد قبل أن يلتزم المرء بالتزامات الراشد بالعمل والأسرة؛ ولأن معظم مواقف التغيرات العظمى في الجسم والسلوك تكون قد حدثت بالفعل أثناء المراهقة, فإن طور السعي أو الشباب يكون عادةً مرحلة انتقال تدريجي أكثر بطئًا من الطور السابق, يصدق هذا على التغيرات الجسمية صدقه على التغيرات النفسية, ولعل هذا الإيقاع البطيء للنمو في هذه المرحلة, يهيئ المرء أن ينتهي من المرحلة الأولى من نموه بسلام, لينتقل إلى المرحلة الثانية من حياته؛ فالمرحلة الأولى توشك أن تنتهي بالشباب وينتهي معها "الضعف الأول", الذي أشار إليه القرآن الكريم، كما يوشك أن يولد العصر الجديد، مرحلة "القوة" و"بلوغ الأشد" حسب الوصف القرآني البليغ, وحتى يتم هذا الانتقال على نحوٍ يتضمن خصائص "الصحة" و"السلامة" أكثر من "الاضطراب" و"الخلل", كان لا بُدَّ أن يحدث هذا التدرج والبطء البديع, أليس في هذا معنى جديد للإعجاز الإلهي في نمو الإنسان؟ وإذا كان كلٌّ من المراهقة والشباب طورين جديدين في النمو الإنساني انتجتهما الثورة الصناعية التكنولوجية المعرفية الحديثة، إلّا أن بينهما اختلافٌ جوهري؛ فالمراهقة -كما بينا في الفصل السابق- يمكن تحديدها بيولوجيًّا واجتماعيًّا وسيكولوجيًّا، أما الشباب فهو ظاهرة اجتماعية سيكولوجية في جوهره، ولولا

الضرورات الاجتماعية السيكولوجية لأصبح هذا الطور الفصل الأول من المرحلة الثانية "قوة الرشد" في النمو, لا أن يكون الفصل الأخير من مرحلته الأولى "الضعف الأول", فمعدل التغير التكنولوجي, والزيادة المطردة في التعقد الاجتماعي, ونمو الحاجات التعليمية تطلب جميعًا أن تطول فترة إعداد هذه الشريحة من "الراشدين الصغار", حتى يمكنهم التعامل مع ظروف العصر بكفاءة واقتدار, ولعلنا نلاحظ أنه لم يحدث في التاريخ الإنساني أن أصبح التعليم الثانوي إلزاميًّا أو شبه إلزاميّ, كما حدث في القرن العشرين "وهو مرحلة من التعليم يمتد بالطالب إلى سن 18 عامًا تقريبًا"1، كما لم يحدث في التاريخ الإنساني أن تزايد عدد الراغبين في التعليم الجامعي والعالي بسبب ضرورته لكثير من المهن الحديثة, كما حدث في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، وهي مرحلة من التعليم تمتد بالطالب أحيانًا إلى ما بعد سن 21 عامًا, وهو عمر الرشد القانوني في معظم المجتمعات الحديثة، بل إن سنوات الدراسة لبعض التخصصات الجامعية كالطب, تصل بالطالب إلى سن الخامسة والعشرين تقريبًا قبل أن يتخرج, وقد صاحب ذلك كله صعوبات بالغة على غير المتخصص لكي يدخل سوق العمل مبكرًا, وخاصة في المستويات المهنية العليا.

_ 1 مما يشرف مؤلفي هذا الكتاب أنهما كانا ضمن لجنة الخبراء التي شكلها مجلس الوزراء "سبتمبر 1997" لإعادة النظر في نظام التعليم في مصر، ومن أهم التوصيات التي اقترحتها اللجنة مد سن الإلزام، بحيث يصبح التعليم للجميع حتى نهاية المرحلة الثانوية "6 -17 سنة" بعدد من الصفوف الدراسية يبلغ أحد عشر صفًّا.

حدود طور بلوغ السعي (الشباب)

حدود طور بلوغ السعي "الشباب": نتيجةً لذلك نجد أن كثيرًا من الأشخاص -وخاصة أولئك الذين يستمرون في التعليم- يكونون في مرحلة يمكن أن نسميها طور تأجيل الرشد moratorium, وهو طور الشباب الذي يطابق مفهومه التربوي سنوات الدراسة بالمرحلتين الثانوية والجامعية, ونحن في هذا نتفق مع ما يراه أحد علماء الاجتماع المصريين المعاصرين البارزين "عزت حجازي 1987", الذي يحدد بداية مرحلة الشباب بأنها تتمثل في "اقتراب شكل الجسم ووظائفه من آخر درجات النضج، ومن الناحية النفسية يكاد عمر الفرد العقليّ يصل إلى قمته، ويتيقظ إحساس الشخص بأنه لم يعد صغيرًا، ويطالب بتوقف معاملته على أنه صغير، ومن الناحية الاجتماعية يتأكد اعتراف الآخرين بأن الشخص لم يعد طفلًا، وإن كانوا يترددون في الاعتراف به كرجل".

كما يحدد عزت حجازي "1978" نهاية مرحلة الشباب بسن الخامسة والعشرين, أو ما حولها؛ لأن هذه هي السن التي تحدث عندها تحولات هامة في حياة الفرد, فعندها يترك التعليم بعد استكماله -عادةً- ويلتحق بعمل دائم، ويتزوج، أو يسعى إلى تحقيق ذلك على الأقل، فهو بعبارة أخرى يترك "فترة الاعتماد", ويبدأ حياة "الاستقلال عند الراشدين". وترتبط مرحلة الشباب أيضًا بالمدى الواسع من الخيارات, وبالبدائل المتاحة من أساليب الحياة والأدوار الاجتماعية, ولم يتوافر للشباب في تاريخه كما يتوافر له الآن من تنوع الفرص التي يمكن أن يعيش بها حياته، بالإضافة إلى زيادة مسئوليته الشخصية عن اختياره، دون تدخل مباشر من الأسرة, أو من تقاليد المجتمع، وهذا التنوع في الفرص, ومسئولية الفرد عن قراره, أدَّيَا إلى إطالة الفترة التي تسبق هذا الاختيار, وخاصةً في مسألتي العمل والزواج، مما أدَّى مرةً أخرى إلى تأجيل الرشد كما بينا. إلّا أن ما يجب أن نحذر منه أن تطول هذه الفترة الانتقالية أكثر مما يجب, كما يجب أن نحذِّرَ من أن تكون هذه الإطالة رغم أنف الشباب أنفسهم، بسبب الظروف الاجتماعية الاقتصادية القاهرة التي تجعل من الصعب على الشباب أن يجد عملًا مناسبًا، أو تجعل من المستحيل عليه أن يتزوج ويكوّن أسرة؛ إذ قد يظهر -حينئذ- ما يسميه كينسترون "Kinistron 1971" "رفض التطبيع"، ويتخذ ذلك في رأينا إحدى صورتين: العزلة والاغتراب, أو العنف والتطرف، وكلتاهما يعاني منه المجتمع المصري والعربي الحديث. ولعل هذا يفسر لنا تداخل حدود صور الشباب "المراهقة المتأخرة كما تسمى أحيانًا, وهي تسمية غير موفقة" مع حدود الرشد -كما سنبين في الفصل التالي؛ فبعض الشباب يصلون إلى مستوى الأهلية الكاملة لممارسة مهام الرشد عند حوالي 18 سنة، فهم يعملون ويُجَنَّدُون ويتزوجون في هذا السن, ولعل هذا يثير المشكلة التي سنتناولها بالتفصيل في الفصل التالي, حين يوصف هؤلاء جميعًا بأنهم غير "راشدين"؛ لأنهم لم يبلغوا بعد سن الرشد الذهبي, أي 21 عامًا. إلّا أننا يجب أن ننبه إلى مسألة هامة, وهي أن وجود مرحلة للانتقال من ضعف الصبا إلى قوة الرشد واجبة في العصر الحاضر, وهكذا فإن المراهقين الذين يُحْرَمُونَ من مراهقتهم تمامًا كمرحلة انتقال إلى الرشد، حين يجبرون على العمل في سن البلوغ أو قبله أو بعده بقليل, يعانون من عوائق الرشد، مثلهم في ذلك مثل

الشباب الذين يُؤَجَّلُ انتقالهم إلى الرشد بشكل غير طبيعي, وتستمر اعتماديتهم نتيجةً لإطالة مرحلة التعليم, ولهذا فلا بُدَّ أن يصبغ التعليم الثانوي بالطابع المهني؛ لأن الشاب أو المراهق المتأخر "طالب المرحلة الثانوية في الأغلب" في حاجة إلى أن تتوافر له خبرة عمل حقيقية, تهيئ له شعورًا بالاستقلال1, وحبذا لو تجاوزت خبرات العمل هذه التي يتدرب خلالها طالب المرحلة الثانوية حدود "الخدمة التعليمية" إلى مجال "الإنتاج التعليمي"؛ بحيث يحصل الطالب على عائدٍ ماديٍّ مباشر من تعليمه الإنتاجي. ويمكن أن نحدد بداية هذه المرحلة بالتحاق المراهق بالمرحلة الثانوية أو ما يقابلها من مستوى عمري، وهو في مصر في العادة بين 14-15 سنة، وهو طور يقابل ما يُسَمَّى تقليديًّا بالمراهقة المتوسطة, على حد تصنيف قسم على علم نفس النمو في الجمعية الأمريكية لعلم النفس لمرحلة المراهقة إلى: مراهقة مبكرة "12 -14 سنة", ومراهقة متوسطة "14-16سنة"، ومراهقة متأخرة "16-21 سنة", وفي رأينا أن يقتصر مصطلح المراهقة على ما يُسَمَّى المرهقة المبكرة "أي بلوغ الحلم"، أما مرحلتا المراهقة المتوسطة والمتأخرة بالإضافة إلى الرشد "21-25", فيشملها جميعًا الطور الذي أسميناه طور السعي, أو طور الشباب. وقد أشرنا إلى أن الحصول على مكانة عالية في المدرسة أو المنزل مفيد كدافع لدى المراهق والشاب لاكتساب أنماط السلوك الناضج، وفي نفس الوقت يعطيه نمطًا محددًا للسلوك المتوقع كهدف يسعى إليه, وسواء وصل المراهق أو الشاب إلى هدفه أم لم يحصل قبل سن 21, فإن ذلك ليس له أثر يذكر على حصوله على مكانة الراشد. إنه بوصوله إلى هذ السن يصبح أتوماتيكيًّا -من الناحية القانونية على الأقل- له كل الحقوق والاعتبارات والمسئوليات القانونية التي يتمتع بها الراشد. وتستخدم تسميات كثيرة للفتيان والفتيات في طور السعي "الشباب أو المراهقة المتأخرة", ويشيع في الإشارة إليهم استخدام لفظ "الشباب"، ولو أن الأكثر شيوعًا في اللغة العربية أن يشار إليهم باسم الشبيبة, تمييزًا لهم عن الشباب من الراشدين "أو مرحلة الرشد المبكر", كما أن لفظ "رجل" و"امرأة" يمكن

_ 1 من أهم التوصيات التي اتخذتها لجنة الخبراء التي شكلها مجلس الوزراء سبتمبر "1997", والتي تَشَرَّفَ مؤلفا هذا الكتاب بعضويتها، سد الفجوة بين التعليم الثانوي العام, والتعليم الثانوي الفني، وجعل شهادة إتمام الدراسة الثانوية موحَّدة لكلٍّ منهما, على أن تكون شهادة منتهية لا تؤهل بذاتها للقبول بالتعليم العالي والجامعي.

استخدامه دون حرج في هذه المرحلة، وهو يعني اعتراف المجتمع لهم بمستوى النضج اللازم لتحمل المسئولية, وفي اللغة الإنجليزية تشيع الإشارة إليهم بعبارة "أبناء العقد الثاني من العمرTeenagers 1, ولو أن هذا الوصف لا يوافق عليه الشباب أنفسهم -ونحن نوافقهم على ذلك؛ لأنه يعبِّرُ عن طور المراهقة المبكرة أو بلوغ الحلم أكثر مما يعبِّرُ عن طور بلوغ السعي. ويتميز طور السعي بعدد من الخصائص العامة؛ فالتقلب وعدم الاستقرار الذي كان يسود المراهقة المبكرة يحلّ محلَّه بالتدريج نوعٌ من الاستقرار والثبات, ويظهر ذلك على وجه الخصوص في استقرار الميول المهنية واللامهنية "الهوايات", وفي نوع الملابس، وفي أساليب الترويح، وفي اختيار المهنة، وفي الصداقات، وفي السلوك الانفعالي, وخاصةً نقصان التقلُّب المزاجي، وفي الاتجاهات الاجتماعية التي لم تَعُدْ تتأثر بالدعاية أو الإعلان, أو آراء الآخرين, كما كان الحال في المراهقة المبكرة. وبسبب هذا الاستقرار المتزايد, يزداد تكيُّفُ الشاب على نحوٍ أفضل لظروف الحياة، ويتوقف على البيئة التي يعيش فيه الفرد تحديد متى يحلّ الاستقرار محل التقلُّب, وكيف سينجح الشاب في تحقيق ذلك، فإذا كان عليه أن يعيش مع أسرته طول الوقت، وإذا كان الوالدان يميلان إلى المبالغة في حمايته, فإنه سيظل غير ناضجٍ في هذه الناحية من النموّ، أما إذا أتيحت له الرص أن يعيش بعيدًا عن الحماية الزائدة للوالدين؛ في المعسكرات أو في المدارس الداخلية, أو في المدن الجامعية للكليات والمعاهد, أو في القوات المسلحة, فإن ذلك يدفعه إلى أن يتخذ قراراته بنفسه متحررًا من ضغوط الوالدين، وسوف يؤدي ذلك به إلى مزيدٍ من الاستقرار في سلوكه. وبالإضافة إلى ذلك, فإن الآخرين خارج نطاق أسرته لا يقبلون منه السلوك المتقلب المتذبذب، فهم أقل من الوالدين تسامحًا في هذا الصدد, وهذا يهيئ للشاب دافعًا إلى مزيدٍ من الاستقرار, والشاب الذي ينمو في عائلة كبيرةٍ؛ حيث يُتَوقَعُ منه أكثر مما يتوقع من الشاب الذي يعيش في أسرة صغيرة, أن يكون أكثر استقرارًا في سلوكه؛ لأنه أقل تعرضًا للحماية الزائدة من الوالدين, ونشير هنا إلى أن مقدارًا معقولًا من عدم الاستقرار في هذه المرحلة, هو علامة نضج اجتماعي وعقلي، فقد ينشأ عن الحماية الزائدة أثر مضاد, وهو الاستقرار الزائد, وهو ما يسبب للشباب نقصانًا في الثقة في قدرته على التعامل مع مشكلات حياته بمفرده, ويؤدي به ذلك إلى أن يصبح جامدًا متصلبًا, ويُنَمَّى لديه النمط التسلطي في الشخصية, أما ظهور بعض علامات عدم الاستقرار فقد يدل على أن الشاب يواجه بعض الصعوبات والمشكلات في محاولته تخطي عادات الطفولة, وإحلال العادات الأكثر نضجًا محلها.

_ 1 تعبير في اللغة الإنجليزية يشير إلى الأشخاص الذين تمتد أعمارهم بين 12-19سنة.

التغيرات الجسمية في طور السعي

التغيرات الجسمية في طور السعي: إن انفجار النموِّ الجسمي الذي يبدأ مع البلوغ الجنسي, ويستمر بمعدل متناقص التسارع في المراهقة المبكرة, يقل تدريجيًّا في طور السعي, ويساعد هذا البطء على إحداث التكامل بين مختلف الوظائف العضلية لدى الشاب, ولهذا نلاحظ على الفرد في هذه المرحلة تحسنًا واضحًا يتجاوز به صور الخلل والارتباك الذي كان ملاحظًا في الطور السابق, وخاصةًَ في النشاط الحركي. ويطرأ على النمو في الطول والوزن في هذا الطور استقرار واضح، فالزيادة في كلٍّ منهما ضئيلة جدًّا, ويعرض الجدولان "14-1" "14-2" الصورة الكاملة للنمو في الطول والوزن طوال فترة المرحلة الأولى، من حياة الإنسان

"مرحلة ضعف الصبا الذي يتوجه إلى الرشد". ويتضمن الجدولان المعايير المصرية لنموِّ الطول والوزن, كما وردت في تقارير الإدارة العامة للصحة المدرسية بوزارة التربية والتعليم المصرية, ويتضح منها أن النموَّ الجسمي يسير مضطردًا حتى سن 15 سنة عند البنات، و17 سنة عند البنين، ثم تكون الزيادة بعد ذلك ضئيلة للغاية, ومعنى ذلك أن النموَّ الجسمي في المرحلة التي تُسَمَّى طور السعي أو الشباب أو المراهقة المتأخرة, يصل إلى درجة من الاستقرار والثبوت، وهو ما نلاحظه أيضًا على غيره من جوانب النمو, وخاصةً في النواحي السلوكية. وتتزايد الفروق بين الجنسين في الوزن أكثر منها في الطول, وذلك لتأثر الوزن بظروف التغذية وغيرها من الظروف البيئية التي تفرض على الإناث قيودًا -وخاصة في طَوْرَي المراهقة المبكرة والشباب- للمحافظة على رشاقة الجسم, ولهذا تبدو البنات أخف وزنًا من البنين في هذه المرحلة النمائية. ويلاحظ على الشاب أن عدم التناسب بين أعضاء الجسم الذي كان ملاحظًا

في الطور السابق يتلاشى تدريجيًّا حتى يصل إلى النسب التي تتحدد بمعايير الراشدين, ويحدث أكبر تصحيح لهذه النسب في أعضاء الوجه، ومع نهاية هذه الفترة يصبح الشكل العام لقوام الشاب له خصائص الرجل الناضج أو المرأة الناضجة, فمع اتساع الصدر واستطالة الجذع تتلاشى تدريجيًّا لدى الذكور صورة الهزال التي كان عليها قوام المراهق الصغير, ويدل قياس مختلف العظام أن الهيكل العظمي يتوقف على النمو عند حوالي سن 18سنة, أما الأنسجة الأخرى غير العظام فتستمر في النمو بعد وصول العظام إلى حجمها الكامل, ولا يظهر "ضرس العقل" عادةً إلّا مع بداية الرشد, ومع طور السعي تكتمل الخصائص الجنسية الثانوية, والوظائف الجنسية الأولية, ويزول حب الشباب وغيره من الاضطرابات الجلدية. ويستمر أثناء طور السعي نمو الأبنية والوظائف الجسمية للأعضاء الداخلية حتى تصل إلى اكتمال النضج, وأسرع معدلات النمو هي في نموِّ القلب الذي يصل حجمه الكامل في سن 17 أو 18, كما تصل سعة الرئة عند البنات إلى مستوى النضج في سن 17، ولكنها لا تصل إلى هذا المستوى عند الذكور إلّا بعد عدة سنوات بعد ذلك, ويبطؤ معدل نمو الجهاز الهضمي بعد أن كان ينمو نموًّا سريعًا في طور بلوغ الحلم "المراهقة المبكرة". أما من حيث الصحة الجسمية: فيمكن وصف مرحلة الشباب بصفة عامة بأنها مرحلة صحة جيدة, ومقاومة للأمراض, وتنخفض نسبة الوفيات انخفاضًا كبيرًا في هذه المرحلة، ومعظم الوفيات ترجع إلى الحوادث أكثر منها إلى المرض, إلّا أن الشباب هنا -شأنه في ذلك شأن المراهق الصغير- قد يستخدم المرض كحيلة للهرب من المسئوليات والواجبات غير المرغوبة, ويظهر ذلك خاصةً في صورة اضطرابات الجهاز الهضمي والأرق والصداع, ويشيع في البنات توهم المرض أكثر من البنين. ومن ناحية التآزر الحركي يُلاحَظُ على الشاب أنه لم يعد يشعر بالاضطراب الحركي الذي يشيع في المراهقة المبكرة "بلوغ الحلم" نتيجة للنموِّ الحركي السريع حينئذ, لقد أصبح الفرد في طور السعي قادرًا على التحكم في أجزاء جسمه المختلفة، وتعلَّمَ أن يستخدمها بدرجةٍ واضحةٍ من الإتقان والنجاح, وبالإضافة إلى ذلك, فإن زيادة القوة الجسمية التي تصاحب نموَّ الجهاز العضلي تدفعه إلى الاستفادة من هذه القوة الجديدة المكتسبة, وذلك بتعلُّم المهارات الحركية المعقدة التي كان يعجز عن اكتسابها في الطور السابق.

النمو العقلي المعرفي

النموّ العقلي المعرفي: أشرنا في الفصل السابق إلى أن بياجيه يرى أن مرحلة العمليات الصورية هي آخر مراحل النموّ المعرفي، وكل ما يحدث بعد ذلك هو بلورة Consolidation, واستقرار Stabilization هذه العمليات, ومعنى ذلك أن الأفراد بعد تجاوزهم الفترة من سن 11-15 سنة تقريبًا "البلوغ والمراهقة المبكرة" يصبحون أكثر تعودًا على استخدام العلميات الصورية, وخاصةً في المجالات التي ترتبط بالتخصص المهني والأكاديمي. إلّا أن هذا التصور التقليدي للنموِّ العقلي والمعرفي يتعرض في الوقت الحاضر للنقد من ناحيتين؛ أولاهما: أن هناك مراحل يمر بها الفرد لنموِّ العمليات الصورية ذاتها، وثانيهما: أن هناك محاولات لتجاوز مرحلة العمليات الصورية, واقتراح مراحل أخرى من النموِّ المعرفي تتلوها, وسوف نتناول المسألة الثانية بشيءٍ من التفصيل في الباب الخامس من هذا الكتاب, والذي يدور حول مرحلة الرشد الإنساني, أما المسألة الأول فنعرض لها هنا. والمسلَّمة الأساسية التي تقوم عليها فكرة مستويات التفكير باستخدام العمليات الصورية, أن هذا النمط من التفكير لا يظهر كله مرة واحدة في بداية المراهقة، وقد كان بياجيه متنبهًا إلى ذلك, إلّا أنه لم يفصله بشكلٍ كافٍ، وكان يذكر على وجه الخصوص مستويين هما: 1- التفكير في البدائل والفروض والاحتمالات، ويظهر في طور المراهقة المبكرة, كما أوضحنا في الفصل السابق, والمراهق في هذا المستوى عندما يحاول حل مشكلة البندول, ويتوصل إلى حلٍّ لها, فإنه يتوقف، أي أنه لا يختبر جميع المتغيرات بطريقة منظمة. 2- التفكير المنظم في الاحتمالات المختلفة، ويبدأ في الظهور في المراحل المتأخرة من المراهقة, أو بلغة هذا الكتاب طور السعي, وفي هذا المستوى يبحث الشاب عَمَّا هو ضروريّ, وكذلك ما هو كافٍ لتغيير سرعة حركة البندول، وبالتالي يحاول اختبار كلِّ متغيرٍ, وجميع العلاقات الممكنة بين المتغيرات. إلّا أن البحوث تقترح ما هو أكثر من هذين المستويين, وقد قام كثيرٌ من الباحثين باستخدام كثيرٍ من المهام التي اقترحها بياجيه, ووجدوا أن تفكير الشباب يسير في مستويات أربعة "Case 1985", ولكي نوضح هذه المستويات الجديدة نضرب مثالًا من مهمة شهيرة لبياجيه, وهي التي يطلب فيها من المفحوص الحكم

على ما يحدث حين تُوضَعُ أوزان مختلفة في كِفَّتَيْ ميزان, ولحلِّ مثل هذه المشكلة يجب على المفحوص أن يضع في الاعتبار كلًّا من ثقل الوزن والبعد عن نقطة الارتكاز، ولعلنا نذكر هنا أن أطفال طور التمييز "من سن 7-8سنوات" يذكرون أن الميزان يكون في حالة توازن إذا كان الثقل متساويًا في الكفتين، ولكنهم لا يدركون أن البعد عن نقطة الارتكاز له أهمية, وإدراك ذلك يمر خلال أربعة مستويات "أو مراحل فرعية" على النحو الآتي: 1- مقارنة الفروق بين الوزنين بالفروق بين المسافتين من نطقة الارتكاز, واختيار المسافة التي تحدد في أي اتجاهٍ يميل الميزان, ويظهر هذا السلوك قبل سن الحادية عشرة بقليل, ويتطور في طور بلوغ الحلم "المراهقة المبكرة"، وفيه يستخدم المراهق عملية الطرح "وهي عملية من الدرجة الثانية" بدلًا من محض جمع الأوزان الذي كان يلجأ إليه الطفل في مرحلة العمليات العيانية, إلّا أن هذه الاستراتيجية لا تزال محددة وقليلة الفعالية. 2- تكوين نسب بسيطة للمقارنة بين متغيري الوزن والمسافة, ويظهر هذا السلوك خلال الفترة من 11-13 سنة, فإذا واجه المراهق وجود وزنين إلى اليسار, ووزن واحد إلى اليمين، ووحدتي قياس للمسافة إلى اليسار, وأربع وحدات منها إلى اليمين, يدرك المراهق المبكر أن نسبة الأوزان التي توجد إلى اليمين إلى تلك التي توجد إلى اليسار هي 2: 1، وهي نفس النسبة أيضًا للمسافة, وبهذا قد يستنتج أن الكفتين سوف تتوازيان, فإذا اختلفت النسبة, فإنه قد يتنبأ بأن الميزان سوف يميل في اتجاه الطرف الأكبر من طرفي النسبة, والنسبة المستخدمة هنا هي عملية صورية أكثر تطورًا من الطرح، إلّا أن من قيود هذه الاستراتيجية أن المراهق لا يستطيع حل المشكلة إلّا إذا كانت الأوزان والمسافات تقبل القسمة بعضها على بعض. 3- استخدام القسمة في الحصول على النسبة, حتى ولو كانت الوحدات لا تقبل القسمة بعضها على بعض، ويظهر هذا السلوك المعرفي صريحًا خلال طور السعي, وخاصة في مراحله المبكرة "ما يُسَمَّى أحيانًا المراهقة المتوسطة" من سن 13- 15 سنة, فمثلًا إذا كان هناك وزنان إلى اليمين, ووزنٌ واحد إلى اليسار، وكانت المسافات عبارة عن 5 وحدات إلى اليمين, ووحدتين إلى اليسار, فإن المراهق يقسم 2 على 5, ويستخدم في ذلك طريقة القسمة المطولة, فيحصل على العدد "2.5"، يقارن ذلك بحاصل قسمة الوزنين وهو "2", وعندئذ يختار المقدار الأكبر وهو "2.5" على أنه سيحدد وجهة ميل الميزان, وفي هذا المستوى يستخدم

المراهق عناصر أكثرَ تَمَّ تمثيلها ذهنيًّا، كما يقوم بعمليات حسابية أكثر تقدُّمًا من المستوى السابق, إلّا أن فعالية هذه الاستراتجية لا تزال غير كافية. 4- استخدام القسمة في حسبا نسبتين؛ إحداهما للمسافة والأخرى للوزن, ثم يقارن بينهما, ولا يظهر هذا السلوك إلّا بعد سن 15سنة، أي: في طور المراهقة المتأخرة كما يُسَمَّى أحيانًا, والذي يقابل المدرسة الثانوية بالنسبة لطلاب المدارس. فمثلًا إذا كان على أحد طرفي الميزان 7 وحدات وزن، وعلى الطرف الآخر 3 وحدات، وكانت وحدات المسافة 2، 5 على التوالي، فإن المراهق يحسب نسبة الوزن لتصبح 1: 2.5، ونسبة المسافة لتصبح 1: 2.5, وحينئذٍ يستنتج أن الميزان سوف يميل في اتجاه النسبة الأكبر, وهذا المستوى هو أكثر المستويات تجريدًا؛ لأن الأعداد المستخدمة هنا ليس لها أيّ مقابل إدراكيٍّ مباشرٍ في العالم الفيزيائي, وحينئذٍ نقول: إن المراهق وصل إلى التفكير باستخدام العلميات الصورية الأكثر نضجًا وتقدُّمًا, والذي يظهر في العادة مع نهاية المرحلة الثانوية, ويستمر في المرحلة الجامعية. وتوجد أدلة أخرى على أن دخول الطفل مرحلة المراهقة لا يُعَدُّ دليلًا على وصول النمو العقلي إلى حَدِّه الأقصى كما افترض بياجيه، وهذه الأدلة قدَّمَها الباحثون في ميدان القدرات العقلية, ولقد كان ثرستون من أوائل العلماء الذين اهتموا بدراسة نموِّ القدرات العقلية؛ فأعدَّ منحنًى لنموِّ كل قدرة من القدرات السبع التي يتألف منها هذا الاختبار, لأعمار تمتد من سن 5 حتى 17 سنة، واستخدم طريقته في القياس المطلق، فوجد أن نتائجه تتفق مع بحوثٍ سابقةٍ أجراها حول مقاييس الذكاء العام "كما يقاس باختيار ستانفرد - بينيه" وهي أن المنحنيات تتخذ صورة حرف S الأجنبي، وتبدأ بنقطةٍ تتعدَّى الصفر المطلق عند الولادة, وتصل إلى مستوى الرشد كخط مقارب Asymptote1. وكانت نقطة الصفر في مقياس القدرة أدنى من المتوسط في كل عمر، فقام ثرستون بتوفيق البيانات لكل اختبارٍ حتى تتطابق مع منحنى جومبيرتز Gompertz Curve2، واستطاع بذلك أن

_ 1 الخط المقارب هو خط مستقيم يقترب منه المنحنى, ولكنه لا يلتقي به أبدًا, أو يلتقي به في ما لا نهاية. 2 هو منحنى ظهر في الأصل باعتباره منحنًى لتوقع الحياة في الإحصاء الحيوي, وبه يتحدد عدد الأشخاص الذين يتوقع لهم الحياة في سن معين، إلّا أنه شاع استخدامه بعد ذلك في تهذيب المنحنيات التي تدل على الملاحظات الأمبريقية, ومنها بحوث النموِّ.

يستكمل منحنيات النموِّ إلى وقت الولادة من ناحيةٍ, وإلى سن 19سنة من ناحيةٍ أخرى. وقد أعاد ثرستون تطبيق طرقه في القياس على المنحنيات التي تمثل القدرات السبع؛ بحيث تكون قيمة الخط المقارب الأعلى هي الواحد الصحيح عند مستوى الراشد الصغير المتوسط، وبهذه الطريقة أمكنه المقارنة بين المنحنيات السبعة على أساس العمر الذي يصل فيه الطفل المتوسط إلى ما يعادل 80% من النضج، فتوصل إلى الأعمار التقريبية التي يوضحها الجدول رقم "14-3".

السلوك الانفعالي والوجداني ومشكلات الشباب

السلوك الانفعالي والوجداني ومشكلات الشباب: تخفُّ تدريجيًّا الحدة الانفعالية التي تشيع في طور المراهقة المبكرة بانتقال الفرد إلى طور السعي, بشرط توافر أنماط ملائمة من التكيُّف للبيئة, والتي تتناسب مع المطالب الجديدة التي تفرض على الشباب، إلّا أنه يلاحظ تعرض الشباب خلال هذا الطور للتوتر الانفعالي نتيجة المشكلات الجديدة التي يتعرض لها, والتي تنشأ عادةً من تمرده على سلطة الكبار. ولا تختلف انفعالات الشابِّ عن انفعالات المراهق الصغير أو الطفل في النوع، وإنما الاختلاف في حدة هذه الانفعالات "حيث تزداد القدرة على التحكم فيها"، وتكرار حدوثها، وطبيعة الاستجابات التي تصدر عن المراهق عند حدوثها "وسائل التعبير عنها", والمثيرات التي تؤدي إليها, والانفعال الأكثر

حدوثًا بصفةٍ عامة هو انفعال الغضب, أما مشاعر الحب فعادةً ما تتوجه إلى شخصٍ من الجنس الآخر مع خلع الصفات المثالية عليه، إلّا أن هذا لا يعني التخلي عن المشاعر الوجدانية الموجهة إلى جماعة الأصدقاء من نفس الجنس, أو إلى صديقٍ حميمٍ, أو إلى الوالدين أو أحدهما. ومن الموضوعات وثيقة الصلة بالسلوك الانفعالي والوجداني في طور السعي ما يُسَمَّى "مشكلات الشباب", وهو موضوعٌ حظي بأكبر قدرٍ من دراسات الباحثين في مصر "إبراهيم شهاب 1953، خليل ميخائيل معوض 1971، عثمان لبيب فرج 1961، محمد عثمان نجاتي 1963، سعد جلال وعماد الدين سلطان 1966، منيرة حلمي 1967، فؤاد أبو حطب 1977" وفي بعض الأقطار العربية. والواقع أن معظم المشكلات التي تظهر في السنوات المبكرة للمراهقة التي يتمُّ حلها بنجاحٍ في ذلك الوقت, تستمر في مرحلة الشباب بالإضافة إلى ظهور مشكلات جديدة, والشاب في هذا الطور قادر على مواجهة المشكلات بطريقةٍ أكثر موضوعية، وقادر على اتخاذ القرارات دون أن يعوِّلَ كثيرًا على الوالدين أو المعلمين أو الأصدقاء, ثم إنه قادر على الدفاع عن قراراته والسعي لتحقيقها ما لم تتوفر له أدلة على خطأ هذه القرارات. ومعنى ذلك أن مشكلات الشباب في عمومها تشبه مشكلات المراهقة المبكرة, أما كيف يُقَابِلُ الشاب هذه المشكلات, وكيف يسعى لحلها بطريقة ناضجة, فهو ما يميز بينهما, كما أن عدد المشكلات وحدتها يتحدد بنمط حياة الشاب, سواء أكان يعيش مع أسرته أم يعيش خارج منزله, وسواء أكان لا يزال طالبًا أم خرج إلى عالم العمل, ومعظم المشكلات التي تسود في هذا الطَّوْرِ تتعلق بالجاذبية الشخصية والتكيف الاجتماعي والأسري والعمل والنقود والنجاح الأكاديمي والعلاقات الجنسية. وقد أكدت الدراسات التي أجريت على الشباب المصري أن لديهم عددًا كبيرًا من المشكلات الصحية على نحوٍ يوحي بحاجتهم إلى التربية السليمة. وتوجد نسبة عالية من الشباب المصري من الجنسين تزداد لديهم المشكلات العاطفية، فهو يريد أن يعرف كيف يجعل أفراد الجنس الآخر يهتمون به, وغالبية الأفراد من الجنسين يودون أن يعرفوا شيئًا عن أساليب السلوك الاجتماعي الصحيح في وجود الجنس الآخر، كما أنهم يودون أن يعرفوا بعض المسائل التي تتعلق بالزواج والحياة الزوجية المقبلة، كما أنهم في حاجة إلى معلومات جنسية علمية.

أما عن مشكلات المستقبل الدارسي والمهني للشباب, فقد أثبتت الدراسات المصرية أن نسبةً كبيرةً من الشباب من الجنسين يشعرون بالقلق إزاء هذا المستقبل, وخاصةً عندما يواجه بانتهاء الدراسة بالمرحلة الثانوية. ولعل حدة هذه المشكلة ترجع إلى نظام القبول بالتعليم الجامعي والعالي الذي أصبح نوعًا من المسابقة1، بينما نظام التوجيه المهني أصبح نوعًا من التوزيع العشوائي, في نظام القوى العاملة المعمول به في الوقت الحاضر, ولهذا فإن معظم الشباب لا يدرون شيئًا عن ميولهم المختلفة، أي: إنهم في حالة شكٍّ في حقيقة هذه الميول. وحين يرتب الشباب المصريون مجالات المشكلات, يرتب الفتيان مجال ما بعد المدرسة الثانوية في المقدمة, ويليه مدرستي والثقافة الجنسية, أما مجال التعامل مع الآخرين فيجيء ترتيبه الأخير, أما الفتيات فيرتبن مجال مدرستي في المقدمة, ويليه مجال التعامل مع الآخرين, وما بعد المدرسة الثانوية, أما مجال الثقافة الجنسية فيأتي في النهاية. أما من حيث الحدة: فقد لُوحِظَ أن المجالات التي أظهر فيها الشباب أعلى درجات الحدة هي: مدرستي، ما بعد المدرسة الثانوية، بيتي وعائلتي، الثقافة الجنسية، الأشياء العامة. أما عن ميول الشباب فإن ما يحددها عاملان هامان؛ هما البيئة التي يعيش فيها الشاب وجنسه؛ فالفتيان والفتيات الذين يعيشون في المدن الكبيرة أو المدن الصغيرة أو القرى, تختلف ميولُهم بعضهم عن بعض, وتظهر أهمية الجنس هنا خاصةً إذا علمنا أن طَوْرَ السعي هو الفترة التي يتحدد فيها نهائيًّا نمط السلوك المناسب لكلٍّ من الذكر والأنثى, ولهذا تتميز ميول كلٍّ منهما في هذا الطور تميزًا واضحًا, ويظهر ذلك واضحًا في الأحاديث التلقائية لكلٍّ منهما "فؤاد البهي السيد، 1954". كما يكون أكثر وضوحًا في هوايات كلٍّ من الجنسين Hurlick 1980"، رغم أن وظيفة الهواية تختلف هنا عن المراحل السابقة، فقد أصبحت من نوع "الهوايات النافعة" أكثر منها من نوع أعمال قضاء وقت الفراغ والترويح. وبالطبع توجد ميول مشتركة بين الجنسين، ولعل أهمها ما يتصل بالميول الشخصية, والتي تشمل على وجه الخصوص المظهر والاستقلال والمستقبل، وهذه المجالات الثلاثة على وجه الخصوص تشغل معظم وقت الشباب من الجنسين وتفكيرهم. ويحتل المظهر أهميةً خاصةً؛ لأنه يلعب دورًا كبيرًا في التوافق الاجتماعي

_ 1 لعل من أهم التوصيبات التي اقترحتها اللجنة التي شكلها مجلس الوزراء "سبتمبر 1997" اعتبار التعليم الثانوي مرحلة منتهية, وإنشاء صف رابع جديد يؤهل الملتحقين به للتعليم العالي والجامعي.

للشباب، ويعينه على ذلك اقتراب نموّه الجسمي من الاكتمال, كما تصل الرغبة في الاستقلال إلى قمة حدها في هذا الطور, وكثيرًا ما يبالغ الشباب في هذا الرغبة إذا علم أن بعض أصدقائه أكثر استقلالًا منه, وقد ينشأ عن ذلك صراع مع الوالدين, ويكتشف المراهق أن اعتماديته في هذه المرحلة ذات طابع اقتصادي في جوهرها، ويحاول البعض حلّ هذا الصراع بالبحث عن مصادر خاصة للدخل "من خلال العمل أثناء وقت الفراغ" تعينه على هذا الاستقلال, وبعض حالات التسرب في التعليم الثانوي والجامعي يعود إلى هذا السبب. أما الميول التي تتمركز حول المستقبل: فتبدأ في الظهور مع المراهقة المبكرة إلًا أنها سرعان ما تصبح مصدرًا للاهتمام الكبير في طور السعي, فمع الاقتراب من الرشد ومسئولياته يشعر الشاب بعبء المستقبل شديدًا, وخاصة إذا كان عليه أن يستقلَّ بحياته ويتزوج ويكوّن أسرة, ومع لعبة "خلط الأوراق" التي يعيشها المجتمع المصري في الوقت الحاضر, يشعر الفتى أن مَطَالِبَ هذا الاستقلال أصبحت مستحيلة التنفيذ مع سوق عملٍ محدودٍ يجبر الشباب على انتظار الوظيفة التي توفرها لها القوى العاملة, أو مسابقات التعيين "والتي غالبًا ما لا تتفق مع ميوله, بل ولا مع إعداده السابق"، والتي يحصل منها على "دخل محدود"، لا يكاد يغطي تكاليف الحياة اليومية المعتادة, ويصبح السؤال المكرر دائمًا، المعاد أبدًا, الذي يطرحه الشاب على نفسه: كيف أوفر من هذا الدخل المحدود ما يكفي الحاجات الأساسية, ويغطي تكاليف شقة متواضعة, وأثاث أقل تواضعًا لأتزوج وأكوّن أسرة؟ هذا السؤال البسيط لم يجب عليه أحد من صناع السياسة الاجتماعية والاقتصادية في مصر بعد, وواجبهم أن يجيبوا عليه؛ لأن المشكلة هنا من النوع الذي لا يقبل المعالجة السيكولوجية من خلال خدمات إرشاد نفسي مباشرة، وإنما هي نوعٌ من الكارثة الاجتماعية التي تنذر بالشر المستطير, والتي يتصل حلها بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية.

السلوك الاجتماعي في طور السعي (الشباب)

السلوك الاجتماعي في طور السعي "الشباب": تضيق في طور السعي دائرة الأصدقاء الحميمين, وتتسع دائرة الجماعات, ومعنى ذلك أن الشاب يقل عنده عدد أصدقاءه الحميمين, ويزداد عدد صداقاته العامة ومعارفه, كما يتوجه اهتمامه إلى اكتشاف عالم الجنس الآخر. ويلاحظ على السلوك الاجتماعي في هذا الطور أنه يتحوّل تدريجيًّا من الأنانية التقليدية التي تنشأ من الشعور بعدم الأمن في المواقف الجديدة, إلى تأكيد الذات, ولهذا نجد الفرد بدلًا من أن يذيب فرديته ليصبح أحد أفراد الجماعة, تزداد لديه الرغبة في الاعتراف به كفردٍ, والحصول على موافقة الجماعة على ذلك, ومن خلال التجريب يكتشف ما هو مرغوب اجتماعيًّا، ثم يستخدم طرقًا أكثر حذقًا في جذب الانتباه، فيرتدي أحدث موضات الأزياء, بدلًا من الانبهار بالملابس ذات الألوان والرسوم الزاهية, كما يعبر عن وجهات نظر محددة بدلًا من الزهو بما لديه من أفكار مستحدثة. ونتيجةً لتوافر الفرص الكثيرة للمشاركة الاجتماعية ينمو لدى الشاب استبصاره الاجتماعي, فيصبح أكثر قدرةً على الحكم على الأشخاص, سواء من نفس الجنس أو الجنس الآخر, ولذلك يحقق لنفسه توافقًا اجتماعيًّا أفضل مما كان عليه الحال في الطور السابق, ومع زيادة المشاركة الاجتماعية تزيد كفاءته الاجتماعية، كما تتمثل في الحوار وممارسة الألعاب الشائعة في مثل سنه, ويعرف أكثر الطرق الصحيحة للسلوك في المواقف الاجتماعية المختلفة, وبالطبع كلما زادت مشاركته الإيجابية في المسائل الاجتماعية أثناء مراهقته المبكرة تزداد كفاءته الاجتماعية في طور السعي, ونتيجةً لذلك كله يُلاحَظُ على الشاب أنه أكثر ثقة بالنفس. وتتوافر للشاب صداقات من مستويات مختلفة, وقد قلنا أن الصداقات الحميمة يقل عددها، وتزداد أهمية الثُّلَلِ التي تصبح أقرب إلى الجمهرة من حيث بنية العلاقات الاجتماعية فيها, ويتوافر ذلك خاصةً لأولئك الذين يلتحقون بمرحلة التعليم الجامعي والعالي, دون الذين يلتحقون بعملٍ أو مهنةٍ بعد انتهاء التعليم الثانوي, ويتوافر ذلك خاصةً أيضًا حين تكون بيئة الدراسة الجامعية أو العالية شبيهة ببيئة المدرسة الثانوية, أما إذا كانت الدراسة لا توفر إلّا القليل من الفرص للحياة الاجتماعية, ويحتل العمل فيها الاهتمام الأكبر, فإن التجمعات الاجتماعية تكون أقل تحديدًا, أما بيئة العمل لأولئك الذين لا يستكملون دراستهم, فالملاحظ فيها أن الشاب يتصل بأفرادٍ من مختلف الأعمار, ومعظمهم له صداقاته الخاصة خارج نطاق العمل, ومالم يتوافر لهذا الشاب بقيةٌ من أصدقاء الدراسة الذين يعيشون ويعملون بالقرب منه, فإنه قد يجد نفسه وحيدًا منعزلًا. وتوضح لنا البحوث التي أُجْريَتْ على ما يُسَمَّى "تذبذب الصداقة" أن الصداقات التي تتسم بقدرٍ من الثبات والاستقرار في المراهقة المبكرة, والتي لم تكن كذلك أثناء الطفولة, تصبح مرةً أخرى أقل استقرارًا في طور السعي, والسبب في هذا لا يرجع إلى اختلاف معايير اختيار الأصدقاء في هذا الطور, بقدر ما يرجع إلى تغير نمط حياة الشاب, فبعد الانتهاء من المدرسة الثانوية يذهب البعض إلى

الجامعات والمعاهد العليا، والبعض الآخر إلى المعاهد الفنية المتوسطة، ويلتحق البعض بالقوات المسلحة، ويحصل البعض على عملٍ أو مهنة، وقد يتزوج البعض، وهذا كله ينأى بهم عن البيئات "الطبيعية" التي عاشوا فيها طوال حياتهم السابقة, ويؤدي ذلك إلى انهيار كثيرٍ من الصداقات القديمة وإحلال صداقات جديدة محلها. وتتنوع الجماعات أثناء الشباب حسب طبيعة النشاط الذي يقوم به الفرد، وتشمل الجماعات الرياضية والاجتماعية والفكرية والأدبية والدينية وغيرها, ولهذا تتنوع الصفات التي يجب أن تتوافر في قائد كل جماعة منها, وهكذا تتحول القيادة في هذه المرحلة لتصبح موقفية كما هو الحال عند الراشدين, ولعل هذا يفسر لنا اختلاف السمات التي يقدرها الشباب في قادتهم, حسب طبيعة النشاط الذي يمارسونه. ويتسم طور السعي باستقرار السلوك القيادي, فبعد أن كان القادة يظهرون ويختفون في مرحلة الطفولة والمراهقة المبكرة, أصبح الأمر مختلفًا الآن؛ إن الشخص الذي يظهر مهارات القيادة وهو في السنة الأولى الجامعية مثلًا يظل كذلك طوال سنوات دراسته الجامعية, ويعتمد استمرار القيادة بالطبع على استقرار الجماعة من ناحيةٍ, وعلى مرونة القائد من ناحيةٍ أخرى, والقائد الناجح من الشباب هو الذي يكتسب مزيدًا من الاستبصار الاجتماعي؛ من خلال مشاركته الإيجابية في الأنشطة الاجتماعية المنوعة، وهذا يجعله أكثر قدرةً على المواءمة مع مطالب الجماعة، ويعينه هذا بدوره على الاستمرار في القيادة. ويلعب الانطباع دورًا هامًّا في التقبُّل الاجتماعي في هذا الطور, ويتأثر هذا الانطباع بعوامل كثيرة؛ منها مظهر الفرد وسلوكه, والأشخاص الذين يحتك بهم, ومستواه الاجتماعي, ودرجة التشابه بينه وبين آخرين يعرفهم الشاب من قبل, وحالما يتكون الانطباع فإنه يؤثر في سلوك الشاب واتجاهاته نحو الشخص, فإذا كان الانطباع موجبًا يزداد تقبلًا له, والعكس صحيح. وقد أجريت دراسات مصرية عديدة حول الصداقة والقيادة لدى الشباب من طلاب المرحلة الثانوية والجامعات، إلّا أننا نحب أن ننبه إلى أن هذه الشريحة ليست وحدها هي التي تؤلف المجتمع الأصلي لشباب مصر, وهذا يعني أننا في حاجةٍ إلى مزيدٍ من البحث على جماعات العمال والفلاحين والموظفين, وغيرهم ممن لم يكن لهم نصيب من الاهتمام البحثي حتى الآن.

النمو الخلقي والاتجاهات الدينية في طور السعي

النمو الخلقي والاتجاهات الدينية في طور السعي: حين يصل الفرد إلى سن السادسة عشرة يجد من الصعب عليه تطبيق المفاهيم الخلقية التي تعلمها على المواقف المتنوعة المتصارعة التي يواجهها خلال خبراته الاجتماعية اليومية والعديدة, ومع زيادة النمو واتساع نطاق الخبرة "وخاصة بعد الالتحاق بالجامعة أو بالعمل" تتكوّن لديه مفاهيم محددة عن الصواب والخطأ, وعن الحق والباطل, وعن الفضيلة والرذيلة، وبذلك يصبح أكثر قدرةً على التعامل مع المواقف الجديدة المتصارعة, ويسلك تبعًا لمفاهيمه الخلقية دون ضغط من الخارج، بالإضافة إلى أنه يصبح أكثر قدرةً على تعميم المفاهيم الخلقية التي تعلمها في علاقتها بأفعالٍ معينة. إلّا أن أخطر ما يمكن أن يحدث في هذا الطور زيادة التسامح مع بعض صور السلوك غير الخلقي؛ فاتجاهات طلاب الجامعات نحو الغش أكثر تسامحًا, وربما تكون لهذ الاتجاه جذوره في المراحل السابقة التي تَفَشَّى فيها الغش بشكلٍ خطير, ويبررون هذا التسامح بأهمية التقديرات التي يحصل عليها الطالب في مستقبله التعليمي والمهني, ثم يزداد الطين بلة حين يكتشف الشاب من خلال ما يقرأ أو يسمع من قصص الانحراف والفساد أن بعض الأشخاص الناجحين اقتصاديًّا بل واجتماعيًّا هم من فئة "المنحرفين" هذه, وأنهم كثيرًا ما ينجون من العقاب حتى بعد اكتشاف فسادهم, ومن هنا تزداد مشكلة "المعايير المزدوجة" حدةً لدى الشاب, ويؤدي ذلك كله إلى تعويق نموِّه الخلقي لعجزه عن إدراك "المعنى المطلق" في القيم الخلقية, وبذلك يتأخر وصوله إلى المستوى الثالث للنموِّ الخلقي "مستوى ما بعد التقليدي" الذي وصفه كولبرج. ولعل وسائل الأعلام -وخاصة الصحافة- هي المسئولة الكبرى عن هذا "الانهيار الخلقي" لدى بعض الشباب، فلا يكاد يقرأ المرء فيها إلى جانب قصص الفساد قصةً واحدة لنموذجٍ خلقيٍّ رفيع, أضف إلى ذلك ما أضافه عصر الفيديو من عوامل خلل إضافية في النسق القيمي الأساسي, وإذا لم نتدارك الأمر بالحرص الواجب من خلال تقديم نماذج سلوكية, ومُثُلٍ عليا للشباب, بأسلوب العرض المناسب والجذاب، وليس بأسلوب الوعظ والخطابة، فإن كارثةً أخرى توشك أن تحلَّ. أما بالنسبة للاتجاهات الدينية: فلعلنا نذكر أن طور السعي ينبثق من فترة شكٍّ عاشها المراهق الصغير قبل ذلك، ولحسن الحظ فإن هذه الفترة يمكن أن تكون قصيرة ومؤقتة إذا أُحْسِنَ توجيه الشباب دينيًّا فيها, بالاعتماد على الطرق العلمية

التي نجح علماء النفس الاجتماعيون في استخدامها في مجال تغييرب الاتجاهات وتعديلها، وليس بالوعظ فقط، فليس بالوعظ وحده تتغير الاتجاهات. والحاجة إلى التدين حاجة هامة جدًّا لدى الإنسان، وهي أكثر أهميةً لدى الشباب وهو يقترب من سن الرشد؛ فالدين هو مصدر "القيم المطلقة" التي تمثل أعلى مستويات النمو الخلقي، وهو العاصم للشباب, ثم للرشد بعد ذلك من الوقوع في شَرَكِ "ازدواجية المعيار" التي أشرنا إليها، وإذا أُدْرِكَ بمعناها الصحيح يصبح وسيلة للتوافق الاجتماعي؛ لأنه ينبه المراهق الشاب إلى خطر التطرف, والتدين وسيلة إلى التوافق الشخصي أيضًا؛ لأنه يسهم في تحقيق سعادة الإنسان وشعوره بالأمن وكفاءته المهنية, وهي جميعًا من مؤشرات الصحة النفسية "محمد عثمان نجاتي، 1982" ونحن في حاجة إلى دراساتٍ جادة تحدد لنا ما يمكن أن نسميه "النضج الديني" في ثقافتنا العربية الإسلامية, والذي به يمكننا الحكم على السلوك الديني بعد النضج, سواء اتخذ ذلك صورة التشدد المسرف, أو التهاون الشديد، وكلاهما ضد مبدأ التوسط والاعتدال الذي يُعَدُّ أحد المعالم الأساسية للنسق الإسلامي على وجه الخصوص "فؤاد أبو حطب، 1985".

نمو الشخصية في طور السعي ومسألة الهوية

نمو الشخصية في طور السعي ومسألة الهوية: لعل أهم المسائل التي تشغل اهتمام الشباب مسألة "تحديد الهوية", ولهذا فإن الأزمة الجوهرية للنموِّ الوجداني في هذه المرحلة هي أزمة الهوية في مقابل اختلاط الأدوار, على النحو الذي يحدده إيركسون, وينبه "Mussen et al 1984" إلى أن طرق تحديد الهوية تختلف باختلاف الثقافات؛ فالثقافة الأمريكة مثلًا تركز على نموِّ الهوية من خلال الفردية الكاملة، بينما تركز ثقافات أخرى -كالثقافة الصينية واليابانية- على إحراز الهوية من خلال العلاقات الوثيقة بالآخرين, ومن خلال عضوية الفرد في نظام اجتماعي ثابت, ولعنا نضيف إلى ذلك أن جوهر الثقافة الإسلامية هو التوازن بين الفردية والجماعية؛ بحيث لا يجوز التضحية بأحد طرفي الثنائية على حساب الآخر, وفي جميع الحالات علينا أن ندرك أن جوهر نموِّ الهوية في الإنسان هو الحاجة إلى أن يدرك الفرد نفسه على أنه شخص متسق السلوك ومتميز عن الآخرين. ويشير إريسكون إلى أن عملية البحث عن الهوية في مرحلة المراهقة والشباب قد تتخذ أحد مسارين كلاهما خطأ, والمسار الأول يتمثل في التبلور المبكر للهوية قبل الأوان, وفيه يحدث تعويق لعملية تكوين الهوية, وهنا نجد المراهق ينشد بإلحاحٍ تقدير الآخرين واعترافهم, ويبالغ في تقدير السلطة, ويميل إلى أن يكون أكثر

مسايرةً وأقل استقلالًا, وتتسم قيمه الدينية بالجمود, وطرقه في التفكير بالتصلب. أما المسار الثاني فيكون مسارًا مفتوحًا بغير حدود, وفيه يسير المراهقون والشباب في عمليةٍ طويلةٍ من خلط الهوية، وقد يعجزون عن تنمية إحساس واضح قوي بالذات, وهؤلاء هم الذين يصفون أنفسهم بأنهم "يبحثون عن الذات" ولا يجدونها, ويتسم هؤلاء بضعف تقديرات الذات, ونظام خلقيٍّ غير مكتمل، ويواجهون صعوبات في تحمُّل المسئوليات الشخصية, ويتسمون بالاندفاعية وعدم تنظيم أفكارهم. وبالطبع فإن المسار الصحيح أن يبذل الشباب بعض الوقت في السعي الإيجابي الحثيث لتكوين الهوية، والتي قد يتعرض فيها لبعض الغموض والخلط, حتى يتوصل إلى شعورٍ قويٍّ بالذات, وفي هذه الحالة يتسم الفرد بالاستقلال والإبداع والتفكير المنظم, وهي سمات لا تتوافر بنفس الدرجة لدى أولئك الذين لا يمرون بمرحلة "مؤقتة" من الخلط والغموض في تكوين الهوية, أو أولئك الذين يمرون بمرحلة "طويلة" من هذا الخلط والغموض. وبالطبع فإن تكوين الهوية ليس عملًا شخصيًّا فرديًّا ينجح فيه الشاب أو يفشل, إنه في الواقع مهمة معقدة؛ فأنماط تكوين الهوية تختلف بين الأفراد من الشباب وبين جماعاتهم, نتيجةً لتأثيرات عوامل عديدة تشمل العلاقة بين الشاب ووالديه, وضغوط الثقافة العامة والثقافات الفرعية, ومعدل التغير الاجتماعي في المجتمع؛ ففي المجتمعات البدائية البسيطة حيث يوجد عدد محدود من أدوار الراشدين, وتغير اجتماعي محدود, يصبح تكوين الهوية مهمةٌ سهلةٌ يمكن الوصول إليها بسرعة, أما المجتمع المركب الصناعي السريع التغير, الذي يوفر للشاب بدائل كثيرة لأدوار الرشد, تكون عملية تكوين الهوية أكثر صعوبة, وتستغرق وقتًا أطول. وداخل المجتمع الواحد قد تكون الهوية سوية أو منحرفة؛ فالشاب قد يبحث عن الأدوار الشخصية والاجتماعية والمهنية التي يتوقعها المجتمع ويوافق عليها، أو قد يبحث عن أدوارٍ على درجةٍ كبيرةٍ من الخصوصية, يوصف بعضها بأنه غير عادي, وبعض هذه الأدوار الخاصة قد يكون إيجابيًّا وبنائيًّا، كدور الفنان المنعزل، وبعضها قد يكون سلبيًّا ومدمرًا؛ كدور مدمن المخدرات أو المجرم أو المتطرف. ويكتسب معظم الشباب بسهولة "الهوية الجنسية" مع وعي المراهق وتقبله للطبيعة البيولوجية الأساسية التي تميز الذكر عن الأنثى منذ وقت مبكر في حياته, أما أولئك الذين يرفضون دورهم الجنسي فإنهم يعانون فترة شباب عصيبةٍ تتسم

بالضغط والخلط، على نحوٍ يحول دون الوصول إلى هويةٍ كليةٍ متسقةٍ وواضحة. والمظهر الآخر من مظاهر هوية الشباب ما يُسَمَّى "الهوية المهنية"؛ فحصول المرء على عمل يقدره المجتمع, واتقان هذا العمل, يرفع درجة تقدير الذات عنده, ويؤدي إلى تنمية هوية مستقرة لديه, أما حين يوصف الشاب بأنه من نوع "العمالة الزائدة" أو "فائض الخريجين" كما يُصَبُّ ليل نهار في مسمع الشباب هذه الأيام، أو حين يدرك الشاب بعد جهد كبير في الدراسة أن المهنة التي أُعِدَّ لها لم تعد تحظى بالمكانة اللازمة "كما يحدث للمهن الجامعية هذه الأيام بعد شيوع سوق الحرفيين"، أو حين يوصف التخصص الذي ينتسب إليه بأنه من تخصصات "القاع", بينما توصف تخصصات وكليات أخرى بأنها في "القمة"، فإن ذلك يؤدي إلى زيادة الشك في الذات, وغموض الهوية, ونقصان تقدير الذات، وقد ينتهي بتكوين هوية سلبية, ويزداد الأمر سوءًا إذا أجبرت الظروف الشاب على الالتحاق بعملٍ يفتقدُ فيه الدافعية الذاتية والرضا الداخلي عنه. وقد ينشأ لدى الشاب أحيانًا ما يُسَمَّى صراع الأدوار الذي يؤثر تأثيرًا بالغًا على تكوين الهوية, ولعل المرأة هي الأكثر تعرضًا لهذه المشكلة، وخاصةً المرأة الشابة العاملة التي تحاول التوفيق بين أدوار العمل وأدوار الأمومة وتنشئة الطفل, وهو موقف صراعي لم تُقَدَّمُ له حلولٌ ناجحة حتى الآن. وإذا نجح الشاب في تحديد هويته بعد سعي دءوب لتجنب الغموض والخلط, فإنه ينتقل انتقالًا "سلميًّا" نحو الرشد, إلّا أن الفشل في هذه المهمة يؤدي إلى الشعور بالاغتراب Alienation, والاغتراب هو رفضٌ عميقٌ لقيم المجتمع, وانعزال عن الآخرين, مع سيادة الشعور بالوحدة وفقدان الجذور، وعدم إدراك لمعنى الحياة وهدفها ووجهتها، والإحساس بالتشيؤ "شعور المراهق بأنه شيء, وليس إنسانًا" والشعور المختلط المضطرب بالذات "فؤاد أبو حطب، 1981". والاغتراب بهذا المعنى اضطراب نفسي قد يكون خطيرًا, وربما يقود صاحبه إلى الانحراف أو الإدمان أو الانتحار, ولعل هذا كله يشعرنا بالحاجة إلى توافر الخدمات النفسية للشباب وإتاحتها لهم في أماكن الدراسة ومواقع العمل.

خاتمة المرحلة الأولى من حياة الأنسان

خاتمة المرحلة الأولى من حياة الأنسان: تناول الباب الرابع من هذا الكتاب ما أسميناه "المرحلة الأولى في نمو الإنسان", وتشمل هذه الفترة الزمنية من حياة الإنسان التي تصل إلى أكثر من عشرين عامًا؛ ابتداءً من تكوينه كجنين في رحم الأم, حتى وصوله إلى أعتاب الرشد, وهي الفترة التي ينطبق عليها الوصف القرآني الكريم بأنها مرحلة ضعف، يقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} ولكنه ضعف التحول إلى قوة الرشد، يقول الله تعالى أيضًا: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} , ولعلنا نكون قد استوعبنا هذا التطور العظيم الذي تسلم خطواته بالتدريج إلى مستويات أرقى, حتى يكون الانتقال إلى مرحلة "القوة" الجديدة "سلميًّا" و"سليمًا" في آنٍ واحدٍ.

الباب الخامس: المرحلة الثانية من الأنسان"قوة الرشد"

الباب الخامس: المرحلة الثانية من الأنسان"قوة الرشد" الفصل الخامس عشر: حدود الرشد وأهمية مرحلة القوة في حياة الأنسان مدخل ... الباب الخامس المرحلة الثانية من الإنسان: "قوة الرشد" الفصل الخامس عشر: حدود الرشد وأهمية مرحلة القوة في حياة الإنسان سبق أن أشرنا إلى أن الخطة العامة التي يسير عليها هذا الكتاب هي الالتزام بالتقسيم الثلاثي "لمراحل نموِّ الإنسان" كما حددها القرآن الكريم، في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] . وقد تناولنا من الباب الثاني وحتى الباب الرابع من هذا الكتاب، وعلى مدى أربعة عشر فصلًا المرحلة الأولى من حياة الإنسان، وهي مرحلة الضعف الأول على حد التعبير القرآني المعجز, والذي يمتد به جنينًا في رحم الأم حتى يصل به شابًّا فتيًّا على أعتاب الرشد. ونتناول في الباب الخامس وما يليه "مرحلة القوة", ويقصد بها هنا قوة الرشد الإنساني, والكلمة الأجنبية المقابلة لمصطلحنا العربيّ "الرشد" هي adult hood، والراشد هو adult، وكلاهما مشتق من نفس الفعل اللاتيني الذي منه كلمة adolescence أي: مراهقة، وهو adolescere, ويعني "أن يتجه نحو النضج"، والفرق بينهما أن الكلمة التي تقابل مصطلح "مراهقة تأتي من مصدر الفعل "مضارعه أو تصريفه الأول" ولذلك فهي تعني أن الفرد لا يزال في عملية التحول إلى النضج، بينما الكلمة التي تعني الرشد تأتي من اسم المفعول "التصريف الثالث لهذا الفعل اللاتيني" وهو adultes, ولذلك فهي تعني اكتمال النضج، وبهذا يصبح الفرد جاهزًا لشغل مكانته في المجتمع مع غيره من الراشدين1. والرشد في اللغة العربية هو نقيض الغي والسفه, والراشد هو من يصيب وجه الأمر والطريق, ولا يكون الإنسان كذلك إلّا إذا بلغ "اكتمال النضج".

_ 1 شاع في التراث التربوي والسيكولوجي العربي المعاصر استخدام مصطلح تعليم الكبار, ترجمة لعبارة adult education، وهي ترجمة غير موفقة في ضوء تحليلنا اللغوي، والأصح أن تكون تربية الراشدين أو تعليم الراشدين، وهو المصطلح الذي سنستخدمه في هذا الكتاب.

محكات الرشد

محكات الرشد: ينبه القرآن الكريم إلى أن الحكم على الإنسان بالرشد أمرٌ يحتاج إلى التعرف على علاماته "وإيناس" إشاراته1، وهو أمر يحتاج أيضًا إلى خبرة العلم ونتائجه، ومنه علم النفس، يقول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . وهكذا يفتح القرآن الكريم للإنسان باب الاجتهاد والبحث في المحكات التي يجب أن يعتمد عليها في الحكم على المراهق أو الشاب بأنه بلغ الرشد, ونعرض فيما يلي المحكات المختلفة التي استُخْدِمَتْ في مختلف العصور للوصول إلى هذا الحكم. 1- المحك الجنسي: يشيع في الثقافات البدائية -ولدى عدد من الشعوب المتحضرة حتى وقتنا الحاضر- تعيين الرشد بحدود بيولوجية، فيبدأ بالبلوغ الجنسي, وينتهي بتوقف هذا النشاط "وهو يشيع بين العامة باسم سن اليأس climacteric, وهو مصطلح سوف نعارضه فيما بعد", وهذه جميعًا ترتبط بوظائف الجنس. وهذا المحك ينطبق عليه ما يسميه المناطقة "الشرط الضروري" إلّا أنه ليس كافيًا؛ فالرشد يتطلب بالطبع أن يكون المرء قد بلغ جنسيًّا أولًا، إلّا أن البلوغ الجنسي لا يؤدي -حتميًّا- إلى الرشد, وقد أشرنا في الفصول السابقة كيف أن النمو الإنساني في المجتمعات الحديثة تَطَلَّبَ ظهور مرحلة أو أكثر من المراحل الانتقالية بين الطفولة والرشد؛ فالمراهقة هي طور البلوغ الجنسي خاصةً، وما يصاحبه من تغيرات جوهرية, وقد أطلقنا عليه طور بلوغ الحلم, وهي تسميةٌ قرآنية، أما طور الشباب فهي تلك الفترة الانتقالية بين اعتماد الضعف الأول "الطفولة والصبا" وقوة الرشد, وأطلقنا عليه تسمية قرآنية أخرى هي طور بلوغ السعي. وقد عَبَّرَ القرآن الكريم عن ذلك بوضوح؛ ففي الآية الكريمة السابقة اعتبر

_ 1 في اللغة العربية أنس الأمر إيناسًا, أي: علمه، ومنه: آنست منه رشدًا "المعجم الوسيط".

بلوغ النكاح "وهو البلوغ الجنسي" شرطًا سابقًا على الرشد، ولكنه تَطَلَّبَ منا أن نتحقق من حدوث هذا الرشد بالفعل، وهذا يعني أن الرشد قد يصاحب البلوغ الجنسي, وقد يأتي بعده, إلّا أنه بالطبع لا يسبقه. وقد كان الرشد يتطابق مع البلوغ الجنسي في الثقافات البدائية, كما يتطابقان في بعض الثقافات البسيطة الحديثة "كالثقافة الريفية أو الثقافة البدوية", إلّا أنه مع تقدُّم المدنية تَطَلَّبَ الأمر دفع العمر المعترف به للرشد بعد سبع أو ثماني سنوات من طور البلوغ الجنسي للفرد "المراهقة", وبالمثل فإن "سن اليأس" أو التغير في الحياة من الشخص الجنسي إلى الشخص اللاجنسي asexual لا يعني فقدان الرشد. 2- محك العمر: تتفق معظم الثقافات المعاصرة، ومنها مصر والدول العربية والإسلامية، على أن الإنسان يصل إلى رشده عند بلوغ الحادية والعشرين، وهو السن الذي يتحدد قانونيًّا بأنه إذا بلغه المرء استقلَّ بتصرفاته. والسؤال الجوهري هنا: لماذا سن الحادية والعشرين كمحدد للرشد؟ ربما يفيدنا أن نجيب على هذا السؤال أن نتناوله في ضوء تحديد ما يسمى الحدث1 juvenile من ناحيةٍ، وفي ضوء قوانين العمل، باعتبار العمل هو أهم مؤشرات الرشد "كما سنبين فيما بعد" من ناحيةٍ أخرى. إن قوانين العمل في مصر تمنع تشغيل الأحداث قبل سن 12سنة, وذلك بالنسبة إلى الأفراد الخاضعين لقانون العمل في جمهورية مصر العربية، وأجاز القانون لوزير العمل أن يمنع تشغيل من لم يبلغوا سن 15 سنة في بعض الصناعات "قرار رقم 154 لسنة 1959", كما أجاز له أن يشترط لتشغيل هؤلاء الأحداث في بعض الصناعات أن تكون له تذاكر عمل تثبت مقدرتهم الصحية على القيام بها, كما أجازت المادة 124-3 من قانون العمل المصري لوزير العمل أن يمنع تشغيل الأحداث الذين تبلُغ سنهم 17 سنة كاملة في بعض الصناعات الأخرى "قرار رقم 156 لسنة 1959". ولكن من هو الحدث الذي تشير إليه النصوص السابقة؟ تحدد معظم التشريعات المعاصرة الحد الأدنى للحدث "وهو حد المسئولية" ما بين 7، 8 سنوات "وهو سن التمييز في الشريعة الإسلامية"، والحد الأقصى بين 16، 18

_ 1 يفضل فخر الدين الرازي في كتابه عن الفراسة أن يُطْلَقَ على الطور الذي أطلقنا عليه تسمية الشباب اسم سن الحداثة, ونحن نفضل أن نستخدم المصطلحات على النحو الذي أوردناه حتى لا تختلط علينا الأمور.

سنة, وهذا المحك العمري يشمل فئة من الصبية والناشئة والفتيان, وأطلقت عليهم المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في ندوةٍ عقدتها بالكويت عام 1976 تسمية "فئة اليافعين", ويمثل الحد الأقصى لهذه المرحلة مظاهر استقلالٍ متعددةٍ تُمَثَّلُ في الوصول إلى الأهلية للمواطَنَةِ الكاملة، ومن مظاهر ذلك الحصول على البطاقة الشخصية, وبطاقة قيادة السيارة, والمثول أمام سلطات التجنيد الإجباري، وحق العمل بلا قيد، وحق الزواج وتكوين الأسرة للمرأة "في سن 16", وللرجل "في سن 18"، ناهيك عن المسئولية الجنائية الكاملة. والتناقض الجوهري "من الوجهة القانونية والتشريعية" أن يُوصَفَ هذا المواطن الذي يبلغ من العمر "16-18 سنة بأنه "قاصر", أو بأنه "طفل" كما هو الحال في قانون الطفل الجديد في مصر، بالرغم من هذا كله, وعليه أن ينتظر من 3-5 سنوات حتى يبلغ سن الرشد الذهبي 21 عامًا, فهل يستطيع علم النفس أن يحل هذه المعضلة؟ وهل نستطيع من خلال نتائجه ونتائج العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى أن نتوصل إلى محكات أكثر تحديدًا للرشد؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة وأمثالها على درجة كبيرة من الأهمية في هذا الصدد، وخاصةً إذا تنبهنا إلى بضعة حقائق سيكولوجية أفرزها العصر الحديث, نذكر منها: 1- تناقص الوعي بالتغيرات الفسيولوجية والسيكولوجية التي تحدث مع بلوغ الرشد والتقدم فيه، وذلك لأن الوسائل الطبية الجديدة والتغيرات في "موضات" الأزياء تساعد الرجال والنساء من مختلف الأعمار على أن يبدوا ويشعروا ويتصرفوا كما لو كانوا في غير أعمارهم, وخطوط التقسيم بين الأعمار المستخدمة في الوقت الحاضر هي معالم عامة وليست حدودًا خاصة فاصلة، وتظهر على وجه الخصوص حين يُتَوقَّعُ من المرأة أو الرجل أن يظهروا "في المتوسط" بعض التغيرات في المظهر, أو وظائف الجسم, أو جوانب السلوك، أو حين تؤدي الضغوط البيئية في ثقافة معينة إلى ظهور مشكلات تَوَافُقٍ لا يستطيع تجنبها إلّا القليل من الرجال أو النساء من عُمْرٍ معين. 2- تغير أدوار بعض المراهقين "ابتداءً من سن 16"، بل وبعض الأطفال حين يدخلون عالم العمل خاصةً مبكرين، فهم يسلكون سلوك الراشدين على نحوٍ أكثر تبكيرًا من أقرانهم الذين يواصلون تعليمهم، صحيح أنهم يحرمون من فرصة جعل هذا الانتقال من الطفولة إلى الرشد بطيئًا خلال طَوْرِيْ المراهقة والشباب, إلّا أنهم يَتَّسِمُونَ بالفعل بكثيرٍ من سمات الراشدين, على الرغم من أنهم لم يبلغوا سن

الحادية والعشرين, إلّا أن الأخطر من هذه حقًّا ما يحدث حين تطول فترة الاعتماد وتمتد أحيانًا إلى ما بعد سن الحادية والعشرين, على نحوٍ يشبه اعتماد الأطفال أو المراهقين الصغار، وخاصةً حين يلعب المراهق الكبير أو الشاب دور "الطالب", ويظل يحمل هذه الصفة وحدها في نظر "الكبار". 3- الفوارق في التبكير بالرشد أو تأخيره, وخاصة بين الجنسين من ناحيةٍ، وبين المستويات الاقتصادية الاجتماعية من ناحية أخرىٍ؛ فالمراهقات الكبيرات تطول فترة اعتمادهن لأسباب ثقافية, والذكور من أبناء المستويات الاقتصادية الاجتماعية المتوسطة والعليا أكثر اعتمادًا من أبناء المستويات الدنيا، ربما لأن هؤلاء يدخلون عالم العمل أكثر تبكيرًا من أولئك. وهكذا يصبح الرشد السيكلولوجي -في ضوء مؤشر الاستقلال- مسألة نسبية, فهناك من يصلون إليه مبكرين "ابتداءً من السن التي تخرجهم من فئة اليافعين أو الأحداث وربما قبلها", وهناك من تمتد بهم فترة الاعتماد إلى أعمار تتعدَّى سن الرشد القانوني في صورته الراهنة. 3- المحك الاجتماعي: يبدو لنا من مناقشتنا السابقة لمحكي البلوغ الجنسي والعمر أن الفيصل في الحكم على رشد الإنسان يعود في جوهره إلى العوامل الثقافية والاقتصادية والاجتماعية, وهذا ما اتفق عليه فقهاء المسلمين في تعريفهم للرشد بأنه بلوغ الصبي "صالحًا في دينه مصلحًا لماله", وحسن التصرف في المال -كعلامة من علامات الرشد- يعني أن الفرد قادرٌ على شغل مكانته في المجتمع, والقيام بمسئولياته فيه, وقد نبه القرآن الكريم إلى أهمية هذا المحك في قوله تعالى عند الإشارة إلى السفة، وهو نقيض الرشد: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ... } [النساء: 5] . كما يشير إلى هذا المحك الاجتماعي أيضًا عند الإشارة إلى ما يجب عمله عقب التحقق من بلوغ الصبي طور الرشد: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 4] . ويُعَدُّ هذا من جوانب الإعجاز السيكولوجي للقرآن الكريم, ولعنا نشير هنا إلى أن علم النفس الحديث لم ينتبه إلّا مؤخرًا إلى أهمية محك الأدوار الاجتماعية في تحديد الرشد، باعتباره يفوق محك العمر الزمني, أو النضج البيولوجي, ولهذا فإن الشخص الذي يوصف الآن بالرشد هو ذلك الذي لم يعد طفلًا أو مراهقًا أو طالبًا

شابًّا، وإنما تحوَّلَ إلى أدوارٍ جديدة: الساعي لكسب العيش من خلال عمل منظم ومستمر، الزوج أو الزوجة، الوالدية, إلخ, وفي عملية التحوّل إلى الرشد يختلف الأفراد اختلافاتٍ جوهرية في توقيت هذه المهام التي يؤدونها, والأدوار التي يقومون بها, وبعبارة أخرى فإنهم يصلون إلى "مكانة الرشد" في أوقات مختلفة. ولعلنا هنا نعيد الإشارة إلى ما سبق أن ذكرناه, من أن بعض الأشخاص قد يصلون إلى سن الخامسة والعشرين وهم لا يزالون في مرحلة التعليم، بينما يمارس غيرهم دور الزوج والوالد قبل هذه السن بسنوات، بل إن بعضهم قد يدخل سوق العمل قبل ذلك ببضع سنوات كذلك "بعد إنهاء مرحلة التعليم الأساسي في سن 15 سنة, وربما قبلها فيما اصْطُلِحَ على تسميته "عمالة الأطفال". 4- المحك السيكولوجي: المحك الاجتماعي للرشد الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة هو محكٌّ موضوعيٌّ، إلّا أن هناك محكًّا سيكولوجيًّا يعتمد على الخبرات الذاتية للفرد، يضاف إليه ويجعله جزءًا من البنية الأساسية لشخصية الفرد, ويشير علماء النفس المعاصرون إلى بضعة مؤشرات توجه هذا المحكَّ السيكولوجي, تشمل ما يلي: أ- العمر المدرك Perceived age: ويُقْصَدُ به العمر الذي يشعر فيه الفرد شعور ذاتيًّا أنه أصبح راشدًا, ومن الواضح أن إدراكنا لأنفسنا يعكس كثيرًا من الجوانب المختلفة "العمر الزمني، النضج البيولوجي، الأدوار الاجتماعية التي نمارسها، التوافق النفسي والاجتماعي وغيرها", ولعل ذلك يفسر لنا لماذا يشعر بعض الأشخاص ويتصرفون كأنهم راشدون وهم لا يزالون ربما في طور الطفولة1, بينما نجد آخرين في منتصف العشرينات من العمر أو أواخرها, ومع ذلك يعانون من صراعٍ بين حاجاتهم ورغباتهم التي تبدو طفولية, وبين شخصية الراشد التي يصبون إليها. ب- الاستقلال: المؤشر السيكولوجي الرئيسي للرشد هو الاستقلال, فمع الرشد يشعر المرء أنه مسئول عن نفسه وعَمَّنْ يعول، ويتخذ قراراته بنفسه دون حاجة مستمرة إلى دعم الآخرين "وخاصة من هم أكبر منه مثل الوالدين والمعلمين", ويتجه الاستقلال على وجه الخصوص إلى تلك القرارات التي تتصل بحياة الراشد الشخصية, سواء كانت هذه القرارات تافهة أو هامة, ثم إنه لا يحب أن يتدخل الآخرون في هذه الشئون، ويتحمَّل المسئوليات والنواتج المترتبة عليها.

_ 1 تؤكد ذلك نتائج البحوث التي أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية حول "عمالة الأطفال" والتي سنشير إليها فيما بعد.

ومرةً أخرى, فإن هذا المؤشر جزء من العالم الشخصي للإنسان، وهو وحده الذي يحدد ما إذا كان لا يزال يشعر بالرغبة في التبعية والاعتماد على الآخرين, أم أنه تحوَّل إلى الاستقلال بقراره. إلّا أن استقلال الرشد لا يعني التفرد والأنانية؛ فالراشد قد يطلب مشورة الآخرين ويلجأ إلى مناقشتهم ومحاجاتهم, إلّا أنه في النهاية صاحب القول الفصل فيما يتصل بحياته من قرارات. جـ الرغبة المستمرة في التعلم: من المؤشرات السيكولوجية للرشد الرغبة المستمرة -بل والمتزايدة- في التعلم، وخاصةً التعلم الذاتي الذي يتفق في جوهره مع مؤشر الاستقلال والمعالجة والتقصي والبحث, والتي ترتبط جميعًا بهذا النوع من التعلُّم، وتدل على تنوع الاهتمامات والميول، فإذا توقف الراشد عن التعلم كان هذا علامة النهاية من الناحية السيكولوجية. وقد أشار القرآن الكريم إشارةً صريحةً إلى أهمية التعلم في حياة الراشدين, يقول الله تعالى في وصفه لمرحلة الشيخوخة المتأخرة: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ... } [الحج: 5] . وإذا كان فقدان القدرة على التعلُّمِ هو المحك القرآني الرئيسي للشيخوخة المتأخرة "الهرم أو أرذل العمر", فإن توافُرِ هذه القدرة واستمرارها في مراحل العمر السابقة على هذا التدهور في حياة الإنسان مؤشر على استمرار الرشد الإنساني. وإذا كان الاستقلال الذي أشرنا إليه محكًّا لتحديد الرشد هو في جوهره نتاجٌ للتعلم الاجتماعي, يصبح التعلُّم حينئذٍ هو جوهر حياة الراشدين بدءًا وانتهاءً، صحيحٌ أن لكلٍّ من البداية والنهاية حدوده التشريحية والفسيولوجية والنيرولوجية، بل والقانونية، إلّا أن الرشد السيكولوجي لا يتحدد إلّا بشغفٍ إلى مزيدٍ من التعلُّم عند الاستقلال، ثم توقُّفٌ عن التعلم عند العجز والهرم، بل نكاد نقول: إن التوقف عن التعلم هو اللحد السيكولوجي للإنسان, حتى ولو عاش من بعده أعمارًا وأعمار.

الحدود العملية للرشد

الحدود العملية للرشد: حتى يمكن تناول مرحلة الرشد لا بُدَّ من اللجوء إلى بعض الحدود العملية التي تسمح لنا بتحديد نقطة البدء, ويمكن بالطبع أن نعتبر العمر القانوني للرشد من نوع هذه الحدود, صحيح أنه ليس محكًّا صارمًا جامدًا فاصلًا، وإنما هو من المرونة بحيث يسمح باستيعاب َمْن تتوافر فيه مؤشرات الرشد قبله أو بعده. وعلى هذا, فإن الفترة من سن الرشد القانوني "21 عامًا" وحتى سن الأربعين تقريبًا, هي ما يصفه علماء النفس الارتقائيون بطور الرشد المبكر, وسوف نشير إليه بطور "بلوغ الرشد" التزامًا بالتعبير القرآني, وهو الطور الذي تحدث فيه أكبر عمليات التوافق في حياة الإنسان، وهذا ما يجعل له خصائص مميزة عن الأطوار والمراحل التي سبقته وتلك التي تليه. ومع بلوغ سن الأربعين يكون المرء قد وصل إلى طور "بلوغ الأشد" -حسب التعبير القرآني الكريم- وبدأ طورًا جديدًا يسميه علماء النفس الارتقائيون أيضًا طور الرشد الأوسط, أو وسط العمر، والذي يمتد حتى سن الستين أو بعده بقليل, ومن الغريب أن هذه المرحلة هي الأقل استطلاعًا وبحثًا من بين جميع مراحل العمر، لأنه حتى عهد قريب لم تكن هناك إلّا مشكلات قليلة لا تتعدى حدود المشكلات الفسيولوجية المرتبطة بما يُسَمَّى التغيرات مدى الحياة, والتي بدت هامة لدرجة جذبت انتباه علماء النفس الذين شغلتهم على التوالي: الطفولة فالمراهقة, ثم ازداد الاهتمام بالشيخوخة في السنوات الأخيرة، ثم بمرحلة الرشد المبكر. أما طور بلوغ الأشد أو وسط العمر "الرشد الأوسط" فلا زالت أقل المراحل بحثًا، فلا يتوافر حولها قدر كافٍ من البحوث والمعلومات العلمية. ومع تخطي الستين -وهي سن التقاعد الرسمي في معظم الأحوال- يدخل المرء في مرحلة الرشد المتأخر, والتي شمل الشيخوخة والهرم، وهي مرحلة الختام, والتي تمثل المرحلة الثالثة من حياة الإنسان, والتي سنخصص لها الباب التالي من هذا الكتاب.

نشأة ونمو الاهتمام بسيكولوجية الراشدين

نشاة ونمو الاهتمام بسيكولوجية الراشدين: في عرضٍ مختصرٍ لتاريخ سيكولوجية الرشد يذكر Perlmutter Hall 1985" أن هذا الميدان تزايد البحث فيه بعد الحرب العالمية الثانية، على الرغم من أن الاهتمام بالنمو الإنساني -كما بينا في الفصول الأولى من هذا الكتاب- يمتد إلى جذور الفكر الإنساني، وعلى الرغم من أن علم نفس النمو -بعد ظهوره العلمي في القرن التاسع عشر- انشغل لأكثر من قرن من الزمان بسيكولوجية الطفولة, صحيح أن هناك بعض البحوث التي تركَّزَت أساسًا على الأطفال, والتي بدأت في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين, ألقت بعض الأضواء على سيكولوجية الرشد، وخاصةً تلك البحوث الطولية التي تتبعت عينات من الأطفال لعقود من الزمان, إلّا أنه لم تجر بحوث منظمة شاملة حول الموضوع حتى منتصف

القرن الحالي, ومن أشهر هذه البحوث التي تمت على الأطفال دراسة لويس ترمان, التي أجراها في جامعة ستانفرد بالولايات المتحدة الأمريكية على 1500 طفل متفوق عقليًّا، ظلوا موضع الدراسة التتبعية حتى بلغوا السبعينيات من عمرهم, كما أجريت ثلاث دراسات منفصلة في جامعة كاليفورنيا، استمَرَّ كلٌّ منها لأكثر من نصف قرن, وهكذا وجد هؤلاء الباحثون أنفسهم يبحثون في سيكولوجية الراشدين, على الرغم من أن اهتمامهم المبدئي والأصلي كان متمركزًا حول سيكولوجية الأطفال. كما ظهرت دراسات متفرقة حول سيكولوجية الراشدين, وخاصة لمواجهة متطلبات الحرب العالمية الأولى، ولعل ظهور اختبار ألفا الحربي, كان فرصةً ملائمةً للاهتمام, خاصةً بذكاء الراشدين, والذي أدّى إلى ظهور أحد اختبارات الذكاء الشهيرة الملائمة لهذه الفئة العمرية, وهو اختبار وكسلر, وقد هيأ ظهور اختبارات ذكاء الراشدين الفرصة لإجراء بحوثٍ مختلفةٍ حول العلاقة بين التعليم والمستوى الاقتصادي والاجتماعي ونمو وتدهور الذكاء عبر مدى الحياة, أما المهارات الحركية للراشدين فكانت موضع اهتمام وحدة بحوثٍ خاصةٍ بجامعة ستانفرد منذ عام 1928, وذلك بهدف دراسة مشكلات العاملين الذين يعانون من مشكلات صعوبة الحصول على أعمال مناسبة في مجال الصناعة. وفي ألمانيا بدأ الاهتمام بنموِّ الراشدين في العشرينات من القرن العشرين أيضًا, وشهد مطلع الثلاثينات ظهور شارلوت بوهلر التي بدأت اهتمامها بدراسة الأطفال والمراهقين, ثم وسَّعَتْ نطاقها إلى الراشدين, وتنبهت إلى أهمية دراسة النموِّ مدى الحياة. وخلال الحرب العالمية الثانية اتخذت خطوات هامة في ميدان دراسة نموِّ الراشدين, لعل أهمها تكوين لجنة لدراسة النموِّ الإنساني بجامعة شيكاغو, من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس، وتركيز مركز نافيلد للبحوث بجامعة كمبردج "في بريطانيا" حول سيكولوجية العامل الراشد, وقد صدرت عن هاتين الوحدتين العلميتين بحوثٌ هامَّةٌ حول الموضوع, حوَّلَتْ اهتمام المنظرين إلى هذا الميدان الهام, ويُعَدُّ نشر إريك إريكسون في عام 1950 لنظريته الشاملة في نموِّ الشخصية على مدى حياة الإنسان علامة بارزة في هذا الميدان. وشهدت السنوات الأربعون الماضية اهتمامًا كبيرًا بسيكولوجية الراشدين, مع زيادة الحركة التي تُسَمَّى بتربية الكبار والتربية المستمرة, ويوجد في الوقت الحاضر عددٌ كبيرٌ من مراكز البحث والتدريب في هذا الميدان الهام في عدد من

الجامعات والمنظمات الدولية، وبخاصةٍ اليونسكو التي أنشأت عدة مراكز إقليمية لتعليم الراشدين "الذي شاع في اللغة العربية باسم تعليم الكبار", ومنها المركز الدولي للتعليم الوظيفي للكبار, في العالم العربي بسرس الليان في جمهورية مصر العربية. ونعرض في الباب الحالي نتائج البحوث حول النموِّ الإنساني في هذه المرحلة الهامة التي نسميها مرحلة قوة الرشد، وسوف يكون تناولنا لهذه المرحلة من خلال طورين رئيسيين هما: 1- طور بلوغ الرشد "الرشد المبكر": والذي يمتد من إيناس الرشد وحتى قبيل بلوغ الأشد في سن الأربعين. 2- طور بلوغ الأشد "الرشد الأوسط أو وسط العمر": والذي يمتد من سن الأربعين وحتى إرهاصات الشيخوخة في حوالي سن الستين أو بعدها.

الفصل السادس عشر: أطوار بلوغ الرشد"طور الرشد المبكر"

الفصل السادس عشر: أطوار بلوغ الرشد "طور الرشد المبكر" الخصائص العامة: الرشد المبكر early adulthood: هو تلك الفترة التي تمتد من سن الرشد القانوني "21 عامًا" -أو قبلها أو بعدها, حسب التبكير أو التأخير في ظهور علامات الرشد كما بينا في الفصل السابق- وحتى سن الأربعين, الذي يصفه القرآن الكريم بأنه سن بلوغ الأشد, وفي هذا الطور تحدث أكبر عمليات التوافق في حياة الإنسان، وهذا ما يجعل له خصائص مميزة عن الفترات والأطوار التي تسبقه, وتلك التي ستتلوه. وتلخص "Hurlock 1980" هذه الخصائص فيما يلي: 1- الرشد المبكر هو طور الإنجاب: فعند معظم الراشدين الصغار تمثِّلُ الوالدية أحد الأدوار الأكثر أهمية في حياتهم, ويصدق هذا على المرأة أكثر من الرجل، على الرغم من أن الرجل في عصرنا يقوم بدور في رعاية الأطفال أكثر إيجابية مما كان يفعل في الماضي, وحين يتم الزواج خلال السنوات المتأخرة من المراهقة وقبل سن الرشد القانوني "فالقانون يسمح بذلك، وهذا أعظم متناقضاته" تكون الوالدية الدور الشاغل للراشدين الصغار خلال العشرينات والثلاثينات من العمر، بل إن بعض هؤلاء قد يصيرون أجدادًا قبل نهاية الرشد المبكر, أما الراشدون الذين لا يتزوجون إلّا بعد إكمال تعليمهم, أو بعد حلِّ مشكلات الحياة التي تزداد تعقيدًا وصعوبةً "كمشكلة البحث عن عمل أو سكن", فإنهم يقضون معظم هذا الطور يلعبون دور الوالدية، بل إن بعض هؤلاء يستمرون في لعب نفس الدور في طور بلوغ الأشد أو الرشد المتوسط "وسط العمر"، وهو الطور التالي في دورة حياة الإنسان. 2- الرشد المكبر هو طور الاستقرار: فمع قيام الراشد الصغير بدور العائل، أي: كاسب الرزق للعيال، يجبره هذا الدور -إلى جانب دور الوالدية- على

أن يتَّبِعَ نمطًا ثابتًا من السلوك في مجالات الحياة، قد يميزه ما بقي من عمره, وأي محاولة لتغيير هذا النمط في مرحلة وسط العمر أو الرشد المتأخر تكون صعبة، بل قد تؤدي للاضطراب الانفعالي عند الفرد, وفي الظروف العادية فإن معظم الراشدين لا يحتاجون لمثل هذا التغيير. إنهم حينئذٍ حالما يصلون إلى النضج فالرشد يتزوجون وينجبون وينخرطون في عملٍ يظلون يؤدونه معظم حياتهم، بل يستقرون في حيٍّ يعيشون فيه معيشة شبه دائمة. وهذه الحلول المبكرة لمشكلات حياة الراشدين قد تكون ملائمة أو غير ملائمة للمستقبل، وإذا كانت القرارات معتمدة على دوافع قوية وميول صحيحة وقدرات ملائمة, فإنها قد تكون قرارات رشيدة، أما إذا اتُّخِذَتْ بسرعة لإرضاء رغبات والدية عاجلة, أو رغبات خاصة, فقد يأتي عليهم وقتٌ يندمون فيه كثيرًا على ما فعلوا، ولات حين مندم. 3- الرشد المبكر هو طور الحل المستقل للمشكلات: ففيه يواجه المرء مشكلات عديدة جديدة, تختلف في جوهرها عن تلك التي كان يواجهها في المراحل السابقة من حياته، وهو مطالب بمواجهة هذه المشكلات دون إشرافٍ أو توجيهٍ أو معاونةٍ من الآباء أو المعلمين, كما كان يحدث من قبل, وبالطبع لو فُرِضَ على البعض التعامل مع مشكلات الرشد في مرحلة المراهقة أو الشباب بسبب الزواج أو العمل المبكرين, فإنهم قد يتوقعون مساعدة الوالدين؛ لأن هذه المشكلات عادةً ما تكون أقوى من قدراتهم على حلها بمفردهم, إلّا أن الشخص بعد وصوله إلى سن الرشد يتوقع له الوالدان والكبار عامةً أن يواجه المشكلات وحده، بل إن كبرياءه قد يمنعه من اللجوء إليهم طلبًا للمعونة, وتصبح المشكلة أشد تعقيدًا بالنسبة للراشد الصغير الذي يقضي مراهقته كلها, ومعظم شبابه, وجزءًا من مرحلة الرشد "حتى سن الخامسة والعشرين مثلًا" في التعليم، فذلك يجعله في حالة اعتماد "شبه دائم" على الوالدين، الذي يتمثّل في أبسط صورة في الاعتماد المالي والاقتصادي. 4- الرشد المبكر هو طور القرارات الهامة: ففيه يحاول المرء تحسس معالم الأرض الجديدة التي يجد نفسه فيها، وأيّ قرارٍ يتخذه له خطره على مسار حياته طوال السنوات الباقية من عمره، أو على مَنْ يرغب أن يشاركه حياته، ولهذا فقد يجد نفسه في موقف اللاقرار indicison, يحاول فيه اختبار الحلول المختلفة للمشكلة الواحدة حتى يصل إلى أفضل الحلول، وهذا في حَدِّ ذاته مصدر للتوتر، بل وللصراع، ولهذا نجد الفرد في هذا الطور مواجهًا بمشكلات توافق أكثر بكثيرٍ مما واجهه من قبل, بل أكثر مما يواجهه في العادة المراهقون المبكرون، إلّا أنه عند منتصف الثلاثينات يكون قد حلَّ معظم المشكلات على نحوٍ كافٍ بحيث يتناقص التوتر الانفعالي، ويحل محله الاستقرار الانفعالي مع نهاية هذه المرحلة عند حوالي سن الأربعين "Havighurst 1953". ويتناول هذا الفصل التغيرات التي تطرأ على الجوانب المختلفة في السلوك الإنساني في هذا الطور من الحياة.

النمو الجسمي

النمو الجسمي: خلال طور الرشد المبكر وخاصةً من أوائل العشرينات وحتى أوائل الثلاثينات, يكون الفرد قد وصل إلى قمة نموه البيولوجي والفسيولوجي, وبالطبع لا تصل جميع أجهزة الجسم إلى قمة النموِّ في وقتٍ واحدٍ، بل لا تصل كلها إلى قمة النموِّ خلال هذا الطور من الحياة؛ فكل جهاز من أجهزة الجسم له نمطه الخاص ومعدله المميز في النموِّ, ومن الطريف أن نذكر أن طور الرشد المبكِّرِ يتسم بالنضج والتدهور البيولوجيين معًا, ومع ذلك فإننا حين نفحص الجسم ككلٍّ, يبدو لنا أن هذا الطور هو طور النشاط البيولوجي الأمثل. فخلال الرشد المبكِّرِ يكون معظم الناس قد بلغوا أقصى طول القامة, وتصل المرأة إلى هذا الحد في سن 17 أو 18سنة, بينما تطول الفترة بعض الشيء عند الرجل لتصل إلى سن 21 سنة تقريبًا, أما الحد الأقصى للوزن فعلى العكس من ذلك لا يصل إليه الإنسان إلّا في الطور التالي "وسط العمر", والوصول إلى قمة القوة الجسمية يتلو عادةً وصول الفرد إلى الطول الأقصى, ولهذا فإن الفرد لا يصل إليها إلّا في منتصف العشرينات أو في أواخرها, أما القدرة على النشاط البدني، والتي لا تَتَطَلَّبُ القوة فحسب, وإنما تَتَطَلَّبُ أيضًا السرعة والتآزر والجَلَدَ "الاحتمال", فإنها تصل إلى حدها الأقصى خلال هذ الطور من العمر، ولهذا يقع معظم الأبطال الرياضيين عادةً في هذه المجموعة العمرية, وبخاصةٍ حتى مطلع الثلاثينات، بعدها نجد أن القوة والنشاط الجسميين يتناقصان تدريجيًّا, ليصل معدل النقص فيهما حوالي10% خلال الفترة من 30-60 سنة. وكذلك فإن عددًا من الوظائف الحسية والعصبية تصل إلى مستوياتها القصوى خلال الرشد المبكر، فالحدة البصرية والسمعية يبلغان أقصى قوتهما في سن العشرين تقريبًا، وتظل الحدة البصرية ثابتة نسبيًّا في مرحلة وسط العمر، بينما تظهر حدة السمع تناقصًا تدريجيًّا خلال نفس الفترة, وبالإضافة إلى ذلك, فإن الوزن الكليِّ للمخ, والأنماط الناضجة للموجات الكهربائية للمخ, يَتِمُّ اكتمالهما

خلال الرشد المبكر. والراشدون المبكرون هم أكثر الأفراد صحةً في المجتمع, وأسباب الوفاة لديهم ترجع إلى الحوادث أكثر منها إلى الأمراض "Brodzinsky et al 1986", ومع ذلك فإن بعض المشكلات الصحية التي قد تظهر في المراحل التالية من حياة الإنسان تبدأ بوادرها في هذا الطور العمريّ، ولذلك يطلق عليها الباحثون "الأمراض الصامتة"، وتشمل الحمَّى الروماتيزمية, وتصلُّب الشرايين, وتضخم أعضاء الجهاز التنفسي، وسرطان الرئة، وتليُّف الكبد، وأمراض الكُلَى, والتهاب المفاصل, كما أن الراشدين المبكرين يكونون أيضًا عرضةً للاضطرابات التي ترتبط بالإجهاد النفسيّ, ومن ذلك: التوتر الزائد, وإدمان الخمور والمخدرات، والاكتئاب، وقرح المعدة والسمنة, ولعل هذه الحقائق تؤكد أهمية برامج الطب الوقائي التي يجب أن تُقَدَّمَ لهؤلاء, والتي قد تمنع استفحال هذه المخاطر فيما بعد, إلّا أن الأهم من ذلك أن تكون لدى الراشدين المبكرين المنعة الناتجة عن عقيدةٍ دينيةٍ قويةٍ, والرغبة في اتباع النصائح العلمية, وهذا هو العامل الحاسم, فنحن نعلم أنه على الرغم من الانتشار الهائل في وقتنا الحاضر للمعارف العلمية التي تؤكد مخاطر التدخين, فإن الملايين لا يزالون يتشبثون بهذه العادة المدمرة لصحة الإنسان, ثم إن هناك أدلة قوية على أن للدين دوره الحاسم في التغلب على مشكلة إدمان المخدرات والمسكرات. ووصول الراشد المبكر إلى الحَدِّ الأمثل للنشاط البيولوجي له آثاره الهامة في توافقه الشخصيّ والاجتماعيّ والمهنيّ, وبالطبع فإنه في المهن التي تتطلَّبُ القدرات الجسمية والحسية, تُعَدُّ فترة الرشد المبكر "ربيع" الحياة المهنية لها, وخاصةً خلال الفترة من 20-35 سنة، التي تكون عندها هذه القدرات في أَوُجَّهَا، ثم تتناقص تدريجيًّا بعد بلوغ الفرد سن الأربعين "بداية الرشد الأوسط", صحيح أن بعض الأفراد لا يظهرون تناقصًا في هذه القدرات مع التقدُّمِ في السن, ولعلنا نذكر في هذا الصدد بعض الموسيقيين والفنانين التشكيليين المشهورين, الذين استمرت قدراتهم الحسية على درجةٍ كافيةٍ من القوة حتى مع بلوغهم الثمانيات من العمر, وبالنسبة للمرأة, فإن قدرتها على الإنجاب تصل أيضًا إلى قوتها خلال طور الرشد المبكر, ويمكن القول أن أفضل سن الحمل الأول من الوجهة البيولوجية هو العشرينات من العمر؛ حيث تصل الأعضاء والأجهزة الفسيولوجية عند الحمل إلى أفضل نموٍّ وتآزرٍ لها خلال هذا الطور من النموِّ دون سواه؛ فالمرأة خلال الرشد

المبكر لا قبله ولا بعده "أي ليس أثناء المراهقة, ولا خلال الرشد الأوسط" تكون أكثر قدرةً على إنتاج البويضات المخصبة، كما أن دورتها الهورمونية المرتبطة بالتناسل تكون أكثر انتظامًا، وتكون بيئة الرحم والحوض أكثر ملاءمة لحمل الجنين, وأكثر يسرًا في ولادته, وعلى الرغم من أن بعض النساء يحملن بدون مشكلاتٍ خلال المراهقة المتأخرة, أو مع بداية الأربعينات من العمر, إلّا أن معدَّلَ الخصوبة في هذه الحالات ليس بنفس جودة طور الرشد المبكر، كما أن الولادة تكون أكثر صعوبة، بالإضافة إلى احتمال إصابة الجنين ببعض النقائص التي تناولناها فيما سبق عند عرض خصائص مرحلة الجنين. وهكذا فإن طور الرشد المبكر هو طور اكتمال النموِّ الجسميّ, باستثناء الحالات القليلة التي تتعرض للإصابة بالأمراض أو النموِّ غير السوي, ولا يلاحظ الراشد الصغير أيَّ علاماتٍ تدل على التدهور أو على التقدم في السن إلّا بعد الأربعين، وهي علاماتٌ تجعله حينئذٍ أكثر اهتمامًا بصحته وجسمه, إنه عندئذ يبدأ في المقارنة بين أدائه في طور الرشد الأوسط, وأدائه في طور الرشد المبكر، فيدرك مدى ما كان عليه من صحة وقوة ونشاط وفعالية وإنجاز، وبعبارة أخرى: فإن الخصائص الجسمية القصوى للرشد المبكِّر لا يدركها المرء في أوانها، وإنما يقدرها حين يعود بذكرياته إلى الوراء, بعدما يصل إلى الرشد الأوسط أو الشيخوخة، وحينئذٍ يقدر النعم التي كان قد أنعم الله عليه بها، والتي ربما لم يحافظ عليها حقَّ المحافظة، وقد يندم على ما فَرَّطَ في حق نفسه، ولات حين مندم.

النمو العقلي المعرفي

النمو العقلي المعرفي: كما هو الحال في النموِّ الجسميِّ, فإن بعض القدرات العقلية المعرفية تصل إلى قمتها خلال الرشد المبكر, وتؤكد البحوث أن المهام التي تتطلَّب السرعة في زمن الاستجابة أو زمن الرجع وذاكرة المدى القصير، والقدرة على إدراك العلاقات المعقدة, تُؤَدَّى بطريقة عالية الكفاءة خلال المراهقة وبداية العشرينات من العمر, كما أن بعض القدرات الابتكارية وخاصةً تلك التي تتطلَّبُ إنتاج أفكار, أو نواتج فريدة "الأصالة" أو متنوعة "المرونة", تصل إلى أعلى مستوياتها خلال الرشد المبكر أيضًا, إلّا أن معظم القدرات الأخرى تستمر في النموِّ بعد هذا الطور؛ فالقدرات العقلية المرتبطة بالنشاط اللغوي والسلوك الاجتماعي مثلًا تظل في حالة نموٍّ مستمرٍّ خلال الخمسينات من العمر, وربما بعد ذلك, وهذه هي المهارات والقدرات التي تتحسن بالتعلم والخبرة. ويوجد سؤال هامٌّ تحيطه المشكلات المنهجية يتصل بالتحسن والتدهور في

القدرات العقلية للراشدين, وكما سنرى عند تناول مرحلتي وسط العمر والشيخوخة, فإن الأداء الجيد للراشدين المبكِّرين على اختبارات الذكاء, في مقابل الأداء الأقل جودة عندهم في مرحلتي وسط العمر والشيخوخة على نفس الاختبارات, قد يرجع في جوهره إلى "اصطناعٍ" ينتج عن طبيعة مناهج البحث المستخدمة، بالإضافة إلى المشكلات المتضمنة في بعض النماذج النظرية حول النموِّ العقلي. ولعل أكثر هذه المشكلات حدَّةً ما يتصل بنموذج بياجيه في النموِّ العقلي، فمن المعروف أن هذا النموذج ينتهي بالمرحلة التي تُسَمَّى مرحلة العمليات الشكلية أو الصورية "والتي تتسم باستخدام طرق الاستدلال الفرضي الاستنباطي, والتفكير المجرد على نحوٍ عامٍّ, وفي مختلف المجالات كما بينا آنفًا", كما أن بحوث بياجيه وتلاميذه ظلَّت تؤكد لسنوات طويلة أن هذه المرحلة يتم الوصول إليها بين سن 12، 15 سنة, أي طور المراهقة, وبالفعل فإن كثيرين من المراهقين يصلون إليها في هذ السن. إلّا أن بياجيه في بعض كتاباته المتأخرة "Peaget 1972" اقترح أن مرحلة العمليات الصورية قد لا تصل إلى النموِّ أو تصبح واضحة المعالم إلّا في الفترة بين طور السعي"الشباب" والرشد المبكر "أي 15-20سنة"، بالإضافة إلى أن كثيرًا من الراشدين لا يفكرون بالفعل بهذه الطريقة "Keating 1980"، كما أنها قد يتم التعبير عنها في نطاقٍ أكثر ضيقًا مما كان مفترضًا من قبل؛ فمثلًا يمكن للشباب أن يُظْهِرَ استدلالًا فرضيًّا في مجال تخصصه دون غيره من المجالات, كما أثبتت البحوث التجريبية الأكثر حداثة أن المراهق والشاب قد لا يستطيع استخدام التفكير الصوريّ وتعميمه من مجالٍ لآخر, ومن ذلك أن "Delisi Staudt 1980" وجد أن طلاب الجامعة يمكنهم التعبير عن المفاهيم الإجرائية الصورية بسهولة في مجال تخصصهم الرئيسي وليس في غيره؛ فطلاب الفيزياء كانوا أكثر نجاحًا في المهام التي تتعامل مع المتغيرات التي تؤثر في تذبذب بندول الساعة، بينما واجهوا صعوبات جمَّةٍ عند تطبيق هذه العمليات الصورية على المسائل السياسية أو الأدبية, وعلى العكس, فإن طلاب العلوم السياسية كانوا أكثر نجاحًا في مهام التخصص, وأقل نجاحًا في المهمتين الآخريين "العلمية والأدبية", أما طلاب الأدب الإنجليزي فكانوا بالمثل أكثر نجاحًا في تطبيق العمليات الصورية على المهام الأدبية وحدها. ما هي العوامل التي تحدد الاختلافات في نموِّ التفكير باستخدام العمليات الصورية, وطرق التعبير عنه؟ من الواضح أن العوامل الثقافية تلعب الدور الحاسم

في ذلك دون شكٍّ، ومن ذلك درجة التقدُّمِ التكنولوجي في المجتمع؛ فالمجتمعات ذات المستوى التكنولوجي المتقدم تكون في حاجة إلى عدد أكبر من الأفراد ذوي القدرة العالية على التفكير المجرد، وعلى ذلك فإن مثل هذه المجتمعات أكثر تهيؤًا لتوفير مسالك وسبل لنمو هذا النمط من التفكير وطرق التعبير عنه، ومن هذه السبل التربية, وقد أيدت البحوث الحديثة وجود علاقة موجبة بين عدد سنوات الدراسة ونموّ مبادئ التفكير باستخدام العمليات الصورية, ويوجد عامل آخر يرتبط بالتفكير الصوري هو مستوى الذكاء, فمن المتوقَّع أن يكون الأشخاص الأكثر ذكاءً أكثر قدرةً على تنمية واستخدام العمليات الصورية أيضًا. ويوجد جدل حادٌّ في أروقة علم نفس النموِّ حول ما أشرنا إليه من أن الراشدين لا يصلون جميعًا بالضرورة إلى المستوى المعرفي للعمليات الصورية, بل ربما لا يصل إلى هذه المرحلة بالفعل أكثر من 50% منهم, ويذكر "Dasen 1972" أن هذا النمط من التفكير أقل شيوعًا في الثقافات غير الغربية, وهذا القول أكده "Leskow Smock 1970" من قبل, كما يذكر آخرون "Elkind 1961" أن هذه القدرة أقل نموًّا لدى النساء, كما أنها لا تظهر إلّا لدى نسبة لا تزيد عن 17% من طلاب الجامعة "Tolmlinson- Keasey 1972", ويفسر بعض الباحثين هذه النتائج بأنها لا ترجع إلى عدم القدرة لدى هؤلاء على استخدام الاستدلال المنطقي كما يحدده مفهوم بياجيه عن العمليات الصورية, وإنما ترجع إلى أن بعض ميول الاستجابة وبعض خصائص الاختبارات المستخدمة لا تسمح لكلِّ شخصٍ بإظهار كفاءته بنفس الدرجة "Brodzinsky et al 1980", فإذا كان الشخص غير مهتم بالمهمة التي يؤديها في الموقف التجريبي أو الاختباري، أو كان على على درجة عالية من القلق نتيجة وضعه موضع التقويم، أو كانت المهارات المطلوبة لحل المشكلة قد تعرضت "للصدأ" نتيجةً لعدم الاستعمال, فإن أداء هذا الشخص حينئذٍ يكون أضعف من أدء شخصٍ آخر لديه الدافعية للعمل، ودرجة منخفضة من قلق التقويم، ويمارس بانتظام هذه المهارات اللازمة لحل المشكلة، ولعل أهم العوامل التي تؤثر في أداء الأفراد في هذه المهام اللازمة لحل المشكلة, ولعل أهم العوالم التي تؤثر في أداء الأفراد في هذه المهام الخاصة بالعمليات الصورية وغيرها من المهام التي استخدمها بياجيه, تعود في جوهرها إلى ما يُسَمَّى في الوقت الحاضر الأسلوب المعرفي Cognitive Style, والذي يدل على النمط الذي تَعَوَّدَ عليه الفرد كأسلوب في حل المشكلات؛ فالأشخاص الذين يتسمون بالأسلوب التأملي -أي: أولئك الأكثر حذرًا وحيطةً, وأكثر رويةً وأناةً, وأكثر انتظامًا, ويستخدمون التخطيط في سلوك حل المشكلة- يؤدون أداء جيدًا في هذا المهام, كما يؤدي في المهام

بنفس الجودة أصحاب أسلوب الاستقلال عن المجال Field- independent، وهم الأشخاص الأكثر قدرة على التمييز بين المعلومات المرتبطة وغير المرتبطة بسياق حل المشكلة, وعلى العكس فإن أولئك الأكثر اندفاعًا في الاستجابة لمواقف المشكلة، وأولئك الأكثر اعتمادًا على المجال, أو الذين يعانون من صعوبة التعرف على ما هو مرتبط بمشكلة معينة تتضمن معلومات أخرى, يؤدون أداءً سيئًا في هذه المهام. ولعل هذه النتائج جميعًا دفعت بعض الباحثين المعاصرين إلى التشكك في مسلَّمة بياجيه, في أن المستوى الأعلى للنموِّ المعرفي يتم الوصول إليه بإحراز العمليات الصورية, وقد حاول بعضهم تحديد مستوياتٍ من النشاط المعرفي تتجاوز هذه المرحلة، ونشير فيما يلي إلى مجموعةٍ من البدائل الهامَّةِ لوصف النشاط العقلي لدى الراشدين، وأهمها وأكثرها شيوعًا ثلاثة هي: 1- إيجاد المشكلات: يرى آرلن "Arlin 1975" أن إيجاد المشكلة Problem- finding, هو المستوى الخامس من النشاط المعرفي "الأعلى من مستوى العمليات الصورية عند بياجيه", وهو الذي يتسم به سلوك الراشدين, ويتمثَّل ذلك في قدرة الراشد على توليد أسئلة جديدة ومرتبطة حول العالم الذي يحيط به, وعلى ذلك فإن الفرد هنا يطرح مشكلات جديدةً بدلًا من محض التنبه إلى المشكلات القائمة, كما أن الباحث عن المشكلات قد يكتشف طرقًا جديدةً في النظر إلى المسائل المألوفة من أجل الوصول إلى حلول جديدة ممكنة, ويرى آرلن أن هذا السلوك قد يكون هو العملية التي تربط بين البنى المعرفية عند بياجيه وعملية الابتكار. وفي رأيه أن العمليات الصورية هي شرطٌ ضروريٌّ, ولكنه غير كافٍ لحل المشكلة, وعلى أية حالٍ فإن هذه المرحلة الخامسة المقترحة لم تحظ بعد بالقبول العام لدى الباحثين، وهناك من يتشكك فيها على أسس تجريبية ومنطقية, وترى آمال صادق "1989" أن سلوك إيجاد المشكلات لا يقتصر على سلوك الراشدين، وإنما هو من خصائص التفكير الابتكاري والإبداعي بصفة عامة, سواء أكان في الطفولة أم المراهقة أم الرشد. 2- التفكير الجدلي: وهي عملية إضافية أخرى اقترحها ريجل Riegel" 1975 1973, لتفسير النشاط المعرفي لدى الراشدين, وخلاصة ذلك أنه يرى أن تفكير الراشدين يتسم بالخاصية الجدلية dialectic على طريقة الفيلسوف الألماني هيجل، أي: بالقدرة على التعرف على الصراع المعرفي, والتناقض بين الأفكار, وتقبله, بل وحتى الرغبة فيه والسعي إليه, وفي هذا ينتقد ريجل مسلَّمَة بياجيه في

أن التفكير باستخدام العمليات الصورية -وهو أعلى المستويات عنده- هو أكثر صور التفكير نضجًا, كما ينتقد أيضًا رأيه في أن التفكير الناضج ينشد تحقيق التوازن -أي: تحقيق حالة من عدم التوتر فيها يلائم كل شيء بعضه بعضًا "راجع الفصل الخامس من هذا الكتاب", وعلى العكس فإنه يرى أن التفكير الناضج "وهو بالطبع تفكير الراشدين" لا يسعى إلى التوازن أو خفض التوتر، وإنما هو سعيٌ مستمرٌّ نحو الأزمة المعرفية؛ فالعقل الناضج يحتاج إلى الاستثارة المستمرة، ويرحب بالتناقض الظاهري الذي يصاحب وجهتي نظر متعارضتين أو أكثر؛ لأن هذا هو "الغذاء" الذي يهيئ الفرصة لنمو العقل الإنساني. ويرى ريجل أن التفكير الجدلي يمكن أن يحدث في أيِّ مرحلة من المراحل التي اقترحها بياجيه، على الرغم من أن محتوى العملية الجدلية يكون أقل تعقدًا بكثير في المراحل الدنيا؛ فطفل ما قبل المدرسة مثلًا يعزي صفات مطلقة للأشياء والأشخاص، فخصائص مثل كبير وصغير، ثقيل وخفيف, وغيرها، إما أن تكون أو لا تكون؛ فالشخص إما أن يكون كبيرًا أو صغيرًا, وبعد ذلك يصبح العقل أكثر وعيًا بالصراع والتناقض في هذه الخصائص؛ فالأخ الأكبر يكون أطول حين يقارن أخيه بأخيه الأصغر, ولكنه "أي: الأخ الأكبر" يكون أقصر حين يقارن بأبيه, فكيف يكون الشخص طويلًا وقصيرًا في نفس الوقت؟! إن الطفل يحل هذا التناقض الظاهري بالتعرف على أن بعض الخصائص لها خاصية نسبية، أي أنها لا تفهم إلّا في سياق خاص، أو في علاقتها بشيء آخر. وهذا المستوى الذي يصل إليه الطفل لا يحل المشكلة المباشرة التي تواجهه، ولكنه يزوده باستراتيجية معرفية ضرورية لإدراك العالم من حوله من منظور أكثر اتساعًا وشمولًا وعمقًا. وكما يفعل الصغار يفعل أيضًا الشباب والراشدون المبكرون، فهم يتعاملون مع العالم المحيط بهم من خلال المنظور الجدلي، والفرق بين الصغار والكبار هو المستوى الرفيع الذي تكون عليه هذه العملية في طور الرشد؛ فالتناقضات التي يوجهها الراشدون تكون أكثر حدوثًا على مستوى الأفكار المجردة, ولا تقتصر على المستوى العياني كما هو الحال عند الصغار. وبهذا تكون حياة الراشد في جوهرها مجاهدة ومكابدة, مع تناقضات وصراعات كثيرة في حياته, تتصل بالأخلاق والسياسة والتربية والدين وفلسفة الحياة, ولعل هذا -والله أعلم- أحد ألوان الكَبَدِ الذي يعانيه الإنسان, والذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:

{لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] . إلّا أن الراشدين ليسوا بالضرورة في حاجةٍ إلى حل جميع التناقضات التي يواجهونها، فالإنسان الناضج -رأى ريجل- هو الذي يتقبل هذه التناقضات على أنها خاصية أساسية من خصائص الفكر والحياة الإنسانية. 3- التفكير النسبي العملي في إطار سياقات معينة: اقترحت هذا النموذج جيزيلا لابوفى -فيف عام 1982 "Lambouvie Vief 1982", في نقدها المفصَّلِ لاستخدام نموذج بياجيه أو غيره من النماذج المتمركزة حول الطفل أو المراهق, في تفسير النمو المعرفي للراشدين, وفي رأيها أن التركيز على هذا النموذج يمكن أن يعبِّرُ عن تدهورٍ أو نكوصٍ في تفكير الراشدين, وليس تقدمًا أو تطورًا, ويمكن توظيف مثل هذا النموذج عند تناول النشاط المعرفي للمسنين المعمرين الذين قد يبلغون أرذل العمر؛ حيث الانتكاس والنكوص بالفعل, أما عند تفسير سلوك الراشدين، وهم الفئة العمرية التي تدل على القوة واكتمال النموّ، في إطار أفكار بياجيه فإننا نقع -في رأيها- في خطأ بالغ. بل إن الاعتماد على النموذج التقليدي لبياجيه في تفسير تفكير الراشدين قد يوحي لنا بحدوث عمليات سوء توافق لديهم إذا لاحظنا أن تفكيرهم المنطقي والصوري يتناقص, بينما يتزايد لديهم التركيز الأكثر برجماسية,. والموجِّه عيانيًّا نحو الواقع, إلّا أن حقيقة الأمر أن هذا ما يحدث بالفعل في تفكير الراشدين, وهو علامة على مزيدٍ من التوافق والتقدم، بل إن التفكير الصوري قد يكون اختيارًا خاطئًا في طور الرشد بسبب الطابع المثالي الغالب عليه, والذي قد يبعده عن التوجه العملي نحو عالم الواقع. ومن الملاحظ أنه مع تقدُّمِ الشباب في دراستهم الجامعية, أو في مجال حياتهم المهنية, تتناقص في تفكيرهم خاصية "المطلق", وتتزايد خاصية "النسبي"؛ ففي إدراك الراشد توجد منظورات متعددة, وسياقات مختلفة, وحلول بديلة للمشكلات، ولعل هذا يفسر لنا النقص في استخدام التفكير الصوري خلال الانتقال من المراهقة إلى الرشد, ويدل هذا على السعي نحو إحداث تكاملٍ جديدٍ في التفكير الإنساني من خلال تَقَبُّلِ ضوابط عالم الواقع وقيوده وحدوده وشروطه، وهذا كله من سمات تفكير الراشدين. وتعني هذه الاستراتيجية التوافقية أن الراشد يعتمد اعتمادًا أقل على البحث عن اليقين المنطقي في حل المشكلات، ولهذا فإن جزءًا من هذا التغير المعرفي يظهر لدى الراشدين المبكِّرِين في صورة التخصص والنسبية والواقعية, بدلًا من التفكير المطلق والمثالي والعام لدى من هم أصغر سنًّا.

وعلى هذا فلا بُدَّ لنا من استخدام محكاتٍ مختلفةٍ للحكم على النضج المعرفي في مرحلة الرشد؛ لأن استخدام المحكات الخاصة بمرحلة العمليات الصورية مضلل, والبديل لذلك ما يتسم به تفكير الراشدين من خصائص الالتزام والتخصص والخبرة العملية, وتوجيه الطاقة حتى يجد الشخص لنفسه مكانًا ومكانة في النسق الاجتماعي المعقد الذي يعيش فيه, وبهذا تحل الاهتمامات العملية الناضجة للراشدين محل انبهار المراهقين بممارسة المنطق الصوري المثالي. وهكذا يسقط التصور الذي ظلَّ شائعًا لأكثر من نصف قرن، وهو أن التفكير المنطقي الصوري هو الصورة الأكثر نضجًا ورقيًّا في تفكير الإنسان، وأنه حالما يصل إليه المرء "مع البلوغ الجنسي ومرحلة المراهقة", فإنه يصبح سمة تفكيره طوال حياته بعد ذلك, فقد تَأَكَّدَ أن النشاط المعرفي للراشدين هو في جوهره من النوع النسبي والعملي والمحسوس والعياني والموجَّه نحو سياقٍ معين, وفهم الراشد لظروف الواقع وقيوده وضوابطه علامة على مزيدٍ من النضج والنمو المعرفيين, وليس مؤشرًا على انتكاسٍ إلى مرحلة العمليات العيانية السابقة "في نموذج بياجيه". وهكذا ترى لابوني -فيف, وجود مرحلة خامسة في النمو المعرفي للإنسان تتلو مرحلة العمليات الصورية, وتظهر في صورة التفكير النسبي العملي السياقي, وتبدأ خصائص هذه المرحلة في الظهور في السنوات التي تتلو مباشرةً المرحلة الثانوية في التعليم، أو مع دخول المراهق سوق العمل، ولهذا فإنها أكثر احتمالًا في الظهور لأول مرةٍ في الطور الذي أسميناه بطور بلوغ السعي أو الشباب, وهي بالقطع من خصائص السلوك المعرفي في الرشد، ويزداد هذا النمط من التفكير تبلورًا مع التقدُّم في العمر الثاني للإنسان "الرشد". وتعقيبًا على هذه التصورات المختلفة للنشاط المعرفي الراشدين نقول -إنصافًا لبياجيه: إنه كان يرى أن دخول الإنسان عالم العمل قد يؤدي إلى ظهور أنماطٍ جديدة من التكيف, صحيح أنه لم يقترح مرحلة خامسة في النمو المعرفي، إلّا أنه كان على وعيٍ بأن "العمليات الصورية" ليست خاتمة المطاف, وعلى الرغم من أنه لا يوجد بين علماء نفس النمو اتفاق حول وجود وطبيعة مرحلة متميزة بعد مرحلة العمليات الصورية, إلّا أن عددًا كبيرًا من البحوث الحديثة يصف لنا التغيرات التي تطرأ على تفكير الراشدين, والتي لا يمكن تناولها مباشرةً وبسهولةٍ في إطار نموذج بياجيه, والنماذج الثلاثة التي تناولناها ليست كلّ ما في حقيبة البحث النفسي الحديث، فهناك أيضًا نماذج أقل شيوعًا؛ منها نموذج الإفراط في

الملاءمة overaccomdation الذي ترى فيه "Haan 1982" أن نجاح الراشدين الصغار في التكيف والتوافق مع الظروف البيئية لا يتحقق بمجرد المواءمة، أي: عملية التوافق من جانب الإنسان بحيث يتكيف أفضل مع الظروف الراهنة، وتعديل سلوكه لمواجهة هذه المطالب كما يرى بياجيه، "راجع سيد أحمد عثمان، فؤاد أبو حطب 1978", وإنما ما يحدث في الرشد المبكر هو الإفراط في هذه المواءمة, وهوسلوك ترى هان أنه لا يتناقص إلّا مع بلوغ وسط العمر "مرحلة بلوغ الرشد"؛ حيث يكون فيها الفرد قد حقق نجاحًا مؤكدًا, أو حقَّقَ نوعًا من المصالحة بين نفسه ومقدار الإنجازات التي أحرزها، وعندئذ تخف وطأة المبالغة في المواءمة التي كان عليها في طور الرشد المبكر؛ حيث يلعب السياق الاجتماعي الدور الحاسم، وفي هذا يتفق نموذج هان مع نموذج لابوني -فيف, الذي أشرنا إليه. ويوجد نموذج آخر يؤكد أيضًا أهمية السياق الاجتماعي, يرى أن أهم خاصية معرفية في سلوك الراشدين هي "الإنجاز" achievement, وهو النموذج الذي اقترحه سكائي "1977 Schaie", وفيه يرى وجود أربعة مراحل للنمو المعرفي مدى الحياة هي: مرحلة الاكتساب, وتشير إلى طَوْرَي الطفولة والمراهقة, وفيهما ينشط الطفل والمراهق في بيئة "واقية حامية", ويكون هدفه الاكتساب المعرفي, ومع بلوغ الفرد مكانة الرشاد تصبح البيئة التي يعيش فيها أقل وقايةً وحمايةً له، وخاصة حمايته من نواتج الفشل في حل المشكلات, ولهذا فإن الهدف المعرفي في هذه الفترة "طور الرشد المبكر" ليس اكتساب المعرفة، كما كان الحال من قبل، وإنما إحراز الممكن والمحتمل، ولهذا يسمي سكائي هذا الطور بمرحلة الإنجاز, ثم يضيف إلى ذلك مرحلتين أخريين, هما مرحلة المسئولية في طور وسط العمر "بلوغ الأشد"، ثم إعادة التكامل في مرحلة الشيخوخة "العمر الثالث للإنسان", ويرى سكائي أن الإنسان في المراحل الثلاث الأخيرة "الإنجاز والمسئولية وإعادة التكامل" يكون مطالبًا بإحداث التكامل بين قدراته العقليةِ على مستويات عالية متزايدة التعقد من الأدوار الاجتماعية, ومرةً أخرى يلعب السياق الاجتماعي الدور الحاسم في النشاط العقلي للراشدين. ويوجد نموذج ثالث -بين النماذج التي تعتمد في جوهرها على السياق الاجتماعي- قدمه كيرت فيشر "Fescher 1980", وفيه يقترح عشر مراحل من النموِّ المعرفي خلال دورة الحياة للإنسان، منها ست مراحل للطفولة، ومرحلة سابعة تميز ظهور علامات التفكير المجرد لأول مرة "مع المراهقة"، وتبقى

المراحل الثلاث الأخيرة أوثق اتصالًا بتفكير الراشدين, وهي: بناء الخريطة المجردة abstract mapping, أو قدرة الراشد على إدراك العلاقة بين هويته المجردة والأشخاص الآخرين، وبناء النسق المجرد abstract sysems, أو القدرة على إدراك التآزر المتبادل بين هوية الراشد وغيره من الأشخاص الهامين, وكذلك التوقعات المجتمعية منه، ثم بناء نسق الأنساق المجردة system of abstract systems, ويعني: التآزر بين مختلف جوانب هوية الراشد طوال حيانه حتى يدرك "شخصيته" ككلٍّ له معنى, وهذه المراحل تتطلَّبُ إتقان بعض "المهارت المعرفية" على حدِّ تعبير فيشر, والتي يحتاج إليها الراشدون في السياق الاجتماعي الذي يتعاملون معه على النحو الذي أوضحته لابوتي-فيف. ويمكننا أن نخلص من العرض السابق بالقول بأنه توجد على الأقل ثلاث خصائص هامة في تفكير الراشدين تستحق الاهتمام هي: 1- تفكير الراشدين يتسم بالنسبية, وهو بذلك يختلف عن تفكير المراهقين الذي يميل إلى أن يكون مطلقًا؛ فالراشدون أكثر تقبلًا لوجود أنساق معرفية متنافسة ومتعارضة, وينشأ ذلك جزئيًّا من اتساع العالم الاجتماعي للراشد، والذي يشمل وجهات نظر مختلفة, وأدوارا اجتماعية عديدة, بل ومتنافسة. 2- يدرك الراشدون أن التناقض هو خاصية من خصائص عالم الحقيقة والواقع, ولا يحتاج الأمر إلى حل الصراعات والتناقضات المعرفية لكي يحقق الراشد توافقه وتكيفه مع البيئة المحيطة به، وإنما قد يتحقق هذا التكيف يتقبل هذه التناقضات, بل إن تفكير الراشدين لا يقبل هذه التناقضات في عالم الواقع فحسب, وإنما قد يسعى إليها, ويعتمد عليها للوصول إلى حلول جديدة للمشكلات, من خلال النشاط الإبداعي "التفكير من خلال إيجاد المشكلات". 3- يسعى الراشدون في تفكيرهم إلى إحداث التكامل, أو التركيب بين جوانب المعرفة المتناقضة للوصل إلى تكوينٍ جديدٍ أكثر شمولًا واتساعًا, يسميه بعض الباحثين "Commons et al 1982" ما بعد الأنساق. ومعنى ذلك أنه بينما نجد المراهق يقتصر في تفكيره على الوصول إلى نسقٍ من التفكير مجردٍ وواحدٍ وعام ومنظم حول مبادئ العمليات الصورية, فإن الراشد -على العكس من ذلك- يبدأ في النظر إلى المعرفة على أنها تكامل وتآزر بين أنساق متعددة متنافسة, فوجود مفاهيم مختلفة متعددة حول الدين والعلم مثلًا, والتي تبدو ظاهريًّا لدى المراهق متعارضةً في وصف وتفسير الأمور الدينية والدنيوية, فإن ذلك لا يُعَدُّ بالنسبة للراشد محيرًا, كما كان يبدو من قبل, فبدلًا من النظر إلى إجابة واحدة صحيحة فإن الراشد يدرك أن المعرفة هي دائمًا تكامل وتركيب بين وجهات النظر التي تبدو متعارضة "في مثال العلم والدين قد يتجه نحو البحث في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم مثلًا"، فكل خبرة ينظر إليها من زاوية مختلفة, أو من منظور مختلف, وتؤدي به إلى معلومات واستبصارات جديدة.

النمو الخلقي

النمو الخلقي: الرشد المبكر "بلوغ الرشد": هو الوقت الذي يكتسب فيه الإنسان استبصارًا قويًّا بالصواب والخطأ, اعتمادًا على الخبرة الشخصية, والنمو الخلقي، أو نموّ النسق القيمي الشخصي لديه, يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنمو المعرفي, ويبدو أن توافر القدرة المنطقية يُعَدُّ شرطًا ضروريًّا حتى يمكن للشخص أن يفكِّرَ على مستوى خلقي معين, وفي هذا الصدد يرى كولبرج "Beltes Schaie" أن الشخص يجب أن يكون قد وصل إلى مستوى العمليات الصورية في المعرفة "كما يحددها بياجيه" قبل أن ينشغل بالاستدلال الخلقي في المستوى القائم على المبادئ principled, أو المستوى المتجاوز للتقاليد Post conventional. وعلى هذا فإن المستويات العالية من النموِّ الخلقي يبدو أنها تتطلَّبُ ما هو أكثر من إحراز مستوى معين من النموِّ المعرفي، فهي تتطلَّبُ أيضًا أنواعًا معينة من الخبرات الشخصية؛ فدخول الفرد بيئة العمل مثلًا يعرضه لبدائل انفعالية, وخيارات وجدانية, وقيم متصارعة, وإدراكات جديدة للذات, وحينئذ قد يستجيب للمواقف المشكلة التي تتطلب حكمًا أخلاقيًّا بنوعٍ من التقدير النسبي, فما هو صواب ليس إلّا مسألة نسبية, ويعتمد ذلك على خصائص الشخص وحاجاته وظروفه, وهذا الوضع يعكس الوعي الجديد لدى الراشد بتنوع القيم لدى الناس, ومع تماسك الهوية وبلورتها يصل الشخص إلى مستوى أعلى من الحكم الخلقي, وينتقل إلى المرحلة الخامسة في نموذج كولبرج, أي: مستوى التعاقد الاجتماعي، وفي حالاتٍ نادرةٍ إلى مستوى الوجهة الخلقية العامة المعتمدة على المبادئ, والتي تمثِّلُ المرحلة السادسة عنده, وقد بينت بعض الدراسات التي أجريت في أمريكا أن معظم الراشدين المبكرين "الذين تجاوزوا المرحلة الانتقالية التي أسميناها بلوغ السعي أو الشباب" لا يظهرون أعلى المستويات الخلقية عند كولبرج, كما أثبت البعض الآخر أن المستوى التعليمي ليس هو العامل الحاسم، وإنما الأكثر حسمًا هو خبرات حياة الراشد. "Brodzinsky, et. al., 1986". وقد كانت نظرية كولبرج في النموِّ الأخلاقي, وخاصة في مراحل الرشد, وعلى وجهٍ أخصٍّ المستوى الخلقي المتجاوز للتقاليد, موضع نقدٍ شديدٍ

"Murphy &Gilligan, 1980". فعلى الرغم من أن معظم الباحثين يقبلون المستويين الأولين في هذا النموذج، إلّا أن الاختبار الأمبريقي للنموذج أثبت أن كثيرًا من الناس عند الرشد يظهرون تراجعًا إلى مراحل مبكرة, بدلًا من التقدُّمِ نحو مراحل أعلى, وأدى هذا النقص في التطابق بين تنبؤات النموذج ونتائج البحث الفعلية إلى اقتراح بعض التعديلات في هذا النموذج, وخاصةً ما يتصل بمرحلة الرشد, وما يتصل بالقول بأن العلميات الصورية تُعَدُّ الأساس المعرفي لنموِّ أخلاق ما بعد التقاليد, ويرى مورفي وجليجان في بحثهما المشار إليه أن ما يحدد النموِّ الخلقي في مرحلة الرشد هو مستوى من التفكير أكثر تقدمًا وأكثر رفعةً من المستوى الصوري "وقد أشرنا إلى ذلك في القسم السابق"؛ فالتحول من المراهقة أو الشباب إلى الرشد المبكر يصاحبه تحول في الطريقة التي يطبق بها التفكير الصوري بطريقة قطعية ومطلقة عند التعامل مع المسائل الخلقية, بينما الأمر أكثر نسبيةً عند الراشدين بسبب خبرتهم المتزايدة بالصراع الأخلاقي والاختيار، ومعنى ذلك أنهم يعترفون ويقبلون المنظورات المتعددة للمواقع الخلقية المشابهة. ويُوجَدُ مجالٌ خلافيٌّ آخر في النمو الأخلاقي عند الراشدين, مصدره العلاقة بين مستوى الاستدلال الأخلاقي وبين القيم والسلوك السياسيين, ولقد كانت هان وزملاؤها "Hann, et, al. 1968" أول ما أثبت أن مراحل النمو الخلقي عند كولبرج ترتبط بالأيديولوجية والنشاط السياسيين؛ فقد لاحظ هؤلاء الباحثون أن طلاب الجامعة من ذوي التفكير على مستوى المبادئ الأخلاقية, في مقابل ذوي التفكير على مستوى أخلاق التقاليد, كانوا أكثر إيجابية في المسائل الاجتماعية والسياسية, وأكثر تحررًا في وجهته، وأكثر مشاركة في الاجتماعات والأنشطة ذات الطابع السياسي, وعلى الرغم من أن الطلاب كانوا في مرحلة ما قبل التقاليد, وخاصة الذكور منهم, فإنهم أظهروا أيضًا نزعة أكثر ثورية في وجهتهم السياسية, وحين أجريت تحليلات عميقة لخصائص شخصيتهم وظروفهم الاجتماعية والأسرية, اتضح أن العوالم المؤثرة في اتجاهاتهم السياسية, وسلوكهم الاجتماعي كانت مختلفة, وتَمَثَّلَ ذلك في جوهره في أن "ثورية" الطلاب الذين هم في مستوى ما قبل التقاليد, لا تدل كثيرًا على شيء من الاعتقاد أو الالتزام السياسيين، وإنما هي أكثر دلالة على إحباطاتٍ شخصيةٍ عميقةٍ, وغضب شديد, ورفض للقيم المجتمعية التقليدية, كما يوجد باحثون آخرون ارتباطًا بين أخلاق المبادئ ورفض

المحافظة السياسية, وهذه النتائج قد تفسر لنا كثيرًا من صور "التطرف" السياسي الذي شهدته بعض مجتمعات الدول النامية "ومنها مصر" في السنوات الأخيرة؛ فالتطرف هنا قد لا يكون عن اعتقادٍ "عميق"، بقدر ما هو تعبير عن رفضٍ وغضبٍ وتنفيسٍ عن إحباط وفشل, وعلى الرغم من أن العلاقة بين الاستدلال الخلقي والتوجه السياسي, فُسِّرَتْ بوجهٍ عام في إطار النمو المعرفي، أي: على أنها تعكس أثر مستوى النضج الخلقي على الاتجاهات السياسية، إلّا أن البحوث الأمبريقية أكدت أن ذلك قد لا يكون صحيحًا, والأصح القول بأن الطريقة التي يفكر بها الشخص عند تناوله المسائل الخلقية تعكس التزامًا سياسيًّا واجتماعيًّا أساسيًّا وليس العكس, ومعنى ذلك أن التعبير عن أخلاق ما بعد التقاليد قد لا يمثل انتقالًا إلى مستوى معرفي وخلقي متميز كيفيًّا، كما قد يفهم من النموذج الأصلي لكولبرج، وإنما هو تعبير عن التزام بالأيديولوجية السياسية والاجتماعية, وخاصة التصنيف الشهير "اليسار في مقابل اليمين" أو "التحرر في مقابل المحافظة". وقد أخضع نموذج كولبرج للاختبار الأمبريقي في دراسة مصرية, قام بها شحاتة محروس طه "1989"، أجريت على 576 فردًا من الجنسين؛ من أطفال مرحلة الحضانة, وتلاميذ الصفوف الرابع والسادس والثامن من التعليم الأساسي, وطلاب الصف الثاني الثانوي, والمرحلة الجامعية, والباحثين في الدراسات العليا, والعاملين في مهنة التدريس, وتوصلت الدراسة إلى النتائج الآتية: 1- تسود المرحلة الأولى من النمو الخلقي عند كولبرج "أخلاق الخضوع" على أحكام الأطفال المصريين, وتُعَدُّ مسيطرة حتى بعد سن 9 سنوات بقليل. 2- تسيطر المرحلة الثانية من النمو الخلقي "أخلاق الفردية والأنانية" على أحكام الأطفال المصريين من سن 9 إلى قبيل 12سنة. 3- تسيطر المرحلة الثالثة من النمو الخلقي "أخلاق التوقعات المتبادلة بين الأشخاص" والتي تنتمي إلى مستوى سيادة العرف والتقاليد, على أحكام تلاميذ الحلقة الثانية من التعليم الأساسي "المرحلة الإعدادية". 4- أما المرحلة الرابعة, والتي تنتمي إلى نفس المستوى الخلقي "أخلاق النظم الاجتماعية والضمير" فتسيطر على أحكام الطلاب من سن 17 سنة أو قبلها بقليل، وتظل هي السائدة في أحكام الراشدين فيما بعد. ومن أهم النتائج التي تخص النمو الخلقي للراشدين خاصة -والتي أظهرها هذا البحث- أن مستوى ما بعد العرف والتقاليد, أو مستوى المبادئ الخلقية يسود

أحكام الراشدين المصريين بعد المرحلة الرابعة مباشرة, وقد أرجع الباحث وصول نسبة كبيرة منهم لمستوى المبادئ "على عكس ما حدث لدى الراشدين في المجتمعات الغربية كما أظهرته البحوث السابقة" إلى طبيعة الأخلاق الإسلامية التي تركز تركيزًا على الضمير وتربيته, وحب الخير للناس أجمعين, بصرف النظر عن جنسهم أو مولدهم أو دينهم. وقد وجد الباحث أيضًا أن الاعتراض على القانون والمؤسسات الرسمية والعادات, يظهر لدى أفراد العينة ابتداءً من الحلقة الثانية من التعليم الأساسي وحتى الرشد, إلّا أن هذا الاعتراض كان موجهًا بشكلٍ أقوى نحو المؤسسات الحكومية، وبشكلٍِ أقل نحو العادات والتقاليد الموروثة. ولعل من أهم النتائج التي توصَّلَ إليها هذا البحث, أن المرحلة السادسة لدى كولبرج "أخلاق المبادئ العامة" ليست من صياغة الفرد واختياره فحسب، وإنما تعتمد اعتمادًا أساسيًّا على المبادئ الإسلامية والأخلاق المستمدة منها, وهذه النتيجة تؤكد -في رأينا- وسطية الإسلام؛ حيث التآلف الابتكاري بين الأخلاق الفردية "والتي تعني في جوهرها المسئولية", والأخلاق الجماعية "التي تعني في جوهرها التكافل الاجتماعي"، وكلاهما من أسس الأخلاق في الإسلام.

نمو الشخصية والتوافق ومسألة الهوية

نمو الشخصية والتوافق ومسألة الهوية: يصف هافيجهرست "Havighurst 1972" الرشد المبكر بأنه أكثر مراحل العمر امتلاءًا وفرديةً وتوحدًا؛ فخلال هذا الطور يتعرض المرء لضغوطٍ هائلةٍ حتى يحقق لنفسه مكانًا في المجتمع, ومع ذلك فإن القوى المعينة للفرد في هذا الطور على إنجاز هذا الهدف قليلة, بالمقارنة بالمراحل السابقة التي تُوجَدُ فيها بالفعل المؤسسات التعليمية المختلفة, بالإضافة إلى الدور الكبير للوالدين, ويذكر هافيجهرست أنه -باستثناء مرحلة الشيخوخة- يلقى الراشدون عامة أقل دعم تربويٍّ لإنجاز مهامهم النمائية بالمقارنة بأي مجموعة عمرية أخرى. ولعل من أهم ما يميز هذا الطور في حياة الإنسان, سعي الراشد للوصول إلى تحديد "معنًى" واضحٍ لحياته, فبعد أن تجاوز المشكلات الأساسية الخاصة بالهوية في طور المراهقة والشباب, فإنه يكون مع مطلع الرشد قد أحرز -ولو مؤقتًا- حلًّا لمشكلة تحديد ذاته، ثم يبدأ في الانشغال بتوسيع نطاق هذا المفهوم في المجتمع، أي: بالبحث عن وسائل جديدة يعبِّرُ بها عن ذاته, وخاصة في مواقف العلاقات الإنسانية والاجتماعية, وكثير من الأشخاص في هذ الطور يكون لديهم شغف بالتعرف على أصدقاء جدد، والالتحاق بالجماعات التطوعية والخيرية, والحصول

على عضوية عدد كبير من المؤسسات الاجتماعية "كالنقابات", ولهذا نلاحظ على الراشد الصغير أنه يتسم بالحركة والتغير اللذين يتم التعبير عنهما بكثير من الطرق, ويقترح وايت "White 1975" خمسة مظاهر نمائية شائعة في هذا الطور, تمثِّلُ إمكانات نموه، والتي قد لا تتحقق جميعًا بالضرورة خلال الرشد المبكر وهي: 1- استقرار هوية الأنا أو الذات: يقصد بهوية الأنا أو الذات ego identity, المشاعر التي يكونها الشخص حول نفسه, وتتسم هذه الظاهرة في هذا الطور بأنها أقل تأثرًا بالخبرات المؤقتة أو العارضة كما كان الحال في الماضي، فلا يمكن لذات الشخص أن تتفكك أو تتحلل كما كان يمكن أن يحدث لها منذ عشر سنوات خلت, حين يوصف مثلًا بالجبن أو الفشل, وخاصةً إذا كان الشخص متأكدًا أن ذلك وصف غير صحيح لذاته, ونتيجةً للالتزام الكبير بالأدوار الاجتماعية "وخاصة الدور المهنيّ", وبالآخرين من حوله "كالزوجة والأبناء", فإن الراشد يكون أكثر استقرارًا واتساقًا ووضوحًا في نمو شعوره بذاته، ولهذا يحدث ما يسميه وايت: اسقرار هوية الأنا أو الذات. 2- تحرير العلاقات الشخصية: الراشد كذلك أقل تأثرًا برغباته ونزعاته وخيالاته الخاصة في علاقاته الشخصية إذا قورن بالمراهق أو الشاب, وهذه الحرية تسمح له بتنمية علاقات مع الآخرين, تتفق مع الخصائص والحاجات التي يتسم به الآخرون, وهذا لون راقٍ من التوافق, فحالما يصل الراشد إلى نظرة مستقرة نحو ذاته يكون أقل قلقًا, وأخف اهتمامًا بذاته على نحوٍ يجعل من التيسير عليه تقبل الآخرين, وتكوين علاقات شخصية ناجحة معهم. 3- تعميق الميول والاهتمامات: خلال هذا الطور ينشغل الراشد الصغير انشغالًا أكبر بمجالات خاصة من الميول والاهتمامات, والراشدون في ذلك على عكس الأطفال والمراهقين والشباب الذين تكون اندماجاتهم في هذه المجالات قصيرة الأمد؛ فالراشد المبكر يظهر التزامًا حقيقيًّا بميوله, سواء أكانت في المجال الأكاديمي أم المهني, في مجال الهواية أم في نطاق العلاقات الشخصية, ولهذا السبب نجد أن الراشد يستفيد من أنشطته أكثر ممن هم أصغر منه سنًّا, سواء أكان ذلك في ضوء المهارات التي يتعلمها, أو الرضا والإشباع الذي يحصل عليه. 4- زيادة إنسانية القيم: يظهر الراشدون أيضًا وعيًا متزايدًا بالمعنى الإنساني للقيم, وبالوظيفة التي تؤديها في المجتمع, ولم تعد الأخلاق عنده -كما بينا- قواعد جامدة أو مطلقة كما كان الحال من قبل، وإنما أصبح ينظر

إليها في ضوء أكثر شخصية وإنسانية، اعتمادًا على خبرات الحياة، والنظام القيمي العام للمجتمع "النظام القيمي الإسلامي في المجتمعات الإسلامية". 5- توسيع نطاق الرعاية: إن اهتمام الراشد برفاهية الآخرين يتسع نطاقه خلال فترة الشباب والرشد المبكر, ويتزايد الاتجاه نحو التعاطف مع الآخرين, ولا يقتصر ذلك على الأشخاص الذين يعرفهم أو يتعامل معهم؛ كالزوجة والأبناء والأقارب, وإنما يمتد إلى الإنسانية عامة، ويشمل ذلك أشخاصًا قد لا يرفهم الراشد شخصيًّا، وخاصةً الذين ينتمون إلى الفئات الأقل حظًّا في المجتمع؛ كالفقراء والمرضى والمقهورين. ومن المتغيرات التي تؤثر في تكيف الراشدين المبكرين الطريقة التي يواجهون بها الناس, ويتفاعلون بها مع ما يسميه بعض الباحثين "Brodzinskey et al 1986" أحداث الحياة, ويعرف حدث الحياة Lif-evevt على المستوى العام جدًّا بأنه أيّ خبرة لها أهميتها لدى الفرد، كما يمكن أن يعرف على نحوٍ أكثر تخصيصًا بأنه ما يؤدي أو يتطلب تغيرًا جوهريًّا في النمط الساري لحية الفرد, وتوجد أحداث حياة يتعرض لها تقريبًا جميع الراشدين؛ كخبرة الدخول في مجال العمل أو الزواج, كما توجد أحداث أخرى يتعرض لها قليل منهم؛ كخبرة السجن أو المرض المزمن, وفي جميع الأحوال تتطلب هذه الأحداث توافقًا من جانب الراشد، يصدق ذلك على الأحداث السارة والأحداث الضارة جميعًا. ولعل أكثر هذه الأحداث شيوعًا ما يلي: الزواج للجنسين، الحمل والولادة "للإناث"، الطلاق، الدخول في سوق العمل، تغير الوضع المالي، تغير الأنشطة الاجتماعية وغيرها, بهذه الأحداث يشغل الراشد أدوارًا جديدة لم تكن له من قبل، مثل دور العامل والزوج والوالد، إلخ. وبالطبع لا يمارس الجميع هذه الأدوار في نفس الوقت، فبينما يتزوج البعض مثلًا في سن 18سنة, فإن آخرين قد لا يتزوجون إلّا في أواخر الثلاثينات، وهناك القليلون الذين لا يتزوجون أبدًا. ولعلنا نذكر أن معظم الناس لديهم شعور بأنهم "مبكرون" أو "في الوقت المناسب " أو"متأخرون" بالنسبة للقيام بأدوار الرشد، وتؤكد البحوث أن شعور الفرد بأن "الوقت قد فاته" بالنسبة للقيام بدور معين يعد المصدر الرئيسي للقلق والتوتر لدى الراشدين. ويختلف أيضًا ترتيبٌ القيام بأدوار الرشد, وقد كان الأمر في الماضي أكثر تحديدًا, فكان من المتوقع من المرأة أن تتزوج وتنجب أطفالًا وهي لم تتعد بعد

العشرين من عمرها, وكان من المتوقع من الرجل أن ينتهي أولًا من تعليمه, ثم يحصل على عملٍ, وبعد هذه الخطوات يتزوج ويكوّن أسرة, إلّا أنه حدث خلال العقود الأخيرة تغيرات في توقيت أحداث الحياة وتتابعها, وأصبح كلاهما أكثر غموضًا عَمَّا كان عليه في الماضي بالنسبة للجنسين, وزاد من ذلك الغموض صعوبة الظروف التي تحقق للإنسان رشده الذي هو في جوهره "استقلال اقتصادي واستقرار اجتماعي", ولعل أشقَّ هذه الظروف علي في مصر الآن البطالة وأزمة الإسكان "فؤاد أبو حطب 1989". ويعود بنا ذلك مرةً أخرى إلى مسألة "هوية الأنا أو الذات" في الرشد, لقد افترض النموذج الأساسي لإريكسون أن المراهقة "وربما الشباب" هي طور أزمة الهوية, يتجاوزها الإنسان مع الرشد المبكر إلى أزمة الألفة في مقابل العزلة، والتي يرى إريكسون أن الفرد يتعرض لها في فترة العشرينات من عمره بعد أن تتكون هويته وظيفيًّا، حتى ولو لم تستقر أو تثبت, وتعني الألفة intimacy أن يستطيع المرء أن يتشارك مع الآخرين عن طريق التخلي عن بعض هويته، وحينئذ تحلّ "النحن" محل "الأنا" عند التفكير في الحاضر أو المستقبل, ويؤدي الفشل في تكوين علاقات الألفة إلى العزلة السيكولوجية, والتي هي أبعد عن المرغوبية وعن الصحة النفسية في وقت واحد. أما النجاح في تخطِّي هذه الأزمة فيقود إلى الشعور بالتكافل والتماسك والتضامن مع الآخرين, سواء في العلاقات الزوجية داخل الأسرة، أو العلاقات مع جماعات الأصدقاء، أو مع جماعات التنافس والتعاون في العمل والترويح. إلّا أن حلّ "أزمة الهوية" -وهو مؤشر سيكولوجي إضافي على بلوغ الرشد -ليس أمرًا سهلًا, وقد أشرنا إلى بعض صعوباته عند تناول طور الشباب "الفصل 14"، وتمتد هذه الصعوبات إلى العمر الثاني للإنسان, وبخاصة طور الرشد المبكر موضع اهتمامنا الآن, وكان مارشيا على رأس مَن اعتبروا أن حلَّ أزمة الهوية في مرحلة الرشد أكثر تعقيدًا من الوصف المبسط الذي يقدمه إريكسون, وفي هذا الصدد يقترح عاملين لهما الدور الحاسم في هذا الصدد؛ أولهما: وجود أزمة شخصية لدى الرشد في مجالٍ معينٍ مثل المهنة أو الدين أو السياسة، وثانيهما: وجود درجة من الالتزام الشخصي لديه بالمسائل الخلافية المختلفة في هذه المجالات, وبالطبع بين هذين العاملين "الأزمة والالتزام" يتوصل مارشيا -من خلال سلسلة من البحوث المنظمة- إلى تصنيف طرق حل أزمة الهوية في الرشد إلى أربع فئاتٍ يسميها مكانات الهوية identity statuses يوضحها الجدول رقم

"16-1" وهذه الفئات الأربع هي: جدول رقم "16-1" تصنيف مكانات الهوية "عن مارشيا Marcia 1980" 1- إحراز الهوية: "identity achievement": وأصحاب هذه المكانة من الراشدين هم أولئك الذين تعرضوا لأزماتٍ شخصية في واحد أو أكثر من مجالات الحياة الاجتماعية "المهنة، الزواج، الدين، السياسة.. إلخ" وتوصولًا إلى قرارٍ شخصيٍّ فيه التزام بموقف معين، قد يتفق أو يختلف مع رغبات الآخرين الهامين "الوالدين مثلًا" ووجهات نظرهم, وهؤلاء يتسمون بتقديرٍ عالٍ للذات, واستقلال سيكولوجي, واستدلال خلقي من مستوى رفيع، وألفة "بمعناها عند إريكسون" مع الأشخاص الآخرين، وقلق منخفض، كما يظهرون ميولًا واسعة النطاق, وهذا كله من مؤشرات الرشد. 2- رهن الهوية "identity foreclosure": وأصحاب هذه المكانة هم عكس الفئة السابقة لأنهم لا يتعرضون لأزماتٍ شخصيةٍ, ومع ذلك لديهم أسلوب حياة واضح وقرارات قيمية محددة, وهؤلاء هم في العادة الذين يستسلمون لرغبات الآخرين الهامين وآرائهم "الوالدين أو القادة أو غيرهم" إما بسبب الضغوط الانفعالية أو الاقتصادية, أو الخوف من الرفض, أو الشعور بعدم الكفاءة, أو نقص القدرة, ويتسم هؤلاء بدرجة عالية من الجمود والتصلب والخضوع للسلطة, كما أن أسلوبهم في التعامل مع الآخرين فيه درجة عالية من التسلط، وهم أكثر تقليدية في الاستدلال الخلقي, ويعوزهم الاستبصار بأنفسهم, ومن هنا جاء وصفهم بأنهم "رهنوا" هويتهم لدى الآخرين, كما يرهن المعوز بعض ما يملك لدى شخص قادر لحين قدرته على السداد, وحين يأتي ذلك الوقت قد يغير بعض "التزاماته" السابقة، فيغير عمله أو تفشل حياته الزوجية. 3- تأجيل الهوية identity moratorium: وهذه الفئة تشمل أولئك الذين لا يظهرون دليلًا واضحًا على الالتزام, ومع ذلك فهم غير قادرين على اتخاذ قراراتٍ حول حياتهم بسبب ما يتعرضون له من أزمات شخصية في عدد من

المجالات الاجتماعية, وهم يجاهدون للوصول إلى درجة من الإدراك الواضح لهويتهم, وهم يشبهون فئة إحراز الهوية "الفئة الأولى", إلّا أنهم بسبب عدم التزامهم بموقفٍ محدد يظهرون درجة عالية من القلق وكثيرًا من المسايرة للآخرين، كما أنهم أقل رضًا بإنجازهم, وأكثر استعدادًا لتغيير تعليمهم أو مهنتهم، وقد تنهار حياتهم الأسرية لأتفه الأسباب. 4- خلط الهوية: identity diffusion: وأصحاب هذه المكانة يتفقون مع من هم في الفئة السابقة في أنهم ليس لديهم التزامٌ برأي واضحٍ أو موقف محدد إزاء القضايا الخلافية في الحياة الاجتماعية, إلّا أنهم يختلفون عنهم في أنهم لا يعانون من أزمات شخصية في مجالات هوية الحياة، فهم فئة اللاالتزام واللاأزمة معًا, وفي وقت واحد, ولهذا فهم أقل الفئات قدرةً على الوصول إلى قرارت حاسمة ومواقف واضحة في مسائل الحياة المختلفة، وهم أقل الناس تقديرًا لأنفسهم، كما أن درجاتهم تكون منخفضة في الاستدلال الخلقي والاستقلال النفسي والألفة بالآخرين, أضف إلى ذلك أن مستوى القلق لديهم أعلى من الجميع, ولهذا فهم لا يزالون بهذه الخصائص جميعًا في طور ما قبل الرشد السيكولوجي, حتى ولو وصلوا إلى العمر القانوني له.

الزواج والحياة الأسرية

الزواج والحياة الأسرية: يُعَدُّ الزواج وتكوين الأسرة أحد مؤشرات الرشد الرئيسية كما بينا في الفصل السابق, ومن البديهي أن خبرة الإنسان بالحياة الأسرية لا تبدأ مع الرشد، وإنما تمتد إلى لحظة ميلاده, فإذا استثنينا أطفال الملاجئ والمؤسسات يمكننا القول أن كل طفلٍ يولد ويعيش وينمو طفولته ومراهقته ومعظم شبابه في "محضن الأسرة", ومع ذلك فإننا مع بلوغ الرشد تطرأ تغيرات هامة تميز الحياة الأسرية بعد الرشد عنها قبله؛ فالإنسان -قبل الرشد- هو موضوع رعاية وتنشئة وتدريب وتربية الوالدين، ومع الرشد يصبح الإنسان مسئولًا عن ذلك كله حين يصبح والدًا لابنائه هو, ولهذا نجد معظم الراشدين عند بلوغهم هذا الطور من حياتهم يكون له في واقع الأمر أسرتان: أحداهما هي أسرة المنشأ family of origin التي وُلِدَ فيها ورُبِّىَ وعاش حياته السابقة، وثانيتهما الأسرة النواة nuclear family التي يكوّنها هو مع شريكة حياته, والتي يسعيان بجهدهما المشترك إلى حمايتها وتنميتها. وقد بدأ منذ عقدين من الزمان اهتمام عدد متزايد من علماء النفس والاجتماع والسكان بدراسة الأسرة من منظور نمائي ارتقائي، أو منظور دورة الحياة الذي يوجه هذا الكتاب, ويتضمن هذا المنظور افتراضًا أساسيًّا هو أن الحياة

الأسرية يمكن تناولها في صورة سلسلة من المراحل، لكلٍّ منها مهامه النمائية الخاصة، كما تظهر في كلٍّ منها صراعاته التي يجب مواجهتها، كما أن حلول هذه الصراعات تختلف من طورٍ أسريٍّ إلى آخر "Wolman". وتبدأ دورة الحياة الأسرية للراشدين بالزواج بالطبع، وتنتهي بالطلاق أو ترمل أحد الزوجين, وبين هاتين النقطتين توجد سلسلة من المراحل يختلف عددها باختلاف أصحاب النظريات، والتي تصف أنماطًا بنيوية مختلفة للأسرة، وتوقعات متباينة للأدوار. ويعود الفضل إلى إيفلين دوفال "Duvall 1977" في ريادة بحوث "دورة الحياة الأسرية", وفي نموذجها تصف ثماني مراحل يختلف المدى الزمنيّ لكلٍّ منها، وخلالها تنمو "الأسرة العادية" التي لا تتعرض للتفكك أو التحليل بالطلاق أو الانفصال أو الهجر، وهذه المراحل هي: 1- زوجان فقد بدون أطفال, ومتوسط المرحلة سنتان تقريبًا. 2- أسرة ذات أطفال رضع؛ حيث أكبر الأطفال يمتد عمره من لحظة ولادته حتى سن 30 شهرًا من عمره. 3- أسرة ذات أطفال في سن ما قبل المدرسة؛ حيث يمتد عمر أكبر الأطفال من سن 30 شهرًا حتى 6سنوات. 4- أسرة ذات أطفال في سن المدرسة؛ حيث أكبر الأطفال يمتد عمره من 6 سنوات إلى 12سنة. 5- أسرة ذات أبناء مراهقين وشباب؛ حيث أكبر الأبناء يمتد عمره بين 12 سنة، 20سنة. 6- أسرة يتخرج فيها راشدون صغار؛ حيث يبدأ الأبناء في الاستقلال. 7- زوجان في منتصف العمر: من طور العش الخالي وحتى سن التقاعد من العمل. 8- زوجان مسنان: من سن التقاعد وحتى وفاة أحد الزوجين وترمل الآخر, وبالطبع فإن هذا النموذج يتأثر بعدة عوامل لعل أهمها: 1- عندما يؤجل الزوجان النسل فإن المرحلة الأولى قد تكون أطول من سنتين, كما أنها قد تقصر عن ذلك إذا تَمَّ الحمل عقب الزواج مباشرة, وبالطبع يؤثر ذلك في باقي الدورة الأسرية, ومن ذلك مثلًا أن المرحلة التي تمتد من العش الخالي إلى التقاعد تصبح أقصر أو أطول.

2- إذا اضطر الوالدان لأسبابٍ إرادية إلى تأجيل النسل, فإن مرحلة الرشد المبكر كلها سوف يقضيانها في المراحل الثلاث الأولى من حياة الأسرة, وخاصة حين ترسل الأسرة أصغر الأطفال إلى المدرسة وعمر الوالدين بين 35، 40 سنة. 3- يفيد هذا النموذج في وصف الحياة الأسرة المتماسكة، ولكنه يفشل في تفسير ما يطرأ عليها من خللٍ بسبب الطلاق أو الوفاة أو تعدد الزواج؛ فمعظم الراشدين في هذه الحالات يقضون بضع سنوات من رشدهم منفردين أو يربون أطفالًا ليسوا أبناءهم "زوج الأم، وزوجة الأب". 4- على الرغم من أن هذا النموذج يصوّر الأسرة على أساس تكوينٍ اجتماعيٍّ من راشدين وأطفال صغار، إلّا أن بعض هذه الأسرة قد لا تنجب أطفالًا لأسباب طبية "العقم لدى الجنسين, أو خلل الوظائف الأنثوية لدى المرأة", والأسرة المؤلفة من زوجين يعيشان عمرهما بلا أطفالٍ تستحق البحث السيكولوجي المنظم. 5- مقدار الوقت الذي يستغرق في المراحل الثلاث الأولى من حياة الأسرة قصير نسبيًّا، فيكاد يكون نصف حياة الأسرة عند الراشدين هو ما بعد استقلال الأبناء, وهذا يتطلب توسيع النظر إلى وظائف الأسرة ومهامها؛ بحيث لا تقتصر على رعاية الصغار. 6- يفشل النموذج في تناول التداخل والتفاعل في دورات حياة الأسرة عبر الأجيال؛ فمثلًا الأسرة النووية المكَوَّنة من زوجين شابين ولهما أطفال في سن ما قبل المدرسة, قد تُصَنَّفُ على أنها في المرحلة الثالثة من نموذج دوفال, إلّا أن هذه الأسرة في نفس الوقت قد تظل جزءًا من الأسرة الأكبر؛ حيث الوالدان في الأسرة النووية هم أبناء لآباءٍ وصلوا إلى منتصف العمر أو تجاوزوه إلى مرحلة الشيخوخة، وبالتالي تصنف في المرحلة السابعة أو الثامنة في النموذج السابق, وحينئذ قد ينشأ صراعٌ الأدوار لدى الراشدين الصغار، فهم يقومون بدور الوالدية لأبنائهم، ودور البنوة لوالديهم في وقت واحد, وهو الصراع الذي حلَّه الإسلام من خلال تحديد حقوق وواجبات الأبناء والوالدين مهما كانت المرحلة العمرية التي هم منها, وهو موضوع سنتناوله بالتفصيل فيما بعد.

مفهوم الأسرة

مفهوم الأسرة: والسؤال الذي يجب أن نطرحه الآن هو: ما هي الأسرة؟ وما هو الدور الذي تلعبه في حياة الوالدين والأبناء؟ وعلى الرغم من أن الإجابة على هذين السؤالين تبدو واضحة من أول وهلةٍ, إلّا أن التأمل العميق فيهما يكشف عن مدى تعقدهما. ونبدأ بتعريف الأسرة فنقول: إن الأسرة يمكن تعريفها بنيويًّا أو وظيفيًّا, والتعريف البنيوي يركز على نمط التنظيم الذي يميز هذه الوحدة المجتمعية، وعلى تحديد أعضاء هذه الوحدة، وكيفية ارتباطهم بعضهم ببعض، وطبيعة العلاقات الاجتماعية بينهم. أما التعريف الوظيفي للأسرة فيركز على أنشطتها وعلى الدور الذي تلعبه في حياة أفرادها "Garrett 1982". والمفهوم الوظيفي للأسرة يتضمن أنها تتألف من أبٍ وأم وطفل أو أكثر، لكلٍّ منهم أدواره ومسئولياته، وتتوزع هذه الأدوار والمسئوليات على نحوٍ محدد؛ حيث الأب هو العائل, والأم ترعى جبهة المنزل, وهذا الفصل بين الأدوار والمسئوليات داخل بنية الأسرة عميق الجذور في المجتمع الإنساني, ويرى لامب "lamb1982" أن ذلك يقوم على أربعة افتراضات أساسية حول حياة الأسرة وهي: 1- الأطفال يحتاجون إلى والدين؛ أحدهما امرأة هي الأم, وثانيهما رجل هو الأب. 2- توزيع مسئوليات الأسرة يجب أن يعكس الأدوار الجنسية السائدة في تهيؤٍ لمواجهة تحديات عالم العمل. 4- الرعاية الأولية للأطفال الصغار يجب أن يوفرها أعضاء الأسرة. إلّا أن هذه الافتراضات تعرضت لتحدين رئيسيين نعرضهما ونناقشهما فيما يلي: 1- تعدد أنماط الأسرة: يرى البعض أنه على الرغم من أن معظم الأسر يتكوّن بالطريقة المعتادة: زواج رجل وامرأة ثم إنجاب الأطفال، فإن استقرار هذه الوحدة المجتمعية قد يهتز أو ينهار، فبعض هذه الأسرة ينهار بسبب الانفصال أو الطلاق, وزيادة معدلات الطلاق أدت إلى زيادة عدد البيوت التي يعيش فيها والد واحد منفرد أو مع الأولاد, وعلى الرغم من أن معظم الذين يطلقون يتزوجون مرة أخرى، إلّا أن الأبناء من الزواج الأول يعيشون في الأغلب مع أحد الوالدين دون الآخر، وفي بعض الحالات المتطرفة قد يودع الأطفال في الملاجئ أو مؤسسات الرعاية محرومين تمامًا من رعاية الوالدين معًا, أضف إلى ذلك أن زيادة معدلات الهجرة للخارج أثرت تأثيرًا كبيرًا على بنية الأسرة الحديثة؛ ففي مصر مثلًا توجد الآن أسر كثيرة يعيش أبناؤها بضع سنوات من عمرهم مع والد

واحد "الأم أو الأب فقط" حيث يعمل الوالد الآخر في الخارج, ثم إن هناك من الأزواج من يعانون من مشكلات الخصوبة التي تتمثل في العقم وعدم القدرة على الإنجاب، ويقودهم ذلك إلى أن يعيشوا حياتهم بلا أطفالٍ أو أن يتبنوا أطفالًا لآباءٍ آخرين، وعندئذ يظهر ما يسمى الأسر البديلة "وهو نظام لا يعترف به الإسلام", كما أن هناك بالطبع الراشدين الذين يقررون بإرادتهم العيش بلا أطفالٍ عن طريق تحديد النسل، أو أولئك الذين يختارون حياة العزوبية وعدم الزواج, ناهيك عن الظواهر التي أفرزها المجتمع الغربي المعاصر والذي ظهرت في صورة العلاقات غير الشرعية والعلاقات الجنسية الشاذة, وهكذا يرى أصحاب هذا الرأي أن النمط الأساسي للأسرة الذي سبق وصفه ليس هو النمط الوحيد, وإنما توجد له بدائل كبيرة؛ بعضها مشروع, وبعضها الآخر غير مشروع. ونرد على هذا الرأي بالقول بأن معظم الحالات التي أشير إليها -باستثناء الحالة الناجمة عن العقم- هي ظواهر غير طبيعية في نظام الأسرة, وليست بدائل له, والفيصل في الحكم على سواء هذه الظواهر أو عدم سوائه هو الإسلام. ونبدأ بظاهرة الذين يختارون العزوبية وعدم الزواج, ونميز هنا بين أولئك الذين يلجأون إلى ذلك عن عجزٍ، ومنه العجز المادي والاقتصادي؛ فهؤلاء يحضهم الإسلام على الإكثار من الصوم والعبادة حفظًا للطهر والعفة, أما أولئك الذين يمتنعون عن الزواج مع قدرتهم عليه فإنهم بذلك يجافون سنن الاجتماع الإنساني وفطرته -والإسلام في جوهره دين الفطرة- وينأون عن دعوة الإسلام لتكوين الأسرة وحضه على الزواج؛ ففي حديث شريفٍ متفق عليه يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب مَن استطاع منكم الباء فليتزوج, فإنه أغض للبصر وأَحْصَنُ للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". ويقول الله تعالى في كتابه الكريم: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189] . ويقول أيضًا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] . أما الأزواج الذين يحرمون أنفسهم من نعمة الإنجاب رغم قدرتهم عليه وعلى

رعاية الأبناء, فهم أيضًا يجافون فطرة الإسلام, يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] . ويشير إلى أن هذه سنة المرسلين والأنبياء وهم ما يجب الاقتداء بهم، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] . فإذا تعرضت هذه العلاقة الحميمة للتدهور بسبب الطلاق، أو نشأت فيها بعض الظواهر غير الطبيعية "كالهجرة المؤقتة"، أو نشأت علاقات بين الجنسين خارج نظام الزواج، فإن ذلك كله يعد من قبيل الخلل الاجتماعيّ والفساد الأخلاقي الذي يحتاج إلى العلاج والتصحيح لا إلى الاعتراف به كبديلٍ للنظام الأساسي للأسرة المؤلفة من زوجين "رجل وامرأة" وأبنائهما. وتقوم الأسرة بتكوينها الأساسي الذي أشرنا إليه بوظائف هامة باعتبارها وحدة اجتماعية تربط أعضاءها معًا، وتربطهم في نفس الوقت بالمجتمع الأكبر الذي يعيشون فيه, ونلخص هذه الوظائف فيما يلي: أ- الأسرة هي السياق الطبيعيّ للعلاقات الجنسية الشرعية: فلقد خلق الله -سبحانه وتعالى- الإنسان من ذكر وأنثى، والدافع الجنسي دافع مشروع في الإسلام كغيره من دوافع السلوك, بشرط أن يتم إشباعه بالطرق التي يقرها الإسلام "الحلال", وإذا تُرِكَت العلاقة بين الجنسين لا يحكمها نظامٌ ولا تحميها شريعةٌ تحوَّلَ الإنسان إلى الحيوانية, ونظام الأسرة يحفظ للإنسان إنسانيته من خلال علاقة مشروعة بين الجنسين، وهو بذلك يحفظ لكلٍّ من الرجل والمرأة عفته وطهره. ب- الأسرة هي السياق الطبيعيّ للإنجاب الشرعي: ومن المعروف أنه حتى في المجتمعات الغربية التي انفلتت فيها معايير العلاقات الجنسية يُعَدُّ أي إنجاب خارج نطاق الأسرة إنجابًا غير مشروع illegitimate. والشرعية تحدد موضع الطفل في البنى التنظيمية للمجتمع، وتحدد مسئوليات الوالدين في رعايته وتنشئته. جـ- الأسرة أساس البنية الاجتماعية: الأسرة في نظر الإسلام أرقى من أن تكون مجرَّدَ وسيلة لقضاء الشهوة الجنسية, أو وسيلة لإنجاب الأولاد, ولكنها الأساس التي يقوم عليها البناء الاجتماعي, وتصل الأسرة في أهميتها إلى حَدِّ أن جعلها

الله -سبحانه وتعالى- من آياته التي تستحق التآمل والتدبر، يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] . د- الأسرة هي المؤسسة المسئولة عن تطبيع أعضائها: ويشمل ذلك تدريب كلٍّ من الكبار والصغار على التعامل مع الآخرين, ومن المعتاد أن يكون الأطفال هم الموضوع الأَوْلَى للتطبيع الاجتماعي داخل الأسرة، فالوالدان يربيان ويرعيان ويعلمان الأطفال المهارات وأنماط السلوك اللازمة للتعامل الاجتماعي مع العالم المحيط بهم, وخاصة خارج المنزل, وبالمثل فإن الكبار "الوالدين" يمرون بخبرة تطبيع اجتماعيٍّ على نحوٍ غير مباشر "أي غير مقصود كما هو الحال في تطبيع الصغار", وذلك حينما يتفاعل الزوجان معًا ومع أطفالهما, وذلك كله من خلال جوٍّ من "المودة والرحمة" اللذين أشار إليهما القرآن الكريم. هـ- الأسرة تنمي دور الرفقة بين أعضائها: فالعلاقة الأسرية في جوهرها تعاون مشترك وتفاعل متبادل، ويؤدي ذلك إلى قيام كل عضوٍ فيها بواجباته وتحمل مسئولياته، وبذلك تتحقق للأسرة وحدتها، ويتزود أعضاءها بدعمٍ ماديٍّ ومعنويٍّ من خلال علاقة رفقة سليمة وألفة حميمة، ومن أمثلة ذلك القيام بأنشطة مشتركة لقضاء وقت الفراغ، والاحتفال معًا بالمناسبات المختلفة، واستماع كلٍّ منهما لمشكلات الآخر, إن أعضاء الأسرة ليسوا محض أقارب تجمعهم علاقة دم، ولكنهم أكثر من ذلك، فهم أصدقاء جيدون. 2- تغير أدوار الزوجين: هناك حجة أخرى يستخدمها نقاد النموذج الأساسي للأسرة الذي عرضناه آنفًا, خلاصتها أن هناك تغيرات جوهرية طرأت على أدوار كلٍّ من الزوجين, سواء داخل المنزل أو خارجه, وكان السبب الرئيسي في ذلك خروج المرأة للعمل, وفي ذلك يشير "Shaie Willis 1986:108" بالقول بأن عالم العمل تغيَّر جوهريًّا بالنسبة للمرأة في السنوات الأخيرة, وتمثل ذلك في عدة مظاهر؛ منها: أن نسب النساء العاملات أصبحت عالية في القوى العاملة في معظم المجتمعات الحديثة "في إحصاء حديث في الولايات المتحدة وجد أن المراة تمثل 45% من مجموع القوى العاملة فيها", كما أنه لُوحِظَ أن معظم هؤلاء النساء العاملات من المتزوجات واللاتي لهن أطفال، بينما كانت الأغلبية منهن في الماضي من غير المتزوجات, بل كانت بعض المهن تشترط عدم الزواج؛ كالتمريض والتدريس, وبالإضافة إلى ذلك فإن المرأة

العاملة تكاد توجد في جميع المهن والأعمال, ولم يعد الأمر مقتصرًا على مهنٍ بذاتها, كما كان الحال في الماضي. والسؤال الجوهريّ: لماذ تعمل المرأة؟ لقد كشفت دراسة حديثة أُجْرِيَتْ في الولايات المتحدة "Schaie Willis 1986" أن الضرورات الاقتصادية هي الدافع الرئيسي لعمل المرأة، سواء كانت هذه الضرورات لدعم الدخل الاقتصادي للأسرة أو إعالة الذات, إلّا أن من الطريف أن نذكر أن نسبة كبيرة من النساء يذكرن أن المرأة تعمل حتى لا تكون قوة معطلة؛ ولأن العمل في حَدِّ ذاته يُعَدُّ مصدرًا للسعادة الشخصية, ووسيلة لتحقيق الذات، وخاصةً بالنسبة للمرأة الموهوبة أو ذات القدرة العالية, ومن الطريف أيضًا أن نشير أن بعض النساء -كما بينا- دخلن مجالات للعمل "كالهندسة" كانت في الأصل حكرًا على الرجال, وقد أكدت الدراسات النفسية التي أُجْرِيَتْ على مثل هؤلاء النساء أنهن لقين التشجيع من الوالدين أو المعلمين أو الأزواج، وكان دور التشجيع أكثر أهميةً لديهن من دوره لدى أقرانهن من الرجال العاملين في نفس المهن. كما أن بعض النساء العاملات الناجحات ذكرن أن أزواجهن كانوا يشعرون بالفخر لنجاحهن، وأن نجاح المرأة وتنافسها وإنجازها لا يعني فقدانها لطبيعتها كأنثى, بل إن العلاقة بين زوجين عاملين ناجحين عادةً ما تكون علاقة حميمة وثيقة ومليئة بالإشباع العاطفي, وهذا كله يدحض كثيرًا من الأفكار الشائعة عن المرأة العاملة وتوافقها الزواجي. ولأن المرأة لا يمكن أن تتجاهل دورها الأصلي كأم وراعية للبيت ظهرت في مجال عمل المرأة ثلاثة أنماط رئيسية: 1- النمط التقليدي: ويعني أن المرأة تعمل حتى تتزوج أو تنجب أطفالًا، وعندئذ تتخلى عن عملها وتركز جهودها على بيتها وأولادها. 2- النمط المتقطع: وفيه تتوقف المرأة مؤقتًا عن عملها لرعاية أطفالها, ثم تعود إليه بعدما تسمح ظروفها بذلك. 3- النمط المستمر: وفيه تواصل المرأة عملها دون توقف أو تقطع لرعاية الأطفال, وهذا النمط هو الأكثر شيوعًا في الوقت الحاضر، وساعد على ذلك توفير جداول العمل المرنة في بعض المهن، والخدمات التي قد تتوفر للأمهات العاملات في صورة دور حضانة ورعاية للأطفال. وبالطبع قد ينشأ عن عمل المرأة -وخاصة ذات النمط المستمر- صراعٌ حادٌّ

بين مسئولياتها الأسرية والمهنية, بل إن أزواج هؤلاء النساء عَبَّروا عن هذا الصراع بين العمل والأسرة, ولا شكَّ في أنَّ معظم العبء يقع على عاتق المرأة, وخاصةً إذا كان عليها أن تقوم بمسئولياتها المهنية كاملة, ثم يكون عليها في نفس الوقت أن تقوم بمسئولياتها إزاء البيت والزوج والأولاد كاملة أيضًا, وهذا هو المصدر الرئيسي لما يُسَمَّى في هذه الحالة صراع الأدوار لدى المرأة العاملة. وكان لا بُدَّ للأسرة ذات الزوجين العاملين أن تُكَيِّفَ من طبيعتها للملاءمة مع هذا الظرف, وتتوافر أدلة كافية "Maret Finlay 1984 على أن بعض الأزواج يشاركون زوجاتهم العاملات في أعمال المنزل ورعاية الأطفال، إلّا أن الأغلبية يعتبرون هذه الأعمال من مهام المرأة، على الرغم من حماسهم الشديد لعملها بسبب ما توفره من دخل, وربما كان ذلك كله وراء الحجة المطروحة حول تغير الأدوار الزوجية. إلّا أن تناولنا ومناقشتنا لهذه الحجة لا بُدَّ أن يكون -مرة أخرى- في إطار الإسلام, وفي هذا الإطار نقول: إن الإسلام لا يحرِّمُ عمل المرأة، فقد خرجت ابنتا نبي الله شعيب للعمل، وعملت المرأة المسلمة في صدر الإسلام في أوقات السلم والحرب, كما أنَّ الإسلام لا يجعل رعاية الأطفال مهمة الأم وحدها, بل إن مشاركة الأب هامة، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يداعب حفيديه الحسن والحسين ويلاطفهما ويرعاهما، بل نكاد نقول إنه لا يوجد مصدر للعار أو الخزي أن يشارك الزوج زوجته في بعض الأعمال المنزلية، وخاصةً بعض المهام الشاقة التي لا يستطيع أن يقوم بها فرد واحد، إلّا أن ذلك كله لا يعني أبدًا اختلاط الأدوار. فالطفل سيظل دائمًا في الأسرة في حاجة إلى أم تغذي -إن استطاعت- بالرضاعة الطبيعية التي تفوق قيمتها كل صور التغذية الصناعية، وتحدب عليه وتحضنه وتربيه، بل تتفرغ لهذه المهمة النبيلة لبعض الوقت على الأقل، وعندئذ تكون مسئولية الرعاية المادية للأسرة هي مسئولية الزوج, وفي الشريعة الإسلامية فإن الزوج هو المسئول وحده عن تهيئة المسكن الملائم والطعام والكسوة وغير ذلك من متطلبات الحياة المادية لأسرته, بل إن غنى الزوجة لا يؤثر مطلقًا في حقِّها على زوجها في نفقتها ونفقة أولادها منه, ولو كان أقلَّ منها مالًا، ولا يجب على المرأة أن تنفق على نفسها وعلى أولادها من مالها إلّا إذا شاءت هي.

الزواج

الزواج: تكوين الأسرة إذن من أسس الفطرة السليمة للإنسان والمجتمع، والزواج هو النظام الطبيعي الذي تبنى على أساسه, ويعرِّفُ الفقهاء الزواج بأنه عقدٌ يفيد حلّ استمتاع كلٍّ من العاقدين بالآخر على الوجه المشروع "محمد أبو زهرة، ب، ت"؛ ولأن الزواج قرار شخصيٌّ فإنه يتطلب عملية اختيار, فما هي العوامل التي تؤثر في الاختيار الزواجي؟ أجريت بحوث كثيرة في الثقافة المصرية والثقافات الأجنبية للإجابة على هذا السؤال, وقد توصلت هذه البحوث إلى ثلاثة عوامل رئيسية في هذا الصدد يعتمد عليها الزوج في اختيار زوجته، والزوجة في اختيار زوجها وهي: 1- الجاذبية الجسمية: وقد تأكَّدَ أن هذا العامل هو أفضل المؤشرات لتكوين المحبة والعاطفة بين المتعارفين الجدد, إلّا أنه مع زيادة التعارف بين طرفي العلاقة الزوجية تكون لمسات الشخصية والخصائص المعرفية الأهمية الأكبر، وتقل أهمية الجاذبية الجسمية. 2- القرب المكاني: يميل الأفراد إلى اختيار شركائهم في الزواج من بين الذين يعيشون أو يعملون بالقرب منهم، وقد يكون السبب في ذلك سهولة التعرف عليهم, وتوافر فرص أكبر لمزيد من معرفتهم. 3- التشابه: ويُقْصَدُ به ميل الفرد في اختيار شريك زواجه إلى ما يشبهه في الخصائص الاجتماعية والشخصية، وخاصةً التشابه في الدين والمستوى الاقتصادي والاجتماعي والعمر والمستوى التعليمي, وكذلك التماثل في القيم والنظرة إلى العالم وفلسفة الحياة, وتؤكد البحوث أن بعض عوامل التشابه قد يكون أقوى من البعض الآخر؛ ففي الثقافات متعددة الأعراق والأصول العنصرية "كالولايات المتحدة الأمريكية" يلعب التماثل العرقي دورًا هامًّا, وفي الثقافات التي يلعب فيها الدين دورًا رئيسيًّا "كالمجتمعات العربية والإسلامية" لا يكاد يختار المرء إلّا من ينتمي إلى نفس دينه، ولا يزال المستوى الاقتصادي والاجتماعي يلعب دورًا هامًّا، ولو أنه مع التغيرات الاجتماعية والثقافية التي شهدها المجتمع الحديث "وخاصة في الدول النامية" حدثت تغيرات في معايير الزواج بالنسبة لهذا العامل، ولم يعد يمثِّلُ عائقًا جوهريًّا إذا توفرت لدى الفتى والفتاة والمقدمين على الزواج عوامل التشابه في الخصائص الشخصية والسلوكية وفي القيم، وفي المستوى التعليمي. وتجب الإشارة هنا إلى أن عامل التشابه في الاختيار الزواجي من الموضوعات الخلافية بين أصحاب النظريات حول سيكولوجية الزواج, فقد تحدى مورشتاين Murstein النموذج الأساسي للتشابه بين الزوجين في الخصائص.

وفي رأيه أن الزوجين لا يحتاجان بالضرورة إلى أن يكونا متشابهين في الخصائص حتى تنجح العلاقة الزوجية, وإنما الأكثر أهميةً وجود عناصر "معززة" لدى كلِّ شريك في الآخر, وبعبارة أخرى: فإن كل فرد في العلاقة الزوجية لا بُدَّ أن تكون لديه القدرة على إشباع حاجات شريكه بصرف النظر عن خصائصه, وقد يحدث ذلك نتيجة تشابهها في بعض الخصائص، وقد يحدث أيضًا نتيجةً لاختلاف بعض خصائصها؛ بحيث يكمل كل منها الآخر، كما هو الحال مثلًا حين يكون أحد الزوجين متشددًا والآخر متسامحًا. ومن الطريف أن نشير هنا إلى أن النتائج السابقة لم تشر إلى عاملٍ يفترض فيه أن يعد حاسمًا في تكوين العلاقة الزوجية وهو "الحب", والسبب أنه يُعَدُّ مسلَّمَة الحياة الزوجية خاصة, والحياة الأسرة عامة؛ فالحب هو العامل الحاسم في اختيار الزوج أو الزوجة, فأن يتزوج المرء بسبب المال أو القرابة أو الأصل العائلي قد لا يوافق عليه كثير من الشباب في المجتمع الحديث؛ لأن الزواج مسألة "شخصية", هذا على الرغم من أنه كان في الماضي، بل أنه لا يزال حتى الآن في بعض الثقافات والثقافات الفرعية في المجتمع الواحد، يعد مسألة عامة, فقد يختار "حكماء" الأسرة شركاء الزواج ربما على غير إرادتهم للربط بين العائلات، وفي هذا لا يُعَدُّ الزواج رابطة فردية بين شخصين, وقد تستخدم في هذا الاختيار أسس مادية بحتة كالمستوى الاقتصادي والاجتماعي, وقد ينشأ عن ذلك بالفعل مشكلات كثيرة للزوجين وأسرتيهما التي تنتهي كثيرًا في مثل هذه الحالة بالانفصال والطلاق. وقد حذَّرَ الإسلام من ذلك كله، وجاءت الأسس التي وضعها لاختيار كلٍّ من الزوجين لشريكه1 تتفق مرةً أخرى مع أصول الفطرة السليمة, ولهذا جاءت صفة التدين والصلاح على رأس الخصائص التي يحبذها الإسلام في كلٍّ منهما, يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم بالنسبة للزوجة: "تنكح المرأة لأربع؛ لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" متفق عليه. ويقول -عليه الصلاة والسلام- أيضًا بالنسبة للزوج: "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلَّا تفعلوا تكن فتنة في

_ 1 نحب أن ننبه هنا إلى أن الإسلام أوجب أخذ رأي الفتاة فيمن يتقدم للزواج بها, وحَرَّمَ زواجها بمن ترفضه أو تكرهه، بل وأجاز للمرأة العاقلة القادرة أن تفسخ العقد الذي يربطها بشخصٍ لم ترضه لنفسها, وتمتلئ صفحات المؤلفات المتخصصة في الفقه الإسلامي بالأدلة على ذلك.

الأرض وفساد كبير" رواه الترمذي. أما مسألة العنصر الوجداني في الزواج فيركز عليه الرسول -عليه الصلاة والسلام- في اختيار الزوجة، وفي ذلك يقول: "خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده" متفق عليه. وعنصر الحُنُوِّ والرعاية في الزوجة ليس بالطبع من طرف واحد، وإنما هو تفاعل بين طرفين, وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] . والخطاب في هذه الآية الكريمة للرجال والنساء على حَدٍّ سواء. ويضيف الإسلام -بالنسبة للمرأة خاصة- عامل الجاذبية الجسمية، إلّا أن هذا العنصر ليس له الأولوية، بل يأتي بعد التقوى والصلاح والاستقامة والأخلاق الفاضلة, وفي ذلك يقول الرسول الكريم: "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرًا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته, وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله" رواه ابن ماجة. أما الرجل فيخصه الإسلام بخاصية القدرة على تحمُّلِ تبعات الزواج وخاصة القدرة الاقتصادية, ونشير هنا إلى حديث الرسول -عليه السلام -الذي تناولناه من قبل- وفيه يحثّ القادرين "الذين يستطيعون الباءة" على الزواج، ووجَّه الذي لا يستطيع إلى الصوم والعبادة إلى أن يستطيع, وحد الاستطاعة والقدرة هنا لا يقصد به الغنى والثراء، وإنما أن يتوافر لدى الرجل الحدِّ الأدنى الذي يمكنه من تحمُّلِ مسئولية بناء الأسرة والإنفاق عليها. وكم نحن في حاجة إلى التوعية بهذه المبادئ النبيلة حتى يقوم الزواج في المجتمعات العربية والإسلامية على أسس سليمة، وحتى لا يتعرض للانهيار نتيجة الوقوع في أخطاء الاختيار، بل وحتى لا تنشأ المعضلات التي تعوق الشباب من اتخاذ قرار الزواج؛ مثل: غلاء المهور والغلوِّ في نفقات الزواج على نحوٍ يجعل الشباب من ذوي الحد الأدنى من القدرة عليه يحجمون عنه. التوافق الزواجي: إن المهام التي تواجه أيَّ زوجين حديثين كثيرة وهامة, وقد ينشأ عن بعضها بعض الخلاف والصراع، ولذا فإن من المهمِّ فهم طرق الزوجين في التعامل مع هذا الصراع، أيّ كيف يتجادلان ويتحاوران

ويختلفان دون أن يؤدي ذلك إلى هدم الأسرة, ومن مصادر الصراع الزواجي دخل الأسرة وطرق إنفاقه، وكيفية التعامل مع والديهما وغيرهما من الأقارب، والاستعداد للوالدية، والتوافق الجنسي، وغيرها, وقد ظلت هذه الجوانب من التوافق الزواجي موضع المناقشة والبحث على المستوى العام والمهني المتخصص لفترات طويلة. ومن أهم الموضوعات التي يتناولها الباحثون في هذا الصدد ما يتصل بالتوافق الجنسي بعد الزواج "في الغرب أجريت مسوح عديدة أكدت أن حوالي 80% من النساء بين سن 18، 24 يفقدن عذريتهن قبل الزواج، وفي هذا دلالة على الزيادة الكبيرة في ممارسة الجنس قبل الزواج، ومع ذلك, فإن بعض علماء النفس في الغرب يرون أن هناك مشكلات توافق جنسي بعد الزواج", ولعل أسوأ ما يمكن أن يحدث أن تتحول الحياة الجنسية بعد فترة الزواج إلى نوعٍ من السلوك الروتيني. ومن العوامل الهامة التي تؤثِّر في التوافق الزواجي هو مدى إخلاص الزوجين كلّ منهما للآخر, وفي الغرب، بالرغم من أنه حدث تغير خطير في الاتجاه نحو تقبل "التسامح إزاء النشاط الجنسي قبل الزواج" إلّا أنه لم يحدث تغير مناظر نحو تقبل "السلوك الجنسي خارج نطاق العلاقات الزوجية"، أو ما يُسَمَّى على وجه العموم، الخيانة الزوجية؛ ففي مسحٍ هامٍّ أجري في الولايات المتحدة "Brodzinsky et al 1986" وجد أن ما بين 80% إلى 90% من المفحوصين الأمريكيين لا يوافقون على هذه العلاقات، على الرغم من أن الشباب منهم لا يرغبون في وصف هذا السلوك، إذا حدث، بأنه خطأ أو خطيئة تحت جميع الظروف، أو أنه لا يغتفر. ومن العجيب أن يذكر بعضهم أن هذا السلوك الجنسي يمكن أن يكون مقبولًا إذا وافق عليه الزوجان، وإذا كان جزءًا من عقد الزواج المبدئي؟! إلّا أن ما لا يقبل عندهم هو الخداع أو الخيانة؛ لأن ذلك يتضمن الكذب والسلوك غير الأمين, ومع ذلك فإن نسبة تصل إلى 50% من جميع الرجال المتزوجين في الولايات المتحدة يقررون أنهم يمارسون خطيئة الزنا، بينما يقرر ممارسة نفس الجريمة حوالي نصف هؤلاء "25%" من النساء المتزوجات, ومع ذلك فإنه في 20% فقط من هذه الحالات يعرف الزوج أو الزوجة حدوث ذلك. ولعل القارئ يدرك من هذه الحقائق حكمة الإسلام العظيم في تركيزة في الاختيار الزواجي على عامل الصلاح والتقوى والأخلاق الكريمة الفاضلة في كلٍّ من الزوجين. وهناك جانب آخر من أدوار التوافق الزواجي هو توافق الأدوار nole

adjustnent, فحين يتزوج شخصان فإن إحدى صور التوافق الهامة التي يجب أن تحدث هي تكامل أدوارهما وتعلم العيش معًا كزوجين, ويلعب الدور الحاسم هنا مقدار حب ومودة كلٍّ منهما للآخر, ومن المعروف أن الخبرة الحقيقية للمعيشة معًا والأنشطة التعاونية قد تكون متعة أو صدمة؛ فأيام الحرية التي تتسم بها حياة "العزوبية" قد ولَّتْ أو على الأقل قُيِّدَتْ بشكلٍ جادٍّ, وسرعان ما يدرك المرء أن حاجاته ورغباته يجب أن تتأثر وتتكامل مع حاجات ورغبات شريك حياته, ابتداءً من اختيار مطعمٍ للعشاء, وحتى طريقة تربية الأولاد، فهي كلها قرارات مشتركة. ويتطلب الأمر أحيانًا المناقشة بين الطرفين والوصول إلى حلول وسط. فبعد الزواج يجب على كلٍّ من الزوج والزوجة خلق دور جديد يسمح بالمشاركة في اتخاذ القرارات, كما أن عليهما تحديد المشكلات الأكثر عملية وواقعية, والوصول إلى هذا كله قد يتطلب بعض التغير في سلوك الشخص وعاداته التي اكتسبها من قبل, وقد أكدت دراسة مبكرة قام بها فنسنت "Vincent 1964" أن التوافق الزواجي يؤدي إلى إحداث تغيرات هامة لدى المتزوجين, وذلك بالنسبة لبعض سمات الشخصية؛ مثل السيطرة وتقبُّل الذات بالمقارنة بالمجموعات الضابطة من غير المتزوجين الذين لم يظهروا مثل هذه التغيرات. وفي الماضي القريب "حتى الستينات من القرن الحالي" كان الميل لتغيير الأدوار أكثر وضوحًا لدى المرأة؛ حيث كان عليها أن تستبدل مكانة ربة البيت بمكانة الطالبة أو المرأة العاملة "Barry 1970", وهذا الانتقال كان يؤدي بها إلى رضا زواجي أقل منه عند زوجها, ولذلك كانت المرأة المتزوجة تظهر مشكلات نفسية أكثر بمقارنتها بكلٍّ من الرجل المتزوج أو المرأة غير المتزوجة, ثم إنه بالمقارنة بين الرجال المتزوجين وغيرهم من العزاب, أثبتت البحوث حينئذ أن المتزوجين يعيشون أعماراً أطول, وتكون صحتهم الجسمية أفضل, ويقررون أنهم أكثر سعادةً من غير المتزوجين, ومن ناحيةٍِ أخرى فإنه إذا أصبح الزوج غير سعيد فإن ذلك كان يؤثر في علاقته الزوجية على نحوٍ أكثر عمقًا من عدم سعادة الزوجة، فأغلب حالات الطلاق كانت ترجع في جوهرها إلى شقاء الأزواج أكثر من شقاء الزوجات. أما الآن فإن التوقعات الاجتماعية حول الأدوار في الزواج أصبحت أكثر مرونة, ففي دراسةٍ أجراها ميسلين "Meislin 1977" وجد أن 27% فقط من الشباب "الذين تمتد أعمارهم بين 18، 29عامًا" فضلوا الأدوار "التقليدية" للزواج على الأدوار الجديدة المشتركة، وذلك بالمقارنة بنسبة 59% من جيل أبائهم.

وبالإضافة إلى ذلك, فإن أزواج النساء العاملات يؤدون المهام المنزلية على نحوٍ أكثر تكرارًا إذا قورنوا بأزواج النساء غير العاملات, وتشعر المرأة العاملة برضًا أكبر حين تطلب من زوجها المساعدة في "عمل البيت" ورعاية الطفل, إلّا أن المقارنة بين نشاط العمل داخل المنزل لكلٍّ من الزوجين كشفت عن أن الأزواج يقضون في هذه المهام وقتًا أقصر بكثيرٍ من الزوجات "في أمريكا بلغ المتوسط اليومي 2.5 ساعة للزوج في مقابل 5 ساعات للزوجة", ومعنى ذلك أن الزوجة هي بصفة عامة المسئولة عن معظم العمل المنزلي ورعاية الطفل، وتقوم بذلك بالفعل معظم الوقت, أمَّا الأزواج فيقضون معظم وقتهم في المهام الموجهة تقليديًّا نحو الذكورة؛ مثل: غسيل السيارة وإصلاح الأعطال داخل المنزل, وهي مهام أقل حدوثًا من المهام التي تكون المرأة مسئولة عنها داخل بيتها. ولعلِّ من المسائل الهامة التي تشغل بال الباحثين المعاصرين هي العلاقة بين الأدوار الجنسية وأدوار العمل, فحين يعمل الزوجان في خارج المنزل، وهو أمرٌ يتزايد حدوثه في الوقت الحاضر، فإن النمط التقليدي لسيطرة الرجل داخل المنزل قد يتقلص, وربما يتلاشى, فمن المعروف أن المرأة التي تختار أن تكون ربة بيتٍ هي أقل سيطرة وأكثر سلبية, وأكثر توجهًا نحو الرعاية والتضحية الذاتية, أما المرأة العاملة المتزوجة فهي على العكس من ذلك تبدو في بعض الحالات غير تقليدية وتنافسية، ولا تظهر مشاعر التضحية الذاتية, وبالمثل فإن أزواج ربات البيوت هم أكثر سيطرة من أزواج النساء العاملات, وحين تقاس درجة الرضا الزواجي في مثل هذه الأحوال, نجد أن الزوجات أكثر رضًا ويؤدين بطريقة أكثر فعالية من الزوجات اللاتي لا يعملن خارج المنزل، على الرغم من أن النتائج حول أزواج النساء العاملات كانت متناقضة في البحوث المختلفة, فقد أكد بحث قام به "Burke Weir 1976" أنهم يكونون في العادة أقل رضًا, ويقررون وجود ضغوط عمل أكثر، كما أنهم أكثر قلقًا، ويبدون أسوأ من ناحية الصحة الجسمية والنفسية, وتتناقض هذه النتائج مع تلك التي أظهرها بحث "Both 1977" حين وجد أن هؤلاء الأزواج لا يظهرن أيّ علاماتٍ تدل على التوتر الزواجي, والخلافات العائلية أكثر من أزواج النساء غير العاملات "ربات البيوت", بل إنه يستنتج من نتائجه أن الفئة الأولى من الأزواج "أي: أزواج النساء العاملات" كانوا أسعد حالًا وأقلّ تعرضًا للإجهاد النفسي, بل وقرروا أكثر من المجموعة الأخرى أن زوجاتهم "محبات" و"أقل ممارسة للنقد"، فإذا ظهرت عليهم بعض علامات الضغط والتوتر النفسي, فإن ذلك لا يكون عادةً إلّا خلال فترة الانتقال -أي حين

تلتحق الزوجة بالعمل لأول مرة, أو حين تعود الزوجة العاملة إلى البيت لتقوم بمهام رعاية أطفالها. ويظهر أزواج النساء العاملات اتفاقًا أكبر مع زوجاتهم حول المسائل الهامة "مثل الإنفاق، والعلاقات العائلية"، كما يسهل عيهم الوصول إلى حلول "وسط" للمسائل التي لا يتفقون عليها, إلّا أنه بالنسبة لبعض الأزواج ظهرت مشكلة حديثة العهد, وهي الموازنة بين أدوارهم الزواجية وأدوارهم المهنية, فلقد أصبح من الشائع مثلًا أن يعمل الرجال تحت إمرة النساء، وأن يتنافس الرجال والنساء على الترقيات والمناصب, ومع ذلك فإنه في المنزل يتطلب الأمر أدوارًا مختلفة؛ فالزوجة مثلًا قد تتجنب أن يشعر زوجها بالتهديد بسبب تسلطها في إدارة المسائل العائلية، على الرغم من أن هذه القسمة نفسها هي التي تحظى بالتقدير في العمل "إذا كانت تتولّى وظيفة قيادية", وقد تكشف المرأة العاملة أيضًا أن نجاحها في العمل, أو التزامها الشديد بمسئولياتها, قد لا يحظى بالترحيب من زوجها, ويدعم ذلك النتائج التي تؤكد أن نسبة يعتد بها من بين نساء اللاتي يشغلن وظائف عليا إما مطلقات أو عوانس "أي: لم يتزوجن أبدًا". ويوجد مظهر هام آخر للتوافق الزواجي, هو أن يتوافق كلٌّ من الزوجين لخصائص الآخر, فمن بديهيات علم النفس أن لكلِّ فرد شخصيته الفريدة التي تؤثر في طريقته في تناول المواقف والتكيف معها, وبعض خصائص الشخصية تعين الفرد على المواءمة الجيدة مع الزواج وبناء علاقة قوية مع الشريك، بينما بعضها الآخر لا يساعد على ذلك, ومن الخصائص التي ترتبط بالرضا الزواجي ما يلي: 1- النضج الانفعالي. 2- التحكم الذاتي وضبط النفس. 3- الرغبة في إظهار الأسرار الشخصية لشريك الحياة. 4- القدرة على إظهار العاطفة والاعتبار نحو الآخرين. 5- القدرة على معالجة الإحباط والتحكم في الانفعالات. 6- التقدير العالي للذات. 7- المرونة. 8- القدرة على التواصل بشكلٍ صريحٍ وأمينٍ مع شريك الحياة. وتؤكد بعض الدراسات أنه عند بداية الزواج تلعب سمات شخصية الزوج دورًا أكبر من سمات شخصية الزوجة في تحقيق السعاة الزوجية فيما بعد. ومن

أهم هذه العوامل "هويته الذكورية المستقرة"، وكذلك اليسر الاقتصادي النسبي للزوج ومستواه التعليمي, وقد يكون العامل الأكثر أهميةً في التوافق الزواجي لدى الزوجة إدراكها لمدى نضج زوجها وكيف يتواءم مع دور الزوج والوالد والشريك المتعاون, وكلما ارتفع تقدير الزوجة لزوجها في النضج الانفعالي, وكلما اقتربت صورته عندها من تحقيق الدور التي تحدده الثقافة للزوج أكثر سعادة. الوالدية: إن أحد الدوافع القوية لدى الكائنات الحية دافع المحافظة على بقاء النوع, ويشمل ذلك إنجاب جيل جديد ورعايته, وأثناء مسار النمو الإنساني يجد الإنسان نفسه -طوعًا أو كرها، باختياره أو مصادفة- أبًا أو أمًّا, وتؤكد الإحصائيات الحيوية في معظم المجتمعات الحديثة أن حوالي 10% من جميع الزيجات لديها على الأقل طفل واحد "Brodzinsky et al 1986". وفي نموذج إريكسون في النمو الاجتماعي تظهر الوالدية "Parenthood" استجابةً لما يسميه أزمة "التدفق في مقابل الركود", فبعد حل أزمة العلاقة الحميمة والتآلف والمودة في مقابل العزلة, يبدأ الراشد الصغير في التعبير عن أزمة الخصوبة في صورة قرارات ومشاعر حول الوالدية, ويرى إريكسون أن الرغبة في رعاية الآخرين هي التزامٌ إنسانيٌّ عامٌّ في جميع العصور, وستبقى كذلك في المستقبل. ومن ناحيةٍ أخرى, فإن محض الرغبة في الحصول على الأطفال لا يدل على "تدفق حقيقيّ", فبعض الناس يكونون غير قادرين على القيام بدور الوالدية نتيجةً للصعوبات التي تعرضوا لها هم أنفسهم في مراحل سابقة من حياتهم؛ فالزوجة أو الزوج الذي تعوزه القدرة على إدراك المشاعر والخبرات لدى من يتعامل معهم, والرغبة في التضحية والإيثار في علاقاته مع الآخرين, عادةً ما يكون غير مُعَدٍّ لرعاية أطفال صغار, بل تدفعه أنانيته وتمركزه حول ذاته إلى الانشغال بنفسه بدلًا من السعي إلى رعاية جيل جديد، وفي علاقته بشريك حياته لا يتجاوز في ذلك اعتبار نفسه طفلًا يحتاج لرعايته واهتمامه. وقد أجريت بحوث حول دافع الخصوبة fertiliy motivation- أي: الأسباب التي تدفع الناس إلى الحصول أو عدم الحصول على طفل، وحددت العوامل التي تؤثر في هذا القرار, وأكدت البحوث أن هناك اختلافاتٍ حول تقدير قيمة الأطفال لدى الوالدين, كما تختلف الأسباب التي يقررها الآباء لإنجاب الأطفال. وبالنسبة للمسألة الأولى: نجد أن أحد الاتجاهات السائدة لدى بعض الآباء والأمهات اعتبار "الوالدية" كما لو كانت مهنةً يمكن للشخص أن يمارسها أو لا

يمارسها, ومن ذلك تقول إحدى الزوجات: "إن بعض الناس لديهم مهارة في الوالدية, أما أنا وزوجي فنحن مهرة فقط في إدارة المصنع الذي نملكه". ويوجد اتجاه آخر نحو الوالدية يعتمد على فكرة التكلفة والفائدة cost-benefit, وهذا الاتجاه النفعي يزن أو يقايض البهجة التي يمكن الحصول عليها من الأطفال مقابل النواتج التي يحصل عليها المرء من النجاح في مجالاتٍ أخرى كالدراسة أو العمل, وهذان الاتجاهان نحو الوالدية يفترضان أن لدى بعض الناس -وخاصة النساء- فرصًا أخرى أكثر تفضيلًا للنمو الشخصي وتحقيق الذات "كالعمل" تفوق الحصول على الأطفال, بل إن بعض الدراسات التي أجريت في الثقافات الغربية أكدت ذلك، فالمتعلمون الأمريكيون مثلًا يقررون أن مشاعر رضاهم عن أطفالهم أقل بمقارنتهم بمن هم أقل تعليمًا، ويفسر الباحثون ذلك بأن المجموعة الأولى "الأفضل تعليمًا" لديها وسائل بديلة لتحقيق الذات "Russell 1974". ومع ذلك, فإن الرضا الذي يحققه النجاح المهنيّ لا يمنع معظم النساء الموجهات مهنيًّا من إنجاب طفل واحد على الأقل, فالاندماج في العمل قد يؤدي إلى تأجيل إنجاب الطفل, أو تحديد عدد الأطفال في الأسرة، إلّا أنه ليس بديلًا عن الحياة بدون أطفال على الإطلاق. والسؤال الآن: ما الذي يدفع الزوجين للتحول إلى الوالدية؟ توجد قائمة طويلة من العوامل حددتها البحوث التي أجريت على الأزواج والزوجات نذكر منها: 1- الضغط الاجتماعي: وخاصة ضغوط والدي الزوجين واللذين يرغبان أنفسهما في القيام بدور الأجداد. 2- السعادة بالأطفال في ذاتهم, والشعور بأن العمل وحده ليس هو القيمة الوحيدة في الحياة كلها، فالطفل قيمة في ذاته، وهو الذي يجعل الحياة تستحق أن تعاش. 3- الرغبة في الراحة الانفعالية التي يهيؤها الأطفال لآبائهم عندما يكبرون, وخاصة عند تقدُّمِ الآباء في السن. 4- الرغبة في وجود ورثة يورثهم الشخص موارده وأفكاره وأذواقه عبر الزمن. 5- تحسين الحياة الزوجية أو حمايتها من التحطم والانهيار, أو لربط الزوج فلا يفكر في الطلاق أو الزواج بامرأة أخرى.

6- الهرب من الملل أو من عملٍ غير مرضٍ بالاندماج في تربية الأطفال. 7- إدراك الطفل على أنه صورة للمكانة الاجتماعية؛ ففي بعض الثقافات يُعَدُّ وجود الأطفال من أسس بناء العصبية العائلية, ناهيك عن دورهم كموارد اقتصادية "من خلال عملهم" لدى الأسر الفقيرة. 8- قد تحتاج المرأة الشقية في زواجها, أو الوحيدة, إلى طفلٍ تكون معه علاقة تعلق حقيقية تعوضها عن المودة المفقودة مع الزوج. ويجب أن نلاحظ أنه مع شيوع وانتشار وسائل منع الحمل "في بعض المجتمعات الحديثة", فإن بعض الأطفال قد يُولَدُون على غير رغبة الوالدين نتتيجة الخطأ في استخدام هذه الوسائل, ويصل عدد الأطفال غير المخطط لهم في بلد كالولايات المتحدة إلى حوالي ثلثي الأطفال، وهذا لا يعني بالضرورة أن يكونوا غير مرغوبين بعد ولادتهم. وعملية الوالدية هي عملية نمائية ارتقائية, فبالنسبة للمرأة تُعَدُّ عملية الحمل في ذاتها أهمية نمائية خاصة؛ حيث تسمح لها بإدراك ما يُسَمَّى "الإنتاجية الذاتية"، والتي تُعَدُّ محور الإنجاز الأنثوي من الوجهتين الرمزية والبيولوجية, وبالنسبة للوالدين فإن الحصول على طفلٍ له أهميته ودلالته في إحياء وبعث بعض الصراعات السابقة التي ربما يكونان قد تجاوزاها, ويرى بعض أصحاب التحليل النفسي -ومنهم بنيدك Benedek- أن الأم تحتفظ بآثارٍ في الذاكرة حول طفولتها، مثل كيف كانت تغذى وتحضن، وكيف كانت تخفف آلامها، وجوانب السعادة والشقاء في طفولتها, وهي قد تسترجعها عند تعاملها مع طفلها الوليد, وبالإضافة إلى ذلك فإن أسلوبها في الأمومة تشتقه من توحُّدها المبكر والأساسيّ مع أمها. وخبرة الوالدية خبرة تكاملية، تربط كلًّا من الزوج والزوجة بالطفل, وتظل كذلك طوال الحياة, كما أنها خبرة تدل على امتداد الحياة واستمرارها, وتصف بعض الأمهات ذلك بالقول بأنها مع الأمومة تجد أن طفلها وجده "والد الأم" عبارة عن مرآتين متقابلتين لإدراك ذاتها من خلالهما, ويصدق ذلك بالطبع على الأب. فالأم والأب يدركان جزءًا من ذاتهما في والد كلٍّ منهما الذي يكون بالطبع في مرحلة الشيخوخة أو يقرب منها، كما يجد كلٌّ منهما جزءًا من هذا الوالد الجد فيه، وهذه هي المرآة الأولى, أما المرآة الثانية فهي الطفل الوليد؛ حيث يدرك فيه الراشد الصغير "والده أو والدته" جزءًا من نفسه "Neugarten". وخلال فترة الرشد المبكر يواجه الوالدان خبرات جديدة تنشأ عن ظروف

الحمل والولادة "وخاصةً أول مرة"، وأساليب رعاية الطفل الوليد، ومواجهة متطلبات طفل ما قبل المدرسة وغير ذلك, ويتطلب ذلك تعلمًا جديدًا بالإضافة إلى فرصٍ جديدةٍ للتدريب على ضبط النفس, فمثلًا نوبات الغضب لدى طفل العامين, أو التمرد لدى طفل ما قبل المدرسة, قد تدفعان الأم أو الأب إلى الحيرة في مواجهتها، وقد يدفعهما ذلك إلى مزيدٍ من المعرفة عن سلوك الطفل وخصائص نموه، وهكذا قد يبدأ الراشد الصغير في قراءة الفصول الأولى من هذا الكتاب، وكأنه يحاول بذلك أن يفهم ذاته كما يفهم طفله, وهكذا تصبح عملية تطبيع الطفل فرصة لأن يعيد الوالدان تطبيع نفسيهما للمواقف الجديدة, ففي الوقت الذي يُعَلِّمَانِ فيه الطفل عادات الأكل والإخراج والسلوك المرتبط بدوره الجنسي، يتعلمان هم أشياء كثيرة؛ مثل: كيف يتكلمان مع الطفل الوليد، وكيف يحققان له الراحة، وكيف يدفعانه إلى الابتسام، وكيف يكَوّنان علاقة جديدة معه تتسم بالجد والمرح، الصراحة والحب معًا, ناهيك عَمَّا يترتب على ميلاد الطفل من "تقييد" لنشاط الوالدين خارج المنزل، وتقييد خصوصياتهما داخله, بالإضافة إلى نقص التواصل بين الوالدين، فقد وجد "Schulz 1972" أن مقدار الكلام المتبادل بين الزوجين يقل إلى النصف بعد ميلاد الطفل الأول، ويتوجه حديثهما إلى الطفل نفسه, وقد يؤدي ذلك إلى نقص الرضا الزواجي، ويزداد هذا النقص مع إضافة أطفال جدد إلى الأسرة، إلّا أنه لوحظ أنه بعد أن يكبر الأولاد تعود الحياة الزوجية إلى طبيعتها الأولى مرة أخرى, هذا النقص في الرضا الزواجي بعد الإنجاب لا يحدث مع جميع الأزواج؛ ففي حالاتٍ أخرى يؤدي وجود الأطفال إلى تدعيم العلاقة الزوجية وتقويتها وليس إضعافها Brodzinsky et al1986, وهكذا يواجه الراشدون أزمةً تَتَطَلَّبُ توافقًا يكونون في العادة مهيَّئِينَ له، ويعود بعض هذه المشكلة إلى أن المجتمع لا يبذل جهدًا يذكر في التربية الوالدية، فلا يُعَدُّ الوالدان عادةً لهذا الحدث الهام سواء قبل الإنجاب أو بعده. وهذا مطلب جوهريٌّ حبذا لو اهتمت به كليات التربية في برامج خدمتها للمجتمع الذي تعمل في نطاقه1. ويقود دور الوالدية الزوجين إلى تكوين علاقات جديدة مع المجتمع؛ فالأمهات الجدد يبدأن في تكوين علاقات صداقة مع أندادهن من الأمهات للبحث عن الرفقة والنصحية, وتزداد صلة الآباء والأمهات من الراشدين الصغار بوالديهم "الأجداد والجدات" بحثًا عن الدعم الانفعالي وربما المادي "في صورة رعاية الطفل أثناء عمل الأم مثلًا", ثم يزداد اهتمام الوالدين من الراشدين الصغار بمؤسساتٍ اجتماعيةٍ لم تكن تحظى بالانتباه من قبل، سواء قبل الزواج أو بعده, وقبل الحصول على الأطفال مثل مؤسسات رعاية الأم والطفل، ودور الحضانة, ومع نمو الطفل في مرحلة ما قبل المدرسة يبدأ الوالدان في التعرف على الحدائق والمكتبات والأندية, ثم المدارس المناسبة للطفل.

_ 1 منذ بضع سنوات اقترح أحد مؤلفي هذا الكتاب "فؤاد أبو حطب" على وزارة الشئون الاجتماعية الاهتمام ببرامج "التربية الوالدية"، إلّا أن الفكرة التي بدأت جيدة الإعداد والتنظيم، سرعان ما تحولت عن أهدافها الأساسية لتصبح مجرد تدريب على مهارات يدوية تقدم للأمهات.

الطلاق

الطلاق: حين يتزوج رجل وامرأة؛ فالمفترض في علاقتهما الزوجية أن تسودها المودة والرحمة والمحبة وحسن المعاشرة كما تقضي الشريعة الإسلامية، وإذا حدث ذلك فإن الحياة الزوجية تستمر إلى أن تنتهي بوفاة أحد الزوجين أو كليهما. إلّا أن بعض الزيجات قد تفتقد الشروط اللازمة لاستمرارها، أو قد يقع أحد الزوجين أو كلاهما في دائرة الضغوط والعواصف التي عادةً ما تحدث في الحياة الزوجية نتيجةً لظروف الحياة اليومية وتوتراتها، أو قد ينحرف سلوك أحدهما عن جادة الفضيلة، أو قد يسيء أحدهما للآخر إساءة بالغة، وعندئذ يقع المحظور وتنفصم عرى الزواج، ويكون الطلاق. وتؤكد الدراسات التي أجريت على حالات الطلاق أن معظمها يقع لأزواجٍ لم يبلغوا مرحلة الرشد المبكر، وبعضها يقع خلال السنوات الأولى من الزواج، وأكبر نسبة بين المستويات الاقتصادية والاجتماعية الدنيا، والمستويات التعليمية المنخفضة، وبين الذين لا يكون بينهم تكافؤ في هذه المستويات, أو ليس بينهم تماثل ديني "Garrett 1982". ويفسر الباحثون شيوع الطلاق بين الزيجات المبكرة "أي: قبل سن الرشد" بأن الأزواج في هذا السن لم يستقلوا سيكولوجيًّا عن الوالدين، كما أن التزام الشخص في هذا السن نحو الأسرة والمهنة ليس بقوة التزام الراشدين, ويعوزه تكوين علاقات ناضجة مع شريك حياته، ناهيك عن نقص الاستقلال الاقتصادي بسبب قلة الدخل. ويقترح "Hunt Hunt 1977" ثلاثة سيناريوهات شائعة لحدوث الطلاق هي: 1- ضعف الزواج أو فتوره نتيجةً لانقضاء الوقت أو مرور الزمن, وما يصاحب ذلك من جهل أو تجاهل أحد الزوجين تمامًا لمشاعر الآخر، ونقص الأنشطة والقرارات المشتركة بينهما, ويشبه ذلك ما يحدث لصورة فوتوغرافية

قديمة، وما يطرأ عليها من ذبول, وفي هذه الحالة قد يحدث الطلاق مع أيِّ فرصةٍ تسنح مهما كانت درجة أهميتها "ابتداءً من مشاجرة عابرة, إلى قرار بتغيير مكان العمل أو السكن", وقد يحدث ذلك على الرغم من عدم وجود صراعٍ صريحٍ طويلٍ, أو وعيٍ شعوريٍّ بسببٍ واضحٍ للطلاق, وهذا السيناريو قليل الحدوث. 2- صدمة أحد الزوجين في الآخر "كأن تكتشف الزوجة علاقة بين زوجها وامرأة أخرى أو العكس", ويرى الباحثان "Hunt &Hunt 1977" أن ما يحدث في هذه الحالة أن يسترجع الزوجان تاريخ حياتهما الزوجية, ويكتشفان أنه لم يكن فيها إلّا القليل الذي يربط بينهما، ويبالغان في التركيز على الخبرات غير السعيدة التي عاشاها معًا, إلّا أنَّ ما يحدث في أقطار العالم النامي "ومنها بلادنا العربية والإسلامية" أن يصاحب هذا السيناريو بعنفٍ واضحٍ نتيجةً لتقدير قيمة العِرْضِ والشرف عند الرجال، ولمشاعر الغيرة عند النساء, وعلى الرغم من ندرة هذا السيناريو في أقطارنا العربية والإسلامية "ومنها مصر" إلّا أن العنف الزواجي الذي يشهده مجتمعنا في الفترة الأخيرة يُعَدُّ مؤشرًا على خطورته. 3- صراع زواجي طويل الأمد، ربما منذ الزواج، نتيجةً لفساد أو خطأ أسس اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر, وفي هذا السيناريو يدرك كلٌّ من الشريكين -وبعد وقت يطول أو يقصر- أن الطلاق هو أفضل الحلول, وهذا النوع هو الأكثر شيوعًا. ونشير هنا إلى أن الإسلام حين أباح الطلاق شرعه لمواجهة الظروف غير العادية وحلًّا للمشكلات "المستعصية" في حياة الزوجين، ولهذا جعله "أبغض الحلال"، وجعل له الضوابط التي تكفل صالح المجتمع وصالح الأسرة معًا، مع كفالة التوازن في حقوق الزوجين، وتمثل ذلك فيما يلي: 1- إضفاء طابع القدسية والمهابة والجلال والإكبار والتعظيم على عقد الزواج دون غيره من العقود التي تربط مصالح الناس, ولذلك يصفه القرآن الكريم وصفًا متميزًا عن غيره من العقود بقوله -سبحانه وتعالى- عن الزوجات: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21] . والميثاق الغليظ هنا هو عقد الزواج. ويقول الرسول -عليه الصلاة والسلام: "تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن". 2- الأصل في الإسلام هو استمرار الزواج وتجنب الطلاق، ولهذا أوصى

بحسن معاملة كلٍّ من الزوجين للآخر، وحفظه في السر والعلن، بل ذهب القرآن الكريم إلى أبعد من ذلك, بطلب المعاشرة الحسنة بين الزوجين ولو مع الكراهية، فقد تنشأ المحبة والمودة من خلال هذه المعاشرة من ناحيةٍ وتجنبًا للطلاق من ناحيةٍ أخرى. يقول الله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] . وقال -عليه الصلاة والسلام: "لا يَفْرَكْ "أي لا يبغض" مؤمنٌ مؤمنةً, إن كره منها خلقًا رضي منها آخر". وفي الحديث النبوي الشريف بصيرة عميقة بالسلوك الإنساني, فمن قواعد هذا السلوك في مجال العلاقات بين الأشخاص "الصداقة، العمل، إلخ" أننا نقبل فيهم بعض خصائصهم, ثم نعدل من سلوكنا ليتوافق مع الخصائص التي لا نوافق عليها فيهم، وهذا شأن العلاقات الزوجية كذلك. 3- البحث عن حلولٍ للمشكلات ورأبٍ الصداع في الحياة الزوجية دون اللجوء إلى الطلاق, يقول الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] . ويقول أيضًا: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34] . وقد حددت الشريعة الإسلامية قواعد التعامل مع النشور "للزوج والزوجة", والتحكيم بين الزوجين لحل الخلافات يمكن للقارئ المهتم الرجوع إليها في المراجع المتخصصة في الفقه الإسلامي. 4- لا يكون الطلاق إلّا بعد استنفاد كل الطرق الممكنة لحل المشكلة، وهو حلٌّ بغيض كريه رغم أنه من الحلال, وفي ذلك يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" رواه أبو داود. وهذا الحديث الشريف حكمةٌ نبويةٌ خالدةٌ، يشعر منه المسلم أن الطلاق "ليس لعبة ولا لهوًا، وليس تصرفًا عاديًّا يمارسه الزوج، بل هو دواء مرير أو جراحة

خطيرة يستعمل عند اللزوم وعند الضرورة، وهي استحالة الحياة الزوجية لأسباب جوهرية" "عزت العزيزي وآخرون: 1985: 451". 5- عدم النظر إلى الرجل المطلق أو المرأة المطلقة نظرة لومٍ واحتقارٍ؛ فالطلاق -إذا اضطر إليه المسلم أو المسلمة- أمر طبيعيّ، ولا يجوز النفور من زوج المرأة أو الرجل بعد الطلاق، وقد تزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مطلقة مولاه زيد بن حارثة بأمر من الله -عز وجل. يقول الله مخاطبًا رسوله الكريم: {.. فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37] . وقد أجريت بضعة بحوثٍ على خبرة الطلاق، وتكشف نتائج هذه البحوث عَمَّا يأتي: 1- خبرة الطلاق من أكثر الأحداث إثارةً للضغط والإجهاد والتوتر في حياة الراشدين، وتكاد في ترتيبها تتلو مباشرة خبرة وفاة رفيق العمر "التي تُعَدُّ أكثر الأحداث إيلامًا"، وخاصةً في ضوء ما تفرضه خبرة الطلاق من متطلبات إعادة التنظيم وإعادة التكيف. 2- توافق ما بعد الطلاق يرتبط ارتباطًا وثيقًا بدرجة الاستعداد له وتوقع حدوثه "Wallerstein Kelly 1986", ويوجد فريق من الناس لا يتوافق أبدًا مع الطلاق مهما كانت درجة الشقاء أثناء الزواج، وهؤلاء يستجيبون لانهيار العلاقة الزوجية باضطراباتٍ سلوكية تختلف في شدتها وحدتها التي قد تصل إلى حد الانتحار. 3- تختلف الاستجابات الانفعالية للطلاق، ويعتمد ذلك إلى حَدٍّ كبيرٍ على الظروف التي تسبقه مباشرة؛ فالزوجة السعيدة تشعر بالصدمة العنيفة نتيجةً لمفاجأة الطلاق, أما الزوجة الشقية بزواجها وتعاني صراعًا عنيفًا مع زوجها لبضعة سنواتٍ قد تشعر بالراحة بعد الطلاق, ومع ذلك فهناك أدلةٌ متوافرةٌ على أن كلًّا منهما يعاني الكثير من الألم بعد الطلاق. 4- يواجه المطلق "والمطلقة" أزمة هوية جديدة في محاولة بناء أسلوب جديد لحياته أو حياتها, ويرتبط ذلك بالمفاهيم الشائعة في الثقافة عن فئة المطلقين، واتجاهات الآخرين نحوهم، والتي تكون في كثير من الأحيان سالبة، وهو موقف لا يتفق في جوهره مع روح الإسلام -كما أشرنا- ولهذا كثيرًا ما نلاحظ على سلوك المطلقين أنه يتسم بالعزلة والتفرد والخوف من المخاطرة بتكوين علاقات اجتماعية. 5- تنشأ عن الطلاق بعض المشكلات العملية؛ فالمراة المطلقة التي كانت أثناء زواجها متفرغة لرعاية بيتها وأطفالها قد تجبرها الظروف الاقتصادية على العمل, كما قد تنشأ علاقات والدية جديدة بين الزوجين السابقين في حالة وجود أطفال تنظمها قواعد حضانتهم.

النمو المهني

النمو المهني: الأهمية السيكولوجية للعمل: دخول الإنسان إلى ميدان العمل هو أحد مؤشرين -مع الزواج- على أنه أصبح من الراشدين، بل إنه هو المؤشر الوحيد على الرشد لأولئك الذين يؤجلون زواجهم إلى ما بعد الاستقلال الاقتصادي "والحصول على مهنة هو أعظم علاماته", ولهذا يحتل العمل عند الراشدين مكانةً بالغة الأهمية في تحديد هويتهم، ويظل كذلك لفترة تمتد حوالي أربعين عامًا من العمر, ويمكن أن نلخص الأهمية السيكولوجية للعمل لدى الراشدين فيما يلي: 1- العمل تعبيرٌ عن حاجةٍ داخليةٍ لدى الإنسان تدفعه نحو الاستقلال النفسي والاقتصادي والإتقان والتعامل الفعال مع البيئة, وتسمى هذه الحاجة دافعية الإنجاز achievement motivation, وبالطبع فإن هذا الدافع يختلف بين الأفراد وداخل الفرد الواحد في مختلف مراحل نموه. وعند الراشد تؤثر قوة دافع الإنجاز في طريقته في تفسير خبراته المهنية وتوجهها, ولهذا نجد بعض الراشدين من النساء ومن الرجال من ذوي الإنجاز العالي يصلون إلى مواقع القيادة والسلطة في مجالات عملهم بالمقارنة بأقرانهم من ذوي الإنجاز المنخفض. ومن العوامل التي تعدل سلوك الإنجاز سيطرة دافع آخر قد يكون أحيانًا "الحاجة إلى الانتساب أو الانتماء Affiliation لدى الراشدين, وهو دافعٌ يوجه الإنسان نحو تكوين علاقات إنسانية أكثر يسرًا مع الزملاء، وقد يكون في أحيانٍ أخرى دافع تجنب النجاح, وخاصةً إذا كانت عواقب النجاح في العمل تؤدي إلى رفض شخصي واستهجان اجتماعي "كما هو الحال في نظرة بعض الثقافات إلى نجاح المرأة في العمل", وفي مثل هذه الحالة يكون اتجاه الشخص إزاء الإنجاز المهني أقرب إلى الحياد أو التناقض الوجداني, ومن ناحيةٍ أخرى فإن مثل هذا الشخص إذا لم يحرز نجاحًا لن يدفعه ذلك إلى بذلك مزيد من الجهد.

2- العمل مصدر لشعور الفرد بقيمته, وبالتالي فإنه وثيق الصلة بتقديره لذاته وتحديد هويته, ويكشف ذلك عن الأثر النفسي المدمِّر للبطالة على شخصية الراشدين, ويتوقف تقدير الراشدين العاملين لذواتهم على تفسير كلٍّ منهم لخبرة العمل, ومن ذلك أسلوب الشخص في عزو attribution أسباب النجاح والفشل المهنيين أو تحديد موضع الضبط locus of control لكلٍّ منهما, فإذا كان الراشد يعزو أسباب نجاحه إلى عوامل داخلية مستقرة فيه من ناحية، وأسباب فشله إلى عوامل خارجية غير مستقرة "مؤقتة أو عارضة", فإنه يكون أكثر تقديرًا لذاته، كما يكون لديه شعور قوي بالكفاءة الشخصية "Huyck Hoyer 1982", وتوجد فروق بين الجنسين في هذا الصدد؛ فالنساء أكثر احتمالًا في عزوِ النجاح إلى الحظ والمصادفة أو سهولة العمل، بينما الرجال يعزونه إلى قدرتهم العالية وجهدهم الزائد, أما في حالة الفشل فإن المرأة قد تعزوه إلى نقص قدرتها، والرجل إلى نقص جهده المبذول "Mednick et al 1975", وهكذا فإن المرأة قد تشتق تقديرًا أقل لذاتها, وشعورًا أدنى بالكفاءة من إنجازٍ قد تتساوى فيه مع الرجل. ومن ناحيةٍ أخرى فإن العمل -على الرغم من أنّ له نفس المعاني العامة لدى الجميع- قد يحقق لبعض أصحابه شعورًا أكبر بالقيمة, وتقدير الذات بسبب الترتيب الهرميّ "الهيراركي" للمهن من ناحية, ومبالغة المجتمع في تقدير بعضها على حساب البعض من ناحية أخرى. 3- العمل له أهميته الاجتماعية للفرد إلى جانب أهميته للشخصية، فهو مصدر للمكانة الاجتماعية، وبالعمل يقدم الراشد إلى الآخرين شيئًا له قيمة، سواء كان ذلك إنتاجًا أو خدمة, ويحصل على موافقة الآخرين وتعزيزهم, كما أن العمل يهيئ للراشد فرصًا كثيرة للمشاركة الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي, سواء داخل بيئة العمل "مع الزملاء والمرؤسين والرؤساء" أو خارجها، حين يكوّن الشخص علاقات صداقة جديدة مع زملاء العمل, أضف إلى ذلك أن العمل هو المصدر الرئيسي للدخل عند الكثيرين، وهو بذلك يسمح للراشد بإعالة نفسه وأسرته, وأخيرًا فإن العمل هو الوسيلة الأساسية لشغل وقت الراشدين وتنظيمه, ويحقق لهم بذلك صورة سوية للتوافق الاجتماعي, ولعلنا ندرك المغزى العميق لذلك إذا تأملنا حالات سوء التوافق الاجتماعي لدى الذين يعيشون محنة البطالة أو الذين يتقاعدون. وبسبب هذه الأهمية البالغة للعمل كانت له مكانته الرفيعة في الإسلام؛ فهو في الإسلام من ألوان العبادة, يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام:

"على كل مسلمة صدقة, قال: أرأيت إن لم يجد؟، قال: يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق، قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة المهلوف، قال: أرأيت إن لم يستطع؟، قال: يأمر بالمعروف أو الخير، قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر فإنها صدقة" رواه البخاري ومسلم. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله دائمًا من "العجز" و"الكسل", وقد وصف القرآن الكريم العمل كثيرًا بصفة الصلاح, وورد ذكر العمل الصالح في عشرات الآيات القرآنية, وهو يلي الإيمان بالله في العديد من هذه الآيات, والعمل الصالح يشمل كلَّ ما يقوم به الإنسان نحو خالقه ونحو نفسه ونحو أسرته ونحو مجتمعه ونحو الإنسانية كلها. الاختيار المهني: يتشابه اختيار الراشد لمهنته -إلى حَدٍّ كبير- مع اختياره لزوجته؛ ففي كلٍّ منهما قد توجد ضغوط أسرية، كما تحدد العوامل الاجتماعية إلى حَدٍّ ما الاختيار ودرجة الرضا عنه. والاختيار المهني، كالاختيار الزواجي أيضًا، عملية متبادلة, فكما أن كلًّا من الزوج والزوجة يدرس كل منهما الآخر قبل قرار الزواج، فإن العامل وصاحب العمل "في القطاع الخاص" أو إدارة المؤسسة "في الحكومة والقطاع العام" يتبادلان الدراسة والفحص "إلّا في حالات التعيين "الإجباري" عن طريق القوى العاملة, وكذلك فكما أن الزواج قد ينتهي نهاية غير سعيدة بالطلاق, فإن العامل قد يُفْصَلُ من عمله، أو يستقيل منه. وكالنمو الزواجي, فإن النمو المهني عملية مستمرة على مدى حياة الإنسان, فقد يبدأ التهيؤ له مع مرحلة المراهقة -وربما قبلها بقليل- ولا ينتهي بمجرد الدخول في سوق العمل. وبالمثل نشأت في كلٍّ من الزواج والعمل ضرورات عملية لإنشاء خدمات الإرشاد والتوجيه النفسي, صحيح أن خدمات التوجيه المهني أكثر شيوعًا في وقتنا الحاضر من خدمات الإرشاد الزواجي، إلّا أن الحاجة إليهما ماسة، وهي أكثر إلحاحًا في ظروف المجتمعات العربية الإسلامية المعاصرة باعتبارها تنتمي إلى العالم الثالث أو الدول النامية, والتي تعاني من البطالة وسوء الاختبار المهني من ناحية, ومن مشكلات الزواج التي تناولناها فيما سبق من ناحية أخرى. وتحتل مسألة الاختيار المهني Vocational choice محور الاهتمام في جميع الخدمات النفسية التي يجب أن تُقَدَّمَ للراشدين الصغار "ومن قبلهم المراهقين

والشباب بالطبع", وقد ذكرنا فيما سبق "الفصل الرابع عشر" إلى أن مشكلات المهنة تحتل مكانة هامة بين ما يعبر عنه الشباب من مشكلاتهم. وقد أشرنا إلى أن الأسرة تلعب دورًا كبيرًا في الاختيار المهني، ويتم ذلك من خلال عملية التطبيع الاجتماعي التي تمارسها الأسرة على أعضائها منذ طفولتهم، وبها يتعلم الصغار ويتأثرون بتوقعات الوالدين لهم بالنسبة للمستقبل، وبخاصةٍ حياتهم المهنية, وبالطبع فإن ذلك قد يؤدي إلى سوء الاختيار، وخاصةً إذا لم تتوافر لدى الشخص المتطلبات السيكولوجية للمهنة التي اختارها، وخاصة القدرات والاستعدادات وسمات الشخصية اللازمة للنجاح فيها، ولذلك حظي موضوع "الميول المهنية" بمكانةٍ هامةٍ لدى علماء النفس من أصحاب نظرية الشخصية المهتمين بالاختيار المهني، وخاصة عند الراشدين الصغار. ومن الآراء النظرية التي ظهرت في السنوات الأخيرة مرتبطة بذلك إطار هولاند "Holland 1966 1973" وقد يقترح ستة أنماط "للشخصية" وهي: 1- النمط البحثي investigative: وهو الذي تشغله كثيرًا الأفكار في ذاتها, ولا يهتم بتنفيذها أو تطبيقها في عالم الواقع, ويشعر بالحاجة إلى الفهم ويستمتع بالعمل الذي يتطلب المهام الغامضة، ويندمج في هذه المهام على حساب النشاط الاجتماعي، وهو النمط الذي ينجح في الأعمال العلمية. 2- النمط الاجتماعي social وهو الشخص الذي يظهر اهتمامًا بالآخرين, ويحتاج إلى أن ينتبه إليه الآخرون أيضًا، ولديه مهارات لفظية واجتماعية، ويتجنب الانشغال بالمشكلات المحددة, ويفضل حل المشكلات من خلال إدراك مشاعر الآخر ومعالجة الأنشطة الاجتماعية, وهو النمط الذي ينجح في الأعمال ذات الطابع الاجتماعي؛ مثل الخدمة الاجتماعية والنشاط الديني والطب والتدريس والعلاج النفسي والسلك الدبلوماسي والنشاط الرياضي. 3- النمط الواقعي realistic: وهو الشخص الذي يهتم بالعمل مع الأشياء, وعادةً ما يكون أقل اجتماعية، وقد يتسم بالعدوانية، ولديه مهارة حركية وتآرز بدني جيد، وتعوزه المهارات اللغوية والاجتماعية، ويفضل حل المشكلات العملية المحسوسة على المشكلات المجردة, وهذا النمط عادةً ما ينجح في المهن الميكانيكية والتكنولوجية. 4- النمط الفني artistic: وأصحاب هذا النمط يركزون على العواطف والانفعالات، ويتسمون بعدم الاجتماعية, ويتجنبون المشكلات الواضحة, أو تلك التي تتطلب جهدًا بدنيًّا عنيفًا، ويظهرون الحاجة للتعبير الفردي, ويفضلون التعامل

مع مشكلات البيئة من خلال الحاجة التي تظهر في صورة تعبير ذاتي, وهذا النمط ينجح عادةًَ في المهن الفنية والجمالية المختلفة "الفنون التشكيلية، الموسيقى، الرقص، الباليه، المسرح، السينما، الشعر، القصة، الرواية". 5- النمط التقليدي conventional: وهو الشخص الذي يتسم بالمسايرة، وله طابع عملي محافظ ودقيق، وتعوزه التلقائية والمرونة والأصالة "قدرات الإبداع بصفة عامة", ويفضل العمل مع الأنشطة العددية واللفظية الواضحة والجيدة التكوين، ويتجنب المواقف الغامضة, والتي قد تتضمن العلاقات بين الأشخاص والمهارات الجسمية، وهو أكثر نجاحًا في الأعمال المالية والإدارية؛ كالمحاسبة والمراجعة والسكرتارية والأعمال الكتابية. 6- النمط المقدام enterprising: ويتسم أصحاب هذا النمط بالمهارات اللغوية والقدرات الإقناعية العالية، ولديهم سمات السيطرة والمغامرة والعدوانية، ويدرك الفرد منهم ذاته على أنه قوي وقائد، ويتجنب الأعمال التي تتطلب استخدام لغة محددة, أو تحتاج إلى فترات طويلة من الجهد الذهني، ويفضل المهام الاجتماعية الغامضة، ولديه شغف قوي بالسلطة والمكانة والقيادة، وهو أكثر نجاحًا في أعمال القيادة الإدارية, وقطاع الأعمال والبيع والإعلام والفندقة والسياحة والعلاقات العامة والسمسرة والإخراج السينمائي والتليفزيوني. وقد أكدت البحوث أن كلًّا من أنماط الشخصية المهنية "كتلك التي وصفناها" والميول المهنية "كتلك التي يقيسها مقياس كيودر الشهير" تظل ثابتة لمدى زمني طويل, ومع ذلك فإن النظريات المهنية المعتمدة على الأنماط فيها بعض جوانب القصور، ولعل أهمها أنها تتسم بالتجريد والتبسيط. إلّا أننا في جميع الأحوال يجب أن نضع في الحسبان السياق الثقافي والاجتماعي الذي يتم فيه الاختيار المهني؛ فالقرارات المهنية لا يتخذها أفراد تعيش في "فراغٍ اجتماعي"، وإنما يوجد دائمًا تفاعل ديناميي بين الشخص والبية الثقافية والاجتماعية المحيطة به "Schaie Willis 1986", وقد أشرنا إلى ضغوط الوالدين من قبل، ونشير الآن إلى ضغوط الأسرة الجديدة التي يكوّنها الراشد، فقد تحدد التزاماته إزاءها الكثير من نشاطه المهنيّ، ناهيك عن ضغوط المجتمع الكبير والثقافة العامة التي تؤثر في الاتجاهات المهنية للناس, ولعل أكثر الأمثلة وضوحًا على ذلك "الاتجاه نحو العمل اليدوي"، الذي كان حتَّى وقت قصير سالبًا عند الراشدين المصريين, ثم تحوَّلَ إلى القطب الموجب في السنوات الأخيرة مع ما يحصل عليه الحرفيون -في الوقت الحاضر- من دخول كبيرة تتجاوز

المهن الأخرى "وخاصة المهن الجامعية" بكثير, ومن الأمثلة الأخرى الترتيب الهرمي التراتبي للتعليم الجامعي "المرتبط -في جوهره- بعالم العمل"، فأوصاف مثل كليات القمة والسفح والقاع -بالرغم مما فيها من إيذاءٍ للمشاعر، وسوء إدراكٍ لقيمة العمل- إلّا أنها تتضمن الضغوط الثقافية الاجتماعية التي أشرنا إليها. تطور الحياة المهنية: تتوافر -في الوقت الحاضر- نظريات كثيرة حول النموّ المهني عبر الحياة، وسوف نقتصر على نظريتين منها, هما نظرية سوبر, ونظرية ليفنسون. وتتلخص نظرية دونالد سوبر Donald Super في النمو المهني, والتي اقترحها عام 1957, وعدَّلَهَا عام 1963, أن الناس يمرون بخمس مراحل من نموهم المهني هي: 1- أثناء المراهقة "14-18سنة" تتبلور أفكار المراهق حول العمل, وفي هذا الوقت من المحتمل أن يتعرض الشخص لمجالات مهنيةٍ معينةٍ من خلال وسائل الإعلام أو التعليم المدرسي أو الأصدقاء أو الأقارب، أو من خلال خبرة مباشرة عند القيام بأعمالٍ لبعض الوقت "أثناء الإجازة للطلاب مثلًا", وخلال ذلك يقارن المراهق بين مختلف المجالات المهنية وقدراته ومهاراته وميوله وخصائص شخصيته وغيرها. 2- أثناء المرحلة التي يسميها هذا الكتاب بلوغ السعي أو الشباب "18-21سنة", وتتضمن بعض التفضيل المهني وبداية التدريب على مهنة معينة, وغالبًا ما يشمل ذلك تربية متخصصة أو نوعية؛ كتلك التي توفرها مراكز التدريب المهني لطلاب ما بعد المرحلة الثانوية, أو برامج الكليات المهنية "كالطب والهندسة والتربية والزراعة"1. 3- مرحلة الدخول إلى عالم العمل لأول مرة "21-24سنة", وممارسة التدريب الذي تلقاه المرء عمليًّا, وتُعَدُّ هذه الخطوة تغيرًا جوهريًّا في إدراك الذات لدى بعض الناس؛ فمع القيام بدور "الشخص العامل" يبدأ كثيرون ممن في هذا السن في إدراك أنفسهم كراشدين لأول مرة. 4- مرحلة استقرار العمل "24-35" وفيها يزداد استقرار الشخص في مجال مهنته, ويبدأ في تنمية مكانته المهنية من خلال الترقي فيها.

_ 1 لعل القارئ يلاحظ أن بعض الكليات الجامعية ليست لها طبيعة مهنية واضحة, ونخص بالذكر هنا كليات الآداب والعلوم، وتمثل هذه الكليات أزمة "هوية مهنية" لطلابها.

5- مرحلة البلورة المهنية consolidtion والتقدم المهني "advancement 35-وما بعدها" وتمتد هذه المرحلة في أكبر مدى زمني في دورة الحياة المهنية للشخص، كما أن الشخص فيها يصل إلى قمة كفاءته, ويحرز مستوى رفيعًا من القيادة أو السلطة. أما النموذج الذي يقترحه دانيال ليفنسون Danial Levinson فقد ظهر لأول مرة عام 1977، وهو أقل تحديدًا من نموذج سوبر, بالإضافة إلى تركيزه على وجود فترات متعددةٍ يظهر فيها ما يسميه "إعادة التقويم", وفي رأيه أن من العبث القول: إن المرء منذ نهاية مراهقته يختار مهنة معينة اختيارًا نهائيًّا, ويستقر فيها ويستمر يؤديها طوال حياته بعد ذلك. ويتلخص نموذج ليفنسون في أنه مع الرشد المبكر يدخل المرء مرحلة يحاول فيها الاستقرار على مهنة أو على اتجاهٍ مهنيٍّ معينٍ يتفق مع ميوله وشعوره بهويته, وفي هذا يستطلع الاحتمالات المختلفة في عالم العمل، وفي ذات الوقت يحاول المقابلة بين ما يجده وبين إحساسه بإمكاناته هو, وتكون مهمته تكوين بنية لحياته تربط بين عالم العمل من ناحية, وإدراكه لذاته من ناحية أخرى, وهذه هي مرحلة الاختيارات المؤقتة. وخلال الفترة من 28-32 سنة يمر كثير من الناس بفترة انتقالية, أي: أزمة إعادة تقويم؛ فبالنسبة لاختياره السابق قد يكتشف أنه تجاهل بعض مكونات ذاته، وهذا الجوانب من الذات تظهر على السطح حينئذ, ويكون عليه التعامل معها, كأن يكشتف الطبيب أنه أديبٌ فيتحول إلى العمل الصحفي, وبالطبع فإن بعض الناس قد يجدون أن المطابقة بين ما يقومون به من عملٍ وبين هويتهم ملائمة, وبالتالي يلتزمون بعملهم على نحوٍ أشدٍّ, ويرى ليفنسون أنه إذا لم يحدث مثل هذا الاقتناع عند حوالي سنة 34سنة، فإن الفرص تكون قليلة لأن تحقق الحياة المهنية للراشد رضًا عن عمله وعن هويته المهنية. وفي الأغلب يستقر الراشد في مهنته مع بداية الثلاثينات من العمر, فهو عندئذ يكون على درجة من الالتزام العميق بمسئوليات العمل والأسرة، ويكون عليه تصميم الخطط والأهداف طويلة المدى لحياته وتنفيذها, وعلى الرغم من أنه يشعر بالاستقلال في عمله، إلّا أنه يكون -في الواقع- عرضة لكثيرٍ من القيود التي تفرضها قواعد العمل وأصول المهنة, وقد يدفعه ذلك إلى الانتقال إلى المرحلة التالية, وهي مرحلة تحقيق الذات المهنية. وتحدث مرحلة تحقيق الذات المهنية ابتداءً من أواخر الثلاثينات, وحتى أوائل

الأربعينات من العمر, وحينئذ يظهر المرء الحاجة إلى تدعيم المجتمع له في دوره المهني، أي: حاجته لأن يصبح قائدًا أو رئيسًا أو مديرًا في عمله, وهذه المرحلة تنتهي بأزمةٍ أخرى, وهي أزمة التحول في وسط العمر عند حوالي سنة40-45سنة, وسواء أحصل المرء أم لم يحصل على الاعتراف الذي يسعى إليه, ويشعر أنه يستحقه, فإنه يمر بمرحلة إعادة تقويم, وحينئذ يكون عليه إما أن يعيش في سلامٍ مع نفسه, أو يغير بناء حياته تغييرًا جوهريًّا, وبالطبع قد ينتج عن هذا التحول نموٌّ شخصيٌّ كبيرٌ أثناء وسط العمر، أو طور بلوغ الأشد، وهو موضوع الفصل التالي.

عمالة الصغار وبطالة الكبار

عمالة الصغار وبطالة الكبار: لعلنا يجب أن ننبه إلى أن نموذج سوبر وليفنسون في النمو المهني، لهما طابعهما الثقافي، ولا يقبلان النقل أو الانتقال إلى الثقافات الأخرى، ومنها الثقافة المصرية، فتحديد سن الثامنة عشرة مثلًا بداية للحياة المهنية الحقيقية، يتفق مع نظام اجتماعي يعتبر التعليم الأساسي شاملًا لمرحلة ما قبل التعليم الجامعي "أي: حتى نهاية المرحلة الثانوية"، وهو حال التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن ناحية أخرى، نود أن ننبه أيضًا إلى أننا أشرنا إلى أن العمل هو أهم مؤشرات الرشد، ولعل هذا هو الافتراض الأساسي وراء اعتبار سوبر سن الحادية والعشرين "وهو سن الرشد في معظم النظم القانونية المعاصرة"، هو العمر الذهبي للدخول الفعلي في عالم العمل, والسؤال الآن: ماذا عن تطور الحياة المهنية في ثقافتنا المصرية؟ وللإجابة على هذا السؤال قام فؤاد أبو حطب "1996" بدراسة تناول فيها قضيتين من أخطر قضايا المجتمع المصري المعاصر، هما: عمالة الصغار، وبطالة الكبار. عمالة الصغار: لقد شغلت قضية عمالة الأطفال الاهتمام على المستوى الدولي، عقب إنشاء منظمة العمل الدولية عام 1919، حيث توالت -منذ ذلك الحين- الاتفاقيات الدولية، التي تنظم اشتغال صغار السن في الأنشطة المختلفة, وابتداءً من عام 1973، أصبح سن الخامسة عشرة، هو الحد الأدنى لتشغيل الأحداث في كافة الأنشطة الاقتصادية، وإن أجازت تخفيضه إلى الرابعة عشرة في الدول النامية، وحرَّمَت تشغيل الأحداث الذين لم يتجاوزوا الثامنة عشرة، في الأعمال التي تشكل خطورة على الصحة أو الأخلاق. وقد أجازت منظمة العمل الدولية للسلطات الوطنية منح تراخيص عمل،

للأحداث فيما بعد 13-15عامًا، للقيام بالأعمال الخفيفة، بشرط عدم الإضرار بصحة الطفل، أو نموّه الجسمي والعقلي، أو عرقلة مواظبته على الدراسة في مرحلة التعليم الأساسي. ومع ذلك، فإن تقارير منظمة العمل الدولية، تشير إلى التزايد المستمر في ظاهرة عِمالة الأطفال، وخاصةً في الدول النامية، ومن ذلك التقرير الصادر عام 1988، الذي يقدر عدد الأطفال العاملين تحت السن القانونية، بحوالي مائة مليون طفل، معظمهم من الدول النامية، ويرجع ذلك بالطبع إلى ما تعانيه هذه البلدان من مشكلات اجتماعية واقتصادية وتعليمية صعبة. وقد أُجْرِيَتْ في مصر دراسة هامة، حول عِمَالة الأطفال، قام بها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، بالاشتراك مع منظمة اليونيسيف، صدرت عام 1991, وفي هذه الدراسة، قُدِّرَتْ أعداد الأطفال المصريين العاملين من سن 6-15عامًا، بحوالي مليون ونصف مليون طفل، كما تشير الإحصاءات الرسمية, ويذكر التقرير أن هذه الأعداد تتزايد بشكلٍ مُطَّرِدٍ، بلا تخطيط أو توجيه، وساعد على ذلك مجموعة من العوامل، لعل أهمها: 1- التضخم وارتفاع الأسعار. 2- هجرة العمالة المدربة إلى سوق العمل العربية. 3- التسرب من التعليم. 4- تهافت أصحاب الورش الصغيرة على تشغيل الصغار. ويرجع تفضيل أصحاب الورش الصغيرة لتشغيل الصغار دون الكبار، إلى انخفاض أجورهم، وبساطة ما يقومون به من أعمال، تتناسب وطاقتهم المحدودة وغير المدربة "المركز القومي للبحوث الاجتماعية1991، ص10". وقد أجريت الدراسة على عينة من صغار السن، الذين يعملون في الورش الصناعية الصغيرة، من الذكور والإناث، ومن الفئة العمرية 12-15سنة، وهي الفئة التي يمنع القانون اشتغالها بالأعمال ذات الطبيعة الشاقة, وقد اختيرت العينة من القاهرة الكبرى بمحافظاتها الثلاث: القاهرة والجيزة والقليوبية، ومن الريف والحضر. وفي صناعاتٍ تمثل استغلالًا للطفل، وخطورةً عليه في سنه المبكرة، وقورنت بعينة ضابطة. وقد كشفت الدراسة عن أهم العوامل المؤدية لعمالة الأطفال وهو: الفشل في التعليم الأساسي "80%" أو ممن لم يلتحقوا به أصلًا "20%".

ولعل من أهم النتائج النفسية التي توصل إليها البحث، أن الأطفال العاملين يعانون من سوء التوافق الاجتماعي، وسوء التوافق العام، بالمقارنة بالعينة الضابطة, وفَسَّرَ الباحثون ذلك بأن هؤلاء الصغار "يلعبون أدوارًا اجتماعية، تحتاج إلى متطلباتٍ لم تخلق أساسًا لذوي الأعمار الصغيرة، كما أن إحساسهم بالمسئولية الاجتماعية والاقتصادية، عن أسرٍ تحتاج إلى دعمهم الماديّ، قد خلق نوعًا من الصراع بين رغبتهم في أن يعيشوا حياةً مناسبة لحياة الصغار، بما فيها من لعبٍ وانطلاق، وممارسة هواية محببة إلى نفوسهم من يماثلون في العمر, وصراعٌ آخر يتمثل في كونهم يتحمَّلون مهام العمل، على ما فيها من تبعاتٍ ومشاقٍ" المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، 1991، ص84. إلّا أن الطريف حقًّا أن نشير إلى أن هؤلاء العاملين للصغار، يشعرون بالرضا عن أنفسهم لمساعدة الأهل, فقد أكد ذلك حوالي 92% من أطفال العينة، ويتفق ذلك مع ما أظهروه من توافقٍ شخصيٍّ، لا يختلف عن أطفال العينة الضابطة. وعلى الرغم من أن هذه النتيجة قد تبدو إيجابية، إلّا أنها يجب ألّا تصرفنا عن النتائج السلبية في معظمها، التي كشف عنها هذا البحث، وأهمها -من الناحية النفسية- نقص ذكاء الأطفال الصغار العاملين، بالمقارنة بأطفال العينة الضابطة، والذي يُعَدُّ -في ذاته- مؤشرًا على سوء بيئة العمل لهؤلاء الأطفال، ونقص القدرة والدافعية لمواصلة التعليم, وانخفاض المستوى الاقتصادي والثقافي للبيئة الأسرية والمجتمعية المباشرة لهؤلاء الأطفال. أما النتيجة التي تخص رضا الأطفال العاملين عن أدائهم وتكيفهم الشخصي، فلعلها تكشف لنا عن المردود السيكولوجي للعمل -حتى في أصعب الظروف- على الذات، ويمكن استثمار هذه النتيجة في تطوير منظومة التعليم، بحيث يصبح "للتمهين" وجود حقيقي, ولعلَّنَا لا نكون قد نسينا أن فلسفة التعليم الأساسي، هي -في جوهرها- توفير فرص "للتهيئة المهنية" للأطفال. بطالة الكبار: لعل من أهم الظواهر التي تكشف لنا عن قيمة العمل، وموضعه في حياة الإنسان، دراسة سيكولوجية اللاعمل، ونخص بالذكر حالتيين، هما البطالة unempolyment والتقاعد retirement.

ونتناول في هذا القسم سيكولوجية البطالة، ثم نتناول سيكولوجية التقاعد في الباب التالي: ومن تحصيل الحاصل، أن نقول: إن البطالة ذات أثر خطير، ليس فقط على الفرد، وإنما على المجتمع بأسره، ولم يشعر الناس بأثرها إلّا في المجتمع الصناعي الحديث، سواء أكان هذا الأثر اقتصاديًّا أم سيكولوجيًّا. ونود أن ننبه -منذ البداية- إلى أن البطالة تحدث في ظروف الرخاء الاقتصادي، كما تحدث في ظروف الشدة الاقتصادية، إلّا أن أثرها -في ظروف العسر- أشد وأقسى؛ ففي دراسة أجريت في الولايات المتحدة أكدت أن البطالة لم تفارق المجتمع الأمريكي طوال القرن العشرين، ولم يقل معدلها -في جميع الأحوال- عن 50% من قوة العمل, ويشمل تعريف البطالة هنا أولئك الذين يتركون العمل لفتراتٍ قصيرةٍ عند تغيير العمل، وأولئك اللذين يجبرون على ترك العمل فترات أطول، بسبب التغيرات الموسمية، وأولئك الذين لا يدخلون سوق العمل أصلًا، بسبب الانكماش الاقتصادي. وقد تناول علماء النفس ظاهرة البطالة بالدراسة والبحث، واقترحت نماذج نظرية لتفسير سلوك الشخص المتعطل، ومن أهم هذه النماذج نموذج بلم Blum، الذي يقترح أن سلوك البطالة يمر بثلاثة مراحل أساسية، هي: 1- شعور بالصدمة، حتى ولو كان هناك تحذير مبكر بفقدان العمل، أو عدم توافر فرصة, وفي هذه المرحلة، يسترجع المرء متوالية الأحداث التي أدت به إلى البطالة، ويبرر الحكمة في ترك العمل، أو عدم الدخول فيه أساسًا "سوء بيئة العمل، سوء التعليم، إلخ". وسرعان ما يستقر على رأي، أنه يمكنه الاستفادة من إجازة أو راحة، هو في حاجة إليها "بعد فترة عمل أو تعليم طويلة", ويتبع ذلك تقدير لقدراته، وصياغة خطط للسعي نحو الحصول على عمل. 2- البحث الجدي والنشط عن عمل، وعادةً ما يبدأ معظم المتعطلين في البحث عن عملٍ أفضل من عملهم السابق، أو البحث عن عملٍ مشابهٍ له إذا أعيتهم الحيل واستمرت البطالة, ومع مرور الوقت وضغط الحاجة إلى العمل يبدأون في البحث عن أيّ عمل, وفي هذه الفترة، يعاني المرء من مشاعر الفشل والإحباط والتعاسة، ومع ذلك فإنه لا يفقد الأمل في النجاح.

3- المرحلة النهائية أو مرحلة الانهيار، فمع استمرار الفشل في الحصول على عمل، بعد طول البحث عنه، يبدأ المرء في الوقوع في أسر مشاعر القلق والتشاؤم وفقدان الأمل. وبعض الأشخاص يمرون بهذه المراحل بسرعة أو ببطء، ويتوقف ذلك على خبرات النجاح والفشل في كل مرحلة منها، كما أن المشاعر السلبية تزداد لدى أولئك اللذين لديهم خبرات نجاح في الماضي "مهنيًّا أو تعليميًّا"، أكثر من خبرات للفشل، ولعل هذا يدعم الدعوة إلى التزام الدولة بتعيين أوائل الخريجين. ماذا عن الآثار النفسية للبطالة؟ فيما يلي، نلخص نتائج البحوث التي أجريت في هذا الصدد: 1- فقدان الشعور بالأمن اقتصاديًّا وسيكولوجيًّا. 2- التوجه أولًا نحو لوم الذات على الحال التي عليها المتعطل، ثم الانتقال إلى تكوين اتجاهٍ عدوانيٍّ نحو الظروف التي أنشأت هذه الحال. 3- المعاناة من مشكلة معالجة الوقت، فالشخص العامل تتمركز أنشطته اليومية حول العمل الذي يستغرق القسط الأكبر من وقت نشاطه، أما المتعطل فإن الوقت يُعَدُّ عبئًا ثقيلًا عليه. 4- اختلال النظام اليومي للحياة الأسرية، فتضطرب مواقيت النوم واليقظة والأكل، مع شعور بالضياع والخسران. 5- السعي نحو إخفاء حالة التعطل في البداية، فيُلَاحَظُ على المتعطل أنه يغادر منزله في موعد العمل اليومي، يعود إليه في موعد العودة المعتاد، ويستغل وقته إما في البحث عن عمل، أو التجول العشوائي, ومن الطريف أن البحوث التي أجريت على المتعطلين في بريطانيا -أثناء فترة الانكماش الاقتصادي الكبير "في أوائل الثلاثينات"- لوحظ أنهم لم يكونوا يترددون على المقاهي والبارات، وهي خالية خلال ساعات العمل، وإنما في أوقات الذروة، مع خروج العاملين من أعمالهم. 6- إنفاق العاطلين يتم بطريقة غير معقولة، ومعظم الإنفاق يكون على الكماليات، وهو نوعٌ من سلوك المجازفة أو المخاطرة تتسم به جميع الحالات الحرجة "المرضى، المستويات الاقتصادية/ الاجتماعية المنخفضة" والتي تسمى at risk cases.

7- اللجوء إلى الخيال وأحلام اليقظة، كحيلٍ دفاعية، أو الهرب من الموقف، من خلال الأمراض السيكوسوماتية, وقد يلجأ البعض إلى المصارف غير القانونية، وقد يتحول البعض إلى التطرف في السلوك، ونادرًا ما يلجأون إلى الانتحار أو الإدمان, ومع ذلك فإن أغلبية المتعطلين، يظلون مواطنين صالحين. 8- زيادة حِدَّةِ البطالة لدى عضو الأسرة المسئول عن الإنفاق عليها، فعادةًَ ما يشعر بالمشاعر السلبية "كالإكتئاب" إذا تغيرت اتجاهات المحيطين به من الأهل والأقارب والأصدقاء، من التعاطف والفهم، إلى النقد والرفض "باعتباره كاسب لقمة العيش". 9- تكثيف العادات اليومية للمتعطل، والتي تُعَدُّ تغيرًا سيكولوجيًّا هامًّا، فالقارئ -أثناء العمل- يزداد قراءة أثناء التعطل، والمتدين يزداد تدينًا، وهكذا. 10- انعكاس البطالة على شعور الأطفال بعدم الأمن والقلق، مما ينعكس -بدوره- على رب الأسرة المتعطل، على نحوٍ يؤدي إلى خفض معنوياته، وضعف سلطته الوالدية. 11- من أهم التغيرات في شخصية المتعطل، انخفاض الروح المعنوية، ونقص التوازن الانفعالي، وزيادة التعصب والتحامل "مع ظاهرة كبش الفداء", وزيادة مشاعر النقص.

الفصل السابع عشر: طور بلوغ الرشد "وسط العمر"

الفصل السابع عشر: طور بلوغ الرشد "وسط العمر" مدخل ... الفصل السابع عشر: طور بلوغ الأشد:"وسط العمر" مع دخول الفرد في سن الأربعين يبدأ طورٌ جديدٌ في النمو الإنساني يُسَمَّى في الكتابات المتخصصة باسم طور الرشد الأوسط أو وسط العمر, والذي يمتد حتى بلوغ الراشد سن التقاعد, وقد آثرنا أن نطلق على هذا الطور التسمية القرآنية البليغة "بلوغ الأشد"1. وقد ورد لفظ "أشد" في بعض آيات القرآن الكريم دون تقييدٍ بعمر معين, يقول الله تعالى في موضعين من كتابه العزيز: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [غافر: 67] . {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [الحج: 5] ثم ورد مقيدًا بسن الأربعين مرةً واحدةً في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] . وقد نقل القرطبيّ عن الحسن قوله في ذلك أن بلوغ الأشد هو بلوغ الأربعين من العمر, والأشد هو بلوغ القوة التي قد تكون في البدن، وقد تكون في المعرفة بالتجربة، ولا بُدَّ من حصول الوجهين, ولهذا نجدنا في هذا الصدد لا نوافق على ما أوردته المعاجم العربية في تعريف الأشد بأنه ما بين الثماني عشرة سنة إلى الثلاثين من العمر؛ ففي هذا يتداخل بلوغ الأشد مع بلوغ السعي وبلوغ الرشد، وهي كلها مفاهيم قرآنية لا بُدَّ أن يكون بينها فوارق واضحة. ومفهوم بلوغ الأشد يتطابق مع مفهوم نمائي آخر هو الكهولة2، مع

_ 1 الأشد على وزن أفعل، واحد لا جمع له، وقيل مفرده شدّ كفلس وأفلس، وأصله من شد النهار, أي: ارتفع، يقال: أتيته شد النهار ومد النهار, وكان سيبويه يقول: مفرده شدة، فيقال: بلغ الكلام شدته، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل. 2 تعرف المعاجم العربية الكهل بأنه من جاوز الثلاثين إلى نحو الخمسين, وجاء في لسان العرب: الكهل هو الرجل إذا خَطَّه الشيب ورأيت له بجالة, وفي الصحاح: الكهل من الرجال الذي جاوز الثلاثين وخَطَّه الشيب، وعند ابن الأثير: الكهل من الرجال من زاد على الثلاثين سنة إلى الأربعين، وقيل: هو من ثلاث وثلاثين إلى تمام الخمسين, وقال الأزهري: وقيل له كهل حينئذ لانتهاء شبابه, وكمال قوته.

اختلافنا مرةً أخرى مع التعريف الذي تقدمه المعاجم لهذا المصطلح, بأن الكهل من كانت سنون عمره بين الثلاثين والخمسين, والأصح في رأينا أن تكون بداية بلوغ الأشد "وهو طور الكهولة أيضًا" في سن الأربعين كما حدده القرآن الكريم, ونهايته مع مطلع الشيخوخة. ولعل ما يؤيد التطابق بين الأشد والكهولة ما جاء في قول الشاعر سحيم بن وثيل "على الرغم من اختلافنا معه في الحد الأدنى الزمني الذي وضعه": أخو خمسين مجتمع أشدى ... ونجني مداورة السنين ويؤيده مرة أخرى قول الطبري في تفسيره للقرآن الكريم, من أن انتهاء الكهولة فيها مجتمع الأشد، أي: قمته وذروته. وتجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد مؤشر واحد يكفي وحده للدلالة على الانتقال من طور الرشد المبكر إلى طور بلوغ الأشد "الرشد الأوسط"، وإنما يوجد عدد من المؤشرات تتسم بأنها فردية وشخصية, وتختلف من شخص إلى آخر, ولعل أهم هذه المؤشرات ما يلاحظه المرء على جسمه من علامات تدل على التقدم في السن, ومنها ما يقع في نطاق الأسرة والعمل من أحداثٍ تنبه الشخص إلى أنه لم يعد "صغيرًا" أو "شابًّا"، كما كان من قبل, ومن ذلك شغل وظيفة "قيادية" في مجال العمل، أو وفاة والديه, فيتحول في لحظة واحدة ليصبح منتميًا إلى "جيل الكبار" في الأسرة، أو حين يصير الأبناء مراهقين أو شبابًا، ففي ذلك علامة مؤكدة على أنه لم يعد صغيرًا؛ لأنه يوجد جيل جديد أصغر منه، وقد يكون الأكثر دلالة على هذا التحوّل النمائي ميلاد حفيد، أي: ظهور الجيل الثالث في الأسرة.

الخصائص العامة

الخصائص العامة: تلخص هيرلوك "Hurlock 1980" الخصائص العامة لطور الرشد الأوسط, أو ما نسميه بلوغ الأشد على النحو الآتي: 1- يُعَدذُ هذا الطور -بعد مرحلة الشيخوخة أو الرشد المتأخر- أكثر الأطوار إفزاعًا للإنسان، فعادةً لا يعترف الراشد أنه بلغه إلّا إذا أجبرته "المرة" أو "تاريخ الميلاد" على هذا الاعتراف, ويرجع هذا إلى ما يشيع عن هذه المرحلة من أفكارٍ سلبيةٍ وصورٍ نمطيةٍ غير ملائمة، ومنها نقصان الحيوية الجسمية والجنسية وفقدان القدرة على الإنجاب، والتركيز على أهمية الشباب في الثقافات المعاصرة، ومن عوامل شيوع هذه المعتقدات نقصان المعلومات الصحيحة عن هذه المرحلة وعدم التهيؤ لها، فكما يخشى الأطفال والآباء البلوغ وما يصاحبه من تغيرات جسمية وسلوكية، يخشى الراشدون والراشدات مرحلة وسط العمر, وبالطبع فإن هذا الخوف يمكن اختزاله بالمعلومات المسبقة والإعداد الجيد. 2- كما أن البلوغ هو فترة انتقال من الطفولة إلى المراهقة والرشد، فإن وسط العمر هو الفترة التي يتخلّى فيها الفرد عن الخصائص الجسمية والسلوكية للرشد، ويبدأ في الدخول في عهدٍ جديدٍ تنشأ فيه خصائص جسمية وسلوكية جديدة، ومع هذا التغيرات يبدأ الراشد في تعلُّمِ أنماطٍ سلوكية جديدة، ولعب أدوار مختلفة. وهو كمثل البالغ أيضًا يتوقع منه أن يفكر ويسلك على نحوٍ مختلفٍ عَمَّا كان يفعل حين كان أصغر سنًّا, ومثل البلوغ أيضًا, فإن تغيرات الرشد الأوسط لها تضمينات انفعالية هامة لدى كلٍّ من النساء والرجال. 3- طور وسط العمر يتطلب إعادة تكيف للتغيرات الجسمية وللأدوار المتغيرة, ولو أن التكيف لبعض الأدوار الجديدة يكون شاقًّا، ومن ذلك التكيف للاقتراب من التقاعد، ويظهر هذا خاصَّةً في منتصف الخمسينات من العمر, ويكون على الفرد أن يعوّض فقدان أحد الأدوار بنشاطٍ أكبر في الأدوار الأخرى, أو بتنمية دور جديد محل الدور المفقود, وأكثر الأدوار تعرضًا للتغير خلال طور وسط العمر -ومع اقترابه من نهايته- أدوار الوالدية والزواج "بوفاة رفيق الحياة في بعض الأحيان", وتعويض هذه الأدوار أو إكمالها أو إحلال أدوار جديدة محلها يتخذ صورًا شتَّى من التكيُّف؛ مثل التقليل من أهمية بعض الأدوار؛ بحيث يتناقص تدريجيًّا ما تستغرقه من وقت الراشد واهتمامه، وزيادة الاهتمام بالأدوار التي كانت مهملة في الماضي مثل دور الوسيط في العلاقات العائلية، والمنسق لأنشطة الأصدقاء، والمنظم للأنشطة التطوعية "جمع التبرعات مثلًا" وغيرها. وتغيير الأدوار ليس من المسائل السهلة, وخاصةً بعد أن يكون الفرد قد لعب هذه الأدوار لفترة طويلة نسبيًّا من الزمن، وتعلم أن يشتق منها الرضا والإشباع. فالتكيف لمرحلة وسط العمر يتطلب مرونة؛ بحيث يمكن للفرد أن يتحوّل إلى الأدوار الجديدة, إلّا أن ما يعوق هذا التوافق -أحيانًا- أن نجاح الفرد في أحد أدواره القديمة قد يقوده إلى التصلب والجمود، مما يجعل التوافق لدور جديد صعبًا, كما أن الشخص الذي لعب في الماضي عددًا محدودًا من الأدوار, يكون أقل مرونة من شخص آخر تعددت أدواره وتنوعت، وتعلم من الخبرة أن يشتق رضاه من أدوار مختلفة، وفي هذه الحالة يكون التحول إلى دور جديد مسألة هينة, ولتيسير عملية التوافق لدور جديد يمكن للمرء أن يفعل ما يوصي به هافيجهرست بأن "يسحب رأس ماله الانفعالي من أحد الأدوار السابقة, ويستثمره في دور جديد"

"Havighurst 1954". ومع تغير الأدوار يتطلب الأمر أيضًا التوافق للتغيرات في أنماط الحياة، ومن ذلك مثلًا: أن البيت الذي كان في الماضي مزدحمًا بالأبناء حينما كانوا صغارًا، أصبح الآن كبيرًا وخاويًا نتيجة استقلال الأبناء -الذين صاروا راشدين- بحياتهم الجديدة, لقد "خلا العش"، كما تقول هيرلوك، مما قد يتطلب الانتقال إلى مسكنٍ أصغر، وربما إلى حيٍّ جديدٍ إذا سمحت الظروف بذلك. 4- طور وسط العمر هو وقت الإنجاز Achievement؛ ففيه يصل المرء إلى قمة الأداء, ويجني ثمار سنوات الإعداد الطويل, والعمل الشاق في المراحل والأطوار السابقة، وفيه يكون المرء قد حصَّلَ قدرًا كافيًا من الخبرة من خلال التعليم المستمر "إلّا في حالة الأميين", والعمل والعلاقات الإنسانية, مما يهيئ له قدرة على الحكم الصحيح أو التقويم الجيد للعلاقات الاجتماعية, كما أن مركزه المالي والاجتماعي يكون قد تدعم، ويبدأ على الأقل في إدراك المستقبل والأهداف التي يسعى إليها بوضوح, وفي ذلك يقول ورنر Werner أنه "لو صاحب هذا الاستقرار صحة جيدة فإننا نستطيع القول أن الحياة تبدأ في سن الأربعين. وهكذا يمكن أن توصف مرحلة وسط العمر بأنها قمة منحنى حياة الإنسان، ليس فقط من الناحية المالية والاقتصادية والنجاح الاجتماعي, وإنما من حيث السلطة والمكانة أيضًا, ويتم الوصول إلى هذه القمة عادةً بين الأربعين والخمسين، إلّا أن متوسط عمر الإنجاز يختلف تبعًا لنمط الإنتاج الابتكاري، وكيف هذا الإنتاج، والعمر الذي بدأ فيه المرء حياته المهنية، وغير ذلك من العوامل, ومن الملاحظ أن معدل الإنتاجية الجيدة في المجالات المختلفة لا يتغير كثيرًا في هذه المرحلة، كما أن التدهور يكون تدريجيًّا, إلّا أن ما يلفت النظر حقًّا أن الإنتاج ذا المستوى الرفيع يتناقص في عمر مبكر، وسرعة تناقصه تكون أكثر تزايدًا من الإنتاج ذي المستوى الأقل, وتؤكد البحوث التي أجريت في الولايات المتحدة "Hurlock 1980" أن الإنتاج الابتكاري للمهندسين وغيرهم من التكنولوجيين يصل إلى قمته في حوالي سن الأربعين, ثم يتناقص بسرعة حتى سن الخامسة والستين. وفي دراسة أجريت على الأنشطة العلمية لعلماء النفس, أوضحت أن أعلى معدلات الإنتاج "كما يتمثل في النشر العلمي" يتم عندهم في الثلاثينات والأربعينات, مع هبوطٍ واضح في الخمسينات، وخلال الستينات لا يتعدَّى مقدار المنشور نصف ما ينشر في المراحل العمرية السابقة. ومنتصف العمر في الفترة الذي تُعَدُّ فيها القيادة في العمل هي مكافأة

الإنجاز، فمعظم القيادات الإدارية والصناعية والمهنية تكون في العادة في الخمسينات من العمر، وهذا يعني انقضاء أكثر من عشر سنوات بين وصول الفرد إلى قمة الإنجاز "بلوغ الأشد في الأربعين" وقمة الاعتراف بهذا الإنجاز, والسبب في ذلك أن المنظمات تريد قائدًا كون مكانته من خلال إنجازاته, ويمكنه بهذا أن يحوز الاحترام من خلال العلاقات الاجتماعية، وفي ذلك يقول ليهمان "Lehman 1953": "إن الشروط الجوهرية للابتكارية والأصالة, والتي يمكن أن تؤدي إلى الإنجاز الشخصي إنما تأتي مبكرةً بكثير عن تلك التي تتطلبها المهارات الاجتماعية التي تسهم في القيادة والنبوغ, والتي عليها أن تتأخر ليس انتظارًا لاستبصار القائد في نفسه، وإنما لاستبصار المجتمع فيه".

النمو الجسمي

النمو الجسمي مدخل ... النمو الجسمي: لعل أكثر العلامات وضوحًا على التغيرات الجسمية التي تطرأ في طور بلوغ الأشد تلك التي يدركها الآخرون، والتي تظهر على السطح الخارجي للجسم؛ فالجلد يفقد بعض مرونته مما يؤدي إلى ظهور التجاعيد فيه, بالإضافة إلى فقدان هذه المرونة في أجزاءٍ أخرى من الجسم, كما يبدأ الشعر في الخفة مع مطلع هذا الطور, ويتحول إلى اللون الرماديّ، وهو مقدمات الشيب, وتزداد نسبة وزن الجسم التي ترجع إلى الدهنيات بشكلٍ واضحٍ, سواءً لدى النساء أو الرجال، على الرغم من أن مشكلة السمنة تكون أكثر حدة لدى النساء. وتقلّ القوة العضلية بشكلٍ مستمر، ويكون معدل الضعف بطيئًا في البداية, ثم يتزايد تدريجيًّا طوال هذا الطور, وبالطبع فإن هذا المعدل تزداد سرعته بعد ذلك في المرحلة التالية من حياة الإنسان "أي: الشيخوخة والهرم", وقد حسب بعض الباحثين "Wolman 1982" معدل التناقص في القوة العضلية بين سن 30، 80 سنة فبلغ 42%, وهذا لا يعني أن الإنسان في الطور يكون عاجزًا عن أداء الأنشطة التي تتطلب جهدًا عضليًّا؛ فالأشخاص الذين تعودوا على العمل الجسميّ سوف يستمرون في إنتاجيتهم حتى في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، إلّا أن ذلك قد يتطلب وقتًا أطول. ومع التقدم في العمر وخاصةً مع بلوغ نهاية هذا الطور يلاحظ انخفاض ملحوظ في كفاءة التنفس, وخاصةً عند الجري أو القفز أو التسلق, ويظهر ذلك خاصة لدى الأشخاص ذوي الوزن الزائد, أو الذين يعانون من بعض أمراض الجهاز التنفسي أو الجهاز الدوري, وخاصةً أمراض القلب وتصلُّب الشرايين وكلاهما

شائع في أواخر طور وسط العمر. ويلاحظ أيضًا التغير في وظائف الحس؛ فالقوة البصرية تصل إلى قمتها في الرشد المبكر, وتظل مستقرةً نسبيًّا حتى العقد الرابع من العمر، وبعد ذلك يحدث هبوط فيها يتسم بأنه بطيء ولكنه مستقر, وفي جميع الحالات تقريبًا يمكن التغلب على مشكلات الدقة البصرية وتصحيح الضعف باستخدام النظارات والعدسات اللاصقة. ويلاحظ أن حجم إنسان العين يتناقص ابتداءً من سن الخمسين, مما يؤدي إلى قلة مقدار الضوء الذي يدخل العين, وهذا يعني أن الشخص في هذا السن يكون في حاجة إلى إضاءة أنصع ليرى بوضوح, وفي هذا السن أيضًا تنشأ وتلاحظ مشكلات تتصل بإدراك العمق والتكيف للظلام. والمشكلة السمعية الأكثر شيوعًا في هذا الطور, والتي ترتبط بالتقدم في السن هي مشكلة الفقدان المستمر للسمع Presbycusis, وخاصةً إدراك النغمات ذات التردد المرتفع، والذي يحدث لدى الرجال أكثر من حدوثه لدى النساء, وفي الظروف العادية يكون للنقص السمعيّ أثر ضئيل في نشاط الحياة اليومية للإنسان في هذا الطور, وفي المرحلة التالية, وخاصةً إذا تَمَّ تصحيحه بسماعات الأذن, ويحدث أيضًا بعض النقص في حواس الذوق والسمع والحساسية اللمسية, وخاصة في أواخر الأربعينات، ولكنها لا تلاحظ بشكلٍ واضحٍ إلّا في المراحل المتأخرة من الحياة. وتطرأ على الجهاز العصبي بعض التغيرات التي لا يكون لها في الظروف العادية إلّا أثر محدود في السلوك والإدراك والذكاء خلال مرحلة وسط العمر, فوزن المخ يتناقص بعد سن العشرين, ويكون هذا النقص تدريجيًّا في البداية, ثم تتزايد سرعته في مراحل العمر التالية, إلّا أن الدراسات التي استخدمت الرسام الكهربائي "EEG" والتي تسجل النشاط الكهربائي للمخ أظهرت فروقًا ضئيلة بين الراشدين المبكرين والراشدين في منتصف العمر, كما أن زمن الانعكاس البسيط "الناتج عن خبط الركبة مثلًا" يظل بدون تغير تقريبًا طوال الفترة من سن العشرين وحنى سن الثمانين, إلّا أن الأوجاع التي تصدر عن الرشد الكبير للمثيرات المركبة والمعقدة وغير المألوفة تكون أبطأ, ويظهر أيضًا بعض البطء في نشاط التوصيل العصبي وخاصة في الأعصاب الطرفية مما ينتج عنه بطءٍ عامٍّ في نشاط الجسم وعملياته "Timiras 1972". وعلى الرغم من أن مرحلة بلوغ الأشد "وسط العمر" تتسم بهبوطٍ تدريجيٍّ في النشاط الجسمي بالمقارنة بالقمة التي وصل إليها هذا النشاط في العشرينات من

العمر، إلّا أن الإنسان لا يشعر بالتحوّل العكسي المفاجئ من التحسن إلى التدهور, فمن المعروف أنه منذ المراحل الأولى لحياة الإنسان تحدث العمليتان معًا, ومن ذلك مثلًا أن الخلايا العصبية لا تتكاثر بعد السنة الأولى من حياة الإنسان, ومعنى ذلك أن عددها لابد أن يتناقص تدريجيًّا. إلّا أنه بسبب الوفرة الهائلة لهذه الخلايا طوال مراحل العمر السابقة فإننا لا نشعر بالفقدان, ويظل هذا الشعور سائدًا حتى نهاية الستينات على الأقل، بل وحتى السبعينات أحيانًا, كما أن أمراض القلب في منتصف العمر ليست إلّا نتاج شروط وظروف تراكمية, وليست نتاج شروط وظروف مفاجئة؛ فبالنسبة للشخص العادي يبدأ نشاط القلب "كما يقاس في حالة الراحة" في الهبوط، ليس في منتصف العمر، وإنما ابتداءً من مطلع العشرينات من العمر بمعدلٍ يبلغ حوالي 1% في السنة، إلّا أن الظاهرة لا تلاحظ بوضوح إلّا في سن الخمسين تقريبًا, وعلى ذلك فإن طور بلوغ الأشد "وسط العمر" ليس نقطة تحوّل حادّة في نموِّ الإنسان الجسمي, وإنما هو ببساطة النقطة التي عندها يبدأ الميزان في الميل تدريجيًّا وبشكلٍ حتميٍّ من التحسن إلى التدهور. وإذا كانت التغيرات الجسمية التي تظهر في الرشد الأوسط تتوجه نحو التدهور "وهي كذلك لدى بعض الأشخاص في هذا الطور"، فإن مما يستحق الذكر أنها لا تمثل عجزًا وضعفًا في المجتمع الحديث؛ فالقوة الحسية والنشاط العضلي والصحة الجسمية لم تعد مطلوبة وحدها للبقاء في عصرنا, فقليل من المهن والأعمال تتطلب الآن الدقة الحسية أو الاستجابة الحركية السريعة التي كانت مطلوبة في عصور سابقة, بالإضافة إلى أن الخبرة والحكمة والقدرة على الحكم التي تتوافر لدى الشخص في منتصف العمر تعتبر عوامل تعويضية ملائمة تتجاوز أيّ نقص أو تدهور يحدث في الجسم الإنساني.

الصحة والمرض

الصحة والمرض: من الحقائق المؤكدة منذ وقت طويل، وتدعمت في السنوات الأخيرة، بأن معدل التدهور الجسمي المصاحب للتقدم في السن يتحكم فيه جزئيًّا على الأقل الوراثة, إلّا أن ذلك لا يعني أن التقدم في السن عملية بيولوجية بحتة؛ فكثير من العوامل البيئية تلعب دورها في هذا الصدد, لقد تأكد مثلًا أن وفاة أحد الزوجين، والطلاق، وتغيير العمل أو محل الإقامة, قد تكون خبرات ضاغطة تسرع بالتقدم في السن, أو تزيد القابلية للإصابة ببعض الأمراض, وتظهر الإحصاءات الحيوية دور الكثير من العوامل البيئية في ذلك؛ فالمتزوجون مثلًا وخاصةً الرجال يميلون إلى العيش أطول من أندادهم من غير المتزوجين, ربما بسبب الاستقرار الاجتماعي

الذي يهيؤه الزواج لهم, وفي الولايات المتحدة يعيش البيض من أبناء الطبقة المتوسطة أطول من البيض الفقراء أو أعضاء وجماعات الأقليات, بسبب الظروف البيئية الميسرة التي يعيش فيها البيض من أبناء الطبقة المتوسطة دون سواهم, وأن بعض أبناء الريف الذين يعيشون في نظامٍ اجتماعيٍّ متماسك يعيشون أطول, وتكون صحتهم الجسمية أفضل من بعض سكان الحضر والعواصم الكبرى, ويستنتج "Brodzinsky et al 1986" من هذه الحقائق أن قلة صراعات الأدوار ووجود نظم اجتماعية مدعمة "أصدقاء أو أقارب" وتوافر نمط أكثر انتظامًا للحياة قد يكون من أسباب إطالة مدى الحياة أو قصره, أو سهولة التعرض للمرض أو صعوبته -بمشيئة الله تعالى. ومن العوامل التي تلعب دورًا هامًّا في التغلُّب على التغيرات الجسمية التي تصاحب التقدم في السن الطريقة التي يتناول بها الإنسان حياته في طور بلوغ الأشد, ويذكر "Belloc&Breslow 1972" أن هناك سبع عادات شخصية ترتبط بالصحة والمرض في مرحلة وسط العمر, وتمتد إلى المراحل التالية "الشيخوخة" أيضًا وهي: 1- التدخين. 2- تعاطي المسكرات والمخدرات. 3- النوم الأقل من سبع ساعات في الليل "وبنسب أقل لأكثر من تسع ساعات". 4- الفشل في تناول طعام الأفطار. 5- زيادة الوزن "وبنسب أقل انخفاض الوزن بشكل واضح". 6- الفشل في ممارسة الألعاب الرياضية بشكل منتظم. 7- الأكل بين الوجبات. وقد أكدت البحوث أن معدل الوفيات بين أولئك الذين يمارسون أربع عادات أو أكثر من هذه القائمة, أعلى من أولئك الذين لا يمارسون هذه العادات بمعدلٍ يصل أربعة أضعاف, وبين النساء يكون المعدل بين اللاتي يمارسن هذه العادات ضعف المعدل السابق "أي ثمانية أمثال". ويلعب النظام الغذائي السليم دورًا أهم من جميع العادات السابقة, فلا يكفي أن يأكل المرء الوجبات في أوقاتها، بل من الواجب اختيار عدد السعرات المناسب بعناية، مع مراعاة خفض ما يؤكل من الدهنيات والسكريات والمواد المنتجة

للكلسترول والأملاح, وزيادة تناول الأطعمة ذات الألياف, ولعل ما يؤكد أهمية ذلك ما كشفت عنه البحوث الطبية الحديثة, من أنَّ حوالي نصف حالات مرض السرطان في الإنسان ترتبط بالغذاء؛ فزيادة الدهنيات ترتبط بسرطان الثدي والقولون، كما قد تُحْدِثُ وتُطَوِّرُ أنواعًا أخرى من السرطان, ويمكن خفض المخاطرة بسرطان القولون بتناول الأطعمة ذات الألياف؛ ومن أمثلتها الحبوب والفاكهة والخضروات الطازجة. ويوجد عامل آخر مرتبط بالصحة في منتصف العمر حظي باهتمامٍ كبير في السنوات الأخيرة, وهو ضغط الحياة العام؛ كما يتمثل في الأحداث المؤدية للإجهاد النفسي Stress, فقد لوحظ وجود علاقة موجبة بين مرض القلب وعدد التغيرات العظمى في حياة الإنسان ونوعها, والتي أشرنا إليها من قبل، مثل وفاة رفيق الحياة أو الطلاق أو فقد العمل أو التقاعد, ومع ذلك فإن كثيرًا من الناس يمرون بخبراتٍ ضاغطةٍ ومجهدةٍ في حياتهم دون أن يقعوا في أسر المرض, والسؤال الآن: ما الذي يميز المتوافقين مع هذه الضغوط دون سواهم؟ لقد حاول "Kobasa 1979" الإجابة على هذا السؤال بإجراء دراسة مقارنة بين مجموعتين من المديرين من المستويين المتوسط والمرتفع في سلَّمِ الإدارة, والذين يعانون من أحداث ضاغطة ومجهدة خلال السنوات الثلاث السابقة على البحث, وقسَّم المجموعة الكلية إلى مجموعتين فرعيتين؛ إحداهما عانت من الإجهاد دون أن تقع في غائلة المرض "مجموعة متوافقة"، بينما قررت المجموعة الثانية تعرضها لأمراضٍ عديدة بعد الأحداث المجهدة "مجموعة عدم توافق", وقد أظهرت النتائج أن أولئك الذين توافقوا مع ضغوط الحياة بمقارنتهم بالذين لم يتوافقوا كان لديهم إحساس أكثر وضوحًا بقيمتهم وأهدافهم في الحياة وإمكاناتهم، ولديهم ثقة أقوى بأنفسهم، كما كان لديهم اتجاه أكثر إيجابية نحو البيئة، بل اندمجوا فيها على نحوٍ أكثر إيجابية، وكانوا أقدر على تقييم التغيرات التي يتعرضون لها على نحوٍ له معنى، وتكاملها في خطة عامة لحياتهم, كما كانوا أكثر اتجاهًا نحو تقرير أن "موضع الضبط" بالنسبة لهذه الأحداث داخلي -أي: الاعتقاد في أنهم يمكنهم معالجة أحداث الحياة، ويمكنهم، إلى حَدٍّ ما، التحكم فيها, ويصف كوباسا الذين كانوا أكثر نجاحًا في التوافق مع ضغوط الحياة بأنهم ذوو شخصية جسورة ذات قدرة على الاحتمال. وبالإضافة إلى متغيرات الشخصية يوجد عامل آخر يؤثر في الطريقة التي يتوافق بها المرء مع أحداث الحياة, يتصل بطبيعة هذه الأحداث نفسها، أي: ما إذا

كان الحدث يتم الشعور به منفصلًا عن الأحداث المجهدة الأخرى، أم أن المرء يشعر بضغوطٍ متعددةٍ متآنية في وقتٍ واحدٍ, أو متتابعة بشكل متلاحق. وتؤكد البحوث في هذا الصدد أن الإنسان يتوافق جيدًا مع الأحداث المنفصلة؛ مثل التقاعد أو المرض أو وفاة رفيق "أو رفيقة" الحياة, والأشق على المرء أن يتوافق مع سلسلة من هذه الأحداث تتوالى في نفس الوقت أو في أوقات متقاربة. أما بالنسبة لأسباب الوفاة، فإنه بينما نجد أن سببه الرئيسي في الرشد المبكر يرجع إلى الحوادث أو الانتحار, فإن الأسباب الرئيسية في وسط العمر ترجع إلى المرض وخاصةً أمراض القلب والسرطان, فحوالي 40% من حالات الوفاة في هذا الطور ترجع لأمراض القلب "80% من حالات الوفاة بمرض القلب من الرجال". وبالطبع فإن لأمراض القلب صلة بالوراثة والنظام الغذائي "وخاصة تناول الأطعمة ذات الكولسترول المرتفع" والتدخين والسمنة ونقص التمرينات الرياضية, ومع ذلك فإن 50% من حالات مرض القلب لا ترتبط بأي سبب معروف, وقد حدد العلماء مؤخرًا1 نمطًا يسمونه النمط "أ" للسلوك, باعتباره الحلقة المفقودة والعامل الهام في إحداث مرض القلب المرتبط بالانسداد التاجي, وهذا النمط السلوكي ليس نمطًا في الشخصية, ولكنه لونٌ من متصل السلوك يرتبط بدرجات متفاوتة من المخاطرة بظهور مرض القلب, وفي أحد أطراف المتصل يوجد ما يسمى أنماط السلوك المرتبطة بالنمط "أ", والتي تشمل السرعة الزائدة في الكلام, وعدم الصبر على التأخير، والتنافسية الزائدة، والبحث المستمر عن الإنجاز، والشعور بعدم الراحة، الاستعداد للاستثارة حتى في المواقف التي لا تتطلَّبُ ذلك. ويتسم النمط "أ" أيضًا بضغط الزمن وضيق الفترة الزمنية المتاحة؛ حيث يشعر الفرد أن لديه الكثير مما يجب إنجازه مع قلة الوقت المتاح, وكاستجابةٍ لضغط الزمن والميل نحو إحراز الإنجاز يجد أصحاب هذا النمط السلوكي أنفسهم في مشقة وكَبَدٍ مستمرٍّ سعيًا للتحكم في بيئتهم والسيطرة عليها, وبالإضافة إلى ذلك فإن أصحاب هذا النمط يتحركون ويتكلمون ويمشون, بل وحتى يأكلون بسرعة، بل قد يحاولون إنجاز مهمتين معًا وفي وقت واحد, وبسبب سعيهم الذي يكاد يكون قهريًّا نحو الإحراز, فإنهم يقدرون الذاتية بسرعة إنجاز أهداف عالية المكانة.

_ 1 يعود الفضل في ذلك إلى العالِمَيْنِ الأمريكيين فريدمان وروزنمان في كتابهما الذي صدر عام 1974 بعنوان: Fridman, M. and Rosenman, R.H. The type "A" behavior and your heart. Now YorK: Knopf, 1974

كما أن لديهم استعدادًا للسلوك العدواني؛ ففي أيِّ حوارٍ بسيطٍ قد يتحوّل الأمر لدى الشخص من النمط "أ" إلى مشادة عدائية غاضبة صاخبة, ولا توجد فروق بين الجنسين في ذلك، فسواء كان الشخص من هذا النمط رجلًا أو امرأةً فإنه يكون عرضةً للإصابة بمرض القلب. وفي الطرف الثاني للمتصل نجد الأنماط المرتبطة بالسلوك "ب", والتي هي على العكس تمامًا مما سبق وصفه؛ حيث نجد شخصًا مسترخيًا هادئًا غير متسرعٍ في نظرته للعالم، أقل عدوانية، وسعيه للإنجاز عادةً ما يكون متدرجًا وبطيئًا. والعلاقة السببية بين النمط "أ" من السلوك ومرض القلب تعتمد على أربع فئات من النتائج التي توصلت إليها البحوث. 1- وجود النمط "أ" من السلوك في الأفراد الذين يعانون من مرض القلب من نوع الانسداد التاجي. 2- القابلية الشديدة للإصابة بالمرض لدى الأشخاص من النمط "أ"، فهذا النمط يرتبط على الأقل بضعف عدد الحالات من مرضى القلب بمقارنته بالنمط "ب". 3- وجود اضطراب بيوكيميائي مرتبط بالانسداد التاجي لدى الأشخاص من النمط "أ". 4- التجارب الناجحة التي فيها إحداث السلوك من النمط "أ" داخل المعمل, أظهرت تغيرات بيوكيميائية شبيهة بما يحدث لمن يعانون من الانسداد التاجي. ويرى بعض الباحثين أن الأشخاص من النمط "أ" عادةً ما يكونون مشغولين إلى حَدٍّ كبير بعملهم وأسرتهم على نحوٍ يجعلهم يتجاهلون الأعراض الجسمية التي تُعَدُّ مؤشرات هامة على المرض, ويؤدي ذلك بدوره إلى الإصابة بمرض القلب, واستفحال هذه الإصابة بسبب تقاعسهم في البحث عن المشورة الطبية, أو تغيير سلوكهم لخفض التوتر.

النمو الجنسي

النموّ الجنسي: خلال مرحلة وسط العمر تطرأ على الإنسان تغيرات جوهرية في أعضائه الجنسية والتناسلية، وهي عملية تطلق عليها بعض الثقافات تسمية متشائمة هي "سن اليأس"1 climacteric عند النساء خاصة, وهذه التغيرات ترتبط بالنقص في إنتاجية الهورمونات الجنسية، وخاصة الإستروجين estrogene الذي يفرزه المبيضان في المرأة, والتستوستيرون testosterone الذي تفرزه الخصيتان في الرجل, فعلى الرغم من أن الغدة النخامية تستمر في التأثير على الأعضاء الجنسية، وعلى الرغم أيضًا من أن الغدد الصمَّاء الأخرى تستمر في أداء وظائفها كما كان الحال من قبل، إلّا أن الغدد الجنسية تكون أقل إنتاجية في منتصف العمر. وفي المرأة يبدأ التناقص في مستويات الإستروجين والبروجستيرون progesterone في أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات, وهذا النقص في مستويات الإستروجين خاصةً يؤدي إلى توقف الطمث, وبالتالي العجز عن الحمل بسبب توقف التبويض وضمور المبيضين والرحم, وتوقف الطمث يستغرق فترةً تمتد من سنتين إلى خمس سنوات, ومن هنا جاءت تسمية "سن اليأس" التي تشيع عند الإشارة إلى النساء، ونفضل أن يستخدم المصطلح اللغوي العربي "الطهر" للإشارة إلى هذه الحالة؛ فالطهر لغة هو نقيض الحيض، وهو يحمل معنًى أكثر إيجابية، بالإضافة إلى ارتباطه بالتطهر في السياق الإسلامي العام. وشعور المرأة بهذه التغيرات في هذا الطور يكاد يتشابه مع ما يحدث في طور المراهقة؛ فالمرأة تشعر ببداية واضحة "للأنوثة Wonanhood" مع بدء الطمث الأول، إلّا أنه خلال العام الأول أو نحوه تكون دورة الطمث غير مخصبة، وهذا يعني أن الفتاة الصغيرة لا تكون مستعدة للحمل لفقدان الخصوبة، ويظل ذلك لبعض الوقت حتى ينتظم إفراز البويضات, وفي سن "الطهر" تشعر المرأة مرةً أخرى بعلاماتٍ واضحة نسبيًّا تدل على التغير في الطمث أيضًا, ومن ذلك حدوث توقف للطمث لمدة 12 شهرًا، متصلة في المتوسط، في سن الخمسين, على الرغم من وجود اختلافات فردية واسعة, ومثل الفتاة في بداية المراهقة تكون

_ 1 ورد في القرآن الكريم في الحديث عن عدة المطلقة قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ... } [الطلاق: 4] . والمقصود -والله أعلم: تجاوز المرأة مرحلة المحيض بسبب التقدم في السن, وليس اليأس بمعنى فقدان الأمل وانقطاع الرجاء كما يحمل المعنى الشائع, ومن الطريف أن "المعجم الوسيط" أورد مصطلح "سن اليأس" على أنه من المصطلحات المولدة.

خصوبة المرأة في منتصف العمر غير منتظمة أيضًا، فقد تكون بعض دورات الطمث غير مخصبة, ولكنها قد تفاجئ بأنها حامل في دورة تالية. ومن حقائق السلوك في هذا الطور أن توقف الخصوبة عند المرأة لا صلة له بالنشاط الجنسي, إن المتعة الجنسية بين الزوجين في هذه المرحلة قد تكون أكثر من سواها بسبب التحرر الجنسي من الخوف من الحمل, ومع ذلك, فإن لسن الطهر عدد من الأعراض غير السارّة التي ترتبط به، ومن ذلك تصبب العرق الغزير, والشعور بالدوران والغثيان، والصداع وعدم الاستقرار, والانقباض والسمنة, ولهذا نجد أن حوالي 30% من النساء يلجأن بعد انقطاع الطمث إلى الأطباء بسبب عرض أو أكثر مما سبق. ويعزو الأطباء هذه الأعراض إلى عدم التوازن الهروموني، وكانوا يعالجونها في الماضي بطرق بيوكيميائية، وعادةً باستخدام الإستروجين, إلّا أن الدراسات الطبية الحديثة أظهرت وجود علاقة قوية بين الاستخدام طويل الأمد للإستروجين كجزءٍ من برنامج علاجي إحلالي، وبين احتمال حدوث سرطان الثدي وسرطان الرحم. وبعض النساء يرفضون بقوة منحى النموذج الطبي لسن الطهر, والذي يصف هذه الحالة البيولوجية على أنها مرض, وعلينا أن نتذكر دائمًا أن سن الطهر يشير إلى توقف الطمث، والذي قد يصاحب أحيانًا -وليس دائمًا- بأعراضٍ جسمية من النوع الذي أسرنا إليه, وبعض هذه الأعراض يظهر عند النساء في مرحلة ما قبل توقف الطمث, بل إن الأعراض التي أشرنا إليها والتي يفترض فيها أنها تصاحب توقف الطمث ليست بالشيوع الذي يتوهمه البعض، فلا تتجاوز نسبة من يعانين منها إلّا نسبة ضئيلة, ولهذا نجد معظم النساء في هذا الطور لا يتوقفن عن القيام بمهام حياتهن اليومية, ومع ذلك فإن مثل هذا التنميط والقولبة لسن "الطهر" وخاصةً مع شيوع تسميته بسن اليأس يثير الكثير من مشكلات التوافق في طور وسط العمر أو بلوغ الأشد وخاصةً عند المرأة. ماذا عن الرجال؟ هل يصلون أيضًا إلى سن يأس أو سن طهر؟ الإجابة على ذلك بالنفي بالقطع؛ لأنهم بالطبع لا يحيضون, ومع ذلك فتوجد تغيرات واضحة في الأعضاء التناسلية والجنسية للذكور خلال هذه المرحلة؛ فعند حوالي سن الخمسين يشعر الرجال بنقص في هرمون التستوستيرون، إلّا أن معدل نقصه يكون قليلًا عن نقص إستروجين المرأة, وهذ النقص الهرموني يؤدي إلى نقص في عد الحيوانات المنوية السليمة والنشطة, كما يحدث ضمورًا في حجم

الخصيتين, بالإضافة إلى تضخم غدة البروستاتا. ومن ناحيةٍ أخرى, فإن الرجال على عكس النساء لا يؤثر فيهم إلّا قليلًا الضعف الجنسي النسبي، فأثره ضئيل في معدل خصوبة الرجل, ويوضح ذلك نتائج إعادة الزواج -إن حدث- في هذا الطور، فمعظم الرجال يصبحون آباءً خلال الرشد الأوسط؛ لأنهم يتزوجون في العادة نساء أصغر منهم لا يزلن في سنوات الخصوبة وإمكانية الحمل, ولعل هذا أحد مصادر القلق الرئيسية للزوجات عند بلوغ سن الطهر. وعلى الرغم من أن بعض الرجال يقررون وجود بعض الأعراض المصاحبة للخلل الجنسي في طور وسط العمر؛ كالصداع والقابلية للاستثارة العصبية وغيرها، إلّا أن معظمهم لا يدركون التغيرات الجسمية التي تطرأ عليهم, ونادرًا ما يستشير الرجال الأطباء حول هذه الأمور, بل إن الرجل، على عكس المرأة عادةً، ليست له علاقة مستمرة مع طبيب متخصص في الوظائف الجنسية والتناسلية.

النمو العقلي المعرفي

النمو العقلي المعرفي: حتى وقت قريب كان هناك افتراض أن الذكاء، مثله في ذلك مثل القوة العضلية والطول, يصل إلى أقصى نموِّه مع نهاية المراهقة وبداية الرشد "أي: أوائل العشرينات", وهذا الافتراض يقوم على الأسس البيولوجية للذكاء, أي: المخ والوظائف العصبية المرتبطة به, إلّا أن البحوث الحديثة أكدت أنه على الرغم من أن بعض جوانب الذكاء قد لا يتجاوز نموها طور الرشد المبكر، إلّا أن النموَّ العقلي يستمر حتى وسط العمر, والنمو المستمر يحدث خاصةً لتلك القدرات العقلية والمعرفية التي تتأثر بتراكم خبرات الحياة. وقد استخدمت نسبة الذكاء كمقياسٍ لذكاء الأطفال وتلاميذ المدارس الابتدائية والإعداية "التعليم الأساسي" وكذلك طلاب المدارس الثانوية والجامعات، وظهرت اختبارات لقياس ذكاء الأطفال والمراهقين, وأخرى لقياس الراشدين, وحين استخدمت هذه الاختبارات في قياس ذكاء مجموعات مختلفة من مختلف الأعمار أمكننا دراسة النشاط العقلي في جميع الأعمار في وقت واحد أو في أوقات مختلفة, ونعرض فيما يلي نتائج البحوث في هذ الصدد. حد النمو العقلي: من المسائل الهامة التي طُرِحَتْ حول ذكاء الراشدين ما يُسَمَّى حَدّ النمو العقلي، أي: في عمرٍ يصل الفرد إلى قمة أدائه في الوظائف النفسية التي تقيسها اختبارات الذكاء؟ وما هو العمر العقلي للراشد المتوسط؟

تمثل الإجابة على هذين السؤالين تاريخًا طريفًا, لقد كانت بداية تقدير العمر العقلي للراشدين على أساس البيانات التي توافرت أثناء الحرب العالمية الأولى هو 14عامًا، إلّا أن الحد ظل يتزايد بانتظام، فأصبح 15عامًا عند نشر الطبعة الثانية من مقياس ستانفرد-بينيه عام 1937، ثم ارتفع هذا الحد إلى بدايات العشرينات كما أكدت بحوث تقنين مقياس وكسلر لذكاء الراشدين WAlS. وأكدت البحوث الطولية التي أُجْرِيَتْ ابتداءً من بحث ثورنديك المبكر عام 1926حتى بحوث Bayley التي أجريت في الخمسينات, أن التحسن في درجات اختبارات الذكاء تستمر إلى سن العشرين وما بعده بقليل. بل أن هذا الحد وصل إلى سن 25عامًا في الدراسة التي قامت بها جامعة بيركلي "وهو أقصى عمر شملته الدراسة", بل إن بعض المسوح التي أجريت في الخمسينات وأشهرها بحث Owens الأول, الذي أجراه عام 1953 تؤكد أنه، بالنسبة إلى بعض الجماعات على الأقل، تستمر درجات اختبارات الذكاء في الزيادة طوال حياة الإنسان. وفي رأي "Anastasi 1958" أن الاختلاف بين نتائج البحوث المبكرة والبحوث المتأخرة يعكس تغيرات ثقافية وتحسينات في أدوات القياس؛ فاختبارات الذكاء المبكرة "ومنها مقياس ستانفرد-بينيه" أعدت في الأصل للأطفال، ثم عُدِّلَ محتواها فيما بعد بحيث يلائم أغراض قياس الراشدين, أما في الوقت الحاضر فقد ظهرت وتطورت أدوات قياس ملائمة للراشدين, تستثير اهتمامهم وتهيئ سقفًا ملائمًا وكافيًا يسمح بظهور التحسن المستمر, ومن ناحية أخرى فقد لوحظ أنه حتى عندما يعاد تطبيق الاختبارات المبكرة في الدراسات الحديثة تكون المتوسطات أعلى مما كانت عليه في الماضي "Owens 1953", وهذا الكسب الإضافي يعزى في جوهره إلى العوامل التربوية والثقافية. بداية التدهور العقلي: ترتبط بمسألة توقف النموّ العقلي التي تناولناها مسألة أخرى لا تقل أهمية عنها في بحوث الراشدين, وهي بداية التدهور العقلي, بل إن المسألتين اندمجتا مع توافر الأدلة والبيانات؛ بحيث نستطيع القول أن الأمر يعتمد على طبيعة المفحوصين، وطبيعة الوظائف العقلية التي نقيسها، بحيث نحصل على منحنيات نمو مختلفة، قد يظهر بعضها ارتفاعًا مستمرًا طوال حياة الإنسان، ويظهر البعض الآخر ثبوتًا واستقرارًا لا يتدهور مع التقدم في السن "حيث يتوازى المنحنى مع خط الأساس"، ويظهر البعض الثالث هبوطًا تدريجيًّا أو مفاجئًا. وتتوافر في الميدان عدة بحوث واسعة النطاق, ومن البحوث المبكرة خاصة

توجد ثلاثة مسوح رئيسية، أولها قام به عام 1933 "Jones and Conard, 1933" وفيه طبَّقَا اختبار ألفا الحربي على 1191 مفحوصًا, تمتد أعمارهم بين 10سنوات، 60عامًا, يمثلون تقريبًا الأصل الإحصائي الكامل لهذه الأعمار بولاية نيوانجلاند الأمريكية, وفي الدراسة الثانية طبَّقَ "Milles&Milles, 1932" صورة مختصرة وموقوتة من اختبارات أوتس للقدرة العقلية على 823 مفحوصًا تمتد أعمارهم بين 7سنوات، 94عامًا. أما البحث الثالث فقام به "Wechsler 1944" عند تقنين مقياسه الشهير في صورته الأولى التي عرفت في الماضي باسم مقياس وكسلر-بلفيو، وفيه جمع بيانات عن 670طفلًا، 1081 راشدًا تصل أعمارهم إلى 69عامًا, وكان اختيار عينة الراشدين على أساس أن يكون التوزيع المهني في كل فئةٍ عمرية متشابهًا إلى حَدٍّ كبيرٍ مع توزيعه في الإحصاء القومي العام في الولايات المتحدة, وقارن "Jones&Kaplan, 1945" بين منحنيات النمو التي توصلت إليها الدراسات الثلاث على أساس الدرجات المعيارية, وذلك لجعل نتائج هذه الدراسات قابلة للمقارنة. وقد أجريت بحوث أكثر حداثة استخدمت الاختبارات السابقة أو صورًا مشتقة منها، ومن هذه الدراسات بحث "Matarazzo, 1972" الذي استخدم اختبار وكسلر، وبحث "Schaie, 1985" الذي استخدم بطارية القدرات العقلية الأولية لترستون, وقد أظهرت هذه البحوث اختلافات واضحة في نتائجها, وذلك اعتمادًا على منهج البحث المستخدم، أي: ما إذا كان المنهج طوليًّا أو مستعرضًا. نتائج البحوث المستعرضة: أوضحت البحوث المستعرضة أن منتجات النموِّ تظهر قمتها في بداية العشرينات من العمر, وأن الأداء في سن العشرينات أعلى من الأداء في منتصف العمر أو مطلع الشيخوخة, وقد فسّر ذلك بأن الذكاء يبدأ عملية تدهور طويلة المدى ابتداءً من سن العشرين, وفي الدراسات المستعرضة الأكثر حداثة وُجِدَ أن قمة الأداء يبدو أنها تحدث بين سن 25، 35سنة, وبصفة عامة نقول: إن الأشخاص في منتصف العمر والشيخوخة "كما سنوضح فيما بعد" يؤدون أداءً أقل في هذه الاختبارات من الراشدين الصغار، وكان معدل النقص مختلفًا في كل دراسة عن الأخرى, ويرجع هذا الاختلاف في جوهره إلى الفروق بين العينات وتنوع المقاييس المستخدمة. ومن أهم النتائج التي لوحظت في هذه البحوث أن الفروق الفردية "التباين" داخل كل مجموعة عمرية كانت كبيرة، وأنها تميل إلى الزيادة مع التقدم في

العمر, ولهذا لوحظ تداخل كبير بين درجات الأعمار حتى تلك التي يفصل بينها فاصل زمني واسع، فأكثر الأفراد تفوقًا في أكثر المجموعات تقدمًا في السن, كان أداؤه أفضل بكثير من أكثر الأفراد تخلفًا في أصغر المجموعات سنًّا. هل العمر مؤشر على مستوى القدرة؟ تؤكد النتائج السابقة أن العمر مؤشر غير ملائم على مستوى القدرة، وقد تدعمت هذه النتيجة بالبحث الذي قام به "Milles&Milles, 1932" وفيه صنف عينة الراشدين إلى أربع مجموعات في ضوء مقدار التعليم, ابتداءً من مستوى المدرسة الابتدائية حتى مستوى الدراسات العليا. وتأكد أنه على الرغم من أن المجموعات الأربع أظهرت تدهورًا في متوسط الدرجات مع العمر, إلّا أن منحنيات النموّ العقلي لهذه المجموعات كانت مستقلة، فلم يحدث بينها تقابل أو تقاطع، وكانت مجموعة المستوى التعليمي المرتفع أكثر المجموات امتيازًا في الأداء العقلي, كما لوحظ أن الأفراد الذين بلغوا سن السبعين وكانوا من الذين واصلوا تعليمهم لما بعد مستوى البكالوريوس "دراسات عليا", كانت متواسطاتهم في اختبارات الذكاء أعلى من الأشخاص من سن العشرين الذين لم يتعد تعليمهم مستوى المدرسة الابتدائية. ومن العوامل الأخرى التي تدفعنا إلى الحذر في تفسير النتائج التي تجعل العمر مؤشر القدرة الوحيد, ما نجده في البحوث التي استنتج منها التدهور العقلي بعد عمر معين؛ فالدراسات التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة هي جميعًا من نوع البحوث المستعرضة، وبالتالي فربما تكون قد تأثرت بالتغيرات الثقافية التي أشرنا إليها في فصل سابق, فلا شكَّ أن مقدار التعليم يزداد جيلًا بعد جيل، وبالتالي فإن الجيل الذي بلغ الستين في هذه الدراسات تلقَّى مقدارًا من التعليم أقل من الجيل الذي لا يزال في سن العشرين والذي يقارن به, وعلى هذا فإن بعض التدهور الملاحظ في متوسطات الجيل الأكبر سنًّا قد يرجع إلى قلة التعليم وليس إلى التقدم في السن. ويدعم هذا الفرض نتائج البحوث التي أجريت حول تقنين مقياس وكسلر بصورتيه الأصلية "وكسلر-بلفيو" والمعدلة في عامي 1944، 1955 على التوالي, فكلتا العينتين أظهرتا تدهورًا في درجات الذكاء خلال سنوات الرشد يتوازى مع نقصان مستوى التعليم ومقداره في الجماعات العمرية المتتابعة, إلّا أنه لوحظ على عينة التقنين الأكثر حداثة "Wechsler 1955" أن التحسن في الأداء العقلي يستمر لفترة أطول, وأن التدهور لا يظهر إلّا في عمرٍ أكثر تأخرًا إذا قورن بأداء عينة تقنين اختبار "وكسلر-بلفيو" الأقدم "Wechsler, 1944". وتتفق

هذه الاختلافات في النتائج مع الفروق التعليمية بين عينتي التقنين, وتعكس التغيرات التربوية في الفترة بين الدارستين "وطولها 15عامًا". نتائج البحوث الطولية: من أهم مشكلات البحوث المستعرضة أنها -كما بينا من قبل- لا تساعدنا على افتراض أن الفروق بين المجموعات العمرية ترجع في جوهرها إلى التقدم في السن؛ فالصغار قد يحصلون على درجاتٍ أعلى من الكبار في اختبارات الذكاء, ليس بسبب أنهم أكثر ذكاءً, وإنما بسبب متغيرات أخرى؛ مثل تحسين مستوى التعليم، وارتفاع مستوى التغذية، وزيادة فرص استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة, وعلى ذلك فإن الدرجات العالية تمثل الفروق بين الأجيال كما أشرنا آنفًا في مقابل "أو بالإضافة إلى" أثار التقدم في السن, وقد تأكَّدَ أثر الأجيال من الدراسات التي استخدمت اختباريْ ستانفورد -بينيه ووكسلر. لقد أظهرت هذه الدراسات معايير في كلِّ فترة زمنية أعلى من تلك التي سبقتها, والتفسير الواضح لهذا النمط من النتائج أن العينات اللاحقة تؤدي أفضل من العينات السابقة, إلّا أن ما ليس واضحًا ما إذا كانت هذه النتيجة تعني أن صغار اليوم أكثر ذكاء من صغار الأمس، أم أن صغار اليوم أكثر خبرة في التعامل مع الاختبارات. وللتقليل من أثر الأجيال وإعطاء صورة أوضح عن التغيرات في الذكاء عبر الزمن استخدم المنهج الطولي, ومن الدراسات التي أجريت في هذا الميدان دراسة Owens التي نشرت في تقريرين أحدهما عام 1953 وثانيهما عام 1966، وفيها درس 127 مفحوصًا من الرجال, طبَّقَ عليهم في الأصل اختبار ألفا الحربي حينما كانوا طلابًا مستجدين في جامعة ولاية إيواء عام 1919, ثم أعاد اختبارهم بنفس المقاييس بعد حوالي ثلاثين عامًا "أي عام 1950", ثم استطاع إعادة اختبار 96 منهم عام 1961, وقد أظهر التقرير الأول "Owens 1953" أن الراشدين لم يظهروا أيّ تدهور عند إعادة اختبارهم, بل إن المجموعة أظهرت تحسنًا دالًّا في متوسط الكسب بلغ مقداره نصف الانحراف المعياري للتوزيع الأصلي, كما أن الاختبارات الفرعية الثمانية التي يتألف منها مقياس ألفا لم تظهر أيّ انخفاض له دلالة، بل إن خمسة من هذه الاختبارات الفرعية أظهرت زيادة في متوسط الدرجات. وفي التقرير الثاني "Owens, 1966" حسب الباحث معاملات الارتباط بين درجات المفحوصين الذين ظلوا موضوعًا للبحث عام 1961 "وعددهم 96 مفحوصًا كما أشرنا", ويوضح الجدول رقم "17-1" هذه المعاملات.

جدول رقم "17-1" معاملات الارتباط بين درجات اختبار ألفا الحربي في الأعوام 1919، 1950، 1961 ومن هذا الجدول يتضح وجود قدر ملحوظ من الاستقرار في الأداء العقلي خلال فترة تزيد عن أربعين عامًا هي فترة البحث، وكان الاستقرار أكثر وضوحًا في الدرجة الكلية للاختبار المستخدم, ومن المعروف أن هذا الاختبار من النوع اللفظي الجماعي, والذي يتطلب تطبيقه وإجراؤه 25 دقيقة فقط حين يقدم في الظروف المادية, وبالرغم من قصره فإنه يعطي مؤشرات ثابتة نسبيًّا للنشاط العقلي عند الراشدين. وقد سجَّل أووينز أيضًا التغيرات التي طرأت على مستويات الأداء طوال هذه السنوات في كلِّ مكون أساسي من مكونات اختبار ألفا، فوجد أن هؤلاء المفحوصين كانوا أعلى في الدرجة الكلية من متوسط عينة التقنين حينئذ بمقدار 0.7 وحدة انحراف معياري، ثم تحسنوا بما يسواي 1.3 وحدة انحراف معياري, فوق المتوسط في الاختبار الثاني "1950"، ثم لم تظهر فروق ذات دلالة إحصائية في الاختبار الثالث "1961"، ولاحظ الباحث أن الاختبار الفرعي الوحيد الذي أظهر تدهورًا خطيرًا بين عام 1950، 1961 هو الاختبار العددي.

وفي رأي أووينز أن التدهور في هذا الاختبار لا يرجع إلى الطبيعة الموقوتة لهذا الاختبار الفرعي؛ حيث لوحظ أن السماح للمفحوصين بضعف الوقت المحدد له لم يؤثر تأثيرًا دالًّا في أدائهم. وتؤكد نتائج هذه الدراسة أن درجات الذكاء عند الراشدين تظل مستقرة مع الزمن، إلّا أن هذا الاستقرار ليس مطلقًا، وإنما يوجد تغير نسبي, وقد ربط أووينز التغيرات في درجات الذكاء بعوامل كثيرة في حياة الإنسان؛ منه مثلًا النجاح الاقتصادي-الاجتماعي الذي يرتبط بالتحسن في الاختبارات اللفظية والاستدلالية. وتوجد دراسة طولية أخرى استغرقت 38 عامًا نشرها عام 1971 العالمان الأمريكيان "Kangas Bradway 1971" وفيها اختير المفحوصون لأول مرة عام 1931، كجزء من عينة ولاية كاليفورنيا في تقنين طبعة 1937 من مقياس ستانفرد-بينيه، وكانوا جميعًا من أطفال ما قبل المدرسة في هذا العام "1931" متوسط أعمارهم 4.8 سنة, وقد أعيد اختبار كثير منهم أعوام 1941، 1956، 1969, وأثناء التطبيقين الأخيرين استخدام الباحثان أيضًا مقياس وكسلر لذكاء الراشدين WAlS. وتؤكد نتائج هذا البحث أن نسب الذكاء في سن ما قبل المدرسة تتنبأ بالنشاط العقلي اللاحق، إلّا أن قوتها التنبؤية تتناقص مع طول الفترات الزمنية بين مرات الاختبار, وعلى هذا فإن نسب ذكاء أطفال ما قبل المدرسة تتنبأ بدرجة أفضل بنسب ذكائهم في مرحلة المراهقة إذا قورنت بطور الرشد. وقد حسب كانجاس وبرادوي في هذا البحث أيضًا التغيرات في متوسطات نسب الذكاء مع مرور الزمن، فوَجَدَا أن هناك زيادةً دالة في المتوسطات خلال هذه السنوات الثماني والثلاثين؛ فالمفحوصون الذين كان متوسط نسب ذكائهم في مقياس ستانفرد بينيه 111 عام 1930, أصبح متوسطهم 130 عام 1969, أما في مقياس وكسلر فقد كان متوسط نسب الذكاء الكلية 109 في عام 1956, وبلغ 118 في عام 1969. وهكذا لم يثبت هذا البحث -في اتفاق مع بحوث كثيرة أخرى أشرنا إلى أمثلة منها فيما سبق- وجود أي دلالة على التدهور في النشاط العقلي في هذه المقياس مع مرور الوقت, ومن الصعب بالطبع تحديد أسباب الزيادة في نسب الذكاء، فربما كان للممارسة السابقة للاختبارات دور في هذه الزيادة. ومن البحوث الطولية الهامة أيضًا بحث "Tuddenham et al 1968" الذي أعيد فيه اختبار 164 من الذين تركوا القوات المسلحة الأمريكية بعد عشرين عامًا من الخدمة, وبعد أن مَرَّ على اختبارهم الأول 13عامًا، باستخدام اختبار

AGCT، وكان متوسط أعمارهم حينئذ 30عامًا، وحسب عامل الارتباط بين مرتي الاختبار فبلغ 0.79 وقد لوحظ بعض التدهور الضئيل للغاية في الأداء بعد هذه الفترة، باستثناء اختبار الاستدلال الإدراكي "أحد مكونات هذه البطارية". ومن الدراسات التي استخدمت اختبار روكسلر تلك التي قام بها "Matarazzo, 1972" والتي توصلت إلى استقرار القدرات اللفظية على مدى زمني أطول, بينما تظهر الاختبارات الأدائية فروقًا في العمر؛ حيث الراشدين الأصغر سنًّا أفضل أداءً, وتأكدت هذه النتيجة في دراسات أخرى لاحقة "Field, Schaie& Leino, 1988, Siegler, 1983" وخلاصة القول بالنسبة لهذه البحوث أننا حين نختبر نفس المفحوصين ونعيد اختبارهم هم أنفسهم على فترات زمنية مختلفة طوال مدى الحياة, لا تظهر بعض القدرات العقلية وخاصةً القدرات اللفظية إلّا تدهورًا قليلًا -إن وجد- في مرحلة وسط العمر, إلّا أن بعض الدراسات الرئيسية أظهرت أن الراشدين الصغار يكون أداؤهم أفضل من أداء الراشدين الكبار في قدرات أخرى, وخاصة القدرات العملية, وعلى ذلك فإن الفروق -إن وجدت- قد تعكس الذكاء كما يظهر لدى الشخص الأكثر صحة ودافعية. وقد تأكد ذلك مرةً أخرى بالبحوث الموجهة بنظرية كاتل في الذكاء المتبلور والذكاء السائل، فقد وجد "Horn, 1982" أن القدرات السائلة أو الإيجابية active "ومعظمها غير لفظي" تتدهور في عمر أكثر تبكيرًا من القدرات المتبلورة أو السلبية Passive "ومعظمها قدرات لفظية". نتائج بحوث التحليل التتابعي: لا يتوافر في الميدان إلّا قليل من البحوث التي تعتمد على استراتيجية التحليل التتابعي التي تناولناها في فصل سابق, وقد تكون أهم هذه الدراسات ما قام به Schaie وزملاؤه في سلسلة من البحوث نشرت في أعوام 1968، 1973، 1974, وفي هذه البحوث استخدمت عينة طولية اختبرت ثلاث مرات في أعوام 1956، 1963، 1970، منها 161 مفحوصًا اختبروا في المناسبات الثلاث جميعًا تمتد أعمارهم في المتوسط بين 25، 81 عامًا، وتوجد مجموعة أخرى تتألف من أفراد من نفس جماعة عام 1956 الأصلية, ولكنها اختبرت في مناسبة واحدة فقط من المناسبات الثلاث, وكان الاختبار الجماعي المستخدم هو اختيار ثرستون للقدرات العقلية الأولية, ويتألف من 5 اختبارات فرعية, هي: معاني الكلمات، الإدراك المكاني، الاستدلال "التفكير"، العدد، وطلاقة الكلمات، كما استخدمت اختبارات أخرى لقياس القلب

السلوكي والسرعة الحركية, ويوضح الجدول رقم "17-2" تصميم هذا البحث مع ملاحظة أن الأعمدة تدل على عينات مستعرضة, والسطور تدل على عينات طولية. وقارن الباحثون بين الجماعات المختلفة في الدرجات الكلية "في صورة درجات معيارية" في اختبار القدرات العقلية الأولية, فلم يجدوا تدهورًا دالًّا في البيانات الطولية للجماعات من الأولى إلى الرابعة، وابتداءً من الجماعة التي يمثلها السطر الخامس "جماعة العمر من 53-67" ظهر تدهور منتظم مع التقدم في السن، وتتفق نتائج تحليل العينات المستقلة "الأعمدة" مع نتائج العينات الطولية "السطور", على الرغم من أن متوسطات العينات الأولى أقل قليلًا من متوسطات العينات الثانية، وهي فروق اصطناعية ترجع في جوهرها إلى أن عددًا من أفراد العينات الطولية لم يستمروا في المشاركة في البحث التتبعي, وربما يكون ذلك الانخفاض بسبب أن أولئك الذين أعيد اختبارهم هم الأكثرة قدرة, ولهذا نستطيع القول أن نتائج كل من العينات المستعرضة والعينات الطولية كما يظهرها هذا البحث متشابهة, وخاصةً فيما يتصل بتدهور النشاط العقلي، وأن هذا التدهور لا يبدأ إلّا بعد سن الخمسين.

وقد أفاد التصميم التتابعي الباحثين في دراسة أثر الوقت الذي يتم فيه الاختبار في أداء المفحوصين، ومن ذلك مثلًا: هل أولئك الذين اختبروا عام 1956 وهم من عمرٍ معين يختلفون عن أولئك الذين اختبروا في عامي 1963 أو 1970 وهم في نفس السن؟ للإجابة على هذا السؤال وجد الباحثون أنه بالنسبة للعينات الطولية لم يلاحظ دليلٌ على تغير مقترن بعام الاختبار بالنسبة لبعض الأعمار "46عامًا"، بينما لوحظ بعض هذا التغير في عمري 53،60 عامًا، فقد وجد أن أولئك الذين اختبروا عام 1970 من هاتين الفئتين العمريتين أدوا أفضل من أقرانهم الذين اختبروا في الأعوام السابقة, كما أدت نتائج تحليل العينات المستعرضة إلى نفس النتائج, وقد يرجع هذا الاختلاف إلى عوامل ثقافية تتمثل في ارتفاع مستوى التعليم وزيادة الاهتمام بالاختبارات والتقدم الصحي وغير ذلك. وفي مثل هذا النوع من البحوث إذا جُمِعَتْ درجات الأفراد من عمرٍ معينٍ بصرف النظر عن زمن تطبيق الاختبار, يمكننا في هذه الحالة دراسة آثار العمر في ثلاث فرص مختلفة من القياس, وقد لاحظ الباحثون "Schaie وزملاؤه في دراساتهم التي نحن بصددها" أن أكبر فرق بين البيانات المستعرضة والطولية هو في الأعمار 53، 67, وقد أظهرت البيانات الطولية تدهورًا مقداره ثلاث وحدات معيارية، بينما أظهرت البيانات المستعرضة هذا التدهور بمقدار 9 وحدات, وفي رأي "Botwinick, 1977" أن هذه الاختلاف بين نوعي البيانات قد يرجع إلى المصادفة, وفيما عدا هذين العمرين فإن البيانات الطولية والمستعرضة اتفقتا تمامًا. ويلخص "Shaie, 1994" نتائج بحوث التحليل التتابعي التي تركز على الفروق بين الأجيال في القدرات العقلية فيما يلي: 1- يوجد نموّ خطي موجب متصل "في صورة خط مستقيم" بالنسبة للقدرة الاستدلالية، أي: أن هذه القدرة تزيد مع التقدم في العمر. 2- يوجد نمو متقطع "أي: غير متصل" ولكنه موجب أيضًا بالنسب للقدرة اللفظية والقدرة المكانية. 3- يتخذ نمو القدرة العددية والقدرة على الطاقة اللفظية صورة الخط المنحنى؛ حيث يصل إلى قمته لدى جيل العشرينات من القرن الحالي, ثم يهبط تدريجيًّا لدى الأجيال اللاحقة. وخلاصة القول بالنسبة لبحوث التحليل التتابعي التي تفصل بين آثار العمر وآثار الجيل, أن التناقص في معظم مجالات النشاط العقلي لا تحدث قبل الوصول إلى سن الستين, وحين يظهر بعض التدهور قبل سن الستين فإنه لا يكون كبيرًا، وليست له أهمية عملية "Shaie&Hertzog 1983". وقد يكون أفضل استنتاج يمكن استخلاصه من نتائج البحوث حول نموّ الذكاء لدى الراشدين في منتصف العمر, أن النقص في الأداء -إن وجد- هو الاستثناء وليس القاعدة العامة.

إبداع الراشدين

إبداع الراشدين: من المسائل الهامة الأخرى التي شغلت الباحثين في هذا الميدان في السنوات الأخيرات مسألة العلاقة بين العمر والابتكار, وخاصة في مجالات معينة؛ كالعلوم والفنون والموسيقى والآداب, وبالطبع يمكن البرهنة بسهولة على أن الإنجاز الابتكاري في هذه الميادين يمكن أن يقوم به أفراد من مختلف الأعمار, إلّا أن المؤكد أن الإنجاز الابتكاري المميز يميل للتبلور بصفة عامة في وسط العمر، والدليل على هذا كما تقول أنستازي "Anastasi 1958": إن الصورة الفوتوغرافية لمعظم المبتكرين تظهرهم في أعمار متقدمة، إلّا أن "1953 Lehman" يرى أن الأكثر احتمالًا أن هذه الصور التقطت لهم بعد أن صاروا كبارًا في السن وحققوا الشهرة, بينما البحث الصحيح في المسألة يؤكد لنا أن المبتكر قد يحقق إنجازاته الكبرى في عمرٍ أصغر بكثير من ذلك. ومن أهم الدراسات في هذا الميدان ما قام به لهمان نفسه، فقد قام بتحليل مقدار كبير من البيانات المنشورة حول العمر الذي يظهر فيه الإسهام المتميز في أيّ مجالٍ من مجالات المعرفة والحياة, وتؤكد نتائجه أن قمة الإنتاج الابتكاري تقع بشكل منتظم في عقد الثلاثينات, ونعطي مثالًا على طريقته في البحث ونتائجه من مجال الكيمياء، فقد حصل على أسماء 244 من علماء الكيمياء المشهورين "ولم يكن أحد منهم على قيد الحياة" والتواريخ التي توصلوا فيها إلى إسهاماتهم العظمى, ثم حللت البيانات لتحديد عدد هذه الإسهامات التي صدرت عن الجماعة الكلية خلال فترات زمنية طول كل منها خمس سنوات, وأكدت نتائجه أن معدل الإنتاج الابتكاري في الكيمياء يزيد زيادةً واضحةً حتى يصل إلى حده الأقصى في الفترة التي مداها 30-34 عامًا, ثم يتدهور بعد ذلك تدريجيًّا وبشكلٍ مستمرٍّ مستقر, وقد رسم لهمان منحنيات العلاقة بين العمر ومعدل الإنتاج الابتكاري للعلوم الأخرى والآداب والفنون والموسيقى, وتأكد في معظم الحالات أن القمة تقع في منتصف الثلاثينات. إلّا أن هذه القمة تكون في عمر مبكر عن ذلك بالنسبة إلى المحصلة ذات الكيف الرفيع من الانتاج الابتكاري في مختلف

المجالات, وعنده أن كمية الإسهامات ذات المستوى الرفيع تتناقص مع التقدم في السن, ولعل هذا ما دفع أنستازي إلى القول بأن الثلاثينات هي "العصر الذهبي" للإنجاز الابتكاري. وفي دراسة أخرى قام بها "Dennis, 1966" لإنتاجية المبدعين، ويقصد بها عدد الإسهامات بصرف النظر عن كيفها لدى مجموعة من الذكور عاشوا حتى سن الثمانين، فوجد أن الفنانين مثل الموسيقيين والشعراء يصلو إلى قمة إنتاجهم قبل العلماء من مختلف التخصصات؛ فالعلماء والباحثون الذين يتطلب عملهم الإبداعي جمع البيانات وتحليلها وتقويمها, سواء في العلوم الطبيعية أو الإنسانية, تستمر إنتاجيتهم إلى مرحلة وسط العمر وربما إلى مرحلة الشيخوخة. والسؤال هو: ما هي العوامل التي ترتبط بتدهور الإبداعية لدى الفنانين مع التقدم في السن، وما هي تلك التي ترتبط بالإنتاجية اللاحقة لدى العلماء والباحثين؟ إن أحد التفسيرات المبكرة لهبوط الإبداعية هو النقص الواضح في النشاط العقلي المرتبط بالعمر "Bromley 1956", وهذا بالطبع يستند إلى افتراض أن الإبداع والذكاء مرتبطان معًا، بل قد يكونا متطابقين, وكما رأينا فإن بعض البحوث الحديثة أظهرت أن الذكاء المتبلور، وهو المكوّن المعتمد على التعلُّم المستند إلى التراث الثقافي للشخص لا يتدهور مع العمر، بل إنه في الواقع قد يزيد عبر مدى الحياة. وفي دراسة قام بها "Alpaugh&Birren, 1977" حدد عاملين يرتبطان بتدهور الإسهام الإبداعي لدى المتقدمين في السن, هما التفكير التباعدي وتفضيل التعقد المعرفي, ويتضمن التفكير التباعدي القدرة على التفكير في أفكار جديدة مرتبطة بالموقف، والأصالة، والقدرة على تغيير وتحويل الأفكار من حالةٍ إلى أخرى. أما تفضيل تعقُّد الأفكار فقد ساوى بعض الباحثين بينه وبين الإبداع ذاته, وقد وجد الباحثان في دراسة لعينة مستعرضة تمتد أعمارها من 20-30 سنة، مع ضبط مستواها التعليمي، وجود هبوط منتظم في كل من المتغيرين مع زيادة العمر، بينما ظل ذكاء الأفراد ثابتًا، واستنتجا من ذلك أنه بالإضافة إلى الهبوط في عوامل مثل الطاقة والحيوية والنشاط، فإن التدور في الإنتاج الابتكاري عبر مدى الحياة يمكن تفسيره في ضوء النقص في التفكير التباعدي, وفي تفضيل التعقد, وليس في هبوط الذكاء ذاته.

ولم تؤكد بحوث أخرى وجود هبوط في التفكير التباعدي من الرشد المبكر وفي المراحل المتقدمة من العمر. ومن ذلك أن "Jaquish&Ripple, 1981" لاحظا أن الراشدين في منتصف العمر يؤدون أفضل من كل الراشدين المبكرين ومن الشيوخ في عدد من مهام التفكير التباعدي, كما أكدا أن القدرات الابتكارية لدى مفحوصي وسط العمر والشيخوخة ارتبطت بتقدير الذات, ومن ذلك أن الأشخاص الذين لديهم تقدير عالٍ لأنفسهم قد يكونون أكثر ابتكارية, وهكذا فإن وجود نظرة موجبة إلى الذات تُعَدُّ قوةً دافعة تحدد رغبة الشخص وإرادته للبحث عن حلول ابتكارية للمشكلات. وبعض الباحثين يذكرون أن أنواعًا مختلفة من الابتكارية ترتبط بمختلف أطوار الرشد, ومن ذلك مثلًا الإشارة إلى الابتكارية الساخنة الثائرة hot-from-the-fire في الرشد المبكر، والابتكارية الرصينة Sculpted في وسط العمر "Jacques 1964", فخلال السنوات المبكرة من الرشد يكون العمل الإبداعي حادًّا وعنيفًا وشديدًا وتلقائيًّا، ويبدو الإنتاج عند ظهوره كاملًا ونهائيًّا وجاهزًا، وكان أينشتين أوضح الأمثلة على ذلك. أما ابتكارية وسط العمر فهي من ناحيةٍ أخرى أبطأ وأكثر هدوءًا ورصانةً, فبدلًا من الشدة والقفز السريع يتسم المرء بالبطء والعمل المثابر، وكان شكسبير وديكنز من الأمثلة البارزة على ذلك, ويبدو لنا أن قمة الإبداعية التلقائية الساخنة تكون في الرشد المبكر، أما صور الإبداعية التي تتطلب الخبرة وإعادة النظر والمراجعة والتأمل فقد تظَلّ إما غير متغيرة أو تزيد في وسط العمر. والسؤال الأخير هنا: لماذا يتناقص الإنجاز الابتكاري عامَّةً مع التقدم في السن؟ هذا السؤال لايزال في حاجة إلى بحوث جيدة التصميم للإجابة عليه، وعمومًا يمكن أن نوجز أسباب هذه الظاهرة في ضوء الأدلة المتاحة فيما يلي: 1- زيادة الجمود والتصلب المعرفي مما يعوق المرونة, وهي من مكونات الابتكار. 2- ضعف القوة الجسمية والحسية والصحية بصفة عامة. 3- تغير الاهتمامات والميول والدوافع, مما يحول المبتكر عن الإنجاز. 4- ضغوط الحياة اليومية "المالية والأسرية". 5- الحصول على الشهرة والاكتفاء بها. 6- الانشغال في الأنشطة الإدارية والتنفيذية. 7- العجز عن ملاحقة الانفجار المعرفي الذي يتطلب تقويمًا مستمرًا للإسهامات المبتكرة.

نمو الشخصية

نمو الشخصية مدخل ... نمو الشخصية: يبدو للبعض أن الحديث عن نموِّ الشخصية في طور بلوغ الأشد أو منتصف العمر أمر غير ممكن؛ ففي وسط العمر يصل الإنسان إلى "تحديد طريقه", كما أنه فيما يبدو يكون قد أحرز استقرارًا شبه نهائي في سمات شخصيته, وهذا ما يقرره الراشدون الكبار حول أنفسهم عندما يدركون هذا الطور, فعادةً ما يصف الشخص الذي تجاوز عمره الأربعين سنة نفسه بقوله "لقد تحددت شخصيتي"، وأنه فات الأوان الذي يفكر فيه في تغيير أساسي في سلوكه، وأن الحياة بالنسبة له لا تتغير من يومٍ لآخر, ومن عامٍ لآخر. إلّا أن الملاحظات العارضة بالإضافة إلى نتائج البحوث العلمية السيكولوجية تذكر لنا أن طور وسط العمر لا يختلف عن غيره من أطوار ومراحل النموّ الإنساني, في أنه طور نموّ وتغير مستمرين, ولعل الحكمة القديمة التي تقول: "إن الحياة تبدأ في سن الأربعين" تدعم هذا القول، كما تدعمه عبارات كثيرة شائعة؛ بعضها له أساس علمي عن أزمة منتصف العمر, بل إن بعض الكُتَّاب يذهبون إلى أبعد من ذلك, فيقارنون بين "أزمة" الرشد الأوسط و"أزمة" المراهقة، واخترع بعضهم مصطلح middlescence ليعني وجود فترة اضطراب في وسط الحياة، بالإضافة إلى الدور الاجتماعي الجديد لها, ويرون أن في هذا الطور تتوفر للراشد فرص جديدة لحل أزمة الهوية التي تظل موضع المعاناة منذ المراهقة, فوسط العمر "فرصة ثانية لتؤدي الأعمال التي تحبها، وتغني أغانيك المفضلة، وأن تكون حقًّا وصدقًا أنت نفسك" "على حد تعبير ليشون الكاتب المعاصر ليشون Leshon". وفي تناول موضوع نموِّ الشخصية وتغيرها في هذا الطور يركز العلماء على مسألة أثر التقدم في السن على الشخصية, فهل يظهر الأفراد تغيرات منتظمة في جوانب الشخصية؛ مثل الميول والاتجاهات والقيم, مع انتقالهم مع الرشد المبكر إلى وسط العمر وأخيرًا إلى الشيخوخة، أم أن الشخصية تستقر عبر دورة حياة الراشد؟ وعلى الرغم من أن المقاومة المباشرة بين مختلف الأعمار في إحدى سمات الشخصية, أو مجموعة من هذه السمات تبدو الطريقة الصحيحة للإجابة على هذا

السؤال إلّا أن الأمر في الواقع ليس بهذه البساطة؛ فالشخصية هي أكثر جوانب الفرد تعقيدًا وتركيبًا ويصعب قياسها عبر الزمن, ويميز بعض العلماء في هذا الصدد بين البنية الأساسية للشخصية أو نمط السمات فيها, وبين أنماط السلوك الظاهر أو الأدلة التي تدل على هذه السمات, وتؤكد البحوث أن البنية الأساسية للشخصية مستقرة عبر الزمن، أما ما يطرأ عليه التغيير فهو السلوك الظاهر, أو الأداء الذي يتم من خلاله التعبير عن هذه البنية؛ فالشخص قد يظل يوصف بالعدوانية سواءً في رشده المبكر أو الأوسط، إلّا أن طريقة التعبير عن هذا العدوان قد تخلف من طور لآخر؛ فقد يكون العدوان إيجابيًّا في الطور الأول؛ حيث يغلب عليه طابع الهجوم والمواجهة والتحدي، وسلبيًّا الطور الآخر؛ كنيسان دعوة الشخص موضع العدوان على الغذاء أو خداع الرئيس, وهذا لا يعني أن السمة تغيرت تغيرًا جوهريًّا في الطورين، أو أن بنية الشخصية غير مستقرة, وبالمثل فإن التشابه بين أنماط السلوك الظاهر في الطورين لا يدل على تشابه السمة فيهما أيضًا. فالأشخاص الذين يقدمون المساعدة لزملائهم، قد يفعلون ذلك بسبب ما لديهم من دافع أساسي أصيل للمساعدة, أو بسبب دافعهم للحصول على تقدير الذات, والسعي إلى تضخيم صورتها من خلال جعل الآخرين يدركون أنفسهم ضعافًا أو غير قادرين, أو لديهم نقص في مجال معين, وهذا نوعٌ من السلوك العدواني السلبي تجاه الآخرين. وكما هو الحال في دراسة النموّ العقلي المعرفي، فإننا في دراسة نموِّ الشخصية في حاجة إلى التمييز بين الفروق الشخصية التي ترجع إلى النمو الفعلي والمنهجية, فإن معظم البحوث التي أجريت حول نموِّ الشخصية تدعم فرض استمرار بنية الشخصية في مرحلة الرشد، ويصدق هذا خاصةً على البحوث التي استخدمت الطريقة الطولية, وأكثر الخصائص استقرارًا هي القيم "الجمالية، الدينية، الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية" والميول المهنية, وحين استخدمت الطريقة المستعرضة كانت النتائج أكثر تعقيدًا بالطبع؛ حيث توصلت بعض الدراسات مثل التصلب والمحافظة ومفهوم الذات والرضا عن الحياة. ومن الدراسات التي أكدت استقرار الشخصية تلك التي قامت بها "Haan, 1981" وهي دراسة طولية لعينة من المفحوصين بدأ بعضها من مرحلة الطفولة، إلّا أن معظمها بدأ من مرحلة المراهقة واستمرت الدراسة حتى بلوغ المفحوصين طور وسط العمر, وأجريت المقارنة في ست سمات هي:

1- الاستثمار المعرفي: Cognitive investment وهي بُعْدٌ أحاديّ القطب, يشير إلى السهولة والمهارة في التعامل مع الأمور العقلية، والتفكير القائم على الروية والاهتمام بالإنجاز الشخصي. 2- التفريط في مقابل الإفراط في التحكم الانفعالي: وهو بعد ثنائي القطب, يمثل أحد طرفيه الاتجاه الضاغط الاندفاعي في التعامل مع الأشخاص، في مقابل الاتجاه اللين المقيد للانفعالات. 3- الذات المفتوحة في مقابل الذات المغلقة: وهو بعد ثنائي القطب أيضًا, يمثل درجة انفتاح أفكار المرء ومشاعره وخبراته على الآخرين والبيئة ويسره في التعبير عن ذاته، في مقابل عكس ذلك. 4- التعاطف في مقابل العداء: وهو بعد ثنائي القطب كذلك, ويدل في أحد طرفيه على الدفء والاستجابية للأشخاص الآخرين, ووضعهم موضع الاعتبار والرعاية، في مقابل العداء والخصومة والتوتر في التعامل معهم. 5- التفريط في مقابل الإفراط في الجنسية الغيرية: وهو بعد ثنائي القطب, يشير إلى الاختلاف في طرق المرء في التعبير عن سلوكه الجنسي. 6- الثقة بالنفس: وهي بعد أحادي القطب يدل على التوازن ورباطة الجأش والتسلط والإنتاجية والرضا عن الذات وتقديرها, وخاصةً في مواقف العلاقات بين الأشخاص. ولقد أكدت نتائج هان أن أبعاد الشخصية الست كانت على درجة كافية من الاستقرار النسبي من المراهقة وحتى الرشد الأوسط, وبالطبع فإن طول الفترة الزمنية بين المراحل أثرت في درجة الاستقرار؛ فقد لوحظ مثلًا قدر أكبر من الاستقرار من المراهقة إلى الرشد المبكر، ومن الرشد المبكر إلى الرشد الوسط، بينما أظهرت المقارنة بين المراهقة والرشد الأوسط درجة من عدم الاستقرار بسبب طول الفترة الزمنية, كما وجدت الباحثة أيضًا أن الأبعاد الأكثر ارتباطًا فيما بينها "وخاصة الاستثمار المعرفي والذات المفتوحة في مقابل المغلقة، والثقة بالنفس" كانت أكثر استقرارًا, وبالإضافة إلى ذلك, فإن شخصيات النساء كانت بصفة عامة أكثر استقرارًا من شخصيات الرجال, ويحدث أكبر تغير في شخصيات الرجال بين المراهقة والرشد عند تولي مسئوليات هامة مثل العمل وما يترتب عليه من استقلال مالي واقتصادي, وعلى هذا فإن ما يسمى أزمة وسط العمر -إن كانت توجد على الإطلاق- فإنها تتمضن إعادة تشكيل أو إعادة تنظيم خصائص شخصية قائمة بالفعل, وليس تحويلًا كاملًا للشخص إلى "كائن إنساني جديد".

الميول المهنية واللامهنية

الميول المهنية واللامهنية: من الدراسات المبكرة حول العلاقة بين الميول والعمر تلك التي قام بها سترونج عام 1931, وهي دراسة مستعرضة معتمدة على استجابات 2340 رجلًا تمتد أعمارهم بين 20، 60 عامًا, يعملون في 8 مجالات مهنية كبرى، استخدم فيها اختباره الشهير للميول المهنية, وفي دراسة تالية قام بها نفس الباحث عام 1943, استخدم فيها عينات عمر مماثلة واستخدم المنهج الطولي التتبعي في بعض الحالات. وقد تكون أهم النتائج التي توصل إليها سترونج أن الميول تظل متشابهة في مختلف الجماعات العمرية، فالأشخاص في المهن المختلفة يظهرون اختلافًا في أنماط ميولهم أكبر مما يوجد بين المستويات العمرية المختلفة, وأكبر تغير يمكن إرجاعه إلى العمر يحدث بين عامي 15، 25عامًا, وأحد هذه التغيرات زيادة عدد الاستجابات التي تدل على حب المرء لعمل ما, وقد يكون سبب ذلك اتساع مدى الخبرة، أما بين عامي 25، 55 عامًا, فإن التغيرات الجوهرية تتضمن نقصًا في "حب" الأنشطة التي تطلب مهارة جسمية ومخاطرة، وكذلك الأعمال التي تتطلب الكتابة، كما ظهر نقص دالّ في حب الأنشطة التي تتمضن تغيرًا أو تداخلًا مع العادات الثابتة عند الفرد. وتوجد فروق جوهرية بين الرجال والنساء؛ فالرجال بصفة عامةٍ يميلون إلى تركيز اهتماماتهم وميولهم في نطاق مهين محدود لمدة تمتد بين 20، 25عامًا، وخاصةً بعد ما يدركون التفاوت البيّن بين التوقعات المهنية المبكرة "خلال طور الشباب" والإنجازات الحقيقة "Levinson, et al., Nichols, 1986", إلّا أنه مع وعي الشخص بقصر الفترة المتبقية له في حياته المهنية قد يعيد حساباته؛ فالبعض يحاول تحقيق أحلامه قبل فوات الأوان، والبعض الآخر يتواضع بطموحاته المهنية ويصير أكثر اهتمامًا بالأمور الأسرية، والبعض الثالث -بعد فشل محاولاته في إحراز تقدم مهني- يقنع بما هو فيه "Schuster Ashburn 1992". أما النساء فإنهن يمارسن عادةً أدوارًا متعددة، فالمرأة لديها فرص متعددة للدخول في العمل والخروج منه، ويؤثر ذلك على ميولها المهنية التي تتسم بأنها

أكثر مرونةً حتى في مرحلة وسط العمر. ولعل الميول اللامهنية هي الأكثر أهمية في طور وسط العمر، ففيه يكتشف الراشدون أهمية أنشطة وقت الفراغ والترويح، والتي قد تحل في مراحل لاحقة محل أدوار العمل, وقد يكون بعض هذه الأنشطة متمركزًا على ما يدور داخل المنزل "كالخياطة للنساء، والنجارة للرجال"، وبعضه الآخر خارجه "كالرحلات والزيارات", وقد يمارس البعض أنشطة التعبير الذاتي؛ كالموسيقى والفن والكتابة، أو القيام بأنشطة خدمة البيئة والمجتمع المحلي.

التوافق

التوافق: يؤكد اتجاه نتائج بحث قام به بروزويك عام 1955, الذي عرضناه سابقًا, والذي تَمَّ فيه تحليل مفردات اختبار الشخصية المتعدد الأوجه "مينسوتا", والمقارنة بين استجابات عينة من طلاب الجامعات بأخرى من رجال الأعمال والمهنيين, تمتد أعمارهم بين 45-55 عامًا, أن عينة الراشدين الأكبر سنًّا تظهر تدهورًا في اللياقة البدنية، وميلًا متناقصًا لأنشطة العنف والمغامرة، وقلقًا أكبر حول العمل والتوافق الوجداني، إلّا أن توافقهم الاجتماعي للأسرة والأقارب كان أفضل من الراشدين الصغار. وتؤكد البحوث التي قام بها كوهلن عام 1945, وجود فروق فردية واسعة في استجابة الراشدين للتغير في الحياة، وأهمية العوامل النفسية في تحديد التوافق الانفعالي في مثل هذه المرحلة من العمر, وفي رأيه أن محافظة الأفراد مع تقدمهم في السن على ميولهم النشطة, واستمرارهم في عمل ملائم, له أهمية مطلقة في تحقيق التوافق الجيد. وقد ناقش كوهلن ثلاثة فروض حول العلاقة بين العمر والتوافق وهي: 1- العلاقة المنحنية، أي: تظهر زيادة في البداية, ثم تتجه نحو التناقص في الأعمار المتقدمة، وبالطبع يصل التوافق في مثل هذا النوع من العلاقات إلى حَدٍّ أمثل عند عمر معين. 2- عدم وجود تغير كلي في مستوى التوافق مع التقدم في السن, وذلك في الظروف المعتادة، وإنما قد يحدث تحوّل في بعض مجالات التوافق؛ حيث يصبح لبعض هذه المجالات أهمية أكبر أو أقل في بعض الأعمار. 3- الفروق بين الراشدين الصغار والكبار في التوافق يرجع في جوهره إلى

مدى القابلية للتأثر بالضغط والتهديد، وبالتالي كلما زادت عوامل التوتر في البيئة أو داخل الشخص أدت إلى نقصان التوافق بصفة عامة أو في بعض مجالاته. ويذكر كوهلن أن الأدلة العلمية المتاحة التي تَمَّ الحصول عليها بوسائل مختلفة: المقابلات، وسائل التقرير الذاتي، الأساليب الإسقاطية، تدعم هذه الفروض الثلاثة جميعًا، إلّا أن معاملات الارتباط بين متغيرات التوافق المقيسة والعمر الزمني تميل إلى الانخفاض, ويقترح كوهلن في هذ الصدد نظرية دينامية للتقدم في السن, وفيها لا تعتبر خصائص الشخصية نتيجة لعملية التقدم في السن, وإنما هي من المتغيرات الهامة التي تؤثر في هذه العملية ذاتها. وإذا أردنا تناول نموّ الشخصية في مرحلة وسط العمر في إطار نموذج إريكسون, فإن الأزمة التي تتطلب حلًّا في هذه المرحلة في رأيه لا تزال هي أزمة الإنتاجية أو التدفق في مقابل العقم أو الركود, والتي تمثّل المرحلة السابعة في نموذجه للنمو الوجداني، وهي بذلك استمرار لبعض ما كان عليه الحال في طور الرشد المبكر. فالإنتاجية أوالتدفق لا تزال عند الراشدين الكبار -كما كان الحال عن الراشدين الصغار- هي الاهتمام بتكوين وتوجيه الجيل القادم, وهي عند البعض يتم التعبير عنها, كما كان الحال في الرشد المبكر في سياق الأسرة من خلال الحب ورعاية العلاقة بالزوج والأبناء, إلّا أنه قد يضاف جانب هام آخر يميز الرشد الأوسط وهو إنتاجية العلم, ويتمثّل ذلك في الإشراف على العاملين الصغار المبتدئين بتوجيههم ومساعدتهم في تنمية مستقبلهم المهني؛ فالتدفق هو علاقة الشخص بالمستقبل، وهو الوسيلة التي يثبت بها المرء وجوده عبر الزمن. وعكس التدفق، في نظرية إريكسون، العقم أو الركود, وهو شعورٌ بالاستلاب الشخصي والملل واهتمام بالذت. وقد تطورت نظرية إريسكون بالنسبة للراشدين, وخاصةً في طور منتصف العمر على يدي روبرت بك "R Peck "1968"، وعنده أنه توجد أربعة تحديات أو مهام كبرى أمام الراشدين في هذا الطور وهي: 1- تفضيل الحكمة والخبرة على القوة الجسمية: فالراشدون الكبار عليهم أن يعترفوا ويقبلوا التدهور الحتمي في النواحي الجسمية, ويعتمدوا أكثر على المعرفة والخبرة والعمليات العقلية لتحقيق الرضا عن الحياة، وإلّا يظهر ما يسميه بك "اكتئاب وسط العمر" إذا استمر الجسد هو المظهر الرئيسي للهوية, أما إذا استبدلت القيم الأعمق بالخصائص الجسمية فإن الراشد

يتوصل إلى الحكمة اللازمة لحل المشكلات الحياة، وإلّا يظهر ما يسميه بك "اكتئاب وسط العمر"، إذا استمر الجسد هو المظهر الرئيسي للهوية, أما إذا استبدلت القيم الأعمق بالخصائص الحسمية فإن الراشد يتوصل إلى الحكمة اللازمة لحل مشكلات الحياة. 2- إعادة تحديد العلاقات بالآخرين: فعليهم أيضًا إدراك الآخرين "ومنهم شريك الحياة" بشكلٍ متزايدٍ كأفراد ورفقاء، وتصبح العلاقات معهم "ومنها العلاقة الزوجية" بشكلٍ عامٍّ أكثر اتساعًا وأكثر اجتماعيةً. 3- المرونة الانفعالية: أي تحويل الاستثمار الانفعالي لدى الراشد من التركيز على شخصٍ واحدٍ أو نشاط واحد إلى أشخاص جدد أو أنشطة جديدة, وهذه القدرة لها أهمية خاصة في منتصف العمر بسبب التعرض المتزايد لفقدان أو تدهور بعض هذه العلاقات في هذا الطور؛ مثل: وفاة الوالدين، كبر الأبناء وتركهم البيت، طرح بعض الأنشطة جانبًا "خاصة الأنشطة الرياضية العنيفة", وحتى يمكن التكيف لهذه التغيرات يجب أن يكون الشخص في منتصف العمر قادرًا على إعادة استثمار هذه الطاقة الانفعالية مع أفراد ومواقف جديدة. 4- المرونة العقلية والتفتح على الخبرات الجديدة وطرق التعامل مع الأشياء والأشخاص: فالراشد الناضج يواجه دائمًا مشكلات تتطلَّب حلولًا مبتكرة يبدعها هو، أو تقويمًا إيجابيًّا للبدائل التي يقدمها لها الآخرون, أما الراشدون الأقل نضجًا فيستمرون في الاعتماد على الأفكار الجاهزة لديهم، والحلول المعتادة عندهم، والاتجاهات المألوفة لهم، وعندئذ يصبحون عبيدًا للماضي، وبدلًا من أن يتحكَّموا في حياتهم، تتحكم الظروف المحيطة بهم فيهم. ويضيف هافييجهرست "Havighurst 1974" إلى ذلك, أن طور وسط العمر مرحلة فريدة في حياة الإنسان, فلا توجد فترة أخرى في حياته لها مثل ذلك الأثر في المجتمع, ثم إن المجتمع أيضًا يطلب منه أعظم المطالب في نفس الوقت, وعلى ذلك فإن راشدي منتصف العمر يجب عليهم التعامل في المنزل مع مهام مثل مساعدة الأبناء من المراهقين والشباب, على أن يكونوا راشدين مسئولين سعداء، والإبقاء على علاقة توافقية سليمة في الزواج, وهم يواجهون ضغوطًا في العمل، ومع ذلك يكون عليهم الوصول إلى مستوى رفيع من الأداء المهني والمحافظة عليه, وفي نفس الوقت يطلب منهم المجتمع أن يقبلوا وينفذوا مسئولياتهم الاجتماعية وواجباتهم في المواطنة, كما أن الشخص في هذا الطور

يجب عليه أن يجد منافذ جديدة لوقت الفراغ تعكس التغيرات التي طرأت على الجسم والميول والقيم والمكانة الاقتصادية وبنية الأسرة. وأخيرًا فإن ليفنسون "Levinson, 1979" يرى أن مرحلة وسط العمر هي وقت بلورة الميول والقيم والالتزامات, فعنده أن الراشدين ابتداءً من مطلع الثلاثينات وحتى حوالي سن الأربعين يبدأون في الاستقرار، وعندئذ تكون هناك التزامات أعمق نحو الأسرة والعمل والأصدقاء وكل من يهم وما يهم الشخص, وعند حوالي سن الأربعين ولمدة حوالي خمس سنوات يمر المرء بمرحلة التحول إلى وسط العمر, وهي فترة تمثّل المعبر بين الرشد المبكر والرشد الأوسط، أو على حَدِّ تعبير ليفنسون بين المستقبل والماضي, فهي وقت مراجعة رصيد الذات, وفيها تعود أسئلة قديمة منذ أيام المراهقة إلى الظهور مثل "من أكون؟ " وإلى أين "المصير؟ " وهكذا، وتكون لها أهميتها مرةً أخرى, عندئذ يبدأ المرء في تقويم إنجازاته الشخصية في ضوء الأهداف السابقة, كما يعيد تنظيم هذه الأهداف في ضوء كلٍّ من الإنجاز الراهن والمتوقع, وتبعًا لما يراه ليفنسون فإن التخطي الناجح لهذه المرحلة الانتقالية في وسط العمر يتطلب العمل وسط التناقضات بين ما هو كائن وما يجب أن يكون, وإذا استطاع الراشد قبول حقائق حياته الجديدة فإنه يظهر مستوًى جديدًا من الاستقرار مع دخوله طور منتصف العمر, كما يظهر صفات يتطلبها هذا الطور مثل: الحكمة والحكم الجيد وحسن التمييز والتقدير والشفقة على الآخرين "وخاصة الصغار" وسعة الأفق, وإذا لم يتوافر ذلك فيه قد يظهر بينه وبين من هم أصغر منه سنًّا ما يُسَمَّى "صراع الأجيال", ومن الطريف أن نذكر هنا أن الراشدين الكبار الذين كانت علاقاتهم طيبة برؤسائهم في سنواتهم المبكرة, يصبحون هم أنفسهم رؤساء ممتازين في هذا الطور, وخاصةً من حيث إرشاد وتوجيه نموّ الصغار, ويصدق هذا أيضًا على العلاقات بالأبناء, وهكذا فإن أزمة "صراع الأجيال" التي تبدأ في الظهور في هذا الطور قد تكون جذورها وبذورها في التنشئة المبكرة للراشدين الكبار أنفسهم.

نمو الحياة الأسرية

نمو الحياة الأسرية مدخل ... نمو الحياة الأسرية: تتغير طبيعة الحياة الأسرة تغيرًا جوهريًّا خلال طور وسط العمر, فلأن معظم الأشخاص الذين هم في منتصف العمر يتزوجون عادةً في العشرينات من عمرهم, وعادة ما ينجبون عقب ذلك مباشرة, فإنهم عندما يبلغون سن الأربعين يكون أكبر أبنائهم على وشك إنهاء تعليمه, والدخول في عالم العمل, أضف إلى ذلك أن الأبناء يصبحون أقل بقاءً في البيت, وبالتالي ينشأ جوّ عائلي مختلف عما كان عليه الحال من قبل, ويدوّن بعض ما يصدر عن الأبناء المراهقين والراشدين الصغار من بعض الحركة؛ مثل: استخدام التليفون أو مشاهدة التليفزيون أو الاستماع للموسيقى, يكون المنزل هدوءًا شاملًا, وبعد بضعة سنوات قليلة يتم خروج أصغر الأبناء إلى المجتمع راشدًا صغيرًا مستقلًّا, وحينئذ يصحب الوالدان في منتصف العمر وحيدين, ولعل هذا يفسر لنا قول "Dovall, 1977" من أن الزوجين يقضيان حوالي نصف دورة حياتهما الزوجية وحدهما بعد أن يترك الأبناء المنزل. وقد عرضنا في الفصل السابق نموذج دوفال لنموّ الحياة الأسرية, والذي حددت فيه عدد السنوات التي يقضينها الزوجان معًا ووحدهما, إلّا أن ما يجب أن ننبه إليه أن هذا النموذج لا يضع في الاعتبار كثيرًا من التنوع في الفروق الفردية في وقت الزواج، وكذلك الفروق الفردية في الإنجاب وعدد الأبناء، والفروق الزمنية بين ولادة كل طفلٍ وآخر "وبالطبع يشمل ذلك تلك الشريحة التي قد لا تنجب على الإطلاق", وعلى الرغم من النمط الشائع للزوجين في وسط العمر أنهما في مطلع الأربعينات يكونان على وشك أن يخرج أكبر أبنائهما إلى عالم الرشد، فإن بعض الآباء من نفس العمر, وخاصةً الذين يتزوجوم متأخرين أو يؤجلون الإنجاب, ربما يقضون هذه الفترة في التعامل مع صراعات وضغوط مراهقة الأبناء أو حتى طفولتهم, بل إن نسبة من الأزواج "ولو أنها قليلة" قد يجدون أنفسهم آباء لأول مرة خلال طور منتصف العمر, كما أن آثار الطلاق وإعادة الزواج وتكوين أسرة ثانية, وغير ذلك مما ناقشناه في الفصل السابق، كل هذا يغير عدد السنوات وتتابع الأحداث في دورة الحياة الأسرية. إلّا أننا يجب أن نشير إلى أن عبارة "الآباء والأبناء" المستخدمة حتى الآن, قد تصف الراشدين في منتصف العمر في تفاعلهم مع أبنائهم الذين تمتد أعمارهم بين الطفولة ونهاية المراهقة, وقليلًا ما ندرك هؤلاء الراشدين في منتصف العمر كأبناء هم أنفسهم لوالديهم المسنين. فمع زيادة متوسطات الأعمار وتحوّل الأسرة لتصبح أسرة صغيرة ووثيقة الصلة بالأجيال الأكبر, فإن نسبةً لا بأس بها من الأسر أصبحت متعددة الأجيال في طبيعتها وبنيتها, فمن الشائع أن نجد في الأسرة الواحدة ثلاثة أجيال أو أكثر يعيشون معًا وفي وقت واحد -الأجداد "من المسنين"، والآباء "في منتصف العمر"، والأبناء الأحفاد "في الرشد المبكر"، والأسباط "في الطفولة".

1- العلاقات بين الأجيال: حتى عهد قريب لم يهتم علماء النفس وغيرهم من علماء العلوم الاجتماعية بمسألة العلاقات بين الأجيال, وقد نشأ هذا الإهمال جزئيًّا من وجهة نظر ضيقة للعلاقات الأسرية الأولية, فبدلًا من إدراك العلاقات بين الآباء والأبناء كعمليةٍ طويلة المدى, ركَّزَ معظم الباحثين على الفترة الأولى من دورة الحياة "الأسرية"، أي: الفترة التي ينجب فيها الزوجان ويربيان أطفالهما الصغار, حتى اللحظة التي ينطلق فيها هؤلاء الأطفال إلى العالم الخارجي, وبالإضافة إلى ذلك شيوع صورة نمطية؛ هي أن الراشدين الصغار حالما يستقلون فإنهم لا يحتاجون ولا يريدون الاتصال بوالديهم, إلّا أن حقيقة الأمر أن الأبناء الراشدين وأباءهم يظلون على اتصالٍ فيما بينهم، وأن هذه العلاقة عادةً ما تفيد الطرفين. وفي دراسة العلاقات بين الأجيال يوجد سؤالان شائعان هما: 1- ما مدى تأثير جيل ما في نمو الجيل الآخر؟ 2- هل التأثيرات بين الأجيال التي نلاحظها هي في جوهرها أحادية الاتجاه "حيث الآباء يوجهون ويشكلون سلوك وتوافق الأبناء" أم أنها متبادلة "أي: أن الآباء والأبناء يؤثر كلٌّ منهما في نموِّ الآخر تأثيرًا متبادلًا"؟ يعود الفضل إلى "Bengston&Troll, 1987" في دراسة العلاقة بين الراشدين الصغار ووالديهم، وفي ذلك يؤكدان على أن عملية التطبيع الاجتماعي الأسري في الرشد هي عملية متراطبة تتسم بالتغذية الراجعة المتصلة ونظام من التأثيرات المتبادلة, كما أكدا على أن الانتقال بين الأجيال للقيم، والمعايير وأنماط السلوك وغيرها, لا يتأثر فقط بخصائص الفرد, وإنما بعوامل أخرى خارج نطاق الأسرة؛ مثل: الفترة التاريخية الخاصة التي يعيش فيها الناس وأصولهم الثقافية, فمثلًا إذا نشأ الشخص في بيئة ثقافية تشجع المناقشة والحوار بين الأفكار, فإن من المحتمل أن يستمرَّ على ذلك في حياة الرشد التالية، وبالتالي يظل يؤثر في الآخرين ويتأثر بهم. وقد تدعمت الطبيعة الثنائية الاتجاه للتأثيرات بين الأجيال في دراسات أخرى حديثة تناولت العلاقات الأسرية بين مجموعات من مختلف المراحل العمرية "مجموعات الوالد المسن والابن في مرحلة الرشد المبكر", وتبين أنه في المسائل التي تتصل بنظام التغذية والممارسات الصحية والاتجاهات السياسية والآراء حول تنشئة الأطفال يوجد دليل على أن تأثيرات التطبيع تتجه

صعودًا وهبوطًا في خطوط الأجيال المختلفة, ومعنى ذلك أن الوالدين لا يؤثرون في أبنائهم فحسب, وإنما يؤثر فيهم أبناؤهم أيضًا. ويلخص ترول وبنجستون "في Wolman, 1972" نتائج البحوث حول الانتقال بين الأجيال, وَوَجَدَا أن معظم الباحثين ركزوا على الاتجاهات والقيم في خمسة مجالاتٍ على وجه الخصوص هي: السياسة والدين والجنس والعمل وأساليب العمل, فقد لوحظ مثلًا أن التشابه في تفضيل الأحزاب السياسية متسق عبر الأجيال, ويظهر تشابه أيضًا -ولكن ليس بنفس قوة التشابه في الانتماء الحزبي- في التوجه السياسي العام, مثل التحرر في مقابل المحافظة, كما وُجِدَ تشابه في القيم الدينية, وعلى عكس ذلك كله وجد اختلاف بين الأجيال حول الأدوار الجنسية, وأساليب الحياة, والتوجه المهني. وفي دراسة العلاقات بين الأجيال تُعْتَبَرُ مرحلة الرشد الأوسط ذات أهمية خاصة؛ فالراشدون في هذه المرحلة هم الرابطة بين الجيلين الأكبر والأصغر, وكون هذا الجيل يقع في منتصف خط الأسرة يعني أيضًا أنه يتأثر بالاتجاهين معًا؛ فبعض التأثيرات الأسرية تأتيه من أعلى إلى أسفل "أي: تأثير الوالدين المسنين في أبنائهم في منتصف العمر", والبعض الآخر يأتي من أسفل إلى أعلى "حيث يؤثر الأبناء المراهقون أو الراشدون الصغار في الوالدين في منتصف العمر", ولهذا نجد الشخص في هذا الطور يحاول جاهدًا إحداث التكامل بين أدواره الأسرية التي تبدو متعارضة, من ذلك دور القائد والراعي المعتمد على السلطة الوالدية بالنسبة لأبنائه، ودور الخضوع والطاعة بالنسبة لوالديه المسنين, وغنيٌّ عن القول أن هذه المهمة النفسية الاجتماعية تفرض تحديًا كبيرًا على الراشد في طور بلوغ الأشد. وهنا يجب أن نميِّزَ بين نوعين من الأسر: الأسر ذات الأبناء من المراهقين، وتلك ذات الأبناء من الراشدين الصغار, وبالنسبة للنوع الأول فقد كتب الكثير حول المشكلات الكثيرة وسوء الفهم والتفاهم، وهو ما يشار عليه عادةً بمصطلح "فجوة الأجيال", والتي تتمركز حول الصراع بين الآباء وأبنائهم المراهقين والشباب حول "منحهم" الاستقلال أو "حصولهم" عليه, ولعل هذا ما دفع كثيرًا من الباحثين إلى أن يطلقوا على هذه الظاهرة "صراع الأجيال" "السيد عبد العاطي، 1987", وعادةً ما تكون هذه المشكلة نتيجةً لمحاولة الآباء الحفاظ على سلطتهم وتحكمهم في المراهقين الذين هم بدورهم يسعون للاستقلال والحرية، إلّا أن التركيز على فجوة الأجيال أو صراع الأجيال يتجاهل حقيقةً هامةً, وهي أن المراهقين والشباب أنفسهم

يختلفون فيما بينهم في القيم بنفس درجة اختلافهم عن الوالدين، وإن لم يكن أكبر. وحين يصل الأبناء إلى مرحلة الرشد يصبح لا مناص من إعطائهم فرص الاستقلال والاعتماد على النفس, وهذه المرحلة من الوالدية والتي عادةً ما تحدث للآباء -وهم في طور منتصف العمر- لم تحظَ بقدرٍ كافٍ من البحث العلمي, ومن أسباب ذلك: أن هذه الحالة عادةً ما يُشَارُ إليها على أنها طور "ما بعد الواليدة", وكأن خروج الأبناء إلى العالم الخارجي ينهي تمامًا مسئوليات الوالدين إزاء أبنائهم، وحقيقة الأمر أن الراشدين الكبار لا يتوقفون مطلقًا عن أن يظلوا آباء وأمهات لأبنائهم, حتى ولم يعودوا يعيشون معهم، فالراشدون الصغار، وبصرف النظر عن العمر, أبناءٌ لآبائهم, حتى ولو كانوا متزوجين، ولديهم هم أنفسهم أطفال، ولهم حياتهم المستقلة نسبيًّا, وهذا القول إن كان يصدق بعض الشيء على الثقافات الغربية فهو أكثر صدقًا على المجتمعات العربية والإسلامية. 2- العلاقات بالأبناء الراشدين: العلاقة بين الآباء في منتصف العمر وأبنائهم في مرحلة الرشد المبكر تختلف عن علاقة الوالدين بالأبناء في مراحل العمر السابقة في دورة الحياة الأسرية, ومن أهم ما يميِّز تلك العلاقة في هذا الطور أن كلًّا من الآباء والأبناء من الراشدين متكافئون بطريقة أو أخرى من الناحية الاجتماعية، وخاصةً من حيث الامتيازات والمسئوليات التي تتوافر لهم نتيجة مكانتهم كراشدين؛ فالحياة المستقلة وزيادة الدخل المادي وتكوين الأسرة النووية, تؤدي كلها إلى رفع مكانة الابن الراشد الصغير، ويترتب عليها أيضًا نوعٌ من عدم التوازن في علاقة الآباء بالأبناء على نحوٍ يختلف عَمَّا كان عليه الحال في المراحل السابقة, ويوجد مظهر آخر للعلاقة بين الوالدين والأبناء في هذه المرحلة, هو أن "الاستثمار" الانفعالي الأولى الكبير, الذي كان موجَّهًا نحو الأبناء يُعَادُ توجيهه نحو أفراد آخرين, فعند الراشد الصغير يفوق الاهتمام بالزوجة والأبناء الاهتمام بالوالدين, وبالمثل فإن الزوجين في طور منتصف العمر يبدآن في تركيز اهتمام كلٍّ منهما بالآخر, ويقل الاهتمام بأبنائهم الراشدين المستقلين والمعتمدين على أنفسهم نسبيًّا على الأقل, ومع الانشغال بأمور العيش تصبح العلاقة بهم جزءًا من نشاط وقت الفراغ, وليس نوعًا من الحياة اليومية, ومع ذلك فإن البحوث تؤكد أن العلاقة بين الوالدين والأبناء في هذا الطور تظل لها أهميتها.

ومن مظاهر العلاقات الأسرية في هذه المرحلة ظهور دور الحموين, فمع زواج الأبناء تتداخل العلاقات الاجتماعية بين أسرتين كانتا في الأصل مستقلتين, ويبدأ الوالدان في منتصف العمر مشاركة أبنائهم في الوقت والطاقة والعاطفة التي يوجهونها نحو والدي زوج البنت أو زوجة الابن, وقد ينشأ عن ذلك بعض المشاعر السلبية نحوهما, والتي تنعكس بدورها على حياة الأسرة الصغيرة الناشئة للأبناء, ويمتلئ تراث الكوميديا والفكاهة بنماذج "نمطية" لسلوك الحما أو الحماة "ونصيب الحماة هو الأوفر", إلّا أنه توجد أمثلة كثيرة للعلاقات الطيبة بين الأسرتين الكبيرتين, وبين الزوج أو الزوجة ووالدي شريك الحياة "نادية رضوان، 1997". ومع ذلك فإن العلاقة بين الأبناء الراشدين وآبائهم في منتصف العمر لا زالت تتسم في مصر بالقوة, فالأبناء الراشدون كثيرًا ما يعتمدون على أبائهم للحصول على الدعم الماديّ "وخاصة في الظروف الاقتصادية الراهنة في المجتمع المصري المعاصر"، ولرعاية أطفالهم الصغار "وخاصةً إذا كانت الزوجة الصغيرة تعمل"، ولتوفير السند الانفعالي في الأزمات, كما أن الآباء في منتصف العمر يحققون بهذه العلاقة توفير الإشباع الانفعالي لأنفسهم, والرغبة في الصحبة, والشعور بالإنجاز، أي: إنتاج نسلٍ مستقلٍّ مسئولٍ محبٍّ يحمل معنى الاستقرار والبقاء بعد الوفاة، أو بعبارة إريكسون يحقق لهم الإنتاجية والتدفق, أضف إلى ذلك أن الآباء في منتصف العمر يفخرون بإنجازات أبنائهم الراشدين كما لو كانت إنجازاتهم الشخصية؛ فهم يعتزون بتخرج الأبناء وترقيتهم في العمل، ويشاركونهم سعادتهم عند الزواج، وعند ولادة الأحفاد, بل إن الأمر عند بعض الآباء في منتصف العمر يصل إلى حد اعتبار أن نجاح الأبناء هو في حدِّ ذاته تعويض عن إشباع بعض حاجاتهم وتحقيق بعض أهدافهم التي لم تتحقق لهم أنفسهم, وعلى ذلك فإن العلاقة بين الآباء في منتصف العمر وأبنائهم الراشدين هي من نوع الاعتماد المتبادل، فكلٌّ منهما يعتمد على حاجات الآخر لتحقيق الأهداف وإحراز السعادة. ومع ذلك فإن هذا الطور يوصف عادةً بالنسبة للحياة الأسرية بأنه طور "العش الخالي" empty nest. وبالطبع فإن لذلك مشكلاته؛ فبعض الوالدين يشعرون بإجهادٍ نفسيٍّ شديدٍ حين يغادر الأبناء نهائيًّا البيت, وتؤكد البحوث أن هذه الخبرة أكثر حِدَّةً لدى الأمهات منها لدى الآباء "Rupin1981", بل إن التوافق للحياة الأسرية الجديدة في هذا الطور قد يكون صعبًا للغاية على الأم التي

قضت معظم حياتها, وبذلت جل طاقتها في رعاية أبنائها، والتي حددت هويتها, واشتقت تقديرها للذات من دور الأمومة "Giele 1982", وهذه "الأم المثالية" كما تسمى أحيانًا، تعتبر دورها في "رعاية الأبناء" هو أكبر إنجازاتها, وحين يترك الأبناء البيت تُحْرَمُ حينئذٍ من أكثر أدوارها وأنشطتها أهميةً، فتشعر بالاكتئاب وفقدان القيمة والجدوى, وتتحسر على الحب الذي كان, ويطلق علماء النفس الكلينيكيون على ذلك "زملة أعراض العش الخالي" والتي تظهر بوضوح لدى النساء في طور منتصف العمر, وخاصة اللاتي يعانين من الاكتئاب, وقد يكون ذلك وراء توتر العلاقات بين الأسرتين الكبيرتين بعد زواج الأبناء، وسوء العلاقة بين "الحماة" -خاصة- وبين زوج ابنتها, أو زوجة ابنها. أما الأم التي تتنوع اهتماماتها "ومن ذلك الأم العاملة", وتقسّم وقتها ومهامَّها بين العمل مثلًا ورعاية الأبناء, فإن مشاعرها السلبية مع خبرة "العش الخالي" قد تكون أقل حدة وأخف وطأة، بل إن بعضهن قد يحول إنتاجيته نحو مجالات جديدة "Cooper&Gutmann, 1987, Troll, 1985". ولم يهتم العلماء إلّا منذ فترة قصيرة بآثار العش الخالي على الوالدين من الرجال، وتؤكد الأدلة الحديثة على أن الأمهات لسن وحدهن اللاتي يتعرضن للاضطراب نتيجة ترك الأبناء البيت؛ ففي دراسةٍ أجريت في الولايات المتحدة وُجِدَ أن حوالي 22% من الآباء يسجلون درجةً عاليةً من الشعور بالشقاء والتعاسة بسبب ترك آخر الأبناء المنزل "Brodznisky, et al., 1986" وظهرت هذه الأعراض بشكلٍ أكبر لدى الآباء الأكبر سنًّا، والذين لديهم عدد قليل من الأبناء، والذين شغلتهم رعاية أبنائهم طوال فترة حياتهم السابقة, بحيث صرفتهم عن الاهتمامات والأنشطة الاجتماعية الأخرى. إلّا أننا يجب أن نشير إلى أن الوالدية -وخاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية- نادرًا ما تنتهي بمغادرة الأبناء بين العائلة، وكثير من "الأعشاش" لا تعاني من خواء حقيقي "Clemins & Axelson 1985". فعلى الرغم من أن الأبناء قد لا يقيمون في البيت إلّا أنهم يستمرون في التعبير عن حاجتهم للدعم الوجداني والسند الإرشادي من خلال العلاقات الوالدية الحميمة، ويظل الوالدان لهما قيمتهما وقدرهما لدى الأبناء طوال حياتهما, وحتى بعد وفاتهما، Mc Crae & Costa 1988". 3- العلاقات بالوالدين المسنين: يوجد نمط آخر من العلاقات داخل الأسرة متعددة الأجيال هو العلاقات

بالوالدين المسنين, فمما يلفت النظر أنه في الوقت الذي يتحرر فيه الآباء في منتصف العمر من مسئوليات والتزامات تربية أبنائهم, نجد أن بعض أوقاتهم واهتماماتهم يتوجه بشكلٍ أكبر نحو والديهم المسنين الذين يكونون عادةً قد دخلوا في المراحل المتأخرة من الحياة, ومن الوجهة التاريخية, فإن هذا الموقف الذي يتطلب إعادة توجيه الاستثمار الانفعالي نحو الوالدين المسنين هو ظاهرة حديثة؛ لأنه حتى جيلين فقط, كان الراشدون في منتصف العمر هم عادةً أكبر الأعضاء الأحياء في الأسرة الممتدة؛ حيث لم يكن الوالدان المسنان في الأغلب في عداد الأحياء. ومع ارتفاع معدلات الأعمار زاد عدد المسنين والمعمرين، إلّا أن المجتمعات الحديثة لم تضع عبء رعايتهم كله على الأبناء من منتصف العمر, فخدمات التأمين الاجتماعي التي توفر للمسنين دخلًا ثابتًا في الوقت الحاضر، وكذلك انتشار خدمات التأمين الصحي، ووجود بعض دور الرعاية لهم, خففت من الأعباء التي تُلْقَى على عاتق الأبناء في منتصف العمر في رعاية والديهم المسنين. إلّا أن ذلك لا يعني أن الراشدين في منتصف العمر متحررون تمامًا من مسئولياتهم نحو الجيل الأكبر؛ فالواقع أن كثيرين من راشدي منتصف العمر لا يزال عليهم أن يقدموا الرعاية لوالديهم المسنين, ويلعبوا دورًا هامًّا في حياتهم, وعندئذ قد تعكس أدوار الوالدية والبنوة, فنجد الابن هو الراعي لوالديه, ويصدق هذا خاصةً حين يكون الوالدان في المراحل المتأخرة من الشيخوخة, وقد بينت بعض البحوث أن الوالدين المسنين قد لا يريدون أن يتحولوا إلى معتمدين على أبنائهم، وقد يظهرون جهدًا قويًّا نحو الاستقلال، إلّا أنهم قد لا يستطيعون. وبالرغم من هذا الاتجاه, فإن هناك أدلة على أن الصلة بين الأبناء الراشدين وآبائهم المسنين لها أهميتها وفائدتها للصحة النفسية للمسنين خاصة. وتُوجَدُ قرارات هامة وصعبة يجب أن يتخذها الأبناء الراشدون بالنسبة لآبائهم المسنين, ومن ذلك مثلًا هل يُتْرَكُ المسنون يعيشون وحدهم, حين يكونون في ظروف جيدة من حيث الصحة الجسمية والنفسية؟ هل يمكن وضع الوالد المسن في بيت للرعاية؟ إن التوازن هنا قد يكون صعبًا بين شعور المسن بحاجته إلى الاستقلال وبين حاجته الفعلية للرعاية، وفي جميع الأحوال, فإن ما يجب أن يحكم علاقة الأبناء في منتصف العمر بوالديهم المسنين هو مبادئ الإسلام الحنيف, يقول الله تعالى في الإشارة إلى علاقة الأبناء بالآباء على وجه العموم

وفي مختلف مراحل العمر: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] . وفي الإشارة الخاصة إلى هذه العلاقة عند تقدُّم الوالدين في السن يقول الله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] . 4- العلاقات بالأحفاد: من الأدوار الأسرية الهامة التي تنشأ في طور منتصف العمر دور الجدِّ, ويذكر "Hagestad, 1985" أنه نظرًا لزيادة مدى الحياة لدى الإنسان في الوقت الحاضرِ أصبح معظم الأطفال الآن يعرفون ويتعاملون مع جميع أجدادهم، ربما لأول مرة في التاريخ, وعلى الرغم من أنَّ الصورة النمطية للجد أنه الشخص الأبيض الشعر، المتجعد الوجه، المتقدم في السن، الضعيف البنية، والذي يقضي وقته في الجلوس في البيت أو المقهى نتيجة لتقاعده عن العمل، فإن هذه الصورة لم تعد صحيحة اليوم, فمع التغير في معدلات الخصوبة والوفاة, والتغير في خصائص السكان طوال السنوات الأخيرة, صار الجد أقرب إلى مرحلة منتصف العمر منه إلى مرحلة الشيخوخة, فقد أصبح العمر المميز ليصير المرء جَدًّا هو حوالي 50 سنة للنساء, و53 سنة للرجال, بل إن الزواج المبكر قبل سن العشرين "وهي ظاهرة بدأت في التناقص في السنوات الأخيرة" قد يجعل المرء جدًّا في منتصف الثلاثينات, وعلى ذلك فإن الجدَّ لأول مرةٍ يمكن وصفه بأنه شخص صحيح البنية، ينشغل في منتصف العمر, يجدون من الصعب عليهم تقبل دور الجدِّ أول الأمر، ويشعرون بأن ذلك يلقي عليهم ظلال وأثقال العمر، بينما صورة الذات التي يحاولون المحافظة عليها هي صورة الشباب. وهكذا تتفاوت صورة "الجدِّ" وتمتد ابتداءً من الشخص القادر الأقرب إلى الشباب، في طور بلوغ الأشد، وحتى الشخص العاجز المتقدم في السن في طور الشيخوخة المتأخرة, وبالطبع توجد فوارق بين الفئتين من منظور النموّ الإنساني, ومع ذلك فإن الجد -مهما كان طور النموِّ الذي هو فيه- يلعب دور النموذج التكاملي بين الوالدين من الراشدين "الأبناء" والأطفال "الأحفاد" داخل الأسرة الواحدة "Kivnick 1986", فوجودهم يحافظ على "هوية" الأسرة ويحقق معنى

الاتصال والتواصل فيها "Bengtson, 1985", كما أن تحول الإنسان إلى دور الجدِّ يعني أيضًا توسيع نطاق هويته هو؛ بحيث تشمل أدورًا جديدة تصلح للتعامل مع التغيرات الحادثة في العلاقات الأسرية. وتؤكد نتائج البحوث التي قام بها ترول "Troll, 1982" أن الأجداد يلعبون دورًا هامًّا في نفس الأسرة, إنهم يقدمون للأجيال الصغيرة الدعم الانفعالي والنصيحة العملية الناجمة عن رصيد الخبرة والنضج المتراكمين, وذلك بالنسبة للقيم الأساسية وأسلوب الحياة والمهنة والتربية والوالدية وغيرها, وتقوم الجدة خاصةً بالوظيفة الهامة لرعاية طفل ابنتها العاملة. وكما يختلف الأفراد في شخصياتهم وأسلوبهم في الوالدية, فإنهم يختلفون أيضًا في أساليبهم في القيام بدور الجد أو الجدة, ومن الدراسات الكلاسيكية في هذا الصدد تلك التي قام بها "Neugatrin, 1968 Nengatren & Weisteinm, 1964" وفيها حددا خمسة أساليب للتفاعل بين الحفيد والجد "الذي عادةً ما يكون عمره في الخمسينات والستينات, وينتمي إلى الطبقة المتوسطة"، على النحو الآتي: 1- التفاعل الشكلي: وفيه يظهر الجد اهتمامه بالحفيد، ويقدم له أحيانًا الهدايا والخدمات الخاصة؛ مثل الرعاية أثناء عدم وجود الوالدين, ولكنه لا يتدخل في تربية الطفل، ويترك الوالدية للوالدين. 2- التفاعل من خلال اللهو واللعب: وهو نمط من التفاعل غير الشكلي, ويظهر في صورة اتجاهٍ غير مقيد نحو الحفدة، وفيه يقوم الجد بدور رفيق اللعب, ويتوقع لهذا الأسلوب أن يؤدي إلى علاقة وثيقة متبادلة بين الحفيد والجدِّ. 3- التفاعل من خلال دور الرعاية: وهنا يقوم الجد أحيانًا "ودائمًا في الأغلب بالنسبة للجدة" بمسئوليات رعاية الطفل، حيث يحلان تقريبًا محل الوالدين, وخاصةً في بعض الظروف الخاصة بهما؛ كالسفر إلى الخارج أو العمل الشاق. 4- التفاعل من خلال دور السلطة: وهنا يعتبر الجد "وخاصة الجد الرجل" مستودع الحكمة الأسرية، وقد يتطرف هذا الدور حين يقوم الجد أو الجدة بدور تسلطي في الأسرة، حيث يصبح أفرادها ومنهم الآباء الراشدون تابعين له، وهو وحده الذي يوزع الموارد والمعرفة والنصيحة للآخرين.

5- التفاعل عن بعد: وهنا تكون علاقات الجد مع الحفيد محددة، فيزوره في العطلات والمناسبات الخاصة، ويقدم له الهدايا في هذه الزيارات القليلة, ولهذا فهو بالنسبة لحفيده "شكل بعيد" distant figure" من الناحية الوجدانية. ويلاحظ الباحثان أيضًا أن كثيرًا من الأجداد يشعرون في علاقتهم بأحفادهم بشعور "البعث البيولوجي", أي: الشعور باستمرار خط الأسرة، بالإضافة إلى الشعور بتحقيق الذات انفعاليًّا من خلال دورهم الأسري الجديد, ومن ذلك مثلًا أن الجدة قد تعيش من جديد خبرة حملها وولادتها وأمومتها المبكرة من خلال الخبرات الجديدة لابنتها أو زوجة ابنها, كما أن الجد بدوره قد يدرك أن لديه من الوقت والاهتمام بأحفاده مالم يتوافر له أبدًا لأطفاله, ولعل هذا يفسر معنى بعض الأمثال الشعبية في هذا الصدد مثل: "أعز من الولد، ولد الولد". وقد أجريت دراسات حول الأنشطة التي يمارسها الأجداد مع أحفادهم، ومن هذه الدراسات "Cherlin Furstenberg 1986" الذي أُجْرِيَ في إطار الثقافة الأمريكية، ونحن في حاجةٍ إلى بحوثٍ مناظرة في ثقافتنا العربية الإسلامية, ويلخص الجدول "17-3" هذه النتائج. جدول "17-3" الأنشطة التي يمارسها الأجداد مع الأحفاد وقد كشفت نتائج البحوث "Robertson,1979" من أن كثيرًا من الراشدين الكبار يجدون دور الجد أكثر سهولة ويفضلونه على دور الوالدية, ولهذا فليس من المستغرب أن يصف بعض الأجداد أنفسهم بأنهم أجداد جيدون, بينما لم يكونوا كذلك كوالدين.

التوافق الزواجي

التوافق الزواجي: مع بلوغ طور العش الخالي في دورة الحياة الأسرية يدخل الزوج والزوجة مرحلة جديدة من حياتهما الزوجية؛ فابتعاد الأبناء عن البيت يسمح لهما أن يعيدَا تركيز انتباه بعضهما على بعض وعلى زواجهما, ويكون هذا هو وقت إعادة اكتشاف كلٍّ منهما للآخر، وأحيانًا التعرف على الفجوة التي ربما كانت توجد بينهما, كما أنه الوقت الذي يُعَادُ فيه إعادة تأمل نمط الحياة الزوجية, وبعض الأزواج قد يندهشون حين يكتشفون أن العلاقة بينهما لم يطرأ عليها ضعف أو فتور, بل تكاد تكون نفس قوتها السابقة على الرغم من مرور أكثر من عشرين عامًا على الزواج, بينما يجد آخرون أن حياتهم الزوجية صارت يغلب عليها الطابع الروتيني مع نقص في عمليات التواصل بين الزجين, مما يتطلَّب تغيرًا في بعض أساليب التفاعل بينهما لإحياء العلاقة من جديد. ويُعَدُّ الجانب الأكثر تعرضًا للبحث في موضوع الحياة الزوجية في طور منتصف العمر موضوع التوافق الزواجي, وكان الاتجاه القديم أن معظم الزيجات تصبح أقل حيوية, كما أن العلاقة الزوجية تزداد جفافًا مع مسيرة الزواج, إلّا أن الدراسات الحديثة أوضحت أن هناك نقاط صعود وهبوط في الرضا الزواجي في السنوات المتأخرة من الحياة الزواجية, فلكلٍّ من الزوجين تُعَدُّ المرحلة التي يكون فيها الأبناء في سن المدرسة نقطة هبوط توافقي "توافق سلبي"، بينما مرحلة ما بعد الأطفال postchild والتقاعد يتم إدراكها إدراكًا إيجابيًّا "Huyck, 1982", وعلى الرغم من أن المرحلة التي يترك فيها الأبناء المنزل هي عادةًَ فترة ضغط وتوتر، فإن عدم الرضا يرتبط بالأبناء أو الوالدية أكثر من ارتباطه بالزواج في ذاته, أو بعلاقة أحدهما بالآخر. ما الذي يسبب زيادة الرضا الزواجي خلال هذا الطور من الحياة؟ توحي نتائج البحوث بأن ضغوط الدور التي يشعر بها المرء خلال السنوات المبكرة من الزواج تتناقص في منتصف العمر؛ فالأم -خاصة الأم العاملة- تشعر بالحرية من ضغط وعبء الجمع بين أدوار العمل والأمومة، كما أن الاهتمام العاطفي

المتجدد لدى الزوجين في هذا الطور قد يزيد التقارب والمحبة والمودة بين الزوجين, ويوجد عامل آخر قد يفسِّر الاتجاهات الإيجابية نحو الزواج لدى الراشدين الكبار "وفي الشيخوخة أيضًا", هو أن الأزواج الذين كانوا في مراحل مبكرة من عمرهم أقل رضًا وسعادةً في زواجهم, انفصلوا أو طلقوا بالفعل قبل هذا الطور. أما الذين استمرَّ زواجهم طوال هذا العمر فيمثلون مجموعةً منتقاةً من الأفراد هم الأكثر سعادةً والأكثر توافقًا في زواجهم, وإذا كان هذا التفسير صحيحًا -وهو بالفعل كذلك- فإن نتائج البحوث حول الرضا الزواجي مدى الحياة لا تدل كثيرًا على تغيرات نمائية حقيقية في نوعية الحياة الزوجية، وإنما هي أقرب إلى الاصطناع المنهجي الذي يرجع إلى زيادة انتقائية المفحوصين. وفي تحديد العوامل المحددة للرضا الزواجي, يرى كثيرون أن العامل الأكثر أهميةً هو التوافق الجنسي, وعلى الرغم من أن هذا الجانب في الزواج له أهميته في السعادة الزوجية إلّا أن البحوث أكدت أن الأهمية القصوى هي للرفقة الزواجية Marital Companionship "Garrett, 1982" وتعني الرفقة هنا: ما هو أكثر من مجرد قضاء وقت أطول مع شريك العمر, وأحد أسباب الربط بين علاقات الرفقة والرضا الزواجي أنها تهيئ للزوجين الفرصة لتخفيف أعباء الضغوط والتوازن والإحباطات التي تنشأ خلال مسيرة الحياة اليومية. وكما يذكر جاريت: فإنه في مثل هذه العلاقة يمكن لأحد الزوجين أن "يطلق البخار الحبيس" أمام شريك حياته دون خوفٍ من النقد أو الرفض, فدور شريك الحياة كمستمعٍ راغبٍ ومهتمٍّ وقادرٍ على تقديم التشجيع والنصحية, يؤدي إلى خفض التوترات, ويحدث عمقًا في العلاقات الزواجية, وينمي شعورًا بمزيد من الألفة المتبادلة بين الزوجين. وعلى الرغم أن علاقات الرفقة الزواجية يمكن أن توجد لدى الأزواج من مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية, إلّا أن جاريت يلاحظ أنها أكثر شيوعًا بين الأزواج من الطبقتين المتوسطة والعليا أكثر منها بين من هم في الطبقة الدنيا "وخاصة طبقة ذوي الياقات الزرقاء من العمال", ويعود إلى تقسيم العمل الواضح الجامد في الأسرة من النوع الأخير؛ حيث الزوج هو "كاسب العيش", والزوجة هي "الأم وربة البيت", وهذا التقسيم الجامد للدور يؤدي إلى فقدان التواصل بين شريكي الحياة الزوجية, وبالطبع يودي إلى مشاعر منخفضة بالرضا الزواجي. الطلاق: تؤكد الإحصاءات الحيوية في عددٍ من الثقافات, وخاصةً في أمريكا, أنّ حوالي ثلث الزيجات تنتهي بالطلاق، وحوالي ربع حالات الطلاق

تحدث بعد حوالي 15 عامًا من الزواج، وبالتالي قد تحدث أثناء مرحلة منتصف العمر, ومن غير الشائع حدوث طلاق بين من تزوجوا لمدة 20 أو 25عامًا. ومن الأسباب الهامة للطلاق في أيِّ مرحلةٍ من مراحل العمر العنف الزواجي، وخاصةً عنف الزوج إزاء الزوجة، وقد يرجع أحيانًا إلى عنف الزوجة, وقد زادت حوادث عنف الزوجات في مصر في السنوات الأخيرة إلى درجةٍ تدعو للقلق والاهتمام, وقد يحدث الطلاق نتيجةً لضغوط أزمات الحياة أثناء هذه المرحلة, أو بسبب العلاقات غير المشروعة, إلّا أن كثيرًا من الباحثين يرون أن الطلاق -وخاصة في منتصف العمر- قد يحدث للاختلاف في معدَّلات النموِّ لدى شريكي الزواج, وقد اقترح "Troll, 1982" نموذجًا للتوافق بين الزوجين, يعتمد على "حسن المطابقة" بين أنماط النموّ الفردي لكلٍّ منهما, وتبعًا لهذا النموذج يكون للزواج أفضل فرصة للاستمرار إذا ظلَّ كلٌّ من الزوجين ثابتًا في شخصيته, أو نما "أو تدهور" كلٌّ منهما في نفس الوقت تقريبًا عبر زمن الزواج, وتنشأ الخلافات الزوجية الحادة إذا حدث أيّ نقص في حسن المطابقة بين نمو الزوجين, ويحدث ذلك في ثلاثة حالات على وجه الخصوص: 1- حين يظل أحد الزوجين ثابتًا في شخصيته, بينما يتعرض الآخر لنموٍّ أو تدهور فيها. 2- حين ينشأ تغيُّر في الشخصية في نفس الاتجاه لكلٍّ من الزوجين, ولكن معدل التغير يختلف اختلافًا كبيرًا لدى كلٍّ منهما. 3- حين تتغير الشخصية من الزوجين في اتجاهين مختلفين. والطلاق في هذه الحالة -شأنه في ذلك شأن المراحل الأخرى- خبرة أليمة، تتبعه الوحدة والشك في الذات, وتقلب المزاج على نحوٍ يتطلب إعادة التوافق من جديد, وبالطبع قد يتبع الطلاق زواج جديد، إلّا أن حالاته في هذا الطور أقل حدوثًا وأكثر ندرةً، وهو أكثر حدوثًا بين الرجال منه بين النساء، ومن لم يتزوج بعد الطلاق يظل ما بقي من عمره وحيدًا. التَّرَمُّل: ومن ظواهر الوحدة الزواجية الأخرى إلى جانب الطلاق الترمُّل Widowhood, صحيح أنه أكثر ارتباطًا بالعمر الثالث للإنسان "الشيخوخة"، إلّا أن وفاة أحد الزوجين قد تحدث في طور منتصف العمر "كما قد تحدث في أيِّ مرحلة نمائية أخرى سابقة, تبعًا لقدرة الله -سبحانه وتعالى", إلّا أن ما يلفت النظر حقًّا أن المرأة في هذا الطور قد تعتبر نفسها قد بلغت مرحلة الشيخوخة بعد أن تفقد

زوجها, وما يخص طوْرَ منتصف العمر من مشكلات التَّرَمُّلِ أن المرأة -أو الرجل- قد يفقد شريك الحياة، بينما الأصدقاء الآخرون يعيشون حياةً زوجيةً عادية, ولهذا قد تتغير العلاقات الاجتماعية بالأصدقاء؛ فالأرمل آخر من يدعى -وقد تُنْسَى دعوته- في المناسبات الاجتماعية، في الوقت الذي يصعب عليه في هذا السن هجر الحياة كما يحدث بالفعل لمن هو في مرحلة الشيخوخة, والسبب في ذلك أن الشخص في طور منتصف العمر لا يزال يمارس حياته المهنية والاجتماعية المعتادة, ولهذا فإن التَّرَمُّلَ في طور منتصف العمر خبرة شديدة الإيلام, وخاصة مع ما يصاحبها من شعورٍ قاسٍ بالوحدة, وشعورٍ قويٍّ بالاغتراب. العزوبية: أما المظهر الأخير للوحدة الزواجية في هذا الطور فهو العزوبية Singlehood, فهناك نسبة من الأشخاص الذين يبلغون منتصف العمر دون أن يتزوجوا أبدًا, وللأسف فإنه لا تتوافر لدينا بحوث كافية عن هذه الفئة ومشكلات التوافق التي تعاني منها, ولعل أكثر مشكلات هذه المجموعة حِدَّةً أن عليهم تقبُّل هويتهم الاجتماعية كعزاب، والتي تحمل بعض السمات المميزة, وعليهم أن يخططوا لشيخوخة محرومة من أيِّ دعمٍ اجتماعيٍّ أو وجدانيٍّ, وهم أقل حمايةً ضد المرض والفقر, ومن ذلك مثلًا أنهم حين يتعرضون لأي اضطراب نفسيٍّ أو خلل صحي, فالأكثر شيوعًا أن يودعوا في المؤسسات على عكس المتزوجين منهم, الذين عادةً ما يلقون الرعاية في نطاق الأسرة "الزوجة والأبناء".

النمو المهني

النمو المهني: تتوافر للمرء في مرحلة منتصف العمر فرصة جديدة ليصبح منتجًا في عمله, والإنتاجية في هذا الطور تعني إنتاج السلع والأفكار والخطط السياسيات, والتي تصدر عن الراشدين الكبار بمعدلٍ أكثر ارتفاعًا مما كان عليه الحال من قبل, كما أن إنتاجيتهم قد تعني نقل ما يعرفونه للآخرين -الذين يكونون عادةً أصغر سنًّا- وخاصة وأن فرصة الراشد في منتصف العمر تكون أكبر لاحتلاله موقعًا قياديًّا في عمله, وهو يفعل في عمله -ما يفعله كوالد في أسرته- حين يوفر للأجيال الجديدة ما يرثونه عنه, فإذا لم يوفَّق الراشد في هذا الطور من عمره من تحقيق ذلك, يشعر بالعقم أو الجمود "بمعناه عند إريكسون", ويشعر بالاغتراب عن كلِّ ما أنتجه وما خلفه وراءه. ويرى هافيجهرست "Wolman 1982" أن إحدى مهام النموِّ الهامة في هذا الطور الوصول إلى دور مهني مرن, يبدو مثيرًا ومنتجًا ومرضيًا من الوجهة المالية والاجتماعية, ويتفق معه في ذلك ليفنسون وزملاؤه الذين لاحظوا أن مرحلة

منتصف العمر هي فترة تقييم الذات حول النموِّ المهني؛ حيث الأهداف الماضية يُعَادُ النظر فيها في ضوء الإنجازات الراهنة, والأشخاص الذين ينجزون -أو يظنون أنهم أنجزوا- أهدافًا مهنية محددة في الماضي, يشعرون بالرضا عن أنفسهم, ويكونون صورة موجبة للذات, وعلى العكس من ذلك, فإن اعتراف الشخص بأنه لم يحرز في هذا الطور مستوًى مهنيًّا مناسبًا "رئيس قسم، رئيس عمال، مدير مصلحة، إلخ" يقوده ذلك إلى إعادة تقييم أهداف حياته، وغالبًا ما يعيد تقييم ذاته, والأشخاص الذين يجدون صعوبةً في إعادة التوافق بين أهدافهم المهنية ومطامحهم فيها, وبين حقائق مواقف الحياة الخاصة بهم, قد يشعرون بالإحباط, بالإضافة إلى الشعور بالعقم والجمود. وعمومًا فإنه خلال الرشد الأول يحرز معظم الرجال والنساء أعلى مكانة ودخل في حياتهم المهنية, ومع ذلك فإنهم يظهرون فروقًا واضحة في التقدم في المكانة والدخل مع زيادة العمر, وترجع هذه الفروق إلى درجة الالتزام بالعمل والميل للنجاح، ومقدار دافع الإنجاز، بالإضافة إلى بعض سمات الشخصية التي تميِّز الأكثر نجاحًا, وخاصةً سمة السيطرة والقيادة, ومن الطريف أنه لا توجد فروقٌ بين المجموعتين في درجة الرضا عن الحياة, على الرغم من اختلاف مواضع كلٍّ منهما في السُّلَّمِ المهنيّ, وقد أكدت البحوث أن بعض متغيرات الشخصية في المراهقة يمكن أن تتنبأ بالنجاح المهنيّ بعد ذلك "في طور الرشد الأوسط", ويشمل ذلك الإمكانات والقدرات العقلية, والميول من ناحية، وعوامل أخرى مثل: الطموح والإنتاجية والاستقلال والموضوعية والتسامح مع المواقف الغامضة، والمرونة, وخاصةً مرونة الأدوار من ناحيةٍ أخرى. ومع ذلك فعلينا أن ندرك الحقائق المفجعة في العالم الذي نعيش فيه، فليس بالكفاءة وحدها يتقدم الإنسان، فلا يزال للوساطة والمحسوبية والنفاق وانتهاز الفرص دورها في تحديد من يحصل على مفاتيح النجاح, وبها قد يحقق النموّ المهني أو الترقي الوظيفي, وبدونها قد يفقد كل ذلك. ومن المتغيرات الهامة المرتبطة بالنموّ المهني في هذه المرحلة ما يتصل بطبيعة المجتمع الحديث, وما يتسم به من سرعةٍِ في التغيُّر على نحوٍ يجعل الشخص في منتصف العمر يجد أن المهارات التي تعلمها في فترة مبكرة من حياته المهنية لم تعد مفيدة أو فعَّالة, كما كان حالها من قبل؛ فالتقدم التكنولوجي غَيَّرَ تغييرًا جذريًّا عالم العمل بالنسبة للجميع "أصحاب الياقات البيضاء وأصحاب

الياقات الزرقاء جميعًا", ومن ذلك مثلًا أن الآلة الكاتبة اليدوية تنقرض، وحلَّت محلها بشكلٍ متزايدٍ الآلات الكاتبة الكهربائية والإلكترونية، والتي هي في سبيلها لتخلي الطريق لآلات تجهيز الكلمات بالحاسوب "الكومبيوتر", وتوجد تغيرات مناظرة تحدث تقريبًا في كل مجالٍ من مجالات الحياة المهنية, وفي مواجهة هذه المفاجآت يجد العاملون أنفسهم -وخاصة في منتصف العمر- أنهم في حاجةٍ إلى إعادة التعلُّم وإعادة التدريب, وتنفق المؤسسات الكثير سنويًّا على برامج التدريب والتنمية المهنية، وهذا الموضوع سنتناوله بالتفصيل في الفصل التالي. ويبقى مظهر هامٌّ وأخيرٌ من مظاهر الحياة المهنية في مرحلة وسط العمر, وهو أنه مع اقتراب المرء من التقاعد وبلوغ سن المعاش يبدأ في سؤال نفسه "ماذا سوف أفعل بوقتي؟ وتظهر قيمة هذا السؤال إذا علمنا أن معظم الناس في هذا الطور لديهم فرصٌ أكبر لممارسة أنشطة وقت الفراغ, وخاصةً بعد ترك الأبناء المنزل واستقلالهم, ولهذا فإن من أهم أهداف طور الرشد الأوسط إحداث التكامل بين العمل والأسرة ووقت الفراغ, إلّا أن مما يُؤْسَفُ له أن وقت الفراغِ لا يمثِّلُ مكانةً عاليةً في سُلَّمِ القيمِ عند الإنسان في مجتمعاتنا العربية والإسلامية, بل إننا كثيرًا ما ننظر بشيء من الشك نحو أولئك الذين يبذلون بعض الوقت في الهويات أو الألعاب الرياضية أو النشاط الاجتماعي التطوعي، على الرغم من أن أنشطة وقت الفراغ قد تساعد الإنسان على تخطي صراع الأدوار في مراحل عمره المختلفة, وعلى إشباع حاجاته بطرقٍ لا توفرها لها جوانب الحياة الأخرى -وخاصة في العمل. وتختلف طبيعة نشاط الفراغ مع دخول المرء مرحلة منتصف العمر؛ فبينما كان معظم هذا الوقت خلال الرشد المبكر ينفق مع الأسرة، نجد معظمه بعد استقلال الأبناء ينفق على الأنشطة الشخصية التعبيرية, وتزداد أهمية مسألة وقت الفراغ مع بدء التخطيط للتقاعد, وقد وجد الباحثون أن أولئك الذين لديهم أنشطة غير مهنية لا يشعرون بأزمة التقاعد، أما أولئك الذين "يعيشون للعمل" وحده, فإنهم يتعرضون لصدمة التقاعد حقًّا, ومرة أخرى تفيد أنشطة وقت الفراغ في أن يتعامل المرء مع التغير في الدور؛ من شخصٍ عاملٍ إلى شخصٍ غير عامل، وهو أحد معالم العمر الثالث للإنسان.

الفصل الثامن عشر: التعلم مدى الحياة تعلم الراشدين"الكبار"

الفصل الثامن عشر: التعلم مدى الحياة تعلم الراشدين"الكبار" تعلم الراشدين"الكبار" والمفاهيم المرتبطة ... الفصل الثامن عشر: التعلم مدى الحياة تعلم الراشدين "الكبار"1 تتألف مشكلة تعليم الراشدين وتعلمهم التي نتناولها في الفصل من شقين؛ أولهما يتَّصِلُ بأولئك الذين لا يزالون أميين أو ارتدوا إليها لأسبابٍ تَتَّصِلُ بعجز الاستيعاب في التعليم الإلزامي، والتسرُّب من مراحل التعليم المختلفة، أو انتهاء التعليم عند مرحلة معينة، أو الفشل في التعليم العام النظامي، أما الشق الثاني فيتصل بأولئك الذين أنهوا سنوات التعليم الرسمية بالفعل ووصولوا بذلك إلى درجةٍ من المهارة والكفاية, ومع ذلك فإن ضرورات العصر تتطلَّب منهم أن يعيدوا التعليم بعد فترات زمنية معينة, وما يتصل بهذا كله من مفاهيم حول التعليم المستمر أو التعليم مدى الحياة, وبالطبع تُوجَدُ بين الفئتين جوانب مشتركة قليلة, وجوانب مختلفة كثيرة, ونبدأ الفصل بضبط المصطلحات والمفاهيم. تعلم الراشدين "الكبار" والمفاهيم المرتبطة: يذكر "Kidd &Titmus,1985" أن تعليم الراشدين يمتد بجذوره إلى الحضارات الإنسانية الكبرى: مصر وفارس والصين والهند، بل تكاد الأدلة تجمع على أنه سبق تعليم الصغار "الأطفال والشباب" في الصورة الرسمية له على شكل مدرسة, وكان للحضارة الإسلامية دور بارز في ذلك أيضًا إلى الحدِّ الذي يصفه المؤلفان بأن الإسلام صنع ما يُسَمَّى في الوقت الحاضر "مجتمع التعلم" Leaning Society" عبر ثقافات وشعوب مختلفة ضمتها الدولة الإسلامية في عصور ازدهارها. وحينما أعيد الاهتمام بالموضوع ابتداءً من القرن الثامن عشر، وتزايده خلال القرن التاسع عشر، وتحوّله إلى منظومة رسمية في القرن العشرين, ظهرت بضع مشكلاتٍ يرتبط معظمها بتعدد المنظورات التي يدرك من خلالها

_ 1 شاع في التراث العربي مصطلح "تعليم الكبار" ترجمة لمصطلح Adult Education, والأصح في رأينا أن يكون تعليم الراشدين، وهو المصطلح الذي سوف نستخدمه طوال هذا الفصل.

الموضوع، ولعلَّ أهمها ما يلي: 1- منظور الطبقة الاجتماعية, والذي أدَّى إلى ظهور مفاهيم مثل: التعليم الشعبي والتعليم العمالي, إلخ. 2- المنظور الوظيفي, والذي أدَّى إلى ظهور مفاهيم مثل: التعليم المهني, والتعليم الاجتماعي، والتعليم للموطنة، إلخ. 3- منظور التعليم المبدئي initial, والذي أدى إلى ظهور مفاهيم مثل: التعليم المتواصل Further Education, والتعليم المستمر Continuint Education. وقد استخدم في أحوال كثيرة محك العمر لتحديد جمهور تعليم الكبار "أو الراشدين", وقد أشرنا في مطلع هذا الباب إلى أن العمر ليس محكًّا كافيًا للحكم على وصول المرء إلى مرحلة الرشد؛ فالرشد يعتمد في جوهره على محكَّاتٍ ثقافية في المجتمع، والمسئوليات الاجتماعية والاقتصادية التي توكَّل إلى الشخص، والنظام القانوني القائم, كما يتحدد سيكولوجيًّا بقدرة المرء على معاونة الآخرين على النضج، واندماجه واستمتاعه بسلوك ومهام الراشدين كما يحددها المجتمع، والاستقلال والتوجيه الذاتيين, وهذه العمليات كلها لا تعتمد على العمر الزمني وحده. ففي بعض المجتمعات يتحدد التعليم الإلزامي "الأساسي" بسن معينة "14 سنة في مصر", وعدد معين من سنوات التعليم "8سنوات حتى نهاية التعليم الإعدادي في مصر", بعده يصبح التعليم اختياريًّا, وعندئذ يُعَدُّ الشخص من الراشدين؛ حيث يحقّ له العمل, وفي بعض المجتمعات الأخرى يعتبر تعليم الراشدين خارج المنظومة الرسمية للتعليم ابتداءً من التعليم الابتدائي, وحتى التعليم العالي, مهما كان عمر الملتحقين به. وقد حاول البعض تعريف تعليم الراشدين باعتباره عملية لا ترتبط بالعمر الزمني؛ حيث يحقُّ للأشخاص الذين أنهوا الحلقة المبدئية من تعليمهم المستمر أن يواصلوا بأنشطة متتابعة ومنظمة لتنمية معلوماتهم ومعارفهم ومهاراتهم واتجاهاتهم. وظلَّ الموضوع غير محدد المعالم حتى تقرَّرَ في المؤتمر العام لليونسكو, الذي انعقد عام 1976 بحضور 142 دولة, الاتفاق على تعريفٍ لتعليم الراشدين "الكبار" يتضمن العناصر الآتية:

1- العمليات التربوية المنظمة التي تؤدي إلى إطالة التعليم المبدئي أو الحلول محله في المدارس والكليات والجامعات, وكذلك التلمذة الصناعية. 2- يشمل المصطلح هذه العمليات سواءً رسمية أو غير رسمية. 3- توجه هذه العمليات إلى الأشخاص الذين يعتبرون راشدين بمعايير المجتمع الذي ينتسبون إليه, وذلك بتنمية قدراتهم وإثراء معارفهم، وتجويد مؤهلاتهم الفنية والمهنية, أو تحويلهم إلى مسارات جديدة، وإحداث تغيرات في اتجاهاتهم وسلوكهم. 4- يهدف ذلك إلى تحقيق التنمية ببعديها: النمو الشخصي الكامل من ناحية, والمشاركة في التنمية المستقلة والمتوازنة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا من ناحيةٍ أخرى. الافتراضات الأساسية في تعليم الراشدين: يستند تعليم الراشدين إلى مجموعة الافتراضات الأساسية هي: 1- الراشد إنسانٌ حُرٌّ مسئولٌ عن أفعاله، ومن هنا تكون له الحرية في المشاركة في أيِّ خبرةٍ تعليمية يختارها، وفي تحديد محتوى طبيعة هذه الخبرة. 2- يحتاج الفرد والمجتمع إلى استمرار التعليم طوال حياة الراشد؛ فالراشدون جميعًا يحتاجون إلى التعليم، إلّا أن هذه الحاجة تكون أشد عند أولئك الذين تلقوا من التعليم قدرًا أقلَّ في مراحل نموِّهم السابقة "الطفولة والصبا والشباب"، ولهذا تكون لهؤلاء أولوية في تقديم هذه الخدمات التربوية. 3- مع التقبُّل المتزايد لمبدأ التعلُّم مدى الحياة, سادت فكرة أن التعليم حقٌّ لكلِّ فردٍ مهمَا كان عمره. وقد حظيت هذه الافتراضات بقبولٍ واسع النطاق على مستوى النظرية، إلّا أن الممارسة كشفت عن قدر لا بأس به من المشكلات, سواء في تفسير المبادئ, أو في الصراع فيما بينها، أو في المواءمة بين هذه المبادئ والتوجهات السياسية والفلسفية والاقتصادية السائدة في المجتمع، أو في مدى تكييفها لمواقف عملية واقعية. ومن أمثلة هذه المشكلات الصراع بين حاجات الأفراد وحاجات المجتمع, ومسألة أن مشاركة الراشدين في التعليم اختيارية مع زيادة الطلب في بعض المهن على التعليم المهنيّ المستمرّ، وموضوع الاهتمام في تعليم الراشدين بأولئك الذين

لم يكن لهم حظٌّ كبيرٌ منه في مراحل حياتهم السابقة، لحساب غيرهم في الوقت الذي يتعرض الجميع فيه لتغيرات اجتماعية وثقافية متسارعة تتطلب استمرار التعليم. بعض المفاهيم الأخرى المرتبطة: على الرغم من الجهود التي بُذِلَتْ للوصول إلى تعريفٍ دقيقٍ لتعليم الراشدين وتعلمهم, إلّا أن ذلك لم يتحقق تمامًا، ولهذا ظهر في الميدان عدد من المفاهيم الأخرى تضاهيه أو تصوبه أو تضبطه أو تتجاوزه، إلّا أنها لم تخلُ أيضًا من قدرٍ من الاختلاف، وهذه المفاهيم هي: 1- التعليم اللارسمي: وقد استُخْدِمَ هذه المفهوم منذ أوائل الستينات كبديلٍ لمصطلحٍ أقدم منه, وهو "التعليم الاجتماعي", إلّا أن المطابقة بين هذا المفهوم وتعليم الراشدين ليس مقبولًا تمامًا؛ فالتعليم اللارسمي يمكن، بل يجب أن يستخدم مع الأطفال والشباب أيضًا. ومن المصطلحات المرتبطة مفهوم "التعليم غير الرسمي" الذي استُخْدِمَ منذ فترةٍ مبكرةٍ أيضًا, ولكنه سرعان ما اختفى, فمن المعلوم أن قدرًا كبيرًا من تعليم الراشدين في الوقت الحاضر جزء من منظومة التعليم الرسمي. ويسود اتجاه في الوقت الحاضر إلى التحديد الدقيق للمفاهيم الثلاثة: التعليم الرسمي واللارسمي وغير الرسمي بحيث تصلح للاستخدام مع الأطفال والشباب والراشدين جميعًا من خلال منظومةٍ كليةٍ ومتكاملة للتربية؛ فالتعليم الرسمي يستخدم في وصف المنظومة المرتبة حسب العمر، ابتداءً من المدرسة الابتدائية وحتى التعليم الجامعي والعالي، وتشتمل الدراسة الأكايمية والبرامج المتخصصة والتدريب المهني. أما التعليم اللارسمي informal فهو عملية تعليم مدى الحياة؛ حيث يكتسب بها جميع الأفراد الاتجاهات والقيم والمهارات والمعارف من خبرات الحياة اليومية, ومن التأثيرات, والمصادر التربوية في البيئة دون تخطيط منظَّمٍ مقصودٍ لهذا التعلم. أما التعليم غير الرسمي nonformal فيمكن تعريفه بأنه أيُّ نشاطٍ تربويٍّ منظَّمٍ خارج المنظومة الرسمية المؤسسية للتعليم "المدرسة أو المعهد أو الكلية" سواءً أكان منفصلًا أم جزءًا من نشاط تربوي أكثر اتساعًا؛ بحيث يقدَّمُ إلى جمهور تعلم محدد, ويسعى لتحقيق أهداف واضحة.

2- التعليم المناوب: منذ أوائل السبعينات ظهر مصطلح آخر "وخاصةً في أوربا" هو التعليم المناوب Recurrent Education، ويُعَرَّفُ بأنه استراتيجية تعليمية شاملة لجميع المواطنين بعد المرحلة الإلزامية من التعليم "التعليم الأساسي", تمتد على نطاق المدى الكليّ لحياة الإنسان بطريقة تناوبية، حيث يحل التعليم على فترات متقطعة محل أنشطةٍ أخرى؛ مثل: العمل ووقت الفراغ والتقاعد, حسب الحاجات الفردية للمتعلمين, والحاجات المتغيرة لسوق العمل. والتعليم المناوب بهذا المعنى هو عملية تعلُّم مدى الحياة, يتضمن مشاركة متقطعة ودورية في البرامج التربوية سعيًا لإذابة الفوارق بين التعليم والأنشطة الأخرى, وخاصةً العمل, تحقيقًا لمبدأ التنمية المتواصلة مدى الحياة "Houghton & richardson, 1974". 3- التعليم المستمر: يعرف "Thomas, 1981" التعليم المستمر Continaing Education بأنه نظام في التعليم يشمل التعليم الرسمي وغير الرسمي, يتحدد مكوناته ومؤسساته في ضوء أهداف تربوية محددة, وليس في ضوء العمر الزمني أو ظروف المتعلمين. ومعنى ذلك أن التعليم المستمر يجب أن يتاح للجميع في جميع الأعمار, سواء أكان إجباريًّا أم اختياريًّا، أو كان يتطلب التفرغ الكامل أم عدم التفرغ. ويختلف التعليم المستمر عن غيره من الأنشطة التربوية في المجتمع بأنه يعطي الشخص اعترافًا عامًّا أو شهادةً لمن يكمل برامجه، وهو بذلك يتطابق مع ما يُسَمَّى في الوقت الحاضر التعليم المفتوح Open Education، أو ما كان يُسَمَّى حتى عهد قريب التعليم المتواصل Further Education، وفي جميع الأحوال فإن التعليم المستمر هو نوع من التعلم وإعادة التعلم، والتدريب وإعادة التدريب لمواجهة المطالب المهنية والشخصية المتزايدة والمتجددة "Houghton, Richardson, 1974". 4- التعليم مدى الحياة: لعل مفهوم التعليم مدى الحياة Lifelong Education هو أكثر المفاهيم شيوعًا في الوقت الحاضر، وهو بالطبع أكثر المفاهيم ارتباطًا بموضوع هذا الكتاب الذي يتناول النموَّ مدى الحياة Life-span Devekopment. ويقصد بالتعلُّم مدى الحياة: العملية التي يستمرُّ بها الإنسان في تنمية معارفه ومهاراته واتجاهاته عبر مدى حياته من الطفولة حتى الشيخوخة "وسوف نشير في

الباب التالي إلى مسألة تعليم المسنين", وهو نوع من النمو والتنمية الموجهين ذاتيًّا, ويتطلب ذلك فهم المرء لذاته وللعالم المحيط به، سواء كان ماديًّا أو اجتماعيًّا، واكتساب مهارات جديدة, أي: الاستثمار الذاتي. وبالطبع فإن هذه العملية قد تتم في إطار ما يُسَمَّى التعليم مدى الحياة Lifelong Education، والمقصود بذلك أن يتمَّ التعلُّم Leatning من خلال إجراءات منظمة تهيئ للناس فرص تحقيق هذا التعلم "راجع تمييزنا بين التعلم والتعليم في كتابنا علم النفس التربوي", فالتعلُّم مدى الحياة، وتعلُّم الكبار, يشيران إلى نمطٍ أساسيٍّ من أنماط السلوك الإنساني، بينما تعليم الكبار، والتعليم مدى الحياة يشيران إلى الخبرات المنظمة والمتتابعة التي تُعَدُّ لمقابلة حاجات المتعلمين, وهكذا يكون التعليم مدى الحياة هو الوسيلة التي يتحقق بها التعلُّم مدى الحياة, باعتباره التغيُّر المستمر الحادث في سلوك الإنسان. فالتعلم مدى الحياة -إذن- يشمل المدى الكليّ لحياة الإنسان "النمو مدى الحياة"، ويؤدي إلى اكتسابٍ منظَّمٍ للمعارف والمهارات والاتجاهات، أو تجديدها أو تطويرها أو استكمالها، كلما دعت الحاجة والضرورة إلى ذلك، استجابةً للظروف والأحوال المتغيرة في الحياة المعاصرة, تحقيقًا لمبدأ الوفاء بإمكانات الذات Self-Fulfimint لدى كل فرد, ويُعْتَمَدُ في تحقيق ذلك على نجاحه في تنمية قدرة الفرد ودافعيته للاندماج في أنشطة التعلم الموجهة ذاتيًّا Selef-directd "Cropey 1980", على أن تستمرَّ في ذلك جميع موارد التعلم, سواء كانت رسمية أو لا رسمية أو غير رسمية، مع إحداث التكامل الواجب بين جميع بنى التعليم ومراحله على أساس البعد الرأسي "الزمني", والبعد الأفقي "المكاني", مع توفير خاصية المرونة والتنوع عبر الزمان والمكان والمحتوى وأساليب التعليم "Dave, 1976".

دافع التعلم عند الراشدين

دافع التعلم عند الراشدين ... دوافع التعلم عند الراشدين: لعل السؤال الجوهريّ في ميدان تعلم الراشدين وتعليمهم هو: ما الذي يدفعهم إلى ذلك, وخاصة إذا كان التعلم هنا يعتمد في جوهره على حرية الإرادة والاختيار؟ من أشهر المسوح التي أجريت حول دوافع التعلم عند الراشدين, ما قام به المعهد القومي لتربية الراشدين في بريطانيا Education National lnstiute of Adudt ونشر عام 1970, وقد كشف هذا البحث عن بعض الصعوبات المنهجية في هذا الميدان, لعل أهمها: 1- قد يشعر الراشد بالتردد في ذكر دافع واحد للتعلُّم باعتباره الأكثر أهمية من الدوافع الأخرى. 2- قد يرغب الراشد في أن يخفي الدافع الحقيقي للتعلُّم, والذي قد يشعر أن الآخرين ربما يرفضونه. 3- قد يتأثر الراشد بعامل المرغوبية الاجتماعية Social desirability حين يعتقد أن هناك دوافع لها احترام تربوي أكثر من غيرها. 4- قد لا يكون الراشد واعيًا بدوافعه الحقيقية للتعلُّم، فربما يكون دافعه الظاهريّ مهنيًّا، بينما دافعه الحقيقي اجتماعيّ. وتوجد مجموعة من الحقائق الهامة تجب الإشارة إليها في هذا الصدد, وأول هذه الحقائق أن جميع الدوافع المعروفة في تعلُّم الأطفال والمراهقين تعتبر سطحية عند الراشدين؛ فإذا كان دافع التعلُّم الأساسي لدى الصغار هو دافع الإنجاز مثلًا "كما يتمثل في النجاح والتفوق المدرسي", فإن هذا الدافع لدى الراشدين هو تحقيق الحاجة إلى الإنفاق. والحقيقية الثانية في موضوع دوافع الراشدين للتعلُّم, هي أن الراشدين يكونون عادةً أكثر دافعية من الصغار؛ فالكبار أكثر توجهًا نحو الاستقلال والاعتماد على الذات، وأدوارهم أكثر تعددًا، وخبراتهم أكثر تنوعًا, كما أنهم أكثر توجهًا بالمشكلات "Boshier, 1985". والحقيقة الثالثة: أن الدور التربوي الأساسي للطفل والمراهق والشاب, هو دور المتعلِّم الذي يمكن أن يتفرغ له، أما بالنسبة إلى الراشدين فإن التفرغ لهذا الدور يكاد يكون مستحيلًا، ولهذا فإن دوافعهم للتعلُّم تشتق من أدوار الرشد المتعددة: الزوج، الوالد، العامل، المواطن، إلخ، وهي أدوار تتفاعل فيها الحاجات الشخصية مع الحاجات الاجتماعية والمجتمعية، ولهذا فإن دافع التعلُّم لدى الراشدين لا تقبل الاختزال إلى دافع واحد, وإنما هي متفاعلة متداخلة. بنية دافعية التعلُّم لدى الراشدين: من الدراسات المبكرة التي أُجْرِيَتْ على دوافع الراشدين للتعلُّمِ تلك التي قام بها "Houle, 1961"، وفيها ميَّزَ بين ثلاثة أنماطٍ من الدافع هي: 1- التوجه بالهدف: وفيه يستخدم الراشد التعليم كوسيلة لإحراز أهداف

واضحة إلى حَدٍّ ما. 2- التوجه بالنشاط: وفيه يشارك الراشد في التعليم بسبب ما في أنشطته من معنى قد لا يرتبط بالضرورة بالمحتوى أو الأغراض المعلنة. 3- التوجه بالتعلُّم: وفيه ينشد الراشد اكتساب المعرفة أو المهارة في ذاتها. وقد استند "Boshier, 1971, 1984" إلى هذا التصور المبدئي, وصمَّمَ مقياسًا للمشاركة التربوية Educatiln Patricipation Scale, طبَّقَهُ على عيناتٍ كبيرةٍ من الراشدين في ثقافاتٍ وبيئاتٍ مختلفةٍ طوال السبعينات والثمانيات، وحلَّلَ النتائج باستخدام أسلوب التحليل العاملي, وتوصل إلى ستة عوامل تمثل الأنماط الأساسية لدوافع الراشدين للتعلُّمِ، وهذه العوامل الستة هي: 1- الاتصال الاجتماعي Social contact: حيث يشارك الراشدون في برامج التعلُّمِ بهدف تكوين وتدعيم صداقات وعلاقات اجتماعية, والبحث عن التَّقَبُّلِ من الآخرين، فالمشاركة أساسها الحاجة إلى أنشطة جماعية ملائمة. 2- الاستثارة الاجتماعية Social stimuation: فالهدف في هذه الحالة من التحاق الراشدين ببرامج التعلُّمِ هو التخفف من السأم والملل، والتغلُّب على إحباطات الحياة اليومية -والتحرر- ولو لبعض الوقت- من المسئوليات الروتينية. 3- الترقي المهني Professional Advancement: فالتعلم في هذه الحالة يعتمد على الرغبة في تحسين الأحوال المهنية للراشد, وتحقيق درجةٍ من الترقي والنمو في مجال العمل. 4- خدمة المجتمع Community Sirvici: فالرغبة في التعلُّمِ هنا تعتمد على السعي لتنشيط دور المواطنة لدى الراشد، وإنما قدرته على المشاركة في العمل المجتمعي. 5 التوقعات الخارجية External Expectations: فالراشد يلتحق ببرامج التعليم في هذه الحالة تحقيقًا لرغبات أو مطالب الآخرين "جمعية مهنية، نقابة، سلطة منح ترخيص مزاولة المهنة، أخصائي نفسي، صاحب العمل، إلخ". 6- الاهتمام المعرفي: Cognitive lnterest: حيث يهتم الراشدون بالتعلُّمِ في ذاته ولذاته؛ حيث يوجهه البحث عن المعرفة وإرضاء الحاجة إلى الاستطلاع والاستكشاف والتساؤل والتقصي.

تصنيف دوافع التعلم عند الراشدين

تصنيف دوافع التعلم عند الراشدين ... تصنيف دوافع التعلُّمِ لدى الراشدين: يمكن أن تصنف دوافع التعلُّمِ لدى الراشدين إلى فئاتٍ ثلاث أساسية هي: الدوافع المهنية، ودوافع الذات، والدوافع الاجتماعية، ونعرض لهذه الفئات فيما يلي: أولًا: الدوافع المهنية: من أهم الدوافع للتعلُّمِ عند الراشدين على الإطلاق -وخاصة عند الراشدين الصغار- الدوافع المهنية voctional, أي: ما يتصل بالالتحاق بالعمل, أو النموِّ والترقية فيه, وقد لوحظت أهمية هذا النوع من الدوافع, فقد وُجِدَ أن حوالي 10% من الدارسين في الفصول غير المهنية, ذكروا أن دافعهم الأساسي مهنيٌّ في جوهره, ومن الواضح أنه في البرامج ذات الطابع الصناعي أو المهني المباشر سوف يسود هذا الدافع إلى الحد الذي يمكن أن يستبعد جميع الدوافع الأخرى. إلّا أن ما يجب أن ننبه إليه أنه في معظم برامج تربية الراشدين أو التدريب الصناعي, نجد أن ما يبدو أنه دافع مهني مباشر قد يتغلب عليه دوافع أخرى؛ مثل: الميل إلى موضوع التعليم لذاته، أو الرغبة في البحث عن مجالٍ لتخفيف آثار الملل الناجم عن العمل الروتيني, من خلال "الترويح" أو "قضاء الفراغ"؛ حيث لا نجد العنصر المهني واضحًا. ثانيًا: دوافع تنمية الذات: توجد فئة أخرى من دوافع التعلُّمِ عند الراشدين يمكن أن تُسَمَّى دوافع تنمية الذات self-development، أو الدوافع الشخصية, كما تتمثل في رغبة الفرد في تحسين تعليمه العام, أو الرغبة في إشباع الميل نحو موضوعٍ معينٍ أو هواية خاصة, وكثير من المسوح التي أُجْرِيَتْ أثبتت أن هذه الدوافع شائعة لدى الراشدين، وهي أكثر شيوعًا عند النساء منها عند الرجال، حتى أن النساء اعتبرنها دوافعهن الأساسية بالمقارنة بالدوافع المهنية عند الرجال. والواقع أن التمييز بين الدوافع المهنية ودوافع تنمية الذات ليس حاسمًا، فإذا علمنا أن معظم النساء اللاتي اخترن الدوافع الشخصية؛ كدوافع للتعلم, كن من النوع التي تسميه جافرون "1968" "الزوجات الأسيرات" "captive wives"، أي: الأمهات الصغيرات والزوجات في وسط العمر, اللاتي يشعرن بالعزلة داخل أسرهن، وهؤلاء يشعرن بالحاجة إلى تحسين تعليمهن العام؛ كطريقة لإثبات أنهن لازلن

مستقلات وقادرات على التفكير, سواء لأنفسهن أم لأسرهن، إلّا أن هذه الحاجة قد تمتد أيضًا عندهن لتتمثل في اعتبار هذا التعليم تدريبًا أوليًّا على عمل جديد؛ فعمل ربة البيت عندهن -مهما كان صعبًا وشاقًّا- لا يعد عملًا بالمعنى الشائع في المجتمعات الموجهة بالعمل الذي يتخذ في جوهره صورة الجهد المدفوع الأجر. وهذا النوع من النساء -الذي يزداد عدده في الوقت الحاضر في مجتمعاتنا العربية- يشعرن أحيانًا بالسعادة بأي تعليم يسمح لهنّ بالخروج من المنزل، ومعه يبدو ميلٌ متزايد لاختيار فرع التعليم الذي يقود إلى اكتساب بعض المهارات؛ لأن هذا يهيئ لهن ليس فقط هدفًا واضح المعالم يتحداهن، وإنما يعتبر أيضًا خطوة نحو عالم العمل وما يرتبط به من مزيدٍ من احترام الذات. ثالثًا: الدوافع الاجتماعية: من الأساطير الشائعة حول تربية الراشدين أنهم يسعون إلى التعليم لأسباب اجتماعية في جوهرها, ومن المؤكد أن من السهل إدراك أن المرأة -إلى جانب الدوافع العقلية والمعرفية- للتعلُّم، كما أن كثيرًا من الدارسين الرجال قد تكون لديهم أهداف اجتماعية يسعَوْنَ إلى تحقيقها من خلال هذا التعلُّم، إلّا أن البحوث المسحية التي أُجْرِيَتْ أثبتت أن الدوافع الاجتماعية ليست شائعة الذكر عند المتعلمين الراشدين، ففي مسح المعهد القومي لتربية الراشدين لم يذكرها سوى 10% فقط من عينة البحث, إلّا أن هذا لا يعني أن الدوافع الاجتماعية لا تلعب دورًا في تعليم الراشدين، فبعض هؤلاء يلتحقون في البرامج بحثًا عن الأصدقاء، بل إن بعض هؤلاء يذكرون ذلك صراحةً تخفيفًا من الوحدة بعد فقدان شريك العمر، وفي بعض الأحيان قد يلتحق بالدراسة مجموعة من الأصدقاء أو الجيران لا تتوحد اهتماماتهم وميولهم حول موضوع معين, وإنما لمحض أن يلتقوا, بل إن بعض هؤلاء يسعى للتعليم لأن صديقًا حميمًا لهم قرر هذا بالفعل، بل إن الباحث في هذا الميدان كثيرًا ما يسمع من الدارسين الراشدين أنهم التحقوا بالدراسة لشغل وقت الفراغ, وحين يختارون ما يدرسون -في فصول الخدمة العامة مثلًا- يكون غرضهم من الاختيار غير مادي, ومن ذلك دراسة تنسيق الحدائق، والموسيقى، والأشغال المعدنية والفنون وغيرها. ومن ناحيةٍ أخرى يجب ألَّا نعتبر هذه الدوافع فئة مستقلة عن الدوافع الأخرى التي أشرنا إليها، فلا يوجد سبب معقول للقول أن الدارسين الراشدين الذين

الذين يكون دافعهم الأولى اجتماعيًّا في جوهره يرفضون عملًا يرتبط بالمعارف والمهارات التي تعلموها في هذا السن, بل إن هؤلاء قد يسعون إلى العمل بالفعل إشباعا للحاجة إلى الأمن داخل جماعة. وقد حاول بعض المربين الربط بين الدافع للتعلم ودورة الحياة عند الإنسان, ومن ذلك مثلًا القول بأن دوافع التعلُّم في الرشد المبكر ترتبط بالحصول على المعلومات واكتساب المهارات الخاصة بتكوين الأسرة وإدارة المنزل وتربية الأطفال والتكيُّف لظروف العمل ومطالبه, وفي مرحلة وسط العمر تتمركز دوافع التعلُّم على ما يُشْبِعُ المطالب المتغيرة للعمل والنمو المهنيّ، وطرق التعامل مع الأبناء المراهقين والشباب, والتغلب على جوانب الفشل التي قد يتعرض لها المرء, وخاصةً مع إحباط بعض المطامح الشخصية والآمال الخاصة, أما في مرحلة الرشد المتأخرة "الشيخوخة" فترتبط الدوافع الهامة للتعلُّم بالتكيف للتقاعد ونقصان القوة الجسمية واستغلال وقت الفراغ استغلالًا مفيدًا, والبحث عن فلسفةٍ للحياة تعطيها معنًى ومغزًى واضحين من خلال المعرفة الدينية خاصةً. ولا شكَّ أن في اكتشاف الدوافع الكامنة أو الأقل وضوحًا من المسائل الصعبة وتستحق الجهد الذي يبذل في ذلك؛ لأنها تحدد لنا بالفعل ما يمكن أن يدفع الإنسان الراشد للتعلم, وقد يكون من أهم الدوافع هنا رغبة المتعلِّم في اختيار نفسه, وفي هذا نميز بين دوافع الالتحاق ببرنامج الدراسة ودوافع التعلم بالفعل، فما يرغب الدارسون في تعلمه قد يكون شيئًا مختلفًا تمامًا عَمَّا يُقَدَّمُ لهم بالفعل، فليست دراسة اللغات أو ميكانيكا السيارت في ذاتهما هي التي تدفع الدارسين الراشدين للتعلُّم، وإنما قد يكون الأكثر أهميةً عندهم أن يهيئوا لأنفسهم فرصةً لمعرفة ما إذا كانوا يستطيعون تعلُّم شيءٍ يظنونه صعبًا أو مستحيلًا. وبالطبع فإن دوافع التعلم عند الراشدين -كغيرهم من فئات المتعلمين- قابلة للتغير، وهذا التغير ذو وجهتين؛ فالدارس مثلًا الذي يأتي للتعلُّم مليئًا بالحماس والرغبة قد يفقد بسرعة أو بالتدريج هذا الحماس وتلك الدافعية العالية إذا كان موضوع التعلم سيئ العرض, أو كانت طريقة التعليم وظروفه غير مشجعة, وبالمثل فإن الدارس الذي يأتي إلى برنامج الدراسة لأن "صديقًا" مشترك له فيه دون رغبة حقيقية في التعلُّم قد يتحول إلى الحماس القوي للتعلم والرغبة الشديدة فيه إذا كان التدريس جيدًا, وفي بعض الأحيان قد يكون الجو الاجتماعي في البرنامج أحد العناصر التي تدفع الدارسين للاستمرار فيه, وعند البعض قد يكون

مصدرًا لدهشة الدارسين بل واستنكارهم، فهو عندهم نوع من الفوضى وضياع الوقت لمن جاءوا بمحض الحماس للتعلُّم المعرفي وحده, ومعنى هذا أن معلِّمَ الراشدين مطالَبٌ بمعرفة وتقبل وفهم الدوافع الأصلية للتعلم عند المتعلمين، واستخدامها في إعداد مواقف تعليمية على درجةٍ عاليةٍ من الملاءمة والدينامية والكفاءة, وإذا كانت هذه المسألة لها أهميتها في تعلُّمِ الراشدين المتعلمين بالفعل والباحثين عن مزيد من التعلم، تحقيقًا لمبدأ التعليم المستمر، كما هو الحال في برامج التدريب أثناء الخدمة أو برامج الخدمة العامة والثقافة العامة التي تقدمها بعض الجامعات، فإنها أكثر أهميةً وحيويةً في تعلم الراشدين الأميين, ومعظم أسباب فشل جهود محو الأمية ترجع في جوهرها إلى الفشل في التَّعَرُّفِ الواضح على دافع التعلم عند هؤلاء، وهي مسألة لم تَحْظَ بجهودٍ جادَّةٍ من الباحثين في هذا الميدان.

مثبطات التعلم عند الراشدين"التسرب"

مثبطات التعلم عند الراشدين"التسرب" ... مثبطات التعلم عن الراشدين "التسرب": لا شكَّ في أن المتعلِّمَ الراشد يختلف عن المتعلِّمِ الصغير "الطفل أو المراهق أو الشاب" في مسألة هامة, وهي أنه أكثر حريةً في الاستمرار في التعليم أو الانقطاع عنه, وقد شغل هذا الموضوع اهتمام الباحثين في ميدان تربية الراشدين وتركز انتباههم حول التسرب Dropout والفقد Wastage في تعليمهم، بالإضافة إلى ما يمكن استنتاجه في المحتوى أو مناخ المؤسسة أو علميات التدريس. ومن هذه الدراسات يمكن أن نستخلص صورةً عامةً لما نسميه مثبطات التعلُّم عند هذه الفئة من المتعلمين, نوجزها فيما يلي: 1- العوامل الرئيسية لانقطاع الراشدين عن التعلُّمِ لا ترجع في جوهرها إلى خصائص التدريس، وإنما يذكر هؤلاء عوامل أخرى؛ مثل: المرض أو الانتقال إلى مكان آخر، أو تغيير العمل, أو الاضطراب المنزلي والعائلي, أو عدم الاستقرار في العمل, وبالرغم من أن هذه النتائج تعطي المعلمين إحساسًا بالراحة؛ لأنهم ليسوا السبب الأساسيّ لانقطاع الراشدين عن الدراسة، إلّا أنها تستحق الاهتمام, فحتَّى لو تناولناها بقيمتها الظاهرة فهي توحي بأن الالتحاق ببرامج الدراسة عند كثير من

الراشدين هو نشاط ثانوي أو هامشي، بل قد يكون في ذاته مصدرًا للاضطرابات داخل الأسرة أو في محيط العمل. 2- يذكر حوالي ثلث المنقطعين عن الدراسة من الراشدين في مسح NlAE المشار إليه آنفًا, أن العوامل الأساسية لذلك هي مجموعة من مشاعر عدم الرضا عن الدراسة أو طريقة التدريس, ولذلك تأتي عوامل الإحباط المرتبطة بالدراسة تالية مباشرة للعوامل المشار إليها في الفقرة السابقة. 3- الفئة الثالثة من عوامل الانقطاع عن الدراسة عند الراشدين "والتي حددها حوالي ربع المفحوصين في البحث السابق" ترتبط في جوهرها باتجاهات الدارسين أنفسهم، كما يتمثَّل في فقدان الميل للدراسة، أو بسبب تحوّل اهتمامهم إلى موضوع جديد بديل. 4- توجد فئة رابعة من العوامل ترتبط بالجوِّ الاجتماعيِّ في برنامج الدراسة، فيذكر البعض أنهم انقطعوا عن الدراسة لأنهم لا يحبون الدارسين الآخرين زملاءهم في الفصل, وهذا العامل يثير عند الباحثين في هذا الميدان مسألة هامة تتصل بضرورة الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية بين الدارسين أنفسهم؛ فالدارس الراشد بل والدارس الصغير، يتأثر بالنجاح أو الفشل في العلاقات الاجتماعية بين أعضاء جماعة التعلُّم. 5- ذكر بعض الدارسين مستويات الدراسة كسبب للانقطاع عنها, ومن الطريف أن نشير إلى أن عددًا كبيرًا من هؤلاء المتسربين ذكروا أنهم شعروا بأن مستويات العمل أثناء التعليم بسيطة أو تافهة أكثر ما ذكروا أنها صعبة، وآخرون ينتقدون البرامج التي قُدِّمَتْ لهم بأنها قصيرة أكثر منها طويلة، وهذه المسألة تثير عند المهتمين ضرورة النظر إلى برامج تعليم الراشدين بحيث تمتدُّ في مدًى زمنيٍّ كافٍ، وتكون من النوع الذي يفرض بعض المطالب عليهم حتى يستمتعون بها. وتثير النتائج السابقة مجموعة من التساؤلات حول دوافع ومثبطات التعلم عند الراشدين, ومن ذلك أنها لا تدلنا على ما يطرأ على سلوك أولئك الذين يستمرون في تعلمهم إذا تغيرت الظروف بحيث تلائم حاجات المتسربين، كما أن من الصعب، حتى ولو استخدمنا أفضل وسائل البحث وجمع البيانات، الكشف بدقة عن مركب الدوافع الذي يدفع الإنسان إلى التعلم أو يعوقه عن ذلك, فقد لا يعرف الدارسون جيدًا لماذا تركوا الدراسة، وقد يشعرون بالخجل لذلك، وخاصةً إذا أدركوا أن سبب ذلك هو صعوبة المهام التعليمية, ولهذا قد يلجأون إلى إخفاء

الدافع الحقيقي وراء سبب أكثر حيادًا من الناحية الانفعالية، وقد تلعب حينئذ الحيل الاشعورية" كالتبرير" دورها المعروف، وإلّا فكيف يمكن للمرء أن يحكم على الدافع الحقيقي لترك الدراسة حين يقول الدارس مثلًا "سأعود إلى عملي قانعًا بما حصلت": 1- فهل الدارس يخفي عن نفسه حقيقة أن البرنامج كان صعبًا عليه؟ 2- هل هو يحاول حفظ ماء وجه المعلِّمِ بإعطاء سبب خارجيٍّ بدلًا من إيذاء شخص يحترمه؟ 3- هل هو يتجنب عدم موافقة زملائه من الدارسين, وخاصةً حين يعلم أن انسحابه من الدراسة قد يؤدي إلى وقف البرنامج بسبب نقص عدد المسجلين فيه؟ 4- أم هو السبب البسيط الذي ذكره بالفعل؟ قد يكون بعض هذا أو كله هو السبب الحقيقي لترك الدراسة، وما يذكره الدارس على أنه السبب الرئيسي قد لا يكون سوى مركب من مشاعر عديدة؛ من الأحباط والفشل وعدم الرضا عن الدارسة. وتوجد مشكلة أخرى تثيرها بحوث دوافع ومثبطات التعلُّمِ عند الراشدين, وهي أن الراشدين قد يميلون إلى إعطاء الإجابات التي يتوقعها الفاحصون "عند استخدام طريقة المقابلة" أو التي لها مرغوبية اجتماعية "عند استخدام وسائل التقرير الذاتي", وبصفة عامة فإن من الأفضل أن يكون الفاصحون مستقلين عن برنامج تعلم الراشدين ذاته، ونضرب مثلًا على ذلك بدراسة نيوسن وزوجته التي أجرياها عام 1963, حول أنماط رعاية الطفل, وفيها اختلفت نسبة الأمهات اللاتي أجبن على أسئلة المقابلة, حين كانت الفاحصات زائرات صحيّات يعملن في برنامج رعاية الطفل من ناحية، ثم طالبات جامعيات محايدات, وعلى آية حالٍ, فإن موضوع التسرُّبِ لا يزال في حاجةٍ إلى بحوث أكثر جدية مما تَمَّ حتى الآن، وحبذا لو أمكن الكشف عن مركب العوامل التي تؤدي إليه والذي يشمل الظروف الخارجية "في البيت أو العمل" وعدم الرضا الشخصي، والفشل في العلاقة بين المعلِّمِ والدارسين، وجوانب التوتر التي تستثار في الجماعة، وظروف الدارسة العامة، وهي تحدد جميعًا معظم مثبطات التعلُّمِ عند الراشدين, وبالتالي تسربهم. ولعل ذلك كله يفيد في التوصُّلِ إلى ما يسميه "Boshir, 1985" حسن المطابقة بين خصائص المتعلمين الراشدين وبيئة تعلمهم، أو بين السمات والمعالجات، ولعلنا نتوصل إلى تحديد الظروف التي تدفع بعض هؤلاء المتعلمين إلى الاستمرار في التعلم والمثابرة عليها، أو التوقف عنه والتسرب منه.

مشكلات المتعلمين الراشدين

مشكلات المتعلمين الراشدين القلق ... مشكلات المتعلمين الراشدين: يمكن أن نلخِّصَ مشكلات المتعلمين الراشدين على النحو الآتي: 1- القلق: فالمتعلم الراشد يتميز بالخوف الشديد من الفشل, أو الظهور بمظهر العجز عن التعلم، سواء كانت البرامج التي يلتحق بها ترويحية أو تدريبية أو تعليمية بالفعل, ويبدو لنا أن هذه سمة تميز المتعلمين الراشدين في جميع الأحوال, وقد يؤدي القلق الناجم عن ذلك إلى ضعف الأداء ويدعم مخاوف المتعلِّم. وبالطبع توجد استثناءات لذلك؛ فالراشدون الصغار، وخاصةً أولئك الذين أنهوا تعليمهم حديثًا, قد لا يشعرون بالقلق لأنهم يشعرون أنهم في بيئة مألوفة, وقد لا يتوقع هؤلاء الدارسون أن يجدوا العمل التعليمي صعبًا، بالإضافة إلى أنهم قد يعتبرون التربية خبرة ممتعة ومثيرة للاهتمام, ومن هؤلاء أيضًا أولئك الدارسون الراشدون الذين يستمرون في الذهاب إلى نفس الفصول لعدة سنوات "فصول تعلُّمِ الخياطة للنساء مثلًا", وكذلك الذين يذهبون إلى برنامج يلعب فيه التدريس أو التعليم وليس "التعلم" الدور الحاسم, ومن ذلك كمثالٍ متطرفٍ المحاضرات العامة التي تستغرق ساعة يتبعها عدة دقائق للمناقشة, ولا شكَّ في أن أي برنامج لا يتضمن مكوّن الاختبارات من أيِّ نوعٍ يكون دارسوه من النوع الذي لا يشعر بالقلق، إلّا أن ما يحدث بالفعل في معظم الأحوال أنه مع عدم وجود القلق لا يوجد تعلم أيضًا، ربما بسبب نقصان الدافعية عند المتعلِّم. ومن الواضح أنه في البرامج التطوعية لتعليم الراشدين -على الأقل- لن يكون القلق هو الانفعال السائد عند المتعلِّمين، وإلّا فإنهم لن يلتحقوا بهذه البرامج على الإطلاق, وقد تكون الميول والاهتمامات هي الأقوى عند غالبية الدارسين, وهذه جميعًا تؤدي إلى قدرٍ من التوتر يعين على استمرار التعلم, إلا إذا كان هذا التوتر يجب ألا يزيد عن الحد الأمثل وإلا كان معطِّلًا للتعليم، ويرتبط هذا بقانون يركس-دودسون, الشهير في علاقة الدافعية والانفعالات بالتعلُّمِ "فؤاد أبو حطب، آمال صادق، 1996".

وإذا كان قليل من الانفعال يؤدي -على الأقل- إلى جعل المتعلِّم متنبهًا ويقظًا، والموقف التعليمي مثيرًا للاهتمام، فإن القدر الكبير منه قد يكون مشكلةً كبرى للدارسين بعد أسابيع قليلة من التعلُّم, وتلعب الجماعة دورًا هامًّا في خفض قلق المتعلمين, ففي جماعةٍ جيدة التكامل يكون دور المعلِّم في خفض التوتر أقل أهمية من إدراك المتعلمين أنفسهم من أن العمل يقع في نطاق قدرتهم, إلّا أن هذا لا يعني أن القلق "وما يصاحبه من توتر" لا يمثل مشكلةً عند المتعلمين الراشدين, فكثير من البحوث العلمية والملاحظات العادية تؤكد أن بعض التوتر يكاد يلازم تعلم هؤلاء، وأن هذا التوتر قد يزيد ويصبح معوقًا للتعلُّم مع زيادة عمر المتعلم وزيادة الضغط المفروض عليه, ويظهر هذا عند الرجال بشكلٍ أكثر وضوحًا منه عند النساء, وخاصةً في برامج التدريب المهني والصناعي والإداري؛ ففي هذه البرامج يزداد اهتمام الرجال بأدائهم, وخاصةً أن نتائج هذا الأداء قد تؤثر في بقائهم في العمل أو ترقيتهم فيه, ويصدق ذلك على جميع أنواع هذه البرامج، سواء كانت برامج إعادة تدريب "أو التدريب أثناء الخدمة كما تسمى الآن" عند متوسطي العمر، أو كانت من نوع برامج التدريب الأولى التي تُقَدَّمُ عادةً للمستجدين, وهم في الأغلب من الشباب أو الراشدين الصغار, وهو قلق يظهر عند أولئك الذين يلتحقون بفصول تعلم الراشدين لأول مرةٍ "فئة الأميين", والذين يعاودون الالتحاق بها "لأغراض التدريب أو إعادته", والسؤال الجوهري: لماذا القلق؟ يمكن الإجابة على هذا السؤال باقتراح مجموعة من الفروض تحتاج إلى مزيد من البحث: 1- المفهوم القبلي Prc-concipt عند معظم الراشدين عن عملية التربية أنها تهم الأطفال والمراهقين دون غيرهم, ويوجد تراث كامل من الأمثلة الشعبية حول هذا الموضوع "مثل: بعد ما شاب ذهب إلى الكتاب"، وبالطبع فإن التربية المعاصرة استطاعت أن تنشئ مفاهيم جديدة مثل "التربية مدى الحياة" life-long education والتربية المستمرة contionus education كما قلنا، وفيها تُعَدُّ التربية ذات دور أساسي طوال حياة الإنسان, إلّا أن هذين المفهومين وغيرهما لا يزالان بعيدين عن التقبُّلِ العام، فحتَّى وقتنا الحاضر لا يزال تعليم الراشد عند الكثيرين إنكارًا مقصودًا لمكانته وموضعه، وهدر لدوره كشخص ناضج مستقل. 2- المفهوم القبلي أيضًا عند معظم الراشدين من عملية التربية أنها تتضمن في جوهرها علاقة اعتماد كبير من جانب المتعلِّم على المعلِّم، وهذا الاعتماد في

جوهره ينكر الرشد جوهرًا وطبيعةً كما بينا فيما سبق, وإلّا فكيف يتأتَّى لراشدٍ اكتسب النضج والاستقلال في نظر نفسه وفي نظر الآخرين؛ كزوجٍ ووالدٍ وعاملٍ أن يضع نفسه موضع الاعتماد من جديد, صحيحٌ أن علم النفس التربوي المعاصر يهتم اهتمامًا فائقًا بما يُسَمَّى التعلُّم الذاتي self-learning, إلّا أن هذا المفهوم فيما يبدو لم يحظ أيضًا بالشيوع العام، ربما لأن بعض الممارسات التربوية حتى وقتنا الحاضر لا تزال تعجز عن إنجازه. 3- يرى بعض علماء النفس، وعلى رأسهم كارل روجرز Carl Rogers وإبراهام ماسلو Abraham Maslow, أن منشأة القلق عند المتعلِّمين الراشدين يرجع في جوهره إلى الصراع الكامن لديهم عندما يلتحقون بفصول التعلُّمِ، وخاصةً حين يتضمن موضوع التعلُّم بعض المسائل الخلافية أو القيمية, ويفسر هذا الصراع عند أصحاب "نظرية الذات" في أن كل متعلِّم راشدٍ لديه أفكار معينة عن نفسه, بالإضافة إلى منظومته الخاصة من القيم والمعتقدات, وحينما يعترف الراشد بأنه في حاجة إلى التعلُّمِ فإن هذا يتضمن الاعتراف بوجود خطأٍ ما في نظامه القيمي الحالي؛ فالأم الشابة مثلًا قد تشرع بالرغبة في تعلُّمِ المزيد عن نموِّ الطفل, وقد تلتحق بالفعل في أحد فصول علم نفس الطفل, إلّا أنها سرعان ما تترك الدراسة أو ترفض ما يقوله المعلِّم وباقي زملاء الفصل؛ لأنها قد لا توافق عليه؛ لأن هذه الموافقة قد تعني أن طريقتها في رعاية طفلها "خاطئة", أو أنها كانت على نحوٍ أو آخر، أمًّا "سيئة". ويتفق مع هذا الفرض المشتق من "نظرية الذات" ما يلاحظ على المتعلمين الراشدين من أنهم قد يلجأون إلى بعض الحلول اللاشعورية لمشكلة قلق التعلُّم عندهن، كالاعتقاد بأن المقصود بما يقدَّم في هذه البرامج "وخاصة نقد الممارسات الخاطئة" أشخاص آخرون غيرهم، وهذا ما لاحظناه من خبرتنا ببرنامج إعداد المعلِّم الجامعي الذي تنظمه بعض الجامعات في مصر ابتداءً من مستوى المعيدين والمدرسين المساعدين وحتى الحلقات التعليمية التي تنظم للأساتذة؛ فالجميع يحضرون هذه البرامج والحلقات ولديهم قدر من التوتر، قد يكون كبيرًا, وعلى الرغم من أن الجميع يشهدون بأنهم يتعلمون من خلال هذه البرامج -ومن هؤلاء أساتذة التربية أنفسهم- إلّا أن الملاحظ بصفة عامة أنك قد لا تجد من يعترف بأن مثل هذه البرامج أعد خصيصًا له، وإنما يشير في الأغلب والأعمِّ إلى أن المقصود بها المعلم الجامعي "المبتدئ" أو "غير الخبير" أو "غير التربوي"، وهذه الحيلة "اللاشعورية" هي نوع من الدفاع عن الذات، فالاعتراف بأن الشخص يحتاج إلى

مزيد من التعلُّمِ قد يكون ضربةً عنيفةً إلى مفهومه عن ذاته كمتخصصٍ مُدَرَّبٍ خبيرٍ. ويثير هذا الفرض مسألة هامة تتصل في جوهرها بالممارسة التعليمية مع الراشدين، ويعني هذا ضرورة تغيير الطرق التعليمية واستراتيجيات التدريس لهؤلاء؛ بحيث يصبح الموقف التعليمي فرصةً يناقشون فيها مشكلاتهم المشتركة, بدلًا من أن يكون مجالًا يتضمن أن المتعلم الراشد يعوزه شيء ما "وهو بالفعل كذلك", وأن يُعَادَ تخطيط البرامج بحيث تعين الراشد على المحافظة -ولو جزئيًّا- على صورة الذات لديه, وأن تقدر الخبرات السابقة للمتعلم الراشد تقديرًا ملائمًا، بل ويستعان بها في بناء الخبرات الجديدة من خلال ما يسمى التعلم الخبري experiential learning، وتهيئة جوّ المودة، وعلاقة الاحترام المتبادل بين المعلِّم والمتعلِّم، وتيسير ظروف المساعدة الفردية وخدمات الإرشاد النفسي للراشدين.

أوهام العمر

2- أوهام العمر: إذا كان قلق الراشدين المتعلمين يمكن التغلب عليه، فإن المعلِّم الممارس في هذا الميدان قد يجد نفسه بإزاء قوى مدمرة داخل عقول هؤلاء المتعلمين, تتمثل في اعتقادهم بأن قدراتهم العقلية تتضاءل تضاءلًا خطيرًا مع التقدم في السن. ومعظم هذه المفاهيم القبلية تدعمها مصادر عديدة، فصورة الراشد في منتصف العمر عند الأدباء والفنانين، وكما تظهر على خشبة المسرح وشاشات العرض السينمائي والتليفزيون, تكاد تجمع على حدوث هذا التدهور العقلي1. وكثيرٌ من الشركات والهيئات والمؤسسات تعلِنُ صراحةً في سياستها للقوى العاملة أنها لا تعيِّن من يزيد عمره عن 35 عامًا مثلًا أو أقل من ذلك بكثير، هذا على الرغم من أن بعض شركات الطيران تعيد تدريب طياريها وهم في سن الخمسين على قيادة الطائرات الجديدة, ومن الأمثال الشائعة في الغرب "إنك لا تستطيع أن تعلم كلبًا عجوزًا حيلًا جديدة"، وهو مَثَلٌ مدمرٌ، بينما يقول المثل العامي المصري: "الدهن في العتاقي", وهو يتعدَّى في معناه معنى السمنة المادية إلى المهارة والمعرفة. وربما كان أخطر المصادر أثرًا في تدعيم هذه الصورة الشائعة عن التدهور العقلي مع التقدم في العمر ما ذكره بعض الخبراء, ربما من باب الفكاهة, ومن

_ 1 من أشهر هذه الصور ما قاله دوجيري أحد أبطال مسرح شكسبير: "حين يتقدم بنا السن تضيع منا الفطنة".

هؤلاء السيد وليام أوسلر W. Osler الذي كان طبيبًا شهيرًا وأستاذًا للطب في جامعة جون هوبكنز, ثم تقاعد من هذا المنصب الجامعي في سن 55 عامًا, ورحل إلى إنجلترا ليشغل منصبًا آخر في جامعة أوكسفورد، قال في عام 1905 بطريقةٍ نصف جادةٍ، نصف ساخرةٍ, مداعبًا أولئك الذين تعدوا الستين، وناصحًا بشكلٍ أكثر جديةٍ بإعطاء الشباب فرص إدارة شئون الحياة: "إن العمل الفعَّال والإيجابي والحيوي, إنما يتم بين سن الخامسة والعشرين وسن الأربعين، هذه السنوات الخمس عشرة الذهبية هي التي تؤلف الفترة المثمرة والبناءة, والتي يكون فيها التوازن جيدًا بين المصرف والائتمان العقليين. وقد دعَّمَ هذه الصورة بعد60 عامًا عالم الأنثروبولوجيا البريطاني المعاصر أدوموند ليتش ELeach في سلسلةٍ من المحاضرات ألقاها في الإذاعة البريطانية عام 1967، وربطَ معالم التدهور العقلي مع التقدُّمِ في السن بالتغيرات التكنولوجية التي يشدها العصر, وما يصحبها من أنواعٍ جديدةٍ من المعارف والمهارات والاتجاهات والقيم، مما يجعل ما لدى المسنين "الذي يتجاوزون في رأيه الخامسة والخمسين" من آراء ومهارات غير مرتبطة بالحياة في الحاضر أو المستقبل. هذه هي أوهام المتعلم الراشد المتقدم في السن نوعًا ما عن نفسه، بعضها ينجم عن اعتقاد الراشد في نفسه, أو اعتقاد الآخرين فيه، والتي تعطي صورة متدهورة للقدرة، كما تخلق صعوباتٍ جمَّةٍ للمعلِّم المهتَّم بتعليم الراشدين، خاصةً حين تكون الفصول في معظمها من المتقدمين في السن, وقد يستخدم بعض هؤلاء المتعلمين "أوهام العمر" هذه لتجنب "مصاعب" التعلُّم الحقيقي، وكأن لسان حاله يقول: "لا تطلب مني عملًا شاقًّا، فأنا لا أستطيع بسبب كِبَرِ سنِّي". وقد يكون هذا السلوك حلًّا لا شعوريًّا لمشكلة الخوف من الفشل إذا بذل بالفعل جهودًا جادة في التعليم، إن مثل هؤلاء يكونون بالفعل قد فقدوا ثقتهم في قدرتهم على العمل. وقد ناقشنا مسألة العلاقة بين الرشد والسلوك فيما سبق من فصول هذا الباب، ومنها يتضح أن نتائج البحوث تؤكد أن التدهور -إن حدث- لا يكون حادًّا بالصورة التي أشاعتها الأقوال الفولكلورية والكتابات الأدبية والصحفية التي أشرنا إلى أمثلة منها, وحتَّى ولو حدث بعض التدهور فهناك ما يعوضه، فمثلًا إذا كانت ذاكرة المدى القصير تتدهور "في الشيخوخة مثلًا", فإن ذاكرة المدى الطويل قد تتحسن، كما أن هناك عوامل لا تقل أثرًا في السلوك, ومنها التعليم والممارسة, وربما مع شيوع نتائج البحوث العلمية في هذا الميدان قد تتغير هذه الصورة "الكئيبة" التي رُسِمَتْ على مدى العصور للتقدُّمِ في مراحل الرشد.

المستوى الاقتصادي والاجتماعي

3- المستوى الاقتصادي والاجتماعي: يتأثر اتجاه المتعلِّم الراشد نحو ذاته بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي الذي ينتمي إليه، فأعلى نسبة تسرب في مختلف مراحل التعليم ومستوياته توجد بين أبناء الطبقات الاقتصادية الدنيا، وأسباب هذه الظاهرة مركبة، فالبيت الذي لا تتوافر فيه الكتب، بل ولا تُقَدَّرُ فيه، والآباء الذين يدركون المدرسة شيئًا بعيدًا عن اهتماماتهم أو مجالات حياتهم، أو ينظرون إليها نظرة العداء، والأسرة التي لا تستطيع الإنفاق على تعليم الأبناء, وخاصةً مع نظامٍ تعليميٍّ يفترض المجانية, ومع ذلك تستشري فيه الدروس الخصوصية, وترتفع فيه أسعار الكتب, وتستعصي فيه ظروف المعيشة، فإن المتعلمين في مثل هذه الظروف يتسربون مبكرين -ربما في سن الطفولة-ويدخلون سوق العمل "راجع ما ذكرناه عن عمالة الأطفال"، ويمارسون أعمالًا قد لا تتطلَّب منهم توظيف قدراتهم الحقيقية. ولا شكَّ أن في أنماط الشخصية التي تتشكَّل في الطفولة, والتي تسهم في تحديدها الأوضاع التربوية المبكرة, والظروف الاقتصادية والاجتماعية تؤدي في النهاية إلى تكوين اتجاهٍ لدى أبناء الطبقات الاجتماعية الدنيا بأن التعليم ليس لهم، ويظل الواحد منهم يقاوم التعليم طوال حياته حتى بعد أن يصير راشدًا، بل يقاوم هذا التعليم حتى في صورته الأساسية "لمحو الأمية مثلًا", وحين يتعلم فيما بعد -راغبًا أو راغمًا- قد يشعر بعبث التعلُّم وخاصةً حين يكتشف أن هذا التعليم يتضمن -صراحةً أو ضمنًا- قيم واتجاهات وأهداف طبقة لا ينتمي إليها. أما أولئك الراشدون الذين كانوا أبعد حظًّا في طفولتهم، فنشأوا في ظروف اقتصادية اجتماعية أفضل، أو حصلوا على خبرات سابقة أكثر, يستحضرون معهم في مواقف تعلمهم في الرشد توقعات معينة عن المعلمين وعن الطرق التي يستخدمونها, فهم يتوقعون أن يكون المعلم قريب الشبه -وليس صورة طبق الأصل- من معلِّم الطفولة أو المراهقة عندما كانو في المدرسة، على الرغم من توقُّع بعض التغيُّر في صورته, نتيجة صيرورتهم إلى الرشد, ولذلك قد ينشأ لديهم بعض الخلط حين يهيئ المعلم لهم جوَّ التسامح والحرية الذي لم يتعوده من قبل في مواقف التعلم، وقد يفسر لنا ذلك الفوضى ومشكلات النظام التي يواجهها معلمو الراشدين داخل فصولهم, على نحوٍ أشبه بمشكلات النظام في فصول الأطفال والمراهقين, كما يتوقعون أن تكون طرق التعليم مشابهة لما كان يُسْتَخْدَمُ معهم

وهم أطفال أو مراهقون، وبخاصةٍ إذا كان هؤلاء من الذين حققوا بعض النجاح في تعليمهم السابق, فقد يرجعون هذا النجاح إلى فعالية تلك الطرق التي استخدمت معهم, ولذلك قد يفاجئ هؤلاء -عندما يتعلمون في سن الرشد- بالطرق المختلفة نوعًا ما, والتي تُسْتَخْدَمُ في تعليمهم, وخاصة تلك التي تتطلَّبُ مقدارًا أكبر من الحرية والإيجابية والمشاركة في موقف التعلُّم، بل قد يقاومون محاولات المعلم استخدام هذه الطرق حتى ولو كانت أكثر فعالية, ومن الطريف أن نلاحظ أن بعض هؤلاء الراشدين الذين فشلوا في تعليمهم السابق يرجعون الفشل إلى أنفسهم أكثر منه إلى الطرق "التقليدية" التي كانت تستخدم معهم, وفي جميع الحالات توجد هذه الفجوة بين توقعات المتعلمين وما يحدث بالفعل.

شروط التعلم عند الراشدين

شروط التعلم عند الراشدين: يمكن القول أن مبادئ التعلُّم الجيد وشروطه التي تنطبق على تعلُّمِ الأطفال والمراهقين, تنطبق أيضًا على تعلُّمِ الراشدين, وأهمها شرطان: قوة الدافعية وغلبة النشاط، والفرق هو مقدار التركيز وليس في المبادئ الأساسية؛ فإذا توافرت هذه المبادئ يمكن للراشدين أن يتعلموا بكفاءة وفعالية, ومن ذلك أنه إذا اتفق موضوع التعلم مع حاجات المتعلم الراشد وميوله, فإنه يؤدي أداءً يشبه في كفاءته أداء المتعلم الصغير، إن لم يكن أفضل, وعلى الرغم من أن التقدُّمِ في السن له بعض الأثر في الأداء العقلي والحركي -كما بينا في الفصول السابقة- إلّا أن هذا يختلف اختلافاتٍ واسعة من فردٍ لآخر, والفروق الفردية بين الراشدين لا يحددها التقدم في السن, وإنما يتحكم فيها قدرات الأفراد وظروفهم ومستوياتهم المهنية والتعليمية. وإذا وضعنا هذه المسائل العامة في الاعتبار, فإن السمات الأساسية لتعلُّمِ الراشدين يمكن أن نلخصها في أن الراشدين يتعلمون أفضل إذا كان تعلمهم لا يعتمد على محض التذكر والحفظ, وهم يتعلمون أفضل خلال النشاط باستخدام معدَّلِهم, ومع مواد ترتبط بحياتهم اليومية الجديدة وتستثمر خبراتهم, والممارسة الفعلية لها أهميتها في تدعيم اكتساب المهارات الجديدة عندهم, ومع التطبيق المناسب لمبدأ "تَعَلَّمْ كيف تَتَعَلَّمُ" يصبح تعلم الراشدين خبرة مستمرة مدى الحياة بالفعل, ويمكن أن نترجم هذه السمات إلى شروط للتعلم عند الراشدين على النحو التالي: 1- تقليل الاعتماد على ذاكرة المدى القصير: من النتائج التجريبية الهامة التي توصلت إليها بحوث العلاقة بين التقدم في السن والنشاط العقلي ما لوحظ من نقصٍ تدريجيٍّ يطرأ على ذاكرة المدى القصير،

كما بينا فيما سبق, وهو ينشأ في جوهره عن التداخل بين وحدات المعلومات التي تُقَدَّمُ للمتعلِّم, وتزداد خطورة هذه المسألة إذا لجأ المعلِّم إلى ذلك في عرض موضوع التعلُّم الجديد أو المعقَّد؛ فيقدمه في صورة سلسلة من الوحدات المنفصلة المتتابعة التي تتعامل معها ذاكرة المدى القصير، وهنا ينشأ الخلط الناجم في جوهره عن "التداخل". والتطبيق التربوي الهام لهذه النتيجة أن معلِّمَ الراشدين يجب عليه أن يختصر إلى الحد الأدنى مقدار الاعتماد على الحفظ الذي يقوم به المتعلِّم, والحفظ هنا لا يعني مجرد النظر إلى قائمة من الوحدات المنفصلة ومحاولة تعلمها، ولكنه يشمل أيضًا اللجوء إلى أنشطة أخرى؛ مثل: الاستماع إلى المحاضرات، واتباع التعليمات اللفظية التي تُقَدَّمُ جميعًا مرة واحدة، ومراقبة العروض التوضيحية التي يقوم المتعلِّمُ بمحاكاتها فيما بعد؛ فهذه جميعًا تتضمن درجات من الحفظ والاعتماد على ذاكرة المدى القصير, والبديل المناسب لتعلُّمِ الراشدين هو زيادة الاعتماد على النشاط المباشر أو غير المباشر للمتعلِّم, باستخدام وسائل الاتصال المناسبة والوسائل السمعية والبصرية "تكنولوجيا التعليم" الملائمة، بل واللجوء إلى النماذج المصغرة أو التدريب على العمل نفسه، واستخدام المعامل "كمعامل اللغات"، مع التركيز في جميع الحالات على الجوانب الهامة لموضوع التعلُّم لا تفاصيله الجزئية المنفصلة التي يصعب التعامل معها بسبب ما ينشأ بينها من تداخل. 2- تقليل الاعتماد على السرعة: يرتبط بالنقص في ذاكرة المدى القصير مع التقدم في السن انخفاض معدل الأداء وسرعته سواء في العمل أو التعلم؛ ففي الصناعة يتحول الأفراد في سن 45 عامًا عن الاهتمام بالسرعة إلى الاهتمام بالدقة في الأداء نتيجة لوعيهم بأنهم صاروا أكثر بطأً، ولهذا يضحي هؤلاء بالسرعة تحقيقًا للدقة, ويفضلون أن يتوافر لهم وقت كافٍ لذلك. ويمكن لمعلم الراشدين أن يستفيد من هذه النتيجة بأن يتخلَّى تمامًا عن أن يدفع متعلميه إلى العمل والتعلم تحت ضغط الوقت, والأفضل أن يهيئ لهم الوقت الكافي حتى يوفروا لأنفسهم المعلومات الإضافية التي يحتاجون إليها قبل الاستجابة, وهذا يعني أن يعمل كل متعلِّمٍ راشدٍ بمعدله الخاص مع ما يصاحب هذا من زيادة في تكلفة التعلم. ويتطلب هذا أن يطرأ على برامج تدريب وتعليم الراشدين تغيرات جوهرية

نلخصها فيما يلي: 1- التحوّل من نظامِ التدريب الموقوت بفترة زمنية معينة -عدة أسابيع أو أشهر- إلى نظامٍ مفتوحٍ لا يتحدد مقدمًا بفترة زمنية معينة لانتهاء هذا التدريب، وإنما يتحدد محك الانتهاء بوصول المتعلم إلى أهداف البرنامج. 2- الانتقال من نظام الامتحانات ذات الطابع الشكلي والتي يغلب عليها طابع السرعة, إلى نظام التقويم والتقدير والحكم الذي يغلب عليه طابع الاستمرار والتغذية الراجعة وتصحيح المسار. 3- إلغاء نظام المسابقة والتنافس بين المتعلمين الراشدين؛ لأن التنافس يتضمَّن عنصر السرعة، ومن الأفضل أن يُقَاسَ تقدُّم المتعلم الراشد بنفسه، أي: بأدائه السابق لا بزملائه الآخرين، أو بالاعتماد على طرق التقويم التي تعتمد على محكات للعمل "ومستويات محددة للإتقان", وليس على الطرق التي تعتمد على المعايير "أي: المقارنة بين الأفراد بعضهم ببعض". 3- تقليل الاعتماد على المحاضرة والإلقاء: أسلوب المحاضرة lecture أو الإلقاء هو أقل أساليب التدريس واستراتيجياته ملاءمة لتعلم الراشدين, فليس في المحاضرة مشاركة جماعية، كما أنها تحدد معدَّلًا ثابتًا, وتجبر كلَّ فردٍ على أن يكيِّف نفسه معه، وتعتمد اعتمادًا شديدًا على الحفظ اللفظي، ولا يعلم المتعلمون شيئًا عن تقدمهم أثناءها، هذا على الرغم من كل ما يبذله المعلم من جهد ومشقة فيها: الكلام المستمر لفترات لا تقل عن ساعة بل تزيد، وإعداد نقاط المحاضرة وعناصرها ومحتواها. ومع ذلك فإن المحاضرة من أكثر طرق تدريس الراشدين شيوعًا, حتى في برامج التدريب الصناعي؛ فظاهرة المعلِّم الذي يتحدث حوالي 75% من الوقت من الأمور المألوفة, وبعض المعلمين الذين يستمتعون بالكلام ويعرفون أنهم يجيدونه, يدافعون عن أنفسهم بالقول بأن طلابهم يشجعونهم ويمتدحون أدائهم الجيد، وأن جاذبيتهم الشخصية هي التي تشد المتعلمين إليهم, وقد يكون هذا صحيحًا، إلّا أن السؤال الجوهريّ: هل يتعلَّمُ الدارسون فعلًا من هذه الطريقة؟ للإجابة على هذا السؤال قام بعض الباحثين بتقدير مقدار ما يتم الاحتفاظ به من مادة المحاضرة, فوجدوا أن المتعلِّمين لا يحتفظون إلّا بقليلٍ من معلوماتهم، قد

يصل إلى أقلِّ من النصف حين يكون الاستدعاء مباشرًا "أي: عقب المحاضرة مباشرة", ثم يهبط إلى ما بين 15% و20% حين يكون الاستدعاء مؤجلًا بعد أسبوع من المحاضرة. وهذا لا يعني إلغاء أسلوب المحاضرة تمامًا من ميدان تعليم الراشدين، فقد يحتاج الأمر تقديم محاضرة جيدة التخطيط، جيدة الإلقاء, وخاصةً حين يتطلب الأمر إثارة بعض الاهتمام بالموضوع, وتحديد عناصره الكلية في البداية، أو حين تنقل التعليمات بسرعة وبطريقة ملائمة لمجموعة تتألف من أفراد أقرب إلى التجانس العقلي. ولذلك فإن من مهارات المعلِّمِ الأساسية قدرتُه على إعطاء محاضرة جيدة, ويمكن تزويد المتعلمين في هذه الحالة بمذكرات مختصرة, أو قوائم مراجعة تفيد في تتبعها والتركيز عليها. ومن الأفضل -في حالة اللجوء للمحاضرة- أن تكون "محاضرة متقطعة" فيها فترات توقف عديدة للمناقشة، فالمناقشة تدخل على المحضارة قدرًا من إيجابية المتعلم ونشاطه، وتهيئ فرصًا للفروق الفردية, وتقلل من سأم المستعمين ومللهم، وتتيح للمعلِّم الفرصةَ أن يتأكد من أن طلابه فهموا ما يقول، وبذلك تسمح بنوعٍ من "التقويم المستمر". 4- تقليل الاعتماد على المواد الاصطناعية: يحب المتعلمون الراشدون أن يشعروا بأن ما يتعلمونه مفيد لحياتهم اليومية ومرتبط بها, ولهذا تسعى مؤسسات ومدارس التدريب الصناعي خاصةً إلى جعل هذا التدريب أشبه بالمواقف الواقعية قدر الإمكان, كما أن هذا هو نفسه الذي حوَّلَ الاهتمام في برامج "محو الأمية" في السنوات الأخيرة إلى ما يُسَمَّى "التعليم الوظيفي". الراشدون أقل تسامحًا من الصغار في تقبُّل مسألة التعلُّم "لغرض المعرفة" في ذاتها، أو باستخدام مواد اصطناعية للتعلم كبدائل للمواقف الطبيعية, ولهذا ليس من المقبول أو المعقول أن تكون مواد القراءة للراشدين في فصول "تعليم الكبار" قريبة الشبه بالمواد التي تُقَدَّمُ للصغار، أو تكون المسائل الحسابية التي يُطْلَبُ منهم حلها على نفس النسق الذي تكون عليه بالنسبة لمن هم أصغر سنًّا من حيث المحتوى والمشكلات, بل الواجب أن تكون المواد المعروضة والمشكلات المطروحة والطرق المستخدمة في فصول الراشدين من النوع الذي يعتبرونه مرتبطًا ومفيدًا لحياتهم اليومية, وقد تصلح لهذا الغرض طرق المماثلة والنماذج المصغرة, وحين

تُسْتَخْدَمُ معهم طرق الألعاب أو المشروعات أو تمثيل الأدوار, يجب أن يكون فيها نصيب كبير من الواقعية، وإلّا بدت لا معنى لها وأقرب إلى تمرينات الأطفال, وقد تأكَّدَت هذه الحقيقة منذ بحوث أدوارد لي ثورنيدك المبكرة؛ فقد وُجِدَ أن الراشدين حين يحكمون على موضوع التعلُّم بأنه مفيد لعملهم الحقيقي وحياتهم اليومية يكون أداؤهم أفضل، أما إذا حكموا على ما يتعلمون بأنه مصطنع" يكون أداؤهم أسوأ بكثير, والدرس الذي يجب أن يستفيد منه معلمو الراشدين ومعدو برامج تعليمهم من ذلك كله أن تكون موضوعات التعلُّمِ التي تُقَدَّمُ لهم شبيهةً بالمهارة النهائية التي سوف يؤدونها بالفعل في حياتهم اليومية. 5- زيادة الاعتماد على الخبرات السابقة: من المعلوم أن العمليات المعرفية والحركية تزداد تصلبًا وجمودًا مع التقدُّمِ في السن, وتتناقص القابلية للمواءمة والتكيف, وأسباب هذا الجمود قد تكون نفسية في جوهرها عند الراشدين خاصة، بينما قد تكون فسيولوجية في العمر الثالث للإنسان "الشيخوخة والهرم" كما سنبين فيما بعد, وتتمثل أسباب جمود وتصلب سلوك الراشدين في الخوف والتوتر اللذين يصاحبان إعادة التدريب أو إعادة التعلم من ناحية، وفي أن الراشدين المتقدمين في السن يكون لديهم الكثير من الخبرات السابقة التي يحتاج بعضها إلى محو تعلم من ناحية أخرى. وعلى الرغم من أن الخبرات السابقة الخصيبة والمعقدة لدى الراشدين, قد تعوق تقدمهم في تعلم عمل جديد بذهن مفتوح، فإنها قد تجعل المتعلم الراشد في وضع أفضل من المتعلم الصغير؛ فالراشد يستطيع أن يضع المعلومات والمهارات الجديدة في موضعها من هذه الخبرات السابقة. ولعلَّنَا نشير هنا إلى حقيقة سيكولوجية هامة نشتقها من جورج كيلي في نظريته المعرفية للشخصية؛ فالإطار الإدراكي المعرفي لدى الراشدين أكثر تعقيدًا وتركيبًا من إطار الصغار, وقد أشارت بعض التجارب إلى أن الراشدين المتقدمين في السن يستغرقون وقتًا أطول في حلِّ المشكلات واكتساب المهارات الحركية من الأشخاص الأصغر سنًّا, ويبدو أن السبب في ذلك هو أن الراشدين يدركون غموضًا أكبر وتعقيدًا أكثر في المشكلات العقلية والاجتماعية وفي المهارات الحركية, بالمقارنة بما كانوا يفعلونه حين كانوا صغارًا, لقد علمتهم خبرة الحياة أن الإجابات السهلة والسريعة قد تكون موضع خطأ أو شك. ويمكن أن نلخص الفوارق الجوهرية بين المتعلمين الكبار والصغار في ضوء

طبيعة الخبرة السابقة عند كلٍّ منهما فيما يلي: أ- أغلب المشكلات الأساسية التي يواجهها الراشدون، على عكس مشكلات الصغار، ليست لها إجابات قاطعة لا تدع مجالًا للشك أو الغموض، خاصةً حين ترتبط هذه المشكلات بالحياة اليومية في العمل أو العلاقات الأسرية أو الأفكار السياسية, بينما يجد الصغار الإجابات الصحيحة لكلِّ المسائل التي يواجهونها مثبتة عادةً في الكتاب المدرسي. ب- كثير من الاجابات التي يعبتبرها الراشدون صحيحة، تعتمد صحتها على التقاليد والعادات الثقافية، بينما هذه الصحة تعتمد عند الصغار على الاستدلال العقلي, وبالطبع فإن بعض ما هو راسخ لدى الراشدين من أفكار سابقة, وتقاليد وعادات اجتماعية, قد يعوق تعديل سلوكهم، وتعديل السلوك هو جوهر التعلم. جـ- الحلول التي يصل إليها الراشدون لمشكلاتهم لها أثرٌ مباشر على آخرين في مجال العمل أو الأسرة غيرها، يصدق ذلك على المشكلات الشخصية صدقه على المشكلات الاجتماعية التي يسعون إلى حلها. د- تتوافر لدى الراشدين أفكار وآراء ومعتقدات واتجاهات قد تتفق أو تختلف مع ما لدى المعلم، بينما يتعلم الصغار قليلًا أو كثيرًا مما تقدمه المدرسة، والذي يسهم في تكوين هذه الأفكار والآراء والمعتقدات والاتجاهات لديهم, ولهذا فإن مشكلة التعلم الجوهرية لدى الراشدين هي تغيير اتجاهاتهم, بالإضافة إلى إكسابهم الاتجاهات الجديدة. 6- زيادة الاعتماد على التغذية الراجعة: من أهم سمات التعلم الحكم على ما إذا كانت الإجابة صحيحة أم خاطئة، أو الحل المقترح للمشكلة مقبول أو مرفوض، أو المهارة التي تَمَّ اكتسابها وصلت إلى المستوى المطلوب أو لم تصل إليه, ويُسَمِّي علماء النفس التربويون هذه الخاصية "معرفة النتائج", ويسميها البعض الآخر التغذية الراجعة feedback, ويتطلب هذا أن يتوافر لدى المعلم وسائل فعالة وسريعة لتقويم المتعلمين, وقد يتخذ التقويم صورًا مختلفة منها: التقدير اللفظي المباشر وفي الحال، ثم التعليق التفصيلي فيما بعد، أو إعطاء قائمة مراجعة تتضمن عناصر العمل المؤدى ليصحِّحَ المتعلِّم عمله بنفسه. وفي معامل اللغات تُوجَد وسائل يراجع بها المعلم أداءه بنفسه مباشرة, ويفيد التعليم باستخدام الحاسب الآلي في هذا الصدد أيضًا؛ حيث تصحح الأخطاء فوريًّا وفي الحال.

ومن الواضح أن المتعلم الراشد يجب ألَّا يعتمد اعتمادًا كاملًا على حكم المعلم, وإنما يجب على المعلِّم أن يساعد المتعلِّم على معرفة طبيعة الأداء الصحيح, وعندئذ يمكن للمتعلِّم أن يتعرف بنفسه على ما إذا كان مصيبًا أو مخطئًا, ويجب أن نشير هنا إلى أن بعض المتعلمين الراشدين، بدون هذه الاستراتيجية، يصعب عليهم تعرف أنهم مخطئون, وحتى ولو أخبرهم المعلِّم بأن هناك خطأ فإنهم قد لا يستطيعون إدراك موضعه، كما لا يستطيعون التوقف عن إتيان أخطاء مماثلة عدة مرات بعد ذلك, إلّا أنه في كثيرٍ من الأحيان يكون المتعلمون الراشدون راغبين في تصحيح أخطائهم إذا سُمِحَ لهم بتحديدها, وإلّا فإن هذه الأخطاء سوف تعزز وتبقى وتستمر معهم لسنوات طويلة قادمة. ومن العقيم أن يقوم معلم الراشدين بتصحيح أخطائهم بنفسه دون مشاركتهم هم أنفسهم في ذلك, إنه "أي المعلم" بالطبع يتقن أداء العمل, وهذا في ذاته لا يهم المتعلم؛ لأن الأهم عنده أن يكون هو "أي: المتعلم نفسه" قادرًا على أدائه صحيحًا, ولهذا فإن أفضل طريقة لتصحيح الخطأ أن يقوم المتعلم الراشد بأداء الاستجابة بنفسه, إن قيام المعلم وحده بهذه المهمة قد يرضي أقلية من الكسالى، أما معظم الدارسين فسوف يشعرون أنهم خُدِعُوا، وأن شخصًا آخر أكثر مهارة "هو المعلم" يؤدي الأجزاء الصعبة نيابةً عنهم, وهذا لا يغني بحالٍ عن شعورهم بالرضا, وإحساسهم بالإنجاز عند التعامل مع الأجزاء الصعبة بأنفسهم, ومحاولة أدائها على نحوٍ صحيح. وقد لا تكون المشكلة في تعلُّم الراشدين في تصويب الأخطاء التي تحدث أثناء التعلُّم بقدر ما تكون أخطاء التعلُّم السابق وعاداته التي يحملونها معهم من الماضي، والتي تعوق تقدُّم المتعلم, ولهذا يجب الحذر دائمًا من الوقوع في أخطاء التعلم في الموقف الجديد, وعمومًا يجب أن ننبه أنه في التعلم بصفة عامة تصدق الحكمة القائلة "الوقاية خير من العلاج" فحالما يكتسب الخطأ يصعب علاجه ويصبح معوقًا للتعلم في المستقبل. والوقاية هنا تعني التأكد من أنه في المرحلة الأولى لأيّ معوقًا للتعلم في المستقبل, والوقاية هنا تعني التأكد من أنه في المرحلة الأولى لأيّ تعلم جديد يصدر الراشدون الاستجابة الصحيحة, وهذه المرحلة الأولى تبدو حاسمة بالفعل، فالأخطاء التي تصدر فيها, والتي تَمَّ اكتسابها يصعب زوالها أو محوها، وخاصةً إذا كانت هذه الاستجابة الخاطئة قد توصل إليها الراشد المتعلم بنفسه, ولا شكَّ أن من الأمور التي تتحدَّى ابتكارية معلمي الراشدين إعداد مواقف تعليمية تقلل على هؤلاء المتعلمين فرص الوقوع في أخطاء التعلم.

7- استخدام أفضل طرق تنظيم التعلم: اهتمَّ علماء النفس التربويون بموضوع تنظيم التعلم من جانبين: أحدهما تحديد أفضل طول لفترات التعلم، وثانيهما تحديد أفضل طول للمهمة التي يتم تعلمها. وقد نوقِشَتْ المسألة الأولى طويلًا تحت عنوان "توزيع التعلُّم أو تركيزه" وأكدت النتائج أن التعلم يتحقق بسهولة أكثر في حالة استخدام فترات راحة متكررة, وقُدِّرَتْ فترات العمل بين 20دقيقة،40دقيقة, بينها فترات راحة طولها 5 أو10 دقائق, والواقع أنه في فصول تعلُّم الراشدين يبدو أن هذا السؤال محض اهتمام نظري وأكاديمي؛ لأن الملاحظ عامَّة أن تكون فترات العمل معهم في العادة عبارة عن جلسة أو جلستين في اليوم, طول الجلسة ساعتان, بعدها فترة راحة لتناول الشاي مدتها 10-15 دقيقة, وبالإضافة إلى هذا فإن معظم فصول تعليم الراشدين تنظَّم في المساء؛ حيث يكون المعلمون والمتعلمون جميعًا في حالة تعب بعد عناء يوم العمل "إلّا في حالة تفرغ الراشدين للتعلم كما هو الحال أحيانًا في برنامج التدريب أثناء الخدمة", وفي مثل هذه الظروف يرحب الجميع بأيِّ نوعٍ من الراحة, حتى ولو كانت لبضع دقائق يتحرك فيها الدارسون قليلًا في أماكنهم. وفي بعض برامج التدريب تتاح فترات أكثر مرونة، وبالتالي قد تتهيأ الفرص لمعالجة طول فترات التعلم لتلائم المتدربين, وهنا نجد أن الأدلة تؤكد أن التدريب الموزَّع أفضل, فيتعلَّم المهارات الحركية, وخاصةً في المراحل المبكرة؛ لأن التعلُّم لو أصبح أكثر تركيز, فإن المتعلم إما أنه لا يظهر أيّ تحسنٍ, أو أن أداءه يتدهور عما كان عليه من قبل, بينما بعد فترة الراحة قد يصل أداؤه اللاحق إلى مستوى أعلى مما وصل إليه أداؤه السابق. ويعتمد طول فترة العمل وفترة الراحة في التعلُّم على المستوى النمائيّ للإنسان، فالطفل في حاجة إلى فترات عمل قصيرة، ثم تزداد هذه الفترات طولًا مع المراهقة والشباب, وفي طور الرشد المبكر يمكن للمتعلمين أن يستفيدوا من فترات عملٍ طويلة أثناء تعلمهم, إلّا أنه مع وصول الإنسان طور بلوغ الأشد "وسط العمر" ومع إيغاله فيه وصولًا إلى نهايته, وبداية العمر الثالث للإنسان "الشيخوخة", فإن فترات العمل التي يحتاجها أثناء التدريب تتجه مرة أخرى إلى القصر، حتى نجدها في المراحل المتأخرة جدًّا من العمر تكاد تقترب في طولها من فترات عمل الصغار.

أما بالنسبة لطول المهمة التي يتم تعلمها فهو من الموضوعات التي تناولها علماء النفس التربويون تحت اسم "الطريقة الكلية أو الجزئية" في التعلم, ويتضمَّن معنى الطريقة الكلية تعلم مهمة كاملة مرةً واحدةً دون محاولة تعلمها على مراحل متتابعة، كل مرحلة منها على حدة تؤلف جزءًا منفصلًا, وهذا هو معنى الطريقة الجزئية, ويرى دعاة الطريقة الكلية أن تقسيم العمل على أجزاءٍ هو دائمًا تقسيم اعتباطي, وما يحدث بالفعل بعد اكتساب المهارة أن الشخص الماهر يؤدي العمل كسلسلة من الحركات تبدو من انتظامها واتساقها وتتابعها كما لو كانت حركة واحدة, ولهذا وجدنا في برامج التدريب المعاصرة -وخاصة التدريب الصناعي والمهني- أن مسألة التعامل مع "الكليات" لم تَعُدْ لها أهميتها السابقة، فما يحدث بالفعل أن عدد المهام "الكلية" التي يجب تعلمها قليل، ومعظم التدريب يتم بالطريقة الجزئية التراكمية Commulative patr-method, أي أن المهمة يتم تعلمها كأجزاءٍ، إلّا أن هذه الأجزاء يُعَادُ تكاملها باستمرار "كوحدات" جديدة, وتضاف إلى ما سبق تعلمه. 8- الاعتماد على أن يتعلم الراشد كيف يتعلم: تؤكِّدُ نتائج البحوث في ميدان التدريب أهمية الممارسة المستمرة في تعلم الراشدين؛ فالمتدربون الذين ينشغلون في أيّ خبرةٍ من خبرات التعلُّمِ المستمر منذ تَرْكِ المدرسة يؤدون في برامج التدريب أفضل من أولئك الذين لم تتوافر لهم مثل هذه الفرص، حتى ولو كانت هذه الممارسة السابقة ليس لها ارتباط مباشر بالتدريب الراهن ذاته. ويبدو لنا أن قيمة التعلم المستمر تعتمد في جوهرها على أنها نتاج مهارةٍ تتكون لدى المتعلم الممارس لهذا النوع من التعلُّم يمكن تسميتها مهارة "تعلم طريقة التعلم"، بالإضافة إلى اتجاه هذا المتعلم نحو تحسين ذاته وتنميتها تنمية دائمة ومستمرة, ومعنى ذلك أن الراشدين الذين عليهم إحراز الثقة في التعلُّم من خلال أداء عملٍ جيد التخطيط وملائمٍ لحاجاتهم سوف يتحسنون، ليس فقط في المهارات التي يتدربون عليها، وإنما من المتوقع لهم أيضًا أن يتحسنوا في مهارات تعلم كيف يتعلمون. ومن الممكن للراشد أن يكتسب بعض الاستبصار في طريقة حدوث عملية التعلُّم وخاصةً إذا لم يكن من أولئك الذين تلقوا قدرًا كافيًا من التعليم الرسمي "التحرس Schooling", وعادةً ما يُقَدَّم هذا في جلسة افتتاحية للمبتدئين, يطلق عليها أسماء شتّى من نوع "كيف تدرس" how to study، وتشمل نصائح بسيطة

وتدريبات عملية سهلة حول موضوع التعلم, ومن أشهر هذه البرامج ما يُسَمَّى برنامج مهارات الدراسة study skills, والذي يقدّم عادةً للطلاب لتحسين أدائهم الأكاديمي, ويشمل ذلك مثلًا أفضل طرق تسجيل نقاط وعناصر المحاضرة، واختيار الطرق المناسبة للاستذكار، ومهارات استخدام المكتبة والمراجع وغير ذلك. إلّا أن بعض معلمي الراشدين يشعرون -وهم على حقٍّ- بأن هذا ليس كافيًا، ويحبون للمتعلمين أن يشاركوا بالفعل في "تجربة تعلُّم" حقيقية؛ بحيث يخبرون بأنفسهم كيف يتعلمون.

خاتمة حول العمر الثاني للإنسان

خاتمة حول العمر الثاني للإنسان: بهذا نصل إلى نهاية العمر الثاني للإنسان وبداية مرحلة الختام، أي: العمر الثالث له, ومن وصف رحلة الرشد في الفصول السابقة يتضح لنا كيف أن هذه الطور الهام من حياة الإنسان بدأت أصوله ونمت وتحسنت وترقت طوال العمر الأول "الطفولة والصبا والشباب", لقد كان هذ العمر الأول هو مرحلة بناء الأسس وتكوين الدعائم، ولهذا وصفه القرآن الكريم "بالضعف" ففيه الاعتماد شبه الدائم على الوالدين والمعلمين رعايةً لهذا النموِّ وتوجيهًا له. وحالما يصل الإنسان إلى رشده، الذي هو في جوهره استقلال اقتصاديّ بالمعاش، واستقرار اجتماعي بالزواج وتكوين الأسرة، يكون قد بلغ ما يصفه القرآن الكريم "بالقوة", ويتوجه مزودًا بدفعه الذاتي نحو بلوغ الأشد, وهكذا يمضي الرشد كالصاروخ الذي حالما ينطلق لا يتوقف حتى يبلغ غايته. إلّا أن حياة الإنسان ليست رشد "القوة" فقط، ولكنها أيضًا رشد الضعف", فحالما يبلغ الإنسان غايته من رشده حتى يتحوّل النمو إلى العمر الثالث للإنسان، وهو ما وصفه القرآن الكريم بالضعف، إلّا أنه ليس كضعف الطفولة والصبا والشباب الذي لا تواجه المعرفة والخبرة، ولكنه ضعف مزَّوَّدٌ برصيد هائل من تجارب العمر، ولهذا يصفه القرآن الكريم بالضعف المصحوب بالشيبة, والشيبة في هذا السياق القرآني لا تعني محض بياض الشعر "وهو المعنى اللغوي"، كما لا تعني العجز فحسب، وإنما تتضمن أيضًا معنى الحكمة التي توافرت للإنسان على مدى أكثر من ستين عامًا في حياته، وهذا ما سوف نتناوله في الباب التالي من هذا الكتاب. وصدق الله العظيم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54] .

الباب السادس: المرحلة الثالثة في حياة الإنسان"ضعف المسنين"

الباب السادس: المرحلة الثالثة في حياة الإنسان"ضعف المسنين" الفصل التاسع عشر: حدود المرحلة الثالثة في حياة الإنسان الشيخوخة في اللغة والثقافة: يُطْلَقُ مصطلح العمر الثالث للإنسان أو المرحلة الثالثة في حياة الإنسان في هذا الكتاب على مرحلة "الضعف الثاني" بعد مرحلة الرشد أو القوة، كما يحددها القرآن الكريم بقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} "الروم: 54". وتُوجَد في تراث علم النفس المعاصر تسميات كثيرة لهذه المرحلة، فهي الرشد المتأخر late adulthood أو الإعمار aging أو التقدُّم في السن elderly أو الشيخوخة senescence أو ما بعد النضج post-maturity, أما اللغة العربية فهي حافلة بألفاظ كثيرة تدور معانيها حول هذه المرحلة وخصائصها, وقد أمكننا أن نحصر أربع عشرة كلمة تدور حول حدود هذه المرحلة وهي: 1- الكبير وهوالطاعن في السن. 2- الشيخ وهو الذي استبانت فيه السن، ويقال أنه من بلغ الخمسين حتى آخر العمر أو إلى الثمانين. 3- المخلد وهو الذي أسنّ ولم يشب. 4- المسنّ وهو الذي ارتفع عن المخلد. 5- النهشل وهو المسن, وفيه بقية ولم يذهب بعد كل شبابه. 6- الخنشل وهو المسن القوي. 7- القحم "القحوم" وهو الذي ارتفع عن السن، وقيل: هو الكبير السن جدًّا، وقيل: هو الشيخ العجوز الخرفان. 8- القحر وهو الذي أسنَّ وفيه جلد "الأنثى قحرة". 9- الهرم وهو الشيخ الفاني "والأنثى هرمة".

10- الهم: وهو الشيخ الفاني "الجمع أهمام والأنثى همة". 11- الهم: وهو الفاني الهرم. 12- الدردبيس: وهو الشيخ، وتستخدم الكلمة خاصةً للإشارة إلى العجوز الفانية. 13- العاتي: وهو السن الكبير, ويقال: الشيخ عتي على وزن فعول. وتوجد طائفة أخرى من الكلمات العربية تدور حول خصائص هذه المرحلة من النواحي الجسمية والعقلية نذكر منها: 1- المقلحم: وهو الذي تضعضع لحمه. 2- الدالف: وهو الماشي مشي المقيد، وفوق الدبيب، وأدلفه الكبر, أي: جعله يدلف. 3- الرضمان: وهو من ثقل عدوه. 4- العشمة: هو الرجل الذي ضمر وانحنى. 5- المقشب: وهو اليابس من الكبر. 6- الماج: وهو الذي لا يستطيع أن يمسك ريقه من الكبر. 7- الهرشف: وهو الكبير المهزول. 8- الخرف: وهو الشيخ إذا فشل عقله لكبره. 9- المفند "بتفح النون وبتشديدها": وهو الشيخ الذي كثر كلامه من الخرف، والفند هو الخرف وإنكار العقل لهرم أو مرض. 10- النعثل: وهو الشيخ الأحمق. 11- الهبل: وهو المضطرب من الكبر. 12- المكوهد: وهو المرعش من الكبر والضعف. 13- العنجل: وهو الشيخ الذي انحسر لحمًا وبدت عظامه. 14- الدحمل: وهو الشيخ الناحل المتجعد الجلد. 15- القعضم: وهو المسن الذاهب الأسنان. 16- المقوس: وهو الشيخ المنحني الظهر. 17- الروق: وهو من طال به العمر حتى سقطت أسنانه. ولعل المتأمل في قائمتي الألفاظ السابقة يكتشف أنها جميعًا تدل على أن هذه المرحلة من النموِّ تتسم بالتدهور والهبوط والضعف الذي يحدث في جميع جوانب

حياة الإنسان, وهي مرحلة يشترك فيها الإنسان مع الحيوان؛ فالتغيرات التي تطرأ على جلد الإنسان وشعره وقامته وقوة عضلاته ونشاطه وكفاءته في الاستجابة, نكاد نَجِدُ ما يناظرها عند الحيوان عندما يدخل في طور الشيخوخة, ومع ذلك فإن هذا المرحلة في حياة الإنسان تتسم بالدينامية والتفاعل كغيرها من مراحل حياته، وتمر بتحديات التكيُّف ومشكلات التوافق التي تحتاج إلى المعالجة, حتى يمكن للمرء أن يستمر في حياته. هي هذه حقائق الحياة فعلًا وحقًّا، وكان بالطبع يمكن تقبُّلها على أنها تغيرات طبيعية, وعندئذ لا تكون لها آثار تذكر على توافق الإنسان، إلّا أن ما يحدث في الأغلب أن معظم الثقافات الإنسانية تركِّزُ على أهمية الشباب والرشد، أما ما يتردد فيها عن الشيخوخة والتقدُّمِ في السن فهي أفكار نمطية تتسم بأنها سلبية في جوهرها. ولعل أوضح الأدلة على ذلك ما يفيض به الفولكلور الثقافي من إشاراتٍ غير محبذة لهذا العمر الإنساني، وأكثر الأمثلة وضوحًا في هذا السياق الأمثال الشعبية، صحيحٌ أن فيها بعض إشارات موجبة عن الشيخوخة والشيبة وسواهما, إلّا أن الطابع الغالب عليها عامَّةً هو الطابع السلبي, ويبدو لنا أن انطباعاتنا عن الشيخوخة تعتمد على خبراتٍ تعوزها القيم الموجبة, وعلى معلومات غير دقيقة حول طبيعة الأفراد وخصائصهم في هذه الفترة من دورة الحياة. وتوجد مجموعة من الأفكار النمطية حول هذه المرحلة: فالمسنون مرضى فقراء غير مهمين, غير أصحاء, وغير ودودين, وحزانى ومساكين, وتوجد مصادر كثيرة لهذه الاتجاهات السلبية نحو المسنين: أحدها ما أشرنا إليه من تراثٍ فولكلوري, فإذا أضفنا إليه التراث الأدبي الذي يقرأه الإنسان عادةً في مراحل الصبا والشباب, والصورة السلبية فيه عن الشيخوخة, والذي يتم به تشكيل الأفكار والمعتقدات والاتجاهات والآراء, فإن ذلك يؤدي إلى تدعيم هذه الصورة السلبية، ناهيك عن الدور الحاسم الذي تقوم به وسائل الثقافة والإعلام الحديثة "وخاصة السينما والتليفزيون"، ودور الإعلانات في عصرنا الحاضر, والتي تركز جميعًا على الشباب، بل هي موجهة في جوهرها للشباب. وقد يكون أكثر العوامل قوةً نقص الخبرات الموجبة مع المسنين, وخاصةً في مرحلة الطفولة, وتؤكد بعض الدراسات الحديثة أنه حين يقضي الطفل بعض الوقت في تعاملٍ مباشرٍ مع المسنين, تتحول انطباعات الأطفال من السلبية إلى الإيجابية, ولعل هذا يدعونا إلى التحسُّرِ على العصر النبيل الذي انقضى حين كان الجد والحفيد يتفاعلان معًا تحت سقفٍ واحدٍ.

وربما لهذه الأسباب لا تفضِّلُ بعض المجتمعات الحديثة -وخاصة في الدول المتقدمة- أن تطلق على المواطن بعد تجاوزه الستين "صفة الشيخوخة", والتسمية الشائعة لديهم هي "المواطن الكبير" senior citizen، وهذه التسمية في اللغة الإنجليزية لا تحمل معنى التقدُّم في السن فحسب، وإنما تتضمن أيضًا معاني الاحترام والمكانة الرفيعة والقدر العالي, وفي رأينا أن صفة "الشيخ" في اللغة العربية تحمل هذه المعاني جميعًا؛ فالكبير لغةً -كما بينا- هو الطاعن في السن1, بينما الشيخ لغةً هو الأستاذ والعالِمُ الكبير وكبير القوم ورئيس الصناعة، وهو الكبير في أعين القوم علمًا أو فضيلةً أو مقامًا ونحو ذلك، وحين يُنَادَى المرء في العربية بأنه شيخ, فإن ذلك يحمل كل معاني التبجيل والاحترام والتقدير.

_ 1 لعل هذا التحليل اللغوي يدفع المتخصصين في التربية إلى تعديل مسمياتهم لمجال "تعليم الكبار", وإحلال مصطلح تربية الراشدين محله كما ذكرنا من قبل.

حدود الشيخوخة

حدود الشيخوخة المحك العمري ... حدود الشيخوخة: متى تبدأ الشيخوخة؟ على الرغم من أن الشيخوخة حالةٌ نفسيةٌ وعقليةٌ لدى الكثيرين, إلّا أنه توجد مجموعة أحداث ثقافية ترتبط بالجسم والعقل تعد معالم لبدء هذه المرحلة, ولعلَّ من المفيد أن نعرض هذه الأحداث التي يمكن الاستفادة بها كمحكاتٍ لتعيين بداية هذه المرحلة الهامة من حياة الإنسان. المحك العمري: لعل أهل المحكات العملية في وقتنا الحاضر هو المحك العمري, والذي يحدد بداية زمنية معينة كبدء للعمر الثالث للإنسان؛ فعادةً ما يُعْتَبَرُ السن ما بين الستين والخامسة والستن هو المحك الرئيسي الذي يحدد بداية الشيخوخة, والواقع أن هذا المحك في جوهره هو من نوع المحكات الاعتباطية, ولعل ما يجعل للفترة من 60 -65 علاقة بحدود الشيخوخة أنها تمثِّلُ سن التقاعد واعتزال أدوار العمل الرئيسية، وبداية الاستفادة من نظام المعاشات والتأمين الصحي، والإعفاء من الضرائب, وفي بعض المجتمعات يحصل المسنون على امتيازاتٍ أخرى إضافية؛ مثل: تذاكر المواصلات المخفضة، والأسعار الخاصة لبعض المشتريات. وإذا كان الفترة من 60-65 هي بداية هذا العمر الثالث للإنسان, فماذا عن حدوده الزمنية؟ يثير هذا السؤال موضوع طول الحياة أو ديمومتها average life span، والذين يمكن النظر إليه من زوايتين: إحداهما متوسط الأعمار، ويدل على العمر الذي يقضيه الإنسان حيًّا في المتوسط, ويسمى متوسط

مدى الحياة longevity, وثانيهما الحد الأعلى للعمر الذي يعيشه الإنسان, ويُسَمَّى المدى الأقصى للحياة maximum life span, ويعكس المؤشر الأول الظروف البيئية من تغذيةٍ ورعايةٍ طبيةٍ وغيرهما، أما المؤشر الثاني فيدل على الخصائص البيولوجية المميزة للإنسان، وكلاهما -من قبل ومن بعد- تتحكم فيه إرادة الله ومشيئته -سبحانه وتعالى. 1- المدى الأقصى للحياة: يبدو أن المدى الأقصى للحياة ظلَّ ثابتًا خلال بضع فترات تاريخية متعاقبةٍ وعبر الثقافات المختلفة، وخاصةً الإنسان في العصر الحديث حين توافرت للباحثين البيانات التي يمكن أن تخضع للتحليل المنظم, وفي ضوءِ ما هو متاحٌ حتى وقتنا الحاضر يمكن القول أن المدى الأقصى لحياة الإنسان في العصر الحديث هو ما بين 110، 120 سنة، وأن أقصى ما أمكن التوصل إليه بالفعل هو حوالي 115 سنة1. والسؤال هنا: كيف تتفق هذه النتائج مع ما نقرأ ونسمع من مزاعم حول أفراد معاصرين عاشوا بيننا أعمارًا تفوق كثيرًا هذا الحد الظاهر؟ يرى الباحثون أن معظم هؤلاء "المعمرين" عاشوا في وقتٍ كان من الصعب - إن لم يكن من المستحيل- التحقق من عمر الشخص بطريقةٍ دقيقة Perlmutter "Hall, 1985:61" فحين قام بعض الباحثين ببحثٍ عَمَّا ذُكِرَ عن حوالي 600 شخص من هؤلاء, من أنهم عاشوا 120 سنة على الأقل، لم يجد هؤلاء الباحثون واحدًا منهم عاش لأكثر من 114 سنة "Fries&Crapo, 1981" وقد تأكَّد ذلك من بحوث أخرى، لعل أهمها بحث "Walford, 1983", وأحيانًا ما نقرأ أو نسمع عن أشخاصٍ يعيشون في بعض الثقافات والمجتمعات النائية، ويشار إليهم بأن متوسط مدى الحياة لديهم يتجاوز 150 عامًا، ومن أشهر هذه المجتمعات ثلاثة: بعض قرى الإكوادور، وبعض مقاطعات الدولة الروسية، وبعض المناطق في باكستان, وقد أُجْرِيَتْ دراسات علمية على هذه الحالات الثلاث على وجه الخصوص، وأكدت خطأ هذه التقديرات العمرية؛ ففي حالة معمري الإكوادور, وُجِدَ أن هناك خطأً واضحًا بين أسماء الآباء والأبناء, وبسبب شيوع الزواج الداخلي فقد تكررت بالفعل الأسماء داخل السلسلة الواحدة, كما لوحظ

_ 1 يجب على القارئ أن يتنبه إلى أننا نشير هنا إلى البيانات التي خضعت للتحليل بالنسبة للإنسان خلال القرنين الماضيين, ويخرج من هذا السياق كليةً, ما ورد في الأثر حول أعمار الأنبياء كنوحٍ -عليه السلام, فهذا من الغيب الذي يجب الإيمان به، وكذلك ما ورد حول بعض الحضارات القديمة, فهذه ليست موضوع بحثنا.

أن من عاداتهم أنه حين يموت الطفل يُعْطي الآباء نفس الاسم لطفلٍ جديد, وقد لوحظ أيضًا أن سكان هذه القرى الذين تمتد أعمارهم بين 60، 70 سنة, كانوا يعطون بصفة عامة أعمارهم الصحيحة، أما أولئك الذين تجاوزوا هذا السن فكانوا أقل دقة, ويزداد عدم الدقة مع مزيد من التقدُّمِ في السن, وحين صحح الباحثون هذه البيانات باختيار الوثائق وجدوا أن أحدًا منهم لم يتجاوز عمره مائة عام "Perlmutter Hall, 1985". وقد أجريت دراسات مماثلة على المعمِّرين الروس؛ حيث لم يجد الباحثون وثائق ميلاد رسمية لهؤلاء، كما لاحظوا أن بعض هؤلاء الذين بالغوا في تقدير عمرهم فعلوا ذلك كحيلةٍ للهرب من الخدمة العسكرية، وربما لهذا السبب لم يُجَنَّدْ بعضهم أثناء الحرب العالمية الأولى حين استخدموا وثائق الوالد "المماثل له في الاسم" بدلًا من وثائقهم هم, وحين صُحِّحَتْ أعمارهم وُجِدَ أنها لم تتجاوز الثمانين عامًا, وقس على ذلك حالة معمري باكستان. ولعل ما يلفت النظر حقًّا أن المناطق الثلاثة المشار إليها تتسم بالبعد والعزلة عن أعباء الحياة المعاصرة, فهم سكانٌ يعيشون حياةً ريفيةً تقليديةً تمامًا، وبالطبع فإن مثل هذه الثقافات يكون للمسن فيها سلطته وتقديره واحترامه، وربما لهذا السبب كانت المبالغة في تقدير العمر, ومع ذلك فإننا لا نستبعد مطلقًا أن يعيش هؤلاء السكان لما يقترب من مائة عام، بل قد يتجاوزون ذلك بعض الشيء، والسبب في ذلك أنهم يظلون على درجةٍ كافيةٍ من النشاط والحيوية والمشاركة في حياة مجتمعهم وبيئتهم حتى عُمٍرٍ متأخِّرٍ، بالإضافة إلى أن نظامهم الغذائي جيد ومتوازن إلى حدٍّ كبيرٍ، وعدم وقوعهم في أسر بعض العادات السيئة التي يعاني منها الإنسان المعاصر, وخاصةً التدخين وإدمان المخدرات وتعاطي المسكرات, إنهم بذلك يعيشون حياةً أقرب إلى تلك التي يوصي بها الباحثون المعاصرون المتخصصون في علم الإعمار Gerontology، وهو أحدث العلوم الإنسانية نشأةً وأكثرها تطورًا في وقتنا الحاضر: 2- متوسط مدى الحياة: أما عن متوسط مدى الحياة, وهو المؤشر الثاني الذي يُسْتَخْدَمُ في دراسة العمر فإنه يختلف من ثقافة لأخرى، كما يتغير من عصرٍ لآخر. إلّا أن الملاحظ أنه خلال القرنين الماضيين طرأت زيادة على متوسط العمر الذي يعيشه الإنسان "وخاصة الإنسان في الغرب"، ويرجع حدوث ذلك خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى سبب جوهري هو زيادة موارد الغذاء

وتحسين مستواه بالنسبة للغربيين، أما سبب ذلك عندهم في النصف الثاني من القرن الماضي فكان التقدم في الرعاية الطبية، وقد شهد القرن العشرين خاصة تطورات هامة في مجال الطب, وخاصةً مع الإجراءات الوقائية كالتحصين ضد الأمراض المعدية، والطرق العلاجية؛ كالتطورِ في مجال الجراحة والعقاقير "وخاصةً اكتشاف المضادات الحيوية" على نحوٍ أدى إلى خفض معدَّلِ الوفيات "وخاصةً وفيات الأطفال"، فإذا أضنفا إلى ذلك زيادة الوعي لدى الإنسان -مع نهاية القرن الحالي, واستشراف أفاق القرن الحادي والعشرين القادم- من أن فهمنا لأسلوب حياتنا وطريقة عيشنا له أثر كبير في الصحة والمرض, وبالتالي في قصر العمر وطوله "بعد مشيئة الله تعالى" فإننا نتوقع أن يزداد متوسط مدى حياة الإنسان في المستقبل. إلّا أن هذا القول ليس متماثلًا لدى الجميع, فمن حقائق الإحصاءات الحيوية في كثير من البلدان أن المرأة تعيش بصفة عامة أطول من الرجل، كما أن نسبة وفيات الإناث عند الميلاد أقل منها للذكور، وفي مختلف الأعمار توجد لدى النساء قدرة أكبر من الرجال على مقاومة المرض, كما أنهن أقلّ تعرضًا لمرض العصر القاتل وهو مرض القلب, إلّا أن هذه الميزة للنساء ليست كذلك في جميع المجتمعات؛ ففي بعضها نجد أن عدد المعمرين من النساء يكاد يتساوى مع عددهم من الرجال, وفي البعض الآخر قد يزيد عدد المعمرين من الرجال على النساء، إلّا أن من العوامل التي أدت إلى الصورة الراهنة، والتي وصفناها فيما سبق، أن الرجال أكثر تمسكًا بعادة التدخين، كما أن إدمان المخدرات والمسكرات أكثر شيوعًا بينهم، وكذلك فهم أكثر عرضة للحوادث القاتلة. وعلى الرغم من هذه العوامل الخارجية, فإن بعض الباحثين يرون أن النساء لديهن استعداد بيولوجي للعيش أطول من الرجال, وهم يستندون في ذلك إلى الحقيقة البيولوجية التي تؤكد أن إناث معظم الحيوانات أطول عمرًا من ذكورها, إلّا أن حياة الإنسان ليست محض حقائق بيولوجية, ولكنها ذات إطار اجتماعي وثقافي وتاريخي، ولعله الأهم والأخطر. ويتضح ذلك مما تأكَّدَ من أن التغذية والرعاية الطبية لها أثر كبير في صحة الإنسان، وبالتالي في احتمال زيادة عمره, ولهذا فمن المعقول فهم ما يُوجَدُ من فروقٍ في هذا الصدد في المستويات الاقتصادية والاجتماعية، وبين الثقافات الفرعية داخل المجتمع الواحد، وبين الدول المتقدمة والدول النامية. وبالطبع فإن ارتفاع متوسط مدى الحياة يؤدي بدوره إلى زيادة عدد المسنين

وهذا ما تكشف عنه التعدادات السكانية الأخيرة, وقد أدى ذلك إلى توسيع نطاق مرحلة العمر الثالث للإنسان, ورفع حدّها الأقصى الذي أصبح ينتهي بالإنسان إلى الموت في سن مائة سنة أو أكثر, كما بينا عند الحديث عن المدى الأقصى للحياة, ويذكر "Binger, 1983" أن هذه التطورات أدت إلى أن الإنسان المعاصر يمكنه أن يعيش -إن شاء الله- في هذه المرحلة في الوقت الحاضر ما بين 20، 40 سنة. هل العمر الزماني معك كافٍ؟ لعل أشد الأخطاء خطرًا أن يتصور المرء أن العمر الزمني في ذاته متغير تفسيري "أي: له علاقة سببية بما يحدث من تغيراتٍ في أيِّ طور من أطوار العمر"؛ فالعمر في ذاته لا يمكنه حتى أن يصف، ناهيك أن يفسِّر هذه التغيرات, وعلى هذا فبلوغ المرء سن الستين أو تجاوزه لا يفسر مباشرة ما يحدث من تغيراتٍ من النوع الذي يشيع في العصر الثالث للإنسان. وكل ما يمكن أن يكون عليه أنه مؤشر تتفاعل فيه مجموعة من العوامل التفسيرية من ناحيةٍ "كالآثار الاجتماعية والبيئية التي يعيش فيها الإنسان الراشد المسن, أو التغيرات البيولوجية التي تطرأ عليه"، ومجموعة أخرى من الخصائص المترتبة عليها من ناحية أخرى "مثل اتجاهات الراشدين المسنين أو العمليات السيكولوجية التي تصدر عنهم", ويشبه Kermis" "1984 العمر الزمني -باعتبار محض مرور الزمن- بأيّ أداة قياس أخرى "السنتيمترات في المتر مثلًا"؛ فالسنتيمترات وسيلة لقياس الطول, ولكنها لا تحدثه أو تؤثر فيه بالزيادة أو النقص, وبالمثل فإن الساعات والأيام والشهور والسنوات التي تؤلّف مقياس الزمن "وبالتالي مقياس العمر الزمني" تقيس هذا الحدث الفيزيائي، ولا تدل على أكثر من طول الزمن الذي قضاه المرء حيًّا، وكل ما نستطيع قوله: إن هناك تغيرات معينة تحدث في العمر الزمني أو تصاحبه, ولكنها لا تنتج عنه, وهذه التغيُّرات البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية هي -كما سبق أن وصفناها في مطلع هذا الكتاب- هي محتوى الزمن.

نحو محكات أخرى للشيخوخة

نحو محكات أخرى للشيخوخة: الشيخوخة بالطبع ليست محض بلوغ عمر زمني معين, بل إن بلوغ الإنسان عمرًا زمنيًّا معينًا في أيِّ طورٍ من أطوار الحياة لا يعني بالضرورة حدوث جميع التغيرات البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية المصاحبة التي يفترض حدوثها في هذا الطور عند الجميع وفي وقت واحد, ولهذا كثيرًا ما نقرأ في التراث السيكولوجي المتخصص إشارات متعددة إلى العمر الاجتماعي والعمر السيكولوجي، ناهيك بالطبع عن العمر البيولوجي. وقد أكدت حقائق علم النفس النمو في مختلف أطوار الحياة أن الأفراد في نفس العمر الزمني يختلفون في هذه المحكات الأخرى، وينطبق هذا على الشيخوخة انطباقه على جميع أطوار الحياة الأخرى. ولعل القارئ يتذكر أننا عند مناقشة مسألة "الرشد الإنساني" أشرنا إلى أن محض بلوغ المرء سن 21 عامًا لا يعني بالضرورة تحقيق الرشد، فقد يكون كلٌّ من المحك الاجتماعي والمحك السيكولوجي لديه متقدمًا أو متخلفًا, على الرغم من توافر المحك البيولوجي "وهو في حالة الرشد البلوغ الجنسي", فلماذا لا ينطبق على الشيخوخة نفس القول؟ فكما أن الرشد لا تحدده -من الوجهة السيكولوجية- حدود الزمن، ولو كان قانونيًّا، وإنما هو أكثر ارتباطًا بالاستقلال، فإن الشيخوخة لها نفس الطابع, فسن الستين ليس حدًّا فاصلًا بين القوة والضعف، العزيمة والوهن، التطور والتقهقر؛ لأن الشيخوخة السيكولوجية لا تتوازى بالضرورة مع التغيرات الجسمية التي تحدث في هذا السن ومابعده, فقد تحدث مبكرةً في الرشد المتأخر، وقد تتأخر كثيرًا فيه، ويتوقف هذا على مدى استثمار الفرد لإمكاناته السيكولوجية: معرفية ووجدانية واجتماعية، كما يتوقف أيضًا على نجاح الفرد في هذا الاستثمار طوال عمره كله: في شبابه وخلال سنوات نضجه ورشده، مما يؤدي به إلى استمرار الاستقلال، والرغبة المستمرة بل والمتزايدة في التعلُّمِ, وخاصةً التعلُّم الذاتي، واشتقاق الرضا والإشباع من الاستكشاف والاستطلاع والمعالجة والتقصي والبحث, التي ترتبط جميعًا بهذا التعلم، ثم تنوع الاهتمامات والميول, فإذا بدأ ذلك كله في التناقص والهبوط كان علامةً على بداية النهاية من الناحية السيكولوجية, ومعنى ذلك: أن المرء إذا بدأ في افتقاد استقلاله السيكولوجي, وتوجه نموه نحو الانتكاس وإلى الاعتماد من جديد، فهذا هو المؤشر على التحول السيكولوجي نحو الشيخوخة، ومع التقدُّمِ فيها "أي: الشيخوخة", يزداد الاعتماد الذي يصبح حينئذٍ علامةً بارزةً على التدهور، بل قد يظهر النكوص أو العودة إلى أنماطٍ مبكرة من السلوك, ومستوياتٍ أبسط من النشاط, ووراء ذلك كله عودة إلى الاعتماد الذي هو علامة "الضعف الثاني" الذي يشهده العمر الثالث، كما كان علامة "الضعف الأول" في مرحلة الطفولة والصبا والشباب "العمر الأول للإنسان", وصدق الله العظيم حين قال في كتابه العزيز: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْق} [يس: 68] . وهكذا نقول: إنه إذا كان الاستقلال هو المحك السيكولوجي للرشد، فإن فقدان هذا الاستقلال والعودة إلى الاعتماد هو المحك السيكولوجي للهرم والعجز senility, ويصاحب هذا الاعتماد توقف عن التعلُّم -التعلم الذاتي بالطبع- مما يؤدي بالمرء

إلى اتجاهات سالبة نحو الذات والآخرين والعمل والحياة عامة، وهذا في ذاته يؤدي إلى الهرم بمقدار يفوق ما تفعله التغيرات في أنسجة المخ. ويُعَدُّ التقاعد retirement من العمل -أي: التحول من الشخص العامل المنتج الكاسب للقمة العيش بجهده وكَدِّه, إلى شخص عاطل معتمد على الآخرين في معاشه- هو أشد صور التحول من الاستقلال إلى الاعتماد, وخاصة من الوجهة الاجتماعية, وتُعَدُّ خبرة التقاعد من أشد الخبرات إحباطًا في حياة الإنسان، ومع ذلك فإن من الممكن أن تمر هذه الخبرة بسلام في حياة الراشدين إذا أُحْسِنَ التخطيط لها. ونذكر هنا أن من الاتجاهات الحديثة في علوم الإدارة والتنظيم الصناعي زيادة مسئولية المنظمات في مساعدة الأفراد الذين هم في مرحلة منتصف العمر على التوافق لمشكلات التقاعد, وأولها التركيز على أهمية الادّخار والاستثمار في صناديق التأمين والمعاشات, بما يضمن دخلًا ثابتًا بعد التقاعد, ولكن سرعان ما ظهر أن هناك مشكلات أشد تعقدًا من المشكلات المالية, يجب الاهتمام بها عند الإعداد للشيخوخة, ونتيجةً لذلك نجد المؤسسات الصناعية الكبرى في الغرب تُعِدُّ برامج للإرشاد الجماعي والفردي لأولئك الذين يقتربون من الشيخوخة, وقد أدى هذا إلى أن يتنبه الإنسان العادي إلى ما ظلّ يركز عليه علماء النفس لسنوات طويلة, وهو أن التوافق لأيّ مشكلة يتم بسرعة وبأقل قدر من التوتر الانفعالي إذا كان الفرد مُعَدًّا لها, وكلما طالت فترة الإعداد وزادت جوانب الموقف التي تتطلّب الاستكشاف والفهم وضوحًا, كان التوافق للمشكلات أفضل, حتى ولو اختلفت جوانبها الخاصة عما كان يتوقعه المرء خلال فترة الإعداد. وبالطبع لا ينكر أحد أن أهم خصائص الشيخوخة التدهور العام الذي تتعرض له جميع الجوانب الجسمية والنفسية والاجتماعية للإنسان، إلّا أن الملاحظ أن هناك دائمًا إمكانية تعويض هذا التدهور؛ فالهبوط في القدرات العقلية والجسمية يُعَوّضُ بالاستفادة من خبرات المسنين السابقة، ونقصان القوة العضلية وبطء الاستجابة وزيادة زمن الرجع يُعَوّضُ بزيادة المهارة, وهذه المرحلة التي يمكن تعويض النقائص فيها هي المرحلة المبكرة للشيخوخة، أما في المرحلة المتأخرة، والتي يسميها القرآن الكريم "أرذل العمر"، فإن التدهور فيها يصبح كاملًا ويستحيل فيها التعويض. إلّا أن من المهم أن ننبه إلى أن ما يمكن أن نسميه "الشيخوخة السيكولوجية"، لا يتوازى بالضرورة مع الشيخوخة الجسمية, أي: مع التغيرات الجسمية والفسيولوجية التي تحدث للمعمرين, ويتوقف هذ النوع من الشيخوخة مرة أخرى

على مدى استفادة الإنسان من قدراته العقلية, واستثماره لسماته النفسية. فإذا كَوَّنَ الإنسانُ اتجاهاتٍ سلبيةً نحو ذاته والآخرين والعمل والحياة بصفة عامة, فإن ذلك يقوده إلى الشيخوخة, وربما قبل الأوان, كما يفعل تمامًا التدهورفي أنسجة المخ؛ فالذين لا يواصلون ميولهم الاجتماعية والشخصية ولا يتوافقون مع أدوارهم الجديدة بعد التقاعد، سرعان ما يتحوّلون إلى الاكتئاب والعجز, ثم يتدهورون جسميًّا وعقليًّا, وتذكر هيرلوك "Hurlock, 1980" أن حوالي نصف المرضى العقليين في سن الشيخوخة, يعانون من الاضطرابات الوظيفية لا العضوية، والتي ترجع في جوهرها إلى عوامل نفسية أكثر منها عوامل فسيولوجية ونيرولوجية, وبالطبع حين تتآزر العوامل النفسية المدمرة مع العوامل الجسمية المتدهورة يسرع ذلك بالانهيار, وتلعب الدافعية دورًا هامًّا في هذا الانهيار والتدهور، وخاصة الدافعية للتعلم؛ فحين يفقد المرء الرغبة في التعلم أو القدرة عليه, يكون هذا كما قلنا هو محك الشيخوخة الحقيقي, ولعل هذا التعلم المستمر -والله أعلم- هو مصدر الحكمة والخبرة الذي أشار إليه القرآن الكريم حين يصف العمر الثالث للإنسان بأن مرحلة "ضعف وشيبة", بمقارنته بالعمر الأول للإنسان بأنه "محض ضعف"؛ لأن ضعف الصبا صيرورة مستمرة إلى هذه الحكمة التي تتوافر للإنسان أثناء مرحلة الرشد. يقول الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54] . أما إذا افتقد الإنسان القدرة على التعلم فإنه يكون قد وصل إلى أرذل العمر، وهي مرحلة يصفها القرآن الكريم بأن من سماتها الرئيسية أن المرء فيها "لا يعلم من بعد علم شيئا". يقول الله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [الروم: 54] . وحينئذ يفتقد الحكمة والخبرة, وينتكس إلى نوعٍ من الضعف أشبه بمرحلة الضعف الأول الذي كان عليه قبل الرشد. التعلم -إذن- هو جوهر قوة الإنسان، والعجز عنه علامة الضعف الإنساني، وفقدانه هو مؤشر الانحدار والنهاية. وهذا التقسيم يتضمَّن بالضرورة وجود طورين في العمر الثالث للإنسان هما

ما سوف نتناوله في الفصلين التاليين وهما: 1- طور الشيخوخة. 2- طور أرذل العمر. ويبقى أن نقول في هذا الصدد: إننا بدأنا هذا الفصل بسؤالٍ حول متى تبدأ شيخوخة الإنسان، فهل هناك سؤال حول متى تنتهي كما هو الحال بالنسبة للعمرين السابقين: الضعف الأول والقوة؟ بالطبع إذا كانت الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب بالنسبة للطفولة والصبا والرشد؛ حيث تحدد نهاية كل مرحلة بداية المرحلة التي تليها طالما ظلّ الإنسان حيًّا، فإن الإجابة على هذا السؤال بالنسبة للعمر الثالث للإنسان أن النهاية الحتمية هي الموت, والموت في الإطار الإسلامي لا يعني النهاية المطلقة, وإنما هو انتقال إلى الحياة الآخرة الأبقى والأخلد, بل إن الحياة التي نعيشها -طالت أو قصرت- ومراحل النمو التي نمر بها -اختصرت أو اكتملت- هي جميعها البرهان الدامغ على البعث يوم القيامة، وصدق الله العظيم في قوله الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5] .

تاريخ البحث في ميدان المسنين

تاريخ البحث في ميدان المسنين: عندما ظهر علم الإعمار Gerontology في أواخر القرن التاسع عشر, كانت بدايته متواضعة, ونموّه بطيئًا, وبالطبع كانت البحوث الطبية هي الأسبق في الظهور حين بدأ الباحثون في دراسة العوامل المؤثرة في طول العمر longevity, ومحاولة وصف التغيرات التي تطرأ على خلايا الجسم وأنسجته, والتي تُعَدُّ مسئولة عن ظهور أعراض الشيخوخة والهرم "Riegel, 1977". أما الدراسات النفسية في هذا الميدان فقد بدأت عام 1922 بصدور كتاب هامٍّ لستانلي هول، مؤسس علم نفس النمو الحديث, عنوانه: "الشيخوخة: النصف الأخير من الحياة Senescence: The Last Half of Life، ولعلنا نتذكر أن هول هو رائد الدراسة السيكولوجية للطفل والمراهق، وهو هنا أيضًا رائد الدراسة السيكولوجية للشيخوخة والتقدم في السن, ومن الطريف أن نشير إلى أنه أعدَّ هذا الكتاب وهو في السبعينات من عمره، فجاء يجمع بين السيرة الذاتية والاستبطان والبيانات

الإحصائية والتأملات النظرية والتراث الأدبي, بالإضافة إلى صيغة البحث العلمي. وقد دفع هذا الكتاب الباحثين السيكولوجيين إلى الاهتمام بهذه المرحلة الختامية في حياة الإنسان, وقد تركزت البحوث المبكرة حول نموِّ النشاط العقلي, وكان ظهور اختبار ألفا الحربي أثناء الحرب العالمية الأولى فرصة لاستطلاع التغيرات التي تطرأ على ذكاء الراشدين "والتي تناولناها في الباب السابق, الذي يدور حول الرشد", كما اهتمت بحوث أخرى بالعلاقة بين المستوى التعليمي والمستوى الاقتصادي والاجتماعي, وبين نمو وتدهور الذكاء عبر مدى الحياة, ثم امتدت الاهتمامات إلى المهارات الحركية, ثم تقدمت البحوث خلال الحرب العالمية الثانية, وأسهم فيها بدور بارز مركز بحوث نافيليد بجامعة كبردج في بريطانيا، والتي امتدت إلى مرحلة الشيخوخة بالإضافة إلى أطوار الرشد المختلفة, كما أسس المعهد القومي للصحة بالولايات المتحدة عام 1946 وحدةً لبحوث المسنين, إشراف ناثان شوك Nathan Shock, وفي نفس العام تأسست جمعية بحوث المسنين, وصدرت عنها أول مجلة متخصصة في هذا الميدان هي: Journal of Gerontology. وقد اهتمَّت البحوث المبكرة حول الشيخوخة بالمشكلات العملية التي تدور حول رعاية هذه الفئة من الراشدين المتأخرين, وفي عام 1948 نُشِرَ كتابٌ هامٌّ حول التوافق الاجتماعي للمسنين Social Adjustment in Old Age أعده مجلس بحوث العلوم الاجتماعية بالولايات المتحدة, وبصدوره اتسع نطاق الاهتمام, وامتدت البحوث إلى جميع جوانب عملية التقدم في السن "Binstock&Shanas,1976" وأدى ذلك إلى تأسيس الاتحاد الدولي لعلم الإعمار lntetnational Association of Gerontology عام 1950, ليجمع الباحثين في هذا الميدان من مختلف التخصصات. إلّا أنه حتى عام 1972, لم يكن هناك فرع لعلم النفس الكلينيكي يتخصص في مجال المسنين, والسبب الجوهري في ذلك أن أدوات التقويم النفسي الجوهرية لم تمتد بعينات تقنينها إلى ما بعد سن الخامسة والستين، ولعل أهم مظاهر ذلك النقص ما كان عليه عندئذ حال مقياس وكسلر كأداة لدراسة النشاط العقلي، واختبار رورشاخ, واختيار تفهم الموضوع, وكلاهما من الأساليب الإسقاطية الأساسية في دراسة الشخصية.

كما كان هناك مجال آخر في دراسة سيكولوجية المسنين لم يكن قد أحرز تقدمًا يذكر, وهو العلاج النفسي لهذه الفئة من الراشدين المتأخرين, فلم تكن هناك نظرية واحدة حول سيكولوجية التقدم في السن, ولعل من المهمِّ أن نشير هنا إلى أن فرويد نفسه رفض قبول المسنين كمرضى، وهو اتجاه لا يزال سائدًا لدى أصحاب التحليل النفسي حتى اليوم "Kermis, 1984", ولعل النقص في وجود أساليب علاجية خاصة للمرضى المسنين كان له جوانبه الإيجابية والسلبية حينئذ, فمن الناحية السلبية قد يتضمن افتراض المعالج أن هؤلاء المرضى حالات مستعصية على الشفاء بأساليب العلاج النفسي، وبالتالي يمكن أن تُسْتَخْدَمُ معهم أساليب أخرى؛ كالعقاقير والصدمة الكهربائية, أو أن يودعوا في المؤسسات الخاصة بهم, أما من الناحية الإيجابية فقد دفع ذلك علماء النفس إلى البحث عن طرق بديلة -ذات طبيعة سيكولوجية أيضًا- عند فشل الأساليب المعتادة، وهذا ما سنتناوله بالتفصيل فيما بعد. وهكذا شهدت عقود السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن العشرين اهتمامًا متزايدًا بسيكولوجية المسنين, ويوجد في مصر في الوقت الحاضر عدد من الأقسام والمراكز المتخصصة في دراسة الشيخوخة في عدد كبير من الجامعات "ومن ذلك قسم طب وصحة المسنين بجامعة عين شمس, ومركز الرعاية الصحية والاجتماعية للمسنين بجامعة حلوان", كما أن البحوث تجرى حاليًا في عدد كبير من البلدان وعلى نطاق أكثر اتساعًا, ولعل من مؤشرات هذا الاهتمام الكبير أنه يوجد الآن أكثر من 30 مجلة متخصصة في هذا الميدان, كما أن أهم الأحداث المرتبطة بذلك تاسيس الاتحاد الدولي للصحة النفسية للمسنين lnternational Psychogeriatic Association عام 1982, والذي عقد مؤتمره الأول بالقاهرة خلال الفترة من 22-25 نوفمبر 1982.

موضوع سيكولوجية المسنين

موضوع سيكولوجية المسنين: إذا كان علم النفس هو الدراسة العلمية للسلوك الإنساني في جميع مظاهره، فإن سيكولوجية المسنين، أو ما يُسَمَّى باللغة الإنجليزية Geriatric Psychlogy أو Gerontopsychology تركز على النمو في مرحلة ما بعد اكتمال النضج Post maturity, وهذه الدراسة تحاول الإجابة على ثلاثة أسئلة أساسية حول النمو في هذه المرحلة وهي: 1- إلى أيّ حَدٍّ يختلف المسنون عن الراشدين الأصغر سنًّا؟ وكيف يتغير الأسنان مع التقدم في السن؟ 2- ما هي الآثار المترتبة على هذه الفروق أو التغيرات؟ 3- كيف تفسر هذه الفروق أو التغيرات؟ ولعل القارئ يذكر أننا أشرنا منذ مطلع هذا الكتاب إلى أن التوجه الراهن لعلم نفس النمو هو منظور مدى الحياة، ويصدق هذا على مرحلة المسنين صدقه على جميع مراحل العمر الأخرى, ومعنى ذلك أننا في دراسة سلوك المسنين لا بُدَّ أن ندرك أن هذا السلوك الذي يظهر في المراحل المتأخرة من حياة الإنسان لا يتم في فراغٍ أو على نحوٍ فجائي، وإنما هو تطور طبيعي لأنماط السلوك المبكرة؛ ففي منظور مدى الحياة يكون سلوك الإنسان دائمًا دالة لأحداث الماضي والحاضر وتوقعات المستقبل, وتشمل أحداث الماضي وعوامل التكوين البيولوجي والفسيولوجي التي تلعب فيه الوراثة دورًا حاسمًا، والنشاط المعرفي والوجداني والاجتماعي المبكر, الذي تلعب فيه البيئة الدور الرئيسي, أما عوامل الحاضر فتشمل آثار العلاقات الاجتماعية داخل الجماعات المختلفة "وخاصة الأسرة", وكذلك الآثار الثقافية العامة للبيئة الراهنة للفرد, وتتضمَّن توقعات المستقبل البيئية التي سوف يتعرض لها المرء, سواء أكانت حقيقة أم متخيلة, كما يضاف إلى هذه العوامل الخرافات والأوهام التي تشيع في البيئة حول التقدم في السن، وكذلك توقعات المرء وأهدافه في الحياة يركز على أن النمو عملية مستمرة من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين، وهو الجزء الرئيسي من عنوان هذا الكتاب. والسؤال الجوهري الآن هو أنه إذا كان تركيز علم نفس النمو الحديث على منظور مدى الحياة, فلماذا يظهر بعض علماء نفس النمو اهتمامًا وتركيزًا على جزءٍ من دورة الحياة؛ كالطفولة أو المراهقة أو الشباب أو الرشد أو الشيخوخة؟ إذا قصرنا الإجابة على هذا السؤال على ما يخص سيكولوجية المسنين, يمكن أن نحدد لذلك الأسباب الآتية: 1- تلعب الاعتبارات العملية دورًا كبيرًا في هذا الاختبار، ومن ذلك مثلًا أنه قد تتوافر في بعض الأوقات بيانات كافية عن مرحلة معينة، وهذا ما حدث لسيكولوجية المسنين في السنوات الأخيرة, ولعل هذا هو ما دفع كثيرًا من الباحثين في الوقت الحاضر للاهتمام بهذه المرحلة من حياة الإنسان, باعتبارها بؤرة هامة يمكن من خلالها فهم الحياة ككل.

2- توجد بعض القضايا والمشكلات التي تخص المسنين دون سواهم ممن هم أصغر سنًّا، وبالطبع فإن على الباحث السيكولوجي أن يختار التخصص في هذه المسائل, ومن ذلك أن التعامل مع الوحدة والعزلة والعجز والمرض المزمن أكثر حدوثًا في مرحلة الشيخوخة دون غيرها من مراحل العمر, ولعل هذا ما دفع مجالات أخرى غير علم النفس -كالطب- إلى أن تفرد للمسنين تخصصًا منفصلًا, فكما أن هناك في الطب منذ عقود طويلة طبًّا للأطفال, ظهر في السنوات الأخيرة طب المسنين Getiatrics أيضًا. 3- ترتبط الشيخوخة بأحداثٍ وتحولاتٍ اجتماعية هامة لها آثارها السيكولوجية على الإنسان، ومن ذلك: التقاعد وتغير الأدوار وفقدان الزوج والأصدقاء، وهي جميعًا قضايا تجعل من الشيخوخة من أطوار التحول الاجتماعي الذي يدفع الباحثين في هذا الميدان للاهتمام بها. 4- زيادة عدد المسنين في التعدادات السكانية الأخيرة، وقد تطلَّب ذلك ظهور أنواع جديدة من خدمات الرعاية التي يجب أن تُقَدَّمَ لهم، وهي خدمات تحتاج لتخصصات عديدة؛ كالطب والخدمة الاجتماعية والخدمة النفسية, بالإضافة إلى ما يتطلبه ذلك من تجديدٍ في النظم التشريعية وقوانين العمل ونظم التأمين والمعاشات، وكلها تهدف إلى أن يحافظ المسن على استقلاله الاقتصادي واستقراره الاجتماعي "وهما مؤشرا الرشد الرئيسيان" أطول فترة ممكنة، بالإضافة إلى تهيئة ظروف حياة ملائمة له, سواء في طور قدرته النسبي "الشيخوخة", أو طور عجزه الكامل "أرذل العمر".

نظريات الشيخوخة والتقدم في السن

نظريات الشيخوخة والتقدم في السن أولاً: النظريات البيولوجية ... نظريات الشيخوخة والتقدم في السن: يُوجَدُ في الوقت الحاضر عدد من النظريات حول الشيخوخة والتقدُّمِ في السن؛ بعضها بيولوجي, والبعض الآخر سيكولوجي, إلّا أن هذه النظريات المتاحة حتى الآن لا تزال غير كاملة, ولم توجد بَعْدُ النظرية العامة حول الشيخوخة التي تصف لنا كيف يتغير السلوك عبر الزمن، وكل ما هو متاح نظريات تفسر أو تتنبأ بجوانب محدودة من هذا السلوك, وبالطبع فإن هذه النظرية العامة المنشودة لا بُدَّ أن تضع في الاعتبار العوامل البيولوجية والسلوكية والاجتماعية معًا وفي وقت واحد، بالإضافة إلى التفاعل بينها. أولًا: النظريات البيولوجية: يرى أصحاب النظريات البيولوجية للشيخوخة, أن في هذه المرحلة -التي تُعَدُّ المرحلة البيولوجية النهائية في حياة أيِّ كائن عضويّ- تحدث عمليات هدم وتحلل تؤدي بهذا الكائن العضوي إلى التدهور على نحوٍ أسرع, وبشكلٍ لا يسمح لميكانيزمات البناء بالعمل, وهذا التدهور يؤدي إلى نقص القدرة على التكيُّف، وبالتالي يؤدي إلى ضعف القدرة على المقاومة والبقاء, وبالطبع فإن المرء لا يموت "بسبب الشيخوخة"، وإنما الموت قد يحدث في أيِّ طور من أطوار حياة الإنسان، ولكنه حتمي في الشيخوخة، وأسبابه في الحالتين عديدة، منها المرض, أو فشل عضوٍ من أعضاء الجسم, أو نظام عضوي منه في العمل، كالقلب أو المخ أو الكلي أو الجهاز الدوري أو التنفسي, وبالطبع تُوجَد فروق فردية واسعة في بدء وتوقيت واستمرار هذه التغيرات المتدهورة. كما أن الأنواع الحيوانية تظهر أنماطًا مختلفة من الشيخوخة، ولكلٍّ منها حَدَّه الأقصى لمدى الحياة, ويوضح الجدول رقم "19-1" ذلك, ويبدو من هذا الجدول أن الحد الأقصى لمدى الحياة هو بصفة عامة الحد الأعلى لإمكانية البقاء في النوع الواحد. جدول رقم "19-1" مدى الحياة وطول فترة الحمل وسن البلوغ الجنسي لدى أنواع مختلفة من الثدييات "بتصرف عن Finch and Hoyfick 1977" وتوجد عوامل كثيرة ترتبط بالفروق البيولوجية في مدى الحياة، بعضها وراثي وبعضها بيئي؛ فالحيوانات التي تُرَبَّى داخل المعمل تعيش أطول من

حيوانات البرية, بسبب عدم تعرضها لاعتداء الأعداء من ناحيةٍ, وبرامج التغذية الجيدة التي تُقَدَّمُ لها من ناحيةٍ أخرى, كما أن الإناث في جميع الأحوال تعيش أطول من الذكور، على الرغم من وجود بعض الاستثناءات، فذكور الخيول تعيش أطول من إناثها, كما يرتبط حجم الجسم بمدى الحياة، مع وجود استثناءات مرة أخرى، فالكلاب لا تعيش أطول من القطط, وبالطبع فإن الغذاء المنظم قد يؤدي إلى زيادة مدى الحياة، إلّا أن نظام التغذية يرتبط بالنشاط, وبالتالي يصعب تحديد أثره بشكل مستقلٍّ, وأخيرًا فإن نقص حرارة الجسم يرتبط بزيادة مدى الحياة لدى الزواحف على عكس الحال لدى الثدييات التي يرتبط ارتفاع درجة الحرارة لديها بزيادة مدى حياتها، ومع ذلك فإن الدببة التي تعيش البيات الشتوي وهي حيوانات ثديية, تعيش حياة أقصر مما هو متوقع من مؤشر درجة حرارة الجسم، كما أن التماسيح وغيرها من الزواحف ذات درجة الحرارة المرتفعة, يطول مدى حياتها على عكس ما هو متوقع أيضًا, وهذه النتائج توكد لنا أن طول مدى الحياة لا تحدده عوامل كافية بذاتها، وإلّا لأمكن لنا أن نتنبأ به؛ فطول العمر من المغيبات الخمس التي حجبها الله عن علمنا، وليس للمسلم إلّا أن يؤمن بها؛ لأنها جزء أساسي من عقيدته, يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] . وتوجد في فئة النظريات البيولوجية للشيخوخة ثلاث نماذج رئيسية هي: النموذج البيولوجي الوراثي, والنموذج البيولوجي غير الوراثي, والنموذج الفسيولوجي, ونعرض فيما يلي هذه النماذج الثلاثة بإيجاز: 1- النموذج البيولوجي الوراثي: يؤكد النموذج الوراثي genetic للشيخوخة, على الخلل الذي يطرأ على مركبي RNA, DNA في الخلية, وما ينتج عنه من خللٍ أو فشلٍ في إنتاج الأنزيمات اللازمة لنشاط الخلايا, وبالتالي إلى موتها, ومعنى ذلك عند أصحاب هذا النموذج, أن الشفرة الوراثية هي التي تحدد الحد الأقصى لمدى حياة الإنسان, إلّا أن هذا النمط الوراثي قد يتأثر بالعوامل البيئية؛ كالتعرض للإشعاع وتناول العقاقير والتدخين, وهذه النظرية لا تصف لنا طبيعة الانحرافات عن البرنامج الوراثي لدى المرء، وإنما تركز على الآثار العامة للميول الوراثية في مدى الحياة، والأصول الوراثية لعملية التقدم في السن. وفقدان الخلايا له أهمية خاصة في مناطق الجسم ذات العدد الثابت بعد

توقف عملية الانقسام غير المباشر, وخاصة الخلايا العصبية في المخ والجهاز العصبي المركزي؛ فنقص الخلايا في هذه الأجزاء وخاصةً في السرير التحتاني "الهيبوثا لاموس", الذي يعتبر الساعة البيولوجية للتقدم في السن، يؤدي إلى فقدان الجهاز لتكامله وتوازنه على نحوٍ قد يؤدي إلى الوفاة. وقد تعرَّضَ هذا النموذج للنقد؛ ففيه تبسيط شديد لعملية الشيخوخة, بينما تُوجَد خطوات وسيطة عديدة بين خلل المركب DNA ونواتجه النهائية، ومع ذلك فقد تأكَّدَ وجود فروق جوهرية في هذا المركب بين المسنين ومن هم أصغر سنًّا, وعمومًا فإن الأدلة المدعمة لهذا النموذج جمعها علماء الطب, وعلى رأسهم ليونارد هايفلك "في Finch and Hoyfilck, 1977". وقد جاءت هذه الأدلة من مصدرين رئيسيين نادرين لاضطراب الخلايا: أحدهما يُسَمَّى البروجريا progeria ", ويسمى أحيانًا زملة أعراض هاتشنسون -جيلفورد" وهو اضطرابات نادر يظهر لأول مرة في الطفولة المتأخرة ومطلع المراهقة، ومن أعراضه بطء شديد في النمو, وتصلُّب عام للأوعية الدموية الرئيسية, وخاصةً الشريانين الأورطي والتاجي. أما الاضطراب الخلوي الثاني فيُسَمَّى زملة أعراض فرنر Werner syndrome, وهو شبيه بالاضطراب السابق, ولكنه يظهر متأخرًا في العمر, ومتوسط العمر لدى المصابين به هو 47 سنة، ويظهر 10% منهم أورامًا خبيثة، وجميعهم يظهرون أعراضًا مشتركة, ومنها بياض الشعر وسقوطه، وإعتام عدسة العين "الكاتاراكت", وتصلب الأوعية الدموية وخاصةً تصلُّب الشرايين، ووهن العظام، أضف إلى ذلك أن هؤلاء المرضى يتسمون عامةً بقصر القامة, كما أنهم مستهدفون للإصابة بمرض السكر. وبصفة عامةٍ يمكن القول أن العمليات التي تحدث في خلايا الجسم الإنساني هي الباب الوراثي الذي يدخل منه الإنسان إلى الشيخوخة, وحتى إذا لم تتعرض الخلايا لأيّ مرضٍ من النوعين السابقين, فإن الانقسام الخلوي غير المباشر متناهٍ في حدوده, ويرى هايفلك أن الخلية لا يتجاوز عدد مرات انقسامها 50 مرة قبل أن تموت، ويفترض أنها تتراكم فيها أخطاء في إنتاج الشفرة الوراثية "في المركبين RNA, DNA مع اقتراب الخلية من شيخوختها, وهكذا تصبح الشيخوخة نتاج فقدان الخلايا -وخاصة في الأجزاء الحيوية من الجسم الإنساني- يحدث على نحوٍ أسرع من عملية إحلال الخلايا محل بعضها، وبهذا يتناقص بالفعل عدد خلايا الجسم.

2- النموذج البيولوجي غير الوراثي: يركز النموذج البيولوجي غير الوراثي على الوظائف الخلوية, سواء تلك التي تحدث داخل الخلية الواحدة أو بين الخلايا المختلفة, وعلى ذلك فهو نموذجٌ يهتم بالعوامل التي تؤثر في نشاط الخلايا وليس على عمليات انتقال مركب RNA, DNA داخل الخلايا, كما يهتم بأثر المواد غير الخلوية في الجسم الإنساني؛ مثل: إنتاج الفضلات والجزئيات الحرة في نشاط الخلية, وعلى ذلك فإن هذا النموذج يتعارض مع النموذج البيولوجي الوراثي السابق, الذي يركِّزُ على التغيرات الداخلية للشفرة الوراثية باعتبارها سبب الشيخوخة, وهكذا فعلى الرغم من أن كِلَا النموذجين يركِّزُ على وظائف الخلية، إلّا أنَّ لكلٍّ منهما أسبابه المختلفة في تفسير ظاهرة التقدم في السن. ويرى بعض أصحاب هذا النموذج أن الشيخوخة ترجع في جوهرها إلى الزيادة المتراكمة لنواتج الفضلات الناجمة عن عمليات الأيض "أو عمليات الهدم والبناء Metbolism" في كل خلية, وما يحدث أن هذه الفضلات تتداخل مع الوظائف العادية للخلية, وتؤدي في النهاية إلى موتها, وتتوافر أدلة كثيرة على صحة هذا النموذج, قَدَّمَها على وجه الخصوص شوك Shock "في Finch & Hayflick, 1977". لقد أكدت البحوث أن الخلايا تنتج الكثير من الفضلات الضارة, تتراكم مع مرور الوقت في أنسجة الجسم, ومثال ذلك مادة الليبوفوسين lipofusin التي هي في جوهرها مادة دهنية لا تقبل التحلل أوالذوبان, وبالتالي تتداخل مع نشاط الخلية وتؤدي إلى موتها, وقد لُوحِظَ أن هذه المادة تكَوّن حوالي ثلث الحجم الكلي لعضلة القلب لدى المسنين, وبالتالي تؤدي إلى خلل في وظائفه, صحيح أن البحوث على فضلات الخلية لا تزال في مراحلها المبكرة، إلّا أنَّ من المتوقع لها أن تقدِّمَ لنا نتائج هامة ومفيدة في المستقبل القريب, وحتى الآن فمن الصعب في هذا الميدان من البحث تحديد ما إذا كانت فضلات الخلية هي من أسباب الشيخوخة أم من نواتجها، كما أن من المؤكَّدِ وجود فروق فردية واسعة في معدل هذه الفضلات الخلوية، وبالطبع فإن نسبة تركيز هذه المواد في الخلايا ترتبط ارتباطًا موجبًا عاليًا بسلوك الشيخوخة كما نلاحظه بالفعل, وتوجد صعوبة أخيرة في هذا النموذج تتمثل في أن بعض الفضلات "وخاصة الليبوفوسين", يتراكم فقط في الخلايا التي لا تنقسم, وبالتالي قد لا تكون هذه الفضلات في ذاتها سببًا كافيًا للشيخوخة. وهنا اتجاه أكثر حداثة في إطار هذا النموذج اقترحه عالم الكيمياء الحيوية الصناعية بجوركستين Bjorkstin عام 1974, وخلاصته أن هناك علاقة بين

علميات الانتقال التي تحدث داخل الخلية, والتغيرات في النسيج الضام مع التقدُّم في العمر، وخاصة التغيرات في الإيلاستين elastin والكولاجين1 Collagene, فقد لاحظ الباحث أن هاتين المادتين البروتينيتين تتحولان من المرونة إلى التصلب مع التقدم في العمر، كما تتغيران في التركيب الكيميائي, ومادام الكولاجين خاصة يؤلف ما بين 25% إلى 30% من مجموع بروتين الجسم, ويحيط بجميع الأوعية الدموية والخلايا, فلا بُدَّ أن يكون لذلك أثره البالغ في النشاط الفسيولوجي, وعلى الرغم من أن هذا الاتجاه لم يتدعم بشكل مؤكد بعد, إلّا أنه يثير الكثير في البحوث في وقتنا الحاضر. وهناك اتجاه حديث ثالث في إطار هذا النموذج اقترحه Rockstein & Sussman, 1979" يركز على المكونات الكيميائية الحرة في الخلية, والتي تنشأ عن نشاط الأوكسجين باعتبارها آثارًا جانبية للعمليات العادية للنشاط الخلوي، وهذه المكونات تكون على درجة من الفعالية الكيميائية, وبالتالي توجد لفترة قصيرة من الوقت، ويزداد نشاطهما خاصةً مع الدهون غير المشبعة, والتي تؤلف غشاء الخلية, إلّا أن أغشية الخلايا تؤثر في كروموزومات الخلية, وبالتالي تؤدي إلى إتلاف الخلايا السوية، أضف إلى ذلك أنها سريعة التولد الذاتي والتكاثر، فحالما يتصل أحد هذه المكونات بجزء معين تنتج عن ذلك مكونات كثيرة أخرى, والعملية الأساسية التي تؤدي إلى ذلك هي الأكسدة, وقد أكدت بحوث حديثة أن فيتامين جـ، هـ مضادان للأكسدة, وبالتالي يعوقان إنتاج المكونات الكيميائية الحرة التي أشرنا إليها, ولعل هذا هو سبب شيوع الاعتقاد السائد أن تناول الفيتامينات يطيل العمر, ومرةً أخرى نقول: إن طول العمر أو قصره هو من الغيب الإلهي الذي على المسلم الإيمان به. 3- النموذج الفسيولوجي: يرى أصحاب هذا النموذج أن الشيخوخة تنتج عن خلل تكامل الأعضاء والأجهزة الجسمية وفشلها في وظائفها، وهو ما يحدث مع التقدم في السن, وهو نموذج يتناول أثر الشيخوخة على الجسم الإنساني كله, وليس على التغيرات التي تطرأ على الخلايا فحسب, صحيحٌ أن بعض هذه التغيرات الكلية في الجسم تؤدي إلى حدوث تغيرات صغرى فيه، إلّا أن العكس صحيح أيضًا, وبالطبع فإن النماذج التي تتعامل مع الكائن العضوي

_ 1 الإيلاستين "ويسمى أحيانًا بالعربية المرنين", هو بروتين يشكل المادة الأساسية لألياف الخلية، والكولاجين هو المادة البروتينية التي في النسيج الضام، وفي العظام, والتي تنتج المادة الهلامية عند غليها في الماء.

ككل أكثر فائدة وملاءمة لعلماء النفس, وخاصة عند استخدام طرق التدخل السلوكي "عند العلاج". والاتجاه الأقدم في هذا النموذج، والأقرب إلى ما يشيع في الفولكور النفسي، اعتبار الجسم الإنساني كالآلة يتعرض للعطب والخلل نتيجة الاستعمال, فبعد مقدار معين من النشاط, وبعد انقضاء فترة معينة من الزمن لا بُدَّ للآلة أن تتوقف عن العمل، حتى مع حسن الرعاية والصيانة, وبالطبع هناك فروقٌ جوهرية بين الإنسان والآلة في هذا الصدد، لعل أهمها أن الآلات لا تجدد نفسها, بينما الجسم الإنساني يفعل ذلك، إلّا أن عملية التجديد الذاتي في الجسم تبطؤ مع التقدُّمِ في السن, ومع ذلك فهي تظل تعمل. وهذا الاتجاه لا يوجد ما يدعمه من البحوث على الرغم من شيوعه, فمن المعروف أن آثار الضغط الجسمي والإجهاد النفسي, والتعب الناجم عن العمل, يمكن التخفف منها بتوفير فترات الراحة, صحيح أن الضغوط الكيميائية التي تنشط فيها الدفاعات الهرمونية إذا استمرت لفترات طويلة قد تؤدي إلى انهيار الجسم ثم إلى الموت، إلّا أن ذلك ليس شائعًا، وبالتالي لا يُعَدُّ هذا الاتجاه ملائمًا لتفسير شيخوخة الإنسان. وبالطبع فإن هذا الاتجاه في النموذج الفسيولوجي امتدَّ بحكمٍ منطقه إلى جراحة زراعة الأعضاء والأنسجة, ومرة أخرى نعود إلى تشبيه الآلة، فكما أننا نستخدم "قطع الغيار" الجديدة لتحل محل ما استهلك منها في الآلة، فإن استبدال الأعضاء والأنسجة التالفة بأخرى جديدة أو صالحة قد يؤدي إلى تحسين نشاط "الآلة" البشرية. ويوجد اتجاه آخر داخل النموذج الفسيولوجي قد يكون أكثر فائدةً للمتخصص في علم النفس, وضعه ميللر وشوك Miller & Shock عام 1953, ويُسَمَّى عدم التوازن الهوميوستازى Homeostatic imbalance, ويركز هذا الاتجاه على أن الميكانيزمات الهوميوستازية تتدهور مع التقدم في السن، وبالتالي يعاني المسنون أكثر ممن هم أصغر سنًّا من الحفاظ على التوازن الفسيولوجي داخل الجسم، ويشمل ذلك مستوى السكر في الدم، درجة حرارة الجسم، معدل نشاط القلب، ضغط الدم, وحين يصبح تحقيق التوازن في هذه الميكانيزمات مستحيلًا فإن ذلك معناه الموت. أما الاتجاه الثالث الذي ينتمي إلى هذا النموذج فقد اقترحه ولفورد Walford عام 1969, ثم و. هـ. آدلر W. H. Adller, 1974 ويركز على فقدان مناعة

الجسم؛ فالخلل في جهاز مناعة الجسم، ويشمل ذلك التحكم في الإصابة بالأمراض المعدية، يُعَدُّ مسئولًا، ولو بدرجة جزئية عن الشيخوخة؛ فمع التقدم في السن يضعف جهاز المناعة العادي، ويؤدي ذلك إلى زيادة احتمال الإصابة بالأمراض التي تؤثر في أنسجة الجسم؛ فمع هذا الضعف المناعي يصبح الجسم أكثر عرضة لأثر الفيروسات والبكتريا والفطريات, كما يزداد تعرض الخلايا لظهور الأورام السرطانية الخبيثة، وقد يتحول نظام المناعة إلى جهاز يدمر خلايا الجسم نفسها, وهذا ما يُسَمَّى استجابات المناعة المستقلة autoimmune responses, بينما لا يستطيع مقاومة العناصر الدخيلة المدمرة للجسم الإنساني, إلّا أن ما يجب أن ننبه إليه أن هذا الاتجاه -كغيرة من الاتجاهات- لا يفسِّر حدوث الشيخوخة العادية بقدر ما يفسر حدوث المرض في مرحلة التقدم في السن.

ثانيا: النظريات النفسية الاجتماعية

ثانيًا: النظريات النفسية الاجتماعية: بينما حاولت النظريات البيولوجية تناوُل الأساس المادي للشيخوخة، تحاول النظريات النفسية الاجتماعية أن تتناول الأسس السلوكية لهذه العمليات وما يترتب عليها من نتائج, ولعلنا نذكر أن الهدف من النظرية السيكولوجية في النموِّ الإنساني ليس الربط بين العمر والسلوك، بقدر ما هو الربط بين السلوك ومجموعة من الأهداف التي تحتاج لبعض الوقت لكي تحدث, وعلى ذلك فإن الشيخوخة في هذا السياق لها بعض الارتباط بالعمر, ولكنها ليست ناجمة عنه؛ فالعمر في ذاته -كما قلنا من قبل- لا يتسبب في حدوث أيّ شيء. والوظائف النمائية -كما يطلق أحيانًا على أنماط السلوك المرتبطة بالعمر- لا تتعدى مجرد وصف العلاقة بين العمر والتغيرات في أنماط معينة من السلوك -تحدث مع نمو الفرد وتوجهه نحو اكتمال النضج "الرشد" أوالتدهور "الشيخوخة"؛ والوظائف النمائية بحكم طبيعتها تشير إلى علاقات بسيطة بين الزمن وسلوك الإنسان، لا إلى علاقات مركبة. وعلى ذلك, فإن النظرية النفسية الاجتماعية للشيخوخة لها حدودها في قدرتها على وصف أنماطٍ نموذجية من السلوك المرتبط بالعمر ,مَادَامَ الأفراد الذين ندرسهم لا يتطابق سلوكهم تمام المطابقة مع الفئات السلوكية العامة التي تقترحها النظرية. والنظرية النفسية الاجتماعية شأنها شأن النظريات البيولوجية لها وظيفة توصيفية، فهي تحاول تحديد أنماط السلوك المرتبطة بما يمكن أن نسمية "الشيخوخة الناجحة أو المتوافقة", وكذلك طول العمر أو الإعمار, وفي كثير من الحالات يشار إلى الشيخوخة الناجحة كميًّا في ضوء عدد السنوات التي يعيشها

المعمر, وليس كيفيًّا في ضوء نوعية الحياة التي عاشها. وفي حدود هذا التمييز الجوهري يجب علينا دائمًا أن نعيد قراءة التراث النفسي والاجتماعي للبحوث التي أجريت حول هذا الموضوع الهام, فليس كلُّ من طال عمره كميًّا عاش حياة خصيبة مجدية بالفعل. وقد تكون الصعوبات السابقة وراء عدم وجود نظرية نفسية اجتماعية متكاملة للشيخوخة حتى الآن, وبالطبع فإن المهام الرئيسية لمثل هذه النظرية، مثلها في ذلك مثل النظرية البيولوجية هي: 1- تحديد درجة وطبيعة العوامل النفسية الاجتماعية التي ترتبط بالتغيرات التي تحدث خلال سنوات الرشد الإنساني, وتقود الإنسان إلى شيخوخته. 2- تحديد مقدار نجاح أو فشل القوى المسئولة عن هذه التغيرات في مراحل العمر المختلفة من دورة حياة الإنسان, وأثر ذلك على المستوى التوافقي للفرد, وبخاصةٍ في شيخوخته. 3- تحديد المدى الذي يحدثه إنجاز بعض المهام الخاصة بمرحلة عمرية معينة -كالشيخوخة- في تعويض الإحباط الناجم عن الفشل في إحراز مهام أخرى. وقد اقتُرِحَتْ نماذج نفسية اجتماعية عديدة لمحاولة تحقيق هذه المهام في مرحلة الشيخوخة, وتفاوتت في درجات نجاحها، ولعل أهمها نموذجان؛ هما: نموذج التحرر من الالتزامات disengagimint, ونموذج النشاط Activity, وهما النموذجان اللذان نعرضهما فيما يلي، أما النماذج الأخرى الأكثر عمومية مثل نموذج إريكسون ولوينثال, فسوف نتناول ما يتصل بالشيخوخة فيهما في الفصول التالية. 1- نموذج التحرر من الالتزامات: ظهر هذا النموذج لأول مرة عام 1961, على يد كامنج وهنري "Cummint & Henry, 1961" كمشروعٍ طموحٍ تعرَّضَ بعد ذلك لكثير من الخلاف والتعديل, وقد حقَّقَ وظيفة النظرية الجيدة في أنه استثار الكثير من البحوث, وفي هذا النموذج يتم التركيز على السلوك الانسحابي من التفاعل الاجتماعي الذي يحدث في مرحلة الشيخوخة باعتباره عملية طبيعية وعامة وحتمية؛ فمع التقدم في السن يبدأ الجسم أولًا عملية التحرر من الالتزام؛ فالعينان والأذنان وغيرهما من أعضاء الحس تصبح أقل قدرة على التعامل مع معلومات العالم الخارجي، وفي نفس الوقت يبدأ المجتمع في البعد عن الشخص المسن, وعلى ذلك فعملية التحرر من اللالتزمات هي عملية انسحاب طبيعي.

وفي هذا النموذج يُعَدُّ الانسحاب خبرة إيجابية لدى المسنين, ولهذا تؤدي الشيخوخة إلى مزيدٍ من التعامل والانشغال بالذات, ونقص في الاستثمار الانفعالي مع الأشخاص الآخرين أو مع الأحداث الخارجية. معنى ذلك أن المسنين يمارسون التحرر من الالتزامات كعمليةٍ طبيعية, وليس كعملية مفروضة عليهم من المجتمع. 2- نموذج النشاط: ظهر هذ النموذج في عام 1970 على يد مادوكس "Madox 1970", كاحتجاج على النموذج السابق, ففي رأيه أن التحرر من الالتزام هو تغيُّر في الشخصية تتم به المراحل المبكرة وليس المراحل المتأخرة من حياة الإنسان، واقترح نموذجًا بديلًا لتفسير سلوك المسنين؛ هو نموذج النشاط؛ فمع التقاعد "وهو أحد المؤشرات الهامة للشيخوخة" يظل الشخص في حاجة إلى أن يظل منتجًا وسعيدًا؛ فالراشدون النشطون أكثر سعادة من الراشدين المنسحبين, بل إن السعادة ترتبط في جوهرها بالاندماج والتكيف, ولهذا فمن الواجب مساعدة المسنين على البحث عن بدائل للأدوار التي بلغت نهايتها إذا أرادوا أن يحققوا لأنفسهم شيخوخة ناجحة. ويفترض نموذج النشاط على وجه الخصوص, أن على المسنين البحث عن بدائل لأدوار رئيسية أربعة كانت سائدة من قبل حتى نهاية طور الرشد الأوسط "بلوغ الأشد", وهي: فقدان العمل، ونقص الدخل، وضعف الصحة، والتغير في بنية الأسرة, وإذا أمكن للمسنِّ تعويض هذه الأدوار المفقودة, فإنه يحقق لنفسه تكيفًا ناجحًا في شيخوخته؛ فالشيخوخة هي مرحلة فرص جديدة للأدوار الاجتماعية, وليس مرحلة انسحاب كلي من الحياة الاجتماعية. والواقع أن نموذج النشاط كنظيره نموذج التحرر من الالتزامات تبسيطٌ مخلٌّ لعملية التقدم في السن, ولا يصلح أحدهما أو كلاهما -حتى الآن- في تفسير ظاهرة التوافق الجيد مع الشيخوخة, والأصح النظر إليها على أنهما يشيران إلى أنماطٍ خاصةٍ من الشيخوخة لا نمطًا محددًا ينطبق على الجميع, ولا يزال الميدان مفتوحًا لمزيد من الاجتهاد الجاد والجهد المبدع, ولعل علماء النفس المسلمين يقتحمون الميدان مزودين بذخيرتهم العظيمة من كنزهم الثمين: كتاب الله الخالد, وسنة نبيه الكريم, وتراث السلف الصالح والتابعين.

الفصل العشرون: طور الشيخوخة

الفصل العشرون: طور الشيخوخة التغيرات الجسمية ... الفصل العشرون: طور الشيخوخة أشرنا في الفصل السابق إلى أن مرحلة المسنين والتي تتحدد اعتباطيًّا بتجاوز الراشد سن الستين أو بعدها بقليل, يمكن أن تنقسم إلى طورين؛ أحدهما هو طور الشيخوخة، وثانيهما طور أرذل العمر، وسوف نخصص الفصل الحالي للطور الأول، أما الطور الثاني فموضوعه الفصل القادم, ونعرض فيما يلي التغيرات التي تطرأ على الراشدين؛ بحيث تدخلهم في هذه المرحلة الختامية من حياة الإنسان. التغيرات الجسمية: يجب أن ننبه منذ البداية أن الفرد لا ينتقل مباشرة إلى الشيخوخة ببلوغه سن الستين أو الخامسة والستين "سن التقاعد الرسمي"؛ فالشيخوخة عملية تدريجية تحدث فيها التغيرات ببطء, ولعل أهم ما يتسم به هذا الطور بصفة عامة بدء تحول النمو الإنساني في الاتجاه العكسي، فبينما كان النمو في المراحل السابقة يتجه نحو التحسن والترقي والتنمية بمعدلات مختلفة، فإنه مع بدء الشيخوخة يبدأ التدهور بمعدلات بطيئة في البداية, ثم يتسارع هذا المعدل تدريجيًّا حتى يصل إلى أقصاه في طور أرذل العمر. وأوضح علامات هذا التدهور تكون في مظهر الجسم ونشاطه, وقد عَبَّرَ القرآن الكريم عن ذلك بوضوح عند الإشارة إلى دعاء نبي الله زكريا لربه, وفي ذلك يقول الله -سبحانه وتعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] . ولعل أهم علامات الشيخوخة ما يطرأ على المظهر الجسمي الخارجي من تغيرات، فحالما يدرك الراشد تحول شعره إلى اللون الرمادي "استعدادًا للشيب", أو إلى الأبيض "الشيب الفعلي"، وظهور بعض التجاعيد في الجبهة وحول العين، والشعور بجفاف الجلد وتغضنه, يشعر أنه هذا الطور الجديد. صحيح أن

بعض هذه التغيرات قد يبدأ في الظهور في طور منتصف العمر، وربما قبله، إلّا أنها تكون حينئذ بطيئة، وقد يدفع النشاط والحيوية اللذان من سمات هذه المراحل الإنسان إلى عدم الاهتمام بها، إلّا أنها تتراكم تدريجيًّا بحيث تصل مع الشيخوخة إلى الحد الذي لا تخطئه عين، وتقدم "المرآة" دليلًا قاطعًا وحاسمًا على أن المرء تجاوز عمر "القوة"، وبدأ ضعف المشيب. ولعل أكثر التغيرات وضوحًا في المظهر الجسمي والذي يزداد ظهورًا مع التقدم في سنوات الشيخوخة انحناء القامة على نحوٍ يبدو لنا كما أن هناك نقصًا في الطول, وهذه الخاصية التي تظهر في صورة تقوّس الظهر، وسقوط الرأس إلى الأمام، وانثناء الأطراف الدنيا, والأرداف ربما تعود إلى سنوات سابقة تعرض القوام فيها بالفعل للتشويه, ثم يزداد الأمر سوءًا مع طور الشيخوخة بسبب ضعف العضلات وأوتار هذه العضلات "التي تربط بين العضلة والعظم"، والتكلس المتزايد في أربطة العظام، وضمور فقرات العمود الفقري, وزيادة نحافة العظام ورقتها, وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في الآية السابقة بوهن العظام, وقد يؤدي العامل الأخير إلى نقصٍ حقيقيٍّ في الطول, وليس مجرد نقص ظاهريٍّ نتيجة لانحناء القامة. ويحتل موضوع العضلات والعظام موضعًا خاصًّا في تحديد العلامات الظاهرة للشيخوخة؛ فإذا كان تكوين العظام واللحم "العضلات" مرحلة جوهرية في تكوين الجنين -كما أشار القرآن الكريم وكما أوضحنا في هذا الكتاب عند تناول مرحلة ما قبل الولادة- فإن العظام واللحم "العضلات" أيضًا أول ما يتدهور من بناء الجسم الإنساني. فمن الخصائص المميزة للعضلات أن خلاياها لا تجدد نفسها -على عكس الجلد مثلًا, ويرتبط التقدم في السن أساسًا بضمور خلايا العضلات وموتها, ويبدو أن أكبر زيادة في كثافة العضلات تكون عند مطلع طور بلوغ الأشد "39-50 سنة"، ثم تبدأ تدريجيًّا في الضمور مع نقص بطيء في ألياف العضلات, سواء من حيث العدد أو السمك, ومع زيادة الأنسجة الدهنية مع التقدم في السن, فإن نسبة أقل من وزن الجسم تصبح حينئذ من العضلات، أما النسبة الأكبر فتكون للدهون, بل إن هذه الدهون التي كانت في مراحل العمر المبكرة "حتى منتصف طور بلوغ الأشد" تقع بين الجلد والنسيج العضلي، تصير لدى الأصحاء من المسنين الذين بلغوا الستين أو السبعين من العمر، متغلغلةً داخل العضلات نفسها, وحتى لو كان

وزن المرء في سن الستين مساويًا لوزنه حين كان في الخامسة والعشرين, فإن جسم المسن يحتوي على كمية من الدهون أكبر من جسمه حين كان شابًّا, إلّا أن القاعدة العامة أن المرء في مرحلة الشيخوخة يفقد بعض وزنه بعد أن يكون زاد هذا الوزن زيادة كبيرة في طور بلوغ الأشد, والملاحَظ بصفة عامة أن الرجال ينقص وزنهم بمعدل أسرع من النساء. وقد حاول الباحثون الإجابة على السؤال الهام وهو: هل يرجع ضمور العضلات في الشيخوخة إلى محض التقدم في السن؟ وقد وجد البعض أن ضمور العضلات يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعدم استخدامها، ولهذا ففي رأيهم أن هذا الضمور قد يكون -ولو جزئيًّا على الأقل- نتيجةً حتميةً لنقص النشاط الجسمي عند المسنين, وهو ما يفرضه المجتمع الحديث عليهم, ولهذا تظهر على عضلات المتقدمين في السن تغيرات أخرى؛ أهمها: نقص في كلٍّ من القوة العضلية والمرونة وسرعة الحركة, ومما يدعِّم هذا الفرض أن القوة العضلية والجلد العضلي "قوة الاحتمال" لا يهبطان لدى المسنين الذين يؤدون الأعمال الحركية العنيفة، وفي هذه الأنشطة لم تكن هناك فروق بين الذين تجاوزا الستين من العمر والذين لا يزالون في طور الرشد المبكر. صحيح أن هناك بعض النقص في فعالية العضلات, إلّا أن السؤال الهام الذي لا يزال بدون إجابة حتى الآن هو: كيف -على الرغم من ذلك- تتناقص قوة العضلات لدى المسنين من الأصحاء والنشطين؟ والتغيرات التي تطرأ على العظام تتسم أيضًا بأنها تدريجية بطيئة، مثلها في ذلك مثل التغيرات التي تطرأ على العضلات "اللحم", ويبدأ نقص كالسيوم العظام ابتداءً من سن الثلاثين، ويزداد معدل النقص تدريجيًّا حتى يصل إلى أعلى درجاته في الشيخوخة, وهو أسرع لدى النساء منه لدى الرجال؛ ففي بعض الدراسات المقارنة بين الجنسين, وُجِدَ أن النساء بين سن 55، 85 يفقدون حوالي 25% من حجم العظام, بينما لا يفقد الرجال إلّا 12% فقط, وعلى الرغم من هذا التدهور فإن الخلايا العظمية تظل لديها القدرة على التئام ما تتعرض له العظام من كسور، على الرغم من أن ذلك يستغرق وقتًا أطول مما كان عليه الحال من قبل. ومن جوانب الإعجاز النفسي للقرآن الكريم إشارته إلى "وهن العظام" كعلامة بارزة على الشيخوخة, ويتمثل وهن العظام في جانبين؛ أولهما زيادة قابلية العظام في هذه المرحلة للكسر، وهي ما يُسَمَّى طبيًّا "هشاشة العظام" Ostioporis, ولا يزال السبب الجوهري لذلك غامضًا, وهناك عدة أسباب مقترحة منها نقص مستوى هورمون الإستروجين "ربما بسبب ظهوره مبكرًا نسبيًّا لدى النساء".

ونقص التدريب والممارسة، ونقص أنزيم لاكتاز lactase "وهو المسئول عن هضم اللبن"، وعدم القدرة على التكيف مع الطعام ذي الكالسيوم المنخفض، ونقص الكالسيوم في الطعام بصفة عامة، وزيادة إفراز الغدد جارات الدرقية, مع نقص مستوى الكالسيوم في الدم, وتستخدم مع هذه الحالة طرق مختلفة من العلاج باستخدام هورمون الإستروجين والكالسيوم وفيتامين "د" والفلوريد وغيرها, إلّا أنها جميعًا لا تؤدي إلى تحسن. أما الجانب الآخر لوهن العظام في الشيخوخة فيتمثل في التهاب المفاصل المعروف باسم osteoarthritis, ويبدو أن هذا المرض مرتبط بالضغط الميكانيكي على المفاصل بسبب التغير في التركيب الكيميائي للكولاجين, مما يترتب عليه زيادة الاحتكاك بين نهايات العظام، ويزداد احتمال حدوث هذا المرض مع المفاصل التي تحمل الوزن الأكبر من جسم الإنسان "الركبة مثلًا". ويتصل بالتغيرات التي تطرأ على العظام ما يحدث للأسنان؛ فعلى الرغم من أنه مع التقدم في السن تصبح الأسنان أكثر مقاومة للتسوس, إلّا أن المسنين يفقدون أسنانهم نتيجة النقص التدريجي في عدد خلاياها الذي يصل إلى حوالي النصف عند بلوغ السبعين, ومع أن عدد الألياف في الأسنان يزداد, فإن عدد الأوعية الدموية فيها يتناقص, أضف إلى ذلك شيوع التهابات اللثة التي تُسَمَّى perio dontal disease, والتي تؤثر على الأنسجة المحيطة بالأسنان على نحوٍ يسمح باختراق البكتريا لها وإضعافها ثم سقوطها, وتوجد صلة بين هذا المرض ومرحلة قابلية العظام للكسر الذي أشرنا إليه، حتى أن الأطباء الذين يشخصون وجود أحدهما يكتشفون عادةً وجود الآخر. وتجب الإشارة هنا إلى أن بياض الشعر هو أكثر العلامات استخدامًا للدلالة على الدخول في العمر الثالث للإنسان، وقد اعتمد عليه الإنسان منذ أقدم العصور, وقد دَعَّمَ العلم الحديث ذلك؛ ففي دراسة قام بها دامون وزملاؤه Damon et al "في Perlumetter & Hall,1985" وجدوا أن بين 50 مقياسًا جسميًّا للشيخوخة, يُعَدُّ مؤشر بياض الشعر الأكثر دقةً وثباتًا كمؤشر على هذه المرحلة, وفي هذا دليل جديد على الإعجاز السيكلولوجي للقرآن الكريم, الذي أشار إلى العمر الثالث للإنسان بأنه "ضعف وشيبة", ثم استخدم "اشتعال الرأس شيبًا" كمؤشر على هذا العمر. وبالطبع فإن الوراثة تلعب دورًا هامًّا في معدل شيب الشعر حين يحل الشعر

الرمادي أو الأبيض محل اللون الطبيعي للشعر؛ فالبعض تظهر عنده بوادر ذلك في مرحلة المراهقة, والبعض لا تظهر هذه البوادر عنده إلّا عند بلوغ الستين, وربما بعد ذلك, وبصفة عامةٍ يمكن القول أن التحول في لون الشعر قد يرجع إلى نقص إنزيم معين، أو إلى نقص وسوء نشاط الخلايا المنتجة للصبغيات في حويصلات الشعر. ومع الشيخوخة لا يتحول لون الشعر فقط, وإنما قد يسقط أحيانًا, وعلى الرغم من أن صلع الرأس قد يظهر في مراحل عمرية مبكرة، إلّا أنه أكثر شيوعًا في طور الشيخوخة. وبصفة عامة فإنَّ كثافة حويصلات شعر الرأس، عند كلٍّ من النساء والرجال، تخف ابتداءً من سن الخمسين من 615 إلى 485 حويصلة في السنتيمتر المربع الواحد, كما يسقط أيضًا -مع الشيخوخة- من أجزاء الجسم الأخرى، وخاصةً تحت الإبط, ويكون ذلك -عند المرأة الخاصة- ناتجًا عن انخفاض مستويات بعض الهرمونات في الجسم. وتُعَدُّ شيخوخة الجلد أكثر إيلامًا -لدى المرأة الخاصة- من شيخوخة الشعر, فمن السهل صباغة الشعر، أما الجلد فمهما استُخْدِمَ معه من أنواع مستحضرات التجميل التي شاعت في وقتنا الحاضر, فإن ذلك لن يخفي تمامًا آثار الزمن "التجاعيد والغضون". ومن الخصائص الأخرى للجلد عند التحول إلى الشيخوخة ظهور بقع سوداء عليه، وهي من أعراض الشيخوخة الثانوية، ومعها يزيد إنتاج صبغي اللون الأسود والمسمى ميلانين melanin, ويضاف إلى ذلك أن أشعة الشمس فوق البنفسجية تؤثر في إنتاج الخلايا لمركب DNA, وفي التركيب البروتيني للجلد، ويؤدي ذلك إلى عدم تجديد الجلد, ولذلك يتحول الجلد مع الشيخوخة إلى النحافة والجفاف والتجعد، وقد يزداد ذلك وضوحًا، بل قد يصاب الجلد بالسرطان، مع التعرّض الشديد للشمس، ويكون هذا الخطر أشد على البشرة البيضاء, إلّا أننا يجب أن ننبه إلى أن بعض هذه التجعيدات -وخاصة في جلد الوجه- قد تحدث عن محض استخدام عضلات الوجه، ولهذا فهي تحدث في اتجاه دفع العضلة في الجلد، وأشهرها الغضون حول العين وفي الجبهة, وغيرها مما يرتبط بتغيرات الوجه التي يتعوّدها الشخص. وهذه الصورة التي وصفناها للعلامات الخارجية للشيخوخة كثيرًا ما عبَّر عنها بالرسم الفنانون التشكيليون، ولم يؤد الفن وحده إلى إشاعة هذه "الصور النمطية" للشيخوخة، ولكن أسهم فيها أيضًا الأدب, وتفيض ميادين الشعر

والقصة والرواية بأمثلة كثيرة على ضعف الشيخوخة وعجزها، ناهيك عَمَّا يمور به الفولكلور الثقافي للشعوب المختلفة من تراثٍ تتناقله الأجيال حول هذه المرحلة من حياة الإنسان, وقد أسهم ذلك كله في تكوين هذه "الصورة النمطية" التي قد تؤدي بالإنسان مع بلوغ الشيخوخة إلى الفزع والجزع, فإذا أضفنا إلى ذلك التركيز الشديد في عصرنا على ثقافة الشباب "والذي يشمل في السياق العام كل ما قبل الشيخوخة شاملًا الرشد بطوريه"، واتجاهات الآخرين نحو التقدم في السن، فإن ذلك كله يجعل من طور الشيخوخة بالنسبة للكثيرين رحلة من المشقة. إلّا أنَّ المهم أن نشير هنا إلى هذه الخبرة "الأليمة" بالشيخوخة قد لا تكون كذلك دائمًا، وكثير من البحوث الحديثة أكدت لنا أن المسنين نادرًا ما يشعرون بأنهم تقدموا في السن "Perlmutter and Hall 1985", ومعنى ذلك أن اعتقاد الراشد واقتناعه في عجز المسنين "كما تمثله الصورة النمطية السابقة" إنما يأتيه من استجابات الآخرين إزاءه, وليس من شعور داخلي فيه, فحينما يعامل المرء على أنه أصبح في عمر "ضعف الشيخوخة", فإن ذلك يثبط الكثير من عزمه، ويفقده الكثير من قدرته، ويهبط بثقته إلى مهوًى سحيقٍ ربما يفوق إدراكه أنه بلغ السبعين من عمره, ومع ذلك فهناك من يقبلون شيخوختهم عن رضًا كامل. ولعل من نواتج هذا الصراع ما ينفق سنويًّا على محاولات التغلب على العلامات الظاهرة للشيخوخة، وقد ظهرت صناعات متخصصة في ذلك؛ منها أصباغ الشعر والمستحضرات الخاصة بالجلد, كما تطور فرع خاص من الطب هو جراحة التجميل، بالإضافة إلى تطور أساليب العلاج الطبيعي التي تسعى إلى إزالة الدهون الزائدة في الجسم.

التغيرات الفسيولوجية

التغيرات الفسيولوجية مدخل ... التغيرات الفسيولوجية: تطرأ على وظائف الجسم الإنساني تغيرات جوهرية مع الدخول في مرحلة الشيخوخة, ومنذ مئات السنين اعتقد العلماء أن شيخوخة القلب والأوعية الدموية "Cardiovasculsr system" هي أساس شيخوخة الجسم, وفي القرن الخامس عسر توصل ليوناردو دافنشي من خلال التشريح إلى أن سبب الشيخوخة هو بطء انقباض الأوعية الدموية؛ بحيث لا تساعد على تغذية الجسم, وهذه حقيقة تأكدت بعد ذلك حيث يؤدي بطء انقباض القلب إلى زيادة زمن الدورة الدموية, وركز بعض الباحثين من بعده على أهمية الشريان الأورطي. وتضيف البحوث الحديثة عاملًا هامًّا آخر, وهو تركيز الدهون "وخاصة الكلسترول" وتراكمها حول القلب

والشريان الأورطي, بالإضافة إلى أن خلل الأوعية الدموية يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم. صحيح أن كثيرًا من هذه التغيرات قد يحدث في مراحل سابقة على الشيخوخة, إلّا أنها تكون أكثر وضوحًا في هذه المرحلة. وهناك تغير آخر في الجهاز التنفسي؛ حيث تصبح السعة الحيوية للرئتين أقل بكثير مما كان عليه الحال من قبل. ويفسر ذلك ما يشعر به المسنون من اضطرابات التنفس بعد تدريب بدني قصير "كطلوع السلّم مثلًا", وعلى الرغم من أن سبب الشيخوخة قد يعود إلى أسباب وراثية وبيولوجية "في بناء الخلية" إلّا أن صحة القلب والأوعية الدموية لها أهميتها الحاسمة. ويذكر "Turner & Hilms, 1983" أن العامل الرئيسي الذي يؤدي إلى هذه التغيرات حدوث عمليات بيوكيميائية معقدة، ومن أهمها التغير الكيميائي الذي يطرأ على مادة الكولاجين، وهي المادة البروتينية التي توجد في جميع أجزاء الجسم؛ مثل: النسيج الضام والعظام والخلايا والألياف العضلية وجدران الأوعية الدموية؛ فهذه المادة تفقد مرونتها مع التقدم في السن، وتفقد الأعضاء نتيجة لذلك قدرتها على استعادة حجمها وشكلها, ويؤدي التغير في كيف الكولاجين إلى زيادة ترسُّب أملاح الكالسيوم في الأنسجة, وخاصة في جدران الشرايين، ويؤدي إلى تصلبها؛ بحيث تصبح في المراحل المتأخرة جدًّا من العمر أشبه بأنابيب من العظم. ويؤدي تدهور الكولاجين الخاص بالشعيرات الدموية إلى النقص في كفاءة الكليتين وفي مرونة الرئتين، ويؤدي ذلك بدوره إلى بعض الاضطرابات فيهما, وخاصةً حالات التضخم, ويزيد الكولاجين في القلب على نحوٍ يؤدي إلى تصلب القلب وصماماته, كما يؤدي إلى تصلب الشرايين, الذي يُعَدُّ أكثر أمراض الشيخوخة شيوعُا. ونتيجةً لذلك لا يعمل القلب بكفاءته السابقة, وهناك اضطرابات أخرى تنشأ عن الخلل الكيميائي للكولاجين أشرنا إليها من قبل, ومنها اضطرابات المفاصل وتغضن الجلد. وتوجد مادة بروتينية أخرى لها أهميتها في إحداث الشيخوخة الفسيولوجية, وهي ألياف الإيلاستين، وهي التي تؤلف حوالي 30% من جدار الشريان الأورطي؛ فمع الشيخوخة يُعَادُ توزيع هذه المادة, وينتج عن ذلك أن الألياف تصبح أكثر رقّةً وأقل تركيزًا، بل إن بعضها يدمر, ومع حدوث ذلك تزداد كمية الكالسيوم المحيطة بالإيلاستين مما يؤدي إلى زيادة تصلب جدران الشرايين, ومع نقص مقدار الإيلاستين في الشريان الأورطي يزيد مقدار الكولاجين.

وحينئذ تصبح المواد الدهنية الشمعية "التي لا تقبل التحلل أو الذوبان" قادرة على التراكم داخل الشريان الأورطي. وقد اهتمَّ العلماء منذ بضع سنوات بدراسة أثر التقدم في السن على الجهاز العصبي، وكان أشهر من درس هذ الموضوع "Birren, 1974", وكانت أهم نتائجه أن المسنين هم في العادة أبطأ في الاستجابة للمثيرات إذا قورنوا بمن هم أصغر منهم سنًّا, ويعكس ذلك تغيرًا جوهريًّا في سرعة تجهيز الجهاز العصبي المركزي للمعلومات؛ فبينما يظهر الإنسان في مراحل ما قبل الشيخوخة السرعة أو البطء في الاستجابة اعتمادًا على مطالب الموقف, فإن المسنين يحتاجون إلى وقتٍ أطول لمجرد تجهيز المعلومات في الجهاز العصبي, وحين يكون المطلوب اتخاذ قرارات أو إصدار حركاتٍ سريعةٍ يبدو المسن غير قادرٍ على إصدار الاستجابة الملائمة, ولذلك نلاحظ على المسنين أنهم أكثر استهدافًا للسقوط, وغير ذلك من الحوادث التي يمكن تجنبها بالبطء في الحركة وإعادة التوافق, ويشبه بيرن ما يحدث بأنه نوع من "خفض التيار" العصبي أشبه بما يحدث للتيار الكهربائي. ويبدو أن بطء نشاط الجهاز العصبي المركزي له أهميته في مجالات عديدة, فقد يفسر بعض الصعوبات التي يشعر بها المسنون -والتي سنشير إليها فيما بعد- عند الاسترجاع من الذاكرة وأثناء التعلم, وقد يفسر أيضًا بعض الفروق المرتبطة بالعمر في مواقف اختبارات الذكاء التي تلعب فيها السرعة دورًا هامًّا, بل إن بطء الاستجابة قد يؤثر حتى في الشخصية والتوافق، كتناقص درجة ثقة المسن في نفسه, وخاصةً فيما يتصل بقدرته على إدارة شئونه الخاصة في بيئة عصرية سريعة الإيقاع, وقد يؤدي هذا البطء إلى ظهور التصلُّب والجمود في السلوك، وخفض الميل نحو المخاطرة، وكل ذلك من خصائص السلوك في مرحلة الشيخوخة. وعلى الرغم من أن البطء في نشاط الجهاز العصبي المركزي يؤثر عادةً في كثيرٍ من جوانب السلوك، إلّا أن هذه الحقيقة لا ترتبط بالصورة النمطية الشائعة للمسن بطيء الإيقاع الذي يَجُرُّ ساقيه جرًّا؛ فالواقع أن العجز لا يظهر إلّا إذا كان المطلوب منه تغيير اتجاه حركته, أو إصدار استجابات جديدة تمامًا "Welford 1959", فإذا كان المسن قد تعوَّدَ على الحركة السريعة المتآزرة، وكان ذلك لا يتطلّب قرارات جديدة منه، فإن حركته قد تذهل الصغير غير المدرب في سرعتها, ولعل هذا يفسِّر لنا وجود عدد من العازفين المشهورين للبيانو يؤدون بعض المؤلفات الصعبة وبسرعة كبيرة Prestissimo tempo, وهم في السبعينات أو الثمانينات, أو حتى التسعينات من العمر، ومن أشهر أمثلتهم: آرثر روبنشتين،

وفلاديمير هورفتز، وكلوديو آرو، ورودلف سيركين؛ فمع الممارسة السريعة المعتادة لا يفقد المسن إلّا القليل، وحتى ما يفقده من وقت أثناء الاستجابة يعوضه في الأغلب إتقان الأداء. وعدد الخلايا العصبية في المخ يبلغ حوالي عشرة ملايين خلية عند اكتمال النضج, ومع التقدم في السن يموت عدد كبير جدًّا منها "Huyuck and Hoyes, 1982" ويفسّر هذا ما يحدث في الشيخوخة من نقصٍ في وزن المخ وحجمه, وتمدد في التجويفين الجانبين فيه, وضيق في شريط اللحاء المخي, ويقدِّرُ بعض العلماء "Rokstein & Sussman, 1979" أن النقص في وزن المخ يصل في سن التسعين إلى حوالي 30% من وزنه الكلي, ويطرأ على المخ تغيرات أخرى على المستوى المصغر "المجهري", إلّا أن ما هو أكثر أهميةً ما يحدث له من تراكمٍ تدريجيٍّ لفضلات الخلايا العصبية, وخاصةً المادة الدهنية التي تُسَمَّى lipofuscon ومادةً صلبةً أخرى تُسَمَّى orgyrophilic plaque, ويؤدي تراكم هذه المواد وغيرها إلى خلل في الجهاز العصبي المركزي, ينقل الفرد إلى الطور الأخير والخطير من حياة الإنسان، وهو طور أرذل العمر، والذي يتسم بظهور الذهان الشهير بخرف الشيخوخة senile dementia، والذي من خصائصه -كما سنوضح في الفصل التالي- هبوط الذاكرة, ونقص مدى الانتباه, وتدهور الذكاء, ومعظم خصائص الشخصية، وفقدان مهارات رعاية الذات من ناحية الأكل والإخراج وغيرهما. وتطرأ على معظم الأعضاء تغيرات ملحوظة، فيحدث ضمور في الطحال والكبد والخصيتين والقلب والرئتين والبنكرياس والكليتين, مما يؤدي إلى نقص كفاءتها, ويعتبر نقص عدد الخلايا هو السبب الجوهري في ذلك، ويؤدي نقص كفاءة الكلى مثلًا إلى ضعف قدرتها على إخراج الفضلات والسموم من الجسم, يضاف إلى ذلك نقص مرونة أعضاء أخرى كالمثانة, وقد يؤدي ذلك إلى سلس البول "نوع من التبول اللاإرادي" وقد ينتهي بالعجز تمامًا عن التحكم فيه. وتطرأ تغيرات أخرى على وظائف الأعضاء، فيتأثر نظام التحكم في حرارة الجسم بسبب خلل الهيبوثالاموس, ويلاحظ على المسنين أنهم لا يتحملون درجات الحرارة المتطرفة، وتزيد لديهم الحساسية للبرد أكثر منها للحر, كما يقل مقدار النوم وكيفه, ويحل نظام الفترات القصيرة من الراحة والنوم محل الفترات الأطول في المراحل السابقة, ويعاني المسنون من الأرق، وهو أكثر حدّة في النساء, وبسبب نقص فترة النوم أثناء الليل يزيد الشعور بالتعب أثناء النهار, ويرجع ذلك

مرةً أخرى إلى الخلل الذي يتعرض له السرير التحتاني "الهيبوثالاموس" في المخ. ومن أكثر التغيرات حدوثًا ما يطرأ على الجهاز الهضمي؛ فصعوبات الأكل تنشأ جزئيًّا من فقدان الأسنان, وحتى أولئك الذين لم يفقدوا أسنانهم فإنهم يعانون من صعوبات المضغ، فإذا أضفنا إلى ذلك التدهور في حاستي الشم والذوق مع التقدم في السن، يؤدي ذلك إلى عدم الإحساس بطعم الأكل ولو كان جيد الطهي. إلّا أن الأخطر من ذلك ما يشعر به المسنون من مشكلات تتصل بالهضم, ومنشأ ذلك التغيرات التي تحدث في أعضاء الجهاز الهضمي, وخاصة المعدة والأمعاء، ونقص إفراز العصارات التي تساعد على الهضم. وكقاعدة عامَّةٍ, فإن المسنين يأكلون كميات أقل من الطعام بالمقارنة بالمراحل السابقة, إلّا أنهم يأكلون هذه الكميات القليلة على فتراتٍ أكثر, ولا يستطيع المسنون الاستمرار في الجوع لفترة طويلة؛ لأن كمية السكر في الدم تقل عن الحَدِّ المعقول بسرعة كبيرة. ومن التغيرات الأخرى التي تحدث مع الشيخوخة ضمور الغدد الصماء ونقص إفرازاتها، كما أن كمية الهورمونات التي تفرزها هذه الغدد لا تصل بكفاءة إلى الأعضاء، ويؤدي ذلك بدوره إلى خلل في وظائفها, ومن ذلك نقص إفراز الجلوكوز، ويفقد الجسم قدرته على الحفاظ على توازن ملائم في مقدار السوائل فيه, كما أن جهاز المناعة في الجسم يفقد جزئيًّا كفاءته بسبب سوء عمل الأجهزة العادية للتغذية الراجعة, بل إن جهاز المناعة قد يتحول -كما أوضحنا في الفصل السابق- ليعمل ضد الجسم نفسه من خلال استجابات المناعة المستقلة، ولهذا نلاحظ أن عدد الخلايا الخاطئة يزداد في هذا السن, والمحصلة النهائية للتغيرات في جهاز الغدد الصماء ونظام المناعة, أن المسنين يظهرون نقصًا متزايدًا في القدرة على المواءمة مع الضغوط التي يتعرضون لها من بيئتهم الداخلية "أي: داخل الجسم" أو الخارجية "مثل العدوي والتغير في درجة الحرارة والضغوط النفسية الاجتماعية". ويرتبط بجهاز الغدد الصماء نشاط الجهاز التناسلي، ولهذا فإن التغير في نمط إفراز الهورمونات الجنسية يرتبط أيضًا بالتغيرات الفسيولوجية المصاحبة للتقدم في السن, وقد أشرنا إلى بعض هذه التغيرات عند تناول طور بلوغ الرشد، كما بينا الفروق بين الجنسين, وبالطبع فإن من المتوقع زيادة النقص في الإفراز الهرموني مع الشيخوخة, إلّا أن البحوث الحديثة تؤكد أن النقص في إفراز

التستوسترين في الذكور إنما يرجع إلى ما يُسَمَّى الشيخوخة الثانوية, وقد يصل الرجل إلى منتصف السبعينات ولا يطرأ نقص كبير في مستوى إفراز هذا الهرمون لديه, ويرجع ما يحدث من نقصٍ إلى بطء عمليات الأيض لإنتاج الهرمون, ثم تخلص الجسم منه، أما إنتاج الحيوانات المنوية فقد يستمر مدى الحياة عند البعض, إلّا أنه مع شيخوخة الخصيتين ينقص ما تنتجه منها حتى يصل إلى حوالي 50% في حوالي السبعينات، ثم يحدث بعد ذلك نقصان شديد آخر في حوالي الثمانينات من العمر, ليصل إلى حوالي 10%, وبالطبع فإن إفراز الحيوانات المنوية قد يتوقف تمامًا عند البعض، إلّا أن البعض الآخر قد يظل قادرًا على الإنجاب حتى التسعينات من العمر. وهناك تغيُّر آخر في خلايا غدة البروستاتا يحدث للذكور أيضًا، وهو تغيُّر تظهر بداياته في طور بلوغ الأشد كما بينا آنفًا, وفي نفس الوقت يحل الكولاجين محل أنسجة العضلات، كما ينقص ما يرد للغدة من دم, وعند معظم الذكور تبدأ البروستاتا في التضخم بحيث يصل حجمها في الخمسينات والستينات من العمر إلى ما يفوق حجمها الطبيعي بنسبة 40%، ومع بلوغ السبعينات من العمر يكون حجمها قد تزايد إلى الضعف, ومع تضخمها الشديد تتداخل مع وظائف المثانة, وحينئذ يكون من اللازم استئصالها. ويرتبط تغيُّر الوظائف التناسلية لدى المرأة بالتغيرات في إنتاج الهرومونات أيضًا، إلّا أن الفرق الجوهري أن المرأة -على عكس الرجل- لا تصبح قادرةً على الإنجاب بعد سن الخمسين، إلّا في حالات نادرة, ومن المعروف أن خصوبة المرأة تتناقص تدريجيًّا مع بلوغ الأشد، وحينئذ تصبح فترة الحيض أقصر وأقل انتظامًا، ويكون ذلك بداية التحول إلى سن "الطهر", كما أسميناه بديلًا لمصطلح "سن اليأس" الأكثر شيوعًا، وهو ما يحدث في مطلع الخمسينات من عمر المرأة، وعنده يتوقف الحيض تمامًا, ومع الطهر menopause يتناقص بشكلٍ حادٍّ إفراز الإستروجين والبروجستيرون، بل يكاد يختفي أثرهما تمامًا في الدم.

الصحة والمرض في طور الشيخوخة

الصحة والمرض في طور الشيخوخة: توصف مرحلة الشيخوخة بصفة عامة بأنها مرحلة "ضعف الصحة الجسمية", فحتى مع عدم الإصابة بمرض، يشعر المسنون عادةً بأنهم ليسوا على ما يرام, ويزداد هذا الشعور مع التقدُّم في الشيخوخة, وخاصةً لدى ذوي المستوى الاقتصادي والاجتماعي المنخفض، وهو أقل حدَّة لدى المتزوجين منه عند غير المتزوجين, وتوجد عدة مبادئ عامة لا بُدَّ من مراعاتها عند تناول موضوع صحة المسنين، وهذه المبادئ هي: 1- أن متوسط توقع الحياة1 يزداد بصفة عامة في الأعمار الدنيا، ولكنه بالطبع يتناقص بالنسبة لمن يبلغ الخامسة والستين أو يتجاوزها, ويفسر الباحثون ذلك أن الرعاية الطبية التي يتلقاها الأطفال في الوقت الحاضر أدت إلى زيادة متوسط توقع الحياة لهم, وخاصةً بعد التغلُّب على الأمراض التي كانت تهدد حياتهم في الماضي مثل الجدري والدفتريا والسعال الديكي وشلل الأطفال, ولم يحدث ما يناظر ذلك من تقدُّمٍ طبيٍّ في مجال التغلب على أمراض منتصف العمر والشيخوخة. 2- إن المسنين يعانون من الأمراض المزمنة chronic أكثر من الأمراض الحادة acute, صحيح أن عمل الطب طوَّرَ من أساليب علاج الأمراض الحادَّةِ خلال السنوات الماضية, من خلال استخدام وسائل التطعيم "للوقاية", وتناول المضادات الحيوية, إلّا أنه بالنسبة للأمراض المزمنة لم يتجاوز حتى الآن حدود استخدام المسكنات, وبالطبع فإن الأمراض الحادة؛ كالأنفلونزا والتهاب المثانة وغيرها, تتسم بأنها قصيرة الأجل ولها سبب معروف، ويسهل اكتشافها وتشخيصها؛ لأنها تحدِثُ تغيرات باثولوجية غير عادية في الوظائف، ويتوافر لها طريقة واضحة في العلاج, أما الأمراض المزمنة "كأمراض القلب والسرطان والجلطة وغيرها" فعلى العكس من ذلك تمامًا, إنها تنمو على نحوٍ تدريجيٍّ إلى حدٍّ يمكنها من الوصول إلى درجة خطيرة، وعادةً لا تظهر تغيرات باثولوجية غير عادية في الوظائف قبل اكتشافها وتشخيصها، ولهذا توصف بأنها أمراض قد ينجح الأطباء في التحكم فيها ووقف استشرائها, ولكنهم لا ينجحون في شفاء المريض منها، ولعل السبب الجوهري لهذا الفرق أن الأمراض المزمنة يحدثها التعرض طويل الأمد لمواد ضارة في البيئة؛ كالتلوث أو الإشعاع، بينما كثير من الأمراض الحادة تنتج عن كائنات حية دقيقة؛ كالفيروسات أو البكتريا, وقد تنشأ الأمراض المزمنة في الشيخوخة نتيجة للتفاعل بين العمليات العادية للتقدم في السن مثل نقص

_ 1 متوسط توقع الحياة "ALE أو average life expectancy" هو مفهوم إحصائي شائع في مجال علم الإحصاء الحيوي، ويقصد به إسقاط فرضي لمعدل الوفيات على أساس معدلات الوفاة الفعلية لمجموعة عمرية معينة في كل مائة ألف من السكان, وبالطبع فإن أطوال حياة الأفراد في هذه المجموعة العمرية تختلف من فردٍ لآخر, وعلى هذا فإن أطوال حياة الأفراد في هذه المجموعة العمرية تختلف من فرد لآخر, وعلى هذا فإن متوسط توقع الحياة هو محض إسقاط إحصائي لعدد السنوات الذي يحتمل للفرد من عمر معين أن يعيشه.

القدرة على التوازن الهوميوستازي, وتكاسل الأجهزة العضوية من ناحية, وبين العمليات المرتبطة بالمرض من ناحية أخرى, وبصرف النظر عن الأسباب, فإن الأمراض تزداد في حوالي سن الخامسة والأربعين, ثم تصل إلى قمتها في سن السبعين وما بعده, وهي بالطبع من علامات تدهور الأجهزة المختلفة؛ مثل الأوعية الدموية للقلب, والأوعية الدموية للمخ، والخلل الكلوي, والاضطرابات الحركية، وكلها فيما يبدو ترتبط بتدهور الجهاز العصبي المركزي والغدد الصماء وجهاز المناعة في الجسم. 3- المسنون، إذا قُورِنُوا بغيرهم في المراحل العمرية الأدنى، هم أكثر تعرضًا للإصابة بعدة أمراض مزمنة في وقت واحد, ولهذا لا تصلح معهم الممارسة الطبية المعتادة التي تركِّز على تشخيص مرض واحد وعلاجه، ففي مرحلة الشيخوخة تكون الإصابة بمرضٍ واحد هي الاستثناء وليس القاعدة, ومعاناة المسن من أكثر من مرض واحد تؤدي إلى أن يؤثر كلٌّ منها في الآخر، على نحوٍ يجعل التشخيص والعلاج صعبًا؛ فآلام الصدر مثلًا قد يكون سببها مرض في القلب، أو أزمة قلبية محتملة، أو اضطراب في الجهاز الهضمي المعوي، أو خلل في نشاط المريء والحجاب الحاجز, أو العصبية الزائدة, وكثيرًا ما يحدث أن بعض الأعراض الهامة لاضطراب جديد تختلط بأعراض حالة مرضية موجودة بالفعل؛ فآلام الصدر قد ترد إلى سوء الهضم، وآلام العظام قد تفسر على أنها نوع من الروماتيزم، ونزيف المستقيم الناجم عن السرطان قد يُعَدٌّ ناتجًا عن البواسير. 4- قد يظهر المرض لدى المسنين في صورة تختلف عنها لدى من هم أصغر سنًّا, ويمثل ذلك إحدى صعوبات التشخيص الطبي في مرحلة الشيخوخة؛ لأن التغيرات المرتبطة بالعمر تغيِّر الصورة الكلينيكية التقليدية المرتبطة بأمراض معينة, ومن ذلك مثلًا أن الحساسية للألم تقل، كما أن مواضع الألم تكون متغيرة في هذه المرحلة. فضيق التنفس والتهاب الزائدة الدودية مثلًا لا يصاحبها ألم لدى المسنين, وحين يحدث الألم لا يكون حادًّا، بل قد يُنْسَى عندما يصل المسن إلى طور متأخر من الشيخوخة "يقترب من طور أرذل العمر", بل إن كلًّا من الأطباء والمسنين جميعًا قد يعتبرون الألم في هذه المرحلة عبئًا يجب التعايش معه، أو شرًّا لا بُدَّ منه، على الرغم من أنه ليس أمرًا حتميًّا في الشيخوخة, وتختلف آثار العقاقير الطبية لدى المسنين عنها لدى من هم أصغر سنًّا؛ فالجرعة التي تناسب الشاب أو الراشد, قد يكون لها أثر جانبي لدى المسن,. كما لا تظهر في هذه المرحلة

بعض الأمراض الشائعة لمرض معين، ومن ذلك مثلًا أن الحمى قد لا تظهر دائمًا في الأمراض المعدية التي هي من أعراضها المعروفة. 5- في الأمراض القابلة للشفاء "كالأمراض الحادة" يستغرق المسنون وقتًا أطول لاستعادة صحتهم, وذلك بسبب عدم التوازن الهوميوستازى؛ فمن المعروف أن الراشد الصحيح بدنيًّا يعيش في توازن مع بيئته وتعمل أجهزته بكفاءة في نشاط الخلايا وتجديدها, ومع الشيخوخة تصبح عملية تجديد الخلايا أقل فعالية, وحينئذ تموت الخلايا وتصبح الأعضاء أقل فعالية, أضف إلى ذلك أن نقص الغذاء وسوء التغذية قد ينتجان تغيرات أيضية تتداخل مع الخلل السابق في نشاط الخلايا, وهكذا إذا أضيف إلى الشيخوخة المرض والحرمان والصدمات وغيرها من الضغوط, فإن ذلك يؤدي إلى نقص الاحتياطي الفسيولوجي لدى الإنسان, ويؤدي نقص التوازن الهوميوستازي بالمسنين إلى أن يصبحوا أكثر تعرضًا لنقص البلازما أو الدم, والجفاف, ونفاذ البوتاسيوم, واضطراب عمليات الأيض بالطبع, ومن الأمثلة التي توضح بطء الشفاء في هذه المرحلة أن المضادات الحيوية يحدث أثرها لدى الراشدين الأصغر سنًّا خلال فترة من 24-26 ساعة, بينما هذا الأثر لا يظهر لدى المسنين إلّا بعد انقضاء فترة من 48-72 ساعة على الأقل, ولهذا فإن الأمراض الحادة على الرغم من أنها لدى الصغار تأتي فجاةً, ثم تمضي, ونادرًا ما تسبب العجز أو الوفاة، إلّا أن منها لدى المسنين ما قتل. 6- الأمراض النفسية المصاحبة للاضطرابات الجسمية لدى المسنين أكثر شيوعًا منها لدى من هم أصغر سنًّا؛ فالعلاج طويل الأمد بالعقاقير يسبب مرض مزمن قد يؤدي إلى حدوث بعض الآثار النفسية الجانبية؛ كالدوار والخلط الذهني، بل إن بعض الأعراض الذهانية قد تنتج من هذا النوع من العلاج, بل إن بعض الأمراض المزمنة قد تؤدي إلى بعض الأمراض الذهانية، وأشهرها الاكتئاب, بالإضافة إلى أن نقص تدفق الدم إلى المخ قد يؤدي إلى تغيرات في النشاط العقلي؛ مثل الخلط المكاني, ونقائص الذاكرة، والتقلب المزاجي، وضعف الأداء الذهني, وبهذا قد يسرع المسنون الخطى إلى الطور الأخير من حياتهم وهو "أرذل العمر". ويوجد عدد قليل من الأمراض يمكن اعتبارها من أمراض الشيخوخة, إلّا أن بعض الأمراض الأخرى أكثر حدوثًا في هذه المرحلة من سواها، ومن النوع الأخير نجد الإمساك، والبواسير، واضطرابات الجهاز الهضمي من مختلف الأنواع ومختلف صور أمراض القلب, أما الأعراض التي تخص الشيخوخة فهي اضطرابات الجهاز الدوري وخاصةً الأوعية الدموية, وعلى وجه أخص تصلب

الشرايين، واضطرابات الأيض، واضطرابات المفاصل والعظام، ومختلف أنواع الأورام وخاصةً السرطان, وفي هذه المرحلة يكون أيّ مرض أكثر خطورة من أيّ مرحلة سابقة؛ لأن أعضاء الجسم كما أشرنا تجدد خلاياها ببطء شديد, وبالإضافة إلى الأمراض الحقيقية فإن المسنين يعانون أيضًا من الأمراض المتوهمة، ويركزون على أيّ صداعٍ أو ألمٍ ويبالغون فيه, كما أن الحديث عن الآلام والأوجاع والطب والأطباء حديث مفضل لدى معظمهم لقضاء الوقت, ويفيد ذلك كوسيلة لجذب الانتباه إليهم، وكسب المشاركة الوجدانية من الآخرين. والعلاقة بين الصحة والتوافق في هذه المرحلة هي علاقة ارتباط لا علاقة سببية؛ فالصحة السيئة تؤدي إلى تدهور التكيف الجيد، كما أن التكيّف السيئ يؤثر جزئيًّا في الصحة الجيدة, وتكيف المسنين للقيود التي تفرض على الأنشطة التي كانوا يمارسونها من قبل بسبب ضعف الصحة لا يتم إلّا بمقاومة كبيرة؛ لأنهم يشعرون بأن فرص العودة إلى هذه الأنشطة قليلة, إن لم تكن معدومة، فالتدهور بالطبع يزداد معدله مع الأيام, ومقاومة التكيف هذه مصدر آخر للشكوى المستمرة من المرض, وتزداد هذه الشكوى عند النساء أكثر من الرجال. ومن الطريف أن نلاحظ أن هذه الشكوى تقل مع التقدم في السن, وترى هيرلوك Hurlock "1980" أن هذا لا يعني التوافق الجيد مع المرض باعتباره من حقائق الشيخوخة، وإنما السبب في ذلك أن "عتبة المرض" ترتفع مع التقدم في السن, ولهذا فإن المسنين لا يشعرون كثيرًا بالآلام الجسمية كما كانوا يفعلون من قبل. وبالطبع فإن بعض المسنين يتكيفون مع الاضطرابات الجسمية في الشيخوخة، والبعض لا يفعلون, بل إنهم يشعرون دائمًا بالأسى على أنفسهم, ويتحسرون غالبًا على "الشباب الضائع", وتؤدي بهم هذه المشاعر إلى فشل أيّ محاولة للتكيف مع هذه الاضطرابات الجسمية, كما قد تؤدي ببعضهم إلى استخدامها في الضغط على الآخرين والتأثير فيهم، فبها يحصلون على اهتمام أفراد الأسرة ورعايتهم. ويعاني المسنون من أمراض سوء التغذية، إلّا أن معظم هذه الحالات ترجع إلى أسبابٍ نفسية وليست اقتصادية، فهم يأكلون طعامًا قد لا يتفق مع حاجات الجسم في هذه المرحلة، وخاصةً نوعية الطعام اللازم لاستمرار الكفاءة الجسمية والعقلية، ومن أهم هذه العوامل النفسية نقص الشهية نتيجةً للقلق والاكتئاب، وقد يكون ذلك نتيجةً للعزلة, فضعف الميل إلى الطعام قد يكون بسبب اضطرار المسن إلى الأكل وحيدًا، أو نتيجة لرفض الطعام بسبب عوامل انفعالية أحدثتها خبرات غير سارة في مراحل سابقة من العمر, وكذلك فإن مشكلات الأسنان تضاف إلى

المشكلات النفسية, وتزيد من حدة مشكلة التغذية في هذه المرحلة, فتناول القليل من البروتين والكثير من السوائل الكربوهيدراتية بسبب صعوبات المضغ تؤدي إلى بلع الطعام على نحوٍ يؤدي إلى بعض الاضطرابات في الجهاز الهضمي. ويعاني بعض المسنين من السمنة, ويرجع ذلك جزئيًّا إلى الإسراف في الطعام, مع عدم القيام بنشاط يستهلك مقدارًا كافيًا من السعرات الحرارية، وكذلك تناول الطعام غير المتوازن, ونحن في حاجة إلى بعض الدراسات العلمية التي تصف لنا عادات الطعام في هذه المرحلة. وأكثر الحوادث شيوعًا في هذه المرحلة حوادث السقوط التي قد تسبب تعويقًا للمرء معظم ما بقي له من عمره, ويقع معظم هذه الحوادث داخل البيوت: في غرف النوم والحمامات وعلى السلالم, وبعض هذه الحوادث قد يكون لأسبابٍ خارجية "عوائق يصطدم بها المسن مثلًا"، وبعضها قد يرجع إلى أسباب داخلية مثل ضعف البصر والإصابة بالدوار والتهاب المفاصل والضعف العام.

التغير في الوظائف الحسية

التغير في الوظائف الحسية: ليست الحواس استثناءً من التدهور العام في هذه المرحلة، ويمكن القول أن جميع حواس الإنسان تتعرض لنقص الكفاءة, وفي كثير من الأحيان يكون هذا النقص امتدادًا للمشكلات التي تَعَرَّضَ لها المسن في طور منتصف العمر، ولكنها تصبح في مرحلة الشيخوخة أكثر تسارعًا, وعند بعض المسنين قد تنشأ مشكلات حسية جديدة لم يتعرضوا لها من قبل، بينما تستقر عند البعض الآخر, وتثبت المشكلات القديمة. فإذا بدأنا بحاسة الإبصار فإننا نجد أن العين تطرأ عليها سلسلة من التغيرات البنوية والتشريحية, تؤدي إلى ضعف حاسة البصر, ومن ذلك إن طول النظر يزيد مع العمر, والذي ينتج أساسًا عن التغيرات التي تطرأ على عدسة العين، كما تتناقص القدرة على التكيف للظلام, أضف إلى ذلك أن التغيرات التي تطرأ على الشبكية والجهاز العصبي تؤدي إلى نقص الدقة البصرية "ضعف البصر", ونقص القدرة على تمييز الألوان. وكثير من المسنين لديهم صعوبات كبيرة في الرؤية في الظلام، ويؤدي ذلك إلى جعل قيادة السيارات أثناء الليل بالنسبة لهم مخاطرة, وبعض القصور البصري يرجع في جوهره إلى التغيرات التي تطرأ على العين نفسها, ومن ذلك نقصان المواءمة البصرية, وانكماش حجم إنسان العين, الذي يعني بدوره قلة مقدار الضوء الذي يسقط على الشبكية، والصفرة والكمدة في العدسات.

ثم تزداد هذه التغيرات استفحالًا بتكوين المياه البيضاء "الكاتاراكت" الذي يؤدي إلى إعتام عدسة العين, وهو العجز الأكثر شيوعًا في مرحلة الشيخوخة, يليه مرض الجلوكوما, ومن العلامات الأخرى تلف بعض الميكانيزمات العصبية في مركز الإبصار مع التقدم في السن. وقد يكون التدهور الأكثر ارتباطًا بمرحلة الشيخوخة ما يحدث لحاسَّةِ السمع, فحوالي 17% من الأشخاص الذين يبلغون سن 65 عامًا وما بعدها, يظهرون علامات النقص السمعي المسمى presbycusis, والذي يرجع في جوهره إلى تدهور الجهاز السمعي ذاته, وهذا النقص يقتصر أساسًا على الأصوات ذات التردد العالي، ويشمل ذلك معظم أصوات الكلام, وكثير من المتحدثين يحاولون تعويض هذا الضعف السمعي لدى المسنين بالحديث بصوتٍ عالٍ, إلّا أن زيادة جهارة volume صوت المتحدث، التي تصل أحيانًا إلى حدِّ الصراخ، لا تفيد، بل قد تؤدي إلى حجب الأصوات التي يمكن للمستمع المسن أن يدركها, ولتحسين التواصل السمعي مع المسنين الذين يعانون من صعوبات السمع يجب أن يخفض المتحدث صوته لا أن يرفعه؛ لأن ذلك يؤدي إلى خفض حدة الصوت أو شدته intensity, وكذلك درجته pitch, وهي الخصائص التي تمثل صعوبة جوهرية لدى المسنين, وفي هذا الصدد نشير إلى أنه لقياس هذا التطور السمعي يحلل الصوت إلى مكونيه الأساسيين هما: التكرار "التردد" والسعة، واللذين يمكن تنويعهما بشكلٍ مستقلٍّ, ويشير التردد أو التكرار إلى عدد الدورات في الثانية التي يتخذها الصوت "أو النغمة"، أما السعة فتعني مدى أو شدة حدوث الموجة الصوتية, وتدل على الحساسية الصوتية, وتؤكد نتائج البحوث أن التدهور يكون ضئيلًا في الحساسية "السعة" الخاصة بالترددات المنخفضة, ويكون هذا التدهور حادًّا للترددات التي مقدارها 2000 ذبذبة في الثانية أو أعلى من ذلك, ويكون ضعف السمع أكثر حدوثًا في الذكور منه في الإناث, وقد يرجع هذا إلى الفروق بين الجنسين في التعرض للضوضاء, ولعلّ خطورة ضعف السمع تتمثل في ارتباطها بضعف النشاط العقلي من ناحية، وبظهور بعض الأعراض الذهانية "كالبارانويا" من ناحية أخرى, وكلما ازداد السمع ضعفًا ازداد معدل تحوّل المسن إلى الطور الأخير من حياته, وهو أرذل العمر. وتُوجَدُ أدلة على أن الحواس الأخرى تتدهور أيضًا مع التقدم في السن؛ فبالنسبة لحاسة الذوق وجد بعض الباحثين أن عتبات المذاقات الأربعة الأساسية "المر، الحلو، الحامض، المالح" تزيد مع العمر, وخاصةً بعد سن الخمسين، إلّا أن

البعض الآخر يرى أن نتائج الدراسات التي أجريت على حاسة الذوق متناقضة, ومثلها نتائج حاسة الشم, ويوجد فرضٌ شائعٌ في هذا الميدان, وهو أن التدهور يلحق الأجزاء الطرفية من عضو الحس بينما الأجزاء المركزية فيه لا تتأثر, إلّا أن بعض الأدلة الحديثة تؤكد أن عمليات التجهيز المركزي للمعلومات الحسية تتأثر أيضًا وبشكل مستقلٍّ عن الأجزاء الطرفية, وقد يرجع ذلك إلى أن الخلايا الوظيفية في الجهاز العصبي يتناقص عددها مع التقدم في العمر, وتُوجَدُ نتائج علمية تؤكد أن مستوى النشاط العصبي العشوائي يزيد مع العمر، وقد يحدث ذلك نتيجةً لبطء التحرر من آثار الاستثارة السابقة, وهذه التغيرات جميعًا تؤدي إلى نقصان كفاءة الجهاز العصبي في تمييز الإشارات "المثيرات". ويرى بعض الباحثين الآخرين أن التدهور في حاستي الذوق والشم خاصةً, قد يرجع في جوهره إلى بعض الظروف المرضية, أو إلى بعض العادات المتأصلة مثل التدخين أو إدمان المسكرات والمخدرات, وعلى كلٍّ فإنه نتيجة لصعوبات الذوق والشم يعاني المسنون من فقدان الاهتمام بالطعام, مما يؤدي إلى بعض مشكلات التغذية, والإصابة بالأمراض على النحو الذي أشرنا إليه فيما سبق. وإذا كان معظم هذه التغيرات الحسية يقدم لنا صورة متشائمة من الشيخوخة، فإننا يجب أن نوضح أنه باستثناء الحالات المتطرفة -التي تحدث عادة في طور أرذل العمر- فإن هذه التغيرات لا تمنع المسن العادي من أن يعيش حياته الطبيعية, وكثير من الابتكارت التكنولوجية الحديثة؛ مثل: التليفونات التي تكبر الصوت والمعينات السمعية والنظارات الطبية, أعانت المسنين على أن يعيشوا حياة راضية, على الرغم من الكفاءة المتناقصة للجسم. وفي الواقع فإنه لا تحدث مشكلات توافق حسي للمسنين إلّا تحت شروط الضغط والإجهاد, وحينئذ تصبح النقائص المرتبطة مصدرًا لسوء التوافق لديهم, ففي حالة الحزن الشديد لوفاة صديق أو قريب يشعر المسن بالعجز عن فهم ما يسمع، وقد يؤدي به ذلك إلى الانسحاب إلى الذات, وغلق نوافذ الاتصال بعالمٍ يشعر أنه مختلط مخيف يحيط به من كل جانب.

التغير في النشاط الحركي

التغير في النشاط الحركي: يدرك المسنين أنهم أبطأ حركة, وأقل تآزرًا, وأضعف ثقةً في حركاتهم, مما كانوا عليه في مراحل السابقة, والسبب في ذلك هو نقص القوة والطاقة الذي يصاحب التغيرات الجسمية التي وصفناها آنفًا. وقد يكون وراء هذا التدهور بعض العوامل النفسية؛ فالمُسِنُّ يعلم أنه قد دخل مرحلة "الأفول"، كما يعلم أن هناك قيمًا اجتماعية تركز على المهارة والقوة والسرعة, وهي جميعًا خصائص "الشباب" الذي ولَّى، بالإضافة إلى أن هناك ما يُذَكِّرُهُ دائمًا بنقصه إزاء من هم أصغر سنًّا, والأثر الانفعالي الناشئ عن هذه العوامل النفسية قد يسرع بالفعل بالتدهور في القدرات الحركية للفرد، أو يهبط بدوافع الفرد لأداء ما يستطيع أداءه, ومع ذلك فإن من حقائق النمو الإنساني في هذه المرحلة أن القدرات الحركية لا يمكن أن تكون على النحو الذي كانت عليه من قبل. فالواقع أن جميع القدرات الحركية تتعرض للتدهور مع التقدم في السن، إلّا أن بعض هذه القدرات يكون التدهور فيه أسرع من سواه, ولعل أخطر هذه التغيرات ما يطرأ على القوة والسرعة والمهارة. فبالنسبة للقوة وُجِدَ أن معدل التدهور في قوة قبضة اليد يصل في سن الستين إلى 17% من معدلها الأقصى الذي كانت عليه في طور الشباب، وعندما يبلغ المرء سن الخامسة والسبعين تكون القوة القصوى لقبضة اليد معادلة تقريبًا لها عند المراهقين المبكرين في سن بين 15-16سنة, وبالطبع فإن التدهور في القوة الجسمية يختلف تبعًا لمجموعة العضلات، وأكثر صور الضعف شيوعًا ما يطرأ على عضلات الساعدين، والعضلات التي ترفع الجسم ككل, وأوضح علامات نقص القوة ما يلاحظ على المسنين من سرعة تعرضهم للتعب الجسمي؛ فمع أقل جهد, وفي أقصر وقت, تبدأ الشكوى عند المسنين من هذا التعب. وفي حالة السرعة نجد أن اختبارات زمن الرجع تبين لنا أن المسنين أكثر بطأً في الاستجابة ممن هم أصغر سنًّا، ويزداد هذا البطء مع زيادة صعوبة العمل الذي يُؤَدَّى, ومن العوامل التي تؤثر في ذلك التعب والضغط والتوتر. بل إن المهارات التي سبق للمُسِنِّ أن تعلمها في مراحل عمره السابقة تصير أكثر بطيأً أيضًا مع التقدم في السن, ومن ذلك مهارة الكتابة مثلًا, والسبب في ذلك بالطبع هو صعوبات التآزر الحركي المشهودة في هذه المرحلة, ويسير اتجاه تدهور المهارة في عكس اتجاه اكتسابها وتكوينها؛ فالمهارات التي تكونت أولًا تبقى لفترة أطول, بينما المهارات الأحدث تزول بسرعة, إلّا أنه مع التقدُّمِ في السن تتدهور حتى المهارات جيدة التكوين, ويصير المرء في حالةٍ من العجز أشبه ما يكون بعجز الطفولة القديم, ومع ذلك فإن الاستمرار في ممارسة المهارة أو السرعة في بعض التعلُّم الحركي يرجئ حدوث هذا التدهور إلى حين.

والواقع أن تعلُّم مهارات حركية جديدة في مرحلة الشيخوخة يُعَدُّ من الخبرات غير العادية، ليس لأن التعلم في ذاته أصبح أكثر صعوبة فحسب، وإنما بسبب نقص الدافعية لدى الأفراد أيضًا, ولهذا يجب أن يشعر المسن في تعلُّمِه لأي مهارة حركية بأن هذا التعلُّم مفيد له شخصيُّا، وقد يؤدي به ذلك إلى بذل الجهد الممكن, وهذا في ذاته مؤشر جيد حتى ولو سار هذا التعلُّم بمعدل أبطأ, وكان عائده أقل من المراحل العمرية السابقة, ومما يفيد التعلُّم الحركي في هذه المرحلة أن تكون اليد والذراع على درجة كافية من الثبات. والسؤال هو: لماذا يحدث البطء في السلوك الحركي في هذه المرحلة؟ الواقع أن هذا البطء لا يقتصر على النشاط الحركي, وإنما يشمل السلوك الإدراكي والمعرفي والفسيولوجي أيضًا؛ لأنها جميعًا أنماط استجابة للمثيرات الخارجية, وقد اقتَرَح بعض الباحثين المبكِّرين أن السبب في ذلك هو العمليات الطرفية في الجهاز العصبي المركزي, ومن ذلك نقص كفاءة أجهزة الاستقبال، وبطء سرعة التوصيل العصبي, إلّا أن بعض الباحثين المحدثين، ومنهم "Botwinick, 1973" رفضوا هذا التفسير واقترحوا فرضًا بديلًا يرجع بطء الاستجابة إلى التغيرات في العمليات المركزية مع التقدم في العمر, وقد وجدوا بالفعل أن هذا البطء السلوكي يرجع من ناحية إلى التدهور الحسي والإدراكي على ما وصفناه في القسم السابق، والذي يؤدي بدوره إلى صعوبة التمييز بين المثيرات، كما يرجع من ناحية أخرى إلى هبوط سرعة التوصيل العصبي, وتأكد أن المسنين أبطأ ممن هم أصغر سنًّا في جميع سرعة التوصيل العصبي, وتأكَّدَ أن المسنين أبطأ ممن هم أصغر سنًّا في جميع مستويات صعوبة المهام التي يؤدونها, وأن زمن رجع المسنين يزداد "أي: تقل السرعة" مع زيادة صعوبة تمييز المثير، وأن الفروق بين الأعمار تزداد مع زيادة هذه الصعوبة, ومعنى ذلك أن العوامل الإدراكية "الطرفية" ليست وحدها هي المسئولة عن بطء الاستجابة مادام هذا البطء يظهر فيها حتى مع ضبط متغير القدرة على التمييز؛ فحينما تَمَّ التكافؤ بين المجموعات العمرية المختلفة في شدة المثير لم يؤدِّ ذلك إلى زوال الفروق بين المسنين ومن هم أصغر سنًّا في بطء الاستجابة, وعلى ذلك فإن أعضاء الحسِّ ليست وحدها المسئولة عن البطء في زمن الرجع الذي يظهر في مرحلة الشيخوخة. ومع ذلك فحين حاول الباحثون اختبار فرض دور سرعة التوصيل العصبّي كعامل رئيسي في البطء, ثبت أنه غير صحيح؛ فحين تمت المقارنة بين المسنين في المهام التي تتطلَّبُ مسارًا عصبيًّا أطول من غيرها لم تظهر فروق بينها، ومعنى ذلك أن بطء الاستجابة حالة عامة, سواء كانت المهمة تَتَطَلَّبُ مسارًا عصبيًّا

طويلًا "وبالتالي يكون التوصيل العصبي بطيئًا" أو العكس. ومن ناحيةٍ ثالثة حاول الباحثون تحديد دور ميكانيزمات الجهاز العصبي في بطء الاستجابة, وفي هذه الدراسات حلَّلَ الباحثون زمن الرجع إلى مكونين رئيسيين هما: زمن الحركة motor time, ويُقْصَدُ به الوقت الذي ينقضي بين تشغيل العضلة وإتمام الاستجابة، والزمن السابق على الحركة premotor, ويُقْصَدُ به الوقت الذي ينقضي بين حدوث المثير وتشغيل العضلة, ويتضمن الزمن السابق على الحركة ثلاث عمليات منفصلة: النقل الحسي للمثير، والتفسير المركزي للمثير، واتخاذ قرار الاستجابة, وقد وَجَدَ الباحثون أن هذا المكوّن يستغرق حوالي 84% من الزمن الكلي للرجع, وعلى ذلك فإن العوامل الحركية تكاد تكون مستبعدة في أثرها, وهذا يؤدي إلى استناج أن بطء زمن الرجع يرجع في جوهره إلى عوامل معرفية تفسيرية متضمنة في عمليات اتخاذ القرار, وقد دعمت تجارب بوتوينك هذا الفرض. ويُؤَكِّدُ هذا الفرض مصدر آخر للمعلومات, جاء من البحوث التي استخدمت الرسام الكهربائي للمخ "EEG", فقد وجد الباحثون من أصحاب هذا الاتجاه أن هناك معامل ارتباط بين البطء الذي تظهره الرسوم الكهربائية للمخ, وبطء الاستجابة كما يتمثل في زمن الرجع، وقد اقترحت في هذا الصدد علاقة سببية بينهما؛ حيث المخ هو المسبب للبطء العام للاستجابة "وليس العكس بالطبع", وهذه العلاقة، كما ترى "Kermis, 1984"، من الفروض السببية القليلة التي ثبتت صحتها في ميدان سيكولوجية المسنين. ويرى بعض الباحثين أن التمييز بين النشاط النفسيحركي psychomotor, وغيره من أنواع النشاط النفسي ليس كبيرًا, وإذا كان النشاط النفسيحركي يدل على المهارات البسيطة -كما بينا آنفًا- بحيث يتطَلَّب قليلًا من نشاط العمليات المركزية "كالتفكير وحل المشكلة" في علاقتها بالنشاط الحركي ذاته، فإننا نجد أن هذا التمييز ليس سهلًا؛ لأن جميع الأنشطة النفسية تطلب بعض الميكانيزمات المعرفية المركزية, وكما بينَّا فإن السهولة أو الصعوبة وكذلك البساطة أو التعقد الباديتين على المهمة, لا علاقة لهما بدرجة صعوبة وتعقد العمليات الطرفية أو المركزية المعرفية المتضمنة, ومع ذلك, فإن بعض النتائج الطريفة أمكن التوصل إليها عن علاقة النشاط الحركي بالعمر. فمن الملاحظات الشائعة أن الأفراد يميلون إلى البطء الحركي بالتدريج مع العمر, إلّا أن سبب ذلك ليس واضحًا, وبالإضافة إلى هذا, فإن المسنين لا يؤدون

الأعمال الحركية أبطأ من الراشدين الصغار فحسب، ولكن أيضًا إذا كانت تعليمات المهمة توجه المفحوصين إلى العمل ببطء, فإنهم يعملون ببطءٍ أشد من الذين هم أصغر سنًّا. ومن الدراسات الكلاسيكية حول علاقة الأداء الحركي بالعمر, تلك التي قام بها "Miles, 1931", فقد حصل على الأداء الحركي لعينةٍ تتألف من 231 من الذكور تمتد أعمارهم بين 6-95 عامًا, في ستة أعمال حركية مختلفة, تقيس السرعة اليدوية وزمن الرجع, وتؤكِّد نتائج هذا البحث ظهور التدهور في السرعة مع التقدم في السن؛ ففي السرعة اليدوية كان أولئك الذين بلغوا الثمانينات أبطأ من الشباب في العشرينات بمعدل يمتد بين 50%-60%, بينما كانت نتائج زمن الرجع أفضل، فلم تظهر بعض مقاييسه تدهورًا مع العمر إلّا عند سن السبعين. ومن الملاحظ بصفةٍ عامَّةٍ أن آثار التقدم في السن في النشاط الحسي والكفاءة الحركية عند الراشدين الأصحاء أقل مما نلاحظه من هذه الآثار بالنسبة إلى كفاءة العمليات العصبية المركزية "ومنها العمليات المعرفية التي سوف نتناولها فيما بعد"، وهي العلميات التي تنظم المعلومات التي تستقبلها الحواس, وأنماط النشاط التي يتم التعبير عنها بالحركة أو الكلام، وبالتالي ربط الفرد بالبيئة. العلاقة بين العمر والمهارة: من أفضل الدراسات حول العلاقة بين المهارة والتقدُّمِ في السن ما قام به فريق من علماء النفس الإنجليز بقيادة ولفورد "Welford, 1958" "والتي نشرت عام 1958 كتقرير نهائي لوحدة بحوث نفيلد حول مشكلات المسنين", ويبدأ هذا التقرير بالقول بأن أعضاء الجسم وعملياته تزود الإنسان "بالميكانيزمات البيولوجية" التي تجعل الأداء الماهر ممكنًا، فالذراع يمتد, والأصابع تمسك بمقبض الفنجان, ثم تحمله إلى الشفتين، والعينان تمسحان الطريق أثناء قيادة السيارة, وتسجلان ظهور سيارة أخرى, ويحاول علماء النفس الربط بين مفاهيمهم ومناهجهم وتلك التي تتوافر عند علماء الفسيولوجيا والتشريح، وقد توجد هذه الرابطة صريحةً في بعض الأحيان "كما هو الحال في زمن الرجع والتعلّم"، أو مضمرة "كما هو الحال في بعض صور الذاكرة والتفكير". والواقع أن سلوك الفرد هو نتاج جزئي لسلسلة معقدة طويلة من التفاعلات بين الميكانيزمات الفسيولوجية والبيئة المحيطة, وتبدأ هذه كما أشرنا كثيرًا منذ لحظة تكوين الجنين, ولا تنتهي إلّا بالموت. ولدراسة مشكلة آثار التقدُّم في السن قام ولفورد وزملاؤه بفرض أنواع

مختلفة من الضغوط والقيود على أداء الفرد, ثم ملاحظة كيف يتغير نمط السلوك, وفي هذا يختبر المفحوصون حتى يصلوا إلى الحدود الفسيولوجية لأدائهم لعملٍ معينٍ, أو إلى ما يقرب من هذه الحدود, ويمكن الكشف عن أيّ ضعفٍ في أدائهم من عدد من المؤشرات هي: 1- التغيرات في أنواع الأخطاء وعددها. 2- التغيرات في تنظيم السلوك. 3- التغيرات في مقدار الزمن المطلوب لأداء العمل وتوزيع هذا الزمن. ولكيّ نوضِّح طريقة ولفورد وزملائه في البحث نعطي مثالًا من إحدى تجاربه النموذجية, وفيها يرى المفحوصون مثيرات تتألف من مجموعة متحركة من الخطوط المتوازية التي تتعرج بطريقة غير متوقعة على نحوٍ شبيهٍ بمنحنيات طريق غير مألوف, ويقدّم للمفحوص عجلة قيادة وبدال سرعة يستخدمها لتحريك مؤشر بين الخطوط المتوازية, وفي مثل هذا العمل يمكن اختزال آثار التتبع بإحدى طرق ثلاث: 1- إبطاء معدل حركة العرض البصري. أو2- زيادة المسافة الأمامية بما يسمح للمفحوص بالرؤية الواضحة. أو 3- تغيير حساسية جهاز التحكم في حركة المؤشر. ويمكن للباحث تغيير هذه الشروط وغيرها؛ بحيث يختبر المفحوص عند حدود قدرته, وقد وجد الباحثون أن الخلل الذي يطرأ على ميكانيزمات البصر والسمع والتآزر العضلي "مما أشرنا إليه فيما سبق" يمثل بالطبع قيودًا على المستوى الأقصى لأداء الفرد, أما نقصان القدرة فإنه لا يظهر بوضوحٍ إلّا إذا حدث تدهور فسيولوجي سريع يؤدي إلى عجز قدرات الفرد عن مقابلة مطالب المهام المعتادة، أو كانت المطالب المتشددة تفرض من خلال مهام صعبة؛ بحيث أن الحدود يمكن أن تظهر بوضوح "في صورة خطأ أو حذف أو إرجاء للأداء". وباختصارٍ, فإن أداء الأعمال في الظروف المعتادة لا يظهر بالضرورة تدهورًا في قدرات الشخص المتقدم في السن, ولكن حين يختبر هذا الشخص عند حدود قدرته, فإن تدهور القدرة يكون أكثر وضوحًا. ومعدل الأداء الذي يجده الفرد طبيعيًّا وملائمًا وكفؤًا يُسَمَّى السرعة المثلى optimum pace، وهي السرعة التي يؤدي بها الفرد العمل بكفاءة دون أن يشعر

بأنه تحت ضغطٍ أو إلحاحٍ, أما معدل الأداء الذي يستطيع الفرد أن يصل إليه ولا يتعداه فيُسَمَّى السرعة القصوى maximum pace, وهو الحد الأعلى للمعدل الذي يعمل به الفرد, والعمل عند هذه الحدود العليا أو بالقرب منها, يفرض قيودًا وضغوطًا تؤدي إلى الخلط والتعب والتوتر والخطأ والحذف والتذبذب في الأداء, وبالطبع فإن آثار التدهور الجسمي والعقلي المرتبطة بالعمر يمكن دراستها بوضوحٍ في علاقتها بالأداء الأقصى؛ لأن معظم أعمال الحياة اليومية تفرض مطالب أدنى من المستوى الأقصى, وبالطبع نحن ندفع أنفسنا أحيانًا إلى هذا الحد "كما هو الحال في الألعاب الرياضية"، ولكننا في أغلب الأحوال نشعر أن الأداء "الأمثل" هو الأفضل، وندخر أداءنا الأقصى لتلك المواقف التي تحتاج لبذل جهد خاصٍّ، أو حين نريد "اختبار حدودنا" في الأداء. ومع التقدُّم في السن تتناقص الفروق بين المستويين الأمثل والأقصى, فإذا سألنا مجموعتين متكافئتين؛ إحداهما من الراشدين الشباب, والأخرى من المسنين, أن يكتبوا الحروف الأبجدية بسرعتهم العادية والطبيعية, فإننا نرى أن المعدل العادي للمسنين أقل قليلًا من الشباب, فإذا طلبنا من المجموعتين كتابة هذه الحروف بأسرع ما يمكن, سنجد أن الشباب يظهرون زيادة كبيرة في الأداء, بينما المسنين لا يتحسن إنتاجهم إلّا قليلًا. وهكذا نستطيع القول أن الفروق في الأعمار تزيد في الأداء الأمثل، ويفسر لنا هذا ما لوحظ أن المسنين يظهرون كفاءةً في بعض المواقف دون البعض الآخر, كما أن التذبذب في القدرة "أي: أن يظهر الشخص كفاءة في بعض المواقف دون البعض الآخر" يزيد أيضًا مع التقدم في السن. والتغيرات في الأداء الماهر التي ترتبط بالعمر تغيرات تدريجية تراكمية، وقد لا يعي الشخص المسن أحيانًا ما طرأ على سلوكه؛ لأن من النادر أن يواجه المواقف التي تختبر قدرته, وقد يشعر بالدهشة أو الإحباط حين يكتشف أنه يحتاج إلى نظارة أو سماعة أذن، أو أنه لا يستطيع المنافسة المتكافئة في الألعاب الرياضية مع أشخاص أصغر منه سنًّا. ويميز ولفورد عدة آثار للتغيرات المرتبطة بالعمر في النواحي البيولوجية وهي: 1- فشل التوافق كلية: فالشخص المتقدم في السن قد لا يستطيع تعلم تشغيل آلة جديدة أو القيام بعمل جديد. 2- قد لا يفشل تمامًا إلّا أن الكفاية قد تقلُّ فتظهر أخطاء أكثر.

3- قد تستمر كفاية التوافق بالرغم من نقصان الاستعدادات البيولوجية، فقد يغيّر الشخص المسن من سلوكه أو محيطه ويعوّض نقائصه. 4- قد لا يظهر الشخص المسن أيّ نقصان في الأداء؛ لأن العمل لا يزال في متناول استعداداته السيكولوجية والبيولوجية. 5- قد يلجأ الشخص إلى المبالغة في تعويض نقصان الكفاءة, ويحقق بذلك تحسنًا فعليًّا في الأداء, وذلك باستخدام التمرينات البدنية وتغيير نظام التغذية، والإقلاع عن التدخين على سبيل المثال، وبهذا يتحسّن أداؤه عَمَّا كان عليه من قبل. وبالطبع يمكن للمسنين أن يحسنوا أداءهم الحركي, وذلك بإعادة التدريب على المهارات التي أهملت في الماضي, إلّا أننا يعوزننا الدليل الإيجابي على هذه المسألة، فقد أوضحنا أن الموارد الجسمية والعقلية عند الراشدين تتدهور مع العمر، ومع ذلك يمكن القول: إن بعض المسنين ربما يكونون قد تدربوا في صغرهم على استخدام مواردهم بطرق أكثر فعالية, وقد أشرنا إلى أن الفرق بين الأداء "الأمثل" والأداء "الأقصى" يكون كبيرًا عند صغار الراشدين، وبهذا يمكن القول: إن من السهل تحقيق تحسينات جزئية في الأداء عن طريق بذل جهد أكبر, أو استخدام طريقة أفضل. ومن المعلوم أن الشخص الذي يكون انتباهه واهتمامه مركَّزَيْنِ على عملٍ ما, لا يستطيع الانتباه لأشياء أخرى حين تكون مطالب المهمة عند حدود القدرة أو تتعداها، وفي هذه الحالة لا يستطيع حتى أن يفكر في التفاصيل للمهمة ذاتها، والشخص المسن الذي يؤدي أداء يقترب من حده الأقصى, لا تتوافر لديه موارد جديدة يوزعها على أنشطة أخرى غير ذلك تلك التي ينشغل بها. المهارات المعقدة: من المهارات التي اهتم بها ولفورد عام 1958 في تحليله الشهير للتعلُّم الحركي وعلاقته بالعمر, ما يسميه عملية الترجمة Translation, وفيها تستخدم قواعد ذهنية معينة متعلمة لأداء المهمة قبل صدور الاستجابات الملائمة, وفي بعض الأحيان قد تكون قواعد العمل محددة وموصفة؛ كما هو الحال في تعليمات الاختبارات, أو في العروض البصرية التي يدركها المفحوص, ومعنى الترجمة هنا أن الشخص يحوّل النص اللغوي إلى أداء عملي عند القيام بالمهمة, إلّا أنه في شئون الحياة اليومية تكون هذه القواعد مضمرة؛ فقائد السيارة لا يقودها وأمامه كتاب "كيف تقود السيارة", إلّا أنه في كثير من

المجالات الصناعية والمهنية حيث تكون الأخطاء خطيرة ومكلفة يعتمد مشغلو الآلات اعتمادًا كبيرًا على تعليمات شكلية مكتوبة. وتؤكد التجارب التي أجراها ولفورد أن المسنين لا يستفيدون كثيرًا من التعليمات المكتوبة لأنها تضيف تعقيدات إلى الأعمال الصعبة, وهذه التعليمات أكثر جدوى حين يكون الفرد على درجة ملائمة من الكفاءة، فتفيد في زيادة سرعة أدائه وإنقاص المخاطرة بالخطأ، إلّا أنها ليست بديلًا عن المهارة العملية ذاتها, وهكذا فإن سبب عدم استفادة المتقدمين في السنِّ من التعليمات الصريحة ليس في أن هذه التعليمات غير مفيدة، ولكن لأنها سابقة للأوان؛ فالمسنون يفضلون تعلُّم المهارة على طريقتهم وبسرعتهم الخاصة، حتى أنه في المراحل المبكرة للتعلُّم نجد أن الأساليب الروتينية "التي يمكن أن يحصِّلُوها مع الوقت" لا تكون ملائمة دائمًا لهم, وحيث إن معينات الذاكرة عادةً ما تكون مفيدة في الأداء الماهر, فلا بُدَّ من تدريب الأفراد المسنين على استخدامها، وخاصةً حين يكون هناك الكثير مما يجب تذكره، وحين يكون ترتيب سلسلة الأفعال هامًّا، وحين يكون الوقوع في الخطأ خطيرًا. ويصف ولفورد تجربة يطلب فيها من المفحوصين أن يقذفوا بحلقات قصيرة من سلسلة وتصويبها إلى صندوق يقع على مسافة بعيدة نسبيًّا, وفيها وجد أنه لا تُوجَد فروق عمرية في الأداء, بشرط أن تكون العلاقة بين العرض الإدراكي والاستجابة مباشرة، إلّا أنه حين تكون هذه العلاقة غير مباشرة, وذلك عن طريق إخفاء الهدف بشاشة, وإجبار المفحوص على رؤيته في مرآة، لُوحِظ أن الأشخاص الأكبر سنًّا يكونون أقل دقة وأكثر بطأً في التصويب. وإذاكان على المفحوص "ترجمة" الموقف, فإن أيّ تعقيدٍ يطرأ عليه يؤدي إلى مزيدٍ من البطء, ويزيد أيضًا من احتمال الخطأ, ويصدق هذا على الراشدين الصغار أيضًا، إلّا أنه أكثر وضوحًا عند المسنين, فإذا تعارضت عملية الترجمة مع قواعد العمل المحددة تحديدًا مسبقًا, فإن صعوبات جديدة سوف تنشأ, ويُسَمَّى هذا أحيانًا بالانتقال السالب لأثر التدريب, فليس من المستغرب أن نلاحظ بعض التصلُّب والجمود في النشاط الحركي للراشدين الأكبر سنًّا الذين يعملون في مثل هذه الظروف، ولهذا يكون من الصعب عليهم التخلي عن طريقة خاطئة والتحول إلى طريقة صحيحة للعمل, ومن الشائع أيضًا أن نجد أن الراشدين الكبار لا يرغبون في أغلب الأحوال في استبعاد طرق قليلة الكفاية يمارسونها ممارسةً متكررةً, وإحلال طرق جديدة أكثر فعالية محلها.

وفي مواقف الاختبار -وكذلك في مواقف التدريب- يكون الراشدون الصغار أكثر استرخاءً وتحررًا من التوتر، بينما نجد المسنين أكثر اندماجًا في العمل, ويظهرون اهتمامًا أكبر به, وقد يفسِّرُ هذا نقصان القدرة عند الفئة الأخيرة، وقد يحدث هذا نتيجة رغبة الشخص المسِنِّ في أن يقلل من المخاطرة بالخطأ، وقد يكون دفاعًا انفعاليًّا ضد الفشل. وفي مهام التعلُّم التي يظهر فيها المسنون أداءً أقل جودةٍ من الراشدين الصغار, يبدو أن هذه الفروق تكون في الدرجة وليس في النوع؛ فالوقت المستغرَق في تتبع مسار معينٍ, أو في الاستجابة معكوسة "كما يرى الشكل في المرآة" مثلًا يتحسن بالممارسة, وبالطبع فإن أداء الراشدين الصغار يكون أفضل من أداء الكبار، إلّا أن الاتجاه نحو التحسُّن خلال التعلُّم هو نفسه عند كلٍّ منهما. وقد قام بروملي "Bromley, 1958" بتجربة يتعلم فيها الفرد سلسلة من الاستجابات الاعتباطية نسبيًّا, وبشرط أن يكون ترتيب ظهور كل استجابة هامًّا, فوجد أن تعلُّمَ الاستجابات المبكرة والمتأخرة في السلسلة أسهل من الاستجابات المتوسطة، ويُسَمَّى هذا في ميدان علم النفس التجريبي "أثر الموضع التسلسلي" serial position effect, وهو أكثر ظهورًا حين تكون السلسلة طويلة, أو يكون الأداء سيئًا, وقد وجد بروملي أن التعلم الصم عند الراشدين الكبار أقل كفاءة منه عند الراشدين الصغار، إلّا أن أثر الموضع التسلسلي لم يتغير في الحالتين, ومعنى هذا أنه يصعب علينا التمييز بين أداء الفريقين في التعلُّم الصم إذا كانت درجاتهما قابلة للمقارنة, إلا أن هذا لا يعني أن أنواع الأداء الأخرى تتشابه عند المجموعتين في عدم التمييز؛ فالتقدم في السن ينتج تغيرات في "بنية" الأداء أو "كيفه". ويؤكد ولفورد أن العمليات الحسية والحركية في المهارة أقل أهميةً نسبيًّا بالمقارنة بعمليات الترجمة المضمرة التي تتوسط بينهما, والروابط غير المباشرة بين عرض المثيرات وقواعد فهمهما, أو الاستجابة لها لا تقتصر على الأعمال المعملية؛ فبعض الأعمال الواقعية يتضمن درجة من "المسافة النفسية" بين الإنسان والعالم الحقيقي, والإنسان يتعامل مع العالم بواسطة عملية الترجمة التي أشرنا إليها، وهذه العملية تمتد في مدى واسع ابتداءً من علاقة الترابط والتداعي بين المثير والاستجابة, وهي علاقة بسيطة نسبيًّا، إلى المفاهيم والطرق الرمزية, وفي هذا يجب التمييز بين مرحلتين: مرحلة الاكتساب والإنتاج, ومرحلة الاستخدام والاحتفاظ والاسترجاع؛ فالمرحلة الأولى تتطلَّب قدرًا من الاستعداد.

العام للتعلم حتى يمكن للفرد أن يكتسب قواعد الترجمة، بينما لا تتطلب المرحلة الثانية ذلك, ولهذا فإن أداء مهام المهارة المعقدة "كالتعامل مع الأشكال كما تبدو في المرآة" قد يكشف في نفس الوقت العجز العقلي عند المسنين, بينما لا تفيد في ذلك المهام التي لا تتطلّب أكثر من الحفظ والاسترجاع. ويوجد نوعٌ آخر من "الترجمة" يتمثّل في الانتقال من أحد وسائط الحس إلى وسيط آخر؛ ففي بعض الألعاب الرياضية يكون للإحساس بالتوازن وإحساساتنا من العضلات والمفاصل أهميةً في تحديد الاستجابة، إلّا أن المهارة قد تتطلَّب استخدام معلومات حواس البصر أو السمع، أو ما يُسَمَّى التغذية الراجعة الحسية، التي هي في جوهرها من نوع تعزيز التعلم, ومن الطريف أن نذكر أن هذا النوع من التعزيز ليس له أثرٌ يذكر في أداء المسنين، والسبب في هذا لا يرجع في جوهره إلى الفشل في استخدام هاتين الحاستين, وإنما إلى الفشل في الترجمة الملائمة من المثير البصريّ أو السمعيّ إلى الإحساس بالحركة والشعور بالتوازن, وكثير من مواقف العمل تتطلب هذا التعقد في الأداء من بدء العمل حتى اكتماله, وبالطبع فإن المهارات رفيعة المستوى تتطلب ترجماتٍ كثيرةٍ بين وسائط حسية عديدة, ولذلك فإن هذه المهارات المعقَّدَةِ يصعب على المسنين إتقانها أو الاحتفاظ بها. ويوجد نوع ثالث من الترجمة يتصل بنظام عرض المثيرات وطرق الاستجابة؛ فمثلًا قد تتطلَّب المهمة أن يكون عرض المثيرات رأسيًّا وأن تصدر الاستجابات أفقيًّا، كما هو الحال عند التعامل مع صور شاشة أفقية للرادار. ويصف ولفورد تجربةً استخدم فيها جهاز يتألف من سطرٍ من اللمبات الأفقية أرقامها "منتظمة" بالترتيب من 1-12, يتم تشغيلها بسطرٍ من المفاتيح الأفقية أيضًا مرقمة "عشوائيًّا", وهيأ ولفورد ثلاثة شروط مرتبة حسب درجة الصعوبة "من الأصعب إلى الأسهل" كما يلي: 1- توضع بطاقة بأرقام المفاتيح فوق لوحة المفاتيح مباشرة. 2- توضع هذه البطاقة في منتصف المسافة بين اللمبات والمفاتيح. 3- توضع هذه البطاقة تحت اللمبات. وقد وجد الباحث أن في هذا الموقف التجريبي تصدر عن المسنين أنواع مختلفة من الأخطاء، ومن ذلك أن المفحوصين قد يربطون بين البطاقة المرجعية واللمبات بدلًا من المفاتيح، أو يستغنون عن استخدام البطاقة، أو يستخدمونها

مرتين, وقد ينشأ بعض هذه الأخطاء من المحاولات الطبيعية عند المفحوصين لتبسيط العمل "حتى يجعلوه في نطاق كفاءتهم" مما ينجم عنه سلوك مضطرب أو غير ملائم, وقد لاحظ ولفورد أن كلًّا من الوقت المطلوب للأداء والأخطاء التي تصدر عن المفحوص, يزيدان زيادةً حادةً عند المسنين حين يعملون في الظروف الصعبة. وكان الظرف الأول هو أصعب الظروف بالطبع, ومنشأ الصعوبة فيه أنه يتطلب عمليتين مختلفتين، أولاهما: ترجمة رمزية من مصدر الضوء إلى الرقم المسجَّل في البطاقة المرجعية، وثانيتهما: الترجمة المكانية من الموضع في بطاقة مرجعية بعيدة إلى نفس الموضع أيضًا في صف المفاتيح, وفي رأي ولفورد أن كلًّا من هاتين الترجمتين على حدةٍ تؤدي إلى نقصٍِ كبيرٍ في الأداء مع التقدم في السن، إلّا أن استخدامهما معًا يؤدي إلى نقص أقل مع زيادة العمر, وقد لوحظ أن إضافة صعوبة جديدة للعمل يؤدي إلى مزيدٍ من التدهور في أداء المسنين, ويُعَدُّ ذلك أحد العوامل التي يجب مراعاتها في تدريب المسنين على المهارات الحركية, ولا شكَّ في أن الزيادة في الوقت المستغرق في الأداء, وفي عدد الأخطاء التي تصدر عن المفحوصين المسنين عند أداء الأعمال التي تتطلب عمليات معقدة من الترجمة والتنظيم, قد ترتبط بالفقدان التدريجي والتراكمي لخلايا المخ. وحين توضع بطاقة أرقام المفاتيح مباشرة تحت الأضواء "الظرف الثالث وهو أسهل الشروط الثلاثة" لم يجد ولفورد فروقًا دالَّةً بين الراشدين الصغار والمسنين في زمن الرجع وفي درجة الخطأ, أما حين تتحرّك الأضواء بعيدًا إلى الخلْف يزيد زمن رجع المسنين, بينما تقل أخطاؤهم، وحين أدير صف الأضواء ليصبح أفقيًّا، مع بقاء صف المفاتيح أفقيًّا, ووجود بعض المسافة بينه وبين الأضواء, فإن زمن رجع المسنين يزداد زيادة كبيرة، إلّا أن أخطاءهم ظلت متساوية تقريبًا مع أخطاء الراشدين الصغار. وفي عدة تجارب أخرى مماثلة وجد ولفورد أن الفروق في العمر -سواء بالنسبة للزمن أو عدد الأخطاء- عند اكتساب المهارة لا تكون دالة حين يكون كلٌّ من العرض البصريّ والحركات في المستوى الأفقي، إلّا أن هذه الفروق تزداد زيادة كبيرة حين يصبح العرض رأسيًّا والحركات في المستوى الأفقي, وهي نتائج تؤكد أن العجز الملاحظ في الأداء الماهر مع التقدُّم في السن يرجع في جوهره إلى تدهور عمليات الترجمة المركزية, وليس إلى القصور الحسي أو الحركي في ذاتهما. وعلى كلٍّ فهذه النتائج لا تزال في حاجة إلى مزيد من البحوث لتدعيمها، كما أنها في حاجةٍ إلى اختبارٍ في بيئتنا وثقافتنا.

التغير العقلي المعرفي

التغير العقلي المعرفي مدخل ... التغير العقلي المعرفي: إن الصورة النمطية للمسنين أنهم يفقدون معظم يقظتهم الذهنية وقدرتهم العقلية مع التقدم في السن, فمن الشائع مثلًا أن المسنَّ لا يستطيع أن يلتقط الأفكار بسرعة أو يتذكرها بدقة, كما يتوقع منه ألّا يكون قادرًا على "إنتاج الأفكار" أو المبادأة بها، كما لا يُتَوقَّعُ منه أن يكون مبدعًا, وللتحقق من هذه الصورة النمطية قام علماء النفس في السنوات الأخيرة بسلسلةٍ كبيرةٍ من البحوث حول الذكاء والنشاط المعرفي في مرحلة المسنين, وعلى الرغم من أن نتائج البحوث في هذا المجال لا تزال خلافية، إلّا أنها هيَّأَتْ لنا الفرصة للوصول إلى استنتاجٍ واضحٍ للغاية, خلاصته أن التدهور العقلي السريع ليس حتميًّا بالضرورة لدى الشخص المسن السوي. والمكون الذي حظي بأكبر قدر من الاهتمام من النشاط العقليّ لدى المسنين هو الأداء في اختبارات الذكاء, وكما أوضحنا في الباب السابق يوجد خلافٌ حادٌّ حول التدهور الملاحظ في الذكاء خلال منتصف العمر, وكذلك في الشيخوخة؛ فالدراسات المستعرضة تسجّل تناقصًا في الأداء الاختباري, يبدأ مبكرًا منذ العقد الثالث من حياة الإنسان، بينما تدل الدراسات الطولية على استقرار نسبي في معظم الوظائف العقلية حتى العقد الخامس من العمر، بعده يلاحظ تدهور بطيء ولكنه منتظم, وبالإضافة إلى ذلك فإنه حتى حين يُلَاحَظُ النقص في أداء الاختبارات العقلية، فإن ذلك لا يحدث عادةً إلّا في المجالات التي تقيس القدرات الإدراكية والذاكرة والاستدلال الاستقرائي "أو ما يُسَمَّى الذكاء السائل", وكذلك المجالات التي تؤكد المهارات الحركية وسرعة الاستجابة, أما المعرفة الاجتماعية والقدرة اللغوية والاستدلال الحسابي "وكلها من نوع الذكاء المتبلور", فإنها لا تتأثر إلّا قليلًا بعملية التقدم في السن في ذاتها، ولا يظهر التدهور فيها إلّا في أواخر السبيعنات من العمر "1944 ,Schaie". وإذا كان الأداء العقلي يتناقص في الشيخوخة -حتى ولو كان في مجالات معينة -فإنه يبدو صحيحًا أن نقول: إن هذا النقص يظهر بنفس الدرجة عند جميع الناس, ومن الفروض الطريفة أن "التقدم في السن لا يؤثر كثيرًا في الأشخاص الأكثر قدرة منذ البداية، أي: أن المفحوصين ذوي القدرة العالية منذ شبابهم يظهرون تدهورًا أقل في الشيخوخة إذا قورنوا بالأشخاص الأقل قدرة, وحيث إن القدرات العالية تميل إلى الارتباط بالمستويات العالية من التعليم, فقد اقترح أيضًا أن الأشخاص الأعلى في المستوى التعليمي يتعرضون لتدهور أقل في الشيخوخة.

ومن الدراسات التي دعَّمَت هذين الفرضين تلك التي قام بها Blum & Jarvik 1975" في دراسة تتبعية استمرت عشرين عامًا حتى وصل مفحوصوهما من ذوي المستويات المختلفة من القدرة إلى سن الثمانين. ويرى الباحثان أن محافظة المرء على نفسه بأن يظل يقظًا ذهنيًّا ونشطًا عقليًّا طوال حياته, تساعده على مقاومة ما يمكن أن يطرأ على نشاطه العقلي من تدهور, بل إن المسنين الذين تتوافر فيهم هذه الشروط قد يكون أداؤهم العقلي أفضل ممن هم أصغر سنًّا, وخاصةً في المواقف التي تتطلَّب الاستفادة بالخبرة, ومعنى ذلك أن الجزء المتأخر من حياة الإنسان "الشيخوخة" يقدم من خلال الخبرة حمايةً له من التدهور العقلي, وقد دعمت هذا الرأي دراسة تالية قام بها "Schultz, et al., 1980" الذين وجدوا أن الأفراد الذين استمروا في استخدام وتوظيف قدراتهم العقلية على نحوٍ منتظمٍ طوال سنوات عمرهم المتأخرة, كان تدهور الذكاء لديهم أقل احتمالًا في الحدوث. وبالطبع هناك فروق فردية في معدلات التدهور العقلي والمعرفي لدى المسنين, وتوجد عوامل تؤدي لذلك؛ بعضها يمكن أن يكون موضوعًا للتدخل التجريبي, ويلخص "Schaie, 1994" هذه العوامل فيما يلي: 1- التحرر النسبي من أمراض الجهاز الدوري والأمراض المزمنة. 2- توافر بيئة ملائمة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. 3- الاندماج في بيئة عقلية معقدة ومثيرة للاهتمام. 4- توافر أسلوب مرن للشخصية, وخاصةً في مرحلة منتصف العمر. 5- وجود رفيق عمر من مستوى معرفي مرتفع. 6- المحافظة على مستوى سرعة التجهيز الإدراكي. ونعرض فيما يلي نماذج من البحوث التي أجريت حول بعض المسائل في هذا الموضوع الهام.

أولا: التدهور في القدرات العقلية

أولًا: التدهور في القدرات العقلية من المعتاد أن يبدأ تدهور القدرات العقلية في مرحلة منتصف العمر "التي وصفناها في الباب السابق"، ويستمر بعد ذلك، وكما هو الحال في كل صور التدهور الجسمي والسلوكي في مرحلة الشيخوخة, توجد اختلافات فردية واسعة في العمر الذي يبدأ عنده التدهور العقلي، ولا يوجد عمر واحد ثابت يبدأ عنده هذا التدهور عند الجميع، كما لا يوجد نمط عام لهذا التدهور نجده في جميع المسنين أيضًا ويتحكم في هذه الفروق الفردية التي عرضناها توًّا, إلّا أننا بصفة عامة نقول -كما قلنا من قبل: إن معدل هذا التدهور يكون أقل لدى ذوي القدرات العقلية العليا من ناحيةٍ, ولدى أولئك الذين يواصلون نشاطهم العقلي في العمر الثالث من حياتهم من ناحيةٍ أخرى. ويعتمد معدل التدهور العقلي إلى حدٍّ كبير على الظروف الجسمية والصحية للإنسان, كما أن نقصان الاستثارة البيئية يترك آثاره في الإسراع بمعدل هذا التدهور, كما تؤكد الدراسات أن المسنين الذين يستمرون في أداء عملٍ ما, تظل وظائف المخ لديهم في حالة نشاط، وبالتالي يؤدون أداءً جيدًا في اختبارات الذكاء. ولعلنا ننبه هنا إلى أن الأنشطة العقلية التي تعتمد على عنصري الزمن والسرعة تعتبر غير ملائمة للمسنين، وهو مبدأ يتفق مع ما ذكرناه آنفًا عن البطء النسبي في سلوك المسن وحركاته. الذكاء العام والإستدلال: تؤكد البحوث التي أجريت على الذكاء العام أن الكفاءة العقلية العامة للمرء تظل ثابتة نسبيًّا حتى أوائل الخمسينات, ثم تبدأ في التدهور ببطء مع تقدم الإنسان نحو سن الستين, ومن تحليل القدرات العقلية المختلفة المتضمنة في اختبارات الذكاء التي تطبَّقُ على المسنين, وُجِدَ أن أوضح صور التدهور تظهر في الاختبارات التي تتطلَّبُ التعلُّم وإدراك علاقات جديدة، وتكون أقل ما تكون في اختبارات المعلومات العامة واستخدام الأعداد والمفردات اللغوية, ويفسر ذلك بأنه في المهامِّ التي تتطلّب من المسنِّ نوعًا من التعليم الجديد؛ فإنه يكون أكثر حذرًا, ويتطلّب وقتًا أطول ليحدث التكامل بين استجاباته، ويكون أقل قدرة على التعامل مع المواد الجديدة التي لا تتكامل مع خبراته السابقة. ومع زيادة تركيب العمل وتعقده يحتاج المسنون إلى وقت أطول لأدائه، ومع ذلك يكونون أقل دقة "كما يتمثّل ذلك في زيادة عدد الأخطاء"، ويزداد عندهم الخلط الذي يعوق تنظيم موضوع التعلُّم على نحوٍ له معنى. وتتدهور القدرة على الاستدلال بمعدَّلٍ أسرع من القدرات اللغوية والعددية, وهذا التدهور يظهر في كلٍّ من الاستقراء والاستنباط على حَدٍّ سواء, ويفتقد المسنون تدريجيًّا القدرة على التفكير المستقل والتفكير الابتكاري, ويظهرون قدرةً محدودةً على أداء الأعمال المجردة. ومن الدراسات الهامة التي أجريت على الاستدلال المنطقي تلك التي قام بها "Papalia, 1972", والتي عرض فيها على عينات من المفحوصين تمتد أعمارهم

بين 6 سنوات، 65 سنة وما بعدها, بطريقة من مهامِّ بياجيه من نوع بقاء الكم "تشمل الأعداد والكتلة والوزن والحجم", وقد وجد الباحث أن المسنين أظهروا مستوى أداء أكثر انخفاضًا من غيرهم من جماعات الراشدين, وخاصةً بالنسبة للمفاهيم الأكثر صعوبة، وعلى وجه الخصوص بقاء الحجم؛ حيث لم يجب إجابة صحيحة إلّا 6% فقط من أفراد المجموعة العمرية التي بلغت 65عامًا وما بعدها, وقد وجد أيضًا أن أشد تدهور في الأداء والذي أظهر اتساقًا واضحًا لدى المسنين, ما يتصل بقدرات التفكير باستخدام العمليات الصورية، وهو أرقى صور الاستدلال في نموذج بياجيه "Clayton & Overton, 1976", وقد أدت هذه النتائج إلى صياغة فرض طريف وهامٍّ, وهو أن القدرات الأكثر حداثة في الظهور في نموِّ الإنسان -ومنها العمليات الصورية، هي الأسرع في التدهور خلال العمر الثالث للإنسان, والسؤال الآن: هل يحدث هذا التدهور الذي يعود بالإنسان إلى مراحل نموه الأولى من جديد, ويتحقق فيه قول الله -سبحانه وتعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس: 18] بالتتابع, أم أنه يحدث طفرة؟ سؤال يحتاج إلى إجابة تجريبية واضحة عليه. التصلب المعرفي والتعلم: ويزداد في هذه المرحلة التصلّب المعرفي الذي تظهر بوادره في مرحلة وسط العمر, وتوجد في هذه الخاصية فروق بين الجنسين؛ فالرجال بصفة عامة أكثر مرونة من النساء، وقد يرجع ذلك إلى الفرص الأكثر عددًا وتنوعًا التي تتاح لهم خلال مرحلة الرشد, مما يجعلهم في تكيفهم للمواقف الجديدة أكثر قدرة من النساء, ويعين هذا على مزيدٍ من المرونة المعرفية, وترجع الزيادة في التصلُّب المعرفي بوجهٍ عامٍّ في هذه المرحلة إلى بطء التعلّم وصعوبته، ولهذا نجد المسنّ يلجأ في تناول المشكلات إلى الحلول الروتينية المعتادة التي يألفها. ففي دراسة قام بها "Craik & Tereub, 1980" Battes & Willis واهتما فيها بدرجة المرونة العقلية لدى المسنين عرفًا, هذه المرونة بمدى الأداء العقلي الذي يظهره الشخص في شروط بيئية مختلفة, فبعد استخدام إجراءات مكثفة للتدريب على إثراء النشاط العقلي للمفحوصين, وجدا أن المسنين لديهم مستوى مرتفع نسبيًّا من المرونة العقلية، أي: أن أداءهم للقدرات غير المستخدمة يمكن أن يتحسن بشكل واضح خلال برامج التدخل والتدريب, وهذه النتائج لها تضمينات عملية واضحة لتعليم, وإعادة تدريب المسنين. والقول بتعليم المسنين ليس غريبًا؛ ففي السنوات الأخيرة -مع التوسع في فتح فصول الخدمة العامة

والتدريب المستمر- يلتحق بعض الشيوخ بعد تقاعدهم في هذه الفصول، على الرغم من القول الذي شاع لقرون طويلة من أنك "لا تستطيع أن تعلِّم المسن حيلًا جديدة", فإن هذا القول إن صدق على الحيوان فلا يمكن تطبيقه بكلِّ تأكيدٍ على الإنسان في مرحلة الشيخوخة؛ فالمسنون يستمرون في استقبال المعلومات الجديدة, ويقومون بتوافقات ملائمة للحياة حتى نهايتها، وتطرأ على سلوكهم تعديلات مستمرة، وهذا هو جوهر التعلّم. ومن ناحيةٍ أخرى, فإن ذلك لا يعني أن التعلُّمَ لدى المسنين يشبه تمامًا تعلُّمَ الراشدين الأصغر سنًّا؛ فنتائج البحوث التي تراكمت طوال العقود الماضية تؤكِّدُ أنه يوجد نقص مرتبط بالعمر في القدرة على اكتساب وتذكر المعلومات, والمسألة الحاسمة بالنسبة لعلماء النفس ليست ما إذا كان المسنون يتعلمون أم لا، ولكن كيف يجهزون المعلومات في سياق التعلّم, وما هي الشروط التي يحدث فيها خلل في تجهيز هذه المعلومات؟ تؤكد البحوث أن المسنين يواجهون صعوباتٍ كبيرة في تجهيز المعلومات الإدراكية إذا قورنوا بالراشدين الأصغر سنًّا, ومن أسباب ذلك أن القدرة على تجهيز المعلومات البصرية تصبح أبطأ مع التقدم في السن "Hoyer & Plude, 1980", ويمكن التحقق من ذلك بسهولة في تجارب الحجب البصري Visual masking, ومن أمثلة ذلك عرض مثير بصري معين "وليكن شكلًا مربعًا أحمر" لفترة قصيرة, ثم إتباعه في الحال بمثير بصري آخر "وليكن شكلًا مثلثًا أزرق"، فإن إدراك الشخص للمثير الأول "المربع الأحمر" يكون قد اختفى obscured أوحجب masked, والسبب في ذلك أن الأمر يتطلب بعض الوقت لتجهيز المعلومات بصريًّا "أو بأي وسيط آخر", وحين يُعْرَضُ المثير الثاني عقب المثير الأول مباشرةً يكون الشخص غير قادر على التجهيز الكامل للمثير الأول, وقد أكدت نتائج بحث هوير وبلود, أن المسنين أكثر تعرضًا للحجب البصريّ من الأصغر سنًّا؛ لأنهم لا يستطيعون تجهيز المثير الأول بسرعةٍ كافيةٍ لتجنب أثر التداخل أو الحجب, وبالإضافة إلى البطء في تجهيز المعلومات البصرية يعاني المسنون أيضًا من صعوبةٍ أكبر من الراشدين الأصغر سنًّا في تبين detection الأجزاء المنفصلة التي تكون مندمجة embeded داخل خلفية من مثير أكبر, فمثلًا لو كان هناك شكل هندسي مألوف؛ كالمثلث, مخبأ داخل تصميم أكثر تعقيدًا، فإن المسن يستغرق وقتًا أطول في تحديد موضعه من الشخص الأصغر سنًّا.,ومن المفترض أن المسنين أكثر حساسية للمنبهات السياقية في حل المشكلات, وحين يكون السياق أو الخلفية

يؤديان إلى غموض المثير أو التداخل مع مثيرٍ آخر, فإن أداء المسنين يتدهور. ويرى بعض الباحثين أن نقائص التجهيز الإدراكي في مرحلة الشيخوخة قد ترتبط بمشكلات الانتباه, ويوجد مكونان للانتباه يستحقان الاهتمام في هذه المرحلة؛ هما: الانتباه الموزع والانتباه الانتقائي, ويدل الانتباه الموزع على القدرة على تجهيز أكثر من مصدرٍ واحد للمعلومات في وقتٍ واحد, ومن ذلك مثلًا: الانتباه إلى حوارات متعددة بين أشخاص مختلفين تتم في وقت واحد في موقف اجتماعي. أما الانتباه الانتقائي فعلى العكس يشير إلى قدرة الشخص على الانتباه إلى المعلومات المرتبطة وتجاهل المعلومات غير المرتبطة، ومن ذلك مثلًا: التركيز على الحديث مع شخص معين, وتجاهل الحوارات الأخرى غير المرتبطة, وضجيج الخلفية التي توجد في البيئة المباشرة, وقد أكدت بحوث "Craik, 1977" أن المسنين يعانون صعوباتٍ جمَّةٍ في المواقف التي تتطلّب توزيع الانتباه على مصدرين أو أكثر من المعلومات, كما لَوْ لُوحِظَ أيضًا ظهور نقائص الانتباه الانتقائي "تركيز الانتباه" بين المسنين، إلّا أنها تظهر خاصةً حين يكون من الصعب التمييز بين المعلومات المرتبطة وغير المرتبطة، أي: حين يكون نوعا المعلومات على درجة كبيرة من التشابه "Farkad & Hoyer 1980", ولذلك نلاحظ على الشخص المسنِّ أنه يعاني من صعوبة الاستماع إلى نشرة الأخبار في التليفزيون أو الراديو, بينما يتحدث الآخرون الموجودون في الحجرة في نفس الوقت. ومن الواضح أن الراشدين يستمرون في التعلُّم في هذه المرحلة, إلّا أنه من الواضح أيضًا أن التعلُّم في طور الشيخوخة يتأثر بعدد من العوامل الهامة وهي: 1- المعدل Pacing: أي: الوقت المسموح للشخص أن يفحص فيه المثير, أو يصدر الاستجابة, ومن المؤكَّد أن شروط المعدل السريع تضع المسن في موقف صعب, وأن الزيادة في زمن الفحص والاستجابة تؤدي إلى إنقاص فروق الأداء بين الراشدين الصغار والمسنين، وقد تلغيها تمامًا, وفي الواقع فإن البحوث تؤكد أن تعلم المسنين يتأثر تأثرًا سلبيًّا بالظروف التي تتطلّب المعدل السريع, وعلى أية حالٍ حين يحدث التعلّم بمعدل بطيء, وحين يسمح للمسنين باستخدام معدلهم الذاتي فإن أداءهم يتحسن, ومن ناحيةٍ أخرى, فإن مستوى الأداء المتزايد تحت شروط المعدل الذاتي لا يساوي مستوى أداء الراشدين الأصغر سنًّا. 2- الإفراط في الاستثارة الفسيولوجية Physiological over arousal: وهو عامل اقترحه بعض الباحثين لتفسير نقص أداء المسنين في مهام

التعلم بالمقارنة بأداء الراشدين الأصغر سنًّا, ويقصد بذلك القلق والعصبية الزائدان، وهو شرط يعرف عنه أنه يتداخل مع عملية التعلّم. 3- معنى موضوع التعلم: يلعب هذا العامل دورًا هامًّا في أداء المسنين؛ فقد أكدت البحوث التي أجرتها "Hulicka, 1967" أن كثيرًا من المفحوصين المسنين يقاومون بشدة تعلّم المواد التي لا يستطيعون فهمها, أو التي تبدو لهم غير مثيرة للاهتمام, بل إنها وجدت أن الأغلبية الساحقة من المسنين رفضت المشاركة بسبب إدراكهم لمواد التعلّم على أنها "لغو" أو لا معنى لها, فإذا علمنا أن كثيرًا من تجارب التعلّم المعملية تستخدم موادًّا اصطناعية "كالمقاطع عديمة المعنى وغيرها من المثيرات غير الطبيعية, أو التي تبدو غير مثيرة للاهتمام بشكلٍ صريحٍ" فإننا يجب أن نتحفظ على ما إذا كان نقص أداء المسنين في مثل هذه المهام يمثل قدرة متناقصة, أو أنه نقص في الدافعية والاهتمام. 4- تدهور الذاكرة: وهذا عامل مهم سوف نتناوله بالتفصيل فيما بعد. 5- التفكير الطفولي: تظهر بوادر هذا التفكير عند المسنين في السبعينات والثمانينات من العمر، حيث يصبحون أكثر نسيانًا، وأبطأ في الفهم، وأقل نضجًا من الوجهة الانفعالية، ولديهم ميول "إحيائية"، أي ينزعون، كما ينزع الأطفال، إلى خلع صفات الحياة على الأشياء الجامدة, ولعل أكثر معالم هذه "الطفولة" وضوحًا الميل إلى العيش في الماضي "الجميل", وتجاهل الحاضر والمستقبل. 6- الابتكارية: الإنجازات الهامة في النشاط الابتكاري أقل حدوثًا في الشيخوخة منها في مرحلة الرشد، وخاصة الرشد المبكر, ويطرأ على كيف العمل تدهورٌ أسرع من كمه كلما تَقَدَّمَ الإنسان في العمر, وقد لوحظ في الابتكار العلمي أنه توجد له قمة يتبعها هبوط مع التقدم في السن؛ فالعلماء في الستينات من عمرهم ينشرون نصف ما سبق لهم نشره في الثلاثينات والأربعينات "وهي سنوات القمة في الإنتاجية". ومع ذلك فإن البعض قد لا يحصل على الاعتراف والمكانة إلّا في الشيخوخة؛ فعضوية المجامع الثقافية والأكاديميات العلمية والفنية, والحصول على الجوائز التقديرية المحلية والعالمية, يقتصر عادةً على هذه الفئة العمرية, ومعنى ذلك أن الشخص يعيش في هذه المرحلة على "مجد القديم"، ويجني ثمار الجهد والتضحية اللذين بذلهما في سنوات عمره الماضية, إلذا أن ما يحدث كثيرًا أنَّ هذا التكريم قد لا يأتي إلّا متأخرًا وبعد فوات الأوان.

ثانيا: بنية القدرات العقلية

ثانيًا: بنية القدرات العقلية: يؤكد جيلفورد "Guilford, 1967" أن ميدان البحث في قدرات الراشدين في حاجةٍ إلى بحوثٍ عاملية لتحديد البنية العاملية للاختبارات في مختلف الأعمار, وتتمثَّل هذه الحاجة في جانبين؛ أولهما: معرفة إلى أيّ مدى تظل القدرات متمايزة خلال مراحل العمر المختلفة, مع ملاحظة أن ميدان الرشد يعوزه فرض شبيه بفرض جاريت الذي يصلح للإعمار الدنيا, وثانيهما: تحديد ما إذا كان الاختبار الواحد يقيس نفس العامل أوالعوامل في جميع المستويات العمرية. وقد بذلت محاولات في هذا الصدد استخدمت مقياس وكسلر لذكاء الراشدين, فُوجِدَ أن العوامل التي يتمّ الحصول عليها في جميع الأعمار فسرت تفسيرات متماثلة، إلّا أن من النتائج ذات الدلالة الخاصة هنا أن عددًا أقل من العوامل التي يمكن تفسيرها يظهر عند المتقدمين جدًّا في السن, وهذا الاتجاه يعني أن البنية العاملية تزداد بساطة في أكثر المستويات العمرية تقدمًا "وهي في العادة بعد السبعين"، مما يتضمن عودة تدريجية إلى حالة اللاتمايز المبكرة التي تشبه اللاتمايز في الطفولة, وتدعم هذا الاتجاه بعض نتائج معاملات الارتباط بين الاختبارات العقلية, ويتمثَّل هذا في زيادة مقدار معاملات الارتباط مع التقدم في السن. إلّا أن هذه النتيجة ليست حتمية الظهور في سنٍّ معيِّنٍ "بعد السبعين مثلًا"، فبعض نتائج البحوث الأخرى تؤكد فرض تمايز القدرات العقلية حتى بعد هذا العمر في عينات الأسوياء من المسنين, أما الارتداد والانتكاس إلى حالة اللاتمايز فالأرجح أنه لا يحدث إلّا في الحالات التي يتمّ تشخيصها بأنها تعاني من ذهان الشيخوخة Senile Psychosis, والتي تدخل أصحابها في طور أرذل العمر، حيث تظهر معاملات الارتباط بين الاختبارات العقلية ارتفاعًا كبيرًا عند هؤلاء قد يصل إلى 0.80, وحينما أجرى جيلفورد تحليلات عاملية منفصلة لعينتين متكافئتين في العمر "فوق 65سنة", إحداهما من الأسوياء, والأخرى من حالات ذهان الشيخوخة, حصل على بنيتين عامليتين مختلفتين, ونشير هنا -على سبيل المثال- إلى أن اختبارًا للمفردات اللغوية ارتبط مع اختبارٍ للمهارات العددية بمقدار 0.78، ومعنى هذا أن القدرتين اللغوية والعددية تندمجان معًا في الحالة من جديد "كما كان شأنهما في الطفولة" بعد انفصالٍ واستقلالٍ نسبيٍّ عند الأسوياء من المسنين وعند الراشدين والمراهقين في المراحل العمرية السابقة, وقد يفسر الارتفاع الملحوظ لمعاملات الارتباط في حالات ذهان الشيخوخة بالتدهور العضوي "وخاصة في

المخ" الذي يؤثر في القدرات العقلية في نفس الاتجاه, وبالطبع، نتوقع أن يزداد العامل العام عموميةً مع زيادة حدة الذهان، وهذا الفرض يحتاج إلى بحوث جادة لاختباره. ولا يتوافر قدر كافٍ من نتائج البحوث حول مسألة الفروق بين الجنسين في آثار العمر في القدرة العقلية, ومع ذلك يمكن القول في ضوء النتائج المتاحة التي يلخصها بروملي عام 1966: إن التغيرات المرتبطة بالعمر لا تختلف بالنسبة إلى الجنس؛ ففي اختبار غير موقوت حول تتبع متاهة, حصل الراشدون الذكور والإناث من مختلف الأعمار على درجات مشابهة في دقة الأداء وكيفه, ولكن حين حسبت سرعة الأداء ظهر دليل على وجود تدهور فارق مع العمر؛ حيث كان الذكور الأصغر سنًّا أسرع من الإناث الأصغر سنًّا, بينما كان الذكور الأكبر سنًّا أبطأ من الإناث الأكبر سنًّا, وهذه النتيجة توحي بتدهور "السرعة العقلية" عند الذكور أسرع من الإناث, وتزداد المسألة تعقيدًا لأن توقعات الحياة أطول لدى النساء، وقد يكون أصغر من الوجهة البيولوجية إذا قورن بالرجال من نفس العمر الزمني.

ثالثا: نسبة الكفاءة ونسبة التدهور

ثالثًا: نسبة الكفاءة ونسبة التدهور ومن المشكلات التي تواجها بحوث النشاط العقلي للراشدين والمسنين, أن درجات الاختبارات العقلية تصحح عادةً من أثر العمر، بل إن بعض المعايير تتضمن هذا التصحيح, وأشهرها نسبة الذكاء التقليدية. وللتغلب على هذه الصعوبات اقترح وكسلر في ميدان قياس الذكاء ما يُسَمَّى نسبة الكفاءة Efficiency ,Coefficent وباختصار EQ, لتحل محل نسبة الذكاء التقليدية عند المقارنة بين الأعمار المختلفة. وتتحدد نسبة الكفاءة من الدرجات الخام أو الدرجات الموزونة لعينة عمرية "مثلى" في الأداء, تقارن بها المستويات التي تصل إليها مجموعات العمر الأخرى، وقد تحددت المجموعة العمرية ذات الأداء الأمثل في مقياس وكسلر لذكاء الراشدين بأنها بين 20-24 سنة. وهكذا يمكننا القول أن نسبة الذكاء IQ تمثل القدرة العقلية للفرد بالنسبة إلى مجموعته العمرية، أما نسبة الكفاءة EQ فتمثل هذ القدرة العقلية للفرد بالنسبة إلى الراشدين الذين يصلون إلى القمة, بالنسبة للكفاءة العقلية والبيولوجية, وبهذا قد نصف الشخص البالغ من العمر 75 عامًا بأن نسبة ذكائه 100, بينما نسبة الكفاءة عنده 76، ونحصل على نسبة الكفاءة هذه بأن نعيد تفسير الدرجة الخام التي يحصل عليها هذا الشخص "ولتكن 65 مثلًا" في ضوء ما يمكن أن يؤديه راشد صغير في قمة كفاءته العقلية والمعرفية.

ويتلخص الإجراء هنا إلى نسبة الدرجة الخام إلى متوسطين، أحدهما متوسط الفئة العمرية التي ينتمي إليها الفرد بالفعل "فئة 75 عامًا", فإذا كان متوسط درجات هذه الفئة 65, نحكم على الفرد بأنه متوسط الذكاء باستخدام معيار نسبة الذكاء "حيث يتساوى متوسط مجموعته العمرية مع الدرجة الخام التي حصل عليها". أما المتوسط الثاني فهو متوسط فئة الراشدين الصغار الأكفاء، وليكن 110, وهو درجة تدل على الأداء العادي في هذا السن القادر، فإذا نسبت الدرجة الخام التي حصل عليها الشخص المسن "وهي 65 كما قلنا" إلى هذا المتوسط الجديد, فإنها تدل على أنه أقل من المتوسط بالنسبة لهؤلاء، ونسأل أنفسنا في هذه الحالة: ماذا تعني الدرجة 65 إذا حصل عليها راشد أو مسن كفء؟ إنها في الواقع تدل على نسبة مقدارها 76. وهذه هي نسبة الكفاءة, وهكذا تقل الكفاءة العقلية من 100إلى 76, وبالطبع فإن نسبة الذكاء ونسبة الكفاءة عند الراشدين الصغار تتساويان وتعنيان نفس الشيء، إلّا أنهما عند المسنين تختلفان، فنسبة الذكاء قد تظل ثابتة، بينما قد تتناقص نسبة الكفاءة, وبالطبع تختلف نسبة الكفاءة تبعًا للظروف الجسمية والصحية والعقلية، كما تظهر فيها فروق فردية واسعة. وبالطبع فإن القدرات العقلية -كما بينا آنفًا- لا تتدهور مع العمر بمعدلٍ ثابت، فالمفردات اللغوية تقاوم التدهور، بينما ذاكرة المدى القصير تتأثر به, وقد حاول وكسلر تقدير مدى التدهور العقلي الذي يطرأ على الفرد, وذلك بمقارنة كفاءته العقلية الراهنة, معتمدةً على درجاته في الاختبارات التي تظهر تدهورًا واضحًا مع العمر بتقديرٍ لكفاءته السابقة, معتمدة على درجاته في الاختبارات التي لا تظهر إلّا قليلًا من هذا التدهور. وبالطبع فإن التدهور العقلي الذي يظهر بوضوح في الأعمار المتقدمة جدًّا لا يحدث فجأة, وإنما هو مسألة تراكمية تدريجية مع التقدم في السن عامًا بعد عام, ومن الطرق المقترحة لتحديد نقصان القدرة العقلية مع العمر قياس الفرق بين الكفاءة في العمليات المعرفية التي لا تتدهور, والكفاءة في هذه العمليات التي تتدهور بالفعل, ويقترح وكسلر أيضًا في هذا الصدد ما يسميه: نسبة التدهور deterioration Quotient أو باختصار DQ, وتحسب كما يلي: نسبة التدهور= درجة عدم التدهور- درجة التدهور/ درجة عدم التدهور×100

وتؤكد نتائج وكسلر الأصلية أن الشخص العادي يظهر في نهاية الثلاثينات نقصانًا في الكفاءة بمقدار 5%, ثم تصل نسبة التدهور هذه في سن المسنين عند المسن العادي أيضًا إلى 18%. تدهور قدرات الذاكرة: تؤكد نتائج البحث حول ذاكرة المسن أن أسرع معدل للتدهور يطرأ على ذاكرة الأمد القصير, أما ذاكرة الأمد الطويل فتظل فعّالة لوقت أطول, وبسبب نقص الدافعية نجد المسنين أقل اهتمامًا بتذكر ما يتعرضون له من خبراتٍ راهنةٍ, ويقل انتباههم للأشياء والأشخاص والموضوعات من حولهم، ولهذا يقل استرجاعهم للمعلومات التي لا تزال حديثة العهد في انتباه الشخص، وهذا في حَدِّ ذاته يؤدي إلى النسيان, وبالتالي إلى ضعف ذاكرة الأمد القصير, أما المعلومات التي يكون قد تَمَّ تشفيرها منذ زمن مضى ولم تعد محور بؤرة الانتباه النشط أو الانتقائي فهي مادة ذاكرة الأمد الطويل, وفي هذا الصدد نذكر أن قدرات الاستدعاء أسرع في التدهور من قدرات التعرف. ففي دراسةٍ أُجْرِيَتْ على عيناتٍ ثلاث, متوسط أعمارها 20، 38، 68 عامًا, وجد الباحثون أن الأشخاص الأصغر سنًّا لا يختلفون في السرعة عن مجموعة "68سنة"، إلّا أن النتيجة الأكثر أهمية أن المفحوصين المتقدمين في السن يستغرقون وقتًا أطول في فحص ذاكراتهم المباشرة قبل الوصول إلى قرار، إذا قورنوا بالمفحوصين الأصغر سنًّا، فقد بلغ هذا الوقت 71 ميلي ثانية في فحص كل وحدةٍ في الذاكرة عند الأشخاص الأكبر سنًّا، بينما عند الأصغر سنًّا كان 39 ميلي ثانية, ولم تلاحظ فروق دالة بين المجموعتين الأكبر سنًّا "وسط العمر والشيخوخة", وقد تنشأ الفروق المشار إليها عن بطء الاستجابة الحركية "التي تناولناها آنفًا" عند المسنين من ناحية، أو عن حاجة هؤلاء إلى فترة زمنية أطول حتى يمكنهم تجهيز كل وحدة من المعلومات. وفي دراسةٍ أخرى على عينة امتدت أعمارها بين 5سنوات، 70 عامًا, استخدم فيها أسلوب الاستماع الثنائي الشائع في بحوث الانتباه المعاصرة, والذي اقترحه برودبنت منذ عام 1958, وفيه تعرض على الأذنين رسالتين مختلفتين عرضًا مستقلًّا وفي وقت واحد باستخدام سماعات الأذن, وكانت الرسالتان المستخدمتان في هذا البحث من نوع الأرقام, وقد وجد الباحثون أن المفحوصين من مختلف الأعمار سجّلوا جميع الأرقام التي عرضت على إحدى الأذنين قبل تسجيل تلك التي عرضت على الأذن الأخرى, ويفسر الباحثون حدوث ذلك

بوجود نظامين معرفيين في هذه المهمة: أولهما يثبت ويستبعد المادة التي يتم تجهيزها إيجابيًّا، وثانيهما يخزن في ذاكرة المدى القصير الأرقام التي تعرض على الأذن الأخرى تخزينًا مؤقتًا حتى ينتهي النظام الأول من عمليات الإثبات والاستبعاد, ويهمنا أن نشير بالنسبة لهذا البحث أن الأشخاص الأكبر سنًّا شأنهم شأن الأصغر سنًّا, صدرت عنهم أخطاء في تكرار الأرقام واسترجاعها من نظام ذاكرة الأمد القصير، وكان عدد أخطائهم هذه أكبر مما صدر عن الأشخاص الأصغر سنًّا. ومع التقدُّم في السن يظهر المسنون نقصانًا في إصدار وحدات المعلومات التي تبقى في مخزن هذا الذاكرة؛ فاستدعاء النصف الأول من مدى الأرقام المعروض على إحدى الأذنين ظلَّ ثابتًا تقريبًا عند مختلف الجماعات العمرية, ولكن لوحظ تدهور مع التقدّم في السن في عدد الأرقام التي يتم استدعاؤها في النمط الثاني من مدى هذه الأرقام, وكانت أعلى المجموعات في درجاتهم تلك التي تمتد أعمارها بين 21-30 عامًا، بعدها ظهور تدهور ثابت نسبيًّا مع زيادة العمر, وهكذا يمكن أن نستنتج وجود تدهور في كفاءة ذاكرة الأمد القصير مع التقدم في السن. ومع ذلك يمكن القول أنه وجد أن مدى الذاكرة "أي عدد وحدات المعلومات التي يستطيع الشخص تذكرها بالترتيب الصحيح" لا تتدهور عادةً مع العمر "Hartley, et al., 1980" و" 1977 Craik", ومعنى ذلك أن المسنين والراشدين الأصغر سنًّا قادرون على تذكُّر نفس العدد من العناصر, إلّا أن ذلك لا يحدث إلّا في الظروف العادية التي لا تفرض مطالب صعبة، أما إذا تطلَّبَ الأمر من المفحوص المسن مثلًا إعادة تنظيم المثير؛كأن يسترجع قائمة كلمات بالعكس، أو يوزع انتباهه بين المهمة التي يقوم بها ومهمة أخرى، فإن المسن يظهر في هذه الحالة نقصًا واضحًا في مدى الذاكرة في ذاكرة الأمد القصير. وماذا عن ذاكرة الأمد الطويل؟ لقد لوحظ منذ وقت بعيد أن الراشدين المتقدمين في السن يميلون إلى أن ينشغلوا بمسائل الماضي أكثر من الحاضر أو المستقبل, وهذا التغيّر قد يكون أسلوبًا للتعامل مع نقائص ذاكرة الأمد القصير التي تجعل المسن يواجه صعوبات في التعامل مع الأحداث الراهنة, أما ذاكرة الأمد الطويل فإن المعلومات المختزنة فيها لا تتعرض للتضاؤل، وإن حدث فيكون بطيئًا جدًّا، والذي قد يختلف تبعًا لخصوبة شبكة العلاقات الترابطية التي توضع فيه المعلومات في هذه الذاكرة.

فكلما كانت المعلومات ترتبط بخبراتٍ ذات معنًى كان تضاؤلها بطيئًا مع مرور الزمن. ومن الدراسات الجيدة من الناحية المنهجية حول ذاكرة الأمد الطويل عند المسنين, دراسة سمث عام 1963, وفيها تحكَّمَت الباحثة في مستوى الأداء المبدئي, فقد أعادت اختبار عينة من المفحوصين سبق لهم أن تعلموا جميع الإجابات الصحيحة لأكثر من مائة سؤالٍ منذ ستين عامًا "أي: عام 1900" مضت حين كانت أعمارهم أقل من 13سنة, وقد أُعِيدَ اختبار هؤلاء في نفس الأسئلة في أعوام 1934، 1950، 1960. وأظهرت النتائج وجود فَقْدٍ ضئيل بين عامي 1934، 1950، ثم ظهر هبوط حادٍّ في الاستدعاء عام 1960. ففي عام 1934 تذكروا أو احتاجوا إلى تلميح واحد للوصول إلى استدعاء 98 إجابة استدعاء صحيحًا من بين 107 إجابات، وفي عام 1950 استدعى هؤلاء 92 إجابة منها، أما في عام 1960 فلم يتتذكروا إلّا 73 إجابة فقط, وهكذا نجد أنه بين العمرين 63، 73 عامًا ينسى الأفراد أكثر بكثير مما ينسونه في الفترة بين العمرين 47، 63 عامًا. ويرى بعض العلماء وعلى رأسهم فولدز ورافن ما أشرنا إليه من قبل من أن بطء تدهور قدرات الذكاء المتبلور بمقارنتها بقدرات الذكاء السائل إنما يرتبط في جوهره بمسألة ذاكرة الأمد الطويل وعلاقتها بالعمر. فقد وجدوا أن درجات اختبار المفردات "وهو من مقاييس الذكاء المتبلور" لا تظهر تدهورًا يذكر مع التقدم في السن، بينما درجات المصفوفات المتتابعة "وهو من مقاييس الذكاء السائل" يظهر تدهورًا حادًّا, وبالطبع يمكننا أن نفترض -وهو افتراض صحيح- أن معرفة معاني الكلمات تتراكم وتتزايد مع التقدم في العمر عامًا بعد عام، وبالتالي تكون مقياسًا لذاكرة الأمد الطويل أكثر من المصفوفات المتتابعة, وفي هذا برهان إضافي يدعم قولنا أن ذاكرة الأمد الطويل لا تظهر تدهورًا خطيرًا مع التقدم في السن -في ضوء الأدلة المتاحة حتى الآن- وهذا على عكس ما أكدته البحوث بالنسبة لذاكرة الأمد القصير. وأكدت البحوث أيضًا أن ذاكرة الأمد الطويل قد تتدهور حين يتعرض المسن لمشكلات بالنسبة إليها، كأن يطلب من المسن تذكر مواد لم تعد موضوع التداعي النشط في الذاكرة, أو لم تعد في بؤرة الانتباه. إن هذا النقص حينئذٍ يرتبط بمكونات ثلاثة في الذاكرة هي: تسجيل المعلومات، وتخزين المعلومات، واسترجاع المعلومات, وفي كل من هذه المجالات تتراكم أدلة تدل على أن المسن أقل كفاءة بالمقارنة بالراشد الأصغر سنًّا. "Craik, 1977" "Hartley, et al"

"1980, ومع ذلك فإن المستوى المنخفض في الأداء حينئذٍ قد لا يتضمّن بالضرورة نقص القدرة, فبعض الباحثين أيدت يحوثهم القول بأن المرونة العقلية تستمر لدى المسنين, على الرغم من هذه النقائص في الأداء والذاكرة. وفي هذا الصدد لا بُدَّ من التمييز مرةً أخرى بين الاستدعاء والتعرف، فالاستدعاء يتطلب بحثًا إيجابيًّا نشطًا لتحديد المعلومات الملائمة في الذاكرة، بينما يتطلّب التعرف فقط إيجاد مزاوجة سلبية بين ما يعرض وما يوجد في الذاكرة, وفي التعرف لا يحتاج المفحوص إلّا إلى تعيين أحد مكونات مثير كلي حتى ينتج الاستجابة الصحيحة، أما في الاستدعاء فإن واجب المفحوص أن يولد بنفسه هذا المكون على الأقل, وبالطبع فإن هذا التمييز فيه تبسيط شديد؛ لأنه حتى في التعرف يوجد قدر من النشاط الإيجابي. ومن البحوث الهامة حول ذاكرة التعرف والاستدعاء دراسة سكونفيلد وربرتسون عام 1966, وفيها عرض على عينة من المفحوصين تمتد أعمارهم بين 20، 25 عامًا قائمتين من الكلمات, تتألف الأولى من 24 اسمًا والثانية من 34 صفة, وبعد التعرض لكلِّ قائمةٍ كان على المفحوصين محاولة استدعاء أكبر عدد من هذه الكلمات استدعاءً حرًّا, أو التعرف عليها من بين قائمة أكبر من الكلمات, وأظهرت النتائج وجود تدهور واضح مع التقدم, أي: تدهور ملحوظ في أيّ مرحلة من مراحل العمر, فعلى الرغم من أولئك الذين تعدت أعمارهم الستين لا يستدعون إلّا 54% مما يستطيعه أولئك الذين تقع أعمارهم في مدى بين 20-39 عامًا، فإننا نجد أنه بالنسبة لذاكرة التعرف أن المفحوصين الراشدين الأكبر سنًّا تعرفوا على عدد من الكلمات أكبر قليلًا "بدون دلالة إحصائية" مما يتعرف عليه الراشدون الأصغر سنًّا. إلّا أن نتائج بعض البحوث الأخرى أكدت وجود بعض التدهور في ذاكرة التعرف مع التقدم في العمر، وهذا يعني أن المسألة موضع خلاف, إلّا أننا بصفة عامة تتفق مع ولرمان في قوله: "إن من الواضح أننا نستطيع تحت شروط معينة إثبات حدوث تدهور حادٍّ في ذاكرة الاستدعاء مع العمر، بينما لا يظهر مثل هذا التدهور في ذاكرة التعرف" "Willerman, 1979". لماذا يحدث التدهور العقلي المعرفي في طور الشيخوخة؟ قدَّم الباحثون إجاباتٍ مختلفة لهذا السؤال، ومن ذلك مثلًا: أن Schaie"

"1974 يتحدث عن "خرافة التدهور العقلي"، ويقول: إنه حين نجري الدراسات المستعرضة نلاحظ فروقًا ظاهرة في المهارات بين الأجيال المتتابعة؛ ففي الاختبارات غير المعتمدة على السرعة على الأقل لوحظ أن المسنين لا يختلفون في أدائهم عَمَّا كان عليه الحال حين كانوا أصغر سنًّا, ومع ذلك فإنهم لا يؤدون بنفس الدرجة من الجودة كما يفعل أحفادهم المتعلمون تعليمًا جيدًا "ربما أفضل منهم". ويقترح سكائي أن القدرات العقلية لا تتدهور عند المسنين إذا كانوا أصحاء بدرجة معقولة، ولكنها قد تصبح غير ملائمة للعصر, ومن ناحيةٍ أخرى فإن التدهور -إن حدث- لا يظهر في جميع أو في معظم القدرات العقلية إلّا عند قليل من الناس, وقد أشرنا في مطلع هذا القسم إلى العوامل التي تؤدي إلى الفروق الفردية في ذلك. ويرى "Riegel, 1974" أن التدهور -إن حدث- قد يعكس ظروفًا ثقافية متغيرة؛ فالجيل الجديد والتغير الاجتماعي قد يتجاوزان حدود الفرد، وعلى الرغم من أن المسن يعطي انطباعًا أنه تدهور في أدائه، إلّا أن ما حدث قد يكون أنه ظل ثابتًا ومستقرًّا في أدائه, ولكن المجتمع هو الذي غيَّرَ من ظروفه ومستوياته ومطالبه. ويرى باحثون آخرون أن العوامل المرتبطة بالصحة الجسمية ترتبط بنقص الأداء في مرحلة العمر الثالث للإنسان؛ ففي الدراسة الكلاسيكية التي قام بها بيرن وزملاؤه "Birren, et al., 1963" تناولوا النشاط الفسيولوجي والعقلي والوجداني عند الصغار والمسنين, وقد صُنِّفَ المسنون إلى مجموعتين: إحداهما تشمل أولئك الذين يعيشون في مستوى أمثل للصحة، والمجموعة الثانية تشمل أولئك الذين ليست لديهم أعراض كلينيكية واضحة للمرض, ولكنهم من نوع الحالات شبه الكلينيكة Subclinical, من خلال الفحوص المتعمقة, وقد لوحظ أن المجموعة الأخيرة كانت أدنى في أدائها في اختبار للذكاء ليس فقط بالنسبة للمجموعات الأصغر سنًّا, وإنما بالنسبة أيضًا لمجموعة المسنين الأكثر منهم صحة، إلّا أن النتيجة التي تستحق الذكر بالنسبة للذكاء خاصةً أن مجموعتي المسنين تفوقتا على المجموعات الأصغر سنًّا في الذكاء اللغوي، والقدرة العددية، وكان العكس صحيحًا بالنسبة للسرعة "كما تقاس بزمن الرجع", وهذه النتيجة تدعم مرة أخرى فرض أن القدرتين اللغوية والعددية لا تتدهوران مع العمر، بل قد تستمران في الزيادة، بينما المهارات المعتمدة على سرعة التوصيل العصبي المركزي أظهرت تدهورًا مرتبطًا بالعمر, وهذه الدراسة لها أهمية خاصة لأنها أشارت إلى الأثر السلبي للمرض، حتى ولو كان بدرجة خفيفة، في النشاط العقلي للمسنين؛ فحين

يكون المسنون متحررين من المرض ولو نسبيًّا، وهو أمر نادر الحدوث، فإن الفروق بين المسنين وغيرهم تكون ضئيلة باستثناء بطء نشاط الجهاز العصبي المركزي. وهناك تفسير آخر في ضوء التفاعل الاجتماعي للمسنين؛ فالأشخاص الذين يكونون منعزلين اجتماعيًّا، كما هو الحال بالنسبة لكثيرٍ من المسنين، تتاح لهم فرص أقل لممارسة مهاراتهم العقلية بالمقارنة بغيرهم ممن هم أكثر نشاطًا من الوجهة الاجتماعية؛ فالتواصل والحوار المحدود بين المسنين وغيرهم يعوقهم عن استقبال المعلومات وعن الاستفادة من التغذية الراجعة من الآخرين، والتي تلعب دورًا هامًّا في تصحيح أخطاء الإدراك، وخفض التمركز حول الذات، وبوجهٍ عامٍّ، استثارة النمو المعرفي, وقد دعمت هذا التفسير دراسة "Dolen Bearison 1982". ويوجد تفسير أخير يميز فيه أصحابه بين الكفاية competence والأداء performance "Flavell Wohlmill 1969". ومن الوجهة الفنية يمكن القول أن الكفاية هي ما يعرفه الشخص أو يستطيع القيام به في صورة ما يجب أن يكون, بينما الأداء يمثل ما يقوم به الفرد بالفعل, وباستخدام هذا التمييز فإن فلافل وزميله يريان أن الأداء المتناقص لدى المسنين لا يشير بالضرورة إلى نقص الكفاية, ومن ذلك مثلًا أن المسنين قد يؤدون أداءً سيئًا بسبب نقص الدفاعية، كأن ينفروا من المواد الشبيهة باللعب في مهام بياجيه أو يفشلوا في تكوين علاقة طيبة مع باحثين أصغر منهم سنًّا, أو يأنفوا من الاستماع للتعليمات, وفي بعض الحالات فإن كفايتهم قد تكون عالية إلّا أن مهاراتهم ربما يكون قد علاها "الصدأ", وهكذا فإن تدهور الوظائف المعرفية في الشيخوخة قد يمثل فجوة أكثر اتساعًا بين الكفاية والأداء أكثر منه نكوصًا إلى الوراء, وإذا كان هذا صحيحًا فإن أداء المسنين يمكن أن يتحسن. ويثير ذلك مسألة قابلية التدهور المعرفي للتحول إلى ضده Reversibility ويذكر "Schaie, 1994" أن الأدلة الراهنة تؤكد أن التدخل المعرفي يؤدي إلى تحسن التدهور العقلي لدى المسنين, ويختزل الفروق بين الأعمار لدى المسنين الذين على الرغم من أن أداءهم يظل ثابتًا عبر الزمن يعانون من ظروف غير ملائمة, بالمقارنة بمن هم أصغر منهم سنًّا، بشرط عدم حدوث تدهور في الوظائف المخية.

حكمة الشيوخ

حكمة الشيوخ مدخل ... حكمة الشيوخ: على الرغم من أنه من الواضح أن عددًا من مكونات تجهيز المعلومات والذكاء يتدهور، أو على الأقل لا يكون متاحًا للاستخدام في مرحلة الشيخوخة، إلّا أن هذا لا يقودنا إلى نظرة متشائمة نحو التقدم في السن, وقد أشرنا فيما سبق إلى أن المسنين يظلون على درجة من المرونة العقلية, ويظهرون قدرة على إعادة التدريب المعرفي, أضف إلى ذلك أنه حين تكون المهارات العقلية جيدة الممارسة فإنه لا يوجد إلّا أدلة قليلة على حدوث تدهور عقلي ملحوظ فيها مع التقدم في العمر. ومما يقال كثيرًا: إن الإنسان مع تقدمه في السن تعوّض الخبرة وسعة المعلومات التدهور الحتمي في الوظائف العقلية والجسمية, وهذا المكوّن الإيجابي في النمو المعرفي يرتبط بما يسميه الباحثون "الحكمة" Wisdon، والتي تشير إلى خصائص معينة مثل: الحدس والاستبطان والخبرة والتكامل العقلي والتعاطف ورشد القرار والفهم والصبر واللطف "Brodzinsky, el al., 1986", وهي خصائص مرتبطة بالتقدم في السن، وهي أكثر شيوعًا لدى المسنين، وعادة يخلعها عليهم من هم أصغر سنًّا، على الرغم من أن المسنين أنفسهم نادرًا ما يربطون بين الخبرة والتقدم في السن من ناحيةٍ, وبين الحكمة من ناحيةٍ أخرى. وتوجد خاصية أخرى ترتبط غالبًا بالشخص الحكيم, وهي أنه يقوم بدور مورد المعلومات والنصيحة والمشورة للأشخاص الآخرين, وبالطبع فإن الشخص المسن بحكم ما تراكم لديه من مخزون كبير من المعرفة عبر السنين, يكون في موقع فريد لأداء هذه المهمة, ويرى بعض الباحثين "Mergler & Goldstein 1983" أن التغيرات الفسيولوجية والمعرفية التي تصاحب الشيخوخة تلائم إلى حَدٍّ كبير نمو النقل الشفوي للمعلومات؛ فالطريقة التي ينظم بها المسنون المعلومات وخاصةً المعلومات القصصية، وطريقة عرضها على المستمعين، تؤدي إلى نظام للعرض أكثر فعالية من الطريقة التي تعرض بها نفس المعلومات بواسطة راشدين أصغر سنًّا؛ فالمسنون يدركهم المستمعون إليهم على أنهم أكثر موثوقية وصدقًا، وبالتالي يكون أثر رسائلهم في الآخرين "وخاصة المستمعين" كبيرًا, وفي كثير من الثقافات يكون للمسنين مكانة عالية كرواة القصص. وهكذا فإنه من منظور الحياة اليومية يمكن القول أن النشاط المعرفي للمسنين أوسع نظامًا وأكثر عمقًا من أن يكون مجرد استدلالٍ صوريٍّ أو محض حلٍّ للمشكلة، أو تطبيق لأساليب التفكير.

فحكمة الشيوخ تؤدي إلى "ضبط أوتار الاستدلال" Fine tuning- على حد تعبير "Schuster Ashburn 1994", وتطبيق المبادئ بفطنة وحذق على نحوٍ يؤدي إلى حلِّ أو إعادة حلِّ مشكلات الحياة اليومية, وليس مجرد حل مشكلات الاختبارات أو المهام التجريبية. ولم يحظ موضوع الحكمة على الرغم من أهميته بالاهتمام الذي يستحقه من علم النفس, ونعرض فيما يلي لبعض الجهود التي تستحق من الباحثين المزيد من الدراسة حولها.

الحكمة: قدرة القدرات الإنسانية

الحكمة: قدرة القدرات الإنسانية في تناول أحد مؤلفي هذا الكتاب "فؤاد أبو حطب 1996" لمفهوم الذكاء في إطار النموذج العملياتي الرباعي الذي اقترحه منذ عام 1972", أكد قابلية الذكاء للتعدد, كما توقع قابليته للتوحد من خلال قدرة رفيعة المستوى عالية المكانة، ولم يجد تسمية أفضل لهذه القدرة المتوقعة من مصطلح "الحكمة". والحكمة لفظ من ألفاظ القرآن الكريم، وقد ورد اللفظ في عشرين موضعًا من كتاب الله, ومن ذلك قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة:269] . يقول القرطبي في تفسيره لهذه الآية الكريمة: إن العلماء اختلفوا في الحكمة هنا، فقال السدي: هي النبوة، وقال ابن عباس: المعرفة بالقرآن؛ فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه ومقدمه ومؤخره, وقال قتادة ومجاهد: الحكمة هي الفقه في القرآن, وقال مجاهد: هي الإصابة في القول والفعل, وقال ابن يزيد: هي العقل في الدين, وقال مالك بن أنس: هي المعرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له, وروى عنه ابن القاسم أنه قال: الحكمة التفكر في الله والاتباع له, وقال أيضًا: الحكمة طاعة الله والفقه في الدين والعمل به, وقال الربيع بن أنس: الحكمة الخشية, وقال إبراهيم النخعي: الحكمة الفهم في القرآن, وقال زيد بن أسلم وقال الحسن: الحكمة الورع. ويعقب القرطبي على هذه الأقوال بقوله: إنها جميعًا ما عدا السدي والربيع والحسن قريب بعضها من بعض؛ لأن الحكمة تصدر من الإحكام وهو الإتقان في قولٍ أو عمل, فكل ما ذكر هو نوع من الحكمة التي هي الجنس, فكتاب الله

حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر من التفصيل فهو حكمة, وأصل الحكمة ما يمتنع به السفه؛ فقيل للعلم حكمه؛ لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعلٍ قبيح، ومن معانيها القرآن والعقل والفهم. ويورد التفسير الوسيط الذي أعده مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف تحديدًا لمعنى الحكمة في هذه الآية الكريمة بأنها "إصابة الحق في قولٍ أو فعلٍ أو رأيٍ, وهي من الملكات النفسية العليا التي يمنحها الله من هو أهلٌ لها", وتتضمّن التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، والصواب والخطأ، والذي يبعد الإنسان عن المعاطب، ويصل به إلى السلامة والنجاة, ويورد لسان العرب الحكمة بمعنى معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم, ويلخص معجم ألفاظ القرآن الكريم الذي أعده مجمع اللغة العربية ذلك كله في أن الحكمة تطلق على ما يتحقق فيه الصواب من القول والعمل. وفي عام 1990 صدر كتاب هام حرره روبرت سترنبرج Sternberg, 1990" حول طبيعة الحكمة وأصولها ونموها, وقد شارك في الكتاب عدد من علماء النفس والفلاسفة, ولعل أهم ما نبه إليه "Birren" Fisher" في فصلهما الختامي لهذا الكتاب أن هذا اللفظ -الذي ورد في القرآن الكريم بهذا المعنى الرفيع منذ أربعة عشر قرنًا -لم يظهر في اللغة الإنجليزية إلّا منذ حوالي عام 1000، أي: بعد حوال نصف قرن من وروده في القرآن الكريم -ويورد معجم إكسفورد معنى اللفظ بأنه: "القدرة على الحكم حكمًا صحيحًا على الأمور المرتبطة بالحياة والسلوك، وصحة الحكم عند الاختيار للوسائل والغايات, وبمعنى أقل تحديدًا يعني: الإحساس الصائب وخاصة في الأمور العملية". وهكذا يرتبط لفظ الحكمة بالمعرفة والاستثارة والتعلم والتفلسف والعلم, ويتضمن العادات السلوكية الحسنة وأنماط الفعل القويم, ويشير إلى أن الشخص "الحكيم" لديه القدرة على إصدار الأحكام الصائبة. والخلاصة: أن الحكمة هي قدرة القدرات الإنسانية التي تتوازن فيها المعرفة والوجدان والعقل، كما تتوازن فيها أنواع الذكاء المختلفة.

أمثلة من البحوث النفسية في الحكمة

أمثلة من البحوث النفسية في الحكمة: لا يتسع المقام لتناول المفهوم من مختلف الاتجاهات اللغوية والفلسفية والاجتماعية والنفسية, حسبنا أن نشير إلى الفصل العام الذي كتبه سترنبرج نفسه في الكتاب المشار إليه, وفيه يحاول تناول العلاقة بين الحكمة والذكاء والإبداع, من خلال بضع دراسات أولية قام بها مع عدد من زملائه وتلاميذه بدأت عام 1986. وقد بدأ المشروع باستطلاع رأي عدد من أساتذة الفن والإدارة والفلسفة والعلوم الاجتماعية, بالإضافة إلى عدد من الأفراد العاديين حول أنماط السلوك التي يمكن أن يتصف بها كلٌّ من الشخص الحكيم والذكي والمبدع، وتَمَّ التوصل إلى أكثر من مائة مؤشر سلوكي, ثم طلب من عدد أكبر من الأساتذة المتخصصين في مختلف جوانب المعرفة أن يقدروا كل مؤشر من هذه المؤشرات في ضوء إدراكهم لطبيعة كل فئة من الفئات الثلاث للقدرة: الحكمة، الذكاء، الإبداع. وحُسِبَتْ معاملات الارتباط بين التقديرات المختلفة للقدرات الثلاث, وأظهرت النتائج أن أعلى معاملات الارتباط كانت بين الحكمة والذكاء بوسيط معاملات ارتباط0.68, أما أدنى هذه المعاملات فبين الحكمة والإبداع "وسيط معاملات الارتباط 0.27," أما العلاقة بين الذكاء والإبداع فكانت في منزلة متوسطة "وسيط معاملات الارتباط 0.55". وفي دراسة أخرى قام الباحث نفسه باختيار المؤشرات السلوكية الأربعين التي تقع على رأس قائمة التقديرات لكلٍّ من الحكمة والذكاء والإبداع, والتي توصلت إليها النتائج السابقة، وطلب من عينة طلاب الجامعة تصنيف هذه المؤشرات البالغ عددها 120 مؤشرًا إلى أيّ عدد من الفئات, ثم أخضع هذه التصنيفات لأسلوب التحليل المتعدد الأبعاد اللامتري nonmetric multidimentional "وهو بديل التحليل التعاملي", وتوصل الباحث إلى مكونات كلٍّ من الحكمة والذكاء والإبداع على النحو الموضح في الجدول "20-1".

جدول "20-1" مكونات الحكمة والذكاء والإبداع ويمكن أن نعرض بعض خصائص المكونات الستة التي تؤلف كما يلي "Sternberg, 1990". 1- القدرة على الاستدلال: وتشمل مجموعة من الخصائص قد لا تشملها كلها طبيعة القدرة الاستدلالية كما كشفت عنها بحوث التحليل العاملي التقليدية، وتتضمن القدرة على النظر إلى المشكلة أو الموقف والقدرة على حل المشكلات والتعقل المنطقي, والتمييز بين الصواب والخطأ, وتطبيق المعارف في مواقف عملية، والقدرة على تناول المعلومات والأفكار والنظريات الفرعية من منظور جديد، وتوافر ثروة كبيرة من المعلومات، والقدرة على إدراك التشابه والاختلاف والعقلانية والربط والتمييز بين الأفكار والأشياء. 2- الحصافة "أو الفطنة" Sagacity: وتشمل الاهتمام بالآخرين وفهمهم وتقديم المشورة والنصيحة لهم من خلال التعامل معهم، والقدرة على التعلّم من الآخرين، والقدرة على معرفة الذات معرفة جيدة، والقدرة على

الاستماع الجيد، والشجاعة الأدبية في الاعتراف بالخطأ وتصحيحه والتعلم منه, والتقدم نحو الأفضل، الانتباه للجوانب المختلفة من الموضوع الواحد. 3- التعلم من الأفكار والبيئة: وتشمل الاهتمام بالأفكار والتميز بدرجة عالية من الإدراك والانتباه والتعلم من أخطاء الآخرين. 4- الحكم Judgment: وتشمل القدرة على الفعل في إطار الحدود العقلية والطبيعية المتاحة للمرء, الحساسية, والتفكير قبل الفعل أو اتخاذ القرار, والتفكير طويل المدى، والتفكير قبل الكلام، مع وضوح الأفكار عند التعبير عنها. 5- الاستخدام الفعَّال للمعلومات Expditious use of lnformation ويشمل ذلك وفرة الخبرة والبحث عن المعلومات وخاصةً التفاصيل، والتميُّز بالنضج، والتعلُّم والتذكُّر والحصول على المعلومات عن ألوان النجاح والفشل السابقين، والقدرة على تغيير الأفكار على أساس الخبرة. 6- حدة الذهن Persacacity": ويشمل ذلك الحدس والقدرة على تطوير الحلول التي تتسم بالصواب أو الحقيقة، والقدرة على إدراك ما وراء المظاهر، وقراءة ما بين السطور، والقدرة على فهم وتفسير البيئة المحيطة بالشخص. ويلاحظ على القائمة السابقة أن القدرة على الاستدلال "في قائمة مكونات الحكمة" والقدرة على حل المشكلات العملية "في قائمة مكونات الذكاء" متشابهتان، وهما القدرتان اللتان تحتلان الأولوية في كلٍّ منهما، بينما القدرة التي تحتل الأولوية في الإبداع وهي عدم التقييد nonentrenchment, فإنها تختلف تمامًا من حيث تكوينها السلوكي عن القدرة المناظرة في كلٍّ من الحكمة والذكاء. بعض القضايا الأساسية: لكي يبدأ برنامج علمي للبحث في سيكولوجية الحكمة لا بُدَّ من أن يوجه باستراتيجية واضحة في هذا الصدد، وفي رأينا أن الجهود التي بذلت حتى الآن، وخاصةً تلك التي يضمها كتاب "1990 Sternberg" ليست إلّا بداية لطريق طويل يحتاج من الباحثين المثابرة والتجديد والإبداع, ونعرض فيما يلي مجموعة من القضايا الأساسية التي تحتاج إلى العكوف عليها بالبحث والتقصي حول السؤال الأساسي: ما هي طبيعة الحكمة؟ هذا السؤال تحتاج الإجابة عليه إلى مراجعة شاملة للتراث الديني والفلسفي والسيكولوجي حول الموضوع, وإليك بعض الأمثلة

لتصورات مقترحة: 1- الحكمة هي الجدل المتوازن اللطيف بين مجموعتين من الخصائص؛ إحداها التجهيز الخارجي الموضوعي المنطقي "اللوجوس"، وثانيهما: التجهيز الداخلي الموضوعي العضوي "الميثوس", وهو التصور الذي يقترحه "Labouvie". 2- الحكمة هي الخبرة في أحد المناشط الأساسية في الحياة, وتتطلب معلومات حقيقية وفيرة حول شئون الحياة، ومعرفة إجرائية ذرائعية حول المشكلات اليومية، ومعرفة بالسياقات أو القيم أو الأولويات المختلفة في الحياة، ومعرفة بعدم التنبؤية في شئون الحياة "Baltes & Smith". 3- الحكمة هي أسلوب متجاوز للمعرفة metacognitive Style" مثل معرفة المرء أنه لا يعرف كل شيء, والبحث عن الحقيقة إلى الحد الذي يكشف عنها ويجعلها معلومة للناس "Sternberg". 4- الحكمة هي توازن متعدد الأبعاد, أو تكامل بين المعرفة والوجدان والانتساب والاهتمامات الاجتماعية، وجوهر الحكمة هو في نموِّ الشخصية وتقدمها, مع توافر مهارات معرفية "Orwell & Perlmuter". 5- الحكمة هي الوعي بقابلية المعرفة للخطأ، والبحث عن التوازن بين المعرفة والشك، وتطرأ عليها تغيرات مع العمر، ابتداءً من مظاهرها البسيطة السطحية, وحتى مظاهرها العميقة المركبة, ومع ذلك فإن العمر في ذاته ليس من مكونات الحكمة، بل إنها قد تتناقض أو تفتقد مع التقدم في السن "Meacham". 6- الحكمة هي قدرة على الوعي بحدود المعرفة, وقد تؤثر على حل المشكلات سيئة التحديد, وإصدار الأحكام، وهي من سمات الحكم التأملي "Kitchener & Brenner". 7- الحكمة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقدرة على إيجاد المشكلات, وتُعَدُّ عملية معرفية أساسية في التأمل والحكم "Arlin". 8- الحكمة هي وسيط للتجهيز الرمزي يتم بإرادة غالية, وهي تكامل جدلي بين جميع جوانب الشخصية, ويشمل ذلك الوجدان والإرادة والمعرفة وخبرة الحياة "Pascual - Leone".

9- الحكمة هي التكامل العضوي بين الطرق النسبية والجدلية للتفكير والوجدان والتأمل, وتدل على منظورٍ حول الحقيقة ينمو من خلال العلاقات بين الأشخاص "Kramer". 10- الحكمة هي التكامل بين الوجدان والنزوع والمعرفة في القدرات الإنسانية استجابةً لمهام الحياة ومشكلاتها، وهي توازن بين الأقطاب المتضادة، بين التوتر الحاد والتجرد، بين الفعل والسكون، بين المعرفة والشك, وتميل الحكمة إلى الزيادة مع النموّ, وبالتالي مع التقدم في العمر, إلّا أنها ليست بالضرورة من خصائص المسنين "Birren & Fisher". ويبدو لنا أن تحليل هذه الأطر النظرية وغيرها مما بدأ يطرح على الساحة السيكولوجية في الفترة الأخيرة يؤكد المنظور الذي يؤكده فؤاد أبو حطب من أن الحكمة هي قدرة القدرات العقلية، وهي نقطة التوازن الذهبي بين الذكاء الموضوعي والذكاء الاجتماعي والذكاء الشخصي "الأنواع الثلاثة من الذكاء التي اقترحها في نموذجه"، وهي نضج وجداني واجتماعي ومعرفي معًا، ويتفق ذلك كله مع تحليلنا اللغوي في الفصل السابق لمعنى الشيخوخة, كما ورد في قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَة} [الروم: 54] .

التقاعد

التقاعد مفهوم التقاعد ... التقاعد: يُعَدُّ التقاعد retiement نقطة تحول هامة في حياة الإنسان؛ لأنه كما بينا من قبل هو المؤشر الاجتماعي الرئيسي على تحول الإنسان من طور بلوغ الأشد "منتصف العمر" إلى مرحلة الشيخوخة، تمامًا كما كان العمل هو المؤشر الاجتماعي الحاسم في انتقال الإنسان إلى مرحلة الرشد, وكلٌّ من العمل والتقاعد كمؤشرين على التحول في نمو الإنسان يدلان على الأهمية البالغة للمحكات الاجتماعية في تحديد كلٍّ من الرشد والشيخوخة، ربما على نحوٍ يفوق بكثير العوامل البيولوجية. مفهوم التقاعد: يمكن أن نعرِّفَ التقاعد بأنه عملية اجتماعية تتضمن تخلي الفرد "اختياريًّا أو إجباريًّا" عن عملٍ ظلَّ يقوم به معظم حياته المهنية، وبالتالي انسحابه من القوى العاملة في المجتمع، وتحوله إلى الاعتماد، جزئيًّا

على الأقل، على نظامٍ معين للكفالة المادية هو نظام التأمين الاجتماعي؛ حيث يحل المعاش pension محل الأجر wage. وهذا التعريف الذي نقترحه لا يعني أن التقاعد يعني التعطل أو البطالة الكاملة, صحيح أنه -من منظور دورة الحياة في النمو- هو نهاية دورة الحياة المهنية للإنسان، إلّا أننا نجد بعض المسنين -بعد تقاعدهم من عملهم الأصلي- يقومون بعملٍ بعض الوقت، وقد يرجع ذلك أحيانًا إلى أسباب مالية "حيث المعاش أقل بكثير من الأجر الذي ظلَّ الشخص يحصل عليه لسنوات طويلة"، إلّا أنه في معظم الأحيان يرجع إلى رغبة المسن في الشعور بالرضا لأنه يقوم "بعمل ما"، والعمل قيمة أساسية، ناهيك عن أنه مكوّن أساسي في هوية الإنسان. ومن حقائق التاريخ الإنساني أن التقاعد مفهوم حديث خلقه التقدم في التصنيع, ومن الطريف أنه عند بداية الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر لم يكن يصل إلى سن التقاعد إلّا أقلية من السكان، ولهذا كان العامل العادي يظل في عمله حتى وفاته, وبالطبع كان ذلك هو التقليد المستقرّ عبر العصور السابقة؛ ففي الحرف التقليدية والمهن الزراعية والأعمال الحكومية التي كانت سائدةً قبل عصر التصنيع, لم يكن هنا تقاعد بالمعنى الذي نعرفه اليوم، فالمرء كان يظل يعمل طالما أنه حيّ وقادر على العمل, بل إنه في مثل تلك المجتمعات السابقة على التصنيع كان هناك دائمًا عمل كل فرد مهما بلغ عمره، طفلًا كان أو راشدًا أو شيخًا طاعنًا في السن. إلّا أنه مع تطور حركة التصنيع ظهرت الحاجة إلى التقاعد, ويذكر "McConnell 1983" بضعة أسباب لذلك منها: 1- مع تراكم الإنتاج في أوروبا ابتداء من عام 1870 تضاءلت الحاجة إلى القوى العاملة التي تزوّد المجتمع بحاجاته من السلع والخدمات, ولذلك قلَّ الطلب على القوى العاملة, وكان ذلك أكثر وضوحًا في مجال الزراعة؛ حيث انخفضت فرص العمل إلى 50%, ثم إلى 38% عام 1900, وإلى 4% عام 1975. 2- التطور التكنولوجي الذي لازم الثورة الصناعية منذ ظهورها, والذي يتسم في عصرنا الحاضر بما يُسَمَّى الانفجار التكنولوجي, أدّى إلى تغييرٍ في طبيعة كثير من المهن والأعمال، وتطلب حاجة مستمرة للتدريب لمواجهة هذه التغيرات. وبالطبع, فإن مهارات العمال المتقدمين في السن ومعارفهم لا تكون ملائمة لذلك.

3- التعقد في نظم الإدارة الصناعية والحكومية الحديثة, وغلبة الطابع البيروقراطي على كثيرٍ منها أدى إلى سيطرة القواعد والنظم الجامدة التي تركز على الإنتاجية ومصلحة العمل, والتي لا تضع في الاعتبار -في الأغلب- الجوانب الإنسانية, صحيح أن هذه النظم ساعدت على رفع إنتاجية المؤسسات إلّا أنها أغفلت الاهتمام بالإنسان. 4- ظهور نظام التأمينات الاجتماعية والمعاشات هيأ أساسًا اقتصاديًّا وماديًّا لتقاعد العمال المتقدمين في السن، وفي ضوئه تحدد سن الستين أو الخامسة والستين كعمرٍ مناسب للتخلي عن العمل والانسحاب من القوى العاملة. ويبدو لنا أن اختيار سن 60 أو 65 هو محض قرار اعتباطي، وليس له علاقة مباشرة بعملية التقدم في السن أو الشيخوخة, إلّا أنه مع شيوع استخدامه في معظم المجتمعات المعاصرة، وطول استخدامه لأكثر من نصف قرن حتى الآن على أن المحك الذي يحدد أحقية المواطن في المعاش أدّى تدريجيًّا إلى قبوله على أنه "الباب الرسمي" لدخول العمر الثالث للإنسان, ومن الطريف أن نشير هنا إلى أن أول تحديد لسن التقاعد في العصر الحديث حدده القانون الألماني عام 1891 بسن السبعين، وفي عام 1900 كان حوالي 70% من الأمريكين الذكور الذين تجاوزت أعمارهم 65 عامًا كانوا لا يزالون يعملون إلّا أن القانون في المجتمعات الغربية حدده منذ عام 1935 حدده بسن 65 عامًا، ونتيجة لذلك تناقصت نسبة العاملين بعد هذا السن، فبلغت في الولايات المتحدة في أعوام 1960، 1975، 1986 على التوالي 35%، 22%، 16% "Fowles, 1987", على الرغم من صدور قانون في عام 1987 بمد سن التقاعد إلى سن السبعين, ومع ذلك فإن بعض الباحثين يرون أنه لو حسبت العلاقة بين سن المعاش ومتوسط طول العمر الآن "كما حدث في عام 1935 حيث تحدد في ضوئها سن المعاش الحالي في الولايات المتحدة وهو 65 عامًا" فإن الأصح في رأيهم أن يعمل الأمريكي اليوم حتى يبلغ سن الثمانين. وفي مصر "ومعظم الأقطار العربية والإسلامية" فإن سن التقاعد الرسمي هو60 عامًا, ويستثنى من ذلك بعض الفئات، فقد يزيد عن ذلك بالنسبة لبعض الفئات كخريجي المدارس والمعاهد والكليات الأزهرية، وبعض الفئات المهنية؛ حيث يبلغ سن التقاعد عندهم 65 عامًا, وقد يقل عن ذلك بالنسبة لفئات أخرى كضابط القوات المسلحة؛ حيث يتقاعد بعضهم في الأربعينات أو الخمسينات من

العمل أو الرغبة فيه؛ فتحديد أيّ سن للتقاعد -يزيد أو ينقص من 60 عامًا- هو اختراع يسمح للحكومة وأصحاب الأعمال أن يتحللوا من مسئولياتهم إزاء المسنين ذوي الأجور العالية نسبيًّا، وبهذا تتاح الفرص للشباب بدخول ميدان العمل والتقدم في سلمه الهرمي. التمييز المهني على أساس العمر: يعتقد معظم الناس -ومنهم كثير من المسنين- أن الإنسان بعد بلوغه سن معين يصبح أقل كفاءة, وأصعب تكيفًا, وأقل يقظة ومرونة, وأكثر بطأً, وأضعف صحة, وهي جميعًا من محددات نقص الكفاية المهنية. ومن الطريف أنه على الرغم من هذه الصورة المتشائمة لدى المسنين بالنسبة لقدرتهم على العمل, يعبر الشباب عن صورة مختلفة لهم بالنسبة للسمات العامة؛ فالمسنون -عند الشباب- أكثر حكمة وأكثر رحمة ومودة "Perlmutter & Hall, 1985". وبالطبع فإن الصورة السلبية عن قدرات المسنين على العمل هي الأكثر شيوعًا, وخاصةً لدى المسئولين عن القوى العاملة في المجتمع؛ فعند الموازنة بين الصغار والكبار في السن يعين الصغار، ويعزل العامل المتقدم في السن إذا أصبحت مهاراته لا تتواءم مع التقدم التكنولوجي، ويبقى الأصغر سنًّا لسهولة إعادة تدريبه، والمسن هو أول من يترك العمل وآخر من يُعَيِّنُ, وحين يجد المسن عملًا آخر بعد ترك عمله الأصلي فعادةً ما يكون أدنى مكانةً وأقل أجرًا, والمسنون أيضًا يتم تجاوزهم عند الترقية، وهم أقل الفئات فيما يتاح لهم من فرص التعليم وإعادة التدريب لرفع مهاراتهم المهنية, بل إن الدراسات المقارنة بين أجور المسنين وغيرهم, وجدت أنه بعد تصحيح أثر التعليم والتدريب المهني والخبرة والعمل والمستوى الصحي, فإن أجور المسنين أكثر انخفاضًا, فبسبب أجورهم المرتفعة نسبيًّا لا تزيد أجورهم بنفس معدل زيادة أجور ومكأفات من هم أصغر سنًّا, وخاصةً حين تتحدد حدود قصوى لهذه الزيادات والمكأفات. هل هناك سبب واضح لهذا التمييز المهني على أساس العمر؟ بالطبع إذا كان العمال الأكبر سنًّا أقل إنتاجية ممن هم أصغر سنًّا, فإن عمل المسنين يصبح مكلفًا دون شك, إلّا أنه لا تتوافر بحوث تثبت ذلك, وإنما العكس هو الصحيح, فأغلب الدراسات التي أجريت حول الإنتاجية -سواء قيست بالمخرجات أو المبيعات- تؤكد عدم وجود فروق بين المجموعتين، وإن وجد بعض الهبوط في إنتاجية المسنين فهو هبوط طفيف قد لا يعتمد به Foner" "Schabwab 1981" بل إن بعض هذه البحوث تثبت أن إنتاجية العمال المسنين

أعلى من إنتاجية العمال الأصغر سنًّا، وتزداد هذه الفروق حينما تصحح في ضوء متغير الخبرة السابقة بالعمل, وبالطبع فإن جميع هذه الدراسات من النوع المستعرض، ونحن في حاجة إلى بحوث طولية للوصول إلى نتائج حاسمة حول هذه المسألة, وكل ما نستطيع قوله في ضوء الأدلة المتاحة حتى الآن, أنه في المهن التي درسها الباحثون "الأعمال الكتابية والإنتاج الصناعي" لا توجد فروق بين المتقدمين في السن وغيرهم في كم الإنتاج وكيفه. ومع ذلك يبدو أحيانًا أن المسنين يتفوقون على الصغار في بعض جوانب العمل, إنهم "أي: المسنون" يعملون بمعدل أبطأ, وبالتالي فإن أخطاءهم أقل, وهم أكثر التزامًا بالعمل في ضوء مؤشر الغياب, أضف إلى ذلك أن الاعتقاد الشائع أن صغار العاملين أكثر مرونة وتحررًا من المتقدمين في السن قد يكون غير صحيح, والأصح القول: إن الصغار بحكم أن مستقبلهم المهني أكثر اتساعًا قد تتاح لهم فرص أكبر للتعديل والتطوير، بينما المسنون -وهم يقتربون من التقاعد- لا يخاطرون كثيرًا بسبب ضيق الوقت. وهناك جانب آخر تجب الإشارة إليه, وهو أن مهارات المسنين المهنية قد تتقادم بسبب تركيزهم معظم حياتهم على أعمال "منقرضة", وبالطبع حين يحدث ذلك لصغار العاملين فإنهم يتغلبون عليه بالتدريب، أما المسنون فهم أقل حظًّا في ذلك، والسبب في ذلك أن الأجهزة الإدارية تجد في تدريب المسنين تكلفة بلا عائد, على عكس الحال مع تدريب صغار العاملين, أضف إلى ذلك أن خبرة المسن ربما تكون قد وصلت به إلى الحد الأقصى للأجور, وقد يشعر الجهاز الإداري أن تدريبه لا يفيده, وهو شعور غير صحيح؛ لأن الفائدة من التدريب ليست اقتصادية فحسب، وإنما للتدريب فائدته السيكولوجية أيضًا, والتي تتمثل في شعور المسن أنه لا يزال قادرًا على التعلّم, وهو محك ينأى به عن التحول السريع إلى طور أرذل العمر.

قرار التقاعد

قرار التقاعد: ليس هينًا على الإنسان أن يقرر التقاعد؛ فكثيرٌ من المسنين يشعرون عند التقاعد بأنهم طردوا من أعمالهم لا لسبب إلّا لبلوغهم سن المعاش، وهذا ما يُسَمَّى التقاعد الإجباري, والذي يحدده سن البلوغ التقاعد "أو بلوغ المعاش" الرسمي, وحالما يتقاعد المرء فإنه ينسحب في الأغلب من سوق العمل؛ إما بسبب التمييز المهني الذي أشرنا إليه، أو بسبب شعور المسنين أن تقدمهم في السن لا يسمح لهم بالعمل، على الرغم من أنهم حين يسألون فإن أغلبيتهم تفضل أن تستمر في العمل لما بعد سن المعاش, وفي نفس الوقت هناك من يقررون التقاعد قبل بلوغ سن المعاش القانوني, ويُطلَقُ على هذا النوع "التقاعد الاختياري", وهؤلاء قد تكون لهم موارد مالية ملائمة, بالإضافة إلى ما توفره لهم خطط المعاش من موارد إضافية، وبعض من يفضلون التقاعد المبكر يقررون ذلك للحصول على الراحة أو لقضاء وقتٍ أطول مع الأسرة "وخاصة بالنسبة للزوجة العاملة", ومن المصريين من يفعل ذلك لأسباب جديدة طرأت حديثًا على المجتمع؛ فكثير من الذين خرجوا للعمل في البلدان العربية -وخاصة خلال حقبة النفط- قرروا التقاعد المبكر من أعمالهم الأصلية في مصر "والذي يُسَمَّى إداريًّا ضم مدة الخدمة" إيثارًا للبقاء في هذه الدول الغنية, ومعظم هؤلاء من المهنيين الأكفاء والحرفيين المهرة, وقد أدى ذلك إلى خلل كبير في بنية الثروة البشرية في مصر, وفي هذه الأحوال يلعب العامل الاقتصادي الدور الحاسم في التقاعد المبكر. وقد ظهر خلال التسعينات ما يُسَمَّى "المعاش المبكر" مع تطور برنامج الإصلاح الاقتصادي في مصر, والذي يتوجه إلى تقليص حجم "القطاع العام", والتوجه مع سياسة التحرر الاقتصادي إلى تشجيع الاستثمارات الخاصة, ويقصد بالمعاش المبكر تشجيع العاملين بالقطاع الحكومي على ترك العمل مبكرًا مع تعويض مادي مناسب يمكن استثماره من خلال مساعدة الصندوق الاجتماعي للتنمية, وقد وضعت هذه السياسة لمواجهة مشكلة "العمالة الزائدة" والبطالة المقنعة، في القطاع العام خاصةً, والتي تُعَدُّ إحدى المشكلات المزمنة فيها منذ ظهوره في الستينات وأثرت في كفاءته وفعاليته. وهكذا فإن العوامل التي تحدد قرار التقاعد المبكر معقدة متشابكة, فهي تشمل الظروف الصحية للراشد, وموقفه المالي, وطبيعة مهنته, ودرجة رضائه عن عمله, واتجاهاته نحو التقاعد, والظروف الاقتصادية للمجتمع الذي يعيش فيه؛ ففي دراسةٍ أجريت على عمال صناعة السيارات وجد الباحثون أن ضعف الصحة والدخل غير المناسب وعدم الرضا عن العمل والاتجاهات الإيجابية نحو التقاعد، كانت جميعًا العوامل التي أدت إلى التقاعد المبكر. وفي بعض الأعمال التي تلعب فيها المهارات الجسمية دورًا حاسمًا يكون التقاعد المبكر إجباريًّا، ومن ذلك المهن العسكرية "وخاصة في القوات المسلحة" التي يحال معظم أصحابها إلى الاستيداع قبل سن الخمسين "1985 perlmutter & hall", ويلعب العامل الاقتصادي الدور الحاسم لدى أولئك الذين يتوقعون لدخلهم بعد المعاش أن يهيئ لهم حياة راضية،

أو أولئك الذين يجدون في حياتهم في بيئة جديدة فرصًا أفضل للاستقرار الاقتصادي "ومن ذلك مثال العاملين الذين استقروا في الدول العربية البترولية الذي أشرنا إليه". وتلعب ظروف العمل دورًا هامًّا في قرار التقاعد المبكر في بعض المهن. ففي دراسةٍ قام بها "1978 quinn" وجد أن الظروف المادية السيئة للعمل؛ مثل: الضجيج والروائح الكريهة ودرجات الحرارة المتطرفة, بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل: عدم وجود فرص للمشاركة في اتخاذ القرارات والإجهاد الجسمي والنفسي المصاحب للعمل، ترتبط كلها بقرارات التقاعد, إلّا أن ما يلفت النظر أن ظروف العمل وجدت أكثر ارتباطًا بالتقاعد وقت سن المعاش أكثر من ارتباطها بالتقاعد المبكر, أما عدم الرضا عن العمل تحتل مكانه هامة لديه, ومعنى ذلك أن العوامل "النفسية" تفوق في أثرها "الطارد" من العمل العوامل المادية, ولعل مما يدعو للتأمل أن هذه الظروف النفسية أشد وطأة وأكبر تأثيرًا في الشخص حين يكون شغوفًا بعمله محبًّا له. إنه يتقاعد مبكرًا -كارهًا بالطبع- تاركًا عمله الذي يحبه يسبب ظروف غير عادية منفرة صنعتها قوى مدمرة فيه، قد تكون إدراة سيئة للمصنع أو المؤسسة. ويؤثر في استمرار الشخص في عمله إلى بلوغ سن المعاش وربما بعده -إذا سمحت نظم العمل بذلك- عوامل هامة, على رأسها المستوى التعليمي للشخص, ثم طبيعة المهنة, والاعتبارات المالية أيضًا، فقد تأكَّد أن الراشدين من المستويات التعليمية العليا, والذين يحظون بمكانة عالية في مهنتهم, يميلون إلى الاستمرار فيها حتى ولو بعد المعاش, ومن ذلك مثلًا: أن معظم المهن الجامعية في مختلف البلدان تسمح لأصحابها بالاستمرار فيها لسنوات طويلة حتى بعد التقاعد الرسمي "نظام الأساتذة المتفرغين وغير المتفرغين"، ويصدق ذلك على العاملين في سلك القضاء, كما يصدق أيضًا على ذوي الكفاءات الرفيعة في أي مجال1. كما تؤكِّدُ البحوث أيضًا أن الأشخاص من ذوي المستوى الاقتصادي الاجتماعي المرتفع تتوافر لهم فرص أكثر للعمل ودوافع للاستمرار فيه, وبالطبع فإن

_ 1 أثيرت في الصحف المصرية خلال الفترة الأخيرة "1997-1998" مسألة العاملين الذين يبقون في وظائفهم القيادية بعد سن المعاش، والذين يعملون تحت مُسَمَّى "مستشارين", ويبلغ عددهم بضعة آلاف, وقد نبه إلى الحاجة إلى ترشيد هذه الممارسة وزير التنمية الإدراية ورئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة.

الأشخاص الذين يديرون مشروعاتهم الشخصية "في القطاع الخاص؛ كالحرفيين والمقاولين وصغار التجار"، والذين يمارسون المهن الحرة "كالأطباء والمحامين"، والذين يقومون بأعمال ذاتية النشاط مثل الفنانين والباحثين والعلماء, يستمرون في أداء عملهم بلا حدود زمنية, ولا يتأثرون بنظم التقاعد, كما أن هناك -كما أشرنا- أولئك الذين يتقاعدون من إحدى المهن ليعملوا في مهنة أخرى، أو يستمرون في أداء نفس المهنة ولكن في مؤسسة أخرى, أو في بلد آخر، فالتقاعد -بالمعنى الاصطلاحي- لا ينطبق إلّا على أولئك الذين يعملون لدى الغير، سواء في القطاع أو العام أو الحكومي, ومن المهم أن نشير هنا إلى أن معظم النتائج السابقة تصدق على الرجال دون النساء؛ فبالنسبة للمرأة العاملة وجد الباحثون في الغرب أن أقوى المنبئات بتقاعدها هو متغير العمر فقط "George, et al., 1980", كما أن نسبة التقاعد الاختياري بين النساء أكبر منها بين الرجال "Hattis, et al., 1975" وبالطبع فإن هذه النتائج لا تقبل النقل المباشر إلى ثقافات أخرى، ونحن في حاجة إلى دراسات حول هذ الموضوع في بيئاتنا، وخاصةً بعد أن تزايدت قيمة العمل لدى المرأة المصرية والعربية المعاصرة. أما عن الاتجاهات نحو العمل والتقاعد، فعلى الرغم من أهميتها إلّا أنها ليست بقوة العوامل السابقة، كما أن أثرها في قرار التقاعد قد يكون على نحوٍ غير مباشر؛ فالاتجاهات نحو العمل قد تحدد للمسن قراره بالاستمراره في عمله بعد التقاعد, سواء لبعض الوقت أو كل الوقت. أما عن عامل الصحة الجسمية فقد تناقضت النتائج حوله حسب طبيعة منهج البحث المستخدم؛ ففي الدراسات المستعرضة كانت له أهمية واضحة، ولكنه في الدراسات الطولية لم يرتبط إلّا قليلًا بقرار التقاعد, ومع ذلك فإن المتخصصين في ميدان سيكولوجية المسنين يرون أن ضعف الصحة سبب مقبول اجتماعيًّا للتقاعد، ولهذا فعندما يسترجعه المسن -في الدراسات المستعرضة- يبالغ في تقدير أهميته, وعمومًا إذا اجتمع عامل ضعف الصحة مع نظام التقاعد الإجباري, فإن ذلك يسبب صعوبات جمة لتكيف المسنين. ويوجد في الوقت الحاضر اتجاه في علم الإدارة نحو تفضيل عمرمتغير للتقاعد يسمح بأن يختلف من مهنة لأخرى ومن فرد لآخر, وهذ المبدأ يتفق بالطبع مع مبدأ الفروق الفردية في السلوك الإنساني, وهذا ما يسميه فؤاد البهي السيد "1975" "بالتقاعد الفارق", ويمكن أن نلخص أهم الأسس التي يجب الاعتماد عليها في حساب التقاعد بهذه الطريقة على النحو الآتي:

1- العمر الإنتاجي في كل مهنةٍ "أي: تحديد نقطة ذروة الإنتاج فيه ونقطة الانحدار". 2- نوع الإنتاج في كل مهنة "أي: مستوى الإنتاج من حيث الكم أو الكيف أو هما معًا". 3- متوسط أعمار العاملين في كل مهنة. 4- مستويات التخصص الضرورية, ومتطلبات المهارة والكفاية اللازمة لكل مهنة. 6- نسبة عدد المتخصصين الجدد إلى عدد الأماكن الشاغرة في كل مهنة "تجنبًا لأزمة البطالة". 7- نسبة العمالة الفعلية "باستبعاد كل صور البطالة المقنعة", ومدى قابلية المهنة لخطط التوسع في المستقبل. 8- مدى إعاقة المتقدمين في السن لفرص الترقي التي يترقبها الشباب العاملون في المهنة.

عملية التقاعد

عملية التقاعد: عادةً ما ينظر إلى التقاعد على أنه حدث في حياة الإنسان, إنه يرتبط ببلوغه سن الستين أو الخامسة والستين "أو أقلّ من ذلك أو أكثر حسب نظام المعاش الرسمي" حين يذهب إلى عمله "لآخر مرة" ليجمع أوارقه وأدواته، وربما يحصل -في حالات قليلة- على رمزٍ تذكاريٍّ أو شهادة تقدير أو يحضر حفل تكريم له, إلّا أن التقاعد هو أكثر من ذلك في واقع الأمر, إنه عملية أكثر منه حدث، أي تغير يحدث تدريجيًّا ويستغرق وقتًا, ويرى Atchely, 1977" أن عملية التقاعد تتضمن سبع مراحل، مع ملاحظة أنه ليس من الضروري أن يمر كل فرد بها جميعًا، كما ليس من الضروري أن يمر المرء بها بالتتابع المقترح؛ فالتنوع في عمر التقاعد وأسبابه يعني أن عملية التقاعد تختلف من شخص لآخر, ومع ذلك فإن نموذج آتشلي مفيد لفهم المهام النمائية التي تواجه المسن الذي يمر بعملية التحول من شخص عامل إلى شخص غير عامل، وهذه الخطوات هي: 1- مرحلة التفكير في التقاعد: وهي تحدث قبل التقاعد بفترة, قد تكون قصيرة أو طويلة، وعند البعض قد تبدأ في النصف الأول من طور الرشد

الأوسط "بين 40-50عامًا", وعند معظم الراشدين فإن هذا هو وقت النشاط المكثف في العمل، وهو وقت الاستمتاع بثمار العمل: المكانة والأمن الاقتصادي والشعور بالكفاءة, إلخ, ولهذا فإن تفكيره في التقاعد حينئذ -إن حدث- يكون غامضًا، وقليل من الجهد يبذل للإعداد للتقاعد في هذه المرحلة، إلّا في حالات التقاعد الإجباري المبكر "ضباط القوات المسلحة مثلًا". 2- مرحلة الاقتراب من التقاعد: وفيها يكون تفكير المرء أكثر إيجابية, وتخطيطه أكثر تنظيمًا للتقاعد, وتقوم بعض المجتمعات بتقديم برامج لما قبل التقاعد, يلتحق بها الراشدون في أواخر طور منتصف العمر، وفيها تُقَدَّمُ لهم خدماتٌ إرشادية حول التقاعد, ويتدربون على التخطيط لهذا الطور من الحياة, ويرى آتشلي أن هذا هو وقت بداية التحرر من الالتزامات في العمل؛ حيث يتحلل الشخص تدريجيًّا من المسئوليات والالتزامات التي تنقل إلى الجيل الأصغر, وتنتهي هذه المرحلة بالتقاعد الفعلي. 3- مرحلة الأثر المبدئي: وهي المرحلة الأولى من التقاعد الفعلي تمثل الانتقال والتحول من دور العامل إلى دور غير العامل, ويختلف سلوك المسنين في هذه المرحلة؛ فعند البعض قد يصاحبها حماسٌ مبدئيٌّ وحالة استثارة, وشعور بالنشاط الزائد الحيوية الفائقة، وعندئذ يبدأ الشخص في تنفيذ الأنشطة الكبيرة التي ربما خطَّطَ لها من قبل ولم يستطع القيام بها؛ مثل: رحلة طويلة, أو زيارة الأقارب والأبناء, أو البدء في إصلاح البيت, أو تجديد حديقة المنزل, أو الكتابة والقراءة, أو محض الاسترخاء, وبالطبع فإن خبرة الاستثارة والحماس في المرحلة المبدئية هذه, ليست شائعة عند جميع المتقاعدين, فأولئك الذي يجبرون على التقاعد إما بسبب السياسة الرسمية أو ضعف الصحة، وأولئك الذين يجدون أن موقفهم المالي يمنعهم من الانشغال في الأعمال والأنشطة التي خططوا لها, يشعرون عادةً بعدم الرضا والإحباط, بل والفشل الفعلي عند التقاعد. 4- مرحلة التحرر من الالتزام: وفيها يشعر المتقاعد أنه قد "حبط" سعيه، وقد يصاحب ذلك بعض الاكتئاب, وهذه المرحلة يمر بها حتى أولئك الذين شعروا بخبرات الحماس في المرحلة السابقة, فهؤلاء قد يكتشفون أن بعض خططهم أبعد من وسائلهم, أو أن بعض هذه الخطط ليس مثيرًا كما كانوا يتوقعون. إلّا أن هذه المرحلة لا تستمر طويلًا, فمع استمرار سنوات ما بعد التقاعد ينتقل المسن إلى المرحلة التالية.

5- مرحلة إعادة التوجيه: وفيها يبدأ المرء في تقبل حقيقة التقاعد ومعناه بالنسبة له وللمجتمع, وحينئذ يبدأ في إعادة توجيه ذاته للمستقبل, ولإعادة تقويم أهدافه ووسائله في الوصول إليها. 6- مرحلة الاستقرار: ويختلف الأفراد في معدلات وصولهم إلى هذه المرحلة، فالبعض يصل إليها بعد مرحلتي التحرر من الالتزام وإعادة التوجيه، والبعض الآخر يصل إليها مباشرة بعد مرحلة الأثر المبدئي, وتأتي أهمية هذه المرحلة من أنها وقت اتخاذ قراراتٍ هامَّةٍِ حول اختيارات أو أهداف طويلة المدى وتنفيذها. 7- المرحلة الختامية: وهي المرحلة الأخيرة في عملية التقاعد, وفيها يفقد التقاعد الكثير من أهميته ومغزاه للشخص المسن، وتحل محله في الأهمية عوامل أخرى مثل المرض الخطير, وعندئذٍ يتخلّى المسن عن دور المتقاعد ويحل محله دور المريض أو العاجز، وعند البعض تتخذ المرحلة الختامية صورة أخرى، فعدم الرضا عن أهداف وأنشطة التقاعد، ويشمل ذلك ما يرتبط منه بوقت الفراغ الطويل، قد يدفع الشخص المسن إلى البحث عن العمل مرة أخرى، وعادةً ما يكون بعض الوقت، وغالبًا ما يكون عملًا لا يرتبط مطلقًا بالأنشطة المهنية السابقة، وقد يكون عملًا تطوعيًّا, وهكذا تكتمل الدائرة بالفرد من عاملٍ إلى غير عامل إلى عاملٍ مرةً أخرى.

التكيف للتقاعد

التكيف للتقاعد: اهتم الباحثون في سيكولوجية الشيخوخة في السنوات الأخيرة بموضوع التكيف للتقاعد, ولعل من أهم العوامل التي تحدد ذلك مقدار الاختيار المتاح للمسن عند التقاعد, وقد أشرنا إلى التنوع الكبير في هذ المسألة, ولعل أكثر الأشخاص قدرةً على الاستمرار في العمل إلى فترة زمنية أطول مما يحدده العمر الزمني للتقاعد هم العاملون في الأعمال الحرة كما بينا, كما أن بعض المهن وبعض التشريعات تقدم للمسنين فرصًا للتقاعد المبكر لمن يشاء مع بعض الفوائد والمغريات, وتوجد بعض نظم "التقاعد المرن" والتي تسمح للناس بالعمل بعد التقاعد الرسمي "كالأستاذ المتفرغ بالجامعة", وبالطبع هناك الأغلبية الساحقة من الموظفين المدنيين والعاملين الذين ليس لهم خيار إلّا الاستمرار في العمل حتى الوصول إلى سن التقاعد الرسمي، وعنده ينتهي كل شيء, وهكذا يمكن القول أن التقاعد قد يكون خبرةً طيبةً لدى بعض المسنين، وقد لا يكون له أثر يذكر فيهم، أما بالنسبة لأغلبيتهم فإنه خبرة سيئة أو صدمية, والسؤال هنا: من هم أولئك الذين

يشعرون بالرضا عند التقاعد, ومن لا يشعرون بذلك؟ يمكن القول بصفةٍ عامة أن الاتجاهات المسبقة نحو التقاعد, وخصائص شخصية المسنين وظروفهم الاقتصادية وأوضاعهم الصحية, وظروف عملهم تلعب دورًا حاسمًا؛ فالأشخاص الذين يؤدون الأعمال الروتينية أو غير الماهرة, والذين يشعرون بالملل من عملهم, وغير السعداء بنظم الإدارة له, وغير الراضين عن العلاقات الإنسانية فيه, قد يشعرون بكثيرٍ من الرضا عند تقاعدهم "Troll, 1982". أما الآخرون الذين يعملون في مهن تتطلّب مهاراتٍ عليا, فإنهم يظلّون في عملهم حتى سن التقاعد الرسمي بل بعده إن كان ذلك ممكنًا, ولعل هؤلاء هم أكثر الفئات شعورًا بعدم الرضا عند التقاعد، ويكون توافقهم معه أكثر صعوبة. إنهم أولئك الذين "يحبون عملهم" ويتفانون فيه, ربما لفترةٍ تصل إلى أربعين عامًا من الإنجاز والكفاءة, ثم فجأةً يصل كل ذلك إلى نهايته بخاتمة غير سعيدة. إن هؤلاء الأشخاص يشعرون أن فقدهم لعملهم بالصورة التي عليها نظام التقاعد الحالي إنما هو نوع من "الكارثة المفاجئة"؛ فالعمل الذي أعطاهم طوال هذه الفترة الطويلة شعورًا قويًّا بالاستقلال والسلطة والاعتقاد في قيمتهم من خلال ما يسهم به عملهم في المجتمع، يتلاشى فجأة, ويؤدي ذلك بمثل هؤلاء المسنين إلى أن يكون انتقالهم إلى العمر الثالث من حياتهم صعبًا وشاقًّا؛ فمثل هؤلاء يكون العمل عندهم جزءًا رئيسيًّا من حياتهم بما حقق لهم من مكانة عالية. كما أن التوافق للتكيّف يكون صعبًا أيضًا لدى أولئك الذين ليست لديهم مدخرات ملائمة أو دخل كافٍ عند التقاعد, وحقيقة الأمر أن دخل المعاش في ظلّ التشريعات الحالية في عدد كثير من الأقطار غير ملائم لمعظم المسنين الذين قضوا حياتهم المهنية يؤدون أعمالهم بأمانة وذمة وشرف, ولذلك كثيرًا ما تنشأ ظاهرة "فقر ما بعد التقاعد", فعادةً ما يترتّب على التقاعد قطع المنح والعلاوات والحوافز وخفض كثير من الرواتب, ولا يمكن للمتقاعد أن تكون روحه المعنوية عالية إلّا إذا كان مستواه الاقتصادي يمكن مقارنته بشكلٍ ملائمٍ مع مستواه عندما كان يعمل "Bromley, 1974", ويضاف إلى عامل الدخل عامل آخر هو الصحة, وقد أكدت الدراسات أن هذين العاملين هما أفضل منبئين بالرضا عن الحياة لدى المسنين المتقاعدين, والواقع أن توافر هذين العاملين يهيئ للمسن فرصة فرض تحكمه على بيئته ويعينه عل الاستمرار "راشدًا"، ومن محكاته كما أشرنا كثيرًا، الاستقلال الاقتصادي، بالإضافة إلى شعوره بأنه يمكنه المساهمة في نشاط مفيد, وله قيمته لنفسه وللمجتمع.

ويوجد عامل آخر يؤثر في الاتجاهات نحو التقاعد, هو نوعية الخطط التي أعدها المسن للتقاعد قبل التحوّل الفعلي من دور العامل إلى دور غير العامل, إلّا أن ما نحب أن ننبه إليه هو أن بعض الشركات الكبرى, وبعض المؤسسات الإرشادية الرئيسية في الدول المتقدمة, تقدم للمسنين خططًا للتقاعد قبل حلوله "ولعل اليابان هي أكثر الدول اهتمامًا بهذا الموضوع"، وبالطبع فإن اقتناع المسن بأهمية التخطيط المبدئي لتقاعده يسهم كثيرًا في تكوين اتجاهات إيجابية نحوه عنده حدوثه "Troll, 1982". وقد يكون أكثر الموضوعات أهميةً بالنسبة لاتجاهات المسنين نحو التقاعد وتوافقهم معه ما يتصل بطريقة استثمار "الوقت الطويل" عندئذ, والبدائل تشمل إعادة الاهتمام بالهوايات وبرامج الترويح، أو الانشغال بعمل نصف الوقت، أو القيام بخدمات تطوعية ورعاية الآخرين، أو النشاط السلبي مثل مشاهدة التليفزيون والتأمل في الحياة والناس, وعلى الرغم من أن النشاط السلبي يبدو بديلًا جذابًا بعد عمر طويل من العمل "طوال العمر الثاني للإنسان", إلّا أن هذا ليس اختيارًا محبَّذًا, كما أن الفراغ الطويل الذي يتضمنه يحمل معنًى سيئًا في بعض الأحيان؛ فالفراغ يرتبط عادةً بالعمل، فكيف يوصف وقت بأنه "فراغ حيث لا عمل", وبالطبع فإن لهذا معناه في الثقافة الإنسانية الموجهة أساسًا نحو العمل. ويتزايد في الوقت الحاضر تشجيع المسنين -بالإضافة إلى مَنْ هم في منتصف العمر- على البحث عن عمل آخر، ولا يحتاج ذلك أن يكون العمل "مهنة" بالمعنى التقليدي, فقد يكون امتدادًا لعمله السابق أو عملًا جديدًا تمامًا, ومن ذلك مثلًا القيام بدورٍ مهنيٍّ جديد، أو الاستفادة من نواتج الهوايات بالبيع "إنتاج فني مثلًا", أو القيام بنشاطٍ في خدمة الحي الذي يعيش فيه, وغير ذلك من الأعمال التي ربما كان الشخص يصبو إلى القيام بها من قبل ولكن لم يتهيأ له الوقت لذلك من قبل. ويفيد المسن كثيرًا أن يكون قد اختار "طريقة الثاني" في مرحلة الرشد المبكر أو الأوسط، ففي ذلك كثير من بعد النظر، ويهيئ للمرء فرصة لاستثمار مهاراته وميوله في مرحلة الشيخوخة, وقد يجد بعض المسنين حلولًا من خلال عمل غير متفرغ -كما بينا- سواء في مجالهم الأصلي, أو أحد المجالات المرتبطة به. كما بدأ الاهتمام في السنوات الأخيرة بتهيئة الفرص التعليمية للمسنين، وظهر مجال جديد في ميدان تعليم الراشدين يتصل في جوهره بمرحلة الشيخوخة.

والسؤال الأخير الآن: هل التقاعد خبرة محبطة ضاغطة حقًّا كما يشيع عنها؟ الإجابة هنا تتوقف على نجاح المرء في التوافق مع هذه الخبرة, وعمومًا فإن نتائج البحث تؤكد لنا "Troll, 1982" أن كثيرًا من الناس تتحسن صحتهم، ولا تتدهوركما يشيع، خلال السنوات التالية مباشرة للتقاعد، وباستثناء الذين يجبرون على التقاعد المبكر, فإن هذه الخبرة يبدو أنها لا ترتبط بانخفاض الروح المعنوية عند معظم الناس، كما أنها لا تؤدي إلى الاضطراب النفسي، بل إنه بعد التقاعد يبدأ التفاعل أقوى بين أعضاء الأسرة من مختلف الأجيال. وخبرة التقاعد، مثلها في ذلك خبرة "العش الخالي" وغيرها من حالات التغير المرتبطة بالعمر قد تبدو "مهولة" لدى أولئك الذين لم يخبروها بعد، أو الذين يقتربون منها، بينما هي ليست كذلك لدى الذين يعيشون الخبرة أنفسهم؛ فاتجاهات الراشدين في منتصف العمر نحو التقاعد أكثر سلبية من اتجاهات المسنين المتقاعدين أنفسهم, يصدق ذلك على الرجال والنساء، ولو أن موضوع تقاعد المرأة العاملة لم يحظ بعد باهتمامٍ يذكر من الباحثين.

الحياة الأسرية

الحياة الأسرية: في مرحلة الشيخوخة يدخل الإنسان في المرحلة الأخيرة من دورة الحياة الأسرية, وفي نموذج "Duvall 1977" الذي عرضناه في الباب السابق, نجد أن معظم الراشدين يقضون ما بين 10، 15 سنة في هذه المرحلة، منذ التقاعد حتى وفاة أحد الزوجين, وبالطبع توجد فروق واسعة بين الناس في عدد السنوات التي يعيشونها بعد التقاعد, وبصفة عامة فإنه ما دامت المرأة تعيش أطول من الرجل فمن المتوقع أنها تشعر بهذا المظهر من مظاهر الحياة لفترة أطول. ويمكن القول أن هذه الفترة من الحياة الأسرية جديدة من الوجهة التاريخية, فمع الرعاية الطبية المتطورة، والتغذية الجيدة، وزيادة الخدمات الاجتماعية وتحسين نوعيتها, سهل على المسنين تحمُّل أعباء الشيخوخة، وبالتالي امتداد مدى الحياة لفترة أطول, وفي الماضي كان من النادر أن يعيش المرء حتى أواخر السبعينات أو الثمانينات أو التسعينات, إلّا أن ذلك أصبح الآن أكثر شيوعًا, وبالإضافة إلى ذلك فإن الزوجين يصلان إلى هذه السنوات المتأخرة معًا, والسؤال الآن: ما هي خصائص هذا المظهر الأخير من مظاهر الحياة الأسرية؟ وما هي المهام النمائية الخاصة التي يجب مواجهتها داخل سياق الأسرة في هذه المرحلة؟ وكيف يتعامل المسنون معها؟

إن الصورة النمطية للحياة الزوجية للزوجين المسنين أنها بصفة عامة "كئيبة"؛ فمعظم الناس يدركونها غير سعداء ومنعزلين ووحيدين ومرفوضين من أحبائهم -وخاصة الأبناء والأقارب, وعلى الرغم من أن هذا صحيح إلى حَدٍّ ما لدى بعض الناس، إلّا أنه الاستثناء وليس القاعدة؛ فمعظم البحوث توحي بأن نوعية الحياة الزوجية في الشيخوخة جيدة على وجه العموم, وحينما يصل إليها الزوجان معًا يكونان سعيدى الحظ, وفي إحدى الدراسات الهامة وصف معظم المسنين هذه المرحلة على أنها أسعد مراحل زواجهم Stinnett, 1972". ما هي العوامل التي تحدد الحب والرضا الزواجي في مرحلة الشيخوخة؟ وهل هي نفس العوامل التي تلعب دورها في مراحل العمر الأسبق؟ يجيب على هذه الأسئلة وغيرها ريدى وزملاؤه "Ready, et al., 1981" الذين قارنوا بين عيناتٍ من الراشدين من مختلف مراحل الرشد "المبكر، الأوسط، المتأخر". لقد سأل الباحثون مفحوصيهم تقدير مدى دقة عبارات معينة في وصف علاقة المحبة الراهنة بينهم كأزواج, وبينت النتائج أن المسنين قدروا العبارات الدالة على الأمن الانفعالي العاطفي والولاء على أنها أكثر ما يميز علاقة الحب عندهم, ويعلق الباحثون على هذه النتائج بأن علاقة الحب بين الزوجين تصبح مع مرور الزمن أقل اعتمادًا على محض الصحبة والتواصل وأكثر اعتمادًا على تاريخ العلاقة والتقاليد والالتزام والولاء, وذلك على عكس من هم أصغر سنًّا, وبصرف النظر عن هذه الفروق بين الأجيال, فقد أوضحت الدراسة وجود تشابه كبير بين هذه الأجيال الثلاثة حول ما يعتبره الزوجان إيجابيًّا داخل علاقة الحب, فكلهم قدَّروا الأمن الانفعالي الوجداني على أنه الأكثر أهمية, يليه الاحترام والتواصل وسلوك المساعدة والمعاونة والعلاقات الجنسية والولاء على التوالي, ويعلق الباحثون على ذلك بقولهم: "إن الحب أوسع نطاقًا من الجنس، وفي أيِّ عمرٍ يوجد دائمًا ما هو أكثر أهمية منه في علاقة الحب بين الزوجين, وخاصةً الأمن الانفعالي العاطفي الذي يعني مشاعر الاهتمام والرعاية والثقة والراحة, واعتماد كلٍّ من الزوجين على الآخر". وتوافق المسنين زواجيًّا هو بالطبع خلاصة سنوات عديدة من العيش معًا, ومعرفة كلٍّ منهما بالآخر معرفةً وثيقة, فبعد حوالي أربعين عامًا من الزواج -في المتوسط- يكون كلٌّ منهما تعلم أن يتجاهل المضايقات الصغيرة التي تصدر عن رفيقه، ويقبل منه ما استعصى على التعديل والتغيير من سلوكه. ويعين ذلك

الزوجين مع التقدم في السن على أن يصبحا أقل اندماجًا في المواقف والأحداث من الناحية الانفعالية, بالإضافة إلى ميلهم إلى تجنب مواقف الصراع وغيره من المواقف الضاغطة المجهدة. ويرى "Adams, 1975" أن المتغيرين اللذين يخلعان على زواج المسنين خاصيته المميزة هما: التحول التدريجي عن التركيز على الأبناء من ناحية، وتقاعد الزوج "وكذلك الزوجة العاملة" من العمل, وكِلَا الحدثين يهيئ للزوجين تحررًا أكبر من المسئوليات والالتزامات الخارجية, فلم يعد يتوقع منهما إلّا أن يدعم كلٌّ منهما الآخر ويسنده ويؤازره، ويتوافر لهما فسحة أطول من الوقت لذلك "وخاصة بعد وفاة والديهما واستقلال أبنائهما تمامًا", وهذا في ذاته أحد العوامل الهامة المحققة للسعادة الزوجية في هذه السن. وبالطبع فإن بعض الأزواج المسنين يواجهون مشكلاتٍ في زواجهم، فتقاعد الزوج يسبب للزوجة في البداية بعض المضايقات, ومع زيادة نسبة النساء العاملات الآن, فإن التقاعد ربما يسبب بعض المشكلات للحياة الأسرية عند تقاعد الزوجين معًا, وبالطبع فإن ذلك لا يدوم طويلًا، وخاصةً عند النجاح في إعادة تنظيم حياتهما لمواجهة الظروف الجديدة. والمرض مصدر آخر للإجهاد Stress والتعاسة في الحياة الأسرية للمسنين, وبعض الأمراض تؤدي إلى ظهور علاقة اعتمادية جديدة؛ حيث يقوم الزوج "أو الزوجة" بدور الممرِّض لزوجه المريض, والفقر مصدر آخر للشقاء الزواجي في الشيخوخة، وخاصةً مع انخفاض الدخل بعد التقاعد. وتجدر الإشارة إلى أن الحياة الزوجية في سن الشيخوخة ليست فقط مصدرًا للسعادة في هذه المرحلة من العمر, ولكنها مفيدة سيكولوجيًّا وبيولوجيًّا؛ فقد أكدت البحوث أن المسنين المتزوجين أقل شعورًا بالعزلة والوحدة والاكتئاب بمقارنتهم بأقرانهم المسنين غير المتزوجين, كما أنهم أقل تعرضًا للاضطرابات والأمراض النفسية والعقلية، وهم أكثر احتمالًا في العيش عمرًا أطول, ومعنى ذلك أن الظروف المحيطة بزواج المسنين التي تعني وجود رفيق العمر على قيد الحياة تؤدي إلى تخفيف الضغوط الشديدة التي قد يتعرضون لها في حياتهم المتأخرة لو كانوا وحدهم. ومن مظاهر الحياة الأسرية في مرحلة الشيخوخة في العصر الحديث أنه لا يكاد يوجد في الأسرة الحديثة موضع لجيل المسنين، وبالتالي فإنهم

يتركون في الأغلب وحدهم, إلّا أن حقيقة الأمر أن المسنين ليسوا منعزلين أو منبوذين؛ فمعظمهم يفضل العيش مستقلًّا مع المشاركة النشطة في حياة الأسرة, ففي دراسة "Troll, 1971" وُجِدَ أن حوالي ثلث المفحوصين الذين تجازوا سن الخامسة والستين يعيشون مع أولادهم, وهؤلاء يميلون إلى الانتقال إلى "العش الخالي" في بيوت أبنائهم الذين بلغوا أنفسهم طور منتصف العمر؛ حيث يصبح البيت لجيلين من الراشدين، أحدهما جيل الأبناء في منتصف العمر, والثاني جيل الآباء المسنين, والبعض الآخر من المسنين يعيش قريبًا من بيوت أبنائهم, ففي المجتمع الصناعي الحديث يؤلف كل جيل أسرته النووية, ويعيش الأغلب في نفس الحي "Shanas, et al., 1968", وعمومًا فإن علاقة المسنين بأولادهم تستقر على ذلك النمط الذي كان سائدًا بينهم حين كانوا هم "أي: المسنين" في منتصف العمر, وأبناؤهم في طور الرشد المبكر أو الشباب, ونظرًا لأن التصادم بين الأمهات والأبناء أكثر حدوثًا في هذا الطور المبكر، وخاصةً بعد زواج الأبناء وما يترتب عليه من علاقات جديدة بين المرء وزوجه "فؤاد البهي السيد 1975" فإن هذا التوتر قد يظلّ مستمرًّا حتى مرحلة شيخوخة الأمهات، وقد يخفف التقدم في السن بعض حدته. ويعتمد المسنون اعتمادًا كبيرًا على أبنائهم عند المرض, وفي الأغلب يستجيب الأبناء لظروف آبائهم استجابةً فورية "Sussman, 1960, 1965", فعمظم الراشدين لديهم الرغبة في معاونة آبائهم المسنين, ومع ذلك فإن هؤلاء المسنين يظلون لفترةٍ طويلةٍ غير معتمدين على أبنائهم ماليًّا أو انفعاليًّا. وعادةً ما تظل العلاقة -حتى بلوغ طور أرذل العمر- علاقة أخذ وعطاء في الخدمات المادية والدعم الانفعالي, بل إن نسبة المسنين الذين يبذلون المساعدة لأبنائهم تفوق نسبة الذين يتلقون هذه المساعدة من هؤلاء الأبناء "Riley, et al., 1968", ويمكن لهذا النمط من التفاعل أن يستمر حتى يصل الوالدان إلى طور التدهور الكلي "أرذل العمر" الذي سنتناوله في الفصل التالي. وفي مرحلة الشيخوخة لم يعد الأحفاد أطفالًا أو صبيةً, وإنما قد يكونون مراهقين أو شبابًا، بل ربما يكونون في مطلع الرشد, ومع امتداد متوسط الأعمار يصل بعض الناس الآن إلى مرحلة متقدمة في السن وهم في صحة جيدة وحيوية ظاهرة, وهو ما لم يكن يحدث من قبل، وهذا كله يوحي بأن يزداد أثر الأجداد في أعضاء الأسرة الأصغر سنًّا, وتقوم الجدة خاصةً بعلاقة مؤثرة في أحفادها "Troll 1983", وقد يرجع ذلك إلى السبب الواضح وهو أنها تعيش أطول من

الجد الرجل, وهذا لا يعني إنكار دور الجد الرجل الذي يتعامل معه الجميع على أنه مستودع الخبرة والحكمة للأسرة -كما أشرنا من قبل- والذي يؤثر على وجه الخصوص في الأحفاد الذكور "Hagestad, 1978". ويختلف الأجداد اختلافًا كبيرًا في درجة اندماجهم في حياة أحفادهم؛ فبعضهم يندمج بعمقٍ، والبعض الآخر يبدو غير مهتمٍّ تمامًا بأحفاده, وقد بينا عند تناول طور وسط العمر كيف أن الأجداد يلعبون دورًا هامًّا في حياة أحفادهم من حيث رفاهيتهم وتوافقهم في وحدة الأسرة المؤلفة من الابن الراشد والحفيد الصغير "Troll, 1983", ومن الطريف -مع ذلك- أن نشير إلى هذه النتيجة التي أكدتها عدة بحوث من أن رفاهية ومعنويات الأجداد لا ترتبط فقط بمقدار الصلة التي تربطهم بأحفادهم، فالرضا عن الحياة في مرحلة الشيخوخة يرتبط أيضًا بأنماط الصداقة، والنمط الزواجي على نحوٍ قد يفوق دور الجد الذي يقوم به المسن "Brodinsky, et al., 1986". وعادةً ما يدرك الأجداد والأحفاد -سواء كانوا من المراهقين أو الراشدين- الطرق التي يحاول بها كلٌّ منهما التأثير في الآخر, وغالبًا ما يكون هذا التأثير ناجحًا, وخاصةً في بعض المجالات التي تسميها "Hagestad, 1978"، المناطق المنزوعة السلاح", والتي لا يجوز الاقتراب منها بين الأباء والأبناء, وتعنى بها تلك المجالات الحساسة كالحب والدين, فعلاقة الشيخ بأحفاده وأسباطه "وهم أبناء الأحفاد" فد تفوق علاقته بأولاده, فيلجأون إليه ليحميهم من ثورة الأب والأم وغضبهما, وهو بالنسبة لهم ملتقى القوى التي تموج في حياة الأسرة, وإليه يهرعون في أزمانهم ومشكلاتهم, ويعبِّر عن ذلك كله فؤاد البهي السيد "1975: 459" بقوله: "وهكذا ينشأ نوع غريب من الصداقة بين جيلين مختلفين، جيل يقبل على الحياة، وهو لا يدري ماذا يُخَبَّأُ له، وجيل يودعها بعد أن ابتلي بشرها ونعم بخيرها", وبالطبع فإن هذه العلاقة في المجتمعات الريفية البسيطة أقوى منها في المجتمعات الحضرية الصناعية, وذلك لوثوق الصلة بين الأجيال، والتفاعل بينها وجهًا لوجهٍ معظم الوقت, وهو ما لا يتوافر في المدينة. وتنعكس آثار هذه العلاقة على الجيل الأوسط، أي: جيل الآباء والأمهات؛ فعندما يعامل الوالد ابنه قسوةً، يعارضه الجد ويدافع عن الحفيد, بل إن الجد قد ينتقد كثيرًا طريقة ابنه في تربية الأحفاد, وتكون استجابة الجيل الأوسط لذلك رفض تدخل الجد في تنشئة الأبناء, وقد يتطور الأمر أكثر من ذلك فيعتبر الجد المسن نقد ابنه له تقليلًا من شأنه، وعقوقًا له وحجرًا على حقِّه في حماية الأحفاد

والأسباط من سوء المعاملة "فؤاد البهي السيد 1975". والترمل هو أعظم فقدان انفعالي واجتماعي للمسن, يظل يعاني منه سنوات عمره الباقية, وذلك لسببين: أولهما أن الترمل خبرة وأسلوب حياة يعانيها المرء ما بقي من عمره، وثانيهما أنه حالة ومكانة اجتماعية يعيش بها؛ فوفاة أحد الزوجين كارثة لشريك حياته، ويحتاج الأمر من الزوج وقتًا طويلًا حتى يتوافق قدر الإمكان لمكانة وأسلوب حياة جديدين, ويؤكد تراث البحوث التي أُجْرِيَتْ على التوافق النفسي للأرامل المسنين, أن فقدان الزوج يؤدي إلى هبوط الروح المعنوية مع ظهور أعراض أمراض جسمية كنقص الشهية والأرق, فإذا كان الأرمل يعاني من مشكلاتٍ صحية طويلة مثل التوتر الزائد, فإن ذلك قد يؤدي إلى تطورات أخطر مثل: أمراض القلب وانسداد الشرايين، بالإضافة إلى بعض الاستجابات النفسية غير السوية مثل: الشكوى الدائمة والشعور بالذنب والاكتئاب والرغبة في الموت, ولعل هذا يفسِّرُ لنا وفاة المسن في كثيرٍ من الأحيان عقب وفاة رفيق حياته بزمنٍ قصير "Berada, 1968", وهذا كله أكثر حدوثًا للنساء, وقد يعين المسن على تجاور المحنة أن يكون له صديق حميم "Stroabe & Strosbe 1983". وعلى أية حالٍ فإن الفروق الجوهرية بين الجنسين في خبرة الترمل تؤكد أن الرجل أكثر تعرضًا لأزمة ضغط الدور بعد فقدان دور الزوج، أما المرأة فإن أزمتها الكبرى هي فقدان الدعم العاطفي والاجتماعي.

التوافق والشخصية في طور الشيخوخة

التوافق والشخصية في طور الشيخوخة: تستحضر الشيخوخة معها تحديات ومهامًّا جديدة تجب مواجهتها والتوافق معها, والمسنون قد ينجحون أو يفشلون في مواجهة وتناول هذه المهامِّ النمائية, شأنهم في ذلك شأن غيرهم ممن هم أصغر سنًّا عند التعامل مع مهام الحياة الخاصة بمراحل نموهم, وبالإضافة إلى ذلك فإن أساليب التوافق أكثر اختلافًا في سنوات الشيخوخة عنها في المراحل المبكرة من الحياة, إلّا أن هذا لا يجعلنا ننكر خطورة المشكلات التي يواجهها المسنون, وأهمها تدهور الصحة، وفقدان العمل، والترمُّل، والمشكلات المالية، وفقدان المكانة الاجتماعية، والعزلة الاجتماعية, وغيرها مما يُعَدُ من المشكلات المؤرِّقة للمسنين في الوقت الحاضر، ومع ذلك فعليهم التصدي عليها, وفي الواقع فإن نجاح معظم المسنين في مواجهة تحديات الشيخوخة لا يرتبط فقط بهذه الفترة من الحياة لدى معظم الناس؛ فالشيخوخة هي فترة من النموّ النفسي المستمر، حتى في مواجهة التدهور الذي تناولناه بالتفصيل فيما سبق.

مهام النمو في الشيخوخة: نبدأ بتحديد مهام النمو في هذه المرحلة, يرى إريكسون أن المرء في مرحلة الشيخوخة يمر بآخر أزمات نموِّه, وهي التي يسميها أزمة تكامل الأنا "الذات", في مقابل اليأس والقنوط "Erikson, 1963", والتكامل هنا هو تكامل انفعالي، وتجاوز لحدود الذات من خلال تقبل الفرد لحياته, ويظهر اليأس في صورة الشعور بأن الوقت صار قصيرًا جدًّا وأنه لا توجد فرصة للبحث عن طريق ٍبديل لحياة مقبولة, وكما هو الحال في المراحل السابقة يوجد في هذه المرحلة صراع داخلي, فحتّى الشخص الذي يقبل على شيخوخته بدرجة كبيرة من التكامل يشعر باليأس عند التفكير اللحظي في الموت, وكما هو الحال في المراحل النفسية الاجتماعية السابقة في نظرية إريكسون, فإن الطابع الغالب على المرحلة هو الأهم؛ فالمسن الذي يحقق لنفسه قدرًا ملائمًا من التكامل يفوق اليأس في سنوات شيخوخته تتغلب إرادة الحياة عنده على قلق الموت. ويرتبط بمهمة تنمية تكامل الأنا عملية تُسَمَّى مراجعة الحياة life review, فمع وصول المسن إلى هذه المرحلة المتأخرة من حياته يعيد تنظيم ذكرياته، ويعيد تفسير أفعاله وقراراته التي شكلت مسار حياته في الماضي, ومن الوجهة المثالية فإن مراجعة الحياة خبرة موجبة تؤدي إلى إحداث التكامل في الشخصية؛ فبالنسبة للبعض تقود هذه العملية إلى اندماجٍ أقلٍّ للذات مع الموقف الخاص بالفرد، وإلى اهتمام أكبر بالعالم بوجه عام, وبالنسبة لآخرين يؤدي ذلك إلى الشعور بالحنين للماضي nostalgia أو الشعور بالأسف على العمر الجميل الذي فات, وعند فريق ثالث قد تولِّد هذه العملية مشاعر القلق والشعور بالذنب والاكتئاب واليأس، فبدلًا من أن يفكر الشخص في حياته كلها، يشعر بأنه خُدِعَ وأن حياته تسربت منه دون أن يستثمرها كما يجب, وغالبًا ما يستطيب المسنون مشاركة الآخرين لهم في أفكارهم عند قيامهم بعملية مراجعة حياتهم، وخاصةً الأقارب والأصدقاء، وعلى وجه أخصّ الأحفاد, فمع جلوس الجد البالغ من العمر سبعين عامًا مع حفيده المراهق في النادي يذكُر له شعوره بخيبة الأمل حين عمل بالوظيفة الحكومية مثلًا, وفي نفس الوقت يذكر شعوره بالاعتزاز لنجاح أولاده وأحفاده. ويرى Peck "في Neugatren, 1968" أن النموَّ النفسي المستمر في سنوات الشيخوخة يتمركز على نواتج ثلاث مهامٍّ رئيسية كبرى هي: 1- التقاعد المهني: وعلى هذا, فيجب على المسن أن يكون قادرًا على إيجاد رضًا شخصيّ وقيمة للذات في المراحل السابقة.

2- التدهور الجسمي: فالأشخاص الذين يجدون السعادة والرفاهية أساسًا في نشاط الجسم يتعرضون لاضطرابٍ خطيرٍ بسبب التغيرات الجسمية خلال الشيخوخة, ولذا نجدهم يهتمون بهذه التغيرات إلى حَدٍّ يجعلهم يشعرون باليأس والقنوط من أنفسهم ومن حياتهم, ومن الواجب أن يغيروا اتجاهاتهم بحيث تنأى عن التركيز على النواحي الجسمية, وتنحو بهم أكثر نحو الأنشطة الإنسانية والعقلية والاجتماعية. 3- تقبُّل حقيقة الموت: كل شخص مسن عليه أن يواجه حقيقة الموت، وعلى المسلم أن يتقبل ليس فقط حتمية القضاء والقدر فيه، وإنما عليه أن يتأمَّل أيضًا معناه على أنه ليس فناءً نهائيًّا, أو إسدال الستار على الفصل الأخير كما هو الحال في بعض الفلسفات الغربية المعاصرة، وإنما هو بداية لحياة أخرى أبقى وأخلد, وقد ييسر على المسن التكيف لهذه المهمة أن يشعر بأنه حلّ أزمة الإنتاجية والتدفق في رشده من خلال خَلَفٍ صالِحٍ يرثه قيمًا وأفكارًا, وليس فقط ميراثًا ماديًّا سواء كانوا من صلبه "أولاده" أو من الأجيال الجديدة التي تدربت على يديه أثناء العمل. ومن المهم أن نذكر أن نجاح المسن في مواجهة هذه التحديات يعتمد إلى حَدٍّ كبير، على النجاح الذي أحرزه في مهامه النمائية السابقة, فحل أزمات الشيخوخة هو تراكم لحلول الأزمات النفسية الاجتماعية العديدة التي مرَّ بها الإنسان في أطواره السابقة, وذلك كله من منظور النمو مدى الحياة. وقد أشرنا من قبلُ إلى الصورة "المنفرة" أو "السلبية" التي تقترن بالشيخوخة في المجتمع الحديث, والحق أن مرحلة العمر الثالث للإنسان تستحضر بالفعل بعض الجوانب غير الجذابة في الثقافات المعاصرة, وبعض الدراسات التي أُجْرِيَتْ في الغرب حول الاتجاهات نحو المسنين أظهرت لنا أن الأشخاص الأصغر سنًّا يدركون المسنين على أنهم منعزلين ومتصلبين، ومتدهورين في قواهم الجسمية والعقلية, واتجاهات طلاب المدارس الثانوية والجامعات نحو المسنين ودورهم الاجتماعي في معظمها سالبة، وكلما ازداد الشخص تقدمًا في السن كانت صورته أقل جاذبية للأصغر سنًّا "Tuckman & Lorg, 1953" إلّا أنه لحسن الحظ ليست الصورة بهذا السوء في ثقافتنا العربية والإسلامية؛ ففي دراسة قام بها طلعت منصور "1987" على المجتمع الكويتي, توصل إلى نتيجة عامة خلاصتها: وجود اتجاه إيجابي عام نحو المسنين أظهره الشباب والراشدون المبكرون والراشدون في

طور منتصف العمر, وبالطبع كان اتجاه المسنين أنفسهم نحو التقدم في السن إيجابيًّا أيضًا, ومعنى ذلك أن الثقافة العربية الإسلامية تهيئ للمسنين فرصةً لحل أزمة تكامل الأنا, في مقابل اليأس والقنوط في الاتجاه الإيجابي "أي: تكامل الأنا", وأن دور المسنين لا يتناقص في هذه الثقافة, بل ربما يزداد أهميةً وقيمةً وقدرًا، وهي نتيجة تتفق مع تحليلنا اللغوي في الفصل السابق لمعنى الشيخوخة والشيخ. أما بالنسبة للمسن نفسه, فإن من أصعب الأمور عليه أن يصف نفسه بأنه "مسن" أو "عجوز", فقد أوضحت بعض الدراسات أن حوالي نصف المفحوصين في إحدى الدراسات التي أُجْرِيَتْ على عينة أعمارها 65 فأعلى, صنَّفوا أنفسهم في طور وسط العمر "Brodzinsky, et al., 1988", إلّا أنه لسوء الحظ قد يتفق بعض المسنين مع بعض الأنماط الثقافية الشائعة عن الشيخوخة, فهم أنفسهم حملوا هذه الصور النمطية معظم حياتهم, وأطلقوها على غيرهم من المسنين حين كانوا هم أصغر سنًّا, ومهما حاول المسنون إخفاء الحقيقة، وعلى الرغم من الصور النمطية لا بُدَّ للمسن أن يأتي عليه حِينٌ من الدهر يواجه فيه مطالب الواقع, ويعترف بأنه "مسن", وأن يكيف مفهومه لذاته تبعًا لذلك, وتدخل في هذا التحديد عدة عوامل أهمها: 1- الوعي بالمعايير الاجتماعية: فما يجعل المرء أكثر وعيًا بتقدمه في السن بلوغ المعاش, أو حصوله على الضمان الاجتماعي, أو بلوغه المكانة التي يُطْلَقُ عليها في الغرب "المواطن الكبير" Sinior citizen أو في ثقافتنا العربية الإسلامية "الشيخ". 2- التفاعل الاجتماعي: فحين يتخلّى شاب عن مقعده لآخر في الأتوبيس, فإن ذلك مثالٌ نموذجيٌّ للتفاعل الذي يحدد عمر الإنسان, ومن ذلك أيضًا التعبير عن التبجيل, وقد يكون التعبير عن المعاونة أوضح الأمثلة, ومن ذلك أن يقدم شخص ذراعه لآخر يستند إليها وهو يهبط السُّلَّمَ، أو تخصيص مقعد أمامي له في حفلٍ حتى يستطيع أن يستمع, ومن علامات التبجيل الوقوف عند دخول المسن إلى مكان عام, وقد تكون هناك بعض صور التعبير عن الازدراء؛ كأن يقول شاب لشخص أكبر منه سنًّا "عيب يا جدو", فإن ذلك كله من صور التفاعل الاجتماعي الدال على التقدم في السن.

3- التركيب العمري للمجتمع: فإذا كان متوسط الأعمار في ازديادٍ فإن الشخص الذي يُعَدُّ في مرحلة الشيخوخة, ربما يكون الآن في عمر أكبر مما عليه الحال في مجتمع متوسط الأعمار فيه أقل, فكيف يصف شخص نفسه أنه في مرحلة الشيخوخة وهو في سن الستين, بينما توجد نسبة كبيرة من السكان في السبعينات أو الثمانينات من العمر. 4- الشعور الذاتي: على الرغم من أن التعريفات الاجتماعية تسهم في الوعي بالعمر، إلّا أن هناك دائمًا الحكمة القائلة بأنك "شاب طالما أنك تشعر بذلك", وهذا يعني أن المحكات الذاتية أو السيكولوجية هي الأهم؛ فاعتقاد الشخص أنه يستطيع أن يتعلم "وقد يلتحق بإحدى مؤسسات تعليم الكبار لهذا الغرض" أو أنه ليس في حاجة للاعتماد على أحد "الاستقلال"، تُعَدُّ مؤشرات على عدم الشعور بتدهور الشيخوخة, وفيها إنكارٌ لأثر التقدم في السن, ومثل هذا الشخص حين يسأل عن عمره بالإنجليزية يقول بأنه "eighty years young" 1، والأشخاص الذين لديهم مثل هذا الاتجاه لا يتأثرون نسبيًّا بالتقاعد من العمل أو شيب الشعر، فهم لا يشعرون بالشيخوخة إلّا إذا سقطوا صرعى المرض, أو تعرضوا لمشكلة توافق صعبة مثل: وفاة شريك العمر.

_ 1 هذا على عكس التعبير الإنجليزي التقليدي وهو eighty years old.

عوامل التوافق في الشيخوخة وأنماطه

عوامل التوافق في الشيخوخة وأنماطه: أُجْرِيَتْ دراساتٌ لتحديد العوامل التي تميز بين التوافق الجيد والسيئ عند كبار السن، ونتائج البحوث تفصيلية إلى حد يصعب إيجازه، ومع ذلك نستطيع القول بصفة عامة: إن أهم هذه العوامل هي: الصحة العامة، الوضع الاقتصادي، المشاركة في الحياة العامة، الهوايات, المحافظة على الروابط الأسرية والاجتماعية، وجود اتجاهات موجبة نحو الذات ونحو المستقبل. إلّا أن العلاقات بين هذه العوامل وتوافق المسنين ليست بسيطة وواضحة كما تبدو لأول وهلة، فهي مثلًا تختلف باختلاف المستويات الاقتصادية -الاجتماعية, ومن ذلك مثلًا أن زيادة الأصدقاء والأبناء والأحفاد ترتبط ارتباطًا موجبًا بالروح المعنوية عند المسنين من المستويات الاقتصادية -الاجتماعية الدنيا. وأن ما يعين على التوافق الجيد لدى المسنين من الطبقة المتوسطة ليس المشاركة المستمرة, وإنما الانعزال التدريجي.

ولتحديد أنماط التوافق لدى المسنين قام "Richard, et al., 1962" بدراسة طولية هامة أُجْرِيَتْ على 78 رجلًا امتدت أعمارهم عند بداية البحث بين 55، 84 عامًا نصفهم من المتقاعدين تمامًا, ونصفهم الآخر لم يتقاعدوا كليةً, وكان الهدف من الدراسة تحديد أثر التقاعد بالإضافة إلى التغيرات في الشخصية مع التقدم في العمر, وكلاهما من خصائص توافق المسنين, ولعل من أهم نتائج هذا البحث أنه أضاف أبعادًا جديدة إلى مسألة التوافق الجيد للمسنين؛ فقد أوضح التحليل التجمعي لمعاملات الارتباط بين المسنين عندما صنفوا إلى مجموعتين؛ إحداهما تتسم بالتوافق الجيد, والأخرى بالتوافق السيئ, في 115 متغيرًا من متغيرات الشخصية, وجود ثلاثة أنماط أساسية من التوافق السيئ، ونمطين أساسيين من التوافق السيئ، بالإضافة إلى عدد من الأنماط الفرعية, وكانت الأنماط الثلاثة للتوافق الجيد هي: 1- النمط الناضج mature, ويشمل هؤلاء الأشخاص الذين يتميزون بالواقعية والمرونة واليسر في التعامل مع الذات والآخرين، وهم أكثر الأفراد تحقيقًا لما يُسَمَّى الشيخوخة السعيدة. 2- نمط الكرسي الهزاز rockign-chair, ويشمل أولئك الذين يعتمدون على غيرهم "وخاصة شريك العمر أو أحد الأبناء", ويتَّسم الشخص الذي يعتمد عليه المسن عادةً بالسيطرة في علاقته به. ويستمتع المسنون من أصحاب هذا النمط بهذه العلاقة الاعتمادية. 3- النمط المدرع armored, ويشمل الذين تسيطر عليهم حيلهم الدفاعية ضد القلق، ويظلون قادرين على ممارسة نشاطهم على النحو المعتاد في المجتمع, وفي العلاقات الاجتماعية لأسباب دفاعية في جوهرها, إنهم يشغلون أنفسهم كثيرًا حتى يتجنبوا التفكير في الموت أو في تقدمهم في السن, وطالما ظل هؤلاء قادرين على الاستمرار في نشاطهم وإيجابيتهم, فإنهم يستطيعون التوافق مع سنوات الشيخوخة. أما النمطان الأساسيان للتوافق السيئ فهما: 1- النمط الساخط angry, وهم الذين يظهرون المرارة والعداوة ويلومون الآخرين على متاعبهم ومصاعبهم، ويوجهون عداوتهم في الأغلب نحو من هم أصغر سنًّا.

2- النمط الكاره للذات self-hater, وهو الذي يوجه العداوة إلى نفسه, فيشعر بعدم الكفاية, ويفقد شعوره بقيمته, مما يؤدي به إلى الاكتئاب والانقباض, ويدرك هؤلاء أنفسهم ضحيةً للظروف السيئة التي تعرضوا لها، وقد يشعرون بكثيرٍ من الندم على ما فات, وإسرافهم على أنفسهم في الماضي, وقد يطلبون الموت تحررًا من شعورٍ حادٍّ بالقنوط. وقد توصَّلَ بحث آخر قام به "Neugarten, et al., 1968" إلى نتائج تتفق جزئيًّا مع النتائج السابقة, فقد حدد هذا البحث أنماط توافق المسنين في أربعة أنماط للشخصية, هي استمرار لما كانت عليه عبر مدى الحياة, وتنتقل إلى المسن في مرحلة الشيخوخة وهي: 1- النمط المتكامل: وهو أقرب للنمط الناضج السابق؛ فأصحابه يقررون لأنفسهم أنماط نشاطهم وطريقتهم في التوافق, ولديهم نمط شخصية سوي, كما يمكنهم إعادة تنظيم أنماط سلوكهم حسب ضرورات المواقف المتغيرة، وبالتالي فهم أكثر المسنين توافقًا, وقد يكون هؤلاء من ثلاثة أنماط فرعية. أ- نمط إعادة التنظيم: وهم المسنون ذوو أفضل درجة من التوافق في الحضارة الصناعية المعقدة الحديثة؛ فهم يعيدون تنظيم حياتهم مع التقدم في السن بحثًا عن أنشطة وأدوار جديدة تحلُّ محلَّ القديم والمفقود منها. ب- النمط المتبأور focused: وهم الذين يحدون من نطاق نشاطهم تدريجيًّا مع التقدم في السن، وبذلك يفضلون تركيز طاقتهم وبلورة انتباههم على الأنشطة التي يستمتعون بها في طور الشيخوخة والتخلي عما سواها. جـ- نمط التحرر من الالتزام: وهم الذين يحققون المواصفات التي تتوافر لدى أولئك الذين تصفهم نظرية كاننج وزملائه, التي وصفناه في الفصل التاسع عشر، وبحوثهم التي سنعرض لها بعد قليل. ويإيجازهم أولئك الذين يختارون إراديًّا البعد عن بعض الأدوار الاجتماعية, ولكنهم في نفس الوقت لديهم اهتمام بالعالم المحيط بهم, وهم على درجة من القدرة على توجيه الذات, ولديهم تقدير عام لأنفسهم. 2- النمط المدَّرع أو الدفاعي: وهو أقرب إلى نظيره في البحث السابق, وأصحابه لديهم قدرة كبيرة على التحكم في دوافعهم سعيًا لبناء نظام دفاعي قوي

ضد قلق الشيخوخة, ويوجههم دافع الإنجاز, ولديهم شعور قويٌّ بالرضا عن حياتهم، ولذلك يظلون على درجة كبيرة من النشاط منكرين أنهم يتقدمون في السن, ويوجد نمطان فرعيان من هذه الفئة الأساسية: أ- النمط الباسط: وهم الذين يواصلون أنشطة طور منتصف العمر، فلا تتغير نظرتهم إلى الحياة, أو طبيعة الأعمال التي يقومون بها, أو ملابسهم, أو طعامهم, وغير ذلك من المظاهر التي تدل على أنهم أصغر سنًّا, وهؤلاء يدركون التقدم في السن تهديدًا لتقدير الذات. ب- النمط القابض: وهؤلاء أكثر من النمط السابق شعورًا بقلق الشيخوخة، ويعانون من مشاعر الخوف من تصنيفهم في فئة المسنين، ولهذا يركزون كل طاقتهم على أن يكون مشاعرهم ومظهرهم ونشاطهم من النوع الذي يصدر عمن هم أصغر سنًّا. والنمط المدرع أو الدفاعي بنوعيه يظل نمطًا للتوافق الجيد طالما ظلت حيله الدفاعية ضد الشيخوخة ناجحة، فإذا انهار هذا النمط الدفاعي تدهور توافقهم وأصبحت درجة رضائهم عن الحياة وأسلوب حياتهم عرضة للانهيار أيضًا. 3- النمط الاعتمادي: وهذا النمط لا يتطابق تمامًا مع نمط الكرسي الهزاز السابق وصفه؛ فقد توصلت نتائج نيورجارتن وزملائه إلى نمطين فرعيين فيه وهما: أ- نمط البحث عن المساعدة ويطابق نمط الكرسي الهزاز، وفيه يعتمد المسن على الآخرين، ويكون مستوى نشاطه بدرجة متوسطة طالما أن هناك من يوجهه ويعاونه في ذلك. ب- نمط التبلد apathetic ويشمل أولئك الذين يعتمدون كليةً على الآخرين للقيام بأي مهمة, وهم سلبيون تمامًا وأدوارهم قليلة للغاية. وهذا النمط بنوعيه يتسم أصحابه بأن درجة رضائهم عن حياتهم متوسطة, وهم أيضًا على درجة متوسطة من التوافق مع الشيخوخة. 4- النمط غير المتكامل أو المضطرب: وهؤلاء يعانون من نقائص شديدة في نشاطهم النفسي، فتختل وظائفهم العقلية المعرفية كما تضطرب وظائف الأنا لديهم, ومعظمهم يعيش على هامش الحياة الاجتماعية، ويكون أقرب إلى الحالات التي تحتاج إلى الإيداع في المؤسسات, وبالطبع فهم أسوأ صور التوافق

مع الشيخوخة، ودرجة رضائهم عن حياتهم منخفضة، وفي أحسن حالاتها تكون متوسطة. وهذه الأنماط كما ذكرنا لا تظهر فجأة في مرحلة الشيخوخة، ولكنها تراكم تتابعي لخبرات الحياة السابقة, ولذلك فإنه تبعًا لمنطق نيوجارتن وزملائه, فإن الإنسان في المراحل المتأخرة من حياته يصبح "أكثر شبهًا بنفسه"؛ حيث تصبح سماته السلبية والإيجابية أكثر وضوحًا تحت "مجهر الشيخوخة". وفي دراسة طولية أخرى مداها خمس سنوات قام "Cumming Henry" "1961 بدراسة 275 مسنًّا مودعين في المؤسسات, وقد وجد الباحثان نمطًا مشتركًا لديهم جميعًا هو التحرر من الالتزامات, وقد عرف ذلك بأنه عملية انسحاب متبادل بين المسن والمجتمع الذي يعيش فيه؛ فمع تحلل المسن تدريجيًّا من مسئولياته الاجتماعية تقل مكانته وتضعف أدواره الاجتماعية بنفس الدرجة, وحين تكتمل هذه العملية يظهر توازن جديد بين الفرد والمجتمع، وتصبح علاقة المسن بالآخرين من النوع الذي تزيد فيه المسافة النفسية ويقل فيه التفاعل الاجتماعي, وقد اعتبر الباحثون هذه العملية -كما أشرنا في الفصل السابق- خبرة إيجابية للمسن ما دامت هذه المرحلة من النمو الإنساني تتسم بضعف المدخلات الحسية وزيادة الانطوائية وزيادة القرب من الموت، وعندئذ يصبح نقص الاستثمار الانفعالي في الناس والأحداث سلوكًا تكيفيًّا, وقد تعرضت هذه النتائج التي أقيمت عليها نظرية التحرر من الالتزامات للنقد، كما أشرنا في الفصل السابق، وعلى كلٍّ, فإنها في أحسن حالاتها هي أحد أنماط توافق المسنين، ولكنها ليست النمط الوحيد أو الأفضل؛ فالمسن جيد التوافق كما بينت الدراسة السابقة هو الذي يظل نشطًا, وقد أكدت دراسات كثيرة بالفعل أن المسنين الذين يستمرون في نشاطهم الاجتماعيّ أكثر سعادة من الذين ينسحبون من الحياة الاجتماعية, بل إن الظروف الاجتماعية السابقة التي كانت تدفع المسنين الذين يستمرون في نشاطهم الاجتماعي أكثر سعادة من الذين ينسحبون من الحياة الاجتماعية, بل إن الظروف الاجتماعية السابقة التي كانت تدفع المسنين إلى بيئاتٍ مقيدة كالمؤسسات, وتفرض عليهم الانسحاب, قد تغيرت لأسباب كثيرة منها: التقاعد المبكر والاختياري، وتحسين ظروف الرعاية الصحية، وتطوير تشريعات التأمين الاجتماعي, وارتفاع المستويات التعليمية, وقد فتح ذلك كله الأبواب لمزيد من النشاط للمسنين, ولعل ظهور النظرية المناهضة -أي نظرية النشاط- دليل على ذلك "راجع الفصل التاسع عشر". صحيح أن من أهم معالم مرحلة الشيخوخة انشغال المسن بحياته الداخلية والخاصة, ويزداد هذا الاهتمام مع التقدم في السن, حتى أن بعض الباحثين

يعتبرون هذا التوجه المتزايد نحو الداخل interiority, أو نحو التمركز حول الذات egocenterism تغيرًا نمائيًّا تتسم به هذه المرحلة، وهو إذا زاد كثيرًا أصبح من علامات "الانتكاس في الخلق" والذي أشار إليه القرآن الكريم، وبالتالي يدفع صاحبه دفعًا إلى طور حياته الأخير؛ أي: أرذل العمر؛ فالتمركز حول الذات حينئذ يصبح أشبه بحاله في طور المراهقة، وقد يتطرف ليصبح مطابقًا لما هو عليه في طور الطفولة, إلّا أن الدرجة العادية من التمركز حول الذات في مرحلة الشيخوخة تدفع المسن إلى الاهتمام بمشكلاته الفردية أكثر من الانشغال بمشكلات الآخرين من حوله, أو العالم المحيط به, مع وجود بعض الوعي بالآخرين والعالم الخارجي. وبالطبع إذا حدثت عملية تحرر الفرد من التزاماته الاجتماعية متآنيةً مع تحرير المجتمع للفرد من هذه المسئوليات وخفض أدواره فيها, فإن ذلك قد يؤدي إلى توافق جيّد للمسنين, أما إذا قطعت صلات الشخص بالمجتمع قبل الأوان؛ كما يحدث في حالات التقاعد الإجباري المبكر، تنشأ حينئذ مشكلات التوافق؛ فحدوث هذا التحرر من الالتزام تدريجيًّا يؤدي في النهاية إلى شعور الفرد بالرفاهية السيكولوجية والرضا عن حياته مهما تقدم به السن, وبالطبع يتطلب ذلك دائمًا أن يواصل الفرد نشاطه الذي قد يتطلب بالطبع تغييرًا كميًّا أو كيفيًّا أو هما معًا فيه, والمهم في جميع الحالات أن ندرك أن توافق المسن حتى يحقق لنفسه شيخوخة ناجحة يعتمد على نمط شخصيته, والأسلوب طويل الأمد الذي رسم حياته كلها. من السهل الوصول مما سبق إلى تعميمٍ معقولٍ حول الأساليب الملائمة للتوافق الجيد عند المسنين, إلّا أن الأمر لا يزال في حاجة إلى مزيدٍ من البحث, وخاصة في بيئتنا المصرية وغيرها من البيئات العربية, وأهم ما في الأمر أن النتائج التي توصلت إليها البحوث التي أجريت في هذا الميدان تؤكد إمكانية الوصول إلى التوافق الجيد خلال هذ الفترة من العمر, كما أن خبرة الحياة تؤكد وجود أمثلة كثيرة لأشخاص يستمرون في حياة خصبة نامية متطورة بالرغم من تقدمهم في السن, وهكذا فليس التوافق السيئ ملازمًا حتميًّا للشيخوخة. سمات الشخصية: من أشهر البحوث التي تناولت الشخصية وعلاقتها بالعمر, تلك التي قام بها "Richard, et al., 1962" والتي عرضنا بعض نتائجها فيما سبق، ونعود فنقدم مزيدًا من تفاصيل نتائج هذه الدراسة الهامة لتحديد سمات شخصية المتقدمين في السن.

لقد تألفت عينة هذا البحث كما قلنا من عينتين أساسيتين؛ إحداهما تقاعدت بالفعل, والأخرى لا زالت تعمل؛ سواء كل الوقت أو بعضه، وكانوا جميعًا من المتطوعين, وربما كانوا من الأشخاص الأكثر توافقًا من غيرهم من المسنين, وبالمقارنة بين المتقاعدين والعاملين من كبار السن وجد الباحثون أن أعضاء الفئة الأولى كانوا أقل نشاطًا في الترويح, ولكنهم أكثر نشاطًا في الأعمال المنزلية والزيارات الاجتماعية والقيام بالهوايات الإنتاجية, كما أظهروا ميولًا سياسية تتساوى مع زملائهم العاملين، إن لم تزد عليهم، وخاصةً فيما يتصل بالمعاشات والأجور والمسائل الاقتصادية, ويبالغ الشخص العامل في قيمة وقت الفراغ أثناء التقاعد, ويقلل من شأن مزايا العمل والكسب, وكثير من الأشخاص العاملين كانوا على درجةٍ من القلق حول تقاعدهم, بينما كان قليل من المتقاعدين على درجةٍ من القلق بسبب عدم العمل, وكانت شكواهم في جوهرها بسبب نقصان المصادر المالية. ولم يظهر البحث فروقًا كبيرة بين العاملين والمتقاعدين في الصحة الجسمية، وبالطبع فإن المتقاعدين كانوا أكثر قابلية للتعب, وأضعف بنيانًا من الناحية الجسمية، ومع ذلك فقد كان توافق المتقاعدين الصحي أكبر، وذكروا أنهم أفضل صحة مما كانوا عليه من قبل, وليس معنى هذا أنهم لم يظهروا اهتمامًا شديدًا بالصحة أو مشكلاتهم الصحية، وإنما بدوا أقل قلقًا حول صحتهم من المجموعة الأصغر سنًّا، وكانوا يدركون عمرهم المتقدم إنجازًا في ذاته, وشيئًا يفخرون به ويعتزون, وكان قلق الموت أقل عند الفئة الأكبر سنًّا، كما كانت هذه الفئة أقل سلبية واعتمادًا في علاقتهم بالآخرين, كما كانت أكثر مسئولية، وأقل دفاعية، وأقل شكًّا، وأقل حساسية في العلاقات الاجتماعية, وكان الانطباع العام عنهم أنهم أكثر انفتاحًا وثقةً واطمئنانًا واستقرارًا، وأقل عدوانيةً نحو المرأة "العينة كانت من الرجال" وأكثر اجتماعية، كما كانت هذه المجموعة أقل عجزًا وضعفًا واكتئابًا وتشاؤمًا وانعزالًا. ومن هذه النتائج يبدو أن الفترة الحرجة في التوافق الشخصي للإنسان ليس في التقاعد ذاته، وإنما في الفترة السابقة مباشرة عليه؛ ففي هذه الفترة يصبح الأفراد أكثر توترًا، ومعنى ذلك أن المشكلة ليست في "كينونة الشيخوخة", أي: أن يصبح الشخص مسنًّا وإنما في "صيرورة الشيخوخة"، أي: توقع الشخص الأصغر سنًّا لما سيؤول إليه حاله عند التقدم في السن, وهذه التوقعات قد لا تكون صحيحة.

ومن الدراسات المستعرضة الهامة أيضًا حول شخصية المسنين دراسة "Swinson, et al., 1973" وفيها طبقوا اختبار مينسوتا المتعدد الأوجه للشخصية على عينة كبيرة من الراشدين المترددين على إحدى العيادات الخارجية, ولم تشمل العينة أحدًا من المرضى، فقد استبعدت جميع الحالات الكلينيكية, واقتصرت الدراسة على المسنين الذين يقعون في نطاق السواء النفسي, وأظهرت الدارسة أن توهم المرض يصل إلى قمته في سن الأربعين والخمسين, وتؤكد هذه النتيجة أن التقرير الذاتي عن وجود شكاوى مرضية كما يقيسها هذا البعد في الاختبار هو عملية تكيفية دفاعية, وما يحدث بالفعل أن توقع تدهور الصحة "توهم المرض" يتبعه تدهور صحي حقيقي, كما أكد البحث أنه لا يوجد دليلٌ على الزيادة في سمة الاكتئاب مع التقدم في العمر, وكذلك فإن كلًّا من الهوس الخفيف والوهن النفسي يتناقصان تناقصًا واضحًا مع العمر, ويبدو من نتائج هذا البحث أن الشيخوخة التي تبدو من منظور الشباب مخيفة ومفزغة ليست كذلك بالفعل عند المسنين الأسوياء, صحيح أن هذه الصورة الإيجابية تختلف كليةً عند المسنين المرضى، وهذا موضوع سوف نتناوله بالتفصيل في الفصل القادم الذي يتناول طور أرذل العمر.

ميول المسنين

ميول المسنين: لا تظهر في مرحلة الشيخوخة ميول جديدة، وإنما يتم التركيز على الميول التي سبق اكتسابها في مراحل العمر السابقة، ويختار المسن منها ما يحقق له إشباعًا أكبر في مرحلة عمره الجديد, وبالطبع فإن بعض ما كان يحقق إشباعًا في الماضي لم يعد كذلك بسبب ضعف الصحة وظروف الحياة ونقص الحياة ونقص الموارد وقلة الأصدقاء. وتوجد علاقة بين عدد الميول وأنواعها من ناحية, ونمط التوافق للشيخوخة من ناحية أخرى, وبالطبع إذا ضاق نطاق ميول المسن نتيجة لعوامل إرادية, أي: بسبب وعيه بظروف الصحية والاقتصادية مثلًا, فإنه يكون أكثر تكيفًا من المسن الذي يجبر على ذلك بسبب الاتجاهات السلبية إزاءه؛ كأن ترفض الجماعة التي ينتسب إليها مشاركته في الأنشطة التي يحبها. وكذلك إذا كان المسن يشعر أنه قد آن الآوان لإعطاء جيل "الشباب" الفرصة في تحمل المسئولية, تكون اتجاهاته أكثر إيجابية نحو قيامه بدور المشارك السلبي من ذلك الذي يرغب في المشاركة الإيجابية, ثم يجبر على عدم المشاركة نتيجة

الاتجاهات الاجتماعية السلبية نحو الشيخوخة. ويزداد في هذه المرحلة اهتمام المسن بذاته, وخاصة حول ما يشعر به ويريده مع تقدمه في السن, ويتحول كما قلنا من قبل إلى التمركز حول الذات -وهو مرة أخرى سلوك طفولي- بحيث يفكر في نفسه على نحوٍ أناني أكثر مما يفكر في الآخرين، كما يصبح أقل قدرة على إدراك الآخر, وتشغله في تمركزه حول ذاته صحته الجسمية "حتى ولو كان سليم البدن"، كما تدور أحاديثه حول نفسه وخاصة حول ماضيه وذكرياته, ولعل هذا الاهتمام المبالغ فيه بالذات أحد مصادر الاتجاهات الاجتماعية السالبة نحو المسنين, وقد نبه القرآن الكريم إلى ذلك, ودعا إلى تسامح الصغار مع المسنين في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23،24] . ومع التقدم في السن يتناقص الاهتمام بالمظهر, ومن الطريف أن الفروق بين الجنسين في هذا الجانب هي عكس اتجاهها في مراحل الشباب والرشد؛ فهو أكثر حدوثًا في هذه المرحلة بين الرجال أكثر من النساء, ومن ناحيةٍ أخرى يزداد الاهتمام بالمال الذي تكون عادةً قد خفَّت حدته في مراحل الرشد, ولعل السبب في ذلك قلق المسن على مستقبله الاقتصاديّ نتيجة نقص موارده بالتقاعد. أما عن الميول الترويحية في الشيخوخة فعادةً ما تكون شبيهةً بما كانت عليه في مرحلة وسط العمر، ولا يطرأ عليها تغيير يذكر إلّا في حالات الضرورة, ومن النادر أن ينمي المسن ميولًا ترويحية جديدة, إلا أنه قد يخصص وقتًا لم يكن متاحًا له من قبل لنشاط كان يحبه في شبابه, ومع توافر الوقت في مرحلة الشيخوخة يصبح من الممكن له أن يمارسه. وأكثر الهوايات شيوعًا لدى المسنين القراءة وكتابة الخطابات والاستماع إلى الراديو ومشاهدة التليفزيون والأعمال المنزلية والأشغال اليدوية، وزيارة الأقارب، والسفر، والمشاركة في الأنشطة الدينية والسياسية والمحلية, وما يحدد مشاركة الفرد في بعض هذه الأنشطة يتوقف على عوامل كثيرة؛ منها: الصحة الجسمية والظروف الاقتصادية ومستوى التعليم والجنس.

التغيرات في السلوك الاجتماعي

التغيرات في السلوك الاجتماعي: لقد أشرنا من قبل إلى الفرضين الشائعين اللذين يفسران السلوك الاجتماعي في مرحلة الشيخوخة, وهما فرض التحرر من الالتزامات وفرض النشاط, وقد استعرض "Kahan, 1982" البحوث التي أجريت حول الموضوع, والتي أكدت أنهما لا يرتبطان مباشرةً بارتفاع الروح المعنوية والرضا عن الحياة لدى المسنين, والواجب أن نحدد مجموعة عوامل رئيسية تحدد السلوك الاجتماعي في هذه المرحلة وأهمها ما يلي: 1- التمييز بين الانسحاب التطوعي "الاختياري" والانسحاب الإجباري: فاختيار المسن للعزلة أو المشاركة يجعله في الحالتين أكثر سعادةً بحياته, وأكثر رضا عنها إذا قورن بمن يجبر على أحدهما بسبب ظروفه الشخصية أو العوامل الخارجية المحيطة به. 2- المعنى الذاتي للتكامل الاجتماعي لدى المسنين: فبعضهم يعتبر الاندماج مع الأشخاص الآخرين والمؤسسات الاجتماعية له أهمية كبرى، ومن خلال هذه الأنشطة ينمون معنى الهوية لديهم ويحافظون عليه, ومن ذلك مثلًا المدرس الذي رغم تقاعده يواظب على حضور اجتماعات مدرسته, ويظل نشطًا في العمل المهني للنقابة, وقد يكون عكس ذلك كله هو الأكثر أهميةً لدى البعض الآخر من المسنين. 3- نوعية العلاقات الاجتماعية: تؤكد نتائج البحوث أن تكرار المشاركة الاجتماعية في ذاته مؤشر ضعيف على الرضا عن الحياة والروح المعنوية لدى المسنين، والأكثر أهمية من عدد الصلات الاجتماعية, أو عدد الجماعات التي ينتمي إليها المسن عامل نوعية العلاقات الاجتماعية التي يمارسها, وقد تأكد وجود ارتباط وثيق بين السلوك الاجتماعي الناجح في الشيخوخة ووجود بضعة أصدقاء ورفقاء حميمين وثيقي الصلة بالمسن, ولعل أكثر الرفقاء أهميةً لديه -بعد شريك حياته- الأصدقاء والأبناء والإخوة. وبصفة عامة فإن تأثير البنات والأخوات الأصغر سنًّا بالغ الأثر, وخاصة في القيام بدور الدعم والمساندة, سواء كان المسن من الرجال أو النساء. أما بالنسبة لصداقات المسنين، فإن شأنها شأن صداقات الراشدين لم تجر عليها بحوث كافية، إذا قورنت بصداقات الأطفال والمراهقين, ومع ذلك فإن خبرة الحياة اليومية تؤكد لنا الدور الهام للصداقات في مختلف الأعمار؛ فالصداقة

تقوم بوظائف عديدة؛ مثل المشاركة الوجدانية والتقبل والدعم الوجداني أثناء الأزمات، والثقة والاحترام المتبادلين, بالإضافة إلى ما يقدمه الأصدقاء من مساعدة ونصيحة وخدمات, وما يهيئونه من فرص لاستشارتهم وتقديمهم المعلومات والخبرة, وفي رأينا أن هذه جميعًا تزداد الحاجة إليها مع التقدم في السن, ولعل ذلك يفسر لنا لماذا يختار المسنون أصدقائهم من أقرانهم في العمر، كما يفسِّر لنا لماذا يكون رضا المسنين عن حياتهم أكثر ارتباطًا بالتفاعل مع الأصدقاء منه بالتفاعل مع الأقارب. إلّا أن المشكلة الحقيقية هي أن المسنين يعانون بالفعل من تحديد نطاق عالمهم الاجتماعي تدريجيًّا مع التقدم في السن؛ فتقل علاقاتهم الاجتماعية بسبب فقدان زملاء العمل، وموت الأقارب والأصدقاء, ورفيق "أو رفيقة" العمر, كما يحد من مشاركتهم الاجتماعية ضعف الصحة والأحوال المالية والاتجاهات الاجتماعية غير الملائمة نحوهم, وتوجد ثلاثة أنواع من العلاقات الاجتماعية تتأثر خاصةً في الشيخوخة, هي العلاقات الشخصية الحميمة "بالزوج أو الزوجة، الأخوة والأخوات وصداقات الطفولة والشباب الحميمة"، وشِلَلِ الأصدقاء، والجماعات المنظمة "كالأندية", وحالما تتعرض هذه العلاقات للانهيار يستحيل تعويضها خلال هذه المرحلة. ومن الملاحظ أن المرأة تحتفظ بصداقاتها وعلاقاتها الاجتماعية فترةً أطول من الرجل, ويرجع السبب في ذلك إلى أن صديقات المرأة هن في العادة من جيرانها، أما أصدقاء الرجل فهم في الأغلب من زملاء العمل الذين يعيشون في أماكن متفرقة، والذين لا يربطهم اهتمام مشترك بعد التقاعد. إلّا أن على وجه العموم يمكن القول أنه مع اهتمام المسن بذاته يتناقص اهتمامه بالنشاط الاجتماعي, وتضيق دائرة علاقاته الاجتماعية تدريجيًّا، فيفقد الاهتمام أولًا بمعارفه ثم أصدقائه، وتقتصر ميوله الاجتماعية على أسرته المباشرة, وتمتد هذه الميول إلى مختلف الأجيال في هذه الأسرة, وقد يتركز هذا الاهتمام على الصغار، أي: الأحفاد, ولعل من الملاحظات المألوفة أن نجد الجد والحفيد يقضيان معًا وقتًا أطول مما يقضيه كلٌّ منهما مع باقي أفراد الأسرة. السلوك السياسي: تظهر لنا خبرة الحياة اليومية أن الشباب أكثر تحررًا في اتجاهاتهم السياسية، ومع مرور الزمن وتحوّل الإنسان إلى الرشد ثم الشيخوخة, تتغير هذه الاتجاهات إلى القطب المضاد، أي: المحافظة, إما لأن الخبرة والحكمة

التي يكتسبها المتقدمون في السن تجعل إدراكهم للطبيعة البشرية أكثر دقة "كما يقول المحافظون", أو لأنهم حققوا أهدافهم في الحياة وأصبحوا أكثر أمنًا واستقرارًا عن ذي قبل، ولهذا يرغبون في المحافظة على الأوضاع القائمة "كما يقول المتحررون"، إلّا أننا نضيف سببًا ثالثًا في ضوء الأدوار الاجتماعية، فالتزام الشباب بقيم التطور والتغيير في المجتمع سرعان ما يتضاءل مع زيادة مسئولياته الاجتماعية, مع انتقاله إلى المراحل التالية، وخاصةً مسئولياته داخل الأسرة؛ فالدفاع عن حقوق "الكادحين" والمقهورين -وهو شعار اليساريين في الأغلب- تخبو جذوته تدريجيًّا, ويفتر الحماس له, ويحل محله القلق على مستقبل الأسرة. ويكشف التحليل الدقيق لتغير الاتجاهات السياسية مع التقدم في العمر عن أن سيطرة الاتجاهات المحافظة لدى المسنين يرجع في جوهره إلى المستوى التعليمي؛ فالأشخاص الأرقى تعليمًا يتجهون إلى قطب التحرر، بينما يتجه ذوو التعليم المنخفض إلى قطب المحافظة, وبالطبع تلعب الظروف الثقافية التي يعيش فيها كلُّ جيل دجورها في تكوين هذه الاتجاهات؛ فكل جيل يتعرض في نفس الوقت ونفس العمر لأنماطٍ مشتركة من التعليم والحياة الاجتماعية والظروف الاقتصادية والحروب والأزمات السياسية، ولهذا فإن درجة التحرر أو المحافظة في كل جيل جديد تعكس هذه الخبرات المشتركة, وفي ضوء هذا التحليل يمكن أن نحدد ونحن في نهاية القرن العشرين أربعة أجيال مختلفة في مصر المعاصرة1 باعتبار ثورة 23 يوليو 1952 النقطة المرجعية في هذا الصدد، هذه الأجيال الأربعة هي: 1- جيل ما قبل صورة 23 يوليو 1952, وهم أولئك الذين كانوا في طور الرشد الأوسط أو مطلع الشيخوخة عند قيام هذه الثورة, وهم الآن في السبعينات أو الثمانينات من العمر، وربما بلغ بعضهم طور أرذل العمر الذي سنتناوله في الفصل القادم, والطابع الغالب على هذا الجيل هو المحافظة. 2- جيل صناع ثورة 23 يوليو 1952, وهم الذين كانوا في شبابهم أو رشدهم المبكر عند قيام هذه الثورة, وهم الآن في طور الشيخوخة, وهو جيل تحولت اتجاهاته من التحرر إلى المحافظة, ويتضح ذلك خاصةً من تحليل أنماط السلوك السياسي لبعض قادة العصر "الثوري" وأقطابه في الوقت الحاضر.

_ 1 هذا التحليل مستمَد من دراسة مطولة لأحد مؤلفي هذا الكتاب في المرجع الآتي: فؤاد أبو حطب: علم النفس في مصر, دراسة في الشخصية القومية للعلم والمجتمع "تحت الطبع".

3- الجيل الذي صنعه ثورة 23 يوليو 1952, وهم أولئك الذين كانوا أطفالًا أو مراهقين عند قيام هذه الثورة, وهم الآن إما على مشارف بلوغ الرشد أو في منتصفه، وهذا الجيل عاش العصر "الثوري" كاملًا وبلغ حماسه له أوجه، وشاع فيه اتجاه التحرر، وكانت نكبته بعد كارثة 5يونيو 1967 بالغة العنف, أفقدته الكثير مما كان يتشبث به, وحولته الآن إلى ما يمكن أن نسميه الحياد السياسي. 4- جيل عصر التحرر الاقتصادي، وهو الجيل الذي تَفَتَّح وعيه مع بداية عصر الإصلاح الاقتصادي والتوجه إلى الاقتصاد الحر، وهم الآن في طور الشباب أو الرشد المبكر، ويسود بينهم تيار التحرر بالمعنى الليبرالي. وهكذا يستجيب الناس للاتجاهات العامة السائدة في المجتمع؛ فحين يتحوّل المجمع من المحافظة إلى التحرر أو العكس, يتأثر جيل الصغار والشباب خاصةً بالتيار السائد، وحين يتقدم هؤلاء في السن فإنهم يظلون في نفس الاتجاه أو يغيرونه, إلّا أن هذا القول يجب ألّا يعني أن استجابة أفراد كل جيل للظروف التاريخية التي يعيشون فيها متساوية، ففي كل جيل من الأجيال الأربعة السابقة تكاد تجد جميع ألوان "الطيف" السياسي، ويؤكد ذلك حقيقة أن الصراعات السياسية ليست بين الأجيال فحسب، ولكنها داخل كل جيل أيضًا, وعلى ذلك فالأصح أن نقول: إن المسنين يبدون أكثر محافظةً؛ لأن جيلًا جديدًا من الشباب والراشدين الصغار تسود فيهم اتجاهات التحرر، ولعل هذا ما يدفع المجتمعات إلى التطور، فإذا كان الشباب يمثلون قوى التغيير، فإن الشيوخ هم قوى الضبط، ولا يمكن للتغيير أن يمضي إلّا ما لا نهاية، كما لا يمكن لمجتمع أن يظل ساكنًا سكون الموت. وما يلفت النظرحقًّا أنه مع تقدم الإنسان في العمر يزداد اهتمامه ونشاطه السياسيان, وقد كشفت البحوث التي أجريت في هذا الصدد أنه مع تجاوز الراشدين حاجز عمر الستين يبلغ اهتمامهم السياسي ذروته، وتأكد ذلك في جميع المستويات التعليمية "Hudson & Binstock", صحيح أن هذه الاهتمامات قد يصاحبها نشاط سياسي فعليّ حتى الخمسينات من العمر, إلّا أنه مع بلوغ المرء مرحلة الشيوخة تظل اهتماماته السياسية قوية, بينما قد يضعف نشاطه السياسي, إلّا أن المسن إذا كان نشاطه السياسي كبيرًا في طور منتصف العمر, فإنه يظل كذلك أيضًا في مرحلة الشيخوخة.

وبالطبع فإن الراشدين الذين يتولون مسئوليات سياسية لا يتقاعدون منها مع بلوغهم الستين أو الخامسة والستين, فأغلب القيادات السياسية في عصرنا ممن هم في مرحلة الشيخوخة، بل نكاد نقول: إنه يكاد يزداد العمر مع ارتفاع المستوى القيادي السياسي "في الأحزاب السياسية مثلًا", ولعل هذه الحقيقة تجعل من صورة الشيخوخة أكثر جاذبية, وتغير من القالب النمطي الذي شاع عنها1. تدين المسنين: الواقع أن موضوع السلوك الديني لدى المسنين، شأنه في ذلك شأن السلوك الديني للراشدين عامةً لم يحظ بقدرٍكافٍ من البحوث، على عكس الحال في الطفولة والمراهقة, ومع ذلك فإن الدراسات القليلة المتاحة تؤكد لنا أن هناك فروقًا عمرية في السلوك الديني، وخاصة ما يتصل بالعقيدة الدينية من ناحية, وممارسة الطقوس والعبادات الدينية من ناحية أخرى, إلّا أن النقد الجوهري لهذه البحوث أن معظمها من النوع المستعرض، وبالتالي لا يمكن البت بالنسبة لنتائجها من حيث ما إذا كانت ترجع إلى اتجاهات نموٍّ حقيقيةٍ, أم أنها تعكس الفروق بين الأجيال, أو بين العصور التاريخية المختلفة. وعمومًا فإن النتائج التي توصَّل إليها الباحثون في الغرب تؤكد أن المشاركة في النشاط الديني والتردد على دور العبادة يكاد يكون أكثر الأنشطة التطوعية حدوثًا من الإنسان في جميع مراحل عمره، ويستقر هذا النشاط خلال مختلف أطوار الرشد, وتوجد عوامل تؤثر في ذلك مثل الجنس والمستوى الاقتصادي والمستوى التعليمي, ومدة الإقامة في المنطقة التي توجد بها دار العبادة، فالأشخاص الأكثر ترددًا هم الراشدون ذوو المستوى الاقتصادي المرتفع, والمستوى التعليمي المرتفع أيضًا, والذين يقيمون في الحي الذي يعيشون فيه فترة أطول، أما الفرق بين الجنسين فلم يكن دالًّا. وأكدت بعض الدراسات أن الصحة الجسمية تؤثر في تردد المسنين على دور العبادة؛ فقد لوحظ أن هؤلاء بعد تجاوزهم سن الخامسة والستين قد يقل ترددهم على دور العباة، بسبب المرض خاصة، ومع ذلك فهم يتابعون الطقوس والعبادات من خلال وسائل الإعلام.

_ 1 حدث تحوّل عالمي في هذا الاتجاه ونحن في أواخر القرن العشرين, مع تولي الشباب زمام القيادة السياسة مثل: فوز كلينتون في انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ونجاح حزب العمال البريطاني برئاسة توني بلير في الوصول إلى الحكم، وإصرار الرئيس الروسي يلستين على أن يتولى رئاسة الوزراء أحد الشباب.

وبالطبع فإن هذه النتائج لا تقبل التعميم مباشرةً على الثقافات الأخرى, ومنها ثقافتنا العربية والإسلامية, وعلى الرغم من أنه لا توجد نتائج تحدد هذا الجانب من السلوك الديني لدى المسنين المسلمين, إلّا أننا نتوقع أنهم بعد أن يتخففوا من الأعباء والمسئوليات التي كانت تثقل كواهلهم في مراحل العمر السابقة يحتل السلوك الديني مكانة رئيسية لديهم، فصلاة المسن المسلم ونسكه قد تكون وسلته الوحيدة للتخفف من مشاعر العزلة، وهي عزاؤه عند كل ضيق، كما تعصمه من الوقوع في غائلة القلق، وخاصةً قلق الموت, ويعبر فؤاد البهي السيد "1975: 450" عن ذلك بقوله: "إن المسن يغشى دور العبادة في هذا الطور من حياته وهو يحسُّ أنه قد خلا له وجه دينه بعيدًا عن شواغل الدنيا وأحزانها ومسراتها". وتكشف لنا الملاحظة العابرة للسلوك الديني للمسنين في بلادنا أنهم أكثر ممن هم أصغر سنًّا في تفضيل البرامج الدينية في وسائل الإعلام، وهم أكثر حرصًا على قراءة القرآن الكريم، وأكثر مواظبة على صلاة الجماعة، وأكثر تقديرًا للقيمة الدينية على غيرها من القيم "وخاصة القيم المادية"، بالإضافة إلى التركيز على المغزى الشخصي للدين باعتباره وسيلة للتوافق النفسي، وفي هذا يختلف المسنون عمن هم أصغر سنًّا من المتدينين الذين يدركون الدين على أنه وسيلة للإصلاح الاجتماعي والممارسة السياسية, ولعل هذا الفارق الجوهري يفسر لنا أن نسبة الشباب والراشدين الذين يمارسون ما يُسَمَّى في السنوات الأخيرة في مصر "التدين السياسي" تفوق كثيرًا نسبة المسنين. وإدراك المسن للطابع الشخصي للدين يحقق له في هذه المرحلة مهمة التكامل، وإذا كان الأمل -كما يرى إريكسون- هو القوة الأساسية الدافعة في مرحلة الطفولة، فإن هذا الأمل يتضح في الطور المتأخر من النموِّ الإنساني في العقيدة، ولا يمكن للتكامل أن يتجاوز اليأس والقنوط في هذه الحالة إلّا إذا وجد المسن معنًى واضحًا للحياة, وبالطبع فإن العقيدة الدينية أعظم مصادر هذا المعنى, ويؤكد ذلك نتائج بحث هام قامت به "Telis -Nayak, 1982" واستخدمت فيه مقياسًا للتدين religiosity تضمن الاتجاهات الدينية والمعتقدات والطقوس والعبادات والممارسات, فوجدت أن التدين لا يرتبط بالمتغيرات المادية والصحية والأحوال الاقتصادية، وإنما أقوى علاقاته بشعور الفرد بوجود معنى وغرض لحياته.

ولعل هذه النتيجة تفسر ما تواتر من نتائج البحوث في السنوات الأخيرة حول العلاقة الموجبة بين التدين والتوافق النفسي في مختلف الأعمار، وهي علاقة أكثر وثوقًا في مرحلة الشيوخة، فمع اقتراب دورة الحياة من نهايتها تزداد الاهتمامات الدينية لدى المسنين، وهذا القول أكثر صدقًا على مجتمعاتنا العربية الإسلامية، ونحن في حاجةٍ بالطبع إلى بحوث جادة تختبر هذا الفرض من منظور ثقافي مقارن, وعمومًا ففي رأينا أن لجوء المسن المسلم إلى الدين يوفر له مصدرًا عظيمًا للشعور بالأمن والصحة والنفسية، ويحرره من قلق الموت الذي يُعَدُّ أحد عوامل القلق النفسي والاضطراب الانفعالي والوجداني في الحضارة الغربية الحديثة.

الفصل الحادي والعشرون: طور أرذل العمر

الفصل الحادي والعشرون: طور أرذل العمر مدخل ... الفصل الحادي والعشرون: طور أرذل العمر أرذل العمر هو الطور النهائي في حياة الإنسان الذي يعمر طويلًا، والذي ينتهي حتمًا بالموت الذي هو خاتمة للحياة الدنيا وبداية الحياة الآخرة، وبالطبع فإن المرء قد يموت في أيِّ مرحلة من حياته: جنينًا أو طفلًا أو صبيًّا أو شابًّا أو راشدًا أو شيخًا. وإشارات القرآن الكريم واضحة في ذلك، يقول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: آل عمران: 185، الأنبياء: 35] . {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] . والإنسان الذي يشاء الله له أن يعيش في طور من أطوار حياته السابقة ينتقل بالطبع إلى الطور التالي الذي قد يكون تنمية وتحسينًا لما كان قبله "العمرالأول كله" أو تدهورًا وانحدارًا عَمَّا كان عليه من قبل "كالانتقال من الرشد إلى الشيخوخة"، إلّا طور أرذل العمر، فوصول المرء إليه يعني اكتمال تدهوره واتصال دائرة النمو الإنساني عنده، فالعلم والخبرة والمهارة والحكمة التي اكتسبها تدريجيًّا طوال سبعين أو ثمانين عامًا من حياته تتلاشى حتى يصبح لا يعلم من بعد علم شيئًا؛ كما يقول الله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النمل: 5] . كما يشهد طور أرذل العمر ردة كاملة إلى ما كان عليه الحال في المراحل الأولى من الحياة؛ فالانتكاس الذي يصيب سلوك المعمرين في هذا الطور يعود بهم إلى سلوك طفولي يزداد هبوطه وتدهوره إلى مستويات أدنى مع كل إيغال في العمر, وصدق الله العظيم: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس: 68] . وطور أرذل العمر لا يتحدد بسنٍّ معينةٍ كما هو الحال في معظم مراحل وأطوار النمو السابقة، وإنما يمكن وصفه بأنه "حال متطرفة" من الشيخوخة تظهر في أيّ وقت منها, ولو أن الأكثر شيوعًا أنها تصاحب الإيغال فيها, فمع التقدم في الشيخوخة تطرأ على الوظائف النفسية والجسمية المختلفة اضطرابات متعددة. وإذا لم يكن العمر محكًّا ملائمًا لأرذل العمر، فما هي المحكات الملاءمة؟

محكات بلوغ أرذل العمر

محكات بلوغ أرذل العمر المحك الإسلامي ... محكات بلوغ أرذل العمر: يقترح الباحثون في ميدان سيكولوجية المسنين مجموعةً من المحكات يحددون بها بلوغ طور "الهرم" Senility, وهو ما نُؤْثِرُ أن نطلق عليه التسمية القرآنية "أرذل العمر", وهي تسمية معجزة تستوعب بإيجاز خصائص هذا الطور الذي يتسم بأن أهم علاماته تعاسة المسن, وإزعاجه للآخرين, وضيق هؤلاء به، وهذا ما يجعله طورًا منفرًا، سواء أكان هذا "الهرم" عاديًّا normal, أم مرضيًّا Pathological كما سنوضح فيما بعد, نعرض فيما يلي هذه المحكات بادئين بالمحك الإسلامي, ثم نتبعه بالمحكات الأخرى. 1- المحك الإسلامي: التدهور الانتكاسي وفقدان القدرة على التعلم تشير الآيتان القرآنيتان الكريمتان اللتان تناولتا التقدم في العمر "يس: 68", وأرذل العمر "النمل: 5" "وقد أوردناها في مطلع هذا الفصل" حدوث تغيرات تدهورية هامة، تجعل أصحاب هذا الطور فئة مختلفة عن غيرهم من الشيوخ أو المسنين. إلّا أن التدهور في أرذل العمر الذي يشير إليه القرآن الكريم يتسم بصفة جوهرية هي أنه ارتدادي انتكاكسي، أي: يعود بصاحبه إلى الوراء, وإلى مستوياتٍ أدنى من السلوك، وإذا كان "أفضل العمر"1 بالطبع هو الرشد واكتمال النضج, فلا بُدَّ أن يكون هذا الانتكاس عودةً إلى ما قبل الرشد أو النضج، أي: أن سلوك المسنين في طور أرذل العمر يتسم بأنه أقرب إلى تصرفات "المراهق" أحيانًا, "الطفل" في معظم الأحيان، وبهذا يصبح التدهور حينئذ مختلفًا عن أيِّ تدهور آخر يحدث في أي طور سابق, فأي تدهور آخر قد يكون كميًّا "أي: نقص في درجة النشاط" فحسب, طالما أنه في نطاق السواء، إلّا أنه في طور أرذل العمر تدهور كمِّي "أي: في الدرجة", وكيفي "أي: في النوع" معًا.

_ 1 "أفضل" لغة هي عكس أرذل.

وأدق تعبير عن هذا التدهور الارتدادي الانتكاسي على أنه انهيار كمِّي وكيفي الإشارة القرآنية الكريمة إلى أن المسن في هذا الطور يصبح، لا يعلم من بعد علم شيئًا؛ ففقدان القدرة على التعليم تدهور كيفي خطير يرد صاحبه مرة أخرى إلى الاعتماد الكامل الذي اتسمت به المراحل المبكرة من حياته حين كان عجزه عن التعلم -وهو طفل- مؤشر ذلك, ومع أن الطفل والهرم عاجزان عن التعلم, فإن الطفل يتقدم بالتعلم والاكتساب سعيًا إلى الاستقلال والقدرة "الرشد"، أما الهرم, فإن كل يوم يضاف إلى رصيد حياته يرتَدُّ به إلى مزيدٍ من الفقدان لما تعلَّم واختزن من قبل، مع عجز عن اكتساب أي جديد. وبالطبع فإن هذه التغيرات الانتكاسية الكيفية لا تظهر في سنٍّ معينةٍ من الشيخوخة كما بينا, إلّا أن من المتوقع أن تظهر بعض هذه العلامات مع التقدم فيها بدرجات متفاوتة من الحدة، وبالطبع فإن القدر القليل منها يجعل صاحبه في فئة الهرم العادي normal senility, أما إذا اشتد التدهور فإنه حينئذ يصبح من نوع الهرم المرضي pathological senility. والرشد -عند فقهاء المسلمين- هو المستوى النمائي الذي عنده يستقل المرء بتصرفاته، وقبله يكون الصغير تحت وصاية والديه لعدم توافر أهلية التصرف، وتفيض مؤلفات الفقه الإسلامي بالتفاصيل حول الحجر على تصرفات الصغير، والحجر في الشريعة معناه: منع الإنسان من التصرف في ماله، وقد أشرنا من قبل إلى أن القدرة على التصرف في المال خاصةً هي المؤئر الاجتماعي الرئيسي على الرشد في الإسلام، ويدعم قولنا مايذكره أحد فقهائنا المعاصرين "وهبة الزحيلي: 1984" حول اختبار الولي لرشد الصبي بقول: "أما اختباره "أي: الصبي" في المال فبحسب أمثاله، فيختبر ولد التاجر بالبيع والشراء والمماكسة فيهما, أي: طلب النقصان عما طلبه البائع، وطلب الزيادة على ما يبذله المشتري، ويختبر ولد الزارع بالزارعة، والنفقة على العمال فيها، ويختبر المحترف بما يتعلق بحرفة أبيه أو أقاربه، وتختبر المرأة بالغزل والقطن حفظًا وحياكةً وغيرها، ويشترط تكرار الاختبار مرتين أو أكثر قبل البلوغ وقيل بعده". وبالطبع فإن هذه أمثلة على وسائل اختبار الرشد تتفق مع السياق الثقافي والحضاري والتاريخي الذي وضعها فيه الفقهاء، ويمكن تطويرها مع وسائل العصر, ومنها الأدوات والفنيات التي يستخدمها علم النفس.

وقد صنَّفَ الفقهاء فئات من ينوب عنهم أولياؤهم وهم مَنْ ثبت الحجر عليهم بدليل القرآن والسنة وهم: المجنون "وهو من زال عقله", والمعتوه "وهو من كان قليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير لاضطراب عقله, سواء من أصل الخلقة أو لمرض طارئ", السفيه "وهو من يبذر ماله يصرفه في غير موضعه الصحيح بما لا يتفق مع الحكمة والشرع", والمريض مرض الموت1, مع تفصيل واختلاف في المذاهب الفقهية المختلفة لا يتسع له المجال. وبالطبع فإن هذه الفئات جميعًا تحظى باهتمامٍ شديدٍ من علم النفس الحديث, وحبذا لو استفاد الفقهاء المعاصرون من نتائج البحوث السيكولوجية في هذا الميدان, إلّا أن ما يهمنا أن نشير إليه هو أن كثيرًا من العلامات السابقة تظهر على المسن البالغ طور أرذل العمر, والمنطق الجوهري على هذه الفئات أنها جميعًا حالات ارتداد وانتكاس إلى ما قبل الرشد، قد تكون مؤقتة حين تحدث في مراحل سابقة على طور أرذل العمر، ولكنها حالما تظهر في طور أرذل العمر تبقى وتستمر. والسبب الجوهري في ذلك -كما أشرنا- أن المؤشر الرئيسي في المحك لبلوغ هذا الطور هو الارتداد الانتكاسي المصاحب بفقدان القدرة على التعلم.

_ 1 استخدمنا في وصف هذه الفئات لغة الفقه الإسلامي, وليس لغة علم النفس.

المحك المرضي

2-المحك المرضي: من المحكات التي تشبع في الكتابات المختصصة في مجال المسنين لتحديد طور الهرم ما يمكن أن نسميه المحك المرضي، ويعني أن أرزل العمر يتسم كما أشرنا بمجموعة من الاضطرابات السلوكية تنتمي إلى فئة الأمراض، إلّا أن هذه الاضطرابات المرضية تختلف عن غيرها من الأمراض في المراحل العمرية الأخرى من حيث المؤشرات التي يشار فيها إلى المرض أو الاضطراب Eisoderfer &Lawton, 1973" وهي: مؤشر الانتشار Prevaleance, والمؤشر الإيتولوجي etiological, أي: الذي يتناول أسباب المرض، ومؤشر القابلية للعلاج. فبالنسبة لمؤشر الانتشار فإنه في جوهره مؤشر إحصائي، بمعنى أن سواء السلوك أو عدم سوائه يتحدد في ضوء مدى حدوثه في مجتمع أو جماعة معينة، فالسلوك الأكثر شيوعًا بين الأفراد يُعَدُّ سويًّا، وهذا المعنى هو الذي يستخدمه خبراء الصحة العامة، أما إذا كان السلوك أقل شيوعًا فإنه في الأغلب يصنف على أنه مرضي, ولعلنا نذكر أن التغيرات التي تطرأ على السلوك الإنساني في مختلف

مراحل العمر السابقة, والتي وصفناها من قبل طوال فصول هذا الكتاب تنتمي إلى فئة السواء السويّ؛ لأنها شائعة في كل مرحلة عمرية تناولناها، إلّا أن هذا المؤشر يتخذ اتجاهًا عكسيًّا في طور أرذل العمر، ففيه شيع أنماط السلوك المضطرب ومن ذلك الاكتئاب والعصاب القهري والقلق والأعراض السيكوسوماتية، إلّا أن هذا الشيوع والانتشار لا يجعل منها سلوكًا عاديًّا. أما بالنسبة للمؤشر الإيتولوجي فمن الشائع في المراحل السابقة في نموِّ الإنسان أن يميز بين الاضطرابات الوظيفية والعضوية، فالخلل العضوي هو نمط من الاضطراب يعود في جوهره لأسباب في جسم الإنسان, أما الاضطراب الوظيفي فسببه الرئيسي هو التفسير الرمزي الذي يخلعه المرء على الأحداث, ولهذا يُعَدُّ من فئة الأمراض النفسية, إلّا أن هذا التمييز لا يكون بذلك الوضوح في طور أرذل العمر، فكثير من المشكلات السيكولوجية في هذا الطور ترجع إلى نوعي الأسباب معًا والتي تحدث متآنية, ومن ذلك مثلًا أن من الشائع عند المسنين الذين يعانون من خرف الشيخوخة senile dementia "وهو مرض عضوي", أن يقاسوا أيضًا من الاكتئاب الذي يسببه وعي المسن بالعجز المعرفي والتغير في كمياء المخ الذي يرجع إلى التغيرات الفسيولوجية التي تطرأ عليه. وهذه الصعوبة في التمييز بين الاضطرابات العضوية والوظيفية في طور أرذل العلم تنتقل أيضًا إلى المؤشر الطبي الثالث وهو القابلية للعلاج، ففي مراحلة العمر السابقة، والتي يكون فيها هذا التمييز سهلًا يكون من الميسور تقديم العلاج المناسب حسب التشخيص إلى إحدى الفئتين. فعادة ما توضع الاضطرابات العضوية داخل النموذج الطبي حيث تعتبر الأعراض السيكولوجية أمراضا وتعالج بطرق التدخل في الجسم الإنساني باستخدام العقاقير أو الجراحة، ويتضمن ذلك افتراض أن الاضطرابات العضوية لا تقبل العلاج بطرق التدخل السيكولوجي بسبب طبيعتها الجسيمة، وعلى العكس من ذلك فإن الاضطرابات الوظيفية توضع في الأغلب في نطاق النموذج النفسي الاجتماعي، فما دامت الاضطرابات النفسية تنشأ عن علاقة المرء بالبيئة, ومن إدراكه لها, فإن الطرق العلاجية المناسبة لها حنيئذ هي الطرق السيكولوجية, سواء كانت فردية أو جماعية بالاستعانة بالبيئات المعاونة, وقد أشرنا إلى صعوبة التمييز بين ما هو وظيفي وما هو عوضي في طور أرذل العمر، ولهذا كان من الواجب الحرص البالغ في التشخيص لتحديد الدور الذي تقوم به العوامل النفسية الاجتماعية والعوامل البيولوجية في الاضطراب مع ملاحظة أن الشائع عند المسنين في هذا الطور هو تداخل

مجموعتي العوامل، ويؤدي ذلك إلى صعوبة التشخيص والعلاج؛ ولهذا فالسمة الغالبة على اضطرابات أرذل العمرأنها أقل قابلية للعلاج إذا قورنت بالاضطرابات في مراحل العمر السابقة، وحتى الاضطرابات التي لها وسائل فعّالة تقل فعاليتها في هذا التطور. وهذه المؤشرات المرضية الثلاثة هي تفصيل لمؤشري الانتكاس وفقدان القدرة على التعلّم اللذين تناولناهما في إطار المحك الإسلامي، فشيوع الاضطرابات لا ندرته, وتداخل ما هو وظيفي مع ما هو عضوي، وصعوبة القابلية للعلاج كلها تؤدي إلى مزيد من التدهور، واستمرار التدهور يؤدي بالضرورة إلى مزيدٍ من خلل الوظائف العضوية والنفسية على نحوٍ يؤدي إلى حدوث الانتكاس وفقدان القدرة على الاكتساب، بل إن عجز العلاج يجعل من اضطرابات أرذل العمر ظاهرة لا مرضية، وقد يبدو إشكاليًّا أن نقول: إن السلوك حتى ولوبدا مختلًّا يُعَدُّ عاديًّا حتى يتم اكتشاف علاج له, أو حين يصبح العلاج المتاح له أقل فعالية، ومع ذلك فإن هذه العبارة صحيحة، بل إنها من مؤشرات أرذل العمر كما قلنا "Eesdorfer & Lawtion, 1973", فقبل اكتشاف الأساليب العلاجية المناسبة المضادة للاكتئاب كان هذا المرض يُعَدُّ سلوكًا عاديًّا, ويتعلم الإنسان أن يتعايش معه, أما الآن فقد تكاثرت العقاقير التي تعالج أعراض هذه الاضطرابات، حتى الثانوي منها كالتعب والأرق، وحينئذ أصبح ضمن قائمة الأمراض, كذلك القلق فإنه لم يَعُدْ يصنَّفُ على أنه من بين الأمراض إلّا بعد اكتشاف المهدئات. وهكذا يمكن القول أن الأعراض التي تُعَدُّ من النوع "غير القابل للعلاج" يمكن اعتبارها من نوع الاضطرابات النفسية الملازمة للهرم أو الإعمار aging السوي، وكثير من الأعراض ينطبق عليها هذا الوصف؛ مثل: نقص فترة النوم والإمساك وضعف الذاكرة أو فقدانها"الذي يؤدي بالطبع إلى ضعف أو فقدان القدرة على التعلّم, وهو أحد مؤشري المحك الإسلامي لأرذل العمر". ويرى البعض أن عدم القابلية للعلاج تحكمه ظروف التقدم الطبي في وقت معين، وأنا المستقبل قد يكشف الوسائل الملائمة للعلاج, وهذا القول صحيح بالطبع، وإذا حدث أن استطاع الإنسان أن يكشف وسائل فعالة لهذه الأعراض, فإن طور أرذل العمر سوف يظهر في وقت أكثر تأخيرًا، ولعلنا نشير هنا إلى التقدم الطبي الحديث دفع هذا الطور سنوات أبعد كثيرًا مما كان عليه الحال في الماضي, ومع ذلك فلا بد لدورة الحياة مهما طالت سوية أو شبه سوية أو مرضية أن تصل إلى طورها الأخير, وهذه إحدى سنن الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًَا.

محك سوء التوافق

3- محك سوء التوافق: يوصف السلوك بسوء التوافق بصفة عامة إذا اتسم بأنه يعوق قدرة الفرد على النشاط السويّ والعادي في المجتمع, أو إذا اختص بأنه يهدد سلام الفرد الشخصية وأمنه الذاتي، ولهذا شاع التميز الشهير بين التوافق الشخصي والتوافق الاجتماعي, وهما غير متطابقين، والارتباط بينهما قد يكون موجبًا أو سالبًا أو صفريًّا؛ فمن الممكن أن يحكم المجتمع على سلوك معين بأنه لا توافقي "الانطواء مثلًا", ومع ذلك فإن هذا السلوك قد يحقق غرضًا مفيدًا للشخص الذي يصدره, أي: يحقق له توافقه الشخصي، والعكس صحيح أيضًا, فقد يشعر الشخص بأن سلوكًا معينًا يسبب له القلق "كالعمل في مهنة لا يحبها", ومع ذلك فإن المجتمع يحكم عليه بأنه سلوك اجتماعي سوي, ومن الممكن أيضًا أن يكون السلوك ذاته "كالتمركز حول الذات" توافقيًّا في مرحلة معينة من مراحل الحياة "الطفولة", ولا توافقيًّا في مرحلة أخرى "الرشد", بل إن بعض الاضطرابات السلوكية الحادَّةِ قد تكون توافقية في طور الشيخوخة، فالعصاب القهري قد يكون مفيدًا عند الإجبار على التقاعد "Kermis, 1984" وعلى هذا, فالاضطرابات السلوكية طويلة الأمد التي نلاحظها في طور أرذل العمر يمكن وصفها في ضوء هذا المحك بأنها توافقية، فالسلوك شبه الفصامي قد يكون توافقيًّا مع العجز الحتمي في الهرم، بل إن اللهلاوس قد تكون توافقية لشخص مسن يعيش وحيدًا، ولو نها توصف بأنها أساليب غير سوية للتوافق. إلَّا أن ذلك كله قد يُعَدُّ من قبيل التوافق الشخصي, حتى ولو كانت أساليب التوافق -كما نحكم عليها ثقافيًّا واجتماعيًّا- غير سوية، وقد يحدث ذلك أو ما يشبهه في مراحل العمر السابقة، إلّا أن الفرق الجوهري في "الأساليب غير السوية" للتوافق بين طور أرذل العمر وغيره من مراحل العمر, أنها في هذا الطور النهائي لحياة الإنسان تتسم -كما بينا- بعدم القابلية للعلاج، ناهيك عن أن الشخص الموغل في الشيوخة قد لا يستطيع التعايش معها كما كان يفعل من قبل، فالملاحظ على الذين يبلغون هذا الطور أنهم يظهرون تحولًا جوهريًّا -تدريجيًّا أو مفاجئًا- من الحال التي كانوا عليها "في الشيخوخة العادية" إلى الحال التي يصيرون إليها "أرذل العمر", ويتسم هذا التحول بثلاث خصائص ملازمة معًا, وفي وقت واحد: 1- نقص الكفاءة الذي يصل إلى حد العجز disability.

2- التعبير المستمر عن الشكوى والشعور بالضيق والكرب والتعاسة. 3- عمل المسن الدائب على إزعاج الآخرين من حوله, وخاصةً من يقدمون له الرعاية. وهذه الخصائص جميعًا تجعل السلوك في هذا الطور من النوع اللاتوافقي. وعلى هذا فإن الوصف الأصح لهذا الطور أنه سوء التوافق الدائم والمستمر, وخاصة من الناحية الاجتماعية, وأخطر علاماته إثارة ضيق الآخرين وتذمرهم وسخطهم، بل إنه حتى مظاهر الشكوى والضيق والنفور -التي قد تعد من علامات سوء التوافق الشخصي- تُسْتَخْدَمُ في هذا الطور لإزعاج الآخرين، أما العجز فهو بالطبع مصدر إضافي لهذا الضيق بسبب ما يفرضه على الآخرين من مطالب زائدة قد تفوق أحيانًا قدراتهم, وصدق الله العظيم حين وصف هذا الطور بالتعبير القرآني المعجز "أرذل العمر", وتحسبًا لما قد يؤدي إليه هذا كله من إساءة معاملة الأبناء لوالديهم المسنين، وخاصة في هذا الطور, نبه القرآن الكريم إلى ضرورة الإحسان إلى الوالدين، وقرنه بعبادة الله -سبحانه وتعالى، وفي ذلك يقول -جل شأنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 13: 15] . ويقول أيضًا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24] .

التغيرات الجوهرية في طور أرذل العمر

التغيرات الجوهرية في طور أرذل العمر: أشرنا في الفصل السابق -حول الشيخوخة- إلى أن الإنسان في عمره الثالث من نموه يتعرض لتحديات توافقية خاصة تتزايد حدتها مع مزيد من التقدم في العمر, وتتلخص هذه التحديات في الفقدان الشخصي والعجز الجسمي والتحيزات الثقافية, وتتداخل هذه المجالات الثلاثة في وقت واحد, ومن أمثلة ذلك ما نلاحظه أحيانًا من ضعفٍ في قدرة المسن على القراءة؛ فقد يرجع ذلك إلى ضعفٍ جسميٍّ مثل تدهور قوة البصر أو الشعور بالألم في العين أثناء القراءة, وقد يرجع إلى السأم من المواد التي سبق له قراءتها عدة مرات, ولا تتوافر له إمكانات الحصول على الجديد، أو إلى الإجهاد النفسي الناجم عن فقدان الدور أو الاكتئاب, ومن الممكن أيضًا أن يكون السبب الجوهري في ذلك الاعتقاد الاجتماعي السائد في أن الشخص الطاعن في السن يفتقد القدرة على الفهم، وهذه العملية المتعددة أو المعقدة تؤكد أن الظواهر النفسية والجسمية ترتبط فيما بينها في طور الشيخوخة المتأخرة. ولهذا فمن الضروري عادةً أن يسعى المسنون -وخاصة من يبلغ من العمر 75 عامًا أو يزيد- إلى التوافق جسميًّا ونفسيًّا لضعف الوظائف الجسمية والأمراض المزمنة، أما الأشخاص الذين لا يستطيعون تكامل هذه التغيرات مع إحساسهم بالذات, قد يشعرون بالنقص في تقديرات الذات, ويجدون أنفسهم في موقف ضاغط أو مجهد. صحيح أن الإنسان في أيّ مرحلة نمائية يظهر بعض الاضطراب السلوكي وسوء التوافق في ظروف الضغط أو الإجهاد, والخصائص الثلاثة لسوء توافق المسنين في أرذل العمر التي أشرنا إليها فيما سبق يمكن أن تظهر أيضًا في أيّ سنٍّ؛ فالشعور بالضيق والكرب والتعاسة قد ينشأ لدى الإنسان -في أي عمر- نتيجة حزنه الشديد على فقدان عزيز, ونقص الكفاءة قد يظهر أيضًا في أيِّ سن إذا كانت المطالب أكبر من قدرات الفرد, أو إذا عومل على أنه لا يتوقع منه إلا الفشل, وإزعاج الآخرين قد يترتب على سلوك الشخص في أي سن أيضًا, نتيجة عدم الحساسية, أو نقص الفهم للموقف الذي يوجد فيه, أو التغير في أسلوب الحياة داخل الأسرة, إلّا أن هذه الخصائص جميعًا إذا حدثت في أيّ طور آخر غير أزذل العمر تكون مؤقتة, وتتطور نحو الأحسن "أو الأفضل"، إلّا في هذا الطور فإنها تظل مستقرة إن لم تتدهور نحو الأسوأ "أو الأرذل". وصحيح أيضًا أن الإنسان تحت ظروف الضغط أو الإجهاد قد يظهر في أي مرحلة عمرية بعض الميكانيزمات الدفاعية للتعامل مع الظروف المهددة لتوافقه. وهذا ما يحدث أيضًا في طور أرذل العمر؛ فمعظم الحيل اللاشعورية التي تفيض بها المؤلفات المتخصصة تظهر في هذا الطور, وخاصة الإنكار والتبرير والإسقاط

والتقمص وتكوين رد الفعل والخُلْفَةِ أو العناد وأحلام اليقظة والانسحاب والنكوص التي تحدث لا شعوريًّا ولا يتلفظ بها المسنون، كما أن بعضهم يتلفظ بما لا حصر له من الشكوى والتذمر, ومنهم من يظهر بالفعل أمراضًا جسمية لها الطابع السيكوسوماتي Psychosomatic؛ فالمرض الجسمي، مهما كان خطيرًا، أهون من الاعتراف بالتقدم في السن, والمرض -مهما طال- قابل للعلاج, أما التقدم في الشيخوخة فلا علاج له, ناهيك بالطبع عن الأمراض العصابية والذهانية التي تظهر في هذا الطور, والتي سنتناولها بالتفصيل فيما بعد. ومع دخول المسن طور أرذل العمر يزداد التدهور الذي شهدناه في طور الشيخوخة حدة وشدة, وفي رأينا أن الفرق بين الشيخوخة وطور أرذل العمر هو فرق في الدرجة والنوع معًا؛ فالتدهور في الطور الأول أقل حدَّةً ويمكن التعامل والتعايش معه، أما مع أرذل العمر فهو تدهور عنيف يصاحبه تغير كيفي في سلوك المسنين, ونعرض فيما يلي لجوانب هذا التغير الذي حظيت بالبحث العلمي في السنوات الأخيرة. تبدأ معالم أرذل العمر حين يتعرض المسن لتغيرات جسمية ونفسية وعقلية حادة, ومن العمليات الفسيولوجية التي تحدث في هذا الطور فشل أعضاء الجسم في القيام بوظائفها، صحيح أن هذه العملية طويلة الأمد وتحدث منذ وقت مبكر في حياة الإنسان، إلّا أن خلل الوظائف وفشلها يظهر بوضوح في هذا الطور, وقد يتطور إلى مرض عضال, وقد وصفت "Kubler-Ross, 1965" خطوات الاستجابة لمعرفة المريض بالظرف الصحي القاتل, وكانت الممارسة الطبية في الماضي عدم إخبار المريض بذلك رأفةً به، أما الآن فإن الرأي الطبي السائد ضرورة إخبار المريض بالحقيقة حتى يمكن إجراء التوافقات اللازمة من النواحي النفسية والاجتماعية, وتتلخص استجابات المسن لمعرفة حقيقة مرضه العضال فيما يلي: 1- الإنكار والعناد: الاستجابة الأولى المعتادة للشخص الهرم عند معرفته بأن مرضه هو المرض الأخير -وقد يكون مرض الموت- هي الصدمة متبوعة بالإنكار والتبرير, ومن ذلك القول بأن الأطباء مخطئون, أو أن التشخيص غير صحيح, وفي الحالات المتطرفة يرفض الهرم العلاج, ويصر على القيام بمهامه المعتادة, ومعظم المرضى الذين يستخدمون حيلة الإنكار بحدَّةٍ خلال مرضهم, هم أولئك الذين تعودوا على التعامل مع مواقف الحياة الصعبة بهذه

الطريقة, وفي الواقع فإن حيلة الإنكار تؤدي إلى مزيدٍ من تدهور الحالة وخطورتها كما هو الحال حين يرفض الشخص طلب الرعاية الطبية عند بداية المرض, وفي العادة يعتمد المسن على الإنكار في بداية المرض أو ربما بعد ذلك بقليل، ولكنه حين يواجه الحقيقة يصبح شخصًا لا يُطَاقُ, ويتحول إلى حيلة مضايقة للآخرين وإزعاجهم, سواء كانوا من الأقارب أو الأطباء أو المرضى، وتصبح حيلة الإنكار "والعناد المصاحب لها" عنيفة, ويتمثّل ذلك في رفض العلاج أو المكابرة في محاولة إصدار أنماط سلوك لا يستطيعها. 2- الغضب: مع امتداد فترة المرض الأخير -مرض الموت- بالمسن تصبح صيحته اليومية "لماذا أنا كذلك؟ " وبهذه ينتقل إلى مرحلة أخرى لا يرضى عنها بحاله, ويصبح غاضبًا من كل شيء وكل شخص يوجد في عالمه، وقد يصاحب ذلك نوع من الغيظ من الأصحاء, وخاصة أولئك الذين يقومون برعايته. وقد يمتد غضبه إلى الناجحين والقادرين منهم، وتكون مشاعره إزاءهم مزيجًا من السخط والكراهية والحسد، حتى ولو كانوا أقرب الناس إليه "أبنائه مثلًا". 3- المساومة: في هذه المرحلة يغيِّر الشخص الهرم اتجاهه, ويحاول المساومة "مع الحياة", فيظهر رغبة في الحياة, ويزداد سؤاله لله تعالى أن يمنحه "بعض الوقت" يعود فيه إلى السلوك الطيب والتعاون في العلاج, وقد يعد بتغير سلوكه, وقد يصل به الأمر أن يكرِّسَ حياته للتدين, وبعضهم يتذكر ذنوبه وآثامه في الماضي ويندم على ما فرّطَ في حق الله والعباد. 4- الاكتئاب: حين يصبح الهرم غير قادر على إنكار مرضه، وحين يكون مضطرًا إلى القيام ببعض الجراحة أو الإقامة في المستشفى، وحين يبدأ في إظهار المزيد من الأعراض, ويصير أضعف وأنحف، فإنه لا يستطيع تجاهل ذلك كله، فيحل محل الغضب شعور بالفقدان العظيم، وحينئذ يدخل المرء في مرحلة الاكتئاب العميق. 5- التقبل: وأخيرًا فإن الشخص الهرم يقبل الحقيقة, لقد انتهى الصراع وبدأ الشخص في الشعور "بالراحة النهائية بعد رحلة طويلة", وعندئذ يكون الشخص متعبًا ضعيفًا, ينام معظم الوقت, ويظل كذلك حتى يموت. وبالطبع لا يتطلب الأمر المرور بكل هذه المراحل حتى يموت المسن الهرم، فقد يموت الشخص في أي مرحلة من مراحل الهرم السابقة، كما أن هؤلاء الأشخاص لا تقتصر استجاباتهم على مرحلة دون سواها؛ فالمكتئب قد تصدر عنه

في نفس الوقت نوبات من الغضب, كما لاحظت الباحثة أن جميع المرضى في جميع المراحل يتمسكون بالأمل، فحتّى الأشخاص الذين أصبحوا أكثر تقبلًا وأكثر واقعية, يوجد لديهم رجاء في العيش والشفاء. ويبدو لنا أن طور أرذل العمر هو طور موت بطيء ليس من الناحية الجسمية والفسيولوجية وحدها, وإنما من جميع النواحي الأخرى؛ فمن الدراسات التي تناولت التغيرات العقليلة والانفعالية نذكر نتائج دراستين هامتين, قام بأولاهما "Leberman, 1965" على 25 مفحوصًا من النساء والرجال المعمرين الذين يقيمون في أحد بيوت رعاية المسنين, تمتد أعمارهم بين 70، 89 عامًا, وقد طَبَّقَ الباحث علهم أربعة اختبارات تطبيقًا فررديًّا لتقويم جوانب مختلفة من نشاط الأنا والجوانب الانفعالية لديهم، وكانت الاختبارات الأربعة هي: 1- نقل الأشكال التي تشمل أنماطًا لدوائر صغيرة ونقاطًا. 2- النقل الحر لشكل بشري. 3- وصف رسوم للشكل الإنساني تعرض على هيئة خطوط في ضوء المشاعر التي تستثيرها. 4- إعادة إنتاج مثيرات معينة بعد انقضاء زمن معين. وقد بينت النتائج أنه بعد محاولات عديدة أظهر الأشخاص الذين وصلوا إلى هذا الطور من الحياة، في مقابل من لا يزالون في طور الشيخوخة، صعوبة في تنظيم وتكامل المثيرات في بيئتهم، كما ظهر أن مستويات الطاقة عندهم تناقصت بشكل حادٍّ, ويستنتج ليبرمان من ذلك أنه تحدث تغيرات سيكولوجية منتظمة للشيوخ المتأخرين بسبب اقترابهم من الموت؛ فطور أرذل العمر هو موت بطيء، قد يطول وقد يقصر, ويرى أن الأشخاص في هذا الطور قد يشعرون بنوعٍ من الاضطراب السيكولوجي العنيف, ليس بسبب الخوف من الموت, ولكن بسبب الخلل في تنظيم العمليات العقلية مع الدخول في هذا الطور الذي يقرب المرء من الموت, والأشخاص الذين ينسحبون من الحياة في هذا الطور ربما يكونون أقرب إلى بناء نوع من القوقعة الواقية حول أنفسهم, في محاولةٍ لإحداث قدرٍ من التماسك في الأنا, وخفض الخلل والتدهور المتزايدين. ودخول الإنسان في طور أرذل العمر يؤثِّرُ أيضًا في أدائه العقلي؛ ففي الدراسة الثانية وهي دارسة تتبعية امتدت عشر سنوات أجراها

"Riegel & Riegel, 1972" على عينة من المفحوصين من النساء والرجال الألمان, كانت أعمارهم عند بداية البحث بين 65- 85 عامًا، واستمرا معهم حتى وفاتهم, وقد طبقت عليهم بطارية اختبارات تشمل مقاييس للذكاء وتداعي الكلمات والتحصيل اللغوي والاتجاهات والميول, وقد وجد الباحثان أن الأشخاص الذين أداؤهم في اختبارات الذكاء أقل من المتوسط, هم في الواقع الأقرب إلى الموت بالمقارنة بأقرانهم الأكثر نجاحًا، ويصف الباحثان ذلك بأنه "الهبوط النهائي" terminal drop" أو بلغة القرآن الكريم "الانتكاس" النهائي, وقد حلَّلَ الباحثان درجات المفحوصين بالرجوع إلى الوراء في سني حياتهم بدءًا من لحظة الوفاة، فوجدا أن الهبوط في أداء اختبارات الذكاء يرجع إلى انتكاس فجائي في القدرة يحدث خلال السنوات الخمس السابقة على الموت, وتتفق هذه النتائج مع ما تتوصل إليه "Leberman, 1965", من أن المفحوصين الذين يقتربون من الموت يشعرون بخللٍ منتظم في التكامل، وبالطبع فإن هذه النتائج لا تزال في حاجة إلى مزيد من البحث للتحقق منها, كما أننا في حاجة إلى بحوث تجرى في مجتمعاتنا العربية والإسلامية حول هذا الموضوع. ومع تحوّل المسن إلى الطور الأخير من حياته فإنه يواجه تغيرات خطيرة أيضًا في علاقاته مع الأشخاص، فيتناقص التفاعل الاجتماعي كما تتلاشى تقريبًا الأدوار الاجتماعية، باستثناء دور المريض, وبالطبع فإن العلاقات بين الأشخاص ضرورية لدعم الحياة الانفعالية والوجدانية والاجتماعية للإنسان, وما يؤثر في قدرة الإنسان في الحفاظ على هذه العلاقات ونوعيتها عوامل كثيرة؛ منها: نمط شخصيته "الاستقلال - الاعتماد خاصة", ودرجة الصعوبات العضوية التي يعاني منها, ومفهوم الذات وإدراكها, وبالطبع فإن هذه العوامل جميعًا تكون في الاتجاه السلبي في طور أرذل العمر, ولهذا يظهر المسنون في هذا الطور طرقًا مميزة للحفاظ على هذه العلاقات. فمع العجز في مختلف جوانب السلوك, والضعف في وظائف الجسم, يتحول المسن في طور أرذل العمر إلى الاعتماد، وحتى يبقي على علاقاته مع الآخرين يظهر لونًا من النكوص إلى أنماط مبكرة -أقرب إلى النمط الطفولي- من السلوك, وهذا النكوص هو الذي عَبَّرَ عنه القرآن الكريم بإحكامٍ وبلاغةٍ بلفظ "الانتكاس", ومن معالم ذلك أن يبدأ الهرم المتأخر في معاملة المحيطين به "الأطباء والممرضين والأبناء" على أنهم بدائل الوالد بالنسبة له Parent surrogate, فلم يَعُدْ هو "والد" الجميع, وأكثرهم حكمة وخبرة، وإنما أصبح

ابن الجميع, ينشد رعياتهم وحمايتهم, وهذا التغير في الدور -وهو جزء من دوره كمريض- يسبب مشاكل جمة لجميع المهتمين به. إن المسن في هذا الطور -ومع هذا التدهور الانتكاسي الحاد- أصبح كالأطفال الصغار يتوقع من الآخرين -بل يطلب منهم- إشباع حاجاته الضرورية من تغذية ونظافة وإخراج، وإذا لم يفعلوا يلجأ إلى حيل الأطفال "مثل التبول أو التبرز في الفراش", بل قد يصل الأمر إلى اعتبار ذلك حقَّه في الرعاية، وسدادًا لدين قديم "على الأبناء خاصة", حين كان يتولى هو رعايتهم في هذه الأمور حين كانوا أو كان أبناؤهم صغارًا, وفي نفس الوقت يحتفظ أحيانًا بحقِّه في اتخاذ القرار - كالتصرف في أمواله، وبالطبع فإن هذا التصرف قد يكون -كتصرف الأطفال- سفيهًا, ومن هنا جاءت حكمة الفقه الإسلامي في الحجر على تصرفات السفهاء -ومنهم سفهاء أرذل العمر. ومن معالم سلوك أرذل العمر -الشبيه بسلوك الأطفال الصغار- الغيرة, إلّا أن التعبير السلوكي عنها يختلف, فإذا كان الطفل الصغير يعبر عن غيرته من شقيقٍ جديدٍ له وُلِدَ حديثًا بمصِّ أصابعه، فإن الهرم المتقدم في السن يظهر غيرته "وخاصة من الناجحين ممن هم حوله, وقد يكونون من أبنائه" بإظهار ألوان شتّى من الاضطرابات الوظيفية والعضوية، ومنها الاكتئاب، أو الشعور بالذنب, أو احتقار الذات, وقد يظهر أحيانًا ما يشبه سلوك الطفل فعلًا كالعناد والشكوى المستمرة. وعادة ما يستبدل المسنون في هذا الطور "السلع" المادية بالسلع المعنوية والوجدانية في علاقاتهم بالآخرين، فمع زوراهم يركزون على تقديم الطعام والهدايا والنقود لهم حتى يعاودوا زيارتهم, ويكمن وراء ذلك السلوك خوف عميق من أن يكون اعتبارهم الشخصي في ذاته ليس حافزًا قويًّا يدفع الآخرين لزيارتهم, وهم في ذلك أشبه بالطفل المنبوذ الذي يسعى لجذب انتباه الكبار بالوسائل المادية؛ كتقديم قطعة من الحلوى للوالد حتى يظل إلى جواره أطول فترة ممكنة. وحين يواجه المسنون في أرذل العمر بالحقيقة, وهي أنهم فقدوا علاقاتهم الشخصية, فإنهم يتحولون إلى التمركز حول الذات, إلّا أن التمركز حول الذات في هذا الطور يختلف عنه في طوري المراهقة أو الشيخوخة، إنه هنا أقرب -مرة أخرى- إلى تمركز الطفل حول ذاته، حيث يعيش في الحاضر فقط، ويظهر لونًا متطرفًا من النرجسية، ومع هذه النرجسية المتطرفة يشعر المسن في هذا الطور بحاجته للإبقاء على علاقته مع الآخرين حتى يشعر بأنه إنسان حي, ويؤدي ذلك

كله بالمسن إلى أن يصبح أكثر إزعاجًا, ناهيك عن النزعة للتكرار المستمر للحديث الواحد عدة مرات, وهذا كله يزيد من بعده عن الآخرين، وهنا تبدأ الحلقة المفرغة؛ حيث تزيد حاجته للآخرين، ويزداد رفضهم له، ويؤدي ذلك كله إلى تدهور جديد في تقدير الذات. وكثيرًا ما ينشغل المسن في أرذل العمر بجسده، فتكثر أحاديثه عن الأمراض والعمليات الجراحية والدواء, ويختبر أعضاء جسمه كثيرًا، فيحرك ساقيه ويديه كثيرًا في حركات تكرارية نمطية، كما قد ينشغل بعضهم بأعضائهم التناسلية, بل إن بعضهم يحاول التخفيف من القلق الناجم عَمَّا يحدث لوظائف الجسم وأعضائه بتكرار هذه التغيرات, ويؤدي ذلك إلى عزلتهم, ناهيك عن قلقهم وتوترهم ذاته. ومن هذا العرض للتغيرات الجوهرية في طور أرذل العمر يتضح لنا أن للمسن في هذا الطور طرقه التوافقية "التي لا تُعَدُّ بالطبع طرقًا سوية" مع التدهور الجسمي والعقلي والانفعالي والاجتماعي, ومع ذلك تظل في حدود التعامل المعتاد إذا استطاع بها المسن أن يتحكم في القلق والخوف والاكتئاب التي تنشأ عن هذه الألوان المختلفة من التدهور, فإذا استمر القلق, أو حدث خلل عضوي, فقد ينتج عن ذلك اضطرابات عضوية أو وظيفية تدخل في باب التشخيص السيكاتري، وهي الاضطرابات الأكثر شيوعًا في هذا الطور, والتي ستنناولها في القسم التالي من هذا الفصل.

تصنيف الاضطرابات السلوكية

تصنيف الاضطرابات السلوكية مدخل ... تصنيف الاضطرابات السلوكية: يتضمن تصنيف الاضطرابات السلوكية عمليتين أساسيتين هما: وصف الأعراض "التشخيص", والبحث عن الأسباب "الإيتيولوجيا أو التعليل", وهذه العملية المركبة تسهل علينا فهم الاضطراب السلوكي, ومن ثمة علاجه. ويتبع تصنيف الاضطرابات السلوكية في معظم المجتمعات المعاصرة الموجهات التي حددتها منظمة الصحة العالمية والجمعية الأمريكية لطب الأمراض العقلية, فقد استطاعت هاتان المنظمتان منذ عام 1986 إعداد المحكّات اللازمة لإجراء التشخيص المعياري للاضطرابات السلوكية, وقد ظهرت المحكات في نفس العام في الطبعة الثانية من الدليل الإحصائي والتشخيص Diagnositic and Statistical Manual of Mental Disorders.

وقد أفاد هذا الدليل كثيرًا في المقارنة بين الثقافات عبر السنوات, وقد تعَرَّض هذا الدليل لتعديلات كثيرة, آخرها ما تضمنته طبعته الرابعة DSM IV التي صدرت عام 1995. ويعتمد دليل الجمعية الأمريكية لطب الأمراض العقلية على خمسة محاور أو أبعاد للتصنيف: 1- الاضطرابات السيكياترية الراهنة "وقت التشخيص". 2- اضطرابات الشخصية والنمو التي تمتد بجذورها في تاريخ المريض, والتي تُعَدُّ من نوع الاضطرابات طويلة الأمد. 3- الاضطرابات الجسمية التي تظهر مع محاولة الاضطراب السلوكي للتعبير عن نفسه. 4- حدة الضغوط النفسية الاجتماعية, والتي تمتد في مقياس سباعي متصل, يبدأ من عدم وجود هذه الضغوط على الإطلاق, إلى حدتها المتطرفة التي قد تصل إلى حد الكارثة. 5- أعلى مستوى لنشاط توافقي أظهره الشخص خلال العام الماضي على وقت التشخيص, ويمتد ذلك أيضًا في متصل يبدأ من التوافق الممتاز إلى العجز التام عن التوافق, وهذا المحور له أهمية خاصة في التكهن بمآل Prognosis الاضطراب في المستقبل. ويتم التصنيف "التشخيص والتعليل" في ضوء هذه الأبعاد الخمسة، ومنها يتوصل الأخصائي النفسي أو طبيب الأمراض العقلية إلى صورة مركبة تشمل أنواع الأعراض الراهنة ودرجة تعقدها والمدى الزمني لحدوثها, والعوامل التي تفسر ظهورها, سواء في الماضي أو الحاضر, ومن ذلك مثلًا: أن تقويم المسنين الأعلى في النشاط التوافقي في السنة الأخيرة من حياة المريض "وقت التشخيص", قد يحدد درجة حدة الاضطراب الحالي، كما يحدد أيضًا درجة استجابة المريض بعد التدخل العلاجي الملائم, وعلى الرغم من التفاصيل الفنية الكثيرة التي يتضمنها هذا النسق في التصنيف, فإن الوصول إلى تشخيص وتعليل مفيدين يعتمد في النهاية على الحكم الكلينيكي الماهر اللمتخصص "Huyck & Hoyer, 1982". أضف إلى ذلك أن الاضطراب السلوكي ظاهرة ذات طابع ثقافي واجتماعي في جوهره "Kermis, 1974"؛ فالمرض النفسي أو العقلي ليس ظاهرة منفصلة، وإنما هو نوع من المتصل في الأحكام الذي يمتد من الأنماط السلوكية التي يتفق "الجميع" على أنها مرضية "كالخلط والهذاء", إلى تلك التي لا يعتبرها إلّا القليلون من هذا النوع "كالشعور بالاستلاب"1, ولعل هذه الحقيقة الأخيرة تشير إلى واجب علماء النفس وطب الأمراض العقلية المسلمين إلى بناء نموذجٍ تصنيفيٍّ للاضطرابات السلوكية في الإطار الثقافي الإسلامي، وهذا جهد إبداعي آخر لم يتصد له أحد منهم بعد، وقد يفيد في تحقيق ذلك الاستفادة من الجهود التي بُذِلَتْ لتناول مفهوم الصحة النفسية من منظور إسلامي "Abou-Hatab 1998", وحتى يتم الوصول إلى ذلك النسق المنشود سوف نعتمد في تصنيف الاضطرابات السلوكية في طور أرذل العمر على قائمة الجمعية الأمريكية لطب الأمراض العقلية التي أشرنا إليها.

_ 1 تختلط بعض الكتابات المعاصرة بين مفهوم الاستلاب bereavement حين يشعر المرء أن شيئًَا أو شخصًا عزيزًا قد انتزع منه قهرًا, وبين مفهوم الاغتراب alienation.

أولا: الاضطرابات الوظيفية

أولًا: الاضطرابات الوظيفية كان من المفترض لزمن طويل أن الاضطرابات العقلية في الشيخوخة المتأخرة ترتبط بخلل المخ, وعلى هذا فكان من المتعتقد أن الأعراض السيكلوجية التي تظهر في هذا الطور تعود في جوهرها إلى تصلُّب الشرايين Arterioscloerosis, أو ذهان الشيخوخة Senile Psychosis, وقد شاع المصطلح لفترة طويلة من الزمن, وكان تعريفه الشائع أنه انفصال عن الواقع تحدثه عوامل غير معلومة ترتبط في جوهرها بالتقدم في السن, وقد أظهر التقدم في علم النفس المرضي في السنوات الأخيرة أن ما يسبب هذه الأعراض هو الاكتئاب وليس محض التدهور العضوي، ولهذا شهدت السنوات الأخيرة تطورًا هامًّا في طرق التقويم النفسي التي تفيد في التمييز بين خرف الشيخوخة Senile Dementia العضوي, وبين الاضطرابات الوجدانية والوظيفية التي تحدث في هذا الطور النهائي من حياة الإنسان "Birren & Slonae, 1980". كما تأكد أن الاضطراب العضوي عند حدوثه في أرذل العمر قد يرجع إلى أسباب طارئة قابلة للعلاج؛ مثل: التسمم بالعقاقير, وسوء التغذية, والمرض الجسمي، بل إنه حتى حين يتحوّل خرف الشيخوخة إلى حالةٍ مستقرّة أو متدهورة "أي: لا تتوجه إلى التحسن", فإنه قد يرجع أيضًا إلى مكونات عضوية أو وجدانية طارئة كذلك. ونتناول الآن الاضطرابات الوظيفية التي تظهر في طور أرذل العمر، أمّا الاضطرابات العضوية فسوف نتناولها بعد ذلك.

1- اضطرابات القلق: من التطورات الجوهرية التي شهدها تصنيف الاضطرابات السلوكية في السنوات الأخيرة, وخاصةً في DSM في طبعاته الأخيرة, استعباد الفئة المرضية التي شاعت منذ مطلع هذا القرن وحتى عام 1980, وهي فئة العصاب neurosis, وحلّت محلها ثلاث فئات تصنيفية هي: اضطرابات القلق، والاضطرابات السيكوسوماتية، واضطرابات المفارقة "التفكك"1 وهي جميعًا من فئة الاضطرابات الوظيفية. ولعلنا في هذا الصدد نشير إلى أن العصاب الكلاسيكي واضطرابات الشخصية بصفة عامة نادرًا ما تظهر لأول مرة في طور أرذل العمر, فهذا الطور يستحضر معه القلق والاكتئاب والاضطراب السيكوسوماتي. كما أكدت البحوث أنه لا توجد فروق دالة بين مختلف المراحل العمرية في طرق التعامل مع هذه الصعوبات, فإذا كان المسن المتقدم في العمر يشعر بالقلق نتيجة الفقدان والتدهور, فإن الشخص الأصغر سنًّا قد يشعر بالقلق أيضًا نتيجة مواجهة تحديات الحياة, وعلى الرغم من هذه الأسباب المختلفة, فإن أعراض القلق في الحالتين متشابهة "Birren & Sloane, 1980". وتوجد لدى المسنين في الطور المتأخر من حياتهم مصادر كثيرة مختلفة لاستجابات القلق, ومن ذلك الفقدان أو الكارثة الشخصية, كما أن القلق المزمن، الذي ينتقل عادةً من مراحل عمرية سابقة، يستمر ويستقر ويصبح نمطًا للسلوك في طور أرذل العمر, كما يظهر الخواف "الفوبيا" وفيه تتم إزاحة القلق على أشياء ومواقف تفيد كرموز خارجية للمشاعر الداخلية, ويظهر أيضًا سلوك الوسواس القهري وخاصةً حين يكون المسن في عزلة وفقدٍ للكفاءة الحسية معًا "رهين المحبسين على حد تعبير أبي العلاء". ومن استجابات القلق الشائعة لدى المسنين في هذا الطور قلق العجز المتعلم learned helplessness كما يسميه سليجمان، وفيه يشعر الشخص أنه غير قادر على التحكم في الظروف المحيطة به, بصرف النظر عن الأفعال التي تصدر عنه.

_ 1 مفهوم العصاب من ابتكار نظرية التحليل النفسي، وظل حتى عام 1980 يجمع طائفة من الاضطرابات المختلفة تربطها خصائص "نظرية" مشتركة, وأهمها أنها علاماتٌ على القلق اللاشعوري، وقد حاول التصنيف الجديد DSM أن يكون نسقًا وصفيًّا، وقد أبقى على الأعصبة الخاصة مع إعطائها أسماء جديدة.

ويزداد هذا القلق حِدَّةً مع فقدان شريك العمر, أو التدهور في الصحة الجسيمة، إنه يخشى أن يصير عبئًا على الآخرين, وأن يفقد استقلاله، كما يخشى الإهمال الذي قد يتعرّض له إذا أصيب بمرض عضال، ولهذا نجد أن قلق العجز المتعلم, والقلق الاكتئابي أكثر شيوعًا لدى المسنين في طور أرذل العمر. 2- الاضطرابات السيكوسوماتية: كثيرًا ما يظهر المسنون في طور أرذل العمر أعراضًا جسمية لاضطراباتهم النفسية، ويظهر ذلك خاصة في نوعين من الاضطرابات؛ هما: زملة بريكيه وتوهم المرض. وتتسم زملة بريكيه Briquet's Syndrome بتواتر الشكاوى المتعددة من الاضطراب الجسمي, والتي لا يسببها مرض جسمي محدد؛ فقد يحدث أن يعاني المسن في وقت واحد من الصداع والتعب والإغماء والغثيان والقيء ومشكلات الجهاز الهضمي والجهاز التناسلي وأمراض الحساسية, والأشخاص الذين يعانون من زملة بريكيه يظهرون هذه الاضطرابات الجسمية كأعراض تحولية، أي: أن هذه الأعراض الجسمية لها وظيفتها الرمزية في الدلالة على القلق ومشاعر الذنب والاكتئاب والميول الانتحارية "وهو المرض الذي كان يسمى في الماضي الهيستيريا التحولية", صحيح أن هذا المرض قد يظهر مبكرًا منذ مطلع الرشد, ولكنه مع أرذل العمر يزداد رسوخًا واستقرارًا وحدة, وهو أكثر شيوعًا بين النساء منه بين الرجال. أما توهم المرض hypochondria وهو "عصاب" سيكوسوماتي آخر، فيه ينشغل المسن انشغالًا زائدًا بجسمه, أو بأجزأء منه, والتي يشعر أنها مريضة أو ضعيفة الكفاءة، ويتسم مثل هذا الشخص بالنرجسية، بمعنى أنه يتحول من تركيز اهتمامه السيكولوجي بالأشياء والأشخاص في بيئته, إلى تركيزه على ذاته, وخاصة ذاته الجسمية، وبهذا ينتقل القلق من مصدر من الضغط والإجهاد السيكولوجي المحدد إلى شكوى جسمية تدرك لا شعوريًّا, وتعتبر أقل تهديدًا, ويستخدم المرضى من هذه الفئة الأعراض الجسمية كوسيلة لعقاب الذات, وكنوع من الكفارة عن عدوانهم ومشاعرهم السلبية الأخرى نحو الآخرين وثيقي الصلة بهم, كما أن هذه الأعراض تستخدم أيضًا في عقاب الآخرين الذين يشعر المسن أنهم عَرَّضُوه للأذى، ومع ذلك فهو "أي: المسن" لا يستطيع مقابلة الأذى بمثله. ولا شَكَّ أن الاضطرابات السيكوسوماتية تحقق للمسن في أرذل العمر دوره

الوحيدة وهو دور المريض، فالمرض ذريعة قوية لإعفاء المسن من مسئولياته الاجتماعية المعتادة، كما أنه يعطيه الحق في الحصول على العناية والرعاية والاهتمام، إلّا أن الاختلاف الجوهري بين دور المريض في طور أرذل العمر وهذا الدور في المراحل العمرية السابقة, أن المريض المسن على عكس من هم أصغر سنًّا، لا يرغب من الشفاء مادامت هناك "مكاسب" سيكلوجية للمرض. 3- اضطرابات الإدمان: يوجد اضطراب سيكولوجي شائع في طور أرذل العمر يتصل بإدمان المخدرات والمسكرات, وأشهر صور الإدمان لدى المسنين في الغرب هو تعاطي الكحول، فهو شائع حتى بين المودعين في مؤسسات الرعاية, ومن الغريب أن كثيرًا من هذه المؤسسات في أوربا والولايات المتحدة تُقَدِّمُ الكحول للمسنين كفاتح للشهية, أو كمهدئ, أو للإبقاء على سلوك التطبيع الاجتماعي "حيث يقدم الكحول في هذه المجتمعات للضيوف في المواقف الاجتماعية"، ويترتب على ذلك زيادة إدمان الكحول لدى المسنين, وتوجد فئات عديدة من هؤلاء؛ فمنهم من يوصف بالمدمن المتأخر وهو الشخص الذي تعوَّد على الإسراف؛ في تعاطي الكحول في وقتٍ متأخر من حياته "في سن الخمسين مثلًا", وهم أولئك الذين فقدوا أدوراهم الاجتماعية مع بلوغ هذا الطور, ومنهم من يدمن العقاقير التي تُقَدَّمُ لهم كوصفات طبية "لما تتضمنه من بعض المواد المخدرة" كالمهدئات، أو التي تُعَدُّ من قبيل المخدرات المحظورة, وبصفة عامة نقول: إن المسنين المتأخرين الذين يدمنون المسكرات والمخدرات قد يكونون إما بدأوا التعاطي والإدمان مبكرين ثم استمروا، أو بدأوا ذلك بعد الدخول في هذا الطور النهائي من حياة الإنسان, وهذه الحقائق المؤسفة تكشف لنا عن حكمة الإسلام العظيم في تحريم الخمر والمخدرات, والمسلم الذي يتجنب هذه الخبائث لن يعيش شبابًا ورشدًا صحيحين فحسب, وإنما شيخوخة سعيدة أيضًا, وإذا كان للمسكرات والمخدرات أثرها المدمر على صحة الشباب وعلاقاتهم الإنسانية وظروفهم الاقتصادية، فإن هذا الخطر يكون أشد وأفدح بالنسبة للمسنين المتأخرين, وخاصةً مع التدهور الجسمي الذي يصاحب هذا الطور, ناهيك عن أنها قد تؤدي إلى التعجيل بظهور الاكتئاب لديهم. 4- اضطرابات البارانويا: البارانويا Paranoia اضطراب سلوكي شائع في طور أرذل العمر, ومحور هذا الاضطراب هلاوس ووساوس حول الذات, وهو مركب من الشعور بالاضطهاد والعظمة والارتياب والشك والحقد والغيرة والحسد. وبالرغم من شيوع مثل هذه المشاعر, فليس من المعتاد أن تنشأ فجأةً لدى المسنين

المتأخرين، فأولئك الذين يظهرون هذه الاضطرابات البارانوية في هذا لطور عادةً يتسمون ببعض هذه الأعراض لبضع سنوات سابقة, وهذه الاضطرابات لا تؤدي بصاحبها إلى خللٍ في رعاية الذات, فهو قد يستطيع أن يؤدي هذه المهام جيدًا، وقد لا يكون موضوع أي رعاية طبية بسبب توهماته, وتتسم استجابة المسنين البارانوويين بأنها تتضمن بعض التوهمات الشائعة "وأشهرها توهم اضطهاد أجهزة المخابرات أو الشرطة" التي قد ترتبط بالخداعات أو الهلاوس حول موضوع التوهم, وعادةً لا تتعرض شخصية هؤلاء للتدهور إلّا في حالة الأزمة, وتظهر الاستجابة البارانووية خاصةً مع الأنماط الأربعة الآتية للشخصية "Birren & Sloane, 1980" أ- المشاكسة - العدوان - العداء. ب- التمركز حول الذات - العناد - الاستبداد والتشبث بالرأي. ج- الشك والريبة - الغيرة - الشعور بالاضطهاد. د- الخجل - الحساسية - الانسحاب. كما يتسم هؤلاء بالعزلة الشديدة في علاقاتهم بالآخرين، والواقع أن العزلة عاملٌ هامٌّ في تحديد العلاقة بين الصمم والبارانويا حتى في المراحل المبكرة من الحياة، فالمسنون ذوو العجز السمعي والذين لديهم أحد الأنماط البارانوية السابقة, يعتمدون كثيرًا على الإسقاط والهلوسة لملء فجوات إدراكهم للعالم الحقيقي على نحوٍ يؤدي بهم إلى ظهور الاضطهاد, وإسقاط فشلهم في التعامل الخارجي على الآخرين المحيطين بهم انفعاليًّا ومكانيًّا, وهذا الموضوع يتصل مباشرة بالصلة الوثيقة بين الحرمان الحسي وظهور هذه الأعراض المرضية. ويصف علما النفس الكلينيكيون البارانويا على أنها عرض أكثر منها اضطراب عند المسنين, وقد يظهر على الرغم من عدم وجود تدهور معرفي شديد "Kermis, 1984", أما المرض الذي قد يظهر فعلًا في المراحل المتأخرة من البارانويا, ويتسم بسيطرة الهلاوس والتوهمات، كما قد يظهر أيضًا الفصام البارانووي, والذي يتمثل في ظهور أفكار متوهمة في مجال ضيق محدود, ومن ذلك الهلاوس السمعية التي تظهر في صورة توهم وجود صوت شخص آخر يعقب على أفعال المريض وأفكاره، وقد يتطور إلى الاستماع إلى صوتين يتصارعان حول أداء هذه الوظيفة, وحين يتطور هذا المرض بشدة فإنه يؤدي إلى التفكك الكامل لحدود الأنا, ويتطلب الإيداع في المؤسسات.

5- الاضطرابات الوجدانية: تشمل هذه الفئة من الاضطرابات الوظيفية "حسب تصنيف DSM IV" مجموعة من الخصائص الشخصية الأكثر شيوعًا في طور أرذل العمر وهي: الاكتئاب الخطير، الاضطراب الثنائي القطب "والذي كان يُسَمَّى في الماضي الجنون الدوري"، والاضطراب الدائري Cyclothymic, والذي يمتد بصاحبه بين الهياج والانقباض, وهذه جميعًا اضطرابات وظيفية لأنها لا تنشأ عن الخللل العضوي في الجسم, وإنما هي نتاج العلاقات بين الأشخاص وداخل الشخص والعوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر تأثيرًا مدمرًا على الشخص من خلال قيمه السيكولوجية والرمزية. ولعل الاكتئاب الخطير من بين هذه الاضطرابات الوظيفية هو الأكثر حدوثا بين المسنين في طور أرذل العمر, وتذكر "Kermis, 1984" أن حوالي 3% من مجموع سكان العالم يتعرضون سنويًّا للإصابة به، إلّا أن هذه النسبة أعلى من ذلك لدى المسنين المعمِّرين, وعلى الرغم من أن جميع المسنين لا يتساوون في درجة العجز الناجم عن الاكتئاب, إلّا أنهم جميعًا يظهرون تدهورًا واضحًا يتمثل في بطء التفكير ونقص النشاط الهادف والقلق الشديد، فإذا صوحب ذلك بأعراض معينة تختلف عن النشاط العادي للمرء, وتستمر معه يومًا بعد يوم, فإن ذلك يعطي الصورة الكلينيكية للاكتئباب الخطير، ومن هذه الأعراض الشعور بالحزن الأليم, والميول الانسحابية العامة وكف النشاط، وسيطرة التشاؤم، وهبوط تقدير الذات، وعدم الثقة في التنبؤ بمصير الذات. كما توجد علامات ثانوية ذات طبيعة جسمية "فالاكتئاب ليس مرضًا نفسيًّا خالصًا", وتشمل: الأرق، نقص الوزن، فقدان الشهية، التعب، الإمساك، تدهور النشاط الحركي، دورات السلوك التكراري اليومي, وتؤكد البحوث على المسنين "Cole & Barrett, 1980" أن الأشخاص المكتئبين في طور أرذل العمر أكثر احتمالًا لإظهار علامات المرض كالإمساك والتعب أكثر من أعراضه كالحزن والتشاؤم. وتصدر عن المسنين المكتئبين أنماط معينة من السلوك، ومن ذلك الشعور العميق بالذنب على آثام متوهمة من نوع الصغائر أو الكبائر, وتشغلهم كثيرًا حينئذ محاولات التوبة أو الخوف من العقاب الدنيوي أو الأخروي, ويشعر المسن المكتئب بالقلق الشديد والتوتر العنيف، قد يصل إلى حد السعي لتدمير الذات الذي قد يؤدي إلى الانتحار، ولهذا فإن الاكتئاب يعد اضطرابًا مهددًا لحياة المسنين, وقد توجد بعض الأعراض الجسمية المصاحبة للاكتئاب في هذا الطور, ويفسر "Zung, 1980" ذلك بقوله: إنه إذا كانت الأعراض السيكولوجية للاكتئاب هي

الدالة على الفشل الشخصي، وهو ما لا يحب المسن أن يعترف به، فالبديل إذن هو المرض الجسمي الذي لا حيلة له فيه. وفي الممارسة الكلينيكية يصعب التميز في طور أرذل العمر بين الاكتئاب وأعراض الخلل المخي العضوي المزمن، ولهذا ظهرت فئة تشخصية تُسَمِّي الاكتئاب العضوي -سوف نتناولها فيما بعد, كما قد يتداخل الاكتئاب مع الشعور بالشقاء والتعاسة والحزن الوجداني, والذي قد يُعَدُّ استجابةً طبيعيةً للمواقف التي يوجد فيها المسن, كما قد يختلط اكتئاب المسنين أيضًا بعلامات الهرم العادي, وبالتالي يتجاهله الكثيرون، ومع ذلك فإن الاكتئاب يظل أخطر الاضطرابات الوجدانية لدى المسن، وهو الاكثر شيوعًا لديهم, كما يلاحظ لدى الذين يترددون على المستشفيات, سواء للإقامة الداخلية, أو على العيادة الخارجية، ولدى الذين يعيشون في المؤسسات "دور المسنين"؛ ففي مسحٍ أُجْرِيَ عام 1992 في الولايات المتحدة, لوحظ أن 63% من المقيمين بدور رعاية المسنين يعانون من الاضطرابات المعرفية، كما يؤلف الذين يعانون من الاكتئاب الحاد 25% منهم "Mensh, 1994"

ثانيا: الاضطرابات العضوية

ثانيًا: الاضطرابات العضوية تنشأ الاضطرابات المخية العضوية عن عجز أنسجة المخ عن النشاط لأسباب كثيرةٍ، وتسمى هذه الاضطرابات الخرف Dementia, ومنه خرف الشيخوخة Senile Dementia, ويوجد نوعان من هذا الخرف؛ أولهما: نمط الزهيمر Alzherimer, والذي يسمى أيضًا الخلل الأولي للخلايا العصبية، وثانيهما: نمط الأوعية الدموية Cerebrovascular, والذي يُسَمَّى أيضًا خرف الاحتشاء المتعدد. أما الأنواع الأخرى من الخرف فتشمل مرض بك pick, وزملة أعراض فيرنك-كورساكوف Wernicke - Koersakoff, ومرض كوريا لهنتجتون Huntington Chorea، وتصلب الأنسجة المتعددة Multiple Sclerosis, ومرض كورو1 Kuru، وتتسم هذه الاضطرابات العضوية جميعا بأنها خطيرة طبيًّا بأنها لا تقبل الشفاء irreversible, وبالتالي فهي مزمنة، وهي علامة على

_ 1 اقتراح أ. د. يوسف مراد ترجمة كلمة Delirium بكلمة هتر، وكلمة DEmentia بكلمة خبل، وإلّا أن الاستخدام الطبي لهما كما جاء في المعجم الطبي الموحّد ورد على النحو الذي جاء في هذا الكتاب، وآثرنا الالتزام به توحيدًا للغة العلم.

الخلل النهائي الذي ينتهي بالمسن في هذا الطور إلى الموت، وتوجد أنواع أخرى من الاضطرابات المخية العضوية التي تظهر في طور أرذل العمر أيضًا, ولكنها أقل حدة, وقد توصف طبيًّا بأنها تقبل الشفاء reversible, وبالتالي فهي حادة actute, وتسمى الخبل Delirium, ومنها الاكتئاب ومرض استسقاء المخ Hydrocephalus والتسمم بالعقاقير. ومن الحقائق التي كشفت عنها البحوث أن الاضطرابات المخية العضوية قد تكون علاماتها خفيفة أو عميقة، وقد تظهر ببطء أو بسرعة، وقد وصف "Bulter & Lewis, 1982" خمسة تغيرات عقلية تصاحب الاضطرابات المخية العضوية من مختلف الأنواع وهي: 1- عجز الذاكرة: والذي ينتج عن الفشل في تسجيل الأحداث، أو الفشل في الاحتفاظ بما تَمَّ تسجيله، أو العجز عن الاسترجاع الاختياري من الذاكرة. 2- العجز العقلي المعرفي: والذي يظهر في صورة فشل المسن في فهم الحقائق أو الأفكار، والعجز عن التفاعل مع المشكلات البسيطة "كالمشكلات الحسابية الروتينية"، والفشل في اكتساب سلوك جديد وتعلمه بسبب اضطرابات الذاكرة، مع سيطرة النمطية, والقصور الذاتي في صورة تكرار الاستجابة, حتى وإن كانت لا تتناسب مع المثير أو الموقف، كما يتسم النشاط العقلي بالتفكير الحسي الحركي والتفكير العياني الشبيه بتفكير الأطفال. 3- العجز الشخصي الاجتماعي: والذي يتمثّل في صعوبة فهم المواقف الشخصية ووضع الخطط واتخاذ القرارات والعجز عن معرفة هوية الأشخاص الآخرين، وتجنب المواقف الصعبة بالانشغال عنها بأعمال لا صلة لها بهذه المواقف, ويزيد الموقف حدة الاضطرابات اللغوية والإدراكية والحركية المصاحبة لذلك. 4- العجز عن تحديد الاتجاهات: ويتمثل في الخلط في تقدير الزمان والمكان, مع ظهور الخلط الزماني أولًا. 5- العجز الانفعالي: ويتمثل في التحول من الانفعالية الشديدة إلى البلد الانفعالي، ويتم هذا التحول بسرعة وبدون سبب ظاهر. وهذه التغيرات الخمسة تكشف لنا معًا مرة أخرى عن الإعجاز النفسي للقرآن الكريم في وصفه لطور أرذل العمر, انتكاس لأطوار النمو المبكرة وفقدان للقدرة.

على التعلم "والذاكرة هي وعاء التعلم". وبالطبع لايظهر الأشخاص المسنون هذه العلامات الخمسة معًا وفي وقت واحد، كما أن بعض هذه العلامات قد يكون أشد من غيره، وبعضها قد يكون لبعض الوقت من النوع الحاد المؤقت "الخبل", والبعض الآخر يستمر في التطور نحو مزيدٍ من التدهور والعجز, حتى يصل بالمسن إلى العجز الكامل عن التعامل مع أبسط صور رعاية الذات، ويظل كذلك حتى الموت، وحينئذ يصبح الاضطراب مزمنًا من نوع الخرف. ونعرض فيما لي الاضطرابات المخية العضوية بنوعيها, متبدئين بالخبل ومنتهين بالخرف: 1- الاضطرابات المخية العضوية الحادة "خبل الشيخوخة": هذه الاضطرابات تُطْلِقُ عليها الجمعية الأمريكية لطب الأمراض العقلية مصطلح delirium, وهو الذي آثرنا ترجمته بالمصطلح الطبي خبل الشيخوخة, وهذه الاضطرابات شائعة بنسبة تتراوح من 10% و 20% بين المصابين بالاضطرابات المخية العضوية, وهي أنواع من الاضطرابات تقبل الشفاء وتتسم بأنها تحدث فجأة ولفترة مؤقتة، ومن هنا جاء وصفها بالحدة, وتظهر في هذه الاضطرابات بعض أو جميع علامات زملة أعراض الاضطراب المخي العضوي, ومن ذلك الحمَّى، وارتعاش العضلات، وسرعة دقات القلب، والعرق، وراتفاع ضغط الدم، وعدم سواء الرسم الكهربائي للمخ, كما أن الأعراض النفسية التي ترتبط باحتمال حدوث هذا النوع من الاضطراب تشمل القلق البالغ، والتوهم، والخداعات، والخلط، وتذبذب مستوى الوعي، والخلل المعرفي، وأشهر صور الخلط والتوهم هو الشعور بالاضطهاد, ويحدد الباحثون بضعة أسبابٍ لحدوث هذا النوع من الاضطراب المخي"Huyck & Hoyr, 1982" هي: أ- الأسباب البنيوية: ومن ذلك أورام وجلطة المخ, والتي تؤدي إلى حدوث تغيرات عقلية لدى حوالي نصف المرضى من هذه الفئة؛ فالجلطة أو الورم المخيان يؤديان إلى منع الدم من الوصول إلى أجزاء معينة من المخ. ب- التسمم بالعقاقير: ويشمل ذلك التسمم الكحولي، والسبب في ذلك أن علميات الأيض للعقاقير "وخاصة ما يتضمن منها المواد المخدرة" أبطأ لدى المسنين، أضف إلى ذلك أن بعض المسنين يسيئون استخدام

العقاقير الطبية, ومن ذلك استخدام تذاكر طبية متعددة لأطباء مختلفين على مراحل زمنية مختلفة، أو استخدام أدوية يوصي بها الأصدقاء والمعارف، أو استخدام أدوية لم تعد صالحة أو مفيدة للاستعمال، أو إحلال أدوية محل أخرى. ج- نقص السكر في الدم: وهو أحد أمراض البول السكري, ويسمى hypoglycemia, ويظهر عندما يكون مقدار السعرات الحرارية الوارد لجسم المسن غير متناسب مع مقدار الأنسولين المستهلك، أو إذا كان جسم المسن لا يستطيع تجهيز الطعام بسبب نقص إفرازات الكبد "نتيجة التليف مثلًا". د- اضطرابات القلب: وخاصة تضخم عضلة القلب عند المسنين الذين يعانون بالفعل من بعض الخلل في نشاطهم المعرفي؛ فاضطراب القلب يؤثر في قدرته على تزويد المخ بالدم اللازم له. و اضطرابات التغذية وخلل علميات الأيض: فقد ينشأ عن ضعف نشاط الغدة الدرقية مثلًا خلل في النشاط المعرفي, أضف إلى ذلك أن أمراض سوء التغذية ومنها الأنيما الخبيثة والنقص الشديد في فيتامين "ب" قد تؤدي إلى زملة أعراض مخية من النوع الذي نصفه هنا, كما أن زيادة الكالسيوم عن المستوى العادي يؤدي إلى التبلد والخلط. ز- الإجهاد النفسي: ويشمل ذلك ما ينتج عن الألم الشديد والحزن العميق والشعور المزمن بالشقاء والتعاسة، فقد يؤدي ذلك إلى ظهور أعراض الاضطراب المخي الحاد "المؤقت". وفي معظم الحالات فإن اضطرابات خبل الشيخوخة ذات الطبيعة المخية العضوية الحادة تنشأ عن تفاعل أسباب عديدة "Birren & Slonane, 1980"؛ فمثلًا يمكن لأي عقار أو مخدر له أثره في الجهاز العصبي أن يؤدي إلى حدوث هذه الاضطرابات, وخاصةًً إذا كان المريض المسن يعاني من أمراض الأوعية الدموية للقلب التي تؤدي إلى نقص إمداد المخ بالأوكسيجين, أو حين يكون المريض مصابًا بالجفاف, كما أن المسن قد ينسى "بسبب ضعف ذاكرته" أنه تناول بالفعل دواءه, وبالتالي قد يتعاطى جرعات متعددة "أكثر من اللازم" دون أن يدري.

توجد نسبة عالية من الموت المباشر بسبب خبل الشيخوخة تصل إلى حوالي 40%, ويرجع ذلك في جوهره إلى أخطاء التشخيص, أما إذا أمكن تحديد الاضطراب بدقة, فإن هذا النوع من الاضطراب لا يمتد لأكثر من أسبوع واحد؛ فعلاجه يتم بتصحيح الشرط المحدث له؛ فالمريض المسن قد يحتاج إلى الأوكسيجين, أو جلوكوز الدم, أو نقل الدم, أو علاج المرض المعدي, أو التحكم, فإن المريض قد تتطور حالته إلى اضطرابٍ مخيٍّ أكثر خطرًا "خرف الشيخوخة" أو يموت, وفي كثير من الأحوال يشفى المريض وحينئذ يستطيع أن يعود إلى نشاطه المعتاد. ومن التقاليد الطبية الراسخة في هذا الميدان في وقتنا الحاضر افتراض أن جميع الاضطرابات المخية العضوية قابلة للشفاء، فإذا استجابت الحالة للعلاج صُنِّفَتْ على أنها من النوع الحاد "خبل الشيخوخة", أما إذا لم تستجب فإنها تصبح من النوع المزمن الأشد خطرًا, والذي سنتناوله في القسم التالي. 2- الاضطرابات المخية العضوية المزمنة "خرف الشيخوخة": يمكن القول أن خرف الشيخوخة Senile Demetia, هو أخطر الأمراض العقلية في مرحلة المسنين، بل هو المعلم الرئيسي على دخول المسن طور أرذل العمر, ومصدر الخطر الرئيسي أنه حالما تعطب خلايا المخ وأنسجته, فإنها تموت ولا تتجدد، ويؤدي عطب المخ بدوره إلى تدهور عقلي وخلل في تكامل الشخصية. وهناك اختلافات جوهرية بين خبل الشيخوخة "المرض الحاد والمؤقت" وخرف الشيخوخة "المرض المزمن", في أن أولهما يظهر فجأة ويستمر لفترة قصيرة إذا تَمَّ تشخيصه بدقة وعلاجه بطريقة ملائمة، كما أن عرضه الأساسي هو تذبذب الوعي مع الشعور بخداعات وتوهمات ناجمة عن تشويه في الإدراك أو سوء تفسير للمدراكات, أما خرف الشيخوخة المزمن فإنه يتطور تدريجيًّا وعادةً ما تكون بدايته مع ظهور تغيرات انفعالية وسلوكية مختلفة؛ كالاكتئاب والتعب وعدم الشعور بالراحة والانسحاب الاجتماعي وفقدان المبادأة والتلقائية والانفجار الانفعالي "الغضب أو الضحك أو البكاء مثلًا", وعدم الانتظام في القيام بالأعمال المعتادة, والتغير في مستويات السلوك التي تصدر عنه, وهذه التغيرات تخبئ وراءها فقدانًا في القدرات العقلية العليا؛ فسوء التوجه الزماني والمكاني وفقدان

ذاكرة الأمد القصير سرعان ما يتبعها فقدان في ذاكرة الأمد الطويل, وحينئذ تختل وظائف الذاكرة تمامًا "الأفازيا"، ويشمل ذلك الاحتفاظ والاستدعاء والتعرف. ويمتد أثر ذلك إلى فقدان القدرة على التعلُّم "حتى لا يعلم المسن من بعد علم شيئًا حسب التعبير القرآني المعجز", ومن معالم الانتكاس الطفولي الخطير أيضًا التحول كليةً إلى التفكير العياني المحسوس والفقدان الكلي للقدرة على أبسط صور التجريد, ويكون التفكير في هذا الطور أقل كفاءة بكثير من تفكير الأطفال بكثير، كما يظهر أيضًا التدهور اللغوي "وخاصة في الكلام"، كما يظهر العجز عن فهم الرموز غير اللفظية "الأجنوزيا Agnosia"، والعجز الحركي وخاصةً العجز عن القيام بالحركات الموجهة نحو غرضٍ, والذي يُسَمَّى الأبراكسيا aparaxia، ويزداد ذلك مع زيادة حدة الخلل المخي. ويظهر ذلك كله في صورة عجز عن الإجابة على الأسئلة المألوفة والتي توجه إلى المريض مثل: تحديد أين هو, أو تاريخ اليوم أو الشهر أو السنة, أو تحديد عمره، أو تحديد تاريخ ميلاده, أو سنة هذا الميلاد, أو تحديد محل إقامته, أو ذكر اسم رئيس الدولة، إلخ "Hock & Zubin, 1964"، ويصل الأمر إلى أقصى درجاته حين يفشل المسن في تذكر اسمه، كما يفيد الفحص النفسي العصبي في التمييز بين خرف الشيخوخة والاكتئاب خاصة، ومع تأخر حالة المريض بخرف الشيخوخة في طور أرذل العمر يتحول إلى العجز الكلي عن التحكم في الحركة, وحينئذٍ لا يستطيع المريض أن يطعم نفسه, أو يحافظ على نظافته الشخصية، وهكذا يكون المسن قد دخل بالفعل في طور أرذل العمر، فالتدهور مستمر, ومع كل يوم يضاف إلى عمر المسن يشهد تغيرًا إلى ما هو أسوأ، وهذا كله يتسم بعدم القابلية للشفاء, ولا نهاية له إلّا الموت. وإذا كان خبل الشيخوخة المؤقت يصاحب عادةً بزيادة النشاط الحركي, فإن خرف الشيخوخة المزمن يصاحبه بطء شديد في هذا النشاط؛ فالشخص الذي يعاني من الاضطراب الحاد المؤقت "الخبل" يبدو مفرطًا في نشاطه ومتوترًا وغير مستقر, ويؤدي هذا السلوك إلى حيرة الملاحظ الخارجي. ويبدو المسن في هذه الحالة كما لو كان غير مصدقٍ لما يحدث له, ويتسم انتباهه بأنه غير متبأور. ويتوجه نحو الأشخاص وليس الأماكن, ويعوزه الاستبصار، ويتسم تفكيره بأنه أقرب إلى تفكير الشخص الحالم, إلّا أن ذلك كله قابل للشفاء بالعلاج المناسب كما بينا من قبل، وهذا كله عكس خرف الشيخوخة. وإذا عدنا إلى خرف الشيخوخة فإنه على الرغم من وجود الخصائص المشتركة السابقة, إلّا أن هذا الاضطراب يتضمن عدة فئات في التصنيف

السيكياتري المعاصر، كلًّا منها يوصف في ضوء أعراضه وأسبابه المفترضة. ونعرض فيما يلي هذا الفئات: أ- مرض الزهيمر "الخلل الأولي للخلايا العصبية": هذا المرض هو السبب الرئيسي لخلل الوظائف المخية عند المسنين، ويُعَدُّ مع الاكتئاب- أخطر اضطرابين في السلوك يتعرض لهما المسنون في مرحلة أرذل العمر، ومرض الزهيمر يصيب حوالي نصف الذين يعانون من التدهور العقلي في هذه المرحلة، وقد تعرضت تسمية هذا المرض لتطور طريف، فحينما كان يعتبر ناجمًا عن التقدم في السن أطلق عليه العامة، خرف الشيخوخة "senile dementil", إلّا أنه عندما اكتشف أنه قد يصيب الراشدين في مراحل عمرية سابقة أطلق عليه تسمية خاصة, هي خرف ما قبل الشيخوخة Presenile demerntial" ويعود الفضل في اكتشافه عام 1970 إلى عالم النيرولوجيا الألماني Alois Alzheimer, الذي حدد التغيرات البنيوية في المخ, التي يتسم بها الخرف في هذه المراحل المبكرة من العمر، ولهذا نسب إليه, وأصبح يُسَمَّى مرض الزهيمر مشيرًا بالطبع إلى خرف ما قبل الشيخوخة, إلّا أن الجمعية الأمريكية لطب الأمراض العقلية في تصينفها السيكياتري الأخير DSM IV, فضَّلَت أن تشير إلى خرف الشيخوخة باسم الخرف الناجم عن الخلل الأولي للخلايا العصبية، مع التمييز بين هذا المرض في طوري الشيخوخة، وما قبل الشيخوخة، ويعتقد بعض الباحثين أن نوعي المرض متطابقان فسيولوجيًّا، ويشيرون إليها باسم مشترك هو مرض الزهيمر, بصرف النظر عن عمر المريض، بينما تؤكد البحوث وجود فروق بين المسنين ومن هم أصغر سنًّا في هذا المرض, ولعل أهم هذه الفروق أن المسنين الذين يصابون به لا يعيشون بعده إلّا بضع سنوات، بينما المرضى به الأصغر سنًّا "في طور منتصف العمر", قد يستمرون أحياء لمدة تمتد بين عشر سنوات وعشرين سنة, مع تدهور مستمر بالطبع، ولهذا يرى البعض أن مرض الزهيمر هو في الواقع صورة مبكرة لخرف الشيخوخة؛ ففي كلاهما تظهر أعراض مشتركة كالتدهور العقلي, وخاصة فقدان الذاكرة, والتدهور في التوجه الزماني والمكاني, والاضطراب الانفعالي والسلوكي، وفي الحالتين تكون البداية بطيئة على نحوٍ قد لا يلاحظه أفراد الأسرة, وفي المراحل المتأخرة من المرض يظهر المسن عدم الاستقرار ومايصاحبه من ازعاجٍ للآخرين, والسلوك التكراري وخاصة تكرار الكلمات أو الجمل أوالنشاط, حتى لو كانت غير ملائمة؛ كأن يسأل عن الوقت مرات عديدة خلال فترة زمنية وجيزة، مع ظهور الأفازيا "فقدان القدرة على

استخدام اللغة"، والتغيرات السريعة في الانفعالات، كما يفقد القدرة على التحكم في المثانة والأمعاء، وقد ينتهي الأمر بالمريض إلى عدم معرفة من هو أو معرفة أفراد أسرته. أما عن التغيرات التي تطرأ على المخ نتيجةً لهذا المرض فإنها لا تتحدد إلّا عند تشريح الجثة بعد الوفاة؛ حيث يلاحظ ضمور شديد في شجيرات الخلايا العصبية، بالإضافة إلى تغيرات بنيوية خطيرة في المخ تؤدي إلى ضمور المخ ككلٍّ ونقص وزنه. النماذج النظرية حول المرض: لا يزال الباحثون يحاولون في وقتنا الحاضر اكتشاف الأسباب المحتملة لحدوث مرض الزهيمر، ويذكر "Wurtman, 1985" أنه توجد ستة نماذج مختلفة هي: 1- النموذج الوراثي: ويعتمد في جوهره على الأدلة المتاحة من دراسة الأسرة التي يظهر المرض بين أفرادها, وفي رأي أصحاب هذا النموذج أن هذه الأدلة قد توحي بوجود بعض الجينات الخاطئة تجعل المرء عرضة للتأثر بالظروف البيئية التي تؤدي إلى ظهور المرض، إلّا أن البحوث لم تؤكد بعد وجود كروموزوم خاص بهذا المرض. 2- النموذج البيوكيميائي: وهو نموذج يعتمد على أدلةٍ أكثر دقة تتلخص فيما لوحظ من وجود نقص واضح في نشاط إنزيم معين في أنسجة مخ الأشخاص المصابين بهذا المرض, وهو إنزيم CHAT"1", ويبدو أن السبب في هذا النقص هو فقدان الخلايا العصبية في جزء المخ المسئول عن التحكم في إفراز هذا الإنزيم، والنقص في هذه الخلايا ليس ناجمًا عن عملية التقدم في السن في ذاتها؛ ولهذا اقترح بعض الباحثين في السنوات الأخيرة أنه قد يرجع إلى آثار الإفرازات الهرمونية الناجمة عن الإجهاد "Schaie & Willis,1976", كما أن العمليات البيوكيمائية المرضية قد تكون متضمنة في التغيرات التي تطرأ على لحاء المخ. 3- نموذج التلوث بالانتقال "العدوى": ظهر هذا النموذج في ضوء نتائج الدراسات التي أجريت على الأمراض النيرولوجية النادرة التي يمكن أن تنتقل في ظروف غير طبيعية، وقد تدعم نموذج التلوث بالانتقال أو العدوى infectious, بما وُجِدَ من أن أحد جزئيات البروتين المسمى البريون Prion الذي

_ 1 الاسم الكامل للإنزيم هو: "Coline acetyltransferse".

يوجد في هذه الأمراض, له خصائص بنيوية شبيهة لما يوجد في مخ مرضى الزهيمر, وقد أجريت بحوث تجريبية لنقل هذا المرض إلى الحيوانات, ولكنها لم تنجح حتى الآن, ومع ذلك فإن الاحتمال لا يزال قائمًا بوجود ناقل للعدوى بهذا المرض, والذي يتطلب قبل حدوث العدوى وجود استعداد وراثي قبلي, أو مرض راهن في جهاز المناعة أو التعرض لمادة سامة في البيئة. 4- نموذج التسمم العصبي: وهو نموذج يعتمد على أدلةٍ لا تزال حتى الأن موضع خلاف، وخلاصتها أن بعض المعادن الضارة "ومنها الألمومنيوم"، من الألياف العصبية المسماة neurofibrillary tangles, ولم يتضح بعد ما إذا كان الألومنيوم يتم امتصاصه من مصادر البيئة ثم يؤدي بدوره إلى ظهور هذه العقد الليفية, إلّا أن الأكثر احتمالًا في الحدوث أنه حالما تظهر هذه العقد فإنها تجذب إليها الألومنيوم, وبعبارة أخرى فإن التراكم السمي لا ينشأ عن استخدام الألومنيوم في الحياة اليومية, وإنما عن الخلل الذي يطرأ على علميات الأيض حالما تحدث التغيرات غير السوية التي تنتج عن مرض الزهيمر. 5- نموذج النقص في تدفق الدم: على الرغم من أن مرض الزهيمر لا ينشأ عن تصلب الأورطي, فإن هناك أدلة على حدوث نقص واضح في تدفق الدم إلى المخ عند مرضى الزهيمر، وتؤكد الدراسات الحديثة أن تدفق الدم إلى المخ, واستهلاك الأوكسيجين فيه, يتناقص بنسبة 30% عند مرضى الزهيمر بمقارنتهم بالمسنين العاديين, ويكون هذا النقص أكثر حدة في الفص الجبهي والفص الجداري من لحاء المخ, وهي نفس المناطق التي تظهر أخطر التغيرات الباثولوجية في أنسجة المخ، ويقترح بعض العلماء أن حدوث النقص في تدفق الدم ينتج عن نقص الخلايا العصبية التي تستثير الموصلات المسئولة عن تنشيط تدفق الدم في المخ. 6- نموذج الخلل في إنزيم الآسيتلكولين: اقترح هذا النموذج من خلال محاولات أصحابه علاج مرض الزهيمر حين وجدوا أن إنزيم الآستلكولين، وهو أحد الناقلات العصبية، يقل مقداره لدى المصابين بهذا المرض، وقد توافرت الأدلة على ذلك من مصدرين؛ أولهما: العلاج بالتغذية حين يقدم للمرضى غذاءً غنيًّا بالمواد الخام التي تكوّن الإنزيم، وثانيهما: العلاج باستخدام عقار الفسوتيجمين Physotigumine, الذي يمنع التدهور السريع للإنزيم بعد إفرازه من

الخلايا العصبية، وعلى الرغم من أن أدلة النوع الأول من العلاج لا تزال حتى الآن غير قاطعة، وعلى الرغم أيضًا من أن أدلة النوع الثاني من العلاج تؤكد احتمال حدوث آثار جانبية خطيرة، فإن النموذج قد تتوافر أدلة كافية على صحته في المستقبل, وخاصة أن الأدلة التشريحية التي توفرت من دراسة لحاء مخ المرضى بهذا المرض بعد وفاتهم, تؤكد أن مستويات هذا الإنزيم لديهم أقل من مستوياته لدى المسننين العاديين بنسب بين 60%، 90%. ب- خرف الاحتشاء المتعدد: يحتل خرف الاحتشاء Multi infarcet dementia1 , والذي يُسَمَّى أحيانًا خرف انسداد وتصلب الأوعية الدموية المخية cereveovascular، المرتبة الثانية بعد مرض الزهيمر في الأهمية والخطر؛ كخلل مخي مزمن, فهو يُعَدُّ مسئولًا عن حوالي من 20% إلى 30% من خرف الشيخوخة في الغرب، وهو عبارة عن اضطراب ينشأ عن حدوث جلطات متعدد في الدم تمنع وصوله إلى المخ، ويتسم المريض حينئذ بالتوتر الزائد، وعلى الرغم من أن تصلب الشرايين قد ينشأ عن ذلك إلّا أن أهميته لا تظهر إلّا في القليل من المصابين بهذا المرض. ويبدو أن خرف الاحتشاء المتعدد يسبب جوالي 20% من حالات الوفاة الناجمة عن الخلل العضوي المزمن للمخ، بالإضافة إلى حدوثه في حوالي 12% من مرضى الزهيمر الذي أشرنا إليه. وتظهر الأعراض الأولى لمرض خرف الاحتشاء المتعدد في المتوسط في سن 66 عامًا، على الرغم من أنها قد تظهر عند القليلين في سن الخمسين، وهي أكثر شيوعًا لدى الرجال منه لدى النساء، وقد يكون السبب في ذلك أن هرمون الإستروجين يزوّد المرأة ببعض الحماية ضد مرض الأوعية الدموية للقلب حتى بلوغها سن الطهر. وتظهر بعض الأعطاب في الأوعية الدموية للمخ لدى المصابين بهذا المرض؛ حيث توجد في المخ مساحات تتسم أنسجتها بالخلل واللين"الطراوة", وقد تكون الأعراض المبكرة في صورة شعور بالدوار والصداع، وإلّا أن أكثر من نصف الحالات المصابة بهذا المرض تبدأ بمشاعر حادة ومفاجئة بالخلط، ويظهر في صورة هلاوس, أو بعض علامات الخبل التي أشرنا من قبل. ويتسم فقدان

_ 1 الاحتشاء infarcet موضع في الجسم ميت الأنسجة بسبب انقطاع الدم عنه لانسدادٍ أو جلطة في مجرى الدم.

الذاكرة في المراحل المبكرة بأنه متقطع، وقد يظل المريض محتفظًا بدرجة كبيرة من الاستبصار حتى مرحلة متأخرة نسبيًّا من مسار المرض، وكثيرًا ما تطرأ على المريض فتراتٍ يبدو فيها كما لو أن المرض خفت حدته؛ فيعود للذاكرة صفاؤها وخصوبتها على نحوٍ يجعل الكشف عن التدهور العقلي الناجم عن المرض عملية صعبة وتحتاج إلى اختبار دقيق ومنظم. ويؤدي علاج كلٍّ من التوتر الزائد ومرض الأوعية الدموية القلبية المصاحب لخرف الاحتشاء المتعدد إلى الإبطاء في تطور هذا المرض إلى صورة خطيرة, ويمكن للمريض أن يعيش 15 عامًا أو أكثر، ولا يكون الموت حينئذ إلّا بسبب جلطة المخ أو مرض القلب أو الدرن. ويسبب ما قد يصدر عن المصابين بهذا المرض من هلاوس وهذاءات, فإن بعضهم قد يصنف على أنه كذلك, بينما هم في الحقيقة يعانون من مرض مخي. ج- مرض باركنسون: يوجد اضطراب مخي مزمن آخر يظهر في طور أرذل العمر يُسَمَّى مرض باركنسون Parkinsion's desease, على الرغم من أن بدايات هذا المرض قد تظهر عند البعض مبكرةً في الثلاثينات من العمر, إلّا أن الشائع ظهوره عند الرجال خاصةً بعد بلوغ سن الستين, ويتطور هذا المرض بالتدريج، ويبدأ ببطء الحركة وانحناء القامة, مع قصرٍ شديد في الخطى، وبعدئذ يفتقد الوجه تعبيراته الانفعالية ويصير الصوت رتيبًا، ويفتقد التنوع والحيوية، وتظهر ارتعاشات متكررة "بين 4، 8 رعشات في الثانية", تلاحظ على وجه الخصوص في الأصابع والساعدين وجفني العينيني واللسان, ويمكن للمريض أن يتحكم مؤقتًا في هذه الارتعاشات إلى حَدِّ أنه يستطيع القيام بأداء المهام التي تتطلب التأزر العضلي الدقيق، إلّا أنه سرعان ما تعود الارتعاشات إلى الظهور، وقد يتطور ذلك إلى نوعٍ من الشلل الرعاش مع عجز عن إصدار الحركات الإرادية. وقد يعاني المسن المصاب بهذا المرض من صعوبة التركيز الذهني، كما قد تبدأ الذاكرة في التدهور, ويظهر الخلل العقلي في نسبة تمتد بين 25 % إلى 80% من هؤلاء المرضى، وقد يتحول إلى اكتئاب شديد, وإذا لم يعالج المرض فإنه قد يؤدي إلى العجز الكلي خلال خمس سنوات. ولم يحدد العلماء بعد سببًا واضحًا محددًا لهذا المرض، واقترحت في هذا الصدد أسباب كثيرة من فيروسات خاصة به, وحدوث التهابات المخ وغيره، إلّا

أن هناك أدلة توحي بأهمية نقص أحد الناقلات العصبية, وهو إنزيم الدوبامين dopamine في إحداث المرض, فقد وجد الباحثون أن مرضى باركنسون يفقدون الخلايا العصبية في منطقة بالمخ تُسَمَّى substance migra, وهي منطقة صغيرة على كلٍّ من جانبي المخ تنتج إنزيم الدوبامين, كما لوحظ أيضًا أن بعض العقاقير التي تعالج الذهان بخفض نشاط الدوبامين، قد تكون لها آثار جانبية في صورة ارتعاشات من النوع الملاحظ في مرضى باركنسون, وبالإضافة إلى ذلك فإن زيادة مقدار الدوبامين في الدم من خلال عقار يُسَمَّى Levadopa, والذي يستخدمه الجسم في إنتاج هذا الإنزيم، تؤدي إلى النجاح مع بعض المصابين بهذا المرض. وعلى الرغم من أن ذلك لا يؤدي إلى العلاج إلّا أنه يؤدي إلى خفض أو إزالة الأعراض على نحوٍ يسمح للمريض بالعودة إلى النشاط المعتاد. د- مرض بك: مرض بك Pick's disease, الذي ينسب إلى الطبيب التشيكي أرنولد بك، اكتشف لأول مرة عام 1892, وهو من الاضطرابات المعرفية النادرة الحدوث, وتشبه أعراضه مرض الزهيمر مع اختلافٍ جوهريٍّ بينهما, يتمثل في أن التغيرات الأولية التي تطرأ على شخصية المصابين بمرض بك وحالتهم الانفعالية والوجدانية قد تكون أحد وأشد، وقد لوحظ من تشريح مخ مرضى بك بعد وفاتهم أنه يختلف عن مخ مرضى الزهيمر، ومعنى ذلك أنهما مرضان مختلفان, إلّا أن البحوث الراهنة لم تقدم بعد توصيفًا كاملًا للمرض الأول, بينما تتوافر حول المرض الثاني "الزهيمر" أدلة كثيرة كما بينا من قبل. هـ: مرض جاكوب -كرتزفلت: يوجد مرض آخر أكثر ندرة من المرض السابق "يوجد بنسبة واحد في المليون من الحالات التي تكتشف سنويًّا" هو مرض جاكوب -كرتزفلت Jacob- Creutzefldt, نسبةً إلى العالمين اللذين اكتشفاه في وقت متقارب بين عامي 1920، 1921, وأعراضه تشبه كلًّا من مرضى بك والزهيمر، إلّا أنه يختلف عنها في أنه لا يظهر عادةً إلّا خلال الفترة بين 55، 75 سنة، كما يختلف عنهما أيضًا في أن أسبابه ترجع إلى فيروس بطيء الأثر, يظل خاملًا في الجسم لسنوات طويلة إلّا أنه حين ينشط يصبح مدمرًا؛ فقد ثبت تجريبيًّا أن هذا المرض يقبل الانتقال من حيوان إلى آخر، ومن الإنسان إلى الحيوان، ومن إنسان

إلى آخر, أي: أنه من الأمراض المعدية1. وتتوقف حدة الخرف المصاحب لهذا المرض على مقدار السرعة في فقدان خلايا المخ من ناحية، وعلى تدهور الموارد العقلية والوجدانية للمسن من ناحيةٍ أخرى، وعلى تعقد البيئة المحيطة به وعدم حدبها عليه من ناحيةٍ ثالثة, وقد تأكَّدَ أنه حين ينشط فيروس هذا المرض فإنه يؤدي إلى خرف عنيف سريع مصحوب بتشنجات عضلية وتحولاتٍ شديدة نحو البطء في النشاط والحركة. و مرض كوريا: يمكن للاضطرابات المعرفية أن تصاحب أمراضًا أخرى تظهر في طور أرذل العمر، ومن ذلك المرض المعروف باسم كوريا, والمنسوب لمكتشفه هنتنجتون Huntington نسبة إلى الطبيب الأمريكي جورج سمنر هنتنجتون الذي اكتشفه عام 1872, ويُسَمَّى أحيانًا بمرض وودي جاثري Woddy Guthrie, نسبة إلى المغني الفولكلوري الأمريكي الذي مات به, وتوجد أدلة على أن سببه الرئيسي وراثي نتيجةً لوجود أحد المورثات "الجينات" السائدة المسئولة عنه، وهو قابل للانتقال عبر الأجيال "فقد أصيب به نجل وودي جاثري أيضًا"، واحتمال وراثيته 0.5، وتظهر أعراضه عادةً في طور منتصف العمر، وتشمل تغيرًا في الشخصية والنواحي المزاجية، وتدهورًا في القدرات العقلية والمعرفية، مع ظهور بعض الأعراض الذهانية، واضطرابات حركية, كما قد تظهر التقلصات اللاإرادية في العضلات, والتي تتحول إلى حركات حادةٍ يستحيل التحكم فيها في الرأس والأطراف والجذع، مع ظهور أعراض خرف الشيخوخة الملازم للأمراض الأخرى, وخاصةً مرض الزهيمر، إلّا أن الفرق بينهما أن مرض بك يرتبط بتغيرات مختلفة في أنسجة المخ, كما كشفت عنها مرةً أخرى الأدلة التشريحية بعد الوفاة. كيف يتحول المسنون إلى طور أرذل العمر؟ من وصفنا السابق للمعالم البارزة لطور أرذل العمر يتضح أنه يتسم -كطور ختامي للحياة -بالتدهور الخطير من الناحيتين السلوكية والفسيولوجية جميعًا، كما يتضح أن التحول لهذا الطور عملية معقدة لا تنتج عن محض الفقدان الكبير في الخلايا العصبية, أو الانسداد في الأوعية الدموية للمخ, أو نقص في معدل

_ 1 هذا المرض يناظر ما سُمِّيَ في السنوات الأخيرة "بجنون البقر" عند الحيوانات.

الأيض في الجهاز العصبي المركزي، وإنما هي نتاج تفاعل بين العوامل الداخلية في الجسم الإنساني للمسنين والعوامل الخارجية التي تتمثل في الظروف البيئية والاجتماعية المحيطة بهم "Finch, 1986". لقد توافرت أدلة كثيرة خلال السنوات الأخيرة تؤكد لنا أن الفقد في الخلايا العصبية متوسط في معدله على المدى العادي لحياة الثدييات بصفة عامة، كما أن بعض مظاهر النقص الخطير في هذه الخلايا بالإضافة إلى تدهور الأيض المخي قد يظهران في بعض الحالات التي تنشأ قبل مرحلة الشيخوخة ذاتها, ومن أمثلة ذلك مرض الزهيمر وخبل الاحتشاء المتعدد اللذان قد يظهران في أطوار مبكرة من حياة الإنسان كما بينا, صحيح أن هذه الاضطرابات تزداد على نحوٍ أكبر في مرحلة الشيخوخة، إلّا أن آثارها يجب أن تتميز عن التغيرات المخية العادية التي تطرأ على المسنين من ذوي الشيخوخة العادية؛ فالشيوخ العاديون "الذين لم يدخلوا بعد طور أرذل العمر" لا يظهر لديهم نقص شديد في الخلايا العصبية إلّا في مناطق محدودة من المخ "Terry & Greson, 1976". ومع ذلك فإن الشيخوخة العادية ليست بلا حدود, لقد أكدت البحوث الحديثة "Gottfries, 1986" أن هناك قدرًا كبيرًا من التشابه في التغيرات البنيوية والبيوكيمائية في المخ بين المسنين من نمط "الشيخوخة العادية" الذين يتقدمون كثيرًا في السن, وأولئك الذين يعانون من الاضطرابات السابقة التي يتصف بها من يدخلون بالفعل طور أرذل العمر "ما تتمثل في أنواع الاضطرابات الوظيفية والعضوية التي تناولنها" ولعل هذا ما دفع بعض العلماء المعاصرين إلى اقتراح أحد الفروض الذي لا يزال في حاجة إلى أدلة حاسمة, وهو أن عملية الشيخوخة العادية إذا تآزرت معها عوامل بيئية سلبية, قد تؤدي إلى ظهور أعراض الخبل والخرف التي تميز طور أرذل العمر. وبالطبع فإن البيئة السلبية تؤثر في الإنسان في مختلف مراحل عمره، وقد عرضنا أمثلة لذلك طوال الفصول السابقة من هذا الكتاب, إلّا أن أثرها الخطير في هذا الطور الذي يتمثل في ظهور صور التدهور والاضطراب التي تناولناها في هذا الفصل يعني أن الشيخوخة المتأخرة تحمل درجات متفاوتة من خصائص أرذل العمر, وقد عرض "Finch, 1986" بالتفصيل للتغيرات البنيوية والفسيولوجية والبيوكيميائية التي تطرأ على المخ الإنساني نتيجة لمحض التقدم في السن، حتى إنه ليبدو لنا أن التحول إلى طور أرذل العمر مرحلة لا بُدَّ أن يصل إليها من يعيشون

طويلًا, حتى ولو لم يتعرضوا للإصابة بمرض مخي خطير من الأنواع التي تناولناها آنفًا. صحيح أن المعالم السلوكية للتدهور لدى المسنين العاديين الذين يبلغون هذا لطور قد لا تكون خطيرة وحادة كما هو الحال لدى المسنين المرضى، إلّا أنهم -على نحوٍ أو آخر- لا بُدَّ أن يبلغوا أرذل العمر، ولو بدرجة أقل حدة. فهذه سنة الله -سبحانه وتعالى- في نمو الإنسان.

الفصل الثاني والعشرون: رعاية المسنين

الفصل الثاني والعشرون: رعاية المسنين مدخل ... الفصل الثاني والعشرون: رعاية المسنين يتناول الفصل الأخير من هذا الكتاب موضوع رعاية المسنين، ومن المظاهر الرئيسية لهذه الرعاية ثلاثة على وجه الخصوص, وهي التعليم والتدخل العلاجي ومؤسسات الإيواء، وقبل أن نتناول هذه الموضوعات نشير إلى أنه يوجد تخصص مهني مستقل يهتم بشكل مباشر بحاجات المسنين وهو علم الإعمار Gerentology, كما توجد في مجالات علم النفس وعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية والطب والتمريض وطب الأمراض العقلية اهتمامات بهذه المرحلة من نموِّ الإنسان, تقدم تدريبًا للمتخصصين في هذه الميادين على تقديم خدمات مباشرة للمسنين, ويشهد علم البيولوجيا والفسيولوجيا حاجات متزايدة للبحث في الميكانيزمات الأساسية لعملية التقدم في العمر, كما يشهد علم الأنثروبولوجيا اهتمامًا بدراسة آثار الاختلافات الثقافية على هذه العلمية، سواءً بين الثقافات المختلفة أو بين الثقافات الفرعية داخل المجتمع الواحد, بل إن مجالات معينة مثل العمارة والهندسة تشهد تحديات كبرى لبناء بنئات متحررة من الحواجز, وتصميم بيوت, ووسائل انتقال ملائمة للمسنين, وفي علم السياسة والتاريخ والأدب والمسرح والفنون والموسيقى "إذا شئنا ذكر بعض الأمثلة أقل وضوحًا" توجد درسات هامة أو تطبيقات تنتظر التنفيذ حول المسنين أيضًا, ومن الأمثلة التي نذكرها في هذا الصدد: كيف كانت ترسم الأفلام الأشخاص المتقدمين في العمر وكيف ترسمهم الآن؟ ما هي الرموز الدالة على التقدم في السن في الأدب والفن الحديثين؟ وما هي دلالات الرمزية فيهما؟ لقد شهدت أواخر القرن العشرين ظهور عدد من برامج التدريب والبحث في ميدان الشيخوخة والتقدم في السن, والتي تدعمت في عدد من الجامعات, وقد اتخذت هذه البرامج صورًا مختلفة، ومنها ما تقدمه المجالات الأكاديمية المتخصصة في مجال معينٍ؛ كالطب وعلم النفس وعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية، ومنها ما يتخذ صورة البرامج المشتركة التخصصات, والتي تجمع بين عدة مجالات في

وقت واحد. ومن الواضح أن هذه البرامج التدريبية والبحثية ستكون لها اهتميتها في تقدم معارفنا عن هذه المرحلة الهامة من حياة الإنسان, كما سوف تزود المهنيين بالمهارات اللازمة للعمل مع المسنين. وقد شهدت أواخر القرن العشرين أيضًا زيادة في عدد الجمعيات العلمية والمهنية المهتمة بالمسنين, وبعض هذه الجمعيات يتكون من المهتمين بالبحث في هذا الموضوع من تخصصات عديدة متنوعة في العلوم الطبيعية والاجتماعية، وبعضها الآخر يتألف من الممارسين المهنيين المهتمين بالتخطيط لرعاية المسنين وتقديم الخدمات لهم, وهكذا يمكن القول أن مجال المسنين هو من المجالات الجديدة من الناحيتين البحثية والمهنية, والتي تهيئ فرصًا لظهور برامج تدريبٍ لفئات عديدة من المتخصصين الجدد لمواجهة هذه الحاجة المنبثقة التي لم تشهدها العصور السابقة، ولعل أهم هذه الفئات الوليدة ما يتصل بالمهام الثلاث التي بدأنا بها هذا الفصل وهي: تعليم المسنين، والتدخل العلاجي، ودور ومؤسسات الرعاية.

تعليم المسنين

أولًا: تعليم المسنين: على الرغم من أن بعض المسنين قد يتعلمون تلقائيًّا، إلّا أن نسبة هؤلاء كما تقدرها الإحصاءات التربوية في بعض النظم التعليمية المتقدمة -كالولايات المتحدة الأمريكية- لا تتجاوز 2.5 % من مجموع المسنين، هذا على الرغم من أن التعلم المستمر لا تقل أهميته لدى هذه الفئة العمرية عن الأطوار والمراحل النمائية الأخرى؛ فالتعلم هو جوهر النمو الإنساني كما ذكرنا كثيرًا في ثنايا هذا الكتاب، بل هو المؤشر الرئيسي على استمرار الرشد الإنساني، ونقصه أو فقدانه هو العلامة الجوهرية على بلوغ أرذل العمر كما يحدده القرآن الكريم "راجع الفصل السابق". ومن دلائل الإعجاز السيكولوجي للقرآن الكريم ما يؤكده علماء الشيخوخة المعاصرين, من أن التعلم المستمر يؤدي إلى تحسن نوعية الحياة للمسنين، ويهيئ لهم فرصًا لاستثمار قدراتهم على نحوٍ يتجاوز محض مسايرة وملاحقة التغيرات الاجتماعية والثقافية من حولهم؛ فالتعلم يقدم لهم المعرفة والمهارة، كما يوفر لهم إمكانية التطبيع مع الظروف المتغيرة, وهو بذلك يؤثر في اتجاهاتهم وجوانب سلوكهم المختلفة. إن التعليم يزود المسنين أولًا بالمعارف والمهارات اللازمة للمحافظة على صحتهم وتحسينها, كما قد تفيدهم بعض المعارف والمهارات التي يكتسبونها في

الحصول على عمل لبعض الوقت على الأقل، بالإضافة إلى ما يوفره لهم من طرق للتعامل الفعال مع ظروفهم الاقتصادية المتغيرة التي يترتب عليها نقص الدخل نتيجة التقاعد, كما يمكن للتعليم ن يقدم لهم الحقائق العلمية التي قد تؤدي إلى تغير الصورة النمطية السلبية السائدة لديهم -قبل غيرهم- عن الشيخوخة والتقدم في السن، بالإضافة إلى ما يمكن أن يتحقق لهم، بالتعليم من اتساع لنظرتهم للحياة وتحديد أهداف ملائمة جديدة لهذه المرحلة النمائية, ومن إمكانية استطلاع واستكشاف لبناء علاقات اجتماعية جديدة, وتفاعل اجتماعي موجب مع أفراد مشابهين لهم, وبهذا يلعب التعليم دورًا خطيرًا في تجديد اهتمامات المسنين بالحياة، ويزودهم بالرغبة في الإسهام الجاد في تطوير أنفسهم ومجتمعهم، وبالوسائل التي يمكن بها تحقيق ذلك. وبالطبع يحتاج الأمر لبعض الوقت حتى تفتح المجتمعات الحديثة أبواب التعليم للمسنين كما فتحتها من قبل للراشدين، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى الاتجاهات السلبية نحو الشيخوخة, كما عرضناها في الفصل التاسع عشر, أضف إلى ذلك أن النموذج السائد للتعليم أنه موجه للإعداد للمستقبل, وهذا النموذج أصلح ما يكون للأطفال والمراهقين والشباب، وهو يصلح إلى حدٍّ ما مع الراشدين، أما مع الشيوخ والمسنين فقد اعتبر التعليم بالنسبة إليهم نوعًا من الهدر للوقت والجهد والمال، فأين المستقبل في تعليم المسنين؟ أضف إلى ذلك الاعتقاد السائد عن عجز المسنين -كافة- عن التعلم. إلّا أن هذه الأفكار جميعًا تعرضت لتغيرات جوهرية خلال العقدين الماضيين، فالمسنون قد يعيشون بعد التقاعد سنوات وهم في صحة جيدة، وتقدمت بحوث الشيخوخة على النحو الذي عرضناه في الفصلين السابقين، وترتب على ذلك كله تغير جوهري في اتجاهاتنا ومعتقداتنا وأفكارنا حول تعليم المسنين, ويمكن أن نلخص الاتجاهات الراهنة حول هذا الموضوع في ثلاث فئات جوهرية: 1- تعليم المسنين هو وسيلة لقضاء وقت فراغهم الطويل، وهو بذلك طريقة للترويح عنهم من ناحية، واندماجهم في مهام تشغلهم من ناحية أخرى, هذا الرأي هو الاتجاه الثقافي العام في معظم المجتمعات الحديثة. 2- تعليم المسنين هو الطريقة التي يعتمد عليها المجتمع في معاونة المتقدمين في السن على المشاركة الكاملة في أنشطته, وذلك من خلال تنمية

المهارات المختلفة لديهم، وتدريبهم على تعويض النقص الناشئ عن المشكلات الفسيولوجية والسيكولوجية التي يتعرضون لها في هذه المرحلة من حياتهم، ومساعدتهم على العيش حياة طبيعية, وقد يعينهم هذا التعليم على أن يبدأوا حياة مهنية جديدة, أو المشاركة في الأنشطة والأعمال التطوعية، وهذا الاتجاه هو الرأي الغالب على جمهرة كبيرة من العلماء. 3- تعليم المسنين هو السبيل لتحقيق نموهم الشخصي, ورضائهم عن ذواتهم, وهذا الرأي يتفق عليه علماء النفس من أنصار نموذج إريكسون في النمو الوجداني؛ فالتعليم عندهم يعين المتقدم في السن على إحراز التكامل في شخصيته وإثراء معنى حياته. ويبدو لنا أن هذه الاتجاهات نحو تعليم المسنين لا تتعارض فيما بينها, ويمكن للمتخصص أن يصمم برنامجه في صورة هذه الاستراتيجيات الثلاثة؛ بحيث يحقق للمتقدم في السن تنمية في الجوانب المعرفية والوجدانية والاجتماعية جميعًا، وبذلك يمكن له أن يحقق نموه الشخصي, ونموه كمواطنٍ مسئول, ونموه من خلال أنشطة الترويح وقضاء وقت الفراغ، وبهذا يمكن للمربين أن يحققوا إبداعًا حقيقيًّا في مجال لم يطرقوه بعد بالاهتمام الواجب. والسؤال الجوهري الآن: كيف يتحسن أداء المسنين في البرامج المخصصة لتعليمهم؟ بالطبع لا تتوافر لنا إجابة حاسمة على هذا السؤال، فالميدان لا يزال جديدًا، والبحوث فيه لا تزال جزئية ومتناثرة وكلها أجري في الثقافة الغربية, ولم يجر منها شيء في ثقافتنا العربية والإسلامية بعد, وفي ضوء الأدلة المتاحة يمكن القول أن عوامل الذكاء والتعليم السابق واستراتيجيات التفكير تعلب دورها في استفادة المسن من برامج تعليمه, بشرط أن يكون التدهور في مظاهر السلوك -والذي يصاحب الشيخوخة- في النطاق الذي يمكن التحكم فيه, وقد أجريت بالفعل بضع دراسات على المسنين داخل فصول الدراسة, لعل أهمها دراسة "Kasworm. 1980", وفيها وُجِدَ أن معظم الدراسين المسنين أدوا أداءً جيدًا يكاد يتكافأ مع أداء من هم أصغر سنًّا -إن لم يكن أفضل. ويذكر "Perlmutter & Hall. 1980" أنه حين يعود المسنون إلى فصول الدراسة, فإن أخطر ما يؤثر في أدائهم الصورة النمطية الشائعة عن الشيخوخة والتقدم في السن، وخاصة حين يوصفون بأنهم غير أكفاء ومعتمدين وغير منتجين، ويؤدي ذلك إلى إضعاف ثقة المسن في نفسه, ويؤثر ذلك بدوره في أدائه

التعليمي، ولذلك حين استخدام بعض الباحثين الأساليب التي تساعد على إقناع المسنين بقدرتهم, فإن أداءهم يتحسن كثيرًا, ومن هذه الأساليب ما يلي: 1- تنظيم البرامج بحيث يسمح للمسنين بالمرور بخبرات نجاح مبكرة، وقد يفيد في ذلك كثيرًا استخدام اختبارات التعرف بدلًا من الاستدعاء, وخاصة في المراحل المبكرة من التقويم، وهذا النجاح المبكر يفيد في خلق شعور بالثقة بالنفس, والإحساس بالكفاءة والفعالية، وناهيك عَمَّا يحققه النجاح من إدراك مواقف التعلم على أنها مصدر بهجة للمتعلم "سيد أحمد عثمان، 1977". 2- تهيئة الفرصة للمسنين، خلال البرنامج التعليمي، لملاحظة دارسين آخرين -من المسنين أيضًا- وهم ينجحون بالفعل في أداء المهام المطلوبة, ولعل أهم ما يحققه هذا الأسلوب أنه يساعد على زوال الصورة النمطية السلبية عن العجز الكلي للمسنين. 3- الاعتماد على التعزيز الموجب اللفظي؛ سواء من جانب المعلمين أو أعضاء الأسرة أو الدراسين الآخرين، وهذا التأثير الاجتماعي على الرغم من أنه قد يكون فعالًا في برنامج تعليم المسنين, إلّا أنه ليس بنفس درجة كفاءة الأسلوبين السابقين. 4- التدريب على خفض الاسثتارة الزائدة الناجمة عن إدراك المسن لنفسه على أنه عاجز عن الأداء في المواقف الضاغطة التي يتطلبها التعلم, ويمكن أن تفيد في هذا الصدد أساليب التدريب على الاسترخاء بصورها المختلفة، وإذا نجح البرنامج في ذلك فإنه يزيل أحد المعوقات الخطيرة في تعليم المسنين. ولا يزال تعليم المسنين في مراحله الأولى في الدول المتقدمة، أما في الدول النامية، ومنها بلادنا العربية والإسلامية، فلا يكاد يكون له وجود, ومن البرامج الهامة الآن ما يُسَمَّى في الولايات المتحدة مشروع "نزل المسنين "elderhoustel", وهو عبادة عن سلسلة من البرامج تقدمها شبكة الكليات والجامعات، ويشترط للاشتراك فيها أن يكون الدارس قد بلغ الستين على الأقل, ويقدم فيها لهؤلاء مقررات قصيرة المدى قليلة التكلفة, ويذكر "Perlmutter & Hall, 1985" أن هذا المشروع بدأ في عام 1975 في ولاية واحدة "هي نيو هامبشاير" بعدد محدود من الدارسين لا يتجاوز 220 دراسًا، وأصبح في عام 1981 ممتدًا على نطاق الولايات الخمسين, وبلغ عدد الملتحقين به من المسنين أكثر من 30.000 دارسًا, وتهدف هذه المقررات في مجملها إلى تنمية

قدرات الدارسين وتعريضهم لأفكار جديدة. وقد أجريت بعض الدراسات على المشاركين في هذا الموضوع, فلوحظ أن متوسط أعمار الدارسين فيه هو 68 سنة، وهم من المتقاعدين، ومعظمهم من ذوي المستوى التعليمي المرتفع, أو لديهم خبرة مهنية جيدة، ويتوافر لهم دخل كافٍ, كما لوحظ أن حوالي ثلثي الدراسين من النساء, ومن الطريف أن الذين لم يتخرجوا في الجامعة قبل الالتحاق في هذا المشروع "وعددهم لم يتجاوز 10% من مجموع الدراسين" كانوا أكثر المستفدين منه, وخاصة في النموّ العقلي والمعرفي، كما استفاد الدراسون الأكبر سنًّا "الذين امتد عمرهم بين 79، 86 سنة" أكثر من أقرانهم الأصغر سنًّا "أي الذين لا يزالون في الستينات من العمر". وقد استطاع عدد كبير من الدراسين المسنين النجاح في الدراسة في هذا المشروع، وهذا في ذاته مؤشر على نجاحه، ومن مؤشرات نجاحه أيضًا أن 58% من الدراسين انضموا إلى برامج أخرى أكثر تقدمًا فيه، وكانت دوافع المسنين للعودة إلى الدراسة المنظمة الرغبة في تعلم الجديد والسعي للاندماج في خبرات جديدة. ويبقى سؤال أخير حول تعليم المسنين عامة هو: هل من الأفضل بناء مشروعات خاصة بهم تعزلهم عن المتعلمين الآخرين الأصغر سنًّا, أم دمجهم في المسار التعليمي الرئيسي؟ هذ السؤال الهام لا تتوفر لنا إجابات حاسمة عليه بعد, وربما يفيدنا في الإجابة عليه الاسترشاد بتجارب بناء برامج ومشروعات تعليمية للفئات الخاصة "كالمعوقين والموهبين", وكيف اتجهت في بدايتها إلى التمييز والعزل، ثم تحولت بعد ذلك إلى إدماجهم في المسار التعليم الرئيسي، وقد رأينا أن النجاح الذي أحرزته مشروعات مثل، نزل المسنين" قد تدفع أعدادًا من المتقدمين في السن للالتحاق بالبرنامج التعليمي المعتاد "من خلال نظم كالانتساب, أو التعليم من بعد, أو التعليم النظامي العادي"، وفي هذه الحالة يمكن أن نتوقع في المستقبل أن تضم فصول الدراسة ومدرجات الجامعة دارسين من مختلف الأعمار "من الشباب والراشدين والمسنين"، وعندئذٍ سوف يستفيد الجميع: الصغار والكبار جميعًا؛ فخبرة المتقدمين في السن في الحياة والعمل سوف تجعل المواد المجردة التي تعرض في داخل حجرة الدارسة لها معنًى أكبر لدى الصغار، كما أن اتصال الكبار بالصغار سوف يعينهم "أي: الكبار" على إدراك وفهم التغيرات السريعة التي تطرأ على الثقافة التي يعيشون فيها جميعًا, نهايك أن ذلك قد يؤدي إلى زوال ما يسمى فجوة الأجيال, والتي تتخذ صورة أعنف هي صراع الأجيال.

التدخل العلاجي

التدخل العلاجي مدخل ... التدخل العلاجي: يثير موضوع التدخل العلاجي للمسنين عددًا من المشكلات الخاصة؛ فالبعض يرى أن طرق العلاج الموجهة بالنمو ليست ملائمة مع المسنين، وكان فرويد على رأس هؤلاء، وقدَّم ثلاثة أسباب لعدم استفادة المسنين من العلاج النفسي هي: 1- نقص المرونة العقلية لدى المسنين, وبالتالي نقص القدرة على التغير. 2- تراكم كم هائل من الخبرة لدى المسنين تجعل من الصعب على المعالج النفسي العامل معهم. 3- نقص اهتمام المسنين بموضع الصحة النفسية إذا قورنوا بمن هم أصغر سنًّا. وعلى الرغم من أن هذه الافترضات الثلاثة يمكن دحضها جميعًا في ضوء الأساليب العلاجية الحديثة, إلّا أن المسنين لا يزالون من الفئات غير المرغوب فيها لدى المهنين العلاجيين, ويرجع ذلك إلى مجموعة من"الخرافات" الشائعة, صنعت هذه الحواجز والحوائل بين المعالجين ومن هم في حاجة إلى عنايتهم من هذه الفئة العمرية، وتلخص "Kermisl, 1984" هذه الخرافات في أربع فئات هي: 1- خرافة أن الشيخوخة هي عمر الهدوء النسبي؛ حيث يستريح المرء من عناء الحياة ويجني ثمار جهده وعمله في السابق، وعلى هذا الأساس قامت نظرية عدم الانشغال والتحرر من الالتزامات, أو الانسحاب من البيئة، وهذه الخرافة لها أثر تدميريّ في مجال التدخل العلاجي للمسنين؛ لأنها تشجع الاعتقاد الزائف بأنه لا يوجد في مرحلة الشيخوخة مشكلات خاصة بالصحة النفسية والعقلية، بينما العكس هو الصحيح، ففي هذه المرحلة ضغطٍ وإجهاد قد يفوق ما يعانيه المرء في أطواره السابقة بسبب ضيق الحيز الاجتماعي ونقص القدرات الجسمية والعقلية، وهذه جميعًا قد تتطور إلى صورها المتطرفة التي يشهدها بعد ذلك طور أرذل العمر كما بينا. 2- خرافة عدم استجابة المسنين للعلاج؛ حيث يرى الكثيرون أن المرضى المسنين يقاومون التغير, بل قد تعوزهم القدرة عليه، هذا الاعتقاد يؤثر أيضًا في

أهداف المعالج النفسي وجهوده عندما يبدأ في تقديم الخدمة العلاجية للمرضى في هذه المرحلة العمرية, وحقيقة الأمر أن المسنين على الرغم من أنهم قد يكونون محافظين في حياتهم الشخصية -ربما بسبب الضغوط الاقتصادية- فإن لديهم القدرة على التغير, ويمكنهم التوافق بنجاح مع كثير من التغيرات التي تطرأ على حياتهم المتأخرة, والتي عرضناها في الفصل العشرين، وهناك حقيقة أخرى هي أن العلاج النفسي قد استخدم بالفعل -بنجاح واضح- مع الشيوخ وهم في الستينات والسبعينات والثمانينات من العمر، وبالطبع فإن علاج هؤلاء يتطلب استخدام فنيات مختلفة عن تلك التي تستخدم مع من هم أصغر سنًّا. 3- خرافة أن خلل المخ هو المشكلة الرئيسية أو الوحيدة لدى المسنين: حيث يقصر بعض المتخصصين اهتمامهم على الاضطرابات المخية العضوية دون سواها، وقد أشرنا إلى أنه -حتى في طور أرذل العمر- توجد اضطرابات وظيفية لا تقل أهميةً، بل نكاد نقول: إن خلل المخ لا يفسر جميع الاضطرابات السلوكية التي تظهر لدى المسنين؛ فهناك علميات أساسية مرتبطة بعملية التقدم في السن ذاتها, والتي تُسَمَّى الشيخوخة العادية أو الطبيعية، أضف إلى ذلك أن هناك بعض الاضطرابات السلوكية من النوع الحاد والذي يقبل العلاج, ومن الأخطاء الفادحة أن يعتقد المعالج النفسي أن جميع الاضطرابات التي تظهر في مرحلة الشيخوخة من النوع المزمن الذي لا يقبل العلاج, وقد ذكرنا في الفصل الحادي والعشرين أمثلة للاضطرابات من النوع الأول. 4- خرافة حتمية إيداع المسنين في المؤسسات: يرى كثير من المتخصصين أن اضطرابات المسنين تتطلب إيداعهم لفترات طويلة الأمد في المؤسسات، على الرغم من أن كثيرًا منهم يؤدون وهم في بيوتهم على نحوٍ أفضل بكثير, بل إن واقع الحال يؤكد لنا أن كثيرًا من الأسر تتحمل كثيرًا من العسر والمشقة حتى يعيش المسنون من أعضائها حياتهم الطبيعية داخل مجتمعهم وبيوتهم، ويصدق ذلك أكثر على المجتمع العربي الإسلامي الذي تَحُضُّ تعاليم الإسلام فيه على رعاية الأبناء خاصةً لوالديهم الذين "يبلغون الكبر", وهناك نماذج يقتدي بها الأبناء من الرجال والنساء قدموا الكثير لوالديهم المسنين حرصًا على بقائهم في بيوتهم الخاصة رغم الصعوبات المادية والضغوط النفسية التي قد يتعرض لها ويعاني منها هؤلاء الأبناء, إلّا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن إيداع المسنين بالمؤسسات "ومنها دور الرعاية" محظور يجب تجنبه, فهذا في ذاته خرافة جديدة لا يقل خطرها عن خرافة حتمية إيداعهم في هذه المؤسسات.

وبصفة عامة يمكن القول أن قرار الإيداع يعتمد في جوهره على حكم وحكمة المهني المتخصص في العلاج النفسي لهذه الفئة العمرية، ويتحدد ذلك في ضوء محكَّيْن جوهريين هما اتجاهات أفراد الأسرة "وخاصة الأبناء" نحو العضو المسن فيها "ويشمل ذلك أيضًا الاتجاه نحو الاعتمادية في الشيخوخة" والإمكانات الموضوعية للأسرة وقدرتها على رعايته في مجتمعه وبيئته. وفي جميع الحالات يجب على الأخصائي النفسي والطبيب والأخصائي الاجتماعي, وكل من يقدم خدمة للمرضي من المسنين أن يدرك أن الشيخوخة جزء من عملية النموّ الإنساني مدى الحياة، فالمسنون لديهم ثروة من الذكريات والمعارف والمهارات والخبرات تجعلهم مختلفين عن المرضى الأصغر سنًّا، بل مختلفين بالطبع عن حالهم هم أنفسهم حينما كانوا أصغر سنًّا, وفي نفس الوقت يعاني هؤلاء المسنون من التدهور والنقص والخلل الذي يرتبط بأنواع من المشكلات الخاصة, ويتطلب القيام بمهام محددة تتطلب مهارت الأخصائي في العلاج النفسي والصحة النفسية، وهذه المهارات كغيرها من المهارات الإنسانية، يمكن اكتسباها وتنميتها لزيادة كفاءة الأخصائي في العمل مع المسنين.

خطوات التدخل العلاجي

خطوات التدخل العلاجي: يذكر "Huyck & Hoyer, 1984" أن أيَّ برنامج للتدخل العلاجي يتطلب ثلاث خطوات أساسية هي: 1- تحديد المشكلة التي تتطلب العلاج: وهذه الخطوة تثير على الأقل ثلاثة أسئلة جوهرية هي: من يحدد المشكلة؟ وما هو الحد الذي عنده توصف عملية نفسية معينة بأنها مشكلة؟ وكيف يمكن أن يوصف أي تحدٍّ للشخص على أنه مشكلة؟ وللإجابة على هذه الأسئلة يمكن القول بأن وصف أيّ حدثٍ سلوكيٍّ بأنه مشكل, يعني أنه لا يصدق عليه وصف النشاط العادي أو المعتاد للإنسان، وأن أيَّ جهدٍ توافقيٍّ فشل معه بالفعل, أو أنه يتوقع له الفشل في المستقبل إذا لم يتم التدخل العلاجي, وقد يحدد ذلك أطراف عديدة منهم الشخص الذي يعاني بالفعل من المشكلة"أي: الشخص المسن نفسه"، والشخص الذي تطلب منه المساعدة في حلها "الأخصائي النفسي مثلًا"، والشخص الذي يقدم الرعاية Caregiver، والشخص الذي يتولى تكلفة العلاج "الابن أو الابنة مثلًا", ولا بُدَّ من فهم نظرة كلٍّ منهم إلى تحديد المشكلة, وبالطبع قد ينشأ خلاف أو صراع بينهم حول هذا التحديد، إلّا أن المهم هو الوصول إلى اتفاق, وإلّا فإن جهود التدخل تصبح صعبة.

إن لم تكن مستحيلة, وبالطبع أيضًا فإن الوصول إلى هذا الاتفاق يكون ميسورًا في الحالات البسيطة، أما مع المشكلات المعقدة فقد تزداد هوة الخلاف اتساعًا؛ كأن يرفض الابن أو يتردد في قبول فكرة حاجة والده المسن للعلاج النفسي، كما أن المسن قد يرفض فكرة المرض الذي يحتاج لمثل هذا التدخل العلاجي، وقد ينشأ عن ذلك أن كلًّا من الابن الراشد والوالد المسن يؤجلان البحث عن العلاج حتى تصل المشكلة إلى درجة كبيرة من الحدة والخطر. 2- تحديد أسباب المشكلة: حالما يتم تحديد المشكلة تصبح الخطوت الهامة التالية تحديد أسبابها، وقد عرضنا في الفصل السابق الأسباب المفترضة للأنواع المختلفة من الاضطرابات النفسية في الشيخوخة, كما يتناولها الوضع الراهن لكلٍّ من علم النفس المرضي والطب العقلي "السيكياتري"، وكما حددها الدليل الأخير للجمعية الأمريكية للطب العقلي DSM IV، وبالطبع عرضة للتغير المستمر في ضوء الأدلة التي تتوافر لدى العلماء يومًا بعد يوم. ومن الواجب -في معظم الحالات- على المعالج النفسي أن يتوافر له فهم جيد لتاريخ الحالة, ويشمل ذلك العوامل المنبئة بالمشكلة الراهنة, والمسارات المختلفة التي اتخذتها، والتوقعات المختلفة لها إذا لم يتم التدخل العلاجي، ومن حقائق الوضع الراهن للاضطرابات السلوكية أننا لا نفهم بعد إلا القليل من هذه الاضطرابات فهمًا جيدًا, كما أن بعض هذه المشكلات أيسر فهمًا في بعض المراحل العمرية دون غيرها، فمشكلات الطفولة مثلًا أوضح نسبيًّا من مشكلات الراشدين والمسنين. وتوجد عدة طرق يستخدمها العلماء في تحديد أسباب المشكلات نذكر منها: أ- توصيف خصائص مجموعة من الأفراد التي تشخص بأنها تعاني من اضطراب معين, وهذه الطريقة ليست دقيقة لأسبابٍ كثيرة؛ لعل أهمها: عدم وجود مجموعات للمقارنة يمكن من خلالها الحكم على ما إذا كانت العوامل المفترضة ترتبط بالفعل بالمجموعة المرضية, أم أنها عوامل مشتركة في مرحلة عمرية معينة, بصرف النظر عن الاضطراب ذاته. ب- المقارنة بين المجموعة المرضية ومجموعة ضابطة: وبالطبع فإن اختيار مجموعة المقارنة "المجموعة الضابطة" الملائمة من الصعوبة بمكان، وخاصةً مع المسنين, ومع ذلك فإن مجموعتي المسنين يجب أن تتكافأ على الأقل

في عاملي الجنس والمستوى الاقتصادي والاجتماعي, وحالما يتوصل الباحث إلى المجموعة الضابطة الملائمة يقارن بينها وبين المجموعة المرضية لتحديد العوامل الفارقة بينهما. ج- الدراسات المسحية: وهي الدراسات التي يجريها المتخصصون في علم انتشار الأمراض epidemiology لمعرفة توزيع الاضطراب السلوكي في الأصل الإحصائي السكاني العام والعوامل المحدثة له, وبالطبع فإن أحد القرارات الهامة في مثل هذه البحوث تحديد "الأصل الإحصائي السكاني" موضوع الاهتمام؛ فأحيانًا يعتمد هذا القرار على بعض الخصائص الفردية مثل العمر أو الجنس أو الطبقة الاجتماعية، وأحيانًا أخرى يعتمد على توصيفٍ لمجتمعٍ معينٍ محدد المعالم, وتزداد قيمة مثل هذه الدراسات المسحية إذا أجريت بطريقة طولية، فحينئذ يمكن لنا الحصول على معلومات هامة حول مدى الترابط بين الأحداث النفسية وتحديد نقاط بداية ظهور المشكلات, وبالتالي نمط الاضطرابات عند نشأتها، وفي مثل هذه الدراسات أيضًا تتوافر فرص كثيرة لوجود أفراد "أسوياء", يمكن مقارنتهم بأولئك الذين يظهرون الاضطراب, وكذلك فإن درجة استقرار العلاقة بين الاضطرابات والخصائص الفردية يمكن مقارنتها بالنماذج المشتقة من مجتمعات أو أصول سكانية إحصائية متشابهة أو مختلفة. د- الاستنتاج من آثار العلاج: يمكن الوصول إلى أسباب المرض من خلال دراستنا لنتائج الطرق المختلفة للتدخل، فإذا قام الباحث مثلًا باختبار فعالية طرق مختلفة للعلاج "بالعقاقير أو بالعمل مع الجماعة مثلًا" سواء مجتمعة أو منفصلة, فإنه يستنتج من المشكلات التي تستجيب لأحد الأساليب العلاجية الأسباب المحدثة لها؛ فمثلًا حين يؤدي العلاج بالعقاقير وحده إلى تحسين حالة المرض بينما لا تؤدي الطرق الخرى إلى نفس النتيجة, فإننا قد نستنتج أن هذا المرض له أسبابه البيولوجية، وإذا حدث العكس مع اضطرابٍ آخر كان أكثر استجابة للعلاج من خلال العمل مع الجماعات, فإننا نستنتج أن أسبابه اجتماعية وثقافية في طبيعتها. 3- اختيار الأسلوب الملائم للعلاج: توجد طرق كثيرة للعلاج، والطبع فإن الخطوة الأخيرة للتدخل العلاجي أن يقرر المعالج -عن فهم وبصيرة بالأساليب المختلفة المتاحة- الطريقة الملائمة للحالة موضع الرعاية.

أساليب التدخل العلاجي النفسي

أساليب التدخل العلاجي النفسي: العلاج النفسي للمسنين قد يكون موجهًا بالجماعة أو بالفرد، ويهدف العلاج النفسي في هذه الحالة عادةً إلى تحقيق هدفين رئيسيين: التخفيف من حدة القلق، والمحافظة على استمرار أو إعادة التأهيل للنشاط النفسي الملائم، وبالإضافة إلى ذلك فإن هناك أهدافًا أخرى لا تقل أهميةً, تشتمل تحقيق الاستبصار الذاتي للمريض المسن، والتخلص من الأعراض المرضية، وتأجيل التدهور، وتنمية مهارات الرعاية الذاتية، والتدريب على النشاط، وخفض متطلبات الرعاية المطلوبة, وتتنوع أساليب التدخل العلاجي, ونعرض أهمها بإيجاز فيما يلي: 1- العلاج الفردي: وتتنوع أساليب العلاج الفردي للمسنين، إلّا أن فعالية هذه الطرق تتوقف على حالة المريض والسياق الذي يعيش فيه، والاتجاهات إزاءه, ومفهومه عن ذاته, وفي جميع الأحوال يجب معاونة المسن على تقبل حقائق المرحلة النمائية التي هو فيها؛ من حيث نقص القدرات الجسمية والعقلية، والفقدان الشخصي، والتغير في الأدوار, وعلى المعالج النفسي أن يوائم بين أساليبه وموارده وخصائص الحالة اتفاقًا مع مبدأ تفاعل "السمات والمعالجات"، ويلعب تفهم المعالج وحماسه وتعاطفه مع بيئة توفر للمسن الحد الأمثل من الاستثارة والتقبل دورًا حاسمًا في ذلك. 2- العلاج الجماعي: ويركز على الضغط والإجهاد الذي يحدثه الآخرون الهامّون في حياة المسن، وهنا يكون العلاج الجماعي أكثر جدوى, وفيه تستطلع الصعوبات الراهنة, والطرق السابقة في التعامل معها في إطارٍ من التفاعل بين الأشخاص, وعادةً ما يستخدم هذا الأسلوب مع الحالات الأقل حدة والتي عادةً ما تتطلب العلاج الفردي. 3- العلاج بالنشاط: ويستخدم عادةً مع المسنين الذين يعانون من الاضطرابات المعرفية, ويهدف إلى الوقاية من زيادة التدهور الناجم عن الانسحاب, وعدم استخدام المهارات الاجتماعية والمعرفية ومهارات رعاية الذات، وذلك للحفاظ على المهارات الباقية لدى المسنين, وخاصة أولئك الذين يعيشون في المؤسسات. لقد لوحظ أن هؤلاء يحتاجون إلى الصلات الإنسانية المستمرة والمشاركة الاجتماعية والاندماج في أعمال ومهام ذات مغزًى شخصيٍّ لديهم, حفاظًا على استمرار نشاطهم ومواصلته. وتستخدم في العلاج بالنشاط عدة فنيات, لعل أهمها ما يلي:

أ- التوجه نحو الواقع Reality Orientation: وهو أسلوب مشتق من العلاج السلوكي, ويستخدم التعزيز الموجب لتعلُّم أنماط السلوك المرغوب فيه، والتي عادةً ما تكون بسيطة, مثل: التوجه نحو الزمان والمكان والأشخاص، وأحيانًا نحو الصحة الشخصية ومهارات التفاعل الاجتماعي. ب- علاج الوسط Milien Therapy: ويهدف إلى بناء بيئة تصمم؛ بحيث تلائم نواتج السلوك المعدل للمسن من ناحية، وتدعم التعلم وتكوين الصورة الإيجابية عن الذات من ناحية أخرى. وبالطبع لا يتسع المقام لتفصيل هذه الطرق، بالإضافة إلى طرق التدخل الطبي المتنوعة، وعلى كلٍّ فإن الجدول "21-1" يصنف هذه الطرق حسب أهداف العلاج وطبيعة المشكلات وأساليب التدخل، والمواقف التي يتم فيها، والوسائط التي يتم من خلالها التغير "Huyck & Hoyer, 1982".

جدول "21-1" البدائل المتاحة للتدخل العلاجي: أهداف التدخل العلاجي: تخفيف حدة المشكلة. التعويض عن نقص. إثراء الخبرة. الوقاية. طبيعة المشكلات موضوع التدخل العلاجي: الصحة الجسمية للمسنين. التدهور في النشاط المعرفي. الاضطرابات الوجدانية. نقص التفاعل الاجتماعي والتطبيع. اتجاهات المسنين وقيمهم. أسباب التدخل العلاجي: العلاج بالعقاقير. العلاج النفسي. العلاج بتقديم الخدمات الإرشادية. العلاج بالتدخل البيئي. العلاج بتعديل التشريعات والنظم الاجتماعية.

تابع جدول "21-1" المواقف التي يتم فيها التدخل العلاجي: الأسرة. العمل "إن وجد". مواقف التعلم أو التدريب "إن وجد". المستشفى أو المؤسسة. البيئة المحلية. المجتمع الكبير. وسائط التغير السلوكي: الذات. أعضاء الأسرة والأصدقاء. أشباه المهنيين. المهنيون والمحترفون. الأجهزة الإدارية. الجهاز التشريعي.

بيوت المسنين: يمكن القول أن الطريقة الرئيسية التي شاعت خلال القرن العشرين لعلاج الاضطراب المعرفي والانفعالي لدى المسنين هي الإيداع في المؤسسات، وكانت الطريقة الشائعة طوال الفترة بين 1900، 1955 هي الإيداع في المستشفيات العامة لمجرد التمريض أكثر منه العلاج, والأساس الذي يقوم عليه هذا التصور أن علاج المسنين لا يتوقع له إلّا الحد الأدنى من التطبيب والتحسين. ومنذ منتصف الخمسينات بدأ الاهتمام بإنشاء بيوت للمسنين، وهي في جوهرها مراكز للتمريض والرعاية، والسبب الجوهري في هذا التطور هو الشعور بنقص الخدمات الطبية المعتادة بالنسبة لرعاية المسنين, ويمكن أن نحلل الرعاية في هذه المؤسسات إلى أربعة مستويات هي: أ- تسهيلات تمريضية على أعلى درجات المهارة للمرضى المسنين الذين يطلبون رعاية خاصة. ب- تسهيلات مرتبطة بالصحة للمرضى الذين يحتاجون الحد الأدنى من الرعاية التمريضية. ج- الرعاية الشخصية مع بقاء المسن في بيئته؛ حيث يفترض أن المريض لا يحتاج إلى رعاية تمريضية, وإنما تقدم له المساعدة من خلال نشاطه اليومي المعتاد. د- الرعاية السيكياترية للمرضى الذين يشخصون على أنهم من ذوي الصعوبات الفسيولوجية السيكولوجية. وفي ضوء المستوى المناسب يتحدد مدى حاجة المريض المسن للرعاية داخل المؤسسات, وإذا لم يتقرر ذلك مقدمًا فإن إيداع الشخص الذي يحتاج إلى هذا النوع من الرعاية داخل المؤسسة قد تكون له آثار سلبية, حتى لو كانت المؤسسة على مستوى عالٍ من الكفاءة, ولعل أخطر هذه الآثار ما يسميه بعض الباحثين "Kermis, 1948" زملة المؤسساتية institutionalism, والتي تتمثل في مجموعة أعراض أهمها حب الذات والاعتماد على الآخرين وفقد الاهتمام بالعالم الخارجي, بالإضافة إلى فقدان الوجه لقدرته على التعبير, وميكانيكية السلوك, وهذه الزملة هي محاولة من المريض المسن للتعامل مع مناخٍ غير شخصي يسيطر عادةً في هذه المؤسسات بحجة تحقيق الكفاية, أضف إلى ذلك أن اتجاهات بعض العاملين في هذه المؤسسات نحو المسنين الذين يحتاجون لرعايةٍ مزمنةٍ تؤدي إلى تدهور تقدير الذات ومفهوم الذات لديهم, أي: لدى المسنين"، وخاصةً حين يعاملون كأطفال., وقد يزيد الأمر سوءًا ما قد يسود بعض المؤسسات من روتين جامد, ونقص الخصوصية الشخصية للمرضى, وفقدان الغلاقة الوجدانية المدعمة, وانعدام شعور المريض بالمسئولية عن اتخاذ القرار حتى في الأمور التي تخصه, وقد يؤدي ذلك إلى صدور أنماط من السلوك تشبه أعراض الاضطرابات العضوية المخية, حتى لدى الأشخاص الذين لا يعانون منها. وفي هذا الصدد يقترح لوتون Lawton في "Cole & Barrett, 1980" فرضًا هامًّا يسميه فرض الطواعية البيئية environmental docility, خلاصته: أنه مع نقص الكفاءة العقلية المعرفية تزداد أهمية العوامل المؤثرة من البيئة الخارجية

في تحديد سلوك المسنين، وعلى ذلك فإن أيَّ تغير -ولو كان بسيطًا- في البيئة يؤدي إلى أثر بالغ في المتقدمين في السن الذين يعانون من اضطرابٍ عضويٍّ يزيد كثيرًا عن أثرها في المسنين الذين على درجة ملائمة من الكفاءة العقلية. ومن ناحيةٍ أخرى وجد بعض الباحثين "Kermis, 1984", أنه مع تدهور المستويات الإدراكية الحسية لدى المسنين تزداد لديهم أهمية حاسة اللمس, ولذلك يميل المسنون الذين يعانون من الاضطرابات العضوية إلى التواصل مع الآخرين عن قرب شديد، ويؤدي ذلك بالعاملين في المؤسسات إلى النفور من المسنين وتجنبهم, وحين يضطرون إلى التعامل معهم من مسافة قريبة جدًّا "وخاصة أولئك الذين يعيشون في المؤسسات لفترة طويلة" كما يحدث عند الإطعام وتغيير الملابس أو الاستحمام, فإنهم يستخدمون معهم ميكانيزمات "الإبعاد" أو إمالة الجسم بعيدًا عنه، أو تجنب التعامل معه، وجهًا لوجه، وهذا كله إشارات من نوع "التواصل غير اللفظي" الدال على الرفض وعدم التقبل. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الحياة طويلة الأمد داخل المؤسسات تجعل حياة المرضى المسنين أقرب إلى الشيوع، فلا وجود لعالم شخصيّ أو خاصّ، نهايك عما تتمضنه من معاني العزل والنبذ, فإذا اقتصر التفاعل داخل هذا الجو غير الشخصي على المرضى بعضهم مع بعض, ولم يمتد على أيّ نحوٍ إلى أشخاصٍ عاديين, فإن هؤلاء المرضى سوف يتعرضون لمزيدٍ من التدهور والخلل, وقد لجأت بعض المؤسسات في هذا الصدد إلى أسلوب "العنابر المتكاملة عمريًّا", فبدلًا من إعاشة المرضى داخل عنابر متجانسة في العمر على نحوٍ يتضمن معنى "التمييز العمري"، يوضع المرضى من أعمار مختلفة في العنبر الواحد, وفي هذه الحالة قد يحدث ما يسميه علماء النفس الاجتماعيون "تماسك الجماعة"؛ حيث يعين المرضى الأكثر قدرة أقرانهم الأقل والأضعف، وحينئذ يشعر المريض المسن بهويته, ولا يتعرض لخلل جديد يسمى "زملة الانهيار الاجتماعي", وأهم علاماته شعور المسن بأنه عاجز ولا قيمة له ولا فائدة ترجى منه, وهو اضطراب سائد بين مرضى المؤسسات سيئة التنظيم والإدارة, بل قد يسود لدى المسنين المرضى الذين يعيشون في أيِّ بيئة اجتماعية غير مدعمة. وقد أدى هذا النقد الذي تعرضت له بيوت المسنين, وخاصةً في فترة السبعينات إلى الاهتمام بنوعية الرعاية وتطبيق مستويات عالية عليها, إلّا أن ذلك

أدى إلى زيادة تكلفة هذه الرعاية، وخاصةً أن معظم هذه المؤسسات لا تزال مشروعات خاصة, وليست من نوع مشروعات النفع العام "كما هو الحال في النظام الطبي العادي", إلّا أن الملاحظ بصفة عامة أن معظم هذا التحسن لم يتجاوز حدود المستويات الفيزيائية والمادية لبيوت الرعاية, فلا يزال معظمها يعاني من نقص الخدمات النفسية والاجتماعية والطبية الملائمة وخدمات التمريض المناسبة, ومن ذلك أنه لم تبذل جهود جادة لتدريب المسنين على تكوين علاقات اجتماعية جديدة داخل هذه المؤسسات تحل محل علاقاتهم القديمة التي فقدوها مع عملية التقدم في العمر أو التحول إلى المرض. ولعل أهم ما يراه خبراء رعاية المسنين في وقتنا الحاضر زيادة الاهتمام بالجانب الإيجابي فيهم، ومن ذلك تقديم خدمات التأهيل والتدريب على الاستمرار في تحمل المسئولية والاختيار واتخاذ القرار, ولو بدرجة محددة, كما يجب تصميم المكان بحيث يسمح بالحرية والخصوصية مع درجة عالية من الأمان، أضف إلى ذلك ضرورة توافر اتصال المسن مع أشخاص قريبين منه, وقد تأكّد أن الشرط الأخير هو العامل الوحيد الأكثر أهمية لكلٍّ من رضا المسن عن حياته, ومفهومه لذاته جميعًا. فالاتصال الاجتماعي للمسن -بصرف النظر عن الأشخاص الذين يتصل بهم- يجعله يشعر بأنه لم يعزل تمامًا, أو ينبذ كليةً, وأنه له قيمته, وهذا كله لو توفر يهيئ بيئة ملائمة داخل بيوت المسنين. ولعل المظاهر السابقة جميعًا كانت وراء حركة اجتماعية هامة ظهرت كثورة هادئة في مجال رعاية المسنين بأسلوب أكثر إنسانية -وخاصة رعاية أولئك الذين بلغوا أرذل العمر ويعيشون مرحلة موت طويل الأمد- والتي سُمِّيَتْ حركة تكايا المسنين Hospice Care, وقد بدأت هذه الحركة بجهود الطبيبة البريطانية سيسلي سوندرز C. Saunders, فقد أسست عام 1967 أول تكية من هذا النوع في جنوب شرقي لندن "تسمى تكية سانت كروستوفر" لرعاية أولئك الذين يعانون من مرض الموت, وفيها تقدم للمريض بيئة متحررة من الألم, وآمنةً انفعاليًّا في جوٍّ انفعالي دافئ وحميم، وفيها يستحضر المريض معه أشياءه الأثيرة كلها, ويسمح له بعد الإقامة فيها بالزيادة طوال اليوم "من الثامنة صباحًا إلى الثامنة مساء", ويحث أفراد الأسرة "وخاصة الأبناء" على المساعدة في رعاية المسن, والمشاركة في القيام ببعض أنشطته الخاصة، كإطعامه أو نظافته، وهكذا يظل المريض في مرضه الأخير على صلةٍ بآخرين يرعونه ويستمعون إليه ويشاركونه اهتماماته, بالإضافة إلى ما يتحقق له من حقه في الموت بكرامة, وفي وجود أحبائه. إلّا أن ما يجب أن ننبه إليه هو أن إيداع المسن في بيتٍ أو تكيةٍ للمسنين يجب أن يكون آخر ما يمكن أن تلجأ إليه الأسرة؛ فالرعاية داخل المنزل لهؤلاء أكثر تقبلًا من الوجهة السيكولوجية, بشرط أن تكون البيئة الأسرية مدعمة. والقاعدة الذهبية في جميع الحالات أنه حين يكون المسن متحررًا نسبيًّا من المرض ومن سوء البيئة, فإن جهازه العصبي يستطيع مقاومة التدهور المصاحب للتقدم في العمر، ويساعد على ذلك أن يعيش شيخوخةً عاديةً قبل موته, أما إذا اجتمع المرض وسوء البيئة لدى المسن, فإن التدهور النهائي يصبح حتمًا لا مناص له، ويصبح طور أرذل العمر مقدمة طويلة تسبق الموت السيكولوجي أو الفعلي.

الرعاية الشاملة للمسنين

الرعاية الشاملة للمسنين: يتزايد الاهتمام في الوقت الحاضر برعاية المسنين, وكان بداية ذلك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1978, بالدعوة إلى اجتماعٍ دوليٍّ لصياغة خطة عمل دولية في مجال المسنين, وانعقد هذا الاجتماع بالفعل بمدينة فينا, خلال الفترة من 25 يوليو-6أغسطس عام 1982, وصدر عنه وثيقة عالمية تحدد المجالات الأساسية لرعاية المسنين تحقيقًا لحياة أفضل لهم, ودفعًا لمساهمتهم في برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مختلف أقطار العالم, وتضمنت الوثيقة سبعة مجالات للرعاية هي: الصحة والتغذية، والحماية، الإسكان والبيئة، الأسرة، والرفاهية الاجتماعية، الدخل والعمل، التعليم. ومن بين جوانب الرعاية يحتل طب المسنين Geriatrics موضعًا خاصًّا, فهو أحد الفروع الحديثة في الطب، ويحظى باهتمامٍ متزايدٍ في السنوات الأخيرة, وقد أنشأت الجامعات الكبرى في العالم أقسامًا متخصصة لهذا الفرع من الطب، وقد سارت جامعة عين شمس على هذا المنوال؛ فأنشأت منذ اكثر من عشر سنوات وحدة متخصصة في طب وصحة المسنين بكلية الطب فيها, ثم استحدثت منذ عام 1995 قسمًا علميًّا لطب وصحة المسنين, ولعل مما يلفت النظر في اهتمامات المتخصصين في طب المسنين نظرتهم الشاملة؛ حيث تتضافر العلوم الطبية والاجتماعية والنفسية لتقدم نموذجًا للرعاية لا يكاد يتوافر في الفروع الأخرى للطب. ومن المظاهر الأخرى المميزة لطب المسنين اهتمام المتخصصين فيه بموضوع قياس وتقويم الجوانب المختلفة للمسن، حتى إن كثيرًا من الثقاة يعتبرون هذا الاهتمام هو حجر الزاوية لتقديم رعاية فعالة للمسنين، سواء بالوقاية أو التدخل العلاجي أو المتابعة, ومن الدراسات المصرية التي أُجْرِيَتْ في هذا الميدان دراسة

خالد أبو حطب "K. Abou 0 Hattab, 1994", التي قُدِّمَتْ لكية الطب جامعة عين شمس للحصول على درجة الماجستير في طب المسنين, وقد ناقشت هذه الدراسة النماذج المختلفة في مجال تقويم وقياس المسنين، واقترحت إنشاء وحدة متخصصة لهذا الغرض تتولى تقدير كفاءة المسن في النواحي الجسمية والنفسية، والاجتماعية, مع دراسة ظروفه الاقتصادية والبيئية وموارد الرعاية المتاحة في ضوء الظروف الثقافية للمجتمع المصري. وفي عام 1996 أنشأت جامعة حلوان مركز الرعاية الصحية والاجتماعية للمسنين، ليقدم منظومة متكاملة للرعاية, تشمل النواحي الصحية والاجتماعية والنفسية والفنية الجمالية والرياضية الترويحية للمسنين, ولعل من أهم أنشطة المركز: تقديم برامج تدريبية لإعداد "مساعد المسن" وهو مجال مهني متزايد الأهمية للشباب. ويتزايد اهتمام المؤسسات الحكومية والجمعيات الأهلية بالمسنين في مصر في الوقت الحاضر، فبدأت وزارة الصحة بإنشاء وحدات للمسنين في المستشفيات، كما يتزايد اهتمام وزارة الشئون الاجتماعية بالجمعيات غير الحكومية العاملة في هذا الميدان.

خاتمة الكتاب

خاتمة الكتاب: وهكذا نأتي إلى خاتمة رحلة نمو الإنسان، تلك الرحلة التي وصفناها في مقدمة هذا الكتاب بأنها أبدع رحلات الإنسان, وهي الرحلة المعجزة التي تبدأ به خلية أحادية التكوين, ويتحول خلالها إلى جنين؛ فطفل؛ فمراهق؛ فشاب؛ فراشد؛ فكهل؛ فشيخ، ثم إلى هرم فانٍ, هذه الرحلة التي وصفها القرآن الكريم في مواضع كثيرة, والتي تتضمن الكثير من آيات الله -سبحانه وتعالى- وسننه في خلقه. وهذا الكتاب محاولة لبناء وجهة إسلامية لعلم نفس النمو، ولهذا كان الاعتماد في تصنيف مراحل النمو في القرآن الكريم وعلى السنة النبوية الشريفة, ثم على ما تناوله فقهاء المسلمين ومفكريهم وفلاسفتهم, وقد أدى بنا ذلك إلى بناء نموذج للنمو الإنساني في هذا الإطار الإسلامي الشامل, كان موجهًا ووجهة الكتاب كله. لقد عبر الكتاب عن المراحل الكبرى الثلاث لنمو الإنساني بالأعمار الثلاثة، وقد وجه هذه التصنيف تقسيم القرآن الكريم لها بقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54] . ثم جاءت مراحل كل عمر من هذه الأعمار الثلاثة وأطواره موجهة كلها بالإطار الإسلامي، ولهذا كان العمر الأول للإنسان هو ضعفه الأول, كما جاء في الآية الكريمة السابقة شاملًا لمراحل الجنين والطفولة والمراهقة والشباب، وهي جميعًا تتوجه بالإنسان "سريعًا أو بطيئًا حسب طبيعة كل مرحلة" نحو قوة الرشد الإنساني, فهي تحسن مستمر وتقدم مضطرد. ثم جاء تقسيم كل مرحلة من مراحل الضعف الإنساني الأول في الإطار الإسلامي أيضًا؛ فمرحلة الجنين تتألف في أطوار النطفة والنطفة والأمشاج والعلقة والمضغة وتكوين العظام والعضلات "اللحم" والتسوية, وانقسمت مرحلة الطفولة إلى أطوار الوليد والرضيع والحضانة والتمييز, وانقسمت مرحلة المراهقة والشباب إلى طور بلوغ الحلم "المراهقة", وطور بلوغ السعي "الشباب". فإذا انتقلنا إلى العمر الثاني للإنسان وهو عمر قوة الرشد لديه، التزم الكتاب أيضًا بالتصنيف الإسلامي لمراحله وأطواره، وشمل ذلك طور بلوغ الرشد، وطور بلوغ الأشد, أما العمر الثالث للإنسان هو عمر الضعف الثاني الذي يتسم

-حسب الوصف القرآني الكريم- بالضعف والشيبة, فقد انقسم أيضًا إلى طورين هما الشيخوخة, ثم بلوغ أرذل العمر. كان ذلك كله في ضوء الآيات القرآنية التي وردت في مطلع هذا الكتاب، ونعيد هنا مرةً أخرى ما قلناه في المقدمة من أن هذا الكتاب محاولة علمية "لخدمة القرآن الكريم", كما أنه محاولة لبناء وجهة إسلامية لعلم نفس النمو، وهو جزء من سلسلةٍ تسعى لتحقيق هذه الغاية المنشودة، نلتزم فيها بلغة العلم ومناهج البحث فيه, مع التنبه إلى عدم الوقوع في الشراك التي وقع فيها بعض من تصدوا لتناول مسائل علم النفس في الإطار الإسلامي, وهي الشراك التي تناولها بالتفصيل أحد مؤلفي هذا الكتاب في موضوع آخر "فؤاد أبو حطب، 1989"، ونرجو من الله أن تكون مهمة هذا الكتاب قد تحققت خدمة علمية للقرآن, ومنفعة عملية للأمة العربية والإسلامية.

مراجع الكتاب

مراجع الكتاب: آمال أحمد مختار صادق: التعليم الأساسي كبوتقة لكشف الاستعدادات, مؤتمر التعليم الأساسي بين النظرية والتطبيق، جامعة حلوان، 1981. آمال أحمد مختار صادق: تنمية الإبداع في الفنون عند تلاميذ التعليم الأساسي, القاهرة، مؤتمر الإبداع في مرحلة التعليم الأساسي، القاهرة، وزارة التعليم، 1989. آمال أحمد مختار صادق: نحو نموذج جديد للنمو الحسي في مرحلة الطفولة: من الإدراك متعدد الحواس إلى التخصص الحسي "تحت الطبع". آمال أحمد مختار صادق، أميمة أمين فهمي: الخبرات الموسيقية في دور الحضانة ورياض الأطفال. مكتبة الأنجلو المصرية، 1985. إبراهيم أحمد الكندي: مشكلات الزواج في العصر الحديث وعلاجها في الفقه الإسلامي، بحث مقدم إلى ندوة الفقه الإسلامي، جامعة السلطان قابوس، مسقط، سلطنة عمان، 1988. إبراهيم خليل شهاب: مشكلات المراهقة بين طلاب وطالبات المدارس الثانوية، 1935. أحمد زكي صالح: الأسس النفسية للتعليم الثانوي. دار النهضة المصرية "ط2"، 1972. أولسون، ويلارد "ترجمة إبراهيم حافظ وآخرون": تطور نمو الأطفال. مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، 1962. إيكهورن، أوجست "ترجمة سيد غنيم": الشباب الجامح، دار المعارف، 1959.

بياجيه، جان "ترجمة: أحمد عزت راجح": اللغة والفكر عند الطفل، مكتبة مصر "ب. ت". بياجيه. جان "ترجمة: محمود قاسم": ميلاد الذكاء عند الطفل. مكتبة الأنجلو المصرية "ب. ت". توم، دوجلاس "ترجمة: إسحاق رمزي": مشكلات الأطفال اليومية، دار المعارف، 1960. توم، دوجلاس "ترجمة: جابر عبد الحميد جابر وآخرين": توجيه المراهق. دار المعارف، 1970. جابر عبد الحميد جابر، محمد أحمد سلامة: دارسة استطلاعية مقارنة لمشكلات طلاب وطالبات المرحلة الإعدادية من القَطَرِين وغير القطريين. جامعة قطر، مركز البحوث التربوية، 1981. جونسون، مارشال، عبد الحميد الزنداني: مفتاح مستقبل الجنين: التلقيح والسيادة الجنينية, أو تحديد خصائص الفرد مقارنةً بين القرآن والسنة, المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي، 1985. جيزل، أرنولد وآخرون "ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد": الحضين والطفل في ثقافة اليوم، دار الكرنك للنشر، 1964. جيزل، أرنولد وآخرون "ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد": الطفل من الخامسة إلى العاشرة. لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1957. جيزل، أرنولد وآخرون "ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد": الشباب بين العاشرة والسادسة عشرة. دار الطباعة الحديث 1959. حامد عبد السلام زهران: علم نفس النمو. عالم الكتب، 1971. حامد عبد العزيز الفقي: دراسات في سيكولوجية النمو. الكويت. دار القلم "ط4"، 1983.

حسين كامل بهاء الدين، محمد خليل عبد الخالق، ناهد رمزي، هالة فؤاد، عزة العرابي، هنا القراقصي، أحمد العيادي: معايير نمو الطفل ما قبل المدرسة، المجلد الثالث، الدراسة الصحية. المجلس القومي للطفولة والأمومة، 1994. خلف الجراد: قراءة في فكر الغزالي التربوي. مجلة الباحث، السنة 8، العدد 43، تموز-أيول 1986، 87-102. خليل ميخائيل معوض: مشكلات المراهقين في المدن والريف: السلطة والطموح، دار المعارف، 1976. دي بور، ت. ج. "ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة": تاريخ الفلسفة في الإسلام. الدار التونسية للنشر "ب.ت". ديلور، جاك "ترجمة: جابر عبد الحميد جابر": التعلم ذلك الكنز الكامن: تقرير اللجنة الدولية للتربية للقرن العشرين. القاهرة: دار النهضة العربية، 1998. رمزية الغريب: العلاقات الإنسانية في حياة الصغير ومشكلاته اليومية، مكتبة الأنجلو المصرية، 1967. سعد جلال، عماد الدين سلطان: مشكلات طلبة مرحلة التعليم الثانوي. المجلة الاجتماعية القومية، المجلد 31، يناير 1966. سعد مرسي أحمد، كوثر كوجك: تربية طفل ما قبل المدرسة، القاهرة، علم الكتب، 1983. سليمان الخضري الشيخ: دراسة في التفكير الخلقي للمراهقين والراشدين. الكتاب السنوي في علم النفس، الجمعية المصرية للدراسات النفسية، المجلد الرابع، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1983، 123 -170. سنية جمال عبد الحميد: ثبات المادة والوزن والحجم - دارسة مقارنة بين الطفل المصري الريفي والحضري. رسالة دركتوراه-

كلية الآداب - جامعة عين شمس، 1967. سيد أحمد عثمان: الإثراء النفسي، مكتبة الأنجلو المصرية، 1986. سيد أحمد عثمان: بهجة التعلم، مكتبة الأنجلو المصرية، 1977. السيد عبد العاطي السيد: صراع الأجيال، دراسة في ثقافة الشباب، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 198. سيد محمد غنيم: النمو العقلي عند الطفل في نظرية بياجيه "الجزء الأول". حوليات كلية الآداب جامعة عين شمس، المجلد13، 1970. سيد محمد غنيم: النمو العقلي عند الطفل في نظرية بياجيه "الجزء الثاني". القاهرة, المطبعة العالمية، 1973. شحاتة محروس طه: الحكم الخلقي لدى عينة من المجتمع المصري في المراحل التعليمية المختلفة. رسالة دكتوراه، كلية التربية، جامعة حلوان، 1989. شفيق علاونة: الطفولة. عمان: دار الفرقان، 1994. صالح الشماع: ارتقاء اللغة عند الطفل من الميلاد إلى السادسة، دار المعارف، 1962. صلاح مخيمر: تناول جديد للمراهقة، صحيفة التربية، يناير، 1970. صموئيل مغاريوس: أضواء على المراهق المصري. مكتبة النهضة المصرية، 1957. صموئيل مغاريوس: سيكولوجية المراهق المصري. في كتاب "أسس التربية في الوطن العربي"، القاهرة: المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، 1965. طلعت منصور: دراسة في الاتجاهات النفسية نحو المسنين لدى بعض الفئات العمرية في المجتمع الكويتي، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الكويت، المجلد 15. العدد 11987، 69-102.

عادل عازر، ناهد رمزي، عزة كريم، علا مصطفى: ظاهرة عمل الأطفال، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، 1991. عبد الحميد الهاشمي: علم النفس التكويني. مكتب الخانجي "ط3"، 1976. عبد الخالق همت أبو شبانة: الصلب والترائب. القاهرة. المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي، 1985. عبد العزيز القوصي: خصائص المراهقين الريفين والمدنين في الإقليم المصري. صحيفة التربية، نوفمبر 1960. عبد الله بن محمد معصر: حقوق الجنين في الفقه الإسلامي. مجلة البحوث الفقهية المعاصرة "المملكة العربية السعودية" العدد 26، السنة7، يوليو, سبتبمر 1995. عبد المنعم المليجي: تطور الشعور الديني عند الطفل والمراهق. دار المعارف، 1955. عبد المنعم المليجي: النمو النفسي، القاهرة, مكتبة مصر، 1957. عثمان الخواص: خلق العظام، القاهرة: المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي، نوفمبر 1985. عثمان لبيب فراج: "عرض وتلخيص فؤاد أبو حطب": مشكلات التكيف عند تلاميذ المدرسة الثانوية في كلٍّ من مصر وأمريكا. صحفية التربية، مارس 1961. عدنان الشريف: من علم الجنين القرآني: بيروت: مجلة الفكر الإسلامي "5حلقات"، 1987-1988. عزت حجازي: الشباب العربي والمشكلات التي يواجهها. الكويت، عالم المعرفة، 1978. عزت سيد إسماعيل: الشيخوخة. الكويت: وكالة المطبوعات، 1983.

عزيز عبد العليم، ياسر صالح جمال: إشارات الإعجاز القرآني في علم الأجنة: المضغة المخلقة وغير المخلقة، القاهرة. المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي، 1958. علي بن فهيد الدغيمان: حد البلوغ في الفقه الإسلامي. الرياض: مطبوعات مركز البحوث التربوية -كلية التربية- جامعة الملك سعود. عماد الدين سلطان: احتياجات طلبة وطلبات الكليات والمعاهد العليا. المجلة الاجتماعية القومية، يناير، 1969. عماد الدين سلطان: احتياجات طلاب الجامعات، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، 1971. عماد الدين سلطان: مشكلات طلاب الجامعات. المجلة الاجتماعية القومية، يناير 1971. فائقة محمد بدر: العلاقة بين البيئة المدرسية والتفكير الابتكاري، رسالة دكتوراه، كلية التربية جامعة عين شمس، 1984. فايز قنطار: الأمومة: نمو العلاقة بين الطفل والأم، عالم المعرفة "الكويت"، 1992. فؤاد أبو حطب: التحليل العلمي للسلوك الخلقي. الكتاب السنوي في التربية وعلم النفس "تحرير: سعيد إسماعيل علي". المجلد الأول، عالم الكتب. 1973. فؤاد أبو حطب: استفتاء المشكلات الدراسية للشباب. بحوث في تقنين الاختبارات النفسية، المجلد الأول. القاهرة. مكتبة الأنجلو المصرية، 1977. فؤاد أبو حطب: التوجيه الإسلامي لعلم النفس. ندورة علم النفس والإسلام، جامعة الرياض "الملك سعود حاليًا"، 1978 "نشر البحث بمجلة الأزهر، يناير، يونية 1979. فؤاد أبو حطب: الشباب، أزمة التكيف والاغتراب، القاهرة، ندوة تربية

الشباب بكلية التربية جامعة عين شمس، 1981. فؤاد أبو حطب: المعالم السيكولوجية للرشد والشيخوخة، المؤتمر الدولي للصحة النفسية للمسنين، القاهرة، 1983. فؤاد أبو حطب: القدرات العقلية. مكتبة الأنجلو المصرية "ط5"، 1996. فؤاد أبو حطب: علم نفس النمو من المنظور الإسلامي. مجلة التربية الإسلامية، العدد الأول، 1985. فؤاد أبو حطب: التطرف والاعتدال في سلوك الإنسان. المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي، القاهرة 1985. فؤاد أبو حطب: نحو وجهة إسلامية لعلم النفس. القاهرة: مؤتمر الإسلام وعلم النفس. نظمه المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1989, "نشر البحث بمجلة المسلم المعاصر، يناير، أبريل، يوليو 1992". فؤاد أبو حطب: قبل أن يتوحش المجتمع. "الأهرام المسائي 1992". فؤاد أبو حطب, آمال صادق: علم النفس التربوي، مكتبة الأنجلو المصرية "ط4"، 1986. فؤاد أبو حطب, آمال صادق: معالم عصر جديد للمعرفة. دراسات تربوية. الجزء الأول، نوفمبر 1985، 75-86. فؤاد البهي السيد: علم النفس الاجتماعي. دار الفكرالعربي "ط2"، 1987. فؤاد البهي السيد: الأسس النفسية للنمو من الطفولة إلى الشيخوخة. دار الفكر العربي "ط3"، 1975. ماهر كامل: الزعامة عند الطفل. مكتبة الأنجلو المصرية، 1985. محمد إبراهيم الفيومي: ملاحظات على المدرسة الفلسفية في الإسلام. مكتبة الأنجلو المصرية، 1979.

محمد أبو زهرة: علم أصول الفقه. دار المعارف. القاهرة. "ب. ت". محمد جمال الدين الفندي: الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، مجلة الأزهر، الجزء7، السنة 60، مارس 1988. محمد طاهر، عبد المجيد الزنداني، مصطفى النجار: خلفية تاريخية لتطور الإنسان: أضواء على هذا الميدان في القرآن والحديث، القاهرة، المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي، القاهرة، 1985. محمد عثمان نجاتي: اتجاهات الشباب ومشكلاتهم. دار النهضة العربية، 1963. محمد عثمان نجاتي: القرآن وعلم النفس. بيروت: دار الشروق، 1982. محمد عثمان نجاتي: الحديث النبوي وعلم النفس. القاهرة: دار الشروق، 1992. محمد علي البار: الوجيز في علم الأجنة القرآني. جدة: الدار السعودية للنشر والتوزيع "ط2"، 1986. محمد عماد الدين إسماعيل: الأطفاتل مرآة المجتمع, الكويت: عالم المعرفة, 1986. محمد عماد الدين إسماعيل: النمو في مرحلة المراهقة، الكويت، دار القلم، 1982. محمد عماد الدين إسماعيل، محمد أحمد غالي: الإطار النظري لدراسة النمو. الكويت: دار القلم، 1981. محمد عماد الدين إسماعيل، نجيب إسكندر إبراهيم، رشدي فام منصور: كيف نربي أطفالنا. دار النهضة العربية، 1974. محمد عماد الدين إسماعيل، أمينة كاظم، ناهد رمزي، ليلى كرم الدين، هدى الناشف: معايير نمو طفل ما قبل

المدرسة. المجلد الثاني: الدراسة النفسية. المجلس القومي للطفولة والأمومة، 1994. مصطفى سويف: الأسس النفسية للتكامل الاجتماعي. دار المعارف "ط3"، 1970. مصطفى فهمي: سيكولوجية الطفولة والمراهقة. القاهرة. مكتبة مصر، 1955. منيرة محلمي: مشكلات الفتاة المراهقة وحاجاتها الإرشادية. دار النهضة العربية، 1965. منظمة الصحة العالمية "ترجمة: محمد بشير القصاص": حفظ وتعزيز صحة المسنين. دمشق: وزارة الصحة، 1997. موريس شريل: التطور المعرفي عند جان بياجيه. بيروت. المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر والتوزيع، 1986. ميلر، سوزانا: سيكولوجية اللعب "ترجمة: حسن عيسى", الكويت. عالم المعرفة، 1997. هدى بدران، ناهد رمزي، سنية صالح، علي ليلة: معايير نمو طفل ما قبل المدرسة، المجلد الأول: الدراسة الاجتماعية, المجلس القومي للطفولة والأمومة، 1994. هولس، س. هـ وآخرون: "ترجمة: فؤاد أبو حطب، آمال صادق": سيكولوجية التعلم. دار مكجروهل للطبع والنشر، 1982. وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته "7 أجزاء", دمشق, دار الفكر، 1984.

Abou-Hatab, K. F. Menial "Psychological" Halth From Islamic Perspectives. Egyptian Journal of Psychological Studies , Vol. 8, January, 1998. Abou-Hatab, F, Comperehenvsive Geriatric Assessmenl. M. Sc, Faculty of Medicine, Ain-Shams University, 1994. Abou-Halab, M, F. A Study of the Common Phol School Children , M. Sc. Institute of Postgraduate Childhood Studies. Ain- Shams University, 1994. Adams, B.N. The Family: A Sociological Interpretation. Chicago: Rand McNaltv, 1975. Adler, L.L. "Ed." Cross-cultural Research in Human Development New York Praegcr & Greenwood, 1989. Alpaugh, R.K. & Birren, J.E. Variables Affecting Creative Contributions across the Adult Life Span. Human Develop., 1977,20,240-248. Ambron, S.R. & Salkind, N.J. Child Development. New York: Holt, Rinehart & Winston "4 th Ed.", 1984. American Pasychiatiic Association. Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders "DSM IV". Washington, D.C. Amer Psychiat. Assoc, "4th Ed." 1994. Aries, P. Centuries of Childhood. New York:.Vintage Books, 1962.

Arline, P.A. Conitive Ddevelopment in Adulthood: A Fifth Stage? Develop, psychol. 1975., 11,602-606. Arline, P.A. Piagetian Operations in Problem Finding. Develop. Psychol., 1977, 13,297-298 Atchley, R.C. The Social Forces in Later Life. Belmont: Wadsworth, {2 nd Ed,", 1977. Baltcs., P. B. & Bakes, M. M. "Eds.". Successful Aging: Perspectives from the Behavioral Sciences. Cambridge: u, k., Cambridge University Press, 1990 Baltes, P.B. & Schaie, K.W, "Eds." Life span Developmental Psychology: Personality and Socialization. New York: Academic Press, 1973 , Baltes, P. B. & Reese, H.W & Nesserloadc. Life-span Developmental Psychology: Introduction to Research Methods. Monterey ; Brooks & Cole, 1977. Barker, R.E. & Wright, H.F. One Boy's Day: A Speciman Record of Behavior. New York: Harper & Ron, 1951. Barry, W.A. Marriage Research and Conflict: An Integrative Review, Psychol, Bull., 1970,73,41-54. Bayley, N, & Odcn, M.H. The Maintenance of Intellectual Ability in Gifted Adults. J. of Gerontology, 1955,10,91-107. Bee W. The Developing Child. Cambridge: Harper & Row, "4th Ed.", 1985. Bell, R.Q. Convergence: An Accelerated Longitudinal Approach. Child Develop., 1953, 24,142-152. Bell, R. Q. & Harpe, L.V. "Eds." Child Effects on Adults. Lin-coin: Univ. of Nebraska Press, 1980.

Belloc, N.B. & Breslow, L. Relationship of Physical Health Status and Health Parctices. Paeventive Medicine, 1972,1,409-421. Bengston, V. L. & Troll, L. Youth and their Parents. In Lerner, R. and Spanicr, G. "Eds.", 1978. Bcrardo, F.M. Widowhood Status in the United States. The Family Coordinator, 1968,17,191-203. Bernard, H.W. Human Development in Western Culture. Boston: Allyn & Bacom, 1970. Binger, J.J. Human Development: A Life-Spun Approach. New York: MacMillan, 1983. Binstock, A. H. & Shanes, D. "End." Handbook of Againg and the Social Sciences. New York: Van Nostrand Reinhold, 1976. Birren, I.E. The Psychology of Aging. N.J. ; Prentice-Hall, 1064. Birren, J.E. Thansilions in Gerontology from Lab to Life: Psy-chopsysiology and Speed of Response. Amer. Psychologist, 1974, 29, 808-815. Birren, J.E. Butler, R.N., Greenhouse, S.W., Sokoloff, L. & Yarrow, M. "Eds." Human Agiitfi: A Biological and Behavioral Study. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1963. Birren, J.E. & Schaie, K.W. "Eds." Handbook of the Psychoid-BY of Aging. New York: Ven Nostrand Reinhold, 1977. Birren, J.E. & Slnane, R.B. "Eds." Handbook of Menial Health and Aging. N.J.: Prentice-Hall, 1980. Bisanz, J., Brainerd, C.J. & Kail, R. "Eds." Formal Methods in Develop me.' ci-Verlog, 1987.

Blum, J.E. & Jarvik, L.F. Intellectual Performance of Octogenarians as a Function of Education and Initial Abilly. Human Develop., 1975,18,364-375. Booth, A. Wife's Employment and Husband Stress: A Replication and Refutation. J. of Marriage & Family, 1977, 39, 645-650. Bomstein, M.H, & Lamb, M.E. "Eds." Developmental Psychology. Hill! Irlbaum & Assoc., 1984. Boshier, R, Adult Education: Motivation of Participants, in: T. Husscn & T. N. Postletliwaite "Eds." International Encyclopedia of Education, vol, 1, pp 149 -152,19S5. Bolwink:x., J. Aging and Beliavior. New York: Springer, 1973. Brained, C. Piagent's Theory of Intelligence. Englewood Cliffs, N. J. Prentic-Hall, 1978. Brodznsky, D.M. Gormly, A.V. A Anibran, S.R. Life-Span Human Development. New York: Holt, Rinc-hart & Winston, "3rd Ed.", 1986. Bromley, D. B. The Psychology of Human Aging. Penguin Books, 1966. "2nd Ed.", 1974. Brubaker, T. "Ed." Family Ralationships in Later Life. Beverly Hill, CA: Sage, 1983. Burke, R. I. & Weir, T. Relationship of Wife's Emploment Status to Husband Wife and Pair Staisfaction and performance. J. of Marriage & Family, 1976, 38. 279-282. Butler, R. N. & Lewis, M. I. Aging and mental Health. St. Louis: Mosby, "3rd Ed.", 1982. Case, R. Intellectual Development: Birth to Adulthiid. Orlando: Academic Press, 1985.

Clarke Stewart, A. & Friedman, S. Child Development: Infancy through Adolsecence. New York: John Wiley, 1987. Clayton, V. & Overton, W.F. Concrete and Formal Operational Thought Processes in Young Adulthood and Old Age. International.1. of Aging & Human Develop., I976 , 7, 237-215. Cole, J.O. & Bcrrctt, C.J. "Ed." ogy Id the Aged. New York: Raven Press, 1980. Commons, M.L., Richard, F.A. & Annan, C. Beyond Formal Operations: ceand Abult Cog- nitive Development. New York: Praegcr, 1982. Commons, ML.: Adult development "vol. 1". New York: Praeger& Greenwood, 1989. Conger, J.J. & Peterson, A. C. Adolescence and Youth. Cam- bridge: Harper & Row "3rd Ed.", 1984. Copans, S. A. Human Prenatal Effects: Methodological Problems and Some Suggested Solutions. Merrill-Plamer Quart., 1974, 20, 43-52. Crai"-. G.J. Human Development. WWnglewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall, 1986. Craik, F.J. M. Age Differences in Human Memory. In ; Birren, J.E. & Schaie, K.W. "Eds.", 1977. Craik, F.t. M. & Treub, S. "Eds." Aging and Cognitive Processes. New York: Plenum, 1980. Cumming, E. & Henry, W.E. Growing Old. New York: Basic Books, 1961. Croplcy, A. J. "Ed." Towards a System of Lifelong Hamburg:Unesco institute of Education, 1986. Darwin, C. A Biographical Sketch of an Infant. Mind, 1877, 2, 285-294. Dasen, P.R Cross-Cultural Piagetion Research: A Summary, J. of Cross-Cultural Psyehol., 1972,3,23-39. Daton, N., Green, A.L. & Reese, H.W. Lifespan Developmen- Datoit, N., Green, A.L. & Reese, H.W. Lifespan Developm

Daton, N., Green, A.L. & Reese, H.W. Lifespan Developmen-tal Psychology. Hillsdate, N.J.: Lawrence Erl-baun & Assoc, 1986. Dave, H. R. "Ed". Foundations of Lifelong Education. New York: Pergamon Press, 1976. Delisi, R. Slandt, j. Individual Differences in College Students' Performance on Formal Operations Tasks. J. Appl. Develop. Psychol., 1980,1,201-208. Delors, J. Learning: The Treasure within Paris. Unesco, 1997. Dennis, W. Greative Productivity between the Age of 20 and 80 Years.J.oferontology,1966, 1, 1-18. Denny. N.W. Aging and Cognitive Change. In: Wolman, B, "ed.", 1982. Dolen, L. S. & Bearison, D. J. Social Interaction and Social Cognition in Againg. Human Develop., 1982, 25, 430-442. Duvall. Si. PCarriage and Family Development, -.,:? LippincotL"5thEd.", 1977. Eichorn, DR., Clausen, J.A., Haan, N„ Honzik M.P. & Mussen, P.H. "Eds." Present and Past in Middle Lite, New York: Academic Press, 1981. Eichorn, D.H, , Hunt, J.V. & Honzik, M.P. Experience, Personality and IQ: From Adolescence to Middle Age In: Eichorn, D.H. et al., "Eds.", 1981. Eisdoifer, C, & Lawlon, M.P. "Eds.", Psychology of Adult Development >: nglon,D.C.: APA, 1973. Elkind, D. Quantity Conceptions in Junir and Senior High.'?: ????., 1961,32, 551- 560. Elkind, D. Quantity Concep Students. J. Soc. Psychol.., 1962, 57,259-465. Elkind, D. & Flavell, J.H. "Eds." Studies in Cognitive Develop- Elkind, D. & Flavell, 1.11. "Eds." Studies in Cognith

ment. New York: Oxford Univ. Press, 1969. Erikson, Ell. Childhood and Society. Pengur, Books, 1959, "2nd Ed.", 1963. Erikson, E.H. Identity, Youth and Crisis. New York: Norton, 1968. Erikson, E.H. Toys and Reasons. New York: Norton, 1977. Erikson, E.H. Identity and Life. New York: Norton, 1980. Farkas, M.S. & Hoycr, W.J. Processing Consequences of Perceptual Grouping in Selective Attention. J. of Gerontology, 1980, 35,207-216. Field, T. et al. "Eds." Review of Human Develpment. New York: John Wiley, 1982. Finch, C.E. Issues in the Analysis of Interrelationships between the Individual and Environment during Aging. In: Sorensen, A.B. et al. "Eds.", 1986. Finch, C.E. & Hayflick, L. "Eds." Handbook of the Biology of Aging. New York: Van Nostrand Reinhold, 1977. Fishbein, H.O. The Psychology of Infancy and Childhood. Hillsdale: Lawrence Erlbaum & Assoc., 1984. Flavell, J.H. The Developmental Psychology of Jean Piaget. New York: Van Nostrand, 1963. Flavell, J.H. & Markman, E.M. "Eds." Handbook of Child Psychology. Vol. Ill: Cognitive Development. New York: Wiley. 1983. Flavell, J.H. & Wohlwill, J.F. Formal and Functional Aspects of Cognitive Development. In: Elkind, D. & Flavell, J.H. "Eds.", 1969. Flynn, J.R. The Mean IQ of Americans: Massive Gains 1932 to 1978, Psychol. Bull., 1984, 95,29-51.

Foner, A. & Schwab, K. Aging and Retirement. Monterey: Brooks & Cole, 1981. Fowles, D.G. A Profile of Older Americans. Washington, D. C. American Association of Retired Persons, 1987. Fries, J.F. & Crapo, M. Vitality and Aging. San Francisco: W.H. Freeman, 1981. Frieze, J.H. Women and Sex Roles. New York: Norton, 1978. Garrett, W.R. Seasons of Marriage and Family Life. New York: Holt, Rinehart & Winston, 1982. Gaulf, L.R. & Baltes, P.B. "Eds." Life-Span Developmental Psychology. New York: Academic Press, 1970. George, L.K., Fillenbaum, G.G. & Palmore, E. Sex Differences in the Antecendcnts and Consequences of Retirement. J. of Gerontology, 1984,39, 364-371. Gcscll, A. & Iig, F.L. Child Development: An Introduction to Human Growth. New York: Harper, 1970. Goldhabcr, D. Life-Span Human Development. New York: Harcourt, Brace & Jovanovich, 1986. Gomberg, E. & Franks, V. "Eds." Gender and Disordered Behavior. New York: Bruner & Mazal, 1980. Gottferies, C.G. Senile Dementia of the Alzheimer's Type: Clinical, Genetic, Pathogenetic and Treatment Aspects. In: Sorensen, A. B. & ct al., "Eds." 1986. Grinder, R.E. A History of Genetic Psychology. New York: John Wiley, 1967. Guilford, J.P. J.P.The Nature of Human Intelligence. New York: Mc Graw-Hill, 1967. Haan, N. Common Dimensions of Personality Development: NewYork: Mc Graw-Hill, 1967. Haan, N. , Smith, M.B. & Black, J.H. Moral Reasoning of Young Adults: Political-Social Behavior, Family Background and Personality Correlates. J. of

Pers. & Soc. Psychol., 1968,183-201. Haddad, S. "Ed.". Adult Education: The Legislative and Policy Environment. The Nether lands: Klumer, 1997. Hagestad, G.O. Patterns of Communication and Influence between Grandparents and Grandchilbren an in Changing Society. World Congress of Sociology, Upsola, Sweden, 1978. Haith, M.M. & Compos, J.J. "Eds." Handbook of Child Psychology Vol. II, New York: John Wiley, 1983. Hall, G.S. The Contents of Children Minds. Princeton Rev., 1883, 11, 170-182. Hall, G.S. Adolescence "2 Vols." New York: Appleton, 1891. Hall, G.S. Senescence: The Last Half or Life. New York: Appleton-Ccntury-Crofts, 1923. Hall, E. Lamb, M. & Pcrlmutter, M. Child psychology Today. New York: Random House, "2nd Ed.", 1986. Harris, A.C. Child Development. St. Paul: West Publishindg, 1986. Harris, L. & et al., The myth and reality of aging in America. Washington, D.C.: The National Council on Aging, 1975. Hartley, J.T. & et al. Contemporary Issues and New Directions in Adult Development of Learning and Memory. In: Porn, L. "Ed.", 1980. Havighurst, R.J. Human Development and Education. New York: Longmans & Green, 1953. Havighurst, R.J. Social Roles of the Middle-Aged Person. Center for the Study of Libral Education for Adults, 1955. Havighurst, R.J. Development Tasks and Education. New York rMckay, "3rd Ed.", 1972.

Hethcrington, E.M. & Park, R.D. Child Psychology. New York: McGraw-Hill, 1986. Hoch, P.H. & Zubin, J. "Eds." Evaluation of Psychiatric Treatment, New York: Grune Stratton, 1980. Holland, J.L. The Psychology of Vocational Choice. Waltham: Blaisdell, 1966. Holland, J.L. Making Vocational Choices: A Theory of Ca-reers-Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall, 1973. Holmes, D.L. & Morrison, F.J. The Child. Monterery: Brooks and Cole, 1979. Horn, J.L. & Donaldson, G. Cognitive Development in Adulthood. In: Brim, O.G. & Kogan, J. "Eds.", Contemporar and Change in Human Development. Cambridge: Harvard Univ. Press. 1980. Horowitz, F.D. "Ed." Review of Child Development Research. Chicago: Univ. of Chicago Press, 1975. Houghton, V. P. & Richardson, K. "Eds." Recurrent Education. London: Word Lock, 1974. Householder, J., Halcher, R., Burns, W. & hasnoff, I. Innfants born to Narcotic-addicted Mothers. Psychol. Bull., 1982,92,453-468. Hoyer, W.J. & Plude, D.J. Attcntional and Perceptual Processes in the Study of Cognitive Aging. In: Poon, L. "Ed." 1980. Hughes, F.P. & Noppe, L. Human Development. PSt. Paul: Wast publishing Co., 1982. Hulicka, I.M. Age Differences in Retention as a Function of In-tcrfrence. J. of Gerentology, 1967,22, 274-280. Hunt, M. & Hunt, B. The Divorce Experience. New York: McGraw-Hill, 1977. Hurlock, E. B. Developmental Psychology, New York: Mc Graw-Hill, 1980.

Huyck, M.K. From Gregariousness to Intimacy: Marriage and Friendship over Adult Years. In: Field, T. & et al., "Eds.", 1982. Huyck, M.K. & Hoyer, W.J. Adult Development and Aging. Belmont: Wadsworth, 1982. Ilg, F.L. & Ames, L.B. The Gesell Institute's Child Behavior New York: Dell, 1955. Ironside, D.J. Adult Education: Concepts and Definitions. In: T. Hussein & T. N. Post lethwaite "Eds." International Encyclopedia of Education, vol 1, PP.112-120, 1980. Jacaues, E. Death and the Midlife Crisis. International J. of Psychoanalysis, 1964. 502-514. Jaquish, G.A. & Ripple, R.E. Cognitive Creative Abilities and Self-esteem Across the Aduly Life Span. Human Develop., 1981,24,110-119. Johnstone, J. W. C. & Rivera, R. J. Volunteers for Learning: A study of the Educational Pursuits of American Adults. Aldine: Chicage, Ilinios, 1965. Kagan, J. The Nature of the Child. New York: Basic Books, 1984. Kahana, B. Social Bohavior and Aging. In: Wolman, B. "Ed.", 1982. Kasworm, C.E. The Older Adult as Undergraduate. Adult Educ,. 1980,31.30-47. Keating, D. Thinking Processes in Adolescence. In: Adclsen, J. "Ed.", Handbook of Adolescent Psychology. New York: Wiley, 1980. Keniston, K. Youth and Dissent: The Rise of a New Generation. New York: Harcourt, Brace & Jovanovich, 1971. Kcssen, W. The Child. New York: Wiley, 1985. Kermis, M.D. The Psychology of Human Aging. Boston:

Allyn and Bacon, 1984. Khan, N.M. & Zindani, A.M. The Embryo and the Body of the Mother in the Light of Quran and Hadith. Cairo: First Conference on Islamic Medicine,1985. Kidd, J.R. How Adults Learn. New York: Association Press. 1973. Kidd, J.R. & Titmus, CJ. Adult Education: An Overview. In: T. Hussein & NT. Post ethwaite "Eds." International Encyclopedia of Education , vol. I, pp. 93-104,1985. Kimmel, D.C. Adulthood and Aging. New York: Wiley "2nd Ed.", 1980. Kobasa, S.C. Stressful Life Events, Personality and Health: An Inquiry into Hardiness. J. of Pcrs. & Soc. Psychol., 1979.37,1-11. Kohlberg, L. Moral Stages and Moralization. The Cognitive Developmental Approach. In: Linkona, T. "Ed." Moral Develpmcnt and Behavior. New York: Holt, Rinehart & winston, 1976. Kohlberg, L. Continuities in Childhood and Adult Moral Development Revisited. In: Baltes, B. & Schaie, K.W. "Eds.", 1973 Kramer, D.A. Post-formal Operation ? A Need for Further Con-ceptualiztion. Human Develop., 1983, 26, 91-105. Kreppner, K. "Ed." Family System and Life-span Development. New York: Lawrence Erlbaum, 1989. Labouvie-Vief, G. Dynamic Development and Mature Autonomy: A Theoretical Prelogue. Human Develop., 1982,25,161-191. Lamb, M.E. "Ed." Nontraditional Families: Parenting and Child Development. Hillsdale: Lawrence Erlbaum & Assoc., 1982. Larue, A. Neuropsychological Testing. Psychiatric Annals. 1984,14,201-204.

Leboycr, F. Birth Without Violence. New York: Knopf, 1975. Lcflkowitz, M. Smoking During Pregnancy: Long-term Effect on Offspring. Develop. Psychol., 1981, 17, 192-194. Lehman, H.C. Age and Achievement. Princeton: Princeton Univ. Press, 1953. Lerner, R.M. Concepts and Theories of Human Developments. New York: Random House "2nd Ed.", 1986. Lerner, R.M. & Spanier, G. "Eds." Child Influence on Marital and Family Interaction: A Life-Span Perspective. New York: Academic Press, 1978. Leskow, S. & Smoke, CD. Developmental Changes in Problem Solving Strategies: Permutations. Develop. Psychol., 1970,2,412-422. Levin, G.R. Child Psychology. Monterey: Brooks & Cole, 1982 Lewis, R.A. A Longitudinal Test of a Developmental Frame. work for Premarital Dyadic Formation. J. of Mrriageand Family, 1973, 35,16-25. Lieberman, M.A. Psychological Correlates of Impending Death: Some Preliminary Observatons. J. of Gerontology, 1965. 20, 181-190. Liebcrt, R.M. Wicks-Neison, R. & Kail, R. Developmental Psychology. Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall, 1986. Lowe, J. The Education of Adults: A World Perspectives, Paris: Unesco, "2 nd Ed.", 1982. Lowrey, G.H. Growth and Development of Children. Chicago: Yearbook, 1978. Lugo, J. O. Adult Development. In R. J. Corsini "Ed." Encyclopedia of Psychology. New york: John wiley, 1994. Mallrnann, C.A. & Nudicr, O. "Eds." Human Development in its Social Context London: Hodder & Stangten,

1986. Marcia, J.E. Identity in Ldolescence. In: Adelson, J. "Ed." Handbook of Adelescent Psychology. New York: Wiley, 1980. Maret, E. & Finlay, B. The Distribution of Household Laber Among Women in Dual-earner Families. J. of Marriage & Family, 1984,46,357-364. Marshall, W.A. & et al. The Seven Ages of Man. New Society, No. 110-116, 1964. McCluskey, W.A. & Reese, H.W. "Eds." Life-span Developmental Psychology: Historical and Generatia-nal Effects. Orlando: Academic Press, 1984. McConnell, S.R. Retirement and Employment. In: Woodruff, D.S. & Birrcn, E. "Eds." Aging: Scientific Perspectives and Social Issues. Monterey: Brooks & Cole "2nd Ed.", 1983. Mc Gaugli, J.L. Kiesler, S.B. "Eds." Aging: Biology and Behavior. New York: Academic Press, 1981. McKusick, V.A. Mendelian Inheritance in Man. Ballimore: John Hopkins Univ. Press, 1975. Mead, M. Blackberry Winter. New York: Morrow, 1972. Mednick, M., Tangri, S. & Hoffman, L. "Eds." Women and Achievement: Social Motivational Analysis. New York, Hemiphere-Halslead, 1975. Mensh, S. N. Gerontology. In: R. J. Corsini "Ed.". Encyclopedia of Psychology. New York. John Wiley, 1994. Mergler, N.L. & Goldstein, M.D. Why are There Old People ? Senescence as Biololgical and Cultural Preparedness for Transmission of Informtion. Human Develop., 1983,23,72-90. Miles, W.R. Age and Human Ability. Psychol. Rev., 1933, 40, 91-123. Modgil, S. & Modgil, C. "Eds." Jean Piaget: Consensus and

Mussen, P.H. "Ed." Handbook of Research Methods in Child Development. New York: Wiley, 1960. Mussen, P.H. "Ed." Carmichael's Manual of Child Psychology. New York: John Wiley, "3rd Ed." 1970. Mussen, P.H. "Ed." Handbook of Child Psychology, New York: Wiley, "4th ed." 1983. Mussen, P.H. , Conger, J.J., Kogan, J. & Huston, A.C. Child Development and Personality. Cambridge: Harper & Row. "4th Ed." 1984. Muuss, R.E. Theories of Adolescence. New York: Random, 1982. National Institute of Adult Education "NIAE". Adult Education: Adequacv of Provision, London: NIAE, 1970. Ncsserlroade, J.R. & Reese, H.W. "Eds." Life-span Developmental Psychology. New York: Academic Press, 1973. Neugarten, B.L. Personality in Middle and Late Life. New York: Atherton Press, 1964. Neugarten, B.L. The Psychology of Aging. Washington, D.C., APA. 1965. Neugarten, B.L. "Ed." Middle Age and Aging. Chicago: Univ. of Chicago Press, 1968. Neugarten, B.L. , Havighurst, R.J. & Tobin, S.S. Personality and Pattern of Aging. In: Neugarten, B.L. "Ed.", 1968. Neugarten, B.L. , Moore, J.W. & Lowe, J.C. Age Norms, Age Constraints and Adult Socialization. Am. J. Sociology, 1965,70,710-717. Neugarten, B.L. & Weirstcin, K.K. The Changing American Grandperent. J. of Marriage & Family, 1964, 26,199-205.

Neugarten, B.L. , Havighurst, R.J. & Tobin, S.S. Personality and Pattern of Aging. In: Neugarten, B.L, "Ed.", 1968. Neugarten, B.L. , Moore, J.W. & Lowe, J.C. Age Norms, Age Constraints and Adult Socialization. Am. J. Sociology, 1965,70,710-717. Neugarten, B.L. & Weirslein, K.K. The Changing American Grandperent. J. of Marriage & Family, 1964, 26,199-205. Nisbet, J.D. Intelligence and Age: Retesting with Twenty-four Years Interval. Brit. J. Educ. Psychol., 1957,27, 190-198. Organization For Economic Co-operation and Development "OECD". Learning Opportunities For Adults, vol. 3, Paris: OECD, 1979. OECD & CER1 Centre For Educational Research and Innovation". Recurrent Education: A Strategy For Lifelong Learning Paris. OECD, 1973. Osofsky, J.D. "Ed." Handbook of Infant Development. New York: John Wiley, 1987. Papalia, D.E. The Status of Several Conservation Abilities Across the Life-span. Human Develop., 1972, 15,229-243. Papalia, D.E. & Bielby, D. Cognitive Functioning in Middle and Old-Age Adults: A Review of Research based on Piagct's Theory. Human Develop., 1974, 17,424-443. Parlmutter, M. & Hall, E. Adult Development and Aging. New York: John Wiley, 1985. Pcrsaud, T. V. N. & Zindani, A. M. After the Forty-second Day of Intrauterine Life. Cairo: 1st Conference of Islamic Medicine, 1985.

Persaud, I. V. Growth and Differenlation. Cairo: 1st Conference on Islamic Medicine, 1985. Philips, J. Piagct's Theory: A Primer. San Francisco: Freeman, 1981. Piaget, J. Intellectual Evolution From Adolescence to Adulthood. Human Develop., 1972, 15, 1-12. Piaget, J. The Child's Conception of the World. Totowa, N.J: Littlcfield & Adams, 1967. Piaget, J. & Inhelder, B. The Psychology of the Child. New York: Basic Books, 1969. Piaget, J. & Inhelder, B.The Development of Thought: Equilibrium of Cognitive Structures. New York: Viking, 1975. Piotrowski, C. Adolescent Development. In: R. 3. Corsini "Ed.": Encyclopedia of Psychology. New York. John Witcy, 1994. Polmn, R. Development, Genetics and Psychology. Hillsdale: Lawrence Erlbaum Assoc, 1986. Poon, L. "Ed." Aging in the 1980: Psychological Issues. Washington, D. C.: APA, 1980. Prcssey, S.L. & Kuhlcr, R.G. Psychological Development through the Life. New York: Harper & Row. 1957. Quinn, J. F. The Early Retirement Decision: Evidence from the 1969 Retirement History Study, 1978. In Perlmutter and Hall, 1985. Reyncr, E. Human Development. London: Allen & Unwin, 1986. Reedy, M.N., Birren, J. E. & Schaic, K.W. Age and Sex diffe-reces in Slatisfying Love Relationship across Adult Life-Span. Human Develop., 1981, 24, 52-66.

Reiss, I.L. Family Systems in America. New York: Holt, Rine-hart & Winston, "3rd Ed.", 1980. Richard, S., Livson, F. & Peterson, P.G. Aging and Personality. New York: John Wiley, 1962. Riegel, K.F. Dialectic Operations: The Final Period of Cognitive Development. Human Develop., 1973, 16, 346-370. Riegcl, K.F. History of Psychological Gerontology. In: Birren, J. E. & Schaie, K. W. "Eds.", 1977. Riegel, K.F. & Riegel, R. Development, Drop and Death. Develop. Psych., 1972, 6, 306-319. Riley, M.W. Hess, B.B. & Bond, K. "Eds." Aging in Society: Selected Reviews of Recent Research. Hillsdale: Lawrence Erlbaum Assoc, 1983. Riley, M.W., Riley, J.W. & Johnson, M.F. Aging and Society: An Inventory of Research Findings. New York: Russell Sage, 1968. Robertson, J.F. Grandparcnhood: A Case Study of Role Conceptions. J. of Marriage & Family, 1977, 34, 165-174. Rockstein, M. & Sussman, M. Biology of Aging. Belmont. Wadsworth, 1979. Rogers, J. Adult Learning. Penguin Books, 1971 "3rd ed.", 1989. Russell, C.S. Transitions to Parenthood: Problems and Gratifications. J. of Marriage & Family, 1974,32,294-301. Salkind, N.J. & Ambron, S.R. Child Development, New York: Holt, Rinehart & Winston, 1987. Santrock, J. W. Adolescence. In: R. J. Corsini "Ed." Encyclopedia of Psychology. New York: John Wiley, 1994. Santrock, J. W. & Yussen, S.R. Child Development. Dubuque: W. M. C. Brow, "3rd Ed.", 1987.

Scarr, S. Weinberg, R.A. & Levinc, A. Understanding Development. San Diego: Harcourt Brace Javanovich, 1986. Schiamberg, L.B. & Smith, K.U. Human Development. London: Collier MacMillan, 1982. Schaie, K.W. "Ed." Theory and Methods of Research in Aging. Margontown: Wast Virginia Univ. Press, 1968. Schaie, K.W. Transitions in Gerontology from Lab to Life: Intellectual Functioning. Amer. Psychologist, 1974, 29, 802-807. Schaie, K.W. Age Changes in Intelligence. In: Woodruff, D. S. and Birren, J.E. "Eds.", 1975. Schaie, K.W. Adult Intellectual Development. In: R. J. Corsini "Ed.": Encyclopedia of Psychology. New York: John Wiley, 1994. Schaie, K.W. & Hcit/.og, C. Fourteen-year Cohort Sequential Analysis of Adult Intellectual Development. Develop. Psychol., 1983,19, 513-543. Schaie, K.W. & Willis, S.L. Adult Development and Aging. Boston: Little & Brown, 1986.' Schulz, D.A. The Clinging Family: Its Function and Future. Englewood Cliffs, N J.: Prentice-Hall, 1972. Schultz, N.R., Kaye, D.B. & Hoyer, W.J. Intelligence and Spon. tancous Flexibility in Adulthood and Old Age. Intelligence, 1980,4,219-231. Shaffer, D.R. Developmental Psychology. Monterey: Brooks and Cole, 1985. Shanas, E. & Streib, G. "Eds." Social Structure and the Family: Generational Relations. Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall, 1965. Shanas, E. .Townsend, P., Weddenburn, D., Fris, H., Hilhoj, P. & Stehouwer, I. Older People in Three Industrial Societies. New York: Atherton, 1968.

Simpson, J.L. & Zindani, A. M. The First Forty Days of Em-brygenesis. Cairo: 1st Conference on Islamic Medicine, J985. Smith, A.C. Child Development. St. Paul: West Publishing, 1986. Sontag, L. W. Differences in Modifiability of Fetal Behavior and Psychology. Psychsomatic Medicine, 1944, 6.1-154. Sorensen, A. B. Weinert, F. E. & Sherrod, L. R. "Eds." Human Development and the Life Course. Hilsdale Lawrence Erlbaum, Assoc, 1986. Spacapan, S. "Ed." The Social Psychology of aging. New York: Sage, 1988. Sternberg, R. J. "Ed." Wisdom: Its Nature and Development. Cambridge: The University Press, 1990. Stevenson, H. W. "Ed." Child Psychology, 62th Yearbook, NSSE, Part I. Chicago: Univ. of Chicago Press, 1963. Stinnett, N., Carter, L.M. & Montgomery, J.E. Older Persons' Perceptions of their Marriage. J. of Marriage & Family, 1972,34,665-670. Stroebe, M.S. & Stroebe, W. Who Suffers More ? Sex Differences in Health Risks of the Widowed. Psychol. Bull. 1983,93,279-301. Strong, R. The Adolescent Views Himself. New York: McGraw-Hill, 1957. Sugarman, L. Life-Span Development. London: Methucn, 1986. Sussman, M. B. Intergenerational Family Relationships and Social Role Changes in Mddle Age. J. Gerontology, 1960,15,71-75. Sussman, M. Relationships of Adult Children with their Parents in the United States. In Shanas, E. & Streib, G. "Eds.", 1965.

Swenson, W. M., Pearson, J. S. & Osborn, D. An MMPI Source Books. Minneapolis: Univ. of Minnesota Press, 1973. Tahir, M. & Zindani, A.M. Modern Cocepts of Early Em-broy.genesis in the Light of Quran and Hadith. Cairo: 1st Conference on Islamic Medicine, 1985. Thomas, A. M. New Reflections on a Learning Society Ontario: Tronto, Institute for Studies in Education, 1981. Thomas, R. M. Comparing Theories of Child Development. Belmont: Wadsworth, 1979. Thorndikc, E. L. Adult Learning. New York: Macmillan, 1928. Timiras, P.S. Developmental Physiology and Aging. New York: MacMillan, 1972. Tomlinson-Kcasey, C. Formal Operations in Females from Eleven to Fifty-four Years of Age. Develop. Psychol., 1972,6,304. Toner, J. M. & Inhelder, B. "Ed." Discussions on Child Development. London: Tavistock Publications, 1969. Troll, L. E. The Family of Later Life: A Decade Reviewed. J. of Marriage & Family, 1971,33,263-290. Troll, L. E. Grandparenting. In: Poom, L. "Ed.", 1980. Troll, L. E. Continnous: Adult Development and Aging. Mon-terty: Brooks & Cole, 1982. Troll, L. E. Grandparents: The Family Watchdog: In: Brubak-er,T."Ed.", 1983. Troll, L. E. & Turner, B. Sex Differences in Problems of Aging. In: Gomberg, E. & Franks, V. "Ed.", 1980. Tryon, C. & Lilienthal, Jr. "Eds." Fostering Mental Health in our Schools. Washington, D.C.: National Educational Assoc., 1950. Tuckman, J. & Lorge, I. Attitudes toward old People. J. Soc. Psychol., 1953, 37,249-260.

Turner, J. S. "&. Helms, D.B. Life-Span Dcveloment. New York: Holl, Rinehart & Winston, 1983. United Nations "UN": Vienna International Plan of Action on Aging. World Assembly on Aging, Vienna, Austria, 26 July - 6 August, 1982. Vaughan, V.C. Child and Adolescent Development: Clinical Implication. New York: Saunders, 1990. Vincent, C.E. Socialization Data in Research on Young Marriages Acta Sociologica, August, 8, 1964 Walford, R.L. Maximum Life-Span. New York: Norton, 1983. Walker, C.E. & Roberts, M.C. "Eds." Handbook of Clinical Child Psychology. New York: Wiley, 1983. Wallenrstein, J. S. & Kelly, J. B. Surviving the Breakup: How Children and Parents Cope with Divorce. New York: Basic Books, 1980. Welford, A.T. Aging and Human Skills. London: Oxford Univ. Press, 1958. Werner, H. Comparative Psychology of Mental Devvlopment. New York: International Universities Press, "3rd Ed.", 1957. Whitbourne, S.K.. Adult Devclpoment. New York: Pracgcr, "2nd Ed.", 1986. White, R. Lives in Progrss. New York: Holt, Rinehart & Winston, "3rd Ed.", 1975. Wholey, L. F. & Wong, D. L. Essentials of Pediatric Nursing. St. Louis: Mosby, 1982. Willerman. The Psychology of Individual and Group Differences. San Francisco: Freeman, 1979. Wolman, B. "Ed." Handbook of Developmental Psychology. Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall, 1982. Woodruff, D. S. & Birrcn, J.E. "Eds." Aging: Scientific Perspectives and Social Issues. New York: Van Nostrand, 1975.

Wright, H. F. Observational Methods in Child Study. In: Mus-sen, P. H. "Ed.", I960. Wurtman, R.J. Alzheimer.htm's Disease. Scientific American, January 1985. Yankclovich, D. New Roles: Searching for Self-fulfillment in a World Turned Upside Down. New York: Random House. 1981. Zung, W. W. K. Affective Disorders. In: Busse, E.W. & Blas-er, D. "Eds." Handbook of Geraiatric Psychiatry. New York: Van Nostrand Rinehold, 1980.

محتويات الكتاب

محتويات الكتاب: تقديم الطبعة الرابعة "هـ-ح". الباب الأول: الأسس العامة "1-136". الفصل الأول: "3-18". طبيعة النمو الإنساني: موضوع علم نفس النمو "4" - أهداف البحث في علم نفس النمو "7" - وصف التغيرات السلوكية "7" - تفسير التغيرات السلوكية "8" - التدخل في التغيرات السلوكية "10" - خصائص النمو الإنساني "11" - النمو عملية تغير "11" - النمو عملية منظمة "12" - النمو عملية كلية "13" - النمو عملية فردية "14" - النمو عملية فارقة"15" - النمو عملية مستمرة "16". الفصل الثاني: "19-34". أصول علم نفس النمو في ثقافة الغرب. المنظور اليوناني للنمو الإنساني "19" - مثالية أفلاطون "20" - واقعية أرسطو "21" - طفل إسبرطة "22" - النمو الإنساني في العصور الوسطى في أوربا "23"- إحياء النزعة الإنسانية "24" - النمو الإنساني في عصر التنوير في أوربا "25" - المقدمات العلمية لدراسة النمو الإنساني "29" - ظهور علم نفس النمو الحديث "32".

الفصل الثالث:................"35-67". نحو وجهة إسلامية لعلم نفس النمو. النمو الإنساني في القرآن الكريم "36" - آيات الله في نمو الإنسان قبل الولادة "40" - آيات الله في نمو الإنسان بعد الولادة "44" - النمو الإنساني في السنة النبوية الشريفة "50" - النمو الإنساني عند الصحابة "55" - النمو الإنساني في الفقه الإسلامي "56" - النمو في تراث علماء المسمين وفلاسفتهم "62" - مراحل النمو من منظور إسلامي "64". الفصل الرابع:..................."69-102". مناهج البحث في النمو الإنساني: مقدمة في طبيعة المنهج العلمي في البحث "69" - المنهج العلمي في البحث والتصور الإسلامي للمعرفة "70" - الملاحظة الطبيعية "73" - المنهج التجريبي "81" - المنهج شبه التجريبي "84" - المنهج الارتباطي "86" - المنهج المقارن "88" - الطريقة المستعرضة "89" - الطريقة الطولية "92" - طريقة التحليل التتابعي "95" - اختيار منهج البحث الملائم "101". الفصل الخامس:......................."103-136". النماذج النظرية للنمو الإنساني: المنظور اليوناني للنمو الإنساني "19" - مثالية أفلاطون "20" - معايير النمو "103" - مهام النمو "110" - الاتجاه نحو النماذج النظرية "113" - نموذج بياجيه في النمو المعرفي "115" - نموذج إريكسون في النمو الوجداني "121" - نموذج كولبرج في

النمو الخلقي الاجتماعي "127" - تعليق عام على النماذج النظرية "134". الباب الثاني: المرحلة الأولى لنمو الإنسان "1". أطوار الجنين..........."137-186". أهمية طور الجنين "تمهيد للباب الثاني" ... "139-140". الفصل السادس:.............."141-156". تكوين النطفة: التكوين الأساسي للخلية "141" - النطفة "144" - النطفة الأمشاج "146" - ميكانيزمات الوراثة "147" - كيف تنتقل الخصائص الوراثية "149" - صبغيات "كروموزومات" الجنس "152" - وراثة الخصائص المرتبطة الجنس "153" - الخلل العام في الصبغيات "155". الفصل السابع..... "157-172". أطوار نمو الجنين: طور النطفة الأمشاج "157" - طور العلقة "159" - طور المضغة "161" - طور تكوين العظام والعضلات "اللحم" "165" - طور التسوية "166" - تعلم الأجنة "169" - خلاصة المرحلة المعجزة "171". الفصل الثامن........................."173-186". رعاية الجنين والأم الحامل: العوامل المؤثرة في النمو خلال طور ما قبل الولادة "173" - خصائص الأم "173" - التغذية "175" - الأمراض "176" -

العقاقير والمخدرات "178" - التدخين "179" - مخاطر البيئة "181" - آثار الوراثة "181" - الإرشاد الوراثي "182" - رعاية الأم الحامل "183". الباب الثالث: المرحلة الأولى لنمو الإنسان "2" "187-279". أطوارالطفولة "189-190". تمهيد للباب الثالث: أهمية طور الطفولة الفصل التاسع: "191-204" طور الوليد: ولادة الطفل "191" - خبرة الوليد لدى الوليد "193" - الاتجاهات الوالدية إزاء الولادة "194" - اتجاهات الإخوة إزاء الوليد "195" - الاتجاهات نحو جنس الطفل "196" - الاتجاهات نحو التوائم "196" - خصائص نمو الوليد "198" - أحكام الشريعة الإسلامية بالنسبة لطور الوليد "204". الفصل العاشر:........................"205-225". طور الرضيع: النمو الحسي والحركي "206" - النمو الحسي والإدراكي "207" - نمو الكلام "208" - النمو العقلي المعرفي "210" - النمور الانفعالي "212" - النمو الاجتماعي "213" - بداية الاهتمام باللعب "214" - نمو الشخصية "215" - أزمة الثقة في مقابل عدم الثقة "216" - دور العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة في مرحلة الرضاعة "217" - بعض مشكلات طور الرضاعة "221".

الفصل الحادي عشر: "227-248". طور الحضانة: النمو الجسمي والفسيولوجي "227" - النمو الحسي والإدراكي "229" - النمو الحركي "229" - صحة طفل ما قبل المدرسة "231" - النمو اللغوي "233" - النمو العقلي المعرفي "236" - النمو الانفعالي والوجداني "240" - النمو الاجتماعي "241" - اللعب في مرحلة الطفولة المبكرة "242" - النمو الخلقي "243" - نمو الشخصية "244" - الخبرات التعلمية في طور الحضانة "246". الفصل الثاني عشر............."249-279". طور التمييز: النمو الجسمي والفسيولوجي "249" - النمو الحركي "251" - أمراض طفل المدرسة "253" - النمو اللغوي "255" - النمو العقلي والمعرفي "258" - النمو الاجتماعي "264" - اللعب "274" - نمو الشخصية "275" - دور المدرسة في طور التمييز "278".

الباب الرابع: المرحلة الأولى لنمو الإنسان "271-347". أطور المراهقة والشباب "283-286". تمهيد للباب الرابع: أهمية أطور المراهقة والشباب. الفصل الثالث عشر:.................."287-323": طور بلوغ الحلم "المراهقة": البلوغ الجنسي "287" - النمو الجسمي "290" - النمو العقلي والمعرفي "297" - النمو الانفعالي "207" - النمو الاجتماعي "309" - ميول المراهقين "313" - النمو الخلقي والاهتمامات الدينية "316" - أزمة الهوية "321" - مدرسة المراهقين "323". الفصل الرابع عشر:.................."325-347". طور بلوغ السعي "الشباب": طبيعة طور بلوغ السعي "الشباب" "325" - حدود طور بلوغ السعي "327" - التغيرات الجسمية في طور السعي "331" - النمو العقلي المعرفي "334" - السلوك الانفعالي والوجداني ومشكلات الشباب "337" - السلوك الاجتماعي في طور السعي "340" - النمو الخلقي والاتجاهات الدينية في طور السعي "343" - نموّ الشخصية في طور السعي ومسألة الهوية "344". خاتمة المرحلة الأولى من حياة الإنسان "347".

الباب الخامس: المرحلة الثانية من حياة الإنسان "قوة الرشد" "349-499". الفصل الخامس عشر:.................."351-360". حدود الرشد وأهمية مرحلة القوة في حياة الإنسان: محكات الرشد "352" - المحك الجنسي "352" - محك العمر "353" - المحك الاجتماعي "355" - المحك السيكولوجي "356" - الحدود العملية للرشد "357" - نشأة ونمو الاهتمام بسيكولوجية الراشدين "358". الفصل السادس عشر: "361-418". أطوار بلوغ الرشد "طور الرشد المبكر": الخصائص العامة "361" - النمو الجسمي "363" - النمو العقلي المعرفي "365" - النمو الخلقي "374" - نمو الشخصية والتوافق ومسألة الهوية "377" - الزواج والحياة الأسرية "382" - مفهوم الأسرة "384" - الزواج "390" - التوافق الزواجي "393" - الوالدية "398" - الطلاق "402" - النمو المهني "406" - عمالة الصغار وبطالة الكبار "413". الفصل السابع عشر:..................."419-468". طور بلوغ الأشد: الخصائص العامة "420" - النمو الجسمي "422" - الصحة والمرض "425" - النمو الجسمي "430" - النمو العقلي المعرفي "432" - إبداع الراشدين "442" - نمو الشخصية

"445" - الميول المهنية واللامهنية "448" - التوافق "449" - نمو الحياة الأسرية "452" - التوافق الزواجي "463" - النمو المهني "466". الفصل الثامن عشر:..................."469-499" التعلم مدى الحياة - تعلم الراشدين. تعلم الراشدين والمفاهيم المرتبطة "469" - دوافع التعلم عند الراشدين "474" - تصنيف دوافع التعلم عند الراشدين "477" - مثبطات التعلُّم عند الراشدين "480" - مشكلات المتعلمين الراشدين "483" - شروط التعلم عند الراشدين "489". الباب السادس:.............."501-678" المرحلة الثالثة من حياة الإنسان: ضعف المسنين: الفصل التاسع عشر:......................"503-527". حدود المرحلة الثالثة من حياة الإنسان: الشيخوخة في اللغة الثقافة "503" - حدود الشيخوخة "506" - المحك العمري "506" - المدى الأقصى للحياة "507" - متوسط مدى الحياة "508" - نحو محكات أخرى للشيخوخة "510" - تاريخ البحث في ميدان المسنين "516" - نظريات الشيخوخة والتقدم في السن "518" - النظريات البيولوجية "519" - النظريات النفسية والاجتماعية "525".

الفصل العشرون:....................."529-618" طور الشيخوخة: التغيرات الجسمية "529" - التغيرات الفسيولوجية "534" - الصحة والمرض "539" - التغير في الوظائف الحسية "544" - التغير في النشاط الحركي "546" - التغير العقلي المعرفي "558" - حكمة الشيوخ "574" - التقاعد "581" - الحياة الأسرية "594" - التوافق والشخصية "599" - عوامل التوافق في الشخصية وأنماطه "603" - ميول المسنين "610" - التغيرات في السلوك الاجتماعي "612". الفصل الحادي والعشرون "619-655". طور أرذل العمر: محكات بلوغ أرذل العمر "620" - المحك الإسلامي "620" - المحك المرضي "622" - محك سوء التوافق "625" - التغيرات الجوهرية في طور أرذل العمر "626" - تصنيف الاضطرابات العضوية "641" - خبل الشيخوخة "643" - خرف الشيخوخة "645" - مرض الزهيمر "647" - خرف الاحتشاء المتعدد "650" - مرض باركنسون "651" - مرض بك "652" - مرض جاكوب- كرتزفلت "652" - مرض كوريا "653" - كيف يتحول المسنون إلى طور أرذل العمر "653".

الفصل الثاني والعشرون: "657-676". رعاية المسنين: تعليم المسنين "658" - التدخل العلاجي "663" - أساليب التدخل العلاجي "668" - بيوت المسنين "671" - الرعاية الشاملة للمسنين "675". خاتمة الكتاب........................"677-678". مراجع الكتاب......................."680-710".

§1/1