نفح العبير

عبد الله بن مانع الروقي

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فإن الله - عز وجل - جعل العلماء في الأرض كالنجوم في السماء يهتدي بها الناس في ظلمات البر والبحر. ولئن كان العلماء أنوار الدجى ومصابيح الظلام؛ فإن شيخنا العلامة المحدث الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - وأمتع به على طاعته، هو من أضوئهم نورًا، بل هو مصباح للعلماء فضلًا عن غيرهم- نحسبه كذلك- ولقد نفع الله بدروسه وتوجيهاته ومؤلفاته في عقود مضت من السنين وحتى الآن. وإن دروس شيخنا لعظيمة النفع، وإنها ليانعة الثمار، تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها، فشيخنا - رحمه الله - يدرس الكتب الستة ومسند أحمد، وموطأ مالك، وسنن الدارمي، وصحيح ابن حبان، وتفسير ابن كثير، وزاد المعاد، وكتاب التوحيد، وفتاوى شيخ الإسلام، والأصول الثلاثة، وإغاثة اللهفان، والدرر السنية، والعقيدة الواسطية، والفرائض، ومنتقى الأخبار، وأصول الأحكام، والنخبة. وقد قرئ على شيخنا كذلك الاستقامة لأبي العباس - رحمه الله -، وقرئ عليه كذلك جلاء الأفهام، وبلوغ المرام، ومقدمة فتح الباري، والعقيدة الطحاوية، والعقيدة الحموية، والسنن الكبرى للنسائي ولم تكمّل، وكذلك قرئ عليه شيء من منار السبيل، ومن إرواء الغليل

ولم يكمَّلا، وقرئ عليه شيء من أول الصارم المسلول على شاتم الرسول، وغير ذلك. وسماحة الشيخ عبد العزيز - رحمه الله - كان حريصًا على إيصال المعلومة الصحيحة إلى الطالب، فإذا شك في مسألة أو حديث، أمر بتحقيق الأمر والنظر في هذه المسألة وفي ذلك الحديث، حتى يتَّضح الأمر وتنجلي الحقيقة. وربما كلَّف شيخنا الفاضل كاتب هذه الأسطر لتحقيق حديث، أو تتبع مسألة، فاجتمع من ذلك ما تراه بين يديك، ثم تقرأ على شيخنا هذه البحوث فيعلِّق عليها بما يراه، وقد يضيق الوقت عن قراءتها في الدرس، فأعطي شيخنا صورة من البحث ويُقرأ عليه في المنزل، فإن تيسَّر لي والحالة هذه معرفة تعليقه على البحث كتبته. وقد استأذنت شيخنا - رحمه الله - في نشرها لتعميم نفعها فأذن واستأذنته في ذكر تعليقه عليها -إن وجد- فأذن - رحمه الله - بطيب نفس، وسيكون ضمن هذه السلسلة ... -إن شاء الله- فوائد من تعليقات شيخنا ودروسه يسَّر الله جمعها ونشرها بمنه وكرمه .. هذا وأسال الله - عز وجل - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينفع بهذه الدروس، وبغيرها من دروس المشايخ الفضلاء، وأن تكون طريقًا للعودة إلى مجد الأمة وعزتها وقوتها إنه خير مسئول، ولا يفوتني أن أعتذر للإخوة الكرام عما يكون من قصور في هذه البحوث، فإنه ربما طلب البحث في وقت محدد، فأجمع ما أستطيع جمعه مع تسويده وتبييضه، فربما زلَّ القلم، وفات بعض الشيء. وختامًا أسأل الله أن ينفع بهذه البحوث كاتبها، وقارئها، وسامعها، وصلى الله على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه وسلَّم.

إدراكه - صلى الله عليه وسلم - مع النبوة فضيلة الشهادة

إدراكه - صلى الله عليه وسلم - مع النبوة فضيلة الشهادة حديث: «ما أزال أجدُ ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدتُ انقطاع أبْهرَي من ذلك السم». أخرجه البخاري معلقًا في باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، قال: وقال يونس عن الزهري، قال عروة: قالت عائشة - رضي الله عنها -: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه الذي مات فيه: «يا عائشة» فذكره. فتح (8/ 131) (¬1). ورواه عبد الرزاق (11/ 29) برقم [19815] عن معمر عن الزهري عن ابن كعب ابن مالك أن أم مُبشر قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، في المرض الذي مات فيه: ما تتهم بنفسك يا رسول الله! فإني لا أتهم بابني إلا الشاة المشوية التي أكل معك بخيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وأنا لا أتهم إلا ذلك بنفسي، فهذا أوان قطع أبهَري» يعني عرق الوريد. ورواه أحمد (6/ 18) في «مسنده»، حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا روح، حدثنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أمه أن أم مبشر ... بنحو رواية عبد الرزاق. ورواه الدارمي في «سننه» (1/ 34) برقم [68] قال: أخبرنا جعفر بن عون، أخبرنا محمد بن عمرو الليثي عن أبي سلمة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل الهدية ولا يقبل الصدقة، فأهدت له امرأة من يهود خيبر شاة مصلية (وذكر القصة) وبآخره فقال في مرضه: «ما زلت من الأكلة التي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري» وهذا مرسل. ¬

(¬1) انظر: «تغليق التعليق» للحافظ (4/ 162).

ورواه الحاكم من طريق أحمد سواء إلا أنه قال رباح بدل روح .. قال الحاكم: هذا صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي (3/ 219). وأخرجه أبو داود في كتاب الديات باب فيمن سقى رجلًا سمًّا أو أطعمه فمات أيقاد منه؟ (12/ 232 عون) من طريق وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمرو، فذكره مثل رواية الدارمي مرسلًا، ورواه متصلًا، قال: حدثنا مخلد بن خالد، قال: أخبرنا عبد الرزاق .. فذكره بمثل رواية أحمد لكنه قال عن ابن كعب بن مالك عن أبيه: قال المزي في الأطراف (8/ 317): حديث أم مبشر أخرجه أبو داود في الديات عن مخلد بن خالد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه به، وعن أحمد بن حنبل عن إبراهيم بن خالد، عن رباح، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن أم مبشر دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فذكر معنى حديث مخلد بن خالد، قال أبو سعيد الأعرابي: كذا قال: «عن أمه» والصواب «عن أبيه» عن أم مبشر. وأخرج البيهقي أصل القصة دون الشاهد المذكور، وقال السيوطي: في «الخصائص الكبرى» (2/ 270) باب: إعطائه - صلى الله عليه وسلم - مع النبوة فضيلة الشهادة. وذكر أثر عائشة، وقال: أخرج أحمد وابن سعد وأبو يعلى والطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود، أنه قال: «لأن أحلف تسعة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُتل قتلًا أحب إلى من أن أحلف واحدة وذلك بأن الله اتخذه نبيًّا وجعله شهيدًا».

وهذا الأثر صححه أحمد شاكر في حاشيته على «المسند» (5/ 220)، وانظر: مسند أبي يعلى (9/ 132) (¬1). ¬

(¬1) استحسن الشيخ هذا البحث وأخذ صورة منه.13/ 6/1412هـ.

من فضائل التوحيد

من فضائل التوحيد حديث: «جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: ما تركت حاجة ولا داجة إلا قد أتيت! قال: «أليس تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فإن ذلك يأتي على ذلك». رواه أبو يعلى في «مسنده» (6/ 155) وفي معجم شيوخه حديث رقم [266] قال: حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد، حدثنا أبي، حدثنا مستور بن عبَّاد الهنُائي، حدثنا ثابت عن أنس سدد خطاكم قال: فذكره. ورواه البزار (كشف 4/ 7) عن الضحاك به، وقال: لا نعلم روى مستور عن ثابت عن أنس إلا هذا. ورواه الطبراني في معجميه «الصغير» و «الأوسط» (مجمع البحرين 7/ 325) عن الضحاك به، وقال: لم يروه عن ثابت إلا مستور تفرَّد به أبو عاصم. وقال في «المجمع» (10/ 83): رواه أبو يعلى والبزار بنحوه، والطبراني في «الصغير» و «الأوسط» ورجالهم ثقات. قلت: وهذا إسناد صحيح: عمرو بن الضحاك بن مخلد البصري ولد أبي عاصم ثقة كان على قضاء الشام روى له ابن ماجه، والضحاك بن مخلد أبو عاصم النبيل ثقة ثبت، روى له الجماعة «ومستور»، هكذا في «التهذيب» والخلاصة، وفي «الجرح» و «تاريخ البخاري» «مستورد» بزيادة دال في آخره هو ابن عباد الهنُائي ثقة روى له النسائي. وثابت بن أسلم البُناني ثقة عابد روى له الجماعة. وقوله: «ما تركت من حاجة ولا داجة إلا أتيت» قال ابن الأثير

في «النهاية»: (2/ 101) هكذا جاء في رواية بالتشديد. قال الخطابي: الحاجّة: القاصدون البيت، والداجَّة: الراجعون، والمشهور بالتخفيف، وأراد بالحاجة الحاجة الصغيرة، وبالداجة الحاجة الكبيرة. اهـ. قلت: وفي «القاموس» وشرحه: «الداجة ما صغر من الحوائج، والحاجة ما كبُر منها» فعكسه والخطب يسير، والله أعلم.

ظهور ملك الموت عيانا لمن كان قبل موسى - صلى الله عليه وسلم -

ظهور ملك الموت عيانًا لمن كان قبل موسى - صلى الله عليه وسلم - حديث: «إن ملك الموت كان يأتي الناس عِيانًا فأتى موسى بن عمران فلطمه موسى ففقأ عينه، فعرج ملك الموت فقال: يا ربِّ إن عبدك موسى فعل بي كذا وكذا، ولولا كرامته عليك لشققت عليه، فقال الله: إيتِ عبدي موسى فخيِّره بين أن يضع يده على متن ثور فله بكل شعرة وارته كفُّه سنة، وبين أن يموت الآن، فأتاه فخَّيره فقال موسى: فما بعد ذلك؟ قال: الموت، قال: فالآن إذًا، فشمَّه شَمَّةً فقبض روحه وردَّ الله عليه بصره فكان بعد ذلك يأتي الناس في خفية». أخرجه أحمد في «مسنده» (¬1) (2/ 533): حدثنا أمية بن خالد ويونس قالا: ثنا حماد ابن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة سدد خطاكم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره. ورواه الطبري في «تاريخ الأمم والملوك» (1/ 434): حدثنا أبو كريب، حدثنا مصعب ابن المقدام عن حماد به. ورواه الحاكم في «المستدرك» (2/ 578) من طريق حماد به. قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. أمية بن خالد أخو هدبة بن خالد صدوق من رجال مسلم، وحماد مشهور ثقة عابد تغيَّر حفظه بأخره، وروى له مسلم والأربعة، وعمَّار بن أبي عمَّار صدوق ربما أخطأ، روى له مسلم والأربعة، وأبو كريب محمد بن العلاء ثقة حافظ من رجال الجماعة، ومصعب ابن المقدام صدوق له أوهام، روى له مسلم وغيره. وقوله: «عِيانًا» قال في «القاموس»: ولقيته عيانًا: أي معاينة لم يشك في رؤيته إياه، والله أعلم. ¬

(¬1) فائدة: الحديث في الصحيح دون أوله وهو محل البحث.

التبيان في صوم النصف الآخر من شعبان

التبيان في صوم النصف الآخر من شعبان حديث: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا». رواه عبد الرزاق في «مصنفه» (4/ 161) عن ابن عيينة، وأحمد في «مسنده» (2/ 442)، حدثنا وكيع، حدثنا أبو العميس عتبة، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (2/ 284)، حدثنا وكيع به والدارمي في «سننه» (1/ 350)، أخبرنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا عبد الرحمن الحنفي عن عبد الرحمن بن إبراهيم (ح). ورواه من طريق الحكم بن المبارك عن عبد العزيز بن محمد. ورواه أبو داود عون (6/ 460) بذل (11/ 133)، حدثنا قتيبة بن سعيد، أخبرنا عبد العزيز به. ورواه الترمذي في «جامعه» تحفة (3/ 437)، حدثنا قتيبة به. ورواه ابن ماجه في «سننه» (1/ 528)، حدثنا أحمد بن عبدة، ثنا عبد العزيز بن محمد، ح وحدثنا هشام بن عمار، ثنا مسلم بن خالد. وأخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 82)، حدثنا ابن مرزوق، ثنا حبان ويعقوب بن إسحاق قالا: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم. ورواه ابن حبان في «صحيحه» (8/ 355)، (8/ 358) من طريق الحسن بن حبيب، ثنا روح بن القاسم (ح) ومن طريق أبي عامر العقدي، ثنا زهير بن محمد. ورواه النسائي في «الكبرى» (2/ 172)، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أنبأنا محمد بن ربيعة عن أبي العميس به. ورواه ابن حزم في «المحلى» (7/ 26) من طريقين عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي وسفيان، كلهم جميعًا عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة سدد خطاكم أن النبي

- صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره. فصل في ألفاظ المخرجين لفظ النسائي وأبي داود والبيهقي: «إذا انتصف شعبان». فلفظ النسائي: «فكفوا عن الصون» ولفظ أبي داود والبيهقي: «فلا تصوموا». ولفظ أحمد وابن أبي شيبة: «إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصوم حتى يكون رمضان». ولفظ عبد الرزاق وابن حبان: «فافطروا» زاد ابن حبان «حتى يجيء رمضان». ولفظ الدارمي: «فامسكوا عن الصوم»، ولفظ ابن ماجه: «فلا صوم حتى يجيء رمضان». ولفظ الطحاوي: «لا صوم بعد النصف من شعبان حتى رمضان»، واللفظ الآخر لابن حبان: «حتى يجيء شهر رمضان». ولفظ الترمذي: «إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا». واللفظ الآخر للبيهقي: «إذا مضى النصف من شعبان فأمسكوا عن الصيام حتى يدخل رمضان». فصل في علل الحديث 1 - نكارته ومخالفته للأحاديث الصحيحة، قاله ابن رجب في «اللطائف» ص [260] ط. السواس. ونقله عن أحمد وغيره. وقد تكلم في العلاء غير واحد من الحفاظ والأئمة بسبب هذا الحديث. 2 - دعوى النسخ نقله ابن رجب عن الطحاوي، وانظر: «شرح المعاني» (2/ 87). 3 - دعوى ترك العمل به نقله ابن رجب عن الطحاوي. 4 - مخالفة راوي الحديث له، فأبو هريرة كان يصوم في النصف الثاني من شعبان، نقله العيني في «شرح البخاري» (9/ 153).

5 - دعوى تفرد العلاء به، وأنه لم يتابعه أحد نقل ذلك ابن القيم في «تهذيب السنن» (3/ 223). فصل فيمن ضعف الحديث من الأئمة 1 - الإمام أحمد نقله أبو داود عنه ذكره البيهقي في «سننه»، ونقله ابن رجب في اللطائف وابن حجر والعيني. 2 - عبد الرحمن بن مهدي نقله أبو داود في «سننه» عنه وابن رجب والعيني. 3 - ابن معين نقله الحافظ عنه في «الفتح» ونقله ابن حزم عنه. 4 - أبو زرعة الرازي نقله ابن رجب وانظر: «أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة النبوية» ص [388]. 5 - الأثرم نقله ابن رجب. 6 - النسائي. 7 - الخليلي. 8 - البيهقي في «سننه» فقد قال باب الرخصة في ذلك بما هو أصح من حديث العلاء (4/ 209). 9 - ظاهر كلام ابن رجب في لطائف المعارف. فصل في رد علل الطاعنين 1 - نكارته ومخالفته .. وردت بأجوبة: (أ) أن النهي لمن لم يكن له عادة فإن كان له عادة فليصم. (ب) أو من أنشأ الصوم بعد النصف، وإن صام قبل النصف فلا بأس حتى لو صام شعبان كله أو أكثره فلا يخالف أحاديث صيام شعبان (¬1). ¬

(¬1) خلاصة ما قاله ابن القيم في «تهذيب السنن»، وابن حجر، والعيني، والهيتمي كما في فتاويه (2/ 77).

(ج) أن النهي للكراهة وقوله: لا تقدموا شهر رمضان بصوم يوم أو يومين للتحريم فلا منافاة (¬1). (د) أن النهي لمن يفعل ذلك لحال رمضان (¬2). (هـ) أن ذلك لمن يضعفه الصوم (¬3). 2 - دعوى النسخ: وردَّها ابن حزم بقوله: ومن ادعى النسخ فقد كذب وقفا ما لا علم له به. قلت: والقاعدة: أن الجمع إذا أمكن مقدم على النسخ. 3 - دعوى ترك العمل به ويكفي في ردها تصحيح الأئمة له، وسيأتي ذكر أسمائهم -إن شاء الله- وإفتاؤهم بموجبه، انظر: «المجموع» مثلًا (6/ 452). 4 - دعوى أن أبا هريرة لم يكن يعمل به .. وتلك لعمر الله شكاة زائل عنك عارُها .. فيكفي أن يصح عن سيد المرسلين وهذا المسلك مسلك ضعيف يقوم على أساس إذا خالف الراوي ما روى فيؤخذ بما رأى لا بما روى؛ لأنه أدرى بمرويه والجمهور على خلافها، وأن الحجة في روايته المعصومة ويلتمس له العذر. وانظر: «المحلى» (7/ 26). 5 - دعوى تفرد العلاء به .. وردَّت بأن هذا لا يقدح في صحته وهو حديث على شرط مسلم، فإن مسلمًا قد أخرج عدة أحاديث عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، وتفرده به تفرد ثقة بحديث مستقل وله عدة نظائر في الصحيح. والتفرد الذي يُعلل به هو تفرد الرجل ¬

(¬1) نقله الصنعاني في «السبل»، وقبله الحافظ عن الروياني. (¬2) قاله الترمذي في «جامعه»، وحكاه ابن رجب. (¬3) انظر: «المجموع» (6/ 454) ونقله ابن رجب.

عن الناس بوصل ما أرسلوه أو رفع ما وقفوه، أ. هـ. من «تهذيب السنن». 6 - وأوردت أيضًا علة عليلة بأن العلاء لم يسمعه من أبيه، قال ابن القيم: وأما كون العلاء لم يسمعه من أبيه فهذا لم نعلم أحدًا علل الحديث به، فإن العلاء قد ثبت سماعه من أبيه، وفي صحيح مسلم عن العلاء عن أبيه بالعنعنة غير حديث، وقد قال عباد ابن كثير لقيت العلاء بن عبد الرحمن وهو يطوف، فقلت له: برب هذا البيت حدثك أبوك عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: فذكره؟ فقال: وربِّ هذا البيت سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره. 7 - وقد أثار بعضهم علة دقيقة في متنه نقلها الزيلعي «نصب» (2/ 441) عن ابن القطان خلاصتها: أنه وقع في بعض ألفاظ الحديث فأمسكوا، وفي بعضها فكفوا، وهذان اللفظان نهي عن التمادي في الصوم .. اهـ كلام ابن القطان بمعناه، ووجه كون هذه علة أنه إذا كان نهي عن التمادي استحكمت مخالفته للأحاديث الصحيحة وتعيَّن إطراحه، وتردّ بأن لفظة كفوا وأمسكوا تأتي لمنع التمادي ولمنع الابتداء، فمن الأول قول الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها، ومن الثاني ما جاء في حديث أبي ذر عن مسلم مرفوعًا ... وتكف شرك عن الناس فإنه صدقة منك على نفسك، وحديث أبي سعيد الخدري في بعض ألفاظه في بيان حقوق الطريق ... غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام. فصل في ذكر أسماء المصحِّحين للحديث 1 - أبو داود حيث سكت عنه وأجاب عن تعليل أحمد له عقبه. 2 - الترمذي، قال عقبة: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.

3 - الطحاوي. 4 - ابن حبان في صحيحه. 5 - الحاكم، نقله عنه ابن رجب في «اللطائف» وعمن تقدم سوى أبي داود. 6 - ابن حزم كما في «المحلى». 7 - ابن عبد البر نقله عنه رجب. 8 - ابن عساكر، نقله عنه العيني. 9 - النووي وهو ظاهر صنيعه في «المجموع». 10 - ابن القيم كما في «تهذيب السنن». 11 - ابن حجر الهيتمي في فتاويه. 12 - السيوطي في «الجامع الصغير». 13 - المحدث الفقيه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -. المحدث الألباني - رحمه الله - كما في «صحيح الجامع» (¬1). * والذي يترجَّح عندي أن الحديث منكر، وهذا جارٍ على قواعد المتقدمين. لا إشكال عندهم في ذلك. ¬

(¬1) تم إعداده في 9/ 8/1414هـ.

المسك المدوف في حل حديث عبد الرحمن بن سمرة في الكسوف

المسك المدوف في حل حديث عبد الرحمن بن سمرة في الكسوف «عن عبد الرحمن بن سمرة سدد خطاكم قال: بينما أنا أرمي بأسهمي في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ انكسفت الشمس فنبذتهن، وقلت: لأنظرن إلى ما يحدثُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في انكساف الشمس اليوم، فانتهيت إليه وهو رافع يديه، يدعو ويكبر ويحمد ويهلل، حتى جُلِّي عن الشمس، فقرأ سورتين وركع ركعتين». وفي لفظ: «فأتيته وهو قائم في الصلاة رافع يديه». ... أخرجه مسلم «نووي» (6/ 216) وأبو داود «عون» (4/ 58)، والنسائي في «الكبرى» (1/ 566)، و «المجتبى» (3/ 125)، وابن خزيمة في «صحيحه» (2/ 310)، وابن المنذر في «الأوسط» (5/ 294)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 329)، والبيهقي في «السنن» (3/ 332)، كلهم من طرق عن سعيد بن إياس الجريري عن حيَّان بن عمير عن عبد الرحمن به. قال النووي في «شرح مسلم»: «وهذا مما يُستشكل ويظن أن ظاهره أنه ابتداء صلاة الكسوف بعد انجلاء الشمس وليس كذلك؛ فإنه لا يجوز ابتداء صلاتها بعد الانجلاء، وهذا الحديث محمول على أنه وجده في الصلاة كما صرَّح به في الرواية الثانية، ثم جمع الراوي جميع ما جرى في الصلاة من دعاء وتكبير وتهليل وتسبيح وتحميد وقراءة السورتين في القيامين الآخرين للركعة الثانية، وكانت السورتان بعد الانجلاء تتميمًا للصلاة فتمت جملة الصلاة ركعتين أولها في حال الكسوف وآخرها بعد الانجلاء، وهذا الذي ذكرته من تقدير لابد منه

لأنه مطابق للرواية الثانية ولقواعد الفقه، ولرواية باقي الصحابة، والرواية الأولى محمولة عليه أيضًا لتتفق الروايتان، ونقل القاضي عياض عن المازري أنه تأوله على صلاة ركعتين تطوعًا مستقلًا بعد انجلاء الكسوف لا أنها صلاة كسوف، وهذا ضعيف مخالف لظاهر الرواية الثانية، والله أعلم. وقال على قوله: «وهو قائم في الصلاة رافع يديه» .. فيه دليل لأصحابنا في رفع اليدين في القنوت ورد على من يقول لا ترفع الأيدي في دعوات الصلاة» اهـ. وقال الطيبي في «شرح المشكاة» (3/ 265): قوله: «حسر عنها» أي أزيل، وأذهب عن الشمس خسوفها يعني دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف ووقف في القيام الأول وطوَّل التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد حتى ذهب الخسوف، ثم قرأ القرآن وركع وسجد ثم قام في الركعة الثانية وقرأ فيها القرآن وركع وسجد وتشهد وسلم» اهـ. وبوَّب على حديث الترجمة ابن خزيمة وابن المنذر بقولهما: باب رفع اليدين عند الدعاء والتسبيح والتكبير والتحميد في الكسوف. والذي تحرر لي أن الحديث وإن كان ثابت الأصل إلا أن سياقه غير محفوظ لوجوه: 1 - إن لفظة النسائي في «المجتبى» و «الكبرى» تدل على أن الدعاء والتسبيح وقع قبل الصلاة ولفظه: «فأتيته مما يلي ظهره وهو في المسجد فجعل يسبح ويكبر ويدعو حتى حسر عنها ثم قام فصلى ركعتين وأربع سجدات». 2 - إن الراجح في صفة صلاة الكسوف أن تصلى بركوعين في كل ركعة كما في حديث عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو وكلها متفق عليها، وليس في شيء منها ذكر التسبيح والدعاء ورفع

اليدين في الصلاة، وفي هذه الأحاديث المتفق عليها ذكر أشياء حفظت عنه - صلى الله عليه وسلم - من تقدمه لتناول العنب من الجنة وتأخره مما يدل على أن الراوي حفظ ما لم يحفظ غيره، فعائشة وابن عباس - رضي الله عنهما - حفظا الواقعة قبل دخوله في الصلاة وفي أثنائها وبعد انصرافه منها، وعبد الرحمن إنما أتى ووجده في الصلاة فشهدا ما لم يشهد أولًا. 3 - أن التجلي إنما حصل بعد الصلاة كما في حديث عبد الله بن عمرو الذي أخرجه الشيخان ولفظه: «لما انكسف الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نودي أن الصلاة جامعة، فركع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين في سجدة ثم قام فركع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سجدة ثم جلس، ثم جُلي عن الشمس فقالت عائشة - رضي الله عنها -: «ما سجدت سجودًا قط كان أطول منها». 4 - قال علي بن سلطان القاري في «شرح المرقاة» على قوله: «وهو قائم في الصلاة رافع يديه» لا يُعرف مذهب أنه يرفع يديه في صلاة الكسوف في أوقات الأذكار، وقال شيخنا المحدِّث عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: «رواية عبد الرحمن مجملة وفيها خفاء وعدم وضوح والعمدة على حديث عائشة وابن عباس - رضي الله عنهما -» اهـ. فأصاب شيخنا كبد الحقيقة، فإن هذا هو التحقيق لما تقدم، والروايات المجملة المشكلة تحمل على الروايات المبينة المفسرة حتى يتبين الأمر قال غير واحد من أئمة الحديث: إن الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه. فصل 1 - قال الحافظ ابن حجر فيما نقله عنه القاري في المرقاة: أن رفع اليدين المذكور كان لإرادة الركوع الأول، فجعل من ذلك الركوع

سبح .. وتعقبه بقوله: ولا يخفى ما فيه من التكلف» اهـ. 2 - وقع في رواية لعبد الرزاق (3/ 103) عن الثوري عن سليمان الشيباني عن الحكم عن حنش عن علي أنه أمَّ الناس في المسجد للكسوف قال: فجهر بالقراءة فقام فقرأ ثم ركع ثم قام فدعا ثم ركع أربع ركعات في سجدة يدعو فيهن بعد الركوع .. الحديث. ورواه البيهقي (3/ 330) من طريق الحكم به، وفي آخره: «ثم حدثهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل». قلت: وحنش هذا هو ابن المعتمر ابن ربيعة. قال البخاري: تكلموا فيه، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن حبان: كثير الوهم في الأخبار، ينفرد عن علي بأشياء لا تشبه حديث الثقات حتى صار ممن لا يحتج بحديثه، ووثَّقه العجلي. وقال ابن حزم: ساقط مطرح .. هذا ما عندي، وصلى الله على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬

(¬1) تم إعداده يوم الخميس 20/ 5/1414هـ، وأخذ الشيخ صورة منه.

الزهو المعطر في تخريج حديث «قاء فأفطر»

الزهو المعطر في تخريج حديث «قاء فأفطر» حديث: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر». رواه أحمد في «مسنده» (6/ 443)، والدارمي في «سننه» (1/ 346)، والترمذي في «جامعه» (1/ 142)، وأبو داود في «سننه» (7/ 8) «عون»، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 96)، والبيهقي في «سننه» (4/ 220)، وابن خزيمة في «صحيحه» (3/ 224)، وابن حبان (3/ 377)، والحاكم في «مستدركه» (1/ 426)، والدارقطني في «سننه» (1/ 158)، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 33)، وغيرهم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه عن حسين المُعلِّم عن يحيى بن أبي كثير، حدثني عبد الرحمن الأوزاعي عن يعيش بن الوليد المخزومي عن أبيه عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء سدد خطاكم «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال: صدق أنا صببت له وَضوءه». ورواه ابن حزم في «المحلى» (1/ 258) من الطريق نفسها بلفظ: «قاء فتوضأ». وفي نسخة للترمذي: «قاء فأفطر فتوضأ» (¬1). وهذا إسناد جيد، فاللفظان محفوظان «قاء فأفطر فتوضأ» ويدل لذلك تصديق ثوبان لأبي الدرداء بقوله: «صدق أنا صببت له وَضوءه». ويشهد له رواية عبد الرزاق في مصنفه (1/ 138) عن معمر عن يحيى عن يعيش بن الوليد عن خالد بن معدان عن أبي الدرداء سدد خطاكم قال: «استقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفطر، وأتي بماء فتوضأ». لكن طعن الترمذي في رواية معمر هذه فقال: «روى معمر هذا ¬

(¬1) وعليها بوب في كتاب الطهارة: باب ما جاء في الوضوء من القيء.

الحديث عن يحيى ابن أبي كثير فأخطأ فيه فقال: عن يعيش بن الوليد عن خالد بن معدان عن أبي الدرداء ولم يذكر الأوزاعي، وقال عن خالد بن معدان وإنما هو معدان بن أبي طلحة». وتعقبه أحمد شاكر بقوله: «ولسنا نوافق الترمذي في ادعائه خطأ معمر، وإنما هو إسناد آخر للحديث، وخالد بن معدان ثقة تابعي معروف، ومعمر ثقة حافظ متقن لا نحكم عليه بالخطأ جزافًا» اهـ. قلت: إن كانت محفوظة فهي شاهد ولسنا في حاجة إليها لما تقدم، وفي سماع خالد ابن معدان من أبي الدرداء نظر، فإن خالدًا يرسل كثيرًا وقد توفي سنة ثلاث ومئة، وقيل بعدها، وأبو الدرداء توفي في آخر خلافة عثمان، وقيل عاش بعد ذلك، ونصّ أحمد على عدم سماع خالد من أبي الدرداء، والله أعلم. ولحديث الترجمة طريق أخرى أخرجها أحمد (5/ 276)، والطحاوي (2/ 96)، والبيهقي (4/ 220) من طريق شعبة عن أبي الجودي عن بَلْج عن أبي شيبة المهري عن ثوبان قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر». وأبو الجودي الحارث بن عُمير ذكره ابن حبان في الثقات، وفي التقريب ثقة. وبَلْج وأبو شيبة المهري ذكرهما ابن حبان في الثقات، وبيَّض لهما ابن أبي حاتم فلم يذكر فيهما جرحًا، وعلى قاعدة الحافظ: مقبولان، وقد توبعا كما تقدم فهو حسن في الشواهد (¬1)، والله أعلم (¬2). ¬

(¬1) وأخرج البيهقي في «سننه» (4/ 220) من طريق حنش بن عبد الله عن فضالة بن عبيد قال: «أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائمًا فقاء فأفطر، فسئل عن ذلك فقال: إني قئت» إسناده قوي. (¬2) تم إعداده في 9/ 7/1415هـ.

توالي النذر في بيان حديث «هذه ثم ظهور الحصر»

توالي النذر في بيان حديث «هذه ثم ظهور الحصر» رواه الإمام أحمد في «مسنده»، ثنا يزيد بن هارون وحجاج قالا: أنبأنا ابن أبي ذئب، وإسحاق بن سليمان قال: سمعت ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة سدد خطاكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنسائه عام حجة الوداع: «هذه ثم ظهور الحصر» قال: فكنَّ كلهن يحججن إلا زينب بنت جحش وسودة بنت زمعة وكانتا تقولان: «والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -». وأخرجه أبو داود الطيالسي [2312] حدثنا ابن أبي ذئب به. وأخرجه أبو يعلى (13/ 80، 88) من طريقين: حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا ابن أبي فُديك ح وحدثنا أبو خيثمة، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي كلاهما عن ابن أبي ذئب به. ورواه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» ح [5603] حدثا الربيع المرادي، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا ابن أبي ذئب. ورواه البيهقي في «سننه» (5/ 228) من طريق الطيالسي. ورواه الطبراني (24/ 33) وعلي بن الجعد في «مسنده» (2/ 986) من طرق عن ابن أبي ذئب به. وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن أبي ذئب وهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة القرشي العامري الفقيه، ثقة فاضل من رجال الجماعة. وصالح مولى التوأمة: هو ابن نبهان، والتوأمة بنت أمية بن خلف المديني، اختلط بآخره، قال مالك: ليس بثقة، وقال أحمد لما بلغه ذلك: كان مالك أدركه وقد اختلط فمن سمع منه قديمًا فذاك،

وقد روى عنه أكابر أهل المدينة، وهو صالح الحديث ما أعلم به باسًا، وقال ابن معين: إنما أدركه مالك بعد أن كبر وخرف. لكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف، وقال الجوُزجاني: تغيَّر أخيرًا، فحديث ابن أبي ذئب عنه مقبول لسنه وسماعه القديم، وقال ابن عدي: لا بأس به إذا روى عنه القدماء مثل ابن أبي ذئب، وابن جرج، وزياد بن سعد ..». اهـ من «التهذيب». قلت: والراوي عنه هنا ابن أبي ذئب فالإسناد جيد، ورواه البزار «كشف» (2/ 5) من طريقين عن سفيان وصالح بن كيسان عن صالح مولى التوأمة به، ويشهد له ما تقدم. طريق أخرى: قال الإمام أحمد في «مسنده» (5/ 218): حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا عبد العزيز ابن محمد الدراوردي عن زيد بن أسلم عن واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره. ورواه البيهقي (5/ 228) من طريق أحمد به. ورواه أبو داود (5/ 146) «عون» عن النفيلي عن الدراوردي به. ورواه أبو يعلى (3/ 32) وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» كلاهما من طريق الدراوردي. وواقد ابن أبي واقد، قال ابن القطان: لا يعرف حاله، وذكره ابن منده في الصحابة، وكناَّه أبا مراوح، قال: وقال أبو داود: له صحبة اهـ. من «التهذيب». وقال الحافظ في «الفتح» (4/ 74): إسناد حديث أبي واقد صحيح، قلت: ويعضدها ما تقدم. وللحديث طريق أخرجه الطبراني في «الأوسط» (3/ 192) (مجمع البحرين). من طريق عاصم بن عمر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر بنحو ما تقدم، وعاصم ضعيف.

فصل قال البخاري في «صحيحه»: باب حج النساء (4/ 72)، وذكر إذن عمر سدد خطاكملأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حجة حجها فبعث معهن عثمان وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهما - ثم أسند حديث عائشة، «لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج المبرور». قال عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ: وأغرب المهلب فزعم أن حديث: «هذه ثم ظهور الحصر» من وضع الرافضة لقصد ذم أم المؤمنين عائشة في خروجها إلى العراق للإصلاح بين الناس في قصة وقعة الجمل، وهو إقدام منه على رد الأحاديث الصحيحة بغير دليل، والعذر عن عائشة أنها تأولت الحديث المذكور كما تأوله غيرها من صواحباتها على أن المراد أنه لا يجب عليهن غير تلك الحجة، وتأيد ذلك عندها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لكن أفضل الجهاد الحج والعمرة». ومن ثم عقبه المصنف بهذا الحديث في هذا الباب، وكأن عمر سدد خطاكم كان متوقفًا في ذلك، ثم ظهر له الجواز فأذن لهن وتبعه على ذلك من ذكر من الصحابة، ومن في عصره من غير نكير ..». . وقال الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» في الجمع بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: «جهادكن الحج المبرور» مع حديث الترجمة: وكان جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في استئذانها إياه لها ولمن سواها للخروج معه في الجهاد ما ذكر من جوابه إياها من هذا الحديث، فكان دليلًا على أن جهادهن لا ينقطع كما لا ينقطع جهاد الرجال، فاحتمل أن يكون ذلك بعد قوله - صلى الله عليه وسلم - لها ولسائر نسائه: «هذه ثم ظهور الحصر» فوقفت على ذلك هي ومن سواها من أزواجه دون من لم يقف عليه، ولم يقف على ذلك منهن

زينب ولا سودة فلزمتا ما في الحديث الأول، وكلهن - رضي الله عنهن - على ما ذكر عليه من ذلك محمودات، وخلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عن أصحابه وسائر الصحابة في تركهم الخلاف عليهن في ذلك، وفي إطلاقهم إياه لهن محمودون بعلمهم ما علموا من ذلك، ولا يجب أن يحُمل تأويل الأحاديث إلا على ما حملناه عليه؛ لأن في ذلك السلامة وحسن الظن بخلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه وأصحابه، وفيما سواه ضد ذلك مما نعوذ بالله منه» اهـ. فصل قال الذهبي في «الميزانه»: واقد بن أبي واقد الليثي روى عن أبيه، تفرد عنه زيد ابن أسلم حديثه قال - صلى الله عليه وسلم - لنسائه: «هذه ثم ظهور الحصر». وهذا منكر فما زلن يحججن» اهـ. قلت: الحديث صحيح فله طريق أخرى والجمع ممكن، فلا نكارة، والله أعلم (¬1). ¬

(¬1) قرئ على شيخنا بتاريخ 4/ 6/1415هـ فقال: الأقرب ضعف الحديث بطريقيه، ولهذا قال الذهبي ما قال، وكلام البخاري وترجمته تشعر بضعفه، وإطلاق قوله: «جهادكن الحج» وطريق صالح ولو روى عنه ابن أبي ذئب قد تكون غلطًا. اهـ. بحروفه.

حكم الموالاة في الغسل

حكم الموالاة في الغسل قال الإمام أحمد (في «مسنده» [2180شاكر]: حدثنا علي بن عاصم، حدثنا أبو علي الرحبي عن عكرمة، أخبرنا ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جنابة، فلما خرج رأى لمعة على منكبه الأيسر لم يصبها الماء، فأخذ من شعره فبلها ثم مضى إلى الصلاة» (¬1). وأخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (1/ 46)، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا مُستلم (¬2) ابن سعيد عن أبي علي الرحبي به. ومن طريق ابن أبي شيبة رواه ابن ماجه (1/ 217). وهذا إسناد واهٍ، أبو علي الرحبي اسمه الحسين بن قيس، لقبه حنش، متروك الحديث، قاله أحمد والنسائي والدارقطني والساجي وغيرهم، وفي «التقريب»: متروك. حديث آخر: قال ابن أبي شيبة (1/ 45): حدثنا هشيم وابن علية ومعتمر عن إسحاق بن سويد العدوي، حدثنا العلاء بن زياد قال: «اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جنابة فخرج فأبصر لمعة بمنكبه لم يصبها الماء، فأخذ بجمته فبلَّها عليه». ورواه أبو داود في «المراسيل» [74] عن موسى بن إسماعيل عن حماد عن إسحاق به. وهذا إسناد صحيح رجاله رجال الصحيح غير العلاء بن زياد، ¬

(¬1) ووقع في «المصنف» وابن ماجه «مسلم» وهو خطأ. (¬2) انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 165).

وهو ثقة لكنه مرسل، ورواه عبد الرزاق [1015] عن هشام بن حسان عن العلاء به. رواه الدارقطني (1/ 110) من طريق عبد السلام بن صالح عن إسحاق بن سويد عن العلاء بن زياد عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فوصله، قال الدارقطني: عبد السلام بن صالح هذا بصري ليس بالقوي وغيره من الثقات يرويه عن إسحاق عن العلاء مرسلًا، ثم رواه مرسلًا. حديث آخر: قال ابن ماجه (1/ 218): حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا أبو الأحوص عن محمد بن عبيد الله عن الحسن بن سعد عن أبيه عن علي سدد خطاكم قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إني اغتسلت من الجنابة، وصليت الفجر، ثم أصبحت فرأيت قدر موضع الظفر لم يصبه الماء»، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كنت مسحت عليه بيدك أجزأك». ورواه مسدد عن أبي الأحوص بإسناده ومتنه (¬1). وهذا إسناد واهٍ كسابقه: محمد بن عبيد الله العرزمي بتقديم الراء تركه ابن مهدي وابن المبارك والقطان ابن معين والفلاس وابن الجنيد والأزدي، وسويد متكلم فيه. حديث آخر: قال الطبراني في «معجمه الكبير» (10/ 284): حدثنا موسى بن هارون، حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري، حدثنا عاصم بن عبد العزيز الأشجعي، حدثنا محمد بن زيد بن قنفذ التيمي (¬2) عن جابر بن سيلان عن عبد الله بن مسعود سدد خطاكم أن رجلًا سأل ¬

(¬1) بواسطة زوائد البوصيري (1/ 240). (¬2) وقع عند البيهقي السهمي وهو تصحيف.

النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يغتسل من الجنابة فيخطئ بعض جسده الماء؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يغسل ذلك المكان ثم يصلي». وأخرجه البيهقي في «سننه» (1/ 184) من طريق إسحاق به. وعاصم بن عبد العزيز الأشجعي قال معن بن عيسى: ثقة، وأثنى عليه، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال البخاري: فيه نظر، وقال الذهبي في «تهذيب البيهقي» (1/ 195): واه، وقال الحافظ في «التقريب»: صدوق يهم، وجابر بن سيلان بكسر السين مقبول، وقال الهيثمي في «المجمع» (1/ 273): رجاله موثقون. قلت: إذا ضمَّ إلى مرسل العلاء بن زياد اعتضد به، ولهذا أخذ الإمام - رحمه الله - بمرسل العلاء، قال الموفق (1/ 292) «مغني»، وروي عن أحمد أنه سئل عن حديث العلاء بن زياد .. قال: نعم آخذ به. حديث آخر: روى عبد الرزاق في «مصنفه» (1/ 265) عن ابن جريج قال: «حُدثت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من جنابة ثم خرج ورأسه يقطر، وما بين كتفيه أو فوق ذلك مثل موضع الدرهم لم يمسه الماء، فقال أحدٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اغتسلت يا رسول الله؟ قال: «نعم»، قال: فإن مثل موضع الدرهم لم يمسّه الماء، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفه من بعض رأسه من الذي فيه فمسحه به». قلت: إسناده معضل. حديث آخر: روى الدارقطني في «سننه» (1/ 112) من طريق عطاء بن عجلان عن عبد الله بن أبي ملكية عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جنابة فرأى لمعة بجلده لم يصبها الماء، فعصر خصلة من شعر رأسه فأمسها ذلك الماء». وعطاء بن عجلان الحنفي متروك بل أطلق عليه ابن معين والفلاس وغيرهما الكذب، كذا في «التقريب».

حديث آخر: «روى الدارقطني في سننه من طريق أبي المتوكل بن فضيل عن أبي ظلال عن أنس سدد خطاكم قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح وقد اغتسل من جنابة، فكان نكتة مثل الدرهم يابس لم يصبه الماء، فقيل: يا رسول الله، في هذا الموضع لم يصبه الماء، فسلت شعره من الماء فمسحه به، ولم يعد الصلاة». قال الدارقطني: المتوكل ضعيف (¬1). قلت: وكذا أبو ظلال القسملي واسمه هلال بن أبي هلال. وأيضًا متنه منكر حيث لم يعد الصلاة. حديث آخر: روى الحافظ الإسماعيلي عن إسماعيل بن يحيى، ثنا مسعر عن حميد ابن سعد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قلت يا رسول الله إن أهلي تغار عليَّ إذا أنا وطئت جواري قال: وبم يعلمن ذلك؟ قلت: من قبل الغسل، قال: إذا كان ذلك منك فاغسل رأسك عند أهلك فإذا حضرت الصلاة فاغسل سائر بدنك .. إسماعيل متروك عندهم (¬2). ¬

(¬1) «الميزان» (3/ 434). (¬2) بواسطة «نصب الراية» (1/ 36).

فصل في الآثار الواردة عن الصحابة قال ابن أبي شيبة: حدثنا ابن مهدي عن حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن شداد بن أوس قال: «إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ فإنه نصف الجنابة». قال الحافظ في «الفتح» (1/ 394) على حديث عمر في وضوء الجنب عند النوم: الوضوء هنا الشرعي والحكمة فيه أنه يخفف الحدث لاسيما على القول بجواز تفريق الغسل فينويه فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء المخصوصة على الصحيح، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابي: فذكره. فصل في كلام الأئمة قال البخاري في صحيحه «فتح» (1/ 375) باب تفريق الغسل والوضوء: ويذكر عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه غسل قدميه بعدما جفَّ وضوءُه، قال العيني: أي هذا باب في بيان تفريق الغسل والوضوء هل هو جائز أم لا؟ وذهب البخاري إلى أنه جائز وأيده بفعل ابن عمر - رضي الله عنهما -. فصل وفي مسائل صالح بن أحمد (1/ 165): سألت أبي عن الرجل يتوضأ ويترك شيئًا من جسده؟ قال: إذا كان جفَّ الوضوء أعاد الوضوء كله، ويجزيه في الجنابة أن يغسل الموضع الذي لم يصبه الماء. وقال أبو يعلى في كتاب الروايتين والوجهين (1/ 79) مسألة: واختلف في الموالاة في الطهارة الصغرى .. ثم قال: ونقل حنبل أنها

غير واجبة؛ لأنها إحدى الطهارتين فأشبه غسل الجنابة فإنه لا تختلف الرواية أن الموالاة غير واجبة فيه. وقال في «المغني» (1/ 191 - 192) بعدما ذكر الخلاف: «وما عليه الجمهور أولى؛ لأنه غسل لا يجب فيه الترتيب فلا تجب فيه الموالاة كغسل النجاسة». وقال أبو العباس بن تيمية في «مجموع الفتاوى» (21/ 418): «والموالاة في غسل الجنابة لا تجب للحديث الذي فيه أنه رأى في بدنه موضعًا لم يصبه الماء فعصر عليه شعره، والأصحاب فرقوا بينه وبين الوضوء فإنه يجب ترتيبه فكذلك الموالاة». وقال في «الإنصاف» (1/ 141): ولا تشترط في الغسل موالاة على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب، وحكي عن بعض الأصحاب الاشتراط كالوضوء. وقال في «الفروع» (1/ 204): ولا يجب موالاة على الأصح. وقال في «كشاف القناع» (1/ 153): ولا تجب الموالاة في الغسل كالترتيب؛ لأن البدن شيء واحد بخلاف أعضاء الوضوء. فصل وقال الماوردي في «الحاوي» (1/ 136): قال الشافعي - رحمه الله -: وإن فرَّق وضوءه وغسله أجزأه، واحتج في ذلك بابن عمر. فصل وقال ابن المنذر في «الأوسط» (1/ 421) بعد ذكر قول من أجاز التفريق: وكذلك نقول؛ لأن الله - عز وجل - أوجب في كتابه غسل أعضائه فمن أتى بغسلها فقد أتى بالذي عليه، فرَّقها أو أتى بها نسقًا متتابعًا، وليس مع من جعل حدّ ذلك الجفوف حجة. وقال ابن حزم في «المحلى» (2/ 68): مسألة: ومن فرَّق وضوءه

أو غسله أجزأه ذلك وإن طالت المدة أو قصرت. وقال الحافظ ابن رجب في «شرح البخاري» (1/ 59): ولو نوى بوضوئه رفع الحدثين (يعني الحدث الأصغر والجنابة) ارتفع عن أعضاء وضوئه حدثاه جميعًا بناءً على أن الغسل لا تشترط له الموالاة، وهو قول الجمهور خلافًا لمالك. وانظر: «فتاوى شيخ الإسلام» (26/ 179) مهم. فصل وقال شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز في تعليقه على «سنن ابن ماجه» على حديث ابن عباس المتقدم وذلك سنة 1409هـ قال: «الغسل الراجح أنه لا تجب فيه الموالاة». هذا ما تيسر إعداده، والله الموفق (¬1). ¬

(¬1) قرئ على شيخنا عبد العزيز بن باز - رحمه الله - يوم الأحد بتاريخ 30/ 7/1415هـ فقال: «الصواب أن الغسل لا تجب فيه الموالاة .. لأنه شيء واحد، فلو نسي شيئًا أو جهله ثم نبه فغسله كفى، بخلاف الوضوء» اهـ. بحروفه.

كشف الغمة عن حديث النور والظلمة

كشف الغمة عن حديث النور والظلمة حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق خلقه في ظلمه وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضلَّ». رواه أحمد في «مسنده» [6644]، حدثنا معاوية بن عمرو، ثنا إبراهيم بن محمد أبو إسحاق الفزاري، ثنا الأوزاعي، ثنا ربيعة بن يزيد، ثنا عبد الله بن الديلمي عن عبد الله به. وهذا إسناد صحيح، معاوية بن عمرو أبو عمرو البغدادي ثقة، روى له الجماعة، وإبراهيم بن محمد الفزاري حافظ له تصانيف، روى له الجماعة. والأوزاعي فقيه أهل الشام وإمامهم ثقة جليل، وربيعة بن يزيد هو الإيادي ثقة عابد روى له الجماعة، والديلمي عبد الله بن فيروز ثقة من كبار التابعين. ورواه ابن أبي عاصم في «السنة» [243]: حدثنا ابن مصفَّى، ثنا بقية، ثنا الأوزاعي عن ربيعة به، وابن مصفَّى هو محمد الحمصي صدوق له أوهام، وكان يدلس لكنه صرَّح بالتحديث، وبقية بن الوليد صدوق معروف بالتدليس لكنه صرَّح بالتحديث، وقد توبعوا كما تقدم وسيأتي. طريق أخرى لابن أبي عاصم [244]: ثنا المسيَّب بن واضح، ثنا أبو إسحاق الفزاري وابن المبارك عن الأوزاعي به. والمسيب قال فيه ابن أبي حاتم «الجرح» (8/ 294) سئل أبي عنه فقال صدوق يخطئ كثيرًا فإذا قيل له لم يقبل» اهـ. قلت: لكنه قد توبع. ومن طريق ابن المبارك أخرجه ابن حبان [6169].

ومن طريق بقية عن الأوزاعي أخرجه اللالكائي الطبري (3/ 604). وأخرجه الآجري في «الشريعة» ص [175]: نا الفريابي، ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا الأوزاعي، ثنا ربيعة به. وهذا سند جيد. وأخرجه الحاكم (1/ 30) والبيهقي (9/ 4) من طريق الأوزاعي. ورواه الترمذي في «سننه» (7/ 401 تحفة): حدثنا الحسن بن عرفة، أخبرنا إسماعيل بن عياش عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن عبد الله بن الديلمي به، وقال: حديث حسن وهو كما قال فالحسن صدوق وإسماعيل صدوق في الشاميين، وهذا منها فشيخه يحيى بن أبي عمرو السَّيباني بالمهملة ثقة حمصي. وتابع إسماعيل ضمرة، أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» [242]: حدثنا ابن مصفَّى، حدثنا ضمرة عن يحيى به، ورواه الآجري في «الشريعة» ص [175]: حدثنا الفريابي حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل بن عياش به. طريق أخرى: رواه أحمد في «مسنده» [6854]: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا محمد بن المهاجر، نا عروة بن رويم عن ابن الديلمي به. واللالكائي (3/ 604)، والبزار «كشف» [2145] من طرق عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - به. فالحديث صحيح بهذه الطرق. وظاهر الحديث يفيد أن الخليقة في أصل خلقتها على غير الهدى ويؤيده حديث أبي ذر القدسي الذي رواه مسلم في «صحيحه» [2577]. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله - عز وجل -: يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّمًا، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم.». الحديث. فإن قيل كيف الجمع بين هذين الحديثين وبين حديث أبي

هريرة المتفق عليه يرفعه «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصِّرانه أو يُمجِّسانه» الحديث «البخاري فتح» (3/ 219)، مسلم [2658]. وحديث عياض بن حمار المجاشعي الذي أخرجه مسلم [2865] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله - عز وجل -: «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم». الحديث. قلت: قال أبو العباس في «درء تعارض العقل والنقل» (3/ 71): (والرسل صلوات الله عليهم وسلامه بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بإفسادها وتغييرها، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]. وذكر الآيات. وقال: وفي الصحيحين عن أبي هريرة سدد خطاكم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل مولود يولد على الفطرة». وذكر الحديث، وحديث عياض: «خلقت عبادي حنفاء» الحديث. وقال (8/ 460): والله قد بعث الرسل وأنزل الكتب ودعوا الناس إلى موجب الفطرة من معرفة الله وتوحيده، فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة وإلا استجابت لله ورسله لما فيها من المقتضي لذلك، ومعلوم أن قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» ليس المراد به أنه حين ولدته أمه يكون عارفًا بالله موحدًا له، بحيث يعقل ذلك فإن الله يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]. وقال: (8/ 455): «ولهذا لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لموجب الفطرة شرطًا بل ذكر ما يمنع موجبها» اهـ. وقال في «مجموع الفتاوى» (14/ 196): (والنفس بفطرتها إذا تركت كانت مقرة لله بالإلهية، محبة له، تعبده لا تشرك به شيئًا،

ولكن يفسدها ما يزين لها شياطين الإنس والجن بما يوحي بعضهم إلى بعض من الباطل) اهـ. وقال الحافظ ابن رجب في «شرح الأربعين» على حديث أبي ذر القدسي: وقوله: «كلكم ضال إلا من هديته» قد ظن بعضهم أنه معارض لحديث عياض بن حمار .. «خلقت عبادي حنفاء» وفي رواية «حنفاء مسلمين». وليس كذلك فإن الله خلق بني آدم وفطرهم على قبول الإسلام والميل إليه دون غيره، والتهيؤ لذلك، والاستعداد له بالقوة، لكن لابد للعبد من تعليم الإسلام بالفعل، فإنه قبل التعليم جاهل لا يعلم شيئًا، كما قال - عز وجل -: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]. وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]. والمراد وجدك غير عالم بما علَّمك من الكتاب والحكمة كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]. فالإنسان يولد مفطورًا على قبول الحق، فإن هداه الله سبب له من يعلمه الهدى فصار مهتديًا بالفعل بعد أن كان مهتديًا بالقوة، وإن خذله الله قيَّض له من يعلمه ما يغيِّر فطرته كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه وينصرانه ويمجسانه». قلت: لا شك أن الله خلق الخلق وفطرهم على الإسلام، فإن سلمت هذه الفطرة واتصلت بها الهداية التي بعث الله بها رسله كتبت للعبد السعادة وهو الذي أصابه النور في حديث عبد الله بن عمرو المتقدم، وإن انحرفت الفطرة بفعل شياطين الجن والإنس، كان الضلال والشقاوة وهو الذي أخطأه النور في الحديث المتقدم، والتغى حكم الفطرة لأن الأعمال بالخواتيم، هذا ما تيسر جمعه، والله المسئول أن يختم لنا بخاتمة السعادة، وأن يدخلنا دار الكرامة بمنِّه

وكرمه آمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين (¬1) (¬2). ¬

(¬1) وانظر: «شفاء العليل» لابن القيم (2/ 239) ط. شلبي. (¬2) تم إعداده يوم السبت 15/ 8/1413هـ.

هل يشرع التكبير لسجود التلاوة؟

هل يشرع التكبير لسجود التلاوة؟ روى عبد الرزاق في «مصنفه» (3/ 345): عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا القرآن فإذا مرَّ بسجدة كبَّر وسجد فسجدنا معه». ورواه أبو داود في «سننه» (عون 4/ 287) قال: حدثنا أحمد بن الفرات أبو مسعود الرازي قال: أنبأنا عبد الرزاق قال: أنبأنا عبد الله به. وقال عقبة: قال عبد الرزاق: كان الثوري يعجبه هذا الحديث، قال أبو داود يعجبه لأنه كبَّر. ورواه البيهقي في «سننه» (2/ 325) من طريق أبي داود به. خالفه عبيد الله. قال أحمد في «مسنده» [4669]: «حدثنا يحيى عن عبيد الله قال: أخبرني نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة، فيقرأ السجدة، فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد مكانًا لموضع جبهته». ورواه البخاري (2/ 556، 560، 557)، ومسلم [575]، وأبو داود «عون» [4/ 287]، وابن خزيمة وابن حبان والحاكم (1/ 222) كلهم من طرق عن عبيد الله ليس في شيء منها ذكر التكبير. ولفظ الحاكم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «كنَّا نجلس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقرأ القرآن فربما مرَّ بسجدة فيسجد

ونسجد معه». قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قلت: وعبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي المدني قال أحمد بن حنبل: لا بأس به ولكن ليس مثل أخيه، وقال مرة كان يزيد في الأسانيد ويخالف، وكان رجلًا صالحًا، وقال: كان عبد الله يُسأل عن الحديث في حياة أخيه فيقول: أما وأبو عثمان حي فلا -يعني عبيد الله-. وقال ابن معين: صويلح، وقال ابن المديني: ضعيف، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق في حديثه اضطراب، وقال صالح جزرة ليّن مختلط الحديث، وقال النسائي: ضعيف الحديث، وقال الخليلي: ثقة غير أن الحفاظ لم يرضوا حفظه. اهـ. بتصرف من «التهذيب». وقال في «التقريب»: ضعيف عابد من السابعة، مات سنة إحدى وسبعين، وقيل بعدها، روى له مسلم والأربعة. اهـ. قلت: روى له مسلم مقرونًا. وأما عبيد الله أخوه المصغر فقد قال أحمد فيه: إنه أثبت أصحاب نافع وأحفظهم وأكثرهم رواية، وقال أحمد بن صالح: عبيد الله أحبُّ إليَّ من مالك في حديث نافع. وقال النسائي: ثقة ثبت، ووثقه أبو زرعة وأبو حاتم. اهـ. بتصرف من «التهذيب». قال في «التقريب» عنه: أبو عثمان ثقة ثبت مات سنة بضع وأربعين، من الخامسة، روى له الجماعة. قلت: رواية عبد الله المكبر فيها ثلاثة مطاعن:

الأول: حال عبد الله فإنه ضعيف. ثانيهما: مخالفته لأخيه عبيد الله وهو أوثق منه. الثالث: مما يدل على أن عبد الله لم يحفظ الحديث بل كان يهم فيه ما رواه أحمد في «مسنده» [6461]: قال حدثا حماد قال: حدثنا عبد الله عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعلمنا القرآن، فإذا مرَّ بسجود القرآن سجد وسجدنا معه». فأسقط التكبير هنا (¬1)، ولهذا لم تختلف الروايات عن عبيد الله المصغر بإسقاطه وهي الرواية المحفوظة بلا شك. ولهذا ضعف النووي في «المجموع» رواية عبد الله (3/ 560). تنبيه: قال الحافظ في «التلخيص» (2/ 9): حديث ابن عمر سدد خطاكم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا القرآن، فإذا مرَّ بالسجدة كبَّر وسجد وسجدنا، رواه أبو داود وفيه العُمري عبد الله المكبّر، وهو ضعيف، وخرجه الحاكم من رواية العمري أيضًا لكن وقع عنده مُصغرًا وهو الثقة، فقال: إنه على شرط الشيخين. قلت: (القائل الحافظ) وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر بلفظ آخر. قلت: (القائل عبد الله) لكن ليس في رواية الحاكم ذكر التكبير كما تقدم، ولهذا قال الحافظ في البلوغ: رواه أبو داود بإسناد فيه لين ولم يزد. ¬

(¬1) إن كان عبد الله حفظ هذا الحرف.

أما الشواهد فلم أر في المرفوع شيئًا، لكن روى ابن أبي شيبة في «مصنفه» (1/ 364) آثارًا عن الحسن وإبراهيم النخعي وأبي قلابة وابن سيرين أنهم أفتوا بالتكبير للسجود، والله أعلم (¬1). ¬

(¬1) قرئ هذا البحث على شيخنا - رحمه الله - كاملًا بتاريخ 8/ 7/1413هـ فقال: (يحتاج إلى مراجعة مخطوطة الحاكم؛ لأن الحافظ ذكر التكبير في روايته ويبعد وهمه .. والحاكم في تصحيف في المطبوعة). قلت: وروجعت ثلاث نسخ خطية للحاكم فلم يوجد فيها التكبير راجعها الشيخ عبد الله بن عبد العزيز الجبرين، انظر: «مجلة البحوث» (36/ 294) فتبيَّن أنه وهم من الحافظ تبع فيه ابن الملقّن وتبعه فيه الشوكاني، والله أعلم.

قطف الأترج في حل حديث أم سلمة في الحج

قطف الأترج في حل حديث أم سلمة في الحج عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: كانت ليلتي التي يصير فيها إليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مساء يوم النحر، فصار إليَّ، فدخل عليَّ وهب بن زمعة معه رجل من آل أبي أمية مقمصين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لوهب: «هل أفضت أبا عبد الله؟» قال: لا والله يا رسول الله! قال - صلى الله عليه وسلم -: «انزع عنك القميص»، قال: فنزعه من رأسه، ونزع صاحبه قميصه من رأسه ثم قال: ولم يا رسول الله؟ قال: «إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا، -يعني من كل ما حرمتم منه إلا النساء-، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرمًا كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به». أخرجه أحمد (12/ 201 ساعاتي)، وأبو داود (بذل 9/ 327 عون) (5/ 480) «تهذيب السنن» (2/ 427)، «المنهل العذب» (2/ 174)، وابن خزيمة (4/ 312)، والحاكم (1/ 489 - 490)، والبيهقي (5/ 137)، والطبراني (23/ 412) كلهم من طريق محمد بن إسحاق، حدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن أبيه وعن أمه زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة به. وأبو عبيدة هذا ترجمه في «التهذيب» (12/ 159) روى عنه الزهري وابن إسحاق وغيرهم، قال أبو زرعة: لا أعلم أحدًا سماه، له عند مسلم حديث عن أمه زينب عن أمها أم سلمة في الرضاعة. اهـ. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وذكره خليفة بن خياط في طبقاته في الطبقة الثالثة من «قبائل قريش» ص [256]، قال ابن حزم في «المحلى» (7/ 142) بعدما ذكر حديث الترجمة: (ولا يصح لأن أبا عبيدة وإن كان مشهور الشرف والجلالة في الرياسة فليس معروفًا بنقل

الحديث، ولا معروفًا بالحفظ، ولو صح لقلنا به مسارعين إلى ذلك وقد قال به عروة بن الزبير) (¬1) اهـ. وقال الذهبي في «الكاشف» (3/ 315): أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة .. ثقة، وقال الحافظ في «التقريب»: مقبول. طريق أخرى: وأخرجه الطبراني من طريق ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن يزيد بن رومان عن خالد مولى الزبير عن زينب عن أم سلمة به، قلت: وهذا إسناد ضعيف، محمد بن إسحاق مدلس وقد عنعنه، وخالد مولى الزبير، قال الحسيني في «الإكمال» [221]: خالد مولى الزبير بن نوفل عن زينب بنت أبي سلمة وعنه يزيد ابن رومان لا يُدرى من هو. وتبعه الحافظ من التعجيل [267] وقال العراقي في «ذيل الكاشف» [92]: لا أعرفه. اهـ. طريق أخرى: أخرج الطحاوي في «شرح المعاني» (2/ 227ـ 228) من طريق ابن لهيعة، ثنا الأسود عن عروة عن جُدامة بنت وهب أخت عكاشة بن وهب صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخًا له آخر جاءاها حين غابت الشمس يوم النحر فألقيا قميصيهما فقالت: ما لكما؟ قالا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لم يكن أفاض من هنا فليلق ثيابه». وكانوا تطيبوا ولبسوا الثياب. وأخرجه من طريق ابن لهيعة به عن عروة عن أم قيس بنت محصن قال: دخل عليَّ عكاشة بن محصن وآخر في منى مساءً يوم الأضحى فنزعا ثيابهما وتركا الطيب، فقلت: ما لكما؟ فقالا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: «من لم يفض إلى البيت من عشية هذه فليدع الطيب والثياب» اهـ. وذكر هذين الطريقين الحافظ ابن حجر في «الإصابة» في ترجمة عكاشة بن وهب .. وقال: ¬

(¬1) علق الشيخ على هذا المحل: هذا يدل على ضعفه لحال أبي عبيدة.

كأن الطريق الثانية أصح - يعني عن عروة عن أم قيس، فقد جاء الحديث من وجه آخر عنها رواه الحاكم (1/ 490) اهـ. قلت: الطريق التي أشار إليها الحافظ أخرجها الحاكم بعد حديث الترجمة قال: وقال أبو عبيدة: وحدثتني أم قيس، يعني به مثله وهذان الطريقان فيهما ابن لهيعة وهو عبد الله القاضي صدوق خلط بعد احتراق كتبه .. كذا في «التقريب»، والمختار أن حديثه حسن في الشواهد، وعند التفرد ضعيف. وخلاصة ما تبين لي في هذا الحديث أنه بهذه الطرق يصل إلى درجة الاحتجاج ولا أشك في ذلك، لكن الشأن في متنه، قال البيهقي (5/ 136): لا أعلم أحدًا من الفقهاء يقول به. وقال أبو العباس الطبري في «القرى لقاصد أم القرى» [472]: وهذا حكم لا أعلم أحدًا قال به، وذكره النووي في «المجموع» (8/ 205)، وصدَّره بقوله: (فرع) في بيان حديث مُشكل، وقال عقبه: وهذا الإسناد صحيح ثم ذكر كلام البيهقي المتقدم، ثم قال: فيكون الحديث منسوخًا دلَّ الإجماع على نسخه، فإن الإجماع لا ينسخ ولا يُنسخ، لكن يدل على ناسخ. اهـ. وحديث الترجمة قال عنه ابن القيم في «تهذيب السنن» (2/ 427) إنه محفوظ، وذكره الحافظ في «التلخيص» (2/ 260) وسكت عنه، وجوَّده الساعاتي وصححه الألباني كما في «صحيح ابن خزيمة» حديث رقم [2958] (4/ 312) وكذلك جوَّده أمين خطاب في تكملة شرح والده على أبي داود في المسمى «المنهل العذب المورود» وقد أفتى به عروة كما ذكر ذلك ابن حزم وتقدم، وأفتى به الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله - كما في مجموعة الرسائل والمسائل (1/ 257 - 258)، وأما عبد الله ابن الشيخ محمد فقد قال:

(ونحن ما تجاسرنا على الفتيا به لأجل أنه خلاف أقوال العلماء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم) اهـ. وسألت شيخنا العلامة المحدِّث سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز ... - حفظه الله - فقال: (هو حديث شاذ .. والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد بيَّن أمر الحج أتم البيان ..) اهـ. وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -: إنه حديث شاذ. تنبيه: ذكر بعضهم إجابة عن هذا الحديث خلاصتها أن هذا كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذين الرجلين على سبيل الاحتياط وخشية مواقعة المحرم من إتيان النساء قبل طواف الإفاضة، وذلك لما دخلا عليه متطيِّبَيْن فسلم هذا الطريق معهم سدًّا للذريعة ولم يكن تعبدًا بل سياسة .. إلخ. قال صاحب «بذل المجهود» آثرًا له عن بعض شيوخه، وهو في «شرح إعلاء السنن» (10/ 165). قلت: وهذا ليس بشيء فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنَّ لأمته التطيب قبل الطواف بفعله وقوله ولم يستثن حالة ولا أشخاصًا ولم يبين هذا لأمته بيانًا عامًّا يحصل به البلاغ حتى يذكره لرجلين دخلا عليه، وإنما هو مُبلغ. وإطلاقات الأحاديث الصحيحة المخرَّجة في الصحيحين وغيرهما صريحة في عدم تقييد الإحلال بزمن معيَّن فرجوع الحلال حرامًا بعدما حل بالرمي والذبح والحلق لأجل كونه لم يطف بالبيت حتى المساء مستنكر غريب في النصوص المتظاهرة في صفة الحج، ثم الأحكام التي تُبلغ في مثل هذا الجمع تتوافر الهمم والدواعي على نقلها، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينسك المناسك ويقول: «خذوا عني مناسككم». وهذا حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه الذي هو منسك متكامل دقيق لم يذكر مثل هذا.

وقال شيخنا في «شرح البلوغ»: (حديث جابر حديث عظيم لم يرد في الأنساك مثله، وحديث جابر منسك مستقل) اهـ. بحروفه. هذا جهد المقل حسب ما تيسر ونسأل الله حسن الختام، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (¬1). ¬

(¬1) قرأته على سماحة شيخنا بتاريخ الاثنين 19/ 11/1413هـ وعلق الشيخ بقوله: (الأقرب أن الحديث لا يحتج به لضعفه ومتنه منكر).

مدة المهادنة مع الكفار

مدة المهادنة مع الكفار قال أبو محمد في «المغني» (13/ 154ـ155): (ولا تجوز المهادنة من غير تقدير مدة؛ لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية). فصل ولا يجوز عقد الهدنة إلا على مدة مقدرة معلومة لما ذكرناه، قال القاضي: وظاهر كلام أحمد أنها تجوز أكثر من عشر سنين، وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي؛ لأن قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، عام خُصَّ منه مدة العشر لمصالحة النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشًا يوم الحديبية عشرًا ففيما زاد يبقى على مقتضى العموم، فعلى هذا إن زاد المدة على عشر بطل في الزيادة وهل تبطل في العشر على وجهين بناءً على تفريق الصفقة، قال: وقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أنه يجوز على أكثر من عشر على ما يراه الإمام من المصلحة، وبهذا قال أبو حنيفة؛ لأنه عقد يجوز في العشر فجاز على الزيادة عليها كعقد الإجارة والعام مخصوص في العشر لمعنى موجود فيما زاد عليها، وهو أن المصلحة قد تكون في الصُّلح أكثر منها في الحرب» اهـ. وقال في «الإنصاف»: (وإن هادنهم مطلقًا لم يصح). هذا المذهب وعليه الأصحاب، وقال الشيخ تقي الدين: تصح وتكون جائزة ويعمل بالمصلحة لأن الله تعالى أمر بنبذ العهود المطلقة، وإتمام المؤقتة. فائدة: لو قال: «هادنتك ما شئنا وشاء فلان» لم يصح على الصحيح من المذهب، وقيل: يصح اختاره القاضي، ولو قال: «نُقركم على ما أقرَّكم الله» لم يصح على الصحيح من المذهب وعليه الأصحاب، وقال الشيخ تقي الدين: يصح أيضًا وأن معناه في قوله: «ما شئنا» اهـ.

فصل

وقال في «حاشية الروض» (4/ 299): (وقال الشيخ: وأما المطلق فهو عقد جائز يعمل فيه الإمام بالمصلحة، ومتى مات الإمام أو عزل، لزم من بعده الوفاء بعقده). وقال أبو العباس في «مجموع الفتاوى» (29/ 140): (ومن قال من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: أن الهدنة لا تصح إلا مؤقتة: فقوله- مع أنه مخالف لأصول أحمد يرده القرآن وترده سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أكثر المعاهدين، فإنه لم يؤقت معهم وقتًا). وقال أبو هبيرة في «الإفصاح» (2/ 296): (واختلفوا في مدة العهد فقال أبو حنيفة وأحمد: يجوز ذلك على الإطلاق إلا أن أبا حنيفة قال: متى وجد للإمام قوة نبذ إليهم عهدهم وفسخ، وقال مالك والشافعي: لا يجوز أكثر من عشر سنين) اهـ. فصل وقال النووي في «شرح مسلم» على حديث الصلح (12/ 143): (وفي هذه الأحاديث دليل لجواز مصالحة الكفار إذا كان فيها مصلحة وهو مجمع عليه عند الحاجة، ومذهبنا أن مدَّتها لا تزيد على عشر سنين إذا لم يكن الإمام مستظهرًا عليهم، وإن كان مستظهرًا لم يزد على أربعة أشهر، وفي قول: يجوز دون سنة، وقال مالك: لا حدَّ لذلك بل يجوز ذلك قلَّ أم كثر بحسب رأي الإمام، والله أعلم) اهـ. وقال في «روضة الطالبين» (10/ 335): (وإن كان بالمسلمين ضعف، جازت الزيادة إلى عشر سنين بحسب الحاجة، ولا تجوز الزيادة على العشر، لكن إن انقضت المدة والحاجة باقية استؤنف العقد) اهـ. وقال في «شرح السنة» في فوائد الصلح (11/ 161): (واختلف أهل العلم في مقدار المدة التي يجوز أن يُهادَن الكفار إليها عند ضعف الإسلام، فذهب الشافعي إلى أن أقصاها عشر سنين لا يجوز أن

فصل

يجاوزها، لأن الله سبحانه أمر بقتال الكفار في عموم الأوقات، فلا يخُرج منها إلا القدر الذي استثناه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، وقال قوم: لا يجوز أكثر من أربع سنين، وقال قوم: ثلاث سنين، لأن الصلح لم يبق بينهم أكثر من ثلاث سنين، ثم إن المشركين نقضوا العهد، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم وكان الفتح، وقال بعضهم: ليس لذلك حد معلوم، وهو إلى الإمام يفعل على حسب ما يرى من المصلحة ... إلى أن قال: ولو هادنهم إلى غير مدة على أنه متى بدا له نقض العهد، فجائز) اهـ. وقال الحافظ في «الفتح» (5/ 343): (وقد اختلف في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقيل: لا تجاوز عشر سنين وهو قول الجمهور والشافعي، وقيل تجوز الزيادة، وقيل: لا تجاوز أربع سنين، وقيل: ثلاثًا، وقيل: سنتين، والأول هو الراجح، والله أعلم) اهـ. فصل قال ابن عبد البر في «الكافي» (1/ 469): (ويستحب ألا تكون مدة المهادنة أكثر من أربعة أشهر إلا مع العجز). وقال الشيخ محمد عليش في «شرح مختصر خليل»: (ولا حدَّ لمدة المهادنة واجب والرأي فيها للإمام بحسب اجتهاده وندب ألا تزيد مدتها على أربعة أشهر لاحتمال حدوث قوة بالمسلمين، وهذا حيث استوت المصلحة في تلك المدة وفي غيرها» اهـ. وقال أحمد الدردير في «الشرح الكبير» (2/ 206): («قوله: ولا حد واجب لمدتها» لا يقال هذا يخالف ما سبق من أن شرط المهادنة أن تكون مدتها معينة، لأنا نقول المراد أن شرطها أن يكون في مدة بعينها لا على التأبيد ولا على الإبهام ثم تلك المدة لا حدَّ لها بل يعيُّنها الإمام باجتهاده) اهـ.

فصل

وقال القرطبي في «تفسيره» (8/ 41): (وقال ابن حبيب عن مالك: تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين وإلى غير مدة) اهـ. فصل قال ابن الهمام في «فتح القدير على شرح البداية» (5/ 458): (قوله وإن رأى الإمام موادعة أهل الحربُ وأن يأخذ المسلمون على ذلك مالًا جاز لأنه لما جاز بلا مال، فبالمال وهو أكثر نفعًا أولى إلا أن هذا إذا كان بالمسلمين حاجة، أما إذا لم تكن فلا يوادعهم لما بيّنا من قبل يعني قوله، لأنه تركٌ للجهاد صورة ومعنى) اهـ. وقال الكاساني في «بدائع الصنائع» (7/ 108): (ولا تجوز - يعني الموادعة - عند عدم الضرورة لأن الموادعة ترك القتال المفروض فلا يجوز إلا في حال يقع وسيلة إلى القتال) اهـ. وأطلق فلم يذكر مدة ولا حدًّا. وصرح به في الهداية فقال: (ولأن الموادعة جهاد معنى إذا كان خيرًا للمسلمين لأن المقصود وهو دفع الشر حاصل به ولا يقتصر الحكم على المدة المروية لتعدي المعنى إلى ما زاد عليها بخلاف ما إذا لم يكن خيرًا؛ لأنه ترك للجهاد صورة ومعنى) اهـ. بواسطة «إعلاء السنن» (12/ 30). فصل قال ابن المنذر في «الإقناع» (2/ 498): (ولا يجوز أن يصالحهم إلى غير مدة؛ لأن في ذلك ترك قتال المشركين، وذلك غير جائز، ولا أحب أن يجُاوز بالمدة عشر سنين لأن ذلك أكثر ما قيل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - هادن قريشًا إليه) اهـ. وقال الشوكاني في «السيل الجرار» (4/ 565): (وأما كون المدة معلومة فوجهه أنه لو كان الصلح مطلقًا أو مؤبدًا لكان ذلك مبطلًا للجهاد الذي هو من أعظم فرائض الإسلام، فلابد من أن يكون مدة

معلومة على ما يرى الإمام من الصلاح، فإذا كان الكفار مستظهرين وأمرهم مستعلنًا جاز له أن يعقده على مدة طويلة ولو فوق عشر سنين، وليس في ذلك مخالفة لعقده - صلى الله عليه وسلم - للصلح الواقع مع قريش، فإنه ليس في هذا ما يدل على أنه لا يجوز أن تكون المدة أكثر من عشر سنين إذا اقتضت المصلحة) اهـ. هذا ما تيسر إعداده لشيخنا الفاضل - رحمه الله - وسدده آمين (¬1). ¬

(¬1) وذلك بتاريخ الثلاثاء 5/ 6/1415هـ.

من أفطر يظن غروب الشمس ثم تبين أنها لم تغب هل يقضي أم لا؟

من أفطر يظن غروب الشمس ثم تبين أنها لم تغب هل يقضي أم لا؟ اختلف في هذه المسألة على قولين: والأصل في هذا ما رواه البخاري في «صحيحه» قال - رحمه الله -: (باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس): وأسند حديث هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: (أفطرنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم غيم ثم طلعت الشمس)، قيل لهشام: فأمروا بالقضاء؟ قال: بدٌّ من القضاء؟ وقال معمر: سمعت هشامًا يقول: لا أدري أقضوا أم لا (¬1). فذهب الجمهور الأئمة الأربعة إلى وجوب القضاء وهو إحدى الروايتين عن عمر سدد خطاكم وهو اختيار صاحب «المغني» و «المجموع». واختاره شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وابنه عبد الله والشيخ محمد بن إبراهيم - على سبيل الاحتياط - واختاره سماحة الشيخ ابن باز، وذهب أحمد في الرواية الأخرى وإسحاق إلى عدم القضاء واختاره ابن خزيمة من الشافعية، وابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن عثيمين رحمهم الله أجمعين. ¬

(¬1) انظر: «الفتح» (4/ 199) أبو داود «تهذيب» (3/ 236)، ابن خزيمة (3/ 339)، البيهقي (4/ 217)، عبد الرزاق (4/ 177)، «المحلى» (6/ 222)، «معرفة السنن والآثار» (6/ 258)، «إرشاد الساري» (3/ 394)، «المغني» (4/ 389)، «المجموع» (6/ 330)، «الدرر السنية» (4/ 85)، «مجموع الفتاوى» (20/ 571 - 25/ 231)، «الروض المربع» (3/ 407)، «المنهل العذب» (10/ 82)، «إعلاء السنن» (9/ 145)، «فتاوى ابن إبراهيم» (4/ 193)، «قواعد ابن رجب» قاعدة رقم [159].

فصل حاصل ما استدل به الموجبون للقضاء: أولاً: عموم قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} الآية. وهذا قد أكل في النهار. ثانيًا: بقول هشام بن عروة أحد رواة الحديث: بدٌّ من القضاء. ثالثًا: ما روي عن عمر فقد روى الأثرم عنه أنه قال: من أكل فليقض يومًا مكانه، وروى البيهقي عن علي بن حنظلة عن أبيه قال: كنت عند عمر في رمضان فأفطروا وأفطر الناس فصعد المؤذن ليؤذن فقال: أيها الناس هذه الشمس لم تغرب، فقال عمر: من كان أفطر فليصم يومًا مكانه، وفي رواية له عنه: لا نبالي والله نقي يومًا مكانه، وروى من طريق الشافعي عن مالك عن زيد بن أسلم عن أخيه خالد بن أسلم أن عمر أفطر في رمضان في يوم ذي غيم ورأى أنه قد أمسى وغابت الشمس فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! قد طلعت الشمس، فقال عمر: الخطب يسير وقد اجتهدنا. قال الشافعي ومالك: معنى الخطب يسير قضاء يوم مكانه. قال البيهقي: وفي تظاهر هذه الروايات عن عمر دليل على خطأ رواية زيد بن وهب - وستأتي - في ترك القضاء. رابعًا: ما رواه البيهقي بإسناده عن شعيب بن عمرو بن سليم الأنصاري قال: أفطرنا مع صهيب الخير في شهر رمضان في يوم غيم وطش، فبينما نحن نتعشى إذ طلعت الشمس، فقال صهيب: طعمة الله، أتموا صيامكم إلى الليل واقضوا يومًا مكانه. فصل حاصل ما استدل به المسقطون للقضاء: أولاً: عموم قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}

فجمع بين النسيان والخطأ، ومن فعل محظورًا ناسيًا لم يكن قد فعل منهيًّا عنه فلا يبطل بذلك شيء من العبادات. ثانيًا: الرواية الأخرى عن عمر في ترك القضاء، فقد روى البيهقي من طريق الأعمش عن المسيب بن رافع عن زيد بن وهب قال: (بينما نحن جلوس في مسجد المدينة في رمضان والسماء متغيمة فرأينا أن الشمس قد غابت وأنَّا قد أمسينا فأُخرجت لنا عِساس من لبن من بيت حفصة فشرب عمر سدد خطاكم وشربنا فلم نلبث أن ذهب السحاب وبدت الشمس فجعل بعضنا يقول لبعض نقضي يومنا هذا فسمع بذلك عمر فقال: والله لا نقضيه وما تجانفنا لإثم). قال شيخ الإسلام: (إسناده أثبت من إسناد الرواية الأخرى، وقال قوله: الخطيب يسير: تأول ذلك من تأوله على أنه أراد خفة القضاء، لكن اللفظ لا يدل على ذلك) اهـ. وأخرجه في «المعرفة والتاريخ» (2/ 765). ورواية صهيب فيها نظر ففيها شعيب بن عمرو لم يوثقه سوى ابن حبان (¬1). ثالثًا: قول هشام: بدٌّ من القضاء من كلامه ولهذا قال في رواية معمر عنه لا أدري أقضوا أم لا. وقد خالفه أبوه وهو أعلم منه. قاله شيخ الإسلام - رحمه الله - ونقله ابن حزم عن عروة في ترك القضاء. رابعًا: دعوة الشارع إلى المسارعة بالفطر، قال شيخ الإسلام: (ومع الغيم المطبق لا يمكن اليقين الذي لا يقبل الشك إلا بعد أن يذهب وقت طويل من الليل يفوت المغرب، ويفوت تعجيل الفطور، والمصلي مأمور بصلاة المغرب وتعجيلها فدلَّ على أنه لا يستحب التأخير مع الغيم إلى أن يتيقن الغروب، فإن الصحابة لم يفعلوا ¬

(¬1) وفي «التقريب» مقبول، وتلميذه يوسف بن محمد أسوأ حالًا منه!

ذلك (¬1)، ولم يأمرهم به والصحابة مع نبيهم أعلم وأطوع لله ورسوله والفطر قبل صلاة المغرب أفضل بالاتفاق. خامسًا: (أنه لو كان القضاء واجبًا لنقل، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أمرهم بالقضاء لشاع ذلك كما نقل فطرهم، فلما لم ينقل دلَّ على أنه لم يأمرهم به) اهـ. من كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - (¬2)، والله أعلم (¬3). ¬

(¬1) يعني في حديث أسماء حديث الباب. (¬2) انظر ما ذكره ابن القيم في «تهذيب السنن» (3/ 236). (¬3) تم إعداده في سرر شعبان (آخره) 1414هـ.

التحرير في حكم قتل الخنزير قبل نزول عيسى - صلى الله عليه وسلم -

التحرير في حكم قتل الخنزير قبل نزول عيسى - صلى الله عليه وسلم - عن أبي هريرة سدد خطاكم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد» رواه الشيخان وغيرهما. فصل في كلام أهل العلم قال ابن القيم - رحمه الله - في «الهدي» (5/ 783): (وفي رواية أبي طالب - يعني عن الإمام أحمد - إذا أسلم وله خمر أو خنازير، تصب الخمر، وتُسرَّح الخنازير وقد حرُما عليه، وإن قتلها فلا بأس). وقال في «أحكام أهل الذمة» (1/ 61): (وقال يعقوب بن بختان: سألت أبا عبد الله عن خنازير أهل الذمة وخمورهم؟ قال: لا تقتل خنازيرهم فإن لهم عهدًا). وقال في «الطرق الحكمية» ص [251]: (وفي مسائل صالح قال أبي: يُقتل الخنزير ويُفسد الخمر ويُكسر الصليب ..). ثم ذكر حديث الباب بعد ذلك في جملة أحاديث مستدلًا بها على جواز التعزير بإتلاف المال، ثم قال: (فهؤلاء رسل الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم على محَقْ المحرَّم وإتلافه بالكلية). وقال في «شرح الشروط العمرية في أحكام أهل الذمة» (2/ 725): قوله: (ولا نجاورهم بالخنازير، ولا بيع الخمور) قال: ولا تكون الخنازير مجاورة لهم ويجوز أن يكون بالزاي أي لا نتعدى بها عليهم جهرة بل إذا أتينا بها إلى بيوتنا أتينا بها خفية بحيث لا يطلعون على ذلك.

فصل

وقال ابن قاسم في «حاشية الروض» (4/ 316) على قول صاحب الروض: (ويُمنعون من إظهار خمر وخنزير فإن فعلوا أتلفناهما) قال: أي أتلفنا الخمر والخنزير إذا أظهروهما في الأسواق وغيرها لتأذي المسلمين بذلك وفُشُوه فيهم، وإن لم يظهروهما لم نتعرض لهم. فصل قال الخطابي في «معالم السنن» «تهذيب السنن» (6/ 177): (قوله: ويقتل الخنزير: فيه دليل على وجوب قتل الخنزير .. وذلك أن عيسى - صلوات الله عليه - إنما يقتل الخنزير في حكم شريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن نزوله إنما يكون في آخر الزمان وشريعة الإسلام باقية). وقال البغوي في «شرح السنة» (15/ 81): (ومعنى قتل الخنزير تحريم اقتنائه وأكله وإباحة قتله؛ لأن عيسى - عليه السلام - إنما يقتلها على حكم شرع الإسلام، والشيء الطاهر المنتفع به لا يباح إتلافه). وقال النووي في «المجموع» (9/ 278): (لا يجوز اقتناء الخنزير سواء كان فيه عدوى تعدو على الناس أم لم يكن، لكن إن كان فيه عدوى وجب قتله قطعًا وإلا فوجهان: 1 - يجب قتله. 2 - يجوز قتله، ويجوز إرساله وهو ظاهر نص الشافعي). وقال في «الروضة» (10/ 259): (وإذا دخلنا دراهم - يعني الكفار- غُزاة قتلنا الخنازير وأرقنا الخمور). وقال الحافظ في «الفتح» (5/ 42): (وقال أبو عبد الملك: وأما قوله في كل كبد رطبة أجر) قال: مخصوص ببعض البهائم مما لا ضرر فيه، لأن المأمور بقتله كالخنزير لا يجوز أن يُقوَّى ليزداد ضرره .. ، وتعقبه ابن التين بقوله: (ولا يمتنع إجراؤه على عمومه يعني فيُسقى ثم يُقتل).

فصل

وقال الحافظ (5/ 121): (على قول البخاري باب كسر الصليب وقتل الخنزير، قال وفي إيراده هنا إشارة إلى أن من قتل خنزيرًا أو كسر صليبًا لا يضمن لأنه فعل مأمورًا، وقد أخبر - عليه السلام - أن عيسى سيفعله وهو إذ نزل كان مقررًا لشرع نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. ونقل الدَّميري في «حياة الحيوان» (1/ 303، 305) كلام الخطابي المتقدم وكلام النووي وقال: (ونقل ابن المنذر الإجماع على نجاسته وفي دعواه الإجماع نظر، لأن مالكًا يخالف فيه نعم هو أسوأ حالًا من الكلب فإنه يستحب قتله). فصل وقال العيني في «شرح البخاري» (10/ 349) تحت باب قتل الخنزير: (أي هذا باب في بيان قتل الخنزير هل هو مشروع كما شرع تحريم أكله؟ والجمهور على جواز قتله مطلقًا إلا ما روي شاذًّا عن بعض الشافعية أنه يترك الخنزير إذا لم يكن فيه ضراوة، وقال ابن التين: ومذهب الجمهور أنه إذا وجد الخنزير في دار الكفر وغيرها وتمكنَّا من قتله قتلناه. قلت: - القائل العيني -: ينبغي أن يُستثنى خنزير أهل الذمة لأنه مال عندهم، ونحن نهينا عن التعرض لأموالهم فإن قلت: يأتي عن قريب أن عيسى - عليه السلام - حين ينزل يقتل الخنزير مطلقًا. قلت: يقتل الخنزير بعد قتل أهله). فصل من مات وهو محرم هل يكمل حجه؟ وقال ابن حزم في «المحلى» (11/ 335): (فيمن سرق خمرًا لذمي أو لمسلم أو سرق خنزيرًا .. قال بعد كلام طويل: من سرقها لم يسرق مالًا لأحد، لا قيمة لها أصلًا ولا سرق شيئًا يحل إبقاؤه جملة،

فلا شيء عليه، والواجب هرقها على كل حال لمسلم وكافر وكذلك قتل الخنازير). تنبيه: روى حميد بن زنجويه في «الأموال» (1/ 180): (من طريق عبيد الله بن عمرو عن ليث بن أبي سليم أن عمر بن الخطاب كتب إلى العمال يأمرهم بقتل الخنازير ونقص أثمانها لأهل الجزية من جزيتهم). قلت: وهذا إسناد ضعيف، ليث ضعيف ولم يدرك عمر، هذا ما تيسر إيراده مع ضيق الوقت، والله أعلم (¬1). ¬

(¬1) تم إعداده بتاريخ 26/ 8/1413هـ.

من مات وهو محرم هل يكمل حجه؟

من مات وهو محرم هل يكمل حجه؟ المحرم إن مات في إحرامه هل يؤدى عنه ما بقي؟ الأصل في ذلك حديث ابن عباس - رضي الله عنهم - أن رجلًا كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقصته دابته وهو محرم، فمات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اغسلوه بماءٍ وسدرٍ وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه، فإنه يُبعث يوم القيامة مُلبيًا» متفق عليه. الحديث بوب عليه البخاري في «صحيحه»: باب المحرم يموت بعرفة، ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يؤدى عنه بقية الحج. قال الحسين بن مسعود البغوي في «شرح السنة» (5/ 323) بعدما ذكر الحديث: (وفي الحديث دليل على أن المحرم لا يؤدى عنه بقية الحج؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بذلك). ومن «الفتاوى السعدية» ص [251]: (إذا مات المحرم في أثناء النسك فهل يقضى عنه بقيته؟ الجواب: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه أن من مات، وقد شرع في النسك ولم يكمله أنه يكمل عنه مع وجود ذلك. بل الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة الذي وقصته راحلته عشية عرفة، أنه أمر بتغسيله وتجنيبه ما يتجنبه المحرم، وأخبر أنه يُبعث ملبيًا يوم القيامة. فهذا يدل على أنه من كرامته على الله، أن نسكه مستمر، وأنه يبعث يوم القيامة بصفة المحرمين. فلو كان في الإمكان أن يناب عنه في الدنيا، لكان نائبه بمنزلته،

وإذا كمل النسك، خرج منه الأصيل والنائب. وأيضًا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر فيه ولا في أمثاله أن يكمَّل عنه، وإنما الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أجاز النيابة في جميع النسك، لا في بعضه. ويؤيد هذا أن كل عبادة مات العبد قبل تكميلها، أنها لا تكمل عن صاحبها، فإما أن تسقط عنه ولا يلزم أن تقضى، وإما أن يقضى جميعها من أولها، فما الموجب لخروج النسك عن هذا الضابط العام؟ اهـ. وقال النووي في «المجموع» (7/ 122): (فرع إذا مات الحاج عن نفسه في أثنائه، هل تجوز النيابة على حجه؟ فيه قولان مشهوران (الأصح) الجديد لا يجوز كالصلاة والصوم و (القديم) يجوز لدخول النيابة فيه .. إلخ). وقال في «المغني» (5/ 40) ط. التركي: (ولو أحرم بالحج ثم مات صحت النيابة عنه فيما بقي من النسك سواء كان إحرامه لنفسه أو لغيره، نص عليه، لأنها عبادة تدخلها النيابة، فإذا مات بعد فعل بعضها قي عنه باقيها كالزكاة. قلت: لم يذكر رواية أخرى. وفي «الفتاوى الكبرى الفقهية» لابن حجر المكي (2/ 130) سؤال عمن أحرم بالحج تطوعًا ثم مات وقد بقي عليه نحو طواف الركن فهل يجب القضاء من تركته؟ فأجاب: لا قضاء عليه، لأن موجبه الفوات أو الإفساد ولم يوجد واحد منهما هنا، وتقصيره بنحو الطواف لو فرض أن فيه تقصيرًا لا يوجب القضاء كما هو ظاهر. وقال في «الفتاوى الهندية» العالمكيرية (1/ 260): (الحاج عن الميت إذا مات بعد الوقوف بعرفة أجزأه عن الميت ولو لم يمت

ورجع قبل طواف الزيارة فهو حرام عن النساء فيرجع بغير إحرام بنفقته ويقي ما بقي كذا في الذخيرة في فصل المأمور بالحج) اهـ. وقال في «حاشية رد المحتار» لابن عابدين (2/ 594): (قوله فلتمام حجه به) قالوا المأمور بالحج إذا مات بعد الوقوف بعرفة قبل طواف الزيارة يكون مجزئًا (بحر). وفي موضع آخر (2/ 604) قال: وفي التجنيس: إذا مات بعد الوقوف بعرفة أجزأ عن الميت لأن الحج عرفة بالنص (¬1). ¬

(¬1) قرئ على شيخنا بتاريخ 21/ 8/1412هـ قرأه أخي نمر بن تركي في منزل الشيخ فاختار الشيخ أنه إن مات بعد الوقوف أجزأه ولا يقضي عنه.

تحبير المقال في حديث الأوعال

تحبير المقال في حديث الأوعال الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. حديث العباس بن عبد المطلب سدد خطاكم قال: (كنا جلوسًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبطحاء، فمرت سحابة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتدرون ما هذا؟» قلنا: السحاب. قال: «والمُزن»، قلنا: المزن، قال: «والعنان»، قال: فسكتنا، قال: «هل تدرون كم بين السماء والأرض؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين رُكبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تبارك وتعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء». رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وابن خزيمة، وعثمان الدارمي في الرد على الجهمية، وعلى المريسي، وابن أبي عاصم، والآجري، وأبو الشيخ، وابن منده، واللالكائي، والطبري، والبيهقي، وأبو يعلى، والجوزقاني (¬1)، وابن الجوزي من طرق عن سماك بن حرب عن عبد الله بن عميرة، عن الأحنف بن قيس عن العباس سدد خطاكم به .. وقد رواه عن سماك أربعة، وهم: إبراهيم بن طهمان، وعمرو بن أبي قيس، ¬

(¬1) اختلف في نسبته فقيل الجَورقاني، وقيل الجُورقاني، وقيل الجُوزقاني، وبه ضبطه ابن حجر في «اللسان». وقال شيخنا: يقال: والجوزقي.

والوليد بن أبي ثور، وشعيب بن خالد .. وهذا تفصيل رواياتهم: أما رواية إبراهيم بن طهمان فقد أخرجها أبو داود «عون» (13/ 10) في سننه، وابن منده في «كتاب التوحيد ومعرفة أسماء الله» (1/ 115)، والآجري في «الشريعة» ص [292]، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 158)، والجوزقاني في «الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير» (1/ 77) كلهم من طرق عنه به. وأما رواية عمرو بن أبي قيس فقد أخرجها أبو داود «عون» (13/ 10) والترمذي في جامعه «تحفة» (9/ 233) وابن أبي عاصم في «كتاب السنة» برقم [577]، وابن خزيمة في «كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب» (1/ 234)، وابن منده في «التوحيد» (1/ 114)، وأبو الشيخ في «العظمة» (2/ 566)، واللالكائي، والطبري في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» (3/ 389) كلهم من طرق عنه به. وأما رواية الوليد بن أبي ثور فقد أخرجها أحمد في «مسنده» (1/ 207)، وأبو داود في سننه «عون» (13/ 5)، وابن ماجه في «سننه» (1/ 69)، وابن خزيمة في «التوحيد» (1/ 236)، والآجري في «الشريعة» ص [292]، واللالكائي، والطبري في «شرح أصول الاعتقاد» (3/ 390)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 24) كلهم من طرق عنه به. وأما رواية شعيب بن خالد فقد أخرجها أحمد في «مسنده» (1/ 206)، وأبو يعلى الموصلي في «مسنده» برقم [6713]، والحاكم في «مستدركه» (1/ 378)، وابن الجوزي في «العلل» (1/ 23) عنه به، ولكنها لا تصح؛ لأنها عندهم من طريق يحيى بن العلاء عن شعيب، ويحيى كذبه أحمد وقال في «التقريب»: (رمي بالوضع). تنبيه: سقط من طريق شعيب الأحنف بن قيس بين ابن عميرة والعباس سدد خطاكم مداره على عبد الله بن عميرة وتلميذه سماك بن حرب، قال في «التهذيب»: (5/ 344) عن عبد الله بن عميرة:

كوفي روى عن الأحنف بن قيس عن العباس حديث الأوعال، وعنه سماك بن حرب وفيه عن سماك اختلاف، وقال البخاري: (لا يعلم له سماع من الأحنف، وذكره ابن حبان في الثقات، وحسَّن الترمذي حديثه .. ولخص الكلام عليه في «التقريب» بقوله: (مقبول). وسماك بن حرب «قال أحمد: مضطرب الحديث، وقال أبو حاتم: ثقة صدوق، وقال صالح جزرة: يضعف، وقال العجلي: جائز الحديث، وقال ابن المديني: روايته عن عكرمة مضطربة، وقال يعقوب بن شيبة: هو في غير عكرمة صالح الحديث، وليس من المتثبتين» قاله في «الميزان». وقال في «التقريب»: صدوق وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغيَّر بآخره فكان ربما تلقن. طريق آخر: عن الحسن عن أبي هريرة سدد خطاكم مرفوعًا، رواه أحمد في مسنده (2/ 370) قال: حدثنا سريج، حدثنا الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن الحسن به. والترمذي «تحفة» (9/ 185): قال حدثنا عبد بن حمُيد وغير واحد - المعنى واحد - قالوا: أخبرنا يونس بن محمد شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة قال حدث الحسن به. وابن أبي عاصم في «السنة» (1/ 254): قال حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، حدثنا أبو جعفر الرازي عن قتادة به. والبيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 143) من طريق آدم بن أبي إياس، حدثنا شيبان حدثنا قتادة به. ولفظه عندهم نحو حديث العباس دون ذكر الأوعال في آخره. وفيه الحسن عن أبي هريرة ولم يسمع منه عند الجمهور. طريق آخر: عن أبي ذر سدد خطاكم مرفوعًا:

رواه البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 144) من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي ذر سدد خطاكم ومن طريق البيهقي أخرجه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 26) غير أنه زاد بين الأعمش وأبي ذر أبا نصر، وهو مختصر دون ذكر الأوعال. طريق آخر موقوف على ابن مسعود سدد خطاكم. قال الطبراني في «الكبير» (9/ 228): حدثنا زكريا بن يحيى الساجي، حدثنا هدبة بن خالد، ثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن ابن مسعود مختصر دون ذكر الأوعال .. قال في «المجمع» (1/ 86): ورجاله رجال الصحيح. ورواه البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 245): من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد به، ورواه البيهقي أيضًا من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود سدد خطاكم .. دون ذكر الأوعال. ورواه الحاكم في «مستدركه» (2/ 378) من طريق شريك عن سماك .. غير أنه وقفه على العباس سدد خطاكم ولفظه عن العباس سدد خطاكم في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحافة: 17]. أملاك على صورة الأوعال بين أظلافهم وركبهم مسيرة ثلاث وستين سنة أو خمس وستين سنة. فائدة: انقسم العلماء في الحكم على هذا الحديث ثلاثة أقسام: قسم رأى جودته وصحته منهم ابن خزيمة، فقد صرح في مقدمة كتاب التوحيد أنه لا يذكر إلا ما صح وثبت، وقد ذكره كما تقدم، وحسنه الترمذي، وسكت عنه أبو داود، وقد قال: وما سكت عنه فهو صالح، وصححه الجوزقاني في كتاب الأباطيل، وقواه أبو العباس بن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» (3/ 191)، وابن القيم في «تهذيب

السنن» (7/ 91)، وكذلك صححه الحاكم. وقسم بالغ فقال: هو مُتلقف من الإسرائيليات قاله ابن العربي في «شرح الترمذي» (12/ 218) وتوسط جمع كثير فقالوا: ضعيف، والله أعلم. تنبيه: وقع في بعض الروايات تقدير المسافة بخمسمائة سنة، وفي بعضها باثنتين أو ثلاث وسبعين سنة. قال ابن القيم في «تهذيب السنن» (7/ 94): (فحيث قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسبعين أراد به السير الريع سير البريد، وحيث قدر بالخمسمائة أراد به السير الذي يعرفونه سير الإبل والركاب، فكل منهما يصدق الآخر، ويشهد بصحته، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] (¬1). ¬

(¬1) تم إعداده وقراءته يوم الخميس 13/ 6/1413هـ، وعلَّق الشيخ بقوله: (إن حديث الأوعال لا بأس به حسن).

بزوغ القمرين في تخريج حديث نهيت عن صوتين

بزوغ القمرين في تخريج حديث نهيت عن صوتين قال الترمذي في «سننه» (4/ 87): (حدثا علي بن خشرم، أخبرنا عيسى بن يونس عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن جابر بن عبد الله سدد خطاكم قال: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد عبد الرحمن بن عوف فانطلق به إلى ابنه إبراهيم فوجده يجود بنفسه، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعه في حجره فبكى فقال له عبد الرحمن: أتبكي؟ أولم تكن نهيت عن البكاء؟ قال: «لا، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة خمش وجوه، وشق جيوب، ورنَّة الشيطان». ورواه أبو داود الطيالسي في «مسنده» (1/ 159منحة)، والبزار في «مسنده» (1/ 380 كشف)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (3/ 62)، وعبد بن حمُيد كما في «المنتخب» [1004]، وابن سعد في «الطبقات» (1/ 138)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 293)، والحاكم في «المستدرك» (4/ 40)، والبيهقي في «السنن» (4/ 69)، والحكيم الترمذي في «المنهيات» ص [42]، والآجري في «ذم الملاهي» ص [119]، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 431)، كلهم من طرق عن ابن أبي ليلى به، وزاد نسبته في «نصب الراية» إلى مسند إسحاق وأبي يعلى. ووقع في بعض ألفاظه: «صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة». وفي لفظ: «صوت عند نعمة» بالمهملة ورجحه المُناوي في «الفيض» لمقابلته المصيبة. والحديث حسنه الترمذي وفي بعض النسخ بزيادة صحيح، وصححه الطحاوي بإيراده في شرح معاني الآثار محتجًّا به كما يُعلم

ذلك من مقدمته، وصححه الحاكم ولم يتعقبه الذهبي بشيء، وسكت عنه الحافظ في «الفتح» (3/ 74). ومداره على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال شعبة: (ما رأيت أسوأ من حفظه، وقال القطان: سيئ الحفظ جدًّا، وقال ابن معين: ليس بذاك، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي، وقال الدارقطني: رديء الحفظ كثير الوهم ..) اهـ من «ديوان الضعفاء» للذهبي (2/ 603). وفي «التقريب»: صدوق سيء الحفظ جدًّا. ثم رأيت له شاهدًا رواه البزار في «مسنده» (1/ 377 كشف) قال: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم، حدثنا شبيب بن بشر البجلي، قال سمعت أنس سدد خطاكم يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة، مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة». قال البزار: لا نعلمه عن أنس إلا بهذا الإسناد. قال الهيثمي في «المجمع» (3/ 13): رجاله ثقات، وسبقه إلى ذلك المنذري في «الترغيب» وصدَّره بقوله: وعن أنس .. ومن اصطلاحه في هذه اللفظة التصحيح أو التحسين أو ما قاربهما كما صرح بذلك في المقدمة. قلت: وهذا إسناد صحيح لولا شبيب بن بشر البجلي .. فقد ليَّنه أبو حاتم ووثَّقه ابن معين، وفي «التقريب» صوق يخطئ روى له الترمذي وابن ماجه. اهـ. وعمرو بن علي الفلاس، وأبو عاصم الضحاك بن مخلد ثقتان جليلان من رجال الجماعة. فحديث أنس هذا شاهد للطريق الأولى فالحديث حسن على أقل الأحوال، قال الحافظ في «النخبة»: (ومتى توبع السيء الحفظ بمعتبر وكذا المستور، والمرسل، والمدلس صار حديثهم حسنًا لا لذاته بل بالمجموع) اهـ.

وحديث أنس هذا رواه الضياء في «المختارة»، وقد قال ابن تيمية في أحاديثه هو أعلا مرتبة من تصحيح الحاكم وهو قريب من تصحيح الترمذي وأبي حاتم البُستي، وقواه أبو العباس في «الاستقامة» (1/ 292) وحسنه الألباني وزاد نسبته لأبي بكر الشافعي في «الرباعيات» (وإن كان لم يذكر كثيرًا من الطرق الماضية) وصححه الغماري بإيراده في كتابه «الكنز الثمين»، وحسنه الشيخ حمود التويجري - رحم الله الجميع - في رده على أبي تراب الظاهري. والحمد لله أولًا وآخرًا ظاهرًا وباطنًا (¬1). ¬

(¬1) قرئ على شيخنا يوم الخميس 1/ 11/1413هـ فقال بعد قراءة العنوان: (هدانا الله وإياه) يعني عبد الله!، وقال بعد قراءة البحث: (جزاك الله خيرًا .. كلام في محله) بحروفه.

بحث في صلاة من أغمى عليه

بحث في صلاة من أغمى عليه فصل في المروي مرفوعًا: روى الدارقطني في «سننه» (2/ 82) من طريق عبد الله بن حسين عن الحكم بن عبد الله بن سعد الأيلي أن القاسم بن محمد بن أبي بكر حدثه أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يُغمى عليه فيترك الصلاة فقال: «ليس بشيء من ذلك قضاء إلا أن يغمى عليه في وقت صلاة فيفيق وهو في وقتها فيصليها». ورواه البيهقي في «سننه» (1/ 388) عن عبد الله بن الحسين به نحوه، وقال عقبة: عبد الله بن الحسين ذكره البخاري في التاريخ وقال فيه نظر، والحكم بن عبد الله الأيلي تركوه كان ابن المبارك يوهِّنه ونهى أحمد عن حديثه. اهـ. قلت: الأمر كما قال البيهقي، وفي «التقريب»: ضعيف، والحكم بن عبد الله بن سعد الأيلي ترجمه في «الميزان» (1/ 572). قال أحمد: أحاديثه كلها موضوعة، وقال السعدي وأبو حاتم: كذاب، وقال النسائي والدارقطني وجماعة: متروك الحديث. اهـ. قلت: لا يصح في المسألة خبر مرفوع، والله أعلم. فصل في الآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم -: ما روي عن عمار سدد خطاكم: قال ابن أبي شيبة في «مصنفه»: (حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن السدي عن رجل يُقال له يزيد عن عمار بن ياسر أنه أغمي عليه الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأفاق في بعض الليل فقضاهن). ورواه عبد الرزاق وابن عبد البر في «الاستذكار»، والدارقطني

والبيهقي عن سفيان به مثله إلا أن الدارقطني قال عن يزيد مولى عمار. قلت: يزيد مولى عمار ترجمه في «الجرح» وبيَّض له فلم يذكر فيه شيئًا، وقال شمس الحق آبادي في تعليقه على سنن الدارقطني: يزيد مولى عمار مجهول، وقال البيهقي في «المعرفة»: قال الشافعي: هذا ليس بثابت عن عمار، ولو ثبت فمحمول على الاستحباب. قاله في «نصب الراية». وروى ابن المنذر في «الأوسط» من طريق عبد الله بن الحارث بن فضيل الخطمي عن أبيه عن لولوة مولاة عمار أنه أغمي عليه ثلاثًا فترك الصلاة ثم أفاق فدعا بوضوء فتوضأ ثم ابتدأ صلوات الثلاث حتى فرغ منها. ورواه من وجه آخر عن عبد الله بن الحارث به، وقال عن أم سعيد مولاة عمار: فلعل اسمها لولوة وكنيتها أم سعيد، وبكل حال لم أجد لها ترجمة بعد البحث الكثير عنها، والله أعلم. ما روي عن عمران بن حصين وسمرة بن جندب - رضي الله عنهما -. قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا حفص عن التيمي عن أبي مجلز قال: قيل لعمران بن حصين إن سمرة بن جندب يقول في المغمى عليه يقضي مع كل صلاة مثلها؟ فقال عمران: ليس كما يُقال يقضيهم جميعًا. ورواه ابن المنذر عن سليمان التيمي به ولفظه: قال عمران: ليصليهن جميعًا. ورواه ابن عبد البر في الاستذكار من طريق حفص بن غياث به مقتصرًا على قول عمران بن حصين سدد خطاكم. قلت: وهذا إسناد صحيح إلى الصاحبين - رضي الله عنهما -. ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -:

روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر أغمي عليه فذهب عقله فلم يقض الصلاة. ورواه ابن أبي شيبة عن نافع ولفظه: «أنه أغمي عليه يومين فلم يقضِ». ورواه عبد الرزاق عن العمري المكبَّر لكن قال: يومًا وليلة. ورواه إبراهيم الحربي من طريق العمري المصغَّر مثله. ولعبد الرزاق من وجه آخر عن نافع فذكر شهرًا ولم يقض. ورواه محمد بن الحسن الشيباني من طريق مالك مثله. وروى الدارقطني من طرق عن نافع في بعضها يوم، وبعضها يومان، وبعضها ثلاثة، ولم يقض فيها. ورواه البيهقي وابن المنذر عن نافع به نحوه. وهذا إسناد في غاية الصحة عنه سدد خطاكم. تنبيه: روى محمد بن الحسن ما يخالف ما تقدم عن ابن عمر فقال: أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي عن ابن عمر في المغمى عليه يومًا وليلة قال: يقضي. قلت: وفي هذا الإسناد نظر، فإن أبا حنيفة - رحمه الله - مع جلالته وإمامته تكلم في حفظه فقد ضعفه من جهة حفظه البخاري ومسلم والنسائي وابن عدي، وأيضًا شيء آخر: فإبراهيم النخعي قال أبو حاتم: لم يلق أحدًا من الصحابة إلا عائشة ولم يسمع منها، وأدرك أنسًا ولم يسمع منه. ثم هذا يخالف مذهب ابن عمر الذي نقله عنه أصحابه الحجازيُّون وهم به أبصر، والله أعلم. ما روي عن أنس سدد خطاكم: قال ابن المنذر: حدثنا كثير بن شهاب، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، ثنا عمرو ابن أبي قيس عن عاصم قال: أغمي على

أنس بن مالك سدد خطاكم فلم يقض صلاته. اهـ. قلت: وهذا إسناد جيد وعاصم هو ابن سليمان الأحول. حديث: «يأتي على الناس زمان يأكلون الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره». في كلام الأئمة: قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (1/ 289): ذهب مالك والشافعي وأصحابه إلى مذهب ابن عمر وهو قول طاووس، والحسن، وابن سيرين، والزهري، وربيعة، والأوزاعي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وبه قال أبو ثور، وكل هؤلاء يجعل وقت الظهر والعصر النهار كله إلى الغروب، ووقت المغرب والعشاء الليل كله على ما تقدم من أصولهم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن أغمي عليه يومًا وليلة قضى، وإن أغمي عليه أكثر لم يقض، وجعلوا من أغمي عليه يومًا وليلة في حكم النائم، ومن أغمي عليه أكثر في حكم المجنون الذي رفع عنه القلم. قال: وقال عبيد الله بن الحسن: المغمى عليه كالنائم يقي كل صلاة من أيام إغمائه، وبه قال أحمد بن حنبل وهو قول عطاء. اهـ. وقال ابن حزم في «المحلى» (2/ 234): والمغمى عليه لا يعقل ولا يفهم، فالخطاب عنه مرتفع، وإذا كان من ذكرنا غير مخاطب بها في وقتها الذي أُلزم الناس أن يؤدوها فيه، فلا يجوز أداؤها في غير وقتها؛ لأنه لم يأمر الله بذلك، وصلاة لم يأمر الله بها لا تجب، وبالله التوفيق. اهـ. وانظر: «التمهيد» (3/ 290) فهو مهم. وقال ابن المنذر في «الأوسط» (4/ 394): الإغماء مرض من الأمراض، والذي يلزم المريض إذا عجز عن القيام أن يصلي قاعدًا، ويسقط عنه فرض القيام لعجزه عن ذلك، فإن لم يستطع أن يصلي

قاعدًا صلى على جنب يومئ على قدر طاقته، وسقط عنه فرض القعود، فإذا أغمي عليه فلم يقدر على الصلاة بحال فلا شيء عليه؛ لأنه لما قالوا: يسقط عن المريض كل عمل لا سبيل له إليه، فكذلك لا سبيل للمغمى عليه إلى الصلاة في حال إغمائه، وإذا لم يكن عليه في تلك الحال صلاة لم يجز أن يوجب عليه ما لم يكن عليه، وإلزام القضاء إلزام فرض، والفرض لا يجب باختلاف، ولا حجة مع من فرض عليه قضاء ما لم يكن عليه حال الإغماء، وليس كالنائم الذي يوجد السبيل إلى انتباهه، وهو سليم الجوارح، لأن المغمى عليه واهي الجوارح من تعبها لا سبيل لأهله إلى تنبيهه، فإن أفاق المغمى عليه وقد بقي مقدار ما يصلي ركعة قبل غروب الشمس فعليه العصر، وإن أفاق قبل طلوع الفجر بركعة صلى العشاء، وإن أفاق قبل طلوع الشمس بركعة صلى الصبح، وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» بيان لمن وفق لفهمه أنه غير مدرك لغيرها، إذ لو كان مدركًا لغيرها لكان بيان ذلك في الحديث. اهـ. وقال السرخسي في «المبسوط» (1/ 217): (والفقه أن الإغماء إذا طال يجعل كالطويل عادة وهو الجنون، وإذا قصر يجعل كالقصير عادة وهو النوم، فيحتاج إلى الحد الفاصل بين القصير والطويل، فإن كان يومًا وليلة أو أقل فهو قصير؛ لأن الصلاة لم تدخل في حدِّ التكرار، وإن كان أكثر من يوم وليلة يكون طويلًا؛ لأن الصلاة دخلت في حدِّ التكرار» اهـ. وقال صالح بن أحمد في «مسائله» (2/ 201): لأبيه - رحمه الله -. قلت: المغمى عليه كم يعيد؟ قال: يعيد الصلاة كلها. قلت: فإن ابن عمر أُغمي عليه أكثر من ليلة فلم يعد الصلاة؟ قال: روي عن عمار أنه أغمي عليه ثلاثًا فقضى، وروي عن عمران بن حصين

وسمرة بن جندب أنه يعيد، قال سمرة مع كل صلاة صلاة يقول: مع الظهر الظهر، ومع العصر العصر، قال عمران: بل يعيدهن جميعًا، فمن ذهب إلى حديث ابن عمر يقول: إن القلم عنه مرفوع فلا يعيد شيئًا، فأما من قال: خمس صلوات، فلا نعلم له معنى، إما أن يعيد الصلوات كلهن، وإما لا يعيد. هذا ما تيسر جمعه، والله الهادي إلى سواء السبيل (¬1). ¬

(¬1) تم إعداده ليلة الأحد 11/ 5/ 1415هـ وعلَّق شيخنا بقوله: (الأحوط ثلاثًا، لأنه روي عن عمار، ولأن الثلاث جاءت في عدة أمور، وإطلاق سمرة وعمران ليس بجيد، يوجد أناس يغمى عليهم شهور .. فإذا كان الإغماء قصيرًا يُشبَّه بالنوم أقرب، والأصل عدم القضاء إذا خرج الوقت .. لكن إذا احتاط فثلاثة أيام يقضيها) بحروفه.

حديث: «يأتي على الناس زمان يأكلون الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره». رواه أحمد في «مسنده» (2/ 494): قال حدثنا هشيم عن عباد بن راشد عن سعيد بن أبي خيرة قال: حدثنا الحسن منذ نحو من أربعين سنة عن أبي هريرة سدد خطاكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال، فذكره. ورواه أبو داود في «سننه» (3/ 243): قال: حدثنا محمد بن عيسى قال: حدثنا هشيم به بنحوه. ورواه النسائي في «المجتبى» (7/ 243) قال: أخبرنا قتيبة قال: حدثنا ابن أبي عدي عن داود بن أبي هند عن سعيد بن أبي خيرة به. ورواه أبو داود (3/ 243) قال: حدثنا وهب بن بقية قال: أخبرنا خالد عن داود - يعني ابن أبي هند - به نحوه وفيه: «أصابه من بخاره». رواه ابن ماجه في «سننه» (2/ 765) قال: حدثنا عبد الله بن سعيد قال: حدثنا إسماعيل بن عُلية قال: حدثنا داود بن أبي هند به. ورواه الحاكم في «مستدركه» (2/ 11) من طريق خالد بن عبد الله عن داود بن أبي هند (¬1) عن الحسن عن أبي هريرة .. وقال عقبة: وقد اختلف أئمتنا في سماع الحسن عن أبي هريرة فإن صح سماعه منه فهذا حديث صحيح. ورواه البيهقي في «سننه» (5/ 275) من طريق هشيم قال: أنبأنا عباد بن راشد قال: سمعت سعيد بن أبي خيرة يحدث داود بن أبي ¬

(¬1) كذا بإسقاط سعيد بن أبي خيرة.

هند قال: حدثنا الحسن بن أبي الحسن منذ أربعين سنة أو نحو ذلك عن أبي هريرة فذكره. ورواه كذلك من طريق أبي داود الثانية بإسناده ومتنه سواء. ورواه ابن عدي في «الكامل» (4/ 1647) من طريق المسيَّب بن واضح قال: حدثنا ابن المبارك عن عبَّاد بن راشد عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن به. ومدار هذا الحديث على الحسن وهو البصري الزاهد المشهور، وسماعه من أبي هريرة مختلف فيه، والمنقول عن أكثر الأئمة الكبار نفي سماعه، كما قال أحمد وابن معين، وابن المديني، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والبزَّار، والنسائي، والترمذي، وكذلك قاله أيوب وبهز ابن أسد، ويونس بن عبيد، وعلي بن زيد .. ولهذا قال المنذري في «الترغيب والترهيب» (3/ 10): (والجمهور على أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة) فالحديث منقطع (¬1). ¬

(¬1) وقرئ على شيخنا بتاريخ 16/ 4/1413هـ يوم الاثنين.

بحث في مشروعية ستر قبر المرأة عند الدفن

بحث في مشروعية ستر قبر المرأة عند الدفن روى عبد الرزاق في مصنفه (3/ 498) عن معمر عن أبي إسحاق قال: حضرت جنازة الحارث الأعور الحوتي وكان من أصحاب علي وابن مسعود - رضي الله عنهما - فرأيت عبد الله بن يزيد الأنصاري كشف ثوب النعش عنه حين أُدخل القبر وقال: إنما هو رجل، وقال: رأيت الذريرة على كفنه، واستلّه من نحو رجل القبر، ثم قال: هكذا [السنة] (¬1) ورواه من طريق الثوري عن أبي إسحاق نحوه (3/ 500). ورواه البيهقي من طريق زهير عن أبي إسحاق أنه حضر جنازة الحارث الأعور فأبى عبد الله بن يزيد أن يبسطوا عليه ثوبًا، وقال: إنه رجل قال أبو إسحاق وكان عبد الله بن يزيد قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا إسناد صحيح وإن كان موقوفًا رواه جماعة عن أبي إسحاق. اهـ. كلام البيهقي (4/ 54). قال الحافظ في «التلخيص»: إسناده صحيح (2/ 129). ورواه مختصرًا ابن أبي شيبة في «مصنفه» (3/ 16). قلت: وعبد الله بن يزيد روى عنه أبو إسحاق كما في «التهذيب وفي التقريب» صحابي صغير ولي الكوفة لابن الزبير. وروى البيهقي في «سننه» (1/ 54) عن علي بن الحكم عن رجل من أهل الكوفة عن علي بن أبي طالب سدد خطاكم أنه أتاهم قال: ونحن ندفن ميتًا وقد بُسط الثوب على قبره فجذب الثوب من القبر وقال: إنما يُصنع هذا بالنساء، ثم أسنده البيهقي وقال: هو في معنى المنقطع لجهالة الرجل من أهل الكوفة. قال الحافظ في «التلخيص» (2/ 129): (وروى أبو يوسف ¬

(¬1) انظر: حاشية المصنف.

القاضي بإسناد له عن رجل عن علي ..) مثله. وروى البيهقي في «سننه» (4/ 54) من طريق يحيى بن عقبة عن علي بن بذيمة الجزري عن مقسم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (جلل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبر سعد بثوبه). وقال عقبة: (لا أحفظه إلا من حديث يحيى بن عقبة بن أبي العيزار وهو ضعيف) اهـ. وضعفه البغوي في «شرح السنة» (5/ 399). ورواه من وجه آخر مرسل ابن أبي شيبة في «مصنفه» (3/ 16). قلت: (يحيى بن عقبة: قال ابن معين فيه ليس بشيء، وقال أبو حاتم: متروك الحديث، وضعفه أبو زرعة) (¬1). ورواه عبد الرزاق في «مصنفه» (3/ 500) عن ابن جريج عن رجل عن الشعبي أن زيد ابن مالك قال: «أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بثوب فسُتر على القبر حين دلَّى سعد بن معاذ فيه» .. الحديث، وقد ضعفه النووي في «المجموع» (5/ 255). وذكر ابن أبي شيبة آثارًا عن شريح والحسن في المنع من ستر قبر الرجل بثوب. قال في «المغني» .. مسألة قال: (والمرأة يخُمر قبرها بثوب). قال: لا نعلم في استحباب هذا بين أهل العلم خلافًا وقد روى ابن سيرين أن عمر كان يغطي قبر المرأة .. ثم ذكر أثر عليٍّ المتقدم وذكر مثله عن أنس سدد خطاكم قال: ولأن المرأة لا يؤمن أن يبدو منها شيء فيراه الحاضرون فإن كان الميت رجلًا كره ستر قبره لما ذكرنا .. ثم قال: ولأن كشفه أمكن وأبعد من التشبه بالنساء مع ما فيه من أتباع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.اهـ. (3/ 429). ¬

(¬1) كما في «الجرح» (9/ 179).

وفي «المجموع» (5/ 255) قال: (ويستحب أن يُسجَّى القبر بثوب عند الدفن سواء كان رجلًا أو امرأة، هذا هو المشهور الذي قطع به الأصحاب قالوا: والمرأة آكد، وحكى الرافعي وجهًا أن الاستحباب مختص بالمرأة، واختاره ابن عبدان أبو الفضل من أصحابنا، وهو مذهب أبي حنيفة) اهـ. قلت: فأصبح ستر قبر المرأة هو قول الجمهور، وفيه أثر عبد الله بن يزيد وهو جيد، وأثر عمر وعلي وأنس، وأثر علي ضعيف، وأثر عمر وأنس لم أرهما، وفيه آثار لبعض التابعين، والله أعلم (¬1). ¬

(¬1) قرئ على شيخنا بمنزله بتاريخ 24/ 10/1413هـ، ثم سألته بعد ذلك عنه فقال: (جزاك الله خيرًا هذا بحث جيد) بحروفه واعتمد ما فيه.

إيقاد المجامر بضعف حديث المطاهر

إيقاد المجامر بضعف حديث المطاهر قال الطبراني في «الأوسط»: (حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، ثنا محرز بن عون، ثنا حسان بن إبراهيم عن عبد العزيز بن أبي روَّاد عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قلت يا رسول الله، الوضوء من جر جديد مخمر أحب إليك أم من المطاهر؟ قال: «لا بل من المطاهر، إن دين الله يسر الحنيفية السمحة» قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث إلى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه يرجو بركة أيدي المسلمين). رواه أبو نعيم في «الحلية» (8/ 203)، حدثنا محمد بن علي بن خنيس، ثنا أحمد بن يحيى الحلواني به، وقال عقبة غريب تفرد به حسان بن إبراهيم لم نكتبه إلا من حديث محرز. قلت: هكذا رواه حسان متصلًا وقد أرسله غيره، فقد رواه عبد الرزاق في «مصنفه» (1/ 74). عن عبد العزيز بن أبي روَّاد قال: (أخبرني محمد بن واسع أن رجلًا قال: يا رسول الله: جر مخمر جديد أحب إليك أن تتوضأ منه أو مما يتوضأ الناس منه أحب؟ قال: «أحب الأديان إلى الله الحنيفية» وقيل: وما الحنيفية؟ قال: «السمحة» قال: الإسلام الواسع). ورواه أبو نعيم في «الحلية» (8/ 203): من طريق أبي علي محمد بن أحمد بن واسع أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره حتى قوله: إن أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحاء» قال أبو نعيم: رواه خلاد عن عبد العزيز عن محمد بن واسع مرسلًا، ورواه حسان بن إبراهيم متصلًا. ورواه ابن عدي في «الكامل» من الوجهين متصلًا ومرسلًا، فقال (2/ 783): «ثنا ابن صاعد، ثنا محمد بن حرب، ثنا هارون بن عون،

ثنا حسان بن إبراهيم، ثنا عبد العزيز بن أبي روَّاد عن نافع عن ابن عمر أنه قيل: يا رسول الله! الوضوء من جرجديد مخمر أحب إليك أم من المطاهر؟ قال: «بل من المطاهر، إن دين الله - عز وجل - الحنيفية السمحاء». اهـ. هكذا متصلًا دون آخره. ورواه مرسلًا: «ثنا ابن صاعد، ثنا القاسم بن يزيد الوزان، ثنا وكيع، قال عبد العزيز بن أبي رواد عن محمد بن واسع الأزدي، جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -» فذكر نحوه. اهـ. ذكره ابن عدي في ترجمة حسان مما أنكر عليه. قلت: فقد رواه عن عبد العزيز بن أبي رواد أربع أنفس: حسان بن إبراهيم، وعبد الرزاق، ووكيع، وخلاد تفرد حسان برفعه وأرسله الباقون، وقد غمز أبو نعيم رواية حسان المتصلة حيث قال: رواه حسان بن إبراهيم متصلًا، وبعد سياقه لها قال: غريب تفرد به حسان، وكذلك ابن عدي فإنه ساق الرواية المرسلة عقب المتصلة. ثم قد خالف حسان فأرسله عبد الرزاق ووكيع الإمامان الجليلان فهما أحفظ منه وأثبت. وشيء آخر: أن حسان له ما يستنكر، قال الحافظ في التهذيب (2/ 245): «وجاء أن أحمد أنكر عليه بعض حديثه، وقال العقيلي: في حديثه وهم ... وقال ابن حبان في «الثقات»: ربما أخطأ» اهـ. قال ابن عدي: ولحسان شيء من الأصناف وله حديث كثير، وقد حدث بإفرادات كثيرة عن أبان بن تغلب عن إبراهيم الصائغ عن ليث بن أبي سليم وعاصم الأحول وسائر الشيوخ فلم أجد له أنكر مما ذكرته من هذه الأحاديث، وحسان عندي من أهل الصدق إلا أنه يغلط في الشيء، وليس ممن يظن به أنه يتعمد في باب الرواية إسنادًا أو متنًا وإنما هو وهم منه وهو عندي لا بأس به.

ثم الزيادة: «وكان يبعث إلى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه يرجو بركة أيدي المسلمين». قد تكون لو حفظت أن الراوي قالها تفقهًا وظنًّا والظن أنها من كلام غير ابن عمر. وبكل حال هي رواية ضعيفة منكرة، والمحفوظ في الرواية الإرسال دون قوله: وكان يبعث ... إلخ. فالعلل فيها الإدراج والإرسال والنكارة. فأصبحت ضعيفة إسنادًا منكرة متناً، كيف وقال قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حينما قالوا له: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال لهم: «الله أكبر: إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة». رواه أحمد وأهل السنن وهو من أحاديث كتاب «التوحيد» لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وبوَّب عليه، باب من تبرك بشجرة أو حجر أو نحوهما ... يعني فقد أشرك. وإنما كتبت هذا لما رأيت الشيخ العلامة المحدث الألباني قد جوَّد الرواية المرفوعة المتصلة مع السياق المذكور فأوهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتبرك بما مسته أيدي المسلمين وتبين لك أخي ضعف الرواية وعدم صحتها، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (¬1). ¬

(¬1) كتب بطلب من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -.

تخريج حديث إباحة الصلاة بمكة في وقت النهي

تخريج حديث إباحة الصلاة بمكة في وقت النهي عن مجاهد عن أبي ذر سدد خطاكم أنه أخذ بحلقة باب الكعبة فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا بعد الفجر حتى تطلع الشمس إلا بمكة إلا بمكة». رواه أحمد في «مسنده» (5/ 165): ثنا يزيد عن عبد الله بن المؤمَّل عن قيس بن سعد عن مجاهد به. ورواه الدارقطني (1/ 424) (2/ 265) والبيهقي (2/ 461)، والفاكهي في «أخبار مكة» (1/ 256) كلهم من طرق عن عبد الله بن المؤمَّل عن حمُيد مولى عفراء عن قيس بن سعد به. ورواه ابن عدي من طريق عبد الله بن المؤمل ولم يذكر قيسًا. ورواه الفاكهي (1/ 255): حدثنا عبد الوهاب بن فُليح، ثنا اليسع بن طلحة عن مجاهد أنه كان يقول: بلغنا أن أبا ذر ... به. وقال البيهقي عقبه: عبد الله ضعيف إلا أن إبراهيم بن طهمان قد تابعه في ذلك عن حميد وأقام إسناده. ثم رواه من طريق إبراهيم بن طهمان، ثنا حميد مولى عفران عن قيس بن سعد عن مجاهد قال: جاءنا أبو ذر ... فذكره، وقال حميد الأعرج: ليس بالقوي، ومجاهد لا يثبت له سماع من أبي ذر، وقوله: جاءنا يعني جاء بلدنا، والله أعلم. قلت: عبد الله بن المؤمَّل ضعفه ابن معين في رواية والنسائي، وقال أبو داود: منكر الحديث، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابن عدي: أحاديثه عليها الضعف، وقال في «التقريب»: ضعيف الحديث، وحمُيد مولى عفراء: هو حميد بن قيس الأعرج

المكي القارئ لا بأس به، روى له الجماعة قاله في «التقريب». واليسع بن طلحة ذكره ابن أبي حاتم في «الجرح» (9/ 309) وسأل أباه عنه فقال: شيخ ليس بالقوي منكر الحديث. قال الحافظ في «التلخيص» (1/ 189): قال أبو حاتم الرازي لم يسمع مجاهد من أبي ذر وكذا أطلق ابن عبد البر والبيهقي والمنذري وغير واحد. قال أبو محمد في «المغنى» (2/ 535): ولا فرق بين مكة وغيرها في المنع من التطوع في أوقات النهي، وقال الشافعي: لا يمنع فيها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار» وعن أبي ذر ... فذكر حديثه حديث الترجمة قال: ولنا عموم النهي .. وحديثهم أراد به ركعتي الطواف، فيختص بهما، وحديث أبي ذر ضعيف ..». اهـ. وحديث الترجمة ضعفه ابن الجوزي في «التحقيق» وتبعه ابن عبد الهادي في «التنقيح» (2/ 1006)، وضعفه النووي في «المجموع» (4/ 82) (¬1)، والله أعلم (¬2). ¬

(¬1) وانظر: «نصب الراية» (1/ 254) مهم. (¬2) وقرئ على الشيخ - رحمه الله -.

حصول السعادة في الرضي والإستخارة

حصول السعادة في الرضي والإستخارة حديث: «من سعادة ابن آدم استخارته الله، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله، ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة الله، ومن شقوة ابن آدم سخطه بما قضى الله - عز وجل -». أخرجه أحمد في «مسنده» [1444] حدثنا روح، حدثنا محمد بن أبي حميد عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن جده سعد بن أبي وقاص سدد خطاكم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره. وأخرجه الترمذي في «جامعه» من طريق محمد بن أبي حميد به نحوه. وأخرجه الحاكم في «مستدركه» (1/ 518) من طريق روح به مقتصرًا على قوله: «من سعادة ابن آدم استخارته إلى الله، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله». قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد، ويقال له أيضًا: حماد بن أبي حميد، وهو أبو إبراهيم المديني، فليس هو بالقوي عند أهل الحديث. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في «تلخيص المستدرك»: صحيح! ومع ذلك فقد عدَّ الذهبي هذا الحديث من منكراته فذكره في «ترجمته في الميزان» (3/ 531) (¬1). تنبيه: قال الحافظ في «الفتح» (11/ 184): «وجاء ذكر ¬

(¬1) وهذا من الأدلة على أن الذهبي - رحمه الله - لا يعتمد على قوله في «تلخيص المستدرك»، بل قد صرح بأنه لم يعتن بالمستدرك حينما لخصه، انظر: «سير أعلام النبلاء في ترجمة الحاكم (17/ 175 - 176).

الاستخارة في حديث سعد رفعه «من سعادة ابن آدم استخارته الله». أخرجه أحمد وسنده حسن!». قلت: حديث سعد هذا تقدم ذكر إسناده، وقد حكم عليه شيخنا المحدث ابن باز بقوله: الحديث ضعيف بهذا الطريق عند قراءة المسند عليه. ومحمد بن أبي حميد ضعفه ابن معين، والجوزجاني، والنسائي، والبخاري، وأبو زرعة، وأبو داود، والدارقطني، وغيرهم كما في «ترجمته في التهذيب» (9/ 132). طريق أخرى عن إسماعيل بن محمد. أخرجه أبو يعلى في «مسنده» (2/ 60): حدثنا موسى بن محمد بن حيَّان البصري، حدثنا عمر بن علي بن عطاء بن مقدَّم عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبيد الله عن إسماعيل به نحوه. وهذا إسناد ضعيف، موسى بن محمد ضعفه أبو زرعة كما في «الميزان»، وعمر بن علي يدلِّس تدليسًا شديدًا وقد عنعن، وعبد الرحمن بن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي مليكة ضعفه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي وغيرهم كما في «التهذيب» (6/ 146)، والله أعلم (¬1). ¬

(¬1) وعلَّق شيخنا بقوله: المعنى له شواهد وذلك ليلة الاثنين 5/ 5/1415هـ.

البرهان في تخريج حديث استحواذ الشيطان

البرهان في تخريج حديث استحواذ الشيطان حديث: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تُقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية». رواه أبو داود في «سننه» (2/ 250) عون (4/ 125) بذل: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زائدة، حدثنا السائب بن حُبيش عن معدان بن أبي طلحة اليعمري، عن أبي الدرداء سدد خطاكم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره. وقال أبو داود عقبه: قال زائدة، قال السائب: يعني بالجماعة الصلاة في الجماعة. ورواه النسائي في «سننه» (2/ 106): حدثنا سويد بن نصر، أنبأنا عبد الله ابن المبارك عن زائدة بن قدامة به. ورواه أحمد في «مسنده» (5/ 196): حدثنا وكيع قال: حدثني زائدة بن قدامة به، ورواه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن زائدة به (6/ 446). ورواه من طريق أخرى مطولًا وفيه قصة (6/ 445): حدثنا علي بن ثابت، حدثني هشام بن سعد عن حاتم بن أبي نصر عن عُبادة بن نُسي قال: كان رجل بالشام يُقال له: معدان كان أبو الدرداء يقرئه القرآن ففقده أبو الدرداء فلقيه يومًا وهو بدابق فقال له أبو الدرداء: يا معدان! ما فعل القرآن الذي كان معك كيف أنت والقرآن اليوم؟ قال: قد علم الله منه فأحسن، قال: يا معدان أفي المدينة تسكن اليوم أو في قرية؟ قال: لا بل في قرية قريبة من المدينة، قال: مهلًا ويحك يا معدان فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من خمسة أهل أبيات لا يؤذن فيهم بالصلاة وتقام فيهم

الصلوات إلا استحوذ عليهم الشيطان وإن الذئب يأخذ الشاذة فعليك بالمدائن ويحك يا معدان». ورواه كذلك الحاكم في «مستدركه» (1/ 211) وابن خزيمة (2/ 371) وابن حبان (5/ 457) في «صحيحيهما»، والبيهقي في «سننه» (3/ 54)، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 346)، كلهم من طرق عن زائدة به. وقال الحاكم عقبه: هذا حديث صدوق رواته شاهد لما تقدمه متفق على الاحتجاج برواته إلا السائب بن حبيش وقد عرف من مذهب زائدة أنه لا يحدث إلا عن الثقات وأقره الذهبي. قلت: السائب بن حبيش الكلاعي الحمصي، وثقة العجلي، وقال الدارقطني: صالح الحديث من أهل الشام، وذكره ابن حبان في «الثقات»، وترجمه البخاري في «التاريخ الكبير» (4/ 153)، ولم يذكر فيه جرحًا، ولخصَّ الحافظ الكلام عليه في «التقريب» بقوله: «مقبول» يعني عند المتابعة. اهـ. قلت: لكن رواية زائدة عنه مقوية لحديثه، قال أحمد كما في ترجمة زائدة في «التهذيب» (3/ 306): إذا سمعت الحديث عن زائدة فلا تبالِ أن لا تسمعه من غيره. ووصفه أيضًا بأنه من المتثبتين في الحديث، فهذا الحديث على كل حال لا ينزل عن رتبة الحسن، ولهذا صححه النووي في «المجموع» (4/ 84) وحسنه المحدث الألباني في «صحيح الترغيب» [425]. تنبيه: وقع في نسخة الحاكم تصحيف حيث رواه من طريق أبي داود المتقدمة إلا أن فيه السائب بن جبير، وهو غلط «المستدرك» (1/ 246). تنبيه آخر: قال في «العون» نقلًا عن «المرقاة» قوله: «ما من ثلاثة» وتقييده بالثلاثة المفيد ما فوقهم بالأولى نظرًا إلى أقل أهل القرية

غالبًا، ولأنه أقل الجمع وأنه أكمل صور الجماعة وإن كان يتصور باثنين. اهـ. قلت: أقل الجماعة اثنين، قال في «المغني» (3/ 7): وتنعقد الجماعة باثنين فصاعدًا لا نعلم فيه خلافًا اهـ. وحكاه الوزير إجماعًا وقال في «المجموع» (4/ 92) قال أصحابنا: أقل الجماعة اثنان .. وهذا لا خلاف فيه، ونقل الشيخ أبو حامد وغيره فيه الإجماع، اهـ. قلت: في الباب حديث اثنان فما فوقهما جماعة. رواه أحمد، وابن ماجه، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، وابن سعد في «الطبقات،» وطرقه كلها ضعيفة، فقد رواه ابن ماجه، والحاكم، والدارقطني من حديث أبي موسى الأشعري وفيه عندهم الربيع بن بدر عن أبيه عن جده، والربيع ضعيف، وأبوه وجده مجهولان، ورواه الدارقطني من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا وفيه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي قال البخاري: تركوه. ورواه أحمد من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعًا، وإسناده واهٍ، قال ابن حبان: وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله وعلي بن يزيد والقاسم لم يكن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم. ورواه أحمد: حدثنا هشام بن سعد، ثنا ابن المبارك عن ثور بن يزيد عن الوليد ابن أبي مالك، قال: دخل رجل المسجد فصلى فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟» فقام رجل فصلى معه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذان جماعة». وهذا مرسل صحيح. ورواه ابن سعد في «الطبقات» (7/ 415) من طريق بقية بن الوليد عن عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبي حبيب قال: سمعت الحكم بن عمير الثمالي وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه

وسلم -، فذكره مرفوعًا وإسناده ضعيف بقية مدلس، ولم يصرح بالسماع وشيخه عيسى بن إبراهيم الهاشمي قال البخاري في «تاريخه» (6/ 407): منكر الحديث، والحديث ضعفه الحافظ في «الفتح» (2/ 142)، و «التلخيص» (3/ 81) ونقل العيني عن ابن حزم قوله (4/ 348) هذا خبر ساقط، وقال البخاري في «صحيحه»: باب اثنان فما فوقهما جماعة. وذكر حديث مالك بن الحويرث وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا حضرت الصلاة فأذِّنا وأقيما ثم ليؤمكما أكبركما». قلت: فهذا الحديث يغني عنه، وأن الجماعة تلزم الاثنين، وحديث الترجمة مفهوم عدد وهو ضعيف عندهم، وعارضه منطوق حديث مالك وغيره، والله أعلم (¬1). ¬

(¬1) قريء على الشيخ - رحمه الله - يوم الأربعاء 12/ 8/1413 هـ وقال: جيد والحديث حسن، لكن هل يستحوذ الشيطان على الاثنين محتمل لا؛ لأنهم دون الثلاثة، والثلاثة التساهل منهم يدل على تفريط .. اهـ بمعناه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد، فإن للعلم وأهله مراتب عالية ومنازل سامية، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقال - عز وجل -: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]، وقال - عليه السلام -: «من يرد الله به خيًرا يفقهه في الدين» متفق عليه، وقال: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة» رواه مسلم، فكان حريًّا على كل مسلم ومسلمة أن يطلب هذا العلم رغبة فيما عند الله وتعلمًا لدينه وأن يبالغ في ذلك. هذا وإن للعلم آدابًا وأخلاقًا يتخلق بها حملته، ويتحلى بها أهله، فكيف وهم قادة أهل الإيمان، وهداة أهل الإسلام، وهم المقتدى بهم عند الخلق ومن أعظم آداب العلم الإخلاص لله والتقوى في طلبه وأن يكون المرء حسن النية في تحصيله غير متكبر ولا معجب بنفسه، متواضعًا، معوانًا على الخير والدلالة عليه، محسناً إلى الخلق بالقول والفعل وبذل الجاه والمال إن تيسر، معلمًا للناس بقوله وفعله رجاعًا إلى الحق طالبًا له غير معرج على ما سواه، محافظًا على حقوق الإخوان والأقارب والجيران وعامة المسلمين ورعًا فيما

يخاف منه في الآخرة، زاهدًا فيما لا ينفعه في آخرته، عفيف اللسان والجوارح عما حرم الله قد سلم المسلمون من لسانه ويده غير مشتغل بما لا يعنيه فضلًا عما يرديه، مقبلًا على شأنه وما ينفعه قوى الهمة في الطلب، حريصًا على مجالسة أهل العلم والإيمان والنهل من علومهم، ومباحثهم. أمارًا بالمعروف نهاءً عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن .. إلى غير ذلك من الصفات الحميدة والخصال الطيبة وإن سيرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وسيرة أصحابه لهي خير مثال يحتذى به وخير طريق يقتفى للتأسي بهم والسير على طريقهم، وكذا سلك التابعون وأئمة الهدى في القرون المفضلة فاستحقوا الخيرية على الناس كلهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» أخرجه البخاري. وإليك بعض الأمثلة عن أهل الحديث التي تدل على انتفاعهم بعلمهم ونصحهم وإخلاصهم فمن الرجوع إلى الحق ما ذكره حمزة بن محمد الطاهر قال: (كان ابن الأنباري زاهدًا متواضعًا) حكى الدارقطني أنه حضره، فصحف في اسم قال: فأعظمت أن يحمل عنه وهم، وهبته، فعرَّفت مستمليه، فلما حضرت الجمعة الأخرى قال ابن الأنباري لمستمليه: (عرِّف الجماعة أنا صحفنا الاسم الفلاني)، ونبهنا عليه ذلك الشاب على الصواب!! السير (15/ 277). ومن الورع عن أعراض الناس ما ذكره البخاري في «التاريخ الكبير» (4/ 336) قال سمعت أبا عاصم يقول: (منذ عقلت أن الغيبة حرام، ما اغتبت أحدًا قط). ومن همة القوم في الطلب ما ذكره أبو حاتم عن نفسه أنه سأل القعنبي

أن يقرأ عليهم الموطأ فقال القعنبي: تعالوا الغداة فقال أبو حاتم وأصحابه: لنا مجلس عند حجاج بن منهال قال: فإذا فرغتم منه. قلنا: نأتي حينئذ مسلم بن إبراهيم قال: فإذا فرغتم قلنا: نأتي أبا حذيفة النهدي قال: فبعد العصر قلنا: نأتي عارمًا أبا النعمان قال: وبعد المغرب فكان يأتينا بالليل فيخرج علينا وعليه كبْل (¬1) ما تحته شيء من الصيف فكان يقرأ علينا في الحر الشديد حينئذٍ. (5/ 181) جرح. ومن ذلك ما ذكره في «تذكرة الحفاظ» (2/ 531) عن محمد بن يحي الذهلي قال ارتحلت ثلاث- رحلات- وأنفقت على العلم مائة وخمسين ألفًا. ومن ذلك ما ذكره أيضًا (2/ 550) عن صالح جزرة قال سمعت حجاج بن الشاعر يقول: جمعت لي أمي مائة رغيف فجعلتها في جراب وانحدرت إلى شبابه بالمدائن فأقمت مئة يوم ببابه أجيء بالرغيف فاغمسه في دجلة وآكله فلما نفدت خرجت. ومن آداب الصحبة ما ذكره الذهبي في «السير» (13/ 358) في ترجمة إبراهيم الحربي صاحب غريب الحديث عن الحسن بن قُريش قال: حضرت إبراهيم الحربي وجاءه يوسف القاضي ومعه ابنه أبو عمر فقال: يا أبا إسحاق لو جئناك على مقدار واجب حقك لكانت أوقاتنا كلها عندك. فقال: ليس كل غيبة جفوة، ولا كل لقاء مودة، وإنما هو تقارب القلوب. ومن الأدب مع النفس ما ذكره الذهبي في سيره (12/ 448) عن الحسين بن محمد السمرقندي قال: كان محمد بن إسماعيل (يعني البخاري) مخصوصًا بثلاث خصال مع ما كان فيه من الخصال المحمودة: ¬

(¬1) الفرو الكثير الصوف.

كان قليل الكلام، وكان يطمع فيما عند الناس وكان لا يشتغل بأمور الناس كل شغله كان في العلم. ومن آداب المباحثة ما ذكره الحافظ الذهبي عن الموفق - رحمه الله - (22/ 170) قال الضياء كان الموفق لا يناظر أحدًا إلا وهو يتبسم. قال الذهبي معلِقًا: بل أكثر من عاينًا لا يناظر أحدًا إلا وينسْم قلت: من البلايا عند المباحثات والمناظرة العلمية أن تتكيف أنفس المتناظرين على أن من أمامه معادٍ له، مزيف، لقوله، لا يراه ولا يرى قوله شيئًا، ويخاف هو من نصرة خصمة عليه فتذل نفسه عند الحاضرين، فيوصف بقلة العلم وضحالة الجمع، وكل هذا من وساوس الشيطان ومن خطواته الآثمة وقد نهى الله - عز وجل - عن أتباع ذلك والواجب تقوى الله والحرص على إظهار الحق وتزييف الباطل مع من كان وأنى وجد مع التأدب والوقار، وقال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] أي مبالغين في إقامة العدل، قوام من قائم. والله نسأل المسامحة والعفو. واختم ببيان بعض الكتب المهمة وكيفية الطلب مستضيئًا بأقوال بعض أهل العلم في هذا العصر وغيره: وذلك على وجه الإيجاز: قال الشيخ حسن بن غانم في كتابه النافع «التقاط الدرر واقتطاف الثمر» من كتب أهل العلم والأثر ص (245): سألت شيخنا البحاثة حماد بن محمد الأنصاري عن كيفية التحصيل في الحديث، فأجابني بأن كيفية التحصيل بما يلي: 1 - دراسة الأمهات الست (البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه).

2 - دراسة مسند الإمام أحمد بن حنبل. 3 - الاطلاع على كتب العلل في الحديث مثل كتاب «العلل» لابن أبي حاتم والعلل لأحمد بن حنبل. 4 - معرفة طبقات الرواة كـ «تذكرة الحفاظ»، «وطبقات ابن سعد». 5 - معرفة الضعاف من الرواة، مثل «ميزان الاعتدال للذهبي»، «ولسان الميزان» لابن حجر. 6 - معرفة الوحدان، مثل وحدان مسلم. 7 - معرفة غريب الحديث، كـ «النهاية» لابن الأثير و «الفائق» للزمخشري و «غريب الحديث» لابن أبي عبيد. 8 - معرفة الناسخ والمنسوخ: كـ «الناسخ والمنسوخ» لابن الجوزي و «الاعتبار» للحازمي. 9 - معرفة أسباب ورود الحديث، كـ «كتاب البيان والتعريف في بيان أسباب الحديث» للحسيني. 10 - الاطلاع على مختلف الحديث، مثل «مختلف الحديث» لابن قتيبة و «المعتصر من المختصر». 11 - معرفة شيء من إعراب الحديث، كإعراب البخاري لابن مالك. 12 - معرفة فقه الحديث، مثل «السنن الكبرى» للبيهقي، والمنتقى للمجد بن تيمية. 13 - المذاكرة مع من له إلمام بما ذكر. اهـ.

وقال بكر أبو زيد - رحمه الله - في حلية طالب العلم 27 - 129. وقد كان الطالب في قطرنا بعد مرحلة الكتاتيب والأخذ بحفظ القرآن الكريم يمر بمراحل ثلاث لدى المشايخ في دروس المساجد: للمبتدئين ثم المتوسطين ثم المتمكنين: ففي التوحيد «ثلاثة الأصول وأدلتها» و «القواعد الأربع» ثم «كشف الشبهات» ثم كتاب التوحيد أربعتها للشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - هذا في «توحيد العبادة» وفي «توحيد الأسماء والصفات»: «العقيدة الواسطية» ثم «الحموية» و «التدمرية» ثلاثتها لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فـ «الطحاوية» مع شرحها وفي النحو «الأجرومية» ثم «ملحة الإعراب» للحريري، ثم «قطر الندى» لابن هشام و «ألفية ابن مالك» مع شرحها لابن عقيل وفي الحديث «الأربعين» للنووي ثم «عمدة الأحكام» للمقدسي ثم «بلوغ المرام» و «المنتقى» للمجد رحمهم الله فالدخول في قراءة الأمهات الست وغيرها. قال وفي الفقه مثلًا: «آداب المشي إلى الصلاة»، ثم «زاد المستنقع» للحجاوي ثم «عمدة الفقه» ثم «المقنع للخلاف المذهبي والمغني للخلاف العالي ثلاثتها» لابن قدامة - رحمه الله - وفي «الأصول الورقات» للجويني ثم «روضة الناظر» لابن قدامة وفي «الفرائض الرحبية» ثم مع شرحها و «الفوائد الجلية»، وفي التفسير «تفسير ابن كثير - رحمه الله -» وفي أصول التفسير «المقدمة» لشيخ الإسلام - رحمه الله - وفي السيرة «مختصرها» لمحمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - و «أصلها» لابن هشام وفي «زاد المعاد» لابن القيم وفي «لسان العرب» العناية بأشعارها كـ «المعلقات السبع والقراءة في القاموس» للفيروز آبادي ... إلخ ما ذكر قال: ويركزون على كتيب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وكتب أئمة الدعوة وفتاويهم لاسيما محرراتهم في

«الاعتقاد» (وهكذا كانت الأوقات عامرة في الطلب ...). وقال العز بن عبد السلام وكان أحد المجتهدين: (ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل «المحلي» لابن حزم وكتاب «المغني» للشيخ موفق الدين)، قلت صدق الشيخ عز الدين وثالثهما «السنن الكبير» للبيهقي ورابعهما «التمهيد» لابن عبد البر، فمن حصل هذه الدواوين وكان من أذكياء المفتين وأدمن المطالعة فهو العالم حقًا .. قاله في «السير» (18/ 193). وهذه المقدمة جعلتها بين يدي بعض البحوث الحديثيّة والفقهية قد كتبها بطلب من سماحة شيخنا - رحمه الله - وبعضها كتبته ابتداء فما كان معلَّقًا عليه فقد قرئ على الشيخ، وما سواه لم يقرأ وهي ضمن المباحث الموسومة بنفح العبير أسأل الله العلي القدير أن يسلك بنا سبل رضاه، وأن يثبتنا على دينه حتى نلقاه وصلوات ربي وسلامه على خاتم المرسلين وخير البريَّة أجمعين وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. كتبه أبو محمد عبد الله بن مانع العتيبي رجب/ 1417 ص. ب 9010 الرياض 11431

حديث «نهي عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه»

حديث «نهي عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه» ... رواه أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي والبغوي وابن منذر كلهم في طريق ابن المبارك عن الحسن (¬1) بن ذكوان عن سليمان الأحول عن عطاء ابن أبي هريرة سدد خطاكم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكره (¬2). والحسن بن ذكوان أبو سلمة البصري ضعفه ابن معين وأبو حاتم وقال النسائي ليس بالقوي، وقال ابن عدي. روى عنه يحيى القطان وابن المبارك وناهيك به جلالة أن يرويا عنه، وأرجو أنه لا بأس به ووثقه ابن حبان، وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطي ورمي بالقدر وكان يدلس من السادسة روى له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه لكنه لم ينفرد به فقد رواه أحمد والترمذي وابن حبان والبغوي من طريق حماد بن سلمة عن عِسْل بن سفيان عن عطاء به مرفوعًا دون آخره وهو قوله «وأن يغطي ..» .. وعِسْل ضعفه ابن معين وقال البخاري عنده مناكير وقال النسائي ليس بالقوي وقال ابن عدي وهو مع ضعفه يكتب حديثه. ورواه أحمد والدارمي عن سعيد بن أبي عروبة عن عسل به. وفي الباب حديث ابن مسعود سدد خطاكم رواه عبد الرزاق ومن طريقه ¬

(¬1) تنبيه: وقع عند الحاكم وتلخيصه للذهبي: حسين بن ذكوان المعلم وهو خطأ كما يعلم من مراجعة كتب الرجال ووقع عند الباقين على الصواب. (¬2) ابن ماجه عنده الحسن عن عطاء دون ذكر الأحوال.

البيهقي عن بشير بن رافع عن يحيى بن أبي كثير عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن أباه كره السدل في الصلاة، قال أبو عبيدة وكان أبي يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ينهى عنه، وبشر ضعيف، وأبو عبيدة لا يصح له سماع من أبيه. وفي الباب حديث أبي جحيفة رواه الطبراني في معاجمه الثلاثة والبزار والبيهقي من طريق حفص بن أبي داود عن الهيثم بن حبيب الصيرفي عن علي بن الأقمر عن أبي جحيفة ووقع في الكبير عن الصيرفي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، رجلاً يصلي وقد سدل ثوبه فدنا منه فعطف عليه ثوبه، ووقع في «الكبير» مر النبي - صلى الله عليه وسلم -، برجل ... وفيه فقطعه عليه. وحفص هذا هو الكوفي القاري قرأ على عاصم وكان ابن امرأته تركه الحفاظ كابن المديني والبخاري ومسلم والجوزجاني والنسائي وفي «التقريب»: متروك الحديث مع إمامته في القراءة. قال البيهقي وقد كتبناه من حديث إبراهيم بن طهمان عن الهيثم فإن كان محفوظًا فهو أحسن من رواية حفص القاري. واختلف في معنى السدل: ففره الخطابي بالإسبال. وفي النهاية: أن يلتحف الرجل بثوبه، ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد وهو كذلك وكانت اليهود تفعله، وهذا مطرد في القميص وغيره من الثياب، وقيل هو أن يضع وسط الإزار على رأسه ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كتفيه، ورجع السيوطي القول الثاني، وقال: وهو الذي اختاره البيهقي والهروي في «الغريب» وجزم به من أصحابنا أبو إسحاق في «المهذب» والشاشي وصاحب «البيان» ومن الحنفية صاحب «الهداية» والينابيعي، والزيلعي، والزاهدي، وغيرهم من الحنابلة موفق الدين ابن قدامة في «المغني».

وقوله «وأن يغطي الرجل فاه» قال الخطابي: إن من عادة العرب التلثم بالعمائم على الأفواه، فنهوا عن ذلك في الصلاة إلا أن يعرض للمصلي الثوباء فيغطي فمه عند ذلك للحديث الذي جاء فيه. فائدة: سئل شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (22/ 144). هل طرح القباء على الكتفين من غير أن يدخل يديه في أكمامه مكروه؟ فأجاب: لا بأس بذلك، باتفاق الفقهاء، وقد ذكروا جواز ذلك، وليس هذا من السدل المكروه، لأن هذه اللبسة ليست لبسة اليهود. والقباء ممدود من الثياب الذي يلبس مشتقٌ من ذلك لاجتماع أطرافه كذا في اللسان، وفي الوسيط: ثوب يلبس فوق الثياب أو القيمص ويُتمنطق عليه (¬1). والله أعلم. ¬

(¬1) قرئ على سماحة الشيخ بتاريخ 15/ 11/1415هـ.

مكث الجنب في المسجد إذا توضأ

مكث الجنب في المسجد إذا توضأ قال ابن أبي شيبة - رحمه الله - (1/ 135) حدثنا وكيع عن هشام بن سعدي عن زيد بن أسلم قال: كان الرجل منهم يجنب ثم يدخل المسجد فيتحدث فيه. وروى حنبل بن إسحاق- صاحب أحمد- قال حدثنا أبو نعيم حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يتحدثون في المسجد، وهم على غير وضوء، وكان الرجل يكون جنبًا فيتوضأ، ثم يدخل المسجد، فيتحدث فيه. وروى سعيد بن منصور في «سننه»: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يجلسون في المسجد، وهم مجنبون إذا توضأوا وضوء الصلاة. ومدار هذا الخبر على هشام وقد ضعفه أحمد وابن معين وقال مرة صالح وضعفه النسائي وقال ابن المديني صالح وليس بالقوي وقال أبو حاتم لم يكن بالحافظ وقال العجلي جائز الحديث حسن الحديث وقال أبو زرعة محلة الصدق وهو أحب إليَّ من إسحاق وقال أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به وقال الآجري عن أبي داود هشام بن سعد أثبت الناس في زيد بن أسلم. وقال ابن عدي وهو مع ضعفه يكتب حديثه، وقال ابن سعد كان كثير الحديث يستضعف وقال الساجي صدوق، وذكره ابن عبد البر ممن نسب إلى الضعف ممن يكتب حديثه. قال الموفق - رحمه الله - في «المغني» (1/ 202): فصل: إذا توضأ الجنب فله اللبث

في المسجد في قول أصحابنا وإسحاق وقال أكثر أهل العلم لا يجوز للآية والخبر واحتج أصحابنا بما وري عن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... (الأثر). وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعًا يخص به العموم، لأنه إذا توضأ خف حكم الحدث، فأشبه التيمم عند عدم الماء، ودليل خفته أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنب به إذا أراد النوم واستحبابه لمن أراد الأكل ومعاودة الوطء. قلت: ومراده بالآية قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]. وقد اختلف في تأويلها على القولين: 1 - إن المراد لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين غير واجدين للماء فتيمموا وصلوا، وقيل: 2 - إن المراد لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وأنتم جنب إلا مجتازين وهذا القول اختاره ابن جرير. قال ابن كثير وهذا الذي نصراه ابن جرير هو قول الجمهور وهو الظاهر من الآية: ومراد الموفق في قوله واحتجوا بالخبر حديث عائشة في سنن أبي داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «ولا أحِلَّ المسجد لحائض ولا جنب» وهو حديث ضعيف. قال شيخ الإسلام في شرح العمدة (1/ 391) موضحًا عموم الآية «وإنما الوجه في ذلك أن تكون الآية عامة في قربان الصلاة ومواضعها واستثنى من ذلك عبور السبيل وإنما يكون في مواضعها خاصة وهذا إنما فيه حمل اللفظ على حقيقته ومجازه وذلك جائز عندنا على الصحيح، وعلى هذا فتكون الآية الدالة

على منع اللبث أو تكون الصلاة هي الأفعال ويكون قوله: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] استثناءً منقطعًا، ويدل ذلك على منع اللبث لأن تخصيص العبور بالذكر يوجب اختصاصه بالحكم ولأنه مستثنى من كلام في حكم النفي كأنه قال لا تقربوا الصلاة ولا مواضعها إلا عابري سبيل، وإذا توضأ الجنب جاز له اللبث (وذكر الأثر المتقدم) ثم قال: وهذا لأن الوضوء يرفع الحدثين عن أعضاء الوضوء ويرفع حكم الحدث الأصغر عن سائر البدن فيقارب من عليه الحدث الأصغر فقط ولهذا أمر الجنب إذا أراد النوم والأكل بالوضوء ولولا ذلك لكان مجرد عبث. وقال في موضع آخر (208) وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يتحدثون في المسجد إذا توضأوا وهم جنب ولولا أن الجنابة تُنقض بالوضوء لم يكن في ذلك فائدة وإنما تنتقض إذا صح تبعيضها ..» .. قلت: يشير إلى عدم الموالاة في غسل الجنابة وهو الحق. وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: (إذا أجنب أحدكم فأراد أن ينام فليتوضأ فإنه نصف الجنابة). وقال ابن القيم في «إعلام الموقعين» (2/ 369) في معرض نقل الصحابة لتقريرات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنه تقريرهم على جلوسهم في المسجد وهم مجنبون إذا توضأوا. والخلاصة أن أثر زيد لا بأس به وليس في الباب ما يدفعه ولهذا احتج به الإمام أحمد - رحمه الله - وهذا القول من مفرداته وهو اختيار شيخ الإسلام وابن القيم، واختاره ابن المنذر حيث قال: (ولا نعلم حجة تمنع الجنب من دخول المسجد) وظاهره دون قيد الوضوء وكذا ابن حزم في «المحلي»، والتقليل بخفة الحدث يعضده قال أبو العباس في «مجموع الفتاوى» (26/ 179): (فإذا توضأ ذهبت

الجنابة عن أعضاء الوضوء فلا تبقي جنابته تامة، وإن كان بقي عليه بعض الحدث، وإن كان حدثه فوق الحدث الأصغر فهو دون الجنب فلهذا ينام ويلبث في المسجد). وقال أيضًا (21/ 345) وقد تنازع العلماء في- دخول الكافر المسجد- والمسلمون خير من الكفار ولو كانوا جنبًا فإنه قد ثبت في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي هريرة «إن المؤمن لا ينجس» وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. فلبث المؤمن الجنب إذا توضأ في المسجد أولى من لبث الكافر فيه عند من يجوز ذلك، ومن منع الكافر لم يجب أن يمنع المؤمن المتوضئ، كما نقل عن الصحابة. اهـ. قلت: والكفار لا تنفكون عن جنابة وقد دخلوا المسجد في عهده - صلى الله عليه وسلم -، للحاجة والوضوء أو الغسل لا يصح منهم ولو فعلوه، فدخول المسلم الجنب المسجد أولى وأحرى بالجواز سيما إذا توضأ والله أعلم.

تخريج حديث أفضل الصدقة سقي الماء

تخريج حديث أفضل الصدقة سقي الماء رواه النسائي (6/ 254) وابن ماجه (3682) وابن خزيمة وأبو داود والحاكم (1/ 414)، والبيهقي (4/ 185)، والطبراني (5379)، ابن سعد في «الطبقات» (3/ 615) كلهم من طريق قتادة عن سعيد بن المسيِّب عن سعد بن عبادة قال: قلت يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال فذكره: وسعيد لم يدرك سعدًا. ورواه أحمد (5/ 185)، وأبو داود والطبراني والنسائي والبيهقي من طرق عن الحسن عن سعد به ... وهو مثل الذي قبله فالحسن لم يدرك سعدًا. ورواه أبو داود من طريق أبي إسحاق السبيعي عن رجل عن سعد وفيه هذا المبهم، وفي تهذيب الكمال أبو إسحاق السبيعي عن رجل عن سعد، هو الحسن وسعيد قلت عاد إلى الحديث الأول قال الحافظ المنذري: هو منقطع الإسناد عند الكل. ورواه ابن خزيمة في «صحيحه» (4/ 123) بالطريق المتقدم تحت باب: فضل سقي الماء إن صح الخبر ورواه الطبراني في «الأوسط» (3/ 79) مجمع. حدثنا موسى بن هارون ثنا محمد بن أبي عمر العدني ثنا مروان بن معاوية عن حميد عن أنس أن سعدًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال يا رسول الله إنَّ أمي توفيت ولم توص أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: «نعم، وعليك بالماء» وهذا إسناد جيد إلا أن الحافظ موسى بن هارون شيخ الطبراني ذكر أنه معلول فقال: (وهم فيه مروان بمكة إنما هو عن حميد عن الحسن يعني مرسلًا) ذكره الطبراني بعد روايته. ورواه الطبراني في «الكبير» (5385) من طريق ضِرار بن صُرد أبو نعيم

الطحان ثنا عبد العزيز بن محمد عن عمارة بن غَزيَّة عن حميد بن أبي الصعبة عن سعد نحوه. وضرار أبو نعيم قال عنه ابن معين: كذاب وقال البخاري، والنسائي: متروك، وقال أبو حاتم: صدوق صاحب قرآن وفرائض، يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال الساجي: عنده مناكير، وقال ابن قانع: ضعيف كذا في «التهذيب» فالعجب من الحافظ كيف يقول في «التقريب» صدوق له أو هام وخطأ! فحاله أسوأ من هذا بكثير فالأقرب أنه ضعيف جدًا واهٍ في الحديث. وحميد بن أبي الصعبة ذكره ابن حبان في الثقات، وعبد الرحمن بن أبي حاتم في الجرح فلم يذكر منه شيئًا، وكذلك لم يدرك سعدًا فإنه يروي عنه عُمارة بن غزية وعُمارة لم يدرك أنسًا مع تأخر وفاته فيبعد إدراكه لسعد - رضي الله عنه -، فإنه متقدم الوفاة. فهذا الإسناد واهٍ. وفي الباب حديث ابن عباس وأبي هريرة. أما حديث ابن عباس فرواه أبو يعلى الموصلي (5/ 77)، وابن أبي حاتم في تفسيره والبيهقي في «الشعب» (6/ 533) من طريق موسى بن المغيرة حدثنا أبو موسى الصفَّار قال: سألت ابن عباس أي الصدقة أفضل؟ قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الصدقة الماء ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50]. وموسى بن المغيرة مجهول وشيخه لا يعرف كما في الميزان وغيره، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البيهقي في «الشعب» (6/ 551). من طريق يزيد بن عبد الملك بن المغيرة النوفلي عن أبيه عن يزيد عن خصيفة وعن يزيد بن رومان عن

سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «وليس صدقة أعظم أجرًا من ماء». وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (7/ 2703) من حديث يحي بن يزيد بن عبد الملك عن أبيه سعيد به ويزيد وضعيف (¬1). ¬

(¬1) قرئ يوم الأحد ليلة الاثنين 6/ 6/1416هـ، فقال سماحة الشيخ - رحمه الله -: المقصود أن الحديث ضعيف والإنسان يتحرى في موضع صدقته.

الحلف بالعهد هل يكون يمينا؟

الحلف بالعهد هل يكون يمينًا؟ قال البخاري في صحيحه (11/ 544) فتح باب عهد الله - عز وجل -، ثم أسند ما رواه أبو وائل عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال رجل مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» فأنزل الله تصديقه {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ...} [آل عمران: 77]. وقال الحافظ: (قوله باب عهد الله - عز وجل - أي قول القائل: عليّ عهد الله لأفعلن كذا. قال الراغب: العهد حظ (¬1) الشيء مراعاته، ومن ثم قيل للوثيقة عهدة ويطلق عهد الله على ما فطر عليه عباده من الإيمان به عند أخذ الميثاق، ويراد به أيضًا ما أمر به في الكتاب والسنة مؤكدًا وما التزمه المرء من قبل نفسه كالنذر، قلت: وللعهد معان أخرى غير هذه كالأمان والوفاء، والوصية واليمين ورعاية الحرمة والمعرفة واللِّقاء عن قرب، والزمان والذمة، وبعضها قد يتداخل، وقال ابن المنذر: من حلف بالعهد فحنث لزمه الكفارة سواء نوى أم لا عند مالك والأوزاعي والكوفيين، وبه قال الحسن والشعبي وطاووس وغيرهم قلت: وقال به أحمد، وقال عطاء والشافعي وإسحاق وأبو عبيد: لا تكون يمينًا إلا أن نوى ... وقال ابن التين هذا لفظ يستعمل على خمسة أوجه: الأول: علىَّ عهد الله والثاني: وعهد الله، والثالث: عهد الله، والرابع: أعاهد الله، والخامس: عليَّ العهد، وقد طرد بعضهم ذلك في الجميع وبعضهم فصَّل فقال: لا شيء في ذلك إلا إن قال عليَّ عهد الله ونحوها، وإلا فليست بيمين نوى أو لم ينو. اهـ. وقال أبو محمد في «المغني» (13/ 463) مسألة قال (وبالعهد) وجملته أنه إذا ¬

(¬1) كذا بالأصل ولعلها حفظ.

حلف بالعهد أو قال وعهد الله، وكفالته فذلك يمين يجب تكفيرها إذا حنث فيها، وبهذا فقال الحسن وطاووس والشعبي، والحارث العُكْلي وقتادة والحكم والأوزاعي، ومالك، وحلفت عائشة - رضي الله عنها -، بالعهد ألا تكلم ابن الزبير فلما كلمته أعتقت أربعين رقبة، وكانت إذا ذكرته تبكي وتقول: واعهداه (¬1) وقال أحمد: (العهد شديد في عشرة مواضع من كتاب الله) {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]، وقال الشافعي: (لا يكون يمينًا إلا إن نوى)، وقال أبو حنيفة: (ليس بيمين) اهـ. وقال ابن هاني في «مسائله» (2/ 73) سألت أبا عبد الله عن الرجل يقول عليَّ عهد الله إن كلمت أخي؟ قال: يعتق رقبة ويكلمه. قال: وسألته (2/ 97) عمن قال: عليَّ العهد وميثاقه إن فعلت كذا وكذا؟ قال: يمين كفارة. وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (14/ 371): (واختلفوا فيمن حلف بحق الله وبعهد الله وميثاقه). فقال مالك: (هي أيمان كلها وفيها كفارة) اهـ. ونقل ابن قاسم في «حاشية الروض» (7/ 466) عن ابن عبد البر في قول وعهد الله قال ابن عبد البر: (لا خلاف في أنها يمين إلا عمن لا يعتد بقوله). وقال في شرح السنة (10/ 5): (ولو قال عليَّ عهد الله وميثاقه فليس يمينًا إلا أن يريد به اليمين) ومثله في «الروضة». وفي فتاوى قاضيخان الهندية (2/ 4) ولو قال وعهد الله وذمة الله يكون يمينًا. ¬

(¬1) رواه البخاري.

وقال في «بدائع الصنائع» (3/ 8) للكاساني، ولو قال: علىَّ عهد الله أو ذمة الله أو ميثاقه فهو يمين، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} ثم قال سبحانه: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]. وجعل العهد يمينًا. وقال السرخسي في «المبسوط» (7/ 23): لو قال عهد الله تعالى عليَّ فالعهد يمين قال تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، وقال ابن حزم في «المحلي» (8/ 32) مسألة: الحلف بالأمانة وبعهد الله وميثاقه ... فكل هذا ليس يمينًا، واليمين بها معصية ليس فيها إلا التوبة والاستغفار لأنه كله غير الله ولا يجوز الحلف إلا بالله. وقال ابن المنذر في «الإقناع» (1/ 276) وإذا قال عليه عهد الله وميثاقه وأراد اليمين فهي يمين. وقد أطال شيخ الإسلام الكلام على المسألة في كتابه النفيس «نظرية العقد» استخلصت منه ما دلَّ على المراد. وقال - رحمه الله - (ص 66): وقد يقول أحدهم علينا عهد الله وميثاقه. أو يقول: نعاهد الله على هذا، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} [الأحزاب: 15]، وهذا نذر. وكذلك قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77]، وكان هذا نذرًا لله، وهو معاهدة لله، ومعاهدة الله من أعظم الإيمان، فاليمين والمعاهدة ونحو ذلك: ألفاظ متقاربة المعنى أو متفقة المعنى فإذا قال: أعاهد الله أني أحج هذا العام هذا نذر وعهد، وهو يمين، وإذا قال أعاهد الله ألا أكلم زيدًا فهو عهد، لكن ليس نذرًا، فالأيمان اسم جنس إن

تضمنت معنى النذر، وهو أن يلتزم لله قربة يلزمه الوفاء بها لكونها نذرًا وهنا هي عقد لله وعهد لله ومعاهدة لله. وقال ص [95] والمعاهدة هي المعاقدة وهي ثلاثة أنواع: 1 - المعاقدة بين الناس كالمعاهدة بين المسلمين والكفار في الهدنة ... إلخ. 2 - معاهدة الله على ما يتقرب به إليه فهذا من النذر والحلف على المنذور فإذا كان على فعل واجب أو ترك محرم كان يمينًا ونذرًا كذلك، وإن كان على مستحب كان نذرًا له مؤكدًا باليمين بمعاهدة الله. 3 - معاهدة الله بمعنى اليمين المحضة، إذا كان مقصودها الحض والمنع فهذه يمين، لكنها مؤكدة. وأطال الكلام على تفصيل ذلك، هذا ما تسير جمعه مع ضيق الوقت وكثرة الشواغل (¬1). وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. ¬

(¬1) حررته ليلة الأربعاء 20/ 5/1417هـ.

إسعاف الهائم في حكم خصاء البهائم

إسعاف الهائم في حكم خصاء البهائم «فنزع ذنوبًا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف، والله يغفر له» روى الإمام أحمد في مسنده (14/ 135) وابن أبي شيبة في مصنفه كلاهما عن وكيع عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إخصاء الخيل والبهائم) قال ابن عمر فيها نماء الخلق. ورواه ابن عدي في «الكامل» (4/ 1482)، والطحاوي في «شرح لمعاني» (4/ 317) من طريق عيسى بن يونس عن عبد الله بن نافع. ورواه ابن عدي في كامله من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن عمر مرفوعًا لكنه من طريق جُبارة بن المُغلِّس عن عيسى بن يونس به وجبارة ضعيف، ومن وجه آخر عن جبارة فجعله من مسند ابن عمر وفيه عبد الله بن نافع، قال ابن عدي ذكر عمر ليس بمحفوظ وجبارة قد جمع بين الإسنادين حديث عبيد الله وعبد الله بن نافع وتابع جبارة في ذكر عبيد لله يحي (¬1) بن حاتم الجرجرائي ويحي بن اليمان وهما ضعيفان وذكر البيهقي نحو الروايات المتقدمة وقال عبد الله بن نافع يليق به رفع الموقونات. قلت: هو ضعيف. ورواه مالك في «موطئه» عن نافع عن ابن عمر قوله: ومن طريقه أخرجه عبد الرزاق والطحاوي، وتابعه على وقفه عبيد الله بن عمر العُمري، أخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن نمير عنه عن نافع به، وقال عقبة هذا هو الصحيح موقوف ومثله قال الطحاوي. ¬

(¬1) صوابه حبيِّ واسمه محمد وهو ثقة روى له أبو داود والنسائي.

حديث آخر أخرجه البزار (2/ 274): حدثنا محمد بن عثمان بن كَرَامة ورواه البيهقي من طريق العباس بن محمد الدوري كلاهما عن عبيد الله بن موسى عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله. عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، نهى عن صبر الروح وخصاء البهائم، وأعله البيهقي بعلتين: بأن ابن أبي ذئب أرسله عن الزهري وأن قوله: وخصاء البهائم من كلام الزهري واستدل لذلك بأن أبا عامر العقدي رواه عن ابن أبي ذئب به ليس فيه ذكر ابن عباس وجعل قوله في الإخصاء من كلام الزهري، وهكذا رواه يونس ومعمر عن الزهري مرسلًا دون آخره قال البيهقي وهو المحفوظ: قلت وهو الصواب، فإن تطرق الغلط إلى الواحد أقرب من نسبة الغفلة والوهم إلى الجماعة وفيه علة ثالثة وهي أن رواية ابن أبي ذئب عن الزهري خاصة لا يقع فيها بعض الإضطراب كما يعلم من ترجمته، ولهذا روى أبو يعلى هذا الحديث (4/ 637) عن عبيد الله بن موسى عن ابن أبي ذئب عن الزهري به متصلًا ولفظه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن صبر البهائم، قال الزهري: الإخصاء صبر شديد فوصله هنا وجعل قوله في الإخصاء من كلام الزهري، فتارة يصله وتارة يرسله، وتارة يدرج الشاهد، وتارة يجعله من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، والخلاصة أن هذه اللفظة ليست محفوظة، ولحديث ابن عباس هذا طريق أخرى عنه رواه البيهقي (10/ 24) من طريق مقدام بن داود عن النضر بن عبد الجبار عن ابن لهيعة عن عطاء عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا إخصاء في الإسلام ولا بنيان كنيسة». والمقدام قال عنه النسائي في «الكنى»: ليس بثقة وقال أبو حاتم وابن يونس تكلموا فيه، وابن لهيعة ضعيف. وفي الباب عن عمر - رضي الله عنه -، موقوفًا أخرجه عبد الرزاق (4/ 457) عن الثوري عن إبراهيم بن مهاجر قال كتب عمر - رضي الله عنه -، إلى سعد - رضي

الله عنه - أن لا يخُصي فرس. ورواه على ابن الجعد (2220) وابن أبي شيبة (6/ 423) وزادوا إبراهيم النخعي بين إبراهيم ابن مهاجر وعمر وإسناده منقطع، إبراهيم لم يدرك عمر وابن مهاجر ليِّن، ومن وجه آخر عن عمر أنه نهى عنه وقال النماء مع الذكر، رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة والبيهقي عن عاصم ابن عبيد الله عن سالم عن أبيه عن عمر وعاصم ضعيف. وعن أنس - رضي الله عنه -، في قوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] قال الخصاء، رواه عبد الرزاق وابن شيبة وابن جرير عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال: سمعت أنسًا فذكره، وأبو جعفر متكلم فيه من وجهة حفظه. وروى ابن جرير والبيهقي من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس مثل ما قال أنس، ومن طريق حماد عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس مثله. ورواه أبي شيبة وابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس ولفظه قال: إخصاء البهائم مُثله ثم تلا الآية {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] وفيه رجل لم يسم. قال الطحاوي: فأمَّا ما ذُكر من قوله تعالى: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] فقد قيل في تأويله ما ذهبوا إليه، وقيل: إنه دين الله، وقد رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ضحى بكبشين موجوءين (¬1) وهما المرضوضان خصاهما والمفعول به ذلك قد انقطع أن يكون له نسل، فلو كان إخصاؤهما مكروهًا إذًا لما ضحى بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لينتهي الناس عن ذلك فلا يفعلونه، ولأنهم متى علموا أن ما أخصي تُجتنب أو ¬

(¬1) جاء هذا من حديث جابر رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. ومن حديث عائشة وأبي هريرة عند أحمد وابن ماجه (3122) وأسانيدها لا بأس بها ولها شواهد أخرى.

تجافي أحجموا عن ذلك فلم يفعلوه ... وقال: إخصاء البهائم إنما يراد به ما ذكرنا من سمانتها وقطع عَضِّها فذلك مباح؛ ولو كان ما روينا في هذا الباب صحيحًا لاحتمل أن يكون أريد الإخصاء الذي لا يبقي معه شيءٌ من ذكور البهائم حتى يخصى فذلك مكروه لأن فيه انقطاع النسل، ألا تراه يقول: (منها نشأت الخلق) فإذا لم ينشأ شيء من ذلك الخلق فذلك مكروه، فأمَّا ما كان من الإخصاء الذي لا ينقطع منه نشء فهو بخلاف ذلك. اهـ. وقال البيهقي بعد ما ذكر إباحته عن بعض التابعين قال: ومتابعة قول ابن عمر وابن عباس مع ما فيه من السنن المرويَّة أولى وبالله التوفيق، ويحتمل جواز ذلك إذا اتصل به غرض صحيح كما حكينا عن التابعين وروينا في كتاب الضحايا تضحية النبي - صلى الله عليه وسلم -، بكبشين موجوءين لما فيه من تطييب اللحم. اهـ. وقال الباجي في شرح «الموطأ» (6/ 268) على أثر ابن عمر: يريد والله أعلم ما لم يكن في إخصائه منفعة، وقد كره مالك إخصاء الخيل وقال لا بأس بإخصائها إذا أُكلت، ثم قال مسألة، وأما خصاء الغنم وما ينتفع بإخصائه لطيب لحمه فلا بأس بذلك والله أعلم. اهـ. وقال القرطبي في «تفسيره» (5/ 390) وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت فيه المنفعة إما لسمنٍ أو غيره والجمهور من العلماء وجماعتهم على أنه لا بأس أن يضحي بالخصي واستحسته بعضهم إذا كان أسمن من غيره .. ثم ذكر من رخص فيه من السلف كعمر بن عبد العزيز وعروة، وقال: ورخص مالك في خصاء ذكور الغنم، وقال إنما جاز ذلك لأنه إنما يقصد به تطييب اللحم فيما يؤكل وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى، ثم قال ومنهم من كره ذلك واختاره ابن المنذر قال لأن ذلك ثابت عن عمر قال، وقال

الأوزاعي: (كانوا يكرهون خصاء كل شيء له نسل، قال ابن المنذر، وفيه حديثان أحدهما عن ابن عمر والآخر عن ابن عباس وذكرهما (وتقدما). وقال ابن مفلح في «الآداب» (3/ 143)، ويباح خصي الغنم لما فيه من إصلاح لحمها وقيل يكره، وقال أحمد لا يعجبني للرجل أن يخصي شيئًا، وإنما كره ذلك للنهي الوارد عن إيلام الحيوان. وفي رواية عن أحمد كرهه إلا أن يخاف عضاضه، وعند الشافعي يحرم خصاء الحيوان الذي لا يؤكل وكذا ما يؤكل في كبره لا في صغره. وفي منظومة ابن عبد القوي: وفيما سوى الأغنام قد كرهوا الخصاء ... لتعذيبه المنهي عنه بمسند قال في «غذاء الألباب»: وفي «الإقناع» و «المنتهى» وغيرهما يكره خصاء غير غنم وديوك! قال وقال في «الآداب الكبرى» يباح خصاء الغنم لما فيه من إصلاح لحمها وهذا همو المذهب المعتمد، والمنصوص عنه كراهة الخصاء من غنم وغيرها إلا خوف عضاضه. وقال في «فتح الباري»، وأخرج أبو داود من حديث جابر - رضي الله عنه -، (ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبشين أقرنين أملحين موجوءين) قال الخطابي: الموجوء يعني منزوع الخصيتين والوجاء، ويفيد اللحم طيبًا، وينفي عنه الزهومة وسوء الرائحة. اهـ. وقال الشوكاني (8/ 88) الخصاء قوله (نهى عن إخصاء الخيل) الإخصاء سل الخصية قال في القاموس وخصاه خصيًا سلّ خصيته، وفيه دليل على تحريم خصي الحيوانات وقول ابن عمر منها نماء الخلق أي زيادته إشارة إلى أن الخصي مما تنمو

به الحيوانات ولكن ليس كل ما كان جالبًا لنفع يكون حلالًا بل لابد من عدم المانع، وإيلام الحيوان ها هنا مانع لأنه إيلام لم يأذن الشارع به بل نهى عنه. اهـ. هذا ما تيسر إعداده والله أعلم (¬1). ¬

(¬1) قرئ على شيخنا - رحمه الله - ولم يكمِّل وقال المقصود جائز إذا كان للمصلحة. فيه إشارة إلى أن قلة الفتوح في زمانه لا صنع له فيه، لأن سببه قصر مدته، فمعنى المغفرة له رفع الملامة عنه.

حاصل ما قيل في تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم - في أبي بكر في حديث الرؤيا

حاصل ما قيل في تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم - في أبي بكر في حديث الرؤيا قال الحافظ في «الفتح» (7/ 38): واتفق من شرح الحديث على أن ذكر الذنوب إشارة إلى خلافته، وفيه نظر لأنه ولى سنتين وبعض سنة فلو كان المراد لقال ذنوبين أو ثلاثة والذي يظهر لي أن ذلك إشارة إلى ما فتح في زمانه من الفتوح الكبار وهي ثلاثة، ولذلك لم يتعرض في ذكر عمر إلى عدد ما نزعه من الدلاء، وإنما وصف نزعه بالعظمة إشارة إلى كثرة ما وقع في خلافته من الفتوحات والله أعلم، وقد ذكر الشافعي في تفسير هذا الحديث في «الأم» بعد أن ساقه قال ومعنى قوله (في نزعه ضعف) قصر مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والازدياد الذي بلغه عمر في طول مدته. وقال الحافظ: كذلك «في نزعه ضعف» أي أنه على مهل ورفق وقوله (والله يغفر له) قال النووي: (هذا دعاء من المتكلم لا مفهوم له)، وقال غيره: (فيه إشارة إلى قرب وفاة أبي بكر وهو نظير قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3] فإنها إشارة إلى قرب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلت: ويحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن قلة الفتوح في زمانه لا صنع له فيه، لأن سببه قصر مدته، فمعنى المغفرة له رفع الملامة عنه.

وقال الحافظ أيضًا قال البيضاوي وقوله: (يغفر الله له) إشارة إلى أن ضعفه- المراد به الرفق- غير قادح فيه أو المراد بالضعف ما وقع في أيامه من أمر الردة واختلاف الكلمة إلى أن اجتمع ذلك في آخر أيامه وتكمل في زمان عمر، وإليه الإشارة بالقوة، وقد وقع عند أحمد من حديث سمرة أن رجلًا قال: (يا رسول الله رأيت كأن دلوًا من السماء دُليت، فجاء أبو بكر فشرب شربًا ضعيفًا، ثم جاء عمر فشرب حتى تضلع) الحديث (¬1). ففي هذا إشارة إلى بيان المراد بالنزع الضعيف والنزع القوي. وقال الحافظ في كتاب «التعبير من الصحيح» (12/ 413). قال القاضي عياض: ظاهر هذا الحديث أن المراد خلافة عمر، وقيل هو لخلافتهما معًا لأن أبا بكر جمع شمل المسلمين أولًا بدفع أهل الردة وابتدأت الفتوح في زمانه، ثم عهد إلى عمر فكثرت في خلافته الفتوح واتسع أمر الإسلام واستقرت قواعده، وقال غيره: (معنى عظم الدلو في يد عمر كون الفتوح كثرت في زمانه ومعنى استحالت) انقلبت عن الصغر إلى الكبر. وقال النووي: قالوا هذا المنام مثال لما جرى للخليفتين من ظهور آثارهما الصالحة وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه صاحب الأمر فقام به أكمل قيام وقرر قواعد الدين ثم خلفه أبو بكر فقاتل أهل الردة وقطع دابرهم ثم خلفه عمر فاتسع الإسلام في زمنه، فشبه أمر المسلمين بقليب الماء الذي فيه حياتهم وصلاحهم وشبه بالمستقي لهم منها وسقيه هو قيامه بمصالحهم ¬

(¬1) رواه أحمد في «مسنده» (5/ 21): حدثنا عبد الصمد وعفان قالا حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا الأشعث بن عبد الرحمن الجرمي عن أبيه عن سمرة به مطولًا، ورواه أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى أخبرنا عفان به وعبد الرحمن والد الأشعث مقبول وباقي رجاله ثقات.

وقوله (ليريحني) إشارة إلى خلافة أبي بكر بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الموت راحة من كدر الدنيا وتعبها، فقام أبو بكر بتدبير أمر الأمة ومعاناة أحوالهم، وقوله: (وفي نزعه ضعف) فليس فيه حطٌ من فضيلته، وإنما هو إخبار عن حالة في قصر مدة ولايته، وأما ولاية عمر فإنها لما طالت كثر انتفاع الناس بها واتسعت دائرة الإسلام بكثرة الفتوح وتمصير الأمصار وتدوين الدواوين وأما قوله (والله يغفر له) فليس فيه نقص له، ولا إشارة إلى أنه وقع منه ذنب، وإنما هي كلمة كانوا يقولونها يدعمون بها الكلام. ثم ذكر الحافظ حديث سمرة المتقدم وتمامه ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عليّ فأخذ بعراقيها فانتشطت وانتضح عليه منها شيء قال: (وهذا يبين أن المراد بالنزع الضعيف والقوي الفتوح والغنائم). وقال القسطلاني في «شرح البخاري» (6/ 97): (وفي نزعه ضعف) إشارة إلى ما كان في زمنه من الارتداد واختلاف الكلمة ولين جانبه ومدارته مع الناس ونحوه قال الطيبي في شرح «المشكاة» (10/ 395). وقال أبو حاتم بن حبان بعد إخراج الحديث في صحيحه (15/ 324): فالذنوبان كانا خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -، عنه سنتين وأيامًا. وقال ملا على قاري في «شرح المشكاة» (10/ 395). قوله: (وفي نزعه ضعف والله يغفر له) جملة دعائية وقعت اعتراضية مبنية أن الضعف الذي وجد في نزعه لما يقتضيه تغير الزمان وقلة الأعوان غير راجع إليه بنقيصة. وقال البغوي في «شرح السنة» (14/ 91) قوله: (في نزعه ضعف لم يرد به نسبة التقصير إلى الصديق في القيام بالأمر فإنه جد بالأمر وتحمل من أعباء الخلافة

ما كانت الأمة تعجز عنه ولذلك قالت عائشة - رضي الله عنها -: (توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وارتدت العرب واشرأب النفاق ونزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها .. بل ذلك إشارة إلى أن الفتوح كانت في زمن عمر أكثر مما كانت في زمن الصديق لقصر مدة أيام ولايته ...). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 343): (وسواء أراد قصر مدته أو أراد ضعفه عن مثل قوة عمر فلا ريب أن أبا بكر أقوى إيمانًا من عمر، وعمر أقوى عملًا، وقوى الإيمان أقوى وأكمل من قوة العمل، وصاحب الإيمان يكتب له أجر عمل غيره وما فعله عمر في سيرته مكتوب مثله لأبي بكر فإنه هو الذي استخلفه). وقال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله -، (1/ 247)، في فتاويه: (لا مطعن فيه على أبي بكر للروافض لأن أبا بكر أكثر إيمانًا، ثم هو هو الذي ولاه، ثم قال أيضًا والله يغفر له فهذا إذا كان المراد أنه نقص). اهـ (¬1). وقال سماحة الشيخ ابن باز سنة 1408 في «كتاب شرح التعبير». قال: ولعل الضعف ما كان فيه من اللين والرقة وعمر كان أشد - رضي الله عنهما -. ¬

(¬1) قرئ على الشيخ - رحمه الله - فقال: حاموا حول الحمى ... لم يأتوا بجديد.

هل تشرع الإشارة بين السجدتين؟

هل تشرع الإشارة بين السجدتين؟ أحدهما: حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، الذي رواه مسلم من طريق معمر عن نافع عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، (كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها ...) الحديث. فأخذوا بعموم قوله: (إذا جلس في الصلاة) وقالوا هذا يشمل الجلوس بين السجدتين كذلك. والجواب عن هذا أن يُقال: إن المراد بقوله: (جلس في الصلاة) التشهد ولنا في ذلك دليلان: أحدهما: أن حديث ابن عمر المذكور قد رواه مسلم بلفظ آخر يبيِّن المراد فرواه من طريق أيوب عن نافع بلفظ: (كان إذا قعد في التشهد ...). وهو كذلك عند أحمد في مسنده (2/ 131) والبيهقي (2/ 130)، ولفظه عنده (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا قعد يتشهد)، ولفظه عند الدارمي من طريق أيوب أيضًا: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان إذا قعد في آخر الصلاة ...). وله طريق أخرى عند مسلم من حديث ابن عمر بلفظ: (إذا جلس في الصلاة ...). ورواه مالك وأحمد والنسائي وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان.

ودليلنا الثاني: أن جميع من أخرج حديث ابن عمر بطريقيه ذكره في أبواب التشهد، ولم يذكره في أبواب الجلوس بين السجدتين. قال النسائي على الحديث المذكور: باب موضع البصر في التشهد، وبوَّب الدارمي: باب الإشارة في التشهد، ومثله أبو داود. وقال ابن خزيمة: باب وضع اليدين على الركبتين في التشهد الأول والثاني والإشارة بالسبابة من اليد اليمنى، ونحوه لابن حبان فأصبحت لفظة في الصلاة، مجملة بيَّنتها الروايات الأخرى والمجمل يوضحه المبين، وهذا ما فهمه أئمة الحديث وأهل الشأن. ودليلهم الثاني (¬1): ما رواه عبد الرزاق في مصنفه (2/ 68) وعنه أحمد في «المسند» (4/ 317)، والطبراني في «الكبير» (22/ 34)، من طريق الشورى عن عاصم بن كُليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال: رمقت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرفع يده حين كبَّر (وفيه) ثم وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى وذراعه اليمنى على فخذه اليمنى ثم أشار بسببابته ووضع الإبهام على الوسطى وحلق بها، وقبض سائر أصابعه، ثم سجد فكانت يداه حذو أذنيه. وقد روى الحديث عن الثوري ثلاث أنفس هذا لفظ عبد الرزاق، ورواه محمد بن يوسف الفريابي عن الثوري به كما عند النسائي ولفظه: (أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، جلس في الصلاة فافترش رجله اليسري ووضع ذراعيه على فخذيه وأشار بالسبابة يدعو بها) فلم يذكر السجدة بعد الإشارة، والفريابي ثبت في الثوري فهو من الملازمين له ونصّ جماعة على أنه مقدم على عبد الرزاق في الثوري كابن عدين ورواه عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان به كما عند أحمد (4/ 318)، ¬

(¬1) يعني دليل من قال بالإشارة في السجدتين.

ولفظه عن وائل بن حجر - رضي الله عنه -، قال: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين كبر رفع يديه حذاء أذنيه (وفيه) فلما جلس حلق الوسطى والإبهام، وأشار بالسبابة ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى). ولا يقال هذه زيادة ثقة. فقد أخرج الحديث النسائي من طريق ابن عتيبة عن عاصم به وأحمد (4/ 319)، وابن خزيمة (697)، كلاهما عن شعبة والطحاوي (1/ 152)، عن أبي الأحوص وكذلك الطبراني (22/ 34)، كلهم عن عاصم به وصرحوا بأن الإشارة في التشهد، فلفظ أحمد (فلما قعد يتشهد) ولفظ ابن خزيمة (وأشار بأصبعه السبابة) يعني في الجلوس في التشهد ولفظ الطحاوي (فلما قعد في التشهد ...) ومثله للطبراني. وعبد الرزاق - رحمه الله -، وإن كان من الأئمة الحفاظ إلَّا أن له ألفاظًا ينفرد بها لا يتابع عليها وهذا منها. فالمحفوظ بلا ريب الإشارة في التشهد، فهو مما استفاضت به الأحاديث وعليه تبويب الأئمة رحمهم الله. فائدة: سئل شيخنا ابن باز سنة 1413هـ في جمادى الثانية في السادس عشر منه في أثناء قراءة الدارمي عن تحريك الإصبع بين السجدتين؟ فأجاب: (شاذة والأولى البسط ومثّلَهُ بيده) كتبته عنه بحروفه - رحمه الله -، والله أعلم.

بذل الماعون بأن مدة النفاس أربعون

بذل الماعون بأن مدة النفاس أربعون

مقدمة

مقدمة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فإن التفقه في الدين وتعلم ما أنزل الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، من أعظم الطاعات وأجل العبادات، والناس إزاء التنزيل وما بعث الله به رسوله هم كما قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي موسى الذي في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به». شبه - صلى الله عليه وسلم -، العلم والهدى الذي جاء به بالغيث؛ لما يحصل بكل واحد منهما من الحياة والمنافع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد. وشبه القلوب بالأراضي التي يقع عليها المطر، لأنها المحل الذي يمسك الماء فينبت سائر أنواع النبات النافع، كما أن القلوب تعي العلم فيثمر فيها ويزكو وتظهر بركته وثمرته، ثم قسم الناس إلى ثلاثة أقسام بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظه وفهم معانيه واستنباط أحكامه واستخراج حكمه وفوائده.

أحدهما: أهل الحفظ والفهم الذين حفظوه وعقلوه وفهموا معانيه واستنبطوا وجوه الأحكام والحكم والفوائد منه، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي قبلت الماء وهذا بمنزلة الحفظ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهذا هو الفهم فيه والمعرفة والاستنباط فإنه بمنزلة إنبات الكلأ والعشب بالماء، فهذا مثل الحفاظ الفقهاء أهل الرواية والدراية. والقسم الثاني: أهل الحفظ الذين رزقوا حفظه ونقله وضبطه، ولم يرزقوا تفقُّهًا في معانيه ولا استنباطًا ولا استخراجًا لوجوه الحكم في والفوائد منه، فهم بمنزلة من يقرأ القرآن ويحفظه ويراعي حروفه وإعرابه ولم يرزق فيه فهمًا خاصًا عن الله كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه). والناس متفاوتون في الفهم عن الله ورسوله أعظم التفاوت، فَرُبَّ شخص يفهم من النص حكمًا أو حكمين، ويفهم الآخر منه مائة أو مئتين، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس فانتفعوا به، هذا يشرب، وهذا يسقي، وهذا يزرع، فهذان القسمان هم السعداء، والألوان أرفع درجة وأعلى قدرًا و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]. والقسم الثالث: الذي لا نصيب لهم منه لا حفظًا ولا فهمًا ولا رواية ولا دراية، بل هم بمنزلة الأرض التي هي قيعان لا تنبت ولا تمسك الماء، وهؤلاء هم الأشقياء، والقسمان الأولان اشتركا في العلم والتعليم كل بحسب ما قبله ووصله، فهذا يعلم ألفاظ القرآن ويحفظها، وهذا يعلم معانيه وأحكامه وعلومه، والقسم الثالث لا علم ولا تعليم، فهم الذين لم يرفعوا بهدى الله رأسًا ولم يقبلوه، وهؤلاء شر من الأنعام، وهم وقود النار، فقد اشتمل هذا الحديث الشريف العظيم على التنبيه على شرف العلم والتعليم وعظم موقعه وشقاء من ليس من أهله، وذكر أقتسام بني آدم بالنسبة إلى شقيهم وسعيدهم وتقسيم

سعيدهم إلى سابق مقرب وصاحب يمين مقتصد، وفيه دلالة على أن حاجة العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر بل أعظم، وأنهم إذا فقدوا العلم فهم بمنزلة الأرض التي فقدت الغيث قال الإمام أحمد - رحمه الله -: «الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجاتهم إلى الطعام والشراب، لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس ..» (¬1). وإذا كان الأمر كذلك فقد عظم الخطب في إقامة الحجة، وانقطعت المعذرة في التساهيل في التعلم والعلم والتعليم، فمن رام النجاة، وأراد الفوز والفلاح فليقرع أبواب العلم، وليشمر عن ساعد الجد، وليبدأ بنفسه فيعلمها مالله عليها من حق ويثني بالأقرب من قراباته كأهله ... ثم سائر الناس. قال البخاري - رحمه الله -: باب تعليم الرجل أمته وأهله وأسند عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «ثلاثة لهم أجران ... ورجل كانت عنده أمه فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران» قال الحافظ: (مطابقة الحديث للترجمة في الأمة بالنص وفي الأهل بالقياس، إذا الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسننه آكد من الاعتناء بالإماء). وصدق - رحمه الله - فتعليم الأهل العلم والأدب والعفة وحسن القوامة عليهن ومعاشرتهن بالمعروف مؤكد على الأزواج، وعلى المرأة كذلك مثل ما على الرجل من التعلم والتفقه في دين الله ومعرفة حدود ما أنزل على رسوله، خصوصًا أن الله قد كتب عليها ما لم يكتبه على الرجل كالحيض والنفاس، فجدير بكل مسلمة أن تتعلم هذه الأحكام وأن تتفقه فيها فقد بُليت بها وكتبها الله عليها، مع سائر أحكام دينها، ومؤكد عليها مع ذلك أن تحسن صحبة عشيرها، فحقه فوق حق الوالدين، وأن تقوم بذلك ابتغاء وجه الله واحتسابًا للأجر، ولها في الصالحات من الصحابيات رضي الله عنهن وعلى رأسهن أهل بيت النبوة فمن بعدهن أسوة حسنة. ¬

(¬1) «مفتاح دار السعادة» (1/ 60).

وأقول لأختي طالبة العلم التي وفقت برجل صالح: رفقًا به، أعينيه على الطلب، ولا تستثقلي كثرة الكتب، وكثرة مطالعته لها، فهو والله خير، واعتبري وتأملي ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (14/ 438) بسند صحيح أنَّ المروذي قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: (أقامت أم صالح معي ثلاثين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة)!! فالله المستعان. وأهمس في أذن أخي طالب العلم الذي وفق بامرأة صالحة رضيها أن تكون حليلته فأقول له: لعلك علمت ما رواه الحطيب في «تاريخه» (8/ 47) عن الزبير بن بكار قال: قالت ابنة أختي لأهلنا (يعني زوجته): خالي خير رجل لأهله، لا تيخذ ضرة ولا يشتري جارية قال: تقول المرأة: (والله لهذه الكتب أشد عليَّ من ثلاث ضرائر)!! فأعط كل ذي حق حقه ولا تشطط. وهذا مما يعين على الفقه في أمور النساء، أن تقرأ المسلمة ما جاء في كتاب الله وتتدبر ما فيه، وأن تنظر في سنة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وأن تنظر فيما كتب في هذه المواضيع الخاصة، وتطالع كذلك فتاوى العلماء الثقات من أهل عصرنا فيما يخص المرأة المسلمة حتى تعبد ربها على بصيرة، وتفيد بنات جنسها. وقد جمعت جزءًا في مادة النفاس، وآخر في ختان النساء؛ رغبة في تحرير الكلام في هاتين المسألتين، ونصحًا لمن طالعه وبلغه من المسلمين. والله أسأل أن ينفع كاتبه وقارئه وسامعه، وأن يمنحنا به رضوانه، وأن يعفو عن زلاتنا إنه جواد كريم وصلى الله على خير خلقه وأكرم رسله وعلى آله وأصحابه وسلم. وكتبه أبو محمد عبد الله بن مانع العتيبي رجب /1417 ص. ب 9010 الرياض 11413

وروى أحمد في مسنده في مواضع (6/ 300) (6/ 302) (6/ 309)، والدارمي (960)، والموصلي (23/ 70)، وأبو داود (311)، وابن ماجه (648)، والترمذي (139)، والحاكم (1/ 175) وابن أبي شيبة [17455]، والبغوي (2/ 136)، وابن المنذر (2/ 250)، والدارقطني (1/ 222)، والطبراني في «الكبير» (23/ 370)، وابن حبان في «المجروحين» (2/ 224 - 225)، والبيهقي (1/ 341)، وغيرهم من طرق عن على بن عبد الأعلى عن أبي سهل (كثير بن زياد) عن مُسَّة الأزدية عن أم سلمة - رضي الله عنها -، قالت: (كانت النفساء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تقعد بعد نفاسها أربعين يومًا وكنا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف، وقد روي بلفظ آخر مقارب (كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أربعين يومًا ...). وبلفظ ثالث عن مُسَّة قالت: (حججت فدخلت على أم سلمة فقلت يا أم المؤمنين إن سمرة بن جندب يأمر النساء يقضين صلاة الحيض فقالت: لا يقضين كانت المرأة من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تقعد من النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، بقضاء صلاة النفاس، وهذه الألفاظ الثلاثة كلها عند البيهقي، واعلم أن أحاديث الباب وما جاء في معناها من آثار قد طعن فيها بعلل أربع: الأولى: ضعف حديث أم سلمة. الثانية: نكارة بعض ألفاظه. الثالثة: ضعف شواهده. الرابعة: الاعتلال بوجود النفاس في الحس أكثر من أربعين.

والجواب عن ذلك بما يلي: أما العلة الأولى فإن هذا الحديث مدارُهُ على علي بن عبد الأعلى عن أبي سهل عن مسة. فأما علي بن عبد الأعلى وهو أبو الحسن الأحول الكوفي فقد روى له أهل السنن، قال أحمد والنسائي: ليس به بأس، وقال البخاري: ثقة كما نقله عنه الترمذي في سننه ووثقه الترمذي، وابن حبان، وقال أبو حاتم ليس بالقوي، ومثله قال الدارقطني في علله، وكلام أحمد والنسائي والبخاري مقدَّم على كلام غيرهم لو قدر أن كلام غيرهم جرح فكيف وهو لا يفيده (¬1) فحديثه حسن على أقل الأحوال وليس مدفوعًا عن الصحة. وقد تابعه نافع عند أبي داود (312)، والحاكم (1/ 175)، ومن طريقه البيهقي (1/ 341)، وأما أبو سهل كثير بن زياد البُرساني فقد روى له الأربعة إلا النسائي، وقال ابن معين ثقة، وقال أبو حاتم ثقة م أكابر أصحاب الحسن، لا بأس به بصري وقال النسائي: ثقة، وكذلك قال البخاري كما نقله عنه الترمذي، وتناقض فيه ابن حبان فلم يصنع شيئًا، فهو ثقة لا مطعن فيه. وأما مُسَّة الأزدية بضم الميم وتثقيل المهملة بضم الموحدة وتشديد السين المهملة روت عن أم سلمة وعنها أبو سهل كثير بن زياد، وذكر الخطابي وابن حبان أن الحكم بن عتيبة روى عنها أيضًا اهـ. من «التهذيب». قلت هي عند الدارقطني (1/ 223) من طريق عبد الرحمن بن محمد العرزمي عن أبيه عن الحكم بن عتيبة عن مُسَّة. ¬

(¬1) كما في «مقدمة الفتح» و «تنكيل المعلمي».

ومحمد بن عبيد الله العرزمي بالمهملة أولًا أجمع الأئمة على تركه فلا يصح أن الحكم روى عنها. وقال في «عون المعبود» (1/ 501) قال ابن القطان: لا يعرف حالها ولا كنيتها ولا تعرف في غير هذا الحديث، وأجاب في «البدر المنير» فقال: لا نسلم جهالة عينها وجهالة حالها مرتفعة، فإنه روى عنها جماعة؛ كثير بن زياد والحكم بن عتيبة، وزيد بن على بن الحسين، ورواه محمد بن عبيد الله العرزمي عن الحسن عن مُسَّة أيضًا فهؤلاء أربعة رووا عنها، وقد أثنى على حديثها البخاري وصحح الحاكم إسناده فأقل أحواله أن يكون حسنًا. اهـ. وقال ابن القيم في «تهذيب السنن» (1/ 195) وقد روى عنها أي مسة أبو سهل كثير ابن زياد، والحكم بن عتبة، ومحمد بن عبيد الله العزرمي وزيد بن علي بن الحسين. اهـ. قلت تقدم كلام الحافظ وذكر من روى عنها فالصحيح أنه لم يرو عنها سوى أبي سهل، ولهذا قال الترمذي: (ولم يعرف محمد هذا الحديث إلا من حديث سهل). وقال الخطابي في «معالم السنن» (1/ 196): وحديث مسة أثنى عليه محمد بن إسماعيل- يعني البخاري-. وقال ابن حزم في «المحلي» (2/ 204): مسة مجهولة، وفي «التلخيص» (1/ 171) مجهولة الحال. وقد رأيت كلامًا لأبي الفيض العماري في تخريج الأحاديث «بداية المجتهد» متعقبًا ابن القطان في جهالة مسة قال: (انتقاد مردود أما مسة وكنيتها أم بُسَّة فغير مجهولة العين لأنه روى عنها هذا الحديث ثقتان كثير بن زياد والحكم بن عُتيبة

وروايته عند الدارقطني وجهالة العين ترتفع برواية عدلين، وجهالة حالها لا تضر مع رواية الثقات عنها، وكونها امرأة من التابعيات وقد عرف بالاستقراء عدم وجود كذَّابة أو متهمة في النساء، ثم قد ورد الحديث من طريق سبعة من الصحابة، وإن كانت ضعيفة شاهد لصدقها. اهـ. قلت هو كلام متين وتقدم الكلام على بعضه، وهذا مقام احتاج الناس فيه إلى مُسة، وإذا ضممت حديثها هذا إلى أثر ابن عباس علمت أنها حفظت وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله. وأما العلة الثانية وهي نكارة بعض ألفاظه قال ابن القطان على لفظ: (كانت المرأة من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تقعد في النفاس أربعين ...) إلخ، قال وأيضًا فأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يكن منهن نفساء معه إلا خديجة ونكاحها قبل الهجرة فلا معنى لقولها قد كانت المرأة من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ... الحديث، وسبقه إلى هذا الترمذي في «علله الكبير». والجواب أن هذا اللفظ وقع من طريق يونس بن نافع ترجمه في «التهذيب» وفي ثقات ابن حبان (7/ 650) وقال يخطئ قلت خالفه على بن عبد الأعلى عن أبي سهل وهو أوثق منه فهذه اللفظة غير محفوظة، وعلى فرض أن يونس حفظ فإنه لم يقل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل قال: نساءه، وهذا يشمل بناته وإماءه وقراباته وأصهاره، فلا معنى لإنكار هذه اللفظة، والله أعلم. وأما العلة الثالثة فهي ضعف شواهده ولنشرع الآن في سردها مع الكلام عليها على سبيل الإجمال. فمنها حديث أنس رواه ابن ماجة في سننه (649) من طريق سلَّام بن سليم أو سلم شك أبو الحسن وأظنه هو أبو الأحوص [كذا في سنن ابن ماجه] عن

حميد عن أنس قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقت للنفساء أربعين يومًا إلا أن ترى الطهر مثل ذلك. ورواه الموصلي (6/ 422)، والدارقطني (2/ 220)، وابن الجوزي في علله (1/ 385)، ووقع عندهم (سلَّام بن سلم) دون شك ورواه البيهقي (1/ 343)، ووقع عنده سلَّام الطويل، وهو ابن سلم ويقال له ابن سليم وابن سليمان، تركه صحيح ورجاله ثقات فظن أن سلامًا هو ابن سليم أبو الأحوص والصواب هو الطويل المدائني المتروك. ومن وجه آخر عن أنس موقوفًا رواه عبد الرزاق (1/ 312)، وفيه جابر الجعفي تركه غير واحد، وشيخه خيثمة ليس بشيء قاله ابن معين، ورواه البيهقي (1/ 343)، من طريق زيد العميِّ عن أبي إياس عن أنس مرفوعًا بمعناه. والعمي ضعيف. ومنها حديث عثمان بن أبي العاص رواه الدارقطني (1/ 220)، وابن أبي شيبة (17450)، من طريق حفص بن غياث عن أشعث عن الحسن عن عثمان أنه كان يقول لنسائه: لا تشوفن لي دون الأربعين، ولا تجاوز الأربعين في النفاس، وهو عند البيهقي (1/ 341) من وجه آخر عن الحسن بنحوه. ورفعه عمر بن هارون البلخي عن أبي بكر الهذلي عن الحسن به، ولفظه: فقال عثمان: ألم أخبرك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نعتزل النساء أربعين يوما ووقفه وكيع عن الهذلي به والهذلي وعمر بن هارون متروكان، لكن رواه أشعث بن سوَّار عن الحسن، وأشعث ضعيف وتابعه يونس بن عبيد، وكل هذه الآثار عند الدارقطني، وأخرج المتابعة المذكورة أيضًا الدارمي (1/ 184) عن

الفريابي عن الثوري عن يونس، وعبد الرزاق عن الثوري (1/ 313) وابن الجارود من طريق الدارمي سواء وهذا إسناد جيد إلا أن الحسن لم يسمع من عثمان، وحتى على قول من قال إنه سمع منه كابن المديني في علله ص 51، لكنه عنعنه وهو مدلس، وجاء رفعه من وجه آخر عن الحسن أخرجه الدارقطني (1/ 220)، والحاكم (1/ 176)، وابن الجوزي (1/ 386) من طريق أبي بلال الأشعري حدثنا أبو شهاب عن هشام بن حسان عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص قال: (وقَّت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، للنفساء في نفاسهن أربعين يومًا) قال الحاكم: وهذه سُنةَّ عزيزة فإن سلم الإسناد من أبي بلال فإنه مرسل صحيح، فإن الحسن لم يسمع من عثمان بن أبي العاص. اهـ. قلت: لم يسلم، قال الدارقطني عصري الحاكم أبو بلال الأشعري ضعيف. ومن الشواهد حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه الدارقطني والطبراني في «الأوسط» (1/ 391)، «مجمع البحرين»، والحاكم (1/ 176)، وابن الجوزي في علله (1/ 386)، وفيه عمرو بن الحصين وابن علاثة أما الأول فتركه الأئمة وأما الثاني فمختلف فيه، وأطلق الدارقطني أنهما متروكان. ومنها أثر عمر - رضي الله عنه -، أخرجه الدارقطني وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة (17451)، وابن المنذر في «الأوسط» (2/ 249 - 250)، وفيه جابر الجعفي. ومنها أثر عائشة - رضي الله عنها -، مرفوعًا أخرجه الدارقطني وابن حبان في «المجروحين» (2/ 130)، وفيه عطاء بن عجلان وهو متروك، ورواه عبد الله بن أحمد في مسائله (ص50) من طريق حبان بن علي عن شيخ قد سماه عن ابن أبي ملكية عن عائشة مرفوعًا، ومن طريق حبان أخرجه الجوزي في علله (1/ 386) وسمى الرجل المبهم عطاء المذكور، ورواه ابن حبان في «المجروحين» (1/ 245 - 246) من حديث حسين بن علوان عن هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة. وحسين كذاب.

ومنها أثر عائذ بن عمرو وهو صحابي رواه الدارقطني وابن أبي شيبة (17449)، وابن المنذر (2/ 249)، وفيها الجلد بن أيوب وهو ضعيف كما في «الجرح» وغيره. ومنها أثر أبي هريرة وأبي الدرداء - رضي الله عنهما -، مرفوعًا، أخرجه ابن عدى في كامله (5/ 1861)، وفيه العلاء بن كثير الدمشقي وهو متروك بل نسبه ابن حبان إلى الوضع. ومنها أثر جابر موقوفًا أخرجه الطبراني في أوسطه (1/ 393)، مجمع البحرين، وفيه أشعت بن سوَّار وهو ضعيف. ومنها أثر حديث معاذ مرفوعًا أخرجه ابن عدي في «كامله» (6/ 2152)، وفيه محمد بن سعيد المصلوب كذبوه، وصلب على الزندقة. ومنها أثر ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه الدارمي (1/ 185) وابن أبي شيبة (17454)، وعبد الله بن أحمد في مسائله (ص49)، والبيهقي (1/ 341)، وابن الجارود (ج119)، وابن المنذر (2/ 249) كلهم (سوى ابن الجارود) من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن يوسف ابن ماهك عنه - رضي الله عنه -، قال: النفساء تنتظر أربعين يومًا أو نحوه، هذا لفظه عند البيهقي، وعبد الله بن أحمد، وابن المنذر، وعند الدارمي قريبًا منه ولفظه: (تتنتظر نحوًا من أربعين يومًا)، وعند ابن أبي شيبة (تجلس النفساء نحوًا من أربعين يومًا)، وعند ابن الجارود من طريق هشيم عن أبي بشر به (تمسك النفساء عن الصلاة أربعين يومًا) هكذا دون قوله أو نحوه، وهذا هو المحفوظ عنه إن شاء الله فإن هشيمًا أحفظ وأثبت من أبي عوانة لمن تأمل ترجمة الرجلين.

قال علي بن حُجر: هشيم في أبر بشر مثل ابن عيينة في «الزهري»، وقال ابن المبارك من غيَّر الدهر حفظه فلم يغيِّر حفظ هُشيم، وقال عبد الرحمن بن مهدي هشيم أثبت عندي من حفظ أبي عوانة، وكتاب أبي عوانة أثبت من حفظ هشيم، وقال أبو حاتم هو أحفظ من أبي عوانة، ثم لو كان أبو عوانة حدَّث به من كتابه وكان محفوظًا فإن من معاني (نحو) مثل كما في «شرح القاموس التاج» وغيره. وقد روى البيهقي (1/ 341) من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن بشر بن منصور عن ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، (تنتظر يعني النفساء سبعًا فإن طهرت وإلَّا فأربعة عشر فإن طهرت وإلَّا فواحدة وعشرين، فإن طهرت وإلَّا فأربعين ثم تصلي). وفي سماع ابن جريج من عكرمة كلام، وكلام ابن عباس في «التحديد بالأربعين» تقدَّم عنه بالإسناد الصحيح فهو محفوظ عنه جدًا وإنما أطلت في هذا الأثر بعض الشيء لأن بعضهم شغَّب في الاستدلال بأثر ابن عباس على التحديد بأربعين لأجل كلمة «نحو» وتقدم الكلام على ذلك ورواية عكرمة عنه شاهد بأن الأربعين دون شك محفوظة، وبكل حال الطريق الأولى في غاية الصحة عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، ومثله لا يُقال بالرأي، ولا يُعلم أحدٌ من الصحابة مخالف ولهذا قال الترمذي في سننه: وقد أجمع أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتابعين ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يومًا، إلَّا أن ترى الطهر قبل ذلك، فإنها تغتسل وتصلي، فإن رأت الدم بعد الأربعين فإن أكثر أهل العلم قالوا: لا تدع الصلاة بعد الأربعين، وهو قول أكثر الفقهاء. ونقل الإجماع أيضًا أبو عبيد القاسم بن سلَّام، وقال إسحاق هو السنة المجمع عليها. وقال ابن عبد البر في «الاستذكار» (3/ 250): التحديد في هذا ضعيف؛ لأنه

لا يصح إلَّا بتوقيف، وليس في مسألة أكثر النفاس موضع للإتباع والتقليد إلَّا من قال بالأربعين، فإنهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا مخالف لهم منهم، وسائر الأقوال جاءت عن غيرهم ولا يجوز عندنا الخلاف عليهم بغيرهم؛ لأن إجماع الصحابة حجة على من بعدهم، والنفس تسكن إليهم، فأين المهرب عنهم دون سُنَّة ولا أصل؟ وبالله التوفيق. اهـ. وهو كلام متين من حافظ المغرب وإمامه - رحمه الله -، فإذا ضممت هذا الإجماع إلى قول ابن عباس إلى حديث مُسَّة عن أم سلمة إلى أثر عثمان بن أبي العاص علمت الحق في ذلك. قال العيني في «شرح الهداية» (1/ 699) في أحاديث الباب: وهذه الأحاديث يسند بعضها بعضًا هي حجة على الشافعي ... إلخ، وقال ابن الهمام في «فتح القدير» (66/ 1) عن أحاديث التحديد بأربعين: وروي هذا من عدة طرق لم تخل عن الطعن لكنه يرتفع بكثرتها إلى الحسن. وقال الشوكاني في «نيل الأوطار» (1/ 283): والأدلة الدالة على أن أكثر النفاس أربعون يومًا متعاضدة بالغة إلى حد الصلاحية والاعتبار فالمصير إليها متعيِّن، وفي «السيل الجرار» له (1/ 150) قال: (قد تعاضدت الأحاديث الواردة في الأربعين). قلت: سبق تصحيح الحاكم لحديث أم سلمة، وقد حسنه النووي في «المجموع» (2/ 541)، وردَّ على تضعيف فقهاء الشافعية له بقوله: (واعتمد أكثر أصحابنا جوابًا آخر وهو تضعيف الحديث، وهذا الجواب مردود بل الحديث جيد كما سبق ...). وكذا حسَّنه ابن الملقن في «البدر المنير» وتقدم، أما العلة الرابعة التي أوردت على هذه الآثار: حملها على الغالب لأن النفاس، وجد في الحس أكثر من

أربعين ... وأجيب بأنه خلاف ظاهر الحديث، فإنه يفيد أن المرأة تجلس في نفاسها أربعين يومًا إلَّا أن ترى الطهر قبل ذلك ولا تتجاوز الأربعين، ولهذا قال المجد أبو البركات في «المنتقى» (1/ 184) ومعنى الحديث: كانت تؤمر أن تجلس إلى الأربعين؛ لئلا يكون الخبر كذبًا إذ لا يمكن أن تتفق عادة نساء عصر في نفاس أو حيض. اهـ. وبهذا يعلم أن دم النفاس حدَّه أربعون يومًا، وأن من قال بالزيادة لا دليل لديه، ولهذا قال الطحاوي ولم يقل بالستين أحد من الصحابة، وقال ابن حزم في «المحلى» (2/ 203) (فأما من حدَّ بالستين فما نعلم لهم حجة) وكذلك من حدَّ أكثره بأقل من الأربعين لا حجة له كابن حزم فإنه قال: (فأما أكثره فسبعة أيام لا مزيد.!). وقال معللًا ذلك: (فلما لم يأت في أكثر مدة النفاس نص قرءان ولا سنة وكان الله تعالى قد فرض عليها الصلاة والصيام بيقين وأباح وطأها لزوجها لم يجزلها أن تمتنع من ذلك إلا حيث تمتنع بدم الحيض لأنه دم حيض). وحكاية هذا مع علمك بما تقدم كافية عن الرَّدّ. واعلم بعد هذا كله أن الدم قد ينقطع قبل الأربعين ولا يعود قبلها أو يعود، أو ينقطع بتمام الأربعين أو يزيد فهذه أربعة أحوال وهاك تفصيلها: 1 - أن ينقطع دم النفاس قبل تمام الأربعين ولا يعود بعد ذلك فمتى انقطع دمها اغتسلت وصلت وصامت ولزوجها أن يطأها. 2 - أن ينقطع دمها قبل تمام الأربعين فكما تقدم تغتسل وتصلي وتصوم ولزوجها غشيانها فإن عاد في الأربعين دمها فهو نفاس تجلسه وتدع الصلاة والصيام.

3 - وإن انقطع بتمام الأربعين، فقد ذهب نفاسها وهي بعد الأربعين في عداد الطاهرات فتصلي وتصوم. 4 - إن زاد الدم على الأربعين (والأربعون حد شرعي للنفاس كما قررنا) فإن ما بعد الأربعين فهو حيض ليس دم نفاس فتنتظر عادتها فإن وافقت أيامها بعد الأربعين فهو حيض تجلسه وإن لم توافق عادتها ما بعد الأربعين فإن ما بعد الأربعين والحال هذه دم استحاضة وحينئذٍ تغتسل عند تمام الأربعين، وتصلي وتصوم ولزوجها غشيانها، وتفعل ما تفعل المستحاضة من التلجُّم والتحفظ والوضوء بعد دخول الوقت كما هو مقرر في موضعه من كتب الحديث والفقه. وختامًا أقول إن أهل العلم أثبتوا أحكامًا كثيرة في مواضع مختلفة من أبواب العلم لم تصل الآثار في قوتها ما وصلت إليه الآثار في مسألتنا هذه، مع ما في الأخذ بهذا القول من التسهيل والوضوح لدى المكلفات، ولم أرد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله. وصلى الله ومسلم على خير خلقه وخليله ومجتباه وكان الفراغ منه في ربيع الأول 1416هـ.

صفة الإقعاء المسنون

صفة الإقعاء المسنون قال مسلم في صحيحه (5/ 18) حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا محمد بن بكر ح ... وحدثنا حسنٌ الحلوانيُّ حدثنا عبد الرزاق وتقاربا في اللفظ، قالا جميعًا أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع طاووسًا يقول: قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين فقال هي السُّنَّة فقلنا إنا لنراهُ جفاء بالرَّجُلِ فقال ابن عباس: بل هي سُنةَّ نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، ورواه أبو داود من طريق يحي بن معين أخبرنا حجاج بن محمد عن ابن جريج، به. ورواه الترمذي من طريق يحي بن موسى أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جُريج به. وروى البيهقي من طريق محمد بن عجلان أن أبا الزبير أخبره أنه رأى عبد الله بن عمر إذا سجد حين يرفع رأسه من السجدة الأولى يقعد على أطراف أصابعه ويقول: إنه من السُّنَّة (2/ 199). وروى أيضًا عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يقعيان، وعن طاووس قال: (رأيت العبادلة يقعون ... وأسانيدها صحيحة كما قال الحافظ في «التلخيص» (1/ 257). وروى البيهقي أيضًا عن طاووس قال: رأيت ابن عمر وابن عباس وهما يقعيان بين السجدتين على أطراف أصابعهما (2/ 120). قال النووي - رحمه الله - (5/ 15) في «شرح مسلم» الإقعاء نوعان: أحدهما:

أن يلصق أليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض كإقعاء الكلب. وهكذا فسَّره أبو عبيدة معمر بن المثنى وصاحبه أبو عبيد القاسم بن سلَّام وآخرون من أهل اللغة وهذا النوع هو المكروه الذي ورد فيه النهي والنوع الثاني أن يجعل أليتيه على عقبيه بين السجدتين وهذا هو مراد ابن عباس بقوله: سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -. قال في «القاموس»: وأقعى في جلوسه تساند إلى ما وراءه. وقال في «اللسان»: وأقعى الرجل في جلوسه تساند إلى ما وراءه. وقد جاء في الحديث النهي عن الإقعاء في الصلاة وفي رواية: نهى أن يقعي الرجل في الصلاة وهو أن يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين وهذا تفسير الفقهاء قال الأزهري كما روي عن العبادلة: (وذكرهم) قال: وأما أهل اللغة فالإقعاء عندهم أي يلصق أليتيه بالأرض وينصب ساقيه وفخذيه ويضع يديه على الأرض كما يقعي الكلب وهذا هو الصحيح، وهو أشبه بكلام العرب وليس الإقعاء في السباع إلا كما قلناه .. (3/ 134) «الترتيب». وقال ابن دريد في جمهرة اللغة (3/ 263): الإقعاء مصدر أقعي إقعاء وهو أن يقعد على عقبيه وينصب صدور قدمية، ونهى عن الإقعاء في الصلاة وهو أن يقعد على صدور قدميه ويلقي يديه على الأرض. وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي (1/ 60): قوله نهى عن الإقعاء من حديث أبي هريرة وهو أن يكون في جلوسه كأنه متساند إلى ظهره والكلب والذئب يقعيان وهو وضع الألية على الأرض ونصب الساقين ووضع الرَّاحتين على الأرض وهذا لا رخصة فيه.

وأما الإقعاء في حديث ابن عمر وابن عباس بين السجدتين ففيه رخصة أن ينصب قدميه بين السجدتين ويجلس عليهما وردة (¬1). ¬

(¬1) لم يتعرض لصفة الإقعاء بين السجدتين، وهل القدمان تنصب أو تفرش كل من/ (المعجم الوسيط 2/ 6) (مختار الصحاح 571)، (الرازي) (المصباح المنير للفيومي2/ 171)، و (الفائق للزمخشري 3/ 212)، (النهاية4/ 89). قرئ على سماحة الشيخ بتاريخ 26/ 5/1409هـ، وأقرَّه وذكر أن الإقعاء قسمان مشروع وممنوع كما قال ابن دريد وإبراهيم الحربي.

إجابة النداء في حكم ختان النساء

إجابة النداء في حكم ختان النساء

مقدمة

مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: «فإن حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية فوق حاجتهم إلى كل شيء ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها، ألا ترى أن أكثر الناس يعيشون بغير طبيب إلا في بعض المدن الجامعة أما أهل البدو كلهم، وأهل الكفور (¬1) كلهم، وعامة بني آدم فلا يحتاجون إلى طبيب، وهم أصح أبدانًا وأقوى طبيعة ممن هو متقيِّد بطبيب، ولعلَّ أعمارهم متقاربة، وقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم، واجتناب ما يضرهم وجعل لكل قوم عادة وعرفًا في استخراج ما يهجم عليهم من الأدواء، حتى إن كثيرًا من أصول الطب إنما أخذت عن عوائد الناس وعُرفهم وتجاربهم. أما الشريعة فمبناها على تعريف مواقع رضي الله وسخطه في حركات العباد الاختيارية؛ فمبناها على الوحي المحض؛ لأن غاية ما يُقدّر في عدم الطعام والشراب موت البدن، وتعطل الروح عنه، وأمَّا ما يقدَّر عند عدم الشريعة ففساد الروح والقلب جملة وهلاك الأبد وشتَّان بين هذا وهلاك البدن بالموت فليس الناس قط إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه، وليس للعالم ¬

(¬1) القرى النائية عن الأمصار.

صلاح بدون ذلك ألبتة ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلا بالعبور على هذا الجسر (¬1). «ومن المعلوم لمن تدبر الشريعة أن أحكام عامة أفعال العباد معلومة لا مظنونة، وأن الظن فيها إنما هو قليل جدًا في بعض الحوادث لبعض المجتهدين، وأما غالب الأفعال مفادها وأحداثها فغالب أحكامها معلومة ولله الحمد، وأعني بكلمة معلومة أن العلم بها ممكن، وهو حاصل لمن اجتهد واستدل بالأدلة الشرعية عليها، لا أعني أن العلم بها حاصل لكل أحد، بل ولا لغالب المتفقهة المقلدين لأئمتهم، بل هؤلاء غالب ما عندهم ظن أو تقليد ... وهاك مثالًا فإن باب الحيض الذي هو من أشكل الفقه في كتاب الطهارة، وفيه من الفروع والنزاع ما هو معلوم، ومع هذا أكثر الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال النساء في الحيض معلومة، ومن انتصب ليفتي الناس يفتيهم بأحكام معلومة متفق عليها مئة مرة، حتى يفتيهم بالظن مرة واحدة، وإن أكثر الناس لا يعلمون أحكام الحيض وما تنازع الفقهاء فيه من أقله وأكثره وأكثر سنين الحيض وأقله، ومسائل المتحيِّرة، فهذا من أندر الموجود، ومتى توجد امرأة لا تحيض إلا يومًا؟ وإنما في ذلك حكايات قليلة جدًا، مع العلم بأنه عامة بنات آدم يحضْن، وكذلك متى توجد في العالم امرأة تحيض خمسة عشر يومًا أو تسعة عشر يومًا؟ أو امرأة مستحاضة دائمًا لا يعرف لها عادة ولا يتميز الدم في ألوانه؟ بل الاستحاضة إذا وقعت فغالب النسوة يكون تمييزها وعادتها واحدة، والحكم في ذلك بالنصوص المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وباتفاق الفقهاء (¬2). وهذا كله حاصل لمن عقل عن الله شرعه وتدبر ما كلف به وبكَّر وجدَّ ¬

(¬1) «مفتاح دار السعادة» (2/ 2). (¬2) «الاستقامة» لشيخ الإسلام (1/ 55 - 59) بتصرف.

واجتهد، وإلا فالأمر كما قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم ونصف متفقه ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان (¬1). وإذا كان الحافظ الذهبي يقول على رأس السبعمائة: (قلّ من يعتني بالآثار ومعرفتها في هذا الوقت في مشارق الأرض ومغاربها أما المشرق وأقاليمه فغلق الباب وانقطع الخطاب، وأما المغرب وما بقي من جزيرة الأندلس فندر من يعتني بالرواية، كما ينبغي فضلًا عن الدراية). فكيف يكون حال أهل عصرنا ولكِنْ إن لم يصبها وابل فطلّ، ومكرهٌ أخاك لا بطل (¬2). هذا وقد رأيت جمع جزء في ختان النساء للكشف عن الأخبار في هذا الباب، وفصل النزاع في هذا الخطاب ولم أرد التطويل، والله أسأل النفع به في دار القرار وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الأطهار. ¬

(¬1) الحموية: «مجموع الفتاوى» (5/ 118 - 119) وقيل لسماحة شيخنا ابن باز عند قراءة الحموية فنصف محدث؟ قال: لا؛ الظاهر أنه ينتفع به وتبسم الشيخ. (¬2) «فهارس الكتاني» (1/ 56).

فصل في كلام بعض أهل العلم في المسألة

فصل في كلام بعض أهل العلم في المسألة قال النووي في «المجموع» (1/ 349): الختان واجب على الرجل والنساء عندنا وبه قال كثيرون من السلف كذا حكاه الخطابي وممن أوجبه أحمد وقال مالك وأبو حنيفة: سنة في حق الجميع. اهـ. وقال ابن عابدين في حاشيته تعليلًا لإباحة النظر إلى محل الختان: لأن الختان سنة للرجال من جملة الفطرة لا يمكن تركها، وهو مكرمة في حق النساء. وقال الباجي في «شرح الموطأ» (7/ 232): وقال مالك: ومن ابتاع أمةً فليخفضها إن أراد حبسها ... وقال: النساء يخفضن الجواري. وقال أبو محمد في «المغني» (1/ 115): فأما الختان فواجب على الرجال ومكرمة في حق النساء، وليس واجبًا عليهن هذا قول كثير من أهل العلم، قال أحمد: الرجل أشد. وسئل شيخ الإسلام - رحمه الله - (21/ 114) عن المرأة هل تختتن أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، نعم تختتن، وختانها أن تقطع أعلى الجلدة التي كعرف الديك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، للخافضة، وهي الخاتنة: «أشّمِي ولا تنهكي، فإنه أبهى للوجه وأحظى لها عند الزواج» يعني لا تبالغي في القطع وذلك أن المقصود بختان الرجل تطهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة، والمقصود من ختان المرأة تعديل شهوتها، فإنها إذا كانت قلفاء كانت مغتلمة شديدة الشهوة، ولهذا يُقال في المشاتمة: يا ابن القلفاء! فإن القلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر، ولهذا يوجد في نساء التتر ونساء الإفرنج ما لا يوجد في نساء المسلمين، وإذا حصلت المبالغة في الختان ضعفت

الشهوة، فلا يكمل مقصود الرجل، فإذا قطع من غير مبالغة حصل المقصود بالاعتدال. اهـ. وقال ابن القيم في «تحفة المودود» (الفصل التاسع) في أن حكمه يعني الختان يعم الذكر والأنثى. قال صالح بن أحمد: إذا جامع الرجل امرأته ولم ينزل؟ قال إذا التقى الختانان وجب الغسل. قال أحمد: وفي هذا أن النساء كنَّ يختتن، وسئل عن الرجل تدخل عليه امرأته فلم يجدها مختونة أيجب عليها الختان؟ قال: الختان سنة؟ قال الخلال: وأخبر أبو بكر المروّذي وعبد الكريم بن الهيثم ويوسف بن موسى؛ دخل كلام بعضهم في بعض أن أبا عبد الله سئل عن المرأة تدخل على زوجها ولم تختتن أيجب عليها الختان؟ فسكت والتفت إلى أبي حفص قال: تعرف في هذا شيئًا؟ قال: لا فقيل: إنه أتى عليها ثلاثون أو أربعون سنة فسكت قيل له: فإن قدرت على أن تختتن؟ قال: حسن، قال وأخبرني محمد بن يحي الكحال قال سألت أبا عبد الله عن المرأة تختتن؟ فقال قد خرجت فيه أشياء ونظرت فإذا خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين يلتقي الختانان ولا يكون واحدًا إنما هو اثنان قلت لأبي عبد الله: فلابد منه قال الرجل أشد وذلك أن الرجل يختتن فتلك الجلدة مدلَّاة على الكمرة فلا يبقي ما ثمَّ، والنساء أهون قلت: لا خلاف في استحبابه، واختلف في وجوبه وعن أحمد في ذلك روايتان أحدهما يجب على الرجال والنساء، والثانية يختص وجوبه بالذكور. اهـ. وقال القاري في «المرقاة» (8/ 289) وأما النساء فمكرمة ففي «خزانة الفتاوى»: ختان الرجال سنة واختلفوا في المرأة، فقال في «أدب القاضي» مكروه وفي موضع

آخر سنة وقال بعض العلماء: واجب وقال بعضهم: فرض قلت: والصحيح أنه سنة. اهـ. ولمزيد النظر في الخلاف انظر: «شرح السنة» (12/ 110)، «شرح الشنقيطي» على النسائي (1/ 145)، «غاية المرام»، «شرح مغني ذوي الأفهام» (1/ 362)، «مجموع رسائل الشيخ ابن عثيمين» (4/ 117)، «أحكام الطفل» للعيسوي ص [206]، مجموع مؤلفات ابن سعدي، «الفقه» (2/ 96)، «فتاوى اللجنة جمع الدويش» (5/ 119). وقد تحصل من أقوال العلماء في المسألة أقوال كما تقدم تبتدي من الكراهة حتى الوجوب، ولا شك أن إطلاق القول بأن حكم هذا الشيء محرم أو واجب لابد له من دليل وإلا كان قولًا على الله بغير علم، وهو من أشد المحرمات، نسأل الله السلامة قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]. وقد روى عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وأبو داود من طريق سعيد بن أبي أيوب عن بكر بن عمرو عن أبي عثمان مسلم بن يسار عن أبي هريرة سدد خطاكم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أُفْتِي بغي علم كان إثمه على من أفتاه» ولفظ الدارمي: «من أُفْتِي من غير ثبت» [إسناده حسن]. وروى الدارمي من طريق ابن المبارك عن سعيد بن أبي أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار» مرسل

جيِّد، واعلم أن أحاديث الأمر بالختان أو أنه سنة في حق المرأة كلها معلولة وقد ضعفها أبو داود، والبيهقي وابن عبد البر كما في «التمهيد» (21/ 59)، وابن المنذر نقله عند المناوي في «الفيض» (1/ 216)، والعراقي كذلك ضعفها كما في التخريج «الإحياء» (1/ 312) والحافظ في «الفتح» (10/ 341)، و «التلخيص» (4/ 82 - 83)، والشوكاني في «النيل» (1/ 113) وغيرهم.

فصل في تخريج الأحاديث والآثار الواردة في الباب

فصل في تخريج الأحاديث والآثار الواردة في الباب الحديث الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أشمي ولا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل». رواه أبو داود «عون» (14/ 183) ومن طريق البيهقي (8/ 324)، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي وعبد الوهاب بن إبراهيم الأشجعي عن مروان عن محمد بن حسان عن عبد الوهاب الكوفي عن عبد الملك بن عمير عن أم عطية أن امرأة كانت تختتن بالمدينة فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره .. وقد وقع في إسناده اضطراب واختلاف كثير، فرواه البيهقي في «السنن والمعرفة» (13/ 62) من وجه آخر عن عبيد الله بن عمرو الرقي حدثني رجل من أهل الكوفة عن عبد الملك بن عمير عن الضحاك بن قيس قال: كان بالمدينة امرأة يقال لها أم عطية تخفض الجواري فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أم عطية ..». . ومن طريق محمد بن حسان رواه ابن عدي في «الكامل» (6/ 2223) عن عبد الملك بن عمير عن أم عطية ... دون ذكر عبد الوهاب ورواه الحاكم في «المستدرك» (3/ 525) من طريق عبيد الله به وسمى الرجل المبهم زيد بن أبي أنيسة، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب «العيال». (2/ 780) من طريق عبيد الله بن عمرو عن عطية القرظي قال: كان بالمدينة خافضة يقال لها أم عطية وهذا اختلاف شديد واضطراب. قال الحافظ في «التلخيص» (4/ 83): واختلف فيه على عبد الملك بن عمير فقيل

عنه عن الضحَّاك بن قيس: كان بالمدينة امرأة ... وقيل عنه عن عطية القرظي رواه أبو نعيم في «المعرفة»، وقيل عنه عن أم عطية رواه أبو داود في «السنن» وأعله بمحمد بن حسان فقال: مجهول ضعيف .. اهـ. وطريق الحاكم المذكورة لا تصلح للمتابعة فإنها من طريق هلال بن العلاء عن أبيه عن عمرو به، والعلاء ضعفه أبو حاتم بقوله: منكر الحديث ضعيف، وكذلك حصل في إسناده اختلاف آخر هل سمعه عبد الملك بن عمير من أم عطية أم بينهما واسطة، فقد قال الحافظ في «الإصابة» في ترجمة الضحَّاك وذكر بعض طرق هذا الحديث قال: وظهر من هذا أن عبد الملك دلسه على أم عطية والواسطة بينهما الضحَّاك بن قيس، والضحَّاك هذا قال يحيى لما سأله المفضل الغلابي عنه قال: الضحاك بن قيس هذا ليس بالفهري وعبد الملك بن عمير قال عنه أحمد كما في «بحر الدم» (279): مضطرب الحديث جدًا، ما أرى له خمسمائة حديث، وقد غلط في كثير منها وهو مع ذلك مدلس قال الحافظ: (مشهور بالتدليس وصفه بذلك الدارقطني وابن حبان، وذكر ذلك عنه الذهبي والعلائي والمقدسي والحلبي). قلت: وتغيَّر حفظه فإنه كبر وشاخ فالحديث ضعيف ومضطرب؟ حديث آخر: روى الخطيب في «تاريخه» (12/ 291) من طريق عوف بن محمد أبو غسان حدثنا أبو تغلب عبد الله بن أحمد بن عبد الرحمن الأنصاري حدثنا مسعر عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي قال: (كانت خفاضة بالمدينة فأرسل إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا خفضت فأشمي ولا تنهكي، فإنه أحسن للوجه وأرضى للزوج». رواه في «ترجمة عوف» هذا وقال عنه: حدث عن يوسف بن عبده، وعنه عمرو بن علي وبندار قاله ابن منده. اهـ. وأبو البختري لم يسمع من علي شيئًا قال ابن سعد في «الطبقات» (6/ 293):

كان أبو البختري كثير الحديث يرسل حديثه ويروي عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمع من كبير أحد فما كان من حديثه سماعًا فهو حسن وما كان عن فهو ضعيف. اهـ. وأبو تغلب لا يُدرى ما حاله فالحديث لا يصح. حديث آخر: روى البيهقي (8/ 324) وابن أبي الدنيا (2/ 779) والطبراني في «الصغير» (1/ 92)، و «الأوسط» (7/ 195)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 1083) والخطيب في «تاريخه» (5/ 327)، كلهم من طريق زائدة بن أبي الرقاد عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا خفضت فأشمي ولا تنهكي فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج». وزائدة منكر الحديث كما قال البخاري والنسائي، قال ابن عدي: له أحاديث أفرادات وفي بعض حديثه ما ينكر. حديث آخر: روى أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (1/ 245)، حدثنا أبو محمد بن حيان حدثنا جعفر بن أحمد بن فارس حدثنا إسماعيل بن أبي أمية حدثنا أبو هلال الراسبي سمعت الحسن حدثنا أنس قال: كانت ختانة بالمدينة يقال لها أم أيمن فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا خفضت فأضجعي يدك، ولا تنهكيه، فإنه أسنى للوجه وأحظى للزوج». وإسماعيل بن أبي أمية غالب ظني أنه الذي ذكره الدارقطني في «سننه» (3/ 32، 34) و (4/ 20) فإنه من هذه الطبقة قال الدارقطني: ضعيف متروك الحديث، وقال مرة: يضع الحديث فإن يكنه فالحديث باطل، وأبو هلال ليِّن الحديث. حديث آخر: روى أحمد في «مسنده» (5/ 75) وابن أبي الدنيا (2/ 776) في كتاب «العيال»،

وابن أبي شيبة في «المصنف» (5/ 317)، والبيهقي (8/ 325)، والطبراني في «الكبير» (7/ 329)، من طريق الحجاج بن أرطأة عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه عن شداد بن أوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الختان سنة للرجال، ومكرمة للنساء». عند أحمد والبيهقي دون ذكر شداد. حديث آخر: روى البيهقي (8/ 325) وابن عساكر في «تبيين الامتنان بالأمر بالختان» (ح26) من طريق حجاج بن عن مكحول عن أبي أيوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فذكره بمثل الذي قبله). قال أبو حاتم في «علله» (2/ 247): سألت أبي عن حديث رواه حفص ابن غياث عن حجاج بن أرطأة عن أبي المليح عن أبيه عن شداد بن أوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الختان سنة للرجال ومكرمة للنساء»، ورواه عبد الواحد بن زياد عن حجاج عن مكحول عن أبي أيوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أبي: (الذي عن حجاج عن مكحول خطأ وإنما أراد حديث حجاج ما قد رواه مكحول عن أبي الشمال عن أبي أيوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خمس من سنن المرسلين ..». الحديث فترك أبا الشمال فلا أدري هذا من الحجاج أم من عبد الواحد وقد رواه النعمان بن المنذر عن مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكره. اهـ. يعني مرسلًا. وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (21/ 59) بعد ذكر حديث شداد: واحتج من جعل الختان سنة بحديث أبي المليح هذا وهو يدور على حجاج بن أرطأة وليس ممن يحتج بما انفرد به، والذي أجمع عليه المسلمون الختان في الرجال على ما وصفنا. اهـ. ومقال البيهقي عقب حديث شداد: الحجاج بن أرطأة، لا يحتج به وقيل عنه عن مكحول عن أبي أيوب، وهذا منقطع ثم أسنده عن حجاج به، قلت: لأن

مكحولًا لم يسمع من أبي أيوب. وقال الحافظ في «التلخيص» (4/ 82): والحجاج مدلس وقد اضطرب فيه فتارة يرويه كذا (يعني عن أبي المليح عن أبيه) وتارة بزيادة شداد بن أوس بعد والد أبي المليح ثم ذكر ما تقدم من كلام الأئمة، فالحديث ضعيف مضطرب. حديث آخر: روى البيهقي (8/ 325)، والطبراني (11/ 233) من طريق الوليد حدثنا ابن ثوبان عن محمد بن عجلان عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الختان سنة للرجال، ومكرمة للنساء» وضعفه البيهقي بقوله هذا إسناد ضعيف والمحفوظ موقوف وقال في «المعرفة»: لا يصح رفعه، ورواته موثقون إلا أن فيه تدليسًا، كذا في «التلخيص». قلت: الوليد بن الوليد قال أبو حاتم: صدوق وقال الدارقطني: متروك. اهـ من «الميزان» ووقع في تعيينه اختلاف كما في «اللسان» وقال ابن حبان في «المجروحين» (3/ 81): الوليد بن الوليد يروي عن ابن ثوبان وثابت بن يزيد العجائب، وشيخه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان متكلم فيه. ثم رواه البيهقي في «سننه» من طريق إبراهيم بن مجشر ثنا وكيع عن سعيد بن بشير عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس من قوله، ورواه ابن عدي في «الكامل» (1/ 272) من طريق إبراهيم به، ثم قال: وإبراهيم له أحاديث منكرة من جهة الإسناد غير محفوظة، وترجمه في «اللسان»، وذكره حديث الترجمة من منكراته، وذكر جرحه عن جماعة، وسعيد ضعيف، ورواه الطبراني في «الكبير» (12/ 182) من طريق سعيد به. ورواه الطبراني في «الكبير» من وجه آخر (11/ 359).

حدثنا الحسن بن علي الفسوي ثنا خلف بن عبد الحميد ثنا عبد الغفور عن أبي هاشم عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: فذكره موقوفًا وعبد الغفور متروك ترجمة في «المجروحين» و «الميزان» و «ضعفاء العقيلي» وغيرها. حديث آخر: روى البزار في «مسنده» (1/ 669) «مختصر الزوائد» لابن حجر من طريق مندل بن علي عن ابن جريح عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نسوة من الأنصار فقال: «يا نساء الأنصار، اختضبن غمسًا، واخفضن ولا تنهكن، فإنه أحظى عند أزواجكن، وإياكن وكفر المنعمين». قال مندل: يعني الزوج، ومندل ضعيف، ورواه ابن عدي (3/ 901) من طريق خالد بن عمرو القرشي عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه وخالد بن عمرو متروك الحديث بل كذَّبه يحي بن معين ونسبه إلى الوضع جماعة كصالح جزرة وابن عدي وغيرهم. الجزء الثالث روى البخاري في «الأدب المفرد» (1245). حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثتنا عجوز من أهل الكوفة - جدة علي بن غراب - حدثني أم المهاجر قالت: سُبيت في جواري من الروم فعرض علينا عثمان الإسلام فلم يسلم منَّا غيري وغير أخرى، فقال عثمان: (اذهبوا فاخفضوهما وطهِّروهما). والعجوز هذه اسمها طلحة (¬1) تكنى بأم غراب لا يعرف حالها وأم المهاجر الرومية مقبولة. ¬

(¬1) انظر: «تهذيب الكمال» (35/ 241).

أثر آخر: روى البخاري في «الأدب المفرد». حدثنا أصبغ أخبرني ابن وهب أخبرني عمرو أن بكيرًا حدثه أن أم علقمة أخبرته أن بنات أخي عائشة رضي الله عنهن خُتنّ فقيل لعائشة: ألا ندعو لهن من يلهيهن ... أصبغ بن الفرج ورَّاق عبد الله بن وهب، وعمرو بن الحارث وبكير بن الأشج لا يُسأل عنهم، وأما أم علقمة هذه خرَّج لها البخاري في «الآداب» كما هنا وعلق لها في الحيض من صحيحه (¬1)، قال العجلي: مدنية تابعية ثقة، وذكرها ابن حبان في «الثقات» وفي «التقريب»: مقبولة (¬2) واسمها مرجانة. أثر آخر: قال إبراهيم بن إسحاق الحربي في «غريب الحديث» (2/ 553). حدثنا موسى حدثنا حماد عبيد الله بن أبي المليح عن أبي المليح أن ختانة خفضت جارية فماتت فرفعت إلى عمر فقال: كيف خفضتيها؟ قالت: كما كنت أخفض قال: لو ما أبقيت، فضمنها. قلت: موسى هو ابن إسماعيل المنقري، وحماد هو ابن سلمة وعبيد الله بن أبي حمُيد هكذا صوابه لا ابن أبي المليح فهذا تحريف وليس لأبي المليح ابن اسمه عبيد الله، ثم لو كان كذا لقيل عن أبيه، كما هو الجادَّة، وعبيد الله هذا أبو الخطاب ضعيف منكر الحديث يروي عن أبي المليح عجائب كما قال الأئمة. ¬

(¬1) كذا قال الحافظ في «اللسان» والذي رأيت في «الصحيح» في باب الصيام في الحجامة والقيء للصائم وانظر: «تحفة الأشراف» (12/ 433). وأظن أنه لم يصرح بها في الحيض بل أبهمت. (¬2) والأقرب أنها فوق ذلك، وأنها لا بأس بها.

وأبو المليح لا أظن أنه أدرك عمر. هذا ما وقفت عليه من الأخبار في ختان المرأة وهي كما ترى معلولة، وظاهر ما نقله الخلَّال عن أحمد - رحمه الله - حينما احتج بحديث «إذا التقى الختانان» الذي رواه مسلم وغيره، أقول ظاهره: أنه لم يعوِّل على هذه الأخبار ولم تصح عنده وإلا لذكر ذلك، وأما استدلال بعضهم بحديث (خمس من الفطرة) أخرجاه. أقول: الفرق ظاهر بين الجنسين شرعًا وحسًا. فالختان في حق الرجل تعود مصلحته إلى شرط من شروط الصلاة وهو الطهارة لاجتماع بقايا البول في القلفة وهو أيضًا ميزة للمسلمين يتميزون بها عن الكفارة، حيث كان المسلمون يعرفون قتلاهم في المعارك بهذا وغايته في المرأة أن يعدِّل شهوتها ويقلل من غلمتها (¬1) ثم إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أشمي ولا تنهكي .....». لو صح يفيد أن المرأة لها ثلاثة أحوال (¬2). الحالة الأولى: أن لا تختتن، وبهاء الوجه والحظوة عند الزوج حاصلة لها مع وفور الشهوة، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه أحظى عند الزوج وأبهى للوجه» راجع إلى قوله: «ولا تنهكي» لا إلى قوله: «أشمي». الحالة الثانية: أن تختتن من غير مبالغة، وهذا تعتدل شهوتها، والحظوة عند الزوج، وبهاء الوجه حاصل لبقاء شيء من موضع الختان، وهذه الحال الفضلي. الحالة الثالثة: أن تختتن فتبالغ جدًا ولا تبقي شيئًا فهذه تذهب شهوتها أو تكاد، فتذهب حظوتها عند زوجها. ¬

(¬1) فتاوى ورسائل ابن عثيمين (4/ 117). (¬2) وانظر كلام شيخ الإسلام أول البحث.

وخلاصة الكلام أن ختان المرأة لم يصح بالأمر به شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو دائر بين الإباحة والاستحباب (¬1) - فإن مجموع ما ذكر يفيد هذا إن شاء الله - أما الوجوب فلا والله. فواعجبًا للشافعية كيف يقولون به (¬2). والله أسأل صلاح قلوبنا وأعمالنا، كما أسأله أن يجنبنا الفرقة والاختلاف وأن يرزقنا الاجتماع والائتلاف على الحق الذي يرضاه والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه أجمعين. غرة صفر /1416هـ ¬

(¬1) وتقدم كلام ابن القيم وقوله: لا خلاف في استحبابه، فإن أراد الإجماع فتسقط مرتبة الإباحة إن صح وقوع الإجماع، وإلا فالمسألة بحالها وكلامه ليس صريحًا في الإجماع، وتقدم قولٌ بالكراهة. (¬2) وبعد كتابة هذا الجزء بأزيد من سنة تأملت ما رواه البخاري في كتاب «المغازي» باب قتل حمزة بن عبد المطلب سدد خطاكم، وأسند عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار، فلما قدمنا حمص قال لي عبيد الله بن عدي: هل لك في وحشي .. فذكر قصة قتله لحمزة وفيه فلما اصطفوا للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة فقال: يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور ... قال الحافظ: قال ابن اسحاق: كانت أمه ختانة بمكة تختن النساء. اهـ. المقصود، وإنما يستقيم الاستدلال به على مشروعية الختان إذا جرى العمل به في الإسلام، وحمزة وإن عيَّر سباعًا به لكنه لا يكذب فالصحابة كلهم عدول ثقات، وقد جرى العمل بذلك وأثر عائشة يدل عليه، والله أعلم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أنقذنا الله به من حنادس الظلمات، وجعله سراجًا منيرًا، وأنعم به على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكورًا وأشرقت الأرض بنورها أكمل الإشراق، وفاض ذلك النور حتى عمّ النواحي والآفاق واتسق قمر الهدى أتم الاتساق، وقام دين الله الحنيف على ساق. أما بعد: فإن من شرط دين الحنفاء الموحدين التجافي عن ملة أهل الشرك والملحدين وبذا وصف الله خليله في كتابه المحكم المبين: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120]، فمجانبة طريقهم وبغضهم وحربهم سبيل أنبياء الله ورسله، هو أصل الدين ورأسه وأصل الإيمان وأساسه، ولذا كان أعظم ما نهينا عن اتباع طرائقهم والسير على مناهجهم أهل الكتاب، ولذا كان أهل الإسلام في كل صلاة يتبرأون من طريقتهم كما في كلام ربنا في فاتحة الكتاب، فهم يقولون: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة 6، 7]. فالأولى - الأمة الغضبيّة: هم «اليهود»، أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل، قتلة الأنبياء وأكلة السحت وهو الربا والرشا أخبث الأمم طوية، وأرداهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم من النقمة عادتهم البغضاء، ودينهم العداوة والشحناء، بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون لمن خالفهم

في كفرهم وتكذيبهم من الأنبياء حرمة، ولا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة، ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفعة، ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصفة، ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة، ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة، بل أخبثهم وأعقلهم، وأحذقهم أغشهم، وسليم الناصية- وحاشاه أن يوجد بينهم - ليس بيهودي على الحقيقة أضيق الخلق صدورًا، وأظلمهم بيوتًا، وأنتنهم أفنية، وأوحشهم سجية، تحيتهم لعنة ولقاؤهم طيرة، شعارهم الغضب ودثارهم المقت. والصنف الثاني المثلثة: أمة الضلال وعُبَّاد الصليب، الذين سبوا الله الخالق مسبة ما سبه إياها أحد من البشر، ولم يقروا بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، ولم يجعلوه أكبر من كل شيء، بل قال فيه ما: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90]، فقل ما شئت في طائفة أصل عقيدتها إن الله ثالث ثلاثة، وأن مريم صاحبته وأن المسيح ابنه، وإنه نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة، وجرى له ما جرى إلى أن قتل ومات ودفن، فدينها عبادة الصلبان، ودعاء الصور المنقوشة بالأحمر والأصفر في الحيطان، يقولون في دعائهم: يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا. فدينهم شرب الخمور وأكل الخنزير، وترك الختان، والتعبد بالنجاسات، واستباحة كل خبيث من الفيل إلى البعوضة، والحلال ما حلله القس والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، وهو الذي يغفر لهم الذنوب، وينجيهم من عذاب السعير (¬1). ¬

(¬1) من مقدمة ابن القيم لـ «هداية الحيارى».

فهاتان الأمتان الملعونتان، قد طغوا وبغوا وعتوا وتجبروا فكم لهم على أمة الإسلام من أيام عصيبة، ودواهي ومصيبة، لم تكن دولة للإسلام قط؛ إلا كادوها، وما قامت للمسلمين قائمة إلا ناجزوها وآذوها فكان حقًا على كل مسلم الاستعداد لمناجزة العدو الكافر الفاجر بالحجة والبيان والسبف والسنان فقد أعلنوها حربًا صليبية لا هوادة فيها ولا مثنوية أفبعد هذا يحسن اللهو واللعب، وترك الإعداد والجهاد، ما لكم يا قوم أين تذهب عقولكم، نعوذ بالله من الغفلة والتغافل. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]، {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]، وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100]، والآيات في ذلك كثيرة. اللهم عليك باليهود والنصارى، اللهم اكفناهم بما شئت، اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويؤذون أهل دينك. وصلى الله وسلم على خير من جاهد لله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. وكتبه أبو محمد عبد الله بن مانع العتيبي هاتف وفاكس: 2300244

بحث في خطبة العيد، هل هي واحدة أو اثنتان؟

بحث في خطبة العيد، هل هي واحدة أو اثنتان؟ 1 - قال الشافعي في «الأم»: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله عن إبراهيم بن عبد الله عن عبد الله بن عبيد الله بن عتبة قال: السنة أن يخطب الإمام في العيدين؛ يفصل بينهما بجلوس. وأخرجه البيهقي من طريق الشافعي؛ وفيه علتان شيخ الشافعي هو الأسلمي متروك، وكذلك هو مرسل فإن عبيد الله بن عبد الله تابعي. 2 - ولهذا الأثر متابع؛ فقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري عن عبيد الله، ولفظه: يكبر الإمام يوم الفطر قبل أن يخطب تسعًا حين يريد القيام، وسبعًا في (¬1) عالجته على أن يفسر لي أحسن من هذا فلم يستطع، فظننت أن قوله: حين يريد القيام في الخطبة الآخرة. 3 - ورواه البيهقي (¬2) من طريق الدراوردي، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القارى أن إبراهيم بن عبد الله حدثه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أنه قال: من السنة تكبير الإمام يوم الفطر ويوم الأضحى حين يجلس على المنبر قبل الخطبة تسع تكبيرات، وسبعًا حين يقوم ثم يدعو ويكبر بعدُ ما بدا له. قال البيهقي: ورواه غيره عن إبراهيم عن عبيد الله تسعًا تترى إذا قام في الأولى، وسبعًا تترى إذا قام في الخطبة الثانية. ثم أسنده البيهقي عن الشافعي عن الأسلمي كما تقدم. 4 - ورواه عبد الرزاق (¬3) عن ابن أبي يحيى (وهو الأسلمي)، عن عبد الرحمن بن ¬

(¬1) هكذا في المطبوع بتحقيق الأعظمي. ولعل فيه سقطًا. (¬2) في «السنن» (3/ 299). (¬3) في «المصنف» (3/ 290).

محمد عن عبيد الله به ولم يذكر إبراهيم بن عبد الله. 5 - ورواه أيضًا عن ابن جريج عن إبراهيم عن عبيد الله نحوه، وعبد الرحمن بن محمد بن عبد الله هذا قال عنه في «التعجيل»: مجهول؛ ظنه الحافظ الذي ذكره ابن حبان في «الثقات» (¬1)، وأنه عبد الرحمن بن أبي عتيق ... إلخ، والصواب: أنه عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبدٍ القاري ترجم له البخاري في «التاريخ» (¬2)، وذكر أنه روى عن إبراهيم بن عبد الله، ونقل في «الجرح والتعديل» (¬3) توثيقه عن ابن معين ونسب أباه إلى جده قال ابن أبي حاتم: ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين قال: عبد الرحمن بن محمد عبدٍ القاري ثقة. اهـ. والذي يظهر لي أيضًا أن شيخه في «الإسناد» هو أخوه ينسب إلى جده، فهو إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن عبدٍ القاري قال في «الجرح» (¬4): روى عنه أخوه عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبدٍ القاري، وذكره البخاري في «تاريخه» (¬5)، والظاهر أنه مجهول. هذا ما تبين لي في هذا الإسناد المشكل. وبكل حال كل طرق هذا الأثر المرسل معلولة فالأول تقدم الكلام عليه، والثاني به محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري وهو لين، وفي سماعه من عبيد الله نظر، والثالث به إبراهيم وهو مجهول، والرابع به الأسلمي وحاله معروفة، والخامس به إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن عبدٍ القاري، وابن جريج لم يذكر سماعًا. ¬

(¬1) «ثقات ابن حبان» (7/ 65). (¬2) (5/ 346). (¬3) (5/ 281). (¬4) (2/ 123). (¬5) (1/ 300).

حديث آخر قال ابن ماجه (¬1): حدثنا يحيى بن حكيم ثنا أبو بحر بثنا عبيد الله ابن عمرو الرقي ثنا إسماعيل بن مسلم الخولاني ثنا أبو الزبير عن جابر قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فطر أو أضحى، فخطب قائمًا ثم قعد قعدةً ثم قام. وهذا الحديث ومع عدم صراحته فإسماعيل بن مسلم هو المكي ضعيف، وكذلك أبو بحر وهو عبد الرحمن ابن عثمان بن أمية الثقفي. وقد روى هذا الحديث ابن خزيمة (3/ 143)، والبيهقي (3/ 198) من طريق الباقر محمد بن علي بن الحسين عن جابر، ولفظه: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة خطبتين يجلس بينهما ويخطب وهو قائم). ورواه عبد الرزاق [5254] من طريق أبي الزبير عن جابر بسياق مختلف يدل على أن الخطبة كانت في المسجد فذكر العيدين ليس بمحفوظ في حديث جابر هذا. حديث آخر: قال البزار في «البحر الزخار» (3/ 321): حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز، قال: وجدت في كتاب أبي حدثنا مهاجر بن مسمار عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العيد بغير أذان ولا إقامة، وكان يخطب خطبتين قائمًا فيفصل بينهما بجلسة. وهذا سند واهٍ عبد الله بن شبيب ضعيف جدًا. وقال الهيثمي (2/ 203): الحديث رواه البزار وجادة وفي إسناده من لم أعرفه. حديث آخر: روى البيهقي (3/ 299) من طريق هشام بن عمار حدثنا حاتم يعني ابن إسماعيل ثنا محمد بن عجلان عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقعد يوم الجمعة والفطر والأضحى على المنبر فإذا ¬

(¬1) في «سننه» (1/ 409).

سكت المؤذن يوم الجمعة قام فخطب ثم جلس ثم يقوم فيخطب ثم ينزل فيصلي. فجمع إن كان محفوظًا بين الجمعة العيدين في القعدة ثم رجع بالخبر إلى حكاية الجمعة. اهـ كلام البيهقي. وهذا إسناد ضعيف؛ حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي ضعفه أحمد وأبو حاتم وقال النسائي: متروك، وقال أحمد له أشياء منكرة، وقال العقيلي: له غير حديث لا يتابع عليه، والحديث راجع إلى الجمعة لا العيدين كما قال البيهقي. حديث آخر: قال ابن خزيمة: باب عدد الخطب في العيدين والفصل بين الخطبتين بجلوس. حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ثنا بشر بن المفضل ثنا عبيد الله عن نافع عن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب وهو قائم، وكان يفصل بينهما بجلوس، وأخرجه النسائي (¬1) من طريق بشر بن المفضل تحت باب (الفصل بين الخطبتين بالجلوس)؛ لكن في أبواب الجمعة وفي خطبتها، وأخرجه البخاري تحت باب القعدة بين الخطبتين يوم الجمعة من طريق بشر، وكذا أخرجه مسلم في أحاديث الجمعة؛ فالحديث في خطبتي الجمعة لا العيدين. وابن خزيمة يريد أن يبين أن العيد له خطبتان. فصل قال أبو محمد في «المغني» (3/ 276): بعد قول صاحب المتن ما نصه: (مسألة: فإذا سلم خطب بهم خطبتين يجلس بينهما فإن كان فطرًا حضهم على الصدقة، وبيَّن ¬

(¬1) في «المجتبى» (3/ 109).

لهم ما يخرجون، وإن كان أضحى يرغبهم في الأضحية، ويُبيِّن لهم ما يُضحي به) وجملته: أن خطبتي العيدين بعد الصلاة لا نعلم فيه خلافًا بين المسلمين: ثم قال: فصل: الخطبتان سنة؛ لا يجب حضورهما ولا استماعهما ... إلخ. وقال في «المجموع» (5/ 28) للنووي: (أما الأحكام) فيُسن بعد صلاة العيد خطبتان على منبر ... إلخ. وقال الزركشي (2/ 227): والسنة أن يخطب خطبتين؛ يجلس بينهما. وقال النووي في الخلاصة على المسألة (2/ 838): ولك يثبت في تكرير الخطبة شيء والمعتمد فيه القياس على الجمعة. وقال في «تحفة المحتاج» (3/ 45): ويسن خطبتان قياسًا على تكرارهما في الجمعة. وقال الخرشي في شرحه (2/ 104): وندب خطبتان كالجمعة. وقال ابن القيم في «الهدي» (1/ 447): وكان يفتتح خطبه كلها بالحمد لله، ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير، وإنما روى ابن ماجه في سننه عن سعد القَرَظ مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يكثر التكبير بين أضعاف الخطبة، ويكثر التكبير في خطبتي العيد ... إلخ والنقول عن كتب الفقه كثيرة. قلت: وقال شيخنا ابن باز - رحمه الله - في تعليقه على «سنن ابن ماجه» سنة 1409هـ في شهر جمادى الأولى، ما نصه: (العلماء ألحقوا العيد بالجمعة في الخطبتين فلا ينبغي العدول عن هذا) اهـ. بحروفه.

وقال شيخنا أيضًا في «شرح المنتقى» سنة 1412هـ، وذلك يوم الاثنين في التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول من السنة المذكورة ما نصه: خطبة العيد خطبتان وأثر عبيد الله مرسل فهو ضعيف لكن يتأيد عند الجمهور بأنه مثل الجمعة فألحقوها بها، وتتابع العلماء على ذلك. اه بحروفه. قلت: فحاصل الأدلة: الأثر المرسل والمرفوع الضعيف والقياس على الجمعة، وأيضًا القائل به جمهور الأمة إن لم يكن إجماعًا، بل حتى ابن حزم - رحمه الله - في «المحلى» (5/ 82): قال: (فإذا سلم الإمام قام فخطب الناس خطبتين يجلس بينهما جلسة ...) إلخ. ونقل ابن المنذر في «الأوسط» (4/ 287) عن مالك ما يدل على الخطبتين. فهذا من العمل المتوارث بين المسلمين، ينقله العلماء الأوائل مقرين له ويذكرونه في التراجم وفي كتب الفقه على اختلاف العصور، والبلدان، والمذاهب. قال ابن رجب في «فتح الباري» ما نصه: (وهذا مما يدل على أن بعض ما أجمعت الأمة عليه لم ينقل إلينا فيه نص صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل يكتفى بالعمل به قاله - رحمه الله - في التكبير المقيد عقيب الصلوات. هذا ما تيسر إيراده وفيه الكفاية لكل ذي لب، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، والحمد لله رب العالمين.

مسألة شد الرحال لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -

مسألة شد الرحال لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين. أما بعد: فإن هذه المسألة (مسألة شد الرحل وإنشاء السفر)؛ لقصد قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك لغرض ما يسمى بالزيارة. هي مسألة كثر الجدل فيها بين المتأخرين خاصة، ولم تكن هذه المسألة عند المتقدمين كحجمها عند المتأخرين؛ لأن السلف رحمهم الله من الصحابة والتابعين وأهل القرون الثلاثة المفضلة كانوا من أشد الناس اتباعًا وأحرصهم على الخير وهم أعظم الأمة تعظيمًا للتوحيد وخوفًا من الشرك وحذرًا من الوقوع في وسائله والذرائع إليه، ولما كان كل خلاف يرد إلى الله والرسول امتثالًا لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]، ولقوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، فالواجب الرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه المسألة التي نحن بصددها قد جاءت فيها نصوص خاصة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وانضم إلى هذا فهم الصحابة - رضي الله عنهم - مع الإجماع على عدم شرعية ذلك واستحبابه فرأيت أن أكتب في هذه المسألة بحثًا أستخلصه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، كما ذكره أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي في كتابه «الصارم المُنكي في الرد على السبكي،» وهو كتاب مطبوع متداول، فلخصت كلام شيخ الإسلام - رحمه الله -،

وقربته وجعلته موجزًا وافيًا إن شاء الله وقسمته إلى أقسام: أولاً: الأدلة على المنع. ثانيًا: تفسير الأدلة ومعناها. ثالثًا: الأقوال في شد الرحل. رابعًا: فهم الصحابة المنع من ذلك. خامسًا: مخالفة فاعل ذلك للإجماع. سادسًا: أنه لا يلزم الوفاء بالنذر لو نذر السفر لمجرد القبر. سابعًا: ضعف الأحاديث الواردة في مشروعية شد الرحل والزيارة. ثامنًا: مراد من أطلق الزيارة من الأئمة. تاسعًا: أقسام الناس في الزيارة. سالكًا في ذلك الاختصار، وجميع الألفاظ الموجودة في البحث للشيخ - رحمه الله -. أولاً: الأدلة على المنع: فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة سدد خطاكمعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى»، هكذا رواه الشيخان بلفظ الخبر، وقد رواه مسلم بلفظ النهي وهو معنى الخبر السابق فروى عن أبي سعيد الخدري سدد خطاكم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده بصيغة الحصر: «إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: مسجد إبراهيم، ومسجد محمد، ومسجد بيت المقدس».

ثانيًا: تفسير الأحاديث ومعناه: اعلم أن الخبر معناه النهي، فقوله: «لا تشد الرحال»، معناه: لا تشدوا الرحال، وهذا نهي يفيد حرمة شد الرحل لغير المساجد الثلاثة، وقال بعضهم: ليس بنهي وإنما معناه أنه لا يشرع وليس بواجب ولا مستحب، بل مباح كالسفر في التجارة وغيرها. ورده شيخ الإسلام بقوله؛ تلك الأسفار لا يقصد بها العبادة، بل يقصد بها مصلحة دنيوية مباحة والسفر إلى القبور إنما يقصد به العبادة، والعبادة إنما تكون بواجب أو مستحب، فإذا أحصل الاتفاق على أن السفر إلى القبور ليس بواجب ولا مستحب، كان فعله على وجه التعبد مبتدعًا مخالفًا للإجماع، والتعبد بالبدعة ليس بمباح لكن من لم يعلم أن ذلك بدعة فإنه قد يعذر فإذا تبين له السنة لم يجز له مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا التعبد بما نهى عنه. قلت: فعلم أن الحديث أراد الأسفار المنشئة للتعبد لا الأسفار المباحة للمصالح الدنيوية وبهذا يرتفع الإشكال الذي عرض لمن سوغ سفر الزيارة. والله المستعان. ثالثًا: أقوال أهل العلم في مسالة شد الرحال للقبر النبوي: اعلم أن الأقوال في شد الرحل وأعمال المطي إلى مجرد زيارة القبر، إنما هي قولان: أحدهما: القول بالإباحة كما يقول بعض أصحاب الشافعي وأحمد.

والثاني: أنه منهي عنه كما نص عليه إمام دار الهجرة مالك بن أنس ولم ينقل عن أحد من الأئمة الثلاثة خلافه، وإليه ذهب جماعة من أصحاب الشافعي وأحمد. وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: فمن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى أو مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فصلى في مسجده وصلى في مسجد قباء وزار القبور كما مضت به سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا هو الذي عمل العمل الصالح، ومن أنكر هذا السفر فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في المسجد وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا سلم عليه في الصلاة، بل أتى القبر ثم رجع فهذا مبتدع مخالف لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإجماع والصحابة ولعلماء أمته، وهو الذي فيه القولان: أحدهما أنه محرم، والثاني أنه لا شيء عليه ولا أجر له، والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية يصلون في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ويسلمون عليه في الدخول للمسجد وفي الصلاة، وهذا مشروع باتفاق المسلمين - إلى أن قال - مع أنه فيه نزاعًا إذ من العلماء من لا يستحب زيارة القبور مطلقًا ومنهم من يكرهها مطلقًا كما نقل ذلك عن إبراهيم النخعي والشعبي ومحمد بن سيرين، وهؤلاء من أجلة التابعين ونقل ذلك عن مالك، وعنه أنها مباحة ليست مستحبة، وأما إذا قدر من أتى المسجد فلم يصل فيه ولكن أتى القبر ثم رجع فهذا هو الذي أنكره الأئمة كمالك وغيره وليس هذا مستحبًا عند أحد من العلماء، وهو محل النزاع، هل هو حرام أو مباح، وما علمنا أحدًا من العلماء استحب مثل هذا والله أعلم. وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: وأما التصريح باستحباب السفر لزيارة قبره دون مسجده فهذا لم أره عن أحد من أئمة المسلمين، ولا رأيت أحدًا من علمائهم صرح به، وإنما غاية الذي يدعي ذلك أنه يأخذه من لفظ مجمل قاله بعض المتأخرين، مع أن صاحب ذلك اللفظ قد يكون صرح بأنه لا يسافر إلا إلى ثلاثة مساجد أو أن السفر إلى غيرها منهي عنه، فإذا جمع كلامه علم أن الذي استحبه ليس هو السفر لمجرد القبر بل للمسجد، ولكن قد يقال: إن كلام بعضهم

ظاهر في استحباب السفر لمجرد الزيارة، فيقال: هذا الظهور إنما كان لما فهم المستمع من زيارة قبره ما يفهم من زيارة سائر القبور، وأطلق هذا كان ذلك متضمنًا لاستحباب السفر لمجرد القبر، فإن الحُجاج وغيرهم لا يمكنهم زيارة قبره إلا بالسفر إليه، لكن قد علم أن الزيارة المعهودة من القبور ممتنعة في قبره فليست من العمل المقدور ولا المأمور فامتنع أن يكون أحد من العلماء يقصد بزيارة قبره هذه الزيارة وإنما أرادوا السفر إلى مسجده والصلاة والسلام عليه والثناء عليه هناك لكن سموا هذا زيارة لقبره كما اعتادوه ولو سلكوا مسلك التحقيق الذي سلكه الصحابة - رضي الله عنهم - ومن اتبعهم لم يسموا هذا زيارة لقبره، وإنما هو زيارة لمسجده وصلاة وسلام عليه ودعاء له وثناء عليه في مسجده سواء أكان القبر هناك أم لم يكن. رابعًا: فهم الصحابة للمنع من شد الرحل للزيارة: قال شيخ الإسلام: إن أبا هريرة لما سافر إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى بن عمران - عليه السلام -، فقال له بصرة بن أبي بصرة الغفاري: لو أدركتك قبل أن تخرج لما خرجت، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس». وقال الشيخ في مكان آخر: فالطوائف متفقة على أنه ليس مستحبًا، وما علمت أحدًا من أئمة المسلمين قال إن السفر إليها مستحب، وإن كان قاله بعض الأتباع فهو ممكن، وأما الأئمة المجتهدون فما منهم من قال هذا وإذا قيل هذا كان قولًا ثالثًا في المسألة وحينئذٍ يبين لصاحبه أن هذا القول خطأ مخالف للسنة ولإجماع الصحابة، فإن الصحابة في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبعدهم إلى انقراض عصرهم لم يسافر أحد منهم إلى قبر نبي ولا رجل صالح وقبل الخليل - عليه السلام - بالشام لم يسافر إليه أحد من الصحابة، كانوا يأتون بيت

المقدس ويصلون فيه ولا يذهبون إلى قبر الخليل .. إلى أن قال: ولم يكن أحد من الصحابة يسافر إلى المدينة لأجل قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كانوا يأتون فيصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة ويسلم من يسلم عند دخول المسجد والخروج منه وهو مدفون في حجرة عائشة فلا يدخلون الحجرة ولا يقفون خارجًا عنها في المسجد عند السور، وكان يقدم في خلافة أبي بكر وعمر أمداد اليمن الذين فتحوا الشام والعراق وهم الذين قال الله فيهم: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، ويصلون في مسجده كما ذكرنا، ولم يكن أحد يذهب إلى القبر ولا يدخل الحجرة ولا يقوم خارجها في المسجد بل السلام عليه خارج الحجرة. وقال في موضع آخر: ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم باسم زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - لا ترغيبًا في ذلك ولا غير ترغيب فعلم أن مسمى هذا الاسم لم يكن له حقيقة عندهم. وقال أيضًا: ومن ظن أن زيارة المسجد إنما شرعت لأجل القبر فقد أخطأ ولم يقل هذا أحد من الصحابة والتابعين. وقال - رحمه الله -: فأما السفر لأجل القبور فلا يعرف عن أحد من الصحابة، وكان عمر ومن معه من المهاجرين والأنصار يقدمون إلى بيت المقدس ولم يذهبوا إلى قبر الخليل - عليه السلام -، وكذلك سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وسائر الشام لم يعرف عن أحد منهم أنه سافر إلى قبر الخليل - عليه السلام - ولا غيره، كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وما كان قربة للغرباء فهو قربة لأهل المدينة كإتيان قبور الشهداء وأهل البقيع وما لم يكن قربة لأهل المدينة لم يكن قربة لغيرهم كاتخاذ بيته عيدًا واتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا وكالصلاة

إلى الحجرة والتمسح بها وإلصاق البطن بها والطواف وغير ذلك مما يفعله جُهال القادمين، فإن هذا بإجماع المسلمين ينهى عنه الغرباء كما ينهى عنه أهل المدينة ينهون عنه صادرين وواردين باتفاق المسلمين وبالجملة فجنس الصلاة عليه والثناء عليه - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك مما استحبه بعض العلماء عند القبر للواردين والصادرين هو مشروع في مسجده وسائر المساجد، وأما إذا ما كان سؤالًا له فهذا لم يستحبه أحد من السلف لا الأئمة ولا غيرهم. وقال الشيخ أيضًا: وسائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وغيرهم من الشام مثل معاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وغيرهم، لم يعرف عن أحد منهم أنه سافر لقبر من القبور التي بالشام لا قبر الخليل ولا غيره، كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وكذلك الصحابة الذين كانوا بالحجاز والعراق وسائر البلاد كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع. وقال - رحمه الله -: ولهذا كان الصحابة بالمدينة على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم إذا دخلوا المسجد لصلاة أو اعتكاف أو تعليم أو تعلم أو ذكر الله ودعاء له ونحو ذلك مما شرع في المساجد لم يكونوا يذهبون إلى ناحية القبر فيزورونه هناك ولا يقفون خارج الحجرة كما لم يكونوا يدخلون الحجرة أيضًا لزيارة قبره، فلم يكن الصحابة بالمدينة يزورون قبره لا من المسجد خارج الحجرة ولا داخل الحجرة، ولا كانوا أيضًا يأتون من بيوتهم لمجرد زيارة قبره، بل هذا من البدع التي أنكرها الأئمة والعلماء، وإن كان الزائر منهم ليس مقصوده إلا السلام والصلاة عليه وبينوا أن السلف لم يفعلوها كما ذكره مالك في «المبسوط»، وقد ذكره أصحابه كأبي الوليد الباجي والقاضي وغيرهما.

خامسًا: مخالفة فاعل ذلك للإجماع: قال - رحمه الله -: وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في مسجده وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ولا سلم عليه في الصلاة، بل أتى القبر ثم رجع فهذا مبتدع ضال مخالف لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولإجماع الصحابة ولعلماء أمته. وقال أيضًا: وما علمنا أحدًا من علماء المسلمين المجتهدين الذين تذكر أقوالهم في مسائل الإجماع والنزاع ذكر أن ذلك مستحب فدعوى من ادعى أن السفر إلى مجرد القبور مستحب عند جميع علماء المسلمين كذب ظاهر وكذلك إن ادعى أن هذا قول الأئمة الأربعة أو جمهور أصحابهم أو جمهور علماء المسلمين فهو كذب بلا ريب، وكذلك إن ادعى أن هذا قول عالم معروف من الأئمة المجتهدين، وإن قال: إن هذا قول بعض المتأخرين أمكن أن يصدق في ذلك وهو بعد أن تعرف صحة نقله نقل قولًا شاذًا مخالفًا لإجماع السلف مخالفًا لنصوص الرسول فكفى بقوله فسادًا أن يكون قولًا مبتدعًا في الإسلام مخالفًا للسنة والجماعة لما سنّهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها. سادسًا: أنه لا يلزم الناذر للسفر لمجرد القبر الوفاء بنذره: قال - رحمه الله -: ولو سافر من بلد مثل أن يسافر إلى دمشق من مصر لأجل مسجدها أو بالعكس أو يسافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعًا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، ولو نذر ذلك لم يف بنذره باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم. وقال أيضًا: ولو نذر السفر إلى غير المساجد أو السفر لمجرد قبر نبي أو صالح لم يلزمه الوفاء بنذره باتفاقهم فإن هذا السفر لم يأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل قال: «لا

تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد»، وإنما يجب بالنذر ما كان طاعة، وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفى بنذره، وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبر من غير صلاة في المسجد لم يفِ بنذره، قال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد». وقال الشيخ أيضًا: وهذا الذي قاله مالك وغيره، ما علمت أحدًا من المسلمين قال بخلافه بل كلامهم يدل على موافقته. وقال أيضًا: وقال مالك للسائل الذي سأله عمن نذر أن يأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن كان أراد مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فليأته وليصل فيه، وإن كان أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء فيه: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد». سابعًا: ضعف الأحاديث الواردة في مشروعية شد الرحل لأجل القبر وزيارته: قال الشيخ - رحمه الله -: الأحاديث المذكورة في هذا الباب مثل قوله: «من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي، ومن زارني بعد مماتي حلت له شفاعتي»، ونحو ذلك كلها أحاديث ضعيفة بل موضوعة ليست في شيء من دواوين المسلمين التي يعتمد عليها ولا نقلها إمام من أئمة المسلمين لا الأئمة الأربعة ولا نحوهم، ولكن روى بعضها البزار والدارقطني ونحوهما بإسناد ضعيف؛ لأن من عادة الدارقطني وأمثاله أن يذكروا هذا في السنن ليعرف وهو وغيره يبينون ضعف الضعيف من ذلك. وقال أيضًا: ولهذا لما احتاج المنازعون في هذه المسألة إلى ذكر سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه وما كان عليه أصحابه لم يقدر أحد منهم على أن يستدل في

ذلك بحديث منقول عنه إلا وهو حديث ضعيف، بل موضوع مكذوب وليس معهم بذلك نقل عن إمام من أئمة المسلمين أنه قال يستحب السفر إلى مجرد زيارة القبور، ولا السفر إلى مجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ولا السفر لمجرد زيارة قبره. ثامنًا: مراد من أطلق الزيارة من الأئمة: قال - رحمه الله -: ومعلوم أن زيارة القبر لها اختصاص بالقبر، ولما كانت زيارة قبره المشروعة إنما هي سفر إلى مسجده وعبادة في مسجده ليس فيها ما يختص بالقبر، كان قول من كره أن يسمى هذا زيارة لقبره أولى بالشرع والعقل واللغة ولم يبق إلا السفر إلى مسجده وهذا مشروع بالنص والإجماع والذين قالوا: يستحب زيارة قبره إنما أرادوا هذا فليس بين العلماء خلاف في المعنى بل في التسمية والإطلاق. وقال أيضًا: وذلك أن لفظ الزيارة ليس المراد بها نظير المراد بزيارة قبر غيره فإن قبر غيره يوصل إليه ويجلس عنده ويتمكن الزائر مما يفعله الزائرون للقبور عندها من سنة وبدعة وأما هو - صلى الله عليه وسلم - فلا سبيل لأحد أن يصل إلا إلى مسجده ولا يدخل أحد بيته ولا يصل إلى قبره بل دفنوه في بيته بخلاف غيره. وقال أيضًا: وقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - خُصَّ بالمنع شرعًا وحسًا كما دفن في الحجرة ومنع الناس من زيارة قبره من الحجرة كما يزار سائر القبور فيصل الزائر إلى عند القبر وقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس كذلك فلا تستحب هذه الزيارة في حقه ولا تمكن. تاسعًا: أقسام الناس في الزيارة: قال - رحمه الله -: ثم إن الناس أقسام منهم من يقصد السفر الشرعي إلى مسجده ثم إذا صار في مسجده المجاور لبيته الذي فيه قبره فعل ما هو مشروع، فهذا سفر

مجمع على استحبابه وقصر الصلاة فيه ومنهم من لا يقصد إلا مجرد القبر ولا يقصد الصلاة في المسجد ولا يصلي فيه فهذا لا ريب أنه ليس بمشروع ومنهم من يقصد هذا وهذا، فهذا لم يذكر في الجواب إنما ذكر في الجواب من لم يسافر إلا لمجرد زيارة قبور الأنبياء الصالحين. اهـ كلامه - رحمه الله -. ولمزيد الفائدة إليك رقم الصفحات للفقرة السابقة: (إحالات الأقسام التسعة من كتاب: «الصارم المنكي»): 1 - ص [27]. 2 - ص (46، 47). 3 - ص (26، 53، 54، 84، 85). 4 - ص (44، 47، 83، 107، 108، 109، 110، 166). 5 - ص (53، 219). 6 - ص (45، 46، 125، 218). 7 - ص (67، 84). 8 - ص (84، 127، 167، 204، 213). 9 - ص (122، 127). والله - سبحانه وتعالى - أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

بحث في تكفير الأعمال الصالحة هل هو خاص بالصغائر أم لا؟ وهل إجتناب الكبائر شرط أم لا؟

بحث في تكفير الأعمال الصالحة هل هو خاص بالصغائر أم لا؟ وهل إجتناب الكبائر شرط أم لا؟ الحمد لله: قال النووي - رحمه الله - في «شرح مسلم» على حديث عثمان سدد خطاكم: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله»، قال: معناه أن الذنوب كلها تغفر، إلا الكبائر فإنها لا تغفر، وليس المراد أن الذنوب ما لم تكن كبيرة فإن كانت لا يغفر شيء من الصغائر فإن هذا وإن كان محتملًا فسياق الأحاديث يأباه، قال القاضي عياض: هذا المذكور في الحديث من غفران الذنوب ما لم تؤت كبيرة هو مذهب أهل السنة، وإن الكبائر إنما تكفرها التوبة (¬1) أو رحمة الله تعالى وفضله والله أعلم. وقال ابن رجب (¬2) في «شرح الأربعين»: وقد اختلف الناس في مسألتين: أحدهما: هل تكفر الأعمال الصالحة الكبائر والصغائر أم لا تكفر سوى الصغائر؟ فمنهم من قال: لا تكفر سوى الصغائر، وقد روى هذا عن عطاء وغيره من السلف في الوضوء أنه يكفر الصغائر، وقال سلمان الفارسي سدد خطاكم في الوضوء: إنه يكفر الجراحات الصّغار، والمشي إلى المساجد يكفر أكبر من ذلك، والصلاة تكفر أكبر من ذلك. خرجه محمد نصر المروزي (¬3). وأما الكبائر فلابد لها من توبة؛ لأن الله أمر العباد بالتوبة، وجعل من لم يتب ¬

(¬1) انظر: «أسئلة وأجوبة» لابن حجر، ص [40]، عناية مرزوق إبراهيم. (¬2) عند حديث: «اتق الله حيثما كنت». (¬3) إسناده صحيح، برقم [99]، (157/ 1) من تعظيم الصلاة.

ظالمًا، واتفقت الأمة على أن التوبة فرض، والفرائض لا تؤدى إلا بنية وقصد، ولو كانت الكبائر تقع مكفرة بالوضوء والصلاة وأداء بقية أركان الإسلام؛ لم يحتج إلى التوبة، وهذا باطل بالإجماع (¬1)، وأيضًا فلو كفرت الكبائر بفعل الفرائض، لم يبق لأحد ذنب يدخل به النار إذا أتى بالفرائض وهذا يشبه قول المرجئة وهو باطل، هذا ما ذكره ابن عبد البر في كتابه «التمهيد». وحكى إجماع المسلمين على ذلك واستدل بأحاديث منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفِّرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر»، وهو مخرج في الصحيحين (¬2) من حديث أبي هريرة، وهذا يدل على أن الكبائر لا تكفرها هذه الفرائض، وقد حكى ابن عطية في تفسيره (¬3) في معنى هذا الحديث قولين: أحدهما: وحكاه عن جمهور أهل السنة أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير هذه الفرائض للصغائر، فإن لم تجتنب، لم تكفر هذه الفرائض شيئًا بالكلية. والثاني: أنها تكفر الصغائر مطلقًا، ولا تكفر الكبائر وإن وجدت، لكن بشرط التوبة من الصغائر وعدم الإصرار عليها ورجح هذا القول، وحكاه قول الحذاق وقوله بشرط التوبة من الصغائر وعدم الإصرار عليها مرادُه أنه إذا أصر عليها صارت كبيرة فلم تكفرها الأعمال والقول الأول الذي حكاه غريب مع أنه قد حكي عن أبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا مثله. ثم سرد ابن رجب أحاديث فيها تكفير الأعمال الصالحة للسيئات نحو ما تقدم ثم قال: (وذهب قوم من أهل الحديث وغيرهم إلى أن هذه الأعمال تكفر الكبائر ومنهم ابن حزم الظاهري، وإياه عنى ابن عبد البر في كتاب «التمهيد» بالرد ¬

(¬1) وفي هذا نظر يأتي بيانه - إن شاء الله - في كلام شيخ الإسلام. (¬2) بل هو من أفراد مسلم. (¬3) انظره: (9/ 236).

عليه، وقال: وقد كنت أرغب بنفسي عن الكلام في هذا الباب لولا قول ذلك القائل، وخشيت أن يغتر به جاهل، فينهمك في الموبقات اتكالًا على أنها تكفرها الصلوات دون الندم والاستغفار والتوبة والله نسأله العصمة والتوفيق (¬1). قلت- ابن رجب: وقد وقع مثل هذا في كلام طائفة من أهل الحديث في الوضوء ونحوه، ووقع مثله في كلام ابن المنذر في قيام ليلة القدر قال: يُرجى لمن قامها أن يغفر له جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها (¬2).اهـ. وانظر: «الفتاوى» (7/ 489). وقال ابن رجب أيضًا في «فتح الباري شرح صحيح البخاري» ط. الغرباء (4/ 223): ... وقد ذهبت طائفة من العلماء منهم أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا إلى أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير الصلوات الخمس الصغائر، فإن لم يجتنب الكبائر لم تكفر الصلوات شيئًا من الصغائر (¬3)، وحكاه ابن عطية في تفسيره عن جمهور أهل السنة لظاهر قوله: «ما اجتنبت الكبائر»، والصحيح الذي ذهب إليه كثير من العلماء، ورجحه ابن عطية، وحكاه عن الحذاق وأن ذلك ليس بشرط، وأن الصلوات تكفر الصغائر مطلقًا إذا لم يصر عليها فإنها بالإصرار عليها تصير من الكبائر (¬4)، وقال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (1/ 260) على حديث عثمان في الوضوء قوله: (من ذنبه) ظاهره يعم الكبائر والصغائر، لكن العلماء خصوه بالصغائر لوروده مقيدًا باستثناء الكبائر في غير هذه الرواية وهو في حق من له ¬

(¬1) راجع «التمهيد» (4/ 44 - 49) من المجلد الرابع. (¬2) من كلام ابن رجب (1/ 428) في شرح حديث «اتق الله حيثما كنت» من «جامع العلوم» ط. شعيب. (¬3) وهذا يبين ويحدد القول الذي استغربه ابن رجب قبلًا. (¬4) وانظر: عقيدة السفاريني «لوامع الأنوار» (1/ 374، 380).

كبائر وصغائر، فمن ليس له إلا صغائر كفرت عنه، ومن ليس له إلا كبائر خفف عنه منها بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزداد في حسناته بنظير ذلك. وقال الحافظ أيضًا في «الفتح» (2/ 12) على حديث أبي هريرة يرفعه: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسًا»، وفيه: «فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا»، قال القرطبي: ظاهر الحديث أن الصلوات الخمس تستقل بتكفير جميع الذنوب، وهو مشكل، لكن روى مسلم قبله حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا: «الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر»، فعلى هذا المقيد يحمل ما أطلق في غيره. فائدة: قال ابن بزيزة في «شرح الأحكام»: يتوجه على حديث العلاء إشكال يصعب التخلص منه؛ وذلك أن الصغائر بنص القرآن مكفرة باجتناب الكبائر وإذا كان كذلك فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟ انتهى، وقد أجاب شيخنا الإمام البُلقيني بأن السؤال غير وارد لأن مراد الله {إِنْ تَجْتَنِبُوا} [النساء: 31]، في جميع العمر، ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت. والذي في الحديث أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها- أي في يومها- إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم، فعلى هذا لا تعارض بين الآية والحديث. اهـ. وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلص منه بحمد الله سهل، وذلك أن لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس، فمن لم يفعلها لم يعد مجتنبًا للكبائر؛ لأن تركها من الكبائر، فوقف التكفير على فعلها والله أعلم. وقد فصّل شيخنا الإمام البلقيني أحوال الإنسان بالنسبة إلى ما يصدر منه من صغيرة وكبيرة، فقال: تنحصر في خمسة: أحدها: ألا يصدر منه شيء ألبته، فهذا يعاوض برفع الدرجات. ثانيها: يأتي

بصغائر بلا إصرار، فهذا تكفر عنه جزمًا. ثالثها: مثله لكن مع الإصرار فلا تكفر إذا قلنا إن الإصرار على الصغائر كبيرة. رابعها: أن يأتي بكبيرة واحدة وصغائر. خامسها: أن يأتي بكبائر وصغائر، وهذا فيه نظر يحتمل إذا لم يجتنب الكبائر أن لا تكفر الكبائر بل تكفر الصغائر، ويحتمل أن لا تكفر شيئًا أصلًا، والثاني أرجح؛ لأن مفهوم المخالفة إذا لم تتعين جهته لا يعمل به، فهنا لا تكفر شيئًا إما لاختلاط الكبائر والصغائر أو لتمحض الكبائر أو تكفر الصغائر فلم تتعين جهة مفهوم المخالفة لدورانه بين الفصلين فلا يعمل به، ويؤيد أن مقتضى تجنب الكبائر أن هناك كبائر، ومقضى ما اجتنبت الكبائر، إن لا كبائر فيصان الحديث عنه ... اهـ. وقال الحافظ أيضًا (8/ 357): وتمسك بظاهر قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] والمرجئة وقالوا: إن الحسنات تكفر كل سيئة كبيرة كانت أو صغيرة، وحمل الجمهور هذا المطلق على المقيّد في الحديث: «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر»، فقالت طائفة: إن اجتنبت الكبائر كانت الحسنات كفارة لما عدا الكبائر من الذنوب وإن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئًا، وقال آخرون: وإن تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئًا منها وتحط الصغائر وقيل المراد بالحسنات ما تكون سببًا في ترك السيئات كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، لا أنها تكفر شيئًا حقيقة، وهذا قول بعض المعتزلة، وقال ابن عبد البر: ذهب بعض أهل العصر إلى أن الحسنات تكفر الذنوب. قلت: تقدم أن المراد بعصريه ابن حزم وتقدم قوله.

وقال الحافظ (3/ 598) على حديث: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما»، واستشكل بعضهم كون العمرة كفارة مع اجتناب الكبائر يكفر فماذا تكفره العمرة؟ والجواب: أن تكفير العمرة مقيد بزمنها وتكفير الاجتناب عام لجميع عمر العبد (¬1) اهـ. وقال الحافظ في «الفتح» (11/ 251) على حديث عثمان وفيه: «لا تغتروا» قال: حديث شرحه في الطهارة وحاصله لا تحملوا الغفران على عمومه في جميع الذنوب فتسترسلوا في الذنوب اتكالًا على غفرانها بالصلاة فإن الصلاة التي تكفر الذنوب هي المقبولة ولا اطلاع لأحد عليه، وظهر لي جواب آخر وهو أن المكفر بالصلاة هي الصغائر فلا تغتروا فتعملوا الكبيرة ... إلخ (¬2). وقال الأبُي على مسلم (2/ 14): وقوله: «ما لم تؤت كبيرة»؛ لأن الكبيرة لا يكفرها إلا التوبة أو فضل الله - عز وجل -، قلت (¬3): يريد عندنا وأما عند المعتزلة فلا يكفرها إلا التوبة، وليس المعنى على ما يقتضيه الظاهر من أن ترك الكبيرة شرط في محو الصغائر بالوضوء، وإنما المعنى أن بالوضوء يغفر ما تقدم إلا أن يكون فيما تقدم كبيرة، فإن تلك الكبيرة لا يكفرها إلا التوبة أو فضل الله تعالى. اهـ. وقال أيضًا في شرح حديث: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه»، أي: بلا ذنب وهو يتضمن الصغائر والكبائر. قلت: قال ابن العربي هذه الطاعة لا تكفر الكبائر وإنما يكفرها الموازنة أو التوبة والصلاة لا تكفرها فكيف تكفرها العمرة أو الحج؟ ولكن هذه الطاعات ربما أثرت في القلب فحمله على التوبة، ويحتمل أن يكون الثواب بالجنة بعد المؤاخذة بمقدار الذنب. قلت: ¬

(¬1) قلت: هذا جواب شيخه البُلقيني فكأنه تبناه وفيه تأمل! (¬2) وانظر مواضع مهمة في «فتح الباري» (2/ 372)، (3/ 382 - 383)، (12/ 124)، (10/ 108)، (10/ 193). (¬3) من المتن من شراح مسلم انظر: (ج 1، من ص أإلى ص د).

وقوله: ويحتمل أن يكون الثواب بالجنة بعد المؤاخذة بمقدار الذنب لا يصح لأنه لا فائدة، إذن للعبادة الخاصة؛ لأن دخول الجنة بعد المؤاخذة بمقدار الذنب ثابت في كل العصاة على مذهب الأشعرية، واختار ابن بزيزة أن هذه الطاعات تكفر الكبائر، قال: ويدل لذلك حديث مباهاة الملائكة عليهم السلام بالحاج؛ لأن الملائكة مطهرون مطلقًا ولا يباهي المطهر مطلقًا إلا بمطهر مطلقًا (¬1) ... (ثم استدل ابن بزيزة بحديث غفران الذنوب لأهل عرفة وضمان التبعات) (¬2). ثم قال: (فإن قلت): قد جاء أن الجهاد يكفر كل شيء إلا الدَّين فما بال الحج يكفر كل شيء على مقتضى هذه الأحاديث، قال: (قلت): أسرار الله تعالى لا يطلع عليها غيره فنقف مع ما فهمنا ولا سبيل إلى الخروج عنه. اهـ. وقال المباركفوري في «شرح الترمذي» (1/ 628) بعدما نقل كلام ابن عبد البر والنووي، قال: قال العلامة الشيخ محمد بن ظاهر في «مجمع البحار» ما لفظه: (لابد في حقوق الناس من القصاص ولو صغيرة وفي الكبائر من التوبة، ثم ورد وعد المغفرة في الصلوات الخمس والجمعة ورمضان فإذا تكرر يغفر بأولها الصغائر وبالبواقي يخفف عن الكبائر وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة يرفع بها الدرجات) اهـ. وقال شيخنا ابن باز في تعليقه على «فتح الباري» (2/ 372): وظاهر المذكور أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير الصغائر. وأفاد نحو هذا الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله - في حاشيته على «صحيح ¬

(¬1) وفيه نظر لا يخفى. (¬2) هو حديث العباس بن مرداس الأسلمي، وجاء من حديث عبادة بن الصامت وأنس وأبي هريرة وغيرهم وكلها ضعاف وألَّفَ الحافظ فيها جزءًا مطبوعًا أسماه قوة الحجاج في عموم المغفرة للحاج. فلينظر.

الترغيب والترهيب» ص [141]. وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله - في «شرح رياض الصالحين» (3/ 221): (واختلف العلماء رحمهم الله في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اجتنبت الكبائر»، هل معنى الحديث أن الصغائر تكفر إذا اجتنبت الكبائر وأنها لا تكفر إلا بشرطين وهما: الصلوات الخمس واجتناب الكبائر، أو أن معنى الحديث أنها كفارة لما بينهن إلا الكبائر فلا تكفرها، وعلى هذا فيكون لتكفير السيئات الصغائر شرط واحد وهو إقامة هذه الصلوات الخمس، أو الجمعة إلى الجمعة، أو رمضان إلى رمضان، وهذا هو المتبادر- والله أعلم- أن المعنى أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها إلا الكبائر فلا تكفرها. وكذلك الجمعة إلى الجمعة، وكذلك رمضان إلى رمضان؛ وذلك لأن الكبائر لابد لها من توبة خاصة، فإذا لم يتب توبة خاصة فإن الأعمال الصالحة لا تكفرها، بل لابد من توبة خاصة) اهـ. قلت: فتلخص لنا من أقوال العلماء في هذه المسألة أقوال: 1 - أن الأعمال الصالحة تكفر الصغائر والكبائر وهو منسوب لابن حزم. 2 - أن الأعمال الصالحة منها ما يكفر الصغائر بل والكبائر، وتقدم هذا عن ابن المنذر وابن بزيزة، واختاره شيخ الإسلام (¬1) وابن القيم، وقال في قصة حاطب: إن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بالحسنة الكبيرة (¬2) (¬3). ¬

(¬1) «الفتاوى المصرية» ص [578]. (¬2) «الهدي» (3/ 423). (¬3) وهو اختيار شيخ الإسلام المستدرك في ابن قاسم (1/ 128). وانظر النقل الآتي عنه في المنهاج.

3 - ومن العلماء من قال: إن الأعمال الصالحة تكفر الصغائر دون الكبائر وهذا الذي اختاره ابن رجب والنووي وابن عطية وحكاه عن الحذاق؛ بل حكاه القاضي عن أهل السنة، وكذلك ابن الملقّن قال: هو مذهب أهل السنة (¬1)، واختاره وهو ظاهر كلام ابن القيم كما في «طريق الهجرتين» عند كلامه على الطبقة التاسعة. 4 - ومنهم من قال: إن الأعمال الصالحة لا تعمل في الصغائر أصلًا إلا باجتناب الكبائر، وهذا الذي حكاه ابن عطية عن جمهور أهل السنة (¬2)، وحكاه ابن رجب عن أبي بكر عبد العزيز واستغربه واختاره شيخنا ابن باز - رحمه الله - (¬3)، وتقدم النقل عنه قريبًا. 5 - ومنهم من خصّ التكفير للأعمال الصالحة بانتفاء الكبائر في اليوم لا مطلق وجود الكبائر. 6 - راجح - والعلم عند الله - القول الثالث، والقول الثاني، حيث لا منافاة. فائدة مهمة: قال شيخ الإسلام في «منهاج السنة النبوية» (6/ 216): (العمل الذي يمحو الله به الخطايا ويكفر به السيئات هو العمل المقبول، والله تعالى إنما يتقبل من المتقين، والناس لهم في هذه الآية وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، ثلاثة أقوال: طرفان ووسط، فالخوارج يقولون: لا يتقبل الله إلا ممن اتقى الكبائر، وعندهم صاحب الكبيرة لا يقبل منه حسنة بحال، والمرجئة يقولون: من اتقى ¬

(¬1) انظر: «الإعلام بفوائد عمدة الأحكام» له (1/ 358). (¬2) انظره عند تفسير سورة هود {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. (¬3) وهو مستفاد من دروسه وما كتبت عنه من تعليقات.

الشرك، والسلف والأئمة يقولون: لا يتقبل الله إلا ممن اتقاه في ذلك العمل ففعله كما أُمر به خالصًا لوجه الله .. ثم قال - رحمه الله -: فالمحو والتكفير يقع بما يُتقبل من الأعمال وأكثر الناس يقصدون في الحسنات حتى في نفس صلاتهم، فالسعيد منهم من يُكتب له نصفها وهم يفعلون السيئات كثيرًا، فلهذا يكفر بما يُقبل من الصلوات الخمس شيء، وبما يقبل من الجمعة شيء، وبما يقبل من رمضان شيء آخر، وكذلك سائر الأعمال، وليس كل حسنة تمحو كل سيئة، بل المحو يكون للصغائر تارة ويكون للكبائر تارة باعتبار الموازنة) (¬1) اهـ. ونبه على مثله ابن القيم كما في «الوابل الصيب» (¬2). وتقدم قول الحافظ: أن الصلاة التي تكفر الذنوب هي المقبولة ولا اطلاع لأحد عليه ... إلخ. فائدة: ظاهر الآية الكريمة: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] تكفير الصغائر بسبب اجتناب الكبائر، وعليه فتكفير الصغائر يقع بشيئين: أحدهما: الحسنات الماحية. والثاني: اجتناب الكبائر (¬3)، وقد نص عليها - سبحانه وتعالى - في كتابه فقال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وقال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا ...} [النساء: 31] الآية. اهـ من كلام ابن القيم بنصه في «طريق الهجرتين» عند كلامه على الطبقة التاسعة طبقة أهل النجاة. والله نسأله النجاة من عذابه ودخول جنته بمنِّه وكرمه آمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ... تم تحريره في 10/ 7/1420هـ. ¬

(¬1) وذكر كلامًا نفيسًا قبل وبعد فانظره. (¬2) ص [20]، بأوّله، ونسخ الكتاب مختلفة. (¬3) وقد نصّ عليه جمهورهم.

ماذا نعمل إذا وقع البلاء؟

ماذا نعمل إذا وقع البلاء؟ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فإنه لما وقع البلاء في بعض قرى جنوب المملكة العربية السعودية بما يسمونه مرض حمى الوادي المتصدع، كتبت في هذا مقالًا أثناء ذلك الوباء الذي أسأل الله أن يصرفه عنا وعن المسلمين (¬1). فضل الصبر على البلاء قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]. قال ابن كثير: (أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده، أي: يختبرهم ويمتحنهم .. فتارة بالسراء وتارة بالضراء من خوف وجوع وقوله: {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ}، أي: بقليل من ذلك، {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ}، أي: ذهاب بعضها، {وَالْأَنْفُسِ}، كموت الأصحاب والأقارب والأحباب، {وَالثَّمَرَاتِ}، أي: لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها. وقوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا} أي: يتسلون بقولهم هذا عما أصابهم، وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما شاء، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة؛ فأحدث لهم ذلك أعترافهم بأنهم عبيدة، وأنهم راجعون في الدار الآخرة، ولهذا أخبر تعالى عما ¬

(¬1) نشر عبر مجلة الجندي المسلم في وقته.

أعطاهم على ذلك، فقال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} أي: ثناء من الله عليهم، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «نعم العدلان ونعمت العلاوة، {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} فهذان العدلان {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فهذه العلاوة») (¬1). وفي «صحيح مسلم» (2/ 632) عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها»، قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خيرٌ من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله. وفي الصحيحين عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلًا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟»، قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سبحان الله! لا تطيقه أو لا تستطيعه أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار»، قال: فدعا الله له فشفاه. [لفظ مسلم]. فهذا هو الواجب أولًا عند الابتلاء بمصيبة مرض أو غيره؛ فالواجب الصبر وأن يعلم أنها من عند الله، وأن يتكلم بخير؛ فيسأل الله الأجر والثواب والعافية وقد وردت أحاديث في فضل المرض مع الاحتساب فمن ذلك: ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها»، وفي لفظ: «ما يصيب ¬

(¬1) (1/ 198)، وانظر: «صحيح البخاري» (1/ 438)، والبيهقي في «السنن» (4/ 65).

المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه». وفي لفظٍ عند مسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها -: «إلا رفعه الله به درجة وحط عنه بها خطيئة»، وهذا يقتضي حصول الأمرين معًا: حصول الثواب ورفع العقاب، وشاهده ما أخرجه الطبراني في «الأوسط» من وجه آخر عن عائشة بلفظ: «ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حطَّ الله به عنه خطيئة، وكتب له حسنة ورفع له درجة» (¬1). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء، والفاجر كالأرزة الصماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء»، وفي حديث كعب ابن مالك: «مثل المؤمن كالخامة من الزرع تُفيؤها الريح مرة وتعدلها مرة، ومثل المنافق كالأرزة لا تزال حتى يكون انجعافها مرة واحدة». وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من يرد الله به خيرًا يصب منه». وعند الترمذي وابن ماجه وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه قال: قال يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل»، ولفظ حديث أبي سعيد عند الحاكم: «الأنبياء ثم الصالحون»، الحديث، وذكره البخاري في ترجمة باب في كتاب المرضى. وفي الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) وسنده جيد قاله الحافظ في «الفتح» (10/ 105).

ما ورد في الوباء والطاعون

فقالت: إني أُصرع وإني أتكشف فادع الله لي، قال: «إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك»، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله لي ألا أتكشف فدعا لها. وفي صحيح البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - رضي الله عنه - يقول: «إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة» يريد عينيه. وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي دخل على أعرابي يعوده وكان النبي - رضي الله عنه - إذا دخل على مريض يعوده قال: «لا بأس طهور إن شاء الله». والصبر على بعض الأمراض سبب لدخول الجنة كما في الصبر على العمى وعلى الصرع، وكما جاء في المبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والمطعون، والمحترق وغيرهم أنهم شهداء. ما ورد في الوباء والطاعون مما جاء في الطاعون حديث عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه»، أخرجه البخاري وأخرج نحوه عن أسامة بن زيد. تعريف الطاعون: قال الخليل: هو الوباء. وقال ابن الأثير: الطاعون المرض العام الذي يفسد له الهواء، وتفسد به الأمزجة والأبدان. وقال ابن العربي: الطاعون الوجع الغالب الذي يطفئ الروح كالذبحة سمي

بذلك لعموم مصابه وسرعة قتله. وقال الداودي: الطاعون حبة تخرج في الأرقاع وفي كل طي من الجسد، والصحيح أنه الوباء. وقال عياض: أصل الطاعون القروح الخارجية من الجسد، والوباء عموم الأمراض؛ فسميت طاعونًا لشبهها بها في الهلاك، وإلا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونًا. وقال ابن سينا وغيره: الطاعون مادة سمية تحدث ورمًا قتالًا يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن وأغلب ما يكون تحت الإبط أو خلف الأذن أو عند الأرنبة. قال: وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد ويستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو ويغير ما يليه ويؤدي إلى القلب كيفية ردئية فيحدث القيء والغثيان والغشي والخفقان ... إلى أن قال: والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبئة، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وبالعكس، وأما الوباء: فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده (¬1). وقصة عمر مشهورة لما وقع الطاعون المسمى طاعون عمواس بالشام أخرجها البخاري ومسلم وغيرهما، وفيها: أن عمر رجع بالناس لما بلغه الحديث الذي فيه النهي عن دخول أرض الوباء والطاعون. قال ابن القيم في «زاد المعاد» (4/ 24): وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمة في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي هو فيها، ونهيه من الخروج منها بعد وقوعه كمال التحرز منه؛ فإن في الدخول في الأرض التي هو فيها تعرض للبلاء، وموافاة له في محل ¬

(¬1) «الفتح» (10/ 180)، وانظر: «الهدي» (4/ 37).

سلطانه، وإعانة للإنسان على نفسه، وهذا مخالف للشرع والعقل؛ بل تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التي أرشد الله سبحانه إليها وهي حمية عن الأمكنة والأهوية المؤذية، وأما نهيه عن الخروج من بلده ففيه معنيان: أحدهما: حمل النفوس على الثقة بالله والتوكل عليه، والصبر على أقضيته والرضى به. الثاني: ما قاله الأئمة من الأطباء أنه يجب على كل محترز من الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضيلة، ويقلل الغذاء، ويميل إلى التدبير المجفف من كل وجه إلا الرياضة والحمام .. إلى أن قال: ويجب عند وقوع الطاعون السكون والدعة وتسكين هيجان الأخلاط، ولا يمكن الخروج من أرض الوباء والسفر إلا بحركة شديدة وهي مضرة جدًا ... إلى أن قال: وفي المنع من الدخول إلى الأرض التي قد وقع بها عدة حكم: أحدها: تجنب الأسباب المؤذية، والبعد عنها. الثاني: الأخذ بالعافية التي هي مادة المعاش والمعاد. الثالث: ألا يستنشقوا الهواء الذي قد فسد وعفن فيمرضوا. الرابع: ألا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم. الخامسة: حمية النفوس عن الطيرة والعدوى .. وبالجملة ففي النهي عن الدخول في أرضه الأمر بالحذر والحمية والنهي عن التعرض لأسباب التلف، وفي النهي عن الفرار منه الأمر بالتوكل، والتسليم والتفويض: فالأول تأديب وتعليم، والثاني تفويض وتسليم. (¬1) اهـ. ¬

(¬1) (4/ 37).

فضل الطاعون

فضل الطاعون: أخرج البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الطاعون شهادة لكل مسلم». وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنه كان عذابًا على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرًا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد» [أخرجه البخاري وغيره]. وأخرج أحمد وابن خزيمة من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: يا رسول الله، ما الطاعون؟! قال - صلى الله عليه وسلم - «غدة كغدة الإبل، المقيم فيها كالشهيد، والفار منها كالفار من الزحف»، إسناده جيد (¬1)، وله شاهد عن جابر عند أحمد وابن خزيمة. وقال الحافظ في «الفتح»: وأخرج الهيثم بن كليب والطحاوي والبيهقي بسند حسن عن أبي موسى أنه قال: «إن هذا الطاعون قد وقع فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل، واحذروا اثنتين: أن يقول قائل: خرج خارج فسلم، وجلس جالس فأصيب، فلو كنت خرجت لسلمت كما سلم فلان، أو لو كنت جلست أصبت كما أصيب فلان». ولكن أبا موسى حمل النهي على من قصد الفرار محضًا، ولا شك أن الصور الثلاث: 1 - من خرج لقصد الفرار محضًا؛ فهذا يتناوله النهي لا محالة. 2 - ومن خرج لحاجة متمحضة لا لقصد الفرار أصلًا فلا يدخل في النهي. 3 - والثالث: من عرض له حاجة فأراد الخروج إليها وانضم إلى ذلك أنه قصد ¬

(¬1) وقال في «الفتح»: إسناده حسن (3/ 188).

القنوت لرفع الطاعون

الراحة من الإقامة بالبلد التي وقع بها الطاعون فهذا محل النزاع. اهـ. حكم الفرار من الطاعون: الفرار من الطاعون كبيرة كما دل عليه حديث عائشة، والمكث بالأرض التي وقع بها يدرك به أجر الشهيد بثلاثة شروط: 1 - المكث وعدم الخروج. 2 - الصبر وعدم الانزعاج والضجر. 3 - يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، فلا يقع منه الندم على عدم الخروج ولا يظن أنه لو خرج لما وقع به أصلًا أو أنه بإقامته يقع به. القنوت لرفع الطاعون: اختلف العلماء في مسألة القنوت لرفع الطاعون؛ فالمشهور من مذهب الحنابلة عند المتأخرين ألا يقنت، قالوا: لأنه رحمة. صرح به صاحب الزاد وغيره، ونصر الحافظ في بذل الماعون في فضل الطاعون ص [315] أنه يقنت له، واستدل بأن الدعاء برفعه لا يعارض فضله كما في النهي عن تمني لقاء العدو وهو سبب للشهادة، فكذلك هنا. ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبتت عنه الاستعاذة في أمور كثيرة جاء أن صاحبها شهيد فقد أخرج أبو داود والنسائي والحاكم من حديث أبي اليسر أن رسول الله كان يدعو: «اللهم إني أعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من التردي، وأعوذ بك من الغرق والحرق، وأعوذ بك أن أموت لديغًا ..». الحديث. إلى أن قال - رحمه الله - ص [388]: وأما الاجتماع له كما في الاستسقاء فبدعة .. وأنه لو كان مشروعًا ما خفي على السلف ثم على فقهاء الأمصار وأتباعهم في الأعصار الماضية؛ فلم

سبب الكوارث والمصائب

يبلغنا في ذلك خبر ولا أثر عن المحدثين. اهـ. سبب الكوارث والمصائب: إن سبب الكوارث والبليات والنكبات والأزمات في الأرواح والنفوس والممتلكات والأموال هي المعاصي والموبقات والتجاسر على هتك المحرمات ومحاربة رب البريات في الليل والنهار، والسر والجهار. وهذا مستقر عند كل مؤمن صادق وبه نطق الكتاب، وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]. نعم لما كفرت بأنعم الله، ولم تقابلها بالشكر والإحسان إلى مسديها؛ أذاقها الله الجوع الذي يلازمها، والخوف الذي يصاحبها مصاحبة اللباس للابسه، فلم تنفك عنه ليلًا ولا نهارًا والعياذ بالله. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]. ويقول تعالى بعد ما ذكر الأقوام المكذوبة: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا.

والمخرج من كل بلية، والنجاة من كل مهلكة وعذاب، هو بالتوبة النصوح المشتملة على الاعتراف بالذنب، والندم عليه، ومفارقته، والعزم على عدم العودة إليه، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. وفي الصحيح: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها». فلم ينزل بلاء إلا بالذنب، ولم يرفع إلا بتوبة، إلا أن يعفو الله. فنسأل الله أن يتوب علينا أجمعين وأن يصرف عنا كل بلاء وفتنة، إنه خير مسؤول، وصلى الله وسلم على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.

تفضيل الشمال على اليمين في الإنصراف من الصلاة

تفضيل الشمال على اليمين في الإنصراف من الصلاة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أما بعد: فقد ورد إليَّ سؤال لبعض الإخوة عن معنى قول شيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب - رحمه الله - في آداب المشي إلى الصلاة في سنن الصلاة الفعلية وتفضيل الشمال على اليمين في الانصراف من الصلاة قلت: أراد الشيخ - رحمه الله - ما رواه الدارقطني في سننه (1/ 356) حدثنا بدر بن الهيثم القاضي ويحيى بن محمد بن صاعد قالا: حدثنا أبو الفضل فضالة بن الفضل التميمي بالكوفة حدثنا أبو بكر ابن عياش عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر بن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم عن يمينه يُرى بياض خده الأيمن، وإذا سلم عن شماله يُرى بياض خده الأيمن والأيسر وكان تسليمه السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله. إسناده قوي. وقد سبق شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في ذكر هذا الكلام غير واحد كالموفق في «المغني» حيث قال (2/ 247): ويكون التفاته في الثانية أوفى، ولكن هذه اللفظة منكرة وغير محفوظة وإليك الأدلة. فقد أخرج حديث عمار المذكور ابن ماجه رقم (916) من طريق يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش به ولفظه عن عمار قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله. ورواه الطحاوي في «شرح المعاني» (1/ 268) من طريق يوسف بن عدي عن أبي بكر به ولفظه عن عمار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في صلاته عن يمينه وعن

شماله. فقد اجتمع يحيى بن آدم ويوسف بن عدي على مخالفة فضالة بن الفضل وإليك ما قيل في الثلاثة: - يحيى بن آدم الأموي الكوفي روى له الجماعة قال ابن معين في رواية الدارمي: ثقة، وكذا قال النسائي وقال أبو حاتم: كان يتفقه وكان ثقة، وقال يعقوب: به شُبَه ثقة كثير الحديث فقيه البدن ووثقه ابن سعد وقال العجلي: كان ثقة جامعًا للعلم عاقلًا ثبتًا، وقال ابن حبان كان متقنًا يتفقه، وقال ابن شاهين في الثقات: قال يحيى بن أبي شيبة ثقة صدوق ثبت حجة ما لم يخالف من هو فوقه مثل وكيع. اهـ. من «التهذيب» وفي «التقريب»: ثقة حافظ فاضل روى له الجماعة. - ويوسف بن عدي التيمي الكوفي، قال أبو زرعة: ثقة وذكره ابن حبان في «الثقات»، وقال الذهبي في «سيره» الإمام الثقة الحافظ، وروى له البخاري. - وأما أبو الفضل فضالة بن الفضل التميمي قال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في «الثقات»، وقال: ربما أخطأ روى له الترمذي وفي «التقريب»: صدوق ربما أخطأ. فتبين أن فضالة - رحمه الله - دون أي واحد منهما فكيف إذا اجتمعا وخالفاه، وهما ثقتان حافظان أخرج البخاري لهما، وهو لم يخرج له صاحبا الصحيح. ثم يقال ثانيًا إن اللفظ المروي من طريق يحيى ويوسف هو الموافق للروايات الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة السلام من الصلاة كما في حديث سعد عند مسلم [582]. وحديث ابن مسعود في «السنن» وأصله في مسلم مختصرًا وغيرهما من الأحاديث.

ثم يقال ثالثًا: قد أخرج حديث عمار المذكور الطحاوي في «شرح المعاني» (1/ 271). قال: حدثنا ابن مرزوق حدثنا ابن وهب حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة ابن مضرب، قال: كان عمار أميرًا علينا سنة لا يصلي صلاة إلا سلم عن يمينه وعن شماله (السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله) هكذا موقوف. وهذا اختلاف آخر على أبي إسحاق في رفع الحديث ووقفه (¬1) وفي تسمية شيخه. ولا شك أن شعبة أحفظ وأثبت من أبي بكر بن عياش فالقول ما قال شعبة. وعلى كلا التقديرين في رفع الحديث ووقفه ليس فيه هذا الحرف تفضيل الشمال على اليمين في التسليم؛ فلا يشرع هذا وليس بسنة .. ثم رأيت الحديث أخرجه البزار (4/ 232) عن فضالة بالإسناد نفسه ولفظه: كان يسلم عن يمينه وعن يساره في الصلاة، قال البزار: وهذا الحديث رواه شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن عمار موقوفًا ولا نعلم أحدًا قال عن صلة عن عمار إلا أبو بكر بن عياش. اهـ. تنبيه: أبدى بعض الفضلاء اعتذارًا عن رواية الدارقطني بقوله: لعل ذلك لأن المتورك في آخر صلاته يسهل عليه المبالغة في الالتفات على الشمال، ويشق عليه المبالغة في الالتفات على اليمين كذا قال وهو مع وجاهته، فهو مردود فالمقام توقيف ولا سبيل إلى الاستحسان كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «صلوا كما رأيتموني أصلي». والله أعلم. ¬

(¬1) «إتحاف المهرة» لابن حجر (11/ 731).

الجمع بين الصلاتين بعذر المطر

الجمع بين الصلاتين بعذر المطر "أحكام وفوائد" إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فقد اشتدت الحاجة إلى إبراز كلام أهل العلم في مسألة الجمع في الحضر لأجل المطر، وما ذلك إلا لكثرة الكلام في هذه المسألة وعدم معرفة السبيل السوي لدى كثير من الناس، والواجب على العلماء وطلاب العلم إظهار العلم للناس، إبراءً للذمة، وقيامًا بما أوجب الله من تبليغ دينه إلى الناس كافة. وقد جمعت كلامًا نفيسًا أغلبه لشيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة وما تعلق بها، أسأل الله أن ينفع به كل من رآه وأصل هذا الكلام هو حديث ابن عباس المخرج في الصحيحين وغيرهما ولفظه: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعًا والمغرب والعشاء جميعًا من غير خوف ولا سفر. وفي لفظ: ولا مطر، وفي لفظ: صلى بالمدينة سبعًا وثمانيًا الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال شيخ الإسلام - رحمه الله - (24/ 76): وبهذا استدل أحمد - رحمه الله - على الجمع لهذه الأمور بطريق الأولى فإن هذا الكلام يدل على أن الجمع لهذه الأمور أولى وهذا من باب التنبيه بالفعل، فإنه إذا جمع ليدفع الحرج الحاصل بدون الخوف والسفر والمطر فالحرج الحاصل بهذه أولى أن يرفع، والجمع لها أولى من الجمع لغيرها.

وقال - رحمه الله - (24/ 84): فقول ابن عباس: جمع من غير كذا ولا كذا، ليس نفيًا منه للجمع بتلك الأسباب؛ بل إثبات منه لإنه جمع بدونها، وإن كان قد جمع بها أيضًا، ولو لم ينقل أنه جمع بها فجمعه بما هو دونها دليل على الجمع بها بطريق الأولى فيدل ذلك على الجمع للخوف والمطر وقد جمع بعرفة ومزدلفة من غير خوف ولا مطر. وقال أيضًا (24/ 76): ومما يبين أن ابن عباس لم يرد الجمع للمطر - وإن كان الجمع للمطر أولى بالجواز - ما رواه مسلم من حديث حماد بن زيد عن الزبير بن الخريت عن عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يومًا بعد العصر حتى غربت الشمس، وبدت النجوم، فجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، فجاء رجل من بني تميم لا يفتر الصلاة الصلاة، فقال: أتعلمني السنة أمَّ لك؟ ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته، ورواه مسلم من حديث عمران بن حُدير عن ابن شقيق قال: قال رجل لابن عباس: الصلاة، فسكت. ثم قال: الصلاة فسكت، ثم قال: لا أمَّ لك أتعلمنا الصلاة وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!. فهذا ابن عباس لم يكن في سفر ولا في مطر، وقد استدل بما رواه على ما فعله، فعلم أن الجمع الذي رواه لم يكن في مطر، ولكن كان ابن عباس في أمر مهم من أمور المسلمين يخطبهم فيما يحتاجون إلى معرفته ورأى أنه إن قطعه ونزل فاتت المصلحة، فكان ذلك عنده من الحاجات التي يجوز فيها الجمع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بالمدينة لغير خوف ولا مطر، بل للحاجة تعرض كما قال: «أراد ألا يحرج أمته»، ومعلوم أن جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ومزدلفة لم يكن لخوف ولا مطر

ولا سفر أيضًا، فإنه لو كان جمعه لسفر لجمع في الطريق، ولجمع بمكة كما كان يقصر بها، ولجمع لما خرج من مكة إلى منى وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ولم يجمع بمنى قبل التعريف ولا جمع بها بعد التعريف أيام منى، بل يصلي كل صلاة ركعتين غير المغرب، ويصليها في وقتها، ولا جمعه أيضًا كان للنُسُك، فإنه لو كان كذلك لجمع من حين أحرم، فإنه من حينئذٍ صار محرمًا، فعلم أن جمعه المتواتر بعرفة ومزدلفة لم يكن لمطر ولا خوف ولا لخصوص النسك ولا لمجرد السفر، فهكذا جمعه في المدينة الذي رواه ابن عباس، وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن أمته، فإذا احتاجوا إلى الجمع جمعوا. وقال - رحمه الله - يرد على من زعم أن جمعه بالمدينة، كان صوريًا، قال (24/ 54): ومراعاة هذا من أصعب الأشياء وأشقها، فإنه يريد أن يبتدئ فيها إذا بقي من الوقت مقدار أربع ركعات أو ثلاث من المغرب، ويريد مع ذلك ألا يطيلها، وإن كان بنية الإطالة تشرع في الوقت الذي يحتمل ذلك، وإذا دخل في الصلاة ثم بدا له أن يطيلها أو ينتظر أحدًا ليحصل الركوع والجماعة لم يشرع ذلك ويجتهد في أن يسلم قبل خروج الوقت، ومعلوم أن مراعاة هذا من أصعب الأشياء علمًا وعملًا، وهو يشغل قلب المصلي عن مقصود الصلاة والجمع شرع رخصة ودفعًا للحرج عن الأمة، فكيف لا يشرع إلا مع حرج شديد ومع ما ينقض مقصود الصلاة، فعلم أنه كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء، يفعل ذلك على الوجه الذي يحصل به التيسير ورفع الحرج له ولأمته ولا يلتزم أنه لا يسلم من الأولى إلا قبل خروج وقتها الخاص، وكيف يعلم ذلك المصلي في الصلاة وأخر وقت الظهر وأول وقت العصر إنما يعرف على سبيل التحديد بالظل، والمصلي في الصلاة لا يمكنه معرفة الظل! ولم

يكن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - آلات حسابية يعرف بها الوقت، ولا موقت يعرف ذلك بالآلات الحسابية والمغرب إنما يعرف آخر وقتها بمغيب الشفق فيحتاج أن ينظر إلى جهة الغرب هل غرب الشفق الأحمر أو الأبيض والمصلي في الصلاة منهي عن مثل ذلك، وإذا كان يصلي في بيت أو فسطاط أو نحو ذلك مما يستره عن الغرب ويتعذر عليه في الصلاة النظر إلى المغرب، فلا يمكنه في هذه الحال أن يتحرى السلام في آخر وقت المغرب، بل لابد أن يسلم قبل خروج الوقت بزمن يعلم معه أنه سلم قبل خروج الوقت، ثم الثانية لا يمكنه على قولهم أن يشرع فيها حتى يعلم دخول الوقت، وذلك يحتاج إلى عمل وكلفة مما لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يراعيه بل ولا أصحابه، فهؤلاء لا يمكن الجمع عندهم على قولهم في غالب الأوقات لغالب الناس إلا مع تفريق الفعل وأولئك لا يكون الجمع عندهم إلا مع اقتران الفعل وهؤلاء فهموا من الجمع اقتران الفعلين في وقت واحد أو وقتين وأولئك قالوا لا يكون الجمع إلا في وقتين، وذلك يحتاج إلى تفريق الفعل، وكلا القولين ضعيف. والسنة جاءت بأوسع من هذا وهذا ولم تكلف الناس لا هذا ولا هذا، والجمع جائز في الوقت المشترك فتارة يجمع في أول الوقت كما جمع بعرفة، وتارة يجمع في وقت الثانية كما جمع في مزدلفة، وفي بعض أسفاره، وتارة يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين، وقد تقعان معًا في آخر وقت الأولى وقد يقعان معًا في أول وقت الثانية وقد تقع هذه في هذا وهذه في هذا، كل هذا جائز؛ لأن أصل المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك والتقديم والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة، ففي عرفة ونحوها يكون جمع التقديم هو السنة، وكذلك جمع المطر السنة أن يجمع للمطر في وقت المغرب حتى اختلف مذهب أحمد،

هل يجوز أن يجمع للمطر في وقت الثانية؟ على وجهين. وقال الحبر البحر الحراني (24/ 80): وكيف يليق بابن عباس أن يقول فعل ذلك كي لا يحرج أمته والوقت المشهور هو أوسع وأرفع للحرج من هذا الجمع الذي ذكروه، وكيف يحتج على من أنكر عليه التأخير لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى في الوقت المختص بهذا الفعل (¬1)، وكان له في تأخيره المغرب حين صلاها قبل مغيب الشفق وحدها، وتأخير العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه ما يغنيه عن هذا. وإنما قصد ابن عباس جواز تأخير المغرب إلى وقت العشاء ليبين أن الأمر في حال الجمع أوسع منه في غيره، وبذلك يرتفع الحرج عن الأمة، ثم ابن عباس قد ثبت عنه في الصحيح أنه ذكر الجمع في السفر، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر في السفر إذا كان على ظهر سيره ... فعلم أن لفظ الجمع في عُرْفهِ وعادته إنما الجمع في وقت إحداهما، أما الجمع في الوقتين فلم يعلم أنه تكلم به، فكيف يعدل عن عادته التي يتكلم بها إلى ما ليس كذلك؟ وأيضًا فابن شقيق يقول: حاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته، أتراه حاك في صدره أن الظهر لا يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت؟ وأن العصر لا يجوز تقديمها إلى أول الوقت؟ وهل هذا مما يخفى على أقل الناس علمًا حتى يحيك في صدره منه؟ وهل هذا مما يحتاج أن ينقله إلى أبي هريرة أو غيره حتى يسأل عنه إن هذا مما تواتر عند المسلمين وعلموا جوازه وإنما ¬

(¬1) أما ما وقع في رواية النسائي: أخر الظهر وعجل العصر ... إلخ، فهذا مدرج من كلام جابر أبي الشعثاء ومن تحته كما بينت رواية البخاري برقم [1174]، ومسلم برقم [705] ذلك، وممن جزم بالإدراج المنذري انظر: «تهذيب السنن» (2/ 56)، وابن عبد البر في «التمهيد» (12/ 219).

وقعت الشبهة لبعضهم في المغرب خاصة وهؤلاء يجوزون تأخيرها إلى آخر وقتها، فالحديث حجة عليهم كيفما كان. وجواز تأخيرها ليس معلقًا بالجمع، بل يجوز تأخيرها مطلقًا إلى آخر الوقت، حتى يؤخر العشاء أيضًا، وهكذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بيَّن أحاديث المواقيت، وهكذا في الحديث الصحيح: «وقت المغرب ما لم يغب نور الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل كما قال: وقت الظهر ما لم يصر ظل كل شيء مثله، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس»، فهذا الوقت المختص الذي بيَّنه بقوله وفعله، وقال «الوقت ما بين هذين»، ليس له اختصاص بالجمع ولا تعلق به، ولو قال قائل: جمع بينهما بالمدينة من غير خوف ولا سفر، المراد به الجمع في الوقتين كما يقول ذلك من يقوله من الكوفيين، لم يكن بينه وبينهم فرق، فلماذا يكون الإنسان من المطففين لا يحتج لغيره كما يحتج لنفسه؟ ولا يقبل لنفسه ما يقبله لغيره؟ وأيضًا فقد ثبت هذا من غير طريق ابن عباس رواه الطحاوي (¬1). حدثنا ابن خزيمة وإبراهيم بن أبي داود وعمران بن موسى أنبأنا الربيع ابن يحيى الأشناني حدثنا سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة للرخصة من غير خوف ولا علة، لكن ينظر في حال الأشناني (¬2). وجمع المطر عن الصحابة، فما ذكره مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان ¬

(¬1) رواه الطحاوي في «شرح المعاني» 1 (/161)، وتمام في فوائده «الروض البسام» (2/ 43)، والحديث قال فيه أبو حاتم: باطل عن الثوري. اه. وأصله ثابت عن ابن عباس والكلام على حديث جابر يطول دون كثير فائدة وخلاصة الكلام أنه بهذا السند لا شيء، وكذا قال الدارقطني. (¬2) هو ثقة - رحمه الله - لكن الحديث فيه علة.

إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء ليلة المطر جمع معهم في ليلة المطر، قال البيهقي: رواه العمري عن نافع فقال: قبل الشفق وروى الشافعي في القديم: أنبأنا بعض أصحابنا عن أسامة بن زيد عن معاذ بن عبد الله بن حبيب أن ابن عباس جمع بينهما في المطر قبل الشفق وذكر ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني بالإسناد الثابت عن هشام بن عروة وسعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة إذا جمعوا بين الصلاتين، ولا ينكر ذلك وبإسناده عن موسى بن عقبة أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة إذا كان المطر، وإن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن ومشيخة ذلك الزمان كانوا يصلون معهم ولا ينكرون ذلك. فهذه الآثار تدل على أن الجمع للمطر من الأمر القديم المعمول به بالمدينة زمن الصحابة والتابعين، مع أنه لم ينقل أن أحدًا من الصحابة والتابعين أنكر ذلك، فعلم أنه منقول عندهم بالتواتر جواز ذلك، لكن لا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع إلا للمطر، بل إذا جمع لسبب هو دون المطر مع جمعه أيضًا للمطر، كان قد جمع من غير خوف ولا مطر، كما إنه إذا جمع في السفر وجمع في المدينة كان قد جمع في المدينة من غير خوف ولا سفر فقول ابن عباس جمع من غير كذا ولا كذا ليس نفيًا منه للجمع بتلك الأسباب، بل إثبات منه؛ لأنه جمع بدونها، وإن كان قد جمع بها أيضًا، ولو لم ينقل أنه جمع بها فجمعه بما هو دونها دليل على الجمع بطريق الأولى، فيدل ذلك على الجمع للخوف والمطر وقد جمع بعرفة ومزدلفة من غير خوف ولا مطر، فالأحاديث كلها تدل على أنه جمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته، فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه

الله عن الأمة وذلك يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحرى، ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة في الوقتين إلا بحرج كالمستحاضة وأمثال ذلك من الصور. وقال تقي الدين حفيد المجد في موضع آخر (25/ 229): وكذلك يجمع بين الظهر والعصر على أظهر القولين وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ويجمع بينهما للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة ونحو ذلك في أظهر قولي العلماء وهو قول مالك وأظهر القولين في مذهب أحمد. وقال أيضًا ص [230] من الجزء نفسه: ولهذا كان الجمع المشروع للمطر هو جمع التقديم في وقت المغرب ولا يستحب أن يؤخر بالناس المغرب إلى مغيب الشفق، بل هذا حرج عظيم على الناس، وإنما شرع الجمع لئلا يحرج المسلمون. وقال أيضًا: وكذلك جواز الجمع لا يشترط له الموالاة في أصح القولين، كما قد ذكرناه في غير هذا الموضع. وقال تقي الدين (24/ 28): فأوسع المذاهب في الجمع بين الصلاتين مذهب الإمام أحمد فإن نص على أنه يجوز الجمع للحرج والشغل لحديث روي في ذلك (¬1)، قال القاضي أبو يعلى وغيره من أصحابنا: يعني إذا كان هناك شغل يبيح له ترك الجمعة والجماعة جاز له الجمع، يجوز عنده وعند مالك ¬

(¬1) هو ما رواه النسائي (1/ 286) أخبرنا أبو عاصم خُشيش بن أصرم حدثنا حبان بن هلال حدثنا حبيب وهو ابن أبي حبيب عن عمرو بن هرم عن جابر بن زيد عن ابن عباس أنه صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء، والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء، فعل ذلك من شغل وزعم ابن عباس: «أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الأولى والعصر ثمان سجدات ليس بينهما شيء». إسناده لا بأس به، وحبيب حدث عنه ابن مهدي.

وطائفة من أصحاب الشافعي الجمع للمرض ويجوز عند الثلاثة الجمع للمطر بين المغرب والعشاء، وفي صلاتي النهار نزاع بينهم، ويجوز في ظاهر مذهب أحمد ومالك الجمع للوحل والريح الشديدة الباردة ونحو ذلك، ويجوز للمرضع أن تجمع إذا كان يشق عليها غسل الثوب في وقت كل صلاة نص عليه أحمد (¬1). وسئل - رحمه الله - (24/ 29) عن رجل يؤم قومًا وقد وقع المطر والثلج فأراد أن يصلي بهم المغرب، فقالوا له: يجمع، فقال: لا أفعل. فهل للمأمومين أن يصلوا في بيوتهم أم لا؟ فأجاب: الحمد الله، نعم يجوز الجمع للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة في الليلة الظلماء ونحو ذلك وإن لم يكن المطر نازلًا في أصح قولي العلماء وذلك أولى من أن يصلوا في بيوتهم، بل ترك الجمع مع الصلاة في البيوت بدعة مخالفة للسنة إذ السنة أن تصلي الصلوات الخمس في المساجد جماعة، وذلك أولى من الصلاة في البيوت باتفاق المسلمين والصلاة جمعًا في المسجد أولى من الصلاة في البيوت مفرقة باتفاق الأئمة الذين يجوزون الجمع كمالك والشافعي وأحمد، والله تعالى أعلم. وقال - رحمه الله - ص [50] من الجزء نفسه: والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان يصلي بأصحابه جمعًا وقصرًا لم يكن يأمر أحدًا منهم بنية الجمع والقصر. وقال أيضًا ص [51]: والإمام أحمد لم ينقل عنه فيما أعلم أنه اشترط النية في جمع ولا قصر. ¬

(¬1) وفي الاختيارات قال الشيخ ص [74]: (ويجوز الجمع للطباخ والخباز ونحوهما ممن يخشى فساد ماله.

وقال ص [54]: والصحيح أنه لا تشترط الموالاة بحال في وقت الأولى ولا في وقت الثانية، فإنه ليس لذلك حد في الشرع، ولأن مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة. وقال ص [52]: وقال أحمد: إذا صلى إحدى صلاتي الجمع في بيته والأخرى في المسجد فلا بأس وهذا نص منه على أن الجمع هو جمع في الوقت لا تشترط فيه المواصلة. انتهى كلامه - رحمه الله -. تم تحريره في غرة شعبان 1416هـ.

تخريج حديث أبي الدرداء في فضل الذكر

تخريج حديث أبي الدرداء في فضل الذكر حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟» قالوا: بلى. قال: «ذكر الله». أخرجه الترمذي في «سننه» (3388): حدثنا الحُسين بن حُريث حدثنا الفضل بن موسى عن عبد الله بن سعيد هو ابن أبي هند عن زياد مولى ابن عياش عن أبي بحرية عن أبي الدرداء به، ورواه مالك عن زياد قال: قال أبو الدرداء فوقفه وهو منقطع. وأخرجه ابن ماجه (3790) عن يعقوب بن حميد بن كاسب ثنا المغيرة بن عبد الرحمن وأخرجه أحمد (5/ 195) عن يحيى بن سعيد ومكي وعفان خمستهم عن عبد الله بن سعيد به. وأخرجه الحاكم (1/ 496)، والبغوي (5/ 15) وابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 58)، قال الترمذي: وروى بعضهم عنه فأرسله. يعني عن عبد الله بن سعيد. ولم أقف على من أرسله ويكفي أن الذين رووه موصولًا فيهم القطان. وهذا إسناد صحيح عبد الله بن سعيد بن أبي هند قال عنه في «التهذيب»: قال أحمد في رواية أبي طالب: ثقة والدوري عن يحيى: ثقة، وقال الآجري عن أبي داود: ثقة، وقال يحيى بن سعيد: كان صالحًا يعرف وينكر، وقال النسائي: لا بأس به، وقال أبو حاتم: ضعيف، ولخص في «التقريب» الكلام عليه بقوله: صدوق

ربما وهم روى له الجماعة. وزياد مولى ابن عياش هو زياد بن أبي زياد مسيرة المخزومي وثقه النسائي وابن حبان وابن عبد البر وفي «التقريب»: ثقة روى له مسلم والترمذي وابن ماجه وأبو بحرية عبد الله بن قيس الكندي السكوني التراغمي وثقة يحيى وقال العجلي: شامي تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في «الثقات» ووثقه ابن عبد البر وفي «التقريب»: مخضرم ثقة روى له الأربعة. وقد استشكل في هذا الحديث تفضيل الذكر على الجهاد مع ما روي في الجهاد من الفضائل، وقد أجاب بعض أهل العلم عن هذا قال ابن القيم (ص58) من الوابل: ..... وفي «الترمذي» عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الله - عز وجل - أنه يقول: «إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه» وهذا الحديث هو فصل الخطاب والتفصيل بين الذاكر والمجاهد، فإن الذاكر المجاهد أفضل من الذاكر بلا جهاد، والمجاهد الغافل، والذاكر بلا جهاد أفضل من المجاهد الغافل عن الله تعالى، فأفضل الذاكرين المجاهدون وأفضل المجاهدين الذاكرون ... إلخ. قال الحافظ في «الفتح» (11/ 210): وأخرج الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعًا .. فذكره. قال: وقد أشرت إليه مستشكلًا في أوائل الجهاد مع ما ورد في فضل المجاهد أنه كالصائم لا يفطر، وكالقائم لا يفتر وغير ذلك مما يدل على أفضليته على غيره من الأعمال الصالحة وطريق الجمع والله أعلم أن المراد بذكر الله في حديث أبي الدرداء الذكر الكامل وهو ما يجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالتفكر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى، وأن الذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممن يقاتل الكفار مثلًا من غير استحضار لذلك، وأن أفضلية الجهاد إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد،

فمن اتفق له جمع ذلك كمن يذكر الله بلسانه وقلبه باستحضاره، وكل ذلك حال صلاته أو في صيامه أو تصدقه أو قتاله الكفار مثلًا فهو الذي بلغ الغاية القصوى والعلم عند الله تعالى، وأجاب القاضي أبو بكر العربي بأنه ما من عمل صالح إلا والذكر مشترط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله بقلبه عند صدقته أو صيامه مثلًا فليس عمله كاملًا، فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية ويشير إلى ذلك حديث: «نية المؤمن أبلغ من عمله» (¬1) اهـ. كلام الحافظ والله أعلم. وقال شيخنا ابن باز: الحديث جيد، ومعناه مثل ما قال: (إذا اجتمع ذكر اللسان والقلب فهو أفضل) (¬2). ¬

(¬1) رواه العسكري في «الأمثال» والبيهقي في «الشعب» عن أنس والطبراني عن سهل بن سعد، والديلمي عن أبي موسى، وضعفه ابن دِحيْة والبيهقي، والألباني وغيرهم، وشرحه شيخ الإسلام في «الفتاوى الكبرى» (1/ 4) وقال: ذكره بعضهم وروي مرفوعًا ولم يزد. (¬2) قرئ على شيخنا يوم الأحد 20/ 7/1417هـ، وعلق بما تقدم.

صلاة عائشة - رضي الله عنها - في الحجرة النبوية

صلاة عائشة - رضي الله عنها - في الحجرة النبوية مع وجود القبور الثلاثة وجواب ذلك أخرج البخاري (3567)، ومسلم (6399) (7509)، وأبو داود (3654)، والترمذي (3639)، وأحمد (25377)، وغيرهم من طريق عروة قال: قالت عائشة: (ألا يعجبك أبو هريرة جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمعني ذلك، وكنت أسبح فقام قبل أن أقضي سُبحي ولو جلس حتى أقضي سبحي لرددت عليه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يرد الحديث كردكم) لفظ أحمد (25754)، ولفظ مسلم: عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان أبو هريرة يحدث ويقول: اسمعي يا ربة الحجرة! اسمعي يا ربة الحجرة! اسمعي يا ربة الحجرة! وعائشة تصلي فلما قضت صلاتها قالت لعروة: (ألا تسمع إلى هذا ومقالته آنفًا؟ إنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث حديثًا لو عده العاد لأحصاه. والحديث صريح في صلاتها في الحجرة، وأما قول الحافظ على شرح «البخاري»: (وكنت أسبح أي أصلي النافلة) أو ظاهره أذكر الله والأول أوجه. اهـ. ولم يزد وهو غفلة عما عند مسلم، ولكل فارس كبوة، فقد أخرجه مسلم من طريق سفيان بن عيينه عن هشام به بلفظ الصلاة، وآخر كذلك من طريق ابن شهاب عن عروة بلفظ (السبحة)، وأخرجه أبو داود من طريق سفيان عن الزهري عن عروة بلفظ (الصلاة) فكأن لسفيان فيه شيخين. والمقصود أن عائشة كانت تصلي والحديث صريح في أن هذا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قد حدثت عروة بهذا وعروة تابعي. فوقع الإشكال في الصلاة في الحجرة وفيها الأقبر الثلاثة، وقد أجيب عن

ذلك بوجوه: أن قبره - صلى الله عليه وسلم - لما كان يقبر في مكانه الذي مات وهذا من خصائصه وكانت السكنى في الحجرة من قبل أزواجه حاجة ملحة، ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهن عن الصلاة في هذه الحجرة حجرة عائشة فيحتمل الخصوصية وهذا الوجه عندي فيه نظر. فقد صرح شيخ الإسلام في «الفتاوى» (1/ 355): أنه لا يلزم من جواز الشيء في حياته جوازه بعد موته، فإن بيته كانت الصلاة فيه مشروعة، وكان يجوز أن يكون مسجدًا، ولما دفن فيه حرم أن يتخذ مسجدًا. وقال - رحمه الله - في «الفتاوى» (27/ 324) ففي حياة عائشة - رضي الله عنها - كان الناس يدخلون عليها لسماع الحديث لاستفتائها وزيارتها من غير أن يكون إذا دخل أحد أن يذهب إلى القبر المكرم لا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك، بل ربما طلب بعض الناس منها أن تريه القبر فترياه إياهن ... ثم ذكر أثر سفيان التمَّار، ويأتي. ونقل عنه في «الصارم» نحوه (ص: 396). وقال أيضًا: (27/ 328): فإنه في حياة عائشة - رضي الله عنها - ما كان أحد يدخل إلا لأجلها، ولم تمكن أحد أن يفعل عند قبره شيئًا مما نهى عنه، وبعدها كانت مغلقة إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها وبني عليها حائط آخر. ونقل في «الصارم» عنه (ص: 408) قوله: مع أن قبره حين دفن لم يمكن أحد من الدخول إليه لزيارة ولا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك، ولكن كانت عائشة فيه لأنه بيتها وكانت ناحية عن القبور لأن القبور في مقدم الحجرة وكانت هي في مؤخرة الحجرة، ولم يكن الصحابة يدخلون هناك. اهـ. ولقائل أن يقول: ما وجه سكنى عائشة للحجرة والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يورث بل ما تركه صدقة، فلا حاجة للسكنى ولا للصلاة؟

والجواب عن الأول ما ذكره الحافظ في «الفتح» (7/ 66): على قولها - رضي الله عنها -: (ولأوثرنه اليوم على نفسي) قال الحافظ: استدل به وباستئذان عمر على أنها كانت تملك البيت وفيه نظر، بل الواقع أنها كانت منفعته بالسكنى فيه والإسكان ولا يورث عنها، وحكم أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كالمعتدات لإنهن لا يتزوجن بعده - صلى الله عليه وسلم - وتقدم شيء من هذا في أواخر الجنائز وتقدم فيه وجه الجمع بين قول عائشة: ولأوثرنه على نفسي، وبين قولها لابن الزبير: (ادفني عندهم) باحتمال أن تكون ظنت أنه لم يبق هناك وسع ثم تبين لها إمكان ذلك بعد دفن عمر ويحتمل أن يكون مرادها بقولها: ولأوثرنه على نفسي، الإشارة إلى أنها لو أذنت في ذلك لامتنع عليها الدفن لمكان عمر لكونه أجنبيًا منها بخلاف أبيها وزوجها ولا يستلزم ذلك أن لا يكون في البيت سعة أم لا ولهذا كانت تقول بعد دفن عمر: لم أضع ثيابي منذ دفن عمر في بيتي. أخرجه (¬1) ابن سعد وغيره وروي عنها حديث لا يثبت أنها استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - إن عاشت بعده أن تدفن إلى جانبه فقال لها وإني لك بذلك وليس في ذلك الموضع إلا قبري وقبر أبي بكر وقبر عمر وعيسى بن مريم، وفي أخبار المدينة من وجه ضعيف عن سعيد بن المسيب، قال: إن قبور الثلاثة في صفة بيت عائشة وهناك موضع قبر يدفن فيه عيسى - عليه السلام -. اهـ. وقال الحافظ أيضًا - رحمه الله - في (3/ 258) في «الجنائز»: على ما أخرجه البخاري عن عائشة - رضي الله عنهما -: أنها أوصت عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما -: لا تدفني معهم وادفني مع صواحبي بالبقيع لا أزكى به أبدًا. قال: أي لا يثنى عليّ بسببه ويجعل لي بذلك مزية وفضل وأنا في نفس الأمر يحتمل أن لا أكون كذلك، وهذا منها على سبيل التواضع وهضم النفس بخلاف قولها لعمر: أريده لنفسي ¬

(¬1) يأتي الكلام عليه.

فكأن اجتهادها تغيَّر أو لما قالت ذلك لعمر كان قبل أن يقع لها ما وقع في قصة الجمل (¬1) فاستحيت بعد ذلك أن تدفن هناك، وقد قال عنها عمار بن ياسر وهو أحد من حاربها يومئذ إنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة. اهـ. فهي تملك المنفعة بالسكنى فيه ولها في هذا الاختصاص ولما كانت المرأة تصلي في بيتها كانت عائشة ضرورة تصلي مع وجود القبور حتى لو لم يرد فيه شيء، ولعل وجه الجمع بين الصلاة مع وجود الأقبر أن عائشة اتخذت سترًا بينها وبين القبور يؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك أخبرني عمرو بن عثمان بن هاني عن القاسم قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أُمَّةْ اكشفي لي عن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه - رضي الله عنهما - فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء، قال أبو علي: يقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدم وأبو بكر عند رأسه، وعمر عند رجليه رأسه عند رجلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه الحاكم (3/ 92) من طريق هشام بن سعد عن عمرو بن عثمان وأخرجه عمر بن شبَّة في «أخبار المدينة» (3/ 161) بسند أبي داود ومتنه سواء. وأخرجه البيهقي (4/ 3) في سننه من طريق ابن وهب عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك به وجعل وصف القبور من قول القاسم (¬2). والخبر فيه ضعف عمرو ¬

(¬1) ويأتي دليله؛ وقد أخرجه الحاكم (46/ 15برقم 6777 (5/ص8) الجديدة) وابن سعد في «الطبقات» (8/ 74) من طريق أبي نعيم الفضل عن الحسن بن صالح بن إسماعيل وهو ابن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم قال قالت عائشة: إني قد أحدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فادفنوني مع أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنده صحيح. (¬2) وقد مات سنة 106وذكر الواقدي أنه مات وعمره سبعون أو اثنان وسبعون سنة وعائشة ماتت سنة (57) على الصحيح.

ابن عثمان مستور، ولكن الشاهد في قول القاسم فكشفت لي جاء ما يعضده أن القبور مستورة بساتر إما جدار أو غيره. فقد أخرج ابن سعد (2/ 294) في «الطبقات»: حدثنا موسى بن داود سمعت مالك بن أنس يقول: قُسم بيت عائشة باثنين قسم كان فيه القبر، وقسم كان تكون فيه عائشة وبينهما حائط، فكانت عائشة ربما دخلت حيث القبر فُضُلا (¬1) فلما دفن عمر لم تدخله إلا وهي جامعة عليها ثيابها. وموسى بن داود هو الضبي صدوق فقيه من رجال مسلم والسنن لكن الخبر منقطع بين مالك وعائشة، لكن له ما يشده. فقد روى ابن سعد في «الطبقات» (3/ 364) أخبرنا إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس المدني حدثني أبي عن يحيى بن سعيد وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهما عن عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية عن عائشة قالت: مازلت أضع خماري وأتفضل في ثيابي في بيتي حتى دفن عمر بن الخطاب فيه فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جدارًا فتفضلت بعد. قالا ووصف لنا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبر أبي بكر وقبر عمر، وهذه القبور في سهوة (¬2) في بيت عائشة. رواه بسنده ومتنه عمر بن شيبة في «أخبار المدينة» (3/ 162). وإسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصحبي ابن أخت مالك خلاصة القول فيه أنه حسن الحديث، وقد أخرج البخاري له قليلًا ومسلم كذلك. وأبوه عبد الله بن عبد الله بن أويس ابن عم مالك وصهره على أخته حسن ¬

(¬1) أي متبذلة في ثياب مهنتي أو كانت في ثوب واحد (نهاية) (والفضلة الثياب التي تُبتذل للنوم (لسان). (¬2) شبه الرف أو الطاق يوضع فيه الشيء، أو بيت صغير شبه الخزانة الصغيرة، والصفة.

الحديث، وشيخاه في الإسناد يحيى بن سعيد الأنصاري وعبد الله بن أبي بكر ثقتان شهيران مدنيان، وعمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة الأنصارية المدنية حدثت عن عائشة ثقة مشهورة، فالإسناد مدني جيد حسن. وقال الحاكم في «المستدرك» (4/ 6) رقم (6781) ج 5/ 9 الجديد ط المعرفة، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا الحسن بن علي بن عفان ثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كنت أدخل البيت الذي دفن معهما عمر، والله ما دخلت إلا وأنا مشدودة علىَّ ثيابي حياءً من عمر - رضي الله عنه -. وهذا إسناد صحيح شيخ الحاكم هو الأصم حافظ مشهور وأبو أسامة حماد بن أسامة ثقة ثبت، وروايته عن هشام في «الدواوين الستَّة». ولكن أثر عمرة عن عائشة أن الجدار لم يبن إلا بعد موت عمر، وأيضًا سبب البناء لعله تحفظها ثم لما بنت حصلت لها الراحة بالتفضل، ولم يكن لأجل الصلاة عند القبور إذ لو كان ذلك مرادها لبنت ذلك الجدار على قبره - صلى الله عليه وسلم - بُعيد موته أو لم تُصلِّ في الحجرة وكلاهما وقع خلافه، ولم ينكر عليها من الصحابة منكر في الصلاة في الحجرة مع وجود القبور. وقد فتح الله بجواب قريب من الوجه الأول، وهو أن يقال لما كانت الصلاة عند القبور من الوسائل المفضية إلى الشرك أو الغلو في المقبور كان تحريم الصلاة عندها ونحو ذلك تحريم وسائل، وقد استقرت القاعدة الشرعية أن ما حرم لأنه وسيلة جاز للحاجة والمصلحة الراجحة. قال ابن القيم في «الهدي» (3/ 488): والشريعة لا تعطل المصلحة الراجحة لأجل المرجوحة ونظير هذا جواز لبس الحرير في الحرب والخيلاء فيها إذ مصلحة

ذلك أرجح من مفسدة لبسه .. إلى أن قال: ونظير هذا نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة قبل طلوع الشمس وبعد العصر سدًا لذريعة التشبه بالكفار، وأباح ما فيه مصلحة راجحة من قضاء الفوائت وقضاء السنن، وصلاة الجنازة وتحية المسجد ولأن مصلحة فعلها أرجح من مفسدة النهي. اهـ (¬1). ولاشك أن احتياج عائشة للسكنى بالحجرة ظاهره مستقر واحتياجها للصلاة في البيت أظهر من ذلك مع ترغيب الشارع في صلاة المرأة في بيتها (¬2) وتفضل ذلك على صلاتها في المسجد، وإذا انضم إلى هذا الوجه ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها»، أخرجاه من حديث أبي الخير عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - وقوله فيما أخرجه مسلم من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم» وقد فسر المصلون بالصحابة، وقيل غير ذلك. والصحيح العموم والصحابة أول الناس دخولًا في هذا الحديث، وعلى هذا تكون الصلاة في الحجرة مباحة لدعاء الحاجة لا للخصوصية لأجل القبر ولا لأجل عائشة بل للهيئة الحاصلة من الاحتياج للسكنى وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يدفن حيث مات ولما تقدم من القاعدة الفقهية التي دلت عليها النصوص الصريحة الصحيحة، ونظير ذلك لو حبس شخص في مكان فيه قبر فلا مناص من الصلاة في ذلك المكان بل لو ¬

(¬1) وانظر «الفتاوى» (23/ 186). (¬2) فإن قيل إنها لم تصل في حجرتها إلا بعد بناء الجدار، والحديث المذكور في صلاتها الظاهر بعد وفاة عمر فإن أبا هريرة لم يكن يحدث إلا بعد وفاة عمر وعروة مولده في أوائل خلافة عثمان والجواب أن يقال: الأصل صلاتها في بيتها.

احتاج إلى المكث في مكان فيه قبر جازت الصلاة فيه لما تقدم (¬1)، وقد ذكر شيخ الإسلام أمثلة للقاعدة المذكورة بعد أن قررها فقال: ما نهي عنه لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة كما يباح النظر إلى المخطوبة، والسفر بها إذا خيف ضياعها، كسفرها من دار الحرب، مثل سفر أم كلثوم، وكسفر عائشة لما تخلفت مع صفوان بن المعطل، فإنه لم ينه عنه إلا لأنه يفي إلى المفسدة فإذا كان مقتضيًا للمصلحة الراجحة لم يكن مفضيًا إلى المفسدة. وبكل حال، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم أنه سيدفن حيث مات في حجرة عائشة، وقد علم مكثها في الحجرة فلم يقض بشيء ولم يأمر عائشة بالتحول عن الحجرة بعد موته أو ترك الصلاة فيها وهؤلاء أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاة نبيهم متوافرون يزورون عائشة في حجرتها بكرة وعشية ويعلمون صلاتها في الحجرة مع وجود القبر النبوي، وبعده قبر أبي بكر ثم دفن عمر، فلم يستنكروا شيئًا، مع حملهم راية الدين وتبليغ الشريعة ونشر التوحيد وإزالة كل آثار الشرك فيما طالته أيديهم ووطئتهم أقدامهم من البلاد في الجزيرة وغيرها فكيف يقرون شيئًا من ذلك في المدين النبوية؟! وقد رأى عمر أنسًا يصلي إلى القبر فقال: القبر القبر (¬2). بل في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أبيائهم مساجد». فعلم أن مكث عائشة وصلاتها في الحجرة ليس سبيله من المنهي، ثم إن عائشة كانت تصلي مبتعدة عن القبور ولهذا تقدم قول شيخ الإسلام؛ ولكن كانت عائشة فيه لأنه ¬

(¬1) وقد أفاد الحافظ ابن حجر في «الفتح» (2/ 26) ما نصه: وقد عرف بالاستفاضة والمشاهدة أن حجر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن تسعة ... وقال النووي: (كان الحجرة ضيقة العرصة).اهـ .. (¬2) علقه البخاري في صحيحه باب (48) هل تنبش قبور مشركي الجاهلية.

بيتها وكانت ناحيةً عن القبور؛ لأن القبور في مقدم الحجرة وكانت هي في مؤخرة الحجرة .. ثم رأيت شيخنا ابن باز رحمه الله تعقب الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/ 524) وذلك عند قول الحافظ على أثر عمر ما نصّه: "أورد معه أثر عمر الدال على أن النهي عن ذلك لا يقتضي فساد الصلاة". فعلق شيخنا وعنه كتبت ما نصه: "ليس بجيد وقد يُقال القبر ليس كالمقبرة فلو تنحى وأتم فلا بأس" اهـ. هذا ما تحرر لي في هذه المسألة فإن أصبت فالحمد لله، وإن أخطأت فاستغفر الله وصلى الله وسلم على رسول الله (¬1). تم تحريره في 29/ 6/ 1421 هـ. ¬

_ (¬1) قرأته على شيخنا الفاضل/ عبد الرحمن المحمود واختار أن فعل عائشة فعل خاص، وذلك بتاريخ 3/ 7/ 1421 هـ.

أحاديث التسوك بالأصابع

أحاديث التسوك بالأصابع 1 - قال أحمد رحمه الله: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا مختار عن أبي مطر قال: بينا نحن جلوس مع أمير المؤمنين علي في المسجد على باب الرحبة جاء رجل فقال: أرني وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وفيه وتمضمض ثلاثاً فأدخل بعض أصابعه في فيه واستنشق .. وقال عليٌّ في آخره كذا كان وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إسناده ضعيف مختار هو ابن نافع قال أبو زرعة واهي الحديث، وقال البخاري والنسائي وأبو حاتم منكر الحديث. 2 - حديث آخر عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يجزي من السواك الأصابع. أخرجه البيهقي. قال الشيخ ناصر: وعيسى بن شعيب هو البصري الضرير فيه ضعف، وقد اضطرب فيه فتارة رواه هكذا وتارة قال: حدثنا ابن المثنى عن النضر بن أنس عن أبيه به رواه البيهقي أيضًا وقال: تفرد عيسى بالإسنادين جميعًا والمحفوظ من حديث ابن المثنى ما أخبرنا ... ثم ساق سنده إلى عبد الله بن المثنى حدثني بعض أهل بيتي عن أنس بن مالك به نحوه ... وفيه مجهول. وقد سماه بعض الضعفاء من طريق أبي أمية الطرسوسي ثنا عبد الله به عمر الحمَّال حدثنا عبد الله به المثنى به.

قلت: وأبو أمية محمد بن إبراهيم قال الحاكم: كثير الوهم وشيخه عبد الله بن عمر الحمال الظاهر أنه الذي في «تاريخ بغداد» (10/ 23) لم يذكر بجرح ولا تعديل. اهـ. 3 - حديث آخر: روى الطبراني في «الأوسط» (2/ 103) من طريق كثير بن عبد الله ابن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الأصابع تجري مجرى السواك إذا لم يكن سواك» كثير متهم وأبوه مقبول. 4 - حديث آخر: روى الطبراني في «الأوسط» من طريق الوليد بن مسلم ثنا عيسى ابن عبد الله الأنصاري عن عطاء عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الرجل يذهب فوه يستاك؟ قال: «نعم»، قلت: كيف؟ قال: «يدخل أصابعه في فيه فيدلك». وعيسى بن عبد الله الأنصاري قال ابن حبان: لا ينبغي أن يحتج بما انفرد به، وذكره ابن عدي (5/ 1983) في «كامله» وذكر من منكراته هذا الحديث، وقال: وعامة ما يرويه لا يتابع عليه. ومثله في «الميزان» (3/ 316) و «اللسان» (4/ 400)، وضعفه الحافظ في «الدراية» ص [18]. والله أعلم (¬1). ¬

(¬1) قرئ على شيخنا ابن باز - رحمه الله - يوم الأربعاء 19/ 10/1417هـ. فقال: (الأحاديث ضعيفة، لكن عند الحاجة لا بأس يحصل بالأصابع بعض المقصود).

حديث في فضل سورة العصر

حديث في فضل سورة العصر وقال الطبراني في «الأوسط» (البحرين) (8/ 272): حدثنا محمد بن هشام المُستملي، حدثنا عبيد الله بن عائشة ثنا حماد بن سلمة عن ثابت البُناني عن أبي مدينة الدارمي، وكانت له صحبة، قال: كان الرجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]، ثم يسلم أحدهما على الآخر .. قال في «المجمع» (10/ 233): ورجاله رجال الصحيح. قلت: محمد بن هشام هو أبو جعفر الحافظ صاحب سليمان بن حرب من أكابر مشايخ الطبراني (كذا في «الشذرات») وفي «تاريخ الخطيب»: ثقة ذكره الدارقطني فقال: لا بأس به (3/ 361). وعبيد الله بن عائشة هو عبيد الله بن محمد بن عائشة نسب إلى عائشة بنت طلحة ويقال له العائشي والعيشي؛ لأنه من ذريتها ثقة جواد رمي بالقدر ولم يثبت روى له الأربعة إلا ابن ماجه (كذا في «التقريب»). وحماد وثابت شهيران، وأبو مدينة الدارمي صحابي ترجمه في «الإصابة» وقال عبد الله بن حصن معروف بكنيته، وذكر له هذا الحديث (¬1)، وذكره في «التعجيل» كذلك والحديث عزاه السيوطي للبيهقي في «الشعب» ووجدته في «الشعب» نسخة دار الكتب العلمية (6/ 501) من طريق يحيى بن أبي كثير عن حماد به، وقال البيهقي: (ورواه غيره عن حماد عن ثابت عن عتبة بن الغافر) كذا قال: كان الرجلان وأبو مدينة ضبطه ابن ماكولا بفتح الميم بعدها دال مكسورة. والله أعلم. ¬

(¬1) وقال الدَّميري بفتح الدال في «حياة الحيوان» (1/ 33): وروى الطبراني في معجمه الوسيط بإسناد صحيح عن أبي مزينة الدارمي كذا بالزاي، والنسخة سقيمة!! والذي يظهر لي أن الحديث صحيح إن سلم من الانقطاع بين ثابت وأبي مدينة فإني لا أعرف لثابت سماعًا من أبي مدينة، والله أعلم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فهذه أبحاث جمعتها لنفسي ولغيري وقد أودعتها في هذا الجزء، وأسأل الله أن ينفع بها كاتبها وقارئها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. المؤلف 24/ 4/ 1426 هـ

من أحكام التعدد

من أحكام التعدد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. أما بعد: فهذا ملخص نافع- إن شاء الله- في أحكام تهم الذي تزوج أكثر من زوجة، كتبته تيسيرًا على المعددين، وتقريبًا للفقه بين المسلمين بعد طلب بعض الفضلاء؛ لكثرة الجهل في أحكام القسم بين النساء عند الخلق، إلا من رحم الله، وقد انتقيته من كتب الحديث وشروحها، وكتب الفقه والنوازل والقواعد الفقهية والله أسأل أن يجعله طريقًا لنيل رضاه ومقربًا لجنات النعيم يوم لقاه. وصلى الله وسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 1 - يجب العدل بين الزوجات: قال ربنا جل جلاله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]. وقد روى أحمد والأربعة من طريق همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهَيك عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل». قال أبو عيسى: وإنما أسند هذا الحديث همام بن يحيى عن قتادة ورواه هشام الدستوائي عن قتادة قال: كان يقال ولا نعرف الحديث مرفوعًا إلا من حديث همام، وهمام ثقة حافظ. اهـ.

وفي «العلل الكبير» قال: حديث همام أشبه. اهـ. قلت: وهذا مصير من الترمذي إلى ترجيح المرفوع وهو الصواب إن شاء الله؛ فالحديث ثابت. والعدل الواجب هنا: في القسم والسكن والكسوة والنفقة، وهل العدل في الواجب من ذلك فقط، أم يشمل العدل في الواجب والمستحب والمباح؟ فعلى القول الأول: يجب العدل في الواجب من النفقة والملبس والمسكن فما فضل بعد ذلك من مال أو ملابس أو حلي أو سعة في مسكن فهذا كله لا ينافي العدل؛ لأن ما زاد نفل، والنفل فضل وهذا اختيار شيخنا ابن باز، ونص عليه أحمد رحمهما الله. انظر «المغني» (1/ 242) وهو قول أكثر أهل العلم وجمهورهم ولهذا قال الحافظ أبو الفضل ابن حجر في «فتح الباري» على قول البخاري باب العدل بين النساء، وذكر الآية {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]، قال ما نصه: أشار بذكر الآية إلى أن المنتهى فيها العدل بينهن من كل جهة وبالحديث إلى أن المراد بالعدل التسوية بينهن بما يليق بكل منهن فإذا وفى لكلَّ واحدة منهن كسوتها ونفقتها والإيواء إليها لم يضره ما زاد على ذلك من ميل قلب أو تبرع بتحفة. اهـ.

والقول الثاني: العدل واجب في كل ما يقدر عليه مما يجب عليه أو يستحب أو يباح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما نقله صاحب الإنصاف وكذلك اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمهما الله. وقال بعض أهل العلم: التسوية في مثل هذا تشق فلو وجب لم يمكنه القيام به إلا بحرج فسقوط وجوبه أقرب. وعدم العدل بين الزوجات من كبائر الذنوب ولهذا توعد عليه في الآخرة بسقوط شقه والجزاء من جنس العمل فلما مال في الدنيا عن العدل جاء بهذه الصفة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد. وأما العدل في المحبة والجماع، فعامة العلماء على عدم وجوبه لأنه ليس في ملكه، ولهذا قال ابن القيم في «الهدي» (5/ 151): (لا تجب التسوية بين النساء في المحبة فإنها لا تملك وكانت عائشة - رضي الله عنها - أحب نسائه - صلى الله عليه وسلم - إليه وأخذ من هذا أنه لا تجب التسوية بينهن في الوطء لأنه مُوقف على المحبة والميل وهي بيد مقلب القلوب، وفي هذا تفصيل وهو أنه إن تركه لعدم الداعي إليه وعدم الانتشار فهو معذور وإن تركه مع الداعي إليه ولكن داعيه إلى الضرة أقوى فهذا مما يدخل تحت قدرته وملكه فإن أدى الواجب عليه منه لم يبق لها حق ولم يلزمه التسوية وإن ترك الواجب منه فلها المطالبة به) اهـ. وقد روى أبو داود والنسائي من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه

فيعدل ثم يقول: «اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» ورواه حماد بن زيد عن أيوب فأرسله لم يذكر فيه عائشة وهو المحفوظ. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب عائشة أكثر من سائر أزواجه وهذا أمر مشهور عنه - صلى الله عليه وسلم -، وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أحب إليك؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «عائشة»، قال: من الرجال قال - صلى الله عليه وسلم -: «أبوها» الحديث، وبوب البخاري: باب حب الرجل بعض نسائه أفضل من بعض على حديث ابن عباس، والجماع تابع لشهوة النفس وانبعاثها ومحبتها. وحيث قلنا: لا يجب العدل في الجماع لكن يجب أن يعفها ويعاشرها بالمعروف، وكذلك لا يجب العدل في مقدمات الجماع من أنواع الاستمتاعات لكن يستحب ذلك، وروي عن بعض السلف أنه كان يعدل بين نسائه حتى في القُبل. 2 - القسم يكون بين الزوجات يوم لهذه ويوم لتلك. فإن أحب أن يقسم يومين يومين أو ثلاثة ثلاثة فقيل: يجوز له ذلك، وقيل: بل لابد من رضاهن فيما زاد على اليوم وهذا أرجح لأن في العمل به إزالة الوحشة عنهن لقرب عهده بهن اللهم أن يكون للزوج غرض صحيح في الزيادة على اليوم لا يمكن إدراكه إلا بذلك فيجوز والحالة هذه بلا رضاهن.

3 - القسم يكون للمريضة والحائض والنفساء، فلا يسقط حقهن في القسم لأجل ما عرض لها، وكذا يقسم لمن آلى منها أو ظاهر منها أو رتقاء أو محُرمة، وكذا يقسم لكتابية ومجنونة، إلا أن تكون غير مأمونة؛ لأنه لا يحصل الأنس بها ولا لها، وكذا يجب القسم على الزوج المريض والعنيِّن والمجنون إلا أن يكون غير مأمون لأنه لا يحصل منه أنس، وأصل المسألة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه: «أين أنا غدًا؟» [رواه البخاري]. ولأن القسم القصد منه السَّكن والأنس، وهو حاصل بالمبيت. 4 - إذا مرضت إحدى زوجاته ولم يوجد لها متعهد أو ممرض واحتاجت لتعهد زوجها فإنه يمكث معها ويقي للباقيات بعد البرء، فإن ماتت تعذر القضاء لأنه إنما يحسب من نوبتها، وإذا تعذر القسم للمريضة من أجل كونها في المستشفى، فإنه لا يقسم لها ولا يقي لها بعد خروجها من المستشفى كسفرها في حاجتها بإذنه على القول الراجح. 5 - القسم عماده بالليل، والنهار تبع له .. ولهذا قالت عائشة - رضي الله عنهما -: (قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي وفي يومي)، وإنما قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - نهارًا، والنهار يتبع الليلة الماضية، وأما من كان معاشه بالليل كالحارس ونحوه فقسمه يكون بالنهار.

6 - الزوجة المغمى عليها يسقط حقها في القسم لتعذر حصوله لها ولا قضاء لها. 7 - لا قسم للناشز ولا المطلقة الرجعية. 8 - يجوز الدخول على نسائه نهارًا، والمكث قليلًا ولو في غير نوبتهن، ولهذا قال البخاري باب دخول الرجل على نسائه في اليوم، ثم أسند حديث عائشة قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن ...). ولفظه عند أبي داود (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفضل بعضنا على بعض في القسم في مكثه عندنا وكان قلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها (ولفظ البيهقي (7/ 3 ...) (يطوف علينا جميعًا فيقبل ويلمس ما دون الوقاع ..). وهذا الدخول للحاجة من دفع نفقة أو عيادة أو سؤال عن أمر يحتاج إلى معرفته أو زيارة لبعد عهده بها وكذلك للتأنيس والمباشرة والتقبيل من غير جماع. وهذا كما ترى لا ينافي العدل بل هو العدل، ولهذا قال ابن القيم في «الهدي» (5/ 152) في حكمه - صلى الله عليه وسلم - في قسم الابتداء والدوام بين الزوجات وذكر من فوائد حديث عائشة: (أن الرجل له أن يدخل على نسائه كلهن في يوم إحداهن ولكن لا يطؤها في غير نوبتها).

وأما الدخول ليلًا لغير صاحبة النوبة فقد صرح العلماء بتحريمه إلا لضرورة تستدعي ذلك كحريق ومرض مفاجئ، ونحو ذلك من الضرورات أو الحاجات الملحة. 9 - يجوز للرجل جماع نسائه كلهن في ساعة واحدة ولو كان في نوبة إحداهن فقد روى البخاري من طريق هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن (إحدى عشرة) قال قتادة: قلت لأنس: أو كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أُعْطِيَ قوة ثلاثين. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس (تسع نسوة). وبوب عليه البخاري: من طاف على نسائه في غسل واحد. وجاء نحوه عن عائشة قالت: (كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيطوف على نسائه ثم يصبح محرمًا ينضخ طيبًا) أخرجه البخاري أيضًا. فمثل هذا جائز كما ثبت به الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان هذا بإذن صاحبة النوبة أو كان عادة للإنسان أنه ربما وطئ نساءه كلهن في نوبة إحداهن، فلا بأس إذ لا جور في ذلك بل هو عدل، وقد كان هذا من عادة سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -. فإن اغتسل بعد كل جماع فحسن وإن توضأ فلا بأس، وأقل الأحوال أن يغسل ذكره حتى لا تختلط المياه لاختلاف الأرحام.

10 - إذا تزوج البكر على الثيب- زوجته أو زوجاته السابقات- قطع الدور وأقام عند البكر سبعة أيام، ثم قسم وإذا تزوج ثيبًا على زوجته أو زوجاته السابقات قطع الدور وأقام عندها ثلاثة أيام ثم قسم، فإن أرادت الثيب الجديدة أن يمكث عندها سبعًا فلها ذلك إذا رضي الزوج، فإن سبَّع لها سبَّع لسائر زوجاته، ففي الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: من السنة إذا تزوج الرجلُ البكرَ على الثيب أقام عندها سبعًا وقسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا ثم قسم. قال أبو قلابة الراوي عن أنس: لو شئت لقلت إن أنسًا رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج أم سلمة أقام عندها ثلاثًا فأراد أن يخرج فأخذت بثوبه فقال لها: «إنه ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبَّعت لك، وإن سبَّعت لك سبَّعت لنسائي»، وإن شئت ثلَّثت ثم درت قالت: ثلِّث. اهـ. (من مجموع الألفاظ عند مسلم). ومعنى قوله: (ليس بكِ على أهلكِ هوان: يعني بأهلك نفسَه عليه الصلاة والسلام، ومعنى هوان أي: هون يريد أنك عزيزة وغالية ولكن هذا القسم هو الحق. وتخيير الزوج الثيب بين ثلاث وسبع ليس بواجب بل هو سنة ولا يجب على الزوج مشاورة البواقي فيما تختار الثيب الجديدة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشاور زوجاته في ذلك.

فإن قيل: لم زاد الثيب أربعة أيام وقضى البواقي سبعًا؟ قيل: هذا من العدل لأنه أخر حقهن وزاد الأولى أربعًا. فإن قيل: لما خص البكر بسبع والثيب بثلاث؟ قيل: الحكمة ظاهرة لوجهين. أولاً: قوة الرغبة في البكر غالبًا. (وفي هذا مراعاة الرجل). ثانيًا: استيحاش البكر من الرجال غالبًا فزيد في المدة للاستئناس. (وفي هذا مراعاة للمرأة). 11 - وإذا تزوج بكرًا على بكر ويُتصور هذا لو عقد على بكر وتردد عليها من غير جماع ثم تزوج بكرًا أخرى فهل حكمه كحكم من تزوج بكرًا على ثيب؟ الجواب: نعم ويكون معنى قوله: تزوج البكر على الثيب من باب الأغلب مع أن هذه الصورة نادرة. 12 - تجب الموالاة في سبع البكر وثلاث للثيب ولو فرق لم تحسب أصلًا على القول الراجح. 13 - بعد انقضاء أيام البكر أو الثيب يدور على باقي نسائه وتصبح الجديدة آخرهن نوبة. 14 - إذا سافر بجديدة وقديمة بقرعة أو برضى البواقي تمم للجديدة حق العقد ثم قسم بينها وبين الأخرى.

15 - إذا أقام الزوج عند الثيب سبعًا فأقام بغير اختيارها في الأربع الزائدة فإنه يقضي للباقيات الأربعَ الزائدة فقط؛ لأن مكثه عندها بغير رضاها فلم تؤاخذ به. 16 - وإذا تزوج بكرين في عقد واحد كما لو عقد له رجل على ابنته وابنة أخيه (ابنتي عم) فإنه يقرع بينهما فإذا خرجت قرعة إحداهن مكث عندها سبعًا ثم الأخرى سبعًا، وإن تقدم إحداهما على الأخرى فزفت إليه قبلًا فهي المقدمة بلا قرعة. 17 - إذا تزوج امرأة بكرًا أو ثيبًا وليس عنده غيرها، فلا يتعين عليه التسبيع أو التثليث؛ لأنه لم ينكحها على غيرها، وهي طِلق له دهرها، فلم تقع المشاحة في الزمن حتى يلزمه التسبيع أو التثليث على القول الراجح. 18 - لو تزوج وهو في سفر ومعه بعض نسائه قسم للجديدة ثلاثًا أو سبعًا (بحسب حالتها) ثم عدل بينها وبين المستصحبات في السفر. 19 - إذا سافر الزوج بنسائه كلهن أو بدونهن فلا إشكال، وكذا إذا سافر بواحدة أو أكثر، وترك البعض ورضي المقيمات بذلك فلا إشكال أيضًا، فإن أبين فلابد من القرعة، فمن خرجت قرعتها سافر بها سواء في يومها أو في يوم غيرها، وإذا عاد من سفره قسم لهن ولم يقض للمقيمات.

ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه) قال ابن القيم في «الهدي» (5/ 151): (إذا أراد السفر لم يجز أن يسافر بإحداهن إلا بقرعة)، وقال: (إنه لا يقضي للبواقي إذا قدم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقضي للبواقي) اهـ. أما إذا خرج بدون قرعة بإحداهن أو بعضهن فإنه إذا قدم يقضي للبواقي حقهن متواليًا ويحسب عليه مدة غيابه بما فيها الذهاب والإياب، وقولنا: (يقضي حقهن متواليًا) لأن هذا الحق مجتمعًا في ذمته فليقضه من غير تأخير ومن ضرورة ذلك التوالي، ولا يسقط عليهن إلا بإذنهن. قال في «الإنصاف»: إذا رضي الزوجات بسفر واحدة معه، فإنه يجوز بلا قرعة نعم إذا لم يرض الزوج بها وأراد غيرها أقرع. اهـ. قلت: فإن خرج سهم التي لم يردها أولًا لزمه السفر بها. 20 - إذا سافر بزوجتين بقرعة عدل بينهما فإن ظلم إحداهما قضى لها بالسفر فإن لم يتفق قضى في الحضر من نوبة التي ظلمها بها. 21 - لو اصطحب واحدة بقرعة وأخرى بلا قرعة عدل بينهما أيضًا ثم إذا رجع قضى للمخلفة من نوبة المستصحبة بلا قرعة. 22 - إذا سافر الزوج بامرأة لحاجتها فإنه يقضي للبواقي.

23 - إذا سافرت الزوجة في حاجة لها ولزوجها جميعًا فلا يسقط حقها في القسم فيقضي لها إذا عادت وضم حاجتها إلى حاجته لا يضرها. 24 - إذا خرجت القرعة لإحداهن في السفر لم يجز السفر بغيرها، فإن أبت صاحبة القرعة فله إكراهها على السفر معه، فإن أبت فهي ناشز عاصية وللزوج استئناف القرعة مرة أخرى. 25 - من لا يمكن اصطحابها في السفر لمرض أو نحوه فإنه يخرج بالأخرى فإن كن أكثر من اثنتين أقرع بينهن؛ لأن القرعة إنما تكون مع استواء حالهن وصلاحيتهن للسفر وهذه قاعدة القرعة. 26 - إذا سافرت المرأة في حاجة لها بإذن زوجها فلا قسم لها، فإذا عادت لا يقضي لها على القول الراجح، وإذنه لها لدفع الإثم عنها، وأما إذا سافرت في حاجة له أي للزوج بإذنه، فإنه يقضي لها إذا عادت وأما إذا سافرت في حاجة لها بلا إذن الزوج فهي عاصية ناشز لا قسم لها ولا نفقة. 27 - لو سافر ببعض نسائه بقرعة فأراد إبقاء إحداهن أو بعضهن في بعض المنازل في السفر فبالقرعة. 28 - لو خرج مسافرًا وحده ثم نكح في سفره لم يلزمه القضاء للباقيات؛ لأنه تجدد حقها في وقت لم يكن عليه تسوية؛ وإن خرج لأجل النكاح احتسب عليه مدة الغياب بعد حق المنكوحة.

29 - إذا سافر بإحدى زوجاته بقرعة إلى محل ثم بدا له غيره أو أبعد منه فله أن يصحبها معه لأن حكمه حكم سفر القرعة. 30 - إذا تزوج امرأة وأراد السفر بها لم يجز إلا بقرعة بينها وبين نسائه ويحتمل أن له السفر بلا قرعة، ووجه ذلك أن القسم قسمان ابتدائي واستمراري وهذه الجديدة قسمتها ابتدائي بنص الحديث تستحقه بلا قرعة، وشرط القرعة تساوي جهات الاستحقاق وهذه لها البداءة، كما لو تزوجها ومكث أيامًا ثم سافر بها قبل انقضاء حق العقد فلم يحتج إلى القرعة، فكذا في مسألتنا ويتداخل حق العقد مع حق السفر فإن قدم من سفره قبل مضي مدة ينقضي بها حق العقد أتمه في الحضر. 31 - للمرأة أن تهب ليلتها لإحدى ضراتها فإن لم يقبل الزوج فإنه يقسم للواهبة ويرد هبتها، وإن قبل فلا يجوز للزوج جعلها لغير الموهوبة وإن وهبتها للزوج فله جعلها لمن شاء منهن، وفي حال هبتها لضرتها إذا كانت ليلة الواهبة تلي الموهوبة قسم لها ليلتين متواليتين، وإن كانت لا تليها، فهل له نقلها إلى مجاورتها؟ الصحيح عدم الجواز إلا بإذن البواقي؛ لأن في ذلك تأخير حق غيرها، وتغيير لليلتها بغير رضاها، (وهو اختيار صاحب المعني) وللزوج إن وهبته إحدى نسائه ليلتها له أن يجعلها مرة لإحدى نسائه ومرة لأخرى، أو يجعله مشاعًا بينهن ومعنى مشاعًا بينهن أن وجود الواهبة كعدمها فيبقى القسم للأخريات بينهن.

وأصل المسألة ما ثبت في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة. وللواهبة أن ترجع متى شاءت في المستقبل دون الماضي؛ لأن الأيام تتجدد فهي هبة في شيء لم يقبض، فحقها يتجدد أما الماضي فقد قبض ولا رجعة لها فيه. وقولنا (للواهبة أن ترجع متى شاءت) هذا ما لم يكن صلحًا بينهما كما لو كره الزوج المقام معها أو عجز عن حقوقها أو بعض حقوقها، فخيرها بين الطلاق وبين المقام معه، على أن لا حق لها في القسم والوطء والنفقة، أو في بعض ذلك بحسب ما يتفقان عليه، فإن رضيت بذلك لزم وليس لها المطالبة بعد الرضى، وليس لها الرجوع بعد ذلك؛ فإن هذا الصلح جرى مجرى المعاوضة وهذا هو الصواب الذي لا يسوغ غيره. اهـ. انظر: «زاد المعاد» (5/ 153). 32 - لو وهبت نوبتها لامرأة معينة وأذن الزوج وأبت الموهوبة فيقسم للموهوبة ولا يشترط رضاها. 33 - إذا شق القسم على الزوج المريض فإنه يستأذن زوجاته في المكث عند إحداهن كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا أذنَّ له مكث عند إحداهن فإذا أبين إلا أن يدور أو تشاححنَّ ولم يكن به قدرة على الدوران فإنه يقرع فأيتهن خرج سهمها مكث عندها؛ وعلم مما تقدم أنه إذا كان مرضه لا يمنعه من القسم فيجب عليه القسم.

34 - القسم في أثناء السفر في النزول والمسايرة في الطريق. 35 - إذا رغبت المريضة والنفساء ونحوهن في تأخير قسمهن ثم القضاء بعد متواليًا لم يجز إلى برضى الزوج وإذن سائر نسائه. 36 - من كان له امرأتان في بلدين فعليه العدل بينهما لأنه اختار المباعدة بينهما فلا يسقط حقهما، فإما أن يمضي إلى الغائبة في أيامها وإما أن يقدمها إليه فإن امتنعت من القدوم مع الإمكان فهي ناشز لا حق لها في القسم، وإن أحب أن يقسم بينهما في بلديهما ولم يمكن القسم ليلة ليلة جعل القسم على حسب ما يمكن كشهر أو أكثر أو أقل. 37 - يجوز للمرأة أن تبذل قسمها لزوجها بمال فتعاوضه على ليلتها على القول الراجح، وأما بذلها مالًا لزوجها ليزيدها في القسم على حساب ضراتها فحرام لأنه رشوة. 38 - من أتاها زوجها ليبيت عندها فأغلقت بابها دونه ومنعته من الاستمتاع، أو قالت: لا تدخل علىَّ فهي ناشز لا قسم لها. 39 - تجزي أضحية واحدة عن الرجل ونسائه؛ ولهذا ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأضحية واحدة عنه وعن أهل بيته وأما الهدايا في الحج فعلى كل واحدة هدي إذا تمتعت أو قرنت.

40 - لا يجوز أن تؤخذ بويضة المرأة ثم تلقح بماء زوجها ثم توضع في رحم ضرتها. 41 - لو مات الزوج فلزوجاته أن يغسلنه فإن وضعت إحداهن وهو على السرير فلا يجوز لها أن تغسله لخروجها من العدة وحلها للأزواج. 42 - إذا مات المعدد يحد جميع نسائه وهذا لا خفاء به؛ لكن عند بعض النساء اعتقاد فاسد أنه إذا ولدت إحداهن بعد موته ولدًا فإنها ترفع الإحداد عن نفسها وعن سائر ضراتها وهذا باطل؛ فالبواقي على إحدادهن حتى يخرجن من العدة على حسب حالهن. 43 - إذا حبس الزوج فهو باق على نصيبه منهن وهن كذلك فإذا أمكن خروجه إليهن أو ترددهن إليه فذاك، ولو تباعد ما بين ذلك فهو على ترتيب النوبات. وختامًا أقول: والعاقل من الأزواج صاحب الدين يستطيع صيانة دينه ونفسه وعرضه دون كثير عناء، والأحمق منهم لا يزيده ما ذكرت إلا بلاء وفتنة وحيرة، والموفق من وفقه الله، والمهتدي من هداه الله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قاله وكتبه أبو محمد عبد الله بن مانع في صفر /1424هـ.

الإهتداء إلى حكم حضور الجمعة على المسافر القار في بلد أو مار إذا سمع النداء

الإهتداء إلى حكم حضور الجمعة على المسافر القار في بلد أو مارٍّ إذا سمع النداء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد ... فهذا بحث متعلق بمسألة حضور الجمعة للمسافر النازل في البلد هل يجب عليه حضور الجمعة أم لا؟ وقد أسميته: (الاهتداء إلى حكم حضور الجمعة على المسافر القار في بلد أو مار إذا سمع النداء). وقبل الشروع في هذه المسألة أقول إن المسافر له حالتان: الأولى: حال استقلال بجماعة المسافرين وانفصاله عن البلد. الثانية: حال استقرار في بلد لا يقطع حكم السفر. ففي الصورة الأولى: هل تجب الجمعة على المسافرين وحدهم؟ والجواب: يقال إن الجمعة لا تجب على المسافرين؛ بل لو صلوها جمعة لا تصح منهم، والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سافر أسفارًا كثيرة في حياته عليه الصلاة والسلام؛ ولم ينقل عنه حرف واحد أنه جمع بأصحابه، وقد صادفته الجمعة في أسفاره كثيرًا ولو صلى الجمعة في أسفاره لكانت الهمم متوافرة على نقل ذلك. ولا أدل على ذلك من سفره لحجه عليه الصلاة والسلام؛ فقد وافق يوم عرفة يوم الجمعة، ومع ذلك فقد صلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا وقد سماها جابر الظهر

كما في صحيح مسلم (1218)، ولم يجهر بالقراءة وأيضًا خطب قبل الأذان خطبة واحدة ثم أذن وصلى، وهذا العلم به ظاهر لأهل العلم لا يكادون يختلفون في ذلك (¬1). وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» [رواه مسلم]. وإنما محل البحث في: الصورة الثانية: وهي إذا كان المسافر مستقرًا في بلد استقرارًا لا يقطع أحكام السفر فهل يجب عليه حضور الجمعة أم لا؟ وسيأتي الكلام على هذه المسألة لاحقًا. وقد وردت آثار في نفي وجوب الجمعة على المسافر لا بأس بذكرها مع الكلام على أسانيدها ثم نذكر - إن شاء الله - كلام أهل العلم. أولاً: حديث تميم الداري: أخرجه البيهقي (3/ 184) من طريق محمد بن طلحة عن الحكم عن ضرار بن عمرو عن أبي عبد الله الشامي عن تميم الداري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الجمعة واجبة إلا على امرأة أو صبي أو مريض أو عبد أو مسافر» وهذا ¬

(¬1) انظر: «الموطأ» (1/ 107)، و «مجموع الفتاوى» (17/ 48)، وكذلك (24/ 177)، فما بعدها (مهم جدًا) و [ج16] من «فتاوى ابن عثيمين».

الحديث واه جدًا فضرار بن عمرو منكر الحديث، كما قال البخاري وأورد له العقيلي هذا الحديث في «ضعفائه» (2/ 222) وقال: لا يتابع عليه وأبو عبد الله الشامي لا يعرف كما قال الذهبي في «الميزان». والحديث قال عنه أبو زرعة الرازي عبيد الله ابن عبد الكريم قال: هذا حديث منكر «علل ابن أبي حاتم» (2/ 212). ثانيًا: حديث جابر: أخرجه الدارقطني في «السنن» (2/ 3) والبيهقي (3/ 174) وابن عدي في «كامله» (2425) وابن الجوزي في «التحقيق» (788) من طريق ابن لهيعة عن معاذ بن محمد الأنصاري عن أبي الزبير عن جابر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه، والله غني حميد» وهذا الحديث كسابقه واه جدًا. ابن لهيعة ضعيف ومعاذ بن محمد قال العقيلي: في حديثه وهم، وقال ابن عدي: منكر الحديث، وذكر حديثه هذا وضعفه الحافظ في «التلخيص» (2/ 65)، وقال ابن عبد الهادي لا يصح، وكذا قال الذهبي. انظر «التحقيق» لابن الجوزي (4/ 121).

ثالثًا: حديث أبي هريرة: أخرجه الطبراني في «الأوسط» (2/ 196) من طريق إبراهيم بن حماد بن أبي حازم المديني، ثنا مالك بن أنس عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «خمسة لا جمعة عليهم المرأة والمسافر والعبد والصبي وأهل البادية» قال الطبراني: لم يروه عن مالك إلا إبراهيم. والحديث أخرجه الدارقطني في «غرائب مالك»، كما ذكره الحافظ في «لسان الميزان»، (1/ 268) قال الدارقطني: تفرد به إبراهيم وكان ضعيفًا. رابعًا: حديث ابن عمر: أخرجه الدارقطني في «السنن» (2/ 4) والطبراني في «الأوسط» (882) من طريق عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس على المسافر جمعة» وهذا إسناده ضعيف جدًا كذلك، فعبد الله بن نافع قال أبو حاتم: فيه منكر الحديث وهو أضعف ولد نافع؛ وقال البخاري: منكر الحديث، والمحفوظ في هذا الحديث الوقف على ابن عمر، أخرجه البيهقي (3/ 184) من طريق ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: ليس على المسافر جمعة، قال البيهقي: هذا هو الصحيح موقوف ورواه عبد الله بن نافع عن أبيه فرفعه. اهـ. وقد رواه ابن المنذر (4/ 19) وعبد الرزاق (5198) (3/ 172) موقوفًا.

خامسًا: مرسل الحسن: روى عبد الرزاق (3/ 174) عن ابن عيينة عن عمرو (هو ابن دينار) عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ليس على المسافر جمعة» وهو ضعيف لإرساله، والحسن هو ابن محمد بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي مدني تابعي ثقة، وأبوه هو ابن الحنفية. وأما الآثار عن الصحابة والتابعين: فمنها أثر ابن عمر المتقدم وهو صحيح ثابت: أثر علي: أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (4/ 19) من طريق أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: (ليس على المسافر جمعة)، والحارث واه، وروى عبد الرزاق (3/ 168) وابن أبي شيبة (2/ 1.1) وغيرهما من طريق سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي أنه قال: (لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع) إسناده صحيح. أثر عبد الرحمن بن سمرة: وأخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (4352) وابن المنذر في «الأوسط» (4/ 36) من طريق هشام بن حسان عن الحسن قال: كنا مع عبد الرحمن بن سمرة في بعض بلاد فارس سنتين وكان لا يجمع ولا يزيد على ركعتين. وإسناده صحيح،

وأخرجه البيهقي (3/ 185) من طريق يونس بن عبيدة عن الحسن قال: كنا مع عبد الرحمن بن سمرة بخراسان نقصر الصلاة ولا نُجمِّع. قال البيهقي: هكذا وجدته في كتابي، ولا نُجمِّع بالتشديد ورفع النون. أثر أنس: وأخرج ابن المنذر (4/ 2) من طريق يونس عن الحسن أن أنسًا أقام بنيسابور سنة أو سنتين وكان يصلي ركعتين ولا يجُمِّع، إسناده صحيح. أثر عمر بن عبد العزيز: وأخرج ابن أبي شيبة من طريق رجاء بن أبي سلمة عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك قال: خرج عمر بن عبد العزيز من دبق وهو يومئذ أمير المؤمنين فمر بحلب يوم الجمعة فقال الأمير: جمع فإنا سفر، وإسناده لا بأس به. أثر مسروق وعروة بن المغيرة وجماعة من أصحاب ابن مسعود: وأخرج ابن أبي شيبة (2/ 1.4) عن أبي أسامة عن أبي العميس عن علي بن الأقمر قال: خرج مسروق وعروة بن المغيرة ونفر من أصحاب عبد الله فحضرت صلاة الجمعة فلم يجمعوا وحضروا الفطر ولم يفطروا. إسناده ثابت. وأخرج عبد الرزاق عن الثوري عن مغيرة عن إبراهيم (وهو النخعي) قال: كانوا لا يجمعون في سفر ولا يصلون إلا ركعتين. صحيح، ورواه ابن أبي

شيبة عن أبي الأحوص عن المغيرة به بلفظ: كان أصحابنا يغزون فيقيمون السنة أو نحو ذلك يقصرون الصلاة ولا يجمعون. أثر طاووس: وأخرج عبد الرزاق (3/ 172) عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: ليس على المسافر جمعة. أثر الزهري: وأخرج عبد الرزاق (3/ 174) برقم (52.5) عن معمر عن الزهري قال: سألته عن المسافر يمر بقرية فينزل فيها يوم الجمعة؟ قال: إذا سمع الأذان فليشهد الجمعة. صحيح. وعلَّقه البخاري في صحيحه من رواية إبراهيم بن سعد عنه ويأتي الكلام عليه وله سياق آخر عند عبد الرزاق برقم (5188) بالإسناد نفسه.

فصل في أقوال أهل العلم

فصل في أقوال أهل العلم قال الشافعي في «الأم» (1/ 327): وليس على المسافر أن يمر ببلد جمعة إلا أن يجُمّع فيه مقام أربع، فتلزمه الجمعة إن كانت في مقامه. اهـ. وقال ابن المنذر - رحمه الله - (4/ 2) في «الأوسط»: ومما يحتج به في إسقاط الجمعة عن المسافر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مر به في أسفاره جمع (1) لا محالة فلم يبلغنا أنه جمع (¬1) وهو مسافر، بل أنه ثبت عنه أنه صلى الظهر بعرفة وكان يوم الجمعة فدل ذلك من فعله على أنه لا جمعة على المسافر؛ لأنه المبين عن الله - عز وجل - معنى ما أراد بكتابه فسقطت الجمعة عن المسافر استدلالًا بفعل النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا كالإجماع من أهل العلم؛ لأن الزهري مختلف عنه في هذا الباب؛ حكى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي أنه قال: لا جمعة على المسافر وإن سمع المسافر أذان الجمعة ¬

(¬1) قلت: ذكر ابن الهمام «فتح القدير» (2/ 33) ما نصه: (وفي «الكافي» صح أنه - صلى الله عليه وسلم - أقام الجمعة بمكة مسافرًا) اهـ. وفي «بدائع الصنائع» (1/ 43) مثله. قلت: فإن كان انتزعه من إقامته - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة كما ثبت في «البخاري» عن ابن عباس فقد أطلق جماعة من أهل العلم عدم إقامته الجمعة في سفره ولو قدر أنه أقام الجمعة فغاية ما في الأمر أنه إمام فيها وإلا فهي قائمة مفروضة على أهل مكة وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - شاهدًا لها فمن الذي سيتقدم بين يديه في إقامتها وكذلك هو عليه الصلاة والسلام إمام المسلمين ولهذا قال الرخسي في «المبسوط» (2/ 13) ما نصه: (ولو أن أمير الموسم جمع بمكة وهو مسافر جاز لأنه فوض إليه أمر المسلمين. اهـ. ومراده في «الموسم» الحج والجهاد مثله ومعلوم أن شهود المسافر المستقر للجمعة أفضل وأعظم أجرًا حيث لا مشقة، لكن الكلام في «الوجوب» وقد عقد عبد الرزاق (3/ 36) باب الإمام يجمع حيث كان، وذكر آثارًا عن السلف، والصحيح في هذه المسألة أن الإمام له أن يتولى إقامة الجمعة في البلد الذي يمر به أو ينيب غيره لا أنه تلزمه الجمعة حيث كان إذا كان مسافرًا ..

وهو في بلد فليحضر معهم يحتمل أن يكون أراد استحبابًا ولو أراد غير ذلك كان قولًا شاذًا خلاف قول أهل العلم وخلاف ما دلت عليه السنة. اهـ. قلت: وقول الزهري: علقه البخاري في صحيحه تحت باب (المشي إلى الجمعة وقول الله جل وعلا {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وعلق آثارًا ثم قال: وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر فعليه أن يشهد. قال الحافظ (2/ 391) ما نصه: لم أره من رواية إبراهيم وقد ذكره ابن المنذر عن الزهري، وقال: إنه اختلف عليه فقيل عنه مثل قول الجماعة إنه لا جمعة على المسافر كذا رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري. قال ابن المنذر: وهو كالإجماع من أهل العلم عن ذلك لأن الزهري اختلف عليه فيه. اهـ. ويمكن حمل كلام الزهري على حالتين: فحيث قال: (لا جمعة على المسافر) أراد على طريق الوجوب وحيث قال: (فعليه أن يشهد) أراد على طريق الاستحباب (¬1) ويمكن أن تحمل رواية سعد بن إبراهيم هذه على صورة مخصوصة ¬

(¬1) هذا الحمل من الحافظ ضعيف غريب وكلام الزهري واضح من نقله عن ابن المنذر؛ فالمسافر عند الزهري له حالتان: أ - أن يكون حاضرًا فيسمع النداء فعليه الحضور (وهو محل البحث) ونقول الأئمة عن الزهري إنما في هذه الصورة. ب - ألا يكون كذلك فليس على المسافر جمعة. وقد فطن ابن المنذر وحمل قول الزهري فليحضر معهم يعني إذا كان في بلد على الاستحباب حتى لا يخالف قول أهل العلم في إسقاط الجمعة عن المسافر فافهم.

وهو إذا اتفق حضوره في موضع تقام فيه الجمعة فسمع النداء (¬1) لها، لا أنها تلزم المسافر مطلقًا حتى يحرم عليه السفر قبل الزوال من البلد الذي يدخلها مجتازًا مثلًا، وكأن ذلك رجح عند البخاري، ويتأكد عنده بعموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] فلم يخص مقيمًا من مسافر وأما ما احتج به ابن المنذر على سقوط الجمعة على المسافر بكونه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر جمعًا بعرفة وكان يوم الجمعة فدل ذلك من فعله على أنه لا جمعة على المسافر فهو حمل صحيح إلا أنه لا يدفع الصورة التي ذكرتها. اهـ. وقال الموفق (3/ 216): وأما المسافر فأكثر أهل العلم يرون أنه لا جمعة عليه، كذلك قاله مالك في أهل المدينة والثوري في العراق والشافعي وإسحاق وأبو ثور، وروي ذلك عن عطاء وعمر بن عبد العزيز والحسن والشعبي، وحكي عن الزهري والنخعي أنها تجب عليه لأن الجماعة تجب عليه فالجمعة أولى، ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسافر ولا يصلي الجمعة في سفره، وكان في حجة الوداع بعرفة يوم الجمعة فصلى الظهر وجمع بينها ولم يصل جمعة، والخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم - كانوا يسافرون للحج وغيره فلم يصل أحد منهم الجمعة في سفره وكذلك غيرهم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم. وقد قال إبراهيم: كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك وبسجستان السنين ¬

(¬1) قلت: هذا صريح فتوى الزهري لمعمر عند عبد الرزاق، والحافظ لم ينسبه له وتقدم.

لا يجمعون ولا يشرقون (ثم ذكر أثر أنس وعبد الرحمن بن سمرة وتقدما) ثم قال: وهذا إجماع مع السنة الثابتة فيه فلا يسوغ مخالفته .... إلى أن قال (3/ 22) والأفضل للمسافر حضور الجمعة لأنها أفضل. ونقل ابن عبد البر في «الاستذكار» (5/ 76) الإجماع على أنه ليس على المسافر جمعة. وقال ابن حزم في «المحلى» (5/ 49): وسواء فيما ذكرنا في وجوب الجمعة للمسافر في سفره والعبد والحر والمقيم إلى قوله (ص51) قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] قال علي: فهذا خطاب لا يجوز أن يخرج منه مسافر ولا عبد بغير نص من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.اهـ. وقال البغوي في «شرح السنة» (4/ 226): ولا تجب على المسافر، وذهب النخعي والزهري إلى أن المسافر إذا سمع النداء (¬1) فعليه حضور الجمعة. ¬

(¬1) سماع النداء محله: أ. إذا كان المؤذن صيتًا. ب - والأصوات هادئة. ج - والرياح ساكنة. د. والموانع منتفية. اهـ. من «الإنصاف» (5/ 66) زاد في «المغني». (3/ 244 - 245). هـ. والمستمع غير ساه ولا غافل. و. وفي موضع عال، ولم يذكر الموفق الموانع فحاصل ما ذكر ستة، وحدوده بفرسخ. قلت: الفرسخ خمسة كيلو مترات.

وقال النووي في «المجموع» (4/ 351): لا تجب الجمعة على المسافر، هذا مذهبنا لا خلاف فيه عندنا وحكاه ابن المنذر وغيره عن أكثر العلماء وقال الزهري والنخعي: إذا سمع النداء لزمه قال أصحابنا: ويستحب له الجمعة للخروج من الخلاف ولأنها أكمل هذا إذا أمكنه ..... اهـ. وقال العمراني في «البيان» (2/ 543): ولا تجب الجمعة على المسافر، وبه قال عامة الفقهاء، وقال الزهري والنخعي: إذا سمع النداء وجبت عليه، دليلنا حديث جابر؛ ولأنه مشغول بالسفر ويستحب له إذا كان في بلد في وقت الجمعة أن يحضرها. وقال ابن هبيرة في «الإفصاح» (2/ 93): (واتفقوا على أن الجمعة لا تجب على صبي ولا عبد ولا مسافر ولا امرأة إلا رواية عن أحمد رواها في «العبد» خاصة. اهـ. ونقل الاتفاق صديق حسن خان عن صاحب المسوي .... انظر «الروضة الندية» (1/ 341). وقال المجد في «المحرر» (1/ 142): (ولا تجب على مسافر له القصر). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «المجموع» (24/ 184):

(وكذلك يحتمل أن يقال بوجوب الجمعة على من في المصر من المسافرين، وإن لم يجب عليهم الإتمام كما لو صلوا خلف من يتم فإن عليهم الإتمام تبعًا للإمام، كذلك تجب عليهم الجمعة تبعًا للمقيمين .... لأن قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} [الجمعة: 9] ونحوها يتناولهم وليس لهم عذر ولا ينبغي أن يكون في مصر المسلمين من لا يصلي الجمعة إلا من هو عاجز عنها كالمريض والمحبوس، وهؤلاء قادرون عليها. لكن المسافرين لا يعقدون جمعة؛ لكن إذا عقدها أهل مصر صلوا معهم، وهذا أولى من إتمام الصلاة خلف الإمام المقيم). اهـ. ونقله عنه في «الاختيارات» ملخصًا (ص 119). وقال في «الفروع» (2/ 74): (ويحتمل أن يلزمه تبعًا للمقيمين خلافًا لهم)، قاله شيخنا: وهو متجه. اهـ. يعني بشيخنا شيخ الإسلام ونقله ابن قاسم عن الشيخ وصاحب «الفروع»، قال: وهو من المفردات. وقال الحافظ ابن حجر في شرحه على البخاري المسمى «فتح الباري» (1/ 3، 4): على قول البخاري (باب من أين تؤتى الجمعة وعلى من تجب؟ لقول الله - عز وجل -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وقال

عطاء: إذا كنت في قرية جامعة، فنودي بالصلاة من يوم الجمعة، فحق عليك أن تشهدها، سمعت النداء أو لم تسمعه. وكان أنس بن مالك في قصره، أحيانًا يجمع، وأحيانًا لا يجمع، وهو بالزاوية على فرسخين. قال: تضمَّن الذي ذكره مسألتين: المسألة الأولى: أن من هو في قرية تقام فيها الجمعة، فإنه إذا نودي فيها بالصلاة للجمعة وجب عليه السعي إلى الجمعة، وشهودها سواء سمع النداء أو لم يسمعه، وقد حكاه عن عطاء. وهذا الذي في القرية، إن كان من أهلها المستوطنين بها، فلا خلاف في لزوم السعي إلى الجمعة له، وسواء سمع النداء أو لم يسمع، وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد، ونقل بعضهم الاتفاق عليه. وإن كان من غير أهلها، فإن كان مسافرًا يباح له القصر، فأكثر العلماء على أنه لا يلزمه الجمعة مع أهل القرية، وقد ذكرنا فيما تقدم أن المسافر لا جمعة عليه. وحكي عن الزهري والنخعي، أنه يلزمه تبعًا لأهل القرية. وروي عن عطاء- أيضًا- أنه يلزمه. وكذا قال الأوزاعي: إن أدركه الأذان قبل أن يرتحل فليجب ... إلخ. وقال الصنعاني في «سبل الإسلام» (2/ 157):

في شرح حديث ابن عمر: (ليس على المسافر جمعة) ما نصه: (والمسافر لا يجب عليه حضورها) وهو يحتمل أن يراد به مباشر السفر وأما النازل فتجب عليه ولو نزل بمقدار الصلاة وإلى هذا جماعة من الآل وغيرهم، وقيل: لا تجب عليه لأنه داخل في لفظ المسافر وإليه ذهب جماعة من الآل أيضًا وغيرهم وهو الأقرب، لأن أحكام السفر باقية له من القصر ونحوه، ولذا لم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الجمعة بعرفات في حجة الوداع لأنه كان مسافرًا، وكذلك العيد تسقط صلاته على المسافر، ولذا لم يرو أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة العيد في حجته، وقد وهم ابن حزم - رحمه الله - فقال: إنه صلاها في حجته، وغلَّطه العلماء. اهـ. وقال في «مطالب النهى» في «شرح غاية المنتهى» (1/ 758): (ولا تجب على مسافر أبيح له القصر)؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره فلم يصل أحد منهم الجمعة فيه مع اجتماع الخلق الكثير، وكما لا تجب عليه لا تلزمه بغيره، نص عليه، فلو أقام المسافر ما يمنع القصر لشغل أو علم أو نحوه. ولم ينو استيطانًا لزمه بغيره لعموم الآية والأخبار. اهـ. وفي «الدرر السنية» (5/ 6): سئل الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عن المسافر إذا أدركته الجمعة؟ فأجاب: المسافر إذا قدم ولم ينو إقامة تمنع القصر والفطر في رمضان فهذا لا جمعة عليه بحال إذا صلى الجمعة مع أهل البلد أجزأته والأفضل في حقه

حضورها إذا لم يمنع مانع، فإن كان المسافر قد نوى إقامة مدة تمنع القصر والفطر فهذا تلزمه بغيره فإذا كان في بلد تقام فيها الجمعة وجب عليه حضورها. اهـ. وقال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - في «الشرح الممتع» (5/ 15) بعد ما قرر عدم وجوب الجمعة على المسافر، بل بعدم صحتها من المسافرين قال ما نصه: (أما المسافر في بلد تقام فيه الجمعة كما لو مر إنسان في السفر ببلد ودخل فيه ليقيل ويستمر في سيره بعد الظهر فإنها تلزمه الجمعة لعموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، وهذا عام ولم نعلم أن الصحابة الذين يفدون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويبقون إلى الجمعة يتركون صلاة الجمعة، بل إن ظاهر السنة أنهم يصلون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ. وقرر في فتاويه مثله (16/ 74). وحاصل ما قيل في هذه المسألة: 1 - وجوب حضور الجمعة وأدائها، وقال به النخعي والزهري وعطاء والأوزاعي والبخاري وابن حزم وشيخ الإسلام وابن حجر وصاحب الفروع وابن عثيمين وغيرهم. 2 - عدم وجوب حضور الجمعة وقال به جماهير الأمة، كما نقله ابن المنذر وابن رجب وغيرهم.

3 - استحباب حضور الجمعة؛ لأنه أولى وأكمل وخروجًا من الخلاف ومما قال به الموفق (3/ 22)؛ ونقله النووي عن بعض أصحابه من الشافعية وقال في «الإنصاف» (5/ 175): فائدة: كل من لم تجب عليه الجمعة لمرض أو سفر أو اختلف في وجوبها عليه كالعبد ونحوه فصلاة الجمعة أفضل في حقه، وذكره ابن عقيل، وهذا القول لا ينافي ما قبله. وخلاصة حجج الموجبين: عموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ...} [الجمعة: 9]. وهذا في البلد الذي يسمع فيه النداء، فهذا العموم يتناوله وليس له عذر في التخلف. أن الصحابة في المدينة كانوا يفدون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويشهدون الجمعة ولا يتخلفون عنها .... وبينوا ذلك فقالوا: لما كان مسافرًا جادًا به السير كان له الترخص بكامل رخص السفر من القصر والجمع والفطر والتنفل على الدابة، وإذا نزل في مكان فإن جماعة من أهل العلم يقولون: يقصر مع التوقيت إما وجوبًا وإما استحبابًا، ويمنعونه من التنفل على الدابة ومع الترخيص له بالفطر والقصر، ويقولون: إن الفطر والقصر مشروع له في الإقامات التي تتخلل في السفر بخلاف الصلاة على الراحلة فإنه لا يشرع إلا في حالة السير، ولأن الله علق الفطر والقصر

بمسمى السفر بخلاف الصلاة على الراحلة، فليس فيه لفظ عام بل فيه الفعل الذي لا عموم له، فهو من جنس الجمع بين الصلاتين الذي يباح للعذر مطلقًا. وقالوا أيضًا: إن نزول المسافر في مصر ومكثه مدة لا تمنع القصر، فما الذي يخرجه من عموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، وهو من الذين آمنوا وهو شاهد يسمع النداء معافى، فما الذي يحجزه عن شهود هذا الخير وامتناعه من السعي إلى ذكر الله؟ قالوا: وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة العيد بخروج العواتق وذوات الخدور والحيض ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، وأيضًا والجمعة عيد المسلمين في الأسبوع، وهي عيد بالنص والإجماع، فلابد أن يخرج لها من كان بالمصر من الذكور البالغين غير المعذورين، والمسافر المستقر غير معذور، وكيف يأمر النساء بالخروج من خدورهن والحيض ليشهدن العيد ويدع المسافرين فلا يأمرهم بشهود الجمعة؟ بل أمرهم بشهود الجمعة أولى. وأيضًا لم نعلم أن الصحابة الذين كانوا يفدون على النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتخلفون عن الجمعة معه، وقد أخرج مسلم من طريق سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال: قال أبو رفاعة: انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب قال فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ قال: فأقبل عليّ

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك خطبته حتى انتهى إليّ فأتى بكرسي حسبت قوائمه حديدًا قال: فقعد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها، ومسلم أخرجه في «أبواب الجمعة» (¬1) وهذا هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه. وقالوا: إن من القواعد المقررة عند علماء الملة (أنه يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا)، وهذه قاعدة صحيحة عند جماهير علماء الأمة على اختلاف مذاهبهم وقد اختلفت تعبيراتهم عنها، فعند الحنابلة: ما قدمناه من لفظ القاعدة، وعند الشافعية: يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها. وعند الأحناف: الأصل أنه قد يثبت الشيء تبعًا وحكمًا وإن كان قد يبطل قصدًا. وقد ضرب العلماء لهذه القاعدة أمثلة كثيرة في العبادات والمعاملات وقد دلت عليها الأدلة الشرعية وجاءت بتقريرها، ومسألتنا فرد من أفراد تلك القاعدة: فلما كان المسافر قارًا في البلد، كان حكمه في إجابة نداء الجمعة حكم المقيمين، كما لو صلى المسافر خلف من يتم كان عليه أن يتم تبعًا للإمام، كذلك يجب عليهم الجمعة تبعًا للمقيمين، بل شهودهم الجمعة أولى من إتمامهم الصلاة خلف الإمام المقيم (¬2). ¬

(¬1) برقم (876). (¬2) انظر كلام شيخ الإسلام المتقدم.

قال المسقطون: مهلًا مهلًا فقد أجلبتم علينا بخيلكم ورجلكم وقد قلتم فأكثرتم وأحسنتم فأنصفونا، فإنا نقول: إن الله قد علق أحكامًا كثيرة بمسمى السفر من القصر والفطر والمسح ثلاثًا على الخفين، والعفو عن الجمعة والاستعاضة عنها بالظهر مقصورة رحمة من الله وتخفيفًا، وكل ذلك صدقة من الله على عباده فاقبلوا صدقته واكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا .... وهذه المسامحة والعفو والتخفيف لا يحل رفعها عن عباد الله والإشفاق عليهم إلا بحجة بينة من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أو إجماع متيقن أو قياس صحيح يجب المصير إليه، وأين هذا في مسألتنا؟ فأما قولكم: عموم الآية وشمولها للمسافر القار فنحن نمنع ذلك. فكما لم يجب عليه الصوم ولم يدخل في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] كذلك لم يدخل في عموم آية الجمعة، وسبب سقوط الصوم عنه السفر بنص الآية قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، فكذا في مسألتنا ونحن معنا فهم السلف وجمهورهم فهذا ابن عمر يقول: (لا جمعة على مسافر) فهذا عذرهم الذي عذرهم به السلف، وأنتم أبيتم ذلك!! .. وأما قولكم: إن المسافر إن مكث بمكان لا يقطع حكم السفر فإنه لا يتنفل على الدابة ما دام نازلًا وتتوصلون بهذا إلى أحكام المسافر القار تتبعض! فنعم

فلا حاجة له إلى ركوب دابته والتنفل عليها ما دام نازلًا، وإنما رخص له في حال السير وهكذا ثبتت به السنة. فكان ماذا؟!! وأما قولكم: فكيف يأمر الحيض وذوات الخدور بالخروج للعيد ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، فكيف لا يشهد المسافر القار الخير في الجمعة ودعوة المسلمين وذكر الله؟ فالجواب أننا نحاكمكم إلى أنفسكم فالعيد إنما هو مرتان في السنة ومجمعه أكبر مجامع المسلمين بعد مشهد عرفة فشرع لعامة المسلمين شهوده ومنهم المذكورات لقلة دورانه في الحول، أما الجمعة فإنها تتكرر في السنة نحوًا من خمسين مرة، وأيضًا العيد لو لم تشهده المرأة فإنه لابد له، والجمعة لها بدل مفروض فلم يستويا. وأما قولكم: لم نعلم أن الصحابة الذين كانوا يقصدون النبي - صلى الله عليه وسلم - ويفدون إليه أنهم كانوا يتخلفون عن التجميع معه، فنعم فلعمرو الله لقد كانوا يشهدونها ويحرصون عليها، فلقد كان نظرهم إليه وسماع كلامه أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم والناس أجمعين، ونحن نشهد الله على ذلك؛ فإنه أحب إلينا من آبائنا وأمهاتنا وأولادنا والناس أجمعين ولو خيرنا بين لقياه عليه الصلاة والسلام وبقاء الأهل والأولاد والأموال وأهل الأرض كلهم لاخترنا لقياه عليه الصلاة والسلام على ذلك بأبي هو وأمي، على أن الصحابة - رضي الله عنهم - كان لزامًا عليهم إذا كانوا معه - صلى الله عليه وسلم - على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، قال تعالى:

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62] وقد فر الأمر الجامع بشهود الجمعة أو كانوا في زحف، صح التفسير بذلك عن الزهري وابن جريج، كما رواه ابن جرير، عنهما واختاره. وهذا يعم أصحابه المقيمين والوافدين إليه وقد التزم نظير ذلك بعض أهل العلم في مسألتنا فقالوا: إذا حضر المسافر المسجد الجامع لزمته صلاة الجمعة وقد لام النبي عليه الصلاة والسلام من دخل المسجد ولم يصل وقال: «ما منعكما أن تصليا معنا». مع أنهما قد صليا في رحالهما ... وهذه المسألة أخص من المسألة المتنازع فيها. وأما قولكم: إنه يثبت تبعًا ما يثبت استقلالًا وأن المسافر يأخذ حكم المقيم إن كان ماكثًا نازلًا في وجوب إجابة النداء؛ فنحن نسلم بصحة هذه القاعدة، ولكننا نقول إن محلها ما لم يكن استقل التبع بحكم آخر يمنع إلحاقه بالمتبوع واعتبر هذا بالبهيمة المذكاة إن وجد جنين في بطنها أنه إذا خرج ميتًا فهو كجزء من أجزائها وإن خرج حيًا فلابد من تذكيته ولا يتبع أمه، وفي مسألتنا فإن

المسافر مستقل بأحكام خاصة تناسب حاله فلا يخرج عنها إلا بدليل، وإنما يثبت تبعًا هنا أهل مصر ممن لا يسمع النداء ومن كان حوله وحده كثير منهم بفرسخ. فهذا نهاية إقدام الفريقين وغاية سجال الطائفتين، وأنا على مذهب جماهير الأمة (¬1) من عدم الوجوب والإلزام، نعم يستحب شهودها من غير حرج وانحتام. قال الشاطبي في «الموافقات» (1/ 443): وأما الرابع فكأسباب الرخص هي موانع من الانحتام بمعنى أنه لا حرج على من ترك العزيمة ميلًا إلى جهة الرخصة كقصر المسافر وفطره وتركه الجمعة وما أشبه ذلك. اه. والله يهدينا إلى صراطه المستقيم. وهنا مسائل مهمة أنبه عليها على الإيجاز في ختام هذا البحث. مسائل هامة: 1 - السفر يوم الجمعة: الصحيح جواز السفر يوم الجمعة ما لم يؤذن لها وهذا قول جمهور أهل العلم فإذا أذن لها الأذان الذي تليه الخطبة فلابد من شهودها، ما لم يتضرر بترك السفر بانقطاعه عن رفقة أو فوات مركوب كما في ¬

(¬1) قال القرافي في «الفروق» (2/ 557): - والحق لا يفوت الجمهور غالبًا.

عصرنا في فوات السفر بالطائرة ونحوها، وكذلك يجوز له السفر إذا كان سيصلي الجمعة في بلد قريب. انظر: «المغني» (3/ 247) و «زاد المعاد» (1/ 382) وغيرهما وابن المنذر (4/ 21) و «الإنصاف» (5/ 185). 2 - يجوز للمسافر أن يؤم في صلاة الجمعة: وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ومذهب الجمهور خلافًا للمشهور من مذهب الحنابلة، واختاره شيخنا ابن باز - رحمه الله -، ونص عليه في «شرح الموطأ» عند باب (ما جاء في الإمام ينزل بقرية يوم الجمعة في السفر) (1/ 107)، ونقل أبو حامد الغزالي الإجماع على صحتها خلف المسافر ... حاشية الروضة (2/ 427). 3 - من فاتته الجمعة هل يصلي الظهر في جماعة؟ الصحيح جواز ذلك، بل شرعيته لعموم فضل الجماعة، وفعله بعض الصحابة. لكن هل يصليها جماعة في الجامع؟ قال في «المغني» (3/ 224): (ويكره في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة لأنه يفضى إلى النسبة إلى الرغبة عن الجمعة أو أنه لا يرى الصلاة خلف الإمام، أو يعيد الصلاة معه، وفيه افتيات على الإمام وربما أفضى إلى فتنة أو ضرر به وبغيره، وإنما يصليها في منزله، أو موضع لا تحصل هذه المفسدة بصلاتها فيه). اهـ. قلت: وهو كلام محرر متين.

4 - روى مسلم في صحيحه (883) من حديث عمر بن عطاء بن أبي الخوار أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب ابن أخت نمر يسأله عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة فقال: (نعم. صليت معه الجمعة في المقصورة فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت فلما دخل أرسل إلي فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بذلك وأن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج) وأخرجه أحمد وأبو داود. وروى أبو داود من طريق ليث عن الحجاج بن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (أيعجزكم أحد أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو شماله يعني السبحة). وهذا الحديث ضعفه البخاري في صحيحه فقد قال في صحيحه: ويذكر عن أبي هريرة رفعه: (لا يتطوع الإمام في مكانه) ولم يصح، وقد ذكره البخاري بالمعنى، والحديث ضعيف فيه ليث بن أبي سليم، وإبراهيم مجهول، وصحح البخاري أن اسمه إسماعيل بن إبراهيم (كما نقله عنه البيهقي) مع الاختلاف في سند الحديث كما قال ابن رجب في «فتح الباري» (5/ 262) ط. طارق. ولفظ الحديث عند البيهقي (2/ 19): إذا أراد أحدكم أن يتطوع بعد الفريضة. وروى أبو داود [616] والبيهقي (2/ 19) من طريق عطاء الخراساني عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله - رضي الله عنه -: «لا يصل أحدكم في الموضع الذي صلى فيه حتى يتحول». قال أبو داود: عطاء الخراساني لم يدرك المغيرة بن شعبة. وروى أبو داود [113] من طريق الفضل بن موسى عن عبد الحميد بن جعفر

عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء عن ابن عمر قال: (كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعًا، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد فقيل له فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك. وأخرجه مسلم من طريق ليث عن نافع عن عبد الله بشطره الأخير دون صلاته بمكة وسند أبي داود لا بأس به. وروى ابن أبي شيبة (2/ 24) من طريق شريك عن ميسرة (وهو ابن حبيب) عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله عن علي قال: إذا سلم الإمام لم يتطوع حتى يتحول من مكانه أو يفصل بينهما بكلام. ورواه البيهقي (2/ 191) من طريق الأعمش عن المنهال به بلفظ من السنة إذا سلم الإمام أن لا يقوم من موضعه الذي صلى فيه يصلي تطوعًا حتى ينحرف أو يتحول أو يفصل بكلام. ثم قال البيهقي: ورواه الثوري عن ميسرة عن حبيب عن المنهال بن عمرو إلا أنه قال: (لا يصلح للإمام) وفي رواية: (لا ينبغي للإمام ..). اهـ. قال الحافظ في «الفتح»: إسناده حسن، كذا قال مع أن في إسناده عباد بن عبد الله وهو الأسدي الكوفي. قال البخاري: فيه نظر. وقال ابن المديني: ضعيف، ونقل ابن الجوزي عن أحمد الضرب على بعض حديثه. ومعنى قول البخاري (فيه نظر) أنه له مناكير. وقال الحافظ في «بذل الماعون» ص [117] وهذه عبارة البخاري فيمن يكون وسطًا. وروى البيهقي (2/ 19) من طريق يعلى بن عبيد ثنا عبد الملك عن عطاء: قال رأيت ابن عمر - رضي الله عنه - دفع رجلًا من مقامه الذي صلى فيه المكتوبة وقال: إنما دفعتك لتقدم أو تأخر. وروى عنه بمعناه في الجمعة.

وروى البيهقي أيضًا من طريق الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن حفص بن غياث عن ابن عمر كان إذا صلى تحول من مقامه الذي صلى فيه. وقد روي عن ابن عمر خلافه؛ فقد روى البيهقي من طريق ابن وهب عن عبد الله بن عمر عن نافع أن عبد الله ابن عمر كان يصلي سبحته في مقامه الذي صلى فيه. وكذلك رواه شعبة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال البيهقي: وكأن يفصل بينهما بكلام أو انحراف أو فعل ما يجوز فعله. وطريق شعبة ذكره البخاري في صحيحه تحت باب: مكث الإمام في مصلاه بعد السلام قال لنا آدم حدثنا شعبة فذكره. قال حرب (¬1): حدثنا محمد بن آدم ثنا أبو المليح الرقي عن حبيب قال: كان ابن عمر يكره أن يصلي النافلة في المكان الذي صلى فيه المكتوبة، حتى يتقدم أو يتأخر أو يتكلم. وروى الشافعي عن ابن عتيبة عن عمرو بن عطاء عن ابن عباس أنه كان يأمر إذا صلى المكتوبة فأراد أن يتنفل بعدها أن لا يتنفل حتى يتكلم أو يتقدم. قال ابن رجب: وقد اختلف العلماء في تطوع الإمام في مكان صلاته بعد الصلاة، فأما قبلها فيجوز بالاتفاق، قاله بعض أصحابنا فكرهت طائفة تطوعه في مكانه بعد صلاته، وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك وأحمد وإسحاق، وروى عن علي أنه كرهه، وقال النخعي: كانوا يكرهونه، ورخص فيه ابن عقيل من أصحابنا، كما رجَّحه البخاري ونقله عن ابن عمر والقاسم بن محمد، فأما المروي عن ابن عمر فإنه لم يفعله وهو إمام بل كان مأمومًا، كذلك قال ¬

(¬1) بواسطة «فتح الباري» لابن رجب (5/ 264).

الإمام أحمد. وأكثر العلماء لا يكرهون للمأموم ذلك وهو قول مالك وأحمد، وانظر: «المغني» (3/ 25 ..) قلت: خلاصة ما تقدم من أحاديث وآثار وما نقله الحافظ ابن رجب ما يأتي: كراهة تنفل الإمام في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة، بل ينبغي التحول المكاني، وأيضًا ينبغي الاشتغال بالذكر بعد المكتوبة، خلافًا للمشهور عند الأحناف من البداءة بالتطوع؛ ولأن هذا التحول هو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الراتب، وهذه الكراهة محكية عن أكثر أهل العلم. أما الإمام فإن تحول عن مكانه بعد الفريضة، أو أتى بالذكر المشروع بعد الفريضة ولم يتحول، أو فصل بينهما بكلام مباح فكل ذلك كاف، ودل على هذا حديث معاوية عند مسلم، نعم، الجمع بين التحول والفصل بالذكر أبلغ وهو ظاهر المروي عن ابن عمر، وصلاة العبد في مكانه بعد الفصل بذكر أو كلام بعد الفريضة لا كراهة فيها عند أكثر العلماء وجميع ما ذكر إنما هو بين الفريضة والنافلة، وأما فعل ابن عمر بمكة في تحوله من موضع إلى موضع في النافلة فمن اجتهاده وهو مباح، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرد صلاة الليل في موضع واحد. وهنا مسألة أختم بها وهي مسألة تحويل الغير عن مكانه لأجل فعل السنة الراتبة بعد الصلاة سواء كانت الجمعة أو غيرها، ففي هذا نظر، فلا يجوز أن يقيم المسلم أخاه ويقعد أو يصلي مكانه، وهذا إن كان روي عن بعض السلف، كما ذكر ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه في آخر أبواب الجمعة إلا أن عبد الرزاق - رحمه

الله - في مصنفه فطن لهذا، فقد عقد في مصنفه (3/ 268) باب إقامة الرجل أخاه ثم يختلف في مجلسه، وذلك في آخر أبواب الجمعة. وذكر حديث جابر، وابن عمر. والحديثان وما جاء في معناهما وإن كانا جاءا في الجلوس إلا أن النهي أعم فيشمل إقامة الرجل من مكانه لأجل الصلاة أو القراءة أو غير ذلك، العلة جلية وهي العدوان على الغير بإقامته من مكان سبق إليه فلا يحل ذلك إلا بطيب نفس، وما دام الشخص يريد هذا الفعل لتحقيق الفصل (¬1) بين الفريضة والنافلة فالأذكار كافية أو البحث عن مكان ليس فيه أحد أحرى من تحويل مسلم وإزعاجه وقطع ما هو فيه من ذكر أو فكر. وهنا أضع القلم، وأسأل الله أن يضع عنا الأوزار. وصلى الله وسلم على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. قاله وكتبه أبو محمد عبد الله بن مانع ¬

(¬1) وهذا هو التعليل الصحيح لأصل المسألة، وهو الفصل بين الفرض والنافلة حتى لا يزاد في الفرض ما ليس منه كما نص عليه جماعة من العلماء كابن القيم في «إعلام الموقعين» في الوجه الثلاثين والوجه الخمسين في «أمثلة سد الذرائع»، وابن رجب في «اللطائف في وظائف شهر شعبان» وأما تعليل التحول لشهود البقاع فمنقوض بين النافلة، وبالفصل بالذكر بعد الفريضة.

من آداب السفر وأحكامه

من آداب السفر وأحكامه

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أما بعد، فهذه بعض آداب السفر وأحكامه انتقيتها من كتب الحديث والفقه ولم أقصد الاستيعاب وإنما أردت التذكير بالمهم من ذلك والله نسأل التوفيق والسداد. 1 - طلب الصحبة في السفر: لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب» إسناده حسن أخرجه مالك وأحمد وأهل السنن. 2 - التأمير في السفر: لحديث أبي هريرة وأبي سعيد: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) أخرجه أبو داود بسند جيد، وفي حديث علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث جيشًا وأمر عليهم رجلًا وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا. أخرجه البخاري وغيره. 3 - الإتيان بدعاء الركوب ودعاء السفر: فقد جاء عن علي - رضي الله عنه - أنه أُتي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال: (بسم الله) فلما استوى على ظهرها قال: (الحمد لله) ثم قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 13، 14] ثم قال: الحمد لله (ثلاثًا) الله أكبر (ثلاثًا)

سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. الحديث رواه أحمد وأهل السنن وفي إسناده اختلاف، وإسناده عند الطبراني والحاكم جيد ثابت، وأخرج مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر كبر ثلاثًا ثم قال: «{سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 13، 14]، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا واطو عنا بُعْدَهْ، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل» إذا رجع قالهن وزاد فيهن «آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون» وفي حديث أنس عند مسلم: حتى إذا كنا بظهر المدينة قال: «أيبون تائبون عابدون لربنا حامدون» فلم يزل يقول ذلك حتى قدمنا المدينة فعلى هذا تقال هذه العبارة عند بداية القفول وعند قدومه لبلده. وروى مسلم عن عبد الله بن سرجس أيضًا: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحور بعد الكون وفي بعض النسخ (الكور) ودعوة المظلوم وسوء المنظر في الأهل والمال).

ودعاء الركوب إنما يقال في الأسفار خاصة كما اختاره شيخنا ابن باز - رحمه الله -. 4 - الخروج يوم الخميس إذا تيسر ذلك: فقد روى البخاري عن كعب بن مالك قوله: (لقلَّما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج إذا خرج إلا يوم الخميس) وبوب عليه البخاري في كتاب «الجهاد»، وهذا من باب الأفضلية، وإلا فقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يوم السبت. 5 - التسبيح عند هبوط الأودية والتكبير إذا علا مرتفعًا: كما ثبت ذلك في حديث جابر، وابن عمر، ولفظ حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شَرَف من الأرض، ثلاث تكبيرات ثم يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» وهو عام في كل سفر. 6 - توديع الأهل والأقارب وغيرهم: وجاء في ذلك أحاديث وآثار ثابتة. 7 - تعجيل العودة بعد الفراغ من الحاجة التي سافر لأجلها: لقوله عليه الصلاة والسلام: «السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نَهمته (بفتح النون: أي حاجته) فليعجل رجوعه إلى أهله» [متفق عليه].

8 - عدم اصطحاب المنكرات والمكروهات في السفر: أخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تصحب الملائكة رفقة معهم كلب ولا جرس». 9 - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في سفر وأسحر يقول: «سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذًا بالله من النار» أخرجه مسلم عن أبي هريرة. 10 - الدعاء إذا نزل في مكان: فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من نزل منزلًا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك» [رواه مسلم]. 11 - الدعاء في السفر: فإن حال السفر من أسباب إجابة الدعاء، وفي الحديث: «ثلاثة لا ترد دعوتهم» وذكر منهم «المسافر». أخرجه أهل السنن، وعند مسلم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر. 12 - من السنة ألا يطرق أهله ليلًا إذا قدم: إلا إذا أخبرهم بذلك، كما ثبت ذلك في حديث جابر وغيره، ومعنى الطروق: القدوم ليلًا. 13 - من السنة النقيعة: وهي: الإيلام عند القدوم من السفر، كما ثبت ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر عند البخاري في آخر كتاب «الجهاد» من صحيحه، وانظر: «المجموع للنووي» (4/ 285).

مسائل هامة في السفر

14 - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم المدينة فرآها حرَّك دابته من حب المدينة، كما أخرجه البخاري. 15 - من السنة عند القدوم من السفر: أن يأتي المسجد ويصلي فيه ركعتين، كما دل على ذلك حديث جابر المتفق عليه، وقد أخرجه البخاري في بضعة عشر بابًا. مسائل هامة في السفر 1 - يشرع الإنسان في السفر القصر إذا خرج عن بنيان بلدته، وقد علق البخاري في صحيحه عن علي - رضي الله عنه - أنه خرج من الكوفة فقصر وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له هذه الكوفة قال: حتى ندخلها، ووصله الحاكم والبيهقي، وصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين. 2 - إذا دخل عليه الوقت وهو مقيم ثم سافر فصلى الصلاة في السفر فهل يصليها تامة أو مقصورة؟ الصحيح القصر وحكاه ابن المنذر في «الأوسط» (4/ 354) إجماعًا، والمشهور عند أصحابنا الحنابلة الإتمام، وهو مرجوح. 3 - إن ذكر صلاة حضر في سفر أتم: وحكاه ابن المنذر إجماعًا. «الأوسط» (4/ 368)، وإن ذكر صلاة سفر وهو في الحضر ففيه خلاف هل يتم أم يقصر، والصحيح أنه يقصر.

4 - إذا صلى المسافر خلف المقيم: فإنه يصلي أربعًا مطلقًا حتى لو لم يدرك إلا التشهد الأخير، فإنه يصلي كصلاة المقيم أربعًا، وهو قول الجمهور، وظاهر السنة وهو اختيار الإمامين (ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله) وانظر: «المجموع» للنووي (4/ 236). 5 - إذا صلى المسافر بمقيمين فإنه يقر ويشرع له إذا سلم أن يقول: (أتموا صلاتكم) وقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يأتي مكة ويصلي بهم فيقول: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) وروي مرفوعًا عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه ضعيف أخرجه أبو داود وغيره، وإن نبه عليهم قبل الصلاة فلا بأس حتى لا يقع عليهم الالتباس. 6 - السنن الرواتب التي تسقط في السفر: هي سنة الظهر القبلية والبعدية وراتبة المغرب (وهي بعدية) وراتبة العشاء (وهي بعدية)، ولا تسقط سنة الفجر ولا يسقط الوتر بل يصلي سنة الفجر والوتر، وله أن يصلي صلاة الضحى وبعد الوضوء وعند دخول المسجد ....... 7 - السنة تخفيف القراءة في السفر: فقد ثبت عن عمر أنه قرأ في الفجر بـ {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش] وقرأ أيضًا بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص] وقرأ أنس بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى] أخرجها ابن أبي شيبة وكلها صحيحة.

8 - إذا جمع بين الصلاتين المجوعتين: فإنه يؤذن أذانًا واحدًا ويقيم إقامتين لكل صلاة إقامة، وله أن يجمع في أول الوقت ووسطه وآخره فكل ذلك محل للصلاتين المجموعتين. 9 - الجمع بين الصلاتين في السفر سنة: عند الحاجة إليه، كما قال شيخ الإسلام - رحمه الله -، وعند عدم الحاجة مباح. 10 - من لم يجب عليه حضور الجمعة: كالمسافرين والمرضى يجوز لهم أداء صلاة الظهر بعد أن تزول الشمس ولو لم يصل الإمام صلاة الجمعة. 11 - المسافر له أن يصلي النافلة على السيارة أو الطائرة: كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التطوع على الدابة من وجوه كثيرة. 12 - كل من جاز له القصر: جاز له الفطر بلا عكس. 13 - السفر يوم الجمعة جائز: لكن إن أذن المؤذن الثاني لصلاة الجمعة وهو مقيم لزمه أن يمكث حتى يصلي الجمعة إلا إن كان يخشى فوات رفقة أو فوات حجز طائرة فيباح له السفر حينئذ، وكذلك يجوز له السفر بعد نداء الجمعة الثاني إذا كان سيصلي الجمعة وهو مسافر، كما لو كان سيمر ببلد قريب فيصلي معهم الجمعة. 14 - الأذكار التي بعد الصلاة الأولى: عند الجمع تسقط وتبقى أذكار الصلاة الثانية لكن، إن كان الذكر بعد الأولى أكثر فيأتي به كما لو جمع بين المغرب والعشاء فيأتي به بعد صلاة العشاء.

15 - إذا صلى الظهر وهو مقيم ثم سافر: فهل له أن يصلي العصر في السفر قبل دخول وقتها؟ اختار المنع الشيخان ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله. اهـ. وذلك لفقد شروط الجمع ولأنه لا حاجة إلى ذلك وهو سيصلي العصر ولابد فلا يصليها إلا بعد دخول وقتها. 16 - إذا تأخر الصلاتين المجموعتين وهو مسافر: ثم أقام قبل خروج وقت الأولى لزمه الإتمام سواء صلى الأولى في الوقت أو بعد خروجه، وأما إذا فاتت الأولى في السفر ثم أقام في وقت الثانية فيصلي الصلاة الأولى تامة، واختاره الشيخ ابن عثيمين، وأما الثانية فتامة على كل حال وانظر: «المجموع» للنووي (4/ 245). 17 - إذا كان المسافر يعلم أو يغلب على ظنه أنه سيصل إلى بلدة قبل صلاة العصر أو قبل صلاة العشاء فالأفضل له ألا يجمع؛ لأنه ليس هناك حاجة للجمع وإن جمع فلا بأس. انظر: «مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن عثيمين» (15/ 422). 18 - لا يشرط في السفر نية القصر: على الصحيح، انظر: «فتاوى شيخ الإسلام» (24/ 1.4). 19 - منع كثير من أهل العلم أن تجمع العصر مع الجمعة: وهو المشهور عند الحنابلة والشافعية وغيرهم واختار المنع الشيخان (ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله) انظر: «مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين» (15/ 371).

20 - القصر سنة مؤكدة، وقيل: بوجوبه حتى قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: (صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر) إسناده صحيح أخرجه عبد الرزاق (2/ 519 - 52) والطحاوي وغيره. 21 - رخص السفر: تستباح في سفر الطاعة والمعصية على الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام المشهور عنه. 22 - المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم: وهو كل ذكر بالغ عاقل تحرم عليه المرأة على التأبيد بنسب أو سبب مباح. 23 - إذا جمع المسافر بين المغرب والعشاء جمع تقديم: يدخل وقت الوتر على القول الراجح من أقوال أهل العلم ولا يحتاج إلى الانتظار حتى يدخل وقت صلاة العشاء. 24 - إذا شك المأموم وهو مسافر في الإمام: هل هو مسافر أو مقيم فالأصل أن المأموم يلزمه الإتمام لكن لو قال المأموم في نفسه إن أتم أتممت وإن قصر قصرت صح ذلك، وهذا من باب التعليق وليس من باب الشك كما قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - في «الشرح الممتع» (4/ 521). 25 - الجمعة لم تلزم المسافر المستقر في بلد: ما دام يسمى مسافرًا، وقد نقل ابن المنذر في «الأوسط» الإجماع على ذلك وقال: ولم يخالف فيه إلا الزهري، وإن حضر المسافر الجمعة أجزأته عن الظهر.

26 - المسافر إذا أدرك من الجمعة ركعة فأكثر أتمها جمعة، فإن أدرك أقل من ركعة فإنه يصليها ركعتين على أنها ظهر مقصورة. 27 - إذا كان الإنسان مسافرًا في شهر رمضان: فله الفطر وله الصوم، ولكن الأفضل له فعل الأيسر، فإن كان الأيسر الصيام صام، وإن كان الأيسر له الفطر أفطر، وإذا تساويا فالصوم أفضل؛ لأن هذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أسرع في إبراء الذمة وأهون على الإنسان، وحكاه بعضهم قول الجمهور. 28 - ذكر النووي في «المجموع:» أكثر من ستين فائدة في السفر وبعضها فيه نظر فراجعها إن شئت وفقك الله. إعداد كبير المرشدين والمدرسين بإدارة الشؤون الدينية للقوات الجوية عبد الله بن مانع العتيبي

حديث (نهى أن يضحى بأعضب القرن والأذن)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حديث (نهى أن يُضحى بأعضب القرن والأذن) أخرجه أبو داود [2805] والترمذي [1504] والنسائي (7/ 217) وابن ماجه [3145] وأحمد (1/ 83) والحاكم والبيهقي وأبو يعلى وغيرهم من طريق قتادة عن جُري بن كليب عن علي - رضي الله عنه - قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضحى بأعضب القرن والأذن). وهذا إسناد ضعيف. جُري بن كليب قال ابن المدني: مجهول ما روى عنه غير قتادة: وقال أبو حاتم: شيخ لا يحتج بحديثه، وقال العجلي: بصري تابعي ثقة! وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن حزم في «المحلى» (7/ 36) ورُوي في الأعضب أثر أنه لا يجزيء ولا يصح لأنه من طريق جُري بن كليب وليس مشهورًا .. اهـ. قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (15/ 133 - 134) وفي إجماعهم على إجازة التضحية بالجماء ما يبين لك أن حديث القرن لا يثبت ولا يصح. اهـ. طريق أخرى: قال أحمد في مسنده [864] حدثنا أسود بن عامر حدثنا إسرائيل عن جابر عن عبد الله بن نجيّ عن علي به، وإسناده تالف من أجل جابر الجعفي. والمحفوظ عن علي ما رواه أحمد (1/ 95) ومواضع أخرى والدارمي [1957] وابن ماجه [3143] والترمذي [1503] والنسائي (7/ 217)

وغيرهم من طرق عن سلمة بن كهيل عن حجية الكندي عن علي - رضي الله عنه - قال: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن) حسب. وجاء من طريق أخرى ... فأخرجه عبد الله بن أحمد (1/ 132)، وهو من زوائده عن محمد بن بكار عن الجراح بن مليح (والد وكيع) عن أبي إسحاق عن هبيرة بن يريم عن علي مرفوعًا ولفظه: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن فصاعدًا) حسب. وأما ما رواه أحمد (1/ 89) وأبو داود [284] والترمذي [1498] والنسائي (7/ 216) وابن ماجه [3142] وغيرهم من طرق عن أبي إسحاق عن شريح بن النعمان عن علي قال: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء) فهذا لم يسمعه أبو إسحاق عن شريح كما قال الدارقطني في «علله» (3/ 238) بل صحح وقفه على علي - رضي الله عنه - من قوله. قلت: ومما يدل على ذلك ما رواه أحمد في «مسنده» (1/ 5) عن عفان عن شعبة عن سلمة بن كهيل أنبائي حجِّية بن عدي قال: (سمعت رجلًا سأل عليًا قال: إني اشتريت هذه البقرة للأضحى عن سبعة قال القرن: قال: لا يضرك). وحجية لا بأس به، ورواه أحمد أيضًا (1/ 95) عن وكيع عن سفيان عن سلمة به وفيه (مكسورة القرن. قال: لايضرك)، ولو كان النهي عن الأعضب ثابتًا لما أفتى عليٌّ

بخلافه، وحديث جُري أيضًا مخالف لمفهوم حديث البراء ... (أربع لا تجوز في الأضاحي) وحديث البراء جرى مجرى البيان والحصر ولهذا أنكر البراء على من كره العيب في الأذن والقرن. وقال في «الفروع» (3/ 542): ويتوجه احتمال (أعضب القرن والأذن) مطلقًا؛ لأن في صحة الخبر نظرًا ثم الخبر الصحيح المشهور: (أربع لا تجوز في الأضاحي ....) يقتضي الأعضب، فيكون النهي للكراهة، والمعنى يقتي ذلك لأن القرن لا يؤكل، والأذن لا يقصد أكلها غالبًا ... اهـ (¬1). ¬

(¬1) علق شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - على هذا البحث بقوله: (إذا لم يثبت الحديث يكون داخلًا في باب الكراهة في العيوب المكروهة) قُرئ عليه ليلة الاثنين 7/ 7/1417ـه والحمد لله رب العالمين.

قنوت النوازل

قنوت النوازل

1 - دليل المشروعية

قنوت النوازل القنوت: يطلق على معان والمراد به هنا الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام. وقنوت النوازل: هو الدعاء في النوازل التي تنزل بالمسلمين لدفع أذى عدو أو رفعه أو رفع بلاء ونحو ذلك. قال النووي في «شرح مسلم»: (والصحيح المشهور أنه إذا نزلت نازلة كعدو وقحط ووباء وعطش وضرر ظاهر بالمسلمين ونحو ذلك، قنتوا في جميع الصلوات المكتوبات). 1 - دليل المشروعية: عن أنس - رضي الله عنه - قال: (بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعين رجلًا لحاجة، يُقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من بني سليم: رعل وذكوان .. فقتلوهم فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - شهرًا في صلاة الغداة وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت) [متفق عليه]، والحديث فيه قصة معروفة. وعن أنس وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت بعد الركعة في صلاته شهرًا: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج

2 - في أي الصلوات يشرع

عياش بن أبي ربيعة. اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» [متفق عليه]. وعن أبي هريرة سدد خطاكم قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع ... الحديث أخرجه البخاري. وقنت الصحابة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد قنت أبو بكر في محاربة الصحابة لمسيلمة، وعند محاربة أهل الكتاب، وكذلك قنوت عمر، وقنوت عليّ عند محاربته لمعاوية وأهل الشام. 2 - في أي الصلوات يشرع: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قنت في الصلوات الخمس. ففي سنن أبي داود وغيرهما عن ابن عباس - رضي الله عنهم - قال: (قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر في دبر كل صلاة، إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة يدعو على أحياء من العرب من بني سليم رعل وذكوان وعصية ويؤمن من خلفه) وإسناده صحيح. وثبت قنوته في الظهر والعشاء والفجر من حديث أبي هريرة (متفق عليه). وثبت قنوته في المغرب والفجر من حديث البراء عند مسلم ومن حديث أنس عند البخاري.

3 - القنوت في صلاة الجمعة

وأكثر ما قنت في صلاة الفجر، وهذا يدل على التوسعة في مسألة القنوت في الفرائض، وأن الإنسان لو قنت في بعض الفرائض دون بعض أو فيها كلها أو في واحدة منها أن ذلك كله سائغ لا تضييق فيه. قال ابن حبان: (فإذا كان بعض ما وصفنا موجودًا قنت المرء في صلاة واحدة أو الصلوات كلها أو بعضها دون بعض). وقال النووي في «شرح مسلم»: (باب استحباب القنوت في جميع الصلوات إذا نزلت بالمسلمين نازلة). 3 - القنوت في صلاة الجمعة: اختلف العلماء في القنوت في صلاة الجمعة ولا أعلم في السنة أصلًا للقنوت فيها، والجمعة إحدى الصلوات الخمس في يوم الجمعة، فالأمر يحتمل، وقد نقل في «الإنصاف» عن شيخ الإسلام وجدِّه المجد ترك القنوت فيها. وهكذا اختار الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - ونص كلامه: يقول (العلماء إنه لا يقنت في صلاة الجمعة لأن الخطبة فيها دعاء للمؤمنين ويدعو لمن يقنت لهم أثناء الخطبة). انظر: «مجموع فتاويه» (16/ 115). ورجح في «الشرح الممتع» القنوت في الجمعة.

4 - لمن يشرع القنوت

4 - لمن يشرع القنوت: القنوت مشروع لكل مصل كما قال شيخ الإسلام انظر: «الإنصاف» (4/ 136) و «فتاوى ابن عثيمين» (14/ 175) لكن ينبغي أن يكون الأمر منضبطًا فلا يقنت إلا في النوازل التي تنزل بالمسلمين، وينبغي مشاورة أهل العلم وعدم الاختلاف في ذلك. 5 - موضع القنوت: الأمر في ذلك واسع فيجوز القنوت قبل الركوع وبعده في الركعة الأخيرة، وقد بوَّب البخاري: باب القنوت قبل الركوع وبعده، لكن القنوت بعد الركوع أكثر في الأحاديث النبوية، كما نص على ذلك جماعة من أهل العلم. 6 - صفة القنوت: يدعو الإمام جهرًا، وقد نقل الحافظ الاتفاق على ذلك في «فتح الباري» (2/ 491) ويؤمن من خلفه كما في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وتقدم، ويرفع يديه ويرفع المأمومون أيديهم، وقد صح هذا عن عمر، أخرجه البيهقي وصححه البخاري في جزء رفع اليدين. وبعد الدعاء لا يمسح الإمام وجهه ولا المأمومون وجوههم، وهكذا في كل الدعاء، وأحاديث مسح الوجه باليدين بعد الدعاء ضعاف لا تقوم بها حجة

7 - صفة الدعاء

والأحاديث الصحيحة المتواترة في رفع اليدين ليس فيها مسح الوجه فلا يشرع هذا بل هو من البدع. 7 - صفة الدعاء: ينبغي أن يدعو بما يناسب النازلة وبما يفي بالمقصود. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (23/ 1.9): (فسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين تدل على شيئين: 1 - أن دعاء القنوت مشروع عند السبب الذي يقتضيه، ليس بسنة دائمة في الصلاة. 2 - أن الدعاء فيه ليس دعاء راتبًا، بل يدعو في كل قنوت بالذي يناسبه، كما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أولًا، وثانيًا كما دعا عمر وعلي - رضي الله عنهما - لما حارب من حاربه في الفتنة، فقنت ودعا بدعاء يناسب مقصوده، والذي يبين هذا أنه لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقنت دائمًا، ويدعو بدعاء راتب، لكان المسلمون ينقلون هذا عن نبيهم، فإن هذا من الأمور التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها، وهم الذين نقلوا عنه في قنوته ما لم يداوم عليه، وليس بسنة راتبة، كدعائه على الذين قتلوا أصحابه، ودعائه للمستضعفين من أصحابه، ونقلوا قنوت عمر وعلي على من كانوا يحاربونهم.

وقال الحافظ ابن حجر في «بذل الماعون في فضل الطاعون» (ص334) ما نصه: (لم أقف في شيء من كتب الفقهاء على ما يدعو به في القنوت في النوازل، والذي يظهر أنهم وكلوا ذلك إلى فهم السامع، وأنه يدعو في كل نازلة بما يناسبها. انظر: «مجموع فتاوى ابن عثيمين» (14/ 182). مسائل هامة: 1 - الصحيح استحباب الدعاء برفع الطاعون، وأنه من جملة النوازل، وقد أطال البحث فيه الحافظ ابن حجر في كتابه الماتع «بذل الماعون» (ص315) وهذا خلاف المشهور عند الحنابلة. 2 - لا ينبغي للإمام إطالة الدعاء والإشقاق على الناس. 3 - لا ينبغي للإمام الإتيان بالأدعية المسجوعة المتكلِّفة. 4 - لا ينبغي للمأمومين العجلة بالتأمين قبل استكمال الدعاء، وقد روي أن معاذًا أبا حليمة قال في دعائه: (اللهم قحط المطر فقالوا آمين، فلما فرغ قال قلت: اللهم قحط المطر فقلتم آمين. ألا تسمعون ما أقول ثم تؤمنون) اهـ. من «مسائل أبي داود» لأحمد .. ط رشيد (ص69).

5 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مشروعة في القنوت، وقد جاءت في قنوت رمضان، فقد كان أبو حليمة معاذ القاري يفعله، وهو الذي رتبه عمر إمامًا في التراويح إذا غاب أُبيّ بن كعب. أخرجه إسماعيل القاضي في كتاب «فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بسند صحيح، كما قال الحافظ في «نتائج الأفكار» (2/ 156). وأبو حليمة اختلفوا في صحبته. وأخرج محمد بن نصر المروزي في كتاب «قيام الليل» بسند صحيح عن الزهري: (كانوا يلعنون الكفرة في رمضان يشير إلى دعاء القنوت ثم يُصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو للمسلمين (ومن طريق وهب بن خالد عن أيوب نحوه، وسنده صحيح أيضًا .. انتهى من «نتائج الأفكار». 6 - أحكام قنوت النوازل وقنوت الوتر متقاربة إلا ما ثبت الفرق فيه فيشتركان، مثلًا في الجهر بالدعاء ورفع اليدين والتأمين على الدعاء ونحو ذلك وقد عقد البخاري (باب القنوت قبل الركوع وبعده)، وذكر حديث أنس في القنوت في الفجر في «أبواب الوتر». 7 - هل اليدان تكونان مضمومتين أو مفرجتين حال الرفع؟ سألت شيخنا ابن باز - رحمه الله - عن ذلك فقال: تكون مضمومة، ونص عليه الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في «الشرح الممتع».

8 - لا بأس من التنصيص على اسم أحد في الدعاء، كما تقدم في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وقد فعله أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعده. وقد عقد ابن أبي شيبة في مصنفه «باب في تسمية الرجل في القنوت»، وقال العراقي في «طرح التثريب» على فوائد حديث أبي هريرة ... (الخامسة) فيه حجة على أبي حنيفة في منعه أن يدعى لمعين أو على معين في الصلاة، وخالفه الجمهور فجوزوا ذلك لهذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة، وقال أيضًا ... (السابعة) فيه جواز الدعاء على الكفار ولعنتهم، وقال صاحب «المفهم»: (ولا خلاف في جواز لعن الكفرة والدعاء عليهم). وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]. لا خلاف في جواز لعن الكفار، وقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت وغيره فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأننا لا ندري بما يختم له، واستدل بعضهم بهذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161]، وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين. واختار

ذلك الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي، ولكنه احتج بحديث فيه ضعف، واستدل غيره بقوله - عليه السلام - في صحيح البخاري في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده، فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» قالوا: فَعِلَّة المنع من لعنه؛ بأنه يحب الله ورسوله، فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن، والله أعلم. وقد قسَّم بعض أهل العلم هذه المسألة تقسيمًا حسنًا فقال: - اللعن: بوصف عام مثل: لعنة عامة على الكافرين وعلى الظالمين والكاذبين. - اللعن بصفة أخص منه، مثل لعن آكل الربا، ولعن الزناة، ولعن السراق والمرتشين. والمرتشي، ونحو ذلك. - لعن الكافر المعين الذي مات على الكفر، مثل فرعون. - لعن كافر معين مات، ولم يظهر من شواهد الحال دخوله في الإسلام فيلعن. وإن توقى المسلم وقال: لعنه الله إن كان مات كافرًا، فحسن. - لعن كافر معين حي، لعموم دخوله في لعنة الله على الكافرين، ولجواز قتله، وقتاله، ووجوب إعلان البراءة منه. - لعن المسلم العاصي - معينًا - أو الفاسق بفسقه، والفاجر بفجوره. فهذا اختلف أهل العلم في لعنه على قولين، والأكثر- بل حكي الاتفاق عليه-

على عدم جواز لعنه؛ لإمكان التوبة، وغيرها من موانع لحوق اللعنة، والوعيد مثل ما يحصل من الاستغفار، والتوبة، وتكاثر الحسنات وأنواع المكفرات الأخُرى للذنوب. وإن ربي لغفور رحيم. اهـ. «معجم المناهي اللفظية» للشيخ بكر أبو زيد. قلت: مما يدل على عدم جواز لعن المعين المسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن في الخمر عشرة، كما في الحديث الذي في السنن، ولما أتي بمن شرب فلعنه بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله»، وأما الكافر الحي المعين فقد منع بعضهم لعنه واحتجوا بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161]. فذكر لعنه بعد ما مات على الكفر .... انظر: «تفسير ابن سعدي». - مدة القنوت في النازلة يتبع حال النازلة وشدتها واستمرارها، وقد قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهرًا لما بلغه قتل أصحابه، فالنازلة قد انتهت لكنها كانت شديدة .... انظر: «فتاوى اللجنة الدائمة» (7/ 49) ط. بلنسية. وكتب /أبو محمد عبد الله بن مانع 10/ 2/1424هـ

تغطية المحرم وجهه

تغطية المحرم وجهه

1 - أبو الزبير

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... أما بعد: فهذا بحث مختصر في مسألة تغطية المحرم وجهه هل يجوز أم لا؟ وأصل المسألة الحديث الذي يرويه الستة وأحمد وغيرهم من طرق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قصة الرجل الذي كان واقفًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فوقع من راحلته فمات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اغسلوه بماء وسدر وكفَّنوه في ثوبيه ولا تمسوه طيبًا ولا تخمِّروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا». وهذا الحديث له ألفاظ متقاربة، ويرويه عن سعيد بن جبير اثنا عشر راويًا وهذا تفصيل رواياتهم: 1 - أبو الزبير: أخرجه مسلم [29] عن هارون بن عبد الله عن أسود بن عامر عن زهير عنه، وفيه ذكر الوجه ولفظه: (وأن يكشفوا وجهه - حسبته قال ورأسه-) قال البيهقي: (ذكر الوجه على شك فيه في متنه ورواية الجماعة الذين لم يشكوا وساقوا المتن أحسن سياقة أولى أن تكون محفوظة اهـ. كلام البيهقي، ويأتي مزيد بيان إن شاء الله. 2 - إبراهيم بن أبي حرة: أخرجه أحمد عن سفيان بن عيينة عنه بدون ذكر الوجه.

3 - عمرو بن دينار

3 - عمرو بن دينار: واختلف عليه في ذكرها كثيرًا فالحديث يرويه عن عمرو أكثر من أربع عشرة نفسًا. (أ) الثوري: أخرجه مسلم عن أبي كريب عن وكيع ح؛ وأخرجه ابن ماجه عن علي بن محمد الطنافسي كلاهما (الطنافسي وأبو كريب) عن وكيع عن الثوري عن عمرو بذكر الوجه، وتابع وكيعًا أبو داود الحفري: أخرجه النسائي [2714] عن عبدة بن عبد الله الصفار عن الحفري عن سفيان، وفيها ذكر الوجه، ورواه محمد بن كثير عند أبي داود (3238) والبيهقي (3/ 391) عن الثوري بدون ذكر الوجه. ومن طريق مسلم المذكورة أخرجه البيهقي (5/ 53) وابن حزم (7/ 92)، وقال ابن حزم خبر ثابت وقال البيهقي: ورواه محمد بن عبد الله بن نمير عن وكيع دون ذكر الوجه فيه، وكذا رواه محمد بن كثير وعبد الله بن الوليد العدني عن سفيان دون ذكر الوجه. اهـ. (ب) ابن عيينة: روى الحديث عنه أربعة: أحمد في «المسند» [1914] والحميدي في مسنده [466] وابن أبي شيبة عند مسلم [2891] وابن أبي عمر عند الترمذي [951] وليس في شيء من ذلك ذكر الوجه.

(ج) يونس بن نافع

(ج) يونس بن نافع: أخرجه النسائي [1904] أخبرنا عتبة بن عبد الله حدثنا يونس وليس فيها ذكر الوجه. (د) ابن جريج: أخرجه أحمد [323] عن يحيى عنه، وليس فيها ذكر الوجه، وكذلك أخرجه النسائي [2858] أخبرنا عمران بن يزيد حدثنا شعيب بن إسحاق أخبرنا ابن جريج وليس فيها ذكر الوجه. (هـ) عمرو بن الحارث: أخرجه ابن حبان [3928] أخبرنا ابن سلم عن حرملة عن ابن وهب عن عمرو وليس فيها ذكر الوجه. (و) حماد بن زيد: أخرجه مسلم [2892] حدثنا أبو الربيع الزهراني قال حدثنا حماد وليس فيها ذكر الوجه، وأخرجه البخاري [1849] حدثنا سليمان بن حرب ح؛ وحدثنا مسدد [1268] كلاهما (سليمان ومسدد) عن حماد عن عمرو، وليس فيها ذكر الوجه. (ز) سَليم (بفتح السين) بن حيان: أخرجه الطبراني في «الصغير» (2/ 188) برقم [41] وليس فيها ذكر الوجه.

4 - رواية أيوب السختياني

ورواها - أعني ذكر الوجه - عن عمرو كل من عبد الله بن علي الأزرق، وأبان العطار وأشعث بن سوار، وأبان بن صالح، وابن أبي ليلى، وأبو مريم، وعمر بن عامر، وكل رواياتهم عنه عند الطبراني (12/ 76 فما بعدها) ورواية عمر بن عامر أخرجها كذلك الدارقطني (2/ 295). 4 - رواية أيوب السختياني: أخرجها البخاري [1265] حدثنا أبو النعمان عن حماد عن أيوب ليس فيها ذكر الوجه، وأخرجه النسائي عن قتيبة عن حماد وليس فيها ذكر الوجه، وبمثل طريق النسائي أخرجها البخاري بسنده ومتنه سواء [1266] وأخرجها أحمد (3.76) عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب ليس فيها ذكر الوجه، وكذلك أخرجها أحمد (2591) عن محمد بن جعفر عن سعيد بن أبي عروبة عن أيوب ليس فيها ذكر الوجه. 5 - رواية الحكم بن عتيبة: أخرجه البخاري [1839] عن قتيبة عن جرير عن منصور عن الحكم ورواها النسائي [2856] أخبرنا محمد بن قدامة عن جرير به ليس فيها ذكر الوجه، وكذا رواها أبو داود [3241] عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير دون ذكر الوجه. ورواها أحمد عن حسين عن شيبان عن منصور عن الحكم ليس فيها ذكر الوجه ثم أردفه أحمد برواية أسود حدثنا إسرائيل بإسناده إلا أنه قال: (ولا تغطوا وجهه).

6 - عبد الكريم الجزري

ورواه مسلم في الصحيح [291] عن عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن منصور عن سعيد وفيها ذكر الوجه، فأسقط إسرائيل الحكم، وقد خالفه عمرو بن أبي قيس عند أبي عوانة برقم (2/ 273) وعبيدة بن حميد عن الدارقطني (2/ 295) فهؤلاء أربعة جرير، وشيبان، وعمرو بن أبي قيس، وعبيدة بن حميد، كلهم يذكرون الحكم ولا يذكرون الوجه إلا في رواية عبيدة قال البيهقي (3/ 393) هذا هو الصحيح: منصور عن الحكم عن سعيد، وفي متنه: «ولا تغطوا رأسه» ورواية الجماعة في الرأس وحده وذكر الوجه غريب اهـ. وتعقبه ابن التركماني في الجوهر النقي بقوله: «قد صح النهي عن تغطيتهما فجمعها بعضهم وأفرد بعض الرأس، وبعضهم الوجه، والكل صحيح ولا وهم في شيء منه وهذا أولى من تغليط مسلم». 6 - عبد الكريم الجزري: أخرجها أحمد [377] حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري وليس فيها ذكر الوجه، وكذا رواية عبيد الله بن عمرو عن الجزري عند الطبراني (12/ 8) ليس فيها ذكر الوجه. وروى الطبراني (12/ 8) من طريق قيس بن الربيع عنه وبها ذكر الوجه، وقيس ضعيف، وقد خولف. 7 - طريق أبي بشر: واختلف عليه في ذكر الوجه فيرويه عن أبي بشر:

(أ) شعبة

(أ) شعبة: أخرجه مسلم [2899] عن محمد بن بشار وأبو بكر بن نافع كلاهما عن محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي بشر بذكر الوجه وعن محمد بن جعفر أخرجه أحمد [26 ..] بذكر الوجه وأخرجه النسائي [2854] (5/ 696) عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد الحذاء عن شعبة بذكر الوجه وأخرجه ابن ماجه (84، 3) حدثنا علي بن محمد عن وكيع عن شعبة بذكر الوجه، ورواه ابن حبان [396] من طريق أبي أسامة عن شعبة بذكر الوجه، فهؤلاء أربعة يروونه عنه شعبة بذكر الوجه محمد بن جعفر وهو من أثبت الناس فيه، ووكيع وخالد الحذاء وأبو أسامة. (ب) هشيم: أخرجه النسائي [2853] والبخاري [1851] كلاهما عن يعقوب بن إبراهيم عن هشيم به دون ذكر الوجه، وأخرجه مسلم [2897] عن محمد بن الصباح ويحيى بن يحيى كلاهما عن هشيم به دون ذكر الوجه، وأخرجه أحمد [185] عن هشيم به دون ذكر الوجه. (ج) خلف بن خليفة: أخرجه النسائي [2857] حدثنا محمد بن معاوية عن خلف بن خليفة عن أبي بشر وفيه ذكر الوجه.

(د) أبو عوانة

(د) أبو عوانة: أخرجه مسلم [2898] حدثنا أبو كامل الجحدري، عن أبي عوانة به، دون ذكر الوجه. وأخرجه (31، 3) عن عفان حدثنا أبو عوانة به، دون ذكر الوجه وأخرجه البخاري [1267] حدثنا أبو النعمان أخبرنا أبو عوانة به دون ذكر الوجه. 8 - قتادة بن دعامة: أخرجه أحمد [2591] عن محمد بن جعفر عن سعيد عن قتادة وأيوب عن سعيد بن جبير به دون ذكر الوجه، وقتادة لم يسمع من سعيد في قول يحيى بن معين وأحمد؛ لكنه هنا مقرون فرجع الحديث إلى أيوب. 9 - عطاء بن السائب: أخرجه الطبراني (12/ 79) من طريقه عنه عن سعيد ليس فيها ذكر الوجه. 10 - فضيل بن عمرو: أخرجها الطبراني (12/ 73) من طريق شريك عن سعيد بن صالح عنه دون ذكر الوجه وفيه شريك. 11 - مطر الوراق: أخرجها الطبراني (12/ 81) من طريق الفضيل بن عياض عن هشام ابن حسان عنه، وفيها ذكر الوجه وكذا أخرجها أبو عوانة (2/ 272)، ومطر ضعيف.

12 - سالم الأفطس

12 - سالم الأفطس: أخرجها الطبراني (11/ 436) عن سعيد دون ذكر الوجه، وبها قيس بن الربيع، وفيه كلام. خلاصة ما مضى أولاً: طريق أبي الزبير عن سعيد، وقد وقع فيها الشك، أخرجها مسلم وتقدم كلام البيهقي، وقد اضطرب حفظ أبي الزبير لها فحفظ الوجه وشك في الرأس مع أن الرأس لا خلاف في ذكره، فهذا مما يدل على أنه لم يحفظ كما ينبغي. ثانيًا: طريق عمرو بن دينار عن سعيد: أ - من طريق الثوري ذكرها وكيع عنه، واختلف عليه فذكره الطنافسي وأبو كريب، ولا يذكرها عن الثوري عبد الله بن الوليد ولا محمد بن كثير، ويذكرها أبو داود الحفري؛ فكونها محفوظة في طريق الثوري محل النظر. ب- ورواها عن عمرو من تقدم ذكرهم، وأما سائر أصحاب عمرو من كبار الحفاظ كابن عيينة وحماد وابن جريج ويونس وعمرو بن الحارث وقيس بن سعد لا يذكرونها أصلًا، فهي منكرة من طريق عمرو. ثالثًا: طريق الحكم عن سعيد جاءت الزيادة عنه من طريق إسرائيل عن منصور عنه وخالف إسرائيل شيبان فلم يذكرها، وكذا لا يذكرها جرير ولا عمرو بن أبي قيس فالزيادة في طريق الحكم غير محفوظة، وكلام ابن التركماني المتقدم ليس بشيء ولا يجيء على طريقة الأوائل في مثل هذا الموضع.

رابعا

رابعًا: طريق منصور بن المعتمر عن سعيد، وجاءت الزيادة عند مسلم من طريق عبد بن حميد عن عبيد اللَّه بن موسى عن إسرائيل عن منصور، وهذه الرواية وقع وهم فيها في السند والمتن فرجعت إلى طريق الحكم دون ذكر الوجه، كما تقدم. خامسًا: طريق أبي بشر عن سعيد: أ - الزيادة من هذا الطريق رواها عن شعبة وكيع ومحمد بن جعفر وخالد الحذاء وأبو أسامة. ب- طريق خلف بن خليفة جاءت من طريق واحد عند النسائي، أخرجها عن محمد بن معاوية عن خليفة، وأما سائر أصحاب أبي بشر كهشيم وأبي عوانة فلا يذكرونها وكونها محفوظة عن أبي بشر إنما هذا من ناحية التحمل عنه؛ لكن من جهة حفظه إياها فمحل نظر، فسائر الرواة عن سعيد كأيوب وإبراهيم بن أبي حرة وعبد الكريم الجزري فلا يذكرونها أصلًا، إذًا شعبة بريء من العهدة، والحمل في ذلك على أبي بشر في ذكرها، ومما يدل على ذلك أنَّ هشيمًا وأبا عوانة لا يذكرون الزيادة، وهما من هما قال علي بن حجر: هشيم في أبي بشر مثل ابن عيينة في الزهري سبق الناس هشيم في أبي بشر، وقال ابن المبارك: من غيَّر الدهرُ حفظَه فلم يغير حفظ هشيم، وقال ابن مهدي: حفظ هشيم أثبت من حفظ أبي عوانة

وكتاب أبي عوانة أثبت من حفظ هشيم اهـ. «تهذيب الكمال» (3/ 282) قلت: قد اجتمعا. والحقيقة أن القول بأنها محفوظة في الحديث قول فيه بعد مع أن مسلمًا - رحمه الله -، أخرج الحديث عن أصحاب عمرو كسفيان بن عيينة وحماد وابن جريج، ثم جعل طريق الثوري عن عمرو آخر ما ذكر، ثم أخرج مسلم الحديث عن أصحاب أبي بشر، فبدأ برواية هشيم ثم أبي عوانة، ثم جعل طريق شعبة عن أبي بشر آخر ما ذكر. ثم أخرج في آخر الباب حديث أبي الزبير عن سعيد، وحديث منصور عن سعيد، والمتتبع لطريقة مسلم في كتابه الصحيح يجده يقدم الأصح أولًا في الأغلب ثم يردفه، بما دونه، فمسلم مع إخراجه له قد صنع به ما ترى وقد بوب النسائي للحديث باب (النهي عن أن يخمر وجه المحرم ورأسه إذا مات)، وقال ابن حزم: إنه خبر ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمره في الذي مات محرمًا ألَّا يخمر رأسه ولا وجهه رويناه من طرق حجة منها من طريق مسلم: حدثنا أبو كريب فذكره. اهـ. وحكى ابن المنذر الخلاف ولم يرجِّح (5/ 345). وقال البيهقي (5/ 53): باب لا يغطي المحرم رأسه وله أن يغطي وجهه وذكر بعض الطرق عن سعيد عن ابن عباس والاختلافات في الزيادة .. وقد مررنا على ذلك بتمامه، ثم أسند عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنه قال رأيت عثمان بن

عفان - رضي الله عنه - بالعرج وهو محرم في يوم صائف قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان. وكذا أخرجه ابن حزم (7/ 91). قلت: أثر عثمان أخرجه مالك (1/ 327). وأسند البيهقي أيضًا من طريق ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومروان بن الحكم كانوا يخمرون وجوههم وهم حرم. وأسند أيضًا عن يعلى بن عبيد عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر قال: يغتسل المحرم ويغسل ثيابه ويغطي أنفه من الغبار ويغطي وجهه وهو نائم. اهـ. ثم قال البيهقي: خالفهم ابن عمر، وأسند من طريق مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم. اهـ. وأثر جابر أخرجه ابن حزم أيضًا، وأخرج كذلك من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن الفرافصة بن عمير، قال: كان عثمان وزيد بن ثابت وابن الزبير يخمرون وجوههم وهم محرمون، وأسند ابن حزم من طريق عبد الرزاق عن الثوري عن أبي الزبير عن جابر وابن الزبير أنهما كانا يخمران وجوههما وهما محرمان، ومن طريق حماد عن عيسى بن سعد عن عطاء عن ابن عباس، أنه قال: المحرم يغطي ما دون الحاجب.

ثم قال ابن حزم: وعن عبد الرحمن بن عوف، أيضًا إباحة تغطية المحرم وجهه، وهو قول عطاء وطاووس ومجاهد وعلقمة وإبراهيم النخعي والقاسم بن محمد كلهم أفتى المحرم بتغطية وجهه، وبين بعضهم من الشمس والغبار والذباب وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأبي سليمان وأصحابهم. وروي عن ابن عمر لا يغطي المحرم وجهه، وقال به مالك ولم ير على المحرم إن غطى وجهه شيئًا لا فدية ولا صدقة ولا غير ذلك، إلا أنه كرهه فقط، بل قد روي عنه ما يدل على جواز ذلك. اهـ. وقال أبو الطيب في تعليقه على الدارقطني (2/ 296): وقال الحاكم في كتاب «علوم الحديث» وذكر الوجه في الحديث تصحيف لرواية الجماعة الثقات من أصحاب عمرو بن دينار على روايته ولا تغطوا رأسه. اهـ، والمرجع في ذلك إلى مسلم، لا إلى الحاكم، فإن الحاكم كثير الأوهام، وأيضًا فالتصحيف إنما يكون في الحروف المتشابهة، وأي مشابهة بين الوجه والرأس في الحروف، إلى آخر كلام أبي الطيب. وقال ابن عبد البر في «الاستذكار» (11/ 45): اختلف العلماء في تخمير المحرم وجهه بعد إجماعهم أنه لا يخمر رأسه، فكان ابن عمر فيما رواه مالك وغيره عنه يقول: ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم، ولذلك ذهب مالك وأصحابه، وبه قال محمد بن الحسن من غير خلاف عن أصحابه، قال ابن القاسم: كره مالك للمحرم أن يغطي ذقنه أو شيئًا مما فوق ذقنه لأن إحرامه في

وجهه ورأسه، قيل لابن القاسم: فإن فعل أترى عليه فدية؟ قال: لم أسمع من مالك فيه شيئًا، ولا أرى عليه شيئًا، لما جاء عن عثمان في ذلك. وقد روي عن مالك: من غطى وجهه وهو محرم أنه يفتدي، وفي موضع آخر من كتاب ابن القاسم: أرأيت محرمًا غطى وجهه ورأسه في قول مالك. قال: قال مالك: إن نزعه مكانه فلا شيء عليه وإن تركه فلم ينزعه مكانه حتى انتفع بذلك افتدى، قلت: وكذلك المرأة إذا غطت وجهها؟ قال: نعم إلا أن مالكًا كان يوسع للمرأة أن تسدل رداءها فوق رأسها على وجهها إذا أرادت سترًا، وإن كانت لا تريد سترًا فلا تسدل. قال أبو عمر: روي عن عثمان وابن عباس وعبد الرحمن بن عوف وابن الزبير وزيد بن ثابت وسعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله: أنهم أجازوا للمحرم أن يغطي وجهه فهم مخالفون لابن عمر في ذلك، وعن القاسم بن محمد وطاووس وعكرمة أنهم أجازوا للمحرم أن يغطي وجهه، وقال عطاء: يخمر المحرم وجهه إلى حاجبيه، وبه قال الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود، وذكر عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: كان عثمان وزيد ابن ثابت يخمران وجوههما وهما محرمان، وكل من سمينا في هذا الباب من الصحابة ففي كتاب عبد الرزاق. اهـ.

قلت: الآثار عن الصحابة وغيرهم انظرها في «المصنف» (3/ 273) لابن أبي شيبة. وقال أبو محمد في «المغني» (5/ 153): وفي تغطية المحرم وجهه روايتان: إحداهما: يباح ذلك، روي ذلك عن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وابن الزبير وسعد بن أبي وقاص وجابر والقاسم وطاووس والثوري والشافعي. الثانية: لا يباح، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، لما روي عن ابن عباس أن رجلًا وقع عن راحلته فوقصته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة يلبي»؛ ولأنه محرم على المرأة فحرم على الرجل كالطيب ولنا ما ذكرنا من قول الصحابة ولم نعرف لهم مخالفًا في عصرهم فيكون إجماعًا ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها»، وحديث ابن عباس المشهور فيه (ولا تخمروا رأسه) هذا المتفق عليه وقوله (ولا تخمروا وجهه)، فقال شعبة: حدثنيه أبو بشر ثم سألته عنه بعد عشر سنين فجاء بالحديث كما حدث، إلا أنه قال: (ولا تخمروا وجهه ورأسه) وهذا يدل على أنه ضعف هذه الزيادة وقد روي في بعض ألفاظه (خمروا وجهه ولا تخمروا رأسه) فتتعارض الروايتان وما ذكره يبطل بلبس القفازين. اهـ.

وقال في «الفروع» (3/ 271): ويجوز تغطية الوجه في رواية اختارها الأكثر وفاقًا للشافعي، وفعله عثمان، ورواه أبو بكر النجاد عنه وعن زيد وابن الزبير، وأنه قاله ابن عباس وسعد بن أبي وقاص وجابر وعن ابن عمر روايتان، روى النهي عن مالك ولأنه لم تتعلق سنة التقصير من الرجل فلم تتعلق به حرمة التخمير كسائر بدنه وعنه لا يجوز. اهـ. قلت: الروايتان عن ابن عمر أخرجهما مالك عن نافع عن ابن عمر كان يقول: ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم، والرواية الثانية من الطريق نفسها أن عبد الله ابن عمر كفن ابنه واقد بن عبد الله ومات بالجحفة محرمًا وخمر رأسه ووجهه وقال: لولا أنَّا حرم لطيبناه. قال مالك: وإنما يعمل الرجل ما دام حيًا فإذا مات فقد انقضى العمل. اهـ. قلت: قول مالك هذا يرده الحديث الثابت في الباب وتعليل النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا» ولهذا قال ابن القيم في «الهدي» (2/ 245): على فوائد القصة وأحكامها الحكم الثاني عشر: بقاء الإحرام بعد الموت وأنه لا ينقطع به، وهذا مذهب عثمان وعلي وابن عباس وغيرهم - رضي الله عنهم -، وبه قال أحمد والشافعي وإسحاق، وقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي فينقطع الإحرام بالموت وصنع به كما يصنع بالحلال، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث» قالوا: ولا دليل في حديث الذي وقصته راحلته لأنه

خاص به كما قالوا في صلاته على النجاشي إنها مختصة به وقال الجمهور: دعوى التخصيص على خلاف الأصل فلا تقبل وقوله في الحديث «فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا» إشارة إلى العلة. اهـ. ثم قال ابن القيم قبل ذلك الحكم الحادي عشر: منع المحرم من تغطية وجهه وقد اختلف في هذه المسألة فذهب الشافعي وأحمد في رواية إباحته ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في رواية المنع منه وبإباحته قال ستة من الصحابة: عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، والزبير وسعد بن أبي وقاص، وجابر - رضي الله عنهم -. وفيه قول ثالث شاذ: إن كان حيًا فله تغطية وجهه وإن كان ميتًا لم يجز تغطية وجهه، قاله ابن حزم وهو اللائق بظاهريته، واحتج المبيحون بأقوال هؤلاء الصحابة وبأصل الإباحة وبمفهوم قوله: (ولا تخمروا رأسه) وأجابوا عن قوله: (ولا تخمروا وجهه) بأن هذه اللفظية غير محفوظة قال شعبة: حدثنيه أبو بشر ثم سألته عنه بعد عشر سنين فجاء بالحديث إلا أنه قال: (ولا تخمروا رأسه) قالوا: وهذا يدل على ضعفها قال وقد روي في هذا الحديث فخمروا وجهه ولا تخمروا رأسه. اهـ. وانظر: «تهذيب السنن» له (4/ 352). وقال النووي - رحمه الله - في «المجموع» (7/ 28) فرع: مذهبنا أنه يجوز للرجل المحرم ستر وجهه ولا فدية عليه، وبه قال جمهور العلماء وقال أبو حنيفة

ومالك: (لا يجوز كرأسه واحتج لهما بحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المحرم الذي خر من بعيره «ولا تخمروا وجهه ولا رأسه» رواه مسلم وعن ابن عمر أنه كان يقول: (ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم) رواه مالك والبيهقي، وهو صحيح عنه. واحتج أصحابنا برواية الشافعي عن سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومروان بن الحكم كانوا يخمرون وجوههم وهم حرم، وهذا إسناد صحيح، وكذلك رواه البيهقي، ولكن القاسم لم يدرك عثمان وأدرك مروان، اختلفوا في مكان إدراكه زيدًا، وروى مالك والبيهقي بالإسناد الصحيح عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: (رأيت عثمان بالعرج وهو محرم في يوم صائف قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان) والجواب عن حديث ابن عباس أنه إنما نهى عن تغطية وجهه لصيانة رأسه لا لقصد كشف وجهه، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه ولابد من تأويله لأن مالكًا وأبا حنيفة يقولان: لا يمتنع من ستر رأس الميت ووجهه، والشافعي وموافقوه يقولون: يباح ستر الوجه دون الرأس فتعين تأويل الحديث وأما قول ابن عمر فمعارض بفعل عثمان وموافقيه، والله أعلم.

وقال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (4/ 54): وقوله (يبعث ملبيًا) أي على هيئته التي مات عليها، واستدل بذلك على بقاء إحرامه خلافًا للمالكية والحنفية، وقد تمسكوا من هذا الحديث بلفظة اختلف في ثبوتها وهي قوله (ولا تخمروا وجهه) فقالوا: لا يجوز للمحرم تغطية وجهه مع أنهم لا يقولون بظاهر هذا الحديث فيمن مات محرمًا، وأما الجمهور فأخذوا بظاهر الحديث، وقالوا: إن في ثبوت ذكر الوجه مقالًا وتردد ابن المنذر في صحته. قال البيهقي: ذكر الوجه غريب وهو وهم من بعض رواته، وفي كل ذلك نظر فإن الحديث ظاهره الصحة ولفظه عند مسلم من طريق إسرائيل عن منصور وأبي الزبير كلاهما عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر الحديث قال منصور: (ولا تغطوا وجهه) وقال أبو الزبير: (ولا تكشفوا وجهه)، وأخرجه النسائي من طريق عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير بلفظ (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه) وأخرجه مسلم أيضًا من حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير بلفظ (ولا يمس طيبًا خارج رأسه) قال شعبة ثم حدثني به بعد ذلك فقال خارج رأسه ووجهه .. انتهى. وهذه الرواية تتعلق بالتطيب لا بالكشف والتغطية وشعبة أحفظ من كل من روى هذا الحديث .. اهـ. من «الفتح».

قلت: هذا على لفظ مسلم، وفيه تقديم وتأخير، وإلا فسياق النسائي وغيره يدفع كلام الحافظ من أصله، وهو صريح، وقول الحافظ: وشعبة أحفظ .. إن أراد أصل الحديث فلا، وإن أراد طريق أبي بشر فنعم، فكان ماذا؟ وجلُّ أصحاب سعيد لا يذكرونها؟! والذي يتحرر لي جواز التغطية للوجه من حاجة كحر أو غبار أو نحو ذلك وقد جاء هذا عن بعض الصحابة، وحكي مذهب الجمهور بلا تقييد، كما تقدم فأما من غير حاجة فتوقيه أفضل وأحوط وهذا نوع من الجمع بين الآثار، والحديث على ما في الزيادة من كلام كما تبين لك. هذا من ناحية أما من ناحية إيجاب الفدية في تغطية الوجه فلا أرى ذلك أصلًا فلا تشغل ذمة مسلم بحديث هذا حاله (¬1). والله ربي أسأل مغفرة الذنوب وستر العيوب إنه جواد كريم وصلى الله على نبيه وخليله محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه وسلم. وكتب/ أبو محمد الرياض ص. ب 901 11413 ¬

(¬1) على أن في إيجاب الفدية في غير حلق الرأس ما هو معلوم.

§1/1