نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس

المقري التلمساني

مقدمة المحقق

مقدمة المحقق 1 - تعريف بالمؤلف: ولد أحمد بن محمد بن أحمد المقري المكنى بأبي العباس والملقب بشهاب الدين سنة 986 بمدينة تلمسان، وأصل أسرته من قرية مقرة - بفتح الميم وتشديد القاف المفتوحة - وقد بين حال هذه الأسرة وشئونها عندما تحدث عن جده الأعلى أحمد المقري حديثا ضافيا (في المجلد الخامس من النفح) . أما عن صلة الأسرة بتلمسان وصلته هو بها فقد قال (في المجلد السابع) : " وبها ولدت أنا وأبي وجدي وجد جدي، وقرأت بها ونشأت إلى أن ارتحلت عنها في زمن الشبيبة إلى مدينة فاس سنة 1009 ثم رجعت إليها آخر عام 1010 ثم عاودت الرجوع إلى فاس سنة 1013 إلى أن ارتحلت عنها للمشرق أواخر رمضان سنة 1027 ... ". إذن فإن أبا العباس المقري نشأ بتلمسان وطلب العلم فيها ... وكان من أهم شيوخه التلمسانيين عمه الشيخ سعيد المقري، ولما فارقها إلى فاس كان

في حدود الرابعة والعشرين من عمره، وفي فاس مضى يطلب العلم على شيوخها إلى أن حل فيها الفقيه إبراهيم بن محمد الآيسي أحد قواد السلطان أحمد المنصور الذهبي، فأعجب بالمقري الشاب واصطحبه معه إلى مراكش وقدمه إلى السلطان، وهناك التقى بابن القاضي وبأحمد باب التنبكي صاحب نيل الابتهاج وبغيرهما من علماء مراكش وأدبائها وكانت هذه الرحلة مادة كتابه " روضة الآس " الذي أخذ في كتابته حين عودته إلى فاس ومنها إلى بلده تلمسان، ليقدمه إلى السلطان المنصور، ولكن السلطان توفي (سنة 1012) والمقري ما يزال في بلده. ومع ذلك فإن الهجرة من تلمسان كانت قد ملكت عليه تفكيره فلم يلبث أن غادر مسقط رأسه نهائياً إلى فاس (1013) وأقام فيها حوالي خمسة عشر عاماً؛ يقول في النفح: " وارتحلت منها إلى فاس حيث ملك الأشراف ممتد الرواق فشغلت بأمور الإمامة والفتوى والخطابة وغيرها ". والحق أن المقري أصبح في هذه الفترة من صدور العلماء المرموقين، ولكن اضطراب الأحوال أصبح في هذه الفترة من صدور العلماء المرموقين، ولكن اضطراب الأحوال في المغرب بعد وفاة المنصور الذهبي وصراع أبنائه على الحكم، وتعرض مدينة فاس نفسها لأعمال المد والجزر في تلك الظروف المتقلبة، كل ذلك لم يكن يكفل للقاطنين فيها شيئاً من الهدوء؛ ولم تكن بلاد المغرب حينئذ فريسة للأطماع الداخلية وحسب، بل تعرضت لغزوات الأسبان والبرتغاليين، وفي سنة 1016 كان المقري يشهد - عن كثب - انقطاع آخر صلة للعرب ببلاد الأندلس حين تفرقت الجالية الأندلسية تطلب لها مأوى في سلا وتونس وغيرهما من البلاد المغربية؛ وبعد ذلك بثلاث سنوات كان الأسبان (الإصبنيول) يستولون على مدينة العرائش في المغرب بمواطأة الشيخ المأمون أحد أبناء المنصور؛ ولقي هذا العمل استنكاراً من الناس، فلجأ الشيخ إلى الفقهاء ليفتوه في الأمر: لقد كان هو لاجئاً عند صاحب إسبانيا يطلب منه المعونة فوعده بها لقاء إعطائه العرائش

وما سمح له بمغادرة بلاد إسبانيا إلا بعد أن قدم له أولاده رهينة حتى يفي بوعده. فهل من حقه أن يفدي أولاده بهذا الثغر أم لا؟ وكان هذا السؤال امتحانا عسيرا للمتذممين من المفتين، ولذلك هرب جماعة منهم واختفوا عن الأنظار، وكان المقري واحدا من أولئك الذين لجأوا إلى الاختفاء. غير أن هذه الحادثة لم تدفع بالمقري إلى مغادرة فاس، بل بقي فيها عدة سنوات أخرى، أحرز فيها منصب الإفتاء رسميا بعد وفاة شيخه محمد الهواري (1022) . فهل ثمة من سبب مباشر دفعه إلى الرحلة عنها؟ يقول الأستاذ محمد حجي متابعا السيد الجنحاني: " وكان خروج المقري من فاس بسبب اتهامه بالميل إلى قبيلة شراكة (شراقة) في فسادها وبغيها أيام السلطان محمد الشيخ السعدي فارتحل إلى الشرق ... الخ "؛ ولكن المصادر لا تذكر شيئا عن هذا السبب، وكل ما قاله المقري نفسه " ثم ارتحلت بنية الحجاز، وجعلت إلى الحقيقة المجاز "، بل إنه استأذن عبد الله بن شيخ نفسه في السفر، فأذن له. غير أن إلصاق التهمة به ليس مستبعداً، فقد كان المقري عند هذا السلطان خيلت لبعض سكان تلك المدينة أن المقري ضالع مع سلطانه ومع تلك القبيلة نفسها ضد الفاسين. وبغير ذلك - أو ما يشبهه - لا يمكن أن نفسر عدم عودة المقري إلى المغرب، مع شدة حنينه إلى وطنه وقسوة ما لقيه في الترحال، وخاصة ما لحقه من المضايقات أثناء وجوده في مصر.

وفي أواخر رمضان عام 1027 غادر مدينة فاس متوجهاً إلى المشرق فوصل تطوان (تطاون) في ذي القعدة من ذلك العام، ومن هناك ركب السفينة التي عرجت به على تونس وسوسة حتى وصلت الإسكندرية، ومنها إلى القاهرة فالحجاز بحراً، فوصل مكة في ذي القعدة من العام التالي وبقي فيها بعد العمرة ينتظر موسم الحج، ومنها توجه إلى المدينة لزيارة قبر الرسول (ص) ثم عاد إلى مصر (محرم 1029) وفي شهر ربيع زار بيت المقدس وأخذ يتردد إلى مكة والمدينة حتى كان في عام 1037 قد زار مكة خمس مرات والمدينة سبع مرات، وقد أوفى هذا الجانب تفصيلاً في كتابه ((نفح الطيب)) ، قال: ((وحصلت لي بالمجاورة فيها [مكة] المسرات، وأمليت فيها على قصد التبرك دروساً عديدة، والله يحيل أيام العمر بالعود إليها مديدة، ووفدت على طيبة المعظمة ميمماً مناهجها السديدة سبع مرار، وأطفأت بالعود إليها ما بالأكباد الحرار، واستضاءت تلك الأنوار، وألفت بحضرته صلى الله عليه وسلم بعض ما من الله به علي في ذلك الجوار، وأمليت الحديث النبوي بمرأى منه عليه الصلاة والسلام ومسمع ... ثم أبت إلى مصر مفوضاً لله جميع الأمور، ملازماً خدمة العلم الشريف بالأزهر المعمور، وكان عودي من الحجة الخامسة بصفر سنة 1037 للهجرة)) . وفي أوائل رجب من العام المذكور قصد إلى زيارة بيت المقدس، فبلغه أواسط رجب وأقام فيه نحو خمسة وعشرين يوماً، وألقى عدة دروس بالأقصى والصخرة، وزار مقام الخليل إبراهيم ومزارات أخرى؛ وفي منتصف شعبان عزم على التوجه إلى دمشق، وهناك تلقاه المغاربة وأنزلوه في مكان لا يليق به، فأرسل إليه الأديب أحمد بن شاهين مفتاح المدرسة الجمقمقية، فلما شاهدها

أعجبته وتحول إليها؛ وقد أسهب في ذكر حاله بدمشق وما تلقاه به أهلها من حسن المعاملة، ويكفي هنا أن ننقل بعض ما قاله المحبي: ((وأملي صحيح البخاري بالجامع تحت قبة النسر بعد صلاة الصبح، ولما كثر الناس بعد أيام خرج إلى صحن الجامع، تجاه القبة المعروفة بالباعونية، وحضره غالب أعيان عليماء دمشق، وأما الطلبة فلم يتخلف منهم أحد، وكان يوم ختمة حافلاً جداً، اجتمع فيه الألوف من الناس، وعلت الأضواء بالبكاء، فنقلت حلقة الدرس إلى وسط الصحن، إلى الباب الذي يوضع فيه العلم النبوي في الجمعيات من رجب وشعبان ورمضان، وأتي له بكرسي الوعظ فصعد عليه، وتكلم بكلام في العقائد والحديث لم يسمع نظيره أبداً، وتكلم على ترجمة البخاري ... وكانت الجلسة من طلوع الشمس إلى قريب الظهر ... ونزل عن الكرسي فازدحم الناس على تقبيل يده، وكان ذلك نهار الأربعاء سابع عشري رمضان سنة 1037، ولم يتفق لغيره من العلماء الواردين إلى دمشق ما اتفق له من الحظوة وإقبال الناس)) . وكانت إقامته بدمشق دون الأربعين يوماً، وقد خرج جمهور كبير من علمائها وأعيانها في وداعه، عندما اعتزم العودة إلى مصر. وحدث تلميذ له كان يلازمه ويرافقه في تقلباته بدمشق وزياراته لمعالمها - وهو الشيخ مرز الشامي - قال: إنه ذهب معه ذات يوم لزيارة قبر الشيخ محيي الدين ابن العربي في خارج المدينة، قال: وكان خروجنا بعد صلاة الصبح، ووصلنا إلى المزارة عند طلوع الشمس، فلما جلسنا عنده قال لي الشيخ المقري: ((إني ابتدأت عند خروجنا إلى الزيارة ختمة من القرآن لروح هذا الشيخ وقد ختمتها الآن - وهذا شيء مستغرب لقصر المدة التي تمت فيها الختمة. وفي شوال من العام نفسه كان بمدينة غزة، فنزل فيها ضيفاً على الشيخ

الغصين، وكانت للمقري مكانة عند أمير غزة، فسأله تلميذه الشيخ عبد القادر ابن الشيخ الغصين أن يتوسط لدى الأمير بأن يسمح له ببناء بيت ببعض رحاب المسجد (إذ كانت دار الغصين بعيدة عن المسجد وكانت مهمته أن يقرأ ويقرئ في المسجد نفسه) فقال له المقري: لا بد من حضورك معي عند الدخول على الأمير، فلما دخلا عليه قدم المقري للأمير مقدمات في فضل بناء المساجد والمدارس، ثم أنني على الشيخ عبد القادر، وقال له: إنه من أهل العلم وليس ببلدكم مثله، وأراد أن تأذنوا له في بناء المساجد يقرأ فيه ويقرئ، فقال الباشا: مثلك لا يليق له البناء في المسجد ولكن هنا موضع نحبسه عليك - وهو موضع المدرسة - فكان إنشاء تلك المدرسة بفضل وساطة المقري؛ وقص الشيخ عبد القادر أيضاً حكاية تدل على تواضع المقري أثناء إقامته بغزة، وذلك أن الشيخ الغصين قال له: ((يا سيدي أحمد إنا نشتهي الطعام المسمى عند المغاربة بالكسكس فهل في أصحابكم من يحسن صنعه؟)) فما كان من المقري إلا أن صنعه لهم بنفسه؛ وكان عبد القادر يحتفظ بنسخة من كتاب شيخه المقري المسمى ((إضاءة الدجنة بعقائد أهل السنة)) وعليها تعليقات بخط المؤلف قيدها لدى مروره بمدينة غزة في تلك السفرة. عاد المقري إلى مصر رغم إعجابه بدمشق وأهلها، وكان أثناء إقامته الطويلة بمصر قد تزوج امرأة من عائلة السادة الوفائية، رزق منها بنتاً، توفيت عام 1038، ويبدو أن العلاقة بينه وبين زوجته لم تكن موشحة بالوفاق، مما اضطره إلى تطليقها؛ وقد زادت هذه الحادثة من تنغيص حياته بمصر، ويقول الخفاجي: إنه وجد بمصر الحسد والنفاق، وتجارة الآداب ليس لها بسوقها نفاق، وفيما كان يزمع الهجرة من مصر ليستطون الشام، وافته منيته في جمادي الآخرة

سنة 1041. 2 - مؤلفات المقري ترك المقري عدداً من المؤلفات، وفي ما يلي ثبت بأسماء بعضها: 1 - روضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس، ألفه حوالي 1011 - 1012 ليقدمه إلى المنصور أحمد الذهبي (طبع بالمطبعة الملكية بالرباط عام 1946 بتحقيق الأستاذ عبد الوهاب بن منصور) . 2 - أزهار الرياض في أخبار عياض، ألفه أثناء إقامته بفاس 1013 - 1027 ولم يطبع منه إلا ثلاثة أجزاء بتحقيق الأساتذة مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي (القاهرة 1939 - 1942) . 3 - إضاءة الدجنة بعقائد أهل السنة، منظومة بدأ بتأليفها أثناء زيارته للحجاز سنة 1929 ودرسها في الحرمين الشريفين، وأتمها في القاهرة سنة 1630، وقد قال عبد القادر الغصين إنه كان السبب في تأليفها، قال: " فإني كنت أقرأ عليه صغر الشيخ السنوسي بمصر، فسألنا منه نظماً في العقائد، فكان كلما قرأ درساً نظمه فيقرأه غداً كذلك إلى أن ختمه " وكانت عند عبد القادر نسخة منها عليها تعليقات للمقري، ومن جملة ما كتبه على حاشيتها، عند قوله " وكان إتمامي له في القاهرة ": " هو جملة التاريخ لأن عدة حروفة بالجمل 1036 وكتب المقري في آخر تلك النسخة ما نصه: " يقول مؤلف هذه العقيدة العبد الفقير أحمد المقري المالكي - جبره الله - إني صححت هذه النسخة جهد استطاعتي

وأصلحت فيها ما عثرت عليه، وقد كتب من هذه العقيدة فيما علمت بمصر المحروسة والشام والحجاز والمغرب نيف على ألف نسخة، ولله الحمد، وكتبت خطي على نحو المائتي منها، وقد كتبها غالب طلبة مكة لما قرأتها هناك، وأهل بيت المقدس لما قرأتها به أيضاً، وأهل دمشق حين درستها بها، وأخذ منها أصحابنا إلى المغرب والصعيد نسخاً، وكتب لي بعض أصحابنا بالصعيد أنه كتب منها هناك نيف على مائة نسخة، وكذلك برشيد والإسكندرية، جعلها الله خالصة لوجهه الكريم، وكتب لشوال سنة 137 " (طبعت بمصر سنة 1304 بهامش شرح العقيدة السنوسية للشيخ عليش) . 4 - ادحاف المغرم المغرى في شرح السنوسية الصغرى، وقد تقدم (رقم: 3) أنه كان يدرس السنوسية لطلبته بمصر (ومن شرحه لها نسختان بالخزانة الملكية بالرباط رقم 3544، 5928) . 5 - أجوبة على مسائل أرسلها إليه أستاذه محمد بن أبي بكر الدلائي سماها " أعمال الذهن والفكر في المسائل المتنوعة الأجناس ... " (توجد ضمن كتاب البدور الضاوية بخزانة الرباط) . 6 - حاشية على شرح أم البراهين للسنوسي (ذكرها المحبي واليواقيت) . 7 - عرف النشق من أخبار دمشق (ذكره المحبي، ولعله كان مشروعاً لم يتم) . 8 - شرح مقدمة ابن خلدون (ذكره حاجي خليفة 2: 106) . 9 - قطف المهتصر في شرح المختصر، شرح على حاشية مختصر خليل (ذكره المحبي) .

10 - فتح المتعال في مدح النعال (طبع بالهند) ؛ ولما اطلع الرحالة أبو سالم العياشي على كتاب بمكة اسمه " منتهى السول من مدح الرسول " ووجد فيه مجموعة من الشعر في مثال نعل الرسول (ص) قال: " ولم يطلع على هذا التأليف شيح مشايخنا الحافظ سيدي أبو العباس أحمد المقري، مع سعة حفظه وكثرة اطلاعه ومبالغته في التنقير والتفتيش عما قيل في النعل، ولم يلغ لمن قبل عصره إلا على عدد أقل من هذا بكثير، وغالب ما أودعه في كتابه " فتح المتعال في مدح النعال " كلامه وكلام أهل عصره، ولو اطلع على هذا الكتاب لاغتبط به كثيراً ". 11 - وكان المقري قد ختم كتابه السابق برجز في النعال الشريفة ثم أفرده في نسخة بعث بها إلى شيخه الدلائي (المخطوط رقم 565 بالخزانة العامة بالرباط) ولعله المسمى " النفحات العنبرية في نعل خير البرية ". 12 - وللمقري أراجيز كثيرة أخرى منها " أزهار الكمامة في شرف العمامة " (الخزانة العامة بالرباط؛ المخطوطة 984د) . 13 - والدر الثمين في أسماء الهادي الأمين (ذكره المحبي واليواقيت) . 14 - ورجز " نيل المرام المغتبط لطالب المخمس الخالي الوسط " (مخطوطة الرباط 2878 ك) . 15 - البلدة والنشأة (ذكره المحبي واليواقيت) . 16 - الغث والسمين والرث والثمين (ذكره في اليواقيت) . 17 - حسن الثنا في العفو عمن جنى (طبع بمصر في 47 ص؛ دون تاريخ) . 18 - الأصفياء (ذكره أحمد الشاهيني في رسالة بعث بها إلى المقري) . 19 - الشفاء في بديع الاكتفاء (ذكره أحمد الشاهيني في رسالته) .

20 - القواعد السرية في حل مشكلات الشجرة النعمانية. 21 - النمط الأكمل في ذكر المستقبل. 22 - أرجوزة في الإمامة. 23 - نظم في علم الجدول (ذكره في اليواقيت) . 24 - وذكر في النفح أنه كان يزمع تأليف كتاب في تلمسان يسميه: ((أنواء نيسان في أنباء تلمسان)) ويبدو أنه لم يحقق ذلك. 25 - شرح له على قصيدة ((سبحان من قسم الحظوظ)) (ذكره في اليواقيت) . 26 - ونسبت له المصادر كتاب ((الجمان من مختصر أخبار الزمان)) إلا أن الأستاذ الجنحاني يشك في نسبة هذا الكتاب إليه. 27 - رسالة ((إتحاف أهل السيادة بضوابط حروف الزيادة)) (ذكرها في النفح 3: 457 ولعله لم يفردها) . 28 - وأخيراً كتاب ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)) الذي سأتحدث عنه في ما يلي: 3 - كتاب نفح الطيب: حدثنا المقري في مقدمة كتابه عن جميع المرحلة التي سبقت تهممه لتأليف هذا الكتاب، ومنه نفهم أنه ثمرة لزيارته التي قام بها لدمشق، فقد حدث تلامذته فيها عن لسان الدين ومكانته السياسية والأدبية فأثار في نفوسهم حب الاستطلاع إلى مزيد من البيان عنه، وكان أحمد الشاهيني المدرس بالجمقمقية

أشدهم إلحاحاً في ذلك، ولهذا نزل المقري عند رغبته، ووعده ((بالشروع في المطلب عند الوصول إلى القاهرة المعزية)) ، وبعد أن قطع في العمل شوطاً بدا له أن هناك صعوبات لا يستطيع التغلب عليها، فخامره التردد من جديد، وعاود ابن شاهين الإلحاح وكان اطلع على بعض ما جمعه المقري، فأحس بخيبة أمله لأن المقري لم يدرج في فاتحة الكتاب المجموع ما دار بينها من محاوره، مما اضطر المقري إلى معاودة العمل على نسق جديد، وتخصيص قسم من المقدمة ومن الكتاب لذكر دمشق وأصحابه فيها، وكان في البداية يزمع أن يسميه ((عرف الطيب في التعريف بالوزير ابن الخطيب)) فلما رأى أن المادة التي اجتمعت لديه قد استفاضت بحيث شملت تاريخ الأندلس وأدبها غير اسم الكتاب وجعله ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب)) . وعلى هذا النحو أصبح الكتاب قسمين: قسم خاص بالأندلس عامة وقسم خاص بلسان الدين وما يتعلق به من شئون. وفي كل قسم من هذين القسمين ثمانية فصول. وقد فرغ من كتابته ((عشية يوم الأحد المسفر صباحها عن 27 رمضان سنة 1038 بالقاهرة)) ثم ألحق فيه كثيراً في السنة التالية بعدها فيكون جميعه في آخر ذي الحجة الحرام تتمة سنة 1039. والحق أن زيارة المقري لدمشق كانت ارتباطاً ((بوعد)) ساعد المقري على إنجاز الكتاب، ولكني أرجح أن فكرة الكتاب كانت تجول في ذهنه، قبل ذلك؛ لأسباب منها: 1 - أن إعجابه بلسان الدين ابن الخطيب، بحيث يقلده في طريقته الإنشائية ويحفظ الكثير من رسائله وشعره، كان قميناً بدفعه إلى كتابه مؤلف عنه، وخاصة لإحساسه بالغربة والوحشة اللتين أحس بهما ((مثله الأعلى)) حينما لجأ إلى المغرب.

2 - أن مثل هذا الكتاب كان كفيلاً بأن ينفس عنه كربه، ويعود به من خلال أشعار الحنين ومن خلال التاريخ الماضي والقريب إلى وطنه، عودة نفسية وروحية. 3 - أن المنهج للتأليف في لسان الدين كان سهلاً مفتوح المسارب أمام عينيه لأنه قد مارس مثل هذا المنهج حينما كتب عن القاضي عياض كتاباً سماه ((أزهار الرياض)) . 4 - أن انفصام آخر الروابط الإسلامية من الأندلس لم يكن قد مضى عليه إلا سنوات، فكانت صورة ((المأساة)) ما تزال تلح على مخيلة المقري، وكان الربط بين الماضي والحاضر من الأمور التي تعين على التذكر والتذكير والعبرة في آن واحد؛ وكل من درس ((نفح الطيب)) بتأمل، سيشعر بهذه الناحية، ويكفينا مثلاً على ذلك تلك الوقفة الطويلة التي وقفها المقري وهو يستعيد صورة المنصور بن أبي عامر الذي يمثل البطولة العربية بالأندلس في أوجها. 5 - كان المقري كغيره من المغاربة يحس مدى إهمال المشارقة للتراث الأندلسي والمغربي، وكان ذلك الإهمال في القديم للاعتداد بالثقافة المشرقية، أما في عصر المقري فكان سببه ضعف الثقافة عامة، وحسبك أن تجد لسان الدين - وهو من هو في المغرب والأندلس - محتاجاً إلى من يعرف المشارقة به ويحدثهم عن أخباره؛ ولهذا وجد المقري أن كتابه مؤلف جامع شامل تحقق هذا الغرض، وكان في البدء يزمع أن يقصره على لسان الدين، ثم وجد أن صورة لسان الدين لا يمكن أن تتضح إلا على محمل من التطور الأدبي والسياسي في الأندلس. وفي الوقت نفسه كان الكتاب يحقق تبيان الصلة الثقافية بين المشرق والمغرب، ولهذا خصص جزءاً كبيراً من كتابه للرحلتين: رحلة المغاربة إلى الشرق ورحلة المشارقة إلى الأندلس والمغرب، وفي هذه الناحية الثانية كان المقري يحس أنه حلقة في تلك السلسلة الطويلة، وكأنه في مقدمة الكتاب وفي بعض

فصوله الأخرى سجل طرفاً من رحلة، كما سجل أسلافه من قبل أخبار تنقلاتهم. وبذلك أسعفه مؤلفه هذا على أن يحقق ما قد نسميه ((نزعة مغربية)) وهي نزعة لا تقتصر على الرحلة وإنما كانت تشمل نقل التراث المغربي الخالص والأندلسي إلى المشارقة. ولست أرى المقري مغالياً أو مترسماً لتقليد معين حين يعلن عن تهيبه من الإقدام على هذا التأليف؛ نعم كان المنهج أول الأمر واضحاً في مخيلته، ولكنه ما إن بدأ العمل حتى واجهته أكبر صعوبة يمكن أن تواجه من يتصدى لذلك، أعني ندرة المصادر الأندلسية والمغربية في المشرق. ولسنا ننكر أن الرجل كان ذا ذاكرة قوية، ولكن الذاكرة القوية لا يمكن أن تسعفه في كل وجه، ولو كانت كذلك حقاً لأنقذته من التكرار الكثير الذي يقع في صفحات متقاربات أحياناً، ثم هناك أشياء قد اختلت عن صورتها الأولى في ذاكرته لأنه حفظها حفظها منذ عهد بعيد، وإذن فما العمل؟ إن كل من يقرأ النفح يحس أن المقري لم يكن لديه نسخة من الذخيرة أو من المقتبس أو من زاد المسافر أو من الصلة لابن بشكوال، ولم يتح له أن يطلع على صلة الصلة والذيل والتكملة والحلة السيراء وتحفة القادم وجذوة المقتبس ومعجم أصحاب الصدفي ... إلخ؛ وإذا رأيته يذكر هذه الكتب فهو إنما ينقل عنها بالواسطة. ولهذا كله انقض على مصادر معينة فأسرف في النقل عنها لأنه لا يملك سواها، فقد وجد لديه من مؤلفات ابن سعيد المغرب والقدح المعلى (أو اختصار القدح) ووجد للسان الدين نفسه الإحاطة وللفتح ابن خاقان المطمع والقلائد، وكان بين يديه كتاب ابن الفرضي في العلماء والرواة وكتاب المطرب لابن دحية ودرر السمط وكتاب التكملة لابن الأبار، وتاريخ ابن خلدون ونيل الابتهاج لشيخه أحمد بابا، وأمعن في التفتيش عن كل ما دونه المشارقة من أخبار الأندلس فاستعان بابن خلكان وبالخريدة وبكتاب بدائع البدائه لابن ظافر، ونقل أكثر ما فيها من حكايات وأخبار أندلسية، وكان مما جرأه على الاضطلاع بذلك العبء، أنه كان قد نقل كثيراً من المادة

اللازمة (أصالة أو استطراداً) في كتابه أزهار الرياض وروضة الآس، فارتاحت نفسه إلى إعادة جملة غير قليلة من مادة كتابيه هذين. هذه الصورة قد تخيل للقارئ أن الجهد في تأليف النفح لم يتعد تكديس المادة من المصادر التي تيسرت حينئذ للمؤلف. ولكن من الجور على المقري ألا نعترف له بفضله الكبير وهو قدرته - رغم الاستطرادات - على تسخير مادته لتصوير الحياة السياسية والاجتماعية والأدبية بالأندلس وحرصه على أن يستنفذ من يد النسيان والضياع كثيراً من الأخبار عن الأندلس والمغرب؛ وما يزال قسم كبير من كتابه منقولاً عن أصول ضاعت ومستوعباً لأصول أخرى لا نجدها في سواه. وقد ظهر كثير من المصادر التي نقل عنها في خلال الأعوام المائة الأخيرة، إلا أن ظهورها لم ينقص من قيمة النفح كثيراً، بل إن وجود النفح كان بمثابة الوثيقة النافعة في تحقيق تلك المصادر. وعلى سبيل المثال أقول: إن المقري قد اعتمد كثيراً على المغرب لابن سعيد ولكن المقارنة الأولية بين نص المغرب المنشور ونص النفح تدلنا على أن المقري اعتمد نسخة أوفى بكثير من هذه التي لدينا؛ كذلك نقل كثيراً عن المطمح ولكن اعتماده على المطمح الكبير الذي لا نعرفه حتى اليوم يجعل نقوله نسخة متفردة في عدة أمور. والأمر يبدو على وجه أوضح إذا تساءلنا أين هو الطالع السعيد، والروض الأريض، وجنة الرضى، وكتب المقري الجد والأزهار المنثورة وغيرها من الكتب الكثيرة التي استعان بها المقري في هذا التأليف؟ إن كتاب النفح قد اتخذ الطابع ((الموسوعي)) الذي يجعله مغنياً عن عشرات الكتب لصعوبة الرجوع إلى تلك الكتب مجتمعة في نطاق، هذا إذا بالغنا في التفاؤل وقدرنا أن جميع مصادر النفح ستكون ذات يوم في متناول أيدي الدارسين. 4 - تحقيق نفح الطيب: لهذه القيمة التي لا يزال هذا الكتاب يتمتع بها رأيت أن أتولاه بالتحقيق

العلمي. ومع أن نفح الطيب أقدم كتاب أندلسي ظهر للنور وعرفته المطبعة العربية وكان مصدراً لأكثر ما عرفه المشارقة عن الأندلس في مدى مائة عام أو أكثر فإنه لم ينل من عناية المحققين ما ينبغي له، وخير طبعة ظهرت منه هي تلك التي تولاها بالعناية كل من دوزي ودوجا وكريل ورأيت (ليدن: 1855) فقد اعتمد هؤلاء المستشرقين على النسخ الخطية التي توفرت لهم في باريس ولندن وأكسفورد وغوطة وبرلين وكوبنهاجن وبطرسبرج، ونشروا الكتاب في قسمين يحتوي كل قسم على جزءين وألحقوا بذلك جزءاً صغيراً يضم الفهارس والتصويبات، ومع أن هذه الطبعة لم تشمل إلا القسم الأول من النفح، فليس ذلك مما يحول بيننا وبين كلمة إنصاف لهؤلاء المحققين، ذلك أنهم توخوا الدقة في مقارنة المخطوطات واجتهدوا في مراجعة نصوص النفح على ما تيسر لديهم حينئذ من مصادر، فجاء الكتاب ذا طابع علمي موثق. ولهذا اعتبرت الطبعة أصلاً معتمداً، وأشرت إليها في حواشي الطبعة الجديدة باسم أشهرهم في الدراسات الأندلسية وهو ((دوزي)) ، ولم أحاول أن أعيد النظر في المخطوطات التي اعتمدوها ثقة مني بأمانتهم التي تبلغ حد التزمت في إثبات الفروق بين مختلف النسخ الخطية. وقد طبع النفح عدة طبعات في المشرق كان أولها طبعة بولاق سنة 1279، وهي على ما فيها من جهد مليئة بالخطأ، وليس فيها ما في الطبعة الأوروبية من دقة علمية؛ ثم كان آخر الطبعات المشرقية طبعة المكتبة التجارية بإشراف الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد (القاهرة: 1949) ، وقد أفاد فيها من الطبعة الأوروبية ومن الطبعات المشرقية، فجاءت في صورة مقبولة نوعاً ما، ولذلك أبحت لنفسي أن أشير إليها باسم ((التجارية)) إشارات قليلة، وإن كنت لا أعدها أصلاً لأنها لم تعتمد على نسخ خطية. وفي سبيل أن أوفر لهذه النشرة الجديدة ما تتطلبه الأمانة العلمية من جهد راجعت النفح على كل ما استطعت الحصول عليه من مصادره - خطية كانت

أو مطبوعة - وسيجد القارئ في الحواشي والجزء الخاص بالفهارس أنني راجعت في سبيل ذلك عشرات الكتب، ورصدت نقل المقري على نحو يكشف عن أصول كتابه حتى حين يصمت عن ذكر تلك الأصول؛ وترجمت للأعلام ترجمات قصيرة أو أشرت إلى مصادر ترجمهم، وشرحت ما اعتقدت أن الشرح فيه ضروري، ولم أستكثر من الشروح اللغوية لأن ذلك يخرج الكتاب - وهو ضخم بطبيعته - إلى حجم كبير جداً. وأثبت فروق القراءات، لا حيث يكون الخطأ واضحاً، بل حيث تكون القراءة ذات وجه مقبول. وزودت الكتاب بفهارس شاملة، لكي يكون الانتفاع به ميسراً، فإن كثرة الاستطراد فيه وتشعب أجزائه تجعل الإفادة منه - دون فهارس تفصيلية - أمراً بالغ العسر. وأبحت لنفسي ترقيم بعض فقرات هذا الكتاب ووضع عناوين لأجزائه، كي أسهل على القارئ والباحث استعماله ومراجعته. على أن كل ذلك لم يكن ليعطي لهذا العمل صبغة فارقة لو لم أعتمد على عدد من مخطوطات النفح نفسه أعانتي كثيراً في التحري والتدقيق، وقد راعيت أن تكون هذه المخطوطات مما لم يطلع عليه محققو الطبعة الأوروبية، وهذا ثبت بتلك النسخ التي اعتمدتها: 1 - النسخة ((ك)) وهي من المكتبة الكتانية التي ضمت إلى الخزانة العامة بالرباط (ورقمها: 2394ك) وتقع في 286 ورقة، تمثل أول ورقتين منها فهرستاً لأهم الموضوعات التي وردت فيها، ويبدأ النص فيها على الورقة الثالثة، وفي كل صفحة من صفحاتها 21 سطراً ومعدل الكلمات في السطر الواحد 11 كلمة؛ وهي مكتوبة بخط مغربي جيد (أندلسي) كثير التشجير وعلى هوامشها عناوين للموضوعات، وهي أكثر المخطوطات اتفاقاً مع الطبعات المشرقية؛ وتنتهي عند آخر الباب الرابع من القسم الأول حسب تقسيمات المؤلف. 2 - النسخة ((ج)) وهي رقم 768 ج بالخزانة العامة بالرباط؛ وتقع في 205 ورقات إلا أن ما يخص النفح منها ينتهي عند الورقة 183 ويمثل ما بعد

هذه الورقة قطعة من كتاب ((أنس السمير في نقائض الفرزدق وجرير)) وقطعة من الذخيرة تمثل ترجمته ابن عمار. وتحتوي كل صفحة منها 33 سطراً، مكتوبة بخط مغربيس دقيق جداً، وقد سماها ناسخها الجزء الأول من النفح إذ جاء في آخرها: ((انتهى ما وجد في الجزء الأول من نفح الطيب ويتلوه في الجزء الثاني: ولما سألني في الإجازة الفاضل الأديب الشيخ محمد بن علي ابن مولانا عالم الشام الشهير الذكر شيخ الإسلام سيدي ومولاي عمر المعماري حفظه الله ... إلخ بحول الله وحسن عونه؛ وكان الفراغ منه ضحى ثامن شهر رمضان سنة 1077 وذلك بحضرة مراكش ... على يد الفقير إلى رحمة القدير محمد بن عمر الدعوغي ... )) . وتعد هذه النسخة قيمة لقدمها ودقتها، وهي أقرب إلى نسخة ق (التي سيأتي وصفها) من نسخة ك. 3 - النسخة ((ط)) رقم 268 ك بالخزانة العامة بالرباط وهي في 278 ورقة، في كل صفحة 25 سطراً، وقد كتبت بخط مغربي واضح خال من المد والتعريج، ومجموع ما تحتويه يساوي ما اشتملت عليه نسخة ((ك)) ، غير أنها أقرب المخطوطات إلى ((ق)) ، حتى في القراءات الخاطئة. 4 - النسخة ((م)) وهي رقم 430 ك، بالخزانة العامة بالرباط وتضم 286 ورقة، في كل صفحة منها 24 سطراً، وخطها أيضاً مغربي واضح، والقلم الذي كتبت به مستعرض قليلاً، بالنسبة للمخطوطات الأخرى، وهي تبدأ بالباب السابع من القسم الأول وتنتهي بنهايته، ويسميها ناسخها ((الجزء الثالث)) من الكتاب. وتتميز هذه المخطوطة عما عداها بحذف المكرر وبالتمهيد المسهب في التقديم للأشعار، وبإيراد زيادات - وخاصة في أشعار الزهد - لا ترد في غيرها من المخطوطات، ويبدو من مجمل النظر فيها أن ناسخها حاول أن يتحكم في نص النفح بالحذف والزيادة، وأن ذلك ليس من صنع المقري نفسه. 5 - النسخة ((ب)) وهي نسخة خاصة كانت في ملك العلامة المحقق الصديق إبراهيم الكتاني، فلما علم - حفظه الله - بأنني أنوي تحقيق النفح

قدمها إلي، مشكور الفضل مذكوراً بالخير، ولعل هذه النسخة في الأصل كانت كسابقتها إذ أنها تبدأ بالباب السابع من القسم الأول، إلا أنها مبتورة من آخرها، ولم يبق منها إلا 165 ورقة، وفي كل صفحة منها 29 سطراً، وخطها مغربي في غاية الجمال والوضح، وقد عاثت الأرضة في صفحاتها بشدة، كما أن بعض الصفحات فيها خال تماماً من الكتابة. 6 - النسخة ((ص)) وهي رقم 216 ق بالخزانة العامة بالرباط وأصلها من مكتبة الزاوية الناصرية وتقع في 290 ورقة، وفي كل صفحة من صفحاتها 31 سطراً، وخطها مشرقي نسخي، والاهتمام بالشكل فيها مقصور على النصوص الشعرية، وتسمى ((الجزء الثالث من النفح)) وتبدأ بالباب الثامن من القسم الأول وتستمر حتى نهاية الباب الرابع من القسم الثاني؛ وهي قريبة النسب (دون الخط) بأصل النسخة ((ك)) ، وتقع وسطاً بين الطبعات المشرقية ونسخة ((ق)) . 7 - النسخة ((ق)) وهي نسخة خاصة يملكها الصديق الكريم والكتبي المفاضل الأستاذ قاسم الرجب صاحب مكتبة المثنى ببغداد، وقد تفضل مبادراً فأعارنيها حين أعلمته أني أقوم بتحقيق الكتاب، وتقع هذه النسخة في 511 ورقة، وهي نسخة كاملة تضم جميع مادة النفح بقسيمه، وفي كل صفحة من صفحاتها 51 سطراً، وقد كتبت بخط نسخ مشرقي جميل وجعلت عناوينها الكبرى والصغرى بالحبر الأحمر، غير أن ناسخها يسهو عند تشابه النهايات، فيسقط مرات أسطراً كاملة؛ كما أن الخطأ الناشئ عن تصوير الكلمة لتطابق صورة الأصل الذي كان ينقل عنه، يتفشى فيها، ومع ذلك فهي من أشد النسخ قرباً من المتن المثبت في طبعة دوزي. وناسخها هو أحمد بن محمد الحمومي العطار، فرغ من نسخها ((عشية يوم الأربعاء المسفر صباحها عن الرابع والعشرين أو الثالث والعشرين لذي القعدة الحرام من شهور سنة 1130)) بمنزله الكائن بمحلة القيمرية من دمشق الشام - وقد قام بكتابتها برسم السيد محمد عاصم أفندي

ابن المرحوم السيد عبد المعطي أفندي الشهير نسبه الكريم بالفلاقسي -. 8 - ((المقتطفات)) وهي أوراق كتب عليها ((قطعة من تاريخ الأندلس)) وتحمل رقم 421 إسكوريال وأكثر المادة فيها مأخوذة من نفح الطيب، ولكني لم أفردها برمز لأني غير واثق أنها تمثل جزءاً من ذلك الكتاب دون زيادات من كتب أخرى؛ وهي في 143 صفحة، في كل صفحة 30 سطراً، وتحتوي على الأخبار التاريخية مثل ترجمة عبد الرحمن الداخل وأخبار المنصور بن أبي عامر والمعتمد بن عباد ومطولات القصائد كقصيدة ابن مقانا الأشبوني وقصائد ابن حمديس في المباني وقصائد لابن زيدون وقصيدة لسان الدين السينية المفتوحة وتشبه أن تكون ((مسودة)) أصلية، إذ مادتها غير مرتبطة، وتضم من أخبار المشرق قطعة كبيرة عن الناصر بن المنصور وشعره. وحقيق بي بعد هذا كله، أن أعترف بجميل كل من له فضل على هذا العمل، فأتقدم بوافر الشكر لعدد من الأصدقاء، أخص بالذكر منهم الأستاذ إبراهيم الكتاني الذي قدم إلي النسخة ((ب)) هدية خالصة، والأستاذ قاسم الرجب الذي كانت نسخته (ق) معتمدي الأول في التحقيق، والأستاذ عبد الله الرجراجي مدير الخزانة العامة بالرباط الذي ذلل لي صعوبات جمة حين أذن بتصوير كل نسخ النفح الموجودة بالخزانة العامة، فلولا حمية هؤلاء الأصدقاء في خدمة العلم لما استطعت أن أستمد الثقة المسعفة على المضي لبلوغ غاية شاقة. ويطيب لي أن أنوه بالعون العملي المخلص الذي تلقيته من اثنين من تلامذتي يدرسان في مرحلة الماجستير هما الآنسة وداد القاضي التي تعمل في حقل العلم ببصيرة نافذة وروح علمية سامية والسيد يوسف محمد عبد الله أحد اللامعين من أبناء جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، فقد تكبدا معي - بصبر لا يعرف الكلل ودقة تستحق التقدير والإعجاب - عناء المراجعة للأصول وإعداد الفهارس العامة والنظر في النص قبل ذهابه إلى المطبعة نهائياً، وبذلاً في ذلك من جهدهما ما لا أفيه حقه من الشكر، جزاهما الله عني كل خير، وضوأ مستقبلهما الذي أرجوه لهما

ويرجوانه لنفسيهما بهدي العلم وبركاته. وما أظنني أتجاوز الواقع في شيء حين أنسب أكثر ما في هذا العمل من خير إلى جهود صديقين عزيزين: هما الأستاذ أنطوان صادر (صاحب دار صادر) والأستاذ مصطفى دمشقية، فأما الأول فقد ضحى براحته ووقته في رعاية هذا العمل خطوة بعد خطوة، وقد آلى على نفسه أن يشمله بروح الإتقان وبراعة الإخراج مهما يكلفه ذلك من بذل ومشقة، وأما الثاني فإن عداوته للخطإ وسهره في تحري الصواب وإعماله النظر النافذة والقلم السديد في صفحات الكتاب أثناء الطبع، قد حقق ما أتيح له من التجويد الواضح الذي يستحق الثناء العاطر والشكر الجزيل. فأما ما قد يكون هنالك من هفوات فإني أتحمل وزرها وحدي، غير خجل بها، وإن تمنيت السلامة منها، بعد أن قدمت ما في طاقتي في مدة تزيد على عامين، انصرفت فيهما عن كثير من الشئون، لإنجاز هذا العمل على نحو مقبول، مطمئناً إلى أن باب العصمة مرتج دون بني الإنسان، راضياً أن يكون الخطأ القليل علامة على إحراز الصواب الكثير. والله من وراء القصد وهو حسبي ونعم الوكيل. بيروت في 20 شباط (فبراير) 1968 إحسان عباس

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم [مقدمة المؤلف] [خطبة الكتاب] يقول العبد الفقير، الذليل المضطر الحقير، من هو من صالح الأعمال (1) عري: أحمد بن محمد الشهير بالمقري، المغربي المالكي الأشعري، أصلح الله تعالى حاله، وجعل في مرضاته حله وترحاله، ومحا بغيث الطاعة والرضوان أمحاله، وأنجح ببلوغ آماله انتحاءه وانتحاله (2) : أحمد من عرف من حلى الأمصار وعلى الأعيان، على تداول الأعصار وتطاول الأحيان، ما فيه ذكرى لأولي الأبصار وإرساد إلى معرفة الديان، واعتبار بأخبار راع وصفها أو راق. وشرف من صرف المطامح والمطامع، إلى تفصيل ما أفاد لسان الدين من كلم جوامع، وتحصيل ما أجاد من حكم بوالغ بلاغتها هوامع، واقتناء ذخائر المهتدين التي تشنفت بدررها اللوامع الآذان والمسامع، من كل منحط عن رتبة البراعة أو راق. حتى توج

_ (1) ط: العمل. (2) لم ترد هذه الفاتحة في ج ك.

الخطيب المجيد رؤوس المنابر بفرائد الكلام، وحلى الكاتب الأديب المجيد صدور المزابر من فوائد الأعلام، وكحل الحكيم الطبيب الأريب المفيد من إثمد المحابر بمراود الأقلام عيون أوراق. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي ابتدأ الخلق من غير مثال وبرا، وقسم العباد إلى حاضر وباد وظاهر وخامل وقاصر وكامل تشير إليه بالأنامل أيدي الكبرا، وأبدى في اختلاف ذواتهم وأعراضهم وتباين أدواتهم وأغراضهم وتغاير ألسنتهم وأمكنتهم وأزمنتهم وألوانهم وأكوانهم ومناصبهم ومناسبهم عبرا، وجعل الدنيا لمن أتيح صغراً أو كبراً، ولبس منهم مسوحاً أو حبراً، وأخلد إلى الأرض أو صعد منبراً، جسراً إلى الآخرة ومعبراً، وحكم - وهو الفاعل المختار - على الجميع بالموت فكان لمبتدإهم خبرا، فيا له من داء أعيا كل معالج أو راقٍ. فسبحانه من إله انفرد بوجوب القدم والبقا، واختص بفضله من شاء فارتقى، وعم تعالى ذوي السعادة والشقا، بالحدوث وألفنا، وأذاق من فراق الدنيا كل من فيها بلا ثنا (1) ، ممن وفق فنفى عن جفنه وسنا، أو خذل فجر في ميدان الاغترار رسنا، وزين له عياذاً بالله سوء عمله فرآه حسناً، طعم شعوب (2) المر الجنى، فلم يغن عن ذوي الغنى والغنا، وأهل السناء والسنا، من استظهروا به من أرباب الصوارم والقنا، وأصحاب النظم والنثر والجدال والفخر والمدح والثنا، فأولئك ألقوا السلاح مذعنين، مستبصرين موقنين، إذ جاء الحق وزهق الباطل وولى الامترا، وهؤلاء تركوا الاصطلاح معلنين (3) ، عالمين أنهم لم يكونوا في التمويه محسنين، وكيف لا وقد اضمحل

_ (1) الثنا - بكسر الثاء وضمها - إعادة الشيء مرتين، أو الرجوع فيه. وفي ق ك ج: ثنيا. (2) طعم: مفعول به للفعل " أذاق ". وشعوب: اسم للمنية. (3) ط: معلمين.

الغرور والاجترا، وذهب والله الجور (1) والافترا، وبدل مذق الإطراء بصدق الإطراق (2) . وأشكره جل وعلا على أن علم بالقلم ما لم نعلم، ونبه بآثاره الدالة على اقتدار إلى سلوك الطريق الأقوام، الواضح المعلم، وأرشد من أشرق فكره وأضا، إلى التفويض لأحكام القضا، ومن ذا يرد ما أمضى أو نيقص ما أبرم، والتسليم على كل حال أسلم، وأمر جل اسمه بالتدبر في أنباء من مضى، والنظر في عواقب أحوال (3) الذين زال أمرهم وانقضى، من صنوف الأمم، ووبخ من دجا قلبه بالإعراض عن ذلك وأظلم، وشتان ما بين اللاهي والمتذكر، والساهي والمتفكر، والناجي والهالك والمتحير، والداجي الحالك والمشرق النير، وما يستوي الظل والحرور، والحزن والسرور، والظلمات والنور، ذو البهجة والإشراق. وأصلي أزكى الصلاة والسلام، هدية لحضرة سيد الأنام، ولبنة التمام، من زويت (4) له من الأرض المغارب والمشارق، وتم به نظام أنبياء الله ورسوله العظام، وأزاح نوره الضلال والظلام، حتى أضاءت بوسمه المساجد وازدانت باسمه المهارق (5) . وألقى الموفق الموافق لدعوته بيد الاستسلام، وذلك شأن ذوي العقول الراجحة والأحلام، غير خائف من عتب ولا مترقب لملام، فأمن من الطوارئ والطوارق، وتمت كلمة الإسلام الذي اتضح برهانة لذي بصر وبصيرة لا يحتاج إلى زيادة الإعلام، وعلت سيوف توحيد الملك العلام،

_ (1) ط ق ج: للزور. (2) مذق الإطراء: الثناء الكاذب. الإطراق: السكوت. (3) أحوال: سقطت من ق. (4) زويت الأرض: جمعت وطويت، وفي الحديث " إن الله تعالى زوي لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها ". (5) المهارق: الصحف.

من المعاند المفارق المفارق (1) ، وخضبتها بحناء النجيع الرقراق. النبي الأمي الأمين، الداعي جميع العالمين، إلى سلوك منهاج ما له من هاج، ذي أضواء شوارق، سيد الرسل الغر الميامين، ملجإ الأمة جعلنا الله ممن نجا باللجإ إليه آمين، الذي أنزل عليه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وانشق له الزبرقان (2) ، ونبع الماء من بين أصابعه زيادة في الإيقان، وسلمت عليه الأحجار، وانقادت لأمره الأشجار، متفيئة ظلاله الشريفة وخطت في الأرض أسطراً مبدعة الإتقان، إلى غير ذلك من معجزاته الخوارق، فهو صاحب الدعوة الجامعة، والبراهين اللامعة، والأدلة التي سقت الشجرة الطيبة غيوثها النافعة، الصيبة الهامية الهامعة، الصادقة البوارق، فأثمرت النجاة والفوز والفلاح وأرقت بالهدى أحسن إبراق. أسنى رسولٍ بعث إلى الأرض، وأعظمهم جلالة، وأكثرهم تابعاً في الطول منها والعرض، ولم لا وقد ظهر به الحق لمن أمه مسترشداً وجلا له، وأسمى من جاء بتبيين السنة والفرض، وأعمهم دلالة، منقذ البرايا في الدنيا ويوم العرض، الآخذ بحجزهم عن النار والضلالة، الداعي إلى تقديم الخير وحسن القرض، الحريص على هداية الخلق المبلغ لهم أحكام الحق من غير ضجر ولا ملالة، ذو الفضل العظيم الذي لم يختلف فيه من أهل العقول اثنان، والمجد الصميم الثابت الأصول الباسق الأفنان، المنتقى من محتد معد بن عدنان، المنتخب من خير عنصر وأطهر سلالة، شفيعاً وملاذنا وعصمتنا ومعاذنا وثمالنا، الذي نجحت به آمالنا، وزكت به أقوالنا وأعمالنا، ووسيلتنا الكبرى، وعمدتنا العظمى في الأولى والأخرى، وكنزنا الذي أعددناه لإزاحة الغموم ذخراً، وغيثاً وغوثنا وسيدنا ونبينا ومولانا محمد الطيب المنابت والأعراق.

_ (1) المفارق: جمع مفرق وهو الرأس، وهو مفعول به للفعل " علت ". (2) البرقان: القمر.

صلى الله عليه وسلم، ووجه وفود التعظيم إليه، من مفرد في جماله صار لجمع الأنبياء تماماً، وفذ في كماله تقدم في حضرة التقديس التي أسست على التشريف أعظم تأسيس فصلى (1) بالمرسلين إماما، وصدر تحلى بجميل الأوصاف، كالوفاء والعفاف، والصدق والإنصاف، فزكا في أعماله، وبلغ الراجي منتهى آماله، ولم يخلف وعداً ولم يخفر ذماماً، وسيد كسي حلل العصمة، من كل مخالفة وذنب ووصمة، فلم يصرف لغير طاعة ملاوه، الذي أولاه من التفضيل ما أولاه، اهتبالا واهتماما. وعلى آله وعترته، الفائزين بأثرته، أنصار الدين، والمهاجرين المهتدين، وأشياعه وذريته، الطالعين نجوماً في سماء شهرته، وأتباعهم القائمين بحقوق نصرته، أرباب العقل الرصين، الفاتحين بسيوف دعوته أبواب المعقل الحصين، حتى بلغت أحكام ملته، وأعلام بعثته، من بالأندلس والصين، فضلاً عن الشأم والعراق. ورضي الله تعالى عن علماء أمته المصنفين في جميع العلوم والفنون، وعظماء سنته الموفين للطلاب بالآراب المحققين لهم الظنون، وحكماء شرعته المتبصرين بحدوث من مرت عليه الأيام والشهور وكرت عليه الآناء والدهور والأعوام والسنون، المتدبرين في عواقب من كان بهذه البسيطة من السكان المتذكرين على اقدر الإمكان بمن طحنته رحا المنون، من أملاك العصور الخالية وملاك القصور العالية وذوي الأحوال التي هي بسلوك الاختلاف حالية، من بصير وأعمى وفقير وذي نعمى ومختال تردى بكبريائه، ومحتال على ما بأيدي الناس بسمعته وريائه، وعاقل أحسن العمل، وغافل افتتن بالأمل، وكارع في حياض الشريعة، وراتع برياض الآداب المريعة، وذي ورع سد عما رابه الذريعة، وأخي طمع في أن يدرك آرابه من الدنيا الوشيكة

_ (1) فصلى: سقطت من ق ط ج.

الزوال السريعة، ومقتبس من نبراس الرواية، وملتبس بأدناس الغواية، وشاعر هام في كل واد، وقال ما لم يفعل فكان للغاوين من الرواد، وجاهل عمر الخراب، وخدع بالسراب، عن أعذب الشراب، ومحقق علم أنه إذا جاء القدر عمي البصر ممن كان حذر من غراب، وموفق تيقن أن غير الله فان وكل الذي فوق التراب تراب (1) ، ومن متخلق متجرد تصوف (2) ، ومتعلق متفرد تشوق إلى ما فيه رضا الرب وتشوف، وناه ذكر بأيام الله ووعظ وخوف، ولاه اغتر بالباطل، فهو بالحق مماطل، وطالما أخره وسوف، وأبعد الانتجاع، ثم أوى من باطنه إلى بيت قعيدته لكاع (3) ، نفس أمارة بعدما طوف، ومن مادح نظم الآلاء نظم اللآل، وكادح طمس لألاء العز بظلمة ذل السؤال، فجعل القصائد مصايد، والرسائل وسائل، والمقطعات مرقعات (4) ، فآل أمره إلى ما آل، ومن مخبر بما سمع ورأى، حين اغترب عن مكانه ونأى، أو أقام في أوطانه فبلغ ما قدر ووأى (5) ، ومن مجازف لا يفرق بين الغث والسمين والإمرار والإحلام، وعارف ثقة أمين نظم در الصدف الثمين في أسلاك الكتابة والإملاء، وعاشق خنساء فكره ذات الصدار، من الشجون والشعار، تبكي على صخر قلب المحبوب، وتذكره كلما طلعت شمس أو كان للصبا

_ (1) يسير إلى قول المتنبي: إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب (2) متخلق: لايس أخلاق الثياب، وهو ذو خلق. ومتجرد: عريان، أو قد جرد نفسه للعبادة. (3) من قول الحطيئة: أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع والقعيدة اللكاع هنا: نفسه الأمارة بالسوء. (4) المرقعات: ملابس المتصوفة، والمعنى أنه جعل مقطعاته الشعرية وسيلة للتصيد كمرقعات المتصوفة. (5) وأى: وعد وضمن بعزم.

هبوب (1) ، فتأتي بما يطفي وقود الجوى المشبوب من بحار الأشعار، وليلى شوقه العفيفة عن العار، ترفل في ثوب من التصبر معار، وقيس توقه من ثوب السلو عار، قد توله واشتاق خصوصاً عن انتشاق البشام والعرار (2) ، وقلق لما أرق فلم يقر به قرار، فاعتراه ما براه وألف البكاء بحكم الاضطرار، ولبس ثياب النحول والاصفرار، واسر لما هزمت جيوش صبره وأزمعت الفرار، فتحير مما شجاه وسأل النجاة من أسر الفراق. سبحان من قسم الحظو ... ظ فلا عتاب ولا ملامه أعمى وأعشى ثم ذو ... بصر وزرقاء اليمامه (3) ومسدد أو جائر ... أو حائر يشكو ظلامه (4) لولا استقامة من هدا ... هـ لما تبينت العلامه ومجاور الغرر المخي؟ ... ف له البشارة بالسلامه وأخو الحجى في سائر ال؟ ... أنفاس مرتقب حمامه وكما مضى من قبله ... يمضي ولم يقض التزامه والجاهل المغتر من ... لم يجعل التقوى اغتنامه فليرفض العصيان من ... يخشى من الله انتقامه

_ (1) ألم هنا بإشارات إلى الخنساء التي لبست صداراً على أخيها صخر فلم تنزعه حتى ماتت، وكانت تقول في شعرها: " يذكرني طلوع الشمس صخراً " ... (2) فيه إشارات إلى قيس وليلى، واشتداد الشوق عندما يهب النسيم حاملاً معه رائحة البشام والعرار وهما نبتان طيبا الرائحة من نبات نجد. (3) أي أن الناس متفاوتون في حظوظهم فمنهم - من حيث الإبصار - الأعمى والأعشى والحاد البصر الذي يشبه زرقاء اليمامة، وهي مضرب المثل في ذلك، وقصة رؤية الجيش الذي غزا اليمامة من مسيرة أيام مشهورة. وفي ق ط ج: أعشى وأعمى. (4) مسدد: حسن التوجيه. الجائر: الحائد عن القصد. الحائر: الذي لا هو مسدد ولا جائر.

وليعتبر بسواه من ... لصلاحه صرف اهتمامه فالعيش في الدنيا الدني؟ ... ة غير مرجو الإدامه من أرضعته ثديها ... في سرعة تبدا فطامه من عز جانبه بها ... تنوي على الفور اهتضامه وإذا نظرت فأين من ... منعته أو منحت مرامه ومن الذي وهبته وص؟ ... لاً ثم لم يخش انصرامه ومن الذي مدت له ... حبلاً فلم يخف انفصامه كم واحد غرته إذ ... سرته مخفية الدمامه فعدت به من حيث لم ... يعلم فلم يملك قيامه أين الذين قلوبهم ... كانت بها ذات استهامه أين الذين تفيأوا ... ظل السيادة والزعامه أين الملوك ذوو الريا ... سة والسياسة والصرامه وبنو أمية حين جم؟ ... ع عصرهم لهم فئامه وتمكنوا ممن يحا ... ول نقض ما شاءوا انبرامه وتعشقوا لما بدا ... لهم محيا الأرض شامه وتأملوا وجه البسي؟ ... طة فانثنوا يهوون شامه حتى تقلص ظلمهم ... وأراهم الدهر اخترامه أين الخلائف من بني ال؟ ... عباس والبر القسامه

أين الرشيد وأهله ... وبنوه أصحاب الشهامه ووزيره يحيى وجع؟ ... فر ابنوه الراوي احتشامه والفضل مدني من يقو ... ل لمن يلوم على الندى مه أم أين عنترة الشجا ... ع وذو الجدا كعب بن مامه والزاعمون بجهلهم ... أن القبور صدى وهامه والمكثرون من المجو ... ن إذا شكا الفكر اغتمامه أين الغريض ومعبد ... أو أشعب وأبو دلامه أين الألى هاموا بسع؟ ... دي أو بثنية أو أمامه وبكوا لفرط جواهم ... والليل قد أرخى ظلامه وتتبعوا آثار من ... عشقوا بنجد أو تهامه وتعللوا، والشوق يغل؟ ... ب، بالأراكة والبشامه أضنى النوى قيساً فقا ... سى لا عجاً أغرى غرامه وغوى هوى غيلان مذ ... أبدى بميته هيامه أين الأكاسر والقيا ... صرة المجلون الغمامه أين الذي الهرمان من ... بنيانه الحاكي اعتزامه

أم أين غمدان وسي؟ ف والوفود به أمامه أين الخورنق والسدي؟ ر ومن شفى بهما أوامه ومدائن الإسكندر ال؟ لاتي لها أعلى دعامه أين الحصون ومن يصو ن بها من الأعدا حطامه أين المراكب والموا كب والعصائب والعمامه أين العساكر والدسا كر والندامى في المدامه وسقاتها المتلاعبو ن بلب من أعطوه جامه من كل أهيف يزدري بالغصن إن يهزز قوامه ذي غرة لألاؤها تمحو عن النادي ظلامه فالشمس في أزراره والبدر في يده قلامه يصمي القلوب إذا رمى عن قوس حاجبه سهامه ويروق حسناً إن رنا ويفوق آراماً برامه أنى لها ثغر حلا ذوقاً لمن رام التثامه أنى لها وجه يشب بقلب مبصره ضرامه أستغفر الله للغ؟ وٍ لا يرى الشرع اعتيامه بل أين أرباب العلو م أولو التصدر والإمامه وذوو الوزارة والحجا بة والكتابة والعلامه كأئمةٍ سكنوا بأن؟ دلس فلم يشكوا سآمه هي جنة الدنيا التي قد أذكرت دار المقامه لا سيما غرناطة ال؟ غراء رائقة الوسامه وهي التي دعيت دمش؟ ق وحسبها هذا فخامه

لنزول أهلها بها إذ أظهر الكفر انهزامه وأتت جيوش الشأم من باب نفى الفتح انبهامه فسلوا بها عن جلق إذ أشبهتها في الضخامه وبدا لهم وجه المنى وأراهم الثغر ابتسامه وتبوأوها حضرة تبري من المضنى سقامه بروائها وبمائها وهوائها النافي الوخامه ورياضها المهتزة ال؟ أعطاف من شدو الحمامه وبمرجها النضر الذي قد زين الله ارتسامه وقصورها الزهر التي يأبى بها الحسن انقسامه يا ليت شعري أين من أمضى بها الملك احتكامه وأتيح في حمرائها عزاً به زان اتسامه أين الوزير ابن الخطي؟ ب بها فما أحلى كلامه فلكم أبان العدل في أرجائها وبها أقامه ولكم أجار عداً وكم أجرى ندىً وإلى انسجامه راعت صروف الدهر دو لته وما راعت ذمامه حتى ثوى إثر التوى في حفرة نثرت نظامه من زارها في أرض فا سٍ أذهبت شجواً منامه إذ نبهته لكل شم؟ لٍ شتت الموت التئامه هذا لسان الدين أس؟ كته وأسكنه رجامه ومحا عبارته فمن حياه لم يردد سلامه فكأنه ما أمسك ال؟ قلم المطاع ولا حسامه

وكأنه لم يعل مت؟ ن مطهم بارى النعامه وكأنه لم يرق غا رب الاعتزاز ولا سنامه وكأنه لم يجل وج؟ هاً حاز من بشر تمامه وكأنه ما جال في أمر ولا نهيٍ وسامه وكأنه ما نال من ملك حباه ولا احترامه وكأنه لم يلق في يده لتدبير زمامه مذ فارق الدنيا وق؟ وض عن منازلها خيامه أمسى بقبر مفرداً والترب قد جمعت عظامه من بعد تثنيه الوزا رة جاده صوب الغمامه لم يبق إلا ذكره كالزهر مفتر الكمامه والعمر مثل الضيف أو كالطيف ليس له إقامه والموت حتم ثم بع؟ د الموت أهوال القيامه والناس مجزيون عن أعمال ميل واستقامه فذوو السعادة يضحكو ن وغيرهم يبكي ندامه والله يفعل فيهم ما شاء ذلاً أو كرامه ويشفع المختار في؟ هم حين يبعثه مقامه وعليه خير صلاته مع صحبه تتلو سلامه والتابعين ومن بدا برق الرشاد له فشامه ما فاز بالرضوان عب؟ د كانت الحسنى ختامه والله سبحانه المسؤول في الفوز والنجاة كرماً منه وحلماً، وفبيده الخير لا إله إلا هو العلي الكبير، العليم الخبير، الذي أحاط بكل شيء علماً، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء من مخلوقاته على الشمول والاستغراق.

[حنين إلى الوطن] أما بعد حمد الله مالك الملك، والصلاة على رسوله المنجي من الهلك، والرضا عن آله وصحبه الذين تجلت بأنوارهم الظلم الحلك، وعن العلماء الأعلام، الخائضين بحار الكلام، بحار الكلام، المستوين من البلاغة على الفلك - فيقول العبد الحقير، المذنب الذي هو إلى رحمة ربه الغني فقير، المقصر المتبرئ من الحول والقوة، المتمسك بأذيال الخدمة للسنة والنبوة، وذلك بفضل الله أمان وبراءة، الضعيف الفاني، الخطاء الجاني، من هو من لباس التقوى عري، أحمد بن محمد بن أحمد الشهير بالمقري، المغربي المالكي الأشعري، التلمساني المولد والمنتشإ والقراءة، نزيل فاس الباهرة ثم مصر القاهرة، أصلح الله أحواله الباطنة والظاهرة، وجعله من ذوي الأوصاف الزكية والخلال الطاهرة، وسدد في كل قصد أنحاءه وآراءه، ووفقه بمنه وكرمه للأعمال الصالحة، والطاعات الناجحة الراجحة، والمتاجر المغبوطة الرابحة، والمساعي الغادية بالخير الرائحة، ووقاه ما بين يده ووراءه، وكفاه مكر الكائد وافتراءه، وجدال الحاسد المستأسد ومراءه، وجعل فيما يرضيه سومه وشراءه، آمين: إنه لما قضى الملك الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقب أو رد، ولا محيد عما شاءه سواء كره ذلك المرء أو رد، برحلتي من بلادي، ونقلتي عن محل طارفي وتلادي، بقطر المغرب الأقصى، الذي تمت محاسنه لولا أن سماسرة الفتن سامت بضائع أمنه نقصا، وطما به بحر الأهوال فاستعملت شعراء العيث في كامل رونقه من الزحاف إضماراً وقطعاً ووقصاً:

قطر كأن نسميه نفحات كافور ومسك وكأن زهر رياضه در هوى من نظم سلك وذلك أواخر رمضان من عام سبعة وعشرين بعد الألف، تاركاً المنصب والأهل والوطن والإلف: بلد طاب لي به الأنس حيناً وصفا العود فيه والإبداء فسقت عهده العهاد وروت منه تلك النوادي الأنداء وما عسى أن أذكر في إقليم، تعين لحجة فضله التسليم: أضواؤه طبق المنى، وهواؤاه يشتاقه الولهان في الأسحار والطبع معتدل فقل ما شئته في الظل والأزهار والأنهار محل فتح الكمائم، ومسقط الرأس وقطع التمائم: به كان الشباب اللدن غضاً ودهري كله زمن الربيع ففرق بيننا زمن خؤون له شغف بتفريق الجميع لم أنس تلك النواسم، التي أيامها للعمر مواسم، وثغورها بالسرور بواسم، فصرت أشير إليها وقد زمت للرحيل القلص الرواسم: ولنا بهاتيك الديار مواسم كانت تقام لطيبها الأسواق فأباننا عنها الزمان بسرعة وغدت تعللنا بها الأشواق وأنشد قول غيلان: أمنزلي مي سلام عليكما هل الأزمن اللائي مضين رواجع

وأتمثل في تلك الحدائق التي حمائمها سواجع، بقول من جفونه من الهوى غير هواجع: تشدو بعيدان الرياض حمائم شدو القيان عزفهن بالأعواد ماد النسيم بقضبها فتمايلت مهتزة الأعطاف والأجياد هذي تودع تلك توديع التي قد آذنت منها بوشك بعاد واستعبرت لفراقها عين الندى فابتل مئزرعطفها المياد وأحدق النظر إلى روض، لإنسان العين من فراقه في بحر الدموع سبح وخوض: روض به أشياء لي؟ ست في سواه تؤلف فمن الهزار ترنم ومن القضيب تقطف ومن النسيم تلطف ومن الغدير تعطف وألتفت كالمستريب، والحي إذ ذاك قريب، وحديث العهد ليس بمنكر ولا غريب: أهذا ولما تمض للبين ساعة فكيف إذا مرت عليه شهور والآثار لائحة، والشمال غادية بأذكى رائحة: أرى آثارهم فأذوب شوقاً وأسكب من تذكرهم دموعي وأسأل من قضى بفراق حبي يمن علي منهم بالرجوع والنفس متعللة ببعض الأنس، والمشاهد الحميدة لن تنس: تلك العهود بشدها مختومة عندي كما هي عقدها لم يحلل

غير أن الرحيل، عن الربع المحيل، فصل بين الشائق والمشوق وحيل: وقفنا بربع الحب والحب راحل نحاول رجعاه لنا ويحاول وألقت دموع العين فيه مسائلا لها عن عبارات الغرام دلائل وبالسفح منها كما سقيت لبانها فميلته والسفح للبان مائل إذا نسمة الأحباب منها تنسمت تطيب بها أسحارنا والأصائل تثير شجوني ساجعات غصونها فمنها على الحالتين هاجت بلابل مرابع ألا في مراتع لذتي مطالع أقماري بها والمنازل فحياها الله من منازل ذات مراتع أقمار سائرة فيها، ومنازه لا يحصى الواصف محاسنها وأمداح أهلها ولا يستوفيها: حلوا عقود اصطباري عندما رحلوا وفي الخمائل حلوا مثل أمطار إن المنازل قد كانت منازه إذ باتوا بها وهي أوطاني وأوطاري ورعى الله من بان، وشاق حتى الرند والبان: بانوا لعيني أقماراً تقلهم لدن الغصون فلما آنسوا بانوا عهودهم لست أنساها، وكيف وقد رثى لبيني عنها الرند والبان وفي مثل هذا الموطن تذوب القلوب الرقاق، كما قال حائز قصب السبق بالاستحقاق، الأديب الأندلسي الشهير بابن الزقاق: وقفت على الربوع ولي حنين لساكنهن ليس إلى الربوع

ولو أني حننت إلى مغاني أحبائي حننت على ضلوعي وكما قال بعض من له في هذه الفجاج مسير: دخولك من باب الهوى إن لو أردته يسير، ولكن الخروج عسير وأين من له صفاة لا يطمع الدهر القوي في نحتها، وجنات دنيوية لا تجري أنهار الفراق من تحتها: فسقى رضيع النبت من ذاك الحمى بحيا تدور على الربى كاساته سفح سفحت عليه دمعي في ثرى كالمسك ضاع من الفتاة فتاته ولم أزل بعد انفصالي عن الغرب يقصد الشرق، واتصافي في أثر ذلك الجمع بالفرق: أحن إذا خلوت إلى زمان تقضي لي بأفنية الربوع وأذكر طيب أيام تولت لنا فتفيض من أسف دموعي وأتوق وقد اتسع من البعد الخرق، وخصوصا إذا شدا صادح أو أومض برق، إلى ديار لا يعدوها اختيار: وأربع أحباب إذا ما ذكرتها بكيت، وقد يبكيك ما أنت ذاكر بطاح وأدواح يروقك حسنها بكل خليج نمنته الأزاهر فما هو إلا فضة في زبرجد تساقط فيه اللؤلؤ المتناثر بحيث الصبا والترب والماء والهوى عبير وكافور وراح وعاطر وما جنة الدنيا سوى ما وصفته وما ضم منه الحسن نجد وحاجر بلادي التي أهلي بها وأحبتي وقلبي وروحي والمنى والخواطر

تذكرني أنجادها ووهادها عهوداً مضت لي وهي خضر نواضر إذ العيش صاف والزمان مساعد فلا العيش مملول ولا الدهر جائر بحيث ليالينا كغض شبابنا وأيامنا سلك ونحن جواهر ليالي كانت للشبيبة دولة بها ملك اللذات ناه وآمر سلام على تلك العهود فإنها موارد أفراح تلتها مصادر وأتذكر تلك الأيام، التي مرت كالأحلام، فأتمثل بقول بعض الأكابر الأعلام: يا ديار السرور لا زال يبكي فيك إذ تضحك الرياض غمام رب عيش صحبته فيك غض وعيون الفراق عنا نيام في لياليٍ كأنهن أمانٍ في زمانٍ كأنه أحلام وكأن الأوقات فيك كؤوس دائرات وأنسهن مدام زمن مسعد وإلف وصول ومنى تستلذها الأوهام وبقول الحائك الأمي، عندما يكثر شجوي وغمي: لم أنس أياماً مضت وليالينا سلفت وعيشاً بالصريم تصرما إذ نحن لا نخشى الرقيب ولم نخف صرف الزمان ولا نطيع اللوما والعيش غض والحواسد نوم هنا وعين البين قد كحلت عمى في روضة أبدت ثغور زهورها لما بكى فيها الغمام تبسما مد الربيع على الخمائل نوره فيها فأصبح كالخيام مخيما تبدو الأقاحي مثل ثغر أشنبٍ أضحى المحب به كئيباً مغرما وعيون نرجسها كأعين غادةٍ ترنو فترمي باللواحظ أسهما وكذلك المنثور منثور بها لما رأى ورد الخدود منظما والطير تصدح في فروعها فنونها سحراً فتوقظ بالهديل النوما

وأميل، إلى بلاد محياها جميل: كساها الحيا برد الشباب فإنها بلاد بها عق الشباب تمائمي ذكرت بها عهد الصبا فكأنما قدحت بنار الشوق بين الحيازم ليالي لا ألوي على رشد ناصحٍ عناني، ولا أثنيه عن غي لائم أنال سهادي من عيون نواعس وأجني مرادي من غصون نواعم وليل لنا بالسد بين معاطف من النهر ينساب انسياب الأراقم تمر إلينا ثم عنا كأنها حواسد تمشي بيننا بالنمائم وبتنا ولا واشٍ نخاف كأنما حللنا مكان السر من صدر كاتم وأهفو إلى قصور ذات بهجة، وصروح توضح معالمها للرائد نهجه: ورياض تختال منها غصون في برود من زهرها وعقود فكأنما الأدواح فيها غوان تتبارى زهواً بحسن القدود وكأن الأطيار فيها قيان تتغنى في كل عود بعود وكأن الأزهار في حومة الرو ض سيوف تسل تحت بنود وأصبو إلى بطاح وأدواح، تروح النفوس والأرواح: سقياً لها من بطاح خزٍ ودوح زهر بها مطل إذ ترى غير وجه شمسٍ أطل فيه عذار ظل وأنهارٍ جارية، وأزهار نواسمها سارية، وأربع وملاعب، تزيح

عن بصرها المتاعب: تلك المنازل والملا عب لا أراها الله محلا أوطنتها زمن الصبا وجعلت فيها لي محلا حيث التفت رأيت ماءً سائحاً ورأيت ظلا والنهر يفصل بين وه؟ ر الروض في الشطين فصلا كبساط وشيٍ جردت أيدي القيون عليه نصلا وإلى منازل، يستفز حسنها الرائق الجاد والهازل، ويشفي منظرها عليلا، ويكفي مخبرها للمستفهم دليلا: وجنان ألفتها حين غنت حولها الورق بكرةً وأصيلا نهرها مسرعاً جرى وتمشت في رباها الصبا قليلاً قليلا وأتمثل إن ذكرت حال وداعي، بقول الشاعر الأديب الوداعي: الغرب خير وعند ساكنه أمانة أوجبت تقدمه فالشرق من نيريه عندهم يودع ديناره ودرهمه وبقول غيره، إشارة لفضل الغرب وخيره: أشتاق للغرب وأصبو إلى معاهدٍ فيه وعصر الصبا يا صاحبي نجواي والليل قد أرخى جلابيب الدجى واختبا لا تعجبا من ناظر ساهرٍ بات يراعي أنجماً غبيا القلب في آثارها طائر لما رآها تقصد المغربا

وأهيم كلما حللت من غيران أرضي بمكان، وقد صير السائق جد السير معمولاً ل؟ ((كان)) ، بقول قاضي القضاة العالم الكبير الشمس ابن خلكان: أي ليلٍ على المحب أطاله سائق الظعن يوم زم جماله يزجر العيس طاوياً يقطع المه؟ مه عسفاً سهوله ورماله أيها السائق المجد ترفق بالمطايا فقد سئمن الرحاله وأنخها هنيهةً وأرحها إذ براها السرى وفرط الكلاله لا تطل سيرها العنيف فقد بر ح بالصب في سراها الإطالة وارث للنازح الذي إن رأى رب؟ عاً ثوى فيه نادباً أطلاله يسأل الربع عن ظباء المصلى ما على الربع لو أجاب سؤاله ومحال من المحيل جواب غير أن الوقوف فيه علاله هذه سنة المحبين يبكو ن على كل منزل لا محاله يا ديار الأحباب لا زالت الأء ين في ترب ساحتيك مذاله وتمشي النسيم وهو عليل في مغانيك ساحباً أذياله أين عيش مضى لنا فيك؟ ما أس؟ رع عنا ذهابه وزواله حيث وجه الزمان طلق نضير والتداني غصونه مياله ولنا فيك طيب أوقات أنسٍ ليتنا في المنام نلقى مثاله وأردد قول الذي سحر الألباب، منادياً من له من الأحباب: أحبابنا لو لقيتم في إقامتكم من الصبابة ما لاقيت في الظعن لأصبح البحر من أنفاسكم يبساً والبر من أدمعي ينشق بالسفن

وقوله: وما تغيرت عن ذاك الوداد، ولا حالت بين الحال في عهدي وميثاقي درسي غرامي بكم دهري أكرره وقد تفقهت في وجدي وأشواقي وقول المجد بن شمس الخلافة، معلماً أنه لا يريد بدل معهده وخلافه: يا زمان الهوى عليك السلام وعلي السلو عنك حرام أي عيش قطعته لو دا م وهل يرتجي لظل دوام كنت حلماً والعيش فيك خيالاً وسريعاً ما تنقضي الأحلام لهف على ليالٍ تقضت سلبتني برودها الأيام فطمتني الأقدار عنها وليداً وشديد على الوليد الفطام لا تلمني على البكاء من بكى شجوه فليس يلام وقول أبي طاهر الخطيب الموصلي: حي نجداً عني ومن حل نجدا أربعاً هجن لي غراماً ووجدا واقر عني السلام آرام ذاك ال؟ شعب والأجراع الخصيب الفردا وابك عني حتى ترنح بالوج؟ د أراكاً به وباناً ورندا فلكم وقفةٍ أطلت على الضا ل بدمعٍ أذاع سري وأبدى وعلى ألبان كم من البين أذري؟ ت لآلي للدمع مثنى ووحدا آه والهفتي على طيب عيشٍ كنت قطعته وصالاً ووداً

حيث عود الشباب غض نضير ويد المكرمات بالجود تندى والخليل الودود ينعم إسعا فاً وصرف الزمان يزداد بعدا والليالي مساعدات على الوص؟ ل وعين الرقيب إذ ذاك رمدا كم بها من لبانة لي وأوطا ر تقضت وجازت الحد حدا فاستعاد الزمان ما كان أعطى خلسة لي ببخله واستردا وقول بعضهم: سلام على تلك المعاهد، إنها شريعة وردي أو مهب شمالي ليالي لم نحذر حزون قطيعة ولم نمش إلا في سهول وصال فقد صرت أرضى من نواحي جنابها بخلب برقٍ أو بطيف خيال وقول الجرجاني: للمحبين من حذار الفراق عبرات تجول بين المآقي فإذا ما استقلت العيس للبي؟ ن وسارت حداتها بالرفاقِ استهلت على الخدود انحداراً كانحدار الجمان في الاتساقِ كم محب يرى التجلد ديناً فهو يخفي من الهوى ما يلاقي أزدهاه النوى فأعرب بالوج؟ د لسان عن دمعه المهراقِ وانحدار الدموع في موقف البي؟ ن على الخد آية العشاق هون الخطب لست أول صبٍ فضحته الدموع يوم الفراق وقول الخطيب الحصكفي الشافعي:

ساروا وأكبادنا جرحى وأعيننا قرحى وأنفسنا سكرى من القلقِ تشكو بواطننا من بعدهم حرقاً لكن ظواهرناتشكو من الغرقِ كأنهم فوق أكوار المطي وقد سارت مقطرةً في حالك الغسقِ درارئ الزهر في الأبراج زاهرةً تسير في الفلك الجاري على نسقِ يا موحشي الدار مذ بانوا كما أنست بقربهم لا خلت من صيبٍ غدقِ إن غبتم لم تغيبوا عن ضمائرنا وإن حضرتم حملناكم على الحدقِ وما أحسن قول بعضهم في هذا المعنى، الذي كررنا ذكره وبه ألمعنا: سلام على أهل الوداد وعهدهم إذ الأنس روض والسرور فنون رحلنا فشرقنا وراحوا فغربوا ففاضت لروعات الفراق عيون وكم أنشدت وليالي النوى عاتمة، قول الأندلسي ابن خاتمة: أيامنا بالحمى ما كان أحلاك كم بت أرعاه إجلالاً وأرعاك لا تنكري وقفتي ذلاً بمغناك يا دار لولا أحبائي ولولاك لما وقفت وقوف الهائم الباكي فهل لهم عطفه من بعد دلهم تالله ما تسمح الدنيا بمثلهم آهاً لقلبي على تبديد شملهم ما كان أحلاك يا أيام وصلهم ويا ليالي الرضا ما كان أضواك يا بدر تمٍ تناءت عنه أربعنا ولم تزل تحتويه الدهر أضلعنا ما للنوى البين توجعنا إذا تذكرت دهراً كان يجمعنا تفطرت كبدي شوقاً لمرآكِ

أحباب أنفسنا كم ذا النوى وكم ويا معاهد نجوانا بذي سلم تالله ما شبت دمعاً للأسى بدم ولا لئمت تراب الأرض من كرم إلا مراعاة خل ظل يرعاكِ عل التعلل يدني منهم وعسى فيعمر القرب ما بالبين قد درسا كم ذا أنادي مبربعٍ بالنوى طمسا يا قلب صبراً فإن الصبر عاد أسى ويا منازل سلمى أين سلماكِ وقول بعض من اشتد به الهيام، فخاطب جيرته مادحاً ليالي القرب وذاماً تقلب الأيام: أيام أنسي قد كانت بقربكم بيضاً، فحين نأيتم أصبحت سودا ذممت عيشي مذ فارقت أرضكم من بعد ما كان مغبوطاً ومحسودا وقول صاحب مصارع العشاق، وقد شاقه من الهوى ما شاق: بانوا فأدمع مقلتي وجداً عليهم تستهل وحدا بهم حادي الفرا ق عن المنازل فاستقلوا قل للذين ترحلوا عن ناظري والقلب حلوا ما ضرهم لو أنهلوا من ماء وصلهم وعلوا وقوله حين زحزحته يد الفراق، عن أطاون العراق: قد فلت والعبرات تس؟ فحها على الخد المآقي

حين انحدرت إلى الجزي؟ رة وانقطعت عن العراق وتخبطت أيدي الرفا ق مهامه البيد الرقاق يا بؤس من سل الزما ن عليه سيفاً للفراق وقوله أيضاً: يا منزل الحي بذات النقا سقاك دمع مذ نأوا ما رقا هل سلوة؟ هيهات! لا سلوة قد بلغ الزبى وارتقى وأنت يا يوم النوى عاجلاً أدال منك الله يوم اللقا وقولي موطئاً للثالث، وقد تغير لي فيمن حارث لم أنس معهدنا والشمل مجتمع والعيش غض وروض الأنس معطار فها أنا بعد بعدٍ عنه قلق وقد نبت بي أرجاء واقطار تمضي الليالي وأشواقي مجددة وما انقضت لي من الأحباب أوطار وكلما مررت بمرأى يروق، لمعت لي من ناحية المغنى بالمنى بروق، فتذكرت قول بعض من له على غير من يهوى طروق: ما نظرت عيني سواك منظراً مستحسناً إلا عرضت دونه وما تمنيت لقاء غائبٍ إلا سألت الله أن تكونه وربما رمت انتحائي مذهب السلو وانتحالي، خلال أحوال إقامتي وارتحالي، فلم يتنقل عن تلك الصفات حالي، وأني وجيدي بقلائد البتات حالي:

والشوق أعظم أن يحيط بوصفه قلم وأن يطوى عليه كتاب والله ما أنا منصف إن كان لي عيش يطيب وجيرتي غياب وكيف ولآماقي صب، ولأتواقي زيادة إذا سرى نسيم أو هب: شربت حميا البين صرفاً، وطالما جلوت محيا الوصل وهو وسيم فميعاد دمعي أن تنوح حمامة وميقات شوقي أن يهب نسيم فإن لاح سنا بارق شاقني، أو ترنم شادٍ حدا بي إلى الهيام وساقني، أو رنا ظبي فلاة راعني وراقني: وإني ليصيبني سنا كل بارقٍ وكل حمامٍ في الأرك ينوح وأرتاع من ظبي الفلاة إذا رنا وأرتاح للتذكار وهو سنوح ولم يك ذاك الأمر من حيث ذاته ولكن لمعنى في الحبيب يلوح ولا أستطيع الإعراب عن أمري العجيب، لما بي من النوى المذهل والجوى المدهش والوجيب: ولا تسألوا عما أجن فليس لي لسان يؤدي ما الغرام يقول يطارحني البرق الأحاديث كلما أضاء كأن البرق منه رسول وما بال خفاق النسيم يميلني هل الريح راح والشمال شمول إذ دموع شؤوني عند الذكرى لا ترقا، وجفوني ليس لها عن الأرق مرقى، وشجوني تنمو إذا صدحت بفننها ورقا: رب ورقاء في الدياجي تنادي إلفها في غصونها المياده فتثير الهوى بلحن عجيب يشهد السمع أنها عواده كلما رجعت توجعت حزناً فكأنما في وجدنا نتباده

فيا لها من ذات طوق، مثيرة لكامن شوق، جالبة له من يمين وشمال وفوق: ذكرتني الورقاء أيام أنسٍ سالفات فبت أذري الدموعا ووصلت السهاد شوقاً لحبي وغراماً وقد هجرت الهجوعا كيف يخلو قلبي من الذكر يوماً وعلى حبهم حنيت الضلوعا كلما أولع العذول بعتبي في هواهم يزداد قلبي ولوعا وربما أتخيل قول من قال إنها بالحزن بائحة، وعلى فقد الإلف نائحة، فأنشد قول خليل، وهو بالحب مدنف وعليل: ورب حمامة في الدوح باتت تجيد النوح فناً بعد فن أقاسمها الهوى مهما اجتمعنا فمنها النوح والعبرات مني ولا غرو إن ظهر بائح، فباكٍ مثلي من الشجو نائح: فرجعت بعد فراق أيام الهوى أصف الصبابة للمحب المولع دامي الجفون إذا الحمامة غردت من فوق خوط البانة المترعرع أسقي الديار - وقد تباعد أهلها عنها - عزالي الدموع الهمع ونواعب الأطلال ليس يجيبني ما بينهن سوى الصدى بتوجع وهواتف فوق الغصون يجيبني منهن تغريد الحمام السجع ناحت على عذب الفروع وإلفها منها بمرأى فوقها وبمسمع ما فارقت إلفاً كما فارقته كلا ولا أجرت سواكب أدمعي على أوان عيون سعوده روان، وزمان معمور بأماني وأمان، وآمال دوان، وتهان ما بين بكرٍ وعوان، وفي عذر من طال ليله فاضطرب فيه لولوعه، وسكن جواه بجوانحه وضلوعه:

إن طال ليلي بعدهم فلطوله عذر، وذاك لما أقاسي منهم لم تسر فيه نجومه لكنها وقفت لتسمع ما أحدث عنهم فأرقي، الزائد في حرقي، أظهر المكنون وأبان، ووجدي بمن نأى وبان، لم يجد فيه تعلل برندٍ وبان: تنبهي يا عذبات الرند كم ذا الكرى؟ هب نسيم نجد فلست مثلي في جوى أو أرقٍ وحرفة من فرقة أو صد عوفيت مما حل بي من جيرةٍ في الغرب لم يرثوا لفرط وجدي أعلل القلب ببان رامة وهل ينوب غصن عن قد بانوا فلا مغنى السرور بعدهم مغنى، ولا عهد الرضا بعهد آهاً من البعد ومن لم يدره لم يشجه تأوهي للبعد وفي شغل من أبكته الربوع والطلوع، وذهبت برهة من زمانه بين الترحل والحلول، فركب من الأخطار الصعب والذلول، وحافظ على العهود ولم يسلك سبيل الغادر الملول: سقاها الحيا من أربع وطلول حكت دنفي من بعدهم ونحولي ضمنت لها أجفان عينٍ قريحةٍ من الدمع مدرار الشؤون همول ومن الغريب، الذي ينكره غير الأريب، أن الحادي إن سر القلب بكشف رين، فقد تسبب في اجتماع متنافيين متنافرين: ترنم حاد بالصريم فشاقني إلى ذكر من باتت ضلوعي تضمه

فسر وسار النفس شجواً فربما كلفت به من حيث صرت أذمه وارتجلت حين مللت من طول السرى، مضمناً ذكر ما أروم له تيسرا، وقد أكثر الرفاق عند رؤية ما لم يألفوه من الآفاق تلهفاً وتحسرا: قلت لما طال النوى عن بلادي ولأهل النوى جوى وعويل هل أرى للفراق آخر عهدٍ إن عمر الفراق عمر طويل ثم قلت مضمناً: لائمي في ذكر أحباب نأوا لا تلم من أضعف الشوق قواه إن يوماً جامعاً شملي بهم ذاك عيدي، ليس لي عيد سواه ثم قلت مضمناً أيضاً: لك الله من صب أضر به النوى وليس له غير اللقاء طبيب وإن صباحاً نلتقي بمسائه صباح إلى قلبي المشوق حبيب ثم عدت إلى التبصر، بعد إمعان النظر والتدبر: وإني لأدري أن في الصبر راحةً ولكن إنفاقي على الصبر من عمري فلا تطف نار الشوق بالشوق طالباً سلواً، فإن الجمر يسعر بالجمر ثم سلكت منهج التفويض والتسليم، منشداً قول ابن قطرال المغربي في مقام النصح والتعليم، ووجهت القصد إلى سكان الضمير بذلك التكليم: إن أيام الرضا معدودة والرضا أجمل شيء بالعبيد

لا تظنوا لي عنكم سلوةً ما على شوقي إليكم من مزيد راجعوا أنفسكم تستيقنوا أنكم في الوقت أقصى ما أريد إن يوماً يجمع الله بكم فيه شملي ذاك عندي يوم عيد وقول بعض من ندم على البعد عن المعاهد، وأمل العود - والعود أحمد - إلى الشاهد، وغفر للدهر ذنبه إن عاد، وتلهف أن لم يعامله بغير الإبعاد: لئن عاد جمع الشمل في ذلك الحمى غفرت لدهري كل ذنب تقدما وإن لم يعد منيت نفسي بعودة وماذا عسى تجدي الأماني وقلما يحق لقلبي أن يذوب صبابةً وللعين أن تجري مدامعها دما على زمنٍ ماضٍ بهم قد قطعته لبست به ثوب المسرة معلما وقول آخر يخاطب أحبابه، ويذكر فواصل بحر النوى الطويل وأسبابه: أعيذكم من لوعتي وشجوني ونار جوىً تذكى بماء شؤوني وبرح أسى لم يبق في بقيةً سوى حركات تارةً وسكون أرى القلب أضحى بعد طارقة الأسى أسير صبابات رهين شجون وكيف سبيل القرب منكم ودونكم رمال زرودٍ والأجارع دوني؟ سلوا مضجعي هل قر من بعد بعدكم وهل عرفت طعم الرقاد جفوني سهرنا بنعمانٍ، ونمتم ببابلٍ، فيا لعيون ما وفت لعيون وفي بعض الأحيان، أتسلي بقول الأندلسيين الأعيان: لا تكرث بفراق أوطان الصبا فعسى تنال بغيرهن سعودا فالدر ينظم عند فقد بحاره بجميل أجياد الحسان عقودا وقول غيره: فعسى الليالي أن تمن بنظمنا عقداً كما كنا عليه وأكملا

فلربما نثر الجمان تعمداً ليعاد أحسن في النظام وأجملا وأرغب لمن أطال ذيول الغربة أن يقلصها، وأطلب ممن أجال النفوس في سيول الكربة أن يخلصها: فنلتقي وعوادي الدهر غافلة عما نروم وعقد البين محلول والدار آنسة، والشمل مجتمع، والطير صادحة، والروض مطلول وأضرع إليه - سبحانه - في تيسير العود إلى أوطاني، ومعهدي الذي مطايا العز أوطاني، وأن يلحقني بذلك الأفق الذي خيره موفور، وحق من فيه معروف لا منكر ولا مكفور: إذا ظفرت من الدنيا بقربهم فكل ذنب جناه الدهر مغفور وكأني بعاتب يقول: ما هذا التطويل؟ فأقول له: جوابي قول ابن أبي الإصبع الذي عليه التعويل: أكثرت عذلي كأني كنت أول من بكى على مسكن أو حن للسكن لا تلح إن من الإيمان عند ذوي ال إيمان منا حنين النفس للوطن على أنني أقول: اللهم يسر لي ما فيه الخيرة لي بالمشارق أو بالمغارب، وجد لي من فضلك حيث حللت بجميع ما فيه رضاك من المآرب، بجاه نبينا وشفيعنا المبعوث رحمة للأحمر والأسود والأعاجم والأعارب، عليه أفضل صلاة وأزكى سلام، وعلى آله وأصحابه الأعلام، والتابعين لهم بإحسان ما ذر شارق وتعاقب طالع وغارب.

[ركوب البحر وبلوغ مصر] ثم جد بنا السير في البر أياماً، ونأينا عن الأوطان التي أطنبنا في الحديث حباً لها وهياماً، وكنا عن تفاعيل وصلها نياما، إلى أن ركبنا البحر، وحللنا منه بين السحر والنحر، وشاهدنا من أهواله، وتنافي أحواله، ما لا يعبر عنه، ولا يبلغ له كنه: البحر صعب المرام جداً لا جعلت حاجتي إليه أليس ماء ونحن طين فما عسى صبرنا عليه فكم استقبلتنا أمواجه بوجه بواسر، وطارت إلينا من شراعه عقبان كواسر، قد أزعجتها أكف الريح من وكرها، كما نبهت اللجج من سكرها، فلم تبق شيئاً من قوتها ومكرها، فسمعنا للجبال صفيراً، وللرياح دوياً عظيماً وزفيراً، وتيقنا أنا لا نجد من ذلك إلا فضل الله مجيراً وخفيراً، (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) (الإسراء: 67) وأيسنا من الحياة، لصوت تلك العواصف والمياه، فلا حيا الله ذلك الهول المزعج ولا بياه، والموج يصفق لسماع أصوات الرياح فيطرب بل ويضطرب، فكأنه من كأس الجنون يشرب أو شرب، فيبتعد ويقترب، وفرقه تلتطم وتصطفق، وتختلف ولا تكاد تتفق، فتخال الجو يأخذ بنواصيها، وتجذبها أيديه من قواصيها، حتى كاد سطح الأرض يكشف من خلالها، وعنان السحب يخطف في استقلالها، وقد أشرفت النفوس على التلف من خوفها واعتلالها، وآذنت الأحوال بعد انتظامها باختلالها، وساءت الظنون، وتراءت في صورها المنون، والشراع في قراع مع جيوش الأمواج

التي أمدت منها الأفوج بالأفواج، ونجن قعود، كدود على عود، ما بين فرادي وأزواج، وقد نبت بنا من القلق أمكنتنا، وخرست من الفرق ألسنتنا، وتوهمنا أنه ليس في الوجود، أغوار ولا نجود، إلا السماء والماء وذلك السفين، ومن في قبر جوفه دفين، مع ترقب هجوم العدو، في الرواح والغدو، لاجتيازه على عدة من بلاد الجرب، دمر الله سبحانه من فيها وأذهب بفتحها عن المسلمين الكرب، لاسيما مالطة الملعونة، التي يتحقق من خلص من معرتها أنه أمد بتأييد إلهي ومعونة، فقد اعرتضت في لهوات البحر الشامي شجا، وقل من ركبه فأفلت من كيدها ونجا، فزادنا ذلك الحذر، الذي لم يبق ولم يذر، على ما وصفناه من هول البحر قلقاً، وأجرينا إذ ذاك في ميدان الإلقاء باليد إلى التهلكة طلقاً، وتشتت أفكارنا فرقاً، وذبنا أسى وندماً وفرقاً، إذ البحر وحده لا كمى يقارعه، ولا قوي يصارعه، ولا شكل يضارعه، ولا يؤمن على حالٍ، ولا يفرق بين عاطل وحالٍ، ولا بين أعزل وشاكٍ، ومتباك وباكٍ: ثلاثة ليس لها أمان البحر والسلطان والزمان فكيف وقد انضم إليه خوف العدو الغادر الخائن، والكافر الحائن، إلى أن قضى الله بالنجاة ما أراد فهو الكائن، وإن نهى عنه وأخطأ المائن، فرأينا البر وكأنما قبل لم نره، وشفيت به أعيننا من المره، وحصل بعد الشدة الفرج، وشممنا من السلامة أطيب الأرج، فيا لها من نعمة كشفت عن وجهها النقاب، يقل شكراً لها صوم الأحقاب وعتق الرقاب، وجعلنا الله بآياته معتبرين، وعلى طاعته مصطبرين؛ ولم نخل في البر من معاناة خطوب، ومداراة وجوه للمتاعب ذات تجهم وقطوب، فكم جبنا منه مهامه فيحاً، ومسحنا

بالخطا منها أثيراً وصفيحاً، وفلينا الفجاج، وقرأنا من الطرق خطوطاً ذات استقامة واعوجاج، وقلوب الرفقة من الفرقة في اضطراب وارتجاج، وربما عميت على المجتهد الأدلة التي يحصل بها على المذهب الاحتجاج، فترى الأنفاس تعثر في زفرة الأشواق، والأجسام قد زرت عليها من التعب الأطواق، هذا والليل بصفحة البدر مرتاب، وقد شدت رحال وأقتاب، وزمت ركاب ورفعت أحداج، وفريت من الدعة بمدية النصب أوداج، وتساوي في السير نهار مشرق وليل مقمر أو داج، وأديم التأويب والإسآد، وحمل الغربة قد أثقل وآد، ثم وصلنا بعد خوض بحار، يدهش فيها الكفار ويحار، وجوب فياف مجاهل، يضل فيها القطا عن المناهل، إلى مصر المحروسة فشفينا برؤيتها من الأوجاع، وشاهدنا كثيراً من محاسنها التي تعجز عن وصفها القوافي والأسجاع، وتمثلنا في بدائعها التي لا نستوفيها، بقول ابن ناهض فيها: شاطئ مصر جنة ما مثلها في بلد لا سيما مذ زخرفت بنيلها المطرد وللرياح فوقه سوابغ من زرد مسرودة ما مسها داودها بمبرد سائلة وهو بها يرعد عاري الجسد والفلك كالأفلاك بي؟ ن حادر ومصعد

وبقول آخر: انظر إلى النيل الذي ظهرت به آيات ربي فكأنه في فيضه دمعي وفي الخفقان قلبي وبقول أبي المكارم ابن الخطير المعروف بابن مماتي في جزيرتها: جزيرة مصرٍ، لا عدتك مسرة ولا زالت اللذات فيك اتصالها فكم فيك من شمس على غصن قامة يميت ويحيي هجرها ووصالها مغانيك فوق النيل أضحت هوادجاً ومختلفات الموج فيك حبالها ومن أعجب الأشياء أنك جنة تمد على أهل الضلال ظلالها لعله أراد بأهل الضلال اليهود والنصارى المستولين إذ ذاك على الدولة وتذكرت في مصر قول القاضي الفاضل: بالله قل للنيل عني إنني لم أشف من ماء الفرات غليلا وسل الفؤاد فإنه لي شاهد إن كان طرفي بالبكاء بخيلا يا قلب كم خلفت ثم بثينةً وأظن صبرك أن يكون جميلا

وقول أحمد بن فضل الله العمري: لمصر فضل باهر بعيشها الرغد النضر في سفح روض يلتقي ماء الحياة والخضر وقول آخر: كأن النيل ذو فهم ولبٍ لما يبدو لعين الناس منه فيأتي حين حاجتهم إليه ويمضي حين يستغنون عنه وقول آخر: ولله مجرى النيل منه إذا الصبا أرتنا به من مرها عسكراً مجرا بشطٍ يهز السمهرية ذبلاً وموج يهز البيض هنديةً بترا إذا مد حاكي الورد لوناً، وإن صفا حكى ماءه لوناً ولم يحكه مرا وقول آخر: واهاً لهذا النيل؛ أي عجيبة بكرٍ بمثل حديثها لا يسمع يلقى الثرى في الماء وهو مسلم حتى إذا ما مال عاد يودع مستقبل مثل الهلال فدهره أبداً يزيد كما يزيد ويرجع وقول ابن النقيب:

الصب من بعدهم مفرد ودمعه النيل وتعليقه وخده لما بكاهم دماً مقياسه، والدمع تخليقه وقول الصفدي: سقياً لمصر وما حوت من أنسها وأناسها ومحاسن في مقسها تبدو وفي مقياسها ومسرة كاساتها تجلى على أكياسها وسطور قرط خطها ال؟ باري على قرطاسها ودمى كنائسها، ولا تنسى ظباء كناسها ولطافة بجلالةٍ تبدو على جلاسها ونواسمٍ كل المنى للنفس في أنفاسها ومراكب لعبت بها ال؟ أمواج في وسواسها وقول ابن جابر الأندلسي: ما زلت أسند من محاسن أرضها خبراً صحيحاً ليس بالمقطوع كم مرسلٍ من نيلها ومسلسل ومدبجٍ من هضبها المرفوع

وقول إبراهيم بن عبدون: والنيل بين الجانبين كأنما صدثت بصفحته صفيحة صيقل يأتيك من كدر الزواخر مده بممسك من مائه ومصندل فكأنما ضوء البدر في تمويجه برق تموج في سحابٍ مسبل وكأن نور السرج من جنباته زهر الكواكب تحت ليل أليل مثل الرياض مفتقاً أنواره تبدو لعين مشبه وممثل وقول ابن الصاحب: فرح الأنام بنيلهم إذ صار أحمر كالسقيق وتبركوا بشروقه فكأنه وادي العقيق وقول آخر: احمر للنيل خد حتى غدا كالشقيق وقد ترنمت فيه إذ صار وادي العقيق [زيارة مكة والمدينة] ثم شمرت عن ساعد العزم بعد الإقامة بمصر مدة قليلة، إلى المهم الأعظم والمقصد الأكبر الذي هو سر المطالب الجليلة، وهو رؤية الحرمين الشريفين، والعلمين المنيفين، زادهما الله تنويها، وبلغ النفوس ببركة من شرفا به مآرب لم تزل تنويها؛ فسافرت في البحر إلى الحجاز، راجياً من الله سبحانه في الأجر الانتجاز، إلى أن بلغت جدة، بعد مكابدة خطوب اتخذت لها من الصبر عدة، فحين حصل القرب، واكتحلت العين بإثمد تلك الترب، ترنمت بقول من

قال، محرضاً على الوخد والإرقال: بدا لك الحق فاقطع ظهر بيداء واهجر مقالة أحباب وأعداء واقصد على عزمه أرض الحجاز تجد بعداً عن السخط في نزل الأوداء وقل إذا نلت من أم القرى أرباً وهو الوصول بإسرار وإبداء يا مكة الله قد مكنت لي حرماً مؤمناً لست أشكو فيه من داء فمذ رأى النازح المسكين مسكنه في قطرك الرحب لم ينكب بأرزاء شوق الفؤاد إلى مغناك متصل شوق الرياض إلى طلٍ وأنداء ثم أنشدت، عندما بدت أعلام البيت الحرام، قول بعض من غلب عليه الشوق والغرام، وقد بلغ من أمانيه الموجبة بشائره وتهانيه المرام: وافي الحجيج إلى البيت العتيق وقد سجا الدجى فرأوا نوراً به بزغا عجوا عجيجاً وقالوا: الله أكبر ما للجو مؤتلقاً بالنور قد صبغا قال الديلي: ألا عاتوا بشارتكم فمن نوى كعبة الرحمن قد بلغا نادوا على العيس بالأشواق وانتحبوا وحن كل فؤاد نحوها وصغا وكل من ذم فعلاً نال محمدةً في مكة ومحا ما قد جنى وبغى ولما وقع بصري على البيت الشريف كدت أغيب عن الوجود، واستشعرت قول العارف بالله الشبلي لما وفد إلى حضرة الجود: قلت للقلب إذ تراءى لعيني رسم دارٍ لهم فهاج اشتياقي هذه دارهم وأنت محب ما احتباس الدموع في الآماق

والمغاني للصب فيها معاني فهي تدعى مصارع العشاق حل عقد الدموع واحلل رباها واهجر الصبر وارع حق الفراق ثم أكملت العمرة، ودعوت الله أن أكون ممن عمر بطاعة ربه عمره، وذلك أوائل ذي القعدة من عام ثمانية وعشرين وألف من الهجرة السنية، وأقمت هنالك منتظراً وقت الحج الشريف، ومتفيئاً ذلك الظل الوريف، ومقتطفاً ثمار القرب الجنية، إلى أن جاء الأوان، فأحرمت بالحج من غير توان، وحين حللت مما به أحرمت، نويت الإقامة هنالك وأبرمت، فحال من دون ذلك حائل، وكنت حرياً بأن أنشد قول القائل: هذي أباطح مكة حولي وما جمعت مشاعرها من الحرمات أدعو بها لبيك تلبية امرئٍ يرجو الخلاص بها من الأزمات نلت المنى بمنىً لأني لم أخف بالخيف من ذنب أحال سماتي وعرفت في عرفات أني ناشق للعفو عرفاً عاطر النسمات وأن أتمثل في المطاف، إذ حفتني الألطاف، بقول من ربعه بالتقوى مشيد، البغدادي الشهير بابن رشيد: على ربعهم لله بيت مبارك إليه قلوب الناس تهوي وتهواه يطوف به الجاني فيغفر ذنبه ويسقط عنه جرمه وخطاياه وكم لذةٍ أو فرحة لطوافه فلله ما أحلى الطواف وأهناه ثم قصدنا بعد قضاء تلك الأوطار، لطيبة الشريفة التي لها الفضل على الأقطار، واستشعرت قول من أنشد وطير عزمه عن أوكاره قد طار: حمدت مرادي إذ بلغت مرادي بأم القرى مستمسكاً بعمادي ومذ رويت من ماء زمزم غلتي فلست بمحتاجٍ لماء ثماد

فلله سبحانه الحمد على نعمه التي جلت، ومننه التي نزلت بها النفوس مواطن التشريف وحلت: من يهده الرحمن خير هدايةٍ يحلل بمكة كي يتاح المقصدا وإذا قضى من حجه الفرض انثنى يشفي برؤية طيبة داء الصدى وكان حظي في هذه الحال تذكر قول بعض الوشاحين من الأندلسيين الذين كان لهم ارتحال إلى تلك المعاهد الطاهرة، والمشاهد الزاهرة، التي تشتد إليها الرحال: يا من لعبدٍ به افتقار إلى أيادٍ له جسام فضلك مدنٍ لخير مدن حل بها سيد الأنام لم يهف قلبي لحب ليلى ولا سعادٍ ولا الرباب لاقى شجوناً ونال ويلا من هام في ذلك الجناب بل مال مني الفؤاد ميلا لمن له الحب لا يعاب قلبي والله مستطار مذ حل في بيته الحرام ذا الحجر والركن خير ركن وزمزم الخير والمقام ذابت قلوب المطي عشقاً وركبها واستوى المراد إلى حبيب القلوب حقا الحي والميت والجماد إلى الذي ليس فيه يشقى من حبه داخل الفؤاد شكوا وقد طالت السفار هم ومطاياهم السقام فهي قسي من التثني والقوم من فوقها سهام ولست من سكرتي مفيقا حتى أرى حجرة الرسول فإن يسهل لي الطريقا فذاك أقصى منىً وسول

متى ترى عيني العقيقا ويفرح القلب بالوصل كم قلت والصبر مستعار للركب إذ غادروا المنام ونسمة الشوق حركتني وزاد بي الوجد والغرام قواموا فقد طال ذا الجلوس وبادروا زورة الحبيب تاقت إلى طيبة النفوس لا عيش من دونها يطيب لا حبذا دونها الغروس والماء والشادن الربيب وحبذا الرمل والقفار والعرب في تلكم الخيام وأم غيلان ظلتني والأيك والأثل والثمام يا طيبة حزت كل طيب بسيد فيك ذي حلول نداء مستضعف غريب في غر أمداحه يقول وهو من السامع المجيب لمدحه يسأل يسشأل القبول أنت الغني لي فلا افتقار وأنت عزي فلا أضام مستمسك منك حسن ظني بعروة ما لها انفصام بسيد العالمين أجمع بأحمد المجتبي الرسول ومن هو الشافع المشفع في موقف المحشر المهول إذ لا كلام هناك يسمع للغير والناس في ذهول إذ السماء لها انفطار والشهب منثورة النظام كذا الجبال انثنت كعهنٍ سريعة المر كالغمام يا أول الرسل في الفضيله وإن تأخرت في الزمن

شفاعة نلت مع وسيله فمن يضاهي علاك من علت بك الرتبة الجليله وطبت في السر والعلن فأنت من خيرهم خيار فمن يضاهيك في المقام والرسل نالت بك التمني وأنت بدر لهم تمام الوجد قد قر في فؤادي فما لصبر به قرار ولا عجبي صاعد اتقاد ودمع عيني له انهمار وها أنا جئت من بلادي لطيبة أبتغي الجوار فحبذا تلكم الديار والمصطفى مسكة الختام عليه أزكى الصلاة مني وصحبه الغر، والسلام وقول أبي جعفر الرعيني الغرناطي - رحمه الله تعالى - وهو من التشريع أحد أنواع البديع: يا راحلا يبغي زيارة طيبة نلت المنى: بزيارة الأخيار حي العقيق إذا وصلت وصف لنا وادي منى: يا طيب الأخبار وإذا وقفت لدى المعرف داعيا زال العنا: وظفرت بالأوطار ولما من الله تعالى علينا بالحلول في المشاهد التي قام بها وظهر، والمعاهد التي بان الحق فيها واشتهر، والمواطن التي هزم الله تعالى حزب الشيطان فيها

وقهر، ونصرت النبوة وعضدت، وقطعت غصون الكفر وحصدت، ورصت قواعد التوحيد ونضدت، وقرت العيون، وقضيت الديون، أنشد لسان الحال، قول بعض من جيده بمحاسن طيبة حال: يا من طيبة طابت حلى وعلى ومن بتشريفه قد شرف العرب يا أحمد المصطفى قد جئت من بلدٍ قاصٍ ولي خلد قاسٍ ولي أرب وقد دهتني ذنوب قلت إذ عظمت لله منها وطه المرتجى الهرب ونسينا بمشاهدة ذلك الجناب ما كنا فيه، وسبق الدمع الذي لا يعارض الفرح ولا ينافيه: أيها المغرم المشوق هنيئاً ما أنالوك من لذيذ التلاقي قل لعينيك تهملان سروراً طالما أسعداك يوم الفراق واجمع الوجد والسرور ابتهاجاً وجميع الأشجان والأشواق وأمر العين أن تفيض انهمالاً وتوالي بدمعها المهراق هذه دارهم وأنت محب ما بقاء الدموع في الآماق وملنا عن الأكوار، وثملنا من عرف تلك الأنجاد والأغوار، وتملينا من هاتيك الأنوار، وتخلينا عن الأغيار، وتحلينا بحلى الأخيار، وكيف ولا وطيبة مركز للزوار: إذا لم تطب في طيبة عند طيب به طيبة طابت فأين تطيب وإن لم يجب في أرضها ربنا الدعا ففي أي أرض للدعاء يجيب أيا ساكني أكناف طيبة كلكم إلى القلب من أجل الحبيب حبيب

وما أحسن قول عالن الأندلس المالكي اللبيب، عبد الملك السلمي المشهور بابن حبيب: لله در عصابةٍ صاحبتها نحو المدينة تقطع الفلوات ومهامهٍ قد جبتها ومفاوزٍ ما زلت أذكرها بطول حياتي حتى أتينا القبر قبر محمدٍ خص الإله محمداً بصلاة خير البرية والنبي المصطفى هادي الورى لطرائق الجنات لما وقفت بقربه لسلامه جادت دموعي واكف العبرات ورأيت حجرته وموضعه الذي قد كان يدعو فيه في الخلوات مع روضة قد قال فيها: إنها مشتقة من روضة الجنات وبمنزل الأنصار وسط قبابهم بيت الهداية كاشف الغمرات وبطيبةٍ طابوا ونالوا رحمةً مغنى الكتاب ومحكم الآيات وبقبر حمزة والصحابة حوله فاضت دموع العين منهمرات سقياً لتلك معاهداً شاهدتها وشهدتها بالخطو واللحظات لا زلت زواراً لقبر نبينا ومدينة زهراء بالبركات صلى الإله على النبي المصطفى هادي البرية كاشف الكربات وعلى ضجيعيه مردداً ما لاح نور الحق في الظلمات

وقول كمال الدين ناظر قوص: أنخ، هذه والحمد لله يثرب فبشراك قد نلت الذي كنت تطلب فعفر بهذا الترب وجهك، إنه أحق به من كل طيبٍ وأطيب وقبل ربوعاً حولها قد تشرفت بمن جاورت، والشيء يحبب وسكن فؤاداً لم يزل باشتياقه إليها على جمر الغضا يتقلب وكفكف دموعاً طالما قد سفحتها وبرد جوى نيرانه تتلهب وقول الرعيني الغرناطي: هذه روضة الرسول فدعني أبذل الدمع في الصعيد السعيد لا تلمني على انسكاب دموعي إنما صنتها لهذا الصعيد ولما سلمت على سيد الأنام، عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام، ذبت حياء وخجلا، لما أنا عليه من ارتكاب ما يقتضي وجلا، غير أني توسلت بجاهه صلى الله عليه وسلم في أن أكون ممن وضح له وجه الصفح وجلا: إليك أفر من زللي فرار الخائف الخجل وكان مزار قبرك بال؟ مدينة له نفسي بلا خلل فخذ بيدي غريقٍ في بحار القول والعمل

وهب لي منك عارفة تعرفت ما تنكر لي وتهديني إلى رشدي وتمنعني من الزلل وتحملني على سننٍ يؤمني من الوجل فأنت دليل من عميت عليه مسالك السبل وإنك شافع بر وموئلنا من الوهل وإنك خير مبتعث وإنك خاتم الرسل فيا أزكى الورى شرفاً وشافيهم من العلل ويا أندى الأنام يداً وأكرم ناصرٍ وولي نداء مقصر وجلٍ بثوب الفقر مشتمل على جدواك معتمدي فأنقذني من الدخل وألحقني بجناتٍ لدى درجاتها الأول بصديقٍ وفاروقٍ وعثمان الرضى وعلي فأنت ملاذ معتصمٍ وأنت عماد متكل عليك صلاة ربك ج؟ ل في الغدوات والأصل ومذ شممنا من أرج تلك الأرجاء الذاكية، واستضأنا بسرج تلك الأضواء الزاكية، ظهر من الشوق ما كان بطن، ولم يخطر ببالنا سكن ولا وطن، ويا سعادة من اقام بتلك البقاع الشريفة وقطن: مر النسيم بربعهم فتلذذا حتى كأن النشر صار له غذا فصحا وصح وصاح لا أشكو أذى قل للصبا ماذا حملت من الشذا أمسست طيباً أم علاك عبير

يا أيها الحادي الذي من وسمه قصد الحبيب وأن يلم برسمه هذي منازله فزمزم باسمه بأبي الذي لم تذو زهرة جسمه لكنه غض الجمال نضير لله شوق قد تجاوز حده أوفى على الصبر المشيد فهده يا ناشق الكافور لا تتعده طوبى لمشتاق يعفر خده في روضة الهادي إليه يشير فهناك يبذل في التوسل وسعه ويصيخ نحو خطيب طيبة سمعه ويريق فوق حصى المصلي دمعه ويرى معالم من يحب وربعه ومحمد للعالمين بشير صلى عليه الله خير صلاته وحبا معاليه جليل صلاته ما حن ذو الأشواق في حالاته وأتى مغانيه على علاته فأتيح حسن الختم وهو قرير ووقفنا بباب طلب الآمال خاشعين، وتوسلنا إلى الله بذلك المقام العلي خاضعين، وغبطنا قوماً سكنوا هنالك فكانوا لحدودهم متى شاءوا على تلك الأعتاب واضعين: أكرم بعبد نحو طيبة مسند متوسل مستشفع مسترشد يفلي الفلاة لها بعزم أيد وافي إلى قبر النبي محمد ولربعه الأسمى يروح ويغتدي

أزجاه صادق حبه المتمكن وحداه سائق عزمه المتعين فحكى لدى شجوٍ حمام الأغصن هزجاً يردد فيه صوت ملحن ويمد للإطراب صوت المنشد ويقول جئت بعزمةٍ نزاعةٍ ونهضت والدنيا تمر كساعةٍ لمحل أحمد قائلا بإذاعةٍ هذا النبي المرتجي لشفاعةً يوم القيامة بين ذاك المشهد هذا الرؤوف بجاره ونزيله هذا سراج الله في تنزيله هذا الذي لا ريب في تفضيله هذا حبيب الله وابن خليله هذا ابن باني البيت أول مسجد عذا الذي اصطفت النبوة خيمه هذا الذي إعتام الهدى تقديمه هذا الذي نسقي غداً تسنيمه هذا الذي جبريل كان خديمه في حضرة التشريف أزكى مصعد هذا الذي شهد الوجود بخصه بمزية التفضيل من مختصه وأبانه من وحيه في نصه هذا الذي ارتفع البراق بشخصه في ليلة الإسراء أشرف مشهد هذا الذي غدت الطلول حديقةً بجواره وغدت تروق أنيقةً هذا المكمل خلقةً وخليقةً هذا الذي سمع النداء حقيقةً ودنا ولم يك قبل ذاك بمبعد فهناك كم رسلٍ به تتوسل وعلى حماه لدى المعاد يعول يا ارحم الرحماء أنت الموئل يا خاتم الإرسال أنت الأول فترق في أعلى المكارم واصعد

الله رفع في سراه مناره وأبان في السبع العلا أنواره فقفت ملائكة السما آثاره واراه جنته هناك وناره فمؤبد ومخلد لمخلد كم ذاد من وجلٍ وجلى ظلمةً وامتن بالرحمى ومتن حرمةً لما دجى أفق الضلالة دهمةً بعث الإله به ليرحم أمةً لولاه كانت بالضلالة ترتدي حاز الشفوف فكل خلق دونه فالغيث يسأل إذ يسيل يمينه والشمس تستهدي الشروق جبينه والله فضله وأظهر دينه ووفى لنا فيه بصدق الموعد نطقي يغادي ذكره ويراوح وبه ينافج مسكةً وينافح تعيي اللسان محامد وممادح طوبى لمن قد عاش وهو يكافح عنه يناضل باللسان وباليد هو صفوة العرب الأولى أحسابهم أسيافهم قرنت بها أسبابهم فهم لباب المجد وهو لبابهم من آل بين لم تزل أنسابهم تنبي لهم عن طيب عنصر مولد شرف النبوة قد رسا في أهلها وسما على الزهر العلا بمحلها ساق السوابق للفخار برسلها نطق الكتاب كما علمت بفضلها وقضى به نص الحديث المسند فوق السماك توطنت وتوطدت وتفردت بالمصطفى وتوحدت فهي الخلاصة صفيت فتجردت من معدن فيه الرسالة قد بدت من عصر آدمنا لعصر محمد

طالوا فلم يبقوا لمجد مصعدا صالوا ففي أيمانهم حتف العدا سالوا فهم لعفاتهم غيث الجدا أهل السقاية والرفادة والندى والكعبة البيت الحرام المقصد المطعمون وقد طوى المري الطوى الناهضون إذا الصريخ لهم نوى العاطفون إذا الطريق بهم ثوى أهل السدانة والحجابة واللوا أهل المقام وزمزم والمسجد المصلحون إذا الجموع تخاذعت المنجحون إذا المساعي دافعت الدافعون إذا الأعادي قارعت المؤثرون إذا السنون تتابعت وفد الحجيج بنيل كل تفقد لا يقرب الخطب الملك منيعهم لا يطرق الكرب المخيف قريعهم والله شرف بالنبي جميعهم من نال رتبتهم وحاز صنيعهم نال الشفوف وحاز معنى السؤدد حلوا من الطود الأشم بمنعةٍ في خير معتصم وأسمى رفعةٍ فهم بمنة في هجعةٍ الله خصصهم بأشرف بقعةٍ محجوبة محفوفةٍ بالأسعد لما أتيت لرامة أصل السرى من بعد قصدي مكةً أم القرى أنشدت جهراً فيه أنثر جوهرا وإليكما يا خير من وطيء الثرى عذراء تزري بالعذارى الخرد

كل الحسان لحسنها قد أدهشا ما مثلها في تربها شادٍ نشا سفرت بعزمٍ ما أجد وأطيشا نشأت بطي القلب وارتوت الحشا زهراء من يرها يهل ويسجد أمتك تشأى في مداها الألسنا وتري إجادتها المجيد المحسنا تغدو ولا تثني العنان عن الثنا وأتتك تمرح كالقضيب إذا انثنى مترنحاً بين الغصون الميد قد أعلمت في المدح ثاقب ذهنها ترجو الحلول لدى قرارة أمنها وعسى إذا غذيت بتربة عدنها يجلو لك الإحسان بارع حسنها والحسن يجلوها وإن لم تنشد مدحي لخير العالمين عقيدتي ومطيتي بل وطيبتي ونشيدتي ونتيجتي وهدى اليقين مفيدتي ولئن مدحت محمداً بقصيدتي فلقد مدحت قصيدتي بمحمد يا خير خلق الله دعوة حائر يشكو إليك صروف دهر جائر والله يعلم في هواك سرائري وهو الذي أرجو لعفو جرائري متوسلاً بجنابك المتأطد لولا حقوق عينت بمغارب بمكثت عندك كي تتاح مآربي ويكون في الزرقاء عذب مشاربي حتى أحلي من ثراك ترائبي وأنال دفناً في بقيع الغرقد وعليك من ربٍ حباك صلاته وسلامه وهباته وصلاته ما أم بابك من هدته فلاته لعلاك حتى زحزحت علاته فأتيح حسن الختم دون تردد

ثم ودعته صلى الله عليه وسلم والقلب من فراقه صقيم، ووقعت من البعد عن تلك المعاهد في المقعد المقيم، وأنا أرجو أن يكون شكل منطقي غير عقيم، وأن أحشر في زمرة من سلك الصراط المستقيم: يا شفيع العصاة أنت رجائي كيف يخشى الرجاء عندك خيبه وإذا كنت حاضراً بفؤادي غيبة الجسم عنك ليست بغيبه ليس بالعيش في البلاد انتفاع أطيب العيش ما يكون بطيبه [زيارة بيت المقدس] ثم عدت إلى مصر، وقد زال عني ببركته صلى الله عليه وسلم الإصر، وذلك في محرم سنة 1029، ثم قصدت زيارة بيت المقدس في شهرة ربيع من هذا العام، وقد شملتني بفضل الله جوائز الإنعام، وتذكرت عند مشاهدة تلك المسالك الصعبة، قول حافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله تعالى - وهو مما زادني في هذه الزيارة رغبة: إلى البيت المقدس جئت أرجو جنان الخلد نزلاً من كريم قطعنا في مسافته عقاباً وما بعد العقاب سوى النعيم فلما دخلت المسجد الأقصى، وأبصرت بدائعه التي لا تستقصي، بهرني جماله الذي تجلى الله به عليه، وسألت عن محل المعراج الشريف فأرشدت إليه وشاهدت محلاً أم فيه صلى الله عليه وسلم الرسل الكرام الهداة، وكان حقي أن أنشد هنالك ما قاله بعض الموقفين وهو مما ينبغي أن تزمزم به الحداة:

إن كنت تسأل أين قد ر محمدٍ بين الأنام فاصخ إلى آياته تظفر بريك في الأوام أكرم بعبد سلمت تقديمه الرسل الكرام في حضرة للقدس وا فاها بعز واحترام صفوا وصلوا خلفه إن الجماعة بالإمام للشهب نور بين والفضل للقمر التمام سلك النبوة باهر وبأحمد ختم النظام هذا الكتاب دلالة تبقى إلى يوم القيام شهدت له من بعد عج؟ زٍ ألسن اللد الخصام خير الورى وأجل آيات له خير الكلام فعليه من رب الورى أزكى صلاةٍ مع سلام وربما يقول من يقف على سرد هذه الأمداح النبوية: إلى متى وهذا الميدان تكل فيه فرسان البديهية والروية؟ فأنشده في الجواب، قول بعض من أم نهج الصواب: لأديمن مديح المصطفى فعل من في الله قوى طمعه فعسى أنعم في الدنيا به وعسى يحشرني الله معه وإذا كان القريض في بعض الأحيان كذباً صراحاً، والموفق من تركه والحالة هذه رغبة عنه وله اطراحا، فخير ما كان حقاً وهو مدح الله ورسوله، وبذلك يحصل للعبد منتهى سوله: ليس كل القريض يقبله السم؟ ع وتصغي لذكره الأفهام إن بعضاً من القريض هراء ليس شيئاً، وبعضه أحكام

وأجل الكلام ما كان في مد ح شفيع الورى عليه السلام طيب العرف دائم الذكر لا تأ تي الليالي عليه والأيام مثل زهرٍ قد شق عنه كمام أو كمسك قد فض عنه ختام ليس تحصى صفات أحمد بالعد كما لم تحط بها الأوهام ولو أن البحار حبر وما في ال؟ أرض من كل نابت أقلام فطويل المديح فيه قصير وحسام ماضٍ لديه كهام ولسان البليغ للعي ينمي وكذا صيب الفصيح جهام كيف يحصى مديح مولى عليه ال؟ له أثنى وذكره مستدام وله المعجزات والآي تبدو لا يغطي وجوههن لثام فمن المعجزات أن سار ليلاً وجميع الأنام فيه نيام راكباً للبراق حتى أتى القد س وفيه رسل الإله الكرام فاستووا خلفه صفوفاً وقالوا صل يا أحمد فأنت الإمام فعليه من ربه صلوات زاكيات مع صحبه وسلام [عود إلى مصر ثم إلى القدس] ثم رجعت إلى القاهرة، وكررت منها الذهاب إلى البقاع الطاهرة، فدخلت لهذا التاريخ الذي هو عام تسعة وثلاثين وألف مكة خمس مرات، وحصلت لي بالمجاورة فيها المسرات، وأمليت فيها على قصد التبرك دروساً عديدة، والله يجعل أيام العمر بالعود إليها مديدة، ووفدت على طيبة المعظمة ميمماً مناهجها السديدة، سبع مرار، وأطفأت بالعود إليها ما بالأكباد الحرار، واستضأت

بتلك الأنوار، وألفت بحضرته صلى الله عليه وسلم بعض ما من الله به علي في ذلك الجوار، وأمليت الحديث النبوي بمرأى منه عليه الصلاة والسلام ومسمع، ونلت بذلك وغيره - ولله المنة - ما لك يكن لي فيه مطمح ولا مطمع، ثم أبت إلى مصر مفوضاً لله جميع الأمور، ملازماً خدمة العلم الشريف بالأزهر المعمور، وكان عودي من الحجة الخامسة بصفر سنة سبع وثلاثين وألف للهجرة، فتحركت همتي أوائل رجب هذه السنة للعود للبيت المقدس، وتجديد العهد بالمحل الذي هو على التقوى مؤسس، فوصلت أواسط رجب، وأقمت فيه نحو خمسة وعشرين يوماً بدا لي فيها بفضل الله وجه الرشد وما احتجب، وألقيت عدة دروس بالأقصى والصخرة المنيفة، وزرت مقام الخليل ومن معه من الأنبياء ذوي المقامات الشريفة، وكنت حقيقاً بأن أنشد قول ابن مطروح، في ذلك المقام الذي فضله معروف وأمره مشروح: خليل الله قد جئنا نرجو شفاعتك التي ليست ترد أنلنا دعوةً واشفع تشفع إلى من لا يخيب لديه قصد وقل يا رب أضياف ووفد لهم بمحمد صلة وعهد أتوا يستغفرونك من ذنوب عظام لا تعد ولا تحد إذا وزنت بيذبل أو شمامٍ رجحن ودونها رضوى واحد ولكن لا يضيق العفو عنهم وكيف يضيق وهو لهم معد وقد سألوا رضاك على لساني إلهي ما أجيب وما أرد فيا مولاهم عطفاً عليهم فهم جمع أتوك وأنت فرد

[الرحلة إلى دمشق] ثم استوعبت أكثر تلك المزارات المباركة كمزار موسى الكليم، على نبينا وعليهم وعلى سائر المرسلين والأنبياء أفضل الصلاة والتسليم، ثم حدث لي منتصف شعبان، عزم على الرحلة إلى المدينة التي ظهر وبان، دمشق الشام، ذات الحسن والبهاء والحياء والاحتشام، والأدواح المتنوعة، والأرواح المتضوعة، حيث المشاهد المكرمة، والمعاهد المحترمة، والغوطة الغناء والحديقة، والمكارم التي يباري فيها المرء شانئه وصديقه، والأظلال الوريفة والأفنان الوريقة، والزهر الذي تخاله مبسماً والندى ريقه، والقضبان الملد، التي تشوق رائيها لجنة الخلد: بحيث الروض وضاح الثنايا أنيق الحسن مصقول الأديم وهي المدينة المستولية على الطباع، المعمورة البقاع، بالفضل والرباع: تزيد على مر الزمان طلاوة دمشق التي راقت بحلو المشارب لها في أقاليم البلاد مشارق منزهة أقمارها عن مغارب ودخلتها أواخر شعبان المذكور، وحمدت الرحلة إليها وجعلها الله من السعي المشكور: وجدت بها ما يملأ العين قرة ويسلي عن الأوطان كل غريب وشاهدت بعض مغانيها الحسنة، ومبانيها المستحسنة: نزلنا بها ننوي المقام ثلاثة فطابت لنا حتى أقمنا بها شهرا ورأينا من محاسنها ما لا يستوفيه من تأنق في الخطاب، وأطال في الوصف

وأطاب، وإن ملأ من البلاغة الوطاب، كما قلت: محاسن الشام أجلى من أن تسام بحد لولا حمى الشرع قلنا ولم نقف عند حد: كأنها معجزات مقرونة بالتحدي فالجامع الجامع للبدائع يبهر الفكر، والغوطة المنوطة بالحسن تسحر الألباب لا سيما إذا حياها النسيم وابتكر: أحب الحمى من أجل من سكن الحمى حديث حديث في الهوى وقديم فلله مرآها الجميل الجليل، وبيوتها التي لم تخرج عن عروض الخليل، ومخبرها الذي هو على فضلها وفضل أهلها أدل دليل، ومنظرها الذي ينقلب البصر عن بهجته وهو كليل: والروض قد راق العيون بحلة قد حاكها بسحابه آذار وعلى غصون الدوح خضر غلائل والزهر في أكمامه أزرار فكم لها من حسن ظاهر وكامن، كما قلت موطئاً للبيت الثامن: أما دمشق فخضرة لعبت بألباب الخلائق هي بهجة الدنيا التي منها بديع الحسن فائق لله منها الصالح؟ ي؟ ة فاخرت بذوي الحقائق والغوطة الغناء حي؟ ؟ ت بالورود وبالشقائق والنهر صاف والنسي؟ م اللدائن للأشواق سائق

والطير بالعيدان أب؟ دت في الغنا أحلى الطرائق ولآلئ الأزهار حل؟ ت جيد غصن فهو رائق ومراود الأمطار قد كحلت بها حدق الحدائق لا زال مغناها مصو نا آمنا كل البوائق وكما قلت مرتجلا أيضا مضمنا الرابع والخامس: دمشق راقت رواءً وبهجةً وغضاره فيها نسيم عليل صح فوافقت بشاره وغوطة كعروسٍ تزهى بأعجب شاره يا حسنها من رياضٍ مثل النضار نضاره كالزهر زهراً وعنها عرف العبير عباره والجامع الفرد منها أعلى الإله مناره وحاصل القول فيها لمن أراد اختصاره تذكيرها من رآها عدناً وحسبي إشاره دامت تفوق سواها إنالةً وإناره وكما ارتجلت فيها أيضاً: قال لي ما تقول في الشام حبر كلما لاح بارق الحسن شامه قلت ماذا أقول في وصف قطرٍ هو في وجنة المحاسن شامه وقلت أيضاً: قال لي صف دمشق مولىً رئيس جمل الله خلقه واحتشامه قلت كل اللسان في وصف قطرٍ هو في وجنة البسيطة شامه

وقلت أيضاً؟: وإذا وصفت محاسن الدنيا فلا تبدأ بغير دمشق فيها أولا بلد إذا أرسلت طرفك نحوه لم تلق إلا جنةً أو جدولا ذا وصف بعض صفاته وهي التي تعيي البليغ وإن جاد وطولا والغاية في هذا الباب، من الوصف لبعض محاسنها الفاتنة الألباب، قول أبي الوحش سبع بن خلف الأسدي يصف أرضها المشرقة، ورياضها المورقة، ونسيمها العليل، وزهرها الندي البليل: سقى دمشق الشام غيث ممرع من مستهل ديمةً دفاقها مدينة ليس يضاهي حسنها في سائر الدنيا ولا آفاقها تود زوراء العراق أنها تعزى إليها لا إلى عراقها فأرضها مثل السماء بهجةً وزهرها كالزهر في إشراقها نسيم ريا روضها متى سرى فك أخا الهموم من وثاقها قد ربع الربيع في ربوعها وسيقت الدنيا إلى أسواقها لا تسأم العيون والأنوف من رؤيتها يوماً ولا انتشاقها

وقول شمس الدين الأسدي الطيبي: إذا ذكرت بقاع الأرض يوماً فقل سقياً لجلق ثم رعيا وقل في وصفها لا في سواها: بها ما شئت من دين ودنيا وكأن لسان الدين ذا الوزارتين بن الخطيب، عناها بقوله المصيب: بلد تحف به الرياض كأنه وجه جميل والرياض عذاره وكأنما واديه معصم غادةٍ ومن الجسور المحكمات سواره وكنت قبل رحلتي إليها، والوفادة عليها، كثيراً ما أسمع عن أهلها زاد الله في ارتقائهم، ما يشوقني إلى رؤيتها ولقائهم، وينشقني على البعد أريج الأدب الفائق من تلقائهم، حتى لقيت بمكة المعظمة، أوحد كبرائها الذين فرائدهم بلبة الدهر منظمة؛ عين الأعيان، وصدر أرباب التفسير بها والبيان؛ صاحب القلم الذي طبق الكلى والمفاصل، والفتاوي التي حكمها بين الحق والباطل فاصل، والتآليف التي وصفها بالإجادة من باب تحصيل الحاصل؛ وارث العلم عن غير كلالة؛ ذو الحسب المشرق بدره في سماء الجلالة؛ صاحب المعارف التي زانت خلاله، وساحب أذيال العوارف التي أبانت على فضله دلالة، مفتي السلطان في تلكم الأوطان، على مذهب الإمام النعمان، مولانا الشيخ عبد الرحمن ابن شيخ افسلام عماد الدين، لا زال سالكاً سبيل المهتدين؛ فكان جمل الله عصراً وأواناً، لقضية هذا القياس عنواناً، فلما حللت بدارهم، ورايت ما أذهلني من سبقهم للفضل وبدارهم، صدق الخبر الخبر، وتمثلت

فيهم بقول بعض من غبر: ألمت بنا أوصافهم فامتلا الفضا عبيراً وأضحى نوره متألقا وقد كان هذا من سماع حديثهم بلاغاً فصح النقل إذ حصل اللقا وقابلوني اسماهم الله بالاحتفال والاحتفاء، وعرفني بديع برهم فن الاكتفاء: غمرتني المكارم الغر منهم وتوالت على منها فنون شرط إحسانهم تحقق عندي ليت شعري الجزاء كيف يكون وقابلوني بالقبول مغضين عن جهلي: وما زال بي إحسانهم وجميلهم وبرهم حتى حسبتهم أهلي بل الأولى أن أتمثل فيهم بما هو أبلغ من هذا المقول في آل المهلب، وهو قول بعض من نزل بقومٍ برق غير خلب، في زمن به تقلب: ولما نزلنا في ظلال بيوتهم أمنا ونلنا الخصب في زمن محل ولو لم يزد إحسانهم وجميلهم على البر من أهلي حسبتهم أهلي لا سيما المولى الذي أمدحه تحلي أجياد الطروس العاطلة، وسماحه يخجل أنواء الغيوث الهاطلة، صدر الأكابر الأعاظم، الحائز قصب السبق في ميدان الإجادة بشهادة كل ناثر وناظم، الصديق الذي بوده أغتبط

والصدوق الذي بأسباب عهده أرتبط، الأوحد الذي ضربت البراعة رواقها بنادية، والماجد الذي لم يزل بديع البلاغة من كثبٍ يناديه، السري الحائز من الخلال ما أبان تفضيله، اللوذعي الذي لم تزل أوصافه تحكم له بالسؤدد وتقتضي له، والحق أبلج لا يحتاج إلى زيادة براهين، الأجل المولى أحمد أفندي بن شاهين، لا زالت العزة مقيمة بواديه، ولا برحت حضرته جامعةً لبواطن الفخر وبواديه، والسعد يراوح مقامه ويغاديه، والمجد يترنم بذكره حاديه، فكم له أسماه الله ولغيره من أعيان دمشق لدي من أياد، يعجز عن الإبانة عنها لو أراد وصفها قس إياد، ولو تعرضت لأسمائهم وحلاهم، أدام الله تعالى سعودهم وعلاهم، لضاق عن ذلك هذا النطاق، وكان من شبه التكليف بما لا يطاق، فليت شعري بأي اسلوب، أؤدي بعض حقهم المطلوب؟ أن بأي لسان، أثني على مزاياهم الحسان؟ وما عسى أن أقول في قوم نسقوا الفضائل ولاء، وتعاطوا أكواب المحامد ولاء؟ وسحبوا من المجد مطارف وملاء، وحازوا المكارم، وبذوا الموادد والمصارم، سؤدداً وعلاء: فما رياض زهر الربيع إذا بدت في وشيها البديع ضاحكة عن شنب الأقاح عند سفور طلعة الصباح غنى بها مطوق الحمام وصافحتها راحة الغمام وباكرتها نسمة من الصبا فاصبحت كأنها عهد الصبا نضارة ورونقاً وبهجه تفدى بكل ناظرٍ ومهجه

أطيب من ثناها عبيرا بين الورى، واسأل به خبيرا دامت معاليهم على طول الزمن يروى حديث الفضل عنها عن حسن وثابت وقرةٍ وسعد وأسعفوا بنيل كل وعد فهم الذين نوهوا بقدري الخامل، وظنوا مع نقصي أن بحر معرفتي وافر كامل، حسبما اقتضاه طبعهم العالي: فلو شريت بعمري ساعةً ذهبت عن عيشتي معهم ما كان بالغالي فمتعين حقهم لا يترك، وحبهم لا يخالط بغيره ولا يشرك، وإن أط لت الوصف فالغاية في ذلك لا تدرك: يزداد في مسمعي ترداد ذكرهم طيباً ويحسن في عيني مكرره وإذا كان المديح الصادق لا يزيدهم رفعة قدر، فهم كما قال الأعرابي الذي ضلت ناقته في مدح البدر، والبليغ وذو الحصر في ذلك سيان، والحق أبلج، والباطل لجلج، وليس الخبر كالعيان: هب الروض لا يثني على الغيث نشره أتحسبه تخفى مآثره الحسنى وقد تذكرت بلادي النائبه، بذلك المرأى الشامي الذي يبهر رائيه، فما شئت من أنهار ذات انسجام، أترع بها من جريال الأنس جام، وأزهار متوجة للأدواح، مروحة للنفوس بعاطر الأرواح، وحدائق تعشي أنوارها الأحداق، وعيانها للخبر عنها مصداق وأي مصداق:

فهي التي ضحك البهار صباحها وبكت عشيتها عيون النرجس واخضر جانب نهرها فكأنه سيف يسل وغمده من سندس وجنان، أفنانها في الحسن ذوات افتنان: صافحتها الرياح فاعتنق السر وومالت طواله للقصار لائذ بعضه ببعضٍ كقومٍ في عتاب مكررٍ واعتذر وبطاح راق سناها، وكمل حسنها وتناهى، كما قلت مضمناً في ذلك المنحنى، لقول بعض من نال في البلاغة مناً ومنحا: دمشق لا يقاس بها سواها ويمتنع القياس مع النصوص حلاها راقت الأبصار حسناً على حكم العموم أو الخصوص بساط زمردٍ نثرت عليه من الياقوت ألوان الفصوص ولله در القائل، في وصف تلك الفضائل: إن تكن جنة الخلود بأرض فدمشق، ولا يكون سواها أو تكن في السماء فهي عليها قد أمدت هواءها وهواها بلد طيب ورب غفور فاغتنمها عشيةً أو ضحاها وعند رؤيتي لتلك الأقطار، الجليلة الأوصاف العظيمة الأخطار، فتاءلت بالعود إلى أوطان لي بها أوطار، إذ التشابه بينهما قريب في الأنهار والأزهار، ذات العرف المعطار، وزادت هذه بالتقديس الذي همعت عليها منه الأمطار، وتمثلت بقول الأصفهاني، وإن غيرت يسيراً منه لما أسفرت وجوه التهاني:

لما وردت الصالحي؟ ة حيث مجتمع الرفاق وشممت من أرض الشآ م نسيم أنفاس العراق أيقنت لي ولمن أح؟ ب بجمع شمل واتفاقِ وضحكت من فرح اللقاء كما بكيت من الفراقِ لم يبق لي إلا تج؟ شم أزمن السفر البواقي حتى يطول حديثنا بصفات ما كنا نلاقي وكنت قبل حلولي بالبقاع الشامية مولعاً بالوطن لا سواء، فصار القلب بعد ذلك مقسماً بهواه: ولي بالحمى أهل وبالشعب جيرة وفي حاجر خل وفي المنحنى صحب تقسم ذا القلب المتيم بينهم سألتكم بالله هل ينقسم القلب فيا لك من صب مراع للذمام، منقاد لشوقه بزمام، يخيل له أنه سمع صوت قيان، بقول الأول: إلى الله أشكو بالمدينة حاجةً وبالشام أخرى كيف يلتقيان وفردٍ تعددت جموعه، ووشت، بما أكنت ضلوعه، دموعه، فأنشد وقد تحير، ما بدل فيه من عظم ما به وغير: كتمت شأن الهوى يوم النوى فوشى بسره من جفوني أي نمامِ كانت ليالي بيضاً في دنوهم فلا تسل بعدهم عن حال أيامي ضنيت وجداً بهم والناس تحسب بي سقماً فأبهم حالي عند لوامي وليس أصل ضني جسمي النحيل سوى فرط اشتياقي لأهل الغرب والشام

وحصل التحير، حيث لم يمكن الجمع ولا الخلو عند التخير، كما قال ابن دقيق العيد، في مثل هذا الغرض البعيد: إذا كنت في نجد وطيب نعيمه تذكرت أهلي باللوى فمحمرِ وإن كنت فيهم زدت شوقاً ولوعةً إلى ساكني نجدٍ وعيل تصبري فقد طال ما بين الفريقين موقفي فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري وبالجملة فالاعتراف بالحق فريضة، ومحاسن الشام وأهله طويلة عريضة، ورياضه بالمفاخر والكمالات أريضة، وهو مقر الأولياء والأنبياء، ولا يجهل فضله إلا الأغمار الأغبياء، الذين قلوبهم مريضة: أني يرى الشمس خفاش يلاحظها والشمس تبهر أبصار الخفافيشِ ولله در من قال في مثل هذا من الأرضياء: وهبني قلت إن الصبح ليل أيعمى العالمون عن الضياء وقال آخر فيمن عن الحق ينفر: إذا لم يكن للمرء عين بصيرة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر وحسب الفاضل اللبيب، أن يروي قول البدر بن حبيب:

عرج إذا مشت برق الشآم وحي أهل الحي واقر السلام وانزل بإقليم جزيل الحيا بارك فيه الله رب الأنام العز والنصر لديه، وما لعروة الإسلام عنه انفصام من أولياء الله كم قد حوى ركناً بمرآه بطيب المقام وهو مقر الأنبياء الألى والأصفياء الأتقياء الكرام كم من شهيد في حماه وكم من عالم فردٍ وكم من إمام ولذلك اعتنت الجهابذة بتخليد أخباره في الدواوين، وابتنت الأساتذة بيوت افتخاره المنيفة الأواوين، وتناقلت أنباءه البديعة ألسن الراوين، وهامت بأماكنه المريعة هداة الشريعة فضلاً عن الشعراء الغاوين، ومع ذلك فهم في التعبير عن عجائبه غير متساوين، أولا يرى أنهم يأتون من مقولهم، على قدر رأيهم وعقولهم، ولم يبلغ جمع منهم ما كانوا له ناوين: على قدرك الصهباء توليك نشوةً بها سيء أعداء وسر صحاب ولو أنها تعطيك منها بقدرها لضاقت بك الأكوان وهي رحاب [ابن شاهين يقترح على المؤلف تأليف كتاب عن لسان الدين] وكنا في خلال الإقامة بدمشق المحوطة، وأثناء التأمل في محاسن الجامع والمنازل والقصور، كثيراً ما ننظم في سلك المذاكرة درر الأخبار الملقوطة، ونفيأ من ظلال التبيان مع أولئك الأعيان في مجالس مغبوطة، نتجاذب فيها أهداب الآداب، ونشرب من سلسال الاسترسال ونتهادى لباب الألباب، ونمد بساط الانبساط ونسدل أطناب الإطناب، ونقضي أوطار الأقطار، ونستدعي أعلام الأعلام، فينجر بنا الكلام والحديث شجون، وبالتفنن يبلغ المستفيدون ما يرجون، إلى ذكر البلاد الأندلسية، ووصف

رياضها السندسية، التي هي بالحسن منوطة، وقضاياها الموجهة التي لا يستوفيها المنطق مع أنتها ضرورية وممكنة ومشروطة، والفطر السليمة، والأفهام المستقيمة، بتسليم براهينها قاضية لا سيما إن كانت بالإنصاف مربوطة، فصرت أورد من بدائع بلغائها ما يجري على لساني، من الفيض الرحماني، وأسرد من كلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب السلماني، صب الله عليه شآبيب رحماه وبلغه من رضوانه الأماني، ما تثيره المناسبة وتقتضيه، وتميل إليه الطباع السليمة وترتضيه، من النظم الجزل، في الجد والهزل، والإنشاء، الذي يدهش به ذاكرة الألباب إن شاء، وتصرفه في فنون البلاغة حالي الولاية والعزل، إذ هو - أعني لسان الدين - فارس النظم والنثر في ذلك العصر، والمنفرد بالسبق في تلك الميادين بأداة الحصر، وكيف لا ونظمه لم تستول على مثله أيدي الهصر، ونثره تزري صورته بالخريدة ودمية القصر. فلما تكرر ذلك غيره مرة على أسماعهم، لهجوا به دون غيره حتى صار كأنه كلمة إجماعهم، وعلق بقلوبهم، وأضحى منتهى مطلوبهم، ومية آمالهم وأطماعهم، وصاروا يقطفون بيد الرغبة فنونه، ويعترفون ببراعته ويستحسنونه، ويستنشقون من أزهاره كل ذاك، فطلب مني المولى أحمد الشاهيني إذ ذاك، وهو الماجد المذكور، ذو السعي المشكور، أن أتصدى للتعريف بلسان الدين في مصنف يعرب عن بعض أحواله وأنبائه، وبدائعه وصنائعه ووقائعه مع ملوك عصره وعلمائه وأدبائه، ومفاخره التي قلد بها جيد الزمان ولبته، ومآثره التي ارج بها مسرى الشمال وهبته، وبعض ما له من النثار والنظام، والمؤلفات الكبار العظام، الرائقة للأبصار، الفائقة على كلام كثير من أهل الأمصار، السائرة مسير القمر والشمس، المعقودة

عليها الخناصر بل الخمس، كيما يكون ذلك لهذه الأغراض مشيعاً ويخلع على مطالعه بهذه البلاد المشرقية من أغراضه البديعة ومنازعه وشيعا. [اعتذار المؤلف عن تلبيته للمطلب] فأجبته أسمى الله قدره الكبير، وأدام عرف فضائله المزري بالعنبر والعبير، بأن هذا الغرض غير سهل، ولست علم الله له بأهل، من جهات عديدة، أولها قصوري عن تحمل تلك الأعباء الشديدة، إذ لا يوفي بهذا الغرض إلا الماهر بطرق المعارف السديدة، وثانها عدم تيسر الكتب المستعان بها على هذا المرام لأني خلفتها بالمغرب، وأكثرها في المشرق كعنقاء مغرب، وثالثها شغل الخاطر باشجان الغربة، الجالبة للفكر غالب الكربة، وتقسم البال، بين شغل عائق وبلبال، وأني يطيق، سلوك هذا المضيق، من اكتحلت جفونه بالسهاد، ونبت جنوبه عن المهاد، وسدد نحوه الأسف سهمه، وشغل باله ووهمه، وبث في قلبه تبريحاً، وعناء لم يجد منه إلا أن يلطف الله تسريحاً، فما شام بارقة أمل إلا في النادر، ولا ورود منهل صفاء إلا وكدره مكر غادر، وقد كثر الجفاء، وبرح بلا شك الخفاء، واستوخمت الموارد والمصادر، والقلب مكلوم، واللب غير ملوم، إذا كان على تلفيق ما يليق غير قادر، ولا مؤنس إلا شاكي دهر بلسان صريح، أو باكي قاصمة ظهرٍ بجفنٍ قريح، أو مناضل في معترك العجز طريح، أو فاضل دفن من الخمول في ضريح، إذ رمته سهام الأوهام الصوائب، وعضت منه إبهام

الإبهام بنابها النوى والنوائب، فقلوبه من تقلبات أحواله ذوائب، وكم شابت من أمثاله بصروف الدهر وأهواله ذوائب: على أنها الأيام قد صرن كلها عجائب حتى ليس فيها عجائب وأدمع أحجارها، تسلط فجارها، فكم من عدو منهم في ثياب صديق، وحسود لنظره إلى نعم الله على عباده تحديق، لا تخدعه المداراة، ولا تردعه المماراة، يتتبع العثرات، ويقنع بألم البثرات، ويتبسم، وقلبه من الغل يتقسم، ويتودد، ومكايده تتجدد فتتعدد: لا ترم من مماذق الود خيراً فبعيد من السراب الشراب رونق كالحباب يعلو على الماء ولكن تحت الحباب الحباب عظمت في النفاق ألسنة القو م وفي الألسن العذاب العذاب والصديق الصدوق في هذا الزمن قليل، وقد ألف بعض العلماء " شفاء الغليل، في ذم الصاحب والخليل ". وهو غير محمول على الإطلاق، وإن قال به بعض من رهنه من أبناء عصره ذو إغلاق: أبناء دهرك فالقهم مثل العدا بسلاحكا لا تغرر بتبسمٍ فالسيف يقتل ضاحكا وداء الحسد أعيا الأول والآخر، وقد عظم الأمر في هذا الأوان وكثر المزري والساخر، مع أن أسواق الدفاتر كاسدة، وأمزجة المحابر فاسدة:

والدهر دهر الجاهل؟ ن وأمر أهل العلم فاتر لا سوق أكسد فيه من سوق المحابر والدفاتر فالمنسوب للعلم في هذا الزمن زمن، وهو بأن ينشد قول الأول قمن: لأي وميض بارقةٍ أشيم ومرعى الفضل عندهم هشيم وليت شعري علام يحسد من أبدل الاغتراب شارته، وأضعف الاضطراب إشارته، وأهل بالدموع أنواءه، وقلل أضواءه، وقلل أضواءه، وكثر علله وادواءه، وغير عند التأمل رواءه، وثنى عن المأمول عنانه، وأرهف بالخمول سنانه، حتى قدح سنانه، حتى قدح الذكر حنانه، وملأ الفكر جأشه وجنانه، فهو في ميدان النزوح مستبق، ومن راحة التعب مصطبح ومغتبق: له أنه المشتاق في كل ساعةٍ تمر وما للثاكلات من الحزن ومن مرسلات الدمع واقعة الأسى ومن عاديات البين قارعة السن تثير الذكرى منه كوامن الشجون، وتدير عليه جام الهيام ولو كان بين الصفا والحجون: وتحت ضلوع المستهام كآبه يخاف على الأحشاء منها التفطرا ولو أن أحشاء تبوح بما حوت لتمتئن الأرض كتباً وأسطرا وشتان ما بين الاقتراب والاغتراب، والسكون في الركون والنبو عنها والاضطراب، فذاك تسهل غالباً فيه الأغراض والمآرب، وهذا تتعفر فيه المقاصد وتتكدر المشارب:

وما أنا عن تحصيل دنيا بعاجز ولكن أرى تحصيلها بالدنية وإن طاوعتني رقة الحال مرة أبت فعلها أخلاق نفس أبية وكما قلت، عندما صرت إلى الاغتراب وألت: تركت رسوم عزي في بلادي وصرت بمصر منسبي الرسوم ورضت النفس بالتجريد زهداً وقلت لها عن العلياء صومي مخافة أن أرى بالحرص ممن يكون زمانه أحد الخصوم وكما قال بعض الأكابر، من أهل الزمان الغابر: لا عار إن عطلت يداي من الغنى كم سابق في الخيل غير محجل صان اللثيم، وصنت وجههي، ماله دوني، فلم يبذل ولم أتبذل أبكي لهم ضافني متأوباً إن الدموع قرى الهموم النزل لا تنكرو شيباً ألم بمفرقي عجلاً كأن سناه سلة منصل فلقد دفعت إلى الهموم تنوبني منها ثلاث شدائد جمعن لي أسف على ماضي الزمان، وحيرة في الحال منه، ووحشة المستقبل ما إن وصلت إلى زمان آخر إلا بكيت على الزمان الأول لله عهد بالحمى لم أنسه أيام أعصي في الصبابة عذلي ويرحم الله ابن الإسكندري، إذ قال في معنى التمني المصدري:

لعل زماني بالعذيب يعود فيقرب قرب أو يصد صدود وأبصر كثباناً وهز روادفٍ عليهن أغصان وهن قدود وأقطف ورد الخد وهو مضرج وأجنى أقاح الثغر وهو برود وأدني ذراعي للعناق ذريعة فتنهى عن الإفراط فيه نهود ويسري إلي البدر وهو ممنع ويغدو إلي الظبي وهو شرود ونكرع في شكوى الفراق كأننا فوارط هيم راقهن ورود واكبر مقدار الهوى عن كبيرةٍ وأحمي عفاني دونه وأذود وفرق ما بين الجوهر والعرض، والصحة البينة والمرض، والدرر والحصى، والحسام والعصا. والرجوع إلى التفويض للأقدار، في أمور هذه الدار، الكثيرة الأكدار، هو المطلوب، والمرجو من الله سبحانه جبر القلوب: يا رب نفس همومي واكشف كروبي جميعا فقد رجوت كريماً وقد جعوت سميعا [إصرار ابن شاهين على رأيه] ولم يجعل لي المذكور - حفظه الله - فسحة ولا مندوحة، بعد هذه الأعذار المحمودة في الصدق الممدوحة، ولسان حالي وقالي، يثبتان عجزي عن أداء هذا الحق بشهادة من هو واد وقالي، إذ من كان بصفة، غير متمكنة مما تكون به متصفة، واتسم بنعوت مختلفة، وارتسم في غير ذوي الأحوال المؤتلفة، كيف يحير في التصنيف جواباً، أو يتنحى من التأليف صواباً؟ ومن جفنه هام هامل، وقصوره عام شامل، كيف يقبض بالأنامل، على ماء البحر الوافر الكامل؟ ومن لبس من العي ملاه، لا يعبر عمن طبق مفاصل

الكلام وكلاه، وقصرت ألسن البلغاء عن علاه، وزانت صدور الدواوين حلاه، وجمع خلالاً حسناً، وكان للدين لساناً، وزاحمت مفاخره بالمناكب الكواكب، وازدانت بمرآه النوادي والمواكب، ونفحات الأزهار من آدابه، ونسمات الأسحار عطر أذياله وأهدابه، والسحر من كتابته، والسحر من كنايته، وروح النسيم من تعريضه، والنثرة من نثره، والشعري من شعره وقريضه، وحلل المجد لباسه، وأنواره العلم اقتباسه: له ذهن يغوص ببحر علم فيأتي منه بالدرر النظيم معانيه الرياض، لأجل هذا سرت ألفاظه مثل النسيم ومباهيه النجوم، ومضاهيه الغيث السجوم، إلى آباء يحسدهم البدر والشمس، وإباء لو كان للمشرفي لما تحيفه لمس، وشرف لا مدعي ولا منتحل، وهمة لو نالها البدر لا ستخذى له زحل، وبراعة أرهفت سنان قلمه، ويراعه سارت أمراؤها تحت علمه، فكم فتح بفكره أقفالها، ووسم بذهنه الثاقب أغفالها، وسبك معانيها في قالب قلبه إبريزاً، ورقم بيان لسانه برود إحسانه بلفظه البديع تطريزاً، فرفع في ميدان الإجادة لواؤه، وأتيح من أنهار البراعة العذبة إرواؤه، ونال سبقاً وتبريزاً: وما زمن الشباب وأنت تجري مع الأحباب في لهو وطيب ووصل من حبيب بعد هجرٍ بأحلى من كلام ابن الخطيب فقصائده أرخصت جواهر البحور، المنظومة قلائد للبات والنحور، من حسان العقائل الحور:

معان وألفاظ تنظم منهما عقود لآل في نحور الشمائل وزهر كلامٍ كالحدائق نسجه غنينا به عن حسن زهر الخمائل وكلماته غدت للإبداع إقليداً، وجمعت طريفاً من البلاغة وتليداً: كسون عبيداً ثياب العبيد وأضحى لبيد لديها بليداً ومقطعاته ألذ في الأسماع، من مطرب السماع، وأبهى في الأحداق والنواظر، من الحدائق ذوات الأغصان الملد النواضر، يعترف بفضلها من انتحل الإنصاف ديناً، وانتحل الأوصاف فاختار العدل منها خديناً: رقيقات المقاطع محكمات لو آن الشعر يلبس لارتدينا ورسائله كنقط العروس اللائحة في البياض، أو كوشي الربيع أو قطع الرياض، برزت أغصانها الحالية وتبرجت، وتضوعت أفنانها العالية وتأرجت، وقد ألبسها القطر زهراً، وفجر خلالها نهراً، فأخذت زخرفها وازينت، ولاحت محاسنها غير محتجبة وتبينت، فبهرت من لها قابل، أستغفر الله لا بل: هي الحديقة إلا أن صيبها صوب النهى وجناها زهرة الكلم وقوافيه، ريشت بها قوادم الإتقان وخوافيه، نبال مجاريها تستدثر الحصر، وباع مباريها يستشعر القصر: خطها روضة، وألفاظها الأز هار يضحكن، والمعاني ثمار تبدي لمبصرها وتري، ما قال أبو عبادة البحتري: وكلام كأنه الزهر النا ضر في رونق الربيع الجديد

مشرق في جوانب السمع ما يخ؟ لقه عوده على المستعيد ومعان لو فصلتها القوافي هجنت ما لجرول من نشيد حزن مستعمل الكلام اختياراً وتجنبن ظلمة التعقيد بل هي أجل مما وصف عند التحقيق، وإمعان النظر الصحيح والتدقيق: أين زهر الرياض وهو إذا ما طال عهداً بالغيث عاد هشيمها من قواف كأنها الأنجم الزه؟ ر سناها زان الظلام البهيما وناهيك بمن أطلعته العلوم على جلائلها ودقائقها، وارته الفنون ما شاء من يانعات حدائقها، وحيته الحكم الرياضية بأزاهرها وشقائقها، وأرضعته الوزارة من ثديها، وحلت به الإمارة صدر نديها، وجعلته المرجوع إليه في تمييز جيد الأمور ورديها، فغرس في أرض الرياسة من نخل السياسة ووديها، وأعلى علم العدل وأغمد سيف الانتقام، ودفع تنين الفتنة الذي فغر فاه للالتقام، إذ ذاك قريب، في وطن الأندلس الغريب، باختلال الحال، وتوالي الإمحال، والتجري على قتل الملوك، والتحري لقطع الطرق ومنع السلوك، حيث أهواءئ المارقين ذات افتراق، وضلوع الصادقين في قلق واحتراق، وأيدي الإحن باطشة، وسيوف المحن إلى الدماء عاطشة، وعرش الحماية مثلول، وصارم الكفاية مفلول، ونطاق الرعاية محلول، ودم الوقاية مطلول، وجيب النصيحة مملول، والتنور السلطاني بنار اختلاف الكلمة ملتهب، والعدو ينتهز الفرصة ويسلب الأنفس والأموال وينتهب

وليس له في غير قطع شأفه المسلمين ابتغاء، وإن عقد المهادنة في بعض الأحيان فهو يسر حسوا في ارتغاء، وكلاب الباطل في دماء أهل الحق والغة، ولله سبحانهع وتعالى في خلقه إرادة نافذة وحكمة بالغة، فرقع لسان الدين ثوب الأندلس ورفاه، وأرغم - رحمه الله - الكفر الذي فغر فاه، وشمر عن ساعد اجتهاده، وحض باللسان وباليد على دفاعه وجهاده، حتى لاحت للنصر بوارق، وأمنت بالحزم الطوارئ والطوارق، ثم ضرب الدهر ضربانه، وأحرق الحاصد بنار أحقاده أنظر بان، وأظهر ما في قلبه على لسان الدين وأبان، وتقرب الوشاة، وهم ممن كانوا يخدمه ويغشاه، إلى سلطانه الذي كان عزة أوطانه الذي كان يأمنه ولا يخشاه، حتى فسد عليه ضميره، وتكدر - ومن يسمع يخل - نميره، فأحس بظاهر التغير، وصار في الباطن من أهل التحير، وأجال قداح آرائه، وألتفت إلى جهة العدو من ورائه، ففر مشمراً عن ذيله، في لمة من خيله، إلى أسد العريم، سلطان بن مرين وكان إذ ذاك بتلمسان، وهو من أهل العلم والعدل والإحسان، فاهتز لمقدمه، ولقيه بخاصته وخدمه، وأكرم مثواه، وجعله صاحب نجواه، ثم أدرك السلطان الحمام، وكسف بدره وقت التمام، فرجع لسان الدين إلى فاس، واستنشق بها أطيب الأنفاس، وكثر بعد ذلك الأهوال، وتغيرت بسببه بين رؤساء العدوة والأندلس الأحوال، فما نجى من مكر العدا ولا سلم، وآل أمره من الأختيال وما نفع الاحتيال إلى ما علم، على يد بعض أعداءه، الذين كانوا يتربصون الدوائر لإرداءه، فأصبح كأمس الذاهب، وصارت أمواله وضياعه عرضةً للناهب، وغص بذلك من كان من أودائه، وأخذ الله ثاره، من بعض من حبك عليه المكر وأثاره، وتسبب بهلاكه، حتى انتثر الجواهر أسلاكه، ومات بدائه. فالعيون إلى هذا الوقت على لسان الدين باكية، ونفوس

الأكابر وغيرهم مما فعل به شاكية والألسنة والأقلام بمقاماته بالإسلام حاكية. فمن كان بهذه السمات وأكثر منها موصوفاً، لا يقدر مثلي على تحبير التعبير عنه ويخشى أن تكون فكرته كخرقاء نقظة قطناً أو صوفاً. [أعتزام المقري إجابة ابن شاهين إلى مطلبه] ثم أني لما تكرر علي في هذا الغرض الإلحاح، ولم تقبل أعذاري التي زندها شحاح، عزمت على الإجابة لما للمذكور علي من الحقوق، وكيف أقابل بره حفظه الله بالعقوق، وهو الذي يروي من أحاديث الفضل الحسان والصحاح، فوعدته بالشروع في المطلب عند الوصول إلى القاهرة المعزية، وأزمعت السير عن دمشق المعروفة المزية، وألبسني السفر منها من الخلع زيه، ورحلنا عن تلك الأرجاء المتألفة، والقلوب بها وبمن فيها متعلقة: حللنا دياراً للغرام سرت بها إلينا صبا نجدٍ بطيب نسيم وبان ردي الأشجار لما تجاذبت أكف المنى فيها رداء نعيم فما أنشبتنا العيسش أن قذفت بنا إلى فرقة والعهد غير قديم فإن نك ودعنا الديار وأهلها فما عهد نجدٍ عندنا بذميم

[وداع الشام] فخرج معنا - أسماه الله - مع جملة من الأعيان إلى داريا، المضاهية لدارين في رياها وحبذا ريا، فألفيناها: ريا من الأنداء طي؟ بة لها القدر الجليل تهدي لنا أرجاؤها أرجاً من الزهر البليل وبها الغصون تمايلت ميل الخليل على الخليل ووصلنا عند الظهيرة، وسرحنا العيون في بدائعها الشهيرة: منزل كالربيع حلت عليه حاليات السحاب عقد النطاق يمتع العين من طرائق حسنٍ تتجافى بها عن الإطراق وقلنا بها، لما نزلنا بجنابها: وبتنا والسرور لنا نديم وماء عيونه الصافي مدام يسايره النسيم إذا تغنت حمائمه ويسيقه الغمام فيا لك من ليلة أربت في طيب النفح، على ليلة الشريف الرضي بالسفح: ونحن في روضة مفوفة قد وشيت بالغمائم الوكف نغفي على زهرها فيوقظنا وهناً هدير الحمائم الهتف

ودوحها من نداه في وشحٍ ومن لآلي الأزهار في شنف والغصن من فوقه حمامته كأنها همزة على ألف وما أقرب قول الوزير ابن عمار، من وصف ذلك المضمار، الجامع للأقمار: يا ليلة بتنا بها في ظل أكناف النعيم من فوق أكمام الريا ض وتحت أذيال النسيم وناهيك بمحل قرب من دمشق الغراء، فخلعت عليه حلل الحبور والسراء، وأمدته بضيائها، وأودعته برق حياها وماء حيائها، فصار ناضر الدوحات، عاطر الغدوات والورحات، مونق الأنفاس والنفحات، مشرق السرة والصفحات، هذا والقلوب من الفراق في فلق، ولسان الحال ينشد: وبي علاقة وجد ليس يعلمها إلا الذي خلق الإنسان من علق ويحث على انتهاز فرصة اللقاء إذ هي غنيمة، ويذكر بقول من قال وأكف الدهر موقظة ومنيمة: تمتع بالرقاد على شمال فسوف يطول نومك باليمين ومتع من يحبك باجتماع فأنت من الفراق على يقين ثم حضر بعد تلك الليلة موقف الوداع، والكل ما بين واجم وباك وداع، فتمثلت بقول من قلبه لفراق الأحباب في انصداع: ودعتهم ودموعي على الخدود غزار فاستكثروا دمع عيني لما استقلوا وساروا

وقول آخر: يا وحشة من جيرة مذ نأوا علو قدري في الهوى انحطا حكت دموعي البحر من بعدهم لما رأت منزلهم شطا وحق لي أن أتمثل في ذلك بقول العزيزي: لا تسلني عما جناه الفراق حملتني يداه ما لا يطاق أين صبري أم كيف أملك دمعي والمطايا بالظاعنين تساق قف معي نندب الطلول فهذي سنة قبل سنها العشاق وأعد لي ذكر الغوير فكم ما ل بعطفي نسيمه الخفاق في سبيل الغرام ما فعلت بال؟ عاشقين القدود والأحداق يوم ولت طلائع الصبر منا ثم شنت غاراتها الأشواق وبقول غيره: كنا جميعاً والدار تجمعنا مثل حروف الجميع ملتصقه واليوم صار الوداع يجعلنا مثل حروف الوداع مفترقه وقول آخر: حين هم الحبيب بالتوديع عيروني أني سفحت دموعي لم يذوقوا طعن الفراق ولا ما أحرقت لوعة الأسى من ضلوعي

كيف لا أسفح الدموع على رب؟ ع حوى خير ساكن وجموع هبك أني كتمت حالي أتخفى زفرات المتيم المصدوع إنما يعرف الغرام بمن لا ح عليه الغرام بين الربوع وقول من قال: أقول له عند توديعه وكل بعبرته مبلس لئن قعدت عنك أجسادنا لقد سافرت معك الأنفس وقول الصابي: ولما حضرت لتوديعه وطرف النوى نحونا أشوس عكست له بيت شعر مضى يليق به الحال إذ يعكس لئن سافرت عنك أجسادنا لقد قعدت معك الأنفس وقول المهذب بن أسعد الموصلي: دعني وما شاء التفرق والأسى واقصد بلومك من يطيعك أو يعي لا قلب لي فأعي الملام فإنني أودعته بالأمس عند مودعي هل يعلم المتحملون لنجعة أن المنازل أخصبت من أدمعي كم غادروا حرضاً وكم لوداعهم بين الجوانح من غرام مودعِ والسقم آية ما أجن من الجوى والدمع بينة على ما أدعي

وقول الكمال التنوخي: كم ليلة قد بتها أرعى السها جزعاً لفرقتهم بمقلة أرمد قضيتها ما بين نوم نافر وزفير مهجور وقلب مكمد لم أنس أيام السرور وطيبها بين السدير وبين برقة ثهمد والروض قد أبدى بدائع نوره من أزرق ومفضض ومورد والماء يبدو كالصوارم ساريا فيعيده مر الصبا كالمبرد والطير بين مسجع ومرجع ومغرد ومعدد ومردد وقول القاضي بهاء الدين السنجاري: أحبابنا ما لي على بعد المدى جلد ومن بعد النوى يتجلد لله أوقات الوصال ومنظر نضر وغصن الوصل غض أملد أني يطيق أخو الهدى كتمانه والخد بالدمع المصون مخدد ما بعد مفترق الركاب تصبر عمن أحب فهل خليل يسعد؟ يا سعد ساعد بالبكاء أخا هوى يوم الوداع بكى عليه الحسد وقول ابن الأثير: لم أنس ليلة ودعوا صباً وساروا بالحمول والدمع من فرط الأسى يجري فيعثر بالذيول وقول الأرجاني:

ولما وقفنا للوداع عشيةً وطرفي وقلبي هامع وخفوق بكيت فأضحكت الوشاة شماته كأني سحاب والوشاة بروق وقول ابن نباتة السعدي: ولما وقفنا للوداع عشية ولم يبق إلا شامت وغيور وقفنا فمن باك يكفكف دمعه وملتزم قلباً يكاد يطير وقول بعضهم: لما حدا الحادي بترحالهم هيج اشواقي واشجاني وراح يثني القلب عن غيرهم فهو لهم حاد ولي ثاني وقول الصفدي: لما اعتنقنا لوداع النوى وكدت من حر الجوى أحرق رأيت قلبي سار قدامهم وأدمعي تجري ولا تلحق وقوله أيضاً: تذكرت عيشاً مر حلواً بكم فهل لأيامنا تلك الذواهب واهب؟ وما انصرفت آمال نفسي لغيركم ولا أنا عن هذي الرغائب غائب سأصبر كرهاً في الهوى غير طائع لعل زماني بالحبايب آيب

وقول ابن نباتة المصري: في كنف الله وفي حفظه مسراك والعود بعزم صريح لو جاز أن تسلك أجفاننا كنا فرشنا كل جفن قريح لكنها بالعبد معتلة وأنت لا تسلك إلا الصحيح وقول الحافظ أبي الحسن علي بن الفضل: عجبت لنفسي بعدهم ما بقاؤها ولم أحظ من لقياهم بمرادي لعمرك ما فارقتهم منذ ودعوا ولكنما فارقت طيب رقادي وقد منعوا مني زيارة طيفهم وكيف يزور الطيف حلف سهاد؟ وأعجب ما في الأمر شوقي إليهم وهم في سوادي ناظري وفؤادي وقوله رحمه الله تعالى: رعى الله أيام المقام بروضة تروح علينا بالسرور وتغتدي كأن السقيق الغض بين بطاحها نجوم عقيق في سماء زبرجد وقول القاضي الرشيد الأسواني:

رحلوا فلا خلت المنازل منهم ونأوا فلا سلت الجوانح عنهم وسروا وقد كتموا الغداة مسيرهم وضياء نور الشمس ما لا يكتم وتبدلوا أرض العقيق عن الحمى رحلوا وفي قلب المتيم خيموا نزلوا العذيب وإنما هو مهجتي رحلوا وفي قلب المتيم خيموا ما ضرهم لو ودعوا من أودعوا نار الغرام وسلموا من أسلموا هم في الحشا إن أعرقوا أو أينموا أو اشأموا أو أنجدوا أو أتهموا وقول الشاعر أبي طاهر الأصفهاني، المعروف بالوثابي: أشاعوا فقالوا وقفة ووداع وزمت مطايا للرحيل سراع فقلت وداع لا أطيق عيانه كفاني من البين المشت سماع ولم يملك الكتمان قلب ملكته وعند النوى سر الكتوم مذاع وقول أبي المجد قاضي ماردين: رعى الله ربعاً أنتم فيه أهله وجاد عليه هاطل وهتون ولا زال مخضر الجوانب مترع ال؟ حياض وفيه للنعيم فنون لئن الله اللقاء وأينعت غصون التداني فالبعاد يهون وإن حكمت أيدي الزمان بعسرة فكم قضيت للمعسرين ديون وقول آخر:

غبتم فما لي في التبصر مطمع عظم الجوى واشتدت الأشواق لا الدار بعدكم كما كانت ولا ذاك البهاء ولا الإشراق أشتاقكم، وكذا المحب إذا نأى عنه أحبة قلبه يشتاق وقول أبي الحسن الهمداني: ويوم تولت الأظعان عنا وقوض حاضر وأرن بادي مددت إلى الوداع وأخرى حبست بها الحياة على فؤادي وقول ابن الضائغ: قد أودعوا القلب لما ودعوا حرقاً فظل في الليل مثل النجم حيرانا راودته يستعير الصبر بعدهم فقال: إني استعرت اليوم نيرانا وقول الصدر بن الأدمي مكتفيا: يوم توديعي لأحبابي غدا ذكر مي شاغلي عن كل شيء فرنت نحوي وقالت: يا ترى أنت حي في هوانا؟ قلت: مي وقول غيره: ولي فؤاد مذ نأى شخصهم ظل كئيبا مدنفا موجعا ومقلة مهما تذكرتهم تذرف دمعا أربعاً أربعا

وليس لي من حيلة كلما لجت بي الأشواق إلا الدعا أسأل من ألف ما بيننا وقدر الفرقة أن يجمعا وقول الرعيني الغرناطي: محاسن ربع قد محاهن ما جرى من الدمع لما قيل قد رحل الركب تناقض حالي مذ شجاني فراقهم فمن أضلعي نار ومن أدمعي سكب وفي معناه قوله أيضا: وقائلة: ما هذه الدرر التي تساقطها عيناك سمطين سمطين فقلت لها: هذا الذي قد حشا به أبو مضر أذني تساقط من عيني وقول الزمخشري: لم يبكني إلا حديث فراقهم لما أسر به إلى مودعي هو ذلك الدر الذي أودعتهم في مسمعي أجريته من مدمعي وقول الزغاري: قد بعتهم قلبي يوم بينهم بنظرة التوديع وهو يحترق ولم أجد من بعدها لرده وجها وكان الرد لو لم نفترق وقول بعض الأندلسيين: ساروا فودعهم طرفي وأودعهم قلبي فما بعدوا عني ولا قربوا هم الشموس ففي عيني إذا طلعوا في القادمين وفي قلبي إذا غربوا

وقلت أنا مضمنا بديهة: لا كان يوم فراق ساق الشجون إلينا فكم أذل نفوسا يا من يعز علينا وقلت أيضا مضمنا: سلا أحبته من لم يذب كمدا يوم الوداع وإن أجرى الدموع دما يا من يعز علينا أن نفارقهم من بعدكم هدركن الصبر وانهدما وإن نأى الجسم كرها عن منازلكم فالقلب ثاوبها لم يصحب القدما وما نسينا عهودا للهوى كرمت نعم قرعنا عليها سننا ندما وأظلمت بالنوى أرجاء مقصدنا وصار وجدان إلف غيركم عدما وقلت أيضا مضمنا: لم أنس بالشام أنسا شمت بارقه جادت معاهده أنواء نيسان لهفي لعيش قضينا في مشاهدها ما بين حسن من الدنيا وإحسان وقلت كذلك: يا جبرة بانوا وأبقوا حسرة تجري دموعي بعدهم وفق القضا كم قلت إذ ودعتهم والأنس لا ينسى وعهد ودادهم لن يرفضا يا موقف التوديع إن مدامعي فضت وفاضت في ثرى ذاك الفضا وكم تفاءلت بقول الأول، مع علمي بأن على الله المعول:

إذا رأيت الوداع فاصبر ولا يهمنك البعاد وانتظر العود عن قريب فإن قلب الوداع عادوا وضاقت بي الرحاب، حين مفارقة أعيان الصحاب، وكاثرت دموعي من بينهم السحاب، وزند التذكر يقدح الأسف فيهيج الانتحاب، وقد تمثلنا إذ ذاك والجوانح في التهاب، وذخائر الصبر ذات انتهاب، بقول بعض من مزق البعد منه الإهاب: ولما نزلنا منزلاً طله الندى أنيقاً وبستاناً من النور حاليا أجد لنا طيب المكان وحسنه منى فتمنينا فكانوا الأمانينا وقد طفت في شرق البلاد وغربها وسيرت خيلي بينها وركابيا فلم أر منها مثل بغداد منزلا ولم أر فيها مثل دجلة واديا ولا مثل أهليهال أرق شمائلا وأعذب ألفاظاً وأحلى معانيا وبقول من تأسف على مغاني التداني، وهو أبو الحجاج الأندلسي الداني: أبى الله إلا أن أفارق منزلا يطالعني وجه المنى فيه سافرا كأن على الأيام حين غشيته يميناً فلم أحلله إلا مسافرا

وتخيلنا أن إقامتنا بدمشق وقاها الله كل صرف، ما كانت إلا خطرة طيف ملم أو لمحة طرف: وقفنا ساعة ثم ارتحلنا وما يغني المشوق وقوف ساعة؟ كأن الشمل لم يك في اجتماع إذا ما شتت البين اجتماعه وطالما عللت النفس بالعود إليها ثم إلى بقاعي، منشداً قول الأديب الشهير بابن الفقاعي: متى عاينت عيناي أعلام حاجر جعلت مواطي العيس فوق محاجري وإن لاح من أرض العواصم بارق رجعت بأحشاء صواد صوادر سقى الله هاتيك المواطن والربى مواطر أجفان هوام هوامر وحيا الحيا من ساكني الحي أوجهاً سفرن بأنوار زواه زواهر بحيث زمان الوصل غصن وروضه أريض بأزهار بواه بواهر وحيث جفون الحاسدين غضيضة رمقن بآماق سواه سواهر ثم حاولت خاطري الكليل، فيما يشفي بعض الغليل، فقال على طريق التضمين، وقد غلب عليه الشوق والتخمين: بأبي من أودعوا مذ ودعوا قلبي الشوق وللعيس ذميل جيرة غر كرام خيرة كل شيء منهم يبدو جميل وعلى الجملة ما لي غيرهم لو أرادوا أن يملوا أو يميلوا ثم قلت وقد سدد التنائي إلي نبله، موطئاً للبيت الثالث كما في الأبيات قبله:

يا دمشقا حياك غيث غزير ووقاك الإله مما يضير حسنك الفرد والبدائع جمع متناه فيه فعز النظير أين أيامنا بظلك والشم؟ ل جميع، والعيش غض نضير ثم أكثرت الالتفات عن اليمين وعن الشمال، وقد شبهت البيداء والشوق ببدل الكل والاشتمال، وتنسمت من نواحي تلك الأرجاء أريج الشمال، وضمنت في المعنى قول بعض من ثنى الحب عطفه وأمال: تنسمت أرواحاً سرت من ديار من بهم كان جمع الشمل لمحة حالم وجاوبت من يلحى على ذاك جاهلاً بقول لبيب بالعواقب عالم وما أنشق الأرواح إلا لأنها تمر على تلك الربى والمعالم وما أحسن قول الآخر: سرت من نواحي الشام لي نسمة الصبا وقد أصبحت حسري من السير ظالعه ومن عرق مبلولة الجيب بالندى ومن تعب أنفاسها متتابعه وقلت أنا: حمدت وحق الله للشام رحلة أتاحت لعيني اجتلاء محياه وبعد التنائي صرت أرتاح للصبا لأن الصبا تسري بعاطر رياه فلله عهد قد أتاح بجلق سروراً فحياها الإله وحياه واستحضرت عند جد السير، قول صفوان بن إدريس المرسي ذكره الله تعالى بالخير:

أين أيامنا اللواتي تقضت إذا زجرنا للوصل أيمن طير ثم قول غيره ممن حن وأن، وقلق قلبه وما اطمأن: أحن إلى مشاهد أنس إلفي وعهدي من زيارته قريب وكنت أظن قرب العهد يطفي لهيب الشوق فازداد اللهيب وربما تجلدت مغالطاً، متعللاً بقول من كان لإلفه مخالطاً: حضرت فكنت في بصري مقيماً وغبت فكنت في وسط الفؤاد وما شطت بنا دار ولكن نقلت من السواد إلى السواد وقول غيره: وكن كمن شئت من قرب ومن بعد فالقلب يرعاك إن لم يرعك البصر وبقول الوداعي: يا عاذلي في وحدتي بعدهم وأن ربعي ما به من جليس وكيف يشكو وحدة من له دمع حميم وأنين أنيس ثم رددت هذه الطريقة، بقول بعض من لم يبلعه السلو ريقه: لا رعى الله عزمة ضمنت لي سلوة القلب والتصبر عنهم ما وفت غير ساعةً ثم عادت مثل قلبي تقول لا بد منهم وبقول ابن آجروم، في مثل هذا الغرض المروم: يا غائباً كان أنسي رهن طلعته كيف اصطباري وقد كابدت بينهما

دعواي أنك في قلبي يعارضها شوقي إليك، فكيف الجمع بينهما ثم جد بي السير إلى مصر واستمر، فتذكرت قول الصفدي وقد اشتد بالرمل الحر: أقول وحر الرمل قد زاد وقده وما لي إلى شم النسيم سبيل أظن نسيم الجو قد مات وانقضى فعهدي به في الشام وهو عليل وقول ابن الخياط: قصدت مصرا من ربى جلق بهمة تجري بتجريبي فلم أر الطرة حتى جرت دموع عيني بالمريزيب وحين وصلت مصر لم أنس عهد الشام المرعي، وأنشدت قول الشهاب الحنبلي الزرعي: أحبتنا والله مذ غبت عنكم سهادي سميري والمدامع مدرار ووالله ما اخترت الفراق، وإنه برغمي، ولي في ذلك الأمر أعذار إذا شام برق الشام طرفي تتابعت سحائب جفني والفؤاد به نار ألا ليت شعري هل يعودن شملنا جميعا وتحوينا ربوع وأقطار؟

وقول ابن عنين: دمشق بنا شوق إليك مبرح وإن لج واش أو ألح عذول بلاد بها الحصباء درر، وتربها عبير، وأنفاس الرياح شمول تسلسل منها ماؤها وهو مطلق وصح نسيم الروض وهو عليل وقول آخر: نفسي الفداء لأنس كنت أعهده وطيب عيش تقضي كله كرم وجيرة كان لي إلف بوصلهم والأنس أفضل ما بالوصل يغتنم بالشام خلفتهم ثم انصرفت إلى سواهم فاعتراني بعدهم ألم كانوا نعيم فؤادي والحياة له والآن كل وجود بعدهم فإن أنشد لسان الحال، فيما اقتضاه معنى البعد عنها والارتحال: يا غائبا قد كنت أحسب قلبه بسوى دمشق وأهلها لا يعلق إن كان صدك نيل مصر عنهم لا غرو فهو لنا العدو الأزرق أتيت في جوابه، بقول بعض من برح الجوى به: لله دهر جمعنا شمل لذته بالشام أعذب من أمن على فرق مرت لياليه والأيام في خلس كأنما سلبته كف مسترق ما كان أحسنها لولا تنقلها من النعيم إلى ذاك من الحرق رق العذول لحالي بعدها ورثى لي في الجوى والنوى والشجو والأرق

وبالجملة فتلك الأيام من مواسم العمر محسوبة، والسعود إلى طوالعها منسوبة: وكانت في دمشق لنا ليالٍ سرقناهن من ريب الزمان جعلناهن تاريخ الليالي وعنوان المسرة والأماني وهي مغاني التهاني التي ما نسيناها، وأماني زماني التي نعمت بطور سيناها عليها وعلى وطني مقصورة، والقلب في المعنى مقيم بهما وإن كان في غيرهما بالصورة، والأشواق إليهما قضاياها موجهة وإن كانت غير محصورة: ولله عهد قد تقضي فإن يعد فإني عن الأيام أعفو واصفح بقلبي من ذكراه ما ليس ينقضي ومن برحاء الشوق ما ليس يبرح إذا مسحت كفي الدموع تستراً بدت زفرة بين الجوانح تقدح على أنها الأيام جد مزاجها ورب مجدٍ في الأذى وهو يمزح وكثيراً ما يلهج اللسان بقول من قال: وما تفضل الأوقات أخرى لذاتها ولكن أوقات الحسان حسان ويردد قول من شوقه متجدد: سقى معهد الأحباب ناقع صيب من المزن عن مغناه ليس يريم وإن لم أكن من ساكنيه فإنه يحل به خل علي كريم وينشد من يلوم، قول في حشاه وله وفي قلبه كلوم: ثد أصبح آخر الهوى أوله فالعاذل في هواك ما لي وله بالله عليك خل ما أوله وارحم دنفاً لدى حشاه وله

[شروعه في التصنيف بمصر] وقد امتد بنا الكلام، وربما يجعله اللاحي ذريعة لزيادة الملام، فلنرجع إلى ما كان بصدده، من إجابة المولى الشاهيني، أمده الله سبحانه بمدده، فأقول، مستمداً من واهب العقول: إني شرعت بعد الاستقرار بمصر في المطلوب، وكتبت منه نبذة تستحسنها من المحبين الأسماع والقلوب، وسلكت في ترتيبه أحسن أسلوب، وعرضت في سوقه كل نفيس غريب من الغرب إلى الشرق مجلوب، تستحسن الأبصار ما عليه احتوى، وتعرف الأفكار أنه غير مجتوى، ثم وقف بي مركب العزم عن التمام واستوى، فأخرته تأخير الغريم، لدين الكريم، وصدتني أعراض، عن تكميل ما يشتمل عليه من أغراض، واضربت برهة عما له من منحى، لاختلاف أحوال الدهر نفعاً ودفعاً ومنعاً ومنحاً، ومرقت عن هدف الإصابة نبال، وطرقت في سدف لبالي الكتابة أمور لم تكن ببال. [رسالة من ابن شاهين تحثه على المضي في التأليف] فجاءتني من المولى المذكور آنفاً، رسالة دلت على أنه لم يكن عن انتجاز الوعد متجانفاً، فعدت لقضاء الوطر مستقبلاً وللجملة مستأنفاً، وحداني خطابه الجسيم للإتمام وساقني، وراقني كتابه الكريم لهاتيك الأيام وشاقني، وذكرني تلك الليالي التي لم أنسها، وحركني لهاتيك المعاهد التي لم أزل أذكر أنسها: الإلف لا يصبر عن إلفه إلا كما يطرف بالعين وقد صبرنا عنهم مدة ما هكذا شأن المحبين

فيا له من كتاب أعرب عن ود صميم، وذكر بعهد غير ذميم، وود طيب العرف والشميم، يخجل ابن المعتز لبلاغه وابن المعز تميم: ولم تر عيناي من قبله كتاباً حوى بعض ما قد حوى كأن المباسم ميماته ولاماته الصدغ لما التوى وأعينه بعيون الحسان تغازلنا عند ذكر الهوى كتاب ذكرنا بألفاظه عهوداً زكت بالحمى واللوى فكأنه الروض المطرد الأنهار، والدوح المدبج الأزهار: رأينا به روضاً تدبج وشيه إذا جاد من تلك الأيادي غمائم به ألفات كالغصون وقد علا عليها من الهمز المطل حمائم وقد سقيت بأنهار البراعة السلسالة، حدائق حلت بها غانية تلك الرسالة، لتشفي صبها بالزيارة، وتشرف بدونها دياره: زارت الصب في ليال من البع؟ د فلما دنت رأى الصبح يلمح قلدت بالعقيان جيد بيان ليس فيه للفتح من بعد مطمح فشفت النفس من آلامها، وأحيت ميت الهوى مذحيت بعذب كلامها: كلام كالجواهر حين يبدو وكالند المعنبر إذ يفوح له في ظاهر الألفاظ جسم ولكن المعاني فيه روح

فصيرت لي ذلك الكتاب سميراً، ووردت من السرور مشرعاً نميراً، وتمثلت بقول بعض من أخلص في الود ضميراً: يا مفرداً أهدى إلي كتابه جملاً يحار الذهن في أثنائها كالدر أشرق في سموط عقوده والزهر والأنواء غب سمائها فأفادني جذلاً وبالي كاسد وأجار نفسي من جوى برحائها وحسبت أيام الشباب رجعن لي فلبست حلي جمالها وبهائها لا يعدم الإخوان منك محاسنا كل المفاخر قطرة من مائها فأكرم به من كتاب جاء من السري العلي، والماجد الأخ الولي: فضضت ختامه فتبينت لي معانيه عن الخبر الجلي وكان ألذ في عيني وأندى على كبدي من الزهر الجني وضمن صدره ما لم تضمن صدور الغانيات من الحلي وأعرب عن اعتماد متماد، ووداد مزدد، وأطاب حين أطال، وأدى دين الفصاحة دون مطال، واشتمل من فصول العبارة على أحسن من الحدق المراض، وأتى من اصول البراعة ببراهين ابن شاهين التي لا خلف فيها ولا افتراض، وروينا من غيث أنامله الهتون، وروينا عنه مسند أحمد حسن الأسانيد والمتون، وحثنا على العود والرجوع، وكان أجدى من الماء الزلال لذي ظمإ والمشتهى من الطعام لذي سغب وجوع:

وأشهى في القلوب من الأماني، وأحلى في العيون من الهجوع وجلا بنوره ظلام استيحاشي، وحشر إلي أشتات المسرات دون أن يحاشي، ووجدني في مكابدة شغوب، وأشغال أشربت القلب الكسل واللغوب، وحيرت الخواطر، وصيرت سحب الأقلام غير مواطر، فزحزح عني الغموم وسلاني، وأولاني - شكر الله صنيعه - من المسرات ما أولاني: حديثه أو حديث عنه يطربني هذا إذا غاب أو هذا إذا حضرا كلاهما حسن عندي أسر به لكن أحلاهما ما وافق النظرا وقال آخر: لست مستأنساً بشيء إذا غب؟ ت سوى ذكرك الذي لا يغيب أنت دون الجلاس عندي وإن كن؟ ت بعيداً فالأنس منك قريب وضمنت فيه لما ورد مع جملة كتب من تلك الناحية، وأنوار أهلها ذوي الفضائل الشهيرة أظهر من شمس الظهيرة في السماء الصالحية: قلت لما أتت من الشام كتب من أجلاء نورهم يتألق مرحباً مرحباً وأهلا وسهلاً بعيون رأت محاسن جلق وقلت أيضاً: قلت لما وافت من الشام كتب والليالي تتيح قرباً وبعدا مرحباً مرحباً وأهلاً وسهلاً بعيون رأت محاسن سعدى

[مقتطفات من رسالة ابن شاهين] وكان من فصول الكتاب الوارد، من المولى الشاهيني الذي اقتنص بفضله كل رشاد، ما نصه: ((ومما استخلص قلبي من يدي ترحي، وجدد سروري ونبه فرحي، حديث الكتاب وما حديث الكتاب، حديث نسخ بحلاوته مرارة العتاب، وأنساني حرارة المصاب، في الأنسال والأعقاب، وقضى به من حق لسان الدين، دينه الذي تبرع به غريم مليء من البلاغة وهو غير مدين، حتى كأني يا سيدي بهذه البشرى، أحرزت سواري كسرى، وكان في مسمعي كل حرف إليها منسوب، قميص يوسف في أجفان يعقوب، وحتى كدت أهجر أهلي وبيتي، واسرج لا ستقبال هذه البشرى أشهى وكميتي، وحتى إنني حاربت نومي وقومي، وعزمت على أن أرحل ناقتي في وقتي ويومي، وإن ذلك التغليس والتهجير، في جنب ما بثرت به لحقير، وإن موقعها لدى هذا العبد الحقير لخطير. وقد كنت سألت شيخي حين ورد دمشق الشام، واشتم منها العرار والبشام، وشرفني فعرفني، وشاهدني فعاهدني، على أن يجري ما دار بيننا لدى المجاورة، من المسامرة والمحاورة، في ديباجة ذلك الكتاب، الذي فتن العقول خبره وسحر الألباب، وما قصدت إلا أن يجري أسمى على قلمه، ويرقم رسمي في مطاوي تحريره ورقمه، ويكون ذكري مختلطاً بذكره، كما أن سري مرتبط في المحبة بسره، فرأيت شيخي لم يتصد في اثناء هذه البشرى، لما يفهمني بالذكرى، لأنتظر النجاح في الأخرى، ولم يساعدني على ذلك الملتمس، وحبس عنان القلم فاحتبس، فانكسرت سورة سروري بفتوري، وتبين لنفسي عن بلوغ ذلك الأمل تخلفي وقصوري)) انتهى. ثم قال بعد كلام لم نذكره لعدم تعلقه بهذا الغرض، ما صورته:

وحسبت أن سيدي وحاشاه، نسي من ليس ينساه، وظننت به الظنون، لأمور تكون أو لا تكون، وهل يكره شيخي أن يهدي الدنيا في طبق؟ ثم الأخرى على ذلك النسق، ولا شك أن خطه هو الروضة الغنا، لا بل جنة المأوى، فطوبى لنفسي إن جنت ثمرته طوبى، ولعمر شيخي إني بذلك لجدير، وإني كنت أملك به الخورنق والسدير)) انتهى ما يتعلق بالمطلوب من ذلك الرقيم، الذي شكل منطقهغير عقيم، سلك الله تعالى بي وبمن وجهه الصراط المستقيم. وأتى في المكتوب بأنواع من البلاغة، مما تركت ذكره هنا لعدم تعلقه بهذا الأمر الخاص الذي ييسر لكارع الأدب مساغه، وختمه بقصيدة نفيسة من نظمه فيها ذلك الوعد، وأشهد أنه قد حاز فيها قصب السبق والمجد، وما قلت إلا بالذي علمت سعد، وهذه صورتها: يا سيداً أفديه بالأكثر من أصغر العالم والأكبرِ ويا وحيداً قل قولي له عطارد أنت مع المشتري ويا مجيداً ليس عندي له إلا مقال المادح المكثرِ أقسمت بالبيت العتيق الذي حجت إليه الناس والمشعرِ ما للعلا والعلم إلا أبو ال؟ عباس شيخي أحمد المقري ذاك الذي آثرني منه بال؟ علم الذي للغير لم يؤثرِ وخصني منه بأشياء لم يفز بها غيري ولم يعثرِ فرحت عبداً ذا وفاء له معترفاً بالرق لا أمتري

فيا أبا العباس يا من غدا أعظم في نفسي من معثري ومن إذا ما غاب عن ناظري كان سمير القلب للمحضر هات أفدني سيدي عن علا ال؟ مولى لسان الدين ذاك السري ذاك الوحيد الفذ في عصره بل أوحد الأدهر والأعصرِ ذاك الذي أخبرني سيدي عنه مزايا بعد لم تحصرِ ذاك الذي العيوق لا يعتلي إلى معاليه ولا يجتري ما قد وعدت العبد في جمعه من خبر عن فضله مسفرِ بخطك الوضاح وهو الذي مخبره يربي على المنظرِ والشيء لا يرجى إذا ما غدا منظره يربي على المخبرِ نقش على طرس بياض كما لاحت عيون الرشإ الأحورِ وأسطر قد سلسلت مثلما لاح عذار الشادن المقمرِ ونزهة الأنفس معنى غدا ما بينها ينساب كالكوثرِ عذب رقيق مثل ظبي غدا يلوح طاوي الكشح أو جؤذرِ آثار أقلامك وهي التي أغنت عن الأبيض والأسمرِ يراعك الجامع راوٍ غدا يروي اللغى عن لفظك الجوهري ينثر مسكاً تارة ناظماً وينظم الجوهر بالعنبرِ هذا ابن شاهين الفتى أحمد عن ذكرك المأنوس لم يفترِ فاجعل له ذكراً كريماً به يزدان مغبوطاً إلى المحشرِ واذكر بويتاتي وكل الذي كتبته نحوك في دفتري أنت جدير بمديحي فكن ذاكر عبد بالوفا أجدرِ وهاكها سيارة أعنقت على جواد كان للبحتري

طرف كريم سابق صافن مطهم ذي أدب أوفرِ ورثته منه ولكنما من شاعر وافى إلى أشعرِ ما للفتى الطائي شوط امريء يصطاد نسر الجو بالمنسرِ واسلم لعبد لا يرى سيداً سوى الذي في ثوبك الأطهرِ في كرم العنصر فرداً غدا طبعك فاشكر كرم العنصرِ ما حن مشتاق أخو صبوة إلى خليل في الهوى مفكرِ انتهت. [تهمم المؤلف لاستئناف التصنيف] فلما وصلني هذا الخطاب، الذي ملأ من الفصاحة الوطاب، وحلا في عيني وقلبي وطاب، تحركت دواعي الوجد، لذلك المجد، الذي ولعت به لولع ابن الدمينة بصبا نجد، وأثار من الهيام والأوار، ما يزيد على ما حصل للفرزدق لما فارق النوار، وتضاعف الشوق إلى تلك الأنجاد والأغوار، منشداً قول الأول: ((لعل أبي المغوار)) ، وتذكرت والذكرى شجون وأطوار، تلك الأضواء وزالأنوار، المشرقة بقطر أزهر بالمحاسن، وجرى نهره غير آسن، فلم يذم فيه الجوار: وإن اصطباري عن معاهد جلق غريب فما أجفى الفراق وأجفاني سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربها كحلت بها من شدة الشوق أجفاني وحصل التصميم، على التكميل للتأليف والتتميم، رعياً لهذا الولي الحميم

أفاض الله تعالى عليه غيث البر العميمي، وأبقى ظل عزه ممدوداً، وخلى سؤدده مودودا، وأناله من الخيرات ما ليس محصوراً ولا معدوداً، وجمعني وإياه، وأطلع لي بشر محياه، وأنشقني عرف اجتماعه ورياه، وكيف لا أستديم أمد بقياه، وأعتقد البشائر في لقياه، وأسقى غروس الود بسقياه، وهو الصدر الذي أصفى لي الوداد، والركن الذي لي بثبوته اعتداد: فعليه من مصفي هواه تحية كالمسك لما فض عنه ختام تترى بساحته السنية ما دعت فوق الغصون هديلهن حمام ودامت فضائله ظاهرة كالشمس، محروسة بالسبع المثاني معوذة بالخمس: ولا انفك ما يرجوه اقرب من غدٍ ولا زال ما يخشاه أبعد من أمس وبقي من العناية في حرم أمين، آمين. ولما حصل لي كمال الاغتباط، بما دل على صحة حال الارتباط، نشرت بساط الانبساط، وحدثت لي قوة النشاط، وانقشعت عني سحائب الكسل وانجابت، وناديت فكرتي فلبت مع ضعفها وأجابت، فاقتدحت من القريحة زنداً كان شحاحاً، وجمعت من مقيداتي حساناً وصحاحاً، وكنت كتبت شطره، وملأت بما تيسر هامشه وسطره، ورقمت من أنباء لسان الدين ابن الخطيب حللا لا تخلق جدتها الأعصر، وسلكت من التعريف به رحمه الله مهامه تكل فيها واسعات الخطا وتقصر. فحدث لي بعد ذلك عزم على زيادة الأندلس ذكر الأندلس جملة ومن كان يعضد بها الإسلام وينصر، وبعض مفاخرها الباسقة، ومآثر أهلها المتناسقة، لأن كل ذلك لا يستوفيه القلم ولا يحصر، وجئت

من النظم والنثر بنبذة توضح للطالب سبله، وتظهر علمه ونبله، وتترع محاسنه من راح المذاكرة وإناءه، حتى يرى إيثار هذا المصنف وإدناءه، وكنت في المغرب وظلال الشباب ضافية، وسماء الأفكار من قزع الأكدار صافية، معتنياً بالفحص عن أنباء الأندلس، وأخبار أهلها التي تنشرح لها الصدور والأنفس، وما لهم من السبق في ميدان العلوم، والتقدم في جهاد العدو الظلوم، ومحاسن بلادهم، ومواطن جدالهم وجلادهم، حتى اقتنيت منها ذخائر يرغب فيها الأفاضل الأخاير، وانتقيت جواهر، فرائدها للعقول بواهر، واقتطفت أزاهر، أنجمها في أفق المحاضرة زواهر، وحصلت فوائد بواطن وظواهر، طالما كانت أعين الألباء لنيلها سواهر، وجمعت من ذلك كلما عالية، لو خاطب بها الداعي صم الجلامد لا نبجس حجرها، وحكماً غالية، لو عامل بها الأيام ربح متجرها، واسجاعاً تهتز لها الأعطاف، ومواعظ يعمل بمقتضاها من حفت به الألطاف، وقوافي موفورة القوادم والخوافي، يثني عليها من سلم من الغباوة والصمم، ويعترف ببراعتها من لا يعتريه اللمم، وطالما أعرض الجاهل الغمر بوجهه عن مثلها واشاح، وأنصت لهما الحبر إنصات السوار لجرس الحلي ونغم الوشاح، وفرح إن ظفر بشيء منها فرح الصائد بالقنيص، والساري العاري ذي البطن الخميص، بالزاد والقميص وتركت الجميع بالمغرب، ولم أستصحب معي منه ما يبين عن المقصود ويعرب، إلا نزراً يسيراً علق بحفظي، وحليت بجواهره جيد لفظي، وبعض أوراق سعد في جواب السؤال بها حظي، ولو حضرني الآن ما خلفته، مما جمعت في ذلك الغرض وألفته، لقرت به عيون وسرت ألباب، إذ هو والله الغاية في هذا الباب، ولكن المرء ابن وقته وساعته، وكل ينفق على قدر وسعه

واستطاعته، وعذر مثل باد، للمصنفين من العباد، إن قصرت فيما تبصرت، أو تخلفت في الذي تكلفت، أو أضعت تحرير ما وضعت، والتقمت ثدي التقصير ورضعت، أو أطعت داعي التواني فتأخرت عمن سبق وانقطعت، (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) ، ومن كانت بضاعته مزجاة، فهو عن الإنصاف بمنجاة، إذ أتى بالمقدور، وتبرأ من الدعوى في الورود والصدور، وعين الرضا عن كل عيب كليلة، والسلامة من الملامة متعذرة أو قليلة، وقد قال إمامنا مالك صاحب المناقب الجليلة: ((كل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام صاحب هذا القبر)) صلى الله عليه وسلم أزكى صلاة وأتم سلام وشفى بجاهه من الآلام قلوبنا العليلة، وجلعنا ممن كان اتباع سنته رائدة ودليله، آمين. والحمد لله الذي يسر لي هذا القدر، مع ضيق الصدر، وقلة بضاعتي، وكثرة إضاعتي، فإن حمده جل جلاله تتضوع به المطالب طيباً، وتقتضي ببركته المآرب فيرقى صاحبها على منبر القبول خطيباً، وتعذب به المشارب فتنبت في أرض القرطاس، من زاكي الغراس، ما يروق منظراً نضيراً ويورق غصناً رطيباً، وقد أتيت من المقال، بما يقر إن شاء الله تعالى عين وامق ويرغم أنف قال، وإن كنت ممن هو في ثوب العي رافل، وعن نسبته للقصور غير غافل، وممن جعل هدفاً وصير مكان الدرر صدفاً، إذ لسان الدين بن الخطيب إمام هذه الفنون، المحقق لذوي الآمال الظنون، المستخرج من بحار البلاغة المكنون، وله اليد الطولي في العلوم على اختلاف أجناسها، والألفاظ الرائقة التي تزيح وحشة الأنفس بإيناسها:

ناهيك من فرد أغر ممدح رحب الذرا حر الكلام محسد بهر النام رياسة وسياسة وجلالة في المنتمي والقعدد وأتى بكل بديعة في نوعها لم تخترع وغريبة لم تعهد ما شئت من شعر أرق من الصبا وكتابه أزهى من الزهر الندي وبديع قرطاس توشح متنه بمنمنم من رقمه ومنجد بهج كأن الحسن حل أديمه فكساه ريعان الشباب الأغيد وكأنما سال العذار عليه أو خطته أيدي الغانيات بإثمد يختال بين موصل ومفصل مطرز ومنظم ومنضد كالبرد في توشيعه، والسلك في ترصيعه، والوشي نمق باليد قد قيد الأبصار والأفكار من ألفاظه بمثقف ومقيد ما فيه مغرز إصبع إلا وفي؟ هـ نتيجة لمفرع ومولد ولكل جزء حكمة أو ملحة أو بدعة لمرسل ومقصد أوليس مثلي قاصراً عن وصفه والحق نور واضح للمهتدي وكما قلت وقد عجزت عن أداء الواجب وحاولت المسنون، وفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده ليس بممنوع ولا ممنون: ليت شعري أي العبارات توفي واجب أبن الخطيب مما أروم وأنا عاجز عن البعض منها لقصوري وما العيي ملوم وهو يدعي لسان دين وناهي؟ ك افتخاراً به تتم الرسوم فبأي الحلى أحلي علا من نال فضلاً روته عرب وروم وعلى الفرض ما الذي أنتحى من؟ هـ لدى الوصف أن يخص العموم ألحفظ قد ارتوى من معين لصواب عليه كل يحوم

أم لفهم يستخرج الدر غوصاً من بحارٍ يخشى بها من العوم أم لفكر مؤلف في فنون عدة ما به تداوى الكلوم أم لنظم كأنه جوهر السل؟ ك غلا قدره على من يسوم تتباهى به الصدور حلياً وتروق العيون منه نجوم أم لنثر وافى بسحر بيان فهو كالروح والمعاني جسوم وأظلته للبديع سماء تتلالا في جانبيها العلوم فاستزادت منه النفوس رشاداً واستزانت منه النهى والحلوم أمن لخط منمنم فاق حسناً مثل وشيٍ تلوح منه الرقوم أو كزهر في بهجة ورواء وأريج به تزاج الغموم والغصون الأقلام، والطرس روض ناضر، والمداد غيث سجوم تلك ست أعجزن وصفي فإني بسواها مما يجل أقوم ولم يكن جمعي - عليه الله - هذا التأليف لرفد أستهديه، أو عرض نائل أستجديه، بل لحق ود أؤديه، ودين وعد أقدمه وأبديه، ووقوف عند حد لا يجوز تعديه، وتلبية داع أحييه وأفديه: إن من يرجو نوالا وندى من بني الدنيا لذو حظ غبين فلقد كان على غير الهدى من يسومهم برب العالمين ويرجي منهم الرزق فهل خالق الكل فقير أو ضنين أنخلي قصد رب مالك ونرى للخلق جهلاً قاصدين ما لنا من مخلص نأتي به غير جاه المصطفى الهادي الأمين سيد الخلق العماد المرتجى للملمات شفيع المذنبين فعليه صلوات تنتحي حضرةً حل بها في كل حين

والرضى من بعد عن أربعة هم بحق أمراء المؤمنين فيميناً إن من يهواهم ليكونن من أصحاب اليمين وسط جنات تحييه بها آنسات قاصرات الطرف عين بقوارير لجين شربه وأباريسق وكأس من معين والذي شرفهم يمنحنا حبهم والكون معهم أجمعين فدونك أيها الناظر في هذا الكتاب، المتجافي عن مذهب النقد والعتاب، كلمات سوانح، اختلست مع اشتعال الجوانح، وتضاد الأمور الموانع والموانح، وألفاظ بوارح اقتضت بين أشغال الجوارح، وطرفاً أسمت الطرف في مرعاها وكانت هملاً غير سوارح، وتحفاً يحصل بها لناظره الإمتاع، ولا يعدها من سقط المتاع المبتاع، ويلهج بها المرتاح ويستأنس المستوحش المرتاع. [منهج الكتاب] وبعد أن خمنت تمام هذا التصنيف، وأمعنت النظر فيما يحصل به التقريط لسامعه والتشنيف، قسمته قسمين، وكل منهما مستقل بالمطلوب فيصح أن يسميا باسمين: القسم الأول - فيما يتعلق بالأندلس من الأخبار المترعة الأكواب، والأنباء المنتحية صوب الصواب، الرافلة من الإفادة في سوابغ الأثواب، وفيه بحسب القصد والاقتصار، وتحري التوسط في بعض المواضع دون الاختصار، ثمانية من الأبواب:

الباب الأول: في وصف جزيرة الأندلس وحسن هوائها، واعتدال مزاجها ووفور خيرها وكمالها واستوائها، واشتمالها على كثير من المحاسن واحتوائها، وكرم نباتها الذي سقته سماء البركات من جنباتها بنافع أنوائها، وذكر بعض مآثرها المجلوة الصور، وتعداد كثير مما لها من البلدان والكور، المستمدة من أضوائها. الباب الثاني: في إلقاء بلد الأندلس للمسلمين بالقياد، وفتحها على يد موسى بن نصير ومولاه طارق بن زياد، وصيرورتها ميداناً لسبق الجياد، ومحط رحال الارتياء والارتياد، وما يتبع ذلك من خبر حصل بازديانه ازدياد، ونبإ وصل إليه اعتيام وتقرر بمثله اعتياد. الباب الثالث: في سرد بعض ما كان للدين بالأندلس من العز السامي العماد، والقهر للعدو في الرواح والغدو والتحرك للهدو البالغ غاية الآماد، وإعمال أهلها للجهاد، بالجد والاجتهاد، في الجبال والوهاد، بالأسنة المشرعة والسيوف المستلة من الأغماد. الباب الرابع: في ذكر قرطبة التي كانت الخلافة بمصرها للأعداء قاهرة، وجامعها الأموي ذي البدائع الباهية الباهرة، والإلماع بحضرتي الملك: الزهراء الناصرية والعامرية الزاهرة، ووصف جملة من متنزهات تلك الأقطار ومصانعها ذات المحاسن الباطنة والظاهرة، وما يجر إليه شجون الحديث من أمور تقتضي بحسن إيرادها القرائح الوقادة والأفكار الماهرة. الباب الخامس: في التعريف ببعض من رحل من الأندلسيين إلى بلاد المشرق

الذاكية العرار والبشام، ومدح جماعة من أولئك الأعلام، ذوي الألباب الراجحة والأحلام، لشامة وجنة الأرض دمشق الشام، وما اقتضته المناسبة من كلام أعيانها وأرباب بيانها ذوي السؤدد والاحتشام، ومخاطباتهم للمؤلف الفقير حين حلها عام سبعة وثلاثين وألف وشاهد برق فضلها المبين وشام. الباب السادس: في ذكر بعض الوافدين على الأندلس من أهل المشرق، المهتدين في قصدهم إليها بنور الهداية المضيء المشرق، والأكابر الذين حلوا منها بحلولهم فيها الجيد والمفرق، وافتخروا برؤية قطرها المونق على المشئم والمعرق. الباب السابع: في نبذة مما من الله تعالى به على أهل الأندلس من توقد الأذهان، وبذلهم في اكتساب المعارف والمعالي والمعالي ما عز أو هان، وحوزهم في ميدان البراعة من قصب السبق خصل الرهان، وجملة من أجوبتهم الدالة على لوذعيتهم، وأوصافهم المؤذنة بألمعيتهم، وغير ذلك من أحوالهم التي لها على فضلهم أوضح برهان. الباب الثامن: في ذكر تغلب العدو الكافر علىالجزيرة بعد صرفه وجوه الكيد إليها، وتضريبه بين ملوكها ورؤسائها بمكره، واستعماله في أمرها حيل فكره، حتى استولى - دمره الله - عليها، ومحا منها التوحيد واسمه، وكتب على مشاهدها ومعاهدها وسمه، وقرر مذهب التثليب والرأي الخبيث لديها، واستغاثة من بها بالنظم والنثر، أهل ذلك العصر، من سائر الأقطار، حين تعذرت بحصارها، مع قلة حماتها وأنصارها، المآرب والأوطار، وجاءها الأعداء من خلفها ومن بين يديها، أعاد

الله تعالى إليها كلمة الإسلام، وأقام فيها شريعة سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام، ورفع يد الكفر عنها وعما حواليها، آمين. ولم أخل باباً في هذا القسم من كلام لسان الدين بن الخطيب وإن قل، مع أن القسم الثاني بذلك كما ستقف عليه قد استقل، وهذا آخر ما تعلق بالقسم الأول، وعلى الله سبحانه المتكل والمعول. القسم الثاني - في التعريف بلسان الدين بن الخطيب، وذكر أنبائه التي يروق سماعها ويتأرج نفحها ويطيب، وما يناسبها من أحوال العلماء الأفراد، والأعلام الذي اقتضى ذكرهم شجون الكلام والاستطراد، وفيه أيضاً من الأبواب ثمانية، موصلة إلى جنات أدب قطوفها دانية، وكل غصن منها رطيب: الباب الأول: في أولية لسان الدين وذكر أسلافه، الذين ورث عنهم المجد وارتضع در أخلافه، وما يناسب ذ1لك مما لا يذهب المنصف إلى خلافه. الباب الثاني: في نشأته وترقيه ووزارته وسعادته، ومساعدة الدهر له ثم قلبه له ظهر المجن على عادته، في مصافاته، ومنافاته، وارتكابه، في شباكه، وما لقي من إحن الحاسد، ذي المذهب الفاسد، ومحن الكايد المستأسد وآفاته، وذكر قصوره وأمواله، وغير ذلك من أحواله، في تقلباته عندما قابله الزمان بأهواله، في بدئه وإعادته إلى وفاته. الباب الثالث: في ذكر مشايخه الجلة، هداة الناس ونجوم الملة، وما يتصل

بذلك من الأخبار الشافعية للعلة، والمواعظ المنجية من الأهواء المضلة، والمناسبات الواضحة البراهين والأدلة. الباب الرابع: في مخاطبات الملوك والأكابر الموجهة إلى حضرته العلية، وثناء غير واحد من أهل عصره عليه، وصرف القاصدين وجوه التأمل إليه، واجتلائهم أنوار رياسته الجلية. الباب الخامس: في إيراد جملة من نثره الذي عبق أريج البلاغة من نفحاته، ونظمه الذي تألق نور البراعة من لمحاته وصفحاته، وما يتصل به من بعض أزجاله وموشحاته، ومناسبات رائقة من فنون الأدب ومصطلحاته. الباب السادس: في مصنفاته في الفنون، ومؤلفاته المحققة للواقف عليها الآمال والظنون، وما كمل منها أو اخترمته دون إتمامه المنون. الباب السابع: في ذكر بعض تلامذته الآخذين عنه، المستدلين به على المنهاج، المتلقين أنواع العلوم منه، والمقتبسين أنوار الفهوم من سراجه الوهاج. الباب الثامن: في ذكر أولاده الرافلين في حلل الجلالة، المقتفين أوصافه الحميدة وخلاله، الوارثين العلم والحلم والرياسة والمجد عن غير كلالة، ووصيته لهم الجامعة لآداب الدين والدنيا، المشتملة على النصائح الكافية، والحكم الشافية، من كل مرض بلا ثنيا، المنقذة من أنواع الضلالة، وما يتبع ذلك من المناسبات القوية، والأمداح النبوية، التي لها على حسن الختام أظهر دلالة.

وقد كنت أولاً سميته ب؟ ((عرف الطيب، في التعريف بالوزير ابن الخطيب)) ، ثم وسمته حين ألحقت أخبار الأندلس به ب؟ ((نفح الطيب، من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب)) . وله بالشام تعلق من وجوه عديدة، هادية متأملها إلى الطرق السديدة: أولها: أن الداعي لتأليفه أهل الشام - أبقى الله مآثرهم وجعلها على مر الزمان مديدة. ثانيها: أن الفاتحين للأندلس هم أهل الشام ذوو الشوكة الحديدة. ثالثها: أن غالب أهل الأندلس من عرب الشام الذين اتخذوا بالأندلس وطناً مستأنفاً وحضرة جديدة. ورابعها: أن غرناطة نزل بها أهل دمشق، وسموها باسمها لشبهها بها في القصر والنهر، والدوح والزهر، والغوطة الفيحاء، وهذه مناسبة قوية العرى شديدة. [خاتمة المقدمة] هذا، وإني أسأل ممن وقف عليه، أن ينظر بعين الإغضاء إليه، كما أطلب ممن كان السبب في تصنيفه، والداعي إلى تأليفه وترصيفه، استناداً لركن الثقة، واعتماداً على الود والمقة، أن يصفح عما فيه من قصور ويسمح، ويلاحظه بعين الرضى الكليلة ويلمح، إذ ركبت شكل منطقه والأشجان غالبة، وقضية الغربة، موجبة للكربة، ولبعض الآمال سالبه، وهو - وإن لم يوف

بكل الغرض - يخلو من فائدة، وقد يستدل على الجوهر بالعرض، فإن أديت المفترض وذاك المرام الذي أرتضيه، ويوجب الود ويقتضيه: وإلا فحسبي أن بذلت به جهدي وأنفقت من وجدي على قدر ما عندي وقد توهمت أني لم أسبق إلى مثله في بابه، إذ لم اقف له على نظير أتعلق بأسبابه، ورجوت أن يكون هدية مستملحة مستعذبة، وطرفة مقبولة مستغربة: هديتي تقصر عن همتي وهمتي أكثر من مالي وخالص الود ومحض الإخا أكثر ما يهديه أمثالي وأوردت فيه من نظم وإنشاء، ما يكفي المقتصر عليه إن شاء، ومن أخبار ملوك ورؤساء، وطبقات من أحسن أو اساء، ما فيه للمتأمل، وادكار للراحل المتحمل، وزينة للذاكر المتجمل، وتنكيت على أهل البطر، وتبكيت لمن خرج من دنياه ولم يقض من الطاعة الوطر: أرى أولاد آدم أبطرتهم حظوظهم من الدنيا الدنيه فلم بطروا وأولهم مني إذا نسبوا وآخرهم منيه وفيه إيقاظ لمثلي من سنة الغفلة، وحث على عدم الاغترار بالمهلة، وتنبيه للابس برد الشباب القشيب، أنه لا بد من حادث الموت قبل أو بعد المشيب: لله در الشيب من واعظ وناصح منهاجه واضح كل امرئ يعجبه شأنه وحادث الدهر له فاضح

فكم باك على عصر الشبياب، وشاك لفراق عهد الصبا والأحباب، أنساه طارق الزمان سليمي والرباب: مضى عصر الشباب كلمح برق وعصر الشيب بالأكدار شيبا وما أعددت قبل الموت زاداً ليوم يجعل الولدان شيبا وما أحسن قول بعض الأعلام: مضى ما مضى من حلو عيش ومره كأم لم يكن إلا كأضغاث أحلام وقول من أرشد سفيها: إنما هذه الحياة متاع فالمجهول الجهول من يصطفيها ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها وفي معناه لغيره: دنياك شيئان فانظر ما ذانك الشيئان ما فات منها فحلم وما بقي فأماني وما أحكم قول ابن حطان، مع وقوعه من البدعة في أشطان: يأسف المرء على ما فاته من لبنات إذا لم يقضها وتراه ضاحكاً مستبشراً بالتي أمضى كأن لم يمضها إنها عندي كأحلام الكرى لقريب بعضها من بعضها ولغيره: والله لو كانت الدنيا بأجمعها تبقى علينا ويأتي رزقها رغدا ما كان من حق حر أن يذل لها فكيف وهي متاع يضمحل غدا

ولآخر: لا حظ في الدنيا لمستبصر يلمحها بالفكرة الباصره إن كدرت مشربه ملها وإن صفت كدرت الآخرة ويعجبني قول الوزير ابن المغربي: إني أبثك من حدي؟ ثي والحديث له شجون فارقت موضع مرقدي ليلاً ففارقني السكون قل لي فأول ليلة للقبر كيف ترى أكون وقول ماميه: تأمل في الوجود بعين فكر تر الدنيا الدنية كالخيال ومن فيها جميعاً سوف بفنى ويبقة وجه ربك ذو الجلال وقول بعض العارفين: استعدي يا نفس للموت واسعي لنجاة فالحازم المستعد قد تبينت أنه ليس للحي خلود وما من الموت بد إنما أنت مستعيره ما سو ف تردين والعواري ترد أنت تسهين والحوادث لا تس؟ هو وتلهين والمنايا تجد

أي ملك في الأرض أو أي حظ ... لامرئ حظه من الأرض لحد لا ترجي البقاء في معدن المو ... ت ودارٍ حتوفها لك ورد كيف يرجو امرؤ لذاذة أيا ... م عليه الأنفاس فيها تعد وأسأل من مبلغ السائلين ما يرجون: أن يصفح عن زلاتي ويسامحني فيما أوردت في هذا الكتاب من الهزل والمجون، الذي جرت المناسبة إليه (1) والحديث شجون، وما القصد منه إلا ترويح قلوب الذين يسوقون عيس الأسمار ويزجون، وفيما أوردت من المواعظ والنصائح، وحكايات الأولياء الذين طيب زهر مناقبهم فائح، والتوسل بمحاسن الأمداح النبوية أن يستر بفضله سبحانه القبائح، ويرينا وجه القبول بلا اكتتام، ويمنحنا الزلفى وحسن الختام: ومن يتوسل بالنبي محمد ... شفيع البرايا السند الأسنى فذاك جدير أن يكفر ذنبه ... ويمنح نيل القصد والختم بالحسنى وهذا أوان الشروع، في الأصول من هذا الكتاب والفروع، وعلى الله سبحانه أعتمد، ومن معونته أستمد.

_ (1) ق: جرته المناسبة.

القسم الأول

القسم الأول فيما يتعلق بالأندلس من الأخبار المترعة والأكواب، والأنباء المنتحية صوب الصواب، الرافلة من الإفادة في سوابغ الأثواب، وفيه - بحسب القصد والاختصار، وتحري التوسط في بعض المواضع دون الاختصار - ثمانية من الأبواب

فراغ

الباب الأول

الباب الأول في وصف جزيرة الأندلس وحسن هوائها واعتدال مزاجها ووفور خيراتها واستوائها، واشتمالها على كثيرٍ من المحاسن واحتوائها، وكرم بقعتها التي سقتها سماء البركات بنافع أنوائها، وذكر بعض مآثرها المجلوّة الصور، وتعداد كثيرٍ مما لها من البلدان والكور، المستمدة من أضوائها فأقول: محاسن الأندلس لا تستوفى بعبارة، ومجاري فضلها لا يشق غباره، وأنّى تجارى وهي الحائزة قصب السّبق، في أقطار الغرب والشرق. [مقدمات عامة في مزايا الأندلس] قال ابن سعيدٍ: إنّما سميت بأندلس بن طوبالٍ (1) بن يافثٍ بن نوحٍ، لأنّه نزلها، كما أن أخاه سبت بن يافثٍ نزل العدوة المقابلة لها، وإليه تنسب سبتة. قال: وأهل الأندلس يحافظون على قوام اللسان العربي، لأنّهم إمّا عربٌ أو متعربون، انتهى. وقال ابن غالبٍ (2) : إنّه أندلس بن يافثٍ، والله تعالى أعلم. وقال الوزير لسان الدين بن الخطيب - رحمه الله تعالى - في بعض كلامٍ له

_ (1) ط: بالأندلس؛ ج: بن طوفان. (2) هو محمد بن أيوب بن غالب صاحب كتاب " فرحة الأنفس " الذي ينقل عنه المقري في مواضع وقد بقيت من الكتاب قطعة نشرها الدكتور لطفي عبد البديع في مجلة معهد المخطوطات 1: 272 - 310؛ وعبارته المنقولة تقع على الصفحة 281.

أجرى فيه ذكر البلاد الأندلسية، أعادها الله تعالى للإسلام ببركة المصطفى عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام، ما نصّه: خصّ الله تعالى بلاد الأندلس من الرّيع وغدق السّقيا، ولذاذة الأقوات، وفراهة الحيوان، ودرور الفواكه، وكثرة المياه، وتبحر العمران، وجودة اللباس، وشرف الآنية، وكثرة السلاح، وصحّة الهواء، وابيضاض ألوان الإنسان، ونبل الأذهان، وقبول (1) الصنائع، وشهامة الطباع، ونفوذ الإدراك، وإحكام التمدّن والاعتمار، بما حرمه الكثير من الأقطار ممّا سواها، انتهى. قال أبو عامرٍ السالمي (2) ، في كتابه المسمى " بدرر القلائد وغرر الفوائد ": الأندلس من الإقليم الشامي، وهو خير الأقاليم، وأعدلها هواءً وتراباً، وأعذبها ماءً وأطيبها هواءً وحيواناً ونباتاً، وهو أوسط الأقاليم، وخير الأمور أوسطها، انتهى. قال أبو عبيدٍ البكري (3) : الأندلس شاميةٌ في طيبها وهوائها، يمانيةٌ في اعتدالها واستوائها، هنديةٌ في عطرها وذكائها، أهوازيةٌ في عظم جبايتها، صينيةٌ في جواهر معادنها، عدنيةٌ في منافع سواحلها، فيها آثارٌ عظيمةٌ لليونانيين أهل الحكمة وحاملي الفلسفة، وكان من ملوكهم الذين أثّروا الآثار بالأندلس هرقلس، وله الأثر في الصنم بجزيرة قادس وصنم جلّيقية، والأثر في مدينة طرّكونة الذي لا نظير له.

_ (1) ك: وفنون. (2) أبو عامر السالمي (ق ك ط ج: السلمي) محمد بن أحمد بن عامر: كان أديباً تاريخياً حافظاً، صنف في الحديث والآداب والتواريخ مصنفات كثيرة مفيدة وكتابه " درر القلائد وغرر الفوائد " في أخبار الأندلس وأمرائها وطبقات علمائها وشعرائها، وقف منه ابن عبد الملك على السفرين الأول والثاني. (انظر ترجمته في التكملة: 495 والذيل والتكملة، الورقة من مخطوطة المتحف البريطاني) . (3) انظر هذا النص في الروض المعطار: 3، والمنتقى من فرحة الأنفس: 281 مع بعض اختلاف.

[مساحتها وأبعادها] قال المسعودي (1) : بلاد الأندلس تكون مسرة عمائرها ومدنها نحو شهرين، ولهم من المدن الموصوفة نحوٍ من أربعين مدينةٍ، انتهى باختصار. ونحوه لابن اليسع (2) إذ قال: طولها من أربونة إلى أشبونة (3) وهو قطع ستين يوماً للفارس المجدّ، وانتقد بأمرين: أحدهما أنّه يقتضي أن أربونة داخلةٌ في جزيرة الأندلس، والصحيح أنها خارجةٌ عنها، والثاني أن قوله: " ستين يوماً للفارس المجدّ " إعياءٌ وإفراطٌ، وقد قال جماعة: إنّها شهرٌ ونصف. قال ابن سعيدٍ: وهذا يقرب إذا لم يكن للفارس المجدّ، والصحيح ما نص عليه الشريف (4) من أنها مسيرة شهرٍ، وكذا قال الحجاري (5) ، وقد سألت المسافرين المحققين عن ذلك فعملوا حساباً بالمراحل الجيدة أفضى إلى نحو شهرٍ بنيفٍ قليلٍ. قال الحجاري في موضع من كتابه: إن طول الأندلس من الحاجز إلى أشبونة ألف ميلٍ ونيفٍ؛ انتهى. وبالجملة فالمراد التقريب من غير مشاححة، كما قاله ابن سعيدٍ، وأطال في ذلك، ثم قال بعد كلامٍ: ومسافة الحاجز الذي بين بحر الزّقاق والبحر المحيط أربعون ميلاً، وهذا عرض الأندلس عند رأسها من جهة الشرق، ولقلّته سميت

_ (1) راجع مروج الذهب 1: 162. (2) ابن اليسع: اليسع بن عيسى بن اليسع أبو يحيى صاحب كتاب المعرب في آداب المغرب كتبه بمصر للسلطان صلاح الدين الأيوبي (راجع المغرب 2: 88 والحاشية) . (3) أربونة (Narbonne) آخر ما استولى عليه العرب من جهة الساحل الأندلسي الشرقي، وأشبونة هي التي تسمى اليوم لشبونة (Lisbon) أو ليسبوا عاصمة البرتغال. (4) يعني الشريف الإدريسي مؤلف كتاب " نزهة المشتاق " لرجار، ملك صقلية. (5) صاحب كتاب " المسهب في فضائل المغرب " ألفه لبني سعيد، وهو أبو محمد عبد الله بن إبراهيم وعلى أساس كتابه ألف المغرب. (انظر ترجمته في المغرب 2: 35) .

جزيرة وإلاّ فليست بجزيرة على الحقيقة لاتصال هذا القدر بالأرض الكبيرة، وعرض جزيرة الأندلس في موسطتها (1) عند طليطلة ستة عشر يوماً. واتفقوا على أن جزيرة الأندلس مثلثة الشكل، واختلفوا في الركن الذي في الشرق والجنوب في حيز أربونة، فممن قال إنّه في أربونة وإن هذه المدينة تقابلها مدينة برذيل (2) التي في الركن الشرقي الشمالي أحمد بن محمدٍ الرازي وابن حيّان، وفي كلام غيرهما أنّه في جهة أربونة، وحقق الأمر الشريف، وهو أعرف تلك الجهة لتردده في الأسفار برّاً وبحراً إليها وتفرّغه لهذا الفن. قال ابن سعيد: وسألت جماعةً من علماء هذا الشأن فأخبروني أن الصحيح ما ذهب إليه الشريف، وأن أربونة وبرشلونة (3) غير داخلتين في أرض الأندلس، وأن الركن الموفي على بحر الزقاق بالمشرق بين برشلونة وطرّكونة في موضعٍ يعرف بوادي رنلقاطو (4) ، وهنالك الحاجز الذي يفصل بن الأندلس (5) والأرض الكبيرة ذات الألسن (6) الكثيرة، وفي هذا المكان جبل البرت الفاصل في الحاجز المذكور وفيه الأبواب التي فتحها ملك اليونانيين بالحديد والنار والخل، ولم يكن للأندلس من الأرض الكبيرة قبل ذلك طريقٌ في البر. وذكر الشريف أن هذه الأبواب يقع في مقابلتها في بحر الزقاق البحر الذي بين جزيرتي ميورقة ومنورقة (7) ، وقد أخبر بذلك جمهور المسافرين لتلك الناحية، ومسافة هذا

_ (1) ك: موسطها؛ ج: متوسطها. (2) برذيل: مدينة في بلاد جليقية وتقع على نهر جرونة، (الروض المعطار: 41) . (3) برشلونة (Barcelona) : مدينة بينها وبين طركونة خمسون ميلاً وهي إلى الشمال منها. (4) ق ط: زنقلطو، ك: زملقطو؛ ويرى محقق الجزء الأول من الطبعة الأوروبية أن الصواب ربلقاطو (Rubricatus) . (5) ج: أرض الأندلس. (6) ج: الأنساب. (7) ميورقة (Majorca) ومنورقة (وربما كتبت دون واو " منرقة ") (Minorca) أكبر جزيرتين في مجموعة جزائر البليار في البحر المتوسط، وكانتا في عصر ملوك الطوائف تحت حكم مجاهد العامري.

الجبل الحاجز بين الركن الجنوبي والركن الشمالي أربعون ميلاً. قال: وشمال الركن المذكور عند مدينة برذيل، وهي من مدن الإفرنجة مطلة على البحر المحيط في شماليّ الأندلس، قال: ويتقهقر البر بعد تميز هذا الركن إلى الشمال في بلاد الفرنجة، ولهم به جزائرٌ كثيرةٌ. وذكر أن (1) الركن الشمالي (2) عند شنت ياقوه (3) من ساحل الجلالقة في شمال الأندلس الغربي (4) ، حيث تبتدئ جزيرةٌ برطانيةٌ الكبيرة فيتصوّر هنالك بحرٌ داخلٌ بين أرضين، من الناس من يجعله بحراً منفرداً خارجاً من البحر المحيط لطوله إلى الركن المتقدم الذكر عند مدينة برذيل. وذكر الشريف أن عند شنت ياقوه (5) في هذا الركن المذكور على جبلٍ بمجمع البحرين صنماً مطلاًّ مشبهاً بصنم قادس. والركن الثالث بمقربةٍ من جبل الأغر (6) حيث صنم قادس، والجبل المذكور يدخل من غربه مع جنوبه بحر الزقاق من البحر المحيط مارّاً مع ساحل الأندلس الجنوبي إلى جبل البرت المذكور، انتهى؛ والكلام في مثل هذا طويل الذيل. قال الشيخ أحمد بن محمد بن موسى الرازي (7) : بلد الأندلس هو آخر الإقليم الرابع إلى المغرب، وهو عند الحكماء بلدٌ كريم البقعة، طيب التربة، خصب

_ (1) ك: ودوكرا من. (2) ج: الباقي. (3) شنت ياقوه، ويقال فيها شنت ياقوت (Santiago de Compostela) في أقصى الشمال الغربي من شبه جزيرة ايبرية بمنطقة جليقية، وفيها كنيسة مقدسة يحجون إليها. (4) الغربي: زيادة من ق ط. (5) ق: بابت ياقوة؛ ج ط: بليانت يقوه (ياقوه) . (6) ق ك ط ج: الأغن؛ وهذا هو ما لا يزال يسمى " الطرف الأغر " (Trafalgar) ، وقد ذكره ابن حوقل باسم الجبل الأغر. (7) أحمد بن محمد بن موسى الرازي: من كبار المؤرخين والجغرافيين الأندلسيين في الفترة الأموية وهو جد عيسى الرازي الذي يعتمده ابن حيان في المقتبس؛ (انظر الجذوة: 97 ومجلة المعهد: 252 - 255 من المجلد 7 - 8) .

الجناب، منبجس بالأنهار (1) الغزار والعيون العذاب، قليل الهوامّ ذوات السّموم، معتدل الهواء والجوّ والنسيم، ربيعه وخريفه ومشتاه ومصيفه على قدرٍ من الاعتدال، وسطةٌ من الحال، لا يتولد في أحدها فضلٌ (2) يتولّد منه فيما يتلوه انتقاصٌ، تتصل فواكهه أكثر الأزمنة وتدوم متلاحقةً غير مفقودةٍ، أمّا الساحل منه ونواحيه فيبادر بباكوره، وأما الثغر وجهاته والجبال المخصوصة ببرد الهواء فيتأخر بالكثير من ثمره، فمادة الخيرات بالبلد متماديةٌ في كل الأحيان، وفواكهه على الجملة غير معدومةٍ في كل أوانٍ؛ وله خواصٌّ في كرم النبات يوافق في بعضها أرض الهند المخصوصة بجواهر الإنبات (3) : منها أن المحلب؟ وهو المقدّم في الأفاويه والمفضّل في أنواع الأشنان؟ لا ينبت بشيءٍ من الأرض إلا بالهند والأندلس؛ والأندلس المدن الحصينة، والمعاقل المنيعة، والقلاع الحريزة، والمصانع الجليلة، ولها البر والبحر، والسهل والوعر، وشكلها مثلثٌ، وهي معتمدةٌ على ثلاثة أركان: الأول هو الموضع الذي فيه صنم قادس المشهور بالأندلس، ومنه مخرج البحر المتوسط الشامي الآخذ بقبليّ الأندلس، والركن الثاني هو بشرقي الأندلس بين مدينة نربونة (4) ومدينة برذيل مما بأيدي الفرنجة اليوم بإزاء جزيرتي ميورقة ومنورقة بمجاورةٍ من البحرين: البحر المحيط والبحر المتوسط، وبينهما البر الذي يعرف بالأبواب، وهو المدخل إلى بلد (5) الأندلس من الأرض الكبيرة على بلد إفرنجة، ومسافته بين البحرين مسيرة يومين، ومدينة نربونة (6) تقابل البحر المحيط، والركن الثالث منها هو ما بين الجوف (7) والغرب من حيز جلّيقيّة، حيث الجبل الموفي على البحر، وفيها الصنم

_ (1) ك: الأنهار. (2) ق ك ج: فصل. (3) ك: بكرم النبات وجواهره. (4) نربونة: أربونة (Narbonne) . وفي ق ط ك: بريونة. (5) ك: بلاد. (6) ق ك ط ج: بريونة. (7) ق: الجنوب.

العالي المشبه بصنم قادس، وهو الطالع على بلدٍ برطانيةٍ. قال: والأندلس أندلسان في اختلاف هبوب رياحها ومواقع أمطارها وجريان أنهارها: أندلسٌ غربيٌ، وأندلسٌ شرقيٌ، فالغربي منها ما جرت أوديته إلى البحر المحيط الغربي، ويمطر بالرياح الغربية، ومبتدأ (1) هذا الحوز من ناحية المشرق مع المفازة الخارجة مع الجوف إلى بلد شنتمريّة (2) طالعاً إلى حوز أغريطة المجاورة لطليطلة مائلاً إلى الغرب ومجاوراً للبحر المتوسط الموازي لقرطاجنّة الحلفاء التي من بلد لورقة (3) ، والحوز الشرقي المعروف بالأندلس الأقصى، وتجري (4) أوديته إلى الشرق، وأمطاره بالريح الشرقية، وهو من حدّ جبل البشكنس (5) ، هابطاً مع وادي إبره (6) إلى بلد شنت مرية (7) ، ومن جوف هذا البحر وغربه المحيط، وفي القبلة منه البحر الغربي الذي منه يجري البحر المتوسط الخارج إلى بلد الشام، وهو البحر المسمّى ببحر تيران (8) ، ومعناه الذي يشق دائرة الأرض، ويسمى البحر الكبير، انتهى. قال أبو بكر عبد الله بن عبد الحكم المعروف بابن النظام (9) : بلد الأندلس

_ (1) ج: ومنتهى. (2) شنتمرية (وتكتب أيضاً: شنت مرية) : يعرف بهذا الاسم مدينتان شنتمرية الغرب (Santa Maria de Algarve) وتسمى اليوم (Faro) وهي بالبرتغال والثانية شنتمرية الشرق وهي السهلة (Albarracin) الأولى وهي المقصورة هنا. (3) قرطاجة الحلفاء (Carthagenna) (وكتبها في الروض المعطار وطبعة ليدن: الخلفاء) وهي فرضة مدينة مرسية. أما لورقة (Lorca) فهي من منطقة تدمير، وقد تفتح راؤها. (4) ق ط: ومجرى. (5) ك: البشكنش. (6) ابره (Ebro) نهر ينبع من جبال كنتبرية ويشرق فيصب في البحر المتوسط، ومن أشهر المدن عليه سرقسطة وطرطوشة. (7) المراد هنا شنتمرية الشرق. (8) تيران (Terran) اختصار لكلمة (Medi - Terran) أو (Mare Terrhenum) أي يتوسط الأرض. (9) ابن النظام: ترجم له ابن الأبار في التكملة: 788 ولم يزد على قوله: " كان أديباً إخبارياً تاريخياً يحكي عنه ابن حيان في كتابه، وهو من أهل قرطبة ".

عند علماء أهله أندلسان: فالأندلس الشرقي منه ما صبّت أوديته إلى البحر الرومي المتوسط المتصاعد من أسفل أرض الأندلس إلى المشرق، وذلك ما بين مدينة تدمير (1) إلى سرقسطة، والأندلس الغربي ما صبّت أوديته إلى البحر الكبير المعروف بالمحيط أسفل ذلك (2) الحدّ إلى ساحل المغرب، فالشرقي منهما يمطر بالريح الشرقية، ويصلح عليها، والغربي يمطر بالريح الغربية وبها صلاحه، وجباله هابطةٌ إلى الغرب جبلاً بعد جبلٍ. وإنّما قسمته الأوائل جزأين لاختلافهما في حال أمطارهما، وذلك أنّه مهما استحكمت الريح الغربيّة كثر مطر (3) الأندلس الغربي وقحط الأندلس الشرقي، ومتى استحكمت الريح الشرقية مطر الأندلس الشرقي وقحط الغربي؛ وأودية هذا القسم تجري من الشرق إلى الغرب بين هذه الجبال. وجبال الأندلس الغربي تمتدّ إلى الشرق جبلاً بعد جبلٍ تقطع من الجوف إلى القبلة، والأودية التي تخرج من تلك الجبال يقطع بعضها إلى القبلة وبعضها إلى الشرق، وتنصبّ كلّها إلى البحر المتوسط للأندلس (4) القاطع إلى الشام، وهو البحر الرومي، وما كان من بلاد جوفي الأندلس من بلادٍ جلّيقيّةٍ وما يليها فإن أوديته تنصبّ إلى البحر الكبير المحيط بناحية الجوف. وصفة الأندلس (5) شكلٌ مركنٌ على مثال الشكل المثلث: ركنها الواحد فيما بين الجنوب والمغرب حيث اجتماع البحرين عند صنم قادس، وركنها الثاني في بلدٍ جليّقيّةٍ حيث الصنم المشبه صنم قادس مقابل جزيرةٍ برطانيةٍ، وركنها الثالث بين مدينة نربونة ومدينة برذيل من بلد الفرنجة بحيث يقرب البحر المحيط من البحر الشامي المتوسط، فيكادان يجتمعان في ذلك الموضع،

_ (1) ط ق: جزيرة تدمير ... (2) ك: أسفل من ذلك. (3) ك: كثر مطر. (4) ك: المحيط بالأندلس. (5) راجع هذا النص عند ابن عذاري 2: 1 (ط. بيروت) . والبكري: الورقة 219.

فيصير بلد الأندلس جزيرةٌ بينهما في الحقيقة، لولا أنّه يبقى بينهما برزخ برية صحراء وعمارة مسافة مسيرة يوم للراكب، منه المدخل إلى الأرض الكبيرة التي يقال لها الأبواب، ومن قبله يتصل بلد الأندلس بتلك البلاد المعروفة بالأرض الكبيرة ذات الألسن المختلفة. [الأمم التي استوطنت الأندلس] قال (1) : وأوّل من سكن الأندلس (2) على قديم الأيام فيما نقله الأخباريون (3) من بعد عهد الطوفان على ما يذكره علماء عجمها قومٌ يعرفون بالأندلش (4) - معجمة الشين - بهم سمّي المكان، فعرب فيما بعد بالسين غير المعجمة، كانوا الذين عمروها وتناسلوا فيها وتداولوا ملكها دهراً، على دين التمجس والإهمال والإفساد في الأرض، ثم أخذهم الله بذنوبهم، فحبس المطر عنهم، ووالى القحط عليهم، وأعطش بلادهم حتى نضبت مياهها، وغارت عيونها، ويبست أنهارها، وبادت أشجارها، فهلك أكثرهم، وفرّ من قدر على الفرار منهم، فأقفرت الأندلس منهم، وبقيت خاليةً فيما يزعمون مائة سنةٍ وبضع عشرة سنة (5) ، وذلك من حدّ بلد الفرنجة إلى حدّ بحر الغرب الأخضر، وكان عدّة ما عمرتها هذه الأمة البائدة مائة عامٍ وبضع عشرة سنة. ثمّ ابتعث الله لعمارتها الأفارقة، فدخل إليها بعد إقفارها تلك المدّة الطويلة قومٌ منهم أجلاهم ملك إفريقية

_ (1) هذا يدل على أن النقل متصل عن ابن النظام، ولكن ما جاء في هذه الفقرة لا يخرج في مجمله عما نقله الحميري عن الرازي (الروض: 4 - 5) إلا أن النص فيه مختصر. وانظر أيضاً ابن عذاري 2: 1. (2) ك: بالأندلس. (3) ط: نقلته الأخبار. (4) عند البكري " الأندليش " و " الأندالش " أي (Vandali) . (5) وبضع ... سنة: سقطت من ق ط ج.

تخففاً منهم لإمحالٍ توالى على أهل مملكته، وتردد عليهم حتى كاد يفنيهم، فحمل منهم خلقاً في السفن مع قائدٍ من قبله يدعى أبطريقس فأرسوا بريف الأندلس الغربي، واحتلوا بجزيرة قادس، فأصابوا الأندلس قد أمطرت وأخصبت، فجرت أنهارها، وانفجرت عيونها، وحييت أشجارها، فنزلوا الأندلس مغتبطين، وسكنوها معتمرين، وتوالدوا فيها فكثروا واستوسعوا في عمارة الأرض ما بين الساحل الذي أرسوا فيه بغربيها إلى بلد الإفرنجة من شرقيها، ونصّبوا من أنفسهم ملوكاً عليهم ضبطوا أمرهم وتوالوا على إقامة دولتهم، وهم - مع ذلك - على ديانة من قبلهم من الجاهلية، وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب اليوم من أرض إشبيلية اخترعها ملوكهم وسكنوها، فاتسق ملكهم بالأندلس مائة وسبعة وخمسين عاماً إلى أن أهلكهم الله تعالى، ونسخهم بعجم رومة، بعد أن ملك من هؤلاء الأفارقة في مدّتهم تلك أحد عشر ملكاً. ثم صار ملك الأندلس بعدهم إلى عجم رومة وملكهم إشبان (1) بن طيطش، وباسمه سميت الأندلس إشبانية، وذكر بعضهم أن اسمه أصبهان فأحيل بلسان العجم، وقيل: بل كان مولده بأصبهان فغلب اسمها عليه، وهو الذي بنى إشبيلية، وكان إشبانية اسماً خالصاً لبلد إشبيلية الذي كان ينزله إشبان (2) هذا، ثم غلب الاسم بعده على الأندلس كلّه، فالعجم إلى الآن يسمونه إشبانية لآثار إشبان هذا فيه، وكان أحد الملوك الذين ملكوا أقطار الدّنيا فيما زعموا، وكان غزا الأفارقة عندما سلّطه الله عليهم في جموعه، ففض عساكرهم، وأثخن فيهم، ونزل عليهم بقاعدتهم طالقة وقد تحصنوا فيها منه، فابتنى عليهم مدينة إشبيلية اليوم، واتصل حصره وقتاله لهم حتى فتحها

_ (1) ق: إلى أشبان. (2) لفظة إسبانيا (Hispania) أقدم اسم أطلق على شبه الجزيرة الأيبرية، وبعضهم يرده إلى أصل فينيقي معناه " ساحل الأرانب البرية " ثم قيل إن ذلك نسبة إلى اشبان (Sphan) وتحرفت الكلمة إلى أصبهان، ومن صيغ الاسم أيضاً (Hispalia) وعرب إلى إشبيلية.

[حنين إلى الوطن]

الله عليه، وغلبهم (1) ، واستوت له مملكة الأندلس بأسرها، ودان له من فيها، فهدم مدينة طالقة، ونقل رخامها وآلاتها إلى مدينة إشبيلية، فاستتم بناءها، واتخذها دار مملكته، واستغلظ سلطانه في الأرض، وكثرت جموعه، فعلا وعظم عتوّه، ثم غزا إيليا - وهي القدس الشريف (2) - من إشبيلية بعد سنتين من ملكه، خرج إليها في السفن فغنمها وهدمها، وقتل فيها من اليهود مائة ألفٍ، واسترق مائة ألف وانتقل (3) رخام إيليا وآلاتها إلى الأندلس، وقهر الأعداء، واشتد ّسلطانه. انتهى. وذكر بعض المؤرخين (4) أن الغرائب التي أصيبت في مغانم الأندلس أيام فتحها كمائدة سليمان عليه الصلاة والسلام التي ألفاها طارق بن زياد بكنيسة طليطلة وقليلة الدر التي ألفاها موسى بن نصير بكنيسة ماردة وغيرهما من طرائف الذخائر إنّما كانت ممّا صار لصاحب الأندلس من غنيمة بيت المقدس، إذ حضر فتحها مع بختنصر، وكان اسم ذلك الملك بريان، وفي سهمه وقع ذلك ومثله ممّا كانت الجن تأتي به نبيّ الله سليمان، على نبيّنا وعليه وعلى جميع الأنبياء (5) الصلاة والسلام. وانتهى. وقال غير واحدٍ من المؤرخين: كان أهل المغرب الأقصى يضرّون بأهل الأندلس، لاتصال الأرض، ويلقون منهم الجهد الجهيد في كل وقتٍ، إلى أن اجتاز بهم الاسكندر، فشكوا حالهم إليه، فأحضر المهندسين، وحضر إلى الزقاق، فأمر المهندسين بوزن سطح الماء من المحيط والبحر الشامي، فوجدوا المحيط يعلو البحر الشامي بشيء يسير، فأمر برفع البلاد التي على ساحل البحر

_ (1) وغلبهم: سقطت من ق ج ط. (2) وهي ... الشريف: سقطت من ق ج. (3) ك: ونقل. (4) انظر تتمة النص عن الرازي في الروض المعطار: 5 وابن عذاري 2: 2 - 3. (5) ق: الأنبياء والمرسلين.

الشامي، ونقلها من الحضيض إلى الأعلى، ثمّ أمر بحفر ما بين طنجة وبلاد الأندلس من الأرض، فحفرت حتى ظهرت الجبال السفلية، وبنى عليها رصيفاً بالحجر والجيار بناءً محكماً وجعل طوله اثني عشر ميلاً، وهي المسافة التي كانت بين البحرين، وبنى رصيفاً آخر يقابله من ناحية طنجة، وجعل بين الرصيفين سعة ستة أميالٍ، فلمّا كمل الرصيفان حفر من جهة البحر الأعظم، وأطلق فم الماء بين الرصيفين، فدخل في البحر الشامي، ثم فاض ماؤه فأغرق مدناً كثيرةً، وأهلك أمماً عظيمةً كانت على الشطين، وطفا الماء على الرصيفين إحدى عشرة قامةٍ، فأمّا الرصيف الذي يلي بلاد الأندلس فإنّه يظهر في بعض الأوقات إذا نقص الماء ظهوراً بيّناً مستقيماً على خطٍ واحدٍ، وأهل الجزيرتين يسمونه القنطرة، وأما الرصيف الذي (1) من جهة العدوة فإن الماء حمله في صدره، واحتفر ما خلفه من الأرض اثني عشر ميلاً، وعلى طرفه من جهة المغرب قصر الجواز وسبتة وطنجة، وعلى طرفه من الناحية الأخرى جبل طارق بن زياد وجزيرة طريف وغيرهما والجزيرة الخضراء، وبين سبتة والجزيرة الخضراء عرض البحر. انتهى ملخصاً، وقد تكرّر بعضه مع ما جلبناه، والعذر بيّنٌ لارتباط الكلام بعضه ببعضٍ. [موقع الأندلس من الأقاليم] وقال ابن سعيد: ذكر الشريف أن لا حظّ لأرض الأندلس في الإقليم الثالث، قال: ويمر بجزيرة الأندلس من الأقاليم الرابع (2) على ساحلها الجنوبي وما قاربه من قرطبة وإشبيلية ومرسية وبلنسية، ثم يمر على جزيرة صقلية وعلى ما في سمتها من الجزائر، والشمس مدبّرة له.

_ (1) الذي: سقطت من ق ط ج. (2) ك: الإقليم الرابع.

والإقليم الخامس يمر على طليطلة وسرقسطة وما في سمتها إلى بلاد أرغون التي في جنوبيها برشلونة، ثم يمر على رومية وبلادها، ويشق بحر البنادقة، ثم يمر على القسطنطينية، ومدبّرته الزّهرة. والسادس يمر على ساحل الأندلس الشمالي الذي على البحر المحيط وما قاربه وبعض البلاد الداخلة في قشتالة وبرتقال وما في سمتها، وعلى بلاد برجان والصقالبة والروس، ومدبّره عطارد. ويمر الإقليم السابع في البحر المحيط الذي في شماليّ الأندلس إلى جزيرة انقلطرة (1) وغيرها من الجزائر وما في سمتها من بلاد الصقالبة وبرجان. قال البيهقي: وفيه تقع جزيرة تولى وجزيرتا أجبال والنساء وبعض بلاد الروس الداخلة (2) في الشمال والبلغار، ومدبّره القمر، انتهى. وقال بعض العلماء: إنّ النصارى حرموا جنّة الآخرة فأعطاهم الله جنّة الدّنيا بستاناً متصلاً من البحر المحيط بالأندلس إلى خليج القسطنطينية، وعندهم عموم شاه بلوط والبندق والجوز والفستق وغير ذلك ممّا يكون أكثر وأمكن في الأقاليم الباردة، والتمر عندهم معدومٌ، وكذا الموز وقصب السكر، وربما يكون شيءٌ من ذلك في الساحل، لأن هواء البحر يدفئ، انتهى. [رجع إلى الأمم التي استوطنتها] قال ابن حيّان في المقتبس (3) : ذكر رواة العجم أن الخضر عليه السلام وقف بإشبان (4) المذكور وهو يحرث الأرض بفدنٍ له أيام حراثته، فقال له:

_ (1) ك ق ط: انقطرة؛ ج: القنطرة، ويبدو أن " أنقطرة " هي الصورة الشائعة للاسم. (2) الداخلة: سقطت من ك. (3) انظر الروض المعطار: 5. (4) ك: على اشبان.

يا إشبان، إنّك لذو شانٍ، وسوف يحظيك زمانٌ، ويعليك سلطانٌ، فإذا أنت غلبت على إيليا فارفق بذرية الأنبياء، فقال له إشبان: أساخرٌ (1) رحمك الله؟ أنّى يكون هذا مني وأنا ضعيفٌ ممتهنٌ حقيرٌ فقيرٌ ليس مثلي ينال السلطان؟ فقال له: قد قدّر ذلك فيك من قدّر في عصاك اليابسة ما تراه، فنظر إشبان إلى عصاه، فإذا بها قد أورقت، فريع لما رأى من الآية، وذهب الخضر عنه، وقد وقع الكلام بخلده، ووقرت في نفسه الثقة بكونه، فترك الامتهان من وقته، وداخل الناس، وصحب أهل البأس منهم، وسما به جدّه فارتقى في طلب السلطان حتى أدرك منه عظيماً، وكان منه ما كان. ثم أتى عليه ما أتى على القرون قبله، وكان ملكه كلّه عشرين سنةً، وتمادى ملك الإشبانيين بعده إلى أن ملك منهم الأندلس خمسة وخمسون ملكاً. ثمّ دخل على هؤلاء الإشبانيين (2) من عجم رومة أمّة يدعون البشتولقات (3) ، وملكهم طلوبش (4) بن بيطه، وذلك زمن بعث المسيح بن مريم عليه السلام، أتوا الأندلس من قبل رومة، وكانوا يملكون إفرنجة معها، ويبعثون عمالهم إليها، فاتخذوا دار مملكتهم بالأندلس مدينة ماردة، واستولوا على مملكة الأندلس، واتصل ملكهم بها مدّة إلى أن ملك منهم سبعةٌ وعشرون ملكاً. ثم دخل على هؤلاء البشتولقات أمة القوط مع ملكٍ لهم، فغلبوا على الأندلس، واقتطعوها من يومئذ من صاحب رومة، وتفرّدوا بسلطانهم، واتخذوا مدينة طليطلة دار مملكتهم، وأقروا بها سرير ملكهم، فبقي بإشبيلية علم الإشبانيين ورياسة أوليتهم. وقد كان عيسى المسيح (5) عليه السلام، بعث الحواريين في الأرض يدعون

_ (1) ك: أساخر بي. (2) ط ق ج: الاشبان. (3) في الروض: الشبونقات، وفي ابن عذاري: البشترلقات؛ وفي ط: البشتونقات. (4) ج: طلويش. (5) ق: عيسى بن مريم؛ ج: المسيح عيسى.

الخلق إلى ديانته، فاختلف الناس عليهم، وقتلوا بعضهم، واستجاب لهم كثيرٌ منهم، وكان من أسرعهم إجابةً لمن جاءه من هؤلاء (1) الحواريين خشندش (2) ملك القوط، فتنصر، ودعا قومه إلى النصرانية، وكان من صميم أعاظمهم وخير من تنصر من ملوكهم، وأجمعوا على أنّه لم يكن فيهم أعدل منه حكماً، ولا أرشد رأياً، ولا أحسن سيرةً، ولا أجود تدبيراً، فكان الذي أصّل النصرانية في مملكته، ومضى أهلها على سنّته إلى اليوم، وحكموا بها، والإنجيلات في المصاحف (3) الأربعة التي يختلفون فيها من انتساخه وجمعه وتثقيفه، فتناسقت ملوك القوط بالأندلس بعده إلى أن غلبتهم العرب عليها، وأظهر الله تعالى دين الإسلام على جميع الأديان. فوقع في تواريخ العجم القديمة أن عدّة ملوك هؤلاء القوط بالأندلس من عهد أتاناوينوس الذي ملك في السنة الخامسة من مملكة فلبش القيصري لمضي أربعمائةٍ وسبع من تاريخ الصفر المشهور عند العجم إلى عهد لذريق آخرهم الذي ملك في السنة التاسعة والأربعين وسبعمائةٍ من تاريخ الصفر، وهو الذي دخلت عليه العرب فأزالت دولة القوط، ستةٌ وثلاثون ملكاً، وأن مدّة أيام ملكهم (4) بالأندلس ثلاثمائةٍ واثنتان وأربعون سنةً، انتهى. وقال جماعة: إن القوط غير البشتولقات، وإن البشتولقات من عجم رومة، وإنهم جعلوا دار ملكهم ماردة، واتصل ملكهم إلى أن ملك منهم سبعةٌ وعشرون ملكاً، ثم دخل عليهم القوط، واتخذوا طليطلة دار مملكةٍ، ثم ذكر تنصر ملكهم خشندش مثل ما تقدّم، ثم ذكر أن عدّة ملوك القوط ستةٌ ثلاثون ملكاً.

_ (1) هؤلاء: سقطت من ق. (2) الروض المعطار: دخشوش، وفي بعض أصوله " خنشوش "؛ وفي ابن عذاري: وخشندش. (3) الروض: والمصاحف. (4) ق: مدة ملكهم.

وذكر الرازي أن القوط من ولد يأجوج بن يافث بن نوح، وقيل غير ذلك، انتهى. [مناخها وخيراتها] وقال (1) الرازي في موضعٍ آخر نحو ما تقدم وزيادة، ونصّه: أن الأندلس في آخر الإقليم الرابع من الأقاليم السبعة (2) التي هي ربع معمور الدنيا فهي موسطةٌ من البلدان، كريمة البقعة، بطبع الخلقة، طيبة التربة، مخصبة القاعة، منبجسة العيون الثّرار، منفجرة بالأنهار (3) الغزار، قليلة الهوام ذوات السموم، معتدلة الهواء أكثر الأزمان لا يزيد قيظها زيادة منكرة تضر بالأبدان وكذا سائر فصولها في أعم سنيها تأتي على قدر من الاعتدال وتوسّط من الحال، وفواكهها تتصل طول الزمان فلا تكاد تعدم، لأن الساحل ونواحيه يبادر بباكوره، كما أن الثغر وجهاته والجبال التي يخصّها برد الهواء وكثافة الجوّ تستأخر بما فيها من ذلك، حتى يكاد طرفا فاكهتها يلتقيان، فمادة الخيرات فيها متصلةٌ كلّ أوانٍ. ومن بحرها بجهة الغرب يخرج العنبر الجيد المقدّم على أجناسه في الطيب والصبر على النار، وبها شجر المحلب المعدود في الأفاويه المقدم في أنواع الأشنان كثيرٌ واسعٌ، وقد زعموا أنّه لا يكون إلا بالهند وبها فقط، ولها خواصٌ نباتيةٌ يكثر تعدادها، انتهى. وقد ذكر غيره تفصيل بعض ذلك فقال (4) : يوجد في ناحية دلاية من إقليم

_ (1) ك: وذكر. (2) زاد بعد لفظة السبعة في ك: التي تقدم ذكرها. (3) ك: الأنهار. (4) ورد كثير من هذا النص في كتاب عنوانه " ذكر بلاد الأندلس " لمؤلف مجهول، وهو بالخزانة العامة بالرباط رقم (ج؟: 85) وسنعارض به النص الذي جاء في النفح متخذين رمزه (مخطوط الرباط) والنص يشغل الصفحات 7 - 10؛ وانظر أيضاً الإحاطة 1: 104 - 105 فهناك تشابه بين النصين.

البشرة (1) عود الألنجوج، لا يفوقه العود الهندي ذكاءً وعطر رائحةٍ، وقد سيق منه إلى خيران الصقلبي صاحب المرية (2) ، وأن أصل منبته كان بين أحجارٍ هنالك، وبأكشونبة (3) جبلٌ (4) كثيراً ما يتضوّع، ريحه ريح العود الذكي إذا أرسلت فيه النار، وببحر شذونة (5) يوجد العنبر الطيب الغربي، وفي جبل منت ليون (6) المحلب، ويوجد بالأندلس القسط الطيب، والسنبل الطيب، والجنطيانة تحمل من الأندلس إلى جميع الآفاق، وهو عقارٌ رفيعٌ (7) ، والمر الطيب بقلعة أيوب (8) ، وأطيب كهرباء الأرض (9) بشذونة، درهمٌ منها يعدل دراهم من المجلوبة، وأطيب القرمز قرمز الأندلس، وأكثر ما يكون بنواحي إشبيلية ولبلة وشذونة وبلنسية، ومن الأندلس يحمل إلى الآفاق، وبناحية

_ (1) دلاية (Dalias) : من عمل المرية؛ والبشرية أو البشرات أو البشارات (Alpujarras) هي منطقة جبال سير انفادا، وفي مخطوط الرباط " من كورة تدمير " والتحديد واحد وإن اختلفت التسمية، فتدمير هو القديم لكور ة مرسية (Murcia) . (2) خيران الصقلبي من أوائل الفتيان الذين أعلنوا استقلالهم بعد أنهيار الدولة الأموية بالأندلس على أثر الفتنة البربرية (399) واتخذ المرية مركزاص له. راجع أعمال الأعلام: 210 - 215. (3) اكشونبة - بالياء الموحدة بعد النون - (Ocsonoba) (كتبت في ك ق ط أكشونية حيثما وقعت) . مدينة وكورة تتصل بأحواز الأشبونة وتحتل الركن الغربي الجنوبي من شبه الجزيرة، ولها عدة حصون وأقاليم وأشهر مدنها شلب. (4) مخطوط الرباط: يعرف بجبل الخفة (أو الخنة) . (5) شذونة (Medina Sidonia) : كورة متصلة بكورة مورور، نزلها جند فلسطين من العرب، وهي في الطرف الجنوبي من شبه إلجزيرة إلى الشمال الغربي من الجزيرة الخضراء. (6) مخطوط الرباط: منتلون (Mentileon) وتتمة النص: المحلب الذي لا يعدل به غيره. (7) القسط (أو القسطس) عود هندي وعربي يتداوى به، والهندي غليظ أسود مر المذاق والعربي أبيض خفيف قوي الرائحة؛ والسنبل هو سنبل الطيب ويسمى أيضاً: العصافير، وقال ابن الحشاء: والرومي منه غير محقق بالمغرب. والحنطيانة - ويكتب بالألف بدل الهاء - نبات لا يوجد بالمغرب إلا بجبال غرناطة. وفي مخطوط الرباط: وهو عقار رفيع يوجد بلبلة؛ وزاد فيه: " والبر باريس العجيب يوجد بنواحي المنتلون ". (8) قلعة أيوب (Caltayud) وهي بقرب مدينة سالم وبينها وبين دروقة ثمانية عشر ميلا. (9) كهرباء الأرض: مادة صمغية توجد عند سواحل البحر بالأندلس، وخاصة عند أصول الدوم، والنوع الأندلسي منها أصغر وأصلب من المشرقي، وتدخل في تحضير بعض أنواع الأدوية.

لورقة من عمل تدمير يكون حجر اللازورد الجيد، وقد يوجد في غيرها، وعلى مقربة من حصن لورقة (1) من عمل قرطبة معدن البلور، وقد يوجد بجبل شحيران وهو شرقي يبره، والحجر البجادي (2) يوجد بناحية مدينة الأشبونة في جبلٍ هنالك يتلألأ فيه ليلاً كالسراج، والياقوت الأحمر يوجد بناحية حصن منت ميور (3) من كورة مالقة إلاّ أنّه دقيق جدّاً لا يصلح للاستعمال لصغره، ويوجد حجرٌ يشبه الياقوت الأحمر بناحية بجّانة (4) في خندق يعرف بقرية ناشرة (5) أشكالاً مختلفةً كأنّه مصبوغٌ، حسن اللون، صبور على النار، وحجر المغناطيس الجاذب للحديد يوجد في كورة تدمير، وحجر الشاذنة بجبل قرطبة كثير، ويستعمل في دلك التذاهيب (6) ، وحجر اليهودي في ناحية حصن البونت (7) ، وهو أنفع شيءٍ للحصاة، وحجر المرقشيثا (8) الذهبية في جبال أبّذة (9) لا نظير لها في الدنيا، ومن الأندلس تحمل إلى جميع الآفاق لفضلها، والمغنيسيا بالأندلس كثير، وكذلك حجر الطّلق (10) ، ويوجد حجر اللؤلؤ بمدينة برشلونة إلاّ أنّه جامد اللون، ويوجد المرجان بساحل بيرة من عمل المرية (11) ،

_ (1) ك: حضرة لورقة. (2) ك: حجر النجادي، ط: النجاد، وفي دوزي: البيجادي. وفي الجماهر: البيجاذي. (3) مخطوط الرباط: متيور. (4) بجانة: مدينة كانت من أهم قرى أرش اليمن أي الأقاليم الذي نزل عليه بنو سراج القضاعيون وكانوا يأخذون أرشه، وهي قريبة من المرية بينهما ستة أميال، وقال ابن سعيد: محدثة بنيت في عهد بني أمية. (5) مخطوط الرباط: في خندق بغربي قرية ناشر، وأظنه أصوب. (6) الشاذنة: حجر يستعمل في مداواة العين وخشونة الأجفان، أما التذاهب فلم يلح لي معناها. (7) حصن البونت (Alpuente) : شمال غربي بلنسية. (8) المرقشيثا من المعادن الكبريتية (وتصحفت الكلمة في الأصول) . (9) أيذة (Ubeda) : إلى الشمال الشرقي من بياسة، بينهما سبعة أميال. (10) حجر الطلق: حجر براق يتحلل إذا دق إلى طاقات صغار دقاق ويشبه الشب اليماني، وإذا ألقي في النار لم يحترق، ولذلك كانوا يطلون به المواضع التي قد تصيبها النار لكي لا تحترق. (11) المرية (Almeria) : مدينة بنيت أيام عبد الرحمن الناصر وازدهرت في أيام المرابطين واشتد فيها الرخاء، وتقع على الساحل الشرقي إلى الجنوب الشرقي من بجانة.

أقلّ (1) ما لقط منه من شهر نحو ثمانين ربعاً، ومعدن الذهب بنهر لاردة يجمع منه كثير، ويجمع أيضاً في ساحل الأشبونة، ومعادن الفضة في الأندلس كثيرةٌ في كورة تدمير وجبال حمّة بجّانة (2) ، وبإقليم كرتش من عمل قرطبة معدن فضة جليل، وبأكشونبة معدن القصدير لا نظير له يشبه الفضّة، وله معادن بناحية إفرنجة وليون، ومعدن الزئبق في جبل البرانس، ومن هنالك يتجهز به إلى الآفاق، ومعادن الكبريت الأحمر والأصفر بالأندلس كثيرةٌ، ومعدن التوتيا الطبية بساحل إلبيرة بقرية تسمى بطرنة (3) ، وهي أزكى توتيا وأقواها في صبغ النحاس، وبجبال قرطبة توتيا، وليست كالبطرينة، ومعدن الكحل المشبه بالأصفهاني بناحية مدينة طرطوشة (4) يحمل منها إلى جميع البلاد، ومعادن الشبوب والحديد والنحاس بالأندلس أكثر من أن تحصى، وما ذكرت هنا وإن تكرّر بعضه مع ما سبق أو يأتي فهو لجمع النظائر، وما لم نذكره أكثر، والله تعالى أعلم. ومن خواص طليطلة: أن حنطتها لا تتغير ولا تتسوّس على طول السنين، يتورثها الخلف عن السلف، وزعفران طليطلة هو الذي يعم البلاد ويتجهز به الرفاق إلى الآفاق، وكذلك الصبغ السماوي، انتهى. وقال المسعودي في " مروج الذهب " بعد كلامٍ ما نصّه: والعنبر كثيرٌ ببحر الأندلس، يجهز إلى مصر وغيرها، ويحمل إلى قرطبة من ساحلٍ لها يقال

_ (1) أقل: سقطت من ج ط ك. (2) جاء في الروض المعطار: وبشرقي بجانة على ثلاثة أميال جبال شامخ فيه معادن غريبة وفيه الحمة العجيبة الشأن ... الخ. (3) البيرة (Elvira) كورة نزلها جند دمشق، وكانت مدينة البيرة قريبة من غرناطة، بينهما ستة أميال؛ أما بطرنة فقد عدها ابن سعيد من قرى بلنسية (المغرب 2: 355) . (4) طرطوشة (Tortosa) من مدن الثغر الأعلى ينسب إليها أبو الوليد الطرطوشي نزيل الإسكندرية وصاحب " سراج الملوك ".

له شنترين (1) وشذونة، تبلغ الأوقية منه بالأندلس ثلاثة مثاقيلٍ ذهباً، والوقية بالبغدادي وتباع بمصر بعشرة دنانير (2) ، وهو عنبرٌ جيّدٌ، ويمكن أن يكون هذا العنبر الواقع إلى بحر الروم ضربته الأمواج من بحر الأندلس إلى هذا البحر لاتصال الماء. وبالأندلس معدنٌ عظيمٌ للفضّة، ومعدنٌ للزئبق ليس بالجيّد يجهز إلى سائر بلاد (3) الإسلام والكفر، وكذلك يحمل من بلاد الأندلس الزعفران وعروق الزنجبيل وأصول الطيب خمسة أصناف: المسك، والكافور، والعود، والعنبر، والزعفران، وكلها تحمل من أرض الهند وما اتصل بها إلاّ الزعفران والعنبر، انتهى، وهو وإن تكرّر مع ما ذكرته عن غيره فلا يخلو من فائدةٍ، والله تعالى أعلم. وذكر البعض أن في بعض (4) بلاد الأندلس جميع المعادن الكائنات عن النيرات السبعة وهي: الرصاص من زحل، والقصدير الأبيض من المشتري، والحديد من قسم المريخ، والذهب من قسم الشمس، والنحاس من الزهرة، والزئبق من عطارد، والفضة من القمر. [الأندلسيون والأمم المجاورة] وذكر الكاتب إبراهيم بن القاسم القروي المعروف بالرقيق (5) بلد

_ (1) شنترين (Santarem) مدينة معدودة في كورة باجة من منطقة الغرب أي البرتغال وتبعد 67 كيلومتراً عن الاشبونة شمالاً. (2) ك: بعشرين ديناراً. (3) بلاد: سقطت من ط ق. (4) بعض: سقطت من ك. (5) الرقيق، إبراهيم بن القاسم القروي: نسبة إلى القيروان؛ مؤرخ أديب تولى الكتابة في الدولة الصنهاجية، ثم رحل إلى مصر 388 بهدية من زيري بن باديس إلى الحاكم، وقد أثنى عليه ابن خلدون في مقدمته بقوله: " مؤرخ أفريقية والدول التي كانت بالقيروان ولم يأت من بعده إلا مقلد " (انظر الأعلام للزركلي 1: 51 والمصادر في الحاشية) .

الأندلس، فقال: أهله أصحاب جهادٍ متصلٍ يحاربون من أهل الشرك المحيطين بهم أمّةً يدعون الجلالقة يتاخمون حوزهم ما بين غربٍ إلى شرقٍ، قومٌ لهم شدّةٌ ولهم جمالٌ وحسن وجوهٍ، فأكثر رقيقهم الموصوفين بالجمال والفراهة منهم ليس بينهم وبينهم دربٌ، فالحرب متصلةٌ بينهم، ما لم تقع هدنةٌ؛ ويحاربون بالأفق الشرقي أمّةٌ يقال يهم الفرنجة هم أشد عليهم من جميع من يحاربونه من عدوّهم، إذ كانوا خلقاً عظيماً في بلادٍ كثيرةٍ واسعةٍ جليلةٍ متصلة العمارة آهلةٍ تدعى الأرض الكبيرة، هم أكثر عدداً من الجليقيين وأشد بأساً وأحد شوكة وأعظم أمداداً (1) ، وهذه الأمّة يحاربون أمّة الصقالبة المتصلين بأرضهم لمخالفتهم إياهم في الديانة فيسبونهم ويبيعون رقيقهم بأرض الأندلس، فلهم هنالك (2) كثرةٌ، وتخصيهم للفرنجة يهود ذمتّهم الذين بأرضهم، وفي ثغر المسلمين المتصل بهم، فيحمل خصيانهم من هنالك إلى سائر البلاد، وقد تعلّم الخصاء قومٌ من المسلمين هناك، فصاروا يخصون ويستحلّون المثلة. [بحر المجاز] قال ابن سعيد: ومخرج بحر الروم المتصاعد إلى الشام هو بساحل الأندلس الغربي بمكانٍ يقال له الخضراء ما بين طنجة من أرض المغرب وبين الأندلس فيكون مقدار عرضه هناك كما (3) زعموا ثمانية عشر ميلاً، وهذا عرض جزيرة طريف إلى قصر مصمودة بالقرب من سبتة، وهناك كانت القنطرة التي يزعم الناس أن الاسكندر بناها ليعبر عليها من بر الأندلس إلى بر العدوة،

_ (1) قارن هذا بقول ابن حوقل في الفرنجة: " غير أن الذي يلي المسلمين منهم ضعيفة شوكتهم، قليلة عدتهم وعدتهم ... والجلالقة أحسن وأصدق محاسن وأقل طاعة وأشد بأساً وقوة وبسالة ". (صورة الأرض: 106) . (2) ط: بذلك؛ ج: لذلك. (3) كما: زيادة من ك.

ويعرف هذا الموضع بالزقاق، وهو صعب المجاز لأنّه مجمع البحرين لا تزال الأمواج تتطاول فيه والماء يدور، وطول هذا الزقاق الذي عرضه ثمانية عشر ميلاً مضاعف ذلك إلى ميناء سبتة، ومن هناك يأخذ البحر في الاتساع إلى ثمانمائة ميلٍ وأزيد، ومنتهاه مدينة صور من الشام، وفيه عددٌ عظيمٌ من الجزائر. قال بعضهم: إنها ثمانٍ وعشرون جزيرة منها صقلية ومالطة (1) وغيرهما، انتهى، وبعضه بالمعنى. وقال بعضهم (2) عند وصفه بحر الزقاق قرب سبتة، ما صورته: ثم يتّسع كلّما امتد حتى يصير إلى ما لا ذرع له ولا نهاية. [نبذة عن خراجها] وقال بعضهم: وكان مبلغ خراج الأندلس الذي كان يؤدى إلى ملوك بني أميّة قديماً ثلاثمائة ألف دينار دراهم أندلسية كل سنةٍ قوانين، وعلى كل مدينةٍ من مدائنهم ماٌ معلومٌ، فكانوا يعطون جندهم ورجالهم الثلث من ذلك مائة ألف دينار، وينفقون في أمورهم ونوائبهم ومؤن أهليهم مائة ألف دينار، ويدّخرون لحادث أيامهم مائة ألف دينار، انتهى. وذكر غيره أن الجباية كانت بالأندلس أيام عبد الرحمن الأوسط ألف ألف دينارٍ في السنة، وكانت قبل ذلك (3) لا تزيد على ستمائة ألف، حكاه ابن سعيد، وقال: إن الأندلس مسيرة شهرٍ مدنٌ وعمائرٌ.

_ (1) ق ط ج: وجزيرة مالطة. (2) ق ط: وقال غيره. (3) ذلك: زيادة في ك.

[خبر ابن خلدون عن الأمم التي استوطنتها] وقال قاضي القضاة ابن خلدون الحضرمي في تاريخه الكبير، ما صورته (1) : كان هذا القطر الأندلسي من العدوة الشمالية من عدوتي البحر الرومي وبالجانب الغربي منها يسمى عند العجم الأندلوش، وتسكنه أممٌ من إفرنجة المغرب أشدهم وأكثرهم الجلالقة، وكان القوط قد تملّكوه وغلبوا على أهله لمئين من السنين قبل الإسلام، بعد حروبٍ كانت لهم مع اللطينيين حاصروا فيها رومة ثم عقدوا معهم السلم على أن ينصرف القوط إلى الأندلس، فصاروا إليها وملكوها. ولما أخذ الروم واللطينيون بملة النصرانية حملوا من وراءهم بالمغرب من أمم الفرنجة والقوط عليها فدانوا بها، وكان ملوك القوط (2) ينزلون طليطلة، وكانت دار ملكهم، وربما تنقلوا ما بينها وبين قرطبة وإشبيلية وماردة، وأقاموا كذلك نحواً من أربعمائة سنة إلى أن جاء الله بالإسلام والفتح، وكان ملكهم لذلك العهد يسمى لذريق، وهو سمةٌ لملوكهم، كما هو جرجير (3) سمةٌ لملوك صقلية، انتهى. [شيءٌ عن غرناطة وأعمالها] ومن أشهر بلاد الأندلس غرناطة، وقيل: إن الصواب أغرناطة - بالهمز - ومعناه بلغتهم الرّمّانة، وكفاها شرفاً ولادة لسان الدين بها. وقال الشقندي (4) : أما غرناطة فإنها دمشق بلاد الأندلس، ومسرح

_ (1) انظر العبر 4: 116 - 117. (2) ملوك: سقطت من ق. (3) جرجير: (Gregorius) ؛ وفي ك: كما أن جرجير. (4) الشقندي أبو الوليد إسماعيل بن محمد (- 629) صاحب كتاب اطرف ورسالة مشهورة في تفضيل الأندلس على بر العدوة، عارض بها أبا يحيى صهر ناصر بني عبد المؤمن، وقد احتفظ بها المقري في النفح في الباب السابع من القسم الأول، وهذا النص منها مأخوذ على سبيل الاختصار. (انظر ترجمة الشقندي في المغرب 1: 213) .

الأبصار، ومطمح الأنفس، ولم تخل من أشرافٍ أماثلٍ، وعلماءٍ أكابرٍ، وشعراءٍ أفاضلٍ، انتهى؛ ولو لم يكن لها إلى ما خصّها الله تعالى به من المرج الطويل العريض ونهر شنيل لكفاها. وفي بعض كلام لسان الدين ما صورته: وما لمصر تفخر بنيلها وألفٌ منه في شنيلها (1) ؟ يعني أن الشين عند أهل المغرب عددها ألف، فقولنا شنيل إذا اعتبرنا عدد شينه أن كان ألف نيل، انتهى؛ وفيها قيل: غرناطة ما لها نظيرٌ ... ما مصر ما الشام ما العراق؟ ما هي إلى العروس تجلى ... وتلك من جملة الصّداق وتسمى كورة إلبيرة التي منها غرناطة، دمشق، لأن جند دمشق نزولها عند الفتح، وقيل: وإنما سميت بذلك لشبهها بدمشق في غزارة الأنهار، وكثرة الأشجار، حكاه صاحب مناهج الفكر (2) ، قال: ولما استولى الفرنج على معظم بلاد الأندلس انتقل أهلها إليها فصارت المصر المقصود، والمعقل الذي تنضوي إليه العساكر والجنود. ويشقّها نهرٌ عليه قناطر يجاز عليها، وفي قبليها جبل شلير (3) ، وهو جبلٌ لا يفارقه الثلج صيفاً وشتاءً، وفيه سائر النبات الهندي، لكن ليس فيه خصائصه، انتهى. ومن أعمال غرناطة قطر لوشة (4) ، وبها معدن للفضة جيدٌ، ومنها، أعني لوشة، أصل لسان الدين بن الخطيب. وهذا القطر ضخمٌ ينضاف إليه من الحصون

_ (1) شنيل (أو سنجيل) هو نهر غرناطة، كما سيأتي بعد سطور، وهو يصب في نهر الوادي الكبير. (2) سنعرف به فيما يلي ص: 159. (3) شلير أو جبل الثلج هو ما يسمى سير انفادا، وشلير من اللاتينية (Solarius) أي المشمس، لانعكاس أشعة الشمس على ثلوجه، أما سير انفادا فتعني الجبال الثلجية. (4) لوشة (Loja) على بعد خمسة وخمسين كيلومتراً إلى الغرب من غرناطة.

والقرى كثيرٌ، وقاعدته لوشة، بينها وبين غرناطة مرحلة، وهي ذات أنهارٍ (1) وأشجارٍ، وهي على نهر غرناطة الشهير بشنيل. ومن أعمال غرناطة الكبار عمل باغه (2) ، والعامة يقولون بيغه، وإذا نسبوا إليه قالوا بيغي، وقاعدته باغه طيبة الزرع، كثيرة الثمار، غزيرة المياه، ويجود فيها الزعفران. ومن أعمال غرناطة وادي آش (3) ، ويقال: وادي الأشات. وهي مدينة جليلة قد أحدقت بها البساتين والأنهار، وقد خص الله أهلها بالأدب وحب الشعر، وفيها يقول أبو الحسن بن نزار (4) : وادي الأشات يهيج وجدي كلّما ... أذكرت ما قضّت (5) بك النعماء لله ظلّك والهجير مسلّطٌ ... قد برّدت لفحاته الأنداء والشمس ترغب أن تفوز بلحظةٍ ... منه فتطرف طرفها الأفياء والنهر يبسم بالحباب كأنّه ... سلخٌ نضته حيّةٌ رقشاء فلذاك تحذره الغصون فميلها ... أبداً على جنباته إيماء ومن أعمال وادي آش حصن جليانة، وهو كبيرٌ يضاهي المدن، وبه التفاح الجلياني الذي خص الله به ذلك الموضع (6) ، يجمع عظم الحجم وكرم الجوهر وحلاوة الطعم وذكاء الرائحة والنقاء، وبين الحصن المذكور ووادي

_ (1) أنهار: سقطت من ج. (2) باغة (Priego) بلدة تقع إلى الشمال من لوشة في ولاية جيان. (3) وادي آش (أو وادي الأشات Guadix) تقع على نهر ينحدر من جبل شلير عند السفح الشمالي لجبل الثلج (سير انفادا) ، قريباً من غرناطة على بعد 53 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي منها. (4) سيترجم له المقري، وله موشحة في المغرب 2: 147، ويقول فيه ابن سعيد: حسيب وادي آش (2: 264) . (5) ك: أفضت. (6) المغرب 2: 148 خصه (أي حصن جليانة Juliana) الله بالتفاح الذي يضرب به المثل في الأندلس؛ ويذكر ابن سعيد أن بني البراق كانوا أعيان هذا الحصن.

آش اثنا عشر ميلاً. ومن غرائب الأندلس أن به شجرتين من شجر القسطل، وهما عظيمتان جدّاً إحداهما بسند وادي آش (1) والأخرى ببشرة غرناطة، في جوف كل واحدةٍ منهما حائكٌ ينسج الثياب، وهذا أمرٌ مشهورٌ قاله أبو عبد الله بن جزيّ وغيره. وكانت إلبيرة هي المدينة قبل غرناطة، فلمّا بنى الصّنهاجي (2) مدينة غرناطة وقصبتها وأسوارها انتقل الناس إليها، ثم زاد في عمارتها ابنه باديس بعده. [شهرة سرقسطة وبرجة ومالقة وأشبونة] وذكر غير واحدٍ (3) أن في كورة سرقسطة الملح الأندارني الأبيض الصافي الأملس الخالص، وليس في الأندلس موضعٌ فيه مثل هذا الملح. قال: وسرقسطة بناها قيصر ملك رومة الذي تؤرخ من مدته مدة الصفر قبل مولد المسيح على نبيّنا وعليه وعلى سائر الأنبياء (4) الصلاة والسلام، وتفسير اسمها قصر السيد، لأنّه اختار ذلك المكان بالأندلس. وقيل: إن موسى بن نصير شرب من ماء نهر جلّق بسرقسطة فاستعذبه، وحكم أنّه لم يشرب بالأندلس أعذب منه، وسأل عن اسمه، فقيل: جلّق، ونظر إلى ما عليه من البساتين فشبّهها بغوطة جلّق الشام، وقيل: إنها من بناء الاسكندر، والله أعلم. وبمدينة برجة (5) - وهي من أعمال المرية - معدن الرصاص، وهي على وادٍ مبهجٍ ويعرف بوادي عذراء، وهو محدقٌ بالأزهار والأشجار، وتسمى

_ (1) هذا السند يسمى اليوم (Marquezado del Zenete) . (2) يعني حبوس بن ماكسن الصنهاجي، عندما استقل بالأمر بعيد سقوط الدولة الأموية. (3) انظر مثلاً المنتقى من فرحة الأنفس: 288، والروض: 97. (4) وعلى ... الأنبياء: سقطت من ق ط ج. (5) برجة: (Berja) تقع غربي المرية على مقربة من ساحل البحر.

برجة: " بهجة " لبهجة منظرها، وفيها يقول أبو الفضل بن شرف القيرواني، رحمه الله تعالى (1) : رياضٌ تعشّقها سندسٌ ... توشّت معاطفها بالزّهر مدامعها فوق خدّي ربىً ... لها نضرةٌ فتنت من نظر وكلّ مكانٍ بها جنّةٌ ... وكلّ طريقٍ إليها سقر وفيها أيضاً قوله: حطّ الرحال ببرجه ... وارتد لنفسك بهجه في قلعةٍ كسلاحٍ ... ودوحةٍ مثل لجّه فحصنها لك أمنٌ ... وروضها لك فرجه كلّ البلاد سواها ... كعمرةٍ وهي حجّه وبمالقة التين الذي يضرب المثل بحسنه، ويجلب حتى للهند والصين، وقيل: إنّه ليس في الدنيا مثله، وفيه يقول أبو الحجاج يوسف ابن الشيخ البلوي المالقي حسبما أنشده غير واحدٍ منهم ابن سعيد (2) : مالقة حيّيت يا تينها ... الفلك من أجلك ياتينها نهى طبيبي عنه في علّتي ... ما لطبيبي عن حياتي نهى وذيّل عليه الإمام الخطيب أبو محمد عبد الوهاب المنشي بقوله: وحمص لا تنس لها تينها ... واذكر مع التين زياتينها

_ (1) أبو الفضل جعفر بن شرف هو ابن الشاعر القيرواني أبي عبد الله ابن شرف المهاجر إلى الأندلس، وقد ولد في برجة وقيل بل دخل به أبوه الأندلس صغيراً، (ترجمته في الذخيرة 3: 276 والقلائد: 252 والصلة: 131 والمغرب 2: 230) . (2) في الروض: 179 أن الطلبة خرجوا للقاء أبي محمد عد الله بن سليمان بن حوط الله الأنصاري لما ولي القضاء بمالقة، فأنشدهم هذين البيتين، وانظر رحلة ابن بطوطة: 669 حيث نسبهما للخطيب أبي محمد عبد الوهاب بن علي المالقي، أما ابن عبد الملك فهو مؤلف الذيل والتكملة.

وفي بعض النسخ: لا تنس لاشبيليّة تينها (1) ... واذكر مع التين زياتينها وهو نحو الأول، لأن حمص هي إشبيلية، لنزول أهل حمص من المشرق بها، حسبما سنذكره. ونسب ابن جزيّ في ترتيبه لرحلة ابن بطّوطة البيتين الأولين للخطيب أبي محمد عبد الوهاب المالقي، والتذييل لقاضي الجماعة أبي عبد الله بن عبد الملك، فالله أعلم. وقال ابن بطوطة (2) : وبمالقة يصنع الفخّار المذهب العجيب، ويجلب منها إلى أقاصي البلاد، ومسجدها كبير الساحة، شهير البركة (3) ، وصحنه لا نظير له في الحسن، وفيه أشجار النارنج البديعة، انتهى. وقال قبله (4) : إن مالقة إحدى قواعد الأندلس، وبلادها الحسان، جامعةً بين مرافق البر والبحر، كثيرة الخيرات والفواكه، رأيت العنب يباع في أسواقها بحساب ثمانية أرطالٍ بدرهمٍ صغيرٍ، ورمّانها المرسيّ الياقوتي لا نظير له في الدنيا، وأما التين واللوز فيجلبان منها ومن أحوازها إلى بلاد المشرق والمغرب، انتهى. وبكورة أشبونة المتصلة بشنترين معدن التبر، وفيها عسلٌ يجعل في كيس كتانٍ فلا يكون له رطوبةٌ كأنّه سكرٌ، ويوجد في ريفها العنبر الذي لا يشبهه إلا الشّحري.

_ (1) ق ج ط: ولا تنس تين إشبيلية. (2) الرحلة: 670. (3) ك: كثير البركة شهيرها. (4) الرحلة: 669.

[نبذة عن قرطبة وشهرتها] ومن أشهر مدن الأندلس مدينة قرطبة - أعادها الله تعالى للإسلام - وبها الجامع المشهور، والقنطرة المعروفة بالجسر. وقد ذكر ابن حيّان أنّه بني على أمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ونصه، وقام فيها بأمره على النهر الأعظم بدار مملكتها قرطبة الجسر الأكبر الذي ما يعرف في الدنيا مثله، انتهى. وفيها يقول بعض علماء الأندلس (1) : بأربعٍ فاقت الأمصار قرطبةٌ ... منهنّ قنطرة الوادي، وجامعها هاتان ثنتان، والزهراء ثالثةٌ، ... والعلم أعظم شيءٍ، وهو رابعها وقال الحجاري في " المسهب ": كانت قرطبة في الدولة المروانية قبّة الإسلام، ومجتمع أعلام الأنام، بها استقرّ سرير الخلافة المروانية، وفيها تمحضت خلاصة القبائل المعديّة واليمانيّة، وإليها كانت الرّحلة في الرواية إذ كانت مركز الكرماء، ومعدن العلماء، وهي من الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد، ونهرها من أحسن الأنهار، مكتنفٌ بديباج المروج مطرزٌ بالأزهار، تصدح في جنباته الأطيار، وتنعر النواعير ويبسم النّوّار، وقرطاها الزاهرة والزهراء، حاضرتا الملك وأفقا النعماء والسرّاء. وإن كان قد أخنى عليها الزمان، وغيّر بهجة أوجهها الحسان، فتلك عادته وسل الخورنق والسّدير وغمدان، وقد أعذر بإنذاره إذ لم يزل ينادي بصروفه: لا أمان لا أمان، وقد قال الشاعر: ومازلت أسمع أنّ الملو ... ك تبني على قدر أخطارها انتهى.

_ (1) سيورد المقري البيتين في الباب الرابع وينسبهما إلى أبي محمد بن عطية المحاربي.

وقال السلطان يعقوب المنصور (1) ابن السلطان يوسف ابن السلطان عبد المؤمن بن علي لأحد رؤساء أجنادها: ما تقول في قرطبة؟ فخاطبه على ما يقتضيه كلام عامّة الأندلس بقوله: جوفها شمام، وغريبها قمام، وقبلتها مدام، والجنّة هي والسلام. يعني بالشّمام جبال الورد، ويعني بالقمام ما يؤكل إشارةً إلى محرث الكنبانيّة (2) ، ويعني بالمدام النهر. ولما قال والده السلطان يوسف بن عبد المؤمن لأبي عمران موسى بن سعيد العنسي (3) : ما عندك في قرطبة؟ قال له: ما كان لي أن أتكلّم حتى أسمع مذهب أمير المؤمنين فيها، فقال السلطان: إن ملوك بين أمية حين اتخذوها حضرة مملكتهم لعلى بصيرةٍ، الديار المنفسحة الكثيرة (4) ، والشوارع المتسعة، والمباني الضخمة المشيدة، والنهر الجاري، والهواء المعتدل، والخارج الناضر، والمحرث العظيم، والشّعراء الكافية، والتوسط بين شرق الأندلس وغربها، قال: فقلت: ما أبقى لي أمير المؤمنين ما أقول. قال ابن سعيد: ولأهلها رياسة ووقار، لا تزال سمة العلم والملك متوارثةً فيهم. إلا أن عامّتها أكثر الناس فضولاً، وأشدّهم تشغيباً، ويُضرب

_ (1) السلطان يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن (580 - 595) من أعاظم خلفاء الموحدين، كان جواداً شجاعاً كريماً عالماً. (انظر له ترجمة في وفيات الأعيان 6: 4 وروض القرطاس: 160 (ط. فاس) وأخباره في المعجب والبيان المغرب وغيرهما من المصادر التاريخية) . (2) الكنبانية: قال فيها ياقوت: ناحية بالأندلس قرب قرطبة، وهذا تعريف قاصر، فإن الكنبانية هي الأراضي السهلة الزراعية أينما كانت، وقد ذكر ابن الخطيب الكنبانية في الحديث عن غرناطة (1: 102) وأصلها من الكلمة اللاتينية (Campania) أي الحقل أو المحرث كما يسميها الأندلسيون، وتكتب أحياناً بالقاف. (انظر ملحق دوزي: قنبانية) . (3) السلطان يوسف بن عبد المؤمن (558 - 580) ثاني خلفاء الموحدين؛ أما موسى بن سعيد فهو والد علي صاحب المغرب، كان شغوفاً بالتاريخ وولي للموحدين بعض الأعمال وتوفي بالإسكندرية (573) . راجع 2: 170. (4) ك: الكبيرة.

بهم المثل ما بين أهل (1) الأندلس في القيام على الملوك، والتشنيع على الولاة، وقلة الرضا بأمورهم، حتى إن السيد أبا يحيى أخا السلطان يعقوب المنصور قيل له لما انفصل عن ولايتها: كيف وجدت أهل قرطبة؟ فقال: مثل الجمل، إن خففت عنه الحمل صاح، وإن أثقلته صاح، ما ندري أين رضاهم فنقصده، ولا أين سخطهم فنجتنبه، وما سلط الله عليهم حجّاج الفتنة حتى كان عامتها شرّاً من عامة العراق، وإن العزل عنها لما قاسيته من أهلها عندي ولاية، وإنّي إن كلّفت العود إليها لقائل: لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين، انتهى. وقال أبو الفضل التيفاشي: جرت مناظرة بين يدي ملك المغرب المنصور يعقوب بين الفقيه أبي الوليد بين رشد والرئيس أبي بكر بن زهر، فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة: ما أدري ما تقول، غير أنّه إذا مات عالمٌ بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإن مات مطربٌ بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيلية، قال: وقرطبة أكثر بلاد الله كتباً، انتهى. وحكى الإمام ابن بشكوال عن الشيخ أبي بكر بن سعادة أنه دخل مدينة طليطلة مع أخيه على الشيخ الأستاذ أبي بكر المخزومي، قال: فسألنا: من أين؟ فقلنا: من قرطبة، فقال: متى عهدكما بها؟ فقلنا: الآن وصلنا منها، فقال: اقربا إليّ أشمّ نسيم قرطبة، فقربنا منه، فشمّ رأسي وقبّله، وقال لي: اكتب: أقرطبة الغرّاء هل لي أوبةٌ ... إليك؟ وهل يدنو لنا ذلك العهد سقى الجانب الغربيّ منك غمامةٌ ... وقعقع في ساحات دوحاتك الرعد لياليك أسحارٌ، وأرضك روضةٌ ... وتربك في استنشاقها عنبرٌ ورد وكتب الرئيس الكاتب أبو بكر بن القبطرنة للعالم أبي الحسين بن سراج بقوله (2) :

_ (1) أهل: زيادة من ك. (2) ابو بكر بن القبطرنة (ويكتب أيضاً القبطورنة) أحد ثلاثة إخوة يعرفون ببني القبطورنة، والاسم من (Cap - tomo) (أي الرأس المستدير) وأبو بكر منهم هو عبد العزيز بن سعيد بن عبد العزيز البلطليوسي كان كاتباً للمتوكل ابن الأفطس صاحب بطليوس (وتوفي سنة 520هـ؟) وقد ترجم له ولأخويه ابن بسام (الذخيرة القسم الثاني: 289) والمغرب 1: 367 والقلائد: 148 والمطرب: 186 والإحاطة 1: 528، وسيرد له ذكر في النفح؛ وهذه الأبيات الواردة هنا في الذخيرة: 293 والقلائد 152. أما أبو الحسين بن سراج فهو سراج بن عبد الملك ابن سراج كان والده من علماء اللغة في عصره، ونشأ ابنه كذلك بقرطبة. (انظر ترجمته في الذخيرة 1 - 2: 319 والقلائد: 116 والمغرب 1: 116 والديباج المذهب: 126 وبغية الوعاة: 251) .

يا سيّدي وأبي هوىً وجلالةً ... ورسول ودّي إن طلبت رسولا عرّج بقرطبةٍ إذا بلّغتها ... بأبي الحسين وناده تمويلا (1) وإذا سعدت بنظرةٍ من وجهه ... أهد السلام لكفّه تقبيلا واذكر له شوقي وشكري مجملاً ... ولو استطعت شرحته تفصيلا بتحيّةٍ تهدى إليه كأنّما ... جرّت على زهر الرياض ذيولا وفي باب اليهود بقرطبة يقول أبو عامر بن شهيد (2) : لقد أطلعوا عند باب اليهو ... د بدراً أبى الحسن أن يكسفا تراه اليهود على بابها ... أميراً فتحسبه يوسفا واستقبحوا قولهم " باب اليهود " فقالوا " باب الهدى "، وسنذكر قرطبة الزهراء والزاهرة ومسجدها في الباب المنفرد بها إن شاء الله تعالى، وكذلك القنطرة. [إشبيلية وإقليمها] ومن أعظم مدن الأندلس إشبيلية - قال الشقندي: من محاسنها اعتدال

_ (1) ناده تمويلا: قل له " يا مولاي ". (2) أبو عامر بن شهيد أحمد بن عبد الملك (- 426) من أكابر الشعراء بعيد الفتنة القرطبية وصاحب التوابع والزوابع، انظر دراسة عنه في تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة: 215 والمصادر مذكورة هنالك؛ وقد جمع ديوانه الأستاذ شارل بلا؛ والبيتان في ديوانه: 100.

الهواء، وحسن المباني، ونهرها الأعظم الذي يصعد المدّ فيه اثنين وسبعين ميلاً ثم يحسر، وفيه يقول ابن سفرٍ (1) : شقّ النسيم عليه جيب قميصه ... فانساب من شطيّه يطلب ثاره فتضاحكت ورق الحمام بدوحها ... هزءاً فضمّ من الحياء إزاره وقيل لأحد من رأى مصر والشام: أيهما رأيت أحسن؟ أهذان أم إشبيلية؟ فقال بعد تفضيل إشبيلية: شرفها غابةٌ بلا أسد، ونهرها نيلٌ بلا تمساح، انتهى. ويقال: إن الذي بنى إشبيلية اسمه يوليش (2) ، وإنّه أول من سمّي قيصر، وإنّه لما دخل الأندلس أعجب بساحاتها وطيب أرضها وجبلها المعروف بالشّرف (3) فردم على النهر الأعظم مكاناً، وأقام فيه المدينة، وأحدق عليها بأسوارٍ من صخرٍ صلدٍ، وبنى في وسط المدينة قصبتين بديعتي الشأن تعرفان بالأخوين، وجعلها أمّ قواعد الأندلس، واشتق لها اسماً من رومية، ومن اسمه، فسمّاها رومية يوليش، انتهى. وقد تقدّم شيءٌ من هذا. وكان الأوّلون من ملوك الأعاجم يتداولون بسكناهم أربعة (4) من بلاد الأندلس: إشبيلية، وقرطبة، وقرمونة (5) ، وطليطلة، ويقسمون أزمانهم على الكينونة بها.

_ (1) ابن سفر: أبو عبد الله محمد بن سفر الأديب (ويكتب اسمه أيضاً بالصاد) وهو من ناحية المرية وسكن إشبيلية، وسيترجم له المقري. (انظر تحفة القادم: 101 والوافي 3: 114 والمغرب 2: 212) . وبيتاه في التحفة. وفي ج: ابن سعيد. (2) ق ك ط: توليس، ج: يولوس؛ وهو يوليس قيصر (Julius Caesar) ، (3) سيأتي وصف " شرف إشبيلية " في النصوص التالية، وانظر أيضاً الروض المعطار: 19. (4) ك: أربعة بلاد. (5) قرمونة (Carmona) مدينة إلى الشمال الشرقي من إشبيلية على عد 35 كيلومتراً وكانت كورة واسعة تضم عدة مدن وحصون. (راجع الروض المعطار: 158) .

وأما شرف إشبيلية فهو شريف البقعة، كريم التربة، دائم الخضرة، فرسخ في فرسخ طولاً وعرضاً، لا تكاد تشمس فيه بقعةٌ لالتفاف زيتونه. واعلم أن إشبيلية لها كورٌ جليلةٌ، ومدنٌ كثيرةٌ، وحصونٌ شريفةٌ، وهي من الكور المجندة، نزلها جند حمص ولواؤهم في الميمنة بعد لواء جند دمشق. وانتهت جباية إشبيلية أيام الحكم بن هشام إلى (1) خمسة وثلاثين ألف دينارٍ ومائة دينار. وفي إقليم طالقة من أقاليم إشبيلية وجدت صورةً جاريةً من مرمرٍ معها صبي، وكأن حيّةً تريده، لم يسمع في الأخبار ولا رثي في الآثار صورةٌ أبدع منها، جعلت في بعض الحمامات وتعشّقها جماعةٌ من العوام (2) . وقي كورة ماردة (3) حصن شنت أفرج في غاية الارتفاع، لا يعلوه طائرٌ البتة لا نسرٌ ولا غيره. ومن عجائب الأندلس البلاط الأوسط من مسجد جامع أقليش (4) ، فإن طول كل جائزة (5) منه مائة شبر وأحد عشر شبراً، وهي مربعة منحوتة مستوية الأطراف. وقال بعض من وصف إشبيلية (6) : إنها مدينة عامرة على ضفة النهر الكبير المعروف بنهر قرطبة، وعليه جسر مربوط بالسفن، وبها أسواق قائمة، وتجارات رابحة، وأهلها ذوو أموال عظيمة، وأكثر متاجرهم الزيت، وهو

_ (1) إلى: سقطت من ق ط ج، وكتب فيها " خمسة وثلاثون ". (2) انظر الروض المعطار: 122 في وصف طالقة، ونصاً تفصيلياً عن الصورة المذكورة: 123. (3) ماردة: مدينة بينها وبين بطليوس عشرون ميلاً، قال الرازي: كانت قاعدة الأندلس وقرارة الملك، بنيت في زمن قيصر اكتيبان (Octavian) وهي على نهر آنة، وفي عملها كثير من المدن، وكان لها من القرى والحصون ما يزيد على ثلاثة آلاف قرية كلها متصلة بعضها ببعض بالغروسات والأشجار والزيتون واعنب (مخطوط الرباط: 48) . (4) اقليش: (Ucles) قاعدة كورة شنتبرية. (5) لجائزة: الخشبة التي تحمل خشب البيت، اي الدعامة، وفي اللسان " الجائز " دون تاء التأنيث. (6) انظر الروض المعطار: 19 ومخطوطة الرباط: 53.

يشتمل على كثير من إقليم الشّرف، وإقليم الشرف على تل عال من تراب أحمر مسافته أربعون ميلاً في مثلها، يمشي بها (1) السائر في ظل الزيتون والتين، ولها - فيما ذكر بعض الناس - قرىً كثيرة، وكل قرية عامرة بالأسواق والديار الحسنة والحمامات وغيرها من المرافق. وقال صاحب مناهج الفكر (2) ، عند ذكر إشبيلية: وهذه المدينة من أحسن مدن الدّنيا، وبأهلها يضرب المثل في الخلاعة، وانتهاز فرصة الزمان الساعة بعد الساعة، ويعينهم على ذلك واديها الفرج، وناديها البهج، وهذا الوادي يأتيها من قرطبة، ويجزر في كل يوم، ولها جبل الشرف، وهو تراب أحمر طوله من الشمال إلى الجنوب أربعون ميلاً، وعرضه من المشرق إلى المغرب اثنا عشر ميلاً، نشتمل على مائتين وعشرين قرية، قد التحفت بأشجار الزيتون واشتملت، انتهى. [شهرة باجة وجبل طارق] ولكورة باجة (3) من الكور الغربية التي كانت من أعمال إشبيلية أيام بني عبّاد خاصّيّةٌ في دباغة الأديم وصناعة الكتان، وفيها معدن فضة، وبها ولد المعتمد بن عبّاد، وهي متصلة بكورة ماردة. ولجبل طارق حوز قصب السبق بنسبته إلى طارق مولى موسى بن نصير،

_ (1) ك: به. (2) هنالك كتاب باسم " مباهج الفكر ومناهج العبر " لمحمد بن عبد الله الأنصاري، عاد فذكره حاجي خليفة باسم " مناهج الفكر " وقال إن الاسم الصحيح بالنون، ومؤلفه جمال الدين محمد ابن إبراهيم الوطواط (- 718) ويقول الأستاذ خير الدين الزركلي إنه في الكيمياء والطبيعة وهو في ستة مجلدات، قلت: وقد اطلعت على المجلدين الثالث والرابع منه بالخزانة العامة بالرباط وهما يشملان البات والحيوان (وفي ك: منهاج الفكر) . (3) باجة (Beja) في البرتغال وتقع على بعد 140 كيلومتراً جنوب شرقي الاشبونة وكانت تضم كورة واسعة.

إذ كان أوّل ما حل به مع المسلمين من بلاد الأندلس عند الفتح، ولذا شهر بجبل الفتح، وهو مقابل الجزيرة الخضراء، وقد تجوّن (1) البحر هنالك مستديراً حتى صار مكان هذا الجبل كالناظر للجزيرة الخضراء، وفيه يقول مطرّف شاعر غرناطة (1) : وأقود قد ألقى على البحر متنه ... فأصبح عن قود الجبال بمعزل (3) يعرّض نحو الأفق وجهاً كأنّما ... تراقب عيناه كواكب منزل وإذا أقبل عليه المسافرون من جهة سبتة في البحر بان كأنّه سرج، قال أبو الحسن علي (4) بن موسى بن سعيد: أقبلت عليه مرة مع والدي فنظرنا إليه على تلك الصفة، فقال والدي (5) : أجز: انظر إلى جبل الفت ... ح راكباً متن لجّ فقلت: وقد تفتّح مثل ال ... أفنان في شكل سرج وأما جزيرة طريف فليست بجزيرة، وإنّما سميت بذلك الجزيرة التي أمامها في البحر مثل الجزيرة الخضراء، وطريف المنسوبة إليه بربريٌّ من موالي موسى بن نصير، ويقال: إن موسى بعثه قبل طارق في أربعمائة رجل، فنزل بهذه الجزيرة في رمضان سنة إحدى وتسعين، وبعده دخل طارق، والله أعلم.

_ (1) ك: تجوف؛ ق: تجوز؛ ج: تجور. (1) ك: تجوف؛ ق: تجوز؛ ج: تجور. (3) الأقود: الطويل على الأرض، وجمعه: قود، وقد عنى به الجبل. (4) علي: سقطت من ق. (5) والدي: سقطت من ق.

[كورة طليطلة وما تشتهر به] ومن أعظم كور الأندلس كورة طليطلة (1) ، وهي من متوسط الأندلس، وكانت دار مملكة بني ذي النّون من ملوك الطوائف، وكان ابتداء ملكهم صدر المائة الخامسة، وسمّاها قيصر بلسانه بزليطة (2) ، وتأويل ذلك: أنت فارح، فعرّبتها العرب وقالت: طليطلة، وكانوا يسمّونها وجهاتها في دولة بني أميّة بالثغر الأدنى، ويسمون سرقسطة وجهاتها بالثغر الأعلى، وتسمى طليطلة مدينة الأملاك لأنها فيما يقال ملكها اثنان وسبعون إنساناً، ودخلها سليمان بن داود، عليهما السلام، وعيسى بن مريم، وذو القرنين، وفيها وجد طارق مائدة سليمان، وكانت من ذخائر إشبان ملك الروم الذي بنى إشبيلية، أخذها من بيت المقدس كما مر، وقوّمت هذه المائدة عند الوليد بن عبد الملك بمائة ألف دينار، وقيل: إنها كانت من زمرد أخضر، ويقال: إنها الآن برومة، والله أعلم بذلك. ووجد طارق بطليطلة ذخائر عظيمة (3) ، منها مائة وسبعون تاجاً من الدر والياقوت والأحجار النفيسة، وإيوان ممتلئ من أواني الذهب والفضة، وهو كبير، حتى قيل: إن الخيل تلعب فيه فرسانها برماحهم لوسعه، وقد قيل: إن أواني المائدة من الذهب وصحافها من اليشم والجزع، وذكروا فيها غير هذا ممّا لا يكاد يصدّقه الناظر فيه. وبطليطلة بساتين محدقة، وأنهار مخترقة، ورياض وجنان، وفواكه حسان، مختلفة الطعوم والألوان، ولها من جميع جهاتها أقاليم رفيعة، ورساتيق مريعة،

_ (1) طليطلة: (Toledo) كانت عاصمة الأندلس قبل دخول طارق، وهي مشرفة على ما يليها من الأندلس إلى الجنوب، وكانت من أولى المدن التي انتزعت من يد العرب إذ استولى عليها الفونش السادس عام 478 وجر ذلك إلى معركة الزلاقة. (2) تصحفت الكلمة هنا؛ وصورتها الصحيحة " توليطة " وفي الروض المعطار " تولاظو " قال: ومعناه: فرح ساكنوها، وفي هذا غشارة إلى الأصل اللاتيني: (Tu ledo) بمعنى " أنت فارح "، وفي ك ط وردت: بزليطلة - برليطلة. (3) قارن بما ورد في الروض المعطار: 131.

وضياع بديعة، وقلاع منيعة، وبالجملة فمحاسنها كثيرة، ولعلّنا نلمّ ببعض متنزهاتها فيما يأتي من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وطليطلة قاعدة ملك القوطيين، وهي مطلّة على نهر تاجه، وعليه كانت القنطرة التي يعجز الواصفون عن وصفها، وكانت على قوس واحد تكنفه فرختان (1) من كل جانب، وطول القنطرة ثلاثمائة باع، وعرضها ثمانون باعاً، وخربت أيام الأمير محمد لما عصى عليه أهلها فغزاهم، واحتال في هدمها، وفي ذلك يقول الحكيم عباس بن فرناس (2) : أضحت طليطلةٌ معطّلةً ... من أهلها في قبضة الصقر تركت بلا أهلٍ تؤهّلها ... مهجورة الأكناف كالقبر ما كان يبقي الله قنطرةً ... نصبت لحمل كتائب الكفر وسيأتي بعض أخبار طليطلة. [مدينة المرية وما تشتهر به] ومن مشهور مدن الأندلس المرية، وهي على ساحل البحر، ولها القلعة المنيعة المعروفة بقلعة خيران، بناها عبد الرحمن الناصر، وعظمت في دولة المنصور بن أبي عامر، وولى عليها مولاه خيران، فنسبت القلعة إليه، وبها من صنعة الديباج ما تفوق به على سائر البلاد، وفيها دار الصناعة، وتشتمل كورتها على معدن الحديد والرخام، ومن أبوابها باب العقاب عليه صورة

_ (1) ك: فرجتان. (2) بعاس بن فرناس التاكرني حكيم الأندلس، بربري الأصل من موالي بني أمية، كان صاحب اختراعات وتوليدات (توفي 274) ، انظر ترجمته في الجذوة 300 وبغية الملتمس (رقم: 1247) والمغرب 1: 333. وله أخبار في المقتبس (تحقيق مكي) ؛ والأبيات فيه ص 306 - 307.

عقاب من حجر قديم عجيب المنظر. وقال بعضهم (1) : كان بالمريّة لنسج طرز الحرير ثمانمائة نول، وللحلل النفيسة والديباج الفاخر ألف نول، وللأسقلاطون كذلك، وللثياب الجرجانية كذلك، وللأصفهانية مثل ذلك، وللعنابي والمعاجر المدهشة والستور المكللة. ويصنع بها من صنوف آلات الحديد والنحاس والزجاج ما لا يوصف. وفاكهة المرية يقصر عنها الوصف حسناً، وساحلها أفضل السواحل، وبها قصور الملوك القديمة الغربية العجيبة، وقد ألف فيها أبو جعفر ابن خاتمة تاريخاً حافلاً سمّاه " بمزية المرية "، على غيرها من البلاد الأندلسية " (2) في مجلد ضخم تركته من جملة كتبي بالمغرب، والله سبحانه المسؤول في جمع الشمل، فله الأمر من بعد ومن قبل. ووادي المرية طوله أربعون ميلاً في مثلها كلها بساتين بهجة، وجنات نضرة، وأنهار مطردة، وطيور مغردة. قال بعضهم: ولم يكن في بلاد الأندلس أكثر مالاً من أهل المرية، ولا أعظم متاجر وذخائر، وكان بها من الحمامات والفنادق نحو الألف، وهي بين الجبلين بينهما خندق معمور، وعلى الجبل الواحد قصبتها المشهورة بالحصانة، وعلى الآخر ربضها، والسور محيط بالمدينة والربض، وغريبها ربض لها آخر يسمى ربض الحوض ذو فنادق وحمامات وخنادق وصناعات، وقد استدار بها من كل جهة حصون مرتفعة، وأحجار أولية، وكأنما غربلت أرضها من التراب، ولها مدن وضياع عامرة متصلة الأنهار، انتهى.

_ (1) انظر جانباً من هذه المعلومات في الروض المعطار: 184 والمنتقى من فرحة الأنفس: 283. (2) ذكره ابن الخطيب في الإحاطة 1: 91 وصاحب نيل الابتهاج: 51 والسخاوي، ويبدو من الكتب التي لا تزال مفقودة.

[شنترة وخواصها] وقال ابن اليسع، عند ذكره مدينة شنترة (1) : إن من خواصّها أن القمح والشعير يزرعان فيها ويحصدان عند مضي أربعين يوماً من زراعته، وإن التفاح فيها دور كل واحدة ثلاثة أشبار وأكثر، قال لي أبو عبد الله الباكوري، وكان ثقة: أبصرت عند المعتمد بن عبّاد رجلاً من أهل شنترة أهدى إليه أربعاً من التفاح ما يقلّ الحامل على رأسه غيرها، دور كل واحدة خمسة أشبار، وذكر الرجل (2) أن المعتاد عندهم أقل من هذا، فإذا أرادوا أن يجيء بهذا العظم (3) قطعوا أصلها وأبقوا منه عشراً أو أقل وجعلوا تحتها دعامات من الخشب، انتهى. [شنش وسهيل وتدمير] وبحصن شنش (4) على مرحلة من المرية التوت الكثير، وفيها الحرير والقرمز، ويعرف واديها بوادي طبرنش. وبغربي مالقة عمل سهيلٍ، وهو عمل عظيم كثير الضياع، وفيه جبل سهيل لا يرى نجم سهيل بالأندلس إلى منه. ومن كور الأندلس الشرقية تدمير، وتسمى مصر أيضاً (5) لكثرة شبهها بها، لأن لها أرضاً يسيح عليها نهر في وقت مخصوص من السنة، ثم ينضب عنها، فتزرع كما تزرع أرض مصر، وصارت القصبة بعد تدمير مرسية، وتسمى البستان، لكثرة جناتها المحيطة بها، ولها نهرٌ يصب في قبليها.

_ (1) شنترة (Centra) في البرتغال من مدائن الأشبونة (لشبونة) إلى الشمال الشرقي منها، على نهر تاجه، وقد ردد السلفي الحديث عن تفاحها (تراجم وأخبار أندلسية: 40) . (2) زاد بعده في ك: بحضرة ابن عباد. (3) زاد في ك: وهذا القدر. (4) المغرب 2: 225. (5) أيضاً: زيادة من ك.

[أقاليم الأندلس وكور كل إقليم] واعلم أن جزيرة الأندلس - أعادها الله للإسلام - مشتملة على موسطة وشرق، وغرب: فالموسطة فيها من القواعد الممصرة التي كل مدينة منها مملكة مستقلة لها أعمال ضخام وأقطار متسعة: قرطبة، وطليطلة، وجيّان، وغرناطة، والمريّة، ومالقة؛ فمن أعمال قرطبة إستجة وبلكونة وقبرة ورندة وغافق والمدور وأسطبة وبيّانة واليسّانة والقصير (1) وغيرها، ومن أعمال طليطلة وادي الحجارة وقلعة رباح وطلمنكة وغيرها (2) ، ومن أعمال جيّان أبّذة وبيّاسة وقسطلّة وغيرها (3) ، ومن أعمال غرناطة وادي آش والمنكّب (4) ولوشة وغيرها،

_ (1) هذه التقسيمات هي التي أوردها ابن سعيد أيضاً في المغرب ولم يسقط المقري منها سوى " كزنة ومراد " وسيعود إلى ذكرها في الباب الرابع، وإلى تبيان المسافات بينها وبين قرطبة؛ وللتعريف بها أقول: استجة (Ucija) على بعد 56 ميلا جنوب قرطبة؛ وبلكونة (Balcuna) مركز كورة باسمها وكانت في زمن ابن سعيد آهلة بالسكان؛ وقبرة (Cabra) مركز كورة وتقع على بعد ثلاثين ميلاً جنوب شرقي قرطبة؛ ورندة (Ronda) من مدن تاكرنا على نهر ينسب إليه يصب في نهر لكه؛ وغانق (Gafic) بغرب حصن بطروش؛ والمدور (Almodavar) بينه وبين قطربة ستة عشر ميلاص؛ واسطبة (أو استبة) (Estepa) بينها وبين قرطبة ستة وثلاثون ميلا؛ وبيانة (Baena) إلى الشمال من قبرة؛ واليسانة (Lucana) بينها وبين قرطبة أربعون ميلاً وكانت تسمى مدينة اليهود لكثرتهم بها؛ والقصير (Al - Kosair) وهي كورة بينها وبين قرطبة ثمانية عشر ميلاً، وكان أهم أعمالها في زمن ابن سعيد هو حصن القصير في شرقي قرطبة على النهر. (2) طلمنكة: (Salamanqua) مدينة بثغر الأندلس بينها وبين وادي الحجارة عشرون ميلاً بنيت زمن الأمير محمد بن عبد الرحمن (الروض المعطار) . (3) جيان: (Jaen) على بعد 97 كيلومتراً شمالي غرناطة؛ وبياسة (Beaza) بينها وبين جيان عشرون ميلاً، وتطل على النهر الكبير، استولى عليها الروم سنة 623هـ؟؛ وقسطلة (Calzalilla) تبعد نحو عشرين ميلاص إلى الشمال من حيان. (4) المنكب: (Al - Munecar) كان حصناً قوياً، وهو اليوم فرضة صغيرة على البحر تابعة لمركز مطريل في مديرية غرناطة.

ومن أعمال المرية أندرش (1) وغيرها، ومن أعمال مالقة بلّش والحامة (2) وغيرهما، وببلّش من الفواكه ما بمالقة، وبالحامة العين الحارة على ضفة واديها. وأمّا شرق الأندلس ففيه من القواعد: مرسية، وبلنسية، ودانية والسهلة، والثغر الأعلى؛ فمن أعمال مرسية أوريولة والقنت ولورقة وغير ذلك (3) ، ومن أعمال بلنسية شاطبة ويضرب بحسنها المثل ويعمل بها الورق الذي لا نظير له وجزيرة شقر وغير ذلك (4) ، وأما دانية فهي شهيرة ولها أعمال، وأمّا السهلة (5) فإنّها متوسطة بين بلنسية وسرقسطة ولذا عدّها بعضهم من كور الثغر الأعلى ولها مدن وحصون، ومن أعمال الثغر الأعلى: سرقسطة وهي أم ذلك الثغر، وكورة لاردة، وقلعة رباح (6) ، وتسمى بالبيضاء، وكورة تطيلة، ومدينتها طرسونة، وكورة وشقة (7) ، ومدينتها تمريط، وكورة مدينة سالم، وكورة قلعة أيوب، ومدينتها مليانة (8) ، وكورة بربطانية (9) ، وكورة باروشة.

_ (1) أندرش: (Andarax) من أعمال المرية على نهر باسمها. (2) بلش: (Velez Malaga) ؛ والحامة (Alahama) . (3) مرسية: (Murcia) اختطت سنة 216هـ؟، فخلفت تدمير وأصبحت الكورة تسمى كلها باسمها وكانت القاعدة قبلها أوريولة (Orihuela) ؛ أما القنت (أو لقنت) فكانت مدينة من كورة تدمير وقيل في وصفها: مدينة صغيرة وهي اليوم عاصمة مديرية بحرية تسمى باسمها تقع جنوبي مديرية بلنسية وشرقي مديريتي البسيط ومرسية، وتعد من أكبر موانئ الساحل الشرقي. (4) بلنسية: (Valencia) من أكبر مدن الساحل الشرقي ازدهاراً في العصور الإسلامية، إلى الشمال من دانية على شاطئ البحر؛ وكانت تسمى مدينة التراب؛ وحصن شاطبة (Sativa) إلى الشمال من لقنت؛ وأما جزيرة شقر (Jucar) فهي مدينة على جزيرة في مصب نهر شقر (وادي شقر) وتسمى اليوم Al - cira وهي في مديرية بلنسية. (5) السهلة تسمى أيضاً شنتمرية الشرق (سهلة بني رزين - Santa Maria de Albarracin) وهي من كبار معاقل كورة شنتبرية (Santaver) وتمتد من كورة سرقسطة الجنوبية حتى كورتي وادي الحجارة وطليطلة. (6) قلعة رباح: مدينة تابعة لطيليطلة وموضعها يسمى اليوم (Castillo de Caltarava la Vieja) . (7) وشقة: (Huesca) من كور الثغر الأعلى، بينها وبين سرقسطة خمسون ميلاص وتقع إلى الشمال الشرقي منها. (8) ق ك: بليانة. (9) ق ك ج: برطانية؛ ط: برطيانة.

وأما غرب الأندلس ففيه: إشبيلية، وماردة، وأشبونة، وشلب؛ فمن أعمال إشبيلية شريش والخضراء ولبلة وغيرها، ومن أعمال ماردة بطليوس ويابرة وغيرهما، ومن أعمال أشبونة شنترين وغيرها، ومن أعمال شلب شنت مرية (1) وغيرها. [الجزر البحرية] وأما الجزر البحرية بالأندلس فمنها جزيرة قادس، وهي من أعمال إشبيلية، وقال ابن سعيد: إنها من كورة شريش، ولا منافاة لأن شريشاً من أعمال إشبيلية كما مر، قال: وبيد صنم قادس مفتاح، ولمّا ثار بقادس ابن أخت القائد أبي عبد الله بن ميمون - وهو عليّ بن عيسى قائد البحر بها - ظن أن تحت الصنم مالاً فهدمه فلم يجد شيئاً (2) ، انتهى. وهي - أعني جزيرة قادس - في البحر المحيط؛ وفي المحيط الجزائر الخالدات السبع، وهي غربي مدينة سلا تلوح للناظر في اليوم الصاحي الخالي الجوّ من الأبخرة الغليظة، وفيها سبعة أصنام على أمثال الآدميين، تشير أن لا عبور ولا مسلك وراءها. وفيه بجهة الشمال جزائر السعادات، وفيها من المدن والقرى ما لا يحصى، ومنها يخرج قوم يقال لهم المجوس على دين النصارى: أولها جزيرة برطانية، وهي بوسط البحر المحيط بأقصى شمال الأندلس، ولا جبال فيها، ولا عيون، وإنّما يشربون من ماء المطر، ويزرعون عليه. قال ابن سعيد: وفيه جزيرة شلطيش (3) ، وهي آهلة وفيها مدينة، وبحرها

_ (1) ق ك ط: شنت رية؛ ج: شنتمونية. (2) انظر الروض المعطار: 147. (3) شلطيش: (Saltes) جزيرة تقع على مقربة من شلب، وكانت في عصر ملوك الطوائف من أملاك البكريين أسرة العالم اللغوي الجغرافي أبي عبيد البكري؛ وفي اليوم من مديرية ولبة. (وفي النسخ: شليطش) .

كثير السمك، ومنها يحمل مملّحاً إلى إشبيلية، وهي من كورة لبلة (1) مضافة إلى عمل أونبة، انتهى. [قرطاجنة وخواصها] وقال بعضهم، لما أجرى ذكر قرطاجنة من بلاد الأندلس: إن الزرع في بعض أقطارها يكتفي بمطرة واحدة، وبها أقواس من الحجارة المقربصة (2) ، وفيها من التصاوير والتماثيل وأشكال الناس وصور الحيوانات ما يحير البصر والبصيرة، ومن أجب بنائها الدواميس (3) ، وهي أربعة وعشرون على صف واحد من حجارة مقربصة، طول كل داموس مائة وثلاثون خطوة في عرض ستين خطوة، وارتفاع كل واحد أكثر (4) من مائتي ذراع، بين كل داموسين أنقاب محكمة تتصل فيها المياه من بعضها إلى بعض في العلوّ الشاهق بهندسة عجيبة وإحكام بديع، انتهى. قلت: أظن هذا غلطاً؛ فإن قرطاجنة التي بهذه الصفة قرطاجنة إفريقية (5) ، لا قرطاجنة الأندلس، والله أعلم. وقال صاحب مناهج الفكر، عندما ذكر قرطاجنة: وهي على البحر الرومي مدينة قديمة بقي منها آثار، لها فحص طوله ستة أيام وعرضه يومان

_ (1) لبلة: (Niebla) كانت قاعدة كورة تسمى باسمها وهي على بعد خمسين كيلومتراص غربي غشبيلية وتتبع مديرية ولبة (Huelva) . (2) مقربصة أو مقربة بمعنى محكمة الأساس؛ يقال قربص البيت: قاس طوله وعرضه ليساوي بين كل حائط وما يقابله. (3) الدواميس هنا: بمعنى الأحواض أو ما يشبه " الهواويس "، جمع داموس، وقد تستعمل بمعنى " السجن " ومنه الديماس. (4) ج ط ق: أطول. (5) انظر جغرافية البكري - المغرب في ذكر بلاد أفريقية: 44 ففيه وصف لقرطاجنة افريقية يؤكد أن المقري على صواب.

معمور بالقرى، انتهى. وذكر قبل ذلك في لورقة أن بناحيتها يوجد حجر اللازورد. وفي البحر الشامي الخارج من المحيط جزيرتا ميورقة ومنورقة، وبينهما خمسون ميلاً، وجزيرة ميورقة مسافة يوم، بها مدينة حسنة، وتدخلها ساقية جارية على الدوام، وفيها يقول ابن اللّبّانة (1) : بلدٌ أعارته الحمامة طوقها ... وكساه حلّة ريشه الطاووس (2) فكأنّما الأنهار فيه مدامةٌ ... وكأنّ ساحات الديار كؤوس وقال يخاطب ملكها (3) ذلك الوقت: وغمرت (4) بالإحسان أرض ميورقةٍ ... وبنيت ما لم يبنه الاسكندر وجزيرة يابسة. واستقصاء ما يتعلق بهذا الفصل يطول، ولو تتبّع لكان تأليفاً مستقلاً، وما أحسن قول ابن خفاجة (5) :

_ (1) ابن اللبانة: أبو بكر محمد بن عيسى شاعر دولة المعتمد وصاحب المراثي فيه ومؤلف كتاب سقيط الدرر ولقيط الزهر في شعر ابن عباد، توفي سنة 507 بميورقة وسيرد ذكره في النفح كثيراً. (راجع ترجمته في المغرب 2: 409 والمعجب: 208 والقلائد: 245 والوافي: 4: 297 والذخيرة (القسم الثالث 209) والمطرب: 178 وفوات الوفيات 2: 514 والتكملة: 410 وله موشحات في دار الطراز. (2) البيتان في " المقتطفات ": 40 وينسب البيتان لابن قلاقس الإسكندري، قالهما في مدينة مسينة بصقلية حين زارها، وهما في ديوانه: 56 وكذلك ينسبان لابن حمديس (ديوانه: 553) حسبما ورد في مسالك الأبصار، ونسبهما صاحب المغرب (2: 466) لابن اللبانة. (3) كان صاحب ميورقة في زمن ابن اللبانة هو مبشر بن سليمان املقب ناصر الدولة. (4) ق ج: وعمرت. (5) أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة شاعر الطبيعة الأكبر، توفي سنة 523؛ نشر ديوانه بتحقيق الدكتور السيد مصطفى غازي (الإسكندرية 1960) وفي ص: 437 ثبت جامع للمصادر التي ترجمت لابن خفاجة أو أوردت ذكره وشعره؛ وهذه الأبيات في الديوان: 136.

إنّ للجنّة بالأندلس ... مجتلى حسنٍ وريّا نفس فسنا صبحتها من شنبٍ ... ودجى ليلتها من لعس وإذا ما هبت الريح صباً ... صحت واشوقي إلى الأندلس وقال بعضهم في طليطلة: زادت طليطلةٌ على ما حدّثوا ... بلدٌ عليه نضرةٌ ونعيم الله زيّنه فوشّح خصره ... نهر المجرّة والغصون نجوم [رسالة أبي البحر في تغاير مدن الأندلس] ولا حرج إن أوردنا هنا ما خاطب به أديب الأندلس أبو بحر صفوان بن إدريس الأمير عبد الرحمن ابن السلطان يوسف بن عبد المؤمن بن علي، فإنّه مناسب، ونصّه (1) : مولاي، أمتع الله ببقائك الزمان وأبناءه، كما ضمّ على حبّك أحناءهم وأحناءه، ووصل لك ما شئت من اليمن والأمان، كما نظم قلائد فخرك على لبّة الدهر نظم الجمان، فإنّك الملك الهمام، والقمر التمام، أيّامك غرر وحجول، وفرند بهائها في صفحات الدهر يجول، ألبست الرعية برود التأمين، فتنافست فيك من نفيسٍ ثمين، وتلقّت دعوات خلدك لها باليمين، فكم للناس، من أمنٍ بك وإيناس، وللأيام، من لوعة فيك وهيام، وللأقطار، من لبانات لديك وأوطار، وللبلاد، من قراع لها على تملكك لها وجلاد، يتمنّون شخصك الكريم على الله ويقترحون، ويغتبقون في رياض ذكرك العاطر بمدام حبّك ويصطبحون، " كلّ حزبٍ بما لديهم فرحون " محبةً من الله ألقاها لك حتى على الجماد، ونصراً

_ (1) وردت هذه الرسالة في أوراق مخطوطة رقم 421 بالإسكوريال، وهي مقتطفات لعلها من نفح الطيب ويحال عليها بلفظة " المقتطفات ".

مؤزّراً تنطق (1) به ألسنة السيوف على أفواه الأغماد، ومن أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها، ومن طوى حسن نية ختم الله له بالجميل إعادتها وإبداءها، ومن قدّم صالحاً فلا بدّ أن يوازيه، ومن يفعل الخير لا يعدم جوازيه (2) . ولما تخاصمت فيك من الأندلس الأمصار، وطال بها الوقوف على حبّك والاقتصار، كلّها يفصح قولاً، ويقول: أنا أحقّ وأولى، ويصيخ إلى إجابة دعوته ويصغي، ويتلو إذا بشّر بك " ذلك ما كنّا نبغ "، تنمّرت حمص غيظاً، وكادت تفيظ فيظاً، وقالت: ما لهم يزيدون وينقصون، ويطمعون ويحرصون " إن يتّبعون إلاّ الظنّ وإن هم إلاّ يخرصون ". لي (3) السّهم الأسدّ، والساعد الأشدّ، والنهر الذي يتعاقب عليه الجزر والمدّ، أنا مصر الأندلس والنيل نهري، وسماء (4) التأنّس والنجوم زهري، إن تجاريتم في ذلك (5) الشرف، فحسبي أن أفيض في ذكر الشرف (6) ، وإن تبجحتم (7) بأشرف اللبوس، فأي إزار اشتملتموه كشنتبوس (8) ، لي ما شئت من أبينة رحاب، وروضٍ يستغني بنضرته عن السّحاب، قد ملأت زهراتي وهاداً ونجاداً، وتوشّح سيف نهري بحدائقي نجاداً، فأنا أولاكم بسيّدنا الهمام وأحقّ، " الآن حصحص الحق ". فنظرتها قرطبة شزراً، وقالت: لقد كثّرت نزرا، وبذرت في الصخر

_ (1) ج: أنطق. (2) من قول الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس (3) ك: ألهم. (4) ك: وسمائي. (5) ق ج: ذكر. (6) يعني ما يسمى " شرف إشبيلية "؛ راجع ص: 158 - 159. (7) ك: تبجحتم. (8) ط: كشنبوس. ج: كشوش.

الأصمّ بزرا، كلام العدى ضربٌ من الهذيان (1) ، وأنّى للإيضاح والبيان، متى استحال المستقبح مستحسناً، ومن أودع أجفان المهجور وسناً " أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسناً ". يا عجباً للمراكز تقدّم على الأسنة، وللأثفار تفضّل على الأعنّة، إن ادّعيتم سبقا، فما عند الله خيرٌ وأبقى: لي البيت المطهّر الشريف، والاسم الذي ضرب عليه رواقه التعريف، في بقيعي محل الرجال الأفاضل، فليرغم أنف المناضل، وفي جامعي مشاهد ليلة القدر، فحسبي من نباهة القدر، فما لأحدٍ أن يستأثر عليّ بهذا السيّد الأعلى، ولا أرتضي (2) له أن يوطئ غير ترابي نعلاً، فأقرّوا لي بالأبوة، وانقادوا على حكم البنوّة، " ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّةٍ " وكفوا عن تباريكم " ذلكم خيرٌ لكم عند باريكم ". فقالت غرناطة: لي المعقل الذي يمتنع ساكنه (3) من النجوم، ولا تجري إلا تحته جياد الغيم (4) السّجوم، فلا يلحقني من معاند ضررٌ ولا حيف، ولا يهتدي إليّ خيالٌ طارق ولا طيف، فاستسلموا قولاً وفعلاً، فقد أفلح اليوم من استعلى، لي بطاح تقلدت من جداولها أسلاكاً، وأطلعت كواكب زهرها فعادت أفلاكاً، ومياه تسيل على أعطافي كأدمع العشاق، وبرد نسيم يردّ ذماء (5) المستجير بالانتشاق، فحسني لا يطمع فيه ولا يحتال، فدعوني فكل ذات ذيل تختال، فأنا أولى بهذا السيّد الأعدل، وما لي به من عوض ولا بدل، ولم لا يعطف عليّ عنان مجده ويثني، وإن أنشد يوماً فإياي يعني (6) :

_ (1) من قول المتنبي يمدح كافوراً: ولله سر في علاك وإنما ... كلام العدا ضرب من الهذيان (2) ك: أرضي. (3) المقتطفات: يمنع صاحبه. (4) ك: الغيث. (5) ط: دماء. (6) من شعر بعض الأعراب، وقبله: أحب بلاد الله ما بين منعج ... إلي وسلمى أن يصوب سحابها

بلاد بها عقّ الشباب تمائمي ... وأول أرضٍ مسّ جلدي ترابها فما لكم تعتزون لفخري وتنتمون، وتتأخرون في ميداني وتتقدمون، تبرأوا إليّ مما تزعمون " ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون ". فقالت مالقة: أتتركوني بينكم هملاً، ولم تعطوني في سيّدنا أملاً، ولم ولي البحر العجاج، والسّبل الفجاج (1) ، والجنّات الأثيرة، والفاكهة الكثيرة؛ لديّ من البهجة ما تستغني به الحمام عن الهديل، ولا تجنح الأنفس الرقاق الحواشي إلى تعويض عنه ولا تبديل، فما لي لا أعطى في ناديكم كلاماً، ولا أنشر في جيش فخاركم أعلاماً؟ فكأن الأمصار نظرتها ازدراءً، فلم تر لحديثها في ميدان الذكر إجراءً، لأنها موطن لا يحلى منه بطائلٍ، ونظن البلاد تأوّلت فيها قول القائل: إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخيرٌ من إجابته السّكوت فقالت مرسية: أمامي تتعاطون الفخر، وبحضرة الدّرّ تنفّقون الصخر؟ إن عدّت المفاخر، فلي منها الأول والآخر، أين أوشالكم من بحري، وخرزكم من لؤلؤ نحري، وجعجعتكم من نفثات سحري؟ فلي الروض النّضير، والمرأى الذي ما له من نظير، وزنقاتي (2) التي سار مثلها في الآفاق، وتبرقع وجه جمالها بغرّة الإصفاق، فمن دوحات، كم لها من بكور وروحات، ومن أرجاء، إليها تمدّ أيدي الرجاء، فأبنائي فيها (3) في الجنة الدنيوية مودعون، يتنعمون فيما يأخذون ويدعون، ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدّعون. فانقادوا لأمري، وحاذروا اصطلاء جمري، وخلّوا

_ (1) في نسخة بهامش ك: والسيل الثجاج. (2) الزنقات من متفرجات مرسية. (انظر المغرب 2: 246) . (3) ط ك: فيه.

بيني وبين سيّدنا أبي زيد، وإلا ضربتكم ضرب زيد (1) ، فأنا أولاكم بهذا الملك المستأثر بالتعظيم " وما يلقّاها إلاّ ذو حظٍّ عظيم ". فقالت بلنسية: فيم الجدال والقراع؟ وعلام الاستهام والاقتراع؟ وإلام التعريض والتصريح؟ وتحت الرّغوة اللبن الصريح (2) ، أنا أحوزه من دونكم، فأخمدوا ناري تحرّككم وهدونكم، فلي المحاسن الشامخة الأعلام، والجنات التي تلقي إليها الآفاق يد الاستسلام، وبرصافتي وجسري أعارض مدينة السلام (3) ، فأجمعوا على الانقياد لي والسلام، وإلاّ فعضّوا بناناً، واقرعوا أسناناً، فأنا حيث لا تدركون وأنّى، ومولانا لا يهلكنا بما فعل السفهاء منّا. فعند ذلك ارتمت جمرة تدمير بالشّرار، واستدّت (4) أسهمها لنحور الشّرار، وقالت: عش رجباً، تر عجباً، أبعد العصيان والعقوق، تتهيئين لرتب ذوي الحقوق؟ هذه سماء الفخر فمن ضمك أن تعرجي، ليس بعشّك فادرجي (5) ، لك الوصب والخبل " آلآن وقد عصيت قبل "، أيّتها الصانعة الفاعلة، من أدّاك أن تطرّي وما أنت ناعلة (6) ؟ ما الذي يجديك الروض والزّهر؟ أم ما يفيدك الجدول والنهر؟ وهل يصلح العطّار وما أفسد الدّهر (7) ؟ هل أنت إلاّ محطّ رحل النفاق، ومنزلٌ ما

_ (1) إشارة إلى قول النحويين: " ضرب زيد عمراً ". (2) هذا من أمثالهم؛ أي أن الظاهر لا يحجب الحقيقة. (3) تشتهر بلنسية برصافتها وجسرها، وكذلك بغداد في قول علي بن الجهم: " عيون المها بين الرصافة والجسر ". (4) ط ق ج: واشتدت. (5) من أمثالهم؛ أي ليس هذا من الأمر الذي لك فيه حق فدعيه. (انظر فصل المقال: 319) . (6) ك: أدراك أن تضربي وما انت فاعلة؛ ق ك ط ج دوزي: أن تضربي؛ ج: فاعلة. وكله خطأ في الجميع، وصوابه من المثل " أطري فإنك ناعلة " أي خذي طرر الوادي وهي نواحيه. (فصل المقال: 147 وفهرسته) . (7) من قول الشاعر في عجوز: تروح إلى العطار تبغي صلاحها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر

لسوق الخصب فيه من نفاق؟ ذراك لا يكتحل الطرف فيه بهجوع، وقراك لا يسمن ولا يغني من جوع، فإلام تبرز الإماء في منصّة العقائل؟ ولكن اذكري قول القائل (1) : بلنسيةٌ بيني عن القلب سلوةً ... فإنّك روضٌ لا أحنّ لزهرك وكيف يحبّ المرء داراً تقسّمت ... على صارمي جوعٍ وفتنة مشرك بيد أنّي أسأل الله تعالى أن يوقد من توفيقك ما خمد، يسيل من تسديدك ما خمد، ولا يطيل عليك في الجهالة الأمد، وإيّاه سبحانه نسأل أي يردّ سيّدنا ومولانا إلى أفضل عوائده، ويجعل مصائب أعدائه من فوائده، ويمكّن حسامه من رقاب المشغّبين، ويبقيه وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين، ويصل له تأييداً وتأبيداً، ويمهّد له الأيام حتى تكون الحرار لعبيد عبيده (2) عبيداً، ويمد على الدنيا بساط سعده، ويهبه ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده: آمين آمين لا أرضى بواحدةٍ ... حتّى أضيف إليها ألف آمينا ثم السلام الذي يتأنّق عبقاً ونشراً، ويتألّق رونقاً وبشراً، على حضرتهم العليّة، ومطالع أنوارهم الجليّة (3) ، ورحمة الله تعالى وبركاته، انتهى. [عودٌ إلى ذكر غرناطة] ولما ألمّ الرحّلة ابن بطوطة في رحلته بدخوله لبلاد (4) الأندلس - أعادها

_ (1) سينسبهما المقزي ص: 180 لابن عياش (وهما له في زاد المسافر: 94) وفي ياقوت (بلنسية) : أنهما لابن حريق. (2) ط ق والمقتطفات: اعبيده عبيداً. (3) ك: السنية الجلية. (4) ك: بدخوله بلاد.

الله تعالى للإسلام - قال (1) : فوصلت إلى بلاد الأندلس - حرسها الله تعالى - حيث الأجر موفور للساكن، والثواب مذخور للمقيم والظاعن، إلى أن قال عند ذكره (2) غرناطة ما نصّه: قاعدة بلاد الأندلس، وعروس مدنها، وخارجها لا نظير له في الدنيا، وهو مسيرة أربعين ميلاً، يخترقه نهر شنيل المشهور، وسواه من الأنهار الكثيرة، والبساتين (3) والجنّات والرياضات والقصور، والكروم محدقة بها من كل جهة، ومن عجيب مواضعها عين الدمع، وهو جبل فيه الرياضات والبساتين، لا مثل له بسواها، انتهى. وقال الشقندي: غرناطة دمشق بلاد الأندلس، ومسرح الأبصار، ومطمح الأنفس، ولم تخل من أشرافٍ أماثل، وعلماء أكابر، وشعراء أفاضل، ولو لم يكن بها إلا ما خصّها الله تعالى به من كونها قد نبغ فيها النساء الشواعر كنزهون القلعية والرّكونية (4) وغيرهما، وناهيك بهما في الظّرف والأدب، انتهى. ولبعضهم يتشوّق إلى غرناطة فيما ذكر بعض المؤرخين، والصواب أن الأبيات قيلت في قرطبة كما مرّ (5) ، والله أعلم: أغرناطة الغرّاء هل لي أوبةٌ ... إليك؟ وهل يدنو لنا ذلك العهد؟ سقى الجانب الغربيّ منك غمائمٌ (6) ... وقعقع في ساحت روضتك الرّعد لياليك أسحارٌ، وأرضك جنّةٌ، ... وتربك في استنشاقها عنبرٌ ورد وقال ابن مالك الرّعيني:

_ (1) رحلة ابن بطوطة: 665، 670. (2) ق: عند ذكر. (3) ك: والبساتين الجليلة؛ وسقطت اللفظتان من ج. (4) سيجيء التعريف بهما وبكثير من شواعر الأندلس في النفح. (5) انظر ص: 155 فيما تقدم. (6) ك: غمامة.

رعى الله بالحمراء عيشاً قطعته ... ذهبت به للأنس، والليل قد ذهب ترى الأرض منها فضّةً فإذا اكتست ... بشمس الضّحى عادت سبيكتها ذهب وهو القائل: لا تظنّوا أنّ شوقي خمدا ... بعدكم أو أنّ دمعي جمدا كيف أسلو عن أناسٍ مثلهم ... قلّ أن تبصر عيني أحدا وغرناطة من أحسن بلاد الأندلس، وتسمى بدمشق الأندلس، لأنّها أشبه شيء بها، ويشقّها نهر حدره، ويطلّ عليها الجبل المسمى بشلير الذي لا يزول الثلج عنه شتاءً وصيفاً، ويجمد عليه حتى يصير كالحجر الصّلد، وفي أعلاه الأزاهر الكثيرة، وأجناس الأفاويه الرفيعة، ونزل بها أهل دمشق لمّا جاءوا إلى الأندلس لأجل الشبه المذكور، وقرى غرناطة - فيما ذكر بعض المتأخرين - مائتان وسبعون قرية. وقال ابن جزيّ (1) مرتّب رحلة ابن بطوطة، بعد ذكره كلامه، ما نصّه: قال ابن جزيّ: لولا خشية أن أنسب إلى العصبية لأطلت القول في وصف غرناطة، فقد وجدت مكانه، ولكنّ ما اشتهر كاشتهارها لا معنى إطالة القول فيه، ولله درّ شيخنا أبي بكر ابن محمد بن شبرين السبتي (2) نزيل غرناطة حيث يقول: رعى الله من غرناطة متبوّأ ... يسرّ حزيناً أو يجير طريداً تبرّم منها صاحبي عندما رأى ... مسارحها بالثلج عدن جليداً

_ (1) رحلة ابن بطوطة: 670. (2) ابن شبرين (وورد خطأ: شيرين وفي ج: بشرين) هو محمد بن أحمد بن محمد بن شبرين (- 747) ولد بسبتة وأهله من إشبيلية أصلاً، كان تاريخياً شاعراً كاتباً، وهو من شيوخ لسان الدين (انظر الإحاطة 2: 174 - 182) . وأبياته في الإحاطة (1: 104 تحقيق عنان) .

هي الثّغر صان الله من أهلت به ... وما خير ثغرٍ لا يكون بروداً؟! وقال ابن سعيد عندما أجرى ذكر قرية نارجة - وهي قريةٌ كبيرةٌ تضاهي المدن، قد أحدقت بها البساتين، ولها نهرٌ يفتن الناظرين، وهي من أعمال مالقة -: إنّه اجتاز مرة عليها مع والده أبي عمران موسى، وكان ذلك زمان صباغة (1) الحرير عندهم، وقد ضربوا في بطن الوادي بين مقطعاته خيماً، وبعضهم يشرب وبعضهم يغني ويطرب، وسألوا: بم يعرف ذلك الموضع؟ فقالوا: الطراز، فقال والدي: اسم طابق مسمّاه، ولفظ وافق معناه، وقد وجدت مكان القول ذا سعةٍ ... فإن وجدت لساناً قائلاً فقل ثم قال أجز: بنارجةٍ حيث الطراز المنمنم فقلت: أقم فوق نهرٍ ثغره يتبسّم فقال: وسمعك نحو الهاتفات فإنّها فقلت: لما أبصرت من بهجة تترنّم فقال: أيا جنّة الفردوس لست بآدمٍ فقلت: فلا يك حظّي من جناك التندّم فقال: يعزّ علينا أن نزورك مثل ما فقلت: يزور خيالٌ من سليمى مسلّم فقال: فلو أنني أعطى الخيار لما عدت فقلت: محلّك لي عينٌ بمرآك تنعم فقال: بحيث الصّبا والطّلّ من نفثاتها

_ (1) ك: صناعة.

فقلت: وقت لسع روض فيه للنهر أرقم فقال: فوا أسفي إن لم تكن لي عودةٌ فقلت: فكن مالكاً إنّي عليك متمّم فقال: فأحسب هذا آخر العهد بيننا فقلت: وقد يلحظ الرّحمن شوقي فيرحم فقال: سلامٌ سلامٌ لا يزال مردّداً فقلت: عليك ولا زالت بك السّحب تسجم [بلنسية وبعض قراها] وقال ابن سعيد (1) : إن كورة بلنسية من شرق الأندلس تنبت الزعفران (2) ، وتعرف بمدينة التراب، وبها كمثرى تسمى الأرزة (3) في قدر حبّة العنب، قد جمع مع حلاوة المطعم (4) ذكاء الرائحة، إذا دخل داراً عرف بريحه، ويقال: إن ضوء بلنسية يزيد على ضوء سائر بلاد الأندلس، وبها منازه (5) ومسارح، ومن أبدعها وأشهرها الرّصافة ومنية ابن أبي عامر. وقال الشرف أبو جعفر بن مسعدة الغرناطي من أبيات فيها: هي الفردوس في الدنيا جمالاً ... لساكنها وكارهها (6) البعوض وقال بعضهم فيها (7) :

_ (1) انظر جانباً من هذا الوصف في المغرب 2: 297 - 298. (2) ك: ينبت بها الزعفران. (3) دوزي: الأزرة. وفي التعليقات محاولة للربط بينها وبين لفظة (Azerola) المشتقة من الزعور. (4) ك: الطعم. (5) ك: منارة. (6) دوزي: مكارهها، ولعل فيه إشارة إلى الحديث " حفت الجنة بالمكاره ". (7) سيرد البيتان في الباب السابع من هذا الكتاب.

ضاقت بلنسية بي ... وذاد عنّي غموضي رقص البراغيث فيها ... على غناء البعوض وفيها لابن الزقاق البلنسي (1) : بلنسيةٌ إذا فكّرت فيها ... وفي آياتها أسنى البلاد وأعظم شاهدي منها عليها ... وأنّ جمالها للعين بادي كساها ربّها ديباج حسنٍ ... له علمان من بحرٍ ووادي وقال ابن سعيد أيضاً: أنشدني والدي قال: أنشدني مروان بن عبد الله ابن عبد العزيز ملك بلنسية (2) لنفسه بمراكش قوله (3) : كأنّ بلنسيةً كاعبٌ ... وملبسها سندسٌ أخضر إذا جئتها سترت نفسها ... بأكمامها فهي لا تظهر وأمّا قول أبي عبد الله بن عياش " بلنسية بيني - البيتين " وقد سبقا (4) ، فقال ابن سعيد: إن ذلك حيث صارت ثغراً يصابحها العدوّ ويماسيها، انتهى. وقال أبو الحسن بن حريق يجاوب ابن عياش (5) : بلنسيةٌ قرارة كلّ حسنٍ ... حديثٌ صحّ في شرقٍ وغرب

_ (1) ديوان ابن الزقاق: 139 وانظر التخريجات للمقطوعة: 31. (2) ولي بلنسية في آخر عهد المرابطين حتى قام عليه جند بلنسية سنة 539 وبايعوا لابن عياض ملك مرسية، فانتقل إلى ميورقة ومنها إلى مراكش، وقد أطنب والد ابن سعيد في مدحه (المغرب 2: 300 - 301) . (3) البيتان في ياقوت: (بلنسية) . (4) انظر ما تقدم ص: 175. (5) ابو الحسن علي بن حريق (- 622) من شعراء زاد المشافر؛ ترجمته في التكملة 2: 679 (كوديرة) وزاد المسافر: 22 وسيرد له ذكر كثير في النفح، وانظر مقصورة حازم 1: 142 وقد وردت أبياته في زاد المسافر: 94 وياقوت: (بلنسية) .

فإن قالوا محلّ غلاء سعرٍ ... ومسقط ديمتي طعنٍ وضرب فقل هي جنّةٌ حفّت رباها ... بمكروهين من جوعٍ وحرب وقال الرّصافي في رصافتها (1) : ولا كالرّصافة من منزلٍ ... سقته السحائب صوب الوليّ أحنّ إليها ومن لي بها ... وأين السّريّ من الموصليّ وقال ابن سعيد: وبرصافة بلنسية مناظر وبساتين ومياه، ولا نعلم في الأندلس ما يسمى بهذا الاسم إلا هذه ورصافة قرطبة، انتهى. ومن أعمال بلنسية قرية المنصف التي منها الفقيه الزاهد أبو عبد الله المنصفي وقبره كان بسبتة يزار، رحمه الله تعالى، ومن نظمه (2) : قالت لي النّفس أتاك الردى ... وأنت في بحر الخطايا مقيم فما ادّخرت الزاد، قلت: اقصري ... هل يحمل الزاد لدار الكريم ومن عمل بلنسية قرية بطرنة، وهي التي كانت فيها الوقيعة المشهورة للنصارى على المسلمين، وفيها يقول أبو إسحاق بن معلّى الطرسوني (3) : لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم ... حلل الحرير عليكم ألوانا ما كان أقبحهم وأحسنكم بها ... لو لم يكن ببطرنةٍ ما كانا ومن عمل بلنسية متّيطة التي نسب إليها جماعةٌ من العلماء والأدباء.

_ (1) ديوان الرصافي: 124 نقلاً عن النفح. (2) انظر المغرب 2: 354 وسيترجم في النفح لأبي الحجاج المنصفي. (3) إبراهيم بن معلى (ق ك: يعلى؛ ط: علي الطرسوسي) الطرسوني شاعر اشتهر بمدح المقتدر بن هود، وطرسونة بلدة من مدن الثغر (ترجم له فيالذخيرة، القسم الثالث: 264 والمغرب 2: 457) وبيتاه في الذخيرة: 269 قالهما يصف خروج أهل لنسية للقاء العدو في غير ثياب الحرب، وتدعى هذه بوقعة بطرنة عام 455 وقد فصل ابن عذاري فيها القول 3: 253.

ومن عمل بلنسية مدينة أندة التي في جبلها معدن الحديد، وأما رندة - بالراء - فهي في متوسط الأندلس، ولها حصنٌ يعرف بأندة أيضاً. [متفرجات إشبيلية] وفي إشبيلية - أعادها الله - من المتفرّجات والمتنزهات كثيرٌ، ومن ذلك مدينة طريانة، فإنّها من مدن إشبيلية ومتنزهاتها، وكذلك تيطل، فقد ذكر ابن سعيدٍ جزيرة تيطل (1) في المتفرجات. [موسى بن سعيدٍ يأبى فراق الأندلس] وقال أبو عمران موسى بن سعيدٍ في جوابه لأبي يحيى صاحب سبتة لما استوزره مستنصر بني عبد المؤمن، وكتب إلى المذكور يرغبه في النقلة عن الأندلس إلى مرّاكش، ما نصّ محلّ الحاجة منه: وأمّا ما ذكر سيّدي من التخيير بين ترك الأندلس وبين الوصول إلى حضرة مراكش، فكفى الفهم العالي من الإشارة قول القائل: والعزّ محمودٌ وملتمسٌ ... وألذّه ما نيل (2) في الوطن فإذا نلت بك السماء في تلك الحضرة، فعلى من أسود فيها؟ ومن ذا أضاهي بها؟ لا رقت بي همةٌ إن لم أكن ... فيك قد أمّلت فوق (3) الأمل وبعد هذا، فكيف أفارق الأندلس وقد علم سيّدي أنها جنّة الدنيا بما

_ (1) ط ق ج: قبطل - في الموضعين -. (2) ك: ما كان. (3) ك: كل.

حباها الله به من اعتدال الهواء، وعذوبة الماء، وكثافة الأفياء، وأن الإنسان لا يبرح فيها بين قرّة عينٍ وقرار نفسٍ: هي الأرض لا وردٌ لديها مكدّرٌ ... ولا ظلّ مقصورٌ ولا روضٌ مجدب أفقٌ صقيلٌ، وبساطٌ مدبّجٌ، وماءٌ سائحٌ، وطائرٌ مترنمٌ بليلٌ، وكيف يعدل الأديب عن أرضٍ على هذه الصفة؟ فيا سموأل الوفاء، ويا حاتم السماح، ويا جذيمة الصفاء، كمّل لمن أمّلك النعمة بتركه في موطنه، غير مكدّرٍ لخاطره بالتحرك من معدنه، ملتفتاً إلى قول القائل (1) : وسوّلت لي نفسي أن أفارقها ... والماء في المزن أصفى منه في الغدر فإن أغناه اهتمام مؤمّله عن ارتياد المراد، وبلّغه دون أن يشد قتباً ولا أن ينضي عيساً غاية المراد، أنشد ناجح المرغوب، بالغ المطلوب: وليس الذي يتّبّع الوبل رائداً ... كمن جاءه في داره رائد الوبل وربّ قائلٍ إذا سمع هذا التبسط على الأماني: ماله تشطّط، وعدل عن سبيل التأدب وتبسّط؟ ولا جواب عندي إلاّ قول القائل: فهذه خطّة مازلت أرقبها ... فاليوم أبسط آمالي وأحتكم وما لي لا أنشد ما قاله المتنبي في سيف الدولة (2) : ومن كنت بحراً له يا عليّ ... لم يقبل الدّرّ إلاّ كبارا انتهى المقصود منه.

_ (1) هذا البيت من شعر الأعمى التطيلي يقوله في إزعامه مفارقة إشبيلية. (انظر ديوانه: 49) . (2) شرح الواحدي: 513.

[شريش ومجبناتها] وقال الحجاري: إن مدينة شريش (1) بنت إشبيلية، وواديها ابن واديها، ما أشبه سعدى بسعيد، وهي مدينةٌ جليلةٌ ضخمة الأسواق، لأهلها هممٌ، وظرفٌ في اللباس، وإظهار الرفاهية، وتخلّقٌ بالآداب، ولا تكاد ترى بها إلاّ عاشقاً ومعشوقاً، ولها من الفواكه ما يعم ويفضل، وممّا اختصت به إحسان الصنعة في المجبنات، وطيب جبنها يعين على ذلك، ويقول أهل الأندلس: من دخل شريش ولم يأكل بها المجبنات فهو محروم، انتهى. (والمجبنات: نوع من القطائف يضاف إليها الجبن في عجينها، وتقلى بالزيت الطيّب) (2) . [شلب وكورة أكشونبة] وفي شلب (3) يقول الفاضل الكاتب أبو عمرو (4) بن مالك بن سيدمير: أشجاك النسيم حين يهبّ ... أم سنى البرق إذ يخبّ ويخبو أم هتوفٌ على الأراكة تشدو ... أم هتونٌ من الغمامة سكب كلّ هذاك للصّبابة داعٍ ... أيّ صبٍّ دموعه لا تصبّ أنا لولا النسيم والبرق والور ... ق وصوب الغمام ما كنت أصبو ذكرتني شلباً وهيهات منّي ... بعدما استحكم التّباعد شلب وتسمى أعمال شلب كورة أكشونبة، وهي متصلة بكورة أشبونة، وهي - أعني أكشونبة - قاعدةٌ جليلةٌ، لها مدنٌ ومعاقلٌ، ودار ملكها قاعدة شلب،

_ (1) شريش (Jerez) إلى الجنوب الشرقي من بطليوس، وتشتهر اليوم بنبيذها. (2) والمجبنات ... الطيب: سقطت من ق ط ج. (3) شلب (Silves) قاعدة كورة اكشونية، وهي في البرتغال الحالية. (4) في ج: أبو عمر؛ والأبيات في " المقتطفات ": 43.

وبينها وبين قرطبة سبعة أيام، ولما صارت لبني عبد المؤمن ملوك مراكش أضافوها إلى كورة إشبيلية، وتفتخر شلب بكون ذي الوزارتين ابن عمّار منها (1) ، سامحه الله. ومنها القائد أبو مروان عبد الملك بن بدران، وربما قيل " ابن بدرون " (2) الأديب المشهور، شارح قصيدة ابن عبدون التي أولها (3) : الدّهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصّور وهذا الشرح شهيرٌ بهذه البلاد المشرقية، ومن نظم ابن بدرون المذكور قوله: العشق لذّته التّعنيق والقبل ... كما منغّصه التثريب والعذل يا ليت شعري هل يقضى وصالكم ... لولا المنى لم يكن ذا العمر يتّصل ومنها نحويّ زمانه وعلاّمته أبو محمد عبد الله بن السّيد البطليوسي (4) ، فإن شلباً بيضته، ومنها كانت حركته ونهضته، كما في الذخيرة، وهو القائل: إذا سألوني عن حالتي ... وحاولت عذراً فلم يمكن أقول: بخيرٍ، ولكنّه ... كلامٌ يدور على الألسن وربّك يعلم ما في الصّدور ... ويعلم خائنة الأعين

_ (1) ابن عمار من شنبوس وهي قرية صغيرة من قرى شلب، راجع ترجمة ابن عمار في المغرب 2: 389 والحاشية. (2) ق: ابن زيدون - في الموضعين - وهو خطأ واضح. (3) ابو مروان عبد الملك بن عبد الله بن بدرون الحضرمي الشلبي، كان كاتباً بليغاً من أهل العناية التامة بالآداب تاريخياً، توفي ببلده بعد سنة 608 (ترجمته في الذيل والتكملة 5: 21 والتكملة رقم: 1727 والتحفة: 108 وشرحه لقصيدة ابن بدرون وهو " كمامة الزهر وصدفة الدرر " نشره دروزي بليدن عام 1860 ثم نشر بمصر سنة 1340، أما ابن عبدون فهو شاعر بني الأفطس الذي رثاهم بهذه القصيدة وهو من يابرة (انظر المغرب 1: 374 والحاشية في مصادر ترجمته) . (4) ابن السيد البطليوسي (- 521) نسب إلى بطليوس لأنه لازمها كثيراص. انظر ترجمته في المغرب 1: 385 والحاشية؛ وأبياته التالية في المغرب 1: 386.

[أشعارٌ في بطليوس وشاطبة وبرجة] وقال الوزير أبو عمرو بن الفلاّس (1) يمدح بطليوس بقوله: بطليوس لا أنساك ما اتّصل البعد ... فلله غورٌ في جنابك أو نجد ولله دوحاتٌ تحفّك بينها ... تفجّر واديها كما شقّق البرد وبنو الفلاّس من أعيان حضرة بطليوس، وأبو عمرو المذكور أشهرهم، وهو من رجال الذخيرة والمسهب، رحمه الله تعالى. وفي شاطبة يقول بعضهم (2) : نعم ملقى الرّحل شاطبةٌ ... لفتىً طالت به الرّحل بلدةٌ أوقاتها سحرٌ ... وصباً في ذيله بلل ونسيمٌ عرفه أرجٌ ... ورياضٌ غصنها ثمل ووجوهٌ كلّها غررٌ ... وكلامٌ كلّه مثل وفي برجة يقول بعضهم: إذا جئت برجة مستوفزاً ... فخذ في المقام وخلّ السّفر فكلّ مكانٍ بها جنّةٌ ... وكلّ طريقٍ إليها سقر وقد تقدّم هذان البيتان (3) . [رسالة للسان الدين في تفضيل الجهاد على الحج] واعلم أنّه لو لم يكن للأندلس من الفضل سوى كونها ملاعب الجياد للجهاد

_ (1) المغرب 1: 363 وانظر ترجمة ابن الفلاس في الذخيرة (القسم الثالث: 139) وفي ك: الغلاس. (2) بعض هذه الأبيات في " المقتطفات ": 43. (3) انظر ص: 151 فيما تقدم، والبيت الأول لم يرد هنالك.

لكان كافياً، ويرحم الله لسان الدين بن الخطيب حيث كتب على لسان سلطانه إلى بعض العلماء العاملين ما فيه إشارةٌ إلى بعض ذلك، ما نصّه: من أمير المسلمين فلان، إلى الشيخ كذا ابن الشيخ كذا، وصل الله له سعادةً تجذبه، وعنايةً إليه تقرّبه، وقبولاً منه يدعوه إلى خير ما عند الله ويندبه، سلامٌ كريمٌ عليكم ورحمة الله وبركاته، أمّا بعد حمد الله المرشد المثيب، السميع المجيب، معوّد اللطف الخفي والصنع العجيب، المتكفّل بإنجاز وعد النصر العزيز والفتح القريب، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمدٌ رسوله ذي القدر الرفيع والعز المنيع والجناب الرحيب، الذي به نرجو ظهور عبدة الله على عبدة الصليب، ونستظهر منه على العدو بالحبيب، ونعدّه عدّتنا لليوم العصيب، والرضا عن آله وصحبه الذين فازوا من مشاهدته بأوفى النصيب، ورموا إلى هدف مرضاته بالسّهم المصيب، فإنّا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم عملاً صالحاً يختم الجهاد صحائف بره، وتتمحّض لأن تكون كلمة الله هي العليا جوامع أمره، وجعلكم ممن تنهى في الأرض التي فتح فيها أبواب الجنة حصة (1) عمره - من حمراء غرناطة - حرسها الله تعالى - ولطف الله هامي السحاب، وصنعه رائق الجناب، والله يصل لنا ولكم ما عوّده من صلة لطفه عند انبتات الأسباب، وإلى هذا أيها المولى (2) الذي هو بركة المغرب المشار إليه بالبنان، وواحده في رفعة الشان، المؤثر ما عند الله على الزخرف الفتّان، المتقلّل من المتاع الفان، المستشرف إلى مقام العرفان، من درج الإسلام والإيمان والإحسان، فإنّنا لما نؤثره من بركم الذي نعدّه من الأمر الأكيد، ونضمره من ودكم الذي نحلّه (3) محل الكنز العتيد، ونلتمسه من دعائكم التماس العدة والعديد، لا نزال نسأل

_ (1) ك: مدة. (2) ق ج: الولي. (3) ق ج: محله.

عن أحوالكم التي ترقّت في أطوار السعادة، ووصلت جناب الحقّ بهجر العادة، وألقت إلى يد التسليم لله والتوكل عليه بالمقادة، فنسرّ بما هيأ الله تعالى لكم من القبول، وبلّغكم من المأمول، وألهمكم من الكلف بالقرب إليه والوصول، والفوز بما لديه والحصول. وعندما رد الله تعالى علينا ملكنا الرد الجميل، وأنّالنا فضله الجزيل، وكان لعثارنا المقيل، خاطبناكم بذلك لمكانكم من ودادنا، ومحلّكم من حسن اعتقادنا، ووجّهنا إلى وجهة دعائكم وجه اعتدادنا، والله ينفعنا بجميل الظن في دينكم المتين، وفضلكم المبين، ويجمع الشّمل بكم في الجهاد عن الدين. وتعرّفنا الآن ممّن له بأنبائكم اعتناء، وعلى جلالكم حمدٌ وثناء، ولجناب ودّكم اعتزاء وانتماء، بتجاول عزمكم بين حجٍّ مبرورٍ ترغبون من أجره في ازدياد، وتجددون العهد منه بأليف اعتياد، وبين رباطٍ في سبيل الله وجهادٍ، وتوثير مهاد بين ربىً أثيرةٌ عند الله ووهاد، يحشر يوم القيامة شهداؤها مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين، فرحين بما آتاهم الله من فضله، والله أصدق القائلين (1) الصادقين، حيث لا غرة لغير عدوّ الإسلام تتّقى، إلاّ لابتغاء ما لدى الله ترتقى، حيث رحمة الله قد فتحت أبوابها، وحور الجنان قد زينت أترابها، دار العرب الذين قرعوا باب الفتح، وفازوا بجزيل المنح، وخلدوا الآثار، وأرغموا الكفار، وأقالوا العثار، وأخذوا الثار، وأمنوا من لفح جهنم بما علا على وجوههم من ذلك الغبار، فكتبنا إليكم هذا نقوّي بصيرتكم على جهة الجهاد من العزمين، ونهيب بكم إلى إحدى الحسنيين، والصبح غير خافٍ على ذي عينين، والفضل ظاهرٌ لإحدى المنزلتين، فإنّكم إذا (2) حججتم أعدتم فرضاً أديتموه، وفضلاً ارتديتموه، فائدته عليكم مقصورةٌ، وقضيته فيكم محصورةٌ، وإذا أقمتم الجهاد جلبتم إلى

_ (1) القائلين: سقطت من ط ج ق. (2) ك: فإنكم إن.

حسناتكم عملاً غريباً، واستأنفتم سعياً من الله قريباً، وتعدّت المنفعة إلى ألوفٍ من النفوس، المستشعرة لباس البوس، ولو كان الجهاد بحيث يخفى عليكم فضله لأطنبنا، وأعنّة الاستدلال أرسلنا، هذا لو قدمتم على هذا الوطن وفضلكم غفل من الاشتهار، ومن به لا يوجب لكم ترفيع المقدار، فكيف وفضلكم أشهر من محيّا النهار، ولقاؤكم أشهى الآمال وآثر الأوطار، فإن قوي عزمكم والله يقوّيه، ويعيننا من برّكم على ما ننويه، فالبلاد بلادكم، وما فيها طريفكم وتلادكم، وكهولها إخوانكم، وأحداثها أولادكم، ونرجو أن تجدوا لذكركم الله في رباها حلاوةٌ زائدة، ولا تعدموا من روح الله فيها فائدة، وتتكيّف نفسكم فيها تكيّفاتٍ تقصر عنها خلوات السلوك، إلى ملك الملوك، حتى تغتبطوا بفضل الله الذي يوليكم، وتروا أثر رحمته فيكم وتخلفوا فخر هذا الانقطاع إلى الله في قبيلكم وبنيكم، وتختموا العمر الطيب بالجهاد الذي يعليكم، ومن الله تعالى يدنيكم، فنبيّكم العربي صلوات الله عليه وسلامه نبيّ الرحمة (1) والملاحم، ومعمل الصوارم، وبجهاد الفرنج ختم الناس عمل جهاده والأعمال بالخواتم، هذا على بعد بلادهم من بلاده، وأنتم أحقّ الناس بإقتفاء جهاده، والاستباق إلى آماده، هذا ما عندنا حثثناكم عليه، وندبناكم إليه، وأنتم في إيثار هذا الجوار، ومقارضة ما عندنا بقدومكم على بلادنا من الاستبشار، بحسب ما يخلق عنكم من بيده مقادة الاختيار، وتصريف الليل والنهار، وتقليب القلوب وإجالة الأفكار، وإذا تعارضت الحظوظ فما عند الله خير للأبرار، والدار الآخرة دار القرار، وخير الأعمال عملٌ أوصل إلى الجنّة وباعد من النار، ولتعلموا أن نفوس أهل الكشف والاطّلاع، بهذه الأرجاء والأصقاع، قد اتفقت أخبارها، واتحدت أسرارها، على البشارة بفتحٍ قرب أوانه، وأظلّ زمانه، فنرجو الله أن تكونوا ممّن يحضر مدعاه،

_ (1) الرحمة: سقطت من ق ط ج.

ويكرم فيه مسعاه، ويسلف فيه العمل الذي يشكره الله ويرعاه، والسلام الكريم يخصّكم ورحمة الله وبركاته، انتهى.؟ [تشبيه الأندلس بالعقاب] ولما دخل الأندلس أمير المسلمين عليّ ابن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اللّمتوني ملك المغرب والأندلس، وأمعن النظر فيها، وتأمّل وصفها وحالها، قال: إنها تشبه عقاباً مخالبه طليطلة، وصدره قلعة رباح، ورأسه جيّان، ومنقاره غرناطة، وجناحه الأيمن باسط إلى المغرب، وجناحه الأيسر باسط إلى المشرق، في خبر طويل لم يحضرني الآن، إذ تركته مع كتبي بالمغرب، جمعني الله بها على أحسن الأحوال. [المخزومي الأعمى ونزهون الغرناطية] ومع كون أهل الأندلس سبّاق حلبة الجهاد، مهطعين إلى داعيه من الجبال والوهاد، فكان لهم في التّرف والنعيم والمجون ومداراة الشعراء خوف الهجاء محلٌ وثير المهاد، وسيأتي في الباب السابع من هذا القسم من ذلك وغيره ما يشفي ويكفي، ولكن سنح لي أن أذكر هنا حكاية أبي بكر المخزومي الهجاء المشهور الذي قال فيه لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة (1) : إنّه كان أعمى شديد الشر، معروفاً بالهجاء، مسلطاً على الأعراض، سريع الجواب، ذكي الذهن، فطناً للمعاريض، سابقاً في ميدان الهجاء، فإذا مدح ضعف شعره. والحكاية هي ما حكاه أبو الحسن ابن سعيد في الطالع السعيد، إذ قال حكاية عن أبيه فيما أظن: قدم المذكور - يعني المخزومي - على غرناطة أيام ولاية أبي بكر ابن سعيد،

_ (1) الإحاطة 1: 432 - 435.

ونزل قريباً مني، وكنت أسمع به بنار صاعقة يرسلها الله على من يشاء من عباده، ثم رأيت أن أبدأه بالتأنيس والإحسان، فاستدعيته بهذا الأبيات: يا ثانياً للمعرّي ... في حسن نظمٍ ونثر وفرط ظرفٍ ونبلٍ ... وغوص فهمٍ وفكر صل ثمّ واصل حفيّاً ... بكلّ برٍّ وشكر (1) وليس إلاّ حديثٌ ... كما وهى عقد درّ وشادنٌ يتغنّى ... على ربابٍ وزمر وما يسامح فيه ال ... غفور من كأس خمر وبيننا عهد حلفٍ ... لياسرٍ حلف كفر نعم فجدّده عهداً ... بطيب سكرٍ (2) ويسر والكأس مثل رضاغٍ ... ومن كمثلك يدري ووجّه له الوزير أبو بكرٍ (3) ابن سعيدٍ عبداً صغيراً قاده، فلمّا استقر به المجلس، وأفعمته روائح النّدّ والعود والأزهار، وهزّت عطفه الأوتار، وقال: دار السعيديّ ذي أم دار رضوان ... ما تشتهي النفس فيها حاضرٌ داني سقت أباريقها للندّ سحب ندىً ... تحدى برعدٍ لأوتارٍ وعيدان (4) والبرق من كلّ دنٍّ ساكبٌ مطراً ... يحيا به ميت أفكارٍ وأشجان هذا النّعيم الذي كنّا نحدّثه ... ولا سبيل له إلاّ بآذان فقال له أبو بكرٍ ابن سعيدٍ: وإلى الآن لا سبيل له إلاّ بآذان؟ فقال: حتى

_ (1) ق الإحاطة: بكل شكر وبر. (2) في النسخ: شكر. دوزي: فقم نجدده. (3) أبو بكر: سقطت من ق. (4) ق ط ج: وألحان.

يبعث الله ولد زنى كلما أنشدت هذه الأبيات قال: إنّ قائلها أعمى، فقال: أمّا أنا فما أنطق بحرفٍ، فقال: من صمت نجا. وكانت نزهون بنت القلاعي حاضرةٌ فقالت: وتراك يا أستاذ قديم النعمة بمجمر ندّ وغناء وشراب، فتعجب من تأتّيه وتشبهه بنعيم الجنّة، وتقول: ما كان يعلم إلاّ بالسماع، ولا يبلغ إليه بالعيان؟ ولكن من يجيء من حصن المدوّر، وينشأ بين تيوس وبقر، من أين له معرفة بمجالس النعيم؟ فلما استوفت كلامها تنحنح الأعمى (1) ، فقالت له: ذبحة، فقال من هذه الفاضلة؟ فقالت: عجوز مقام أمك، فقال: كذبت، ما هذا صوت عجوز، إنّما هذه نغمة قحبة محترقة تشم روائح هنها على فرسخ؛ فقال له أبو بكر: يا أستاذ، هذه نزهون بنت القلاعي الشاعرة الأديبة، فقال: سمعت بها، لا أسمعها الله خيراً، ولا أراها إلاّ أيراً. فقالت له: يا شيخ سوء تناقضت، وأيّ خير للمرأة مثل ما ذكرت؟ ففكر ساعة ثمّ قال: على وجه نزهونٍ من الحسن مسحةٌ ... وإن كان قد أمسى من الضوء عاريا قواصد نزهونٍ توارك غيرها ... ومن قصد البحر استقلّ السواقيا فأعملت فكرها ثمّ قالت: قل للوضيع مقالاً ... يتلى إلى حين يحشر من المدوّر أنشئ ... ت والخرا منه أعطر حيث البداوة أمست ... في مشيها تتبختر لذاك أمسيت صبّاً ... بكلّ شيء مدوّر خلقت أعمى ولكن ... تهيم في كلّ أعور جازيت شعراً بشعرٍ ... فقل لعمري من أشعر

_ (1) الأعمى: سقطت من ك.

إن كنت في الخلق أنثى ... فإنّ شعري مذكّر فقال لها اسمعي: ألا قل لنزهونةٍ ما لها ... تجرّ من التيه أذيالها ولو أبصرت فيشة شمّرت ... كما عوّدتني سربالها فحلف أبو بكرٍ ابن سعيدٍ أن لا يزيد أحدهما على الآخر في هجوه كلمةً، فقال المخزومي: أكون هجّاء الأندلس وأكفّ عنها دون شيءٍ؟ فقال: أنا أشتري منك عرضها فاطلب، فقال: بالعبد الذي أرسلته فقادني إلى منزلك، فإنّه لين اليد رقيق المشي، فقال أبو بكرٍ: لولا كونه صغيراً كنت أبلغك به مرادك، وأهبه لك، ففهم قصده وقال: أصبر عليه حتى يكبر، ولو كان كبيراً ما آثرتني به على نفسك! فضحك أبو بكرٍ، وقال: إن لم تهج نظماً هجوت نثراً، فقال: أيّها الوزير لا تبديل لخلق الله. وانفصل المخزومي بالعبد بعدما أصلح الزوير بينه وبين نزهون، انتهى. وفي كتاب " الدر المنضد، في وفيات أعيان أمة محمد " تأليف الأمير صارم الدين إبراهيم بن دقماق (1) ، قال أبو القاسم بن خلف: كان - يعني المخزومي المذكور - حيّاً بعد الأربعين وخمسمائة، انتهى. [قصة استطرادية] ونقلت من كتاب " قطب السرور " (2) لابن الرقيق المغربي، ما ملخصه (3) :

_ (1) إبراهيم بن محمد بن ايدمر بن دقماق القاهري صارم الدين (- 809) مؤرخ مصر، كان مكثراً من التأليف في التاريخ، وهو صاحب كتاب " الانتصار لواسطة عقد الأمصار " في تاريخ مصر (الضوء اللامع 1: 145) ؛ وفي ك: الإمام صارم الدين. (2) قطب السرور في وصف الأنبذة والخمور. (انظر تكملة بروكلمان 1: 252 ومنه جزء بخزانة الرباط) . (3) ورد النص في " المقتطفات ": 43 وما بعدها.

وممّن أدركته وعاشرته عبد الوهاب بن حسين بن جعفر الحاجب، وذكرته هنا لأنّه ملحق بالأمراء المتقدمين غير خارجٍ منهم ولا مقصرٍ عنهم، بل كان واحد عصره في الغناء الرائق، والأدب الرائع، والشعر الرقيق، واللفظ الأنيق، ورقة الطبع، وإصابة النادر، والتشبيه المصيب، والبديهة التي لا يلحق فيها؛ مع شرف النفس، وعلوّ الهمة، وكان قد قطع عمره، وأفنى دهره، في اللهو واللعب، والفكاهة والطرب، وكان أعلم الناس بضرب العود، واختلاف طرائقه، وصنعة اللحون، وكثيراً ما يقول المعاني اللطيفة في الأبيات الحسنة، ويصوغ عليها الألحان المطربة البديعة المعجبة، اختراعاً منه وحذقاً، وكانت له في ذلك قريحةٌ وطبعٌ، وكان إذا لم يزره أحدٌ من إخوانه أحضر مائدته وشرابه عشرة من أهل بيته، منهم ولده وعبد الله ابن أخيه وبعض غلمانه، وكلهم يغنّي فيجيد، فلا يزالون يغنون بين يديه حتى يطرب، فيدعو بالعود ونغني لنفسه ولهم، وكان بشارة الزامر الذي يزمر عليه من حذّاق زمرة المشرق؛ وكان بعيد الهمّة سمحاً بما يجد، تغلّ عليه ضياعه كلّ عامٍ أموالاً جليلةً، فلا تحول السنة حتى ينفد جميع ذلك ويستسلف غيره، فكان لا يطرأ من المشرق مغنّ إلا سأل من يقصد بهذا الشأن، فيدل عليه، فمن وصله منهم استقبله بصنوف البر والإكرام، وكساه وخلطه بنفسه ولم يدعه إلى أحدٍ من الناس، فلا يزال معه في صبوحٍ وغبوقٍ، وهو مجدّدٌ له كل يومٍ كرامةٌ، حتى يأخذ جميع ما معه من صوتٍ مطربٍ أو حكايةٍ نادرةٍ. وجلس يوماً وقد زاره رجلان من إخوانه، وحضر أقرباؤه، فطعموا وشربوا وأخذوا في الغناء، فارتجّ المجلس، إذ دخل عليه بعض غلمانه فقال: بالباب رجلٌ غريبٌ عليه ثياب السفر، ذكر أنّه ضيفٌ، فأمر بإدخاله، فإذا رجلٌ أسمرٌ سناطٌ (1) ، رث الهيئة، فسلّم عليه، قال: أين بلد الرجل؟

_ (1) سناط: ليس في عارضيه.

قال: البصرة، فرحّب به، وأمره بالجلوس، فجلس مع الغلمان في صفّة، وأتي بطعامٍ فأكل وسقي أقداحاً، ودار الغناء في المجلس، حتى انتهى إلى آخرهم، فلمّا سكتوا اندفع يغني بصوتٍ نديٍّ وطبع حسنٍ: ألا يا دار ما الهجر ... لسكّانك من شاني سقيت الغيث من دارٍ ... وإن هيجت أشجاني ولو شئت لما استسقي ... ت غيثاً غير أجفاني بنفسي حلّ أهلوك ... وإن بانوا بسلواني وما الدّهر بمأمونٍ ... على تشتيت خلاّني فطرب عبد الوهاب وصاح، وتبين الحذق في إشارته، والطيب في طبعه، وقال: يا غلام، خذ بيده إلى الحمّام، وعجّل عليّ به فأدخل الحمّام، ونظف، ثم دعا عبد الوهاب بخلعة من ثيابه فألقيت عليه، ورفعه فأجلسه عن يساره، وأقبل عليه وبسطه، فغنى له: قومي امزجي التبر باللّجين ... واحتملي الرطل باليدين واغتنمي غفلة اللّيالي ... فربّما أيقظت لحين فقد لعمري أقرّ منّا ... هلال شوّال كلّ عين ذات الخلاخيل أبصرته ... كنصف خلخالها اللّجيني فطرب وشرب، واستزاده، فغنّاه: من لي على رغم الحسود بقهوةٍ ... بكرٍ ربيبة حانةٍ عذراء موجٌ من الذهب المذاب تضمّه ... كأسٌ كقشر الدّرّة البيضاء والنجم في أفق السماء كأنّه ... عينٌ تخالس غفلة الرّقباء فشرب عبد الوهاب ثمّ قال: زدني، فغناه:

وأنت الذي أشرقت عيني بمائها ... وعلّمتها بالهجر أن تهجر الغمضا وأغرقتها بالدمع حتى جفونها ... لينكر من فقد الكرى بعضها بعضا فمرّ يومٌ من أحسن الأيام وأطيبها، ووصله وأحسن إليه، ولم يزل عنده مقرّباً مكرّماً، وكان خليعاً ماجناً مشتهراً بالنبيذ، فخلاّه وما أحبّ، ثمّ وصف له الأندلس وطيبها، وكثرة خمورها، فمضى إليها ومات بها، وعلى نحو هذه الحال كان يفعل بكل طارئٍ يطرأ من المشرق، ولو ذكرتهم لطال بهم الكتاب، انتهى. وغرضي من إيراد هذه الحكاية هنا كونه وصف للمشرقيّ الأندلس وطيبها، وذلك أمرٌ لا يشك فيه ولا يرتاب، والله المسئول في حسن المتاب. [قصر باديس بغرناطة] ورأيت في بعض كتب تاريخ الأندلس في ترجمة السلطان باديس الصّنهاجيّ صاحب غرناطة، ما نصّه: وهو الذي أكمل ترتيب قصبة مالقة، وكان أفرس الناس وأنبلهم، ذا مروءةٍ ونجدةٍ، وقصره بغرناطة ليس ببلاد الإسلام والكفر مثله، فيما قيل، انتهى. وهذا القصر هو الذي عناه لسان الدين بن الخطيب في قصيدته السينية المذكورة في الباب الخامس من القسم الثاني من هذا الكتاب، فلتراجع ثمة. [سرقسطة وخواصها] وذكر غير واحدٍ من المحدثين والمؤرخين أن مدينة سرقسطة لا يدخلها الثعبان من قبل نفسه، وإذا أدخله أحدٌ لم يتحرك، ونظير هذا المعنى في بعض الحيوانات بالنسبة إلى بعض البلاد كثير، وذلك برصدٍ أو طلّسم، وقد استطرد بعض علماء أصول الدين ذلك عندما تكلموا على السحر حسبما قرّر في محله

والله أعلم. هكذا رأيت في كلام بعض علماء المشارقة، والذي رأيته لبعض مؤرخي المغرب في سرقسطة (1) أنّها لا تدخلها عقربٌ ولا حيةٌ إلا ماتت من ساعتها، ويؤتى بالحيّات والعقارب إليها حيّةً فبنفس ما تدخل إلى جوف البلد تموت، قال: ولا يتسوّس فيها شيء من الطعام ولا يعفن، ويوجد فيها القمح من مائة سنة، والعنب المعلّق من ستة أعوام، والتين والخوخ وحب الملوك والتفاح والإجاص اليابسة من أربعة أعوام؛ والفول والحمّص من عشرين سنة، ولا يسوّس فيها خشب ولا ثوب صوفاً كان أو حريراً أو كتاناً، وليس في بلاد الأندلس أكثر فاكهة منها، ولا أطيب طعماً، ولا أكبر جرماً، والبساتين محدقة بها من كل ناحية ثمانية أميال، ولها أعمالٌ كثيرةٌ: مدنٌ وحصونٌ وقرىً مسافة أربعين ميلاً، وهي تضاهي مدن العراق في كثرة الأشجار والأنهار، وبالجملة فأمرها عظيم، وقد أسلفنا ذكرها. [السمّور بالأندلس] واعم أن بأرض الأندلس من الخصب والنّضرة وعجائب الصنائع وغرائب الدّنيا ما لا يوجد مجموعه غالباً في غيرها، فمن ذلك ما ذكره الحجاري في المسهب: أن السّمّور الذي يعمل من وبره الفراء الرفيعة يوجد في البحر المحيط بالأندلس من جهة جزيرة برطانية، ويجلب إلى سرقسطة ويصنع بها. ولما ذكر ابن غالب وبر السّمّور الذي يصنع بقرطبة قال: هذا السمّور المذكور هنا لم أتحقق ما هو، ولا ما عني به، إن كان هو نباتاً عندهم أو وبر الدابة المعروفة، فإن كانت الدابة المعروفة فهي دابةٌ تكون في البحر، وتخرج إلى البر، وعندها قوّة ميزٍ. وقال حامد بن سمجون الطبيب صاحب كتاب الأدوية

_ (1) انظر مخطوطة الرباط: 62.

المفردة (1) : هو حيوانٌ يكون في بحر الروم، ولا يحتاج منه إلاّ إلى خصاه، فيخرج الحيوان من البحر في البر، فيؤخذ وتقطع خصاه، ويطلق، فربّما عرض للقناصين مرّةً أخرى (2) ، فإذا أحسّ بهم وخشي أن لا يفوتهم استلقى على ظهره وفرج بين فخذيه ليرى موضع خصييه خالياً، فإذا رآه القناصون كذلك تركوه، قال ابن غالب: ويسمى هذا الحيوان أيضاً الجندبادستر (3) ، والدواء الذي يصنع من خصييه من الأدوية الرفيعة، ومنافعه كثيرة، وخاصيته في العلل الباردة، وهو حارٌ يابس في الدرجة الرابعة. [فراء القنلية] والقنلية (4) حيوان أدق من الأرنب وأطيب في الطعم وأحسن وبراً، وكثيراً ما تلبس فراؤها، ويستعملها أهل الأندلس من المسلمين والنصارى، ولا توجد في برّ البربر إلا ما جلب منها إلى سبتة فنشأ في جوانبها، قال ابن سعيدٍ: وقد جلبت في هذه المدّة إلى تونس حضرة إفريقية. [سائر حيواناتها وطيورها] ويكون بالأندلس من الغزال والأيل وحمار الوحش وبقره وغير ذلك ممّا يوجد في غيرها كثير (5) ، وأما الأسد فلا يوجد فيها البتة، ولا الفيل والزرافة

_ (1) أبو بكر حامد بن سمجون (- 392) طبيب أندلسي، متميز في قوى الأدوية المفردة وكتابه فيها كان مشهوراص بالجودة وقد بالغ فيه وأجهد نفسه في تأليفه، وقد كتبه للمنصور بن أبي عامر. (انظر ابن أبي أصيبعة 2: 51 - 52) . (2) ق: ثانية. (3) الجندبادستر: حيوان كهيئة الكلب ويسمى القندر، ويسمى السمور أيضاً، وهو على هيئة الثعلب أحمر اللون وذنبه طويل (الدميري 1: 243 ونخبة الدهر: 147) . (4) شبيه بالأرنب ويسمى بالإيطالية (Coniglio) . وفي ط: القلنية. (5) ك: مما لا يوجد ... كثيراً.

وغير ذلك ممّا يكون في أقاليم الحرارة، ولها سبع يعرف باللّب (1) أكبر بقليلٍ من الذئب في نهاية من القحّة، وقد يفترس الرجل إذا كان جائعاً. وبغل الأندلس فارهة، وخيلها ضخمة الأجسام، حصون للقتال لحمها الدروع وثقال السلاح والعدو في خيل البرّ الجنوبيّ. ولها من الطيور الجوارح وغيرها ما يكثر ذكره ويطول، وكذلك حيوان البحر، ودوابّ بحرها المحيط في نهاية من الطول والعرض. قال ابن سعيد: عاينت من ذلك العجب، والمسافرون في البحر يخافون منها لئلا تقلب المراكب، فيقطعون الكلام، ولها نفخٌ بالماء من فيها يقوم في الجو ذا ارتفاع مفرط. [أنواع الأفاويه فيها] وقال ابن سعيد: قال المسعودي في مروج الذهب: في الأندلس من أنواع الأفاويه خمسة وعشرون صنفاً: منها السنبل، والقرنفل، والصندل، والقرفة، وقصب الذريرة، وغير ذلك. وذكر ابن غالب أن المسعودي قال: أصول الطيب خمسة أصناف: المسك، والكافور، والعود، والعنبر، والزعفران، وكلها من أرض الهند، إلاّ الزعفران والعنبر، فإنهما موجودان في أرض الأندلس، ويوجد العنبر في أرض الشّحر. قال ابن سعيد: وقد تكلموا في أصل العنبر (2) ، فذكر بعضهم أنّه عيون تنبع في قعر البحر يصير منها ما تبلعه الدواب وتقذفه. قال الحجاري: ومنهم من قال: إنّه نبات في قعر البحر. وقد تقدم قول الرازي إن المحلب - وهو المقدم في الأفاويه، والمفضل في

_ (1) هو ما يسمى بالإسبانية (Lobo) وباللاتينية (Lupus) ، وقد أطلق الاسم علماً على كثير من الرجال المترجم بهم في كتب التراجم الأندلسية. (2) انظر مختلف الأقاويل في أصل العنبر في ابن البيطار 3: 134.

أنواع الأشنان - لا يوجد في شيء من الأرض إلاّ بالهند والأندلس. قال ابن سعيد: وفي الأندلس مواضع ذكروا أن النار إذا أطلقت فيها فاحت بروائح العود وما أشبهه، وفي جبل شلير أفاويه هندية. [ثمارها وفواكهها] قال: وأما الثمار وأصناف الفواكه فالأندلس أسعد بلاد الله بكثرتها، ويوجد في سواحلها قصب السكر والموز، المعدومان (1) في الأقاليم الباردة، ولا يعدم منها إلا التمر، ولها من أنواع الفواكه ما يعدم في غيرها أو يقلّ، كالتين القوطيّ والتين الشعري (2) بإشبيلية. قال ابن سعيد: وهذان صنفان لم تر عيني ولم أذق لهما منذ خرجت من الأندلس ما يفضلهما، وكذلك التين المالقيّ والزبيب المنكّبي والزبيب العسليّ والرمان السفري (3) والخوخ والجوز واللوز، وغير ذلك ممّا يطول ذكره. [معادنها وأحجارها وقرمزها] وقد ذكر ابن سعيد أيضاً أن الأرض الشمالية المغربية فيها المعادن السبعة، وأنّها في الأندلس التي هي بعض تلك الأرض، وأعظم معدن للذهب بالأندلس في جهة شنت ياقوه قاعدة الجلالقة على البحر المحيط، وفي جهة قرطبة الفضة والزئبق، والنحاس في شمال الأندلس كثير، والصّفر الذي يكاد يشبه الذهب، وغير ذلك من المعادن المتفرقة في أماكنها.

_ (1) ك: ويوجدان. (2) ك: السفري. (3) الرمان السفري: حدث الخشني (قضاة قرطبة) : 32 كيف دخل الأندلس، وقال إن الذي زرعه رجل امه " سفر "، وهذا الرمان عرف بالإسبانية باسم (Zafari) وسيتحدث عنه المقري بتفصيل في الباب الرابع.

والعين التي يخرج منها الزاج في لبلة مشهورة، وهو كثير مفضل في البلاد منسوب، وبجبل طليطلة جبل الطّفل الذي يجهز إلى البلاد، ويفضل على كل طفل بالمشرق والمغرب. وبالأندلس عدة مقاطع للرخام، وذكر الرازي أن بجبل قرطبة مقاطع الرخام الأبيض الناصع (1) والخمري، وفي ناشرة مقطع عجيب للعمد، وبباغه من مملكة غرناطة مقاطع للرخام كثيرة غريبة موشاة في حمرة وصفرة، وغير ذلك من المقاطع التي بالأندلس من الرخام الحالك والمجزّع. وحصى المريّة يحمل إلى البلاد فإنّه كالدر في رونقه، وله ألوان عجيبة، ومن عادتهم أن يضعوه في كيزان الماء. وفي الأندلس من الأمنان التي تنزل من السماء القرمز الذي ينزل على شجر البلّوط فيجمعه الناس من الشّعرا ويصبغون به، فيخرج منه اللون الأحمر الذي لا تفوقه حمرة. [مصنوعاتها] قال ابن سعيد: وإلى مصنوعات الأندلس ينتهي التفضيل، وللمتعصبين لها في ذلك كلام كثير، فقد اختصت المريّة ومالقة ومرسية بالوشي (2) المذهب الذي يتعجب من حسن صنعته أهل المشرق إذا رأوا منه شيئاً، وفي تنتالة من عمل مرسية تعمل البسط التي يغالى في ثمنها بالمشرق، ويصنع في غرناطة وبسطة من ثياب اللباس المحررة الصنف الذي يعرف بالملبد المختم ذو الألوان العجيبة، ويصنع في مرسية من الأسرّة المرصعة والحصر الفتانة الصنعة وآلات الصّفر والحديد من السكاكين والأمقاص المذهّبة وغير ذلك من آلات العروس

_ (1) ك: الناصع اللون. (2) ك: بالموشى.

والجنديّ ما يبهر العقل، ومنها تجهز هذه الأصناف إلى بلاد إفريقية وغيرها. ويصنع بها وبالمريّة ومالقة الزجاج الغريب العجيب وفخار مزجج مذهب، ويصنع بالأندلس نوع من المفصّص (1) المعروف في المشرق بالفسيفساء ونوع يبسط به قاعات ديارهم يعرف بالزّليجي (2) يشبه المفصّص، وهو ذو ألوان عجيبة يقيمونه مقام الرخام الملّون الذي يصرفه أهل المشرق في زخرفة بيوتهم كالشاذروان، وما يجري مجراه. [الأسلحة] وأمّا آلات الحرب من التّراس والرّماح والسّروج والألجم (3) والدروع والمغافر فأكثر همم أهل الأندلس - فيما حكى ابن سعيد - كانت مصروفة إلى هذا الشأن، ويصنع منها في بلاد الكفر ما يبهر العقول، قال: والسيوف البرذليات مشهورة بالجودة، وبرذيل: آخر بلاد الأندلس (4) من جهة الشمال والمشرق، والفولاذ الذي بإشبيلية إليه النهاية، وفي إشبيلية من دقائق الصنائع ما يطول ذكره. [الآثار الأولية بالأندلس] وقد أفرد ابن غالب في " فرحة الأنفس " للآثار الأولية التي بالأندلس من كتابه مكاناً، فقال: منها ما كان من جلبهم الماء من البحر الملح إلى الأرحيّ التي بطركونة على وزن لطيف وتدبير محكم حتى طحنت به، وذلك من أعجب ما صنع. ومن ذلك ما صنعه الأول أيضاً من جلب الماء في البحر المحيط

_ (1) ك: المفضض. (2) هو ما يسمى بالإسبانية: (Azulejo) ؛ وفي ق: بالزلنجي، وهو خطأ. (3) ج: واللجم. (4) ق ط ج: آخر الأندلس.

إلى جزيرة قادس من العين التي في إقليم الأصنام، جلبوه في جوف البحر في الصخر المجوّف ذعراً في أنثى وشقّوا به الجبال، فإذا وصلوا به إلى المواضع المنخفضة بنوا له قناطر على حنايا، فإذا جاوزها واتصل بالأرض المعتدلة رجعوا إلى البنيان المذكور، فإذا صادف سبخة بني له رصيف وأجري عليه، وهكذا إلى أن انتهي به إلى البحر، ثمّ دخل به في البحر، وأخرج في جزيرة قادس، والبنيان الذي عليه الماء في البحر ظاهر بيّن، قال ابن سعيد: إلى وقتنا هذا. ومنها الرصيف المشهور بالأندلس (1) ، قال في بعض أخبار رومية: إنّه لما وليّ يوليش المعروف بجاشر، وابتدأ بتذريع الأرض وتكسيرها، كان ابتداؤه بذلك من مدينة رومية إلى المشرق منها وإلى المغرب وإلى الشمال وإلى الجنوب، ثمّ بدأ بفرش المبلّطة (2) ، وأقبل بها على وسط دائرة الأرض إلى أن بلغ بها أرض الأندلس وركزها شرقي قرطبة ببابها المتطامن المعروف بباب عبد الجبار، ثمّ ابتدأها من باب القنطرة قبليّ قرطبة إلى شقندة إلى إستجة إلى قرمونة إلى البحر، وأقام على كل ميل سارية قد نقش عليها اسمه من مدينة رومية، وذكر أنّه أراد تسقيفها في بعض الأماكن راحة للخاطرين من وهج الصيف وهول الشتاء، ثم توقّع أن يكون ذلك فساداً في الأرض وتغييراً للطرق (3) عند انتشار اللصوص وأهل الشرّ فيها في المواضع المنقطعة النائية عن العمران، فتركها على ما هي عليه. وذكر في هذه الآثار صنم قادس الذي ليس له نظير إلا الصنم الذي بطرف جلّيقية، وذكر قنطرة طليطلة وقنطرة السيف وقنطرة ماردة، وملعب مربيطر. قال ابن سعيد: وفي الأندلس عجائب، منها الشجرة التي لولا كثرة ذكر العامة لها بالأندلس ما ذكرتها، فإن خبرها شائع متواتر، وقد رأيت من

_ (1) ومنها ... بالأندلس: سقطت من ق. (2) ك: المبطلة. (3) ق: للطريق.

يشهد بخبرها ورؤيتها، وهم جمٌّ غفير، وهي شجرة زيتون تصنع الورق والنّور والثمر في يوم واحد معلوم عندهم من أيام السنة الشمسية. ومن العجائب السارية التي بغرب الأندلس، ما يزعم (1) الجمهور أن أهل ذلك المكان إذا أحبوا المطر أقاموها فيمطر الله جهتهم. ومنها صنم قادس، طول ما كان قائماً كان يمنع الريح أن تهبّ في البحر المحيط فلا تستطيع المراكب الكبار على الجري فيه، فلمّا هدم في أول دولة بني عبد المؤمن صارت السفن تجري فيه. وبكورة قبرة مغارة ذكرها الرازي وحكى أنّه يقال: إنّها باب من أبواب الريح لا يدرك لها قعر. وذكر الرازي أن في جهة قلعة ورد جبلاً فيه شقٌّ في صخرة داخل كهفٍ فيه فأس حديدٍ متعلق من الشق الذي في الصخرة، تراه العيون وتلمسه اليد، ومن رام إخراجه لم يطق ذلك، وإذا رفعته اليد ارتفع وغاب في شق الصخرة ثم يعود إلى حالته. وأمّا ما أورده ابن بشكوال (2) من الأحاديث والآثار في شأن فضل الأندلس والمغرب فقد ذكرها ابن سعيد في كتابه المغرب، ولم أذكرها أنا، والله أعلم بحقيقة أمرها، وكذلك ما ذكره ابن بشكوال من أن فتح القسطنطينية إنما يكون من قبل الأندلس، قال: وذكره (3) سيف عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه - والله أعم بصحة ذلك - ولعلّ المراد بالقسطنطينية رومية، والله أعلم. قال سيف: وذلك أن عثمان ندب جيشاً من القيروان إلى الأندلس، وكتب لهم: أما بعد، فإن فتح القسطنطينية إنما يكون من قبل الأندلس، فإنّكم إن

_ (1) سقطت " ما " من ك. (2) ما ينقله المقري عن ابن بشكوال إنما هو من كتاب له في تاريخ الأندلس لم يصلنا، وقد وردت هذه الأحاديث في مخطوطة الرباط: 10. (3) يعني الأخباري " سيف بن عمر " أحد الرواة الذين اعتمدهم الطبري.

فتحتموها كنتم الشركاء في الأجر، والسلام، انتهى. قلت: عهدة هذه الأمور على ناقلها، وأنا بريء من عهدتها، وإن ذكرها ابن بشكوال وصاحب المغرب وغير واحد فإنّها عندي لا أصل لها، وأيّ وقت بعث عثمان إلى الأندلس؟ مع أن فتحها بالاتفاق إنّما كان زمان الوليد، وإنّما ذكرت هذا للتنبيه عليه، لا غير، والله أعلم. [وصف ابن سعيد للأندلس] قال ابن سعيد: وميزان وصف الأندلس أنها جزيرة قد أحدقت بها البحار، فأكثرت فيها الخصب والعمارة من كل جهة، فمتى سافرت من مدينة إلى مدينة لا تكاد تنقطع من العمارة ما بين قرى ومياه ومزارع، والصحارى فيها معدومة. وممّا اختصّت به أن قراها في نهاية من الجمال لتصنّع أهلها في أوضاعها وتبييضها، لئلا تنبوالعيون عنها، فهي كما قال الوزير ابن الحمارة فيها (1) : لاحت قراها بين خضرةٍ أيكها ... كالدّرّ بين زبرجدٍ مكنون ولقد تعجبت لما دخلت الديار المصرية من أوضاع قراها التي تكدّر العين بسوادها، ويضيق الصدر بضيق أوضاعها، وفي الأندلس جهات تقرب فيها المدينة العظيمة الممصّرة من مثلها، والمثال في ذلك أنّك إذا توجهت من إشبيلية فعلى مسيرة يوم وبعض آخر مدينة شريش، وهي في نهاية من الحضارة والنّضارة، ثم يليها الجزيرة الخضراء كذلك، ثم مالقة، وهذا كثير في الأندلس، ولهذا كثرت مدنها وأكثرها مسوّر من أجل الاستعداد للعدوّ، فحصل لها بذلك التشييد والتزيين، وفي حصونها ما يبقى في محاربة العدو ما ينيّف

_ (1) محمد بن الحمارة الغرناطي أبو عامر، تلميذ ابن باجة، كان بارعاً في علم الألحان وصناعة الأعواد (ترجمة في بغية الملتمس ص: 517 والمغرب 2: 120 وسيذكره المقري باسم " أبو الحسين علي بن الحمارة "، فلعله شخص آخر.

على عشرين سنة لامتناع معاقلها، ودربة أهلها على الحرب، واعتيادهم لمجاورة العدوّ بالطعن والضرب، وكثرة ما تنخزن الغلة في مطاميرها، فمنها ما يطول صبره عليها نحواً من مائة سنة. قال ابن سعيد: ولذلك أدامها الله تعالى من وقت الفتح إلى الآن، وإن كان العدوّ قد نقصها من أطرافها، وشارك في أوساطها ففي البقية منعة عظيمة، فأرض بقي فيها مثل إشبيلية وغرناطة ومالقة والمريّة وما ينضاف إلى هذه الحواضر العظيمة الممصّرة الرجاء فيها قويّ بحول الله وقوته، انتهى. قلت: قد خاب ذلك الرجاء، وصارت تلك الأرجاء للكفر معرجاً، ونسأل الله تعالى الذي جعل للهمّ فرجاً، وللضيق مخرجاً، أن يعيد إليها كلمة الإسلام حتى يستنشق أهله منه فيها أرجاً، آمين. [بيلتا طليطلة] ومن غرائب الأندلس: اللبيلتان (1) اللتان بطليطلة، صنعهما عبد الرحمن (2) لما سمع بخبر الطّلّسم الذي بمدينة أرين من أرض الهند، وقد ذكره المسعودي، وأنّه يدور بإصبعه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فصنع هو هاتين البيلتين خارج طليطلة في بيت مجوّف في جوف النهر الأعظم في الموضع المعروف بباب الدباغين، ومن عجبهما أنهما تمتلئان وتنحسران مع زيادة القمر ونقصانه، وذلك أن أوّل انهلال الهلال يخرج فيهما يسير ماء، فإذا أصبح كان فيهما [ربع] (3) سبعهما من الماء، فإذا كان آخر النهار كمل فيهما نصف سبع، ولا يزال كذلك بين اليوم والليلة نصف سبع حتى يكمل من الشهر سبعة أيام وسبع ليال، فيكون

_ (1) البيلة: حوض النافورة، وترادفها في الاستعمال أحياناً لفظة " خصة " وهي بالإسبانية والإيطالية (Pila) ، وخبر البيلتين ووصفهما مذكور بتفصيل في مخطوطة الرباط: 38. (2) يعني أبا القاسم عبد الرحمن الزرقال، كما جاء في مخطوطة الرباط. (3) زيادة لازمة من مخطوطة الرباط سقطت من النسخ.

فيهما نصفهما، ولا تزال كذلك الزيادة نصف سبع في اليوم والليلة حتى يكمل امتلاؤهما بكمال القمر، فإذا كان في ليلة خمسة عشر وأخذ القمر في النقصان نقصتا بنقصان القمر كل يوم وليلة نصف سبع [حتى يتم القمر واحداً وعشرين يوماً فينقص منهما نصفهما ولا يزال كذلك ينقص في كل يوم وليلة نصف سبع] (1) فإذا كان تسعة وعشرون من الشهر لا يبقى فيهما شيء من الماء، وإذا تكلف أحدٌ حين تنقصان أن يملأهما وجلب لهما الماء ابتلعتا ذلك من حينهما حتى لا يبقى فيهما إلاّ ما كان فيهما في تلك الساعة، وكذا لو تكلّف عند امتلائهما إفراغهما ولم يبق فيهما شيئاً ثم رفع يده عنهما خرج فيهما من الماء ما يملؤهما في الحين. وهما أعجب من طلّسم الهند، لأن ذلك في نقطة الاعتدال حيث لا يزيد الليل على النهار، وأمّا هاتان فليستا في مكان الاعتدال، ولم تزالا في بيت واحد حتى ملك النصارى - دمّرهم الله - طليطلة، فأراد الفنش أن يعلم حركتهما، فأمر أن تقلع الواحدة منهما لينظر من أين يأتي إليها الماء، وكيف الحركة فيهما، فقلعت، فبطلت حركتهما، وذلك سنة 528. وقيل: إن سبب فسادهما حنين اليهودي (2) الذي جلب حمام الأندلس كلها إلى طليطلة في يوم واحد، وذلك سنة 527، وهو الذي أعلم الفنش أن ولده (3) سيدخل قرطبة ويملكها، فأراد أن يكشف حركة البيلتين، فقال له: أيها الملك، أنا أقلعهما وأردّها أحسن ممّا كانتا، وذلك أني أجعلهما تمتلئان بالنهار وتحسران في الليل، فما قلعت لم يقدر على ردها، وقيل: إنّه قلع واحدة ليسرق منها الصنعة فبطلت، ولم تزل الأخرى تعطي حركتها، والله أعلم بحقيقة الحال.

_ (1) سقطت من ك وط وهي مثبتة في دوزي ومخطوطة الرباط وق وج. (2) سماه في مخطوطة الرباط: حنين بن ربوة اليهودي المنجم. (3) مخطوطة الرباط: أن حفيده.

[عودٌ إلى ذكر إشبيلية] وقال بعضهم في إشبيلية: إنها قاعدة بلاد الأندلس وحاضرتها، ومدينة الأدب واللهو والطرب، وهي على ضفة النهر الكبير، عظيمة الشأن، طيبة المكان، لها البر المديد، والبحر الساكن، والوادي العظيم، وهي قريبة من البحر المحيط؛ إلى أن قال: ولو لم يكن لها من الشّرف إلا موضع الشّرف المقابل لها المطلّ عليها المشهور بالزيتون الكثير الممتد فراسخ في فراسخ لكفى (1) ، وبها منارة في جامعها بناها يعقوب المنصور، ليس في بلاد الإسلام أعظم بناء منها. وعسل الشرف يبقى حيناً لا يترمّل ولا يتبدّل، وكذلك الزيت والتين. وقال ابن مفلح (2) : إن إشبيلية عروس بلاد الأندلس، لأن تاجها الشرف، وفي عنقها سمط النهر الأعظم، وليس في الأرض أتم حسناً من هذا النهر، يضاهي دجلة والفرات والنيل، تسير القوارب فيه للنزهة والسير والصيد تحت ظلال الثمار، وتغريد الأطيار، أربعة وعشرين ميلاً، ويتعاطى الناس السّرج من جانبيه عشرة فراسخ في عمارة متصلة ومنارات مرتفعة وأبراج مشيدة، وفيه من أنواع السمك ما لا يحصى. وبالجملة فهي قد حازت البر والبحر، والزرع والضّرع، وكثرة الثمار من كل جنس، وقصب السكر، ويجمع منها القرمز الذي هو أجلّ من اللّك (3) الهندي، وزيتونها نخزن تحت الأرض أكثر من ثلاثين سنة، فيخرج منه أكثر ممّا يخرج منه وهو طري، انتهى ملخصاً. ولما ذكر ابن اليسع الأندلس قال: لا يتزوّد فيها أحد ماءً حيث سلك، لكثرة أنهارها وعيونها، وربما لقي المسافر فيها في اليوم الواحد أربع مدائن، ومن

_ (1) لكفى: سقطت من ط ج ق، اكتفاء، وفي دوزي: لكفاها. (2) لعله المؤرخ إبراهيم بن محمد بن مفلح (- 884) قاضي دمشق (الضوء اللامع 1: 152) . (3) قد تقدم ذكر القرمز وأنه نوع من المن الذي يجمع عن الشجر، أما الملك فإنه مادة شبيهة به تدخل في تركيب الأدوية (ابن البيطار 4: 110) .

المعاقل والقرى ما لا يحصى، وهي بطاح خضر، وقصور بيض. انتهى. [مقارنة ابن سعيد بين الأندلس وسواها] قال ابن سعيد: وأنا أقول كلاماً فيه كفاية: منذ خرجت من جزيرة الأندلس وطفت في بر العدوة، ورأيت مدنها العظيمة كمراكش وفاس وسلا وسبتة، ثم طفت في إفريقية وما جاورها من المغرب الأوسط فرأيت بجاية وتونس، ثم دخلت الديار المصرية فرأيت الإسكندرية والقاهرة والفسطاط، ثم دخلت الشام فرأيت دمشق وحلّب وما بينهما - لم أر ما يشبه رونق الأندلس في مياهها وأشجارها إلا مدينة فاس بالمغرب الأقصى، ومدينة دمشق بالشام، وفي حماة مسحة أندلسية، ولم أر ما يشبهها في حسن المباني والتشييد والتصنيع، إلا ما شيد بمراكش في دولة بني عبد المؤمن، وبعض أماكن في تونس، وإن كان الغالب على تونس البناء بالحجارة كالإسكندرية، ولكن الإسكندرية أفسح شوارع وأبسط وأبدع، ومباني حلب داخلة فيما يستحسن، لأنها من حجارة صلبة، وفي وضعها وترتيبها إتقان، انتهى. [أشعار في وصف الأندلس] ومن أحسن ما جاء من النظم في الأندلس قول ابن سفر المريني، والإحسان له عادة: في أرض أندلسٍ تلتذّ نعماء ... ولا يفارق فيها القلب سرّاء وليس في غيرها بالعيش منتفعٌ ... ولا تقوم بحق الأنس صهباء وأين يعدل عن أرضٍ تحضّ بها ... على المدامة أمواهٌ وأفياء وكيف لا يبهج الأبصار رؤيتها ... وكلّ روضٍ بها في الوشي صنعاء أنهارها فضةٌ، والمسك تربتها ... والخزّ روضتها، والدّرّ حصباء

وللهواء بها لطفٌ يرقّ به ... من لا يرقّ، وتبدو منه أهواء ليس النسيم الذي يهفو بها سحراً ... ولا انتثار لآلي الطّلّ أنداء وإنّما أرج النّدّ استثار بها ... في ماء وردٍ فطابت منه أرجاء وأين يبلغ منها ما أصنّفه ... وكيف يحوي الذي حازته إحصاء قد ميّزت من جهات الأرض حين بدت ... فريدةً وتولّى ميزها الماء دارت عليها نطاقاً أبحرٌ خفقت ... وجداً بها إذ تبدّت وهي حسناء لذاك يبسم فيها الزّهر من طربٍ ... والطير يشدو وللأغصان إصغاء فيها خلعت عذاري ما بها عوضٌ ... فهيّ الرّياض، وكلّ الأرض صحراء ولله درّ ابن خفاجة حيث يقول: إن للجنّة بالأندلس ... مجتلى مرأى ريّا نفس فسنا صبحتها من شنبٍ ... ودجى ظلمتها من لعس فإذا ما هبّت الريح صباً ... صحت واشوقي إلى الأندلس وقد تقدمت هذه الأبيات (1) . قال ابن سعيد: قال ابن خفاجة هذه الأبيات وهو بالمغرب الأقصى في برّ العدوة، ومنزله في شرق الأندلس بجزيرة شقر. [رخاء الأندلس كما يصفه ابن حوقل] وقال ابن سعيد في المغرب ما نصّه: قواعد من كتاب " الشهب الثاقبة، في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة " (2) أول ما نقدم الكلام على قاعدة السلطنة

_ (1) انظر ص: 170 من هذا الكتاب. (2) لم يصلنا هذا الجزء من المغرب، ولكن العمري أورد منه فقرات كثيرة في مسالك الأبصار الجزء الثالث، القسم الأول، قال: والمناظرة بين المشرق والمغرب تحتمل كتاباً وقد صنفته بالشام لضرورة دعت إلى ذلك من شدة إنحاء المشارقة على المغاربة من كل جهة ... وسميت الكتاب " والشهب الثاقبة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة " (الورقة: 104) .

بالأندلس، فنقول: إنها مع ما بأيدي عبّاد الصّليب منها أعظم سلطنة كثرت ممالكها، وتشعبت في وجوه الاستظهار للسلطان إعانتها، وندع كلامنا في هذا الشأن، وننقل ما قاله ابن حوقل النصيبي في كتابه لما دخلها في مدة خلافة بني مروان بها في المائة الرابعة، وذلك أنّه لما وصفها قال (1) : وأما جزيرة الأندلس فجزيرة كبيرة، طولها دون الشهر في عرض نيّف وعشرين مرحلة، تغلب عليها المياه الجارية والشجر والثمر، والرخص والسعة في الأحوال من الرقيق الفاخر والخصب الظاهر، إلى أسباب التملك الفاشية فيها، ولما هي به من أسباب رغد العيش وسعته وكثرته، يملك ذلك منهم مهينهم وأرباب صنائعهم لقلة مؤنتهم وصلاح معاشهم وبلادهم. ثم أخذ في عظم سلطانها ووصف وفور جباياته وعظم مرافقه، وقال في أثناء ذلك: وممّل يدلّ بالقليل منه على كثيره أن سكة دار ضربه على الدراهم والدنانير دخلها في كل سنة مائتا ألف دينار، وصرف الدينار سبعة عشر درهماً، هذا إلى صدفات البلد وجباياته، وخراجاته وأعشاره وضماناته والأموال المرسومة على المراكب الواردة والصادرة وغير ذلك. وذكر ابن بشكوال أن جباية الأندلس بلغت في مدّة عبد الرحمن الناصر خمسة آلاف دينار وأربعمائة ألف وثمانين ألفاً، ثم (2) من السوق المستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستون ألف دينار. ثم قال ابن حوقل: ومن أعجب ما في هذه الجزيرة بقاؤها على من هي في يده مع صغر أحلام أهلها، وضعة نفوسهم، ونقص عقولهم، وبعدهم من البأس والشجاعة والفروسية والبسالة، ولقاء الرجال، ومراس الأنجاد والأبطال، مع علم أمير المؤمنين بمحلّها في نفسها ومقدار جباياتها ومواقع نعمها ولذاتها.

_ (1) صورة الأرض: 104، وفي النص بعض اختلاف عما أثبته ابن سعيد. (2) ثم: سقطت من ك.

[رد ابن سعيد على بعض كلام ابن حوقل] قال علي بن سعيد مكمل هذا الكتاب: لم أر بدّاً من إثبات هذا الفصل وإن كان على أهل بلدي فيه من الظلم والتعصب ما لا يخفى، ولسان الحال في الرد أنطق من لسان البلاغة، وليت شعري إذ سلب أهل هذه الجزيرة العقول والآراء والهمم والشجاعة فمن الذين دبروها بآرائهم وعقولهم مع مراصدة أعدائها المجاورين لها من خمسمائة سنة ونيف؟ ومن الذين حموها ببسالتهم من الأمم المتصلة بهم في داخلها وخارجها نحو ثلاثة أشهر على كلمة واحدة في نصرة الصليب؟ وإنّيلأعجب منه إذ كان في زمان قد دلفت فيه عبّاد الصليب إلى الشام والجزيرة وعاثوا كل العيث في بلاد الإسلام، حيث الجمهور والقبة العظمى، حتى إنهم دخلوا مدينة حلب، وما أدراك، وفعلوا فيها ما فعلوا، وبلاد الإسلام متصلة بها من كل جهة، إلى غير ذلك ممّا هو مسطور في كتب (1) التواريخ، ومن أعظم ذلك وأشدّه أنهم كانوا يتغلبون على الحصن من حصون الإسلام التي يتمكنون بها من بسائط بلادهم، فيسبون ويأسرون، فلا تجتمع همم الملوك المجاورة على حسم الداء في ذلك، وقد يستعين به بعضهم على بعض، فيتمكن من ذلك الداء الذي لا يطّبّ، وقد كانت جزيرة الأندلس في ذلك الزمان بالضد من البلاد التي ترك وراء ظهره، وذلك موجود في تاريخ ابن حيّان وغيره، وإنّما كانت الفتنة بعد ذلك: الأعلام بيّنة، والطريق واضح. فلنرجع إلى ما نحن بسبيله: [ابن سعيد يقدم سرداً لتطوّر التاريخ الأندلسي] كانت سلطنة الأندلس في صدر الفتح على ما تقدم من اختلاف الولاة عليها

_ (1) كتب: سقطت من ق ط ج.

من سلاطين إفريقية، واختلاف الولاة داعٍ إلى الاضطراب، وعدم تأثّل الأحوال وتربية الضخامة في الدولة، ولما صارت الأندلس لبني أمية وتوارثوا ممالكها وانقاد إليهم كل أبيّ فيها وأطاعهم كل عصيّ عظمت الدولة بالأندلس، وكبرت الهمم وترتبت (1) الأحوال، وترتبت القواعد، وكانوا صدراً من دولتهم يخطبون لأنفسهم بأبناء الخلائف، ثم خطبوا لأنفسهم بالخلافة، وملكوا من برّ العدوة ما ضخمت به دولتهم، وكانت قواعدهم إظهار الهيبة، وتمكن الناموس من قلب العالم، ومراعاة أحوال اشرع في كل الأمور، وتعظيم العلماء، والعمل بأقوالهم، وإحضارهم في مجالسهم واستشارتهم، ولهم حكايات في تاريخ ابن حيّان: منها ما هو مذكور من توجّه الحكم على خليفتهم أو على ابنه أو أحد حاشيته المختصين، وأنهم كانوا في نهاية من الانقياد للحق (2) لهم أو عليهم، وبذلك انضبط لهم أمر الجزيرة. ولما خرقوا هذا الناموس كان أول ما تهتّك أمرهم، ثم اضمحل، وكانت ألقاب الأول منهم الأمراء أبناء الخلائف، ثم الخلفاء أمراء المؤمنين، إلى أن وقعت الفتنة بحسد بعضهم لبعض، وابتغاء الخلافة من غير وجهها الذي رتبت عليه، فاستبدّت ملوك الممالك الأندلسية ببلادها، وسمّوا بملوك الطوائف واستبدوا (3) ، وكان فيهم من خطب للخلفاء المروانيين وإن لم يبق لهم خلافة، ومنهم من خطب للخلفاء العباسيين المجمع على إمامتهم، وصار ملوك الطوائف يتباهون في أحوال الملك، حتى في الألقاب، فآل أمرهم إلى أن تلقّبوا بنعوت الخلفاء، وترفّعوا إلى طبقات السلطنة العظمى، وذلك بما في جزيرتهم من أسباب الترفّه والضخامة التي تتوزع على ملوك شتى فتكفيهم، وتنهض بهم للمباهاة. ولأجل توثبهم على النعوت العباسية، قال ابن رشيق القيرواني (4) :

_ (1) ق ج: وترتيب. (2) ك: إلى الحق. (3) واستبدوا: سقطت من ك. (4) ديوان ان رشيق:: 59، وهما في وفيات الأعيان 4: 52 لابن عمار الأندلسي.

ممّا يزهّدني في أرض أندلسٍ ... تلقيب معتضدٍ فيها ومعتمد ألقاب مملكةٍ في غير موضعها ... كالهرّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد وكان عبّاد بن محمد بن عبّاد قد تلقب بالمعتضد، واقتفى سيرة المعتضد العباسي أمير المؤمنين، وبلقّب ابنه محمد بن عبّاد بالمعتمد، وكانت لبني عبّاد مملكة إشبيلية ثم انضاف إليها غيرها. وكان خلفاء بني أمية يظهرون للناس في الأحيان على أبّهة الخلافة، وقانون لهم في ذلك معروف، إلى أن كانت الفتنة، فازدرت العيون ذلك الناموس واستخفّت به. وقد كان بنو حمّود من ولد إدريس العلوي الذين توثبوا على الخلافة في أثناء الدولة المروانية بالأندلس يتعاظمون، ويأخذون أنفسهم بما يأخذها خلفاء بني العباس، وكانوا إذا حضرهم منشد لمدح أو من يحتاج إلى الكلام بين أيديهم يتكلم من وراء حجاب، والحاجب واقف عند الستر يجاوب بما يقول له الخليفة، ولما حضر ابن مقانا الأشبونيّ أمام حاجب إدريس بن يحيى الحمّودي الذي خطب له بالخلافة في مالقة، وأنشده قصيدته المشهورة النونية التي منها قوله (1) : وكأنّ الشّمس لمّا أشرقت ... فانثنت عنها عيون الناظرين وجه إدريس بن يحيى بن علي ... بن حمّودٍ أمير المؤمنين وبلغ فيها إلى قوله: انظرونا نقتبس من نوركم ... إنّه من نور ربّ العالمين رفع الخليفة الستر بنفسه، وقال: انظر كيف شئت، وانبسط مع الشاعر، وأحسن إليه.

_ (1) عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني القبذاقي أبو زيد من شعراء الذخيرة (القسم الثاني: 301، وانظر المغرب 1: 413 والحاشية في مصادر ترجمته) .

ولما جاء ملوك الطوائف صاروا يتبسّطون للخاصّة وكثيرٍ من العامة، ويظهرون مداراة (1) الجند وعوام البلاد، وكان أكثرهم يحاضر العلماء والأدباء، ويحب أن يشهر عنه ذلك عند مباريه في الرياسة. ومذ وقعت الفتنة بالأندلس اعتاد أهل الممالك المتفرقة الاستبداد عن إمام الجماعة، وصار في كل جهة مملكة مستقلة يتوارث أعيانها الرياسة كما يتوارث ملوكها الملك، ومرنوا على ذلك، فصعب ضبطهم إلى نظام واحد، وتمكن العدو منهم بالتفرق وعداوة بعضهم لبعض بقبيح المنافسة والطمع، إلى أن انقادوا إلى عبد المؤمن وبنيه، وتلك القواعد في رؤوسهم كامنة، والثوّار في المعاقل تثور (2) ، وتروم الكرّة، إلى أن ثار ابن هود، وتلقّب بالمتوكل، ووجد قلوباً (3) منحرفة عن دولة بر العدوة، مهيأة للاستبداد، فملكها بأيسر محاولة، مع الجهل المفرط وضعف الرأي، وكان مع العامة كأنّه صاحب شعوذة، يمشي في الأسواق ويضحك في وجوههم ويبادرهم بالسؤال. وجاء للناس منه ما لم يعتادوه من سلطان، فأعجب سفهاء الناس وعامتهم العمياء، وكان كما قيل: أمورٌ يضحك السفهاء منها ... ويبكي من عواقبها الحليم فآل ذلك إلى تلف القواعد العظيمة، وتملّك الأمصار الجليلة، وخروجها من يد الإسلام. والضابط فيما يقال في شأن أهل الأندلس في السلطان أنهم إذا وجدوا فارساً يبرع الفرسان أو جواداً يبرع الأجواد تهافتوا في نصرته، ونصبوه ملكاً من غير تدبير في عاقبة، آل الأمر إلى ما يؤول إليه، وبعد أن يكون الملك في مملكة

_ (1) ق ج ط: لمداراة. (2) ط ق: تنزو. (3) ك: القلوب.

قد توورثت وتدوولت، ويكون في تلك المملكة قائد من قوادها قد شهرت عنه وقائع في العدو وظهر منه كرم نفسٍ للأجناد ومراعاة، قدّموه ملكاً في حصن من الحصون، ورفضوا عيالهم وأولادهم - إن كان لهم ذلك - بكرسيّ الملك، ولم يزالوا في جهاد وإتلاف أنفس حتى يظفر صاحبهم بطلبته. وأهل المشرق أصوب رأياً منهم في مراعاة نظام الملك، والمحافظة على نصابه، لئلاّ يدخل الخلل الذي يقضي باختلال القواعد وفساد التربية وحلّ الأوضاع. ونحن نمثل في ذلك بما شاهدناه: لما كانت هذه الفتنة الأخيرة بالأندلس تمخّضت عن رجل من حصن يقال له أرجونة، ويعرف الرجل بابن الأحمر، كان يكثر مغاورة العدو من حصنه، وظهرت له مخايل وشواهد على الشجاعة، إلى أن سار (1) اسمه في الأندلس، وآل ذلك إلى ان قدّمه أهل حصنه على أنفسهم، ثم نهض فملك قرطبة العظمى، وملك إشبيلية، وقتل ملكها الباجيّ، وملك جيّان أحصن بلد بالأندلس وأجلّه قدراً في الامتناع، وملك غرناطة ومالقة، وسمّوه بأمير المسلمين، فهو الآن المشار إليه بالأندلس والمعتمد عليه. [ابن سعيد يصف الخطط الأندلسية: 1 - الوزارة] 1 - الوزارة وأمّا قاعدة الوزارة بالأندلس فإنّها كانت في مدة بني أميّة مشتركة في جماعة يعينهم صاحب الدولة للإعانة والمشاورة، ويخصّهم بالمجالسة، ويختار منهم شخصاً لمكان النائب المعروف بالوزير فيسمّيه بالحاجب، وكانت هذه المراتب لضبطها عندهم كالمتوارثة في البيوت المعلومة لذلك، إلى أن كانت ملوك الطوائف، فكان الملك منهم - لعظم اسم الحاجب في الدولة المروانية، وأنّه كان نائباً عن خليفتهم - يسمّى بالحاجب، ويرى أن هذه السمة أعظم ما تنوفس فيه وظفر به، وهي موجودة في أمداح شعرائهم وتواريخهم. وصار

_ (1) ك: طار.

اسم الوزارة عامّاً لكل من يجالس الملوك ويختص بهم، وصار الوزير الذي ينوب عن الملك يعرف بذي الوزارتين، وأكثر ما يكون فاضلاً في علم الأدب، وقد لا يكون كذلك، بل عالماً بأمور الملك خاصة. [2 - الكتابة] وأما الكتابة فهي على ضربين: أعلاهما: كاتب الرسائل، وله حظ في القلوب والعيون عند أهل الأندلس، وأشرف أسمائه الكاتب، وبهذه السّمة يخططه (1) من يعظمه في رسالة. وأهل الأندلس كثيرو الانتقاد على صاحب هذه السّمة، لا يكادون يغفلون عن عثراته لحظة، فإن كان ناقصاً عن درجات الكمال لم ينفعه جاهه ولا مكانه من سلطانه من تسلّط الألسن في المحافل والطّعن عليه وعلى صاحبه. والكاتب الآخر كاتب الزمام، هكذا يعرفون كاتب الجهبذة، ولا يكون بالأندلس وبرّ العدوة لا نصرانيّاً ولا يهوديّاً البتّة، إذ هذا الشغل نبيه يحتاج إلى صاحبه عظماء الناس ووجوههم. [3 - الخراج] وصاحب الأشغال الخراجية في الأندلس أعظم من الوزير، وأكثر أتباعاً وأصحاباً وأجدى منفعةً، فإليه تميل الأعناق، ونحوه تمد الأكف، والأعمال مضبوطة بالشهود والنظار، ومع هذا إن تأثلت حالته واغتر بكثرة البناء والاكتساب نكب وصودر، وهذا راجع إلى تقلب الأحوال وكيفية السلطان. [4 - القضاء] وأما خطّة القضاء بالأندلس فهي أعظم الخطط عند الخاصة والعامة، لتعلّقها بأمور الدين، وكون السلطان لو توجّه عليه حكم حضر بين يدي القاضي، هذا

_ (1) ك: يخصه.

وضعها في زمان بني أمية، ومن سلك مسلكهم، ولا سبيل أن يتسمّى بهذه السّمة إلاّ من هو والٍ للحكم الرعي في مدينة جليلة، وإن كانت صغيرة فلا يطلق على حاكمها إلا مسدّد، خاصة، وقاضي القضاة يقال له: قاضي القضاة، وقاضي الجماعة. [5 - خطة الشرطة] وأما خطة الشّرطة بالأندلس فإنها مضبوطة إلى الآن، معروفة بهذه السّمة، ويعرف صاحبها في ألسن العامة بصاحب المدينة وصاحب الليل، وإذا كان عظيم القدر عند السلطان كان له القتل لمن يجب (1) عليه دون استئذان السلطان، وذلك قليل، ولا يكون إلا في حضرة السلطان الأعظم، وهو الذي يحدّ على الزنا وشرب الخمر، وكثير من الأمور الشرعية راجع إليه، قد صارت تلك عادة تقرّر عليها رضا القاضي، وكانت (2) خطة القاضي أوقر وأتقى عندهم من ذلك. [6 - الحسبة] وأمّا خطّة الاحتساب فإنّها عندهم موضوعة في أهل العلم والفطن، وكأن صاحبها قاض، والعدة فيه أن يمشي بنفسه راكباً على الأسواق، وأعوانه معه، وميزانه الذي يزن به الخبز في يد أحد الأعوان، لأن الخبز عندهم معلوم الأوزان للربع من الدرهم رغيف على وزن معلوم، وكذلك للثّمن، وفي ذلك من المصلحة أن يرسل المبتاع الصبيّ الصغير أو الجارية الرعناء فيستويان فيما يأتيانه به من السوق مع الحاذق في معرفة الأوزان، وكذلك اللحم تكون عليه ورقة بسعره، ولا يجسر الجزار أن يبيع بأكثر من دون (3) ما حدّ له المحتسب في

_ (1) ك: وجب. (2) ق: وكان. (3) ق ودوزي: أن يبيع بدون.

الورقة، ولا يكاد تخفى خيانته، فإن المحتسب يدسّ عليه صبيّاً أو جارية يبتاع أحدهما منه، ثم يختبر الوزن المحتسب، فإن وجد نقصاً قاس على ذلك حاله مع الناس، فلا تسأل عمّا يلقى، وإن كثر ذلك منه ولم يتب بعد الضرب والتجريس (1) في الأسواق نفي من البلد. ولهم في أوضاع الاحتساب قوانين يتداولونها (2) ويتدارسونها كما تتدارس أحكام الفقه، لأنها عندهم تدخل في جميع المبتاعات وتتفرع إلى ما يطول ذكره. [7 - خطة الطواف بالليل] وأمّا خطة الطواف باللّيل وما يقابل من المغرب أصحاب أرباع في المشرق فإنهم يعرفون في الأندلس بالدرّابين، لأن بلاد الأندلس لها دروب بأغلاق تغلق بعد العتمة، ولكل زقاق بائت فيه، له سراجٌ معلّق وكلب يسهر وسلاح معدّ، وذلك لشطارة عامّتها وكثرة شرّهم، وإغيائهم (3) في أمور التلصص، إلى أن يظهروا على المباني المشيدة، ويفتحوا الأغلاق الصعبة، ويقتلوا صاحب الدار خوف أن يقرّ عليهم أو يطالبهم بعد ذلك، ولا تكاد في الأندلس تخلو من سماع دار فلان دخلت البارحة وفلان ذبحه اللصوص على فراشه وهذا يرجع التكثير منه والتقليل إلى شدّة الوالي ولينه، ومع إفراطه في الشدّة وكون سيفه يقطر دماً فإن ذلك يعدم، وقد آل الحال عندهم إلى أن قتلوا على عنقودٍ سرقه شخص من كرم وما أشبه ذلك، فلم ينته اللصوص. [الأندلسيون والتشريع] وأمّا قواعد أهل الأندلس في ديانتهم فإنّها تختلف بحسب الأوقات والنظر

_ (1) التجريس: الفضح والتشهير. (2) يتداولونها: سقطت من ق ط ج. (3) ك: وإعيائهم.

إلى السلاطين، ولكن الأغلب عندهم إقامة الحدود، وإنكار التهاون بتعطيلها، وقيام العامة في ذلك وإنكاره إن تهاون فيه أصحاب السلطان، وقد يلج السلطان في شيء من ذلك ولا ينكره، فيدخلون عليه قصره المشيد ولا يعبأون بخيله ورجله حتى يخرجوه من بلدهم، وذا كثير في أخبارهم. وأمّا الرجم بالحجر للقضاة والولاة للأعمال إذا لم يعدلوا فكلّ يوم. [الأندلسيون والتصوف] وأمّا طريقة الفقراء على مذهب أهل الشرق والدّروزة (1) التي تكسل عن الكد وتحوج (2) الوجوه للطلب في الأسواق فمستقبحة عندهم إلى نهاية (3) ، وإذا رأوا شخصاً صحيحاً قادراّ على الخدمة يطلب سبّوه وأهانوه، فضلاً عن أن يتصدقوا عليه، فلا تجد بالأندلس سائلاً إلا أن يكون صاحب عذر. [الأندلسيون والعلوم والآداب] وأمّا حال أهل الأندلس في فنون (4) العلوم فتحقيق الإنصاف في شأنهم في هذا الباب أنهم أحرص الناس على التميز، فالجاهل الذي لم يوفقه الله للعلم يجهد أن يتميز بصنعة، ويربأ بنفسه أن يرى فارغاً عالةً على الناس، لأن هذا عندهم في نهاية القبح، والعالم عندهم معظّم من الخاصة والعامة، يشار إليه ويحال عليه، وينبه قدره وذكره عند الناس، ويكرم في جوار أو ابتياع حاجة، وما أشبه ذلك. ومع هذا فليس لأهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم بل يقرءون جميع العلوم في المساجد بأجرة، فهم يقرءون لأن يعلموا لا لأن يأخذوا جارياً،

_ (1) ك: الدورة؛ والدروزة من الفارسية " درويزه " أي الكدية والشحذ. (2) ك: وتخرج. (3) ك: النهاية. (4) ق: العلم.

فالعالم منهم بارع لأنّه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه يحمله على أن يترك الشغل الذي يستفيد منه، وينفق من عنده حتى يعلم، وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء، إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظّاً عظيماً عند خواصهم، ولا يتظاهر بهما خوف العامة، فإنّه كلّما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة (1) اسم زنديق، وقيدت عليه أنفاسه، فإن زلّ في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقرباً لقلوب العامة، وكثيراً ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدة، وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه وإن كان غير خالٍ من الاشتغال بذلك في الباطن على ما ذكره الحجاري، الله أعلم. وقراءة القرآن بالسبع ورواية الحديث عندهم رفيعة، وللفقه رونقٌ ووجاهة، ولا مذهب لهم إلا مذهب مالك، وخواصهم يحفظون من سائر المذاهب ما يباحثون به محاضر ملوكهم ذوي الهمم في العلوم. وسمة الفقيه عندهم جليلة، حتى إن الملثمين كانوا يسمون الأمير العظيم منهم الذي يريدون تنويهه بالفقيه، وهي الآن بالمغرب بمنزلة القاضي بالمشرق، وقد يقولون للكاتب والنحوي واللغوي فقيه لأنها عندهم أرفع السّمات. وعلم الأصول عندهم متوسط الحال، والنحو عندهم في نهاية من علو الطبقة، حتى إنهم في هذا العصر فيه كأصحاب عصر الخليل وسيبويه، لا يزداد مع هرم الزمان إلا جدّةً، وهم كثيرو البحث فيه وحفظ مذاهبه كمذاهب الفقه، وكل عالم في أيّ علم لا يكون متمكناً من علم النحو - بحيث لا تخفى عليه الدقائق - فليس عندهم بمستحق للتمييز، ولا سالم من الازدراء، مع أن كلام أهل الأندلس الشائع في الخواص والعوام كثير الانحراف عمّا تقتضيه أوضاع العربية، حتى لو أن شخصاً من العرب سمع كلام الشلوبيني أبي عليّ المشار إليه بعلم النحو في عصرنا الذي غرّبت تصانيفه

_ (1) العامة: سقطت من ك.

وشرّقت وهو يقرئ درسه لضحك بملء فيه من شدة التحريف الذي في لسانه؛ والخاصّ منهم إذا تكلم بالإعراب وأخذ يجري على قوانين النحو استثقلوه واستبردوه، ولكن ذلك مراعىً عندهم في القراءات والمخاطبات بالرسائل. وعلم الأدب المنثور من حفظ التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الحكايات أنبل علم عندهم، وبه يتقرب من مجالس ملوكهم وأعلامهم، ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو غفلٌ مستثقلٌ. والشعر عندهم له حظ عظيم، وللشعراء من ملوكهم وجاهة، ولهم عليهم وظائف، والمجيدون منهم ينشدون في مجالس عظماء ملوكهم المختلفة، ويوقّع لهم بالصلات على أقدارهم، إلا أن يختل الوقت ويغلب الجهل في حين مّا ولكن هذا الغالب. وإذا كان الشخص بالأندلس نحويّاً أو شاعراً فإنّه يعظم في نفسه لا محالة ويسخف ويظهر العجب، عادةٌ قد جبلوا عليها. [الزي الأندلسي في السلم والحرب] وأما زيّ أهل الأندلس فالغالب عليهم ترك العمائم، لا سيما في شرق الأندلس، فإن أهل غربها لا تكاد ترى فيهم قاضياً ولا فقيهاً مشاراً إليه إلاّ وهو بعمامة، وقد تسامحوا بشرقها في ذلك، ولقد رأيت عزيز بن خطاب (1) أكبر عالم بمرسية، حضرة السلطان في ذلك الأوان، وإليه الإشارة، وقد خطب له بالملك في تلك الجهة، وهو حاسر الرأس، وشيبه قد غلب على سواد شعره. وأما الأجناد وسائر الناس فقليل منهم تراه بعمّة في شرق منها أو في غرب، وابن هود الذي ملك الأندلس في عصرنا رأيته في جميع أحواله ببلاد الأندلس وهو دون عمامة، وكذلك ابن الحمر الذي معظم الأندلس الآن في يده، وكثيراً

_ (1) عزيز بن عبد الملك بن محمد بن خطاب القيسي، أبو بكر مرسي سرقسطي الأصل، كان زاهداً عابداً ناشراً للعلم حتى امتحن برياسة بلده فلم تحمد سيرته، قتل سنة 626. (ترجمته في الذيل والتكملة 5: 144 وفي الحاشية ثبت بالمصادر) .

ما يتزيّا سلاطينهم وأجنادهم بزيّ النصارى المجاورين لهم، فسلاحهم كسلاحهم، وأقبيتهم من الإشكرلاط (1) وغيره كأقبيتهم، وكذلك أعلامهم وسروجهم. ومحارتهم بالتّراس والرّماح الطويلة للطعن، ولا يعرفون الدبابيس، ولا قسيّ العرب، بل يعدون قسيّ الإفرنج للمحاصرات في البلاد، أو تكون للرجّالة عند المصاففة للحرب، وقليلاً (2) ما تصبر الخيل عليهم أو تمهلهم لأن يوتروها، ولا تجد في خواص الأندلس وأكثر عوامهم من يمشي دون طيلسان، إلاّ أنّه لا يضعه على رأسه منهم إلا الأشياخ المعظّمون، وغفائر الصوف كثيراً ما يلبسونها حمراً وخضراً؛ والصّفر مخصوصة باليهود، ولا سبيل إلى يهودي (3) أن يتعمّم البتّة، والذؤابة لا يرخيها إلاّ العالم، ولا يصرفونها بين الأكتاف، وإنّما يسدلونها من تحت الأذن اليسرى. وهذه الأوضاع التي بالمشرق في العمائم لا يعرفها أهل الأندلس، وإن رأوا في رأس مشرقّي داخلٍ إلى بلادهم شكلاً منها أظهروا التعجب والاستظراف، ولا يأخذون أنفسهم بتعليمها لأنهم لم يعتادوا ولم يستحسنوا غير أوضاعهم، وكذلك في تفصيل الثياب. [تدبير الأندلسيين ومروءتهم] وأهل الأندلس أشدّ خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون وما يفرشون، وغير ذلك ممّا يتعلّق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه، فيطويه صائماً ويبتاع صابوناً يغسل به ثيابه، ولا يظهر فيها ساعةً على حالة تنبو العين عنها. وهم أهل احتياط وتدبير في المعاش وحفظ لما في أيديهم خوف ذلّ السؤال، فلذلك قد ينسبون للبخل، ولهم مروءات على عادة بلادهم، لو فطن لها حاتم

_ (1) الاشكرلاط، ويقال الاشكيلاط (ecarlate) نوع من الجوخ، قرمزي أحمر. (2) ك: وكثيراً. (3) ك: ليهودي.

لفضّل دقائقها على عظائمه؛ ولقد اجتزت مع والدي على قرية من قراها، وقد نال منّا البرد والمطر أشدّ النّيل، فأوينا إليها، وكنّا على حال ترقّبٍ من السلطان وخلوّ من الرفاهية، فنزلنا في بيت شيخ من أهلها، من غير معرفة متقدمة، فقال لنا: إن كان عندكم ما أشتري لكم فحماً تسخنون به فإنّي أمضي في حوائجكم، وأجعل عيالي يقومون بشأنكم، فأعطيناه ما اشترى به فحماً، فأضرم ناراً، فجاء ابنٌ له صغير ليصطلي، فضربه، فقال له والدي: لم ضربته؟ فقال: يتعلّم استغنام مال (1) الناس والضّجر للبرد من الصغر، ثم لما جاء النوم قال لابنه: أعط هذا الشابّ كساءك الغليظة يزيدها على ثيابه، فدفع كساءه إليّ، ولما قمنا عند الصباح وجدت الصبيّ منتبهاً ويده في الكساء، فقلت ذلك لوالدي، فقال: هذه مروءات أهل الأندلس، وهذا احتياطهم، أعطاك الكساء وفضّلك على نفسه، ثم أفكر في أنك غريب لا يعرف هل أنت ثقة أو لص، فلم يطب له منام حتى يأخذ كساءه خوفاً من انفصالك بها وهو نائم، وعلى هذا الشيء الحقير فقس (2) الشيء الجليل؛ انتهى كلام ابن سعيد في المغرب باختصار يسير. [منهج كتاب المغرب لابن سعيد] ولله درّه، فإنّه أبدع في هذا الكتاب ما شاء، وقسمه إلى أقسام، منها: كتاب وشي الطرس، فيحلى جزيرة الأندلس وهو ينقسم إلى أربعة كتب: الكتاب الأول: كتاب " حلي العرس، في حلى غرب الأندلس ". الكتاب الثاني: كتاب " الشفاه اللّعس، في حلى موسطة الأندلس ".

_ (1) ك: أموال. (2) ق: قس.

الكتاب الثالث: " كتاب الأنس في حلى شرق الأندلس ". الكتاب الرابع: كتاب " لحظات المريب، في ذكر ما حماه من الأندلس عبّاد الصليب ". والقسم الثاني كتاب " الألحان المسلية، في حلى جزيرة صقلية " وهو أيضاً ذو أنواع. والقسم الثالث كتاب الغاية الأخيرة، في حلى الأرض الكبيرة وهو أيضاً ذو أقسام، وصوّر - رحمه الله تعالى - أجزاء الأندلس في كتاب وشي الطرس وقال أيضاً: إن كلاًّ من شرق الأندلس وغربها ووسطها يقرب في قدر المساحة بعضه من بعض، وليس فيها جزء يجاوز طوله عشرة أيام، ليصدق التثليث في القسمة، وهذا دون ما بقي بأيدي النصارى. وقدم - رحمه الله - كتاب حلي العرس، في حلى غرب الأندلس لكون قرطبة قطب الخلافة المروانية وإشبيلية التي ما في الأندلس أجمل منها فيه، وقسمه إلى سبعة كتب (1) ، كل كتاب منها يحتوي على مملكة منحازة عن الأخرى: الكتاب الأول: كتاب " الحلة المذهبة، في حلى مملكة قرطبة ". الكتاب الثاني: كتاب " الذهبية الأصيلية، في حلى المملكة الإشبيلية ". الكتاب الثالث: كتاب " خدع الممالقة، في حلى مملكة مالقة (2) . الكتاب الرابع: كتاب " الفردوس، في حلى مملكة بطليوس ". الكتاب الخامس: كتاب " الخلب، في حلى مملكة شلب ". الكتاب السادس: كتاب " الديباجة، في حلى مملكة باجة ". الكتاب السابع: كتاب " الرياض المصونة، في حلى مملكة أشبونة " وقد

_ (1) راجع المغرب 1: 34. (2) جاء هذا الكتاب " سابعاً " حسب ترتيب المغرب المطبوع.

ذكر - رحمه الله تعالى - في كل قسم ما يليق به، وصوّر أجزاءه على ما ينبغي، فالله يجازيه خيراً؛ والكلام في الأندلس طويل عريض. [خاتمة في نبذة جغرافية] وقال بعض المؤرخين: طول الأندلس ثلاثون يوماً وعرضها تسعة أيام، ويشقها أربعون نهراً كباراً (1) ، وبها من العيون والحمامات والمعادن ما لا يحصى، وبها ثمانون مدينة من القواعد الكبار، وأزيد من ثلثمائة من المتوسطة، وفيها من الحصون والقرى والبروج ما لا يحصى كثرة، حتى قيل: إن عدد القرى التي على نهر إشبيلية اثنا عشر ألف قرية، وليس في معمور الأرض صقع يجد المسافر فيه ثلاث مدن وأربعاً من يومه إلى بالأندلس، ومن بركتها أن المسافر لا يسير (2) فيها فرسخين دون ماء أصلاً، وحيثما سار من الأقطار يجد الحوانيت في الفلوات والشعاري (3) والأودية ورؤوس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وغير ذلك من ضروب الأطعمة. وذكر صاحب الجغرافيا أن جزيرة الأندلس مسيرة أربعين يوماً طولاً في ثمانية عشر يوماً عرضاً، وهو مخالف لما سبق. وقال ابن سيده: أخذت الأندلس في عرض الإقليمين الخامس والسادس من البحر الشامي في الجنوب إلى البحر المحيط في الشمال، وبها من الجبال سبعة وثمانون جبلاً، انتهى. [مقطعات في مدح الأندلس] ولبعضهم: ولله أندلسٌ وما جمعت بها ... من كل ما ضمّت لها الأهواء

_ (1) كباراً: سقطت من ق. (2) ك: لا يسافر. (3) ك: والصحاري.

فكأنّما تلك الديار كواكبٌ ... وكأنّما تلك البقاع سماء وبكلّ قطر جدولٌ في جنّةٍ ... ولعت به الأفياء والأنداء وقال غيره: في أرض أندلسٍ تلتذّ نعماء ... ولا يفارق فيها القلب سرّاء وليس فيغيرها بالعيش منتفعٌ ... ولا تقوم بحقّ الماء (1) صهباء وأين يعدل عن أرضٍ تحض بها ... على الشهادة أزواجٌ وأبناء وأين يعدل عن أرضٍ تحثّ بها ... على المدامة أفياءٌ وأنداء (2) وكيف لا تبهج الأبصار رؤيتها ... وكلّ أرضٍ بها في الوشي صنعاء أنهارها فضةٌ، والمسك تربتها ... والخز روضتها، والدّرّ حصباء وللهواء بها لطفٌ يرق به ... من لا يرقّ، وتبدو منه أهواء ليس النسيم الذي يهفو بها سحراً ... ولا انتشار لآلي الطل أنداء وإنّما أرج الند استثار بها ... في ماء وردٍ فطابت منه أرجاء وأين يبلغ منها ما أصنّفه ... وكيف يحوي الذي حازته إحصاء قد ميزت من جهات الأرض ثم بدت ... فريدةً، وتولّى ميزها الماء دارت عليها نطاقاً أبحرٌ خفقت ... وجداً بها إذ تبدّت وهي حسناء (3) لذاك يبسم فيها الزهر من طربٍ ... والطير يشدو، وللأغصان إصغاء فيها خلعت عذاري ما بها عوضٌ ... فهي الرياض وكل الأرض صحراء وقد تقدمت هذه القصيدة (4) . وقال آخر: حبذا أندلسٌ من بلدٍ ... لم تزل تنتج لي كلّ سرور

_ (1) ك: الأنس. (2) ك: أمواه وأفياء. (3) هذا البيت وأربعة قبله سقطت من ق ط ج. (4) انظر ص: 209 - 210 في ما تقدم.

طائرٌ شادٍ، وظلٌّ وارفٌ ... ومياهٌ سائحاتٌ وقصور وقال آخر: يا حسن أندلسٍ وما جمعت لنا ... فيها من الأوطار والأوطان تلك الجزية لست أنسى حسنها ... بتعاقب الأحيان والأزمان نسج الربيع نباتها من سندسٍ ... موشيّةٍ ببدائع الألوان وغدا النسيم بها عليلاً هائماً ... بربوعها وتلاطم البحران يا حسنها والطلّ ينثر فوقها ... درراً خلال الورد والرّيحان وسواعد الأنهار قد مدّت إلى ... ندمائها بشقائق النّعمان وتجاوبت فيها شوادي طيرها ... والتفّت الأغصان بالأغصان ما زرتها إلاّ وحيّاني بها ... حدق البهار وأنمل السّوسان من بعدها ما أعجبتني بلدةٌ ... مع ما حللت به من البلدان [من خصائص الأندلس] وحكى بعضهم أن بالجامع من مدينة أقليش بلاطاً فيه جوائز منشورة مربعة مستوية الأطراف، طول الجائزة منها مائة شبر وأحد عشر شبراً. وفي الأندلس جبلٌ من شرب من مائه كثر عليه الاحتلام، من غير إرادة ولا تفكر، وفيها غير ذلك ممّا يطول ذكره، والله أعلم. ولنمسك العنان في هذا الباب، فإن بحر الأندلس طويلٌ مديدٌ، وربما كررنا الكلام لارتباط بعضه ببعضٍ، أو لنقل صاحبه المروي عنه، أو لاختلاف مّا، أو غير ذلك من غرضٍ سديدٍ.

الباب الثاني

الباب الثاني في إلقاء الأندلس للمسلمين بالقياد، وفتحها على يد موسى بن نصير ومولاه طارق بن زياد، وسيرورتها ميداناً لسبق الجياد، ومحطّ رحل الارتباء (1) والارتياد، وما يتبع ذلك من خبرٍ حصل بازديانه ازدياد، ونبإٍ وصل إليه اعتيام وتقرر بمثله اعتياد اعلم أنّه لما قضى الله سبحانه بتحقيق قول رسول الله، صلى الله عليه وسلّم: " زويت لي مشارق الأرض ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها " وقع الخلاف بين لذريق ملك القوط وبين ملك سبتة الذي على مجاز الزّقاق، فكان ما يذكر من فتح الأندلس على يد طارق وطريف ومولاهما الأمير موسى ابن نصير، رحم الله الجميع. [أخبار الفتح حسب مختلف الروايات] وذكر الحجاري وابن حيّان وغيرهما أن أوّل من دخل جزيرة الأندلس من المسلمين برسم الجهاد طريفٌ البربريّ مولى موسى بن نصير الذي تنسب إليه جزيرة طريف التي على المجاز، غزاها بمعونة صاحب سبتة يليان النصراني، لحقده على لذريق صاحب الأندلس، وكان في مائة فارس وأربعمائة راجل، جاز البحر في أربعة مراكب، في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين، وانصرف

_ (1) في جميع الأصول: الارتياء، والصواب ما أثبته، والارتباء: هو تقديم الربيئة أي الطليعة وهو موافق للارتياد.

بغنيمةٍ جليلةٍ، فعقد موسى بن نصير صاحب المغرب لمولاه طارق بن زياد على الأندلس، ووجّهه مع يليان صاحب سبتة، انتهى. وسيأتي في أمر طريف وغيره ما يخالف هذا السياق (1) ، وهي أقوال. وقال ابن حيّن: إن أول أسباب فتح الأندلس كان أن ولّى الوليد بن عبد الملك موسى بن نصير مولى عمّه عبد العزيز على إفريقية وما خلفها سنة ثمانٍ وثمانين فخرج في نفرٍ قليلٍ من المطّوّعة، فلمّا ورد مصر أخرج معه من جندها بعثاً، وفعل ذلك في إفريقية، وجعل على مقدمته مولاه طارقاً، فلم يزل يقاتل البربر ويفتح مدائنهم، حتى بلغ مدينة طنجة، وهي قصبة بلادهم وأم مدائنهم فحصرها حتى فتحها، وأسلم أهلها، ولم تكن فتحت قبله، وقيل: بل فتحت ثم استغلقت. وذكر ابن حيّان أيضاً استصعاب سبتة على موسى بتدبير صاحبها الداهية الشجاع يليان النصراني، وأنّه في أثناء ذلك وقع بينه وبين لذريق صاحب الأندلس، ثم سرد ما يأتي ذكره. وقال لسان الدين بن الخطيب رحمه الله: وحديث الفتح، وما منّ الله به على الإسلام من المنح، وأخبار ما أفاء الله من الخير، على موسى بن نصير، وكتب من جهاد، لطارق بن زياد، مملول قصّاصٍ وأوراق، وحديث أفولٍ وإشراقٍ، وإرعادٍ وإبراقٍ، وعظم امتشاش، وآلةٍ معلّقةٍ في دكان قشاش، انتهى. وقال في المغرب: طارق بن زياد من إفريقية. وقال ابن بشكوال: إنّه طارق بن عمرو، فتح جزيرة الأندلس ودوّخها، وإليه نسب جبل طارق الذي يعرفه العامة بجبل الفتح، في قبلة الجزيرة الخضراء، ورحل مع سيّده بعد فتح الأندلس إلى الشام وانقطع خبره، انتهى.

_ (1) ك: الانسياق.

وقال أيضاً: إن طارقاً كان حسن الكلام ينظم ما يجوز كتبه، وأما المعارف السلطانيّة فيكفيه ولاية سلطنة الأندلس وما فتح فيها من البلاد إلى أن وصل سيده موسى بن نصير. ومن تاريخ ابن بشكوال: احتل طارق بالجبل المنسوب إليه يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة اثنتين وتسعين في اثني عشر ألفاً غير اثني عشر رجلاً من البربر، ولم يكن فيهم من العرب إلاّ شيءٌ يسير، وإنّه لما ركب البحر رأى وهو نائم النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، وحوله المهاجرون والأنصار قد تقلدوا السيوف وتنكبوا القسيّ، فيقول له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " يا طارق تقدم لشأنك، ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الأندلس قدّامه، فهبّ من نومه مستبشراً، وبشّر أصحابه، وثابت نفسه ببشراه، ولم يشك في الظفر، فخرج من الجبل، واقتحم بسيط البلد شانّاً للغارة، وأصاب عجوزاً من أهل الجزيرة فقالت له في بعض قولها: إنّه كان لها زوجٌ عالم بالحدثان، فكان يحدثهم عن أمير يدخل بلدهم هذا فيغلب عليه، ويصف من نعته أنّه ضخم الهامة، فأنت كذلك، ومنها أن في كتفه اليسرى شامةٌ عليها شعر، فإن كانت فيك فأنت هو، فكشف ثوبه فإذا بالشامة في كتفه على ما ذكرت، فاستبشر بذلك ومن معه. ومن تاريخ ابن حيّان: لما حرّض يليان النصرانيّ صاحب سبتة، للأمر الذي وقع بينه وبين صاحب الأندلس، موسى بن نصير على غزو الأندلس جهز لها مولاه طارقاً المذكور في سبعة آلاف من المسلمين، جلّهم من البربر، في أربع سفنٍ، وحط بجبل طارق المنسوب إليه يوم السبت في شعبان سنة اثنتين وتسعين، ولم تزل المراكب تعود حتى توافى جميع أصحابه عنده بالجبل، قال: ووقع على لذريق صاحب الأندلس الخبر، وأن يليان السبب فيه، وكان يومئذٍ غازياً في جهة البشكنس، فبادر في جموعه وهم نحو مائة ألف ذوي عددٍ وعدّةٍ (1) ،

_ (1) ك: عدة وعدد.

وكتب طارق إلى موسى بأنّه قد زحف إليه (1) لذريق بما لا طاقة له به، وكان عمل من السفن عدّة، فجهّز له فيها خمسة آلاف من المسلمين، فكملوا بمن تقدّم اثني عشر ألفاً، ومعهم يليان صاحب سبتة في حشده يدلّهم على العورات، ويتجسس لهم الأخبار، وأقبل نحوهم لذريق ومعه خيار العجم وأملاكها وفرسانها، وقلوبهم عليه، فتلاقوا فيما بينهم، وقالوا: إن هذا الخبيث غلب على سلطاننا، وليس من بيت الملك، وإنّما كان من أتباعنا، ولسنا نعدم من سيرته خبالاً واضطراباً، وهؤلاء القوم الذين طرقوا لا حاجة لهم في إيطان بلدنا، وإنّما مرادهم أن يملأوا أيديهم من الغنائم ويخرجوا عنّا، فلهمّ فلننهزم بابن الخبيثة إذا نحن لقينا القوم، فلعلهم يكفوننا أمره، فإذا هم انصرفوا عنّا أقعدها في ملكنا من يستحقّه، فأجمعوا على ذلك، انتهى. وقال ابن خلدون (2) - بعد ذكره أن القوطيين كان لهم ملك الأندلس، وأن ملكهم لعهد الفتح يسمى لذريق - ما نصّه: وكانت له خطوة وراء البحر في هذه العدوة الجنوبية خطوها من فرضة المجاز بطنجة، ومن زقاق البحر إلى بلاد البربر، واستعبدوهم، وكان ملك البرابرة بذلك القطر الذي هو اليوم جبار غمارة يسمى يليان، فكان يدين بطاعتهم وبملّتهم، وموسى بن نصير أمير المغرب (3) إذ ذاكعامل على إفريقية من قبل الوليد بن عبد الملك، ومنزله بالقيروان، وكان قد أغزى لذلك العهد عساكر المسلمين بلاد المغرب الأقصى، ودوّخ أقطاره، وأثخن (4) في جبال طنجة هذه حتى وصل خليج الزّقاق، واستنزل يليان لطاعة الإسلام، وخلف مولاه طارق بن زياد الليثي والياً بطنجة، وكان يليان ينقم على لذريق ملك القوط لعهده بالأندلس فعلةً فعلها زعموا

_ (1) ك: زحف عليه. (2) تاريخ ابن خلدون 4: 117. (3) ابن خلدون وق: أمير العرب. (4) ابن خلدون: وأوغل.

بابنته الناشئة في داره على عادتهم في بنات بطارقتهم، فغضب لذلك، وأجاز إلى لذريق، وأخذ ابنته منه، ثم لحق بطارق فكشف للعرب عورة القوط ودلّهم على عورة (1) فيهم أمكنت طارقاً فيها الفرصة فانتهزها لوقته، وأجاز البحر سنة اثنتين وتسعين من الهجرة بإذن أميره موسى بن نصير في نحو ثلثمائة من العرب، واحتشد معهم من البربر زهاء عشرة آلاف، فصيرهم عسكرين: أحدهما على نفسه ونزل به جبل الفتح، فسمّي جبل طارق به، والآخر على طريف بن مالك النخعي، ونزل بمكانٍ مدينة طريف، فسمّي به، وأداروا الأسوار على أنفسهم للتحصّن، وبلغ الخبر إلى لذريق فنهض إليهم يجرّ أمم الأعاجم وأهل ملّة النصرانية في زهاء أربعين ألفاً، وزحفوا إليه، فالتقوا بفحص شريش، فهزمه الله ونفلهم أموال أهل الكفر ورقابهم، وكتب طارق إلى موسى بن نصير بالفتح وبالغنائم، فحركته الغيرة، وكتب إلى طارق يتوعّده إن توغّل بغير إذنه، ويأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به، واستخلف على القيروان ولده عبد الله، وخرج ومعه حبيب بن أبي عبيدة (2) الفهري، ونهض من القيروان سنة ثلاثٍ وتسعين من الهجرة في عسكرٍ ضخمٍ من وجوه العرب الموالي (3) وعرفاء البربر، ووافى خليج الزّقاق ما بين طنجة والجزيرة الخضراء، فأجاز إلى الأندلس، وتلقّاه طارق فانقاد واتبع، وأتمّ موسى الفتح، وتوغّل في الأندلس إلى برشلونة في جهة الشرق وأربونة في الجوف، وصنم قادس في الغرب، ودوّخ أقطارها، وجمع غنائمها، وأجمع أن يأتي المشرق من ناحية القسطنطينية، ويتجاوز إلى الشام دروبه ودروب الأندلس، ويخوض إليه ما بينهما من أمم الأعاجم النصرانية، مجاهداً فيهم، مستلحماً

_ (1) ابن خلدون: غرة. (2) كذا في دوزي؛ وفي ق: حبيب بن سعيدة؛ وفي ك: حبيب بن مندة؛ وفي ط: بن بندة؛ وفي ج: ميدة؛ وفي ابن خلدون: حسين بن أبي عبد الله المهدي الفهري. (3) ج ودوزي: والموالي.

لهم، إلى أن يلحق بدار الخلافة، ونمي الخبر إلى الوليد فاشتدّ قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب، ورأى أنّ ما همّ به موسى غرر بالمسلمين، فبعث إليه بالتوبيخ والانصراف، وأسرّ إلى سفيره أن يرجع بالمسلمين إن لم يرجع (1) ، وكتب له بذلك عهده، ففتّ ذلك في عزم موسى، وقفل عن الأندلس بعد أن أنزل ابنه عبد العزيز لسدّها وجهاد عدوّها (2) ، وأنزله بقرطبة فاتخذها دار إمارة، واحتلّ موسى بالقيروان سنة خمس وتسعين، وارتحل إلى المشرق سنة ست بعدها بما كان معه من الغنائم والذخائر والأموال على العجل والظّهر، يقال: إن من جملتها ثلاثين ألف رأسٍ من السبي، وولّى على إفريقية ابنه عبد الله، وقدم على سليمان بن عبد الملك فسخطه ونكبه، وثارت عساكر الأندلس بابنه عبد العزيز بإغراء سليمان فقتلوه لسنتين من ولايته، وكان خيّراً فاضلاً، وافتتح في ولايته مدائن كثيرة، وولّي من بعده أيوب بن حبيب اللخمي، وهو ابن أخت موسى بن نصير، فوليّ عليها ستة أشهر، ثم تتابعت ولاة العرب على الأندلس: تارة من قبل الخليفة، وتارة من قبل عامله بالقيروان، وأثخنوا في أمم الكفر وافتتحوا برشلونة من جهة المشرق، وحصون قشتالة وبسائطها من جهة الجوف، وانقرضت أمم القوط، وأرز (3) الجلالقة ومن بقي من أمم العجم إلى جبال قشتالة وأربونة وأفواه الدّروب فتحصّنوا بها، وأجازت عساكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب الجزيرة حتى احتلوا البسائط وراءها، وتوغّلوا في بلاد الفرنجة، وعصفت ريح الإسلام بأمم الكفر من كل جهة، وربما كان بين جنود الأندلس من العرب اختلافٌ وتنازعٌ أوجد للعدو بعض الكرّة، فرجع الإفرنج ما كانوا غلبوهم عليه من بلاد برشلونة لعهد ثمانين

_ (1) ابن خلدون: إن لم يرجع هو. (2) ابن خلدون: لغزوها وجهاد أعدائها. (3) ك: وأوى؛ وأرز بمعنى لجأ وأوى.

سنة من لدن فتحها، واستمر الأمر على ذلك ". " وكان محمد بن يزيد عامل إفريقية لسليمان بن عبد الملك - لما بلغه مهلك عبد العزيز بن موسى بن نصير - بعث إلى الأندلس الحر بن عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، فقدم الأندلس، وعزل أيوب بن حبيب، وولي سنتين وثمانية أشهر ". " ثمّ بعث عمر بن عبد العزيز على الأندلس السّمح بن مالك الخولاني على رأس المائة من الهجرة، وأمره أن يخمس أرض الأندلس، فخمسها وبنى قنطرة قرطبة، واستشهد غازياً بأرض الفرنجة سنة ثنتين ومائة، فقدّم أهل الأندلس عليهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي إلى أن قدم عنبسة بن سحيم الكلبي من قبل يزيد بن أبي مسلم عامل إفريقية، فقدمها في صفر سنة ثلاث ومائة، فاستقام أمر الأندلس، وغزا الفرنجة، وتوغّل في بلادهم، واستشهد سنة سبع ومائة لأربع سنين وأربعة أشهر ". " ثم تتابعت ولاة الأندلس من قبل أمراء إفريقية: فكان أولهم يحيى بن سلمة الكلبي، أنفذه بشر بن صفوان الكلبي والي إفريقية، لمّا استدعى منه أهل الأندلس والياً بعد مقتل عنبسة، فقدمها آخر سنة سبع، وأقام في ولايتها سنتين ونصفاً، ولم يغز، وقدم إليها عثمان بن أبي نسعة الخثمعي (1) والياً من قبل عبيدة عبد الرحمن السّلمي صاحب إفريقية، وعزله لخمسة أشهر بحذيفة بن الأحوص القيسي فوافاها سنة عشر، وعزل قريباً يقال: لسنة إحدى عشرة، وغزا أرض مقوشة (2) فافتتحها وتوفّي سنة ثلاث عشرة ومائة لسنتين من ولا يته، وقدم بعده محمد بن عبد الله الأشجعي، فوليّ شهرين، ثمّ قدم عبد الرحمن بن

_ (1) اللخمي في جميع النسخ. (2) كذا في الأصول وابن خلدون، ويبدو أن صوابه: " منوسة " كما دوزي.

عبد الله الغافقي من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية، فدخلها سنة ثلاث عشرة، وغزا الإفرنجة، وكانت له فيهم وقائع، وأصيب عسكره في رمضان سنة أربع عشرة، في موضع يعرف ببلاط الشهداء، وبه عرفت الغزوة، وكانت ولاته سنة وثمانية أشهر، ثم وليّ عبد الملك بن قطن الفهري، وقدم في رمضان سنة أربع عشرة فولي سنتين - وقال الواقدي: أربع سنين - وكان ظلوماً جائراً في حكومته، وغزا أرض البشكنس سنة خمس عشرة ومائة، فأوقع بهم وغنم، ثم عزل في رمضان سنة ست عشرة، وولي عقبة بن الحجاج السّلولي من قبل عبيد الله بن الحبحاب، فأقام خمس سنين محمود السيرة مجاهداً مظفّراً، حتى بلغ سكنى المسلمين أربونة، وصار رباطهم على نهر رودنة (1) ، ثمّ وثب عليه عبد الملك بن قطن الفهري سنة إحدى وعشرين، فخلعه وقتله، ويقال: أخرجه من الأندلس وولي مكانه إلى أن دخل بلج بن بشر بأهل الشام سنة أربع وعشرين، فغلب عليه، وولي الأندلس سنة أو نحوها. وقال الرازي: ثار أهل الأندلس بأميرهم عقبة في صفر سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام بن عبد الملك، وولوا عليهم عبد الملك بن قطن ولايته الثانية، فكانت ولاية عقبة ستة أعوام وأربعة أشهر، وتوفّي بقرقشونة (2) في صفر سنة ثلاث وعشرين، واستقام الأمر لعبد الملك، ثم دخل بلج بن بشر القشيري بجند الشام ناجياً من وقعة كلثوم بن عياض مع البربر بملوية (3) ، فثار على عبد الملك، وقتله وهو ابن سبعين سنة، واستوثق له الأمر بعد مقتل عبد الملك، وانحاز الفهريون إلى جانب، فامتنعوا عليه، وكاشفوه، واجتمع إليهم من أنكر فعلته بابن قطن، وقام بأمرهم قطن وأميّة ابنا عبد الملك بن قطن،

_ (1) في الأصول (حيثما وقع) وابن خلدون: ردونة، والتصويب عن دوزي. (2) ك: بقرمونة وفي ق: بقرشونة. (3) يريد انتصار البربر على العرب عند بليدة بقدورة (أو نقدورة) على مقربة من تاهرت، وكان العرب بقيادة كلثوم بن عياض القشيري.

والتقوا فكانت الدائرة على الفهريين وهلك بلجٌ من الجراح التي نالته في حربهم، وذلك سنة أربع وعشرين لسنة أو نحوها من إمارته، ثم ولي ثعلبة بن سلامة الجذامي، وغلب على إمارة الأندلس بعد مهلك بلج، وانحاز عنه الفهريون فلم يطيعوه، وولي سنتين أظهر فيهما العدل ودانت له الأندلس عشرة أشهر، إلى أن مالت به العصبية في يمانيته، ففسد أمره، وهاجت الفتنة، وقدم أبو الخطّار حسام بن ضرار الكلبي من قبل حنظلة بن صفوان عامل إفريقية، ركب إليها البحر من تونس سنة خمس وعشرين، فدان له أهل الأندلس وأقبل إليه ثعلبة وابن أبي نسعة وابنا عبد الملك، فلقيهم وأحسن إليهم، واستقام أمره، وكان شجاعاً كريماً ذا رأيٍ وحزمٍ، وكثر أهل الشام عنده، ولم تحملهم قرطبة ففرقهم في البلاد، وأنزل أهل دمشق إلبيرة لشبهها بها، وسمّاها دمشق، وأنزل أهل حمص إشبيلية، وسمّاها حمص، وأهل قنسرين جيّان، وسمّاها قنسرين، وأهل الأردنّ رية ومالقة (1) ، وسمّاهما الأردنّ، وأهل فلسطين شذونة - وهي شريش - وسمّاها فلسطين، وأهل مصر تدمير، وسمّاها مصر، وقفل ثعلبة إلى المشرق، ولحق بمروان بن محمد، وحضر حروبه، وكان أبو الخطار أعرابيّاً عصبيّاً أفرط عند ولايته في التعصب لقومه من اليمانية، وتحامل على المضرية، وأسخط قيساً، وأمر في بعض الأيّام بالصّميل بن حاتم كبير القيسية - وكان من طوالع بلج، وهو الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن ورأس على المضرية - فأقيم من مجلسه، وتقنع، فقال له بعض الحجّاب وهو خارج من القصر: أقم عمامتك يا أبا الجوشن، فقال: إن كان لي قوم فسيقيمونها، فسار الصميل بن حاتم أميرهم يومئذٍ وزعيمهم، وألّب عليه قومه، واستعان بالمنحرفين عنه من اليمانية، فخلع أبو الخطار سنة ثمانٍ وعشرين لأربع سنين وتسعة أشهر من ولايته، وقدم مكانه ثوابة بن سلامة الجذامي،

_ (1) دوزي: وهي مالقة.

وهاجت الحرب المشهورة، وخاطبوا بذلك عبد الحمن بن حبيب صاحب إفريقية، فكتب إلى ثوابة بعهده على الأندلس منسلخ رجب سنة تسع وعشرين فضبط الأندلس، وقام بأمره الصّميل، واجتمع عليه الفريقان، وهلك لسنة من ولايته، ووقع الخلاف بإفريقية والتاث أمر بني أميّة بالمشرق، وشغلوا عن قاصية الثغور بكثرة الخوارج، وعظم أمر المسوّدة فبقي أهل الأندلس فوضى، ونصبوا للأحكام خاصّة عبد الرحمن بن كثير، ثمّ اتفق جند الأندلس على اقتسام الإمارة بين المضرية واليمانية وإدالتها بين الجندين سنةً لكل دولة، وقدّم المضريّة على أنفسهم يوسف بن عبد الرحمن الفهري سنة تسعٍ وعشرين، واستتم سنة ولايته بقرطبة دار الإمارة، ثم وافته اليمانية لميعاد إدالتهم واثقين بمكان عهدهم وتراضيهم واتفاقهم، فبيّتهم يوسف بمكان نزولهم في شقندة من قرى قرطبة بممالأة من الصّميل بن حاتم والقيسية وسائر المضريّة، فاستلحموهم، وثار أبو الخطار فقاتله الصّميل وهزمه وقتله سنة تسعٍ وعشرين، واستبدّ يوسف بما وراء البحر من عدوة الأندلس، وغلب اليمنية على أمرهم، فاستكانوا لغلبه، وتربّصوا الدوائر إلى أن جاء عبد الرحمن الداخل. وكان يوسف ولّى الصّميل سرقسطة، فلما ظهر أمر المسوّدة بالمشرق ثار الحباب الزهري بالأندلس داعياً لهم، وحاصر الصّميل بسرقسطة، واستمد يوسف، فلم يمده رجاء هلاكه لما كان يغضّ به، وأمدته القيسية، فأفرج عنه الحباب، وفارق الصميل سرقسطة فملكها الحباب، وولى يوسف الصميل على طليطلة إلى أن كان من عبد الرحمن الداخل ما كان. انتهى كلام وليّ الدين بن خلدون ببعض اختصار. وقال بعض المؤرخين (1) : إن عبد الله بن مروان أخا عبد الملك كان والياً على مصر وإفريقية، فبعث إليه ابن أخيه الوليد الخليفة يأمره بإرسال موسى

_ (1) انظر ابن خلكان: 4: 402.

ابن نصير إلى إفريقية، وذلك سنة سبع وثمانين للهجرة (1) ، فامتثل أمره في ذلك. وقال الحميديّ في " جذوة المقتبس " (2) : إن موسى بن نصير ولي إفريقية والمغرب سنة سبع وسبعين فقدمها ومعه جماعةٌ من الجند، فبلغه أن بأطراف البلاد من هو خارجٌ عن الطاعة، فوجّه ولده عبد الله، فأتاه بمائة ألف رأسٍ من السبايا، ثم ولده مروان إلى جهةٍ أخرى، فأتاه بمائة ألف رأسٍ، وقال الليث بن سعد: بلغ الخمس ستين ألف رأس، وقال الصّدفي: لم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير، ووجد أكثر مدن إفريقية خاليةٌ لاختلاف أيدي البربر عليها، وكانت البلاد في قحطٍ شديدٍ، فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء ومعه سائر الحيوانات، وفرق بينها وبين أولادها، فوقع البكاء والصّراخ والضجيج، وأقام على ذلك إلى منتصف النهار، ثمّ صلى وخطب الناس ولم يذكر الوليد بن عبد الملك، فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين؟ فقال: هذا مقامٌ لا يدعى فيه لغير الله تعالى، فسقوا حتى رووا ثمّ خرج موسى غازياً، وتتبع البربر، وقتل فيهم قتلاً ذريعاً، وسبى سبياً عظيماً، وسار حتى انتهى إلى السّوس الأدنى لا يدافعه أحد، فلمّا رأى بقية البربر ما نزل بهم استأمنوا، وبذلوا له الطاعة فقبل منهم، وولّى عليهم والياً، واستعمل على طنجة وأعمالها مولاه طارق بن زياد البربري، ويقال: إنّه من الصّدف، وترك عنده تسعة عشر ألفاً من البربر بالأسلحة والعدة الكاملة، وكانوا قد أسلموا وحسن إسلامهم، وترك موسى عندهم خلقاً يسيراً من العرب ليعلّموا البربر القرآن وفرائض الإسلام، ورجع إلى إفريقية، ولم يبق بالبلاد من ينازعه من البربر ولا من الروم، ولمّا استقرّت له القواعد كتب إلى طارق وهو بطنجة يأمره بغزو بلاد الأندلس، فغزاها في اثني عشر ألفاً من البربر خلا اثني عشر رجلاً، وصعد على الجبل المنسوب إليه

_ (1) ابن خلكان: تسع وثمانين. (2) تقل ابن خلكان هذا النص، وفي الجذوة: 317 أنه وليها سنة تسع وسبعين.

يوم الاثنين خامس رجب سنة اثنتين وتسعين، وذكر عن طارق أنّه كان نائماً في المركب وقت التعدية، فرأى النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد، هكذا ذكر ابن بشكوال. وقيل: إن موسى ندم على تأخّره، وعلم أن طارقاً إن فتح شيئاً نسب الفتح إليه دونه، فأخذ في جمع العساكر، وولّى على القيروان ابنه عبد الله، وتبع طارقاً فلم يدركه إلاّ بعد الفتح. وقال بعض العلماء: إن موسى بن نصير كان عاقلاً شجاعاً كريماً تقيّاً لله تعالى، ولم يهزم له قطّ جيشٌ، وكان والده نصير على جيوش (1) معاوية، ومنزلته لديه مكينة، ولمّا خرج معاوية لصفين لم يخرج معه، فقال له: ما منعك من الخروج معي ولي عندك يدّ لم تكافئني عليها؟ فقال: لم يمكني أن أشكرك بكفري من هو أولى بشكري من ك، فقال: من هو؟ فقال: الله عزّ وجلّ، فأطرق مليّاً ثم قال: أستغفر الله، ورضي عنه. رجع إلى حديث طارق - قال بعض المؤرخين (2) : " كان ذريق ملك الأندلس استخلف عليها شخصاً يقال له تدمير، وإليه تنسب تدمير بالأندلس، فلمّا نزل طارق من الجبل كتب تدمير إلى لذريق: إنّه قد نزل بأرضنا قومٌ لا ندري أمن السماء هم أم من الأرض، فلمّا بلغ لذريق ذلك - وكان قصد بعض الجهات البعيدة لغزو له في بعض أعدائه - رجع عن مقصده في سبعين ألف فارسٍ، ومعه العجل تحمل الأموال والمتاع، وهو على سريره بين دابتين، وعليه مظلّة مكللة بالدرّ والياقوت والزبرجد. فلمّا بلغ طارقاً دنوّه قام في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثمّ حثّ المسلمين على الجهاد، ورغّبهم ثم قال: أيّها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدوّ أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنّكم في هذه الجزيرة أضيع

_ (1) ابن خلكان: على حرس. (2) عود إلى النقل عن ابن خلكان بشيء من التصرف، وانظر الإمامة والسياسة (ملحق ابن القوطية: 137) .

من الأيتام، في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوّكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلاّ ما تستخلصونه من أيدي عدوّكم، وإن امتدّت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمراً ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإنّ انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإنّي لم أحذّركم أمراً أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطةٍ أرخص متاعٍ فيها النفوس [إلاّ وأنا] (1) أبدأ بنفسي، واعلموا أنّكم إن صبرتم على الأشقّ قليلاً، استمعتم بالأرفه الألذّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظيّ، وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، من بنات اليونان، الرافلات في الدرّ والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً، ورضيكن لملوك هذه الجزيرة صهاراً وأختاناً، ثقةً منه بارتياحكم للطّعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظّه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى وليّ إنجادكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين، واعموا أنّي أوّل مجيبٍ إلى ما دعوتكم إليه، وأنّي عند ملتقى الجمعين حاملٌ بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره، ولم يعوزكم بطلٌ عاقل تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، احملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمّ من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون. فلمّا فرغ من تحريض أصحابه على الصبر في قتال لذريق وأصحابه وما

_ (1) زيادة من ابن خلكان.

وعدهم من الخير الجزيل انبسطت نفوسهم، وتحققت آمالهم، وهبت رياح النصر عليهم، وقالوا له: قد قطعنا الآمال ممّا يخالف ما عزمت عليه، فاحضر إليه فإنّنا معك وبين يديك، فركب وأصحابه فباتوا ليلتهم في حرس إلى الصبح، فلمّا أصبح الفريقان تكتّبوا وعبّوا جيوشهم، وحمل لذريق وهو على سريره؛ وقد حمل على رأسه رواق ديباج يظلّله، وهو مقبل في غابة من البنود والأعلام، وبين يديه المقاتلة والسلاح، وأقبل طارق في أصحابه عليهم الزّرد، من فوق رؤوسهم العمائم البيض، وبأيديهم القسيّ العربية، وقد تقلّدوا السيوف، واعتقلوا الرماح، فلمّا نظر إليهم لذريق حلف وقال: إن هذه الصور هي التي رأيناها ببيت الحكمة ببلدنا، فداخله منهم الرّعب، فلمّا رأى طارق لذريق قال: هذا طاغية القوم، فحمل وحمل أصحابه معه، فتفرقت المقاتلة من بين يدي لذريق، فخلص إليه طارق فضربه بالسيف على رأسه، فقتله على سريره، ولم تقف هزيمة العدو على موضع، بل كانوا يسلمون بلداً بلداً ومعقلاً معقلاً. " ولمّا سمع موسى بن نصير بما حصل من النصرة لطارق عبر الجزيرة بمن معه، ولحق مولاه طارق، فقال له: يا طارق، إنّه لن يجازيك الوليد بن عبد الملك على بلائك بأكثر من أن يمنحك (1) الأندلس، فاستبحه هنيئاً مريئاً، فقال له طارق: أيّها الأمير، والله لا أرجع عن قصدي هذا، ما لم أنته إلى البحر المحيط أخوض فيه بفرسي، يعني البحر الشمالي الذي تحت بنات نعش، ولم يزل طارق يفتح وموسى معه إلى أن بلغ إلى جلّيقيّة وهي ساحل البحر المحيط، انتهى. وقال الحافظ الحميدي في كتابه " جذوة المقتبس " (2) : " إن موسى بن نصير

_ (1) ابن خلكان: يبيحك. (2) انظر هذا النص في الجذوة - ترجمة طارق بن زياد: 230 وقد نقله ابن خلكان أيضاً.

نقم على مولاه طارقٍ إذ غزا بغير إذنه، وهمّ بقتله، ثم ورد عليه كتاب الوليد بإطلاقه، فأطلقه وخرج معه إلى الشام " انتهى. [خبر بيت الحكمة بالأندلس] " وقول لذريق: إن هذه الصور هي التي رأيناها في بيت الحكمة إلخ أشار به إلى بيت حكمة اليونان، وكان من خبره (1) - فيما حكى بعض علماء التاريخ - أن اليونان، وهم الطائفة المشهورة بالحكم، كانوا يسكنون بلاد الشرق قبل عند الاسكندر، فلمّا ظهرت الفرس، واستولت على البلاد، وزاحمت اليونان على ما كان بأيديهم من المملك، انتقل اليونان إلى جزيرة الأندلس، لكونها طرفاً في آخر العمارة، ولم يكن لها ذكر إذ ذاك، ولا ملكها أحدٌ من الملوك المعتبرة ولم تك عامرة، وكان أوّل من عمّر فيها واختطّها أندلس بن يافث بن نوح عليه السلام، فسميت باسمه، ولما عمرت الأرض بعد الطوفان كان الصورة المعمورة منها عندهم على شكل طائر رأسه المشرق، والجنوب والشمال رجلاه، وبينهما بطنه، والمغرب ذنبه، وكانوا يزدرون المغرب لنسبته إلى أخسّ أجزاء الطير. وكانت اليونان لا ترى فناء الأمم بالحروب لما فيها من الأضرار والاشتغال عن العلوم التي كان الاشتغال بها عندهم من أهم الأمور، فلذلك انحازوا من بين يدي الفرس إلى الأندلس، فلمّا صاروا إليها أقبلوا على عمارتها، فشقّوا الأنهار، وبنوا المعاقل، وغرسوا الجنّات والكروم، وشيّدوا الأمصار، وملؤوها حرثاً ونسلاً وبنياناً، فعظمت وطابت، حتى قال قائلهم لما رأى بهجتها: إن الطائر الذي صوّرت هذه العمارة على شكله وكان المغرب ذنبه كان طاووساً معظم جماله في ذنبه ". وحكي أن الرشيد هرون - رحمه الله - لمّا حضر بين يديه بعض أهل

_ (1) عاد إلى النقل عن ابن خلكان 4: 406.

المغرب قال الرشيد: يقال: إن الدنيا بمثابة طائر ذنبه المغرب، فقال الرجل: صدقوا يا أمير المؤمنين، وإنّه طاووس، فضحك أمير المؤمنين الرشيد، وتعجّب من سرعة جواب الرجل وانتصاره لقطره. رجع - قال (1) : " فاغتبط اليونان بالأندلس أتمّ اغتباط، واتخذوا دار الحكمة والملك بها طليطلة لأنها أوسط البلاد، وكان أهمّ الأمور عندهم تحصينها عمّن يتصل به خبرها من الأمم، فنظروا فإذا هو أنّه لا يحسدهم على بغد العيش إلا أرباب الشّظف والشقاء والتعب، وهم يومئذ طائفتان: العرب، والبربر، فخافوهم على جزيرتهم العامرة، فعزموا على أن يتّخذوا لهذين الجنسين من الناس طلّسماً، فرصدوا لذلك أرصاداً، ولمّا كان البربر بالقرب منهم وليس [بينهم] سوى تعدية البحر ويرد عليهم منهم طوائف منحرفة الطباع، خارجة عن الأوضاع، ازدادوا منهم نفوراً، وكثر تحذرهم من نسب أو مجاورة، حتى ثبت ذلك في طبائعهم، وصار بعضه مركّباً في غرائزهم، فلمّا علم البربر عداوة أهل الأندلس وبغضهم لهم أبغضوهم وحسدوهم، فلم تجد أندلسيّاً إلا مبغضاً بربريّاً، وبالعكس، إلاّ أن البربر أحوج إلى أهل الأندلس، لوجود بعض الأشياء عندهم وفقدها بلاد البربر ". وكان بنواحي غرب الأندلس ملك يوناني بجزيرة يقال لها قادس وكانت له ابنة في غاية الجمال، فتسامع بها ملوك الأندلس، وكانت الأندلس كثيرة الملوك، لكل بلدة أو بلدتين ملك، فخطبوها، وخشي أبوها إن زوّجها من واحد أسخط الباقين، فتحير، وأحضر ابنته، وكانت الحكمة مركّبة في طباع القوم ذكورهم وإناثهم، ولذا قيل: إن الحكمة نزلت من السماء على ثلاثة أعضاء من أخل الأرض: أدمغة اليونان، وأيدي أهل الصين، وألسنة العرب؛ فقال لها: يا بنيّة، إنّي أصبحت على حيرة في أمرك ممّن يخطبك

_ (1) يعني ابن خلكان.

من الملوك، وما أرضيت واحداً إلا أسخطت الباقين، فقالت له: اجعل الأمر إليّ وتخلص، فقال: وما تقترحين؟ فقالت: أن يكون ملكاً حكيماً، فقال نعم ما اخترته لنفسك. فكتب في أجوبة الملوك الخطّاب، أنها اختارت من الأزواج الملك الحكيم، فلمّا وقفوا على الجواب سكت من لم يكن حكيماً، وكان في الملوك الخاطبين حكيمان، فكتب كل واحدٍ منهما: أنا الملك الحكيم، فلمّا وقف على كتابيهما قال لها: يا بنية، بقي الأمر على إشكال، وهذان ملكان حكيمان، أيّهما أرضيت أسخطت الآخر، فقالت: سأقترح على كل واحد منهما أمراً يأتي به، فأيهما سبق إلى الفراغ ممّا التمست كنت زوجته، فقال: وما الذي تقترحين عليهما؟ قالت: إنّا ساكنون بهذه الجزيرة، ومحتاجون إلى أرحيّ تدور بها، وإنّي مقترحة على أحدهما إدارتها بالماء العذب الجاري إليها من ذلك البر، ومقترحة على الآخر أن يتخذ لي طلسماً نحصّن به جزيرة الأندلس من البربر، فاستظرف أبوها ذلك، وكتب إلى الملكين بما قالت ابنته، فأجاباه إلى ذلك، وتقاسماه على ما اختارا، وشرع كل واحد منهما في عمل ما أسند إليه من ذلك ". " فأمّا صاحب الرّحيّ فإنّه عمد إلى أشكال اتخذها من الحجارة نضد بعضها إلى بعض في البحر المالح الذي بين جزيرة الأندلس والبر الكبير في الموضع المعروف بزقاق سبتة، وسدّد الفرج التي بين الحجارة بما اقتضت حكمته، وأوصل تلك الحجارة من البر إلى الجزيرة، وآثاره باقيةٌ إلى اليوم في الزّقاق الذي بين سبتة والجزيرة الخضراء - وأكثر أهل الأندلس يزعمون أن هذا أثر قنطرة كان الإسكندر قد عملها ليعبر عليها الناس من سبتة إلى الجزيرة، والله أعلم أي القولين أصح، غير أن الشائع إلى الآن عند الناس هو الثاني - فلمّا تم تنضيد الحجارة للملك الحكيم جلب الماء العذب من جبل عالٍ في البر الكبير وسلّطه من ساقية محكمة وبنى بجزيرة الأندلس رحىّ على هذه الساقية ". " وأمّا صاحب الطّلّسم فإنّه أبطأ عمله بسبب انتظار الرصد الموافق لعمله

غير أنّه عمل أمره، وأحمه، وابتنى بنياناً مربعاً من حجر أبيض على ساحل البحر في رملٍ عالجٍ حفر أساسه إلى أن جعله تحت الأرض بمقدار ارتفاعه فوق الأرض ليثبت، فلمّا انتهى البناء المرّبع إلى حيث اختار صوّر من النحاس الأحمر والحديد المصفّى المخلوطين بأحكم الخلط صورة رجلٍ بربري، وله لحية، وفي رأسه ذؤابة من شعر جعد قائمة في رأسه لجعودتها، وهو متأبط بصورة كساء قد جمع طرفيه على يده اليسرى بألطف تصوير وأحكمه، في رجله نعل، وهو قائم من رأس البناء على مستهدف (1) بمقدار رجليه فقط، وهو شاهق في الهواء، طوله نيّف عن ستين أو سبعين ذراعاً، وهو محدود (2) الأعلى، إلى أن ينتهي ما سعته قدر ذراع، وقد مدّ يده اليمنى بمفتاح قفل قابضاً (3) عليه مشيراً إلى البحر كأنّه يقول: لا عبور، وكان من تأثر هذا الطّلّسم في البحر الذي تجاهه أنّه لم ير قطّ ساكناً ولا كانت تجري فيه قطّ سفينة بربر حتى (4) سقط المفتاح من يده. وكان الملكان اللذان عملا الرّحيّ والطلسم يتسابقان إلى فراغ العمل، إذ بالسبق ستحق زواج المرأة، وكان صاحب الرّحيّ فرغ أولاً لكنّه أخفى أمره عن صاحب الطّلّسم لئلا يترك عمله فيبطل الطّلّسم، لتحظى المرأة بالرّحي والطّلّسم، فلمّا علم باليوم الذي يفرغ صاحب الطلسم في آخره أجرى الماء في الجزيرة من أوّله وأدار الرّحيّ، واشتهر ذلك، فاتصل الخبر بصاحب الطلسم وهو في أعلى القبة يصقل وجهه، وكان الطلسم مذهباً، فلمّا تحقق أنّه مسبوق ضعفت نفسه فسقط من أعلى البناء ميتاً، وحصل صاحب الرحيّ على المرأة والرحيّ والطّلّسم، وكان من تقدم من ملوك اليونان يخشى على الأندلس من البربر للسبب الذي قدمنا ذكره، فاتفقوا وجعلوا الطّلّسمات في أوقات

_ (1) ابن خلكان: مستدق. (2) ك: محدودب. (3) في الأصول: قابض. (4) في الأصول: إلا.

اختاروا أرصادها، وأودعوا تلك الطّلّسمات تابوتاً من الرخام، وتركوه في بيت بطليطلة، وكّبوا على ذلك الباب قفلاً تأكيداً لحفظ ذلك البيت، فاستمر أمرهم على ذلك " (1) . ولمّا حان وقت انقراض دولة من كان بالأندلس ودخول العرب والبربر إليها، وذلك بعد مضي ستة وعشرين ملكاً من ملوكهم من تاريخ عمل الطلسمات بطليطلة، وكان لذريق المذكور آنفاً هو تمام السابع والعشرين من ملوكهم، فلمّا اقتعد أريكة الملك قال لوزرائه وخواص دولته وأهل الرأي منهم: قد وقع في نفسي من أمر هذا البيت الذي عليه ستة وعشرون قفلاً شيء، وأريد أن أفتحه لأنظر ما فيه، لأنه لم يعمل عبثاً، فقالوا: أيها الملك، صدقت، إنه م يصنع عبثاً، ولم يقفل سدىً، والرأي والمصلحة أن تلقي أنت أيضاً عليه قفلاً أسوة بمن تقدمك من الملوك، وكان آباؤك وأجدادك لم يهملوا هذا فلا تهمله، وسر سيرهم، فقال لهم: إن نفسي تنازعني إلى فتحه، ولا بد لي منه، فقالوا له: إن كنت تظن أن فيه مالاً فقدّره ونحن نجمع لك من أموالنا نظيره، ولا تحدث علينا بفتحه حادثاً لا تعرف عاقبته؛ فأصرّ على ذلك، وكان رجلاً مهيباً، فلم يقدروا على مراجعته، وأمر بفتح الأقفال، وكان على كل قفل مفتاحه معلقاً، فلمّا فتح الباب لم ير في البيت شيئاً إلاّ مائدة عظيمة من ذهبٍ وفضةٍ مكلّلةٍ بالجواهر، وعليها مكتوب: هذه مائدة سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، ورأى في البيت ذلك التابوت، وعليه قفل، ومفتاحه معلّق، ففتحه، فلم يجد فيه سوى رقّ، وفي جوانب التابوت صور فرسان مصورة بأصباغ محكمة التصوير على أشكال العرب، وعليهم الفراء، وهم معمّمون على ذوائب جعدٍ، ومن تحتهم الخيل العربية، وهم متقلدون السيوف المحلاّة، معتقلون الرماح، فأمر بنشر ذلك الرّقّ، فإذا فيه: متى فتح هذا البيت وهذا

_ (1) ابن خلكان: وركبوا على ذلك البيت باباً وأقفلوه، وتقدموا إلى كل من ملك منهم بعد صاحبه أن يلقي على ذلك ذلك الباب قفلاً ... الخ.

التابوت المقفلان بالحكمة دخل القوم الذين صورهم في التابوت إلى جزيرة الأندلس، وذهب ملك من فيها من أيديهم، وبطلت حكمتهم، فلمّا سمع لذريق ما في الرّقّ ندم على ما فعل، وتحقق انقراض دولتهم، فلم يلبث إلاّ قليلاً حتى سمع أن جيشاً وصل من المشرق جهزّه ملك العرب ليفتح بلاد الأندلس " (1) انتهى. فهذا هو بيت الحكمة الذي أشار إليه لذريق، والله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك كلّه. على أن في هذا السياق مخالفة لما سنذكره عن بعض ثقات مؤرخي الأندلس وغيرهم في شأن المائدة وغيرها، وما ذر في هذه القصّة من جلب الماء من برّ العدوة إلخ. فيه بعد عندي، لأن بلاد الأندلس أكثر بلاد الله مياهاً وأنهاراً، فأنّى تحتاج إلى جلب الماء إليها من العدوة الأخرى؟ إلاّ أن يقال: إن المرأة أرادت تعجيز الرجل بذلك، واختبار حكمته حتى يفعل هذا الأمر الغريب، وعلم الله من وراء ذلك كلّه، وفوق كل ذي علمٍ عليم، ومنتهى العلم إلى الله الحكيم. [عود إلى أخبار الفتح] وقال ابن حيّان في المقتبس: ذكروا أن لذريق لم يكن من أبناء الملوك، ولا بصحيح النسب في القوط، وأنّه إنما نال الملك من طريق الغصب والتسوّر عندما مات إغطشة (2) الملك الذي كان قبله، وكان أثيراً لديه، مكيناً، فاستصغر أولاده لمكانه، واستمال طائفة الرجال مالوا معه، فانتزع الملك من أولاد إغطشة واستبقاهم، فكانوا هم الذين دبّروا عليه - فيما ذكر - عندما لقي

_ (1) انتهى النقل عن ابن خلكان. (2) ك: غيطشة.

رجال العرب المقتحمين عليه بالأندلس من تلقاء بحر الزّقاق وعليهم طارق بن زياد مولى موسى بن نصير طماعةً منهم في أن يودي ويخلص إليهم ملك أبيهم، فالتقوا بوضع يدعى وادي لكّة من أرض الجزيرة الخضراء من ساحل الأندلس القبلي مكان عبورهم، وذلك لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين من الهجرة، فانهزم القوط أعظم هزيمة، وقتل ملكهم لذريق، وغلبت العرب على الأندلس، فصارت أقصى فتوحهم من أرض المغرب، ومصداق موعد نبيهم، صلى الله عليه وسلّم، والكفيل بفتح ما بين المشرق والمغرب عليهم بوحي الله تعالى إليه أنجزه لهم بفتح الأندلس، ولله القوة. قال: وقام بأمر العرب بالأندلس منذ فتحت الأمراء المرسلون منهم عليها من قبل أئمة المسلمين بالمشرق طوال دولة بني أمية، رضي الله تعالى عنهم، إلى أن طرأ إليها فلّهم عند غلبة بني العبّاس عليهم، وذلك (1) عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، فملكها وأعاد إليها الدولة الأموية التي أورثها عقبه حقبة، فكانت عدّة هؤلاء الأمراء من لدن أوّلهم طارق بن زياد إلى آخرهم يوسف بن عبد الرحمن الفهري عشرين عاملاً، وعدّة سنيهم بالشمسي خمس وأربعون سنة، وبالقمري سبع وأربعون سنة غير أشهر انتهى. وقال في موضع آخر، نقلاً عن الرازي: وافتتحت الأندلس في أيام الوليد بن عبد الملك، فكان فتحها من أعظم الفتوح الذاهبة بالصيت في ظهور الملّة الحنيفية، وكان عمر بن عبد العزيز - رضوان الله عليه - متهمّماً بها، معتنياً بشأنها، وقد حوّلها عن نظر والي إفريقية وجرّد إليها عاملاً من قبله اختاره لها، دلالةً على معنيته بها، ووقعت المقاسم فيها عن أمره وبفضل رأيه انتهى.

_ (1) ك: ودخل.

[ملخص خبر الفتح من الكتاب الخزائني] وفي الكتاب الخزائني وغيره سياقة فتح الأندلس على أتم الوجوه، فلنذكر ملخصه، قالوا: استعمل أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك - رحمه الله تعالى - موسى بن نصير مولى عمّه عبد العزيز بن مروان، ويقال: بل هو بكري، وذلك أن أباه نصيراً أصله من علوج أصابهم خالد بن الوليد - رضي الله عنه - في عين التّمر، فادعوا أنهم رهن، وأنهم من بكر بن وائل، فصار نصير وصيفاً لعبد العزيز بن مروان، فأعتقه، فمن هذا يختلف فيهن وقيل: إنّه لخميٌّ، وعقد له على إفريقية وما خلفها في سنة ثمان وثمانين، فخرج إلى ذلك الوجه في نفر قليل من المطّوّعة، فلمّا ورد مصر أخرج معه من جندها بعثاً، وأتى إفريقية عملهن فأخرج من أهلها معه ذوي القوّة والجلد، وصيّر على مقدّمته طارقبن زياد، فلم يزل يقاتل البربر ويفضّ جموعهم، ويفتح بلادهم ومدائنهم، حتى بلغ طنجة، وهي قصبة ملك البربر وأمّ مدائنهم، فحصرها حتى افتتحها - وقيل: إنها لم تكن افتتحت قبله، وقيل: افتتحت ثم ارتجعت - فأسلم أهلها، وخطها قيرواناً للمسلمين، ثمّ ساروا إلى مدائن على شطّ البحر فيها عمالٌ لصاحب الأندلس قد غلبوا عليها وعلى ما حولها، ورأس تلك المدائن سبتة، وعليها علج يسمى يليان، قاتله موسى فألفاه في نجدة وقوّة وعدّة فلم يطقه، فرجع إلى مدينة طنجة فأقام بمن معه، وأخذ في الغارات على ما حولهم والتضييق عليهم، والسفن تختلف إليهم بالميرة والأمداد من الأندلس من قبل ملكها غيطشة، فهم يذبّون عن جريمهم ذبّاً شديداً، ويحمون بلادهم حماية تامة، إلى أن هلك غيطشة ملك الأندلس، وترك أولاداً لم يرضهم أهلها للملك، فاضطرب حبل أهل (1) الأندلس، ثم تراضوا بعلج من كبارهم يقال له لذريق مجرّب شجاع بطل، ليس من بيت أهل الملك، إلاّ

_ (1) أهل: سقطت من ق.

أنّه من قوّادهم وفرسانهم، فولّوه أمرهم، وكانت طليطلة دار الملك بالأندلس حينئذٍ، وكان بها بيت مغلق متحامى الفتح على الأيام، عليه عدّة من الأقفال يلزمه قوم من ثقات القوط، قد وكّلوا به لئلاّ يفتح، وقد عند الأول في ذلك إلى الآخر، فكلّما قعد منهم ملك أتاه أولئك الموكّلون بالبيت فأخذوا منه قفلاً وصيروه على ذلك الباب من غير أن يزيلوا قفل من تقدّمه، فلمّا قعد لذريق هذا، وكان متهمّماً يقظاً ذا فكر، أتاه الحراس يسألونه أن يقفل على الباب، فقال لهم: لا أفعل أو أعلم ما فيه، ولابد لي من فتحه، فقالوا له: أيها الملك، إنّه لم يفعل هذا أحد ممّن قبلك، وتناهوا عن فتحه، فلم يلتفت إليهم، ومشى إلى البيت، فأعظمت ذلك العجم وضرع إليه أكابرهم في الكف فلم يفعل، وظن أنّه بيت مال، ففضّ الأقفال عنه ودخل، فأصابه فارغاً لا شيء فيه، إلاّ تابوتاً عليه قفل، فأمر بفتحه يحسب أن مضمونه يقنعه نفاسةً، فألفاه أيضاَ فارغاً ليس فيه إلا شقّة مدرجة قد صوّرت فيها صور العرب عليهم العمائم وتحتهم الخيول العراب متقلّدي السيوف متنكبي القسيّ رافعي الرايات على الرماح، وفي أعلاها أسطر مكتوبة بالعجمية، فقرئت فإذا فيها: إذا كسرت الأقفال عن هذا البيت وفتح هذا التابوت فظهر ما فيه من الصور فإن هذه الأمة المصوّرة في هذه الشّقّة تدخل الأندلس، فتغلب عليها وتملكها، فوجم لذريق وندم على ما فعل، وعظم غمّه وغمّ العجم بذلك، وأمر برد الأقفال وإقرار الحرس على حالهم، وأخذ في تدبير الملك، وذهل عمّا أنذر به. وقد كان من سير أكابر العجم بالأندلس وقوّادهم أني بعثوا أولادهم الذين يريدون منفعتهم والتنويه بهم إلى بلاد الملك الأكبر بطليطلة ليصيروا في خدمته، ويتأدّبوا بأدبه، وينالوا من كرامته، حتى إذا بلغوا أنكح بعضهم بعضاً استئلافاً لآبائهم، وحمل صدقاتهم، وتولّى تجهيز إناثهم إلى أزواجهن. فاتفق أن فعل ذلك يليان عامل لذريق على سبتة، وكانت يومئذ في يد صاحب الأندلس، وأهلها على النصرانية، ركب الطريقة بابنة له بارعة الجمال تكرم عليه، فلمّا

صارت عند لذريق وقعت عينه عليها فأعجبته وأحبها حبّاً شديداً، ولم يملك نفسه حتى استكرهها وافتضّها، فاحتالت حتى أعلمت أباها بذلك سراً، بمكاتبة خفية، فأحفظه شأنها جدّاً، واشتدّت حميّته، وقال: ودين المسيح لأزيلنّ سلطانه (1) ، ولأحفرنّ تحت قدميه، فكان امتعاضه من فاحشة ابنته هو السبب في فتح الأندلس بالذي سبق من قدر الله تعالى. ثم إن يليان ركب بحر الزّقاق من سبتة في أصعب الأوقات في ينير (2) قلب الشتاء، فصار بالأندلس، وأقبل إلى طليطلة نحو الملك لذريق، فأنكر عليه مجيئه في مثل ذلك الوقت، وسأله عمّا لديه (3) ولم جاء في مثل وقته؟ فذكر خيراً، واعتلّ بذر زوجته، وشدّة شوقها إلى رؤية بنتها التي عنده، وتمنيها لقاءها قبل الموت، وإلحاحها عليه في إحضارها، وأنّه أحبّ إسعافها، ورجا بلوغها أمنيتها منه، وسأل الملك إخراجها إليه، وتجيل إطلاقه للمبادرة بها، ففعل، وأجاز الجارية، وتوثّق منها الكتمان عليه، وأفضل على أبيها، فانقلب عنه. وذكوا أنّه لما ودّعه قال له لذريق: إذا قدمت علينا فاستفره لنا من الشّذانقات (4) التي لم تزل تطرفنا بها فإنها آثر جوارحنا لدينا، فقال له: أيّها املك، وحقّ المسيح لئن بقيت لأدخلنّ عليك شذانقاتٍ ما دخل عليك مثلها قط؟ عرّض له بالذي أضمره من السعي في إدخال رجال العرب عليه وهو لا يفطن؟ فلم يتنهنه يليان عندما استقرّ بسبتة عمله أن تهيّأ للمسير نحو موسى بن نصير الأمير، فمضى نحوه بإفريقية، وكلمه في غزو الأندلس، ووصف له حسنها وفضلها، وما جمعت من أسباب (5) المنافع، وأنواع المرافق،

_ (1) ك: ملكه وسلطانه. (2) " ينير " اسم الشهر: (Enero) كانون الثاني، وفي ك: صنبر، وصنبر: تعني شدة البرد. (3) زاد في ك: وما جاء فيه. (4) الشذانقات: الصقور. (5) ك: أشتات.

وطيب المزارع، وكثرة الثمار، وثرارة (1) المياه وعذوبتها، وهوّن عليه مع ذلك حال رجالها، ووصفهم بضعف البأس وقلّة الغناء، فشوّق موسى إلى ما هناك، وأخذ بالحزم فيما دعاه إليه يليان، فعاقده على الانحراف إلى المسلمين، واستظهر عليه بأن سامه مكاشفة أهل ملّته من الأندلس المشركين والاستخراج إليهم بالدخول إليها وشنّ الغارة فيها، ففعل يليان ذلك، وجمع جمعاً من أهل عمله، فدخل بهم في مركبين وحلّ بساحل الجزيرة الخضراء، فأغار وقتل وسبى وغنم، وأقام بها أيّاماً، ثمّ رجع بمن معه سالمين، وشاع الخبر عند المسلمين، فأنسوا بيليان واطمأنّوا إليه، وكان ذلك عقب سنة تسعين، فكتب موسى بن نصير إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك يخبره بالذي دعاه إليه يليان من أمر الأندلس، ويستأذنه في اقتحامها، فكتب إليه الوليد: أن خضها بالسرايا حتى ترى وتختبر شأنها، ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال، فراجعه أنّه ليس ببحر زخّار، وإنّما هو خليج منه يبين للناظر ما خلفه، فكتب إليه: وإن كان فلابدّ من اختباره بالسرايا قبل اقتحامه. فبعث موسى عند ذلك رجلاً من مواليه من البرابرة اسمه طريف يكنى أبا زرعة في أربعمائة رجل معهم مائة فرس سار بهم في أربعة مراكب، فنزل بجزيرة تقابل جزيرة الأندلس المعروفة بالخضراء التي هي اليوم معبر سفائنهم ودار صناعتهم، ويقال لها اليوم جزيرة طريف لنزوله بها، وأقام بها أيّاماً حتى تتامّ (2) إليه أصحابه، ثم مضى حتى أغار على الجزيرة فأصاب سبياً لم ير موسى ولا أصحابه مثله حسناً، ومالاً جسيماً، وأمتعة، وذلك في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين، فلمّا رأى الناس ذلك تسرّعوا إلى الدخول، وقيل: دخل طريف في ألف رجل، فأصاب غنائم وسبياً، ودخل بعده أبو زرعة شيخ من البرابرة، وليس بطريف، في ألف رجل منهم أيضاً فأصابوا أهل الجزيرة قد تفرّقوا عنها، فضرّموا عامّتها بالنار،

_ (1) ج: وغزارة. (2) ك: التأم.

وحرقوا كنيسة بها كانت عندهم معظّمة، وأصابوا سبياً يسيراً، وقتلوا وانصرفوا سالمين. وقال الرازي: هو أبو زرعة طريف بن مالك المعافري، الاسم طبق الكنية. قالوا: ثمّ عاود يليان القدوم على موسى بن نصير محركاً في الاقتحام على أهل الأندلس، وخبره بما كان منه ومن طريف وأبي زرعة، وما نالوه من أهلها، وباشروه من طيبها، فحمد الله على ذلك، واستجدّ عزماً في إقحام المسلمين فيها، فدعا مولىّ له كان على مقدّمته يسمّى طارق بن زياد بن عبد الله فارسيّاً همذانيّاً - وقيل: إنّه ليس بمولى لموسى، وإنّما هو رجل من صدف، وقيل: مولى لهم، وقد كان بعض عقبه بالأندلس ينكرون ولاء موسى إنكاراً شديداً، وقيل: إنّه بربري من نفزة - فعقد له موسى، وبعثه في سبعة آلاف من المسلمين جلّهم البربر والموالي، وليس فيهم عرب إلا قليل، ووجّه معه يليان، فهيّأ له يليان المراكب، فركب في أربع سفن لا صناعة له غيرها، وحطّ بجبل طارق المنسوب إليه يوم سبت في شعبان سنة اثنتين وتسعين، في شهر أغشت (1) ، ثم صرف المراكب إلى من خلفه من أصحابه، فركب من بقي من الناس، ولم تزل السفائن تختلف إليهم حتى توافى جميعهم عنده بالجبل، وقيل: حلّ طارق بجبله يوم الاثنين لخمس خلون من رجب من السنة في اثني عشر ألفاً غير ستة عشر رجلاً من البرابرة (2) ، ولم يكن فيهم من العرب إلاّ يسير، أجازهم يليان إلى ساحل الأندلس في مراكب التجار من حيث لم يعلم بهم، أوّلاً أوّلاً، وركب أميرهم طارق آخرهم. قيل (3) : وأصاب طارق عجوزاً من أهل الجزيرة، فقالت له في بعض قولها: إنّه كان لها زوج عالم بالحدثان فكان يحدثهم عن أمير يدخل إلى بلدهم هذا،

_ (1) ك: أغسطس. (2) ق: البربر. (3) انظر ما تقدم ص: 231.

ويغلب عليه، ويصف من نعته أنّه ضخم الهامة، فأنت كذلك، ومنها أن في كتفه الأيسر شامة عليها شعر، فإن كان بك هذه العلامة فأنت هو، فكشف طارق ثوبه فإذا بالشامة في كتفه على ما ذكرته العجوز، فاستبشر بذلك هو ومن معه. وذكر عن طارق أنّه كان نائماً في المركب فرأى في منامه النبي، صلى الله عليه وسلّم، والخلفاء الأربعة أصحابه عليهم السلام يمشون على الماء حتى مرّوا به، فبشّره النبي، صلى الله عليه وسلّم، بالفتح، وأمره بالرفق بالمسلمين، والوفاء بالعهد. وقيل: إنّه لما ركب البحر غلبته عينه فكان يرى النبي، صلى الله عليه وسلّم، وحوله المهاجرون والأنصار قد تقلّدوا السيوف وتنكبوا القسيّ، فيقول له رسول الله، صلى الله عليه وسلّم: يا طارق، تقدم لشأنك، ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الأندلس قدّامه، فهبّ من نومه مستبشراً، وبشّر أصحابه، وثابت إليه نفسه ثقةً ببشراه، فقويت نفسه، ولم يشكّ في الظفر، فخرج من البلد، واقتحم بسيط البلاد شانّاً للغارة. قالوا: ووقع على لذريق الملك خبر اقتحام العرب ساحل الأندلس، وتوالي غاراتهم على بد الجزيرة، وأن يليان السبب فيها، وكان يومئذ غائباً بأرض بنبلونة في غزاة له إلى البشكنس لأمر كان استصعب عليه بناحيتهم، فعظم عليه، وفهم الأمر الذي منه أتي، وأقبل مبادراً الفتق في جموعه، حتى احتل بمدينة قرطبة من الموسطة (1) ، ونزل القصر المدعوّ بها ببلاط لذريق المنسوب إليه، وليس لأنّه بناه أو اخترعه - وه بناء من تقدمه من الملوك اتخذوه لمنزلهم في قرطبة إذا أتوها - إلا أن العرب لما غلبوا لذريق وهذا القصر من مواطنه نسبوه إليه، إذ لم يعرفوا من بناه. ويزعم العجم أن الذي بناه ملك منهم كان ساكناً بحصن المدور أسفل قرطبة، وخرج يوماً يتصيد حتى

_ (1) ك: المتوسطة.

انتهى إلى مكان قرطبة، وهي يومئذ خراب، وكان في موضع قصرها غيضة عليق ملتفة أشبة، فأرسل الملك بازياً له يكرم عليه على حجلة عنّت له من ناحية الكدية (1) المنسوبة بعد إلى أبي عبدة (2) ، فتخبّت في ذلك العلّيق، ولجّ البازي في الانقضاض عليها، فركض الملك خلفه حتى وقف على مكانه بالحرجة، فأمر بقطعها لاستنقاذ بازيه ضنّاً منه به، فقطعت، وبدا له تحتها أساس فصر عظيم راقه رصّه، وقد كان ذا همة، فأمر بالكشف عنه، وتقصيّ حدوده طولاً وعرضاً، وتتبع أسّه وأصله، فوجده مبنيّاً من وجه الماء بصمّ الحجارة فوق زرجونٍ وضع بينها وبين الماء بأحكم صناعة، فقال: هذا أثر ملك كريم، وأنا أولى من جدّده، فأمر بإعادته إلى هيأته، واتخاذه منزلاً من منازل راحاته، فكان إذا طاف بعمله أو مضى في متصيّده نزل فيه، وصار السبب في بناء قرطبة إلى جنبه، ونزول (3) الناس فيها، وتوارث الملوك قصرها من بعد، ونزله لذريق في زحفه إلى العرب أيّاماً، والحشود من أعماله تتوافى إليه، ثم مضى نحو كورة شذونة يبغي لقاءهم في حشوده الكثيرة. وقيل: إن آخر ملوك الأندلس الذين تلتهم العرب غيطشة، وإنّه هلك عن أولاد ثلاثة صغار لم يصلحوا للملك، فضبطت أمّهم عليهم ملك والدهم بطليطلة، وانحرف لذريق قائد الخيل لوالدهم فيمن تبعه عنهم، فصار بقرطبة، فلمّا اقتحم طارق الأندلس نفر إليه لذريق واستنفر إليه أجناد أهل الأندلس، وكتب إلى أولاد غيطشة - وقد ترعرعوا، وركبوا الخيل، واتخذوا الرجال - يدعنهم إلى الاجتماع معه على حرب العرب، ويحذرهم من القعود عنه، ويحضهم على أن يكونوا على عدوهم يداً واحدة، فلم يجدوا بدّاً، وحشدوا، وقدموا عليه بقرطبة، فنزلوا أكناف قرية شقندة بعدوة

_ (1) الكدية: الأرض المرتفعة. (2) ك ق ج: عبيدة. (3) ك: ونزل.

نهرها قبالة القصر، ولم يطمئنّوا إلى الدخول على لذريق أخذاً بالحزم، إلى أن استتبّ جهاز لذريق وخرج، فانضموا إليه، ومضوا معه وهم مرصدون لمكروهه. والأصح - والله أعلم - ما سبق أن ملك القوط اجتمع للذريق، واختلف في اسمه فقيل: رذريق - بالراء أوله - وقيل: باللام لذريق وهو الأشهر، وقيل: إن أصله من أصبهان ويسمّى الإشبان، والله أعلم (1) . قالوا: وعسكر لذريق في نحو مائة ألف ذوي عدد وعدّة، فكتب طارق إلى موسى يستمدّه ويعرّفه أنّه فتح الجزيرة الخضراء فرضة الأندلس، وملك المجاز إليها، واستولى على أعمالها إلى البحيرة، وأن لذريق زحف إليه بما لا قبل له به، إلا أن يشاء الله، وكان موسى منذ وجّه طارقاً لوجهه، قد أخذ في عمل السفن حتى صار عنده منها عدّة كثيرة، فحمل إلى طارق فيها خمسة آلاف من المسلمين مدداً كملت بهم عدة من معه اثني عشر ألفاً أقوياء على المغانم، حراصاً على اللقاء، ومعهم يليان المستأمن إليهم في رجاله وأهل عمله يدلهم على العورات، ويتجسس لهم الأخبار، وأقبل نحوهم لذريق في جموع العجم، وملوكها وفرسانها، فتلاقوا فيما بينهم وقال بعضهم لبعض: إن هذا ابن الخبيثة قد غلب على سلطاننا، وليس من أهله، وإنّما كان من أتباعنا، فلسنا نعدم من سيرته خبالاً في أمرنا، وهؤلاء القوم الطارقون لا حاجة لهم في استيطان بلدنا، وإنّما مرادهم أن يملأوا أيديهم من الغنائم، ثم يخرجوا عنّا، فهلمّ فلنهزم بابن الخبيثة إذا نحن لقينا القوم لعلّهم يكفوننا إيّاه، فإذا انصرفوا عنّا أقعدنا في ملكنا من يستحقّه، فأجمعوا على ذلك، والقضاء يبرم ما ارتأوه. وكان لذريق ولّى ميمنته أحد ابني غيطشة، ميسرته الآخر، فكانا

_ (1) وقيل ... أعلم: هذه الجملة موجودة في جميع الأصول وهي قلقة ولا تلتئم مع ماتقدم من حديث عن إشبان.

رأسي الذين أداروا عليه الهزيمة، وأداهما إلى ذلك طمع رجوع ملك والدهما إليهما. وقيل: لما تقابل الجيشان أجمع أولاد غيطشة على الغدر بلذريق، وأرسلوا إلى طارق يعلمونه أن لذريق كان تابعاً وخادماً لأبيهم فغلبهم على سلطانه بعد مهلكه وأنّهم غير تاركي حقهم لديه، ويسألونه الأمان على أني يميلوا إليه عند اللقاء فيمن يتبعهم، وأن يسلّم إليهم إذا ظفر ضياع والدهم بالأندلس كلّها، وكانت ثلاثة آلاف ضيعة نفائس مختارة، وهي التي سميت بعد ذلك صفايا الملوك، فأجابهم إلى ذلك، وعاقدهم عليه، فالتقى الفريقان من الغد، فانحاز الأولاد إلى طارق، فكان ذلك أقوى أسباب الفتح، وكان الالتقاء على وادي لكّة من كورة شذونة، فهزم الله الطاغية لذريق وجموعه، ونصر المسلمين نصراً لا كفاء له، ورمى لذريق نفسه في وادي لكّة وقد أثقلته السلاح (1) ، فلم يعلم له خبر ولم يوجد. وقيل: نزل طارق بالمسلمين قريباً من عسكر لذريق منسلخ شهر رمضان سنة 92، فوجّه لذريق علجاً من أصحابه قد عرف نجدته ووثق ببأسه ليشرف على عسكر طارق فيحزر عددهم ويعاين هيئاتهم ومراكبهم، فأقل ذلك العلج حتى طلع العسكر، ثمّ شدّ في وجوه من استشرفه من المسلمين، فوثبوا إليه، فولّى منصرفاً راكضاً، وفاتهم بسبق فرسه، فقال العلج للذريق: من لا يريد إلا الموت أو إصابة ما تحت قدميك، قد حرقوا مراكبهم يأساً لأنفسهم من التعلّق بها، وصفوا في السهل موطّنين أنفسهم على الثبات، إذ ليس لهم في أرضنا مكان مهرب، فرعب وتضاعف جزعه، والتقى العسكران بالبحيرة، واقتتلوا قتالاً شديداً، إلى أن انهزمت ميمنة لذريق وميسرته،

_ (1) ك: الجراح.

انهزم بهما أبناء غيطشة، وثبت القلب بعدهما قليلاً وفيه لذريق، فعذّر (1) أهل بشيء من قتال، ثم انهزموا ولذريق أمامهم، فاستمرّت هزيمتهم، وأذرع المسلمون القتل فيهم، وخفي أثر لذريق فلا يدرى أمره، إلاّ أن المسلمين وجدوا فرسه الأشهب الذي فقد وهو راكبه، وعليه سرج له من ذهب مكلّل بالياقوت والزبرجد، ووجدوا أحد خفّيه وكان من ذهب مكلّل بالدرّ والياقوت (2) ، وقد ساخ الفرس في طين وحمأة، وغرق العلج، فثبت أحد خفّيه في الطين فأخذ، وخفي الآخر، وغاب شخص العلج ولم يوجد حيّاً ولا ميتاًن والله أعلم بشأنه. وقال الرازي: كانت الملاقاة يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان، فاتصلت الحرب بينهم إلى يوم الأحد لخمس خلون من شوّال بعد تتمة ثمانية أيام، ثم هزم الله المشركين، فقتل منهم خلق عظيم (3) ، أقامت عظامهم بعد ذلك بدهر طويل ملبسة لتلك الأرض، قالوا: وحاز المسلمون من عسكرهم ما يجلّ قدره، فكانوا يعرفون كبار العجم وملوكهم بخواتم الذهب يجدونها في أصابعهم ويعرفون من دونهم بخواتم الفضة، ويميزون عبيدهم بخواتم النحاس، فجمع طارق الفيء وخمّسه، ثمّ اقتسمه أهله على تسعى آلاف من المسلمين سوى العبيد والأتباع، وتسامع الناس من أهل برّ العدوة بالفتح على طارق بالأندلس وسعة المغنم (4) فيها، فأقبلوا نحوه من كل وجه، وخرقوا البحر على كل ما قدروا عليه من مركب وقشر، فلحقوا بطارق، وارتفع أهل الأندلس عند ذلك إلى الحصون والقلاع، وتهاربوا من السهل ولحقوا بالجبال، ثم أقبل

_ (1) ق ك ط ودوزي: فغدر. وعذر: دفع عن نفسه اللوم بفعل كأنه تقصير؛ وسقط من ج: فعذر ... وخفي أثر لذريق. (2) زاد في ك: والزبر جد. (3) ك: خلق كثير عظيم. (4) ج: الغنائم.

طارقٌ حتى نزل بأهل مدينة شذونة، فامتنعوا عليه، فشدّ الحصر عليهم حتى نهكهم وأضرّهم، فتهيّأ له فتحها عنوة، فحاز منها غنائم، ثمّ مضى منها إلى مورور (1) ، ثمّ عطف إلى قرمونة فمر بعينه المنسوبة إليه، ثم مال على إشبيلية فصالحه أهلها على الجزية، ثمّ نازل أهل إستجة وهم في قوّة ومعهم فلّ عسكر لذريق، فقاتلوا قتالاً شديداً حتى كثر القتل والجراح بالمسلمين، ثمّ إن الله تعالى أظهر المسلمين عليهم، فانكسروا، ولم يلق المسلمون فيما بعد ذلك حرباً مثلها، وأقاموا على الامتناع إلى أن ظفر طارق بالعلج صاحبها، وكان مغترّاً سيئ التدبير، فخرج إلى النهر لبعض حاجاته وحده، فصادف طارقاً هناك قد أتى لمثل ذلك، وطارق لا يعرفه، فوثب عليه طارق في الماء، فأخذه وجاء به إلى العسكر، فلمّا كاشفه اعترف له بأنّه أمير المدينة، فصالحه طارق على ما أحبّ، وضرب عليه الجزية، وخلّى سبيله، فوفى بما عاهد عليه، وقذف الله الرّعب في قلوب الكفرة لما رأوا طارقاً يوغل في البلاد، وكانوا يحسبونه راغباً في المغنم عاملاً على القفول، فسقط في أيديهم، وتطايروا عن السهول إلى المعاقل، وصعد ذوو القوّة منهم إلى دار مملكتهم طليطلة، قيل: وكان من إرهاب طارق لنصارى الأندلس وحيله أن تقدّم إلى أصحابه في تفصيل لحوم القتلى بحضرة أسراهم وطبخها في القدور، يرونهم أنهم يأكلونها، فجعل من انطلق من الأسرى يحدّثون من وراءهم بذل فتمتلئ منه قلوبهم رعباً ويجفلون فراراً، قالوا: وقال يليان لطارق: قد فضضت جيوش القوم رعبوا، فاصمد لبيضتهم، وهؤلاء أدلاء من أصحابي مهرة، ففرّق جيوشك معهم في جهات البلاد، واعمد أنت إلى طليطلة حيث معظمهم، فاشغل القوم عن النظر في أمرهم والاجتماع إلى أولي رأيهم، ففرّق طارق جيوشه من إستجة، فبعث مغيثاً الروميّ مولى الوليد بن

_ (1) مدور؛ ومورور: (Moron) كورة متصلة بأحواز قرمونة.

عبد الملك إلى قرطبة، وكانت من أعظم مدائنهم، في سبعمائة فارس، لأن المسلمين ركبوا جميعاً خيل العجم، ولم يبق فيهم راجلٌ، وفضلت عنهم الخيل، وبعث جيشاً آخر إلى مالقة، وآخر إلى غرناطة مدينة إلبيرة، وسار هو في معظم الناس إلى كورة جيّان يريد طليطلة، وقد قيل: إن الذي سار لقرطبة طارق بنفسه، لا مغيث، قالوا: فكمنوا بعدوة نهر شقندة في غيضة أرزٍ شامخة، وأرسلت الأدلاء فأمسكوا راعي غنمٍ فسئل عن قرطبة فقال: رحل عنها عظماء أهلها إلى طليطلة، وبقي فيها أميرها في أربعمائة فارس (1) من حماتهم مع ضعفاء أهلها، وسئل عن سورها فأخبر أنّه حصين عالٍ فوق أرضها إلا أنّه فيه ثغرة ووصفها لهم (2) ، فلمّا أجنّهم الليل أقبلوا نحو المدينة ووطّأ الله لهم أسباب الفتح بأن أرسل السماء برذاذٍ أخفى دقدقة حوافر الخيل، وأقبل المسلمون رويداً حتى عبروا نهر قرطبة ليلاً، وقد أغفل حرس المدينة احتراس السور، فلم يظهروا عليه ضيقاً بالذي نالهم من المطر والبرد، فترجّل القوم حتى عبروا النهر، وليس بين النهر والسور إلا مقدار ثلاثين ذراعاً أو أقل (3) ، وراموا التعلّق بالسور فلم يجدوا متعلّقاً، ورجعوا إلى الراعي في دلالتهم على الثغرة التي ذكرها، فأراهم إياها، فإذا بها غير مستهلة التسنّم، إلا أنّه كانت في أسفلها شجرة تين مكنت أفنانها من التعلّق بها، فصعد رجل من أشدّاء المسلمين في أعلاها، ونزع مغيث عمامته فناوله طرفها، وأعان بعض الناس بعضاً حتى كثروا على السور، وركب مغيث ووقف من خارج، وأمر أصحابه المرتقين للسور بالهجوم على الحرس، ففعلوا، وقتلوا نفراً منهم، وكسروا أقفال الباب، وفتحوه، فدخل مغيث ومن معه وملكوا المدينة عنوة، فصمد إلى البلاط منزل الملك ومعه أدلاؤه، وقد بلغ الملك دخولهم

_ (1) فارس: سقطت من ق ط ج. (2) لهم: سقطت من ط ج ق. (3) أو أقل: سقطت من دوزي.

المدينة فبادر بالفرار عن البلاط في أصحابه، وهم زهاء أربعمائة، وخرج إلى كنيسة بغربيّ المدينة، وتحصن بها، وكان الماء يأتيها تحتالأرض من عين في سفح جبل، ودافعوا عن أنفسهم، وملك مغيث المدينة وما حولها؛ وقال من ذهب إلى أن طارقاً لم يحضر فتح قرطبة وأن فاتحها مغيث: إنّه كتب إلى طارق بالفتح، وأقام على محاصرة العلج بالكنيسة ثلاثة أشهر، حتى ضاق من ذلك وطال عليه، فتقدّم إلى أسود من عبيده اسمه رباح، وكان ذا بأس ونجدة، بالكمون في جنانٍ إلى جانب الكنيسة ملتفة الأشجار، لعلّه أن يظفر له بعلج يقف به على خبر القوم، ففعل، ودعاه ضعف عقله إلى أن صعد في بعض تلك الأشجار، وذلك أيّام الثمر، ليجني ما يأكله، فبصر به أهل الكنيسة، وشدّوا عليه، فأخذوه فملكوه (1) ، وهم في ذلك هائبون له منكرون لخلقه، إذ لم يكونوا عاينوا أسود قبله، فاجتمعوا عليه، وكثر لغطهم وتعجبهم من خلقه، وحسبوا أنّه مصبوغ أو مطليّ ببعض الأشياء التي تسوّد، فجردوه وسط جماعتهم، وأدنوه إلى القناة التي منها كان يأتيهم الماء، وأخذوا في غسله وبتدليكه بالحبال الحرش، حتى أدموه وأنتوه، فاستغاثهم، وأشار إلى أن الذي به خلقة من بارئهم، عزّ وجلّ، ففهموا إشارته (2) ، وكفّوا عن غسله (3) واشتد فزعهم منه، ومكث في إسارهم سبعة أيام لا يتركون التجمّع عليه والنظر إليه إلى أن يسّر الله له الخلاص ليلاً، ففرّ وأتى الأمير مغيثاً فخبره بشأنه وعرّفه بالذي اطلع عليه من موضع (4) الماء إليها ينتابونه، ومن أي ناحية يأتيهم، فأمر أهل المعرفة بطلب تلك القناة في الجهة التي أشار إليها الأسود حتى أصابوها، فقطعوها عن جريتها إلى الكنيسة، وسدّوا منافذها، فأيقنوا

_ (1) دوزي: وملكوه. (2) ق ط ج: ففهموا عنه. (3) ك: وكفوا عنه وعن غسله. (4) ك: اطلع عليه من شأنهم وموضع.

بالهلاك حينئذ، فدعاهم مغيث إلى الإسلام أو الجزية، فأبوا عليه، فأوقد النار عليهم حتى أحرقهم فسمّيت كنيسة الحرقى، والنصارى تعظّمها لصبر من كان فيها على دينهم من شدّة البلاء؛ غير أن العلج أميرهم رغب بنفسه عن بليتهم عند إيقان الهلاك، ففرّ عنهم وحده، وقد استغفلهم ورام اللحاق بطليطلة، فنمي (1) خبره إلى مغيث، فبادر الركض خلفه وحده، فلحقه بقرب قرية تطليرة (2) هارباً وحده، وتحته فرس أصفر ذريع الخطو، وحرك مغيث خلفه، فالتفت العلج ودهش لما رأى مغيثاً قد رهقه، وزاد في حث فرسه فقصر به، فسقط عن الفرس واندقت عنقه، فقعد على ترسه مستأسراً قد هاضته السقطة، فقبض عليه مغيث، وسلبه سلاحه، وحبسه عنده ليقدم به على أمير المؤمنين الوليد، ولم يؤسر من ملوك الأندلس غيره، لأن بعضهم استأمن وبعضه هرب إلى جلّيقيّة. وفي رواية أن مغيثاً استنزل أهل الكنيسة بعد أسره لملكهم، فضرب أعناقهم جميعاً، فمن أجل ذلك عرفت بكنيسة الأسرى وأن مغيثاً جمع يهود قرطبة فضمنهم إلى مدينتها استنامةً إليهم، دون النصارى، للعداوة بينهم، وأنّه اختار القصر لنفسه، والمدينة لأصحابه. وأمّا من وجّه إلى مالقة ففتحوها، ولجأ علوجها إلى جبال هنالك ممتنعة، ثمّ لحق ذلك الجيش بالجيش المتوجّه إلى إلبيرة، فحاصروا مدينتها غرناطة، فافتتحوها (3) عنوة، وضموا اليهود إلى قصبة غرناطة، وصار ذلك لهم سنّة متبعة (4) في كل بلد يفتحونه أن يضموا يهوده إلى القصبة مع قطعة من المسلمين لحفظها، ويمضي معظم الناس لغيرها، وإذا لم يجدوا يهوداً وفّروا عدد المسلمين المخلّفين لحفظ ما فتح، ثم صنعوا عند فتح كورة ريّة التي منها مالقة مثل ذلك.

_ (1) ك: قبلغ. (2) كذا في ق ك ط ج، ولعلها: طلبيرة. (3) ك: فاقتحموها. (4) متبعة: سقطت من ك.

ومضى الجيش إلى تدمير، وتدمير: اسم العلج صاحبها، سميت به، واسم قصبتها أريولة، ولها شأن في المنعة، وكان ملكها علجاً داهية، وقاتلهم مضحياً (1) ، ثمّ استمرت عليه الهزيمة في فحصها، فبلغ السيف في أهلها مبلغاً عظيماً أفنى أكثرهم ولجأ العلج إلى أريولة في يسير من أصحابه لا يغنون شيئاً، فأمر النساء بنشر الشعور وحمل القصب والظهور على السور في زيّ القتال متشبهات بالرجال، وتصدر قدّامهن في بقية أصحابه يغالط المسلمين في قوته على الدفاع عن نفسه، فكره المسلمون مراسه لكثرة من عاينوه على السور، وعرضوا عليه الصلح، فأظهر الميل إليه، ونكّر زيه، فنزل إليهم بأمان على أنّه رسول، فصالحهم على أهل بلده، ثمّ على نفسه، وتوثق منهم، فلمّا تمّ له من ذلك ما أراد عرّفهم بنفسه، واعتذر إليهم بالإبقاء على قومه، وأخذهم بالوفاء بعهده، وأدخلهم المدينة، فلم يجدوا فيها إلاّ العيال والذرّية، فندموا على الذي أعطوه من الأمان، واسترجحوه فيما احتال به، ومضوا على الوفاء له، وكان الوفاء عادتهم، فسلمت كورة تدمير من معرّة المسلمين بتدبير تدمير، وصارت كلّها صلحاً ليس فيها عنوة، وكتبوا إلى أميرهم طارق بالفتح، وخلفوا بقصبة البلد رجالاً منهم، ومضى معظمهم (2) إلى أميرهم لفتح طليطلة. قال ابن حيّان: وانتهى طارق إلى طليطلة دار مملكة القوط، فألفاها خالية قد فرّ أهلها عنها (3) ولجأوا إلى مدينة بها خلف الجبل، فضم اليهود إلى طليطلة، وخلف بها رجالاً من أصحابه (4) ، ومضى خلف من فر من أهل طليطلة فسلك إلى وادي (5) الحجارة، ثم استقبل الجبل فقطعه من فج سمّي به

_ (1) ق ك ط ج ودوزي: مصحياً، واللفظة تحتاج تصويباً، واقترح مراجع ط. ليدن أن تقرأ " مضحياً " بمعنى " في وقت الضحى ". (2) ق ط ج: المعظم. (3) ك: عنها أهلها. (4) من أصحابه: سقطت من ق. (5) ك: فسلك وادي.

بعد، فبلغ مدينة المائدة خلف الجبل، وهي المنسوبة لسليمان بن داود عليهما السلام، وهي خضراء من زبرجدة (1) حافاتها منها وأرجلها، وكان لها ثلاثمائة وخمس وستون رجلاً، فأحرزها عنده، ثمّ مضى إلى المدينة التي تحصّنوا بها خلف الجبل، فأصاب بها حلياً ومالاً، ورجع ولم يتجاوزها إلى طليطلة سنة ثلاث وتسعين. وقيل: إنّه لم يرجع، بل اقتحم أرض جلّيقية واخترقها حتى انتهى إلى مدينة استرقة، فدوخ الجهة، وانصرف إلى طليطلة، والله أعلم. وقيل: إن طارقاً دخل الأندلس بغير أمر مولاه موسى بن نصير، فالله أعلم. قال بعضهم: وكانت إقامته في الفتوح وتدويخ البلاد إلى أن وصل سيّده موسى بن نصير سنة، وكان ما سيذكر. وأنشد في " المسهب " وابن اليسع في " المعرب " لطارق من قصيدة قالها في الفتح: ركبنا سفيناً بالمجاز مقيّرا ... عسى أن يكون الله منّا قد اشترى نفوساً وأموالاً وأهلاً بجنّةٍ ... إذا ما اشتهينا الشيء فيها تيسّرا ولسنا نبالي كيف سالت نفوسنا ... إذا نحن أدركنا الذي كان أجدرا قال ابن سعيد: وهذه الأبيات ممّا يكتب لمراعاة قائلها ومكانته، لا لعلّو طبقتها (2) ، انتهى. وأما أولاد غيطشة فإنّهم لما صاروا إلى طارق بالأمان، وكانوا سبب الفتح حسبما تقدم، قالوا لطارق (3) : أنت الأمير أمير عظيم، فاستأذنوه باللّحاق بموسى بن نصير بإفريقية ليؤكّد سببهم به، وسألوه الكتاب إليه بشأنهم معه، وما أعطاهم من عهده، ففعل، وساروا نحو موسى فتلقّوه في انحداره إلى الأندلس بالقرب (4)

_ (1) ك: زبرجد. (2) ق ط ج ودوزي: لعلو طبقته. (3) انظر ابن القوطية: 29 - 30. (4) في ق " بالعرب " وفي بعض الأصول " بالمغرب " ولعل الصواب " بالمغرب " وهو ما ثبت في ك ط.

من بلاد البربر وعرّفوه بشأنهم، ووقف على ما خاطبه به طارق في ذمّتهم وسابقتهم، فأنفذهم إلى أمير المؤمنين الوليد بالشام بدمشق، وكتب إليه بما عرفه به طارق من جميل أثرهم، فلمّا وصلوا إلى الوليد أكرمهم وأنفذ لهم عهد طارق في ضياع والدهم، وعقد لكل واحد منهم سجلاًّ، وجعل لهم أن لا يقوموا لداخلٍ عليهم، فقدموا الأندلس، وحازوا ضياع والدهم أجمع، واقتسموها على موافقة منهم، فصار منهم لكبيرهم ألمند (1) ألف ضيعة في غرب الأندلس، فسكن من أجلها إشبيلية مقترباً منها، وصار لأرطباش (2) ألف ضيعة، وهو تلوه في السن، وضياعه في موسطة الأندلس، فسكن من أجلها قطرطبة، وصار لثالثهم وقلة (3) ألف ضيعة في شرقي الأندلس وجهة الثغر، فسكن من أجلها مدينة طليطلة، فكانوا على هذه الحال صدر الدولة العربية، إلى أن هلك ألمند كبيرهم، وتخّلف (4) ابنته سارة المعروفة بالقوطية وابنين صغيرين، فبسط يده أرطباش على ضياعهم، وضمها إلى ضياعه، وذلك في خلافة أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك، فأنشأت سارة بنت ألمند مركباً بإشبيلية حصيناً كامل العدة، وركبت فيه مع أخويها الصغيرين تريد الشام حتى نزلت بعسقلان من ساحلها ثمّ قصدت باب الخليفة هشام بداره بدمشق، فأنهت خبرها، وشكت ظلامتها من عمّها واستعدت عليه (5) ، واحتجت بالعهد المنعقد لأبيها وأخويه (6) على الخليفة الوليد بن عبد الملك، فأوصلها هشام إلى نفسه، وأعجبه صورتها (7) وحزمها،

_ (1) ألمند: (Olmundo) . (2) أرطباس ويكتب أحياناً " أرطبان " وهو أردبست بن غيطشة: (Ardabast) . (3) دوزي: رمله على أنها تعريب (Romulus) وكذلك هي عند ابن القوطية ولكن يبدو أن الصواب " وقلة " وهو تعريب أخيلا: (Aquila) . (4) ك: وخلف. (5) ك: وتعديه عليها. (6) ق ك ط ج: وإخوته. (7) صورتها: ليست كذلك في النسخ وإنما وردت في ق ط: ضروها، وفي أصول أخرى: ضروهما، صرمها؛ ولعل الأخيرة أصوب بمعنى " الحزم ".

وكتب إلى حنظلة بن صفوان عامله بإفريقية بإنصافها من عمّها أرطباش وإمضائها وأخويها (1) على سنّة الميراث فيما كان في يد والدها ممّا قاسم فيه أخويه، فأنفذ لها الكتاب بذلك إلى عامله بالأندلس أبي الخطار ابن عمّه، فتم لها ذلك وأنكحها الخليفة هشام من عيسى بن مزاحم (2) ، فابتنى بها بالشام، ثم قدم بها إلى الأندلس، وقام لها في دفاع عمها أرطباش عن ضياعها، فنال بها نعمة عظيمة، وولد له منها ولداه إبراهيم وإسحاق فأدركا الشرف المؤثّل والرياسة بإشبيلية، وشهرا ونسلهما بالنسبة إلى أمهما سارة القوطية. وكانت أيام وفادتها على الخليفة هشام رأت عنده حفيده عبد الرحمن بن معاوية الداخل بعد إلى الأندلس، وعرفها، فتوسّلت بذلك (3) إليه لمّا ملك الأندلس ووفدت إليه، فاعترف بذمامها وأكرمها، وأذن لها في الدخول إلى قصره متى جاءت إلى قرطبة فيجدّد تكرمتها ولا يحجب عياله منها، وتوفّي زوجها عيسى (4) في السنة التي ملك فيها عبد الرحمن الأندلس، فزوّجها عبد الرحمن من عمير بن سعيد. وكان لها ولأبيها ألمند وعمّها أرطباش في صدر الدولة العربية بالأندلس أخبارٌ ملوكية: فمنها ما حكاه الفقيه محمد بن عمر بن لبابة المالكي (5) أنّه قصد أرطباش يوماً إلى منزله عشرة من رؤساء رجال الشاميين فيهم الصّميل وابن الطّفيل وأبو عبدة وغيرهم، فأجلسهم على الكراسي، وبالغ في تكريمهم، ودخل على أثرهم ميمون العابد جد بني حزم، وكان في عداد الشاميين، إلاّ أنّه كان شديد الانقباض عنهم لزهده وورعه، فلمّا بصر به أرطباش قام إليه دونهم إعظاماً، ورقاه إلى كرسيه الذي كان يجلس عليه، وكان ملبّساً صفائح الذهب، وجذبه

_ (1) ق ك ط: وإخوتها. (2) عيسى بن مزاحم: من موالي عمر بن عبد العزيز؛ انظر ترجمة ابن القوطية في ابن خلكان 4: 4 - 6 وفيه خبر سارة القوطية في إيجاز. (3) بذلك: سقطت من ك. (4) عيسى: سقطت من ق. (5) انظر هذا الخبر في ابن القوطية: 61.

ليجلسه مكانه، فامتنع عليه ميمون، وقعد على الأرض، فقعد أرطباش معه عليها، وأقبل عليه قبلهم، فقال له: يا سيدي، ما الذي جاء بك إلى مثلي؟ فقال له: ما تسمعه، إنا قدمنا إلى هذا البلد غزاة نحسب أن مقامنا فيه لا يطول، فلم نستعدّ للمقام ولا كثّرنا من العدة، ثمّ حدث (1) بعدنا على موالينا وفي أجنادنا ما قد أيسنا معه من الرجوع إلى أوطاننا، وقد وسّع الله عليك، فأحب أن تدفع إلي ضياعاً من ضياعك أعتمرها بيدي، وأؤدي إليك الحق منها وآخذ الفضل لي طيباً أتعيش منه، فقال: لا أرضى لك بالمساهمة، بل أهب لك هبة مسوّغة، ثمّ دعا بوكيل له فقال له: سلّم المجشر (2) الذي لنا على وادي شوش بما لنا فيه من العبيد والدواب والبق وغير ذلك، وادفع إليه الضيعة التي بجيّان، فتسلّم ميمون الضيعتين وورثهما ولده، وإليهم نسبت قلعة حزم، فشكره ميمون وأثنى عليه، وقام عنه. وقد أنف الصّميل من قيامه إليه، فأقبل على أرطباش وقال له: كنت أظنّك أرجح وزناً، أدخل عليك وأنا سيد العرب بالأندلس في أصحابي هؤلاء، وهم سادة الموالي، فلا تزيدنا من الكرامة على الإقعاد على أعوادك هذه، ويدخل هذا الصّعلوك فتصير من إكرامه إلى حيث صرت؟ فقال له: يا أبا جوشن، إن أهل دينك يخبروننا أن أدبهم لم يرهفك ولو كان لم تنكر عليّ ما فعلته، إنكم أكرمكم الله إنّما تكرمون لدنياكم وسلطانكم، وهذا إنّما أكرمته لله تعالى، فقد روينا عن المسيح، عليه السلام، أنّه قال: من أكرمه الله تعالى من عباده بالطاعة له وجبت كرامته على خلقه، فكأنّما القمه حجراً. وكان الصّميل أمّيّاً، فلذلك عرّض به، فقال له القوم: دعنا من هذا، وانظر فيما قصدنا له، فحاجتنا حاجة الرجل الذي قصدك فأكرمته، فانظر في شأننا، فقال له: أنتم ملوك الناس، وليس يرضيكم إلاّ الكثير، وها أنا أهب لكم مائة ضيعة تقتسمونها عشراً عشراً، وكتب لهم بها، وأمر وكلاءه بتسليمها

_ (1) ك: وحدثت، وفي بقية الأصول: ثم حدثت. (2) المجشر: المرعى.

إليهم، فكان القوم يرونها من أطيب أملاكهم، انتهى. قال ابن حيّان وغيره: ولمّا بلغ موسى بن نصير ما صنعه طارق بن زياد وما أتيح له من الفتوح حسده، وتهيّأ للمسير إلى الأندلس فعسكر وأقبل نحوها ومعه جماعة الناس وأعلامهم، وقيل: إنّهم كانوا ثمانية عشر ألفاً، وقيل: أكثر، فكان دخوله إلى الأندلس في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين، وتنكب الجبل الذي حلّه طارق، ودخل على الموضع المنسوب إليه المعروف الآن بجبل موسى، فلمّا احتل الجزية الخضراء قال: ما كنت لأسلك طريق طارق، ولا أقفو أثره، فقال له العلوج الأدلاء أصحاب يليان: نحن نسلك بك (1) طريقاً هو أشرف من طريقه، وندلك على مدائن هي أعظم خطراً وأعظم خطباً وأوسع غنماً (2) من مدائنه، لم تفتح بعد، يفتحها الله عليك إن شاء الله تعالى، فملئ سروراً. وكان شفوف طارق قد غمّه، فساروا به في جانب ساحل شذونة، فافتتحها عنوة، وألقوا بأيديهم إليه، ثمّ سار إلى مدينة قرمونة، وليس بالأندلس أحصن منها، ولا أبعد على من يرومها بحصار أو قتال، فدخلها بحيلة توجهت بأصحاب يليان، دخلوا إليهم كأنّهم فلاّل وطرقهم موسى بخيله ليلاً ففتحوا لهم الباب وأوقعوا بالأحراس، فملكت المدينة. ومضى موسى إلى إشبيلية جارتها فحاصرها، وهي أعظم مدائن الأندلس شأناً، وأعجبها بنياناً، وأكثرهم آثاراً، وكانت دار الملك (3) قبل القوطيين، فلمّا غلب القوطيون على ملك الأندلس حولوا السلطان إلى طليطلة، وبقي رؤساء الدين فيها أعني إشبيلية، فامتنعت أشهراً على موسى، ثم فتحها الله عليه، فهرب العلوج عنها إلى مدينة باجة، فضم موسى يهودها إلى القصبة، وخلّف بها رجالاً، ومضى من إشبيلية إلى

_ (1) ك: نسلكك. (2) بعض الصول: هي أوسع خطراً وأعظم خطباً ... الخ؛ وقد سقطت " أعظم خطراً " من ق ط؛ وفي ج: هي أعظم وأوسع مغنماً. (3) ق ك: المملكة.

لفنت (1) إلى مدينة ماردة، وكانت أيضاً دار مملكة لبعض ملوك الأندلس في سالف الدهر، وهي ذات عزّ ومنعة، وفيها آثار وقصور ومصانع وكنائس جليلة القدر فائقة الوصف، فحاصرها أيضاً، وكان في أهلها منعة شديدة وبأس عظيم، فنالوا من المسلمين دفعات، وآذوهم، وعمل موسى دبّابة دبّ المسلمون تحتها إلى برج من أبراج سورها جعلوا ينقبونه، فلمّا قلعوا الصخر أفضوا بعده إلى العمل المدعو بلسان العجم ألاشه ماشه (2) ، فنبت عنه معاولهم وعدتهم، وثار بهم العدو على غفلة، فاستشهد بأيديهم قوم من المسلمين تحت تلك الدبابة، فسمّي ذلك الموضع برج الشهداء، ثم دعا القوم إلى السلم، فترسل إليه في تقريره قوم من أماثلهم أعطاهم الأمان واحتال في توهمهم في نفسه، فدخلوا عليه أوّل يوم، فإذا هو أبيض الرأس واللّحية كما نصل خضابه، فلم يتفق لهم معه أمر، وعاودوه قبل الفطر بيوم، فإذا به قد قنأ لحيته بالحنّاء فجاءت كضرام عرفج، فعجبوا من ذلك، وعاودوه يوم الفطر، فإذا هو قد سوّد لحيته، فازداد تعجبهم منه، وكانوا لا يعرفون الخضاب ولا استعماله، فقالوا لقومهم: إنّا نقاتل أنبياء يتخلّقون كيف شاءوا، ويتصورون في كل صورة أحبّوا؛ كان ملكهم شيخاً فقد صار شابّاً، والرأي أن نقاربه ونعطيه ما يسأله، فما لنا به طاقة، فأذعنوا عند ذلك، وأكملوا صلحهم مع موسى على أن أموال القتلى يوم الكمين وأموال الهاربين إلى جلّيقيّة وأموال الكنائس وحليها للمسلمين (3) ، ثم فتحوا له المدينة

_ (1) في ك ط: ألقنت والتصحيح عن دوزي، وهي تقابل (Fuente de Cantos) إذ لا يمكن أن تكون هي " لقنت " في جنوب الشاطئ الغربي من الجزيرة وقرأها بعدض الباحثين لاكانتوس، وهي تعني " عين كانتوس ". (2) ألاشه ماشه: (Argamasa) أي الإسمنت، كما أثبت ذلك في حواشي ط. ليدن؛ وفي معجم بيدور دالكالا أن (Laxmax Argamasa) . (3) في هذا النص اضطراب إذ يبدو أن شروط الصلح على هذا النحو لا يمكن أن يقبل بها أهل ماردة؛ وقد جاء في أخبار مجموعة: 18 " فصالحوه على أن جميع أموال القتل يوم الكمين وأموال الهاربين إلى جلقية للمسلمين، وأموال الكنائس وحليها له " وإذا قرأت " لها " يدل " له " كان هذا النص أصوب، فيما أرى.

يوم الفطر سنة أربع وتسعين فملكها، ثم إن عجم إشبيليّة انتقضوا على المسلمين، واجتمعوا من مدينتي باجة ولبلة إليهم، فأوقعوا بالمسلمين وقتلوا منهم نحو ثمانين رجلاً، وأتى فلّهم الأمير موسى وهو بماردة فلمّا أن فتحها وجّه ابنه عبد العزيز بن موسى في جيش إليهم ففتح إشبيلية وقبل أهلها، ونهض إلى لبلة ففتحها، واستقامت الأمور فيما هنالك، وعلا الإسلام، وأقام عبد العزيز (1) بإشبيلية، وتوجّه الأمير موسى من ماردة عقب شوال من العام المؤرخ يريد طليطلة، وبلغ طارقاً خبرهن فاستقبله في وجوه الناس، فلقيه في موضع من كورة طلبيرة؛ وقيل: إن موسى تقدّم من ماردة فدخل جلّيقية من فج نسب إليه، فخرقها حتى وافى طارق بن زياد صاحب مقدمته بمدينة استرقة، فغض منه علانية، وأظهر ما بنفسه عليه من حقد، والله أعلم؛ وقيل: لمّا وقعت عينه عليه نزل إليه إعظاماً له، فقنّعه موسى بالسوّط، ووبّخه على استبداده عليه ومخالفته لرأيه. وساروا إلى طليطلة، فطالبه موسى بأداء ما عنده من مال الفيء وذخائر الملوك، واستعجله بالمائدة، فأتاه بها وقد خلع من أرجلها رجلاً وخبأه عنده، فسأله موسى عنه، فقال: لا علم لي به، وهكذا أصبتها، فأمر موسى فجعل لها رجل من ذهب جاء بعيد الشبه من أرجلها يظهر عليه التعمّل، ولم يقدر على أحسن منه، فأخلّ بها. جاء بعيد الشبه من أرجلها يظهر عليه التعمّل، ولم يقدر على أحسن منه، فأخلّ بها. وقال ابن الفرضي (2) : موسى بن نصير صاحب فتح الأندلس لخميّ يكنى أبا عبد الرحمن، يروي عن تميم الداريّ، وروى عنه يزيد بن مسروق اليحصبي. وقيل: غزا موسى بن نصير في المحرّم سنة ثلاث وتسعين، فأتى طنجة، ثم عبر إلى الأندلس، فأداخها، لا يأتي على مدينة إلاّ فتحها نزل أهلها على حكمه، ثم سار إلى قرطبة، ثم قفل عن الأندلس سنة أربع وتسعين، فأتى إفريقية، وسار عنها سنة خمس وتسعين إلى الشام يؤمّ الوليد بن عبد الملك يجرّ الدنيا بما

_ (1) ق: عبد العزيز بن موسى. (2) ابن الفرضي 2: 144 وفيه: " يقال: مولى لخم "، وهو عجيب.

احتمله من غنائم الأندلس من الأموال والأمتعة يحملها على العجل والظّهر، ومعه ثلاثون ألف رأسٍ من السبي، فلم يلبث أن هلك الوليد بن عبد الملك (1) وولي سليمان، فنكب موسى نكباً أداه إلى المتربة، فهلك في نكبته تلك بوادي القرى سنة سبع وتسعين. قال ابن حيّان: وهذه المائدة المنوّه باسمها المنسوبة إلى سليمان النبيّ عليه الصلاة والسلام لم تكن له فيما يزعم رواع العجم، وإنّما أصلها أن العجم في أيام ملكهم كان أهل الحسنة منهم إذا مات أحدهم أوصى بمال الكنائس، فإذا اجتمع عندهم ذلك المال صاغوا منه الآلات الضخمة من الموائد والكراسي وأشباهها من الذهب والفضّة، تحمل الشّمامسة والقسوس فوقها مصاحف الأناجيل إذا أبرزت في أيّام المناسك، ويضعونها (2) على المذابح في الأعياد للمباهاة بزينتها، فكانت تلك المائدة بطليطلة ممّا صيغ (3) في هذه السبيل، وتأنقت الأملاك في تفخيمها، يزيد الآخر منهم فيها على الأوّل، حتى برزت على جميع ما اتخذ من تلك الآلات، وطار الذكر مطاره عنها، وكانت مصوغة من خالص الذهب، مرصّعة بفاخر الدرّ والياقوت والزمرد، لم تر الأعين مثلها، وبولغ في تفخيمها من أجل دار المملكة، وأنّه لا ينبغي أن تكون بموضع آلة جمالٍ أو متاع مباهاةٍ إلا دون ما يكون فيها، وكانت توضع على مذبح كنيسة طليطلة، فأصابها المسلمون هناك، وطار النبأ الفخم عنها. وقد كان طارق ظن بموسى أميره مثل الذي فعله من غيرته على ما تهيّأ له ومطالبته له بتسليم ما في يده إليه، فاستظهر بانتزاع رجلٍ من أرجل هذه المائدة خبأه عنده، فكان من فلجه به على موسى عدوّه عند الخليفة إذ تنازعا عنده بعد الأثر في جهادهما ما هو مشهور، انتهى.

_ (1) ابن عبد الملك: سقطت من ق ج ط. (2) ق ودوزي: ويصفونها. (3) صنع.

وقال بعض المؤرخين (1) : إن المائدة كانت مصنوعة من الذهب والفضّة، وكان عليها طوق لؤلؤ طوق ياقوت وطوق زمرد، وكلها مكلّلة بالجواهر، انتهى. وما ذكره ابن حيّان من أن الذي يكب موسى بن نصير هو سليمان بن عبد الملك صواب، وأمّا ما حكاه ابن خلّكان من أن المنكب (2) له الوليد فليس بصحيح، والله أعلم. رجع إلى كلام ابن حيّان قالوا: ثمّ إن موسى اصطلح مع طارق، وأظهر الرضى عنه، وأقرّه على مقدمته على رسمه، وأمره بالتقدّم أمامه في أصحابه، وسار موسى خلفه في جيوشه، فارتقى إلى الثغر الأعلى، وافتتح سرقسطة وأعمالها، وأوغل في البلاد، وطارق أمامه لا يمرّان بموضع إلاّ فتح عليهما، وغنّمهما الله تعالى ما فيه. وقد ألقى الله الرعب في قلوب الكفرة فيم يعارضهما أحد إلاّ بطلب الصلح (3) ، وموسى يجيء على أثر طارق في ذلك كله، ويكمل ابتداءه، ويوثّق للناس ما عاهدوه عليه، فلمّا صفا القطر كلّه وطامن نفوس من أقام على سلمهن ووطّأ لأقدام المسلمين في الحلول به، أقام لتمييز ذلك وقتاً، وأمضى المسلمين إلى إفرنجة ففتحوا وغنموا وسلموا وعلوا وأوغلوا، حتى انتهوا إلى وادي رودنة (4) ، فكان أقصى أثر العرب ومنتهى موطئهم من أرض العجم. وقد دوّخت بعوث طارق وسراياه بلد إفرنجة فملكت مدينتي برشلونة وأربونة

_ (1) ابن خلكان 4: 411. (2) جزء 4: 412، وليس هناك كلمة " المنكب " وإنما قال ابن خلكان: " ويقال إن الوليد كان قد نقم عليه أمرا فلما وصل، وهو بدمشق، أقامه في الشمس يوما كاملا في يوم صائف حتى خر مغشيا عليه " وعندي أن المنكب تصحيف لكلمة " المكبت ". (3) ط: صلح. (4) في الأصول: ردونة، وهي تقابل نهر الرون، ويشك المؤرخون في أن يكون موسى قد تغلغل في هذه المناطق.

وصخرة أبنيون (1) وحصن لوذون (2) على وادي رودنة، فبعدوا عن الساحل الذي منه دخلوا جدّاً، وذكر أن مسافة ما بين قرطبة وأربونة من بلاد إفرنجة ثلاثمائة فرسخ وخمسة وثلاثون فرسخاً، وقيل: ثلاثمائة فرسخ وخمسون فرسخاً، ولمّا أوغل المسلمون إلى أربونة ارتاع لهم قارله (3) ملك الإفرنجة بالأرض الكبيرة، وانزعج لانبساطهم، فحشد لهم، وخرج عليهم في جمع عظيم، فلمّا انتهى إلى حصن لوذون وعلمت العرب بكثرة جموعه زالت عن وجهه، وأقبل حتى انتهى إلى صخرة لوذون، فلم يجد بها أحداً، وقد عسكر المسلمون قدّامه فيما بين الأجبل المجاورة لمدينة أربونة، وهم بحال غرّة لا عيون لهم ولا طلائع، فما شعروا حتى أحاط بهم عدوّ الله قارله، فاقتطعهم عن اللجإ إلى مدينة أربونة، وواضعهم الحرب، فقاتلوا قتالاً شديداً استشهد فيه جماعة منهم، وحمل جمهورهم على صفوفه حتى اخترقوها، ودخلوا المدينة ولاذوا بحصانتها، فنازلهم بها أيّاماً أصيب له فيها رجال، وتعذّر عليه المقام، وخامره ذعر وخوف مدد للمسلمين، فزال عنهم راحلاً إلى بلده، وقد نصب في وجوه المسلمين حصوناً على وادي رودنة شكّها بالرجال فصيّرها ثغراً بين بلده والمسلمين، وذلك بالأرض الكبيرة خلف الأندلس. وقال الحجاري في المسهب: إن موسى بن نصير نصره الله نصراً ما عليه مزيد، وأجفلت ملوك النصارى بين يديهن حتى خرج على باب الأندلس الذي في الجبل الحاجز بينها وبين الأرض الكبيرة، فاجتمعت الإفرنج إلى ملكها الأعظم قارله، وهذه سمة لملكهم، فقالت له: ما هذا الخزي الباقي في الإعقاب؟ كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس، حتى أتوا من مغربها، واستولوا على بلاد الأندلس وعظيم ما فيها من العدّة والعدد بجمعهم القليل،

_ (1) ابنيون: (Avinionum) ، إلى الشمال من آرل على نهر الرون. (2) لودون: (Leon) . (3) Carlus Charle.

وقلّة عدّتهم، وكونهم لا دروع لهم، فقال لهم ما معناه: الرأي عندي أن لا تعترضوهم في خرجتهم هذه، فإنّهم كالسيل يحمل من يصادره، وهم إقبال أمرهم، ولهم نيّات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم، ويتخذوا المساكن ويتنافسوا في الرياسة، ويستعين بعضهم ببعض (1) ، فحينئذ تتمكّنون منهم بأيسر أمر، قال: فكان والله كذلك بالفتنة التي طرأت بين الشاميّين والبلديّين والبربر والعرب والمضريّة واليمانية، وصار بعض المسلمين يستعين على بعض بمن يجاورهم من الأعداء، انتهى. وقيل: إن موسى بن نصير أخرج ابنه عبد الأعلى إلى تدمير ففتحها، وإلى غرناطة ومالقة وكورة ريّة ففتح الكل، وقيل: إنّه لمّا حاصر مالقة - وكان ملكها ضعيف الرأي قليل التحفظ - كان يخرج إلى جنان له بجانب المدينة طلباً للراحة من غمّة الحصار من غير نصب عين وتقديم طليعة، وعرف عبد الأعلى بأمره، فأكمن له في جنبات الجنّة التي كان ينتابها قوماً من وجوه فرسانه ذوي رأي وحزم، وأرصدوا له ليلاً فظفروا به وملكوه، فأخذ المسلمون المدينة (2) عنوة، وملأوا أيديهم غنيمة. وقيل: كانت نفس موسى بن نصير في ذلك كلّه تنزعج (3) إلى دخول دار الكفر جلّيقية، فبينما هو يعمل في ذلك ويعدّ له إذ أتاه مغيثٌ الروميّ رسول الوليد بن عبد الملك ومولاه يأمره بالخروج عن الأندلس (4) والإضراب عن التوغل فيها، وأخذه بالقفول إليه، فساءه ذلك، وقطع به عن إرادته؛ إذ لم يكن في الأندلس بلد لم تدخله العرب إلى وقته ذلك غير جليقية، فكان شديد الحرص

_ (1) الصواب: على بعض. (2) ك: البلد. (3) ق: فانزعج. (4) عن الأندلس: سقطت من ق.

على اقتحامها، فلاطف موسى مغيثاً رسول الخليفة، وسأله إنظاره إلى أن ينفذ عزمه في الدخول إليها والمسير معه في البلاد أيّاماً ويكون شريكه في الأجر والغنيمة، ففعل، ومشى معه حتى بلغ المفازة، فافتتح حصن بارو (1) وحصن لكّ (2) ، فأقام هناك، وبثّ السرايا حتى بلغوا صخرة بلاي (3) على البحر الأخضر، فلم تبق كنيسة إلاّ هدمت، ولا ناقوس إلا كسر، وأطاعت الأعاجم فلاذوا بالسلم وبذل الجزية، وسكنت العرب المفاوز، وكان العرب والبربر كلمّا مرّ قوم منهم بوضع استحسنوه حطّوا به ونزلوه قاطنين، فاتسع نطاق الإسلام بأرض الأندلس، وخذل الشرك، وبينما موسى كذلك في اشتداد الظهور وقوّة الأمل إذ قدم رسولٌ آخر من الخليفة يكنى أبا نصر أردف به الوليد مغيثاً لما استبطأ موسى في القفول، وكتب إليه يوبخه، ويأمره بالخروج، وألزم رسوله إزعاجه، فانقلع (4) حينئذ من مدينة لكّ بجليقية، وخرج على الفج المعروف بفج موسى (5) ، ووافاه طارق في الطريق منصرفاً من الثغر الأعلى، فأقفله مع نفسه ومضيا جميعاً ومعهما من الناس من اختار القفول، وأقام من آثر السكنى في مواضعهم التي كانوا قد اختطوها واستوطنوها، وقفل معهم الرسولان مغيث وأبو نصر حتى احتلّوا بإشبيلية، فاستخلف موسى ابنه عبد العزيز على إمارة الأندلس، وأقرّه بمدينة إشبيلية لاتصالها بالبحر نظراً لقربه من مكان (6) المجاز،

_ (1) بازو؛ وقد اختار هذه القراءة لتقابل (Viseu) الواقعة إلى الجنوب الشرقي من أوبورتو. ويرى بعض المؤرخين أن وصول موسى إليها حيث كان، وفي وقت قصير، أمر عسير جدا، ولذا قدروا أن تكون بارو في منطقة بلد الوليد أي البلدة المسماة (Yillabaruz) ويكون الاسم " باروز ". (2) لك: هي (Lucus Asturum) وتسمى اليوم: (Maria de Lugo) . (3) صخرة بلاي: (Pena de pelayo) وهي أقصى نقطة من أشتريس على المحيط الأطلسي (البحر الأخضر) . (4) ق: فانخلع، وسقطت " حينئذ بعدها. (5) فج موسى: (Valmusa) (أي وادي موسى) . (6) ك: مكاره.

وركب موسى البحر إلى المشرق بذي حجة سنة خمس وتسعين وطارق معه، وكان مقام طارق بالأندلس قبل دخول موسى سنة وبعد دخوله سنتين وأربعة أشهر، وحمل موسى الغنائم والسّبي، وهو ثلاثون ألف رأس والمائدة منوّهاً بها ومعها من الذخائر والجواهر ونفيس الأمتعة ما لا يقدر قدره، وهو مع ذلك متلهف على الجهاد الذي فاته، أسيفٌ على ما لحقه من الإزعاج، وكان يؤمل أن يخترق ما بقي عليه من بلد (1) إفرنجة، ويقتحم الأرض الكبيرة حتى يتصل بالناس إلى الشام مؤملاً أن يتخذ مخترقه بتلك الأرض طريقاً مهيعاً يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم وجيئهم من المشرق وإليه على البر لا يركبون بحراًن وقيل: إنّه أوغل في أرض الفرنجة حتى انتهى إلى مفازة كبيرة وأرض سهلة ذات آثار، فأصاب فيها صنماً عظيماً قائماً كالسارية مكتوباً فيه بالنقر كتابة عربية (2) قرئت، فإذا هي: يا بني إسماعيل، انتهيتم فارجعوا، فهاله ذلك، وقال: ما كتب هذا إلاّ لمعنى كبير، فشاور أصحابه في الإعراض عنه وجوازه إلى ما وراءه، فاختلفوا عليه، فأخذ برأي جمهورهم، وانصرف الناس، وقد أشرفوا على قطع البلاد وتقصّي الغاية. وحكى الرازي: أن موسى خرج من إفريقية إلى الأندلس في رجب سنة ثلاث وتسعين، واستخلف على إفريقية أسنّ ولده عبد الله بن موسى، وكان موسى في عشرة آلاف، قال: وكان عبد الملك بن مروان هو الذي أغزى موسى المغرب في خلافته، ففتح له في أهله البرابرة فتوح كبار، حتى لقد بعث إلى عبد الملك في الخمس بعشرين ألف سبيّةٍ، ثم أردفها بعشرين ألفاً أخرى، كل ذلك من البربر، فعجب عبد الملك يومئذ من كثرة ذلك. وزعم ابن حبيب (3) : أنّه دخل الأندلس رجل واحد من أصاغر الصحابة، وهو

_ (1) ك: بلاد. (2) كذا في جميع الأصول. (3) سيأتي الحديث عن التابعين الذين دخلوا الأندلس في أول الباب السادس.

المنيذر، قال: ودخلها من التابعين ثلاثة: موسى الأمير، وعلي بن رباح اللخمي، وحيوة بن رجاء التميمي، وقيل: إن ثالثهم إنّما هو حنش بن عبد الله الصنعاني، صنعاء الشام، وإنّهم قفلوا عنها بقفول موسى، وأهل سرقسطة يزعمون أن حنشاً مات عندهم ولم يقفل للمشرق، وقبره لديهم مشهور يتبركون به ولا يختلفون فيه، فالله أعلم. وقيل: إن التابعين أربعة بأبي عبد الرحمن الحبليّ الأنصاري، واسمه عبد الله بن يزيد، والله أعلم، وخمّسهم بعضهم بحبّان (1) بن أبي جبلة مولى بني بعد الدار وكان في ديوان مصر، فبعث به عمر بن عبد العزيز إلى إفريقية في جماعة من الفقهاء ليفقّهوا أهلها، وكان روى عن عمرو بن العاص وابن عبّاس وابن عمر، وحدث عنه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وغيره، وغزا مع موسى حين افتتح الأندلس، وانتهى معه إلى حصن من حصون العدو يقال له قرقشونة، وقيل: بل قفل إلى إفريقية (2) فتوفي بها بعد العشرين ومائة. وقال بعضهم: إن بين قرقشونة هذه وبين برشلونة مسافة خمسة وعشرين يوماً، وفيها الكنيسة المعظمة عند الفرنج المسمّاة شنت مرية، وقد حكى ابن حيّان أن فيها سبع سوارٍ من فضة خالصة لم ير الراؤون مثلها لا يحيط الإنسان بذراعيه على واحدة منها مع طول مفرط. وحنش الصنعاني المذكور تابعي (3) جليل، كان مع علي رضي الله عنه بالكوفة، وقدم مصر بعد قتله، فصار عداده في المصريين، وكان فيمن قام مع ابن الزبير على عبد الملك بن مروان فعفا عنه، وكفى الأندلس شرفاً دخوله لها. وعلي بن رباح بصري تابعي، يكنى أبا عبد الله، وهو لخمي، ولد عام اليرموك سنة خمس عشرة، قال ابن معين: أهل مصر يقولونه بفتح العين،

_ (1) في جميع الأصول: بحيان (حيثما وقع) ؛ وأثبته ابن حجر (التبصير 1: 278) بالباء الموحدة. (2) وقيل.... إفريقية: سقطت من ك. (3) تابعي: سقطت من ق، وهو سهو.

وأهل العراق يقولونه بضمّها، وروى الليث عن ابنه موسى بن عليّ، وكانت لعليّ بن رباح عند عبد العزيز بن مروان مكانة، وهو الذي زفّ ابنته أم البنين لزوجها الوليد، ثمّ عتب عليه عبد العزيز فأغزاه إفريقية. وأمّا المنيذر الإفريقي فلم ينسبه ابن حبيب، وذكره ابن عبد البر في الصحابة (1) وقال: إنّه المنيذر الإفريقي، وروى عنه أبو عبد الرحمن الحبلي، قال: حدّثنا المنيذر الإفريقي (2) ، وكان سكن إفريقية، وكان صحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أنّه سمعه صلى الله عليه وسلّم يقول: " من قال: رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلّم نبيّاً، فأنا الزعيم له، فلآخذنّ بيده، فلأدخلنّه الجنة " ورواه عنه ابن عبد البر بسنده إليه، وسيأتي إن شاء الله تعالى في حق المنيذر مزيد بيان (3) . ولمّا قفل موسى بن نصير إلى المشرق وأصحابه سأل مغيثاً أن يسلم إليه العلج صاحب قرطبة الذب كان في إساره، فامتنع عليه، وقال: لا يؤديه للخليفة سواي، وكان يدلّ بولائه من الوليد، فهجم عليه موسى فانتزعه منه، فقيل له: إن سرت به حيّاً معك ادعاه مغيث، والعلج لا ينكر قوله، ولكن اضرب عنقه، ففعل، فاضطغنها عليه مغيث، وصال إلباً مع طارق الساعي عليه، واستخلف موسى على طنجة وما يليها من المغرب ابنه الآخر عبد الملك، وقد كان - كما مرّ - استخلف بإفريقية أكبر أولاده عبد الله، فصار جميع الأندلس والمغرب بيد أولاده؛ وابنه بعد الله الذي خلفه بإفريقية هو الفاتح لجزيرة ميورقة. وسار موسى فورد الشام، واختلف الناس: هل كان وروده قبل موت الوليد أو بعده؟ فمن يقول بالثاني قال: قدم على سليمان حين استخلف، وكان منحرفاً عنه، فسبق إليه طارق ومغيث بالشكية

_ (1) انظر الاستيعاب: 1485. (2) وروى ... الإفريقي: سقطت سهوا من ق. (3) يعني في أول الباب السادس.

منه، ورمياه بالخيانة، وأخبراه بما صنع بهما من خبر المائدة والعلج صاحب قرطبة، وقالا له: إنّه قد غلّ جوهراً عظيم القدر أصابه لم تحو الملوك من بعد فتح فارس مثله، فلمّا وافى سليمان وجده ضغيناً عليه، فأغلظ له، واستقبله بالتأنيب والتوبيخ، فاعتذر له ببعض العذر، وسأله عن المائدة، فأحضرها، فقال له: زعم طارق أنّه الذي أصابها دونك، قال: لا، وما رآها قطّ إلا عندي، فقال طارق: فليسأله أمير المؤمنين عن الرّجل التي تنقصها، فسألهن فقال هكذا أصبتها، وعوضتها رجلاً صنعتها لها، فحول طارق يده إلى قبائه فأخرج الرجل، فعلم سليمان صدقه وكذب موسى، فحقّق جميع ما رمي به عنده، وعزله عن جميع أعماله، وأقصاه وحبسه، وأمر بتقصّي حسابه، فأغرمه غرماً عظيماً كشفه فيه، حتى اضطره إلى أن سأل العرب معونته، فيقال: إن لخماً حملت عنه في أعطيتها تسعين ألفاً ذهباً، وقيل: حمله سليمان غرم مائتي ألف، فأدى مائة ألف، وعجز، فاستجار بيزيد بن المهلب أثير سليمان، فاستوهبه من سليمان، فوهبه إيّاه، إلا أنّه عزل ابنه عبد الله عن إفريقية. وقال الرازي: إن الذي أزعج موسى عن الأندلس أبو نصر رسول الوليد فقبض على عنانه وثناه قافلاً، وقفل معه من أحبّ المشرق، وكان أكثر الناس قطنوا ببلاد الأندلس لطيبها، فأقاموا فيها. [نهاية موسى وابنه عبد العزيز] وذهب جماعة من أهل التاريخ إلى أن موسى إنّما قدم على الوليد، وأن سليمان وليّ العهد لمّا سمع بقرب موسى بن نصيرمن دمشق - وكان الوليد مريضاً - كتب - أي سليمان - إلى موسى يأمره بالتربص، رجاء أن يموت الوليد قبل قدوم موسى فقدم موسى على سليمان في أول خلافته بتلك الغنائم

الكثيرة التي ما رئي ولا سمع مثلها، فيعظم بذلك مقام سليمان عند الناس، فأبى موسى من ذلك، ومنعه دينه منه، وجدّ في السير (1) حتى قدم والوليد حيٌّ، فسلّم له الأخماس والمغانم والتحف والذخائر، فلم يمكث الوليد إلاّ يسيراً بعد قدوم موسى، وتوفّي، واستخلف سليمان، فحقد عليه وأهانه، وأمر بإقامته في الشمس حتى كاد يهلك، وأغرمه أموالاً عظيمة، ودسّ إلى أهل الأندلس بقتل ابنه الذي استخلفه على الأندلس، وهو عبد العزيز بن موسى، وكان تولى الأندلس بعد قفول أبيه عنها باستخلافه إيّاه كما سبق، فضبط سلطانها، وضمّ نشرها، وسدّ ثغورها، وافتتح في ولايته مدائن كثيرة ممّا كان قد بقي على أبيه موسى منها، وكان من خير الولاة، إلاّ أن مدّته لم تطل لوثوب الجند به وقتلهم إيّاه عقب سنة خمس وتسعين في خلافة سليمان الموقع بأبيه موسى لأشياء نقموها عليه (2) : منها (3) زعموا تزوّجه لزوجة لذريق المكنّاة أم عاصم وكانت قد صالحت على نفسها وأموالها وقت الفتح، وباءت بالجزية، وأقامت على دينها في ظل نعمتها إلى أن نكحها الأمير عبد العزيز، فحظيت عنده. ويقال: إنّه سكن بها في كنيسة بإشبيلية، وإنّها قالت له: لم لا يسجد لك أهل مملكتك كما كان يسجد للذريق - زوجها الأول - أهل مملكته؟ فقال لها: إن هذا حرام في ديننا، فلم تقنع منه بذلك، وفهم لكثرة شغفه بها أن عدم ذلك ممّا يزري بقدره عندها، فاتخذ باباً صغيراً قبالة مجلسه يدخل عليه الناس منه، فينحنون، وأفهمها أن ذلك الفعل منهم تحية له، فرضيت بذلك، فنمي الخبر إلى الجند، مع ما انضم إلى ذلك من دسيسة سليمان لهم في قتله، فقتلوه، سامحه الله تعالى. وذكر بعض المؤرخين أنهم وجدوا في الحجر بعد ما تقدّم من الكتابة التي

_ (1) ط: وأجد السير؛ ج: وجد السير؛ دوزي: وأغذ السير. (2) انظر أخبار مجموعة: 20 وابن القوطية: 37 وتاريخ ابن عبد الحكم: 285. (3) منها: سقطت من ك.

هي ارجعوا يا بني إسماعيل إلخ ما معناه: وإن سألتم لم ترجعون فاعلموا أنّكم ترجعون ليضرب بعضكم رقاب بعض، انتهى. قال ابن حيّان: وليحيى بن حكم الشاعر المعروف بالغزال في فتح الأندلس، أرجوزة حسنة مطولة ذكر فيها السبب في غزوها نظماً (1) ، وتفصيل الوقائع بين المسلمين وأهلها، وعداد الأمراء عليها وأسماءهم، فأجاد وتقصّى، وهي بأيدي الناس موجودة، انتهى. وقد عرفت بما سبق تفصيل ما أجمله ابن خلدون (2) ، والروايات في فتح الأندلس مختلفة، وقد ذكرنا نحن بحسب ما اقتضاه الوقت ما فيه كفاية، وأشرنا إلى بعض الاختلاف في ذلك، ولو بسطنا العبارة لكان وحده في مجلد أو أكثر. [عبد الرحمن الداخل] وعلم ممّا ألمعنا به من كلام ابن خلدون السابق ذكر الولاة للأندلس من لدن الفتح، وهم من قبل بني مروان بالمشرق المنفردين بإمامة المسلمين أجمعين قبل تفرقهم، إلى أن انقرضت دولتهم العظيمة التي هي ألف شهر، فاقتطع الأندلس عن بني العبّاس الدائلين على بني مروان الناسخين لهم فلّ المروانيين عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، واقتعدها دار مملكة مستقلة لنفسه ولأعقاره، وجمع بها شمل بني أميّة ومواليهم، وأورثها بنيه حقبةً من الدهر، بعد أن قاسى في ذلك خطوباً، واجتمع عليه ثم على ذريته من بعده أهل الأندلس أجمعون رضىً بهم دون بني العباس، بعد أن حاول بنو العباس ملكها بأن ولّوا بعض رؤساء العرب، وأمروهم بالقيام على عبد الرحمن والدعاء للعباسيين القاطعين جرثومة دولة بني مروان، فلم يتيسّر ذلك، وظفر

_ (1) ق: فنظم فيها ذكر السبب في غزوها. (2) انظر ص: 232 - 238 من هذا الكتاب.

عبد الرحمن بمن نصب له الحرب في ذلك، وقتل منهم آلافاً، وذلك في مدة المنصور كما سيأتي إن شاء الله تعالى عند ذكر عبد الرحمن الداخل في موضع آخر، وسنذكر قريباً ولاة الأندلس من حين الفتح إلى إمارة الداخل، وإن سبق في كلام ابن خلدون. [مزيد بيان في نهاية موسى وشيء من شخصيته] وقال بعضهم: كانت ولادة موسى بن نصير في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة تسع عشرة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأجلّ السلام، وعلى آله وصحبه أجمعين، انتهى. وقال الحجاري في المسهب: يحكى أن موسى بن نصير ألقى بنفسه على يزيد بن المهلب لمكانه من أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك، وطلب منه أن يكلمه في أن يخفّف عنه؛ فقال له يزيد: أريد أن أسألك فأصغ إليّ؛ قال: سل عمّا بدا لك، فقال له: لم أزل أسمع عنك أنّك من أعقل الناس، وأعرفهم بمكايد الحروب ومداراة الدنيا، فقل لي: كيف حصلت في يد هذا الرجل بعدما ملكت الأندلس، وألقيت بينك وبين هؤلاء القوم البحر الزخار، وتيقنت بعد المرام واستصعابه، واستخلصت بلاداً أنت افترعتها (1) ، واستملكت رجالاً لا يعرفون غير خيرك وشرّك، وحصل في يدك من الذخائر والأموال والمعقل والرجال ما لو أظهرت به الامتناع ما ألقيت عنقك في يد من لا يرحمك، ثم إنّك علمت أن سليمان وليّ عهد، وأنّه المولّى بعد أخيه، وقد أشرف أخوه على الهلاك لا محالة، وبعد ذلك خالفته، وألقيت بيدك إلى التهلكة، وأحقدت مالكك ومملوكك - قال: يعني سليمان وطارقاً - وما رضى هذا الرجل عنك إلاّ بعيد، ولكن لا آلو جهداً، فقال موسى: يا ابن الكرام، ليس هذا وقت

_ (1) ك: اخترعتها.

تعديد، أما سمعت " إذا جاء الحين غطى العين "؟ (1) فقال: ما قصدت بما قلت لك تعديداً ولا تبكيتاً، وإنّما قصدت تلقيح العقل، وتنبيه الرأي، وأن (2) أرى ما عندك؛ فقال موسى: أما رأيت الهدهد يرى الماء تحت الأرض عن بعد، ويقع في الفخ وهو بمرأى عينه؟ ثم كلم فيه سليمان، فكان من جوابه إنّه قد اشتمل رأسه بما تمكن له من الظهور، وانقياد الجمهور، والتحكم في الأموال والأبشار، على مالا يمحوه إلا بالسيف، ولكن قد وهبت لك دمه، وأنا بعد ذلك غير رافع عنه العذاب حتى يردّ ما غلّ من مال الله. قال: وآلت حاله إلى أن كان يطاف به ليسأل من أحياء العرب ما يفتكّ به نفسه، وفي تلك الحال مات، وهو من أفقر الناس وأذلهم، بوادي القرى، سائلاً من كان نازلاً به. وقال أحد غلمانه ممّن وفى له في حال الفقر والخمول: لقد رأيتنا نطوف مع الأمير موسى بن نصير على أحياء العرب، فواحد يجيبنا (3) ، وآخر يحتجب عنّا، ولربما دفع إلينا على جهة الرحمة الدرهم والدرهمين، فيفرح بذلك الأمير ليدفعه إلى الموكلين به، فيخففون عنه من العذاب، ولقد رأيتنا أيام الفتوح العظام بالأندلس نأخذ السلوك (4) من قصور النصارى، فنفصل منها ما يكون من الذهب وغير ذلك ونرمي به، ولا نأخذ إلا الدّرّ الفاخر، فسبحان الذي بيده العزّ والذل والغنى والفقر. قال: وكان له مولى قد وفى له وصبر عليه إلى أن ضاق ذرعه بامتداد الحال، فعزم على أن يسلمه وهو بوادي القرى في أسوإ حال، وشعر بذلك موسى، فخضع للمولى المذكور، وقال له: يا فلان، أتسلمني في هذه الحالة؟

_ (1) ك: غطى على. (2) ط: وأنا. (3) ق ط: يحيينا. (4) ك: السلوب.

فقال له المولى، من شدة ما كان فيه من الضجر: قد أسلمك خالقك ومالكك الذي هو أرحم الراحمين، فدمعت عيناه، وجعل يرفعهما إلى السماء خاضعاً مهيناً بشفتيه، فما سفرت تلك الليلة إلاّ عن قبض روحه، رحمة الله عليه، فقد كان له من الأثر ما يوجب أن يترحم عليه، وإنّ فعل سليمان به وبولده وكونه طرح رأس ابنه عبد العزيز الذي تركه نائباً عنه (1) بالأندلس وقد جيء به من أقصى المغرب بين يديه من وصماته التي تعدّ عليه طول الدهر، لا جرم أنّ الله تعالى لم يمتعه بعده بملكه وشبابه. وذكر ابن حيّان (3) أن موسى كان عربياً فصيحاً. وقد سبق من مراجعة يزيد بن المهلب ما يدل على بلاغته، ويكفي منها ما ذكره ابن حيّان أنّه كتب إلى الوليد بن عبد الملك فيما هاله من فتوح الأندلس وغنائمها " إنّها ليست الفتوح، ولكنّها الحشر " (3) . وقال الحجاري: إن منازعةً جرت بينه وبين عبد الله بن يزيد بن أسيد بمحضر عبد الملك بن مروان ألجأته إلى أن قال شعراً منه: جاريت غير سؤومٍ في مطاولةٍ ... لو نازع الحفل لم ينزع إلى حصر وتقدم ما ذكره غير واحد كابن حيّان أن موسى مولى عبد العزيز بن مروان، وكذا ذكر الحجاري أنّه (4) تجهز مع أم البنين بنت عبد العزيز حين ابتنى بها الوليد بن عبد الملك، فكانت تنمي مكانته عند الوليد إلى أن بلغ ما بلغ. وأشهر من كان في صحبة موسى بن نصير من مواليه طارق المشهور بالفتوح العظيمة، وطريف، وقد جرى ذكرهما في كتابنا هذا بما اقتضاه الاختصار.

_ (1) ق: عنه نائباً. (3) انظر تاريخ ابن عبد الحكم: 281. (3) انظر تاريخ ابن عبد الحكم: 281. (4) أنه: سقطت من ك.

وقال ابن سعيد، بعد ذكره الخلاف في (1) موسى هل هو لخمي صريح أو بالولاء، أو بربري، أو مولى لعبد العزيز بن مروان، ما صورته: وكان في عقبه نباهة في السلطنة، ولي ابنه عبد العزيز سلطنة الأندلس، وعبد الملك سلطنة المغرب الأقصى، وعبد الله سلطنة إفريقية، وذكر الحجاري (2) أن أصله من وادي القرى بالحجاز، وأنّه خدم بني مروان بدمشق، وتنبه شأنه، فصرّفوه في ممالكهم إلى أن ولي إفريقية وما وراءها من المغرب في زمن الوليد بن عبد الملك، فدوّخ أقاصي المغرب، ودخل الأندلس من جبل موسى المنسوب إليه المجاور لسبتة، ودوّخ بلاد الأندلس، ثمّ أوفده الوليد إلى الشام، فوافق مرضه ثمّ موته وخلافة أخيه سليمان، فعذبه واستصفى أمواله، وآل أمره إلى أن وجّهه إلى قومه بوادي القرى لعلهم يعطفون عليه ويؤدون عنه، فمات بها، وقد نصّ ابن بشكوال على أنّه مات بوادي القرى. أمّا معارفه السلطانة فيكفيه ولاية ما خلف مصر إلى البحر المحيط بين بري البربر والأندلس. وأما الأدبية فقد جاءت عنه بلاغة في النثر والنظم تدخله - مع نزاراتها - في أصحاب در الكلام. وذكر ابن بشكوال أنّه من التابعين الذين رووا الحديث، وأن روايته عن تميم الداريّ، وذكره في كتب الأئمة من الصنفين أنبه وأوعب من أن يخصّص بذكره واحد منهم، وهو غرة التواريخ الأندلسية، وذكره إلى الآن جديد في ألسن الخاصة والعامة من أهلها. ومن مسهب الحجاري: كان قد جمع - رحمه الله - من خلال الخير ما أعانه الله سبحانه به على ما بنى له من المجد المشيّد، والذكر الشهير المخلد، الذي لا يبليه الليل والنهار، ولا يعفّى جديده بلى الأعصار، إلا أنّه كان يغلب عليه ما لا يكاد رئيسٌ يسلم منه، وهو الحقد والحسد، والمنافسة لا تخلو

_ (1) ك: في أن. (2) ق: قال بعضهم؛ ط ج: وقيل.

من ذلك، وأنشد بعض الرؤساء: وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا ... فقلبه الرئيس وقال من يترك الحقدا ثم قال: إن السيد إذا ترك إضمار الخير والشر والمجازاة عليهما اجترئ عليه، ونسب للضعف والغفلة، وهل رأيت صفقة أخسرمن غفلة (1) رئيس أحقده غيره فنسي ذلك أو تناساه، وعدوّه لا يغفل عنه، وحاسده لا ينفعه عنده إلاّ الراحة منه، وهو في واد آخر عنه، ولله درّ القائل: ووضع النّدى في موضع السيف بالعلا ... مضرّ، كوضع السيف في موضع الندى ولكن الأصوب أن يكون الرأي ميزاناً: لا يزن الوافي لناقصٍ، ولا يزن الناقص لوافٍ، ويدبر أمره على ما يقتضيه الزمان، ويقدر فيه حسن العاقبة. ونص ابن بشكوال على أن موسى بن نصير مات بوادي القرى سنة سبع وتسعين، وأغزى (2) الأندلس سنة إحدى وتسعين، وذكر أن ولايته على الأندلس المباشرة - مذ دخلها إلى حين خروجه منها - سنة واحدة، ومكث فيها مولاه طارق سنة، انتهى. وقد تقدم شيء من ذلك (3) . [عودٌ إلى ذكر التابعين في الأندلس] وذكر ابن بشكوال أيضاً أن ابن حبيب قال عن ربيعة: غلّ الناس كلّهم يوم فتح الأندلس، إلا أربعة نفر فقط كانوا من التابعين: حنش الصنعاني،

_ (1) ق: صفقة. (2) ك: وغزا. (3) وقد ... ذلك: سقطت من ق.

وأبو عبد الرحمن الحبليّ، وابن شماسة، وعياض بن عقبة، انتهى. قال ابن سعيد: وممن دخل الأندلس من غير هؤلاء الأربعة من التابعين علي بن رباح اللخمي، وموسى بن نصير فاتح الأندلس، وحبّان بن أبي جبلة القرشي مولاهم، وعبد الحمن بن عبد الله الغافقي صاحب الأندلس المذكور في سلاطينها، ومحمد بن أوس بن ثابت الأنصاري، وزيد بن قاصد السكسكي، والمغيرة بن أبي بردة الكناني، وعبد الله بن المغيرة الكناني، وحيوة بن رجاء التميمي، وعبد الجبار بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، ومنصور بن خزامة، وعلي بن عثمان بن خطاب. وذكر ابن حبيب أن عدة من دخل الأندلس من التابعين سوى من لا يعرف نحو عشرين رجلاً. وفي كتاب ابن بشكوال أنّه دخل الأندلس من التابعين ثمانية وعشرون رجلاً، وهم أسّسوا قبلة المسجد الجامع بقرطبة، وسمى الحجاري في المسهب هؤلاء المتقدمين. وذكر ابن سعيد أنّه لم يتحقّق المواضع التي تختص بهؤلاء التابعين من بلاد الأندلس، مع جزمه بأنهم دخلوا الأندلس وكانوا (1) بها، وسيأتي ذكر التابعين الداخلين الأندلس بما هو أشمل من هذا، وقد تقدم غلول من عدا التابعين من الغنائم. [مغانم الأندلس] قال الليث بن سعد، بعد ذكره أن طارقاً أصاب بالأندلس مغانم كثيرة من الذهب والفضّة (2) : إن كانت الطّنفسة لتوجد منسوجة بقضبان الذهب، وتنظم السلسلة من الذهب باللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وكان البربر ربما وجدوها فلا يستطيعون حملها حتى يأتوا بالفأس فيضربوا به وسطها فيأخذ أحدهم نصفها

_ (1) ك: وسكنوا. (2) النص في تاريخ ابن عبد الحكم: 281.

والآخر النصف الآخر لنفسه، ويسير معهم جماعة والناس مشتغلون بغير ذلك. وعن يحيى بن سعيد: لمّا افتتحت الأندلس أصاب الناس فيها غنائم، فغلوا منها غلولاً كثيراً حملوه في المراكب وركبوا البحر، فسمعوا منادياً يقول: اللهم غرّق بهم، وتقلدوا المصاحف، فما نشبوا أن أصابتهم ريح عاصف، وضربت المراكب بعضها بعضاً حتى تكسرت، وغرق بهم، وأهل مصر ينكرون ذلك، ويقولون: أهل الأندلس ليس هم الذين غرقوا، وإنّما هم أهل سردانية، فالله أعلم بحقيقة الحال. ورأيت في بعض كتب التاريخ (1) أنّه وجد في طليطلة حين فتحت من الذخائر والأموال ما لا يحصى، فمن ذلك مائة وسبعون تاجاً من الذهب الأحمر مرصعة بالدر وأصناف الحجارة الثمينة، ووجد فيها ألف سيف ملوكي، ووجد فيها من الدر والياقوت أكيال، ومن أواني الذهب والفضة ما لا يحيط به وصف، ومائدة سليمان، وكانت - فيما يذكر - من زمردة خضراء، وزعم بعض العجم أنها لم تكن لسليمان، وإنّما أصلها أن العجم أيام ملكهم كان أهل الحسنة في دينهم إذا مات أحد منهم أوصى بمال للكنائس، فإذا اجتمع عندهم مال له قدرٌ صاغوا منه الآلة من الموائد العجيبة، والكراسي من الذهب والفضّة، تحمل الشمامسة والقسوس فوقها الأناجيل في أيام المناسك، ويضعونها في الأعياد للمباهاة، فكانت تلك المائدة بطليطلة ممّا صنع في هذا السبيل، وتأنّق الملوك في تحسينها، يزيد الآخر منهم فيها على الأول، حتى برزت على جميع ما اتّخذ من تلك الآلات، وطار الذكر بها كلّ مطار، وكانت مصوغة من الذهب الخالص مرصّعة بفاخر الدر والياقوت والزبرجد، وقيل: إنّها من زبرجدة خضراء حافاتها وأرجلها منها، وكان لها ثلاثمائة وخمس وستون رجلاً، وكانت توضع في كنيسة طليطلة، فأصابها طارق، انتهى.

_ (1) تقدم ما هو شبيه بذلك، انظر ص: 272 من هذا الكتاب؛ وفي ك: ورأيت لبعض أهل التاريخ.

وقد ذكرنا فيما مرّ عن ابن جيّان ما فيه نظير هذا، وذكرنا فيما مضى من أمر المائدة وغيرها ما فيه بعض تخالف، وما ذلك إلاّ لأنّا ننقل كلام المؤرخين، وإن خالف بعضهم بعضاً، ومرادنا تكثير الفائدة، وبالجملة فالمائدة جليلة المقدار، وإن حصل الخلاف في صفتها وجنسها وعدد أرجلها، وهي من أجلّ ما غنم بالأندلس، على كثرة ما حصل فيها من الغنائم المتنوّعة الأجناس التي ذكرها إلى الآن شائع بين الناس. [استيطان العرب في الأندلس] واعلم أنّه لمّا استقر قدم أهل الإسلام بالأندلس وتتامّ فتحها صرف أهل الشام وغيرهم من العرب هممهم إلى الحلول بها، فنزل بها من جراثيم العرب وساداتهم جماعة أورثوها أعقابهم إلى أن كان من أمرهم ما كان. فأمّا العدنانيون فمنهم خندف ومنهم قريش، وأمّا بنو هاشم من قريش فقال ابن غالب في فرحة الأنفس: بالأندلس منهم جماعة كلّهم من ولد إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، ومن هؤلاء بنو حمّود ملوك الأندلس بعد انتثار سلك بني أمية (1) ، وأمّا بنو أميّة فمنهم خلفاء الأندلس، قال ابن سعيد: ويعرفون هنالك إلى الآن بالقرشيين، وإنّما عمّوا نسبتهم إلى أميّة في الآخر لمّا انحرف الناس عنهم، وذكروا أفعالهم في الحسين رضي الله عنه، وأمّا بنو زهرة فهم (2) بإشبيلية أعيان متميزون، وأمّ المخزوميون فمنهم أبو بكر المخزومي الأعمى الشاعر المشهور من أهل حصن المدوّر، ومنهم الوزير الفاضل في النظم والنثر أبو بكر بن زيدون ووالده الذي هو أعظم منه أبو الوليد بن زيدون وزير معتضد بني عبّاد. وقال ابن غالب: وفي الأندلس من ينسب إلى جمح، وإلى بني عبد الدار، وكثير من قريش المعروفون بالفهريين من بني محارب

_ (1) انظر جمهرة ابن حزم: 50 - 51 في أنساب الحموديين. (2) في بعض الأصول: فمنهم.

ابن فهر، وهم من قريش الظواهر، ومنهم عبد الملك بن قطن سلطان الأندلس، ومن ولده بنو القاسم الأمراء الفضلاء، وبنو الجدّ الأعيان العلماء. ومن بني الحارث بن فهر يوسف بن عبد الرحمن الفهري سلطان الأندلس الذي غلبه عليها عبد الرحمن الأموي الداخل، وجدّ يوسف عقبة بن نافع الفهري صاحب الفتوح بإفريقية، قال ابن حزم: ولهم بالأندلس عدد وثروة. وأما المنتسبون إلى عموم كنانة فكثير وجلّهم في طليطلة وأعمالها، ولهم ينسب الوقّشيّون الكنانيون الأعيان الفضلاء الذين منهم القاضي أبو الوليد والوزير أبو جعفر، ومنهم أبو الحسين بن جبير العالم صاحب الرحلة، وقد ذكرناه في محله. وأما هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر فذكر ابن غالب أن منزلهم بجهة أريولة من كورة تدمير. وأمّا تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر فذكر ابن غالب أيضاً أنهم خلق كثير بالأندلس، ومنهم أبو الطاهر صاحب المقامات اللزومية. وأمّا ضبة بن أد بن طابخة فذكر أنهم قليلون بالأندلس، فهؤلاء خندف من العدنانية. وأما قيس عيلان بن إلياس بن مضر من العدنانية ففي الأندلس كثير منهم ينتسبون إلى العموم، ومنهم من ينتسب إلى سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس، كعبد الملك بن حبيب السّلمي الفقيه صاحب الإمام مالك رضي الله عنه، وكالقاضي أبي حفص بن عمر قاضي قرطبة. ومن قيس من ينتسب إلى هوازن بن منصور بن عكرمة، قال ابن غالب: وهم بإشبيلية خلق كثير، ومنهم من ينتسب إلى بكر بن هوازن، قال ابن غالب: ولهم منزل بجوفيّ بلنسية على ثلاثة أميال منها، وبإشبيلية وغيرها منهم خلق كثير، ومنهم بنو حزم، وهم بيت غير البيت الذي منه أبو محمد بن حزم الحافظ الظاهري، وهو فارسي الأصل. ومنهم من ينتسب إلى سعد بن بكر بن هوازن، وذكر ابن غالب أن منهم بغرناطة كثيراً، كبني جوديّ، وقد رأس بعض بني جودي. ومنهم من ينتسب إلى سلول امرأة نسب إليها بنوها، وأبوهم مرّة بن صعصعة

ابن معاوية بن بكر بن هوازن. ومنهم من ينتسب إلى كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن. ومنهم من ينتسب إلى نمير بن عامر ابن صعصعة، قال ابن غالب: وهم بغرناطة كثير. ومنهم ن ينتسب إلى قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، ومنهم بلج بن بشر صاحب الأندلس وآله، وبنو رشيق. ومنهم من ينتسب إلى فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان. ومنهم من ينتسب إلى أشجع بن ريث بن غطفان، ومن هؤلاء محمد بن عبد الله الأشجعي سلطان الأندلس. وفي ثقيف اختلاف، فمنهم من قال: إنّها قيسية، وإن ثقيفاً هو قسيّ بن منبه بن بكر بن هوازن، ومنهم بالأندلس جماعة، وإليهم ينتسب الحرّ بن عبد الرحمن الثقفي صاحب الأندلس، وقيل: إنّها من بقايا ثمود؛ انتهى قيس عيلان وجميع مضر. وأما ربيعة بن نزار فمنهم من ينتسب إلى أسد بن ربيعة بن نزار، قال في فرحة الأنفس: إن إقليم هؤلاء مشهور باسمهم بجوفيّ مدينة وادي آش، انتهى؛ والأشهر بالنسبة إلى أسد أبداً بنو أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. ومنهم من ينتسب إلى محارب بن عمرو بن وديعة بن لكيز (1) بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة، قال ابن غالب في فرحة الأنفس: ومنهم بنوا عطية أعيان غرناطة. ومنهم من ينتسب إلى النّمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد، كبني عبد البر الذين منهم الحافظ أبو عمر بن عبد البر. ومنهم من ينتسب إلى تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب، كبني حمدين أعيان قرطبة، ومنهم من ينتسب إلى بكر بن وائل، كالبكريين أصحاب أونبة وشلطيش الذين منهم أبو عبيد البكري صاحب التصانيف؛ انتهت ربيعة.

_ (1) في الأصول: بكير.

وأما إياد بن نزار، وقد يقال: إنّه ابن معد، والصحيح الأول، فينتسب إليهم بنو زهر المشهورون بإشبيلية وغيرهم (1) ؛ انتهت العدنانية، وهم الصريح من ولد إسماعيل عليه السلام. واختلف في القحطانية: هل هم من ولد إسماعيل أو من ولد هود، على ما هو معروف، وظاهر صنيع البخاري الأول، والأكثر على خلافه، والقحطانية هم المعروفون باليمانية، وكثيراً ما يقع بينهم وبين المضرية وسائر العدنانية الحروب بالأندلس، كما كان يقع بالمشرق، وهم الأكثر بالأندلس، والملك فيهم أرسخ، إلا ما كان من خلفاء بني أمية، فإن القرشية قدّمتهم على الفرقتين، واسم الخلافة لهم بالمشرق، وكان عرب الأندلس يتميزون بالقبائل والعمائر والبطون والأفخاذ، إلى أن قطع ذلك المنصور بن أبي عامر الداهية الذي ملك سلطنة الأندلس، وقصد بذلك تشتيتهم وقطع التحامهم وتعصّبهم في الاعتزاء، وقدّم القوّاد على الأجناد، فيكون في جند القائد الواحد فرقّ من كل قبيل، فانحسمت مادة الفتن والاعتزاء بالأندلس، إلاّ ما جاءت على غير هذه الجهة. قال ابن حزم: جماع أنساب اليمن من جذمين: كهلان وحمير [ابني سبأ] بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وقيل: قحطان بن الهميسع بن تيهان بن نبت بن إسماعيل، وقيل قحطان بن هود بن عبد الله بن رباح بن حارف بن عد بن عوص (2) بن إرم بن سام، والخلف في ذلك مشهور. فمنهم كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ومنهم الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان، وإليهم ينتسب محمد بن هانئ الشاعر المشهور الإلبيري، وهو من بني المهلّب؛ ومن الأزد من ينتسب إلى غسّان، وهم بنو مازن بن الأزد، وغسّان: ماء شربوا منه، وذكر ابن غالب أن منهم بني القليعي من أعيان

_ (1) قال ابن حزم (الجمهرة: 327) إن دار إياد بالأندلس هي قرمونة ولبلة. (2) في الأصول: عموص.

غرناطة، وكثير منهم بصالحة قريةٍ على طريق مالقة؛ ومن الأزد من ينتسب إلى الأنصار على العموم، وهم الجم الغفير بالأندلس. قال ابن سعيد: والعجب أنّك تعدم هذا النسب بالمدينة وتجد منه بالأندلس في أكثر بلدانها ما يشذ عن العدد كثرة، ولقد أخبرني من سأل عن هذا النسب بالمدينة فلم يجد إلاّ شيخاً من الخزرج وعجوزاً من الأوس. قال ابن غالب: وكان جزء الأنصار بناحية طليطلة، وهم أكثر القبائل بالأندلس في شقها ومغربها، انتهى. ومن الخزرج بالأندلس أبو بكر عبادة بن عبد الله بن ماء السماء من ولد سعد بن عبادة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المشهور بالموشّحات، وإلى قيس بن سعد بن عبادة ينتسب بنو الأحمر سلاطين غرناطة الذين كان لسان الدين بن الخطيب أحد وزرائهم، وعليهم انقرض ملك الأندلس من المسلمين، واستولى العدوّ على الجزية جميعاً كما يذكر (1) . ومن أهل الأندلس من ينتسب إلى الأوس أخي الخزرج، ومنهم من ينتسب إلى غافق بن عكّ بن عدثان بن هزّان بن الأزد، وقد يقال: عك بن عدنان - بالنون - فيكون أخا معدّ بن عدنان، وليس بصحيح؛ قال ابن غالب: من غافق أبو عبد الله بن أبي الخصال الكاتب، وأكثر جهات شقورة ينتسبون إلى غافق (2) . ومن كهلان من ينتسب إلى همدان، وهو أوسلة بن مالك بن زيد بن

_ (1) من الأنصار الذين ذكر ابن حزم مواطنهم: بنو ربيع بن محمد بن ربيع من الأوس كانوا بقرطبة يتولون الأهراء (333) وبنو عيثم بن سفيان برية (347) وبقرطبة، وكانوا يحملون الألوية لخلفاء بني مروان (348) ، وكان من ولد عادة بن الصامت قوم يسكنون بالمدينة عندنا بباب العطارين بقرطبة يعرفون ببني هارون (354) ومن ولد مالك الأغر بنو خبيب وبنو قطنين البيازون الشساكنون بقرية اختيانة من قبرة (363) ومن ولد النعمان بن بشير قوم بقرية شوش الأنصار من إشبيلية (364 - 365) ولسعيد بن سعد عقب بالأندلس بقرية يقال لها قربلان من عمل سرقسطة (365) . (2) قال ابن حزم: ودارهم (أي غافق) بالأندلس معروفة باسمهم في الجوف في شمال قرطبة؛ منهم بنو أسلم ... ومنهم كان أمير الأندلس عبد الرحمن [الغافقي] ... وله عقب قد خمل بمرنيانة الغافقين، بقرب إشبيلية على النهر الأكبر (329) .

أوسلة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان (1) ، ومنزل همدان مشهور على ستة أميال من غرناطة، ومنهم أصحاب غرناطة بنو أضحى (2) . ومن كهلان من ينتسب إلى مذحج، ومذحج: اسم أكمة حمراء باليمن، وقيل: اسم أم مالك وطيء ابني أدد بن زيد بن كهلان، قال ابن غالب: بنو سراج الأعيان من أهل قرطبة ينتسبون إلى مذحج. ومنزل طيء بقبلي مرسية. ومنهم من ينتسب إلى مراد بن مالك بن أدد، وحصن مراد بين إشبيلية وقرطبة مشهور، قال ابن غالب: وأعرف بمراد منهم خلقاً كثيراً. ومنهم من ينتسب إلى عنس بن مالك بن أدد، ومنهم بنو سعيد مصنفو كتاب المغرب وقالعة بني سعيد مشهورة في مملكة غرناطة. ومن مذحج من ينتسب إلى زبيد، قال ابن غالب: وهو منبّه بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد. ومن كهلان من ينتسب إلى مرّة بن أدد بن زيد بن كهلان، قال ابن غالب: منهم بنو المنتصر العلماء من أهل غرناطة. ومنهم من ينتسب إلى عاملة، وهي امرأة من قضاعة ولدت للحارث بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد، فنسب ولدها منه إليها، قال ابن غالب: منهم بنو سماك القضاة من أهل غرناطة، وقوم زعموا أن عاملة هو ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقيل: هم من قضاعة. ومن كهلان خولان بن عمرو بن الحارث بن مرّة، وقلعة خولان مشهورة بين الجزيرة الخضراء وإشبيلية، ومنهم بنو عبد السلام أعيان غرناطة. ومنهم من ينتسب إلى المعافر بن يعفر بن مالك بن الحارث بن مرّة، ومنهم المنصور بن أبي عامر صاحب الأندلس. ومنهم من ينتسب إلى لخم بن عدي بن الحارث بن مرّة، منهم

_ (1) ثبت في طبعة ليدن تصويباً: وهو أوسلة بن ربيعة بن الخيار ... الخ. وما ثبت هنا أقرب إلى نص عجالة المبتدي (ص 123) . (2) قال ابن حزم: ودار همدان بالأندلس البيرة (397) وهناك قرية همدان إلى الجنوب من غرناطة، (الإحاطة 1: 18) .

بنو عبّاد أصحاب إشبيلية وغيرها، وهم من ولد النعمان بن المنذر صاحب الحيرة، ومنهم بنو الباجي أعيان إشبيلية، وبنو وافد الأعيان. ومنهم من ينتسب إلى جذام مثل ثوابة بن سلامة صاحب الأندلس، وبني هودٍ ملوك شرقيّ الأندلس، ومنهم المتوكل بن هود الذي صحت له سلطنة الأندلس بعد الموحّدين، ومنهم بنو مردنيش أصحاب شرقي الأندلس، قال ابن غالب: وكان لجذام جزء من قالعة رباح، واسم جذام عامر، واسم لخم مالك، وهما ابنا عديّ. ومن كهلان من ينتسب إلى كندة، وهو ثور بن عفير بن عدي [بن الحارث] بن مرة بن أدد، ومنهم يوسف بن هرون الرمادي الشاعر. ومنهم من ينتسب إلى تجيب وهي امرأة أشرس بن السّكون بن أشرس بن كندة. ومن كهلان من ينتسب إلى خثعم بن أنمار بن اراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان، ومنهم عثمان بن أبي نسعة سلطان الأندلس، وقد قيل: أنمار بن نزار بن معدّ بن عدنان؛ انتهت كهلان. وأمّا حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان فمنهم من ينتسب إلى ذي رعين، قال ابن غالب: وذو رعين هم ولد عمرو بن حمير في بعض الأقوال، وقيل: هو من ولد سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير، قال: ومنهم أبو عبد الله الحنّاط الأعمى الشاعر (1) ، قال الحازمي (2) في كتاب النسب (3) واسم ذي رعين يريم (4) بن زيد بن سهل، ووصل

_ (1) سنعرف به في موضعه؛ قال ابن حزم (434) : ودار رعين بالأندلس الفحص المنسوب إليهم برية. (2) هو الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن أبي عثمان الحازمي الهمذاني (- 584) راجع ترجمته في ابن خلكان: 3: 421 وطبقات السبكي: 4: 119 وهو صاحب كتاب " عجالة المبتدي وفضالة المنتهي " في النسب؛ حققه الأستاذ عبد الله كنون (القاهرة: 1965) . (3) انظر عجالة المبتدي: 66. (4) يريم: كذا هو في دوزي والعجالة، وفي المخطوطات: عريم.

النسب، ومنهم من ينتسب إلى ذي أصبح، قال ابن حزم (1) : وهو ذو أصبح ابن مالك بن زيد من ولد سبأ الأصغر بن زيد بن سهر بن عمرو بن قيس، ووصل النسب، وذكر الحازمي (2) أن ذا أصبح من كهلان، وأخبر أن منهم مالك بن أنس الإمام، والمشهور أنهم من حمير، والأصبحيون من أعيان قرطبة، ومنهم من ينتسب إلى يحصب، قال ابن حزم: إنّه أخو ذي أصبح وهم كثير بقلعة بني سعيد، وقد تعرف من أجلهم في التواريخ الأندلسية بقلعة يحصب، ومنهم من ينتسب إلى هوزن (3) بن عوف بن عبد شمس بن وائل بن الغوث، قال ابن غالب: ومنزلهم بشرف إشبيلية (4) ، والهوزنيون من أعيان إشبيلية. ومنهم من ينتسب إلى قضاعة بن مالك بن حمير، وقد قيل: إنّه قضاعة بن معدّ بن عدنان، وليس بمرضي، ومن قضاعة من ينتسب إلى مهرة كالوزير أبي بكر بن عمار الذي وثب على ملك مرسية، وهو مهرة بن حيدان (5) بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، ومنهم من ينتسب إلى خشين بن نمر بن وبرة بن تغلب، قال الحازمي (6) : تنوخ هو مالك بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة. ومنهم من ينتسب إلى بليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، ومنهم البلويّون بإشبيلية (7) . ومنهم من ينتسب إلى جهينة بن سود بن أسلم بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، قال ابن غالب:

_ (1) انظر الجمهرة: 435. (2) عجالة المبتدي: 17. (3) ط ودوزي: هوازن، وهو خطأ. (4) قال ابن حزم (434) : ودار بني هوازن بالأندلس القريتان المذكورتان بهما بإشبيلية. (5) ط: حدان. (6) عجالة المبتدي: 33. (7) حدد ابن حزم (442) منازل بلي بقوله: ودار بلي بالأندلس الموضع المعروف باسمهم بشمال قرطبة، وهم هنالك إلى اليوم على أنسابهم، لا يحسنون الكلام بالطينية لكن بالعربية فقط نساؤهم ورجالهم ... وكانت لهم دار أخرى بكورة مورور أيضاً.

وبقرطبة منهم جماعة. ومنهم من ينتسب إلى كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان كبني أبي عبدة الذين منهم بنو جهور ملوك قرطبة ووزراؤها. ومنهم من ينتسب إلى عذرة بن سعد هذيم بن زيد بن سود بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، ومنهم أعيان الجزيرة الخضراء بنو عذرة (1) . ومن أهل الأندلس من ينتسب إلى حضرموت، منهم الحضرميون بمرسية وغرناطة وإشبيلية وبطليوس وقرطبة؛ قال ابن غالب: وهم كثير بالأندلس، وفيه خلاف، قيل: إن حضرموت هو ابن قحطان، وقيل: هو حضرموت بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن جيدان - بالجيم - بن قطن بن العريب بن الغرز (2) بن نبت بن أيمن بن الهميسع بن حمير، كذا نسق النسب الحازميّ (3) . ومن أهل الأندلس من ينتسب إلى سلامان، ومنهم الوزير لسان الدين بن الخطيب حسبما ذكر في محله. [ثبت بأسماء الأمراء] وقد رأيت أن أسرد هنا أسماء ملوك الأندلس من لدن الفتح إلى آخر ملوك بني أمية، وإن تقدّم، ويأتي ذكر جملة منهم بما هو أتم ممّا هنا؛ فنقول: طارق بن زياد مولى موسى بن نصير. ثمّ الأمير موسى بن نصير، وكلاهما لم يتخذ سريراً للسلطنة. ثمّ عبد العزيز بن موسى بن نصير، وسريره إشبيلية. ثمّ أيوب بن حبيب اللخمي، وسريره قرطبة، وكل من يأتي بعده فسريره

_ (1) قال ابن حزم (450) ودار بني عذرة بالأندلس: دلاية، وبجيان منهم، وبالثغر منهم بنو فوارتش، ولهم عدد بسرقسطة. (2) عجالة المبتدي: الفزر. (3) انظر عجالة المبتدي: 49.

قرطبة أو الزهراء والزاهرة بجانبيها إلى أن انقضت دولة بني مروان على ما ينبه عليه. ثمّ الحر بن عبد الرحمن الثقفي. ثمّ السّمح بن مالك الخولاني. ثمّ عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي. ثمّ عنبسة بن سحيم الكلبي. ثمّ عذرة (1) بن عبد الله الفهري. ثمّ يحيى بن سلمة الكلبي. ثمّ عثمان بن أبي نسعة الخثعمي. ثمّ حذيفة بن الأحوص القيسي. ثمّ الهيثم بن عديّ (2) الكلابي. ثمّ محمد بن عبد الله الأشجعي. ثمّ عبد الملك بن قطن الفهري. ثمّ بلج بن بشر بن عياض القشيري. ثمّ ثعلبة بن سلامة العاملي. ثمّ أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي. ثمّ ثوابة بن سلامة الجذامي. ثمّ يوسف بن عبد الرحمن الفهري. وهنا انتهى الولاة الذين ملكوا الأندلس من غير موارثة، أفراداً، عددهم عشرون فيما ذكر ابن سعيد، ولم يعتدّوا في السّمة لفظ الأمير. قال ابن حيّان: مدّتهم منذ تاريخ الفتح من (3) لذريق سلطان الأندلس النصراني - وهو يوم الأحد لخمس خلون من شوال سنة اثنتين وتسعين - إلى يوم الهزيمة على يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وتغلب عبد الرحمن بن معاوية

_ (1) دوزي: عزرة. (2) في الأصول: عبيد. (3) ق ط ج: في.

المرواني على سرير الملك قرطبة - وهو يوم الأضحى لعشر خلون من ذي الحجّة سنة ثمان وثلاثين ومائة - ست وأربعون سنة وخمسة أيام، انتهى. [حكام بني أميّة] ثمّ كانت دولة بني أميّة: أولهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك. ثمّ ابنه هشام الرضى. ثمّ ابنه الحكم بن هشام. ثمّ ابنه عبد الرحمن الأوسط. ثمّ ابنه محمد بن عبد الرحمن. ثمّ ابنه المنذر بن محمد. ثمّ أخوه عبد الله بن محمد. ثمّ ابن ابنه عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله. ثمّ ابنه الحكم المستنصر، وكرسيهما الزهراء. ثمّ (1) هشام بن الحكم، وفي أيامه بنى حاجبه المنصور بن أبي عامر الزاهرة. ثمّ المهدي محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر، وهو أول خلفاء الفتنة، وهدمت في أيّامه الزهراء والزاهرة، وعاد السرير إلى قرطبة. ثمّ المستعين سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر. [الحموديون] ثمّ تخللت دولة بني حمّود العلويين: وأولهم الناصر علي بن حمّود العلوي الحسني الإدريسي.

_ (1) ط: ثم المؤيد.

ثمّ أخوه المأمون القاسم بن حمّود. ثمّ المعتلي يحيى بن الناصر علي بن حمّود. [بقيّة بني أميّة] ثمّ كانت دولة بني أمية الثانية: وأولها المستظهر عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر. ثمّ المستكفي محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر. ثمّ المعتدّ (1) هشام بن محمد بن عبد الملك بن الناصر، وهو آخر خلفاء الجماعة بالأندلس، وحين خلع أسقط ملوك الأندلس الدعوة للخلافة المروانية. [ملوك الطوائف ومن بعدهم] واستبدت ملوك الطوائف كابن جهور في قرطبة، وابن عبّاد بإشبيلية، وغيرهما، ولم يعد نظام الأندلس إلى شخص واحد، إلى أن ملكها يوسف بن تاشفين الملثم من برّ العدوة، وفتك في ملوك الطوائف، وبعد ذلك ما خلصت له ولا لولده علي بن يوسف، فما صفت لعبد المؤمن بمحمد بن مردنيش الذي كان ينازعه في شرق الأندلس، ثمّ صفت ليوسف بن عبد المؤمن بموت ابن مردنيش، ثم لمن بعده من بنيه، وحضرتهم مرّاكش، وكانت ولاتهم تتردّد على الأندلس وممالكها، ولم يولوا على جميعها شخصاً واحداً لعظم ممالكها، إلى أن انقرضت منها دولتهم بالمتوكل محمد بن هود من بني هود ملوك سرقسطة وجهاتها، فملك معظم الأندلس بحيث يطلق عليه اسم السلطان، ولم ينازعه فيها إلاّ زيّان بن مردنيش في بلنسية من شرق الأندلس، وابن هلالة في طبيرة (2)

_ (1) ط: المعتمد. (2) ط: طبرزة.

من غرب الأندلس، ثم كثرت عليه الخوارج قريب موته، ولمّا قتله وزيره ابن الرّميمي بالمريّة زاد الأمر إلى أن ملك بنو الأحمر. وكان أهل غرب الأندلس في المائة السابعة يخطبون لصاحب إفريقية السلطان أبي زكرياء يحيى بن أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص، ثم تقلّصت تلك الظلال، ودخل الجزيرة الانحلال، إلى أن استولى عليها حزب الضلال، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وقد ذكرت في هذا الكتاب جملة من أخبار ملوك الأندلس ممّا يصلح للمذاكرة، وربما سرّحت طرف القلم في بعضهم. وبنو جهور المشار إليهم قريباً كانوا وزراء الأمويين، ثمّ إنّه لمّا انتثر سلك الخلافة استبدّ بقرطبة الوزير أبو الحزم بن جهور من غير أن يتعدى اسم الوزارة. [جهور بن محمد بن جهور] قال في " المطمح " (1) : الوزير الأجلّ جهور بن محمد بن جهور، [وبنو جهور] أهل بيت وزارة، واشتهروا كاشتهار ابن هبيرة في فزارة، وأبو الحزم أمجدهم في المكرمات، وأنجدهم في الملمّات، ركب متون الفتون فراضها، ووقع في بحور المحن فخاضها، منبسط غير منكمش، واعترفت باستقلاله، فلمّا انقرضت وعاقت الفتن واعترضت، تحيز عن التدبير مدّتها، وخلّى لخلافه أعباء الخلافة وشدّتها، وجعل يقبل مع أولئك الوزراء ويدبر، وينهل (2) الأمر معهم ويدبّر، غير مظهر للانفراد (3) ، ولا متصرّف (4) في ميدان ذلك الطّراد، إلى أن بلغت الفتنة مداها، وسوّغت ما شاءت رداها، وذهب من كان يخد (5) في

_ (1) انظر المطمح: 14. (2) ك: ويدير. (3) ط: إلى انفراد. (4) المطمح: ولا مقصر. (5) ط ج: يجد.

الرياسة ويخبّ، ويسعى في الفتنة ويدبّ، ولمّا ارتفع الوبال، وأدبر ذلك الإقبال، راسل أهل التقوى مستمدّاً بهم، ومعتمداّ على بعضهم، تحيّلاً (1) منه وتمويهاً، وتداهياً على أهل الخلافة وذويها، وعرض عليهم تقديم المعتدّ هشام، وأومض منه لأهل قرطبة برق خلّب (2) يشام، بعد سرعة التياثها، وتعجيل انتكاثها، فأنابوا إلى الإجابة، وأجابوا إلى استرعائه الوزارة والحجابة (3) ، وتوجهوا مع ذلك الإمام، وألمّوا بقرطبة أحسن إلمام، فدخلوها بعد فتن كثيرة، واضطرابات مستثيرة، والبلد مقفر، والجلد مسفر، فلم يبق غير يسير حتى جبذ (4) واضطرب أمره فخلع، واختطف من الملك وانتزع، وانتقضت (5) الدولة الأموية، وارتفعت الدولة العلوية، واستولى على قرطبة عند ذلك أبو الحزم، ودبّرها (6) بالجد والعزم، وضبطها ضبطاً أمّن خائفها، ورفع طارق تلك الفتنة وطائفها، وخلا له الجوّ فطار، واقتضى (7) اللّبانات والأوطار، فعادت له قرطبة إلى أكمل حالتها، وانجلى به نور جلالتها، ولم تزل به مشرقة، وغصون الآمال فيها مورقة، إلى أن توفّي سنة 435 فانتقل الأمر إلى ابنه أبي الوليد، واشتمل منه على طارف وتليد، وكان لأبي الحزم أدب ووقار وحلم سارت بها الأمثال، وعدم فيها المثال، وقد أثبتّ من شعره ما هو لائق، وفي سماء الحسن رائق، وذلك قوله في تفضيل الورد (8) :

_ (1) في المطمح: تخييلا. (2) المطمح: خلابة. (3) دوزي: فأنابوا إلى دعائه، وأجابوا إلى استرعائه. (4) ك: حيد؛ ط: جيد؛ ج: جهد. (5) ك: وانقرضت. (6) ك: ودبر أمرها. (7) ك: وقضى. (8) تابع المقري هنا خطأ الفتح في المطمح، وقد نبه ابن الأبار في الحلة (1: 250) على هذا الخطأ، قال: أنشد أبو نصر الفتح بن عبيد الله افشبيلي في كتاب " مطمح الأنفس ومسرح التأنس في محاسن أهل المغرب والأندلس " في تأليفه أكثر هذه الأبيات والتي قبلها، ونسبها لأبي الحزم جهور بن محمد بن جهور رئيس قرطبة المتخر غلطاً منه ووهماً لإخفاء به وإنما هي لجده جهور ابن عبيد الله [بن أبي عبدة الوزير] . قلت: انظر ترجمة جهور أبي الحزم ف الحلة 2: 30.

الورد أحسن ما رأت عيني وأذ ... كى ما سقى ماء السحاب الجائد خضعت نواوير الرّياض لحسنه ... فتذللت تنقاد وهي شوارد وإذا تبدّى الورد (1) في أغصانه ... يزهو فذا ميتٌ وهذا حاسد وإذا أتى وفد الرّبيع مبشّراً ... بطلوع وفدته فنعم الوافد ليس المبشّر باسمه ... خبرٌ عليه من النبوّة شاهد وإذا تعرّى الورد من أوراقه ... بقيت عوارفه فهنّ خوالد انتهى المقصود منه. وكأنّه عارض بهذه الأبيات في تفضيل الورد قول ابن الرومي في تفضيل النرجس عليه من قصيدة: للنرجس الفضل المبين وإن أبى ... آبٍ وحاد عن الحقيقة حائد وهي مشهورة. وردّ على ابن الرومي بعضهم بقوله: يا من يشبّه نرجساً بنواظر ... دعجٍ تنبّه إنّ فهمك فاسد إلخ وهي أيضاً مشهورة. [انتقاض حال الأندلس] رجع إلى ما كنّا فيه - وكانت لأهل الأندلس بين زمان الفتح وما بعده وقائع في الكفّار شفت الصدور من أمراضها، ووفت النفوس بأغراضها، واستولت على ما كان لمّلة الكفر من جواهرها وأعراضها، ثم وقع الاختلاف، بعد ذلك

_ (1) في الأصول: الغصن.

الائتلاف، فعصفت ريح العدوّ والحروب سجال، وأعيا العلاج حكماء الرجال، فصار أهل الأندلس يتذكرون موسى بن نصير وطارق (1) ، ومن بعدهما من ملوك الأندلس الذين راعت العدوّ الكافر منهم طوارق. [رسائل أبي المطرف بن عميرة] وما أحسن ما أعرب الإمام الكاتب القاضي أبو المطرف بن عميرة (2) ، عمّا يشمل هذا المعنى وغيره في كتابٍ بعث به إلى الشيخ أبي جعفر بن أميّة، حين حلّ الرّزء ببلنسية، وهو (3) : ألا أيّها القلب المصرّح بالوجد ... أما لك من بادي الصّبابة من بدّ وهل من سلوّ يرتجى لمتيّمٍ ... له لوعة الصادي وروعة ذي الصّدّ يحنّ إلى نجدٍ، وهيهات حرّمت ... صروف الليالي أن يعود إلى نجد فيا جبل الريان لا ريّ بعدما ... عدت غير الأيام عن ذلك الورد ويا أهل ودّي والحوادث تقتضي ... خلوّي عن أهل يضاف إلى الودّ ألا متعة يوماً بعارية المنى ... فإنّا نراها كلّ حين إلى الردّ أمن بعد رزءٍ في بلنسيةٍ ثوى ... بأحنائنا (4) كالنّار مضمرة الوقد يرجّي أناسٌ جنّةً من مصائب ... تطاعن فيهم بالمثقّفة الملد

_ (1) كذا السجع، وحقه أن يكون " وطارقاً ". (2) أبو المطرف بن عميرة: أحمد بن عبد الله المخزومي، سيترجم له المقري، وانظر ترجمته أيضاً في الجزء الأول من الذيل والتكملة لابن عبد الملك، ولسان الميزان وتحفة القادم: 145 والوافي 7 الورقة: 64 والغبريني: 178 والإعلام بمن حل مراكش 1: 354، وللأستاذ محمد بن شريفة رسالة جامعة ف حياته وآثاره (الرباط: 1965) . ورسائله في مجلدين، وبعض رسائله في صبح الأعشى ورحلة التجافي ورحلة العياشي وشرح المقصورة والروض المعطار والذيل والتكملة ج؟ 5 " ترجمة الرعيني "، (3) المقتطفات (الورقة: 80) وورد بعضها في الروض المعطار: 50 - 51. (4) ط: بأحشائنا؛ ج: بأحيائنا.

ألا ليت شعري هل لها من مطالعٍ ... معادٌ إلى ما كان فيها من السعد وهل أذنب الأبناء ذنب أبيهم ... فصاروا إلى الإخراج من جنّة الخلد مرحباً بالسّحاءة، وما أعارت أفقي من الإضاءة، وردت تسحر النّهى، وتسحب ذيلاً على السّها، وتهزّ من المسرة أعطافاً، وترد من نجوم المجرة نطافاً، عامت من الظلمة في موجها، ثم غلبت الشهب على أوجها، فقلب العقرب يجب، وسهيل بداره يحتجب، والطرف غضيض، وجناح الطائر مهيض، وصاحب الأخبية يقرض، والذابح عن ذبيحته يعرض (1) ، ورامح السماكين تخونه السلاح، وواقع النّسرين يودّ أن (2) يخفيه الصباح، بلاغة تفتن كل لبيب، وترعى روض كل أديب، وتغضّ على رغم العدوّ من حبيب، إن من البيان لسحراً، ويا أيّها الجواد وجدناك بحراً، أرديت، أيّ بريٍّ بريت، وبأي قمر اهتديت، ليلة سريت، افتتحت بأبياتك الحسان، ونظمتها نظم الجمان، فعوذت ستّتها (3) بالسبع، وعرفت منها براعة ذلك الطبع، ثم نثرت، على القرطاس [من] شذور المنثور، بل من جواهر النحور، ما استوقف النّظّار، وبهرج اللّجين والنّضار، ورأيتك استمددت ولك الباع الأمدّ، وأعرت محاسنك والعارية تردّ، وجئت بالرائية (4) تروق أربعتها، وتخرس بها قعقعة الأشعار جعجعتها، فأدت من حسنها ما يسر، واجتمع لمن روى القطعتين ما نظم فيها وهو الدر. وأجريت (5) خبر الحادثة التي محقت بدر التمام، وذهبت بنضارة الأيّام، فيا من حضر يوم البطشة، وعزّي في أنسه بعد تلك

_ (1) يريد سعد الأخبية وسعد الذابح. (2) ك: يود لو أنه. (3) ق ط ك: سنتها؛ ج: سيتها، والتصويب عن دوزي؛ وستتها: ستة أبياتها، والسبع: السبع المثاني. (4) هذه الكلمة مضطربة في الأصول ما عدا ط؛ والرائية: القصيدة الرائية، وفي ك: اللألاءة ". وفي ق: الراية، وفي ج: بدلالة. (5) من هنا ورد في الروض المعطار حتى قوله: " لقد طال الأسى عليهم والأسف ".

الوحشة، أحقّاً أنّه دكّت الأرض، ونزف المعين والبرض، وصوّح روض المنى، وصرّح الخطب ما كنى؟ أبن لي كيف فقدت رجاحة الأحلام، وعقدت مناحة الإسلام، وجاء اليوم العسر، وأوقدت نار الحزن فلا تزال تستعر؟ حلم ما نرى؟ بل ما رأى ذا حالم، طوفان يقال عنده لا عاصم، من يصفنا من الزمان الظالم؟ الله بما يلقى الفؤاد عالم؛ بالله أيّ نحو تنحو، ومسطور تثبت وتمحو، وقد حذف الأصلي والزائد، وذهبت الصّلة والعائد، وباب التعجب طال، وحال البائس لا تخشى الانتقال، وذهبت علامة الرفع، وفقدت سلامة الجمع، والمعتلّ أعدى الصحيح، والمثلّث اردى الفصيح، وامتنعت العجمة من الصّرف، وأمنت زيادتها من الحذف، ومالت قواعد الملّة، وصرنا إلى جمع القلّة، للشّرك صيال وتخمّط، ولقرنه في شركه تخبّط، وقد عاد الدين إلى غربته (1) ، وشرق الإسلام بكربته، كأن لم يسمع بنصر ابن نصير، وطرق طارق بكل خير، ونهشات حنش (2) وكيف أعيت الرّقى، وأدالت بليل السّليم يوم الملتقى، ولم تخبر عن المروانية وصوائفها، وفتى معافر (3) تعفيره للأوثان وطوائفها، لله ذلك السلف، لقد طال الأسى عليهم والأسف، وبقي الحكم العدل، والربّ الذي قوله الفصل، وبيده الفضل، وربّنا أمرت فعصينا، ونهيت فما انتهينا، وما كان ذلك جزاء إحسانك إلينا، أنت العليم بما أعلنّا وما أخفينا، والمحيط بما لم نأت وما أتينا، لو أننا فيك أحببنا وقلينا، لم ترنا من الفرقة ما رأينا، ولم تسلّط عدوّك وعدوّنا علينا، لكن أنت أرحم من أن تؤاخذنا بما جنينا، وأكرم من أن لا تهب حقوقك لدينا. وأشرت أيها الأخ الكريم إلى استراحة إليّ، وتنسم بما لديّ، لتبرد - كما زعمت - حرّ نفس، وتقدح زناد قبس، وهيهات صلد الزند، وذوى العرار

_ (1) إشارة إلى الحديث: " بدئ الإسلام غريباً وسيعود غريباً ... ". (2) يريد " حنش الصنغاني " الذي تقدم ذكره. (3) فتى معافر هو المنصور بن أبي عامر.

والرّند، وأقشع الشؤبوب، وركد ما كان يظن به الهبوب، فالقلم دفينٌ لا يحشر، وميّت لا ينشر، وبالطبع قد نكص القهقرى، وقلّ منزله أن يدعى له النّقرى، فها هو لا يملك مبيتاً، ولا يجد لقلمه تثبيتاً، وأنت - أبقاك الله عزّ وجلّ - بمقتبل الآداب، طائر ميعة (1) الشباب، وأين سنّ السموّ من سن الانحطاط، ووقت الكسل من وقت النشاط، وقد راجعتك لا داخلاً في حلبتك، بل قاضياً حقّ رغبتك، والله تعالى يجعلك بوسيلة العلم مترقياً، وبجنّة الطاعة متوقّياً، ولهناء الأنفس مستقبلاً ومتلقياً، بمنّه، والسلام، انتهى. وكتب رحمه الله (2) إلى سلطان إفريقية الوارث ملك بني عبد المؤمن بتلك النواحي، المستولي على البلدان والضواحي، وقد كان لأهل الأندلس أملٌ في أخذه بثأرهم، وضم انتثارهم، ما صورته: شاقه غبّ الخيال الوارد ... بارقٌ هاج غرام الهاجد صدّقا وعد (3) التلاقي ثمّما ... طرقا إلا بخلف الواعد وكلا الزّورين من طيف ومن ... وافدٍ تحت الدياجي وارد لم يكن بعد السّرى مستمتعٌ ... فيه للرّائي ولا للرائد وشديد بثّ قلبٍ هائمٍ ... يشتكيه عند ربعٍ هامد بالأمير المرتضى عزّ الهدى ... وثنى عطف المليّ الواجد وبه أصحب ما كان يرى ... حاملاً أنف الأبيّ الشارد إنّما (4) الفخر لمولانا أبي ... زكريّاء بن عبد الواحد ملكٌ لولا حلاه الغرّ لم ... يجر بالحمد لسان الحامد (5)

_ (1) في الأصول: هيعة. (2) أورد ستة من الأبيات في المقتطفات: (الورقة: 82) . (3) في الأصول: صدق وعد؛ صدق الوعد؛ صدى عند. (4) ط: أيها. (5) هذا البيت والذي بعده سقطا من ط.

ولو أنّ العذب أبدى رغبةً ... عنه لم يشف غليل الوارد فضله مثل سنا الشمس، وهل ... لسنا الشمس يرى من جاحد قهر البغي بجدٍّ صادع ... ما تعدّاه وجدٍّ صاعد وإنّما آل أبي حفصٍ هدىً ... للورى من غائبٍ أو شاهد قعدوا فوق النجوم الزّهر عن ... هممٍ نبّهن عزم القاعد وعن الإسلام ذادوا عندما ... فلّ طول العهد غرب الذائد أيّ فخرٍ عمريّ المنتمى ... ورثوه ماجداً عن ماجد ما الفتوح الغرّ إلاّ لهم ... بين ماضٍ بادئٍ أو عائد في محيّاً لاحقٍ من سابقٍ ... وعلى المولود سيما الوالد وليحيى راجح الحلم الذي ... ترك الطّود بعطفي مائد عقد أحسابهم تمّ به ... مثل ما تمّ حساب العاقد أيّها الجامع ما قد أحرزوا ... جمع من همّته في الزائد هذه الأمّة قد أوسعتها ... نظراً يكلأ ليل الراقد لم تزل منك بخيرٍ طارفٍ ... ريشه تالٍ قدامى تالد ولهم منك ليوم حاضرٍ ... وغدٍ رأي البصير الناقد أرشد الله لأولى نظر ... بالورى رأي الإمام الراشد وتولاه بتوفيق الألى ... سعدوا من عاقد أو عاهد وله في الله أوفى كافل ... بالذي يبقى وأكفى عاضد نصر الله تعالى مولانا وأيّده، وشدّ ملكه وشيّده، وأبقى للفضل أيّامه، وللفصل أحكامه؛ وأظفر بأعناق الأشقياء حسامه؛ ووفر من اتساق النعم والآلاء حظوظه وأقسامه؛ والحمد لله ثمّ الحمد لله على أن جعل به حرم الأمّة آمناً، ووهج الفتنة ساكناً، وأبواب الصلة والمعروف لا تعرف إلاّ واصلاً أو آذناً، وتلافى فلّ الإسلام منه بفيئاته التي منها ينتظرون الكر، وبها يُوعدون الفتح

الأعز والنصر الأغر؛ فهم بن جدةٍ قبضوها، وعدةٍ رضوها، وارتقاب للفتح أكبر هممهم منه درك الثار، وانتصاف لأهل الجنّة من أهل النار، فأمّا الأوطان فقد أسلتهم عنها جهة تنبت العزّ فيما تنبته، وتنفي من الضيم ما تلك تثبته، وما ذكر الساخط، على المحل الساقط، منازل عادت على مبانيها أطلالاً، ومغانيها محالاً، وللعبد حالٌ يستقبل بها من النظر الكريم - أدامه الله تعالى - ما أعين الآمال إليه صور، ورجاء الجميع عليه مقصور، انتهى. والغاية في هذا الباب ما كتب به - رحمه الله - من جملة كتاب لبعض ذوي الألباب، ونصّ محل الحجة منه: نخصّ الجهة البعيدة الصّيت والاسم، الشهيرة العمل والعلم، درّة تاجنا، وضوء سراجنا، ونكتة احتجاجنا، أبقاها الله تعالى في أعيننا مناراً، ولأندلسنا فخاراً، على أنّه وإن بقيت المفاخر، فقد أودى المفاخر، وإن أضاء الطالع، فقد دجت المطالع، وغلب عليها عداةٌ زووا عنها وجوهنا، وأروا فيها مكروهنا، حتى إنّي أتيت بشعر فيه استسقاء للديار، على عادة الأشعار، فقلت: زدنا على النائين عن أوطانهم ... وإن اشتركنا في الصّبابة والجوى إنّا وجدناهم قد استسقوا لها ... من بعد أن شطّت بهم عنها النّوى ويصدّنا عن ذاك في أوطاننا ... مع حبّها الشّرك الذي فيها ثوى حسناء طاعتها استقامت بعدنا ... لعدوّنا، أفيستقيم لها الهوى؟ انتهى. قلت: وما رأيت ولا سمعت مثل هذه الأبيات في معناها، العالية في مبناها، فإن فيها الإشارة إلى استيلاء النصارى - دمرهم الله - على تلك الديار، وثبوت قدمهم فيها على طبق ما حصل لهم فيه اختيار، مع إدماج حبّه لها الذي لا يشكّ فيه ولا يرتاب، واشتماله على المحسن التي هي بغية الرائد ونجعة المنتاب، ولكل أجلٍ كتاب، وإذا نفذ سهم القدور فلا عتاب.

وممّا يستولي على الخواطر، ويروي رياض الأفكار بسحب بلاغته المواطر، قوله - رحمه الله تعالى - يخاطب أبا الحسن الرّعيني سنة 634 (1) : يا صاحبي والدهر لولا كرّةٍ ... منه على حفظ الذّمام ذميم أمنازعي أنت الحديث؟ فإنّه ... ما فيه لا لغوٌ ولا تأثيم ومروّضٌ مرعى مناي فنبته ... من طول إخلاف الغيوم هشيم طال اعتباري بالزمان، وإنّما ... داء الزمان كما علمت قديم مجفوّ حظّ لا ينادى ثم لا ... ينفكّ عنه الحذف والترخيم وأرى إمالته تدوم وقصره ... فعلام يلغى المدّ والتفخيم وعلام أدعو والجواب كأنّما ... فيه بنصٍّ قد أتى التحريم لم ألق إلاّ مقعداً، غير الأسى ... فلديّ منه مقعدٌ ومقيم وشرابي الهمّ المعتّق خالصاً ... فمتى يساعدني عليه نديم غارات أيّامي عليّ خوارج ... قعديّها في طبعها التحكيم ولواعجٌ يحتاج صالي حرّها ... أمراً به قد خصّ إبراهيم ولقد أقول لصاحبٍ هو بالذي ... أدركت من علم الزمان عليم لا يأس من روح الإله وإن قست ... يوماً قلوب الخلق فهو رحيم ويهزني، ويستفزني، ما كتبه - رحمه الله تعالى - من رسالة: كتبته إلى سيدي وهو السيد حقيقة، وأخي وقد كتب الدهر بذلك وثيقة، أبقى الله تعالى جلاله محروساً، وربع وفائه لا يخشى دروساً، وحب فيه خالص كريم، ووصلني خطابه الخطير المبرور، فكنت به كالصّائم رأى الهلال،

_ (1) هو علي بن محمد بن علي بن الفخار أبو الحسن الرعيني (592 - 666) راجع ترجمته في الذيل والتكملة 5: 323 ومقدمة كتابه " برنامج شيوخ الرعيني " تحقيق الأستاذ إبراهيم شبوح (دمشق 1962) والأبيات في الذيل: 363.

والهائم عاين الماء الزّلال، علق ليس يوازيه علق، وسحر لكنّه حلال طلق، ونظم لذكر الطائي طاوٍ، وصنعة لم يرها ولم يروها راءٍ ولا راوٍ، رمت ابن الروميّ بالخمول، وبشرت اسم بشار من الفحول، وحكمت بأن النمريّ في نمرة الهوان مدرج، والسريّ عن سراوة الإحسان مخرج، فأمّا النثر فصهيل لا يجاوبه الرّغاء، وطراز لا يحسنه البلغاء، ونقد تزيف معه النقود، ومدىً تنقطع دونه الضّمّر القود، غادر الصابيّ وصباه غير ذات هبوب، والصاحب وهو من العجز مع شرّ مصحوب، والميكاليّ وميكاله مرفوض، والحريريّ وحريره في سوق الكساد معروض، فأمّا بحر رئيس أرّجان، فقد استخرج منه اللؤلؤ والمرجان،وأبقاه في ضحضاح، بل تركه يمشي بأدرجٍ ضاح، فمن ذا يجاري فارس الصفّين وإمام الصنفين؟ أبلغ من خط بقلم، وأشهر من نار على علم، وماذا يقال في أنامل تطرز بها الصحف، وخمائل تفخر بها الروضة الأنف، واسم في شرق البلاد وغربها ظاهر، ووسم بالكتابة والنجابة لم يكن لبني وهبٍ وآل طاهر، فالزمان يأثر، ما ينثر، ويعظّم، ما ينظم، ولو أن الأزمنة قبله عمرت المحاضر بكل ناجم، ونشرت المقابر عن الصّنوبري وكشاجم، وجاءت بالكتّاب من كل جيل، والشعراء رعيلاً بعد رعيل، لطال هذا العصر بواحده آلافها، وأنسى بخلفه أسلافها، انتهى. وكتب - رحمه الله تعالى - إلى صاحبين له في معنى ما ألمعنا به آنفاً، ما صورته: تحيّةٌ منكما أتتني ... طابت كما طاب مرسلاها ويا لها أذكرت عهوداً ... قلبي والله ما سلاها حللتما في البلاد أرضاً ... ريح صباها عني سلاها لم يصب قلبي إلى سواها ... يوماً ولم يسل عن سلاها كتابي أيها الأخوان اللذان بودهما أقول، وعن عهدهما لا أحول - أنزلكما

الله تعالى خير منزل، وجعلكما من النوائب والشوائب بمعزل - من رباط الفتح ولبّي قديماً ملكتما رقّه، وقلبي تعلّماً وتعليماً عرفتما صدقه، كيف حالكما من سفر طويتما خبره، حين تجشمتما غرره؟ وكيف سخت نفوسكما بأم الحصون، وذات الظلال والعيون؟ تربة الآباء، ومنزلة الجمحيّين النّجباء، حتى صرمتما جبلها، وهجرتما حزنها وسهلها، وخضتما غير الفجاج، وخضر الأمواج؟ ما ذاك إلا لتغلّب الحدث النّكر، وتألّب المعشر الغدر، ومن أجل الداهية النكاد (1) ، والحادثة الشنيعة على البلاد، أزعجتكم حين أزعجتنا، وأخرجتكم كما أخرجتنا، وطوّحت بنا طوائحها، واجتاحت ثمرنا وشجرنا جوائحها، فشكراً لله تعالى على قضائه، وتضرعاً فيما نرفعه من دعائه، وهنيئاً لنا ولكم معشر الشّرداء، المنطوين من الشجن على شرّ داء (2) ، ذلك الطّود الذي إليه أويتما، وفي ظلّه ثويتما، وعن رأيه تريان، وبسعيه تسعيان، فوجهه المبارك لا يعدم رأيه نجحاً، ولا يعدو لصبحه إذا دجا ليل الهمّ صبحاً، انتهى. [تعريف بأبي المطرف] وكان أبو المطرّف بن عميرة المذكور كما قال فيه بعض علماء المغرب: قدوة البلغاء، وعمدة العلماء، وصدر الجلّة الفضلاء، وهو أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي؛ ونكتة البلاغة التي قد أحرزها وأودعها، وشمسها التي أخفت ثواقب كواكبها حين أبدعها، مبدع البدائع التي لم يحظ (3) بها قبله إنسان، ولا ينطق عن تلاوتها لسان؛ إذ كان ينطق عن قريحة صحيحة، ورويّة بدرر العلم فصيحة، ذللت له صعب الكلام، وصدّقت رؤياه حين وضع سيد المرسلين

_ (1) كذا في الأصول؛ ويقال أيضاً " داهية نآد ". (2) ط: شر الداء. (3) ك: يحط.

صلى الله عليه وسلّم وهو الذي أوتي جوامع الكلم (1) في يديه الأقلام، وأصل سلفه من جزيرة شقر، وولد بمدينة بلنسية، وروى عن أبي الخطاب بن واجب وأبي الربيع بن سالم وابن نوح والشلوبيني النحوي وابن عات وابن حوط الله، وغيرهم من الحفّاظ، وأجازه من أهل المشرق جماعة، وكان شديد العناية بشأن الرواية فأكثر من سماع الحديث، وأخذه عن مشايخ أهله، ثم تفنن في العلوم، ونظر في المعقولات وأصول الفقه، ومال إلى الأدب، فبرع براعة عدّ فيها من مجيدي النظم، فأمّا الكتابة فهو فارسها الذي لا يجارى، وصاحب عينها الذي لا يبارى، وله وعظ على طريقة ابن الجوزي، ورسائل خاطب بها الملوك وغيرهم من الموحّدين والحفصيّين، وله تأليف في كائنة ميورقة وتغلّب الروم عليها (2) نحا في الخبر عنها منحى الإمام الأصبهاني في الفتح القدسي، وله كتاب تعقّب فيه على الفخر الرازي في كتاب المعالم، وله كتاب ردّ به على كمال الدين الأنصاري في كتابه المسمّى بالتبيان، في علم البيان، المطلع على إعجاز القرآن وسمّاه بالتنبيهات، على ما في البيان من التمويهات، وله اختصار نبيل من تاريخ ابن صاحب الصلاة (3) ، وغير ذلك. ورد - رحمه الله - حضرة الإمامة مرّاكش صحبة أمير المؤمنين الرشيد حين قفوله من مدينة سلا، واستكتبه مدّة يسيرة، ثم صرفه عن الكتابة، وقلده قضاء هيلانة، ثم نقله إلى قضاء سلا، ثم نقله السعيد إلى قضاء مكناسة الزيتون، ثم قصد سبتة، وأخذ ماله في قافلة في فتنة بني مرين، ثم توجه إلى بلاد إفريقية، ووصف حاله في رسالة خاطب بها ابن السلطان أبي زكريا الحفصي، وهو أبو زكريا ابن السلطان أبي زكريا، وكان صاحب بجاية لأبيه، ولم يزل - رحمه الله تعالى - مذ فارق الأندلس متطلّعاً لسكنى إفريقية، معمور القلب بسكناها، ولمّا

_ (1) ط: الكلام. (2) يعمي عام 627هـ؟. (3) يريد كتاب " المن بالإمامة على المستضعفين " وقد نشرت قطعة منه (بيروت - 1964) .

قدم تونس مال إلى صحبة الصالحين والزّهّاد وأهل الخير برهة من الزمان، ثم استقضي بالأربس (1) من إفريقية، ثم بقابس مدّة طويلة، ثم استدعاه أمير المؤمنين المستنصر بالله الحفصي، وأحضره مجالس أنسه، وداخله مداخلة شديدة، حتى تغلّب على أكثر أمره. ومولده بجزائر شقر في شهر رمضان المعظم سنة 580، وتوفّي ليلة الجمعة الموفية عشرين من ذي الحجة سنة 658، ألحفه الله رضوانه، وجدد عليه غفرانه. وقال ابن الأبار في " تحفة القادم " (2) في حق أبي المطرف المذكور: فائدة هذه المائة، والواحد يفي بالفئة، الذي اعترف باتحاده الجميع، واتصف بالإبداع فماذا يتصف به البديع، ومعاذ الله أن أحابيه بالتقديم، لما له من حق التعليم، كيف وسبقه الأشهر، ونطقه الياقوت والجوهر، تحلت به الصحائف والمهارق، وما تخلت عنه المغرب والمشارق، فحسبي أن أجهد في أوصافه، ثم أشهد بعدم إنصافه، هذا على تناول الخصوص والعموم لذكره، وتناوب المنثور والنظوم على شكره؛ ثم أورد له جملة منها قوله: وأجلت فكري في وشاحك فانثنى ... شوقاً إليك يجول في جوّال أنصفت غصن البان إذ لم تدعه ... لتأوّدٍ مع عطفك الميّال ورحمت درّ العقد حين وضعته ... متوارياً عن ثغرك المتلالي كيف اللقاء وفعل وعدك سينه ... أبداً تخلصه للاستقبال وكماة قومك نارهم ووقيدها ... للطارقين أسنّة وعوالي وله ممّا يكتب على قوس قوله: ما انآد معتقل القنا إلاّ لأن ... يحكي تأطّر قامتي العوجاء

_ (1) ط: بالأبرس. (2) انظر المقتضب من التحفة: 145 والوافي (ترجمة أبي المطرف 7 الورقة: 64) .

تحنو الضلوع على القلوب وإنّني ... ضلع ثوى فيها بأعضل داء وله وقد أهدى ورداً: خذها إليك أبا عبد الإله فقد ... جاءتك مثل خدودٍ زانها الخفر أتتك تحكي سجايا منك قد عذبت ... لكن تغيّر هذا دونه الغير إن شمت منها بروق الغيث لامعةً ... فسوف يأتيك من ماء لها مطر قال: وكتب إلي مع تحفة أهداها مكافئاً عن مثلها: يا واحد الأدب الذي قد زانه ... بمناقب جعلته فارس مقنبه (1) بالفضل في الهبة ابتدأت فإن تعر ... طرف القبول لما وهبت ختمت به قال: وله ارتجالاً بعصر الإماة من بلنسية وأنا حاضر في صبيحة بعض الجمع، وقد حجم صاحب لنا من أهل النظم والنثر، وأحسن إلى الحجّام المخصوص (2) : أرى من جاء بالموسى مواسىً ... وراحة ذي القريض تعود صفرا فهذا مخفقٌ إن قصّ شعراً ... وهذا منجحٌ إن قصّ شعرا وله أيضاً: هو ما علمت من الأمير، فما الذي ... تزداد منه وفيه لا يرتاب؟ لا تتّقي الأجناد في أيّامه ... فقراً، ولا يرجو الغنى الكتّاب وله بعد انفصاله من بلنسية عن وحشة في ذي القعدة سنة 628: أسير بأرجاء الرجاء، وإنما ... حديث طريقي طارق الحدثان

_ (1) ك: منصبه. (2) ك: بالخصوص.

وأحضر نفسي إن تقدّمت خيفةً ... لغض عنانٍ أو لعض زمان أيترك حظي للحضيض وقد سرى ... لإمكانه فوق الذرا جبلان وأخبط في ليل الحوادث بعدما ... أضاء لعيني منهما القمران فيحيى لآمالي حياة معادة ... وإنّ عزيزاً عزةٌ لمكاني وقالوا: اقترح إنّ الأمانّي منهما ... وإن كنّ فوق النجم تحت ضمان فقلت: إذا ناجاهما بقضيّتي ... ضميري لم أحفل بشرح لساني وله أيضاً: سلب الكرى من مقلتيّ فلم يجئ ... منه على نأيٍ خيالٌ يطرق أهفو ارتياحاً للنّسيم إذا سرى ... إنّ الغريق بما يرى يتعلّق انتهى ما لخّص من تحفة القادم في ذكر ابن عميرة أبي المطرف. [رسالة لأبي المطرف] وممّا كتب أبو المطرف - رحمه الله - وفي أثنائه إشارة إلى الكفار الغالبين على بلاد الأندلس، ما نصّه: ألا إنّ شخصينا على القطع واحد ... وجاحد هذا للضرورة جاحد فإن لم تصدّق ما نطقت بصدقه ... فإنّك لي لاحٍ وللودّ لاحد ومعاذ الله، عزّ وجلّ، أن تلحاني، أو تمنع أنفك ريح ريحاني، وكيف تصدّ عني وجهك، أو تشحذ لي غرب نجهك (1) ، وأنا في غيبك أمين، ولشمالك يمين، ولكم دعوت بي فأجبت، واستغنيت عني فحجبت، وأردت الاستبداد فما استطعت، ونعتّ (2) الوداد فما أحسنت النعت، وإنّما تحمد

_ (1) النجه: الردع والانتهار. (2) ج: وأنفت.

فراهة الأعوجيّ إن جرى، وتذكر فضيلة ابن السّري إذا سرى، فأمّا الاقتصار على عظم باد، والانتظار لعين عدمت السواد، فخطأ من القائل، وخطل عند العاقل، ولله در أخيك من مغمض طرف التطرف، قارئ أدب الصحبة على السبعة الأحرف، كرع في أعزّ مورد، وتواضع في شرف مولد، وسما بنفسه عن أن يستخفه نسب يرفعه، وحسب ما منّا أحد يدفعه، وكذلك الكرام يرون عليهم حقّاً، ويتوقّون من لم يكن من الكبر موقّى، ولعهدي به وظلّ الثروة بارد (1) ، وشيطان الشبيبة مارد، وبشره في الملمات يرفّ، وقدمه إلى الحاجات تخفّ، يصون عرضه بماله، ويخفي صدقة يمينه عن شماله، ويقسّم جسمه في جسوم (2) ، ويقوم بالحقوق غير ملول ولا ملوم، تلك المكارم لا قعبان (3) ، وما تستوي البدنة المهيضة م غيرها في القربان، وعرضت بذكر العصر الخالي، والقصر العالي، وظل من فنن وريق، وعيش مع أكرم فريق، وما تذكر من زمن تولّى؛ وعهد على أن لا يعود تألّى، فارقناه أحسن ما كان، وودعنا به الأطيبين الزمان والمكان، فعفت الرسوم، وأفلت تلك النجوم، ورمتنا عن قوسها الروم، ثمّ خلفتنا في المغاني، وقسمتنا بين الأسير والعاني، فأودى القلّ والكثر، واشتفى من الإسلام الكفر، فكم كأس أنس أرقناه، ومنزلٍ فرقة الأبد فارقناه، وذكرت اجتيازك بين العلمين (4) ، وقطعك متن اليمّ في يومين، وأنّك انتقلت من ذوات الألواح، إلى عذبات الأدواح، ومن متهافت الشّراع، إلى منابت اليراع، ومن سكنى بيت السكان، إلى منزل به الفلاح والملاح يشتركان، حيث اجتمع الضّبّ والنون، وأينع التين والزيتون،

_ (1) ج: وارد. (2) من قول عروة بن الورد: أقسم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد (3) من قول أمية بن أبي الصلت: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيباً بماء فعادا بعد أبوالا (4) ج: العالمين.

وظلّلت الساحات، وذلّلت الثمار المباحات، فلا تشرقنا يا أصيل، ولأمّ تلك الأرض الويل، انتهى. ووصل هذا الكلام بالأبيات التي تقدّمت قريباً، وهي قوله " زدنا على النائين عن أوطانهم إلخ ". [رسالة أخرى لأبي المطرف] وكتب رحمه الله عن أهل شاطبة أيام كان قاضياً بها، مهنئاً أمير المسلمين ابن هود المستولي على الأندلس آخر دولة الموحّدين بوصول الكتاب العباسي الكريم إليه من بغداد بولاية الأندلس، إذ كان ابن هود حين ثار على الموحدين يدعو إلى الخليفة العباسي الذي كان أكثر الملوك في ذلك الزمان يدينون بطاعته، بما نصّه بعد الصدر: أمّا بعد، فكتب العبيد - كتب الله تعالى للمقام العلي المجاهدي المتوكلي سعادة لا تبلغ أمداً إلا تخطته؛ ويداً علوها أثبتته أيدي الأقدار وخطته؟ من شاطبة وبركات الأمر المجاهديّ المتوكليّ، والعهد الواثقي المعتصمي، تنسكب كالمطر، وتنسحب على البشر، وتقضي بعادة النصر والظفر، وسعادة الورد والصّدر، والحمد لله، وعند العبيد من أداء فروض الخدم، والقيام بحقوق النّعم، ما عقدت عليه ضمائرهم، وسمت إليه نواظرهم، واشترك فيه باديهم وحاضرهم، فجناب أملهم فسيح، وتجر (1) خدمتهم ربيح، وحديث طاعتهم حسن صحيح، وبسنا النظر العلي اهتداؤهم، وفي الباب الكريم رجاؤهم، وبصدق العبودية اعتزازهم وإليها اعتزاؤهم، والله تعالى ينهضهم بوظائف المثابة العلية، ويحملهم على المناهج السّوية، ووصل الكتاب الكريم متحلّياً برواء الحق، ناطقاً بلسان الصدق، واصفاً من التشريف والفخار المنيف، ما صدر عن إمام الخلق، فلا

_ (1) ك: ومتجر.

بيان أعجب من ذلك البيان، ولا يوم كذلك اليوم تبدّى نظره للعيان، أو تأدى خبره في أخبار الزمان، نثرت فيه الخلع العباسيّة في أعلى الصور، وبرز منها للعيون ما يعثر البليغ عند وصفه في ذيل الحصر، ويهدي سواده سواد القلب والبصر، فيا لمشهدها ما أعجب ما كان، ومرآها الذي راع الكفر وراق الإيمان، وأشبه يومه بالأندلس يوم خرجت الرّايات السود من خراسان، وكفى بهذا فخاراً لا يحتاج ثابته مثبتاً، أن باشرت برداً باشر البدن الذي طاب حيّاً وميتاً، فهو علو في الإسناد ولا نظير له في العوالي، وفخار ضلّت عن مثله العصور الخوالي، وجلّت بهجته أن تخلق جدّتها الأيّام والليالي، ودل الكتاب العزيز على التسمية المشتقة من الجهاد، والسمة من سيف أمير المؤمنين بما لا يدخل في جنس ذوات الأغماد، وخير الأوصاف ما صدقه الموصوف، وللكريم النسب نسبةٌ يباهي (1) بها الدين وتزهى السيوف: فإن نحن سمّيناك خلنا سيوفنا ... من التيه في أغمادها تتبسّم وممّا أفاده الكتاب المبهج بطيب أنبائه، نص علامة سيدنا صلوات الله عليه وعلى آبائه، فإنّها تضمّنت صفة لله، عزّ وجلّ، من صفات الكمال، ودلّت على مذهب أهل السنّة في خلق الله، عزّ وجلّ، الأعمال، وأشعرتنا معشر العبيد بعناية سبقت بالمقام المجاهديّ المتوكلي - أحسن الله تعالى إليه - حين تولّى خلافة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، فإنّه لمّا شايعه بعزيمة مساعدة، ونيّة في مشارع الصفاء والإخلاص واردة، ألهم زيادة في العلامة شاركت الإمامة في صفة واحدة، فهذه كرامة في العلامة، هي علامة الكرامة، وهبةٌ من مواهب الكشف يجدها من امتثل قوله " فاستقم كما أمرت " فكان من أهل الاستقامة، وتضمن الكتاب الكريم بيعة أهل جيّان وما معها، وإن هذه البشائر وما تبعها، لفروع عن هذا الأصل الصحيح، وأقيسة عن هذا النص الصريح، فأدلّة

_ (1) دوزي: يبأى.

الخلافة قد استقلت، وشبهة الخلاف قد بطلت واضمحلت، والحمد لله على أن منح جزيل النعماء، وشرح باليقين صدور الأولياء، وشرّف هذه الأمّة بإمامة نجل الأئمة الخلفاء، وابن عمّ سيد الرسل وخاتم الأنبياء، والعبيد يهنئون بهذه النّعم، التي لا يستقلّ بذكرها قلم، ولا يقطع علم من وصفها إلا بدا علم، وبهم من الأشواق إلى مشاهدة المعالم السنيّة، ولثم اليمين الطاهرة العليّة، ما أكده دنو الدار، وجدّده ما تجدّد للمقام العالي المتوكل من نعم الله تعالى الجليلة المقدار، والشاهدة له بإسعاد الأيّام وإسعاف الأقدار، فلو أمكنهم الإقدام لأقدموا، ولو وجدوا رخصة في المسير لعزموا، وهم يستلمون البساط الأشرفي توهّماً ومن أملهم أنهم في الحقيقة قد استلموا، انتهى. وبه تعلم أن الدولة العباسية خطب لها ببلاد الأندلس - أعادها الله للإسلام - ولا يخفاك أن ما جلبناه من ذلك وغيره مناسب للمقام، فلا انتقاد ولا ملام. [رسالة للسان الدين إلى أحمد بن قلاوون] وقد رأيت أن أذكر هنا مخاطبة صدرت من الغني بالله صاحب الأندلس إلى السلطان المنصور أحمد ابن السلطان الناصر محمد بن قلاوون من إنشاء الوزير الكبير لسان الدين بن الخطيب رحمه الله، لما اشتملت عليه من أحوال الأندلس، ونصّها: الأبواب التي تفتح لنصرها أبواب السماء، وتستدرّ من آفاقها سحاب النعماء، وتجلى بأنوار سعدها دياجي الظلماء، وتعرّف نكرة البلاد والعباد بالانتساب إلى محبتها والانتماء، على اختلاف العروض وتباين الحدود وتعدّد الأسماء، ويجتزأ من صلات صلاتها عند الموانع من كمال حالات صفاتها بالإيماء، وتحمل لها التحيّة ذوات الدّسر والألواح طاعنة نحر الصباح على كتد الماء، أبواب السلطان الكبير، الجليل الشهير، الطاهر الظاهر، الأوحد الأسعد، الأصعد الأمجد، الأعلى العادل، العلم الفاضل الكامل، سلطان الإسلام والمسلمين

عماد الدنيا والدين، رافع ظلال العدل على العالمين، جمال الإسلام، علم الأعلام، فخر الليالي والأيّام، ملك البرين والبحرين، إمام الحرمين، مؤمّل (1) الأمصار والأقطار، عاصب تاج الفخار، هازم الفرنج والترك والتتار، الملك المنصور ابن الأمير الرفيع الجادة، الكريم الولادة، الطاهر الظاهر، الكبير الشهير، المعظم الممجّد الأسمى، الموقّر الأعلى، فخر الجلّة، سيف الملّة، تاج الإمارة، عزّ الإسلام، مستظلّ الأنام، قمر الميدان، أسد الحرب العوان، المقدس المطهر، الأمير أحمد ابن والد السلاطين، ومالك المسلمين، وسيف خلافة الله على العالمين، وولي المؤمنين، سلطان الجهاد والحج، ومقيم رسم العجّ والثجّ، محيي معالم الدين، قامع المعتدين، قاهر الخوارج والمتمردين، ناصر السنّة، محيي الملّة، ملك البرين والبحرين، سلطان الحرمين، الملك العادل، العالم العامل، المنصور المؤيّد المعان المرفع المعظم المبجل المؤمل، المجاهد المرابط الغازي (2) الممجّد المكمّل، المطهر الكبير الشهير، المقدس الملك الناصر أبي عبد الله محمد بن قلاوون الصالحي، جعل الله فسطاط دعوته معموداً بعمود الصبح، وحركات عزمه مبنية على الفتح، ومجمل سعادته غنيّاً عن الشّرح، وجياد أوصافه متبارية في ميدان المدح، وزناد رأيه (3) وارية على القدح، من موجب المجدّد في اليوم حكم ما تقرر بين السلف رحمهم الله بالأمس، أمير المؤمنين بالأندلس عبد الله الغني بالله الغالب به محمّد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن نصر: سلام كريم كما زحفت راية الصبح تقدمها طلائع مبشرات الرياح، يفاوح أرجه زهير (4) الأدواح، ويحاسن طرر الوجوه الملاح، يخص أبوّتكم التي

_ (1) ك: مؤمن. (2) ك: المغازي. (3) ط ودوزي: آرائه. (4) دوزي: زهر.

رتب العز فصولها، وعضدت نصوص النصر نصولها، ورحمة الله تعالى وبركاته. أمّا بعد حمد الله الذي جعله فاتحة القرآن، وخاتمة دعاء أهل الجنان، وشكره على ما أولى من مواهب الإحسان، حمداً وشكراً يستخدمان من الإنسان، ملكتي القبل واللسان، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله زهرة كمامة الأكوان، وسيد ولد آدم على اختلاف اللغات والألوان، الذي أذلّ بعزّة الله أنوف الطغيان (1) ، وغطى بدينه الحق على الأديان، وزويت له الأرض فرأى ملك أمته يبلغ ما زوي له فكان الخبر وفق العيان، والرضا عمّن له من الأصحاب والأحباب والأعمام والأخوال والإخوان، صلاةً يجدّدها الجديدان، ويمليها الملوان، وتتزاحم على تربته المقدسة مع الأحيان، ما سجعت طيور البراعة من أعواد البراعة على الأفنان، والتفتت عيون المعاني ما بين أجفان البيان، والدعاء لأبوابكم الشريفة جعل الله تعالى عصمته تقيم بها وظيفتي الحجابة والاستئذان، وضرب بدعوتها التي هي لذّة الإقامة والأذان على الآذان، واستخدم بروج الفلك الدوار في أمرها العزيز استخدام (2) الأنصار والأعوان، حتى يعلم ما في المدافعة عن حماها مخالب السّرحان، وفي الإشادة بعدلها كفّتي الميزان، ويهدي لها من الزهرة كرة الميدان، ومن الهلال عوض الصولجان، وأبقى في عواملها ضمير الأمر والشان، إلى يوم تعنو وجوه الملوك إلى الملك الديّان، فإنّا كتبناه إلى تلك الأبواب كتب الله لعتبتها النصرة الداخلة، كما أخجل بمكارمها السحب الباخلة، وجعل مفارق مناصلها المختضبة من نجيع عداها غير ناصلة (3) ، وقرن بكل سبب من أضدادها فاصلة، من دار ملك الإسلام بالأندلس حمراء غرناطة - وصل الله سبحانه عادة الدفاع عن أرجائها، وشدّ بأيدي اليقين عرى أملها في الله ورجائها - حيث المصاف المعقود، وثمن النفوس المنقود، ونار

_ (1) ك: الذي أذل بعزة الله نفوس أهل الطغيان. (2) استخدام: سقطت من ق ط ج ودوزي. (3) ق ط ج ودوزي: الناصلة.

الحرب ذات الوقود؛ حيث الأفق قد تردّى بالقتام وتعمّم، والسيف قد تجرد تيمّم، وغبار الجهاد يقول: أنا الأمان من دخان جهنم؛ حيث الإسلام من عدوّة كالشامة من جلد البعير، والتمرة من أوسق العير؛ حيث المصارع تتزاحم الحور على شهدائها، والأبطال يعلو بالتكبير مسمع (1) ندائها، حيث الوجوه الضاحكة المستبشرة قد زينتها الكلوم بدمائها، وإن هذا القطر الذي مهدت لسياستنا (2) أكوار مطاياه، وجعلت بيدنا - والمنّة لله - عياب عطاياه، قطر مستقل بنفسه، مربٍ يومه في البرّ على أمسه، زكيّ المنابت عذب المشارب، متمّم المآمل مكمّل المآرب، فاره الحيوان، معتدل السحن والألوان، وسيطة في الأقاليم السبعة، شاهدة لله بإحكام الصنعة، أما خيله ففارهة، وإلى الرّكض شارهة، وأمّا سيوفه فلمواطن الغمود كارهة، وأمّا أسله فمتداركة الخطف، وأمّا عوامله فبيّنة الحذف، وأمّا نباله فمحذورة القذف، إلا أن الإسلام به في سفطٍ مع الحيّات، وذريعة للمنيّات الوحيّات (3) ، وهدف للنبال، وأكلة للشّبال، تطؤهم الغارات المتعاقبة، وتتحيفهم (4) الحدود المصاقبة، وتجوس خلالهم العيون المراقبة، وتريب من أشكال مختطّهم إلا أن يتفضل الله بحسن العاقبة، فليس إلا الصبر، والضرب والهبر (5) ، والهمز والنبر، والمقابلة والجبر، وقد حال البحر بينهم وبين إخوان ملّتهم، وأساة علّتهم، يقومون بهذا الفرض، عن أهل الأرض، ويقرضون ملك يوم العرض، أحسن القرض، فلولا بعد المدى، وغول الردى، ولغط العدا، وما عدا ممّا بدا لسمعتم تكبير الحملات، وزئير تلك الفلاّت، ودويّ الحوافر، وصليل السيوف من فوق المغافر، وصراخ الثكالى، وارتفاع الأدعية إلى الله تعالى، ولو ارتفع قيد (6) المكان، وهو للأولياء مثلكم من حيّز الإمكان، لمقلتم مقل الأسنّة الزّرق، حالّة

_ (1) دوزي: مستمع. (2) ق: بسياستنا. (3) إشارة إلى قول الشاعر: كيف الحياة مع الحيات في سفط. (4) ك: وتخيفهم. (5) ق ك ط ج: والضرب الهبر. (6) ق: بند؛ ك: هذا؛ ج: نبذ؛ ط ودوزي: نبد.

من أطراف قصب الرماح محالّ الورق، وأبصرتم القنا الخطّار قد عاد أخلّة، والسيوف قد صارت فوق بدور الخوذ أهلّة، وعقود الشهادة عند قاضي السعادة مستقلة، وكان كما تحصره علومكم الشريفة حدق سور الفتح، وآخر دلاء ذلك المتح (1) ، عرض على الفاروق فاحتاط، وأغرى به من بعده فاشتاط، وسرحت خيل ابن أبي سرح، في خبر يدعو إلى شرح، حتى إذا ولد مروان تقلدوا كرتها التي هوت، وخضموا (2) ما أنضجت ورثة الحق وشوت، ويدهم على الأمر احتوت، وفازت منه بما نوت، نفل ولائده الوليد، وجلب له الطريف والتليد، وطرقت خيل طارق، وضاقت عن أخباره المهارق، وجلّت الفائدة، وظهر على الذخيرة التي منها المائدة، ثم استرسل المهبّ، ونصر الربّ، ويكثر الطير حين ينتثر الحبّ (3) ، وصرفت أشراف الشام أعنّتها إلى التماس خيره، وطارت بأجنحة العزائم تيمّناً بطيره، وقصدته الطلائع صحبة بلج بن بشر وغيره، ففتحت الأقفال، ونفلت الأنفال، ونجح الفال، ووسمت الأغفال، وافتتحت البلاد الشهيرة، وانتقيت العذارى الخيرة، واقتنيت الذخيرة، وتجاوز الإسلام الدروب وتخطّى، وخضد الأرطى، وأركب وأمطى، واستوثق واستوطا، وتثاءب وتمطّى، حتى تعدّدت مراحل البريد، وسخنت عين الشيطان المريد، واستوسق للإسلام ملكٌ ضخم السّرداق، مرهوب البوارق، رفيع العمد، بعيد الأمد، تشهد بذلك الآثار والأخبار، والوقائع الكبر، والأوراق والأسطار (4) ، وهل يخفى النهار؟ ولكل هبوب ركود، والدهر حسود لمن يسود، فراجعت الفرنج كرّتها، واستدركت معرّتها، فدوّمت جوارحها وحلقت، وأومضت بوارقها وتألقت، وتشبثت وتعلقت، وأرسلت

_ (1) ك: وآخر ولاء ذلك المنح. (2) الخضم: التناول بجميع الفم، أما القضم فهو بمقدم الفم. (3) من قول بشار: يسقط الطير حيث ينتثر الح ... ب وتغشي منازل الكرماء (4) ك: والأوداق والأمطار.

الأعنة وأطلقت، وراجعت العقائل التي طلّقت، حتى لم يبق من الكتاب إلاّ الحاشية، ولا من الليل إلاّ الناشية، وسقطت الغاشية، وأخلدت الفئة المتلاشية، وتقلّصت الظلال الفاشية، إلا أن الله تدارك بقوم رجّح من سلفنا أثبتوا في مستنقع الموت (1) أقدامهم، وأخلصوا لله بأسهم وإقدامهم، ووصلوا سيوفهم الباترة (2) بخطاهم، وأعطاهم منشور العزّ من أعطاهم، حين تعين الدين وتحيز، وأشتد بالمدافعة وتميز، وعادت الحروب سجالاً، وعلم الروم أن لله رجالاً، وقد أوفد جدّنا - رضي الله عنه - على أبواب سلفكم من وقائعه في العدوّ كل مبشّرة، ووجودية منتشرة، ضحكت لها ثغور الثغور، وسرت بها في الأعطاف حميّا السرور، وكانت المراجعة عنها شفاء للصدور، وتمائم في الدور (3) ، وخفراً في وجوه البدور، فإن ذمام الإسلام موصول، وفروعه تجمعها في الله أصول، وما أقرب الحزن ممّن داره صول (4) ، والملّة - والمنّة لله - واحدة، والنفوس لا منكرة للحق ولا جاحدة، والأقدار معروفة، والآمال إلى ما يوصل إلى الله مصروفة، فإذا لم يكن الاستدعاء، أمكن الدعاء، والخواطر فعّالة، والكل على الله عالة، والدين غريب والغريب يحنّ إلى أهله، والمرء كثير بأخيه على بعد محله. انتهى المقصود من المخاطبة ممّا يتعلّق بهذا الباب، والله سبحانه وتعالى الموفّق للصواب، وإليه المرجع والمآب (5) .

_ (1) ك: الحرب؛ وهو من قول أبي تمام: فأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشر (2) ك: البارقة. (3) ك: في درر النحور. (4) من قول الحماسي: ما أقدر الله أن يدني على شحط ... من داره الحزن ممن داره صول (5) وإليه ... والمآب: سقطت من ك.

الباب الثالث

الباب الثالث في سرد بعض ما كان للدين بالأندلس من العز السامي العماد، والقهر للعدوّ في الرواح والغدوّ والتحرّك والهدوّ والارتياح البالغ غاية الآماد، وإعمال أهلها للجهاد، بالجدّ والاجتهاد، في الجبال والوهاد، بالأسنة المشرعة والسيوف المستلّة من الأغماد أقول: قدّمنا في الباب قبل هذا ما كان من نصر المسلمين، وفتحهم الأندلس، وما حصل لهم من سلطان بها إلى مجيء الداخل، فتقررت القواعد السلطانية، وعلت الكلمة الإيمانية، كما نسرده هنا إن شاء الله تعالى. وذكر غير واحد - منهم ابن حزم (1) - أن دولة بني أمية بالأندلس كانت أنبل دول الإسلام، وأنكاها في العدوّ، وقد بلغت من العز والنصر ما لا مزيد عليه، كما سترى بعضه. [عبد الرحمن الداخل] وأصل هذه الدولة - كما قال ابن خلدون (2) وغير واحد - أن بني أمية لمّا نزل بهم بالمشرق ما نزل، وغلبهم بنو العباس على الخلافة، وأزالوهم عن كرسيّها، وقتل عبد الله بن عليّ مروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفائهم سنة ثنتين وثلاثين ومائة، وتتبّع بني مروان بالقتل، فطلبوا بطن الأرض

_ (1) راجع ان عذاري 2: 58. (2) تاريخ ابن خلدون 4: 120 وسيورد المقري ترجمة مسهبة لعبد الرحمن في الباب السادس.

من بعد ظهرها، وكان ممّن أفلت منهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، وكان قومه يتحيّنون له ملكاً بالمغرب، ويرون فيه علامات لذلك يأثرونها عن ملمة بن عبد الملك (1) ، وكان هو قد سمعها منه مشافهة، فكان يحدّث نفسه بذلك، فخلص إلى المغرب، ونزل على أخواله نفزة من برابرة طرابلس، وشعر عبد الرحمن بن حبيب، وكان قد قتل ابني الوليد بن يزيد بن عبد الملك لمّا دخلا إفريقية، فلحق بمغيلة، وقيل: بمكناسة، وقيل: بقوم من زناتة، فأحسنوا قبوله، واطمأن فيهم، ثم لحق بمليلة، وبعث بدراً مولاه إلى من بالأندلس من موالي المروانيين وأشياعهم، فاجتمع بهم وبثّوا له في الأندلس دعوة، ونشروا له ذكراً، ووافق قدومه ما كان من الإحن بين اليمنية والمضريّة فأصفقت اليمنية على أمره لكون الأمر كان ليوسف بن عبد الرحمن الفهري وصاحبه الصّميل، ورجع بدر مولاه إليه بالخبر، فأجاز البحر سنة ثمان وثلاثين ومائة في خلافة أبي جعفر المنصور، ونزل بساحل المنكّب، وأتاه قوم من أهل إشبيلية فبايعوه، ثم انتقل إلى كورة ريّة فبايعه عاملها عيسى بن الصباح، ونهد إلى قرطبة فاجتمعت إليه اليمنية، ونمي خبره إلى والي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وكان غازياً بجلّيقية، فانفضّ عسكره، ورجع إلى قرطبة، وأشار عليه وزيره الصّميل بن حاتم بالتلطّف له، والمكر به، لكونه صغير السن، حديث عهدٍ بنعمة، فلم يتم ما أراده (2) ، وارتحل عبد الرحمن من المنكّب، فاحتلّ بمالقة فبايعه جندها، ثم برندة (3) ، ثم بشريش كذلك، ثم بإشبيلية، فتوافت إليه جنود الأمصار، وتسايلت المضرية إليه، حتى إذا لم يبق مع يوسف بن عبد الرحمن غير الفهرية والقيسية

_ (1) سيورد المقري من بعد طرفاً من هذه الأخبار عن مسلمة. (2) ابن خلدون: فلم يتم له مراده. (3) زاد ابن خلدون: فبايعه جندها.

لمكان الصّميل منه زحف حينئذ عبد الرحمن الداخل، وناجزهم الحرب بظاهر قرطبة، فانكشف يوسف، ونجا (1) إلى غرناطة فتحصّن بها، واتبعه الأمير عبد الرحمن فنازله، ثم رغب إليه يوسف في الصلح، فعقد له على أن يسكن قرطبة ثم أقفله معه، ثمّ نقض يوسف عهده، وخرج سنة إحدى وأربعين ومائة (2) ، ولحق بطليطلة، واجتمع إليه زهاء عشرين ألفاً من البربر، وقدّم الأمير عبد الرحمن للقائه عبد الملك بن عمر المرواني، وكان وفد عليه من المشرق، وكان أبوه عمر بن مروان بن الحكم في كفالة أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر، فلمّا دخلت السوّدة أرض مصر خرج عبد الملك يؤمّ الأندلس في عشرة رجال من قومه مشهورين بالبأس والنجدة، حتى نزل على عبد الرحمن سنة أربعين، فعقد له على إشبيلية، ولابنه عمر بن عبد الملك على مورور، وسار يوسف إليهما، وخرجا إليه ولقياه، وتناجز الفريقان، فكانت الدائرة على يوسف، وأبعد المفرّ، واغتاله بعض أصحابه بناحية طليطلة، واحتزّ رأسه، وتقدم به إلى الأمير عبد الرحمن، فاستقام أمره، واستقر بقرطبة، وثبت قدمه في الملك، وبنى المسجد الجامع والقصر بقرطبة، وأنفق فيه ثمانين ألف دينار، ومات قبل تمامه، وبنى مساجد، ووفد عليه جماعة من أهل بيته من المشرق وكان يدعو للمنصور، ثم قطع دعوته، ومهّد الدولة بالأندلس، وأثّل بها الملك العظيم لبني مروان والسلطان العزيز، وجدّد ما طمس لهم بالمشرق من معالم الخلافة وآثارها، واستلحم الثّوّار عليه على كثرتهم في النّواحي، وقطع دعوة آل العباس من منابر الأندلس، وسدّ المذاهب منهم دونها، وهلك سنة ثنتين وسبعين ومائة، وكان يعرف بعبد الرحمن الداخل، لأنه أول داخل من ملوك بني مروان إلى الأندلس، وكان أبو جعفر المنصور يسميه " صقر قريش " (3)

_ (1) كذا في ط وقد تقرأ " ولجأ " في بقية الأصول. (2) انظر ابن عذاري 2: 73 في تفصيل الخبر عن نهاية يوسف الفهري. (3) ابن خلدون: صقر.

لمّا رأى أنّه فعل بالأندلس ما فعل (1) ، وما ركب إليها من الأخطار، وأنّه نهد إليها من أنأى ديار المشرق من غير عصابة ولا أنصار، فغلب أهلها على أمرهم، وتناول الملك من أيديهم بقوّة شكيمة، ومضاء عزم حتى انقاد له الأمر، وجرى على اختياره، وأورثه عقبه، وكان يسمّى بالأمير، وعليه جرى بنوه من بعده، فلم يدع أحد منهم بأمير المؤمنين تأدّباً مع الخلافة بمقر الإسلام ومنتدى العرب، حتى كان من عقبه عبد الرحمن الناصر، وهو ثامن بني أمية بالأندلس، فتسمّى بأمير المؤمنين على ما سنذكره، لما رأى من ضعف خلفاء بني العباس بعد الثلاثمائة، وغلبة الأعاجم عليهم، وكونهم لم يتركوا لهم غير الاسم، وتوارث التلقيب بأمير المؤمنين بنوا عبد الرحمن الناصر واحداً بعد واحد. قال ابن خلدون (2) : وكان لبني عبد الرحمن الداخل بالعدوة الأندلسية ملكضخم ودولة متسعة اتصلت إلى ما بعد المائة الرابعة، وعندما شغل المسلمون بعبد الرحمن وتمهيد أمره قوي أمر الجلالقة، واستفحل سلطانهم، وعمد فرويلة بن أذفونش ملكهم إلى ثغور البلاد فأخرج المسلمين منها، وملكها من أيديهم، فملك مدينة لكّ وبرتقال وسمّورة وشلمنقة قشتالة وشقوبية (3) ، وصارت للجلالقة حتى افتتحها المنصور بن أبي عامر آخر الدولة، ثم استعادوها بعده فيما استعادوه من بلاد الأندلس، واستولوا على جميعها حسبما يذكر، ولله سبحانه الأمر؛ انتهى. وخاطب عبد الرحمن قارله (4) ملك الإفرنج، وكان من طغاة الإفرنج، بعد أن تمرّس به مدة، فأصابه صلب المكسر، تامّ الرجولية، فمال معه إلى

_ (1) ابن خلدون: لما رأى ما فعل بالأندلس. (2) كذا في ج، والنقل عن ابن خلدون ما يزال مستمراً؛ وفي ق: قال ابن سعيد؛ وفي ك: قال ابن حيان؛ وفي ط بياض. (3) شقوبية: (Segovia) . (4) قارله: سقطت من ط؛ وفي ج: فارله.

المداراة، ودعاه إلى المصاهرة والسلم، فأجابه للسلم، ولم تتم المصاهرة. وقال ابن حيّان (1) : ألفى (2) الداخل الأندلس ثغراً قاصياً غفلاً من حلية الملك عاطلاً، فأرهف أهلها بالطاعة السلطانية، وحنّكهم بالسيرة الملوكية، وأخذهم بالآداب فأكسبهم عمّا قليلٍ المروءة، وأقامهم على الطريقة، وبدأ فدوّن الدواوين، ورفع الأواوين، وفرط الأعطية، وعقد الألوية، وجنّد الأجناد، ورفع العاد، وأوثق الأوتاد، فأقام للملك آلته، وأخذ للسلطان عدّته، فاعترف له بذلك أكابر الملوك وحذروا جانبه، وتحاموا حوزته، ولم يلبث أن دانت له بلاد الأندلس، واستقلّ له الأمر فيها. فلذلك ما ظلّ عدوّه أبو جعفر المنصور - بصدق حسّه، وبعد غوره، وسعة إحاطته - يسترجح عبد الرحمن كثيراً، ويعد له بنفسه، ويكثر ذكره، ويقول: لا تعجبوا لامتداد أمرنا مع طول مراسه وقوة أسبابه، فالشأن في أمر فتى قريش الأحوذيّ الفذ في جميع شؤونه، وعدمه لأهله ونشبه، وتسلّيه عن جميع ذلك ببعد مرقى همّته، ومضاء عزيمته، حتى قذف نفسه في لجج المهالك لا بتناء مجده، فاقتحم جزيرةً شاسعة المحل، نائية المطمع، عصبية (3) الجند، ضرب بين جندها بخصوصيته، وقمع بعضهم ببعض بقوة حيلته، واستمال قلوب رعيتها بقضية سياسته، حتى انقاد له عصيّهم، وذلّه أبيّهم، فاستولى فيها على أريكته، ملكاً على قطعته (4) ، قاهراً لأعدائه، حامياً لذماره، مانعاً لحوزته، خالطاً الرغبة إليه بالرهبة منه، إن ذلك لهو الفتى كلّ الفتى لا يكذب مادحه. وجعل ابن حيّان من النوادر العجيبة موافقة عبد الرحمن هذا لأبي جعفر المنصور في الرجولية والاستيلاء والصّرامة، والاجتراء

_ (1) هكذا في ك؛ والكلام متصل في ج؛ وفي ط بياض؛ وفي ق: وقال في المطمح. (2) ك: لما ألفى ... أرهف. (3) ط: عصية. (4) ك: قطيعته.

على الكبائر والقساوة، وأنّ أم كل واحد منهما بربرية. وكان الداخل يقعد للعامة، ويسمع منهم، وينظر بنفسه فيما بينهم، ويتوصل إليه من أراده من الناس، فيصل الضعيف منهم إلى رفع ظلامته إليه دون مشقة، وكان من عادته أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه، ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه. وفي كتاب ابن زيدون (1) أنّه كان أصهب، خفيف العارضين، بوجهه خالٌ، طويل القامة، نحيف الجسم، له ضفيرتان، أعور أخشم؛ والأخشم: الذي لا يشم، وكان يلقب بصقر قريش لكونه تغرّب وقطع البر والبحر، وأقام ملكاً قد أدبر وحده. ولمّا ذكر الحجاري أنّه أعور قال: ما أنشد فيه إلاّ قول امرئ القيس (2) : لكن عوير وفى بذمّته ... لا عورٌ شانه ولا قصر وقال ابن خلدون (3) : وفي " سنة ست وأربعين سار العلاء بن مغيث اليحصبي من إفريقية إلى الأندلس، ونزل بباجة الأندلس داعياً لأبي جعفر المنصور، واجتمع إليه خلق، فسار عبد الرحمن إليه ولقيه بنواحي إشبيلية، فقاتله أيّاماً، ثمّ انهزم العلاء، وقتل في سبعة آلاف من أصحابه، وبعث عبد الرحمن برؤوس كثير منهم إلى القيروان ومكّة، فألقيت في أسواقها سرّاً، ومعها اللواء الأسود، وكتاب المنصور للعلاء (4) "، فارتاع المنصور لذلك وقال: ما هذا إلا شيطان، والحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر، أو كلاماً هذا معناه، وقد مرّ ذكر ذلك.

_ (1) هو كتاب " التبيين في خلفاء بني أمية بالأندلس " لأبي الوليد ابن زيدون (ولعله لابنه أبي بكر) جعله على مثال " كتاب التعيين في خلفاء المشرق " للمسعودي، ذكره ابن سعيد في تذييله على رسالة ابن حزم في فضل الأندلس. (2) ديوان امرئ القيس: 133 وعوير هو العوير بن شجنة من بني عوف، مدحه بالوفاء. (3) تاريخ ابن خلدون 4: 122 وانظر ابن عذاري 2: 77 وابن القوطية: 57. (4) هنا ينتهي النقل عن ابن خلدون.

وكثرت ثورة رؤساء العرب بالأندلس على عبد الرحمن الداخل، ونافسوه ملكه، ولقي منهم خطوباً عظيمة، وكانت العاقبة له، واستراب في آخر أمره بالعرب، لكثرة من قام عليه منهم، فرجع إلى اصطناع القبائل من سواهم، واتخاذ الموالي، ثم غزا بلاد الإفرنج والبشكنس ومن وراءهم، ورجع بالظّفر، وكان في نسته أن يجدّد دولة بني مروان بالمشرق، فمات دون ذلك الأمل، وكانت مدة ملكه ثلاثاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر، إذ دخل الأندلس سنة ثمان وثلاثين ومائة، ومات سنة اثنتين وسبعين، وقيل: إحدى وسبعين ومائة، في خلافة الرشيد، وأمّه أم ولد بربرية اسمها راح، ومولده سنة ثلاث عشرة ومائة، بدير حنا من أرض دمشق، وقيل: بالعلياء من تدمر، ومات أبوه في أيام أبيه هشام سنة ثماني عشرة عن إحدى وعشرين سنة، وكفله وإخوته جدّهم هشام، ووهب لعبد الرحمن هذا جميع الأخماس التي اجتمعت للخلفاء بالأندلس، وأقطعه إيّاها، ووجّه لحيازتها من الشام سعيد بن أبي ليلى، وقيل: إنّه لما قصد المغرب من فلسطين خرج معه أربعة: بدر مولى أبيه، وأبو شجاع، وزياد، وعمرو، وقيل: إن بدراً لحقه ولم يخرج معه، فالله أعلم، وخلف من الولد عشرين، ومنهم أحد عشر رجلاً وتسع إناث. وحكى غير واحد أنّه لما هرب من الشام إلى إفريقية قاصداً الأندلس نزل بمغيلة، فصار بها عند شيخ من رؤساء البربر يدعى وانسوس، ويكنى أبا قرّة، فاستتر عنده وقتاً، ولحق به بدر مولى أبيه بجوهرٍ وذهبٍ أنفذته أخته إليه، فلمّا دخل الأندلس واستتبّ أمره به سار إليه أبو قرة وانسوس البربري، فأحسن إليه وحظي عنده وأكرم زوجته تكفات البربرية التي خبأته تحت ثيابها عندما فتشت رسل ابن حبيب بيتها عنه، فقال لها عبد الرحمن مداعباً حين استظلت بظلّه في الأندلس: لقد عذبتني بريح إبطيك يا تكفات على ما كان بي من الخوف، وسعطتني (1) بأنتن من ريح الجيف، فكان جوابها له مسرعة: بل ذلك

_ (1) ك: وسطعتني.

كان والله يا سيدي منك خرج ولم تشعر به من فرط فزعك، فاستظرف جوابها، وأغضى عن مواجهتها بمثل ذلك، وهذا من آفات المزاح. ومن محاسنه أنّه أدار السور بقرطبة، رحمه الله تعالى. [هشام بن عبد الرحمن] وتولى الملك بعده ابنه هشام بعهد منه إليه، وأمّه أم ولد اسمها حلل (1) ، وأفضى إليه الملك وهو بماردة والٍ عليها، وكان أبوه يوليه في صباه ويرشحه للأمر، وكان الداخل كثيراً ما يسأل عن ابنيه سليمان وهشام، فيذكر له أن هشاماً إذا حضر مجلساً امتلأ أدباً وتاريخاً وذكراً لأمور الحرب ومواقف الأبطال، وما أشبه ذلك، وإذا حضر سليمان مجلساً امتلأ سخفاً وهذياناً، فيكبر هشام في عينه بمقدار ما يصغر سليمان (2) ، وقال يوماً لهشام: لمن هذا الشعر: وتعرف فيه من أبيه شمائلاً ... ومن خاله أو من يزيد ومن حجر سماحة ذا، وبرّ ذا، ووفاء ذا، ... ونائل ذا، إذا صحا وإذا سكر فقال له: يا سيدي لامرئ القيس ملك كندة، وكأنّه قاله في الأمير أعزّه الله؛ فضمّه إليه استحساناً بما سمع منه، وأمر له بإحسان كثير، وزاد في عينه. ثم قال لسليمان على انفراد: لمن هذا الشعر؟ وأنشده البيتين، فقال: لعلهما لأحد أجلاف العرب، أما لي شغل غير حفظ أقوال بعض الأعراب (3) ؟ فأطرق عبد الرحمن، وعلم قدر ما بين الاثنين من المزية. ولمّا ولي هشام (4) أشخص المنجم المعروف بالضبي من وطنه الجزيرة الخضراء

_ (1) ابن عذاري: جمال؛ والحميدي: حوراء. (2) انظر الحلة السيراء 1: 42. (3) ط: أقوال بغضاء العرب. (4) ابن القوطية: 64 والمقتطفات (الورقة: 82) .

إلى قرطبة، وكان في علم النجوم والمعرفة بالحركات العلوية بطليموس زمانه حذقاً وإصابة، فلمّا أتاه خلا به وقال له: يا ضبي، لست أشك أنّه قد عناك من أمرنا إذ بلغك ما لم يدّع تجديد (1) النظر فيه، فأنشدك الله إلا ما نبأتنا بم اظهر لك فيه، فلجلج وقال: أعفني أيها الأمير، فإنّي ألممت به، ولم أحقّق النظر فيه لجلالته في نفسي، فقلا له: قد أجّلتك لذلك، فتفرّغ للنظر فيما بقي عليك منه، ثمّ أحضره بعد أيّام، فقال: إن الذي سألتك عنه جدّ منّي، مع أنّي والله ما أثق بحقيقته، إذ كان من غيب الله الذي استأثر به، ولكنّي أحبّ أن أسمع ما عندك فيه، فالنفس طلعة، وألزمه الصّلة أو العقوبة، فقال: اعلم أيها الأمير أنّه (2) سوف يستقر ملكك، سعيداً جدّك، قاهراً لمن عاداك، إلا أن مدّتك فيه فيما دل عليه النظر تكون ثمانية أعوام أو نحوها، فأطرق ساعة ثمّ رفع رأسه وقال: يا ضبي ما أخوفني أن يكون النذير كلّمني بلسانك، والله لو أن هذه المدّة كانت في سجدة لله تغالى لقلّت طاعةً له، ووصله وخلع عليه، وزهد في الدنيا، والتزم أفعال البرّ (3) . ومن حكاياته في الجود (4) أنّه كان قاعداً لراحته في عليّة على النهر في حياة والده، فنظر إلى رجل من قدماء صنائعه من أهل جيّان قد أقبل يوضع السير في الهاجرة، فأنكر ذلك، وقدّر شرّاً وقع به من قبل أخيه سليمان، وكان والياً على جيّان، فأمر بإدخاله عليه، فقال له: مهيم يا كناني، فلأمر ما جئت، وما أحسبك إلا مزعجاً لشيء دهمك (5) ، فقال: نعم يا سيدي، قتل رجل من قومي رجلاً خطأ، فحملت الدية على العاقلة، فأخذ بها من كنانة عامة، وحمل (6)

_ (1) ك: لم ندع تحديد. (2) أنه: سقطت من ق ط ج. (3) ك: ولزم أفعال الخير والبر. (4) أخبار مجموعة: 121 - 124، وابن عذاري 2: 99 (67 ط. ليدن) . (5) في ط بياض موضع " مهيم " و " جئت " وفي أخبار مجموعة: ما خبرك يا كناني، فلا أحسبك إلا قد همك أمر. (6) أخبار مجموعة وابن عذاري: وحيف.

عليّ من بينهم خاصّة، وقصدني أخوك بالاعتداء إذ عرف مكاني منك، فمد هشام يده إلى جارية كانت وراء الستر، وقطع قلادة عقد نفيس كان في نحرها، وقال له: دونك هذا العقد يا كناني، وشراؤه عليّ ثلاثة آلاف دينار، فلا تخدعنّ عنه، وبعه، وأدّ عن نفسك وعن قومك، ولا تمكن الرجل من اهتضامك، فقال: يا سيدي، لم آتك مستجدياً ولا لضيق المال عمّا حملته، ولكنّي لما اعتمدت بظلم صراح أحببت أن يظهر عليّ عزّ نصرك، وأثر ذبّك وامتعاضك (1) ، فأتمجّد بذلك عند من يحسدني على الانتماء إليك، فقال هشام: فما وجه ذلك؟ فقال: أن تكتب إلى أخيك في الإمساك عنّي، والقيام بذّمتك لي، فقال: أمسك العقد، وركب من حينه إلى والده الداخل، واستأذن عليه في وقت أنكره، فانزعج، وقال: ما أتى بأبي الوليد في هذا الوقت إلاّ أمر مقلق، أئذنوا له، فلمّا دخل سلّم عليه، ومثل قائماً بين يديه، فقال له: اجلس يا هشام، فقال: أصلح الله الأمير سيدي، وكيف جلوسي بهمّ وذل مزعج، وحقّ لمن قام مقامي أن لا يجلس إلا مطمئنّاً، ولن يقعدني إلا طيب نفسي بإسعاف الأمير لحاجتي، وإلا رجعت على عقبي، فقال له: حاش لك من انقلابك خائباً، فاقعد مجاباً مشفّعاً، فجلس، فقال له أبوه: فما الحدث المقلق؟ فأعلمه، فأم وحمل الدية عنه وعن عشيرته من بيت المال، فسرّ هشام وأطنب في الشكر، وكتب الأمير إلى ولده سليمان في ترك التعرض لهذا الكناني. ولما دخل الكناني لوداع هشام قال له: يا سيدي قد تجاوزت بك حدّ الأمنية، وبلغت غاية النصر، وقد أغنى الله عن العقد المبذول بين يدي العناية الكريمة، فتعيده إلى صاحبته، فأبى من ذلك، وقال: لا سبيل إلى رجوعه إلينا. وكان هشام يذهب بسيرته مذهب عمر بن عبد العزيز، وكان يبعث بقوم

_ (1) أخبار مجموعة: وأثر عنايتك.

من ثقاته إلى الكور (1) فيسألون الناس عن سير عمّاله، ويخبرونه بحقائقها، فإذا انتهى إليه حيف من أحدهم أوقع به وأسقطه وأنصف منه، ولم يستعمله بعد. ولمّا وصفه زياد بن عبد الرحمن لمالك بن أنس (2) قال: ليت أن الله تعالى زين موسمنا بمثل هذا (3) . وفي أيامه فتحت أربونة الشهيرة (4) ، واشترط على المعاهدين من أهل جليقية من صعاب شروطه انتقال عدد من أحمال التراب من سور أربونة المفتتحة يحملونها إلى باب قصره بقرطبة، وبنى منه المسجد الذي قدّام باب الجنان، وفضلت منه فضلة بقيت مكوّمة. وقاسى مع المخالفين له من أهل بيته وغيرهم حروباً، ثم كانت الدائرة له. وقصد إلى بلاد الحرب غازياً، وقصد ألبة والقلاع، فلقي العدوّ وظفر بهم، وفتح الله عليه سنة خمس وسبعين (5) . وبعث العساكر إلى جليقية مع يوسف بن بخت (6) فلقي ملكها برمند (7) ، وهزمه، وأثخن في العدوّ. وفي سنة ست وسبعين (8) بعث وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث لغزاة العدوّ، فبلغ ألبة والقلاع، فأثخن في نواحيها، ثمّ بعثه في العساكر سنة سبع وسبعين إلى أربونة وجرندة (9) فأثخن فيها، ووطئ أرض برطانة، وتوغل

_ (1) ابن عذاري 2: 98 (66 ط. ليدن) . (2) أخبار مجموعة: 120 وابن القوطية: 65. (3) ق: إن الله تعالى زين ... وأخبار مجموعة: وددت أن الله؛ وسقطت " ليت أن " أو ما يقابلها من ط. وفي ك: نسأل الله أن يزين.. (4) كان ذلك عام 177. (5) في ابن عذاري: سنة 176. (6) هكذا في البيان المغرب: 95 وفي ط ق: بن نجبة؛ وفي ك ج: ابن نجية. (7) ك: ابن منده، اقرأ " ابرمنده " وفي البيان: برمود (Vermudo) . (8) انظر ابن عذاري 2: 95 (64 ط. ليدن) . (9) جرندة: (Gerona) إلى الشمال الشرقي من برشلونة.

عبد الملك في بلاد الكفر وهزمهم، ثم بعث العساكر مع عبد الكريم بن عبد الواحد إلى ألبة والقلاع سنة ثمان وسبعين، ومع أخيه عبد الملك بن عبد الواحد إلى بلاد جليقية، فانتهى إلى استرقة (1) ، فجمع له ملك الجلالقة واستمد بملك البشكنس، ثم خام عن اللقاء، ورجع أدراجه، واتبعه عبد الملك، وكان هشام قد بعث الجيوش من ناحية أخرى، فالتقوا بعبد الملك، وأثخنوا في البلاد، واعترضتهم عساكر الفرنج فنالوا منهم بعض الشيء، ثم خرجوا سالمين ظافرين. ومن محاسنه أنّه جدّد القنطرة التي يضرب بها المثل بقرطبة كما سبق، وكان بناها السّمح الخولاني عامل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فأحكم هشام بناءها إلى الغاية، وقال يوماً لأحد وزرائه (2) : ما يقول أهل قرطبة؟ فقال: يقولون: ما بناها الأمير إلا ليمضي عليها إلى صيده وقنصه، فآلى هشام على نفسه أن لا يسلك عليها، فلم يمرّ عليها بعد، ووفى بما حلف عليه. ومن محسنه (3) أيضاً إكمال بناء الجامع بقرطبة، وكان أبوه شرع فيه؛ ومن محاسنه أنّه أخرج المصدّق لأخذ الزكاة على الكتاب والسنّة، رحمه الله. ثمّ توفّي سنة ثمانين ومائة، لسبع سنين وتسعة أشهر من إمارته، وقيل: لثمان - وكان من أهل الخير والصلاح، كثير الغزو والجهاد - وعمره أربعون سنة وأربعة أشهر، وولد في شوال سنة 139 (4) . [الحكم بن هشام] وولي بعده ابنه الحكم (5) بعهدٍ منه إليه، فاستكثر من المماليك، وارتبط

_ (1) استرقة أو اشترقة: (Astorga) من منطقة جليقية إلى الغرب في اتجاه الشمال من مدينة لبلة (Niebla) . (2) ابن عذاري 2: 6 (66 ط. ليدن) . (3) هذا النص متأخر في أصول النفح عن قوله: " ثم توفي ... الخ " فاصل خبر الوفاة إلى جزئين، يبدأ الثاني منهما بقوله " وعمره ... " ولهذا الاضطراب أبحت لنفسي إعادة ترتيبه. (4) في الأصول: 137. (5) ابن خلدون 4: 125.

الخيل، واستفحل ملكه، وباشر الأمور بنفسه، وفي خلال فتنة كانت بينه وبين عميه اغتنم العدوّ الكافر الفرصة في بلاد المسلمين، وقصدوا (1) برشلونة فملكوها سنة خمس وثمانين، وتأخرت عساكر المسلمين إلى ما دونها، وبعث الحكم العساكر مع الحاجب عبد الكريم بن مغيث (2) إلى بلاد الجلالقة، فأثخنوا فيها، وخالفهم العدو إلى المضايق، فرجع على التعبية، وظفر بهم، وخرج إلى بلاد الإسلام ظافراً. وكانت له الواقعة الشهيرة مع أهل الرّبض (3) من قرطبة لأنّه في صدر ولايته كان قد انهمك في لذّاته، فاجتمع أهل العلم والورع بقرطبة، مثل يحيى بن يحيى الليثي (4) صاحب مالك وأحد رواة الموطّإ عنه وطالوت الفقيه (5) وغيرهما، فثاروا به، وخلعوه، وبايعوا بعض قرابته، وكانوا بالرّبض الغربيّ من قرطبة، وكان محلّةً متصلةً (6) بقصره، فقاتلهم الحكم فغلبهم وافترقوا وهدم دورهم ومساجدهم، ولحقوا بفاس من أرض العدوة، وبالإسكندرية من أرض المشرق، ونزل بها جمع منهم، ثم ثاروا بها، فزحف إليهم عبد الله بن طاهر صاحب مصر للمأمون بن الرشيد، وغلبهم، وأجازهم إلى جزيرة أقريطش، فلم يزالوا بها إلى أن ملكها الإفرنج من أيديهم بعد مدّة.

_ (1) في الأصول: وقصد. (2) الصواب: عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث. (3) انظر تفصيل الخبر عن هيج أهل الربض أولاً سنة 189 وثانياً سنة 202 في ابن عذاري 2: 106، 113 وابن القوطية: 72 والحلة السيراء 1: 44 وأوجز ابن خلدون الخبر عن وقعتهم 4: 126. (4) يحيى بن يحيى الليثي: مصمودي سمع مالك وعاد إلى الأندلس بعلم كثير وأصبح يفتي فيها برأي مالك (توفي سنة 233 أو 234) راجع ترجمته في ابن الفرضي 2: 176 والجذوة: 359 وبغية الملتمس رقم 1497 وابن خلكان 5: 194؛ وسيترجم له المقري في الراحلين إلى المشرق رقم: 2. (5) راجع ترجمة طالوت بن عبد الجبار في الذيل والتكملة 4: 149 وابن القوطية: 75 - 77 والتكملة: 345. (6) في الأصول: محله متصلاص، والتصويب عن ابن خلدون.

وكانت في أيّام الحكم حروب وفتن مع الثوّار المخالفين له من أهل طليطلة وغيرهم. وفي سنة ثنتين وتسعين (1) جمع لذريق (2) بن قارله ملك الفرنج جموعه، وسار إلى حصار طرسونة (3) ، فبعث الحكم ابنه عبد الرحمن في العساكر، فهزمه، ففتح الله على المسلمين، وعاد ظافراً. ولمّا كثر عيث الفرنج في الثغور بسبب اشتغال الحكم بالخارجين عليه سار بنفسه إلى الفرنج سنة ست وتسعين (4) ، فافتتح الغثور والحصون، وخرّب النواحي، وأثخن في القتل والسبي والنهب، وعاد إلى قرطبة ظافراً. وفي سنة مائتين (5) بعث العساكر مع ابن مغيث إلى بلاد الفرنج فخرب وهدم عدّة حصون، وأقبل عليه أليط (6) ملك الجلالقة وفي جموع عظيمة، وتنازلوا على نهر، واقتتلوا عليه أيّاماً، ونال المسلمون منهم أعظم النّيل، وأقاموا كذلك ثلاث عشرة ليلة، ثم كثرت الأمطار، ومدّ النهر، وقفل المسلمون ظافرين ظاهرين. وهو أوّل من جند الأجناد، واتخذ العدّة، وكان أفحل (7) بني أميّة بالأندلس، وأشدّهم إقداماً ونجدة، وكان يشبّه بأبي جعفر المنصور من خلفاء بني العبّاس في شدّة الملك وتوطيد الدولة وقمع الأعداء، وكان يؤثر الفقيه زياد بن عبد الرحمن (8) ، وحضر يوماً عنده، وقد غضب فيه على خادم له لإيصاله

_ (1) ابن عذاري 2: 108 وتاريخ الحملة 193. (2) هكذا في الأصول ودوزي ولعل الأصوب لذويق - بالواو - وهو تعريب (Ludovico) . (3) البيان المغرب: طرطوشة. (4) أثبت دوزي سنة 194 ولا خلاف فإن الغزو اتصل بين عامي 194 - 196 كما ورد عند ابن عذاري. (5) ابن عذاري 2: 112. (6) أليط: وردت في الأصول، ولم يرد الاسم في ابن عذاري وأسقطه دوزي. (7) هذه العبارة إلى قوله " وقمع الأعداء " في المغرب 1: 38. (8) زياد بن عبد الرحمن الملقب بشبطون (199 و 204) قيل إنه أول من أدخل الأندلس فقه مالك وكانوا قبله على مذهب الأوزاعي (الجذوة: 203) .

إليه كتاباً كره وصوله، فأمر بقطع يده، فقال له زياد: أصلح الله الأمير، فإن مالك بن أنس حدّثني في خبر رفعه أن " من كظم غيظاً يقدر على إنفاذه ملأه الله تعالى أمناً وإيماناً يوم القيامة "، فأمر أن يمسك عن الخادم، ويعفى عنه، فسكن غضبه، وقال: آلله إن مالكاً حدّثك بهذا؟ فقال زياد: ألله إن مالكاً حدثني بهذا (1) . وكانت المجاعة الشديدة سنة سبع وتسعين ومائة (2) ، فأكثر فيها مواساة أهل الحاجات، وفي ذلك يقول عباس بن ناصح الجزيري فيه (3) : نكد الزّمان فآمنت أيّامه ... من أن يكون بعصره عسر ظلع الزّمان بأزمة فجلا له ... تلك الكريهة جوده الغمر وكان نقش خاتمه " بالله يثق الحكم ويعتصم ". وذكور ولده عشرون، وإناثهم عشرون، وأمّه جارية اسمها زخرف. وكان أسمر، طوالاً، وأشمّ، نحيفاً. ومدّة ملكه ست وعشرون سنة، سامحه الله. وقال غير واحد: إنّه أول من جعل للملك بأرض الأندلس أبّهة، واستعدّ بالمماليك حتى بلغوا خمسة آلاف: منهم ثلاثة آلاف فارس، وألفا راجل. ثمّ توفّي الحكم بن هشام آخر سنة ست ومائتين لسبع وعشرين سنة من ولايته، ومولده سنة 154. وقال ابن خلدون وغير واحد (4) : إنّه أوّل من جنّد بالأندلس الأجناد

_ (1) انظر المقتطفات (الورقة: 83) . (2) يذكر ابن عذاري أنها كانت سنة 199. (3) عباس بن ناصح الجزيري، ثقفي بالولاء، رحل إلى المشرق غير مرة، وكان شاعراً كثير المدح للأمير الحكم، ثم ولي قضاء الجزيرة الخضراء وشذونة (راجع ترجمته في ابن الفرضي 1: 340 وطبقات الزبيدي: 284 والمغرب 1: 324 وبغية الوعاة 2: 28) . (4) انظر ابن خلدون 4: 127 والمغرب 1: 39.

والمرتزقة، وجمع الأسلحة والعدد، واستكثر من الخدم والحواشي والحشم، وارتبط الخيول على بابه، واتخذ المماليك، وكان يسميهم الخرس لعجمتهم، وحكى في عدّتهم ما تقدم، ثم قال: وكانت له عيون يطالعونه بأحوال الناس، وكان يباشر الأمور بنفسه، ويقرب الفقهاء والعلماء والصالحين، وهو الذي وطّأ الملك لعقبه بالأندلس، انتهى. وكان له - فيما حكى غير واحد - ألفا فرس مرتبطة على شاطئ النهر بقبليّ قصره يجمعها داران. وهو القائل لما قتل أهل الرّبض وهدم ديارهم وحرثها (1) : رأبت صدوع الأرض بالسيف راقعا ... وقدماً لأمت الشّعب مذ كنت يافعا فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرةٌ ... أبادرها مستنضي السيف دارعا تنبّيك أني لم أكن في قراعهم ... بوانٍ، وقدماً كنت بالسيف قارعا وهل زدت أن وفّيتهم صاع قرضهم ... فوافوا منايا قدّرت ومصارعا فهذي بلادي، إنّني قد تركتها ... مهاداً، ولم أترك عليها منازعا وقال ابن حزم في حقّه (2) : إنّه كان من المجاهرين بالمعاصي، السافكين الدماء، ولذلك قام عليه الفقهاء والصلحاء. وقال غيره (3) إنّه تنصّل أخيراً، وتاب، سامحه الله. ومن نظمه قوله متغزلاً (4) : قضبٌ من البان ماست فوق كثبان ... ولّين عنّي وقد أزمعن هجراني

_ (1) الأبيات في ابن عذاري 2: 107 وأخبار مجموعة: 132 والحلة 1: 47 ومخطوط الرباط: 107 والمغرب 1: 44. (2) ورد هذا في نقط العروس: 73 (نشر الدكتور ضيف) وانظر المغرب 1: 44 ومخطوط الرباط: 106. (3) ك: غير واحد. (4) انظر الحلة 1: 50 ومخطوط الرباط: 106.

ومنها: من لي بمقتضبات الرّوح من بدني ... يغصبنني في الهوى عزّي وسلطاني وقيل: إنّه كان يمسك أولاد الناس ويخصيهم، ونقلت عنه أمور، ولعلّه تاب منها كما قدّمنا، والله أعلم بحقيقة أمره. ومن بديع أخبار الحكم (1) أن العباس الشاعر وتوجّه إلى الثّغر، فلمّا نزل بوادي الحجارة سمع امرأة تقول: واغوثاه بك يا حكم، لقد أهملتنا حتى كلب العدوّ علينا، فأيّمنا وأيتمنا، فسألها عن شأنها، فقالت: كنت مقبلة من البادية في رفقة، فخرجت علينا خيل عدو، فقتلت وأسرت، فصنع قصيدته التي أوّلها: تململت في وادي الحجارة مسهرا ... أراعي نجوماً ما يردن تغوّرا (2) إليك أبا العاصي نضيت مطيّتي ... تسير بهم سارياً ومهجّرا تدارك نساء العالمين بنصرة ... فإنّك أحرى أن تغيث وتنصرا فلمّا دخل عليه أنشده القصيدة، ووصف له خوف الثغر واستصراخ المرأة باسمه، فأنف ونادى في الحين بالجهاد والاستعداد، فخرج بعد ثلاث إلى وادي الحجارة ومعه الشاعر، وسأل عن الخيل التي أغارت من أيّ أرض العدوّ كانت، فأعلم بذلك، فغزا بتلك الناحية وأثخن فيها، وفتح الحصون، وخرب الديار، وقتل عدداً كثيراً، وجاء إلى وادي الحجارة فأمر بإحضار المرأة وجميع من أسر له أحد في تلك البلاد، فأحضر، فأمر بضرب رقاب الأسرى بحضرتها، وقال للعباس: سلها: هل أغاثها الحكم؟ فقالت المرأة، وكانت نبيلة: والله لقد شفى الصدور، وأنكى العدوّ، وأغاث الملهوف، فأغاثه الله، وأعزّ نصره؛

_ (1) ورد هذا الخبر نصاً في مخطوط الرباط 107 - 108 وفي المقتطفات الورقة: 83. (2) في الأصول ودوزي: تغيرا.

فارتاح لقولها، وبدا السرور في وجهه وقال: ألم تر يا عبّاس أنّي أجبتها ... على البعد أقتاد الخميس المظفّرا فأدركت أوطاراً وبرّدت غلّةً ... ونفّست مكروباً وأغنيت معسرا فقال عبّاس: نعم، جزاك الله خيراً عن المسلمين، وقبّل يده. وممّا عيب به أنّه قتل الفقيه أبا زكريا يحيى بن مضر القيسي، وكان قدوة في الدين والورع، سمع من سفيان ومالك بن أنس، وروى عنه مالك وقال: حدّثنا يحيى بن مضر عن سفيان الثوري أن الطّلح المنضود هو الموز، وكان قتل المذكور مع جماعة من العلماء وغيرهم. [عبد الرحمن بن الحكم] وقام بأمره (1) من بعده ابنه عبد الرحمن، بعهد منه إليه، ثم لأخيه المغيرة بعده، فغزا عبد الرحمن لأول ولايته إلى جليقية وأبعد، وأطال المغيب، وأثخن في أمم النصرانية هنالك، ورجع. وقدم عليه سنة ست ومائتين زرياب المغني من العراق (2) ، وهو مولى المهدي ومتعلم إبراهيم الموصلي، واسمع علي بن نافع، فركب بنفسه لتلقّيه، على ما حكاه ابن خلدون، وبالغ في إكرامه، وأقام عنده بخير حال، وأورث صناعة الغناء بالأندلس وخلّف أولاداً فخلفه كبيرهم عبد الرحمن في صناعته وحظوته. وفي سنة ثمان (3) أغزى حاجبه عبد الكريم بن عبد الواحد إلى ألبة

_ (1) سياق الأخبار التاريخية عن عهد عبد الرحمن بن الحكم جار وفق ما أورده ابن خلدون 4: 127 - 130 مع حذف، ويظل النقل مستمراً حتى قوله " واحتجب عن العامة ". (2) ستأتي أخبار زرياب في موضعها مفصلة. (3) ابن عذاري 2: 123، قلت: وسياق تاريخ المعارك من بعد يختلف عما أورده ابن خلدون.

والقلاع، فخرّب كثيراً من البلاد وانتسفها، وفتح كثيراً من حصونهم، وصالح بعضها على الجزية وإطلاق أسرى المسلمين، وانصرف ظافراً. وفي سنة أربع وعشرين بعث قريبه عبيد الله بن البلنسي في العساكر لغزو ألبة والقلاع، فسار ولقي العدوّ فهزمهم وأكثر القتل والسبي، ثم خرج لذريق ملك الجلالقة، وأغار على مدينة سالم (1) بالثغر، فسار إليه فرتون بن موسى، وقاتله، فهزمه وأكثر القتل والسبي في العدو والأسر، ثم سار إلى الحصن الذي بناه أهل ألبة بالثغر نكايةً للمسلمين، فافتتحه وهدمه، ثم سار عبد الرحمن في الجيوش إلى بلاد جليقية، فدوّخها وافتتح عدّة حصون منها، وجال في أرضهم، ورجع بعد طول المقام بالسبي والغنائم. وفي سنة ست وعشرين بعث عبد الرحمن العساكر إلى أرض الفرنجة، وانتهوا إلى أرض بريطانية، وكان على مقدمة المسلمين موسى بن موسى عامل تطيلة (2) ، ولقيهم العدوّ، فصبر حتى هزم الله عدوّهم، وكان لموسى في هذه الغزاة مقام محمود. وفي سنة تسع وعشرين بعث ابنه محمداً بالعساكر، وتقدم إلى بنبلونة (3) ، فأوقع بالمشركين عندها، وقتل غرسية صاحبها، وهو من أكبر ملوك النصارى. وفي أيامه ظهر المجوس (4) ، ودخلوا إشبيلية، فأرسل إليهم عبد الرحمن العساكر مع القوّاد من قرطبة، فنزل المجوس من مراكبهم، وقاتلهم المسلمون،

_ (1) مدينة سالم: (Medinacelli) كانت من أعظم مدن الثغر الأوسط وبينها وبين وادي الحجارة خمسون ميلاً، وكانت أولاً عاصمة هذا الثغر ثم حلت محلها طليطلة. (2) تطيلة: (Tudeela) من مدن الثغر الأعلى إلى الشمال الغربي من سرقسطة. (3) بنبلونة: (Pamplona) عند المداخل الغربية من جبال البرت، وتقع في سهل ريوخه (Rioja) وهي من أوائل المناطق التي استقلت عن الحكم الإسلامي. (4) المجوس أو الاردمانيون (Nordmani) (النورمان Norsemen) كانوا يغيرون على الأندلس من المنافذ النهرية؛ وقد ساهم العرب المجوس لأنهم كانوا يشعلون النيران كثيراً فظن العرب أنهم يعبدونها؛ انظر ابن عذاري 2: 130 في غارتهم سنة 230هـ؟.

فهزموهم بعد مقام صعب، ثم جاءت العساكر مدداً من قرطبة فقاتلهم المجوس، فهزمهم المسلمون وغنموا بعض مراكبهم وأحرقوها، ورحل المجوس إلى شذونة فأقاموا عليها يومين، وغنموا بعض الشيء، ووصلت مراكب عبد الرحمن إلى إشبيلية فأقلع المجوس إلى لبلة، وأغاروا وسبوا ثم إلى باجة ثم أشبونة، ثم انقطع خبرهم حين أقلعوا من أشبونة، وسكنت البلاد، وذلك سنة ثلاثين، وتقدّم عبد الرحمن بإصلاح ما خربوه من البلاد، وأكثف حاميتها. وفي سنة إحدى وثلاثين (1) بعث العساكر إلى جليقية فدوّخوها، وحاصروا مدينة ليون ورموها بالمجانيق، وهرب أهلها عنها وتركوها، فغنم المسلمون ما فيها وأحرقوها، وأرادوا هدم سورها فلم يقدروا عليه، لأن عرضه كان سبعة عشر ذراعاً، فثلموا فيه ثلمة ورجعوا. ثم أغزى عبد الرحمن حاجبه عبد الكريم في العساكر إلى بلاد برشلونة، فعاث في نواحيها وأجاز الدروب التي تسمّى البرت إلى بلاد الفرنجة فدوّخها قتلاً وأسراً وسبياً، وحاصر مدينتها العظمى جرندة، وعاث في نواحيها، وقفل. وقد كان ملك القسطنطينية من ورائهم توفلس (2) بعث إلى الأمير عبد الرحمن سنة خمس وعشرين بهدية يطلب مواصلته ويرغّبه في ملك سلفه بالمشرق من أجل ما ضيق به المأمون والمعتصم حتى إنّه ذكرهما له في كتابه له وعبّر عنهما بابني مراجل وماردة، فكافأه الأمير عبد الرحمن عن الهدية، وبعث إليه يحيى الغزال (3) من كبار أهل الدولة، وكان مشهوراً في الشعر والحكمة، فأحكم

_ (1) ابن عذاري 2: 132. (2) توفلس: (Theophilus) . (3) سيترجم له المقري؛ وهنا يذكر المقري نقلاً عن ابن خلدون خبر سفارته إلى القسطنطينية، وأطنب ابن دحية في تفصيل سفارته إلى بلاد المجوس، ولعل تعاقب النصين هو منشأ الوهم حول هذه السفارة. راجع المطرب: 125 - 141 (وانظر ترجمة الغزال في الجذوة: 351، وبغية الملتمس رقم: 1467، والمغرب 2: 57 ودراستي عنه في تاريخ الأدب الأندلسي: 111) ، وقد كتب عن سفارته عدة دراسات آخرها كتاب: (The poet And The Spae - Wife، by W. E. D. Allen؛ London، 1960) .

بينهما الوصلة، وارتفع لعبد الرحمن ذكر عند منازعيه من بني العباس. ويعرف الأمير عبد الرحمن بالأوسط، لأن الأول عبد الرحمن الداخل، والثالث عبد الرحمن الناصر. ثم توفّي عبد الرحمن الأوسط سنة ثمان وثلاثين ومائتين، بربيع الآخر، لإحدى وثلاثين سنة من إمارته؛ ومولده بطليطلة في شعبان سنة ست وسبعين ومائة. وكان عالماً بعلوم الشريعة والفلسفة، وكانت أيّامه أيّام هدوء وسكون، وكثرت الأموال عنده، واتخذ القصور والمتنزهات، وجلب إليها المياه من الجبال، وجعل لقصره مصنعاً اتخذه الناس شريعة، وأقام الجسور، وبنيت في أيّامه الجوامع بكور الأندلس، وزاد في جامع قرطبة رواقين، ومات قبل أن يستتمه (1) ، فأتمّه ابنه محمد بعده، وبنى بالأندلس جوامع كثيرة، ورتب رسوم المملكة، واحتجب عن العامّة. وعدد ولده مائة وخمسون من الذكور، وخمسون من الإناث (2) ، ونقش خاتمه عابد الرحمن بقضاء الله راض وفي ذلك قيل (3) : خاتمٌ للملك أضحى ... حكمه في الناس ماضي عابد الرحمن فيه ... بقضاء الله راضي

_ (1) قال ابن حيان في المقتبس (نسخة القرويين: 140) نقلاً عن الرازي: وزاد الأمير عبد الرحمن ابن الحكم الزيادة الأولى الظاهرة من قبلته للداخل إليه ... ؛ وقد كانت أبهاء المسجد تسعة أبهاء زاد عليها عبد الرحمن بهوين من كل جانبيه فكملها أحد عشر بهواً؛ وكان الشروع في هذه الزيادة سنة 234 ... وقال ابن القوطية: مات الأمير عبد الأمير عبد الرحمن وقد بقي عليه في هذه الزيادة بقايا يسيرة من تنجيد وزخرفة أتمها الأمير ابنه محمد الوالي في مكانه. (وانظر ابن القوطية: 84) . (2) ابن عذاري 2: 122 أن الذكور 45 والبنات 42 وجاء ابن سعيد (المغرب 1: 45) بأرقام أخرى نقلاً عن ان حزم. (3) انظر ابن عذاري 2: 122 ومخطوطة الرباط: 113.

وهو أول من أحدث هذا النقش، وبقي وراثة لمن بعده من ولده. قال ابن سعيد (1) : وفي أيّامه انتهى مال الجباية إلى ألف ألف دينار في السنة، وكان قبل لا يزيد على ستمائة ألف، وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ما يخالف هذا فليراجع، والله أعلم. ومن توقيعاته (2) : ومن لم يعرف وجه طلبه، فالحرمان أولى به. ومن شعر عبد الرحمن المذكور قوله: ولقد تعارض أوجهٌ لأوامر ... فيقودها التوفيق نحو صوابها والشيخ إن يحو النّهى بتجارب ... فشباب رأي القوم عند شبابها وفي زيادته في جامع قرطبة يقول ابن المثنى (3) رحمه الله تعالى: بنيت لله خير بيتٍ ... يخرس عن وصفه الأنام حجّ إليه بكل أوبٍ ... كأنّه المسجد الحرام كأنّ محرابه إذا ما ... حفّ به الركن والمقام وقال آخر (4) : بنى مسجداً لله لم يك مثله ... ولا مثله لله في الأرض مسجد سوى ما ابتنى الرحمن والمسجد الذي ... بناه نبيّ المسلمين محمّد له عمد حمر وخضر كأنّما ... تلوح يواقيت بها وزبرجد ألا يا أمين الله، لا زلت سالماً ... ولا زلت في كلّ الأمور تسدّد فيا ليتنا نفديك من كلّ حادث ... وأنّك للدّنيا وللدّين تخلد

_ (1) المغرب 1: 46. (2) المغرب 1: 46 وأخباره مجموعة: 139 والمقتبس (تحقيق مكي) : 89. (3) هو عثمان بن المثنى النحوي، هاجر إلى المشرق ولقي أبا تمام وروى عنه شعره (انظر طبقات الزبيدي: 288 وابن الفرضي 1: 346) وهذا الشعر لابن المثنى ورد في مخطوطة الرباط: 116. (4) مخطوطة الرباط: 116.

وكان كثير الميل للنساء، وولع بجاريته طروب (1) ، وكلف بها كلفاً شديداً، وهي التي بنى عليها الباب ببدر المال حين تجنّت عليه. وأعطاها حلياً قيمته مائة ألف دينار. فقيل له: إن مثل هذا لا ينبغي أن يخرج من خزانة الملك، فقال: إن لابسه أنفس منه خطراً، وأرفع قدراً، وأكرم جوهراً، وأشرف عنصراً، وفيها يقول: إذا ما بدت لي شمس النّها ... ر طالعةً ذكّرتني طروبا أنا ابن الميامين من غالبٍ ... أشبّ حروباً وأطفي حروبا وخرج غازياً إلى جليقية فطالت غيبته فكتب إليها: عداني عنك مزار العدا ... وقودي إليهم سهاماً مصيبا فكم قد تخطّيت من سبسبٍ ... ولاقيت بعد دروبٍ دروبا ألاقي بوجهي سموم الهجير ... إذ كاد منه الحصى أن يذوبا تدارك بي الله دين الهدى ... فأحييته وأمتّ الصليبا وسرت إلى الشّرك في جحفلٍ ... ملأت الحزون به والسّهوبا وساق بعض المؤرخين قصة طروب هذه بقوله: إن السلطان المذكور أغضبها فهجرته، وصدت عنه، وأبت أن تأتيه، ولزمت مقصورتها، فاشتد قلقه لهجرها، وضاق ذرعه من شوقها، وجهد أن يترضاها بكل وجه فأعياه ذلك، فأرسل من خصيانه من يكرهها على الوصول إليه، فأغلقت باب مجلسها في وجوههم، وآلت أن لا تخرج إليهم طائعة، ولو انتهى الأمر إلى القتل، فانصرفوا إليه وأعلموه بقولها، واستأذنوه في كسر الباب عليها، فنهاهم وأمرهم بسد الباب عليها من خارجه ببدر الدراهم، ففعلوا، وبنوا عليها بالبدر، وأقبل حتى وقف بالباب وكلّمها مسترضياً راغباً في المراجعة على أن لها جميع ما سد به الباب،

_ (1) راجع أخباره مع طروب وشعره فيها في المغرب 1: 46 وابن عذاري 2: 137 والحلة السيراء 1: 114 وابن القوطية 82 - 83 والمقتطفات (الورقة: 83 - 84) .

فأجابت وفتحت الباب، فانهالت البدر في بيتها فأكبّت على رجله تقبلها، وحازت المال، وكانت تبرم الأمور مع نصر الخصيّ فلا يردّ شيئاً ممّا تبرمه. وأحبّ أخرى اسمها مدثرة فأعتقها وتزوجها، وأخرى كذلك اسمها الشفاء، وأمّا جاريته قل فكانت أديبة، حسنة الحظ، راوية للشعر، حافظة للأخبار، عالمة بضروب الأدب. وكان مولعاً بالسماع، مؤثراً له على جميع لذّاته، وله أخبار كثيرة، رحمه الله. [محمد بن عبد الرحمن] ولمّا مات وليّ ابنه محمدٌ (1) ، فبعث لأوّل وليته عساكر مع موسى بن موسى صاحب تطيلة (2) ، فعاث في نواحي ألبة والقلاع، وفتح بعض حصونها، ورجع، وبعث عساكر أخرى إلى نواحي برشلونة وما وراءها، فعاثوا فيها وفتحوا حصوناً من برشلونة ورجعوا. ولما استمدّ أهل طليطلة المخالفون (3) من أهل بلاد الأمير محمد عليه بملكي جليقية والبشكنس لقيهم الأمي محمد على وادي سليطة (4) ، وقد أكمن لهم، فأوقع بهم، وبلغت عدّة القتلى من أهل طليطلة والمشركين عشرين ألفاً. وفي سنة خمس وأربعين ظهرت مراكب المجوس (5) ، وعاثوا في الأندلس،

_ (1) يتبع المقري في سياق الأحداث ونصها ما أورده ابن خلدون 4: 130 - 132. وقارن بما في المقتبس (تحقيق مكي) : 292 وما بعدها. (2) ك ق: طليطلة، وهو خطأ، والتصويب عن ابن خلدون وط. (3) ثار أهل طليطلة أول ما تولى الإمارة (238) فأخرج إليهم في العام التالي ابنه الحكم ثم خرج إليهم بنفسه في العام بعده فاستعانوا بصاحب جليقية (240) . انظر ابن عذاري وتفصيل الأخبار عن تمرد طليطلة في حكم الأمير محمد 2: 142 وما بعدها. (4) ابن خلدون وابن عذاري: وادي سليط (Auzalate) وهو نهير يصب في التاجه جنوبي طليطلة، وأثبتنا ما في الأصول. (5) انظر تفصيل هذا الغزو في المقتبس (تحقيق مكي) : 307 - 309.

فلقيهم مراكب الأمير محمد، فقاتلوهم وغنموا منهم مركبين، واستشهد جماعة من المسلمين. وفي سنة سبع وأربعين (1) أغزى محمد إلى نواحي بنبلونة وصاحبها حينئذٍ غرسية بن ونقه (2) ، وكان يظاهر أردون (3) بن أذفنش، فعاث في نواحي بنبلونة، ورجع وقد دوّخها وفتح كثيراً من حصونها، وأسر فرتون ابن صاحبها، فبقي أسيراً بقرطبة عشرين سنة. ثم بعث سنة إحدى وخمسين أخاه المنذر في العساكر إلى نواحي ألبة والقلاع فعاثوا فيها، وجمع لذريق للقائهم، فلقيهم وانهزم، وأثخن المسلمون في المشركين بالقتل والأسر، فكان فتحاً لا كفاء له. ثم غزا الأمير محمد بنفسه سنة إحدى وخمسين بلاد الجلالقة، فأثخن وخرب. وفي سنة ثلاث وستين أغزى الأمير محمد ابنه المنذر إلى دار الحرب، وفي السنة التي بعدها إلى بلاد بنبلونة فدوّخها ورجع. وفي سنى ثمان وستين أغزاه أيضاً إلى دار الحرب، فعاث في نواحيها وفتح حصوناً. وفي أيام الأمير محمد خربت ماردة وهدمت ولم يبق لها أثر. وذكر بعضهم أنّه رأى بالمشرق هذه الأبيات قبل أن تخرب ماردة بأعوام، ولم يعلم قائلها، وذلك سنى 254: ويلٌ لماردة التي مردت ... وتكبرت عن عدوة النهر كانت ترى لهم بها زهرٌ ... فخلت من الزهرات كالقفر فالويل ثم الويح حين غزا ... بجميعهم من صاحب الأمر

_ (1) ابن عذاري: وفي سنة 246. (2) (Garcia) ابن (Inigo) ؛ وفي ق ك ط ج: وبقة. (3) في الأصول أردن؛ والاسم (Ordano) .

ثمّ توفّي الأمير محمّد في شهر صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين، لخمس وثلاثين سنة من إمارته، ومولده سنة سبع ومائتين. [المنذر بن محمد] وولي بعده ابنه المنذر (1) ، ولم تطل مدّته، وأقام في الملك سنتين إلا نصف شهر، وتوفيّ منتصف صفر سنة خمس وسبعين ومائتين، وفيه قيل: بالمنذر بن محمّدٍ ... صلحت بلاد الأندلس [عبد الله بن محمد] ثمّ ولي أخوه عبد الله، قال ابن خلدون (2) : كان خراج الأندلس قبله ثلاثمائة ألف دينار: مائة ألف للجيوش، ومائة ألف للنفقة في النوائب وما يعرض، ومائة ألف ذخيرة ووفراً، فأنفق الوفر حين اضطربت عليه نواحي الأندلس بالثّوار والمتغلّبين في تلك السنين، وقلّ الخراج، انتهى. ومن نظم الأمير عبد الله قوله (3) : يا مهجة المشتاق ما أوجعك ... ويا أسير الحبّ ما أخشعك ويا رسول العين من لحظها ... بالردّ والتبليغ ما أسرعك تذهب بالسرّ فتأتي به ... في مجلس يخفى على من معك كم حاجةٍ أنجزت إبرازها ... تبارك الرحمن ما أطوعك

_ (1) أوجز المقري في أخبار هذا الأمير فراجع ابن خلدون 4: 132 والمغرب 1: 53 وابن القوطية: 119 وأخبار مجموعة: 149 ومخطوطة الرباط: 124. (2) تاريخ ابن خلدون 4: 133 وراجع المصادر السابقة في ولاية عبد الله وأخباره؛ وقد بقي جزء من المقتبس خاص بعهد هذا الأمير، نشره منشور أنطونية (باريس 1937) . (3) ابن عذاري 2: 232 والحلة 1: 121.

وهذه الأبيات عنوان فضله، وبراعة استهلال نبله. وكان الوزراء يطالعون بآرائهم الخليفة في بطاقة، فطالعه وزيره النّضر بن سلمة (1) برأيه في أمر في ورقة، فلمّا وقف عليها لم يعجبه ذلك الرأي، فكتب (2) : أنت يا نضر آبده ... ليس ترجى لفائده إنّما أنت عدّةٌ ... لكنيفٍ ومائده وتوفّي الأمير عبد الله سنة ثلاثمائة، ومدة ملكه نحو من خمس وعشرين سنة. [عبد الرحمن الناصر] وولي حافده عبد الرحمن الناصر (3) ابن ابنه محمد قتيل أخيه المطرف، وكانت ولايته من الغريب، لأنّه كان شابّاً، وأعمامه وأعمام أبيه حاضرون، فتصدّى إليها واحتازها دونهم، ووجد الأندلس مضطربة بالمخالفين، مضطرمة بنيران المتغلبين، فأطفأ تلك النيران، واستنزل أهل العصيان، واستقامت له الأندلس في سائر جهاتها بعد نيّف وعشرين سنة من أيّامه، ودامت أيّامه نحو خمسين سنة استفحل فيها ملك بني أميّة بتلك الناحية، وهو أول من تسمّى منهم بالأندلس بأمير المؤمنين، عندما التاث أمر الخلافة بالمشرق، واستبدّ موالي الترك على بني العباس، وبلغه أن المقتدر قتله مؤنس المظفر مولاه سنة سبع عشرة وثلاثمائة (4) فتلقب ألقاب الخلافة، وكان كثير الجهاد بنفسه والغزو إلى دار الحرب، إلى أن هزم عام الخندق سنة ثلاث وعشرين (5) ، ومحّص الله فيها

_ (1) ترجمته في ابن الفرضي 2: 28 استقضاه الأمير عبد الله بقرطبة ثم استوزره (توفي سنة 202) . (2) ابن عذاري 2: 231 والحلة 1: 122. (3) انظر ابن خلدون 4: 137. (4) الصواب سنة 320. (5) اقرأ: سنة 327.

المسلمين، فقعد عن الغزو بنفسه وصار يردّد الصّوائف في كل سنة، فأوطأ عساكر المسلمين من بلاد الإفرنج ما لم يطؤوه قبل في أيّام سلفه، ومدّت إليه أمم النصرانية من وراء الدروب يد الإذعان، وأوفدوا عليه رسلهم وهداياهم من رومة والقسطنطينية في سبيل المهادنة والسلم والاعتمال فيما يعنّ في مرضاته، ووصل إلى سدّته الملوك من أهل جزيرة الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين بجهات قشتالة وبنبلونة وما ينسب إليها من الثغور الجوفية، فقبّلوا يده، والتمسوا رضاه، واحتقبوا جوائزه، وامتطوا مراكبه، ثم سما إلى ملك العدوة فتناول سبتة - قفل الفرضة (1) - من أيدي أهلها سنة سبع عشرة وثلاثمائة (2) ، وأطاعه بنو إدريس أمراء العدوة وملوك زناتة والبربر، وأجاز إليه الكثير منهم كما يعلم من أخباره، وبدأ أمره أول ولايته بتخفيف المغارم عن الرعايا، انتهى كلام ابن خلدون. وقيه يقول ابن عبد ربّه صاحب العقد يوم تولّى الملك (3) : بدا الهلال جديداً ... والملك غضٌّ جديد يا نعمى الله زيدي ... إن كان فيك مزيد إن كان للصّوم فطرٌ ... فأنت للدهر عيد وأراد بأوّل الأبيات أنّه وليّ مستهلّ ربيع الأول كما علم. وما أشار إليه ابن خلدون في غزوة الخندق فصّله المسعودي فقال (4) ، بعد أن أجرى ذكر مخالفة أمية بن إسحاق على الناصر ودخوله أرض النصارى ودلالته إياهم على عورات المسلمين، ما ملخصه: وغزا عبد الرحمن صاحب الأندلس

_ (1) قفل الفرضة: مضطربة في النسخ فهي ق: قفل الفرصة؛ وفي ك: ونقل الفرضة؛ وفي ط: نقل الفرضة؛ ج: فغل الفرصة، وسقطت من طبعة بولاق من تاريخ بن خلدون. (2) كذلك عند ابن خلدون؛ وعند ابن عذاري: (319) . (3) ورد منها بيتان في ابن عذاري 2: 236 والمغرب 1: 177. (4) مروج الذهب 2: 37.

سمّورة دار الجلالقة، وكان عبد الرحمن في مائة ألف أو يزيدون، وكانت الوقعة بينه وبين رذمير (1) ملك الجلالقة في شوّال سنة 327 بعد الكسوف الذي كان في هذا الشهر بثلاثة أيّام، فكانت للمسلمين عليهم، ثم ثابوا بعد أن حوصروا وألجئوا إلى المدينة، فقتلوا من المسلمين بعد عبورهم الخندق خمسين ألفاً، وقيل: إن الذي منع رذمير من طلب من نجا من المسلمين أميّة بن إسحاق، وخوّفه الكمين، ورغّبه فيما كان في عسكر المسلمين من الأموال والعدّة والخزائن، ولولا ذلك لأتى على جميع المسلمين، ثمّ إن أميّة استأمن بعد ذلك إلى عبد الرحمن وتخلّص من رذمير، وقبله عبد الرحمن أحسن قبول. وقد كان عبد الرحمن بعد هذه الوقعة جهز عساكر مع عدّة من قوّاده إلى الجلالقة، فكانت لهم بهم عدّة حروب هلك فيها من الجلالقة ضعف ما قتل من المسلمين في الوقعة الأولى، وكانت للمسلمين عليهم إلى هذه الغاية، ورذمير ملك الجلالقة إلى هذا الوقت وهو سنة 332 (2) ، انتهى. وقال في موضع آخر ما ملخّصه (3) : إن عبد الرحمن غزا في أزيد من مائة ألف من الناس، فنزل على دار مملكة الجلالقة، وهي مدينة سمّورة، وعليها سبعة أسوار من أعجب البنيان قد أحكمته الملوك السابقة، وبين الأسوار فصلان وخنادق ومياه واسعة، وافتتح منها سورين، ثم إن أهلها ثاروا على المسلمين فقتلوا منهم ممّن أدركه الإحصاء وممّن عرف أربعين ألفاً، وقيل: خمسين ألفاً، وكانت للجلالقة والبشكنس على المسلمين، انتهى كلام المسعودي. رجع إلى أخبار الناصر - فنقول: إن الناصر - رحمه الله - كان له نظم، وممّا نسب إليه بعضهم قوله: لا يضرّ الصغير حدثان سنّ ... إنّما الشأن في سعود الصغير

_ (1) رذمير (Ramiro) . (2) ط ج ق ودوزي: وهو سنة 336؛ وما هنا موافق لما في المروج، وفي ك: 329. (3) المروج 1: 162.

كم مقيمٍ فازت يداه بغنم ... لم تنله بالرّكض كفّ مغير هكذا ألفيت البيتين منسوبين إليه بخط بعض الأكابر، ثم كتب بأثره ما نصّه: الصحيح أنهما لغيره، والله أعلم، انتهى. [؟ هدية ابن شهيد للناصر] وكان الناصر - رحمه الله - قد استحجب موسى بن محمد بن حدير، واستوزر عبد الملك بن جهور، وأحمد بن عبد الملك بن شهيد، وأهدى له ابن شهيدٍ هديته المشهورة المتعدّدة الأصناف، وقد ذكرها ابن حيّان وابن خلدون (1) وغيرهما من المؤرخين، قال ابن خلدون: وهي ممّا يدل على ضخامة الدولة الأموية، واتساع أحوالها؛ وكان ذلك (2) سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، لثمان خلون من شهر جمادى الأولى، وهي هدية عظيمة الشأن، اشتهر ذكرها إلى الآن، واتّفق على أنّه لم يهاد أحد من ملوك الأندلس بمثلها، وقد أعجبت الناصر وأهل مملكته جميعاً، وأقروا أن نفساً لم تسمح بإخراج مثلها ضربةً عن يدها، وكتب معها رسالة حسنة بالاعتراف للناصر بالنعمة والشكر علها استحسنها الناس وكتبوها، وزاد الناصر وزيره هذا حظوة واختصاصاً، وأسمى منزلته على سائر الوزراء جميعاً، وأضعف له رزق الوزارة، وبلّغه ثمانين ألف دينار أندلسية، وبلغ مصروفه إلى ألف دينار، وثنى له العظمة لتثنيته له الرزق، فسمّاه " ذا الوزارتين " لذلك، وكان أول من تسمى بذلك بالأندلس امتثالاً لاسم صاعد بن مخلد وزير بني العباس ببغداد، وأمر بتصدير فراشه في البيت، وتقديم اسمه في دفتر الارتزاق أول التسمية، فعظم مقداره في الدولة جدّاً.

_ (1) ابن خلدون 4: 138. (2) أورد المقري الحديث عن هذه الهدية مفصلاً أيضاً في أزهار الرياض 2: 261 إلا أنه لم يمزح بين روايتي ابن خلدون وابن الفرضي بل اكتفى بالثانية.

وتفسير هديته المذكورة على ما ثبت في كتاب ابن خلدون على ما يفسر: خمسمائة ألف مثقال من الذهب العين، وأربعمائة رطل من التّبر، ومصارفةً خمسة وأربعون ألف دينار من سبائك الفضّة في مائتي بدرة، واقتصر ابن الفرضيّ على خمسمائة ألف دينار فقط؛ واثنا عشر رطلاً من العود الهندي الذي يختم عليه كالشمع، ومائة وثمانون رطلاً من العود المتخير، ومائة رطل من العود الشبه المنتقى، هكذا ذكره ابن خلدون. وقال ابن الفرضيّ مستنداً إلى الكتاب الذي وجّهه ابن شهيد مع الهدية: إن العود الغالي من ذلك أربعمائة رطل، منها في قطعة واحدة مائة وثمانون رطلاً. وقال ابن خلدون: ومائة أوقية من المسك الذكي المفضل في جنسه، انتهى. وقال ابن الفرضيّ، نقلاً عن الكتاب المصحوب مع الهدية: إن المسك مائتا أوقية، واثنتا عشرة أوقية. ومن العنبر الأشهب الباقي على خلقته بغير صناعة خمسمائة أوقية، منها قطعة عجيبة ململمة الشكل وزن مائة أوقية، هكذا في تاريخ ابن خلدون. وفي ابن الفرضيّ أن الكل مائة أوقية، وأن هذه القطعة أربعون أوقية. ومن الكافور المرتفع النقيّ الذكيّ ثلاثمائة أوقية. قال ابن خلدون: ومن اللباس ثلاثون شقّة من الحرير المختم المرقوم بالذهب كلباس الخلفاء المختلف الألوان والصنائع، وعشرة أفرية (1) من عالي جلود الفنك الخراسانية. وخالفه ابن الفرضيّ (2) ، إذ قال: ومن أنواع الثياب ثلاثون شقّة خنجٍ (3) خاصية للباسه بيضاء وملوّنة، وخمس ظهائر شعيبية (4) خاصية له، وعشر فراء من

_ (1) أفرية: جمع فروة. (2) الفقرة من قوله " وخالفه ... أدرى " كلها سقطت من ق. (3) خنج لعلها من الفارسية " خنك " بمعنى حرير أبيض، وهي كذلك في ك ط. (4) الشعبية: نوع من الأقمشة.

عالي الفنك منها سبعة بيض خراسانية وثلاث ملوّنة، وستة مطارف عراقية خاصية له، وثمان وأربعون ملحفة زهرية لكسوته، ومائة ملحفة زهرية لرقاده. ولم يذكر ابن خلدون ذلك، وابن الفرضي أعرف، لا سيّما وقد استند إلى كتاب المهدي، وصاحب البيت أدرى. قال ابن خلدون: وعشرة قناطير شدّ فيها مائة جلد سمّور، وقاله ابن الفرضي أيضاً، وزاد ابن خلدون: وستة من السرادقات العراقية، وثمانية وأربعون من الملاحف البغدادية لزينة الخيل من الحرير والذهب، ثم قالا معاً: وأربعة آلاف رطل من الحرير المغزول، وألف رطل من لون الحرير المنتقى للاستغزال، وزاد ابن خلدون: وثلاثون شقة من الفريون (1) لسروج الهبات، وزاد ابن الفرضيّ في الحرير المذكور: قيل: إنّه قبضه منه صاحب الطراز ولم يأت به مع الهدية، وإنّما دفعه لصاحب الطراز، وأثبته في الدفتر، قالا: وثلاثون بساطاً من الصوف مختلفة الصناعات طول كل بساط منها عشرون ذراعاً، وقال ابن خلدون: منتقاة مختلفة الأوان، قالا: ومائة قطعة مصلّيات من وجوه الفرش المختلفة، زاد ابن الفرضيّ: الصناعات من جنس البسط، قالا: وخمسة عشر نخّاً (2) من عمل الخز المقطوع شطرها، قال ابن الفرضيّ: وسائرها من جنس البسط الوجوه، قال ابن خلدون: ومن السلاح والعدّة ثمانمائة من التجافيف المزينة أيام البروز والمواكب، وقال ابن الفرضيّ: مائة تجفاف بأبدع الصناعات وأغربها وأكملها، قالا: وألف ترس سلطانية، ومائة ألف سهم، زاد ابن خلدون: من لنبال البارعة الصنعة، قال ابن خلدون: ومن الظهر خمسة عشر فرساً من الخيل العراب المتخيرة لركاب السلطان فائقة النّعوت، وقال ابن الفرضي: ومن الخيل مائة فرس منها من الخيل العراب المتخيرة لركابه خمسة عشر فرساً، وخمس من عرض هذه الخيل مسرجة ملجمة لمراكب الخلافة

_ (1) كذا وردت هذه اللفظة في ق ك ولعلها: " البزيون " وهو سندس. (2) في ق ك: نوخاً؛ والنخ: بساط طويل طوله أكثر من عرضه.

مجالس سروجها خز عراقي، وثمانون فرساً ممّا يصلح للوصفاء والحشم، وقال ابن خلدون: مائة فرس من الخيل التي تصلح للركوب في التصرف والغزوات، وقال ابن الفرضي: وخمسة أبغل عالية الركاب، وقال ابن خلدون: وعشرون من بغال الركاب مسرجة ملجمة لمراكب الخلافة مجالس سروجها خز جعفري عراقي، قالا: ومن الرقيق أربعون وصيفاً وعشرون جارية من متخير الرقيق بكسوتهم وجميع آلاتهم، وقال ابن خلدون في الجواري: متخيرات بكسوتهن وزينتهن، وقال ابن خلدون: ومن سائر الأصناف قرية تغلّ آلافاً من أمداد الزرع، ومن الصخر للبنيان ما أنفق عليه في عام واحد ثمانون ألف دينار، وعشرون ألف عود من الخشب من أجمل الخشب وأصلبه (1) وأقومه قيمتها خمسون ألف دينار، انتهى. وقال ابن الفرضي نقلاً عن كتاب ابن شهيد المصحوب مع الهدية عندما ذكر الرقيق ما صورته: وكان قد أمرني (2) - أيّده الله - بابتياعهم من مال الأخماس، فابتعتهم من نعمته عندي، وصيرتهم من بعثي، ومع ذلك عشر قناطير سكر طبرزذ لا سحاق فيه. وفي آخر الكتاب: ولمّا علمت تطلّع مولاي - أيده الله تعالى - إلى قرية كذا بالقنبانية (3) المنقطعة الغرس في شرقها، وترداده - أيده الله تعالى - لذكرها لم أهنأ بعيشٍ حتى أعملت الحيلة في ابتياعها بأحوازها، وأكتبت وكيله ابن بقيّة الوثيقة فيها باسمه، وضمّها إلى ضياعه، وكذلك صنعت في قرية شيرة من نظر جيّان عندما اتصل بي من وصفه لها وتطلّعه إليها، فما زلت أتصدّى لمسرّته بها حتى ابتعتها الآن بأحوازها وجميع منازلها وربوعها واحتاز ذلك

_ (1) ط ك: وأصيله. (2) ك: قد أربى. (3) قد مر التعريف بالقنبانية، وهي تدل على الحقول، وإن كانت تطلق علماً على كثير من المواضع بالأندلس أهمها البسائط الواقعة إلى جنوب قرطبة في حوض الوادي الكبير.

كلّه الوكيل ابن بقية، وصار في يده له أبقاه الله سبحانه، وأرجو أنّه سيرفع فيها في هذه السنة آلاف أمداد من الأطعمة إن شاء الله تعالى. ولمّا علمت نافذ عزمه - أبقاه الله تعالى - في البنيان، وكلفه به، وفكرت في عدد الأماكن التي تطلع نفسه الكريمة إلى تخليد آثاره في بنيانها - مد الله تعالى في عمره، وأوفى بها على أقصى أمله - علمت أن أسه وقوامه الصخر والاستكثار منه، فأثارت لي همتي ونصيحتي حكمة حيلة أحكمها سعدك وجدّك اللذان يبعثان ما لا يتوهم عليه، حيلة أقيم لك فيها بعام واحد عدد ما كان يقوم على يدي عبدك ابن عاصم في عشرين عاماً، وينتهي تحصيل النفقة فيه إلى نحو الثمانين ألفاً أعجل شأنه في عام، سوى التوفير العظيم الذي يبديه العيان قبلاً إن شاء الله تعالى، وكذلك ما ثاب إليّ في أمر الخشب لهذه المنية المكرمة، فإن ابن خليل عبدك المجتهد الدؤوب انتهى في تحصيل عدد ما تحتاج إليه إلى ثلاثمائة ألف عود ونيّف على عشرين ألف عود، على أنّه لا يدخل منه في السنة إلاّ نحو الألفي عود، ففتح لي سعدك رأياً أقيم له بتمامه جميع هذا الخشب العام على كماله بورود الجليبة (1) لوقتها، وقيمته على الرخص ما بين الخمسين ألفاً والستين ألفاً، انتهى. [عود إلى أخبار الناصر] ومن غريب ما يحكى (2) عن أمير المؤمنين الناصر المذكور أنّه أراد الفصد، فقعد بالبهو في المجلس الكبير المشرف بأعلى مدينته بالزهراء، واستدعى الطبيب لذلك، وأخذ الطبيب الآلة وجسّ يد الناصر، فبينما هو إذ أطل زرزور فصعد على إناء ذهب بالمجلس، وأنشد: أيّها الفاصد رفقاً ... بأمير المؤمنينا

_ (1) الجليبة: كذا جاءت في ق ك، فإن لم تكن تعني " الخشب المجلوب " فلا أدري دلالتها بدقة. (2) انظر أزهار الرياض 2: 265.

إنّما تفصد عرقاً ... فيه محيا العالمينا وجعل يكرّر ذلك المرّة بعد المرة، فاستظرف أمير المؤمنين الناصر ذلك غاية الاستظراف، وسرّ به غاية السرور، وسأل عمن اهتدى إلى ذلك وعلّم الزّرزور، فذكر له أن السيدة الكبرى مرجانة أم ولده وليّ عهده الحكم المستنصر بالله صنعت ذلك، وأعدّته لذلك الأمر، فوهب لها ما ينيّف على ثلاثين ألف دينار. وذكر ابن بسّام (1) أن أبا عامر بن شهيد أحمد بن عبد الملك الوزير أهدي له غلام من النصارى لم تقع العيون على شبهه، فلمحه الناصر فقال لابن شهيد: أنّى لك هذا؟ قال: هو من عند الله، فقال له الناصر: تتحفوننا بالنجوم وتستأثرون بالقمر، فاستعذر واحتفل في هدية بعثها مع الغلام، وقال: يا بني كن مع جملة ما بعثت به، ولولا الضرورة ما سمحت بك نفسي، وكتب معه هذين البيتين (2) : أمولاي هذا البد سار لأفقكم ... وللأفق أولى بالبدور من الأرض أرضّيكم بالنفس وهي نفيسةٌ ... ولم أر قبلي من بمهجته يرضي فحسن ذلك عند الناصر، وأتحفه بمال جزيل، وتمكنت عنده مكانته، ثم إنّه بعد ذلك أهديت إليه جارية من أجمل نساء الدنيا، فخاف أن ينهى (3) ذلك إلى الناصر فيطلبها فتكون كقصة الغلام، فاحتفل في هدية أعظم من الأولى، وبعثها معها، وكتب له: أمولاي هذي الشمس والبدر أوّلاً ... تقدّم كيما يلتقي القمران

_ (1) انظر مطالع البدور 1: 240 والمقتطفات (الورقة: 84) . (2) في الأصول: هذه الأبيات. (3) ك: ينتهي.

قرانٌ لعمري بالسعادة قد أتى ... فدم منهما في كوثر وجنان فما لهما والله في الحسن ثالثٌ ... وما لك في ملك البريّة ثاني فتضاعفت مكانته عنده. ثمّ إن أحد الوشاة رفع للملك أنّه بقي في نفسه من الغلام حرارة، وأنّه لا يزال يذكره حين تحرّكه الشّمول، ويقرع السن على تعذر الوصول، فقال للواشي: لا تحرك به لسانك، وإلاّ طار رأسك، وأعمل الناصر حيلة في أن كتب على لسان الغلام رقعة منها: يا مولاي، تعلم أنّك كنت لي على انفراد، ولم أزل معك في نعيم، وإنّي وإن كنت عند الخليفة مشارك في المنزلة، محاذر ما يبدو من سطوة الملك، فتحيّل في استدعائي منه، وبعثها مع غلام صغير السن، وأوصاه أن يقول: من عند فلان، وإن الملك لم يكلّمه قط، إن سأله عن ذلك، فلمّا وقف أبو عامر على تلك الرسالة واستخبر الخادم علم من سؤاله ما كان في نفسه من الغلام، وما تكلم به في مجالس المدام، فكتب على ظهر الرقعة ولم يزد حرفاً: أمن بعد إحكام التجارب يبتغى ... لديّ سقوط الطير (1) في غابة الأسد وما أنا ممّن يغلب الحبّ قبله ... ولا جاهل ما يدّعيه أولو الحسد فإن كنت روحي قد وهبتك طائعاً ... وكيف يردّ الروح إن فارق الجسد فلمّا وقف الناصر على الجواب تعجب من فطنته، ولم يعد إلى استماع واشٍ به. ودخل عليه بعد ذلك فقال له: كيف خلصت من الشّرك؟ فقال: لأن عقلي بالهوى غير مشترك، فأنعم عليه، وزادت محبته عنده، وممّن ذكر هذه الحكاية صاحب " مطالع البدور، في منازل السرور " (2) .

_ (1) المطالع: سقوط العير؛ وهو أقرب إلى الصواب. (2) هو علاء الدين علي بن عبد الله الغزولي.

[غزوات الناصر] وأخبار الناصر طويلة جدّاً، وقد منح الظفر على الثوّار، واستنزلهم من معاقلهم، حتى صفا له الوقت، وكانت له في جهاد العدو اليد البيضاء، فمن غزواته أنّه غزا سنة ثمان وثلاثمائة إلى جليقية وملكها أردون بن أذفونش، فاستنجد بالبشكنس والإفرنجة وظاهر شانجة (1) بن غرسية صاحب بنبلونة أمير البشكنس، فهزمهم، ووطئ بلادهم، ودوّخ أرضهم، وفتح معاقلهم، وخرب حصونهم، ثم غزا بنبلونة سنة ثنتي عشرة، ودخل دار الحرب، ودوّخ البسائط، وفتح المعاقل، وخرّب الحصون، وافسد العمائر، وجال فيها، وتوغل في قاصيتها، والعدو يحاذيه في الجبال والأوعار، ولم يظفر منه بشيء، ثم بعد مدّة ظفر ببعض الثوّار عليه، وكان استمدّ بالنصارى فقتل الناصر من كان مع الثائر من النصارى أهل ألبة، وفتح ثلاثين من حصونهم، وبلغه انتفاض طوطة (2) ملكة البشكنس فغزاها في بنبلونة ودوّخ أرضها واستباحها، ورجع إلى قرطبة، ثم غزا غزوة الخندق سنة سبع وعشرين إلى جليقية فانهزم وأصيب فيها المسلمون، وقعد بعدها عن الغزو بنفسه، وصار يردد البعوث والصوائف إلى الجهاد، وبعث جيوشه إلى المغرب فملك سبتة وفاساً وغيرهما من بلاد المغرب، وطار صيته وانتشر ذكره كما سبق. ولم هلك غرسية بن شانجة ملك البشكنس قام بأمرهم بعده أمه (3) طوطة، وكفلت ولده، ثم انتقضت على الناصر سنة خمس وعشرين، فغزا الناصر بلادها، وخرب نواحي بنبلونة وردد عليها كما مرّ الغزوات، وكان قبل ذلك سنة ثنتين وعشرين غزا إلى وخشمة (4) ،

_ (1) شانجة: (Sancho) ملك البشكنس اي منطقة نبره (Navarra) ، وفي ك: شانجة بن فرويلة؛ وفي ط: شنجة. (2) طوطة (Teoda) وفي تاريخ بروفنسال (2: 73) (Toda) . (3) ابن خلدون: أخته. (4) وخشمة: (Osma) وفي ك: خشتمة.

ثم رحل إلى بنبلونة، فجاءته طوطة بطاعتها وعقد لابنها غرسية على بنبلونة، ثم عدل إلى ألبة وبسائطها فدوّخها وخرب حصونها، ثم اقتحم جليقية وملكها يومئذ رذمير بن أردون، فخام عن لقائه، ودخل وخشمة، فنازله الناصر فيها، وهدم برغش (1) وكثيراً من معاقلهم، وهزمهم مراراً، ورجع، ثم كانت بعدها غزوة الخندق السابقة، وهابته أمم النصرانية. [الوفود على بلاط الناصر] ثم وفدت عليه سنة ست وثلاثين رسل صاحب قسطنطينية وهديته - وهو يومئذ قسطنطين - واحتفل الناصر لقدومهم في يوم مشهود، قال ابن خلدون (2) : ركبت في ذلك اليوم العساكر بالسلاح في أكمل شكّة، وزين القصر الخلافي بأنواع الزينة وأصناف الستور، وجمّل السرير الخلافي بمقاعد الأبناء والإخوة والأعمام والقرابة، ورتب الوزراء والخدمة في مواقفهم، ودخل الرسل فهالهم ما رأوه، وقرّبوا حتى أدّوا رسالتهم، وأمر يومئذ الأعلام أن يخطبوا في ذلك الحفل، ويعظّموا من أمر الإسلام والخلافة، ويشكروا نعمة الله على ظهور دينه وإعزازه، وذلة عدوّه، فاستعدّوا لذلك، ثم بهرهم هول المجلس فوجموا، وشرعوا في القول فأرتج عليهم، وكان فيهم أبو علي القالي وافد العراق، كان في جملة الحكم ولي العهد وندبه لذلك استئثاراً بفخره (3) ، فلمّا وجموا كلهم قام منذر بن سعيد البلّوطي من غير استعداد ولا رويّة وما تقدّم له أحد بشيء من ذلك، فخطب واسحنفر (4) وجلّى في ذلك القصد، وأنشد

_ (1) برغش: (Burgos) إحدى مدن الحدود الشمالية؛ وانظر شرحاً لغزوات الناصر في تاريخ بروفنسال 2: 33 - 78. (2) تاريخ ابن خلدون 4: 142 وأزهار الرياض 2: 258 وابن عذاري 2: 319. (3) ك: فعجز؛ وفي ق وابن خلدون: لفخره؛ وفي ج: لعجزه. (4) ج ك: واستحضر.

شعراً طويلاً ارتجله في ذلك الغرض (1) ، ففاز بفخر ذلك المجلس، وعجب الناس من شأنه أكثر من كل ما وقع، وأعجب به الناصر، وولاّه القضاء بعدها، وأصبح من رجالات المعالم (2) ، وأخباره مشهورة، وخطبته في ذلك اليوم منقولة في كتب ابن حيّان وغيره. ثم انصرف هؤلاء الرسل، وبعث الناصر معهم هشام بن هذيل (3) بهديّة حافلة ليؤكد المودة ويحسن الإجابة، ورجع بعد سنتين وقد أحكم من ذلك ما شاء وجاءت معه رسل قسطنطين. ثم جاء رسول من ملك الصقالبة - وهو يومئذ هوتو (4) - ورسول آخر من ملك الألمان، ورسول آخر من ملك الإفرنجة وراء البرت - وهو يومئذ أوقه (5) - ورسول آخر من ملك الإفرنجة بقاصية المشرق - وهو يومئذ كلدة (6) - واحتفل الناصر لقدومهم، وبعث مع رسول الصقالبة ربيعاً الأسقف إلى ملكهم هوتو ورجع بعد سنين. وفي سنة أربع وأربعين جاء رسول أردون يطلب السلم، فعقد له، ثم بعث في سنة خمس وأربعين يطلب إدخال فرذلند قومس قشتيلة في عهده، فأذن له في ذلك، وأدخل في عهده، وكان غرسية بن شانجة قد استولى على جليقية بعد أبيه شانجة بن فرويلة (7) ثم انتقض عليه أهل جليقية، وتولى كبرهم قومس قشتيلة فرذلند المذكور، ومال إلى أردون بن رذمير، وكان غرسية بن شانجة حافداً لطوطة ملكة البشكنس، فامتعضت لحافدها غرسية، ووفدت على الناصر سنة

_ (1) ط: العرض. (2) ج: العالم. (3) ابن خلدون: هشام بن كليب الجاثليق. (4) هوتو: (Otton) وفي نسخ النفح اضطراب ف رسم الاسم بين: دوتو في ق ج؛ وذوقوة في ك؛ وذواقو؛ وذوفو في غيرهما. (5) ق ك ط: أوفة، ج: أرمة، والصواب ما أثبتناه إذ يقابل (Hugo) وهو (Hugues d؛ Arles) مركيز بروفانس. (6) (Guido) وهو ابن أدلبرت مركيز تسكانية. (7) فرويلة: (Fruela) .

سبع وأربعين ملقية بنفسها في عقد السلم لها ولولدها شانجة بن رذمير الملك، وإعانة حافدها غرسية بن شانجة على ملكه، ونصره من عدوّه، وجاء الملكان معها، فاحتفل الناصر لقدومهم، وعقد الصلح لشانجة وأمه، وبعث العساكر مع غرسية ملك جليقية فردّ عليه ملكه، وخلع الجلالقة طاعة أردون إليه، وبعث إلى الناصر يشكره على فعلته، وكتب إلى الأمم في النواحي بذلك، وبما ارتكبه فرذلند قومس قشتيلة في نكثه ووثوبه، ويعيره بذلك عند الأمم، ولم يزل الناصر على موالاته وإعانته إلى أن هلك، ولمّا وصل رسول كلدة ملك الإفرنجة بالشرق كما تقدّم وصل معه رسول ملك برشلونة وطرّكونة راغباً في الصلح، فأجابه الناصر، ووصل بعده رسول صاحب رومة يخطب المودة فأجيب؛ انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار. ولنفصّل بعض ما أجمله فنقول: ذكر ابن حيّان وغير واحد أن ملك الناصر بالأندلس كان في غاية الضخامة ورفعة الشأن، وهادته الروم، وازدلفت إليه تطلب مهادنته ومتاحفته بعظيم الذخائر، ولم تبق أمّة سمعت به من ملوك الروم والإفرنجة والمجوس وسائر الأمم إلا وفدت عليه خاضعة راغبة، وانصرفت عنه راضية، ومن جملتهم صاحب القسطنطينية العظمى، فأنّه هاداه، ورغب في موادعته، وكان وصول أرساله في صفر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وتقدّم في كلام ابن خلدون أنّها ست وثلاثون، فالله أعلم أيهما أصح، وتأهب الناصر لورودهم وأمر أن يتلقّوا أعظم تلقٍّ وأفخمه، وأحسن قبول (1) وأكرمه، وأخرج إلى لقائهم ببجانة يحيى بن محمد بن الليث وغيره لخدمة أسباب الطريق، فلمّا صاروا بأقرب المحلاّت من قرطبة خرج إلى لقائهم القوّاد في العدد والعدّة والتعبية، فتلقوهم قائداً بعد قائد، وكمل اختصاصهم بعد ذلك، بأن أخرج إليهم الفتيين الكبيرين الخصيين ياسراً وتماماً، إبلاغاً في الاحتفال بهم، فلقياهم بعد القوّاد،

_ (1) ق ط ج: قبوله.

فاستبان لهم بخروج الفتيين إليهم بسط الناصر وإكرامه، لأن الفتيان حينئذ هم عظماء الدولة، لأنّهم أصحاب الخلوة مع الناصر وحرمه وبيدهم القصر السلطانيّ، وأنزلوا بمنية وليّ العهد الحكم المنسوبة إلى نصر (1) بعدوة قرطبة في الرّبض، ومنعوا من لقاء الخاصة والعامة جملة ومن ملابسة الناس طرّاً، ورتّب لحجابتهم رجال تخيروا من الموالي ووجوه الحشم فصيروا على باب قصر هذه المنية ستة عشر رجلاً لأربع دول، لكل دولة أربع منهم، ورحل الناصر لدين الله من قصر الزهراء إلى قصر قرطبة لدخول وفود الروم عليه، فقعد لهم يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من السنة المذكورة في بهو المجلس الزاهر قعوداً حسناً نبيلاً، وقعد عن يمينه وليّ العهد من بنيه الحكم ثم عبيد الله ثم عبد العزيز أبو الأصبغ ثم مروان، وقعد عن يساره المنذر ثم عبد الجبار ثم سليمان، وتخلف عبد الملك لأنّه كان عليلاً لم يطق الحضور، وحضر الوزراء على مراتبهم يميناً وشمالاً، ووقف الحجّاب من أهل الخدمة من أبناء الوزراء والموالي والوكلاء وغيرهم، وقد بسط صحن الدار أجمع بعتاق البسط وكرائم الدرانك (2) ، وظلّلت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج ورفيع الستور، فوصل رسل ملك الروم حائرين ممّا رأوه من بهجة الملك وفخامة السلطان، ودفعوا كتاب ملكهم صاحب القسطنطينية العظمى قسطنطين بن ليون، وهو في رقّ مصبوغ لوناً سماويّاً مكتوب بالذهب بالخط الإغريقي (3) ، وداخل الكتاب مدرجة مصبوغة أيضاً مكتوبة بفضّة بخط إغريقي أيضاً فيها وصف هديته التي أرسل بها وعددها، وعلى المتاب طابع ذهب وزنه أربعة مثاقيل، على الوجه الواحد منه صورة المسيح، وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك وصورة ولده، وكان الكتاب بداخل درج فضّة منقوش عليه غطاء ذهب فيه صورة قسطنطين

_ (1) ك: نصير، وهو خطأ. (2) الدوانك: البسط. (3) في الأصول: الاغرنقي.

الملك معمولة من الزجاج الملون البديع، وكان الدرج داخل جعبة ملبسة بالديباج، وكان في ترجمة عنوان الكتاب في سطر منه: قسطنطين ورومانس (1) المؤمنان بالمسيح الملكان العظيمان ملكا الروم، وفي سطر آخر: العظيم الاستحقاق المفخر الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة الحاكم على العرب بالأندلس، أطال الله بقاءه؛ ولما احتفل الناصر لدين الله هذا الاحتفال أحبّ أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه، لتذكر جلالة مقعده وعظيم سلطانه، وتصف ما تهيّأ من توطيد الخلافة في دولتهن وتقدم الأمير الحكم ابنه ولي عهده بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء، ويقدّمه أمام نشيد الشعراء، فأمر الحكم صنيعه الفقيه محمد بن عبد البر الكسنياني (2) بالتأهب لذلك، وإعداد خطبة بليغة يقوم بها بين يدي الخليفة، وكان يدّعي من القدرة على بتأليف الكلام ما ليس في وسع غيره؛ وحضر المجلس السلطاني، فلمّاقام يحاول التكلّم بما رأى هاله وبهره هول المقام وأبهة الخلافة، فلم يهتد إلى لفظة، بل غشي عليه وسقط إلى الأرض، فقيل لأبي علي البغدادي إسماعيل بن القاسم القالي صاحب الأمالي والنوادر، وهو حينئذ ضيف الخليفة الوافد عليه من العراق وأمير الكلام وبحر اللغة: قم فارقع هذا الوهي، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلّم؟ هكذا ذكر ابن حيان وغيره وكلام ابن خلدون السابق يقتضي أن القالي هو المأمور بالكلام أوّلاً والمعدّ لذلك، ونحوه في المطمح، والخطب سهل؟ ثم انقطع القول بالقالي، فوقف ساكتاً مفكراً في كلام يدخل به إلى ذكر ما أريد منه، وقال في المطمح (3) : إن أبا علي القالي انقطع، وبهت وما وصل إلاّ قطع، ووقف ساكتاً متفكّراً، لا ناسياً ولا متذكراً، فلمّا رأى ذلك منذر بن سعيد؟ وكان ممّن حضر في زمرة الفقهاء؟ قام من

_ (1) ق ك ط ج: ورومانين. (2) في ج: السياتي؛ وفي ط ودوزي كما أثبته، وكذلك ورد في لب اللباب؛ وفي أزهار الرياض وك 2: 273: الكسيباني. (3) المطمح: 38.

ذاته، بدرجة من مرقاته، فوصل افتتاح أبي علي لأوّل خطبته بكلام عجيب، ونادى في الإحسان من ذلك المقام كلّ مجيب، يسحّه سحّاً كأنّما كان يحفظه قبل ذلك بمدة، وبدأ من المكان الذي انتهى إليه أبو عليّ البغدادي، فقال (1) : أمّا بعد حمد الله والثناء عليه، والتعداد لآلائه، والشكر لنعمائه، والصلاة والسلام على محمد صفيّه وخاتم أنبيائه، فإن لكل حادثة مقاماً، ولكل مقام مقال، وليس بعد الحق إلا الضلال، وإنّي قد قمت في مقام كريم، بين يدي ملك عظيم، فأصغوا إلي معشر الملإ بأسماعكم، والقنوا (2) عني بأفئدتكم، إن من الحق أن يقال للمحق صدقت، وللمبطل كذبت، وإن الجليل تعالى في سمائه، وتقدّس بصفاته وأسماءه، أمر كليمه موسى، صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع أنبيائه، أن يكّر قومه بأيّام الله، جلّ وعزّ، عندهم، وفيه وفي رسول الله، صلى الله عليه وسلّمن أسوة حسنة، وإنّي أذكركم بأيّام الله عندكم (3) ، وتلافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين التي لمّت شعثكم (4) ، وأمنّت سربكم، ورفعت فرقكم (5) ، بعد أن كنتم قليلاً فكثركم، ومستضعفين فقوّاكم، ومستذلّين فنصركم، ولاّه الله رعايتكم، واسند إليه إمامتكم، أيّام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق، وأحاطت بكم شعل النفاق، حتى صرتم في مثل حدقة البعير، من ضيق الحال ونكد العيش والتغيير، فاستبدلتم بخلافته من الشدّة بالرخاء، وانتقلتم بيمن سياسته إلى تمهيد كنف العافية بعد استيطان البلاء، أنشدكم (6) الله معاشر الملإ ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها، والسبل مخوفةً فأمّنها، والموال منتهبة فأحرزها وحصّنها؟ ألم تكن البلاد خراباً فعمرها، وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها؟ فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته، وتلافيه جمع

_ (1) نص الخطبة في أزهار الرياض 2: 273 والمرقبة العليا: 66 والمطمح: 38. (2) ك: واتقنوا؛ ط: والفنوا؛ ق: والفتوا؛ وأثبتنا ما في ج والمطمح. (3) المطمح: وأنا أذكركم نعم الله تعالى عليكم. (4) لمت شعثكم: سقطت من المطمح. (5) ك قوتكم؛ وفي ق ط: فوقكم؛ وفي المطمح: خوفكم. (6) المطمح: ناشدتكم.

كلمتكم بعد افتراقها بإمامته، حتى أذهب الله عنكم غيظكم، وشفى صدوركم، وصرتم يداً على عدوّكم، بعد أن كان بأسكم بينكم، ناشدتكم (1) الله ألم تكن خلافته قفل الفتنة بعد انطلاقها من عقالها؟ ألم يتلاف صلاح الأمور بنفسه بعد اضطراب أحوالها ولم يكل ذلك إلى القوّاد والأجناد، حتى باشره بالقوّة (2) والمهجة والأولاد، واعتزال النسوان، وهجر الأوطان، ورفض الدّعة وهي محبوبة، وترك الركون إلى الراحة وهي مطلوبة، بطويّة صحيحة (3) ، وعزيمة صريحة، وبصيرة ثابتة (4) نافذة ثاقبة، وريح هابّةٍ غالبة، ونصرة من الله واقعة واجبة، وسلطان قاهر، وجدّ ظاهر، وسيف منصور، تحت عدل مشهور، متحمّلاً للنّصب، مستقلاًّ لما ناله في جانب حدّتها، ولم يبق لها غارب إلا جبّه، ولا نجم لأهلها قرن إلا جذّه، فأصبحتم بنعمة الله إخواناً، وبلمّ أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعواناً، حتى تواترت لديكم الفتوحات، وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات (5) ، وصارت وفود الروم وافدة عليه وعليكم، وآمال الأقصين والآدنين مستخدمة إليه وإليكم، يأتون من كل فجّ عميق، وبلد سحيق، لأخذ حبل بينه وبينكم جملة وتفصيلاً، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ولن يخلف الله وعده، ولهذا الأمر ما بعده، وتلك أسباب ظاهرة بادية، تدل على أمور باطنة خافية، دليلها قائم، وجفنها غير نائم " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم " وليس في تصديق ما وعد الله ارتياب،

_ (1) ك: فأنشدكم. (2) بالقوة: زيادة من ك. (3) المطمح: خالصة. (4) ثابتة: زيادة من ك والمطمح. (5) المطمح: فقد فتح الله تعالى عليكم أبواب البركات وتواترت عليكم أسباب الفتوحات.

ولكل نبإ مستقر ولكل أجل كتاب، فاحمدوا الله أيّها الناس على آلائه، واسألوه المزيد من نعمائه، فقد أصبحتم بيمن خلافة أمير المؤمنين أيّده الله بالعصمة والسّداد، وألهمه بخالص التوفيق إلى سبيل الرشاد، أحسن الناس حالاً، وأنعمهم بالاً، وأعزهم قراراً، وأمنعهم داراً، وأكثفهم جمعاً، وأجملهم صنعاً، لا تهاجون ولا تذادون، وأنتم بحمد الله على أعدائكم ظاهرون، فاستعينوا على صلاح أحوالكم بالمناصحة لإمامكم، والتزام الطاعة لخليفتكم وابن عم نبيّكن، صلى الله عليه وسلّم، فإن من نزع يداً (1) من الطاعة، وسعى في تفريق الجماعة، ومرق من الدّين، فقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، وقد علمتم أن في التعلّق بعصمتها، والتمسّك بعروتها، حفظ الأموال وحقن الدماء، وصلاح الخاصّة الدّهماء، وأن بقوام الطاعة تقوم الحدود، وتوفى العهود، وبها وصلت الأرحام، ووضحت الأحكام، وبها سدّ الله الخلل، وأمّن السّبل، ووطّأ الأكناف، ورفع الاختلاف، وبها طاب لكم القرار، واطمأنّت بكم الدار، فاعتصموا بما أمركم الله بالاعتصام به، فإنّه تبارك وتعالى يقول " أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم "، وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين، وصنوف الملحدين، الساعين في شقّ عصاكم، وتفريق ملاكم (2) ، الآخذين في مخاذلة دينكم، وهتك حريمكم، وتوهين دعوة نبيّكم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع النبيين والمرسلين، أقول قولي هذا وأختم بالحمد لله رب العالمين، مستغفراً الله الغفور الرحيم فهو خير الغافرين.

_ (1) المطمح: يده. (2) المطمح: ملتكم؛ وملاكم مخففة من ملاءكم.

[ترجمة منذر بن سعيد البلوطي عن المغرب] وساق ابن سعيد في المغرب هذه الحكاية فقال ما صورته (1) : منذر بن سعيد البلّوطي، قاضي الجماعة بقرطبة، خطيبٌ مصقع، وله كتب مؤلّفة في القرآن والسنّة والورع، والرد على أهل الأهواء والبدع، شاعر بليغ، ولد سنة خمس وستين ومائتين (2) ، وأوّل سببه في التعلّق بعبد الرحمن الناصر لما احتفل لدخول رسول ملك الروم صاحب قسطنطينية بقصر قرطبة الاحتفال الذي اشتهر ذكره، أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه، لذكر جلالة مقعده، ووصف ما تهيّأ له من توطيد الخلافة، ورمي ملوك الأمم بسهام بأسه ونجدته، ويقدّمه أمام إنشاد الشعراء، فتقدّم الحكم إلى أبي عليّ البغدادي ضيف الخليفة وأمير الكلام وبحر اللغة، أن يقوم، فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ثم انقطع، وبهت ما وصل ولا قطع، ووقف ساكتاً مفكراً، فلمّا رأى ذلك منذر بن سعيدٍ قام قائماً بدرجة من مرقاة أبي علي، ووصل افتتاحه بكلام عجيب بهر العقول جزالة، وملأ الأسماع جلالة، ثم ذكر الخطبة كما سبق، وقال بعد إيرادها ما صورته: فصلب العلج وغلب على قلبه، وقال: هذا كبير القوم، أو كبش القوم، وخرج الناس يتحدثون عن حسن مقامه، وثبات جنانه، وبلاغة لسانه، وكان الناصر أشدّهم تعجباً منه، وأقبل على ابنه الحكم - ولم يكن يثبت معرفته - فسأله عنه، فقال له: هذا منذر بن سعيد البلّوطي، فقال: والله لقد أحسن ما شاء، لئن أخرني الله بعد لأرفعنّ من ذكره، فضع يدك يا حكم عليه، واستخلصه، وذكرني بشأنه، فما للصنيعة مذهب عنه، ثم ولاّه الصلاة والخطابة في المسجد

_ (1) لم ترد ترجمة لمنذر بن سعيد في المغرب المطبوع. (2) صوابه: 273.

الجامع بالزهراء، ثم توفّي محمد بن عيسى (1) القاضي فولاّه قضاء الجماعة بقرطبة، وأقرّه على الصلاة بالزهراء. ومن شعره في هذه الواقعة قوله (2) : مقالٌ كحدّ السيف وسط المحافل ... فرقت به ما بين حقّ وباطل بقلبٍ ذكيّ ترتمي جنباته (3) ... كبارق رعدٍ عند رعش الأنامل فما دحضت رجلي ولا زلّ مقولي ... ولا طاش عقلي يوم تلك الزلازل وقد حدّقت حولي عيونٌ إخالها ... كمثل سهامٍ أثبتت في المقاتل لخير إمام كان أو هو كائن ... لمقتبلٍ أو في العصور الأوائل ترى الناس أفواجاً يؤمّون بابه ... وكلّهم ما بي راجٍ وآمل وفود ملوك الروم وسط فنائه ... مخافة بأس أو رجاءً لنائل فعش سالماً أقصى حياة مؤمّلاً ... فأنت غياث كلّ (4) حافٍ وناعل ستملكها ما بين شرق ومغرب ... إلى درب قسطنطين أو أرض بابل انتهى كلام ابن سعيد، وهو يؤيد كلام ابن خلدون أن المأمور بالخطبة هو القالي. وذكر أن الناصر قال لابنه الحكم بعد أن سأله عنه (5) : لقد أحسن ما شاء، فلئن كان حبّر خطبته هذه وأعدّها مخافة أن يدور ما دار فيتلافى الوهي فإنّه

_ (1) الصواب: محمد بن أبي عيسى؛ وهو محمد بن عبد الله بن أبي عيسى الذي زظل قاضياً للجماعة حتى سنة 339 (انظر تجمته في الجذوة: 69 وبغية الملتمس رقم: 218 وابن الفرضي 2: 61 والخشني: 172 والمرقبة العليا: 59، وسيترجم له المقري في الراحلين رقم: 3) . (2) المطمح: 40. (3) ك: جمراته. (4) ك: رجاء الكل. (5) أزهار الرياض 2: 276.

لبديع من قدرته واحتياطه، ولئن كان أتى بها على البديهة لوقته فإنّه لأعجب وأغرب. قال ابن سعيد: ولما فرغ منذر من خطبته أنشد (1) : هذا المقام (2) الذي ما عابه فندٌ ... لكنّ قائله أزرى به البلد لو كنت فيهم غريباً كنت مطّرفاً ... لكنّني منهم فاغتالني النّكد ويروى بدل هذا الشطر: ولا دهاني له بغيٌ ولا حسد ... لولا الخلافة أبقى الله حرمتها ... ما كنت أرضى (3) بأرض ما بها أحد قلت: كأنّه عرّض بابي علي القالي، وتقديمهم إيّاه في هذا المقام، والله أعلم. ومن نظم منذر بن سعيد قوله: الموت حوضٌ وكلّنا نرد ... لم ينج ممّا يخافه أحد فلا تكن مغرماً برزق غدٍ ... فلست تدري بما يجيء غد وخذ من الدهر ما أتاك به ... ويسلم الروح منك والجسد والخير والشرّ لا تذعه فما ... في الناس إلا التشنيع والحسد ول وقد آذاه شخص فخاطبه بالكنية، فقيل له: أيؤذيك وأنت تخاطبه بالكنية؟ فقال: لا تعجبوا من أنني كنّيته ... من بعد ما قد سبّنا وأذانا فالله قد كنّى أبا لهب وما ... كناه إلاّ خزيةً وهوانا

_ (1) الجذوة: 326. (2) الجذوة: المقال. (3) الجذوة: أبقى.

[ترجمة منذر في المطمح] وقال في المطمح (1) : منذر بن سعيد البلوطي، آية حركة وسكون، وبركة لم تكن معدّة ولا تكون، وآية سفاهة في تحلّم، وجهامة ورع في طيّ تبسّم، إذا جدّ وجد (2) ، وإذا هزل نزل، وفي كلتا الحالتين لم ينزل للورع من مرقب، ولا اكتسب إثماً ولا احتقب، ولي قضاء الجماعة بقرطبة أيّام عبد الرحمن، وناهيك من عدل أظهر، ومن فضل أشهر، ومن جور قبض، ومن حقّ رفع ومن باطل خفض، وكان مهيباً صليباً صارماً غير جبان ولا عاجز ولا مراقب لأحد من خلق الله في استخراج حق ورفع ظلم، واستمر في القضاء إلى أن مات الناصر لدين الله ثم ولي ابنه الحكم فأقرّه، في خلافته استعفى مراراً فما أعفي، وتوفّي بعد ذلك لم يحفظ عنه (3) مدّة ولايته قضية جور، ولا عدّت عليه في حكومته زلة، وكان غزير العلم، كثير الأدب، متكلّماً بالحق، متبيّناً بالصدق، له كتب مؤلفة في السنّة والقرآن والورع، والرد على أهل الأهواء والبدع، وكان خطيباً بليغاً وشاعراً محسناً، ولد عند ولاية المنذر بن محمد (4) ، وتوفّي سنة 355، ومن شعره في الزهد قوله: كم تصابى وقد علاك المشيب ... وتعامى عمداً وأنت اللبيب؟ كيف تلهو وقد أتاك نذيرٌ ... أن سيأتي الحمام منك قريب؟ يا سفيهاً قد حان منه رحيلٌ ... بعد ذاك الرحيل يومٌ عصيب إنّ للموت سكرةً فارتقبها ... لا يداوي إذا أتتك طبيب كم توانى حتى تصير رهيناً ... ثمّ تأتيك دعوةٌ فتجيب

_ (1) المطمح: 37. (2) المطمح: تجرد. (3) المطمح: تحفظ عليه. (4) زاد في المطمح سنة ثلاث وسبعين ومائتين (وفي طبعة الجوائب: ثلاث وعشرين، وهو خطأ) .

بأمور المعاد أنت عليمٌ ... فاعملن جاهداً له يا أريب (1) وتذكّر يوماً تحاسب فيه ... إنّ من يدّكر فسوف ينيب ليس من ساعة من الدهر إلاّ ... للمنايا بها عليك رقيب ولعلّنا نذكر شيئاً من أحوال منذر في غير هذا الموضع. رجع لأخبار الناصر لدين الله - حكي (2) أنّه لما أعذر لأولاد ابنه أبي مروان عبيد الله اتخذ لذلك صنيعاً عظيماً بقصر الزهراء لم يتخلّف أحد عنه من أهل مملكته وأمر أن ينذر لشهوده الفقهاء المشاورون ومن يليهم من العلماء والعدول ووجوه الناس، فتخلف من بينهم المشاور أبو إبراهيم، وافتقد مكانه لارتفاع منزلته، فسأل في ذلك الخليفة الناصر، إذ أبو إبراهيم من أكابر علماء المالكيّة الذي عليهم المدار، ووجد الناصر بسبب ذلك على أبي إبراهيم، وأمر ابنه وليّ العهد الحكم بالكتاب إليه، والتفنيد له، فكتب إليه الحكم رقعةً نسختها: بسم الله الرحمن الرحيم، حفظك الله وتولاك، وسددك ورعاك، لمّا امتحن أمير المؤمنين مولاي وسيدي - أبقاه الله - الأولياء الذي يستعدّ بهم وجدك متقدماً في الولاية، متأخّراً عن الصلة، على أنّه قد أنذرك - أبقاه الله - خصوصاً للمشاركة في السرور الذي كان عنده، لا أعدمه الله توالي المسرّة، ثم أنذرت من قبل إبلاغاً في التكرمة، فكان منك على ذلك كلّه من التخلّف ما ضاقت عليك فيه المعذرة، واستبلغ أمير المؤمنين في إنكاره ومعاتبتك عليهن فأعيت عليك عنك الحجّة، فعرّفني - أكرمك الله - ما الذر الذي أوجب توقفك عن إجابة دعوته، ومشاهدة السرور الذي سرّبه وغب المشاركة فيه، لنعرّفه - أبقاه الله - بذلك، فتسكن نفسه العزيزة غليه إن شاء الله تعالى. فأجابه أبو إبراهيم: سلام على الأمير سيدي ورحمة الله، قرأت - أبقى الله الأمير

_ (1) في الأصول ما عدا ج: ربيب. (2) أزهار الرياض 2: 282.

سيدي - هذا الكتاب وفهمته، ولم يكن توقّفي لنفسي، إنّما كان لأمير المؤمنين سيدنا أبقى الله سلطانه، لعلمي بمذهبه، وسكوني إلى تقواه، واقتفائه لأثر سلفه الطيّب رضوان الله عليهم، فإنّهم يسبقون من هذه الطبقة بقية لا يمتهنونها بما يشينها، ولا بما يغض منها نطرق إلى تنقيصها، يستعدون بها لدينهم، ويتزيّنون بها عند رعاياهم ومن يفد عليهم من قصّدهم، فلهذا تخلفت، ولعلمي بمذهبه توقفت، إن شاء الله تعالى. فلمّا أقرأ الحكم أباه الناصر لدين الله جواب أبي إبراهيم إسحاق أعجبهن واستحسن اعتذاره، وزال ما بنفسه عليه. وكان الفقيه أبو إبراهيم المذكور معظّماً عند الناصر وابنه الحكم، وحقّ لهما أن يعظماه؛ وقد حكى الفقيه أبو القسم بن مفرّج قال (1) : كنت أختلف إلى الفقيه أبي إبراهيم؟ رحمه الله تعالى، فيمن يختلف إليه للتفقّه والرواية، فإنّي لعنده في بعض الأيّام في مجلسه بالمسجد المنسوب لأبي عثمان الذي كان يصلي به قرب داره بجوفي قصر قرطبة، ومجلسه حافل بجماعة الطلبة، وذلك بين الصلاتين، إذ دخل عليه خصيّ من أصحاب الرسائل، جاء من عند الخليفة الحكم، فوقف وسلّم، وقال له: يا فقيه، أجب أمير المؤمنين أبقاه الله، فإن المر خرج فيك، وها هو قاعد ينتظرك، وقد أمرت بإعجالك، فالله الله، فقال له: سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين، ولا عجلة فارجع إليه وعرّفه وفقه الله عني أنّك وجدتني في بيت من بيوت الله تعالى معي طلاب العلم أسمعهم حديث ابن عمّه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فهم يقيّدونه عني، وليس يمكنني ترك ما أنا فيه حتى يتم المجلس المعهود له في رضا الله وطاعته، فذلك أوكد من مسيري إليه الساعة، فإذا انقضى أمر من اجتمع إليّ من هؤلاء المحتسبين في ذات الله الساعين لمرضاته مشيت إليه إن شاء الله تعالى. ثم أقبل على

_ (1) أزهار الرياض 2: 285.

شأنه، ومضى الخصي يهينم متضاجراً من توقّفه، فلم يك إلا ريثما أدّى جوابه، وانصرف سريعاً ساكن الطيش، فقال له: يا فقيه، أنهيت قولك على نصّه إلى أمير المؤمنين أبقاه الله، فأصغى إليه، وهو يقول لك: جزاك الله خيراً عن الدين وعن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين، وأمتعهم بك، وإذا أنت أوعبت (1) فامض إليه راشداً إن شاء الله تعالى، وقد أمرت أن أبقى معك حتى ينقضي شغلك وتمضي معي، فقال له: حسن جميل، ولكني أضعف عن المشي إلى باب السّدّة، ويصعب عليّ ركوب دابة لشيخوختي وضعف أعضائي، وباب الصناعة الذي يقرب إليّ من أبواب القصر المكرّم أحوط وأقرب وأرفق بي، فإن راى أمير المؤمنين - أيّده الله تعالى - أن يأمر بفتحه لأدخل إليه منه هوّن علي المشي، وودع جسمي، وأحب أن تعود وتنهي إليه ذلك عني حتى تعرف رأيه فيه، وكذلك تعود إليّ فإنّي أراك فتى سديداً، فكن على الخير معيناً. ومضى عنه الفتى، ثم رجع بعد حين وقال: يا فقيه، قد أجابك الأمير إلى ما سألت، وأمر بفتح باب الصناعة وانتظارك من قبله، ومنه خرجت إليك، وأمرت بملازمتك مذكراً بالنهوض عند فراغك، وقال: افعل راشداً؛ وجلس الخصيّ جانباً حتى أكمل أبو إبراهيم مجلسه كأفسح (2) ما جرت به عادته غير منزعج ولا قلق، فلمّا انفضضنا عنه قام إلى داره فأصلح من شأنه ثمّ مضى إلى الخليفة الحكم فوصل إليه من ذلك الباب، وقضى حاجته من لقائه، ثم صرفه على ذلك الباب، فأعيد إغلاقه على إثر خروجه. قال ابن مفرّج: ولقد تعمدّنا في تلك العشيّة إثر قيامنا عن الشيخ أبي إبراهيم المرور بهذا الباب المعهود إغلاقه بدبر (3) القصر لنرى تجشّم الخليفة له، فوجدناه كما وصف الخصي مفتوحاً (4) ، وقد حفّه الخدم والأعوان منزعجين ما بين

_ (1) ك: أوعيت. (2) ك: بأكمل وأفسح. (3) في الأصول: بدير. (4) ك: مفتوحاً كما وصف.

كنّاس وفرّاش متأهّبين لانتظار أبي إبراهيم، فاشتدّ عجبنا لذلك، وطال تحدثنا عنه، انتهى. فهكذا تكون العلماء مع الملوك والملوك معهم (1) ، قدس الله تلك الأرواح. ثم توفّي الناصر لدين الله ثاني - أو ثالث - شهر رمضان، من عام خمسين وثلاثمائة، أعظم ما كان سلطانه، وأعزّ ما كان الإسلام بملكه. قال ابن خلدون: خلف الناصر في بيوت الأموال خمسة آلاف ألف ألف ألف ثلاث مرات، انتهى. وقال غير واحد (2) : إنّه كان يقسم الجباية أثلاثاً: ثلث للجند، وثلث للبناء، وثلث مدّخر، وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار، وأمّا أخماس الغنائم العظيمة فلا يحصيها ديوان. وحكي (3) أنّه وجد بخط الناصر - رحمه الله - أيام السرور التي صفت له دون تكدير يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا ويوم كذا من كذا، وعدّت تلك الأيام فكانت أربعة عشر يوماً، فاعجب أيهاالعاقلهذه الدّنيا وعدم صفائها، وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها، هذا الخليفة الناصر حلف السعود، المضروب به المثل في الارتقاء في الدينا والصعود، ملكها خمسين سنة وستة - أو سبعة - أشهر وثلاثة أيّام، ولم تصف له إلا أربعة عشر يوماً، فسبحان ذي العزّة القائمة، والمملكة الدائمة، لا إله إلا هو. وممّا ينسب للناصر من الشعر، وقيل: لابنه الحكم، قوله (4) :

_ (1) ك: مع العلماء. (2) المغرب 1: 179 وأزهار الرياض 2: 271. (3) المغرب 1: 177 وأزهار الرياض 2: 282. (4) المغرب 1: 179.

ما كلّ شيء فقدت إلاّ ... عوّضني الله منه شيّا إنّي إذا ما منعت خيري ... تباعد الخير من يديا من كان لي نعمةٌ عليه ... فإنّها نعمةٌ عليّا [الوزير أحمد بن عبد الملك بن شهيد] وممّا زيّن الله به دولة الناصر وزراؤه الذين من جملتهم ابن شهيد، قال في المطمح (1) : أحمد بن عبد الملك بن عمر بن شهيد، مفخر الإمامة، وزهر تلك الكمامة، وحاجب (2) الناصر عبد الرحمن، وحامل الوزارتين على سموّهما في ذلك الزّمان، استقلّ بالوزارة على ثقلها، وتصرف فيها كيف شاء على حدّ نظرها والتفات مقلها، فظهر على أولئك الوزراء، واشتهر مع كثرة النظراء، وكانت إمارة عبد الرحمن أسعد إمارة، بعد عنها كلّ نفس بالسوء أمّارة، فلم يطرقها صرف، ولم يرمقها محذور بطرف، ففرع الناس فيها هضاب الأمانيّ وربها، ورتعت ظباؤها في ظلال ظباها، وهو أسدٌ على براثنه رابض، وبطلٌ أبداً على قائم سيفه قابض، يروع الروم طيفه، ويجوس خلا تلك الديار خوفه، ويروى بل يحسم كلّ آونة سيفه، وابن شهيد ينتج الآراء ويلقحها، وينقد تلك الأنحاء وينقحها، والدولة مشتملة بغنائه، متجملة بسنائه، وكرمه منتشر على الآمال، ويكسو الأولياء بذلك الإجمال، وكان له أدب تزخر لججه، وتبهر حججه، وشعره رقيق لا ينقد، ويكاد من اللطافة يعقد، فمن ذلك قوله: ترى البدر منها طالعاً فكأنّما ... يجول وشاحاها على لؤلؤ رطب

_ (1) المطمح: 9 والمقتطفات الورقة 85 - 86) وانظر ترجمة الوزير ابن شهيد أيضاً في الحلة 1: 237 وجذوة المقتبس: 123 (وبغية الملتمس رقم: 439) ، وسقطت ترجمته من المغرب المطبوع. (2) ك: وصاحب.

بعيدة مهوى القرط مخطفة الحشا ... ومفعمة الخلخال مفعمة (1) القلب من اللاّء لم يرحلن فوق رواحل ... ولا سرن يوماً في ركاب ولا ركب ولا أبرزتهنّ المدام لنشوة ... وشدوٍ كما تشدو القيان على الشّرب وكان بينه وبين الوزير عبد الملك بن جهور متولي الأمر معه، ومشاركه في التدبير إذا حضر مجتمعه، منافسة، لم تنفصل لهما بها مداخلة ولا ملابسة، وكلاهما يتربّص بصاحبه دائرة السّوء، ويغص به غصص الأفق بالنّوء، فاجتاز يوماً على ربضه، وما إلى زيارته ولم تكن من غرضه، فلمّا استأمر عليه، تأخر خروج الإذن إليه، فثنى عنانه حنقاً من حجابه، وضجراً من حجّابه، وكتب إليه معرّضاً، وكان يلقّب بالحمار: أتيناك لا عن حاجة عرضت لنا ... إليك ولا قلبٍ إليك مشوق ولكنّنا زرنا بفضل حلومنا ... حماراً تولّى برّنا بعقوق (2) فراجعه ابن جهور يغض منه، بما كان يشيع عنه، بأن جدّه أبا هشام، كان بيطاراً بالشام، بقوله: حجبناك لمّا زرتنا غير تائق ... بقلب عدوّ في ثياب صديق وما كان بيطار الشّآم بموضع ... يباشر فيه برّنا بخليق ومن شعره قوله يتغزل: حلفت بمن رمى فأصاب قلبي ... وقلبه على جمر الصّدود لقد أودى تذكّره بقلبي ... ولست أشكّ أنّ النفس تودي

_ (1) ط ق: مقمعة. (2) في ق ك: ولكننا زرنا بفضل حلومنا ... فكيف تلاقي برنا بعقوق زالتصحيح عن الحميدي والحلة السيراء.

فقيدٌ وهو موجودٌ بقلبي ... فوا عجبا لموجودٍ فقيد وقد تقدّم الكلام على هدية ابن شهيد وبعض أخباره، رحمة الله عليه. [الحكم المستنصر] ولمّا توفّي الناصر لدين الله (1) تولى الخلافة بعده وليّ عهده الحكم المستنصر بالله فجرى على رسمه، ولم يفقد من ترتيبه إلاّ شخصه، وولي حجابته جعفر المصحفي، وأهدي له يوم ولايته هديّة كان فيها من الأصناف ما ذكره ابن حيّان في المقتبس وهي: مائة مملوك من الإفرنج ناشئة (2) على خيول صافنة كاملو الشّكة والأسلحة من السيوف والرماح والدّرق والتراس والقلانس الهندية، وثلاثمائة ونيّف وعشرون درعاً مختلفة الأجناس، وثلاثمائة خوذة كذلك، ومائة بيضة هنديّة، وخمسون خوذة خشبية (3) من بيضات الفرنجة من غير الخشب (4) يسمونها الطشطانة (5) ، وثلاثمائة حربة إفرنجية، ومائة ترس سلطانية (6) ، وعشرة جواشن فضّة مذهبة، وخمسة وعشرون قرناً مذهبة من قرون الجاموس، انتهى. قال ابن خلدون (7) : ولأوّل وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور، فغزا الحكم المستنصر بنفسه، واقتحم بلد فرذلند بن غندشلب (8) ، فنازل شنت اشتبين (9)

_ (1) سياق الخبر جسبما ورد في ابن خلدون 4: 144. (2) ك: ناشبة. (3) ق ك: وخمسون هندية خشبية. (4) كذا ولعلها: " من خير الخشب ". (5) ابن خلدون: الطاشانة؛ والطشطانة (Tistina) كلمة مشتقة من البروفنسالية (Testa) (أي الرأس Tete) وتكتب أيضاً طشتانية وتعني " الخوذة ". (6) ابن خلدون: سلطانية الجنس. (7) تاريخ ابن خلدون 4: 144 والكلام متصل بما قيله في النقل عنه. (8) فرذلند (Fernando Ferdinand) ؛ غند شلب (جنثالث) (Gonzalo) . (9) شنت اشتيبين (وفي ق ك ط قدمت الباء الموحدة على الياء) (San Esetban) وبها يسمى غير موضع بالأندلس، ولكن المعنى هنا المدينة القريبة من وشقة (Huesca)

وفتحها عنوة واستباحها، وقفل، فبادروا إلى عقد السلم معه وانقبضوا عمّا كانوا فيه، ثمّ أغزى غالباً مولاه بلاد جليقية وسار إلى مدينة سالم لدخول دار الحرب، فجمع له الجلالقة، ولقيهم فهزمهم واستباحهم وأوطأ العساكر بلد فرذلند ودوّخها، وكان شانجة (1) بن رذمير ملك البشكنس قد انتقض، فأغزاه الحكم التجيبيّ صاحب سرقسطة في العساكر، وجاء ملك الجلالقة لنصره، فهزمهم، وامتنعوا بقورية (2) ، وعاثوا في نواحيها، وقفل، ثم أغزى الحكم أحمد بن يعلى ويحيى بن محمد التجيبي إلى بلاد برشلونة، فعاثت العساكر في نواحيها، وأغزى هذيل بن هاشم ومولاه غالباً إلى بلاد القومس، فعاثا فيها، وقفلا، وعظمت فتوحات الحكم وقوّاد الثغور في كل ناحية، وكان من أعظمها فتح قلهرّة (3) من بلاد البشكنس على يد غالب، فعمرها الحكم، واعتنى بها، ثمّ فتح قطوبية (4) على يد قائد وشقة وغنم فيها من الأموال والسلاح والأقوات والأثاث وفي بسطها من الغنم والبقر والرّمك والأطعمة والسبي ما لا يحصى. وفي سنة أربع وخمسين سار غالب إلى بلد ألبة، ومعه يحيى بن محمّد التجيبي وقاسم بن مطرف بن ذي النون، فابتنى حصن غرماج (5) ، ودوّخ بلادهم، وانصرف. وظهرت في هذه السنة مراكب المجوس في البحر الكبير، وأفسدوا بسائط أشبونة وناشبهم الناس القتال، فرجعوا إلى مراكبهم، وأخرج الحكم

_ (1) ق ج ك ط: شنجة. (2) قورية (Coria) من مدن كورة ماردة وكانت تعرف قبل فتح العرب باسم (Caurium) . (3) في ك: قلمرية (Coimbra) فهي حسب التقسيمات القديمة من قسم طركونة ومن قواعد منطقة نبره (نافار) . (4) كذا في ق ك ج ط وعند دوزي، ولعل الصواب: قطريبه (Yerba) . (5) غرماج (Gormaz) ؛ (وانظر أخباراً عما حدث لهذا الحصن في المقتبس: 234 ط. بيروت) .

القوّاد لاحتراس السواحل، وأمر قائد البحر عبد الرحمن بن رماحس بتعجيل حركة الأسطول، ثم وردت الأخبار بأن العساكر نالت منهم في كل جهة من السواحل. ثمّ كانت وفادة أردون بن أذفونش ملك الجلالقة، وذلك أن الناصر لمّا أعان عليه شانجة بن رذمير - وهو ابن عمّه، وهو الملك (1) من قبل أردون - وحمل النصرانية على طاعته، واستظهر أردون بصهره فرذلند قومس قشتيلة، وتوقّع مظاهرة الحكم لشانجة كما ظاهره أبوه الناصر، فبادر إلى الوفادة على الحكم مستجيراً به، فاحتفل لقدومه، وعبّى العساكر ليوم وفادته، وكان يوماً مشهوداً وصفه ابن حيّان كما وصف أيّام الوفادات قبله، ووصل إلى الحكم وأجلسه، ووعده بالنصر من عدوّه، وخلع عليه، وكتب بوصوله ملقياً بنفسه، وعاقده على موالاة الإسلام، ومقاطعة فرذلند القومس، وأعطى على ذلك صفقة يمينه. ورهن ولده غرسية، ودفعت الصّلات والحملان له ولأصحابه، وانصرف معه وجوه نصارى الذمّة ليوطّدوا له الطاعة عند رعيته، ويقبضوا رهنه. وعند ذلك بعث ابن عمّه شانجة بن رذمير ببيعته وطاعته مع قواميس أهل جليقية وسمّورة وأساقفتهم، يرغب في قبوله، ويمتّ بما فعل أبوه الناصر معه، فتقبل بيعتهم على شروط شرطها كان منها هدم الحصون والأبراج القريبة من ثغور المسلمين. ثمّ بعث ملكا برشلونة وطرّكونة وغيرهما يسألان تجديد الصلح وإقرارهما على ما كانا عليه، وبعثا بهدية، هي: عشرون صبيّاً من الخصيان الصقالبة، وعشرون قنطاراً من صوف السمّور، وخمسة قناطير من القصدير، وعشرة أدراعٍ صقلبية، ومائتا سيف فرنجية، فتقبل الهدية وعقد لهم على أن يهدموا

_ (1) ق: المملك.

الحصون التي تضرّ بالثغور، وأن لا يظاهروا عليه أهل ملّتهم، وأن ينذروا بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين. ثم وصلت رسل غرسية بن شانجة ملك البشكنس في جماعة من الأساقفة والقواميس يسألون الصلح، بعد أن كان توقف وأظهر المكر، فعقد لهم الحكم، فاغتبطوا ورجعوا. ثمّ وفدت على الحكم أم لذريق بن بلاشك القومس (1) بالغرب من جليقية، وهو القومس الأكبر، فأخرج الحكم لتلقّيها أهل دولته، واحتفل لقدومها في يوم مشهود مشهور، فوصلت وأسعفت، وعقد السلم لابنها كما رغبت، ودفع لها مالاً تقسّمه بين وقدها، دون ما وصلت به هي، وحملت على بغلة فارهة بسرج ولجام مثقلين بالذهب وملحفة ديباج، ثم عاودت مجلس الحكم للوداع، فعاودها بالصّلات لسفرها، وانطلقت. ثمّ أوطأ عساكره أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط، وتلقّى دعوته ملوك زناتة من مغراوة ومكناسة، فبثّوها في أعمالهم، وخطبوا بها على منابرهم، زاحموا بها دعوة الشّيعة فيما بينهم، ووفد عليه من بني خزر وبني أبي العافية، فأجزل صلتهم، وأكرم وفادتهم، وأحسن منصرفهم، واستنزل بني إدريس من ملكهم العدوة في ناحية الرّيف، وأجازهم البحر إلى قرطبة، ثم جلاهم إلى الإسكندرية. وكان محبّاً للعلوم، مكرماً لأهلها، جمّاعاً للكتب في أنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله، قال أبو محمد بن حزم: أخبرني تليد الخصيّ - وكان على خزانة (2) : العلوم والكتب بدار بني مروان - أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، وفي كل فهرسة عشون ورقة (3) ، ليس فيها

_ (1) لذريق بن بلاشك (أو بلشك) (Rodrigo Velasques) وأمه هي: (Oneca) . (2) انظر الجمهرة: 100 وابن خلدون 4: 146. (3) الجمهرة: خمسون ورقة.

إلا ذكر أسماء الدواوين لا غير، وأقام للعلم والعلماء سوقاً نافقة جلبت إليها بضائعه من كل قطر. ووفد على أبيه (1) أبو عليّ القالي صاحب كتاب الأمالي من بغداد فأكرم مثواه، وحسنت منزلته عنده، وأورث أهل الأندلس علمه، واختص بالحكم المستنصر واستفاد علمه؛ وكان يبعث في الكتب (2) إلى الأقطار رجالاً من التجار، ويرسل (3) إليهم الأموال لشرائها، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه، وبعث في كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني، وكان نسبه في بني أمية، وأرسل إليه فيه بألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق، وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم، وأمثال ذلك. وجمع بداره الحذّاق في صناعة النّسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كلّه، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، إلاّ ما يذكر عن الناصر العباسيّ بن المستضيء، ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر، وأمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر، ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم إياها عنوة، انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار. ولنبسط الكلام على الحكم فنقول (4) : إن الحكم المستنصر اعتلى سرير الملك ثاني يوم وفاة أبيه يوم الخميس، وقام بأعباء الملك أتم قيام، وأنفذ الكتب إلى الأفاق بتمام الأمر له، ودعا الناس إلى بيعته، واستقبل من يومه النظر في تمهيد سلطانه، وتثقيف مملكته، وضبط قصوره، وترتيب أجناده، وأوّل ما أخذ

_ (1) ك: قال أبو محمد بن خلدون ولما وفد ... أكرم. (2) ك: في شراء الكتب. (3) ج: ويسدي؛ ط ق: ويسري. (4) انظر أزهار الرياض 2: 286 والنص متفق مع النفح حتى آخر قصيدة المرادي ص: 394.

البيعة على صقالبة قصره الفتيان المعروفين بالخلفاء الأكابر، كجعفر صاحب الخيل والطراز وغيره من عظمائهم، وتكفّلوا بأخذها على من وراءهم وتحت أيديهم من طبقتهم وغيرهم، وأوصل إلى نفسه في الليل دون هؤلاء الأكابر من الكتّاب والوصفاء والمقدمين والعرفاء، فبايعوه، فلمّا كملت بيعة أهل القصر تقدّم إلى عظيم دولته جعفر بن عثمان بالنهوض إلى أخيه شقيقه أبي مروان عبيد الله المتخلف بأن يلزمه الحضور للبيعة دون معذرة، وتقدم إلى موسى بن أحمد بن حدير بالنهوض أيضاً إلى ابي الأصبغ عبد العزيز شقيقه الثاني، فمضى إليهما كلّ واحد منهما في قطيع من الجند، وأتيا بهما إلى قصر مدينة الزهراء، ونفذ غيرهما من وجوه الرجال في الخيل لإتيان غيرهما من الإخوة، وكانوا يومئذ ثمانية، فوافى جميعهم الزهراء في الليل، فنزلوا في مراتبهم بفصلان (1) دار الملك، وقعدوا في المجلسين الشرقي والغربي، وقعد المستنصر بالله على سرير الملك في البهو الوسط من الأبهاء المذهبة القبلية التي في السطح الممرّد، فأوّل من وصل إليه الإخوة فبايعوه، وأنصتوا لصحيفة البيعة، والتزموا الأيمان المنصوصة بكل ما انعقد فيها، ثم بايع بعدهم الوزراء وأولادهم وإخوتهم، ثمّ أصحاب الشرطة وطبقات أهل الخدمة، وقعد الإخوة والوزراء والوجوه عن يمينه وشماله، إلا عيسى بن فطيس فإنّه كان قائماً يأخذ البيعة على الناس، وقام الترتيب على الرسم في مجالس الاحتفال المعروفة، فاصطف في المجلس الذي قعد فيه أكابر الفتيان يميناً وشمالاً إلى آخر البهو كلّ منهم على قدره في المنزلة، عليهم الظهائر البيض شعار الحزن، قد تقلدوا فوقها السيوف، ثم تلاهم الفتيان الوصفاء، عليهم الدروع السابغة والسيوف الحالية، صفين منتظمين في السطح، وفي الفصلان المتصلة به ذوو الأسنان من الفتيان الصقالبة الخصيان لابسين البياض، بأيديهم السيوف، يتصل بهم من دونهم من طبقات

_ (1) الفصلان والفصل: جمع فصيل، ويقابل (Porticus) باللاتينية، وهو الرحبة عند مدخل البيت، وتكون الفصلان فيما يبدو على شكل رحاب وصحون متوالية تحددها هيئة الأعمدة.

الخصيان الصقالبة، ثم تلاهم الرماة متنكبين قسيّهم وجعابهم، ثم وصلت صفوف هؤلاء الخصيان الصقالبة صفوف العبيد الفحول شاكين في الأسلحة الرائقة والعدّة الكاملة، قامت التعبية في دار الجند والترتيب من رجّالة العبيد عليهم الجواشن والأقبية البيض، وعلى رؤوسهم البيضات الصّقيلة (1) ، وبأيديهم التّراس الملوّنة والأسلحة المزينة، انتظموا صفين إلى آخر الفصل، وعلى باب السّدّة الأعظم البوّابون وأعوانهم، ومن خارج باب السّدّة فرسان العبيد إلى باب الأقباء، واتصل بهم فرسان الحشم وطبقات الجند والعبيد والرماة، موكباً إثر موكب، إلى باب المدينة الشارع إلى الصحراء، فلمّا تمّت البيعة أذن للناس بالانفضاض، إلا الإخوة والوزراء وأهل الخدمة فإنّهم مكثوا بقصر الزهراء إلى أن احتمل جسد الناصر - رحمه الله - إلى قصر قرطبة للدفن هنالك في تربة الخلفاء. وفي ذي الحجّة من سنة خمسين تكاثرت الوفود بباب الخليفة الحكم من البلاد للبيعة والتماس المطالب، من أهل طليطلة وغيرها من قواعد الأندلس وأصقاعها، فتوصلوا إلى مجلس الخليفة بمحضر جميع الوزراء والقاضي منذر بن سعيدوالملأ، فأخذت عليهم البيعة، ووقّعت الشهادات في نسخها. [؟ وفود أردون على المستنصر] وفي آخر صفر من سنة إحدى وخمسين أخرج الخليفة الحكم المستنصر بالله مولييه محمّداً وزياداً ابني أفلح الناصري بكتيبة من الحشم لتلقّي غالب الناصري صاحب مدينة سالم المورد للطاغية أردون بن أذفونش الخبيث في الدولة المتملك على طوائف من أمم الجلالقة والمنازع لابن عمّه المملّك قبله شانجة بن رذمير، وتبرع هذا اللعين أردون بالمسير إلى باب المستنصر بالله من ذاته، غير

_ (1) ك: الصقلبية؛ وفي بعض النسخ: الصقلية.

طالب إذن ولا مستظهر بعهد، وذلك عندما بلغه اعتزام الحكم المستنصر بالله في عامه ذلك على الغزو إليه، وأخذه في التأهّب لهن فاحتال في تأميل المستنصر بالله والارتماء عليه، وخرج قبل أمانٍ بعقد له أو ذمّة تعصمه في عشرين رجلاً من وجوه أصحابه، تكنّفهم غالب الناصري الذي خرجوا إليه، فجاء به نحو مولاه الحكم، وتلقّاهم ابنا أفلح بالجيش المذكور فأنزلاهم، ثم تحرّكا بهم ثاني يوم نزولهم إلى قرطبة، فأخرج المستنصر بالله إليهم هشاماً المصحفي في جيش عظيم كامل التعبية، وتقدّموا إلى باب قرطبة، فمرّوا بباب قصرها، فلمّا انتهى أردون إلى باب السّدة وباب الجنان سأل عن مكان رمس الناصر لدين الله فأشير إلى ما يوازي موضعه من داخل القصر في الروضة، فخلع قلنسوته، وخضع نحو مكان القبر، ودعا، ثم ردّ قلنسوته إلى رأسه. وأمر المستنصر بإنزال أردون في دار الناعورة، وقد كان تقدّم في فرشها بضروب الغطاء والوطاء، وانتهى من ذلك إلى الغاية، وتوسّع له في الكرامة ولأصحابه، فأقام بها الخميس والجمعة، فلمّا كان يوم السبت تقدم المستنصر بالله باستدعاء أردون ومن معه بعد إقامة الترتيب وتعبية الجيوش والاحتفال في ذلك من العدد والأسلحة والزينة، وقعد المستنصر بالله على سرير الملك في المجلس الشرقي من مجالس السطح، وقعد الإخوة وبنوهم والوزراء ونظراؤهم صفاً في المجلس فيهم القاضي منذر بن سعيد والحكام والفقهاء، فأتى محمّد بن القاسم بن طملس (1) بالملك أردون وأصحابه وعالي لبوسه (2) ثوبٌ ديباجيٌّ روميٌّ ابيض وبليوال (3) من جنسه وفي لونه، وعلى رأسه قلنسوة رومية منظومة

_ (1) محمد بن قاسم بن طملس: كان يشغل في ايام المستنصر منصب الوزير صاحب الحشم، وقد قتل في حروب العدوة أول سنة اثنتين وستين وثلاثمائة بفحص مهران (المقتبس: 96 ط. بيروت) . (2) ق: لباسه. (3) لعلها من اللفظة (Pluvial) ، أو (Palio) (فتقرأ: بليون) ، وفي ق: ويلبوال؛ ج: يلنوال؛ ك: بليوان.

بجوهر، وقد حفته جماعة من نصارى وجوه الذمّة بالأندلس يؤنسونه ويبصرونه، فيهم وليد بن خيزران (1) قاضي النصارى بقرطبة وعبيد الله بن قاسم مطران طليطلة (2) وغيرهما، فدخل بين صفّي الترتيب يقلّب الطّرف في نظم الصفوف، ويجيل الفكر في كثرتها وتظاهر أسلحتها ورائق حليتها، فراعهم ما أبصروه، وصلّبوا على وجوههم، وتأملوا ناكسي رؤوسهم غاضّين من أجفانهم قد سكّرت أبصارهم حتى وصلوا إلى باب الأقباء أوّل باب قصر الزهراء، فترجل جميع من كان خرج إلى لقائه، وتقدم الملك أردون وخاصّة قوامسه على دوابهم، حتى انتهوا إلى باب السّدّة، فأمر القوامس بالترجّل هنالك والمشي على الأقدام، فترجلوا، ودخل الملك أردون وحده راكباً مع محمد بن طملس، فأنزل في برطل (3) البهو الأوسط من الأبهاء القبلية التي بدار الجند على كرسي مرتفع مكسوّ الأوصال بالفضّة، وفي هذا المكان بعينه نزل قبله عدوّه ومناوئه شانجة بن رذمير الوافد على الناصر لدين الله - رحمه اله تعالى - فقعد أردون على الكرسي، وقعد أصحابه بين يديه، وخرج الإذن لأردون الملك من المستنصر بالله بالدخول عليه، فتقدم يمشي وأصحابه يتبعونه إلى أن وصل إلى السطح، فلمّا قابل المجلس الشرقي الذي فيه المستنصر بالله وقف وكشف رأسه وخلع برنسه، وبقي حاسراً إعظاماً لما بان له من الدنو إلى السرير، واستنهض فمضى بين الصفين المرتبين في ساحة السطح، إلى أن قطع السطح وانتهى إلى باب البهو، فلمّا قابل السرير

_ (1) كذا في ق ج ط ودوزي؛ وهو مضطرب في النسخ فهو: خيزان؛ حيزون (في ك) ؛ خيرون؛ ولعل الأخيرة " خيرون " هي الصواب؛ وهذا القاضي فيما يبدو هو الذي أعان على ترجمة كتاب هروشيوش حين أهداه إمبراطور القسطنطينية إلى الناصر (ابن خلدون 2: 88) وفي أحداث سنة 360 من المقتبس أن قاضي النصارى بقرطبة كان اسمه " اصبغ بن نبيل " (ص: 64، 146) . (2) سماه في المقتبس (47) مطران إشبيلية، وكان المستنصر يعتمد عليه في الترجمة وفي مرافقة الوفود وشؤون السفارات. (3) البرطل: يقابل بالإسبانية (Portal) أي المدخل.

خرّ ساجداً سويعةً، ثم استوى قائماً، ثم نهض خطواتٍ، وعاد إلى السجود ووالى ذلك مراراً إلى أن قدم بين يدي الخليفة وأهوى إلى يده فناوله إياها وكرّ راكعاً مقهقراً على عقبه إلى وساد ديباج مثقل بالذهب، جعل له هنالك، ووضع على قدر عشرة أذرع من السرير، فجلس عليه، والبهر قد علاه، وأنهض خلفه من استدنى من قوامسه وأبتاعه، فدنوا ممتثلين في تكرير الخنوع وناولهم الخليفة يده فقبّلوها وانصرفوا مقهقرين فوقفوا على رأس ملكهم، ووصل بوصولهم وليد بن خيزران قاضي النصارى بقرطبة، فكان الترجمان عن الملك أردون ذلك اليوم، فأطرق الحكم عن تكليم الملك أردون إثر قعوده أمامه وقتاً كيما يفرخ (1) روعه، فلمّا رأى أن قد خفّض عله افتتح تكليمه فقال: ليسرك إقبالك ويغبطك تأميلك، فلدينا لك من حسن رأينا ورحب قبولنا فوق ما قد طلبته، فلمّا ترجم له كلامه إيّاه تطلّق وجه أردون، وانحط عن مرتبته، فقبّل البساط، وقال: أنا عبد أمير المؤمنين مولاي، المتورك على فضلهن القاصد إلى مجده، المحكم في نفسه ورجاله، فحيث وضعني من فضله وعوضني من خدمته رجوت أن أتقدم فيه بنية صادقة، ونصيحة خالصة، فقال له الخليفة: أنت عندنا بمحلّ من يستحق حسن رأينا، وسينالك من تقديمنا لك وتفضيلنا إياك على أهل ملتك ما يغبطك، وتتعرف به فضل جنوحك إلينا، واستظلالك بظل سلطاننا، فعاد أردون إلى السجود عند فهمه مقالة الخليفة، وابتهل داعياً، وقال: إن شانجة ابن عمي تقدم إلى الخليفة الماضي مستجيراً به مني، فكان من إعزازه إياه ما يكون من مثله من أعاظم الملوك وأكارم الخلفاء لمن قصدهم وأمّلهم، وكان قصده قصد مضطر قد شنأته رعيته، وأنكرت سيرته، واختارتني لمكانه من غير سعي مني علم الله ذلك، ولا دعاء إليه، فخلعته وأخرجته عن ملكه مضطرّاً مضطهداً، فتطوّل عليه - رحمه الله - بأن صرفه إلى ملكه،

_ (1) في الأصول: يفرج.

وقوّى سلطانه، وأعزّ نصره، ومع ذلك فلم يقم بفرض النعمة التي أسديت إليه، وقصّر في أداء المفروض عليه وحقّه وحق مولاي أمير المؤمنين من بعده، وأنا قد قصدت باب أمير المؤمنين لغير ضرورة، من قرارة سلطاني وموضع أحكامي، محكّماً له في نفسي ورجالي ومعاقلي ومن تحويه من رعيتي، فشتان ما بيننا بقوّة الثقة ومطرح الهمة، فقال الخليفة: قد سمعنا قولك، وفهمنا مغزاك، وسوف يظهر من إقراضنا إيّاك على الخصوصيّة شأنه، ويترادف من إحساننا إليك أضعاف ما كان من أبينا - رضي الله تعالى عنه - إلى ندّك وإن كان له فضل التقدّم بالجنوح إلينا والقصد إلى سلطاننا، فليس ذلك ممّا يؤخرك عنه، ولا ينقصك ممّا أنلناك، وسنصرفك مغبوطاً إلى بلدك، ونشدّ أواخيّ ملكك ونملكك جميع من انحاش إليك من أمتك (1) ونعقد لك بذلك كتاباً يكون بيدك نقرّر به حدّ ما بينك وبين ابن عمّك، ونقبضه عن كل ما يصرّفه من البلاد إلى يدك، وسيترادف عليك من إفضالنا (2) فوق ما احتسبته، والله على ما نقول وكيل. فكرّر أردون الخضوع، وأسهب في الشكر، وقم للانصراف مقهقراً لا يولّي الخليفة ظهره، وقد تكنفه الفتيان (3) ، فأخرجوه إلى المجلس الغربي في السطح، وقد علاه البهر وأذهله الرّوع، من هول ما باشره وجلالة ما عاينه من فخامة الخليفة وبهاء العزّة، فلمّا أن دخل المجلس ووقعت عينه على مقعد أمير المؤمنين خالياً منه انحطّ ساجداً إعظاماً له، ثم تقدّم الفتيان يه إلى البهو الذي بجوفي هذا المجلس، فأجلسوه هنالك على وساد مثقل بالذهب، وأقبل نحوه الحاجب جعفر، فلمّا بصر به قام إليه، وخنع له (4) ، وأومأ إلى تقبيل يده،

_ (1) من أمتك: سقطت من ك. (2) ق: إحساننا. (3) زاد بعدها في ق: من جملة الفتيان. (4) ك: وخضع له.

فقبضها الحاجب عنه، وانحنى إليه فعانقه، وجلس معه، فغبّطه، ووعده من إنجاز عدات الخليفة له بما ضاعف سروره، ثم أمر الحاجب جعفر فصبت عليه الخلع التي أمر له بها الخليفة، وكانت درّاعة منسوجة بالذهب، وبرنساً مثلها له لوزة مفرغة من خالص البر مرصعة بالجوهر والياقوت ملأت عين العلج تجلة، فخرّ ساجداً وأعلن بالدعاء، ثم دعا الحاجب أصحابه رجلاً رجلاً فخلع عليهم على قدر استحقاقهم، فكمل جميع ذلك بحسب ما يصلح لهم، وخرّ جميعهم خانعين (1) شاكرين، ثم انطلق الملك أردون وأصحابه، وقدّم لركابه في أوّل البهو الأوسط فرسٌ من عتاق خيل الركاب عليه سرج حلي ولجام حلي مفرغ، وانصرف مع ابن طملس إلى قصر الرصافة مكان تضييفه، وقد أعدّ له فيه كل ما يصلح لمثله من الآلة والفرش والماعون، واستقر أصحابه فيما لا كفاء له من سعة التضييف وإرغاد المعاش. واستشعر الناس من مسرّة هذا اليوم وعزّة الإسلام فيه ما أفاوضوا في التبجّح به والتحدث عنه أيّاماً، وكانت للخطباء والشعراء بمجلس الخليفة في هذا اليوم مقامات حسان، وإنشادات لأشعار محكمة متان، يطول القول في اختيارها، فمن ذلك قول عبد الملك بن سعيد المرادي من قصيدة حيث يقول (2) : ملك الخليفة آية الإقبال ... وسعوده موصولة بتوالي (3) والمسلمون بعزّةٍ وبرفعةٍ ... والمشركون بذلّةٍ وسفال ألقت بأيديها الأعاجم نحوه ... متوقّعين لصولة الرئبال هذا أميرهم أتاه آخذاً ... منه أواصر ذمّةٍ وحبال متواضعاً لجلاله متخشّعاً ... متبرّعاً لمّا يرع بقتال سينال بالتأميل للملك الرّضى ... عزّاً يعمّ عداه بالإذلال

_ (1) ك: خاضعين. (2) منها أربعة أبيات ف البيان المغرب 1: 235 (ط. ليدن) . (3) في الأصول: بنوال.

لا يوم أعظم للولاة مسرّةً ... وأشدّه غيظاً على الأقيال من يوم أردون الذي إقباله ... أمل المدى ونهاية الإقبال ملك الأعاجم كلّها ابن ملوكها ... والي الرّعاة وللأعاجم والي إن كان جاء ضرورةً فلقد أتى ... عن عزّ مملكة وطوع رجال فالحمد لله المنيل إمامنا ... حظّ الملوك بقدره المتعالي هو يوم حشر الناس إلاّ أنّهم ... لم يسألوا فيه عن الأعمال أضحى الفضاء مفعّماً (1) بجيوشه ... والأفق أقتم أغبر السّربال لا يهتدي الساري لليل قتامه ... إلا بضوء صوارم وعوالي وكأن أجسام الكماة تسربلت ... مذ عرّيت عنه جسوم صلال وكأنّما العقبان عقبان الفلا ... منقضّة لتخطّف الضّلاّل وكأنّ منتصب القنا مهتزّة ... أشطان نازحةٍ بعيدة جال (2) وكأنما قبل التجافيف اكتست ... ناراً توهجها (3) بلا إشعال [؟ عود إلى سيرة الحكم] وقال بعض المؤرخين في حق الحكم المستنصر عن فتاه تليد صاحب خزانته العلمية فيما حدّث عنه الحافظ أبو محمد بن حزم: إن عدة الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر الدواوين فقط، انتهى، وقد قدّمناه عن ابن خلدون (4) ، ونقله ابن الأبار في التكملة (5) . وقال بعض المؤرخين في حق الحكم: إنّه كان حسن السيرة، مكرماً للقادمين

_ (1) في نسخة: مغيماً. (2) النازحة: البئر البعيدة الغور؛ الجال والجول: صفحة البئر. (3) ك: تؤججها. (4) ص: 385 فيما سبق. (5) لم أجده في التكملة المطبوعة، وهو في الحلة السيراء 1: 203 وانظر المقتطفات (الورقة: 86) .

عليه، جمع من الكتب ما لا يحدّ ولا يوصف كثرة ونفاسة، حتى قيل: إنها كانت أربعمائة ألف مجلد، وإنّهم لما نقلوها أقاموا ستة أشهر في نقلها، وكان عالماً نبيهاً صافي السريرة، وسمع من قاسم بن أصبغ وأحمد بن دحيم ومحمد بن عبد السلام الخشني وزكريا بن خطاب وأكثر عنه، وأجز له ثابت بن قاسم، وكتب عن خلق كثير سوى هؤلاء. وكان يستجلب المصنفات من الأقاليم والنواحي باذلاً فيها ما أمكن من الأموال حتى ضاقت عنها خزائنه، وكان ذا غرام بها، قد آثر ذلك على لذات الملوك، فاستوسع علمه ودق نظره، وجمّت استفادته، وكان في المعرفة بالرجال والأخبار والأنساب أحوذيّاً نسيج وحده، وكان ثقة فيما ينقله، بهذا وصفه ابن الأبار وبأضعافه، وقال: عجباً لابن الفرضي وابن بشكوال كيف لم يذكراه وقلّما يوجد كتاب من خزائنه إلاّ وله فيه قراءة أو نظر في أيّ فنّ كان ويكتب في نسب المؤلف ومولده ووفاته ويأتي من بعد ذلك بغرائب لا تكاد توجد إلا عنده لعنايته بهذا الشأن (1) . وممّا ينسب إليه من النظم قوله (2) : إلى الله أشكو من شمائل مترفٍ (3) ... عليّ ظلوم لا يدين بما دنت نأت عنه داري فاستزاد صدوده ... وإنّي على وجدي القديم كما كنت ولو كنت أدري أنّ شوقي بالغٌ ... من الوجد ما بلغته لم أكن بنت وقوله (4) : عجبت وقد ودّعتها كيف لم أمت ... وكيف انثنت بعد الوداع يدي معي فيا مقلتي العبرى عليها اسكبي دماً ... ويا كبدي الحرّى عليها تقطّعي

_ (1) بعض هذا النص موجود في الحلة السيراء. (2) المغرب 1: 181 والمقتطفات (الورقة: 86) . (3) ك: مسرف. (4) انظر الحلة السيراء 1: 203 والمغرب 1: 182.

توفّي - رحمه الله تعالى - بقصر قرطبة ثاني صفر سنة ست وستين وثلاثمائة، لست عشرة سنة من خلافته، وكان أصابه الفالج، فلزم الفراش إلى أن هلك - رحمه الله تعالى - وكان قد شدد في إبطال الخمر في مملكته تشديداً عظيماً. [خلافة هشام بن الحكم وتسلط ابن أبي عامر] وولي بعده ابنه هشامٌ صغيراً سنّه تسع سنين، ولا ينافيه قول ابن خلدون: قد ناهز الحلم وكان الحكم قد استوزر له محمد بن أبي عامر، ونقله من خطّة القضاء إلى وزارته، وفوّض إليه أموره، فاستقل. قال ابن خلدون (1) : وترقّت حال ابن أبي عامر عند الحكم، فلمّا توفّي الحكم وبويع هشام ولقّب المؤيد بعد أن قتل ليلتئذ المغير ة أخو الحكم المرشّح لأمره تناول الفتك به محمد بن أبي عامر هذا بممالأة من جعفر بن عثمان المصحفيّ حاجب أبيه وغالب مولى الحكم صاحب مدينة سالم ومن خصيان القصر يومئذ ورؤسائهم فائق وجؤذر، فقتل ابن أبي عامر المغيرة بممالأة من ذكر، وتمت البيعة لهشام، ثم سما لابن أبي عامر في التغلب على هشام لمكانه في السنّ، وثاب له برأي في الاستبداد، فمكر بأهل الدولة، وضرب بين رجالها، وقتل بعضاً ببعض، وكان من رجال اليمنية من معافر، دخل جدّه عبد الملك مع طارق، وكان عظيماً في قومه، وكان له في الفتح أثر، وعظم ابن أبي عامر هذا، غلب على المؤيد، ومنع الوزراء من الوصول إليه إلاّ في النادر من الأيام يسلّمون وينصرفون، وأرضخ للجند في العطاء، وأعلى مراتب العلماء، وقمع أهل البدع، وكان ذا عقل ورأي وشجاعة وبصر بالحروب ودين متين، ثمّ تجرّد لرؤساء الدولة ممّن عانده وزاحمه، فمال عليهم، وحطّهم عن

_ (1) ابن خلدون 4: 147.

مراتبهم، وقتل بعضاً ببعض، كلّ ذلك عن] أمر] (1) هشام وخطّه وتوقيعه، حتى استأصلهم وفرّق جموعهم، وأول ما بدأ بالصقالبة الخصيان الخدّام بالقصر، فحمل الحاجب المصحفيّ على نكبتهم، فنكبهم وأخرجهم من القصر، وكانوا ثمانمائة أو يزيدون، ثم أصهر إلى غالب مولى الحكم، وبالغ في خدمته والتنصّح له، واستعان به على المصحفيّ فنكبه ومحا أثره من الدولة، ثم استعان على غالب بجعفر بن عليّ بن حمدون صاحب المسيلة وقائد الشيعة ممدوح بن هانئ بالفائية المشهورة وغيرها (2) ، وهو النازع إلى الحكم أوّل الدولة بمن (3) كان معه من زناتة والبربر، ثم قتل جعفراً بممالأة ابن عبد الودود وابن جهور وابن ذي النون وأمثالهم من أولياء الدولة من العرب وغيرهم، ثمّ لمّا خلا الجو من أولياء الخلافة والمرشّحين للرياسة رجع إلى الجند، فاستدعى أهل العدوة من رجال زناتة والبرابرة فرتب منهم جنداً، واصطنع أولياء، وعرّف عرفاء من صنهاجة ومغراوة وبني يفرن وبني برزال ومكناسة وغيرهم، فتغلّب على هشام وحجره، واستولى على الدولة، وملأ الدنيا وهو في جوف بيته، من تعظيم الخلافة، والخضوع لها، وردّ الأمور إليها، وترديد الغزو والجهاد، وقدّم رجال البرابرة وزناتة، وأخّر رجال العرب وأسقطهم عن مراتبهم، فتم له ما أراد من الاستقلال بالملك والاستبداد بالأمر، وبنى لنفسه مدينة لنزله سمّاها الزاهرة، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة، وقعد على سرير الملك، وأمر أن يحيّا بتحية الملوك، وتسمى بالحاجب المنصور، ونفذت الكتب والمخاطبات والأوامر باسمه، وأمر بالدعاء له على المنابر باسمه عقب الدعاء للخليفة، ومحا رسم الخلافة بالجملة، ولم يبق لهشام المؤيد من رسوم الخلافة أكثر من الدعاء على

_ (1) زيادة لازمة. (2) يعني ابن هانئ الأندلسي شاعر العبيديين، ومطلع قصيدته الفائية: أليلتنا إذ أرسلت وارداً وحفا ... وبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا (3) في الأصول: وبمن.

المنابر وكتب اسمه في السّكة والطرز، وأغفل ديوانه ممّا سوى ذلك؛ وجنّد البرابرة والمماليك، واستكثر من العبيد والعلوج للاستيلاء على تلك الرتبة، وقهر من تطاول إليها من العلية، فظفر من ذلك بما أراد، وردد الغزو بنفسه إلى دار الحرب، فغزا ستّاً وخمسين غزوة في سائر أيام ملكه لم تنتكس له فيها راية، ولا فلّ له جيش، وما أصيب له بعث، وما هلكت له سريّة، وأجاز عساكره إلى العدوة، وضرب بين ملوك البرابرة وضرب بعضهم ببعض، فاستوثق له ملك المغرب، وأخبتت له ملوك زناتة وانقادوا لحكمه وأطاعوا سلطانه، وأجاز ابنه عبد الملك إلى ملوك مغراوة بفاس من آل خزر، ولمّا سخط زيري بن عطية ملكهم لمّا بلغه ما بلغه من إعلانه بالنّيل منه والغضّ من منصبه والتأفّف لحجر الخليفة هشام أوقع به عبد الملك سنة ست وثمانين، ونزل بفاس وملكها، وعقد لملوك زناتة على ممالك المغرب وأعماله من سجلماسة وغيرها، وشرّد زيري بن عطية إلى تاهرت، فأبعد المفرّ، وهلك في مفرّه ذلك، ثم قفل عبد الملك إلى قرطبة، واستعمل واضحاً على المغرب، وهلك المنصور أعظم ما كان ملكاً، وأشدّ استيلاء، سنة أربع وتسعين وثلاثمائة (1) ، بمدينة سالم منصرفه من بعض غزواته، ودفن هنالك، وذلك لسبع وعشرين سنة من ملكه، انتهى كلام ابن خلدون، وبعضه بالمعنى وزيادة يسيرة. ولا بأس أن نزيد عليه فنقول: ممّا حكي أنّه مكتوب على قبر المنصور رحمه الله تعالى (2) : آثاره تنبيك عن أخباره ... حتّى كأنّك بالعيان تراه تالله لا يأتي الزمان بمثله ... أبداً، ولا يحمي الثغور سواه وعن شجاع مولى المستعين بن هود: لمّا توجّهت إلى أذفونش وجدته في

_ (1) الصواب: سنة 392. (2) الحلة السيراء 1: 273.

مدينة سالم، وقد نصب على قبر المنصور بن أبي عامر سريره، وامرأته متكئة إلى جانبه، فقال لي: يا شجاع، أما تراني قد ملكت بلاد المسلمين، وجلست على قبر ملكهم؟ قال: فحملتني الغيرة أن قلت له: لو تنفّس صاحب هذا القبر وأنت عليه ما سمع منك ما يكره سماعه، ولا استقر بك قرار، فهمّ بي، فحالت امرأته بيني وبينه، وقالت له: صدقك فيما قال، أيفخر مثلك بمثل هذا؟ وهذا تلخيص ترجمة المنصور من كلام ابن سعيد (1) ، قال رحمه الله: ترجمة الملك الأعظم المنصور أبي عامر محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك، المعافري، من قرية تركش (2) ، وعبد الملك جدّه هو الوافد على الأندلس معطارق في أوّل الداخلين من العرب، وأمّا المنصور فقد ذكره ابن حيّان في كتابه المخصوص بالدولة العامرية، والفتح في المطمح، والحجاري في المسهب، الشّقندي في الطرف، وذكر الجميع أن أصله من قرية تركش، وأنّه رحل إلى قرطبة، وتأدب بها، ثم اقتعد دكاناً عند باب القصر يكتب فيه لمن يعنّ له كتب من الخدم والمرافعين للسلطان، إلى أن طلبت السيدة صبح أم المؤيد من يكتب عنها، فعرّفها به من كان يأنس إليه بالجلوس من فتيان القصر، فترقّى إلى أن كتب عنها، فاستحسنته ونبّهت عليه الحكم ورغبت في تشريفه بالخدمة، فولاّه قضاء بعض المواضع، فظهرت منه نجابة، فترقّى إلى الزكاة والمواريث بإشبيلية وتمكّن في قلب السيدة بما استمالها به من التّحف والخدمة ما لم يتمكن لغيره ولم يقصر - مع ذلك - في خدمة المصحفيّ الحاجب، إلى أن توفّي الحكم وولي ابنه هشام المؤيد، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فجاشت الروم، فجهز المصحفيّ ابن أبي عامر لدفاعهم، فنصره الله عليهم، وتمكّن حبّه من قلوب الناس.

_ (1) راجع المغرب 1: 394 والنص عند المقري مختلف عما ورد في كتاب ابن سعيد، ولم يقل المقري إنه ينقل عن المغرب؛ وانظر المقتطفات (الورقة: 86 - 87) . (2) كذا هنا، وفي المغرب: " كرتش " وفي المعجب: طرش من أعمال الجزيرة الخضراء.

وكان جواداً عاقلاً ذكيّاً، استعان بالمصحفيّ على الصقالبة، ثم بغالب على المصحفيّ، وكان غالب صاحب مدينة سالم - وتزوج ابن أبي عامر ابنته أسماء، وكان أعظم عرس بالأندلس - ثمّ بجعفر بن علي الأندلسي ممدوح ابن هانئ على غالب، ثم بعبد الرحمن بن محمد بن هشام التّجيبي على جعفر، وله في الحزم والكيد والجلد ما أفرد له ابن حيّان تأليفاً، وعدد غزواته المنشأة من قرطبة نيّف وخمسون غزوة، ولم تهزم له راية، وقبره بمدينة سالم في أقصى شرق الأندلس. ومن شعره (1) : رميت بنفسي هول كلّ عظيمة ... وخاطرت والحرّ الكريم يخاطر وما صاحبي إلا جنانٌ مشيّعٌ ... وأسمر خطّيٌّ وأبيض باتر فسدت بنفسي أهل كلّ سيادة ... وفاخرت حتى لم أجد من أفاخر وما شدت بنياناً ولكن زيادة ... على ما بنى عبد المليك وعامر رفعنا المعالي بالعوالي حديثة (2) ... وأورثناها في القديم معافر وجوده مع صاعد البغدادي اللغوي مشهور. وصدر عن بعض غزواته فكتب إليه عبد الملك بن شهيد (3) ، وكان قد تخلّف عنه: أنا شيخٌ والشيخ يهوى الصّبايا ... يا بنفسي أقيك كلّ الرّزايا ورسول الإله أسهم في الفي ... ء لمن لم يخبّ فيه المطايا فبعث إليه بثلاث جوارٍ من أجمل السبي، وكتب معهنّ، وكانت واحدة أجملهنّ، قوله:

_ (1) الحلة 1: 274 وابن عذاري 2: 409. (2) في الأصول: مثلها. (3) الذخيرة 4: 18 والحلة 1: 276.

قد بعثنا بها كشمس النّهار ... في ثلاثٍ من المها أبكار وامتحنّا بعذرة البكر إن كن ... ت ترجّي بوادر الإعذار فاجتهد وابتدر (1) فإنّك شيخٌ ... قد جلا ليله بياض النهار (2) صانك الله من كلالك فيها ... فمن العار كلة المسمار فافتضهن من ليلته، وكتب له بكرة: قد فضضنا ختام ذاك السّوار ... واصطبغنا من النّجيع الجاري وصبرنا على دفاعٍ وحربٍ ... فلعبنا بالدّرّ أو بالدراري (4) وقضى الشيخ ما قضى بحسامٍ ... ذي مضاءٍ عضب الظّبا بتّار فاصطنعه فليس يجزيك كفراً ... واتخذه فحلاً على الكفّار وقدم بعض التجّار (4) ومعه كيس فيه ياقوت نفيس، فتجرّد ليسبح في النهر، وترك الكيس، وكان أحمر، على ثيابه، فرفعته حدأة في مخالبها، فجرى تابعاً لها وقد ذهل، فتغلغلت في البساتين، وانقطعت عن عينه، فرجع متحيّراً، فشكا ذلك إلى بعض من يأنس به، فقال له: صف حالك لابن أبي عامر، فتلطّف في وصف ذلك بين يديه، فقال: ننظر إن شاء الله تعالى في شأنك، وجعل يستدعي أصحاب تلك البساتين، ويسأل خدّامها عمّن ظهر عليه تبديل حال، فأخبروه أن شخصاً ينقل الزبل اشترى حماراً، وظهر من حاله ما لم يكن قبل ذلك، فأمر بمجيئه، فلمّا وقعت عينه عليه قال له: أحضر الكيس الأحمر، فتملك الرعب قلبه وارتعش، وقال: دعني آتي به من منزلي، فوكل به من حمله إلى منزله وجاء بالكيس، وقد نقص منه ما لا يقدح في

_ (1) الحلة: واتئد. (2) الحلة: خفي الليل عن بياض النهار. (4) انظر القصة في ابن عذاري 2: 435 مع اختلاف في التفصيلات. (4) انظر القصة في ابن عذاري 2: 435 مع اختلاف في التفصيلات.

مسرّة صاحبه، فجبره، ودفعه إلى صاحبه، فقال: والله لأحدثنّ في مشارق الأرض ومغاربها أن ابن أبي عامر يحكم على الطيور وينصف منها، والتفت ابن أبي عامر إلى الزبال فقال له: لو أتيت به أغنيناك، لكن تخرج كفافاً لا عقاباً ولا ثواباً. وتوفّي رحمه الله في غزاته للإفرنج بصفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وحمل في سريره على أعناق الرجال، وعسكره يحفّ به وبين يديه، إلى أن وصل إلى مدينة سالم. ودامت دولته ستّاً وعشرين سنة، غزا فيها اثنتين وخمسين غزوة واحدة في الشتاء وأخرى في الصيف، انتهى كلام ابن سعيد، وفي بعضه مخالفة لبعض كلام ابن خلدون. [الحاجب المصحفي عن المطمح] وقال الفتح في " المطمح " في حق المصحفيّ الحاجب جعفر بن عثمان المصحفيّ، ما صورته (1) : تجرّد للعليا، وتمرّد في طلب الدنيا، حتى بلغ المنى، وتسوّغ ذلك الجنى، ووصل إلى المنتهى، وحصل على ما اشتهى، دون مجد تفرّع من دوحته، ولا فخر نشأ بين مغداه وروحته، فسما دون سابقة، ورمى إلى رتبة لم تكن لنفسه (2) مطابقة، فبلغ بنفسه، ونزع عن جنسه، ولم يزل يستقل ويضطلع (3) ، وينتقل من مطلع إلى مطلع، حتى التاح في أفق الخلافة، وارتاح إليها بعطفه (4) كنشوان السّلافة، واستوزره المستنصر، وعنه كان يسمع وبه يبصر، وحجب الإمام، وأسكب برأيه ذلك الغمام، فأدرك لذلك

_ (1) المطمح: 4 - ونقل ابن عذاري بعض هذه الترجمة 2: 379 وصدرها بقوله: قال ابن بسام. (2) المطمح: لبنيته. (3) ك: يستفل ويطلع. (4) في الأصول: إليه معظمها.

ما أدرك، ونصب لأمانيه الحبائل والشّرك، فاقتنى اقتناء؟؟؟؟ مدّخر، وأزرى بمن سواه وسخر، واستعطفه ابن أبي عامر ونجمه غائر لم يلح، وسرّه مكتوم لم يبح، فما عطف، ولا جنى من روضة دنياه ولا قطف، وأقام في تدبير الأندلس ما أقام وبرهانه مستقيم، ومن الفتن عقيم، وهو يجري من السعد في ميدان رحب، ويكرع من العزّ في مشرب عذب، ويفضّ ختام السرور، وينهض بملكٍ على لبّته مزرور، وكان له أدبٌ بارع، وخاطر إلى نظم القريض (1) مسارع، فمن محاسنه التي بعثها إيناس دهره وإسعاده، وقاله حين ألهته سلماه وسعاده، قوله: لعينيك في قلبي عليّ عيون (2) ... وبين ضلوعي للشّجون فنون نصيبي من الدنيا هواك، وإنّه ... غذائي، ولكنّي عليه ضنين وستأتي هذه الترجمة من المطمح الصغير إن شاء الله تعالى بما فيه بعض زيادة ونقصان في الباب الرابع. [؟؟ ترجمة ابن أبي عامر في المطمح] وقال في المطمح في حقّ ابن أبي عامر (3) : إنّه تمرّس ببلاد الشّرك أعظم تمرّس، ومحا من طواغيتها كلّ تعجرف وتغطرس، وغادرهم صرعى البقاع، وتركهم أذلّ من وتدٍ بقاع، ووالى على بلادهم الوقائع، وسدّد إلى أكبادهم سهام الفجائع، وأعضّ بالحمام أرواحهم، ونغّص بتلك الآلام بكورهم ورواحهم، ومن أوضح الأمور هنالك، وأفصح الأخبار في ذلك، أن أحد رسله كان كثير الانتياب، لذلك الجناب، فسار في بعض مسيراته إلى غرسية

_ (1) هذه رواية المطمح، وفي المقري: البديع. (2) في الأصول: شجون. (3) قد ذكر المقري المطمح الصغير؛ وهناك مطمح متوسط وآخر كبير؛ وترجمة ابن أبي عامر هذه غير موجودة في المطمح الذي بين أيدينا، وقد وردت في ان عذاري 2: 444.

صاحب البشكنس فوالى في إكرامه، وتناهى في برّه واحترامه، فطالت مدّته فلا متنزّه إلا مرّ عليه متفرّجاً، ولا منزل إلاّ سار عليه معرّجاً، فحلّ في ذلك، أكثر الكنائس هنالك، فبينا هو يجول في ساحتها، ويجيل العين في مساحتها، إذ عرضت له امرأة قديمة الأسر، قويمة على طول الكسر، فكلمته، وعرّفته بنفسها وأعلمته، وقالت له: أيرضى المنصور أن ينسى بتنعمه بوسها، ويتمتّع بلبوس العافية وقد نضت لبوسها، وزعمت أن لها عدة سنين بتلك الكنيسة محبسة، وبكل ذل وصغار ملبسة، وناشدته الله في إنهاء قصتها، وإبراء غصّتها، واستحلفته بأغلظ الأيمان، وأخذت عليه في ذلك أوكد مواثيق الرحمن، فلمّا وصل إلى المنصور عرّفه بما يجب تعريفه به وإعلامه، وهو مصغٍ إليه حتى تم كلامه، فلمّا فرغ قال له المنصور: هل وقفت هناك على أمر أنكرته، أم لم تقف على غير ما ذكرته؟ فأعلمه بقصّة المرأة وما خرجت عنه إليه، وبالمواثيق التي أخذت عليه، فعتبه ولامه، على أن لم يبدأ بها كلامه، ثم أخذ للجهاد من فوره، وعرض من من الأجناد في نجده وغوره، وأصبح غازياً على سرجه، مباهياً مروان يوم مرجه، حتى وافى ابن شانجة في جمعه، فأخذت مهابته ببصره وسمعه، فبادر بالكتاب إليه يتعرف ما الجليّة، ويحلف له بأعظم أليّة، أنّه ما جنى ذنباً، ولا جفا عن مضجع الطاعة جنباً، فعنف أرساله وقال لهم: كان قد عاقدني أن لا يبقى ببلاده مأسورةٌ ولا مأسور، ولو حملته في حواصلها النّسور، وقد بلغني بعد بقاء فلانة المسلمة في تلك الكنيسة، ووالله لا أنتهي عن أرضه حتى أكتسحها، فأرسل إليه المرأة في اثنتين معها، وأقسم أنّه ما أبصرهن ولا سمع بهنّ وأعلمه أن الكنيسة التي أشار بعلمها، قد بالغ في هدمها، تحقيقاً لقوله، وتضرع إليه في الأخذ في بطوله، فاستحيا منه، وصرف الجيش عنه، وأوصل المرأة إلى نفسه، وألحف توحّشها بأنسه، وغيّر من حالها، وعاد بسواكب نعماه على جدبها وإمحالها، وحملها إلى قومها، وكحلها بما كان شرد من نومها، انتهى.

وقال في المطمح أيضاً في حقه ما نصه (1) : فرد نابه على من تقدمه، وصرّفه واستخدمه، فإنّه كان أمضاهم سناناً، وأذكاهم جناناً، وأتمهم جلالاً، وأعظمهم استقلالاً، فآل أمره إلى ما آل، وأوهم العقول بذلك المآل، فإنّه كان آية الله في اتفاق سعده، وقربه من الملك بعد بعده، بهر برفعة القدر، واستظهر بالأناة وسعة الصّدر، وتحرك فلاح نجم الهدوّ، وتملّك فما خفق بأرضه لواء عدوّ، بعد خمول كابد منه غصصاً وشرقاً، وتعذر مأمول طارد فيه سهراً وأرقاً، حتى أنجز له الموعود، وفرّ نحسه أمام تلك السعود، فقام بتدبير الخلافة، وأقعد من كان له فيها إنافة، وساس الأمور أحسن سياسة، وداس الخطوب بأخشن دياسة، فانتظمت له الممالك، واتضحت به المسالك، وانتشر الأمن في كل طريق، واستشعر اليمن كلّ فريق، وملك الأندلس بضعاً وعشرين حجّة، لم تدحض لسعادتها حجّة، ولم تزخر لمكروه بها لجّة، لبست فيه البهاء والإشراق، وتنفست عن مثل أنفاس العراق، وكانت أيامه أحمد أيام، وسهام بأسه أسدّ سهام، غزا الروم شاتياً وصائفاً، ومضى فيما يروم زاجراً وعائفاً، فما مرّ له غير سنيح، ولا فاز إلا بالمعلّى لا بالمنيح، فأوغل في تلك الشعاب، وتغلغل حتى راع ليث الغاب، ومشى تحت ألويته صيد القبائل، واستجرّت في ظلّها بيض الظّبا وسمر الذوابل، وهو يقتضي الأرواح بغير سوم، وينتضي الصفاح على كل روم، ويتلف من لا ينساق للخلافة وينقاد، ويخطف منهم كلّ كوكب وقّاد، حتى استبد وانفرد، وأنس إليه من الطاعة ما نفر وشرد، وانتظمت له الأندلس بالعدوة، واجتمعت في ملكه اجتماع قريش بدار النّدوة، ومع هذا لم يخلع اسم الحجابة، ولم يدع السمع لخليفته والإجابة، ظاهرٌ يخالفه الباطن، واسم تنافره مواقع الحكم والمواطن، وأذل قبائل الأندلس بإجازة البرابر، وأخمل بهم أولئك الأعلام

_ (1) ابن عذاري2: 407 (273ط. ليدن) .

الأكابر، فإنّه قاومهم بأضدادهم، واستكثر من أعدادهم، حتى تغلبوا على الجمهور، وسلبوا عنهم الظهور، ووثبوا عليهم الوثوب المشهور، الذي أعاد أكثر الأندلس قفراً يباباً، وملأها وحشاً وذئاباً، وأعراها من الأمان، برهة من الزمان، وعلى هذه الهيئة فهو وابنه المظفّر كانا آخر سعد الأندلس، وحدّ السرور بها والتأنّس، وغزواته فيها شائعة الأثر، رائعة كالسيف ذي الأثر، وحسبه وافر، ونسبه معافر، ولذا قال يفتخر رميت بنفسي ... الأبيات وزاد هنا بعد قوله " أبيض باتر " بيتاً، وهو: وإنّي لزجّاء الجيوش إلى الوغى ... أسودٌ تلاقيها أسودٌ خوادر وكانت أمّه تميمية، فحاز الشرف بطرفيه، والتحف بمطرفيه، ولذا قال القسطلي فيه (1) : تلاقت عليه من تميم ويعرب ... شموسٌ تلالا في العلا وبدور من الحميريّين الذين أكفّهم ... سحائب تهمي بالنّدى وبحور وتصرّف قبل ولايته في شتى الولايات، وجاء من التحدّث بمنتهى أمره بآيات، حتى صح زجره، وجاء بصبحه فجره، تؤثر عنه في ذلك أخبار، فيها عجب واعتبار، وكان أديباً محسناً، وعالماً متفنّناً، فمن ذلك قوله يمنّي نفسه بملك مصر والحجاز، ويستدعي صدور تلك الأعجاز (2) : منع العين أن تذوق المناما ... حبّها أن ترى الصّفا والمقاما لي ديونٌ بالشرق عند أناسٍ ... قد أحلّوا بالمشعرين الحراما إن قضوها نالوا الأماني، وإلاّ ... جعلوا دونها رقاباً وهاما

_ (1) القسطلي أبو عمر ابن دراج؛ انظر ديوانه: 301. (2) الحلة 1: 275، والبيان المغرب 2: 275 (ط. ليدن) .

عن قريب ترى خيول هشام ... يبلغ النّيل خطوها والشآما انتهى ما نقلته من المطمح. [؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ أخبار في سيرة المنصور] وفي المنصور المذكور أيضاً قال بعض مؤرخي المغرب (1) ، مازجاً كلامه ببعض كلام الفتح، بعد ذكر استعانته ببعض الناس على بعض، وذكر قتله لجعفر ابن عليّ، فقال بعده ما صورته: ثم انفرد بنفسه وصار ينادي صروف الدهر هل من مبارز، فلمّا لم يجده حمل الدهر على حكمه، فانقاد له وساعده، فاستقام أمره منفرداً بمملكة لا سلف له فيها، ومن أوضح الدلائل على سعده أنّه لم ينكب قطّ في حرب شهدها، وما توجهت عليه هزيمة، وما انصرف عن موطن إلاّ قاهراً غالباً، على كثرة ما زاول من الحروب ومارس من الأعداء وواجه من الأمم، وإنّها لخاصّة ما أحسب أحداً من الملوك الإسلامية شاركه فيها، ومن أظم ما أعين به مع قوّة سعده وتمكن جده سعة جوده، وكثرة بذله، فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان، وأوّل ما اتّكأ على أرائك الملوك وارتفق، وانتشر عليه لواء السعد وخفق، حط صاحبه المصحفيّ، وأثار له كامن حقده الخفيّ، حتى أصاره للهموم لبيساً، وفي غيابات السجن حبيساً، فكتب إليه يستعطفه بقوله (2) : هبني أسأت فأين العفو والكرم ... إذ قادني نحوك الإذعان والنّدم يا خير من مدّت الأيدي إليه أما ... ترثي لشيخ رماه عندك القلم

_ (1) البيان المغرب 2: 427 وبعضه في أعمال الأعلام: 77. (2) قال ابن الأبار (الحلة 1: 265) هذه الأبيات متنازعة ينسبها غلى المصحفي جماعة، وقد وجدتها منسوبة إلى أبي عمر ابن دراج القسطلي، وذكر أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم الرقيق في تاريخه أنها لكاتب إبراهيم بن أحمد بن الأغلب؛ قلت انظر البيان المغرب 1: 161 واسم الكاتب هذا محمد بن حيون ويعرف بان البريدي.

بالغت في السّخط فاصفح صفح مقتدرٍ ... إن الملوك إذا ما استرحموا رحموا فما زاده ذلك إلا حنقاً وحقداً، وما أفادته الأبيات إلا تضرماً ووقداً، فراجعه بما أيأسه، وأراه مرمسه، وأطبق عليه محبسه، وضيّق تروّحه من المحنة وتنفّسه: الآن يا جاهلاً زلّت بك القدم ... تبغي التكرّم لمّا فاتك الكرم أغريت بي ملكاً لولا تثبّته ... ما جاز لي عنده نطقٌ ولا كلم فايأس من العيش إذ ق صرت في طبقٍ ... إن الملوك إذا ما استنقموا نقموا نفسي إذا سخطت ليست براضيةٍ ... ولو تشفّع فيك العرب والعجم وكان من أخباره الداخلة في أبواب البر والقربة بنيان المسجد الجامع، إلى أن قال (1) : ومن ذلك بناؤه قنطرة على نهر قرطبة الأعظم، ابتدأ بناءها المنصور سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، وفرغ منها في النصف من سنة تسع وسبعين، وانتهت النفقة عليها إلى مائة ألف دينار وأربعين ألف دينار، فعظمت بها المنفعة، وصارت صدراً في مناقبه الجليلة، وكانت هنالك قطعة أرض لشيخ من العامة، ولم يكن للقنطرة عدولٌ عنها، فأمر المنصور أمناءه بإرضائه فيها، فحضر الشيخ عندهم، فساوموه بالقطعة، وعرّفوه وجه الحاجة إليها وأن المنصور لا يريد إلا إنصافه فيها، فرماهم الشيخ بالغرض الأقصى عنده فيما ظنّه أنّها لا تخرج (2) عنه بأقل من عشرة دنانير ذهباً كانت عنده أقصى الأمنية، وشرطها صحاحاً، فاغتنم الأمناء غفلته، ونقدوه الثمن، وأشهدوا عليه، ثم أخبروا المنصور بخبره، فضحك من جهالته، وأنف من غبنه، وأمر أن يعطى عشرة أمثال ما سأل،

_ (1) البيان المغرب 2: 430، والنقل مستمر حتى بدء النقل عن كتاب " الأزهار المنثورة ". (2) البيان: ألا تخرج.

وتدفع له صحاحاً كما قال، فقبض الشيخ مائة دينار ذهباً، فكاد أن يخرج من عقله، وأن يجنً عند قبضها من الفرح، وجاء محتفلاً في شكر المنصور، وصارت قصّته خبراً سائراً. ومن ذلك أيضاً بناء قنطرة على نهر إستجّة، وهو نهر شنّيل، وتجشم لها أعظم مؤنة، وسهل الطريق الوعرة والشعاب الصعبة. ومن ذلك أيضاً أنّه خط بيده مصحفاً كان يحمله معه في أسفاره يدرس فيه، ويتبرك به. ومن قوّة رجائه أنّه اعتنى بجمع ما علق بوجهه من الغبار في غزواته ومواطن جهاده، فكان الخدم يأخذونه عنه بالمناديل في كل منزل من منازله، حتى اجتمع له منه صرّة ضخمة، عهد بتصييره في حنوطه، وكان يحملها حيث سار مع أكفانه، توقّعاً لحلول منيّته، وقد كان اتخذ الأكفان من أطيب مكسبه من الضيعة الموروثة عن أبيه وغزل بناته، وكان يسأل الله تعالى أن يتوفّاه في طريق الجهاد، فكان كذلك. وكان متّسماً بصحة باطنه، واعترافه بذنبه، وخوفه من ربّه، وكثرة جهاده، وإذا ذكّر بالله ذكر، وإذا خوّف من عقاره ازدجر، ولم يزل متنزهاً عن كل ما يفتتن به الملوك سوى الخمر، لكنّه أقلع عنها قبل موته بسنتين (1) ، وكان عد له في الخاصة والعامة وبسط الحق على الأقرب فالأقرب من خاصّته وحاشيته أمراً مضروباً به المثل. ومن عدله أنّه وقف عله رجل من العامة بمجلسه، فنادى: يا ناصر الحق، إن لي مظلمة عند ذلك الوصيف الذي على رأسك، وأشار إلى الفتى صاحب الدرقة، وكان له فضل محلّ عنده، ثمّ قال: وقد دعوته إلى الحكم فلم يأت، فقال له المنصور: أو عبد الرحمن بن فطيس بهذا العجز والمهانة، وكنّا

_ (1) ق ط ج: بسنين.

نظنّه أمضى من ذلك؟ اذكر مظلمتك يا هذا، فذكر الرجل معاملة كانت جارية بينهما فقطعها من غير نصفٍ، فقال المنصور: ما أعظم بليّتنا بهذه الحاشية؛ ثم نظر إلى الصّقلبي وقد ذهل عقله، فقال له: ادفع الدرقة إلى فلان، وانزل صاغراً وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك، ففعل، ومثل بين يديه، ثم قال لصاحب شرطته الخاص به: خذ بيد هذا الفاسق الظالم وقدّمه مع خصمه إلى صاحب المظالم لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجنٍ أو غيره، ففعل ذلك، وعاد الرجل إليه شاكراً، فقال له المنصور: قد انتصفت أنت، اذهب لسبيلك، وبقي انتصافي أنا ممّن تهاون بمنزلتي، فتناول الصّقلبي بأنواع من المذّلة، وأبعده عن الخدمة. ومن ذلك (1) قصّة فتاه الكبير المعروف بالبورقي (2) مع التاجر المغربي، فإنهما تنازعا في خصومة توجّهت فيها اليمين على الفتى المذكور، وهو يومئذ أكبر خدم المنصور، وإليه أمر داره وحرمه، فدافع الحاكم، وظن أن جاهه يمنع من إحلافه، فصرخ التاجر بالمنصور في طريقه إلى الجامع متظلماً من الفتى، فوكل به في الوقت من حمله إلى الحاكم، فأنصفه منه، وسخط عليه المنصور، وقبض نعمته منه ونفاه. ومن ذلك (3) قصة محمد فصّاد المنصور وخادمه وأمينه على نفسه، فإن المنصور احتاجه يوماً إلى الفصد، وكان كثير التعهد له، فأنفذ رسوله إلى محمّد، فألفاه الرسول محبوساً في سجن القاضي محمد بن زرب (4) لحيف ظهر منه على امرأته قد أن سبيله من الخدمة يحميه من العقوبة، فلمّا عاد الرسول إلى المنصور بقصّته أمر بإخراجه من السجن مع رقيب من رقباء السجن يلزمه إلى أن يفرغ

_ (1) البيان المغرب 2: 433. (2) البيان: بالميورقي. (3) المصدر نفسه، وصدرها بقوله: ومن دهائه. (4) محمد بن يبقى بن زرب (المرقبة العليا: 77 - 82) .

من عمله عنده، ثم يرده إلى محبسه، ففعل ذلك على ما رسمه، وذهب الفاصد إلى شكوى ما ناله، فقطع عليه المنصور، وقال له: يا محمّد، إنّه القاضي، وهو في عدله، ولو أخذني الحق ما أطقت الامتناع منه، عد إلى محبسك أو اعترف بالحق فهو الذي يطلقك، فانكسر الحاجم، وزالت عنه ريح العناية، وبلغت قصته للقاضي، فصالحه مع زوجته، وزاد القاضي شدةً في أحكامه. وقال ابن حيّان (1) : إنّه كان جالساً في بعض الليالي، وكانت ليلة شديدة البرد والريح والمطر، فدعا بأحد الفرسان وقال له: انهض الآن إلى فج طليارش وأقم فيه فأول خاطر يخطر عليك سقه إليّ، قال: فنهض الفارس وبقي في الفج في البرد والريح والمطر واقفاً على فرسه، إذ وقف عليه قرب الفجر شيخ هرم على حمار له، ومعه آلة الحطب، فقال له الفارس: إلى أين تريد يا شيخ؟ فقال: وراء حطب، فقال الفارس في نفسه: هذا شيخ مسكين نهض إلى الجبل يسوق حطباً، فما عسى أن يريد المنصور منه؟ قال: فتركته، فسار عني قليلاً، ثم فكرت في قول المنصور، وخفت سطوته، فنهضت إلى الشيخ وقلت له: ارجع إلى مولانا المنصور، فقال له: وما عسى أن يريد المنصور من شيخ مثلي؟ سألتك بالله أن تتركني لطلب معيشتي، فقال له الفارس: لا أفعل، ثمّ قدم به على المنصور، ومثله بين يديه وهو جالس لم ينم ليلته تلك، فقال المنصور للصقالبة: فتّشوه، ففتّشوه فلم يجدوا معه شيئاً، فقال: فتّشوا برذعة حماره، فوجدوا داخلها كتاباً من نصارى كانوا قد نزعوا إلى المنصور يخدمون عنده إلى أصحابهم من النصارى ليقبلوا ويضربوا في إحدى النّواحي الموطومة (2) ، فلمّا انبلج الصبح أمر بإخراج أولئك النصارى إلى باب الزاهرة، فضربت أعناقهم، وضربت رقبة الشيخ معهم.

_ (1) المصدر نفسه: 434. (2) في ج: المرطومة؛ والموطومة (قراءة ق ط ك) لعلها الأرض التي كثر فيها الوطم وهو نبات يشبه الاذخر، وذلك تأويل بعيد، واقدر أن تكون مصحفة عن " الموصوفة " اي التي وصفت في الكتاب.

ثم ذكر هذا المؤرخ (1) قصة الجوهري التي قدمنا نقلها من مغرب ابن سعيد، ولكنّا رأينا إعادتها بلفظ هذا المؤرخ، لأنّه أتمّ مساقاً إذ قال عطفاً على دهائه: ومن ذلك قصة الجوهري التاجر، وذلك أن رجلاً جوهريّاً من تجّار المشرق قصد المنصور من مدينة عدن بجوهر كثير وأحجار نفيسة، فأخذ المنصور من ذلك ما استحسنه، ودفع إلى التاجر الجوهريّ صرّته، وكانت قطعة يمانيّة، فأخذ التاجر في انصرافه طريق الرملة على شطّ النهر، فلمّا توسّطها واليوم قائظ وعرقه منصبٌّ دعته نفسه إلى التبرّد في النهر، فوضع ثيابه وتلك الصّرّة على الشط، فمرّت حدأة فاختطفت الصّرّة (2) تحسبها لحماً، وصاعدت في الأفق بها ذاهبة، فقطعت الأفق الذي تنظر إليه عين التاجر، فقامت قيامته، وعلم أنّه لا يقدر أن يستدفع ذلك بحيلة، فأسرّ الحزن في نفسه، ولحقه لأجل ذلك علّة اضطرب فيها، وحضر الدفع إلى التجّار فحضر الرجل لذلك بنفسه، فاستبان للمنصور ما بالرجل (3) من المهانة والكآبة، وفقد ما كان عنده من النشاط وشدة العارضة، فسأله المنصور عن شأنه، فأعلمه بقصّته، فقال له: هلاّ أتيت إلينا بحدثان وقوع الأمر فكنّا نستظهر على الحيلة، فهل هديت إلى الناحية التي أخذ الطائر إليها؟ قال: مرّ مشرقاً على سمت هذا الجبل الذي يلي قصرك، يعني الرملة، فدعا المنصور شرطيّه الخاص به، فقال له: جئني بمشيخة أهل الرملة الساعة، فمضى وجاء بهم سريعاً، فأمرهم بالبحث عمّن غيّر حال الإقلال منهم سريعاً، وانتقل عن الإضاقة دون تدريج، فتناظروا في ذلك ثمّ قالوا: يا مولانا ما نعلم إلا رجلاً من ضعفائنا كان يعمل هو وأولاده بأيديهم ويتناولون السّبق بأقدمهم عجزاً عن شراء دابة، فابتاع اليوم دابة، واكتسى هو وولده كسوة متوسّطة، فأمر بإحضاره من الغد، وأمر التاجر

_ (1) البيان المغرب 2: 435؛ وانظر ص: 401 فيما سبق. (2) بعض النسخ: وترك الصرة. (3) بعض النسخ: ما نال الرجل.

بالغدوّ إلى الباب، فحضر الرجل بعينه بين يدي المنصور، فاستدناه والتاجر حاضر، وقال له: سبب ضاع منّا وسقط إليك، ما فعلت به؟ قال: هوذا يا مولاي، وضرب بيده إلى حجرة سراويله فأخرج الصّرة بعينها، فصاح التاجر طرباً، وكاد يطير فرحاً، فقال له المنصور: صف لي حديثها، فقال بينا أنا أعمل في جناني تحت نخلة إذ سقطت أمامي، فأخذتها وراقني منظرها، فقلت: إن الطائر اختلسها من قصرك لقرب الجوار، فاحترزت بها، ودعتني فاقتي إلى أخذ عشرة مثاقيل عيوناً كانت معها مصرورة، وقلت: أقلّ ما يكون في كرم مولاي أن يسمح لي بها، فأعجب المنصور ما كان منه، وقال للتاجر: خذ صرّتك وانظرها واصدقني عن عددها، ففعل وقال: وحقّ رأسك يا مولاي ما ضاع منها شيء سوى الدنانير التي ذكرها وقد وهبتها له، فقال المنصور: نحن أولى بذلك منك ولا ننغص (1) عليك فرحك، ولولا جمعه بين الإصرار والإقرار لكان ثوابه موفوراً عليه، ثم أمر للتاجر بعشرة دنانير عوضاً من دنانيره، ولجنّان بعشرة دنانير ثواباً لتأنيه عن فساد ما وقع بيده، وقال: لو بدأنا بالاعتراف قبل البحث لأوسعناه جزاء، قال: فأخذ التاجر في الثناء على المنصور، وقد عاوده نشاطه وقال: والله لأبثنّ في الأقطار عظيم ملكك، ولأنبئنّ (2) أنّك تملك طير أعمالك كما تملك إنسها، فلا تعتصم منك ولا تمتنع، ولا تؤذي جارك، فضحك المنصور وقال: اقصد في قولك يغفر الله لك، فعجب الناس من تلطّف المنصور في أمره وحيلته في تفريج كربته. ثم حكى هذا المؤرخ (3) غزوة المنصور لمدينة شنت ياقب قاصية غليسية، وأعظم مشاهد النصارى الكائنة ببلاد الأندلس، وما يتصل بها من الأرض الكبيرة، وكانت

_ (1) ق ط: تنقص. (2) ق ط: ولأبينن. (3) البيان المغرب 2: 439 وهذه بداية ج، فأما في ق ك فقد بدأ بقوله " ومن ذلك " وذلك خطأ لأن القصة ليست من قصص الدهاء التي مرت أمثلتها. وفي ط بياض.

كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة عندنا، وللكعبة المثل الأعلى، فبها يحلفون، وإليها يحجّون من أقصى بلاد رومة وما وراءها، ويزعمون أن القبر المزور فيها قبر ياقب الحواري أحد الاثني عشر، وكان أخصّهم بعيسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهم يسمّونه أخاه للزومه إيّاه، وياقب بلسانهم يعقوب، وكان أسقفاً ببيت المقدس فجعل يستقري الأرضين داعياً لمن فيها حتى انتهى إلى هذه القاصية، ثم عاد إلى أرض الشام فمات بها وله مائة وعشرون سنة شمسية، فاحتمل أصحابه رمّته فدفنوها بهذه الكنيسة التي كانت أقصى أثره، ولم يطمع أحد من ملوك الإسلام في قصدها ولا الوصول إليها، لصعوبة مدخلها، وخشونة مكانها، وبعد شقّتها، فخرج المنصور إليها من قرطبة غازياً بالصائفة يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وهي غزوته الثامنة والأربعون، ودخل على مدينة قورية، فلمّا وصل إلى مدينة غليسية وافاه عددٌ عظيم من القوامس المتمسكين بالطاعة في رجالهم، وعلى أتم احتفالهم، فصاروا في عسكر المسلمين، وركبوا في المغاورة سبيلهم، وكان المنصور تقدّم في إنشاء أسطول كبير في الموضع المعروف بقصر أبي دانس (1) من ساحل غرب الأندلس، وجهزه برجاله البحريين وصنوف المترجلين، وحمل الأقوات والأطعمة والعدد والأسلحة استظهاراً على نفوذ العزيمة إلى أن خرج بموضع برتقال على نهر دويره (2) ، فدخل في النهر إلى المكان الذي عمل المنصور على العبور منه، فعقد هنالك من هذا الأسطول جسراً بقرب الحصن الذي هنالك، ووجّه (3) المنصور ما كان فيه من الميرة إلى الجند، فتوسّعوا في التزود منه إلى أرض العدو، ثم نهض منه يريد شنت ياقب، فقطع أرضين متباعدة الأقطار،

_ (1) قصر أبي دانس (Alcacer do Sal) مرسى الأسطول، على ساحل البرتغال جنوبي الأشبونة (لشبونة) . (2) نهر دويره (Duero Duoro) يصب عند بورتو في المحيط الأطلسي. (3) دوزي: ووزع؛ لمطابقة المعنى نقلا عن البيان المغرب.

وقطع بالعبور عدة أنهار كبار وخلجان يمدها البحر الأخضر، ثم أفضى العسكر بعد ذلك إلى بسائط جليلة من بلاد فرطارش (1) وما يتصل بها، ثم أفضى إلى جبل شامخ شديد الوعر لا مسلك فيه ولا طريق، لم يهتد الأدلاّء إلى سواه، فقدّم المنصور الفعة بالحديد لتوسعة شعابه وتسهيل مسالكه، فقطعه العسكر، وعبروا بعده وادي منيه (2) ، وانبسط المسلمون بعد ذلك في بسائط عريضة وأرضين أريضة، وانتهت مغيرتهم إلى دير قسطان (3) وبسط بلنبو (4) على البحر المحيط، وفتحوا حصن شنت بلاية (5) ، وغنموه، وعبروا سباحةً إلى جزيرة من البحر المحيط لجأ إليها خلق عظيم من أهل تلك النواحي، فسبوا من فيها ممّن لجأ إليها، وانتهى العسكر إلى جبل مراسية (6) المتصل من أكثر جهاته بالبحر المحيط، فتخلّلوا أقطاره، واستخرجوا من كان فيه، وحازوا غنائمه، ثمّ أجاز المسلمون بعد هذا خليجاً في معبرين ارشد الأدلاّء إليهما، ثمّ نهر أيلة (7) ، ثم أفضوا إلى بسائط واسعة العمارة كثيرة الفائدة (8) ، ثمّ انتهوا إلى موضع من مشاهد صاحب القبر تلو مشهد قبره عند النصارى في الفضل، يقصده نسّاكهم له من أقاصي بلادهم ومن بلاد القبط والنوبة وغيرهما، فغادره الملمون قالعاً، وكان النزول بعده على مدينة شنت ياقب البائسة، وذلك يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شعبان، فوجدها المسلمون خالية من أهلها، فحاز المسلمون غنائمها، وهدموا مصانعها وأسوارها وكنيستها، وغفّوا آثارها، ووكل المنصور بقبر ياقب من يحفظه ويدفع الأذى عنه، وكانت مصانعها بديعة محكمة فغودرت هشيماً

_ (1) البيان المغرب: فلطارش. (2) منيه منيو أو منهو (Minho Rio Mino) . (3) بعض النسخ: قسان. (4) البيان المغرب: يلنبوط، وفي نسخة: بيلنوا. (5) شنت بلاة: (San Pelayo) . (6) مراسية (Morrazo) . (7) أيلة (Ulla) . (8) زاد في البيان: منها بسيط أونية وقرجيطة ودير شنت برية.

كأن لم تغن بالأمس، وانتسفت بعوثه بعد ذلك سائر البسائط، وانتهت الجيوش إلى جزيرة شنت مانكش منقطع هذا الصقع على البحر المحيط، وهي غاية لم يبلغها قبلهم مسلم، ولا وطئها لغير أهلها قدم، فلم يكن بعدها للخيل مجال، ولا وراءها انتقال، وانكفأ المنصور عن باب شنت ياقب وقد بلغ غاية لم يبلغها مسلم قبله، فجعل في طريقه القصد على عمل برمند بن أردون ليستقريه عائثاً ومفسداً، حتى وقع فيعمل القوامس المعاهدين الذين في عسكره، فأمر بالكف عنها، ومرّ مجتازاً حتى خرج إلى حصن بليقية (1) من افتتاحه، فأجاز هنالك القوامس بجملتهم على أقدارهم، وكساهم وكسا رجالهم وصرفهم إلى بلادهم، وكتب بالفتح من بليقية، وكان مبلغ ما كساه في غزاته هذه لملوك الروم ولم حسن غناؤه من المسلمين ألفين ومائتين وخمساً وثماني شقّة من صنوف الخز الطّرازي، وأحداً وعشرين كساء من صوف البحر، وكساءين عنبريين، وأحد عشر سقلاطوناً، وخمس عشرة مريشاً، وسبعة أنماط ديباج، وثوبي دبياج رومي، وفروي فنك، ووافى جميع العسكر قرطبة غانماً، وعظمت النعمة والمنّة على المسلمين، ولم يجد المنصور بشنت ياقب إلاّ شيخاً من الرهبان جالساً على القبر، فسأله عن مقامه، فقال: أونس يعقوب، فأمر بالكف عنه. ين، وأحد عشر سقلاطوناً، وخمس عشرة مريشاً، وسبعة أنماط ديباج، وثوبي دبياج رومي، وفروي فنك، ووافى جميع العسكر قرطبة غانماً، وعظمت النعمة والمنّة على المسلمين، ولم يجد المنصور بشنت ياقب إلاّ شيخاً من الرهبان جالساً على القبر، فسأله عن مقامه، فقال: أونس يعقوب، فأمر بالكف عنه. قال (2) : وحدّث شعلة قال: قلت للمنصور ليلة طال سهره فيها: قد أفرط مولانا في السهر، وبدنه يحتاج إلى أكثر من هذا النوم، وهو أعلم بما يحرّكه عدم النوم من علّة العصب، فقال: يا شعلة، الملك لا ينام إذا نامت الرعيّة، لو استوفيت نومي لما كان في دور هذا البلد العظيم عين نائمة؛ انتهى ما نقلته من الكتاب المذكور.

_ (1) ابن عذاري: مليقه، ولعلها لميقه لاميجو (Lamego) . (2) ليس هذا الخبر في البيان المغرب وإنما هو في أعمال الأعلام: 76.

[؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ أخبار المنصور من كتاب الأزهار المنثورة] وقد رأيت أن أذكر هنا أخباراً، نقلتها من كتاب " الأزهار المنثورة، في الأخبار المأثورة " (1) . قال في الزهرة التاسعة والعشرين: تقدم إلى المنصور وانزمار بن أبي بكر الرزالي أحد جند المغاربة، وقد جلس للعرض والتمييز، والميدان غاصٌّ بالناس، فقال له بكلام بضحك الثكلى: يا مولاي، ما لي ولك، أسكنّي فإنّي في الفحص، فقال: وما ذاك يا وانزمار؟ وأين دارك الواسعة الأقطار؟ فقال: أخرجتني عنها والله نعمتك، أعطيتني من الضياع ما انصبّ عليّ منها من الأطعمة ما ملأ بيوتي وأخرجني عنها، وأنا بربري مجّوع حديث عهد بالبؤس، أتراني أبعد القمح عني؟ ليس ذلك من رأيي. فتطلّق المنصور وقال: لله درك من فذّ عييّ، لعيّك في شكر النعمة أبغ عندنا، وآخذ بقلوبنا من كلام كل أشدق متزيد وبليغ متفنن؛ وأقبل المنصور على من حوله من أهل الأندلس فقال: يا أصحابنا، هكذا فلتشكر الأيادي وتستدام النعم (2) ، لا ما أنتم عليه من الجحد اللازم، والتشكي المبرّح؛ وأمر له بأفضل المنازل الخالية. وفي الموفية ثلاثين ما نصّه: أصبح المنصور صبيحة أحدٍ، وكان يوم راحة الخدمة الذي أعفوا فيه من قصد الخدمة، وفي مطر وابل غبّ أيام مثله، فقال: هذا يوم لا عهد بمثله، ولا حيلة للمواظبين لقصدنا في مكابدته، فليت شعري هل شذ أحد منهم عن التقدير فأغرب في البكور؟ اخرج وتأمل، يقوله لحاجبه، فخرج وعاد إليه ضاحكاً، وقال: يا مولاي، على الباب ثلاثة من البرابرة: أبو الناس ابن صالح واثنان معه، وهم بحل من البلل إنّما توصف بالمشاهدة، فقال: أوصلهم إلي وعجل، فدخلوا عليه في حال الملاّح بللاً

_ (1) لم أهتد إلى مؤلفه، وأرجح أنه ابن سعيد، وأنه " كتاب الزهات " الذي ينقل عنه ابن هذيل في كتابه " عين الأدب والسياسة " وينسبه لابن سعيد. (2) ق ج ط ودوزي: واستديموا النعم.

ونداوة، فضحك إليهم وأدنى مجلسهم، وقال: خبروني كيف جئتم؟ وعلى أيّ حال وصلتم؟ وقد استكان كل ذي روح في كنّه، ولاذ كلّ طائرٍ بوكره، فقال له أبو الناس بكلامه: يا مولانا، ليس كل التّجار قعد عن سوقه، وإذا عذر التجار على طلب الربح بالفلوس فنحن أعذر بإدراكها بالدر ومن غير رؤوس الأموال، وهم يتناوبون الأسواق على أقدامهم ويذيلون في قصدها ثيابهم، ونحن نأتيك على خيلك، ونذيل على صهواتها ملابسك، ونجعل الفضل في قصدك مضموناً إذا جعله أولئك طمعاً ورجاء، فترى لنا أن نجلس عن سوقنا هذا؟ فضحك المنصور ودعا بالكسا والصّلات، فدفعت لهم، وانصرفوا مسرورين بغدوتهم. وفي الزهرة الرابعة والأربعين ما نصّه: كان بقرطبة على عهد الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر فتى من أهل الأدب قد رقّت حاله في الطلب، فتعلّق بكتاب العمل، واختلف إلى الخزانة مدة، حتى قلّد بعض الأعمال، فاستهلك كثيراً من المال، فلمّا ضمّ إلى الحساب أبرز عليه ثلاثة آلاف دينار، فرفع خبره إلى المنصور، فأمر بإحضاره، فلمّا مثل بين يديه ولزمالإقرار بما برز عليه قال له: يا فاسق، ما الذي جرّأك على مال السلطان تنتهبه؟ فقال: قضاء غلب الرأي، وفقر أفسد الأمانة، فقال المنصور: والله لأجعلنّك نكالاً لغيرك، وليحضر كبل وحدّاد، فأحضرا، فكبل الفتى وقال: احملوه إلى السجن، وأمر الضابط بامتحانه والشدّة عليه، فلمّا قام أنشأ يقول: أوّاه أوّاه وكم ذا أرى ... أكثر من تذكار (1) أوّاه ما لامرئ حولٌ ولا قوّةٌ ... الحول والقوّة لله فقال المنصور: ردوه، فلمّا ردّ قال: أتمثلت أم قلت؟ قال: بل قلت، فقال: حلّوا عنه كبله، فلمّا حلّ عنه أنشأ يقول:

_ (1) ك: تكرار.

أما ترى عفو أبي عامرٍ ... لا بدّ أن تتبعه منّه كذلك الله إذا ما عفا ... عن عبده أدخله الجنّة فأمر بإطلاقه، وسوّغه ذلك المال، وأبرأه من التبعة فيه. وفي الخامسة والأربعين: عرض على المنصور بن أبي عامر اسم أحد خدمه في جملة من طال سجنه، وكان شديد الحقد عليه، فوقّع على اسمه بأن لا سبيل إلى إطلاقه حتى يلحق بأمّه الهاوية، وعرّف الرجل بتوقيعه، فاغتم (1) وأجهد نفسه في الدعاء والمناجاة، فأرق المنصور إثر ذلك، واستدعى النوم فلم يقدر عليه، وكان يأتيه عند تنويمه آتٍ كريه الشخص عنيف الأخذ يأمره بإطلاق الرجل، ويتوعّده على حبسه، فاستدفع شأنه مراراً إلى أن علم أنّه نذير من ربّه، فانقاد لأمره، ودعا بالدواة في مرقده فكتب بإطلاقه، وقال في كتابه: هذا طليق الله على رغم أنف ابن أبي عامر، وتحدث الناس زماناً بما كان منه. وفي الثامنة والأربعين (2) ما نصّه: انتهت هيبة المنصور بن أبي عامر وضبطه للجند واستخدام ذكور الرجال وقوّام الملك إلى غاية لم يصلها ملك قبله، فكانت مواقفهم في الميدان على احتفاله مثلاً في الإطراق، حتى إن الخيل لتتمثّل إطراق فرسانها فلا تكثر الصهيل والحمحمة، ولقد وقعت عينه على بارقة سيف قد سلّه بعض الجند بأقصى الميدان لهزل أو جدّ بحيث ظن أن لحظ المنصور لا يناله، فقال: عليّ بشاهر السيف، فمثل بين يديه لوقته، فقال: ما حملك على أن شهرت سيفك في مكان لا يشهر فيه إلاّ عن إذن؟ فقال: إنّي أشرت به إلى صاحبي مغمداً فزلق من غمده، فقال: إن مثل هذا لا يسوغ بالدعوى، وأمر به فضربت عنقه بسيفه، وطيف برأسه، ونودي عليه بذنبه؛ انتهى.

_ (1) ك: فاهتم واغتم. (2) ك: وفي السادسة والأربعين.

وحكى غير واحد (1) أن المنصور كان به داء في رجله، واحتاج إلى الكيّ فأمر الذي يكويه بذلك وهو قاعد في موضع مشرف على أهل مملكته، فجعل يأمر وينهى ويفرى الفريّ في أموره، ورجله تكوى والناس لا يشعرون، حتى شمّوا رائحة الجلد واللحم، فتجّبوا من ذلك وهو غير مكترث. وأخباره - رحمه الله تعالى - تحتمل مجلدات، فلنمسك العنان، على أنّا ذكرنا في الباب الرابع والسادس من هذا الكتاب جملة من أخباره، رحمه الله تعالى، فلتراجع إلى آخره. [؟؟ عود إلى النقل عن المطمح] وقال الفتح في المطمح (2) : وكان ممّا أعين به المنصور على المصحفيّ ميل الوزراء إليه، وإيثارهم له عليه، وسعيهم في ترقيه، وأخذهم بالعصبية فيه، فإنّها وإن لم تكن حميّة أعرابية، فقد كانت سلفية سلطانية، يقتفي القوم فيها سبيل سلفهم، ويمنعون بها ابتذال شرفهم، غادروها سيرة، وخلّفوها عادة أثيرة، تشاحّ الخلف فيها تشاحّ أهل الديانة، وصانوا بها مراتبهم أعظم صيانة، ورأوا أن أحداً لا يلحق فيها غاية، ولا يتعاقد لها راية (3) ، فلمّا اصطفى الحكم المستنصر بالله جعفر بن عثمان واصطنعه، ووضعه من أثرته حيث وضعه، وهو نزيع بينهم ونابغ (4) فيهم، حسدوه وذمّوه، وخصّوه بالمطالبة وعمّوه، وكان أسرع صنف الطائفة من أعالي الوزراء وأعاظم الدولة إلى مهاودة المنصور

_ (1) ك: وفي السابعة والأربعين؛ ق: وفيه؛ وفي ط بياض. (2) بياض في ط؛ وفي ك: وفي الثامنة والأربعين؛ وفي ج ق: قال في المطمح؛ والنص في المطمح: 7 وفي البيان المغرب 2: 405 (2: 271 ط. ليدن) . (3) ان عذاري: لا يدرك ... ولا يلحق. ق: ولا يناقد؛ ط: ولا يتاقد. (4) دوزي: وتابع؛ ج: ونابع.

عليه، والانحراف عنه إليه، آل أبي عبدة وآل شهيد وآل فطيس من الخلفاء وأصحاب الرّدافة (1) ، من أولي الشرف والإنافة (2) ، وكانوا في الوقت أزمّة الملك وقوّام الخدمة، ومصابيح الأمّة، وأغير الخلق على جاه وحرمة، فأحظوا محمد بن أبي عامر مشايعة، ولبعض أسبابه الجامعة متابعة، وشادوا بناءه، وقادوا إلى عنصره سناءه، حتى بلغ الأمل، والتحف بمناه واكتحل (3) ، وعند التئام هذه الأمور لاين أبي عامر استكان جعفر بن عثمان للحادثة، وأيقن بالنكبة، وزوال الحال وانتقال الرتبة، وكفّ عن اعتراض محمد وشركته في التدبير، وانقبض الناس من الرواح إليه والتبكير، وانثالوا على ابن أبي عامر، فخف موكبه، وغار من سماء العز كوكبه، وتوالى عليه سعي ابن أبي عامر وطلبه، إلى أن صار يغدو إلى قرطبة ويروح وليس بيده من الحجابة إلا اسمها، وابن أبي عامر مشتمل على رسمها، حتى محاه، وهتك ظلّه (4) وأضحاه، قال [محمّد] (5) بن إسماعيل: رأيته يساق إلى مجلس الوزارة للمحاسبة راجلاً فأقبل يدرم، وجوارحه باللواعج تضطرم، وواثقٌ الضّاغط ينهره، والزّمع يقهره، والبهر والسّنّ قد هاضاه (6) ، وقصّرا خطاه، فسمعته يقول: رفقاً بي فستدرك ما تحبّه وتشتهيه، وترى ما كنت ترتجيه، ويا ليت أن الموت يباع فأغلي (7) سومه، حتى يرده من أطال عليه حومه، ثم قال (8) : لا تأمننّ من الزمان تقلّباً ... إنّ الزمان بأهله يتقلّب

_ (1) ق ط ج: الردانة. (2) ق ط ج: والأمانة. (3) المطمح: والتحف يمينه بمناه واشتمل. (4) المطمح: ظلاله. (5) زيادة من المطمح. (6) المطمح: والزمع والبهر قد هاضاه. (7) دوزي: فأغلى الله. (8) انظر أيضاً الحلة 1: 267.

ولقد أراني والليوث تخافني ... فأخافني من بعد ذاك الثعلب حسب الكريم مذلّةً ومهانةً ... أن لا يزال إلى لئيمٍ يطلب فلمّا بلغ المجلس جلس في آخره دون أن يسلّم على أحد، أو يومئ إليه بعين أو يد، فلمّا أخذ مجلسه تسرّع إليه الوزير محمّد بن حفص بن جار فعنفه واستجفاه (1) ، وأنكر عليه ترك السلام وجفاه، وجعفر معرض عنه، إلى أن كثر القول منه، فقال له: يا هذا، جهلت المرّة فاستجهلت معلّمها (2) ، وكفرت النّعم (3) فقصدت بالأذى ولم ترهب مقدّمها، ولو أتيت نكرا، لكان غيرك أدرى، وقد وقعت في أمر ما أظنّك تخلص منه، ولا يسعك السكوت عنه، ونسيت الأيادي الجميلة، والمبرات الجليلة، فلمّا سمع محمّد بن حفص ذلك من قوله قال: هذا البهت بعينه، وأيّ أياديك الغرّ التي مننت بها، وعيّنت أداء واجبها؟ أيد كذا أم يد كذا؟ وعدّد أشياء أنكرها منه أيام إمارته، وتصرف الدهر طوع إشارته، فقال جعفر: هذا ما لا يعرف، والحق الذي لا يردّ ولا يصرف، دفعي (4) القطع عن يمناك، وتبليغي لك إلى منالك، فأصرّ محمّد بن حفص على الجحد، فقال جعفر: أنشد الله من له علم بما أذكره إلا اعترف به فلا ينكره، وأنا أحوج إلى السكوت، ولا تحجب دعوتي فيه عن الملكوت، فقال الوزير أحمد بن عباس (5) : قد كان بعض ما ذكرته يا أبا الحسن، وغير هذا أولى بك، وأنت فيما أنت فيه من محنتك وطلبك، فقال: أحرجني الرجل فتكلمت، وأحوجني إلى ما به أعلمت، فأقبل الوزير ابن جهور على محمد بن حفص وقال: أسأت إلى الحاجب، وأوجبت عليه غير

_ (1) ق ط ج: واستحفاه. (2) المطمح والبيان: عالمها. (3) المطح: وكفرت اليد. (4) ق ط ج: رفعي. (5) البيان المغرب: أحمد بن عياش.

الواجب، أوما علمت أن منكوب السلطان لا يسلّم على أوليائه لأنّه إن فعل ألزمهم الرد لقوله تعالى " وإذا حيّيتم بتحيّةٍ فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها " فإن فعلوا لطاف بهم من إنكار السلطان ما يخشى ويخاف، لأنّه تأنيس لمن أوحش وتأمين لمن أخاف، وإن تركوا الرد أسخطوا الله، فصار الإمساك أحسن، ومثل هذا لا يخفى على أبي الحسن، فانكسر ابن حفص، وخجل ممّا أتى به من النقص. وبلغه أن قوماً توجّعوا له، وتفجّعوا ممّا وصله، فكتب إليهم: أحنّ إلى أنفاسكم فأظنّها ... بواعث أنفاس الحياة إلى نفسي وإنّ زماناً صرت فيه مقيّداً (1) ... لأثقل من رضوى وأضيق من رمس انتهى ما ترجم به المنصور بن أبي عامر. [؟؟ عبد الملك المظفر الحاجب] ولنرجع (2) فنقول: ولمّا توفّي المنصور قام بالأمر بعده ابنه عبد الملك المظفّر أبو مروان فجرى على سنن أبيه في السياسة والغزو، وكانت أيّامه أعياداً دامت مدّة سبع سنين وكانت تسمى بالسابع، تشبيهاً بسابع العروس، ولم يزل مثل اسمه مظفّراً إلى أن مات سنة تسع وتسعين وثلاثمائة في المحرّم، وقيل: سنة ثمان وتسعين. وكاتبه المعز بن زيري ملك مغراوة بعد أن استرجع فاساً والمغرب إثر موت أبيه، فكتب له العهد على المغرب، وثارت الطوائف في ممالكهم، وتحركت الجلالقة لاسترجاع معاقلهم وحصونهم.

_ (1) نسخة: مفنداً. (2) انتهى ... ولنرجع: سقط من بعض النسخ؛ وفي ق: انتهى كلام ابن أبي عامر فنقول وسقطت لفظة " كلام " من ط ج.

[عبد الرحمن شنجول] قال ابن خلدون (1) : ثمّ قام بالأمر بعده أخوه عبد الرحمن، وتلقب بالناصر لدين الله، وقيل: بالمأمون، وجرى على سنن أبيه وأخيه في الحجر على الخليفة هشام، والاستبداد عيه والاستقلال بالملك دونه، ثمّ ثاب له رأي في الاستئثار بما بقي من رسوم الخلافة، فطلب من هشام المؤيد أن يوليه عهده، فأجابه، وأحضر لذلك املأ من أرباب الشورى وأهل الحل والعقد، فكان يوماً مشهوداً، فكتب عهده من إنشاء أبي حفص بن برد بما نصّه (2) : هذا ما عهد به هشامٌ المؤيد بالله أمير المؤمنين إلى الناس عامّة، وعاهد الله عليه من نفسه خاصّة، وأعطى به صفقة يمينه بيعةً تامّةً، بعد أن أمعن النظر وأطال الاستخارة، وأهمّه ما جعل الله إليه من الإمامة، وعصب به من أمر المؤمنين، واتقى حلول القدر بما لا يؤمن، وخاف نزول القضاء بما لا يصرف، وخشي إن هجم محتوم ذلك عليه ونزل مقدوره به ولم يرفع لهذه الأمّة علماً تأوي إليه، وملجأ تنعطف عليه، أن يكون يلقى ربّه تبارك وتعالى مفرّطاً ساهياً عن أداء الحق إليها، وتقصّى عند ذلك من إحياء قريش وغيرها من يستحق أن يسند هذا الأمر إليه، ويعوّل في القيام به عليه، ممّن يستوجبه بدينه وأمانته، وهديه وصيانته، بعد اطّراح الهوى، والحرّي للحق، والتزلف (3) إلى الله جل جلاله بما يرضيه، وبعد أن قطع الأواصر، وأسخط الأقارب، فلم يجد أحداً أجدر أن يوليه عهده، ويفوّض إليه الخلافة بعده، لفضل نفسه وكرم خيمه

_ (1) تاريخ ابن خلدون 4: 148؛ وسقطت عبارة " قال ابن خلدون " من ط ج؛ وفي ج: ولما هلك المظفر قام ... الخ. (2) انظر هذا العهد أيضاً في أعمال الأعلام: 91 والبيان المغرب 3: 44، وابن برد كاتب العهد هو أحمد بن برد أبو حفص الوزير المعروف ابن برد الأكبر تمييزاً له عن حفيده ابن برد الأصغر، وكان الجد رئيساً مقدماً في الدولة العامرية توفي سنة 418 (جذوة المقتبس: 111) . (3) ك: والزلفى.

وشرف مرتبته وعلوّ منصبه، مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمه، من المأمون الغيب، الناصح الجيب، أبي المطرّف (1) عبد الرحمن بن المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر، وفّقه الله؛ إذ كان أمير المؤمنين - أيّده الله تعالى - قد ابتلاه واختره، ونظر في شأنه واعتبره، فرآه مسارعاً في الخيرات، سابقاً في الحلبات، مستولياً على الغايات، جامعاً للمأثرات، ومن كان المنصور أباه، والمظفّر أخاه، فلا غرو أن يبلغ من سبل البر مداه، ويحوي من خلال الخير ما حواه؛ مع أن أمير المؤمنين؟ أيّده الله؟ بما طالع من مكنون العلم، ووعاه من مخزون الأثر، يرى أن يكون وليّ عهده القحطاني الذي حدّث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: " لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه ". فلما استوى له الاختيار وتقابلت عنده فيه الآثار، ولم يجد عنه مذهباً، ولا إلى غيره معدلاً، خرج إليه من تدبير الأمور في حياته، وفوّض إليه الخلافة بعد وفاته، طائعاً راضياً مجتهداً، وأمضى أمير المؤمنين هذا وأجازه، وأنجزه وأنفذه، ولم يشرط فيه مثنوية ولا خياراً، وأعطى على الوفاء به في سرّه وجهره وقوله وفعله عهد الله وميثاقه، وذمة نبيه محمّد صلى الله عليه وسلّم، وذمم الخلفاء الراشدين من آبائه، وذمة نفسه، أن لا يبدّل ولا يغير ولا يحول ولا يزول (2) ، وأشهد الله على ذلك والملائكة، وكفى بالله شهيداً، وأشهد [من أوقع اسمه في هذا] (3) وهو جائز الأمر ماضي القول والفعل بمحضر من ولي عهده المأمون أبي المطرّف عبد الرحمن بن المنصور وفّقه الله تعالى، وقبوله ما قلّده، وإلزامه نفسه ما ألزمه، وذلك في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة. وكتب الوزراء والقضاة وسائر الناس شهاداتهم بخطوط أيديهم، وتسمّى

_ (1) في الأصول: أبي المظفر. (2) أعمال الأعلام: ولا يتأول. (3) ساقطة من أصول النفح، مثبتة في أعمال الأعلام.

بعدها بولي العهد (1) . ونقم عليه أهل الدولة ذلك (2) ، فكان فيه حتفه، وانقراض دولته ودولة قومه، وكان أسرع الناس كراهةً لذلك الأمويين والقرشيين، فغصّوا بأمره، وأسفوا من تحويل الأمر جملة من المضرية إلى اليمنية، فاجتمعوا لشأنهم، وتمشّت من بعض إلى بعض رجالاتهم، وأجمعوا أمرهم في غيبة من المذكور ببلاد الجلالقة في غزاة من صوائفه، ووثبوا بصاحب الشرطة فقتلوه بمقعده من باب قصر الخلافة بقرطبة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وخلعوا هشاماً المؤيد.؟ [بيعة المهديّ بالله] وبايعوا محمد بن هشام بن عبد الجبار ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله من أعقاب الخلفاء، لقّبوه المهدي بالله، وطار الخبر إلى عبد الرحمن الحاجب ابن المنصور بمكانه من الثّغر، فانفضّ جمعه، وقفل إلى الحضرة مدلّ بمكانه، زعيماً بنفسه، حتى إذا قرب من الحضرة تسلّل عنه الناس من الجند ووجوه البربر، ولحقوا بقرطبة، بايعوا المهدي القائم بالأمر، وأغروه بعبد الرحمن الحاجب، لكونه ماجناً مستهتراً غير صالح للأمر، فاعترضه منهم من قبض عليه، واحتزّ رأسه، وحمله إلى المهدي وإلى الجماعة. وذهبت دولة العامريين كأن لم تكن، ولله عاقبة الأمور. وفي المهدي يقول بعضهم: قد قام مهديّنا ولكن ... بملّة الفسق والمجون

_ (1) في أعمال الأعلام والبيان المغرب: وهذا الكتاب نسختان، أول الشهود فيه قاضي الجماعة أحمد ابن عبد الله بن ذكوان ويليه من الوزراء خاصة أسماء تسعة وعشرين رجلاً، يليه أسماء مائة وثمانين رجلاص من أصحاب الشرطة وسائر أهل الخدمة. (2) لا يزال النقل في هذه الفقرة والتي تليها مستمراً عن ابن خلدون.

وشارك الناس في حريمٍ ... لولاه ما زال بالمصون من كان من قبل ذا أجمّاً ... فاليوم قد صار ذا قرون [؟ خبر الفتنة البربريّة] (1) وكان رؤساء البربر (2) وزناتة لحقوا بالمهديّ لما رأوا من سوء تدبير عبد الرحمن وانتقاض أمره، وكانت الأموية تعتدّ عليهم ما كان من مظاهرتهم العامريين، وتنسب تغلّب المنصور وبنيه (3) على الدولة إليهم، فسخطتهم القلوب، وخزرتهم العيون، ولولا ما لهم من العصبية لاستأصلهم الناس، ولغطت (4) ألسنة الدهماء من أهل المدينة بكراهتهم، وأمر المهدي أن لا يركبوا ولا يتسلّحوا، وردّ بعض رؤسائهم في بعض الأيّام من باب القصر، فانتهبت العامة دورهم، وشكا بعضهم إلى المهدي ما أصابهم، فاعتذر [إليهم] (5) وقتل من اتّهم من العامة في أمرهم، وهو مع ذلك مظهر لبغضهم، مجهر بسوء الثناء عليهم، وبلغهم أنّه يريد الفتك بهم، فتمشّت رجالاتهم، وأرّوا نجواهم، اشتوروا في تقديم هشام بن سليمان ابن أمير المؤمنين الناصر، وفشا في الخاصّة حديثهم، فعوجلواعن مرامهم ذلك وأغرى بهم السواد الأعظم، فثاروا بهم، وأزعجوهم عن المدينة، وتقبض على هشام وأخيه أبي بكر، وأحضرا بين يدي المهدي، فضرب أعناقهما.

_ (1) تفصيل الخبر عن هذه الفتنة عند ابن عذاري 3: 50 - 119 وفي أعمال الأعلام: 104 - 128 والذخيرة 1/1: 24 - 40. (2) انظر تاريخ ابن خلدون 4: 150. (3) ك: وغيره. (4) ط: ولفظت. (5) إليهم: سقطت من ق ط ج.

[؟ بيعة سليمان المستعين] ولحق سليمان ابن أخيهما الحكم بجنود البربر، وقد اجتمعوا بظاهر قرطبة وتوامروا، فبايعوه ولقّ؟ بوه المستعين بالله، ونهضوا به إلى ثغر طليطلة، فاستجاش بابن أذفونش، ثم نهض في جموع البرابرة والنصرانية إلى قرطبة، وبرز إليه المهدي في كافة أهل البلد وخاصة الدولة، فكانت الدائرة عليهم، واستلحم منهم ما يزيد على عشرين ألفاً، وهلك من خيار الناس وأئمة المساجد وسدنتها ومؤذنيها عالم، ودخل المستعين قرطبة ختام المائة الرابعة. ولحق المهدي بطليطلة. واستجاش (1) بابن أذفونش ثانية، فنهض معه إلى قرطبة، وهزم المستعين والبرابرة بعقبة البقر (2) من ظاهر قرطبة، ودخل قرطبة - أعني المهدي - وملكها، وخرج المستعين مع البربر، وتفرّقوا في البسائط ينهبون ولا يبقون على أحد، ثمّ ارتحلوا إلى الجزيرة الخضراء، فخرج المهدي ومعه ابن أذفونش لاتّباعهم، فكرّوا عليهم، فانهزم المهدي وابن أذفونش ومن معه من المسلمين والنصارى، وابتعهم المستعين إلى قرطبة، فأخرج المهدي هشاماً المؤيد للناس، وبايع له، وقام بأمر حجابتهن ظنّاً منه أن ذلك ينفعه، وهيهات، وحاصرهم وحاشية المؤيد بالمهديّ وأن الفتنة إنّما جاءت من قبله، وتولى كبر ذلك واضحٌ العامري، فقالوا المهديّ، واجتمع الكافّة على المؤيد، وقام واضحٌ بحجابته، واستمر الحصار، ولم يغن عن أهل قرطبة ما فعلوه شيئاً، إلى أن هلكت القرى والبسائط بقرطبة، وعدمت المرافق، وجهدهم الحصار، وبعث المستعين إلى أهل ابن أذفونش يستقدمهم (3) لمظاهرته، فبعث إليهم هشام وحاجبه واضح يكفّونهم عن ذلك، بأن ينزلوا لهم عن ثغور قشتالة التي كان المنصور

_ (1) تاريخ ابن خلدون 4: 151. (2) عقبة البقر (El - Vacar) على عشرين كيلومتراً شمالي قرطبة. (3) ق: يستعدهم؛ ج: يستمدهم.

افتتحها (1) ، فسكن عن مظاهرتهم عزم أذفونش، ولم يزل الأمر حتى دخل المستعين قرطبة ومن معه من البربر عنوة سنة ثلاث وأربعمائة، وقتل هشام سرّاً، ولحق بيوتات قرطبة معرة في نسائهم وأبنائهم. وظن المستعين (2) أن قد استحكم أمره، وتوثبت (3) البرابرة والعبيد على الأعمال، فولوا المدن العظيمة، وتقلّدوا البلاد (4) الواسعة، مثل باديس بن حبّوس في غرناطة، والبرزالي في قرمونة، واليفرني في رندة، وخزرون (5) في شريش، وافترق شمل الجماعة بالأندلس، وصار الملك طوائف في آخرين من أهل الدولة، مثل ابن عبّاد بإشبيلية، وابن الأفطس ببطليوس، وابن ذي النون بطليطلة، وابن أبي عامر ببلنسية، وابن هود بسرقسطة، ومجاهد العامري بدانية والجزائر ... (6) وكان مائلاً لبني حمّود يهجو سليمان المستعين: لا رحم الله سليمانكم ... فإنّه ضدّ سليمان ذاك به غلّت شياطينها ... وحلّ هذا كلّ شيطان فباسمه ساحت على أرضنا ... لهلك سكان وأوطان وكان من أعظم الأسباب في فساد دولة المستعين أنّه قال هذه الأبيات مستريحاً بها إلى خواصّه، وهي قوله: حلفت بمن صلّى وصام وكبّرا ... لأغمدها فيمن طغى وتجبّرا (7) وأبصر دين الله تحيا رسومه ... فبدّل ما قد لاح منها (8) وغيّرا

_ (1) ابن خلدون: اقتحمها. (2) لا يزال النقل عن ابن خلدون مستمراً. (3) ق: وترتبت. (4) بعض النسخ: الأعمال. (5) ق ج ط ك: وهرزون. (6) بياض في ط، وفي ك: قال ابن خلدون، وفي ق: وقال الشاعر. (7) ق: وتكبرا. (8) ك: كان منه.

فواعجباً من عبشميّ مملّكٍ ... برغم العوالي والمعالي تبربرا فلو أن أمري بالخيار نبذتهم ... وحاكمتهم للسّيف حكماً محرّرا فإمّا حياة تستلذّ بفقدهم ... وإمّا حمامٌ لا نرى فيه ما زرى وقد سلك هذا الملك المرتضى المرواني فقال: قد بلغ البربر فينا بنا ... ما أفسد الأحوال والنّظما كالسّهم للطائر لولا الذي ... فيه من الرّيش لما أصمى قوموا بنا في شأنهم قومةً ... تزيل عنّا العار والرّغما إمّا بها نملك، أو لا نرى ... ما يرجع الطّرف به أعمى وكان عليّ بن حمّود الحسني وأخوه قاسم من عقب إدريس ملك فاس وبانيها قد أجازوا مع البربر من العدوة إلى الأندلس، فدعوا لأنفسهم، واعصوصب عليهم البربر، فملكوا قرطبة سنة سبع وأربعمائة، وقتلوا المستعين، ومحوا ملك بني أمية، واتصل ذلك في خلفٍ منهم سبع سنين، ثم رجع الملك إلى بني أمية. وكان المستعين المذكور أديباً بليغاً، ومن شعره يعارض هرون الرشيد في قوله (1) : ملك الثلاث الآنسات عناني ... الأبيات - قوله: عجباً يهاب الليث حدّ سناني ... وأهاب سحر (2) فواتر الأجفان وأقارع الأهوال لا متهيّباً ... منها سوى الإعراض والهجران وتملّكت نفسي ثلاثٌ كالدّمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان

_ (1) الذخيرة 1/1: 33 والبيان المغرب 3: 118 والحلة 2: 8 - 9 والجذوة: 20 - 21. (2) ك: لحظ.

ككواكب الظّلماء لحن لناظري ... من فوق أغصانٍ على كثبان حاكمت فيهنّ السلوّ إلى الرضى (1) ... فقضى بسلطانٍ على سلطاني هذي الهلال، وتلك بنت المشتري ... حسناً، وهذي أخت غصن البان فأبحن من قلبي الحمى وتركنني ... في عزّ ملكي كالأسير العاني لا تعذلوا ملكاً تذلّل في الهوى ... ذلّ الهوى عزٌّ وملك ثاني ما ضرّ أنّي عبدهنّ صبابة ... وبنو الزمان وهنّ من عبداني إن لم أطع فيهنّ سلطان الهوى ... كلفاً بهنّ فلست من مروان [بنو حمّود] (2) وولي الأمر بعده علي (3) بن حمّود الحسني، تلقّب بالناصر، وخرج عليه العبيد وبعض المغاربة، وبايعوا المرتضى أخا المهدي، ثم اغتيل المرتضى، واستقام الملك لعلي بن حمّود نحو عامين، إلى أن قتلته صقالبته بالحمّام سنة ثمان وأربعمائة، فولي مكانه أخوه القاسم، وتلقّب بالمأمون، ونازعه الأمر بعد أربع سنين من خلافته يحيى ابن أخيه، وكان على سبتة، فأجاز إلى الأندلس سنة عشر، واحتل بمالقة وكان أخوه إدريس بها منذ عهد أبيهما، فبعثه إلى سبتة، ثم زحف يحيى إلى قرطبة فملكها سنة ثنتي عشرة وأربعمائة، وتلقب المعتلي، وفرّ عمّه المأمون إلى إشبيلية وبايع له القاضي ابن عبّاد، واستجاش بعض البرابرة، ثم رجع إلى قرطبة سنة ثلاث عشرة وملكها، ثم لحق المعتلي بمكانه من مالقة، وتغلّب على الجزيرة الخضراء وتغلّب أخوه إدريس على طنجة من وراء البحر، وكان المأمون يعتدّها حصناً لنفسه، وفيها ذخائره،

_ (1) ك: الهوى؛ دوزي: الصبا. (2) انظر جذوة المقتبس 21 - 24 في الحوديين. (3) وولي.... علي: موضعها بياض في ط؛ وفي ج: ولما ملك علي ... الخ. وفي ق: ثم إن ابن حمدون ... الخ.

فلمّا بلغه الخبر اضطرب، وثار عليه أهل قرطبة، ونقضوا طاعته، وخرج فحاصرهم فدافعوه، ولحق بإشبيلية فمنعوه، وكان بها ابنه فأخرجوه إليه، وضبطوا بلدهم، واستبدّ ابن عباد بملكها، ولحق المأمون بشريش، ورجع عنه البربر إلى يحيى المعتلي ابن أخيه، فبايعوه سنة خمس عشرة، وزحف إلى عمّه المأمون فتغلّب عليه ولم يزل عنده أسيراً وعند إخيه إدريس بمالقة إلى أن هلك بمحبسه سنة سبع وعشرين، وقيل: إنّه خنق كم سيأتي، واستقل المعتلي بالأمر، واعتقل ابني (1) عمّه القاسم. وكان المستكفي من الأمويين استولى على قرطبة في هذه المدّة عندما أخرج أهلها العلوية، ثم خلع أهل قرطبة المستكفي الأموي سنة ست عشرة، وصاروا إلى طاعة المعتلي، واستعمل عليهم ابن عطّاف من قبله، ثمّ نقضوا سنة سبع عشرة، وصرفوا عاملهم، وبايعوا للمعتدّ الأموي أخي المرتضى، وبقي المعتلي يردّد لحصارهم العساكر إلى أن اتفقت الكلمة على إسلام الحصون والمدائن له، فعلا سلطانه، واشتدّ أمره إلى أن هلك سنة تسع وعشرين، اغتاله أصحابه بدسيسة ابن عبّاد الثائر بإشبيلية، فاستدعى أصحابه أخاه إدريس ابن علي [بن حمود] من سبتة وملّكوه، ولقبوه المتأيّد، وبايعته رندة وأعمالها والمريّة والجزيرة الخضراء، وبعث عساكره لحرب أبي القاسم إسماعيل ابن عبّاد والد المعتضد بن عباد، فجاءوه برأسهبعد حروب، وهلك ليومين بعد ذلك سنة إحدى وثلاثين، وبويع ابنه يحيى، ولم يتم له أمر، وبويع حسن المستنصر بن المعتلي، وفر يحيى إلى قمارش (2) فهلك بها سنة أربع وثلاثين، ويقال: إنّه قتله نجا، وهلك حسن مسموماً بيد ابنة عمّه إدريس، ثأرت منه بأخيها، وكان إدريس بن يحيى المعتلي معتقلاً بمالقة فأخرج بعد خطوب وبويع بها، فأطاعته غرناطة وقرمونة، ولقّب العالي، وهو الممدوح بالقصيدة

_ (1) في الأصول: بني. (2) قمارش (Comares) .

المشهورة بالمغرب التي قالها فيه أبو زيد عبد الرحمن بن مقانا القبذاقي (1) الأشبوني من شعراء الذخيرة، وهي: ألبرقٍ لائحٍ من أندرين ... ذرفت عيناك بالماء (2) المعين لعبت أسيافه عاريةً ... كمخاريق بأيدي اللاّعبين ولصوت الرّعد زجرٌ وحنين ... ولقلبي زفراتٌ وأنين وأناجي في الدّجى عاذلتي ... ويك لا أسمع (3) قول العاذلين عيّرتني بسقام وضنىً ... إنّ هذين لدين العاشقين قد بدا لي وضح الصبح المبين ... فاسقنيها قبل تكبير الأذين إسقنيها مزة مشمولةً ... لبثت في دنها بضع سنين نثر المزج على مفرقها ... درراً عامت فعادت كالبرين مع فتيان كارم نجبٍ ... يتهادون رياحين المجون (4) شربوا الراح على خدّ رشاً ... نوّر الورد به والياسمين وجلت آياته (5) عامدةً ... سبج الشّعر على عاج الجبين لوت الصّدغ على حاجبه ... ضمّة اللاّم على عطفة نون فترى غصناً على دعص نقاً ... وترى ليلاً على صبحٍ مبين وسيسقون إذا ما شربوا ... بأباريق وكأسٍ من معين

_ (1) تصحفت هذه اللفظة في النسخ فهي الفنداقي في ق ط ك؛ والقنداقي في ج؛ والغيداني؛ والقبذاقي؛ والقيذاني؛ وقد أثبتها محقق المغرب " القبذاني " (1: 413) فالحرف الأخير منها قاف على التأكيد إذ يوافق سجع ابن سعيد " كتاب حديقة الأحداق في حلى قرية القبذاني "؛ وهي من قرى أشبونة ويقول ابن بسام إن القبذاني (؟) من ساحل شنترة، وقصيدة ابن مقانا ورد قسم منها في المغرب؛ وفي الذخيرة (القسم الثاني، الورقة: 303) . (2) ق ج: بالدمع. (3) الذخيرة: لا أقبل. (4) بعد هذا البيت في الذخيرة: وعليهم زاجر من حلمهم ... ولديهم قاصرات الطرف عين (5) اقرأ: رجلت داياته، وهي رواية المغرب.

ومصابيح الدّجى قد طفئت ... في بقايا من سواد الليل جون وكأنّ الظلّ مسكٌ في الثّرى ... وكأنّ الطّلّ درٌّ في الغصون والنّدى يقطر من نرجسه ... كدموعٍ أسبلتهنّ الجفون والثريّا قد هوت من (1) أفقها ... كقضيبٍ زاهرٍ من ياسمين وانبرى جنح الدّجى عن صبحه ... كغرابٍ طار عن بيضٍ كنين وكأنّ الشّمس لمّا أشرقت ... فانثنت عنها عيون الناظرين وجه إدريس بن يحيى بن علي ... بن حمّودٍ أمير المؤمنين ملكٌ ذو هيبة لكنّه ... خاشعٌ لله ربّ العالمين خطّ بالمسك على أبوابه: ... ادخلوها بسلام آمنين (2) فإذا ما رفعت راياته ... خفقت بين جناحي جبرئين وإذا أشكل خطبٌ معضلٌ ... صدع الشكّ بمصباح اليقين فبيسراه يسار المعسرين ... وبيمناه لواء السّابقين (3) يا بني أحمد يا خير الورى ... لأبيكم كان وفد المسلمين نزل الوحي عليه فاحتبى ... في الدّجى فوقهم الرّوح الأمين خلقوا من ماء عدلٍ وتقىً ... وجميع الناس من ماءٍ وطين انظرونا نقتبس من نوركم ... إنّه من نور ربّ العالمين وقيل: إنّه أنشده إيّها من وراء حجاب اقتفاءً لطريقة خلفاء بني العباس، فلمّا بلغ إلى قوله: انظرونا نقتبس من نوركم ... إنّه من نور ربّ العالمين أمر حاجبه أن يرفع الحجاب، وقابل وجهه وجه الشاعر دون حجاب،

_ (1) الذخيرة: قد علمت في. (2) بعده في الذخيرة: وينادي الجود في آفاقه ... يمموا قصر أمير المؤمنين (3) صدر البيت سقط من ج ط.

وأمر له بإحسان جزيل (1) ، فكان هذا من أنبل ما يحكى عنه. وخلع العالي سنة ثمانٍ وثلاثين، وولي ابن عمّه محمّد بن إدريس بن علي، وتلقّب بالمهدي، وتوفّي سنة أربع وأربعين. وبويع إدريس بن حيى بن إدريس، ولقّب الموفق، ولم يخطب له بالخلافة وزحف إليه العالي إدريس المخلوع الممدوح بالقصيدة السابقة، وكان بقمارش، فدخل عليه مالقة، وأطلق أيدي عبيده عليها لحقده عليهم، ففرّ كثير منهم، وتوفّي العالي سنة ست أو سبع وأربعين. وبويعمحمّد بن إدريس، ولقّب المستعلي، ثم سار إليه باديس بن حبّوس سنة تسع وأربعين وأربعمائة، فتغلّب على مالقة، وسار محمّد إلى المريّة مخلوعاً، ثم استدعاه أهل المغرب إلى مليلة [فأجاز إليهم] (2) وبايعوه سنة ست وخمسين، وتوفّي سنة ستين. وكان محمد بن القاسم بن حمّود لما اعتقل أبوه القاسم بمالقة سنة أربع عشرة فرّ من الاعتقال ولحق بالجزيرة الخضراء وملكها، وتلقّب بالمعتصم، إلى أن هلك سنة أربعين، ثم ملكها بعده ابنه القاسم الواثق، إلى أن هلك سنة خمسين، وصارت الجزيرة للمعتضد بن عبّاد، ومالقة لابن حبّوس مزاحماً لابن عبّاد. وانقرضت دولة الأشراف الحمّوديين من الأندلس، بعد أن كانوا يدّعون الخلافة. [خلافة المستظهر] (3) وأمّا قرطبة فإن أهلها لمّا قطعوا دعوة الحمّوديين بعد سبع سنين من ملكهم

_ (1) في نسخة: بمال جزيل. (2) زيادة من ابن خلدون وفي ق ط ج: إلى مليلة وجارت. (3) انظ الحلة السيراء 2: 12.

وزحف إليهم القسم بن حمّود في البربر، فهزمهم أهل قرطبة، ثم اجتمعوا واتفقوا على ردّ الأمر لبني أميّة، واختاروا لذلك عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار أخا المهدي، وبايعوه في رمضان سنة أربع عشرة وأربعمائة، ولقّبوه المستظهر وقاموا بأمره، ومن شعره قوله (1) : طال عمر الليل عندي ... مذ (2) تولّعت بصدّي يا غزالاً نقض العه ... د ولم يوف بوعد أنسيت العهد إذ بت ... نا على مفرش ورد واجتمعنا في وشاحٍ ... وانتظمنا نظم عقد ونجوم الليل تحكي ... ذهباً في لازورد قال الحجاري: لو قال لؤلؤاً في لازورد لكان أحسن تشبيهاً، وأنشد متمثّلاً: إنّا عصابتك الألى ... كنّا نكابد ما تكابد هذا أوان بلوغنا (3) ال ... نّعمى وإنجاز المواعد وكان حسّان بن أبي عبدة (4) من وزراء المستظهر، ولمّا أكثر المستظهر دونه الاستبداد كتب إليه بقوله (5) : إذا غبت لم أحضر، وإن جئت لم أسل ... فسيّان مني مشهدٌ ومغيب

_ (1) الحلة 2: 16. (2) ك: قد. (3) ج ط ق: بلوغ أواننا. (4) حسان بن مالك بن أبي عبدة الوزير من الأئمة في الأدب واللغة، ألف للمنصور كتاباً في الأسمار ووزر للنستظهر، وتوفي قبل سنة 420 (الجذوة: 183 والبغية رقم: 662 والمطمح: 26) . (5) البيتان في المصادر السابقة.

فأصبحت تيميّاً، وما كنت قبلها ... لتيمٍ، ولكنّ الشبيه نسيب يشير إلى قول الأول: يقضى المر حين تغيب تيمٌ ... ولا يستأذنون وهم شهود وعاتبه أيضاً بقوله: إذا كان مثلي لا يجازى (1) بصبره ... فمن ذا الذي بعدي يجازى على الصّبر وكم مشهدٍ حاربت فيه عدوّكم ... وأمّلت في حربي له راحة الدّهر أخوض إلى أعدائكم لجج الوغى ... وأسري إليهم حيث لا أحدٌ يسري وقد نام عنهم كلّ مستبطن الحشا ... أكول إلى الممسى نؤوم إلى الظّهر فما بال هذا الأمر أصبح ضائعاً ... وأنت أمين الله تحكم في الأمر وسيأتي إن شاء الله تعالى من كلام الوزير المذكور ما يدلّ على عظيم قدره، وهناك نذكر تحلية الفتح له. [بيعة المستكفي والمعتد] ثمّ ثار عليه لشهرين من خلافته محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، فاتّبعه الغوغاء، وفتك بالمستظهر، وتلقّب بالمستكفي، واستقلّ بأمر قرطبة، وهو والد الأديبة الشهيرة ولاّدة، ولعلّنا نلمّ ببعض أخبارها إن شاء الله تعالى فيما بعد، وكان أبوه عبد الرحمن قتله المنصور بن أبي عامر لسعيه في الخلاف (2) . ثم بعد ستة عشر شهراً من بيعة المستكفي رجع الأمر إلى المعتلي يحيى بن عليّ بن حمّود سنة ست عشرة، وخلع أهل قرطبة المستكفي، وولى عليهم

_ (1) ق: يجار؛ ط ج: يجاز. (2) ك: الخلافة.

المعتلي من قبله، وفرّ المستكفي إلى ناحية الثغر، ومات في مفرّه، ثم بدا لأهل قرطبة فخلعوا المعتلي بن حمّود سنة سبع عشرة، وبايع الوزير أبو محمد جهور ابن محمد بن جهور عميد الجماعة وكبير قرطبة لهشام بن محمد أخي المرتضى، وكان بالثغر في لاردة عند ابن هود، وذلك سنة ثماني عشرة، وتلقّب المعتدّ بالله، وأقام متردّداً في الثغر ثلاثة أعوام، واشتدّت الفتن بين رؤساء الطوائف، واتّفقوا على أن ينزل دار الخلافة بقرطبة، فاستقدمه ابن جهور والجماعة، ونزلها آخر سنة عشرين، وأقام بها يسيراً، ثم خلعه الجند سنة ثنتين وعشرين، وفرّ إلى لاردة فهلك بها سنة ثمان وعشرين. [انقضاء الأموية وظهور ملوك الطوائف] وانقطعت الدولة الأمويّة من الأرض، وانتثر سلك الخلافة بالمغرب، وقام الطوائف بعد انقراض الخلائف، وانتزى الأمراء والرؤساء من البربر والعرب والموالي بالجهات، واقتسموا خطّتها، وتغلّب بعضٌ على بعض، واستقل أخيراً بأمرها منهم ملوك استفحل أمرهم وعظم شأنهم، ولاذوا بالجزى للطاغية أن يظاهر عليهم أو أن يبتزهم ملكهم، وأقاموا على ذلك برهة من الزمان، حتى قطع إليهم البحر ملك العدوة وصاحب مرّاكش أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اللّمتوني، فخلعهم وأخلى منهم الأرض. [ملوك الطوائف] [1 - بنو عباد وبنو جهور] فمن أشهرهم بنو عبّاد ملوك إشبيلية وغرب الأندلس الذين منهم المعتمد ابن عبّاد الشهير الذكر بالمغرب والمشرق، وفي الذخيرة والقلائد من أخباره ما هو كافٍ شافٍ.

ومنهم بنو جهور، كانوا بقرطبة في صورة الوزارة، حتى استولى عليهم المعتمد بن عبّاد، وأخذ قرطبة، وجعل عليها ولده، ثم كانت له وعليه حروب وخطوب، وفرق أبناءه على قواعد الملك، وأنزلهم بها، واستفحل أمره بغرب الأندلس، وعلت يده على من كان هنالك من ملوك الطوائف، مثل ابن حبّوس (1) بغرناطة، وابن الأفطس ببطليوس، وابن صمادح بالمريّة، وغيرهم، فكانوا يخطبون سلمه، ويغلون (2) في مرضاته، وكلهم يدارون الطاغية ويتّقونه بالجزى، إلى أن ظهر يوسف بن تاشفين، واستفحل ملكه، فتعلّقت آمال الأندلس بإعانته، وضايقهم الطاغية في طلب الجزية، فقتل المعتمد اليهوديّ الذي جاء في طلب الجزية للطاغية، بسبب كلمة آسفه بها، ثم أجاز البحر صريخاً إلى يوسف بن تاشفين، فأجاز معه البحر، والتقوا مع الطاغية في الزلاّقة، فكانت الهزيمة المشهورة على النصارى، ونصر الله تعالى الإسلام نصراً لا كفاء له، حتى قال بعض المؤرخين: إنّه كان عدد النصارى ثلاثمائة ألف، ولم ينج منهم إلاّ القليل، وصبر فيها المعتمد صبر الكرام، وكان قد أعطى يوسف بن تاشفين الجزيرة الخضراء ليتمكن من الجواز متى شاء، ثم طلب الفقهاء بالأندلس من يوسف بن تاشفين رفع المكوس والظلامات عنهم، فتقدّم بذلك إلى ملوك الطوائف، فأجالوه بالامتثال، حتى إذا رجع من بلادهم رجعوا إلى حالهم، وهو خلال ذلك يردّد عساكره للجهاد، ثمّ أجاز إليهم وخلع جميعهم، ونازلت عساكره جميع بلادهم، واستولى على قرطبة وإشبيلية وبطليوس وغرناطة وغيرها، وصار المعتمد بن عبّاد كبير ملوك الأندلس في قبضته أسيراً بعد حروب، ونقله إلى أغمات قرب مراكش سنة أربع وثمانين وأربعمائة، واعتقله هنالك إلى أن مات سنة ثمان وثمانين، وسنلمّ بما قاله الوزير لسان الدين بن الخطيب فيه حين زار قبره.

_ (1) في الأصول: ابن باديس. (2) ويغلون: سقطت من ق؛ وفي ج ط: ويعلون.

وللمعتمد هذا أخبار مأثورة خصوصاً مع زوجته أمّ أولاده الرميكية الملقّبة باعتماد، وقد روي أنّها رأت ذات يوم بإشبيلية نساء البادية يبعن اللبن في القرب وهنّ رافعات عن سوقهنّ في الطين، فقالت له: أشتهي أن أفعل أنا وجواريّ مثل هؤلاء النساء، فأمر المعتمد بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد، وصيّر الجميع طيناً في القصر، وجعل لها قرباً وحبالاً من إبريسم، وخرجت هي وجواريها تخوض في ذلك الطين، فيقال: إنّه لمّا خلع وكانت تتكلّم معه مرّة فجرى بينهما ما يجري بين الزوجين، فقالت له: والله ما رأيت منك (1) خيراً، فقال لها: ولا يوم الطين؟ تذكيراً لها بهذا اليوم الذي أباد فيه من الأموال مالا يعلمه إلاّ الله تعالى، فاستحيت وسكتت. ومن أعظم ملوك الطوائف (2) غير من تقدّم بنو رزين أصحاب السّهلة، وبنو الفهري أصحاب البونت، وتغلّب عليهما أخيراً يوسف بن تاشفين. [2 - بنو ذي النون بطليطلة] ومن أعظم ملوك الطوائف بنو ذي النون ملوك طليطلة من الثغر الجوفي، وكانت لهم دولة كبيرة، وبلغوا في البذخ والتّرف إلى الغاية، ولهم الإعذار المشهور الذي يقال له الإعذار الذّنّوني وبه يضرب المثل عند أهل المغرب، وهو عندهم بمثابة عرس بوران عند أهل المشرق، والمأمون من بني ذي النون هو صاحب ذلك، وهو الذي عظم بين ملوك الطوائف سلطانه، وكان بينه وبين الطاغية مواقف مشهورة، وغلب على قرطبة، وملكها من يد ابن عبّاد المعتمد، وقتل ابنه أبا عمرو، وغلب أيضاً على بلنسية وأخذها من يد بني ابن أبي عامر.

_ (1) منك: سقطت من ق ط ج. (2) ك: وولي بعده غير من تقدم، وسقط ما يقابله من ط؛ وفي ج: ومن ملوك ... الخ؛ وسقطت " غير من تقدم " من ك.

وفي أيّام حافد المأمون - وهو القادر بن ذي النون - كان الطاغية ابن أذفونش قد استفحل أمره، لمّا خلا الجوّ من مكان الدولة الخلافية، وخفّ ما كان على كاهله من إصر العرب، فاكتسح البسائط، وضايق ابن ذي النون، حتى أخذ من يده طليطلة، فخرج له عنها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة كما سبق، وشرط عليه أن يظاهره على أهل بلنسية، فقبل شرطه، وتسلّمها [ابن] الفونش، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العيّ العظيم. ومن أعظم ملوك الأندلس الموالي العامريون (1) مثل خيران وزهير وأشباههما. وأخبار الجميع تطول. [بنو هود بسرقسطة] ومن ملوك الطوائف بالأندلس بنو هود ملوك سرقسطة وما إليها، ومن أشهرهم بالمقتدر بالله، وابنه يوسف المؤتمن، وكان المؤتمن قائماً على العلوم (2) الرياضية، وله فيها تآليف، ومنها كتاب الاستكمال (3) والمناظر؛ وولي بعده ابنه المستعين أحمد سنة أخذ طليطلة، وعلى يده كانت وقعة وشقة - زحف سنة تسع وثمانين في آلاف لا تحصى من المسلمين ليدافع الطاغية عن وشقة، وكان محاصراً لها، فلقيه الطاغية وهزمه، وهلك من المسلمين نحو عشرة آلاف، وهلك هو شهيداً سنة ثلاث وخمسمائة، بظاهر سرقسطة في زحف الطاغية إليها، وولي ابنه عبد الملك عماد الدولة، وأخرجه الطاغية من سرقسطة سنة ثنتي عشرة، وتولى ابنه سيف الدولة، وبالغ في النكاية بالطاغية، ثمّ اتفق معه، وانتقل بحشمه إلى طليطلة، فكان فيها حمامه. ومن شعر المقتدر بن هود قوله رحمه الله في مبانيه:

_ (1) ك: ثم زحف على الموالي العامريين؛ مع اتصال النص بما قبله. (2) ق ك: الأمور؛ والتصويب عن ابن خلدون. (3) ابن خلدون: الاستهلال.

قصر السرور ومجلس الذّهب ... بكما بلغت نهاية الأرب لو لم يحز ملكي خلافكما ... كانت لديّ كفاية الطلب [بنو الأفطس ببطليوس] ومن مشاهير ملوك الطوائف (1) بنو الأفطس أصحاب بطليوس وما إليها، والمظفّر منهم هو صاحب التلأيف المسمّى بالمظفّري في نحو الخمسين مجلّداً، والمتوكّل منهم قتل على يد جيش يوسف بن تاشفين، وفيه قال ابن عبدون قصيدته المشهورة: الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصّور وهي من غرر القصائد (2) . [اللمتونيون ثم الموحدون] فلمّا استولى (3) لمتونة على بلاد الأندلس (4) وأزالوا ملوك الطوائف منها، وبقيت عمّالهم تتردّد إليها وبنوهم حتى فشلت ريحهم، وهبّت ريح الموحدين، أعني عبد المؤمن بن عليّ وبنيه، فحاربوا لمتونة، واستولوا على ملكهم بالمغرب بعد حروب كثيرة، ثمّ أجازوا البحر إلى الأندلس، وملكوا أكثر بلاد الأندلس، وملك بنو مردنيش شرق الأندلس، وملخص ذلك أن الأندلس كان ملكها مجموعاً للمتونة بعد خلعهم ملوك الطوائف، فلمّا اشتغل لمتونة في العدوة بحرب الموحّدين اضطربت عليهم الأندلس،

_ (1) سقطت كلمة " الطوائف " من ط ق ك. (2) ك: القصائد الأندلسية. (3) ج: أخذ ... الأندلس. (4) فلما استولى ... الأندلس: سقطت هذه الجملة من ك.

وعادت إلى الفرقة بعض الشيء، ثم خلص أكثرها لعبد المؤمن وبنيه بعد حروب منها ما حصل بن عبد المؤمن وبين ابن مردنيش وقائده ابن همشك (1) بفحص غرناطة، وقد استعان ابن مردنيش بالنصارى على الموحّدين، فهزمهم عبد المؤمن، وقتلهم أبرح قتل، واستخلص غرناطة سنة سبع وخمسين وخمسمائة من يد ابن مردنيش. [غزوة الأرك] وولي الأمر بعد عبد المؤمن ابنه يوسف، وأجاز إلى الأندلس، وكانت له مواقف في جهاد العدوّ، وولي بعده ابنه يعقوب المنصور الطائر الصيت، وكانت له في النصارى بالأندلس نكاية كبيرة، ومن أعظمها غزوة الأرك التي تضاهي وقعة الزلاّقة أو تزيد، والأرك: موضع بنواحي بطليوس، وكانت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وغنم المسلمون ما عظم قدره، وكان عدّة من قتل من الفرنج - فيما قيل - مائة ألف وستّة وأربعين ألفاً، وعدّة الأسارى ثلاثين ألفاّ، وعدّة الخيام مائة ألف وستّة وخمسين ألف خيمة، والخيل ثماني ألفاً، والبغال مائة ألف، والحمير أربعمائة ألف، جاء بها الكفّر لحمل أثقالهم لأنّهم لا إبل لهم، وأمّا الجواهر والأموال فلا تحصى، وبيع الأسير بدرهم، والسيف بنصف درهم، والفرس بخمسة دراهم، والحمار بدرهم، وقسم يعقوب الغنائم بين المسلمين بمقتضى الشرع، ونجا الفنش ملك النصارى إلى طليطلة في أسوأ حال، فحلق رأسه ولحيته، ونكس صليبه، وآلى أن لا ينام على فراش، ولا يقرب النساء، ولا يركب فرساً ولا دابة، حتى يأخذ بالثأر، وصار يجمع من الجزائر والبلاد البعيدة ويستعدّ، ثم لقيه يعقوب وهزمه وساق خلفه إلى طليطلة وحاصره ورمى عليها بالمجانيق وضيّق عليها، ولم

_ (1) ق ك ط: همشكه.

يبق إلا فتحها، فخرجت إليه والدة الأذفونش وبناته ونساؤه وبكين بين يديه، وسألنه إبقاء البلد عليهن، فرقّ لهن ومنّ عليهن بها، ووهب لهن من الأموال والجواهر ما جلّ، وردّهنّ مكرماتٍ، وعفا بعد القدرة، وعاد إلى قرطبة، فأقام شهراً يقسم الغنائم، وجاءته رسل الفنش بطلب الصلح، فصالحه، وأمّن الناس مدّته، وفيه يقول بعض شعراء عصره: أهلٌ بأن يسعى إليه ويرتجى ... ويزار من أقصى البلاد على الرّجا من قد غدا بالمكرمات مقلّداً ... وموشّحاً ومختّماً ومتوّجا عمرت مقامات الملوك بذكره ... وتعطّرت منه الرّياح تأرّجا [بين صلاح الدين ويعقوب الموحدي] وهو الذي (1) أرسل له السلطان صلاح الدين (2) بن أيوب شمس الدين بن منقذ يستند به على الفرنج الخارجين عليه بساحل البلاد المقدّسة (3) ، ولم يخاطبه بأمير

_ (1) هذه رواية ج؛ وفي ق: ولما تغلبت الفرنج على الساحل أرسل السلطان؛ وفي ط: أرسل ... ألخ؛ وفي ك: ولما أرسل ... (2) في الروضتين: شمس الدولة؛ واسمه عبد الكريم (انظر مقدمة ابن خلدون: 631) . (3) لدينا من الكتب التي رسلها صلاح الدين للخليفة الموحدي المنصور كتاب تاريخه سنة 585 من إنشاء الفاضل، وفيه يسجيشه على الفرنج أثناء قتاله معهم حول عكا (صبح الأعشى 6: 526 - 530) يلقبه فيه بأمير المؤمنين، يتلوه كتاب ثان في 27 شعبان سنة 586 بقلم الفاضل أيضاً إلى شمس الدين بن منقذ (الروضتين 2: 170) يطلب فيه المعاونة بإرسال قطع من الأسطول المغربي أثناء حصار الفرنج لعكا، ويحتوي التعليمات الموجه بها شمس الدين، ثم خطاب مرسل إلى المنصور (الروضتين 2: 171) وهو الذي يشير إليه المقري وبدايته " من الفقير إلى رحمة ربه يوسف بن أيوب " (وتاريخه شعبان سنة 586) ؛ وهناك كتاب للقاضي الفاضل رفعه إلى صلاح الدين (الروضتين 2: 174) وهو يحاول فيه أن يقنع صلاح الدين بقبول صيغة " من الفقير إلى الله تعالى " ويستقبح أن يكتب " الخادم "؛ ومن رأي الفاضل أن لا تتم المكاتة لأن الجواب عنها يستغرق سنتين وفي هذه المدة " فما يتخلى الله عنا ولا تستمر هذه الشدة ولا نسيء الظن بالله ". وأثناء مقام ابن منقذ في المغرب أرسل إليه كتاب يشرح فيه أخبار القتال حو مكا (الروضتين 2: 188) .

المؤمنين، فلم يجبه إلى ما طلبه، وكلّ ذلك في سنة 587، ومدحه ابن منقذ بقوله من قصيدة: سأشكر بحراً ذا عباب قطعته ... إلى بحر جودٍ ما لأخراه ساحل إلى معدن التّقوى إلى كعبة النّدى ... إلى من سمت بالذكر منه الأوائل إليك أمير المؤمنين ولم تزل ... إلى بابك المأمول تزجى الرّواحل قطعت إليك البر والبحر موقناً ... بأن نداك الغمر بالنجح كافل وحزت بقصديك العلا فبلغتها ... وأدنى عطاياك العلا والفواضل فلا زلت للعلياء والجود بانياً ... تبلّغك الآمال ما أنت آمل وعدّتها أربعون بيتاً، فأعطاه بكل بيت ألفاً، وقال له: إنّما أعطيناك لفضلك ولبيتك. وكان عنوان الكتاب الذي أرسله صلاح الدين إلى أمير المسلمين وفي أوّله الفقير إلى الله تعالى يوسف بن أيوب وبعده من إنشاء الفاضل الحمد لله الذي استعمل على المّلة الحنيفية من استعمر الأرض، وأغنى من أهلها من سأله القرض، وأجزى من على يده النافلة والفرض، وزيّن سماء الملّة بدراراي الذراري التي بعضها من بعض وهو كتاب طويل سأله فيه أن يقطع عنه مادّة البحر، واستنجده على الإفرنج إذ كانت له اليد عليهم، وعاد ابن منقذ من هذه الرسالة سنة 588 بغير فائدة، وبعث معه هديّة حقيرة، وأمّا ابن منقذ فإنّه أحسن إليه وأغناه، لا لأجل صلاح الدين، بل لبيته وفضله كما مرّ، وما وقع من يعقوب في صلاح الدين إنّما هو لأجل أنّه لم يوفّه حقّه في الخطاب. [الموحدون والأندلس] رجع (1) : ولمّا استفحل أمر الموحّدين بالأندلس استعملوا القرابة على الأندلس

_ (1) في ق: رجع إلى أخبار يعقوب؛ والنص متابع لما ورد عند ابن خلدون 4: 166.

وكانوا يسمّونهم السادة، واقتسموا ولاياتها بينهم، ولهم مواقف في جهاد العدوّ مذكورة، وكان صاحب الأمر بمراكش يأتي الأندلس للجهاد، وهزم يعقوب المنصور كما سبق قريباً بالأرك ابن أذفونش ملك الجلالقة الهزيمة الشنعاء. [العقاب والتياث أمر الموحدين] وأجز ابنه الناصر الوالي بعده البحر إلى الأندلس من المغرب سنة تسع وستمائة ومعه من الجنود ما لا يحصى، حتى حكى بعض الثقات من مؤرخي المغرب أنّه اجتمع معه من أهل الأندلس والمغرب ستمائة ألف مقاتل، فمحص الله المسلمين بالموضع المعروف بالعقاب، واستشهد منهم عدّة، وكانت سبب ضعف المغرب والأندلس، أمّا المغرب فبخلاء كثير من قراه وأقطاره، وأمّا الأندلس فبطلب العدوّ عليها، لأنّه لمّا التاث أمر الموحدين بعد الناصر ابن المنصور انتزى السادة بنواحي الأندلس كلٌّ في عمله، وضعف ملكهم بمراكش، فصاروا إلى الاستجاشة بالطاغية بعضهم على بعض، وإسلام حصون المسلمين إليه في ذلك، فمشت رجالات الأندلس وأعقاب العرب منذ الدولة الأموية، وأجمعوا على إخراجهم، فثاروا بهم لحين واحد وأخرجوهم، وتولى كبر ذلك محمد بن يوسف بن هود الجذامي الثائر بالأندلس وابن مردنيش وثوّار آخرون. [ابن هود ومنافسه ابن الأحمر] قال ابن خلدون (1) : ثم خرج على ابن هود في دولته من أعقاب دولة العرب أيضاً وأهل نسبهم محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر، وتلقّب محمد هذا بالشيخ، فجاذبه الحبل، وكانت لكل واحد منهما دولة أورثها بنيه، انتهى.

_ (1) تاريخ ابن خلدون 4: 167.

وكان ابن هود يخطب للعباسي صاحب بغداد، ثم حصلت لابن هود وأعقابه حروبٌ وخطوب إلى أن كان آخرهم الواثق بن المتوكّل، فضايقه الفنش والبرشلوني فبعث بالطاعة لابن الأحمر، فبعث إليه ابن أشقيلولة، وتسلم مرسية منه، وخطب لابن الأحمر بها، ثم خرج منها راجعاً إلى ابن الأحمر، فأوقع به النصارى في طريقه، ثم رجع الواثق إلى مرسية ثالثة، فلم يزل إلى أن ملكها العدوّ من يده سنة ثمان وستين وستمائة، وعوّضه عنها حصناً يسمى يسر، وهو من عملها، فبقي فيه إلى أن هلك. وانقرضت دولة ابن هود، والله وارث الأرض ومن عليها. [دولة بين الأحمر] ولنذكر ملوك بني الأحمر (1) إجمالاً لن لسان الدين وزير أحدهم، ولأنهم آخر ملوك الأندلس، ومن يدهم استولى النصارى على جميعها كما سنذكره. قال ابن خلدون (2) : أصلهم من أرجونة من حصون قرطبة، ولهم فيها سلفٌ من أبناء الجند، ويعرفون ببني نصر، وينتسبون إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج، وكان كبيرهم لآخر دولة الموحّدين محمّد بن يوسف بن نصر، ويعرف بالشيخ، وأخوه إسماعيل وكانت له وجاهة في ناحيتهم. ولمّا فشلت ريح الموحّدين، وانتزى الثوار بالأندلس، وأعطى السادة حصونها للطاغية، استقل بأمر الجماعة محمد بن يوسف بن هود الثائر بمرسية بدعوة العباسية، وتغلب على شرق الأندلس أجمع، فتصدى الشيخ هذا للثورة وبويع له سنة تسع وعشرين وستمائة، ودعا لأبي زكرياء صاحب إفريقية، وأطاعته جيّان وشريش سنة ثلاثين بعدها، واستظهر إلى أمره بقرابته من

_ (1) في ك: رجع إلى ذكر دولة أولاد الأحمر؛ وسقطت لفظة " ملوك " من ج. (2) ابن خلدون 4: 170.

بني نصر وأصهاره بني أشقيلولة، ثم بايع لبني هود سنة إحدى وثلاثين، عندما بلغه خطاب الخليفة من بغداد، ثمّ ثار بإشبيلية أبو مروان الباجي عند خروج ابن هود عنها ورجوعه إلى مرسية، فداخله محمد بن الأحمر في الصلح على أن يزوّجه ابنته، فأطاعه، ودخل إشبيلية سنة اثنتين وثلاثين، ثمّ فتك بابن الباجي فقتله، وتناول البطش (1) به عليّ بن أشقيلولة، ثمّ راجع أهل إشبيلية بعدها بشهر دعوة ابن هود، وأخرج ابن الأحمر، ثمّ تغلب على غرناطة سنة خمس وثلاثين بمداخلة أهلها (2) حين ثار ابن أبي خالد بدعوته فيها، ووصلته بيعتها وهو بجيّان، فقدم إليها عليّ بن أشقيلولة، ثم جاء على أثره، ونزلها، وابتنى بها حصن الحمراء لنزوله، ثمّ تغلّب على مالقة، ثم تناول المريّة من يد ابن الرميمي وزير ابن هود الثائر بها سنة ثلاث وأربعين، ثمّ بايعه أهل لورقة سنة ثلاث وستين، وكان ابن الأحمر أول أمره وصل يده بالطاغية استظهاراً على أمره، فعضده وأعطاه ابن هود ثلاثين حصاناً في كفّ غربه بسبب ابن الأحمر، وليعينه على قرطبة، فتسلّمها، ثم تغلّب على قرطبة سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، أعادها الله، ثمّ نازل إشبيلية سنة ست وأربعين وابن الأحمر معه، ثمّ دخلها صلحاً، وملك أعمالها، ثمّ ملك مرسية سنة خمس وستين، ولم يزل الطاغية يقتطع ممالك المسلمين كورةً كورةً وثغراً ثغراً إلى أن لجأ المسلمون (3) إلى سيف البحر ما بين رندة من الغرب وإلبيرة من شرق الأندلس نحو عشر مراحل من الغرب إلى الشرق، وفي قدر مرحة أو دونها في العرض ما بين البحر والجوف، ثم سخط ابن الأحمر وطمع في الاستيلاء على سائر الجزيرة فامتنعت عليه، وتلاحق بالأندلس الغزاة من بني مرين وغيرهم، وعقد ملك المغرب يعقوب بن عبد الحق لنحو الثلاثة

_ (1) ابن خلدون: الفتك. (2) كذلك في ابن خلدون وبعض الأصول؛ وفي ك: بمداجاة أهلها. (3) ان خلدون: ألجأ المسلمين.

آلاف منهم، فأجازوا في حدود الستين وستمائة، وتقبّل ابن الأحمر إجازتهم، ودفع بهم في نحر عدوّه، ورجعوا، ثم تناسلوا إليه بعد ذلك، ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك الشيخ ابن الأحمر سنة إحدى وسبعين وستمائة، وولي بعده ابنه محمّد الفقيه، وأوصاه باستصراخ بني مرين، ملوك المغرب بعد الموحدين، إن طرقه أمر أن يعتضد بهم، فأجاز الفقيه إلى يعقوب بن عبد الحقّ سلطان فاس والمغرب سنة ثنتين وسبعين، فأجاب صريخه، وأرسل ابنه وعساكره معه، ثمّ أجاز على أثره وتسلّم الجزيرة الخضراء من ثائر كان بها وجعلها ركاباً لجهاده، ونزل إليه ابن الأحمر عن طريف وما إليها من الحصون، وهزم هو وابن الأحمر زعيم النصرانية دنّنه (1) وفرق جمعه، وأوقع بجموع الطاغية من كل جهة، وبثّ سراياه وبعوثه في أرض النصرانية، ثم خاف ابن الأحمر على ملكه، وصالح الطاغية ثمّ عاد؛ انتهى كلام ابن خلدون ملخّصاً. وثبتت قدم عقب ابن الأحمر بالأندلس، واستولوا على جميع ما بأيدي المسلمين من ملكها مثل الجزيرة وطريف ورندة التي كانت بيد بني مرين. [بين دون بطره وأبي الوليد ابن الأحمر] وبعد مدة ألّب ملوك النصارى سنة تسع عشرة وسبعمائة على غرناطة، وجاءها الطاغية دون بطره (2) في جيش لا يحصى ومعه خمسة وعشرون ملكاً، وكان من خبر هذه الوقعة أن الإفرنج حشدوا وجمعوا وذهب سلطانهم دون بطره إلى طليطلة، ودخل على مرجعهم الذي يقال له البابا، وسجد له، وتضرّع، وطلب منه استئصال ما بقي من المسلمين بالأندلس، وأكد عزمه، فقلق المسلمون بغرناطة وغيرها، وعزموا على الاستنجاد بالمريني أبي سعيد

_ (1) دننه (Don Nuno) . (2) دون بطره (Don Pedro) .

صاحب فاس، وأنفذوا غليه رسلاً، فلم ينجع ذلك الدواء، فرجعوا إلى أعظم الأدوية وهو اللّجأ إلى الله تعالى، وأخلصوا النيّات، وأقبل الإفرنج في جموعٍ لا تحصى، فقضى ناصر من لا ناصر له سواه بهزم أمم النصرانية، وقتل طاغيتهم دون بطره ومن معه، وكان نصراً عزيزاً ويوماً مشهوداً. وكان السلطان إذ ذاك بالأندلس الغالب بالله أبو الوليد إسماعيل ابن الرئيس أبي سعيد فرج بن نصر المعروف بابن الأحمر رغب أن يحصن البلاد والثغور، فلمّا بلغ النصارى ذلك عزموا على منازلة الجزيرة الخضراء، فانتدب السلطان ابن الحمر لردّهم، وجهز الأساطيل والرجال، فلمّا رأوا ذلك طلبوا إلى طليطلة، وعزموا على استئصال بلاد المسلمين وتأهّبوا لذلك غاية الأهبة، ووصلت الأثقال والمجانيق وآلات الحصار والأقوات في المراكب، ووصل العدو إلى غرناطة، وامتلأت الأرض بهم، فتقدم السلطان إلى شيخ الغزاة الشيخ العالم أبي سعيد عثمان بن أبي العلاء المريني بالخروج إلى لقائهم بأنجاد المسلمين وشجعانهم، فخرج إليهم يوم الخميس الموفي عشرين لربيع الأول. ولمّا كانت ليلة الأحد أغارت سريّةٌ من العدو على ضيعة من المسلمين، فخرجت إليهم جماعة من فرسان الأندلس الرماة، فقطعوهم عن الجيش، وفرّت تلك السرية أمامهم إلى جهة سلطانهم، فتبعهم المسلمون إلى الصبح، فاستأصلوهم، وكان هذا أول النصر. ولما كان يوم الأحد ركب الشيخ أبو سعيد لقتال العدو في خمسة آلاف من أبطال المسلمين المشهورين، فلمّا شاهدهم الفرنج عجبوا من إقدامهم مع قلتهم في تلك الجيوش العظيمة، فركبوا وحملوا بجملتهم عليهم، فانهزم الفرنج أقبح هزيمة، وأخذتهم السيوف، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ثلاثة أيّام، وخرج أهل غرناطة لجمع الأموال، وأخذ الأسرى، فاستولوا على أموال عظيمة منها من الذهب - فيما قيل - ثلاثة وأربعون قنطاراً، ومن الفضة مائة وأربعون قنطاراً، ومن السّبي سعة آلاف نفس حسبما كتب بذلك

بعض الغرناطيين إلى الديار المصرية، وكان من جملة الأسرى (1) امرأة الطاغية وأولاده، فبذلت في نفسها مدينة طريف وجبل الفتح وثمانية عشر حصناً فيما حكى بعض المؤرخين، فلم يقبل المسلمون ذلك، وزادت عدّة القتلى في هذا الغزوة على خمسين ألفاً، ويقال: إنّه هلك منهم بالوادي مثل هذا العدد، لعدم معرفتهم بالطريق، وأمّا الذين هلكوا بالجبال والشّعاب فلا يحصون، وقتل الملوك الخمسة والعشرون جميعهم، واستمر البيع في الأسرى والأسباب والدواب ستة أشهر، ووردت البشائر بهذا النصر العظيم إلى سائر البلاد. ومن العجب أنّه لم يقتل من المسلمين والأجناد سوى ثلاثة عشر فارساً، وقيل: عشرة أنفس، وقيل: كان عسكر الإسلام نحو ألف وخمسمائة فارس، والرّجّالة نحواً من أربعة آلاف راجل، وقيل دون ذلك. وكانت الغنيمة تفوت الوصف، وسلخ الطاغية دون بطره وحشي جلده قطناً، وعلّق على باب غرناطة، وبقي معلّقاً سنوات؛ وطلبت النصارى الهدنة، فعقدت لهم بعد أن ملكوا جبل الفتح الذي كان من أعمال سلطان فاس والمغرب، وهو جبل طارق، ولم يزل بأيديهم إلى أن ارتجعه أمير المسلمين أبو الحسن المريني صاحب فاس والمغرب، بعد أن أنفق عليه الأموال، وصرف إليه الجنود والحشود، ونازلته جيوشه مع ولده وخواصه، وضيقوا به، إلى أن استرجعوه ليد المسلمين، واهتم ببنائه وتحصينه، وأنفق عليه أحمال مالٍ في بنائه وحصنه وسوره وأبراجه وجامعه ودوره ومخازنه، ولم كاد يتم ذلك نازله العدوّ برّاً وبحراً، فصبر المسلمون، وخيّب الله سعي الكافرين، فأراد السلطان المذكور أن يحصّن سفح الجبل بسور محيط به من جميع جهاته حتى لا يطمع عدوّ في منازلته، ولا يجد سبيلاً للتضييق عند محاصرته، ورأى الناس ذلك من المحال، فأنفق الأموال، وأنصف العمال، فأحاط بمجموعه إحاطةً

_ (1) ك: الأسارى.

الهالة الهلال، وكان بقاء هذا الجبل بيد العدوّ نيّفاً وعشرين سنة، حاصره السلطان أبو الحسن ستة أشهر، وزاد في تحصينه ابنه السلطان أبو عنان، ولمّا أجاز السلطان أبو الحسن المذكور إلى الأندلس، واجتمع عليه ابن الأحمر، وقاتلهم الطاغية، هزمهم في وقعة طريف، واستولى على الجزيرة الخضراء، حتى قيّض الله من بني الأحمر الغني بالله محمداً الذي كان لسان الدين بن الخطيب وزيره، فاسترجعها وجملة بلاد كجيّان وغيرها. وكانت له في الجهاد مواقف مشهورة، وامتدّ ملكه واشتدّ حتى محا دولة سلاطين فاس ممّا وراء البحر، وملك جبل الفتح، ونصر الله الإسلام على يده، كما ستقف عليه في بعض مكاتبات لسان الدين - رحمه الله - في مواضع من هذا الكتاب، وسعد هذا الغنيّ بالله من العجائب. وبقي ملك الأندلس في عقبه إلى أن أخذ ما بقي من الأندلس العدوّ الكافر واستولى على حضرة الملك غرناطة أعادها الله للإسلام، كما نبين إن شاء الله، وخلت جزيرة الأندلس من أهل الإسلام، وأبدلت من النور بالظلام، حسبما اقتضته الأقدار النافذة والأحكام (1) ، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. [شيخ الغزاة أيام بني الأحمر] قال ابن خلدون (2) : واتفق بنو الحمر سلاطين غرناطة أن يجعلوا مشيخة الغزاة لواحد يكون من أقارب بني مرين سلاطين المغرب، لأنهم أوّل من ولي الأندلس عند استيلاء بني عمهم على ملك المغرب لما بينهم من المنافسة،

_ (1) سقطت من ق ط ج. (2) في ق: قلت وكان بنو الأحمر (دون ذكر لابن خلدون) . وفي ج: ولقد كان بنو الأحمر ... يجعلون.

وكان لهؤلاء في الجهاد مواقف مشهورة، وسأذكر لك ما (1) كتب على قبر شيخ الغزاة عثمان بن أبي العلاء لتستدل عند ذلك على ما ذكرناه: بحمد الله تعالى هذا قبر شيخ الحماة، وصدر الأبطال الكماة، واحد الجلالة، ليث الإقدام والبسالة، علم الأعلام، حامي ذمار الإسلام، صاحب الكتائب المنصورة، والأفعال المشهورة، والمغازي المسطورة، وإمام الصفوف، القائم بباب الجنّة تحت ظلال السيوف، سيف الجهاد، وقاصم الأعاد، وأسد الآساد، العالي الهمم، الثابت القدم، الهمام المجاهد الأرضى، البطل الباسل الأمضى، المقدّس، المرحوم أبي سعيد عثمان ابن الشيخ الجليل الهمام الكبير، الأصيل الشهير، المقدّس المرحوم أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق، كان عمره ثمانياً وثمانين سنة أنفقه ما بين روحة في سبيل الله وغدوة، حتى استوفى في المشهور سبعمائة واثنتين وثلاثين غزوةً، وقطع عمره مجاهداً مجتهداً في طاعة الرب، محتسباً في إدارة الحرب، ماضي العزائم في جهاد الكفّار، مصادماً بين جموعهم تدفّق التيّار، وصنع الله تعالى له فيهم من الصنائع الكبار، ما سار ذكره في الأقطار، أشهر من المثل السّيّار، حتى توفّي رحمه الله وغبار الجهاد طيّ أثوابه، وهو مراقب لطاغية الكفار وأحزابه، فمات على ما عاش عليه، وفي ملحمة الجهاد قبضه الله تعالى إليه، واستأثر يه سعيداً مرتضى، وسيفه على رأس ملك الروم منتضى، مقدّمة قبول وإسعاد، ونتيجة جهاد وجلاد، ودليلاً على نيته الصالحة، وتجارته الرابحة، فارتجّت الأندلس لبعده، أتحفه الله تعالى رحمة من عنده، توفّي يوم الأحد الثاني لذي الحجّة من عام ثلاثين وسبعمائة انتهى. ومنها ما كتب به لسان الدين بن الخطيب - رحمه الله - في تولية علي ابن بدر الدين مشيخة الغزاة ما نصّه: هذا شيخ الغزاة الذي فتح على الإسلام

_ (1) ك: منها ما كتب؛ وفي ط بياض. وفي ج: فلنذكر منها.

أبواب السرّاء، وراق طرازاً مذهباً على عاتق الدولة الغرّاء، وأعمل عوامل الجهاد، في طاعة ربّ العباد، شارعةً لأهل الكفر والعناد، من باب الإعمال والإغراء، أمر به فلان صدر صدور أودّائه، وحسامه المشهور على أعدائه، ووليه الذي خبر صدق وفائه، وجلّى في مضمار الخلوص له مغبّراً في وجوه أكفائه، شيخ شيوخ المجاهدين، وقائد كتائبه المنصورة إلى غزو الكافرين المعتدين، وعترته التي يدافع بها عن الدين، وسابق ودّه المبرّز في الميادين، الشيخ الأجل إلى آخر ما وصفه به ممّا ضاق الوقت عن مثله، والله وليّ التوفيق.

في ذكر قرطبة التي كانت الخلافة بمصرها للأعداء قاهرة، وجامعها الأموي ذي

الباب الرابع في ذكر قرطبة التي كانت الخلافة بمصرها للأعداء قاهرة، وجامعها الأموي ذي البدائع الباهية الباهرة والإلماع بحضرتي الملك الناصرية الزّهراء والعامرية الزاهرة، ووصف جملة من منتزهات تلك الأقطار ومصانعها ذات المحاسن الباطنة والظاهرة، وما يجرّ إليه شجون الحديث من أمور تقضي بحسن إيرادها القرائح الوقّادة والأفكار الماهرة [نقول في وصف قرطبة] قال ابن سعيد، رحمه الله: مملكة قرطبة في الإقليم الرابع، وإيالته للشمس، وفي هذه المملكة معدن الفضة الخالصة في قرية كرتش، ومعدن الزئبق والزنجفر في بلد بسطاسة (1) ، ولجزائها خواصّ مذكورة في متفرّقاتها، وأرضها أرض كريمة النبات (2) ، انتهى. وقدّم، رحمه الله في المغرب الكلام عليها على سائر أقطار الأندلس وقال: إنّما قدمنا هذه المملكة من بين سائر الممالك الأندلسية لكون سلاطين الأندلس الأول اتخذوها سريراً لسلطنة الأندلس، ولم يعدلوا عن حضرتها قرطبة، ثم سلاطين بني أمية وخلفاؤهم لم يعدلوا عن هذه المملكة، وتقلّبوا منها في ثلاثة أقطاب (3) أداروا فيها خلافتهم: قرطبة، والزهراء، والزاهرة، وإنّما

_ (1) ج: والزنجفور ... بسطابسة. (2) ك: كريمة النبات. (3) ك: أقطار.

اتخذوها لهذا الشأن لما رأوها لذلك أهلاً، وقرطبة أعظم علماً وأكثر فضلاً بالنظر إلى غيرها من الممالك، لاتصال الحضارة العظيمة والدولة المتوارثة فيها. ثم قسم ابن سعيد كتاب الحلة المذهبة، في حلى ممالك قرطبة بالنظر إلى الكور إلى أحد عشر كتاباً: الكتاب الأوّل كتاب الحلة الذهبية، في حلى الكورة القرطبية. الكتاب الثاني كتاب الدرر المصونة، في حلى كورة بلكونة. الكتاب الثالث كتاب " محادثة السمير (1) ، في حلى كورة القصير ". الكتاب الرابع كتاب الوشي المصوّر، في حلى كورة المدوّر. الكتاب الخامس كتاب نيل المراد، في حلى كورة مراد. الكتاب السادس كتاب المزنة، في حلى كورة كزنة. الكتاب السابع كتاب الدر النافق، في حلى كورة غافق. الكتاب الثامن كتاب النفحة الأرجة، في حلى كورة إستجة. الكتاب التاسع كتاب الكواكب الدرّيّة، في حلى الكورة القبرية. الكتاب العاشر كتاب رقة المحبة، في حلى كورة إستبة. الكتاب الحادي عشر كتاب السّوسانة، في حلى كورة اليسّانة انتهى. ثمّ قال، رحمه الله تعالى: إن العمارة اتّصلت في مباني قرطبة والزهراء والزاهرة، بحيث إنّه كان يمشى فيها لضوء السّرج المتصلة (2) عشرة أميال حسبما ذكره الشّقندي في رسالته، ثم قال: ولكل مدينة من مدن قرطبة وأعمالها ذكر مختص به، ثم ذكر المسافات التي بين ممالك قرطبة المذكورة فقال: بين المدوّر وقرطبة ستة عشر ميلاً، وبين قرطبة ومراد خمسة وعشرون ميلاً، وبين قرطبة والقصير ثمانية عشر ميلاً، وبين قرطبة وغافق مرحلتان، وبين قرطبة وإستبة ستة وثلاثون ميلاً، وبين قرطبة وبلكونة

_ (1) ك: السير. (2) ق ط: السراج؛ ك: الممتدة.

مرحلتان، وبين قرطبة واليسّانة أربعون ميلاً، وبين قرطبة وقبرة ثلاثون ميلاً، وبين قرطبة وبيّانة مرحلتان، وبين قرطبة وإستجة ثلاثون ميلاً، وكورة رندة كانت في القديم من عمل قرطبة، ثم صارت من مملكة إشبيلية، وهي أقرب وأدخل في المملكة الإشبيلية، انتهى. ثمّ قسم رحمه الله تعالى كتاب الحلّة الذهبية، في حلى الكورة القرطبية إلى خمسة كتب: الكتاب الأول كتاب النّغم المطربة، في حلى حضرة قرطبة. الكتاب الثاني كتاب الصّبيحة الغرّاء، في حلى حضرة الزهراء. الكتاب الثالث كتاب البدائع الباهرة، في حلى حضرة الزاهرة. الكتاب الرابع كتاب الوردة، في حلى مدينة شقندة. الكتاب الخامس كتاب " الجرعة السّيّغة (1) ، في حلى كورة (2) وزغة ". وقال، رحمه الله تعالى، في كتاب النغم المطربة، في حلى حضرة قرطبة: إن حضرة قرطبة إحدى عرائس مملكتها، وفي اصطلاح الكتاب أن للعروس الكاملة الزينة منصّة، وهي مختصّة بما يتعلّق بذكر المدينة في نفسها، وتاجاً، وهو مختصّ الإيالة السلطانية، وسلكاً، وهو مختصّ بأصحاب درر الكلام من النّثّر والنّظّام، وحلّة، وهي مختصّة بأعلام العلماء المصنفين الذين ليس لهم نظم ولا نثر، ولا يجب إهمال تراجمهم، وأهداباً، وهي مختصّة بأصحاب فنون الهزل وما ينحو منحاه، انتهى. ثمّ فصّل، رحمه الله تعالى، ذلك كلّه بما تعدّدت منه الأجزاء، وقد لخصت منه هنا بعض ما ذكر، ثمّ أردفته بكلام غيره، فأقول (3) : قال في كتاب أجار (4) :

_ (1) ج: المسوغة. (2) ق ط: قرية. (3) ق: فقلت ذكر ابن خلدون في كتاب أجار؛ وهو وهم كما ترى. (4) كتاب أجار هو نزهة المشتاق المعروف بجغرافية الإدريسي، وأجار هو رجار (Rujjiero) (روجر Roger) الذي ألف له الإدريسي الكتاب، وهو أحد ملوك صقلية النورمنديين، حسبما مر.

إن قرظبة - بالظاء المعجمة - ومعناه أجر ساكنها (1) ، يعني عربت بالطاء، ثمّ قال: ودور مدينة قرطبة ثلاثون ألف ذراع، انتهى. وقال غيره: إن تكسيرها ومساحتها التي دار السور عليها دون الأرباض طولاً من القبلة إلى الجوف ألف وستمائة ذراع، واتصلت (2) العمارة بها أيام بني أمية ثمانية فراسخ طولاً وفرسخين عرضاً، وذلك من الأميال أربعة وعشرون في الطول، وفي العرض ستّة، وكل ذلك ديار وقصور ومساجد وبساتين بطول ضفة الوادي المسمى بالوادي الكبير، وليس في الأندلس وادٍ يسمّى باسم عربي غيره. ولم تزل قرطبة في الزيادة منذ الفتح الإسلامي إلى سنة أربعمائة، فانحطت، واستولى عليها الخراب بكثرة الفتن إلى أن كانت الطامة الكبرى عليها بأخذ العدوّ الكافر لها ثالث عشري شوّال سنة ستمائة وثلاث وثلاثين (3) . ثمّ قال القائل: ودور قرطبة أعني المسّر منها دون الأرباض ثلاثة وثلاثون ألف ذراع، ودور قصر إمارتها ألف ذراع ومائة ذراع، انتهى. وعدد أرباضها واحد وعشرون، في كل ربض منها من المساجد والأسواق والحمامات ما يقوم بأهله ولا يحتاجون إلى غيره، وبخارج قرطبة ثلاثة آلاف قرية، في كل واحدة منبر وفقيه مقلّص (4) تكون الفتيا في الأحكام والشرائع له، وكان لا يجعل القالص عندهم على رأسه إلاّ من حفظ الموطّأ، وقيل: من حفظ عشرة آلاف حديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم وحفظ المدوّنة، وكان هؤلاء المقلّصون المجاورون لقرطبة يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة بقرطبة، ويسلّمون عليه، ويطالعونه بأحوال بلدهم. انتهى.

_ (1) الروض المعطار: 156 وقيل معناه " القلوب المختلفة ". (2) من هنا حتى آخر الفقرة في مخطوط الرباط: 24، ويبدو أن النقل عن ابن حيان. (3) ك: في ثاني وعشرين شوال سنة 623. (4) مقلص - بالصاد والسين - الذي يلبس قلنسوة، وانظر النص في مخطوط الرباط: 27.

قال: وانتهت جباية (1) قرطبة أيام ابن أبي عامر إلى ثلاثة آلاف ألف دينار، بالإنصاف، وقد ذكرنا في موضع آخر ما فيه مخالفة لهذا، فالله أعلم. وما أحسن قول بعضهم (2) : دع عنك حضرة بغدادٍ وبهجتها ... ولا تعظّم بلاد الفرس والصّين فما على الأرض قطرٌ مثل قرطبة ... وما مشى فوقها مثل ابن حمدين وقال بعضهم (3) : قرطبة قاعدة الأندلس ودار الملك التي يجبى لها ثمرات كل جهة وخيرات كلّ ناحية، واسطة بين الكور، موفية على النهر، زاهرة مشرقة، أحدقت بها المنى فحسن مرآها، وطاب جناها. وفي كتاب فرحة الأندلس لابن غالب: أمّا قرطبة فإنّه اسم ينحو إلى لفظ اليونانيين، وتأويله القلوب المشكّكة. وقال أبو عبيد البكري (4) : إنّها في لفظ القوط بالظاء المعجمة. وقال الحجاري: الضبط فيها بإهمال الطاء وضمها، وقد يكسرها المشرقيون (5) في الضبط، كما يعجمها آخرون. انتهى. وقال بعض العلماء (6) : أما قرطبة فهي قاعدة الأندلس، وقطبها وقطرها الأعظم، وأم مدائنها ومساكنها، ومستقرّ الخلفاء، ودار المملكة في النصرانيّة والإسلام، ومدينة العلم، ومقرّ (7) السنّة والجماعة، نزلها جملة من التابعين

_ (1) مخطوط الرباط: 27. (2) المصدر السابق: 35. (3) هو أحمد الرازي كما في المنتقى من فرحة الأنفس: 295؛ وفي ق: وقال غيره، وسقطت اللفظتان من ط؛ وفي ج: وفي كتاب الرازي. (4) انظر مخطوطة المسالك: 218 (رقم: 488 بالخزانة اعامة الرباط) . (5) ط ج: المشرقون. (6) مخطوط الرباط: 22. (7) ك: ومستقر.

وتابعي (1) التابعين، ويقال: نزلها بعض من الصحابة (2) ، وفيه كلام. وهي مدينة عظيمة أزلية من بنيان الأوائل، طيبة الماء والهواء، أحدقت بها البساتين والزيتون والقرى والحصون والمياه والعيون من كل جانب، وبها المحرث العظيم الذي ليس في بلاد الأندلس مثله (3) ولا أعظم منه بركة. وقال الرازي: قرطبة أم المدائن، وسرّة الأندلس، وقرارة الملك في القديم والحديث والجاهلية والإسلام، ونهرها أعظم أنهار الأندلس، وبها القنطرة التي هي إحدى غرائب الأرض في الصنعة والإحكام، والجامع الذي ليس في بلاد الأندلس والإسلام أكبر منه. وقال ابن حوقل (4) : هي أعظم مدينة بالأندلس، وليس بجميع المغرب لها عندي شبيه في كثرة أهل، وسعة محلّ، وفسحة أسواق، ونظافة محالّ، وعمارة مساجد، وكثرة حمامات وفنادق، ويزعم قوم من أهلها أنّها كأحد جانبي بغداد، وإن لم تكن كأحد جانبي بغداد في قريبة من ذلك ولاحقة به، وهي مدينة حصينة ذات سور من حجارة ومحالّ حسنة، وفيها كان سلاطينهم قديماً، ودورهم داخل سورها المحيط بها، وأكثر أبواب القصر السلطاني من البلد وجنوب قرطبة على النهر. قال: وقرطبة هذه بائنة عن مساكن أرباضها ظاهرة ودرت بها في غير يوم في قدر ساعة وقد قطعت الشمس خمس عشرة درجة ماشياً. وقال الحجاري (5) : وكانت قرطبة في الدولة المروانية قبّة الإسلام،

_ (1) ق ج ط: وتابع. (2) مخطوط الرباط: نزلها - فيما نقل - رجل من الصحابة. (3) ك: الذي ليس له في بلاد الأندلس نظير. (4) في ك: وقال بعضهم؛ وفي ق: وقال ابن سعيد رحمه الله في المغرب؛ وفي ط: وقال الرازي؛ وفي ج: وفي كتاب ابن حوقل والنص منقول عن ان حوقل، انظر صورة الأرض: 107 - 108 مع اختلاف في بعض النص. (5) في ج: وفي المسهب؛ وفي ق: وقال الفتح في المطمح؛ وفي ط: قال ابن سعيد.

ومجتمع علماء الأنام (1) ، بها استقر سرير الخلافة المروانية، وفيها تمحضت خلاصة القبائل المعدّيّة واليمانيّة، وإليها كانت الرحلة في رواية الشعر والشعراء، إذ كانت مركز الكرماء، ومعدن العلماء، ولم تزل تملأ الصدور منها والحقائب، ويباري فيها أصحاب الكتب أصحاب الكتائب، ولم تبرح ساحاتها مجرّ عوالٍ ومجرى سوابق، ومحطّ معالٍ وحمى حقائق، وهي من بلاد الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد، والزّور من الأسد، ولها الداخل الفسيح، والخارج الذي يمتع البصر بامتداده فلا يزال مستريحاً وهو من تردّد النظر طليح. وقال الحجاري (2) : حضرة قرطبة منذ استفتحت (3) الجزيرة هي كانت منتهى الغاية، ومركز الراية، وأمّ القرى، وقرارة أولي الفضل والتّقى، ووطن أولي العلم والنّهى، وقلب الإقليم، وينبوع متفجّر العلوم، وقبّة الإسلام، وحضرة الإمام، ودار صوب العقول، وبستان ثمر الخواطر، وبحر درر القرائح، ومن أفقها طلعت نجوم الأرض وأعلام العصر وفرسان النظم والنثر، وبها أنشئت التأليفات الرائقة، والسبب في تبريز القوم حديثاً وقديماً على من سواهم أن أفقهم القرطبي لم يشتمل قط إلاّ على البحث والطلب، لأنواع العلم والأدب. انتهى. قال الإمام عليّ بن سعيد (4) : أخبرني والدي أن السلطان الأعظم أبا يعقوب ابن عبد المؤمن قال لوالده محمّد بن عبد الملك بن سعيد: ما عندك في قرطبة؟ قال: فقلت له: ما كان لي أن أتكلّم حتى أسمع مذهب أمير المؤمنين فيها، فقال السلطان: إن ملوك بني أميّة حين اتخذوها حضرة ملكهم لعلى بصيرة:

_ (1) ك: ومجتمع أعلام الأنام الأعلام. (2) في ق: وقال أيضاً؛ وفي ط بياض؛ وفي ج: وقال في الذخيرة. (3) ك: افتتحت. (4) انظر ما تقدم في هذا الكتاب ص: 154.

الديار الكثيرة المنفسحة، والشوارع المتسعة، والمباني الضخمة، والنهر الجاري، والهواء المعتدل، والخارج النضر، والمحرث العظيم، والشّعراء الكافية، والتوسّط بين شرق الأندلس وغربها، قال: فقلت: ما أبقى لي أمير المؤمنين ما أقول. ثم قال ابن سعيد: ومن كلام والدي في شأنها: هي من أحسن بلاد الأندلس مباني، وأوسعها مالك، وأبرعها ظاهراً وباطناً، وتفضل إشبيلية بسلامتها في فصل الشتاء من كثرة الطين، ولأهلها رياسة ووقار، لا تزال سمة (1) العلم متوارثة فيهم، إلا أنّ عامّتها أكثر الناس فضولاً، وأشدهم تشنيعاً وتشغيباً، ويضرب بهم المثل ما بين أهل الأندلس في القيام على الملوك والتشنيع على الولاة وقلة الرضى بأمورهم، حتى إن السيد أبا يحيى بن أبي يعقوب بن عبد المؤمن لما انفصل عن ولايتها قيل له: كيف وجدت أهل قرطبة؟ قال: مثل الجمل إن خفّفت عنه الحمل صاح، وإن أثقلته به صاحن ما ندري أين رضاهم فنقصده، ولا أين سخطهم فنتجنّبه (2) ، وما سلّط الله عليهم حجّاج الفتنة حتى كان عامتها شرّاً من عامة العراق، وإن العزل عنها لما قاسيت من أهلها عندي ولاية، وإنّي إن كلّفت العود إليها لقائل: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. قال والدي: ومن محاسنها ظرف اللباس، والتظاهر بالدين، والمواظبة على الصلاة، وتعظيم أهلها لجامعها الأعظم، وكسر أواني الخمر حيثما وقع عين أحد من أهلها عليها، والتستر بأنواع المنكرات، والتفاخر بأصالة البيت وبالجندية وبالعلم، وهي أكثر بلاد الأندلس كتباً، وأشدّ الناس اعتناء بخزائن الكتب، صار ذلك عندهم من آلات التعين والرياسة، حتى إن الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب، وينتخب فيها ليس إلاّ لأن يقال: فلان عنده خزانة كتب، والكتاب الفلاني

_ (1) ط: سعة. (2) ك ط: فنجتنبه.

ليس هو عند أحد غيره، والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصله وظفر به. قال الحضرمي: أقمت مرّة بقرطبة، ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيها وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط جيد وتسفير مليح (1) ، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه، فيرجع إليّ المنادي بالزيادة عليّ، إلى أن بلغ فوق حدّه، فقلت له: يا هذا أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلّغه إلى ما لا يساوي، قال: فأراني شخصاً عليه لباس رياسة، فدنوت منه، وقلت له: أعز الله سيّدنا الفقيه، إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده؛ قال: فقال لي: لست بفقيه، ولا أدري ما فيه، ولكنّي أقمت خزانة كتب، واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فها موضع يسع هذاالكتاب، فلمّا رأيته حسن الخط جيّد التجليد استحسنته، ولم أبال بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير؛ قال الحضرمي: فأحرجني، وحملني على أن قلت له: نعم لا يكون الرزق كثيراً إلاّ عند مثلك، يعطى الجوز من لا عنده (2) أسنان، وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب، وأطلب الانتفاع به، يكون الرزق عندي قليلاً، وتحول قلّة ما بيدي بيني وبينه. قال ابن سعيد: وجرت مناظرة بين يدي منصور بني عبد المؤمن بين الفقيه العالم أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر، فقال ابن رشد لابن زهر في كلامه: ما أدري ما تقول، غير أنّه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية. ولما ذكر ابن بشكوال قصر قرطبة، قال (3) : هو قصر أوليٌّ تداولته ملوك

_ (1) ك: بخط فصيح وتفسير مليح؛ والتسفير: التجليد. (2) ك: من لا له. (3) ك: وسئل ابن بشكوال عن قصر قرطبة فقال.

الأمم من لدن عهد موسى النبيّ، صلى الله على نبيّنا وعليه وسلّم، وفيه من المباني الأولية والآثار العجيبة لليونانيين ثمّ للروم والقوط والأمم السالفة ما يعجز الوصف، ثم ابتدع الخلفاء من بني مروان - منذ فتح الله عليهم الأندلس بما فيها - في قصرها البدائع الحسان، وأثروا فيه الآثار العجيبة، والرياض المونقة (1) ، وأجروا فيه المياه العذبة المجلوبة من جبال قرطبة على المسافات البعيدة، وتموّنوا المؤن الجسيمة حتى أوصلوها إلى القصر المكرّم (2) ، وأجروها في كل ساحة من ساحاته وناحية من نواحيه في قنوات الرّصاص تؤديها منها إلى المصانع صورٌ مختلفة الأشكال من الذهب الإبريز والفضّة الخالصة والنحاس المموّه إلى البحيرات الهائلة والبرك البديعة والصهاريج الغريبة في أحواض الرخام الرومية المنقوشة العجيبة. قال: وفي هذا القصر القصاب العالية السمو، المنيفة العلو، التي لم ير الراؤون مثلها في مشارق الأرض ومغاربها. قال: ومن قصوره المشهورة، وبساتينه المعروفة: الكامل، والمجدد، وقصر الحائر، والروضة، والزاهر، والمعشوق، والمبارك، والرشيق، وقصر السرور، والتاج، والبديع. قال: ومن أبوابه التي فتحها الله لنصر المظلومين، وغياث الملهوفين، والحكم بالحق، الباب الذي عليه السطح المشرف الذي لا نظير له في الدنيا، وعلى هذا الباب باب حديد، وفيه حلق لاطون (3) قد أثبتت في قواعدها، وقد صورت صورة إنسان فتح فمه، وهي حلق باب مدينة أربونة من بلد الإفرنج، وكان الأمير محمد قد افتتحها، فجلب حلقها إلى هذا الباب، وله باب قبلي أيضاً، وهو المعروف بباب الجنان، وقدّام هذين البابين المذكورين على الرصيف

_ (1) ك: الأنيقة. (2) ك: الكريم، ق: الكرم. (3) لاطون (وبالإسبانية Laton) : الأصفر من الصفر (النحاس) .

المشرف على النهر الأعظم مسجدان بالفضل كان الأمير هشامٌ الرضى يستعمل الحكم في المظالم فيهما ابتغاء ثواب الله الجزيل، وله باب ثالث يعرف بباب الوادي، وله باب بشماليّه يعرف بباب قورية، وله باب رابع يدعى بباب الجامع، وهو باب قديم كان يدخل منه الخلفاء يوم الجمعة إلى المسجد الجامع على الساباط، وعدد أبواباً بعد هذا طمست أيام فتنة المهدي ابن عبد الجبّار (1) . وذكر ابن بشكوال رحمه الله أن أبواب قرطبة سبعة أبواب (2) : باب القنطرة إلى جهة القبلة ويعرف بباب الوادي وبباب الجزيرة الخضراء وهو على النهر، وباب الحديد ويعرف بباب سرقسطة، وباب ابن عبد الجبّار وهو باب طليطلة، وباب رومية وفيه تجتمع الثلاثة الرّصف التي تشق دائرة الأرض من جزيرة قادس إلى قرمونة إلى قرطبة إلى سرقسطة إلى طرّكونة إلى أربونة مارّة في الأرض الكبيرة، ثم باب طلبيرة وهو أيضاً باب ليون، ثم باب عامر القرشي وقدّامه المقبرة المنسوبة إليه، ثم باب الجوز (3) ويعرف بباب بطليوس، ثم باب العطّارين، وهو باب إشبيلية، انتهى. وذكر أيضاً (4) أن عدد أرباض قرطبة عند انتهائها في التوسيع (5) والعمارة واحد وعشرون ربضاً، منها القبلية بعدوة النهر: ربض شقندة، وربض منية عجب، وأما الغربية فتسعة: ربض حوانيت الريحان (6) ، وربض الرقّاقين، وربض مسجد الكهف، وربض بلاط مغيث، وربض مسجد الشّفاء، وربض

_ (1) عدها في مخطوطة الرباط على النحو التالي: باب السدة وباب الجنان وباب العدل وباب الصناعة وباب الملك وباب الساباط (انظر الورقة: 25) . (2) انظر مخطوطة الرباط في عد أبواب قرطبة: 24. (3) مخطوطة الرباط: باب الجوزة. (4) ذكر أرباض قرطبة في مخطوطة الرباط: 25. (5) ك: التوسع. (6) مخطوط الرباط: ربض الريحاني؛ وفي ق ط: الريحاني.

حمّم الإلبيري (1) ، وربض مسجد المسرور، وربض مسجد الرّوضة (2) ، وربض السّجن القديم، وأمّا الشمالية فثلاثة: ربض باب اليهود، وربض مسجد أم سلمة، وربض الرّصافة، وأما الشرقية فسبعة: ربض شبلار، وربض فرن برّيل (3) ، وربض البرج (4) ، وربض منية عبد الله، وربض منية المغيرة، وربض الزاهرة، وربض المدينة العتيقة (5) . قال: ووسط هذه الأرباض قصبة قرطبة التي تختص بالسور دونها، وكانت هذه الأرباض دون سور، فلمّا كانت أيّام الفتنة صنع لها خندق يدور بجميعها وحائط مانع. وذكر ابن غالب أنّه كان دور هذا الحائط أربعة عشر ميلاً (6) ، وشقندة معدودةٌ في المدينة لأنّها مدينة قديمة كانت مسوّرة. [متنزهات قرطبة] قال ابن سعيد في المغرب: ولنذكر الآن من منتزهات قرطبة ومعاهدها المذكورة في الألسن نظماً ونثراً ما انتهى إليه الضبط، من غير تغلغل في غير المشهور منها والأهمّ، ونوشّي ذلك بجميع ما يحضرني من مختار النظم في قرطبة، وما يحتوي عليه نطاقها المذكور. فأوّل ما نذكر من المنتزهات منتزه الخلفاء المروانية، وهو قصر الرّصافة؛ قال والدي (7) رحمه الله: كان ممّا ابتناه عبد الرحمن بن معاوية في أول أيّامه لنزهه وسكناه أكثر أوقاته: منية الرّصافة التي اتخذها بشمال قرطبة

_ (1) ج ومخطوط الرابط: ربض الأبوري. (2) ق: وربض الرمضة. (3) مخطوطة الرباط: فرن بلي. (4) مخطوط الرباط: ربض الفرج. (5) في مخطوط الرباط: " ربط العدوة " وسقط من العدد هنالك ربض مسجد أم سلمة. (6) في ك: أربعة وعشرين ميلاً. (7) ج: قال ابن حيان.

منحرفة إلى الغرب، فاتخذ بها قصراً حسناً، ودحا جناناً واسعة، ونقل إليها غرائب الغروس وأكارم الشجر من كل ناحية، وأودعها ما كان استجلبه يزيد وسفرٌ رسولاه إلى الشأم من النوى المختار والحبوب الغريبة، حتى نمت بيمن الجدّ وحسن التربية في المدة القريبة أشجاراً معتمّة أثمرت بغرائب من الفواكه انتشرت عمّا قليل بأرض الأندلس، فاعترف بفضلها على أنواعها. قال: وسمّاها باسم رصافة جدّه هشام بأرض الشأم الأثيرة لديه، وامتثله في اختيار رصافته هذه (1) ، وكلفه بها وكثرة تردّده عليها، وسكناه أكثر أوقاته بها، فطار (2) لها الذكر في أيّامه، واتصل من بعده في إيثارها. قال: وكلّهم فضّلها، وزاد في عمارتها، وانبرى وصّاف الشعراء لها، فتناغوا (3) في ذلك فيما هو إلى الآن مأثور (4) عنهم، مستجاد منهم. قال ابن سعيد: والرّمّان السّفري الذي فاض على أرجاء الأندلس، وصاروا لا يفضلون عليه سواه، أصله من هذه الرّصافة. وقد ذكر ابن حيّان شانه، وأفرد له فصلاً (5) ، فقال: إنّه الموصوف بالفضيلة، المقدم على أجناس الرّمان بعذوبة الطعم، ورقّة العجم، وغزارة الماء، وحسن الصورة، وكان رسوله إلى الشأم في توصيل أخيته (6) منها إلى الأندلس قد جلب طرائف منها من رمّان الرصافة المنسوبة إلى هشام، قال: فعرضه عبد الرحمن على خواص رجاله مباهياً به، وكان فيمن حضره منهم سفر بن عبيد الكلاعي من جند الأردن، ويقال: هو من الأنصار الذين كانوا يحملون ألوية رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزواته، قال: وهم يحملون الألوية بين يدي الخلفاء من بني

_ (1) ك: ولميله في اختياره هذه. (2) ك: طار. (3) في ك: فتنازعوا. (4) ك: مشهور مأثور. (5) ج: وأفرد فضله. (6) في ك: أخته.

أمية، فأعطاه من ذلك الرمان جزءاً فراقه حسنه وخبره، فسار به إلى قرية بكورة ريّة فعالج عجمه واحتال لغرسه وغذائه وتنقيله حتى طلع شجراً أثمر وأينع، فنزع إلى عرقه، وأغرب في حسنه، فجاء به عمّا قليل إلى عبد الرحمن، فإذا هو أشبه شيء بذلك الرصافي، فسأله الأمير عنه، فعرّفه وجه حيلته، فاستبرع استنباطه، واستنبل همّته، وشكر صنعه، وأجزل صلته واغترس منه بمنية الرصافة وبغيرها من جناته، فانتشر نوعه، واستوسع الناس في غراسه، ولزمه النسب إليه، فصار يعرف إلى الآن بالرمان السّفري. قال: وقد وصف هذا الرمان أحمد بن فرج (1) الشاعر في أبيات كتب بها إلى بعض من أهداه له، فقال: ولابسة صدفاً أحمرا ... أتتك وقد ملئت جوهرا كأنّك فاتح حقّ لطيفٍ ... تضمّن مرجانه الأحمرا حبوباً كمثل لثات الحبيب ... رضاباً إذا شئت أو منظرا وللسّفر تعزى وما سافرت ... فتشكو النّوى أو تقاسي السّرى بلى فارقت أيكها ناعماً ... رطيباً وأغصانها نضّرا وجاءتك معتاضةً إذ أتتك ... بأكرم من عودها عنصرا بعودٍ ترى فيه ماء النّدى ... ويورق من قبل أن يثمرا هدية من لو غدت نفسه ... هديّته ظنّه قصّرا وقال ابن سعيد: وأخبرني والدي قال: أخبرني الوشّاح المبرّز المحسن أبو الحسن المريني (2) قال: بينما أنا أشرب مع ندماني بإزاء الرّصافة، إذا بإنسان

_ (1) هو ابن فرج صاحب كتاب الحدائق، الذي ألفه للحكم المستنصر، من شعراء عصر الخلافة الأموية، جرى عليه ايام الحكم ما أدى إلى سجنه وتوفي حوالي 366؛ (انظر ترجمته في الجذوة 97 وبغية الملتمس رقم: 331 ومعجم الأدباء 4: 236 والصلة 11، ومسالك الأبصار 11: 195 والمغرب 2: 56 والمطمح 79 والوافي ج؟ 8 الورقة: 34 وله اشعار في اليتيمة) . (2) هو علي بن المريني أبو الحسن، شاعر وشاح توفي في مدة منصور بني عبد المؤمن وكان كثير التجول (المغرب 2: 213) وسيورد المقري له موشحة في سد قرطبة، وفي المغرب موشحة تنازع نسبتها هو واليكي (2: 218) .

رث الهيئة، مجفوّ (1) الطلعة، قد جاء فجلس معنا، فقلنا له: ما هذا الإقدام على الجلوس معنا دون سابق معرفة؟ فقال: لا تعجلوا علي، ثمّ فكر قليلاً ورفع رأسه فأنشدنا: اسقنيها إزاء قصر الرّصافه ... واعتبر في مآل أمر الخلافه وانظر الأفق كيف بدّل أرضاً ... كي يطيل اللبيب فيه اعترافه ويرى أن كلّ ما هو فيه ... من نعيمٍ وعزّ أمرٍ سخافه كلّ شيء رايته غير شيء ... ما خلا لذة الهوى والسّلافه قال المريني: فقبّلت رأسه، وقلت له: بالله من تكون؟ فقال: قاسم بن عبّود الرياحي، الذي يزعم الناس أنّه موسوس أحمق، قال: فقلت له: ما هذا شعر أحمق، وإن العقلاء لتعجز عنه، فبالله إلا ما تمّمت مسرتنا بمؤانستك ومنادمتك ومناشدة طرف أشعارك، فنادم وأنشد، وما زلنا معه في طيبة عيش إلى أن ودّعناه وهو يتلاطم مع الحيطان سكراً، ويقول: اللهم غفراً. انتهى (2) .

_ (1) ج: مجلو. (2) زاد بعد هذه الكلمة ف نسخة (ج) : " فائدة: قال الذهبي في المشتبه: والرصافة مواضع منها رصافة بناها هشام بن عبد الملك بقرب الرقة ورصافة بغداد - محلة كبيرة جداً أنشأ المنصور لابنه المهدي وتلقب بعسكر المهدي، منها أئمة، ورصافة البصرة قرية منها شيخان رويا؛ ورصافة قرطبة بليدة أنشأها عبد الرحمن بن معاوية الداخل، سماها باسم رصافة جده هشام خرج منها فضلاء؛ ورصافة الكوفة صغيرة، ورصافة نيسابور قرية، ورصافة الأنبار بناها السفاح، ورصافة بليدة بإفريقية، والرصافة قلعة أحدثها الإسماعيلية بالشام. انتهى باختصار. قال في القاموس، في فصل الراء باب الفاء: والرصافة كمكناسة بلد بالشام منه أبو منيع عبد الله بن أبي زياد وابن ابنه الحجاج، ومحلة ببغداد منها محمد بن بكار بن جعفر بن محمد بن علي، وبلد بالبصرة منها محمد بن عبد الله بن صيفون، وقرية بواسط منها عبد المجيد وقرية بنيسابور وبالكوفة وبلد بإفريقية وقرية للإسماعيلية، وعمي الرصافة موضع بالحجاز، انتهى. رجع إلى قرطبة؛ قال بن سعيد ... الخ ".

قال: ومن أبدع قصور (1) خارج قرطبة قصر السيد أبي يحيى بن أبي يعقوب بن عبد المؤمن، وهو على متن النهر الأعظم، تحمله أقواس، وقيل للسيد: كيف تأنقت في بنيان هذا القصر مع انحرافك عن أهل قرطبة؟ فقال: علمت أنهم لا يذكرون والياً بعد عزله ولا له عندهم قد، لما بقي في رؤوسهم من الخلافة المروانيّة، فأحببت أن يبقى لي في بلادهم أثر أذكر به على رغمهم. قال ابن سعيد: وأخبرني والدي أن ناهض بن إدريس (2) شاعر وادي آش في عصره أنشده لنفسه في هذا القصر: ألا حبّذا القصر الذي ارتفعت به ... على الماء من تحت الحجارة أقواس هو المصنع الأعلى الذي أنف الثرى ... ورفّعه عن لثمه المجد والباس فأركب متن النهر عزّاً ورفعةً ... يغصّ وحلّت أفقه الدهر أعراس فلا زال معمور الجناب وبابه ... يغص وحلت افقه الدهر أعراس وقال الفتح في قلائده، لمّا ذكر الوزير ابن عمّار (3) : وتنزه بالدمشق بقرطبة، وهو قصر شيّده بنو أميّة بالصّفّاح والعمد، وجري في إتقانه إلى غير أمد، وأبدع بناؤه، ونمّقت ساحاته وفناؤه، واتخذوه ميدان مراحهم، ومضمار أفراحهم، وحكوا به قصرهم بالمشرق، وأطلعوه كالكوكب المشرق، وأنشد في لابن عمّار: كلّ قصرٍ بعد الدمشق يذّم ... فيه طاب الجنى ولذّ المشمّ منظرٌ رائقٌ، وماءٌ نميرٌ ... وثرىً عاطرٌ، وقصرٌ أشمّ بتّ فيه والليل والفجر عندي ... عنبرٌ أشهبٌ ومسكٌ أحمّ

_ (1) ق: ومن المتنزهات قصور خارج قرطبة؛ ط: ومن أعظم قصور ... (2) ناهض بن إدريس: من مداح ناصر بني عبد المؤمن (المغرب 2: 145) . (3) قلائد العقيان: 84.

وهي منسوبة للحاجب أبي عثمان جعفر بن عثمان المصحفي. وذكر الحجاري في المسهب أن الرئيس أبا بكر محمد بن أحمد بن جعفر المصحفي، اجتاز بالمنية المصحفية التي كانت لجدّه أيّام حجابته للخليفة الحكم المستنصر، فاستعبر حين تذكر ما آل إليه حال جده مع المنصور بن أبي عامر، واستيلاءه على ملكه وأملاكه، فقال: قف قليلاً بالمصحفيّة واندب ... مقلةً أصبحت بلا إنسان واسألنها عن جعفر وسطاه ... ونداه في سالف الأزمان جعفر مثل جعفرٍ حكم الده؟ ... ر عليه بعسرة وهوان ولكم حذّر الردى فصممنا ... لا أمانٌ لصاحب السلطان بينما يعتلي غدا خافضاً من ... هـ اكتسابٌ ككفّة الميزان (1) ومنية الزبير منسوبة إلى الزبير بن عمر الملثّم (2) ملك قرطبة. قال ابن سعيد: أخبرني والدي عن أبيه قال: خرج معي إلى هذه المنية في زمان فتح النّوّار أبو بكر بن بقيّ الشاعر (3) المشهور، فجلسنا تحت سطر من أشجار اللّوز قد نوّرت، فقال ابن بقيّ: سطرٌ من اللوز في البستان قابلني ... ما زاد شيء على شيء ولا نقصا كأنّما كلّ غصنٍ كمّ جارية ... إذا النسيم ثنى أعطافه رقصا

_ (1) ك: انتساب؛ ج: اكتساباً. (2) الزبير بن عمر من ولاة الملثمين (المرابطين) على قرطبة؛ وقد عده في مفاخر البربر (82) من ولاة غرناطة ولكن ابن سعيد (2: 127) يسميه صاحب قرطبة، وهو مهجو الشاعر المعروف بالأبيض. (3) أبو بكر يحيى بن بقي الطليطلي من كبار الشعراء الوشاحين في عصر المرابطين توفي سنة 540 (انظر ترجمته في الذخيرة القسم الثاني: 244 والقلائد: 279 ومعجم الأدباء 19: 21 والتكملة: 2042 ووفيات الأعيان 5: 248 ومسالك الأبصار 11: 280 والمغرب 2: 19 وله موشحات في دار الطراز وفي مخطوطة جيش التوشيح للسان الدين) .

ثم قال شعراً منه: عجبت لمن أبقى على خمر دنّه ... غداة رأى لوز الحديقة نوّرا ولا أذكر بقية الأبيات، قال جدّي: ثم اجتمعت به بعد ذلك بغرناطة، فذكرته باجتماعه في منية الزبير، فتنهّد وفكّر ساعة وقال: اكتبوا عنّي، فكتبنا: سقى الله بستان الزبير، ودام في ... مجاريه سيل (1) النّهر ما غنّت الورق فكائن لنا من نعمة في جنابه ... كبزّته الخضراء طالعها طلق هو الموضع الزاهي على كل موضع ... أما ظلّه ضافٍ أما ماؤه دفق أهيم به في حالة القرب والنوى ... وحقّ له منّي التذكّر والعشق ومن ذلك النّهر الخفوق فؤاده ... بقلبي ما غيّبت عن وجهه خفق قال: فقلت له: جمع الله بينك وبينه على الحالة التي تشتهي، قال: ذلك لك، قلت: وكيف ذلك؟ قال: تدفع لي هذا السيف الذي تقلّدت به أتزوّد به إليه، وأنفق الباقي فيه على ما تعلم، قال: فقلت له: هذا سيفٌ شرّفني به السلطان أبو زكريّاء ابن غانية، وما لعطائه سبيل، ولكن أعطيك قيمته، فخرج وأبى بشخصٍ يعرف قيمة السيوف، فقدّره وجعل يقول: إنّه سيف السلطان ابن غانية، ليعظم قدره في عينه فيزيد في قيمته، ثم قبض ما قدّر به، وأنشد ارتجالاً: أطال الله عمر فتى سعيدٍ ... وبقّاه ورقّته السّعود غدا لي جوده سبباً لعودي ... إلى وطين فها أنا ذا أعود وألثم كفّه شكراً ويتلو ... طريقي آي نعماه النّشيد

_ (1) ك ج ط: ذراه مسيل.

حباني من ذخائره بسيفٍ ... به لم يبق للأحزان جيد والقصر الفارسي من القصور المقصودة للنزاهة بخارج قرطبة، وقد ذكره الوزير أبو الوليد ابن زيدون في قصيد ضمّنه من منتزهات قرطبة ما تقف عليه، وكان قد فرّ من قرطبة أيّام بني جهور، فحضره في فراره عيد ذكّره بأعياد وطنه ومعاهده الأنسيّة مع ولاّدة التي كان يهواها ويتغزّل فيها، فقال (1) : خليليّ لا فطرٌ يسرّ ولا أضحى ... فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى وستأتي هذه القصيد في هذا الباب، كما ستأتي قصيدة أبي القاسم ابن هشام القرطبي التي أوّلها: يا هبّةً باكرت من نحو دارين ... وفيها كثير من منتزهات قرطبة. قال ابن سعيد: كان والدي كثيراً ما يأمرني بقراءتها عليه، ويقول: والله لقد أنبأت عن فضلٍ لهذا الرجل، قال: وكان أبو يحيى الحضرمي يحفظها، ويزين بها مجالسه، ويحلف أن لا ينشدها بمحضر جاهل لا يفهم، أو حاسد لا ينصف في الاهتزاز لها، وإنّه لجدير بذلك، وإنّها لمن كنوز الأدب. ثم قال: والمرج النّضير المذكور بها هو مرج الخز، أخبرني والدي أنّه حضر في زمان الصّبا بهذا المرج على راحة، ومعه الرئيس الفاضل أبو الحسين ابن الوزير أبي جعفر الوقّشي (2) والمسنّ ابن دريدة (3) المشهور بخفة الروح، قال: فسبحت أمامنا إوز، وجعلت تمرح وتنثر ما عليها من الماء فوق المرج،

_ (1) ديوان ابن زيدون: 158. (2) أبو الحسين الوقشي، سيذكره صاحب النفح، وكان ذا صوت بديع عارفاً بالألحان؛ وقد مر ذكره في المغرب (1: 220) في مجلس مع والد ابن سعيد. (3) في بعض النسخ: الحسن؛ وفي نسخة: دويدة؛ وقد ذكره ابن سعيد في المغرب 2: 181 وأورد بعض نوادره؛ وهو قلعي أي ينسب إلى قلعة بني سعيد؛ وفي ج: ودريده.

والمرج قد أحدق به الوادي، والشمس قد مالت عليه للغروب، فقال لي أبو الحسين: بالله صف يومنا وحسن (1) هذا المنظر، فقلت: لا أصفه أو تصفه أنت، فقال: ولك مني ذلك، فأفكر كلٌّ منّا على انفراد بعدما ذكرنا ما نصف نثراً، فقال أبو الحسين الوقّشي: لله يوم بمرج الخزّ طاب لنا ... فيه النعيم بحيث الروض والنّهر وللإوزّ على أرجائه لعبٌ ... إذا جرت بدّدت ما بيننا الدّرر والشمس تجنح نحو البين مائلةً ... كأنّ عاشقها في الغرب ينتظر والكأس جائلةٌ باللبّ حائرةٌ ... وكلّنا غفلات الدهر نبتدر قال: فقلت: ألا حبّذا يومٌ ظفرنا بطيبه ... بأكناف مرج الخزّ والنهر يبسم وقد مرحت في الإوزّ، وأرسلت ... على سندسٍ درّاً به يتنظّم ومدّ به للشمس فهو كأنّه ... لثامٌ لها ملقىً من النّور معصم أدرنا عليه أكؤساً بعثت به ... من الأنس ميتاً عاد وهو يكلّم غدونا إليه صامتين سكينةً ... فرحنا وكلٌّ بالهوى يترنّم فأظهر كلّ منّا لصاحبه استحسان ما قال تنشيطاً وتتميماً للمسرّة، ثم قلنا للمسنّ: ما عندك أنت ما تعارض (2) به هاتين القطعتين؟ قال: بهذا، ورفع رجله وحبق حبقة فرقعت (3) منها أرجاؤه، فقال له أبو الحسين: ما هذا يا شيخ السوء؟ فقال: الطلاق له لازم (4) إن لم تكن أوزن من شعركما، وأطيب رائحة، وأغنّ صوتاً، وأطرب معنى، فضحكنا منه اشد ضحك، وجعلنا نهتز غاية

_ (1) ق: في حسن. (2) ق ط ج: بما تعارض. (3) ق ط ج: قرقعت. (4) ك: يلزمه.

الاهتزاز لموقع نادرته، فقال: والدليل على ذلك أنّكم طربتم لما جئت به أكثر ممّا طربتم من شعركم. ثم قال ابن سعيد: ومن منتزهات قرطبة المشهورة فحص السرادق، مقصود للفرجة، يسرح (1) فيه البصر، وتبتهج فيه النفس، وأخبرني والدي عن أخيه أبي جعفر بن عبد الملك بن سعيد قال: خرجت مع الشريف الأصم القرطبي إلى بسيط الجزيرة الخضراء - وقد تدبج بالأنوار (2) - فلمّا حركنا حسن المكان، وتشوقنا إلى الأركان (3) ، قال الشريف: لقد ذكرني هذا البسيط بسيط فحص السرادق، فقلت له: فهل ثار في خاطرك (4) نظم فيه؟ قال: نعم، ثم أنشد: ألا فدعوا ذكر العذيب وبارق ... ولا تسأموا من ذكر فحص السّرادق مجرّ ذيول السّكر من كلّ مترف ... ومجرى الكؤوس المترعات السّوابق قصرت عليه اللّحظ ما دمت حاضراً ... وفكري في غيبٍ لمرآه شائقي أيا طيب أيّام تقضّت بروضةٍ ... على لمح غدرانٍ وشمّ حدائق إذا غرّدت (5) فيه حمائم دوحها ... تخيّلتها الكتّاب بين المهارق وما باختيار الطّرف فارقت حسنها ... ولكن بكيدٍ من زمانٍ منافق قال أبو جعفر: فلمّا سمعت هذا الشعر لم أتمالك من الاستعبار، وحرّكني ذلك إلى أن قلت في حور (6) مؤمل سيد منتزهات غرناطة، ولم يذكر هنا ما قاله فيه، وذكره في موضع آخر لم يحضرني الآن حتى أورده هنا، والله أعلم. ومن منتزهات قرطبة السّدّ، قال ابن سعيد: أخبرني والدي أن الشاعر

_ (1) ق: ليسرح. (2) ك: بالنوار. (3) لعل الصواب: الأوطان. (4) ك: خاطركم. (5) ق: رددت؛ ط ج: وردت. (6) بعض النسخ: حوز.

المبرز أبا شهاب المالقي (1) أنشده لنفسه واصفاً يوم راحة بهذا السّد: ويوم لنا بالسّدّ لو ردّ عيشه ... بعيشة أيّام الزّمان رددناه بكرنا له والشمس في خدر شرقها ... إلى أن أجابت إذ دعا الغرب دعواه قطعناه شدواً واغتباقاً ونشوة ... ورجع حديثٍ لو رقى الميت أحياه على مثله من منزه تبتغى المنى ... فلله ما أحلى وأبدع مرآه شدتنا به الأرحا وألقت نثارها ... علينا فأصغينا له وقبلناه لئن بان إنّا بالأنين لفقده ... وبالدّمع في إثر الفراق (2) حكيناه وأنشدني والدي موشحة لأبي الحسن المريني معاصره وصاحبه يذكر فيها هذا السد، وهي (3) : في نغمة العود والسّلافه ... والروض والنهر والنديم أطال من لامني خلافه ... فظلّ في نصحه مليم دعني على منهج التّصابي ... ما قام لي العذر الشّباب ولا تطل في المنى عتابي ... فلست أصغي إلى عتاب لا ترج ردّي إلى صواب (4) ... والكأس تفترّ عن حباب والغصن يبدي لنا انعطافه ... إذا هفا فوقه النسيم والرّوض أهدى لنا قطافه ... واختال في برده الرقيم

_ (1) أبو شهاب المالقي: من شعراء المائة السابعة، صحبه والد ابن سعيد أيام الشباب ووصفه بأنه كان خليع العذار في شرب العقار (المغرب 1: 437) . (2) ق: الغرام. (3) استعمل في ك كلمتي " مطلع " و " دور " للدلالة على القفل وعلى كل غصن من أغصان الموشحة. (4) ك: إلى جواب؛ ق: إلى الجواب.

يا حبّذا عهدي القديم ... ومن به همت مسعدي ريمٌ عن الوصل لا يريم ... مولّعٌ بالتودّد ما تمّ إلاّ به النعيم ... طوعاً على رغم حسّدي معتدل القدّ ذو نحافه ... أسقمني طرفه السقيم ورام طرفي به انتصافه ... فخدّ في خدّه الكليم غضّ الصّبا عاطر المقبّل ... أحلى من الأمن والأمل ظامي الحشا مفعم المخلخل ... حلو اللّمى ساحر المقل لكل من رامه توصّل ... لم يخش ردّاً بما فعل أشكو فيبدي لي اعترافه ... إن حاد عن نهجه القويم لا أعدم الدهر فيه رافه ... فحقّ لي فيه أن أهيم لله عصرٌ لنا تقضّى ... بالسّدّ والمنبر البهيج أرى ادّكاري إليه فرضا ... وشوقه دائماً يهيج فكم خلعنا عليه غمضا ... وللصّبا مسرحٌ أريج وردٌ أطال المنى ارتشافه ... حتى انقضى شربه الكريم لله ما أسرع انحرافه ... وهكذا الدهر لا يديم يا من يحثّ المطيّ غربا ... عرّج على حضرة الملوك وانثر بها إن سفحت غربا ... من مدمع عاطل سلوك واسمع إلى من أقام صبّا ... واحك صداه لا فضّ فوك

بلغّ سلامي قصر الرّصافه ... وذكّرو (1) عهدي القديم وحيّ عنّي دار الخلافه ... وقف بها وقفة الغريم وقال ابن سعيد: والمنبر المذكور في هذه الموشّحة من منتزهات قرطبة، والسّدّ هو الأرحا التي ذكرها في زجله قاسم بن عبّود الرياحي، رويته عن والدي عن قائله، وهو (2) : بالله أين نصيب ... من لس لي فيه نصيب محبوباً مخالف ... ومعو رقيب حين نقصد مكانو ... يقم ف المقام ويبخل علينا ... بردّ السّلام أدخلت يا قلبي ... روحك في زحام (3) سلامتك عندي ... هي شي عجيب وكف بالله يسلم ... من هو في لهيب بالله يا حبيبي ... اترك ذا النّفار واعمل أن نطيبوا ... في هذا النّهار واخرج معي للوادي ... لشرب العقار نتمّم نهارنا ... في لذه وطيب في الأرحا وإلا ... في المرج الخصيب

_ (1) ك: وذكره؛ والصواب قراءته حسب النطق الدارج " وذكرو "، وهي قراءة ق. (2) استعمل أيضاً في ك في تقسيم هذا الزجل لفظتي مطلع ودور. (3) ج: الزحام.

أو عند النواعر (1) ... والروض الشّريق (2) أو قصر الرصافه ... أو وادي العقيق رحق (3) والله دونك ... هو عندي الحريق وفي حبّك أمسيت ... في أهلي غريب وما الموت عندي ... إلاّ حن تغيب اتّكل على الله ... وكن فظ جسور وإن ريت فضولي ... وقل إين تمور كمّش عنّو (4) وجهك ... فإن راك نفور يهرب عنّك خايف ... ويبقى مريب وامش أنت موقّر ... كأنّك خطيب ما أعجب حديثي ... إش هذا الجنون نطلب وندبّر ... أمراً لا يكون وكم ذا نهوّن ... شيئاً لا يهون وإش مقدار ما نصبر ... لبعد الحبيب ربّ اجمعني معو ... عاجلاً قريب

_ (1) ج: النواير. (2) ج: الرشيق. (3) ك ط: حرق؛ ج: حدق. (4) ك: عني.

[نهرها وقنطرتها] قال ابن سعيد: وأما نهر قرطبة فإنّه يصغر عن عظمه عند إشبيلية، بحيث صنع عليه قنطرة من حجارة لا يتأتى مثلها في نهر إشبيلية، ومنبعه من جهة شقورة (1) يمر النصف منه إلى مرسية مشرقاً والنصف إلى قرطبة وإشبيلية مغرباً. ولما ذكر الرازي قرطبة قال: " ونهرها الساكن في جريه، اللين في انصبابه، الذي تؤمن مغبة ضرره في حمله ". وقال هذا لأنّه يعظم عند إشبيلية، فإذا حان حمله في أيام الأمطار أشفت إشبيلية على الغرق، وتوقّع أهلها الهلاك. والقنطرة التي على هذا النهر عند قرطبة من أعظم آثار الأندلس وأعجبها، أقواسها سبع عشرة قوساً، وبانيها - على ما ذكره ابن حيّان وغيره - السّمح ابن مالك الخولاني صاحب الأندلس بأمر عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، وشيّدها بنو أميّة بعد ذلك وحسّنوها، قال ابن حيّان: وقيل: إنّه قد كانت في هذا المكان قنطرة من بنيان الأعاجم قبل دخول العرب بنحو مائتي سنة أثّرت فيها الأزمان بمكابدة المدود حتى سقطت حناياها، ومحيت أعاليها، وبقيت أرجلها وأسافلها، وعليها بنى السمح في سنة إحدى ومائة، انتهى. وقال في مناهج الفكر: إن قنطرة قرطبة إحدى أعاجيب الدنيا، بنيت زمن عمر بن عبد العزيز على يد عبد الرحمن بن عبيد الله الغافقي، وطولها ثمانمائة ذراع (2) ، وعرضها عشرون باعاً، وارتفاعها ستون ذراعاً، وعدد حناياها ثماني عشرة حنية، وعدد أبراجها تسعة عشر برجاً، انتهى.

_ (1) شقورة: (Segura de la Sierra) مدينة كانت من عمل جيان، وينسب إليها نهر شقورة وهو نهر مرسية. (2) ق: باع.

رجع إلى قرطبة ذكر ابن حيّان والرازي والحجاري أن أكتبيان (1) - ثاني قياصرة الروم الذي ملك أكثر الدّنيا وصفّح نهر رومية بالصّفر، فأرّخت الروم، من ذلك العهد، وكان من قبل ميلاد المسيح عليه السلام بثمان وثلاثين سنة - أمر ببناء المدن العظيمة بالأندلس، فبنيت في مدّته قرطبة وإشبيلية وماردة وسرقسطة، وانفرد الحجاري بأن أكتبيان المذكور وجهّ أربعة من أعيان ملوكه للأندلس فبنى كل واحد منهم مدينة في الجهة التي ولاّه عليها، وسمّاها باسمه، وأن هذه الأسماء الأربعة كانت أسماء لأولئك الملوك، وغير الحجاري جعل أسماء هذه المدن مشتقّة ممّا تقتضيه أوضاعها كما مر؛ وذكروا أنّه قد تداولت على قرطبة ولاة الروم الأخيرة الذين هم بنو عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، على نبيّنا وعليهم الصلاة والسلام، إلى أن انتزعها من أيديهم القوط من ولد يافث المتغلّبون على الأندلس، إلى أن أخذها منهم المسلمون. ولم تكن في الجاهلية سريراً لسلطنة الأندلس، بل كرسيّاً لخاص مملكتها، وسعدت في الإسلام، فصارت سريراً للسلطنة العظمى الشاملة، وقطباً للخلافة المروانية، وصارت إشبيلية وطليطلة تبعاً لها، بعدما كان الأمر بالعكس، والله يفعل ما يشاء، بيده الملك والتدبير، وهو على كل شيء قدي، لا إله إلا هو العلي الكبير. وقال صاحب " نشق الأزهار " (2) عندما تعرّض لذكر قرطبة: هي مدينة مشهورة، دار خلافة، وأهلها أعيان ناس في العلم والفضل، وبها جامع ليس في الإسلام مثله، انتهى.

_ (1) ق: اكنبان؛ ك: التنبان؛ والصواب ما أثبتناه فهو (Octavian) المعروف باسم اكتافيوس قيصر. (2) أظن المراد هنا هو " نشق الأزهار في عجائب الأقطار " لابن إياس الحنفي المتوفى سنة 930.

[الفتنة البربرية والنزاع بين الحموديين والأمويين] ومن الأسباب في سلب محاسن قرطبة عيث البربر بها في دخولهم مع سليمان المستعين الأموي حين استولى على قرطبة في دولته التي افتتحت بالقهر وسفك الدماء، وكان من أمراء البربر المعارضين لسليمان عليّ بن حمّود من بني علي بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم أجمعين - وجدّه إدريس هرب من هرون الرشيد إلى البربر، فتبربر ولده، وبنى ابنه إدريس مدينة فاس، وكان المؤيّد هشام يشتغل بالملاحم، ووقف على أن دولة بني أميّة تنقرض بالأندلس على يد علوي أول اسمه عين، فلمّا دخل سليمان مع البربر قرطبة ومحوا كثيراً من محاسنها ومحاسن أهلها كان من أكبر أمرائهم علي بن حمّود، وبلغ هشاماً المؤيد وهو محبوس خبره واسمه ونسبه فدسّ إليه أن الدولة صائرة إليك، وقال له: إن خاطري يحدّثني أن هذا الرجل يقتلني، يعني سليمان، فإن فعل فخذ بثأري، وكان هذا الأمر هو الذي قوّى نفس ابن حمّود على طلب الإمامة، وحمله على الأخذ بثأر هشام المؤيد، فكان المؤيد أحد من أخذ بثأره بعد موته. وتولّى بعد ذلك علي بن حمّود (1) ، وبويع بقرطبة في قصرها في اليوم الذي قتل فيه سليمان المستعين (2) ، وأخذ الناس بالإرهاب والسطوة، وأذلّ رؤوس البربر، وبرقت للعدل في أيّامه بارقة خلّب لم تكد تقد حتى خبت، وجلس للمظالم، وقدمت له جماعة من البربر في إجرام فضرب رقابهم، وأهلهم وعشائرهم ينظرون، وخرج يوماً على باب عامر فالتقى فارساً من البربر وأمامه حمل عنب، فاستوقفه وقال له: من أين لك هذا؟ فقال: أخذته كما يأخذ الناس، فأمر بضرب عنقه، ووضع رأسه وسط الحمل، وطيف به في البلد،

_ (1) انظر تفصيل الخبر عن ولاية علي بن حمود في الذخيرة 1/1: 79 نقلاً عن ابن حيان، وهذا الذي أورده المقري تلخيص لما جاء هنالك. (2) وبويع ... المستعين: سقطت هذه العبارة من ق.

واستمر على هذا مع أهل قرطبة في أحسن عشرة نحو ثمانية أشهر، حتى بلغه قيام الأندلسيين بالمرتضى المرواني في شرق الأندلس، فتغير عمّا كان عليه، وعزم على إخلاء قرطبة وإبادة أهلها، فلا يعود لأئمتهم بها سلطان آخر الدهر، وأغضى للبربر عن ظلمهم فعاد البلاء إلى حاله، وانتزع الإسلام من أهل قرطبة (1) ، وهدم المنازل، واستهان بالأكابر، ووضع المغارم، وقبض على جماعة من أعيانهم وألزمهم بمال، فلمّا غرموه سرّحهم، فلمّا جيء إليهم بدوابهم ليركبوها أمر من أخذ الدواب، وتركهم ينزلون إلى منازلهم على أرجلهم، وكان منهم أبو الحزم الذي ملك قرطبة بعد وصارت دولته بوراثة ولده معدودة في دول الطوائف، فانجمعت عن عليّ النفوس، وتوالى عليه الدعاء، فقتله صبيان أغمار من صقالبة بني مروان في الحمّام، وكان قتله غرّة ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة، وكان الصقالبة ثلاثة فهربوا واختفوا في أماكن يعرفونها، وصح عند الناس موته، ففرحوا، وكانت مدّته كما مر نحو عامين، وحقّقها بعض فقال: أحد وعشرون شهراً وستّة أيّام. وكان الناصر علي بن حمّود - على عجمته، وبعده من الفضائل - يصغي إلى الأمداح، ويثيب عليها، ويظهر في ذلك آثار النسب العربي والكرم الهاشمي، ومن شعرائه المختصّين به ابن الحنّاط القرطبيّ (2) ، ومن شعره قوله (3) : راحت تذكّر بالنسيم الراحا ... وطفاء تكسر للجنوح جناحا أخفى مسالكها الظلام فأوقدت ... من برقها كي تهتدي مصباحا

_ (1) ك: وانتزع أهل قرطبة. (2) ابن الحناط (وفي ق ك ط ج: الخياط) محمد بن سليمان بن الحناط الرعيني القرطبي الأعمى، كان أبوه يبيع الحنطة بقرطبة، ثم تعهد ابنه بنو ذكوان بالتعليم واتصل بدولة بني حمود ومدح أمراءها وتوفي سنة 437 (انظر الذخيرة 1/1: 383 والجذوة: 53 وبغية الملتمس رقم: 124 والمغرب 1: 121 والصلة: 640 والتكملة: 387. (3) الذخيرة 1/1: 390.

وعبادة بن ماء السماء، وكان معروفاً بالتشيع، وفيه يقول من قصيدة: أبوكم عليٌّ كان بالشرق بدء ما ... ورثتم، وذا بالغرب أيضاً سميّه فصلّوا عليه أجمعون وسلّموا ... له الأمر إذ ولاّه فيكم وليّه ومدحه ابن درّاج القسطلّيّ بقوله (1) : لعلّك يا شمس عند الأصيل ... شجيت لشجو الغريب الذليل فكوني شفيعي لابن الشّفيع ... وكوني رسولي لابن الرسول وكان أخوه القاسم بن حمّود أكبر منه بعشر سنين، وأمهما واحدة، وهي علوية، ولمّا قتل الناصر كان القاسم والياً على إشبيلية، وكان يحيى بن علي والياً على سبتة، فاختلفت أهواء البربر (2) ، فمال أكثرهم إلى القاسم لكونه غبن أوّلاً، وقدّم عليه أخوه الأصغر، وكونه قريباً من قرطبة، وبينهم وبين يحيى البحر، فلمّا وصلت رسلهم إلى القاسم لم يظهر فرحاً بالإمامة، وخاف أن تكون حيلةً من أخيه عليه، فتقهقر إلى أن اتضح له الحق، فركب إلى قرطبة، وبويع فيها بعد ستة أيّام من قتل أخيه، وأحسن السيرة، وأحس من البربر الميل إلى يحيى ابن أخيه عليّ صاحب سبتة، فتهالك في اقتناء السودان، وابتاع منهم كثيراً، وقوّدهم على أعماله، فأنفت البرابر من ذلك، وانحرفوا عنه. وفي سنة تسع وأربعمائة (3) قام عليه بشرق الأندلس المرتضى عبد الرحمن من أعقاب الناصر، لأن أهل الأندلس صعب عليهم ملك بني حمّود العلويين بسبب البرابر، فأرادوا رجوع الإمامة إلى بني مروان، واجتمع له أكثر ملوك الطوائف، وكان معه حين أقبل لقرطبة منذر التجيبيّ صاحب سرقسطة

_ (1) ديوان ابن دراج: 75. (2) ك: فاختلف هؤلاء البربر؛ ج: فاختلف أحوال ... (3) انظر تفصيل هذه الأحداث في ابن عذاري 3: 125.

وخيران العامري الصّقلبي صاحب المرية، وانضاف إليهم جمعٌ من الفرنج، وتأهّب القاسم والبرابرة للقائهم، فكان من الاتفاق العجيب أن فسدت نيّة منذر وخيران على المرتضى، وقالا: أرانا في الأوّل وجهاً ليس بالوجه الذي نراه حين اجتمع إليه الجم الغفير، وهذا ماكر غير صافي النيّة، فكتب خيران إلى ابن زيري الصّنهاجي المتغلب على غرناطة - وهو داهية البربر - وضمن له أنّه متى قطع الطريق على المرتضى عند اجتيازه عليه إلى قرطبة خذّل عن نصرته الموالي العامريين أعداء المروانيين وأصحاب رياسة الثغور، فأصغى ابن زيري إلى ذلك، وكتب المرتضى إلى ابن زيري يدعوه لطاعته، فقلب الكتاب، وكتب في ظهره " قل يا أيّها الكافرون - السورة " فأرسل إليه كتاباً ثانياً يقول فيه: قد جئتك بجميع أبطال الأندلس وبالفرنج، فماذا تصنع؟ وختم الكتاب بهذا البيت: إن كنت منّا أبشر بخير ... أو لا فأيقن بكل شرّ فأمر الكاتب أن يحوّل الكتاب ويكتب على ظهره " ألهاكم التكاثر - السورة " فازداد حنقه، وحمله الغيظ إلى أن ترك السير إلى حضرة الإمامة قرطبة، وعدل إلى محاربته، وهو يرى أنّه يصطمله في ساعة من نهار، ودامت الحرب أياماً، وأرسل ابن زيري إلى خيران يستنجزه وعده، فأجابه: إنّما توقّفت حتى أرى مقدار حربنا وصبرنا، ولو كنّا ببواطننا معه، ما ثبت جمعك لنا، ونحن ننهزم عنه ونخذله في غد. ولمّا كان من الغد رأى أعلام خيران وأعلام منذر وأصحاب الثغور قد ولّت عنه، فسقط في يد المرتضى، وثبت حتى كادوا يأخذونه، واستحرّ القتل، وصرع كثير من أصحابه، فلمّا خاف القبض عليه ولّى، فوضع خيران عيوناً فلحقوه بقرب وادي آش وقد جاوز بلاد البربر وأمن على نفسه، فهجموا عليه، فقتلوه وجاؤوا برأسه إلى المرية، وقد حل بها خيران ومنذر

فتحدث الناس أنّهما اصطبحا (1) عليه سروراً بهلاكه. وبعد هذه الواقعة أذعن أهل الأندلس للبرابرة، ولم يجتمع لهم بعدها جمع ينهضون به إليهم، وضرب القاسم بن حمّود سرادق المرتضى على نهر قرطبة، وغشيه خلق من النظارة وقلوبهم تتقطّع حسرات، وأنشد عبادة ابن ماء السماء قصيدته التي أوّلها (2) : لك الخير خيرانٌ مضى لسبيله ... وأصبح أمر الله في ابن رسوله وتمكّنت (3) أمور القاسم، وولّى وعزل، وقال وفعل، إلى أن كشف وجهه في خلع طاعته ابن أخيه يحيى بن علي، وكتب من سبتة إلى أكابر البرابر بقرطبة: إن عمي أخذ ميراثي من أبي، ثم إنّه قدّم في ولاياتكم التي أخذتموها بسيوفكم العبيد والسودان، وأنا أطلب ميراثي، وأولّيكم مناصبكم، وأجعل العبيد والسودان كما هم عند الناس، فأجابوه إلى ذلكن فجمع ما عنده من المراكب وأعانه أخوه إدريس صاحب مالقة، فجاز البحر بجمع وافر، وحصل بمالقة مع أخيه، وكتب له خيران صاحب المريّة مذكراً بما أسلفه في إعانة أبيه، وأكّد المودّة فقال له أخوه إدريس: إن خيران رجل خدّاع، فقال يحيى: ونحن منخدعون فيما لا يضرنا، ثم إن يحيى أقبل إلى قرطبة واثقاً بأن البرابر معه، ففرّ القسم إلى إشبيلية في خمسة فرسان من خواصّه ليلة السبت 28 من شهر ربيع الآخر سنة 412 (4) ، وحلّ يحيى بقرطبة، فبايعه البرابر والسودان وأهل البلد يوم السبت مستهل جمادى الآخرة، وكان يحيى من النجباء، وأمّه فاطميّة، وإنّما كانت آفته العجب واصطناع السّفلة،

_ (1) ك: اصطحباً. (2) ابن عذاري 3: 130 دون نسبة، وفي الذخيرة 1/1: 396 أن القصيدة لابن الحناط قالها في أبي القاسم بن حمود يصف خيران الصقلبي وقتل المرتضى الموراني. (3) ق ط: ومشت؛ ج: وتمت. (4) ك: 413.

واشتط أكابر البرابر عليه، وطلبوا ما وعدهم من إسقاط مراتب السودان، فبذل لهم ذلك، فلم يقنعوا منه، وصاروا يفعلون معه ما يخرق الهيبة ويفرغ بيت المال، وفر السودان إلى عمّه بإشبيلية، ومن البرابر ومن جند الأندلس من احتجب عنهم يحيى وتكبر عليهم، ولم يمل إليه ملوك الطوائف، وبقي منهم كثير على الخطبة لعمّه القاسم، إلى أن اختلّت الحال بحضرة قرطبة، وأيقن يحيى أنّه متى أقام بها قبض عليه، وكان قد ولّى على سبتة أخاه إدريس، وبلغه أن أهل مالقة خاطبوا خيران وكاتبوه، فطمع خيران فيها، وفرّ يحيى في خواصه تحت الليل إلى مالقة، ولمّا بلغ القاسم فراره ركب من إشبيلية إلى قرطبة، فخطب له بها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة 413، ولم تصلح الحال للقاسم منذ وصل إلى الحضرة، ووقع الاختلاف، وكان هوى السودان معه، وهوى كثير من البرابر مع يحيى، وهو أهل قرطبة مع قائم من بني أميّة يشيعون ذكره ولا يظهر، وكثر الإرجاف بذلك، ووقع الطلب على بني أميّة فتفرّقوا في البلاد، ودخلوا في أغمار الناس، وأخفوا زيّهم، ثم إن الخلاف وقع بين البربر وأهل قرطبة، وتكاثر البلديون، وأخرجوا القاسم وبرابرته فضرب خيمة بغربيها، وقاتلهم مدّة خمسين يوماً قتالاً شديداً، وبنى القرطبيون أبواب مدينتهم، وقاتلوا القاسم من الأسوار إلى أن طال عليهم الحصار، فهدموا باباً من الأبواب وخرجوا خرجة رجل واحد وصبروا (1) فمنحهم الله تعالى الظفر، وفر السودان مع القاسم إلى إشبيلية، وفرّ البرابرة إلى يحيى وهو بمالقة، وكان فرار القاسم من ظاهر قرطبة يوم الخميس لثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان سنة 414. وكان ابنه محمد بن القاسم والياً على إشبيلية، وثقته المدبر لأمره محمد بن زيري من أكابر البرابرة، وقاضيها محمد بن عباد، فعمل القاضي لنفسه، وهو

_ (1) في ق ك: وصفروا؛ وفي بعض النسخ: وظفروا.

جد المعتمد بن عباد، وأطمع ابن زيري في التملك، فأغلق الأبواب في وجه مصطنعه وحاربه، فقتل من البرابر والسودان خلق كثير، وابن عباد يضحك على الجميع، فيئس القاسم، وقنع أن يخرجوا إليه ابنه وأصحابه ويسير عنهم، فأخرجوهم إليه، فسار بهم إلى شريش. وعندما استقرّ بها وصل إليه يحيى ابن أخيه من مالقة ومعه جمع عظيم وحاصره في المدينة عشرين يوماً كانت فيها حروب صعاب، وقتل من الفريقين خلق كثير، وأجلت الحرب عن قهر يحيى لعمّه وإسلام أهل شريش له، وفرّ سودانه، وحصل القاسم وابنه في يد يحيى، وكان قد أقسم أنّه إن حصل في يده ليقتلنّه، ولا يتركه حتى يلي الإمامة بقرطبة مرّة ثانية، فرأى التربّص في قتله حتى يرى رأيه فيه، فحدّث عنه بعض أصحابه أنّه حمله بقيد إلى مالقة، وحبسه عنده، وكان كلّما سكر وأراد قتله رغّبه ندماؤه في الإبقاء عليه لأنّه لا قدرة له على الخلاص، وكان كلّما نام رأى والده عليّاً في النوم ينهاه عن قتله، ويقول له: أخي أكبر منّي، وكان محسناً إلي في صغري ومسلّماً لي عند إمارتي، الله الله فيه، وامتدت الحال على ذلك إلى أن قتله خنقاً بعد ثلاث عشرة سنة من حين القبض عليه، لأنّه كان قد حبسه في حصن من حصون مالقة، فنمي إليه أنّه قد تحدّث مع أهل الحصن في القيام والعصيان فقال: أو بقي في رأسه حديث (1) بعد هذا العمر؟ فقتله سنة 427، وبقي أهل قرطبة بعد فرار القاسم عنها نيّفاً عن شهرين يرون رأيهم فيمن يبايعونه بالإمامة. ولمّا كان يوم الثلاثاء (2) نصف شهر رمضان سنة 414 أحضر المستظهر وسليمان بن المرتضى وأموي آخر معه، فبايعا المستظهر، وقبّلا يده بعدما كان قد كتب عقد (3) البيعة باسم سليمان بن المرتضى على ما ارتضاه الأماثل،

_ (1) ق: حدث. (2) قارن هذا بما في الذخيرة 1/1: 35 - 36. (3) ك: قبل البيعة.

فبشر اسمه، وكتب اسم المستظهر وركب إلى القصر، وحمل معه ابني عمّه المذكورين فحسبهما، وكان قد رفع جماعة من الأتباع ذهب بهم العجب كل مذهب، كأبي عامر ابن شهيد المنهمك (1) في بطالته، وأبي محمد ابن حزم المشهور بالرد على العلماء في مقالته، وابن عمّه عبد الوهاب بن حزم الغزل المترف في حالته، فأحقد بذلك مشايخ الوزراء والأكابر، وبادر المستظهر باصطناع البرابر، وأكرم مثواهم، وأحسن مأواهم، واشتغل مع ابن شهيد وابني حزم بالمباحثة في الآداب، ونظم الشعر والتمسّك بتلك الأهداب، والناس في ذلك الوقت أجهل ما يكون، وكان جماعة من أهل الشرّ في السجون يتعين أن لا يخرج منهم إنسان، فأخرج منهم شخصاً يقال له أبو عمران، وقد كان أشار بعض الوزراء عليه بعدم إخراجه، فأخرجه وخالفه في ذلك، ولم يقبل النصيحة، وفعل ما أداه إلى الفضيحة، فسعى القوم الذي خرجوا من الحبوس، على إفساد دولته وإبدال فرحه بالبوس، لما اشتغل عنهم بالأدباء والشعراء حسبما اقتضاه رأيه المعكوس، فسعوا في خلعه مع البرابر، وقتل في ذي القعدة من السنة التي بويع فيها وصار كأمس الدابر، بعد سبعة وأربعين يوماً من يوم بويع بالخلافة، وإذا أراد الله أمراً فلا يقد أحد أن يأتي خلافه، عمره ثلاث وعشرون سنة كأنّها سنة. ومن شعر المستظهر المذكور، وهو من القريض الممدوح صاحب بالبلاغة المشكور (2) : طال عمر اللّيل عندي ... مذ تولّعت بصدّي يا غزالاً نقض العه ... د ولم يوف بوعد ؟ أنسيت العهد إذ بت ... نا على مفرش ورد

_ (1) ق ط: المنهتك؛ ج: المتهتك. (2) مرت هذه الأبيات ص: 436.

واعتنقنا في وشاحٍ ... وانتظمنا نظم عقد ونجوم اللّيل تسري ... ذهباً في لازورد وكتب إليه شاعر في طرسٍ مكشوط: والطّرس مبشورٌ وفيه بشارةٌ ... ببقا الإمام الفاضل المستظهر ملك أعاد العيش غضّاً ملكه ... وكذا يكون به طوال الأعصر فأجزل صلته، وكتب في ظهر الورقة: قبلنا العذر في بشر الكتاب ... لما أحكمت في فصل الخطاب وقد قدّمنا في الباب الثالث شيئاً من هذه الأخبار، وما حصل بعد ذلك بقرطبة إلى أن تولّى الأمر ابن جهور في صورة الوزارة، ثم ابنه، إلى أن أخذ قرطبة منه المعتمد بن عباد، حسبما ذكر في أخباره. ثم آل الأمر بعد ذلك كلّه إلى استيلاء ملوك العدوة من الملثّمين والمرحّدين، على قرطبة، إلى أن تسلّمها النصارى، أعادها الله تعالى للإسلام، كما يذكر في الباب الثامن. وقال صاحب " مناهج الفكر " في ذكر قرطبة، ما ملخصه: فأمّا ما اشتمل عليه غرب الجزيرة، من البلاد الخطيرة، فمنها قرطبة، وكانت مقر الملك، ودار الإمارة، وأمّ ما عداها من البلاد، منذ افتتحها المسلمون سنة 92 زمن الوليد بن عبد الملك إلى أن خرجت عن أيديهم، وتنقلت في أيدي ملوك المسلمين إلى أن وصلت إلى الناصر عبد الرحمن، فبنى في تجاهها مدينة سمّاها الزهراء، يجري بينهما نهر عظيم، انتهى. [؟؟ استطراد في وصف المباني العامرة] واعلم أن المباني دالة على عظيم قدر بانيها، كما ذكرناه في كلام الناصر

الذي طابت له من الزهراء مجانيها، ولم يزل البلغاء يصفون المباني، بأحسن الألفاظ والمعاني، ورأينا أن نذكر هنا بعض ذلك، زيادة في توسيع المسالك، فمن ذلك قول ابن حمديس الصقلي (1) يصف داراً (2) بناها المعتمد على الله (3) : ويا حبّذا دار قضى الله أنّها ... يجدّد فيها كلّ عزّ ولا يبلى (4) مقدّسة لو أن موسى كليمه ... مشى قدماً في أرضها خلع النّعلا وما هي إلا خطّة الملك الذي ... يخطّ إليه كلّ ذي أملٍ رجلا إذا فتحت أبوابه خلت أنّها ... تقول بترحيبٍ لداخلها أهلا وقد نقلت صنّاعها من صفاته ... إليها أفانيناً فأحسنت النّقلا فمن صدره رحباً ومن نوره سناً ... ومن صيته فرعاً ومن حلمه أصلا فأعلت به في رتبة الملك نادياً ... وقلّ له فوق السّماكين أن يعلى نسيت به إيوان كسرى لأنّني ... أراه له مولىً من الحسن لا مثلا كأنّ سليمان بن داود لم تبح ... مخافته للجنّ في صنعه مهلا ترى الشمس فيه ليقةً تستمدّها ... أكفٌّ أقامت من تصاويرها شكلا لها حركاتٌ أودعت في سكونها ... فما تبعت في نقلهن يدّ رجلا ولمّا عشينا من توقّد نورها ... تخذنا سناه في نواظرنا كحلا وقال من أخرى يصف دارا بناها المنصور بن أعلى الناس ببجاية (5) :

_ (1) أبو بكر عبد الجبار بن محمد بن حمديس الصقلي، هاجر من بلده إلى الأندلس وأصبح من مداح المعتمد بن عباد، إلى أن عزل عن ملكه (484) فغادر الأندلس إلى المغرب وظل متنقلاً يمدح ملوكها إلى أن توفي سنة 527 (انظر مقدمة ديوانه، ط. صادر - بيروت 1960) . (2) ك: في دار؛ ق: يمدح داراً. (3) المقتطفات (الورقة: 29) وديوان ابن حمديس: 278. (4) رواية الديوان: ويا حبذا دار يد الله مسحت ... عليها بتجديد البقاء فما تبلى (5) المقتطفات (الورقة: 30) وديوان ابن حمديس: 545 نقلاً عن النفح ونهاية الأرب ومطالع البدور.

اعمر بقصر الملك ناديك الذي ... أضحى بمجدك بيته معمورا قصرٌ لو أنّك قد كحلت بنوره ... أعمى لعاد إلى المقام بصيرا واشتقّ من معنى الحياة (1) نسيمه ... فيكاد يحدث للعظام (2) نشورا نسي الصبيح مع المليح (3) بذكره ... وسما ففاق خورنقاً وسديرا ولو أنّ بالإيوان قوبل حسنه ... ما كان شيئاً عنده مذكورا أعيت مصانعه على الفرس الألى ... رفعوا البناء وأحكموا التّدبيرا ومضت على الروم الدهور وما بنوا ... لملوكهم شبهاً له ونظيرا أذكرتنا الفردوس حين أريتنا ... غرفاً رفعت بناءها وقصورا فالمحسنون تزيّدوا أعمالهم ... ورجوا بذلك جنّةً وحريرا والمذنبون هدوا الصّراط وكفّرت ... حسناتهم لذنوبهم تكفيرا فلكٌ من الأفلاك إلا أنّه ... حقر البدور فأطلع المنصورا أبصرته فرأيت أبدع منظرٍ ... ثمّ انثنيت بناظري مسحورا وظننت أنّي حالمٌ في جنّةٍ ... لمّا رأيت الملك فيه كبيرا وإذا الولائد فتّحت أبوابه ... جعلت ترحّب بالعفاة صريرا عضّت على حلقاتهنّ ضراغمٌ ... فغرت بها أفواهها تكشيرا (4) فكأنهّا لبدت لتصهر عندها ... من لم يكن بدخوله مأمورا تجري الخواطر مطلقات أعنّةٍ ... فيه فتكبو عن مداه قصورا بمرخّم الساحات تحسب أنّه ... فرش المها وتوشّح الكافورا ومحصّب بالدّرّ تحسب تربه ... مسكاً تضوّع نشره وعبيرا تستخلف الأبصار منه إذا أتى (5) ... صبحاً على غسق (6) الظلام منيرا

_ (1) ك: الجنان. (2) ك: بالعظام. (3) ك: الفصيح. (4) ك: تكبيرا. (5) ق ج ط: تستخلف الاصباح منه إذا انقضى. (6) ق ج ط: عنق.

ثم ذكر بركة فيه عليها أشجار من ذهب وفضّة ترمي فروعها المياه، وتفنن فذكر أسوداً على حافاتها قاذفة بالمياه أيضاً، فقال (1) : وضراغم سكنت عرين رياسةٍ ... تركت خرير الماء فيه زئيرا فكأنّما غشّى النّضار جسومها ... وأذاب في أفواهها البلّورا أسدٌ كأنّ سكونها متحرّك ... في النّفس لو وجدت هناك مثيرا وتذكّرت فتكاتها فكأنّما ... أقعت على أدبارها لتثورا وتخالها والشّمس تجلو لونها ... ناراً وألسنها اللّواحس نورا فكأنّما سلّت سوف جداول ... ذابت بلا ناءٍ فعدن غديرا وكأنّما نسج النّسيم لمائه ... درعاً فقدّر سردها تقديرا وبديعة الثمرات تعبر نحوها ... عيناي بحر عجائبٍ مسجورا شجريّة ذهبيّة نزعت إلى ... سحرٍ يؤثر في النّهى تأثيرا قد صولجت أغصانها فكأنّما ... قنصت بهنّ (2) من الفضاء طيورا وكأنّما تأبى لواقع (3) طيرها ... أن تستقلّ بنهضها وتطيرا من كلّ واقعةٍ ترى منقارها ... ماءً كسلسال اللّجين نميرا خرس تعدّ من الفصاح فإن شدت ... جعلت تغرّد بالمياه صفيرا وتريك في الصّهريج موقع قطرها ... فوق الزّبرجد لؤلؤاً منثورا ضحكت محاسنه إليك كأنّما ... جعلت لها زهر النجوم ثغورا ومصفّح الأبواب تبراً نظّروا ... بالنقش فوق شكوله (4) تنظيرا تبدو مسامير النّضار كما علت ... تلك النّهود من الحسان صدورا (5)

_ (1) المقتطفات (الورقة: 30) وديوان ابن حمديس: 547. (2) ق ج ط: قد صوبحت ... قبضت بهن. (3) ك: لوقع. (4) ق ط ج: بين شكوله. (5) ق ك ج ط: من الجنان صدوراً.

خلعت عليه غلائلاً ورسيةً (1) ... شمسٌ تردّ الطّرف عنه حسيرا وإذا نظرت إلى غرائب سقفه ... أبصرت روضاً في السماء نضيرا وعجبت من خطّاف عسجده التي ... حامت لتبني في ذراه وكورا وضعت به صنّاعه (2) أقلامها ... فأرتك كلّ طريدةٍ تصويرا وكأنّما للشمس فيه ليقةٌ ... مشقوا بها التزويق والتّشجيرا وكأنّما باللاّزورد (3) مخرّمٌ ... بالخطّ في ورق السّماء سطورا وكأنّما وشّوا عليه ملاءة ... تركوا مكان وشاحها مقصورا ثم مدح المنصور بعد ذلك، وختم القصيدة بقوله: يا مالك الأرض الذي أضحى له ... ملك السماء على العداة نصيرا كم من قصورٍ للملوك تقدّمت ... واستوجبت بقصورك (4) التأخيرا فعمرتها وملكت كلّ رياسةٍ ... منها ودمّرت العدا تدميرا قلت: لم أر لهذه القصيدة من نظير، في معناها اليانع النّضير، ولفظها العذب النّمير، الذي شمّر فيه قائلها عن ساعد الإجادة أيّ تشمير، غير أن فيها عندي عيباً واحداً، وهو ختمها بلفظ التدمير، وعلى كل حال فالحسن والإحسان، يقادان في أرسان، لعبد الجبار بن حمديس المذكور ذي المقاصد الحسان، وخصوصاً في وصف المباني والبرك، فما أبقى لسواه في ذلك حسناً ولا ترك. ومن ذلك قوله في وصف بركة تجري إليها المياه من شاذروان من أفواه

_ (1) ق: موشية. (2) ك: صناعها. (3) ك: اللازورد فيه. (4) ق: لقصورك.

طيور وزرافات وأسود، وكل ذلك في قصر أطنب في وصفه في قصيدة طويلة (1) : والماء منه سبائكٌ فضيّةٌ (2) ... ذابت على دوحات (3) شاذروان وكأنّما سيفٌ هناك مشطّبٌ ألقته يوم الحرب كفّ جبان كم شاخصٍ فيه يطيل تعجّباً ... من دوحة نبتت (4) من العقيان عجباً له تسقي الرياض ينابعاً ... نبعت من الثمرات والأغصان خصّت بطائرة على فننٍ لها ... حسنت فأفرد حسنها من ثاني قسّ الطيور الخاشعات بلاغةً ... وفصاحةً من منطقٍ وبيان فإذا أتيح الكلام تكلّمت ... بخرير ماء دائم الهملان وكأنّ صانعها استبدّ بصنعةٍ ... فخر الجماد بها على الحيوان أوفت على حوضٍ لها فكأنّها ... منها على العجب العجاب رواني فكأنّها ظنّت حلاوة مائها ... شهداً فذاقته بكلّ لسان وزرافة في الجوف من أنبوبها ... ماء يريك الجري في الطيران مركوزة كالرمح حيث ترى له ... من طعنه الخلق انعطاف سنان وكأنّما ترمي السماء ببندقٍ ... مستنبطٍ من لؤلؤ وجمان لو عاد ذاك الماء نفطاً أحرقت ... في الجوّ منه قميص كلّ عنان في بركةٍ قامت على حافاتها ... أسدٌ تذلّ لعزّة السلطان نزعت إلى ظلم النفوس نفوسها ... فلذلك انتزعت من الأبدان وكأنّ برد الماء منها مطفئ ... ناراً مضرّمةً من العدوان وكأنّما الحيّات من أفواهها ... يطرحن أنفسهنّ في الغدران وكأنّما الحيتان إذ لم تخشها ... أخذت من المنصور عقد أمان

_ (1) المقتطات (الورقة: 32) وديوان ابن حمديس: 495، ونهاية الأرب. (2) ك: من فضة. (3) ك: درجات. (4) ق ج ط: بنيت.

وهاتان القصيدتان لابن حمديس - كما في المناهج - مع طولهما تدلان على الإبداع الذي ابتكره، والاختراع الذي ما ولج سمع أحدٍ من الفضلاء إلا شكره (1) . وقال أبو الصّلت أميّة بن عبد العزيز الأندلسي (2) يصف قصراً بمصر يسمى منزل العز بناه حسن بن علي [بن يحيى] بن تميم بن المعزّ العبيدي (3) : منزل العزّ كاسمه معناه ... لا عدا العزّ من به سمّاه منزلٌ ودّت المنازل في أع ... لى ذراه لو صيّرت إيّاه فأجل فيه لحظ عينيك تبصر ... أيّ حسنٍ دون القصور حواه سال في سقفه النّضار ولكن ... جمدت في قراره الأمواه وبأرجائه مجال طرادٍ ... ليس تنفكّ من وغىً خيلاه تبصر الفارس المدجّج فيه ... ليس تدمى من الطعان قناه وترى النابل المواصل للنز ... ع بعيداً من قرنه مرماه وصفوفاً من الوحوش وطير ال ... جوّ كلٌّ مستحسنٌ مرآه سكناتٌ تخالها حركاتٍ ... واختلافٌ كأنّه إشباه

_ (1) زاد في ك: لما أسكره. (2) أبو الصلت أمية بن عبد العزيز: ولد بدانية سنة 460 ثم رحل إلى الإسكندرية أيام الخليفة الفاطمي المستنصر الله أبي تميم معد، وسجن بمصر مدة، ثم عاد إلى المغرب فاتصل بيحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي؛ وتوفي (سنة 529) وكان أبو الصلت طبيباً شاعراً ومن مؤلفاته كتاب الحديقة، والرسالة المصرية (وقد نشرت هذه بتحقيق عبد السلام هارون في سلسلة نوادر المخطوطاتا، القاهرة 1951) . انظر ترجمته في ابن أبي أصيبعة 2: 52 ومعجم الأدباء 7: 52 وتحفة القادم ص: 3 ووفيات الأعيان 1: 220 وتاريخ الحكماء: 80 والمغرب 1: 256. (3) كلمة العبيدي هنا مضللة لأن " حسن بن علي بن تميم بن المعز " أحد سلاطين بني زيري بالقيروان وكان المعز عبيدياً التبعية أي يدين للعبيديين ولكنه تنكر لهم سنة 441 وعاد إلى مذهب أهل السنة؛ وحسن لا يبني قصراً بمصر، ولابد من أن يكون المقري قد وهم فذكر قصراً بناه أحد العبيدين بمصر أو بناه حسن بالمهدية. أما الشاعر تميم ن المعز العبيدي فكان عقيماً (الحلة 1: 291) .

كمحّيا الحبيب حرفاً بحرفٍ ... ما تعدّى صفاته إذ حكاه ورده وجنتاه، نرجسه الفت ... ان عيناه، آسه عارضاه وكأنّ الكافور والمسك في الطي ... ب وفي اللون صبحه ومساه منظرٌ يبعث السرور ومرأى ... يذكر المرء طيب عصر صباه وقال أبو الصّلت أميّة الأندلسي المذكور يذكر بناء بناه عليّ (1) بن تميم ابن المعزّ العبيدي: لله مجلسك المنيف قبابه ... بموطّدٍ فوق السّماك (2) مؤسّس موفٍ على حبك المجرّة تلتقي ... فيه الجواري بالجواري الكنّس تتقابل الأنوار من جنباته ... فالليل فيه كالنّهار المشمس عطفت حناياه دوين سمائه ... عطف الأهلّة والحواجب والقسي واستشرفت عمد الرخام وظوهرت ... بأجلّ من زهر الربيع وأنفس فهواؤه من كلّ قدّ أهيفٍ ... وقراره من كلّ خدٍّ أملس فلكٌ تحيّر فيه كلّ منجّمٍ ... وأقرّ بالتقصير كلّ مهندس فبدا للحظ العين أحسن منظرٍ ... وغدا لطيب العيش خير (3) معرّس فاطلع به قمراً إذا ما أطلعت ... شمس الخدور عليك شمس الأكؤس فالناس أجمع دون قدرك رتبةً ... والأرض أجمع دون هذا المجلس ويعجبني قول أبي الصّلت أميّة المذكور يصف حال زيادة النيل ونقصانه: ولله مجرى النيل منها إذا الصّبا ... أرتنا به من مرّها عسكراً مجرا إذا زاد يحكي الورد لوناً وإن صفا ... حكى ماءه لوناً ولم يعده نشرا (4)

_ (1) تحفة القادم: يحيى بن تميم. (2) ق ج ط: السماء. (3) ك: طيب. (4) ك: ولم يحكه مرا.

وقال رحمه الله تعالى يصف الرصد الذي بظاهر مصر: يا نزهة الرصد اللائي قد اشتملت ... من كلّ شيء حلا في جانب الوادي (1) فذا غديرٌ، وذا روض، وذا جبل ... والضبّ والنّون والملاّح والحادي وهو مأخوذ من قول الأول يصف قصر أنس بالبصرة (2) : زر وادي القصر، نعم القصر والوادي ... لا بدّ من زورة من غير ميعاد زره فليس له ندٌّ يشاكله ... من منزلٍ حاضرٍ إن شئت أو بادي تلقى به السّفن والظلمان حاضرةً ... والضبّ والنون والملاّح والحدي وقال رحمه الله تعالى يذكر الهرمين (3) : بعيشك هل أبصرت أحسن منظراً ... على طول ما عاينت من هرمي مصر أنافا بأعنان (4) السّماء، وأشرفا ... على الجوّ إشراف السّماك أو النّسر (5) وقد وافيا نشزاً من الأرض عالياً ... كأنهما ثديان (6) قاما على صدر وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى في الباب الخامس. وعلى ذكر الأنهار والبرك فما أحسن قول بعض الأندلسيين يصف بركة عليها عدّة فوّارات (7) : غضبت مجاريها فأظهر غيظها ... ما في حشاها من خفيّ مضمر

_ (1) ق ط: النادي. (2) الشعر لابن أبي عيينة المهلبي كما في الأغاني 20: 37 (دار الثقافة) ومعجم البلدان (قصر عيسى) مع بعض اختلاف في الرواية. (3) الأبيات في مسالك الأبصار 1: 237 وبدائع البدائه: 136 (ط. بولاق) . (4) ك: بأكناف. (5) ك: على النسر. (6) ك: نهدان. (7) المقتطفات (الورقة: 33) .

وكأنّ نبع الماء من جنباتها ... والعين تنظر منه أحسن منظر قضبٌ من البلّور أثمر فرعها ... لمّا انتهت باللؤلؤ المتحدّر وقال ابن صارة الأندلسي (1) يصف ماء بالرقة والصفاء (2) : والنّهر قد رقّت غلالة خصره ... وعليه من صبغ الأصيل طراز تترقرق الأمواج فيه كأنّها ... عكن الخصور تهزها الأعجاز وما أحسن قول بعض الأدباء ولم يحضرني الآن اسمه (3) : والنّهر مكسوٌّ غلالة فضّةٍ ... فإذا جرى سيلاً فثوب نضار وإذا استقام رأيت صفحة منصلٍ ... وإذا استدار رأيت عطف سوار وقال ابن حمديس المغربي يصف نهراً بالصفاء (4) : ومطّرد الأمواج يصقل متنه ... صباً أعلنت للعين ما في ضميره جريح بأطراف الحصى كلّما جرى ... عليها شكا أوجاعه بخريره وهذا النهج متّسع، ولم نطل السير في هذه المهامه، وإنّما ذكرنا بعض كلام المغاربة ليتنبه به منتقصهم من سنة أوهامه، ولأن في أمرها عبرة لمن عقل، إذا أصدأ مرآة حسنها ولطالما كان لمتنها صقل.

_ (1) ابن صارة الأندلسي: أبو محمد عبد الله بن صارة الشنتريني (ويكتب أيضاً: سارة بالسين) سكن إشبيلية وتعيش فيها بالوراقة وتجول في بلاد الأندلس مادحاً (توفي سنة 517) . انظر ترجمته في الذخيرة، القسم الثالث: 323 والمغرب 1: 419 والقلائد: 260 والتكملة: 816 ومسالك الأبصار 11: 383 وأخبار وتراجم أندلسية: 15؛ وهذه الأبيات في المتطفات (الورقة: 33) . (2) زاد في ك: يجري على الصفا. (3) المقتطفات (الورقة: 33) . (4) ديوان ابن حمديس: 186 والمقتطفات (الورقة: 33) .

[البكاء على خراب العمران] وقد وقفت على كلام لصاحب المناهج في هذا المعنى فأحببت ذكره ملخصاً، وهو: ونلحق بذكر المنازل التي راق منظرها، وفاق مخبرها، وارتفع بناؤها، واتسع فناؤها، طرفاً من الكلام على ما عفاه الدهر من رسومها، ومحاه من محاسن صور كانت أرواحاً لجسومها. وصف أعرابي محلة قومٍ ارتحلوا عنها فقال نثراً: ارتحلت عنها ربّات الخدور، وأقامت بها أثافيّ القدور، ولقد كان أهلها يعفون آثار الرياح فعفت الرياح آثارهم، وذهبت بأبدانهم وأبقت أخبارهم، والعهد قريب، واللقاء بعيد. وقال عمر بن أبي ربيعة فأحسن (1) : يا دار أمسى دارساً رسمها ... وحشاً قفاراً ما بها آهل قد جرّت الريح بها ذيلها ... واستنّ في أطلالها الوابل ومن كلام الفتح بن خاقان، في قلائد العقيان، يذكر آل عبّاد من فصل أكثر فيه التفجّع، وأطال به التوجّع (2) : والغصون (3) تختال في أدواحها، والأزاهر يحيي ميت الصبابة شذا أرواحها (4) ، وأطيار الرياض (5) قد أشرفت عليهم (6) كثكالى ينحن على خرابها، وانقراض أطرابها، والوهي بمشيدها لاعب، وعلى كل جدار منها غراب ناعب، وقد محت الحوادث ضياءها، وقلّصت ظلالها وأفياءها، ولطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت، وفاحت من

_ (1) ديوان عمر: 301. (2) قلائد العقيان: 10. (3) ق ك ج ط: والقصور. (4) القلائد: وتتثنى في أكف أرواحها. (5) القلائد: وآثار الديار. (6) قد أشرفت عليهم: زيادة من القلائد.

شذاهم وأرجت (1) ، أيّام نزلوا خلالها، وتفيّأوا ظلالها، وعمروا حدائقها وجنّاتها، ونبّهوا الآمال من سناتها، وراعوا الليوث في آجامها، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها، فأصبحت ولها بالتداعي (2) تلفّع واعتجار، ولم يبق من آثارها إلاّ نؤي وأحجاء، قد هوت قبابها، وهرم شبابها، وقد يلين الحديد، ويبلى على طيّه الجديد. وقال أبو صخر القرطبي يذكر ذلك من أبيات ينعاهم بها: ديار عليها من بشاشة أهلها ... بقايا تسرّ النفس أنساً ومنظرا ربوع كساها المزن من خلع الحيا ... بروداً وحلاّها من النّور جوهرا تسرّك طوراً ثمّ تشجيك تارةً ... فترتاح تأنيساً وتشجى تذكّرا ومن كلام أبي الحسن القاشاني يصف نادي رئيسٍ خلا من ازدحام الملا، وعوّضه الزمان من تواصل أحبابه هجراً وقلى: " قد كان منزله مألف الأضياف، ومأنس الأشراف، ومنتجع الرّكب، ومقصد الوفد، فاستبدل بالأنس وحشة، وبالضياء ظلمة، واعتاض من تزاحم المواكب، تلاطم النّوادب، ومن ضجيج النداء والصّهيل، عجيج البكاء والعويل. ومن رسالة لابن الأثير الجزريّ يصف دمنة دارٍ (3) لعبت بها أيدي الزمن، وفرقت بين المسكن والسكن: كانت مقاصير جنّة، فأصبحت وهي ملاعب جنّة، وعميت أخبار قطّنها، وآثار أوطانها، حتى شابهت إحداهما في الخفاء، والأخرى في العفاء، وكنت أظن أنّها لا تسقى بعدهم بغمام، ولا يرفع عنها جلباب ظلام، غير أن السحاب بكاهم فأجرى بها هوامع دموعه، واللّيل شقّ عليهم جيوبه فظهر الصباح من خلال صدوعه ".

_ (1) ك: وتأرجت. (2) بالتداعي: زيادة من القلائد. (3) دار: سقطت من ك.

وقد لمح في تعض كلامه قول الشريف (1) من أبيات يصف فيها ما كان في الحيرة من منازل النعمان بن المنذر (2) : ما زلت أطّرق المنازل باللّوى ... حتى نزلت منازل النّعمان بالحيرة البيضاء حيث تقابلت ... شمّ العماد عريضة الأعطان شهدت بفضل الرّافعين قبابها ... ويبين بالبنيان فضل الباني ما ينفع الماضين أن بقيت لهم ... خططٌ معمّرةٌ بعمرٍ فاني يقول فيها: ولقد رأيت بدير هندٍ منزلاً ... ألماً من الضّرّاء والحدثان يغضي كمستمع الهوان تغيّبت ... أنصاره وخلا من الأعوان بالي المعالم أطرقت شرفاته ... إطراق منجذب القرينة عاني أمقاصر الغزلان غيّرك البلى ... حتى غدوت مرابض الغزلان وملاعب الإنس الجميع طوى الرّدى ... منهم فصرت ملاعب الجنّان ومنها: مسكيّة النّفحات تحسب تربها ... برد الخليع معطّر الأردان وكأنّما نسي التّجار لطيمةً ... جرت الرّياح بها على القيعان (3) ماء كجيب الدّرع يصقله الصّبا ... ويفي بدوحته (4) النّسيم الواني زفر الزّمان عليهم فتفرّقوا ... وجلوا عن الأوطار والأوطان

_ (1) يعني الشريف الرضي. (2) ديوان الشريف 2: 468. (3) ق ك والديوان: العقيان. (4) الديوان: ونقا يدرجه.

وقال أبو إسحاق الصابي، وتوارد مع الشريف الرضي في بالمعنى والقافية، يصف قصر روحٍ بالبصرة (1) : أحبب إليّ بقصر روحٍ منزلاً ... شهدت بنيته بفضل الباني سورٌ علا وتمنّعت شرفاته ... فكأنّ إحداهنّ هضب أبان وكأنّما يشكو إلى زوّاره ... بين الخليط وفرقة الجيران وكأنّما يبدي لهم من نفسه ... إطراق محزون الحشا حرّان ولأحمد بن فرج الإلبيري من الأبيات: سالت بها فما ردّت جواباً ... عليك، وكيف تخبرك الطّلول؟ ومن سفه سؤالك رسم دارٍ ... مضى لعفائه زمنٌ طويل فإن تك أصبحت قفراً خلاء ... لعينك في مغانيها همول فقدماً قد نعمت قرير عينٍ ... بها وبربعها الرشأ الكحيل وقال أبو عبد الله بن الحنّاط (2) الأندلسي الأعمى: لو كنت تعلم ما بالقلب من نار ... لم توقد النار بالهنديّ والغار يا دار علوة قد هيّجت لي شجناً ... وزدتني حرقاً، حيّيت من دار كم بتّ فيك على اللذّات معتكفاً ... واللّيل مدّرعٌ ثوباً من القار كأنّه راهبٌ في المسح ملتحفٌ ... شدّ المجدّ له وسطاً بزنّار يدير فيه كؤوس الراح ذو حورٍ ... يدير من طرفه (3) ألحظ سحّار ولا مزيد في التفجّع على الديار والتوجع للدمن والآثار، على قول البحتري من قصيدة يرثي بها المتوكّل (4) :

_ (1) أبيات الصابي في اليتيمة 2: 269. (2) في الأصول: ابن الخياط. (3) ك: من لحظه. (4) ديوان البحتري: 1045 (القصيدة رقم: 413) .

محلّ على القاطول أخلق داثره ... وعادت صروف الدهر جيشاً تغاوره (1) كأن الصّبا توفي نذوراً إذا انبرت ... تراوحه أذيالها وتباكره وربّ زمانٍ ناعمٍ ثمّ عهده ... ترقّ حواشيه ويونق ناضره تغيّر حسن الجعفريّ وأنسه ... وقوّض بادي الجعفريّ وحاضره (2) تحمّل عنه ساكنوه فجاءة ... فعادت سواء دوره ومقابره إذا نحن زرناه أجدّ لنا الأسى ... وقد كان قبل اليوم يبهج زائره ولم أنس وحش القصر إذ ريع سربه ... وإذ ذعرت أطلاؤه وجآذره وإذ صيح فيه بالرحيل فهتّكت ... على عجلٍ أستاره وستائره وأوحشه (3) حتى كأن لم يكن (4) به ... أنيسٌ ولم تحسن لعينٍ مناظره كأن لم تبت (5) في الخلافة طلقة ... بشاشتها والملك يشرق زاهره ولم تجمع الدّنيا إليه بهاءها ... وبهجتها والعيش غضٌّ مكاسره فأين الحجاب الصعب حيث تمنّعت ... بهيبتها أبوابه ومقاصره وأين عميد الناس في كل نوبة ... تنوب وناهي الدهر فيهم وآمره وعلى قول أبي إسحاق بن خفاجة الأندلسي (6) : ومرتبعٍ حططت الرحل فيه ... بحيث الظّلّ والماء القراح تخرّم حسن منظره مليكٌ ... تخرّم ملكه القدر المتاح فجرية ماء جدوله بكاء ... عليه، وشدو طائره نواح وهذا النوع من البكاء على الدمن، والتأسف على ما فعلت بها أيدي الزمن،

_ (1) القاطول: نهر كان في موضع سامرا قبل عمرانها؛ وفي ق ك ج ط: تغادره. (2) الجعفري: قصر للمتوكل. (3) الديوان: ووحشه. (4) ق ط ج: لم يقم. (5) ق ك: تبن. (6) ديوان ابن خفاجة: 137، يقولها في صفة مصنع جميل خلع سلطانه.

كثير جدّاً، لا يعرف الباحث عنه له حدّاً، وذلك لشدة ولوع النفوس بذكر أحبابها، وحنينها إلى أماكنها التي هي مواطن أطرابها، ولهذا اقتصرنا على هذه النبذة القليلة، وجعلناها نغبة (1) يشفي المشوق بها غليله، وقد كره بعض العقلاء التأسف على الديار لعلمهم أنّه لا يجدي، ولا يدفع عادية الدهر الخؤون ولا يعدي، ونهوا عنه لما فيه من تجديد المصاب، المجرّع لصاحبه الصاب والأوصاب. قال أبو عمر بن عبد البر: عفت المنازل غير أرسم دمنة ... حيّيتها من دمنةٍ ورسوم كم ذا الوقوف ولم تقف في منسكٍ ... كم ذا الطواف ولم تطف بحريم فكل الديار إلى الجنائب والصّبا ... ودع القفار إلى الصدى والبوم انتهى كلامه رحمه الله تعالى بأكثر لفظه مع بعض اختصار. رجع إلى قرطبة - فنقول: [رسائل للسان الدين] وقد ألمّ لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى بذكر قرطبة وبعض أوصافها في كتاب له كتبه على لسان سلطانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد ذكرناه بجملته في الباب الخامس من القسم الثاني فليراجع ثمّة، ونص محلّ الحاجة منه هنا: ثم كان الغزو إلى أم البلاد، ومثوى الطارف والتّلاد، قرطبة، وما قرطبة؟ المدينة التي على عمل أهلها في القديم بهذا الإقليم كان العمل، والكرسيّ الذي بعصاه رعي الهمل، والمصر الذي له في خطّة المعمور الناقة والجمل (2) ، والأفق الذي هو لشمس الخلافة العبشمية الحمل، فخيم الإسلام

_ (1) ك: نبعة؛ هامش ج: بلغة. (2) ك: والمصر والمعمور الذي ... الخ.

في عقوتها (1) المستباحة، وأجاز نهرها المعيي على (2) السباحة، وعمّ دوحها الأشب بواراً، وأدار المحلاّت بسورها سواراً، وأخذ بمخنّقها حصاراً، وأعمل النصر بشجرة أصلها اجتناء ما شاء واهتصاراً، وجدّل من أبطالها من لم يرض جهاراً، ورفعت الأعلام إعلاماً بعزّ الإسلام وإظهاراً، فلولا استهلال الغوادي، وأن أتى الوادي، لأفضت إلى فتح الفتوح تلك المبادي، ولقضى تفثه العاكف البادي. انتهى. وممّا كتب به لسان الدين - رحمه الله تعالى - في وصف هذه الغزوة لسلطان بني مرين على لسان صاحب الأندلس، ما صورته: المقام الذي نطالعه بأخبار الجهاد، ونهدي إليه عوالي العوالي صحيحة الإسناد، ونبشره بأخبار الفتح البعيد الآماد، ونسأل الله تعالى له توالي الإسعاف ودوام الإسعاد والإمداد (3) ، ونرتقب من صنع الله تعالى على يديه تكييفاً يخرق حجاب المعتاد، وامتعاضاً يطلع بآفاق البلاد نجوم غرر الجياد، ويفتح أبوا بالفتوح بأقاليد السيوف الحداد، وينبئ عن مكارم من سلف من الآباء الكرام والأجداد، مقام محل أخينا الذي نستفتح له بالفتح والظهور، ونهدي إلى مجده لما نعلم من فضل نيّته وحسن قصده لطائف السرور، ونستظهر بملكه المؤيد (4) المؤمّل ومجده المشهور، ونتوعد منهما العدوّ بالحبيب المذخور والولي المنصور، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى عالي القدر، قرير العين منشرح الصدر، ولا زال حديث فخره سائراً مسير الشمس والبدر، عظّم سلطانه الخليق بالتعظيم، الواثق منه بالذّخر الكريم، المثني على

_ (1) ك: في عفرتها؛ ق ط: بعقرتها، والعقوة - بالواو -: الساحة. (2) ك: المغني عن. (3) ك: توالي الأسعار والأمداد؛ وسقطت " الأمداد " من ط ج. (4) المؤيد: زيادة في ك.

مجده الصّميم وفضله العميم، أمير المسلمين عبد الله الغني بالله محمد ابن أمير المسلمين أبي الحجّاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر: سلام كريم، برّ عميم، يخص مقامكم الأعلى، وأخوّتكم الفضلى، ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله ربّ العباد، وملهم الرشاد، ومكيّف الإسعاف والإسعاد، الولي النصير الذي نلقي إلى التوكّل عليه مقاليد الاعتماد، ونمد إلى إنجاده (1) أيدي الاعتداد، ونرفع إليه أكفّ الاستمداد، ونلخص لوجهه الكريم عمل الجهاد، فنتعرّف عوارف الفضل المزداد، ونجتني ثمار النصر من أغصان القنا الميّاد، ونجتلي وجوه الصنع الوسيم أبهر من وجه الصباح الباد، ونظفر بالنعيم العاجل في الدنيا والنعيم الآجل يوم قيام الأشهاد، ونتفيّأ ظلال الجنّة من تحت أوراق السيوف الحداد، والصلاة على سيّدنا ومولانا محمّد رسوله النبيّ الهاد، رسول الملحمة المؤيّد (2) بالملائكة الشداد، ونبيّ الرحمة الهامية العهاد، أكرم الخلق بين الرائح والغائد، ذي اللواء المعقود والحوض المورود والشفاعة في يوم التّناد، الذي بجاهه نجدع أنوف الآساد يوم الجلاد، وببكرته ننال أقصى الأمل والمراد، وفي مرضاته نصل أسباب الوداد، فنعود بالتّجر الرابح من مرضاة رب العباد، ونستولي من ميدان السعادة المعادة على الآماد، والرضى عن آله وصحبه وأنصاره وحزبه الكرماء الأمجاد، دعائم الدين من بعده وهداة العباد، أنجاد الأنجاد وآساد الآساد، الذين ظاهروه في حياته بالحلوم الراجحة الأطواد، والبسالة التي لا تنال بالعدد في سبيل الله والأعداد، حتى بوّأوا الإسلام في القواعد الشهيرة والبلاد، وأرغموا أنوف أهل الجحد والإلحاد، فأصبح الدين رفيع العماد، منصور العساكر والأجناد، مستصحب العزّ في الإصدار والإيراد، والدعاء لمقامكم الأعلى بالسّعد الذي يغني عن اختيار الطوالع وتقويم الميلاد، والنصر الذي تشرق أنباؤه في

_ (1) ك: انجاده وامداده. (2) ط: المؤيدة.

جنح ليل المداد، والصنع الذي شرع له أبواب التوفيق والسّداد، من حمراء غرناطة حرسها الله واليسر وثيق المهاد (1) ، والخير واضح الأشهاد، والحمد لله في المبدإ والمعاد، والشكر له على آلائه المتصلة التّرداد، ومقامكم الذخر الكافي العتاد، والمردد المتكفّل بالإنجاد، وإلى هذا وصل الله سعدكم، وحرس مجدكم، ووالى نصركم وعضّدكم (2) وبلغكم من فضله العمين أملكم وقصدكم، فإنّنا نؤثر تعريفكم بتافه المتزايدات (3) ، ونورد عليكم أشتات (4) الأحوال المتجدّدات، إقامةً لرسم الخلوص في التعريف بما قلّ، ومودة خالصة في الله، عزّ وجلّ، فكيف إذا كان التعريف بما تهتز منابر الإسلام ارتياحاً لوروده، وتنشرح الصدور منه لمواقع فضل الله وجوده، والمكيّفات البديعة الصفات في وجوده، وهو أنّنا قدّمنا إعلامكم بما نويناه من غزو مدينة قرطبة أمّ البلاد الكافرة، ومقر الحمية المشهودة (5) والخيرات الوافرة، والقطر الذي عهده بإلمام الإسلام متقادم، والركن الذي لا يتوقّع صدمة صادم، وقد اشتمل سورها من زعماء ملّة الصليب على كل رئيس بئيس (6) ، وهزبر ootnote>7، وذي مكر وتلبيس، ومن له سمة تذيع مكانه وتشيعه، وأباع على المنشط والمكره تطيعه، فاستدعينا المسلمين من أقاصي البلاد، وأذعنا في الجهات نفير الجهاد، وتقدّمنا إلى الناس بسعة الأزواد، وأعطينا الحركة التي تخلف المسلمون فيها وراءهم جمهور الكفر من الأقطار والأعداد حقّها من الاستعداد، وأفضنا (8) العطاء والاستلحاق والاستركاب في أهل الغناء

_ (1) ك: قد وطأ المهاد. (2) زاد في ك: وعددكم وعددكم. (3) ق: المستزيدات. (4) ق: بعد الشتات. (5) ق: الشهيرة. (6) بئيس: سقطت من ق. (8) ك: وأقصينا.

وأبطال الجلاد، فحشر الخلق في صعيد، وأخذوا الأهبة والزينة في عيد سعيد، وشمل الاستدعاء كل قريب وبعيد عن وعد ووعيد، ورحلنا وفضل الله شامل، والتوكّل عليه كافٍ كافل، وخيّمنا بظاهر الحضرة حتى استوفى الناس آرابهم، واستكملوا أسرابهم، ودسنا منهم بلاد النصارى بجموع كثرها الله وله الحمد وأنماها، وأبعد في التماس ما عنده من الأجر منتماها، وعندما حللنا قاشرة (1) وجدنا السلطان دون بطره مؤمل نصرنا وإنجادنا، ومستعيد حظّه من لواحق (2) جهادنا، ومقتضي دين كدحه بإعانتنا إيّاه وإنجادنا، قد نزل بظاهرها في محلات ممّن استقر على دعوته، وتمسّك بطاعته، وشمله حكم جماعته، فكان لقاؤنا إيّه على حالٍ أقرّت عيون المسلمين، وتكفّلت بإعزاز الدين، ومجملها يغني عن التعيين، والشرح والتبيين، ورأى هو ومن معه من وفور جيش الله ما هالهم، وأوشكّ في حال اليقظة خيالهم، من جموع تسدّ الفضا، وأبطال تقارع أسود الغضا، وكتائب منصورة، ورايات منشورة، وأمم محشورة، تفضل عن مرأى العين، وترجي العدوّ في مهاوي الحين، فاعترفوا بما لم يكن في حسابهم، واعتبر في عزّة الله سبحانه أولو ألبابهم، وإذا كثّر الله تعالى العدد نما وزكا، وإذا أزاح العلل ما اعتذر غازٍ ولا شكا، وسالت من الغد الأباطح بالأعراف، وسمت الهوادي إلى الاستشراف، وأخذ الترتيب حقّه من المواسط الجهاديّة والأطراف، وأحكمت التعبية التي لا ترى العين فيها خللاً، ولا يجد الاعتبار (3) عندها دخلاً، وكان النزول على فرسخ من عدوة النهر الأعظم من خارج المدينة أنجز الله تعالى وعد دمارها، وأعادها إلى عهدها في الإسلام وشعارها، ومحا ظلام الكفر من آفاقها بملة الإسلام وأنوارها، وقد برزت من حاميتها شوكة سابغة الدروع، وافرة الجموع، واستجنّت

_ (1) قاشرة: ذكر ياقوت أنها من أحواز لبلة؛ وفي اللمحة البدرية: قشرة؛ وفي ق ج: ناشرة. (2) ك: مواقع. (3) ق ط ج ودوزي: الاختيار، وصوابها " الاختيار ".

من أسوار القنطرة العظمى بحمىً لا يخفر، وأخذ أعقابها من الحماة والكماة العدد الأوفر، فبادر إليهم سرعان خيل المسلمين فصدقوهم الدفاع والقراع، والمصال والمصاع، وخالطوهم هبراً بالسيوف، ومباكرة بالحتوف، فتركوهم حصيداً، وأذاقوهم وبالاً شديداً، وجدّلوا منهم جملة وافرة، وأمة كافرة، وملكوا بعض تلك الأسوار فارتفعت بها راياتهم الخافقة، وظهرت عليها عزماتهم الصادقة، واقتحم المسلمون الوادي سبحاً (1) في غمره، واستهانةً في سبيل الله بأمره، وخالطوا حامية العدو في ضفته فاقتلعوها، وتلّقوا بأوائل الأسوار ففرعوها، فلو كنّا في ذلك اليوم على عزم من القتال، وتيسير الآلات وترتيب الرجال، لدخل البلد، وملك الأهل والولد، لكن أجار الكفّار من الليل كافر، وقد هلك منهم عدد وافر، ورجع المسلمون إلى محلاتهم ونصر الله سافر، والعزم ظافر، ومن الغد خضنا البحر الذي جعلنا العزم فيه سفينا، والتوكل على الله للبلاغ ضمينا، ونزلنا من ضفّته القصوى (2) منزلاً عزيزاً مكينا، بحيث يجاور سورها طنب القباب، وتصيب دورها من بين المخيمات (3) بوارق النشّاب، وبرزت حاميتها على متعددات الأبواب، مقيمة أسواق الطعان والضّراب، فآبت بصفقة الخسر والتباب، ولما شرعنا في قتالها، ورتبنا أشتات النّكايات لنكالها، وإن كنا لم نبق على مطاولة نزالها، أنزل الله المطر الذي قدم بعهاده العهد، وساوى النجد من طوفانه الوهد، وعظم به الجهد، ووقع الإبقاء على السلاح، والكفّ بالضرورة عن الكفاح، وبلغ المقام عليها، والأخذ بمخنّقها والثّواء لديها، خمسة أيّام لم تخل فيها من اقتراع، ولا الأبواب من دفاع عليها وقراع، وأنفذت مقاتل الستائر أنقاباً، وارتقب الفتح الموعود ارتقاباً، وفشت في

_ (1) في الأصول: سيما. (2) ك: من ضفة القوي العزيز؛ ج ق ط: ضفة القوي. (3) ك: الخيمات.

أهلها الجراح والعيث والصّراح، وساءهم المساء بعزة الله والصّباح (1) ، ولولا عائق المطر لكان الإجهاز والاستفتاح، والله بعدها الفتّاح، وصرفت الوجوه إلى تخريب العمران، وتسليط النيران، وعقر الأشجار، وتعفية الآثار، وأتى منها العفاء على المصر الشهير في الأمصار، وتركت زروعها المائحة عبرة لأولي الأبصار (2) ، ورحلنا عنها وقد ألبسها الدخان حداداُ، ونكس من طغاتها أجياداً، فاعتادت الذلّ اعتياداً، والفت الهون قياداً، وكادت أن تستباح عنوة لولا أن الله تعالى جعل لها ميعاداً، وأتى القتل من أبطالها، ومشاهير رجالها، ممّن يبارز ويناطح، ويماسي بالناس ويُصابح، على عدد جمّ أخبرت سيماهم المشهورة بأسمائهم، ونبّهت علاماتها على نبهائهم، وظهر إقدام المسلمين في المعتركات (3) ، وبروزهم (4) بالحدود المشتركات، وتنفيلهم الأسلاب، وقودهم الخيل المسوّمة قود الغلاب، وكان القفول، وقد شمل الأمن والقبول، وحصل الجهاد المقبول، وراع الكفر العزّ الذي يهول، والإقدام الذي شهدت به الرماح والخيول، وخاض المسلمون من زرع الطرق التي ركبوها، والمنازل التي استباحوها وانتهبوها، بحوراً بعد منها الساحل، وفلاحة مدركة تتعدد فيها المراحل، فصيروها صريماً، وسلّطوا عليها النار غريماً، وحلّوا بظاهر حصن أندوجر (5) وقد أصبح مألف أذمار غير أوشاب، ووكر طيور (6) نشاب، فلمّا بلونا مراسه صعباً، وأبراجه ملئت حرساً شديداً وشهباً، ضننّا بالنفوس أن تفيض دون افتتاحه، فسلّطنا العفاء على

_ (1) وفشت ... والصباح: سقطت العبارة من ق. (2) ك ط: عبرة للأبصار. (3) ق: على المعتركات. (4) ق ط ودوزي: وبذرهم؛ ج: وندرهم. (5) أندوجر (Andujar) (أندوشر عند ياقوت) حصن قريب من قرطبة إلى شمال شرقيها على نهر الوادي الكبير. وفي ك: أندجر. (6) ك: طير؛ ج: طور.

ساحه، وأغرينا الغارات باستيعاب ما بأحوازه واكتساحه، وسلطنا النار على حزونه وبطاحه، وألصقنا بالرغام ذوائب أدواحه، وانصرفنا بفضل الله والمناجل دامية، والأجور نامية، وقد وطئنا المواطئ التي كانت على الملوك قبلنا بسلا، ولم نترك بها حرثاً يرفد ولا نسلا، ولا ضرعاً يرسل رسلا، والحمد لله الذي يتمم النعيم بحمده، ونسأله صلة النصر (1) فما النصر إلا من عنده؛ عرّفناكم بهذه الكيفيات (2) ، الكريمة الصفات، والصنائع الروائع التي بعد العهد بمثلها في هذه الأوقات، علماً بأنّها لديكم من أحسن الهديات الوديّات ولما نعلمه لديكم من حسن النيّات وكرم الطّويّات، فإنّكم سلالة الجهاد المقبول، والرّفد المبذول، ووعد النصر المفعول، ونرجو الله، عزّ وجلّ، أن ينتقل خيالكم للمعاهد الجهاديّة، إلى المعاينة في نصر الملّة المحمّديّة، وأن يجمع الله بكم كلمة الإسلام، على عبد الأصنام، ويتم النعمة على الأنام، وودّنا لكم؟ ما علمتم؟ يزيد على ممرّ الأيّام، والله يجعله في ذاته لكم متّصل الدوام، مبلّغاً إلى دار السلام، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، ويضاعف الآلاء عندكم، والسلام الكريم يخصّكم (3) ورحمة الله وبركاته، انتهى. ومن هذا المنحى ما كتب به لسان الدين رحمه الله تعالى عن سلطانه، ونصّه: المقام الذي أحاديث سعادته لا تملّ على الإعادة والتكرار، وسبيل مجادته الشهيرة أوضح من شمس الظهيرة عند الاستظهار، وأخبار صنائع الله لملكه، ونظم فرائد الآمال في سلكه، تخلدها أقلام الأقدار، بمداد الليل في قرطاس النّهار، وترسمها بتذهيب الإسفار في صفحات (4) الأقمار، وتجعلها هجّيرى حملاء الأسفار، وحداة القطار في مسالك الأقطار، مقام

_ (1) ك: حلة النصر. (2) ق ط ودوزي: المكيفات. (3) ك: يصحبكم. (4) ق: صحائف.

محل أخينا الذي نلذ عادة هنائه مع الإعادة، ونتلقى أنباء علائه بالإذاعة والإشادة، ونطرّز بأعلام ثنائه صحائف المجادة، ونشكر الله أن وهب لنا من أخوّته المضافة إلى المحبّة والودادة، ما يرجح في ميزان الاعتبار أخوّة الولادة، وعرفنا بيمن ولايته عوارف السعادة، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى في أعلام الملك السعيد، بيت القصيد، ووسطى القلادة، ومجلى الكمال الذي تبارى بميدان بأسه وجوده جنسا الإبادة والإفادة، ولا زالت آماله أقاصية تنثال طوع (1) الإرادة، ويمن نقيبته يجمع من أشتات الفتوح والعز الممنوح بين الحسنى وزيادة (2) ، معظّم سلطانه العالي، المثني على مجده المرفوع إسناده في عوالي المعالي، المسرور بما ينسيه الله له من الصنع المتوالي، والفتح المقدّم والتالي، أمير المسلمين عبد الله الغني بالله محمّد ابن أمير المسلمين أبي الحجّاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد بن فرج بن نصر، أيّد الله بأمره، وأسعد عصره (3) : سلام كريم يتأرّج في الآفاق شذا طيبه، وتسمع في ذروة الودّ بلاغة خطيبه، ويتضمّن نوره سواد المداد، عند مراسلة الوداد، فيكاد يذهب بعبوسه المجهول وتقطيبه، ورحمة الله وبركاته، أمّا بعد حمد الله فاتح الأبواب بمقاليد الأسباب، مهما استصعبت، وميسّر الأمور محكم المقدور إذا أجهدت الحيل وأتعبت، مخمد نيران الفتن ما التهبت، وجامع كلمة الإسلام وقد تصدّعت وتشعّبت، ومسكن رجفان (4) الأرض بعدما اضطربت، ومحييها بعهاد الرحمة مهما اهتزت وربت، اللطيف الخبير الذي قدرت حكمته الأمور ورتّبت، منهي كل نفس إلى ما خطّت الأقلام عيها وكتبت، ونفت وأوجبت وشاءت وأبت، ومجازيها يوم العرض

_ (1) ق: طول. (2) ك ط ح: والزيادة. (3) ك: نصره. (4) ق: رجفات.

بما كسبت (1) ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله هازم الأحزاب لمّا تألفت وتألّبت، وجالب الحتف إليها عندما أجلبت، رسول الملحمة إذا الليوث وثبت، ونبيّ الرحمة التي هيأت النجاة وسبّبت، وأبلغت النفوس المطمئنّة من السعادة ما طلبت، ومداوي القلوب المريضة وقد انتكبت وانقلبت، بلطائفه التي راضت وهذبت، وقادت إلى الجنّة العليا واستجلبت، وأدّت عن الله وأدّبت، الذي بجاهه نستكشف الغمّاء إذا طنّبت (2) ، ونستوكف النّعماء، إذا أخلفت البروق وكذبت، ونتحابّ في طاعته ابتغاء الوسيلة إلى شفاعته فنقول وجبت حسبما ثبت (3) ، والرضى عن آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه التي استحقّت المزية المرضية واستوجبت، لما انتمت إلى كماله وانتسبت، وببذل نفوسها في الله ومرضاته تقرّبت، وغلى نصرته في حياته انتدبت، والمناصل قد رويت من دماء الأعداء واختضبت (4) ، وخلفته في أمّته بعد مماته بالهمم التي عن صدق اليقين أعربت، فتداعت لمجاهدة (5) الكفّار وانتدبت، وأبعدت المغار وأدربت، حتى بلغ ملك أمّته أقاصي البلاد التي نبت، فكسرت الصّلب التي نصبت، ونفّلت (6) التيجان التي عصبت، ما همت السّحب وانسحبت، وطلعت الشمس وغربت، والدعاء لمثابتكم العليا بالنصر العزيز كلّما جهّزت الكتائب وتكتّبت، والفتح المبين كلّما ركنت عقائل القواعد إذا خطبت، والصنائع التي مهما حدّقت فيه العيون تعجّبت، أو جالت في لطائفها الأفكار استطابت مذاق الشكر واستعذبت، حتى تنجز لكم مواعيد النصر فقد اقتربت، فإنّا كتبنا إليكم كتب الله لكم أغيا ما سألت الألسن السائلة واستوعبت، من

_ (1) ق: مما اكتسبت. (2) ك ط: أطنبت. (3) ق: ثبتت. (4) ك: وأخصبت، وفي الهامش: نسخة " واختضبت ". ط: وأخضبت. (5) ق: لجهاد. (6) ك: ونعلت؛ ج ط: ونقلت.

حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وجنود الله بفضل الله تعالى ونعمته قد غلبت، وفتحت وسلبت، وأسود جهاده قد أردت الأعداء بعدما كلبت، ومراعي الآمال قد أخصبت، والحمد لله حمداً يجلو وجوه الرضى بعدما احتجبت، ويفتح أبواب المزيد فكلّما استقبلها الأمل رحّبت، والشكر لله شكراً يقيّد شوارد النعم ممّا أبقت وما هربت، وإلى هذا - وصل الله لمقامكم أسباب الظهور والاعتلاء، وعرّفكم عوارف الآلاء على الولاء - فإنّنا لمّا ورد علينا كتابكم البرّ الوفادة، الجمّ الإفادة، الجامع بين الحسنى والزيادة، جالي غرّة الفتح الأعظم من ثنايا السعادة، وواهب المنن المتاحة وواصفالنعم العادة، فوقفنا (1) من رقّه المنشور على تحف سنيّة، وأمانيّ هنيّة، وقطاف للنصر جنيّة، ضمنت سكون البلاد وقرارها، وأن الله قد أذهب الفتن وأوارها وأخمد نارها، ونضح عن وجه الإسلام عارها، وجمع الأهواء على من هويته السعادة بعد أن أجهد اختيارها، فأصبح الشتيت مجتمعاً، وجنح الجناح مرتفعاً، والجبل المخالف خاشعاً متصدّعاً، وأصحب (2) في القياد من كان متمنّعاً (3) ، فاستوثقت الطاعة، وتبجّحت السنّة والجماعة، وارتفعت الشناعة، وتمسّكت البلاد المكرهة بأذيال وليّها لما رأته، وعادت الأجياد العاطلة إلى حليها بعدما أنكرته، أجلنا جياد الأقلام في ملعب الهناء وميدانه، لأول أوقات إمكانه على بعد مكانه، وأجهدنا عبارة الكلام في إجلال هذا الصنع وتعظيم شأنه، وأغرينا الثناء بشيم مجدكم في شرحه لها وبيانه، رأينا أن لا نكل ذلك إلى اليراع، ونفرده فيه بالاجتماع، وما يتعاطاه من منّة الذراع، وأن نشدّ بردء من المشافهة أزره، ونعضد بمعين من اللسان أمره، فعيّنّا لذلك من يفسّر منه المجمل، ويمهّد المقصد المعمل، حتى يجمع بين أغراض البر، والعلن منه

_ (1) ك: فأوقفنا؛ ق: فوافقنا. (2) ق: وأوضحت؛ ط ج: وأضحت. (3) ق ط: مستمنعاً؛ دوزي: ممتنعاً.

والسر، ويقيم شتّى الأدلّة على الوداد المستقر، ووجّهنا في غرض الرسالة به إليكم، واخترنا لشرحه بين يديكم، خطيب الوفود، وبركة المشايخ في هذا المقام المحمود، الشيخ الجليل الشهير الكبير الصالح الفاضل أبا البركات ابن الحاج (1) - وصل الله حفظه؛ وأجزل من الحمد واللطف حظّه؛ - وهو البطل الذي لا يعلّم الإجالة في الميدان، ولا يبصّر بوظائف ذلك الشان، ومرادنا منه أن يطيل ويطيب، ويجيل في وصف محاسنكم اللسان الرّطيب، ويقرّر ما عندنا لمقامكم من التشيّع الذي قام على الحب المتوارث أساسه، واطّرد حكمه وأنتج قياسه، وليجعل تلو مقصد الهناء، بمجلسكم الباهر السناء، الصارف إلى الجهاد إلى سبيل الله والفناء، وجه التهمّم والاعتناء، على مر الآناء، ما تجدّد لدينا من الأنباء في جهاد الأعداء، وإن كان رسولكم - أعزه الله تعالى - قد شارك في السّرى والسير ويمن الطّير، وأغنى في الحكاية عن الغير، فلا سرف في الخير، وهو أننا لما انصرفنا من منازلة قرطبة نظراً للحشود التي نفدت معدّا أزوادها، وشابت بهشيم الغلّة المستغلّة (2) مفارق بلادها، وإشفاقاً لفساد أقواتها، بفوات أوقاتها، رحلنا عنها وقد انطوينا من إعفاء أكثر (3) تلك الزروع، المائلة الفروع، الهائلة الروع، على همّ ممض، وأسف للمضاجع مقض (4) ، إذ كان عاذل المطر يكف ألسنة النار عن المبالغة في التهابها، وحلاق إهابها، ونفض أغوارها، ونهب شوارها، وإذاعة أسرارها، وهي البحور المتلاطمة، إذا حطمتها الرياح الحاطمة، واللّجج الزاخرة، إذا حركتها

_ (1) أبو البركات ابن الحاج: محمد بن محمد بن إبراهيم ابن الحاج البلقيقي السلمي (توفي 773 أو 771) أحد شيوخ لسان الدين؛ سيترجم له المقري وانظر الكتيبة الكامنة: 127 والإحاطة 2: 101 والمرقبة العليا: 164 والديباج 164 والتعريف بابن خلدون: 61 وغاية النهاية 2: 235. (2) ق: المستقبلة. (3) أكثر: سقطت من ق. (4) ق ك: مغض.

السوافي الماخرة، تود العيون أن تتحدى حدودها القاصية فلا تطيق، والركائب الراكضة أن تشرف على غايتها فيفضل عن مراحلها الطريق، قد جللها الربيع أرزاقاً تغص به الخزائن والأطباق، وحبوباً مفضلة لا يرزؤها الإنفاد والإنفاق، ولو اعتصبت (1) على انتسافها الآفاق، فخففنا في سبيل الله لتعقيب غزو تلك الأقطار المخالفة، بمحق الصائفة، وإحانة (2) تلك الطائفة، بكلوم المجاعة الجائفة (3) ، خفوفاً لم نقنع فيه بالاستنابة، حرصاً على استئصال الصّبابة، وأعفينا الرحل من اتصال الكد، وقابلنا قبولهم على استصحابنا فيها بالرد، وأطللنا على قرطبة بمحلاتنا ننسف جبال النعم (4) نسفاً، ونعمّ الأرض زلزالاً وخسفاً، ونستقري مواقع البذر إحراقاً (5) ، ونخترق أجوابها المختلفة بحبّ الحصيد اختراقاً، ونسلّط عليها من شرر النار أمثال (6) الجمالات الصّفر مدّت من الشّواظ أعناقاً، ونوسع القرى الواسعة قتلاً واسترقاقاً، وندير على مستديرها أكواس الحتوف دهاقاً، وأخذت النيران واديها الأعظم من كلا جانبيه حتى كأن القيون (7) أحمت سبيكته فاستحالت، وأذابت صفيحته فسالت، وأتت الكفار سماؤهم بالدخان المبين، وصارت الشمس من بعد سفورها وعموم نورها منقّبة المحيّا معصبة الجبين، وخضنا أحشاء الفرنتيرة (8) نعمّ أشتات النّعم انتسافاً، وأقوات أهلها إتلافاً، وآمال سكانها إخلافاً، وقد بهتوا لسرعة الرجوع، ودهشوا

_ (1) هذه اللقطة مصحفة في الأصول، فهي: اعتصت في ج؛ وفي ق ك ط: اعتضت. (2) ق ك ج: وإعانة؛ وفي ط: لمحق الضائقة. (3) ق ك ط ج ودوزي: المجاع الخائفة. (4) في ك: الجبال؛ وفي ق: جليل النعم؛ ج: جبائل النعم. (5) ك: احتراقاً. (6) ط: أثقال. (7) ق ك: العيون. (8) تصحفت هذه الكلمة على عدة وجوه؛ فهي الغرنيرة في ق والغريرة ف ك ... والفرنيرة في ط ج والصواب الفرنتيرة (La Frontera) .

لوقوع الجوع، وتسبيب تخريب الربوع، فمن المنكر البعيد، أن يتأتى بعد عمرانها المعهود، وقد اصطلم الزرع واجتثّ العود، وصار إلى العدم منها الوجود، ورأوا من عزائم (1) الإسلام خوارق تشذّ عن نطاق العوائد، وعجائب تستريب فيها عين المشاهد، إذ اشتمل هذا العام، المتعرّف فيه من الله تعالى الإنعام، على غزواتٍ أربع دمرت فيها القواعد الشهيرة تدميراً، وعلا فوق مراقيها الأذان عزيزاً جهيراً، وضويقت كراسيّ الملك تضييقاً كبيراً، وأذيقت وبالاً مبيراً، ورياح الإدالة إن شاء الله تعالى تستأنف هبوباً، وبأساً مشبوباً، والثقة بالله قد ملأت نفوساً مؤمنة وقلوباً، والله سبحانه المسؤول أن يوزع شكر هذه النعمة التي أثقل الأكتاد، وأبهظت الطّوق المعتاد، وأبهجت المسيم (2) والمرتاد، فبالشكر يستدر مزيدها (3) ، ويتوالى تجديدها، وقطعنا في بحبوحة تلك العمالة المستبحرة العمارة، والفلج المغني وصفها عن الشرح والعبارة، مراحل ختمنا بالتعريج على حزب (4) جيّان حربها، ففللنا ثانية غربها، وحثثنا في أنجادها وأغوارها ركائب الاستيلاء، فم نترك بها ملقط طير، فضلاً عن معاف عير، ولا اسأرنا لفلها المحروب بلالة خير، وقفلنا وقد تركنا بلاد النصارى التي منها لكيادنا المدد، والعدّة والعدد، وفيها الخصام واللّدد، قد لبست الحداد حريقاً، وسلكت إلى الخلاء والجلاء طريقاً، ولم نترك بها مضغة تخالط ريقاً، ولا نعمة تصون من الفراق فريقاً، وما كانت تلك النعم لولا أن أعان الله تعالى من عنصري النار والهواء بجنود كونه الواسع، ومدركه البعيد الشاسع، لتتولى الأيدي البشريّة تغريبها ولا ترزأ كثيرها، ولا

_ (1) ق: غرائب. (2) ك: المثيم. (3) ك ق ط ج: فريدها. (4) ق: خرب؛ ك: حرب.

لتمتاح بالاغتراف غديرها، بل لله القدرة جميعاً، فقدرته لا تتحامى ريعاً، ولا حمى مريعاً منيعاً، وعدنا والعود في مثلها أحمد، وقد بعد في شفاء النفوس الأمد، ونسخ بالسرور الكمد، ورفعت من عز الإسلام العمد، والحمد لله حمد الشاكرين، ومنه نلتمس عادة النصر على أعدائه فهو خير الناصرين، عرّفناكم به ليسر دينكم المتين، ومجدكم الذي راق منه الجبين، والله يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، ويبلغكم أملكم من فضله، وقصدكم بمنّه وطوله، والسلام الكريم يخصّكم ورحمة الله تعالى وبركاته، انتهى. رجع إلى ما كنّا بسبيله من أخبار قرطبة الجليلة الوصف، وذكر جامعها البديع الإتقان والرصف، فنقول: رجع إلى ما كنا بسبيله من أخبار قرطبة الجليلة الوصف، وذكر جامعها البديع الإتقان والرصف، فنقول: قد شاع وذاع على ألسنة الجمّ الغفير من الناس في هذه البلاد المشرقيّة وغيره أن جامع قرطبة ثلاثمائة ونحو ستين طاقاً، على عدد أيّام السنة، وأن الشمس تدخل كل يوم من طاق، إلى أن يتم الدور ثم تعود، وهذا شيء لم أقف عليه في كلام المؤرخين من أهل المغرب والأندلس، ولو كان كما شاع لذكروه وتعرّضوا له، لأنّه من أجب ما يسطر، مع أنّهم ذكروا ما هو دونه، فالله أعلم بحقيقة الحال في ذلك (1) ، وستأتي في الباب السابع رسالة الشّقندي الطويلة وفيها من محاسن قرطبة وسائر بلاد الأندلس الطّم والرّم، وقد ذكرنا في الباب الأول جملة من محاسن قرطبة، فأغنىذلك عن إعادتها هنا، على أن رسالة الشّقندي تكرر فيها بعض ما ذكرناه، لأنّا لم نرد أن نخل منها بحرف، فأتينا بها بلفظها، وإن تكرر بعض ما فيها مع بعض ما أسلفناه، والعذر واضح للمنصف المغضي، والله نسأل سلوك السبيل الذي يرضي، بمنّه وكرمه.

_ (1) في ذلك: سقطت من ق.

رجع إلى أخبار البنيان:

وقال صاحب نشق الأزهار: إن في جامع قرطبة تنّوراً من نحاس أصفر يحمل ألف مصباح، وفيه أشياء غريبة، من الصنائع العجيبة، يعجز عن وصفها الواصفون، قيل: أحكم عمله في سبع سنين، وفيه ثلاثة أعمدة من رخام أحمر، مكتوب على الواحد اسم محمد، وعلى الآخر صورة عصا موسى وأهل الكهف، وعلى الثالث (1) صورة غراب نوح عليه الصلاة والسلام، الثلاثة خلقها الله تعالى ولم يصنعها صانع، انتهى. قلت: لم أر أحداً من محققي المؤرخين للأندلس وثقاتهم ذكر هذا، على قلّة اطلاعي، وهو عندي بعيد، لأنّه لو كان لذكره الأئمة. وقد حكى القاضي (2) عياض في الشفاء أشياء وجد عليها اسم نبينا صلّى الله عليه وسلّم، ولم يذكر هذا، ويستبعد أن يكون بجامع قرطبة ولا يذكره، والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر. وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: من دور قرطبة أربعة عشر ميلاً، وعرضها ميلان، وهي على النهر الكبير وعليه جسران، وبها الجامع الكبير الإسلامي، وبها الكنيسة المعظمة بين النصارى، وبهذه المدينة معدن الفضّة ومعدن الشاذنج (3) ، وهو حجر من شأنه أن يقطع الدم؛ وكان يجلب منها البغال التي تباع كل واحدة منها بخمسمائة دينار من حسنها وعلوّها الزائد، انتهى. رجع إلى أخبار البنيان: ولا خفاء أنّه يدل على عظيم قدر بانيه، ولذلك قال أمير المؤمنين الناصر المرواني باني الزهراء رحمه الله تعالى حسبما نسبهما له بعض العلماء وبعض ينسبهما لغيره، وسيأتيان في ترجمة نور الدين بن سعيدٍ عليٍّ منسوبين:

_ (1) ط: وعلى الأرض؛ ق ج: وعلى الآخر. (2) القاضي: سقطت من ك ط ج. (3) الشاذنج والشاذلة: يسمونه حجر الدم، ويستعمل لدمل القروح، وتعمل منه شيافات لأمراض العين.

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان إن البناء إذا تعاظم قدره ... أضحى يدلّ على عظيم الشان وتذكرت هنا قصيدة قالها بعض الشاميين، وهو الأديب الفاضل الشيخ أسد بن معين الدين، ممّا يكتب على أبراج (1) دار الحسيب النسيب، الشهير البيت، الكبير الحي والميت، القاضي عبد الرحمن بن الفرفور الدمشقي، وضمّنها بيتي الناصر المذكورين: زر مجلساً أضحى أعزّ مكان ... ومحلّ أهل العلم والعرفان المجد خيّم في ذرى أبراجه ... والسعد عبد الباب طول زمان كالخلد مرفوع البناء، وأرضه ... مفروشة بالدّرّ والعقيان بيت به فخر البيوت لأنّه ... بيت القصيد ومنزل الضيفان مغنىً فسيحٌ فيه معنى مفصح ... عن قدر بانيه بغير لسان قد قال بعض ذوي الفضائل قبلنا ... قولاً بديعاً واضح التبيان همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان إن البناء إذا تعاظم قدره ... أضحى يدلّ على عظيم الشان قد شاده من ساد أهل زمانه ... بالأصل والإفضال والرّجحان ورث السيادة كابراً عن كابر ... وسما برفعته على كيوان قاضي القضاة ومفخر العصر الذي ... قد جاء فيه سابق الأقران في العلم بحرٌ لا ينال قراره ... في الحكم مثل مهنّدٍ وسنان يروي عطاءٌ عن يديه قد اقتفى ... آثار آباء ذوي إحسان لا زال يبقى شائداً بيت العلا ... وعدوّه في الوهن والنقصان يا أيّها المولى الذي يجري مع الإق ... بال والإسعاد طلق عنان (2)

_ (1) أبراج: سقطت من ط. (2) ق: طول زمان.

دم شامخ المقدار مرتفع البنا ... والناس تحت رضاك كالغلمان متمتّعاً ببنيك سادات الورى ... في عزّ ربّ دائم السلطان ما رجّع القمريّ في تغريده ... في الروض فوق منابر الأغصان وكان القاضي عبد الرحمن بن فرفور المذكور عالي الهمّة، تضيق يده عمّا يريد، فلذلك كان كثيراً ما يبث شكواه في الطروس والدفاتر، ويعتب على الزمان الذي أخنى على أهل الأدب وقطع آمالهم بحسامه الباتر، ويرحم الله القائل: هذا زمان دريهمي لا غيره ... فدع الدفاتر للزمان الفاتر فمن نظم المذكور وقد أبطأ بجزء استعاره من بعض إخوانه، فكتب إليه معتذراً، وأدمج شكوى الزمان الذي كان من شماتة الأعداء به حذراً: أبطأت في ذا الجزء يا سيّدي ... كتابة من جور دهرٍ بغيض صابرته فالجسم مني لقىً ... تجلّداً والقلب مني مريض فإذ أبى إلا تلافي وقد ... أحلّني منه محلّ النقيض واقتادني قسراً إلى مصرعٍ ... قد رقّ منه اللحم والعظم هيض سلّمت للأقدار مستسرعاً ... لباب مولىً ذي عطاء عريض جموم صبر كنت أسطو به ... على روايا الدهر بالهمّ غيض فلا تلم يا صاح من بعد ذا ... إذا تمثلت به حال الجريض ورأيت بخطّه رحمه الله تعالى ممّا نسبه جده القطب الخيضري الحافظ لإبراهيم بن نصر الحموي ثم المصري المعروف بابن الفقيه: يا زماناً كلّما حا ... ولت أمراً يتمنّع إن تعصّبت فإنّي ... باصطباري أتقنّع

وهذه تورية بديعة للغاية في التعصب والتقنّع، مع حلاوة النظم وجودة السبك وخفّة الوزن، والله سبحانه يروّح تلك الأرواح في الجنان، ويعاملنا وإيّاهم بمحض الفضل والامتنان، ويكفينا شجون دهر جرى بنا طلق العنان. حديث عن الزهراء رجع إلى ما كنّا فيه: وكنت وقفت في كلام بعض العلماء على أن البيتين السابقين المنسوبين إلى أمير المؤمنين الناصر المرواني - رحمه الله تعالى - قالهما في الزهراء التي بناها، وسيأتي ذكرها قريباً. وقال الشيخ سيّدي محيي الدين بن عربي في المسامرات: قرأت على مدينة الزهراء بعد خرابها وصيرورتها مأوى الطير والوحش، وبناؤها عجيب في بلاد الأندلس، وهي قريبة من قرطبة، أبياتاً تذكّر العاقل، وتنبّه الغافل، وهي: ديارٌ بأكناف الملاعب تلمع ... وما إن بها من ساكنٍ وهي بلقع ينوح عليها الطير من كل جانب ... فيصمت أحياناً وحيناً يرجّع فخاطبت منها طائراً متغرّداً (1) ... له شجنٌ في القلب وهو مروّع فقلت: على ماذا تنوح وتشتكي؟ ... فقال: على دهرٍ مضى ليس يرجع ثم قال: وأخبرني بعض مشايخ قرطبة عن سبب بناء مدينة الزهراء أن الناصر ماتت له سرّيّة، وتركت مالاً كثيراً، فأمر أن يفك بذلك المال أسرى المسلمين، وطلب في بلاد الإفرنج أسيراً فلم يوجدن فشكر الله تعالى على ذلك، فقالت له جاريته الزهراء؟ وكان يحبّها حبّاً شديداً -: اشتهيت لو بنيت لي مدينة تسميها باسمي، وتكون خاصّة لي، فبناها تحت جبل العروس من قبلة الجبل، وشمال قرطبة، وبينها وبين قرطبة اليوم ثلاثة أميال أو نحو ذلك، وأتقن بناءها، وأحكم الصنعة فيها، وجعلها مستنزها ومسكناً للزهراء

_ (1) ق: متفرداً.

وحاشية ارباب دولته، ونقش صورتها على الباب، فلمّا قعدت الزهراء في مجلسها نظرت إلى بياض المدينة وحسنها في حجر الجبل الأسود، فقالت: يا سيّدي، ألا ترى إلى حسن هذه الجارية الحسناء في حجر ذلك الزنجي؟ فأمر بزوال ذلك الجبل، فقال بعض جلسائه: أعيذ أمير المؤمنين أن يخطر له ما يشين العقل سماعه، لو اجتمع الخلق ما أزالوه حفراً ولا قطعاً، ولا يزيله إلاّ من خلقه، فأمر بقطع شجره وغرسه تيناً ولوزاً، ولم يكن منظر أحسن منها، ولا سيّما في زمان الإزهار وتفتّح الأشجار (1) ، وهي بين الجبل والسهل، انتهى ببعض اختصار. [وصف ابن خلّكان للزهراء] وقال ابن خلكان (2) في ترجمة المعتمد بن عباد ما صورته (3) : الزّهراء - بفتح الزاي وسكون الهاء وفتح الراء، وبعدها همزة ممدودة -[سراية] وهي من عجائب أبنية الدنيا، وأنشأها أبو المظفّر (4) عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الملقّب بالناصر، أحد ملوك بني أميّة بالأندلس، بالقرب من قرطبة، في أول سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، ومسافة ما بنيهما أربعة أميال وثلثا ميل، وطول الزهراء من الشرق إلى الغرب ألفان وسبعمائة ذراع، وعرضها من القبلة إلى الجنوب ألف وخمسمائة ذراع، وعدد السواري التي فيها أربعة آلاف سارية وثلاثمائة سارية، وعدد أبوابها يزيد على خمسة عشر ألف باب؛ وكان الناصر يقسم جباية البلاد أثلاثاً: فثلث للجند، وثلث مدخر، وثلث ينفقه على عمارة الزهراء، وكانت جباية الأندلس خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف

_ (1) ق: وتفتح الأزهار. (2) في ج: وقال ابن خلدون. (3) وفيات الأعيان 4: 117. (4) كذا في الأصول وابن خلكان، والصواب: أبو المطرف.

وثمانين ألف دينار، ومن السوق والمستخلص (1) سبعمائة ألف دينار وخمسة وستون ألف دينار، وهي من أهول ما بناه الإنس، وأجلّه خطراً، وأعظمه شأناً، ذكر ذلك كلّه ابن بشكوال في تاريخ الأندلس، انتهى كلامه. وحكى في المطمح (2) أن الوزير الكبير الشهير أبا الحزم بن جهور قال وقد وقف على قصور الأمويين التي تقوّضت أبنيتها، وعوّضت من أنيسها بالوحوش (3) أفنيتها: قلت يوماً لدار قوم تفانوا: ... أين سكّانك العزاز علينا؟ فأجابت: هنا أقاموا قليلاً، ... ثم ساروا، ولست أعلم أينا وفيه (4) أن أبا عامر بن شهيد بات ليلة بإحدى كنائس قرطبة وقد فرشت بأضغاث آس، وعرشت بسرورٍ وائتناس، وقرع النواقيس يهيج سمعه، وبرق الحميّا يسرع (5) لمعه، والقس قد برز في عبدة المسيح، ومتوشّحاً بالزنانير أبدع توشيح، وقد هجروا الأفراح، واطّرحوا النعم كل اطّراح: لا يعمدون إلى ماء بآنيةٍ ... إلاّ اغترافاً من الغدران بالراح وأقام بينهم بعملها حميّا، كأنّما يرشف من كأسها شفة لميا، وهي تنفح له بأطيب عرف، كلّما رشفها أعذب رشف، ثم ارتجل، بعدما ارتحل، فقال: ولربّ حانٍ قد شممت بديره ... خمر الصبا مزجت بصرف عصيره في فتية جعلوا السّرور شعارهم ... متصاغرين تخشّعاً لكبيره

_ (1) ك: المستخلصة؛ ج ق ط: ومن السوق المستخلص. (2) انظر المطمح: 15. (3) ك: بالوحش. (4) المطمح: 18. (5) ق ط: يسرج.

الزهراء

والقسّ ممّا شاء طول مقامنا ... يدعو بعود حولنا بزبوره يهدي لنا بالرّاح كل مصفّرٍ ... كالخشف خفّره التماح خفيره يتناول الظّرفاء فيه وشربهم ... لسلافه، والأكل من خنزيره رجع إلى بناء (1) الزهراء قال بعض من أرّخ الأندلس: كان يتصرّف في عمارة الزهراء كل يوم من الخدام والفعلة عشرة آلاف رجل، ومن الدواب ألف وخمسمائة دابة، وكان من الرجال من له درهم ونصف ومن له الدرهمان والثلاثة، وكانيصرف فيها كل يوم من الصخر المنحوت المعدل ستّة آلاف صخرة سوى الآجرّ والصخر غير المعدل، انتهى، وسيأتي في الزهراء (2) مزيد كلام. وقال ابن حيّان (3) : ابتدأ الناصر بناء الزهراء ألو يوم من محرم سنة 325، وجعل طولها من شرق إلى غرب ألفين وسبعمائة ذراع، وتكسيرها تسعمائة ألف ذراع وتسعون ألف ذراع، كذا نقله بعضهم، وللنظر فيه مجال، قال (4) : وكان يثيب على كل رخامة كبيرة أو صغيرة عشرة دنانير سوى ما كان يلزمه [من النفقة] (5) على قطعها ونقلها ومؤونة حملها (6) ، وجلب إليها الرخام الأبيض من المرية، والمجزّع من رية، والوردي والأخضر من إفريقية من إسفاقس وقرطاجنة، والحوض المنقوش المذهب من الشام، وقيل: من القسطنطينية، وفيه نقوش وتماثيل (7) على صور الإنسان، وليس له قيمة، ولمّا جلبه أحمد (8)

_ (1) ك: أنباء. (2) ق: الزاهرة. (3) انظر مخطوط الرباط: 135. (4) قارن بما جاء في أزهار الرياض 2: 270. (5) زيادة من مخطوط الرباط. (6) مخطوط الرباط: سوقها. (7) ك: وتماثيل وصور. (8) سماه في مخطوط الرباط: أحمد بن حزم الفيلسوف.

الفيلسوف - وقيل غيره - أمر الناصر بنصبه في وسط المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس، ونصب عليه اثني عشر تمثالاً، بنى في قصرها المجلس المسمّى بقصر الخلافة، وكان سمكه من الذهب والرخام الغليظ في جرمه (1) الصافي لونه المتلوّنة أجناسه، وكانت حيطان هذا المجلس مثل ذلك وجعلت في وسطه اليتيمة التي أتحف الناصر بها أليون ملك القسطنطينية، وكانت قرامد هذه القصر من الذهب والفضّة، وهذا المجلس في وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق، وكان في كل جانب من هذا المجلس ثمانية أبواب قد انعقدت على حنايا من العاج والآبنوس المرصّع بالذهب وأصناف الجواهر، قامت على سواري من الرخام الملون والبلّور الصافي، وكانت الشمس تدخل على تلك الأبواب فيضرب شعاعها في صدر (2) المجلس وحيطانه فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار، وكان الناصر إذا أراد أن يفزع أحداً من أهل مجلسه أومأ إلى أحد صقالبته فيحرّك ذلك الزئبق فيظهر في المجلس كلمعان البرق من النور، ويأخذ بمجامع القلوب، حتى يخيّل لكل من في المجلس أن المحلّ قد طار بهم، ما دام الزئبق يتحرّك، وقيل: إن هذا المجلس كان يدور ويستقبل الشمس، وقيل: كان ثابتاً على صفة (3) هذا الصهريج، وهذا المجلس لم يتقدّم لأحد بناؤه في الجاهلية ولا في الإسلام وإنّما تهيأ له لكثرة الزئبق عندهم، وكان بناء الزهراء في غاية الإتقان والحسن، وبها من المرمر والعمد كثير، وأجرى فيها المياه، وأحدق بها البساتين، وفيها يقول الشاعر السميسر (4) : وقفت بالزّهراء مستعبراً ... معتبراً أندب أشتاتا فقلت: يا زهرا ألا فارجعي ... قالت: وهل يرجع من ماتا؟

_ (1) في جرمه: سقطت من ك. (2) ق ط ج: في سمك. (3) ج ط: ضفة. (4) مخطوط الرباط: 137.

فلم أزل أبكي وأبكي بها ... هيهات يغني الدمع هيهاتا كأنّما آثار من قد مضى ... نوادبٌ يندبن أمواتا انتهى كلام هذا المؤرخ ملخصاً، وسيأتي ما يوافق جلّه، ويخالف قلّه، والله سبحانه يعلم الأمر كلّه، فإنّه ربّما ينظر المتأمّل هذا الكتاب فيجد في بعض الأخبار تخالفاً، فيحمل ذلك على الغلط، وليس كذلك، وإنّما السبب الحامل لذلك جلب كلام الناس بعباراتهم، والناقد البصير لا يخفاه مثل هذا، وربّما يقع التكرار، وذلك من أجل ما ذكر، والله أعلم. [قصور بني ذي النون] وتذكرت بما وصفه من مجلس الناصر ما حكاه غير واحد عن القصر العظيم الذي شاده ملك طليطلة المأمون ابن ذي النّون بها (1) ، وذلك أنّه أتقنه إلى الغاية، وأنفق عله أموالاً طائلة، وصنع في وسطه بحيرة، وصنع في وسط البحيرة قبّة من زجاج ملوّن منقوش بالذهب، وجلب الماء على رأس القبة بتدبير أحكمه المهندسون، فكان الماء ينزل من أعلى القبة على جوانبها محيطاً بها ويتّصل بعضه ببعض، فكانت قبة الزجاج في غلالة ممّا سكب (2) خلف الزجاج لا يفتر من الجري، والمأمون قاعد فيها لا يمسّه من الماء شيء ولا يصله، وتوقد في الشموع فيرى لذلك منظر بديع عجيب، وبينما هو فيها مع جواريه (3) ذات ليلة إذ سمع منشداً ينشد: أتبني بناء الخالدين، وإنّما ... بقاؤك (4) فيها لو علمت قليل لقد كان في ظل الأراك كفاية ... لمن كلّ يوم يقتضيه رحيل

_ (1) الذخيرة 4: 102 وما بعدها. (2) ق ط ج: من ماء سكب. (3) ق: وجواريه. (4) ك: مقامك.

فنغص عليه حاله، وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، أظن أن الأجل قد قرب (1) ، فلم يلبث بعدها غير شهر وتوفّي، ولم يجلس في تلك القبّة بعدها، وذلك سنة 467، تجاوز الله تعالى عنه، هكذا حكاه بعض مؤرخي المغرب. وقد ذكر في غير هذا الموضع من هذا الكتاب حكاية هذه القبّة بلفظ ابن بدرون (2) شارح العبدونيّة فليراجع. وتذكرت هنا قول أبي محمّد المصريّ (3) في صفة قصر طليطلة: قصرٌ يقصّر عن مداه الفرقد ... عذبت مصادره وطاب المورد نشر الصباح عليه ثوب مكارم ... فعليه ألوية السعادة تعقد وكأنّما المأمون في أرجائه ... بدر تمام قابلته أسعد وكأنّما الأقداح في راحاته ... بدٌّ جمادٌ ذاب فيه العسجد وله في صفة البركة والقبة عليها: شمسيّة الأنساب بدريّة ... يحار في تشبيهها الخاطر كأنّما المأمون بدر الدّجى ... وهي عليه الفلك الدائر [أشعار ورسائل للأندلسيين في وصف المجالس] وكان ملوك الأندلس في غية الاحتفال بالمجالس والقصور، وللوزير الجزيري (4) - رحمه الله تعالى - في وصف مجلس المنصور بن أبي عامر ما

_ (1) ق: أظن الأجل قرب. (2) ق: ابن زيدون - وهو خطأ -. (3) الذخيرة 4: 109. (4) الوزير الجزيري: أبو مروان عبد الملك بن إدريس أحد كتاب الدولة العامرية وكان حيناً على الشرطة للمنصور، سخط عليه المنصور فسجنه وله القصيدة الرائية المشهورة في السجن، ثم كتب بعده للمظفر فلما قتل صهره عيسى بن سعيد بن القطاع تغير المظفر على أبي مروان فسجنه في برج من طرطوشة وقتله (394) هنالك. (ترجمة ف الجذوة: 261 وبغية الملتمس رقم: 1158 والمغرب 2: 321 واعتاب الكتاب: 193 والذخيرة 4: 31 والمطمح: 13 والصلة: 350 وله شعر في اليتيمة والتشبيهات والبديع) .

يشهد لذلك، وهو قوله (1) : وتوسّطتها لجّة في قعرها ... بنت السّلاحف ما تزال تنقنق تنساب من فكّي هزبر إن يكن ... ثبت الجنان فإن فاه أخرق صاغوه من ندّ وخلّق صفحتي ... هاديه محض الدرّ فهو مطوّق (2) للياسمين تطلّعٌ في عرشه ... مثل المليك عراه زهوٌ مطرق ونضائد من نرجس وبنفسج ... وجنيّ خيريّ وورد يعبق ترنو بسحر عيونها وتكاد من ... طرب إليك بلا لسان تنطق وعلى يمينك سوسنات أطلعت ... زهر الربيع فهنّ حسناً تشرق فكأنّما هي في اختلاف رقومها ... رايات نصرك يوم بأسك تخفق في مجلس جمع السرور لأهله ... ملكٌ إذا جمعت قناه يفرق حازت بدولته المغارب عزةً (3) ... فغدا ليحسدها عليه المشرق ومن هذه القصيدة: أمّا الغمام فشاهدٌ لك أنّه ... لا شكّ صنوك أو أخوك (4) الأوثق وافى الصنيع فحين تمّ تمامه ... في الصّحو أنشأ ودقه يتدفّق وأظنّه يحكيك جوداً إذ رأى ... في اليوم بحرك زاخراً يتفهّق وكان السبب في هذه الأبيات أن المنصور صنع في ذلك الأوان صنيعاً لتطهير ابنه عبد الرحمن، وكان عام قحطٍ، فارتفع السعر بقرطبة، وبلغ ربع الدقيق

_ (1) المقتطفات (الورقة: 23) . (2) المقتطفات: فيه مطبق؛ وفي ك: فهو مخلق. (3) ك: رفعة. (4) ق: بل أخوك.

إلى دينارين، فجلا الناس من قرطبة، فلمّا كان يوم ذلك الصنيع نشأت في السماء سحابة عمّت الأفق، ثم أتى المطر الوابل، فاستبشر الناس، وسرّ المنصور بن أبي عامر فقال الجزيري بديهةّ: أمّا الغمام إلخ. وهو القائل على لسان نرجس العامرية (1) : حيّتك يا قمر العلا والمجلس ... أزكى تحيّتها عيون النرجس زهر تريك بحسنها (2) وبلونها ... زهر النجوم الجاريات الكنّس ملّكن الهمام العامريّ محمّدٍ ... للمكرمات وللنّهى والأنفس قال ابن بسام (3) : ومن شعر الجزيري ما اندرج له أثناء نثره (4) الذي ملح فيه مخاطبته للمنصور على السنة أسماء كرائمه بزهر رياضه، فمن ذلك عن بهار العامريّة: حدق الحسان تقرّ لي وتغار ... وتضلّ في صفتي النّهى وتحار طلعت على قضبي عيون كمائمي (5) ... مثل العيون تحفّها الأشفار وأخصّ شيء بي إذا شبّهتني ... دررٌ تنطّق سلكها دينار أهدى له قضب الزمرّد ساقه ... وحباه أنفس عطره العطّار أنا نرجسٌ حقاً بهرت عقولهم ... ببديع تركيبي فقيل بهار ومن أخرى عن بنفسج العامريّة (6) : إذا تدافعت الخصوم - أيّد الله مولانا

_ (1) الذخيرة 4: 32 والبديع: 115 - 116 والمقتطفات: 33. (2) البديع: بشكلها. (3) الذخيرة 4: 33 والبديع: 99 والمقتطفات: 33. (4) ك: مدحه. (5) في الأصول: تمائمي، والتصويب عن البديع. (6) الذخيرة 4: 33 والبديع: 78 - 79 والمقتطفات: 33 - 34.

المنصور - في مذاهبها، وتنافرت في مفاخرها، فإليه (1) مفزعها، وهو المقنع في فصل القضيّة بينها لاستيلائه على المفاخر بأسرها، وعلمه بسرّها وجهرها، وقد ذهب البهار والنرجس في وصف محاسنهما، والفخر بمشابههما، كل مذهب، وما منها إلا ذو فضيلة غير أن فضلي عليهما أوضح من الشمس التي تعلونا، وأعذب من الغمام الذي يسقينا، وإن كانا قد تشبّها في شعرهما ببعض ما في العالم من جواهر الأرض ومصابيح السماء وهي من الموات الصامت، فإنّي أتشبّه بأحسن ما زيّن الله بها الإنسان وهو الحيوان الناطق، مع أنّي أعطر منهما عطراً، وأحمد خبراً، وأكرم إمتاعاً شاهداً وغائباً ويانعاً وذابلاً، وكلاهما لا يمتع، إلاّ ريثما يينع (2) ، ثم إذا ذبل تستكره النفوس (3) شمّه، وتستدفع الأكفّ ضمّه، وأنا أمتع يابساً ورطباً، وتدخرني الملوك في خزائنها (4) وسائر الأطباء، وأصرف في منافع الأعضاء، فإن فخرا باستقلالهما على ساق هي أقوى من ساقي، فلا غرو أن الوشي ضعيف، والهوى لطيف، والمسك خفيف، وليس المجد يدرك بالصّراع، وقد أودعت أيّد الله مولانا قوافي الشعر من وصف مشابهي ما أودعاه، وحضرت بنفسي لئلاّ أغيب عن حضرتهما، فقديماً فضل الحاضر وإن كان مفضولاً، ولذا قالوا: ألذ الطعام ما حضر لوقته، وأشعر الناس من أنت في شعره، فلمولانا أتم الحكم في أن يفصل بحكمه العدل، وأقول: شهدت لنوّار البنفسج ألسنٌ ... من لونه الأحوى ومن إيناعه (5)

_ (1) البديع: فإليك، وكذلك جرى الضمير في سائر الرسالة للخطاب، وفي النصين اختلافات كثيرة، نشير إلى بعضها. (2) البديع: وكلاهما لا يمتعك إلا ريثما يبدو للعيون ويسلم من الذبول. (3) البديع: ثم تستكثره الأنوف. (4) البديع: فإن هذه الحال من الاستمتاع بي رطباً وإدخاري في خزائن الملوك جافاً. (5) ق ط ج: ومن أتباعه.

لمشابه الشعر الأعمّ أعاره ال ... قمر المنير الطلق نور شعاعه ولربّما جمع (1) النجيع من الطلى ... من صارم المنصور يوم قراعه فحكاه غير مخالف في لونه ... لا في روائحه وطيب طباعه ملك جهلنا قبله سبل العلا ... حتى وضحن بنهجه وشراعه في سيفه قصرٌ لطول نجاده ... وتمام ساعده وفسحة باعه ذو همّة كالبرق في إسراعه ... وعزيمة كالحين في إيقاعه تلقى الزمان له مطيعاً سامعاً ... وترى الملوك الشّمّ من أتباعه وما أحسن قول بعض الأندلسيين يصف حديقة (2) : وحديقة مخضرّة أثوابها ... في قضبها للطير كل مغرد نادمت فيها فتية صفحاتهم ... مثل البدور تنير بين الأسعد والجدول الفضّيّ يضحك ماؤه ... فكأنّه في العين صفح مهنّد وإذا تجعّد بالنسيم حسبته ... لمّا تراه مشبهاً للمبرد وتناثرت نقطٌ على حافاته ... كالعقد بين مجمّع ومبدّد وتدحرجت (3) للناظرين كأنّها ... درٌّ نثيرٌ في بساط زبرجد وكان بحمّام الشطارة بإشبيلية صورة بديعة الشكل فوصفها بعض أهل الأندلس بقوله: ودمية مرمرٍ تزهى بجيدٍ ... تناهى في التّورّد والبياض لها ولدٌ ولم تعرف حليلاً ... ولا ألمت بأوجاع المخاض ونعلم أنّها حجرٌ، ولكن ... تتيّمنا بألحاظٍ مراض

_ (1) البديع: جف. (2) وردت الأبيات في المقتطفات (الورقة: 24) . (3) ق ط: وترجرجت؛ وفي ج؛ وتزخرفت.

وكان بسرقسطة في القصر المسمى (1) بدار السرور، مجلس الذهب أحد قصور المقتدر بن هود وفيه يقول ذو الوزارتين بن غندشلب (2) يهجو وزيراً كان (3) ينبز بتحقون: ضجّ من تحقون بيت الذّهب ... ودعا ممّا به واحربي ربّ طهّرني فقد دنّسني ... عار تحقون الموفّى الذنب وكتب بعض كبراء الأندلس إلى إخوانه (4) : كتابي هذا من وادي الزيتون، ونحن فيه مختلفون (5) ، ببقعة اكتست من السندس الأخضر، وتحلّت بأنواع الزهر، وتخايلت بأنهار تتخلّلها، وأشجار تظللها، تحجب أدواحها الشمس لالتفافها، وتأذن للنسيم فيميل من أعطافها، وما شئتم من محاسن تروق وتعجب، وأطيار تتجاوب بألحان تلهي وتطرب، في مثلها يعود الزمان كلّه صباً، وتجري الحياة على الأمل والمنى، وأنا فيها - أبقاكم الله سبحانه - بحال من طاب غذاؤه، وحسن استمراؤه، وصحا من جنون العقر، واستراح من مضض (6) الخمار، وزايلته وساوسه، وخلصت من الخباط هواجسه؛ ثم ذكر كلاماً من هذا النمط في وصف الخمار والدعاء إلى العقار.

_ (1) ق: الذي يسمى. (2) ك: عيد شلب - وهو خطأ -. (3) كان: سقطت من ق. (4) هذه الرسالة للكاتب بي المطرف عبد الرحمن بن فاخر المعروف بابن الدباغ، كان كاتباً عند المقتدر بن هود فاستوحش منه ولحق بالمعتمد بن عباد فرحب به وسفر بينه وبين المتوكل ابن الأفطس، ثم اختلف مع ابن عمار فهرب إلى المتوكل في بطليوس وكانت نهايته أن قتل ببطليوس (راجع ترجمته في الذخيرة - القسم الثالث: 82 وهذه القطعة من رسالته فيها ص: 93؛ والقلائد: 106 والمغرب 2: 440 ومسالك الأبصار 8: 221) . (5) كذا في ق ك ولعله: محتفلون، وفي ط ج: محتلون، وهو صواب. (6) الذخيرة: فضول.

فراجعه أبو الفضل بن حسداي برقعة قال في صدرها (1) : " إلى سيدنا (2) الذي ألزمنا بامتنانه الشكر، وكبيرنا الذي علّمنا ببيانه السّحر، وعميدنا الذي عقدنا بحرمه وانحلّ (3) ، ورمانا بدائه وانسلّ، أبقاك الله تعالى كتابك الذي أنفذتته من معرّسك بوادي الزيتون، ووقفنا على ما لقنت في أوصافه من حجّة المفتون، وإعجابك بالتفاف شجره ودوحاته، واهتزازك بلطيف بواكرهوروحاته، وغرورك (4) به وهو حوّ تلاعه، مورودة هضابه وأجراعه، وكل المشارب ما خلا ذميم (5) ، وماؤه الدهر خصر والمياه حميم، وتلك عادة تلوّنك، وسجيّة تخضرمك (6) ، وشاكلة ملالك وسأمك، وأشعر الناس عندك من أنت في شعره، وأحب البلاد إليك ما أنت في عقره، فأين منك بساتين جلّق وجنانه، ورياضه المونقة وخلجانه، وقبابه البيض في حدائقه الخضر، وجوّه العطر في جنابه النضر (7) ، وما تضمّه (8) جيطانه، وتمجّه أنجاده (9) غيطانه، من أمهات الراح التي طلّقتها (10) بزعمك، وموادّ (11) الشّمول التي

_ (1) الرسالة في الذخيرة (القسم الثالث) : 94 وأبو الفضل بن حسداي: هو حسداي بن يوسف بن حسداي الإسرائيلي أحد كتاب عصر الطوائف، الذخيرة (القسم الثالث) : 153 والقلائد: 183 والمغرب 2: 441 والمطرب: 196 وابن أبي أصيبعة 2: 50) . (2) ق ج: يا سيدنا. (3) ق ك ط: بحرمة الحل؛ ج: بحرمة الخل. (4) ق ج ودوزي: ومرورك؛ ك: وسرورك. (5) إشارة إلى قول الشاعر: اقرأ على الوشل السلام وقل له ... كل المشارب مذ هجرت ذميم (6) ق ط: تحضرمك؛ وفي ج ط ق ودوزي: وشجية. (7) دوزي وق: ووجوه العطر في جنابه النضر؛ ج: وجون العطر في جنابه النضر. (8) دوزي: وما تضمنه. (9) الذخيرة: وتحتوي عليه نجاده. (10) ق: هجرتها. (11) ك: ومورد. ج: وموارد.

طلّقتها برغمك، وهيهات فوالله ما فارقتك تلك الأجارع والمجاني، ولا شاقتك من جميل المشاهد، وأين من المشتاق عنقاء مغرب ثم ذكر كلاماً في جواب ما مرّ من الخمار لم يتعلّق لي به غرض. وما أحلى ما كتب به أبو إسحاق بن خفاجة من رسالة في ذكر منتزه (1) : ولما أكبّ الغمام إكباباً، لم أجد منه إغباباً، واتصل المطر اتّصالاً، لم ألف منه انفصالاً، أذن الله تعالى للصّحو أن يطلع صفحته، وينشر صحيفته، فقشعت الريح السحاب، كما طوى السجلّ الكتاب، وطفقت السماء تخلع جلبابها، والشمس تحطّ (2) نقابها، وتطلّعت (3) الدنيا تبتهج كأنّها عروس تجلّت، وقد تحلّت، ذهبت في لمّة من الإخوان نستبق إلى الراحة ركضاً، ونطوي للتفرّج أرضاً، فلا ندفع إلا إلى غدير، نمير، قد استدارت منه في كل قرارة سماء، سحائبها غمّاء، وانساب في كلّ تلعةٍ حباب، وجلده حباب، فتردّدنا بتلك الأباطح، نتهادى تهادي أغصانها، ونتضاحك تضاحك أقحوانها، وللنسيم، أثناء ذلك المنظر الوسيم، تراسل مشي، على بساط وشي، فإذا مر بغدير نسجه درعاً، وأحكمه صنعاً، وإن عثر بجدول شطب منه نصلاً، وأخلصه صقلاً، فلا ترى إلاّ بطاحاً، مملوءة سلاحاً، كأنّما انهزمت هنالك كتائب فألقت بما لبسته من درع مصقول، وسيفٍ مسلول. ومن فصل منها: فاحتللنا قبّة خضراء ممدودة أشطان الأغصان، وسندسية رواق الأوراق، ومازلنا نلتحف منها ببرد ظلٍّ ظليل، ونشتمل عليه برداء

_ (1) انظر هذه الرسالة في الذخيرة (القسم الثالث) : 173 وديوان ابن خفاجة: 317 والمقتطفات (الورقة: 22) . (2) ك: تميط. (3) ك: وطلعة.

نسيم عليل، ونجيل الطرف في نهر صقيل، صافي لجين الماء، كأنّه مجرّة السماء، مؤتلق جوهر الحباب، كأنّه من ثغور الأحباب، وقد حضرنا مسمعٌ يجري مع النفوس لطافة فهو يعلم غرضها وهواها، ويغني لها مقترحها ومناها، فصيح لسان النقر، يشفي من الوقر، كأنّه كاتب حاسب، تمشق يمناه، وتعقد يسراه: يحرّك حين يشدو ساكناتٍ ... وتنبعث الطبائع للسكون وكانت بين أبي إسحاق وبعض إخوانه مقاطعة، فاتفق أن ولي ذلك الصديق حصناً، فخاطبه أبو إسحاق برقعة، منها (1) : أطال الله بقاء سيّدي النبيهة أوصافه النزيهة عن الاستثناء، المرفوعة إمارته الكريمة بالابتداء، وما انحذفت ياء يرمي للجزم، واعتلت واو يغزو لموضع الضم، كتبت عن ودّ قديم هو الحال، لم يلحقها انتقال، وعهد كريم هو الفعل لم يدخله الاعتلال، والله يجعل هاتيك من الأحوال الثابتة اللازمة، ويعصم هذا بعدمن الحروف الجازمة، وأنا أستنهض طولك إلى تجديد عهدك بمطالعة ألف الوصل، وتعدية فعل الفصل، وعدولك عن باب ألف القطع، إلى باب الوصل والجمع، حتى يسقط لدرج الكلام بيننا هاء السكت، ويدخل الانتقال حال الصمت، فلا تتخيّل أعزّك الله أن رسم إخائك عندي ذو حساً (2) قد درس عفاء، ولا أن صدري دار مية أمسى من ودّك خلاء (3) ، وإنّما أنا فعلٌ إذا ثنّي ظهر من ضمير ودّه ما بطن، وبدا منها ما كمن، وهنيئاً أعزّك الله أن فعل وزارتك حاضر لا يلحق رفعه تغيير، وأن فعل سيفك ماضٍ ما به للعوامل تأثير، وأنت بمجدك جماع أبواب الظّرف، تأخذ نفسك العلية بمطالعة باب الصرف،

_ (1) الذخيرة: 176 والديوان: 326 والمقتطفات: 23. (2) إشارة إلى قول النابغة: " عفا ذو حساص من فرقتنا فالفوارع " وفي ك: دوحه قد درس. (3) إشارة أخرى إلى قول النابغة في وصف دارمية: " أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا ".

ودرس حروف العطف، وتدخل لام التبرئة على ما حدث من عتبك، وتوجب بعد النفي ما سلف من قربك (1) ، وتدع ألف الألفة أن تكون بعد من حروف اللين، وترفع بالإضافة بيننا وجود التنوين، وتسوم ساكن الود أن يتحرّك ومعتلّ الإخاء أن يصح، وكتابي هذا حرف صلة فلا تحذفه حتى تعود الحال الأولى صفة، وتصير هذه النكرة معرفة، فأنت أعزّك الله مصدر فعل السرور والنبل، ومنك اشتقاق اسم السؤدد والفضل، وإنّك وإن تأخّر العصر بك كالفاعل وقع مؤخراً، وعدوك وإن تكبر كالكميت لم يقع إلاّ مصغّراً، وللأيّام علل تبسط وتقبض، وعوامل ترفع وتخفض، فلا دخل عروضك قبض، ولا عاقب رفعك خفض، ولا زلت مرتبطاً بالفضل شرطك وجزاؤك، جارياً على الرفع سروك الكريم وسناؤك، حتى يخفض الفعل، وتبنى على الكسر قبل، إن شاء الله. وكتب رحمه الله تعالى يستدعي عود غناء (2) : انتظم من إخوانك - أعزّك الله تعالى - عقد شرب يتساقون في ودّك، ويتعاطون ريحانة شكرك وحمدك، وما منهم إلا شره المسامع إلى رنّة حمامة ناد، لا حمامة بطن واد، والطّول لك في صلتها بجماد ناطق قد استعار من بنانٍ لساناً، وصار لضمير صاحبه ترجماناً، وهو على الإساءة والإحسان لا ينفكّ من إيقاع به، من غير إيجاع له، فإن هفا عركت أذنه وأدّب، وإن تأتّى (3) واستوى بعج بطنه وضرب، لا زلت منتظم الجذل، ملتئم الأمل، انتهى. [قصيدة لابن خفاجة] ومن نظمه رحمه الله تعالى يتفجع ويتوجع (4) :

_ (1) ك: عبدك؛ ق: عتبك. (2) الذخيرة: 174 والديوان: 319. (3) ك: تأبى؛ ق ج: تأنى. (4) الذخيرة: 181 والديوان: 217 وفيها يرثي الوزير أبا محمد بن ربيعة إثر وفاة جملة من إخوانه.

شراب الأماني لو علمت سراب ... وعتبى الليالي لو عرفت عتاب وهل مهجة الإنسان إلا طريدةٌ ... يحوم عليها للحمام عقاب يخبّ بها في كلّ يوم وليلة ... مطايا إلى دار البلى وركاب وكيف يغيض الدمع أو يبرد الحشا ... وقد باد أقرانٌ وفات شباب أقلّب طرفي لا أرى غير ليلة ... وقد حطّ عن وجه الصباح نقاب كأنّي، وقد طار الصباح، حمامةٌ ... يمدّ جناحيه عليّ غراب دعا بهم داعي الردى فكأنّم ... تبارت بهم خيلٌ هناك عراب فها هم وسلم الدهر حرب كأنّما ... جثا بهم (1) طعن لهم وضراب هجود ولا غير التراب حشيّةٌ ... لجنب ولا غير القبور قباب ولست بناس صاحباً من ربيعة ... إذا نسيت رسم الوفاء صحاب ومما شجاني أن قضى حتف أنفه ... وما اندقّ رمحٌ دونه وكعاب (2) وأنّا تجارينا ثلاثين حجّةً ... ففات (3) سباقاً والحمام قصاب كأن لم نبت في منزل القصف ليلة ... نجيب بها داعي الصّبا ونجاب إذا قام منّا قائمٌ هزّ عطفه ... شبابٌ أرقناه بها وشراب ولمّا تراءت للمشيب بريقةٌ ... وأقشع من ظلّ الشباب سحاب نهضنا بأعباء الليالي جزالةً ... وأرست بنا في النائبات هضاب فيا ظاعناً قد حطّ من ساحة البلى ... بمنزلٍ بينٍ ليس عنه مآب كفى حزناً أن لم يزرني على النّوى ... رسولٌ ولم ينفذ إليك كتاب وأنّي إذا يمّمت قبرك زائراً ... وقفت ودوني للتراب حجاب ولو أنّ حيّاً كان حاور ميتاً ... لطال كلامٌ بيننا وخطاب وأعرب عمّا عنده من جليّةٍ ... فأقشع عن شمسٍ هناك ضباب

_ (1) ك: بينهم. (2) الذخيرة والديوان: وذباب. (3) أصول المقري: حقبة، فمات.

[عود إلى عمران قرطبة] وقد أبعدنا عمّا كنّا بصدده من ذكر قرطبة أعادها الله للإسلام، فنقول: قال بعض من أرّخ الأندلس: انتهت مساجد قرطبة أيّام عبد الرحمن الداخل إلى أربعمائة وتسعين مسجداً، ثم زادت بعد ذلك كثيراً كما يأتي ذكره. وقال بعضهم (1) : كانت قرطبة قاعدة الأندلس، وأم المدائن، وقرارة الملك، وكان عدد شرفاتها أربعة آلاف وثلاثمائة، وكانت عدّة الدور في القصر الكبير أربعمائة دار ونيّفاً وثلاثين، وكانت عدّة دور الرعايا والسّواد بها الواجب على أهلها المبيت في السور مائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار، حاشا دور الوزراء وأكابر الناس والبياض. ورأيت في بعض الكتب أن هذا العدد كان أيام لمتونة والموحّدين، قال: وكانت ديار أهل الدولة إذ ذاك ستة آلاف دار وثلاثمائة دار، انتهى. وعدد أرباضها ثمانية وعشرون، وقيل: واحد وعشرون، ومبلغ المساجد بها ثلاثة آلاف وثمانمائة وسبعة وثلاثون مسجداً، وعدد الحمّامات المبرزة للناس سبعمائة حمّام: وقيل ثلاثمائة حمّام. وقال ابن حيان: إن عدّة امساجد عند تناهيها في مدة ابن أبي عامر ألف وستمائة مسجد، والحمامات تسعمائة حمام (2) . وفي بعض التواريخ القديمة: كان بقرطبة في الزمن السالف ثلاثة آلاف مسجد وثمانمائة وسبعة وسبعون مسجداً - منها بشقندة ثمانية عشر مسجداً - وتسعمائة حمّام وأحد عشر حمّاماً، ومائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار للرعية خصوصاً، وربما نصف العدد أو أكثر لأرباب الدولة وخاصتها، هكذا نقله

_ (1) انظر أزهار الرياض 2: 272. (2) دوزي: ستمائة حمام.

في المغرب، وهو أعلم بما يأتي ويذر، رحمه الله تعالى. وقال بعض المؤرخين - بعد ذكره نحو ما تقدّم (1) -: ووسط الأرباض قبّة قرطبة التي تحيط (2) بالسور دونها، وأمّا اليتيمة التي كانت في المجلس البديع فإنّها كانت من تحف قصر اليونانيين بعث بها صاحب القسطنطينية إلى الناصر مع تحف كثيرة سنية، انتهى. ونحوه لابن الفرضي وغير واحد، لكن خالفهم صاحب " المسالك والممالك " (3) فذكر أن عدد المساجد بقرطبة أربعمائة مسجد وأحد وسبعون مسجداً، وهو بعيد، وقال قبله (4) : إن دور قرطبة في كمالها ثلاثون ألف ذراع، وتفسيرها باللسان القوطي القلوب المختلفة، وهو بالقوطيّة بالظاء المشالة، وقيل: إن معنى قرطبة أجر فاسكنها (5) ، قال: وبقرطبة أقاليم كثيرة وكورٌ جليلة، وكانت جبايتها في أيّام الحكم بن هشام مائة ألف دينار وعشرة آلاف دينار وعشرين ديناراً، وسبق ما يخالف هذا، ومن القمح أربعة آلاف مدي وستمائة مدي، ومن الشعير سبعة آلاف مدي وستمائة مدي وسبعة وأربعين مدياً. وقال بعض العلماء: أحصيت دور قرطبة التي بها وأرباضها أيام ابن أبي عامر فكان مائتي ألف دار وثلاثة ألف دار وسبعاً وسبعين داراً، وهذه دور الرعيّة، وأمّا دور الأكابر والوزراء والكتّاب والأجناد وخاصّة الملك فستّون ألف دار وثلاثمائة دار، سوى مصاري (6) الكراء والحمّامات والخانات، وعدد الحوانيت ثمانون ألف حانوت وأربعمائة وخمسة وخمسون، ولما كانت الفتنة على رأس المائة الرابعة غيرت رسوم ذلك العمران، ومحيت آثار تلك

_ (1) أزهار الرياض 2: 272. (2) ق ط ج: تختص. (3) مخطوطة المسالك والممالك (الورقة: 220) . (4) المصدر السابق (الورقة: 219) . (5) قد مر أنه " أجر ساكنها " وفي نسخة الروض المعطار: " آخر فاسكنها ". (6) المصاري: جمع مصرية وهي غرفة علوية منعزلة، تكرى أو تجعل للخدم.

القرى والبلدان، انتهى ملخّصاً. وسيأتي في رسالة الشّقندي ما هو أشمل من هذا. [قصيدة القرطبي والمتنزهات] ولمّا رقّت حال أبي القاسم عامر بن هشام القرطبي (1) بقرطبة وزيّن له بعض أصحابه الرحلة إلى حضرة ملك الموحّدين مرّاكش قال وذكر المنتزهات القرطبية: يا هبّةً باكرت من نحو دارين ... وافت إليّ على بعدٍ تحيّيني سرت على صفحات النهر ناشرة ... جناحها بين خيريّ ونسرين ردّت إلى جسدي روح الحياة وما ... خلت النسيم إذا ما متّ يحييني لولا تنسّمها من نشر أرضكم ... ما أصبحت من أليم الوجد تبريني مرّت على عقدات الرمل حاملةً ... من سرّكم خبراً بالوحي يشفيني عرفت من عرفه ما لست أجهله (2) ... لما تنسّم في تلك الميادين نزوت من طربٍ لمّا هفا سحراً ... وظلّ ينشرني طوراً ويطويني خلت الشمال شمولاً إذ سكرت بها ... سكراً بما لست أرجوه يمنّيني أهدت إليّ أريجاً من شمائلكم ... فقلت: قربني من كان يقصيني وخلت من طمعٍ أن اللّقاء على ... إثر النسيم وأضحى الشوق يحدوني فظلت ألثم من تعظيم حقّكم ... مجرّ أذيالها والوجد ويغريني مسارح كم بها سرحت من كمدٍ ... قلبي وطرفي ولا سلوان يثنيني بين المصلّى إلى وادي العقيق وما ... يزال مثل اسمه مذ بان يبكيني إلى الرّصافة فالمرج النضير فوا ... دي الدير فالعطف من بطحاء عبدون

_ (1) شاعر وشاح مترسل مشهور بالبطالة صلحت حاله بأخرة وأقبل على النسك (توفي سنة 623) - انظر التكملة رقم: 1944 والمغرب 1: 75. (2) ك: ما كنت أجهله.

لباب عبد سقته السّحب وابلها ... فلم يزل بكؤوس الأنس يسقيني لا باعد الله عيني عن منازهه ... ولا يقرّب لها أبواب جيرون حاشا لها من محلاّت (1) مفارقة ... من شيّق دونها في القرب محزون أين المسير ورزق الله أدركه ... من دون جهدٍ وتأميل يعنّيني يا من يزيّن لي الترحال عن بلدي ... كم ذا تحاول نسلاً عند عنّين وأين يعدل عن أرجاء قرطبة ... من شاء يظفر بالدّنيا وبالدين قطرٌ فسيحٌ ونهر ما به كدرٌ ... حفّت بشطّيه ألفاف البساتين يا ليت لي عمر نوجٍ في إقامتها ... وأنّ مالي فيه كنز قارون كلاهما كنت أفنيه على نشوا ... ت الراح نهباً ووصل الخرّد العين (2) وإنّما أسفي أنّي أهيم بها ... وأنّ حظّي منها حظّ مغبون أرى بعيني ما لا تستطيل يدي ... له وقد حازه من قدره دوني وأنكد الناس عيشاً من تكون له ... نفس الملوك وحالات المساكين يغضّ طرف التصابي حين تبهته ... قضبان نعمان في كثبان يبرين قالوا: الكفاف مقيمٌ قلت: ذاك لمن ... لا يستخفّ إلى بيت الزراجين ولا يبلبله هبّ الصّبا سحراً ... ولا يلطّفه عرف الرياحين ولا يهيم بتفّاح الخدود ورمّا ... ن الصّدور (3) وترجيع التلاحين لا تجتنى راحةٌ إلاّ على تعبٍ ... ولا تنال العلا إلاّ على الهون وصاحب العقل في الدنيا أخو كدرٍ ... وإنّما الصفو فيها للمجانين يا آمري أن أحثّ العيس عن وطني ... لمّا رأى الرزق فيه ليس يرضيني نصحت لكنّ لي قلباً ينازعني ... فلو ترحّلت عنه حلّه دوني لألزمن وطني طوراً تطاوعني ... قود الأماني وطوراً فيه تعصيني

_ (1) ق ط: مجلات. (2) ك: الحور والعين. (3) دوزي: النهود.

مدللاً بين عرفاني واضرب عن ... سير لأرضٍ بها من ليس يدريني هذا يقول غريبٌ ساقه طمعٌ ... وذاك حين أريه البرّ يجفوني إليك عنّي آمالي فبعدك يه ... ديني وقربك يطغيني ويغويني يا لحظ كلّ غزالٍ لست أملكه ... يدنو وما لي حالٌ منه تدنيني ويا مدامة ديرٍ لا ألمّ به ... لولاكما كان ما أعطيت يكفيني لأصبرنّ على ما كان من كدرٍ ... لمن عطاياه بين الكاف والنّون وتسمى هذه القصيدة عند أهل الأندلس " كنز الأدب " وقد أشرنا في الباب (1) الأول إلى كثير ممّا يتعلّق بقرطبة، أعادها الله تعالى إلى الإسلام، فأغنى عن إعادته، وإن كان ذكره هنا أنسب، لأن ما تقدّم إنّما هو في ذكرها مع غيرها من بلاد الأندلس، وهذا الباب (2) لها بالاستقلال. وأنشد أبو العاصي غالب بن أميّة الموروري (3) لما جلس على نهر قرطبة بإزاء الرّبض ملتفتاً إلى القصر، بديهة (4) : يا قصر كم [قد] حويت من نعمٍ ... عادت لقىً في عوارض (5) السكك يا قصر كم [قد] حويت من ملكٍ ... دارت عليه دوائر الفلك ابق بما شئت كلّ متّخذٍ ... يعود يوماً (6) بحال متّرك وقال القاضي أبو الفضل عياض عند ارتحاله عن قرطبة (7) :

_ (1) ق ك ط ج: الفصل. (2) ق ك ط ج: الفصل. (3) غالب بن أمية بن غالب الموروري (ويترجم له أيضاً تحت أمية بن غالب) من شعراء القرن الرابع سكن قرطبة. (انظر ترجمته في التكملة رقم: 1955 والجذوة: 305 وبغية الملتمس رقم: 1275) والأبيات الوادة له مذكورة في هذه المصادر. (4) حولت الأبيات حسب رواية النفح إلى الوزن الكامل امرفل، ولكنها جاءت مع أبيات أخرى في الجذوة والبغية على وزن المنسرح فلذلك عدلنا بها إلى ذلك الوزن. (5) أصول النفح: بعوارض. (6) أصول النفح: ما شئت فابق فكل متخذ يوماً يعود. (7) وردت الأبيات في ترجمة القاضي عياض في القلائد: 222 - 226 وانظر أزهار الرياض 3: 18.

أقول وقد جدّ ارتحالي وغرّدت ... حداتي وزمّت للفراق ركائبي وقد غمضت من كثرة الدّمع مقلتي ... وصارت هواء من فؤادي ترائبي ولم يبق إلا وقفة يستحثّها ... وداعي للأحباب لا للحبائب رعى الله جيراناً بقرطبة العلا ... وجاد رباها بالعهاد السّواكب وحيّا زماناً بينهم قد ألفته ... طليق المحيّا مستلان الجوانب أإخواننا بالله فيها تذكّروا ... مودّة جارٍ أو مودّة صاحب غدوت بهم من برّهم واحتفائهم ... كأنّي في أهلي وبين أقاربي [مسجد قرطبة] وأمّا مسجد قرطبة فشهرته تغني عن كثرة الكلام فيه، ولكن نذكر من أوصافه وننشر من أحواله ما لا بدّ منه، فنقول: قال بعض المؤرخين: ليس في بلاد الإسلام أعظم منه، ولا أعجب بناء وأتقن صنعة، وكلّما اجتمعت منه أربع سواري كان رأسها واحداً، ثم صف رخام منقوش بالذهب واللازورد في أعلاه وأسفله، انتهى. وكان الذي ابتدأ بنيان (1) هذا المسجد العظيم عبد الرحمن بن معاوية المعروف بالداخل، ولم يكمل في زمانه، وكمله ابنه هشام، ثمّ توالى الخلفاء من بني أميّة على الزيادة فيه، حتى صار المثل مضروباً به، والذي ذكره غير واحد أنّه لم يزل كل خليفة يزيد فيه على من قبله إلى أن كمل على يد نحو الثمانية من الخلفاء. وقال بعض المؤرخين: إن عبد الرحمن الداخل لما استقر أمره وعظم (2) بنى القصر بقرطبة، وبنى المسجد الجامع، وأنفق عليه ثمانين ألف دينار، وبنى بقرطبة الرّصافة تشبيهاً برصافة جده هشام بدمشق.

_ (1) ك: بناه. (2) وعظم: زيادة في ك.

وقال بعض (1) : إنّه أنفق على الجمع ثمانين ألف دينار، واشترى موضعه إذ كان كنيسة بمائة ألف دينا، فالله تعالى أعلم. وقال بعض في ترجمة عبد الرحمن الداخل ما صورته: إنّه لما تمهّد ملكه شرع في تعظيم قرطبة، فجدد مغانيها، وشيّد مبانيها، وحصّنها بالسور، وابتنى قصر الإمارة والمسجد الجامع، ووسع فناءه، وأصلح مساجد الكور، ثم ابتنى مدينة الرّصافة متنزهاً له، واتخذ بها قصراً حسناً، وجناناً واسعة، نقل إليها غرائب الغراس وكرائم الشجر من بلاد الشام وغيرها من الأقطار، انتهى. وكانت أخته أم الأصبغ ترسل إليه من الشام بالغرائب، مثل الرّمان العجيب الذي أرسلته إليه من دمشق الشام كما مرّ، وسيأتي كلام ابن سعيد بما هو أتم من هذا. ولما ذكر ابن بشكوال زيادة المنصور بن أبي عامر في جامع قرطبة قال (2) : ومن أحسن ما عاينه الناس في بنيان هذه الزيادة العامريّة أعلاج النصارى مصفّدين في الحديد من أرض قشتالة وغيرها، وهم كانوا يتصرّفون في البنيان عوضاً من رجّالة المسلمين، إذلالاً للشّرك وعزةً للإسلام، ولما عزم على زيادته هذه جلس لأرباب الدور التي نقلها أصحابها عنها بنفسه، فكان يؤتى بصاحب المنزل فيقول له: إن هذه الدار التي لك يا هذا أريد ابتياعها (3) لجماعة المسلمين من مالهم ومن فيئهم لأزيدها في جامعهم وموضع صلاتهم، فشطّط واطلب ما شئت، فإذا ذكر له أقصى الثمن أمر أن يضاعف له، وأن تشترى له بعد ذلك دار عوضاً منها، حتى أتي بامرأة لها دار بصحن الجامع فيها نخلة، فقالت: لا أقبل عوضاً إلاّ داراً بنخلة، فقال: تبتاع لها دار بنخلة، ولو ذهب فيها

_ (1) ك: وقال بعض المؤرخين. (2) قارن بما ورد في مخطوط الرباط: 30. (3) ك: أريد أن أبتاعها.

بيت المال، فاشتريت لها دار بنخلة، وبولغ في الثمن؛ وحكى ذلك ابن حيّان أيضاً. وقيل: إن إنفاق الحكم في زيادة الجامع كان مائة ألف وواحداً وستين ألف دينار ونيّفاً، وكلّه من الأخماس. وقال صاحب كتاب مجموع المفترق: وكان يقف البلاط من المسجد الجامع من القبلة إلى الجوف قبل الزيادة مائتين وخمسة وعشرين ذراعاً، والعرض من الشرق إلى الغرب قبل الزيادة مائة ذراع وخمسة أذرع، ثم زاد الحكم في طوله مائة ذراع وخمسة أذرع، فكمل الطول ثلاثمائة ذراع وثلاثين ذراعاً، وزاد محمّد بن أبي عامر بأمر هشام بن الحكم في عرضه من جهة المشرق ثمانين ذراعاً، فتم العرض مائتي ذراع وثلاثين ذراعاً، وكان عدد بلاطاته أحد عشر بلاطاً، عرض أوسطها ستة عشر ذراعاً، وعرض كل واحد من اللذين يليانه غرباً واللذين يليانه شرقاً أربعة عشر ذراعاً، وعرض كل واحد من الستة الباقية أحد عشر ذراعاً، وزاد ابن أبي عامر فيه ثمانيةً عرض كل واحد عشرة أذرع، وكان العمل في زيادة المنصور سنتين ونصفاً، وخدم فيه بنفسه، وطول الصحن من المشرق إلى المغرب مائة ذراع وثمانية وعشرون ذراعاً، وعرضه من القبلة إلى الجوف مائة ذراع وخمسة أذرع، وعرض كل واحدة من السقائف المستديرة بصحنه عشرة أذرع، فتكسيره ثلاثة وثلاثون ألف ذراع ومائة وخمسون ذراعاً، وعدد أبوابه تسعة: ثلاثة في صحنه غرباً وشرقاً وجوفاً، وأربعة في بلاطاته: اثنان شرقيان واثنان غربيّان، وقي مقاصير النساء من السقائف بابان، وجميع ما فيه من الأعمدة ألف عمود ومائتا عمود وثلاثة وتسعون عموداُ رخاماُ كلّها، وباب مقصورة الجامع ذهب، كذلك جدار المحراب وما يليه قد أجري فيه الذهب على الفسيفساء، وثريّت المقصورة فضّة محضة، وارتفاع الصومعة اليوم - وهي من بناء عبد الرحمن ابن محمد - ثلاثة وسبعون ذراعاً إلى أعلى القبّة المفتّحة التي يستدير بها المؤذن

رجع إلى المنارة:

وفي رأس هذه القبة تفافيح (1) ذهب وفضّة، ودور كل تفاحة ثلاثة أشبار ونصف، فاثنتان من التفافيح ذهب إبريز، وواحدة فضّة، وتحت كل واحدة منها وفوقها سوسنة قد هندست بأبدع صنعة، ورمانة ذهب صغيرة على رأس الزج، وهي إحدى غرائب الأرض. وكان بالجامع المذكور (2) في بيت منبره مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه الذي حطّه بيده، وعليه حلية ذهب مكلّلة بالدر والياقوت، وعليه أغشية الديباج، وهو على كرسيّ العود الرّطب بمسامير الذهب. رجع إلى المنارة: وارتفاع المنارة إلى مكان الأذان أربعة وخمسون ذراعاً، وطول كل حائط من حيطانها على الأرض ثمانية عشر ذراعاً، انتهى بحروفه. وفيه بعض مخالفة لما ذكره ابن الفرضي وبعضهم، إذ قال في ترجمة المنصور بن أبي عامر ما صورته (3) : وكان من أخبار المنصور الداخلة في أبواب البر (4) والقربة بنيان المسجد الجامع والزيادة فيه سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، وذلك أنّه لما زاد الناس بقرطبة وانجلب إليها قبائل البربر من العدوة وإفريقية، وتناهى حالها في الجلالة، ضاقت الأرباض وغيرها، وضاق المسجد الجامع عن حمل الناس، فشرع المنصور في الزيادة بشقيه حيث تتمكّن الزيادة لاتصال الجانب الغربي بقصر الخلافة، فبدأ ابن أبي عامر هذه الزيادة على بلاطات تمتد طولاً من أول المسجد إلى آخره، وقصد ابن أبي عامر في هذه الزيادة المبالغة في

_ (1) تسمى في مخطوط الرباط: " رمانات ". (2) انظر مخطوط الرباط: 33؛ والروض المعطار: 155. (3) النص في ابن عذاري 2: 428. (4) ق: ودوزي: الخير والبر.

الإتقان والوثاقة، دون الزخرفة، ولم يقصّر - مع هذا - عن سائر الزيادات جودة، ما عدا زيادة الحكم. وأوّل ما عمله ابن أبي عام تطييب نفوس أرباب الدور الذين اشتريت منهم للهدم لهذه الزيادة بإنصافهم من الثمن، وصنع في صحنه الجبّ العظيم قدره، الواسع فناؤه، وهو - أعني ابن أبي عامر - هو الذي رتّب إحراق الشمع بالجامع زيادة للزيت (1) ، فتطابق بذلك النوران، وكان عدد سواري الجامع الحاملة لسمائه واللاصقة بمبانيه وقبابه ومناره بين كبيرة وصغيرة ألف سارية وأربعمائة سارية وسبع عشرة سارية، وقيل: أكثر، وعدد ثريّات الجامع ما بين كبيرة وصغيرة مائتان وثمانون ثريا، وعدد الكؤوس سبعة آلاف كاس وأربعمائة كأس وخمسة وعشرون كأساً، وقيل: عشرة آلاف وثمانمائة وخمس كؤوس، وزنة مشاكي الرصاص للكؤوس المذكورة عشرة أرباع (2) أو نحوها، وزنة ما يحتاج إليه من الكتان للفتائل في كل شهر رمضان ثلاثة أرباع القنطار، وجميع ما يحتاج إليه الجامع من الزيت في السنة خمسمائة وربع أو نحوها، يصرف منه في رمضان خاصة نحو نصف العدد، وممّا كان يختصّ برمضان المعظّم ثلاثة قناطير من الشمع وثلاثة أرباع القنطار من الكتان المقطن لإقامة الشمع المذكور، والكبيرة من الشمع التي تؤخذ بجانب الإمام يكون وزنها من خمسين إلى ستين رطلاً، يحترق بعضها بطول الشهر، ويعم الحرق لجميعها ليلة الختمة، وكان عدد من يخدم الجامع المذكور بقرطبة في دولة ابن أبي عامر ويتصرف فيه من أئمة ومقرئين وأمناء ومؤذنين وسدنة وموقدين وغيرهم من المتصفين مائة وتسعة وخمسين شخصاً (3) ، ويرقد من البخور ليلة الختمة أربع أواقٍ من العنبر الأشهب وثماني أواقٍ من العود الرطب، انتهى.

_ (1) ابن عذاري: للرسم. (2) ابن عذاري: عشرة أرباع القنطار. (3) مخطوط الرباط: ثلاثمائة رجل، وهو يوافق ما سيأتي من نقل عن ابن سعيد.

وقال بعض المؤرخين: كان للجامع كل ليلة جمعة (1) رطل عود، وربع رطل عنبر، يتبخر به، انتهى. وقال ابن سعيد، نقلاً عن ابن بشكوال: طول جامع قرطبة الأعظم الذي هو بداخل مدينتها من القبلة إلى الجوف ثلاثمائة وثلاثون ذراعاً، الصحن المكشوف عنه ثمانون ذراعاً، وغير ذلك مقرمد، وعرضه من الغرب إلى الشرق مائتان وخمسون ذراعاً، وعدد أبهائه عند اكتمالها بالشمالية التي زادها المنصور بن أبي عامر بعد هذا تسعة عشر بهواً، وتسمى البلاطات، وعدد أبوابه الكبار والصغار واحد وعشرون باباً: في الجانب الغربي تسعة أبواب، منها واحد كبير للنساء يشرع إلى مقاصيرهن، وفي الجهة الشرقية تسعة أبواب، منها لدخول الرجال ثمانية أبواب، وفي الجهة الشمالية ثلاثة أبواب، منها لدخول الرجال بابان كبيران وباب لدخول النساء إلى مقاصيرهنّ، وليس لهذا الجامع في القبليّ سوى باب واحد بداخل المقصورة المتخذة في قبلته متصل بالساباط المفضي إلى قصر الخلافة منه كان السلطان يخرج من القصر إلى الجامع لشهود الجمعة، وجميع هذه الأبواب ملبّسة بالنحاس الأصفر بأغرب صنعة، وعدد سواري هذا المسجد الجامع الحاملة لسمائه والملصقة (2) بمبانيه وقبابه ومناره وغير ذلك من أعماله بين كبار وصغار ألفٌ وأربعمائة سارية وتسع سوار، منها بداخل المقصورة مائة وتسع عشرة سارية. وذكر المقصورة البديعة التي صنعها الحكم المستنصر في هذا الجامع فقال: إنّه خطر بها على خمسة بلاطات من الزيادة الحكمية، وأطلق حفافيها على الستة الباقية: ثلاثة من كلّ جهة، فصار طولها من الشرق إلى الغرب خمسة وسبعين ذراعاً وعرضها من جدار الخشب إلى سور المسجد بالقبلة اثنين

_ (1) ق: كل جمعة. (2) في ط: والملتصقة؛ ج: والملاصقة.

وعشرين ذراعاً وارتفاعها في السماء إلى حدّ شرفاتها ثمانية أذرع، وارتفاع كل شرفة ثلاثة أشبار، ولهذه المقصورة ثلاثة أبواب بديعة الصنعة عجيبة النقش شارعة إلى الجامع شرقيّ وغربيّ وشماليّ، ثم قال: وذرع المحراب في الطول من القبلة إلى الجوف ثمانية أذرع ونصف، وعرضه من الشرق إلى الغرب سبعة أذرع ونصف، وارتفاع قبوه في السماء ثلاثة عشر ذراعاً ونصف، والمنبر إلى جنبه مؤلف من أكارم الخشب ما بين آبنوس وصندل ونبع وبقّمٍ وشوحط وما أشبه ذلك، ومبلغ النفقة فيه خمسة وثلاثون ألف دينار وسبعمائة دينار وخمسة دنانير وثلاثة دراهم وثلث درهم (1) وقيل غير ذلك، وعدد درجه تسع درجات صنعة الحكم المستنصر رحمه الله. وذكر أن عدد ثريّات الجامع التي تسرج فها المصابيح بداخل البلاطات خاصّة - سوى ما منها على الأبواب - مائتان وأربع وعشرون ثريّا، جميعها من لاطون مختلفة الصنعة، منها أربع ثريّات كبار معلقة في البلاط الأوسط أكبرها الضخمة المعلّقة في القبّة الكبرى التي فيها المصاحف حيال المقصورة، فيها من السّرج - فيما زعموا - ألف وأربعة وخمسون (2) ، تستوقد هذه الثريات الضخام في العشر الأخير من شهر رمضان، تسقى كل ثريّا منها سبعة أرباع في الليلة، وكان مبلغ ما ينفق من الزيت على جميع المصابيح في هذا المسجد في السنة أيام تمام وقوده في مدّة ابن أبي عامر مكملة بالزيادة المنسوبة ألف ربع، منها في شهر رمضان سبعمائة وخمسون ربعاً، قال: وفي بعض التواريخ القديمة كان عدد القومة بالمسجد الجامع بقرطبة في زمن الخلفاء وفي زمن ابن أبي عامر ثلاثمائة، انتهى. وفيه مخالفة لبعض ما تقدّم. وذكر بعضهم الزيت - ولكن قوله أولى بالاتباع، لنقله عن ابن بشكوال،

_ (1) وثلث درهم: سقطت من ك. (2) في ك: ألف وأربعمائة وخمسون.

ولمعرفة ابن سعيد بمثل هذا وتحقيقه فيه أكثر من غيره، والله سبحانه أعلم - فقال: ألف ربع وثلاثون ربعاً، منها في رمضان خمسمائة ربع، وفي الثريات التي من الفضة - وهي ثلاث - اثنان وسبعون رطلاً، لكل واحدة ثمانية عشر في ليلة وقدها. وقال في المنبر: إنّه مركب من ستة وثلاثين ألف وصل، قام كل واحد منها بسبعة دراهم فضّة، وسمرت بمسامير الذهب والفضّة، وفي بعضها نفيس الأحجار، واتصل العمل فيه تسعة، ثم قال: ودور الثريا العظيمة خمسون شبراً، وتحتوي على ألف كأس وأربعة وثمانين، كلّها موشّاة بالذهب، إلى غير ذلك من الغرائب. [وصف جامع قرطبة لابن صاحب الصلاة] وكتب الفقيه الكاتب أبو محمّد إبراهيم ابن صاحب الصلاة الولبني يصف جامع قرطبة بما نصّه (1) : عمر الله سبحانه بشمول السعادة رسمك، ووفر من جزيل الكرامة قسمك، ولا برحت سحائب الإنعام تهمي عليك ثرّة، وأنامل الأيام تهدي إليك كلّ مسرّة، لئن كان أعزّك الله طريق الوداد بيننا عامراً، وسبيل الاتحاد (2) غامراً، لوجب أن نفض ختمه، ونرفض كتمه، لا سيّما فيما يدرّ أخلاف الفضائل، ويهز أعطاف الشمائل، وإنّي شخصت إلى حضرة قرطبة - حرسها الله تعالى - منشرح الصدر، لحضور ليلة القدر، والجامع - قدس الله تعالى بقعته ومكانه، وثبت أساسه وأركانه - قد كسي ببردة الازدهاء، وجلي في معرض البهاء، كأن شرفاته فلول في سنان، أو أشرٌ في أسنان، وكأنما ضربت على سمائه كلل، أو خلعت على أرجائه حلل، وكأن الشمس قد خلّفت فيه ضياءها، ونسجت على أقطاره أفياءها، فترى نهاراً

_ (1) وردت هذه الرسالة في المقتطفات (الورقة: 35 - 37) . (2) ك: وسبيل المحبة؛ وفي ط بياض موضع " الاتحاد ".

قد أحدق به ليل، كما أحدق بربوةٍ سيل، ليل دامس، ونهار شامس، وللذّبال تألّق كنضنضة الحيات، أو إشارة السبّابات في التحيّات، قد أترعت من السليط كؤوسها، ووصلت بمحاجن الحديد رؤوسها، ونيطت بسلاسل كالجذوع القائمة، أو كالثعابين العائمة، عصبت بها تفاح من الصّفر، كاللّفّاح الصّفر: بولغ في صقلها وجلائها، حتى بهرت بحسنها ولألائها، كأنّها جليت باللهب، وأشربت ماء الذهب، إن سامتّها طولاً رأيت منها سبائك عسجد، أو قلائد زبرجد، وإن جئتها (1) عرضاً رأيت منها أفلاكاً ولكنّها غير دائرة، ونجوماً ولكنّها ليست بسائرة، تتعلّق تعلّق القرط من الذّفرى، وتبسط شعاعها بسط الأديم حين يفرى، والشمع قد رفعت على المنار رفع البنود، وعرضت عليها عرض الجنود، ليجتلي طلاقة روائها القريب والبعيد، ويستوي في هداية ضيائها الشقي والسعيد، وقد قوبل منها مبيضّ بمحمرّ، وعروض مخضرّ بمصفرّ، تضحك ببكائها وتبكي بضحكها، وتهلك بحياتها وتحيي بهلكها، والطيب تفغم أفواحه، وتتنسّم أرواحه، وقتار الألنجوج والند، يسترجع من روح الحياة ما ندّ، وكلّما تصاعد وهو محاصر، أطال من العمر ما كان تقاصر، في صفوف (2) مجامر، ككعوب مقامر، وظهور القباب مؤللة، وبطونها مهللة، كأنّها تيجان، رصّع فيها ياقوت ومرجان، قد قوس محرابها أحكم تقويس، ووشم بمثل ريش الطواويس، حتى كأنّه بالمجرّة مقرطق، وبقوس قزح ممنطق، وكأن اللازورد حول وشومه، وبين رسومه، نتف من قوادم الحمام، أو كسف من ظلل الغمام، والناس أخياف في دواعيهم، وأوزاع في أغراضهم ومراميهم، بين ركّع وسجّد، وأيقاظ وهجّد، ومزدحم على الرقاب يتخطاها، ومقتحم على الظهور يتمطّاها،

_ (1) ك: أتيتها. (2) ق: الحياة ما هو مزجوج وأقيمت في صفوف (وهو مضطرب ناقص) .

كأنّهم ردٌ خلال قطر، أو حروف في عرض (1) سطر، حتى إذا قرعت أسماعهم روعة التسليم، تبادروا بالتكليم، وتجاذبوا بالأثواب، وتساقوا بالأكواب، كأنّهم حضور طال عليهم غياب، أو سفر أتيح لهم إياب، وصفيّك مع إخوان صدق، تنسكب العلوم بينهم انسكاب الودق، في مكان كوكر العصفور، أستغفر الله أو ككناس اليعفور، كأن إقليدس قد قسم بيننا مساحته بالموازين، وارتبطنا فيه ارتباط البيادق بالفرازين، حتى صار عقدنا لا يحلّ، وحدّنا لا يفلّ، بحيث نسمع سور التنزيل كيف تتلى، ونتطّلع صور التفصيل (2) كيف تجلى، والقومة حوالينا يجهدون في دفع الضرر، ويعمدون إلى قرع العمد بالدّرر، فإذا سمع بها الصبيان قد طبّقت الخافقين، وسرت نحوهم (3) سرى القين، توهموا أنّها إلى أعطافهم واصلة، وفي أقحافهم حاصلة، ففروا بين الأساطين، كما تفرّ من النجوم الشياطين، كأنّما ضربهم أبو جهم (4) بعصاه، أو حصبهم عمير بن ضابئ (5) بحصاه، فأكرم بها مساعٍ تشوق إلى جنّة الخلد، ويهون في السعي إليها إنفاق الطوارف والتّلد، تعظيماً لشعائر الله، وتنبيهاً لكل ساهٍ ولاه، أدام الله عزّك، منظراً منها أبهى، ولا مخبراً أشهى، وإذا لم تتأمّله عياناً، فتخيّله بياناً، وإن كان حظ منطقي من الكلام، حظ السفيح (6) من الأزلام، لكن ما بيننا من مودة أكدنا وسائلها، وأذمّة تقلدنا حمائلها، يوجب قبول إتحافي سميناً وغثّاً، ولبس إلطافي جديداً

_ (1) ق ودوزي: عروض، وما ثبت هنا في نسخة ك ط ج. (2) ق ط: التفضيل. (3) دوزي: بعدهم. (4) فيه إشارة إلى ما قاله الرسول (ص) في أبي جهم العدوي من أنه لا يرفع عصاه عن أهله. (5) عمير بن ضابئ البرجمي ممن حصب الحجاج حين جلس على منبر الكوفة. (6) السفيح: قدح لا نصيب له في الميسر، وكذلك المنيح.

ورثّاً، لا زلت لزناد النبل مورياً، وإلى آماد الفضل مجرياً، والتحيّة العبقة الريّا، المشرقة المحيّا، عليك ما طلع قمر، وأينع ثمر، ورحمة الله تعالى وبركاته، انتهى. [تمام الحديث في متعلقات الجامع] وذكر ابن بشكوال أن الحكم المستنصر هدم الميضأة القديمة التي كانت بفناء الجامع، يستسقى لها الماء من بئر السانية، وبنى موضعها أربع ميضآت في كل جانب من جانبي المسجد الشرقي والغربي منها ثنتان كبرى للرجال وصغرى للنساء، أجرى في جميعها الماء في قناة اجتلبها من سفح جبل قرطبة إلى أن صبت ماءها في أحواض رخام لا ينقطع جريانه الليل والنهار، وأجرى فضل هذا الماء العذب إلى سقايات اتخذهن على أبواب هذا المسجد بجهاته الثلاث الشرقية والغربيّة والشمالية، أجراها هنالك إلى ثلاث جواب من حياض الرخام استقطعها بمقطع المنستير (1) بسفح جبل قرطبة بالمال الكثير، وألقاه الرخّامون (2) هنالك، واحتفروا أجوافها بمناقيرهم في المدّة الطويلة حتى استوت في صورها البديعة لأعين الناس، فخفّف ذلك من ثقلها، وأمكن من إهباطها إلى أماكن نصبها بأكناف المسجد الجامع، وأمد الله تعالى على ذلك بمعونته، فتهيّأ حمل الواحدة منهافوق عجلة كبيرة اتخذت من ضخام خشب البلوط على فلكٍ موثقة بالحديد المثقّف محفوفة بوثاق الحبال قرن لجرّها سبعون دابة من أشد الدواب، وسهلت قدامها الطرق والمسالك، وسهل الله تعالى حملها واحدة بعد أخرى على هذه الصفة في مدة اثني عشر يوماً، فنصبت في الأقباء المعقودة لها، قال: وابتنى المستنصر في غربي الجامع دار الصدقة، واتخذها معهداً لتفريق صدقاته المتوالية،

_ (1) في ط: المنسير؛ ق: النسير؛ ج: المنتسين. (2) ك: الرخاميون.

وابتنى للفقراء البيوت قبالة باب المسجد الكبير الغربي، انتهى. [عمل أهل قرطبة حجة في الفقه] واعلم أنّه لعظم أمر قرطبة كان عملها حجّةً بالمغرب، حتى إنّهم يقولون في الأحكام: هذا ممّا جرى به عمل قرطبة، وفي هذه المسألة نزاع كثير، ولا بأس أن نذكر ما لا بد منه من ذلك، قال الإمام ابن عرفة (1) رحمه الله تعالى: في اشتراط الإمام على القاضي الحكم بمذهب معين - وإن خالف معتقد المشترط اجتهاداً وتقليداً - ثلاثة أقوال: الصحة للباجي، ولعمل أهل قرطبة، ولظاهر شرط سحنون على مذهب من ولاّه الحكم بمذهب أهل المدينة؛ قال المازري: مع احتمال كون الرجل مجتهداً. الثاني: البطلان، للطرطوشي، إذ قال في شرط أهل قرطبة: هذا جهل عظيم. الثالث: تصح التولية ويبطل (2) الشرط، تخريجاً على أحد الأقوال في الشرط الفاسد في البيع للمازري عن بعض الناس، انتهى مختصراً. قال ابن غازي: إن ابن عرفة نسب للطرطوشي البطلان مطلقاً، وابن شاس إنّما نسب له التفصيل، انتهى. ولمّا ذكر مولاي الجد الإمام قاضي القضاة بفاس سيدي أبو عبد الله المقري التلمساني (3) في كتابه القواعد شرط أهل قرطبة المذكور، قال بعده ما نصّه:

_ (1) هو محمد بن محمد بن عرفة الورغمي التونسي (716 - 803) تلميذ قاضي الجماعة بتونس محمد ابن عبد السلام، وأحد الفقهاء المشهورين بها، وله مختصر فقهي ومؤلفات أخرى في مذهب مالك تشهد بتقدمه وإمامته (انظر تجمته في نيل الابتهاج: 281 والديباج: 337 والضوء اللامع 9: 240 وغاية النهاية 2: 243) . (2) ك: ويذهب. (3) جد المؤلف هذا هو الفقيه أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري التلمساني الذي تولى قضاء فاس أيام السلطان أبي عنان المريني، وكان آية في غزارة الحفظ ومادة العلم (انظر ترجمته في المرقبة العليا: 169 والتعريف بابن خلدون: 59 والإحاطة 2: 136 ونيل الابتهاج: 149 وسيترجم له المقري) .

وعلى هذا الشرط ترتب إيجاب (1) عمل القضاة بالأندلس، ثم انتقل إلى المغرب، فبينا نحن ننازع الناس في عمل المدينة ونصيح بأهل الكوفة مع كثرة من نزل بها من علماء الأمّة كعلي وابن مسعود ومن كان معهما: ليس التّكحّل في العينين كالكحل ... سنح لنا بعض الجمود، ومعدن التقليد (2) : الله أخّر مدّتي فتأخّرت ... حتى رأيت من الزّمان عجائبا يا لله وللمسلمين، ذهبت قرطبة وأهلها، ولم يبرح من الناس جهلها، ما ذاك إلاّ لأن الشيطان يسعى في محو الحق فينسيه، والباطل لا زال يلقنه ويلقيه، ألا ترى خصال الجاهلية كالنياحة والتفاخر والتكاثر والطعن والتفضيل والكهانة والنجوم والخط والتشاؤم وما أشبه ذلك، وأسماءها كالعتمة ويثرب، وكذا التنابز بالألقاب وغيره ممّا نهي عنه وحذر منه، كيف لم تزل من أهلها، وانتقلت إلى غيرهم مع تيّسر أمرها، حتى كأنّهم لا يرفعون بالدين رأساً، بل يجعلون العادات القديمة أسّاً، وكذلك محبّة الشعر والتلحين (3) والنسب وما انخرط في هذا السلك ثابتة الموقع من القلوب، والشرع فينا منذ سبعمائة سنة وسبع وستين سنة لا نحفظه إلاّ قولاً، ولا نحمله إلاّ كلاًّ، انتهى. وقال الحافظ ابن غازي - بعد ذكر كلام مولاي الجد - ما نصّه: وحدثني ثقة ممّن لقيت أنّه لما قدم مدينة فاس العلامة أبو يحيى الشريف التلمساني وتصدى لإقراء التفسير بالبلد الجديد وأمر السلطان أبو سعيد المريني الحفيد أعيان الفقهاء

_ (1) إيجاب: سقطت من ك. (2) كذا وردت هذه العبارة، واقترح فليشر أن تقرأ " سنح لنا بعض المجهود ومودة التقليد " وهو تخريج بعيد. (3) ط: والتأخير.

بحضور مجلسه كان ممّا ألقاه إليهم منزع المقّري (1) هذا، فبالغوا في إنكاره، ورأوا أنّه لا معدل عمّا عول عليه زعماء الفقهاء كابن رشد وأصحاب الوثائق كالمتيطي من اعتماد عمل أهل قرطبة ومن في معناهم، انتهى. [رجع إلى وصف قرطبة ومسجدها] وقال بعض المؤرخين - حين ذكر قرطبة - ما ملخّصه: هي قاعدة بلاد الأندلس، ودار الخلافة الإسلاميّة، وهي مدينة عظيمة، وأهلها أعيان البلاد وسراة الناس، في حسن المآكل والمشارب (2) واللابس والمراكب، وعلو الهمم وبها أعلام العلماء، وسادات الفضلاء، وأجلاد الغزاة، وأنجاد الحروب، وهي في تقسيمها خمس مدن يتلو بعضها بعضاً، وبين المدينة والمدينة سور عظيم حصين حاجز، وكل مدينة مستقلّة بنفسها، وفيها ما يكفي أهلها من الحمّامات والأسواق والصناعات، وطول قرطبة ثلاثة أميال في عرض ميل واحد، وهي في سفح جبل مطل عليها، وفي مدينتها الثالثة وهي الوسطى القنطرة والجامع الذي ليس في معمور الأرض مثله وطوله مائة ذراع في عرض ثمانين، وفيه من السواري الكبار ألف سارية، وفيه مائة وثلاث عشرة ثريّا للوقود أكبرها تحمل ألف مصباح، وفيه من النقوش والرقوم ما لا يقدر أحد على وصفه، وبقبلته صناعات تدهش العقول، وعلى فرجة (3) المحراب سبع قسيّ قائمة على عمد طول كل قوس فوق القامة قد تحير الروم والمسلمون في حسن وضعها، وفي عضادتي المحراب أربعة أعمدة: اثنان أخضران واثنان لازورديان، ليس لها قيمة لنفاستها، وبه منبر ليس على معمور الأرض أنفس منه ولا (4) مثله في حسن صنعته، وخشبه

_ (1) ك: مشرع المقري. (2) والمشارب: زيادة من ك. (3) ق ودوزي: فرخة؛ ط: فرضة. (4) أنفس منه ولا: زيادة من ك.

ساج وآبنوس وبقّم (1) وعود قاقلّى، ويذكر في تاريخ بني أميّة أنّه أحكم عمله ونقشه في سبع سنين، وكان يعمل فيه ثمانية صنّاع لكل صانع في كل يوم نصف مثقال محمدي (2) ، فكان جملة ما صرف على المنبر لا غير عشرة آلاف مثقال وخمسون مثقالاً، وفي الجامع حاصل (3) كبير ملآن من آنية الذهب والفضّة لجل وقوده، وبهذا الجامع مصحف يقال: إنّه عثماني، وللجامع عشرون باباً مصفحات بالنحاس الأندلسي مخرّمة تخريماً عجيباً بديعاً يعجز البشر ويبهرهم، وفي كل باب حلقة في نهاية الصنعة والحكمة، وبه الصومعة العجيبة التي ارتفاعها مائة ذراع بالمكي المعروف بالرشاشي (4) ، وفيها من أنواع الصنائع الدقيقة ما يعجز الواصف عن وصفه ونعته، وبهذا الجامع ثلاثة أعمد حمر مكتوب على الواحد اسم محمد، وعلى الآخر صورة عصا موسى وأهل الكهف، وعلى الثالث صورة غراب نوح، والجميع خلقة ربانية، وأما القنطرة التي بقرطبة فهي بديعة الصنعة، عجيبة المرأى، فاقت قناطر الدنيا حسناً (5) ، وعدد قسيّها سبع عشرة قوساً، سعة كل قوس منها خمسون شبراً وبين كل قوسين خمسون شبراً، وبالجملة فمحاسن قرطبة أعظم من أن يحيط بها وصفٌ، انتهى ملخّصاً. وهو وإن تكرّر بعضه مع ما قدمته (6) فلا يخلو من فائدة زائدة، والله الموفق. وما ذكره في طول المسجد وعرضه مخالف لما مرّ، ويمكن الجواب بأن هذا الذراع أكبر من ذلك، كما أشار إليه هو في أمر الصومعة، وكذا ما ذكره في

_ (1) وبقم: زيادة من ك. (2) يقال إن الدنانير منسوبة إلى محمد بن الناصر الموحدي وفي الأوقية الواحدة 23 درهماً وهناك دنانير محمدية تنسب إلى محمدية العراق وأخرى إلى مدينة المحمدية بالمغرب (انظر الدوحة المشتبكة: 89 والحاشية رقم: 5) . (3) الحاصل: المخزن أو المستودع. (4) الرشاشي: ذراع ينسب إلى الرشاش الذي جرى التكسير بذراعه أي اتخذ طوله وحدة لقياس الأطوال والمساحات. (انظر طبقات الزبيدي: 284 وان الفرضي 1: 196) . (5) ق: عدداً. (6) ج: مع ما تقدم.

عدد السواري، وإلاّ أن يقال: ما تقدم باعتبار الصغار والكبار، وهذا العدد الذي ذكره هنا إنّما هو للكبار فقط، كما صرح به، والله تعالى أعلم. وأمّا الثريات فقد خالف في عددها ما تقدّم، مع أن المتقدّم هو قول ثقات مؤرخي الأندلس، ونحن جلبنا النقل من مواضعه، وإن اختلفت طرقه ومضموناته. وقال في المغرب - عند تعرّضه لذكر جامع قرطبة - ما نصّه: اعتمدت فيما أنقله (1) في هذا الفصل على كتاب ابن بشكوال، فقد اعتنى بهذا الشأن أتم اعتناء، وأغنى عن الاستطلاع إلى كلام غيره: عن الرازي أنّه لما افتتح المسلمون الأندلس امتثلوا ما فعله أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد عن رأي عمر رضي الله تعالى عنه بالشام من مشاطرة الروم في كنائسهم مثل كنيسة دمشق وغيرها ممّا أخذوه صلحاً، فشاطر المسلمون أعاجم قرطبة كنيستهم العظمى التي كانت داخل مدينتها تحت السور، وكانوا يسمّونها بشنت بنجنت، وابتنوا في ذلك الشطر مسجداً جامعاً، وبقي الشطر الثاني بأيدي النصارى، وهدمت عليهم سائر الكنائس بحضرة قرطبة، واقتنع المسلمون بما في أيديهم، إلى أن كثروا، وتزيدت عمارة قرطبة، ونزلها أمراء العرب، فضاق عنهم ذلك المسجد وجعلوا يعلقون منه سقيفة بعد سقيفة يستكنّون بها، حتى كان الناس ينالون في الوصول إلى داخل المسجد الأعظم مشقّة لتلاصق السقائف، وقصر أبوابها، وتطامن سقفها، حتى ما يمكن أكثرهم القيام على اعتدال لتقارب سقفها من الأرض، ولم يزل المسجد على هذه الصفة إلى أن دخل الأمير عبد الرحمن بن معاوية المرواني إلى الأندلس، واستولى على إمارتها، وسكن دار سلطانها قرطبة، وتمدّنت به، فنظر في أمر الجامع، وذهب إلى توسعته وإتقان بنيانه، فأحضر أعاظم النصارى،

_ (1) ك: نقلته.

وسامهم بيع ما بقي بأيديهم من كنيستهم لصق الجامع ليدخله فيه، وأوسع لهم البذل وفاء بالعهد الذي صولحوا عليه، فأبوا من بيع ما بأيديهم، وسألوا بعد الجد بهم أن يباحوا بناء كنيستهم (1) التي هدمت عليهم بخارج المدينة على أن يتخلّوا للمسلمين عن هذا الشطر الذي طولبوا به، فتم الأمر على ذلك، وكان ذلك سنة ثمان وستين ومائة، فابتنى عند ذلك عبد الرحمن المسجد الجامع على صفة ذكرها لا حاجة إلى تفسير (2) الزيادة فيه، وإنّما الحاجة في وصفه بكماله. وفي بنائه لهذه الزيادة يقول دحية بن محمد البلوي (3) من قصيدة: وأنفق في دين الإله ووجهه ... ثمانين ألفاً من لجينٍ وعسجد توزّعها في مسجد أسّه التّقى ... ومنهجه دين النبي محمد ترى الذهب الناريّ فوق سموكه ... يلوح كبرق العارض المتوقّد قال: وكمل سنة سبعين ومائة؛ ثم ذكر زيادة ابنه هشام الرضى وما جدّده فيه، وأنّه بناه من خمس فيء أربونة، ثم زيادة ابنه عبد الرحمن الأوسط لما تزايد الناس، قال: وهلك قبل أن يتم الزخرف، فأمّها ولده محمد بن عبد الرحمن (4) ، ثم رمّ المنذر بن محمد ما وهى منه، وذكر ما جدده خليفتهم الناصر ونقضه للصومعة الأولى وبنيانه للصومعة العظيمة، قال: ولمّا ولي الحكم المستنصر بن الناصر؟ وقد اتسع نطاق قرطبة، وكثر أهلها، وتبين الضيق في جامعها؟ لم يقدّم شيئاً على النظر في الزيادة، فبلغ الجهد، وزاد الزيادة العظمى، قال: وبها كملت محاسن هذا الجامع، وصار في حدّ يحسر (5) الوصف عنه، وذكر حضوره لمشاورة العلماء في تحريف القبلة إلى نحو المشرق، حسبما فعله

_ (1) ق ط: كنائسهم. (2) ق: في تفسير. (3) ق ودوزي: البلوني. والأبيات في مخطوطة الرباط: 95 مصدرة بقوله: قال بعضهم. (4) لما تزايد ... عبد الرحمن: سقطت من ق - وهو سهو واضح -. (5) ك: يقصر.

والده الناصر في قبلة جامع الزهراء، لأن أهل التعديل يقولون بانحراف قبلة الجامع القديمة إلى نحو الغرب، فقال له الفقيه أبو إبراهيم: يا أمير المؤمنين، إنّه قد صلى إلى هذه القبلة خيار هذه الأمّة من أجدادك الأئمة وصلحاء المسلمين وعلمائهم، منذ افتتحت الأندلس إلى هذا الوقت، متأسّين بأوّل من نصبها من التابعين كموسى بن نصير وحنش الصنعاني وأمثالهما، رحمهم الله تعالى؛ وإنّما فضل من فضل بالاتّباع، وهلك من هلك بالابتداع، فأخذ الخليفة برأيه، وقال: نعم ما قلت، وإنّما مذهبنا الاتّباع. قال ابن بشكوال: ونقلت من خط أمير المؤمنين المستنصر أن النفقة في هذه الزيادة وما اتصل بها انتهت إلى مائتي ألف دينار وأحد وستين ألف دينار وخمسمائة دينار وسبعة وثلاثين ديناراً ودرهمين ونصف. ثم ذكر الصومعة نقلاً عن ابن بشكوال فقال: أمر الناصر عبد الرحمن بهدم الصومعة الأولى سنة 340 (1) وأقام هذه الصومعة البديعة، فحفر في أساسها حتى بلغ الماء مدّة من ثلاثة وأربعين يوماً، ولمّا كملت ركب الناصر إليها من مدينة الزهراء وصعد في الصّومعة من أحد درجيها، ونزل من الثاني، ثم خرج الناصر وصلى ركعتين في المقصورة، وانصرف، قال: وكانت الأولى ذات مطلع واحد، فصير لهذه مطلعين، فصل بينهما البناء، فلا يلتقي الراقون فيها إلاّ بأعلاها، تزيد مراقي كل مطلع منها على مائةٍ سبعاً. قال: وخبر هذه الصومعة مشهور في الأندلس (2) ، وليس في مساجد المسلمين صومعة تعدلها. قال ابن سعيد: قال ابن بشكوال هذا لأنّه لم ير صومعة مراكش ولا صومعة إشبيلية التين بناهما المنصور من بني عبد المؤمن، فهما أعظم وأطول، لأنّه ذكر أن طول صومعة قرطبة إلى مكان موقف المؤذن أربعة وخمسون ذراعاً

_ (1) ق: 330. (2) ك ط ج: في الأرض.

وإلى أعلى الرمانة الأخيرة بأعلى الزج ثلاثة وسبعون ذراعً، وعرضها في كل تربيع منها ثمانية عشر ذراعاً، وذلك اثنان وسبعون ذراعاً، قال ابن سعيد: وطول صومعة مراكش مائة وعشرة أذرع. وذكر أن صومعة قرطبة بضخام الحجارة المقطعة (1) منجّدة غاية التنجيد، وفي أعلى ذروتها ثلاث شمسات يسمونها رمانات ملصقة في السفود البارز في أعلاها من النحاس: الثنتان منها ذهب إبريز، والثالثة منها وسطى بينهما من فضّة إكسير، وفوقها سوسنة من ذهب مسدّسة فوقها رمّانة ذهب صغيرة في طرف الزج البارز بأعلى الجوّ، وكان تمام هذه الصومعة في ثلاثة عشر شهراً. وذكر ابن بشكوال (2) في رواية أن موضع الجامع الأعظم بقرطبة كان حفرة عظيمة يطرح فيها أهل قرطبة قمامتهم وغيرها، فلمّا قدم سليمان بن داود صلّى الله عليهما ودخل قرطبة قال للجن: اردموا هذا الموضع وعدّلوا مكانه فسيكون فيه بيت يعبد الله فيه، ففعلوا ما أمرهم به، وبني فيه بعد ذلك الجامع المذكور، قال: ومن فضائله أن الدارات الماثلة في تزاويق سمائه مكتوبة كلّها بالذكر والدعاء إلى غيره بأحكم صنعة، انتهى. وذكر مصحف عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه الذي كان في جامع قرطبة وصار إلى بني عبد المؤمن فقال: هو مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه، ممّا خطّه بيمينه، وله عند أهل الأندلس شأن عظيم، انتهى. وسنذكر فيه زيادة على هذا. [الزهراء] وأمّا الزهراء فهي مدينة الملك التي اخترعها أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر

_ (1) في ق: القطعية، وفي ك: الفظيعة، وفي ج: المنقطعة. (2) انظر مخطوط الرباط: 28 والسند فيه " قال صاحب التاريخ - عفا الله عنه - ذكر ابن عتاب عن عبيد الله الزهراوي عن شيوخه ... إلخ ".

لدين الله، وقد تقدّم ذكره، وهي من المدن الجليلة العظيمة القدر، قال ابن الفرضي وغيره: كان يعمل (1) في جامعها حين شرع فيه من حذّاق الفعلة كلّ يوم ألف نسمة منها ثلاثمائة بنّاء ومائتا نجّار وخمسمائة من الأجراء وسائر الصنائع، فاستتم بنيانه وإتقانه في مدّة من ثمانية وأربعين يوماً، وجاء في غاية الإتقان من خمسة أبهاء عجيبة الصّنعة، وطوله من القبلة إلى الجوف - حاشا المقصورة - ثلاثون ذراعاً، وعرض كل بهو من الأربعة المكتنفة له اثنا عشر ذراعاً، وطول صحنه المكشوف من القبلة إلى الجوف ثلاثة وأربعون ذراعاً، وعرضه من الشرق إلى الغرب واحد وأربعون ذراعاً، وجميعه مفروش بالرخام الخمري، وفي وسطه فوّارة يجري فيها الماء، فطول هذا المسجد أجمع من القبلة إلى الجوف - سوى المحراب - سبعة وتسعون ذراعاً، وعرضه من الشرق إلى الغرب تسعة وخمسون ذراعاً، وطول صومعته في الهواء أربعون ذراعاً، وعرضها عشرة أذرع في مثلها. وأمر الناصر لدين الله باتخاذ منبر بديع لهذا المسجد، فصنع في نهاية من الحسن، ووضع في مكانه منهن وحظرت حوله مقصورة عجيبة الصنعة، وكان وضع هذا المنبر في مكانه من هذا المسجد عند إكماله يوم الخميس لسبع بقين من شعبان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. قال (2) : وفي صدر هذه السنة كمل للناصر بنيان القناة الغريبة الصنعة التي جرى (3) فيها الماء العذب من جبل قرطبة إلى قصر الناعورة غربي قرطبة، في المناهر المهندسة، وعلى الحنايا المعقودة، يجري ماؤها بتدبير عجيب وصنعة محكمة إلى بركة عظيمة، عليها أسدٌ عظيم الصورة بديع الصنعة شديد الروعة لم يشاهد

_ (1) قارن بما في أزهار الرياض 2: 265 - 266. (2) المصدر السابق 2: 266، وسقطت كلمة " قال " من ق ط ج ومطبوعة ليدن. (3) ك: التي أجراها وجرى.

أبهى منه فيما صوّر الملوك في غابر الدهر، مطلي بذهب إبريز، وعيناه جوهرتان لهما وميض (1) شديد، يجوز هذا الماء إلى عجز هذا الأسد فيمجّه في تلك البركة من فيه، فيبهر الناظر بحسنه وروعة منظره وثجاجة صبّه، فتسقى من مجاجه جنان هذا القصر على سعتها، ويستفيض على ساحاته وجنباته، ويمدّ النهر الأعظم بما فضل منه، فكانت هذه القناة وبركتها والتمثال الذي يصب فيها من أعظم آثار الملوك في غابر الدهر، لبعد مسافتها، واختلاف مسالكها، وفخامة بنيانها، وسموّ أبراجها التي يترقى الماء منها ويتصوّب من أعاليها، وكانت مدّة العمل فيها من يوم ابتدئت من الجبل إلى أن وصلت - اعني القناة - إلى هذه البركة أربعة عشر شهراً، وكان انطلاق الماء في هذه البركة الانطلاق الذي اتصل واستمر يوم الخميس غرّة جمادى الآخرة من السنة، وكانت للناصر في هذا اليوم بقصر الناعورة دعوة حسنة أفضل فيها على عامّة أهل مملكته، ووصل المهندسين والقوّام بالعمل بصلات حسنة جزيلة (2) . وأمّا مدينة الزهراء فاستمر العمل فيها من عام خمسة وعشرين وثلاثمائة إلى آخر دولة الناصر وابنه الحكم، وذلك نحو من أربعين سنة. ولما فرغ من بناء مسجد الزهراء على ما وصف كانت أوّل جماعة صلّيت فيه صلاة المغرب من ليلة الجمعة لثمان بقين من شعبان، وكان الإمام القاضي أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي عيسى، ومن الغد صلى الناصر فين الجمعة، وأوّل خطيب (3) به القاضي المذكور. ولمّا بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة أطبق الناس على أنّه لم يبن مثله في الإسلام البتّة، وما دخل إليه قطّ أحد من سائر البلاد النائية والنّحل المختلفة من ملك وارد ورسول وافد وتاجر جهبذ، وفي هذه الطبقات

_ (1) ك: وبيص أي تلألؤ - وهو صواب أيضاً -. (2) ك: حسنة جليلة جزيلة. (3) ك: وأول من خطب.

من الناس تكون المعرفة والفطنة، إلا وكلهم قطع أنّه لم ير له شبهاً، بل لم يسمع به، بل لم يتوهم كون مثله، حتى إنّه كان أعجب ما يؤمله القطع إلى الأندلس في تلك العصور النظر إليه، والتحدث عنه، والأخبار عن هذا تتسع جدّاً، والأدلّة عليه تكثر، ولو لم يكن فيه إلاّ السطح الممرّد المشرف على الروضة المباهي بمجلس الذهب والقبة وعجيب ما تضمّنه من إتقان الصنعة وفخامة الهمّة وحسن المستشرف وبراعة الملبس والحلة ما بين مرمر مسنون وذهب موضون (1) وعمدٍ كأنّما أفرغت في القوالب، ونقوش كالرياض، وبرك عظيمة محكمة الصنعة، وحياضٍ وتماثيل عجيبة الأشخاص لا تهتدي الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها، فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف على إبداعها واختراعها من أجزاء الأرض المنحلّة كيما يري الغافلين عنه من عباده مثالاً لما أعدّه لأهل السعادة في دار المقامة التي لا يتسلّط عليها الفناء، ولا تحتاج إلى الرّم، لا إله إلاّ هو المنفرد بالكرم. وذكر المؤرخ أبو مروان ابن حيّان (2) صاحب الشرطة أن مباني قصر الزهراء اشتملت على أربعة آلاف سارية، ما بين كبيرة وصغيرة حاملة ومحمولة، ونيّف هو ثنتا عشرة على ثلاثمائة سارية (3) ، قال: منها ما جلب من مدينة رومة، ومنها ما أهداه صاحب القسطنطينيّة، وأن مصاريع أبوابها صغارها وكبارها كانت تنيّف على خمسة عشر ألف باب، وكلها ملبسة بالحديد والنحاس المموّه، والله سبحانه أعلم فإنّها كانت من أهول ما بناه الإنس، وأجلّه خطراً، وأعظمه شأناً، انتهى. قلت: فسّر بعضهم ذلك النيّف في كلامه بثلاث عشرة، والله أعلم.

_ (1) ك: مصون. (2) أزهار الرياض 2: 268. (3) أزهار الرياض: وفسر بعضهم هذا النيف بثلاث عشرة؛ وفي ك: ونيف على ثلاثمائة هو ست عشرة.

وقال بعض من أرّخ الأندلس (1) : كان عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر ألف فتىً وسبعمائة وخمسين فتىً، ودخالتهم من اللحم في كل يوم - حاشا أنواع الطير والحوت - ثلاثة عشر ألف رطل، وعدة النساء بقصر الزهراء الصغار والكبار، وخدم الخدمة ستة آلاف وثلاثمائة امرأة وأربع عشرة، انتهى. وقيل: إن عدد الفتيان (2) الصقالبة ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسون، وجعل بعضٌ مكان الخمسين سبعة وثمانين. وقال آخر: ستة آلاف صقلبي وسبعة وثمانون، والمرتب من الخبز لحيتان بحيرة الزهراء اثنا عشر ألف خبزة كل يوم، وينقع لها من الحمص الأسود ستة أقفزة كل يوم، انتهى. ثم قال الأول: وكان لهؤلاء من اللحم ثلاثة عشر ألف رطل، تقسم من عشرة أرطال للشخص إلى ما دون ذلك، سوى الدجاج والحجل وصنوف الطير وضروب الحيتان، انتهى. وقال ابن حيّان (3) : ألفيت بخط ابن دحون الفقيه، قال مسلمة بن عبد الله العريف المهندس: بدأ عبد الرحمن الناصر لدين الله بنيان (4) الزهراء أول سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، وكان مبلغ ما ينفق فيها كل يوم من الصخر المنحوت (5) المنجور المعدل ستة آلاف صخرة، سوى الصخر المصرّف في التبليط، فإنّه لم يدخل في هذا العدد، وكان يخدم في الزهراء كل يوم ألف وأربعمائة بغل، وقيل أكثر، منها أربعمائة زوامل الناصر لدين الله، ومن دواب الأكرياء (6) الراتبة للخدمة ألف بغل، لكل بغل منها ثلاثة مثاقيل في الشهر، يجب لها في الشهر

_ (1) أزهار الرياض: وقال بعض المؤرخين. (2) ك: عدد الصبيان. (3) أزهار الرياض 2: 269. (4) ك: بعمارة. (5) المنحوت: سقطت من ط ج ق. (6) ك: الأكرية.

ثلاثة آلاف مثقال، وكان يرد الزهراء من الجيار (1) والجص في كل ثالث من الأيام ألف ومائة حمل، وكان فيها حمّامان: واحد للقصر، وثانٍ للعامة. وذكر بعض أهل الخدمة في الزهراء أنّه قدر النفقة فيها في كل عام بثلاثمائة ألف دينار مدة خمسة وعشرين عاماً التي بقيت من دولة الناصر من حين ابتدأها، لأنّه توفّي سنة خمسين، فحصل جميع الإنفاق فيها فكان مبلغه خمسة عشر بيت مال. قال (2) : وجلب إليها الرخام من قرطاجنة وإفريقية وتونس، وكان الذين يجلبونه عبد الله بن يونس عريف البنائين (3) وحسن وعلي بن جعفر (4) الإسكندراني، وكان الناصر يصلهم على كل رخامة صغيرة وكبيرة بعشرة دنانير، انتهى. وقال بعض ثقات المؤرخين: إنّه كان يصلهم على كل رخامة صغيرة بثلاثة دنانير، وعلى كل سارية بثمانية دنانير سجلماسية (5) ، قيل (6) : وكان عدد السواري المجلوبة من إفريقية ألف سارية وثلاثة عشرة سارية، وسائرها من مقاطع الأندلس طرّكونة وغيرها، فالرخام المجزع من ريّة، والأبيض من غيرها، والوردي والأخضر من إفريقية من كنيسة إسفاقس، وأمّا الحوض المنقوش المذهب الغريب الشكل الغالي القيمة فجلبه إليه أحمد اليوناني من القسطنطينية مع ربيع الأسقف القادم من إيلياء، وأما الحوض الصغير الأخضر المنقوش بتماثيل الإنسان فجلبه أحمد من الشام، وقيل: من القسطنطينية، مع ربيع الأسقف

_ (1) ك ج: الجير. (2) أزهار الرياض 2: 270. (3) ط: البنيان. (4) أزهار الرياض: وحسن ومحمد ابنا جعفر الإسكندري. وفي ك: وحسن بن محمد وعلي بن جعفر. (5) سجلماسية: زيادة من ج وأزهار الرياض. (6) في ق: قال؛ وسطت من ج؛ وموضعها بياض في ط.

أيضاً، وقالوا: إنّه لا قيمة له لفرط غرابته وجماله، وحمل من مكان إلى مكان حتى وصل إلى البحر، ونصبه الناصر في بيت المنام في المجلس الشرقي المعروف المؤنس، وجعل عليه اثني عشر تمثالاً من الذهب الأحمر مرصعة بالدر النفيس الغالي ممّا عمل بدار الصناعة بقرطبة: صورة أسد إلى جانبه غزال إلى جانبه تمساح، وفيما يقابله ثعبان وعقاب وفيل، وفي المجنبتين حمامة وشاهين وطاووس ودجاجة وديك وحدأة ونسر (1) ، وكل ذلك من ذهب مرصع بالجوهر النفيس، ويخرج الماء من أفواهها، وكان المتولي لهذا البنيان المذكور ابنه الحكم، لم يتكل فيه الناصر على أمين غيره، وكان يخبز في أيامه في كل يوم برسم حيتان البحيرات ثمانمائة خبزة، وقيل: أكثر، إلى غير ذلك ممّا يطول تتبعه. قال (2) : وكان الناصر كما قدمنا قسم الجباية أثلاثاً: ثلث للجند، وثلث للبناء، وثلث مدخر، وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار، وأمّا أخماس الغنائم العظيمة (3) فلا يحصيها الديوان. وقد سبق هذا كلّه، وإنّما كرّرته لقول بعضهم إثر حكايته له، ما صورته: وقيل: إن مبلغ تحصيل النفقة في بناء الزهراء مائة مدي من الدراهم القاسمية بكيل قرطبة، وقيل: إن مبلغ النفقة فيها بالكيل المذكور ثمانون مدياً وسبعة أقفزة من الدراهم المذكورة. واتصل بنيان الزهراء أيّام الناصر خمساً وعشرين سنة شطر خلافته، ثم اتصل بعد وفاته خلافة ابنه الحكم كلّها، وكانت خمسة عشر عاماً وأشهراً، فسبحان الباقي بعد فناء الخلق، لا إله إلاّ هو، انتهى.

_ (1) هذه ثلاثة عشر تمثالاً وقد ذكر أنها اثنا عشر، وفي أزهار الرياض عد منها أحد عشر ثم قال: والثاني عشر لم يحضرني اسمه الآن؛ وذلك أنه لم يذكر الحدأة والنسرز (2) قال: سقطت من ك ج ط. (3) في ق أخماس العظيمة؛ ط: أخماس الغنائم؛ ك: أخماس الغنيمة.

[بين الناصر ومنذر بن سعيد في شأن المباني] وقال ابن أصبغ الهمداني (1) والفتح في المطمح (2) : كان الناصر كلفاً بعمارة الأرض، وإقامة معالمها، وانبساط أمرها (3) ، واستجلابها من أبعد بقاعها، وتخليد الآثار الدالة على قوّة الملك وعزّة السلطان وعلوّ الهمّة، فأفضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء البناء الشائع ذكره، الذائع خبره، المنتشر في الأرض أثره، واستفرغ وسعه (4) في تنميقها، وإتقان قصورها، وزخرفة مصانعها، وانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه ثلاث جمع متواليات، فأراد القاضي منذر أن يغض منه بما يتناوله من الوعظة بفصل الخطاب والحكمة والتذكر بالإنابة والرجوع، فابتدأ في أول خطبته بقوله تعالى: " أتبنون بكلّ ريع - إلى قوله تعالى: فلا تكن من الواعظين " ثم وصله بقوله: فمتاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، وهي دار القرار، ومكان الجزاء، ومضى في ذم تشييد البنيان، والاستغراق في زخرفته، والإسراف في الإنفاق عليه، بكلام جزل، وقول فصل، قال الحاكي: فجرى فيه طلقاً، وانتزع فيه قوله تعالى: " أفمن أسّس بنيانه - إلى آخر الآية " وأتى بما يشاكل المعنى من التخويف بالموت، والتحذير من فجأته، والدعاء إلى الزهد في هذه الدار الفانية، والحض على اعتزالها، والرفض لها، والندب إلى الإعراض عنها، والإقصار عن طلب اللذّات، ونهي النفس عن اتّباع هواها، فأسهب في ذلك كلّه، وأضاف إليه من آي القرآن ما يطابقه، وجلب من الحديث والأثر ما يشاكله، حتى أذكر من حضره من الناس

_ (1) في ك: ابن البديع الهمداني؛ وفي ق: ابن حيان الهمداني. وسيذكره في الكتاب الخامس باسم " ابن أصبغ الهمداني " وكذلك ورد في ج وأزهار الرياض 2: 277 والمرقبة العليا: 69. (2) انظر المطمح: 40 والمرقبة العليا: 69 وأزهار الرياض 2: 278 - 279. (3) دوزي: وانبساط مياهها؛ وفي المطمح: وتكثير مياهها. (4) ك: جهده.

وخشعوا ورقّوا واعترفوا (1) وبكوا وضجوا ودعوا وأعلنوا التضرّع إلى الله تعالى في التوبة والابتهال في المغفرة، وأخذ خليفتهم من ذلك بأوفر حظ، وقد علم أنّه المقصود به، فبكى وندم على ما سلف له من فرطه، واستعاذ بالله من سخطه، إلاّ أنّه وجد على منذر لغلظ ما قرّعه به (2) ، فشكا ذلك لولده الحكم بعد انصراف منذر، وقال: والله لقد تعمدني منذر بخطبته، وما عنى بها غيري، فأسرف عليّ، وأفرط في تقريعي (3) ، ولم يحسن السياسة في وعظي، فزعزع قلبي، وكاد بعصاه يقرعني، واستشاط غيظاً عليه فأقسم أن لا يصلي خلفه صلاة الجمعة خاصة، فجعل يلتزم صلاتها وراء أحمد بن مطرّف صاحب الصلاة بقرطبة، ويجانب الصلاة بالزهراء، وقال له الحكم: فما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة بك والاستبدال بغيره منه إذ كرهته؟ فزجره وانتهره، وقال له: أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه؟ لا أمّ لك؟ يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد، سالكة غير القصد؟ هذا ما لا يكون، وإنّي لأستحي من الله أن لا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعاً مثل منذر في ورعه وصدقه، ولكنّه أحرجني، فأقسمت، ولوددت أنّي أجد سبيلاً إلى كفّارة يميني بملكي، بل يصلّي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى، فما أظنّنا نعتاض منه أبداً (4) . وقيل: إن الحكم اعتذر عمّا قال منذر، وقال: يا أمير المؤمنين، إنّه رجل صالح، وما أراد إلاّ خيراً، ولو رأى ما أنفقت وحسن تلك البنية لعذرك، فأمر حينئذ الناصر بالقصور ففرشت، وفرش ذلك المجلس بأصناف فرش الديباج، وأمر بالأطعمة، وقد أحضر العلماء وغيرهم من الأمراء (5) وغصّ بهم المجلس، فدخل منذر في آخرهم،

_ (1) ج: واعتبروا. (2) ك ط ج: تقرعه به. (3) زاد في ك: وتفزيعي. (4) هنا انقطع النقل عن المطمح. (5) وغيرهم من الأمراء: سقطت من ك ج، وفي ط بياض.

فأومأ إليه الناصر أن يقعد بقربه، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّما يقعد الرجل حيث انتهى به المجلس، ولا يتخطّى الرقاب، فجلس في آخر الناس وعليه ثياب رثّة، ثم ذكر هذا القائل بعد هذا كلاماً من كلام المنذر يأتي قريباً. وقحط الناس (1) آخر مدة الناصر، فأمر القاضي منذر المذكور بالبروز إلى الاستسقاء بالناس، فتأهّب لذلك، وصام بين يديه أياماً ثلاثة تنفلاً وإنابة ورهبة، واجتمع له الناس في مصلّى الرّبض بقرطبة بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم، وصعد الخليفة الناصر في أعلى مصانعه المرتفعة من القصر ليشارف الناس، ويشاركهم في الخروج إلى الله تعالى والضّراعة له، فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلّى، ثم خرج نحوهم ماشياً متضرّعاً مخبتاً متخشّعاً، وقام ليخطب، فلمّا رأى بدار (2) الناس إلى ارتقائه، واستكانتهم من خيفة الله، وإخباتهم له، وابتهالهم إليه - رقّت نفسه، وغلبته عيناه، فاستعبر وبكى حيناً، ثم افتتح خطبته بأن قال: يا أيّها الناس، سلام عليكم، ثم سكت ووقف شبه الحصر، ولم يك من عادته، فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما عراه ولا ما أراد بقوله، ثم اندفع تالياً قوله تعالى " كتب ربّكم على نفسه الرّحمة، إلى قوله: رحيم " ثم قال: استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً، استغفروا ربكم ثمّ توبوا إليه، وتزلّفوا بالأعمال الصالحة لديه، قال الحاكي: فضج الناس بالبكاء، وجأروا بالدعاء، ومضى على تمام خطبته، ففزّع النفوس بوعظه، وانبعث الإخلاص بتذكيره، فلم ينقض النهار حتى أرسل الله السماء بماء منهمر، روّى الثرى، وطرد المحل وسكّن الأزل، والله لطيف بعباده. وكان لمنذر في خطب الاستسقاء استفتاح عجيب، ومنه أن قال يوماً - وقد سرح طرفه في ملإ الناس عندما شخصوا

_ (1) عاد النقل عن المطمح، وانظر كذلك المرقبة العليا وأزهار الرياض. (2) ج: تبادر.

إليه بأبصارهم، فهتف بهم كالمنادي -: يا أيّها الناس، وكررها عليهم مشيراً بيده في نواحيهم " أنتم الفقراء إلى الله ... إلى بعزيز " فاشتد وجد الناس، وانطلقت أعينهم بالبكاء، ومضى في خطبته. وقيل (1) : إن الخليفة الناصر طلبه مرّة (2) للاستسقاء، واشتدّ عزمه (3) عليه، فتسابق الناس للمصلّى، فقال للرسول - وكان من خواص الناس -: ليت شعري، ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟ فقال له: ما رأينا قطّ أخشع منه في يومنا هذا، إنّه منتبذ حائر منفرد بنفسه، لابس أخسّ (4) الثياب، مفترش التراب، وقد رمّد به على رأسه وعلى لحيته، وبكى واعترف بذنوبه وهو يقول: هذه ناصيتي بيدك، أتراك تعذّب بي الرعيّة وأنت أحكم الحاكمين لن يفوتك شيء منّي، قال الحاكي: فتهّل وجه القاضي منذر عندما سمع قوله، وقال: يا غلام احمل المطر معك فقد أذن الله تعالى بالسّقيا، إذا خشع جبار الأرض فقد رحم جبار السماء، وكان كما قال، فلم ينصرف الناس إلا عن السّقيا (5) . وكان منذر شديد الصلابة (6) في أحكامه، والمهابة في أقضيته، وقوّة الحكومة (7) والقيام بالحق في جميع ما يجري على يده، لا يهاب في ذلك الأمير الأعظم فمن دونه. وقال ابن الحسن النّباهي، وأصله في المطمح وغيره (8) : ومن أخبار منذر المحفوظة له مع الخليفة الناصر في إنكاره عليه الإسراف في البناء، أن الناصر كان

_ (1) ق: ومنه. وفي ط بياض؛ ج: وذكر أن. (2) ك: خرج مرة؛ ج: حركة مرة. (3) ك: وأسرع عزمه؛ ج: ووطن عزمه. (4) ج: أخشن. (5) إذا ... السقيا: سقط من ج. (6) المطمح: من ذوي الصلابة. (7) ق ط ودوزي: الخلوة. (8) المرقبة العليا: 71 والروض المعطار: 140 - 141.

اتخذ لسطح القبيبة المصغرة الاسم للخصوصيّة التي كانت مائلة على الصّرح الممرّد المشهور شأنه بقصر الزهراء قراميد [مغشاة] (1) ذهباً وفضّة أنفق عليها مالاً جسيماً، وقرمد سقفها به، وجعل سقفها صفراء فاقعة، إلى بيضاء ناصعة، تستلب الأبصار بأشعّة نورها، وجلس فيها إثر تمامها يوماً لأهل مملكته، فقال لقرابته ومن حضر من الوزراء وأهل الخدمة مفتخراً عليهم بما صنعه من ذلك مع ما يتصل به من البدائع الفتانة: هل رأيتم أن سمعتم ملكاً كان قبلي فعل مثل هذا أو قدر عليه؟ فقالوا: لا والله يا أمير المؤمنين، وإنّك لأوحد في شأنك كلّه، وما سبقك إلى مبتدعاتك هذه ملك رأيناه، ولا انتهى إلينا خبره، فأبهجه قولهم وسرّه، وبينما هو كذلك إذ دخل عليه القاضي منذر بن سعيد وهو ناكس الرأس (2) ، فلمّا أخذ مجلسه قال له كالذي قال لوزرائه من ذكر السقف المذهب واقتداره على إبداعه، فأقبلت دموع القاضي تنحدر على لحيته وقال له: يا أمير المؤمنين ما ظننت الشيطان لعنه الله يبلغ منك هذا المبلغ، ولا أن تمكّنه من قيادك هذا التمكين، مع ما آتاك الله من فضله ونعمته، وفضّلك به على العالمين، حتى ينزلك منازل الكافرين، قال: فانفعل عبد الرحمن لقوله، وقال له: انظر ما تقول، وكيف أنزلني منزلتهم؟ قال: نعم، أليس الله تعالى يقول " ولولا أن يكون النّاس أمّةً واحدةً - الآية " فوجم الخليفة، وأطرق مليّاً ودموعه تتساقط خشوعاً لله تعالى، قال الحاكي (3) : ثمّ أقبل على منذر وقال له: جازاك الله يا قاضي عنّا وعن نفسك خيراً وعن الدين والمسلمين أجلّ جزائه، وكثر في الناس أمثالك، فالذي قلت هو الحق، وقام عن مجلسه ذلك وهو يستغفر الله تعالى، وأمر بنقض سقف القبيبة، وأعاد قرمدها تراباً على صفة غيرها، انتهى ما حكاه ابن الحسن النّباهي.

_ (1) زيادة من المرقبة العليا. وفي ط ج ق: قراميد ذهب ... الخ. (2) المرقبة العليا: واجعاً ناكس الرأس. وفي ك ط: واهماً - وذلك تصحيفه -. (3) قال الحاكي: سقطت من ك.

ولنذكر هذه الحكاية وغيرها، وإن خالف السياق ما سبق، وهذا منقول من كلام الحجاري في المسهب في أخبار المغرب فإنّه أمّ فائدة، إذ قال رحمه الله: دخل منذر بن سعيد يوماً على الناصر باني الزهراء، وهو مكب على الاشتغال بالبنيان، فوعظه، فأنشده عبد الرحمن الناصر (1) : همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان أوما ترى الهرمين قد بقيا وكم ... ملكٍ محاه حوادث الأزمان إنّ البناء إذا تعظم شأنه ... أضحى يدلّ على عظيم الشان قال: فما أدري أهذا شعره أم تمثّل به؟ فإن كان شعره فقد بلغ فيه إلى غاية الإحسان، وإن كان تمثّل به فقد استحقّه بالتمثّل به في هذا المكان، وكان منذر يكثر تعنيته (2) على البنيان، ودخل عليه مرّة وهو في قبّة قد جعل قرمدها من ذهب وفضّة، واحتفل فيها احتفالاً ظن أن أحداً من الملوك لم يصل إليه، فقام خطيباً والمجلس قد غصّ بأرباب الدولة، فتلا قوله تعالى " ولولا أن يكون النّاس أمّةً واحدةً لجعلنا لمن يكفر بالرّحمن لبيوتهم سقفاً من فضّةٍ ومعارج عليها يظهرون - الآية " وأتبعها بما يليق بذلك، فوجم الملك، وأظهر الكآبة، ولم يسعه إلا الاحتمال لمنذر بن سعيد لعظم قدره في علمه ودينه. وحضر معه يوماً في الزهراء، فقام الرئيس أبو عثمان بن إدريس فأشد الناصر قصيدة منها (3) : سيشهد ما أبقيت أنّك لم تكن ... مضيعاً وقد مكّنت للدين والدنيا فبالجامع المعمور للعلم والتّقى ... وبالزهرة الزهراء للملك والعليا

_ (1) انظر المغرب 1: 174. (2) ك: تعنيفه. (3) المغرب 1: 174.

فاهتزّ الناصر، وابتهج، وأطرق منذر بن سعيد ساعة، ثم قام منشداً: يا باني الزهراء مستغرقاً ... أوقاته فيها أما تمهل لله ما أحسنها رونقاً ... لو لم تكن زهرتها تذبل فقال الناصر: إذا هبّ عليها نسيم التذكار والحنين، وسقتها مدامع الخشوع يا أبا الحكم لا تذبل إن شاء الله تعالى، فقال منذر: اللهم اشهد أنّي قد بثثت ما عندي ولم آل نضحاً، انتهى. ولقد صدق القاضي منذر رحمه الله تعالى فيما قال، فإنّها ذبلت بعد ذلك في الفتنة، وقلب ما كان فيها من منحة محنة، وذلك عندما ولي الحجابة عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر الملقب بشنجول (1) ، وتصرف في الدولة مثل ما تصرف أخوه المظفر وأبوهما المنصور، فأساء التدبير، ولم يميز بين القبيل والدبير، فدس إلى المؤيد هشام بن الحكم من خوّفه منه حتى ولاّه عهده كما بيّنّا نص العهد فيما سبق، فأطبق الخاصة والعامة على بغضه، وإضمار السوء له، وذلك سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، فعهد ذلك خرج عليه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر سنة تسع وتسعين وتلقب بالمهدي وخلع المؤيد وحبسه، وأسلمت الجيوش شنجول فأخذ وأسر وقتل. قال ابن الرقيق: ومن أجب ما روي أنّه من نصف نهار يوم الثلاثاء لأربع بقين من جمادى الآخرة إلى نصف نهار يوم الأربعاء فتحت قرطبة، وهدمت الزهراء، وخلع خليفة وهو المؤيد، وولي خليفة وهو المهدي، وزالت دولة بني عامر العظيمة، وقتل وزيرهم محمد بن عسقلاجة (2) ، وأقيمت جيوش من العامة، ونكب خلق من الوزراء وولي الوزارة آخرون، وكان ذلك كلّه على يد عشرة رجال فحّامين وجزارين وزبالين، وهم جند المهدي هذا، انتهى.

_ (1) شنجول أي شانجة الصغير؛ وكان شانجة (Sancho) اسم خاله. (2) ك: علاجه.

وقد تقدم بعض الكلام على المهدي هذا، وهو الذي قيل فيه لما قام على الدولة (1) : قد قام مهديّنا ولكن ... بملّة (2) الفسق والمجون وشارك الناس في حريم ... لولاه ما زال بالمصون من كان من قبل ذا أجمّاً ... فاليوم قد صار ذا قرون ومن شعر المهدي هذا وقد حيّاه في مجلس شرابه غلامٌ بقضيب آسٍ: أهديت شبه قوامك الميّاس ... غصناً رطيباً ناعماً من آس وكأنّما يحكيك في حركاته ... وكأنّما تحكيه في الأنفاس وقد ذكرنا فيما سبق في الفصل الثالث خبر المهدي هذا وقتله (3) . ولقد كان قيامه مشئوماً على الدين والدنيا، فإنّه فاتح أبواب الفتنة بالأندلس وماحي معالمها، حتى تفرقت الدولة، وانتثر السلك، وكثر الرؤساء، وتطاول العدو إليها، وأخذها شيئاً فشيئاً حتى محا اسم الإسلام منها، أعادها الله تعالى. [حديث ابن خلدون عن الزهراء] وقد ألمّ الولي ابن خلدون في تاريخه بذكر الزهراء في جملة مباني الناصر، فقال ما نصّه (4) : ولما استفحل ملك الناصر صرف نظره إلى تشييده القصور والمباني، وكان جده الأمير محمد وأبوه عبد الرحمن الأوسط وجده الحكم قد احتفلوا (5) في ذلك وبنوا قصورهم على أكمل الإتقان والضخامة، وكان فيها المجلس الزاهر

_ (1) انظر ما سبق ص: 426. (2) ق ج: بآلة. (3) يريد الباب الثالث؛ انظر ما سبق ص: 428. (4) تاريخ ابن خلدون 4: 144. (5) ابن خلدون: قد اختلفوا، وكذلك في ق.

والبهو الكامل والمنيف، فبنى هو إلى جانب الزاهر قصره العظيم، وسمّاه دار الروضة، وجلب الماء إلى قصورهم من الجبل واستدعى عرفاء المهندسين والبنائين من كل قطر، فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية، ثم أخذ في بناء المنتزهات، فاتخذ منية الناعورة خارج القصور، وساق لها الماء من أعلى الجبل على أبعد مسافة، ثم اختط مدينة الزهراء، واتخذ لنزله، وكرسيّاً لملكه، وأنشأ فيها من المباني والقصور والبساتين ما عفّى على مبانيهم الأولى، واتخذ فيها محلات للوحش فسيحة الفناء، متباعدة السياج، وسارح للطيور مظللة بالشباك، واتخذ فيها دوراً لصناعة الآلات من آلات السلاح للحرب والحلى للزينة وغير ذلك من المهن، وأمر بعمل الظلة على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حر الشمس، انتهى. [الزاهرة] وأمّا الزاهرة فهي من مباني المنصور محمد بن أبي عامر. قال ابن خلدون أثناء كلامه على المنصور ما صورته (1) : وابتنى لنفسه مدينة لنزله سماها الزاهرة، ونقل إليها جزءاً من الأموال والأسلحة، انتهى. وقال غيره، وأظنّه صاحب المطمح (2) : وفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة أمر المنصور بن أبي عامر ببناء الزاهرة، وذلك عندما استفحل (3) أمره، واتقد جمره، وظهر استبداده، وكثر حسّاده وأنداده (4) ، وخاف على نفسه في الدخول إلى قصر السلطان، وخشي أن يقع في أشطان، فتوثّق لنفسه، وكشف

_ (1) ابن خلدون 4: 148. (2) لم يرد هذا النص في المطمح، وإنما هو في البيان المغرب لابن عذاري 2: 410 - 415 (277 ط. ليدن) . (3) ك: تكامل واستفحل. (4) ك: وأضداده وأنداده.

له ما ستر عنه في أمسه، من الاعتزاز عليه، ورفع الاستناد إليه، وسما إلى ما سمت إليه الملوك من اختراع قصر ينزل فيه، ويحله بأهله وذويه، ويضم إليه رياسته، ويتم به تدبيره وسياسته، ويجمع فيه فتيانه وغلمانه، فارتاد موضع مدينته المعروفة بالزاهرة، الموصوفة بالقصور الباهرة، وأقامها بطرف البلد على نهر قرطبة الأعظم، نسّق فيها كل اقتدار معجز ونظم، وشرع في بنائها في هذه السنة المؤرخة، وحشد الصنّاع والفعلة، وجلب إليها الآلات الجليلة، وسربلها بهاءً يردّ الأعين كليلة، وتوسع في اختطاطها، وتولّع بانتشارها في البسيطة وانبساطها، وبالغ في رفع أسوارها، وثابر على تسوية أنجادها وأغوارها، فاتسعت هذه المدينة في المدة القريبة، وصار بناؤها من الأنباء (1) الغريبة، وبني معظمها في عامين. وفي سنة سبعين وثلاثمائة انتقل المنصور إليها ونزلها بخاصته وعامته، فتبوّأها وشحنها بجميع أسلحته وأمواله وأمتعته، واتخذ فيها الدواوين والأعمال وعمل في داخلها الأهراء، وأطلق بساحتها الأرحاء، ثم قطع ما حولها لوزرائه وكتّابه، وقوّاده وحجّابه، فابتنوا بها كبار الدور، وجليلات القصور، واتخذوا خلالها المستغلاّت المفيدة، والمنازه المشيدة، وقامت بها الأسواق وكثرت فيها الأرفاق، وتنافس الناس بالنزول بأكنافها، والحلول بأطرافها، للدنوّ من صاحب الدولة، وتناهى الغلوّ في البناء حوله، حتى اتصلت أرباضها بأرباض قرطبة وكثرت بحوزتها العمارة، واستقرت في بحبوحتها الإمارة، وأفرد الخليفة من كل شيء إلا من الاسم الخلافي، وصير ذلك هو الرسم العافي، وربت فها جلوس وزرائه، ورؤوس أمرائه، وندب إليها كل ذي خطّة بخطّته، ونصب ببابها كرسيّ شرطته، وأجلس عليها والياً على رسم كرسي الخليفة، وفي صفة تلك المرتبة المنيفة، وكتب إلى الأقطار بالأندلس والعدوة

_ (1) ك: من الأبنية.

بأن تحمل إلى مدينته تلك أموال الجبايات، ويقصدها أصحاب الولايات، وينتابها طلاب الحوائج، وحذّر أن يعوج عنها إلى باب (1) الخليفة عائج، فاقتضيت إليها اللّبانات والأوطار، وانحشد الناس إليها من جميع الأقطار، وتم لمحمد بن أبي عامر ما أراد، وانتظم بلبّة أمانيه المراد، وعطل قصر الخليفة من جميعه، وصيّره بمعزل من سامعه ومطيعه، وسدّ باب قصره عليه، وجدّ في خبر ألاّ يصل إليه، وجعل فيه ثقة من صنائعه يضبط القصر، ويبسط في النهي والأمر، وشرف منه على كل داخل، ويمنع ما يحذره من الدواخل، ورتب عليه الحرّاس والبوّابين، والسّمّار والمنتابين، يلازمون حراسة من فيه ليلاً ونهاراً، ويراقبون حركاتهم سرّاً وجهاراً، وقد حجر على الخليفة كل تدبير، ومنعه من تملّك قبيل أو دبير، وأقام الخليفة هشام مهجور الفناء، معجوز الغناء، خفيّ الذكر، عليل الفكر، مسدود الباب، محجوب الشخص عن الأحباب، لا يراه خاص ولا عام، ولا يخاف منه بأسٌ ولا يرجى منه إنعام، ولا يعهد في إلا الاسم السلطاني في السّكة والدعوة، وقد نسخه ولبّس أبهته وطمس بهجته، وأغنى الناس عنه، وأزال أطماعهم منه، وصيرهم لا يعرفونه، وأمرهم أنهم (2) لا يذكرونه، اشتدّ ملك محمد بن أبي عامر منذ نزل قصر الزاهرة وتوسّع مع الأيام في تشييد (3) بنيتها حتى كملت أحسن كمال، وجاءته في نهاية الجمال، نقاوة بناء، وسعة فناء، واعتدال هواء رقّ أديمه، وصقالة جوّ اعتلّ (4) نسيمه، ونضرة بستان، وبهجة للنفوس فيها افتنان، وفيها يقول صاعد اللغوي: يا أيها الملك المنصور من يمن ... والمبتنى نسبا غير الذي انتسبا

_ (1) ك: دار. (2) أنهم: زيادة من ق ط. (3) ق: تجديد. (4) ق: اعتدل.

بغزوة (1) في قلوب الشّرك رائعة ... بين المنايا تناغي السّمر والقضبا أما ترى العين تجري فوق مرمرها ... هوىً فتجري على أحفافها الطربا (2) أجريتها فطما الزّاهي بجريتها ... كما طموت فسدت العجم والعربا تخال فيه جنود الماء رافلةً ... مستلئمات تريك الدّرع واليلبا تحفّها من فنون الأيك زاهرة ... قد أورقت فضّة إذ أورقت (3) ذهبا بديعة الملك ما ينفكّ ناظرها ... يتلو على السّمع منها آيةً عجبا لا يحسن الدهر أن ينشي لها مثلاً ... ولو تعنّت فيها نفسه طلبا ودخل عليه ابن أبي الحباب (4) في بعض قصوره من النية المعروفة بالعامرية، والروض قد تفتحت أنواره، وتوشحت أنجاده وأغواره، وتصرّف فيها الدهر متواضعاً، ووقف بهاالسعد خاضعاً، فقال: لا يوم كاليوم في أيّامك الأول ... بالعامريّة ذات الماء والظّلل هواؤها في جميع الدهر معتدلٌ ... طيباً وإن حلّ فصلٌ غير معتدل ما إن يبالي الذي يحتلّ ساحتها ... بالسعد أن لا تحلّ الشمس بالحمل وما زالت هذه المدينة (5) رائقة، والسّعود بلبّتها متناسقة، تراوحها الفتوح وتغاديها، وتجلب إليها منكسرة أعاديها، لا تزحف عنها راية إلاّ

_ (1) ط: بغرة. (2) البيان: على احسائها الطربا؛ وفي ق: الرطبا؛ ج: اخفائها. (3) البيان: أثمرت. (4) البيان: عمرو بن أبي الحباب؛ وهو خطأ؛ وأظن إن ابن أبي الحباب هو أحمد بن عبد العزيز بن أبي الحباب النحوي (- 400) أحد تلامذة القالي (الصلة: 25) وقد ترجم له الحميدي في موضعين مرة باسمه ومرة بكنيته " أبو المطرف " (111، 377) وكناه في الأولى بأبي عمر ولعل هذا موضع اللبس والاضطراب بتسميته " عمرو " في البيان؛ وفي الترجمة الثانية أورد الحميدي شعره في المنية العامرية. (5) ك: المنية.

إلى فتح، ولا يصدر عنها تدبير إلاّ إلى نجح، إلى أن حان يومها العصيب، وقيّض لها من المكروه أوفر (1) نصيب، فتولت فقيدة، وخلت من بهجتها كلّ عقيدة، انتهى. وقد حكى الحميدي في " جذوة المقتبس " (2) هذه الحكاية الواقعة لابن أبي الحباب بزيادة، فقال - بعد أن ذكر هذه المنية العامرية التي إلى جانب الزهراء -: إن أبا المطرّف بن أبي الحباب الشاعر دخل إلى المنصور في هذه المنية، فوقف على روضة فيها ثلاث سوسنات ثنتان منها قد تفتحتا وواحدة لم تفتح، فقال: لا يوم كاليوم في أيامنا الأول ... بالعامرية ذات الماء والظّلل (3) هواؤها في جميع الدهر معتدلٌ ... طيباً، وإن حلّ فصلٌ غير معتدل ما إن يبالي الذي يحتلّ ساحتها ... بالسعد ألاّ تحلّ الشمس في الحمل كأنّما غرست في ساعة وبدا ال ... سوسان من حينه فيها على عجل أبدت ثلاثاً من السوسان مائلةً ... أعناقهنّ من الإعياء والكسل فبعض نوّارها للبعض منفتح ... والبعض منغلق عنهنّ في شغل كأنّها راحة ضمت أناملها ... من بعد ما ملئت من جودك الخضل وأختها بسطت منها أناملها ... ترجو نداك كما عوّدتها فصل وقد ذكر ابن سعيد (4) أن ابن العريف النحوي دخل على المنصور بن أبي عامر وعنده صاعد اللغوي البغدادي، فأنشده وهو بالموضع المعروف بالعامرية من أبيات: فالعامريّة تزهى ... على جميع المباني

_ (1) ق ج ط: وفار. (2) انظر الجذوة: 377 (وبغية الملتمس رقم: 1545) . (3) ق: والقلل. (4) لم يرد هذا الص في مطبوعة المغرب؛ وانظر المقتطفات: 34 - 35.

وأنت فيها كسيفٍ ... قد حلّ في غمدان (1) فقام صاعد، وكان مناقضاً له، فقال: أسعد الله تعالى الحاجب الأجل، ومكن سلطانه؛ هذا الشعر الذي قاله (2) قد أعدّه وروّى (3) فيه أقدر أن أقول أحسن منه ارتجالاً، فقال له المنصور: قل ليظهر صدق دعواك، فجعل يقول من غير فكرة طويلة (4) : يا أيّها الحاجب المع ... تلي على كيوان ومن به قد تناهى ... فخار كلّ يمان (5) العامريّة أضحت ... كجنّة الرضوان فريدة لفريدٍ ... ما بين أهل الزمان ثمّ مر في الشعر إلى أن قال في وصفها: انظر إلى النّهر فيها ... ينساب كالثّعبان والطير يخطب شكراً ... على ذرا الأغصان والقضب تلتفّ سكراً ... بميّس القضبان والروض يفترّ زهواً ... عن مبسم الأقحوان والنرجس الغضّ يرنو ... بوجنة النّعمان وراحة الريح تمتا ... ر نفحة الريحان فدم مدى الدهر فيها ... في غبطةٍ وأمان فاستحسن المنصور ارتجاله، وقال لابن العريف: ما لك فائدة في مناقضة

_ (1) يعني سيف بن ذي يزن وقصره " غمدان " باليمن. (2) قاله: سقطت من ك. (3) ك: وتروى. (4) ك: كثيرة. (5) ق: في الحسن كل يمان.

من هذا ارتجاله، فكيف تكون رويّته؟ فقال ابن العريف: إنّما أنطقه وقرّب عليه المأخذ إحسانك، فقال له صاعد: فيخرج من هذا أن قلة إحسانه لك أسكتتك وبعّدت عليك المأخذ، فضحك المنصور وقال: غير هذه المنازعة أليق بأدبكما. قلت: وقد ذكر مؤرخو الأندلس منىً كثيرة بها: منها منية الناعورة السابقة، ومنية العامرية هذه، ومنية السرور، ومنية الزبير منسوبة إلى الزبير بن عمر الملثم ملك قرطبة. قال أبو الحسن بن سعيد (1) : أخبرني أبي عن أبيه قال: خرج معي إلى هذه المنية في زمان فتح نوّار اللوز أبو بكر بن بقيّ الشاعر المشهور، فجلسنا تحت سطر لوز قد نوّر، فقال ابن بقيّ: سطرٌ من اللوز في البستان قابلني ... ما زاد شيء على شيء ولا نقصا كأنّما كلّ غصنٍ كمّ جارية ... إذا النّسيم ثنى أعطافه رقصا ثم قال: عجبت لمن أبقى على خمر دنّه ... غداة رأى لوز الحدية نوّرا وذكر بعض مؤرخي الأندلس أن المنصور بن أبي عامر كان يزرع كل سنة ألف مدي من الشعير قصيلاً لدوابه الخاصة به، وأنّه كان إذا قدم من غزوة من غزواته لا يحلّ عن نفسه حتى يدعو صاحب الخيل فيعلم ما مات منها وما عاش، وصاحب الأبنية لما وهى من أسواره ومبانيه وقصوره ودوره، قال: وكان له دخالة (2) كل يوم اثني عشر ألف رطل من اللحم، حاشا الصيد والطير

_ (1) انظر هذا فيما تقدم ص: 471. (2) في المعاجم: الدخل فقط بمعنى الحاصل، ويبدو أن الأندلسيين استعملوا لفظة " دخالة " ليعنوا القسط أو النصيب أو الحصة.

والحيتان، وكان يصنع في كل عام اثني عشر ألف ترس عامرية لقصر الزاهرة والزهراء، قال: وابتنى على طريق المباهاة والفخامة مدينة الزاهرة (1) ذات القصور والمنتزهات المخترعة كمنية السرور وغيرها من مناشئه البديعة، انتهى. [المنصور وابن شهيد] ومن المطمح (2) : أن المنصور لما فرغ من بناء الزاهرة غزا غزوة وأبعد فيها الإيغال، وغال فيه من عظماء الروم من غال، وحلّ من أرضهم ما لم يطرق، وراع منهم ما لم يرع قطّ ولم يفرق، وصدر صدراً سما به على كل حسناء عقيلة، وجلا به كل صفحة للحسن صقيلة، ودخل قرطبة دخولاً لم يعهد، وشهد له فيها يوم مثله لم يشهد، وكان ابن شهيد متخلّفاٍ عن هذه الغزوة لنقرس عداه عائده، وحداه منتجعه ورائده، وابن شهيد هذا أحد حجاب (3) الناصر، وله على ابن أبي عامر أيادٍ محكمة الأواصر، وهو الذي نهض به أول انبعاثه، وشفى أمره زمن التياثه، وخاصم المصحفي عنه بلسان من الحماية ألدّ، وتوخّاه بإحسان قلّده من الرعاية ما قلّد، وأسمى رتبته، وحلّى بإعظام جيده ولبّته (4) ، وكان كثيراً ما يتحفه، ويصله ويلطفه، فلمّا صدر المنصور من غزوته هذه وقفل، نسي متاحفته وغفل (5) ، فكتب إليه ابن شهيد: أنا شيخ والشيخ يهوى الصّبايا ... يا بنفسي أقيك كلّ الرّزايا ورسول الإله أسهم في الفي ... ء لمن لم يخبّ فيه المطايا

_ (1) ك: العامرية. (2) لم يرد هذا النص في المطمح المطبوع. (3) ط: أصحاب. (4) ق: وحلى بأعظم جاه جيده ولبته. والعبار في ط دون لفظة " جيده ". (5) ق: أو غفل.

فاجعلنّي فديت أشكر معرو ... فك وابعث بها عذاب الثّنايا فبعث إليه بعقيلة من عقائل الروم يكنفها ثلاث جوارٍ، كأنهن نجومٌ سوارٍ، وكتب إليه: قد بعثنا بها كشمس النّهار ... في ثلاث من المها أبكار فاتّئد واجتهد فإنك شيخ ... سلخ الليل عن بياض النهار صانك الله عن كلالك فيها ... فمن العار كلّة المسمار فكتب إليه ابن شهيد: قد فضضنا ختام ذاك السّوار ... واصطبغنا من النّجيع الجاري ونعمنا في ظلّ أنعم ليلٍ ... ولهونا بالبدر ثم الدراري وقضى الشيخ ما قضى بحسام ... ذي مضاء عضب الظّبى بتّار فاصطنعه فليس يجزيك كفراً ... واتخذه سيفاً على الكفّار وقد قدمنا هذه الحكاية في أخبار المنصور من الباب الثالث (1) ، ولكنّا أدناها هنا بلفظ المطمح لما فيه من العذوبة والفائدة الزائدة. [ترجمة الجزيري من المطمح] وممن كان في أيام المنصور من الوزراء المشهورين الوزير الكاتب أبو مروان عبد الملك بن إدريس الخولاني، قال في المطمح (2) : علم من أعلام الزمان (3) ، وعين من أعيان البيان، باهر الفصاحة، طاهر الجناب والساحة، تولى

_ (1) انظر ما سبق ص: 400 - 401. (2) المطمح: 13. (3) ك: علم من الأعلام فريد الزمان.

التحبير أيام المنصور والإنشاء، وأشعر بدولته الأفراح والانتشاء، ولبس العزة ضافية البرود، وورد بها النعمة صافية الورود (1) ، وامتطى من جياد التوجيه، وأعتق من لاحق والوجيه (2) ، وتمادى طلقه، ولا أحد يلحقه، إلى أيام المظفر فمشى على سننه، وتمادى السعد يترنم على فننه، إلى أن قتل المظفّر صهره عيسى بن القطاع، صاحب دولته وأميرها المطاع، وكان أبو مروان قديم الاصطناع له والانقطاع، فاتّهم معه، وكاد أن يذوق حمامه ومصرعه (3) ، إلا أن إحسانه شفع، وبيانه نفع ودفع (4) ، فحطّ عن تلك الرتب، وحمل إلى طرطوشة على القتب، فبقي هنالك معتقلاً في أبراجها نائي المنتهى (5) ، كأنما يناجي السّها، قد بعد ساكنه عن الأنيس، وقعد من النجم بمنزلة الجليس، تمرّ الطيور دونه ولا تجوزه، ويرى منه الثرى ولا يكاد يحوزه، فبقي فيه دهراً لا يرتقي إليه راق، ولا يرجى لبثّه راق، إلى أن أخرج منه إلى ثراه، واستراح مما عراه، فمن بديع نظمه قوله يصف المعقل (6) ، الذي فيه اعتقل: يأوي إليه كلّ أعور ناعق (7) ... وتهبّ فيه كلّ ريح صرصر ويكاد من يرقى إليه مرّة ... من عمره يشكو انقطاع الأبهر ودخل ليلة على المنصور (8) والمنصور قد اتكأ وارتفق، وتحلى بمجلسه ذلك الأفق، والدّنيا بمجلسه ذلك مسوقة، وأحاديث الأماني به منسوقة، فأمره

_ (1) ك: ولبس العزة مدة ضافية البرود. (2) لاحق والوجيه: فحلان من فحول الخيل. (3) المطمح: أن يذوق الحمام فيصرعه. (4) ق ودوزي: وبيانه منع ودفع؛ وفي نسخة المطمح " صنع " وهو مصحف. (5) المطمح: فات المنتهى. (6) ك: المعتقل. (7) المطمح: ناعب. (8) على المنصور: سقطت من ق.

بالنزول (1) فنزل في جملة الأصحاب، والقمر بظهر ويحتجب في السحاب، والأفق يبدو به أغرّ ثم يعود مبهماً، والليل يتراءى منه أشقر ثم يعود أدهماً، وأبو مروان قد انتشى، وجال في ميدان الأنس ومشى، وبرد خاطره قد دبجه السرور ووشى، فأقلقه ذلك المغيب والالتياح، وأنطقه ذلك السرور والارتياح، فقال: أرى بدر السماء يلوح حيناً ... فيبدو ثمّ يلتحف السحابا وذلك أنّه لمّا تبدّى ... وأبصر وجهك استحيا فغابا مقال لو نمي عندي إليه ... لراجعني بذا حقّاً جوابا وله في مدة اعتقاله، وتردده في قيله وقاله (2) : شحط المزار فلا مزار، ونافرت ... عيني الهجوع فلا خيالّ يعتري أزرى بصبري وهو مشدود العرى (3) ... وألان عودي وهو صلب المكسر وطوى سروري كلّه وتلذّذي ... بالعيش طيّ صحيفة لم تنشر ها إنّما ألقى الحبيب توهّماً ... بضمير تذكاري وعين تذكّري عجباً لقلبي يوم راعتني النوى ... ودنا وداعي (4) كيف لم يتفطر [رجع إلى المنصور] وكان المنصور إذا أراد أمراً مهمّاً شاور أرباب الدولة الأكابر من خدام الدولة الأموية، فيشيرون عليه بالوجه الذي عرفوه وجرت الدولة الأمويّة عليه، فيخالفهم إلى المنهج الذي ابتدعه، فيقضون في أنفسهم

_ (1) ك: بالنزول عنده. (2) في رواية من أصول المطمح: في قيده وعقاله؛ وهذه الأبيات من رائيته المشهورة عند الأندلسيين وفيها نصائح وحكم لابنه (نظر فهرست ابن خير: 410) . (3) ك: القوى. (4) ك: ودنا وداع.

بالهلاك في الطريق الذي سلكه، والمهيع الذي اخترعه، فتسفر العاقبة عن السلامة التامة التي اقتضاها سعده، فيكثرون التعجب من موارد أموره ومصادرها. وقيل له مرّة: إن فلاناً مشؤوم فلا تستخدمه، فقال: أفّ لسعد لا يغطي على شؤمه، فاستخدمه، ولم ينله من شؤمه الذي جرت به العادة شيء. وحكي عنه أنّه كان في قصره با زاهرة (1) ، فتأمل محاسنه، ونظر إلى مياهه المطّردة، وأنصت لأطياره المغردة، وملأ عينه من الذي حواه من حسن وجمال، والتفت في الزاهرة من اليمين إلى الشمال، فانحدرت دموعه، وتجهم وقال: ويهاً (2) لك يا زاهرة، فليت شعري من الخائن الذي يكون خرابك على يديه عن قريب؟ فقال له بعض خاصته: ما هذا الكلام الذي ما سمعناه من مولانا قطّ؟ وما هذا الفكر الرديء الذي لا يليق بمثله شغل البال به؟ فقال: والله لترون ما قلت، وكأنّي بمحاسن الزاهرة قد محيت، وبرسومها قد غيرت، وبمبانيها قد هدمت ونحّيت، وبخزائنها قد نهبت، وبساحاتها قد أضرمت بنار الفتنة وألهبت، قال الحاكي: فلم يكن إلاّ أن توفّي المنصور وتولى المظفّر ولم تطل مدته، فقام بالأمر أخوه عبد الرحمن الملقّب بشنجول (3) ، فقام عليه المهدي والعامّة، وكانت منهم عليه وعلى قومه الطامّة، وانقرضت دولة آل عامر، ولم يبق منهم آمر: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ... أنيسٌ ولم يسمر بمكّة سامر بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر (4) وخربت الزاهرة، وذهبت (5) كأمس الدابر، وخلت منها الدسوت الملوكيّة

_ (1) ك: الذي بالزاهرة. (2) ك: ويل. (3) ك ج: بسنجور؛ ط: بسنجول. (4) سقط هذا البيت من ق. (5) ك: ومضت.

والمنابر، واستولى النهب على ما فيها من العدة والذخائر، والسلاح، وتلاشى أمرها فلم يرج لفسادها صلاح، وصارت قاعاً صفصفاً، وأديلت بأيام الترح عن أيام الفرح والصّفا. ويروى أن بعض أولياء ذلك الزّمان مر بها، ونظر إلى مصانعها السامية الفائقة، ومبانيها العالية الرائقة، فقال: يا دار فيك من كل دار، فجعل الله منك في كل دار، قال الحاكي: فلم تكن بعد ذلك دعوة الرجل الصالح إلا أيام يسيرة حتى نهبت ذخائرها، وعمّ بالخراب سائرها، فلم تبق دار فيالأندلس إلى ودخلها من فيئها حصة كثيرة أو قليلة، وحقق الله تعالى دعاء ذلك الرجل الذي همّته مع ربّه جليلة. وقد حكي أن بعض ما نهب منها بيع ببغداد وغيرها من البلاد المشرقية، فسبحان من لا يزول سلطانه ولا ينقضي ملكه لا إله إلا هو. وتذكرت هنا ما رآه في المنام بعض أهل المغرب بالليلة التي انقرض فيها ملك الموحّدين أن شخصاً ينشده: ملك بني مؤمن تولّى ... وكان فوق السّماك سمكه فاعتبروا وانظروا وقولوا: ... سبحان من لا يبيد ملكه لا إله إلاّ هو. وكان المهدي القائم على العامريين ماجناً فاتكاً، وقال - وقد حيّاه في مجلس شرابه غلام بقضيب آس (1) : أهديت شبه قوامك الميّاس ... غصناً رطيباً ناعماً من آس وكأنّما يحكيك في حركاته ... وكأنّما تحكيه في الأنفاس وكان المنصور بن أبي عامر حين تغلب على ملك الأمويين غير مكترث بمثل

_ (1) انظر ص: 577.

المهدي المذكور، فسلطه الله تعالى على كل ما أسسه المنصور حتى هدمه، وأخّر كلّ ما قدّمه، ولم ينفع في ذلك احتياط ولا حزم، ولا رادّ للقضاء المبرم الجزم: والله يحكم ما يشا ... ء فلا تكن متعرضا [طرف من أخبار المنصور] وقد قدمنا شيئاً من أخبار المنصور، ولا بأس أن نلمّ هنا ببعضها وإن حصل منه نوع تكرار في نبذة منها لارتباط الكلام بعضه ببعض. قال بعض المحققين من المؤرخين: حجر المنصور بن أبي عامر على هشام المؤيد بحيث لم يره أحد منذ ولي الحجابة، وربما أركبه بعد سنين وجعل عليه برنساً، وعلى جواريه مثل ذلك، فلا يعرف منهن، ويأمر من ينحّي الناس من طريقه، حتى ينتهي المؤيد إلى موضع تنزهه، ثم يعود، غير أنّه أركبه بأبهة الخلافة في بعض الأيام لغرضٍ له، كما ألمعنا به فيما سبق، وكان المنصور إذا سافر وكل بالمؤيد من يفعل معه ذلك، فكان هذا من فعله سبباً لانقطاع ملك بني أمية من الأندلس، وأخذ مع ذلك في قتل من يخشى منه من بني أميّة خوفاً أن يثوروا به، وظهر أنّه يفعل ذلك شفقة على المؤيد، حتى أفنى من يصلح منهم للولاية، وربما سكن بعضهم البادية، وترك مجلس الأبهة وناديه، حتى قال بعض من ينقم على المنصور ذلك الفعل من قصيدة: أبني أميّة أين أقمار الدّجى ... منكم؟ وأين نجومها والكوكب؟ غابت أسودٌ منكم عن غابها ... فلذاك حاز الملك هذا الثعلب مع أن للمنصور مفاخر بذّ بها الأوائل والأواخر، من المثابة على جهاد

العدو، وتكرار الذهاب بنفسه في الرواح والغدوّ، وله مع المصحفي وغيره أخبار مرت ويأتي بعضها، ولا بأس أن نلخص ترجمة المصحفي فنقول: [ترجمة المصحفي من المطمح] قال الفتح في المطمح (1) : الحاجب جعفر المصحفي - تجرّد للعليا، وتمرد في طلب الدنيا، حتى بلغ المنى، وتسوّغ ذلك الجنى، فسما دون سابقة، وارتمى إلى رتبة لم تكن لبنيته (2) بمطابقة، فالتاح في أفياء الخلافة، وارتاح إليها بعطفه كنشوان السّلافة، واستوزره المستنصر، وعنه كان يسمع وبه كان (3) يبصر، فأدرك بذلك ما أدرك، ونصب لأمانيه الحبائل والشّرك، واقتنى وادّخر، وأزرى (4) بمن سواه وسخر، واستعطفه المنصور بن أبي عامر ونجمه بعد غائر لم يلح، وسرّه مكتوم لم يبح، فما عطف، ولا جنى من روضة دنياه ولا قطف، فأقام في تدبير الأندلس ما أقام والأندلس متغيرة، والأذهان في تكيف سعده متحيرة، فناهيك من ذكرٍ خلّد، ومن فخرٍ تقلّد، ومن صعبٍ راض، وجناح فتنةٍ هاض، ولم يزل بنجاد تلك الخلافة معتقلاً، وفي مطالعها منتقلاً، إلى أن توفّي الحكم، فانتقض عقده المحكم، وانبرت إليه النوائب، وتسدّدت إليه من الخطوب (5) سهام صوائب، واتّصل إلى المنصور ذلك الأمر، واختص به كما مال بيزيد أخوه الغمر، وأناف في تلك الخلافة كما شبّ قبل اليوم عن طوقه عمرو، وانتدب للمصحفي بصدر كان أوغره، وساءه وصغّره، فاقتصّ من تلك الإساءة، وأغصّ حلقه بأي مساءة (6) ،

_ (1) انظر المطمح 4 - 8. (2) ك: لبيته؛ ق: إلى بيته. (3) كان: سقطت من ك. (4) ج ط: وزرى. (5) من الخطوب: زيادة من المطمح. (6) ق ك: بأي أشاءة.

فأخمله ونكبه، وأرجله عمّا كان الدهر أركبه، وألهب جوارحه (1) حزناً، ونهب له مدّخراً ومختزناً، ودمّر عليه ما كان حاط، وأحاط به من مكروهه ما أحاط، غبر سنين في مهوى تلك النكبة، وجوى (2) تلك الكربة، ينقله المنصور معه في غزواته، ويعتقله بين ضيق المطبق ولهواته، إلى ان تكوّرت شمسهن وفاظت بين أثناء المحن نفسه، ومن بديع ما حفظ له في نكبته، قوله يستريح من كربته: صبرت على الأيام لمّا تولّت ... وألزمت نفسي صبرها فاستمرّت فوا عجباً للقلب كيف اعترافه ... وللنفس بعد العزّ كيف استذلّت وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن طمعت تاقت وإلاّ تسلّت وكانت على الأيام نفسي عزيزةً ... فلمّا رأت صبري على الذل ذلّت فقلت لها: يا نفس موتي كريمةً ... فقد كانت الدّنيا لنا ثمّ ولّت وكان له أدبٌ بارع، وخاطر إلى نظم القريض يسارع (3) ، فمن محاسن إنشاده (4) ، التي بعثها إيناس دهره بإسعاده، قوله: لعينيك في قلبي عليّ عيون ... وبين ضلوعي للشجون فنون لئن كان جسمي مخلقاً في يد الهوى ... فحبّك عندي في الفؤاد مصون وله وقد أصبح عاكفاً على حميّاه، هاتفاً بإجابة دنياه، مرتشفاً ثغر الأنس متنسماً ريّاه، والملك يغازله بطرف كليل، والسعد قد عقد عليه منه إكليل، يصف لون مدامه، وما تعرّف له منها دون ندامه:

_ (1) دوزي: جوانحه. (2) ق ك ط: وجراء؛ ج: وجزاء. (3) دوزي: مسارع. (4) ك: نظامه وإنشاده.

صفراء تطرق في الزجاج فإن سرت ... في الجسم دبّت مثل صلٍّ لادغ خفيت على شرّابها فكأنّما ... يجدون ريّاً من إناء فارغ ومن شعره الذي قاله في السّفرجل مشبهاً، وغدا به لنائم البديع منبهاً، قوله يصف سفرجلة، ويقال إنّه ارتجله: ومصفرّة تختال في ثوب نرجس ... وتعبق عن مسكٍ ذكيّ التّنفس لها ريح محبوبٍ وقسوة قلبه ... ولون محبّ حلّة السّقم مكتسي فصفرتها من صفرتي مستعارة ... وأنفاسها في الطّيب أنفاس مؤنسي وكان لها ثوبٌ من الزغب أغبر ... على جسم مصفرٍ من التّبر أملس فلمّا استتمّت في القضيب شبابها ... وحاكت لها الأوراق أثواب سندس مددت يدي باللطف أبغي اجتناءها ... لأجعلها ريحانتي وسط مجلسي فبزّت يدي غصباً لها ثوب جسمها ... وأعريتها باللطف من كل ملبس ولمّا تعرّت في يدي من برودها ... ولم تبق إلاّ في غلالة نرجس ذكرت لها من لا أبوح بذكره ... فأذبلها في الكفّ حرّ التنفّس وله وقد أعاده المنصور إلى المطبق، والشجون تسرع إليه وتسبق، معزياً لنفسه (1) ، ومجتزياً بإسعاد (2) أمسه: أجازي الزمان على حاله ... مجازاة نفسي لأنفاسها إذا نفسٌ صاعدٌ شفّها ... توارت به دون جلاّسها وإن عكفت نكبة للزمان ... عطفت بنفسي (3) على راسها وممّا حفظ له في استعطافه، واستنزاله للمنصور واستلطافه، قوله:

_ (1) ق: لنفسه بنفسه. (2) المطمح: بأخبار. (3) المطمح وق ط: عطفت بصلدي؛ دوزي وج: بصدري.

عود وانعطاف إلى أخبار المنصور بن أبي عامر رحمه الله تعالى، وجازاه عن

عفا الله عنك، ألا رحمة ... تجود بعفوك أن ابعدا لئن جلّ ذنبٌ ولم أعتمده ... فأنت أجلّ وأعلى يدا ألم تر عبداً عدا طوره ... ومولىً عفا ورشيداً هدى ومفسد أمرٍ تلافيته ... فعاد فأصلح ما أفسدا أقلني أقالك من لم يزل ... يقيك ويصرف عنك الرّدى عود وانعطاف إلى أخبار المنصور بن أبي عامر رحمه الله تعالى، وجازاه عن جهاده أفضل الجزاء بمنّه وكرمه وفضله وطوله، فنقول: وكان له في كل غزوة من غزواته المنيفة على الخمسين مفخر من المفاخر الإسلاميّة، فمنها أن بعض الأجناد نسي رايته مركوزة على جبل بقرب إحدى مدائن الروم، فأقامت عدّة أيام لا يعرف الروم ما وراءها بعد رحيل العساكر، وهذا بلا خفاء ممّا يفتخر به أهل التوحيد على التثليث (1) ، لأنّهم لما أشرب قلوبهم خوف شرذمة المنصور وحزبه، وعلم كلّ من ملوكهم أنّه لا طاقة له بحربه، لجأوا إلى الفرار والتحصن بالمعاقل والقلاع، ولم يحصل منهم غير الإشراف من بعدٍ والاطلاع. ومن مفاخر المنصور في بعض غزواته أنّه مرّ بين جبلين عظيمين في طريق عرض بريد (2) بوسط بلاد الإفرنج، فلمّا جاوز ذلك المحل - وهو آخذ في التحريق والتخريب والغارات والسبي يميناً وشمالاً - لم يجسر أحد من الإفرنج على لقائه، حتى أقفرت البلاد مسافة أيام، ثم عاد فوجد الإفرنج قد استجاشوا من وراءهم، وضبطوا ذلك المدخل الضيق الذي بين جبلين، وكان الوقت شتاء، فلمّا رأى ما فعلوه رجع واختار منزلاً من بلادهم أناخ به فيمن معه من العساكر، وتقدم ببناء الدور والمنازل، وبجمع آلات الحرث ونحوها، وبث سراياه فسبت

_ (1) ك: أهل التثليث. (2) عرض بريد: سقطت من ط.

وغنمت، فاسترقّ الصغار، وضرب أعناق الكبار، وألقى جثثهم حتى سدّ بها المدخل الذي من جهته، وصارت سراياه تخرج فلا تجد إلا بلداً خراباً، فلمّا طال البلاء على العدو أرسلوا غليه في طلب الصلح، وأن يخرج بغير أسرى ولا غنائم، فامتنع من ذلك، فلم تزل رسلهم تتردد إليه حتى سألوه أن يخرج بغنائمه وأسراه، فأجابهم: إن أصحابي أبوا أن يخرجوا، وقالوا: إنّا لا نكاد نصل إلى بلادنا إلا وقد جاء وقت الغزوة الأخرى، فنقعد ههنا إلى وقت الغزاة، فإذا غزونا عدنا، فمازال الإفرنج يسألونه إلى أن قرر عليهم أن يحملوا على دوابهم ما معه من الغنائم والسبي، وأن يمدّوه بالميرة حتى يصل إلى بلادهن وأن ينحّو جيف القتلى عن طريقه بأنفسهم، ففعلوا ذلك كلّه، وانصرف. ولعمري إن هذا لعزٌّ ما وراءه مطمح، ونصر لا يكاد الزمان يجود بمثله ويسمح، خصوصاً إزالتهم جيف قتلاهم من الطريق، وغصصهم في شرب ذلك بالريق. ومن مآثره التي هي في جبين عصره غرّة، ولعين دهره قرّة، أنّه لما ختن أولاده ختن معهم من أولاد أهل دولته خمسمائة صبي، ومن أولاد الضعفاء عدد لا ينحصر (1) ، فبلغت النفقة عليهم في هذا الإعذار، خمسمائة ألف دينار، وهذه مكرمة مخلّدة، ومنّة مقلّدة، فالله سبحانه يجازيه عن ذلك أفضل الجزاء، ويجعل للمسلمين في فقد مثله أحسن العزاء. ومن مناقبه التي لم تتفق لغيره من الملوك في غالب الظنّ (2) ، أن أكثر جنده من سبيه على ما حققه بعض المؤرخين، وذلك غاية المنح من الله والمنّ. ومن أخباره الدالة على إقبال أمره وخيبة عدوّه وإدباره، أنّه ما عاد قطّ من غزوة إلا استعدّ لأخرى، ولم تهزم له قطّ راية مع كثرة غزواته شاتية صائفة وكفاه ذلك فخراً.

_ (1) ك: لا يحصر. (2) كذا في ق ك ط ج، وفي مطبوعة ليدن: في غابر الزمن.

ومنها أنّه لقيته - وقد عاد من بعض غزواته - امرأة نقمت عليه بلوغ مناه وشهواته، وقالت له: يا منصور، استمع ندائي، فأنت في طيب عيشك وأنا في بكائي، فسألها عن مصيبتها التي عمّتها وغمّتها (1) ، فذكرت له أن لها ابناً أسيراً في بلادٍ سمّتها، وأنها لا يهنأ عيشها لفقده، ولا يخبو ضرام قلقها من وقده، وأنشد لسان حالها ذلك الملك العلي: أيا ويح الشجيّ من الخليّ (2) ... فرحّب المنصور بها وأظهر الرقة بسببها، وخرج من القابلة إلى تلك المدينة التي فيها ابنها وجاس أقطارها وتخلّلها، حتى دوّخها إذ أناخ عليها بكلكله وذلّلها، وأعراها من حماتها وببنود الإسلام المنصورة ظلّلها، وخلّص جميع من فيها من الأسرى، وجلبت عوامله إلى قلوب الكفرة كسرا، وانقلبت عيون الأعداء حسرى، وتلا لسان حال المرأة " فإنّ مع العسر يسراً إنّ مع العسر يسراً ". فهكذا تكون الهمة السلطانية، والنخوة الإيمانية، فالله سبحانه يروّح تلك الأرواح في الجنان، ويرقي درجاتها ويعاملها بمحض الفضل والامتنان. [رسالة ابن عبد البر إلى المنصور الصغير] وقد تذكرت هنا والحديث شجون، وفي ذكر المناسبات (3) يبلغ الطلاب ما يرجون، كتاباً كتبه الأديب الكاتب أبو محمد ابن الإمام الحافظ محدث

_ (1) وغمتها: سقطت من ق ط ج. (2) شطر بيت لأبي تمام وتمامه: وبالي الربع من إحدى بلي ... (3) ك: وبذكر المناسبة.

الأندلس أبي عمر بن عبد البر النّميري (1) ، إلى المنصور بن أبي عامر، وهو من ذريّة المنصور الكبير الذي كنا نتحدّ في أخباره، يمتّ إليه بسلفه ومعاملتهم لمن تقدم من آبائه بتعظيم قدره وإكباره، وهو (2) : عمر الله ببقاء مولاي (3) ذي السابقتين بهجة أوطانه، وملّكه عنان زمانه، ومدّ عليه ظلال أمانه، إنّي، أبقى الله (4) الملك الكريم، والسيد الزعيم، لما أضاءت لي أهلّة مفاخركم (5) في سماء الفخار، وأشرقت شموس مكارمكم على مفارق الأحرار، وأبصرت شمائلك الزّهر تهدي إليك من الهمم كامنها (6) ، ومحاسن كالغر توقظ لك من الآمال نائمها (7) ، تيقنت أن بحقّ انقادت لك القلوب بأعنّتها، وتهادت إليك النفوس بأزمّتها، فآليت أن لا ألمّ إلاّ بحماك، ولا أحطّ رحلاً إلا بفناك (8) ، علماً بأنّك نثرة الفخر، وغرّة الدهر، فتيمّمت سارياً في ساطع نورك، متيمناً بيمن طائرك، محقّقاً للربح (9) ، موقناً بالفلج والنّجح، حتى حللت في دوحة المجد، وأنخت بدولة السعد، واستشعرت لبسة الشكر والحمد، وجعلت أنظم من جواهر الكلام، ما يربي على جواهر النّظام، وأنشر من عطر الثناء، ما يزري بالروضة الغنّاء، وحاشا للفهم (10) أن يعطل ليلي من أقمارك،

_ (1) أبو محمد ابن عبد البر كاتب من كتاب عصر ملوك الطوائف البارزين اتصل بخدمة عباد صاحب إشبيلية، فضاق به ابن زيدون ذرعاً، مما اضطر ان عبد البر إلى مفارقة الدولة العبادية والالتحاق بالعامريين أصحاب دانية وغيرهم (انظر ترجمته في الذخيرة - القسم الثالث: 39 والقلائد: 181) . (2) انظر هذه الرسالة في الذخيرة: 53 مع حذف في مواضع؛ والمقتطفات (الورقة: 37) . (3) ك: سيدي. (4) الذخيرة: أيد الله. (5) الذخيرة: مفاخره، والضمير في سائر الرسالة للغائب. (6) الذخيرة: تثير من الهمم كامنها. ك: من الهمم محامدها. (7) هذه رواية الذخيرة؛ وفي ك: رواقدها، وفي ق ط ج: راقدها. (8) الذخيرة: إلا بحماه ... في ذراه. (9) الذخيرة: بأمل متحقق للربح. (10) الذخيرة: للفضل.

أو يخلي أفقي من أنوارك، فأراني منخرطاً في غير سلكه، ومنحطّاً إلى غير ملكه، لا جرم أنّه من استضاء بالهلال، غني عن الذّبال، ومن استنار بالصباح، ألقى (1) سنا المصباح، وتالله ما هزّت (2) آمالي ذوائبها إلى سواك، ولا حدت أوطاري ركائبها إلى من عداك، ليكون فيّ أثر الوسميّ في الماحل، وعليّ جمال الحلي على العاطل، لسيادتك السنية، ورياستك الأولية، التي يقصر عنها لسان إفصاحي (3) ، ويعيا في بعضها بياني وإيضاحي (4) ، فالقراطيس عند بثّ مناقبك تفنى، والأقلام في رسم مآثرك تحفى، وما أمل المجدب، في حياة المخصب، ولا جذل المذنب، برضى المعتب، كأملي في التعزّز بحوزتك، والتجمّل بجملتك، والترفع بخدمتك، فالسعيد من نشأ في دولتك، وظهر في أمتك، واستضاء بعزتك، لقد فاز بالسبق من لحظته عين رعايتك، وكنفته حوزة (5) حمايتك، فأنت الذي أمنت بعدله نوائب الأيام، وقويت بسلطانه دعائم الإسلام، تختال بك المعالي اختيال العروس، وتخضع لجلالك أعزة النفوس، سابقةٌ أشهر من الفجر، وفطنةٌ أنور من البدر، وهمة أنفذ (6) من الدهر: لقد فاز من أضحى بكم متمسّكاً ... يشدّ على (7) تأميل عزّكم يدا سلكت سبيل الفخر (8) خلقاً مركباً ... وغيرك لا يأتيه إلا تجلّدا فأنتم لواء الدين لا زال قيّماً ... بآرائكم في ظلمة الخطب يهتدى

_ (1) الذخيرة: ألغى. (2) الذخيرة: مدت. (3) الذخيرة: عن وصفها إفصاحي. (4) ويعيا.. إيضاحي لم يرد في الذخيرة. (5) الذخيرة: وكنفه حرز. (6) الذخيرة: أبعد. (7) الذخيرة: يمد إلى. (8) الذخيرة: الفضل.

رجع إلى أخبار المنصور الكبير محمد بن أبي عامر، رحمه الله:

ليهنكم مجدٌ تليدٌ بنيتم ... أغار سناه في البلاد وأنجدا ومثله أبقاه الله سبحانه يستثمر إيراقه، فيثمر جناه، ويستمطر إبراقه، فيمطر حياه، لا سيّما وإنّي نشأةٌ حفّها إحسان أولئك الطاهرين، وألفها إنعام أكابرك الأخيار (1) الطيبين، وجديرٌ بقبولك وإقبالك، وبرّك وإجمالك، من أصله ثابت في أهل محبتكم، وفرعه نابت في خاصتكم (2) : وما رغبتي في عسجد أستفيده ... ولكنّها في مفخر أستجدّه فكلّ نوالٍ كان أو هو كائن ... فلحظة طرفٍ منك عند ندّه فكن في اصطناعي محسناً كمجرب ... يبن لك تقريب الجواد وشدّه إذا كنت في شك من السيف فابله ... فإمّا تنافيه وإمّا تعدّه وما الصارم الهنديّ إلا كغيره ... إذا لم يفارقه النجاد وغمده ولا غرو (3) أن يتطوّل مولاي بغرس الصنيعة في أزكى التراب، ووضع الهناء مكان النّقب (4) ، والله سبحانه يبقي مولاي آخذاً بزمام الفخر، ناهضاً بأعباء البر، مالكاً لأعنّة الدهر، وصنع الله سبحانه لسيدي أتم الصنع وأجمله، وأفضله وأكمله، بمنّه لا ربّ سواه، انتهى. رجع إلى أخبار المنصور الكبير محمد بن أبي عامر، رحمه الله: وكنا قد ذكرنا أنّه قبض على الوزير الحاجب المصحفي مع أنّه كان أحد أتباعه.

_ (1) الأخيار: زيادة من ك. (2) هذه الأبيات من قصيدة للمتنبي يمدح بها كافوراً ومطلعها: أود من الأيام ما لا توده ... وأشكو إليها بيننا وهي جنده (3) ك: ولا بأس. (4) ق ط: مكان النوب؛ وأصله من المثل: " يضع الهناء مواضع النقب "، والهناء: القطران، والنقب: الجرب؛ يعني يضع الشيء موضعه مسدداً مصيباً.

قال صاحب كتاب " روضة الأزهار، وبهجة النفوس ونزهة الأبصار " (1) : ولما مر أمر المنصور بن أبي عامر بسجن المصحفي بالمطبق في الزهراء ودّع أهله وودّعه وداع الفرقة، وقال لهم: لستم ترونني بعدها حيّاً، فقد أتى وقت إجابة الدعوة، وما كنت أرتقبه منذ أربعين سنة، وذلك أنّي أشركت (2) في سجن رجل في عهد الناصر، وما أطلقته إلاّ برؤيا رأيتها بأن قيل لي: أطلق فلاناً فقد أجيبت فيك دعوته، فأطلقته وأحضرته وسألته عن دعوته عليّ، فقال: دعوت على من شارك في أمري أن يميته الله في أضيق السجون، فقلت (3) : إنّها قد أجيبت، فأنّي كنت ممن شارك في امره، وندمت حين لا ينفع الندم، فيروى أنّه كتب للمنصور بن أبي عامر بهذه الأبيات (4) : هبني أسأت فأين العفو والكرم ... إذ قادني نحوك الإذعان والنّدم يا خير من مدّت الأيدي إليه أما ... ترثي لشيخ نعاه عندك القلم بالغت في السّخط فاصفح صفح مقتدر ... إنّ الملوك إذا ما استرحموا رحموا فأجابه المنصور بأبيات لعبد الملك الجزيري: يا جاهلاً بعدما زلّت بك القدم ... تبغي التكرّم لمّا فاتك الكرم ندمت إذا لم تعد منّي بطائلةٍ ... وقلّما ينفع الإذعان والنّدم نفسي إذا جمحت ليست براجعةٍ ... ولو تشفّع فيك العرب والعجم فبقي في المطبق حتى مات، نعوذ بالله تعالى من دعوة المظلوم، انتهى. وقد ذكر بعضهم هذه الأبيات زيادة حسبما ذكرناه في غير هذا المحل، فإن هذه الأبيات للمنصور، وهذا المؤرخ مصرح بأنها لعبد الملك الجزيري،

_ (1) لم أتعرف إلى مؤلف هذا الكتاب، ولكن النص منقول عن ابن حيان في الذخيرة 4: 50. (2) كذا في الأصول، وفي مطبوعة ليدن: شاركت، وفي الذخيرة: أسرفت. (3) الذخيرة: فعلمت. (4) انظر ما تقدم ص: 407 - 408 والذخيرة 4: 51.

وقد يقال: لا منافاة بينهما، فإن المنصور أجاب بالأبيات، وهل هو قائلها أم لا؟ الأمر أعم (1) ؛ فبيّن هنا، والله أعلم. وقال بعض مؤرخي المغرب (2) : إن الحاجب المصحفي حصل له في هذه النكبة من الهلع والجزع ما لم يظن أنّه يصدر من مثله، حتى إنّه كتب إلى المنصور ابن أبي عامر يطلب منه أن يقعد في دهليزه معلّماً لأولاده، فقال المنصور بدهائه وحذقه: إن هذا الرجل يريد أن يحط من قدري عند الناس، لأنّهم طالما رأوني بدهليزه خادماً ومسلّماً (3) ، فكيف يرونه الآن في دهليزي معلّماً؟ وكان المنصور يذهب به بعد نكبته معه في غزواته، حتى إنّه حكى بعضهم أنّه رأى الحاجب المصحفي في ليلة نهى المنصور فيها الناس عن إيقاد النيران تعمية على العدوّ الكافر، وهو ينفخ فحماً في كانون صغير ويخفيه تحت ثيابه، أو كما قال، فسبحان مديل الدول، لا إله إلاّ هو، فإن المصحفي بلغ من الجلالة والعظمة والتحكم في الدولة المدة المديدة أمراً لا مزيد عليه، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ولقد ذكر بعض العلماء (4) المغاربة أن من أعاجيب انقلاب الدنيا بأهلها قصّة المنصور بن أبي عامر مع الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي. ولم يزل أعداء المنصور بن أبي عامر يتربّصون به الدوائر، فغلب سعده الذي هو المثل السائر، وربما همس بعض الشعراء بهجوه وهجو الدولة جميعاً إذ قال (5) : اقترب الوعد وحان الهلاك ... وكلّ ما تحذره قد أتاك خليفة يلعب في مكتبٍ ... وأمّه حبلى وقاضٍ يناك

_ (1) يقترح فليشر أن تقرأ " الأمر أعمى " أي مبهم غامض. (2) قارن بما أورد ابن عذاري 2: 399 - 400. (3) ج: ومعلماً. (4) ك: بعض علماء. (5) ابن عذاري: 2: 418.

يعني بالخليفة هشاماً المؤيد لكونه كان صغيراً، وأمّه صبح البشكنسية كان الأعداء يتهمون بها المنصور، وذلك بهتان وزور، وأفظع منه رميهم القاضي بالفجور، والله عالم بسرائر الأمور، ونعوذ بالله من ألسنة الشعراء الذين لا يراعون إلاًّ ولا ذمّة، ويطلقون ألسنتهم في العلماء والأئمة، ومن كان حاسداً لمن بات في نعمائه يتقلّب (1) ، جدير بأن لا يدرك ما يؤمّل ويتطلب، لأنّه يعترض على الله سبحانه في أحكامه، نعوذ بالله من شرّ أنفسنا ومن شرّ كل ذي شرّ، بجاه نبينا عليه أزكى صلوات الله وأفضل سلامه. وقد قدّمنا أن المنصور بن أبي عامر كان أولاً يخدم جعفر بن عثمان المصحفي مدبر مملكة هشام المؤيد، ويريد النصيحة، وأنّه ما زال يستجلب القلوب بجوده وحسن خلقه، والمصحفي ينفّرها ببخله وسوء خلقه، إلى أن كان من أمره ما كان، فاستولى على الحجابة، وسجن المصحفي، وفي ذلك يقول المصحفي (2) : غرست قضيباً خلته عود كرمةٍ ... وكنت عليه في الحوادث قيّما وأكرمه دهري فيزداد خبثه ... ولو كان من أصل كريم تكرّما ولما يئس المصحفي من عفو المنصور قال (3) : لي مدةٌ لا بدّ أبلغها ... فإذا انقضت أيامها متّ لو قابلتني الأسد ضاريةً ... والموت لم يقرب (4) لما خفت فانظر إليّ وكن على حذرٍ ... في مثل حالك أمس قد كنت ومن أحسن ما نعى به نفسه قوله حسبما تقدم (5) :

_ (1) أخذه من قول الشاعر: وأظلم أهل الأرض من كان حاسداً ... لمن بات في نعمائه يتقلب (2) الذخيرة: 4: 52. (3) الحلة السيراء 1: 267 والذخيرة 4: 51. (4) الحلة: لم يقدر؛ الذخيرة: لم يدن. (5) انظر ما سبق ص: 593.

صبرت على الأيّام حتى تولّت ... وألزمت نفسي صبرها فاستمرّت فوا عجباً للقلب كيف اعترافه ... وللنّفس بعد العزّ كيف استذلّت وما النّفس إلاّ حيث يجعلها الفتى ... فإن طمعت تاقت وإلاّ تسلّت وكانت على الأيام نفسي عزيزةً ... فلمّا رأت صبري على الذل ذلّت فقلت لها يا نفس موتي كريمةً ... فقد كانت الدنيا لنا ثم ولّت وأنشد له الفتح في المطمح، ونسبهما غيره لأحمد بن الفرج صاحب الحدائق (1) : كلّمتني فقلت درٌّ سقيطٌ ... فتأمّلت عقدها هل تناثر فازداهاها تبسّمٌ فأرتني ... نظم درّ من التبسّم آخر وله كما مرّ (2) : صفراء تطرق في الزجاج، فإن سرت ... في الجسم دبّت مثل صلٍّ لادغ خفيت على شرّابه فكأنّما ... يجدون ريّاً من إناء فارغ وله: يا ذا الذي أودعني سرّه ... لا ترج أن تسمعه منّي لم أجره بعدك في خاطري ... كأنّه ما مرّ في أذني وأنشد له صاحب بدائع التشبيهات (3) : سألت نجوم الليل هل ينقضي الدّجى ... فخطّت جواباً بالثّريّا كخطّ لا

_ (1) الحلة: 260 والتشبيهات واليتيمة ومسالك الأبصار، ولكن لم يوردهما صاحب المطمح. (2) الحلة والتشبيهات واليتيمة؛ وقد مرا ص: 594. (3) لعل المعنى هنا كتاب الفرائد في التشبيه لابن أبي الحسين القرطبي، والأبيات في الحلة: 259 والتشبيهات لابن الكتاني.

وكنت أرى أنّي بآخر ليلتي ... فأطرق حتى خلته عاد أوّلا وما عن هوىً سامرتها، غير أنّني ... أنافسها المجرى إلى طرق العلا [؟ المصحف العثماني بقرطبة] رجع: وكان كما تقدم بقرطبة المصحف العثماني، وهو متداول بين (1) أهل الأندلس، قالوا ثم آل أمره إلى الموحدين، ثم إلى بني مرين، قال الخطيب ابن مروزق في كتابه " المسند الصحيح الحسن " (2) ما ملخصه: وكان السلطان أبو الحسن لا يسافر (3) إلا ومعه المصحف الكريم العثماني، وله عند أهل الأندلس شأن عظيم، ومقام كبير، وكيف لا؟ قال ابن بشكوال: أخرج هذا المصحف من قرطبة وغرّب منها وكان بجامعها الأعظم، ليلة السبت حادي عشر شوّال سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة في أيام أبي محمد عبد المؤمن بن علي وبأمره، وهذا أحد المصاحف الأربعة التي بعث بها عثمان رضي الله تعالى عنه إلى الأمصار: مكّة، والبصرة، والكوفة، والشام. وما قيل إن فيه دم عثمان هو بعيدٌ، وإن يكن أحدها فلعلّه الشامي، قاله ابن عبد الملك. قال أبو القاسم التجيبي السبتي: أما الشامي فهو باقٍ بمقصورة جامع بني أميّة بدمشق المحروسة، وعاينته هناك سنة 657، كما عاينت المكي بقبة اليهودية، وهو قبة التراب، قلت (4) : عاينتهما مع الذي بالمدينة سنة 735 وقرأت فيها، قال النخعي: لعلّه الكوفي أو البصري. وأقول: اختبرت الذي بالمدينة والذي

_ (1) ق ط ج ودوزي: وهو متواتر عند. (2) أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق التلمساني الأصل (- بعد 780) من أكابر رجالات الدولة المرينية، وسيترجم له المقري ترجمة طويلة وانظر الديباج المذهب: 305 ونيل الابتهاج: 267 وتاريخ ابن خلدون 7: 312 والتعريف بابن خلدون: 49؛ وكتابه هذا في مناقب السلطان العظيم أبي الحسن المريني. (3) ك: يسافر موضعاً. (4) هذا تعليق ابن مرزوق.

نقل من الأندلس فألفيت خطّهما سواء، وما توهموا أنّه خطّه بيمينه فليس بصحيح، فلم يخطّ عثمان واحداً منها، وإنّما جمع عليها بعضاً من الصحابة كما هو مكتوب على ظهر المدني، ونص ما على ظهره: هذا ما أجمع عليه جماعة من (1) أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، منهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاصي، وذكر العدد الذي جمعه عثمان رضي الله تعالى عنه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم على كتب المصحف، انتهى. واعتنى به عبد المؤمن بن علي، ولم يزل الموحدون يحملونه في أسفارهم متبركين به، إلى أن حمله المعتضد، وهو السعيد علي بن المأمون أبي العلاء إدريس ابن المنصور، حين توجه لتلمسان آخر سنة 645، فقتل قريباً من تلمسان، وقدّم ابنه إبراهيم، ثم قتل، ووقع النهب في الخزائن، واستولت العرب وغيرهم على معظم العسكر، ونهب المصحف في الخزانة إلى أن افتتحها إمامنا أبو الحسن أواخر شهر رمضان سنة 737، فظفر به وحصل عنده إلى أن أصيب في وقعة طريف (2) ، وحصل في بلاد برتقال، وأعمل الحيلة في استخلاصه، ووصل إلى فاس سنة 745 على يد أحد تجار أزمّور، واستمر بقاؤه في الخزانة؛ انتهى باختصار. واعتنى به ملوك الموحدين غاية الاعتناء، كما ذكره ابن رشيد في رحلته، ولا بأس أن أذكر كلامه بجملته، والرسالة في شأن الصحف لما فيها من الفائدة، ونص محل الحاجة منه: أنشدني الخطيب أبو محمد بن برطله من لفظه وكتبته من خطه، قال: أنشدني الشيخ الفقيه القاضي أبو القاسم عبد الرحمن ابن كاتب الخلافة أبي عبد الله بن عياش لأبيه رحمهم الله تعالى ممّا نظمه، وقد أمر أمير

_ (1) جماعة من: سقطت من ق. (2) كانت وقعة طريف سنة 741 وفيها غلب أبو الحسن المريني، وعاد إلى المغرب مفلولاً صابراً محتسباً يروم الكرة ويرتقب الطائلة (اللمحة البدرية: 93) .

المؤمنين المنصور بتحلية الصحف: ونفّلته من كل ملك ذخيرة ... كأنّهم كانوا برسم مكاسبه فإن ورث الأملاك شرقاً ومغرباً ... فكم قد أخلّوا جاهلين بواجبه وكيف يفوت النصر جيشاً جعلته ... أمام قناه في الوغى وقواضبه وألبسته الياقوت والدّرّ حليةً ... وغيرك قد روّاه من دم صاحبه وعلى ذكر هذا المصحف الكريم فلنذكر كيفية الأمر في وصوله إلى الخليفة أمير المؤمنين عبد المؤمن، وما أبدى في ذلك من الأمور الغريبة التي لم يسمع بمثلها في سالف الدهر، حسبما أطرفنا به الوزير الأجلّ أبو زكرياء يحيى بن أحمد بن يحيى بن محمد بن عبد الملك بن طفيل القيسي حفظه الله تعالى وشكره، ممّا استفاده وأفاده لنا ممّا لم نسمع به قبل، عن كتاب جده الوزير أبي بحر ممد بن عبد الملك بن طفيل المذكور، ممّا تضمنه من وصف قصّة المصحف، فقال: وصل إليهم أدام الله سبحانه تأييدهم قمرا الأندلس النيّران، وأميراها المتخيران، السيدان الأجلان أبو سعيد وأبو يعقوب أيدهما الله، وفي صحبتهما مصحف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وهو الإمام الذي لم يختلف فيه مختلف، ومازال ينقله خلف عن سلف، قد حفظ شخصه على كثرة المتناولين، وذخره الله لخليفته المخصوص بمن سخر لخدمته من المتداولين، وله من غرائب الأنباء ومتقدم الإشعار بما آل إليه أمره من الإيماء ما ملئت به الطروس، وتحفظه من أهل الأندلس الرائس والمرؤوس، فتلقّي عند وصوله بالإجلال والإعظام، وبودر إليه بما يجب من التبجيل والإكرام، وعكف عليه أطول العكوف والتزم أشدّ الالتزام، وكان في وصوله ذلك الوقت من عظيم العناية وباهر الكرامة ما هو معتبر لأولي الألباب، وبلاغ في الإغراب والإعجاب، وذلك أن سيّدنا ومولانا الخليفة أمير المؤمنين، أدام الله له عوائد النصر والتمكين، كان قبل ذلك بأيام قد جرى ذكره في خاطر الكريم، وحرّكته إليه دواعي خلقه العظيم

وتراءى مع نفسه المطمئنّة المرضيّة، وسجاياه الحسنة الرضيّة، في معنى اجتلابه من مدينة قرطبة محل مثواه القديم، ووطنه الموصل بحرمته للتقديم، فتوقّع أن يتأذّى أهل ذلك القطر بفراقه، ويستوحشوا لفقدان إضاءته في أفقهم وإشراقه، فتوقف عن ذلك لما جبل عليه من رحمته وإشفاقه، فأوصله الله إليه تحفة سنية، وهدية هنية، وتحيّة من عنده مباركة زكية، دون أن يكدرها من البشر اكتساب، أو يتقدمها استدعاء أو اجتلاب، بل أوقع الله سبحانه وتعالى في نفوس أهل ذلك القطر من الفرح بإرساله إلى مستحقّه، والتبرع به إلى القائم إلى الله تعالى بحقّه، ما اطلع بالمشاهدة والتواتر على صحته وصدقه، وعضدت مخايل برقه سواكب ودقه، وكان ذلك من كرامات سيّدنا ومولانا الخليفة معدوداً، وإلى أمره الذي هو أمر الله مردوداً، وجمع (1) عند ذلك بحضرة مراكش - حرسها الله تعالى - سائر الأبناء الكرام، والسادة الأعلام، بدور الآفاق، وكواكب الإشراق، وأهل الاستئهال للمقامات الرفيعة وذوو (2) الاستحقاق، فانتظم عند ذلك هذا القصيد مشيراً إلى اجتماع هذه الدراري الزاهرة، والتئام خطوطها على مركز الدائرة، ووصول المتقدّم ذكره، المشهور في جميع المعمور أمره (3) ، وهو هذا: دراريّ من نور الهدى تتوقّد ... مطالعها فوق المجرّة أسعد وأنهار جودٍ كلّما أمسك الحيا ... يمدّ بها طامي الغوارب مزبد وآساد حربٍ غابها شجر القنا ... ولا لبدةٌ (4) إلاّ العجاج الملبّد مساعير في الهيجا مساريع (5) للنّدى ... بأيديهم يحمى الهجير ويبرد

_ (1) ق: وأجمع. (2) وذوو: سقطت من ك. (3) ق ط ج: منه. (4) ك: ولا لبد. (5) ك: مساعير.

تشبّ بهم ناران للحرب والقرى ... ويجري بهم سيلان جيشٌ وعسجد وستمطرون البرق والبرق عندهم ... سيوفٌ على أفق العداة تجرّد إذا عنّ سجف الساريات مضاؤها ... فماذا الذي يغني الحديد المسرّد وسترشدون النجم والنجم عندهم ... نصولٌ إلى حبّ القلوب تسدّد تزاحم في جوّ السّماء كأنّما ... عواملها في الأفق صرحٌ ممرّد تخازر ألحاظ الكواكب دونها ... ويفرق منها المرزمان وفرقد ألم ترها في الأفق خافقة الحشا ... كما تطرف العينان والقلب يزأد وليس احمرار الفجر من أثر السّنا ... ولكنّه ذاك النّجيع المورّد وما انبسطت كفّ الثريّا فدافعت ... ولكنّها في الحرب شلوٌ مقدّد وحطّ سهيلاً ذعره عن سميّه ... فأضحى على أفق البسيطة يرعد ولمّا رأى نسرٌ وقوع أليفه ... تطاير من خوفٍ فما زال يجهد مواقع أمر الله في كلّ حالةٍ ... يكاد لها رأس الثرى يتميّد أهاب بأقصى الخافقين فنظّمت ... وهيّب جمع المخفقين فبدّدوا وأضفى على الدّنيا ملابس رحمةٍ ... نضارتها في كلّ حين تجدّد وأخضل أرجاء الرّبى فكأنّما ... عليها من النّبت النضير زبرجد فمن طربٍ ما أصبح البرق باسماً ... ومن فرحٍ ما أضحت المزن ترعد وغنّى على أفنان كل أراكةٍ ... غذاها حيا النّعمى حمامٌ غرّد وكبّر ذو نطقٍ وسبّح صامتٌ ... وكاد به المعدوم يحيا ويوجد وأبرز للأذهان ما كان غائباً ... فسيّان فيها مطلقٌ ومقيّد سلامٌ على المهديّ، أمّا قضاؤه ... فحتمٌ، وأمّا أمره فمؤكّد إمام الورى عمّ البسطة عدله ... على حين وجه الأرض بالجور أبد بصيرٌ رأى الدّنيا بعينٍ جليةٍ ... فلم يغنه إلا المقام الممجّد ولمّا مضى والأمر لله وحده ... وبلّغ مأمولٌ وأنجز موعد تردّى أمير المؤمنين رداءه ... وقام بأمر الله والناس هجّد

بعزمة شيحان الفؤاد مصمّمٍ ... يقوم به أقصى الوجود ويقعد مشيئته ما شاءه الله، إنّه ... إذا همّ فالحكم الإلهيّ يسعد كتائبه مشفوعةٌ بملائكٍ ... ترادفها في كلّ حالٍ وترفد وما ذاك إلاّ نيّةٌ خلصت له ... فليس له فيما سوى الله مقصد إذا خطبت راياته وسط محفلٍ ... ترى قمم الأعداء في التّرب تسجد وإن نطقت بالفصل فيهم سيوفه ... أقرّ بأمر الله من كان يجحد معيد علوم الدين بعد ارتفاعها ... ومبدي علومٍ لم تكن قبل تعهد وباسط أنوار الهداية في الورى ... وقد ضمّ قرص الشمس في الغرب ملحد وقد كان ضوء الشمس عند طلوعها ... يغان بأكنان الضلال ويغمد فما زال يجلو عن مطالعها الصّدا ... ويبرزها بيضاء والجوّ أسود جزى الله عن هذا الأنام خليفةً ... به شريوا ماء الحياة فخلّدوا وحيّاه ما دامت محاسن ذكره ... على مدرج الأيام تتلى وتنشد بمصحف عثمان الشهيد وجمعه ... تبيّن أنّ الحقّ بالحقّ يعضد تحامته أيدي الرزم بعد انتسافه ... وقد كاد ولولا سعده يتبدّد فما هو إلاّ ان تمرّس صارخٌ ... بدعوته العليا فصين المبدّد وجاء وليّ الثأر يرغب نصره ... فلبّاه منه عزمه المتجرّد رأى أثر المسفوح في صفحاته ... فقام لأخذ الثأر منه مؤيّد وشبّهه بالبدر وقت خسوفه ... فلله تشبيهٌ له الشرع يشهد زمان ارتفاع العلم كان خسوفه ... وقد عاد بالمهديّ والعود أحمد أتتك أمير المؤمنين ألوكةٌ ... من الحرم الأقصى لأمرك تمهد سيوف بني عيلان قامت شهيرةً ... لدعوتك العلياء تهدي وترشد وطافت ببيت الله فاشتدّ شوقه ... إليك ولبّى منه حجرٌ ومسجد وحجّ إليك الركن والمرو والصّفا ... فأنت لذاك الحجّ حجٌّ ومقصد

مشاعرها الأجسام والروح أمركم ... ومنكم لها يرضى البقاء (1) المخلد فلله حجٌّ واعتمارٌ وزورةٌ ... أتتنا ولم يبرحك بالغرب مشهد ولله سبعٌ نيّراتٌ تقارنت ... بها فئة الإسلام تحمى (2) وتسعد فدم للورى غيثاً وعزّاً ورحمةً ... فقربك في الدارين منجٍ ومسعد وزادت بك الأعياد حسناً وبهجةً ... كأنّك للأعياد زيٌّ مجدّد ولا زلت الأيّام تبلي جديدها ... وعمرك في ريعانه ليس ينفد ثم إنّهم أدام الله سبحانه تأييدهم، ووصل سعودهم، لما أرادوا من المبالغة في تعظيم المصحف المذكور، واستخدام البواطن والظواهر فيما يجب له من التوقير والتعزير (3) ، شرعوا في انتخاب كسوته، وأخذوا في اختيار حليته، وتأنقوا في استعمال أحفظته، وبالغوا في استجادة أصونته، فحشروا له الصّنّاع المتقنين والمهرة المتفنّنين (4) ، ممن كان بحضرتهم العليّة، أو سائر (5) بلادهم القريبة والقصية، فاجتمع لذلك حذّاق كل صناعة، ومهرة كل طائفة من المهندسين والصواغين والنظّامين والحلائين والنقاشين والمرصّعين والنجارين والزواقين والرسامين والمجلدين وعرفاء البنائين، ولم يبق من يوصف ببراعة، أو ينسب إلى الحذق في صناعة، إلا أحضر للعمل فيه، والاشتغال بمعنى من معانيه، فاشتغل أهل الحيل الهندسية بعمل أمثلة مخترعة، وأشكال مبتدعة، وضمّنوها من غرائب الحركات، وخفيّ إمداد الأسباب للمسببات، ما بلغوا فيه منتهى طاقتهم، واستفرغوا فيه جهد قوتهم، والهمة العليّة أدام الله سموها

_ (1) ك: المقام. (2) ك: تحيا. (3) ق ط ج: والتعزيز. (4) والمهرة المتفننين: سقطت من ك. (5) ك: وسائر.

تترقى فوق معارجهم، وتتخلّص كالشهاب الثاقب وراء موالجهم، وتنيف على ما ظنّوه الغاية القصوى من لطيف مدارجهم، فسلكوا من عمل هذه الأمثلة كل شعب، ورأبوا من منتشرها كل شعب، وأشرفوا عند تحقيقها وإبراز دقيقها على كل صعب، فكانت منهم وقفة كادت لها النفس تيأس عن مطلبها، والخواطر تكرّ راجعةً عن خفيّ مذهبها، حتى أطلع الله خليفته في خلقه، وأمينه المرتضى لإقامة حقّه، على وجه انقادت فيه تلك الحركات بعد اعتياصها، وتخلّصت أشكالها عن الاعتراض على أحسن وجوه خلاصها، ألقوا ذلك - أيدّهم الله بنصره، وأمدهم بمعونته ويسره - إلى المهندسين والصنّاع فقبلوه أحسن القبول، وتصوروه بأذهانهم فرأوه على مطابقة المأمول، فوقفهم حسن تنبيهه ممّا جهلوه على طور غريب من موجبات التعظيم، وعلموا أن الفضل لله (1) يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم - وسيأتي بعد هذا إشارة إلى تفصيل تلك الحركات المستغربة، والأشكال المونقة المعجبة، إن شاء الله تعالى؟ ؛ ممّا صنع للمصحف العظيم من الأصونة الغريبة، والأحفظة العجيبة، أنّه كسي كلّه بصوان واحد من الذهب والفضّة ذي صنائع غريبة من ظاهره وباطنه، لا يشبه بعضها بعضاً، قد أجري فيه من ألوان الزجاج الرومي ما لم يعهد له في العصر الأول مثال، ولا عمر قبله بشبهه خاطر ولا بال، وله مفاصل تجتمع إليها أجزاؤه وتلتئم، وتتناسق عندها عجائبه وتنتظم، قد أسلست للتحرّك أعطافها، وأحكم إنشاؤها على البغية وانعطافها، ونظم على صفحته وجوانبه من فاخر الياقوت ونفيس الدّرّ وعظيم الزمرد ما لم تزل الملوك السالفة والقرون الخالية تتنافس في أفراده، وتتوارثه على مرور الزمن وترداده، وتظنّ العز الأقعس، والملك الأنفس، في ادخاره وإعداده، وتسمي الواحد منها بعد الواحد بالاسم العلم لشذوذه في صنفه واتحاده، فانتظم عليه منها ما شاكله زهر الكواكب في تلألؤه

_ (1) ط: بيد الله.

واتقاده، وأشبهه الروض المزخرف غبّ سماء أقلعت عن إمداده، وأتى هذا الصّوان الموصوف رائق المنظر، آخذاً بمجامع القلب والبصر، مستولياً (1) بصورته الغريبة على جميع الصّور، يدهش العقول بهاء، ويحير الألباب رواء، ويكاد يعشي الناظر تألّقاً وضياء، فحين تمّت خصاله، واستركبت أوصاله، وحان ارتباطه بالمصحف العظيم واتصاله، رأوا - أدام الله تأييدهم، وأعلى كلمتهم - مما رزقهم الله تعالى من ملاحظة الجهات، والإشراف على جميع الثنيات، أن يتلطف فيوجه يكون به هذا الصّوان المذكور طوراً متصلاً، وطوراً منفصلاً، ويتأتّى به للمصحف الشريف العظيم أن يبرز تارة للخصوص متبذّلاً، وتارة للعموم متجمّلاً، إذ معارج الناس في الاستبصار تختلف، وكلّ له مقام إليه ينتهي وعنده يقف، فعمل فيه على شاكلة هذا المقصد، وتلطف في تتميم هذا الغرض المعتمد، وكسي المصحف العزيز بصوان لطيف من السندس الأخضر، ذي حلية خفيفة تلازمه في المغيب والمحضر، ورتب ترتيباً يتأتى معه أن يكسى بالصّوان الأكبر، فيلتئم به التئاماً يغطي على العين من هذا الأثر، وكمل ذلك كلّه على أجمل الصفات وأحسنها، وأبدع المذاهب وأتقنها، وصنع له محمل غريب الصنعة، بديع الشكل والصيغة، ذو مفاصل ينبو عن دقتها الإدراك، ويشتد بها الارتباط بين المفصلين ويصح الاشتراك، مغشىًّ كلّه بضروب من الترصيع، وفنون من النقش البديع، في قطع من الآبنوس والخشب الرفيع، لم تعمل قطّ في زمان من الأزمان، ولا انتهت قطّ إلى أيسره نوافذ الأذهان، مدار بصنعة قد أجريت في صفائح الذهب، وامتدت امتداد ذوائب الشّهب، وصنع لذلك المحمل كرسي يحمله عند الانتقال، ويشاركه في أكثر الأحوال، مرصّع مثل ترصيعه الغريب، ومشاكل له في جودة التقسيم وحسن الترتيب، وصنع لذلك كلّه تابوت يحتوي عليه احتواء المشكاة على أنوارها،

_ (1) ط: متولياً.

والصدور على محفوظ أفكارها، مكعب الشكل سامٍ في الطول، حسن الجملة والتفصيل، بالغ ما شاء من التتميم في أوصاله والتكميل، جرٍ مجرى المحمل في التزيين والتجميل، وله في أحد غواربه بابٌ ركبت عليه دفتان قد أحكم إرتاجهما، ويسر بعد الإبهام انفراجهما، ولانفتاح هذا الباب وخروج هذا الكرسي من تلقائه وتركب المحمل عليه، ما دبرت الحركات الهندسيّة، وتلقيت تلك التنبيهات القدسية، وانتظمت العجائب المعنويّة والحسيّة، والتأمت الذخائر النفيسة والنفسيّة، وذلك أن بأسفل هاتين الدفتين فيصلاً فيه موضع قد أعدّ له مفتاح لطيف يدخل فيه، فإذا أدخل ذلك المفتاح فيه وأديرت به اليد انفتح الباب بانعطاف الدفتين إلى داخل الدفتين من تلقائهما، وخرج الكرسي من ذاته بما عليه إلى أقصى غايته، وفي خلال خروج الكرسي يتحرك عليه المحمل حركة منتظمة مقترنة بحركته يأتي بها من مؤخر الكرسي زحفاً إلى مقدمه، فإذا كمل الكرسي بالخروج وكمل المحمل بالتقدم عليه انغلق الباب برجوع الدّفتين إلى موضعهما من تلقائهما دون أن يمسهما أحد، وترتبت هذه الحركات الأربع على حركة المفتاح فقط دون تكلف شيء آخر، فإذا أدير المفتاح إلى خلف الجهة التي أدير إليها أولاً انفتح الباب وأخذ الكرسي في الدخول والمحمل في التأخر عن مقدم الكرسي إلى مؤخره، فإذا عاد كلٌّ إلى مكانه انسدّ الباب بالدفتين أيضاً من تلقائه، كل ذلك يترتب على حركة المفتاح، كالذي كان في حال خروجه، وصحّت هذه الحركات اللطيفة على أسباب ومسبّبات غائبة عن الحس في باطن الكرسي، وهي ممّا يدقّ وصفها، ويصعب ذكرها، أظهرتها بركات هذا الأمر السعيد، وتنبيهات سيّدنا ومولانا الخليفة، أدام الله تعالى أمرهم وأعزّ نصرهم. وفي خلال الاشتغال بهذه الأعمال التي هي غرر الدهر، وفرائد العمر، أمروا - أدام الله تعالى تأييدهم - ببناء المسجد الجامع بحضرة مراكش - حرسها

الله تعالى - فبدئ ببنيانه (1) وتأسيس قبلته في العشر الأول من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وكمل منتصف شعبان المكرم من العام المذكور، على أكمل الوجوه، وأغرب الصنائع، وأفسح المساحة، وأبعد البناء والنجارة، وفيه من شمسيّات الزجاج وحركات (2) المنبر المقصورة ما لو عمل في السنين العديدة لاستغرب تمامه، فكيف في هذا الأمر اليسير الذي لم يتخيّل أحد من الصّنّاع أن يتم فيه فضلاً عن بنائه؟ وصليت في الجمعة منتصف شعبان المذكور، ونهضوا - أدام الله سبحانه تأييدهم - عقب ذلك لزيارة البقعة المكرمة، والروضة المعظمة، بمدينة تينملل (3) أدام الله رفعتها، فأقاموا بها بقية شعبان المكرم، وأكثر شهر رمضان المعظم، وحملوا في صحبتهم المصحف العزيز ومعه مصحف الإمام المهديّ المعلوم رضي الله تعالى عنه في التابوت الموصوف، إذ كان قد صنع له غرفة في أعلاه، وأحكمت فيه إحكاماً كمل به معناه، واجتمع في مشكاته فعاد النور إلى مبتداه، وختم القرآن العزيز في مسجد الإمام المعلوم ختمات كادت لا تحصى لكثرتها، وهنا انتهى ما وجدناه من هذا المكتوب. ثم قال ابن رشيد - بعد إيراد ما تقدّم - ما صورته: نجزت الرسالة في المصحف العظيم، والحمد لله رب العالمين، انتهى محل الحاجة منه. [شعر في قرطبة] وما أحسن قول الشيخ الإمام أبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية (4) يستودع أهل قرطبة:

_ (1) ك: ببنائه. ط: فبدأ بنيانه. (2) ك: ودرجات. (3) تينملل: المدينة التي دفن فيها المهدي ابن تومرت. (4) أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي (- 542) من أهل غرناطة كان واسع المعرفة قوي الأدب متفنناً في العلوم (الصلة: 367 والقلائد: 208 وسيترجم له المقري) .

أستودع الله أهل قرطبة ... حيث عهدت (1) الحياء والكرما والجامع الأعظم العتيق ولا ... زال مدى الدّهر مأمناً حرما وقال أبو الربيع ابن سالم (2) : حدثني بذلك أبو الحسن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري (3) قال: أنشدني أبو محمد بن عطية لنفسه، فذكرهما بعد أن قال: إنّه لما أزمع القاضي أبو محمد بن عطية الارتحال عن قرطبة قصد المسجد الجامع وأنشد (4) البيتين، انتهى. وقال ابن عطية أيضاً رحمه الله تعالى (5) : بأربعٍ فاقت الأمصار قرطبةٌ ... وهنّ قنطرة الوادي وجامعها هاتان ثنتان، والزهراء ثالثة، ... والعلم أكبر شيء وهو رابعها وقد تقدم إنشادنا لهذين البيتين من غير نسبة لأحد (6) . [أبو المغيرة والجارية] ومما يدخل في أخبار الزاهرة من غير ما قدمناه ما حكاه عن نفسه الوزير

_ (1) ك: وجدت. (2) أبو الربيع ابن سالم: سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي (- 634) من أجل شيوخ الأندلس علماً وتأليفاً وأولي الحزم والجرأة وافقدام، استشهد بمعركة أنيشة صابراً محتسباً. (راجع ترجمته في الذيل والتكملة 4: 83 والتكملة رقم: 1991 والمرقبة إلعليا: 119 وبرنامج الرعيني: 66 وتحفة القادم: 129 وإعتاب الكتاب: 249 والديباج: 122 وتذكرة الحفاظ: 1417 وسيترجم المقري له في النفح) . (3) عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري من أهل قرطبة يعرف بابن أبي له برنامج شيوخ أخذه عنه أبو الربيع ابن سالم وعنه أخذه تلميذه ابن الأبار، ولي القضاء باستجة وكان شيخاً جليلاً معتنياً بصناعة الحديث، توفي بغرب العدوة صادراً عن مراكش سنة 585 (التكملة رقم: 1619) . (4) ك: وأنشدني. (5) انظر البيتين في ترجمة ابن ربيع الأشعري في التكملة. (6) انظر ما تقدم ص: 153.

الكاتب أبو المغيرة بن حزم قال: نادمت يوماً المنصور بن أبي عامر في منية السرور بالزاهرة ذات الحسن النضير، وهي جامعة بين روضة وغدير، فلما تضمخ النهار بزعفران العشيّ، ورفرف غراب الليل الدّجوجيّ، وأسبل الليل جنحه، وتقلّد السّماك رمحه، وهمّ النسر بالطيران، وعام في الأفق زورق الزّبر قان، أوقدنا مصابيح الراح، واشتملنا ملاء الارتياح، وللدّجن فوقنا رواق مضروب فغنتنا عند ذلك جارية تسمى أنس القلوب (1) : قدم اللّيل عند سير النّهار ... وبد البدر مثل نصف سوار (2) فكأنّ النّهار صفحة خدٍّ ... وكأنّ الظلام خطّ عذار وكأنّ المؤوس جامد ماء ... وكأن المدام ذائب نار نظري قد جنى عليّ ذنوباً ... كيف مما جنته عيناي اعتذاري؟ يا لقومي تعجّبوا من غزال ... جائر في محبتي وهو جاري ليت لو كان لي إليه سبيلٌ ... فأقضّي من حبّه (3) أوطاري قال: فلمّا أكملت الغناء، أحسست بالمعنى، فقلت: كيف كيف الوصول للأقمار ... بين سمر القنا وبيض الشّفار لو علمنا بأن حبّك حقّ ... لطلبنا الحياة منك بثار وإذا ما الكرام همّوا بشيء ... خاطروا بالنفوس في الأخطار قال: فعند ذلك بادر المنصور لحسامه، وغلظ في كلامه، وقال لها: قولي واصدقي إلى من تشيرين، بهذا الشوق والحنين؟ فقالت الجارية: إن كان الكذب أنجى، فالصدق أحرى وأولى، والله ما كانت إلاّ نظرة، ولّدت في

_ (1) زاد في ك: وقالت. (2) ك: السوار. (3) ك: من الهوى.

القلب فكرة، فتكلّم الحب على لساني، وبرّح الشوق بكتماني، والعفو مضمون لديك عند المقدرة، والصفح معلوم منك عند المعذرة؛ ثم بكت فكأن دمعها درٌّ تناثر من عقد، أو طلٌّ تساقط من ورد، وأنشدت: أذنبت ذنباً عظيماً ... فكيف منه اعتذاري؟ والله قدّر هذا ... ولم يكن باختياري والعفو أحسن شيء ... يكون عند اقتدار قال: فعند ذلك صرف المنصور وجه الغضب إليّ، وسلّ سيف السخط عليّ، فقلت: أيدك الله تعالى، إنّما كانت هفوةً جرها الفكر، وصبوة أيدها النظر، وليس للمرء إلاّ ما قدر له، لا ما اختاره وأمله. فأطرق المنصور قليلاً ثم عفا وصفح، وتجاوز عنّا وسمح، وخلّى سبيلي، فسكن وجيب قلبي وغليلي، ووهب الجارية لي فبتنا بأنعم ليلة وسجنها فيها للصباذيلة، فلما شمر الليل غدائره، وسل الصباح بواتره، وتجاوبت الأطيار بضروب الألحان، في أعالي الأغصان، انصرفت بالجارية إلى منزلي، وتكامل سروري. [المأمون والجارية] قال بعضهم: ذكرتني حكاية أبي المغيرة هذه حكاية قرأتها في النوادر (1) لأبي علي القالي البغدادي حذت في الظرف حذوها، وزهت في الإغراب زهوها، وهي ما أسنده عن منصور البرمكي أنّه كانت للرشيد جارية غلامية وكان المأمون يميل إليها، وهو إذ ذاك أمرد، فوقفت تصبّ على يد الرشيد من إبريق معها، والمأمون [جالس] خلف الرشيد، فأشار إليها [كأنّه] يقبّلها، فأنكرت ذلك بعينها، وأبطأت في الصب على قدر نظرها للمأمون وإشارتها إليه، فقال

_ (1) انظر القصة في أمالي القالي 1: 222 وما بين معقفين زيادة منه.

الرشيد: ما هذا؟ ضعي الإبريق من يدك، ففعلت، فقال: والله لئن لم تصدقيني لأقتلنك، فقالت: يا سيّدي، أشار إليّ [عبد الله] كأنّه يقبلني، فأنكرت ذلك عليه، فالتفت إلى المأمون فنظر إليه كأنّه ميت لما داخله من الجزع والخجل، فرحمه وضمه إليه، وقال: يا عبد الله، أتحبّها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: هي لك فاخل بها في تلك القبة، ففعل، ثم قال له: هل قلت في هذا الأمر شيئاً؟ فقال: نعم يا سيدي، ثم أنشد: ظبيٌ كتبت بطرفي ... من الضمير إليه قبلته من بعيدٍ ... فاعتلّ من شفتيه وردّ أخبث ردّ ... بالكسر من حاجبيه فما برحت مكاني ... حتى قدرت عليه وفي هذا المعنى يقول بعض البلغاء: اللحظ، يعرب عن اللفظ، وقال آخر: رب كناية تغني عن إيضاح، ورب لفظ يدل على ضمير، ونظمه الشاعر فقال: جعلنا علامات المودّة بيننا ... دقائق لحظٍ هنّ أمضى من السّحر فأعرف منها الوصل في لين لحظها ... وأعرف منها الهجر بالنظر الشزر وفي هذا قال بعض الحكماء: العين باب القلب، فما في القلب ظهر في العين، وقال الشاعر: العين تبدي الذي في نفس صاحبها ... من المحبّة أو بغضٍ إذا كانا فالعين تنطق والأفواه صامتة ... حتى ترى من ضمير القلب تبيانا

[ترجمة أبي المغيرة من المطمح] وأبو المغيرة ابن حزم قال في حقه في المطمح ما نصّه (1) : الوزير الكاتب أبو المغيرة عبد الوهّاب بن حزم، وبنو حزم فتية علم وأدب، وثنيّة مجد وحسب، وأبو المغيرة هذا في الكتابة أوحد، لا ينعت ولا يحد، وهو فارس المضمار، حامي ذلك الذّمار، وبطل الرّعيل، وأسد ذلك الغيل، ونسق المعجزات، وسبق في المعضلات الموجزات، إذا كتب وشّى المهارق ودبّج، وركب من بحر البلاغة الثّبج، وكان هو وأبو عامر ابن شهيد خليلي صفاء، وحليفي وفاء، لا ينفصلان في رواح (2) ولا مقيل، ولا يفترقان كمالك وعقيل (3) ، وكانا بقرطبة رافعي ألوية الصّبوة، وعامري أندية السلوة، إلى أن اتّخذ (4) أبو عامر في حبالة الردى وعلق، وغدا رهنه فيها قد غلق (5) ، فانفرد أبو المغيرة بذلك الميدان، واستردّ من سبقه ما فاته منذ زمان، فلم تذكر له مع أبي عامر حسنة، ولا سرت له فقرة مستحسنة، لتعذر ذلك وامتناعه، بشفوف أبي عامر وامتداد باعه، وأمّا شعر أبي المغيرة فمرتبط بنثره، ومختلط زهره بدرّه (6) ، وقد أثبتّ له منها فنوناً، تجن بها الأفهام جنوناً، فمن ذلك قوله: ظعنت وفي أحداجها من شكلها ... عينٌ فضحن بحسنهنّ العينا

_ (1) المطمح: 22؛ قلت وانظر ترجمة أبي المغيرة عبد الوهاب بن أحمد بن حزم في الذخيرة 1/1: 110 والصلة: 374 والمغرب 1: 357 والجذوة: 273 وبغية الملتمس رقم: 1110؛ وتوفي أبو المغيرة بطليطلة 438. (2) ق ك ط ج: رواد. (3) مالك وعقيل: نديما جذيمة بن الأبرش ويضرب بهما المثل في عدم الافتراق، قال أبو خراش الهذلي: ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... خليلاً صفاء مالك وعقيل (4) المطمح: أخذ. (5) ك: وغلق. (6) المطمح: ومختلط بزهره.

ما أنصفت في جنب توضح إذ قرت ... ضيف الوداد بلابلاً وشجونا أضحى الغرام قطين ربع فؤاده ... إذ لم يجد بالرقمتين (1) قطينا وله: لمّا رأيت الهلال منطوياً ... في غرّة الفجر قارن الزّهره شبّهته والعيان يشهد لي ... بصولجان أوفى (2) لضرب كره [ترجمة ابن شهيد من المطمح] وأبو عامر ابن شهيد المذكور قال في حقّه ما صورته (3) : الوزير أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد الأشجعي، عالم بأقسام البلاغة ومعانيها، حائز قصب السبق فيها، لا يشبهه أحد من أهل زمانه، ولا ينسق ما نسق من درّ البيان وجمانه، توغل في شعاب البلاغة وطرقها، وأخذ على متعاطيها ما بين مغربها ومشرقها، لا يقاومه عمرو بن بحر، ولا تراه يغترف إلا من بحر، مع انطباع، مشى في طريقه بأمدّ باع، وله الحسب المشهور، والمكان الذي لم يعده للظهور (4) ، وهو من ولد الوضّاح، المتقلّد تلك المفاخر والأوضاح، صاحب الضحّاك (5) يوم المرج، وراكب ذلك الهرج، وأبو عامر حفيده هذا من ذلك النسب، ونبع لا يراش إلا من ذلك الغرب (6) ، وقد أثبتّ له ما هو بالسحر لاحق، ولنور المحاسن ما حق، فمن ذلك قوله (7) :

_ (1) ق: بالرقتين. (2) في الأصول: انثنى، وأثبتنا ما في الجذوة. (3) المطمح: 19. (4) ك: الظهور. (5) ق ك ط ج: والضحاك صاحب. (6) ق ط ج: مع ذلك الغرب؛ ك: من ذلك الزغب. (7) ديوانه: 164.

إنّ الكريم إذا نابته مخمصةٌ ... أبدى إلى الناس ريّاً وهو ظمآن يحني الضلوع على مثل اللّظى حرقاً ... والوجه غمرٌ بماء البشر ريّان (1) وهو مأخوذ من قول الرضى (2) : ما إن رأيت كمعشرٍ صبروا ... عزّاً على الأزلات والأزم بسطوا الوجوه وبين أضلعهم ... حرّ الجوى ومآلم الكلم وله أيضاً (3) : كلفت بالحبّ حتى لو دنا أجلي ... لما وجدت لطعم الموت من ألم كلا النّدى والهوى قدماً ولعت به ... ويلي من الحبّ أو ويلي من الكرم وأخبرني الوزير أبو الحسين (4) بن سراج - وهو بمنزل ابن شهيد - وكان من البلاغة في مدى غاية البيان، ومن الفصاحة في أعلى مراتب التبيان، وكنا نحضر مجلس شرابه، ولا نغيب عن بابه (5) ، وكان له بباب الصّومعة من الجامع موضع لا يفارقه أكثر نهاره، ولا يخليه من نثر درره وأزهاره، فقعد في ليلة 27 من رمضان في لمة من إخوانه، وأئمّة سلوانه، وقد حفّوا به ليقطفوا نخب أدبه، وهو يخلط لهم الجدّ بهزل، ولا يفرط في انبساط مشتهر ولا انقباض جزل، وإذا بجارية من أعيان أهل قرطبة معها من جواريها، من يسترها ويواريها، وهي ترتاد موضعاً لمناجاة ربها، وتبتغي منزلاً لاستغفار

_ (1) ق ط ج: ملآن. (2) ديوان الرضى 2: 422 مع اختلاف في بعض الرواية. (3) ديوان ابن شهيد: 148. (4) ق ك ج ط: أبو الحسن. (5) في طبعة ليدن أن في أصول المطمح هنا: " أن منزل أبي عامر بن شهيد كان منتدى الأعيان ومسرى البيان، وكان كل شاعر أو كاتب منه بين صلة أو راتب، وكانوا يحضرون مجلس شرابه ولا ينفصلون ساعة عن بابه " وهذه العبارة غير موجودة في المطمح المطوع.

ذنبها، وهي متنقبة، خائفة ممن يرقبها مترقبة، وأمامها طفل لها كأنّه غصن آس، أو ظبي يمرح في كناس، فلمّا وقعت عينها على أبي عامر ولّت سريعة، وتولت مروعة، خيفة أن يشبب بها، أو يشهرها باسمها، فلمّا نظرها، قال قولاً فضحها به وشهرها (1) : وناظرةٍ تحت طيّ القناع ... دعاها إلى الله بالخير داعي سعت خفيةً تبتغي منزلاً ... لوصل التبتّل والانقطاع فجاءت تهادى كمثل الرّؤوم ... تراعي (2) غزالاً بروض اليفاع (3) وجالت بوضعنا (4) جولةً ... فحلّ الربيع بتلك البقاع أتتنا تبختر في مشيها ... فحلّت بواد كثير السّباع وريعت حذاراً على طفلها ... فناديت يا هذه (5) لا تراعي غزالك تفرق منه الليوث ... وتفزع منه كماة (6) المصاع فولت وللمسك في ذيلها ... على الأرض خطٌّ كظهر الشّجاع انتهى المقصود منه. [استيلاء المعتمد على قرطبة] رجع: وممّا ينخرط في سلك أخبار الزهراء ما حكاه الفتح في ترجمة المعتمد ابن عباد إذ قال (7) : وأخبرني الوزير الفقيه أبو الحسين (8) بن سراج أنّه حضر مع

_ (1) انظر الديوان: 94 وبدائع البدائه 2: 108. (2) دوزي: تناغي. (3) ق ط ج: البقاع. (4) البدائع: بأكنافه. (5) البدائع: فقلت أيا هذه. (6) البدائع: وتهرب منه أسود. (7) قلائد العقيان: 10. (8) القلائد وق ط ج: ابو الحسن؛ وفي ك: أحمد بن سراج.

الوزراء والكتّاب بالزهراء في يوم قد غفل عنه الدهر فلم يرمقه بطرف، ولم يطرقه بصرف، أرّخت به المسرات عهدها، وأبرزت له الأماني خدّها (1) ، وأرشفت فيه لماها، وأباحت للزائرين حماها، وما زالوا ينقلون من قصر إلى قصر، ويبتذلون الغصون بجنىً وهصر، ويتوقّلون (2) في تلك الغرفات، يتعاطون الكؤوس بين تلك الشّرفات، حتى استقروا بالروض من بعد ما قضوا من تلك الآثار أوطاراً، وأوقروا (3) بالاعتبار قطاراً، فحلّوا منها في درانك ربيع مفوّفة بالأزهار، مطرّزة بالجداول والأنهار، والغصون تختال في أدواحها، وتتثنى في أكفّ أرواحها، وآثار الديار قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها، وانقراض أطرابها (4) ، والوهي بمشيدها لاعب، وعلى كل جدارٍ غرابٌ ناعب، وقد محت الحوادث ضياءها، وقلصت ظلالها وأفياءها، وطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت، وفاحت من شذاهم وأرجت (5) ، أيام نزلوا خلالها وتفيأوا ظلالها، وعمروا حدائقها وجنّاتها، ونبّهوا الآمال من سناتها، وراعوا الليوث في آجامها، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها (6) ، فأضحت ولها بالتداعي تلفّع واعتجار، ولم يبق من آثارها إلا نؤيٌ وأحجار، قد وهت قبابها، وهرم شبابها، وقد يلين الحديد، ويبلى على طيّه الجديد، فبينما هم يتعاطونها صغاراً وكباراً، ويديرونها أنساً واعتباراً، إذا برسول المعتمد قد وافاهم برقعة مكتوب (7) فيها: حسد القصر فيكم الزهراء ... ولعمري وعمركم ما أساء

_ (1) ك: خدها ونهدها. (2) ك: وينتقلون. (3) دوزي: ووفروا. وفي ك ق ط ج: ووقروا. (4) ك: أترابها وأطرابها. (5) ك: وتأرجت. (6) ك: في انسجامها. (7) مكتوب: سقطت من ك؛ ط: فيها مكتوب.

قد طلعتم بها شموساً صباحاً ... فاطلعوا عندنا بدوراً مساء فساروا إلى قصر البستان بباب العطارين فألفوا مجلساً قد حار فيه الوصف، واحتشد فيه اللهو والقصف، وتوقدت نجوم مدامه، وتأوّدت قدود خدّامه، وأربى على الخورنق والسّدير، وأبدى صفحة البدر من أزرار المدير، فأقاموا ليلتهم ما عراهم (1) نوم، ولا عداهم عن طيب اللذات سوم، وكانت قرطبة منتهى أمله، وكان روم أمرها أشهى عمله، ومازال يخطبها بمداخلة أهليها، ومواصلة واليها، إذ لم يكن في منازلتها قائد، ولم يكن لها إلاّ حيل ومكائد، لاستمساكهم بدعوة خلفائها، وأنفتهم من طموس رسوم الخلافة وعفائها، وحين اتفق له تملّكها، وأطلعه فلكها، وحصل في قطب دائرتها (2) ، ووصل إلى تدبير رياستها وإدارتها، قال (3) : من للملوك بشأو الأصيد البطل؟ ... هيهات جاءتكم مهديّة الدّول خطبت قرطبة الحسناء إذ منعت ... من جاء يخطبها بالبيض والأسل وكم غدت عاطلاً حتى عرضت لها ... فأصبحت في سريّ الحلي والحلل عرس الملوك لنا في قصرها عرسٌ ... كلّ الملوك بها في مأتم الوجل فراقبوا عن قريب لا أبا لكم ... هجوم ليثٍ بدرع البأس مشتمل ولمّا انتظمت في سلكه، واتّسمت بملكه، أعطى ابنه الظافر زمامها، وولاه نقضها وإبرامها، فأفاض فيها نداه، وزاد على أمده ومداه، وجمّلها بكثرة حبائه، واستقل بأعبائها على فتائه (4) ، ولم يزل فيها آمراً وناهياً، غافلاً عن المكر ساهياً، حسن ظنٍّ بأهلها اعتقده، واغتراراً بهم ما رواه ولا انتقده،

_ (1) القلائد: ما طرقهم. (2) ط ق ج: دارتها. (3) ديوان المعتمد: 65. (4) القلائد: واشتغل بأعبائها عن فنائه.

وهيهات كم من ملك كفّنوه في دمائه، ودفنوه بذمائه، كم من عرشٍ ثلّوه (1) ، وكم من عزيز ملك أذلوه، إلى أن ثار فيها ابن عكاشة ليلاً، وجرّ إليها حرباً وويلاً، فبرز الظافر منفرداً عن كماته، عارياً من حماته، وسيفه في يمينه، وهاديه في الظلماء نور جبينه، فإنّه كان غلاماً كما بلله (2) الشباب بأندائه، وألحفه الحسن بردائه، فدافعهم أكثر ليله، وقد منع منه تلاحق رجله وخيله، حتى أمكنتهم منه عثرة لم يقل لها لعا، ولا استقل منها (3) ولا سعى، فترك ملتحفاً بالظلما (4) ، تحت نجوم السما (5) ، معفّراً في وسط الحمى (6) ، تحرسه الكواكب، بعد المواكب، ويستره الحندس، بعد السندس، فمرّ بمصرعه سحراً أحد أئمّة الجامع المغلّسين، فرآه وقد ذهب ما كان عليه ومضى، وهو أعرى من الحسام المنتضى، فخلع رداءه عن منكبيه ونضاه، وستره به ستراً أقنع المجد به وأرضاه، وأصبح لا يعلم رب تلك الصنيعة، ولا يعرف فتشكر له يده الرفيعة، فكان المعتمد إذا تذكر صرعته، وسعّر الحزن لوعته، رفع بالعويل نداءه، وأنشد: ولم أدر من ألقى عليه رداءه (7) ... ولمّا كان من الغد حزّ رأسه ورفع على سن رمح وهو يشرق كنار على علم، ويرشق نفس كل ناظر بألم، فلمّا رمقته الأبصار، وتحققته الحماة والأنصار، رموا أسلحتهم، وسوّوا للفرار أجنحتهم، فمنهم من اختار فراره وجلاه، ومنهم من أتت به إلى حينه رجلاه، وشغل المعتمد عن رثائه بطلب

_ (1) ط: فلوه. (2) ك: قد بلله. (3) ك: استقال منها؛ ق: انتقل منها. (4) ق ك ط: في الظلما؛ ج: ملتفعاً في الظلما. (5) تحت نجوم السما: ساقطة من القلائد. (6) ك: وسط اكما؛ ط: الجما. (7) صدر بيت لأبي خراش الهذلي، وعجزه: " على أنه قد سل عن ماجد محض ".

ثاره، ونصب الحبائل لوقوع ابن عكاشة وعثاره، وعدل عن تأبينه، إلى البحث عن مفرقه وجبينه، فلم تحفظ له فيه قافية، ولا كلمة للوعته شافية، إلاّ إشارته إليه في تأبين أخويه، المأمون والراضي المقتولين في أول النائرة، والفتنة الثائرة، انتهى. [ذكر المتنزهات في سياق التراجم] وقد رأيت أن أزيد على ما تقدم - ممّا قصدت جلبه في هذا لموضع - نبذة من كلام الفتح في ذكر منتزهات قرطبة وغيرها من بلاد الأندلس، ووصف مجالس الأنس التي كانت بها ممّا تنشرح له الأنفس، ووقع ذكر غير قرطبة والزهراء لهما تبعاً، ولا يخلو ذلك من عبرة بحال من جعل في اللهو مصيفاً ومرتبعاً، ثم طواه الدهر طيّ السجلّ، ومحا آثاره التي كانت (1) تسمو وتجلّ، وما قصدنا علم الله غير الاعتبار، بهذه الأخبار، لا الحث على الحرام، وتسهيل القصد إليه والمرام، والأعمال بالنيات، والله سبحانه كفيل بفضله وكرمه ببلوغ الأمنيات، وتعويضنا عن هذه النعم الفانيات، بالنعم الباقيات السنيّات. [1 - من ترجمة ابن زيدون في القلائد] قال الفتح رحمه الله تعالى في ترجمة الوزير أبي الوليد بن زيدون، ما صورته (2) : وأخبرني الوزير الفقيه أبو الحسين (3) بن سراج رحمه الله تعالى أنّه في وقت فراره أضحى، غداة الأضحى، وقد ثار به الوجد بمن كان يألفه والغرام، وتراءت لعينيه تلك الظّباء الأوانس والآرام، وقد كان الفطر وافاه،

_ (1) كانت: سقطت من ق ط ج. (2) القلائد: 72. (3) ق ك ج: أبو الحسن.

والشقاء قد استولى على رسم عافيته حتى عفاه (1) ، فلمّا عاده منهما ما عاد، وأعياه ذلك النكد المعاد، استراح إلى ذكر عهده الحسن، وأراح جفونه المسهّدة بتوهم ذلك الوسن، وذكر معاهد كان يخرج إليها في العيد، ويتفرج بها مع أولئك الغيد، فقال (2) : خليليّ لا فطرٌ يسرّ ولا أضحى ... فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى لئن شاقني شرق العقاب فلم أزل ... أخصّ بممحوض الهوى ذلك السّفحا وما انفكّ جوفيّ الرّصافة مشعري ... دواعي بثٍّ تعقب الأسف البرحا ويهتاج قصر الفارسيّ صبابةً ... لقلبي لا يألو زناد الأسى قدحا وليس ذميماً عهد مجلس ناصح ... فأقبل في فرط الولوع به نصحا كأنّي لم أشهد لدى عين شهدةٍ ... نزال عتابٍ كان آخره الفتحا وقائع جانيها التجنّي فإن مشى ... سفير خضوعٍ بيننا أكّد الصّلحا وأيّام وصلٍ بالعقيق اقتضيته ... فإن لم يكن ميعاده العيد فالفصحا وآصال لهوٍ في مسنّاة مالكٍ ... معاطاة ندمانٍ إذا شئت أو سبحا لدى راكدٍ تصبيك من صفحاته ... قوارير خضرٌ خلتها مرّدت صرحا معاهد لذّاتٍ وأوطان صبوةٍ ... أجلت المعلّى في الأماني بها قدحا ألا هل إلى الزهراء أوبة نازحٍ ... تقضّى تنائيها مدامعه نزحا مقاصير (3) ملكٍ أشرقت جنباتها ... فخلنا العشايا الجون أثناءها صبحا يمثّل قرطيها لي الوهم جمرةً ... فقبّتها فالكوكب الجون (4) فالسّطحا ؟ محلّ ارتياح يذكر الخلد طيبه ... إذا عزّ أن يصدى الفتى فيه أو يضحى

_ (1) في الأصول: أعفاه. (2) انظر ديوان ابن زيدون: 158. (3) في الأصول: مقاصر. (4) القلائد: الرحب.

هناك الجمام الزّرق تندى حفافها ... ظلالٌ عهدت الدّهر فيها فتىً سمحا تعوّضت (1) من شدو القيان خلالها ... صدى فلواتٍ قد أطار الكرى صبحا ومن حملي الكأس المفدّى مديرها ... تقحّم أهوال حملت لها الرمحا أجل إنّ ليلي فوق شاطئ بيطة (2) ... لأقصر من ليلي بآنة فالبطحا وهذه معاهد بني أمية قطعوا بها ليالي وأياماً، ظلّت فيها الحوادث عنهم نياماً، فهاموا بشرق العقاب، وشاموا به برقاً يبدو من نقاب، ونعموا بجوفيّ الرّصافة، وطعموا عيشاً تولى الدهر جلاءه وزفافه، وأبعدوا نصح الناصح، وحمدوا أنس مجلس ناصح، وعموا بالزهراء، وصمّوا عن نبإ صاحب الزوراء، حتى رحلهم الموت عنها وقوّضهم، وعوّضهم منها ما عوّضهم، فصاروا أحاديث وأنباء، ولم يتزودوا منها إلاّ حنوطاً وكباء، وغدت تلك المعاهد تصافحها أيدي الغير، وتناوحها نعبات الطير، وراحت بعد الزينة سدى، وأمست مسرحاً للبوم وملعباً للصّدى، يسمع للجنّ بها عزيف، ويصرع فيها البطل الباسل والنزيف، وكذا الدنيا أعمالها خراب، وآمالها (3) آلٌ وسراب، أهلكت أصحاب الأخدود، وأذهبت ما كان بمأرب من حيازات وحدود، انتهى. وقال الفتح بعد كلام ما صورته (4) : ولما عضّته ناب الاعتقال، ورضّته تلك النّوب الثقال، وعوّض بخشانة العيش من اللين، وكابد قسوة خطبٍ لا تلين، وتذكّر عهد عيشه الرقيق، ومرحه بين الرّصافة والعقيق، وحنّ إلى سعد زرّت عليه جيوبه، واستهدى نسيم عيشٍ طاب له هبوبه، وتأسّى بمن

_ (1) ط: تعرضت. (2) ق ك ج: نيطة؛ ط: ليطة. (3) ك ط: ومآلها. (4) القلائد: 77.

باتت له النوائب بمرصاد، ورمته بسهامٍ ذات إقصاد [وضيم من عهد الأحصّ إلى ذات الإصاد] (1) فقال (2) : الهوى في طلوع تلك النجوم ... والمنى في هبوب ذاك النّسيم سرّنا عيشنا الرقيق الحواشي ... لو يدوم السرور للمستديم وطرٌ ما انقضى إلى أن تقضّى ... زمنٌ ما ذمامه بالذّميم أيّها المؤدني بظلم اللّيالي ... ليس يومي بواحدٍ من ظلوم ما ترى البدر إن تأمّلت والشم ... س هما يكسفان دون النجوم وهو الدّهر ليس ينفكّ ينحو ... بالمصاب العظيم نحو العظيم وقال الفتح أيضاً في شأن ابن زيدون، ما صورته (3) : ولما تعذر انفكاكه (4) ، وعفّر فرقده وسماكه، وعادته الأوهام والفكر، وخانه من أبي الحزم الصارم الذّكر، قال يصف ما بين مسرّاته وكروبه، ويذكر بعد طلوع أمله (5) من غروبه، ويبكي لما هو فيه من التعذير، ويعذر أبا الحزم وليس له غيره من عذير، ويتعزى بإنحاء (6) الدهر على الأحرار، وإلحاحه على التمام بالسّرار، ويخاطب ولاّدة بوفاء عهده، ويقيم لها البراهين على أرقه وسهده (7) :

_ (1) ما بين معقفين زيادة ليست في ق ك؛ والذي ضيم في الأحص وذات الأصاد هم بنو مرة أولاً ثم ثأروا بقتل كليب. (2) ديوان ابن زيدون: 278. (3) القلائد: 76. (4) القلائد: فكاكه. (5) ك: سعده. (6) ك: باخناه. (7) القلائد: 77 وديوان ابن زيدون: 250.

ما جال بعدك لحظي في سنا القمر ... إلا ذكرتك ذكر العين بالأثر ولا استطلت ذماء اللّيل من أسفٍ ... إلاّ على ليلةٍ سرّت مع القصر في نشوةٍ من شباب الوصل (1) موهمةٍ ... أن لا مسافة بين الوهن والسّحر يا ليت ذاك السّواد الجون متّصل ... قد استعار سواد القلب والبصر يا للرّزايا لقد شافهت منهلها ... غمراً فما أشرب المكروه بالغمر لا يهنإ الشّامت المرتاح خاطره ... أنّي معنّى الأماني ضائع الخطر هل الرياح بنجم الأرض عاصفة ... أم الكسوف لغير الشمس والقمر إن طال في السجن إيداعي فلا عجب ... قد يودع الجفن حدّ الصارم الذّكر وإن يثبّط أبا الحزم الرضى قدر ... عن كشف ضرّي فلا عتب على القدر من لم أزل من تأنّيه (2) على ثقةٍ ... ولم أبت من تجنّيه على حذر وله يتغزل، ويعاتب من يستعطفه ويتنزل (3) : يا مستخفّاً بعاشقيه ... ومستغشّاً لناصحيه ومن أطاع الوشاة فينا ... حتى أطعنا السّلوّ فيه الحمد لله إذ أراني ... تكذيب ما كنت تدّعيه من قبل أن يهزم التّسلّي ... ويغلب الشوق ما يليه وما أحسن قول ابن زيدون المذكور في قصيدته النونية الشهيرة:

_ (1) الذخيرة والقلائد: سنات الدهر. (2) ك: من تدانيه؛ الديوان: تأتيه. (3) الديوان: 190.

غيظ (1) العدا من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغصّ فقال الدّهر آمينا [موشحة ابن الوكيل] ومن أغرب (2) ما وقفت عليه موشّحى لابن الوكيل دخل فيها على أعجاز نونية ابن زيدون، وهي: غدا منادينا محكّماً فينا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسّينا بحر الهوى يغرق ... من فيه جهده عام وناره تحرق ... من همّ أو قد هام وربّما يقلق ... فتىً عليه نام قد غيّر الأجسام وصيّر الأيّام ... سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا يا صاحب النّجوى ... قف واستمع مني إيّاك أن تهوى ... إنّ الهوى يضني لا تقرب البلوى ... اسمع وقل عنّي بحاره مرّه خضنا على غرّه ... حيناً فقام بها للنّعي ناعينا من هام بالغيد ... لاقى بهم همّا بذلت مجهودي ... لأحورٍ ألمى يهمّ بالجود ... وردّ ما همّا

_ (1) ك: غص. (2) ق: ومن غريب.

وعندما قد جاد بالوصل أو قد كاد ... أضحى التنائي بديلاً من تدانينا بحقّ ما بيني ... وبينكم إلا أقررتم عيني ... فتجمعوا الشّملا فالعين بالبين ... بفقدكم أبلى جديد ما قد كان بالأهل والإخوان ... ومورد اللهو صافٍ من تصافينا يا جيرةً بانت ... عن مغرم صبّ لعهده خانت ... من غير ما ذنب ما هكذا كانت ... عوائد العرب لا تحسبوا البعدا يغيّر العهدا ... إذ طالما غيّر النأي المحبينا يا نازلاً بالبان ... بالشّفع والوتر والنمل والفرقان ... والليل آذا يسر وسورة الرحمن ... والنحل والحجر هل حل في الأديان أن يقتل الظمآن ... من كان صرف الهوى والود يسقينا يا سائل القطر ... عرّج على الوادي من ساكني بدر ... وقف بهم نادي عسى صباً تسري ... لمغرم صادي إن شئت تحيينا بلّغ تحيينا ... من لو على البعد حيّاً كان يحيينا وافت لنا أيام ... كأنّها أعوام وكان لي أعوام ... كأنّها أيّام

تمرّ كالأحلام ... بالوصل لي لو دام والكأس مترعة حثّت مشعشعة ... فينا الشّمول وغنّانا مغنّينا [2 - من ترجمة بني القبطورنة] رجع إلى ما يتعلّق بقرطبة: قال الوزير أبو بكر بن القبطرنة، يخاطب الوزير أبا الحسين ين سراج، ويذكر لمّةً من إخوانه بقرطبة (1) : يا سيّدي وأبي هوىً وجلالةً ... ورسول ودّي إن طلبت رسولا عرّج بقرطبةٍ ولذ إن جئتها (2) ... بأبي الحسين وناده تمويلا (3) فإذا سعدت بنظرة من وجهه ... فاهد السلام لكفّه تقبيلا واذكر له شكري وشوقي مجملاً ... ولو استطعت شرحته (4) تفصيلا بتحيّةٍ تهدى إليه كأنّما ... جرّت على زهر الرياض ذيولا وأشمّ منها المصحفيّ على النّوى ... نفساً ينسّي السوسن المبلولا وإلى أبي مروان منه نفحة ... تهدي له نور الرّبى مطلولا وإذا لقيت الأخطبيّ فسقّه ... من صفو ودّي قرقفاً وشمولا وأبو عليٍّ سقّ (5) منها ربعه ... مسكاً بماء غمامة محلولا واذكر لهم زمناً يهبّ نسيمه ... أصلاً كنفث الراقيات عليلا مولىً ومولي نعمةٍ وكرامة ... وأخا إخاء مخلصاً وخليلا

_ (1) مر بعض هذه الأبيات فيما تقدم ص: 156 وانظر القلائد: 152. (2) ق ط ج: إن أنت بلغتها. (3) ك: تعويلا؛ والتمويل: أن تقول " يا مولاي ". (4) ك: سردته. (5) القلائد: وأبا علي بل.

بالحير ما عبست هناك غمامة ... إلاّ تضاحك إذخراً وجليلا يوماً وليلاً كان ذلك كلّه ... سحراً وهذا بكرةً وأصيلا لا أدركت تلك الأهلّة دهرها ... نقصاً ولا تلك النجوم أفولا قال أبو نصر: الحير الذي ذكره هنا حير الزّجّالي خارج باب اليهود بقرطبة الذي يقول فيه أبو عامر بن شهيد (1) : لقد أطلعوا عند باب اليهود ... شمساً أبى الحسن أن تكسفا تراه اليهود على بابها ... أميراً فتحسبه يوسفا وهذا الحير من أبدع المواضع وأجملها، وأتمها حسناً وأكملها، صحنه مرمر صافي البياض، يخترقه جدول كالحيّة النّضناض، به جابية، كل لجّة بها كابية، قد قربصت بالذهب واللازورد سماؤه، وتأزّرت بهما جوانبه وأرجاؤه، والروض قد اعتدلت أسطاره، وابتسمت من كمائمها أزهاره، ومنع الشمس أن ترمق ثراه، وتطّر النسيم بهبوبه عليه ومسراه، شهدت له ليالي وأيّاماً كأنّما تصورت من لمحات الأحباب، أو قدّت من صفحات أيام الشباب، وكانت لأبي عامر بن شهيد به فرجٌ وراحات، أعطاه فيها الدهر ما شاء، ووالى عليه الصحو والانتشاء، وكان هو وصاحب الروض المدفون بإزائه أليفي صبوة، وحليفي نشوة، عكفا فيه على جريالهما، وتصرفا بين زهوهما واختيالهما، حتى ردّاهما الردى، وعداهما الحمام عن ذلك المدى، فتجاورا في الممات، تجاورهما في الحياة، وتقلصت عنهما وارفات تلك الفيئات، وإلىذلك العهد أشار ابن شهيد وبه عرّض، وبشوقه صحح وما مرض، حيث يقول عند موته يخاطب أبا مروان صاحبه وأمر أن يدفن بإزائه

_ (1) القلائد: 153 وديوان ابن شهيد: 100؛ وقد مرا في الكتاب ص: 156.

ويكتب على قبره (1) : يا صاحبي قم فقد أطلنا ... أنحن طول المدى هجود؟ فقال لي: لن نقوم منها ... ما دام من فوقنا الصّعيد تذكر كم ليلةٍ نعمنا ... في ظلّها والزمان عيد وكم سرورٍ همى علينا ... سحابةً ثرّةً تجود؟ كلٌّ كأن لم يكن تقضّى (2) ... وشؤمه حاضر عتيد حصّله كاتب حفيظ ... وضمّه صادق شهيد يا ويلنا إن تنكّبتنا ... رحمة من بطشه شديد يا ربّ عفواً فأنت مولىً ... قصّر في أمرك العبيد انتهى. ثم قال بعد كلام (3) : وركب أبو الحسن ابن القبطرنة إلى سوق الدواب بقرطبة ومعه أبو الحسين ابن سراج، فنظر إلى أبي الحكم ابن حزم غلاماً كما عقّ تمائمه، وهو يروق كأنّه زهر فارق كمائمه، فسأل أبا الحسين ابن سراج أن يقول فيه، فأرتج عليه، فثنى عنان القول إليه، فقال: رأى صاحبي عمراّ فكلّف وصفه ... وحمّلني من ذاك ما ليس في الطوق فقلت له: عمروٌ كعمروٍ، فقال لي: ... صدقت ولكن ذاك شبّ على الطوق (4) وكان بنو القبطرنة بالأندلس أشهر من نار على علم، وقد تصرفوا في البراعة والقلم، ولهم الوزارة المذكورة، والفضائل المشكورة، ولذا قال أبو

_ (1) القلائد: 153 والديوان: 46 والذخيرة 1/1: 287. (2) ك: فخيره مسرعاً تقضى. (3) القلائد: 155. (4) ق ط ج: ذا أشب على الطوق.

نصر في حقهم ما صورته (1) : هم للمجد كالأثافي، وما منهم إلاّ موفور القوادم والخوافي، إن ظهروا زهروا، وإن تجمّعوا، تضوّعوا، وإن نطقوا، صدقوا، ماؤهم صفو، وكل واحد منهم لصاحبه كفو، أنارت بهم نجوم المعالي وشموسها، ودانت لهم أرواحها ونفوسها، ولهم النظام الصافي الزجاجة، المضمحل العجاجة، انتهى. ثم قال (2) : وبات منهم أبو محمد مع أخويه في أيام صباه، واستطابة (3) جنوب الشّباب وصباه، بالمنية المسماة بالبديع، وهو روض كان المتوكل يكلف بموافاته، ويبتهج بحسن صفاته، ويقطف رياحينه وزهره، ويوقف عليه إغفاءه وسهره، ويستفزّه الطرب متى ذكره، وينتهز فرص الأنس فيه روحاته وبكره، ويدي حميّاه على ضفة نهره، ويخلع سره فيه لطاعة جهره، ومعه أخواه فطاردوا اللذّات حتى أنضوها، ولبسوا برود السرور وما نضوها، حتى صرعتهم العقار، وطلّحتهم تلك الأوقار، فلمّا همّ رداء الفجر أن يندى، وجبين الصبح أن يتبدّى، قام الوزير أبو محمد فقال: يا شقيقي وافى الصباح بوجهٍ ... ستر الليل نوره وبهاؤه فاصطبح واغتنم مسرّة يومٍ ... ليست تدري بما يجيء مساؤه ثم استيقظ أخوه أبو بكر فقال (4) : يا أخي قم تر النّسيم عليلا ... باكر الرّوض والمدام شمولا لا تنم واغتنم مسرّة يومٍ ... إنّ تحت التراب نوماً طويلا

_ (1) القلائد: 148. (2) القلائد: 151. (3) القلائد: واستطابته. (4) القلائد: 151 والمغرب 1: 367.

في رياضٍ تعانق الزهر فيها ... مثل ما عانق الخليل الخليلا (1) ثمّ استيقظ أخوهما أبوالحسن، وقد هبّ من غفلة الوسن (2) ، فقال: يا صاحبيّ ذرا لومي ومعتبتي ... قم نصطبح خمرةً من خير ما ذخروا وبادرا غفلة الأيام واغتنما ... فاليوم خمرٌ ويبدو في غدٍ خبر (3) وساق صاحب البدائع هذه القصّة فقال (4) : وذكر الفتح ما هذا معناه أنّه خرج الوزراء بنو القبطرنة إلى المنية المسماة بالبديع، وهو روض قد اخضرّت مسارح نباته، واخضلّت مساري هبّاته، ودمعت بالطّلّ عيون أزهاره، وذاب على ربرجده بلّور أنهاره، وتجمعت فيه المحاسن المتفرّقة، وأضحت مقل الحوادث عنه مطرقة، فخيول النسيم تركض في ميادينه فلا تكبو، ونصول السواقي تحسم (5) أدواء الشجر فلا تنبو، والزروع قد نقّبت وجه الثرى، وحجبت الأرض عن العيون فما تبصر ولا ترى، وكان المتوكل بن الأفطس يعدّه غاية الأرب، ويعدّه مشهداً (6) للطرب، ومدفعاً للكرب، فباتوا فيه ليلتهم يديرون لمع لهب يتمنون فيه الخلود، ويتحسّون ذوب ذهب لا يصهر به ما في بطونهم والجلود، حتى تركتهم ابنة الخابية، كأنّهم أعجاز نخل خاوية، فلمّا هزم روميّ الصباح زنجيّ الظلام، ونادى الديك حيّ على المدام، انتبه

_ (1) ك: الخليل خليلا. (2) القلائد: وقد ذهب عن عقله الوسن. (3) هو من قول بشار: اليوم هم ويبدو في غد خير ... والدهر ما بين إنعام وإبآس وأصله من قول امرئ القيس: اليوم خمر وغداً أمر. (4) البدائع 2: 140. (5) البدائع: تصول لحسم. (6) البدائع: منبهة.

كبيرهم أبو محمد مستعجلاً، وأنشد مرتجلاً يا شقيقي ... إلخ فانتبه أخوه أبو بكر لصوته، وتخوّف لذهاب ذلك الوقت وفوته، وأنبه أخاهما أبا الحسن وهو يرتجل يا أخي قم تر النسيم ... إلخ فانتبه أخوه لكلامه، دافعاً لذة منامه للذة قيامه، وارتجل يا صاحبيّ ذرا ... إلخ انتهى. قال الفتح (1) : ولمّا أمر المعتمد بن عباد أبا بكر بن القبطرنة السابق الذكر مع الوزير أبي الحسين ابن سراج بلقاء ذي الوزارتين أبي الحسن ابن اليسع القائد (2) والمشي إليه، والنزول عليه، تنويهاً لمقدمه (3) ، وتنبيهاً على حظوته لديه وتقدمه، قصارا إلى بابه، فوجداه مقفراً من حجّابه، فاستغربا خلوّه من خول، وظنّ كلّ واحد منهما وتأوّل، ثم أجمعا على قرع الباب، ورفع ذلك الارتياب، فخرج وهو دهش، وأشار إليهما بالتحيّة ويده ترتعش، وأنزلهما خجلاً، ومشى بين أيديهما عجلاً، وأشار إلى شخص فتوارى بالحجاب، وبارى الريح سرعةً في الاحتجاب، فقعدا ومقلة الخشف، ترمق من خلال السّجف، فانصرفا عنه، وعزما أن يكتبا إليه بما فهما منه، فكتبا إليه: سمعنا خشفة الخشف ... وشمنا طرفة الطّرف وصدّقنا ولم نقطع ... وكذّبنا ولم ننف وأغضينا لإجلال ... ك عن أكرومة الظّرف ولم تنصف وقد جئنا ... ك ما ننهض من ضعف وكان الحكم (4) أن تحم ... ل أو تردف في الرّدف

_ (1) انظر القلائد: 168. (2) أهله بنو اليسع كانوا أعيان حصن قولية من عمل بسطة، وكان الأمير أبو الحسن يتوى مرسية للمعتمد بن عباد فثار عليه أهلها وخلعوه، ووصفه الفتح بأنه كان صاحب بطالة وراحة (انظر ترجمته في القلائد: 167 والمغرب 2: 87 والحلة السيراء 2: 172) . (3) ك: بمقدمه. (4) دوزي: الحق.

فراجعهما في الحين (1) بقطعة منها: أيا أسفي على حالٍ ... سلبت (2) بها من الظرف ويا لهفي على جهلي ... بصنفٍ كان من صنف (3) انتهى. ولأهل الأندلس في مغاني الأنس الحسان، ما لا يفي به لسان. [3 - من ترجمة ابن حسداي] وقال الفتح في ترجمة الوزير أبي الفضل بن حسداي، بعد كلام، ما صورته (4) : فمنها هذه القطعة التي أطلعها نيّرة، وترك الألباب بها متحيرة، في يوم كان عند المقتدر بالله مع علية، قد اتخذوا المجد حلية، والأمل قد سفر لهم عن محيّاه، وعبق لهم عن ريّاه، فصافحه الكل منهم وحيّاه، وشمس الراح، دائرة على فلك الراح، والملك يشر فضله، وينثر وابله وطلّه، يسدي العلاء، ويهب الغنى والغناء، فصدحت الغواني، وأفصحت المثالث والمثاني، بما استنزل من مرقب الوقار، وسرى في النفوس مسرى العقار: توريد خدّك للأحداق لذّات ... عليه من عنبر الأصداغ لامات نيران هجرك للعشّاق نار لظىً ... لكنّ وصلك إن واصلت جنّات كأنّما الراح والراحات تحملها ... بدور تمٍّ وأيدي الشّرب هالات حشاشة ما تركنا الماء يقتلها ... إلا لتحيا بها منّا حشاشات

_ (1) في نسخة: فراجعهما أبو الحسن. (2) دوزي: سللت. (3) في ق ط: بنصف كان من نصف؛ ج: لضيف كان من ضيف. (4) القلائد: 183.

قد كان في كأسها من قبلها ثقلٌ ... فخفّ إذ ملئت منها الزّجاجات عهدٌ للبنى تقاضته الأمانات ... بانت وما قضيت منها لبانات يدني التوهّم للمشتاق منتزحاً ... من الأمور، وفي الأوهام راحات تقضى عداتٌ إذا هبّ (1) الكرى، وإذا ... هبّ النسيم فقد تهدى تحيّات زورٌ يعلّل قلب المستهام به ... دهراً، وقد بقيت في النفس حاجات لعلّ عتب اللّيالي أن يعود إلى ... عتبى فتبلغ أوطارٌ ولذّات حتى نفوز بما جاد الخيال به ... فربما صدقت تلك المنامات ولما أعرس المستعين بالله (2) ببنت الوزير الأجلّ أبي بكر بن عبد العزيز (3) احتفل أبوه المؤتمن في ذلك احتفالاً شهره، وأبدع فيه إبداعاً راق من حضره وبهره، فإنّه أحضر فيه من الآلات المبتدعة، والأدوات المخترعة، ما بهر الألباب، وقطع دون معرفتها الأسباب، واستدعى إليه جميع أعيان الأندلس، من دانٍ وقاص، ومطيع وعاص، فأتوه مسرعين، ولبّوه متبرعين، وكان مدير تلك الآراء ومدبّرها، ومنشئ مخاطباتها ومحبّرها، الوزير الكاتب أبو الفضل، وصدرت عنه في ذلك الوقت كتب ظهر إعجازها، وبهر اقتضابها وإيجازها، فمن ذلك ما خاطب به صاحب المظالم أبا عبد الرحمن بن طاهر (4) :

_ (1) القلائد: عاد. (2) المستعين بالله: أحمد ن محمد بن سليمان بن هود، تولى الحكم بعد أبيه المؤتمن محمد بن المقتدر أحمد سنة 478 وظل في الحكم حتى سنة 501، ولم يكن ممن نزعه يوسف بن تاشفين عن الحكم من أمراء الطوائف. (3) أبو بكر بن عبد العزيز كان وزيراً ببلنسية للمظفر عبد الملك بن المنصور عبد العزيز بن الناصر العامري (انظر ترجمته في القلائد: 163 وأعمال الأعلام: 202) . (4) ابو عبد الرحمن بن طاهر، محمد بن أحمد بن إسحاق بن طاهر: قام بأمر مرسية حيناً حتى ثار عليه أهلها واستغاثوا بالمعتمد بن عباد فأرسل إليه ان عمار فأخذها منه وعندئذ انحاز ابن طاهر إلى بلنسية وظل فيها حتى توفي سنة 507هـ؟. (انظر ترجمته في القلائد: 56 والذخيرة - القسم الثالث: 8 والمغرب 2: 247 وأعمال الأعلام: 201) . وفي ط ج: أبا عبد الله ابن طاهر.

محلّك أعزّك الله (1) في طيّ الجوانح ثابتٌ وإن نزحت الدار، وعيانك في أحناء الضلوع بادٍ وإن شحط المزار، فالنفس فائزة منك بتمثّل الخاطر بأوفر الحظ، والعين نازعة إلى أن تمتع من لقائك بظفر اللحظ، فلا عائدة أسبغ بردا، ولا موهبة أسوغ وردا، من تفضلك بالخفوف (2) إلى مأنسٍ يتم بمشاهدتك التئامه، ويتصل بمحاضرتك انتظامه، ولك فضل الإجمال، بالإمتاع من ذلك بأعظم الآمال، وأنا أعزّك الله على شرف سؤددك حاكم، وعلى مشرع سنائك حائم، وحسبي ما تتحقّقه من نزاعي وتشوّقي، وتتيقنه من تطلعي وتتوّقي، وقد تمكن الارتياح باستحكام الثقة، واعترض الاقتراح باستحباب (3) الصلة، وأنت وصل الله سعدك بسماحة شيمك، وبارع كرمك، تنشئ للمؤانسة عهدا، وتوري بالمكارمة زندا، وتقتضي بالمشاركة شكراً حافلاً وحمدا، لا زلت مهنّأً بالسعود المقبلة، مسوّغاً اجتلاء غرر الأماني المتهللة، بمنّه، انتهى. ثم قال بعد هذا بيسير، ما نصّه (4) : وركب المستعين بالله يوماً نهر سرقسطة يريد طراد لذته، وارتياد نزهته، وافتقاد أحد حصونه المنتظمة بلبّته، واجتمع له من أصحابه، من اختصه لاستصحابه، وفيهم أبو الفضل مشاهداً لانفراجهم، سالكاً لمناهجهم، والمستعين قد أحضر من آلات إيناسه، وأظهر من أنواع ذلك وأجناسه، ما راق من حضر، وفاق حسنه الروض الأنضر، والزوارق قد حفّت به، والتفّت بجوانبه، ونغمات الأوتار تحبس السائر عن عدوه، وتخرس الطائر المفصح بشدوه، السمك تثيرها المكايد، وتغوص إليها المصايد، فتبرز منها للعين، قضبان درٍّ أو سبائك لجين، والراح لا

_ (1) ق: نصرك الله. (2) ك: باللحوق. (3) القلائد: الانتزاح بارتقاب. (4) القلائد: 185.

يطمس لها لمع، ولا يبخس منها بصر ولا سمع، والدهر قد غضت صروفه، واقتص من نكره معروفه، فقال: لله يومٌ أنيقٌ واضح الغرر ... مفضّضٌ مذهب الآصال والبكر كأنّما الدهر لمّا ساء أعتبنا ... فيه بعتبى وأبدى صفح معتذر نسير في زورقٍ حفّ السّفين به ... من جانبيه بمنظومٍ ومنتثر مدّ الشراع به نشراً على ملكٍ ... بذّ الأوائل في أيّامه الأخر هو الإمام الهمام المستعين حوى ... علياء مؤتمن عن هدي مقتدر تحوي السفينة منه آيةً عجباً ... بحرٌ تجمّع حتى صار في نهر تصاد من قعره النينان مصعدة ... صيداً كما ظفر الغوّاص بالدّرر وللنّدامة به عبٌّ ومرتشفٌ ... كالريق يعذب في وردٍ وفي صدر والشّرب في مدح مولىً (1) خلقه زهرٌ ... يذكو وغرّته أبهى من القمر [4 - من ترجمة ابن السيد] وقال في ترجمة العلامة الكبير، الأستاذ أبي محمد عبد اله بن السّيد البطليوسي شارح أدب الكتاب (2) وسقط الزّند وغيرهما، ما صورته (3) : أخبرني أنّه حضر مع المأمون بن ذي النون في مجلس الناعورة بالمنية التي تطمح إليها المنى، ومرآها هو المقترح والمتمنى، والمأمون قد احتبى، وأفاض الحبا، والمجلس يروق كالشمس في أفقه، والبدر [كالتاج] (4) في مفرقه، والنّور عبق، وعلى ماء النهر مصطبح ومغتبق، والدولاب يئنّ كناقة إثر الحوار، أو كثكلى من حرّ الأوار، والجوّ قد عنبرته أنواؤه، والروض قد رشّته

_ (1) القلائد: في ود مولى. (2) ك: أدب الكاتب. (3) القلائد: 193. (4) زيادة من القلائد.

أنداؤه، والأسد قد فغرت أفواهها، ومجت أمواهها، فقال: يا منظراً إن نظرت بهجته ... أذكرني حسن جنّة الخلد تربة مسكٍ، وجوّ عنبرةٍ، ... وغيم ندّ، وطشّ ما ورد والماء كاللاّزورد قد نظمت ... فيه اللآلي فواغر الأسد كأنما جائل الحباب به ... يلعب في جانبيه بالنرد تراه يزهو (1) إذا يحلّ به ال ... مأمون زهو الفتاة بالعقد تخاله إن بدا به قمراً ... تمّاً بدا في مطالع السّعد (2) كأنّما ألبست حدائقه ... ما حاز من شيمةٍ ومن مجد كأنّما جادها فروّضها ... بوابلٍ من يمينه رغد لا زال في رفعةٍ (3) مضاعفةٍ ... متمّم الرّفد وادي الزّند وقال في وصف هذا المجلس بعينه، في الكتاب الذي أفرده لترجمة ابن السّيد، ما صورته (4) : فمن ذلك أنّه حضر مع القادر بالله بن ذي النون بمجلس الناعورة بطليطلة في المنية المتناهية البهاء والإشراق، المباهية لزوراء العراق، التي ينفح شذاها العطر، ويكاد من الغضارة يمطر، والقادر بالله رحمه الله قد التحف الوقار وارتداه، وحكّم العقر في جوده ونداه، والمجلس يشرق كالشمس في الحمل، ومن حواه (5) يبتهج كالنفس عند منال الأمل، والزهر عبق، وعلى ماء النهر مصطبح ومغتبق، والدولاب يئنّ كناقة إثر حوار، إلى آخر ما سبق.

_ (1) ط ج: يزهى. (2) قبل هذا البيت في القلائد: " ومنها ". (3) ق ط ج: في عزة. (4) هذا التأليف الذي أفرده الفتح لابن السيد أورده المقري بجملته في أزهار الرياض 3: 103 والنص الوارد هنا ثابت في الأزهار ص: 107. (5) ط: حماه.

وقال ابن ظافر (1) في وصف هذا المجلس حاذياً حذو الفتح، ما صورته: حضر الأستاذ أبو محمد ابن السّيد عند المأمون ابن ذي النون في بعض منتزهاته، في وقت (2) طاب نعيمه، وسرت بالسعودنجومه، والروض قد أجاد وشيه راقمه، والماء قد جرت بين الأعشاب أراقمه، وثمّ بركة مملوّة، كأنّها مرآة مجلوّة، قد اتخذت سباع الصّفر بشاطئها غاباً، ومجّت بها من سائغ الماء لعاباً، فكأنّها آساد عين، أدلعت ألسنة من لجين، وهي لا تزال تقذف الماء ولا تفتر، وتنظم لآلي الحباب بعدما تنثر، فأمره بوصف ذلك الموضع، الذي تخد (3) إليه ركائب القلوب وتوضع، فقال بديهاً يا منظراً ... إلخ، انتهى. ثم قال الفتح في هذا التصنيف بعد كلام في المذكور، ما نصّه: وما أبدع قوله في وصف الراح، والحضّ على النّبذ للهموم والاطّراح، بمعاطاة كاسها، وموالاة إيناسها (4) ، ومعاقرة دنانها، واهتصار ثمار الفتوّة وأفنانها (5) ، والإعراض عن الأيّام وأنكادها، والجري في ميدان الصّبوة إلى أبعد آمادها: سلّ الهموم إذا نبا زمن ... بمدامة صفراء كالذّهب مزجت فمن درّ على ذهبٍ ... طافٍ ومن حببٍ على لهب وكأنّ ساقيها يثير شذا ... مسكٍ لدى الأقوام منتهب ولله هو فقد ندب إلى المندوب، وذهب إلى مداواة القلوب من الندوب، وإبرائها من الآلام، وإهدائها كلّ تحيّةٍ وسلام، وإبهاجها بآصال وبكر، وعلاجها من هموم وفكر، في زمن حلي عاطله، وجلي في أحسن الصور

_ (1) في ك ق ط ج: وقال الفضل؛ وصوابه ما أثبت، فهذا النص في بدائع البدائه 2: 40. (2) البدائع: يوم. (3) البدائع: تخب. (4) أزهار الرياض: بمعاطاة كؤوسها، وموالاة تأنيسها. (5) ك: من أفنائها.

باطله، ونفقت محالاته، وطبقت أرضه وسماءه استحالاته، فليثه كأسد، وذئبه مستأسد، وحفّاثه تنمّر (1) ، وبغاثه قد استنسر، فلا استراحة إلا في معاطاة حميّا، ومواخاة وسيم المحيّا، وقد كان ابن عمار ذهب مذهبه، وفضّضه بالإبداع وذهّبه، حين دخل سرقسطة ورأى غباوة أهلها، وتكاثف جهلها، وشاهد منهم من لا يعلم معنى ولا فصلاً، وواصل من لا يعرف قطعاً ولا وصلاً، فأقبل على راحه يتعاطاها، وعكف عليها ما تعدّاها ولا تخطّاها، حتى بلغه أنهم نقموا معاقرته العقار، وجالت ألسنتهم في توبيخه مجال ذي الفقار، فقال: نقمتم عليّ الرّاح أدمن شربها ... وقلتم فتى راحٍ وليس فتى مجد ومن ذا الذي قاد الجياد إلى الوغى ... سواي ومن أعطى كثيراً ولم يكد؟ فديتكم لم تفهموا السّرّ، إنّما ... قليتكم جهدي فأبعدتكم جهدي ودعي ابن السّيد ليلة إلى مجلس قد احتشد فيه الأنس والطرب، وقرع فيه السرور نبعه بالغرب، ولاحت نجوم أكواسه، وفاح نسيم رنده وآسه، وأبدت صدور أباريقه أسرارها، وضمّت عليه المجالس أزرارها، والراح يديرها أهيف أوطف، والأماني تجنى وتقطف، فقال: يا ربّ ليلٍ قد هتكت حجابه ... بمدامةٍ وقّادة كالكوكب يسعى بها أحوى الجفون كأنّها ... من خدّه ورضاب فيه الأشنب بدران بدرٌ قد أمنت غروبه ... يسعى ببدر جانح للمغرب فإذا نعمت برشف بد غارب ... فانعم برشفة طالعٍ لم يغرب

_ (1) ق ك ط ج ودوزي: وأضغاثه تنسر، وفي أزهار الرياض: وأحفاشه، وكل ذلك خطأ؛ والحفاث تحدث عنه الجاحظ في الحيوان (4: 147) فقال: " وفي البادية حية يقال لها الحفاث ... ولها وعيد منكر ونفخ وإظهار للصولة وليس وراء ذلك شيء. ".

حتى ترى زهر النّجوم كأنّها ... حول المجرّة ربربٌ في مشرب والليل منحفزٌ (1) يطير غرابه ... والصّبح يطرده ببازٍ أشهب ثم قال الفتح، بعد كلام كثير، ما صورته (2) : ودخل - يعني ابن السّيد - سرقسطة أيام المستعين وهي جنّة الدنيا، وفتنة المحيا، ومنتهى الوصف، وموقف السرور والقصف، ملك نمير البشاشة، كثير الهشاشة، وملك أبهج الفناء، أرج الأرجاء، يروف المجتلي، ويفوق النجم المعتلي، وحضرة منسابة الماء، منجابة السماء، يبسم زهرها، وينساب نهرها، وتتفتح خمائلها، وتتضوع صباها وشمائلها، والحوادث لا تعترضها، والكوارث لا تقرضها (3) ، ونازلها من عرس إلى موسم، وآملها متصل بالأماني ومتّسم، فنزل منها في مثل الخورنق والسدير، وتصرف فيها بين روضة وغدير، فلم يخف على المستعين احتلاله (4) ، ولم تخف لديه خلاله، فذكره معلماً به ومعرّفاً، وأحضره منوّهاً به ومشرّفاً، وقد كان فرّ من ابن رزين، فرار السرور من نفس الحزين، وخلص من اعتقاله، خلوص السيف من صقاله، فقال يمدحه (5) : هم سلبوني حسن صبري إذ بانوا ... بأقمار أطواق مطالعها بان لئن غادروني باللوى إنّ مهجتي ... مسايرة أظعانهم حيثما كانوا سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم ... ينازعها نهرٌ من الدمع هتّان أأحبابنا هل ذلك العهد راجعٌ ... وهل لي عنكم آخر الدهر سلوان ولي مقلةٌ عبرى وبين جوانحي ... فؤادٌ إلى لقياكم الدهر حنّان تنكرت الدنيا لنابعد بعدكم ... وحفّت بنا من معضل الخطب ألوان

_ (1) ك: منفجر. (2) أزهار الرياض 3: 109. (3) ك: تفترضها. (4) الأزهار: اختلاله؛ ج: إجلاله. (5) انظر القلائد أيضاً: 199.

أناخت بنا في أرض شنتمريّةٍ ... هواجس ظنّ خان والظنّ خوان وشمنا بروقاً للمواعيد أتعبت ... نواظرنا دهراً ولم يهم تهتان (1) فسرنا وما نلوي على متعذر ... إذا وطنٌ أقصاك آوتك أوطان ولا زاد إلاّ ما انتشته من الصّبا ... أنوفٌ وحازته من الماء أجفان رحلنا سوام الحمد (2) عنها لغيرها ... فلا ماؤها صدّا ولا النبت سعدان (3) إلى ملك حاباه بالمجد يوسف ... وشاد له البيت الرفيع سليمان إلى مستعين بالإله مؤيّدٍ، ... له النصر حزبٌ والمقادير أعوان جفتنا بلا جرم كأنّ مودّةً ... ثنى نحونا منها الأعنّة شنآن ولو لم تفد منّا سوى الشّعر وحده ... لحقّ لنا برٌّ عليه وإحسان فكيف ولم نجعل بها الشّعر مكسباً ... فيوجب للمكدي جفاءٌ وحرمان ولا نحن ممن يرتضي الشعر خطّة ... وإن قصرت عن شأونا فيه أعيان ومن أوهمته غير ذاك ظنونه ... فثمّ مجال للمقال وميدان خليليّ من يعدي على زمن له ... إذا ما قضى حيفٌ عليّ وعدوان وهل ريء من قبلي غريق مدامعٍ ... يفيض بعينيه الحيا وهو حرّان وهل طرفت عين لمجدٍ ولم يكن ... لها مقلة من آل هود وإنسان وبوجه ابن هودٍ كلما أعرض الورى ... صحيفة إقبال لها البشر عنوان فتى المجد في برديه بدرٌ وضيغم ... وبحرٌ وقدسٌ ذو الهضاب ثهلان من النفر الشّمّ الذين أكفّهم ... غيوث ولكنّ الخواطر نيران ليوث شرىً ما زال منهم لدى الوغى ... هزبرٌ بيمناه من السّمر ثعبان وهل فوق ما قد شاد مقتدرٌ لهم ... ومؤتمن بالله لقياه إيمان ألا ليس فخر في الورى غير فخرهم ... وإلاّ فإنّ الفخر زور وبهتان

_ (1) ك والأزهار: هتان. (2) ك: الخمر؛ ط: الحمر. (3) إشارة إلى المثل: ماء ولا كصداء، ومرعى ولا كالسعدان.

فيا مستعيناً مستعاناً (1) لمن نبا ... به وطن يوماً وعضّته أزمان كسوتك من نظمي قردة مفخر ... يباهي بها جيد الزمان (2) ويزدان وإن قصرت عمّا لبست فربّما ... تجاور (3) درٌّ في النظام ومرجان معانٍ حكت غنج الحسان كأنّني ... بهن حبيب أو بطليوس بغداد إذا غرست كفّاك غرس مكارم ... بأرضي أجنتك الثنا منه أغصان وقال في وصف مجلس (4) لأبي عيسى ابن لبّون (5) أحضر إليه ابن السّيد منوهاً بقدره، ما صورته (6) : وأحضره إلى مجلس نام عنه الدهر وغفل، وقام لفرط أنسه واحتفل، قد بانت صروفه، ودنت من الزائر قطوفه، وقال: هلمّ بنا إلى الاجتماع بمذهبك، والاستمتاع بما شئته ببراعة (7) أدبك، فأقاموا يعملون كاسهم، ويصلون إيناسهم، وباتوا ليلهم (8) ما طرقهم نوم، ولا عداهم عن طيب اللّذّات سوم. ثم قال بعد كلام كثير (9) : وحضر ابن السّيد عند عبد الرحمن الظافر بن ذي النون مجلساً رفعت في المنى لواءها، وخلعت عليه (10) أضواءها، وزفّت

_ (1) ك: مستغاثاً. (2) ك: جيد المعاني؛ ط والأزهار: جيد المعالي. (3) ط: تجاوز. (4) ط ج ق: في وصفه مجلساً. (5) أبو عيسى ابن لبون: هو لبون بن عبد العزيز بن لبون من صحا القادر بن ذي النون، رأس بمربيطر من أعمال بلنسية ثم تخلى عنها لأبي مروان بن رزين، وكان معدوداً في الأجواد موصوفاً بتجويد القريض (انظر ترجمته في الحلة 2: 167 والقلائد: 99 والمغرب 2: 376 والذخيرة - القسم الثالث: 33) . (6) أزهار الرياض 3: 121. (7) ك: من براعة. (8) ك: ليلتهم. (9) أزهار الرياض 3: 127. (10) زاد في الأزهار: الشمس.

إليه المسرات أبكارها، وفارقت إليه الطير أوكارها، فقال يصفه: [ومجلس جمّ الملاهي أزهرا ... ألذّ في الأجفان من طعم الكرى] (1) لم تر عيني مثله ولا ترى ... أنفس في نفسي وأبهى منظرا إذا تردّى وشيه المصوّرا ... من حوك صنعاء وحوك عبقرا ونسج قرقوب ونسج تسترا (2) ... خلت الربيع الطلق فيه نوّرا كأنّما الإبريق حين قرقرا ... قد أمّ لثم الكأس حين فغرا وحشيّة ظلّت تناغي جؤذرا ... ترضعه الدّرّ ويرنو حذرا كأنّما مجّ عقيقاً أحمرا ... أو فتّ من ريّاه مسكاً أذفرا أو عابد الرحمن يوماً ذكرا ... فنمّ مسكاً ذكره وعنبرا الظافر الملك الذي من ظفرا ... بقربه نال العلاء الأكبرا لو أنّ كسرى راءه أو قيصرا ... هلّل إكباراً له وكبّرا تبدي سماء الملك منه قمرا ... إذا حجاب المجد عنه سفرا يا أيها المنضي بالسّرى ... تبغي غمام المكرمات الممطرا [5 - من ترجمة ابن العطار] وقال الفتح في ترجمة الأديب أبي القاسم ابن العطار، ما صورته (3) : هو أحد أدباء إشبيلية ونحاتها، العامرين لأرجاء المعارف وساحاتها، ولولا مواصلة راحاته، وتعطيل بكره وروحاته، وموالاته للفرج، ومغالاته في عرف للأنس أو أرج (4) ، لا يعرّج إلا على ضفة نهر، ولا يلهج (5) إلا بقطعة

_ (1) زيادة من أزهار الرياض. (2) تستر: مدينة بخوزستان، وقرقوب: قرية من أعمالها. (3) القلائد: 284 (قلت: وانظر ترجمة أبي القاسم ابن العطار في المغرب 1: 254) . (4) ك: عرف الأنس والأرج. (5) ك: ولا يبتهج.

زهر، ولا يحفل بملام، ولا يتنقل (1) إلى في طاعة غلام، ناهيك من رجل مخلوع العنان في ميدان الصبابة، مغرم بالحسان غرام يزيد بحبابة، لا تراه إلا في ذمّة انهماك، ولا تلقاه إلا في لمّة انتهاك، رافعاً لرايات الهوى، فارعاً لثنيّات الجوى، لا يقفر فؤاده من كلف، ولا يبيت إلاّ رهن تلف، أكثر خلق الله تعالى علاقة، وأحضرهم لمشهد خلاقة (2) ، مع جزالةٍ تحرك السكون وتضحك الطير في الوكون، وقد أثبتّ له ما يرتجله (3) في أوقات أنسه وساعاته، وينفث (4) به أثناء زفراته ولوعاته، فمن ذلك ما قاله في يوم ركب فيه النهر على عادات انكشافه، وارتضاعه لثغور اللذّات وارتشافه (5) : عبرنا سماء النهر والجوّ مشرقٌ ... وليس لنا إلا الحباب نجوم وقد ألبسته الأيك برد ظلالها ... وللشمس في تلك البرود رقوم وله فيه: مررنا بشاطي النهر بين حدائقٍ ... بها حدق الأزهار تستوقف الحدق وقد نسجت كف النسيم مغاضة ... عليه وما غير الحباب لها حلق وله: هبت الريح بالعشي فحاكت ... زردة للغدير ناهيك جنه وانجلى البدر بعد هدء فصاغت (6) ... كفّه للقتال منه أسنّه

_ (1) القلائد: ينتقل عن المدام، وفي ق ج ط: لم يحفل بملام ولم يتنقل إلا ... إلخ. (2) ج: خلافة؛ وقد أثبتها دوزي في ملحق المعاجم " خلافة " عن القلائد، وقال: كأنها تعني (Reunion de debauches) . (3) هذه رواية ق ج ط والقلائد؛ وفي ك: مما ارتجله. (4) هذه رواية ج ط ق والقلائد؛ وفي ك: ونفث. (5) انظرهما أيضاً في المغرب 1: 254. (6) ق ط ج: بعد هذا فحاكت.

وقوله (1) : لله بهجة منزهٍ ضربت به ... فوق الغدير رواقها الأنشام فمع الأصيل النهر درعٌ سابغٌ ... ومع الضّحى يلتاح منه حسام وله: ما كالعشيّة في رواء جمالها ... وبلوغ نفسي منتهى آمالها ما شئت شمس الأرض مشرقة السّنا ... والشمس قد شدّت مطيّ رحالها في حيث تنساب المياه أراقماً ... وتعيرك الأفياء برد ظلالها وله: لله حسن حديقة بسطت لنا ... منها النفوس سوالفٌ ومعاطف تختال في حلل الربيع وحليه ... ومن الربيع قلائدٌ ومطارف [6 - من ترجمة ابن عمّار] وقال الفتح في ترجمة ابن عمار (2) : أخبرني ذو الوزارتين الأجلّ أبو المطرّف ابن عبد العزيز أنّه حضر معه عند المؤتمن في يوم جادت فيه السماء بهطلها، وأتبعت وبلها بطلّها، وأعقب (3) رعدها برقها وانسكب دراكاً ودقها، والأزهار قد تجلّت من كمامها، وتحلّت بدرّ غمامها، والأشجار قد جلي صداها، وتوشّحت بنداها، وأكؤس الراح كأنّها كواكب تتوقّد، تديرها أنامل تكاد من اللطافة تعقد، إذا بفتىً من فتيان المؤتمن أخرس لا يفصح،

_ (1) هذه الأبيات متقدمة في القلائد على القطعتين اللتين قبلها، وانظر المغرب 1: 254. (2) القلائد: 85. (3) ق ج ط: وارتقب.

ومستعجم لا يبين ولا يوضح، متنمّر تنمّر الليث، متشمّر كالبطل الفارس عند الغيث (1) ، وقد أفاض على نفسه درعاً، تضيق بها الأسنّة ذرعاً، وهو يريد استشارة المؤتمن في التوجّه (2) إلى موضع بعثه إليه ووجّهه، وكلّ من صده عنه نهره ونهجه، حتى وصل إلى مكان انفراده، ووقف بإزاء وساده (3) ، فلمّا وقعت عين ابن عمّار عليه، أشار بيده إليه، وقرّبه واستدناه، وضمّه إليه كأنّه تبنّاه، وحدّ (4) أن يخلع عنه ذلك الغدير، وأن يكون هو الساقي والمدير، فأمره المؤتمن بخلعه، وطاعة أمره وسمعه، فنضاه عن جسمه، وقام يسقي على حكمه ورسمه، فلمّا دبت فيه الحميّا، وشبت غرامه بهجة ذلك المحيّا، واستنزلته سورة العقار، من مرقب الوقار، قال: وهويته يسقي المدام كأنّه ... قمرٌ يدور بكوكب في مجلس متأرّج الحركات تندى ريحه ... كالغصن هزّته الصّبا بتنفّس يسعى بكأسٍ في أنامل سوسنٍ ... ويدير أخرى من محاجر نرجس يا حامل السيف الطويل نجاده ... ومصرّف الفرس القصير المحبس إيّاك بادرة الوغى من فارسٍ ... خشن القناع على عذار أملس جهمٍ وإن حسر اللّثام (5) فإنّما ... كشف (6) الظلام عن النهار المشمس يطغى ويلعب في دلال عذاره ... كالمهر يمرح في اللجام المجرس سلم فقد قصف القنا غصن النقا ... وسطا بليث الغاب ظبي المكنس عنّا بكاسك، قد كفتنا مقلة ... حوراء قائمة بسكر المجلس (7)

_ (1) القلائد: متشمر تشمر البطل الباسل عند الغيث. (2) القلائد: في الخروج. (3) ق ج ط: أساده. (4) هذه رواية القلائد: وحد؛ وفي ك: وجد؛ وفي ق ط ج: واشار. (5) دوزي: القناع؛ ج: حدر اللثام. (6) بعض أصول القلائد: رفع. (7) بعض أصول القلائد: الأنفس.

وأورد هذه القصة صاحب البدائع بقوله (1) : حضر أبو المطرّق ابن عبد العزيز عند المؤتمن بن هود في يوم أجرى الجوّ فيه أشقر برقه، ورمى بنبل (2) ودقه، وتحملت (3) الرياح في أوقار السحاب على أعناقها، وتمايلت قامات الأغصان في الحلل الخضر من أوراقها (4) ، والرياح قد أشرقت نجومها في بروج الراح، وحاكت شمسها شمس الأفق فتلفعت بغيوم الأقداح، ومديرها قد ذاب ظرفاً فكاد يسيل من إهابه وأخجل خدّها حسناً فتظلل بعرق حبابه، إذا بفتى من فتيان المؤتمن قد أقبل متدرّعاً كالبدر اجتاب سحاباً، والخمر قد اكتست حباباً (5) ، وقد جاء يريد استشارة المؤتمن في الخروج إلى موضع كان عوّل فيه عليه، وأمره أن يتوجّه إليه، فحين لمحه ابن عمار والسكر قد استحوذ على لبّه، وبثّ سراياه في ضواحي قلبه (6) ، جدّ في أن يستخرج تلك الدرة من ماء ذلك الدّلاص، وأن يجلّي عنه سهكه كما يجلّى الخبث عن الخلاص، وأن يكون هو الساقي (7) ، فأمره المؤتمن بقبول أمره وامتثاله، واحتذاء مثاله، فحين ظهرت تلك الشمس من حجبها، ورميت شياطين النفوس من كميت المدام بشهبها، ارتجل ابن عمار وهويته ... إلخ إلا أنّه قال إثر قوله:

_ (1) انظر بدائع البدائه 2: 133 وسيرد هذا النص في الباب السابع من النفح. (2) البدائع: ببندق. (3) البدائع: وحملت. (4) زاد في البدائع والباب السابع: والأزهار قد تفتحت عيونها والكمائم قد ظهر مكنونها، والأشجار قد انقلت بالقطر (بمداوس القطر) ؛ ونثرت ما يفوق ألوان البز، وبثت ما يعلو أرواح العطر. (5) بعدها في البدائع والباب السابع: والطاووس انقلب حباباً، فهو ملك حسناً إلا أنه جسد، وغزال ليناً إلا أنه (في هيئة) الأسد. (6) بعدها في البدائع والباب السابع: فأشار إليه وقربه واستبدع ذلك اللباس واستغربه وجد ... (7) ف البدائع والباب السابع: وأن يوفر على ذلك الوفر نعمة جسمه، ويكون هو الساقي على عادته القديمة ورسمه.

إيّاك بادرة الوغى من فارس ... ما صورته: يضع السنان على العذار الأملس ... ولابن عمار الرائية المشهورة في مدح المعتضد عباد والد المعتمد، وهي (1) : أدر المدامة (2) فالنسيم قد انبرى ... والنجم قد صرف العنان عن السّرى والصبح قد أهدى لنا كافوره ... لمّا استردّ الليل منّا العنبرا والروض كالحسنا كساه زهره ... وشياً وقلّده نداه جوهرا أو كالغلام زها بورد خدوده ... خجلاً وتاه بآسهنّ معذّرا روضٌ كأنّ النهر فيه معصمٌ ... صافٍ أطلّ على رداء أخضرا وتهزه ريح الصّبا فتخاله ... سيف ابن عباد يبدّد عسكرا عبّادٌ المخضرّ نائل كفّه ... والجوّ قد لبس الرداء الأغبرا ملكٌ إذا ازدحم الملوك بموردٍ ... ونحاه لا يردون حتى يصدرا أندى على الأكباد من قطر الندى ... وألذّ في الأجفان من سنة الكرى يختار إذ يهب الخريدة كاعباً ... والطّرف أجرد والحسام مجوهرا قدّاح زند المجد لا ينفكّ من ... نار الوغى إلاّ إلى نار القرى لا خلق أقرأ من شفار حسامه ... إن كنت شبّهت المواكب أسطرا أيقنت أنّي من ذراه بجنّة ... لمّا سقاني من نداه الكوثرا وعلمت حقاً أنّ ربعي مخصبٌ ... لمّا سألت (3) به الغمام الممطرا من لا توازنه الجبال إذا احتبى ... من لا تسابقه الرياح إذا جرى ماضٍ وصدر الرمح يكهم والظّبا ... تنبو وأيدي الخيل تعثر في الثرى

_ (1) انظر القلائد: 96 ومحمد بن عمار لصلاح خالص ص: 189 ولم تورد منها ج إلا بضعة أبيات وسائرها بياض. (2) ج: الزجاجة. (3) القلائد: أسال.

قاد الكتائب كالكواكب فوقهم ... من لأمهم مثل السّحاب كنهورا (1) من كلّ أبيض قد تقلّد أبيضاً ... عضباً وأسمر قد تقلّد أسمرا ملك يروقك خلقه أو خلقه ... كالرّوض يحسن منظراً أو مخبرا أقسمت باسم الفضل حتى شمته ... فرأيته في بردتيه مصوّرا وجهلت معنى الجود حتى زرته ... فقرأته في راحتيه مفسّرا فاح الثرى متعطّراً بثنائه ... حتى حسبنا كلّ ترب عنبرا وتتوّجت بالزّهر صلع هضابه ... حتى ظننّا كلّ هضب قيصرا هصرت يدي غصن الغنى من كفّه ... وجنت به روض السّرور منوّرا حسبي على الصّنع الذي أولاه أن ... أسعى بجدّ أو أموت فأعذرا يا أيّها الملك الذي حاز العلا ... وحباه منه بمثل حمدي أنورا السيف أفصح من زيادٍ خطبةً ... في الحرب إن كانت يمينك منبرا ما زلت تغني من عنا لك راجياً ... نيلاً وتفني من عتا وتجبّرا حتى حللت من الرياسة محجراً ... رحباً وضمّت منك طرفاّ أحورا شقت بسيفك أمّةٌ لم تعتقد ... إلاّ اليهود وإن تسمّت بربرا أثمرت رمحك من رؤوس ملوكهم ... لمّا رأيت الغصن يعشق مثمرا وصبغت درعك من دماء كماتهم ... لمّا علمت الحسن يلبس أحمرا وإليكها كالروض زارته الصّبا ... وحنا عليه الطّلّ حتى نوّرا نمّقتها وشياً بذكرك مذهباً ... وفتقتها مسكاً بحمدك أذفرا من ذا ينافحني وذكرك مندلٌ ... أوردته من نار فكري مجمرا فلئن وجدت نسيم مدحي عاطراً ... فلقد وجدت نسيم برّك أعطرا

_ (1) الكنهور: قطع السحاب.

[7 - من ترجمة ابن وهبون] وقال في ترجمة عبد الحليل بن وهبون المرسي (1) : ركب بإشبيلية زورقاً في نهرها الذي لا تدانيه الصّراة، ولا يضاهيه الفرات، في ليلة تنقبت بظلمتها (2) ، ولم يبد وضحٌ في دهمتها، وبين أيديهم شمعتان قد انعكس شعاعهما في اللجّة، وزاد في تلك البهجة، فقال: كأنّما الشّمعتان إذ سمتا ... خدّا غلامٍ محسّن الغيد وفي حشا النهر من شعاعهما ... طريق نار الهوى إلى كبدي وكان معه غلام البكري (3) معاطياً للراح، وجارياً في ميدان ذلك المراح، فلمّا جاء عبد الجليل بما جاء، وحلّى (4) للإبداع الجوانب والأرجاء، حسده على ذلك الارتجال، وقال بين البطء والاستعجال: أعجب بمنظر ليلةٍ ليلاء ... تجنى بها اللذّات فوق الماء في زورقٍ يزهو بغرّة أغيدٍ ... يختال مثل البانة الغيناء قرنت يداه الشمعتين بوجهه ... كالبدر بين النّسر والجوزاء والتاح تحت الماء ضوء جبينه ... كالبرق يخفق في غمام سماء [8 - من ترجمة ابن طاهر] وقال الفتح رحمه الله (5) : دعيت يوماً إلى منية المنصور بن أبي عامر ببلنسية،

_ (1) القلائد: 242. (2) ق ج ط ك: في ظلمتها. (3) هو أبو الحسن حكم بن محمد غلام أبي عبيد البكري (انظر ترجمته في الذخيرة - القسم الثاني - 220 والقلائد: 290 وبغية الملتمس ص: 265 والمسالك 11: 381 والمغرب 1: 348) . (4) ق ط ج: وحل. (5) القلائد: 68.

وهي منتهى الجمال، ومزهى الصّبا والشمال، على وهي بنائها، وسكنى (1) الحوادث برهة بفنائها (2) ، فوافيتها والصبح قد ألبسها قميصه، والحسن قد شرح بها عويصه، وبوسطها مجلس قد تفتّحت للروض أبوابه، وتوشّحت بالأزر الذهبية (3) أثوابه، يخترقه جدول كالحسام المسلول، وينساب فيه انسياب الأيم في الطّلول، وضفّاته بالأدواح محفوفة، والمجلس يروق كالخريدة المزفوفة، وفيه يقول عليّ بن أحمد أحد شعرائها، وقد حلّه مع طائفة من وزرائها: قم سقّني (4) والرياض لابسةٌ ... وشياً من النّور حاكه القطر في مجلسٍ كالسماء لاح به ... من وجه من قد هويته بدر (5) والشمس قد عصفرت غلائلها ... والأرض تندى ثيابها الخضر والنهر مثل المجرّ حفّ به ... من الندامى كواكبٌ زهر فحللت ذلك المجلس وفيه (6) أخدان، كأنّهم الولدان، وهم في عيش لدن، كأنّهم في جنّة (7) عدن، فأنخت لديهم ركائبي وعقلتها، وتقلدت بهم رغائبي واعتقلتها، وأقمنا نتنعم بحسنه طول ذلك اليوم، ووافى الليل فذدناعن الجفون طروق النوم، وظللنا بليلة كأن الصبح منها مقدود، والأغصان تميس كأنّها قدود، والمجرّة تتراءى نهراً، والكواكب تخالها في الجو زهراً، والثريّا كأنّها راحة تشير، وعطارد لنا بالطرب بشير، فلمّا كان من الغد وافيت الرئيس أبا عبد الرحمن زائراً، فأفضنا في الحديث إلى أن أفضى بنا إلى ذكر

_ (1) القلائد: وسكون. (2) القلائد: في فنائها. (3) القلائد: المذهبة. (4) ك والقلائد: فاسقني. (5) تأخر هذا البيت عن الذي يليه في القلائد. (6) ق: وفيهم. (7) ق: جنات.

منتزهنا بالأمس، وما لقينا فيه من الأنس، فقال لي: ما بهجة موضع قد بان قطينه وذهب، وسلب الزمان بهجته وانتهب، وباد فلم يبق إلاّ رسمه، ومحاه الحدثان فما كاد يلوح وسمه (1) ، عهدي به عندما فرغ من تشييده، وتنوهي في تنسيقه وتنضيده، وقد استدعاني إليه المنصور في يوم (2) حلّت فيه الشمس برج شرفها، واكتست (3) الأرض بزخرفها، فحللت به والدوح تميس معاطفه، والنّور يخجله قاطفه، والمدام تطلع به وتغرب، وقد حلّ به قحطان ويعرب، وبين يدي المنصور مائة غلام ما يزيد أحدهم على العشر غير أربع، ولا يحل غير الفؤاد من مربع، وهم يديرون رحيقاً، خلتها في كأسها درّاً أو عقيقاً، فأقمنا والشّهب تغازلنا، وكأن الأفلاك منازلنا، ووهب المنصور في ذلك اليوم ما يزيد على عشرين ألفاً من صلات متصلات، وأقطع ضياعاً، ثم توجع لذلك العهد، وأفصح بما بين ضلوعه من الوجد، وقال: سقياً لمنزلة اللّوى وكثيبها ... إذ لا أرى زمناً كأزماني بها [9 - من رسالة للفتح] وما أحسن ما كتب به الفتح إلى بعض الملوك يصف نزهة ببعض منتزهات الأندلس المونقة، ويذكر استضاءته فيها بشموس المسرّة المشرقة، وهو: أطال الله سبحانه بقاء ناصر الدولة، ومحيي الملّة، الذي حسن بلقياه العيش، وتزين بمحياه الجيش، وراق باسمه الملك، وجرت بعجه الفلك وأنا ربه الليل الدامس؛ ولاح له الأثر الطامس؛ وجرى الدهر لسطوته خائفاً، وغدا السعد بعقوته طائفاً، والزمان ببرود علياه ملتحف، ولثغور نداه

_ (1) ق: إلا وسمه. (2) ك: وقت. (3) ك: واكتست فيه.

مرتشف، ولا زال للمجد يتملّكه، والسعد يحمله فلكه، وأما وقد وافقتني أيّامه أيده الله سبحانه وفاقاً، ورأيت للبيان عنده نفاقاً، فلا بد أن أرسل كتائبه أفواجاً، وأفيض من بحره أمواجاً، وأصف ما شاهدته من اقتداره، وعاينته من حسن إيراده وإصداره، بمقال أفصح من شكوى المحزون، وأملح من رياض الحزون، وقد كنت، أيّده الله تعالى، كلفاً بالدول وبهائها، لهجاً بالبلوغ إلى انتهائها، لأجد دولة أرتضيها، وحظوة علياء أقتضيها، فكلّ ملك فاوضته سرّاً وجهراً، وكلّ ملك قلبته بطناَ وظهراً، والنفس تصدّ عنه صدود الجبان عن الحرب، والملائكة الكرام عن الشرب، إلى أن حصلت لديه، ووصلت بين يديه، فقلت: الآن أمكن من راح البغية الانتشاء، وتمثّلت " الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنّة حيث نشاء " ومازلت أسايره حيث سار، وآخذ اليمين تارة وتارة اليسار، وكل ناحية تسفر لي عن خدّ روض أزهر، وعذار نبتٍ أخضر، وتبسم عن ثغر حباب، في نهر كالحباب، وترفل من الربيع في ملابس سندسيّات، وتهدي إلينا نوافح مسكيّات، وتزهى من بهجتها بأحسن منظر، وتتيه بجلباب أينع من برد الشباب الأنضر (1) ، فجلنا فيها يميناً وشمالاً، واستخبرنا عن أسرارها صباً وشمالاً، ثم مال بنا، أيّده الله تعالى، عن هذه المسارح السنيّة، والمنازل البهيّة، إلى إحدى ضياعه الحالية، وبقاعه العالية، فحللناها والأيم قد عري من جلبابه، واليوم قد اكتهل بعد شبابه، فنزلنا في قصور يقصر عنها جعفريّ جعفر (2) ، وقصور بني الأصفر، تهدي من لبّاتها برداً محبّراً، وتبدي من شذاها مسكاً وعنبراً، قد لاحت من جوانبها نجوم أكواس لو رآها أبو نواس لجعلها شعاره، ووقف على نعتها أشعاره، ولم يتخذ سواها نجعة، ولا نبّه خمّاره بعد هجعة، فتعاطيناها والسعد لنا خادم، وما غير السرور

_ (1) هذه رواية ق ك ج ط؛ وفي دوزي: الأخضر. (2) يعني جعفراً المتوكل وقصره المسمى بالجعفري.

علينا قادم، وخدود سقاتها قد اكتست من سناها، وقدودهم تتهيّل علينا بجناها، ونحن بين سكر وصحو، وإثبات لها ومحو، وإصاخة إلى بمّ وزير، والتفاتة إلى ملك ووزير، إلى أن ولّى النهار فحيّانا، وأقبل الليل المميت فأحيانا، فوصلنا بلهو وقصف، وعيش يتجاوز كلّ وصف، فكأن يومنا مقيم، أو كأن ليلنا من الظلام عقيم؛ ولما سلّ الفجر حسامه، وأبدى لعبوس الليل ابتسامه، وجاء يختال اختيالاً، ويمحو من بقايا الليل نيالاً، قمنا نتنادب للمسير، وكلّنا في يد النشوة أسير، فسرنا والملك الأجلّ يقدمنا، والأيام تخدمنا فلا زالت الأيام به زاهية، وعن سواه لاهية، ما عمر وكراً عقاب، وكان للشهور غرر وأعقاب، انتهى. [10 - من ترجمة الراضي] وقال الفتح في ترجمة الراضي بالله أبي خالد يزيد بن المعتمد بن عباد بعد كلام ما صورته (1) : وأخبرني المعتز (2) بالله أن أباه المعتمد وجّهه - يعني أخاه الراضي - إلى شلب والياً، وكانت ملعب شبابه، ومألف أحبابه، التي عمر نجودها غلاماً، وتذكر عهودها أحلاماً، وفيها يقول يخاطب ابن عمار وقد توجّه إليها: ألا حيّ أوطاني بشلب أبا بكر ... وسلهنّ هل عهد الوصال كما أدري وسلّم على قصر الشراجيب من فتىً ... له أبداً شوقٌ إلى ذلك القصر وقصر الشراجيب هذا متناهٍ في البهاء والإشراق، مباهٍ لزوراء العراق، ركضت في جياد راحاته، وأمضت بروق أمانيه في ساحاته، وجرى الدهر مطيعاً بين بكره وروحاته، أيام لم تحلّ عنه تمائمه، ولا خلت من أزاهير

_ (1) القلائد: 32. (2) القلائد وق ط: المعتد؛ ك ج: المعتمد.

الشباب كمائمه، وكان يعتدّها مشتهى (1) آماله، ومنتهى أعماله، إلى بهجة جنباتها، وطيب نفحاتها وهبّاتها، والتفاف خمائلها، وتقلدها بنهرها مكان حمائلها، وفيها يقول ابن اللّبّانة: أما علم المعتزّ (2) بالله أنّني ... بحضرته في جنّةٍ شقّها نهر وما هو نهر أعشب النبت حوله ... ولكنّه سيفٌ حمائله خضر فلمّا صدر عنها وقد حسنت آثاره في تدبيرها، وانسدلت رعايته على صغيرها وكبيرها، نزل المعتمد عليه مشرفاً لأوبته، ومعرفاً بسموّ قدره لديه ورتبته، وأقام يومه عنده مستريحاً، وجرى في ميدان الأنس بطلاً مشيحاً، وكان واجداً على الراضي فجلت الحميّا أفقه، ومحت غيظه عليه وحنقه، وصوّرته له عين حنوّه، وذكرته بعده فجنح إلى دنوّه، وبين ما استدعى وأوفى، مالت بالمعتمد نشوته وأغفى، فألفاه صريعاً في منتداه، طريحاً في منتهى مداه، فأقام تجاهه، يرتقب انتباهه، وفي أثناء ذلك صنع شعراً أتقنه وجوّده، فلمّا استيقظ أنشده: ألان تعود حياة الأمل ... ويدنو شفاء فؤادٍ معلّ ويورق للعزّ غصنٌ ذوى ... ويطلع للسّعد نجمٌ أفل فقد وعدتني سحاب الرضا ... بوابلها حين جادت بطلّ أيا ملكاً أمره نافذٌ ... فمن شا أعزّ ومن شا أذلّ دعوت فطار بقلبي السرور ... إليك، وإن كان منك الوجل كما يستطيرك حبّ الوغى ... إليها وفيها الظّبا والأسل فلا غرو إن كان منك اغتفارٌ ... وإن كان منّا جميعاً زلل

_ (1) في القلائد: مجنى؛ وفي دوزي: محيا. (2) في الأصول: المعتد.

فمثلك - وهو الذي لم نجده ... عاد (1) بحلم على من جهل [11 - من ترجمة المتوكل] وقال في ترجمة المتوكل على الله ابن الأفطس، ما صورته (2) : وأخبرني الوزير أبو محمد بن عبدون، أن الجدب توالى بحضرته (3) حتى جفّت مذانبها، واغبرّت جوانبها، وغرد المكّاء في غير روضه، وخاض الياس بالناس أعظم خوضه، وأبدت الخمائل عبوسها، وشكت الأرض للسماء بوسها، فأقلع المتوكل عن الشرب واللهو، ونزع ملابس الخيلاء والزّهو، وأظهر الخشوع، وأكثر السجود والركوع، إلى أن غيّم الجوّ، وانسجم النوّ، وصاب الغمام، وترنّمت (4) الحمام، وسفرت الأنوار (5) ، وزهت النجود والأغوار، واتفق أن وصل أبو يوسف المغنّي والأرض قد لبست زخارفها، ورقم الغمام مطارفها، وتدبجت (6) الغيطان والرّبى، وأرجت نفحات الصّبا، والمتوكل ما فضّ لتوبته ختاماً، ولا نفض عن قلبه منها قتاماً (7) ، فكتب إليه: ألمّ أبو يوسفٍ والمطر ... فيا ليت شعري ما ينتظر ولست بآبٍ وأنت الشهيد ... حضور نديّك فيمن حضر ولا مطلعي وسط تلك السماء ... بين النجوم وبين القمر

_ (1) القلائد: لم يزل يعود. (2) القلائد: 43. (3) ك: أن الأرض توالى عليها الجدب بحضرته. (4) القلائد: وغنت. (5) في الأصول: الأزهار. (6) هذه رواية القلائد، وفي ق ك ط ج: وتتوجت. (7) ك: ولا قوض ... خياماً.

وركضي فيها جياد المدام ... محثوثةً بسياط الوتر فتعث إليه مركوباً، وكتب معه: بعثت إليك جناحاً فطر ... على خفيةٍ من عيون البشر على ذللٍ (1) من نتاج البروق ... وفي ظللٍ من نسيج الشّجر فحسبي ممّن نأى من دنا ... ومن غاب كان فدا من حضر فوصل القصبة (2) المطلّة على البطحاء، المزرية بمنازل الرّوحاء، فأقام منها حيث قال عديّ بن زيد يصف مصنعاً (3) : في قبابٍ حول دسكرةٍ ... حولها الزيتون قد ينعا ومرّ (4) لهم من السرور يومٌ ما مر لذي رعين، ولا تصوّر قبل عيونهم لعين. وأخبرني أنّه سايره إلى شنترين قاصية أرض الإسلام، السامية الذرا والأعلام، التي لا يروعها صرف، ولا يفرعها طرف، لأنّها متوعّرة المراقي، معفّرة (5) للراقي، متمكّنة الرّواسي والقواعد، من (6) ضفة نهر استدار بها استدارة القلب بالساعد، قد أطلّت على خمائلها، إطلال العروس من منصّتها، واقتطعت من الجوّ أكثر من حصّتها، فمروا بألبش (7) قطرٍ سالت به جداوله، واختالت فيه خمائله، فما يجول الطّرف منه إلاّ في حديقة،

_ (1) ك: على فلك. (2) القلائد: فوصل إلى القصبة؛ وفي ك: فوصل القبة. (3) البيت في اللسان (دسكر) منسوباص للأخطل؛ والدسكرة: بناء كالقصر حوله بيوت اللهو والشراب. (4) القلائد: ومضى. (5) القلائد: معثرة. (6) القلائد: على. (7) في الأصول: بأنفس؛ وألبش - كما في القلائد ودوزي - هي (Elvas) وتقع إلى الغرب من بطليوس (Badajos) .

أو بقعة أنيقة، فتلقّاهم ابن مقانا قاضي حضرته وأنزلهم عنده، وأورى لهم بالمبرّة زنده، وقدّم لهم طعاماً، واعتقد قبوله منّاً وإنعاماً، وعندما طعموا قعد القاضي بباب المجلس رقيباً لا يبرح، وعين المتوكل حياءٍ منه لا تجول ولا تمرح، فخرج أبو محمد وقد أرمه بتثقيله، وحرمه راحة رواحه ومقيله، فلقي ابن خيرون منتظراً له، وقد أعد لحلوله منزله، فسار إلى مجلس قد ابتسمت ثغور نوّاره، وخجلت خدود ورده من زوّاره، وأبدت صدور أباريقه أسرارها، وضمّت عليه المحاسن أزرارها، ولما حضر له وقت الأنس وحينه، وأرجت له رياحينه، وجّه من يرقب المتوكل حتى يقوم جليسه، ويزول موحشه لا أنيسه، فأقام رسوله وهو بمكانه لا يريمه، قد لازمه كأنّه غريمه، فما انفصل، حتى ظن أن عارض الليل قد نصل، فلمّا علم أبو محمد بانفصاله بعث إلى المتوكل قطيع راح (1) وطبق ورد، وكتب معهما: إليكها فاجتلها منيرةً ... وقد خبا حتى الشهاب الثاقب واقفةً بالباب لم يؤذن لها ... إلاّ وقد كاد ينام الحاجب فبعضها من المخاف جامدٌ ... وبعضها من الحياء ذائب فقبلها منه، رحمه الله تعالى وعفا عنه، وكتب إليه: قد وصلت تلك التي زففتها ... بكراً وقد شابت لها ذوائب فهبّ حتى نستردّ ذاهباً ... من أنسنا إن استردّ ذاهب فركب إليه، ونقل معه ما كان بالمجلس بين يديه، وباتا ليلتهما لا يريمان السهر، ولا يشيمان برقاً إلا الكاس والزّهر. ثم قال بعد كلام (2) : وأخبرني الوزير الفقيه أبو أيوب بن أبي أمية أنّه مرّ

_ (1) القلائد: بقطيع خمر؛ والقطيع - بلغة الأندلسيين - الزجاجة. (2) القلائد: 46.

في بعض أيّامه بروض مفترّ المباسم، معطّر الرياح النواسم، قد صقل الربيع حوذانه، وأنطق بلبله وورشانه (1) ، وألحف غصونه بروداً مخضرّة، وجعل إشراقة للشمس ضرّة، وأزاهره تتيه على الكواكب، وتختال في خلع الغمائم السواكب، فارتاح إلى الكون به بقيّة نهاره، والتنعم ببنفسجه وبهاره، فلمّا حصل من أنسه في وسط المدى، عمد إلى ورقة كرنبٍ قد بللها النّدى، وكتب فيها بطرف غصن، يستدعي الوزير أبا طالب ابن غانم، أحد ندمائه، ونجوم سمائه: أقبل أبا طالبٍ إلينا ... وقع وقوع الندّى علينا فنحن عقدٌ بغير وسطى ... ما لم تكن حاضراً لدينا [12 - من ترجمة المعتصم بن صمادح] وقال في ترجمة المعتصم بن صمادح، ما صورته (2) : وأخبرني الوزير أبو خالد بن بشتغير (3) أنّه حضر مجلسه بالصمادحية في يوم غيم وفيه أعيان الوزراء، ونبهاء الشعراء، فقعد على موضع يتداخل الماء فيه، ويلتوي (4) في نواحيه، والمعتصم منشرح النفس، مجتمع الأنس، فقال: أنظر إلى حسن هذا الماء في صببه ... كأنّه أرقمٌ قد جدّ في هربه فاستبدعوه، وتيّموه به وأولعوه، فاسكب عليه شآبيب نداه، وأغرب بما ظهر من بشره وأبداه.

_ (1) الورشان: طائر مفرد يشبه الحمام. (2) القلائد: 48. (3) تصحفت هذه الكلمة كثيراً في الأصول، وفي نسخة هامش ك: يستعير، وعند دوزي: يشتغير. (4) القلائد: ويتلوى.

ثم قال بعد كلام (1) : وخرج إلى برجة ودلاية وهما نظران (2) لم يجل في مثلهماناظر، ولم تدّع حسنهما الخدود النواضر، غصونٌ تثنّيها الرياح، ومياه لها انسياح، وحدائق تهدي الأرج والعرف، ومنازل (3) تبهج النفس وتمتع الطرف، فأقام فيها أيّاماً يتدرج في مسارحها، ويتصرف في منازهها، وكانت نزهة أربت على نزهة هشام بدير الرّصافة، وأنافت عليها أيّ إنافة. [13 - من ترجمة ابن رزين] وقال في ترجمة ابن رزين، ما ملخّصه (4) : أخبرني الوزير أبو عامر [ابن سنون] (5) أنّه اصطبح يوماً والجوّ سماكي (6) العوارف، لازورديّ المطارف، والروض أنيقة لبّاته، رقيقة هبّاته، والنور مبتلّ، والنسيم معتلّ، ومعه قومه، وقد راقهم يومه، وصلاته تصافح معتفيهم، ومبرّاته تشافه موافيهم، والراح تشعشع، وماء الأماني ينشع، فكتب إلى ابن عمّار وهو ضيفه: ضمانٌ على الأيّام أن أبلغ المنى ... إذا كنت في ودّي مسرّاً ومعلنا فلو تسأل الأيّام: من هو مفرد ... بودّ ابن عمّارٍ؟ لقلت لها: أنا فإن حالت الأيّام بيني وبينه ... فكيف يطيب العيش أو يحسن الغنا (7) فلمّا وصلت الرقعة إليه تأخّر عن الوصول، واعتذر بعذر مختلّ المعاني

_ (1) القلائد: 51. (2) ك: منظران. (3) ك: ومنازه. (4) القلائد: 51. (5) زيادة من القلائد. (6) دوزي: مسكي. (7) ك: أو يحصل المنى.

والفصول، فقال أحد الحاضرين: إنّي لأعجب من قعود ابن عمار، عن هذا المضمار، مع ميله إلى السّماع، وكلفه بمثل هذا الاجتماع، فقال ذو الرياستين: إن الجواب تعذر، فلذا اعتذر، لنّه يعاني قوله ويعلّله، ويروّيه ولا يرتجله، ويقوله في المدة الممتدّة، فرأى أن الوصول بلا جواب إخجال لأدبه، وإخلال لمنازله في الشعر ورتبه، فلمّا كان من الغد ورد ابن عمار ومعه الجواب، وهو: هصرت لي الآمال طيّبة الجنى ... وسوّغتني الأحوال مقبلة الدّنى وألبستني النّعما أغضّ من النّدى ... وأجمل من وشي الرّبيع وأحسنا وكم ليلةٍ أحظيتني بحضورها ... فبتّ سميراً للسّناء وللسّنا أعلّل نفسي بالمكارم والعلا ... وأذني وكفّي بالغناء وبالغنى سأقرن بالتمويل ذكرك كلّما ... تعاورت الأسماء غيرك والكنى لأوسعتني قولاً وطولاً كلاهما ... يطوّق أعناقاً ويخرس ألسنا وشرّفتني من قطعة الروض بالتي ... تناثر فيها الطّبع ورداً وسوسنا تروق بجيد الملك عقداً مرصّعاً ... وتزهو على عطفيه برداً مزيّنا (1) فدم هكذا يا فارس الدّست والوغى ... لتطعن طوراً بالكلام وبالقنا وأخبرني الوزير [الكاتب أبو جعفر] (2) ابن سعدون أنّه اصطبح (3) يوماً بحضرته وللرذاذ رشّ، وللربيع على وجه الأرض فرش، وقد صقل الغمام الأزهار حتى أذهب نمشها، وسقاها فأروى عطشها، فكتب إليه: فديناك لا يسطيعك النظم والنثر ... فأنت مليك الأرض، واتصل (4) الأمر

_ (1) ق ط ج: وشياً معيناً. (2) زيادة من القلائد. (3) ق ط: أصبح. (4) القلائد: وانفصل.

مرينا نداك الغمر فانهلّ صيّباً ... كما سكبت وطفاء أو سكب البحر (1) وجاء الربيع الطّلق يبدي غضارة ... فحيّتك منه الشمس والروض والنهر إلى أن قال (2) : ثم وجّه إلى روضة قد أرجت نفحاتها، وتدبجت ساحاتها، وتفتّحت كمائمها، وأفصحت حمائمها (3) ، وجردت جداولها كالبواتر، ورمقت أزهارها كالعيون الفواتر (4) ، وأقاموا يعملون أكواسهم (5) ، ويشتملون إيناسهم، فقال ذو الرياستين (6) : وروضٍ كساه الطّلّ وشياً مجدّدا ... فأضحى مقيماً للنفوس ومقعدا إذا صافحته الريح خلت غصونه ... رواقص في خضر من القضب (7) ميّدا إذا ما انسكاب الماء عايننت خلته ... وقد كسرته راحة الريح مبردا وإن سكنت عنه حسبت صفاءه ... حساماً صقيلاً صافي المتن جرّدا وغنّت به ورق الحمائم بيننا ... غناءً ينسّيك الغريض ومعبدا فلا تجفونّ الدّهر ما دام مسعداً ... ومدّ إلى ما قد حباك به يدا وخذها مداماً من غزال كأنّه ... إذا ما سقى بدرٌ تحمّل فرقدا إلى أن قال (8) : وأخبرني الوزير [أبو عامر] (9) ابن سنون، أنّه كان معه في منية العيون، في يوم مطرّز الأديم، ومجلس معزز النديم، والأنس يغازلهم

_ (1) دوزي: أو فتق الزهر؛ ق ج ط: أو فتق البحر. (2) القلائد: 53. (3) القلائد: كمامها ... حمامها. (4) القلائد: بعيون فواتر. (5) القلائد: كأسهم. (6) انظر أيضاً المغرب 2: 428. (7) دوزي: العصب؛ وفي القلائد: العصف، خطأ. (8) القلائد: 55. (9) زيادة من القلائد.

من كلّ ثنية، ويواصلهم بكل أمنية، فسكر أحد الحاضرين سكراً مثّل له ميدان الحرب، وسهّل عليه مستوعر الطعن والضرب، فقلب مجلس الأنس حرباً وقتالاً، وطلب الطعن وحده والنزالا (1) ، فقال ذو الرياستين: نفس الذليل تعزّ بالجريال ... فيقاتل الأقران دون قتال كم من جبان ذي افتخار باطلٍ ... بالراح (2) تحسبه من الأبطال [كبش النديّ تخمّطاً وعرامةً ... وإذا تشبّ الحرب شاة نزال] (3) [14 - ترجمة ابن طاهر] وقال في ترجمة ابن طاهر، ما صورته (4) : وجئته يوماً وقد وقفت بباب الحنش، فقال لي: من أين؟ فأعلمته، ووصفت له ما عاينته من حسنه وتأمّلته، فقال لي: كنت أخرج إليه في أكثر الليالي مع الوزير الأجلّ أبي بكر؟ يعين ابن عبد العزيز؟ إلى روضته التي ودّت الشمس أني يكون منها طلوعها، وتمنى المسك أن تنضم عليه ضوعها، والزمان غلام، والعيش أحلامن والدنيا تحية وسلام، والناس قد انتشروا في جوانبه، وقعدوا على مذانبه، وفي ساقيته الكبرى دولاب يئنّ كناقة إثر حوار، أو كثكلى من حرّ الأوار، وكل مغرم يجعل فيه ارتياحه، بكرته ورواحه، ويغازل عليه حبيبه، ويصرف إليه تشبيبه، فخرجت عليه ليلة والمتنبي الجزيري (5) واقف وأمامه ظبي آنس، تهيم

_ (1) من قول المتنبي: وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا (2) القلائد: بالخمر. (3) سقط هذا البيت من الأصول. (4) القلائد: 64. (5) هو أبو طالب عبد الجبار كان يلقب بالمتنبي ويعرف بالجزيري نسبة إلى جزيرة شقر (الذخيرة 2/1: 401) .

به المكانس، وفي أذنيه قرطان، كأنّهما كوكبان، وهو يتأوّد تأوّد غصن البان، والمتنبي يقول: معشر النّاس بباب الحنش ... بدر تمّ طالع في غبش علّق القرط على مسمعه ... من عليه آفة العين خشي فلمّا رآني أمسك، وسبّح كأنّه قد تنسك. [15 - من ترجمة ابن عمّار] وقال في ترجمة ابن عمار، ما صورته (1) : وتنزه بالدمشق بقرطبة، وهو قصر شيّده بنو أميّة بالصّفّاح والعمد، وجروا في إتقانه إلى غير أمد، وأبدع بناؤه، ونمقت ساحته وفناؤه، واتخذوه ميدان مراحهم، ومضماراً لانشراحهم، وحكوا به قصرهم بالمشرق، وأطلعوه كالكوكب الثاقب المشرق، فحلّه أبو بكر ابن عمّار على أثر بوسه، وابتسم له دهره بعد عبوسه، والدنيا قد أعطت عفوها، وسقته صفوها، وبات فيه مع لمّةٍ من أتباعه، ومتفيئ رباعه، وكلهم يحييه بكاس، ويفديه بنفسه من كل باس، فطابت له ليلته في مشيده، وأطربه الأنس ببسيطه ونشيده، فقال: كلّ قصرٍ بعد الدمشق يذمّ ... فيه طاب الجنى وفاح المشمّ منظرٌ رائقٌ، وماءٌ نميرٌ ... وثرىً عاطرٌ، وقصرٌ أشمّ بتّ فيه الليل والفجر عندي ... عنبرٌ أشهبٌ ومسكٌ أحمّ وعبّر صاحب البدائع عن هذه القصة بقوله (2) : تنزه ابن عمار بالدمشق بقرطبة، وهو قصر شيّده خلفاء بني أميّة وزخرفوه، ودفعوا صرف الدهر

_ (1) القلائد: 84، وقد ورد بعض هذا النص من قبل، انظر ما تقدم ص: 470. (2) انظر بدائع البدائه 2: 131.

عنه وصرفوه، وأجروه على إرادتهم وصرّفوه، وذهّبوا سقفه وفضّضوها، ورخّموا أرضه وروّضوها، فبات به السعد يلحظه بطرفه، والروض يحييه بعرفه، فلمّا استنفد كافور الصباح به مسك الغسق، ورصع آبنوس الظلام نضار الشفق، قال مرتجلاً: كل قصر بعد الدمشق يذمّ ... إلخ، انتهى. [16 - من ترجمة ابن لبون] وقال في ترجمة ذي الوزارتين أبي عيسى ابن لبّون (1) : أخبرني الوزير أبو عامر ابن الطويل أنّه كان بقصر مربيطر بالمجلس المشرف منها (2) ، والبطحاء قد لبست زخرفها، ودبج الغمام مطرفها، وفيها حدائق ترنو عن مقل نرجسها، وتبثّ طيب تنفّسها، والجلّنار قد لبس أردية الدماء، وراع أفئدة الندماء، فقال: قم يا نديم عليّ القرقفا ... أوما ترى زهر الرياض مفوّفا فتخال محبوباً مدلاًّ وردها ... وتظن نرجسها محبّاً مدنفا والجلّنار دماء قتلى معرك ... والياسمين حباب ماء قد طفا إلى أن قال (3) : وشرب مع الوزراء ببطحاء لورقة [عند أخيه، وابن اليسع غائب عنها] (4) في عشية تجود بدمائها، ويصوب عليها دمع سمائها، والبطحاء قد خلع عليها سندسها، ودنّرها (5) نرجسها، والشمس تنفض على الرّبى زعفرانها، والأنوار تغمض أجفانها، فكتب إلى ابن اليسع:

_ (1) القلائد: 99 وانظر المغرب 2: 376. (2) ج ق ط: المشرق منها. (3) القلائد: 100 والمغرب 2: 377. (4) زيادة من القلائد. (5) في الأصول: ودرها.

لو كنت تشهد يا هذا عشيّتنا ... والمزن تسكب أحياناً وتنحدر والأرض مصفرة كالشمس (1) كاسية ... أبصرت تبراً عليه الدّرّ ينتثر [17 - من ترجمة ابن رحيم] وقال في ترجمة ذي الوزارتين أبي بكر ابن رحيم، ما صورته (2) : ووصل هو وابن وضاح (3) صهر المرتضى، وابن جمال الخلافة صاحب صقلية، إلى إحدى جنّات مرسية، فحلوا منها في قبة فوق جدول مطّرد، وتحت أدواحٍ طيرها غرد، فأقاموا يتعاطون رحيقهم، ويعمرون في المؤانسة طريقهم، إذا بالجنّان قد وقف عليهم وقال: كان بموضعكم بالأمس صاحب الموضع ومعه شعور منشورة، وخدود غير مستورة، قد رفعت عنها البراقع، وما منها نظرة إلاّ ومعها سهم واقع، فاستدعى فحماً وكتب في إحدى زوايا القبّة: قادنا ودّنا إليك فجئنا ... بنفوس تفديك من كل بوس فنزلنا منازلاً لبدور ... وحللنا مطالعاً لشموس [18 - من ترجمة ابن عبدون] وقال في ترجمة الوزير الكاتب أبي محمد ابن عبدون، ما صورته (4) : حللت بيابرة (5) فأنزلني واليها بقصرها، ومكّنني من جني الأماني وهصرها، فأقمت

_ (1) القلائد: المزن. (2) القلائد: 116. (3) في بعض أصول القلائد: وابن صمادح. (4) القلائد: 145. (5) يابرة (Evora) مدينة من كورة باجة أي هي من البرتغال، تقع على بعد 117 كيلومتراص بالسكة الحديدية من الأشبونة (لشبونة) ؛ وفي الأصول: حللت يابرة.

ليلي، أجرّ على المجرّة ذيلي، وتتطارد في ميدان السرور خيلي، فلمّا كان من الغد باكرني الوزير أبو محمد مسلّماً، ومن تنكّبي عنه متألّماً، ثم عطف على القائد عاتباً عليه، في كوني لديه، ثم انصرف وقد أخذني من يديه، فحللت عنده في رحب، وهمت عليّ من البرّ أمطار سحب، في مجلس كأن الدراري فيه مصفوفة، أو كأن الشمس إليه مزفوفة، فلمّا حان انصرافي، وكثر تطلّعي إلى مآبي واستشرافي، ركب معي إلى حديقة نضرة، مجاورة للحضرة، فأنخنا عليها أيدي عيسنا، ونلنا منها ما شئنا من تأنيسنا، فلمّا امتطيت عزمي، وسدّدت إلى غرض الرحلة سهمي، أنشدني: سلامٌ يناجي منه زهر الرّبى عرف ... فلا سمع إلاّ ودّ لو أنّه أنف حنيني إلى تلك السّجايا فإنّها ... لآثار أعيان المساعي التي أقفو ثم سرد القصيدة إلى أن قال: وله رحمه الله تعالى (1) : سقاها الحيا من مغانٍ فساح ... فكم لي بها من معانٍ فصاح وحلّى أكاليل تلك الرّبى ... ووشّى معاطف تلك البطاح فما أنس لا أنس عهدي بها ... وجرّي فيها ذيول المراح ونومي على حبرات الرّياض ... يجاذب برديّ مرّ الرّياح ولم أعط أمر النّهى طاعة ... ولم أصغ سمعاً إلى لحي لاح (2) وليلٍ كرجعة طرف المريب ... لم أدر له شفقاً من صباح [19 - من ترجمة ابن مالك] وقال في ترجمة الوزير أبي محمد ابن مالك بعد كلام له فيه وإنشاده بيتيه

_ (1) القلائد: 146 والمغرب 1: 375. (2) ك: سمعي إلى قول لاح.

البديعين اللذين هما: لا تلمني بأن طربت لشجوٍ ... يبعث الأنس فالكريم طروب ليس شقّ الجيوب حقّاً علينا ... إنّما الشأن (1) أن تشقّ القلوب ما صورته (2) : وخرجت من إشبيلية مشيّعاً لأحد زعماء المرابطين، فألفيته معه مسايراً له في جملة من شيّعه، فلمّا انصرفنا مال بنا إلى معرّس أمير المسلمين أدام الله تعالى تأييده الذي ينزله عند حلوله إشبيلية (3) ، وهو موضع مستبدع، كأن الحسن فيه مودع، ما شئت من نهر ينساب انسياب الأراقم، وروض كما وشّت البرد يد راقم، وزهر يحسد المسك ريّاه، ويتمنّى الصبح أن يسم به محيّاه، فقطف غلام وسيم من غلمانه نورة ومن يده إليّ وهي في كفّه، فعزم عليّ أن أقول بيتاً في وصفه، فقلت: وبدرٍ بدا والطّرف مطلع حسنه ... وفي كفّه من رائق النّور كوكب فقال أبو محمد: يروح لتعذيب النّفوس ويغتدي ... ويطلع في أفق الجمال ويغرب ويحسد منه الغصن أيّ مهفهفٍ ... يجيء على مثل الكئيب ويذهب [20 - من ترجمة ابن السقاط] وقال في ترجمة الوزير أبي القاسم ابن السّقّاط بعد كلام كثير، ما صورته (4) : وحملنا الوزير القاضي أبو الحسن ابن أضحى إلى إحدى ضياعه بخارج غرناطة،

_ (1) القلائد: إنما الحق. (2) القلائد: 171. (3) ك: بإشبيلية. (4) القلائد: 174.

ومعنا الوزير أبو محمد ابن مالك، وجماعة من أعيان تلك الممالك (1) ، فحللنا بضيعة لم ينحت المحل أثلها، ولم ترمق العيون مثلها، وجلنا بها في أكناف، جنّاتٍ ألفاف، فما شئت من دوحة لفّاء، وغصن يميس كعطفي هيفاء، وماء ينساب في جداوله، وزهرٍ يضمّخ بالمسك راحة متناوله؛ ولما قضينا من تلك الحدائق أرباً، وافتضضنا منها أتراباً عرباً، ملنا إلى موضع المقيل، وزلنا عن منازه تزري بمنازه جذيمة مع مالك وعقيل، وعند وصولنا بدا لي من أحد الأصحاب تقصيرّ في المبرّة، عرض لي منه تكدير لتلك العين (2) الثّرة، فأظهرت التثاقل أكثر ذلك اليوم، ثم عدلت عنهم إلى الاضطجاع والنوم، فما استيقظت إلا والسماء قد نسخ صحوها، وغيّم جوّها، والغمام منهمل، والثرى من سقياه ثمل، فبسطني بتحفّيه، وأبهجني ببرٍّ له لم يزل يتممه ويوفيه، وأنشدني: يومٌ تجهّم فيه الأفق وانتثرت ... مدامع الغيث في خدّ الثرى هملا رأى وجومك فاربدّت (3) طلاقته ... مضاهياً لك في الأخلاق ممتثلا [21 - من ترجمة ابن أضحى] وقال في ترجمة الوزير القاضي أبي الحسن ابن أضحى، ما نصّه (4) : وكان لصاحب البلد الذي كان يتولّى القضاء به ابنٌ من أحسن الناس صورة، وكانت محاسن الأفعال والأقوال عليه مقصورة، مع ما شئت من لسن، وصت حسن، وعفاف، واختلاط بالبهاء (5) والتفاف، فحملنا إلى إحدى ضياعه بقرب

_ (1) القلائد: المسالك. (2) دوزي: العيون. (3) ق ك ج ط: فارتدت. (4) القلائد: 217. (5) دوزي: بالنبهاء.

من حضرة غرناطة فحللنا قرية على ضفّة نهر، أحسن من شاذمهر (1) ، تشقّها جداول كالصّلال، ولا ترمقها الشمس من تكاثف الظلال، ومعنا جملة من أعيانها، فأحضرنا من أنواع الطعام، وأرانا من فرط الإكرام والإنعام، ما لا يطاق ولا يحد، ويقصر عن بعضه العد، وفي أثناء مقامنا بدا لي من ذلك الفتى المذكور ما أنكرته فقابلته بكلام أحقده، وملام اعتقده (2) ، فلمّا كان من الغد لقيت منه اجتنابه، ولم أر منه ما عهدته من الإنابه، فكتبت إليه مداعباً، فراجعني بهذه القطعة: أتتني أبا نصرٍ نتيجة خاطرٍ ... سريعٍ كرجع الطّرف في الخطرات فأعربت عن وجدٍ كمينٍ طويته ... بأهيف طاوٍ فاتر اللحظات غزالٍ أحمّ المقلتين عرفته ... بخيف منىً للحسن أو عرفات رماك فأصمى والقلوب رميّةٌ ... لكلّ كحيل الطّرف ذي فتكات وظنّ بأن القلب منك محصّبٌ ... فلبّاك من عينيه بالجمرات تقرّب بالنّسّاك في كل منسكٍ ... وضحّى غداة النّحر بالمهجات وكانت له جيّان مثوىً فأصبحت ... ضلوعك مثواه بكل فلاة يعزّ علينا أن تهيم فتنطوي ... كئيباً على الأشجان والزفرات فلو قبلت للنّاس في الحبّ فديةٌ ... فديناك بالأموال والبشرات [22 - من ترجمة ابن خفاجة] وقال في ترجمة أديب الأندلس وشاعرها أبي إسحاق ابن خفاجة بعد كلام، ما صورته (3) : وقال يندب معاهد الشباب، ويتفجّع لوفاة الإخوان والأحباب،

_ (1) شاذمهر: موضع نزه بنيسابور. (2) ك: بكلام اعتقده وملام أحقده. (3) القلائد: 236 والديوان: 177.

بعقب سيل أعاد الديار آثاراً، وقضى عليها وهياً وانتثاراً: ألا عرّس (1) الإخوان في ساحة البلى ... وما رفعوا غير القبور قبابا فدمعٌ كما سحّ الغمام ولوعةٌ ... كما أضرمت ريح الشمال شهابا إذا استوقفتني في الدّيار عشيّةٌ ... تلدّدت (2) فيها جيئةً وذهابا أكرّ بطرفي في معاهد فتيةٍ ... ثكلتهم بيض الوجوه شبابا فطال وقوفي بين وجدٍ وفرقةٍ (3) ... أنادي رسوماً لا تحير جوابا وأمحو جميل الصّبر طوراً بعبرة ... أخطّ بها في صفحتيّ كتابا وقد درست أجسامهم وديارهم ... فلم أر إلاّ أعظماً ويبابا وحسبي شجواً أن أرى الدار بلقعاً ... خلاء وأشلاء الصّديق ترابا ولقد أحلّني بهذه الديار المندوبة وهي كعهدها في جودة مبناها، وعودة سناها، في ليلة اكتحلنا ظلامها إثمداً، ومحونا بها من نفوسنا كمداً، ولم يزل ذلك الأنس يبسطه، والسرور ينشطه، حتى نشر لي ما طواه، وبثّ مكتوم لوعته وجواه، وأعلمني بلياليه فيها مع أترابه، وما قضى بها من أطرابه. انتهى ما وقع عليه اختياري من كلام أبي نصر الفتح بن عبيد الله رحمه الله تعالى في وصف بعض منتزهات الأندلس البديعة، ورياضها المونقة المريعة. [23 - من رسالة للفتح] وما أحسن رسالة له مختصرة كتبها مهنئاً بعض ملوك الأندلس بما منحه الله تعالى من التمكين الذي أيده الله به ونصره، وقد جوّد أوصافه، واستطرد منها إلى ذكر الناصر وولده الحكم اللذين عمرا الزهراء والرّصافة، ونصّها:

_ (1) ق ك ج ط: ألا عرض. (2) ق ك ج ط: تلذذت. (3) القلائد: وزفرة. دوزي: وحرقة.

أدام الله تعالى أيّام الأمير للأرض (1) يتملّكها، ويستدير بسعده فلكها، وقد استبشر الملك أيدك الله وحقّ له الاستبشار، فقد أومأ إليه السعد وأشار، بما اتفق له من توليتك، وخفق عليه من ألويتك، فلقد حبي منك بملك أمضى من السهم المسدّد، طويل نجاد السيف رحب المقلّد، يتقدّم حيث يتأخّر الذابل، ويتكّرم إذا بخل الوابل، ويحمي الحمى كربيعة بن مكدّم (2) ، ويسقي الظّبا نجيعاً كلون العندم، فهنيئاً للأندلس فقد استردت عهد خلفائها، واستجدّت رسوم تلك الإمامة بعد عفائها، فكأن لم تمت أعاصرها، ولم يمت حكمها ولا ناصرها، اللذان عمرا الرصافة والزهرا، ونكحا عفائل الروم وما بذلا غير المشرفية مهرا، والله سبحانه أسأله إظهار أيامك، وبه أرجو انتشار أعلامك، حتى يكون عصرك أجمل من عصرهم، ونصرك أغرب من نصرهم، بمنّه وكرمه ويمنه. [24 - من ترجمة ابن عطية] وقال رحمه الله تعالى في ترجمة الفقيه القاضي الحافظ أبي محمد عبد الحق ابن عطية صاحب التفسير الشهير، بعد كلام كثير، ما صورته (3) : ومررنا في إحدى نزهنا بمكان مقفر، وعن المحاسن مسفر، وفيه بكير نرجس كأنّه عيون مراض، يسيل وسطه ماء رضراض، بحيث لا حس إلا للهام، ولا أنس إلا ما يتعرض للأوهام، فقال: نرجسٌ باكرت منه روضةً ... لذّ قطع الدّهر فيها وعذب حثّت الريح بها خمر حياً ... رقص النبت لها ثمّ شرب

_ (1) بعض النسخ: للأزمن. (2) ق: ربيعة بن المكدم. (3) القلائد: 211.

فغدا يسفر عن وجنته ... نوره الغضّ ويهتزّ طرب خلت لمع الشمس في مشرقه ... لهباً يجمد منه في لهب وبياض الطّلّ في صفرته ... نقط الفضّة في خطّ الذهب انتهى. وسيأتي إن شاء الله تعالى كثير من وصف بلاد الأندلس ومنتزهاتها، وما اشتملت عليه من المحاسن، في كلام غير واحد ممن يجري ذكره في هذا الكتاب، وخصوصاً أديب زمانه غير مدافع، من اعترف له أهل الشرق، بالسبق، وأهل المغرب، بالإبداع المغرب، النور أبو الحسن عليّ بن سعيد العنسي، فإنّه لما دخل مصر اشتاق (1) إلى تلك المواطن الأندلسيّة الرائقة، ووصفها بالقصائد والمقطوعات الفائقة، وقد أسلفنا أيضاً فيما مرّ من هذا الكتاب بعض ما يتعلّق بمحاسن الأندلس، فليراجع في محلّه من هذا الكتاب. قلت: وماذا عسى أن نذكر من محاسن قرطبة والزاهرة والزهرا، أو نصف من محاسن الأندلس التي تبصر بكل موضع منها ظلاًّ ضافياً ونهراً وزهرا، ويرحم الله تعالى أديبها المشهور، الذي اعترف له بالسبق الخاصة والجمهور، أبا إسحاق ابن خفاجة، إذ قال (2) : يا أهل أندلسٍ لله درّكم ... ماءٌ وظلٌ وأنهارٌ وأشجار ما جنّة الخلد إلى في دياركم ... ولو تخيّرت هذا كنت أختار لا تحسبوا في غدٍ (3) أن تدخلوا سقراً ... فليس تدخل بعد الجنّة الناري ويروى مكان قوله: ولو تخيرت هذا كنت أختار ...

_ (1) ك: لما اتصل بمصر ودخلها اشتاق ... إلخ. (2) ديوان ابن خفاجة: 364. (3) ك: لا تختشوا بعد ذا.

ما مثاله: وهذه كنت لو خيّرت أختار ... وكذا رأيت بخط الحافظ التّنسي، والأول رايته بخط العلاّمة الوانشريشي رحمهما الله تعالى. وحكي أن الخليليّ لما قدم من الندلس رسولاً إلى سلطان المغرب أبي عنان فارس ابن السلطان أبي الحسن المريني أنشد بحضرة السلطان المذكور أبيات ابن خفاجة هذه كالمفتخر ببلاد الأندلس، فقال السلطان أبو عنان: كذب هذا الشاعر - يشير إلى كونه جعلها جنّة الخلد، وأنّه لو خير لاختارها على ما في الآخرة - وهذا خروج من ربقة الدين، ولا أقلّ من الكذب والإغراق، وإن جرت عادة الشعراء بذلك الإطلاق، فقال الخليليّ: يا مولانا، بل صدق الشاعر، لأنّها موطن جهاد، ومقارعة للعدوّ وجلاد، والنبي صلى الله عليه وسلم الرؤوف الودود الرحيم العطوف (1) ، يقول: الجنّة تحت ظلال السيوف، فاستحسن منه هذا الكلام، ورفع عن قائل الأبيات الملام، وأجزل صلته، ورفع منزلته. ولعمري إن هذا الجواب، لجدير بالصواب، وهكذا ينبغي أن تكون رسل الملوك في الافتنان، روّح الله تعالى أرواح الجميع في الجنان. [قصائد لابن خفاجة] وأبو إسحاق ابن خفاجة كان أوحد الناس في وصف الأنهار والأزهار والرياض والحياض والرياحين والبساتين، وقد سبق بعض كلامه، ويأتي أيضاً منه بعضٌ أثناء الكتاب، ومن ذلك قوله (2) :

_ (1) هكذا في ك؛ وفي ق: الرحيم الرؤوف يقول ... (2) ديوان ابن خفاجة: 336.

وكمامةٍ حدر الصباح قناعها ... عن صفحة تندى من الأزهار في أبطحٍ رضعت ثغور أقاحه ... أخلاف كلّ غمامةٍ مدرار نثرت بحجر الأرض فيه يد الصّبا ... درر النّدى ودراهم النّوّار وقد ارتدى غصن النّقا، وتقلّدت ... حلي الحباب سوالف الأنهار فحللت حيث الماء صفحة ضاحك ... جذلٍ وحيث الشّطّ بدء عذار والريح تنفض بكرةً لمم الرّبى ... والطّلّ ينضح أوجه الأشجار متقسّم الألحاظ بين محسنٍ ... من ردف رابيةٍ وخضر قرار وأراكة سجع الهديل بفرعها ... والصبح يسفر عن جبين نهار هزّت له أعطافها ولربّما ... خلعت عليه ملاءة الأنوار وقوله (1) : سقياً ليوم قد أنخت بسرحةٍ ... ريّا تلاعبها الرياح فتلعب سكرى يغنّيها الحمام فتنثني ... طرباً ويسقيها الغمام فتشرب يلهو فترفع للشبيبة رايةٌ ... فيه، ويطلع للبهارة كوكب والروض وجهٌ أزهرٌ، والظلّ فر ... عٌ أسودٌ، والماء ثغرٌ أشنب في حيث أطربنا الحمام عشيّةً ... فشدا يغنّينا الحمام المطرب واهتزّ عطف الغصن من طرب بنا ... وافترّ عن ثغر الهلال المغرب فكأنّه والحسن مقترنٌ به ... طوقٌ على برد الغمامة مذهب في فتيةٍ تسري فينصدع الدّجى ... عنها، وتنزل بالجديب فيخصب كرموا فلا غيث السّماحة مخلفٌ ... يوماً، ولا برق اللطافة خلّب من كل أزهر للنعيم بوجهه ... ماء يرقرقه الشّباب فيسكب وقال يمدح الأمير أبا يحيى بن ابراهيم (2) :

_ (1) ديوانه: 289؛ وفي ق: وقال. (2) ديوان ابن خفاجة: 33 وأبو يحيى هو أبو بكر بن إبراهيم المعروف بابن تيلفويت (- 510) أحد أمراء المرابطين، وكان والياً مدة على سرقسطة وهو ممدوح الفيلسوف ابن باجة. والشاعر يسأله في هذه القصيدة أن يشكر القائد الأعلى أبا عبد الله ابن عائشة لبر لحق ابن خفاجة من جهته.

سمح الخيال على النوى بمزار ... والصبح يمسح عن جبين نهار فرفعت من ناري لضيف طارق ... يعشو إليها من خيال طاري ركب الدّجى أحسن به من مركبٍ ... وطوى السّرى أحسن به من ساري وأناخ حيث دموع عيني منهل ... يروي، وحيث حشاي موقد نار وسقى فأروى غلّة من ناهل (1) ... أورى بجانحتيه زند أوار يلوي الضلوع من الولوع لخطرة ... من شيم برق أو شميم عرار مترقّبٌ رسل الرياح عشيّةً ... بمساقط الأنواء والأنوار ومجرّ ذيل غمامة لبست به ... وشي الحباب معاطف الأنهار خفقت ظلال الأيك فيه ذوائباً ... وارتجّ ردفاً مائج (2) التّيّار ولوى القضيب هناك جيداً أتلعاً ... قد قبّلته مباسم النّوّار باكرته والغيم قطعة عنبر ... مشبوبةٌ والبرق لفحة نار والريح تلطم فيه أرداف الرّبى ... لعباً وتلثم أوجه الأزهار ومنابر الأشجار قد قامت بها ... خطباء مفصحةٌ من الأطيار في فتية جنبوا العجاجة ليلةً ... ولربّما سفروا عن الأقمار ثار القتام بهم دخاناً وارتمى ... زند الحفيظة منهم بشرار شاهدت من هيئاتهم وهباتهم ... إشراف أطوادٍ وفيض بحار من كلّ منتقبٍ بوردة خجلة ... كرماً ومشتمل بثوب وقار في عمّةٍ خلعت عليه للمّةٍ ... وذؤابة قرنت بها لعذار ضافي رداء المجد طمّاح العلا ... طامي عباب الجود رحب الدار

_ (1) الناهل: الظمآن. (2) ق ك: مائل.

جرّار أذيال المعالي والقنا ... حامي الحقيقة والحمى والجار طرد القنيص بكلّ قيد طريدةٍ ... زجل الجناح مورّد الأظفار ملتفّة أعطافه بجبيرةٍ ... مكحولة أجفانه بنضار يرمى به الأمل القصيّ فينثني ... مخضوب راء (1) الظّفر والمنقار وبكلّ نائي الشّوط أشدق أخزر ... طاوي الحشا حالي المقلّد ضاري يفترّ عن مثل النّصال (2) ، وإنّما ... يمشي على مثل القنا الخطّار مستقرياً أثر القنيص على الصّفا ... والليل مشتمل بشملة قار من كلّ مسودّ تلهّب طرفه ... ترميك فحمته بشعلة نار ومورّس السّربال يخلع قدّه ... عن نجم رجمٍ في سماء غبار يستنّ في سطر الطريق وقد عفا ... قدماً فتقرأ أحرف الآثار عطف الضمور سراته فكأنّه ... والنّقع يحجبه هلال سرار ولربّ روّاغٍ هنالك أنبطٍ ... ذلق المسامع أطلس الأطمار يجري على حذر فيجمع بسطه ... يهوي فينعطف انعطاف سوار ممتدّ حبل الشأو يعسل رائغاً ... فيكاد يفلت أيدي الأقدار وعنا الزمان لأمره فكأنما ... أصغى الزمان به أمار متردّد يرمي به خوف الرّدى ... كرة تهادتها أكفّ قفار ولربّ طيّارٍ خفيفٍ قد جرى ... فشلاً بجارٍ خلفه طيّار من كلّ قاصرة الخطا مختالة ... مشي الفتاة تجرّ فضل إزار مخضوبة المنقار تحسب أنّها ... كرعت على ظمإ بكأس عقار ولو استجارت منهما بحمى أبي ... يحيى لآمنها أعزّ جوار خدم القضاء مراده فكأنّما ... ملكت يداه أعنّة الأقدار وجلا الإمارة في رفيف نضارةٍ ... جلت الدّجى في حلّة الأنوار

_ (1) ك: دره؛ والمعنى أن ظفره ومنقاره معوجان كحرف " الراء ". (2) ق: النضار.

في حيث وشّح لبّةً بقلادةٍ ... منها وحلّى معصماً بسوار جذلان يملأ منحةً وبشاشةً ... أيدي العفاة وأعين الزّوّار أرج النّديّ بذكره فكأنّه ... متنفّسٌ عن روضةٍ معطار بطل حوى الفلك المحيط بسرجه ... واستلّ صارمه يد المقدار بيمينه يوم الوغى وشماله ... ما شاء من نارٍ ومن إعصار والسّمر حمرٌ (1) ، والجياد عوابسٌ ... والجوّ كاسٍ، والسيوف عواري والخيل تعثر في شبا شوك القنا ... قصداً وتسبح في الدم الموّار والبيض تحنى في الطلى فكأنّما ... تلوى عرىً منها على أزرار والنقع يكسر من سنا شمس الضحى ... فكأنّه صدأ على دينار صحب الحسام النّصر صحبة غبطةٍ ... في كفّ صوّالٍ به سوّار ومضى وقد ملكه هزّة عزّةٍ ... تحت العجاج وضحكة استبشار وقال رحمه الله تعالى (2) : وأراكةٍ ضربت سماء فوقنا ... تندى وأفلاك الكؤوس تدار حفّت بدوحتها مجرّة جدولٍ ... نثرت عليه نجومها الأزهار وكأنّها وكأنّ جدول مائها ... حسناء شدّ بخصرها زنّار زفّ الزجاج بها عروس مدامةٍ ... تجلى ونوّار الغصون نثار في روضة جنح الدّجى ظلٌّ بها ... وتجسّمت نوراً بها الأنوار غنّاء ينشر وشيه البزّاز لي ... فيها ويفتق مسكه العطّار قام الغناء (3) بها وقد نضح النّدى (4) ... وجه الثرى واستيقظ النّوّار

_ (1) ق: والشمس خمر. (2) ديوان ابن خفاجة: 351. (3) ج ط: الغبار. (4) ج: الدجى.

والماء في حلي الحباب مقلّد ... زرّت عليه جيوبها الأشجار وقال ملتزماً ما لا يلزم (1) : خذها إليك وإنّها لنضيرة ... طرأت إليك قليلة النّظراء حملت وحسبك بهجةً من نفحةٍ (2) ... عبق العروس وخجلة العذراء من كل وارسة القميص كأنّما ... نشأت تعلّ بريقة الصّفراء نجمت تروق بها نجوماً حسبها (3) ... بالأيكة الخضراء من خضراء وأتتك تسفرعن وجوهٍ طلقةٍ ... وتنوب من لطفٍ عن الشعراء يندى بها وجه النّدى ولربّما ... بسطت هناك أسرّة (4) السرّاء فاستضحكت وجه الدجى مقطوعة ... حملت جمال الغرّة الغرّاء وقال أيضاً (5) : وصدر نادٍ نظمنا ... له القوافي عقدا في منزل قد سحبنا ... بظلّه العزّ بردا تذكو به الشّهب جمراً ... ويعبق الليل ندّا وقد تأرّج نورٌ ... غضٌّ يخالط وردا كما تنفّس ثغرٌ ... عذبٌ يقبّل خدّا وقال من قصيدة يصف منتزهاً (6) :

_ (1) ديوانه: 71. (2) ق ط ج: نفحة في بهجة. (3) ق: نجوم حسنها. (4) ك: هنالك أوجه. (5) ديوان ابن خفاجة: 80. (6) ديوانه: 337.

يا ربّ وضّاح الجبين كأنّما ... رسم العذار بصفحتيه كتاب تغرى بطلعته العيون مهابةً ... وتبيت تعشق عقله الألباب خلعت عليه من الصباح غلالة ... تندى ومن شفق المساء (1) نقاب فكرعت من ماء الصّبا في منهلٍ ... قد شفّ عنه من القميص سراب في حيث للريح الرّخاء تنفّسٌ ... أرجٌ، وللماء الفرات عباب (2) ولربّ غضّ الجسم مدّ بحوضه (3) ... سبحاً كما شقّ السّماء شهاب ولقد أنخت بشاطئيه يهزّني ... طرباً شبابٌ راقني وشراب وبكيت (4) دجلته يضاحكني بها ... مرحاً حبيبٌ شاقني وحباب تجلى من الدنيا عروسٌ بيننا ... حسناء ترشف والمدام رضاب ثم ارتحلت وللنهار ذؤابةٌ ... شيباء تخضب والظلام (5) خضاب تلوي معاطفي الصبابة والصّبا ... والليل دون الكاشحين حجاب وقال (6) : مرّ بنا وهو بدر تمّ ... يسحب من ذيله سحابا بقامةٍ تنثني قضيباً ... وغرّةٍ تلتظي شهابا يقرأ والليل مدلهمّ ... لنور إجلائه كتابا وربّ ليل سهرت فيه ... أزجر من جنحه غرابا (7) حتى إذا الليل مال سكراً ... وشقّ سرباله وجابا

_ (1) ق ك ج ط: السماء. (2) بعد هذا البيت في الديوان " ومنها " اعتماداً على الذخيرة. (3) الديوان: مر يخوضه؛ ج: مر. (4) الديوان: وعبرت. ج: وبكت وحلته. (5) ق ك ج ط: والنهار. (6) ديوان ابن خفاجة: 338 وهي في الذخيرة أيضاً، وفي الروايتين اختلافات. (7) ق ك ج ط: نكابا.

وحام من سدفةٍ غرابٌ ... طالت به سنّه (1) فشابا ازددت من لوعتي خبالاً ... فحثّ من غلّتي شرابا وما خطا قادماً فوافى ... حتى انثنى ناكصاً فآبا وبين جفنيّ بحر شوقٍ ... يعبّ في وجنتي عبابا قد شبّ في وجهه شعاع ... وشبّ عن قلبي التهابا وروضة طلقة حياء ... غنّاء مخضرّة جنابا ينجاب عن نورها كمامٌ ... يحطّ عن وجهه نقابا بات بها مبسم الأقاحي ... يرشف من طلّها رضابا ومن خفوق البروق فيها ... ألويةٌ حمّرت خضابا كأنّها أنملٌ واردٌ ... تحصر قطر الحيا حسابا وله أيضاً (2) : رحلت عنكم ولي فؤادٌ ... تنقض أضلاعه حنينا أجود فيكم بعلق دمع ... كنت به قبلكم ضنينا يثور في وجنتيّ جيشاً ... وكان في جفنه كميناً كأنني بعدكم شمال ... قد فارقت منكم يمينا وقال (3) : فيا لشجا صدر (4) من الصبر فارغٍ ... ويا لقذى طرفٍ من الدمع ملآن ونفسٍ إلى جوّ الكنيسة صبّةٍ ... وقلبٍ إلى أفق الجزيرة حنّان

_ (1) ق: مدة. (2) ديوانه: 340 والذخيرة؛ ولفظة أيضاً سقطت من ك ج ط. (3) ديوان ابن خفاجة: 345 والذخيرة. (4) ك: قلب.

تعوّضت من واهاً بآهٍ ومن هوىً ... بهونٍ ومن إخوان صدق بخوّان وما كلّ بيضاءٍ تروق بشحمةٍ ... وما كلّ مرعىً ترتعيه بسعدان فيا ليت شعري هل لدهري عطفةً ... فتجمع أوطاري عليّ وأوطاني ميادين أوطاري ولذة لذتي ... ومنشأ تهيامي وملعب غزلاني كأن لم يصلني في ظبيٌ يقوم لي ... لماه وصدغاه براحي وريحاني فسقياً لواديهم وإن كنت إنّما ... أبيت لذكراه بغلّة ظمآن فكم يوم لهوٍ قد أدرنا بأفقه ... نجوم كؤوسٍ بين أقمار ندمان شطر أول ... شطر ثاني وللقضب والأطيار ملهىً بجزعه (1) ... فما شئت من رقصٍ على رجع ألحان وبالحضرة الغرّاء غرٌّ (2) علقته ... فأحببت حبّاً فيه قضبان نعمان رقيق الحواشي في محاسن وجهه ... ومنطقه مسلى قلوبٍ وآذان أغار لخدّيه على الورد كلما ... بدا ولعطفيه على غصن البان وهبني أجني ورد خدّ بناظري ... فمن اين لي منه بتفّاح لبنان يعللني منه بموعد رشفةٍ ... خيالٌ له يغري بمطلٍ وليّان حبيب عليه لجّة من صوارم ... علاها حبابٌ من أسنّة مرّان تراءى لنا في مثل صورة يوسفٍ ... تراءى لنا في مثل ملك سليمان طوى برده منها صحيفة فتنةٍ ... قرأنا لها من وجهه سطر عنوان محبّته ديني ومثواه كعبتي ... ورؤيته حجّي وذكراه قرآني وقال أيضاً رحمه الله تعالى (3) : وليلٍ تعاطينا المدام وبيننا ... حديثٌ كما هبّ النسيم على الورد نعاوده والكأس يعبق نفحه (4) ... وأطيب منها ما نعيد وما نبدي

_ (1) في بعض النسخ: بأفقه. (2) ق: الغرا أغن. (3) ديوان ابن خفاجة: 348. (4) الديوان: تعبق مسكة.

ونقلي أقاح الثّغر أو سوسن الطّلى ... ونرجسة الأجفان أو وردة الخدّ إلى أن سرت في جسمه الكاس والكرى ... ومالا بعطفيه فمال على عضدي فأقبلت أستهدي لما بين أضلعي ... من الحرّ ما بين الثّنايا (1) من البرد وعاينته قد سلّ من وشي برده ... فعانقت منه السيف سلّ من الغمد ليان مجسّ واستقامة قامةٍ ... وهزّة أعطافٍ ورونق إفرند أغازل منه الغصن في مغرس النّقا ... وألثم وجه الشمس في مطلع السعد فإن لم يكنها أو تكنه فإنّه ... أخوها كما قدّ الشراك من الجلد تسافر كلتا راحتيّ بجسمه ... فطوراً إلى خصرٍ وطوراً إلى نهد فتهبط من كشحيه كفٌّ (2) تهامةً ... وتصعد من نهديه أخرى إلى نجد وقال أيضاً (3) : ورداء ليل بات فيه معانقي ... طيفٌ ألمّ لظبية (4) الوعساء فجمعت بين رضابه وشرابه ... وشربت من ريق ومن صهباء ولثمت في ظلماء ليلة وفره ... شفقاً هناك لوجنةٍ حمراء والليل مشمطّ الذوائب (5) كبرةً ... خرف يدبّ على عصا الجوزاء ثمّ انثنى والصبح يسحب فرعه ... ويجرّ من طربٍ فضول رداء تندى بفيه أقحوانة أجرعٍ ... قد غازلتها الشمس غبّ سماء وتميس في أثوابه ريحانة ... كرعت على ظمإ بجدول ماء نفّاحة الأنفاس إلا أنّها ... حذر النّدى خفّاقة الأفياء

_ (1) هذه رواية الذخيرة والديوان، وفي ق ك ج ط: الضلوع. (2) ق ك ج ط: كفي. (3) ديوان ابن خفاجة: 153. (4) في ق ك ط: بظبية. ج: بطيبة الوعثاء. (5) ق ج ط: الذؤابة.

فلويت معطفها اعتناقاً حسبنا (1) ... فيه بقطر الدّمع من أنواء [قصيدتان لابن سعيد] وكان المعتمد بن عباد رحمه الله تعالى كثيراً ما ينتاب وادي الطلح مع رميكيته، وأولي أنسه ومسرته، وهو واد بشرف إشبيلية ملتفّ الأشجار، كثير ترنم الأطيار، وفيه يقول نور الدين ابن سعيد: سائل بوادي الطّلح ريح الصّبا ... هل سخّرت لي من زمان (2) الصّبا كانت رسولاً فيه ما بيننا ... لن نأمن الرّسل ولن نكتبا يا قاتل الله أناساً إذا ... ما استؤمنوا خانوا فما أعجبا هلاّ راعوا أنّا وثقنا بهم ... وما اتّخذنا عنهم مذهبا يا قاتل الله الذي لم يتب ... من غدرهم من بعد ما جرّبا واليمّ لا يعرف ما طعمه ... إلاّ الذي وافى لأن يشربا دعني من ذكر الوشاة الألى ... لمّا يزل فكري بهم ملهبا واذكر بوادي الطلح عهداً لنا ... لله ما أحلى وما أطيبا بجانب العطف وقد مالت ال ... أغصان والزهر يبثّ الصّبا والطير مازت بين ألحانها ... وليس إلا معجباً مطربا وخانني من لا أسميه من ... شحّ أخاف الدهر أن يسلبا قد أترع الكأس وحيّا بها ... وقت أهلاً بالمنى مرحبا أهلاً وسهلاً بالذي شئته ... يا بدر تمّ مهدياً كوكبا لكنّني آليت أسقى بها ... أو تود عنها ثغرك الأشنبا فمجّ لي في الكأس منثغره ... ما حبّب الشرب وما طيّبا

_ (1) الديوان: حسبها. (2) دوزي: في زمان.

وقال ها لثمي نقلاً ولا ... تشمّ إلا عرفي الأطيبا (1) واقطف بخدّي الورد والآس (2) وال ... نّسرين لا تحفل بزهر الرّبى أسعفته غصناً غدا مثمراً ... ومن جناه ميسه قرّبا قد كنت ذا نهيٍ وذا إمرةٍ ... حتى تبدّى فحللت الحبا ولم أصن عرضي في حبّه ... ولم أطع فيه الذي أنّبا حتى إذا ما قال لي حاسدٌ ... ترجوه والكوكب أن يغربا أرسلت من شعري سحراً له ... ييسّر المرغب والمطلبا وقال عرّفه بأنّي سأح ... تال فما أجتنب المكتبا فزاد في شوقي له وعده ... ولم أزل مقتعداً (3) مرقبا أمدّ طرفي ثم أثنيه من ... خوف أخي التنغيص أن يرقبا أصدّق الوعد وطوراً أرى ... تكذيبه والحرّ لن يكذبا أتى ومن سخّره بعدما ... أيأس (4) بطءٌ كاد أن يغضبا قبلت في الترب ولم أستطع ... من حصر اللّقيا سوى مرحبا هنأت ربعي إذ غدا هالةً ... وقلت يا من لم يضع أشعبا بالله مل معتنقاً لاثماً ... فمال كالغصن ثنته الصّبا فقال ما ترغب قلت اتّئد ... أدركت إذ كلّمتني المرغبا (5) فقال لا مذهب (6) عن ذكر ما ... ترغبه قلت إذن مركبا وكان ما كان فوالله ما ... ذكرته دهري أو أغلبا

_ (1) بعض النسخ: الطيبا. (2) بعض النسخ: الآس والورد. (3) ق ك ج ط: معتقداً. (4) ق ج ط: آيس. (5) في نسخة: المأربا. (6) ق ك: مرغب.

وستأتي هذه القصيدة بكاملها (1) في جملة من نظم ابن سعيد المذكور (2) . وقال يتشوق إلى إشبيلية، وهو حمص الأندلس: أنّ الخليج وغنّت الورقاء ... هل برّحا إذ هاجت البرحاء أنا منكما أولى بحلية عاشقٍ ... أفنى وما نمّت بي الصعداء أخشى الوشاة فما أفوه بلفظةٍ ... والكتم عند العاشقين عناء لولا تشوّق أرض حمصٍ ما جرى ... دمعي ولا شمتت بي الأعداء لم أستطع كتماً له فكأنّني ... ما كان لي كتمٌ ولا إخفاء والبدر مهما رام كتماً من سرى ... فيه ينمّ على سراه ضياء بلدٌ متى يخطر له ذكرٌ هفا ... قلبي وخان تصبّرٌ وعزاء من بعده ما الصبح يشرق نوره ... عندي، ولا تتبدّل الظلماء كم لي به من ذي وفاء لم يخن ... عهدي، وينمو بالوداد وفاء فتراه إما مرّ ذكري سائلاً (3) ... عن حالتي إن قلّت الأنباء يمسي ويصبح في تذكّر مدّة ... يرضى بها الإصباح والإمساء مع كل مبذول الوصال ممنّعٍ ... من غيرنا تسمو به الخيلاء كالظبي، كالشمس المنيرة، كالنّقا ... كالغصن يثني معطفيه رخاء يسعى براح كالشهاب، براحة ... كالبدر، والوجه المنير ذكاء ما لان نحو الوصل حتى طال من ... هـ الهجر واتّصلت به البلواء خير المحبّة ما تأتّت عن قلىً ... تدرى ببؤس الفاقة النّعماء ما زلت أرقي بالقريض جنونه ... حتى استكان، وكان منه إباء فظفرت منه بمدّة لو أنّها ... دامت لدامت لي بها السّرّاء

_ (1) بكمالها: زيادة من نسخة ك. (2) سيأتي شعر ابن سعيد في الباب الخامس من الكتاب. (3) ط ج ق: فترى إذا ما مر ذكري سائل.

صفوٌ تكدّر بالتحرّك، ليته ... ما زال (1) ، لكن لا يردّ قضاء إنّ الفراق هو المنيّة، إنّما ... أهل النّوى ماتوا وهم أحياء لولا تذكّر لذّةٍ طابت لنا ... بذرا الجزيرة حيث طاب هواء وجرى النسيم على الخليج معطّراً ... وتبدّدت في الدّوحة الأنداء ما كابدت نفسي أليم تفكّر ... ألوى به عن جفني الإغفاء (2) يا نهر حمصٍ لا عدتك مسرّةٌ ... ماءٌ يسيل لديك أم صهباء كلّ النفوس تهشّ فيك كأنّما ... جمعت عليك شتاتها الأهواء ودّي إليك مع الزمان مجدّدٌ ... ما إن يحول تذكّرٌ وعناء ولو أنّني لم أحي ذكراً للّذي ... أوليته ما كان فيّ حياء ما كنت أطمع في الحياة لو أنني ... ألقيت أن لا يسترو لقاء غيري إذا ما بان حان، وإنّما ... أبقى حياتي، حين بنت، رجاء وسيأتي إن شاء الله تعالى لهذا النمط وغيره مزيد أثناء الكتاب، بحسب ما اقتضته المناسبة، والله تعالى المرجو في حسن المتاب، وهو سبحانه لا إله إلا هو الموفّق للصواب (3) . تم المجلد الأول

_ (1) ق ط ج: لينه ما زلت. (2) ك: الإغضاء. (3) عند هذا الحد تنتهي النسخة ك، وفي آخرها: " انتهى السفر الأول من كتاب نفح الطيب ... الخ ".

في التعريف ببعض من رحل من الأندلسيين إلى بلاد المشرق الزاكية العرار

بسم الله الرحمن الرحيم الباب الخامس في التعريف ببعض من رحل من الأندلسيين إلى بلاد المشرق الزاكية العرار والبشام ومدح جماعة من أولئك الأعلام، ذوي العقول الراجحة والأحلام، لشامة وجنة الأرض دمشق الشام، وما اقتضته المناسبة من كلام أعيانها، وأرباب بيانها، ذوي السؤدد والاحتشام، ومخاطباتهم للفقير المؤلف حين حلّها سنة ألف وسبع وثلاثين للهجرة، وشاهد برق فضلها المبين وشام واعلم - جعلني الله تعالى وإياك ممن له للمذهب الحق انتحال - أنّ حصر أهل الارتحال، لا يمكن بوجه ولا بحال، ولا يعلم ذلك على الإحاطة إلا علام الغيوب الشديد المحال، ولو أطلقنا عنان الأقلام فيمن عرفناه فقط من هؤلاء الأعلام، لطال الكتاب وكثر الكلام، ولكنّا نذكر منهم لمعاً على وجه التوسط من غير إطناب داع إلى الملال واختصار مؤدّ للملام، فنقول مستمدين من واهب العقول: 1 - منهم عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب السّلمي (1) : وقد عرف به القاضي عياض في المدارك وغير واحد، ورأيت في بعض التواريخ أن تواليفه

_ (1) قد مر التعريف به والإشارة إلى مراجع ترجمته ج 1: 46.

بلغت ألفاً، ومن أشهرها كتاب الواضحة في مذهب مالك، كتاب كبير مفيد، ولابن حبيب مذهب في كتب المالكية مسطور، وهو مشهور عند علماء المشرق، وقد نقل عنه الحافظ ابن حجر وصاحب المواهب وغيرهما. ومن نظمه يخاطب سلطان الأندلس (1) : لا تنس لا ينسك الرحمن عاشورا ... واذكره لا زلت في التاريخ مذكورا قال النّبيّ صلاة الله تشمله ... قولاً وجدنا عليه الحقّ والنورا فيمن يوسّع في إنفاق موسمه ... أن لا يزال بذاك العام ميسورا وهذا البيت الثالث نسيت لفظه فكتبته بالمعنى والوزن إذ طال عهدي به، والله تعالى أعلم. وقال الفتح في المطمح (2) : الفقيه العالم أبو مروان عبد الملك بن حبيب السّلمي، أي شرف لأهل الأندلس ومفخر، وأي بحر بالعلوم يزخر (3) ، خلدت منه الأندلس فقيهاً عالماً، أعاد مجاهل جهلها معالماً، وأقام فيها للعلوم سوقاً (4) نافقة، ونشر منها ألويةً خافقة، وجلا عن الألباب صدأ الكسل، وشحذها شحذ الصّوارم والأسل، وتصرف في فنون العلوم، وعرف كل معلوم، وسمع بالأندلس وتفقّه، حتى صار أعلم من بها وأفقه، ولقي أنجاب مالك، وسلك من مناظرتهم أوعر المسالك، حتى أجمع عليه الاتفاق، ووقع على تفضيله الإصفاق، ويقال: إنّه لقي مالكاً آخر عمره، وروى عنه عن سعيد

_ (1) الأبيات في ابن عذاري 2: 165 وهذه روايتها: لا تنس لا ينسك الرحمن عاشورا ... واذكره لا زلت في الأخيار مذكورا: من بات في ليل عاشوراء ذا سعة ... يكن بعيشه في الحول محبورا فارغب فديتك فيما فيه رغبنا ... خير الورى كلهم حيا ومقبورا (2) المطمح: 36. (3) هذه العبارة في المطمح " وأي محتد شيد الإسلام وسحر " وهي شديدة التصحيف ولعل صوابها: وأي مجد شيد للإسلام وسخر. (4) المطمح: للمعالم، وفي نسخة: للمعارف؛ وفي ك: أسواقا.

ابن المسيّب أن سليمان بن داود، صلى الله عليهما وسلّم، كان يركب إلى بيت المقدس فيتغدّى به، ثم يعود فيتعشّى بإصطخر، وله في الفقه كتاب الواضحة، ومن أحاديثه غرائب، قد تحلّت بها للزمان نحورٌ وترائب. وقال محمد بن لبابة (1) : فقيه الأندلس عيسى بن دينار، وعالمها عبد الملك ابن حبيب، وراويها يحيى بن يحيى. وكان عبد الملك قد جمع إلى علم الفقه والحديث علم اللغة والإعراب، وتصرف في فنون الآداب، وكان له شعر يتكلم به متبحراً، ويرى ينبوعه بذلك متفجراً، وتوفّي بالأندلس في رمضان سنة 238 وهو ابن ثلاث وخمسين سنة بعدما جال في الأرض، وقطع طولها والعرض، وجال في أكنافها، وانتهى إلى أطرافها. ومن شعره قوله: قد طاح أمري والذي أبتغي ... هينٌ على الرحمن في قدرته ألفٌ من الحمر وأقلل بها ... لعالمٍ أربى على بغيته زرياب قد أعطيها جملةً (2) ... وحرفتي أشرف من حرفته وكتب إلى الزجاليّ (3) رسالة وصلها بهذه الأبيات: كيف يطيق الشّعر من أصبحت ... حالته اليوم كحال الغرق

_ (1) هو محمد بن عمر بن لبابة أبو عبد الله القرطبي الفقيه مولى عثمان بن عبيد الله بن عثمان، كان مقدما على أهل زمانه في حفظ الرأي والبصر بالفتيا مشاورا في أيام الأمير عبد الله مع بعض المشاورين ثم انفرد بالفتيا أول أيام الناصر إلا أنه لم يكن له علم بالحديث ولا ضبط لروايته (توفي سنة 314) (ابن الفرضي 2: 36) . والنقل عن ابن لبابة موجود أيضا في ابن عذاري 2: 165 وابن الفرضي 2: 177. (2) في أصول المطمح: زرياب قد يأخذها دفعة؛ وقد سقط هذا البيت من المطمح المطبوع، وانظر الأبيات في الحذوة: 265 وطبقات الزبيدي: 283 وفيه " قد يأخذها قفلة " وإنباه الرواة. (3) في المطمح: وكتب إلى محمد بن سعيد الترحالي، وفي طبقات الزبيدي: محمد بن سعيد الزجالي، والشعر أيضا في طبقات الزبيدي وإنباه الرواة.

والشّعر لا يسلس إلاّ على ... فراغ قلبٍ واتّساع الخلق فاقنع بهذا القول من شاعرٍ ... يرضى من الحظّ بأدنى العنق فضلك قد بان عليه كما ... بان لأهل الأرض ضوء الشّفق أمّا ذمام الودّ منّي لكم ... فهو من المحتوم فيما سبق ولم يكن له علم بالحديث يعرف به صحيحه من معتلّه، ولا يفرق بين مستقيمه ومختلّه، وكان غرضه الإجازة، وأكثر رواياته غير مستجازة، قال ابن وضاح: قال إبراهيم بن المنذر: أتى صاحبكم الأندلس - يعني عبد الملك هذا - بغرارة مملوءة، فقال لي: هذا علمك، قلت له: نعم، ما قرأ عليّ منه حرفاً ولا قرأته عليه. وحكي أنّه قال في دخوله المشرق وحضر مجلس بعض الأكابر فازداره من رآه: لا تنظرنّ إلى جسمي وقلّته ... وانظر لصدري وما يحوي من السنن فربّ ذي منظر من غير معرفة ... وربّ من تزدريه العين ذو فطن وربّ لؤلؤةٍ في عين مزبلةٍ ... لم يلق بالٌ لها إلاّ إلى زمن انتهى ما في المطمح الصغير. قلت: أمّا ما ذكره من عدم عرفته بالحديث فهو غير مسلّم، وقد نقل عنه غير واحد من جهابذة المحدّثين، نعم لأهل الأندلس غرائب لم يعرفها كثير من المحدثين، حتى إن في شفاء عياض أحاديث لم يعرف أهل المشرق النّقّاد مخرجها، مع اعترافهم بجلالة حفّاظ الأندلس الذين نقلوها كبقيّ ابن مخلد وابن حبيب وغيرهما على ما هو معلوم. وأمّا ما ذكره عنه في الإجازة بما في الغرارة فذلك على مذهب من يرى الإجازة، وهو مذهب مستفيض، واعتراض من اعترض عليه إنّما هو بناء على القول بمنع الإجازة، فاعلم ذلك، والله سبحانه الموفّق.

2 - ومن الراحلين من الأندلس الفقيه المحدث يحيى بن يحيى الليثي (1) راوي الموطّأ عن مالك، رضي الله تعالى عنه، ويقال: إن أصله من برابر مصمودة (2) . وحكي (3) أنّه لما ارتحل إلى مالك لازمه، فبينما هو عنده في مجلسه مع جماعة من أصحابه إذ قال قائل: حضر الفيل، فخرج أصحاب مالك كلّهم، ولم يخرج يحيى، فقال له مالك: ما لك لم تخرج وليس الفيل في بلادك فقال: إنّما جئت من الأندلس لأنظر إليك، وأتعلّم من هديك وعلمك، ولم أكن لأنظر إلى الفيل، فأعجب به مالك، وقال: هذا عاقل الأندلس، ولذلك قيل (4) : إن يحيى هذا عاقل الأندلس (5) ، وعيسى بن دينار فقيهها، وعبد الملك بن حبيب عالمها، ويقال: إن يحيى راويها ومحدّثها، وتوفّي يحيى بن يحيى سنة 234 برجب، وقبره يستسقى به بقرطبة، وقيل: إن وفاته في السنة التي قبلها، والله تعالى أعلم. وروايته الموطّأ (6) مشهورة، حتى إن أهل المشرق الآن يسندون الموطّأ من روايته كثيراً، مع تعدّد رواة الموطّأ، والله أعلم. وكان يحيى بن يحيى روى الموطّأ بقرطبة عن زياد بن عبد الرحمن اللخميّ المعروف بشبطون، وسمع من يحيى بن مضر القيسي الأندلسي، ثم ارتحل إلى المشرق وهو ابن ثمان وعشرين سنة، فسمع من مالك بن أنس الموطّأ غير أبواب في كتاب الاعتكاف، شكّ في سماعها، فأثبت روايته فيها عن زياد، وذلك ممّا يدلّ على ورعه. وسمع بمصر من اللّيث بن سعد، وبمكة من سفيان بن عيينة، وتفقه

_ (1) قد مر التعريف والإشارة إلى مصادر ترجمته، انظر ج 1 ص: 339. (2) نسبه: يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس (أو وسلاسن) بن شمال بن منغايا وقد ضبطه ابن خلكان هذه الأسماء. (3) النقل عن ابن خلكان 5: 194. (4) هذا هو قول محمد بن عمر بن لبابة، انظر الترجمة السابقة. (5) ولذلك ... الأندلس: سقط هذا من ط ق، واندرج كأنه من كلام مالك. (6) ق: في الموطأ.

بالمدنيين والمصريين كعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم العتقي (1) ، وسمع منهما، وهما من أكابر أصحاب مالك، بعد انتفاعه بمالك وملازمته له. وانتهت إليه الرياسة بالأندلس، وبه اشتهر مذهب مالك في تلك الديار، وتفقه به جماعة لا يحصون عدداً، وروى عنه خلق كثير، وأشهر رواة الموطّإ وأحسنهم روايةً يحيى المذكور، وكان - مع أمانته ودينه - معظّماً عند الأمراء، يكنّى عندهم، عفيفاً عن الولايات متنزهاً، جلّت رتبته عن القضاء، وكان أعلى من القضاة قدراً عند ولاة الأمر بالأندلس لزهده في القضاء وامتناعه. قال الحافظ ابن حزم (2) : مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي القضاء أبو يوسف كانت القضاة من قبله من أقصى المشرق إلى أقصى عمل إفريقية، فكان لا يولي إلاّ أصحابه والمنتسبين لمذهبه، ومذهب مالك عندنا بالأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكيناً عند السلطان مقبول القول في القضاة، وكان لا يلي قاضٍ في أقطار بلاد الأندلس إلاّ بمشورته واختياره، ولا يشير إلاّ بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به، على أن يحيى لم يل قضاء قطّ، ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائداً في جلالته عندهم، وداعياً إلى قبول رأيه لديهم، انتهى. وذكرنا في غير هذا الموضع قولاً آخر في سبب انتشار مذهب مالك بالأندلس، والله سبحانه أعلم بحقيقة الأمر، انتهى. وقال ابن أبي الفياض (3) : جمع الأمير عبد الرحمن بن الحكم الفقهاء في

_ (1) في ق: العتلي؛ وسقطت من ط؛ وقال ابن خلكان (2: 213) نسبة إلى العتقاء، جماع من القبائل كانوا يقطعون الطريق على من أراد النبي، صلى الله عليه وسلم، فبعث إليهم فأتى بهم أسرى فأعتقهم فقيل لهم: العتقاء. (2) انظر ابن خلكان 5: 195. (3) النقل أيضا عن ابن خلكان.

قصره، وكان وقع على جارية يحبها في رمضان، ثم ندم أشدّ ندم، فسألهم عن التوبة والكفّارة، فقال يحيى: تكفّر بصوم شهرين متتابعين، فلمّا بادر يحيى بهذه الفتيا سكت الفقهاء حتى خرجوا، فقال بعضهم له: لم لم تفت بمذهب مالك بالتخيير فقال: لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلاّ يعود. وقال بعض المالكية: إن يحيى ورّى بهذا، ورأى أنّه لم يملك (1) شيئاً إذ هو مستغرق الذمّة فلا عتق له ولا طعام، فلم يبق إلاّ الصيام، انتهى. ولمّا انفصل يحيى عن مالك ووصل إلى مصر رأى ابن القاسم يدوّن سماعه من مالك، فنشط للرجوع إلى مالك ليسمع منه المسائل التي رأى ابن القاسم يدوّنها، فرحل رحلة ثانية، فألفى مالكاً عليلاً، فأقام عنده إلى أن مات وحضر جنازته، فعاد إلى ابن القاسم وسمع منه سماعه من مالك، هكذا ذكره ابن الفرضي في تاريخه (2) ، وهو ممّا يردّ الحكاية المشهورة الآن بالمغرب أن يحيى سأل مالكاً عن زكاة التين، فقال له: لا زكاة فيها، فقال: إنّها تدّخر عندنا، ونذر إن وصل إلى الأندلس أن يرسل لمالكٍ سفينة مملوءة تيناً، فلمّا وصل أرسلها فإذا مالك قد مات، انتهى. قال ابن الفرضي (3) : ولمّا انصرف يحيى إلى الأندلس كان إمام وقته، وواحد بلاده، وكان ممّن اتهم بالهيج (4) في وقعة الرّبض المشهورة ففرّ إلى طليطلة ثم استأمن فكتب له الأمير الحكم أماناً، وانصرف إلى قرطبة. وقيل (5) : لم يعط أحد من أهل الأندلس منذ دخلها الإسلام ما أعطي يحيى من الحظوة وعظم القدر، وجلالة الذكر.

_ (1) ق ط ج: وإنه لم ير أنه يملك. (2) ابن الفرضي 2: 177 وانظر أيضا ابن خلكان. (3) المصدر نفسه، وهو منقول باختصار. (4) بالهيج: سقطت من ط. (5) هو قول أحمد بن خالد كما نقله ابن الفرضي وابن خلكان.

وقال ابن بشكوال (1) : إن يحيى بن يحيى كان مجاب الدعوة، وإنّه أخذ في سمته وهيئته ونفسه ومقعده هيئات مالك. ويحكى عنه أنّه قال (2) : أخذت بركاب الليث بن سعد، فأراد غلامه أن يمنعني، فقال: دعه، ثم قال لي الليث: خدمك العلم؛ فلم تزل بي الأيام حتى رأيت مالكاً، انتهى. 3 - ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن [أبي] عيسى (3) قال في المطمح (4) : من بني يحيى بن يحيى الليثي، وهذه ثنية علمٍ وعقل، وصحة ضبط ونقل، كان علم الأندلس، وعالمها النّدس، ولي القضاء بقرطبة بعد رحلة رحلها إلى المشرق، وجمع فيها من الروايات والسماع كل مفترق، وجال في آفاق ذلك الأفق، لا يستقرّ في بلد، ولا يستوطن في جلد (5) ، ثم كرّ إلى الأندلس فسمت رتبته، وتحلّت بالأماني لبّته، وتصرف في ولايات أحمد فيها منابه، واتصلت بسببها بالخليفة أسبابه، وولاه القضاء بقرطبة فتولاه بسياسة محمودة، ورياسة في الدين مبرمة القوى مجهودة، والتزم فيها الصّرامة في تنفيذ الحقوق، والحزامة في إقامة الحدود، والكشف عن البيّنات في السر، والصّدع بالحق في الجهر، لم يستمله مخادع، ولم

_ (1) ليس هذا النقل من الصلة إذ لم يترجم فيها ليحيى وإنما هو من تاريخ ابن بشكوال كما صرح بذلك ابن خلكان (ص: 196) . (2) ابن خلكان: 196. (3) ق ط ج: محمد بن عيسى، وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أيوب بن أبي عيسى القاضى عند الثعالبي (اليتيمة 2: 63) ومحمد بن عبد الله بن يحيى بن يحيى الليثي أبو عبد الله (عند ابن الفرضي 2: 61) وهو على أية حال من بني يحيى بن يحيى الليثي، ولي القضاء أيام الأمير عبد الرحمن بن محمد وأدرك عهد الناصر، وأصبح قاضي الجماعة بقرطبة عام 326 وكان يستعين به في السفارات، توفي سنة 339. (انظر أيضا قضاة قرطبة للخشني: 172 والمرقبة العليا: 59 والجذوة: 96 وبغية الملتمس رقم: 218) . (4) مطمح الأنفس: 46. (5) المطمح: في مظلومة جلد؛ والمعنى واحد، إذ المظلومة هي الأرض، والجلد: أديمها.

يكده مخاتل، ولم يهب ذا حرمة، ولا داهن ذا مرتبة، ولا أغضى لأحد من أسباب السلطان (1) وأهله، حتى تحاموا جانبه، فلم يجسر أحد منهم عليه، وكان له نصيب وافر من الأدب، وحظ من البلاغة إذا نظم وإذا كتب. ومن ملح شعره ما قاله عند أوبته عن غربته (2) : كأن لم يكن بينٌ ولم تك فرقةٌ ... إذا كان من بعد الفراق تلاق كأن لم تؤرّق بالعراقين مقلتي ... ولم تمر كفّ الشّوق ماء مآقي ولم أزر الأعراب في جنب أرضهم ... بذات اللّوى من رامةٍ وبراق ولم اصطبح بالبيد من قهوة النّدى ... وكأسٍ سقاها في الأزاهر ساق وله أيضاً (3) : ماذا أكابد (4) من ورق مغرّدةٍ ... على قضيبٍ بذات الجزع ميّاس ردّدن شجواً شجا قلب الخليّ فهل ... في عبرة ذرفت في الحب من باس ذكّرنه الزمن الماضي بقرطبةٍ ... بين الأحبّة في أمنٍ (5) وإيناس هم الصبابة لولا همّةٌ شرفت ... فصيّرت قلبه كالجندل القاسي وله أخبار تدل على رقة العراق، والتغذي بماء تلك الآفاق: فمنها أنّه خرج إلى حضور جنازة بمقابر قريش، ورجل من بني جابر (6) كان يواخيه له منزل هناك، فعزم عليه في الميل إلي، وعلى أخيه فنزلا عليه، فأحضر لهما طعاماً، وأمر جارية له بالغناء، فغنّت:

_ (1) ك: أرباب. (2) انظر هذا الشعر أيضا في الجذوة وبغية الملتمس. (3) الشعر في الجذوة: 70. (4) الجذوة: ويل أم ذكراي. (5) الجذوة: لهو. (6) الجذوة: بني حدير.

طابت بطيب لثاتك الأقداح ... وزهت بحمرة خدّك التّفّاح وإذا الرّبيع تنسّمت أرواحه ... طابت بطيب نسيمك الأرواح (1) وإذا الخنادس لبست ظلماءها ... فضياء وجهك في الدجى مصباح فكتبها القاضي في ظهر يده، وخرج من عنده، قال يونس بن عبد الله (2) : فلقد رأيته يكبّر للصلاة على الجنازة والأبيات مكتوبةٌ على ظهر كفّه. وكان، رحمه الله تعالى، في غاية اللطف، حكى بعض أصحابه قال (3) : ركبنا معه في موكب حافل من وجوه الناس، إذ عرض لنا فتىً متأدّب قد خرج من بعض الأزقّة سكران يتمايل، فلمّا رأى القاضي هابه وأراد الانصراف فخانته رجلاه، فاستند إلى الحائط وأطرق، فلمّا قرب القاضي رفع رأسه وأنشأ يقول: ألا أيّها القاضي الذي عمّ عدله ... فأضحى به بين الأنام فريدا قرأت كتاب الله تسعين مرّةً ... فلم أر فيه للشراب حدودا فإن شئت جلداً لي فدونك منكباً ... صبوراً على ريب الزّمان جليدا وإن شئت أن تعفو تكن لك منّةٌ ... تروح بها في العالمين حميدا وإن أنت تختار الحديد فإنّ لي ... لساناً على هجو الزّمان حديدا فلمّا سمع شعره وميّز أدبه أعرض عنه وترك الإنكار عليه، ومضى لشأنه؛ انتهى ملخّصاً من المطمح. ورأيت بخطي في بعض مسوّداتي ما صورته (4) : محمد بن عبد الله بن يحيى ابن يحيى الليثي قاضي الجماعة بقرطبة، سمع عمّ أبيه عبيد الله (5) بن يحيى ومحمد

_ (1) ق ط ج: أدواحه ... الأدواح. (2) هو أبو الوليد ابن الصفار قاضي قرطبة، وهو يروي الحكاية عن أبيه وعنه ابن حزم، كما في الجذوة. (3) هو كاتبه القاسم بن محمد أيام قضائه بإلبيرة، انظر المرقبة العليا: 61 وفيها الشعر. (4) هذه هي ترجمته كما أوردها ابن الفرضي 2: 61، مع شيء من إيجاز. (5) ق ك: سمع من أبيه عبد الله.

ابن عمر بن لبابة وأحمد بن خالد، ورحل من قرطبة سنة 312، ودخل مصر وحجّ وسمع بمكّة من ابن المنذر والعقيلي وابن الأعرابي وغيرهم؛ وكان حافظاً معتنياً بالآثار جامعاً للسّنن، متصرّفاً في علم الإعراب ومعاني الشعر، شاعراً مطبوعاً؛ وشاوره القاضي أحمد بن بقي، واستقضاه الناصر عبد الرحمن ابن محمد على إلبيرة وبجّانة، ثم ولاّه قضاء الجماعة بقرطبة بعد أبي طالب (1) سنة 326، وجمعت له مع القضاة الصلاة، وكان كثيراً ما يخرج إلى الثغور ويتصرّف في إصلاح ما وهى منها، فاعتلّ في آخر خرجاته ومات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة سنة 337 (2) ، ومولده سنة 284؛ انتهى وأظن أنّي نقلته من كتاب ابن الأبار الحافظ، والله أعلم. 4 - ومنهم عتيق بن أحمد بن عبد الباقي الأندلسي (3) ، الدمشقي وفاة، يكنى أبا بكر: نزيل دمشق، كان مشهوراً بالصلاح، وانتفع به جماعة من الفقراء، وولد على ما قيل سنة 516، وتوفّي سنة 616 بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية، فيكون عمره على هذا مائة سنة، رحمه الله تعالى ونفعنا ببركاته وبركات أمثاله. 5 - ومنهم أبة إبراهيم إسماعيل بن محمد بن يوسف الأنصاري الأندلسي الأبّذي، الملقب في البلاد المشرقية ببرهان الدين - وأبّذة، بضم الهمزة وتشديد الباء الموحدة وفتحها وبعدها ذال معجمة، بلد بالأندلس - سمع المذكور بمكّة وغيرها من البلاد، وبدمشق من الحافظ ابن طبرزذ، وأمّ الصخرة، وكان فاضلاً صالحاً شاعراً، توفّي سنة 656، وأخبر عن بعض الأولياء المجاورين ببيت المقدس أنّه سمع هاتفاً يقول لما خربت القدس:

_ (1) بعد أبي طالب: سقطت من ابن الفرضي. (2) ابن الفرضي: سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. (3) عتيق بن أحمد بن عبد الباقي: وردت ترجمته في حواشي الذيل والتكملة (5: 115) من تقييدات أبي القاسم التجيبي.

إن يكن بالشآم قلّ نصيري ... ثم خرّبت واستمرّ هلوكي فلقد أثبت الغداة خرابي ... سمر العار في حياة الملوك هكذا رأيته بخط الصفدي " في حياة " ويحتمل أن يكون " في جباه " جمع جبهة، والله أعلم. 6 - ومنهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي (1) ، قاضي الجماعة بقرطبة، وقد قدمنا جملة من أخباره في الباب الثالث والرابع من هذا القسم، وكان لا يخاف في الله لومة لائم، ومن مشهور ما جرى له في ذلك قصته في أيتام أخي نجدة (2) ، وحدّث بها جماعة من أهل العلم والرواية، وهي أن الخليفة الناصر احتاج إلى شراء دار بقرطبة لحظيّة من نسائه تكرم عليه، فوقع استحسانه على دار كانت لأولاد زكريا أخي نجدة، وكانت بقرب النشارين في الرّبض الشرقي منفصلة عن دوره، ويتصل بها حمّام له غلة واسعة، وكان أولاد زكريا أخي نجدة أيتاماً في حجر القاضي، فأرسل الخليفة من قوّمها له بعدد ما طابت نفسه، وأرسل ناساً أمرهم بمداخلة وصي الأيتام في بيعها عليهم، فذكر أنّه لا يجوز إلاّ بأمر القاضي، إذ لم يجز بيع الأصل إلاّ عن رأيه ومشورته، فأرسل الخليفة إلى القاضي منذر في بيع هذه الدار، فقال لرسوله: البيع على الأيتام لا يصح إلاّ لوجوه: منها الحاجة، ومنها الوهي الشديد، ومنها الغبطة، فأمّا الحاجة فلا حاجة لهؤلاء الأيتام إلى البيع، وأمّا الوهي فليس فيها، وأمّا الغبطة فهذا مكانها، فإن أعطاهم أمير المؤمنين فيها ما تستبين به الغبطة أمرت

_ (1) قد مرت أخبار لمنذر بن سعيد في هذا الكتاب 1: 368، 570 (وراجع ترجمته في طبقات الزبيدي: 319 والجذوة: 326 وبغية الملتمس رقم: 1356 وابن الفرضي 2: 142 والخشني: 175 والمرقبة العليا: 66 والمطمح: 37 والروض المعطار: 140 وبغية الوعاة: 398 وإنباه الرواة 3: 325 وأزهار الرياض 2: 272 ومعجم الأدباء 19: 174) . (2) القصة في المطمح: 43.

وصيهم بالبيع، وإلا فلا، فنقل جوابه إلى الخليفة، فأظهر الزهد في شراء الدار طمعاً أن يتوخّى رغبته (1) فيها، وخاف القاضي أن تنبعث منه عزيمة تلحق الأيتام سورتها، فأمر وصيّ الأيتام بنقض الدار وبيع أنقاضها، ففعل ذلك وباع الأنقاض، فكانت لها قيمة أكثر ممّا قومت به للسلطان، فاتصل الخبر به، فعز عليه خرابها، وأمر بتوقيف الوصي على ما أحدثه فيها، فأحال الوصي على القاضي أنّه أمره بذلك، فأرسل عند ذلك للقاضي منذر، وقال له: أنت أمرت بنقض دار أخي نجدة فقال له: نعم، فقال: وما دعاك إلى ذلك قال: أخذت فيها بقول الله تعالى {أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها، وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كلّ سفينةٍ غصباً} (الكهف: 79) مقوّموك لم يقدروها (2) إلاّ بكذا، وبذلك تعلق وهمك، فقد نضّ (3) في أنقاضها أكثر من ذلك، وبقيت القاعة والحمّام فضلاً، ونظر الله تعالى للأيتام، فصبر الخليفة عبد الرحمن على ما أتى من ذلك، وقال: نحن أولى من انقاد إلى الحق، فجزاك الله تعالى عنّا وعن أمانتك خيراً. قالوا (4) : وكان على متانته وجزالته حسن الخلق كثير الدّعابة، فربما ساء ظنّ من لا يعرفه، حتى إذا رام أن يصيب من دينه شعرة ثار له ثورة الأسد الضاري، فمن ذلك ما حدّث به سعيدٌ ابنه قال: قعدنا ليلة من ليالي شهر رمضان المعظّم مع أبينا للإفطار بداره البرانية، فإذا سائل يقول (5) : أطعمونا من عشائكم أطعمكم الله تعالى من ثمار الجنّة، هذه الليلة، ويكثر من ذلك، فقال القاضي: إن استجيب لهذا السائل فيكم فليس يصبح منا واحد.

_ (1) ط: رغبتهم. (2) المطمح: فمقومك لم يقدرها. (3) نض: تحصل، من الناض أي المال العين. (4) المطمح: 44. (5) المطمح: يا أهل هذه الدار الصالح أهلها.

وحكى عنه قاسم بن أحمد الجهني (1) أنّه ركب يوماً لحيازة أرض محبّسة في ركبٍ من وجوه الفقهاء وأهل العدالة فيهم أبو إبراهيم اللؤلؤي ونظراؤه، قال: فسرنا نقفوه وهو أمامنا، وأمامه أمناؤه يحملون خرائطه وذووه عليهم السكينة والوقار، وكانت القضاة حينئذ لا تراكب ولا تماشي، فعرض له في بعض الطريق كلاب مع مستوحمة، والكلاب تلعق هنها وتدور حولها، فوقف وصرف وجهه إلينا وقال: ترون يا أصحابنا ما أبرّ الكلاب بالهن الذي تلعقه وتكرمه، ونحن لا نفعل ذلك؛ ثم لوى عنان دابته وقد أضحكنا، وبقينا متعجبين من هزله. وحضر (2) عند الحكم المستنصر بالله يوماً في خلوة له في بستان الزهراء على بركة ماء طافحة، وسط روضة نافحة، في يوم شديد الوهج، وذلك إثر منصرفه من صلاة الجمعة، فشكا إلى الخليفة من وهج الحرّ الجهد، وبث منه ما تجاوز الحدّ، فأمره بخلع ثيابه والتخفيف عن جسمه، ففعل ولم يطف ذلك ما به، فقال له: الصواب أن تنغمس في وسط الصهريج انغماسة يبرد بها جسمك، وليس مع الخليفة إلاّ الحاجب جعفر الخادم الصقلبي أمين الخليفة الحكم، لا رابع لهم، فكأنّه استحيا من ذلك وانقض عنه وقاراً، وأقصر عنه إقصاراً، فأمر الخليفة حاجبه جعفراً بسبقه إلى النزول في الصهريج ليسهل عليه الأمر فيه، فبادر جعفر لذلك، وألقى بنفسه في الصهريج، وكان يحسن السّباحة، فجعل يجول يميناً وشمالاً فلم يسع القاضي إلا إنفاذ أمر الخليفة، فقام وألقى بنفسه خلف جعفر، ولاذ بالقعود في درج الصهريج، وتدرّج فيه بعض تدريج، ولم ينبسط في السباحة، وجعفر يمر مصعّداً ومصوباً، فدسّه الحكم على القاضي، وحمله على مساجلته في العوم، فهو يعجّزه في إخلاده إلى القعود، ويعابثه

_ (1) المطمح: 44. (2) النص في المطمح: 44 والمرقبة العليا: 72.

بإلقاء الماء عليه، والإشارة بالجذب إليه، وهو لا ينبعث معه، ولا يفارق موضعه، إلى أن كلّمه الحكم وقال له: ما لك لا تساعد الحاجب في فعله وتتقيّل (1) صنعه فمن أجلك نزل، وبسببك تبذّل، فقال له: يا سيدي يا أمير المؤمنين، الحاجب سلمه الله تعالى لا هوجل معه، وأنا بهذا الهوجل الذي معي يعقلني ويمنعني من أن أجول معه مجاله - يعني أن الحاجب خصيّ لا هوجل معه، والهوجل: الذّكر - فاستفرغ الحكم ضحكاً من نادرته ولطيف تعريضه لجعفر، وخجل جعفر من قوله، وسبّه سب الأشراف، وخرجا من الماء، وأمر لهما الخليفة بخلع، ووصلهما بصلات سنية تشاكل كل واحد منهما. وحكي أن الخليفة الحكم قال له يوماً (2) : لقد بلغني أنّك لا تجتهد للأيتام، وأنّك تقدم لهم أوصياء سوء يأكلون أموالهم، فقال: نعم، وإن أمكنهم نيك أمهاتهم لم يعفّوا عنهنّ، قال: وكيف تقدم مثل هؤلاء قال: لست أجد غيرهم ولكن أحلني على اللؤلؤي وأبي إبراهيم ومثل هؤلاء، فإن أبوا أجبرتهم بالسّوط والسجن، ثم لا تسمع إلاّ خيراً. وقال القاضي منذر (3) : أتيت وأبو جعفر ابن النحاس في مجلسه بمصر يملي في أخبار الشعراء شعر قيس المجنون حيث يقول: خليليّ هل بالشام عينٌ حزينةٌ ... تبكّي على نجدٍ لعلّي أعينها قد أسلمها الباكون إلاّ حمامةً ... مطوّقةً باتت وبات قرينها تجاوبها أخرى على خيزرانةٍ ... يكاد يدنّيها من الأرض لينها فقلت له: يا أبا جعفر، ماذا، أعزك الله تعالى، باتا يصنعان فقال لي: وكيف تقول أنت يا أندلسي فقلت له: بانت وبان قرينها، فسكت، وما

_ (1) ق ط: وتتقبل. (2) المطمح: 45 والمرقبة العليا: 73. (3) طبقات الزبيدي: 240.

زال يستثقلني بعد ذلك، حتى منعني كتاب العين، وكنت ذهبت إلى الانتساخ من نسخته، فلمّا قطع بي قيل لي: أين أنت عن أبي العباس ابن ولاّد فقصدته، فلقيت رجلاً كامل العلم حسن المروءة، فسألته الكتاب، فأخرجه إليّ، ثم ندم أبو جعفر لما بلغه إباحة أبي العباس الكتاب لي، وعاد إلى ما كنت أعرفه منه. قال: وكان أبو جعفر لئيم النفس، شديد التقتير على نفسه، وربما وهبت له العمامة فيقطعها ثلاث عمائم، وكان يأبى شراء حوائجه بنفسه، ويتحامل فيها على أهل معرفته، انتهى. وأبو جعفر هذا يقال: إن تواليفه تزيد على خمسين، منها شرح عشرة دواوين للعرب، وإعراب القرآن، ومعاني القرآن، وشرح أبيات الكتاب، وغير ذلك. رجع - وقال منذر بن سعيد: كتبت إلى أبي علي البغدادي أستعير منه كتاباً من الغريب، وقلت: بحقّ ريمٍ مهفهف ... وصدغه المتعطّف إبعث إليّ بجزء ... من الغريب المصنّف فقضى حاجتي، وأجاب بقوله: وحقّ درٍّ تألّف ... بفيك أيّ تألّف لأبعثنّ بما قد ... حوى الغريب المصنّف ولو بعثت بنفسي ... إليك ما كنت أسرف فرحم الله تعالى تلك الأرواح الطاهرة. وذكر ابن أصبغ الهمداني عن منذر أنّه خطب يوماً، وأراد التواضع، فكان من فصول خطبته، أن قال (1) : حتى متى أعظ ولا أتعظ، وأزجر ولا

_ (1) انظر المرقبة العليا: 69.

أزدجر، أدل الطريق على المستدلين، وأبقى مقيماً مع الحائرين كلاّ إن هذا لهو البلاء المبين {إن هي إلاّ فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدي من تشاء} (الأعراف: 155) ، اللهم فرّغني لما خلقتني له، ولا تشغلني بما تكفّلت لي به، ولا تحرمني وأنا أسألك، ولا تعذبني وأنا أستغفرك، يا أرحم الراحمين. وسمع منذر بالأندلس (1) من عبيد الله بن يحيى بن يحيى ونظرائه، ثم رحل حاجّاً سنة ثمان وثلاثمائة فاجتمع بعدّة أعلام وظهرت فضائله بالمشرق، وممّن سمع عليه منذر بالمشرق ثم بمكة محمد بن المنذر النيسابوري، سمع عليه كتابه المؤلف في اختلاف العلماء المسمى بالإشراف وروى بمصر كتاب العين للخليل عن أبي العباس ابن ولاّد، وروى عن أبي جعفر ابن النحاس. وكان منذر متفنّناً في ضروب العلوم وغلب عليه التفقّه بمذهب أبي سليمان داود ابن علي الأصبهاني المعروف بالظاهري، فكان منذر يؤثر مذهبه ويجمع كتبه ويحتج لمقالته ويأخذ به في نفسه وذويه، فإذا جلس للحكومة قضى بمذهب الإمام مالك وأصحابه، وهو الذي عليه العمل بالأندلس، وحمل السلطان أهل مملكته عليه، وكان خطيباً بليغاً عالماً بالجدل حاذقاً فيه، شديد العارضة حاضر الجواب عتيده، ثابت الحجّة ذا شارةٍ (2) عجيبة ومنظر جميل وخلق حميد وتواضع لأهل الطلب وانحطاط إليهم وإقبال عليهم، وكان - مع وقاره التام - فيه دعابة مستملحة، وله نوادر مستحسنة، وكانت ولايته القضاء بقرطبة للناصر في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، ولبث قاضياً من ذلك التاريخ للخليفة الناصر إلى وفاته، ثم للخليفة الحكم المستنصر إلى أن توفّي، رحمه الله تعالى، عقب ذي القعدة من سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، فكانت ولايته لقضاء

_ (1) فيه متابعة لابن الفرضي 2: 142 - 143 والزبيدي: 240. (2) ق: إشارة.

الجماعة المعبر عنها في المشرق بقضاء القضاة ستة عشر عاماً كاملة، لم يحفظ عليه فيها جور في قضية، ولا قسم بغير سويّة، ولا ميل بهوى، ولا إصغاء إلى عناية، رحمه الله تعالى ورضي عنه؛ ودفن بمقبرة قريش بالرّبض الغربي من قرطبة أعادها الله تعالى، جوفّي مسجد السيدة الكبرى، بقرب داره. وله، رحمه الله تعالى، تواليف مفيدة: منها كتاب أحكام القرآن والناسخ والمنسوخ وغير ذلك في الفقه والكلام في الرد على أهل المذاهب، تغمده الله تعالى برضوانه. وكتب بعض الأدباء إلى القاضي منذر بقوله: مسألة جئتك مستفتياً ... عنها، وأنت العالم المستشار علام تحمرّ وجوه الظّبا ... وأوجه العشاق فيها اصفرار فأجاب منذر بقوله: احمرّ وجه الظّبي إذ لحظه ... سيفٌ على العشاق فيه احورار واصفرّ وجع الصّبّ لمّا نأى ... والشمس تبقي للمغيب اصفرار 7 - وممّن رحل إلى المشرق (1) من الأندلس فشهد له بالسبق، كل أهل المغرب والشرق، والإمام العلامة أبو القاسم الشاطبي (2) ، صاحب " حرز الأماني " و " العقيلة "، وغيرهما.

_ (1) إلى المشرق: سقطت من ط. (2) أبو القاسم الشاطبي: القاسم بن فيره - بكسر الفاء وسكون الياء آخر الحروف وتشديد الراء وضمها (Ferro) وهذا من لغة اللطيني من أعاجم الأندلس ومعناه الحديد. ترجمته في ابن خلكان 3: 234 ومعجم الأدباء 16: 293 ونكت الهميان: 228 وطبقات السبكي 4: 297 وغاية النهاية 2: 20 وفيه نقل ترجمته عن رحلة ابن رشيد وشذرات الذهب 4: 301 وبغية الوعاة: 379 والتكملة رقم: 1973 والذيل والتكملة 5: 548 والديباج المذهب: 224.

وهو أبو القاسم (1) ابن فيرّه بن خلف بن أحمد الرّعيني الشاطبي المقرئ، الفقيه الحافظ الضرير أحد العلماء المشهورين والفضلاء المذكورين، خطب ببلده شاطبة مع صغر سنّه، ودخل الديار المصريّة سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وحضر عند الحافظ السّلفي وابن برّي وغيرهما، وولد بشاطبة آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، وتوفّي بالقاهرة يوم الأحد الثامن والعشرين، وقيل: الثامن عشر، من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة، بعد العصر، ودفن من الغد بالتربة الفاضلية بسفح المقطّم. وحكي أن الأمير عز الدين موسك الذي كان والد ابن الحاجب حاجباً له بعث إلى الشيخ الشاطبي يدعوه إلى الحضور عنده، فأمر الشيخ بعض أصحابه أن يكتب إليه: قل للأمير مقالةً ... من ناصحٍ فطنٍ نبيه إنّ الفقيه إذا أتى ... أبوابكم لا خير فيه ومن نظمه، رحمه الله تعالى: خالصت أبناء الزمان فلم أجد ... من لم أرم (2) منه ارتيادي مخلصي ردّ الشباب وقد مضى لسبيله ... أهيا وأمكن من صديقٍ مخلص وكان، رحمه الله تعالى، قرأ بشاطبة القراءات، وأتقنها على النّفزي (3) ، ثم انتقل إلى بلنسية فقرأ بها التيسير من حفظه على ابن هذيل، وسمع الحديث منه ومن ابن النعمة وابن سعادة وابن عبد الرحيم وغيرهم، وارتحل إلى المشرق فاستوطن القاهرة، واشتهر اسمه وبعد صيته، وقصده الطلبة من النواحي،

_ (1) ق: أبو القاسم القاسم. (2) ق: خالصت ... من لم أر. (3) مفهوم كلام ابن عبد الملك أن قراءة الشاطبي على النفزي كانت أيضا ببلنسية.

وكان إماماً علاّمة ذكيّاً كثير الفنون منقطع القرين رأساً في القراءات، حافظاً للحديث بصيراً بالعربية واسع العلم، وقد سارت الركبان بقصيدته حرز الأماني و " عقيلة أتراب الفضائل " (1) اللتين في القراءات والرسم، وحفظهما خلق لا يحصون، وخضع لهما فحول الشعراء وكبار البلغاء وحذّاق القراء، ولقد أوجز وسهّل الصعب. وممّن روى عنه أبو الحسن ابن خيرة، ووصفه من قوّة الحفظ بأمر معجب، وممّن قرأ عليه بالروايات الإمام الشهير محمد بن عمر القرطبي. وتصدّر الشاطبي، رحمه الله تعالى، للإقراء بالمدرسة الفاضلية، وكان موصوفاً بالزهد والعبادة والانقطاع. وقبره بالقرافة يزار، وترجى استجابة الدعاء عنده، وقد زرته مراراً، ودعوت الله بما أرجو قبوله. وترك أولاداً: منهم أبو عبد الله محمد، عاس نحو ثمانين سنة. وقال السبكي في حق الإمام الشاطبي: إنّه كان قويّ الحافظة، واسع المحفوظ، كثير الفنون فقيهاً مقرئاً محدّثاً نحويّاً زاهداً عابداً ناسكاً يتوقد ذكاء؛ قال السخاوي (2) : أقطع أنّه كان مكاشفاً، وأنّه سأل الله كتمان حاله، ما كان أحد يعلم أي شيء هو، انتهى. وترجمته واسعة، رحمه الله تعالى ونفعنا به آمين. وقال ابن خلّكان: ولقد أبدع كل الإبداع (3) في حرز الأماني وهي عمدة قرّاء هذا الزمان في نقلهم، فقلّ من يشتغل بالقراءات إلاّ ويقدّم حفظها ومعرفتها، وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات لطيفة، وما أظنّه سبق إلى أسلوبها. وقد روي عنه أنّه كان يقول: لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلاّ وينفعه

_ (1) سماها ابن عبد الملك: " عقيلة القصائد في أسنى المقاصد ". (2) هو تلميذه علي بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الأحد بن عبد الغالب الهمداني السخاوي. (3) هذا نص ابن خلكان، وفي ق ط ج: إنه أبدع في حرز ... إلخ.

الله، عزّ وجلّ، لأني نظمتها لله تعالى مخلصاً. وكان عالماً بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيراً، وبحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومبرزاً فيه، وكان إذا قرئ عليه صحيحا البخاري ومسلم والموطّإ يصحح النسخ من حفظه، ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحد في علم النحو واللغة، عارفاً بتعبير (1) الرؤيا، حسن المقاصد، مخلصاً فيما يقول ويفعل، وكان يجتنب فضول الكلام، ولا ينطق في سائر اأأوقاته إلا بما تدعو إليه ضرورة، ولا يجلس للقراءة إلاّ على طهارة في هيئة حسنة وتخشّع واستكانة، وكان يعتلّ العلة الشديدة فلا يشتكي ولا يتأوّه، وإذا سئل عن حاله قال: العافية، لا يزيد على ذلك. وكان كثيراً ما ينشد هذا اللغز في النعش، وهو لأبي زكريا يحيى بن سلامة الخطيب: أتعرف شيئاً في السّماء نظيره ... إذا سار صاح الناس حيث يسير فتلقاه مركوباً وتلقاه راكباً ... وكلّ أميرٍ يعتليه أسير يحضّ على التقوى ويكره قربه ... وتنفر منه النفس وهو نذير ولم يستزر عن رغبةٍ في زيارةٍ ... ولكن على رغم المزور يزور وكان يقال عند دخوله إلى مصر: إنّه يحفظ وقر بعير من العلوم، وكان نزيل القاضي الفاضل، ورتّبه بمدرسته بالقاهرة، وقيل: إن كنيته أبو محمد (2) حسبما وجد في بعض إجازاته، رحمه الله تعالى. 8 - ومن الراحيلن إلى المشرق من الأندلس الإمام القاضي أبو بكر ابن العربي (3) .

_ (1) ط ج ودوزي: بتفسير. (2) أكثر المصادر على أن اسمه " القاسم " وأن له كنيتين: أبو القاسم وأبو محمد، إلا أن أبا بكر ابن مسدي سماه في معجم مشيخته " خلفا ". (3) أبو بكر ابن العربي: ترجمته في ابن خلكان 3: 423 والصلة 558 والمرقبة العليا: 105 والديباج المذهب: 281 وتذكرة الحفاظ: 1294 وشذرات الذهب 4: 141 (وفيات: 546) والمطمح: 62 وأزهار الرياض 3: 62، 86 - 95 وبغية الملتمس رقم: 179 والمغرب 1: 249.

قال ابن سعيد: هو الإمام العالم القاضي الشهير فخر المغرب (1) ، أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري، قاضي قضاة كورة إشبيلية، ذكره الحجاري في المسهب، طبّق الآفاق بفوائده، وملأ الشام والعراق بأوابده، وهو إمام في الأصول والفروع وغير ذلك (2) . ومن شعره وقد ركب مع أحد أمراء الملثّمين، وكان ذلك الأمير صغيراً، فهز عليه رميحاً كان في يده مداعباً، فقال (3) : يهزّ عليّ الرّمح ظبيٌ مهفهفٌ ... لعوبٌ بألباب البريّة عابث فلو أنّه رمحٌ إذن لاتّقيته (4) ... ولكنّه رمح وثانٍ وثالث وقوله وقد دخل عليه غلام جميل الصورة في لباس خشن: لبس الصوف لكي أنكره ... وأتانا شاجياً (5) قد عبسا قلت إيهٍ قد عرفناك وذا ... جلّ سوء لا يعيب الفرسا كلّ شيء أنت فيه حسنٌ ... لا يبالي حسنٌ ما لبسا وزعم بعض أن الأبيات ليست له، وإنّما تمثل بها، فالله تعالى أعلم. وممن عرّف بابن العربي وذكره ابن الإمام في " سمط الجمان "،

_ (1) ق: العرب؛ وهو صواب أيضا لأن ابن العربي " معافري ". (2) وغير ذلك: سقطت من ط. (3) في هذه القطعة والثنتين التاليتين يتابع المقري ابن سعيد في المغرب 1: 250. (4) هو تحوير للبيت: فلو كان مهما واحدا لاتقيته ... ............ البيت (5) ط ج: شاحبا.

والشّقندي في " الطرف "، وكان قد صحب المهدي محمد بن تومرت بالمشرق (1) ، فأوصى عليه عبد المؤمن وكان مكرماً عنده، وحكي أنّه كتب كتاباً فأشار عليه أحد من حضر أن يذرّ عليه نشارة، فقال: قف، ثم فكرّ ساعة، وقال: اكتب (2) : لا تشنه بما تذرّ عليه ... فكفاه هبوب هذا الهواء فكأنّ الذي تذرّ عليه ... جدريٌّ بوجنةٍ حسناء ولقي أبا بكر الطّرطوشي. وما برح معظماً إلى أن تولى خطّة القضاء، ووافق ذلك أن احتاج سور إشبيلية إلى بنيان جهةٍ منه، ولم يكن فيها مال متوفر، ففرض على الناس جلود ضحاياهم، وكان ذلك في عيد أضحى، فأحضروها كارهين، ثم اجتمعت العامة العمياء، وثارت عليه ونهبوا داره، وخرج إلى قرطبة. وكان في أحد أيام الجمع قاعداً ينتظر الصلاة، فإذا بغلام رومي وضيء قد جاء يخترق الصفوف بشمعة في يده وكتاب معتّق، فقال: وشمعةٍ تحملها شمعةٌ ... يكاد يخفي نورها نارها لولا نهى نفسٍ نهت غيّها ... لقبّلته وأتت عارها ولما سمعهما أبو عمران الزاهد قال: إنّه لم يكن يفعل، ولكنّه هزته أريحية الأدب ولو كنت أنا لقلت: لولا الحياء وخوف الله يمنعني ... وأن يقال صبا موسى على كبره إذاً لمتّعت لحظي في نواظره ... حتى أوفّي جفوني الحقّ من نظره

_ (1) في هذا القول نظر، وقد سئل ابن العربي بعد عودته إلى المغرب هل لقي الإمام المهدي بن تومرت، وكان ذلك في مجلس عبد المؤمن، فقال: لم ألقه وإنما سمعت به (الحلل الموشية: 122 - 123) . (2) انظر المغرب 1: 250.

رجع إلى أخبار ابن العربي - فنقول: إنّه سمع بالأندلس أباه وخاله أبا القاسم الحسن الهوزني وأبا عبد الله السّرقسطي، وببجاية أبا عبد الله الكلاعي، وبالمهديّة أبا الحسن ابن الحداد الخولاني، وسمع بالإسكندرية من الأنماطي، وبمصر من أبي الحسن الخلعي وغيره، وبدمشق غير واحد كأبي الفتح نصر المقدسي، وبمكّة أبا عبد الله الحسين الطبري وابن طلحة وابن بندار، وقرأ الأدب على التبريزي وعمل، رحمه الله تعالى، على مدينة إشبيلية سوراً بالحجارة والآجر بالنورة من ماله. وكان - كما في الصلة -[مقدماً في المعارف كلها] حريصاً على أدائها ونشرها (1) ، ثاقب الذهن في تمييز الصواب فيها، ويجمع إلى ذلك كلّه آداب الأخلاق، مع حسن المعاشرة ولين الكنف، وكثرة الاحتمال وكرم النفس، وحسن العهد وثبات الود. وذكره ابن بشكوال في الصلة وقال فيه: الإمام الحافظ، ختام علماء الأندلس، رحل إلى المشرق مع أبيه مستهلّ ربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربعمائة، ودخل الشام والعراق وبغداد، وسمع بها من كبار العلماء، ثم حج في سنة تسع وثمانين، وعاد إلى بغداد، ثم صدر منها (2) . وقال ابن عساكر: خرج من دمشق راجعاً إلى مقره سنة 491، ولما غرّب صنّف " عارضة الأحوذي " ولقي بمصر والإسكندرية جملة من العلماء، ثم عاد إلى الأندلس سنة ثلاث وتسعين، وقدم إشبيلية بعلم كثير، وكان موصوفاً بالفضل والكمال، وولي القضاء بإشبيلية، ثم صرف عنه، ومولده ليلة يوم الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة، وتوفّي بمغيلة بمقربة (3) من مدينة فاس، ودفن بفاس في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين

_ (1) في أصول النفح: آدابها وسيرها، والتصحيح عن الصلة وابن خلكان، والضمير راجع إلى " المعارف "، واضطرب النقل على المقري. (2) النقل عن الصلة باختصار شديد. (3) ق: بمقيلة بقرية.

وخمسمائة؛ انتهى كلام ابن سعيد وغيره ملخّصاً. وما وفى ابن سعيد حافظ الإسلام أبا بكر ابن العربي حقّه، فلنعززه بما حضرنا من التعريف به، فنقول: إنّه لقي ببغداد الشاشي أبا بكر والإمام أبا حامد الطوسي الغزالي، ونقل عنه أنّه قال: كل من رحل لم يأت بمثل ما أتيت به من العلم إلاّ الباجي، أو كلاماً هذا معناه، وكان من أهل التفنن في العلوم، متقدماً في المعارف كلّها، متكلّماً على أنواعها، حريصاً على نشرها، وقام بأمر القضاء أحمد قيام، مع الصرامة في الحق، والقوّة والشدة على الظالمين والرفق بالمساكين، وقد روي عنه أنّه أمر بثقب أشداق زامرْ، ثم صرف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثّه، وقرأ عليه الحافظ ابن بشكوال بإشبيلية. وقال ابن الأبّار (1) : إن الإمام الزاهد العابد أبا عبد الله ابن مجاهد الإشبيلي لازم القاضي ابن العربي نحواً من ثلاثة أشهر، ثم تخلّف عنه، فقيل له في ذلك، فقال: كان يدرس وبغلته عند الباب ينتظر الركوب إلى السلطان، انتهى. وذكره ابن الزبير في صلته (2) ، وقال: إنّه رحل مع أبيه أبي محمد عند انقراض الدولة العبّادية، وسنّه نحو سبعة عشر عاماً، إلى أن قال: وقيد الحديث، وضبط ما روى، واتسع في الرواية، وأتقن مسائل الخلاف والأصول والكلام على أئمة هذا الشأن، ومات أبوه - رحمه الله تعالى - بالإسكندرية أول سنة ثلاث وتسعين فانصرف حينئذ إلى إشبيلية، فسكنها، وشوور فيها وسمع، ودرّس الفقه والأصول، وجلس للوعظ والتفسير، وصنف في غير فن تصانيف مليحة حسنة مفيدة، وولي القضاء مدّة أوّلها في رجب من سنة ثمان وعشرين، فنفع الله تعالى به لصرامته ونفوذ أحكامه، والتزم (3) الأمر بالمعروف والنهي عن

_ (1) انظر أيضا المرقبة العليا: 106 وأزهار الرياض: 63. (2) المصدران السابقان أيضا. (3) ط: والتزام.

المنكر، حتى أوذي في ذلك بذهاب كتبه وماله، فأحسن الصبر على ذلك كله، ثم صرف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثّه، وكان فصيحاً حافظاً أديباً شاعراً كثير الملح مليح المجلس. ثم قال: قال القاضي عياض - بعد أن وصفه بما ذكرته -: ولكثر حديثه وأخباره وغريب حكاياته ورواياته أكثر الناس فيه الكلام، وطعنوا في حديثه، وتوفي منصرفه من مراكش من الوجهة التي توجّه فيها مع أهل بلده إلى الحضرة بعد دخول الموحّدين مدينة إشبيلية، فحبسوا بمراكش نحو عام، ثم سرحوا، فأدركته منيته، وروى عنه خلق كثير، منهم القاضي عياض وأبو جعفر ابن الباذش وجماعة، انتهى ملخصاً. ووقع في عبارة ابن الزبير تبعاً لجماعة أنّه دفن خارج باب الجيسة بفاس، والصواب خارج باب المحروق، كما أشبعت الكلام على ذلك، في أزهار الرياض (1) ، وقد زرته مراراً، وقبره هنالك مقصود للزيارة خارج القصبة، وقد صرح بذلك بعض المتقدمين الذين حضروا وفاته، وقال: إنّه دفن بتربة القائد مظفر خارج القصبة، وصلى عليه صاحبة أبو الحكم ابن حجاج، رحمه الله تعالى. ومن بديع نظمه (2) : أتتني تؤنّبني بالبكا ... فأهلاً بها وبتأنيبها تقول وفي نفسها حسرةٌ: ... أتبكي بعين تراني بها فقلت: إذا استحسنت غيركم ... أمرت جفوني بتعذيبها وقال، رحمه الله تعالى: دخل عليّ الأديب ابن صارة وبين يديّ نار علاها رماد، فقلت له: قل في هذه، فقال:

_ (1) أزهار الرياض 3: 65، 87 - 88. (2) أزهار الرياض 3: 88.

شابت نواصي النار بعد سوادها ... وتستّرت عنّا بثوب رماد ثم قال لي: أجز، فقلت: شابت كما شبنا وزال شبابنا ... فكأنّما كنّا على ميعاد وقد اختلف حذّاق الأدباء في قوله: " ولكنه رمح وثان وثالث " ما هو الثاني والثالث فقيل القدّ واللحظ، وقيل غير ذلك. ولما ذكر، رحمه الله تعالى، في كتابه قانون التأويل ركوبه البحر في رحلته من إفريقية قال (1) : وقد سبق في علم الله تعالى أن يعظم علينا البحر بزوله، ويغرقنا في هوله، فخرجنا من البحر، خروج الميت من القبر، وانتهينا بعد خطب طويل إلى بيوت بني كعب بن سليم، ونحن من السّغب، على عطب، ومن العري، في أقبح زي، قد قذف البحر زقاق زيت مزقت الحجارة منيئتها (2) ، ودسّمت الأدهان وبرها وجلدتها، فاحتزمناها أزراً، واشتملناها لفافاً (3) ، تمجّنا الأبصار، وتخذلنا الأنصار، فعطف أميرهم علينا فأوينا إليه فآوانا، وأطعمنا الله تعالى على يديه وسقانا، وأكرم مثوانا، وكسانا بأمر حقير ضعيف، وفنّ من العلم طريف، وشرحه أنّا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاه (4) ، فعل السامد اللاه، فدنوت منه في تلك الأطمار، وسمح لي بياذقته إذ كنت من الصغر في حدّ يسمح فيه للأغمار، ووقفت بإزائهم، أنظر ولما ذكر، رحمه الله تعالى، في كتابه قانون التأويل ركوبه البحر في رحلته من إفريقية قال: وقد سبق في علم الله تعالى أن يعظم علينا البحر بزوله، ويغرقنا في هوله، فخرجنا من البحر، خروج الميت من القبر، وانتهينا بعد خطب طويل إلى بيوت بني كعب بن سليم، ونحن من السّغب، على عطب، ومن العري، في أقبح زي، قد قذف البحر زقاق زيت مزقت الحجارة منيئتها، ودسّمت الأدهان وبرها وجلدتها، فاحتزمناها أزراً، واشتملناها لفافاً، تمجّنا الأبصار، وتخذلنا الأنصار، فعطف أميرهم علينا فأوينا إليه فآوانا، وأطعمنا الله تعالى على يديه وسقانا، وأكرم مثوانا، وكسانا بأمر حقير ضعيف، وفنّ من العلم طريف، وشرحه أنّا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاه، فعل السامد اللاه، فدنوت منه في تلك الأطمار، وسمح لي بياذقته إذ كنت من الصغر في حدّ يسمح فيه للأغمار، ووقفت بإزائهم، أنظر إلى تصرفهم من ورائهم، إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خلس البطالة، مع غلبة الصّبوة والجهالة، فقلت للبياذقة: الأمير أعلم من

_ (1) النص في أزهار الرياض 3: 89 - 91. (2) المنيئة: الجلد أول عهده بالدباغ، وفي ق ط ج ودوزي: هيئتها؛ وأظنه أصوب. (3) الأزهار: لفعا. (4) يريد أنه يلعب الشطرنج.

صاحبه، فمحوني شزرا، وعظمت في أعينهم بعد أن كنت نزرا، وتقدّم إلى الأمير من نقل إليه الكلام، فاستدناني فدنوت منه، وسألني: هل لي بما هم فيه بصر فقلت: لي فيه بعض نظر، سيبدو لك ويظهر، حرّك تلك القطعة، ففعل وعارضه صاحبه، فأمرته أن يحرّك أخرى، وما زالت الحركات بينهم كذلك تترى، حتى هزمهم الأمير، وانقطع التدبير، فقالوا: ما أنت بصغير، وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشداً: وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه ... وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتّقي فقال: لعن الله أبا الطيّب، أويشكّ الربّ فقلت له في الحال: ليس كما ظنّ صاحبك أيها الأمير، إنّما أراد بالرب ههنا الصاحب، يقول: ألذ الهوى ما كان المحبّ فيه من الوصال، وبلوغ الغرض من الآمال، على ريب، فهو في وقته كلّه على رجاء لما يؤمله، وتقاة لما يقطع به، كما قال: إذا لم يكن في الحبّ سخطٌ ولا رضاً ... فأين حلاوات الرسائل والكتب وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض، في طرفي الإبرام والانتقاض، ما حرّك منهم إلى جهتي داعي الانتهاض، وأقبلا يتعجبون مني ويسألونني كم سني، ويستكشفونني عني، فبقرت لهم حديثي، وذكرت لهم نجيثي، وأعلمت الأمير بأن أبي معي فاستدعاه، وقمنا الثلاثة إلى مثواه، فخلع علينا خلعه، وأسبل علينا أدمعه، وجاء كل خوان، بأفنان الألوان. ثم قال بعد المبالغة في وصف ما نالهم من إكرامه: فانظر إلى هذا العلم الذي هو إلى الجهل أقرب، مع تلك الصّبابة اليسيرة من الأدب، كيف أنقذا من العطب وهذا الذكر يرشدكم إن عقلتم إلى المطلب. وسرنا حتى انتهينا إلى ديار مصر. انتهى مختصراً. والزول: العجب، ونجيث الخبر: ما ظهر من قبيحه، يقال: بدا نجيث

القوم، إذا ظهر سرهم الذي كان يحقّونه، قالهما الجوهري. وذكر، رحمه الله تعالى، في رحلته عجائب، منها: أنّه حكى دخوله بدمشق بيوت بعض الأكابر أنّه رأى فيه النهر جائياً إلى موضع جلوسهم، ثم يعود من ناحية أخرى، فلم أفهم معنى ذلك حتى جاءت موائد الطعام في النهر المقبل إلينا، فأخذها الخدم ووضعوها بين يدينا، فلما فرغنا ألقى الخدم الأواني وما معها في النهر الراجع، فذهب بها الماء إلى ناحية الحريم من غير أن يقرب الخدم تلك الناحية، فعلمت السر، وإن هذا لعجيب، انتهى معناه. وقال في " قانون التأويل " (1) : ورد علينا دانشمند (2) - يعني الغزالي - فنزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية، معرضاً عن الدنيا، مقبلاً على الله تعالى، فمشينا إليه، وعرضنا أمنيتنا عليه، وقلت له: أنت ضالّتنا التي كنّا ننشد، وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة، وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر على الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم، ولو رآه عليّ بن العباس (3) لما قال: إذا ما مدحت امرأ غائباً ... فلا تغل في مدحه واقصد فإنّك إن تغل تغل الظنو ... ن فيه إلى الأمد الأبعد فيصغر من حيث عظّمته ... لفضل المغيب على المشهد وكنت نقلت من المطمح في حقّه ما صورته (4) : علم الأعلام الطاهر الأثواب، الباهر الألباب (5) ، الذي أنسى ذكاء إياس، وترك التقليد للقياس، وأنتج الفرع

_ (1) أزهار الرياض: 91. (2) دانشمند: الحكيم العلامة. (3) أي ابن الرومي. (4) انظر المطمح: 62 ونقل المقري هذا النص في أزهار الرياض: 92. (5) ط ق: الباهر الأبواب.

من الأصل، وغدا في يد (1) الإسلام أمضى من النّصل، سقى الله تعالى به الأندلس بعدما أجدبت من المعارف، ومد عليها منه الظلّ الوارف، وكساه رونق نبله، وسقاها ريّق وبله، وكان أبوه أبو محمد بإشبيلية بدراً في فلكها، وصدراً في مجلس ملكها، واصطفاه معتمد بني عبّاد، اصطفاء المأمون لابن أبي داود، وولاه الولايات الشريفة، وبوّأه المراتب المنيفة، فلمّا أقفرت حمص من ملكهم وخلت، وألقتهم منها وتخلّت، رحل به إلى المشرق، وحلّ فيه محلّ الخائف الفرق، فجال في أكنافه، وأجال قداح الرجاء في استقبال العز واستئنافه، فلم يستردّ ذاهباً، ولم يجد كمعتمده باذلاً له وواهباً، فعاد إلى الرواية والسماع، وما استفاد من آمال تلك الأطماع، وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيبٌ ما دوّح، وفي روض الشباب زهر ما صوّح، فألزمه مجالس العلم رائحاً وغادياً، ولازمه سائقاً إليها وحادياً، حتى استقرت به مجالسه، واطّردت له مقايسه، فجدّ في طلبه، واستجد به أبوه متمزق أربه، ثم أدركه حمامه، ووارته هناك رجامه، وبقي أبو بكر متفرداً، وللطلب متجرداً، حتى أصبح في العلم وحيداً، ولم تجد عنه رياسته محيداً، فكرّ إلى الأندلس فحلّها والنفوس إليه متطلّعة، ولأنبائه متسمعة، فناهيك من حظوة لقي، ومن عزة سقي، ومن رفعة سما إليها ورقي، وحسبك من مفاخر قلّدها، ومحاسن أنس أثبتها فيها وخلّدها، وقد أثبتّ من بديع نظمه ما يهز أعطافاً، وترده الأفهام نطافاً، فمن ذلك قوله يتشوق إلى بغداد، ويخاطب فيها أهل الوداد: أمنك سرى واللّيل يخدع بالفجر ... خيال حبيبٍ قد حوى قصب الفخر جلا ظلم الظّلماء مشرق نوره ... ولم يخبط الظّلماء بالأنجم الزّهر

_ (1) يد: سقطت من ق ط ج، ووردت في المطمح.

ولم يرض بالأرض البسيطة مسحباً ... فسار على الجوزا إلى فلك يجري وحثّ مطايا قد مطاها بعزّةٍ ... فأوطأها قسراً على قنّة النّسر فصارت ثقالاً بالجلالة فوقها ... وسارت عجالاً تتّقي ألم الزجر وجرت على ذيل الجرة ذيلها ... فمن ثم يبدو ما هناك لمن يسري ومرّت على الجوزاء توضع فوقها ... فآثر ما مرّت به كلف البدر وساقت (1) أريج الخلد من جنّة العلا ... فدع عنك رملاً بالأنيعم يستذري فما حذرت قيساً ولا خيل عامرٍ ... ولا أضمرت خوفاً لقاء بني ضمر سقى الله مصراً والعراق وأهلها ... وبغداد والشامين منهمل القطر انتهى. ومن تآليف الحافظ (2) أبي بكر ابن العربي المذكور كتاب " القبس في شرح موطّإ مالك بن أنس " وكتاب " ترتيب المسالك، في شرح موطّإ مالك " وكتاب " أنوار الفجر " وكتاب " أحكام القرآن " وكتاب " عارضة الأحوذيّ في شرح الترمذيّ " - والأحوذي بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح الواو وكسر الذال المعجمة وآخره ياء مشدّدة - وكتاب " مراقي الزّلف " وكتاب " الخلافيات " وكتاب " نواهي الدواهي " وكتاب " سراج المريدين " وكتاب " المشكلين: مشكل القرآن والسنّة " وكتاب " الناسخ والمنسوخ في القرآن " وكتاب " قانون التأويل " وكتاب " النيرين في الصحيحين " وكتاب " سراج المهتدين " وكتاب " الأمد الأقصى، بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا " وكتاب " في الكلام على مشكل حديث السّبحات والحجاب "، وكتاب " العقد الأكبر للقلب الأصغر " و " تبيين الصحيح في تعيين الذبيح " و " تفصيل التفضيل بين

_ (1) لعل الأصوب: وسافت. (2) عد المقري مؤلفات ابن العربي أيضا في أزهار الرياض 3: 94 - 95 وسقط بعض ما ذكره في النفح.

التحميد والتهليل " ورسالة " الكافي في أن لا دليل على النافي " وكتاب " السباعيات " وكتاب " المسلسلات " وكتاب " المتوسط في معرفة صحّة الاعتقاد والرد على من خالف أهل السنّة من ذوي البدع والإلحاد " وكتاب " شرح غريب الرسالة " وكتاب " الإنصاف في مسائل الخلاف " عشرون مجلداً، وكتاب " حديث الإفك " وكتاب " شرح حديث جابر في الشفاعة " وكتاب " شرح حديث أم زرع " وكتاب " ستر العورة " وكتاب " المحصول في علم الأصول " وكتاب " أعيان الأعيان " وكتاب " ملجاة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين " وكتاب " ترتيب الرحلة " وفيه من الفوائد ما لا يوصف. ومن فوائد القاضي أبي بكر ابن العربي رحمه الله تعالى قوله (1) : قال علماء الحديث: ما من رجل يطلب الحديث إلاّ كان على وجهه نضرة، لقول النبي، صلّى الله عليه وسلّم: " نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها - الحديث " قال: وهذا دعاء منه عليه الصلاة والسلام لحملة علمه، ولابدّ بفضل الله تعالى من نيل بركته، انتهى. وإلى هذه النّضرة أشار أبو العباس العزفي بقوله: أهل الحديث عصابة الحقّ ... فازوا بدعوة سيّد الخلق فوجوههم زهرٌ منضّرةٌ ... لألاؤها كتألّق البرق يا ليتني معهم فيدركني ... ما أدركوه بها من السّبق انتهى. ولا بأس أن نذكر هنا بعض فوائد الحافظ أبي بكر ابن العربي، رحمه الله تعالى: فمنها قوله في تصريف المحصنات: يقال: أحصن الرجل فهو محصن - بفتح العين في اسم الفاعل - وأسهب في الكلام فهو مسهب، إذا أطال

_ (1) أزهار الرياض: 95.

البحث فيه، وألفج فهو ملفج، إذا كان عديماً، لا رابع لها، والله تعالى أعلم، انتهى. ومنها قوله: سمعت الشيخ فخر الإسلام أبا بكر الشاشي وهو ينتصر لمذهب أبي حنيفة في مجلس النظر يقول: يقال في اللغة العربية لا تقرب كذا - بفتح الراء - أي لا تتلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن من الموضع، وهذا الذي قاله صحيح مسموع، انتهى. ومنها قوله: شاهدت المائدة بطورزيتا مراراً، وأكلت عليها ليلاً ونهاراً، وذكرت الله سبحانه وتعالى فيها سرّاً وجهاراً، وكان ارتفاعها أشفّ من القامة بنحو الشبر، وكان لها درجتان قبليّاً وجنوبيّاً، وكانت صخرة صلوداً (1) لا تؤثر فيها المعاول وكان الناس يقولون مسخت صخرة إذ مسخ أربابها قردة وخنازير، والذي عندي أنّها كانت صخرة في الأصل قطعت من الأرض محلاًّ للمائدة النازلة من السماء، وكل ما حولها حجارة مثلها، وكان ما حولها محفوفاً بقصور، وقد نحتت في ذلك الحجر الصلد بيوت أبوابها منها ومجالسها منها، مقطوعة فيها، وحناياها في جوانبها، وبيوت خدمتها قد صوّرت من الحجر كما تصوّر من الطين والخشب، فإذا دخلت في قصر من قصورها ورددت الباب وجعلت من ورائه صخرة مقدار ثمن درهم لم يفتحه أهل الأرض للصوقه بالأرض، وإذا هبّت الريح وحثت تحته التراب لم يفتح إلا بعد صب الماء تحته والإكثار منه حتى يسيل بالتراب، وينفرج منفرج الباب، وقد بار بها قومٌ بهذه العلة، وقد كنت أخلو فيها كثيراً للدرس، ولكنّي كنت في كل حين أكنس حول الباب، مخافة ممّا جرى لغيري فيها، وقد شرحت أمرها في كتاب " ترتيب الرحلة " بأكثر من هذا، انتهى. ومنها قوله، رحمه الله تعالى: تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر

_ (1) ق ط ج: صلدا.

الفهري الطرطوشي في حديث أبي ثعلبة المرفوع: إن من ورائكم أيّاماً للعامل فيها أجر خمسين منكم فقالوا: بل منهم، فقال: بل منكم، لأنكم تجدون على الخير أعواناً (1) ، وهم لا يجدون عليه أعواناً، وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمّة أضعاف أجر الصحابة مع أنّهم قد أسّسوا الإسلام، وعضدوا الدين، وأقاموا المنار، وافتتحوا الأمصار، وحموا البيضة، ومهّدوا الملّة، وقد قال، صلّى الله عليه وسلّم، في الصحيح: " لو أنفق أحدكم كلّ يوم مثل أحدٍ ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه "، فتراجعنا القول، وتحصّل ما أوضحناه في شرح الصحيح، وخلاصته: أن الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد، ولا يدانيهم فيها بشر، وأعمال سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم، وخلّصها من شوائب البدع والرياء بعدهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بابٌ عظيم هو ابتداء الدين والإسلام، وهو أيضاً انتهاؤه، وقد كان قليلاً في ابتداء الإسلام، وصعب المرام، لغلبة الكفّار على الحق، وفي آخر الزمان أيضاً يعود كذلك، لوعد الصادق، صلّى الله عليه وسلّم، بفساد الزمان، وظهور الفتن، وغلبة الباطل، واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق، وركوب من يأتي سنن من مضى من أهل الكتاب، كما قال، صلّى الله عليه وسلّم: " لتركبنّ سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ خربٍ لدخلتموه " (2) وقال، صلّى الله عليه وسلّم: " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ " (3) فلا بد، والله تعالى أعلم بحكم هذا الوعد الصادق، أن يرجع الإسلام إلى واحد، كما بدأ من واحد، ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إذا قام من قائم مع احتواشه بالمخاوف وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من الأجر أضعاف

_ (1) الحديث في مجمع الزوائد 7: 282. (2) رواه الحاكم في المستدرك (الراموز: 346) . (3) انظر مجمع الزوائد 7: 277 - 279.

ما كان لمن ان متمكّناً منه معاناً عليه بكثرة الدّعاة إلى الله تعالى، وذلك قوله: " لأنّكم تجدون على الخير أعواناً وهم لا يجدون عليه أعواناً " حتى ينقطع ذلك انقطاعاً باتّاً لضعف اليقين وقلّة الدين، كما قال، صلّى الله عليه وسلّم: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " (1) يروى برفع الهاء ونصبها، فالرفع على معنى لا يبقى موحد يذكر الله، عزّ وجلّ، وحينئذ يتمنّى العاقل الموت، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: " لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني كنت مكانه " (2) انتهى. وأنشد رحمه الله تعالى لبعض الصوفية: امتحن الله بذا خلقه ... فالنار والجنّة في قبضته فهجره أعظم من ناره ... ووصله أطيب من جنّته ومن فوائد ابن العربي رحمه الله تعالى أنّه قال: كنت بمجلس الوزير العادل أبي منصور ابن جهير على ربة بيّنّاها في كتاب الرحلة للترغيب في الملّة فقرأ القارئ " تحيّتهم يوم يلقونه سلام " وكنت في الصف الثاني من الحلقة بظهر أبي الوفاء علي بن عقيل (3) إمام الحنبلية بمدينة السلام، وكان معتزلي الأصول، فلمّا سمعت الآية قلت لصاحب لي كان يجلس على

_ (1) مجمع الزوائد 8: 12. (2) صحيح مسلم 2: 378 ومجمع الزوائد 7: 282. (3) علي بن عقيل بن أحمد البغدادي الأصولي الواعظ المتكلم (431 - 513) درس على أعلام عصره، وأخذ الكلام على بعض المعتزلة ولذلك نقم عليه الحنابلة وطلبوا أذاه فاختفى والتجأ إلى دار السلطان، وسمع من الغزالي والجوني وغيرهما من الأعلام؛ قال السلفي: ما رأت عيناي مثل الشيخ أبي الوفاء ابن عقيل، ما كان أحد يقدر أن يتكلم معه لغزارة علمه وحسن إيراده وبلاغة كلامه وقوة حجته؛ ولع في الفقه والأصول استباطات جيدة، وخلف عددا كبيرا من المؤلفات (انظر ذيل ابن رجب 1: 142 - 163) .

يساري: هذه الآية دليل على رؤية الله في الآخرة: فإن العرب لا تقول لقيت فلاناً إلاّ إذا رأته، فصرف وجهه أبو الوفاء مسرعاً إلينا، وقال يتنصر لمذهب الاعتزال في أن الله تعالى لا يرى في الآخرة: فقد قال الله تعالى " فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه " وعندك أن المنافقين لا يرون الله تعالى في الآخرة، وقد شرحنا وجه الآية في المشكلين، وتقدير الآية: فأعقبهم هو نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه، فيحتمل ضمير يلقونه أن يعود إلى ضمير الفاعل في أعقبهم المقدر بقولنا هو، ويحتمل أن يعود إلى النفاق مجازاً على تقدير الجزاء، انتهى. ومنها ما نقله عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما لا يقل أحدكم انصرفنا من الصلاة فإن قوماً قيل فيهم " ثمّ انصرفوا صرف الله قلوبهم " وقد أخبرنا محمد بن عبد الملك القيسي الواعظ، أخبرنا أبو الفضل الجوهري سماعاً منه: كنّا في جنازة فقال المنذر بها: انصرفوا رحمكم الله تعالى، فقال: لا يقل أحدكم انصرفوا فإن الله تعالى قال في قوم ذمهم " ثمّ انصرفوا صرف الله قلوبهم " ولكن قولوا: انقلبوا رحمكم الله، فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم " فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوء " انتهى. ومنها، وقد ذكر الخلاف في شاهد يوسف، ما صورته: فإذا قلنا إنّه القميص، فكان يصح من جهة اللغة أن يخبر عن حاله بتقدم مقاله، فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال في بعض الأمور، وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات بما تخبر عنه بما عليها من الصفات، ومن أحلاه قول بعضهم: قال الحائط للوتد: لم تشقّني قال: سل من يدقّني، ما يتركني ورائي (1) ، هذا الذي ورائي، لكن قوله تعالى بعد ذلك " من أهلها " في

_ (1) ورائي: بمعنى ورأيي.

صفة الشاهد يبطل أن يكون القميص، وأمّا من قال إنّه ابن عمها أو رجل من أصحاب العزيز فإنّه يحتمل، لكن قوله " من أهلها " يعطي اختصاصها من جهة القرابة؛ انتهى. ومنها قوله: إنّه كان بمدينة السلام إمام من الصوفية وأي إمام، يعرف بابن عطاء، فتكلّم يوماً على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته ممّا ينسب (1) إليه من مكروه، فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال: يا شيخ، يا سيدنا، فإذن يوسف همّ وما تمّ، فقال: نعم، لأن العناية من ثمّ، فانظروا إلى حلاوة العالم والمتعلم وفطنة العامي في سؤاله، والعالم في اختصاره واستيفائه، ولذا قال علماؤنا الصوفية: إن فائدة قوله تعالى " ولمّا بلغ أشدّه آتيناه حكماً وعلماً " أن الله تعالى أعطاه العلم والحكمة أيّام غلبة الشهوة لتكون له سبباً للعصمة؛ انتهى. ومنها قوله: كنت بمكّة مقيماً في ذي الحجّة سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وكنت أشرب ماء زمزم كثيراً، وكلّما شربته نويت به العلم والإيمان، ففتح الله تعالى لي ببركته في المقدار الذي يسّره لي من العلم، ونسيت أن أشربه للعمل، ويا ليتني شربته لهما حتى يفتح الله تعالى لي فيهما، ولم يقدّر فكان صغوي (2) للعلم أكثر منه للعمل، وأسأل الله تعالى الحفظ والتوفيق برحمته. ومنها قوله: سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء علي بن عقيل يقول: إنّما تبع الولد الأم في المالية وصار بحكمها في الرق والحريّة لأنّه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له، ولا مالية فيه، ولا منفعة مبثوثة عليه، وإنّما اكتسب ما اكتسب بها ومنها، فلذلك تبعها، كما لو أكل رجل تمراً في أرض رجل وسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنّها ملك صاحب

_ (1) ط: نسب. (2) في ط ق ودوزي: صفوي؛ ج: صغري.

الأرض دون الآكل بإجماع من الأمّة، لأنّها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها، وهذه من البدائع، انتهى. ومنها قوله: ومن نوادر أبي الفضل الجوهري ما أخبرنا عنه محمد بن عبد الملك الواعظ وغيره أنّه كان يقول: إذا أمسكت علاقة الميزان بالإبهام والسبّابة، وارتفعت سائر الأصابع كان شكلها مقرّراً بقولك الله، فكأنّها إشارة منه سبحانه في تيسير الوزن كذلك إلى أن الله سبحانه مطّلع عليك، فاعدل في وزنك، انتهى. ومنها قوله: كان ابن الكازروني يأوي إلى المسجد الأقصى، ثم تمتعنا به ثلاث سنوات، ولقد كان يقرأ في مهد عيسى، عليه السلام، فيسمع من الطور، فلا يقدر أحد أن يصنع شيئاً دون قراءته، إلاّ الإصغاء إليه، انتهى. ومنها قوله في تفسير قوله تعالى " في أيّامٍ نحساتٍ " قيل: إنّها كانت آخر شوال، من الأربعاء إلى الأربعاء، والناس يكرهون السفر يوم الأربعاء لأجل هذه الرواية، حتى إنّي لقيت يوماً مع خالي الحسن بن أبي حفص رجلاً من الكتّاب، فودعنا بنيّة السفر، فلمّا فارقنا قال لي خالي: إنّك لا تراه أبداً لأنّه سافر في يوم أربعاء لا تكرر وكذلك كان مات في سفره وهذا مالا أراه لأن يوم الأربعاء يوم عجيب، بما جاء في الحديث من الخلق فيه والترتيب، فإن الحديث ثابت بأن الله تعالى خلق يوم السبت التربة، ويوم الأحد الجبال، ويوم الاثنين الشجر، ويوم الثلاثاء المكروه، ويوم الأربعاء النور، وروي النون، وفي غريب الحديث أنّه خلق يوم الأربعاء التّقن، وهو كل شيء تتقن به الأشياء، يعني المعادن من الذهب والفضّة والنحاس والحديد والرصاص، فاليوم الذي خلق فيه المكروه لا يعافه الناس، واليوم الذي خلق فيه النور أو التّقن يعافونه، إن هذا لهو الجهل المبين. وفي المغازي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا على الأحزاب من يوم الاثنين إلى يوم الأربعاء بين الظّهر والعصر، فاستجيب له، وهي ساعة فاضلة، فالآثار الصّحاح تدل على

فضل هذا اليوم، فكيف يدّعى فيه التحذير والنحس بأحاديث لا أصل لها، وقد صوّر قوم أيّاماً من الأشهر الشمسية ادّعوا فيها الكراهية لا يحل لمسلم أن ينظر إليها ولا يشغل بالاً بها والله حسبهم، انتهى. ومنها: وكان يقرأ معنا برباط أبي سعيد على الإمام دانشمند من بلاد المغرب خنثى ليس له لحية وله ثديان وعنده جارية، فربك أعلم به، ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤاله، وبودي اليوم لو كاشفته عن حاله، انتهى. ومن شعر ابن العربي ممّا نسبه له الشيخ أبو حيان قوله (1) : ليت شعري هل دروا ... أيّ قلبٍ ملكوا وفؤادي لو درى ... أيّ شعبٍ سلكوا أتراهم سلموا ... أم تراهم هلكوا حار أرباب الهوى ... في الهوى وارتبكوا ومن فوائده: أخبرني المهرة من السحرة بأرض بابل أنّه من كتب آخر آية من كل سورة ويعلّقها لم يبلغ إليه سحرنا، قال: هكذا قالوا، والله تعالى أعلم بما نقلوه. وقال رحمه الله تعالى: حذقت القرآن ابن تسع سنين ثم ثلاثاً لضبط القرآن والعربية والحساب، فبلغت ست عشرة وقد قرأت من الأحرف نحواً من عشرة بما يتبعها من إظهار، وإدغام ونحوه، وتمرنت في العربية والشعر واللّغة، ثم رحل بي أبي إلى المشرق، ثم ذكر تمام رحلته، رحمه الله تعالى. 9 - ومنهم أبو بكر محمد بن أبي عامر ابن حجّاج، الغافقي، الإشبيلي، ومن ونظمه بالمدينة المشرّفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام:

_ (1) في هامش إحدى النسخ: والصواب أن الأبيات للشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، رضي الله عنه، وهي في ابتداء ترجمان الأشواق له. قلت: انظر ص: 11 من الديوان المذكور.

لم يبق لي سؤلٌ ولا مطلب ... مذ صرت جاراً لحبيب الحبيب لا أبتغي شيئاً سوى قربه ... وها أنا منه قريبٌ قريب من غاب عن حضرة محبوبه ... فلست عن طيبة ممن يغيب لا تسأل المغبوط عن حاله ... جارٌ كريمٌ ومحلٌّ خصيب العيش والموت هنا طيّبٌ ... بطيبةٍ لي كلّ شيء بطيب وممّن روى عنه هذه الأبيات الأشرف بن الفاضل. 10 - منهم الشيخ الأديب الفاضل البارع جمال الدين أبو عبد الله محمد ابن الفقيه الخطيب أبي الحسن محمد بن أبي عبد الله محمد بن عيسى بن محمد بن علي ابن ذي النون (1) ، الأنصاري، المالقي من أشياخ أبي حيّان، لقيه ببلبيس من ديار مصر، قال: وأنشدني لشيخه أبي عبد الله (2) الاستجي من قصيدة: ما للنّسيم سرى (3) الأصيل عليلا ... أتراه يشكو لوعةً وغليلا جرّ الذّيول على ديار أحبّتي ... فأتى يجرّ من السقام ذيولا وأنشد، رحمه الله تعالى، لرضوان المخزومي: إن كنت يوسف حسناً ... وكنت عبد العزيز فإن يوسف من قب ... ل كان عبد العزيز وأخذ ابن ذي النون المذكور عن أبي عبد الله ابن صالح، وقرأ للسبعة على أبي جعفر الفحام (4) وأبي وزيد القمارشي، وعلى أبي جعفر السّهيلي، وولد ابن

_ (1) في ط: ابن ذنون؛ وحقها أن تكون ابن ذنون (كما في ط) ، وهو الاسم الأصلي الذي يكتب " ذي النون " تعريبا له. (2) دوزي: عبد الله. (3) ق: جرى. (4) دوزي: العجام؛ ج: اللحام.

ذي النون سنة 617 بمالقة، ومن تواليفه نفح المسك الأذفر في مدح المنصور ابن المظفّر وأزهار الخميلة في الآثار الجميلة واستطلاع البشير ومحض اليقين وروض المتقين. 11 - ومنهم زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخميّ المعروف بشبطون (1) ، يكنى أبا عبد الله، كان فقيه الأندلس على مذهب مالك، وهو أول من أدخل مذهبه الأندلس، وكانوا قبله يتفقّهون على مذهب الأوزاعي، وأراده الأمير هشام على القضاء بقرطبة وعزم عليه، فهرب، فقال هشام: ليت الناس كلّهم كزياد حتى أكفى أهل الرغبة في الدنيا، وأرسل إلى زياد فأمّنه حتى رجع إلى داره. ويحكى أنّه لما أراده للقضاء كلمه الوزراء في ذلك عن الأمير، وعرّفوه عزمه عليه، فقال لهم: أما إن أكرهتموني على القضاء فزوجتي فلانة طالق ثلاثاً، لئن أتاني مدّع في شيء ممّا في أيديكم لأخرجنّه عنكم ثم أجعلكم مدّعين فيه؛ فلمّا سمعوا منه ذلك علموا صدقه، فتكلّموا عند الأمير في معافاته. سمع من مالك الموطّأ، ويعرف سماعه بسماع زياد، وسمع من معاوية ابن صالح، وكانت ابنة معاوية تحته، وروى يحيى بن يحيى الليثي عن زياد هذا الموطّأ قبل أن يرحل إلى مالك، ثم رحل فأدرك مالكاً فرواه عنه إلاّ أبواباً في كتاب الاعتكاف، شك في سماعها من مالك، فأبقى روايته فيها عن زياد عن مالك. وتوفّي سنة أربع ومائتين، وقيل: سنة 193، وقيل: في التي بعدها، وقيل: سنة 199، والأول أولى بالقبول، والله تعالى أعلم. ورحل في ذلك العصر جماعة من أنظار شبطون، كفرغوس بن العباس

_ (1) زياد بن عبد الرحمن اللخمي، سبطون: ترجمته في الخشني: 14 والمرقبة العليا: 12 وابن الفرضي 1: 182 والجذوة: 203 (وبغية الملتمس رقم: 752) .

وعيسى بن دينار وسعيد بن أبي هند وغيرهم ممّن رحل إلى الحج أيّام هشام ابن عبد الرحمن والد الحكم، فلمّا رجعوا وصفوا من فضل مالك وسعة علمه وجلالة قدره ما عظم به صيته بالأندلس، فانتشر يومئذ رأيه وعلمه بالأندلس، وكان رائد الجماعة في ذلك شبطون. وهو أول من أدخل موطّأ مالك إلى الأندلس مكملاً متقناً، فأخذه عنه يحيى بن يحيى كما مر، وهو إذ ذاك صدر في طلاب الفقه، فأشار عليه زياد بالرحيل إلى مالك ما دام حيّاً، فرحل سريعاً، وأخذ يحيى عن زياد هذا الكتب العشرة المنسوبة إلى يحيى. ولقي أيضاً عبد الله بن وهب صاحب مالك، وسمع منه الموطّأ (1) ، ولقي أيضاً عبد الله بن نافع المدني صاحب مالك، وسمع منه ومن الليث بن سعد فقيه مصر، ومن سفيان بن عيينة بمكّة، وقدم يحيى الأندلس أيام الحكم، فانتشر به وبزياد وعيسى بن دينار علم مالك بالأندلس، رضي الله تعالى عن الجميع. وقد قدمنا الحديث الذي رواه زياد بن عبد الرحمن عن مالك، فليراجع في الباب الثالث (2) . 12 - ومنهم سوار بن طارق (3) مولى عبد الرحمن بن معاوية، قرطبي، حج ودخل البصرة، ولقي الأصمعي ونظراءه، وانصرف إلى الأندلس وأدّب الحكم، ومن ولده محمد بن عبد الله بن سوار، حج أيضاً، ولقي أبا حاتم بالبصرة والرياشي وغيرهما، وأدخل الأندلس علماً كثيراً، رحم الله

_ (1) ق: موطأه. (2) انظر ما تقدم 1: 340 - 341. (3) سوار بن طارق: ترجمته في طبقات الزبيدي 279؛ وترجمة ابنه عبد الله في طبقات الزبيدي 282 وكذلك حفيده محمد، وترجم ابن الفرضي 2: 26 لحفيده محمد هذا.

تعالى الجميع. 13 - ومنهم بقيّ بن مخلد (1) ، الشهير الذكر، صاحب التآليف التي لم يؤلّف مثلها في الإسلام، ولقي مائتين وأربعة وثمانين شيخاً، وكانت له خاصة من الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى، وستأتي جملة ممّا يتعلّق ببقيّ بن مخلد في رسالة ابن حزم في الباب السابع؛ وبقيّ على وزن عليّ، رحمه الله تعالى ورضي عنه؛ وقد عرّف ببقيّ بن مخلد غير واحد من العلماء كصاحب " النبراس " (2) وغيره. 14 - ومنهم قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف أبو محمد، البيّاني (3) - وبيّانة من أعمال قرطبة - وأصل سلفه من موالي الوليد بن عبد الملك، وسمع المذكور بقرطبة من بقيّ بن مخلد ومحمد بن وضاح ومطرّف بن قيس وأصبغ ابن خليل وابن مسرة وغير واحد، ورحل إلى المشرق مع محمد بن عبد الملك ابن أيمن ومحمد بن زكريا بن عبد الأعلى (4) سنة أربع وسبعين ومائتين، فسمع بمكة من محمد بن إسماعيل الصائغ وعلي بن عبد العزيز، ودخل العراق، فلقي من أهل الكوفة إبراهيم بن أبي العنبس قاضيها وإبراهيم بن عبد الله القصار، وسمع ببغداد من القاضي إسماعيل (5) وأحمد بن زهير بن حرب وغيرهما كعبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل والحارث بن أبي أسامة وكتب عن ابن أبي خيثمة

_ (1) بقي بن مخلد: ترجمته في الجذوة: 167 (وبغية الملتمس: 584) والصلة: 118 وابن الفرضي 1: وتذكرة الحفاظ: 629. (2) النبراس: من كتب ابن دحية الكلبي، ولا أدري أهو المقصود هنا أو غيره. (3) قاسم بن أصبغ: ترجمته في الجذوة: 311 (وبغية الملتمس: 1298) وابن الفرضي 1: 406 وتذكرة الحفاظ: 853. (4) ابن الفرضي: ابن أبي عبد الأعلى. (5) ابن الفرضي: إسماعيل بن إسحاق قاضي القضاة.

تاريخه (1) ، وسمع من ابن قتيبة كثيراً من كتبه، وسمع من المبرّد وثعلب وابن الجهم في آخرين، وسمع بمصر من محمد بن عبد الله العمري ومطلب بن شعيب وغيرهما، وسمع بالقيروان من أحمد بن يزيد المعلم وبكر بن حماد التاهرتي الشاعر، وانصرف إلى الأندلس بعلم كثير، فمال الناس إليه في تاريخ أحمد ابن زهير وكتب ابن قتيبة، وأخذوا ذلك عنه دون صاحبيه ابن أيمن وابن عبد الأعلى، وكان بصيراً بالحديث والرجال، نبيلاً في النحو والعربية (2) والشعر، وكان يشاور في الأحكام، وصنّف على كتاب السنن لأبي داود كتاباً في الحديث، وسببه أنّه لمّا قدم العراق سنة ست وسبعين ومائتين مع صاحبه محمد ابن أيمن، فوجدا أبا داود قد مات قبل وصولهما بيسير، فلمّا فاتهما عمل كل واحد منهما مصنفاً في السنن على أبواب كتاب أبي داود، وخرّجا الحديث من روايتهما عن شيوخهما وهما مصنفان جليلان، ثم اختصر قاسم بن أصبغ كتابه وسماه المجتنى - بالنون - وابتدأ اختصاره في المحرم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وجعله باسم الحكم المستنصر، وفيه من الحديث المسند ألفان وأربعمائة وتسعون حديثاً في سبعة أجزاء. ومولده يوم الاثنين عاشر ذي الحجّة سنة سبع وأربعين ومائتين، رحمه الله تعالى. وحكى القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى " قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا " أن قاسم ابن أصبغ قال: لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان، فأخذت عن بكر بن حماد حديث مسدد، فقرأت عليه يوماً فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلّم " أنّه قدم عليه قوم من مضر مجتابي النمار " فقال: إنّما هو مجتابي الثمار، فقلت: إنّما هو مجتابي النمار، هكذا قرأته

_ (1) هو أحمد بن زهير نفسه، الذي ذكره قبل قليل. (2) ط: والغريب.

على كل من لقيته بالأندلس والعراق، فقال لي: بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا أو نحو هذا، ثم قال لي: قم بنا إلى ذلك [الشيخ] لشيخ كان في المسجد، فإن له بمثل هذا علماً، فقمنا إليه وسألناه عن ذلك، فقال: إنّما هو مجتابي النمار، كما قلت، وهو قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة جيوبهم أمامهم، والنمار: جمع نمرة، فقال بكر بن حماد وأخذ بأنفه: رغم أنفي للحق، وانصرف، انتهى. وهذه الحكاية دالة على عظيم قدر الرجلين، رحمهما الله تعالى ورضي عنهما، ونفعنا بهما. 15 - ومنهم قاسم بن ثابت أبو محمد العوفي السّرقسطي (1) ، رحل مع أبيه فسمع بمصر من أحمد بن شعيب النسائي وأحمد بن عمرو البزار، وبمكّة من عبد الله بن علي بن الجارود ومحمد بن علي الجوهري، واعتنى بجمع الحديث واللغة هو وأبوه، فأدخلا إلى الأندلس علماً كثيراً، يقال: إنّهما أوّل من أدخل كتاب العين إلى الأندلس، وألف قاسم في شرح الحديث كتاباً سمّاه الدلائل، بلغ في الغاية في الإتقان، ومات قبل إكماله، فأكمله أبوه ثابت بعده، وقد روي عن أبي علي البغدادي أنّه كان يقول: كتبت كتاب الدلائل، وما أعلم أنّه وضع بالأندلس مثله، وكان قاسم عالماً بالحديث واللغة (2) ، متقدماً في معرفة الحديث والنحو والشعر، وكان مع ذلك ورعاً ناسكاً، وأريد على القضاء بسرقسطة، فأبى ذلك، فأراد أبوه إكراهه عليه، فسأله أن يتركه ينظر في أمره ثلاثاً، ويستخير الله تعالى، فمات في هذه الثلاثة الأيام، فيروون أنّه دعا لنفسه بالموت، وكان مجاب

_ (1) قاسم بن ثابت، ترجمته في الجذوزة: 312 (وبغية الملتمس: 1300) وابن الفرضي 1: 402 وطبقات الزبيدي: 309؛ ويتابع المقري ما جاء عند ابن الفرضي في هذه الترجمة. (2) ط: والفقه.

الدعوة، توفّي سنة 302 بسرقسطة، رحمه الله تعالى. 16 - ومنهم علم الدين أبو محمد المرسيّ اللّورقي (1) ، وهو قاسم بن أحمد ابن موفق (2) بن جعفر، العلامة المقرئ الأصولي النحوي، ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وقرأ بالروايات قبل الستمائة على أبي جعفر الحصار وأبي عبد الله المرادي وأبي عبد الله ابن نوح الغافقي، وقدم مصر فقرأ بها على أبي الجود غياث بن فارس، بدمشق على التاج زيد الكندي، وسمع ببغداد من أبي محمد ابن الأخضر، وأخذ العربية عن أبي البقاء، ولقي الجزولي بالمغرب، وسأله عن مسألة مشكلة في مقدمته، فأجابه، وبرع في العربية وفي علم الكلام والفلسفة، وكان يقرئ ذلك ويحققه، وأقرأ بدمشق ودرس، وشرح المفصل في النحو في أربع مجلدات فأجاد وأفاد، وشرح الجزولية والشاطبية، وكان مليح الشكل، حسن البزة، موطّأ الأكناف، قرأ عليه جماعة، وتوفّي سابع رجب سنة 661، وكان معمّراً مشتغلاً بأنواع العلوم، وسمّاه بعضهم أبا القاسم، والأوّل أصح. 17 - ومنهم قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن سيار (3) ، أبو محمد، من أهل قرطبة، وجدّه مولى الوليد بن عبد الملك (4) ، رحل فسمع بمصر من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم والمزني والبرقي والحارث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى وإبراهيم بن المنذر وغيرهم، ولزم ابن عبد الحكم للتفقّه، وتحقق به وبالمزني، وكان يذهب مذهب الحجة والنظر وترك التقليد، ويميل إلى مذهب

_ (1) قاسم بن أحمد اللورقي: ترجمته في غاية النهاية 2: 15 وذيل الروضتين: 227. (2) قال أبو شامة: بن (أبي) السداد، وكان هو لا يكتب ابن أبي السداد ويجعل مكانه الموفق وكان أبو السداد كنية الموفق. (3) قاسم بن محمد بن قاسم بن سيار: ترجمته في الجذوة: 310 (وبغية الملتمس رقم: 1293) وابن الفرضي 1: 397 والمقري ينقل عن ابن الفرضي بشيء من التصرف يسير. (4) الجذوة: مولى هشام بن عبد الملك.

الشافعي، ولما قال له ابنه محمد بن القاسم: يا أبت أوصني، قال: أوصيك بكتاب الله، فلا تنس حظك منه، واقرأ منه كلّ يوم جزءاً، واجعل ذلك عليك واجباً، وإن أأردت أن تأخذ من هذا الأمر بحظ، يعني الفقه، فعليك برأي الشافعي، فإنّي رأيته أقل خطأ. قال أبو الوليد ابن الفرضي: ولم يكن بالأندلس مثله في حسن النظر والبصر بالحجة. وقال أحمد بن خالد ومحمد بن عمر بن لبابة: ما رأينا أفقه من قاسم بن محمد ممن دخل الأندلس من أهل الرحلة. وقال أسلم بن عبد العزيز: سمعت عن ابن عبد الحكم أنّه قال: لم يقدم علينا من الأندلس أحد أعلم من قاسم بن محمد، ولقد عاتبته في حين انصرافه إلى الأندلس، وقلت له: أقم عندنا فإنّك تقتعد ههنا رياسة ويحتاج الناس إليك، فقال: لا بدّ من الوطن. وقال سعيد بن عثمان (1) : قال لي أحمد ابن صالح الكوفي: قدم علينا من بلادكم رجل يسمى قاسم بن محمد، فرأيت رجلاً فقيهاً. وألّف رحمه الله تعالى كتاباً نبيلاً في الرد على ابن مزين (2) وعبد الله بن خالد والعتبي يدل على علمه، وله كتاب في خبر الواحد. وكان يلي وثائق الأمير محمد طول أيامه. روى عنه ابن لبابة وابن أيمن والأعناقي وابنه محمد بن قاسم في آخرين (3) . توفّي سنة ست - أو سبع، أو ثمان - وسبعين ومائتين، رحمه الله تعالى. 18 - ومنهم أبو بكر الغساني، وهو محمد بن إبراهيم بن أحمد بن أسود (4) ، من أهل المرية، قدم إلى مصر ولقي بها أبا بكر الطرطوشي، ثم عاد إلى بلده،

_ (1) هو الأعناقي. (2) يحيى بن إبراهيم بن مزين. (3) ابن الفرضي: في جماعة سواهم. (4) محمد بن إبراهيم بن أحمد بن أسود: ترجمته في الصلة: 553 ومعجم شيوخ الصدفي: 126.

وشوور واستقضي بمرسية مدة طويلة، ثم صرف وسكن مراكش. قال ابن بشكوال: توفّي بمراكش في رجب سنة 636، وقال أبو جعفر ابن الزبير: إن له كتاب تفسير القرآن، وبيته بيت علم ودين. 19 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن حيّون (1) ، من أهل وادي الحجارة، قال ابن الفرضي: سمع من ابن وضاح والخشني ونظرائهما بالأندلس، ورحل إلى المشرق، فتردد هنالك نحواً من خمس عشرة سنة، وسمع بصنعاء ومكة وبغداد ولقي جماعة من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل: منهم عبد الله ابن أحمد، وسمع بمصر من الخفاف (2) النيسابوري وإبراهيم بن موسى وغيرهما، وبالمصيصة والقيروان، وكان إماماً في الحديث، عالماً، حافظاً للعلل (3) ، بصيراً بالطرق، ولم يكن بالأندلس قبله أبصر بالحديث منه، وهو ضابط متقن، حسن التوجيه للحديث، صدوق، ولم يذهب مذهب مالك. وممّن روى عنه ابن أيمن وقاسم بن أصبغ ووهب بن مسرة وأحمد بن سعيد بن حزم، وقال خالد بن سعيد (4) : لو كان الصدق إنساناً (5) لكان ابن حيّون. وكان يزنّ بالتشييع لشيء كان يظهر منه في حق معاوية، رضي الله تعالى عنه، وكان شاعراً، وتوفّي بقرطبة سنة 305، سامحه الله تعالى. 20 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن غالب، المالقيّ (6) ، قال ابن نقطة: سمع بالإسكندرية من أبي الحسن ابن المقدسي، وكان فاضلاً،

_ (1) محمد بن إبراهيم بن حيون: ترجمته في ابن الفرضي 2: 28 وجذوة المقتبس: 39 (وبغية الملتمس: 43) وتذكرة الحفاظ: 781. (2) دوزي وق: الحفاظ. (3) للعلل: سقطت من ق. (4) ابن الفرضي: خالد بن سعد. (5) في ط: لسانا. (6) محمد بن إبراهيم المالقي: ترجمته في التكملة: 638 والذيل والتكملة 6: 35 (نسخة باريس) .

رأيت بخطّه إجازة بمصر لبعض المصريين في رجب سنة 604، وسمع بمصر شيئاً من الخلعيّات، قال ابن فرتون الفاسي في ذيل تاريخ الأندلس: روى بمالقة، ورحل إلى المشرق وحج، ولقي أبا الحسن علي بن المفضل المقدسي، وأخذ عنه كتاب تحقيق الجواب عمّن أجيز له ما فاته من الكتاب من تآليفه، ورجع إلى الأندلس، ثم نهض إلى مراكش فتوفّي في أقصى بلاد السّوس في حدود سنة 645، رحمه الله تعالى. 21 - ومنهم اليقّوري، وهو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم مصنف كتاب إكمال الإكمال للقاضي عياض على صحيح مسلم، وكتبٍ على كتاب الشهاب القرافي في الأصول، وسمع الحديث، وقدم إلى مصر ومعه مصحف قرآن حمل بغل بعثه ملك المغرب ليوقف بمكة، ثم عاد بعد حجّه، ومات بمراكش سنة 707، وقد زرت قبره بها مراراً، قال الحافظ المقريزي: واليقّوري نسبة إلى يقّورة - بياء آخر الحروف مفتوحة، وقاف مشددة، وراء مهملة - بلد بالأندلس، انتهى. 22 - ومنهم أبو عبد الله الأنصاري، وهو محمد بن إبراهيم بن موسى ابن عبد السلام (1) ، ويعرف بابن شق الليل، من أهل طليطلة، سمع بمصر أبا الفرج الصوفي وأبا القاسم الطحان الحافظ وأبا محمد ابن النحاس وأبا القاسم ابن ميسرة وأبا الحسن ابن بشر وغيرهم، وسمع بطليطلة من جماعة، وحدّث عن جماعة من المحدثين كثيرة. قال ابن بشكوال: وكان فقيهاًعالماً، وإماماً متكلّماً، حافظاً للفقه، والحديث، قائماً بهما متقناً لهما، إلا أنّ المعرفة بالحديث وأسماء رجاله والبصر

_ (1) محمد بن إبراهيم بن عبد السلام الأنصاري: ترجمته في الصلة: 511 وانظر الفصل لابن حزم 4: 180.

بمعانيه وعلله كان أغلب عليه، وكان مليح الخط، جيد الضبط، من أهل الرواية والدراية والمشاركة في العلوم، وكان أديباً شاعراً مجيداً لغويّاً ديّناً فاضلاً، كثير التصانيف والكلام على علم الحديث، حلو الكلام في تآليفه، وله عناية بأصول الديانات وإظهار الكرامات، توفّي بطلبيرة يوم الجمعة منتصف شعبان سنة 455، رحمه الله تعالى. 23 - ومنهم الشيخ الإمام الشهير الكبير الولي العارف بالله تعالى سيدي أبو عبد الله القرشي الهاشمي الأندلسي (1) ، شيخ السالكين، وإمام العارفين، وقدوة المحققين، قدم مصر بعدما صحب ببلاد المغرب جماعة من أعلام الزهاد، وكان يقول: صحبت ستمائة شيخ اقتديت منهم بأربعة: الشيخ أبي الربيع، والشيخ أبي الحسن ابن طريف، والشيخ أبي زيد القرطبي، والشيخ أبي العباس الجوزي، وسلك على يده جماعة: منهم أبو العباس القسطلاني، فإنّه أخذ عنه كلامه وجمعه في جزء. وخرج سيدي أبو عبد الله القرشي من مصر إلى بيت المقدس فأقام به إلى حين وفاته عشية الخميس السادس من ذي الحجّة سنة 599 عن خمس وخمسين سنة، ودفن هنالك، وقبره ظاهر يقصد للزيارة زرته أول قدماتي على بيت المقدس سنة 1028، ومن كلامه: من لم يدخل في الأمور بالأدب لم يدرك مطلوبه منها، وقوله: العاقل يأخذ ما صفا ويدع التكلف، فإنّه تعالى يقول: " وإن يردك بخيرٍ فلا رادّ لفضله ". وقال: من لم يراع حقوق الإخوان بترك حقوقه حرم بركة الصحبة، وقال سمعت الشيخ أبا إسحاق إبراهيم بن طريف يقول: لما حضرت الشيخ أبا الحسن ابن غالب الوفاة قال لأصحابه: اجتمعوا وهللوا سبعين ألف مرّة، واجعلوا ثوابها لي، فإنّه بلغني أنها فداء كلّ مؤمن من النار، قال: فعملناها واجتمعنا عليها وجعلنا ثوابها له.

_ (1) محمد بن أحمد بن إبراهيم القرشي: ترجمته في ابن خلكان 3: 432 والوافي 2: 78.

ثم حكى عن شيخه أبي زيد القرطبي ما حكاه السنوسي عنه في أواخر شرح صغراه، وقد أنكر غير واحد من الحفاظ كابن حجر وغيره كون ما ذكر حديثاً، ولعل هؤلاء أخذوه من جهة الكشف ونحوه، والله تعالى أعلم. وقال رحمه الله تعالى: دخلت على الشيخ أبي محمد عبد الله المغاور، فقال لي: أعلمك شيئاً تستعين به، إذا احتجت لشيء فقل: يا واحد يا أحد يا واجد يا جوّاد، انفحنا منك بنفحة خير، إنّك على كل شيء قدير، قال: فأنا أنفق منها منذ سمعتها. قال رحمه الله تعالى: ما من حال ذكر في رسالة القشيري إلاّ وقد شاهدته نفسي. وتزوج رحمه الله تعالى بنساء حدثن عنه بكرامات، ومنهنّ أم القطب القسطلاني، وحكت أنها خرجت عنه يوماً لحاجتها، ثم عادت فسمعت عنده في طبقته حسّ رجل، فتوقفت وافتقدت الباب فوجدته مغلقاً، فلمّا انقطع الكلام دخلت إليه، فإذا هو وحده كما تركته، فسألته عن ذلك، فقال: هو الخضر دخل علي وفي يده حية فقال: هذه جئتك بها من أرض نجد، وفيها شفاء مرضك، فقلت: لا أريد، اذهب أنت وحيتك لا حاجة لي بها. ودخل عليه بعض نسائه يوماً، فوجدته بصيراً نقي الجسم من الجذام، فلمّا نظرته قال لها: أتريدين أن أبقى لك هكذا فقال له: يا سيّدي كن كيف شئت، إنّما مقصودي خدمتك وبركتك. وقيل له، وقد تكاثرت منه رؤية الأشياء وإخباره بها، مع كونه ضريراً، عن ذلك، فقال: كلّي عين، بأي عضو أردت أن أنظر به نظرت. وقال: هممت أن أدعو برفع الغلاء، فقيل لي: لا تدع فما نسمع لأحد منكم في هذا الأمر دعاء، فسافرت إلى الشام، فلمّا وصلت إلى بلد الخليل، عليه السلام، تلقاني رسول [الله] الخليل حين ورودي عليه، فقلت له: يا رسول الله اجعل ضيافتي عندك أهل مصر، فدعا لهم ففرّج الله عنهم. ومناقبه رحمه الله تعالى وكراماته لا يفي بها هذا المختصر، وإنّما قصدنا بذكرها البركة وكفّارة ما وقع في هذا الكتاب من الإحماض، والله المرجو في العفو.

ومن فوائده ما نقله عن شيخه أبي الربيع المالقي أنّه قال له: ألا أعلمك كنزاً تنفق منه ولا ينفد قلت: بلى، قال قل: يا ألله، يا أحد، يا واحد، يا موجود، يا جواد، يا باسط، يا كريم، يا وهّاب، يا ذا الطّول، يا غني، يا مغني، يا فتّاح، يا رزّاق، يا عليم، يا حيّ، يا قيّوم، يا رحمن، يا رحيم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حنّان، يا منّان، انفحني منك بنفحة خير تغنيني بها عمن سواك " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح " " إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً " " نصرٌ من الله وفتحٌ قريبٌ " اللهم يا غني يا حميد، يا مبدئ ويا معيد، يا ودود (1) يا ذا العرش المجيد، يا فعّالاً لما يريد، اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك، واحفظني بما حفظت به الذكر وانصرني بما نصرت به الرسل، إنّك على كل شيء قدير. فمن داوم على قراءته بعد كل صلاة خصوصاً صلاة الجمعة حفظه الله تعالى من كل مخوف، ونصره على أعدائه، وأغناه ورزقه من حيث لا يحتسب، ويسّر عليه معيشته، وقضى عنه دينه ولو كان عليه أمثال الجبال ديناً، بكرمه وإحسانه، انتهى. نقله عنه العلامة ابن داود البلوي الأندلسي، ومن خطه نقلت، رحم الله تعالى الجميع، ونقله اليافعي كما ذكر رحمه الله تعالى، إلاّ أنّه لم يقل فيه يا ودود، واتفقا فيما عدا ذلك، والله سبحانه أعلم. وقال ابن خلكان في حقّه: محمد بن أحمد (2) بن إبراهيم القرشي الهاشمي العبد الصالح الزاهد من أهل الجزيرة الخضراء، كانت له كرامات ظاهرة، ورأيت أهل مصر يحكون عنه أشياء خارقة، ولقيت جماعة ممّن صحبه، وكل منهم قد نمى عليه (3) من بركته، وذكروا عنه أنّه وعد جماعته الذي صحبوه مواعيد

_ (1) يا ودود: مكررة في ق ط. (2) ابن أحمد: سقطت من دوزي، وهي ثابتة في ق وابن خلكان. (3) ط ج ق: قد يثني عليه، وما أثبتناه في ابن خلكان أيضا.

من الولايات والمناصب العلية، وأنها صحت كلّها. وكان من السادات الأكابر والطراز الأول، وهو مغربي صحب بالمغرب أعلام الزهاد وانتفع بهم، فلمّا وصل إلى مصر انتفع به من صحبه أو شاهده، ثم سافر إلى الشام قاصداً زيارة بيت المقدس، فأقام بها إلى أن مات، وصلّي عليه بالمسجد الأقصى، وهو ابن خمس وخمسين سنة، وقبره ظاهر للزيارة والتبرك به (1) . والجزيرة الخضراء في بلاد الأندلس: مدينة تقابل سبتة من بر العدوة. ومن جملة وصاياه لأصحابه: سيروا إلى الله تعالى عرجاً ومكاسير فإن انتظار الصحة بطالة، انتهى ببعض اختصار. 24 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن أبي الحسين القرطبي (2) ، سمع من قاسم بن أصبغ وغيره، وقدم مصر فسمع بها من ابن الورد وابن أبي الموت والبارودي (3) وابن السكن في آخرين، وسمع بالرملة وبيت المقدس، وكان ضابطاً بصيراً بالنحو واللغة فصيحاً بليغاً طويل اللسان، ولي الشرطة ببلاد المغرب. توفّي سنة 372. 25 - ومنهم أبو بكر محمد بن علي بن خلف، التّجيبي الإشبيلي (4) الحافظ الكاتب، روى عن ابن الجد وغيره، ومر بمصر حاجّاً فلقي بمكة أبا حفص الميانشي وأبا الحسن المكناسي، ولقي بالإسكندرية السّلفي وابن عوف وغيرهما، وكان مدرّساً للفقه، فقيهاً جليلاً، متقدماً فيه عارفاً فاضلاً سنيّاً، توفي بعد امتحان من منصور بني عبد المؤمن سنة 596، وذلك أنّه وشي به للمنصور

_ (1) به: سقطت من ق ط. (2) محمد بن علي بن الحسن بن أبي الحسين القرطبي: ترجمته في ابن الفرضي 2: 85 وعنه ينقل المقري باختصار. (3) ط ودوزي: والبارودي. (4) ترجمته في التكلمة: 557 والذيل والتكملة 6: الورقة 179 (نسخة باريس) وأورد له ترجمة مفصلة.

أيّام عزم على ترك التقليد والعمل بالحديث (1) . 26 - ومنهم أبو بكر الأندلسي الجيّاني، محمد بن علي بن عبد الله بن محمد ابن ياسر، الأنصاري، الجيّاني (2) ، سافر من بلده ودخل ديار مصر والشام والعراق وخراسان وما وراء النهر، ولقي أئمتها، وتفقه ببخارى حتى تمهر في المذهب والخلاف والجدل، ثم اشتغل بالحديث وسمعاه وحفظه وحصّل منه كثيراً، ثم سكن بلخ مدة، وعاد إلى بغداد ودخلها سنة 559، وتوجه إلى مكة فحج ورجع إلى الشام واستوطن حلب، إلى أن توفّي بها، ووقف كتبه، وكان متديّناً صدوقاً حافظاً عالماً بالحديث، وفيه فضل، ولد بجيّان سنة 492، ومات بحلب سنة 563. 27 - ومنهم أبو علد الله محمد بن علي التّجيبي الدهان الغرناطي (3) ، كان حسن السّمت بارع الخط والخلق والخلق، رحل إلى الحج، وجال في البلاد في حدود سنة ست وستمائة فأخذ بمكة والشام ومصر والإسكندرية عن جماعة كثيرة، وكان عدلاً (4) فاضلاً على خير دين، وكان متحرّفاً بالتجارة بغرناطة، ثم خرج منها آخر عمره فمات بقوص بعدما حج سنة 650، وصدر من مكّة سنة 653 فمات قبل منتصف السنة، رحمه الله تعالى. 28 - ومنهم أبو عمر محمد بن علي بن محمد بن أبي الربيع القرشي العثماني

_ (1) كان المنصور قد حمل الناس على الكتاب والسنة، فعل أهل الظاهر، ورفض الاشتغال بالفروع، فتعرض التجيبي للمحنة بسبب ذلك، وخلص من النكبة فلزم داره، وكانت له غرفة مشرفة على الدرب الذي في داره يكثر الجلوس فيها، فخطر للمنصور أن يستدعيه ويؤنسه، فتوجه إليه الشرطيون، فرآهم من غرفته تلك وظن أنهم جاءوا لشر فاستطير قلبه ذعرا، وأصابه شيء كالفالج أقعده، وظل كذلك حتى أدركته منيته. (2) محمد بن علي بن ياسر الأنصاري الجياني: ترجمته في التكملة: 500. (3) محمد بن علي التجيبي الدهان: ترجمته في الذيل والتكملة 6: 198 (نسخة باريس) . (4) دوزي: عادلا.

الأندلسي الإشبيلي النحوي، ولد سنة 617 بإشبيلية، وقدم مصر فسمع الكثير بها، وبدمشق وغيرها، وكان إماماً عالماً نحويّاً فاضلاً، كتب عنه أبو محمد الدمياطي والقطب عبد الكريم، ناهيك بهما. 29 - ومنهم أبو بكر [و] أبو عبد الله بن محمد بن علي بن محمد بن علي ابن هذيل البلنسي (1) ، رحل وسمع من السّلفي، وحج، قال أبو الربيع ابن سالم: هو شيخ صدوق متيقّظ، سمع أباه وأبا الوليد ابن الدباغ وأبا الحسن طارق بن موسى بن يعيش وجماعة، وأخذ بمكّة سنة 539 عن أبي علي الحسن المقرئ، وقفل إلى الأندلس سنة 546، فأخذ عنه بها، وسمع منه جماعة، قال ابن الأبار: كان غاية في الصلاح وأعمال البر والورع، توفّي ببعض قرى بلنسية سنة 583 (2) ، ومولده سنة سبع أو تسع عشرة وخمسمائة، وله حظ من علم التعبير واللغة، رحمه الله تعالى. 30 - ومنهم أبو عبد الله، ويقال: أبو سلمة، محمد بن علي البيّاسي الغرناطي الأنصاري ناصر الدين، روى عن الحافظ أبي جعفر (3) بن الزبير وغيره، وقدم إلى القاهرة واستوطنها بعد الحج، حتى مات بها سنة 703، وكان عارفاً بعلم الحديث وكتب منه كثيراً، ومال إلى مذهب الظاهرية، وانتفع به جماعة من طلبة الحديث، وكان ثقة، رحمه الله تعالى. 31 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن علي بن الشامي الأندلسي، الغرناطي، قدم مصر حاجّاً، وأقام بمكّة والمدينة، وكان إماماً فاضلاً عالماً متفنّناً (4) في علوم ما بين فقه وأصول ونحو ولغة وقراءات ونظم ونثر، ومع

_ (1) محمد بن علي بن هذيل: ترجمته في التكملة: 545 والذيل والتكملة 6: 200 (نسخة باريس) . (2) التكملة: سنة 588، وفي ق ط: 538. (3) ق ودوزي: أبي حفص. (4) في نسخة: متقنا.

معرفته بمذهب مالك ينقل كثيراً من مذهب الشافعي، وسمع الموطّأ بتونس من أبي محمد ابن هرون القرطبي، ومولده بغرناطة سنة 671، وتوفّي سنة 715. ومن شعره: إذا كنت جاراً للنبيّ وصحبه ... ومكّة بيت الله منّي على قرب فما ضرّني أن فاتني رغد عيشةٍ ... وحسبي الذي أوتيته نعمةً حسبي وقوله: نزيل الكرام عزيز الجوار ... وإنّي نزيلٌ عليكم وجار حللت ذراك وأنت الكريم ... ومن حلّ مثوى كريم يجار 32 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمار الكلاعي الميورقي (1) ، قدم مصر، وروى عن ابن الوليد بها، وان عالماً، وله قصيدة طويلة فيها حكم ومواعظ يوصي ابنه بها، منها قوله: وطاعة من إليه الأمر فالزم وإن جاروا وكانوا مسلمينا فإن كفروا ككفر بني عبيدٍ فلا تسكن ديار الكافرينا واسم ابنه حسن، وسمع من المذكور الحافظ القاضي أبو بكر ابن العربي في رحلته سنة 485، ووصفه بالعلم، وعمّار: بالراء. 33 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن الفخّار القرطبي الحافظ (2) ، روى عن [أبي] عيسى (3) الليثي وابن عون الله وأبي جعفر التميمي

_ (1) محمد بن عمار الكلاعي: ترجمته في التكملة: 403؛ وقد سقط أكثر هذه الترجمة في ق ولم يبق منها إلا ابتداء من قوله " واسم ابنه حسن ... بالراء " ودخلت في الترجمة السابقة. (2) انظر ترجمة ابن الفخار في الصلة: 483 وعنه ينقل المقري. (3) في الأصول: عن عيسى.

وأبي محمد الباجي، وقدم مصر، وحج، وجاور بالمدينة النبوية على ساكنها الصلاة والسلام، وأفتى بها، وافتخر بذلك على أصحابه، وقال: لقد شوورت بمدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم دار مالك بن أنس ومكان شوراه، ولقي جماعة من العلماء وأخذ عنهم، وكان من أهل العلم والذكاء والحفظ والفهم، عارفاً بمذاهب الأئمة وأقوال العلماء، ذاكراً للروايات، يحفظ المدونة والنوادر لابن أبي زيد، ويوردها من صدره دون كتاب. قال ابن حيّان مؤرخ الأندلس: توفّي الفقيه المشاور الحافظ المتبحّر (1) الرواية الطويل الهجرة في طلب العلم الناسك المتقشف بمدينة بلنسية في ربيع الأول سنة 417 لعشر خلون من الشهر، وكان الحفل في جنازته عظيماً، وعاين الناس فيها آية من ظهور أشباه الخطاطيف بها تجللت الجمع رافّةً فوق النعش لم تفارق نعشه وإلى أن ووري، فتفرقت، ومكث مدة ببلنسية مطاعاً عظيم القدر عند السلطان والعامة. وذكر جماهر بن عبد الرحمن حديث الطير، وكذا ذكر الحسن بن محمد القيسي خبر الطير. قال: وكانت سنّه نحو الثمانين سنة، وكان مجاب الدعوة، وظهرت في دعوته الإجابة. وقال أبو عمرو الداني: إن وفاته يوم السبت لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة وأربعمائة، ودفن يوم الأحد بمدينة بلنسية، وبلغ نحو ست وسبعين سنة، وهو آخر الفقهاء الحفّاظ الراسخين العالمين بالكتاب والسنّة بالأندلس، رحمه الله تعالى. 34 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمروس القرطبي (2) ، سمع عليّ بن مفرج وغيره من شيوخ قرطبة، وقدم مصر فأخذ بها عن ابن المهندس وغيره،

_ (1) ط: المستبحر. (2) ترجمة ابن عمروس في الصلة: 462.

وحجّ ودخل العراق، وسمع من أبي بكر الأبهري والدارقطني وجماعة، وعاد إلى الأندلس، وشهر بالعلم والمال، وولي الأحباس بقرطبة، حدّث عنه أبو عمر ابن عبد البر وغيره، ومات في جمادى الآخرة سنة أربعمائة، رحمه الله تعالى. 35 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عيسى بن عبد الواحد بن نجيح (1) ، المعافري، أبو عبد الله محمد بن عيسى بن عبد الواحد بن نجيح، المعافري، المعروف بالأعشى، القرطبي، رحل سنة 179 فسمع سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن وهب وجماعة، وكان الغالب عليه الحديث ورواية الآثار، وكان صالحاً عاقلاً سريّاً جواداً يذهب إلى مذهب أهل العراق (2) ، وتوفّي سنة 221، ذكره ابن يونس وغيره. 36 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن فطيس الغافقي (3) ، الإلبيري، الزاهد، قال الحميدي في حقّه: هو من أهل الحديث والحفظ والفهم والبحث عن الرجال، وله رحلة سمع فيها من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومن ابن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب وغيرهما، وروى بالأندلس عن جماعة منهم بقيّ ابن مخلد وابن وضاح، وسمع بمكّة وغيرها من مائة شيخ، قال ابن الفرضي: كان شيخاً نبيلاً، ضابطاً لكتبه، ثقة في روايته، صدوقاً في حديثه، وكانت الرحلة إليه بإلبيرة، وبها مات في شوال سنة 319 وهو ابن تسعين سنة، رحمه الله تعالى. 37 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن سيّار، القرطبي (4) أبو عبد الله من موالي بني أميّة، سمع من أبيه ومن بقيّ بن مخلد وغيره، ورحل سنة 294 فسمع بمصر من النسائي، ومن أحمد بن حماد زغبة، وسمع بمكة والبصرة والكوفة وبغداد ودمياط والإسكندرية والقيروان

_ (1) ترجمة ابن نجيح في الجذوة: 69 (وبغية الملتمس رقم: 212) وابن الفرضي 2: 7. (2) ابن الفرضي: وكان يذهب في الأشربة مذهب أهل العراق، إذ كان علمه عراقيا. (3) ترجمته في الجذوة: 78 (وبغية الملتمس رقم: 252) وابن الفرضي 2: 42. (4) ترجمته في الجذوة: 80 (وبغية الملتمس رقم: 260) وابن الفرضي 2: 48.

من مائة وستين رجلاً، قال أبو محمد الباجي: لم أدرك بقرطبة أكثر حديثاً منه، وكان عالماً بالفقه، متقدّماً في علم الوثائق رأساً فيها، وكان مشاوراً، سمع من الناس كثيراً، وكان ثقة صدوقاً، وغزا سنة 327، ومات ثالث ذي الحجّة منها، ومولده سنة 263، وقيل: توفّي سنة 328 (1) ، قاله ابن يونس والحميدي. 38 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن قاسم، القرشي الفهري، عرف بابن رمان، الغرناطي، قرأ على أبي جعفر ابن الزبير بها، وقدم إلى القاهرة سنة 722، ومات بالمدينة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام سنة 729. ومن شعره قوله: فديتم خبّروني كيف صحّت ... فريضة هالكٍ من غير مين لزيدٍ زوجةٌ ولها ابن أمٍّ ... فماتت عنهما لا غير ذين فحاز البعل ما تركته إرثاً ... وولّى غيره صفر اليدين ولا رقٌّ فديت على أخيها ... وليس بكافرٍ يرمى بشين وليس معجّلاً إرثاً بقتلٍ ... مخافة أن ينال شقاوتين 39 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن لبّ الشاطبي (2) ، حدث بالقاهرة، وتوفّي قريباً من سنة 640، وهو أحد أصحاب الشيخ أبي الحسن ابن الصباغ، ومن كلامه: اشتغالك بوقتٍ لم يأت تضييعٌ للوقت الذي أنت فيه، ولعمري لقد صدق. 40 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سراقة الشاطبي بن محمد بن إبراهيم ابن الحسين بن سراقة (3) ، محيي الدين، ويكنى أيضاً أبا القاسم وأبا بكر،

_ (1) ق: 318. (2) ترجمة محمد بن لب الشاطبي في التكملة: 652. (3) انظر ترجمته في الوافي 1: 208 وشذرات الذهب 5: 310 (وفيات: 662) والنجوم الزاهرة 7: 216 وذيل الروضتين: 230 والفوات 2: 306.

الأنصاري الشاطبي، المالكي، ولد بشاطبة سنة 592، وسمع من أبي القاسم ابن بقيّ، ورحل في طلب الحديث، فسمع ببغداد من الشيخ أبي حفص عمر السهروردي وأبي طالب القبّيطي وأبي حفص الدينوري وجماعة، وسمع بحلب من ابن شداد وغيره، وتولى مشيخة دار الحديث البهائية (1) بحلب، ثم قدم مصر وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة بعد وفاة ابن سهل اقصري سنة 642، وبقي بها إلى أن توفّي بالقاهرة في شعبان سنة 662، ودفن بسفح المقطم وكان الجمع كبيراً، وهو أحد الأئمة المشهورين بغزارة الفضل وكثرة العلم والجلالة والنبل، وأحد المشايخ الصوفية، له في ذلك إشارات لطيفة مع الدين والعفاف والبشر والوقار والمعرفة الجيدة بمعاني الشعر، وكان صالح الفكرة في حلّ التراجم، مع ما جبل عليه من كرم الأخلاق، واطّراح التكلف، ورقّة الطبع، ولين الجانب. ومن شعره قوله: نصبت ومثلي للمكارم ينصب ... ورمت شروق الشمس وهي تغرّب وحاولت إحياء النفوس بأسرها ... وقد غرغرت يا بعد ما أنا أطلب وأتعب إن لم تمنح الخلق راحةً ... وغيري إن لم تتعب الخلق يتعب مرادي شيءٌ والمقادير غيره ... ومن عاند الأقدار لا شكّ يغلب وقوله (2) : إلى كم أمنّي النفس ما لا تناله ... فيذهب عمري والأمانيّ لا تقضى وقد مرّ لي خمسٌ وعشرون حجّة ... ولم أرض فيها عيشتي فمتى أرضى وأعلم أنّي والثّلاثون مدّتي ... حرٍ بمغاني اللهو أوسعها رفضا

_ (1) في ق ط ج ودوزي: البهادية، والتصويب عن الوافي. (2) الأبيات ما عدا الأخير منها في الوافي والفوات.

فماذا عسى في هذه الخمس أرتجي ... ووجدي إلى أوبٍ من العشر قد أفضى وقال رحمه الله تعالى (1) : وصاحبٍ كالزّلال يمحو ... صفاؤه الشّكّ باليقين لم يحص إلاّ الجميل منّي ... كأنّه كاتب اليمين وهذا عكس قول المنازي: وصاحبٍ خلته خليلاً ... وما جرى غدره ببالي لم يحص إلاّ القبيح منّي ... كأنّه كاتب الشمال 41 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الفرّيشي - بكسر الفاء، وتشديد الراء المهملة، بعدها شين معجمة - نسبة إلى فرّيش إحدى مدائن قرطبة (2) . ولد بغرناطة سنة 557، وقرأ بالروايات على أبي القاسم ابن غالب، وسمع عليه وعلى أبي القاسم ابن بشكوال وغيره، وسمع بمكّة، وحدث بمصر، وعاد إلى الأندلس فمات بقرطبة سنة 633، وكان مشهوراً بالصلاح معروفاً بإجابة الدعاء، ورعاً ثقة زاهداً فاضلاً، رحمه الله تعالى. 42 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن خيرون (3) ، وقيل: محمد بن عمر بن خيرون، أندلسي، سكن القيروان، ورحل إلى المشرق، وأخذ القراءات بمصر عن محمد بن سعيد الأنماطي وغيره كعبيد بن رجاء وأبي الحسن

_ (1) البيتان وبيتا المنازي في الوافي والشذرات والنجوم الزاهرة. (2) تقع فريش إلى الشمال من قرطبة، وقال الحميري في تحديدها: بين الجوف والغرب من قرطبة. (3) ترجمته في ابن الفرضي 2: 112 وجذوة المقتبس: 50 (وبغية الملتمس رقم: 108) وكنيته فيها أبو جعفر؛ وفيغاية النهاية 2: 217 واسمه محمد بن عمر وكنيته أبو عبد الله. ومن مؤلفاته كتاب الابتداء والتمام وكتاب الألفات واللام، وذكر ابن الجزري أن وفاته كانت سنة ست وثلاثمائة، وعند دوزي وق ط ج: 356 ولعله سهو.

إسماعيل بن يعقوب الأزرق المدني، ودخل العراق، وسمع به من أصحاب علي ابن المديني ويحيى بن معين، وعاد إلى القيروان، وسمع بها وبقرطبة، وقدم بقراءة نافع على أهل إفريقية، وكان الغالب على قراءتهم حرف حمزة، ولم يكن يقرأ بحرف نافع إلاّ الخواص، حتى قدم بها فاجتمع إليه الناس، ورحل إليه أهل القيروان من الآفاق، وكان يأخذ أخذاً شديداً على مذهب المشيخة من أصحاب ورش، وتوفّي بشعبان سنة 306، وكان رجلاً صالحاً فاضلاً كريم الأخلاق إماماً في القراءات، مشهوراً بذلك، ثقة، مأموناً، واحد أهل زمانه وأئمتهم في علم القرآن، رحمه الله تعالى. 43 - ومنهم ضياء الدين أبو جعفر محمد بن محمد بن صابر بن بندار، القيسي، الأندلسي، المالقي (1) ، ولد بمالقة سنة 625 وسمع الكثير، وقدم القاهرة حاجّاً فسمع بها وبدمشق وكتب بخطّه كثيراً، وكان سريع الكتابة سريع القراءة كثير الفوائد، ديّناً خيّراً فاضلاً، له مشاركة جيّدة في عدة علوم، توفّي شابّاً بالقاهرة سنة 662، رحمه الله تعالى. 44 - ومنهم أبو بكر محمد الزّهري، المعروف بابن محرز، البلنسي (2) ، ولد بها سنة 529، وقدم مصر فسمع ابن الفضل (3) وغيره، وروى عنه جماعة، وكان أحد رجال الكمال علماً وإدراكاً وفصاحة وحفظاً للفقه وتفنّناً في العلوم ومتانة في الأدب، حافظاً للغة والغريب، وله شعر رائق، ودين متين، وأخذ الناس عنه ببلده وبمرسية وإشبيلية ومالقة وغرناطة في اجتيازه عليها، وبغيرها من البلاد، وعلا صيته، وعرف بالدين والعلم والفضل، وكان أبو الخطاب

_ (1) ترجمته في الوافي 1: 200. (2) هو محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن سليمان أبو بكر الزهري البلنسي: انظر ترجمته في الوافي 1: 198 والتكملة: 664. (3) ط ج: ابن النفضل.

يثني على علمه ودينه، توفّي ببجاية سنة 655عن سن عالية، رحمه الله تعالى. 45 - وممن ارتحل (1) من الأندلس إلى المشرق القاضي أبو الوليد الباجي صاحب التصانيف المشهورة (2) . وقال ابن ماكولا في حقّه: إنّه فقيه متكلّم أديب شاعر، سمع بالعراق، ودرس الكلام وصنف إلى أن مات، وكان جليلاً رفيع القدر والخطر. وقال غير واحد: إنّه ولد سنة 403، وارتحل سنة 426، وجاور ثلاثة أعوام ملازماً لأبي ذر الحافظ يخدمه، ورحل إلى بغداد ودمشق، ولقي في رحلته غير واحد، وتفقه بالقاضي أبي الطيب الطّبري وغيره. وقال أبو علي ابن سكرة: ما رأيت مثل أبي الوليد الباجي، وما رأيت أحداً على هيئته وسمته وتوقير مجلسه، ولما كنت ببغداد قدم ولده أبو القاسم، فسرت معه إلى شيخنا قاضي القضاة الشاشي، فقلت له: أدام الله تعالى عزك، هذا ابن شيخ الأندلس، فقال: لعلّه ابن الباجي، فقلت: نعم، فأقبل عليه. قال القاضي عياض: وكثرت القالة في القاضي أبي الوليد لمداخلته الرؤساء، وولي قضاء أماكن تصغر عن قدره، وكان يبعث إلى تلك النواحي خلفاءه، وربما أتاها المرة ونحوها، وكان في أول أمره مقلاًّ حتى احتاج إلى القصد بشعره، واستأجر نفسه مدّة مقامه ببغداد، فيما سمعته مستفيضاً، لحراسة دربٍ. وقد جمع ابنه شعره. قال: ولمّا قدم الأندلس وجد لكلام ابن حزم طلاوة، إلاّ أنّه كان خارجاً عن المذهب، ولم يكن بالأندلس من يشتغل بعلمه، فقصرت ألسنة الفقهاء عن

_ (1) ق ج: ومن الراحلين، ط: وممن رحل، وأثبتنا ما في دوزي. (2) انظر ترجمة أبي الوليد سليمان بن خلف في الذخيرة (القسم الثاني: 38) والقلائد: 188 والصلة: 197 وبغية الملتمس رقم: 777 والمغرب 1: 404 ووفيات الأعيان 2: 142 ومعجم الأدباء 11: 246 والديباج المذهب: 120 وتذكرة الحفاظ: 1178 وتهذيب ابن عساكر 6: 248 وشذرات الذهب 3: 334 والمرقبة العليا: 95.

مجادلته، وكلامه، واتبعه على رأيه جماعة من أهل الجهل، وحل بجزيرة ميورقة، فرأس فيها واتبعه أهلها، فلمّا قدم أبو الوليد كلّموه في ذلك، فدخل إليه، وناظره وشهر باطله، وله معه مجالس كثيرة. ولما تكلم أبو الوليد في حديث الكتابة يوم الحديبية الذي في البخاري قال بظاهر لفظه، فأنكر عليه الفقيه أبو بكر الصائغ وكفره بإجازة الكتب على الرسول الأمي، صلّى الله عليه وسلّم، وأنّه تكذيب للقرآن، فتكلّم في ذلك من لم يفهم الكلام، حتى أثاروا عليه الفتنة وقبّحوا عليه عند العامة ما أتى به، وتكلّم به خطباؤهم في الجمع، وقال شاعرهم: برئت ممّن شرى دنياً بآخرةٍ ... وقال: إن رسول الله قد كتبا فصنف أبو الوليد رحمه اله تعالى رسالة بيّن فيها أن ذلك غير قادح في المعجزة، فرجع بها جماعة؛ إذ ليس من عرف أن يكتب اسمه فقط بخارج عن كونه أمّيّاً لأنّه لا يسمّى كاتباً، وجماعة من الملوك قد أدمنوا على كتابة العلامة وهو أمّيون، والحكم للغالب لا للصورة النادرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام " إنّا أمّة أمّيون " أي: أكثرهم كذلك، لندور الكتابة في الصحابة، وقال تعالى: " هو الّذي بعث في الأمّيّين رسولاً منهم " انتهى، وبعضه بالمعنى. وذكر ابن بسّام أن أبا الوليد الباجي نشأ وهمته في العلم، وأنّه بدأ بالأدب، فبرز في ميادينه، وجعل الشعر بضاعته، فنال به من كل الرغائب، ثم رحل فما حلّ بلداً إلاّ وجده ملآن بذكره، نشوان من قهوتي نظمه ونثره، فمال إلى علم الديانة، فمشى بمقياس، وبنى على أساس، حتى صار كثير من العلماء يسمعون منه، ويرتاحون للأخذ عنه، ثم كرّ واستقضي في طريقه بحلب، فأقام بها نحواً من عام. قال: وبلغني عن ابن حزم أنّه كان يقول: لو لم يكن لأصحاب المذهب

الملكي بعد عبد الوهاب إلاّ مثل أبي الوليد الباجي لكفاهم. وصنف أبو الوليد كتباً كثيرة منها كتاب التسديد إلى معرفة التوحيد وكتاب سنن المنهاج وترتيب الحجاج وكتاب إحكام الفصول في أحكام الأصول وكتاب التعديل والتجريح لمن خرّج عنه البخاري في الصحيح وكتاب شرح الموطأ وهو نسختان: نسخة سمّاها الاستيفاء، ثم انتقى منها فوائد سمّاها المنتقى في سبع مجلدات، وهو أحسن كتاب ألّف في مذهب مالك، لأنّه شرح في أحاديث الموطّأ، وفرّع عليها تفريعاً حسناً، وأفرد منه شيئاً سمّاه الإيماء، وقال بعضهم: إنّه صنف كتاب المعاني في شرح الموطّأ فجاء عشرين مجلداً عديم النظير، وكان أيضاً صنف كتاباً كبيراً جامعاً يلغ فيه الغاية سمّاه الاستيفاء، وله كتابا لإيماء في الفقه، خمس مجلدات، انتهى. ومن تصانيفه مختصر المختصر في مسائل المدونة، وله كتاب اختلاف الموطأ وكتاب الإشارة في أصول الفقه وكتاب الحدود وكتاب سنن الصالحين وكتاب التفسير لم يتمّه، وكتاب شرح المنهاج وكتاب التبيين لسبيل المهتدين في اختصار فرق الفقهاء، وكتاب السراج في الخلاف، ولم يتم، وغير ذلك. وحجّ الباجي رحمه اله تعالى أربع حجج جور فيها ثلاثة أعوام ملازماً لأبي ذر عبد بن أحمد الهروي، وكان يسافر معه للسّروات (1) لأن أبا ذر تزوّج من العرب، وسكن بها.

_ (1) السروات ثلاث: واحدة بين تهامة ونجد وواحدة في بلاد عدوان وثالثة أرض عالية وجبال تشرف على البحر من الغرب وعلى نجد من الشرق.

[ترجمة أبي ذر الهروي] (1) وأبو ذر المذكور هو عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير الأنصاري المالكي، ويعرف بابن السمّاك، سمع بهراة وسرخس وبلخ ومرو والبصرة وبغداد ودمشق ومصر، وجاور بمكة، وألّف معجماً لشيوخه، وعمل الصحيح، وصنف التصانيف، قال الخطيب: قدم أبو ذرّ بغداد وأنا غائب، فحدث بها، ثم حجّ وجاور، ثم تزوّج في العرب، وسكن السّروات، وكان يحجّ كل عام ويحدث ويرجع، وكان ثقة ضابطاً ديّناً، وقال الحسن بن بقيّ المالقي: حدّثني شيخي قال: قيل لأبي ذر: من أين تمذهبت بمذهب مالك ورأي الأشعري مع أنّك هروي فقال: قدمت بغداد وكنت ماشياً مع الدارقطني، فلقينا أبا بكر ابن الطيب، فالتزمه الدارقطني، وقبّل وجهه وعينيه، فلمّا افترقنا قلت: من هذا قال: هذا إمام المسلمين، والذابّ عن الدين، القاضي أبو بكر ابن الطيب، فمن ذلك الوقت تكررت إليه وتمذهبت بمذهبه، انتهى. قلت: هذا صريح في أن القاضي أبا بكر الباقلاني مالكي، وهو الذي جزم به غير واحد، ولذا ذكره عياض في المدارك في جملة المالكية، وكذلك شيخ السنّة الإمام أبو الحسن الأشعري مالكي المذهب فيما ذكره غير واحد من الأئمة، وذكر بعض الشافعية أنهما شافعيان، والله تعالى أعلم. وقال عبد الغافر في تاريخ نيسابور: كان أبو ذرّ زاهداً، ورعاً، عالماً، سخيّاً لا يدّخر شيئاً، وصار كبير مشيخة الحرم، مشاراً إليه في التصوف، خرّج على الصحيح تخريجاً حسناً، وكان حافظاً، كثير الشيوخ، توفّي سنة 435، وقال أبو علي ابن سكرة: توفّي عقب شوّال سنة 434، وقال الخطيب: في ذي القعدة من سنة أربع وثلاثين، رحمه الله تعالى، وأكثر

_ (1) ترجمة أبي ذر الهروي في تبيين كذب المفتري: 255 وتذكرة الحفاظ: 1103.

نسخ البخاري الصحيحة بالمغرب إمّا من رواية الباجي عن أبي ذر عبد بن أحمد الهروي المذكور، وإمّا من رواية أبي علي الصّدفي الشهير المعروف بابن سكرة بسنده. واعلم أن هراة المنسوب إليها الحافظ أبو ذر ليست بهراة التي وراء النهر نظيرة بلخ، وإنّما هي هراة بني شيمانة بالحجاز (1) ، وبها كان سكنى أبي ذر، والله أعلم. رجع إلى القاضي أبي الوليد الباجي رحمه الله تعالى ثم إنّه - أعني الباجي - قدم بغداد، وأقام بها ثلاثة أعوام يدرّس الفقه، ويقرأ الحديث، فلقي بها عدّة من العلماء كأبي الطيب الطبري والإمام الشهير أبي إسحاق الشيرازي والصّيمري وابن عمروس المالكي، وأقام بالموصل سنة مع أبي جعفر السّمناني يأخذ عنه علم الكلام؛ فبرع في الحديث وعلله ورجاله، وفي الفقه وغوامضه وخلافه، وفي الكلام ومضايقه، وتدبج مع الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي بحيث روى كل واحد منهما عن الآخر، رضي الله تعالى عنهما ونفع بهما. ورجع إلى الأندلس بعد ثلاث عشرة سنة بعلم جمٍّ حصّله مع الفقر والتّعفّف. وممّا يفتخر به أنّه روى عنه حافظا المغرب والمشرق أبو عمر ابن عبد البر والخطيب أبو بكر ابن ثابت البغدادي، وناهيك بهما، وهما أسنّ منه وأكبر، وأبو عبد الله الحميدي، وعلي بن عبد الله الصقلي، وأحمد بن علي بن غزلون، وأبو بكر الطرطوشي، وأبو علي ابن الحسين السبتي، وأو بحر سفيان بن العاصي،

_ (1) لم يذكر احد أن في الحجاز موضعا اسمه " هراة " أو قوما اسمهم بنو شيمانة وإنما أورد ياقوت في مادة " شبابة ": سراة بني شبابة من نواحي مكة ينسب إليها أبو جميع عيسى ابن الحافظ أبي ذر عبد الله بن أحمد الهروي الشبابي، حدث بهذا الموضع عن أبيه أبي ذر، روى عنه أبو الفتيان عمر بن أبي الحسن الرؤاسي، وكان يحدث سنة نيف وستين وأربعمائة.

وممّن روى عنه ابنه أبو القاسم أحمد. وكان لما رجع إلى الأندلس فشا علمه، وتهيأت الدنيا له، وعظم جاهه، وأجزلت له الصّلات، فمات عن مال وافر، وترسل للملوك، وولي القضاء بعدة مواضع، رحمه الله تعالى. وأمّا ما تقدّم عن القاضي أبي الوليد الباجي من إجراء حديث الكتابة على ظاهره فهو قول بعض، والصواب خلافه، قال القاضي أبو الفضل عياض: حدّثنا محمد بن علي المعروف باب الصيقل الشاطبي من لفظه، قال: حدثني أبو الحسن ابن مفوّز قال: كان أبو محمد ابن أحمد بن الحاج الهوّاري من أهل جزيرة شقر ممّن لازم الباجي وتفقّه عنده، وكان يميل إلى مذهب الباجي في جواز مباشرة النبي صلى الله عليه وسلّم الكتابة بيده في حديث المقاضاة في الحديبية على ما جاء في ظاهر بعض رواياته، ويعجب به، وكنت أنكر ذلك عليه، فمّا كان بعد برهة أتاني زائراً على عادته، وأعلمني أن رجلاً من إخوانه كان يرى في النوم أنّه بالمدينة، وأنّه يدخل المسجد، فيرى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أمامه، فيجد له قشعريرة وهيبة عظيمة، ثم يراه ينشقّ ويميد ولا يستقر، فيعتريه منه فزع عظيم، وسألني عن عبارة رؤياه، فقلت: أخشى على صاحب هذا المنام أن يصف رسول الله صلّى الله عليه وسلم بغير صفته، أو ينحله ما ليس له بأصل، أو لعلّه يفتري عليه، فسألني: من أين قلت هذا قلت له: من قول الله تعالى " تكاد السّموات يتفطّرن منه إلى قوله تعالى: ولداً " فقال لي: لله درّك يا سيّدي، وأقبل يقبّل رأسي وبين عينيّ، ويبكي مرّة ويضحك أخرى، ثم قال لي: أنا صاحب الرويا، واسمع تمامها يشهد لك بصحة تأويلك، قال: إنّه لمّا رأيتني في ذلك الفزع العظيم كنت أقول: والله ما هذا إلاّ أنّني أقول وأعتقد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب، فكنت أبكي وأقول: أنا تائب يا رسول الله، وأكرّر ذلك مراراً، فارى القبر قد عاد إلى هيأته أوّلاً وسكن، فاستيقظت، ثم قال لي: وأنا أشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كتب قطّ حرفاً

وعليه ألقى الله تعالى، فقلت: الحمد لله الذي أراك البرهان، فاشكر له كثيراً، انتهى. قال ابن الأبار: حدثني بهذه الحكاية أبو الربيع ابن سالم بقراءتي عليه، عن الكاتب أبي بكر عبد الرحمن بن مغاور قراءةً عليه، عن القاضي أبي حفص (1) أحمد بن عبد الرحمن بن جحدر عن أبي الحسن طاهر بن مفوّز قال: كان أبو محمد - إلى آخرها، وهي أتم من هذه، انتهى. رجع إلى الباجي ذكر أبو العرب عبد الوهاب البقساني بسنده إلى القاضي أبي الوليد الباجي أنّه كان يقول، وقد ذكرت له صحبة السلطان: لولا السلطان لنقلتني الذرّ من الظل إلى الشمس، أو ما هذا معناه، انتهى. ومن فوائد الباجي أنّه حكى أن الطلبة كانوا ينتابون مجلس أبي علي البغدادي، واتفق أن كان يوماً مطرٌ ووحل، فلم يحضر من الطلبة سوى واحد، فلمّا رأى الشيخ حرصه على الاشتغال وإتيانه في تلك الحال أنشده (2) : دببت للمجد والسّاعون قد بلغوا ... حدّ النفوس وألقوا دونه الأزرا وكابدوا المجد حتّى ملّ أكثرهم ... وعانق المجد من وافى ومن صبرا لا تحسب المجد تمراً أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصّبرا انتهى. وروى عن القاضي أبي الوليد الباجي رحمه الله تعالى الخطيب البغدادي قوله رحمه الله تعالى (3) :

_ (1) ط ج: أبي جعفر. (2) انظر القصة والأبيات في الصلة: 620 - 621؛ والأبيات في أمالي القالي 1: 112. (3) البيتان وردا في أكثر المصادر التي ترجمت للباجي.

إذا كنت أعلم علم اليقين ... بأنّ جميع حياتي كساعه فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأجعلها في صلاحٍ وطاعه وقد ذكرناهما فيما يأتي قريباً من كلام الفتح، لكوننا نقلنا كلامه بلفظه، رحمه الله تعالى، ورضي عنه. وقال في القلائد في حق الباجي رحمه الله تعالى، ما صورته: بدر العلوم اللائح، وقطرها الغادي الرائح، وثبيرها الذي لا يزحم، ومنيرها الذي ينجلي به ليلها الأسحم، كان إمام الأندلس الذي تقتبس أنواره، وتنتجع نجوده وأغواره، رحل إلى المشرق فعكف على الطلب ساهراً، وقطف من العلم أزاهراً، وتفنن في اقتنائه، وثنى إليه عنان اعتنائه، حتى غدا مملوء الوطاب، وعاد بلح طلبه إلى الإرطاب، فكرّ إلى الأندلس بحراً لا تخاض لججه، وفجراً لا يطمس منهجه، فتهادته الدول، وتلقته الخيل والخول، وانتقل من محجر إلى ناظر، وتبدل من يانع بناضر، ثم استدعاه المقتدر بالله فصار إليه مرتاحاً، وبدا بأفقه ملتاحاً، وهناك ظهرت تواليفه وأوضاعه، وبد وخده في سبل العلم وإيضاعه، وكان المقتدر يباهي بانحياشه إلى سلطانه، وإيثاره لحضرته باستيطانه، ويحتفل فيما يرتبه له ويجريه، وينزله في مكانه متى كان يوافيه، وكان له نظم يوقفه على ذاته، ولا يصرفه في رفث القول وبذاته (1) . فمن ذلك قوله في معنى الزهد: إذا كنت أعلم علم اليقين ... بأن جميع حياتي كساعه فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأجعلها في صلاحٍ وطاعه وله يرثي ابنيه وماتا مغتربين، وغربا كوكبين، وكانا ناظري الدهر،

_ (1) دوزي: وبذاذاته.

وساحري النّظم والنثر (1) : رعى الله قبرين استكانا ببلدة ... هما أسكناها في السّواد من القلب لئن غيّبا عن ناظري وتبوّءا ... فؤادي لقد زاد التباعد في القرب يقرّ بعيني أن أزور ثراهما ... وألصق مكنون الترائب بالتّرب وأبكي وأبكي ساكنيها لعلّني ... سأنجد من صحبٍ وأسعد من سحب فما ساعدت ورق الحمام أخا أسىً ... ولا روّحت ريح الصّبا عن أخي كرب ولا استعذبت عيناي بعدهما كرىً ... ولا ظمئت نفسي إلى البارد العذب أحنّ ويثني اليأس نفسي عن الأسى ... كما اضطرّ محمولٌ على المركب الصعب وله يرثي ابنه محمداً: أمحمداً، إن كنت بعدك صابراً ... صبر السليم لما به لا يسلم رزئت قبلك بالنبيّ محمدٍ ... ولرزؤه أدهى لديّ وأعظم فلقد علمت بأنّي بك لاحقٌ ... من بعد ظنّي أنّني متقدّم لله ذكرٌ لا يزال بخاطري ... متصرّفٌ في صبره مستحكم فإذا نظرت فشخصه متخيّلٌ ... وإذا أصخت فصوته متوهّم وبكلّ أرضٍ لي من أجلك لوعةٌ ... وبكلّ قبرٍ وقفةٌ وتلوّم فإذا دعوت سواك حاد عن اسمه ... ودعاه باسمك معولٌ بك مغرم حكم الردى ومناهج قد سنّها ... لأولي النّهى والحزن قبل متمّم انتهى. ولعمري إنّه لم يوف القاضي أبا الوليد الباجي حقه الواجب المفترض، ووددت أنّه مدّ النفس في ترجمته بعبارته التي يعترف ببراعتها من سلّم

_ (1) انظر أيضا المغرب 1: 404.

له ومن اعترض، فإن ترجمة المذكور ممّا سطّره أفسح مجالاً، وأفصح رويّة وارتجالاً، وبالجملة فهو أحد أعلام الأندلس، وهو سليمان بن خلف ابن سعد بن أيوب بن وارث التّجيبي، وذكره ابن بسّام في الذخيرة وابن خلّكان وغير واحد، وأصله من بطليوس، وانتقل جدّه إلى باجة قرب إشبيلية، وليس هو من باجة القيروان، ومولده سنة 403، ورحل سنة 426، فقدم مصر، وسمع بها، وأجّر نفسه ببغداد لحراسة الدروب، وكان لما رجع إلى الأندلس يضرب ورق الذهب، ويعقد الوثائق، إلى أن فشا علمه، وتهيأت له الدنيا، وشهرته تغني عن وصفه. ومن نظمه قوله: ما طال عهدي بالديار، وإنّما ... أنسى معاهدها أسىً وتبلّد لو كنت أنبأت الديار صبابتي ... رقّ الصّفا بفنائها والجلمد وله في المعتضد بن عباد والد المعتمد: عبّادٌ استعبد البرايا ... بأنعمٍ تبلغ النعائم مديحه ضمن كلّ قلبٍ ... حتى تغنّت به الحمائم ومن أشهر نظمه قوله: إذا كنت أعلم - البيتين، وقد سبقا وممّن ذكره أيضاً الحجاري في المسهب، وابن بشكوال في الصّلة، وأنّه حج أربع حجج، رحمه الله تعالى، وتوفّي في المرية لإحدى عشرة بقيت من رجب، وقيل: ليلة الخميس تاسع رجب، وقيل (1) : تاسع عشر صفر،

_ (1) تاسع رجب، وقيل: سقطت من دوزي.

سنة أربع وسبعين وأربعمائة. ومن تواليفه المنتقى في شرح الموطّأ ذهب فيه مذهب الاجتهاد وإيراد الحجج، وهو ممّا يدل على تبحره في الفنون، ولمّا قدم من المشرق إلى الأندلس بعد ثلاثة عشر عاماً وجد ملوك الطوائف أحزاباً متفرقة، فمشى بينهم في الصلح، وهم يجلّونه في الظاهر، ويستثقلونه في الباطن، ويستردون نزعته، ولم يفد شيئاً فالله تعالى يجازيه عن نيته، ولمّا ناظر ابن حزم قال له الباجي: أنا أعظم منك همّة في طلب العلم، لأنّك طلبته وأنت معان عليه تسهر بمشكاة الذهب وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت السوق (1) ، فقال ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك، لأنّك إنّما طلبت العلم وأنت في اتلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته، فلم أرج به إلاّ علوّ القدر العلمي في الدنيا والآخرة؛ فأفحمه. قال عياض: قال لي أصحابه: كان يخرج إلينا للإقراء، وفي يده أثر المطرقة، إلى أن فشا علمه، ونوهت الدنيا به، وعظم جاهه، وأجزلت صلاته، حتى مات عن مال وافر، وكان يستعمله الأعيان في ترسّلهم، ويقبل جوائزهم، وولي القضاء بمواضع من الأندلس. [ترجمة ابن حزم] (2) وابن حزم المذكور هو أبو محمد ابن حزم الظاهري، قال ابن حيّان وغيره: كان ابن حزم صاحب حديث وفقه وجدل، وله كتب كثيرة في المنطق

_ (1) يريد أنه يسهر على قنديل الدراب وهو الحارس الليلي وسماه " بائت السوق " لأنه يبيت فيه للحراسة. (2) ترجمة ابن حزم في الجذوة: 290 (والبغية رقم: 1204) والصلة: 395 وطبقات الأمم: 86 والذخير 1/ 1: 140 والمطمح: 55 والمغرب 1: 354 والمعجب: 30 وتاريخ الحكماء للقفطي: 156 وتذكرة الحفاظ 3: 241 ومسالك الأبصار (الجزء الثامن) وخلط شعره بشعر ابن عمه أبي المغيرة، وفي طوق الحمامة معلومات عنه وكذلك في سائر كتبه ورسائله.

والفلسفة لم يخل فيها من غلط، وكان شافعيّ المذهب، يناضل الفقهاء عن مذهبه ثم صار ظاهريّاً، فوضع الكتب في هذا المذهب، وثبت عليه إلى أن مات، وكان له تعلّق بالأدب، وشنّع عليه الفقهاء، وطعنوا فيه، وأقصاه الملوك وأبعدوه عن وطنه، وتوفّي بالبادية (1) عشية يوم الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة. وقال صاعد في تاريخه: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة، مع توسعه في علم اللسان والبلاغة والشعر والسّير والأخبار، أخبرني ابنه الفضل أنّه اجتمع عنده بخط أبيه من تواليفه نحو أربعمائة مجلد، نقله عن تاريخ صاعد الحافظ الذهبي. قال الذهبي: وهو العلامة أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح، الأموي، مولاهم، الفارسي الأصل، الأندلسي القرطبي الظاهري، صاحب المصنفات، وأول سماعه سنة 399، وكان إليه المنتهى في الذكاء وحدّة الذهن وسعة العلم بالكتاب والسنّة والمذاهب والملل والنّحل والعربية والآداب والمنطق والشعر، مع الصدق والديانة الحشمة والسؤدد والرياسة والثروة وكثرة الكتب. قال الغزالي رحمه الله تعالى: وجدت في أسماء الله تعالى كتاباً لأي محمد ابن حزم يدل على عظم حفظه وسيلان ذهنه، انتهى باختصار. وعلى الجملة فهو نسيج وحده، لولا ما وصف به من سوء الاعتقاد، والوقوع في السلف الذي أثار عليه الانتقاد، سامحه الله تعالى. وذكر الذهبي أن عمره اثنتان وسبعون سنة، وهو لا ينافي قول غيره " إنّه كان عمره إحدى وسبعين سنة وعشرة أشهر " لأنّه ولد رحمه الله تعالى بقرطبة بالجانب الشرقي في ربض منية المغيرة قبل طلوع الشمس وبعد سلام

_ (1) يعني بقريته التي منها منبته وهب ببادية لبلة، واسمها منت لشم. وفي ق ط ج: من بلده بلد لبلة.

الإمام من صلاة الصبح آخر ليلة الأربعاء آخر يوم من شهر رمضان، سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، بطالع العقرب، وتوفّي ليومين بقيا من شعبان سنة 456، وكان كثير المواظبة على التأليف، ومن جملة تآليفه كتاب الفصل بين أهل الأهواء والنّحل وكتاب الصادع والرادع على من كفّر أهل التأويل من فرق المسلمين والرد على فرق التقليد وكتاب شرح حديث الموطإ والكلام على مسائله وكتاب الجامع في صحيح الحديث باختصار الأسانيد والاقتصار على أصحها وكتاب " التلخيص والتخليص (1) في المسائل النظريّة وفروعها التي لا نصّ عليها في الكتاب والحديث " وكتاب منتقى الإجماع وبيانه من جملة ما لا يعرف فيه اختلاف وكتاب الإمامة والخلافة في سير الخلفاء ومراتبها والندب والواجب منها وكتاب كشف الالتباس ما بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس انتهى. وقال ابن سعيد في حق ابن حزم، ما ملخّصه: الوزير العالم الحافظ أبو محمد علي ابن الوزير أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي، وشهرته تغني عن وصفه، وتوفّي منفيّاً بقرية من بلد لبلة، ووصله من ابن عمه أبي المغيرة رسالةٌ فيها ما أوجب أن جاوبه بهذه الرسالة، وهي: سمعت وأطعت، لقوله تعالى: " وأعرض عن الجاهلين " وأسلمت وانقدت لقول نبيه عليه الصلاة والسلام: " صل من قطعك، واعف عمّن ظلمك " ورضيت بقول الحكماء: " كفاك انتصاراً ممّن تعرض لأذاك إعراضك عنه "، وأقول: تتبّع سواي امرأً يبتغي ... سبابك إنّ هواك السّباب فإنّي أبيت طلاب السفاه ... وصنت محلّي عمّا يعاب

_ (1) والتخليص: سقطت من ق.

وقل ما بدا لك من بعد ذا ... وأكثر فإنّ سكوتي خطاب وأقول: كفاني بذكر الناس لي ومآثري ... وما لك فيهم يا ابن عمّي ذاكر عدوّي وأشياعي كثيرٌ كذاك من ... غدا وهو نفّاع المساعي وضائر (1) وإنّي وإن آذيتني وعققتني ... لمحتملٌ ما جاءني منك صابر فوقّع له أبو المغيرة على ظهر رقعته: قرأت هذه الرقعة العاقّة، فحين استوعبتها أنشدتني: نحنح زيدٌ وسعل ... لمّا رأى وقع الأسل فأردت قطعها، وترك المراجعة عنها، فقالت لي نفسي: قد عرفت مكانها، بالله لا قطعتها إلاّ يده، فأثبتّ على ظهرها ما يكون سبباً إلى صونها، فقلت: نعقت ولم تدر كيف الجواب ... وأخطأت حتى أتاك الصواب وأجريت وحدك في حلبةٍ ... نأت عنك فيها الجياد العراب وبتّ من الجهل مستنبحاً ... لغير قرىً فأتتك الذئاب فكيف تبيّنت عقرى الظّلوم ... إذا ما انقضت بالخميس العقاب لعمرك ما لي طباعٌ تذمّ ... ولا شيمةٌ يوم مجدٍ تعاب أنيل المنى والظّبا سخّطٌ ... وأعطي الرضى والعوالي غضاب وأقول: وغاصب حقٍّ أوبقته المقادر ... يذكّرني حاميم والرمح شاجر (2) غدا يستعير الفخر من خيم خصمه ... ويجهل أنّ الحقّ أبلج ظاهر

_ (1) هذا البيت متقدم على الذي قبله في ق. (2) قوله " يذكرني حاميم " مأخوذ من أبيات للأشتر النخعي قالها عندما قتل محمد بن طلحة وفيها: يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم

ألم تتعلّم يا أخا الظّلم أنّني ... برغمك ناهٍ منذ عشرٍ وآمر تذلّ لي الأملاك حرّ نفوسها ... وأركب ظهر النسر والنسر طائر وأبعث في أهل الزمان شوارداً ... تليّنهم وهي الصعاب النوافر فإن أثو في أرض فإنّي سائرٌ ... وإن أنأ عن قومٍ فإنّي حاضر وحسبك أن الأرض عندك خاتمٌ ... وأنّك في سطح السلامة عاثر ولا لوم عندي في استراحتك التي ... تنفست عنها والخطوب فواقر فإنّي للحلف الذي مرّ حافظٌ ... وللنزعة الأولى بحاميم ذاكر هنيئاً لكلٍّ ما لديه فإنّنا ... عطيّة من تبلى لديه السرائر ومن شعر أبي محمد ابن حزم يخاطب قاضي الجماعة بقرطبة عبد الرحمن ابن بشر (1) : أنا الشمس في جوّ العلوم منيرةً ... ولكنّ عيبي أنّ مطلعي الغرب ولو أنّني من جانب الشرق طالعٌ ... لجدّ على ما ضاع من ذكري النهب ولي نحو آفاق العراق صبابةٌ ... ولا غرو أن يستوحش الكلف الصبّ فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم ... فحينئذ يبدو التأسف والكرب فكم قائلٍ أغفلته وهو حاضرٌ ... وأطلب ما عنه تجيء به الكتب هنالك يدري أن للعبد قصّةً ... وأن كساد العلم آفته القرب فيا عجباً من غال عنهم تشوّقوا ... له، ودنوّ المرء من دارهم ذنب وإنّ مكاناً ضاق عنّي لضيّقٌ ... على أنّه فيحٌ مهامهه سهب وإنّ رجالاً ضيّعوني لضيّعٌ ... وإنّ زماناً لم أنل خصبه جدب

_ (1) في الأصول: عبد الرحمن بن بشير والتصويب عن الصلة: 313 والمرقبة العليا: 87 - 89 وهو عبد الرحمن بن أحمد بن سعيد بن محمد بن بشر بن غرسية قاضي الجماعة بقرطبة يكنى أبا النطرف ويعرف بابن الحصار، ولاه علي بن حمود القضاء في صدر سنة 407 فظل في منصبه إلى أن عزله المعتد المرواني سنة 419 وتوفي سنة 422.

ومنها في الاعتذار عن مدحه لنفسه (1) : ولكنّ لي في يوسفٍ خير أسوةٍ ... وليس على من بالنبيّ ائتسى ذنب يقول مقال الصّدق والحقّ إنّني ... حفيظٌ عليمٌ، ما على صادقٍ عتب وقوله: لا يشمتن حاسدي إن نكبةٌ عرضت ... فالدهر ليس على حالٍ بمتّرك ذو الفضل كالتبر يلقى تحت متربةٍ ... طوراً، وطوراً يرى تاجاً على ملك وقوله لمّا أحرق المعتضد بن عباد كتبه بإشبيلية: دعوني من إحراق رقٍّ وكاغدٍ ... وقولوا بعلمٍ كي يرى الناس من يدري فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمّنه القرطاس، بل هو في صدري يسير معي حيث استقلّت ركائبي ... وينزل إن أنزل ويدفن في قبري وقوله: لئن أصبحت مرتحلاً بشخصي ... فقلبي عندكم أبداً مقيم ولكن للعيان لطيف معنىً ... لذا سأل المعاينة الكليم وقوله: وذي عذلٍ فيمن سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول أمن أجل وجهٍ لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت عليل فقلت له أسرفت في اللوم فاتّئد ... فعندي ردٌّ لو أشاء طويل ألم تر أنّي ظاهريٌّ، وأنّني ... على ما أرى حتى يقوم دليل

_ (1) في الأصول: ومنها في مدحه لنفسه.

وهو أبو محمد علي بن أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن مزيد، القرطبي. قال ابنه أبو رافع الفضل: اجتمع عندي بخط أبي من تواليفه نحو أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من نحو ثمانين ألف ورقة، انتهى. أبوه الوزير أبو عمر المذكور كان من وزراء المنصور بن أبي عامر، وتوفّي - كما قال ابن حيان - بذي القعدة سنة اثنتين وأربعمائة، وكان منشؤه ومولده بقرية تعرف بالزاوية. وحكي أن الحافظ أبا محمد ابن حزم قصد أبا عامر ابن شهيد في يوم غزير المطر والوحل شديد الريح، فلقيه أبو عامر، وأعظم قصده على تلك الحال، وقال له: يا سيّدي، مثلك يقصدني في مثل هذا اليوم! فأنشده أبو محمد ابن حزم بديهاً: فلو كانت الدنيا دوينك لجّةً ... وفي الجوّ صعقٌ دائمٌ وحريق لسهّل ودّي فيك نحوك مسلكاً ... ولم يتعذّر لي إليك طريق قال الحافظ ابن حزم (1) : أنشدني الوزير أبي في بعض وصاياه لي: إذا شئت أن تحيا غنيّاً فلا تكن ... على حالةٍ إلا رضيت بدونها وهذا كافٍ في فضل الفرع والأصل، سامح الله الجميع. قال ابن حزم في " طوق الحمامة " (2) : إنّه مرّ يوماً هو وأبو عمر ابن عبد البر صاحب الاستيعاب بسكّة الحطابين من مدينة إشبيلية، فلقيهما شاب حسن الوجه، فقال أبو محمد: هذه صورة حسنة، فقال له أبو عمر: لم نر إلاّ الوجه، فلعلّ ما سترته الثياب ليس كذلك، فقال ابن حزم ارتجالاً:

_ (1) انظر الجذوة: 118 في ترجمة أحمد بن سعيد والد الفقيه أبي محمد ابن حزم. (2) لم يرد هذا في طوق الحمامة.

وذي عذلٍ فيمن سباني حسنه ... ... الأبيات. ولابن حزم أيضاً قوله: لا تلمني لأنّ سبقة لحظٍ ... فات إدراكها ذوي الألباب يسبق الكلب وثبة الليث في العد ... وويعلو النّخال في اللّباب ولأبي بكر ابن مفوّز جزء يردّ فيه على أبي محمد ابن حزم، وفيه قال معرّضاً: يا من تعاني أموراً لن تعانيها ... خلّ التعاني وأعط القوس باريها تروي الأحاديث عن كلٍّ مسامحةً ... وإنّما لمعانيها معانيها وقيل: إنّه خاطب بهما بعض أصحاب ابن حزم. رجع إلى القاضي أبي الوليد الباجي ومن نظمه قوله من مرثية: أحنّ ويثني اليأس نفسي على الأسى ... كما اضطرّ محمولٌ على المركب الصّعب ومن جيد نظمه قوله: اسرّوا على الليل البهيم سراهم ... فنمّت عليهم في الشمال شمائل متى نزلوا ثاوين بالخيف من منىً ... بدت للهوى بالمأزمين مخايل فلله ما ضمّت منىً وشعابها ... وما ضمّنت تلك الرّبى والمنازل ولمّا التقينا للجمار وأبرزت ... أكفٌّ لتقبيل الحصى وأنامل أشارت إلينا بالغرام محاجرٌ ... وباحت به منّا جسومٌ نواحل

وقال الباجي أبو الوليد رحمه الله تعالى: مضى زمن المكارم والكرام ... سقاه الله من صوب الغمام وكان البرّ فعلاً دون قولٍ ... فصار البرّ نطقاً بالكلام وذيّله بعضهم بقوله: وزال النّطق حتّى لست تلقى ... فتىً يسخو بردٍّ للسّلام وزاد الأمر حتّى ليس إلاّ ... سخيٌّ بالأذى أو بالملام 46 - ومنهم الفقيه العالم الشهير أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الطرطوشي (1) صاحب سراج الملوك، ويعرف بابن أبي رندقة (2) - بالراء المهملة المفتوحة، وسكون النون - وكفى بسراج الملوك دليلاً على فضله. ذكره ابن بشكوال في الصلة، وتوفّي بالإسكندرية، في شعبان، وقيل: جمادى الأولى سنة عشرين وخمسمائة (3) ، وزرت قبره بالإسكندرية، وممّن أخذ عنه الحافظ القاضي أبو بكر ابن العربي وغيره. ومن نظم الطرطوشي قوله من رسالة: أقلّب طرفي في السّماء تردّداً ... لعلّي أرى النّجم الذي أنت تنظر وأستعرض الرّكبان من كلّ وجهةٍ ... لعلّي بمن قد شمّ عرفك أظفر

_ (1) ترجمة أبي بكر الطرطوشي في الصلة: 545 ووفيات الأعيان 3: 393 وبغية الملتمس رقم: 295 والمغرب 2: 424 والنجوم الزاهرة 5: 231 وشذرات الذهب 4: 62 والديباج المذهب: 276 وأزهار الرياض 3: 162. (2) قال ابن خلكان: هي لفظة فرنجية، سألت بعض الفرنج عنها فقال معناها: " رد تعال ". (3) أثار ابن خلكان شيئا من الإشكال حول تاريخ وفاة الطرطوشي، فقد وجد في مشيخة جمعت لبهاء الدين بن شداد أن الطرطوشي أجازه، وابن شداد ولد سنة 539 فكيف يجيزه إذا كان قد توفي سنة 520 (وفي بعض أصول المقري أن الطرطوشي توفي سنة 540) .

وأستقبل الأرواح عند هبوبها ... لعلّ نسيم الريح عنك يخبّر وأمشي ومالي في الطّريق مآربٌ ... عسى نغمةٌ باسم الحبيب ستذكر وألمح من ألقاه من غير حاجةٍ ... عسى لمحةٌ من نور وجهك تسفر ومن نظمه أيضاً قوله: يقولون ثكلى ومن لم يذق ... فراق الأحبّة لم يثكل لقد جرّعتني ليالي الفراق ... كؤوساً أمرّ من الحنظل وممّا نسب إليه (1) : إذا كنت في حاجة مرسلاً ... وأنت بإنجازها مغرم فأرسل بأكمه جلاّبة ... به صممٌ أغطشٌ أبكم ودع عنك كلّ رسولٍ سوى ... رسولٍ يقال له الدرهم وكان كثيراً ما ينشد (2) : إنّ لله عباداً فطنا ... طلّقوا الدّنيا وخافوا الفتنا فكّروا فيها فلمّا علموا ... أنّها ليست لحيٍّ وطنا جعلوها لجّةً واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا وقال رحمه الله تعالى (3) : كنت ليلة نائماً بالبيت المقدس إذ سمعت في الليل صوتاً حزيناً ينشد: أخوفٌ ونومٌ، إنّ ذا لعجيب ... ثكلتك من قلبٍ فأنت كذوب أما وجلال الله لو كنت صادقاً ... لما كان للإغماض فيك نصيب

_ (1) انظر تحقيق ذلك في ابن خلكان. (2) جاءت هذه الأبيات منسوبة لع في الصلة. (3) النقل عن ابن خلكان.

قال: فأيقظ النوّام، وأبكى العيون. وكان رحمه الله تعالى زاهداً، متورعاً، متقلّلاً من الدنيا، قوّالاً للحق. وكان يقول: إذا عرض لك أمر (1) دنيا وأخرى، فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى. وله طريقة في الخلاف. ودخل مرّة على الأفضل ابن أمير الجيوش فوعظه، وقال له (2) : إن الأمر الذي أصبحت فيه من الملك إنّما صار إليك بموت من قبلك، وهو خارج عن يدك بمثل ما صار إليك، فاتّق الله فيما خوّلك من هذه الأمّة، فإن الله، عزّ وجل، سائلك عن النقير والقطمير والفتيل، واعلم أن الله، عزّ وجلّ، آتى سليمان بن داود ملك الدنيا بحذافيرها فسخّر له الإنس والجن والشياطين والطير والوحش والبهائم، وسخّر له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، ورفع عنه حساب ذلك أجمع، فقال عزّ من قائل: " هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حسابٍ " فما عدّ ذلك نعمة كما عددتموها، ولا حسبها كرامة كما حسبتموها، بل خاف أن يكون استدراجاً من الله، عزّ وجلّ، فقال: " هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر " فافتح الباب، وسهّل الحجاب، وانصر المظلوم. وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني فأنشده (3) : يا ذا الذي طاعته قربة ... وحقّه مفترضٌ واجب إن الذي شرفت من أجله ... يزعم هذا أنّه كاذب وأشار إلى النصراني، فأقامه الأفضل من مكانه. والطّرطوشي - بضم الطاءين - نسبة إلى طرطوشة من بلاد الأندلس،

_ (1) دوزي: أمران. (2) ورد هذا النص في سراج الملوك: 61 مع بعض اختلاف، وأزهار الرياض 3: 164. (3) النقل عن ابن خلكان.

وقد تفتح الطاء الأولى. وعبر عنه ابن الحاجب في مختصره الفقهي في باب العتق بالأستاذ. وكان رحمه الله تعالى صحب القاضي أبا الوليد الباجي رحمه الله تعالى بسرقسطة، وأخذ عنه مسائل الخلاف، وسمع منه وأجازه، وقرأ الفرائض والحساب بوطنه، وقرأ الأدب على أبي محمد ابن حزم بمدينة إشبيلية، ثم رحل إلى المشرق سنة ست وسبعين وأربعمائة، ودخل بغداد والبصرة فتفقّه عند أي بكر الشاشي وأبي محمد الجرجاني، وسمع بالبصرة من أبي علي التّستري، وسكن الشام مدّة، ودرس بها، وكان راضياً باليسير. وقال الصفدي في ترجمة الطرطوشي (1) : إن الأفضل ابن أمير الجيوش أنزله في مسجد شقيق الملك بالقرب من الرصد، وكان يكرهه، فلمّا طال مقامه به ضجر، وقال لخادمه: إلى متى نصبر اجمع لي المباح، فجمعه، وأكله ثلاثة أيام، فلمّا كان عند صلاة المغرب قال لخادمه: رميته الساعة، فلمّا كان من الغد ركب الأفضل فقتل، وولي بعده المأمون بن البطائحي فأكرم الشيخ إكراماً كثيراً، وله ألّف الشيخ سراج الملوك، انتهى. ومقامه - أعني الطرطوشي - مشهور، وهذه الحكاية تكفي في ولايته. ومن تآليفه " مختصر تفسير الثعالبي "، و " الكتاب الكبير في مسائل الخلاف "، وكتاب " في تحريم جبن الروم "، وكتاب " بدع الأمور ومحدثاتها "، وكتاب " شرح رسالة الشيخ ابن أبي زيد ". وولد سنة إحدى وخمسين وأربعمائة تقريباً، ولمّا توفّي صلى عليه ولده محمد، ودفن رحمه الله تعالى قبل الباب الأخضر بإسكندرية، وزرت قبره مراراً، رحمه الله تعالى، ورضي عنه، ونفعنا به. وكان القاضي عياض ممن استجازه فأجازه ولم يلقه، وشهرته رضي الله

_ (1) انظر ابن خلكان 3: 394.

تعالى عنه تغني عن الإطناب. وحكي أنّه كتب على " سراج الملوك " الذي أهداه لولي الأمر بمصر: الناس يهدون على قدرهم ... لكنّني أهدي على قدري يهدون ما يفنى وأهدي الذي ... يبقى على الأيّام والدّهر وحكي أنّه سمع رضي الله تعالى عنه منشداً نشد للوأواء: قمرٌ أتى من غير وعد ... في ليلةٍ طرقت بسعد بات الصّباح إلى الصبا ... ح معانقي خدّاً بخدّ يمتاز (1) فيّ وناظري ... ما شئت من خمر وشهد فقال: أو يظن هذا الدمشقي أن أحداً لا يحسن ينظم الكذب غيره لو شئنا لكذبنا مثل هذا؛ ثم أنشد لنفسه يعارضه: قمر بدا من غير وعد ... حفّت شمائله بسعد قبّلته ورشفت ما ... في فيه من خمر وشهد فرشفت مزن السلسبي ... ل بزنجبيلٍ مستعدّ ولثمت فاه من الغرو ... ب إلى الصّباح المستجدّ وسكرت من رشفي العقي ... ق على أقاحٍ تحت رند فنزعت عن فمه فمي ... ووضعت خدّاً فوق خدّ وشممت عرف نسيمه ال ... جاري على مسكٍ وندّ وصحوت من ريّا القرن ... فل بين ريحانٍ وورد وألذّ من وصلي به ... شكواه وجداً مثل وجدي ومن نظم الطرطوشي قوله أيضاً:

_ (1) كذا في الأصول؛ وفي دوزي " يمتار ".

كأنّ لساني والمشكلات ... سنا الصّبح ينحر ليلاً بهيما وغيري إن رام ما رمته ... خصيٌّ يحاول فرجاً عقيما وقوله أيضاً: فاعمل لمعادك يا رجل ... فالقوم (1) لدنياهم عملوا واذخر لمسيرك من زادٍ ... فالقوم بلا زادٍ رحلوا 47 - ومنهم محمد بن عبد الجبار الطرطوشي (2) ، وفد إلى المشرق، وذكره العماد في الخريدة وله في الآمدي العلي (3) بمصر، وكان يخضب بسواد الرّمان (4) ، يخضب بأقبح سواد خضب به (5) : اخلط العفص فيه يا أحوج النّا ... س إلى العفص حين يعكس عفص 48 - ومنهم القاضي الشهيد أبو علي الصدفي (6) ، وهو حسين بن محمد بن فيرّه بن حيّون، ويعرف بابن سكّرة (7) ، وهو من أهل سرقسطة، سكن مرسية، وروى بسرقسطة عن الباجي وأبي محمد عبد الله بن محمد بن إسماعيل وغيرهما، وسمع ببلنسية من أبي العباس العذري، وسمع بالمريّة من أبي عبد الله محمد بن سعدون القروي وأبي عبد الله ابن المرابط وغيرهما،

_ (1) ق ط: فالقلب، وهو سهو، وفي بعض النسخ: فالناس. (2) اسمه في نسخة باريس من الخريدة (حسبما ذكر في هوامش طبعة ليدن) : محمود بن عبد الجبار الطرسوسي. (3) ق: الامد العجلي. (4) الخريدة: الرماد، وهو الصواب فيما يبدو. (5) يخضب ... خضب به: وردت في ط ق وسقطت من ج. (6) في ط: الصيرفي. (7) دوزي: شكرة بالشين؛ وانظر ترجمته في الصلة: 143 وتهذيب ابن عساكر 4: 459 وتذكرة الحفاظ: 1253 وشذرات الذهب: 104 وفي أصحابه ألف ابن الأبار " المعجم في أصحاب القاضي أبي علي الصدفي " (ط. مدريد 1885) وقد شهر بابن الدراج.

ورحل إلى المشرق أول المحرم من سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وحج من عامه، ولقي بمكّة أبا عبد الله الحسن (1) بن علي الطبري وأبا بكر الطرطوشي وغيرهما، ثم سار إلى البصرة فلقي بها أبا يعلى المالكي وأبا العباس الجرجاني وأبا القاسم ابن شعبة وغيرهم، وخرج إلى بغداد فسمع بواسط من أبي المعالي محمد بن عبد السلام الأصبهاني وغيره، ودخل بغداد سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، فأطال الإقامة بها خمس سنين كاملة، وسمع بها من أبي الفضل ابن خيرون مسند بغداد، ومن أبي الحسين المبارك ابن عبد الجبار الصيرفي، وطراد الزينبي، والحميدي، وغيرهم، وتفقّه عند أبي بكر الشاشي وغيره، ثم رحل منها سنة سبع وثمانين، فسمع بدمشق من أبي الفتح نصر المقدسي وأبي الفرج (2) الأسفراييني وغيرهما، وسمع بمصر من القاضي أبي الحسن الخلعي وأبي العباس أحمد بن إبراهيم الرازي، وأجاز له الحبال مسند مصر في وقته ومكثرها، وسمع بالإسكندريّة من أبي القاسم الوراق (3) وشعيب بن سعيد وغيرهما، ووصل إلى الأندلس في صفر من سنة تسعين (4) وأربعمائة، وقصد مرسية، فاستوطنها، وقعد يحدّث الناس بجامعها، ورحل الناس من البلدان إليه، وكثر سماعهم عليه، وكان عالماً بالحديث وطرقه، عارفاً بعلله، وأسماء رجاله ونقلته، وكان حسن الخط جيّد الضبط، وكتب بخطّه علماً كثيراً، وقيّده، وكان حافظاً لمصنّفات الحديث، قائماً عليها، ذاكراً لمتونها وأسانيدها ورواتها، وكتب منها صحيح البخاري في سفر، وصحيح مسلم في سفر، وكان قائماً على الكتابين مع مصنّف أبي عيسى الترمذي، وكان فاضلاً ديّناً متواضعاً حلوماً وقوراً عالماً عاملاً، واستقضي بمرسية، ثم استعفى فأعفي،

_ (1) الصلة: الحسين. (2) اسمه: سهل بن بشر. (3) اسمه: مهدي بن يونس. (4) ق ط: سبعين، وهو خطأ نسخي.

وأقبل على نشر العلم وبثّه (1) . وقد ذكره أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه لدخوله الشام، قال (2) : وبعد أن استقرت به النوى، واستمرت إفادته بما قيّد وروى، رفعته ملوك أوانه، وشفّعته في مطالب إخوانه، فأوسعته رعياً، وأحسنت فيه رأياً، ومن أبنائهم من جعل يقصده، لسماع يسنده، وعلى وقاره الذي كان به يعرف، ندر له مع بعضهم ما يستطرف، وهو أن فتىً يسمى يوسف لازم مجلسه، معطراً رائحته ومنظفاً ملبسه، ثم غاب لمرض قطعه، أو شغل منعه، ولمّا فرغ أو أبلّ، عاود ذلك النادي المبارك والمحلّ، وقبل إفضائه إليه، دلّ طيبه عليه، فقال الشيخ على سلامته من المجون، وخلاصه من الفتون: " إنّي لأجد ريح يوسف لولا أن تفنّدون " وهي من طرف نوادره (3) رحمة الله عليه. ولمّا قلّد قضاء مرسية وعزم عليه صاحب الأمر فيه فرّ من المرية فأقام بها سنة خمس وبعض سنة ست وخمسمائة، وفي سنة ست قبل قضاءها على كره إلى أن استخفى آخر سنة سبع في قصّة يطول إيرادها، وبطول مقامه بالمرية أخذ الناس عنه بها، فلمّا كانت وقعة كتندة (4) كان ممّن حضرها ففقد فيها سنة أربع عشرة وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وقال القاضي عياض: ولقد حدّثني الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر أنّه قال له: خذ الصحيح، واذكر أيّ متن شئت منه أذكر لك سنده، أو أيّ سند شئت أذكر لك متنه، انتهى.

_ (1) إلى هنا كانت الترجمة نقلا عن الصلة، مع شيء يسير من الإيجاز. (2) لم يرد شيء من هذا النص في تهذيب ابن عساكر، وظني أنه ليس من تاريخ دمشق، فهو مبني على السجع، إلا أن يكون ابن عساكر ناقلا له من مصدر آخر. (3) ق: ظرف نوادره؛ ط: وهي من نوادره. (4) تكتب أيضا " قتندة " وتقع في جزيرة دورقة (Doroca) من عمل سرقسطة.

وذكر غير واحد أنّه حدّث ببغداد بحديث واحد، والله أعلم؛ وهو من أبناء الستين (1) . 49 - ومنهم ابن أبي روح الجزيري، ومن شعره لما تغرب بالمشرق قوله: أحنّ إلى الخضراء في كلّ موطن ... حنين مشوقٍ للعناق وللضّمّ وما ذاك إلاّ أنّ جسمي رضيعها ... ولا بدّ من شوق الرضيع إلى الأمّ 50 - ومنهم العالم أبو حفصٍ عمر بن حسن الهوزني (2) ، الحسيب العالم المحدّث، ذكره ابن بسام في الذخيرة والحجاري في " المسهب " (3) ، وسبب رحلته للمشرق أنّه لمّا تولى المعتضد بن عبّاد خاف منه، فاستأذنه في الحج سنة 444، ورحل إلى مصر، ثم إلى مكّة، وسمع [في طريقه كتاب] صحيح البخاري، وعنه أخذه أهل الأندلس، ورجع، وسكن إشبيلية وخدم المعتضد، فقتله [ومن خاف (4) من شيء سلط عليه، وكان قتله يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول (5) ] سنة ستين وأربعمائة. ومن شعره يحرّضه على الجهاد: أعبّاد جلّ الرّزء والقوم هجّع ... على حالةٍ من مثلها يتوقّع فلقّ كتابي من فراغك ساعة ... وإن طال فالموصوف للطول موضع إذا لم أبثّ الداء ربّ شكاية ... أضعت، وأهلٌ للملام المضيّع [ووصله بنثر، وهو] : وما أخطأ السبيل من أتى البيوت من أبوابها،

_ (1) هذه الجملة ثبتت في ق ط، وسقطت من دوزي وج. (2) ترجمة الهوزني في الذخيرة (القسم الثاني: 33) والصلة: 381 والمغرب 1: 234. (3) ذكره ... المسهب: سقطت من ق ط ج. (4) ما بين معقفين زيادة من الذخيرة. (5) الذخيرة: 34 - 35.

ولا أرجأ الدليل من أناط الأمور بأربابها، ولربّ أمل بين أثناء المحاذير مدمج، ومحبوب في طي المكاره مدرج، فانتهز فرصتها فقد بان من غيرك العجز، وطبّق مفاصلها (1) فقد أمكنك الحزّ، ولا غرو أن يستمطر الغمام في الجدب، ويستصحب الحسام في الحرب. وله (2) : صرّح الشرّ فلا يستقلّ ... إن نهلتم جاءكم بعد علّ بدء صعق الأرض رشٌّ وطلّ ... ورياحٌ ثم غيمٌ أبلّ خفّضوا فالداء رزءٌ أجلّ ... واغمدوا سيفاً عليكم يسلّ وابنه أبو القاسم هو الذي كان سبب فساد دولة المعتمد بن عباد بسبب قتل المعتضد والده كما مرّ (3) ؛ [وبيت بني الهوزني بالأندلس بيت كبير مشهور ومنهم عدّة علماء وكبراء، رحم الله الجميع] (4) . 51 - ومنهم أبو عمرو عثمان بن الحسين (5) ، أخو الحافظ أبي الخطاب ابن دحية الآتي ذكره (6) ، كان أسنّ من أخيه أبي الخطاب، وكان حافظاً للغة العرب، قيّماً بها، وعزل الملك الكامل أبا الخطاب عن دار الحديث الكاملية التي أنشأها بين القصرين ورتب مكانه أخاه أبا عمرو المذكور، ولم يزل بها إلى أن توفّي

_ (1) ق ط ج: مضاربها. (2) الذخيرة: 37. (3) في دوزي: وبسبب قتل بني عباد لأبي حفص الهوزني المذكور تسبب ابنه أبو القاسم في فساد دولة المعتمد بن عباد، وحرض عليه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين صاحب المغرب حتى أزال ملكه ونثر سلكه وسبب هلكه، كما ذكرناه في غير هذا الموضع من هذا الكتاب غير مرة، فليراجعه من أراده في محاله. (4) زدنا هذه العبارة من دوزي. (5) ترجمته في شذرات الذهب 5: 168 وذيل الروضتين: 164 ووفيات الأعيان 3: 123. (6) ذكره: سقطت من ق ط ج، وانظر الترجمة رقم 55 فيما يلي.

سنة 634 بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم كأخيه، وكان موت أبي عمرو بعد أبي الخطاب بسنة، رحمهما الله تعالى. 52 - ومنهم الكاتب أبو بكر محمد بن القاسم (1) ، من أهل وادي الحجارة، ويعرف باشكنهادة (2) ، وارتحل إلى المشرق لما نبت به حضرة قرطبة عند تقلب دولها، وتحول ملوكها وخولها، فجال في العراق، وقاسى ألم الفراق، واجتاز بحلب، وأقام بها مقام غريب لم يصف له حلب، وقال (3) : أين أقصى الغرب من أرض حلب ... أملٌ في الغرب موصول التّعب حنّ من شوقٍ إلى أوطانه ... من جفاه صبره لمّا اغترب جال في الأرض لجاجاً حائراً ... بين شوقٍ وعناء ونصب كلّ من يلقاه لا يعرفه ... مستغيثاً بين عجمٍ وعرب لهفّ نفسي أين هاتيك العلا ... واضياعاه ويا غبن الحسب والذي قد كان ذخراً وبه ... أرتجي المال وإدراك الرّتب صار لي أبخس ما أعددته ... بين قومٍ ما دروا طعم الأدب يا أحبّاي اسمعوا بعض الذي ... يتلقّاه الطّريد المغترب وليكن زجراً لكم عن غربةٍ ... يرجع الرأس لديها كالذنب واحملوا طعناً وضرباً دائماً ... فهو عندي بين قومي كالضّرب ولئن قاسيت ما قاسيته ... فيما أبصر لحظي من عجب ولقد أخبركم أن ألتقي ... بكم حتى تقولوا قد كذب

_ (1) ترجمته في المغرب 2: 31. (2) في المغرب: اشكهباط؛ وأعتقد أن هذا هو نفسه الذي ورد في الذخيرة 1/ 1: 195 باسم " أبو بكر المعروف باشكمياط " وقد عرضت عليه فصول لأبي عامر ابن شهيد، فقال فيها: فقر حسان إلا أنه عثر عليها، فكتب إليه ابن شهيد رسالة (الذخيرة 1/ 1: 196) . (3) بعض هذه القصيدة في المغرب.

واجتاز بدمشق فقال من أبيات رحمه الله تعالى: دمشقٌ جنّة الدنيا حقيقاً ... ولكن ليس تصلح للغريب بها قومٌ لهم عددٌ ومجدٌ ... وصحبتهم تؤول إلى حروب ثم إنّه ودع الشرق بلا سلام، وحلّ بحضرة دانية لدى ملكها مجاهد العامري في بحبوحة عزٍّ لا يخشى فيه الملام، واستقبل الأندلس بخاطر جديد، ونال بها بعد من بلوغ الآمال ما ليس له عليه مزيد، وقال (1) : وكم قد لقيت الجهد قبل مجاهد ... وكم أبصرت عيني وكم سمعت أذني ولاقيت من دهري وصرف خطوبه ... كما جرت النكباء في معطف الغصن فلا تسألوني عن فراق جهنم ... ولكن سلوني عن دخولي إلى عدن وله من كتاب: وحامل كتابي - سلّمه الله تعالى وأعانه - ممّن أخنى عليه الزمان، وأدار عليه وما صحا إلى الآن كؤوس الهوان، وقد قصد على بعدٍ جنابك الرحيب الخصيب، قصد الحسن محلّ الخصيب، ويمم جناب ابن طاهر حبيب، وإنّي لأرجو أن يرجع منك رجوع نصيب عن سليمان (2) ، ويستعين في شكرك بكل لسان، وأنت عليم بأن الثناء هو الخلف، وقد قال الأول: أرى الناس أحدوثةً ... فكوني حديثاً حسن وأنا القائل: فلا تزهدن في الخير قد مات حاتمٌ ... وأخباره حتى القيامة تذكر

_ (1) انظر هذا الشعر في المغرب. (2) الحسن بن هانئ أبو نؤاس أم جناب الخصيب صاحب الخراج بمصر، وحبيب أبو تمام أم عبد الله ابن طاهر، ونصيب أم سليمان بن عبد الملك.

ومع هذا فهو عليه بقدر ما يحتمل من التكليف هذا الأوان، عارف وجوه الأعذار غير ذي عجل في العتب قبل البيان، وعند سيدي من التهدي للإيصاء، ما يحقق فيه جميع الرجاء، ودامت أرجاؤه مؤملة، ولا برحت نعمه سابغة مكملة. 53 - ومنهم الكاتب أبو عبد الله محمد بن عبد ربه المالقي (1) ، وقال بعضهم: إنّه من الجزيرة الخضراء، له رحلة إلى الديار المصريّة، صنع فيها مقامة يقول فيها: في جنبات الروض نهرٌ ودوحةٌ ... يروقك منها سندسٌ ونضار تقول وضوء البدر فيه مغرّبٌ (2) ... ذراع فتاةٍ دار فيه سوار ومن شعره: ما كلّ إنسانٍ أخٌ منصف ... ولا الليالي أبداً تسعف فلا تضع إن أمكنت فرصةً ... واصحب من الإخوان من ينصف وانتف من الدهر ولو ريشةً ... فإنّما حظّك ما تنتف وقوله يرثي السيد أبا عمران ابن أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي ملك المغرب والأندلس: بجيد المعالي أيّ عقدٍ تبدّدا ... وصدر العوالي أيّ رمحٍ تقصّدا

_ (1) ترجمته في تحفة القادم: 94 والمغرب 1: 427 والمعجب: 375 - 378 والوافي رقم: 203 وكنيته في التحفة " أبو عمرو "، وقال إن أبا بكر ابن صقلاب كناه في بعض ما خاطبه به أبا عبد الله، وكان صديقا لصاحب المعجب وقال: إن له اتساعا في صناعة الشعر إلا أنه نحل كثيرا من شعره السيد الأجل أبا الربيع سليمان بن عبد الله بن عبد المؤمن أيام كتابته له؛ وقال ابن سعيد: وله رسالة في صقلية ذكر فيها ما جرى له بمصر وحذر فيها من الأسفار لما قاسى فيها. (2) في الأصول: مغربا.

ولمّا دهت خيل الشقيّ فجاءةً ... وسال العدا بحراً من الموت مزبدا شهدت بوجهٍ كالغزالة مشرقاً ... وإن كان وجه الشمس بالنّقع مربدا عزائم صدقٍ ليس تصرف هكذا ... إلى الموت تسعى أو على الموت يعتدى وكان السيد أبو عمران المرثي قتله الميورقي (1) صاحب فتنة إفريقية في الهزيمة المشهورة على تاهرت، وجمع ابن عبد ربّه المذكور شعر السيد أبي الربيع ابن عبد الله ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي، وكان ابن عبد ربه المذكور كاتباً للسيد أبي الربيع سليمان المذكور، ولما أنشد لبعض الشعراء (2) : حاكت يمين الرّياح محكمةً ... في نهرٍ واضح الأسارير فكلّما ضعّفت به حلقاً ... قام لها القطر بالمسامير أنشد لنفسه (3) : بين الرياض وبين الجوّ معتركٌ ... بيضٌ من البرق أو سمرٌ من السّمر إن أوترت قوسها كفّ السماء رمت ... نبلاً من الماء في زغفٍ من الغدر لأجل ذاك إذا هبّت طلائعها ... تدرّع النهر واهتزت قنا الشجر واجتمع ابن عبد ربه المذكور في رحلته بالسعيد ابن سناء الملك، وأخذ عنه شيئاً من شعره، ورواه بالمغرب.

_ (1) هذا الميورقي هو يحيى بن غانية، وكان السيد أبو عمران موسى والياً يومئذ على تلمسان، فاتصل كبراء زناتة فيها بيحيى بن غانية ووصفوا له ما فيه أبو عمران من ضعف وعدم استعداد، ففاجأه ابن غانية وقضى عليه وعلى أكثر من معه واقتحم مدينة تاهرت ونهبها وخربها (سنة 605) انظر ابن خلدون 6: 249، 278. (2) هذا ما أنشده إياه صديقه عبد الواحد المراكشي، انظر المعجب: 376. (3) من الغريب أن هذا الشعر ثابت في ديوان أبي ربيع: 140، مما قد يرجح القول بأن المالقي نحل كثيراً من شعره لهذا الأمير.

54 - ومنهم الشاعر الأديب أبو محمد عبد المنعم بن عمر بن حسان المالقيّ (1) ، ومن نظمه في السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب من قصيدة رحمه الله تعالى (2) : وفي صهوات المقربات وفي القنا ... حصون حمىً لا في هضاب المعاقل ومنها: ولا ملك يأتي كيوسف آخراً ... كما لم يجئ مثلٌ له في الأوائل 55 - ومنهم الحافظ أبو الخطاب ابن دحية (3) ، وهو مجد الدين عمر بن الحسن بن علي بن محمد [بن الجميّل] بن فرح بن خلف، الظاهري المذهب، الأندلسي، كان من كبار المحدثين، ومن الحفاظ الثّقات الأثبات المحصلين، استوطن بجاية في مدة أبي عبد الله ابن يومور، وروى بها، وأسمع، وكان من أحفظ أهل زمانه باللغة، حتى صار حوشيّ اللغة عنده مستعملاً غالباً، ولا يحفظ الإنسان من اللغة حوشيّها إلاّ وذلك أضعاف أضعاف محفوظه من مستعملها، وكان قصده - والله تعالى أعلم - أن ينفرد بنوع يشتهر به دون غيره، كما فعل كثير من الأدباء حيث تركوا طريق المعرب وانفردوا بالطريق الآخر، ولو سلكوا طريق المعرب لكانوا فيه كآحاد الناس، وكذا الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له رسائل ومخاطبات كلّها مغلقات مقفلات، وكان - رحمه الله تعالى - إذا كتب اسمه فيما يجيزه أو غير ذلك يكتب ابن دحية ودحية معاً التشبّه به جبريل وجبرائيل، ويذكر ما ينيّف على ثلاثة عشرة لغة مذكورة

_ (1) ترجمته في الفوات 2: 35 وابن أبي أصيبعة 2: 157 وكنيته فيهما أبو الفضل والنسبة إلى جليانة (أو جيان) لا إلى مالقة؛ وكان مقربا عند صلاح الدين، ماهرا في الطب، وله عشرة دواوين عدها صاحب الفوات وابن أبي اصيبعة. (2) من قصيدة له ورد بعض أبياتها في الفوات 2: 36. (3) ترجمة أبي الخطاب ابن دحية في وفيات الأعيان 3: 121 والغبريني: 159 وشذرات الذهب 5: 160 ومرآة الزمان 2: 698 وذيل الروضتين: 163 والتكملة رقم: 1832 وصلة الصلة: 73.

في جبريل، ويقول عند فاطر السموات والأرض، وهذا فرع انفرد به عمّن عداه من أهل العلم. قال صاحب عنوان الدراية: رأيت له تصنيفاً في رجال الحديث لا بأس به، وارتحل إلى المشرق في دولة بني أيوب، فرفعوا شأنه، وقربوا له مكانه، وجمعوا له علماء الحديث، وحضروا له مجلساً أقروا له بالتقدم، وعرفوا أنّه من أولي الضبط والإتقان والتفهم، وذكروا أحاديث بأسانيد حوّلوا متونها، فأعاد المتون المحوّلة، وعرّف عن تغييرها، ثم ذكر الأحاديث على ما هي عليه من متونها الأصلية، ومثل هذه الحكاية اتفق لأبي عمر ابن عات في كتاب مسلم بمراكش ببيت الطلبة منها. ومن شعر أبي الخطاب ما كتب به إلى الكامل بن العادل بن أيوب: ما لي أسائل برق بارق عنكم ... من بعد ما بعدت دياري منكم فمحلّكم قلبي وأنتم بالحشا ... لا بالعقيق ولا برامة أنتم وأنا المقيم على الوفاء بعهدكم ... يا مالكين، وفيتم أو خنتم وهو طويلة، ومنها: رفعت له الأملاك منه سجيّةً ... ملك السّماك الرمح وهو محرّم ومنها أيضاً: لذوي النّهى والفهم سرّ حكومة ... قد حار فيها كاهنٌ ومنجّم فاقصد مرادك حيث سرت مظفّراً ... والله يكلأ والكواكب نوّم وليهنك الشهر السعيد تصومه ... وتفوز فيه بالثواب وتغنم فلأنت في الدنيا كليلة قدره ... قدراً، فقدرك في الملوك معظّم فأجابه السلطان مكافأةً بنثر ونظم، فمن النظم:

وهيّجن شوقي للأجارع باللّوى ... وأين اللّوى مني وأين الأجارع مرابع لو أنّ المرابع أنجمٌ ... لكان نجوم الأرض تلك المرابع رعى الله أياماً لها ولو أنّها ... إليّ وقد ولّى الشباب رواجع ليالي لا ليلى إذا رمت وصلها ... يلوح لها من صبح شيبي مواقع في جملة أبيات. ومن النثر: الحمد لله ولي الحمد، وقف ولده على الأبيات التي حسن شعرها، وصفا درّها، وليس من البديع أن يقذف البحر درّاً، أو ينظم الخليل شعراً، وقد أخذت الورقة لأتنزه في معانيها، وأستفيد بما أودعه (1) فيها، فالله تعالى لا يخلينا من فوائد فكرته، وصالح أدعيته، والسلام. فأجابه الحافظ أبو الخطاب عن الأبيات بقوله من قصيدة: شجتني شواجٍ في الغصون سواجع ... ففاضت هوامٍ للحفون هوامع وأكثر فيها من التغزل، إلى أن قال: ولا حاكمٌ أرضاه بيني وبينها ... سوى حاكمٍ دهري له اليوم طائع يدافع عني الضّيم قائم سيفه ... إذا عزّ من للضّيم عنّي يدافع هو الكامل الأوصاف والملك الذي ... تشير إليه بالكمال الأصابع وبيض أياديه الكريمة في الورى ... قلائد في الأعناق وهي الصّنائع ويوماه يوماه اللّذان هما هما ... إذا جمعت غلب (2) الملوك المجامع ومنها: فما روضةٌ غنّا بها مرّت الصّبا ... ونشر شذاها الطّيّب النّشر ذائع

_ (1) ق: أودعته. (2) ق: جمعت منه.

له من شذيّ الزهر بردٌ مفوّفٌ ... أتيح له من أرض صنعاء صانع فراقك منها أخضر الثوب ناضرٌ ... وشاقك منها أصفر اللون فاقع وأحمر قانٍ للخدود مورّدٌ ... وأبيض كالثغر المفلّج ناصع بأحسن من توشيع مدحي الذي له ... بدائع من وشي البديع وشائع وما ضائعٌ من نشر شكري الذي به ... تأرجت الأرجاء عندك ضائع ولو لم يقيّدني نداك لكان لي ... مجالٌ فسيح في البسيطة واسع فأنت الذي لي والأعادي كثيرة ... فويق مكان النجم في الأفق دافع ومنها: بقيت لعبدٍ جدّه دحية الذي ... يشابه جبريلٌ له ويضارع وجدّته الزهراء بن محمدٍ ... عليه السلام الدائم المتتابع ولا عدمت منك الممالك مالكاً ... يقرّب للآمال ما هو شاسع ومنك عيونٌ للمهمّات يقّظٌ ... وعنك عيون الحادثات هواجع وقال المقريزي في ترجمة الملك الكامل: إنّه كان مشغوفاً بسماع الحديث النبوي، وبقدم عنده أبو الخطاب ابن دحية، وبنى له دار الحديث الكامليّة بين القصرين بالقاهرة، انتهى. وقال أبو الخطاب ابن دحية: أنشدني أبو القاسم السّهيلي لنفسه (1) ، وذكر أنّه ما سأل الله تعالى بها إلاّ أعطاه: يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعدّ لكلّ ما يتوقّع يا من يرجّى للشدائد كلّها ... يا من إليه المشتكى والمفزع

_ (1) الأبيات في المطمح: 234 وأبو القاسم السهيلي هو عبد الرحمن بن عبد الله (توفي 581) صاحب الروض الأنف، انظر ترجمته في التكملة رقم: 1613 والمطرب: 230 وأدباء مالقة؛ الورقة: 127.

يا من خزائن رزقه في قول كن ... امنن فإن الخير عندك أجمع ما لي سوى فقري إليك وسيلةٌ ... فبالافتقار إليك فقري أدفع ما لي سوى قرعي لبابك حيلةٌ ... فلئن رددت فأيّ بابٍ اقرع ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع حاشا لجودك أن يقنّط عاصياً ... الفضل أجزل والمواهب أوسع ومن نظم السّهيلي رضي الله تعالى عنه (1) : أسائل عن جيرانه من لقيته ... وأعرض عن ذكراه والحال تنطق وما بي إلى جيرانه من صبابةٍ ... ولكنّ نفسي (2) عن صبوحٍ ترقّق وله (3) : لمّا أجاب بلا طمعت بوصله ... إذ حرف لا حرفان معتنقان وكذا نعم بنعيم وصلٍ آذنت ... فنعم ولا في اللفظ (4) متفقان ولد أبو الخطاب ابن دحية في ذي القعدة سنة سبع - أو ثمان - وأربعين وخمسمائة (5) وتوفّي في انفجار الفجر ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم. وتكلم فيه جماعة فيما ذكره ابن النجار، وقدره أجلّ ممّا ذكروه، وقد روى رحمه الله تعالى بالمغرب ومصر والشام والعراق وخراسان وعراق العجم، وكل ذلك في طلب الحديث، وسمع بالأندلس من ابن بشكوال وابن

_ (1) أدباء مالقة: 129. (2) أدباء مالقة: قلبي ... يرقق؛ وفيه إشارة إلى المثل " أعن صبوح ترقق ". (3) أدباء مالقة: 130. (4) أدباء مالقة: في الحب. (5) مختلف في عام ولادته، راجع وفيات الأعيان؛ وفيه أنه ولد 544.

زرقون في جمع كبير، وببغداد من أبي الفرج ابن الجوزي، وبأصبهان من أبي جعفر الصيدلاني معجم الطبراني ومن غيره، وبنيسابور من أبي سعيد ابن الصفّار ومنصور بن الفراوي والمؤيد الطوسي، وحصل الكتب والأصول، وحدّث، وأفاد، وكان من أعيان العلماء، ومشاهير الفضلاء، متقناً لعلم الحديث وما يتعلّق به، عارفاً بالنحو واللّغة وأيّام العرب وأشعارها. وصنّف كتباً كثيرة مفيدة جدّاً، منها كتاب التنوير في مولد السراج المنير صنفه عند قدومه إلى إربل سنة أربع وستمائة، وهو متوجه إلى خراسان لمّا رأى ملك إربل مظفر الدين كوكبري معتنياً بعمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول كل عام، مهتمّاً به غاية الاهتمام، وكمله وقرأه عليه بنفسه، وختمه بقصيدة طويلة، فأجازه بألف دينار، وصنف أيضاً العلم المشهور في فضائل الأيّام والشهور، والآيات البيّنات في ذكر ما في أعضاء رسول الله صلّى اله عليه وسلّم من المعجزات وكتاب شرح أسماء النبي صلّى الله عليه وسلّم وكتاب " النبراس في أخبار خلفاء بني العباس وكتاب الإعلام المبين في المفاضلة بين أهل صفّين " (1) . وولي قضاء بلد أصوله دانية مرتين، ثم صرف عن ذلك لسيرة نعيت عليه، فرحل عنها وحدث بتونس سنة 595، ثم حجّ وكتب بالمشرق عن جماعة بأصبهان ونيسابور، وعاد إلى مصر، فاستأدبه العادل لولده الكامل، وأسكنه القاهرة، فنال بذلك دنيا عريضة، ثم زادت حظوته عند الكامل، وأقبل عليه إقبالاً عظيماً وكان يعظمه ويحترمه، ويعتقد في الخير، ويتبرك به، حتى كان يسوي له المداس حين يقوم، وهو بلنسي كما قاله ابن خلّكان وغيره، وبلنسية مشهورة بشرق الأندلس.

_ (1) لم يذكر كتاب " المطرب " الذي ألفه ليعرف بالأدباء الأندلسيين والأدب الأندلسي.

56 - ومنهم خلف بن القاسم بن سهل بن الدباغ، الحافظ، الأندلسي (1) ، رحل إلى المشرق، وكان حافظاً فهماً عارفاً بالرجال، حدث حديث مالك وشعبة وأشياء في الزهد، وسم بمصر أبا الحسن ابن الورد البغدادي ومسلم بن الفضل والحسن بن رشيق وجماعة، وسم بدمشق عليّ بن أبي العقب وأب الميمون ابن راشد وبمكّة من بكير الحداد وأي الحسن الخزاعي والآجري، وبقرطبة من أحمد بن يحيى بن الشاهد ومحمد بن معاوية، وتوفّي سنة 393. 57 - ومنهم خلف بن سعيد بن عبد الله بن زرارة أبو القاسم ابن المرابط (2) ، الكلبي، من ذرية الأبرش الكلبي، ويعرف بالمبرقع (3) ، المحتسب، القرطبي، رحل إلى المشرق مرتين، أولاهما سنة 332 (4) ، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وسمع أبا سعيد ابن الأعرابي وابن الورد وأبا بكر الآجري، وروى عنه أبو إسحاق ابن شنظير وأبو جعفر الزهراوي، وقال ابن شنظير: إنّه توفّي في نحو الأربعمائة، رحمه الله تعالى، ورضي عنه. 58 - ومنهم سابق فضلاء زمانه، أبو الصّلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصّلت الإشبيلي (5) . يقال: إن عمره ستون سنة، منها عشرون في بلده إشبيلية، وعشرون في إفريقية عند ملوكها الصّنهاجيين، وعشرون في مصر محبوساً في خزانة الكتب، وكان وجّهه صاحب المهدية إلى ملك مصر فسجن بها طول تلك المدة في خزانة الكتب، فخرج في فنون العلم إماماً، وأمتن علومه الفلسفة والطب والتلحين،

_ (1) ترجمته في الجذوة: 195 (والبغية رقم: 717) وابن الفرضي 1: 163. (2) ترجمته في الصلة: 159. (3) الصلة: بابن المبرقع. (4) كذلك هو في الصلة أيضا، وفي ط: 333. (5) قد مرت الإشارة إليه وذكر مصادر ترجمته، انظر ما سبق 1: 496 وله ترجمة في الخريدة 4/ 1: 223 - 343 فيها مختارات من أشعاره مرتبة على الحروف.

وله في ذلك تواليف تشهد بفضله ومعرفته، وكان يكنى بالأديب الحكيم، وهو الذي لحن الأغاني الإفريقية؛ قال ابن سعيد: وإليه تنسب إلى الآن. وذكره العماد في الخريدة. وله كتاب الحديقة على أسلوب يتيمة الدهر للثعالبي، وتوفّي سنة 520، وقيل: سنة 528، بالمهدية، وقيل: مستهل السنة بعدها، ودفن بها. وله فيمن اسمه واصل (1) : يا هاجراً سمّوه عمداً واصلاً ... وبضدّها تتبين الأشياء ألغيتني حتى كأنّك واصلٌ ... وكأنّني من طول هجري الراء وقوله، وهو من بدائعه (2) : لا غرو أن سبقت لهاك مدائحي ... وتدفقت جدواك ملء إنائها يكسىالقضيب ولم يحن إثماره ... وتطوّق (3) الورقاء قبل غنائها وقال في الأفضل (4) : تردي بكلّ فتى إذا شهد الوغى ... نثر الرماح على الدروب كعوبا قد لوّحته يد الهواجر فاغتدى ... مثل القناة قضافةً وشحوبا تخذوا القنا أشطانهم واستنبطوا ... في كلّ قلبٍ بالطّعان قليبا ومنها (5) : تعطي الذي أعطتكه سمر القنا ... أبداً فتغدو سالباً مسلوبا

_ (1) الخريدة: 224. (2) الخريدة: 226. (3) ق ط ج ودوزي: وتطقطق. (4) الخريدة: 228. (5) هذا البيت والذي يليه في الخريدة: 230.

ومنها: وأنا الغريب مكانه وبيانه ... فاجعل صنيعك في الغريب غريبا وله (1) : ومهفهفٍ شربت (2) محاسن وجهه ... ما مجّه في الكاس من إبريقه ففعالها من مقلتيه، ولونها ... من وجنتيه، وطعمها من ريقه أخذه من ابن حيّوس، وقصر عنه، في قوله: ومهفهفٍ يغنى بلحظ جفونه ... عن كاسه الملأى وعن إبريقه فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه ولأبي الصلت فيمن اسمه محسن: أيّها الظالم المسي ... ء مدى دهره بنا ما لهم أخطأوا الصوا ... ب فسمّوك محسنا وله في لابس قرمزية حمراء (3) : أقبل يسعى أبو الفوارس في ... مرأى عجيبٍ ومنظرٍ أنق أقبل في فرمزيّةٍ عجبٍ ... قد صبغت لون خدّه الشرق كأنّما جيده وغرّته ... من دونها إذ بدون (4) في نسق عمود فجرٍ من فوقه (5) قمرٌ ... دارت به قطعةٌ من الشّفق

_ (1) ابن خلكان 1: 221 وابن أبي أصيبعة 2: 57. (2) في المصدرين السابقين: شركت. (3) الخريدة: 302. (4) الخريدة: برزن. (5) الخريدة: فويقه.

وله في ثقيل (1) : لي جليسٌ عجبت كيف استطاعت ... هذه الأرض والجبال تقلّه أنا أرعاه مكرهاً (2) وبقلبي ... منه ما يقلق الجبال أقلّه فهو مثل المشيب أكره مرآ ... هـ ولكن أصونه وأجلّه أخذه من قول أبي الحسن جعفر بن الحاج اللورقي (3) ، وهم في عصر واحد: لي صاحبٌ عميت عليّ شؤونه ... حركاته مجهولةٌ وسكونه يرتاب بالأمر الجليّ توهّماً ... فإذا تيقّن نازعته ظنونه إنّي لأهواه على شرقي به ... كالشيب تكرهه وأنت تصونه وأوصى (4) أن يكتب على قبره أبو الصلت المذكور ممّا نظمه قبيل موته (5) : سكنتك يا دار الفناء مصدّقاً ... بأنّي إلى دار البقاء أصير وأعظم ما في الأمر أنّي صائرٌ ... إلى عادلٍ في الحكم ليس يجور فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها ... وزادي قليلٌ والذنوب كثير فإن أك مجزيّاً بذنبي فإنّني ... بشرّ عقاب المذنبين جدير وإن يك عفوٌ ثمّ عنّي ورحمةٌ ... فثمّ نعيمٌ دائمٌ وسرور وله أيضاً (6) :

_ (1) الخريدة: 312. (2) الخريدة: مكرما. (3) في الأصول ودوزي: الميورقي، وهو خطأ؛ فأهله من بيوتات لورقة (المغرب 2: 277) . (4) ج: وأمر. (5) الخريدة: 342 وابن خلكان 1: 222 وابن أبي أصيبعة 2: 54. (6) الخريدة: 236 وابن خلكان 1: 220 والبيتان ينسبان أيضا لأبي العرب الصقلي.

إذا كان أصلي من تراب فكلّها ... بلادي، وكلّ العالمين أقاربي ولا بدّ لي أن أسال العيس حاجةً ... تشقّ على شمّ الذّرا والغوارب وقال (1) : دبّ العذار بخدّه ثم انثنى ... عن لثم مبسمه البرود الأشنب لا غرو أن خشي الرّدى في لثمه ... فالريق سمٌّ قاتلٌ للعقرب وقد ذكروا أن من خواصّ ريق الإنسان أنّه يقتل العقرب، وهو مجرّب. وقال (2) : لا تدعني ولتدع من شئته ... إليك من عجمٍ ومن عرب فنحن أكّالون للسّحت في ... ذراك سمّاعون للكذب وقال (3) : لا تسألنّي عن صنيع جفونها ... يوم الوداع وسل بذلك من نجا لو كنت أملك خدّه للثمته ... حتى أعيد به الشقيق بنفسجا أن كنت أهجع لاحتضنت خيالها ... ومنعت ضوء الصبح أن يتبلّجا وبثثت في الظّلماء كحل جفونها ... وعقدت هاتيك الذوائب بالدّجى وقال مهنّئاً بمولود (4) : يلوح في المهد على وجهه ... تجهّم البأس وبشرى (5) النّدى

_ (1) الخريدة: 237. (2) الخريدة: 238. (3) الخريدة: 247. (4) الخريدة: 257. (5) الخريدة: وبشر.

الشمس والبدر إذا استجمعا ... لم يلبثا أن يلدا فرقدا فابق له حتى ترى نجله ... وإن عرا خطبٌ فنحن الفدا قال ابن سعيد: وهذا البيت الأخير من أثقل الشعر يتطير من سماعه، وتركه أولى. وقال رحمه الله تعالى في الرصد: فذا غديرٌ وذا روضٌ وذا جبلٌ ... فالضّبّ والنّون والملاّح والحادي 59 - ومنهم الفقيه أبو محمد عبد الله بن يحيى بن محمد بن بهلول السّرقسطي، ذكره العماد الأصبهاني في " الخريدة " (1) وذكره السمعاني في الذيل، وأنّه دخل بغداد في حدود سنة ست عشرة وخمسمائة (2) . ومن شعره (3) : أيا شمس إنّي إن أتتك مدائحي ... وهيّ لآلٍ نظّمت وقلائد فلست بمن يبغي على الشّعر رشوةً ... أبى ذاك لي جدٌّ كريمٌ ووالد وأني من قوم قديماً ومحدثاً ... تباع عليهم بالألوف القصائد 60 - ومنهم الفقيه المقرئ أبو عامر التياري (4) ، من رجال الذخيرة رحل إلى المشرق، وقرأ على أبي جعفر الديباجي كتابه في العروض وسائر كتبه، ولقي شيخ القيروان في العربية ابن القزاز وأديبها الحصري. وأخبر عن نفسه أنّه كان بين يديه تلميذ له وسيم، فمرّ به أبو جعفر التّجاني

_ (1) انظر الخريدة 4/ 1: 390 ووصفه بأنه من الفقهاء الفضلاء والشعراء النبلاء، ولما ورد بغداد (حدود: 516) أقام في المدرسة النظامية، ثم خرج إلى خراسان وسكن بمرو الروذ، وفي بعض الخريدة أنه توفي أيضا في حدود: 516. (2) في إحدى النسخ: 510. (3) الخريدة: 391. (4) في ق ودوزي: " المتباري " وفي ط ج: المتياري 172 وفي فهرست الذخيرة " البيماري " وترجمته في القسم الثالث: 172، وما أورده المقري مأخوذ عن الذخيرة.

بسحاءة كتب له فيها وخلاّها بين يديه، وهو قد غلب النوم عليه، فقال: يا نائماً متعمّداً ... إبصار طيف حبيبه هو جوهرٌ فاثقبه إ ... ن الطيب في مثقوبه أو أركبنّي ظهره ... إن لم تقل بركوبه فلمّا قرأها علم أنّها للتّجاني (1) ، فكتب تحتها: يا طالباً أضحى حجا ... بٌ دون ما مطلوبه لو لم يكن في ذاك إث ... مٌ لم أكن أسخو به إنّي أغار عليه من ... أثوابه ورقيبه وأنشد يوماً في حلقته لابن الرومي في خبّاز: إن أنس لا أنس خبّازاً مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر ما بين رؤيتها في كفّه كرةً ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر إلاّ بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر فقال بعض تلامذته: أما إنّه لا يقدر على الزيادة على هذا، فقال: فكاد يضرط إعجاباً برؤيتها ... ومن رأى مثل ما أبصرت منه خري فضحك من حضر وقال: البيت لائق بالقطعة، لولا ما فيه من ذكر الرجيع، فقال: إن كان بيتي هذا ليس يعجبكم ... فعجّلوا محوه أو فالعقوه طري 61 - ومنهم الأديب الطبيب أبو الحجاج يوسف بن عتبة الإشبيلي (2) ،

_ (1) في نسخة الذخيرة: الجافي، ولا ريب في أنه مصحف، ولعل الصواب: " البجاني ". (2) ترجمة أبي الحجاج يوسف بن عتبة في المغرب 1: 258 واختصار القدح: 161.

مطبوع في الشعر والتوشيح، قال ابن سعيد (1) : اجتمعت به في القاهرة مراراً بمجلس الأمير جمال الدين أبي الفتح موسى بن يغمور بن جلدك وفي غيره، وتوفّي في مارستان القاهرة. ومن شعره: أمّا الغراب فإنّه سبب النّوى ... لا ريب فيه وللنّوى أسباب يدعو الغراب وبعد ذاك يجيبه ... جملٌ وتعوي بعد ذاك ذئاب لا تكذبنّ فهذه أسبابه ... لكنّ منها بدأة وجواب 62 - ومنهم الإمام المحدث الحافظ جمال الدين أبو بكر محمد بن يوسف ابن موسى، الأندلسي، المعروف بابن مسدي (2) ، وهو من الأئمة المشهورين بالمشرق والمغرب، قال رحمه الله تعالى: أنشدني رئيس الأندلس وأديبها أبو الحسن سهل بن مالك الأزدي (3) الغرناطي لنفسه سنة 637 في شوّال بداره بغرناطة (4) : منغص العيش لا يأوي إلى دعةٍ ... من كان ذا بلدٍ أو كان ذا ولد والسّاكن النفس من لم ترض همّته ... سكنى مكانٍ ولم يسكن إلى أحد 63 - ومنهم الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتّوح بن عبد الله الأزدي

_ (1) يقول ابن سعيد في القدح حين يحكي أخبار المترجم به في مصر: وأخبرني صاحبه بمصر أبو الفضل التيفاشي قال: قدم علينا بالقاهرة الطبيب أبو الحجاج ابن عتبة فلم يجد من يقبل عليه إلا كهف المغاربة الرئيس السيد جمال الدين بن يغمور ... إلخ. وقال: وكانت وفاته بالقاهرة سنة 636. (2) ترجمة ابن مسدي في تذكرة الحفاظ: 1448 وقال إنه قتل غيلة بمكة سنة 663؛ وله معجم في 3 مجلدات، وكان يداخل الزيدية بمكة فولوه خطابة الحرم. (3) ترجمة سهل بن مالك في برنامج الرعيني: 59 والتكملة رقم: 2007 والذيل والتكملة 4: 101 واختصار القدح: 60 ومسالك الأبصار: 11: 482 وزاد المسافر رقم: 23 والديباج: 125 والمغرب 2: 105 وبغية الوعاة: 264 وسيرد له ذكر في مواضع من النفح. (4) البيتان في الديباج: 125 والذيل والتكملة: 104.

الحميدي (1) ، نسبة لجده حميد الأندلسي، ولد أبوه بقرطبة، وولد هو بالجزيرة بليدة بالأندلس، قبل العشرين وأربعمائة، وكان يحمل على الكتف للسماع سنة 425، فأول ما سمع من الفقيه أبي القاسم أصبغ. قال: وكنت أفصح من يقرأ عليه؛ وكان قد لقي ابن أبي زيد وقرأ عليه وتفقّه، وروى عنه رسالته ومختصر المدوّنة، ورحل سنة 448، وقدم مصر وسم بها من الضّرّاب والقضاعي وغير واحد، وكان سمع بالأندلس من ابن عبد البر وابن حزم ولازمه وقرأ عليه مصنّفاته وأكثر من الأخذ عنه وشهر بصحبته وصار على مذهبه إلاّ أنّه لم يكن يتظاهر به، وسمع بدمشق وغيرها، وروى عن الخطيب البغدادي وكتب عن أكثر مصنّفاته، وسمع بمكّة من الزنجاني، وأقام بواسط مدّة بعد خروجه من بغداد، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها وكتب بها كثيراً من الحديث والأدب وسائر الفنون، وصنّف مصنّفات كثيرة، وعلق فوائد، وخرّج تخاريج للخطيب ولغيره، وروى عنه أبو بكر الخطيب أكثر مصنفاته وابن ماكولا، وكان إماماً من أئمة المسلمين في حفظه ومعرفته وإتقانه وثقته وصدقه ونبله وديانته وورعه ونزاهته، حتى قال بعض الأكابر ممّن لقي الأئمة: لم تر عيناي مثل أبي عبد الله الحميدي في فضله ونبله ونزاهة نفسه وغزارة علمه وحرصه على نشر العلم وبثّه في أهله، وكان ورعاً ثقة إماماً في علم الحديث وعلله ومعرفة متونه ورواته، محقّقاً في علم الأصول على مذهب أصحاب الحديث، متبحّراً في علم الأدب والعربية، ومن تصانيفه كتاب جذوة المقتبس في أخبار علماء الأندلس وكتاب تاريخ الإسلام وكتاب من ادعى الأمان من أهل الإيمان وكتاب الذهب المسبوك في وعظ الملوك وكتاب تسهيل السبيل إلى علم الترسيل وكتاب مخاطبات الأصدقاء في

_ (1) ترجمة الحميدي في الصلة: 530 وتذكرة الحفاظ: 1318 وشذرات الذهب 3: 392 وبغية الملتمس رقم: 257 ووفيات الأعيان 3: 410 ومواطن من فهرسة ابن خير.

المكاتبات واللقاء وكتاب ما جاء من النصوص والأخبار في حفظ الجار وكتاب النميمة وكتاب الأماني الصادقة وغير ذلك من المصنفات والأشعار الحسان في المواعظ والأمثال. وكان من كثرة اجتهاده ينسخ بالليل في الحرّ ويدلس في إجانة ماء يتبرد به، ومن مشهور مصنفاته كتابا لجمع بين الصحيحين. وذكره الحجاري في المسهب وقال عنه: إنّه طرق ميورقة بعدما كانت عطلاً (1) من هذا الشأن، وترك لها فخراً تباري به خواص البلدان، وهو من علماء أئمة الحديث، ولازم أبا محمد ابن حزم في الأندلس واستفاد منه، ورحل إلى بغداد، وبها ألف كتاب الجذوة، ومن شعره قوله رضي الله تعالى عنه: ألفت النّوى حتى أنست بوحشها ... وصرت بها لا في الصّبابة مولعا فلم أحص كم رافقته من مرافق ... ولم أحص كم خيّمت في الأرض موضعا ومن بعد جوب الأرض شرقاً ومغرباً ... فلا بدّ لي من أن أوافي مصرعا وقال رحمه الله تعالى (2) : لقاء النّاس ليس يفيد شيئاً ... سوى الهذيان من قيل وقال فأقلل من لقاء الناس إلاّ ... لأخذ العلم أو إصلاح حال وذكره ابن بشكوال في " الصّلة "، وتوفّي ببغداد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. قال ابن ماكولا: أخبرنا صديقنا أبو عبد الله الحميدي، وهو من أهل العلم والفضل والتيقظ، لم أر مثله في عفّته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم، وكان أوصى مظفّراً ابن رئيس الرؤساء أن يدفنه عند قبر بشر الحافي، فخالف وصيته

_ (1) في التجارية: أنه أظهر العلم في طرق ميورقة بعد ما كانت عطلاء. (2) البيتان في وفيات الأعيان.

ودفنه في مقبرة باب أبرز (1) ، فلمّا كانت مدّة رآه مظفر في النوم كأنّه يعاتبه على مخالفته، فنقل في صفر سنة 491 إلى مقبرة باب حرب، ودفن عند قبر بشر، وكان كفنه جديداً وبدنه طريّاً تفوح منه رائحة الطيب، ووقف كتبه على أهل العلم، رحمه الله تعالى. ومن مناقبه أنّه قال لمن دخل عليه فوجده مكشوف الفخذ: تعديت بعين إلى موضع لم ينظره أحد منذ عقلت، انتهى. ومن شعر الحميدي أيضاً قوله: طريق الزّهد أفضل ما طريقٍ ... وتقوى الله تالية الحقوق فثق بالله يكفك، واستعنه ... يعنك، ودع بنيّات الطّريق وقوله: كلام الله عزّ وجلّ قولي ... وما صحّت به الآثار ديني وما اتفق الجميع عليه بدءاً ... وعوداً فهو عن حقّ مبين فدع ما صدّ عن هذي وخذها ... تكن منها على عين اليقين 64 - ومنهم الكمال أبو العباس أحمد الشريشي (2) ، وهو أحمد بن عبد المؤمن ين موسى بن عيسى بن عبد المؤمن، القيسي، من أهل شريش. روى عن أبي الحسن ابن لبّال وأبي بكر ابن أزهر وأبي عبد الله ابن زرقون وأبي الحسين ابن جبير وغيرهم، وأقرأ العربية، وله تواليف أفاد بما حشر فيها: منها شرح الإيضاح للفارسي، والجمل للزجّاج، وله في العروض تواليف، وجمع مشاهير قصائد العرب، واختصر نوادر أبي علي القالي.

_ (1) ق: باب البرر؛ ط: باب البر؛ ج: باب البزر. (2) ترجمة الشريشي في التكملة: 111 والمنهل الصافي 1: 354 وبغية الوعاة: 143 وبرنامج الرعيني: 90 والوافي بالوفيات 7 الورقة: 77.

قال ابن الأبار: لقيته بدار شيخنا أبي الحسن ابن حريق من بلنسية، قبل توجهي إلى إشبيلية في سنة ست عشرة وستمائة، وهو إذ ذاك يقرأ عليه شرحه للمقامات، فسمعت عليه بعضه، وأجاز لي سائره مع رواياته وتواليفه، وأخذ عنه أصحابنا، ثم لقيته ثانية مقدمه من مرسية، انتهى. ومن بديع نظمه وهو بمصر يتشوق إلى الشام: يا جيرة الشام هل من نحوكم خبر ... فإن قلبي بنار الشوق يستعر بعدت عنكم فلا والله بعدكم ... ما لذّ للعين لا نومٌ ولا سهر إذا تذكرت أوقاتاً نأت ومضت ... بقربكم كادت الأحشاء تنفطر كأنّني لم أكن بالنيربين ضحىً ... والغيم يبكي ومنه يضحك الزهر والورق تنشد، والأغصان راقصةٌ ... والدوح يطرب بالتصفيق والنهر والسفح أين عشيّاتي التي سلفت ... لي منه فهي لعمري عندي العمر سقاك يا سفح سفح الدّمع منهملاً ... وقلّ ذاك له إن أعوز المطر وله رحمه الله تعالى شروح لمقامات الحريري: كبير، ووسط، وصغير، وفي الكبير من الآداب ما لا كفاء له (1) ، وكان رحمه الله تعالى معجباً بالشام. وقال ابن الأبار عندما ذكره: إنّه شرح مقامات الحريري في ثلاث نسخ: كبراها الأدبية، ووسطاها اللغوية، وصغراها المختصرة، انتهى. وتوفّي بشريش بلده سنة تسع عشرة وستمائة، رحمه الله تعالى. 65 - ومنهم أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام بن محمد، الأزدي، القرطبي، الملقّب بضياء الدين (2) ، أحد الأئمة المتأخرين في القراءات وعلوم القرآن الكريم والحديث والنحو واللغة وغير ذلك.

_ (1) الشرح الكبير هو المطبوع من شروح المقامات. (2) ترجمته في وفيات الأعيان 5: 219 وغاية النهاية 2: 372.

قال القاضي الشمس ابن خلّكان: إنّه رحل من الأندلس في عنفوان شبابه وقدم مصر فسمع بالإسكندرية أبا عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي، وبمصر أبا صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المدني المصري وأبا طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني المعروف بالسّلفي وغيرهم، ودخل بغداد سنة 517 (1) ، وقرأ بها القرآن الكريم على الشيخ أبي محمد عبد الله بن علي المقرئ المعروف بابن بنت الشيخ أبي منصور الخياط، وسمع عليه كتباً كثيرة منها كتاب سيبويه، وقرأ الحديث على أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزار المعروف بقاضي المارستان وأبي القاسم ابن الحصين وأبي العز وغيرهم، وكان ديّناً ورعاً عليه وقار وسكينة، وكان ثقة صدوقاً ثبتاً نبيلاً قليل الكلام كثير الخير مفيداً، أقام بدمشق مدّة، واستوطن الموصل، ورحل منها إلى أصبهان، ثم عاد إلى الموصل، وأخذ عنه شيوخ ذلك العصر. وذكره الحافظ ابن السمعاني في كتاب الذيل، وقال: إنّه اجتمع به بدمشق، وسمع عنه مشيخة أبي عبد الله الرازي، وانتخب عليه أجزاء، وسأله عن مولده، فقال: ولدت سنة 486 في مدينة قرطبة، ورأيت في بعض الكتب أن مولده سنة 487، والأول أصح، وكان شيخنا القاضي بهاء الدين أبو المحاسن (2) يوسف بن رافع بن تميم المعروف باب شداد قاضي حلب رحمه الله تعالى يفتخر بروايته وقراءته عليه، وقال: كنّا نقرأ عليه بالموصل، ونأخذ عنه، وكنّا نرى رجلاً يأتي إليه كل يوم فيسلّم عليه وهو قائم، ثم يمد يده إلى الشيخ بشيء ملفوف، فيأخذه الشيخ من يده، ولا نعلم ما هو، ويتركه ذلك الرجل ويذهب، ثم تقفّينا ذلك فعلمنا أنّها دجاجة مسموطة كانت ترسم للشيخ في كل يوم، يبتاعها له ذلك الرجل ويسمطها ويحضرها، وإذا دخل الشيخ إلى منزله تولى طبخها بيده.

_ (1) ابن خلكان: سبع وعشرين وخمسمائة. (2) أبو المحاسن: لم ترد في ق ط ج.

وذكر في كتاب (1) دلائل الأحكام أنّه لازم القراءة عليه إحدى عشرة سنة، آخرها سنة 567. وكان الشيخ أبو بكر القرطبي المذكور كثيراً ما ينشد مسنداً إلى أبي الخير الكاتب الواسطي: جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيّان التحرّك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين وتوفّي القرطبي المذكور بالموصل يوم عيد الفطر سنة 567، رحمه اله تعالى. انتهى كلام ابن خلّكان ببعض اختصار. 66 - ومنهم الوزير أبو عبد الله محمد، ابن الشيخ الأجلّ أبي الحسن ابن عبد ربه (2) ، وهو من حفداء صاحب كتاب العقد المشهور. حدث الشيخ الأجل أبو عبد اله محمد بن علي اليحصبي القرموني رفيقه قال: اصطحبت معه في المركب من المغرب إلى الإسكندرية، فلمّا قربنا منها هاج علينا البحر، وأشفينا على الغرق، فلاح لنا ونحن على هذه الحال منار الإسكندرية، فسررنا برؤيته، وطمعنا في السلامة، فقال لي: لا بد أن أعمل في المنار شيئاً، فقلت له: أعلى مثل هذه الحال التي نحن فيها فقال: نعم، فقلت: فاصنع، فأطرق ثم عمل بديهاً: لله درّ منار إسكندريّة كم ... يسمو إليه على بعدٍ من الحدق من شامخ الأنف في عرنينه شممٌ ... كأنّه باهتٌ في دارة الأفق يكسّر الموج منه جانبي رجلٍ ... مشمّر الذيل لا يخشى من الغرق لا يبرح الدهر من وردٍ على سفنٍ ... ما بين مصطبحٍ منها ومغتبق

_ (1) ابن خلكان: في كتابه الذي سماه. (2) انظر الترجمة رقم: 53 فيما سبق.

للمنشآت الجواري عند رؤيته ... كموقع النوم من أجفان ذي أرق وتقدمت ترجمة الكاتب أبي عبد الله ابن عبد ربه، وأظنّه هذا، فليتنبّه له، بل أعتقد أنّه هو لا غيره، والله تعالى أعلم. 67 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن الصفار، القرطبي (1) . قال في القدح المعلى: بيتهم (2) مشهور بقرطبة، لم يزل يتوارث في العلم والجاه وعلو المرتبة، ونشأ أبو عبد اله هذا حافظاً للآداب (3) ، إماماً في علم الحساب، مع أنّه كان أعمى مقعداً مشوّه الخلقة، ولكنّه إذا نطق علم كلّ منصف حقّه، ومن عجائبه أنّه سافر على تلك الحالة، حتى غدت بغداد له هالة. اجتمعت به (4) بحضرة تونس فرأيت بحراً زاخراً، وروضاً ناضراً، إلا أنّه حاطب ليلٍ، وساحب ذيل، لا يبالي ما أورده، ولا يلتفت إلى ما أنشده، جامعاً بين السمين والغث، حافظاً للمتين والرث، وكان يقرئ الأدب بمراكش وفاس وتونس وغيرها. ومن مشهور حكاياته أنّه لمّا قال أبو زيد الفازازي في أبي العلاء المستنصر قصيدته التي مطلعها: الحزم والعزم منسوبان للعرب ... عارضه بقصيدة (5) ، ثم قال فيه وفي ابن أخيه يحيى بن الناصر الذي نازعه في ذلك الأوان [رداء السلطان] (6) :

_ (1) انظر القدح المعلى: 203 والمغرب 1: 117. (2) القدح: بيته. (3) القدح: لفنون الآداب. (4) زاد في القدح: غير ما مرة. (5) زاد في القدح: ذم فيها أنصاره. (6) زيادة من القدح.

وإن ينازعك في المنصور ذو نسبٍ ... فنجل ونوحٍ ثوى في قمّة (1) العطب وإن يقل أنا عمٌّ فالجواب له ... عمّ النبيّ بلا شكٍّ أبو لهب وشاعت القصيدة فبلغت أبا العلاء، فحرض على قتله، وسلّمه الله تعالى منه، ومات سنة 639. ومن شعره قوله (2) : لا تحسب الناس سواءً متى ... تشابهوا فالناس أطوار وانظر إلى الأحجار، في بعضها ... ماءٌ، وبعضٌ ضمنها نار وقوله: يا طالعاً في جفوني ... وغائباً في ضلوعي بالغت في السّخط ظلماً ... وما رحمت خضوعي إذا نويت انقطاعاً ... فاحسب حساب الرجوع انتهى باختصار يسير. 68 - ومنهم أبو الوليد ابن الجنّان محمد بن المشرف أبي عمرو ابن الكاتب أبي بكر ابن العالم الجليل أبي العلاء ابن الجنّان الكناني الشاطبي (3) . قال ابن سعيد: توارثوا بشاطبة، مراتب تحسدها النجوم الثاقبة، وأبو الوليد أشعرهم، وقد تجدّد به في أقطار المشرق (4) مفخرهم، وهو معروف هناك بفخر الدين، ومتصدر في أئمة النحويين، ومرتب في شعراء الملك الناصر صاحب الشام، ومقطّعاته الغرامية قلائد أهل الغرام، صحبته بمصر ودمشق

_ (1) في الأصول: قسمة، والتصويب عن المغرب. (2) هذا الشعر والذي يليه وردا في المغرب والقدح؛ وقد سقطا من نسخة ق. (3) ترجمته في القدح: 206 والمغرب 2: 383 وبغية الوعاة: 45 والفوات 2: 321. (4) القدح: شرق الأندلس.

وحلب، وجريت معه طلق الجموح في ميادين الأدب، وأنشدني بدمشق (1) : أنا من سكر هواهم ثمل ... لا أبالي هجروا أم وصلوا فبشعري وحديثي فيهم ... زمزم الحادي وسار المثل إنّ عشاق الحمى تعرفني ... والحمى يعرفني والطّلل رحلوا عن ربع عيني فلذا ... أدمعي عن مقلتي ترتحل ما لها قد فارقت أوطانها ... وهي ليست لحماهم تصل لا تظنّوا أنّني أسلوا فما ... مذهبي عن حبّكم ينتقل وقوله رحمه الله تعالى (2) : بالله يا بانة الوادي إذا خطرت ... تلك المعاطف حيث الشيح والغار فعانقيها عن الصّبّ الكئيب فما ... على معانقة الأغصان إنكار وعرّفيها بأنّي فيك مكتئب ... فبعض هذا لها بالحبّ إخبار وأنتم جيرة الجرعاء من إضمٍ ... لي في حماكم أحاديث وأسمار وأنتم أنتم في كلّ آونةٍ ... وإنّما حبّكم في الكون أطوار ويا نسيماً سرى تحدو ركائبه ... لي بالغوير لباناتٌ وأوطار وله (3) : يا رعى الله أنسنا بين روضٍ ... حيث ماء السرور فيه يجول تحسب الزهر عنده يتثنى ... وتخال الغصون فيه تميل وله (4) :

_ (1) الأبيات في القدح المعلى. (2) القدح: 207. (3) قالهما في بستان على نهر ثورا أحد أنهار دمشق، انظر القدح: 208 والفوات: 324. (4) القدح: 208.

هات المدام فقد ناح الحمام على ... فقد الظلام وجيش الصبح في غلب وأعين الزهر من طول البكا رمدت ... فكحّلتها يمين الشمس بالذهب والكأس حلّتها حمراء مذهبةٌ ... لكن أزرّتها من لؤلؤ الحبب كم قلت للأفق لمّا أن بدا صلفاً ... بشمسه عندما لاحت من الحجب إن تهت بالشمس يا أفق السماء فلي ... شمسان وجه نديمي وابنة العنب قم اسقنيها وثغر الصبح مبتسمٌ ... والليل تبكيه عين البدر بالشّهب والسّحب قد لبست سود الثياب وقد ... قامت لترثيه الأطيار في القضب وله (1) : عليك من ذاك الحمى يا رسول ... بشرى علامات الرضى والقبول جئت وفي عطفيك منهم شذاً ... يسكر من خمر هواه العذول ومنها: أحبابنا ودّعتم ناظري ... وأنتم بين ضلوعي نزول حللتم قلبي وهو الذي ... يقول في دين الهوى بالحلول أنا الذي حدّث عني الهوى ... بأنّني عن حبّكم لا أحول فليزد العاذل في عذله ... وليقل الواشي لكم ما يقول انتهى كلام النور بن سعيد. وقال غيره: ولد المذكور بشاطبة منتصف وشوال سنة 615، ومات بدمشق ودفن بسفح قاسيون، وكان عالماً فاضلاً، دمث الأخلاق كريم الشمائل، كثير الاحتمال واسع الصدر، صحب الشيخ كمال الدين ين العديم وولده قاضي

_ (1) القدح: 208 والفوات: 323.

القضاة مجد الدين، فاجتذبوه إليهم، وصار حنفيّ المذهب، ودرس بالمدرسة الإقبالية الحنفيّة بدمشق، وله مشاركة في علوم كثيرة، وله يد في النظم، ومنه قوله: لله قومّ يعشقون ذوي اللحى ... لا يسألون عن السواد المقبل وبمهجتي قومٌ وإنّي منهم ... جبلوا على حبّ الطراز الأول وله أيضاً: قم اسقنيها وليل الهمّ منهزمٌ ... والصبح أعلامه محمرّة العذب والسّحب قد نثرت في الأرض لؤلؤها ... تضمّه الشمس في ثوبٍ من الذهب وقد تقدم عن ابن سعيد له ما يقارب هذا (1) . وله - رحمه الله تعالى - في كاتب: وبي كاتبٌ أضمرت في القلب حبّه ... مخافة حسّادي عليه وعذّالي له صنعةٌ في خطّ لام عذاره ... ولكن سها إذ نقّط اللام بالخال 69 - ومنهم أبو محمد القرطبي (2) ، قال ابن سعيد: لقيته بالقاهرة، وكأنّه لا خبر عنده من الآخرة، وقد طال عمره في أكل الأعراض، وفساد الأغراض، وممّا بقي في أذني من شعره قوله: رحم الله من لقيت قديما ... فلقد كان بي رؤوفاً رحيما أتمنى لقاء حرٍّ وقد أع ... وز بختي كما عدمت (3) الكريما

_ (1) انظر البيتين الأخيرين في البائية ص: 122. (2) ترجمته في القدح: 212 واسمه فيه " أبو المحامد " وقال إنه كان يلقب بأبي بغل ولقب أيضا بجسر بلبيس لأنه أقام فيها زمنا يكري كل من جاء من الشام أو من سافر إليها. (3) ق ط ج: علمت.

وتوفّي بالقاهرة سنة 643، انتهى. 70 - ومنهم علي بن أحمد القادسي، الكناني (1) ، قال ابن سعيد: لقيته ببيت المقدس على زي الفقراء، وحصّلت منه هذه الأبيات، وندمت بعد ذلك على ما فات، وهي: ذاك العذار المطلّ ... دمي عليه يطلّ كأنّما الخدّ ماءٌ ... وقد جرى فيه ظلّ عقود صبري عليه ... مذ حلّ قلبي تحلّ جرت دموعي عليه ... فقلت آسٌ وطلّ 71 - ومنهم أبو عبد الله ابن العطار، القرطبي (2) ، قال ابن سعيد: هو حلو المنازع، ظريف المقاطع والمطالع، مطبوع النوادر، موصوف بالأديب الشاعر، مازجته بالإسكندرية، وبهذه الحضرة العلية، وما زال يدين بالانفراد، والتجول في البلاد، حتى قضى مناه، وألقى بهذه المدينة عصاه، لا يخطر الهمّ له ببال، ولا يبيت إلاّ على وعد من وصال، وله حين سمع ما ارتجلته في السكين بالإسكندرية حين داعبني باختلاسها القاضي زين القضاة ابن الرّيغي، وقال: ما لي إليه سبيل، حتى يحضر مصري نبيل: أيا سارقاً ملكاً مصوناً ولم يجب ... على يده قطعٌ وفيه نصاب ستندبه الأقلام عند عثارها ... ويبكيه إن يعد الصواب كتاب فقال:

_ (1) ترجمته في القدح: 213 وقال ابن سعيد: وكان اجتماعي به سنة ثلاث وأربعين (وستمائة) ولم اسمع له خبرا منذ ذلك الحين. (2) ترجمته في القدح: 215.

أحاجيك ما شيء إذا ما سرقته ... وفيه نصابٌ ليس يلزمك القطع على أن فيه القطع والحدّ ثابتٌ ... ولا حدّ فيه، هكذا حكم الشرع انتهى كلام ابن سعيد من كتابه " القدح المعلى " فيما أظن. [رسالة للسان الدين] ويعني والله سبحانه وتعالى أعلم بقوله وبهذه الحضرة العلية حضرة تونس المحروسة (1) ، فإنّها كانت محط رحال الأفاضل، من الأواخر والأوائل، حتى إن قاضي القضاة ابن خلدون أقام بها مدة، ومنها ارتحل إلى مصر، وكذلك الخطيب الجليل سيدي أبو عبد الله ابن مرزوق رحمه الله تعالى، ومنها خاطب الوزير لسان الدين بن الخطيب وسلطانه في الشفاعة له عند سلطان المغرب، فكتب لسان الدين عن سلطانه في ذلك ما نصّه: المقام الذي نؤكد إليه ببر سلفه الوداد، ونغري بتخليد فخره وأمره القلم والمداد، ونصل به الاستظهار على عدو الله تعالى والاعتداد، ونخطب له من الله بهزّ أعطافه للخير والتوفيق والسداد، والإعانة منه والإمداد، مقام محل أخينا الذي اشتهر فضله ودينه، ووضح سعده متألّقةً براهينه، وحيّاه الصنع الجميل وبيّاه مشرقاً جبينه، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله يرعى الذمم، ويسلك من الفضائل المنهج الأمم، ويغلي البضائع النافقة عند الله تعالى ويعلي الهمم، معظم قدره، وملتزم بره، الحريص على توفير أجره وتخليد فخره، فلان. أمّا بعد حمد الله تعالى ناصر الإمرة المطاعة، المحافظة على السنّة والجماعة،

_ (1) هذا واضح من أن ابن سعيد ألف القدح ليخدم به أبا زكريا ابن الإمام المستنصر بالله الحفصي صاحب تونس.

وحافظها من الإضاعة، إلى قيام الساعة، الذي جعل المودّة فيه أنفع الوسائل النفّاعة، والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمد رسوله المخصوص بمقام الشفاعة على العموم والإشاعة، متمم مكارم الأخلاق من الفضل والبذل والحياء والشجاعة، والرضى عن آله وصحبه الذين اقتدوا بهديه بحسب الاستطاعة، وزرعوا الخير في العاجلة ففازوا في الآجلة بفائدة تلك الزراعة، والدعاء لمقامكم الأعلى بصنع يروي فيه عن الأشمط الباتر خبر النصر المتواتر لسان البراعة، وتأييد لا ترضى في القنا بمقام القناعة، فإنّا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لثنائكم العاطر بتخليد المفاخر منشور الإذاعة، في أيدي النواسم الضّوّاعة، من حمراء غرناطة - حرسها الله تعالى - عن خيرٍ هامي السحاب، وبشر مفتّح الأبواب، وعز للإسلام - ببركة الاعتداد بملككم المنصور الأعلام - مقتبل الشباب، ويمن ضافي الجلباب، والحمد لله على تضافر الأيدي في ذاته وتوفّر الأسباب، وجانبكم الرفيع الأمل للمنتاب، إذا حدت الحداة ذوات الأقتاب، ومطمح الوسائل المطرزة المسائل بتصحيح الود اللّباب، وإلى هذا وصل الله تعالى، سوابغ نعمة وآلائه دائمة الانسكاب، وجعل ما عجل لكم من نعمه كفيلةً بالزلفى وحسن المآب، وألهمكم تقييد شواردها بالشكر قولاً وعملاً فالشكر مستدعي المزيد كما وعد في الكتاب، فإن من المنقول الذي اشتهر، وراق فضله وبهر، قوله " اشفعوا تؤجروا " وما في معناه من المعتبر في الخبر، وتنفيس كربة عن مسلم، وسماع شكوى من متظلّم، ولولا أن مقامكم السني أغنى، لجلبنا الكثير من هذا المعنى، ولم تحقّق ما أنتم عليه من سلوك سبيل والدكم الملك الصالح - قدس الله تربته، وضاعف قربته - من يمن الظفر، وسلوك سبيل الخير وإقامة رسوم الدين، والاهتداء من هديه بالنور المبين، خفّ علينا أن نقصدكم بالشفاعات مع الساعات، ونتّجر لكم مع الله بأنفس البضاعات، فما أثمر من ذلك شكرنا الله تعالى عليه حقيقة وشكرناكم عليه شريعة، وما تأخّر أوسعناكم فيه عذراً يسد ذريعة، وعلمنا أن الله تعالى لم يأذن في تعجيله

وسألناه في تيسيره وتسهيله، سواء لدينا في ذلك ما عاد، بإعانة عامة وإمداد، وساهم في قصد جهاد، وما لم يعد علينا خصوصاً وعلى المسلمين عموماً بإعانة ولا إرفاد، إنّما علينا أن نجلب الخير الباقي والأجر الراقي إلى بابكم، وندلّ عليه كريم جنابكم، بمقتضى وداد، صبحه باد، وجميل ظن في دينكم المتين واعتقاد، وسلم مجمله ومفصّله من انتقاد، وذلك أن الشيخ الخطيب الفقيه الكبير الشهير الصدر الأوحد سلالة الصالحين، وخطيب والدكم كبير الخلفاء والسلاطين، ويا لها من مزية دنيا ودين، أبا عبد الله ابن مرزوق جبر الله تعالى على يدكم البرة حاله، وسنّى من مقامكم السني آماله، جرى عليه من المحن، وتباريح (1) الإحن، ما يعلم كلّ ذي مروءة وعقل، واجتهاد ونقل (2) ، أن ذلك من الجنايات على والدكم السلطان محسوب، وإلى معقّاته منسوب، ولو كانت ذنوبه رضوى وثبيرا، لاستدعت إلى تعمدها عفواً كبيراً، رعياً لذلك الإمام الصالح الذي كبر خلفه وأحرم، وتشهّد وسلّم، وأمّن عقب دعائه، ونصب كفّه لمواهب الله تعالى وآلائه، وأنصت لخطبته ووعظه، وأوجب المزيّة لسعة حفظه وعذوبة لفظه، فأحبط ذلك من أحبط الأعمال الصالحة، وعطّل المتاجر الرابحة، وأسف الملك المذكور بدم ولده، وإحراق خزائنه وعدده، وتغيير رسومه وحدوده، وإسخاطه وإسخاط الله معبوده، إلى أن طهّر سيفكم الملك من عاره، وأخذ منه بثاره، وتقرّب إلى الله وغلى السلف الكريم بمحو آثاره، والحمد لله تعلى ما خصّه من إيثاره، وتدارك الإسلام بإقالة عثاره، وإنّه خاطبنا الآن من حضرة تونس يقرّر من حاله ما يفتّ الفؤاد، ويوجب الامتعاض له والاجتهاد، يطلب منّا الإعانة بين يديكم والإنجاد، ويشكو العيلة والأولاد، والغربة التي أحلّته الأقطار النازحة والبلاد، والحوادث التي سلبته الطارف

_ (1) ق ط ج: ونتائج. (2) ق ج: وفضل.

والتّلاد، وأن نذكركم بوسيلته، وضعف حيلته، فبادرنا لذلك عملاً بالواجب، وسلوكاً من بره ورعي حقّه على السّنن اللاحب، وإن كنّا نطوقه في أمرنا عند الحادثة علينا تقصيراً، ولا نشكر إلاّ الله وليّاً ونصيراً، فحقّه علينا أوجب، فهو الذي لا يجحد ولا يحجب، ولا يلتبس منه المذهب، وكيف لا يشفع فيمن جعله السلف إلى الله تعالى شفيعاً، وأحلّه محلاًّ منيعاً رفيعاً، إلى وليّه الذي جبر ملكه سريعاً، وصير جنابه بعد المحول مريعاً، وجدّد رسومه تاصيلاً لها وتفريعاً، ومثلكم من اغتنم برّه في نصر مظلوم، وسبر مكلوم، وإعداء كرم على لوم، وهي منّا ذكرى تنفع، وحرص على أجر من يشفع، وإسعاف لمن سأل ما يعلي من قدركم ويرفع، وتأدية لحق سلفكم الذي توفّرت حقوقه، وإبلاغ نصيحة دينيّة إلى مجدكم الذي لا يمنعه عن المجد مانع ولا يعوقه، ومطلبه في جنب ملككم الكبير حقير، وهو إلى ما يفتح الله تعالى به على يد صدقتكم فقير، ومنهلكم الأروى، وباعكم في الخير أطول ساعدكم أقوى " وما تفعلوا من خيرٍ يعلمه الله " " وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التقوى " والله، عزّ وجلّ، يسلك بكم المسالك التي تخلد بالجميل ذكركم، تعظم عند الله أجركم، فما عند الله خير للأبرار، والدنيا دار الغرور والآخرة دار القرار، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، انتهى. والسلطان المخاطب بهذا هو أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان الكبير الشهير أبي الحسن المريني، وكان ابن مرزوق غالباً على دولة السلطان أبي سالم أخي أبي فارس المذكور، فقتله الوزير عمر بن عبد الله الفودودي، وتغلّب على الملك، ونصب أخاً لأبي سالم معتوهاً، وسجن ابن مرزوق، ورام قتله، فخلّصه الله تعالى منه، ثم إن السلطان أبا فارس ثار على الوزير المتغلّب وقتله، واستقل بالملك، فخوطب في شأن ابن مرزوق بما ذكر.

رجع إلى ما كنّا فيه من ذكر الراحلين من أعلام الأندلسيين إلى البلاد المشرقية المحروسة بالله سبحانه وتعالى، فنقول: 72 - ومنهم أبو الوليد وأبو محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر، الأزدي، القرطبي، المعروف بابن الفرضي، الحافظ المشهور (1) ، كان فقيهاً عالماً (2) عارفاً بعلم الحديث ورجاله، بارعاً في الأدب وغيره، وله من التصانيف تاريخ علماء الأندلس، وقفت عليه بالمغرب، وهو بديع في بابه وهو الذي ذيّل عليه ابن بشكوال بكتاب الصلة، وله كتاب حسن في المؤتلف والمحتلف وفي مشتبه النسبة، وكتاب في أخبار شعراء الأندلس، وغير ذلك، ورحل من الأندلس إلى المشرق سنة 382، فحجّ وسمع من العلماء وأخذ منهم وكتب من أماليهم، وروى عن شيوخ عدّة من أهل المشرق. ومن شعره: أسير الخطايا عند بابك واقف ... على وجلٍ ممّا به أنت عارف يخاف ذنوباً لم يغب عنك غيبها ... ويرجوك فيها فهو راجٍ وخائف ومن ذا الذي يرجى سواك ويتّقى ... وما لك في فصل القضاء مخالف فيا سيّدي لا تخزني في صحيفتي ... إذا نشرت يوم الحساب الصحائف وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما ... يصدّ ذوو القربى ويجفو المؤالف لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي ... ارجّي لإسرافي فإنّي لتالف وكان - رحمه الله تعالى - حسن الشعر والبلاغة. ومن شعره أيضاً،

_ (1) انظر ترجمة الحافظ ابن الفرضي في الجذوة: 237 (وبغية الملتمس رقم: 888) والصلة: 246 والمطمح: 57 والذخيرة 1/ 2: 130 والمغرب 1: 103 والمطرب: 132 ووفيات الأعيان 2: 290 وتذكرة الحفاظ: 1076 والديباج المذهب: 143 وشذرات الذهب 3: 168. (2) هذا النص حتى بداية النقل عن " المطمح " متابع لما أورده ابن خلكان مع شيء من التصرف.

رحمه الله تعالى: إن الذي أصبحت طوع يمينه ... إن لم يكن قمراً فليس بدونه ذلّي له في الحبّ من سلطانه ... وسقام جسمي من سقام جفونه وله شعر كثير. ومولده في ذي القعدة ليلة الثلاثاء لتسع بقين منه سنة 351، وتولى القضاء بمدينة بلنسية في دولة محمد المهدي المرواني، وقتله البربر يوم فتح قرطبة يوم الاثنين لست خلون من شوال سنة 403، وبقي في داره ثلاثة أيّام، ودفن متغيراً من غير غسل ولا كفن ولا صلاة، رحمه الله تعالى. وروي عنه أنّه قال: تعلقت بأستار الكعبة، وسألت الله تعالى الشهادة، ثم انحرفت وفكرت في هول القتل، فندمت وهممت أن أرجع فأستقيل الله سبحانه وتعالى فاستحييت. وأخبر من رآه بين القتلى ودنا منه فسمعه يقول بصوت ضعيف: لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلاّ جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك كأنّه يعيد على نفسه الحديث الوارد في ذلك، قال: ثم قضى على أثر ذلك. وهذا الحديث أخرج مسلم في صحيحه. وقد ساق في المطمح حكايته فال: كان حافظاً عالماً كلفاً بالرواية، رحل في طلبها، وتبحر في المعارف بسببها، مع حظ من الأدب كثير، واختصاص بنظيم منه ونثير، حجّ وبرع، في الزهادة والورع، فتعلّق بأستار الكعبة يسأل الله الشهادة ثم فكّر في القتل ومرارته، والسيف وحرارته، فأراد أن يرجع ويستقيل الله تعالى فاستحيا، وآثر نعيم الآخرة على شقاء الدنيا، فأصيب في تلك الفتن مكلوماً، وقتل مظلوماً، ثم ذكر مثل ما مرّ. وممّا قال في طريقه، يتشوق إلى فريقه (1) :

_ (1) الشعر في المطمح والجذوة والمغرب.

مضت لي شهورٌ منذ غبتم ثلاثةٌ ... وما خلتني أبقى إذا غبتم شهرا وما لي حياةٌ بعدكم أستلذّها ... ولو كان هذا لم أكن في الهوى حرّا ولم يسلني طول التنائي عليكم ... بلى زادني وجداً وجدّد لي ذكرى يمثّلكم لي طول شوقي إليكم ... ويدنيكم حتى أناجيكم سرّا سأستعتب الدهر المفرّق بيننا ... وهل نافعي أن صرت أستعتب الدهرا أعلّل نفسي بالمنى في لقائكم ... واستسهل البرّ الذي جبت والبحرا ويؤنسني طيّ المراحل عنكم ... أروح على أرضٍ وأغدو على أخرى وتالله ما فارقتكم عن قلىً لكم ... ولكنها الأقدار تجري كما تجرى رعتكم من الرحمن عينٌ بصيرةٌ ... ولا كشفت أيدي النّوى عنكم سترا وقد عرّف به ابن حيان في المقتبس، وذكر قصّة شهادته، رحمه الله تعالى. 73 - ومنهم الشيخ أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، البكري، الشريشي، المالكي (1) ولد بشريش سنة 601، ورحل إلى العراق، فسمع به المشايخ كالقطيعيّ وابن روزبة (2) وابن الكثير وغيرهم، واشتغل وساد أهل زمانه، واشتهر بين أقرانه، ثم عاد إلى مصر فدرس بالفاضلية، ثم انتقل إلى القدس الشريف، فأقام به شيخ الحرم، ثم جاء إلى دمشق المحروسة بالله، وتولى مشيخة الحديث بتربة أم صالح ومشيخة الرباط الناصري ومشيخة المالكية، وعرض عليه القضاء فلم يقبل، وكانت وفاته يوم الاثنين الرابع والعشرين من رجب، بالرباط الناصري، ودفن بسفح قاسيون، رحمه الله تعالى، وذلك سنة خمس وثمانين وستمائة. وليس هو بشارح المقامات (3) ، بل هو غيره، وقد اشتركا في البلد، فبسبب

_ (1) ترجمة الشريشي في شذرات الذهب 5: 392. (2) ق ط ج: وابن زوربة. (3) قد نسب إليه في الشذرات أنه شرح المقامات، وهو وهم كالذي نبه عليه المقري.

ذلك ربّما يقع في الأذهان الوهم في أمرهما، وشارح المقامات أحمد وهذا محمد، وقد ترجمنا صاحب شرح المقامات فيما تقدم من هذا الباب (1) ، فليراجع، والله سبحانه وتعالى أعلم. 74 - ومنهم أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن السيد بن الغلّس، القيسي، الأندلسي، البلنسي (2) : كان من أهل العلم باللغة والعربية، مشاراً إليه فيهما، رحل من الأندلس، وسكن بمصر واستوطنها، وقرأ الأدب على أبي العلاء صاعد اللغوي صاحب كتاب " الفصوص "، وعلى أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن خرّزاذ بن النّجيرمي (3) . ودخل بغداد، واستفاد وأفاد، وله شعر حسن، فمن ذلك قوله: مريض الجفون بلا علّةٍ ... ولكنّ قلبي به ممرض أعان السّهاد على مقلتي ... بفيض الدموع فما تغمض وما زار شوقاً ولكن أتى ... يعرّض لي أنّه معرض وله أشعار كثيرة. وتوفّي يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى سنة 427، وقيل: سنة 429، بمصر، وكان استوطنها، وصلّى عليه الشيخ أبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي صاحب التفسير في مصلى الصّدفي، ودفن عند أبي إسحاق، رحمه الله تعالى. ومغلّس: بضم الميم، وفتح الغين، وتشديد اللام المكسورة، وبعدها سين مهملة. وكانت بينه وبين أبي الطاهر إسماعيل بن خلف (4) صاحب كتاب

_ (1) انظر الترجمة رقم: 64 فيما سبق. (2) ترجمة ابن المغلس في وفيات الأعيان 2: 360 وعنه ينقل المقري أكثر الترجمة. والجذوة: 269 (وبغية الملتمس رقم: 1088) والصلة: 351. (3) ق ط ج: يوسف بن خرقان، والتصويب عن ابن خلكان. (4) هو إسماعيل بن خلف بن سعيد بن عمران المالكي المقرئ الأندلسي، أبو طاهر، استوطن مصر وحدث بها (الصلة: 105 - 106) .

" العنوان " معارضات في قصائد. ومن شعر ابن المغلّس أيضاً قوله في حمّام: ومنزل أقوامٍ إذا ما اغتدوا به ... تشابه فيه وغده ورئيسه يخالط فيه المرء غير خليطه ... ويضحي عدوّ المرء هو جليسه (1) يفرّج كربي إن تزايد كربه ... يؤنس قلبي أن يعدّ أنيسه إذا ما أعرت الحوض ماءً (2) تكاثرت ... على مائه أقماره وشموسه 75 - ومنهم أبو الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله الحكيم الأديب المعروف بالمغربي (3) ، وهو من أهل المرية، وانتقل إلى المشرق، وكان كامل الفضيلة، وجمع بين الأدب والحكمة، وله ديوان شعر جيّد، والخلاعة والمجون غالبة عليه، وذكر العماد في الخريدة أنّه كان طبيب المارستان الستصحب في معسكر السلطان السلجوقي حيث خيّم، وكان السديد يحيى ابن سعيد المعروف بابن المرخّم الذي صار أقضى القضاة ببغداد في أيام المقتفي فاصداً وطبيباً في هذا المارستان. وأثنى العماد على أبي الحكم المذكور، وذكر فضله وما كان عليه، وأن له كتاباً سمّاه نهج الوضاعة، لأولي الخلاعة، ثم إن أبا الحكم انتقل إلى الشام، وسكن دمشق، وله فيها أخبار ومجاريات (4) ظريفة تدل على خفّة روحه. قال ابن خلّكان: رأيت في ديوانه أنّ أبا الحسين أحمد بن منير الطرابلسي كان عند الأمراء بني منقذ بقلعة شيزر، وكانوا مقبلين عليه، وكان بدمشق شاعر يقال له أبو الوحش (5) ، وكانت فيه دعابة، وبينه وبين أبي الحكم المذكور

_ (1) ق: وهو فيه جليسه. (2) ق ط ج: أعرت الجو طرفا. (3) ترجمة أبي الحكم المغربي في وفيات 2: 307 (وعنه ينقل المقري) وابن أبي أصيبعة 2: 144 - 155. (4) اقرأ أيضا: وماجريات. (5) هو سبع بن خلف الفقعسي وكانوا يصغرون كنيته فيقولون " وحيش " وقد مرت الإشارة إليه وإلى مصادر ترجمته، انظر 1: 61.

مداعبات، فسأل منه كتاباً إلى ابن منير بالوصية عليه، فكتب أبو الحكم: أبا الحسين استمع مقال فتىً ... عوجل فيما يقول فارتجلا هذا أبو الوحش جاء ممتدحاً ... للقوم فاهنأ به إذا وصلا واتل عليهم بحسن شرحك ما ... أنقله من حديثه جملا وخبّر القوم أنّه رجلٌ ... ما أبصر الناس مثله رجلا تنوب عن وصفه شمائله ... لا يبتغي عاقلٌ به بدلا ومنها: وهو على خفّةٍ به أبداً ... معترفٌ أنّه من الثّقلا يمتّ بالثلب والرقاعة وال ... سّخف، وأمّا بغير ذاك فلا إن أنت فاتحته لتخبر ما ... يصدر عنه فتحت منه خلا فنبه عن حلّ خطة الخسف وال ... هون ورحّب به إذا رحلا وأسقه السمّ إن ظفرت به ... وامزج له من لسانك العسلا وله أشياء مستملحة، منها مقصورة هزلية، ضاهى بها مقصورة ابن دريد، من جملتها: وكلّ ملمومٍ فلا بدّ له ... من فرقةٍ لو ألزقوه بالغرا وله مرثية في عماد الدين زنكي بن آق سنقر الأتابكي، شاب فيها الجدّ بالهزل، والغالب على شعره الانطباع. وتوفّي ليلة الأربعاء رابع ذي القعدة سنة 549، وقيل: في السنة التي قبلها، بدمشق، رحمه الله تعالى. والقاضي ابن المرخّم المذكور هو الذي يقول فيه أبو القاسم هبة الله ابن الفضل الشاعر المعروف بابن القطان (1) :

_ (1) ابن القطان من شعراء الخريدة، كان شاعرا رقيقا مجودا غلب عليه الهجاء (توفي 558) انظر ابن خلكان 5: 104.

يا ابن المرخّم صرت فينا قاضياً ... خرف الزمان تراه أم جنّ الفلك إن كنت تحكم بالنّجوم فربّما ... أمّا بشرع محمّدٍ من أين لك وكان أبو الحكم المذكور فاضلاً في العلوم الحكمية، متقناً للصناعة الطبيّة، حسن النادرة، كثير المداعبة، محبّاً للهو والخلاعة والشراب، وكان يعرف صنعة الموسيقى ويلعب بالعود، ويجلس في دكان بجيرون للطب، وسكناه باللبادين، وأتى في ديوانه نهج الوضاعة بكل غريب، يدل على أنّه أريب، سامحه الله تعالى وغفر له. 76 - ومنهم من الراحلين من الأندلس إلى المشرق، من هو الأحق بالتقديم والسبق، الشهير عند أهل الغرب والشرق، الحافظ المقرئ الإمام الرباني، أبو عمرو الدّاني، عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر، الأموي (1) ، مولاهم، القرطبي، صاحب التصانيف التي منها المقنع والتيسير، وعرف بالدّاني لسكناه دانية، وولد سنة 371، وابتدأ بطلب العلم سنة 387 ورحل إلى المشرق سنة 397، فمكث بالقيروان أربعة أشهر، ودخل مصر في شوّالها، فمكث بها سنة، وحج، ورجع إلى الأندلس في ذي القعدة سنة 399، وقرأ بالروايات على عبد العزيز بن جعفر الفارسي وغيره بقرطبة، وعلى أبي الحسن ابن غلبون وخلف بن خاقان المصري وأبي الفتح فارس بن أحمد، وسمع من أبي مسلم الكاتب، وهو أكبر شيخ له، ومن عبد الرحمن بن عثمان القشيري، حاتم بن عبد الله البزار (2) ، وغير واحد من أهل مصر وسواها، وسمع من الإمام أبي الحسن القابسي، وخلف كتبه بالحجاز ومصر والمغرب والأندلس، وتلا عليه خلقٌ منهم مفرج الأقفالي وأبو داود ابن نجاح (3) صاحب

_ (1) ترجمة أبي عمرو الداني في الصلة: 385 وغاية النهاية 1: 503 والديباج المذهب: 188 ومعجم الأدباء 12: 125 والجذوة: 286 وبغية الملتمس رقم: 1185. (2) ط: البزاز. (3) ق: حجاج.

التنزيل في الرسم، وهو من أشهر تلامذته، وحدّث عنه خلقٌ كثير، منهم خلف بن إبراهيم الطّليطلي. قال أبو محمد عبيد الله الحجري: ذكر بعض الشيوخ أنّه لم يكن في عصر الحافظ أبي عمرو الدّاني ولا بعد عصره أحد يضاهيه في حفظه وتحقيقه. وكان يقول: ما رأيت شيئاً قط إلاّ كتبته، ولا كتبته إلاّ حفظته، ولا حفظته فنسيته. قال ابن بشكوال: كان أبو عمرو أحد الأئمّة في علم القرآن ورواياته وتفسيره ومعانيه وطرقه وإعرابه، وجمع في ذلك كلّه تواليف حساناً، وله معرفة بالحديث وطرقه وإعرابه (1) وأسماء رجاله، وكان حسن الخط والضبط، من أهل الحفظ والذكاء واليقين، وكان ديّناً فاضلاً ورعاً سنّياً. وقال بعضهم، وأظنّه المغامي (2) : كان أبو عمرو مجاب الدعوة، مالكي المذهب. وقال بعض أهل مكة: إن أبا عمرو الدّاني مقرئ متقدّم، وإليه المنتهى في علم القراءات وإتقان القرآن، والقراء خاضعون لتصانيفه، واثقون بنقله في القراءات والرسم والتجويد والوقف والابتداء وغير ذلك، وله مائة وعشرون مصنّفاً، وروى عنه بالإجازة رجلان: أحمد بن محمد بن عبد الله الحولاني، وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن أبي حمزة، وكانت وفاته رحمه الله تعالى بدانية في نصف شوّال سنة أربع وأربعين وأربعمائة. 77 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن عيسى بن عبد الله بن أحمد بن أبي حبيب، الأندلسي (3) ، من بيت علم ووزارة، صرف عمره في طلب العلم،

_ (1) وإعرابه: سقطت من ج ط ق. (2) انظر غاية النهاية 1: 504، والمغامي هو محمد بن عتيق بن فرج المقرئ الطليطلي لقي أبا عمرو الداني وعليه اعتمد. (3) ترجمة ابن حبيب في التكملة: 834 وهو شلبي الأصل؛ وقد ذكر أنه توفي في جمادى الآخرة سنة 551؛ وراجع أخبار وتراجم أندلسية: 57 - 58 حيث عرف به السلفي.

وكان غزير العلم في الفقه والحديث والأدب وولي القضاء بالأندلس مدّة (1) ، ثم دخل الإسكندريّة ومصر، وجاور بمكّة المشرّفة (2) ، ثم قدم العراق وأقام ببغداد مدّة، ثم وافى خراسان فأقام بنيسابور وبلخ، وكانت ولادته ببلاد الأندلس، وتوفّي بهراة في شعبان سنة 548، رحمه الله تعالى ورضي عنه. 78 - ومنهم أبو العباس أحمد بن علي بن محمد بن علي بن شكر الأندلسي المقرئ (3) ، رحل وأخذ القراءات عن أبي الفضل جعفر الهمداني، وسمع من أبي القاسم ابن عيسى، وسكن الفيوم، واختصر التيسير وصنّف شرحاً للشاطبية، وتوفّي سنة 640 (4) ، رحمه الله تعالى. 79 - ومنهم العلاّمة ذو الفنون علم الدين القاسم بن أحمد المريني، اللورقي، المقرئ، النحوي (5) ، ولد سنة 575 (6) ، وقرأ القراءات وأحكم العربية وبرع فيها، واجتمع بالجزولي، وسأله عن مسألة في مقدمته، وقرأ علم الكلام والأصولين (7) والفلسفة، وكان خبيراً بهذه العلوم، مقصوداً بإقرائها، وولي مشيخة قراءة العادلية، ودرس بالعزيزيّة نيابة، وصنّف شرحاً للشاطبيّة، وشرحاً للمفصّل في عدّة مجلدات، وشرح الجزوليّة، وغير ذلك، وكان مليح الشكل، حسن البزّة، وتوفّي سنة 661، رحمه الله تعالى، ورضي عنه. 80 - ومنهم أبو عبد الله ابن أبي الربيع القيسي، الأندلسي، الغرناطي،

_ (1) تولى القضاء تسعة أعوام ثم امتحن بالأمراء لإقامته الحق وإظهاره العدل. (2) كان ذهابه إلى مكة عام 527. (3) ترجمته في غاية النهاية 1: 87. (4) غاية النهاية: في حدود الأربعين وستمائة. (5) هذه الترجمة مكررة، راجع في ما تقدم الترجمة رقم: 16. (6) في إحدى النسخ: 585. (7) ق ودوزي: والأصوليين؛ ج: والأصول.

قدم مصر سنة 515 أو بعدها، فسمع على السّلفي، وبقراءته على جماعة من شيوخ مصر، وكان لديه فقهٌ وأدب، ثم سافر إلى باب الأبواب، وكان حيّاً سنة 556. ومن نظمه يمدح كتاب " الشهاب ": إن الشهاب له فضلٌ على الكتب ... بما حوى من كلام المصطفى العربي كم ضمّ من حكمةٍ غرّا وموعظةٍ ... ومن وعيدٍ ومن وعدٍ ومن أدب أمّا القضاعيّ فالرحمن يرحمه ... كما حباه من التأليف بالعجب 81 - ومنهم الحافظ أبو عامر محمد بن سعدون بن مرجى، القرشي، العبدري (1) ، من أهل ميورقة من بلاد الأندلس، سكن بغداد، وسمع بها من أبي الفضل ابن خيرون وطرّاد الزينبي وأبي عبد الله الحميدي وجماعة، ولم يزل يسمع إلى حين وفاته، وكتب بخطّه كثيراً من الكتب والأجزاء، وجم وخرّج، وكان صحيح العقل، معتمد الضبط، مرجوعاً إليه في الإتقان، وكفاه فخراً وشرفاً أن روى عنه الحافظان أبو طاهر السّلفي وأبو الفضل محمد ابن ناصر، وكان فهّامة علاّمة ذا معرفة بالحديث، متعفّفاً مع فقره، وكان يذهب إلى أن المناولة والعرض كالسماع. وقال السلفي فيه: إنّه من أعيان علماء الإسلام بمدينة السلام، متصرف في فنون من العلم أدباً ونحواً ومعرفة بأنساب العرب والمحدثين، وكان داودي المذهب، قرشي النسب، وقد كتب عني وكتبت عنه وسمعنا معاً كثيراً على شيوخ بغداد، ومولده بقرطبة من مدن الأندلس. وقبل اجتماعي به كنت أسمع إسماعيل ابن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان يثني عليه، فلمّا اجتمعنا وجدته فوق ما وصفه، انتهى.

_ (1) ترجمة ابن سعدون في معجم البلدان: " ميورقة " نقلا عن ابن عساكر. وفي الصلة: 534.

وقال ابن عساكر: كان أحفظ شيخ لقيته؛ وربّما حكى عنه بعضهم كابن عساكر أموراً منكرة، فالله أعلم. وتوفّي في ربيع الآخر سنة 524 ببغداد، رحمه الله تعالى. 82 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعدون، الباجي (1) ، سمع بمصر من ابن الورد وابن السكن وابن رشيق، وبمكّة من الآجرّي، وكان صالحاً فاضلاً زاهداً ورعاً، حدّث، ومات ببطليوس وفجأة سنة 392، ومولده سنة 322. 83 - ومنهم أبو بكر محمد بن سعدون، التميمي الجزيري، المتعبد، كانت آدابه كثيرة، وحجّ غير مرّة، ورابط ببلاد المغرب، وكان حسن الصوت بالقرآن، سمع بمصر من جماعة وبمكّة، وصحب الفقراء وطاف بالشام، وغزا غزوات وتعرّض للجهاد وحرّض عليه، وساح بجبل المقطم، وذكر أنّه صلّى بمصر الضحى اثنتي عشرة ركعة، ثم نام فرأى النبي صلّى الله تعليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، إن مالكاً والليث اختلفا في الضحى، فمالكٌ يقول: اثنتا عشرة ركعة، والليث يقول: ثمانٍ، فضرب عليه الصلاة والسلام بين وركي ابن سعدون وقال: راي مالك هو الصواب، ثلاث مرّات، قال: وكان في وركي وجع، فمن تلك الليلة زال عنّي. وكان له براهين من نور يضيء عليه إذا صلّى نحوه، وأنشد: سجن اللسان هو السلامة للفتى ... من كلّ نازلةٍ لها استئصال إنّ اللسان إذا حللت عقاله ... ألقاك في شنعاء ليس تقال توفّي سنة 344.

_ (1) كان يسكن حصن مورة من عمل باجة، ويعرف بابن الزنوني، وكان رجلا صالحا زاهدا ورعا ضعيف الكتاب غير ضابط (ابن الفرضي 2: 107) .

84 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعد الأعرج، الطّليطلي الخطيب (1) ، وقال فيه ابن سعيد: سمع بمصر ابن الورد وابن السكن، وحدّث، مولده سنة 309، وتوفّي في ربيع الآخر سنة 384. 85 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعيد بن إسحاق بن يوسف، الأموي، القرطبي (2) ، وأصله من لبلة، ولكن سكن قرطبة، وقدم مصر، وحجّ، وسمع في طريقه من الشيخ أبي محمد ابن أبي زيد صاحب الرسالة، وأخذ عن القابسي وعن جماعة من علماء مصر والحجاز، ومولده سنة 352، ورحلته سنة 418. 86 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حسان بن الحكم بن هشام، القرطبي (3) ، سمع من أبيه ويحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب، ورحل، فسمع من أشهب بن عبد العزيز وعبد الله بن نافع وعبد الله بن عبد الحكم، وعاد إلى الأندلس وبها توفّي سنة 260، رحمه الله تعالى. 87 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سليمان المعافري، الشاطبي (4) ، نزيل الإسكندريّة ويعرف بابن أبي الربيع، أحد أولياء الله تعالى، شيخ الصالحين صاحب الكرامات المشهورة، جمع بين العلم والعمل والورع والزهد والانقطاع إلى الله تعالى والتخلّي عن الناس والتمسّك بطريقة السّلف، قرأ القرآن ببلده بالقراءات السبع على أبي عبد الله محمد بن سعادة الشاطبي وغيره، وقرأ بدمشق على الواسطي، وسمع عليه الحديث، ورحل فسمع من الزاهد أبي يوسف يعقوب

_ (1) ترجمته في ابن الفرضي 2: 100. (2) ترجمته في الصلة: 486. (3) ترجمته في ابن الفرضي 2: 9 والجذوة: 55 (وبغية الملتمس رقم: 130) . (4) ترجمته في الذيل والتكملة 6: الورقة 81 (نسخة باريس) ؛ وهو محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان بن عبد الملك العافري الحميري الملقب بعلم الدين.

خادم أضياف رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، بين قبره ومنبره سنة 617، وسمع بدمشق على أبي القاسم ابن صصرى (1) وأبي المعالي ابن خضر وأبي الوفاء ابن عبد الحق وغيرهم، وانقطع لعبادة الله تعالى في رباط سوار من الإسكندرية بتربة أبي العباس الراسي (2) ، وتلمذ للشاطبي تلميذ الراسي، وصنّف كتباً حسنة: منها كتاب المسلك القريب في ترتيب الغريب وكتاب اللمعة الجامعة في العلوم النافعة في تفسير القرآن العزيز، وكتاب شرف المراتب والمنازل في معرفة العالي في القراءات والنازل وكتاب المباحث السنية في شرح الحصريّة وكتاب الحرقة في لباس الخرقة وكتاب المنهج المفيد فيما يلزم الشيخ والمريد وكتاب النبذة الجلية في ألفاظ اصطلح عليها الصوفية وكتاب زهر العريش في تحريم الحشيش وكتاب الزهر المضي في مناقب الشاطبي وكتاب الأربعين المضية في الأحاديث النبوية. ومولده بشاطبة سنة 585، ووفاته بالإسكندرية في رمضان سنة 672، ودفن بتربة شيخه (3) المجاورة لزاويته، رحمهما الله تعالى، ونفع بهما. 88 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن شريح الرّعيني الإشبيلي (4) ، قدم مصر وسمع بها من ابن نفيس وأبي علي الحسن البغدادي وأبي جعفر النحوي وأبي القاسم ابن الطيب البغدادي الكاتب، وبمكّة من أبي ذرالهروي. قال ابن بشكوال: كان من جملة المقرئين وخيارهم، ثقة في روايته، وكانت رحلته إلى المشرق سنة 433، وولد سنة 392، وتوفّي سنة 476، وعمره أربع وثمانون سنة إلاّ خمسة وخمسين يوماً، وروى بإشبيلية عن جماعة،

_ (1) ق ج: مصري؛ ط: مضري. (2) ق ج: الراس. (3) يعني أبا العباس أحمد بن محمد اللخمي المعروف بالراسي. (4) انظر الصلة: 523 وغاية النهاية 2: 153.

رحمه الله تعالى. 89 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح الأنصاري، المالقي. قال السلفي: هو شاب من أهل الأدب له خاطر سمح كان يحضر عندي بالإسكندرية، كثير السماع للحديث، وذكر أنّه قرأ الأدب على أبي الحسين ابن الطّراوة النحوي (1) بالأندلس، وعلى نظرائه، وأنشدني لنفسه: كم ذا تقلقلين النوى وتسوقني ... وإلى متى أشجى بها وأسام ألفت ركائبي الفلا فكأنّما ... للبين عهدٌ بيننا وذمام يا ويح قلبي من فراق أحبّةٍ ... أبداً بصدّعه به الأيّام 90 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح القحطاني، المعافري الأندلسي المالكي (2) رحل إلى المشرق فسمع بالشام خيثمة بن سليمان، وبمكّة أبا سعيد ابن الأعرابي، وببغداد إسماعيل بن محمد الصفّار، وسمع بالمغرب بكر ابن حماد التّاهرتي ومحمد بن وضاح وقاسم بن أصبغ، وبمصر جماعة من أصحاب يونس والمزني. روى عنه أبو عبد الله الحاكم وقال: اجتمعنا به بهمذان، مات ببخارى سنة 383، وقيل: سنة ثمان، وقيل: سنة تسع وسبعين. وقال فيه أبو سعيد الإدريسي: إنّه كان من أفاضل الناس، ومن ثقاتهم. وقال غنجار: إنّه كان فقيهاً حافظاً، جمع تاريخاً لأهل الأندلس. وقال السمعاني فيه: كان فقيهاً حافظاً، رحل في طلب العلم إلى المشرق والمغرب، رحمه الله تعالى. 91 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر بن علي بن عيسى الخزرجي

_ (1) هو سليمان بن محمد بن الطراوة المالقي النحوي (ترجمته في تحفة القادم: 11 والمغرب 2: 208 وبغية الوعاة: 262 وبغية الملتمس: 290) . (2) ترجمة محمد بن صالح المعافري في ابن الفرضي 2: 91 والتكملة: 372.

الدّاني النحوي (1) ، أخو أبي العابس ابن عيسى، سمع بدانية من أبي داود المقرئ وغيره، وقدم دمشق سنة 554 حين خرج حاجّاً، واقرأ بدمشق النحو مدّة، ثم خرج إلى بغداد، وأقام بها إلى أن مات سنة 619، وولد سنة 512، وقدم مصر سنة 572، وله من المصنّفات كتاب تحصيل عين الذهب من معدن جوهر الأدب في علم مجازات العرب ومن كلامه: ليست هيبة الشيخ لشيبه ولا لسنّه ولا لشخصه، ولكن لكمال عقله، والعقل هو المهاب، ولو رأيت شخصاً جمع جميع الخصال وعدم العقل لما هبته، وقال: من جهل شيئاً عابه، ومن قصّر عن شيء هابه. 92 - ومنهم القاضي الشهير محمد بن بشير، وهو محمد بن سعيد بن بشير ابن شراحيل، المعافري (2) ، وقيل في آبائه غير ذلك كما يأتي، ولمّا أشير على الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بتقديم ابن بشير إلى خطّة القضاء بقرطبة وجّه إليه بباجة، فأقبل ولا يعلم ما دعي إليه، ونزل على صديق له من العبّاد (3) ، فتحدث في شأن استدعائه، وقدّم أنّه يصرّف في الكتابة، فقال له العابد (4) : ما أراه بعث فيك إلاّ للقضاء، فإن القاضي بقرطبة مات وهي الآن دون قاضٍ، فقال ابن بشير: فأنا أستشيرك في ذلك إن وقع، فقال: أسألك عن أشياء ثلاثة، وأعزم عليك أن تصدقني فيها، ثم أشير بعد ذلك عليك، فقال: ما هي فقال: كيف حبّك للأكل الطيب واللباس اللين وركوب الفاره فقال: والله لا أبالي ما رددت به جوعي وسترت به عورتي وحملت به

_ (1) ترجمته في بغية الوعاة: 49 نقلا عن ابن عساكر وابن النجار؛ وفي الوافي 3: 168. (2) ترجمته في قضاة قرطبة للخشني: 47 والمرقبة العليا: 47 - 53 والذيل والتكملة 6: الورقة 77 (مخطوطة باريس) وفيه تفصيل للخلاف في اسمه ونسبه. والتكملة: 355 وأغفله ابن الفرضي فلم يترجم له. (3) الخشني: فلما صار بسهلة المدور مال إلى صديق له كان بها من العباد فنزل عليه. (4) سقط من ق ما بين لفظتي " العباد " و " العابد " سهوا.

رحلي، فقال: هذه واحدة، فكيف حبّك للتمتّع بالوجوه الحسان والتبطن للكواعب الغيد وما شاكل ذلك من الشهوات فقال: هذه حال والله ما استشرفت قط إليها، ولا خطرت ببالي، ولا اكترثت لفقدها، فقال: وهذه ثانية، فكيف حبّك لمدح الناس لك وثنائهم عليك وكيف حبّك للولاية وكراهيتك للعزل فقال: والله ما أبالي في الحق من مدحني وذمّني، وما أسرّ للولاية ولا أستوحش للعزل، فقال: وهذه الثالثة، اقبل الولاية فلا بأس عليك، فقدم قرطبة، فولاّه الأمير الحكم القضاء والصلاة. قال ابن وضاح (1) : أخبرني من كان يرى محمد بن بشير القاضي داخلاً على باب المسجد الجامع يوم الجمعة، وعليه رداء معصفر، وفي رجله نعل صرّارة، وله جمّة مفرقة، ثم يقوم فيخطب ويصلّي وهو في هذا الزي، وبه كان يجلس للقضاء بين الناس، فإن رام أحدمن دينه شيئاً وجده أبعد من الثريا. وأتاه رجل لا يعرفه، فلمّا رأى ما هو فيه من زي الحداثة من الجمة المفرقة والرداء المعصفر وظهور الكحل والسواك وأثر الحناء في يديه، توقّف وقال: دلوني على القاضي، فقيل له: ها هو، وأشير إليه، فقال: إنّي رجل غريب، وأراكم تستهزئون بي، أنا أسألكم عن القاضي وأنتم تدلونني على زامرٍ، فصحّحوا له أنّه القاضي، فتقدم إليه واعتذر، فأدناه وتحدث معه، فوجد عنده من العدل والإنصاف فوق ما ظنّه، فكان يحدث بقصّته معه. وعوتب في إرسال لمّته ولبسه الخز والمعصفر، فقال: حدّثني مالك بن أنس أن محمد بن المنكدر - وكان سيّد القرّاء - كانت له لمّةٌ، وأن هشام بن عروة فقيه هذا البلد - يعني المدينة - كان يلبس المعصفر، وأن القاسم بن محمد كان يلبس الخزّ.

_ (1) الخشني: 52.

ولقد سئل يحيى بن يحيى عن لباس العمائم فقال: هي لباس الناس في المشرق، وعليه كان أمرهم في القديم، فقيل له: لو لبستها لاتّبعك الناس في لباسها، فقال: قد لبس محمد بن بشير الخز فما تبعه الناس فيه، وكان ابن بشير أهلاً أن يقتدى به، فلعلّي لو لبست العمامة لتركني الناس ولم يتبعوني كما تركوا ابن بشير. وكان أول (1) ما نظر فيه محمد بن بشير - حين ولي القضاء - التسجيل على الخليفة الحكم في أرحي القنطرة إذ قيم عليه فيها وثبت عنده حق المدّعي، وأعذر إلى الحكم فلم يكن عنده مدفع، فسجّل فيها، وأشهد على نفسه، فما مضت مديدة حتى ابتاعها الحكم ابتياعاً صحيحاً، فسرّ بذلك، وقال: رحم الله محمد بن بشير، فلقد أحسن فيما فعل بنا على كره منّا، كان في أيدينا شيء مشتبه فصححه لنا، وصار حلالاً طيب الملك (2) في أعقابنا، وحكم على ابن فطيس الوزير، ولم يعرّفه بالشهود، فرفع الوزير ذلك إلى الحكم، وتظلم من ابن بشير، فأومأ الحكم إليه أن الوزير ذكر حكمك عليه بشهادة قوم لم تعرّفه بهم، ولا أعذرت إليه فيهم، وإن أهل العلم يقولون: إن ذلك له، فكتب إليه ابن بشير: ليس ابن فطيس ممّن يعرّف بمن شهد عليه، لأنّه إن لم يجد سبيلاً إلى تجريحهم لم يتحرج عن طلب أذاهم في أنفسهم وأموالهم، فيدعون الشهادة هم ومن ائتسى بهم، وتضيع أموال الناس. وأكثر موسى بن سماعة أحد خواصّ الأمير الحكم في ابن بشير الشكاية، وأنّه يجور عليه، فقال له الحكم: أنا أمتحن قولك الساعة، فاخرج إليه فوراً، واستأذن عليه، فإن أذن لك عزلته، وصدّقت قولك فيه، وإن لم يأذن لك دون خصمك ازددت بصيرة فيه، فليس هو عندي بجائر (3) على حال، وإنّما

_ (1) الخشني: 49. (2) في ق ودوزي: المسلك، وفي الخشني: " وطاب لنا ملكه ". (3) ق ودوزي: بجائز.

مقصده الحق في كل ما يتصرّف فيه، فخرج يؤم دار ابن بشير، وقد أمر الحكم من يثق به من الفتيان الصّقالبة أن يقفوا أثره ويعلموا ما يكون منه، فلم يكن إلاّ ريثما بلغ، ثمّ انصرف فحكى للحكم أنّه لمّا خرج الآذن إلى موسى وعلم القاضي بمكانه عاد إليه فقال له: إن كانت لك حاجة فاقصد فيها إذا جلس القاضي مجلس القضاء، فتبسّم الحكم، وقال: قد أعلمته أن ابن بشير صاحب حقّ لا هوادة فيه عنده لأحد. وولي القضاء مرتين، فلمّا عزل المرّة الأولى انصرف إلى بلده، وكان بعض إخوانه يعاتبه في صلابته، ويقول له: أخشى عليك العزل، فيقول له: ليته قدّر، إن الشقراء - يعني بغلته - تقطع الطريق بي حاثة نحو باجة. فما مضى إلا يسير حتى عتب عليه الأمير في قصّة اشتدّ فيها على بعض خاصّته، فكانت سبباً لعزله، وانصرف كما تمنى، فلم يمكث إلى يسيراً حتى أتى فيه رقّاص من قبل الأمير الحكم، - والرّقاص عند المغاربة: هو الساعي عند المشارقة - فعاد إلى قرطبة، وجبره على القعود للقضاء الأمير الحكم، فلاذ منه باليمين بطلاق زوجته وبصدقة ما يملك في سبيل الله تعالى، إن حكم بين اثنين، فلم يعذره، وأخرجه من ماله، وعوّضه من طيب ما عنده، وهب له جارية من جواريه، فعاد إلى القضاء ثانية. وممّا يحكى عنه في العدل أن سعيد الخير ابن السلطان عبد الرحمن الداخل وكّل عند ابن بشير وكيلاً يخاصم عنه لشيء اضطر إليه، وكانت بيده فيه وثيقة فيها شهادات شهود قد ماتوا، ولم يكن فيها من الأحياء إلاّ الأمير الحكم وشاهد آخر مبرز، فشهد لسعيد الخير ذلك الشاهد، وضربت على وكيله الآجال في شاهد ثانٍ، وجدّ به الخصام، فدخل سعيد الخير بالكتاب إلى الحكم وأراه (1) . شهادته في الوثيقة، وقد كان كتبها قبل الخلافة في حياة أبيه، وعرّفه مكان

_ (1) ق ط ج ودوزي: وأراد.

حاجته إلى أدائها عند قاضيه خوفاً من بطلان حقّه، وكان الحكم يعظم سعيد الخير عمّه، ويلتزم مبرته، فقال له: يا عمّ، إنّا لسنا من أهل الشهادات، وقد التبسنا من هذه الدنيا بما لا تجهله، ونخشى أن توقفنا مع القاضي موقف مخزاة كنّا نفديه بملكنا، فصر في خصامك حيث صيرك الحق إليه، وعلينا خلف ما انتقصك، فأبى عليه، وقال: سبحان الله، وما عسى أني قول قاضيك في شهادتك وأنت ولّيته، وهو حسنة من حسناتك، وقد لزمتك في الديانة أن تشهد لي بما علمته، ولا تكتمني ما أخذ الله عليك؛ فقال: بلى، إن ذلك لمن حقّك كما تقول، ولكنّك تدخل علينا به داخلة، فإن أعفيتنا منه فهو أحبّ إلينا، وإن اضطررتنا لم يمكنّا عقوقك، فعزم عليه عزم من لم يشكّ أن قد ظفر بحاجته، وضايقته الآجال، فألح عليه، فأرسل الحكم عند ذلك إلى فقيهين من فقهاء زمانه، وخط شهادته بيده في قرطاس، وختم بخاتمه (1) ، ودفعها إلى الفقيهين وقال لهما: هذه شهادتي بخطّي تحت ختمي، فأدّياها إلى القاضي، فأتياه بها إلى مجلسه وقت قعوده للسّماع من الشهود، فادّياها إليه، فقال لهما: قد سمعت منكما فقوما راشدين في حفظ الله تعالى، وجاء وكيل سعيد الخير، وتقدّم إليه مدلاًّ واثقاً، وقال له: أيّها القاضي، قد شهد عندك الأمير أصلحه الله تعالى فماذا تقول فأخذ كتاب الشهادة ونظر فيه، ثم قال للوكيل: هذه شهادة لا تعمل عندي فجئني بشاهد عدل، فدهش الوكيل ومضى إلى سعيد الخير فأعلمه، فركب من فوره إلى الحكم، وقال: ذهب سلطاننا، وأزيل بهاؤنا، يجترئ هذا القاضي على ردّ شهادتك، والله سبحانه قد استخلفك على عباده، وجعل الأمر في دمائهم وأموالهم وإليك هذا ما لا يجب أن تحمل عليه، وجعل يغريه بالقاضي ويحرّضه على الإيقاع به، فقال له الحكم: وهو شككت أنا في هذا يا عمّ القاضي رجلٌ صالح والله،

_ (1) إلى فقيهين ... بخاتمه: سقط هذا من ق.

لا تأخذه في الله لومة لائم، فعل ما يجب عليه ويلزمه، وسدّ دونه باباً كان يصعب عليه الدخول منه، فأحسن الله تعالى جزاءه؛ فغضب سعيد الخير، وقال: هذا حسبي منك، فقال له: نعم، قد قضيت الذي كان لك علي، ولست والله أعارض القاضي فيما احتاط به لنفسه، ولا أخون المسلمين في قبض يد مثله. ولمّا عوتب ابن بشير فيما أتاه من ذلك قال لمن عاتبه: يا عاجز، أما تعلم أنّه لا بد من الإعذار في الشهادات، فمن كان يجترئ على الدفع في شهادة الأمير لو قبلتها ولو لم أعذر لبخست المشهود عليه حقّه. وتوفّي القاضي محمد بن بشير سنة 198 قبل الشافعيّ بست سنين كما يأتي قريباً، ومحاسنه - رحمه الله تعالى - كثيرة، وقد استوفى ترجمته بقدر الإمكان القاضي عياض في المدارك، فليراجعها من أرادها، فإن عهدي بها في المغرب (1) . وقال بعض من عرف به، ما نصّه (2) : القاضي محمد بن بشير بن محمد المعافري، أصله من جند باجة من عرب مصر، ولاه الحكم بن هشام قضاء القضاة الذي يعبرون عنه بالمغرب بقضاء الجماعة، بقرطبة، بعد المصعب بن عمران، ثم صرفه وولى مكانه الفرج بن كنانة. وعن ابن حارث، قال أحمد ابن خالد: طلب محمد بن بشير العلم بقرطبة عند شيوخ أهلها حتى أخذ منه بحظ وافر، ثم كتب لأحد أولاد عبد الملك بن عمر المرواني (3) لمظلمة نالته على وجه الاعتصام به وتصرف معه تصرفاً لطيفاً، ثم انقبض عنه، وخرج حاجّاً، قال ابن الحارث: وكتب محمد بن بشير في حداثته للقاضي مصعب بن عمران، ثم انصرف حاجّاً فلقي مالك بن أنس وجالسه وسمع منه، وطلب العلم أيضاً بمصر، ثم انصرف فلزم ضيعته في باجة.

_ (1) دوزي: فإن عهدي بها لمغرب، واستدركها فليشر في تصويباته؛ وفي ج ط ق: فإن عهدي بها المغرب. (2) راجع التكملة: 355. (3) في ق ط ج: عبد الملك بن مروان المرواني، والتصويب عن الخشبي.

وقال ابن حيّان: إنّه استقدم من باجة للقضاء برأي العباس بن عبد الملك. وقال ابن شعبان في الرواة (1) عن مالك من أهل الأندلس: محمد بن بشير بن سرافيل، ويقال شراحيل، ولي القضاء، وكان رجلاً صالحاً، وبعدله تضرب الأمثال، واستوطن قرطبة، وتوفّي بها سنة ثمان وتسعين ومائة، انتهى، وبعضه عن غيره. ومن شعره قوله: إنّما أزرى بقدري أنّني ... لست من بابة (2) أهل البلد ليس منهم غير ذي مقليةٍ ... لذوي الألباب أو ذي حسد يتحامون لقائي مثلما ... يتحامون لقاء الأسد مطلعي أثقل في أعينهم ... وعلى أنفسهم من أحد لو رأوني وسط بحرٍ لم يكن ... أحدٌ يأخذ منهم بيدي 93 - ومنهم محمد بن عيسى بن دينار الغافقي (3) ، من أهل قرطبة، كان فقيهاً زاهداً، وحج وحضر افتتاح إقريطش، واستوطنها، قاله الرازي. 94 - ومنهم محمد بن يحيى بن يحيى الليثي (4) ، خرج حاجّاً، ولقي سحنون بن سعيد بإفريقية، ولقي بمصر رجالاً من أصحاب مالك فسمع منهم، وعرف بالفقه والزهد، وجاور بمكّة، وتوفي هنالك. 95 - ومنهم محمد بن مروان بن خطاب، المعروف بابن أبي جمرة (5) ،

_ (1) ق دوزي: في الرواية. (2) دوزي: لست من باجة، وصوبه فليشر. (3) ترجمته في التكملة: 356. (4) ترجمته في التكملة: 356. (5) ترجمته في التكملة: 356 وانظر ترجمة " عمير بن عبد الرحمن بن مروان " في ابن الفرضي 1: 371.

رحل حاجّا هو وابناه خطاب وعميرة في سنة اثنتين وعشرين ومائتين، وسمعوا ثلاثتهم من سحنون بن سعيد المدوّنة بالقيروان، وأدركوا أصبغ بن الفرج، وأخذوا عنه. 96 - ومنهم محمد بن أبي علاقة البواب (1) ، من أهل قرطبة، كانت له رحلة إلى المشرق، ولقي فيها جماعة من أهل العلم، وأخذ عن أبي إسحاق الأخفش، وأبي عبد الله نفطويه، وغيرهم، وسمع من الأخفش الكامل للمبرّد، وقال الحكم المستنصر: لم يصح كتاب " الكامل " عندنا من رواية إلاّ من قبل ابن [أبي] علاقة، وكان ابن جابر الإشبيلي قد رواه قبل بمصر بمدة، وما علمت أحداً رواه غيرهما، وكان ابن الأحمر القرشي (2) يذكر أنّه رواه، وكان صدوقاً، ولكن كتابه ضاع، ولو حضر ضاهى الرجلين المتقدمين. 97 - ومنهم محمد بن حزم بن بكر التّنوخي (3) ، من أهل طليطلة، وسكن قرطبة، يعرف بابن الديني، سمع من أحمد بن خالد وغيره (4) ، وصحب محمد بن مسرة الجبلي قديماً، واختص بمرافقته في طريق الحج، ولازمه بعد انصرافه، وكان من أهل الورع والانقباض، وحكى عن ابن مسرّة أنّه كان في سكناه المدينة يتتبع آثار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: ودلّه بعض أهل المدينة على دار ماريّة أم إبراهيم سرّيّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقصد إليها فإذا دويرة لطيفة بين البساتين بشرقي المدينة عرضها وطولها واحد قد شق في وسطها بحائط، وفرش على حائطها خشب غليظ يرتقىإلى ذلك الفرش

_ (1) ترجمته في التكملة: 362. (2) كذا في الأصول، ولعلها: الفريشي. (3) ترجمته في التكملة: 365. (4) بن بكر.... وغيره: سقط من ق.

على خارج لطيف، وفي أعلى ذلك بيتان وسقيفة كانت مقعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الصيف، قال: فرأيت أبا عبد الله بعدما صلّى في البيتين والسقيفة وفي كل ناحية من نواحي تلك الدار ضرب أحد البيتين بشبره، فكشفته بعد انصرافي وهو ساكن في الجبل عن ذلك، فقال: هذا البيت الذي تراني فيه بنيته على تلك (1) الحالة في العرض والطول بلا زيادة ولا نقصان، انتهى. 98 - ومنهم محمد بن يحيى بن مالك بن يحيى ين عائذ (2) ، ولد أبي زكريا الراوية، من أهل طرطوشة، يكنى أبا بكر، تأدّب بقرطبة، وسمع بها من قاسم بن أصبغ ومحمد بن معاوية القرشي وأحمد بن سعيد ومنذر بن سعيد وأبي علي القالي وغيرهم، وكان حافظاً للنحو واللّغة والشعر، يفوت من جاراه على حداثة سنّه، شاعراً مجيداً مرسلاً بليغاً، ورحل مع أبيه إلى المشرق سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فسمع بمصر من ابن الورد وابن السكن وحمزة الكناني هنالك، وجمع كتباً عظيمة، وأقام بها إلى أن توفّي بأصبهان معتبطاً مع الستين وثلاثمائة، ومولده بطرطوشة صدر ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، ذكره ابن حيّان، رحمه الله تعالى. 99 - ومنهم محمد بن عبدون الجبلي العددي (3) من أهل قرطبة، أدّب بالحساب والهندسة، ورحل في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، فدخل مصر والبصرة، وعني بعلم الطب فمهر فيه، ودبّر في مارستان الفسطاط، ثم رجع

_ (1) ق ج ط: الحكاية. (2) ترجمته في التكملة: 367؛ وفي ق ط ودوزي: " عاين " بدل " عائذ ". (3) انظر ترجمة محمد بن عبدون الجبلي في التكملة: 367 وطبقات ابن جلجل: 115 والذيل والتكملة 6: 172 (نسخة باريس) . وابن أبي أصيبعة 2: 46 وطبقات صاعد: 81 والوافي 3: 207.

إلى الأندلس في سنة ستين وثلاثمائة، فاتصل بالمستنصر بالله وابنه المؤيد بالله، وله في التكسير تأليف حسن، رحمه الله تعالى. 100 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأزدي، الفراء القرطبي (1) ، صحب أبا بكر ابن يحيى بن مجاهد، واختص به، ولطف محلّه منه، وقرأ عليه القرآن، ورحل صحبته لأداء فريضة الحجّ، وكان رجلاً صالحاً كثير التلاوة للقرآن والخشوع، إذا قرأ بكى ورتّل وبيّن في مهل، ويقول: أبو بكر علّمني هذه القراءة، وحكي أنّه سرد الصوم اثنتي عشرة سنة قبل موت ابن مجاهد مفطراً كلّ ليلة وقت الإفطار، ثم تمادى على ذلك بعد موته مفطراً عقب العشاء الآخرة لالتزامه الصلاة من المغرب إليها، تزيّداً من الخير، واجتهاداً في العمل. 101 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح المعافري، الأندلسي (2) ، رحل إلى المشرق فسمع خيثمة بن سليمان وأبا سعيد ابن الأعرابي وإسماعيل ابن محمد الصفار وبكر بن حمّاد التاهرتي وغيرهم، روى عنهم أبو عبد الله الحكم وقال: اجتمعنا بهمذان سنة إحدى وأربعين، يعني وثلاثمائة، فتوجّه منها إلى أصبهان، وكان قد سمع في بلاده وبمصر من أصحاب يونس، وبالحجاز وبالشام وبالجزيرة من أصحاب علي بن حرب، وببغداد، وورد نيسابور في ذي الحجّة سنة إحدى وأربعين فسمع الكثير، ثم خرج إلى مرو ومنها إلى بخارى فتوفّي بها في رجب من سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وروى عنه أيضاً أبو القاسم ابن حبيبي النيسابوري وغيرهما، ذكره ابن عساكر، وأسند إليه قوله: ودّعت قلبي ساعة التوديع ... وأطعت قلبي وهو غير مطيعي إن لم أشيّعهم فقد شيّعتهم ... بمشيّعين تنفّسي ودموعي

_ (1) ترجمته في التكملة: 369 والذيل والتكملة 6: 147 (نسخة باريس) . (2) هذه الترجمة مكررة. أنظر الترجمة رقم: 90 في ما تقدم.

وذكره ابن الفرضي وقال: إنّه استوطن بخارى، وجعل وفاته بها سنة ثمان وسبعين، والأول قول الحاكم، وهو أصح. 102 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، السّرقسطي (1) ، روى عن الباجي وابن عبد البر، ورحل حاجّاً فقدم دمشق وحدّث بها عن شيوخه الأندلسيين، وعن أبي حفص عمر بن أبي القاسم ابن أبي زيد القفصيّ، وذكره ابن عساكر، وقال: سمع عنه أبو محمد الأكفاني، وحكى عنه تدليساً ضعّفه به، وتوفّي سنة 477. 103 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عيسى بن بقاء، الأنصاري (2) ، من بلاد الثغر الشرقي (3) ، أخذ القراءات عن أبي داود سليمان بن نجاح، ورحل حاجّاً، فقدم دمشق، وأقرأ بها القرآن بالسبع، وأخذ عنه جماعة من أهلها، وكان شيخاً فاضلاً حافظاً للحكايات، قليل التكلّف في اللباس، ذكره ابن عساكر وقال: رأيته وسمعته ينشد قصيدة يوم خرج الناس للمصلّى للاستسقاء على المنبر، وأولها: أستغفر الله من ذنبي وإن كبرا ... واستقلّ له شكري وإن كثرا ولد في الثاني والعشرين من شعبان سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وتوفّي يوم الأربعاء عند صلاة العصر، ودفن يوم الخميس لصلاة الظهر الثاني من ذي الحجّة سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، ودفن في مقابر الصحابة بالقرب من قبر أبي الدّرداء، رضي الله تعالى عنه، قال: وشهدت أنا غسله والصلاة عليه

_ (1) ترجمته في التكملة: 397 والذيل والتكملة 6: 19 (نسخة باريس) . (2) ترجمته في التكملة: 413. (3) من أهل بلغي في الثغر الشرقي.

ودفنه؛ وذكره السلفي. 104 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر بن علي بن عيسى، الأنصاري، الخزرجي (1) ، من أهل دانية، سمع كتاب " التقصي " لابن عبد البر، ولقي أبا الحسن الحصري ثم خرج حاجّاً فقدم دمشق سنة أربع وخمسمائة، وأقام بها مدة يقرئ العربية، وكان شديد الوسوسة من الوضوء. ذكره ابن عساكر وقال: أنشدني أخي أبو الحسين هبة الله بن الحسن الفقيه قال: أنشدنا ابن طاهر الأندلسي بدمشق قال: أنشدني الحصري لنفسه: يموت من في الأنام طرّاً ... من طيّبٍ كان أو خبيث فمستريحٌ ومستراحٌ ... منه، كما جاء في الحديث قال: وأنشدني الحصري لنفسه: لو كان تحت الأرض أو فوق الذرى ... حرٌّ أتيح له (2) العدوّ ليوذى فاحذر عدوّك وهو أهون هيّنٍ ... إنّ البعوضة أردت النمروذا 105 - ومنهم محمد بن أبي سعيد الفرج بن عبد الله، البزاز (3) ، من أهل سرقسطة، لقي بدانية الحصري، وسمع منه بعض منظومه، ورحل حاجّاً فأدّى الفريضة، ودخل العراق فسمع من جماعة وأجازوا له: منهم ابن خيرون، والحميدي، وأبو زكريا التبريزي، والمبارك بن عبد الجبار، وثابت بن بندار، وهبة الله بن الأكفاني، وغيرهم، ونزل الإسكندريّة، وحدّث بها وأخذ الناس عنه، وتوفّي هنالك، وأنشد للحصري:

_ (1) ترجمته في التكملة: 419 والذيل والتكملة 6: 87 - 88 (نسخة باريس) . (2) ق: لو كنت ... حراً أتيح له..؛ وهو مضطرب. (3) ترجمته في التكملة: 433؛ وفي ق ودوزي: " البزار ".

الناس كالأرض، ومنهم هم ... من خشن اللّمس ومن ليّن صلدٌ تشكّى الرّجل منه الوجى ... وإثمدٌ يجعل في الأعين روى عنه ابن الحضرمي وابن جارة، وغيرهما. 106 - ومنهم أبو بكر محمد بن الحسين، الشهير بالميورقي (1) لأن أصله منها، وسكن غرناطة، وروى عن أبي علي الصّدفي، ورحل حاجّاً فسمع بمكّة من أبي الفتح عبد الله بن محمد البيضاوي، وأبي نصر عبد الملك بن أبي مسلم النهاوندي، في شوّال وذي القعدة من سنة 517، وبالإسكندريّة من أبي عبد الله الرازي وأبي الحسن ابن مشرّف وأبي بكر الطّرطوشي وغرهم، وعاد إلى الأندلس بعد مدّى طويلة فحدّث في غير ما بلد لتجوّله، وكان فقيهاً ظاهريّاً، عارفاً بالحديث وأسماء الرجال، متقناً لما رواه، يغلب عليه الزهد والصلاح، روى عنه أبو عبد الله النميري الحافظ ويقول فيه: الأزدي تدليساً، لأن الأنصار من الأزد، وأبو بكر ابن رزق وأبو عبد الله ابن عبد الرحيم وابنه عبد المنعم وسواهم، وصار أخيراً إلى بجاية هارباً من صاحب المغرب (2) حينئذ بعد أن حمل إليه هو وأبو العباس ابن العريف وأبو الحكم ابن برّجان، وحدّث هنالك، وسمع منه في سنة 537، رحمه الله تعالى. 107 - ومنهم أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن بن الطّفيل العبدي الإشبيلي (3) ويعرف بابن عظيمة، أخذ القراءات عن أبي عبد الله السّرقسطي

_ (1) ترجمته في التكملة: 440 والذيل والتكملة 6: 63 (نسخة باريس) وهو محمد بن الحسين بن أحمد بن يحيى بن بشر الأنصاري الخزرجي، وأسقط ابن الزبير " الحسين " من نسبه وقال في بشر " بشير " وكلاهما غلط، هذا ما حققه ابن عبد الملك وهو ينقل من خطه. (2) يعني علي بن يوسف بن تاشفين؛ وقال ابن عبد الملك: إن علياً ضربه بالسوط وسجنه وقتاً ثم سرحه إلى الأندلس. (3) ترجمته في التكملة؛ 445 والذيل والتكملة 6: 143 (نسخة باريس) .

وروى عن أبي عبد الله الخولاني وأبي عبد الله ابن فرج وأبي علي الغساني وأبي داود المقرئ وأبي جعفر ابن عبد الحق وأبي الوليد ابن طريف، ورحل حاجّاً فروى بمكّة عن رزين بن معاوية، ثم بالإسكندريّة عن ابن الحضرمي أبي عبد الله محمد بن منصور وأبي الحسن ابن مشرّف الأنماطي، وبالمهدية عن المازريّ، وكانت رحلته مع أبي علي منصور بن الخير الأحدب للقاء أبي معشر الطبري، فبلغهما نعيه بمصر، فلمّا قفلا من حجّهما قعد منصور يقول: قرأت على أبي معشر، واقتصر أبو الحسن في تصدره للإقراء على التحديث عمّن لقي، فعرف مكانه من الصدق والعدالة، وولي الصلاة ببلده، وتقدّم في صناعته، واشتهر بها، وتلاه أهل بيته فيها، فأخذ عنهم الناس، وله أرجوزة في القراءات السبع، وأخرى في مخارج الحروف، وشرح قصيدة الشقراطسي، وله أيضاً كتاب " الفريدة الحمصية (1) في شرح القصيدة الحصريّة "، وإليه وإلى بنيه بعده كانت الرياسة في هذا الشأن، ومن جلّة الرواة عنه أبو بكر ابن خير، قرأ عليه " الشهاب " للقضاعي (2) ، وأجاز له جميع رواياته وتواليفه في رجب سنة 536، وتوفّي في حدود الأربعين وخمسمائة، وروى عنه أبو الضحاك الفزاري. 108 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم بن عيسى بن هشام بن جراح الخزرجي (3) ، من أهل جيّان، ويعرف بالبغدادي لطول سكناه إيّاها، روى عن أبي علي الغسّاني، وأبي محمد ابن عتاب، ورحل حاجّاً فلقي أبا الحسن الطبري المعروف بالكيّا، وأبا طالب الزينبي، وأبا بكر الشاشي،

_ (1) سماها ابن خير " منح الفريدة الحمصية " - (الفهرسة: 74) . (2) انظر فهرست ابن خير: 182. (3) ترجمته في التكملة: 474 والذيل والتكملة 5: 582 صنف في مسائل الخلاف تعليقه المشهور في سبعة أسفار، ومن مصنفاته " أسرار الإيمان " في سفر؛ دروس الفقه بفاس ثم تحول إلى جيان فجلس فيها للوعظ والقصص وخرج من بلده في الفتنة وعاد إلى فاس فنزلها 544 وبقي يدرس فيها الفقه ومسائل الخلاف إلى أن توفي.

وغيرهم. وكان فقيهاً مشاوراً، حدث عنه أبو عبد الله النميري، وأبو محمد ابن عبيد الله، وأبو عبد الله ابن حميد، وأبو القاسم عبد الرحيم بن الملجوم، وغير واحد، وتوفّي بفاس سنة 546. 109 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن ياسر، الأنصاري الجيّاني (1) ، ونزل حلب، يكنى أبا بكر، رحل إلى المشرق، وأدّى الفريضة وقدم دمشق قبل العشرين وخمسمائة، وسكن قنطرة سنان (2) منها، وكان يعلّم القرآن، ويتردّد إلى أبي عبد الله (3) نصر الله بن محمد يسمع الحديث منه، ثم رحل صحبة أبي القاسم ابن عساكر صاحب تاريخ الشام إلى بغداد سنة عشرين، وكان زميله، فسمع بها معه من هبة الله بن الحصين وغيره، ثم خرج إلى خراسان فسمع بها من حمزة الحسيني وأبي عبد الله الفراوي وأبي القاسم الشّحّامي وغيرهم، وسمع ببلخ جماعة منهم أبو محمد الحسن بن علي الحسيني (4) وأبو النجم مصباح ابن محمد المسكي وغيرهما، وبلغ الموصل فأقام بهامدة يسمع منه ويؤخذ عنه، ثم انتهى إلى حلب فاستوطنها، وسلّمت إليه خزانة الكتب النورية، وأجريت عليه جراية، وكان فيه عسر في الرواية والإعارة معاً، ووقف كتبه على أصحاب الحديث، وله عوالٍ مخرّجة من حديثه ساوى [بها] بعض شيوخه البخاريّ ومسلماً وأبا داود والترمذي والنسائي، روى عنه أبو حفص الميانشي وأبو المنصور مظفر بن سوار اللخمي وأبو محمد عبد الله بن علي بن سويدة وابن أبي السنان وغيرهم. ذكره ابن عساكر في تاريخه وقال: سمعت منه، ومات [بحلب] في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وخمسمائة على ما بلغني.

_ (1) ترجمته في التكملة: 500. (2) هكذا في ق ط ج، وجعل في دوزي " سنتين "؛ وصوبه فليشر. (3) التكملة: أبي الفتح. (4) التكملة: الحسني.

وقال ابن نقطة: حدّث عن جماعة منهم أبو القاسم سهل بن إبراهيم النيسابوري وأبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الهمداني، حدّثنا عنه أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الحلبي وأخوه أبو العباس أحمد، وحكي عن الحسن بن هبة الله بن صصرى أنّه توفّي بحلب في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وخمسمائة كما تقدم، وقد بلغ السبعين، قاله ابن الأبار. 110 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة (1) ، مرسيّ سكن شاطبة، ودار سلفه بلنسية، سمع أبا علي الصّدفي واختص به، وأكثر عنه، وإليه صارت دواوينه وأصوله العتاق وأمّهات كتبه الصحاح، لصهر كان بينهما، وسمع أيضاً أبا محمد ابن أبي جعفر، ولازم حضور مجلسه للتفقّه به، وحمل ما كان يرويه، ورحل إلى غرب الأندلس فسمع أبا محمد ابن عتاب وأبا بحر الأسدي وأبا الوليد ابن رشد، وأبا عبد الله الخولاني، وأبا عبد الله ابن الحاج، وأبا بكر العربي وغيرهم، وكتب إليه أبو عبد الله الخولاني وأبو الوليد ابن طريف وأبو الحسن ابن عفيف وأبو القاسم وابن صواب وأبو محمد ابن السيّد وغيرهم، ثم رحل إلى المشرق سنة عشرين وخمسمائة، فلقي بالإسكندريّة أبا الحجّاج ابن نادر الميورقي، وصحبه وسمع منه، وأخذ عنه الفقه وعلم الكلام، وأدّى فريضة الحج في سنة إحدى وعشرين، ولقي بمكّة أبا الحسن رزين بن معاوية العبدري إمام المالكيّة بها، وأبا محمد ابن صدقة المعروف بابن غزال من أصحاب كريمة المروزيّة فسمع منهم وأخذ عنهما، وروى عن أبي الحسن علي بن سند بن عياش الغساني ما حمل عن أبي حامد الغزالي من تصانيفه، ثم انصرف إلى ديار مصر فصحب ابن نادر إلى حين وفاته بالإسكندريّة، ولقي أبا طاهر ابن عوف وأبا عبد الله ابن مسلم القرشي وأبا طاهر السّلفي وأبا

_ (1) ترجمة ابن سعادة في التكملة: 505.

زكريا الزناتي وغيرهم، فأخذ عنهم، وكان قد كتب إليه منها أبو بكر الطّرطوشي وأبو الحسن ابن مشرّف الأنماطي، ولقي في صدره بالمهديّة أبا عبد الله المازري فسمع منه بعض كتاب المعلم، وأجاز له باقيه، وعاد إلى مرسية في سنة ست وعشرين. وقد حصّل في رحلته علوماً جمة ورواية فسيحة، وكان عارفاً بالسنن والآثار، مشاركاً في علم القرآن وتفسيره، حافظاً للفروع، بصيراً باللّغة والغريب، ذا حظ من علم الكلام، مائلاً إلى التصوّف، مؤثراً له، أديباً بليغاً خطيباً فصيحاً، ينشئ الخطب مع الهدي والسّمت والوقار والحلم، جميل الشارة، محافظاً على التلاوة، [بادي] الخشوع (1) ، راتباً على الصوم، وولي خطّة الشورى بمرسية مضافة إلى الخطبة بجامعها، وأخذ في إسماع الحديث وتدريس الفقه، ثم ولي القضاء بها بعد انقراض دولة الملثمين، ونقل إلى قضاء شاطبة فاتخذها وطناً، وكان يسمع الحديث بها وبمرسية وبلنسية، ويقيم الخطب أيّام الجمع في جوامع هذه الأمصار الثلاثة متعاقباً عليها، وقد حدّث بالمريّة وهناك أبو الحسن ابن موهب وأبو محمد الرّشاطي وغيرهما، وسمع منه أبو الحسن ابن هذيل جامع الترمذي، وألّف كتابه شجرة الوهم المترقية إلى ذروة الفهم ولم يسبق إلى مثله، وليس له غيره، وجمع فهرسة حافلة. ووصفه غير واحد بالتّفنّن في العلوم والمعارف، والرسوخ في الفقه وأصوله، والمشاركة في علم الحديث والأدب. وقال ابن عياد في حقّه: إنّه كان صليباً في الأحكام، مقتفياً للعدل، حسن الخلق والخلق، جميل المعاملة، لين الجانب، فكه المجالسة، ثبتاً، حسن الخط، من أهل الإتقان والضبط. وحكي أنّه كانت عنده أصول حسان

_ (1) ق ط ج ودوزي: على التلاوة بالخشوع.

بخطّ عمّه، مع الصحيحين بخطّ الصّدفي في سفرين، قال: ولم يكن عند شيوخنا مثل كتبه في صحتها وإتقانها وجودتها ولا كان فيهم من رزق عند الخاصة والعامة من الحظوة والذكر وجلالة القدر ما رزقه. وذكره أبو سفيان أيضاً وأبو عمر ابن عاتٍ، ورفعوا جميعاً بذكره. وتوفّي بشاطبة مصروفاً عن قضائها آخر ذي الحجّة سنة خمس وستين وخمسمائة (1) ودفن أول يوم من سنة ست وستين وخمسمائة، بالروضة المنسوبة إلى أبي عمر ابن عبد البر، ومولده في رمضان سنة 496. 111 - ومنهم محمد بن إبراهيم بن وضاح، اللخمي (2) ، من أهل غرناطة، ونزل جزيرة شقر، يكنى أبا القاسم، وأخذ القراءة عن أبي الحسن ابن هذيل وسمع منه كثيراً ورحل حاجّاً فأدّى الفريضة، وأخذ القراءات بمكّة عن أبي علي ابن العرجاء في سنة ست وأربعين وخمسمائة وسنة سبع بعدها، وحجّ ثلاث حجّات، ودخل بغداد، وأقام في رحلته نحواً من تسعة أعوام، وقفل إلى الأندلس، فنزل جزيرة شقر من أعمال بلنسية، وأقرأ بها القرآن نحواً من أربعين سنة لم يأخذ من أحد أجراً، ولا قبل هديّة، وولي الصلاة والخطبة بجامعها، وكان رجلاً صالحاً، زاهداً يشار إليه بإجابة الدعوة، معروفاً بالورع والانقباض، وتوفّي في صفر سنة 587. 112 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن، التّجيبي، نزيل تلمسان (3) ، من أهل لقنت عمل مرسية، وسكن أبوه أريولة، رحل إلى

_ (1) هكذا هو تاريخ وفاته في التكملة وط ج؛ وعند ق ودوزي أنه توفي 555 ودفن أول يوم من سنة 556. (2) ترجمة في التكملة: 544 والذيل والتكملة 6: 39 (نسخة باريس) . (3) ترجمته في التكملة: 588 والذيل والتكملة 6: 139 (نسخة باريس) وقد أطنب ابن عبد الملك في ذكره شيوخه والآخذين عنه.

المشرق فأدّى الفريضة، وأطال الإقامة هنالك، واستوسع في الرواية، وكتب العلم عن جماعة كثيرة أزيد من مائة وثلاثين، من أعيانهم المشرقيين أبو طاهر السّلفي، صحبه واختص به وأكثر عنه، وحكى أنّه لمّا ودّعه في قفوله إلى المغرب سأله عمّا كتب عنه، فأخبره أنّه كتب كثيراً من الأسفار ومئين من الأجزاء، فسرّ بذلك، وقال له: تكون محدّث المغرب إن شاء الله تعالى، قد حصّلت خيراً كثيراً، قال: ودعا لي بطول العمر حتى يؤخذ عني ما أخذت عنه، وقد جمع في أسماء شيوخه على حروف المعجم تأليفاً مفيداً أكثر فيه من الآثار والحكايات والأخبار، وقفل من رحلته، وله أربعون حديثاً من المواعظ، وأخرى في الفقر وفضله، وثالثة في الحب في الله تعالى، رابعة في فضل الصلاة على النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، ومسلسلاته في جزء، وكتاب فضائل الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان وكتاب فضل عشر ذي الحجّة وكتاب مناقب السبطين وكتاب الفوائد الكبرى مجلد، والفوائد الصغرى جزء، وكتاب الترغيب في الجهاد خمسون باباً في مجلّد، وكتاب المواعظ والرقائق أربعون مجلساً، سفران، وكتاب مشيخة السّلفي وغير ذلك. ومولده بلقنت (1) الصغرى في نحو الأربعين وخمسمائة، وتوفّي سنة عشر وستمائة، رحمه الله تعالى. 113 - ومنهم الشيخ الأكبر، ذو المحاسن التي تبهر، سيّدي محيي الدين بن عربي محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله، الحاتمي (2) ، من ولد

_ (1) ق ط: بالقنت. (2) ترجمة ابن عربي الصوفي في التكملة: 652 والذيل والتكملة 6: 202 (نسخة باريس) وعنوان الدراية: 97 والوافي 4: 173 - 178 والفوات 2: 478 وشذرات الذهب 5: 190 - 202 والنجوم الزاهرة 6: 339 ومرآة الزمان: 736. وراجع طبقات المناوي ولسان الميزان، وفي كتبه معلومات كثيرة عنه، وقد كتب الأستاذ آسين بلأثيوس دراسة لحياته مؤلفاً بين الأخبار التي وردت فيها (ترجم الدكتور عبد الرحمن بدوي هذا الكتاب، القاهرة 1965) وللأستاذ أبو العلا عفيفي دراسات عنه. (وراجع بروكلمان 1: 571) .

عبد الله بن حاتم أخي عديّ بن حاتم، الصوفي الفقيه المشهور الظاهري، ولد بمرسية يوم الاثنين سابع عشر رمضان سنة 560، قرأ القرآن على أبي بكر ابن خلف بإشبيلية بالسبع وبكتاب الكافي، وحدّثه به عن ابن المؤلف أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح الرّعيني عن أبيه، وقرأ أيضاً السبع بالكتاب المذكور على أبي القاسم الشّرّاط القرطبي، وحدّثه به عن ابن المؤلف، وسمع على أبي بكر محمد بن أبي جمرة كتاب التيسير للدّاني عن أبيه عن المؤلف، وسمع على ابن زرقون وأبي محمد عبد الحق الإشبيلي الأزدي وغير واحد من أهل المشرق والمغرب يطول تعدادهم. وكان انتقاله من مرسية لإشبيلية سنة 568، فأقام بها إلى سنة 598، ثم ارتحل إلى المشرق، وأجازه جماعة منهم الحافظ السّلفي وابن عساكر وأبو الفرج ابن الجوزي، ودخل مصر، وأقام بالحجاز مدّة، ودخل بغداد والموصل وبلاد الروم، ومات بدمشق سنة 638 (1) ، ليلة الجمعة الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر، ودفن بسفح قاسيون، وأنشدني لنفسه مؤرخاً وفاته الشيخ محمد ابن سعد الكلشني سنة 1037 (2) ، حفظه الله تعالى: إنّما الحاتميّ في الكون فردٌ ... وهو غوثٌ وسيّدٌ وإمام كم علومٍ أتى بها من غيوبٍ ... من بحار التوحيد يا مستهام إن سألتم متى توفّي حميداً ... قلت أرخت: مات قطبٌ همام وقال ابن الأبار: هو من أهر المريّة، وقال ابن النجار: أقام بإشبيلية

_ (1) في ق: 637، وكذلك قال ابن عبد الملك في الذيل والتكملة. (2) في نسخة: 1038.

إلى سنة 598، ثم دخل بلاد المشرق، وقال ابن الأبار: إنّه أخذ عن مشيخة بلده، ومال إلى الآداب، وكتب لبعض الولاة، ثم رحل إلى المشرق حاجّاً، ولم يعد بعدها إلى الأندلس. وقال المنذري: ذكر أنّه سمع بقرطبة من أبي القاسم ابن بشكوال وجماعة سواه، وطاف البلاد، وسكن بلاد الروم مدّة، وجمع مجاميع في الطريقة، وقال ابن الأبار: إنّه لقيه جماعة من العلماء والمتعبدين، وأخذوا عنه، وقال غيره: إنّه قدم بغداد سنة 608، وكان يومأ إليه بالفضل والمعرفة، والغالب عليه طرق أهل الحقيقة، وله قدم في الرياضة والمجاهدة وكلام على لسان أهل التصوّف، ووصفه غير واحد بالتقدّم والمكانة من أهل هذا الشأن بالشام والحجاز، وله أصحاب وأتباع. ومن تآليفه مجموع ضمّنه منامات رأى فيها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وما سمع منه ومنامات قد حدّث بها عمّن رآه صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن النجار: وكان قد صحب الصوفية، وأرباب القلوب، وسلك طريق الفقر، وحجّ وجاور، وكتب في علم القوم، وفي أخبار مشايخ المغرب وزهّادها، وله أشعار حسنة وكلام مليح؛ اجتمعت به (1) في دمشق في رحلتي سنة 601، فأقام بها اثني عشر يوماً، ثم دخلها ثانياً حاجّاً مع الركب سنة 608، وأنشدني لنفسه: أيا حائراً (2) ما بين علم وشهوة ... ليتّصلا، ما بين ضدّين من وصل ومن لم يكن يستنشق الريح لم يكن ... يرى الفضل للمسك الفتيق على الزّبل وسألته عن مولده فقال: ليلة الاثنين 17 رمضان سنة 560 بمرسية من بلاد الأندلس، انتهى.

_ (1) انظر هذا النص في الوافي 4: 178 نقلاً عن ابن النجار. (2) الوافي: أنا حائر.

وقال ابن مسدي: إنّه كان جميل الجملة والتفصيل، محصّلاً لفنون العلم أخصّ تحصيل، وله في الأدب الشأو الذي لا يلحق، والتقدم الذي لا يسبق، سمع ببلاده من ابن زرقون والحافظ ابن الجد وأبي الوليد الحضرمي وبسبتة من أبي محمد ابن عبد الله، وقدم عليه إشبيلية أبو محمد عبد المنعم بن محمد الخزرجي فسمع منه، وأبو جعفر ابن مصلّي، وذكر أنّه لقي عبد الحق الإشبيلي، وفي ذلك عندي نظر، انتهى. قلت: لا نظر في ذلك، فإن سيدي الشيخ محيي الدين ذكر في إجازته للملك المظفر غازي ابن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب ما معناه أو نصّه: ومن شيوخنا الأندلسيين أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الإشبيلي، رحمه الله تعالى؛ حدّثني بجميع مصنّفاته في الحديث، وعين لي من أسمائها تلقين المهتدي، والأحكام الكبرى، والوسطى، والصغرى، وكتاب التهجد، وكتاب العاقبة، ونظمه ونثره، وحدّثني بكتب الإمام أبي محمد علي بن أحمد ابن حزم عن أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح عنه، انتهى. وقال: إن الحافظ السّلفي أجاز له، انتهى. قال بعض الحفّاظ: وأحسبها الإجازة العامة. وكان ظاهريّ المذهب في العبادات، باطنيّ النظر في الاعتقادات، وكان دفنه يوم الجمعة بجبل قاسيون، واتفق أنّه لمّا أقام ببلاد الروم زكاه ذاتيوم الملك فقال: هذا تذلّ له الأسود (1) ، أو كلاماً هذا معناه، فسئل عن ذلك، فقال: خدمت بمكّة بعض الصلحاء، فقال لي يوماً: الله يذلّ لك أعزّ خلقه، وأمر له ملك الروم مرّة بدارٍ تساوي مائة ألف درهم، فلمّا نزلها وأقام بها مرّ به في بعض الأيّام سائل، فقال له: شيء لله، فقال: ما لي غير هذه الدار، خذها لك، فتسلّمها السائل وصارت له.

_ (1) الوافي: هذا بدعوة الأسود؛ الفوات: تذعر له الأسود.

وقال المذهبي في حقّه: إن له توسّعاً في الكلام، وذكاء، وقوّة خاطر، وحافظة، وتدقيقاً في التصوّف، وتواليف جمّة في العرفان، لولا شطحه في كلامه وشعره، ولعلّ ذلك وقع منه حال سكره وغيبته، فيرجى له الخير، انتهى. وقال القطب اليونيني في ذيل مرآة الزمان: عن سيدي الشيخ محيي الدين - رضي الله تعالى عنه ونفعنا به - أنّه كان يقول: إنّي أعرف اسم الله الأعظم، وأعرف الكيمياء، انتهى. وقال ابن شودكين عنه: إنّه كان يقول: ينبغي للعبد أن يستعمل همّته في الحضور في مناماته، بحيث يكون حاكماً على خياله يصرفه بعقله نوماً، كما كان يحكم عليه يقظة؛ فإذا حصل للعبد هذا الحضور وصار خلقاً له وجد ثمرة ذلك في البرزخ وانتفع به جدّاً، فليهتم العبد بتحصيل هذا القدر، فإنّه عظيم الفائدة بإذن الله تعالى. وقال: إن الشيطان ليقنع من الإنسان بأن ينقله من طاعة إلى طاعة ليفسخ عزمه بذلك. وقال: ينبغي للسالك أنّه متى حضر له أنّه يعقد على أمرٍ ويعاهد الله تعالى عليه، أن يترك ذلك الأمر يجيء وقته، فإن يسّر الله تعالى فعله فعله، وإن لم ييسّر الله فعله، يكون مخلصاً من نكث العهد، ولا يكون متصفاً بنقض الميثاق. ومن نظم الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى قوله: بين التّذلّل والتّدلّل نقطةٌ ... فيها يتيه العالم النّحرير هي نقطة الأكوان إن جاوزتها ... كنت الحكيم وعلمك الإكسير وقوله أيضاً رحمه الله: يا درّة بيضاء لاهوتيّةً ... قد ركّبت صدفاً من الناسوت

جهل البسيطة (1) قدره لشقائهم ... وتنافسوا في الدّرّ والياقوت وحكى العماد بن النحاس الأطروش (2) أنّه كان في سفح جبل قاسيون على مستشرف، وعنده الشيخ محيي الدين، والغيث والسحاب عليهم، ودمشق ليس عليها شيء، قال: فقالت للشيخ: أما ترى هذه الحال فقال: كنت بمراكش وعندي ابن خروف الشاعر، يعني أبا الحسن علي بن محمد القرطبي القبذاقي (3) ، وقد اتفق الحال مثل هذه، فقلت له مثل هذه المقالة، فأنشدني: يطوف السحاب بمرّاكشٍ ... طواف الحجيج ببيت الحرم يروم نزولاً فلا يستطيع ... لسفك الدماء وهتك الحرم وحكى المفريزي في ترجمة سيدي عمر بن الفارض - أفاض الله علينا من أنواره - أن الشيخ محيي الدين بن العربي تعث إلى سيدي عمر يستأذنه في شرح التائية، فقال: كتابك المسمّى بالفتوحات المكيّة شرحٌ لها، انتهى. وقال بعض من عرّف به: إنّه لمّا صنّف الفتوحات المكيّة كان يكتب كلّ يوم ثلاث كراريس حيث كان، وحصلت له بدمشق دنيا كثيرة، فما ادّخر منها شيئاً، وقيل: إن صاحب حمص رتّب له كلّ يوم مائة درهم، وابن الزكي كلّ يوم ثلاثين درهماً، فكان يتصدّق بالجميع، واشتغل الناس بمصنّفاته، ولها ببلاد اليمن والروم صيت عظيم، وهو من عجائب الزمان، وكان يقول: أعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب. ومن نظمه:

_ (1) دوزي: جهل البرية. (2) ط: الأطرش. (3) ق ط ج: القيداقي.

حقيقتي همت بها ... وما رآها بصري ولو رآها لغدا ... قتيل ذاك الحور فعندما أبصرتها ... صرت بحكم النّظر فبتّ مسحوراً بها ... أهيم حتى السحر يا حذري من حذري ... لو كان يغني حذري والله ما هيّمني ... جمال ذاك الخفر في حسنها من ظبيةٍ ... ترعى بذات الخمر إذا رنت أو عطفت ... تسبي عقول البشر كأنّما أنفاسها ... أعراف مسكٍ عطر كأنها شمس الضحى ... في النور أو كالقمر إن أسفرت أبرزها ... نور صباحٍ مسفر أو سدلت غيّبها ... سواد ذاك الشّعر يا قمراً تحت دجىً ... خذي فؤادي وذري عيني لكي أبصركم ... إذ كان حظّي نظري وقال الخويّي: قال الشيخ سيدي محيي الدين بن عربي رضي الله تعالى عنه: رأيت بعض الفقهاء في النوم في رؤيا طويلة، فسألني: كيف حالك مع أهلك فقلت (1) : إذا رأت أهل بيتي الكيس ممتلئاً ... تبسمت ودنت مني تمازحني وإن رأته خليّاً من دراهمه ... تجهّمت وانثنت عنّي تقابحني فقال لي: صدقت، كلّنا ذلك الرجل. وذكر الإمام العالم بالله تعالى لسان الحقيقة، وشيخ الطريقة، صفي الدين

_ (1) ديوان ابن عربي.

حسين ابن الإمام العلامة جمال الدين أبي الحسن علي، ابن الإمام مفتي الأنام كمال الدين أبي منصور ظافر الأزدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه، في رسالته الفريدة المحتوية على من رأى من سادات مشايخ عصره، بعد كلام، ما صورته: ورأيت بدمشق الشيخ الإمام العارف الوحيد محيي الدين بن عربي، وكان من أكبر علماء الطريق، جمع بين سائر العلوم الكسبية، وما وفّر (1) له من العلوم الوهبية، ومنزلته شهيرة، وتصانيفه كثيرة، وكان غلب عليه التوحيد علماً وخلقاً وحالاً، لا يكترث بالوجود، مقبلاً كان أو معرضاً، وله علماء أتباع أرباب مواجيد، وتصانيف، وكان بينه وبين سيدي الأستاذ الحرّار إخاء ورفقة في السياحات، رضي الله تعالى عنهما، في الآصال والبكرات، ومن نظم سيدي الشيخ محيي الدين رضي الله تعالى عنه قوله: يا من يراني ولا أراه ... كم ذا أراه ولا يراني قال رحمه الله تعالى: قال لي بعض إخواني لمّا سمع هذا البيت: كيف تقول: إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك فقلت له مرتجلاً: يا من يراني مجرماً ... ولا أراه آخذا كم ذا أراه منعماً ... ولا يراني لائذا قلت: من هذا وشبهه تعلم أن كلام الشيخ رحمه الله تعالى مؤوّل، وأنّه لا يقصد ظاهره، وإنّما له محامل تليق به، وكفاك شاهداً هذه الجزئية الواحدة، فأحسن الظنّ به ولا تنتقد، بل اعتقد، وللنّاس في هذا المعنى كلام كثير، والتسليم أسلم، والله سبحانه بكلام أوليائه أعلم. ومن النظم المنسوب لمحاسن الشيخ سيدي محيي الدين رضي الله تعالى عنه في ضابط ليلة القدر:

_ (1) ق ط ج: وقر.

وإنّا جميعاً إن نصم يوم جمعةٍ ... ففي تاسع العشرين خذ ليلة القدر وإن كان يوم السبت أوّل صومنا ... فحادي وعشرين اعتمده بلا عسر وإن كان صوم الشّهر في أحدٍ فخذ ... ففي سابع العشرين ما شئت فاستقري ويوم الثلاثا إن بدا الشهر فاعتمد ... على خامس العشرين فاعمل بها تدري وفي الأربعا إن هلّ يا من يرومها ... فدونك نيل الوجد في تاسع العشر ويوم خميس إن بدا الشّعر فاجتهد ... ففي ثالث العشرين تظفر بالنّصر وضابطها بالقول ليلة جمعةٍ ... توافيك بعد النّصف في ليلة الوتر قلت: لست على يقين من نسبة هذا النظم إلى الشيخ رحمه الله تعالى، فإن نفسه أعلى من هذه النظم، ولكنّي ذكرته لما فيه من الفائدة، ولأن بعض الناس نسبه إليه، فالله تعالى غير واحد قوله: قلبي قطبي، وقالبي أجفاني ... سرّي خضري، وعينه عرفاني روحي هرون وكليمي موسى ... نفسي فرعون والهوى هاماني وذكر بعض الثقات أن هذين البيتين يكتبان لمن به القولنج في كفه ويلحسهما، فإنّه يبرأ بإذن الله تعالى، قال وهو من المجرّبات. وقد تأول بعض العلماء قول الشيخ رحمه الله تعالى بإيمان فرعون أن مراده بفرعون النفس بدليل ما سبق، وحكى في ذلك حكاية عن بعض الأولياء ممّن كان ينتصر للشيخ، رحمه الله تعالى.

[سعد الدين ابن الشيخ محيي الدين] ولد للشيخ محيي الدين - رحمه الله تعالى - ابنه محمدٌ المدعوّ سعد الدين (1) بملطية في رمضان سنة 618، ودرس، وقال الشعر الجيّد، وله ديوان شعر مشهور، وتوفّي بدمشق سنة 656 سنة دخل هولاكو بغداد وقتل الخليفة الستعصم، ودفن المذكور عند والده بسفح قاسيون، وكان قدم القاهرة، وسكن حلبا، ومن شعره (2) : لمّا تبدّى عارضاه في نمط ... قيل ظلامٌ بضياء اختلط وقيل سطر الحسن في خدّيه خطّ ... وقيل نملٌ فوق عاجٍ انبسط (3) وقيل مسكٌ فوق وردٍ قد نقط ... وقال قوم: إنّها اللام فقط [حكاية عن ابن جزي] قلت: تذكرت بهذا ما قاله الكاتب أبو عبد الله ابن جزيٍّ الأندلسي (4) كاتب سلطان المغرب أبي عنان حين تنازع الكتّاب أرباب الأقلام والرؤساء أصحاب السيوف في تشبيه العذار، وقالت كل فرقة: لا نشبهه إلاّ بما هو مناسب لصنعتنا، فلمّا فرغوا قال ابن جزي: أتى أولو الكتب والسيف الأولى عزموا ... من بعد سلمي على حربي وإسلامي

_ (1) انظر ترجمة سعد الدين بن عربي في فوات الوفيات 2: 325 والوافي 1: 186 وشذرات 5: 283. (2) انظر الفوات: 326 والوافي: 188. (3) الفوات والوافي: قد سقط. (4) هو محمد بن أبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي (721 - 757) غرناطي الأصل، كتب عن السلطان أبي الحجاج يوسف ثم ارتحل ولحق بجناب السلطان أبي عنان، وهو الذي كتب رحلة ابن بطوطة ورتبها (انظر ترجمته في الإحاطة 2: 186 والكتيبة الكامنة: 223 وأزهار الرياض 3: 189 ونثير فرائد الجمان، الورقة: 4 ونثير الجمان الورقة: 78) .

بكلّ معنىً بديعٍ في العذار على ... ما تقتضي منهم أفكار أحلامي فقال ذو الكتب: لا أرضى المحارب في ... تشبيهه لا وأنقاسي وأقلامي وقال ذو الحرب: لا أرضى الكتائب في ... تشبيهه ومظلاّتي وأعلامي فقلت: أجمع بين المذهبين معاً ... باللاّم، فاستحسنوا التّشبيه باللام وهذه الغاية التي لا تدرك مع البديهة ولزوم ما لا يلزم. رجع - ومن نظم سعد الدين قوله (1) : سهري من المحبوب أصبح مرسلاً ... وأراه متّصلاً بفيض مدامع قال الحبيب: بأنّ ريقي نافعٌ ... فاسمع رواية مالكٍ عن نافع ومن نظمه أيضاً قوله: وقالوا: قصيرٌ شعر من قد هويته ... فقلت: دعوني لا أرى منه مخلصا محيّاه شمسٌ قد علت غصن قدّه ... فلا عجبٌ للظلّ أن يتقلّصا وقوله (2) : وربّ قاضٍ لنا مليح ... يعرب عن منطق لذيذ إذا رمانا بسهم لحظٍ ... قلنا له دائم النّفوذ وقوله (3) : لك والله منظرٌ ... قلّ فيه المشارك إنّ يوماً تكون في ... هـ ليومٌ مبارك

_ (1) انظر البيتين في الوافي: 188. (2) البيتان في الفوات والوافي. (3) هما في الفوات من مقطوعة في تسعة أبيات.

ومن نظمه أيضاً ما كتب به إلى أخيه عماد الدين أبي عبد الله محمد ابن الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي أفاض الله تعالى علينا من فتوحاته، قوله: ما للنّوى رقّةٌ ترثي لمكتئب ... حرّان في قلبه والدمع في حلب قد أصبحت حلبٌ ذات العماد بكم ... وجلّق إرمٌ هذا من العجب وتوفّي الشيخ عماد الدين بالصالحيّة سنة 667، ودفن بسفح قاسيون عند والده بتربة القاضي ابن الزكيّ، رحم الله تعالى الجميع. وابن الزكيّ أيضاً محيي الدين. ومن نظم سعد الدين المذكور في وسيم رآه بالزيادة في دمشق (1) : يا خليليّ في الزيادة ظبيٌ ... سلبت مقلتاه جفني رقاده كيف أرجو السّلوّ عنه وطرفي ... ناظرٌ حسن وجهه في الزياده وله: علقت صوفيّاً كبدر الدّجى ... لكنّه في وصلي الزاهد يشهد وجدي بغرامي له ... فديت صوفيّاً له شاهد وله أيضاً: صبوت إلى حريريٍّ مليح ... تكرّر نحو منزله مسيري أقول له: ألا ترثي لصبٍّ ... عديم للمساعد والنصير أقام ببابكم خمسين شهراً ... فقال: كذا مقامات الحريري وله: وغزال من اليهود أتاني ... زائراً من كنيسه أو كناسه

_ (1) انظر الفوات والوافي.

بتّ أجني الشقيق من وجنتيه ... وأشمّ العبير من أنفاسه واعتنقنا إذ لم نخف من رقيب ... وأمنّا الوشاة من حرّاسه من رآني يظنّني لنحولي ... واصفراري علامة فوق راسه وله: لي حبيبٌ بالنّحو أصبح مغرى ... فهو منّي بما أعانيه أدرى قلت: ماذا تقول حين تنادي ... يا حبيبي المضاف نحوك جهرا قال لي: يا غلام، أو يا غلامي ... قلت: لبّيك ثم لبّيك عشرا وله أيضاً: ساءلتني عن لفظةٍ لغويّةٍ ... فأجبت مبتدئاً بغير تفكّر خاطبتني متبسّماً فرأيتها ... من نظم ثغرك في صحاح الجوهري وله: وعلمت أنّ من الحديد فؤاده ... لمّا انتضى من مقلتيه مهنّدا آنست من وجدي بجانب خدّه ... ناراً ولكن ما وجدت بها هدى [رجع إلى الشيخ محيي الدين] وقال الشيخ محيي الدين - أفاض الله تعالى علينا من أنواره، وكسانا بعض حلل وأسراره - إنّه بلغني في مكّة عن امرأة من أهل بغداد أنّها تكلمت فيّ بأمور عظيمة، فقلت: هذه قد جعلها الله تعالى سبباً لخير وصل إليّ فلأكافئنّها، وعقدت في نفسي أن أجعل جميع ما اعتمرت في رجب لها، ففعلت ذلك، فلمّا كان الموسم استدل علي رجل غريب، فسأله الجماعة عن قصده، فقال: رأيت بالينبع في الليلة التي بتّ فيها كأن آلافاً من الإبل أوقارها المسك والعنبر والجوهر

فعجبت من كثرته، ثم سألت: لمن هو فقيل: هو لمحمد بن عربي يهديه إلى فلانة؛ وسمى تلك المرأة ثم قال: وهذا بعض ما تستحق، قال سيدي ابن عربي: فلمّا سمعت الرؤيا واسم المرأة، ولم يكن أحد من خلق الله تعالى علم منّي ذلك، علمت أنّه تعريف من حانب الحق، وفهمت من قوله إن هذا بعض ما تستحق أنّها مكذوب عليها، فقصدت المرأة وقلت: اصدقيني، وذكرت لها ما كان من ذلك، فقالت: كنت قاعدة قبالة البيت، وأنت تطوف، فشكرك الجماعة الذين كنت فيهم، فقلت في نفسي: اللهم إنّي أشهدك أنّي قد وهبت له ثواب ما أعمله في يوم الاثنين وفي يوم الخميس، وكنت أصومهما وأتصدّق فيهما، قال: فعلمت أن الذي وصل منّي إليها بعض ما تستحق فإنّها سبقت بالجميل، والفضل للمتقدّم. ومن نظم الشيخ محيي الدين بن عربي رحمه الله تعالى: يا غاية السؤل والمأمول يا سندي ... شوقي إليك شديدٌ لا إلى أحد ذبت اشتياقاً ووجداً في محبّتكم ... فآه من طول شوقي آه من كمدي يدي وضعت على قلبي مخافة أن ... ينشقّ صدري لمّا خانني جلدي ما زال يرفعها طوراً ويخفضها ... حتى وضعت يدي الأخرى تشدّ يدي وحكى سبط ابن الجوزي عن الشيخ محيي الدين أنّه كان يقول: إنّه يحفظ الاسم الأعظم، ويقول: إنّه يعرف السيميا بطريق التنزل، لا بطريق التكسب، انتهى والله تعالى أعلم، والتسليم أسلم. ومن نظم الشيخ محيي الدين قوله: ما فاز بالتّوبة إلاّ الذي ... قد تاب قدماً والورى نوّم فمن يتب أدرك مطلوبه ... من توبة الناس ولا يعلم وله، رحمه الله تعالى، من المحاسن ما لا يستوفى.

وأنشدني لنفسه بدمشق صاحبنا الصوفي الشيخ محمد بن سعد الكلشني - حفظه الله تعالى - قوله شيخنا: الحاتمي ... (الأبيات) (1) ؛ وأنشدني لنفسه: أمولاي محيي الدين أنت الذي بدت ... علومك في الآفاق كالغيث مذ همى كشفت معاني كلّ علمٍ مكتّمٍ ... وأوضحت بالتحقيق ما كان مبهما وبالجملة فهو حجّة الله الظاهرة، وآيته الباهرة، ولا يلتفت إلى كلام من تكلّم فيه، ولله درّ السيوطي الحافظ فإنّه ألّف تنبيه الغبي على تنزيه ابن عربي ومقام هذا الشيخ معلوم، والتعريف به يستدعي طولاً، وهو أظهر من نار (2) على علم. وكان بالمغرب يعرف باب العربي بالألف واللام، واصطلح أهل المشرق على ذكره بغير ألف ولام، فرقاً بينه وبين القاضي أبي بكر ابن العربي. وقال ابن خاتمة في كتابه مزية المريّة ما نصّه: محمد بن علي محمد الطائي الصوفي، من أهل إشبيلية، وأصله من مرسية، يكنى أبا بكر، ويعرف بابن العربي وبالحاتمي أيضاً، أخذ عن مشيخة بلده، ومال إلى الآداب، وكتب لبعض الولاة بالأندلس، ثم رحل إلى المشرق حاجّاً فأدّى الفريضة، ولم يعد بعدها إلى الأندلس، وسمع الحديث من أبي القاسم الحرستاني ومن غيره، وسمع صحيح مسلم من الشيخ أبي الحسن ابن أبي نصر في شوّال سنة 606، وكان يحدّث بالإجازة العامّة عن أبي طاهر السّلفي، ويقول بها، وبرع في علم التصوّف، وله في ذلك تواليف كثيرة: منها " الجمع والتفصيل في حقائق التنزيل " و " الجذوة المقتبسة والخطرة المختلسة " وكتاب " كشف المعنى في تفسير الأسماء الحسنى " وكتاب المعارف الإلهيّة وكتاب " الإسرا

_ (1) أثبت في الأصول الأبيات التي مرت ص: 162. (2) ق ط ج ق: من نور، وصوبت في هامش ج.

إلى المقام الأسرى " وكتاب " مواقع النجوم ومطالع أهلّة أسرار العلوم " وكتاب " عنقاء مغرب في صفة ختم الأولياء وشمس المغرب " وكتاب " في فضائل مشيخة عبد العزيز بن أبي بكر القرشي المهدوي "، والرسالة الملقّبة ب " مشاهد الأسرار القدسيّة ومطالع الأنوار الإلهيّة " في كتب أخر عديدة، وقدم على المريّة من مرسية مستهلّ شهر رمضان سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وبها ألّف كتابه الموسوم ب " مواقع النجوم "، انتهى. وفي الكتاب المسمى ب " الاغتباط بمعالجة ابن الخيّاط " تأليف شيخ الإسلام قاضي القضاة مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد الشيرازي الفيروزابادي الصديقي صاحب القاموس، قدّس الله تعالى روحه، الذي ألّفه بسبب سؤالٍ سئل فيه عن الشيخ سيدي محيي الدين بن عربي الطائي قدّس الله تعالى سرّه العزيز في كتبه المنسوبة إليه، ما صورته: ما تقول السادة العلماء شدّ الله تعالى بهم أزر الدين، ولمّبهم شعث المسلمين، في الشيخ محيي الدين بن عربي في كتبه المنسوبة إليه كالفتوحات والفصوص، هل تحلّ قراءتها وإقراؤها ومطالعتها وهل هي الكتب المسموعة المقروءة أم لا أفتونا مأجورين جواباً شافياً لتحوزوا جميل الثواب، من الله الكريم الوهّاب، والحمد لله وحده. فأجابه بما صورته: الحمد لله، اللهم أنطقنا بما فيه رضاك، الذي أعتقده في حال المسؤول عنه وأدين الله تعالى به، أنّه كان شيخ الطريقة حالاً وعلماً، وإمام الحقيقة حقيقة ورسماً، ومحيي رسوم المعارف فعلاً واسماً: إذا تغلغل فكر المرء في طرفٍ ... من بحره غرقت فيه خواطره وهو عباب لا تكدره الدّلاء، وسحاب لا تتقاصر عنه الأنواء، وكانت

دعواته تخترق السبع الطّباق، وتفترق بركاته فتملأ الآفاق، وإنّي أصفه وهو يقيناً فوق ما وصفته، وناطق بما كتبته، وغالب ظني أنّي ما أنصفته: وما عليّ إذا ما قلت معتقدي ... دع الجهول يظنّ العدل عدوانا والله والله والله العظيم ومن ... أقامه حجّةً للدين برهانا بأنّ ما قلت بعضٌ من مناقبه ... ما زدت إلاّ لعلّي زدت نقصانا وأما كتبه ومصنّفاته فالبحار الزواخر، التي لجواهرها وكثرتها لا يعرف لها أل ولا آخر، ما وضع الواضعون مثلها، وإنّما خصّ الله سبحانه بمعرة قدره أهلها، ومن خواص كتبه أن من واظب على مطالعتها والنظر فيها، وتأمّل ما في مبانيها، انشرح صدره لحل المشكلات، وفك المعضلات، وهذا الشأن لا يكون إلا لأنفاس من خصّه الله تعالى بالعلوم اللدنية الربانية، ووقفت على إجازة كتبها للملك المعظم فقال في آخرها: وأجزته أيضاً أن يروي عني مصنّفاتي، ومن جملتها كذا وكذا، حتى عد نيّفاً وأربعمائة مصنف، منها التفسير الكبير الذي بلغ فيه إلى تفسير سورة الكهف عند قوله تعالى " وعلّمناه من لدنّا علماً " وتوفّي ولم يكمل، وهذا التفسير كتاب عظيم، كل سفر بحر لا ساحل له، ولا غرو فإنّه صاحب الولاية العظمة، والصديقية الكبرى، فيما نعتقد وندين الله تعالى به. وثم طائفة، في الغي حائفة، يعظمون عليه النكير، وربّما بلغ بهم الجهل إلى حد التكفير، وما ذاك إلا لقصور أفهامهم عن إدراك مقاصد أقواله وأفعاله ومعانيها، ولم تصل أيديهم لقصرها إلى اقتطاف مجانيها: عليّ نحت القوافي من معادنها ... وما عليّ إذا لم تفهم البقر هذا الذي نعلم ونعتقد، وندين الله تعالى به في حقه، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصورة استشهاده: كتبه محمد الصديقي الملتجئ إلى حرم الله تعالى

عفا الله عنه. وأما احتجاجه بقول شيخ الإسلام عزّ الدين بن عبد السلام شيخ مشايخ الشافعية فغير صحيح، بل كذب وزور، فقد روينا عن شيخ الإسلام صلاح الدين العلائي عن جماعة من المشايخ كلّهم عن خادم الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام أنّه قال: كنّا في مجلس الدرس بين يدي الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام، فجاء في باب الردة ذكر لفظة الزنديق، فقال بعضهم: هل هي عربية أو عجميّة فقال بعض الفضلاء: إنّما هي فارسيّة معرّبة، أصلها زن دين، أي على دين المرأة، وهو الذي يضمر الكفر ويظهر الإيمان، فقال بعضهم: مثل من فقال آخر إلى جانب الشيخ: مثل ابن عربي بدمشق، فلم ينطق الشيخ ولم يردّ عله، قال الخادم: وكنت صائماً ذلك اليوم، فاتفق أن الشيخ دعاني للإفطار معه، فحضرت ووجدت منه إقبالاً ولطفاً، فقلت له: يا سيّدي، هل تعرف القطب الغوث الفرد في زماننا فقال: ما لك ولهذا كل، فعرفت أنّه يعرفه، فتركت الأكل وقلت له: لوجه الله تعالى عرّفني به، من هو فتبسّم، رحمه الله تعالى، وقال لي: الشيخ محيي الدين بن عربي، فأطرقت ساكتاً متحيراً، فقال: ما لك فقلت: يا سيّدي، قد حرت، قال: لم قلت: أليس اليوم قال ذلك الرجل إلى جانبك ما قال في ابن عربي وأنت ساكت فقال: آسكت، ذلك مجلس الفقهاء؛ هذا الذي روي لنا بالسند الصحيح عن شيخ الإسلام عزّ الدين بن عبد السلام. وأمّا قول غيره من أضراب الشيخ عز الدين فكثير، كان الشيخ كمال الدين الزملكاني من أجلّ مشايخ الشام أيضاً يقول: ما أجهل هؤلاء! ينكرون على الشيخ محيي الدين بن عربي لأجل كلمات وألفاظ وقعت في كتبه قد قصرت أفهامهم عن درك معانيها، فليأتوني لأحلّ لهم مشكله، وأبين لهم مقاصده، بحيث يظهر لهم الحق، ويزول عنهم الوهم. وهذا القطب سعد الدين الحموي سئل عن الشيخ محيي الدين بن عربي لمّا

رجع من الشام إلى بلاده: كيف وجدت ابن عربي فقال: وجدته بحراً زخّاراً لا ساحل له. وهذا الشيخ صلاح الدين الصّفدين له كتاب جليل وضعه في تاريخ علماء العالم في مجلدات كثيرة، وهي موجودة في خزانة السلطان، تنظر في باب الميم ترجمة محمد بن عربي لتعرف مذاهب أهل العلم الذين باب صدورهم مفتوح لقبول العلوم اللدنية والمواهب الربانية. وقوله في شيء من الكتب المصنّفة كالفصوص وغيره: إنّه صنّفه بأمر من الحضرة الشريفة النبويّة، وأمره بإخراجه إلى الناس، قال الشيخ محيي الدين (1) الذهبي حافظ الشام: ما أظن المحيي يتعمّد الكذب أصلاً؛ وهو من أعظم المنكرين وأشدهم على طائفة الصوفية. ثمّ إن الشيخ محيي الدين، رحمه الله تعالى، كان مسكنه ومظهره بدمشق، وأخرج هذه العلوم إليهم، ولم ينكر عليه أحد شيئاً من ذلك، وكان قاضي القضاة الشافعيّة في عصره شمس الدين أحمد الخويّي يخدمه خدمة العبيد، وقاضي القضاة المالكيّة زوّجه بابنته، وترك القضاء بنظرة وقعت عليه من الشيخ. وأمّا كراماته ومناقبه فلا تحصرها مجلّدات، وقول المنكرين في حقّ مثله غثاء وهباء لا يعبأ به، والحمد لله تعالى، انتهى ما نقلته من كلام العارف بالله تعالى سيدي عبد الوهاب الشعراني، رضي الله تعالى عنه. وقد حكى الشيخ رضي الله تعالى عنه، عن نفسه في كتبه ما يبهر الألباب، وكفى بذلك دليلاً على ما منحه الله، الذي يفتح لمن شاء الباب، وقد اعتنى بتربته بصالحيّة دمشق سلاطين بني عثمان، نصرهم الله تعالى، على توالي الأزمان، وبنى عليه السلطان المرحوم سليم خان المدرسة العظيمة، ورتب له الأوقاف، وقد زرت قبره وتبركت به مراراً، ورأيت لوائح الأنوار عليه

_ (1) الصواب: شمس الدين، فهذا هو لقب الذهبي.

ظاهرة، ولا يجد منصف محيداً إلى إنكار ما يشاهد عند قبره من الأحوال الباهرة، وكانت زيارتي له بشعبان ورمضان وأول شوال سنة 1037. وقال في عنوان الدراية: إن الشيخ محيي الدين كان يعرف بالأندلس بابن سراقة، وهو فصيح اللسان، بارع فهم الجنان، قوي على الإيراد، كلّما طلب الزيادة يزاد، رحل إلى العدوة، ودخل بجاية في رمضان سنة 597، وبها لقي أبا عبد الله العربي وجماعةً من الأفاضل، ولمّا دخل بجاية في التاريخ المذكور قال: رأيت ليلة أنّي نكحت نجوم السماء كلّها، فما بقي منها نجم إلاّ نكحته بلذّة عظيمة روحانيةّ، ثمّ لمّا كملت نكاح النجوم أعطيت الحروف فنكّحتها، ثمّ عرضت رؤياي هذه على من قصّها على رجل عارف بالرؤيا بصير بها، وقلت للّذي عرضتها عليه: لا تذكرني، فلمّا ذكر الرؤيا استعظمها وقال: هذا هو البحر الذي لا يدرك قعره، صاحب هذه الرؤيا يفتح الله تعالى له من العلوم العلويّة وعلوم الأسرار وخواص الكواكب ما لا يكون فيه أحد من أهل زمانه، ثم سكت ساعة، وقال: إن كان صاحب هذه الرؤيا في هذه المدينة فهو ذاك الشاب الأندلسي الذي وصل إليها. ثم قال صاحب العنوان ما ملخّصه: إن الشيخ محيي الدين رحل إلى المشرق، واستقرت به الدار، وألّف تواليفه، وفيها ما فيها، إن قيّض الله تعالى من يسامح ويتأول سهل المرام، وإن كان ممّن ينظر بالطاهر فالأمر صعب، وقد نقد عليه أهل الديار المصريّة وسعوا في إراقة دمه، فخلّصه الله تعالى على يد الشيخ أبي الحسن البجائي، فإنّه سعى في خلاصه وتأوّل كلامه، ولمّا وصل إليه بعد خلاصه قال له الشيخ، رحمه الله تعالى: كيف يحبس من حل منه اللاّهوت في الناسوت فقال له: يا سيّدي، تلك شطحت في محل سكر ولا عتب على سكران. وتوفّي الشيخ محيي الدين في نحو الأربعين وستمائة، وكان يحدّث بالإجازة العامة عن السّلفي، رحمه الله تعالى، انتهى.

ومن موشّحات الشيخ محيي الدين رضي الله تعالى عنه قوله (1) : سرائر الأعيان ... لاحت على الأكوان للناظرين والعاشق الغيران ... من ذاك في بحران (2) يبدي الأنين يقول والوجد ... أضناه والبعد (3) قد حيّره لمّا دنا البعد ... لم أدر من بعد من غيّره وهيّم العبد ... والواحد الفرد قد خيّره في البوح والكتمان ... والسرّ والإعلان في العالمين أنا هو الديّان ... يا عابد الأوثان أنت الضّنين كلّ الهوى صعب ... على الذي يشكو ذلّ الحجاب يا من له قلب ... لو أنّه يذكو عند الشباب قرّبه الرّبّ ... لكنّه إفك فانو المتاب وناد يا رحمن ... يا برّ يا منّان إنّي حزين أضناني الهجران ... ولا حبيب دان ولا معين فنيت بالله ... عمّا تراه العين من كونه في موقف الجاه ... وصحت أين الأين في بينه فقال: يا ساهي ... عاينت قط عين بعينه أما ترى غيلان ... وقيس أو من كان في الغابرين قالوا الهوى سلطان ... إن حلّ بالإنسان أفناه دين

_ (1) انظر ديوان ابن عربي: 85. (2) في ق ط: في حران، والتصحيح عن الديوان؛ ج: في ضجران. (3) الديوان: والسهد.

كم مرّةٍ قالا ... أنا الذي أهوى من هو أنا فلا أرى حالا ... ولا أرى شكوى إلاّ الفنا لست كمن مالا ... عن الّذي يهوى بعد الجنى ودان بالسّلوان ... هذا هو البهتان للعارفين سلوهم ما كان ... عن حضرة الرحمن والآفكين دخلت في بستان ... الأنس والقرب كمكنسه فقام لي الرّيحان ... يختال بالعجب في سندسه أنا هو يا إنسان ... مطيّب الصّبّ في مجلسه جنّان يا جنّان ... اجن من البستان الياسمين وحلّل الرّيحان ... بحرمة الرحمن للعاشقين وقال الإمام الصفي ابن ظافر الأزدي في رسالته (1) : رأيت بدمشق الشيخ الإمام العارف الوحيد محيي الدين بن عربي، وكان من أكبر علماء الطريق، جمع بين سائر العلوم الكسبية وما وفّر له من العلوم الوهبية، ومنزلته شهيرة، وتصانيفه كثيرة، وكان غلب عليه التوحيد علماً وخلقاً وحالاً، لا يكترث بالوجود مقبلاً كان أو معرضاً، وله علماء أتباع أرباب مواجيد وتصانيف، وكان بينه وبين سيدي الأستاذ الحرار إخاء ورفقة في السياحات، رضي الله تعالى عنهما، انتهى. وذكر الإمام سيّدي عبد الله بن سعد اليافعي اليمني في الإرشاد أنّه اجتمع مع الشهاب السّهروردي، فأطرق كل واحد منهما ساعة، ثم افترقا من غير كلام، فقيل للشيخ ابن عربي: ما تقول في السّهروردي فقال: مملوء سنّةً من قرنه إلى قدمه، وقيل للسّهروردي: ما تقول في الشيخ محيي

_ (1) قد تقدم هذا ص: 168.

الدين فقال: بحر الحقائق. ثم قال اليافعين ما ملخّصه: إن بعض العارفين كان يقرأ عليه كلام الشيخ ويشرحه، فلمّا حضرته الوفاة نهى عن مطالعته، وقال: إنّكم لا تفهمون معاني كلامه، ثم قال اليافعي: وسمعت أن العز بن عبد السلام كان يطعن عليه ويقول: هو زنديق، فقال له بعض أصحابه: أريد أن تريني القطب، أو قال وليّاً، فأشار إلى ابن عربي، فقال له: فأنت تطعن فيه، فقال: أصون ظاهر الشرع، أو كما قال. وأخبرني بهذه الحكاية غير واحد من ثقات مصر والشام، ثم قال: وقد مدحه وعظمه طائفة كالنجم الأصبهاني والتاج بن عطاء الله وغيرهما، وتوقّف فيه طائفة، وطعن فيه آخرون، وليس الطاعن فيه بأعلم من الخضر عليه السلام، إذ هو أحد شيوخه، له معه اجتماع كثير. ثم قال: وما ينسب إلى المشايخ له محامل: الأول أنّه لم تصح نسبته إليهم، الثاني بعد الصحة يلتمس له تأويل موافق، فإن لم يوجد له تأويل في الظاهر فله تأويل في الباطن لم نعلمه، وإنّما يعلمه العارفون، الثالث: أن يكون ذلك صدر منهم في حال السكر والغيبة، والسكران سكراً مباحاً غير مؤاخذ ولا مكلّف، انتهى ملخّصاً. وممّن ذكر الشيخ محيي الدين الإمام شمس الدين محمد بن مسدي في معجمه البديع المحتوي على ثلاث مجلدات، وترجمه ترجمة عظيمة مطولة أذكر منها أنّه قال: إنّه كان ظاهري المذهب في العبادات، باطني النظر في الاعتقادات، خاض بحر تلك العبارات، وتحقق بمحيّا تلك الإشارات، وتصانيفه تشهد له عند أولي البصر بالتقدّم والإقدام، ومواقف النهايات في مزالق الأقدام، ولهذا ما ارتبت في أمره، والله تعالى أعلم بسرّه، انتهى. ونقلت من خط ابن علوان التونسي، رحمه الله تعالى: وقال الشيخ محيي الدين:

بالمال ينقاد كلّ صعبٍ ... من عالم الأرض والسماء يحسبه عالمٌ حجاباً ... لم يعرفوا لذّة العطاء لولا الذي في النفوس منه ... لم يجب الله في الدعاء لا تحسب المال ما تراه ... من عسجد مشرق لراء بل هو ما كنت يا بني ... به غنيّاً عن السّواء فكن بربّ العلا غنيّاً ... وعامل الخلق بالوفاء وقال: نبّه على السّرّ ولا تفشه ... فالبوح بالسّرّ له مقت على الذي يبديه فاصبر له ... واكتمه حتى يصل الوقت وقال: قد ثاب غلماننا علينا ... فما لنا في الوجود قدر أذنابنا صيّرت رؤوساً ... ما لي على ما أراه صبر هذا هو الدّهر يا خليلي ... فمن يقاسيه فهو قهر ونظم الشيخ محيي الدين هو البحر الذي لا ساحل له. ولنختم ما أوردنا منه بقوله: يا حبّذا المسجد من مسجد ... وحبّذا الروضة من مشهد وحبّذا طيبة من بلدةٍ ... فيها ضريح المصطفى أحمد صلّى عليه الله من سيّدٍ ... لولاه لم نفلح ولم نهتد قد قرن الله به ذكره ... في كلّ يوم فاعتبر ترشد عشرٌ خفيّاتٌ وعشرٌ إذا ... أعلنّ بالتأذين في المسجد فهذه عشرون مقرونة ... بأفضل الذكر إلى الموعد

114 - ومنهم الصوفي الشهير أبو الحسن علي الشّشتري، وهو علي ابن عبد الله النميري (1) ، عروس الفقهاء، وأمير المتجردين، وبركة لابسي الخرقة، وهو من قرية ششتر من عمل وادي آش، وزقاق الشّشتري معلوم بها، وكان مجوّداً للقرآن، قائماً عليه، عارفاً بمعانيه، من أهل العلم والعمل، جال الآفاق، ولقي المشايخ، وحجّ حجّات، وآثر التجرّد والعبادات. وذكره القاضي أبو العباس الغبريني في عنوان الدراية فقال: الفقيه الصوفي، ومن الطلبة المحصّلين، والفقراء المنقطعين، له علم بالحكمة ومعرفة بطريق الصوفية، وتقدّم في النظم والنثر على طريقة التحقيق، وأشعاره وموشحاته وأزجاله الغاية في الانطباع. أخذ عن القاضي محيي الدين محمد بن إبراهيم بن الحسن بن سراقة الأنصاري الشاطبي وغيره من أصحاب السّهروردي صاحب عوارف المعارف واجتمع بالنجم بن إسرائيل الدمشقي سنة 650، وخدم أبا محمد ابن سبعين، وتلمذ له، وكان ابن سبعين دونه في السن، لكن اشتهر باتباعه، وعول على ما لديه، حتى صار يعبّر عن نفسه في منظوماته وغيرها بعبد ابن سبعين، وقال له لما لقيه - يريد المشايخ -: إن كنت تريد الجنّة فسر إلى أبي مدين، وإن كنت تريد ربّ الجنّة فهلم إليّ، ولمّا مات أبو محمد انفرد بعده بالرئاسة والإمامة على الفقراء المتجرّدين، فكان يتبعه في أسفاره ما ينيّف على أربعمائة فقير فيتقسّمهم الترتيب في وظائف خدمته. صنف كتباً: منها كتاب العروة الوثقى في بيان السنن وإحصاء العلوم وما يجب على المسلم أن يعمله ويعتقده إلى وفاته وله كتاب المقاليد الوجوديّة في أسرار الصوفي والرسالة القدسيّة في توحيد العامّة والخاصّة والمراتب

_ (1) ترجمة أبي الحسن الششتري في عنوان الدراية: 140؛ وانظر مقدمة ديوانه بتحقيق الدكتور علي سامي النشار (ط. الإسكندري 1960) .

الإيمانيّة والإسلاميّة والإحسانيّة والرسالة العلميّة وغير ذلك. وله ديوان شعر مشهور، ومن نظمه قوله، رحمه الله تعالى (1) : لقد تهت عجباً بالتجرد والفقر ... فلم أندرج تحت الزمان ولا الدهر وجاءت لقلبي نفحةٌ قدسيةٌ ... فغبت به عن عالم الخلق والأمر طويت بساط الكون والطيّ نشره ... وما القصد إلا الترك للطيّ والنشر وغمّضت عين القلب غير مطلّق ... فألفيتني ذاك الملقّب بالغير وصلت لمن لم تنفصل عنه لحظة ... ونزّهت من أعني عن الوصل والهجر وما الوصف إلاّ دونه غير أنّني ... أريد به التشبيب عن بعض ما أدري وذلك مثل الصوت أيقظ نائماً ... فأبصر أمراً جلّ عن ضابط الحصر فقلت له الأسماء تبغي بيانه ... فكانت له الألفاظ ستراً على ستر وقال (2) : من لامني لو أنّه قد أبصرا ... ما ذقته أضحى به متحيّرا وغدا يقول لصحبه إن أنتم ... أنكرتم ما بي أتيتم منكرا شذّت أمور القوم عن عاداتهم ... فلأجل ذاك يقال سحرٌ مفترى وقال، وهي من أشهر ما قال (3) : أرى طالباً منّا الزّيادة لا الحسنى ... بفكرٍ رمى سهماً فعدّى به عدنا وطالبنا مطلوبنا من وجودنا ... نغيب به عنّا لدى الصّعق إن عنّا وهي طويلة مشهورة بالشرق والغرب، وقد شرحها شيخ شيوخ شيوخنا

_ (1) ديوان الششتري: 51. (2) ديوانه: 41. (3) ديوانه: 72.

العارف بالله تعالى، سيّدي أحمد زرّوق، نفعنا الله تعالى ببركاته. وأشار ابن الخطيب في الإحاطة إلى أنّها لا تخلو عن شذوذ من جهة اللسان، وضعف في العربية، قال: ومع ذلك فهي غريبة المنزع، أشار فيه إلى مراتب الأعلام من أهل هذه الطريقة، وكأنّها مبنية على كلام شيخه الذي خاطبه به عند لقائه حسبما قدّمناه، إذ الحسنى: الجنّة، والزيادة: مقام النظر، وقوله فيها: وأظهر منها الغافقيّ لنا جنىً ... وكشّف عن أطواره الغيم والدّجنا هو شيخه أبو محمد ابن سبعين لأنّه مرسيّ الأصل غافقيّه. ولما وصل الشّشتري من الشام إلى ساحل دمياط وهو مريض مرض موته نزل قرية بساحل البحر الرومي فقال: ما اسم هذه القرية فقيل: الطينة، فقال: حنّت الطينة إلى الطينة، وأوصى أن يدفن بمقبرة دمياط، إذ الطينة بمفازة، وأقرب المدن إليها دمياط، فحمله الفقراء على أعناقهم إلى دمياط. وكانت وفاته يوم الثلاثاء سابع عشر صفر سنة 668، فدفن بدمياط، رحمه الله تعالى، ورضي عنه. 115 - ومنهم سيدي أبو الحسن علي بن أحمد الحرالي الأندلسي (1) - وحرالة: قرية من أعمال مرسية - غير أنّه ولد بمراكش، وأخذ بالأندلس عن أبي الحسن ابن خروف وغير واحد، ورحل إلى المشرق فأخذ عن أبي عبد الله القرطبي إمام الحرم وغيره، ولقي جلّةً من المشايخ شرقاً وغرباً. وهو إمام ورع صالح زاهد، كان بقية السلف، وقدوة الخلف، وقد زهد في الدّنيا وتخلّى عنها، وأقام في تفسير الفاتحة نحواً من ستّة أشهر يلقي في التعليل قوانين تتنزّل في علم التفسير منزلة أصول الفقه من الأحكام، حتى منّ الله تعالى ببركات ومواهب لا تحصى، وعلى أحكام تلك القوانين

_ (1) ترجمة أبي الحسن الحرالي في عنوان الدراية: 85 وشذرات الذهب 5: 189.

وضع كتابه مفتاح اللّبّ المقفل على فهم القرآن المنزل وهو ممّن جمع العلم والعمل، وصنّف في كثير من الفنون كالأصلين والمنطق والطبيعيّات والإلهيّات، وكان يقرئ النجاة لابن سينا فينقضه عروة عروة، وكان من أعلم الناس بمذهب مالك، ولمّا ظنّ فقهاء عصره أنّه لا يحسن المذهب لاشتغاله بالمعقولات أقرأ التهذيب وأبدى فيه الغرائب، وبيّن مخالفته للمدوّنة في بعض المواضع، ووقع بينه وبين الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام شيء، وطلب عزّ الدين أن يقف على تفسيره، فلمّا وقف عليه قال: أين قول مجاهد أين قول فلان وفلان وكثر القول في هذا المعنى، ثم قال: يخرج من بلادنا إلى وطنه - يعني الشام - فلمّا بلغ كلامه الشيخ قال: هو يخرج وأقيم أنا، فكان كذلك. وله عدّة مؤلّفات في الفنون؛ وقال، رحمه الله تعالى: أقمت ملازماً لمجاهدة النفس سبعة أعوام، حتى استوى عندي من يعطيني دينارً ومن يزدريني. وأصبح - رحمه الله تعالى - ذات يوم ولا شيء لأهله يقيمون به أودهم، وكانت أم ولده جارية تسمّى كريمة، وكانت سيّئة الخلق، فاشتدّت عليه في الطلب، وقالت له: إن الأصاغر لا شيء لهم، فقال: الآن يأتي من قبل الوكيل ما نتقوّت به، فبينما هم كذلك وإذا بالحمّال يضرب الباب ومعه قمح، فقال لها: يا كريمة، ما أعجلك، هذا الوكيل بعث بالقمح، فقالت: ومن يصنعه فأمر فتصدّق به، ثم قال لها: يأتيك ما هو أحسن منه، فانتظرت يسيراً، وبدا لها فتكلّمت بما لا يليق، فبينما هم كذلك، وإذا بحمّال سميذ، فقال لها: هذا السميذ أيسر وأسهل من القمح، فلم يقنعها ذلك، فأمر أيضاً بصدقته، فلمّا تصدّق به زادت في المقال، وإذا برجل على رأسه طعام، فقال لها: يا كريمة، قد كفيت المؤونة، هذا الوكيل قد علم بحالك. ومن كراماته أن بعض طلبته اجتمعوا في نزهة، وأخذوا حلياً من زينة النساء، فزيّنوا به بعض أصحابهم، فلمّا انقضى ذلك واجتمعوا بمجلس الشيخ صار الذي كان في يده الحلي يتحدّث ويشير بيده، فقال الشيخ: يد يجعل

فيها الحلي لا يشار بها في الميعاد. ومنها أنّه أصاب الناس جدبٌ ببجاية، فأرسل إلى داره من يسوق ماء إلى الفقراء، فامتنعت كريمة، ونهرت رسله، فسمع كلامها، فقال للرسول: قل لها يا كريمة، والله لأشربنّ من ماء المطر الساعة، فرمق السماء بطرفه، ودعا الله سبحانه وتعالى، ورفع يده به، وشرع المؤذن في الأذان، ولم يختم المؤذن أذانه حتى كان المطر كأفواه القرب. وتوفّي، رحمه الله تعالى، بحماة من بلاد الشام سنة سبع وثلاثين وستمائة؛ انتهى ملخّصاً من عنوان الدراية للغبريني. ووقع للذهبي في حقّه كلام على عادته في الحطّ على هذه الطائفة، ثم قال: ورأيت شيخنا المجد التونسي يتغالى في تفسيره، رأيت غير واحد معظماً له وقوماً تكلّموا في عقيدته، وكان نازلاً عند قاضي حماة البارزي؛ وقال لها شرف الدين البارزي: تزوّج بحماة، وكانت زوجته تشتمه وتؤذيه وهو يتبسّم، وإن رجلاً راهن جماعةً على أن يحرجه، فقالوا: لا تقدر، فأتى وهو يعظ وصاح، وقال له: أنت أبوك كان يهوديّاً وأسلم، فنزل من الكرسي، فاعتقد الرجل أنّه غضب وأنّه تمّ له ما رامه حتى وصل إليه فخلع مرطيه (1) عليه، وأعطاه إيّاهما، وقال له: بشّرك الله بالخير، لأنّك شهدت لأبي أنّه كان مسلماً، انتهى. وظاهر كلام الغبريني أن تفسير الشيخ الحرالي كامل، وقال بعض: إنّه لم يكمل، وهو تفسير حسن، وعليه نسج البقاعيّ مناسباته، وذكر أن الذي وقف عليه منه من أوّل القرآن إلى قوله في سورة آل عمران " كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً ".

_ (1) ق ط ج ودوزي: قرطيه.

وكلام الذهبي في الشيخ يرده كلام الغبريني، إذ هو أعرف به، والله تعالى أعلم. وحكى الغبريني أنّه أنشد بين يديه الزجل المشهور (1) : جنّان يا جنّان ... اجن من البستان الياسمين واترك الرّيحان ... بحرمة الرحمن للعاشقين فسأل بعض عن معناه، فقال بعض الحاضرين: أراد به العذار، وقال آخر: إنّما أشار إلى دوام العهد، لأن الأزهار كلّها ينقضي زمانها إلاّ الرّيحان فإنّه دائم، فاستحسن الشيخ هذا أو وافق عليه. 116 - ومنهم ولي الله العارف به الشيخ الشهير الكرامات، الكبير [المقامات] (2) سيدي أبو العباس المرسي، نفعنا الله تعالى به (3) . وهو من أكابر الأولياء، صحب سيدي الشيخ الفرد القطب الغوث الجامع سيدي أبا الحسن الشاذلي، أعاد الله تعالى علينا من بركاته، وخلفه بعده، وكان قدم من الأندلس من مرسية، وقبره بالإسكندرية مشهور بإجابة الدعوات، وقد زرته مراراً كثيرة، ودعوت الله عنده بما أرجو قبوله. وقد عرّف به الشيخ العارف بالله ابن عطاء الله في كتابه لطائف المنن في مناقب الشيخ سيدي أبي العابس وشيخه سيدي أبي الحسن، رضي الله تعالى عنهما. وقال الصفدي في الوافي: أحمد بن عمر بن محمد الشيخ الزاهد الكبير العارف أبو العباس، الأنصاري المرسي، وارث شيخه الشاذلي تصوّفاً، الأشعري معتقداً،

_ (1) انظر ما تقدم ص: 182. (2) المقامات: زيادة من ج ليست في ق ط. (3) ترجمة أبي العباس المرسي في طبقات الشعراني ولطائف المنن لابن عطاء الله ونيل الابتهاج: 64 (على هامش الديباج) والوافي للصفدي ج 7 الورقة: 128.

توفّي بالإسكندريّة سنة 686، ولأهل مصر ولأهل الثغر فيه عقيدة كبيرة، وقد زرته لما كنت بالإسكندرية سنة 738، قال ابن عرّام سبط الشاذلي: ولولا قوّة اشتهاره وكراماته لذكرت له ترجمة طويلة، كان من الشهود بالثغر، انتهى. وكان سيّدي أبو العباس يكرّم الناس على نحو رتبهم عند الله تعالى، حتى إنّه ربّما دخل عليه مطيع في يحتفل به، ربّما دخل عليه عاصٍ فأكرمه، لأن ذلك الطائع أتى وهو متكثّر لعمله (1) ناظر لفعله، وذلك العاصي دخل بكسر معصيته وذلة مخالفته، وكان شديد الكراهة للوسواس في الصلاة والطهرة، ويثقل عليه شهود من كان على صفته، وذكر عنده يوماً شخصٌ بأنّه صاحب علم وصلاح، إلاّ أنّه كثير الوسوسة، فقال: وأين العلم العلم هو الذي ينطبع في القلب كالبياض في الأبيض والسواد في الأسود. وله كلام بديع في تفسير القرآن العزيز: فمن ذلك أنّه قال: قال الله سبحانه وتعالى " الحمد لله ربّ العالمين " علم الله عجز خلقه عن حمده، فحمد نفسه بنفسه في أزله، فلمّا خلق الخلق اقتضى منهم أن يحمدوه بحمده، فقال " الحمد لله ربّ العالمين " أي: الحمد الذي حمد به نفسه بنفسه هو له، لا ينبغي أن يكون لغيره، فعلى هذا تكون الألف واللام للعهد. وقال في قوله تعالى " إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ": إيّاك نعبد شريعة، عبادة، وإيّاك نستعين عبوديّة، إيّاك نعبد فرق، وإيّاك نستعين جمع. وله في هذا المعنى وغيره كلام نفيس يدلّ على عظيم ما منحه الله سبحانه من العلوم اللدنية. وقال، رضي الله تعالى عنه، في قوله تعالى " اهدنا الصّراط المستقيم ": بالتثبيت (2) فيما هو حاصل، والإرشاد لما ليس بحاصل؛ وهذا

_ (1) في نسخة: متكبر بعمله؛ وفي ق: متكثر بعمله. (2) في نسخة: بالتثبيت.

الجواب ذكره ابن عطيّة في تفسيره، وبسطه الشيخ، رضي الله تعالى عنه، فقال: عموم المؤمنين يقولون " اهدنا الصّراط المستقيم " معناه نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل، فإنّهم حصل لهم التوحيد، وفاتهم درجات الصالحين، والصالحون يقولون " اهدنا الصّراط المستقيم " معناه نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل، لأنّهم حصل لهم الصلاح، وفاتهم درجات الشهداء، والشهيد يقول " اهدنا الصّراط المستقيم " درجة الشهادة، وفاته درجة الصديقية، والصديق كذلك يقول " اهدنا الصّراط المستقيم " إذ حصلت له درجة الصديقية، وفاتته درجة القطب، والقطب كذلك يقول " اهدنا الصّراط المستقيم " فإنّه حصلت له رتبة القطبانية، وفاته علم إذا شاء الله تعالى أن يطلعه عليه أطلعه. وقال، رضي الله تعالى عنه: الفتوّة الإيمان، قال الله سبحانه وتعالى " إنّهم فتيةٌ آمنوا بربّهم وزدناهم هدى " وقال، رضي الله تعالى عنه، في قوله سبحانه وتعالى حاكياً عن الشيطان " ثمّ لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم ... الأية " ولم يقل من فوقهم ولا من تحتهم لأن فوقهم التوحيد وتحتهم الإسلام. وقال، رضي الله تعالى عنه: التقوى في كتاب الله، عزّ وجلّ، على أقسام: تقوى النّار، قال الله سبحانه وتعالى " واتّقوا النّار " وتقوى اليوم، قال الله تعالى " واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، وتقوى الربوبية، قال الله تعالى " يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم " وتقوى الألوهية " واتّقوا الله " وتقوى الإنّية " واتّقوى يا أولي الألباب " وقال، رضي الله تعالى عنه، في قول رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، " أنا سيّد ولد آدم ولا فخر " أي: لا أفتخر بالسّيادة، وإنّما الفخر لي بالعبودية لله، وكان كثيراً ما ينشد:

يا عمرو ناد عبد زهراء ... يعرفه السامع والرائي لا تدعني إلاّ بيا عبدها ... فإنّه أشرف أسمائي وقال رضي الله تعالى عنه، في قول سمنون المحب: وليس لي في سواك حظٌّ ... فكيفما شئت فاختبرني الأولى أن يقول: فكيفما شئت فاعف عني إذ طلب العفو أولى من طلب (1) الاختبار. وقال رضي الله تعالى عنه: الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة، والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا. وقال رضي الله تعالى عنه: العارف لا دنيا له، لن دنياه لآخرته، وآخرته لربّه. وقال: الزاهد غريب في الدّنيا، لأن الآخرة وطنه، والعارف غريب في الآخرة. قال بعض العارفين: معنى الغربة في كلام الشيخ، رضي الله تعالى عنه أن الزاهد يكشف له عن ملك الآخرة فتبقى الآخرة موطن قلبه ومعشّش روحه، فيكون غريباً في الدّنيا، إذ ليست وطناً لقلبه، عاين الآخرة فأخذ قلبه فيما عاين من ثوابها ونوالها، وفيما شهد من عقوبتها ونكالها، فتغرّب في هذه الدار. وأمّا العارف فإنّه غريب في الآخرة إذ كشف له عن صفات معروفة فأخذ قلبه فيما هناك، فصار غريباً في الآخرة، لأن سرّه مع الله تعالى، بلا أين، فهؤلاء العباد تصير الحضرة معشّش قلوبهم، إليها يأوون، وفيها يسكنون، فإن تنزلوا إلى سماء الحقوق، أو أرض الخصوص، فبالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، فلم ينزلوا إلى الخصوص لشهوة، ولم يصعدوا إلى الحقوق بسوء الأدب والغفلة، بل كانوا في ذلك كلّه بآداب الله تعالى وآداب رسله وأنبيائه متأدبين، وبما اقتضى منهم مولاهم عاملين، رضي الله تعالى عنهم، ونفعنا بهم آمين.

_ (1) في بعض النسخ: لأن طلب.

وكلام سيّدي الشيخ أبي العباس، رضي الله تعالى عنه، بحر لا ساحل له، وكراماته كذلك، ليراجع كتاب تلميذه ابن عطاء الله، فإن فيه من ذلك ما يشفي ويكفي، وما بقي أكثر. ومن كراماته، رضي الله تعالى عنه، أنّه عزم عليه إنسان وقدّم إليه طعاماً يختبره به، فأعرض عنه ولم يأكله، ثم التفت إلى صاحب الطعام وقال له: إن الحارث المحاسبي، رضي الله تعالى عنه، كان في إصبعه عرق إذا مدّ يده إلى طعام فيه شبهة تحرك عليه، وأنا في يدي سبعون عرقاً تتحرّك عليّ إذا كان مثل ذلك، فاستغفر صاحب الطعام، واعتذر إلى الشيخ، رضي الله تعالى عنه، ونفعنا به. 117 - ومنهم أبو إسحاق الساحلي، المعروف بالطّويجن (1) - بضم الطاء المهملة، وفتح الواو، وسكون الياء التحتيّة، وكسر الجيم، وقيل بفتحها - العالم المشهور، والصالح المشكور، والشاعر المذكور، من أهل غرناطة من بيت صلاح وثروة وأمانة، وكان أبوه أمين العطّارين بغرناطة، وكان مع أمانته من أهل العلم فقيهاً متفنّناً، وله الباع المديد في الفرائض. وأبو إسحاق هذا كان في صغره موثّقاً بسماط شهود غرناطة، وارتحل عن الأندلس إلى المشرق، فحجّ، ثم سار إلى بلاد السودان فاستوطنها، ونال جاهاً مكيناً من سلطانها، وبها توفّي، رحمه الله تعالى، انتهى ملخّصاً من كلام الأمير ابن الأحمر في كتابه نثير الجمان، فيمن نظمني وإيّاه الزمان. وقال أبو المكارم منديل بن آخرّوم: حدّثني من يوثق بقوله أن أبا إسحاق الطّويجن كانت وفاته يوم الاثنين 27 جمادى الأخيرة سنة 747 (2) بتنبكتو

_ (1) ترجمة الطويجن في الإحاطة 1: 337 ومسالك الأبصار 11: 516 والكتيبة الكامنة: 235 ونثير فرائد الجمان: الورقة 53 ونثير الجمان: الورقة 58 والاستقصاء 3: 52. (2) في نسخة: 767.

موضع بالصحراء من عمالة مالي، رحمه الله تعالى، ثمّ ضبط الطويجن بكسر الجيم، قال: وبذلك ضبطه بخطّ يده، رحمه الله تعالى، قال: ومن نسبه للساحلي فإنّه نسبه لجدّه للأم، انتهى. 118 - ومنهم الشيخ الأديب الفاضل المعمّر ضياء الدين أبو الحسن علي ابن محمد بن يوسف بن عفيف، الخزرجي، الساعدي (1) ، من أهل غرناطة، ويشهر بالخزرجي، ومولده ببيغة، رحل عن الأندلس قديماً واستقرّ أخيراً بالإسكندريّة، وبها لقيه الحافظ ابن رشيد غير مرّة، وقد أطال في رحلته في ترجمته، إلى أن قال: وذكره صاحبنا أبو حيان، وهو أحد من أخذ عنه ولقيه، فقال: تلا القرآن بالأندلس على أبي الوليد هشام بن واقف المقرئ، وسمع بها من أبي زيد الفازازي العشرينيّات، وسمع بمكّة من شهاب الدين السّهروردي صاحب " عوارف المعارف " وتلا بالإسكندريّة على أبي القاسم ابن عيسى، ولا يعرف له نظم في أحد من العالم إلاّ في مدح رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم. ومن شعره يعارض الحريري: أهن لأهل (2) البدع ... والهجر والتّصنّع ودن بترك الطمع ولذ بأهل الورع ... وعدّ عن كلّ بذي ... لم يكترث بالنّبذ والهج ببر جهبذ وعالمٍ متّضع ... واندب زماناً قد سلف ... ولم تجد منه خلف وابعث بأنواع الأسف رسائل التّضرّع ...

_ (1) راجع ترجمة ابن عفيف الخزرجي في رحلة ابن رشيد (القسم الثالث من مخطوطة الاسكوريال، الورقة 8) . (2) ابن رشيد: هون بأهل.

وهي طويلة (1) ؛ فلتراجع ترجمته في ملء الغيبة لابن رشيد، رحمه الله تعالى. 119 - ومنهم الفقيه الجليل، العارف النبيل، الحاذق الفصيح البارع أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر، الشهير بابن سبعين، العكي، المرسي، الأندلسي، ويلقّب من الألقاب المشرقيّة بقطب الدين (2) . قال الشيخ المؤرخ ابن عبد الملك: درس العربية والآداب بالأندلس، ثم انتقل إلى سبتة، وانتحل التصوّف، وعكف برهة على مطالعة كتبه، والتكلّم على معانيها، فمالت إليه العامة، ثم رحل إلى المشرق، وحج حججاً، وشاع ذكره، وعظم صيته، وكثر أشياعه، وصنف أوضاعاً كثيرة تلقوها منه، ونقلوها عنه، ويرمى بأمورٍ، الله تعالى أعلم بها وبحقيقتها وكان حسن الأخلاق، صبوراً على الأذى، آية في الإيثار، انتهى. وقال غير واحد: إن أغراض الناس فيه متباينة، بعيدة عن الاعتدال، فمنهم المرهق المكفر، ومنهم المقلّد المعظم الموقّر، وحصل بهذين الطرفين من الشهرة والاعتقاد، والنفرة والانتقاد، ما لم يقع لغيره، والله تعالى أعلم بحقيقة أمره. ولما ذكر الشريف الغرناطي عنه أنّه كان يكتب عن نفسه ابن هـ يعني الدارة التي هي كالصفر، وهي في بعض طرق المغاربة في حسابهم سبعون، وشهر لذلك بابن دارة - ضمن فيه البيت المشهور: محا السّيف ما قال ابن دارة أجمعا ...

_ (1) قال ابن رشيد: عددها أحد وأربعون بيتا. (2) ترجمة ابن سبعين في عنوان الدراية: 139 والإحاطة: 317 (النسخة الخطية) وفيها نقل عن ابن عبد الملك؛ والفوات 1: 516 والبداية والنهاية 13: 261 وشذرات الذهب 5: 329 والنجوم الزاهرة 7: 232 وله ترجمة في المنهل الصافي والوافي (راجع مقدمة رسائله) وقد نشر الدكتور عبد الرحمن بدوي مجموعة من رسائله في سلسلة تراثنا - الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة (تاريخ المقدمة: 1956) .

حسبما ذكره الشريف في شرح مقصورة حازم، وقد طال عهدي به، فليراجعه من ظفر به (1) . وقال صاحب درة الأسلاك في سنة 669، ما صورته (2) : وفيها توفّي الشيخ قطب الدين أبو محمد عبد الحقّ بن سبعين المرسي، صوفي متفلسف، متزهّد متقشّف، يتكلّم على طريق أصحابه، ويدخل البيت ولكن من غير أبوابه، شاع أمره، واشتهر ذكره، وله تصانيف وأتباع، وأقوال يميل إليها بعض القلوب وتملّها بعض الأسماع، وكانت وفاته بمكّة المشرّفة عن نحو خمسين سنة، تغمّده الله تعالى برحمته، انتهى. وقال بعض الأعلام في حقّ (3) ابن سبعين: إنّه كان، رحمه الله تعالى، عزيز النفس، قليل التصنّع، يتولى خدمة الكثير من الفقراء والسّفارة أصحاب العباءات والدفافيس بنفسه، ويحفون به في السكك، ولمّا توفّرت دواعي النّقد عليه من الفقهاء كثر عليه التأويل، ووجّهت لألفاظه المعاريض، وفليت موضوعاته، وتعاورته الوحشة، وجرت بينه وبين الكثير من أعلام المشرق والمغرب خطوب يطول ذكرها. ووقع في رسالة لبعض تلامذة ابن سبعين المذكور، وأظن اسمه يحيى

_ (1) كتب الفقيه أبو البركات ابن الحاج علي جزء فيه كلام ابن سبعين: ألا فدعوا ما قال عنكم فإنه ... محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا وشرح ما أراد أن أصحاب ابن سبعين يعبرون عنه بابن دارة، لأن شكل سبعين في رسوم الحساب الرومية دارة هكذا 5 ... إلخ؛ (انظر شرح المقصورة 1: 99) . (2) اسمه " درة الأسلاك في دولة الأتراك " لمحمد بن حبيب الحلبي (- 779) ابتدأ فيه في سنة 648 وانتهى إلى آخر سنة 778 والتزم رعاية السجع في كلامه (كشف الظنون 1: 737) . (3) في الأصول: العبادات، ثم تصحفت الكلمة التالية على صور أخرى مثل " الدنافيس " و " الدقاقيس " وقد وردت بصورة المفرد في الطالع السعيد: 44 حيث جاء: " إني كنت في طريق عيذاب ومعنا شخص من المغاربة فمات فغسلته فوجدت معه في دفاسه ذهبا ... إلخ " فاللفظة تشير إلى نوع من الثياب، ولذا صححت كلمة " العبادات " وجعلتها " العباءات " لكي تتناسب اللفظتان.

ابن أحمد بن سليمان، سمّاها بالوراثة المحمديّة والفصول الذاتية ما صورته: فإن قيل: ما الدليل على أن هذا الرجل الذي هو ابن سبعين هو الوارث المشار إليه قلنا: عدم النظير، واحتياج الوقت إليه، وظهرو الكلمة المشار إليها عليه، ونصيحته لأهل الملّة، ورحمته المطلقة للعالم المطلق، ومحبّته لأعدائه، وقصده لراحتهم مع كونهم يقصدون أذاه، وعفوه عنهم مع قدرته عليهم، وجذبهم إلى الخير مع كونهم يطلبون هلاكه، وهذه كلّها من علامات الوراثة والتبعية المحضة التي لا يمكن أحداً أن يتصف بها إلاّ بمجد أزلي وتخصيص إلهي، وها أنا أصف لك بعض ما خصّه الله سبحانه وتعالى به من الأمور التي هي خارقة للعادة، ونلغي عن الأمور الخفيّة التي لا نعلمها، ونقصد الأمور الظاهرة التي نعلمها، والتي لا يمكن أحداً أن يستريب فيها إلاّ من أصمّه الله تعالى وأعماه، ولا يجحدها إلا حسود قد أتعب الله تعالى قلبه وأنساه رشده، ونعوذ بالله ممّن عاند من الله تعالى مساعده ومؤيده، وهو معه بنصره وعونه، فما أتعب معانده، وما أسعد موادده، وما أكبت مرادده، فنبدأ بذكر ما وعدنا، فنقول: أول ما ذكر في شرفه واستحقاقه لما ذكرنا، كونه خلقه الله تعالى من أشرف البيبوت التي في بلاد المغرب، وهم بنو سبعين، قرشيّاً هاشميّاً علويّاً، وأبواه وجدوده يشار إليهم، ويعوّل في الرئاسة والحسب والتّعين عليهم. والثاني: كونه من بلاد المغرب، والنبي عليه السلام قال: " لا يزال أهل المغرب ظاهرين إلى قيام الساعة " وما ظهر من بلاد المغرب رجل أظهر منه، فهو المشار إليه بالحديث، ثمّ نقول: أهل المغرب أهل الحق، وأحق الناس بالحق وأحق المغرب بالحق علماؤه لكونهم القائمين بالقسط، وأحق علمائه بالحق محقّقهم وقطبهم الذي يدور الكل عليه ويعول في مسائلهم ونوازلهم السهلة والعويصة عليه، فهو حق المغرب، والمغرب حقّ الله تعالى، والملّة حقّ العالم، فهو المشار إليه بالوراثة، ثم نقول: أهل المغرب ظاهرون على الحق

أي على الدين، والحق سر الدين، والمحقّق سرّ الحق، فالمحقّق سرّ الدين، فهو المشار إليه بالوراثة. ثمّ نقول: أهل الله خير العالم، وأهل الحق هم خير أهل الله، والمحقّق خير أهل الحق، فالمحقّق خير العالم، فهو المشار إليه. ثمّ نقول: انظر في بدايته وحفظ القديم له في صغره، وضبطه له من اللهو واللّعب، وإخراجه من اللّذة الطبيعية التي هي في جبلّة البشرية، وتركه للرئاسة العرضيّة المعول عليها عند العالم، مع كونه وجدها في آبائه، وهي الآن في إخوته، وخروجه عن الأهل والوطن الذي قرنه الحق مع قتل الإنسان نفسه، وانقطاعه إلى الحق انقطاعاً صحيحاً تعلم تخصيصه وخرقه للعادة، ثم انظر في تأيّده وفتحه من الصغر، وتأليف كتاب بدء العارف وهو ابن خمس عشرة سنة، وفي جلالة هذا الكتاب وكونه يحتوي على جميع الصنائع العلمية والعمليّة، وجميع الأمور السّنيّة والسّنيّة، تجده خارقاً للعادة، وفي نشأته في بلاد الأندلس ولم يعلم له كثرة نظر وظهوره فيها بالعلوم التي لم تسمع قط تعلم أنّه خارق للعادة، وفي تواليفه واشتمالها على العلوم كلّها، ثمّ انفرادها وغرابتها وخصوصيتها بالتحقيق الشاذ عن أفهام الخلق تعلم بأنّه مؤيّد بروح القدس، وفي شجاعته وقوّة توكّله في عزمه ونصره لصنائعه وظهور حجّته على خصمائه وإقامة حقّه وبرهانه وفصاحة كلامه وبيان سلطانه تعلم أن ذلك بقوّة إلهيّة وعناية ربانيّة، وفي امتحان أهل المغرب له، واجتماعهم عليه في كل بلد معتبر للمناظرة، يظهر الله تعالى حجّته، ويقمع خصمه، ويكبت عدوّه، وعجز معارضه، ويفحم معترضه، وفي غيرة الحق عليه، وهلاك من تعرض بالأذى إليه - يعلم العاقل المخصوص، أنّه عند الله مخصوص، وفي خلقه وقهره لقواه النزعوية والغضبية وإسلام قرينه وجلالة قوّته الحافظة التي لا تنسى شيئاً والمفكّرة التي تتصوّر الذوات المجرّدة والمعلومة أسر عين الطيف (1) ،

_ (1) ق: أسرعين؛ وسقطت لفظة " الطيف "؛ وفي دوزي: أسرعين الطبق، وأشار إلى قراءة أخرى وإلى أن العبارة سقطت من بعض النسخ.

وكذلك الذاكرة، وسرعة ظهوره وانتشار رايته واستجلاب ثنائه في الجهات كلّها، وبالجملة جميع ما ذكرت هو فيه خارق للعادة البشريّة، ومعجز لمعارضه من كل الجهات، ولولا خوف التطويل لكنت أفصّل كل صفة ذكرت في بالكلام الصناعي، ونقيم الأدلة القطعيّة على تعجيزها، ولكن أعطيت الأنموذج، وعرفت أن النبيه يمعن فكره، ويجد ذلك كما قلته. وبالجملة جميع جزئيّاته إذا تؤملت توجد خارقة للعادة، وتشهد لها ماهيّة الوجود بالتخصيص، فصحّ أنّه هو المشار إليه، والمعول في جملة الأمور عليه، وإنّما أعطيت الأمر المشهور، وتركت ما يعلم منه من خرق العوائد في ظهور الطعام والشراب والسمن والتمر وأخذ الدراهم من الكون، وإخباره عن وقائع قبل وقوعها بسنين كثيرة وظهرت كما أخبر، فصحّ أنّه هو المذكور؛ انتهى ما تعلّق به الغرض ممّا في الرسالة في شأن الشيخ ابن سبعين. وقد ذكر غير واحد من المؤرخين - ومنهم لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة كما سيأتي قريباً - أن ابن سبعين عاقه الخوف من أمير المدينة عن القدوم إليها، فعظم عليه بذلك الحمل، وقبحت الأحدوثة عنه، انتهى. لكمن قال شهاب الدين بن أبي حجلة التلمساني الأديب الشهير، وهو صاحب كتاب السكردان وديوان الصبابة ومنطق الطير والاعتراض على العارف بالله تعالى ابن الفارض، ما معناه: أخبرني الشيخ الصالح أبو الحسن ابن برغوش التلمساني شيخ المجاورين بمكّة وكانت له معرفة تامّة بهذا الرجل، انّه صدّه عن زيارة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أنّه كان منه دم كدم الحيض، والله تعالى أعلم بحقيقة أمره، انتهى. وقال غيره: نعم زار النبي، صلّى الله عليه وسلّم، مستخفياً على طريق المشاة، حدّث بذلك أصهاره بمكّة، انتهى.

وقال لسان الدين (1) : أما شهرته ومحلّه من الإدراك والآراء والأوضاع والأسماء والوقوف على الأقوال والتعمق في الفلسفة والقيام على مذاهب المتكلّمين فما يقضى منه العجب. وقال الشيخ أبو البركات ابن الحاج البلفيقي، رحمه الله تعالى (2) : حدّثني بعض أشياخنا من أهل المشرق أن الأمير أبا عبد الله ابن هودٍ سالم طاغية النصارى، فنكث به (3) ، ولم يف بشرطه، فاضطره ذلك إلى مخاطبة القس (4) الأعظم برومية، فوكّل أبا طالب ابن سبعين أخا أبي محمد عبد الحق بن سبعين في التكلّم عنه، والاستظهار بين يديه، قال: فلمّا بلغ ذلك الشخص رومية (5) ، وهو بلد لا يصل إليه المسلمون، ونظر إلى ما بيده، وسئل عن نفسه، فأخبر بما ينبغي، كلّم ذلك القس من دنا منه بكلام معجم ترجم لأبي طالب بما معناه: اعلموا أن أخا هذا ليس للمسلمين اليوم أعلم بالله منه، انتهى. وقال غير واحد: إنّه اشتهرت عنه أشياء كثيرة، الله تعالى أعلم باستحقاقه رتبة ما ادعاه منها: فمنها قوله - فيما زعموا - وقد جرى ذكر الشيخ وليّ الله، سيّدي أبي مدين نفعنا الله تعالى ببركاته: شعيبٌ عبد عملٍ، ونحن عبيد حضرة وممّن حكى هذا لسان الدين في الإحاطة (6) . وقد ذكر ابن خلدون في تاريخه الكبير (7) في ترجمة السلطان المستنصر بالله تعالى أبي عبد الله محمد ابن السلطان زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص ملك إفريقية وما إليها: أن أهل مكة بايعوه، وخطبوا له بعرفة، وأرسلوا له بيعتهم،

_ (1) انظر الإحاطة: 319 (المخطوطة) . (2) المصدر نفسه. (3) الإحاطة: فنكث عهده. (4) الإحاطة: القومس. (5) الإحاطة: فلما بلغ باب ذلك الشخص المذكور برومة. (6) انظر الإحاطة: 319. (7) الحديث عن خلافة المستنصر الحفصي ورد في ابن خلدون 6: 280 وما بعدها، ولكن ليس فيه ذكر لبيعة أهل مكة أو سرد لرسالة ابن سبعين.

وهي من إنشاء ابن سبعين، وسردها ابن خلدون بجملتها، وهي طويلة، وفيها من البلاغة والتلاعب بأطراف الكلام ما لا مطمح وراءه، غير أن يشير فيها إلى أن المستنصر هو المهدي المبشّر به في الأحاديث الذي يحثو المال ولا يعدّه، وحمل حديث مسلم وغيره عليه، وذلك ما لا يخفى ما فيه، فليراجع كلام ابن خلدون في محله. ولابن سبعين من رسالة: سلام عليك ورحمة الله، سلام عليك ثم سلام مناجاتك، سلام الله ورحمة الله الممتدة على عوالمك كلها، السلام عليك يا أيها النبي ورحمة الله تعالى وبركاته، وصلى الله عليك كصلاة إبراهيم من حيث شريعتك، وكصلاة أعز ملائكتك من حيث حقيقتك، وكصلاته من حيث حقه ورحمانيته، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا قياس الكمال، ومقدمة العلم، ونتيجة الحمد، وبرهان المحمود، ومن إذا نظر الذهن إليه قرأ " نعم العبد " السلام عليك يا من هو الشرط في كمال الأولياء، وأسرار مشروطات الأذكياء الأتقياء، السلام عليك يا من جاوز في السموات مقام الرسل والأنبياء، وزادك رفعة واستعلاء على ذوات الملإ الأعلى، وذكر قوله تعالى " سبّح اسم ربّك الأعلى ". وقال بعضه عند إيراده جملة من رسائله التي منها هذه: إنها تشتمل على ما يشهد له بتعظيم النبوة وإيثار الورع، انتهى. وقال بعض العلماء الأكابر، عند تعرضه لترجمة الشيخ ابن سبعين المترجم به، ما نصه ببعض اختصار: هو أحد المشايخ المشهورين بسعة العلم، وتعدد المعارف، وكثرة التصانيف، ولد سنة 614، ودرس العربية والأدب في طريقه، وجال في البلاد، وقدم القاهرة، ثم حج واستوطن مكة، وطار صيته، وعظم أمره، وكثر أتباعه، حتى إنه تلمذ له أمير مكة، فبلغ من التعظيم الغاية، وله كتاب الدرج وكتاب السفر وكتاب الأبوبة اليمنية وكتاب الكد

وكتاب " الإحاطة (1) " ورسائل كثيرة في الأذكار وترتيب السلوك والوصايا والمواعظ والغنائم. ومن شعره (2) : كم ذا تموّه بالشعبين والعلم ... والأمر أوضح من نارٍ على علم وكم تعبّر عن سلعٍ وكاظمةٍ ... وعن زرودٍ وجيرانٍ بذي سلم ظللت تسأل عن نجدٍ وأنت بها ... وعن تهامة، هذا فعل متهم في الحيّ حيٌّ سوى ليلى فتسأله ... عنها سؤالك وهمٌ جرّ للعدم ونشأ، رحمه الله تعالى، ترفاً مبجّلاً في ظل جاه ونعمة، لم تفارق معها نفسه البأو، وكان وسيماً، جميلاً، ملوكي البزة، عزيز النفس، قليل التصنع، وكان آية من الآيات في الإيثار والجود بما في يده، رحمه الله تعالى. وقال في الإحاطة: للناس في أمره اختلاف بين الولاية وضدها (3) ، ولما وجه إلى كلامه سهام الناقدين (4) قصر أكثرهم عن مداه في الإدراك، والخوض في تلك البحار والاطلاع (5) ، وساءت منهم في الممازجة له السيرة (6) ، فانصرفوا عنه مكلومين (7) ، يبذرون عنه في الآفاق من سوء القالة ما لا شيء فوقه، وجرت بينه وبين أعلام المشرق خطوب، ثم نزل مكة (8) ، وعاقه الخوف من أمير المدينة

_ (1) ورد هذا الكتاب في " رسائل ابن سبعين ": 130 - 150. (2) انظر الأبيات في الإحاطة: 321. (3) نص ما ورد في الإحاطة: وأغراض الناس في هذا الرجل متباينة بعيدة عن الاعتدال. (4) الإحاطة: ولما توفرت دواعي النقد عليه؛ هذا ما ثبت في حواشي دوزي، أما في النسخة التي اعتمدتها من الإحاطة فقد اضطربت هذه الجملة؛ والمقري ينقل حاذفا عبارات كثيرة. (5) الإحاطة: قصر أكثرهم عن مداه في الإدراك والاطلاع والخوض في تلك الأغراض. (6) الإحاطة: وساءت منه لهم [في] الملاطفة السيرة. (7) الإحاطة: مكظ مين. (8) زيادة من الإحاطة.

[المعظمة] (1) عن الدخول إليها إلى أن توفي فعظم بذلك الحمل عليه (2) ، وقبحت الأحدوثة عنه، ولما وردت على سبتة المسائل الصقلية - وكانت جملة من المسائل الحكمية وجهها علماء الروم تبكيتاً للمسلمين - انتدب للجواب المقنع عنها، على فتاء من سنه، وبديهة من فكرته، رحمه الله تعالى، انتهى. وقال بعض من عرف به: إنّه من أهل مرسية، وله علم وحكمة ومعرفة ونباهة وبراعة وفصاحة وبلاغة. وقال في " عنوان الدراية " (3) : رحل إلى العدوة، وسكن ببجاية مدة، ولقي من أصحابنا ناساً (4) ، وأخذوا عنه، وانتفعوا به في فنون خاصة، له مشاركة في معقول العلوم ومنقولها، وله فصاحة لسان، وطلاقة قلم، وفهم جنان، وهو أحد الفضلاء، وله أتباع كثيرة من الفقراء ومن عامة الناس، وله موضوعات كثيرة هي موجودة بأيدي أصحابه، وله فيها ألغاز وإشارات بحروف أبجد، وله تسميات مخصوصة في كتبه من نوع الرموز، وله تسميات ظاهرة هي كالأسامي المعهودة، وله شعر في التحقيق، وفي مراقي أهل الطريق، وكتابته مستحسنة في طريق الأدباء، وله من الفضل والمزية ملازمته لبيت الله الحرام، والتزامه الاعتمار على الدوام، وحجّه مع الحجاج في كل عام، وهذه مزية لا يعرف قدرها ولا يرام، ولقد مشى به للمغاربة في الحرم الشريف حظ لم يكن لهم في غير مدته، وكان أهل مكة يعتمدون على أقواله، ويهتدون بأفعاله. توفي، رحمه الله تعالى، يوم الخميس تاسع شوّال 669، انتهى ببعض اختصار (5) .

_ (1) زيادة من الإحاطة؛ وفي دوزي: النبوية. (2) الإحاطة: فعظم عليه الحمل لأجل ذلك. (3) عنوان الدراية: 139 - 140 وهو أيضا في الإحاطة: 318. (4) عنوان الدراية: ولقيه من أصحابنا أناس. (5) كذا قال، ولم يختصر من النص الذي نقله شيئا.

وذكر (1) ، رحمه الله تعالى، في ترجمة تلميذه الشيخ أبي الحسن الشّشتري السابق الذكر أن أكثر الطلبة يرجّحونه على شيخه أبي محمد ابن سبعين، وإذا ذكر له هذا يقول: إنما ذلك لعدم إطلاعهم على حال الشيخ وقصور طباعهم. ومن تآليف ابن سبعين الفتح المشترك. [رجع إلى الششتري] وممّا حكاه صاحب " عنوان الدراية " (2) في ترجمة الششتري - ممّا لم نذكره في ترجمته الماضية، ورأينا ذكره هنا تبركاً - أن الششتري كان في بعض أسفاره في البرية، وكان رجل من أصحابه قد أسر فسمعه الفقراء يقول: إلينا يا أحمد، فقيل له: من أحمد الذي ناديته يا سيدي في هذه البرية فقال لهم: من تسرّون به غداً إن شاء الله تعالى. فلما كان من الغد ورد الشيخ وأصحابه بلدة قابس، فعند دخولهم إذا بالرجل المأسور، فقال الشيخ للفقراء: هيئاً لنا باقتحام العقبة، صافحوا أخاكم، المنادى به. ومن مناقبه - نفع الله تعالى به - أنه لما نزل ببلدة قابس برباط البحر المعروف [بمسجد] الصهريج جاءه الشيخ الصالح أبو إسحاق الزرنانيّ (3) نفع الله تعالى به بجميع أصحابه برسم الزيارة، فوافق وصوله وصول الشيخ الصالح الفاضل الولي أبي عبد الله الصّنهاجي - نفع الله تعالى به - مع جملة أصحابه للزيارة، فوجدوا الشيخ أبا الحسن قد خرج إلى موضع بخارج المدينة برسم الخلوة، فجلسوا لانتظاره، فلم يكن إلا قليل إذ أقبل الشيخ على هيئة معتبر متفكر، فلما دخل الرباط سلّم على الواصلين برسم الزيارة، وحيّا المسجد، وأقبل على الفقراء، وأثر العبرة على وجنته، فقال: ائتوني بمداد،

_ (1) عنوان الدراية: 141. (2) انظر المصدر المذكور: 141 وما بعدها. (3) في عنوان الدراية: الورقاني؛ وفي نسخة: الزناني.

فلما أحضر بين يديه تأوّه تأوّهاً شديداً كاد أن يحرق بنفسه جليسه، وجعل يكتب في اللوح هذه الأبيات (1) : لا تلتفت بالله يا ناظري ... لأهيفٍ كالغصن الناضر يا قلب واصرف عنك وهم البقا ... وخلّ عن سرب حمى حاجر ما السّرب والبان وما لعلعٌ ... ما الخيف ما ظبي بني عامر جمال من سمّيته داثرٌ ... ما حاجة العاقل بالداثر وإنما مطلبه في الذي ... هام الورى في حسنه الباهر أفاد للشمس سناً كالذي ... أعاره للقمر الزاهر أصبحت فيه مغرماً حائراً ... لله درّ المغرم الحائر وكانوا يوماً ببلد مالقة، وكثيراً ما يجوّد عليه القرآن العزيز، فقرأ طالب قوله تعالى " إنني أنا الله لا إله إلاّ أنا فاعبدني " فقال معجلاً رضي الله تعالى عنه، وفهم من الآية ما لم يفهم، وعلم منها ما لم يعلم (2) : انظر للفظ أنا يا مغرماً فيه ... من حيث نظرتنا لعلّ تدريه خلّ ادّخارك لا تفخر بعاريةٍ ... لا يستعير فقيرّ من مواليه جسوم أحرفه للسرّ حاملة ... إن شئت تعرفه جرّب معانيه ودخل عليه شخص ببجاية من أهلها يعرف بأبي الحسن ابن علال، من أهل الأمانة والديانة، فوجده يذاكر بعض أهل العلم، فاستحسن منه إيراده للعلم، واستعماله لمحاضرة الفهم، فاعتقد شياخته وتقديمه، ثم نوى أن يؤثر الفقراء من ماله بعشرين ديناراً شكراً لله تعالى، ويأتيهم بمأكول، فلما يسر جميع ما اهتم به أراد أن يقسمه فيعطيه شطره ويدع الشطر الثاني إلى حين انصراف الشيخ،

_ (1) ديوانه: 48. (2) ديوانه: 80.

ليكون للفقراء زاداً، فلما كان في الليل رأى في منامه النبي، صلّى الله عليه وسلّم، ومعه أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما، قال الرجل: فنهضت إليه بسرور رؤية النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وقلت: يا رسول الله ادع الله تعالى لي، فالتفت لأبي بكر، رضي الله تعالى عنه، وقال: يا أبا بكر، أعطه، فإذا به، رضي الله عنه، قسم رغيفاً كان بيده وأعطاني نصفه، ثم أفاق الرجل من منامه، وأخذه وجدٌ من هذه الرؤيا المباركة، فأيقظ أهله، واستعمل نفسه في العبادة، فلما كان من الغد سار وأتى الشيخ ببعض الطعام ونصف الدراهم المحتسب بها، فلما دفعها للشيخ قال له الشيخ: يا علي، اقرب، فلما قرب قال له: يا علي، لو أتيت بالكل لأخذت منه الرغيف بكامله، انتهى. 120 - أبو عبد الله محمد بن إبراهيم، الشهير بابن غصن الإشبيلي (1) ، من ولد شداد بن أوس الأنصاري، الجزيري، نسبته إلى الجزيرة الخضراء، الإمام، المقرئ، الزاهد، عرض على الأستاذ ابن أبي الربيع الموطّأ من حفظه، وأخذ عنه النحو، وكان من أولياء الله تعالى الصالحين، وعباده الناصحين، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، قوّالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، عارفاً بمتون الحديث وأحكامه، فقيهاً متقناً لمذاهب الأئمة الأربعة والصحابة والتابعين، لا يقبل من أحد شيئاً، مخلصاً لله تعالى، يتكلم على المنبر على عادة أهلا لعلم من تعليم المسائل الدينية، وأقرأ القرآن بمكة مدّة بالقراءات وبالمدينة وبيت المقدس، وممّن قرأ عليه خليل إمام المالكية بالحرم، والشهاب الطبري إمام الحنفية بالحرم، وله مصنفات في القراءات: منها " مختصر الكافي " وكتاب " في معجزات النبي " صلّى الله عليه وسلّم، ومولده سنة 631 تخميناً (2) ،

_ (1) انظر ترجمة ابن غصن في غاية النهاية 2: 47 ولم ينسبه إشبيليا أو جزيريا وإنما قال فيه: القصري السبتي. (2) في غاية النهاية: سنة ثلاث وخمسين وستمائة.

وتوفي ببيت المقدس آخر سنة 723 (1) ، رحمه الله تعالى. 121 - ومنهم الشيخ الفقيه، الأستاذ النحوي التاريخي اللغوي أبو جعفر أحمد بن يوسف الفهري اللّبلي (2) يكنى أبا العباس وأبا جعفر، قرأ بالأندلس على مشايخ من أفضلهم الأستاذ أبو علي عمر الشّلوبين، ثم ارتحل إلى العدوة وسكن بجاية، وأقرأ بها مدّة، وارتحل إلى المشرق فحج، ثم رجع إلى حضرة تونس واتخذها وطناً، واشتغل بها بالإقراء إلى أن مات. كان يتبسط لإقراء سائر كتب العربية، وله علم جليل باللغة، وله تواليف كثيرة: منها (3) على الجمل وشرح الفصيح لثعلب، ولم يشذ فيه شيء من فصيح كلام العرب. قال الغبريني، رحمه الله تعالى: ورأيت له تأليفاً في الأذكار، وله عقيدة في علم الكلام، ورأيت له مجموعاً سمّاه الإعلام بحدود قواعد الكلام تكلم فيه على الكلم الثلاث، الاسم والفعل والحرف، وله تواليف أخر، وكان من أساتيذ إفريقية في وقته، وممّن أخذ عنه، واستفيد منه، انتهى. وذكر الشيخ أبو الطيب ابن علوان التونسي عن والده أحمد التونسي الشهير بالمصري أن للمذكور تأليفاً سمّاه التجنيس، وله شرح أبيات الجمل، سمّاه وشي الحلل رفعه للملك المستنصر الحفصي بتونس، فدفعه المستنصر للأستاذ أبي الحسن حازم، وأمره أن يتعقب عليه ما فيه من خلل وجده، فحكى أبو عبد الله القطان المسفّر - وكان يخدم حازماً - قال: كنت يوماً بدار أبي الحسن حازم وبين يديه هذا الكتاب، فسمعت نقر الباب، فخرجت فإذا بالفقيه أبي جعفر، فرجعت وأخبرت أبا الحسن، فقال مبادراً حتى أدخله وبالغ في بره وإكرامه، فرأى الكتاب بين يده، فقال له: يا أبا الحسن، قال الشاعر:

_ (1) هكذا هو في غاية النهاية أيضاً؛ وفي إحدى نسخ النفح: 722. (2) ترجمته في عنوان الدراية: 211 وبغية الوعاة: 176. (3) بعد لفظة " منها " بياض في ج بقدر كلمة.

شطروعين الرضى عن كلّ عيب كليلة ... فقال له: يا فقيه أبا جعفر، أنت سيدي وأخي، ولكن هذا أمر الملك لا يمكن فيه إلا قول الحق، والعلم لا يحتمل المداهنة، فقال له: فأخبرني بما عثرت عليه، قال له: نعم، فأظهر له المواضع، فسلّمها أبو جعفر وبشرها وأصلحها بخطه. وأصل هذا اللّبلي من لبلة بالأندلس (1) ، اجتمع في رحلته للمشرق بالقاضي ابن دقيق العيد، وكان نحويّاً، فلما دخل عليه اللّبلي قال له القاضي: خير مقدمٍ، ثم سأله بعد حين: بم انتصبت خير مقدم فقال له اللبلي: على المصدر وهو من المصادر التي لا تظهر أفعالها، وقد ذكره سيبويه إلى آخره، فإنه كان يحفظ أكثره، فأكرمه القاضي وعظمه. ثم قال ابن علوان: وذكر والدي أيضاً، رحمه الله تعالى، ومن خطه المبارك نقلت، أن الأستاذ أبا جعفر اللبلي المذكور، رحمه الله تعالى، قرئ عليه يوماً قول امرئ القيس (2) : حيّ الحمول بجانب العزل ... إذ لا يلائم شكلها شكلي فقال لطلبته: ما العامل في هذا الظرف يعني إذ فتنازعوا القول، فقال: حسبكم، قرئ هذا البيت على أستاذنا أبي علي الشّلوبين، فسألنا هذا السؤال، وكان أبو الحسن ابن عصفور قد برع واستقل وجلس للتدريس، وكان الشلوبين يغض منه، فقال لنا: إذا خرجتم فاسألوا ذلك الجاهل، يعني ابن عصفور، فلما خرجنا سرنا إليه بجمعنا، ودخلنا المسجد، فرأيناه قد دارت به حلقة كبيرة، وهو يتكلم بغرائب النحو، فلم نجسر على سؤاله لهبيته،

_ (1) دوزي: قرية بالأندلس، وسقطت " قرية " من ق ط ج. (2) ديوان امرئ القيس: 236.

وانصرفنا، ثم جئنا بعد على عادتنا لأبي علي، فنسي حتى قرئ عليه قول النابغة: فعد عمّا ترى إذ لا ارتجاع له (1) ... فتذكر، وقال: ما فعلتم في سؤال ابن عصفور فصدقنا له الحديث، فأقسم ألاّ يخبرنا ما العامل فيه، ثم قال اللّبلي لطلبته: وأنا أقول لكم مثل ذلك، فانظروا لأنفسكم، قالوا: فنظرنا فإذا المسألة مسألة فحص ونظر، كلما حكمنا بحكم صدتنا عنه قوانين نحوية، حتى مضت مدة طويلة، فوفد علينا بتونس المحروسة أحد طلبة ابن أبي الربيع، وكان ابن أبي الربيع هذا ساكناً بسبتة، وهو أحد طلبة الشلوبين أيضاً، ومن كبار هذه الطبقة التي نشأت بعده، قالوا: فتذاكرنا مع هذا الطالب في مسائل نحوية، فمرت هذه المسألة في قوله تعالى " إذ نسويكم برب العالمين " فقال هذا الطالب إن هذا الظرف وقع موقع لام العلة، فعلمنا أن هذا هو الذي أراد الأستاذ أبو علي، ثم ناقشنا الطالب وقلنا له: إذا جعلته ظرفاً فلا بد من العامل، وإذا جعلته واقعاً موقع الحرف كان هذا على شذوذ قول الكوفيين، والذي يجوز عكسه على مذهب الجميع، وإنما الأولى أن يقال: إذ حرفٌ معناه التعليل تشترك فيه الأسماء والحروف كما اشتركت في عن، والله أعلم بغيبه، انتهى. 122 - أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر ابن فرح القرطبي (2) ، قال الحافظ المقريزي: وفرح بسكون الراء، وقال الحافظ عبد الكريم فيحقه: إنه كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين، الزاهدين في الدنيا المشتغلين بما يعنيهم من أمور الآخرة، فيما بين توجه وعبادة وتصنيف، جمع في تفسير القرآن كتاباً خمسة عشر مجلداً، وشرح أسماء الله الحسنى في

_ (1) عجز البيت: " وانم القتود على عيرانة أجد ". (2) ابن فرح هو صاحب التفسير المشهور بتفسير القرطبي واسمه " جامع أحكام القرآن "؛ انظر ترجمته في الوافي 2: 122 وطبقات المفسرين: 28 (وبروكلمان: التكملة 1: 737) .

مجلدين، وله كتاب التذكرة في أمور الآخرة في مجلدين (1) ، وشرح التقصي، وله تآليف غير ذلك مفيدة، وكان مطّرح التكلف، يمشي بثوب واحد، وعلى رأسه طاقية، سمع من الشيخ أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي صاحب المفهم في شرح مسلم بعض هذا الشرح، وحدث عن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن حفص اليحصبي، وعن الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد البكري وغيرهما، وتوفي بمنية ابن خصيب ليلة الاثنين التاسع من شوال سنة 671، ودفن بها، رحمه الله تعالى. وفي تاريخ الكتبي في حقه ما نصه: كان شيخاً فاضلاً، وله تصاينف مفيدة تدل على كثرة اطلاعه ووفور علمه، منها تفسير القرآن مليح إلى الغاية اثنا عشر مجلداً، انتهى. وكتب بعض تلامذته على الهامش ما صورته: قد أجحف المصنف في ترجمته جدّاً، وكان متفنناً متبحراً في العلم، انتهى. وكتب بعض بإثر هذا الكلام ما نصه: قال الذهبي: رحل وكتب وسمع، وكان يقظاً فهماً حسن الحفظ مليح النظم حسن المذاكرة ثقة حافظاً، انتهى. وكتب آخر إثر ذلك الكلام ما صورته: مشاحة شيخنا للمصنف في هذه العبارة ما لها فائدة، فإن الذهبي قال في تاريخ الإسلام: العلاّمة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أب بكر ابن فرح الإمام القرطبي إما متفنن، متبحر في العلم، له تصانيف مفيدة، تدل على كثرة اطلاعه ووفور عقله وفضله، ثم ذكر موته، وقال بعده: وقد سارت بتفسيره العظيم الشأن الركبان، وله الأسنى في شرح الأسماء الحسنى والتذكرة وأشياء تدل على إمامته وذكائه وكثرة اطلاعه، انتهى. وكتب آخر بإثر هذا الكلام ما نصه: غفر الله لك، إذا كان الذهبي ترجمه بما ذكرت، وهو والله فوق ذلك، فكيف تقول: إن مشاحة شيخك لا فائدة فيها، وتسيء الأدب معه

_ (1) هو المعروف " التذكرة القرطبية " وله مختصر صنعه الشعراني وطبع ببولاق سنة 1300.

وتقول إن لامه لا فائدة فيه فالله يستر عليك، انتهى. 123 - ومنهم أبو القاسم ابن حاضر، الجزيري، الخزرجي، محمد بن أحمد، من جزيرة شقر، قدم مصر، وسكن قوص بعدما كان من عدول بلنسية، وكان فصيحاً، عالماً بصناعة التوريق، وله نظم لم يحضرني الآن شيء منه، ومات بالقاهرة سنة تسع وثلاثين وستمائة، رحمه الله تعالى. 124 - ومنهم أبو القاسم التّجيبي، محمد بن أحمد التّجيبي (1) ، من أهل بلّش، قرأ على ابن مفرّج وابن أبي الأحوص، ورحل فاستوطن القاهرة وكان شيخاً فاضلاً خيّراً، له أدب وشعر، منه قوله من أبيات (2) : أحوى الجفون له رقيبٌ أحول ... الشيء في إدراكه شيئان يا ليته ترك الذي أنا مبصرٌ ... وهو المخيّر في الغزال الثاني ولد ببلّش سنة 623، وتوفي بالحسينية خارج القاهرة سلخ المحرم سنة 695 (3) وممّن روى عنه نحويّ الزمان أثير الدين أبو حيّان وغيره، رحم الله تعالى الجميع. 125 - ومنهم أبو بكر الخزرجي، محمد بن أحمد بن حسن، وقيل: محمد بن عيسى المالقي المالكي (4) ، قال الشريف أبو القاسم: إنه كان أحد الزهاد الورعين، وعباد الله المتقين، مشتغلاً بنفسه، متخلياً (5) عمّا في أيدي الناس، يأكل من كسب يده، ولا يقبل لأحد شيئاً، مع وجد وعمل وفضل وأدب،

_ (1) هو محمد بن أحمد بن حسن بن عامر بن أحمد بن محمد بن حسن التجيبي. انظر ترجمته في الوافي 2: 140. (2) البيتان في الوافي. (3) في ق: 699 وفي دوزي: 694. (4) ترجم له السيوطي في بغية الوعاة: 88 باسم محمد بن عيسى، وهو ينقل عن البدر السافر. (5) ق ط ج: مستخلياً.

ولم يكن في زمانه من اجتمع فيه ما اجتمع له. وقال الحافظ عبد الكريم: إنه دخل إشبيلية، واشتغل بالعربية على الشّلوبين وقرأ القراءات السبع، ثم قدم مصر واشتغل بمذهب مالك، وكان والده نجاراً وكان لا يأكل إلاّ من كسب يده، يخيط الثياب، فازدحم الناس عليه تبركاً به، فترك ذلك وصار يدق القصدير ويأكل منه وتصدق بما فضل عنه، وكان شديد الزهد، كثير العبادة، لا يسلم يده إلى أحد ليقبّلها، وجاءه شخص قد زيد عليه في أجرة مسكنه ليشفع إلى صاحب الدار أن لا يقبل الزائد، فمضى إلى صاحب الدار وأعطاه الزائد مدة أشهر، فعلم بذلك الساكن بعد مدة، فقال له: يا سيدي ما سألت إلاّ شفاعة، وأنت تزن عني (1) ، فقال له: رجل له دار يأخذ أجرتها يجيء إليه الخزرجي يقطع عليه حقه والله ما يدفع هذا إلاّ أنا، فلم يزل يدفع الزائد إلى أن انتقل الساكن إلى غيره، ومات ليلة الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 651، عن خمس وأربعين سنة، ودفن بالقرافة، رحمه الله تعالى، ونفعنا به. 126 - ومنهم أبو بكر محمد بن أحمد بن خليل بن فرج الهاشمي (2) ، مولاهم، لأن ولاءه لبني العباس من أهل قرطبة، ولد في شهر رمضان سنة 322 بقرطبة، وسمع بها من وهب بن مسرة، وخالد بن سعيد (3) وغيره، ورحل فحج وأدرك بمصر ابن الورد وابن رشيق وأبا علي ابن السكن نظراءهم في سنة 349، وعاد إلى بلده، وبها مات في شهر رمضان سنة ست وأربعمائة. قال ابن بشكوال (4) : كان رجلاً صالحاً فاضلاً، من أهل الاجتهاد في العبادة مائلاً إلى التقشف والزهادة، قديم الطلب حسن المذهب متبعاً للسنن.

_ (1) دوزي: وأنت تنقد. (2) ترجمته في الصلة: 470. (3) الصلة: خالد بن سعد. (4) لم يرد هذا في الطبعة المصرية من كتاب الصلة.

127 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سليمان (1) بن أحمد بن إبراهيم الزهري الأندلسي الإشبيلي (2) ، ولد بمالقة، وطاف الأندلس، وطلب العلم، وحصّل طرفاً صالحاً من علم الأدب، ودخل مصر قبل التسعين وخمسمائة فسمع الحديث بها، ودخل الشام وبلاد الجزيرة، وقدم بغداد سنة 590، وعمره ثلاثون سنة، وأقام بها مدة، وسمع من شيوخها كأبي الفرج ابن كليب ونحوه، وقرأ ونسخ بخطه، وسافر إلى أصبهان وبلاد الجبل، وكان فاضلاً حسن المعرفة بالأدب، يقول الشعر، وينشئ المقامات، وصنف كتاب البيان والتبيين في أنساب المحدثين ستة أجزاء، وكتاب البيان فيما أبهم من الأسماء في القرآن مجلد، وكتاب " أقسام البلاغة وأحكام الصناعة " (3) في مجلدين، وكتاب شرح الإيضاح لأبي علي الفارسي في خمسة عشر مجلداً، وكتاب شرح المقامات مجلد، وكتاب " شرح اليميني " (4) في مجلد، قال المنذري: توفي شهيداً قتله التتار في رجب؛ وقال ابن النجار: في سابع عشر رجب سنة 617، رحمه الله تعالى. 128 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الأعلى بن القاسم، القرطبي، المقرئ المعروف بالورشي، نسبة إلى قراءة ورش لاشتهاره بها، وهو أحد القراء المعروفين. قال الحاكم: هو من الصالحين المذكورين بالتقدم في علم القرآن، سمع بمصر والشام والحجاز والعراقين والجبل وأصبهان، وورد نيسابور، ودخل خراسان فسمع علي بن المرزبان بأصبهان، وبالأهواز عبد الواحد ابن خلف الجنديسابوري، وبفارس أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود الرقي،

_ (1) دوزي: سلمان. (2) ترجمته في بغية الوعاة: 11 والوافي 2: 104 والنقل عن ابن النجار. (3) كذلك هو في البغية، أما في الوافي: وأحكام الفصاحة. (4) كتاب في التاريخ للعتبي.

وقال ابن النجار: قدم بغداد، وحدّث بها، توفي بسجستان في ربيع الأول سنة 393. 129 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد الباجي، اللخمي (1) ، قال ابن بشكوال: مولده في صفر سنة 356، وسمع عن جده، ورحل إلى المشرق. وقال ابن غلبون في مشيخته: إنه كان من أهل العلم والحديث والرواية والحفظ للمسائل، قائماً بها، واقفاً عليها، قاعداً للشروط، محسناً لها، عارفاً، وبيتهم بيت علم، ونشأ فيهم هو وأبوه وجده، وكان جميعهم في الفضل والتقدم على درجاتهم في السن، وعلى منازلهم في السبق، وكانت رحلته مع أبيه وروايتهما واحدة، وشاركه في السماع والرواية عن جده، وسمع بمصر على أبي الحسن أحمد بن عبد الله بن حميد بن رزيق المخزومي. وقال ابن بشكوال: كان من أجلّ الفقهاء عندنا دراية ورواية، بصيراً بالعقود، ومتقدماً على أهل الوثائق (2) ، عارفاً بعللها، وألّف فيها كتاباً حسناً، وكتاباً في السجلات إلى ما جمع فيه من أقوال الشيوخ والمتأخرين، مع ما كان عليه من الطريقة المثلى، وتوفية العلم حقه من الوفاء والتصون، توفي في المحرم سنة 433 لعشرين بقين منه. 130 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز، العتبي، الأندلسي، القرطبي، الفقيه المالكي المشهور، صاحب العتبيّة (3) ، سمع بالأندلس من يحيى بن يحيى وسعيد ين حسان وغيرهما، ورحل إلى المشرق فسمع من سحنون وأصبغ بن الفرج وغيرهما، وكان حافظاً للمسائل، جامعاً لها، عالماً بالنوازل، وهو الذي جمع المستخرجة من الأسمعة المسموعة غالباً من مالك

_ (1) ترجمته في الصلة: 495. (2) الصلة: متقدماً في علم الوثائق. (3) ترجمته في جذوة المقتبس: 36 (وبغية الملتمس رقم: 9) وابن الفرضي 2: 8 والوافي 2: 30.

ابن أنس، وتعرف بالعتبية، وأكثر فيها من الروايات المطوحة والمسائل الغريبة الشاذة، وكان يؤتى بالمسألة الغريبة الشاذة فإذا سمعها قال: أدخلوها في المستخرجة، ولذا روي عن ابن وضاح أنه كان يقول: المستخرجة فيها خطأ كثير، كذا قال، ولكن الكتاب وقع عليه الاعتماد من أعلام الملكية كابن رشد وغيره. قال ابن يونس: توفي بالأندلس سنة 255. والعتبي: نسبة إلى عتبة بن أبي سفيان ابن حرب، وقيل: إلى جد للمذكور يسمى عتبة، وقيل: إلى ولاء عتبة بن أبي يعيش. 131 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن زكريا المعافري، المقرئ، الفرضي، الأديب، ولد بالأندلس سنة 591، ونشأ ببلنسية، وأقام بالإسكندرية، وقرأ القرآن على أصحاب ابن هذيل، ونظم قصيدة في القراءات على وزن الشاطبية، لكن أكثر أبياتاً، وصرح فيها بأسماء القراء، ولم يرمز كما فعل الشاطبي، وكانت له يد في الفرائض والعروض، مع معرفة القراءات والأدب. ومن شعره: إذا ما اشترت بنتٌ أباها فعتقها ... بنفس الشرا شرعاً عليها تأصّلا وميراثه إن مات من غير عاصب ... ومن غير ذي فرضٍ لها قد تأثلا لها النصف بالميراث والنصف بالولا ... فإن وهب ابناً أو شرّاه تفضلا فأعتق شرعاً ذلك الابن ما لها ... سوى الثلث، والثلثان للأخ أصلا وميراثها فيه إذا مات قبلها ... كميراثها في الأب من قبل يجتلى ومولى أبيها ما لها الدهر فيه من ... ولاء ولا إرث مع الأب فاعتلى وهذه المسألة ذكر الغزالي في الوسيط أنه قضى فيها أربعمائة قاضٍ وغلطوا وصورتها ابنة اشترت أباها فعتق عليها، ثم اشترى الأب ابناً فعتق عليه، ثم

اشترى الأب عبداً فأعتقه، ثم مات الأب، فورثه الابن والبنت للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم مات العبد المعتق، فلمن يكون ولاؤه وفرضها المالكية على غير هذا الوجه وهي مشهورة. 132 - ومنهم محمد بن أحمد بن محمد بن سهل، أبو عبد الله الأموي، الأندلسي، الطّليطلي، المعروف بالنقاش، نزل مصر، وقعد للإقراء بجامع عمرو بن العاص، وأخذ عنه جماعة، وتوفي بمصر سنة 529. 133 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد القيسي، القبري القرطبي، المؤدب (1) ، رحل من الأندلس سنة 342، فسمع بمصر من أبي محمد ابن الورد وأبي قتيبة مسلم بن الفضل البغدادي وغيره، وكان صالحاً خيّراً مؤدباً، سمع الناس منه كثيراً (2) ، وتوفي سنة 362. والقبري - بفتح القاف، وسكون الباء الموحدة، ثم راء مهملة - نسبة إلى قبرة بلدٍ بالأندلس بقرب قرطبة بنحو ثلاثين ميلاً. 134 - ومنهم جمال الدين أبو بكر الوائلي، محمد بن أحمد بن محمد ابن عبد الله بن سجمان (3) ، الشريشي، المالكي (4) ، ولد بشريش سنة 601، ورحل فسمع بالإسكندرية من ابن عماد (5) الحراني، وبدمشق من مكرم بن أبي الصقر، وبحلب من أبي البقاء يعيش بن علي النحوي، وسمع بإربل وبغداد، وأقام بالمدرسة الفاضلية من القاهرة مدة يفيد الناس فتخرّج به جماعة، وولي مشيخة المدرسة بالقدس، ومشيخة الرباط الناصري بالجبل، وأقام بدمشق يفتي

_ (1) ترجمته في ابن الفرضي 2: 74. (2) في ط ق ج: سمع من الناس، والتصويب عن ابن الفرضي. (3) ضبطه السيوطي: بضم السين المهملة وسكون الحاء أي " سحمان ". (4) انظر ترجمته في بغية الوعاة: 18. (5) في الأصول: ابن عمار.

ويدرّس، وكان من العلماء الزهاد كثير العبادة والورع والزهد، أحد الأئمة المبرزين المتبحرين في العربية والفقه على مذهب الإمام مالك، والتفسير، والأصول، وصنّف كتاباً في الاشتقاق، وشرح ألفية ابن معطي، وأخذ عنه الناس، وطلب للقضاء بدمشق فامتنع منه زهاداً وورعاً، وبقي المنصب لأجله شاغراً إلى أن مات برجب سنة 685، ودفن بقاسيون. وسجمان: بسين مهملة مضمومة، ثم جيم ساكنة، بعدها ميم مفتوحة، ونون. 135 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يحيى بن مفرّج القرطبي، المعروف والده بالقنتوري (1) ، وكان جد أبيه مفرج صاحب الركاب للحكم بن عبد الرحمن الداخل، وكان أبوه أحمد بن يحيى رجلاً صالحاً، وولد هو سنة 315 (2) ، وكان سكناه بقرطبة بقرب عين قنت أورية، وسمع بقرطبة من قاسم ابن أصبغ كثيراً، ومن ابن أبي دليم والخشني، ورحل سنة 337 فسمع بمكة من ابن الأعرابي، ولزمه حتى مات، وسمع بها من جماعة غيره، وسمع بجدة، وبالمدينة النبوية على ساكنها الصلاة والسلام، ودخل صنعاء وزبيد وعدن سمع بها من جماعة، وسمع بمصر من البرقي صاحب أحمد البزار، وسمع من السيرافي وجماعة كثيرة، وسمع بغزّة وعسقلان وطبرية ودمشق وطرابلس وبيروت وصيدا والرملة وصور وقيسارية والقلزم والفرما والإسكندرية، فبلغت عدة شيوخه إلى مائتين وثلاثين شيخاً، وروى عنه أبو عمر الطلمنكي وجماعة، وكتب تاريخ مصر عن مؤلفه أبي سعيد ابن يونس، وروى عنه ابن يونس وهو من أقرانه، وعاد إلى الأندلس من رحلته سنة 345، واتصل بالحكم المستنصر، وصارت له عنده مكانة، وألّف له عدة كتب، واستقضاه على

_ (1) انظر ترجمته في جذوة المقتبس: 38 (وبغية الملتمس رقم: 14) وابن الفرضي 2: 93. (2) في أصول النفح: 325؛ والتصويب عن ابن الفرضي؛ وقد اتفقت المصادر على أن رحلته سنة 337، وهذا يعني أنه رحل وهو ابن اثنتي سنة إذا قلنا إنه ولد سنة 325 وهو أمر متسبعد.

إستجة ثم على المريّة، ومات برجب سنة 348 (1) . قال الحميدي: هو محدّث، حافظ جليل، صنف كتباً في فقه الحديث، وفي فقه التابعين: فمنها فقه الحسن البصري في سبع مجلدات، وفقه الزهري في أجزاء كثيرة، وسمع مسند ابن افرضي وحديث قاسم بن أصبغ. قال ابن الفرضي: وكان عالماً بالحدث، بصيراً برجاله، صحيح النقل حافظاً، جيد الكتابة على كثرة ما جمع. وقال ابن عفيف في حقه: إنه كان من أعنى الناس بالعلم، وأحفظهم للحديث وأبصرهم بالرجال، ما رأيت مثله في هذا الفن، من أوثق المحدثين بالأندلس، وأصحهم كتباً، وأشدهم تعباً لروايته، وأجودهم ضبطاً لكتبه، وأكثرهم تصحيحاً لها، لا يدع فيها شبهة، رحمه الله تعالى. 136 - ومنهم أبو عبد الله القيسي الوضاحي، محمد بن أحمد بن موسى (2) ، رحل من المغرب، وسمع من السّلفي وغيره جملة صالحة، ثم عاد إلى الأندلس بعد الحج، وسكن المرية مدة وبها مات سنة 539، وقيل: في التي بعدها، وكان من أظرف الناس، وأحسنهم أدباً، فقيهاً، فاضلاً، ثقة، ذا فرائد جمة، عفيفاً، معتنياً بالعلم. 137 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى بن هذيل، العبدري، البلنسي (3) ، ولد سنة 519، وسمع من أبيه وجماعة، ورحل حاجّاً فسمع من السّلفي وابن عوف (4) والحضرمي والتنوخي والعثماني وغيرهم،

_ (1) ذكر ابن الفرضي أنه توفي سنة ثمانين وثلاثمائة وهذا هو المعقول إذ أن المستنصر لا يستقضيه قبل سنة 350 وهي السنة التي تولى فيها الحكم. (2) ترجمة الوضاحي في أخبار وتراجم أندلسية: 115 - 116. (3) رجمة ابن هذيل في الذيل والتكملة: 24 (نسخة باريس) وقال فيه مرباطري، وذكر أنه توفي بمربيطر سنة 593 وانظر كذلك التكملة: 552 وإنما نسب إلى بلنسية لأنه من أبيشة وهي من ثغور بلنسية. (4) ق: وابن عون؛ وهو خطأ.

ورجع بعد الحج إلى الأندلس فحدّث، وكان غاية في الصلاح والورع وأعمال البر، وله حظ من علم العبارة، ومشاركة في اللغة، وكتب بخطه على ضعفه كثيراً، رحمه الله تعالى. 138 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن نوح الإشبيلي، ومولده سنة إحدى وثلاثين وستمائة بإشبيلية، وجال في بلاد المغرب والمشرق، وقرأ على الشيوخ الفضلاء، وحصّل كثيراً في علم القرآن والأدب، وله نظم ونثر، وكان كثير التلاوة للقرآن، جيد الأداء له، وأقام بدمشق حتى مات بها سنة 699، رحمه الله تعالى. 139 - ومنهم محمد بن أسباط، المخزومي القرطبي (1) ، روى عن يحيى ابن يحيى، وقدم مصر فسمع من الحارث بن مسكين، وكان حافظاً للفقه، عالماً، توفي سنة 279. 140 - ومنهم أبو بكر محمد بن إسحاق، الشهير بابن السليم (2) ، قاضي الجماعة بقرطبة مولده سنة 306، روى عن قاسم بن أصبغ وطبقته، ورحل سنة 332، فسمع بمكة من ابن الأعرابي، وبمصر من الزبيريّ وابن النحاس وغيرهما، وعاد إلى الأندلس فأقبل على الزهد ودراسة العلم، وحدث، فسمع منه الناس، وكان حافظاً للفقه، بصيراً بالاختلاف، حسن الخط والبلاغة متواضعاً، وتوفي بجمادى الأولى سنة 367. وسليم بفتح السين مكبراً. 141 - ومنهم موسى بن بهيج المغربي الأندلسي الواعظ الفقيه العالم،

_ (1) ترجمته في ابن الفرضي 2: 13. (2) ترجمة القاضي ابن السليم في جذوة المقتبس: 40 (وبغية الملتمس رقم: 75) وابن الفرضي 2: 79 والمرقبة العليا: 75.

من أهل المرية، نزل مصر، يكنى أبا عمران، كان من أهل العلم والأدب، وله في الزهد وغيره أشعار حملت عنه، وحدث المرشاني عنه بمخمّسة في الحج وأعماله كلها، ولقيه بمصر وقرأها عليه. ولابن بهيج هذا قوله: إنّما دنياك ساعه ... فاجعل الساعة طاعه واحذر التقصير فيها ... واجتهد، ما قدره ساعه وإذا أحببت عزّاً ... فالتمس عزّ القناعه 142 - ومنهم أبو عمران موسى بن سعادة (1) ، مولى سعيد بن نصر (2) ، من أهل مرسية (3) ، سمع صهره أبا علي ابن سكرة الصّدفي، وكانت بنته عند أبي علي، ولازمه وأكثر عنه، وروى عن أبي محمد ابن مفوّز الشاطبي وأبي الحسن ابن شفيع، قرأ عليهما الموطأ، ورحل، وحج، وسمع السنن من الطرطوشي، وعني بالرواية، وانتسخ صحيحي البخاري ومسلم بخطه، وسمعهما على صهره أبي علي، وكانا أصلين لا يكاد يوجد في الصحة مثلهما، حكى الفقيه أبو محمد عاشر بن محمد أنهما سمعا على أبي علي نحو ستين مرة، وكتب أيضاً الغريبين للهروي، وغير ذلك، وكان أحد الأفاضل الصّلحاء، والأجواد السّمحاء، يؤم الناس في صلاة الفريضة، وتولى القيام بمؤن صهره أبي علي وبما يحتاج إليه من دقيق الأشياء وجليلها، وإليه أوصى عند توجّهه إلى غزوة كتندة التي فقد فيها سنة أربع عشرة وخمسمائة، وكانت له مشاركة في علم اللغة والأدب، وقد حدث عنه ابن أخيه القاضي أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة بكتاب أدب الكتّاب لابن قتيبة، وبالفصيح لثعلب.

_ (1) ترجمة موسى بن سعادة في معجم شيوخ الصدفي: 188. (2) كان سعيد بن نصر مولى أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر. (3) أصله من بلنسية ولكنه خرج منها عندما استولى عليها الروم سنة 486 فانتقل إلى دانية ثم إلى مرسية.

143 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن طاهر، الأزدي (1) ، من أهل وادي آش، له رحلة إلى المشرق أدى فيها الفريضة، وسمع بدمشق من أي طاهر الخشوعي مقامات الحريري وابن عساكر وغيرهما، ثم قفل إلى بلده، انتهى ملخصاً من ابن الأبار. وحكى الصفدي (2) أن ابن المستكفي اجتمع بالمتنبي بمصر، وروى عنه شيئاً من شعره، وممّا روى عنه أنه قال: أنشدني المتنبي لنفسه: لاعبت بالخاتم إنسانةً ... كمثل بدر في الدّجى الفاحم وكلّما حاولت أخذي له ... من البنان المترف الناعم ألقته في فيها فقلت: انظروا ... يقد خبّت الخاتم في الخاتم (3) 144 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق أبو عبد الله ابن مالك (4) ، صاحب التسهيل والألفية، وهو: جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله ابن مالك الإمام العلامة الأوحد الطائي الجياني المالكي حين كان بالمغرب، الشافعي حين انتقل إلى المشرق، النحوي، نزيل دمشق. ولد سنة ستمائة أبو في التي بعدها، وسمع بدمشق من مكرم وأبي صادق الحسن بن صبّاح وأبي الحسن السخاوي وغيرهم، وأخذ العربية عن غير واحد، فممن أخذ عنه بجيّان أبو المظفر، وقيل: أبو الحسن، ثابت بن خيار، عرف بابن الطيلسان، وأبي رزين ابن ثابت بن محمد بن يوسف بن خيار الكلاعي

_ (1) هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، انظر التكملة: 875 وقال ابن الأبار إنه وقف على خطه بالسماع منه والإجازة في ذي القعدة سنة 599. (2) لا أدري علاقة هذا النص بما قبله. ولعله: وحكى [عنه] الصفدي ... (3) عند هذا الحد تنتهي نسخة ط وقد جاء في آخرها: " انتهى الجزء الأول من كتاب نفح الطيب ... الخ، يتلوه إن شاء الله في أول الثاني: ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق أبو عبد الله ابن مالك ". (4) ترجمة ابن مالك في الوافي 3: 359 والفوات 2: 452 وغاية النهاية 2: 180 وبغية الوعاة: 53.

من أهل لبلة، وأخذ القراءات عن أبي العباس أحمد بن نوّار، وقرأ كتاب سيبويه على أبي عبد الله ابن مالك المرشاني، وجالس يعيش وتلميذه ابن عمرون وغيره بحلب، وتصدّر بها لإقراء العربية، وصرف همته إلى إتقان لسان العرب، حتى بلغ فيه الغاية، وأربى على المتقدمين، وكان إماماً في القراءات، وعالماً بها، وصنف فيها قصيدة دالية مرموزة في قدر الشاطبية، وأما اللغة فكان إليه المنتهى فيها. قال الصفدي: أخبرني أبو الثناء محمود قال: ذكر ابن مالك يوماً ما انفرد به صاحب المحكم عن الأزهري في اللغة، قال الصفدي: وهذا أمر معجز، لأنه يحتاج إلى معرفة جميع ما في الكتابين (1) ، وأخبرني عنه أنه كان إذا صلّى في العادلية - لأنه كان إمام المدرسة - يشيعه قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان إلى بيته تعظيماً له. وقد روى عنه الألفية شهاب الدين محمود المذكور، ورواها الصفدي خليل عن شهاب الدين محمود قراءة، ورواها إجازةً عن ناصر الدين شافع بن عبد الظاهر وعن شهاب الدين بن غانم بالإجازة عنهما عنه. وأما النحو والتصريف (2) فكان فيهما ابن مالك بحراً لا يشق لجّه، وأما اطلاعه على أشعار العرب التي يستشهد بها على النحو واللغة فكان أمراً عجيباً، وكان الأئمة الأعلام يتحيرون في أمره، وأما الاطلاع على الحديث فكان فيه آية، لأنه أكثر ما يستشهد بالقرآن، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى الحديث، وإن لم يكن فيه شيء (3) عدل إلى أشعار العرب، هذا مع ما هو عليه من الدين والعبادة وصدق اللهجة، وكثرة النوافل، وحسن السّمت، وكمال العقل،

_ (1) الوافي: لأنه يريد ينقل الكتابين. (2) النقل عن الصفدي أيضاً. (3) دوزي: شاهد.

وأقام بدمشق مدة يصنف ويشتغل بالجامع وبالتربة العادلية، وتخرج به جماعة، وكان نظم الشعر عليه سهلاً رجزه وطويله وبسيطه، وصنف كتاب تسهيل الفوائد، قال الصفدي (1) : ومدحه سعد الدين محمد بن عربي بأبيات مليحة إلى الغاية، وهي: إن الإمام جمال الدين جمّله ... ربّ العلا ولنشر العلم أهّله أملى كتاباً له يسمى " الفوائد " لم ... يزل مفيداً لذي لبٍّ تأمله وكلّ مسألة في النحو يجمعها ... إن الفوائد جمع لا نظير له قال: وفي هذه الأبيات مع حسن التورية فيها ما لا يخلو من إيراد ذكرته في كتابي " فض الختام (2) "، انتهى. قلت: أجاب العجيسي عن ذلك بأن الأبيات ليست في التسهيل، وإنما هي في كتاب له يسمى " الفوائد " وهو الذي لخصه في " التسهيل "، فقوله في اسم التسهيل تسهيل الفوائد معناه تسهيل هذا الكتاب، وذكر أيضاً أنه مثل التسهيل في القدر على ما ذكره من وقف عليه، وقال: وإليه يشير سعد الدين محمد بن عربي بقوله إن الإمام - إلى آخره وسعد الدين ابن الشيخ محيي الدين صاحب الفصوص وغيرها. ثم قال العجيسي: وذكر غير واحد من أصحابنا أن له كتاباً آخر سمّاه بالمقاصد، وضمّنها تسهيله، فسماه لذلك تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد فعلى هذا لا يصح قول الصفدي: إن المدح المذكور في التسهيل، إلاّ بارتكاب ضرب من التأويل، انتهى كلام العجيسي. قلت: وذكر غيره أن قوله في الألفية " مقاصد النحو بها محوية " إشارة لكتاب المقاصد، وتعقب بقوله محوية فإنه لو كان كما ذكر لقال محويّ،

_ (1) الوافي: 360. (2) في الأصول ودوزي: فص الخاتم؛ والمراد كتابه " فض الختام عن التورية والاستخدام ".

وأجاب بعضهم بأنه من باب الاستخدام، وفيه تعسف. رجع - من تصانيف ابن مالك " الموصل في نظم المفصل " وقد حل هذا النظم فسماه " سبك المنظوم وفك المختوم " ومن قال " إن اسمه فك المنظوم وسبك المختوم " فقد خالف النقل والعقل، ومن كتب ابن مالك كتاب " الكافية الشافية " ثلاثة آلاف بيت، وشرحها، و " الخلاصة " وهي مختصر الشافية، و " إكمال الإعلام بمثلث الكلام " وهو مجلد كبير كثير الفوائد يدل على اطلاع عظيم، و " لامية الأفعال " وشرحها، و " فعل وأفعل "، و " المقدمة الأسدية " وضعها باسم ولده الأسد، و " عدّة اللافظ وعمدة الحافظ "، و " النظم الأوجز فيما يهمز "، و " الاعتضاد في الظاء والضاد " مجلد، وإعراب مشكل البخاري، و " تحفة المودود في المقصور والممدود " وغير ذلك كشرح التسهيل، وروى عنه ولده بدر الدين محمد، وشمس الدين بن جعوان، وشمس الدين بن أبي الفتح، وابن العطار، وزين الدين أبو بكر المزّي، والشيخ أبو الحسين اليونيني، وأبو عبد الله الصيرفي، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وشهاب الدين محمود، وشهاب الدين بن غانم، وناصر الدين بن شافع، وخلق كثير سواهم. ومن نظمه في الحلبة: خيل السباق المجلّي يقتفيه مص ... لٍّ والمسلّي وتعالٍ قبل مرتاح وعاطفٌ وحظيٌّ والمؤمّل وال ... لطيم والفسكل السّكيت يا صاح وله من هذه الضوابط شيء كثير. وكان يقول عن الشيخ ابن الحاجب: إنه أخذ نحوه من صاحب المفصل، وصاحب المفصل نحوه صغيرات، وناهيك بمن يقول هذا في حق الزمخشري. وكان الشيخ ركن الدين بن القوبع يقول: إن ابن مالك ما خلّى للنحو حرمة. وحكي عنه أنه كان يوماً في الحمّام وقد اعتزل في مكان يستعمل فيه الموسى، فهجم عليه فتى فقال: ما تصنع فقال: أكنس لك الموضع للقعود، قال

بعضهم: وهذا ممّا يستبعد على دين ابن مالك، والعهدة على ناقله، قال الصفدي: ولا يستبعد ذلك من لطف النحاة وطباع أهل الأندلس. وتوفي ابن مالك بدمشق سنة اثنتين وسبعين وستمائة. وقال بعضهم: من أحسن شعر ابن مالك قوله: إذا رمدت عيني تداويت منكم ... بنظرة حسن أو بسمع كلام فإن لم أجد ماء تيممت باسمكم ... وصليت فرضي والديار أمامي وأخلصت تكبيري عن الغير معرضا ... وقابلت أعلام السوى بسلام ولم أر إلا نور ذاتك لائحا ... فهل تدع الشمس امتداد ظلام وقدم - رحمه الله تعالى - القاهرة، ثم رحل إلى دمشق، وبها مات كما علم. وقال الشرف الحصيني يرثيه (1) : يا شتات الأسماء والأفعال ... بعد موت ابن مالك المفضال وانحراف الحروف من بعد ضبط ... منه في الانفصال والاتصال مصدرا كان للعلوم بإذن ال ... له من غير شبهة ومحال عدم النعت (2) والتعطف والتو ... كيد مستبدلا من الأبدال ألم إعتراه أسكن منه ... حركات كانت بغير اعتلال يا لها سكتة لهمز قضاء ... أورثت طول مدة الانفصال رفعوه في نعشه فانتصبا ... نصب تمييز، كيف سير الجبال فخموه عند الصلاة بدل ... فأمليت أسراره للدلال صرفوه يا عظم ما فعلوه ... وهو عدل معرف بالجمال أدغموه في الترب من غير مثل ... سالما من تغير الإنتقال

_ (1) وردت في الفوات والوافي وبغية الوعاة. (2) في ق ج ودوزي: النحو.

وقفوا عند قبره ساعة الدف ... ن وقوفا ضرورة الإمتثال ومددنا الأكف نطلب قصرا ... مسكنا للنزيل من ذي الجلال آخر الآي من سبا الحظ منه (1) ... حظه جاء أول الأنفال يا بيان الإعراب (2) يا جامع الإغ ... راب يا مفهما لكل مقال يا فريد الزمان في النظم والنث ... ر وفي نقل مسندات العوالي كم علوم بثثتها في أناس ... علموا ما بثثت (3) عند الزوال انتهت ملخصة. قال الصفدي: وما رأيت مرثية في نحوي أحسن منها على طولها، انتهى. ودفن ابن مالك بسفح قاسيون، بتربة القاضي عز الدين ابن الصائغ، وقال العجيسي: بتربة ابن جعوان. ورثاه الشيخ بهاء الدين ابن النحاس بقوله (4) : قل لابن مالك أن جرت بك أدمعي ... حمراً يحاكيها النّجيع القاني فلقد جرحت القلب حين نعيت لي ... وتدفقت بدمائه أجفاني لكن يهوّن ما أجنّ من الأسى ... علمي بنقلته إلى رضوان فسقى ضريحاً ضمّه صوب الحيا ... يهمي به بالرّوح والرّيحان وابن النحاس المذكور أحد تلامذة ابن مالك، وهو القائل يخاطب رضي الدين الشاطبي الأندلسي، وقد كلفه أن يشتري له قطراً: أيها الأوحد الرضيّ الذي طا ... ل علاءً وطاب في الناس نشرا أنت بحرٌ لا غرو إن نحن وافي ... ناك راجين من نداك القطرا

_ (1) الوافي: حظنا منه. (2) ج ودوزي: يا لسان الأعراب. (3) ق ودوزي: ما ثنيت. (4) انظر البغية: 57.

وابن النحاس المذكور له نظم كثير مشهور بين الناس، وهو: بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن نصر، الحلبي الأصل، المعروف بابن النحاس، وهو شيخ أبي حيّان، ولم يأخذ أبو حيّان عن ابن مالك وإن عاصره بنحو ثلاثين سنة. وقال بعض من عرّف بابن مالك: إنه تصدر بحلب مدة، وأمّ بالسلطانية، ثم تحول إلى دمشق، وتكاثر عليه الطلبة، وحاز قصب السبق، وصار يضرب به المثل في دقائق النحو، وغوامض الصرف، وغريب اللغات، وأشعار العرب، مع الحفظ والذكاء والورع والديانة وحسن السّمت والصيانة والتحري لما ينقله والتحرير فيه، وكان ذا عقل راجح، حسن الأخلاق مهذباً، ذا رزانة وحياء ووقار، وانتصاب للإفادة، وصبر على المطالعة الكثيرة، تخرج به أئمة ذلك الزمان كابن المنجي وغيره، وسارت بتصانيفه الرّكبان، وخضع لها العلماء الأعيان، وكان حريصاً على العلم، حتى إنه حفظ يوم موته ثمانية شواهد. وقال بعض الحفاظ حين عرّف بابن مالك: يقال إن عبد الله في نسبه مذكور مرتين متواليتين، وبعض يقول: مرة واحدة، وهو الموجود بخطه أول شرحه لعمدته، وهو الذي اعتمده الصفدي وابن خطيب داريّا محمد بن أحمد بن سليمان الأنصاري، وعلى كل حال فهو مشهور بجدّه في المشرق والمغرب. وحكى بعضهم أن ولادته سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وعليه عوّل شيخ شيوخ شيوخنا ابن غازي في قوله: قد خبع ابن مالك في خبعا ... وهو ابن عه وكذا وعى من قد وعى (1) وقيل، كما تقدم: إن مولده سنة ستمائة أو بعدها بجيّان الحرير مدينة من مدن الأندلس جبر الله كسرها - وهي مفتوحة الجيم وياؤها مشددة تحتانية - وتصدّر ابن مالك بحماة مدة، وانتقد بعضهم على ابن خلكان إسقاطه من تاريخه،

_ (1) يريد أن مقدار حروف " خبع " في حساب الجمل يساوي 673 وهي سنة وفاته، وعه 75.

مع كونه كان يعظمه إلى الغاية، وقدّم، رحمه الله تعالى، لصاحب دمشق قصة يقول فيها عن نفسه: إنه أعلم الناس بالعربية والحديث، ويكفيه شرفاً أن من تلامذته الشيخ النووي (1) ، والعلم الفارقي، والشمس البعلي، والزين المزّي، وغيرهم ممن لا يحصى. وكان، رحمه اله تعالى، كثير المطالعة، سريع المراجعة، لا يكتب شيئاً من محفوظه حتى يراجعه في محله، وهذه حالة المشايخ الثقات، والعلماء الأثبات، ولا يرى إلا وهو يصلي أو يتلو أو يصنف أو يقرأ، وكذا كان الشيخ أبو حيّان، ولكن كان جدّه في التصنيف والإقراء. وحكي أنه توجه يوماً مع أصحابه للفرجة بدمشق، فلما بلغوا الموضع الذي أرادوه غفلوا عنه بسويعة، فطلبوه فلم يجدوه، ثم فحصوا عنه فوجدوه منكبّاً على أوراق. وأغرب من هذا في اعتنائه بالعلم ما مر أنه حفظ يوم موته عدة أبيات حدّها بعضهم بثمانية، وفي عبارة بعض أو نحوها لقنه ابنه إياها، وهذا ممّا يصدق ما قيل: بقدر ما تتعنى، تنال ما تتمنى، فجزاه الله خيراً عن هذه الهمة العلية. وذكر أبو حيان في الجوازم من تذييله وتكميله، أنه لم يصحب من له البراعة في علم اللسان، ولذا تضعف استنباطاته وتعقّباته على أهل هذا الشان، وينفر من المنازعة، والمباحثة والمراجعة، قال: وهذا شأن من يقرأ بنفسه، ويأخذ العلم من الصحف بفهمه، ولقد طال فحصي وتنقيري عمّن قرأ عليه، واستند في العلم إليه، فلم أجد من يذكر لي شيئاً من ذلك، ولقد جرى يوماً مع صاحبنا تلميذه علم الدين سليمان بن أبي حرب الفارقي الحنفي فقال: ذكر لنا أنه قرأ على ثابت بن خيار من أهل بلده، جيّان، وأنه جلس في حلقة

_ (1) ق ج ودوزي: النوري.

الأستاذ أبي علي الشلوبين نحواً من ثلاثة عشر يوماً، وثابت بن خيار ليس من أهل الجلالة والشهرة في هذا الشأن، وإنما جلالته وشهرته في إقراء القرآن، هذا حاصل ما ذكره أبو حيّان. قال بعض المحققين، وهو العلامة يحيى العجيسي: وليس ذلك منه بإنصاف ولا يحمل على مثله إلاّ هوى النفس وسرعة الانحراف، فنفيه المسند عنه والمتبع، شهادة نفي فلا تنفع ولا تسمع، ويكفي ما سطر في حقه قوله في أثنائه: نظم في هذا العلم كثيراً ونثر، وجمع باعتكاف على الاشتغال به ومراجعة الكتب ومطالعة الدواوين العربية وطول السن من هذا العلم غرائب، وحوت مصنفاته منها نوادر وعجائب، وإن منها كثيراً استخرجه من أشعار العرب وكتب اللغة إذ هي مرتبة الأكابر النقاد، وأرباب النظر والاجتهاد، وقوله في موضع آخر من تذييله لا يكون تحت السماء أنحى ممّن عرف ما في تسهيله وقرنه في بحره بمصنف سيبويه فما ينبغي له أن يغمصه، ولا أن يحط عليه، ولا أن يقع فيما وقع فيه، فإنه ممّا يجرّئ على أمثاله الغبي والنبيه، والحليم والسفيه، وما هذا جزاء السلف من الخلف، والدّرر من الصدف، والجيد من الحشف، أوما ينظر إلى شيخه أبي عبد الله ابن النحاس، فإنه لا يذكره إلاّ بأحسن ذكر كما هو أدب خيار الناس، ومن كلامه في نقله عنه: وهو الثقة فيما ينقل والفاضل حين يقول، وإلى تلميذه أبي البقاء المصري حيث يقول فيه، أعني في أبي حيّان: هو الأوحد الفرد الذي تمّ علمه ... وسار مسير الشمس في الشرق والغرب ومن غاية الإحسان مبدأ فضله ... فلا غرو أن يسمو على العجم والعرب ومن غاية الإحسان، في هذا الشان، التصانيف التي سارت بها الرّكبان، في جميع الأوطان، واعترف بحسنها الحاضر والبادي، والداني والقاصي، والصديق والعدو، فتلقّاها بالقبول والإذعان فسامح الله تعالى أبا حيّان، فإن

كلامه يحقق قول القائل: كما تدين تدان، ورحم الله تعالى ابن مالك، فلقد أحيا من العلم رسوماً دارسة، وبيّن معالم طامسة، وجمع من ذلك ما تفرق، وحقق ما لم يكن تبين منه ولا تحقق، ورحم شيخه ثابت بن الخيار، فإنه كان من الثقات الأخيار، وهو أبو المظفر ثابت بن محمد بن يوسف بن الخيار الكلاعي - بضم الكاف على ما كان يضبط بيده فيما حكاه ابن الخطيب في الإحاطة - وأصله من لبلة، وبعد في أهل جيّان، وتوفّي بغرناطة سنة 628. وكان أبو حيّان يغض من هذا الكتاب ويقول: ما فيه من الضوابط والقواعد حائد عن مهيع الصواب والسداد، وكثيراً ما يشير إلى ذلك في شرحه المسمى منهج السالك ومن غضّه منه بالنظم في ملإ من الناس من جملتهم شيخه بهاء الدين ابن النحاس والأقسراني يجاريه مقتفياً له ومتأسياً في تسويد القرطاس: ألفية ابن مالك ... مطموسة المسالك وكم بها مشتغل ... أوقع في المهالك ولا تغتر أنت بهذا الغرر، فإنه ما كل سحاب أبرق مطر، ولا كل عود أورق ثمر، وقيل معارضة للقوم، وتنبيهاً لهم ممّا هم فيه من النوم: ألفية ابن مالك ... مشرقة المسالك وكم بها من مشغلٍ ... علا على الأرائك وما أحسن قول ابن الوردي في هذا المعنى: يا عائباً ألفيّة ابن مالك ... وغائباً عن حفظها وفهمها أما تراها قد حوت فضائلاً ... كثيرة فلا تجر في ظلمها وازجر لمن جادل من يحفظها ... برابع وخامس من اسمها يعني " صه " فإنه عند الاستقلال بمعنى اسكت، انتهى ملخصاً.

قال أيضاً عند ذكره مصنفات ابن مالك: وهي كما قيل غزيرة المسائل، ولكنها على الناظر بعيدة الوسائل، وهي مع ذلك كثيرة الإفادة، موسومة بالإجادة، وليست لمن هو في هذا الفن في درجة ابتدائه، بل للمتوسط يترقى بها درجة انتهائه، انتهى. واعلم أن الألفية مختصرة الكافية كما تقدم، وكثير من أبياتها فيها بلفظها، ومتبوعه فيها ابن معطي، ونظمه أجمع وأوعب، ونظم ابن معطي أسلس وأعذب، وذكر الصفدي عن الذهبي أن ابن مالك صنف الألفية لولده تقي الدين محمد المدعو بالأسد، واعترضه العلامة العجيسي بأن الذي صنفه له عن تحقيق المقدمة الأسدية قال: وأما هذه - يعني الألفية - فذكر لي من أثق بقوله أنه صنفها برسم القاضي شرف الدين هبة الله بن نجم الدين عبد الرحيم بن شمس الدين بن إبراهيم بن عفيف الدين بن هبة الله بن مسلم بن هبة الله بن حسان الجهني الحموي الشافعي الشهير بابن البارزي، ويقال: إن هذه النسبة إلى باب أبرز أحد أبواب بغداد، ولكن خفف لكثرة دوره على الألسنة، انتهى مختصراً. وقال بعض من عرّف بابن مالك: هو مقيم أود، وقاطع لدد، ومزين سماء موّهت الأصائل ديباجتها، وشعشعت البكر زجاجتها، وجاءت أيامه صافية من الكدر، ولياليه وما بها شائبة من الكبر، وقد خلّفها العشي بردعه، وخلفها الصباح بربعه، فكان كل متعين حول مسجده، وكل عين فاخرة بعسجده، هذا وزمر الطلاب، وطلبة الأجلاب، لا تزال تزجي إليه القلاص، وتكثر من سربه الاقتناص، كان أوحد وقته في علم النحو واللغة مع ثرة الديانة والصلاح، انتهى. وقال بعض المغاربة: لقد مزّقت قلبي سهام جفونها ... كما مزّق اللخميّ مذهب مالك وصال على الأوصال بالقدّ قدّها ... فأضحت كأبيات بتقطيع مالك

وقلدت إذ ذاك الهوى لمرادها ... كتقليد أعلام النحاة ابن مالك وملّكتها رقيّ لرقة لفظها ... وإن كنت لا أرضاه ملكاً لمالك وناديتها يا منيتي بذل مهجتي ... ومالي قليلٌ في بديع جمالك ويعني بقوله بتقطيع مالك مالك بن المرحّل السّبتي، رحمه الله تعالى. ولما سئل ابن مالك عن قول النبي، صلّى الله عليه وسلّم: نعوذ بالله من الحور بعد الكور هل هو بالراء أو بالنون أنكر النون، فقيل له: إن في الغريبين للهروي رواية بالنون، فرجع عن قوله الأول، وقال: إنما هو بالنون، انتهى. وقد ذكر في المشارق النون والراء، فقال: الحور بعد الكور بالراء رواه العذري وابن الحذاّء، وللباقين بالنون، معناه النقصان بعد الزيادة، وقيل: من الشذوذ بعد الجماعة، وقيل: من الفساد بعد الصلاح، وقيل: من القلة بعد الكثرة، كار عمامته إذا لفها على رأسه واجتمعت، وحارها إذا نقضها فافترقت، ويقال: حار إذا رجع عن أمر كان عليه، ووهم بعضهم رواية النون، وقيل: معناها رجع إلى الفساد بعد أن كان على خير ممّا رجع إليه، وقال عياض في موضع آخر بعد: الحور بعد الكور، كذا للعذري، والكون للفارسي والسجزي وابن ماهان، وقول عاصم في تفسيره حار بعدما كار وهي روايته، ويقال: إن عاصماً وهم فيه، انتهى. والسائل لابن مالك عن اللفظة هو ابن خلّكان، لأن ابن الأثيرسأل ابن خلكان عنها، فسأل هو ابن مالك، رحم الله تعالى الجميع. [تعريف بابنه بدر الدين] وقد عرّف الحافظ الذهبي بابن مالك في تاريخ الإسلام، وذكر فيه ترجمة لولده بدر الدين محمد، وأنه كان حاد الذهن، ذكيّاً، إماماً في النحو وعلم

المعاني والمنطق، جيد المشاركة في الفقه والتدريس، وأنه تصدّر بعد والده للتدريس، ومات شابّاً قبل الكهولة سنة 686، ومن أجلّ تصانيفه شرحه على ألفية والده، وهو كتاب في غاية الإغلاق، ويقال: إنه نظير الرضي في شرح الكافية، وللناس عليه حواشٍ كثيرة، رحمهم الله تعالى أجمعين. 145 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر القيسي، التّدميري (1) ويعرف بالشهيد كان عظيم القدر جدّاً بالأندلس، بعيد الأثر في الخير الاصلاح والعلم والنسك والانقطاع إلى الله تعالى، وكان من وجوه أهل كورة تدمير ذوي البيوت الرفيعة، وبرع بخصاله المحمودة، فكان في نفسه فقيهاً، عالماً، زاهداً، خيّراً، ناسكاً، متبتلاً، نشأ على الاستقامة والصلاح والاهتداء والدّعة، طلب العلم في حدثان سنّه، ورحل إلى قرطبة فروى الحديث وتفقّه وناظر، وأخذ بحظٍّ وافر من علم المسألة والجواب، وكان أكثر علمه وعمله الورع، والتشدد فيه، والتحفظ بدينه ومكسبه، ورسخ في علم السنّة، ثم ارتحل إلى المشرق، فمر بمصر حاجّاً، فأقام بالحرمين ثماينة أعوام يتعيش فيها من عمل يده بالنسخ، ثم سار إلى العراق، فلقي أبا بكر الأبهري وأخذ عنه، وأكثر من لقاء الصالحين وأهل العلم، ولبس الصوف، وقنع، وتورع جدّاً، وأعرض عن الشهوات، وكان إذا سئم من النسخ الذي جعل قوته منه آجر نفسه في الخدمة رياضةً لها، فأصبح عابداً متقشفاً منيباً مخبتاً عالماً عاملاً منقطع القرين، قد جرت منه دعوات مجابة، وحفظت له كرامات ظاهرة، ثم عاد إلى بلده تدمير سنة ست أو سبع وسبعين وثلاثمائة، وبها أبوه أبو الحسام طاهر حيّاً، فنزل خارج مدينة مرسية تورّعاً عن سكناها وعن الصلاة في جامعها، فاتخذ له بيتاً سقفه من حطب السّدر يأوي إليه، واعتمر جنينة بيده يقتات منها، وصار يغزو مع المنصور محمد بن أبي عامر، ثم تحول من قريته بعد عامين إلى الثغر، وواصل

_ (1) ترجمته في ابن الفرضي 2: 90.

الرّباط، ونزل مدينة طلبيرة، وكان يدخل منها في السرايا في بلد العدو فيغزو ويتقوت من سهمانه، ويعوّ ل على فرس له ارتبطه لذلك، وكان له بأس وشدة وشجاعة وثقافة، يحدّث عنه فيها بحكايات عجيبة، إلى أن استشهد مقبلاً غير مدبر، سنة 379، أو في التي قبلها، عن اثنتين وأربعين سنة، وأبوه حي، رحم الله تعالى الجميع. 146 - ومنهم أبو عبد الله القيجاطي محمد بن عبد الجليل بن عبد الله بن جهور، مولده سنة 590 بقيجاطة، وكتب عنه الحافظ المنذري، ومن شعره قوله: إذا كنت تهوى من نأت عنك داره ... فحسبك ما تلقى من الشّوق والبعد فيا ويح صبٍّ قد تضرّم ناره ... وواحرّ قلبٍ ذاب من شدّة الوجد 147 - ومنهم أبو عبد الله - ويقال: أبو حامد - محمد بن عبد الرحيم، المازنيّ، القيسي، الغرناطي (1) ، ولد سنة 473، ودخل الإسكندرية سنة 508، وسمع بها من أبي عبد الله الرازي، وبمصر من أبي صادق مرشد بن يحيى المديني وأبي الحسن الفراء الموصلي وأبي عبد الله محمد بن بركات بن هلال النحوي وغيرهم، وحدث بدمشق، وسمع أيضاً بها وببغداد، وقدمها سنة 556، ودخل خراسان، وأقام بها مدة، ثم رجع إلى الشام، وأقام بحلب سنين، وسكن دمشق، وكان يذكر أنه رأى عجائب في بلاد شتى، ونسبه بعض الناس بسبب ذلك إلى ما لا يليق، وصنّف في ذلك كتاباً سماه تحفة الألباب وكان حافظاً عالماً أديباً، وتكلم فيه الحافظ ابن عساكر، وزنّه بالكذب، وقال ابن النجار: ما علمته إلاً أميناً.

_ (1) ترجمة أبي حامد الغرناطي في الوافي 3: 245 نقلاً عن ابن النجار، وفي الترجمة المقطوعتان اللتان أوردها المقري؛ وكتابه " تحفة الألباب " في العجائب نشره جبرائيل فراند في المجلة الآسيوية سنة 1925.

ومن شعره قوله: تكتب العلم وتلقي في سفط ... ثم لا تحفظ لا تفلح قطّ إنّما يفلح من يحفظه ... بعد فهمٍ وتوقٍّ من غلط وقوله: العلم في القلب ليس العلم في الكتب ... فلا تكن مغرماً باللهو واللعب فاحفظه وافهمه واعمل كي تفوز به ... فالعلم لا يجتنى إلاّ مع التّعب توفي بدمشق في صفر سنة 565. 148 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد السلام، القرطبي (1) ، من ذرية أبي ثعلبة الخشني صاحب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، رحل قبل الأربعين ومائتين، فحج، وسمع بالبصرة من محمد بن بشار وأبي موسى الزّمن ونصر ابن علي الجهضمي، ولقي أبا حاتم السجستاني والعباس بن العرج الرياشي، وسمع ببغداد من أبي عبيد القاسم بن سلام (2) ، وبمكة من محمد بن يحيى العدني، وبمصر من سلمة بن شبيب صاحب عبد الرزّاق والبرقي وغيرهما، وأدخل الأندلس علماً كثيراً من الحديث واللغة والشعر، وكان فصيحاً جزل المنطق، صارماً، أنوفاً، منقبضاً عن السلطان، أراده على القضاء فأبى، وقال: إباية إشفاق لا إباية عصيان (3) ، فأعفاه، وكان ثقة مأموناً، وتوفي في رمضان سنة 286 عن ثمان وستين سنة، رحمه الله تعالى.

_ (1) ترجمة الخشني في ابن الفرضي 2: 16 والجذوة: 63 (وبغية الملتمس رقم: 202) وتذكرة الحفاظ: 649. (2) يبدو أن هذا وهم من المقري، فقد ذكر ابن الفرضي أن محمد بن عبد السلام دخل بغداد وكتب بها كتب أبي عبيد القاسم بن سلام عن محمد بن وهب المسعري تلميذ أبي عبيد، وهذا ما ذكره الحميدي وزاد على ذلك أن من شيوخه محمد بن امغيرة وهو تلميذ آخر لأبي عبيد. (3) انظر خبر إبائه القضاء في " المرقبة العليا ": 13.

149 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن أيمن بن فرج، القرطبي (1) ، سمع من محمد بن وضاح وأكثر عنه، وأخذ عن محمد الخشني وقاسم بن أصبغ وإبراهيم بن قاسم بن هلال (2) ، ورحل سنة 274، فسمع بمصر من المطلب بن شعيب والمقدام (3) بن داود الرّعيني، وأدرك بالعراق إسماعيل القاضي وعبد الله ابن أحمد بن حنبل. قال الحميدي: حدث بالمغرب وبالمشرق، وصنّف السنن، وممّن روى عنه خالد بن سعيد، وقال لنا أبو محمد ابن حزم: مصنّف ابن أيمن مصنف رفيع احتوى من صحيح الحديث وغريبه على ما ليس في كثير من المصنفات، وتوفي في ذي القعدة سنة 330، بقرطبة، رحمه الله تعالى. 150 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن ضيفون اللخمي (4) ، الرصافي، القرطبي، الحداد، سمع بقرطبة من عبد الله بن يونس وقاسم بن أصبغ، وحج سنة 339 سنة ردّ القرامطة الحجر الأسود إلى مكانه، وسمع بمكة من ابن الأعرابي، وبمصر من ابن الورد (5) وأبي علي ابن السكن وعبد الكريم النسائي وغيرهم وسمع بأطرابلس والقيروان من جماعة، وكان رجلاً صالحاً (6) ، عدلاً، حدث وكتب عنه الناس، وعلت سنه، وتوفي بشوال سنة 394، وولد فيما أظن سنة 302، وكانت وفاته بقرطبة، وقد اضطرب في أشياء قرئت عليه، وممّن أخذ عنه الحافظ أبو عمران ابن عبد البر، رحم الله تعالى الجميع.

_ (1) ترجمة ابن أيمن في ابن الفرضي 2: 52 والجذوة: 63 (وبغية الملتمس رقم: 197) وتذكرة الحفاظ: 836. (2) ابن الفرضي: ويحيى بن قاسم ن هلال. (3) ج: والمقداد. (4) ترجمته في ان الفرضي 2: 110 والجذوة: 63 (وبغية الملتمس رقم: 199) وزاد في ك: ابن مروان بعد لفظة " ضيفون " في نسبه. (5) ق: من أبي الورد. (6) صالحاً: سقطت من ج.

151 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك، الخزرجي، السعدي، القرطبي أبو عبد الله روى عن أبي الحسن علي بن هشام، وروى عنه أبو القاسم ابن بشكوال، وقدم مصر وحدث بها، وممّن سمع منه بها ابن وردان وأبو الرضى القيسراني في آخرين، واستوطن مصر، وتوفي سنة 588. 152 - ومنهم أبو بكر ابن السرّاج، النحوي (1) - بتشديد الراء - وهو محمد بن عبد الملك بن محمد ين السّرّاج الشّنتمري، أحد أئمة العربية المبرزين فيها، ويكفيه فخراً أنه أستاذ أبي محمد عبد الله بن بري المصري اللغوي النحوي، وحدث عن أبي القاسم عبد الرحمن (2) بن محمد النفطي (3) ، وقرأ العربية بالأندلس على ابن أبي العافية وابن الأخضر، وقدم مصر سنة 515، وأقام بها وأقرأ الناس العربية، ثم انتقل إلى اليمن، وروى عنه أبو حفص عمر بن إسماعيل وأبو الحسن علي والد الرشيد العطار، وله تواليف منها تنبيه الألباب في فضل الإعراب " (4) وكتاب في العروض، وكتاب مختصر العمدة لابن رشيق وتنبيه أغلاطه. قال السلفي: كان من أهل الفضل الوافر، والصلاح الظاهر، وكانت له حلقة في جامع مصر لإقراء النحو، وكثيراً ما كان يحضر عندي - رحمه الله تعالى - مدة مقامي بالفسطاط، توفي بمصر سنة 549، وقيل: سنة خمس وأربعين، وقيل: خمسين وخمسمائة، برمضان، والأول أثبت. 153 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن علي بن سعيد [العنسي] ، ويكنى أيضاً أبا القاسم، الغرناطي، سمع من الجلّة بمصر والإسكندرية ودمشق وبغداد: منهم الحراني أبو عبد الله وأبو محمد عبد الصمد

_ (1) ترجمة السراج في بغية الوعاة: 68 والوافي 4: 46 (وبروكلما 1: 377) . (2) البغية: عبد الرحيم. (3) ج: السقطي. (4) الوافي: تلقيح الألباب في عوامل الإعراب.

ابن داود بدمشق، وكتب الحديث [وعني] بالرواية أتم عناية، وفقد بأصبهان حين استولى عليها التتار قبل الثلاثين وستمائة. 154 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الدفاع (1) ، بالدال المهملة، وقيل: بالراء، قرطبي سمع عبد الملك بن حبيب، ورحل فسمع بمصر من الحارث بن مسكين وغيره، وكان زاهداً فاضلاً، وتوفي سنة 281، رحمه الله تعالى. 155 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد بن عابد، المعافري القرطبي (2) ، ولد بقرطبة سنة 358، ودخل مصر فسمع من أبي بكر ابن المهندس وأبي بكر البصري، وروى عن أبي عبد الله ابن مفرج وأبي محمد الأصيلي وجماعة، ولقي الشيخ أبا محمد ابن أبي زيد في رحلته سنة 381 فسمع منه رسالته في الفقه وغيرها، وحج من عامه، ثم عاد من مصر إلى المغرب سنة 382، وكان معتنياً بالأخبار والآثار، ثقة فيما رواه، وعني به، خيّراً، فاضلاً، ديّناً، متواضعاً، متصاوناً، مقبلاً على ما يعنيه، صاحب حظ من الفقه، وبصر بالمسائل، ودعي إلى الشورى بقرطبة فأبى، ومات سنة 439. وعابد جده بالباء الوحدة، رحم الله تعالى الجميع. 156 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سليمان بن عثمان بن هاجد (3) الأنصاري البلنسي، أخذ القراءات (4) عن جماعة من أهل بلده، وخرج حاجّاً سنة 571، فجاور بمكة، وسمع بها وبالإسكندرية من السّلفي، وعاد إلى بلده

_ (1) ترجمة ابن الدفاع في ابن الفرضي 2: 14 والجذوة: 58 (وبغية الملتمس رقم: 158) . (2) ترجمة ابن عابد في الصلة: 501 وبغية الملتمس رقم: 177. (3) ترجمته في التكملة: 559 وفيه " ابن ماجد " وغاية النهاية 2: 179 وفيه وفي دوزي: ابن هاجر. (4) ج: القراءة.

سنة 596 (1) ، وحدث وكان من أهل الصلاح والفضل والورع، كثير البر، ومفاداة الأسرى، ويحترف بالتجارة، ومولده بعد سنة 530 (2) ، ومات سنة 598 بمرسية، رحمه الله تعالى. 157 - ومنهم أبو الوليد محمد بن عبد الله ابن محمد بن خيرة القرطبي، المالكي (3) ، الحافظ، ولد سنة 479 (4) ، وأخذ الفقه عن القاضي أبي الوليد ابن رشد، والحديث عن ابن عتاب، وروى الموطأ عن أبي بحر سفيان بن العاص بن سفيان (5) ، وأخذ الأدب عن أبي الحسين (6) سراج بن عبد الملك بن سراج الأموي، وعن مالك بن عبد الله العتبي، وخرج من قرطبة في الفتنة بعدا درّس بها وانتفع الناس به في فروع الفقه وأصوله، وأقام بالإسكندرية خوفاً من بني عبد المؤمن بن علي، ثم قال: كأني والله بمراكبهم قد وصلت إلى الإسكندرية، ثم سافر إلى المصر بعدما روى عنه السّلفي، وأقام بها مدة، ثم قال: والله ما مصر والإسكندرية بمتباعدتين، ثم سافر إلى الصعيد، وحدث في قوص بالموطأ، ثم قال: والله يصلون إلى مصر ويتأخرون عن هذه البلاد، فمضى إلى مكة، وأقام بها، ثم قال: وتصل إلى هذه البلاد ولا تحج ما أنا إلاّ هربت منه إليه ثم دخل اليمن، فلما رآها قال: هذه أرض لا يتركها بنو عبد المؤمن، فتوجه إلى الهند، فأدركته وفاه بها سنة 551، وقيل: بل مات بزبيد من مدن اليمن، وكان من جلّة العلماء متقناً متفنناً في المعارف كلها جامعاً لها، كثير الرواية، واسع المعرفة، حافل الأدب، من كبار فقهاء المالكية

_ (1) في التكملة: سنة 576. (2) دوزي: بعد سنة 520، والتصويب عن التكملة ونسخة من أصول النفح. (3) ترجمة ابن خيرة في الصلة: 560 وبغية الملتمس رقم: 178. (4) في نسختين: 489 وفي دوزي: 429. (5) ج: صفوان ... صفوان. (6) ك: عن مولانا أبي الحسين.

يتصرف في علوم شتى حافظاً للآداب، عارفاً بشعراء الأندلس، وكان علمه أوفر من منطقه، ولم يرزق فصاحة ولا حسن إيراد [والله أعلم] (1) . قال قال ابن نقطة: خيرة بكسر الخاء المعجمة وفتح الياء المنقوطة من تحتها باثنتين. 158 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل، السلمي، المرسي (2) ، قال ابن النجار: ولد بمرسية سنة 570، وقال غيره: في التي قبلها، وخرج من بلاد المغرب سنة 607، ودخل مصر، وسار إلى الحجاز، ودخل مع قافلة الحجاج إلى بغداد، وأقام بها يسمع ويقرأ الفقه والخلاف والأصلين بالنّظامية، ثم سافر إلى خراسان، وسمع بنيسابور وهراة ومرو، وعاد إلى بلاد بغداد، وحدث بكتاب السنن الكبير (3) للبيهقي عن منصور ابن عبد المنعم الفراوي، وبكتاب غريب الحديث للخطابي، وقدم إلى مصر فحدث بالكثير عن جماعة منهم أم المؤيد زينب وأبو الحسن المؤيد الطوسي، وخرج من مصر يريد الشام فمات بين الزّعقة والعريش من منازل الرمل في ربيع الأول سنة 655، ودفن بتل الزعقة، وكان من الأئمة الفضلاء في جميع فنون العلم من علوم القرآن والحديث والفقه والخلاف والأصلين والنحو واللغة، وله فهم ثاقب، وتدقيق في المعاني، مع النظم والنثر المليح، وكان زاهداً، متورعاً، حسن الطريقة، متديّناً، كثير العبادة، فقيهاً، مجرداً (4) ، متعففاً، نزه النفس، قليل المخالطة (5) لأوقاته، طيب الأخلاق، متودداً، كريم النفس،

_ (1) ما بين معقفين زيادة من ج. (2) ترجمة ابن أبي الفضل المرسي في الوافي 3: 354 وبغية الوعاة: 60 ومعجم الأدباء 18: 209 ويلقب بشرف الدين، وله استدراكات على المفصل للزمخشري في سبعين موضعاً، وله كلام على شعر بي الطيب، وقد عد ياقوت له مؤلفات أخرى. (3) ج: السنن الكبرى. (4) ج: متجرداً. (5) ج: قليل المحافظة.

قال ابن النجار: ما رأيت في فنه مثله، وكان شافعي المذهب، وله كتاب تفسير القرآن سماه ري الظمآن كبير جدّاً، وكتاب " الضوابط الكلية " في النحو، وتعليق على الموطأ، وكان مكثراً شيوخاً وسماعاً، وحدث بالكثير بمصر والشام والعراق والحجاز، وكانت له كتب في البلاد التي ينتقل إليها بحيث إنه لا يستصحب كتباً في سفره اكتفاء بما له من الكتب في البلد الذي يسافر إليه (1) ، وكان كريماً، قال أبو حيان: أخبرني الشرف الجزائري بتونس أنه كان على رحلة، وكان ضعيفاً، فقال له: خذ ما تحت هذه السجادة أو البساط، فرفعت ذلك، فوجدت تحته نحواً من أربعين ديناراً ذهباً، فأخذتها. وقال الجمال اليغموري: أنشدني لنفسه بالقاهرة (2) : قالوا فلان قد أزال بهاءه ... ذاك العذار وكان بدر تمام فأجبتهم بل زاد نور بهائه ... ولذا تضاعف فيه فرط غرامي استقصرت ألحاظه فتكاتها ... فأتى العذار يمدّها بسهام ومن شعره قوله (3) : من كان يرغب في النجاة فما له ... غير اتّباع المصطفى فيما أتى ذاك السّبيل المستقيم، وغيره ... سبل الغواية والضلالة والرّدى فاتبع كتاب الله والسنن التي ... صحت، فذاك إذا اتبعت هو الهدى ودع السؤال بكم وكيف فإنه ... بابٌ يجر ذوي البصيرة للعمى الدين ما قال النبي وصحبه ... والتابعون ومن مناهجهم قفا

_ (1) ذكر الصفدي أنه خلف كتباً عظيمة كانت مودعة بدمشق فرسم السلطان ببيعها فكانوا يحملون منها كل يوم ثلثاً (لعله: ثلاثاء) إلى دار السعادة لأجل الباذرائي فاشترى منها جملة كثيرة وبيعت في سنة؛ وفي ج ق: في البلاد التي ينتقل إليها. (2) انظر معجم الأدباء: 212. (3) معجم الأدباء: 212.

159 - ومنهم أبو بكر محمد بن عبد الله البنتي، الأندلسي، الأنصاري، قدم مصر، وأقام بالقرافة مدة، وكان شيخاً صالحاً زاهداً فاضلاً، وتوجه إلى الشام فهلك، قال الرشيد العطار: كان من فضلاء الأندلسيين ونبهائهم، ساح في الأرض ودخل بلاد العجم وغيرها من البلاد البعيدة، وكان يتكلم بألسنة شتى. ومن شعره قوله: إذا قلّ منك السّعي فالعزم ناشد ... وكلّ مكانٍ في مرائك واحد توجّه بصدقٍ واتّق المين واقتصد ... تجئك رهينات النجاح المقاصد والبنتي - بضم الباء، وسكون النون - نسبة إلى بنت حصن بالأندلس، ويقال بونت بزيادة واو. 160 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله، الخولاني، الباجي، ثم الإشبيلي، المعروف بابن القوق (1) سمع بقرطبة من جماعة، ورحل إلى المشرق سنة 266، فسمع بمكة من علي بن عبد العزيز وغيره، وبمصر من محمد بن عبد الحكم ومن أخيه سعد، وكان فقيهاً في الرأي، حافظاً له، عاقداً للشروط، قال ابن الفرضي: كان رجلاً صالحاً ورعاً ثقة، وكان خالد بن سعيد قد رحل إليه وسمع منه، وكان يقول إذا حدّث عنه: كان من معادن الصدق، توفي سنة 308. 161 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللوشي، الطبيب، اشتغل بالطب، وبرع فيه، وأقام بمصر مدّة، وبها مات في عشر الستين وستمائة.

_ (1) ترجمة ابن القوق في ابن الفرضي 2: 32 (وفيه: ابن القون وفي بعض الأصول كتب: القوف أو الفوق وفي ج: الغرق) .

162 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبدون، العذري، القرطبي (1) ، رحل سنة 337، فدخل مصر والبصرة، وعني بعلم الطب، ودبر مارستان مصر، ثم رجع إلى الأندلس سنة 360، واتصل بالحكم المستنصر وابنه المؤيد، وله في التكسير كتاب حسن. قال صاعد: تمهر في الطب، ونبل فيه، وأحكم كثيراً من أصوله، وعانى صنعة المنطق معاناة صحيحة، وكان شيخه فيه أبو سليمان محمد بن محمد ابن طاهر بن بهرام السجستاني البغدادي، وكان قبل أن يتطبب مؤدباً للحساب والهندسة، وأخبرني أبو عثمان سعيد الطليطلي، أنّه لم يلق (2) في قرطبة من يلحق محمد بن عبدون في صناعة الطب، ولا يجاريه في ضبطها وحسن دربته فيها وإحكامه لغوامضها، رحمه الله تعالى. 163 - ومن الراحلين إلى المشرق من أهل الأندلس أبو مروان عبد الملك بن أبي بكر محمد بن مروان بن زهر (3) ، الإيادي، الأندلسي، صاحب البيت الشهير بالأندلس، رحل المذكور إلى المشرق، وتطبب به زماناً، وتولى رئاسة الطب ببغداد، ثم بمصر، ثم القيروان، ثمّ استوطن مدينة دانية، وطار ذكره فيها إلى أقطار الأندلس والمغرب، واشتهر بالتقدم في علم الطب حتى بزّ أهل زمانه، ومات في مدينة دانية، رحمه الله تعالى. ووالده محمد بن مروان (4) كان عالماً بالرأي، حافظاً للأدب، فقيهاً حاذقاً بالفتوى متقدّماً فيها، متقناً للعلوم، فاضلاً، جامعاً للدراية والرواية، وتوفّي بطلبيرة سنة 422، وهو ابن ست وثمانين سنة، حدث عنه جماعة من علماء

_ (1) ترجمة ابن عبون هذه مكررة، انظر رقم: 98 ومصادر التخريج في الحاشية. (2) ج: لم يبق. (3) ترجمة عبد الملك بن زهر في المغرب 2: 265 وابن أبي أصيبعة 2: 66 والتكملة رقم: 1717 والذيل والتكملة 5: 18 والمطرب: 203. (4) انظر ترجمة محمد بن موان بن زهر في الصلة: 487.

الأندلس، ووصفوه بالدين والفضل والجود والبذل، رحمه الله تعالى. وأمّ أبو العلاء زهر بن عبد الملك المذكور فقال ابن دحية فيه (1) : إنّه كان وزير ذلك الدهر وعظيمه، وفيلسوف ذلك العصر وحكيمه، وتوفّي ممتحناً من نغلة بين كتفيه سنة 525 بمدينة قرطبة، انتهى. وكانت بينه وبين الفتح صاحب القلائد عداوة، ولذلك كتب في شأنه إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ما صورته: أطال الله تعالى بقاء الأمير الأجلّ سامعاً للنّداء، دافعاً للتطاول والاعتداء، لم ينظم الله تعالى بلبّتك الملك عقداً، وجعل لك حلاًّ للأمور وعقداً، وأوطأ لك عقباً، وأصار من الناس لعونك منتظراً ومرتقباً، إلا أن تكون للبرية حائطاً، وللعدل فيهم باسطاً، حتى لا يكون فيهم من يضام، ولا ينال أحدهم اهتضام، ولتقصر يد كل معتدٍ في الظلام، وهذا ابن زهر الذي أجررته رسنا، وأوضحت له إلى الاستطالة سننا، لم يتعد من الإضرار إلا حيث انتهيته، ولا تمادى على غيّه إلاّ حين لم تنهه أو نهيته، ولمّا علم أنّك لا تنكر عليه نكراً، ولا تغير له متى ما مكر في عباد الله مكراً، جرى في ميدان الأذيّة ملء عنانه، وسرى إلى ما شاء بعدوانه، ولم يراقب الذي خلقه، وأمدّ في الحظوة عندك طلقه، وأنت بذلك مرتهن عند الله تعالى، لأنّه مكّنك لئلاّ يتمكّن الجور، ولتسكن بك الفلاة والغور، فكيف أرسلت زمامه حتى جرى من الباطل في كل طريق، وأخفق به كلّ فريق، وقد علمت أن خالقك الباطش الغيور، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وما تخفى عليه نجواك، ولا يستتر عنه تقلّبك ومثواك، وستقف بين يدي عدل حاكم، يأخذ بيد كل مظلوم من ظالم، قد علم كل قضيّة قضاها، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، فبم تحتجّ معي لديه، إذا وقفت أنا وأنت بين يديه أترى ابن زهر ينجيك في ذلك

_ (1) المطرب: 203 وانظر التكملة: 334 وابن أبي أصيبعة 2: 64.

المقام، أوي حميك من الانتقام وقد أوضحت لك المحجّة، لتقوم عليك الحجّة، والله سبحانه النصير، وهو بكل خلق بصير لا ربّ غيره، والسلام، انتهى. [رسالة للفتح في غريق] وقد تذكرت هنا بذكر الفتح ما كتبه وقد مات بعض إخوانه غريقاً: أتاني ورحلي بالعراق عشيّةً ... ورحل المطايا قد قطعن بنا نجدا نعيٌّ أطار القلب عن مستقرّه ... وكنت على قصدٍ فأغلطني القصدا نعوا والله باسق الأخلاق لا يخلف، ورموا قلبي بسهم أصاب صميمه فما أخلف، لقد سام الردى منه حسناً وجمالاً ووسامة، وطوى بطيّه نجده وتهامه، فعطل منه النّديّ والنّدى، وأثكل فيه الهديّ والهدى، كم فلّ السيوف طول قراعه، ودل عليه الضيوف موقد ناره بيفاعه، وكم تشوّف إليه السرير والمنبر، وتصرّف فيه الثناء المحبّر، وكم راع البدر ليلة إبداره، وروّع العدوّ في عقر داره، وأي فتى غدا له البحر ضريحاً، وأعدى عليه الحين ماء وريحاً، فبدل من ظلل علىً ومفاخر، بقعر بحر طامي اللّجج زاخر، وبدل من صهوات الخيل، بلهوات اللّجج والسّيل، غريق حكى مقلتي في دمعها، وأصاب نفسي في سمعها، ومن حزنٍ لا أستسقي له الغمام فما له قبر تجوده، ولا ثرى تروى به تهائمه ونجوده، وقد آليت الموج حنقاً، ومشت عليه خبباً وعنقاً، حتى أعادته كالكثبان، وأودعته قضيب بان، فيا أسفا لزلال غاض في أجاج، ولسلسال فاض عليه بحر عجّاج، وما كان إلاّ جوهراً ذهب إلى عنصره، وصدفاً بان عن عين مبصره، لقد آن للحسام أن يغمد فلا يشام، وللحمام أن تبكيه بكل أراكة وبشام، وللعذارى أن لا يحجبهن الخفر والاحتشام، ينحن فتى ما ذرّت الشمس

إلاّ ضرّ أو نفع، ويبكين من لم يدع فقده في العيش من منتفع، فكم نعمنا بدنوّه، ونسمنا نسيم الأنس في رواحه وغدوّه، وأقمنا بوضة موشية، ووقفنا بالمسرات عشيّة، وأدرناها ذهباً سائلة، ونظرناها وهي شائلة، لم نرم السهر، ولم نشم برقاً إلاّ الكأس والزهر، ولو غير الحمام زحف إليه جيشه، أو غير البحر رجف به ارتجاجه وطيشه، لفداه من أسرته كلّ أروع إن عاجله المكروه تثبّطه، أو جاءه الشرّ تأبّطه، ولكنها المنايا لا تردّها الصّوارم والأسل، ولا تفوتها ذئاب الغضا والعسّل، قد عرفت بين مالك وعقيل، وأشرقت بعدهما جذيمة بالحسام الصّقيل، انتهى. وقد عرّفنا بالفتح في غير هذا الموضع فليراجع. رجع إلى بيت بني زهرٍ (1) ، رحمهم الله تعالى - وأمّا أبو بكر محمد بن أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر المذكور، فهو عين ذلك البيت، وإن كانوا كلّهم أعياناً علماء رؤساء حكماء وزراء، وقد نالوا المراتب العليّة، وتقدّموا عند الملوك، ونفذت أوامرهم، قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في المطرب من أشعار أهل المغرب: كان شيخنا الوزير أبو بكر ابن زهر بمكان من اللغة مكين، ومورد من الطّلب عذب معين، وكان يحفظ شعر ذي الرّمّة وهو ثلث لغة العرب، مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب، والمنزلة العلياء عند أصحاب المغرب، مع سموّ النسب، وكثرة الأموال والنّشب، صحبته زماناً طويلاً، واستفدت منه أدباً جليلاً، وأنشد من شعره المشهور قوله (2) : وموسّدين على الأكفّ خدودهم ... قد غالهم نوم الصّباح وغالني

_ (1) انظر ترجمة ابن زهر الحفيد في ابن أبي أصيبعة 2: 67 ومعجم الأدباء 18: 216 والمطرب: 204 والتكملة: 555 والذيل والتكملة 6: 160 (نسخة باريس) وله موشحات في دار الطراز والمغرب 1: 266 وابن خلكان 4: 61. (2) الشعر في المطرب وابن خلكان.

ما زلت أسقيهم وأشرب فضلهم ... حتى سكرت ونالهم ما نالني والخمر تعلم كيف تأخذ ثارها ... إنّي أملت إناءها فأمالني ثم قال ابن دحية: وسألته عن مولده، فقال: ولدت سنة سبع وخمسمائة، قال: وبلغتني وفاته آخر سنة 595، رحمه الله تعالى، انتهى. وزعم ابن خلّكان أن ابن زهر ألمّ في الأبيات المذكورة بقول الرئيس أبي غالب عبيد الله بن هبة الله (1) : عاقرتهم (2) مشمولةً لو سالمت ... شرّابها ما سمّيت بعقار ذكرت حقائدها القديمة إذ غدت ... صرعى تداس بأرجل العصّار لانت لهم حتى انتشوا وتمكّنت ... منهم وصاحت فيهم بالثار ومن المنسوب إلى أبي بكر ابن زهر قوله في كتاب جالينوس المسمى بحيلة البرء، وهو من أجلّ كتبهم وأكبرها (3) : حيلة البرء صنعةٌ لعليل ... يترجّى الحياة أو لعليله فإذا جاءت المنيّة قالت: ... حيلة البرء ليس في البرء حيله ومن شعره، رحمه الله تعالى، يتشوّق ولداً له صغيراً بإشبيلية وهو بمراكش (4) : ولي واحدٌ مثل فرخ القطاة ... صغير تخلّفت قلبي لديه وأفردت عنه فيا وحشتا ... لذاك الشّخيص وذاك الوجيه (5)

_ (1) ابن خلكان: عبيد الله بن هبة الله بن صاعد؛ وفي بعض النسخ: الأصباعي. (2) ابن خلكان: عقرتهم. (3) ابن خلكان: 62. (4) الشعر في ابن خلكان والمطرب والذيل وابن أبي أصيبعة. (5) ابن خلكان: نأت عنه داري فيا وحشتا.

تشوّقني وتشوّقته ... فيبكي عليّ وأبكي عليه (1) وقد تعب الشوق ما بيننا ... فمنه إليّ ومنّي إليه وأخبرني الطبيب الماهر الثقة الصالح العلاّمة سيدي أبو القاسم ابن محمد الوزير الغساني الأندلسي الأصل الفاسي المولد والنشأة حكيم حضرة السلطان المنصور بالله الحسني صاحب المغرب رضي الله تعالى عنه أن ابن زهر لمّا قال هذه الأبيات وسمعها أمير المؤمنين يعقوب المنصور سلطان المغرب والأندلس أواخر المائة السادسة أرسل المهندسين إلى إشبيلية، وأمرهم أن يحتاطوا علماً ببيوت ابن زهر وحارته ثم يبنوا مثلها بحضرة مراكش، ففعلوا ما أمرهم في أقرب مدة، وفرشها بمثل فرشه، وجعل فيها مثل آلاته، ثم أمر بنقل عيال ابن زهر وأولاده وحشمه وأسبابه إلى تلك الدار، ثم احتال عليه حتى جاء [إلى] ذلك الموضع، فرآه أشبه شيء ببيته وحارته، فاحتار لذلك، وظنّ أنه نائم، وأن ذلك أحلام، فقيل له: ادخل البيت الذي يشبه بيتك، فدخله، فإذا ولده الذي تشوّق إليه يلعب في البيت، فحصل له السرور ما لا [مزيد عليه، ولا] يعبر عنه: هكذا هكذا وإلاّ فلا لا (2) . ومن نظم ابن زهر المذكور حيث شاخ وغلب عليه الشيب (3) : إني نظرت إلى المرآه قد جليت ... فأنكرت مقلتاي كلّ ما رأتا رأيت فيه شويخاً (4) لست أعرفه ... وكنت أعهده من قبل ذاك فتى فقلت: أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحّل عن هذا المكان متى

_ (1) سقط هذا البيت من ج. (2) صدر بيت، وعجزه: طرق الجد غير طرق المزاح. (3) الأبيات في ابن خلكان وابن أبي أصيبعة. (4) في رواية: شييخاً.

فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة: ... إنّ الذي أنكرته مقلتاك أتى (1) كانت سليمى تنادي يا أخيّ وقد ... صارت سليمى تنادي اليوم يا أبتا (2) والبيت الأخير ينظر إلى قول الأخطل (3) : وإذا دعونك عمّهنّ فإنّه ... نسبٌ يزيدك عندهنّ خبالا وإذا دعونك يا أخيّ فإنّه ... أدنى وأقرب خلّةً ووصالا وقال ابن دحية في حقه أيضاً (4) : والذي انفرد به شيخنا وانقادت لتحليته طباعه، وصارت النبهاء فيه من خوله وأتباعه، الموشحات، وهي زبدة الشعر ونخبته، وخلاصة جوهره وصفوته (5) ، وهي من الفنون التي أغرب بها أهل المغرب على أهل المشرق، وظهروا فيها كالشمس الطالعة والضياء المشرق، انتهى. ومن مشهور موشحات ابن زهر قوله (6) : ما للموله ... من سكره لا يفيق وهذا مطلع موشح يستعمله أهل المغرب إلى الآن، ويرون أنه من أحسن الموشحات.

_ (1) هذه رواية ابن خلكان، وأما ابن أبي أصيبعة ففيه: فاستجهلتني وقالت لي وما نطقت ... قد كان ذاك وهذا بعد ذاك أتى هون عليك فهذا لا بقاء له ... أما ترى العشب يفنى بعد ما نبتا (2) ابن أبي أصيبعة: كان الغوافي يقلن يا أخي فقد ... صار الغواني يقلن اليوم يا أبتا (3) ديوان الأخطل: 43. (4) المطرب: 204. (5) ج: وخلاصته وصفوته. (6) أورد ابن سعيد هذه الموشحة عندما تحدث عن متنزهات إشبيلية، وهي في جملة ما سقط من المغرب.

ومن موشحاته قوله: سلّم الأمر للقضا ... فهو للنّفس أنفع واغتنم حين أقبلا ... وجه بدرٍ تهلّلا ... لا تقل بالهموم لا ... كل ما فات وانقضى ... ليس بالحزن يرجع واصطبح بابنة الكروم ... من يدي شادن رخيم ... حين يفترّ عن نظيم ... فيه برقٌ قد أومضا ... ورحيقٌ مشعشع أنا أفديه من رشا ... أهيف القدّ والحشا ... سفي الحسن فانتشى ... مذ تولّى وأعرضا ... ففؤادي يقطّع من لصبٍّ غدا مشوق ... ظلّ في دمعه غريق ... حين أمّوا حمى العقيق ... واستقلّوا بذي الغضا ... أسفي يوم ودّعوا ما ترى حين أظعنا ... وسرى الركب موهنا ... واكتسى اللّيل بالسّنا ...

نورهم ذا الذي أضا ... أم مع الركب يوشع ورأيت من هذا موشحاً آخر لا أدري هل هو لابن زهر أم لا، وهو هذا: فتق المسك بكافور الصّباح ... ووشت بالرّوض أعراف الرياح فاسقنيها قبل نور الفلق ... وغناء الورق بين الورق ... كاحمرار الشمس عند الشّفق ... نسج المزج عليها حين لاح ... فلك اللهو وشمس الاصطباح وغزال سامني بالملق ... وبرى جسمي وأذكى حرقي ... أهيف مذ سلّ سيف الحدق ... قصرت عنه أنابيب الرماح ... وثنى الذعر مشاهير الصفاح صار بالدّلّ فؤادي كلفا ... وجفون ساحرات وطفا ... كلما قلت جوى الحب انطفا ... أمرض القلب بأجفانٍ صحاح ... وسبى العقل بجدٍّ ومزاح يوسفيّ الحسن عذب المبتسم ... قمريّ الوجه ليليّ اللمم ... عنتريّ البأس علويّ الهمم ...

غصنيّ القدّ مهضوم الوشاح ... مادريّ الوصل طائيّ السماح قدّ بالقدّ فؤادي هيفا ... وسبى عقلي لمّا انعطفا ... ليته بالوصل أحيا دنفا ... مستطار العقل مقصوص الجناح ... ما عليه في هواه من جناح يا علي أنت نور المقل ... جد بوصل منك لي يا أملي ... كم أغنّيك إذا ما لحت لي ... طرقت واللّيل ممدود الجناح ... مرحباً بالشمس من غير صباح 164 - ومنهم أبو الحجاج الساحلي، يوسف بن إبراهيم بن محمد بن قاسم بن علي، الفهري، الغرناطي، قال في الإحاطة: صدر من صدور حملة القرآن على وتيرة الفضلاء و [سنن] الصالحين، حج ولقي الأشياخ بعد أن قرأ على الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير وطبقته، ومن نظمه يخاطب الوزير ابن الحكيم (1) وقد أصابته حمى تركت على شفته بثوراً: حاشاك أن تمرض حاشاكا ... قد اشتكى قلبي لشكواكا إن كنت محموماً ضعيف القوى ... فإنّني أحسد حمّاكا ما رضيت حمّاك إذ باشرت ... جسمك حتى قبّلت فاكا قال أبو الحجاج، رحمه الله تعالى: وكتب إليّ شيخنا محمد بن عتيق

_ (1) المعني هنا هو أبو عبد الله ابن الحكيم ذو الوزارتين، وسيترجم له المقري كما سيترجم لابنه الوزير القائد الكاتب أبي بكر (توفي سنة 750) وانظر الكتيبة الكامنة: 195.

ابن رشيق في الاستدعاء الذي أجازني فيه ولمن ذكر معي: أجزت لهم أبقاهم الله كلّ ما ... رويت عن الأشياخ في سالف الدهر وما سمعت أذناني من كلّ عالم ... وما جاد من نظمي وما راق من نثري على شرط أصحاب الحديث وضبطهم ... بريء عن التصحيف عارٍ عن النّكر كتبت لهم خطّي وإسمي محمّد ... أبو القاسم المكنيّ ما فيه من نكر وجدّي رشيقٌ شاع في الغرب ذكره ... وفي الشرق أيضاً فادر إن كنت لا تدري ولي مولدٌ من بعد عشرين حجّة ... ثمانٍ على الست المئين ابتدا عمري وبالله توفيقي عليه توكّلي ... له الحمد في الحالين في العسر واليسر ومولد أبي الحجاج المذكور سنة 662 (1) ، وتوفّي سنة 702 (2) ، رحمه الله تعالى، انتهى باختصار. 165 - وممن ارتحل من الأندلس إلى المشرق يحيى بن الحكم البكري الجياني الملقب بالغزال لجماله (3) ، وهو في المائة الثالثة، من بني بكر بن وائل. قال ابن حيان في " المقتبس ": كان الغزال حكيم الأندلس، وشاعرها، وعرّافها، عمّر أربعاً وتسعين سنة، ولحق أعصار خمسة من الخلفاء المروانية بالأندلس: أولهم عبد الرحمن بن معاوية، وآخرهم الأمير محمد بن عبد الرحمن ابن الحكم.

_ (1) في نسخة: سنة 667. (2) في نسخة: سنة 752. (3) انظر ترجمة الغزال في المطرب: 133 والجذوة: 351 (وبغية الملتمس رقم: 1467) والمغرب 2: 57 وأورد ابن دحية خبر رحلة له إلى بلاد المجوس، وقد شك فيها بروفنسال وذهب إلى أنها كانت إلى القسطنطينية، راجع تاريخ الأدب الأندلسي، عصر سيادة قرطبة ص: 111 - 127 وانظر The Poet and the Spae - Wife by W. Allen) London، 1960 (.

ومن شعره: أدركت بالمصر ملوكاّ أربعه ... وخامساً هذا الذي نحن معه وله على أسلوب ابن أبي حكيمة راشد بن إسحاق الكاتب (1) : خرجت إليك وثوبها مقلوب ... ولقلبها طرباً إليك وجيب وكأنّها في الدّار حين تعرّضت ... ظبيٌ تعلّل بالفلا مرعوب وتبسّمت فأتتك حين تبسّمت ... بجمان درّ لم يشنه ثقوب ودعتك داعية الصّبا فتطرّبت ... نفسٌ إلى داعي الضلال طروب حسبتك في حال الغرام كعهدها ... في الدار إذ غصن الشباب رطيب وعرفت ما في نفسها فضممتها ... فتساقطت بهنانةٌ عبوب وقبضت ذاك الشيء قبضة شاهن ... فنزا إليّ عضنّكٌ حلبوب بيدي الشّمال وللشّمال لطافة ... ليست لأخرى والأديب أريب فأصاب كفّي منه حين لمسته ... بللٌ كماء الورد حين يسيب وتحلّلت نفسي للذّة رشحه ... حتى خشيت على الفؤاد يذوب فتقاعس الملعون عنه وربّما ... ناديته خيراً فليس يجيب وأبى فحقّق في الإباء كأنّه ... جانٍ يقاد إلى الرّدى مكروب وتغضّنت جنباته فكأنّه ... كيرٌ تقادم عهده مثقوب حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... قبساً وحان من الظلام ذهوب ساءلتها خجلاً: أما لك حاجة ... عندي فقالت: ساخر وحروب قالت حر أمّك إذا أردت وداعها ... قرنٌ وفيه عوارضٌ وشعوب

_ (1) ابن أبي حكيمة أحد الشعراء المحدثين، أسرف في وصف عنته ورثاء متاعه، وكان صديقاً لابن الزيات. راجع تجمته في طبقات ابن المعتز: 389 وتخريج ترجماته ص: 523، وانظر أبيات الغزال هذه في المطرب: 149 برواية مختلفة.

وذكره ابن دحية بمخالفة لما سردناه. قال عتبة التاجر، وجّهني الأمير الحكم وابنه عبد الرحمن إلى المشرق وعبد الله بن طاهر أمير مصر من قبل المأمون، فلقيته بالعراق، فسألني عن هذه القصيدة هل أحفظها للغزال قلت: نعم فاستنشدنيها، فأنشدته إياها، فسر بها وكتبها، وقال عتبة: ونلت بها حظّاً عنده. والبهنانة: المرأة الطيبة النفس والأرج، كما في الصّحاح، وقيل: اللينة في منطقها وعملها، وقيل: الضحّاكة المتهللة، والرعبوب: السبطة البيضاء، والسبطة: الطويلة. وقال سامحه الله تعالى: سألت في النّوم أبي آدماً ... فقلت والقلب به وامق إبنك بالله أبو حازم ... صلّى عليك المالك الخالق فقال لي: إن كان مني ومن ... نسلي فحوّا أمّكم طالق وقال رضي الله تعالى عنه: أرى أهل اليسار إذا توفّوا ... بنوا تلك المقابر بالصخور أبو إلا مباهاة وفخراً ... على الفقراء حتى في القبور فإن يكن التفاضل في ذراها ... فإن العدل فيها في القعور رضيت بمن تأنّق في بناء ... فبالغ في تصريف الدهور (1) ألمّا يبصروا ما خربته الد ... هور من المدائن والقصور لعمر أبيهم لو أبصروهم ... لما عرف الغنيّ من الفقير ولا عرفوا العبيد من الموالي ... ولا عرفوا الإناث من الذكور ولا من كان يلبس ثوب صوفٍ ... من البدن المباشر للحرير

_ (1) ج: تصريف الأمور.

إذا أكل الثّرى هذا وهذا ... فما فضل الكبير على الحقير وقال رضي الله تعالى عنه: لا، ومن أعمل المطايا (1) إليه ... كلّ من يرتجي إليه نصيبا ما أرى ههنا من النّاس إلاّ ... ثعلباً يطلب الدّجاج وذيبا أو شبيهاً بالقطّ ألقى (2) بعيني ... هـ إلى فارةٍ يريد الوثوبا وقال رضي الله تعالى عنه: قالت أحبّك قلت كاذبة ... غريّ بذا من ليس ينتقد هذا كلامٌ لست أقبله ... الشيخ ليس يحبّه أحد سيّان قولك ذا وقولك إن ... الريح نعقدها فتنعقد أو أن تقولي النار باردة ... أو أن تقولي الماء يتقد وحكى أو الخطاب ابن دحية في كتاب " المطرب " (3) أن الغزال أرسل إلى بلاد المجوس وقد قارب الخمسين، وقد وخطه الشيب، ولكنّه كان مجتمع الأشد، فسألته زوجة الملك يوماً عن سنّه، فقال مداعباً لها: عشرون سنة، فقلت: وما هذا الشيب فقال: وما تنكرين من هذا ألم تري قطّ مهراً ينتج وهو أشهب فأعجبت بقوله، فقال في ذلك، واسم الملكة تود (4) : كلّفت يا قلبي هوىً متعبا ... غالبت منه الضّيغم الأغلبا إنّي تعلّقت مجوسيّةً ... تأبى لشمس الحسن أن تغربا أقصى بلاد الله في حيث لا ... يلفي إليه ذاهبٌ مذهبا

_ (1) ج: المطي. (2) ج: أومى. (3) انظر المطرب: 144. (4) ج والمطرب: نود؛ ويرى بروفنسال أن تود هو اختصار تيودورا Theodora.

يا تود يا رود الشّباب التي ... تطلع من أزرارها الكوكبا يا بأبي (1) الشخص الذي لا أرى ... أحلى على قلبي، ولا أعذبا إن قلت يوماً إنّ عيني رأت ... مشبهه لم أعد أن أكذبا قالت: أرى فدويه قد نوّرا ... دعابة توجب أن أدعبا قلت لها: ما باله إنّه ... قد ينتج المهر كذا أشهبا فاستضحكت عجباً بقولي لها ... وإنّما قلت لكي تعجبا قال: ولمّا فهّمها الترجمان شعر الغزال ضحكت، وأمرته بالخضاب، فغدا عليها وقد اختضب وقال (2) : بكرت تحسّن لي سواد خضابي ... فكأنّ ذاك أعادني لشبابي ما الشيب عندي والخضاب لواصفٍ ... إلاّ كشمسٍ جلّلت بضباب تخفى قليلاً ثمّ يقشعها الصّبا ... فيصير ما سترت به لذهاب لا تنكري وضح المشيب فإنّما ... هو زهرة الأفهام والألباب فلديّ ما تهوين من شأن الصّبا ... وطلاوة الأخلاق والآداب وحكى ابن حيان في " المقتبس " أن الأمير عبد الرحمن بن الحكم المرواني وجّه شاعره الغزال إلى ملك الروم، فأعجبه حديثه، وخف على قلبه، وطلب منه أن ينادمه، فامتنع من ذلك، واعتذر بتحريم الخمر، وكان يوماً جالساً عنده، وإذا بزوجة الملك قد خرجت وعليها زينتها، وهي كالشمس الطالعة حسناً، فجعل الغزال لا يميل طرفه عنها، وجعل الملك يحدثه وهو لاهٍ عن حديثه، فأنكر ذلك عليه، وأمر الترجمان بسؤاله، فقال له: عرّفه أنّي قد بهرني من حسن هذه الملكة ما قطعني عن حديثه، فإنّي لم أر قطّ

_ (1) ج: يا حبذا. (2) المطرب: 146.

مثلها، وأخذ في وصفها والتعجّب من جمالها، وأنّها شوقته إلى الحور العين، فلمّا ذكر الترجمان ذلك للملك تزايدت حظوته عنده، وسرّتت الملكة بقوله، وأمرت الترجمان أن يسأله عن السبب الذي دعا المسلمين إلى الختان، وتجشّم المكروه فيه وتغيير خلق الله، مع خلوّه من الفائدة، فقال للترجمان: عرّفها أن فيه أبر فائدة، وذلك أن الغصن إذا زبر قوي واشتد وغلظ، وما دام لا يفعل به ذلك لا يزال رقيقاً ضعيفاً، فضحكت وفطنت لتعريضه، انتهى. ومن شعر الغزال قوله (1) : يا راجياً ودّ الغواني ضلّةً ... وفؤاده كلفٌ بهنّ موكّل إن النساء لكالسّروج حقيقةً ... فالسّرج سرجك ريثما لا تنزل فإذا نزلت فإنّ غيرك نازلٌ ... ذاك المكان وفاعلٌ ما تفعل أو منزل المجتاز أصبح غادياً ... عنه وينزل بعده من ينزل أو كالثمار مباحة أغصانها ... ندنو لأول من يمر فيأكل أعط الشبيبة لا أبا لك حقّها ... منها، فإنّ نعيمها متحوّل وإذا سلبت ثيابها لم تنتفع ... عند النّساء بكل ما تستبدل وقال (2) : قال لي يحيى وصرنا ... بين موجٍ كالجبال وتولّتنا رياحٌ ... من دبور وشمال شقّت القلعين وانب ... تّت عرى تلك الحبال وتمطّى ملك المو ... ت إلينا عن حيال فرأينا الموت رأي ال ... عين حالاً بعد حال

_ (1) المطرب: 146. (2) المطرب: 139 - 140 والجذوة: 352.

لم يكن للقوم فينا ... يا رفيقي رأس مال ومنها: وسليمى ذات زهدٍ ... في زهيدٍ في وصال كلّما قلت صليني ... حاسبتني بالخيال والكرى قد منعته ... مقلتي أخرى الليالي وهي أدرى فلماذا ... دافعتني بمحال أترى أنّا اقتضينا ... بعد شيئاً من نوال وله: من ظنّ أن الدهر ليس يصيبه ... بالحادثات (1) فإنّه مغرور فالق الزّمان مهوّناً لخطوبه ... وانجرّ حيث يجرّك المقدور وإذا تقلّبت الأمور ولم تدم ... فسواءٌ المحزون والمسرور وعاش الغزال أرباعاً وتسعين سنة، وتوفي في حدود الخمسين والمائتين، سامحه الله تعالى. وكان الغزال أقذع في هجاء علي بن نافع المعروف بزرياب، فذكر ذلك لعبد الرحمن، فأمر بنفيه، فدخل العراق، وذلك بعد موت أبي نواس بمدة يسيرة، فوجدهم يلهجون بذكره، ولا يساوون شعر أحد بشعره، فجلس يوماً مع جماعة منهم فأزروا بأهل الأندلس، واستهجنوا أشعارهم، فتركهم حتى وقعوا في ذكر أبي نواس، فقال لهم: من يحفظ منكم قوله (2) :

_ (1) ج: بالنائبات. (2) انظر بعض هذه ابيات في الجذوة: 212، وهي جميعاً في المطرب: 148.

ولمّا رأيت الشّرب (1) أكدت سماؤهم ... تأبّطت زقّي واحتبست (2) عنائي فلمّا أتيت الحان ناديت ربّه (3) ... فثاب خفيف الروح نحو ندائي قليل هجوع العين إلا تعلّةً ... على وجلٍ منّي ومن نظرائي فقلت أذقنيها فلمّا أذاقها ... طرحت عليه ربطتي وردائي وقلت أعرني بذلةً أستتر بها ... بذلت له فيها طلاق نسائي فوالله ما برّت يميني ولا وفت ... له غير أنّي ضامنٌ بوفائي فأبت إلى صحبي ولم أك آئباً ... فكلّ يفدّيني وحقّ فدائي فأعجبوا بالشعر، وذهبوا في مدحهم له، فلمّا أفرطوا قال لهم: خفضوا عليكم، فإنّه لي، فأنكروا ذلك، فأنشدهم قصيدته التي أولها: تداركت في شرب النّبيذ خطائي ... وفارقت فيه شيمتي وحيائي فلمّا أتم القصيدة بالإنشاد خجلوا، وافترقوا عنه. وحكي أن يحيى الغزال أراد أن يعارض سورة " قل هو الله أحدٌ " فلمّا رام ذلك أخذته هيبة وحالة لم يعرفها، فأناب إلى الله، فعاد إلى حاله. وحكي أن عباس بن ناصح الثقفي قاضي الجزيرة الخضراء كان يفد على قرطبة ويأخذ عنه أدباؤها، ومرت عليهم قصيدته التي أولها: لعمرك ما البلوى بعارٍ ولا العدم ... إذا المرء لم يعدم تقى الله والكرم حتى انتهى القارئ إلى قوله: تجاف عن الدنيا فما لمعجّزٍ ... ولا عاجز إلا الذي خطّ بالقلم

_ (1) الجذوة: وكنت إذا ما الشرب. (2) الجذوة: واحتضنت؛ المطرب: واحتسبت. (3) الجذوة: نبهت أهله.

فقال له الغزال، وكان في الحلقة، وهو إذ ذاك حدثٌ نظّامٌ متأدب ذكي القريحة: أيها الشيخ، وما الذي يصنع مفعل مع فاعل فقال له: كيف تقول فقال: كنت أقول: فليس لعاجز ولا حازم، فقال له عباس: والله يا بني لقد طلبها عمّك فما وجدها. وأنشد يوماً قوله من قصيدة: بقرت بطون الشعر فاستفرغ الحشا ... بكفّي حتى آب خاويه من بقري فقال له بكر بن عيسى الشاعر: أما والله يا أبا العلاء، لئن كنت بقرت الحشا لقد وسخت يديك بفرثه، وملأتهما بدمه، وخبّثت نفسك بنتنه، وخمشت أنفك بعرفه، فاستحيا عباس وأفحم عن جوابه. 166 - ومنهم الشهير بالمغارب والمشارق، المحلّي بجواهره صدور المهارق، أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد العنسي (1) ، متمم كتاب المغرب في أخبار المغرب قال فيه: وأنا أعتذر في إيراد ترجمتي هنا بما اعتذر به ابن الإمام في كتاب سمط الجمان وبما اعتذر به الحجاري في كتاب المسهب وابن القطّاع في الدرة الخطيرة وغيرهم من العلماء. فمن نظمه عندما ورد الديار المصرية: أصبحت أعترض الوجوه ولا أرى ... ما بينها وجهاً لمن أدريه عودي على بدئي ضلالاً بينهم ... حتّى كأنّي من بقايا التّيه ويح الغريب توحّشت ألحاظه ... في عالم ليسوا له بشبيه إن عاد لي وطني اعترفت بحقّه ... إن التغرّب ضاع عمري فيه

_ (1) ابن عسيد المغربي: ترجمته في المغرب 2: 178 واختصار القدح ص: 1 والفوات 2: 178 والديباج المذهب: 208 وتاريخ السلامي: 145 وبغية الوعاة: 357 ومسالك الأبصار 8: 382 وله ترجمة مبتوةر في الذيل والتكملة 5: 411 - 412.

وله من قصيدة يمدح ملك إفريقية أبا زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفصٍ: الأفق طلقّ والنّسيم رخاء ... والروض وشّت رده الأنداء والنهر قد مالت عليه غصونه ... فكأنّما هو مقلةٌ وطفاء وبدا نثار الجلّنار بصفحه ... فكأنّما هو حيّةٌ رقطاء والشّمس قد رقمت طرازاً فوقه ... فكأنّما هي حلّةٌ زرقاء فأدر كؤوسك كي يتم لك المنى ... واسمع إلى ما قالت الورقاء تدعوك حيّ على الصّبوح فلا تنم ... فعلى المنام لدى الصّباح عفىء وله أيضاً: كم جفاني ورمت أدعو عليه ... فتوقّفت ثمّ ناديت قائل لا شفى الله لحظه من سقام ... وأراني عذاره وهو سائل وله من قصيدة كتب بها إلى مالك سبتة الموفق أبي العباس أحمد بن أبي الفضل السّبتي شافعاً لشخص رغب في خدمته: بالعدل قمت وبالسماح فدن وجد ... لا فارقتك كفاية وعطاء ما كلّ من طلب السعادة (1) نالها ... وطلاب ما يأبى القضاء شقاء ومنها: وقد استطار بأسطري نحو الندى ... من أنهضته لنحوك العلياء طلب التباهة في ذراك فما له ... إلاّ لديك تأمّلٌ ورجاء وهو الذي بعد التجارب أحمدت ... أحواله وجرى عليه ثناء

_ (1) ج: الشفاعة.

لا يقرب الدنس المريب كواصل ... هجرته خوفاً أن يشان الراء [قد مارس الحرب الزبون زمانه ... وجرت عليه شدة ورخاء] (1) وعلاك تقضي أن يسود بأفقها ... لا غرو أن يعلي الشهاب بهاء وقوله في قصيدة: ألف التغرّب والتوحّش مثل ما ... ألف التوحّش والنفور ظباء حجّابه ألفوا التجهّم والجفا ... فهم لكلّ أخي هدىً أعداء مهما يرم طلبٌ إليه تقرّباً ... بعدت بذاك البدر عنه سماء لكنّني ما زلت أخدع حاجباً ... ومراقباً حتى ألان حباء والأرض لم تظهر محجّب نبتها ... حتى حبتها الديمة الوطفاء (2) قيل: وهذا معنى لم يسمع من غيره، وقوله في خسوف البدر: شان الخسوف البدر بعد جماله ... فكأنّه ماء عليه غثاء أو مثل مرآة لخودٍ قد قضت ... نظراً بها فعلا الجلاء غشاء وله من قصيدة عتاب يقول فيها: ولقد كسبت بكم علاً لكنها ... صارت بأقوال الوشاة هباء فغدوت ما بين الصحابة أجرباً ... كلٌّ يحاذر منّي الإعداء ولقد أرى أن النجوم تقلّ لي ... حجباً وأصغر أن أحلّ سماء فليهجروا هجر الفطيم لدرّه ... ويساعدو الزمنالخئون جفاء فلقد شكوت لهم إحالة ودّهم ... إذ لم أكن أرضى بهم خدماء

_ (1) البيت زيادة من إحدى النسخ. (2) ورد وحده في المقتطفات (الورقة: 9) وقدم له بقوله: وله من قصيدة وهو معنى بديع، ومن الغريب أن البيت وما بعده لاحق بأخبار الغزال.

إيهٍ فذكرهم أقلّ، وإنّما ... أومي إليك فتفهم الإيماء (1) لو لم يكن قينٌ لما فتكت ظباً ... أنت الذي صيرتهم أعداء ولو أنني أرجو ارتجاعك لم أطل ... شكوى ولم أستبعد الإغضاء لكن رأيتك لا تميل سجيّةً ... نحوي ولا تتكلّف الإصغاء إن لم يكن عطفٌ منّوا بالنّوى ... إنّ الكريم إذا أهين تناءى وقوله: ولكم سرينا في متون ضوامر ... تثني أعنتها من الخيلاء من أدهم كالليل حجّل بالضحى ... فتشقّ غرته عن ابن ذكاء أو أشهب يحكي غدائر أشيبٍ ... خلعت عليه الشّهب فضل رداء أو أشقر قد نمّقته بشعلة ... كالمزج ثار بصفحة الصّهباء أو أصفر قد زيّنته غرّة ... حتى بدا كالشمعة الصفراء طارت، ولكن لا يهاض جناحها ... هبّت، ولكن لم تكن رخاء وقوله من أبيات في افتضاض بكر: وخريدةً ما إن رأيت مثالها ... حيّت من الألحاظ بالإيماء فسألتها سمع الشكاة فأفهمت ... أنّ الرقيب جهينة الأنباء وتبعتها وسألت منها قبلةً ... في خلوة من أعين الرقباء فثنت عليّ قوامها بتعانقٍ ... أحيا فؤاداً مات بالبرحاء ووجدتها لمّا ملكت عنانها ... عذراء مثل الدّرّة العذراء جاءت إليّ كوردةٍ حمراء (2) ... فتركتها كعرارة صفراء وسلبتها ما احمرّ منها صفوه ... فجرى مذاباً منجحاً لرجائي

_ (1) ورد هذا البيت أيضاً وحده في المقتطفات (الورقة: 9) . (2) ج: محمرة.

وقوله من أبيات: أحبابنا عودوا علينا عودةً ... ما منكم بعد التفرّق مرغب كم ذا أداريكم بنفس جاهداً ... وكأنّما أرضيكم كي تغضبوا وأزيد بعداً ما اقتربت إليكم ... كالسّهم أبعد ما يرى إذ يقرب وأجوب نحوكم المنازل جاهداً ... ومع اجتهادي فاتني ما أطلب كالبدر أقطع منزلاً في منزل ... فإذا انتهيت إلى ذراكم أغرب وقوله من أبيات: سألتك يا من يستلان فيصعب ... ومن يترضّى بالحياة فيغضب أما خدّك البدر المنير فلم غدت ... تحلّ به ضدّ القضيّة عقرب وقوله، وقد داعبه أحد الفقهاء وسرق سكينه من حرز: أيا سارقاً ملكاً مصوناً ولم يجب ... على يده قطعٌ وفيه نصاب ستندبه الأقلام عند عثارها ... ويبكيه إن يعد الصّواب كتاب وقوله في تفاحة عنبر أهديت للملك الصالح نجم الدين أيوب: أنا لون الشباب والخال أهدي ... ت لمن قد كسا الزمان شبابا ملك العالمين نجم بني أيّ ... وب ولا زال في المعالي شهابا جئت ملأى من الثّناء عليه ... من شكورٍ إحسانه والثوابا لست ممّن له خطابٌ ولكن ... قد كفاني أريج عرفي خطابا وقوله من قصيدة: فالحمد لله على ساعة ... قد قرّبتني من علا الصاحب وليعذر المولى على أنّني ... قد كنت من علياه في جانب

كمن أتى نافلةً أوّلاً ... ثمّ أتى من بعد بالواجب وقوله من أبيات (1) : فإن كنت في أرض التغرّب غارباً ... فسوف تراني طالعاً فوق غارب فصمصام عمروٍ حين فارق كفّه ... رموه ولا ذنبٌ لعجز المضارب وما عزّة الضّرغام إلاّ عرينه ... ومن مكّةٍ سادت لؤيّ بن غالب وقوله في فرس أصفر أغر أكحل الحلية (2) : وأجرد تبريٍّ أثرت به الثرى ... وللفجر في خصر الظلام وشاح له لون ذي عشقٍ وحسن معشّقٍ ... لذلك في دلّة (3) ومراح عجبت له وهو الأصيل بعرفه ... ظلامٌ وبين الناظرين صباح يقيّد طير اللحظ والوحش عندما ... يطير به نحو النجاح جناح وقوله من أبيات: إذا ما غراب البين صاح فقل له ... ترفّق رماك الله يا طير بالبعد لأنت على العشّاق أقبح منظراً ... وأكره في الأبصار من ظلمة اللحد تصيح بنوحً ثم تعثر ماشياً ... وتبرز في ثوبٍ من الحزن مسودّ متى لحت صحّ البين وانقطع الرجا ... كأنك من وشك الفراق على وعد وقوله في غلام جميل الصورة أهدى تفاحة: ناب ما أهديت عن عر ... فٍ وعن ريقٍ وخدّ

_ (1) المقتطفات (الورقة: 9) . (2) المغرب 2: 173 والمقتطفات (الورقة: 9) . (3) دوزي: لذة، وفي ج ق والمقتطفات: ذلة، والتصويب عن المغرب.

حبّذا تفاحةٌ قد ... أشبهت أوصاف مهدي بتّ منها في سرورٍ ... فكأنّما قد بتّ عندي وقوله من قصيدة: هذا الذي هب الدّنيا بأجمعها ... وبعد ذلك يلفى وهو يعتذر إن هزّة المدح فالأموال في بددٍ ... والغصن ما هزّ إلا بدّد الثمر [فقلت لمّا بدا لي حسن منظره ... لكنه زاد إشراقاً: هو القمر] (1) متّع لحاظك في وجهٍ بلا ضرر ... إن كان شمساً يداه تحتها مطر وقوله من أبيات: لي جيرة ضنّوا عليّ وجاروا ... فنبت بي الأوطان والأوطار ومن العجائب أنني مع جورهم ... ما قرّ لي بعد الفراق قرار وقوله: أنا شاعر أهوى التخلّي دون ما ... زوج لكيما تخلص الأفكار لو كنت ذا زوج لكنت منغّصاً ... في كلّ حينٍ رزقها أمتار دعني أرح طول التغرب خاطري ... حتى أعود ويستقرّ قرار كم قائلٍ لي ضاع شرخ شبابه ... ما ضيّعته بطالةٌ وعقار إذ لم أزل في العلم أجهد دائماً ... حتّى تأتّت هذه الأبكار مهما أرم من دون زوج لم أكن ... كلاًّ ورزقي دائماً مدرار وإذا خرجت لفرجةٍ هنّيتها ... لا صنعةٌ ضاعت ولا تذكار وقوله من قصيدة:

_ (1) زيادة لم ترد في ج ق ودوزي.

ما كنت أحسب أن أضيع وأنت في ال ... دّنيا وأن أمسي غريباً معسرا أنا مثل سهمٍ سوف يرجع بعدما ... أقصاه راميه المجيد ليخبرا وقوله سامحه الله تعالى: وافى عليٌّ لنا بسيفٍ ... والبين قد حان والوداع فقال شبّه فقلت شمس ... قد مدّ من نورها شعاع وقوله من قصيدة في ملك إشبيلية الباجي، وقد هزم ابن هود (1) : لله فرسان غدت راياتهم ... مثل الطيور على عداك تحلّق السّمر تنقط ما تسطّر بيضهم ... والنقع يترب والدماء تخلّق وقال ارتجالاً بمحضر زكي الدين بن أبي الإصبع وجمال الدين أبي الحسين الجزار المصري الشاعر ونجم الدين بن إسرائيل الدمشقي بظاهر القاهرة، وقد مشى أحدهم على بسيط نرجس: يا واطئ النرجس ما تستحي ... أن تطأ الأعين بالأرجل فتهافتوا بهذا البيت، وراموا إجازته، فقال ابن أبي الإصبع مجيزاً: فقلت دعني لم أزل محرجاً ... على لحاظ الرشإ الأكحل وكان أمثل ما حضرهم، ثم أبوا أن يجيزه غيره، فقال: قابل جفوناً بجفونٍ ولا ... تتبذل الأرفع بالأسفل وقوله في الجزيرة الصالحية بمصر، وهي الشهيرة الآن بالروضة: تأمّل لحسن الصالحيّة إذ بدت ... مناظرها مثل النّجوم تلالا

_ (1) المغرب 2: 177.

وللقلعة الغرّاء كالبدر طالعاً ... تفجّر صدر الماء عنه هلالا ووافى إليها النّيل من بعد غاية ... كما زار مشغوفٌ يروم وصالا وعانقها من فرط شوق بحسنها ... فمدّ يميناً نحوها وشمالا جرى قادماً بالسعد فاختطّ حولها ... من السعد إعلاماً بذلك دالا وقوله من أبيات في ملك إفريقية وقد جهز ولده الأمير أبا يحيى بعسكر: وقد أرسلته نحو الأعادي ... كما جرّدت من غمدٍ حساما وقوله في قوس: أنا مثل الهلال في ظلم النّق ... ع سهامي تنقضّ مثل النجوم تقصر القضب والقنا عن مجالي ... عند رجمي بها لكلّ رجيم قد كستها الطيور لمّا رأتها ... كافلاتٍ لها برزقٍ عميم وقوله من أبيات (1) : وأشقر مثل البرق لوناً وسرعةً ... قصدت عليه عارض الجود فانهمى ولنذكر ترجمته من الإحاطة ملخصة، فنقول: قال لسان الدين (2) : علي بن موسى بن عبد الملك بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن عبد الله بن سعد بن عمار بن ياسر بن كنانة بن قيس بن الحصين العنسي، المدلجي، من أهل قلعة يحصب، غرناطي، قلعي، سكن تونس، أبو الحسن ابن سعيد، وهذا الجل وسطى عقد بيته، وعلم أهله، ودرة قومه، المصنف، الأديب، الرحالة، الطرفة،

_ (1) المغرب: 179. (2) الإحاطة، الورقة: 333.

الأخباري، العجيب الشأن في التجوّل في الأقطار، ومداخلة الأعيان والتمتّع بالخزائن العلمية، وتقييد الفوائد المشرقية والمغربية، أخذ عن أعلام إشبيلية كأبي علي الشّلوبين، وأبي الحسن الدباج، وابن عصفور وغيرهم، وتواليفه كثيرة: منها " المرقصات والمطربات " و " المقتطف من أزاهر الطرف " و " الطالع السعيد في تاريخ بني سعيد " تاريخ بلده وبيته، والموضوعان الغريبان المتعددا الأسفار، وهما " المغرب في حلى المغرب " و " المشرق في حلى المشرق " وغير ذلك ممّا لم يتصل إلينا، فلقد حدّثني الوزير أبو بكر ابن الحكيم أنه تخلف كتاباً يسمى " المرزمة " (1) يشتمل على وقر بعير من رزم الكراريس لا يعلم ما فيه من الفوائد الأدبية والأخبارية إلاّ الله تعالى، وتعاطى نظم الشعر في حد من الشبيبة يعجب فيه من مثله، فيذكر أنه خرج مع أبيه إلى إشبيلية وفي صحبته سهل ابن مالك، فجعل سهل بن مالك يباحثه عن نظمه إلى أن أنشده في صفة نهر والنسيم يردده والغصون تميل عليه: كأنّما النّهر صفحةٌ كتبت ... أسطرها، والنّسيم ينشئها لمّا أبانت عن حسن منظرها ... مالت عليها الغصون تقرؤها فطرب وأثنى عليه. ثم ناب عن أبيه في أعمال الجزيرة، ومازج الأدباء، ودوّن كثيراً من نظمه، ودخل القاهرة، فصنع له أدباؤها صنيعاً في ظاهرها، وانتهت بهم الفرجة إلى روض (2) نرجس، وكان فيهم أبو الحسين الجزار فجعل يدوس النرجس برجله، فقال أبو الحسن: يا واطئ النرجس ما تستحي ... أن تطأ الأعين بالأرجل

_ (1) الإحاطة: المزيد له. (2) ق: أنوار، ج: صنف.

فتهافتوا بهذا البيت، وراموا إجازته، فقال ابن أبي الإصبع: فقال دعني لم أزل محنقاً ... على لحاظ الرشإ الأكحل وكان أمثل ما حضرهم، ثم أبوا أن يجيزه غيره، فقال: قابل جفوناً بجفونٍ، ولا ... تبتذل الأرفع بالأسفل ثم استدعاه (1) سيف الدين ابن سابق إلى مجلس بضفّة النيل مبسوط بالورد، وقد قامت حوله شمامات نرجس، فقال في ذلك: من فضّل النرجس فهو الذي ... يرضى بحكم الورد إذ يأس أما ترى الورد غدا قاعداً ... وقام في خدمه النرجس ووافق ذلك مماليك الترك وقوفاً في الخدمة، على عادة المشارقة، فطرب الحاضرون. ولقي بمصر أيدمر التركي والبهاء زهيراً وجمال الدين بن مطروح وابن يغمور وغيرهم، ورحل صحبة كمال الدين بن العديم إلى حلب، فدخل على الناصر صاحب حلب، فأنشده قصيدة أولها: جد لي بما ألقى الخيال من الكرى ... لا بدّ للضيف الملمّ من القرى فقال كمال الدين: هذا رجل عارف، ورّى بمقصودة من أول كلمة، وهي قصيدة طويلة، فاستجلسه السلطان، وسأله عن بلاده ومقصوده برحلته، وأخبره أنّه جمع كتاباً في الحلى البلادية والعلى العبادية المختصة بالمشرق، وأخبره أنّه سمّاه " المشرق في حلى المشرق " وجمع مثله فسمّاه " المغرب في حلى المغرب " فقال: نعينك بما عندنا من الخزائن، ونوصلك إلى ما ليس

_ (1) انظر هذا الخبر في المقتطفات (الورقة: 9) .

عندنا كخزائن الموصل وبغداد، وتصنف لنا، فخدم على عادتهم، وقال: أمر مولاي بذلك إنعام وتأنيس، ثم قال له السلطان مداعباً: إن شعراءنا ملقبون بأسماء الطيور، وقد اخترت لك لقباً يليق بحسن صوتك وإيرادك للشعر، فإن كنت ترضى به، وإلا لم نعلم به أحداً غيرنا، وهو البلبل، فقال: قد رضي المملوك يا خوند. فتبسّم السلطان، وقال له أيضاً يداعبه: اختر واحدةً من ثلاث: إمّا الضيافة التي ذكرتها أوّل شعرك، وإمّا جائزة القصيدة، وإمّا حق الاسم، فقال: يا خوند المملوك ممّا لا يختنق بعشر لقمٍ لأنّه مغربي أكول فكيف بثلاث فطرب السلطان وقال: هذا مغربي ظريف، ثم أتبعه من الدنانير والخلع الملوكية والتواقيع بالأرزاق ما لا يوصف. ولقي بحضرته عون الدين العجمي، وهو بحر لا تنزفه الدلاء، والشهاب التّلّعفري، والتاج ابن شقير، وابن نجيم الموصلي، والشرف بن سليمان الإربلي، وطائفة من بني الصاحب. ثم تحول إلى دمشق، ودخل الموصل وبغداد، ودخل مجلس السلطان المعظم [ابن الملك الصالح] (1) بدمشق، وحضر مجلس خلوته، وكان ارتحاله إلى بغداد في عقب سنة ثمان وأربعين وستمائة في رحلته الأولى إليها، ثم رحل إلى البصرة ودخل أرّجان، وحج، ثم عاد إلى المغرب، وقد صنّف في رحلته مجموعاً سمّاه ب " النفحة المسكية في الرحلة المكية " وكان نزوله بساحل مدينة إقليبية (2) من إفريقية في إحدى جمادى سنة اثنتين وخمسين وستمائة، واتصل بخدمة الأمير أبي عبد الله المستنصر، فنال الدرجة الرفيعة من حظوته. حدثني شيخنا الوزير أبو بكر ابن الحكيم أن المستنصر جفاه في آخر عمره وقد أسنّ لجرّاء خدمة مالية أسندها إليه، وقد كان بلا منه قبل جفوةً أعقبها انتشال وعناية، فكتب إليه بنظم من جملته:

_ (1) ما بين معقفين سقط من ق ج وزاده دوزي من نسخة الإحاطة. (2) إقليبية: حصن قريب من قرطاجة، وفي ج: إقليبية.

لا ترعني بالجفا ثانيةً ... فرقّ له، وعاد إلى حسن النظر إليه، إلى أن توفّي تحت بر وعناية (1) . مولده بغرناطة ليلة الفطر سنة عشر وستمائة (2) ، ووفاته بتونس في حدود خمس وثمانين وستمائة، انتهى باختصار. وذكرت حكاية إجازة بيته في النرجس وإن تقدمت لاتصال الكلام. قلت: قد كنت وقفت على بعض ديوان شعره التعدد الأسفار، ونقلت منه قوله من قصيدة يهنئ ابن عمّه الرئيس أبا عبد الله ابن الحسين (3) بقدومه من حركة هوّارة: أما واجبٌ أن لا يحول وجيب ... وقد بعدت دارٌ وخان حبيب وليس أليفٌ غير ذكرٍ وحسرةٍ ... ودمعٌ على من لا يرقّ صبيب وخفق فؤادٍ إن هفا الرق خافقاً ... وشوقٌ كما شاء الهوى ونحيب ويعذلني من ليس يعرف ما الهوى ... وعذل مشوقٍ في البكاء عجيب (4) ألا تعس اللّوام في الحبّ قد عموا ... وصمّوا ودائي ليس منه طبيب يرومون أن يثني الملام (5) صبابتي ... وليس إلى داعي الملام أجيب وفائي إذا ما غبت عنكم مجدّدٌ ... وغيري ذو غدرٍ أوان يغيب ولو لم يكن مني الوفاء سجيّةً ... لكنت لغير ابن الحسين أنيب سموأل هذا العصر حاتم جوده ... مهلّبه إن مارسته (6) حروب

_ (1) في الإحاطة حسب مقارنة دوزي: ورعاية؛ ويبدو أن نسخة الإحاطة التي اعتمدتها قد أخلت بجوانب كثيرة من أخبار ابن سعيد؛ أما النسخة التي اعتمدها دوزي فهي أوفى. (2) كذا في ج، وأثبت دوزي: سنة 615 اعتماداً على الإحاطة. (3) ستأتي ترجمته. (4) في نسخة: غريب. (5) ق: يشفي الغرام؛ ج: يثني الغمام. (6) دوزي: ما مارسته.

فتىً سيّر (1) الأمداح شرقاً ومغرباً ... أبو دلفٍ من دونه وخصيب إذا رقم القرطاس قلت ابن مقلة ... وإن نظم الأشعار قلت حبيب وإن نثر الأسجاع قلت سميّه ... وإن سرد التاريخ قلت عريب وما أحرز الصّوليّ آدابه التي ... إذا ما تلاها لم يجبه أديب ومنها: وأمّا إذا ما الحرب أخمد (2) نارها ... ففيه تلظّى (3) مارجٌ ولهيب فكم قارع الأبطال في كلّ وجهةٍ ... نحاها وكم لفّت عليه حروب وكائن له بالغرب (4) من موقفٍ له ... حديثٌ إذا يتلى تطير قلوب بمرّاكشٍ سل عنه تعلم غناءه ... وقد ساءهم (5) يومٌ هناك عصيب إذا ما ثنى الرمح الطويل كأنّه ... مديرٌ لغصن الخيزران لعوب وإن جرّه أبصرت نجماً مجرّراً ... ذؤابته، منه الكماة تذوب يهيم به ما إن يزال معانقاً ... له راكعاتٍ ما تحوز كعوب محمد، لا تبد الذي أنت قادرٌ ... عليه، وخف عيناً علاك تصيب نفوذ سهام العين أودى بمصعبٍ ... وطاح به بعد الشّبوب شبيب ألا فهنيئاً أن رجعت لتونس ... فأطلعت شمساً والسّفار (6) غروب كواكبها تبدو إذا ما تركتها ... وقد جعلت مهما حضرت تغيب إذا سدت في أرضٍ فغيرك تابعٌ ... علاك، ومهما ساد فهو مريب

_ (1) ج: سرد. (2) ج: أظهر. (3) دوزي: تلظ. (4) ج: في الغرب. (5) دوزي: ساءه. (6) ق ج: والشفار.

ومنها: كفاني أنّي أستظلّ بظلّكم ... ومن هاب ذاك المجد فهو مهيب فأصلك أصلي والفروع تباينت ... بعيدٌ على من رامه وقريب وحسبي فخراً أن أقول محمدٌ ... نسيب عليٍّ جلّ منه نصيب تركت جميع الأقربين لقصده ... على حين حانت فتنةٌ وخطوب رأيت به جنّات عدنٍ فلم أبل ... إذا وصلتنا للخلود شعوب فقبّلت كفّاً لا أعاب بلثمها ... وأيدي الأيادي لثمهنّ وجوب وكيف وليس الرأس كلرّجل، فرّقت ... شياتٌ لعمري بيننا وضروب ولو كان قدري مثل قدرك في العلا ... لحقّ بأن يعلو الشباب مشيب ولولا الذي أسمعت من مكر حاسدٍ ... أتاك بقولٍ وهو فيه كذوب لما كنت محتاجاً لقولي آنفاً ... تخلّيت من ذنبٍ وجئت أتوب إذا كنت ذا طوعٍ وشكرٍ وغبطةٍ ... فمن أين لي يا ابن الكرام ذنوب لقد كنت معتاداً ببشرٍ فما الذي ... تقلّدته حتى يزال قطوب أإن رفع السلطان سعيي بقدركم (1) ... أحّلأ عن وردٍ لكم وأخيب فأحسب ذنبي ذنب صحرٍ (2) ، بدارها ... إلى البرّ عند الخابرين معيب وحاشاك من جورٍ عليّ، وإنّما ... أخاطب من أصفي (3) له فيشوب صحابٌ هم الداء الدفين فليتني ... ولم أدن منهم، للذئاب صحوب كلامهم شهدٌ ولكنّ فعلهم ... كسمّ له بين الضلوع دبيب سأرحل عنهم والتجارب لم تدع ... بقلبي لهم شيئاً عليه أثيب

_ (1) في نسخة: بقربكم. (2) ذنب صحر: مثل، وذلك أن لقمان بعد أن قتل زوجته لقيته ابنته صحر فقتلها أيضاً قائلاً " وهل أنت إلا امرأة " دون ذنب جنته، فضرب بذلك المثل. وفي ج ق ودوزي: صخر - بالمعجمة -. (3) في نسخة: أصفو.

إذا اغترب الإنسان عمّن يسوءه ... فما هو في الإبعاد عنه غريب فدارك برأبٍ (1) منك ما قد خرقته ... ليحسن منّي مشهدٌ ومغيب ولا تستمع قول الوشاة فإنّما ... عدوّهم بين الأنام نجيب فيا ليت أنّي لم أكن متأدّباً ... ولم يك لي أصلٌ هناك رسوب وكنت كبعض الجاهلين محبباً ... فما أنا للهمّ الملمّ حبيب وما إن ضربت الدهر زيداً بعمره ... ولم يك لي بين الكرام ضريب أأشكوك أم أشكو إليك فما عدت ... عداتي حتّى حان منك وثوب سأشكر ما أولى وأصبر للذي ... توالى، على أنّ العزاء سليب فدم في سرورٍ ما بقيت فإنّني ... وحقّك مذ دبّ الوشاة كئيب قال: وكان سبب التغير بيني وبين ابن عمي الرئيس المذكور أن ملك إفريقية استوزر لأشغال الموحدين أبا العلاء (2) إدريس بن علي بن أبي العلاء ابن جامع، فاشتمل عليّ، وأولاني من البرّ ما قيّدني وأمال قلبي إليه، مع تأكيد ما بينه وبين ابن عمي من الصحبة، فلم يزل ينهض بي، ويرفع أمداحي للملك، ويوصّل إليه رسائلي، منبّهاً على ذلك مرشحاً، إلى أن قبض الملك على كاتب عسكره، وكان يقرأ بين يده كتب المظالم، فاحتيج إلى من يخلفه في ذلك، فنبه الوزير عليّ، وارتهن فيّ، مع أنّي كنت من كتّاب الملك، فقلدني قراءة المظالم المذكورة، وسفر لي الوزير عنده في دار الكاتب المؤخّر، فأنعم بها، فوجد الوشاة مكاناً متسعاً للقول، فقالوا وزوّروا من الأقاويل المختلفة ما مال بها حيث مالوا، وظهر منه مخايل التغيير، فجعلت أداريه وأستعطفه، فلم ينفع فيه قليل ولا كثير، إلى أن سعى في تأخير والدي عن الكتب للأمير الأسعد أبي يحيى ابن ملك إفريقية، ثم سعى في تأخيري، فأخّرت عن الكتابة وعن

_ (1) ق ج: برأي. (2) ج ق ودوزي: أبا العلى.

قراءة (1) المظالم، فانفردت بالكتابة للوزير المذكور، وفوض إليّ جميع أموره، وأولاني من التأنيس ما أنساني تلك الوحشة، ومن العز ما أنقذني من تلك الذلة: فردّ عليّ العيش بعد ذهابه ... وآنسني بعد انفرادي من الأهل وقال إذا ما الوبل فاتك فاقتنع ... بما قد تسنّى عندك الآن من طلّ ووالله ما نعماه طلٌّ وإنّما ... تأدّبه غيثٌ يجود على الكلّ رآني أظما في الهجيرة ضاحياً ... فرقّ وآواني إلى الماء والظلّ ولم أزل عنده في أسر حال ما لها تكدير إلاّ ما يبلغني من أن ابن عمّي لا يزال يسعى في حقي بما أخشى مغبّته، وخفت أن يطول ذلك، فيسمع منه، ولا ينفع دفاع الوزير المذكور عني، فرغبت له في أن يرفع للملك أنّي راغبٌ في السّراح إلى المشرق برسم الحج: ومن بلّه الغيث في بطن وادٍ ... وبات فلا يأمننّ السّيولا فلم يسعفني في ذلك، ولامني على تخوّفي، وقلة ثقتي بحمايته، فرفعت له هذه القصيدة: هل الهجر إلا أن يطول التجنّب ... ويبعد من قد كان منه التقرّب وتقطع رسلٌ بيننا ورسائلٌ ... ويمنع لقيانا نوىً وتحجّب ولو أنّني أدري لنفسي زلّةً ... جعلت لكم عذراً ولم أك أعتب ولكنّكم لمّا مللتم (2) هجرتم ... وذنّبتم في الحبّ من ليس يذنب إلى الله أشكو غدركم وملالكم ... وقلباً له ذاك التعذب يعذب فلو أنّه يجزيكم بفعالكم ... لكان له عنكم مرادٌ ومذهب (3)

_ (1) دوزي: وعن كتابة. (2) كذا في ق وج؛ وفي نسخة: ملكتم. (3) دوزي: ومطلب.

ولكن أبى أن لا يحنّ لغيركم ... وأن لا يرى عنكم مدى الدهر مذهب فهلاّ رعيتم أنّه في ذراكم ... غريبٌ، وليس الموت إلاّ التغرب لزمتك لمّا أن رأيتك كاملاً ... جمالاً وإجمالاً وذاك يحبّب وإنّي لأخشى أن يطول اشتكاؤه ... لمن إن أتى مكراً فليس يثرّب فلم أسع إلا لارتياحٍ وراحةٍ ... وغيري وقد آواه غيرك يتعب فأنت الذي آويتني ورحمتني ... وذو الرحم الدنيا لناري يحطب فما مرّ يومٌ لا يدير مصيبةً ... عليك، وبالتدبير منك يخيّب وهبه ثبوتاً لا يحيل أما ترى ... مجرّ حبالٍ في الحجارة يرسب وهبه له سدّاً فكم أنت حاضرٌ ... أحاذر خرقاً منه أن يتسبّبوا وما إن أرى إلا الفرار مخلّصاً ... وما راغبٌ في الضيم من عنه يرغب فأنه إلى الأمر العليّ شكيتي ... وأنّ خطوب الدهر نحوي تخطب ولا تطمعوني في الذي لست نائلاً ... فلا أنا عرقوبٌ ولا أنا أشعب ألا فلتمنّوا بالسّراح فإنّه ... لراحة من يشقى لديكم وينصب سلوا الكأس عني إذ تدار فإنّني ... لأتركها همّاً ودمعي أشرب ولا أسمع الألحان حين تهزني ... ولو كان نوحاً كنت أصغي وأطرب فديتكم كم ذا أهون بأرضكم ... أهذا جزاءٌ للذي يتغرّب أبخلٌ عليّ ما سواك يصيخ لي ... فهل لي ممّا كدّر العيش مهرب تقلّص عنّي كلّ ظلٍّ ولم أجد ... كما كنت ألفي (1) من أودّ وأصحب أذو طمعٍ في العيش يبقى وحوله ... مدى الدهر أفعى لا تزال (2) وعقرب أجزني أنجو (3) بالفرار فإنّه ... وحقّك من نعماك عندي يحسب

_ (1) ج ودوزي: أكفي. (2) ج: لا تزول. (3) ج ق: أجرني؛ ق: أنجز.

فلا زلت يا خير الكرام مهنّأ ... فعيشي منه الموت أشهى وأطيب وصانك من قد صنت في حقه دمي ... وغيرك ن ثوب المروءة يسلب ولم يزل الوزير - لا أزال الله عنه رضاه - يحمي جانبي، إلى أن أصابتني فيه العين، فأصابه الحين، فقلت في ذلك: وطيب نفسي أنّه مات عندما ... تناهى ولم يشمت به كلّ حاسد ويحكم فيه كلّ من كان حاكماً ... عليه ويعطي الثأر كلّ معاند وقلت أرثيه: بكت لك حتى الهاطلات السواكب ... وشقّت جيوباً فيك حتّى السحائب فكيف بمن دافعت عنه ومن به ... أحاطت وقد بوعدت عنه المصائب ألا فانظروا دمعي فأكثره دمٌ ... ولا تذهبوا عني فإنّي ذاهب وقولوا لمن قد ظلّ يندب بعده ... وفاؤك لو قامت عليك النوادب (1) لعمرك ما في الأرض وافٍ بذمّةٍ ... أيصمت إدريس ومثلي يخاطب دعوتك يا من لا أقوم بشكره ... فهل أنت لي بعد الدعاء مجاوب أيا سيّداً قد حال بيني وبينه ... ترابٌ حوت ذكراك منه الترائب لمن أشتكي إن جار بعدك ظالمّ ... عليّ وإن نابت جنابي النّوائب لمن أرتجي (2) عند الأمير بمنطقٍ ... تحفّ به حولي المنى والمواهب وهي طويلة، ومنها قبيل الختم: وقد كنت أختار الترحّل قبل أن ... يصيبك سهمٌ للمنيّة صائب ولكن قضاء الله من ذا يردّه ... فصبراً فقد يرضى الزمان المغاضب

_ (1) دوزي: النوائب. (2) دوزي: أشتكي.

ومنها، وهو آخرها: وإنّي لأدري أنّ في الصبر راحةً ... إذا لم تكن فيه عليّ مثالب وإن لم يؤب من كنت أرجو انتصاره ... عليك فلطف الله نحوي آيب قال رحمه الله تعالى: ولما قدمت مصر والقاهرة أدركتني (1) فيهما وحشة، وأثار لي تذكّر ما كنت أعهد بجزيرة الأندلس من المواضع المبهجة التي قطعت بها العيش غضّاً خصيباً، وصحبت بها الزمان ولبست الشباب قشيباً، فقلت: هذه مصر فأين المغرب ... مذ نأى عني دموعي تسكب فارقته النّفس جهلاً إنّما ... يعرف الشيء إذا ما يذهب (2) أين حمصٌ أين أيامي بها ... بعدها لم ألق شيئاً يعجب كم تقضّى لي بها (3) من لذةٍ ... حيث للنهر خريرٌ مطرب وحمام الأيك تشدو حولنا ... والمثاني في ذراها تصخب أيّ عيشٍ قد قطعناه بها ... ذكره من كلّ نعمى أطيب ولكم بالمرج لي من لذةٍ ... بعدها ما العيش عندي يعذب والنواعير التي تذكارها ... بالنّوى عن مهجتي لا تسلب ولكم في شنتبوسٍ من منىً ... قد قضيناه ولا من يعتب [حيث هاتيك الشراجيب التي ... كم بها من حسن بدر معصب] (4) وغناءٌ كلّ ذي فقرٍ له ... سامعٌ غصباً ولا من يغصب بلدةٌ طابت وربٌّ غافرٌ ... ليتني ما زلت فيها أذنب

_ (1) ج: أذكرتني. (2) سقط هذا البيت من ج. (3) ق: كم بعيش نالنا، واضطربت في ج. (4) البيت زيادة من إحدى النسخ، ولم يرد في ق ج.

أين حسن النيل من نهرٍ بها ... كلّ نغماتٍ لديه تطرب كم به من زورقٍ قد حلّه ... قمرٌ ساقٍ وعودٌ يضرب لذة النّاظر والسمع على ... شمّ زهرٍ وكؤوسٍ تشرب كم ركبناها فلم تجمح بنا ... ولكم من جامحٍ إذ يركب طوعنا حيث اتجهنا لم نجد ... تعباً منها إذا ما نتعب قد أثارت عثيراً يشبهه ... نثر سلكٍ فوق بسطٍ ينهب كلّما رشنا لها أجنحةً ... من قلاعٍ ظلت منها تعجب كطيورٍ لم تجد ريّاً لها ... فبدا للعين منها مشرب بل على الخضراء (1) لا أنفكّ من ... زفرةٍ في كلّ حين تلهب حيث للبحر زئيرٌ حولها ... تبصر الأغصان منه ترهب كم قطعنا الليل فيها مشرقاً ... بحبيبٍ ومدامٍ يسكب وكأنّ البحر ثوبٌ أزرقٌ ... فيه للبدر طرازٌ مذهب وإلى الحور حنيني دائماً ... وعلى شنّيل دمعي صيّب (2) حيث سلّ النهر عضباً وانثنت ... فوقه القضب وغنّى الربرب وتشفّت أعين العشّاق من ... حور عينٍ بالمواضي تحجب ملعبٌ للهو مذ فارقته ... ما ثناني نحو لهوٍ ملعب وإلى مالقةٍ يهفو هوىً ... قلب صبٍّ بالنوى لا يقلب أين أبراجٌ بها قد طالما ... حثّ كأسي في ذراها كوكب حفّت الأشجار عشقاً حولنا ... تارةً تنأى وطوراً تقرب جاءت الريح بها ثم انثنت ... أتراها حذرت من ترقب

_ (1) يعني الجزيرة الخضراء، وقد قضى ابن سعيد فيها جانباً من حياته إذ كان والده والياً عليها، وكان هو ينوب عنه أحياناً. (2) الحور: حور مؤمل وهو من متنزهات غرناطة (المغرب 2: 103) وشنيل هو نهرها، وقد مر التعريف به في هذا الكتاب.

وعلى مرسيةٍ أبكي دماً ... منزلٌ فيه نعيمٌ معشب مع شمسٍ طلعت في ناظري ... ثم صارت في فؤادي تغرب هذه حالي، وأمّا حالتي ... في ذرا مصر ففكر متعب سمعت أذني محالاً، ليتها ... لم تصدّق ويحها من يكذب وكذا الشيء إذا غاب انتهوا ... فيها وصفاً كي يميل الغيّب ها أنا فيها فريدٌ مهملٌ ... وكلامي ولساني معرب وأرى الألحاظ تنبو عندما ... أكتب الطرس أفيه عقرب وإذا أحسب في الديوان لم ... يدر كتّابهم ما أحسب وأنادى مغربيّاً، ليتني ... لم أكن للغرب يوماً أنسب نسبٌ يشرك فيه خاملٌ ... ونبيهٌ، أين منه المهرب أتراني ليس لي جدٌّ له ... شهرةٌ أو ليس يدرى لي أب سوف أثني راجعاً لا غرّني ... بعد ما جرّبت برقٌ خلّب وقال بقرمونة متشوقاً إلى غرناطة (1) : أغثني إذا غنّى الحمام المطرّب ... بكأسٍ بها وسواس فكري ينهب ومل ميلةً حتى أعانق أيكةً ... وألثم ثغراً فيه للصّبّ مشرب ولم أر مرجاناً ودرّاً خلافه ... يطيف به وردٌ من الشهد أعذب فديتك من غصنٍ تحمّله نقاً ... تطلّع أعلاه صباحٌ وغيهب وجنّته جنّات عدنٍ وفي لظىً ... فؤادي وما لي من ذنوبٍ تعذب ويعذلني العذّال فيه وإنّني ... لأعصي عليه من يلوم ويعتب لقد جهلوا، هل عين حياتي أنثني ... إذا نمّقوا أقوالهم وتألّبوا يقولون لي قد صار ذكرك مخلقاً ... وأصبح كلٌّ في هواه يؤنّب

_ (1) سقط هذا السطر من ج.

وعرضك مبذولٌ، وعقلك تالفٌ ... وجسمك مسلوبٌ، ومالك ينهب فقلت لهم عرضي وعقلي والعلا ... وفخري لا أرضى بها حين يغضب جنونٌ أبى أن لا يلين لعازمٍ ... بسحرٍ بآيات الرّقى ليس يذهب فقالوا ألا قد خان عهدك قلت لم ... يخن من إذا قرّبته يتقرّب وكم دونه من صارم ومثقّفٍ ... فيا من رأى بدراً بهذين يحجب على أنّه يستسهل الصعب عندما ... يزور فلا يجدي حمىً وترقّب وكم حيلةٍ تترى على إثر حالةٍ ... وذو الودّ من يحتال أو يتسبب على أنّه لو خان عهدي لم أزل ... له راعياً، والرعي للصبّ أوجب فأين زمانٌ (1) لم يخنّي ساعةً ... به وهو منّي في التنعّم أرغب ولا فيه من بخلٍ ولا بي قناعةٌ ... كلانا بلذّات التواصل معجب ويا ربّ يومٍ لا أقوم بشكره ... على أنّني ما زلت أثني وأطنب على نهر شنّيلٍ وللقضب حولنا ... منابر ما زالت بها الطّير تخطب وقد قرعت منه سبائك (2) فضّة ... خلال رياضٍ بالأصيل تذهّب شربنا عليها قهوةً ذهبيّةً ... غدت تشرب الألباب أيّان تشرب كأن ياسميناً وسط وردٍ تفتّحت ... أزاهره أيّان في الكأس تسكب إذا ما شربناها لنيل مسرّةٍ ... تبسّم عن درٍّ لها فتقطّب أتت دونها الأحقاب حتى تخالها ... سراباً بآفاق الزّجاجة يلعب نعمنا بها واليوم قد رقّ برده ... إلى أن رأينا الشمس عنّا تغرّب فقالوا ألا هاتوا السراج فكلّ من ... درى قدر ما في الكأس أقبل يعجب وقال ألا تدرون ما في كؤوسكم ... فلا كأس إلا وهو في الليل كوكب كواكب أمست بين شرب ولم نخل ... بأنّ النجوم الزّهر تدنو وتغرب

_ (1) ج: زماناً. (2) ق: وقد قرعت منه سنابك.

ظللنا عليها عاكفين وليلنا ... نهارٌ إلى أن صاح بالأيك مطرب فلم نثن عن دين الصّبوح عناننا ... إلى أن غدا من ليس يعرف يندب صرعنا فأمسى يحسب السكر قد قضى ... علينا، وذاك السكر أشهى وأعجب وكم ليلةٍ في إثر يومٍ وعذّلي ... وعذّل من يصغي لقولي خيّب فيا ليت ما ولّى معادٌ نعيمه ... وأيّ نعيمٍ عند من يتغرّب قال: وقلت بإشبيلية ذاكراً لوادي الطّلح، وهو بشرق إشبيلية ملتف الأشجار، كثير مترنم الأطيار، وكان المعتمد بن عباد كثيراً ما ينتابه مع رميكيّته، وأولي أنسه ومسرته (1) : سائل بوادي الطّلح ريح الصّبا ... هل سخّرت لي في زمان الصّبا كانت رسولاً فيه ما بيننا ... لن نأمن الرّسل ولن نكتبا يا قاتل الله أناساً إذا ... استؤمنوا خانوا، فما أعجبا هلاّ رعوا أنّا وثقنا بهم ... وما اتخذنا عنهم مذهبا يا قاتل الله الذي لم يتب ... من غدرهم من بعد ما جرّبا واليمّ لا يعرف ما طعمه ... إلاّ الذي وافى لأن يشربا دعني من ذكر الوشاة الألى ... لمّا يزل فكري بهم ملهبا واذكر بوادي الطّلح عهداً لنا ... لله ما أحلى وما أطيبا بجانب العطف وقد مالت الأغ ... صان والزهر يبثّ الصّبا والطير مازت بين ألحانها ... وليس إلاّ معجباً مطربا وخانني من لا أسمّيه من ... شحٍّ أخاف الدهر أن يسلبا قد أترع الكأس وحيّا بها ... وقلت أهلاً بالمنى مرحبا أهلاً وسهلاً بالذي شئته ... يا بدر تمٍّ مهدياً كوكبا

_ (1) انظر هذه القصيدة فيما تقدم ج 1 ص 691 وفي روايتها بعض اختلاف، ليس من الضروري إثباته.

لكنني آليت أسقى بها ... أو تودعنها ثغرك الأشنبا فمجّ لي في الكأس من ثغره ... ما حبّب الشرب وما طيّبا فقال: ها لثمي نقلاً ولا ... تشمّ إلاّ عرفي الأطيبا فاقطف بخدي الورد والآس وال ... نسرين لا تحفل بزهر الرّبى أسعفته غصناً غدا مثمراً ... ومن جناه ميسه قرّبا قد كنت ذا نهيٍ وذا إمرةٍ ... حتّى تبدّى فحللت الحبا ولم أصن عرضي في حبّه ... ولم أطع فيه الذي أنّبا حتى إذا ما قال لي حاسدي ... ترجوه والكوكب أن يغربا أرسلت من شعري سحراً له ... ييسّر المرغب والمطلبا وقال عرّفه بأنّي سأح ... تال فما أجتنب المكتبا فزاد في شوقي له وعده ... ولم أزل مقتعداً مرقبا أمدّ طرفي ثم أثنيه من ... خوف أخي التنغيص أن يرقبا أصدّق الوعد وطوراً أرى ... تكذيبه والحرّ لن يكذبا أتى ومن سخّره بعدما ... أيأس بطئاً كاد أن يغضبا قبّلت في الترب ولم أستطع ... من حصر اللّقيا سوى مرحبا هنّأت ربعي إذ غدا هالةً ... وقلت: يا من لم يضع أشعبا بالله مل معتنقاً لاثماً ... فمال كالغصن ثنته الصّبا وقال ما ترغب قلت: اتئد ... أدركت إذ كلّمتني المأربا فقال: لا مرغب عن ذكر ما ... ترغبه، قلت: إذاً مركبا فكان ما كان، فوالله ما ... ذكرته دهري أو أغلبا قال: وقلت باقتراح الملك الصالح نور الدين صاحب حمص أن أكتب بالذهب على تفاحة عنبر قدمها لابن عمه الملك الصالح ملك الديار المصرية (1) :

_ (1) انظر ما سبق ص: 266.

أنا لون الشباب والخال أهدي ... ت لمن قد كسا الزمان شبابا ملك العالمين نجم بين أي ... وب، لا زال في المعالي مهابا جئت ملأى من الثناء عليه ... من شكور إحسانه والثوابا لست ممّن له خطابٌ ولكن ... قد كفاني أريج عرفي خطابا قال: ولما أنشد أبو عبد الله ابن الأبّار كاتب ملك إفريقية لنفسه: لله دولابٌ يدور كأنّه ... فلكٌ ولكن ما ارتقاه كوكب هامت به الأحداق لمّا نادمت ... منه الحديقة ساقياً لا يشرب نصبته فوق النهر أيدٍ قدّرت ... ترويحه الأرواح ساعة ينصب فكأنّه وهو الطليق مقيّدٌ ... وكأنّه وهو الحبيس مسيّب للماء فيه تصعّدٌ وتحدّرٌ ... كالمزن يستسقي البحار ويسكب حلف أبو عبد الله ابن أبي الحسين ابن عمي أن يصنع في ذلك شيئاً، فقال (1) : ومحنيّة الأضلاع (2) تحنو على الثرى ... وتسقي نبات الترب درّ (3) الترائب تعدّ (4) من الأفلاك أنّ مياهها ... نجومٌ لرجم المحل ذات ذوائب وأعجبها (5) رقص الغصون ذوابلاً ... فدارت بأمثال السيوف القواضب وتحسبها والروض: ساقٍ وقينة ... فما برحا ما بين شادٍ وشارب وما خلتها تشكو بتحنانها الصدى ... ومن فوق (6) متنيها اطّراد المذانب

_ (1) انظر هذه الأبيات في المغرب 2: 169. (2) المغرب: الأصلاب. (3) المغرب: دمع. (4) المغرب: تظن. (5) المغرب: وأطربها. (6) المغرب: وما بين.

فخذ من مجاريها ودهمة لونا ... بياض العطايا في سواد المطالب (1) " ثم كلفت في أن أقول في ذلك، وأنا أعتذر بأن هذين لم يتركا لي ما أقول: وذات حنينٍ لا تزال مطيفةً ... تئنّ وتبكي بالدموع السواكب كأنّ أليفاً بان عنها فأصبحت ... بمربعه كالصّبّ بعد الحبائب إذا ابتسمت فيها الرياض شماتةً ... ترعها بأمثال السيوف القواضب فكم رقصت أغصانها فرمت لها ... نثاراً كما بدّدت حلي الكواعب لقد سخطت منها الثغور وأرضت ال ... قدود ولم تحفل بتثريب عائب شربت على تحنانها ذهبيّةً ... ذخيرة كسرى في العصور الذواهب فهاجت لي الكأس ادّكار مغاضبٍ ... فحاكيتها وجداً بذاك المغاضب فلا تدع التبريز في كثرة الهوى ... فلولاي كانت في إحدى العجائب قال: وقلت بغرناطة: باكر اللهو ومن شاء عتب ... لا يلذّ العيش إلاّ بالطّرب ما توانى من رأى الزهر زها ... والصّبا تمرح في الرّوض خبب وشذاه صانه حتّى اغتدى ... بين أيدي الريح غصباً ينتهب يا نسيماً عطّر الأرجاء، هل ... بعثوا ضمنك ما يشفي الكرب هم أعلّوه وهم يشفونه ... لا شفاه الله من ذاك الوصب! خلع الروض عليه زهره ... حين وافى من ذراكم فعل صبّ فأبى إلا شذاه (2) فانثنى ... حاملاً من عرفه ما قد غصب لست ذا نكرٍ لأن يشبهكم ... من بعثتم، غير ذا منه العجب

_ (1) من قول أبي تمام: وأحسن من نور تفتحه الصبا ... بياض العطايا في سواد المطالب (2) ج: ثناه.

غالب الأغصان في بدأته ... ثمّ لمّا زاد أعطته الغلب فبكى الطّلّ عليها رحمةً ... أو بكى من وعظ طيرٍ قد خطب كلّ هذا قد دعاني للّتي ... ملكت رقّي على مرّ الحقب قهوةٌ أبسم من عجب لها ... عندما تسم عجباً عن حبب حاكت الخمر فلما شعشعت ... قلت ما للخمر بالماء التهب وبدت من كأسها لي فضّةٌ ... ملئت إذ جمدت ذوب الذهب سقّينها من يدي مشبهها ... بالذي يحويه طرفٌ وشنب لا جعلت الدهر نقلي غير ما ... لذّ لي من ريق ثغرٍ كالضّرب لا جعلت الدهر ريحاني سوى ... ما بخدّيه من الورد انتخب لم أزل أقطع دهري هكذا ... وكذا أقطع منه المرتقب حبّذا عيشٌ قطعناه لدى ... معطف الخابور ما فيه نصب مع من لم يدر يوماً ما الجفا ... من أراح الصبّ فيه من تعب كلّ ما يصدر منه حسنٌ ... لم يذقني في الهوى مرّ الغضب أيّ عيشٍ سمح الدهر به ... كلّ نعمى ذهبت لمّا ذهب قال: ودخلت بتونس مع أبي العباس الغسّاني (1) حمّاماً، فنظرنا إلى غلمان في نهاية الحسن ونعومة الأبدان، فقلت مخاطباً له: دخلت حمّاماً وقصدي به ... تنعيم جسمٍ فغدا لي عذاب وقلت لظىً فاعترضت حوره ... وقلت عدنٌ فنهاني التهاب وأنت في الفضل إمامٌ فكن ... في الحكم ممن حاز فصل الخطاب فقال: لا تأمن الحمّام في فعله ... فليس ما يأتيه عندي صواب

_ (1) ترجم له ابن سعيد في القدح: 12، وكان كاتب العلامة عند المستنصر الحفصي وبينه وبين ابن سعيد شيء كثير من المطارحات والترسلات نظماً ونثراً.

فما أرى أخدع منه ولا ... أكذب إلاّ أن يكون السّراب يبدي لك الغيد كحور الدّمى ... ويلبس الشيخ برود الشّباب ظنّ به النّار فلا جنّةٌ ... للحسن إلاّ ما حوته الثياب [نقول عن ابن سعيد] [1 - بناء الهودج بروضة مصر] ومن فوائده (1) ، أعني ابن سعيد رحمه الله تعالى - في كتابه المحلى بالأشعار " (2) نقلاً عن القرطي (3) - قضية بناء الهودج بروضة مصر، وهو من منتزهات الخلفاء الفاطميين العظيمة العجيبة البناء البديعة، وذلك أنه يقال: إن الباني له الخليفة الآمر بأحكام الله (4) ، للبدوية التي غلب عليه حبها، بجوار البستان المختار، وكان يتردد إليه كثيراً وقتل وهو متوجه إليه، وما زال منتزهاً للخلفاء من بعده. وقد أكثر الناس في حديث البدوية وابن ميّاح من بني عمها، وما يتعلق بذلك من ذكر الآمر، حتى صارت رواياتهم ي هذا الشأن كحديث البطال وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك، والاختصار منه أن يقال: إن الآمر قد كان بلي بعشق الجواري العربيات، وصارت له عيون في البوادي، فبلغه أن بالصعيد جارية من أكمل العرب وأظرفهم، شاعرة جميلة، فيقال: إنه تزيا بزي بداة

_ (1) ورد هذا الخبر في المقتطفات، الورقة: 9، والخطط 2: 376. (2) ذكره أيضاً المقريزي في الخطط 2: 376 ولعله يعني كتابه " القدح المعلى في التاريخ المحلي "، وهو يضم - فيما يبدو - أخباراً تاريخية أخرى عدا التراجم التي وردت في القسم الباقي منه المسمى " اختصار القدح ". (3) في ق ج ودوزي والمقتطفات: " القرطبي " والصواب ما أثبته، وهو محمد بن سعد أبو بكر القرطي؛ صنف كتاباً في تاريخ مصر في أيام العاضد وعنه ينقل ابن سعيد في القسم المصري من المغرب (انظر ترجمته في المغرب 1: 267) . (4) من متأخري الخلفاء الفاطميين (495 - 524) قام بأمره أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه ابن بدر الجمالي.

الأعراب، وكان يجول في الأحياء إلى أن انتهى إلى حيها، وبات هنالك، وتحيل حتى عاينها هناك، فما ملك صبره، ورجع إلى مقر ملكه، وأرسل إلى أهلها يخطبها، وتزوجها، فلما وصلت إليه صعب عليها مفارقة ما اعتادت، وأحبت أن تسرّح طرفها في الفضاء، ولا تنقبض نفسها تحت حيطان المدينة، فبنى لها البناء المشهور، في جزيرة الفسطاط المعروف بالهودج، وكان غريب الشكل على شط النيل، وبقيت متعلقة الخاطر بابن عم لها ربّيت معه، يعرف بابن ميّاح، فكتبت إليه من قصر الآمر: يا ابن ميّاحٍ إليك المشتكى ... مالكٌ من بعدكم قد ملكا كنت في حيي طليقاً آمراً ... نائلاً ما شئت منكم مدركا فأنا الآن بقصرٍ موصدٍ ... لا أرى إلاّ حبيساً (1) ممسكا كم تثنينا كأغصان اللوى ... حيث لا نخشى علينا دركا (2) فأجابها بقوله: بنت عمّي والتي غذّيتها ... بالهوى حتى علا واحتنكا (3) بحت بالشكوى وعندي ضعفها ... لو غدا ينفع منّا المشتكى مالك (4) الأمر إليه يشتكى ... هالكٌ، وهو الذي قد أهلكا قال: وللناس في طلب ابن ميّاح واختفائه أخبار تطول. وكان من عرب طيء في عصر الآمر طراد بن مهلهل، فقال وقد بلغته هذه الأبيات:

_ (1) ج ودوزي: خبيثاً. (2) سقط من ج. (3) ق ودوزي: واحتبكا. (4) ج: ملك.

ألا بلّغوا الآمر المصطفى ... مقال طرادٍ ونعم المقال قطعت الأليفين عن ألفةٍ ... بها سمر الحيّ حول الرحال كذا كان آباؤك الأكرمون ... سألت فقل لي جواب السؤال فقال الخليفة الآمر لما بلغته الأبيات: جواب سؤاله قطع لسانه على فضوله، فطلب في أحياء العرب فلم يوجد، فقيل: ما أخسر صفقة طراد، باع عدة أبيات بثلاثة أبيات. [2 - مكين الدولة ابن حديد] وكان بالإسكندرية (1) مكين الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد ابن الحسن بن حديد، له مروءة عظيمة، ويحتذي أفعال البرامكة، وللشعراء فيه أمداح كثيرة، ومدحه ظافر الحداد وأمية أبو الصّلت وغيرهما، وكان له بستان يتفرّج فيه، به جرن كبير من رخام، وهو قطعة واحدة ينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من كبره، وكان يجد في نفسه برؤيته (2) زيادة على أهل التنعم والمباهاة في عصره، فوشي به للبدوية محبوبة الآمر، فسألت الآمر في حمل الجرن إليها، فأرسل إلى ابن حديد في إحضار الجرن، فلم يجد بدّاً من حمله من البستان، فلما صار إلى الآمر أمر بعمله في الهودج [وتركيبه هنالك] (3) ، فقلق ابن حديد، وصارت في قلبه حزازة (4) من أخذ الجرن، فأخذ يخدم البدوية وجميع من يلوذ بها بأنواع الخدم العظيمة الخارجة عن الحد في الكثرة، حتى قالت البدوية: هذا الرجل أخجلنا بكثرة تحفه، ولم يكلفنا قط أمراً نقدر عليه عند

_ (1) هذا الخبر في المقتطفات (الورقة: 10) والمقريزي 2: 377. (2) المقتطفات: وكان كسن يجد في نفسه برؤيته له. (3) زيادة من المقتطفات. (4) ق: حرارة.

الخليفة مولانا، فلمّا قيل له عنها هذا القول قال: ما لي حاجة بعد الدعاء لله بحفظ مكانها وطول حياتها في عزّ غير ردّ السّقيّة التي قلعت من داري التي بنيتها في أيامهم من نعمتهم (1) تردّ إلى مكانها، فتعجبت من ذلك، وردتها عليه، فقيل له: قد حصلت في حد أن خيّرتك البدوية في جميع المطالب (2) ، فنزلت همتك إلى قطعة حجر، فقال: أنا أعرف بنفسي، ما كان لها أمل سوى أن لا تغلب في أخذ ذلك الحجر من مكانه، وقد بلغها الله تعالى أملها. وكان هذا المكين متولي قضاء الإسكندرية ونظرها في أيام الآمر، وبلغ من علو همته وعظيم مروءته أن سلطان الملوك حيدرة أخا الوزير المأمون ابن البطائحي لما قلده الآمر ولاية ثغر الإسكندرية سنة سبع عشرة وخمسمائة، وأضاف إليها الأعمال البحرية، ووصل إلى الثغر - وصف له الطبيب دهن الشمع بحضرة القاضي المذكور، فأمر في الحال بعض غلمانه بالمضيّ إلى داره لإحضار دهن الشمع، فما كان أكثر من مسافة الطريق إلاّ وقد أحضر حقّاً مختوماً، فكّ عنه فوجد فيه منديل لطيف مذهب على مراق (3) بلور فيه ثلاثة بيت كل بيت عليه قبة ذهب مشبكة مرصعة بياقوت وجوهر: بيت دهن ممسك، وبيت دهن بكافور، وبيت دهن بعنبر طيب، ولم يكن فيه شيء مصنوع لوقته، فعندما أحضره الرسول تعجب المؤتمن والحاضرون من علو همته، فعندما شاهد القاضي ذلك بالغ في شكر إنعامه، وحلف بالحرام إن عاد إلى ملكه، وكان جواب المؤتمن: وقد قبلته منك لا لحاجة إليه، ولا نظر في قيمته، بل لإظهار هذه الهمة وإذاعتها، وذكر أن قيمة هذا المداف وما عليه خمسمائة دينار. فانظر، رحمك الله تعالى، إلى من يكون دهن الشمع عنده في إناء قيمته خمسمائة دينار، ودهن الشمع لا يكاد أكثر الناس يحتاج إليه، فماذا تكون ثيابه

_ (1) المقتطفات: من بستاني الذي أنشأته من نعمتهم. (2) المقتطفات: في ما تطلب. (3) ق: مداق.

وحلى نسائه وفرش داره وغير ذلك من التجملات وهذا إنما هو حال قاضي الإسكندرية ومن قاضي الإسكندرية بالنسبة إلى أعيان الدولة بالحضرة! وما نسبة أعيان الدولة وإن عظمت أحوالهم إلى أمر الخلافة وأبّهتها إلا يسير حقير. وما زال الخليفة الآمر يتردد إلى الهودج المذكور إلى أن ركب يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة 524 يريد الهودج، وقد كمن له عدة من النزارية (1) على رأس الجسر من ناحية الروضة، فوثبوا عليه وأثخنوه بالجراحة، وحمل في العشاري (2) إلى اللؤلؤة (3) ، فمات بها، وقيل: قبل أن يصل إليه، وقد خرب هذا الهودج، وجهل مكانه من الروضة، ولله عاقبة الأمور، نقل ذلك كلّه الحافظ المقريزي (4) ، رحمه الله تعالى. [3 - الشهاب التلعفري] قال النور ابن سعيد، ومن خطه نقلت: لما نزلنا بتلّعفر حين خرجنا من سنجار إلى الموصل سألت أحد شيوخنا عن والد شهاب الدين التّلّعفري، فقال: أنا أدركته، وكان كثير التجول، وأنشدني لنفسه في عيد أدركه في غير بلده: يبتهج الناس إذا عيّدوا ... وعند سرّائهم أكمد لأنّني أبصر أحبابهم ... ومقلتي محبوبها تفقد

_ (1) النزارية: هم الذي يرون تسلسل الإمامة في خلفاء الفاطميين حتى نزار بن المستنصر ولا يرون إمامة من بعده، والنزارية تطعن في إمامة المستعلي، وتضادها الفرقة المستعلية وهي ترى صحة خلافة المستعلي والآمر والحافظ ... إلخ. (2) العشاري: نوع من السفن. (3) اللؤلؤة: موضع نزاهة الخلفاء الفاطميين وقصورهم، بناها الخليفة العزيز. (4) انظر الخطط المقريزية 2: 348 - 351.

قال: وخرج ابنه الشهاب أجول منه شخصاً وشعراً، وصدق فيما قاله، وأنشد ابن سعيد للشهاب التلعفري (1) : لك ثغرٌ كلؤلؤٍ في عقيقٍ ... ورضابٌ كالشّهد أو كالرّحيق وجفونٌ لم يمتشق سيفها إ ... لاّ لمغرّى بقدّك الممشوق تهت عجباً بكلّ فنّ من الحس ... ن جليلٍ وكلّ معنى دقيق وتفردت بالجمال الذي خ ... لاّك مستوحشاً بغير رفيق باللحاظ التي بها لم تزل تر ... شق قلبي وبالفوام الرّشيق لا تغر بالغوير إذ تتثنّى ... فيه أعطاف كلّ غصن وريق واثن محمرّ ورد خدّيك واستر ... هـ وإلاّ ينشقّ قلب الشقيق قال ابن سعيد: وحظي الشهاب التلعفري بمنادمة الملوك، وكونهم يقدمونه، ويقبلون على شعره، وعهدي به لا ينشد أحدٌ قبله في مجلس الملك الناصر، على كثرة الشعراء، وكثرة من يعتني بهم، ولما جمعت للملك الناصر كتاب ملوك الشعر جعلت ملك شعر الشهاب البيت الرابع من المقطوعة المتقدمة، فإنّه كان كثيراً ما ينشده وينوه به. والتشفي من ذكر الشهاب ومحاسن شعره له مكان بكتاب الغرة الطالعة في فضلاء المائة السابعة وهو الآن عند الملك المنصور صاحب حماة قد علت سنّه، وما فارقه غرامه ودنّه، انتهى.

_ (1) هو محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة منسوب إلى تل أعفر أو تل يعفر (ثم تدغم الكلمتان) ولد بالموصل سنة 593 وكان خليعاً ممتحناً بالقمار أهلك فيه كل ما ناله من عطاء وكسب، توفي سنة 675 وديوانه مطبوع. (انظر ترجمته في الفوات 2: 546 والنجوم الزاهرة 7: 255 وشذرات الذهب 5: 349 وتاريخ ابن الفرات 7: 76 ومادة " تل أعفر " بمعجم البلدان) .

[4 - العادل بن أيوب] ولما أجرى ابن سعيد في بعض مصنفاته ذكر الملك العادل بن أيوب (1) قال ما نصّه: وكان من أعظم السلاطين دهاء وحزماً، وكان يضرب به المثل في إفساد القلوب على أعدائه وإصلاحها له، ويحكى أنه بشّره شخص بأن أميراً من أمراء الأفضل ابن صلاح الدين فسد عليه، فأعطاه مالاً جزيلاً، وأرسل مستخفياً إلى المذكور يزيده بصيرة في الانحراف عن الأفضل، ويعده بما يفسد الصالح فكيف الفاسد، قال: وكان يمنع حتى يوصف بالبخل، ويجود في مواضع الجود حتى يوصف بالسّماح، وكان صلاح الدين - وهو السلطان - يأخذ برأيه، وقدّم له أحد المصنفين كتاباً مصوراً في مكايد الحروب ومنازلة المدن، وهو حينئذ على عكّا محاصراً للفرنج، فقال له: ما نحتاج إلى هذا الكتاب ومعنا أخونا أبو بكر، وكان كثير المداراة والحزم، ومن حكاياته في ذلك أن أحد الأشياخ من خواصّه قال له يوماً، وهو على سماطه يأكل: يا خوند، ما وفيت معي ولا رعيت سابق خدمتي، وكلمه بدالّة السن وقدم الصحبة قبل الملك، فقال لمماليكه، انظروا سوطه، فجسّوا الكمران؛ وقال: خذوا الصرة التي فيه، فوجدوا صرّة، فقال: افتحوها، ففتحوها فإذا فيها ذرور، فقال العادل: كل من هذا الذرور، فتوقف، وعلم أنه مطّلع على أنه سم، فقال: كيف نسبتني إلى قلة الوفاء، وأنا منذ سنين أعلم أنك تريد أن تسمني بهذا السم، وقد جعل لك الملك الفلاني على ذلك عشرة آلاف دينار، فلا أنا أمكنتك من نفسي، ولا أشعرتك، لئلا يكون في ذلك ما لا خفاء به، وتركتك على

_ (1) هو الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد بن أيوب بن شاذي، ولد سنة 539 واشترك في معظم الأعمال الحربية التي قام بها أخوه صلاح الدين، فأعطاه مصر ثم حلب ثم الشرق والكرك والشوبك، ثم جرت بينه وبين أولاد أخيه خطوب، فملك دمشق سنة 592، وملك مصر سنة 596 وامتد ملكه على مناطق واسعة وتوفي سنة 615؛ وأخباره مشروحة في تاريخ ابن الأثير ومفرج الكروب ومرآة الزمان وغيرها.

حالك، وأنا مع هذا لا أغير عليك نعمة، ثم قال: ردوا سمه إلى كمرانه، لا أبقى الله تعالى عليه إن قدر وأبقى علي، فجعل يقبّل الأرض ويقول: هكذا والله كان، وأنا تائب لله تعالى، ثم إن الشيخ جدّد توبة، واستأنف أدباً آخر وخدمة أخرى، وكانت هذه الفعلة إحدى عجائب العادل. قال: وكان كثير المصانعات حتى إنّه يصوغ الحلي الذي يصلح لنساء الفرنج ويوجّه في الخفية إليهنّ، حتى يمسك أزواجهنّ عن الحركة، وله في ذلك مع ملوك الإسلام ما يطول ذكره. ولما خرج ابن أخيه المعز إسماعيل بن طغتكين (1) باليمن، وخطب لنفسه بالخلافة، وكتب له أن يبايعه وخطب له في بلاده، كان في الجماعة من أشار إلى النظر في توديه عسكر له في البر والبحر، وإنفاق الأموال قبل أن يتفاقم أمره، فضحك وقال: من يكون عقله هذا العقل لا يحوج خصمه إلى كبير مؤونة، أنا أعرف كيف أفسد عليه حاله في بلاده، فضلاً عن أن يتطرق (2) فساده لبلادي، ثم إنه وجّه في السر لأصحاب دولته بالوعد والوعيد وقال لهم: أنتم تعلمون بعقولكم أن هذا لا يسوغ لي، فكيف يسوغ له وقد أدخل نفسه في أمر لا يخرج منه إلا بهلاكه، فاحذروا أن تهلكوا معه، واتعظوا بالآية " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار " وما لهذا عقل يدبر به نفسه، فكيف عن تدبير خاصته إليكم " ولتعلمنّ نبأه بعد حينٍ " فعندما وعت أسماعهم هذا وتدبروه بعقولهم قبضوا عليه وقتلوه، وعادت البلاد للعادل، وقال للمشيرين عليه في أول الأمر بتجهيز العسكر: قد كفينا المؤونة بأيسر شيء من المال، ولو حاولناه بما أشرتم به لم تقم خزائن ملكنا بالبلوغ إلى غايته.

_ (1) ق: طغركين؛ ج: طغرلكين. (2) ج: يطرق.

وكان - على ما بلغه من عظمة السلطان، واتساع الممالك - يحكي ما جرى له في زمان خلوّه من ذلك، ويحب الاستماع لنوادر أنذال العالم، واشتهر في خدمته مساخر أشهرهم خضير صاحب البستان المشهور عند الربوة بغوطة دمشق، ومن نوادره الحارّة معه أنه سمعه يوماً وهو يقول في وضوئه: اللهم حاسبني حساباً يسيراً، ولا تحاسبني حساباً عسيراً، فقال له: يا خوند على أي شيء يحاسبك حساباً عسيراً إذا قال لك: أين أموال الخلق التي أخذتها فقل له: تراها بأمانتها في الكرك، وكان قد صنع بهذا المعقل الحسرات، سميت بذلك لأن من رآها، يتحسر إذا نظرها، ولا يستطيع على شيء منها بحيلة، وهي خوابٍ مفروغةٍ من ذهب وفضة تركت بمرأى من الناظري ليشتهر ذلك في الآفاق. وقال العادل مرة، وقد جرى ذكر البرامكة وأمثالهم ممّن ذكر في كتاب المستجاد في حكايات الأجواد: إنما هذا كذب مختلق من الورّاقين ومن المؤرخين، يقصدون بذلك أن يحركوا همم الملوك والأكابر للسخاء وتبذير الأموال، فقال خضير: يا خوند، ولأي شيء لا يكذبون عليك قال ابن سعيد: من وقف على حكايات أبي العيناء مع عبيد الله بن سليمان يجد مثل هذه الحكاية. قال ابن سعيد: ووجدت الشهاب القوصي قد ذكر السلطان العادل في كتاب " [تاج] المعاجم " (1) وابتدأ الكتاب المذكور بمحاسنه والثناء عليه وخرّج عنه الحديث النبوي عن الحافظ السّلفي، وتمثّل فيه عند وفاته (2) :

_ (1) في ق ج ودوزي: المعاجم، واسم الكتاب " تاج المعاجم " كما سيرد بعد قليل؛ ومؤلفه هو إسماعيل بن حامد بن عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي القوصي الملقب بشهاب الدين، وكنيته أبو الطاهر وأبو العرب وأبو حامد وأبو الفداء، نزل دمشق وجمع لنفسه معجماً في أربع مجلدات وسماه " تابع المعاجم " وذكر فيه من لقيه من المحدثين، وتوفي بدمشق 653 (الطالع السعيد 81 - 82) . (2) مر البيتان والثالث في مقدمة النفح ج 1: 14.

ألام على بكائي خير ملكٍ ... قلّ له بكائي بالنّجيع به كان الشباب جميع عمري ... ودهري كله زمن الربيع ففرّق بيننا زمنٌ خؤون ... له شغف بتفريق الجميع قال ابن سعيد: ودفن العادل بالمدرسة العادلية بدمشق، وكان أنشأها للشافعية، وهي في نهاية الحسن، وبها خزانة كتب، فيها تاريخ ابن عساكر، وذيّل هذا التاريخ واختصره أبو شامة، سمعت عليه منه هنالك ما تيسر أيام إقامتي بدمشق. وأولاد العادل ملوك البلاد في صدر هذه المائة السابعة، منهم الكامل والمعظم والأشرف، وهؤلاء الثلاثة شهروا بالفضل وحب الفضلاء وقول الشعراء، انتهى. [5 - المرذغاني] وقال ابن سعيد، في ترجمة الرئيس صفي الدين أحمد بن سعد المرذغاني (1) ، وهو من بيت وزارة ورئاسة بدمشق: إن من شعره قوله: كيف طابت نفوسكم بفراقي ... وفراق الأحباب ومرّ المذاق لو علمتم بلوعتي وصبابا ... تي ووجدي وزفرتي واحتراقي لرثيتم للمستهام المعنّى ... ووفيتم بالعهد والميثاق قال ابن سعيد: وقفت على ذكر هذا الرئيس في كتاب تاج المعاجم ووجدت صاحبه الشهاب القوصي قد قال: أخبرني بدمشق أنه قد كان عزم على السفر منها إلى مصر، لأمر ضاق به صدره، فهتف به هاتف في النوم، وأنشده:

_ (1) لم استطع التثبت من ضبط هذه النسبة، وفي بعض الأصول: المزدغاني، والبردغاني.

يا أحمد اقنع بالذي أعطيته ... إن كنت لا ترضى لنفسك ذلّها ودع التكاثر في الغنى لمعاشر ... أضحوا على جمع الدراهم ولّها واعلم بأنّ الله جلّ جلاله ... لم يخلق الدنيا لأجلك كلّها فانثنى عزمه عن الحركة، ثم بلغ ما أمّله دون سفر. [6 - دفتر خوان الدمشقي] وقال ابن سعيد، في ترجمة المنتجب أحمد بن عبد الكريم الدمشق المعروف بدفتر خوان (1) ، وهو الذي يقرأ الدفاتر بين أيدي الملوك والأكابر (2) : إنّه كان يقرأ الدفاتر بين يدي العادل بن أيوب، وكان يكتب له بالأشعار في المواسم والفصول، فينال من خيره، وكتب له مرّة وقد أظل الشتاء في دمشق فقال: مولاي جاء الشتاء ... والكيس منها خلاء لا زال يجري بما تر ... تضي علاك القضاء وكلّ كافٍ إليه ... يحتاج فيه التواء (3) فقال له العادل: هذا الضمير الذي في البيت الأول على ماذا يعود قال: بحسب مكارم السلطان، إن شئت على الدراهم، وإن شئت على الدنانير! فضحك وقال: هت كيسك، فأخرج له كيساً يسع قدر مائة دينار، فملأه

_ (1) ترجمته في الوافي: 7 الورقة: 37 ولقبه منتخب الدين؛ وبعد خدمته للعادل وشيء به الحساد لديه فحرمه وهجره، وتوفي دفتر خوان سنة 615 بعد وفاة العادل، وكان العادل قد رضي عنه قبل وفاته؛ وقد نقل الصفدي ترجمته عن معجم الشهاب القوصي. (2) قال الصفدي في تعريف دفتر خوان: " وهو الذي يتحدث في أمر الكتب المجلدات ويكون أمرها راجعاً إليه، وهو الذي يقرأ على السلطان فيها، إما ليلاً وإما نهاراً، ينادمه بذلك ". (3) يشير إلى كافات الشتاء: كالكن والكيس والكانون ... إلخ وقد جمعها ابن سكرة في بيت واحد.

له، وقال: أظنّه كان معدّاً عندك، فقال: مثل السلطان من يكون جوده مظنوناً. وكتب إليه مرّة وقد أملق (1) : انظر إليّ بعين جودك مرّةً ... فلعلّ محروم المطالب يرزق طير الرجاء على علاك (2) محلق ... وأظنّه سيعود وهو مخلق فأعطاه جملة دنانير، وقال له: اشتر بهذه ما تخلّق به طير رجائك، انتهى. [7 - الزناطي وابن الربيب] وأنشد ابن سعيد رحمه الله تعالى لبعض المغربة، وهو أبو الحسن علي بن مروان الزناطي (3) الكاتب: أنس أخي الفضل كتابٌ أنيق ... أو صاحبٌ يعنى بودٍّ وثيق فإن تعره دون رهن به ... تخسره أو تخسر وداد الصديق وربّما تخسر هذا وذا ... فاسمع رعاك الله نصح الشفيق قال: وأجابه المخاطب بهذه الأبيات، وهو ابن الرّبيب (4) ، بنثر نصّه:

_ (1) البيتان في الوافي للصفدي. (2) الوافي: إلى علاك. (3) كذا في ق ج ودوزي؛ وفي نسخة: الرباطي. (4) ابن الربيب: ينصرف هذا الاسم إلى الحسن بن محمد بن أحمد بن الربيب القيرواني صاحب الرسالة التي وجهها لأبي المغيرة ابن حزم يذكر له إهمال أهل الأندلس في تقييد أخبارهم ومآثرهم (وستأتي في الباب السادس) ؛ وقد ترجم العمري لابن الربيب وسماه الحسين بن محمد (المسالك 11: 319) وقال فيه: " ولو قرن به البلاذري لعصفت به ريحه النكباء فذري " فدل على أنه مؤرخ؛ ويؤكد هذا ما نقله عن أنموذج ابن رشيق من أن ابن الربيب " بلغ نهاية من الأدب وعلم النسب "، ولكني لست أقطع يقيناً بأنه المعني في هذا المقام لأني لم استطع تحديد الزمن الذي عاش فيه معاصره علي بن مروان.

مثلك يفيد تجربة قد نفق عليها عمر، وضل عن فوائدها غرّ غمر، وقد أنفذت رهناً لا يسمح بإخراجه من اليد إلا ليدك، فتفضل بتوجيه الجزء الأول، فأنا أعلم أنّه عندك مثل ولدك، قل: فوجهه ومعه بطاقة صغيرة فيها: يا أخي، إن عرّضت بولدي فكذلك كن مع والدي وقد توارثنا العقوق كابراً عن كابر، فكن شاكراً فإنّي صابر. ثم قال ابن سعيد: وتفاقم أمر ولده فقيّده بقيد حديد وقال فيه: لي ولدٌ يا ليته ... لم يك عندي يخلق يجهد في كل الذي ... يرغم وهو يعشق وإن أكن قيّدته ... دمعي عليه مطلق وذكر ابن سعيد أن الكاتب أبا الحسن المذكور كان كثيراً ما يستعير الكتب، فإذا طلبت منه فكأنّها ما كانت، فذكر لبعض أصحابه - وهو ابن الربيب المؤرخ - أن عنده نسخة جليلة من تاريخ عريب (1) الذي لخص فيه تاريخ الطبري واستدرك عليه ما هو من شرطه وذيل ما حدث بعده، فأرسل إليه في استعارتها، فكتب إليه: يا أخي، سدّد الله آراءك، وجعل عقلك أمامك لا وراءك، ما يلزمني من كونك مضيّعاً أن أكون كذلك، والنسخة التي رمت إعارتها هي مؤنسي إذا أوحشني الناس، وكاتم سرّي إذا خانوني، فما أعيرها إلا بشيء أعلم أنك تتأذّى بفقده إذا فقد جزء من النسخة، وأنا الذي أقول:

_ (1) هو عريب بن سعد القرطبي من بيت من الموالي يعرفون ببني التركي، كان أديباً شاعراً تاريخياً، أضاف إلى تاريخ الطبري بعد أن اختصره " أخبار إفريقية والأندلس " وقد نشر له ملحق بتاريخ الطبري عرف باسم " صلة عريب " ولكنه لا يمثل الإضافة التي قام بضمها إلى تاريخ أبي جعفر، وله من الكتب كتاب الأنواء، نثره دوزي باسم " التقويم القرطبي " وأورد له الثعالبي شعراً في اليتيمة 2: 52 وهو أحد الذين ذكرهم ابن فرج في كتاب الحدائق (انظر الذيل والتكملة 5: 141 - 143) .

أنس أخي الفضل كتاب أنيق ... إلى آخره. وأنشد للكاتب أبي الحسن المذكور: إنّ ذاك العذار قام بعذري ... وفشا فيه للعواذل سرّي ما رأينا من قبل ذلك مسكاً ... صاغ منه الإله هالة بدر أيّ آسٍ من حول جنّة وردٍ ... ليس منه آسٍ مدى الدهر يبري ولما اشتد مرضه بين تلمسان وفاس قال هذه الأبيات، وأوصى أن تكتب على قبره: ألا رحم الله حيّاً دعا ... لميتٍ قضى بالفلا نحبه تمرّ السّوافي على قبره ... فتهدي لأحبابه تربه وليس له عملٌ يرتجى ... ولكنّه يرتجي ربّه رجع إلى نظم ابن سعيد المترجم به، فنقول: وقال لما سار المعظم من حصن كيفا، وآل أمره إلى الملك، ثم القتل والهلك (1) : ليت المعظم لم يسر من حصنه ... يوماً ولا وافى إلى أملاكه إن العناصر (2) إذ رأته مكمّلاً ... حسدته فاجتمعت على إهلاكه ومما نقلته من ديوانه الذي رتبه على حروف المعجم قوله، رحمه الله تعالى - وقلت بالقاهرة على لسان من كلّفني ذلك: شرف الدين أبن لي ما السبب ... في انقلاب الدهر لي عند الغضب

_ (1) انظر اختصار القدح: 8. (2) القدح: الطبائع.

فلتدم غضبان أظفر بالمنى ... ليس لي في غير هذا من أرب إنّما ظهرك عندي قبلةٌ ... ووضوئي الدهر من ذاك الشّنب وأستغفر الله من قول الكذب، قال: وقلت بإشبيلية: قد جاء نصر الله والفتح ... والصبح لمّا رضيت صبح فهنّئوني بارتجاع المنى ... لولا الرّضى ما برح البرح يا أورقاً يا غصناً يا نقاً ... يا ظبيةً بالليل يا صبح يصحو جميع الناس من سكرهم ... ولست من سكركم أصحو بلغت فيه غايةً لم يبن ... غايتها التفسير والشرح ونصح العذّال، من لي بأن ... يعذلني عن غيّك النصح وقلت بإشبيلية: وضح الصبح فأين القدح ... يعرف اللذات من يصطبح ما ترى الليل كطرفٍ أدهمٍ ... وضياء الفجر فيه وضح والثرى دبّجه درّ النّدى ... وعلى الأغصان منه وشح ومدير الراح لم يعد المنى ... كلّ ما يأتي به مقترح في بطاح المرج قد نادمني ... رشأٌ من سكره ينبطح جعل المسواك ستراً للمنى ... فكأن قبّل فاه قزح كلّما شئت الذي قد شاءه ... فحنى لي كاسه أفتتح ما أبالي أن رآني كاشحٌ ... أم رآني من لديه نصح هكذا العيش ودع عيش الذي ... خاف من نقدٍ إذا يفتضح وقلت بشريش: طاب الشّراب لمعشرٍ ... سلبوا المروءة فاستراحوا

لا يعرفون تستّراً ... السكر عندهم مباح متهتكون لدى المنى ... وفسادهم فيها صلاح ساقيهم متبذّلٌ ... هل يمنع الماء القراح غصنٌ يميل به الصّبا ... ردّته طوع الراح راح طوع الأماني، كلّ ما ... يأتي به فهو اقتراح ما إن نبالي إن بدا ... أن لا يلوح لنا الصباح ما زلت أرشف ثغره ... وعليه من عضدي وشاح والقلب يهفو طائراً (1) ... ولعاً ولا يخشى افتضاح ولو أنّنا نخشاه كا ... ن لنا من الظّلما جناح لكنّنا في عصبةٍ ... ما في تهتّكهم جناح لا ينكرون سوى ثقي ... لٍ لا يميل به مزاح أفنى الذي قد جمّعو ... هـ الكأس والحدق الملاح وقلت بأركش: قم هاتها لاح الصباح ... ما العيش إلا الإصطباح مع فتيةٍ ما دأبهم ... إلاّ المروءة والسّماح جرّبتهم فوجدتهم ... ما للمنى عنهم براح يثنيهم نحو الصّبا ... نقر المثاني والمراح ما نادموا شخصاً فكا ... ن لهم بخدمته استراح بل يعرفون مكانه ... فله إذا شاء اقتراح هم يتعبون وضيفهم ... ما دام عندهم يراح ما إن يملّون النزي ... ل وبالرضى منه السراح

_ (1) ج: طائعاً.

يدعونه بأجلّ ما ... يدعى به الحرّ الصّراح حتى إذا ما بان كدّ ... ر عيشهم منه انتزاح فعلى مثالهم يبا ... ح لي المدامع والنواح كرهاً فقدتهم فما ... لي بعد بعدهم ارتياح لله شوقي إن هفت ... من نحو أرضهم الرياح فهناك قلبي طائرٌ ... لهم ومن شوقي جناح قال: وقلت بمدينة ابن السليم (1) في وصف كلب صيد أسود في عنقه بياض: وأدهم دون حليٍ ظلّ حالي ... كأن ليلاً يقلّده صباح يطير وما له ريش ولكن ... متى يهفو فأربعه جناح تكلّ الطير مهما نازعته ... وتحسده إذا مرق الرياح له الألحاظ مهما جاء سلكٌ ... ومهما سار فهي له وشاح قال: وقلت بنيل مصر: يا نيل مصرٍ أين حمص ونهرها ... حيث المناظر أنجمٌ تلتاح في كلّ شطٍّ للنّواظر مسرحٌ ... تدعو إليه منازحٌ وبطاح وإذا سبحت فلست أسبح خائفاً ... ما فيه تيّارٌ ولا تمساح قال: وقلت وقد حضرت مع إخوان لي بموضعٍ يعرف بالسلطانية على نهر إشبيلية وقد مالت الشمس للغروب: رقّ الأصيل فواصل الأقداحا ... واشرب إلى وقت الصباح صباحا

_ (1) مدينة ابن السليم: اسم لمدينة شذونة، وكان بنو السليم قد استوطنوها بعد خراب قلشانة فسميت باسمهم (الروض المعطار: 162) .

وانظر لشمس الأفق طائرةً وقد ... ألقت على صفح الخليج جناحا فاظفر بصفو الأفق قبل غروبها ... واستنطق وحثّ الراحا متع جفونك في الحديقة قبل أن ... يكسو الظلام جمالها أمساحا وقلت بمرسيّة: أقلقه وجده فباحا ... وزاد تبريحه فناحا ورام يثني الدموع لمّا ... جرت فزادت له جماحا يا من جفا فارفقن عليه ... مستعبداً لا يرى السراحا يكابد الموت كلّ حينٍ ... لو أنّه مات لاستراحا ينزو إذا ما لرياح هبّت ... كأنّه يعشق الرياحا يسألها عن ربوع حمصٍ ... لمّا نما عرفها وفاحا كم قد بكى للحمام كيما ... يعيره نحوها جناحا قال: وخرجت مرّة مع أبي إسحاق إبراهيم بن سهر الإسرائيلي (1) إلى مرج الفضة بنهر إشبيلية فتشاركنا في هذا الشعر (2) : غيري يميل إلى كلام اللاحي ... ويمدّ راحته لغير الراح لا سيما والغصن يزهو زهره ... ويميل عطف الشارب المرتاح وقد استطار القلب ساجع أيكةٍ ... من كلّ ما أشكوه ليس بصاح

_ (1) إبراهيم بن سهل من أشهر شعراء الأندلس في عصر وهو صديق ابن سعيد وزميله أيام الدراسة، وسيرد جانب من أخباره في مواطن من نفح الطيب. (انظر ترجمته في المغرب 1: 264 واختصار القدح: 140 - 141 والمسالك 11: 473 وشذرات الذهب 5: 244، 296 والفوات 1: 41 وهو ينقل عن تحفة القادم لابن الأبار) . وقد نشر ديوانه (دار صادر: 1967) عن نسخة خطية فيها كثير من شعره الذي لم ينشر من قبل، وكتبنا دراسة في حياته وشعره جعلناها مقدمة للديوان. (2) انظر الأبيات في اختصار القدح: 79 وديوان ابن سعل: 92 والمسلك السهل: 250.

قد بان عنه جناحه عجباً له ... من جانحٍ للعجز حلف جناح بين الرياض وقد غدا في مأتمٍ ... وتخاله قد ظلّ في أفراح الغصن يمرح تحته والنهر في ... قصفٍ تزجّيه يد الأرواح وكأنّما الأنشام فوق جنانه ... أعلام خزٍّ فوق سمر رماح لا غرو أن قامت عليه أسطرٌ ... لمّا رأته مدرّعاً لكفاح فإذا تتابع موجه لدفاعه ... مالت عليه فظلّ حلف صياح قال: وقلت بمالقة متشوّقاً إلى الجزيرة الخضراء: يا نسيماً من نحو تلك النواحي ... كيف بالله نور تلك البطاح أسقتها الغمام ريّاً فلاحت ... في رداءٍ ومئزرٍ ووشاح أم جفته فصيّرته هشيماً ... تركته تذروه هوج الرياح يا زماني بالحاجبيّة إنّي ... لست من سكر ما سقيت بصاحي آه ممّا لقيت بعدك من هـ ... مّ وشوقٍ وغربةٍ وانتزاح أين قومٌ ألفتهم فيك لمّا ... قرّب الدهر آذنوا بالرّواح تركوني أسير وجدٍ وشوقٍ ... ما لقلبي من الجوى من سراح أسلموني للويل حتى تولوا ... وأصاخوا ظلماً لقول اللّواحي أعرضوا ثمّ عرّضوني لشوقٍ ... ترك القلب مثخناً بجراح أسهر الليل لست أغفي لصبحٍ ... أترى النوم ذاهباً بالصباح قد بدا يظهر النّجوم حليّاً ... وهو من لبسة الصبا في براح مسبلاً ستره منعّم بالٍ ... وجفوني من سهده في كفاح أيها الليل لا تؤمّل خلوداً ... عن قريبٍ يمحو ظلامك ماح ويلوح الصباح مشرق نورٍ ... فيه للمستهام بدء نجاح إنّ يوم الفراق بدّد شملي ... طائراً ليته بغير جناح حالك اللّون شبه لونك فاعزب ... عن عياني يا شبه طير انتزاح

وإذا ما بدا الصباح فما يش ... به إلاّ لون الخدود الملاح وقلت بالجزيرة الخضراء: قد رفعت راية الصّباح ... تدعو النّدامى للاصطباح فبادروا للصّبوح إنّي ... قد بعت في غيّه صلاحي ولا تميلوا عن رشف ثغرٍ ... وسمع شدوٍ وشرب راح وأنت يا من يروم نصحي ... قد يئس القوم من فلاحي فلست أصغي إلى نصيحٍ ... ما نهضت بالكؤوس راحي قال: وقلت أمدح ملك إفريقية وأهنئه بقتل ثائر من زناتة يدّعي أنه من نسل يعقوب المنصور: برّح بي من ليس عنه براح ... ومن رأى قتلي حلالاً مباح من صرّح الدمع (1) بحبّي له ... وما لقلبي عن هواه سراح ظبيٌ عدمت الصبح مذ صدّني ... وكيف لا يعدم وهو الصباح مورّد الخدّ سهيّ اللّمى ... منعّم الرّدف جديب الوشاح تظنه من قلبه جلمداً ... ومنه للماء يجفني انسياح لردفه أضعف من صبّه ... ولم أزل من لحظه في كفاح نشوان من ريقته عربدت ... أجفانه بالمرهفات الصّفاح فها أنيني خافتٌ مثل ما ... أنا أسيرٌ مثخنٌ بالجراح يا قاتلي صدّاً أما تستحي ... أن تلزم البخل بأرض السّماح (2) من ذا الذي يبخل في تونسٍ ... والملح فيها صار عذباً قراح وأصبحت أرجاءها جنّةً ... مبيضّة الأبراج خضر البطاح

_ (1) ق: ضرج الدمع؛ وفي نسخة: صرح القلب. (2) سقط من ق، وأثبته دوزي في الحاشية.

لولا ندى يحيى وتدبيره ... ما برحت تغبرّ منها النّواح لكن يداه سحبٌ كلّما ... حلّت بأرضٍ حلّ فيها النجاح هذا وقد آمن من حلّها ... وحفّها، من غربة وانتزاح كم شتّتوا من قبل تأميره ... وحكّمت فيهم عوالي الرماح يا سائراً يرجو بلوغ المنى ... باكرا ذرا يحيى وقل لا رواح وحيّه بالمدح فهو الذي ... يهتزّ كالهنديّ حين امتداح بالشرق والغرب غدا ذكره ... يحثّ من حمدٍ وشكرٍ جناح ساعده السعد وأضحت له ال ... آمال لا تجري بغير اقتراح ويسّر الله له ملكه ... من غير أن يشهر فيه السلاح وكلّ من كان على غيره ... ذا منعةٍ أمسى به مستباح وكم جموحٍ عندما قام بالأم ... ر رأى القهر فخلّى الجماح كفٌّ بكفٍّ للنّدى والردى ... بها معانٌ وهي خرسٌ فصاح حتى لقد أحسب من سعده ... تجري على ما ترتضيه الرياح قولوا ليعقوب فماذا جنى ... وابن أبي حمزة ماذا استباح قد أصبحا من فوق جذعين لا ... يؤنسهم غير هبوب الرياح واسأل عن الداعي والدعيّ الذي ... حاول أمراً كان عنه انضراح أكان من صيّره والداً ... بزعمه أمّل فيه فلاح شكراً لسعدٍ لم يدع فرقةً ... قد صيّر الملك كضرب القداح راموا بلا جاهٍ ولا محتدٍ ... ما حزت بالحقّ فكان افتضاح زناتةٌ يهنيكم فعلكم ... عاجلكم ثائركم باجتياح كفّر ما قدّمتم آخرٌ (1) ... والخير لن يبرح للشرّ ماح عهدي به في موكب الملك ما ... بينكم نشوان من غير راح

_ (1) ق: آخراً.

يحسب أنّ الأرض ملكٌ له ... وروحه ملكٌ لسمر الرماح غدا بعزّ الملك لكنّه ... أهون مملوكٍ على الأرض راح جاءوا به يمرح في عزّه ... وهم أزالوا عنه ذاك المراح توقّعوا في القرب منه الردى: ... من صحبة الأجرب يخشى الصّحاح فأسرعوا نحوك يبغون ما ... عوّدتهم من عطفةٍ والتماح فغادروه جانياً غدره ... لطائر البين عليه نياح فالحمد لله على كلّ ما ... سنّى لك السعد برغم اللّواح مثلك لا ينفد ما شاده (1) ... فلست تأتي الدهر إلاّ صلاح لا زلت في عزٍّ وفي مكنةٍ ... وفي سرورٍ دائمٍ وانفساح قال: وقلت ببنيونش موضع الفرجة بسبتة: اشرب على بنيونشٍ ... بين السواني والبطاح مع فتيةٍ مثل النجو ... م لهم إذا مرّوا جماح ساقيهم متبذّلٌ ... لا يمنع الماء القراح كلٌّ يمدّ يمينه ... ما في الذي يأتي جناح هبّوا عليه كلّما ... هبّت على الروض الرياح طوع الأماني كلّ ما ... يأتي به فهو اقتراح عانقته حتّى ترك ... ت بخصره أثر الوشاح وقلت بإشبيلية: أوجه صبحٍ أم الصّباح ... ولحظها أن ظبى الصّفاح وثغرها أم نظيم درٍّ ... وريقها أم سلاف راح وقدّها أم قوام غصنٍ ... وعرفها أم شذا البطاح

_ (1) ق: لا ينقد ما شاءه.

يا حبّذا زورةٌ تأتّت ... منها علىغفلة اللّواح فلم أصدّق بها سروراً ... وظلت نشوان دون راح أما منعت السلام دهراً ... ولا رسولٌ سوى الرياح قالت: ألا فانس ما تقضّى ... فمن يدّع ما مضى استراح يا حبّذاها وقد تأتّت ... من دون وعدٍ ولا اقتراح زارت ومن نورها دليلٌ ... والليل قد أسبل الجناح أخفت سراها فباح نشرٌ ... لها بعرفٍ فشا وفاح وافت فأمسى فمي مداماً ... وساعداي لها وشاح كأنّما بتّ بين روضٍ ... والغصن والورد والأقاح فبينما الشمل في انتظامٍ ... إذ سمعت داعي الفلاح فغادرتني، فقلت: غدراً ... قالت: أما تحذر افتضاح ولّت وما خلت من صباحٍ ... يبدو على إثره صباح قال: وقلت بتونس: لا مرحباً بالتين لمّا بدا ... يسحب من ليلٍ عليه الوشاح ممزّق الجلباب يحكي ضحىً ... هامة زنجيٍّ عليها جراح وإن تصحّفه فلا حبّذا ... ما قد أتى تصحيفه بانتزاح (1) وقلت بالجزيرة الخضراء، وقد كلّفت ذلك: غرامي بأقوال العدا كيف ينسخ ... وعهدي وقد أحكمته كيف يفسخ كلامكم لا يدخل السمع نصحه ... ولكن إذا حرضتم فهو يرسخ وبي بدر تمٍّ قد ذللت لحسنه ... فمن ذا الذي فيما أتيت يوبّخ إذا خاصموني في هواه خصمتهم ... ويبغون تنقيصي بذاك فأشمخ

_ (1) تصحيف " نين "، " بين " أي فراق وانتزاح.

أرى أنّ لي فضلاً على كلّ عاشقٍ ... فقصّتنا في الدّهر ممّا يؤرّخ فما بشرٌ مثلٌ له في جماله ... ووجدي به في العشق ليس له أخ وقلت بالإسكندرية، وقد تعذّر عليّ الحجّ عند وصولي إليها سنة تسع وثلاثين وستمائة: قرب المزار ولا زمانٌ يسعد ... كم ذا أقرّب ما أراه يبعد وارحمةً لمتيّمٍ ذي غربةٍ ... ومع التغرّب فاته ما يقصد قد سار من أقصى المغارب قاصداً ... من لذّ فيه مسيره إذ يجهد فلكم بحارٍ مع قفار جبتها ... تلقى بها الصمصام ذعراً يرعد كابدتها عرباً وروماً، ليتني ... إذ جزت صعب صراطها لا أطرد يا سائرين ليثربٍ بلّغتم ... قد عاقني عنها الزمان الأنكد أعلمتم أن طرت دون محلّها ... سبقاً وها أنا إذ تدانى مقعد يا عاذلي فيما أكابد قلّ في ... ما أبتغيه صبابةٌ وتسهّد لم تلق ما لقيته فعذلتني ... لا يعذر المشتاق إلاّ مكمد لو كنت تعلم ما أروم دنوّه ... ما كنت في هذا الغرام تفنّد لا طاب عيشي أو أحلّ بطيبةٍ ... أفقٌ به خير الأنام محمّد صلّى عليه من براه خيرةً ... من خلقه فهو الجميع المفرد يا ليتني بلّغت لثم ترابه ... فيزاد سعداً من بنعمى يسعد فهناك لو أعطى مناي محلّةً ... من دونها حلّ السّها والفرقد عيني شكت رمداً وأنت شفاؤها ... من دائها ذاك الثرى لا الإثمد يا خير خلق الله مهما غبت عن ... عليا مشاهدها فقلبي يشهد ما باختيار القلب يترك جسمه ... غير الزمان له بذلك تشهد يا جنّة الخلد التي قد جئتها ... من دون بابك للجحيم توقّد صرم التواصل ذبّلٌ وصوارمٌ ... ما للجليد على تقحّمها يد

فلئن حرمت بلوغ ما أمّلته ... فلديّ ذكرى لا تزال تردّد فلتنعشوا مني الذّماء بذكره ... ما دمت عن تلك المعالم أبعد لولاه ما بقيت حياتي ساعةً ... هو لي إذا متّ اشتياقاً مولد ذكرٌ يليه من الثناء سحائبٌ ... أبداً على مرّ الزمان يجدّد من ذا الذي نرجوه لليوم الذي ... يقصى الظّماء به ويحمى المورد يا لهف من وافى هناك وما له ... من حبّه ذخرٌ به يتزود ما أرتجي عملاً ولكن أرتجي ... ثقتي به ولحسب من يتزود ما صحّ إيمانٌ خلا من حبّه ... أبلا رياشٍ يستعدّ مهنّد عن ذكره لا حلت عنه لحظةً ... ومديحه في كلّ حفلٍ أسرد يا مادحي يبغى ثواباً زائلاً ... فثواب مدحي في الجنان أخلد لولا رسول الله لم ندر الهدى ... وبه غداً نرجو النّجاة ونسعد يا رحمةً للعالمين بعثت والدّن ... يا بجنح الكفر ليلٌ أربد أطلعت صبحاً ساطعاً فهديت لل ... إيمان إلاّ من يحيد ويجحد لم تخش في مولاك لومة لائمٍ ... حتى أقرّ به الكفور الملحد ونصرت دين الله غير محاذرٍ ... ودعوت في الأخرى الألى قد أصعدوا ولقيت من حرب الأعادي شدّةً ... لو كابدوها ساعةً لتبدّدوا أيّان لا أحدٌ عليهم عاضدٌ ... إلا الإله ولم يخن من يعضد فحماك بالغار الذي هو من أد ... لّ المعجزات وخاب من يترصّد ووقاك من سمّ الذراع بلطفه ... كيما يغاظ بك العدى والحسّد والجذع حنّ إليك والماء انهمى ... ما بين خمسك والصحابة شهّد والذئب أنطق للذي أضحى به ... يهدى إلى سبل النّجاح ويرشد وبليلة الإسرا حباك وسمّي ال ... صّديق من أضح لقولك يسعد وحباك بالخلق العظيم ومعجز ال ... كلم الذي يهدى به إذ يورد وبعثت بالقرآن غير معارضٍ ... فيه وأمسى من نحاه يعرّد

فتوالت الأحقاب وهو مبرّأ ... من أن يكون له مثالٌ يوجد ولكم بليغٍ جال فصل خطابه ... والسّرج في ضوء الغزالة تهمد زويت لك الأرض التي لا زال ح ... تى الحشر ربّك في ذراها يعبد ونصرت بالرعب الذي لمّا يزل ... يترى كأن ما عين سخصك تفقد فمتى تعرّض طاعنٌ أو حاد عن ... حرم الهداية فالحسام مجرّد يا من تخيّر من ذؤابة هاشمٍ ... نعم الفخار لها ونعم المحتد لسناك حين بدا بآدم أقبلت ... رعياً لأخراه الملائك تسجد لم أستطع حصراً لما أعطيته ... فذكرت بعضاً واعتذاري منشد ماذا أقول إذا وصفت محمّداً ... نفد الكلام ووصفه لا ينفد فعليك يا خير الخلائق كلّها ... مني التحيّة والسلام السرمد قال: وقلت بإشبيلية: هل تمنع النّهود ... ما أبدت الخدود نعم وكم طعينٍ ... بطعنها شهيد يا ربّة المحيّا ... حفّت به السعود لم تسكر الحميّا ... بل ريقك البرود لله يا عذولي ... ما تكتم البرود ما زلت فيه أفنى ... والوجد مستزيد يا هل ترى زماناً ... مضى لنا يعود لدى العروس سقّت ... جنابها العهود (1) حيث الغصون مالت ... كأنّها قدود وزهرها نظيمٌ ... كأنّه عقود

_ (1) العروس: من متنزهات إشبيلية.

حمامها تغنّي ... أعطافها تميد وبالنّسيم شقّت ... لنهرها برود فروعه سيوفٌ ... وسوره بنود هناك كم دعتني ... إلى الورود رود فنلت كلّ سؤلٍ ... يفنى به الحسود قضيت فيه عيشاً ... ما بعده مزيد أضحي به وأمسي ... مرنّحاً أميد كأنّني يزيد ... كأنّني الوليد يجري الزمان طوعي ... بكلّ ما أريد الخمر ملّكتني ... فالخلق لي عبيد يحقّ لي إذا ما ... أبصرتها تجود فها أنا إذا ما ... فقدتها فقيد يا من يلوم بغياً ... العذل لا يفيد إذا عدمت كأسي ... فليس لي وجود وقال: وقلت بإشبيلية: أوما نظرت إلى الحمامة تنشد ... والغصن من طربٍ بها يتأوّد ونثاره ألقاه جائزة (1) لها ... لمّا يزل بيد النسيم يبدّد ألقى عليها الطلّ برداً سابغاً ... فثناؤه طول الزمان يردّد أترى الحمامة من محبٍّ ملخصٍ ... أولى بشكرٍ حين تغمره يد فلأثنينّ عليك ما أثنى بأع ... لى الغصن حنّان الهديل مغرّد كم نعمةٍ لي في جنابك كم أكا ... بد جهدها أيّان برّك يجهد

_ (1) ق ج: ألقى جمائره.

وقال: أرى العين منّي تحسد الأذن كلّما ... جرت مدحةٌ للعلم والفضل والمجد أحقّق أنباءً ولم أر صورةً ... كتحقيقي الأخبار عن جنّة الخلد فمنّ على عيني بلقياك إنّني ... أخذت لها أمناً بذاك من السّهد قال: وقلت أمدح ابن عمي وأشكره (1) ، على ما أذكره: آه ممّا تكنّ فيك الجوانح ... ودموعي على نواك سوافح واشتفاءٌ من العدوّ ببينٍ ... كدّر العيش، أي عيشٍ لنازح يا أتمّ الأنام حسناً أما تح ... سن حتى يتمّ إطراء مادح يا زمان الوصال عوداً فإنّي ... طوّحت بي لمّا غدرت الطوائح أين عيش العروس إذ يبطح السك ... ر حبيبي ما بين تلك الأباطح والأماني تترى ولا أحدٌ ين ... صح إذ لا يصغى إلى قول ناصح وزمان السرور سمحٌ مطيعٌ ... ورسول الحبيب غادٍ ورائح ولكم ليلةٍ أتاني بلا طي ... بٍ ولكن يزري بأذكى الروائح هو ظبيّ فليس يحتاج طيباً ... قد كفاه عرفٌ من المسك فائح مثل عليا محمدٍ لم تكن كس ... باً وما لا يكون في الطبع فاضح يا كريماً أتى من الجود ما لا ... كان يدرى فأوجدته المدائح وعلا كلّ ذي علاءٍ وأضحى ... نحو ما لا يرومه الناس طامح قد أتاني إحسانك الغمر في إث ... ر سواه فكنت أكمل مادح فاض بحر النوال منك ولا سا ... حل يبدو ولم أزل فيه سابح حللٌ مثل ما كسوتك في المد ... ح تميت العدا ومالٌ سابح (2)

_ (1) دوزي: وأشكوه. (2) ق ج ودوزي: وسائح؛ والسابح فرس أهداه إليه.

أورد الورد (1) منطقي كلّ شكرٍ ... حين أضحى طوع البنان مسامح لون خدّ الحبيب حين كسوه ... حلّة الحسن بالعيون اللّوامح شفقٌ سال بين عينيه صبحٌ ... حسنه قيّد اللحاظ السوارح لم أجد فيه من جماحٍ ولك ... نّ ثنائي عليك ما زال جامح لك يا ابن الحسين ذكرٌ جميلٌ ... صيّر الكلّ نحو بابك جانح قد هدى نحوك الثناء كما يه ... دي إلى الروض باسمات النوافح فاعذر الناس إن أتوا لك أفوا ... جاً فكلٌّ بقصد فضلك رابح ما هدتهم إليك إلاّ الأماني ... لم تحلهم إلا عليك القرائح قل لذي المفخر الحديث تأخّر ... ليس مهرٌ في شأوه مثل قارح أيّ أصلٍ وأيّ فرعٍ أقاما ... شرفاً ظلّ للنّجوم يناطح قد حوت مذحجٌ من الفخر لمّا ... كنت منها ما ليس يحويه شارح أفق مجدٍ قد زانه منك بدرٌ ... في ظلام الخطوب ما زال لائح بدر تمٍّ حفّت به هالةٌ ... من بيت مجدٍ علاؤها الدهر واضح يا سماكاً بمسكه القلم الأع ... لى بدا بين أنجم الملك رامح رفع الله للكتابة قدراً ... بعدما كابدت توالي الفضائح يا أعزّ الأنام نفساً وأعلا ... هم محلاًّ لا زال أمرك راجح أين أعداؤك الذين رعى سي ... فك فيهم فأشبهوا قوم صالح أفسد الدهر حالهم ليرى حا ... لك رغماً بمن يناويك صالح دمت في عزّةٍ وسعدٍ مدى الده ... ر ولا زال طائرٌ منك سانح [أبو عبد الله ابن سعيد] وابن عمه المذكور قال في حقه في المغرب ما ملخّصه (2) :

_ (1) الورد: الفرس الوردي اللون. (2) انظر المغرب 2: 168 ونص المقري مختلف كثيراً عما هو في المغرب، وفي هذا تأكيد لاختلاف نسخ الكتاب؛ وانظر ترجمة أبي عبد الله ابن سعيد أيضاً في تاريخ ابن خلدون 6: 294.

إنّه الرئيس الأعلى، ذو الفضائل الجمة، أبو عبد الله محمد بن الحسين بنأبي الحسين سعيد بن الحسين بن سعيد بن خلف بن سعيد، قال: واجتماع نسبنا مع هذا الرئيس في سعيد بن خلف، وهو الآن قد اشتمل عليه ملك إفريقية اشتمال المقلة على إنسانها، وقدمه في مهماته تقديم الصّعدة لسنانها، وأقام لنفسه مدينة حذاء حضرة تونس، واعتزل فيها بعسكر الأندلس الذي صيّرهم الملك المنصور إلى نظره، وهو كما قال الفتح صاحب القلائد فقد جاء آخرهم، فجدد مفاخرهم، ومن نظمه وقد نزل على من قدم له مشروباً أسود اللون غليظاً وخروباً وزبيباً أسود وزبيباً كثير الغضون جاءت به عجوز في طبق، فقال: ويوم نزلنا بعبد العزيز ... فلا قدّس الله عبد العزيز سقانا شراباً كلون الهناء ... ونقّلنا بقرون العنوز وجاءت عجوزٌ فأهدت لنا ... زبيباً كخيلان خدّ العجوز ونزل السلطان أبو يحيى في بعض حركاته لموضع فيه نهر، وعلى شطّه نورٌ، فقال الرئيس أبو عبد الله ابن الحسين يصفه أو أمر بذلك: ونهر يرفّ الزهر (1) في جنباته ... ويثني النّسيم قضبه فتأطّر يسيل كما عنّ الصباح بأفقه ... وإلا كما شيم الحسام المجوهر عليه ليحيى قبّةٌ، هل سمعتم ... بقرصة شمسٍ حلّ فيها غضنفر فإن قلت هذي قبّةٌ لعفاتها ... فقل ذلك الوادي الذي سال كوثر وقال أبو عمرو أحمد بن مالك بن سيد أمير اللخمي الشابي في ذلك: وأرضٍ من الحصباء بيضاء قد جرت ... جداول ماءٍ فوقها تتفجّر

_ (1) ق ودوزي: النور.

كما سبحت تبغي الحياة أراقمٌ ... على روضةٍ فيها الأقاح المنوّر وإلا كما شقّت سبائك فضّةٍ ... بساطاً على حافاته الدّرّ ينثر وقال أبو علي يونس: انظر إلى منظرٍ يسبيك منظره ... ويزدهيك بإذن الله مخبره ومعجبٍ معجبٍ لا شيء يشبهه ... خرير ماءٍ نميرٍ ثمّ منهره كأنّما فرشت بالدّرّ صفحته ... فالماء ينظمه طوراً وينثره كأنّ خلجانه قدّت على قدرٍ ... بمائها قسمٌ يجري مفجّره أحلّ سيدنا الميمون قبّته ... بحوزه فغدا يزدان جعفره رجع إلى ما كنا فيه من أخبار الرئيس ابن الحسين، فنقول: رأيت بالمغرب آخر كتاب " روح السحر " من نسخة ملوكية كتبت له أبياتاً علق بحفظي منها الآن ما نصه: تمّ روح السحر نسخاً فأتى ... مصحباً باليمن والفخر البعيد لأبي عبد الإله المرتقي ... في ذرا المجد الرئيس ابن سعيد ولم أحفظ تمام الأبيات. وقال أبو الحسن علي بن سعيد: كتبت إليه من أبيات بحضرة تونس وقد نقل إليه تعض الحساد ما أوجب تغيّره: ومن بعد هذا قد أتيت بزلّةٍ ... أما حسنٌ أن لا تضيق بها صدرا وعلمك حسبي بالأمور فإنّني ... عهدتك تدري سرّ أمري والجهرا وقد أصلح الله الأمور بسعيكم ... ونيتكم صلحاً على البشر والبشرى ولم يبق لي إلاّ رضاك فإن به ... كتبت ولو حرفاً أطبت لي العمرا فبقّيت كهفاً للجميع وموئلاً ... ولا زلت ما دام الزمان لنا سترا

فكتب إلي هذه الأبيات، وكان متمرضاً، وبعث إلي بما يذكر: أكفّ الصّبا حفّت جنى زهر الربى ... سؤالك عن نضوٍ يسامي بك الزّهرا بعثت بمثل الزهر في مثل صفحةٍ ... لذلك ما قلّدتها الشّذر والدّرّا معانٍ لها أعنو وأعنى بها فكم ... وقفت عليها العين والسمع والفكرا فلو عرضت للبحر لن يلفظ الدّرّا ... ولو عارضت هاروت لم ينفث السحرا أب حسن هنئت ما قد منحته ... ضروباً من الآداب تحلي بها الدهرا ودونك بحراً من ودادي تلاطمت ... به زاخرات المدّ لا يعرف الجزرا فإن خطرت في جانبٍ منك هفوةٌ ... فلا تحسبن أنّي أضيق بها صدرا يزلّ الجواد عندما يبلغ المدى ... ويعثر بالرّمث النسيم إذا أسرى فدع ذا وخذها شائباتٍ قرونها ... عروباً لعوباً جائزاً حكمها بكرا ولو غادرت أوصافها متردّماً ... لشنّفت من أشعرها أذن الشّعرى ألا فاحجبنها عن صديقٍ معمّمٍ ... فإنّ قصارى الغمر أن يبكي العمرا ومن كان ذا حجرٍ ونبلٍ ورقّةٍ ... فلا يخلون إلاّ على الخمرة الحمرا قرنت بها صفراء لم تعرف الهوى ... ولا ألفت وصلاً ولا عرفت هجرا ولا ضمّخت تضخ العبير وإن غدت ... تؤخّره لوناً وتفضحه نشرا فإن خلتها بنت الظليم أظلّها ... فقد فرش الإذخرّ من تحتها تبرا لها نسبٌ بين الثريّا أو الثرى ... وسل برباها المزن والغصن النضرا فشرباً دهاقاً وانتشاقاً ولا ترم ... عن البيت فتراً أو تقيم به شهرا وله في الخشكلان (1) : هو الأهلّة لكن ... تدعونه خشكلانا فإن تفاءلت صحّف ... تجد: حبيبك لانا انتهى باختصار.

_ (1) الخشكلان (بالفارسية: خشك نان) نوع من الخبز أو البقسمط في شكل هلالي.

وحظي المذكور جدّاً عند السلطان ملك إفريقية أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، ولما مات السلطان المذكور، وحدثت فتنة بموته واختلاف، ثم استقرت الدولة لابنه الشهير الكبير القدر أبي عبد الله المستنصر ممدوح حازم بالمقصورة، وقاتل ابن الأبار القضاعي (1) - سخط على الرئيس ابن الحسين المذكور، وقبض على دياره وأمواله، وصيره كالمحبوس، فكتب إليه رقعة يطلب الاجتماع به في مصلحة للدولة، فأحضره، وسأله فأخبره بأن أباه صنع داراً عظيمة تحت الأرض، وأودع فيها من أنواع المال والسلاح ما جعله عدّة وذخيرة لسلطانه، ولم يترك على وجه الأرض من له علم بهذا الموضع الذي أودعه نفائس أمواله غيري، وأوصاني أنّه إذا انتقل إلى جوار ربه، إذ توقع أن تقع فتنة بين أقاربه، أنّه إذا انقضت سنة واستقر الأمر لأحد من ولدي أو من يتيقن أنّه يصلح لأمور المسلمين، فأطلعه على هذه الذخائر، فربما فنيت الأموال بالفتنة، فلا يجد القائم بالأمر ما يصلح به الدولة إذا تفرغ للتدبير والسياسة، ففرح السلطان، وبادر إلى تلك الدار، فرأى ما ملأ عينه، وسرّ قبله، وخرج الرئيس ابن الحسين والخيل تجنب أمامه، وبدر الأموال بين يديه، وأعاده إلى أحسن أحواله، وجعله وزيراً لديه، كما كان أبوه مفوضاً أموره إليه، وقال السلطان: إن من أوجب شكر الله عليّ أن أفتتح المال بأن أؤدي منه للرعيّة الذين نهبت دورهم واحترقت في الفتنة التي كانت بيني وبين أقاربي ما خسروه، وأمر بالنداء فيهم، وأحضرهم وكلّ من حلف على شيء قبضه وانصرف. [ذكر المستنصر الحفصي] وكان السلطان المستنصر المذكور في بعض متصيداته، فكتب لأبي عبد الله

_ (1) ستأتي ترجمة حازم وابن الأبار والتعريف بهما؛ أما مقصورة حازم فمطلعها: لله ما قد هجت يا يوم النوى ... على فؤادي من تباريح الجوى وهي التي شرحها الشريف الغرناطي في ما سماه " رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة ".

الرئيس المذكور يأمره بإحضار الأجناد لأخذ أرزاقهم بقوله: ليحضر كلّ ليثٍ ذي منال ... زكا فرعاً لإسداء النّوال غداً يوم الخميس فما شغلنا ... بأسد الوحش عن أسد الرجال وحكي أن السلطان المذكور عرض مرة أجناده، وقيل: بل سلّم عليه الموحدون يوم عيد بتونس، وفيهم شاب مليح وسيم اسم جده النعمان، فسأله السلطان عن اسمه، وأعجبه حسنه، فخجل واحمر وجهه، وازداد حسناً، فقال السلطان هذا المصراع: كلّمته فكلمت صفحة خدّه ... وسأل من الحاضرين الإجازة، فلم يأتوا بشيء، فقال السلطان مجيزاً شطره: فتفتّحت فيها شقائق جدّه ... وهذا من البدائع مع ما فيه من التورية والتجنيس. وممّا نسبه له أبو حيان بسنده إليه: ما لي عليك سوى الدّموع معين ... إن كنت تغدر في الهوى وتخون من منجدي غير الدموع وإنّها ... لمغثيةٌ مهما استغاث حزين الله يعلم أن ما حمّلتني ... صعبٌ ولكن في رضاك يهون وكان للسلطان المذكور سعد يضرب به المثل، حتى إنّه كتب له صاحب مكّة البيعة من إنشاء ابن سبعين المتصوف، كما ذكر ذلك ابن خلدون في تاريخه الكبير، وسرد نصّها، وهي من الغرائب. ومن سعده أن الفرنسيس الذي كان أسر بمصر وجعل في دار ابن لقمان والطواشي صبيح يحرسه لما سرّح جاء من أمم النصرانية لبلاد المسلمين بما لم يجتمع قط مثله، حتى قيل: إنّهم كانوا ألف ألف، فكتب إليه أهل مصر من

نظم ابن مطروح القصيدة المشهورة التي منها: قل للفرنسيس إذا جئته ... مقالةً من ذي لسانٍ فصيح إلى أن قال: دار ابن لقمان على حالها ... ومصر مصرٌ والطواشي صبيح والقصيدة مشهورة فلذلك لم أسردها، فصرف الفرنسيس جيوشه إلى تونس، فكتب إليه بعض أدباء دولة المستنصر: أفرنسيس، تونسٌ أخت مصرٍ ... فتأهب لما إليه تصير لك فيها دار ابن لقمان قبرٌ ... وطواشيك منكرٌ ونكير فقضى الله سبحانه وتعالى أنّه مات في حركته لتونس، وغنم المستنصر غنيمة ما سمع بمثلها قط، ويقال: إنّه دس إليه سيفاً مسموماً من سلّه أثر فيه سمّه، وقلده رسولاً إليه بعد أن جعل عليه من الجواهر النفيسة ما لم ير مثله عند غيره، وقال للرسول: إن الفرنسيس رجل كثير الطمع، ولولا ذلك ما عاود بلاد المسلمين بعد أسره، وإنّه سيرى السيف، ويكثر النظر إليه، فإذا رأيته فعل ذلك فانزعه من عنقك وقبّله، وقل له: هذا هدية مني إليك، لأن من آدابنا مع ملوكنا أن كل ما وقع نظر الملك عليه وعاود النظر إليه بالقصد فلا بد أن يكون له، ويحرم علينا أن نمسكه، لأن ما أحبه المولى على العبيد حرام، وتكراره النظر إليه دليل على حبّه له، ففرح النصراني بذلك، وأسرع الرسول العود إلى سلطانه، فسلّ النصرانيّ السيف، فتمكّن فيه السم بالنظر، فمات في الحين، وفرّج الله تعالى عن المسلمين. رجع إلى أخبار أبي الحسن علي بن سعيد: قال ابن العديم في تاريخ حلب: أنشدني شرف الدين أبو العباس أحمد بن

يوسف التيفاشي (1) بالقاهرة في أبي الحسن علي بن موسى بن سعيد الغرناطي يشير إلى كتاب أبي الحسن الذي جمعه من محاسن المغرب وسمّاه " المغرب ": سعد الغرب وازدهى الشرق عجباً ... وابتهاجاً بمغرب ابن سعيد طلعت شمسه من الغرب تجلى ... فأقامت قيامة التّقييد لم يدع للمؤرخين مقالاً ... لا ولا للرّواة بيت نشيد إن تلاه على الحمام تغنّت ... ما على ذا في حسنه من مزيد وأنشدني أبو العباس التيفاشي لنفسه فيه: يا طيّب الأصل والفرع الزكيّ كما ... يبدو جنى ثمرٍ من أطيب الشّجر ومن خلائقه مثل النّسيم إذا ... يهفو على الزّهر حول النهر في السّحر ومن محيّاه والله الشّهيد إذا ... يبدو إلى بصري أبهى من القمر أثقلت ظهري ببرٍّ لا أقوم به ... لو كنت أتلوه قرآناً مع السّور أهديت لي الغرب مجموعاً بعالمه ... في قاب قوسين بين السمع والبصر كأنني الآن قد شاهدت أجمعه ... بكلّ من فيه من بدوٍ ومن حضر نعم ولاقيت أهل الفضل كلّهم ... في مدّتي هذه والأعصر الأخر إن كنت لم أرهم في الصدر من عمري ... فقد رددت عليّ الصدر من عمري وكنت لي واحداً فيهم جميعهم ... ما يعجز الله جمع الخلق في بشر جزيت أفضل ما يجزى به بشرٌ ... مفيد عمرٍ جديد الفضل مبتكر

_ (1) التيفاشي (- 651) منسوب إلى تيفاش من قرى قفصة بأفريقية هاجر من بلده إلى القاهرة وتعلم فيها ثم عاد إلى بلده وتولى القضاء فيه، ورجع إلى المشرق فسلب ماله وكتبه في البحر، فلجأ إلى الصاحب محمد بن محمد بن سعيد بن ندى الجزري الذي عاش ابن سعيد مدة في كنفه وألف مستعيناً بمكتبة ابن ندى كتابه الكبير " فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب " في 24 مجلدة، وقد اختصر ابن منظور وسماه " سرور النفس بمدارك الحواس الخمس " ويمثل " نثار الأزهار " قطعة منه، وألف أيضاً كتابين في الجواهر (الوافي 8 الورقة: 133) .

ومن نظم أبي الحسن ابن سعيد قوله: وعشيّةٍ بلغت بنا أيدي النّوى ... منها محاسن جامعاتٍ للنّخب فحدائقٌ ما بينهنّ جداولٌ ... وبلابلٌ فوق الغصون لها طرب والنّخل أمثال العرائس لبسها ... خزٌّ وحليتها قلائد من ذهب ومن نظمه رحمه الله تعالى في حلب قوله: حادي العيس كم تنيخ المطايا ... سق فروحي من بعدهم في سياق حلبٌ إنها مقرّ غرامي ... ومرامي وقبلة الأشواق لا خلا جوسقٌ وبطياس والسع ... داء من كلّ وابلٍ غيداق كم بها مرتعٌ لطرفٍ وقلبٍ ... فيه يسقى المنى بكأسٍ دهاق وتغنّي طيوره لارتياحٍ ... وتثنّى غصونه للعناق وعلّو الشهباء حيث استدارت ... أنجم الأفق حولها كالنطاق وقوله أيضاً في حماة: حمى الله من شطّي حماة مناظراً ... وقفت عليها السمع والفكر والطّرفا تغنّي حمامٌ أو تميل خمائلٌ ... وتزهى مبانٍ تمنح الواصف الوصفا يلومون أن أعصي التّصوّن والنّهى ... بها وأطيع الكأس واللهو والقصفا إذا كان فيها النهر عاصٍ فكيف لا ... أحاكيه عصياناً وأشربها صرفا وأشدو لدى تلك النواعير شدوها ... وأغلبها رقصاً وأشبهها غرفا تئنّ وتذري دمعها فكأنّها ... تهيم بمرآها وتسألها العطفا وقوله في وداع ابن عمه وكتب بهما إليه: وداعٌ كما ودّعت فصل ربيع ... يفضّ ضلوعي أو يفيض دموعي لئن قيل في بعضٍ يفارق بعضه ... فإنّي قد فارقت منك جميعي

قال: فأرسل إليّ إحساناً، واعتذر ولسان الحال ينشد عنه: أحبّك في البتول وفي أبيها ... ولكنّي أحبّك من بعيد وقوله، وقد أفلت المركب الذي كان فيه من العدو: أنظر إلى مركبنا منقذاً ... من العدا من بعد إحراز أفلت منهم فغدا طائراً ... كطائرٍ أفلت من بازي وقال رحمه الله تعالى لما خرج من حدود إفريقية: رفيقي جاوزنا مواطنٍ ... صحبنا بها الأيّام طلقاً محيّاها وما إن تركناها لجهلٍ بقدرها ... ولكن ثنت عنّا أعنّة سقياها فسرنا نحثّ السّير عنها لغيرها ... إلى أن يمنّ الله يوماً بلقياها وكان وصوله بالإسكندرية في السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة تسع وثلاثين وستمائة. وقال رحمه الله تعالى: أخذت مع والدي يوماً في اختلاف (1) مذاهب الناس، وأنهم لا يسلمون لأحد في اختياره، فقال: متى أردت أن يسلم لك أحد في هذا التأليف - أعني المغرب - ولا تعترض أتبعت (2) نفسك باطلاً، وطلبت غاية لا تدرك، وأنا أضرب لك مثلاً: يحكى أن رجلاً من عقلاء الناس كان له ولد، فقال له يوماً: يا أبي، ما للناس ينتقدون عليك أشياء وأنت عاقل ولو سعيت في مجانبتها سلمت من نقدهم، فقال: يا بني، إنّك غرٌّ لم تجرّب الأمور، وإن رضى الناس غايةٌ لا تدرك، وأنا أوقفك على حقيقة ذلك، وكان عنده حمار، فقال له: اركب هذا الحمار وأنا أتبعك ماشياً، فبينما هما كذلك إذ قال رجل:

_ (1) مذاهب: سقطت من دوزي. (2) ق ج: أتعبت.

أنظر، ما أقلّ هذا الغلام بأدب، يركب ويمشي أبوه، وانظر ما أشد تخلّف والده لكونه يتركه لهذا، فقال له: انزل أركب أنا وامش أنت خلفي، فقال شخص آخر: انظر هذا الشخص، ما أقلّه بشفقة، ركب وترك ابنه يمشي، فقال له: اركب معي، فقال شخص: أشقاهما الله تعالى، انظر كيف ركبا على الحمار، وكان في واحد منهما كفاية، فقال له: انزل بنا، وقدّماه وليس عليه راكب، فقال شخص: لا خفّف الله تعالى عنهما، انظر كيف تركا الحمار فارغاً وجعلا يمشيان خلفه، فقال: يا بني، سمعت كلامهم، وعلمت أن أحداً لا يسلم من اعتراض الناس على أي حالة كان، انتهى. [مقتبسات من خطبة المغرب] وقال في أثناء خطبة المغرب ما نصه: والحمد لله الذي جعل الأدب أفضل ما اكتسب، وأفضل ما انتخب، إذ هو ذخر لا يخاف كساده، وكنز لا يخشى انتقاصه وإن كثر مرتاده، ولله درّ القائل: رأيت جميع الكسب يفقده الفتى ... وتبقى له أخلاقه والتّأدّب إذا حلّ في أرضٍ أقام لنفسه ... بآدابه قدراً به يتكسّب وأومأ كلٌّ نحوه، ولعلّه ... إلى غير أهلٍ للنباهة ينسب وقال في أثناء الكلام لبعض المغاربة: فأثبتّ في كلّ المواطن همّةً ... إلى طلب العلم الذي كان مطّرح وصيّرت من قد كان بالنّظم جاهلاً ... يحاوله كيما تجود لك المدح وقال أيضاً في الخطبة: وبعد، فهذا كتاب راحةٍ قد تعبت في جمعه الأسماع والأبصار والأفكار، وكل عناء سهل إذا أنجح القصد، وقد بدأ فيه من سنة ثلاثين وخمسمائة، ومنتهاه إلى غرة سنة إحدى وأربعين وستمائة، وقال: وأول

من كان السبب في ابتداء هذا الكتاب جدّ والدي عبد الملك بن سعيد، وهو إذ ذاك صاحب قلعة بني سعيد تحت طاعة علي بن يوسف بن تاشفين أمير المسلمين ملك البربر، إلى أن استبدّ بها سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وقصده في سنة ثلاثين وخمسمائة حافظ الأندلس أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن الحجاري وصنف له كاب المسهب في غرائب المغرب في نحو ستة أسفار، وابتدأ فيه من فتح الأندلس إلى التاريخ الذي ابتدأه فيه، وهو سنة ثلاثين وخمسمائة، ثمّ ثار في خاطر عبد الملك أن يضيف إليه ما أغفله الحجاري، وتولع بمطالعته ابناه أبو جعفر ومحمد، وأضافا له ما استفاداه، ولم يزل يزيد إلى أن استبدّ به محمد، فاعتنى به أشد اعتناء، ثم استبدّ به والدي - وكان أعلمهم بهذا الشأن، وبلغ من اجتهاده في هذا الكتاب أنني أذكره يوماً وقد نوّه به ابن هودٍ وهو ملك الأندلس وولاّه الجزيرة الخضراء، فأعلمه شخص أن عند أحد المنسوبين إلى بيت نباهة كراريس من شعر شعرائها، وأخبار رؤسائها، الذين تحتوي عليهم دولة بني عبد المؤمن، فأرسل إليه راغباً في استعارتها، فأبى، وقال: عليّ يمين أن لا تخرج عن منزلي، وقال: إن كانت له حاجة يأتي على رأسه، وكان جاهلاً، فلما سمع والدي ضحك وقال: سر معي إليه، فقلت له: ومن يكون هذا حتى نمشي له على هذه الصورة فقال: إني لا أمشي له، ولكن أمشي للفضلاء الذين تضمنت الكراريس أشعارهم وأخبارهم، أتراهم لو كانوا أحياء مجتمعين في موضع أنفت أن أمشي إليهم قلت: لا، قال: فإن الأثر ينوب عن العين، فمشينا إلى منزل الرجل، فوالله ما أنصفنا في اللقاء؛ فلما قضينا منها الغرض صرفها إليه والدي وشكره، وقال: هذه فائدة لم أجدها عند غيرك، فجزاك الله تعالى خيراً، ثم انفصل وقال: ألم تعلم يا بني أنني سررت بهذه الفائدة أكثر من الولاية، وإن هذا والله أوّل السعادة، وعنوان نجاحها.

[قلعة بني سعيد] والقلعة التي كان بها بنو سعيد تعرف بهم فيقال لها: قلعة بني سعيد، وكانت تعرف قبل بقلعة أسطلير، وهو عين لها، وقال الملاّحي في تاريخه: إنّها تعرف بقلعة يحصب، قبيلٍ من اليمن نزل بها عند فتح الأندلس، وبها كما مرّ صنّف الحجاري كتاب " المسهب " لصاحبها عبد الملك بن سعيد. وفي بني سعيد يقول الحجازي: قومٌ لهم في فخرهم ... شرف الحديث مع القديم ورثوا الندى والبأس وال ... عليا كريماً عن كريم من كلّ وضّاحٍ به ... يجلى دجى الّليل البهيم [أولية بني سعيد] وكان أوّل من دخل الأندلس (1) من ولد عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه عبد الله بن سعد بن عمار، وقد ذكره ابن حيان في مقتبسه، وأخبر أن يوسف بن عبد الرحمن الفهري صاحب الأندلس آخر دولة بني أمية بالمشرق كتب إليه أن يدافع عبد الرحمن بن معاوية المرواني الداخل للأندلس، وكان إذ ذاك أميراً على اليمانية من جند دمشق، وإنّما ركن إليه في محاربة عبد الرحمن لما بين بني عمار وبين بني أمية من الثأر بسبب قتل عمّار بصفّين على يد عسكر معاوية رضي الله تعالى عنه، وكان عمار من شيعة علي رضي الله تعالى عنهما.

_ (1) قارن بما ورد في المغرب 2: 161.

[شعر لأبي بكر بن سعيد] وقال الحجاري: أنشدني أبو بكر محمد بن سعيد صاحب أعمال غرناطة في مدة الملثّمين لنفسه، فيما يليق بجنسه: إن لم أكن للعلاء أهلاً ... بما تراه فمن يكون وكلّ ما أبتغيه دوني ... ولي على همّتي ديون ومن يرم ما يقلّ عنه ... فذاك من فعله جنون فرعٌ بأفق السماء سامٍ ... وأصله راسخٌ مكين ومن نظمه قوله أيضاً: الله يعلم أنّي ... أحبّ كسب المعالي وإنّما أتوانى ... عنها لسوء المآل تحتاج للكدّ والبذ ... ل واصطناع الرجال دع كلّ من شاء يسمو ... لها بكلّ احتيال فحالهم بانعكاس ... فيها وحالي حالي [ترجمة الغساني من المغرب] ولما ذكر ابن سعيد في " المغرب " (1) ترجمة الكاتب الرئيس المجيد أبي العباس أحمد الغساني كاتب ملك إفريقية قال: بماذا أصفه ولو أن النجوم تصير لي نثراً لما كنت أنصفه، وكفاك أنّي اختبرت الفضلاء من البحر المحيط إلى حضرة القاهرة، فما رأيت أحسن ولا أفضل عشرة منه، ولما فارقته لم

_ (1) ليس له ترجمة في المغرب المطبوع، وقد أشرت من قبل إلى ترجمته في اختصار القدح: 12.

أشعر إلاّ برسالته قد وافتني بالإسكندرية من تونس، وفيها قصيدة فريدة منها (1) : إيهٍ أبا الحسن استمع شدوي فقد ... يصغي الحمام إذا الحمام ترنّما ثمّ سرد بعضاً من القصيدة، وستأتي قريباً إن شاء الله تعالى، بزيادة على ما ذكر منها في المغرب. [إجازته للتيفاشي رواية المغرب] رجع - وجد بخطّه رحمه الله تعالى آخر الجزء من كتاب المغرب ما نصّه: أجزت الشيخ القاضي الأجلّ أبا الفضل أحمد ابن الشيخ القاضي أبي يعقوب التّيفاشي، أن يروي عني مصنّفي هذا، وهو المغرب في محاسن المغرب ويرويه من شاء ثقة بفهمه، واستنامة إلى علمه، وكذلك أجزت لفتاه النبيه جمال الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن خطلخ الفارسي الأرموي أن يرويه عني، ويرويه من شاء، وكتبه مصنفه علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد في تاريخ الفراغ من نسخ هذا السّفر، انتهى. [شعر لابن سعيد] وقال في وسيم من أبناء العجم صحبه في الطريق من حلب إلى بغداد فمات، وكان ظريفاً أديباً (2) : لهفي على غصنٍ ذوى ... أفقدته لمّا استوى ريّان من ماء الصّبا ... ومن المدامع ما ارتوى

_ (1) انظر هذه القصيدة في اختصار القدح: 19 وجواب ابن سعيد عليها ص: 5. (2) الأبيات في اختصار القدح: 8.

لا تعذلوني إن نطق ... ت الدهر فيه عن الهوى كم ضلّ صاحبه بسح ... ر اللحظ منه وكم غوى أنا لا أفيق الدهر في ... هـ من الصبابة والجوى إنّ الهوى حيّاً ومي ... تاً لا يزال له سوا كم قد نويت به النّعي ... م فقدّر الله النوى دار السلام حويت من ... كلّ المحاسن قد حوى مجموع حسنٍ قد ثوى ... في جنّةٍ وبها ثوى وولد أبو الحسن علي بن موسى يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر رمضان عام عشرة وستمائة، وهو علي بن وموسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد بن خلف ابن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر، رضي الله تعالى عنه. [ترجمة والد ابن سعيد من المغرب] وقال في المغرب لما عرف بوالده الكاتب الشهير أبي عمران موسى ابن محمد بن عبد الملك بن سعيد، ما محصّله (1) : لولا أنّه والدي لأطنبت في ذكره، ووفيته من الوصف حق قدره، لكن كفاه وصفاً ما أثبتّه له في هذه الترجمة، وما مر له ويمر في أثناء هذا الكتاب، وكون كلّ من اشتغل بهذا التأليف نهراً وهو بحر، واشتهاره في حفظه التاريخ والاعتناء بالآداب في بلاده، بحيث لا يحتاج إلى تنبيه ولا إطناب، وله من النظم والنثر ما تضج الأقلام من كثرته، ويستمد القطر من درّته، وممّا شاهدت من عجائبه أنّه عاش سبعاً

_ (1) المغرب 2: 99 ويشبه أن يكون نص المغرب المطبوع تلخيصاً لهذه الترجمة التي أوردها المقري.

وستين سنة ولم أره يوماً يخلي مطالعة كتاب أو كتب ما يخلده، حتى إن أّيام الأعياد لا يخليها من ذلك، ولقد دخلت عليه في يوم عيد وهو في جهد عظيم من الكتب، فقلت له: يا سيدي، أفي هذا اليوم لا تستريح فنظر إلي كالمغضب وقال: أظنك لا تفلح أبداً، أترى الراحة في غير هذا والله لا أحسب راحة تبلغ مبلغها، ولوددت أن الله تعالى يضاعف عمري حتى أتم كتاب المغرب على غرضي؛ قال: فأثار ذلك في خاطري أن صرت مثله لا ألتذّ بنعيم غير ما ألتذ به من هذا الشأن، ولولا ذلك ما بلغ هذا التأليف إلى ما تراه. وكان أولع الناس بالتجول في البلدان، ومشاهدة الفضلاء، واستفادة ما يرى وما يسمع، وفي تولّعه بالتقييد والمطالعة للكتب يقول: يا مفنياً عمره في الكأس والوتر ... وراعياً في الدّجى للأنجم الزّهر يبكي حبيباً جفاه أو ينادم من ... يهفو لديه كغصنٍ باسم الزّهر منعّماً بين لذّات بمحّقها ... ولا يخلد من فخرٍ ولا سير وعاذلاً لي فيما ظلت أكتبه ... يبدي التعجب من صبري ومن فكري يقول ما لك قد أفنيت عمرك في ... حبرٍ وطرسٍ عن الأغصان والحبر وظلت تسهر طول الليل في تعبٍ ... ولا تني أمد الأيّام (1) في ضجر أقصر فإنّي أدرى بالذي طمحت ... لأفقه همّتي واسأل عن الأثر (2) واسمع لقول الذي تتلى محاسنه ... من بعد ما صار مثل الترب كالسور جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسير انتهى. وولد أبو عمران موسى بن محمد في الخامس من رجب عام ثلاثة وسبعين

_ (1) المغرب: ولا ترى أبد الأيام. (2) ق: الخبر.

وخمسمائة، وتوفي بثغر الإسكندرية يوم الاثنين الثامن من شوّال عام أربعين وستمائة. [محمد بن عبد الملك بن سعيد] وولد أبوه محمد بن عبد الملك صاحب أعمال غرناطة وأعمال إشبيلية عام أربعة عشر وخمسمائة، وتوفي بشعبان عام تسعة وثمانين وخمسمائة بغرناطة (1) . وكان محمد بن عبد الملك وزيراً جليلاً، بعيد الصيت، عالي الذكر، رفيع الهمّة، كثير الأموال، وذكره ابن صاحب الصلاة في كتابه " تاريخ الموحّدين " (2) ونبه على مكانته منهم في الحظوة والأخذ في أمور الناس، وأثنى عليه، وذكره السهيلي في " شرح السيرة الشريفة " (3) حيث ذكر الكتاب الموجّه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى هرقل وأن محمد بن عبد الملك عاينه عند أذفونش مكرماً مفتخراً به، والقصة مشهورة؛ ومدحه الرصافي بقصيدة أوّلها (4) : ذهناً يفيض وخاطراً موقداً ... ماذا عسى يثنى على علم الندى (5) ولما أنشده قصيدته فيه التي أولها (6) : لمحلّك الترفيع والتعظيم ... ولوجهك التقديس والتكريم حلف لا يسمعها، وقال: عليّ إجازتك، ولكن طباعي لا تحمل مثل

_ (1) انظر المغرب 2: 162. (2) يعني كتاب " المن بالإمامة على المستضعفين "، انظر ص: 251. (3) هو كتاب " الروض الأنف ". (4) ديوانه: 62. (5) الديوان: أبداً تفيض ... دعها تبت قبساً على علم الندى. (6) الديوان: 131 وفيه أنها في مدح أبي جعفر الوقشي وزير ابن همشك.

هذا، فقال له الرصافي: ومن مثلك يستحق هذا في الوقت غيرك فقال له: دعني من خداعك، أنا وما أعلمه من قلبي. وأنشد له في " الطالع السعيد " (1) : فلا تظهرن ما كان في الصّدر كامناً ... ولا تركبن بالغيظ في مركبٍ وعر ولا تبحثن فيعذر من جاء تائباً ... فليس كريماً من يباحث في العذر وولي للموحدين أعمالاً كثيرة بمراكش وسلا وإشبيلية وغرناطة، واتصلت ولايته على أعمال غرناطة، وكان من شيوخها وأعيانها، وكتب عليه عقد أن في داره من الحلى وأصنافه ما لا يمكن إلاّ في دار الملك، وأنّه إذا ركب في صلاة الصبح شوش ... (2) ونباح الكلاب. فأمر المنصور بالقبض عليه وعلى ابن عمّه صاحب أعمال إفريقية أبي الحسين سنة 593، ثم رضي عنهما، وأمر محمد بن عبد الملك أن يكتب بخطّه كل ما أخذ له، فصرفه عليه، ولم ينقص منه شيئاً، وغرم له ما فات منه، وهذا ممّا يدل على قوة سعد محمد ابن عبد الملك المذكور ونباهة قدره، وحسبه من الفخر مدح أديب الأندلس وشاعرها أبي عبد الله الرصافي (3) له، وهو ممّن يمدح الخلفاء في ذلك العصر، رحمه الله تعالى. [عبد الملك بن سعيد] وولد أبوه عبد الملك بن سعيد عام ستة وتسعين وأربعمائة، وتوفّي بحضرة

_ (1) البيتان في المغرب 2: 162. (2) بياض بقدر سطر في ج ق وجاء في هامش إحدى النسخ: " هذا سطر بخط المؤلف رحمه الله ما قدرنا على استخراجه جبره الله تعالى ". (3) أبو عبد الله محمد بن غالب الرصافي (- 572) قد جمعنا شعره وقدمنا له بدراسة عن الشاعر، وانظر في ترجمته المغرب 2: 297 والتكملة: 520 والمعجب: 137 وتحفة القادم: 183 وأدباء مالقة، الورقة: 18.

مراكش عام اثنين وستين وخمسمائة. قال الحجاري: لما مات يحيى بن غانية الملثّم ملك الأندلس بحضرة غرناطة، وكان وزيره ومدبر دولته عبد الملك بن سعيد، بادر الفرار لغرناطة عندما سمع بموته إلى قلعته، وثار بها، وطلبه خليفة يحيى بن غانية طلحة (1) بن العنبر، فوجده قد فاته. وقد قدمنا أن عبد الملك هذا هو السبب في تأليف كتاب المغرب في أخبار المغرب ثم تممه ابنه محمد بن عبد الملك، ثمّ تمّم ما بقي منه ابنه موسى ابن محمد، ثمّ أربى على الكل في إتمامه أبو الحسن علي بن موسى الذي قصدناه بالترجمة في هذا الكتاب، وقد ذكرنا من أحواله جملة كافية. [وصف ابن سعيد للفسطاط] ومن فوائد ابن سعيد أبي الحسن ما حكاه عن صاحب كتاب الكمائم وهو (2) : فأمّا فسطاط مصر فإن مبانيها كانت في القديم متصلة بمباني مدينة عين شمس، وجاء الإسلام وبها بناء (3) يعرف بالقصر حوله مساكن، وهو الذي عليه نزل عمرو بن العاص، وضرب فسطاطه حيث المسجد الجامع المنسوب إليه، ثم لمّا فتحها قسم المنازل على القبائل، ونسب المدينة إليه، فقيل: فسطاط عمرو، وتداولت عليها بعد ذلك (4) ولاة مصر، فاتخذوها سرير السلطنة، وتضاعفت عمارتها، فأقبل الناس من كل جانب إليها، وقصروا أمانيهم عليها، إلى أن رسخت بها دولة بني طولون، فبنوا إلى جانبها المنازل المعروفة بالقطائع، وبها كان مسجد بان طولون الذي هو الآن إلى جانب القاهرة، وهي مدينة

_ (1) طلحة: ثبتت في ج وسقطت من ق. (2) قارن هذا النص بما ورد في المغرب 1: 1 والخطط المقريزية 2: 146، وأما كتاب الكمائم المذكور فإنه للبيهقي. (3) المغرب: مبنى. (4) بعد ذلك: سقطت من دوزي.

مستطيلة يمر النيل مع طولها، وتحطّ في ساحلها المراكب الآتية من شمال النيل وجنوبه بأنواع الفوائد، وبها منتزهات، وهي في الإقليم الثالث، ولا ينزل فيها مطر إلا في النادر، وترابها ينتن (1) الأرجل، وهو قبيح اللون، تستكدر (2) منه أرجاؤها، ويسوء بسببه هواؤها، ولها أسواق ضخمة إلاّ أنّه ضيّقة، ومبانيها بالقصب والطوب طبقة على طبقة. ومذ بنيت القاهرة ضعفت مدينة الفسطاط، وفرّط في الاعتناء بها بعد الإفراط، وبينهما نحو ميلين، وأنشدت فيها للشريف العقيلي (3) : أحنّ إلى الفسطاط شوقاً وإنّني ... لأدعو لها أن لا يحلّ بها القطر وهل في الحيا من حاجةٍ لجنابها ... وفي كل قطرٍ من جوانبها نهر تبدّت عروساً والمقطّم تاجها ... ومن نيلها عقدٌ كما انتظم الدّرّ وقال عن كتاب اجار (4) : والفسطاط هو قصبة مصر، والجبل المقطّم شرقيها، وهو متصل بجبل الزمرد، وقال عن كتاب ابن حوقل (5) : الفسطاط مدينة حسنة، ينقسم النيل لديها، وهي كبيرة، ومقدارها نحو فرسخ، على غاية العمارة والطيب واللذّة ذات رحاب في محالّها، وأسواق (6) عظام فيها ضيق

_ (1) المغرب: تثيره. (2) المغرب: تتكدر. (3) هو أبو الحسن علي بن الحسين بن حيدرة من شعراء المائة الرابعة، أكثر شعره في الوصف ولم يكن يمدح (انظر المغرب 1: 205 قسم مصر والخريدة 2: 62 والمسالك 11: 195) والأبيات ليست في ديوانه المطبوع. (4) يعني كتاب " نزهة المشتاق " للإدريسي الذي أنفه لملك رجار (ويقال فيه أجار) : Roger وانظر المغرب 1: 2. (5) انظر كتاب صورة الأرض: 137 والنقل عنه باختصار، ولذا لم نثبت فروق القراءة؛ والمغرب 1: 2. (6) ج: وأسواقها.

ومتاجر فخام (1) ، ولها ظاهر أنيق، وبساتين نضرة، ومنتزهات على ممر الأيام خضرة، وفي الفسطاط قبائل وخطط للعرب تنسب إليها كالكوفة والبصرة، إلاّ أنّها أقلّ من ذلك، وهي سبخة الأرض، غير نقية التربة، وتكون الدار بها سبع طبقات وخمساً وستّاً، وربما يسكن في الدار المائتان من الناس، ومعظم بنيانهم بالطوب، وأسفل دورهم غير مسكون، وبها مسجدان للجمعة، بنى أحدهما عمرو بن العاص في وسط الفسطاط، والآخر على الموقف (2) بناه ابن طولون، وكان خارج الفسطاط أبينة بناها أحمد بن طولون ميلاً في ميل يسكنها جنده، وتعرف بالقطائع، كما بنى الأغلب خارج القيروان رقّادة، وقد خربتا في وقتنا هذا، وأخلف الله بدل القطائع بظاهر مدينة الفسطاط القاهرة. قال ابن سعيد (3) : لما استقررت بالقاهرة تشوّفت (4) إلى معاينة الفسطاط، فسار معي إليها أحد أصحاب القرية (5) ، فرأيت عند باب زويلة من الحمير المعدّة لركوب من يسير إلى الفسطاط جملة عظيمة، لا عهد لي بمثلها في بلد، فركب منها حماراً، وأشار إليّ أن أركب حماراً آخر، فأنفت من ذلك جرياً على عادة ما خلفته من بلاد المغرب، فأخبرني (6) أنّه غير معيب على أعيان مصر، وعاينت الفقهاء وأصحاب البزة والشارة الظاهرة يركبونها، فركبت، وعندما استويت راكباً أشار المكاري إلى الحمار، فطار بي، وأثار من الغبار الأسود ما أعمى عينيّ، ودنس ثيابي، وعاينت ما كرهته، ولقلة معرفتي بركوب الحمار وشدة عدوه على قانون لم أعهده، وقلة رفق المكاري، وقعت في تلك الظلمة المثارة من ذلك العجاج، فقلت:

_ (1) كذا في ج؛ وفي ق: ضخام. (2) الموقف: بقعة شمال الفسطاط (الانتصار لابن دقماق 4: 10) ؛ وفي ج: والآخر على الآخر. (3) المغرب 1: 5 (قسم مصر) . (4) كذا في ج والمغرب؛ وفي ق ودوزي: تشوقت. (5) المغرب: العزمة. (6) المغرب: فأعلمني.

لقيت بمصر أشدّ البوار ... ركوب الحمار وكحل الغبار وخلفي مكارٍ يفوق الرياح ... لا يعرف الرفق مهما استطار أناديه مهلاً فلا يرعوي ... إلى أن سجدت سجود العثار وقد مدّ فوقي رواق الثرى ... وألحد فيه ضياء النّهار فدفعت إلى المكاري أجرته، وقلت له: إحسانك أن تتركني أمشي على رجليّ، ومشيت إلى أن بلغتها؛ وقدرت الطريق بين الفسطاط والقاهرة وحققته بعد ذلك نحو ميلين، ولمّا أقبلت على الفسطاط أدبرت عني المسرة، وتأمّلت أسواراً مثلّمة سوداء وآفاقاً مغبرة، ودخلت من بابها وهو دون غلق يفضي إلى خراب معمور بمبان متشتتة الوضع، غير مستقيمة الشوارع، قد بنيت من الطوب الأدكن والقصب والنخيل طبقة فوق طبقة، وحول أبوابها من التراب الأسود والأزبال ما يقبض نفس النظيف، ويغض طرف الظريف، فسرت وأنا معاين لاستصحاب تلك الحال، إلى أن صرت في أسواقها الضيقة، فقاسيت من ازدحام الناس فيها لحوائج السوق والرّوايا التي على الجمال ما لا تفي به إلاّ مشاهدته ومقاساته، إلى أن انتهيت إلى المسجد الجامع، فعاينت من ضيق الأسواق التي حوله ما ذكرت به ضده في جامع إشبيلية وجامع مرّاكش، ثم دخلت إليه فعاينت جامعاً كبيراً قديم البناء، غير مزخرف، ولا محتفل في حصره التي تدور مع بعض حيطانه، وتنبسط فيه، وأبصرت العامة رجالاً ونساء قد جعلوه معبراً بأوطئة أقدامهم يجوزون فيه من باب إلى باب ليقرب عليهم الطريق، والبياعون يبيعون فيه أصناف المكسرات والكعك وما سوى ذلك (1) ، والناس يأكلون في عدة أمكنة منه غير محتشمين لجري العادة عندهم بذلك، وعدة صبيان بأواني ماء يطوفون على كل من يأكل، قد جعلوا ما يحصل لهم منه رزقاً، وفضلات مآكلهم مطروحة في صحن الجامع، وفي زواياه العنكبوت قد عظم

_ (1) المغرب: وما جرى مجرى ذلك.

نسجه في السقف والأركان والصبيان يلعبون في صحنه، وحيطانه مكتوبة بالفحم والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتب فقراء العامّة (1) ، إلاّ أن مع ذلك على الجامع المذكور من الرونق وحسن القبول وانبساط النفس ما لا تجده في جامع إشبيلية مع زخرفته والبستان الذيفي صحنه، ولقد تأملت ما وجدت فيه من الارتياح والأنس (2) دون منظر يوجب ذلك، فعلمت ان ذلك سر مودع من وقوف الصحابة رضي الله تعالىعنهم في ساحته عند بنائه، واستحسنت ما أبصرته من حلق المتصدرين لإقراء القرآن والفقه والنحو في عدة أماكن، وسألت عن مواد أرزاقهم فأخبرت أنها من فروض الزكاة وما أشبه ذلك، ثم أخبرت أن اقتضاء ذلك يصعب إلا بالجاه والتعب. ثم انفصلنا من هناك إلى ساحل النيل، فرأيت ساحلاً كدير التربة، غير نظيف ولا متسع الساحة، ولا مستقيم الاستطالة، ولا عليه سور أبيض، إلا أنّه مع ذلك كثير العمارة بالمراكب وأصناف الأرزاق التي تصل من جميع أقطار النيل، ولئن قلت إنّي لم أبصر على نهر ما أبصرته على ذلك الساحل فإنّي أقول حقّاًن والنيل هنالك ضيق، لكون الجزيرة التي بنى فيها سلطان الديار المصرية الآن قلعته قد توسطت الماء ومالت إلى جهة الفسطاط، وبحسن سورها المبيض الشامخ حسن منظر الفرجة في ذلك الساحل. وقد ذكر ابن حوقل الجسر الذي يكون ممتدّاً من الفسطاط إلى الجزيرة، وهو غير طويل، ومن الجانب الآخر إلى البر الغربي المعروف ببر الجيزة (3) جسر آخر من الجزيرة إليه، وأكثر جواز الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب، لأن هذين الجسرين قد احترما لحصولهما في حيز قلعة السلطان، ولا يجوز أحد على الجسر الذي بين الفسطاط والجزيرة راكباً احتراماً

_ (1) المغرب: العوام. (2) ج ق: والحسن. (3) في ج: ببر الجزيرة.

لموضع السلطان، وبتنا في ليلة ذلك اليوم بطيارة مرتفعة على جانب النيل، فقلت (1) : نزلنا من الفسطاط أحسن منزلٍ ... بحيث امتداد النيل قد دار كالعقد وقد جمعت فيه المراكب سحرةً ... كسرب قطاً أضحى يرفّ على ورد وأصبح يطفو الموج فيه ويرتمي ... ويطرب أحياناً يلعب بالنرد حلا ماؤه كالرّيق ممّن أحبّه ... فمدّت عليه حلّةٌ من حلى الخدّ وقد كان مثل النّهر من قبل مدّه ... فأصبح لمّا زاده المدّ كالورد وقلت هذا لأنّي لم أذق في المياه أحلى من مائه، وإنّه يكون قبل المد الذي يزيد به ويفيض على أقطاره أبيض، فإذا كان عباب النيل صار أحمر، وأنشدني علم الدين فخر الترك أيدمر (2) عتيق وزير الجزيرة في مدح الفسطاط (3) : حبّذا الفسطاط من والدة ... جنّبت أولادها دار الجفا يرد النيل إليها كدراً ... فإذا مازج أهليها صفا لطفوا فالمزن لا تألفهم ... خجلاً لمّا رأتهم ألطفا ولم أر في أهل البلاد ألطف من أهل الفسطاط، حتى إنهم ألطف من أهل القاهرة، وبينهما نحو ميلين، والحال أن أهل الفسطاط في نهاية من اللطافة واللين في الكلام، وتحت ذلك من الملق وقلة المبالاة برعاية قدر الصحبة وكثرة الممازجة والألفة ما يطول ذكره. وأمّا ما يرد (4) على الفسطاط من متاجر البحر الإسكندراني والبحر الحجازي

_ (1) الأبيات في المقتطفات (الورقة: 28) ، والخطط 2: 148. (2) هو علم الدين أيدمر المحيوي التركي، راجع ترجمته في فوات الوفيات (1: 140) وهو ينقل عن المشرق في حلى المشرق لابن سعيد، وله ديوان شعر يمثل قسماً من شعره (دار الكتب: 1931) . (3) وردت هذه الأبيات في كتاب الانتصار 4: 109، وانظر مقدمة ديوانه، والمغرب (قسم مصر 1: 9) ، والخطط 2: 148. (4) المغرب (قسم مصر) : 11.

فإنّه فوق ما يوصف، وبها مجمع ذلك، لا بالقاهرة، ومنها يجهز إلى القاهرة وسائر البلاد. وبالفسطاط مطابخ السكر والصابون ومعظم ما يجري هذا المجرى، لأن القاهرة بنيت للاختصاص بالجند، كما أن جميع زيّ الجند بالقاهرة أعظم منه بالفسطاط، وكذلك ما ينسج ويصاغ وسائر ما يعمل من الأشياء الرفيعة السلطاينة، والخراب في الفسطاط كثير، والقاهرة أجدّ وأعمر وأكثر زحمة، باعتبار انتقال (1) السلطان إليها، لمجاورتها للجزيرة الصالحية، وكثير من الجند قد انتقل إليها للقرب من الخدمة، وبنى على سورها جماعة منهم مناظر تبهج الناظر، انتهى. قال المقريزي (2) : يعين ابن سعيد ما بني على شفة مصر من جهة النيل، انتهى. وقال ابن سعيد المذكور في المغرب من حلى المغرب ما ملخّصه: الروضة أمام الفسطاط فيما بينها وبين مناظر الجيزة، وبها مقياس النيل، وكانت متنزهاً لأهل مصر، فاختارها الملك الصالح ابن الملك الكامل سريراً لسلطنته، وبنى فيها قلعة مسورة بسور ساطع اللون محكم البناء عالي السّمك لم تر عيني أحسن منه، وفي هذه الجزيرة كان الهودج الذي بناه الخليفة الآمر لزوجته البدوية التي هام في حبها، والمختاربستان الإخشيد وقصره، وله ذكر في شعر تميم بن المعز وغيره، ولشعراء مصر في هذه الجزيرة أشعار، منها قول أبي الفتح ابن قادوس الدمياطي: أرى سرج الجزيرة من بعيدٍ ... كأحداق تغازل في المغازل كأنّ مجرّة الجوزاء خطّت ... وأثبتت المنازل في المنازل

_ (1) المغرب: بسبب انتقال. (2) الخطط 2: 149.

قال: وكنت أبيت بعض الليالي بالفسطاط، فيزدهيني ضحك البدر في وجه النيل مع سور هذه الجزيرة الدريّ اللون، ولم أنفصل عن مصر حتى كمل سور هذه القلعة، وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همّة بانيها، وهو من أعظم السلاطين في البناء، وأبصرت بهذه الجزيرة إيواناً لجلوسه لم تر عيني مثاله، ولا يقدّر ما أنفق عليه، وفيه من صحائف الذهب والرخام الآبنوسي والكافوريّ والمجزّع ما يذهل الأفكار، ويستوقف الأبصار، ويفضل عما أحاط به السور أرض طويلة في بعضها حاضر (1) حصر فيه أصناف الوحوش التي يتفرج عليها السلطان، وبعدها مروج تنقطع فيها مياه النيل فتنظر فيها أحسن منظر، قال: وقد تفرجت كثيراً في طرف (2) هذه الجزيرة ممّا يلي أثر الفسطاط فقطعت به عشيات مذهبات، لم تزل لأحزان الغربة مذهبات، وإذا زاد النيل فصل برها عن بر الفسطاط من جهة خليج القاهرة، ويبقى موضع الجسر تكون فيه المراكب، انتهى. وأورد الصفدي في تذكرته لابن سعيد المذكور في هذه الجزيرة: انظر إلى سور الجزيرة في الدّجى ... والبدر يلثم منه ثغراً أشنبا تتضاحك الأنوار في جنباته ... فتريك فوق النيل أمراً معجبا بينا تراه مفضّضاً في جانبٍ ... أبصرت منه في سواه مذهبا لله مرأى ما رآه ناظري ... إلاّ خلعت له المقام تطربا [وصف القاهرة] وقال في " المغرب " نقلاً عن بعضهم ما صورته (3) : وأما مدينة القاهرة، فهي الحالية الباهرة، التي تفنن فيها الفاطميون وأبدعوا في بنائها، واتخذوها

_ (1) ق: حاظر. (2) ق: طرق. (3) الخطط 2: 186 - 190 والنقل عن البيهقي.

قطباً لخلافتهم ومركزاً لأرجائها، فنسي الفسطاط، وزهد فيه بعد الاغتباط، وسميت القاهرة لأنها تقهر من شذ عنها ورام مخالفة أميرها، انتهى. قال ابن سعيد: هذه المدينة اسمه أعظم منها، وكان ينبغي أن تكون في ترتيبها ومبانيها على خلاف ما عاينته، لأنها مدينة بناها المعز أعظم خلفاء العبيديين، وكان سلطانه قد عم جميع طول المغرب من أوّل الديار المصرية إلى البحر المحيط. سارت مسير الشمس في كلّ بلدةٍ ... وهبّت هبوب الريح في البرّ والبحر ولا سيّما قد عاين مباني أبيه المنصور في المدينة المنصورية إلى جانب القيروان وعاين المهدية مدينة جدّة عبيد الله المهدي، لكن الهمّة السلطانية ظاهرة على قصور الخلفاء بالقاهرة، وهي ناطقة إلى الآن بألسن الآثار، ولله در القائل: همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدها فبألسن البنيان إنّ البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدلّ على عظيم الشان وتهمم من بعده الخلفاء المصريون في الزيادة في تلك القصور، وقد عاينت فيها إيواناً يقولون إنّه بني قدر إيوان كسرى الذي بالمدائن، وكان يجلس فيها خلفاؤهم ولهم على الخليج الذي بين الفسطاط والقاهرة مبانٍ عظيمة جليلة الآثار، وأبصرت في قصورهم حيطاناً عليها طاقات عديدة من الكلس والجبس ذكر لي أنهم كانوا يجدّدون تبييضها في كل سنة، والمكان المعروف بالقاهرة ببين القصرين هو من الترتيب السلطاني، لأن هناك ساحة متّسعة للعسكر والمتفرّجين ما بين القصرين، ولو كانت القاهرة كلّها كذلك كانت عظيمة القدر كاملة الهمّة السلطانية، ولكن ذلك أمد قليل، ثم تسير منه إلى أمد ضيق، وتمرّ في ممر كدر حرج بين الدكاكين، إذا ازدحمت فيه الخيل مع الرجالة كان ممّا تضيق به الصدور، وتسخن منه العيون، ولقد عاينت يوماً وزير الدولة وبين يديه الأمراء، وهو في موكب جليل، وقد لقي في طريقه عجلة بقر تحمل

حجارة، وقد سدت جميع الطرق بين يدي الدكاكين، ووقف الوزير وعظم الازدحام وكان في موضع طباخين، والدخان في وجه الوزير، وعلى ثيابه، وقد كاد يهلك المشاة، وكدت أهلك في جملتهم. وأكثر دروب القاهرة ضيقة مظلمة كثيرة التراب والأزبال، والمباني عليها من قصب وطين مرتفعة قد ضيّقت مسلك الهواء والضوء بينها، ولم أر في جيمع بلاد المغرب أسوأ منها حالاً في ذلك، ولقد كن إذا مشيت فيها يضيق صدري، وتدركني وحشة عظيمة، حتى أخرج إلى بين القصرين. ومن عيوب القاهرة أنها في أرض النيل الأعظم ويموت الإنسان فيها عطشاً لبعدها عن مجرى النيل، لئلا يصادرها ويأكل ديارها، وإذا احتاج الإنسان إلى فرجة في نيلها مشى في مسافة بعيدة بظاهرها بين المباني التي خارج السور إلى موضع يعرف بالمقس، وجوّها لا يبرح كدراً بما تنثره الأرض من التراب الأسود، وقد قلت فيها حين أكثر عليّ رفاقي من الحض على العود فيها: يقولون سافة إلى القاهرة ... وما لي بها راحةٌ ظاهره زحامٌ وضيقٌ وكربٌ وما ... تثير بها أرجلٌ سائره وعندما يقبل المسافر عليها يرى سوراً أسود كدراً، وجوّاً مغبرّاً، فتنقبض نفسه، ويفرّ أنسه، وأحسن موضع في ظواهرها للفرجة أرض الطبالة، ولا سيّما ارض القرط والكتان، وقلت: سقى الله أرضاً كلما زرت روضها ... كساها وحلاّها بزينته القرط تجلّت عروساً والمياه عقودها ... وفي كل قطر من جوانبها قرط وفيها خليج لا يزال يضعف بين حضرتها حتى يصير كما قال الرصافي: ما زالت الأمحال تأخذه ... حتى غدا كذؤابة النّجم

وقلت في نور الكتان على جانبي الخليج: انظر إلى النهر والكتان يرمقه ... من جانبيه بأجفانٍ لها حدق رأته سيفاً عليه للصّبا شطبٌ ... فقابلته بأحداقٍ بها أرق وأصبحت في يد الأرواح تنسجها ... حتى غدت حلقاً من فوقها حلق فقم فزرها ووجه الأرض مصطبحٌ ... أو عند صفرته إن كنت تغتبق وأعجبني في ظاهرها بركة الفيل، لأنّها دائرة كالبدر، والمناظر فوقها كالنّجوم، وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل، وتسرج أصحابٌ المناظر على قدر همتهم وقدرتهم، فيكون لها بذلك منظر عجيب، وفي ذلك قيل (1) : انظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت ... بها المناظر كالآهداب للبصر كأنّما هي والأبصار ترمقها ... كواكبٌ قد أداروها على القمر ونظرت إليها وقد قابلتها الشمس بالغدوّ فقلت: انظر إلى بركة الفيل التي فجرت ... لها الغزالة فجراً من مطالعها وخلّ طرفك مجنوناً ببهجتها ... يهيم وجداً وحبّاً في بدائعها والفسطاط أكثر أرزاقاً، وأرخص أسعاراً من القاهرة، لقرب النيل من الفسطاط، والمراكب التي تصل بالخيرات تحط هناك، ويباع ما يصل فيه بالقرب منها، وليس يتفق ذلك في ساحل القاهرة، لأنّه يبعد عن المدينة، والقاهرة هي أكثر عمارة واحتراماً وحشمة من الفسطاط، لأنّه أجلّ مدارس وأضخم خاناتٍ، وأعظم دياراً لسكنى الأمراء فيها، لأنّها المخصوصة بالسلطنة، لقرب قلعة الجبل منها، فأمور السلطنة كلّها فيها أيسر، وأكثر، وبها الطراز وسائر الأشياء التي يتزين بها الرجال والسناء، إلاّ أن في هذا الوقت لما اعتنى

_ (1) سقط البيتان من ج.

السلطان ببناء قلعة الجزيرة التي أمام الفسطاط وصيرها سرير السلطنة عظمت عمارة الفسطاط، وانتقل إليها كثير من الأمراء، وضخمت أسواقها، وبنى فيها السلطان أمام الجسر الذي للجزيرة قيسارية عظيمة، فنقل إليها من القاهرة سوق الأجناد التي يباع فيها الفراء والجوخ وما أشبه ذلك. إلى أن قال: وهي الآن عظيمة آهلة، يجبى إليها من الشرق والغرب والجنوب والشمال ما لا يحيط بجملته وتفسيره إلاّ خالق الكل جلّ وعلا، وهي مستحسنة للفقير الذي لا يخاف طلب زكاة ولا ترسيماً ولا عذاباً، ولا يطالب برفيق له إذا مات، فيقال له: ترك عندك مالاً، فربما سجن في شأنه أو ضرب أو عصر، والفقير المجرد فيها يستريح بجهة رخص الخبز وكثرته، ووجود السماع والفرج في ظواهرها ودواخلها، وقلّة الاعتراض عليه فيما تذهب إليه نفسه، يحكم فيها كيف شاء من رقص في وسط السوق أو تجريد أو سكر من حشيشة أو صحبة مردان وما أشبه ذلك، بخلاف غيرها من بلاد المغرب، وسائر الفقراء لا يتعرضون إليهم بالقبض للأسطول إلاّ المغاربة، فذلك وقفٌ عليهم لمعرفتهم بمعاناة البحر، وقد عمّ ذلك من يعرف معاناة البحر منهم ومن لا يعرف، وهم في القدوم عليها بين حالين: إن كان المغربي غنيّاً طولب بالزكاة وضيقت عليه السعاة، وإن كان مجرداً فقيراً حمل إلى السجن حتى يحين وقت الأسطول. وفي القاهرة أزاهر كثيرة غير منقطعة الاتصال، وهذا الشأن في الديار المصرية يفضل كثيراً من البلاد، وفي اجتماع النرجس والورد فيها أقول: من فضّل النرجس وهو الذي ... يرضى بحكم الورد إذ يرأس أما ترى الورد غدا قاعداً ... وقام في خدمته النرجس وأكثر ما فيها من الثمرات والفواكه الرمان والموز، أمّا التفاح والإجاص فقليل غال، وكذلك الخوخ، وفيها الورد والنرجس والنسرين والنيلوفر والبنفسج والياسمين والليمون الأخضر والأصفر، وأمّا العنب والتين فقليل غال، ولكثرة

ما يعصرون العنب في أرياف النيل لا يصل منه إلا القليل، ومع هذا فشرابه عندهم في غاية الغلاء، وعامتها يشربون المزر الأبيض المتّخذ من الحنطة، حتى إن الحنطة يطلع سعرها بسببه، فينادي المنادي من قبل الوالي بقطعه وكسر أوانيه، ولا ينكر فيها إظهار أواني الخمر ولا آلات الطرب ذوات الأوتار، ولا تبرّج النساء العواهر، ولا غير ذلك ممّا ينكر في غيرها من بلاد المغرب، وقد دخلت في الخليج الذي بين القاهرة ومصر وتعظم عمارته فيما يلي القاهرة، فرأيت فيه من ذلك العجائب، وربما وقع فيه قتل بسبب السكر فيمنع فيه الشرب، وذلك في بعض الأحيان، وهو ضيق، عليه من الجهتين مناظر كثيرة العمارة بعالم التهكم والطرب والمخالفة، حتى إن المحتشمين والرؤساء لا يجيزون العبور به في مركب، وللسّرج في جانبيه بالليل منظر، وكثيراً ما يتفرج فيه أهل الستر في الليل، وفي ذلك أقول: لا تركبن في خليج مصرٍ ... إلا إذا أسدل الظّلام فقد علمت الذي عليه ... من عالمٍ كلّهم طغام صفّان للحرب قد أطلاّ ... سلاح ما بينهم كلام يا سيّدي لا تسر إليه ... إلا إذا هوّم النيام والليل سترٌ على التصابي ... عليه من فضله لثام والسّرج قد مدّدت عليه ... منها دنانير لا ترام وهو قد امتدّ والمباني ... عليه في خدمةٍ قيام لله كم دوحةٍ جنينا ... هناك أثمارها الأثام قال المقريزي: وفيه تحامل كثير، انتهى. ومن نظر بعين الإنصاف علم أن التحامل في نسبة التحامل إليه، والله تعالى الموفّق. قال ابن سعيد: ومعاملة الفسطاط والقاهرة بالدراهم المعروفة بالسوداء

كل درهم منها ثلاثة من الدرهم الناصري، وفي المعاملة بها شدة وخسارة في البيع والشراء، ومخاصمة بين الفريقين، وكان بها قديماً الفلوس، فقطعها الملك الكامل، فبقيت الآن مقطوعة منها. وهي في الإقليم الثالث، وهواؤها رديء، لا سيّما إذا هبّ المريسي من جهة القبلة، وأيضاً فرمد العين فيها كثير، والمعايش فيها متعذرة نزرة، لا سيّما أصناف الفضلاء، وجوامك المدارس قليلة كدرة، وأكثر ما يتعيش بها اليهود والنصارى في كتابة الطب والخراج، والنصارى بها يمتازون بالزنّار في أوساطهم، واليهود بعمائم صفر، ويركبون البغال، ويلبسون الملابس الجلية، ويأكل أهل القاهرة البطارخ، ولا تصنع حلاوة القمح إلا بها وبغيرها من الديار المصرية، وفيها جوارٍ طباخات أصل تعليمهن من قصور الخلفاء الفاطميين، ولهن في الطبخ صنائع عجيبة، ورياسة متقدمة، ومطابخ السكر والمواضع التي يصنع بها الورق المنصوري مخصوصة بالفسطاط دون القاهرة. انتهى المقصود من هذا الموضع من كلام أي الحسن النور بن سعيد رحمه الله تعالى. وقال رحمه الله: كم ذا تقيم بمصر ... معذّباً بذويها وكيف ترجو نداهم ... والسّحب تبخل فيها وقال رحمه الله تعالى: لابن الزبير مكارم أضحت بها ... طير المدائح في البلاد تغرّد إن قيّدوه وبالغوا فيعصره ... فالكرم يعصر والجواد يقيّد (1) 166 - ولنذكر بعض أخبار والده، فإنّه ممّن رحل إلى المشرق وتوفّي بالإسكندرية، وقد ذكر ابنه أبو الحسن في المغرب وغيره من أخباره

_ (1) ق: يعقد.

العجائب، ولا بأس بأن نلم بشيء من ذلك، سوى ما تقدّم، فنقول: من أخباره أنّه لمّا اجتاز بمالقة ومشرفها إذ ذاك أبو علي ابن مبقّى وجه إليه من نقل أسبابه إلى داره وأقبل عليه منشداً: أكذا يجوز القطر لا يثني على ... أرضٍ توالى جدبها من بعده الله يعلم أنّها ما أنبتت ... زهراً ولا ثمراً بمدة فقده عرج عليها ساعةً يا من له ... حسبٌ يفوق العالمين بمجده وانثر عليها من أزاهرك التي ... تشفي المتيّم من لواعج وجده والله ما ذاكرت فكرك ساعةً ... إلاّ وأقبس خاطري من زنده قال موسى: فارتجلت للحين: أنت الذي تعرف كيف العلا ... وتبتدي في سبل المجد بدأت بالفضل المنير الذي ... أكمل بدر الشكر والحمد والله ما أبصرتكم ساعةً ... إلاّ بدا لي طالع السّعد وانصرفت معه إلى منزله: فلم أزل في كرامه ... ليست كظلّ غمامه ولما كان أبو عمران موسى بن سعيد بالجزيرة الخضراء مقدّماً على أعمالها من قبل ابن هود وصله كتاب من الفقيه القاضي أبي عبد الله محمد بن عسكر قاضي مالقة من أحد الأدباء، منه: أفاتح من قلبي بعلياه واثقٌ ... وإن كانت الأبصار لم تنسخ الودّا وثقت بما لي من ذمام تشيّعي ... بآل سعيدٍ فابتغيت به السّعدا وبالحبّ يدنو كلّمن أقصت النوى ... برغم حجابٍ للنوى بيننا مدّا يا سيدي الذي حملني ما أمال أسماعي من الثناء عليه، أن اهجم على مفاتحته

شافعاً في موصّلها إليه، واثقاً بالفرع لعلم الأصل، مؤمّلاً للإفضال بتحقّق الفضل، إن لم تقض باجتماع بيننا الأيّام، فلا تجزئ من المشافهة بيننا ألسن الأقلام، ويوحي بعضنا إلى بعض يسور الوداد، والحمد لله الذي أطلعك في ذلك الأفق بدراً، وأدناك من هذه الدار فصرنا لقرب من يرد عنك لا نعدم لك ذكراً، فكلّ يثني بالذي علمت سعد، ويصف من خلالك ما يقضي ذلك المجد، ولما كان إحسانك يبشر به الصادر والوارد، ويحرض عليه الغائب والشاهد، مدّ أمله نحوك موصل هذه المفاتحة، وليس له وسيلة ولا بضاعة إلاّ الأدب وهي عند بيتك الكريم رابحة، وهو من شتّتت خطوب هذا الزمان شمله، وأبانت نوائبه صبره وفضله، وما طمح ببصره إلا إلى أفقك، ولا وجّه رجاءه إلاّ نحو طرقك، والرجاء من فضلك أن يعود وقد أثنت حقائبه، وأعنقت من الحمد ركائبه، دمت غرة في الزمن البهيم، مخصوصاً بأفضل التحيّة والتسليم، انتهى. وابن عسكر المذكور عالم بالتاريخ متبحر في العلوم، وله كتاب في أنساب بني سعيد أصحاب هذه الترجمة، ومن شعره: أهواك يا بدر وأهوى الذي ... يعذلني فيك وأهوى الرقيب والجار والدار ومن حلّها ... وكلّ من مرّ بها من قريب وكلّ مبدٍ شبهاً منكم ... وكلّ من يلفظ باسم الحبيب [وصية ابن سعيد الأب لابنه علي] رجع: قال ابنه علي: لمّا أردت النهوض من ثغر الإسكندرية إلى القاهرة أول وصولي إلى الإسكندرية، رأى أن يكتب لي وصية أجعلها إماماً في الغربة

فبقي فيها أيّاماً إلى أن كتبتها عنه، وهي هذه، وكفى بها دليلاً على ما اختبر وعلم: أودعك الرحمن في غربتك ... مرتقباً رحماه في أوبتك وما اختياري كان طوع النوى ... لكنّني أجري على بغيتك فلا تطل حبل النوى إنّني ... والله أشتاق إلى طلعتك من كان مفتوناً بأبنائه ... فإنّني أمعنت في خبرتك فاختصر التوديع أخذاً، فما ... لي ناظرٌ يقوى على فرقتك واجعل وصاتي نصب عينٍ ولا ... تبرح مدى الأيام من فكرتك خلاصة العمر التي حنّكت ... في ساعة زفّت إلى فطنتك فللتّجاريب أمورٌ إذا ... طالعتها تشحذ من غفلتك فلا تنم عن وعيها ساعةً ... فإنّها عونّ إلى يقظتك وكلّ ما كابدته في النّوى ... إيّاك أن يكسر من همّتك فليس يدرى أصل ذي غربةٍ ... وإنّما تعرف من شيمتك وكلّ ما يفضي لعذرٍ فلا ... تجعله في الغربة من إربتك ولا تجالس من فشا جهله ... واقصد لمن يرغب في صنعتك ولا تجادل أبداً حاسداً ... فإنّه أدعى إلى هيبتك وامش الهوينا مظهراً عفّةً ... وابغ رضى الأعين عن هيئتك أفش التحيّات إلى أهلها ... ونبّه الناس على رتبتك وانطق بحيث العيّ مستقبحٌ ... واصمت بحيث الخير في سكتتك ولا تزل مجتمعاً طالباً ... من دهرك الفرصة في وثبتك وكلّما أبصرتها أمكنت ... ثب واثقاً بالله في مكنتك ولج على رزقك من بابه ... واقصد له ما عشت في بكرتك

وايأس منالودّ لدى حاسدٍ ... ضدٍّ ونافسه على خطّتك ووفّر الجهد فمن قصده ... قصدك لا تعتبه في بغضتك ووفّ كلاًّ حقّه ولتكن ... تكسر عند الفخر من حدّتك ولا تكن تحقر ذا رتبةٍ ... فإنّه أنفع في غربتك وحيثما خيّمت فاقصد إلى ... صحبة من ترجوه في نصرتك وللرّزايا وثبةٌ ما لها ... إلاّ الذي تذخر من عدّتك ولا تقل أسلم لي وحدتي ... فقد تقاسي الذلّ في وحدتك ولتزن الأحوال وزناً ولا ... ترجع إلى ما قام في شهوتك ولتجعل العقل محكّاً وخذ ... كلاًّ بما يظهر في نقدتك واعتبر الناس بألفاظهم ... واصحب أخاً يرغبفي صحبتك بعد اختبارٍ منك يقضي بما ... يحسن في الأخدان من خلطتك كم من صديقٍ مظهرٍ نصحه ... وفكره وقفٌ على عشرتك إيّاك أن تقربه، إنّه ... عونٌ مع الدّهر على كربتك واقنع إذا ما لم تجد مطمعاً ... واطمع إذا نفّست من عسرتك وانم نموّ النّبت قد زاره ... غبّ الندى واسم إلى قدرتك وإن نبا دهرٌ فوطّن له ... جأشك وانظره إلى مدّتك فكلّ ذي أمرٍ له دولةٌ ... فوفّ ما وافاك في دولتك ولا تضيّع زمناً ممكناً ... تذكاره يذكي لظى حسرتك والشّرّ مهما اسطعت لا تأته ... فإنّه حوبٌ على مهجتك يا بنيّ الذي لا ناصح له مثلي، ولا منصوح لي مثله: قدمت (1) لك في هذا النظم ما إن أخطرته بخاطرك في كل أوان رجوت لك حسن العاقبة، إن شاء الله تعالى، وإنّ أخفّ منه للحفظ وأعلق بالفرك وأحق بالتقدم

_ (1) ج: قد قدمت.

قول الأول: يزين الغريب إذا ما اغترب ... ثلاثٌ فمنهنّ حسن الأدب وثانيةٌ حسن أخلاقه ... وثالثةٌ إجتناب الرّيب وإذا اعتبرت هذه الثلاثة ولزمتها في الغربة رأيتها جامعة نافعة، لا يلحقك إن شاء الله تعالى مع استعمالها ندم، ولا يفارقك بر ولا كرم، ولله درّ القائل: يعدّ رفيع القوم من كان عاقلاً ... وإن لم يكن في قومه بحسيب إذا حلّ أرضاً عاش فيها بعقله ... وما عاقلٌ في بلدةٍ بغريب وما قصّر القائل حيث قال: واصبر على خلق من تعاشره ... وداره فاللبيب من دارى واتخذ الناس كلّهم سكناً ... ومثّل الأرض كلّها دارا وأصغ يا بني إلى البيت الذي هو يتيمة الدهر، وسلّم الكرم والصبر: ولو أنّ أوطان الديار نبت بكم ... لسكنتم الأخلاق والآدابا إذ حسن الخلق أكرم نزيل، والأدب أرحب منزل، ولتكن كما قال أحدهم في أديب متغرّب: وكان كلّما طرأ على ملك فكأنّه معه ولد، وإليه قصد، غير مستريب بدهره، ولا منكر شيئاً من أمره، وإذا دعاك قلبك إلى صحبة من أخذ بمجامع هواه فاجعل التكلف له سلّماً، وهبّ في روض أخلاقه هبوب النسيم، وحلّ بطرفه محلّ الوسن (1) ، وانزل بقلبه نزول المسرة، حتى يتمكن لك وداده، ويخلص فيك اعتقاه، وطهر من الوقوع فيه لسانك، وأغلق سمعك، ولا ترخّص في جانبه لحسود لك منه، يريد إبعادك عنه، لمنفعته،

_ (1) ج: على الوسن.

أو حسود له يغار لتجمله بصحبتك، ومع هذا فلا تغتر بطول صحبته، ولا تتمهد بدوام رقدته، فقد ينبهه الزمان، ويغير منه القلب واللسان، ولذا قيل: إذا أحببت فأحبب هوناً مّا، ففي الممكن أن ينقلب الصديق عدوّاً والعدوّ صديقاً، وإنّما العاقل من جعل عقله معياراً، وكان كالمرآة يلقى كل وجه بمثاله، وجعل نصب ناظره قول أبي الطّيب: ولمّا صار ودّ النّاس خبّاً ... جزيت على ابتسامٍ بابتسام وفي أمثال العامة: من سبقك بيوم فقد سبقك بعقل، فاحتذى مثله (1) من جرّب، واستمع إلى ما خلّد الماضون بعد جهدهم وتعبهم من الأقوال، فإنّها خلاصة عمرهم، وزبدة تجاربهم (2) ، ولا تتكل على عقلك، فإن النظر فيما تعب فيه الناس طول أعمارهم وابتاعوه غالياً بتجاربهم يربحك، ويقع عليك رخيصاً، وإن رأيت من له مروءةٌ وعقل وتجربة فاستفد منه، ولا تضيّع فعله ولا قوله، فإن فيما تلقاه تلقيحاً لعقلك، وحثّاً لك واهتداء، وإيّاك أن تعمل بهذا البيت في كل موضع: فالحرّ يخدع بالكلام الطّيّب ... فقد قال أحدهم: ما قيل أضرّ من هذا البيت على أهل التجمّل، وليس كل ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتبعه، حتى تتدبره، فإن كان موافقاً لعقلك مصلحاً لحالك قوّاه ذلك عندك، وإلاّ فانبذه نبذ النواة، فليس لكل أحد يتبسّم ولا كل شخص يكلّم، ولا الجود ممّا يعم به، ولا حسن الظنّ وطيب النفس ممّا يعامل به كل أحد، ولله در القائل: وما لي لا أوفي البريّة قسطها ... على قدر ما يعطى وعقلي ميزان

_ (1) كذا في ج ق، وقد يقرأ معطوفاً على " وجعل " ولعل الصواب " فاحتذ أمثلة ". (2) ق: نخائبهم؛ ج: تحابيهم؛ دوزي: حياتهم.

وإياك أن تعطي من نفسك إلا بقدر، فلا تعامل الدون بمعاملة الكفء، ولا الكفء بمعاملة الأعلى، ولا تضيع عمرك فيمن يملكك (1) بالمطامع، ويثنيك عن مصلحة حاضرة عاجلة بغائبة آجلة، واسمع قول الأول: وبعْ آجلاً منك بالعاجل ... وأقلل من زيارة الناس ما استطعت، ولا تجفهم بالجملة، ولكن يكون ذلك بحيث لا يلحق منه ملل ولا ضجر وجفاء، ولا تقل أيضاً أقعد في كسر بيتي ولا أرى أحداً، وأستريح من الناس، فإن ذلك كسل داع إلى الذل والمهانة، وإذا علم عدوّ لك أو صديق منك ذلك عاملاك بحسبه، فازدراك الصديق وجسر عليك العدوّ، وإياك أن يغرّك صاحبٌ واحد عن أن تذخر غيره للزمان، وتطيعه في عداوة سواه، ففي الممكن أن يتغير عليك فتطلب إعانة عليه أو استغناء عنه فلا تجد ذخيرة قدمتها، وكان هو في أوسع حال وأعلى رأي بما دبره بحيلته في انقطاعك عن غيره، فلو اتفق لك أن تصحب من كل صناعة وكل رياسة من يكون لك عدّة لكان ذلك أولى وأصوب، وسلني فإنّي خبير، طال والله ما صبحت الشخص أكثر عمري لا أعتمد على سواه، ولا أعتدّ إلاّ إيّاه، منخدعاً بسرابه، موثوقاً في حبائل خطابه، إلى أن لا يحصل لي منه غير العضّ على البنان، وقول: لو كان ولو كان، ولا يحملنك أيضاً هذا القول أن تظنّه في كل أحد، وتعجل بالمكافأة، وليكن حسن الظن بمقدار مّا، واصبر بقدرٍ مّا، والفطن لا تخفى عليه مخايل الأحوال، وفي الوجوه دلالات وعلامات، وأصغ إلى القائل: ليس ذا وجه من يضيف ولا يق ... ري ولا يدفع الأذى عن حريم فمن يكن له وجه مثل هذا الوجه فولّ وجهك عنه قبلة ترضاها، ولتحرص

_ (1) ج: يملك.

جهدك على أن تصحب أو تخدم إلاّ ربّ حشمة ونعمة، ومن نشأ في رفاهية ومروءة، فإنّك تنام معه في مهاد العافية، وإن الجياد على أعراقها تجري، وأهل الأحساب والمروءات يتركون منافعهم متى كانت عليهم فيها وصمة، وقد قيل في مجلس عبد الملك بن مروان: أشرب مصعب الخمر فقال عبد الملك - وهو عدوّ محارب له على الملك -: لو علم مصعب ا، الماء يفسد مروءته ما شربه. والفضل ما شهدت به الأعداء ... يا بني، وقد علمت أن الدنيا دار مفارقةٍ وتغير، وقد قيل: اصحب من شئت فإنّك مفارقه، فمتى فارقت أحداً فعلى حسنى في القول والفعل، فإنّك لا تدري هل أنت راجع إليه، فلذلك قال الأول: ولمّا مضى سلمٌ بكيت على سلم ... وإياك والبيت السائر (1) : وكنت إذا حللت بدار قومٍ ... رحلت بخزيةٍ وتركت عارا واحرص على ما جمع قول القائل (2) : ثلاثة تبقي لك الودّ في صدر أخيك، أن تبدأه بالسلام، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه؛ واحذر كل ما بيّنه لك القائل: كلّ ما تغرسه تجنيه إلاّ ابن آدم فإنّك إذا غرسته يقلعك، وقول الآخر: ابن آدم يتمسكن حتى يتمكن، وقول الآخر: ابن آدم ذئب مع الضعف، أسد مع القوّة. وإياك أن تثبت على صحبة أحد قبل أن تطيل اختباره، فيحكى أن ابن المقفع خطب من الخليل صحبته، فجاوبه:

_ (1) البيت لجرير (ديوانه: 216) . (2) ورد في عيون الأخبار 3: 9 مروياً عن مجاهد.

إن الصحبة رقٌّ، ولا أضع رقي في يدك حتى أعرف كيف ملكتك. واستمل من عين من تعاشره، وتفقّد في فلتات الألسن وصفحات الأوجه، ولا يحملك الحياء على السكوت عما يضرك أن تبينه، فإن الكلام سلاح السلم، وبالأنين يعرف ألم الجرح، واجعل لكل أمر أخذت فيه غاية تجعلها نهاية لك، وآكد ما أوصيك به أن تطرح الأفكار، وتسلّم للأقدار: واقبل من الدهر ما أتاك به ... من قرّ عيناً بعيشه نفعه إذ الأفكار تجلب الهموم، وتضاعف الغموم، وملازمة القطوب، عنوان المصائب والخطوب، ويستريب به الصاحب، ويشمت العدوّ المجنب، ولا تضرّ بالوساوس إلا نفسك، لأنّك تنصر بها الدهر عليك، ولله درّ القائل: إذا ما كنت للأحزان عوناً ... عليك مع الزّمان فمن تلوم مع أنّه لا يدّ عليك الفائت الحزن (1) ، ولا يرعوي بطول عتبك الزمن. ولقد شاهدت بغرناطة شخصاً قد ألفته الهموم، وعشقته الغموم، ومن أعجب ما رأيته منه أنّه يتنكد في الشدة، ولا يتعلل بأن يكون بعدها فرج، ويتنكد في الرخاء خوفاً من أن لا يدوم، وينشد: توقّع زوالاً إذا قيل تمّ (2) ... وينشد (3) : وعند التّناهي يقصر المتطاول ...

_ (1) من قول المتنبي: فما يديم سرور ما سررت به ... ولا يرد عليك الفائت الحزن (2) صدر البيت: إذا تم شيء بدا نقصه. (3) للمعري، وصدره: فإن كنت تبغي العز فابغ توسطاً.

وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب، مثل هذا عمره مخسور يمر ضياعاً. ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذمون من العلم ما تحسنه حسداً لك، وقصداً لصغير قدرك عندك، وتزهيداً لك فيه، فلا يحملك ذلك على أن تزهد في علمك، وتركن إلى العلم الذي مدحوه، فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحجلة فرام أن يتعلّمه فصعب عليه، ثم أراد أن يرجع إلى مشيه فنسيه، فبقي مخبل المشي (2) . ولا يفسد خاطرك من جعل يذم الزّمان وأهله، ويقول: ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل ولا مكان يستراح فيه، فإن الذي تراهم على هذه الصفة أكثر ما يكونون ممّن صحبه الحرمان، واستحقّت طلعته للهوان، وأبرموا على الناس بالسؤال، فمقتوهم، وعجزوا عن طلب الأمور من وجوهها فاستراحوا إلى الوقوع في الناس، وإقامة العذار لأنفسهم بقطع أسبابهم، وتعذير أمورهم. ولا تزل هذين البيتين من فكرك: لن إذا ما نلت عزّاً ... فأخو العزّ يلين فإذا نابك دهرٌ ... فكما كنت تكون ولا قول الآخر: ته وارتفع إن قيل أق ... تر وانخفض إن قيل أثرى كالغصن يسفل ما اكتسى ... ثمراً ويعلوا ما تعرّى ولا قول الآخر (2) :

_ (2) البيت لعبيد بن الأبرص، ديوانه: 49 ونسب لطرفة في ديوانه: 45. (2) البيت لعبيد بن الأبرص، ديوانه: 49 ونسب لطرفة في ديوانه: 45.

الخير يبقى وإن طال الزّمان به ... والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد واعتقد في الناس ما قاله القائل (1) : ومن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما (2) وتحفّظ بما تضمّنه قول الآخر (3) : ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحق وبالباطل ولله درّ القائل (4) : ما كلّ ما فوق البسيطة كافياً ... فإذا اقتنعت فكلّ شيء كافي والأمثال يضربها لذي اللّبّ الحكيم (5) ، وذو البصر يمشي على الصراط المستقيم، والفطن يقنع بالقليل، ويستدل باليسير، والله سبحانه خليفتي عليك، لا ربّ سواه. نجزت الوصية وتكفيك عنواناً على طبقته في النثر.

_ (1) البيت للمرقش الأصغر من مفضلية له (ص: 503) . (2) زاد بعده في مطبوعة التجارية: وقريب منه قول القائل: بقدر الصعود يكون الهبوط ... فإياك والرتب العاليه وكن في مكان إذا ما سقطت ... تقوم ورجلاك في عافيه وقد سقط هذا من ج ق ودوزي؛ كما أنه غير قريب مما قبله، ولعله من زيادة بعض المعلقين. (3) البيت مما ينسب لكعب بن زهير؛ وانظر نهاية الأرب 3: 68 والتمثيل والمحاضرة: 62. (4) البيت لأبي فراس الحمداني، ديوانه 2: 256 (تحقيق الدكتور سامي الدهان) . (5) من قول يزيد بن الحكم بن أبي العاص يعظ ابنه بدراً (حماسة المرزوقي: 1190) : يا بدر والأمثال يضربها لذي اللب الحكيم ...

[رسالة ابن سعيد الأب لعبد الواحد الموحدي] وله رسالة (1) كتب بها إلى ملك المغرب أبي محمد عبد الواحد بن أبي يعقوب ابن عبد المؤمن مهنئاً له بالخلافة حين بويع بها بمراكش، وكان إذ ذاك بإشبيلية، وكان قبل ذلك كاتباً له مختصّاً به: الحضرة العلية، السامية السنية، الطاهرة القدسية، حضرة الإمامة، وجنّة دار الإقامة، مدّ الله على الإسلام ظلالها، وأنمى في سماء السعادة تمامها وكمالها، وهنّأ المؤمنين باستقبال إمارتها، وأدام لهم بركة خلافتها، عبد أياديها، وخديم ناديها، المتوسّل بقديم الخدمة، والمتوصّل بعميم النعمة وكريم الحرمة، المنشد بلسان المسرّة، حين أطلع الزمان هذه الغرّة (2) : أتته الخلافة منقادةً ... إليه تجرّر أذيالها فلم تك تصلح إلاّ له ... ولمي ك يصلح إلاّ لها موسى بن محمد بن سعيد لا زال هذا الأمر العلي محموداً سعيداً، ولا برح يستزيد ترقياً وصعوداً: يا نعمة الله زيدي ... إن كان فيك مزيد سلام الله الكريم، يخص حضرة الإجلال والتعظيم، والتقديس والتفخيم، ورحمته وبركاته، وبعد حمد الله الذي بلغ الإسلام بهذه الخلافة آماله، وحلّى بهذه الولاية السعيدة أحواله، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد نبيه الكريم، الذي دحض الله تعالى بنبوّته الكفر وضلاله، وعلى آله وصحبه الطاهرين الذي سمعوا أقواله، وامتثلوا أفعاله، والرضى عن الإمام المهدي المعلوم الذي أفاء الله

_ (1) وردت هذه الرسالة في المقتطفات (الورقة: 17) . (2) البيتان لأبي العتاهية، انظر ديوانه: 612 (تحقيق الدكتور شكري فيصل) .

به على الدين الحنيفي ظلاله، وأذهب عنه طواغيته وضلاله، والدعاء للمقام العالي الكريم، بالسعد المتوالي والنصر الجسيم، وكتب العبد وقد ملأت هذه البشرى المسرة أفقه، ووسعت عليه هذه المرتبة العلية طرقه: فهذه رتبةٌ ما زلت أرقبها ... فاليوم أبسط آمالي وأحتكم ولا أقنع مني إن اقتصرت على السماء داراً، والهلال للبشير سواراً، والنجوم (1) عقداً، والصباح بنداً، حتى أسرّ كل أحد بشكله، وأقابل كل شخص بمثله: ومن خدم الأقوام يرجو نوالهم ... فإنّي لم أخدمك إلا لأخدما وما بعد الخلافة رتبة، ودون ثبير تنحطّ كلّ هضبة، فالحمد لله ربّ العالمين، وهنيئاً لعباده المؤمنين، حيث نظر لهم نظر رحمة، فأسبل عليهم ستر هذه النعمة: ولقد علمت بأنّ ذلك معصمٌ ... ما كان يتركه بغير سوار (2) والله أعلم حيث يجعل رسالاته، وإلى من يشير بآياته، فلله صباح ذلك اليوم السعيد وليلته، لقد سفر عن وجه من البشرى أضاءت الآفاق شرقاً وغرباً غرّته، ولقد اجتمعت آراء السداد، حتى أتت الإسلام بالمراد، فأخذ القوس باريها، وحل بالدار بانيها، هنيئاً زادك الرحمن (3) خيراً، ولا برحت المسرات تسير إليك سيراً، وهل يصلح النور إلا للمقل، وهل يليق بالحسن إلا الحلل، فالآن مهّد الله البرين، وأفاض العدل على العدوتين، وقدّم

_ (1) ق: والنجم. (2) البيت لأبي تمام من قصيدته في الشمانة بمصرع الأفشين، ديوانه 2: 209. (3) ج: الإسلام.

للنظر من لا يعزب عن حفظه مكان، ولا يختصّ بحفظه إنسان دون إنسان، خلفة له النفس العمرية، والآراء العمرية، والفراسة الإياسية، ولا ينبئك مثل خبير، فلقد شاهد العبد ما لا يحصره تفسير، ولعمري لقد عاد الصباح في إشراق النهار، ولم يخف عنا ما زاد الدنيا من البهجة (1) والمسار، وشملت الناس هذه البشائر، وعمّت كل باد وحاضر، وأصاخوا لتاليها إصاخة المجد بين لمرتادهم، وأهطعوا لها مهللين ومكبرين إهطاع الناس لأعيادهم، وأما العبد فقد أخذ بحظه، حتى خاف أن يغلب السرور على قلبه ولحظه: ومن فرح النفس ما يقتل (2) ... وهذه نعمة يقصر عنها النثر والنظم، ويحسد عليها الهلال والنجم، بل يسلمان لما استحقته من المراتب، ويخضعان إليها خضوع المفترض الواجب، أقرّ الله بها عيون المسلمين، وأفاض سحبها على الناس أجمعين، وحفظها بعينه التي لا تنام، ووقف على خدمتها الليالي والأيام. [من شعر أبي عمران ابن سعيد] ولما قدم من الأندلس على تونس مدح سلطانها أبا زكريا بقوله: بشرى ويسرى قد أنار المظلم ... نجماً وقد وضح الصباح المعلم ورنت عيون الأمن وهي قريرةٌ ... وبدت ثغور السّعد وهي تبسّم فارحل لتونس واعتقد أعلام من ... قوي الضعيف به وأثرى المعدم حيث المعالي والمعاني والنّدى ... والفضل والقوم الذي هم هم أجروا إلى الغايات ملء عنانهم ... سبقاً وبذّهم الجواد المنعم

_ (1) ق: البهجات. (2) عجز بيت للمتنبي، وصدره: فلا تنكرن لها صرعة.

ساد الإمام الملك يحيى سادةً ... أعطى الورى لهم القياد وسلّموا إنّ الإمارة مذ غدا يقتادها ... يقظى وأجفان الحوادث نوّم لله منك مباركٌ ذو فطنةٍ ... بزغت فأحجم عندها من يقدم يقظان لا وانٍ ولا متقاعسٌ ... كالدهر يبني ما يشاء ويهدم إن صال فالليث الهصور المقدم ... أن سال فالغيث المغيث المثجم أعلى منار الحقّ حين أماله ... قومٌ تبرأت المنابر منهم أعلى الإله مكانه وزمانه ... والنصر يقدم والسعادة تخدم وقال يخاطب ملك المغرب مأمون بني عبد المؤمن، حين أخذ البيعة لنفسه بإشبيلية، وكان المذكور بمراكش ولبني سعيد بهذا الملك اختصاص قديم: الحزم والعزم موجودان والنّظر ... واليمن والسعد مضمونان والظّفر والنور فاض على أرجاء أندلسٍ ... والزّور ليس له عينٌ ولا أثر حثّ الركاب إلى هذا الجناب فقد ... ضلّوا فما تنفع الآيات والنّذر واعزم كما عزم المأمون إذ نشزت ... أرض العراق فزال البؤس والضرر ولما قدم العادل القائم بمرسية المتولي على مملكة البرّين إلى إشبيلية كان في جملة من خرج للقائه، ورفع له قصيدة منها: لقاء به للبرّ والشكر مجمع ... إلى يومه كنّا نخبّ ونوضع لقد يسّر الرحمن صعب مرامه ... فأبصرت أضعاف الذي كنت أسمع وله أيضاً: يا منعماً قد جاءني برّه ... من غير أن أجري له ذكرا إنّ أحبّ الخير ما جاءني ... عفواً، ولم أغمر به فكرا وله في غلام واعظ، وهو من حسناته:

وشادنٍ ظلّ للوع ... ظ تالياً بين جمع متّعت طرفي بمرآ ... هـ في خفارة سمعي وله من أبيات: ومن عجبٍ أنّ الليالي تغيّرت ... ولكنّها ما غيّرت منّي العهدا ومن الفضلاء الذين أدركهم وأخذ عنهم الحافظ أبو بكر ابن الجد، وأبو بكر ابن زهر، وغيرهما، وحضر حصار طليطلة مع منصور بني عبد المؤمن، وكتب لملك البرين أبي محمد بعد الواحد، وكتب أيضاً عن مأمون بني عبد المؤمن، وكتب أخيراً عن ملك بجاية والغرب الأوسط الأمير أبي يحيى ابن ملك إفريقية، رحم الله تعالى الجميع. رجع إلى أبي الحسن ابن سعيد: قال رحمه الله تعالى: حضرت ليلة أنسٍ مع كاتب ملك إفريقية أبي العباس أحمد الغسّاني، فاحتاجت الشمعة أن تقطّ، فتناول قطّها غلامٌ ببنانه، فقلت: ورخص البنان تصدّى لأن ... يقطّ السراج بمثل العنم فقال: ولم يهب النار في لمسه ... ولا احتاج في قطّه للجلم فقلت: وما ذاك إلاّ لسكناه في ... فؤادي على ما حوى من ضرم فقال:

تعوّد حرّ لهيبٍ به ... فليس به من أوارٍ ألم وأنشد في المغرب للغساني المذكور في خسوف القمر ممّا قاله ارتجالاً: كأنّ البدر لمّا أن علاه ... خسوفٌ لم يكن يعتاد غيره سجنجل غادةٍ قلبته لمّا ... أراها شبهها حسداً وغيره وخاطبه المذكور برسالة يقول في آخرها: وعند حامل هذه الأحرف - سلّمه الله تعالى - كنه خبري، واستيعاب ما قصر عنه قلمي فضاقت بحمله أسطري، لتعلم ما أجده وأفقده من تشوقي وتصبري، وأنّي لا أزال أنشد حيث تذكّري وتفكّري: يا نائياً قد نأى عنّي بمصطبري ... وثاوياً في سواد القلب والبصر إذا تناسيت عهداً من أخي ثقةٍ ... فاذكر عهودي فما أخليك من فكري واردد عليّ تحيّاتي بأحسنها ... تردد عليّ حياتي آخر العمر ولنمسك العنان عن الجري في ميدان أخبار ابن سعيد، فإنّها لا يشق غبارها، ومنها قوله رحمه الله تعالى: سمعت كثيراً من السماع المشرقي، فلم يهزني مثل قول الشريف الشمسي المكي (1) : مقلٌ بالدمع غرقى ... وفؤادٌ طار خفقا وتجنّ وتثنٍّ ... شقّ جيب الصبر شقّا يا ثقاتي خبروني ... عن حديث اليوم حقّا أكذا كلّ محبّ ... فارق الأحباب يشقى لا وعيشٍ قد تقضّى ... وغرامٍ قد تبقّى ونعيمٍ في ذراكم ... قد صفا دهراً ورقّا

_ (1) وردت الأبيات في المقتطفات (الورقة: 28) .

ونسيمٍ من حماكم ... حمل الوجد فرقّا برسالات صبابا ... تٍ على المشتاق تلقى وغصونٍ ناعماتٍ ... بمياه الدنّ تسقى ووجوهٍ فضن حسناً ... فملأن الأرض عشقا لو رضيتم بي عبداً ... ما رضيت الدهر عتقا وقال: ما سمعت ولا وقفت على شيء أبدع من قول الجزار، وقد تردد إلى جمال الدين بن يغمور رئيس الديار المصرية فلم يقدّر له الاجتماع به: أسأل الله أن يديم لك الع ... زّ ما أردت البقاء كلّ يومّ أرجو النعيم بلقيا ... ك فألقى بالبعد عنك شقاء علم الدهر أنّني أشتكيه ... لك إذ نلتقي فعاق اللّقاء فبعث له بما أصلح حاله من الإحسان، وكتب في حقّه إلى ولاة الصعيد كتباً أغنته مدّة عن شكوى الزمان، انتهى. وقال أيضاً: ولم أسمع في وضع الشيء موضعه أحسن من قول المتنبي: وأصبح شعري متهماً في مكانه ... وفي عنق الحسناء يستحسن العقد ولم أسمع في وضع الشيء غير موضعه أحسن من قول أبي الفرج: مرّ مدحي ضائعاً في لؤمه ... كضياع السيف في كفّ الجبان ومن تأليف النور بن سعيد كتاب " عدة المستنجز وعقلة (1) المستوفز " وذكر فهي أنّه ارتحل من تونس إلى المشرق رحلته الثانية سنة 666، وأورد في هذا الكتاب غرائب وبدائع، وذكر فيه أنّه لمّا دخل الإسكندرية لم يكن عنده

_ (1) ق ج: وغفلة.

آكد من السؤال عن الملك الناصر، فأخبر بحاله، وما جرى له مع التتر (1) حتى قتلوه بعد الأمان، ثم ساق فيه دخول هولاكو حلب فقال بعد كلام كثير: وارتكب في أهل حلب التتر والمرتدون ونصارى الأرمن ما تصمّ عن الأسماع، وكان فيمن قتل بتلك الكائنة البدر بن العديم الذي صدر عنه من الطبقة العالية في الشعر مثل قوله (2) : واهاً لعقرب صدغه ... لو لم تكن للماه تحمي ولغفل خطّ عذاره ... لو بتّ أعجمه بلثمي وابن عمّه الافتخار بن العديم الذي وقع له مثل قوله: والغصن فيه الماء مطّردٌ ... والماء فيه الغصن منعكس ثم قال، لما ذكر أحوال الناصر بعد استيلاء التتر على بلاد حلب والشام وما يليهما، ما نصّه: قال من دخل على الملك الناصر وقد نزل بميدان دمشق: قبّلت يده، وجعلت أدعو له، وأظهر تعزيته على ما جرى من تلك المصائب العظيمة، فأضرب عن ذلك، وقال لي: فيم تتغزل اليوم ثمّ أنشدني قوله في مملوك فقده في هذه الكائنة: والله ما أبكي لملكٍ مضى ... ولا لحالٍ ظاعنٍ أو مقيم وإنّما أبكي وقد حقّ لي ... لفقد من كنت به في نعيم يطلع بدراً ينثني بانةّ ... يمرّ فيما رمته كالنّسيم في خاطري أبصره خاطراً ... فألتوي مثل التواء السقيم يا عاذلي دعني وما حلّ بي ... فما سوى الله بحالي عليم إن متّ من حزنٍ له أسترح ... وإن أعش عشت بهمّ عظيم

_ (1) ق: الططر. (2) سقط البيتان من ج.

قال: ثم إنّه سار نحو هولاكو، فلمّا مرّ بحلب ونظر إلى معاهده على غير ما يعهد قال: مررت بجرعاء الحمى فتلفتت ... لحاظي إلى الدّار التي رحلوا عنها ولو كان عندي ألف عينٍ وقمت في ... معالمها عمري لما شبعت منها وصنع في نعيها أشعاراً يغنّي بها المسمّعون، ثم رحل إلى صحراء يوش في جهة طريق أرمينية، فوجد هولاكو هنالك في تلك المروج المشهورة بالخصب، فأنزله، وأقام يشرب معه إلى أن وصل الخبر بوقعة عين جالوت على التتر للملك المظّفر قطز صاحب مصر سنة 658 (1) ، فقتلوه وخلعوا عظم كتفه، وجعلوه في أحد الأعلام على عادته في أكتاف الملوك، انتهى باختصار. 167 - ومن الوافدين من الأندلس إلى المشرق الأديب الحسيب عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن سعيد (2) ، وكان صعب الخلق، شديد الأنفة، جرى بينه وبين أقاربه ما أوجب خروجه إلى أقصى المشرق، وفي ذلك يقول، وكتب به إليهم: من لصبّ يرعى النجوم صبابه ... ضيّع السير في الهموم شبابه زدت بعداً فزدت فيه اقتراباً ... بودادي كذاك حكم القرابه منزلي الآن سمرقند وبالقل ... عة ربعٌ وطئت طفلاً ترابه شدّ ما أبعد الفراق انتزاحي ... هكذا الليث ليس يدري اغترابه لا ولا أرتجي الإياب لأمرٍ ... إن يكن يرتجي غريبٌ إيابه

_ (1) في ق: سنة خمسمائة وثمانين، وسقط التاريخ من ج. (2) له ترجمة في المغرب 2: 172.

وكتب لهم من بخارى: إذا هبّت رياح الغرب طارت ... إليها مهجتي نحو التّلاقي وأحسب من تركت به يلاقي ... إذا هبّت صباها ما ألاقي فيا ليت التفرق كان عدلاً ... فحمّل ما يطيق من اشتياقي وليت العمر لم يبرح وصالاً ... ولم يختم (1) علينا بالفراق إذا كان الشوق فوق كل صفة، فكيف تعبّر عن الشفة، لكن العنوان دلالة على بعض ما في الصحيفة، والحاجب قد ينوب في بعض الأمور مناب الخليفة، وما ظنكم بمشوق طريح، في يد الأشواق طليح، يقطع مسافات الآفاق يتقلّب تقلّب الأفياء، ويتلّون الحرباء، حتى كأنّه يخبّر مساحات الأرض، ذات الطول والعرض، ويجوب أهوية الأقاليم السبع، خارجاً بما أدخله فيه اللّجاج عن الشرع، فكان خليفة الإسكندر، لكن ما يجيش من هموم الغربة بفكري قائمة مقام الجيش والعسكر؛ جزت إلى برّ العدوة من الغرب الأقصى، فطمحت نفسي إلى مشاهدة الغرب الأوسط فلاقيت فيما بينهما من المسافة من المشاق ما لا يحصر (2) ، ثم تشوقت إلى إفريقية درب بلاد الشرق، فاستشعرت من هنالك ما بينها وبين بلادي من الفرق، واختطفت من عيني تلك الطلاوة، وانتزعت من قلبي تلك الحلاوة: فلله عينٌ لم تر العين مثلها ... ولا تلتقي إلاّ بجنّات رضوان ثم نازعتني النفس التواقة إلى الديار المصرية، فكابدت في البحر ما لا يفي بوصفه إلا المشافهة إلى أن أبصرت منار الإسكندرية، فيا لك من استئناف عمر جديد، بعد اليأس من الحياة بما لقينا من الهول والتنكيد، ثمّ صعدت إلى القاهرة

_ (1) المغرب: يحكم. (2) ج: يحصى.

قاعدة الديار المصرية، لمعاينة الهرمين وما فيهما من المعالم الأزلية، وعاينت القاهرة المعزّية، وما فيها من الهمم الملوكية، غير أنّي أنكرت مبانيها الواهية، على ما حوت من أولي الهمم العالية، وكونها حاضرة العسكر الجرّار، وكرسيّ الملك العظيم المقدار، وقلت: أصداف فيها جواهر، وشوك محدق بأزاهر، ثم ركبت النيل وعاينت تماسيحه، وجزت بحر جدة وذقت تباريحه، وقضيت الحج والزيارة، وملت إلى حاضرة الشام دمشق والنفس بالسوء أمّارة، فهنالك بعت الزيارة بالأوزار، وآلت تلك التجارة إلى ما حكمت به الأقدار، إذ هي كما قال أحد من عاينها (1) : أمّا دمشق فجنّات معجّلة ... للطالبين بها الولدان والحور فلله ما تضمن داخلها من الحور والولدان، وما زيّن به خارجها من الأنهار والجنان، وبالجملة فإنّها حمى تتقاصر عن إدراكها أعناق الفصاحة، وتقصر عن مناولتها في ميدان الأوصاف كل راحة، ولم أزل أسمع عن حلب، أنّها دار الكرم والأدب، فأدرت أن يحظى بصري بما حظي به سمعي، ورحلت إليها وأقمت جابراً بالمذاكرة والمطايبة صدعي، ثم رحلت إلى الموصل فألفيت مدينة عليها رونق الأندلس، وفيها لطافة وفي مباينها طلاوة ترتاح لها الأنفس، ثم دخلت إلى مقر الخلافة بغداد، فعاينت من العظم والضخامة ما لا يفي به الكتب ولو ان البحر مداد، ثم تغلغلت في بلاد العجم بلداً بلداً، غير مقتنع بغاية ولا قاصد أمداً، إلى أن حللت ببخارى قبة الإسلام، ومجمع الأنام، فألقيت بها عصا التسيار، وعكفت على طلب العلم واصلاً في اجتهاده سواد الليل وبياض النّهار، انتهى. وكتب إليهم أيضاً من هذه الرسالة: كتبت وقد حصلتني السعادة، وحظ

_ (1) الشعر للعرقلة الدمشقي، أبي الندى حسان بن نمير أحد شعراء الخريدة (قسم الشام 1: 178 وفي الحاشية ثبت بتخريج ترجمته) والبيت في الخريدة: 204 ورحلة ابن بطوطة: 85.

الأمل والإرادة، بحضرة بخارى قبة الإسلام. وأجابه أهله من الغرب بكلام من جمله: وإن كنت قد تحصنت (1) بقبة الإسلام، فقد تعجلت لنا ولك الفقد قبل وقت الحمام. وأتبعوا ذلك بما دعاه لأن خاطبهم بشعر منه: عتبتم على حثّي المطيّ وقلتم ... تعجّلت فقداً قبل وقت حمام إذا لم يكن حالي مهمّاً لديكم ... سواء عليكم رحلتي ومقامي وقتل المذكور ببخارى، حين دخلها التتر، وهو عمّ علي بن سعيد الشهير. وكان لعبد الرحمن المذكور أخٌ يسمى يحيى قد عنى الجنديّة، فلمّا بلغه أن أبا القاسم عبد الرحمن قتل ببخارى قال: لا إله إلاّ الله، كان أبداً يسفّه رأيي في الجنديّة، ويقول: لو اتبعت طريق النجاة كما صنعت أنا لكان خيراً لك، فها هو ربّ قلمٍ قد قتل شرّ قتلة بحيث لا ينتصر وسلب سلاحه، وأنا ما زلت أغازي في عبّاد الصليب وأخلص، فما يقدر أحد يحسن لنفسه عاقبة، انتهى. قال أبو الحسن علي بن سعيد: ثمّ إن يحيى المذكور بعد خوضه في الحروب صرعه في طريقه غلام كان يخدمه، فذبحه على نزرٍ من المال، أفلت به، فانظر إلى تقلّب الأحوال كيف يجري في أنواع الأمور لا على تقدير ولا احتياط، انتهى. ومن شعر أبي القاسم عبد الرحمن المذكور ما خاطب به نقيب الأشراف ببخارى، وقد أهدى إليه فاختاً مع زوجه: أيا سيّد الأشراف لا زلت عالياً ... معاليك تنبو الدهر عن كلّ ناعت من الفضل إقبالٌ على ما تعثته ... لمغناك من شادٍ دعوه بفاخت ألا حبّذا من فاخت ساد جنسه ... وأصبح مقروناً بستّ الفواخت

_ (1) ج ق: تحصلت.

لئن فاتني منه الأنيس فكل ما ... يحلّ إلى علياك ليس بفائت 168 - منهم الشيخ الصالح الزاهد أبو الحسن علي بن عبد الله بن يوسف ابن حمزة، القرطبي، الأنصاري، المعروف بابن العابد، نزيل رباط الصاحب الصفي بن شكر (1) ، قال بعض المشارقة عنه: إنّما سميت الخمر بالعجوز لأنّها بنت ثمانين، يعين عدد حدّها، وأنشد له: عذلنا فلاناً على فعله ... ولمناه في شربه للعجوز فقال: دعوني من أجلها ... أنال أنا وأخي والعجوز 169 - ومنهم الشيخ الفاضل المتقن أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف ابن محمد بن يوسف الأنصاري، الشاطبي الأصل، البلنسي المولد في أحد ربيعي سنة إحدى وستمائة، ولقّبه المشارقة برضي الدين (2) . وتوفّي بالقاهرة في جمادة الأولى سنة 684، رحمه الله تعالى. ومن نظمه لما حضر أجله، وقد مر خادمه أن ينظف له بيته، وأن يغلق عليه الباب ويفتقده بعد زمان، ففعل ذلك، فلمّا دخل عليه وجده ميتاً، وقد كتب في رقعة: حان الرحيل فودّع الدار التي ... ما كان ساكنها بها بمخلّد واضرع إلى الملك الجواد وقل له ... عبدٌ بباب الجود أصبح يجتدي لن يرض غير الله معبوداً ولا ... ديناً سوى دين النبيّ محمّد ومن نظمه أيضاً رحمه الله تعالى:

_ (1) يريد وزير الملك العادل بمصر وهو صفي الدين أبو محمد عبد الله بن علي المعروف بابن شكر. (2) ترجمة رضي الدين الشاطبي في الوافي 4: 190 وغاية النهاية 2: 213 وبغية الوعاة: 83 وشذرات الذهب 5: 389.

أقول لنفسي حين قابلها الردى ... فرامت فراراً منه يسرى إلى يمنى قري تحملي بعض الذي تكرهينه ... فقد طالما اعتدت الفرار إلى الأهنى أنشده تلميذه أبو حيّان إمام عصره في اللّغة. حدث عن ابن المنير وغيره، واشتغل الناس عليه بالقاهرة، وله تصاينف مفيدة، وسمع من الحافظ أبي الربيع ابن سالم، وكتب على صحاح الجوهري وغيره حواشي في مجلدات، وأثنى عليه تلميذه أبو حيان، رحم الله تعالى الجميع. ومن فوائده قوله: نقلت من خط أبي الوليد ابن خيرة الحافظ القرطبي في فهرست أبي بكر ابن مفوّز: قد أدركته بسنّي ولم آخذ عنه واجتمعت به، أنشدني له أبو القاسم ابن الأبرش يخاطب بعض أكابر أصحاب أبي محمد ابن حزم، والإشارة لابن حزم الظاهري: يا من تعاني أموراً لن تعانيها ... خلّ التعاني وأعط القوس باريها تروي الأحاديث عن كلٍّ مسامحةً ... وإنّما لمعانيها معانيها وقد سبق في ترجمة القاضي أبي الوليد الباجي ذكر هذين البيتين عندما أجرينا ذكر ابن حزم (1) ، قال: وإنّما قال هذا الشعر في كذر رواية ادّعيت على قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم " إن خالداً قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله " وصحح رواية من روى " أعبده " جمع عبد، وعلّل رواية من روى أعتده بالتاء مثنّاة باثنتين من فوق جمع عتدٍ، وهو الفرس؛ قال ابن خيرة: الإحاطة ممتنعة، وهذه الرواية قد رواها جماعة من الأثبات والعلماء المحدّثين، فهو إنكار غير معروف، والله تعالى أعلم. ومن فوائده ما نقله تلميذه أبو حيّان النحوي عنه، قال: أنشدنا للمقري ونقلته من خطّه:

_ (1) انظر ما تقدم 2: 84.

إذا ما شئت معرفةً ... بما حار الورى فيه فخذ خمساً لأربعةٍ ... ودع للثوب رافيه وهو لغز في ورد. وقال: وأنشدنا لبعضهم: لا رعى الله عزمةً ضمنت لي ... سلوة الصبر والتصبر عنه ما وفت غير ساعةٍ ثمّ عادت ... مثل قلبي تقول: لا بدّ منه قال: وأنشدنا لغيره: وكان غريب الحسن قبل التحائه ... فلمّا التحى صار الغريب المصنّفا " (1) وأنشدنا لغيره: طب على الوحدة نفسا ... وارض بالوحشة أنسا ما عليها من يساوي ... حين يستخبر فلسا وقرأ الرضيّ ببلده على ابن صاحب الصّلاة (2) آخر أصحاب ابن هذيل، وسمع منه كتاب التلخيص للواني (3) ، وسمع بمصر من ابن المقيّر وجماعة، وروى عنه الحافظ المزي واليونيني والظاهري وآخرون، وانتهت إليه معرفة اللغة وغريبها، وكان يقول: أعرف اللغة على قسمين: قسم أعرف معناه وشواهده، وقسم أعرف كيف أنطق به فقط، رحمه الله تعالى.

_ (1) فيه تورية، يشير إلى كتاب الغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام. (2) اسمه محمد بن أحمد بن صاحب الصلاة. (3) كذا في ج ق ودوزي؛ وفي غاية النهاية " للداني " بالدال المهملة، ولم يرد كتاب " التلخيص " بين كتب أبي عمرو الداني شيخ القراء الأندلسيين في مقدمة المحكم (تحقيق الدكتور عزة حسن، دمشق: 1960) .

ومن فوائد الرضيّ الشاطبيّ المذكور ما ذكره أبو حيّان في البحر قال: وهو من غريب ما أنشدنا الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمّد بن علي ابن يوسف الأنصاري الشاطبي لزينب بنت إسحاق النصراني الرّسعني: عديّ وتيم لا أحاول ذكرهم ... بسوء، ولكنّي محبٌّ لهاشم وما يعتريني في عليّ ورهطه ... إذا ذكروا في الله لومة لائم يقولون: ما بال النصارى تحبّهم ... وأهل النّهى من أعربٍ وأعاجم فقلت لهم: إنّي لأحسب حبّهم ... سرى في قلوب الخلق حتى البهائم ومن نظم الرضي المذكور: منغّص العيش لا يأوي إلى دعةٍ ... من كان ذا بلدٍ أو كان ذا ولد والساكن النفس من لم ترض همته ... سكنى بلادٍ ولم يسكن إلى أحد وله: لولا بناتي وسيّئاتي ... لطرت شوقاً إلى الممات لأنني في جوار قومٍ ... بغّضني قربهم حياتي وقرأ عليه أبو حيان كتاب التيسير وأثنى عليه، ولمّا توفّي أنشد ارتجالاً: نعوا لي الرضيّ فقلت لقد ... نعي لي شيخ العلا والأدب فمن للّغات للثّقات ... ومن للنحاة ومن للنسب لقد كان للعلم بحراً فغار ... وإنّ غؤور البحار العجب فقدّس من عالمٍ عاملٍ ... أثار لشجوي لمّا ذهب وتحاكم إلى رضي الدين المذكور الجزّار والسّراج والورّاق أيّهما أشعر، وأرسل إليه الجزار شيئاً، فقال: هذا شعر جزلٌ، من نمط شعر العرب، فبلغ ذلك الورّاق، فأرسل إليه شيئاً فقال: هذا شعر سلس، وآخر الأمر قال:

ما أحكم بينكما، رحمه الله تعالى. قلت: رأيت بخطّه كتباً كثيرة بمصر وحواشي مفيدة في اللّغة وعلى دواوين العرب، رحمه الله تعالى. 170 - ومنهم حميد الزاهد، وهو الأديب الفاضل الزاهد أبو بكر حميد ابن أبي محمد عبد الله بن الحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله، الأنصاري، القرطبي، نزيل مالقة (1) . قال الرضي الشاطبي المذكور قريباً: أنشدني حميدٌ بالقاهرة لأبيه أبي محمد وقد تأخّر شبيه مع علوّ سنّه (2) : وهل نافعي أن أخطأ الشّيب مفرقي ... وقد شاب أترابي وشاب لداتي إذا كان خطّ الشيب يوجد عينه ... بتربي فمعناه يقوم بذاتي واللّدات: من ولد معه في زمان واحد، انتهى. وفي ذكري أنّه قال هذين البيتين لما قال له القاضي عياض: شبنا ولم تشب. وقال الرضيّ أيضاً: أنشدني حميدٌ لأبيه فيمن يكتب في الورق بالمقص، وهو غريب: وكاتبٍ وشي طرسه حبرٌ ... لم يشها حبره ولا قلمه لكن بمقراضه ينمنمها ... نمنمة الروض جاده رهمه يوجد بالقطع أحرفاً عدمت ... فاعجب لشيء وجوده عدمه والرهم: المطر.

_ (1) حميد هذا هو أحمد - وشهر باسم حميد -؛ وأبوه عبد الله بن الحسن هو أبو محمد القرطبي أحد العلماء الحفاظ، ترجم له ابن عبد الملك ترجمة ضافية في الذيل والتكملة 4: 191 (وانظر التكملة: 879 وتذكرة الحفاظ: 1396) . (2) انظر البيتين والقصة بين أبي محمد القرطبي والقاضي عياض في برنامج الرعيني: 88 والذيل والتكملة 4: 209 - 210.

قال: وتوفّي حميد الزاهد هذا بمصر، قبيل الظهر من يوم الثلاثاء، وصلّي عليه خارج مصر بجامع راشدة بعد صلاة العصر من يوم الثلاثاء المذكور، ودفن بسفح المقطّم بتربة الشيخ الفاضل الزاهد أبي بكر محمد الخزرجي الذي يدق الرصاص، حذاء رجليه، في الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وستمائة، ومولده سنة ست وستمائة، انتهى. 171 - ومنهم اليسع بن عيسى بن حزم بن عبد الله بن اليسع بن عبد الله الغافقي (1) من أهل بلنسية وأصله من جيّان، وسكن المريّة ثم مالقة، يكنى أبا يحيى، كتب لبعض الأمراء بشرقي الأندلس (2) ، وله تأليف سمّاه المعرب في أخبار محاسن أهل المغرب، جمعه للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب بالديار المصرية بعد أن رحل إليها من الأندلس سنة ستين وخمسمائة، وبها توفّي يوم الخميس التاسع عشر من رجب سنة خمس وسبعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. 172 - ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن علي بن محمد التجيبي، يكنى أبا عبد الله، من أهل إشبيلية (3) ، تجول في بلاد الأندلس طالباً للعلم، ثمّ حج، ولقي الحافظ السّلفي وغيره، واستوطن تلمسان، وبها توفّي في جمادى الأولى سنة عشر وستمائة، وله تواليف كثيرة. 173 - ومنهم أبو مروان محمد بن أحمد بن عبد الملك، اللّخمي، الباجي (4) ،

_ (1) ترجمته في المغرب 2: 88 والتكملة رقم: 2112 وشذرات الذهب 4: 250. (2) في المغرب: وكان بالأندلس يكتب عن المستنصر بن هود. (3) ترجم له في التكملة: 588، وقال إنه من أهل لقنت عمل مرسية، ولم ينسبه إلى إشبيلية، وذكر عددا كبيرا من مؤلفاته. (4) ترجمته في التكملة: 637؛ خرج من وطنه عند مقتل ابن أخيه أبي مروان الباجي على يد ابن الأحمر، ونزل في مرسى عكا ومنها إلى دمشق وحج وزار ثم عاد إلى مصر عن طريق عيذاب مارا بقنا وقوص؛ وقد أطنب ابن عبد الملك في خبر رحلته وتنقلاته ووفاته (الذيل والتكملة 5: 687) .

من أهل إشبيلية، ولي القضاء بها وأصله من باجة إفريقية، دخل المشرق لأداء الفريضة فحج، وتوفّي بمصر بعدما دخل الشام، في اليوم الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وستمائة، ومولده عام أربعة وستين وخمسمائة، وكانت رحلته من المغرب أول يوم من المحرم عام أربعة وثلاثين وستمائة. 174 - ومنهم وليد بن بكر بن مخلد بن زياد العمري من أهل سرقسطة، يكنى أبا العباس، له كتاب سمّاه " الوجازة في صحة القول بالإجازة " وله رحلة لقي فيها ألف شيخ ومحدث وفقيه، توفّي بالدينور سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، يروي عنه أبو ذر الهروي وعبد الغني الحافظ، وكفاه فخراً بهذين الإمامين العظيمين، رحم الله تعالى الجميع. 175 - ومنهم عيسى بن سليمان بن عبد الملك بن عبد الله بن محمد الرّعيني الرّندي، يكنى أبا محمد، استوطن مالقة، ورحل إلى المشرق، وحج، ولقي جماعة من العلماء، وقفل إلى المغرب أواخر عام واحد وثلاثين وستمائة، وولي الإمامة بالمسجد الجامع بمالقة، وبها توفّي في ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، ولقب في المشرق برشيد الدين، وولد في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بقرية من قرى الأندلس يقال لها يلمالتين كورة

بشتغير، ذكر ذلك ابن المستوفي في تاريخ إربل. 176 - ومنهم أبو الربيع سليمان بن أحمد، الينيني (1) ، من أهل الأندلس، استوطن المشرق ومدح الملك الكامل، ومن شعره رحمه الله تعالى قوله: لولا تحدّيه بآية سحره ... ما كنت ممتثلاً شريعة أمره رشأ أصدّقه وكاذب وعده ... يبدي لعاشقه أدلّة عذره ظهرت نبوّة حسنه في فترةٍ ... من جفنه وضلالةٍ من شعره 177 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن يحيى الضبي (2) ، رحل حاجّاً فلقي ببجاية عبد الحق الإشبيلي، وبالإسكندرية أبا الطاهر ابن عوف، ولقي غير واحد في رحلته كالفرنوي (3) وان بري (4) وأبي الثناء الحراني وأبي الحسين الحديثي (5) - وللحديثي أحاديث ساوى بها البخاري ومسلماً - ولقي جماعة ممّن شارك السّلفي في شيوخه. 178 - ومنهم أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير، الكناني صاحب الرحلة (6) ، وهو من ولد ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، أندلسي،

_ (1) ق ودوزي: الينيبي؛ وهي غير واضحة الإعجام في ج. (2) ترجمة الضبي في التكملة: 93، وله كنية ثانية هي أبو العباس، وقد توفي في مرسية عام 599 سقط عليه هدم. (3) في دوزي: كالعروبي، وفي نسخة: كالغذتوري، وأثبت ما في التكملة. (4) ج ق ودوزي: وابن بر. (5) ق ج ودوزي: الحريثي. (6) انظر ترجمة ابن جبير في التكملة: 598، والذيل والتكملة: 595 وإرشاد الأريب 2: 106 ومسالك الأبصار 8: 311 والمطرب 1: 86 والإحاطة 2: 168 والمغرب 2: 384، وغاية النهاية 2: 60 والنجوم الزاهرة 6: 221 وشذرات الذهب 5: 60؛ وانظر مقدمة الرحلة ففيها نقول عن المقفى ورحلة العبدري وبدائع البدائه؛ وأورد له ابن عبد الملك أشعارا يهاجم فيها الفلسفة في ترجمة أبي الوليد ابن رشد في الجزء السادس.

شاطبي، بلنسي، مولده ليلة السبت عاشر ربيع الأول سنة أربعين وخمسمائة ببلنسية، وقيل في مولده غير ذلك، وسمع من أبيه بشاطبة ومن أبي عبد الله الأصيلي وأبي الحسن ابن أبي العيشي، وأخذ عنه القراءات، وعني بالأدب فبلغ الغاية فيه، وتقدم في صناعة القريض والكتابة. ومن شعره قوله، وقد دخل إلى بغداد فاقتطع غصناً نضيراً من أحد بساتينها فذوى في يده: لا تغترب عن وطنٍ ... واذكر تصاريف النّوى أما ترى الغصن إذا ... ما فارق الأصل ذوى وقال رحمه الله تعالى يخاطب الصدر الخجندي (1) : يا من حواه الدين في عصره ... صدراً يحلّ العلم منه فؤاد ماذا يرى سيّدنا المرتضى ... في زائرٍ يخطب منه الوداد لا يبتغي منه سوى أحرفٍ ... يعتدّها أشرف ذخر يفاد ترسمها أنمله مثل ما ... نمّق زهر الروض كفّ العهاد في رقعةٍ كالصبح أهدى لها ... يد المعالي مسك ليل المداد إجازةً يورثنيها العلا ... جائزةً تبقى وتفنى البلاد يستصحب الشكر خديماً لها ... والشكر للأمجاد أسنى عتاد فأجابه الصدر الخجندي: لك الله من خاطبٍ خلّتي ... ومن قابسٍ يجتدي سقط زندي أجزت له ما أجازوه لي ... وما حدّثوه وما صحّ عندي وكاتب هذي السّطور الّتي ... تراهنّ عبد اللطيف الخجندي

_ (1) هو عبد اللطيف بن محمد بن عبد اللطيف الخجندي أبو القاسم صدر الدين من أهل أصبهان، كان فقيها أديبا واعظا توفي سنة 580 (انظر طبقات السبكي 4: 261) .

179 - ورافق ابن جبير في هذه الرحلة أبو جعفر أحمد بن الحسن بن أحمد بن الحسن القضاعي، وأصله من أندة من بلنسية (1) ، رحل معه فأدّيا الفريضة، وسمعا بدمشق من أبي الطاهر الخشوعي، وأجاز لهما أبو محمد ابن أبي عصرون وأبو محمد القاسم بن عساكر وغيرهما، ودخلا بغداد وتجولا مدّة، ثمّ قفلا جميعاً إلى المغرب، فسمع منهما به بعض ما كان عندهما. وكان أبو جعفر هذا متحقّقاً بعلم الطب، وله فيه تقييد مفيد، مع المشاركة الكاملة في فنون العلم. وكتب عن السيد أبي سعيد ابن عبد المؤمن، وجدّه لأمّه القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية. وتوفّي أبو جعفر هذا بمرّاكش سنة ثمان، أو تسع وتسعين وخمسمائة، ولم يبلغ الخمسين في سنه، رحمه الله تعالى. رجع إلى ابن جبير قال لسان الدين في حقّه: إنّه من علماء الأندلس بالفقه والحديث والمشاركة في الآداب، وله الرحلة المشهورة، واشتهرت في السلطان الناصر صلاح الدين ابن أيوب له قصيدتان: إحداهما أولها (2) : أطلّت على أفقك الزّاهر ... سعودٌ من الفلك الدائر ومنها: رفعت مغارم مكس الحجاز ... بإنعامك الشامل الغامر وأمّنت أكناف تلك البلاد ... فهان السبيل على العابر وسحب أياديك فيّاضةٌ ... على واردٍ وعلى صادر فكم لك بالشرق من حامدٍ ... وكم لك بالغرب من شاكر

_ (1) ترجمته في التكملة: 93 وعنها ينقل المقري إلا خبر الكتابة عن السيد أبي سعيد، وفي الإحاطة والذيل " أبي جعفر ابن حسان ". (2) انظر القصيدة في الذيل والتكملة: 598 ومقدمة الرحلة: 28.

والأخرى منها في الشكوى من ابن شكر الذي كان أخذ المكس من الناس في الحجاز (1) : وما نال الحجاز بكم صلاحاً ... وقد نالته مصرٌ والشآم ومن شعره: أخلاّء هذا الزّمان الخؤون ... توالت عليهم حروف العلل قضيت التعجّب من بابهم ... فصرت أطالع باب البدل وقوله (2) : غريبٌ تذكّر أوطانه ... فهيّج بالذكر أشجانه يحلّ عرى صبره بالأسى (3) ... ويعقد بالنجم أجفانه وقال رحمه الله تعالى، لمّا رأى البيت الحرام زاده الله شرفاً: بدت لي أعلام بيت الهدى ... بمكّة والنور بادٍ عليه فأحرمت شوقاً له بالهوى ... وأهديت قلبي هديّاً إليه وقوله يخاطب من أهدى إليه موزاً (4) : يا مهدي الموز تبقى ... وميمه لك فاء وزايه عن قريب ... لمن يعاديك تاء

_ (1) الذيل والتكملة: 617 ومطلعها: صلاح الدين أنت له نظام ... فما يخشى لعروته انفطام والقصيدة تحريض لصلاح الدين كي يزيل التشيع من المدينة. (2) المغرب: 385. (3) المغرب: يحل جواه عقود العزاء. (4) الذيل والتكملة: 620.

وقال رحمه الله تعالى: قد ظهرت في عصرنا فرقةٌ ... ظهورها شؤمٌ على العصر لا تقتدي في الدين إلا بما ... سنّ ابن سينا وأبو نصر وقال: يا وحشة الإسلام من فرقةٍ ... شاغلةٍ أنفسها بالسّفه قد نبذت دين الهدى خلفها ... وادّعت الحكمة والفلسفه وقال: ضلّت بأفعالها الشنيعه ... طائفةٌ عن هدى الشّريعه ليست ترى فاعلاً حكيماً ... يفعل شيئاً سوى الطبيعه كان انفصاله، رحمه الله تعالى، من غرناطة بقصد الرحلة المشرقية أول ساعة من يوم الخميس الثامن لشوال سنة 578، ووصل الإسكندريّة يوم السبت التاسع والعشرين من ذي القعدة الحرام من السنة، فكانت إقامته على متن البحر من الأندلس إلى الإسكندرية ثلاثين يوماً، ونزل البر الإسكندراني في الحادي والثلاثين، وحجّ، رحمه الله تعالى، وتجوّل في البلاد ودخلا لشام والعراق والجزيرة وغيرها، وكان، رحمه الله تعالى، كما قال ابن الرقيق: من أعلام العلاء العارفين بالله، كتب في أول أمره عن السيد أبي سعيد ابن عبد المؤمن صاحب غرناطة، فاستدعاه لأن يكتب عنه كتاباً وهو على شرابه، فمدّ يده إليه بكأس، فأظهر الانقباض، وقال: يا سيدي ما شربها قط، فقال: والله لتشربنّ منها سبعاً، فلمّا رأى العزيمة شرب سبع أكؤس، فملأ له السيد الكأس من دنانير سبع مرات وصبّ ذلك في حجره، فحمله إلى منزله وأضمر أن يجعل كفرة شربه الحج بتلك الدنانير، ثم رغب إلى السيد، وأعلمه أنّه حلف

بأيمان لا خروج له عنها أنّه يحج في تلك السنة، فأسعفه، وباع ملكاً له تزود به، وأنفق تلك الدنانيرفي سبيل البر. ومن شعره في جارية تركها بغرناطة (1) : طول اغترابٍ وبرح شوقٍ ... لا صبر والله لي عليه إليك أشكو الذي ألاقي ... يا خير من يشتكى إليه ولي بغرناطةٍ حبيبٌ ... قد غلق الرهن في يديه ودّعته وهو في دلالٍ (2) ... يظهر لي بعض ما لديه فلو ترى طلّ نرجسيه ... ينهلّ في ورد وجنتيه (3) أبصرت درّاً على عقيقٍ ... من دمعه فوق صفحتيه (4) وله رحلة مشهورة بأيدي الناس. ولمّا وصل بغداد تذكر بلده، فقال: سقى الله باب الطاق صوب غمامة ... وردّ إلى الأوطان كلّ غريب وقال في رحلته في حق دمشق (5) : جنّة المشرق، ومطلع حسنه المونق المشرق، هي خاتمة بلاد الإسلام التي استقريناها، وعروس المدن التي اجتليناها، قد تحلّت بأزاهير الرياحين، وتجلّت في حلل سندسيّة من البساتين، وحلّت من موضع (6) الحسن بمكان مكين، وتزينت في منصّتها أجمل تزيين، وتشرفت بأن آوى الله تعالى المسيح وأمّه منها إلى ربوةٍ ذات قرار ومعين، ظلّ ظليل، وماء

_ (1) المغرب: 384. (2) المغرب: بارتماض. (3) المغرب: صفحتيه. (4) المغرب: وجنتيه. (5) الرحلة: 260. (6) الرحلة: موضوع.

سلسبيل، تنساب مذانبه انسياب الأراقم بكل سبيل، ورياض يحيي النفوس نسيمها العليل، تتبرج لناظريها بنجتلى صقيل، وتناديهم هلمّوا إلى معرّس للحسن ومقيل، قد سئمت أرضها كثرة الما، حتى اشتاقت إلى الظّما، فتكاد تناديك بها الصّمّ الصلاب، " اركض برجلك هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب " قد أحدقت بها البساتين إحداق الهالة بالقمر، واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهر، وامتدّت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر، فكلّ موقع لحظة بجهاتها الأربع نظرته اليانعة قيد النظر، ولله صدق القائلين فيها: إن كانت الجنّة في الأرض فدمشق لا شكّ فيها، وإن كانت في السماء فهي بحيث تسامتها وتحاذيها. قال العلامة ابن جابر الوادي آشي، بعد ذكره وصف ابن جبير لدمشق، ما نصّه: ولقد أحسن فيما وصف منها وأجاد وتوّق الأنفس للتطلّع على صورتها بما أفاد، هذا ولم تكن له بها إقامة، فيعرب عنها بحقيقة علامة، وما وصف ذهبيّات أصيلها وقد حان من الشمس غروب، ولا أزمان فصولها المتنوعات، ولا أوقات سرورها المهنئات، ولقد أنصف من قال: ألفيتها كما تصف الألسن، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، انتهى. رجع إلى كلام ابن جبير فنقول: ثمّ ذكر في وصف الجامع (1) أنّه من أشهر جوامع الإسلام حسناً، وإتقان بناء، وغرابة صنعة، واحتفال تنميق وتزيين، وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه، ومن عجيب شأنه أنّه لا تنسج به العنكبوت، ولا تدخله، ولا تلمّ به الطير المعروفة بالخطاف. ثمّ مدّ النّفس في وصفه الجامع وما به من العجائب، ثمّ قال بعد عدة أوراق ما نصه (2) : وعن يمين الخارج من باب

_ (1) الرحلة: 261. (2) الرحلة: 270.

جيرون في جدار البلاط الذي أمامه غرفة، ولها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صفرٍ، وفتحت أبواباً صغاراً على عدد ساعات النهار، دبرت تدبيراً هندسيّاً، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازين مصورين من صفر قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما، أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان، فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة، وتبصر البازيين يمدّان أعناقهما بالبندقتين إلى الطاستين ويقذفانهما بسرعةٍ بتدبير عجيب تتخيّله الأوهام سحراً، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دوي، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصّفر، لا يزال كذلك عند انقضاء كل ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلّها وتنقضي الساعات، ثم تعود إلى حالها الأول، ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أن في القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة، وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة، مدبر ذلك كلّه منها خلف الطيقان المذكورة، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عمّ الزجاجة ضوء المصباح، وفاض على الدائرة أمامها شعاعها فلاحت للأبصار دائرة محمرّة، ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتمحرّ الدوائر كلّها، وقد وكّل بها في الغرفة متفقّد لحالها، دربٌ بشأنها وانتقالها، يعيد فتح الأبواب وصرف السنج إلى موضعها، وهي التي تسميها الناس المنجانة، انتهى المقصود منه. قلت: كل ما ذكر رحمه الله تعالى في وصف دمشق الشام وأهلها فهو في نفس الأمر يسير، ومن ذا يروم عدّ محاسنها التي إذا رجع البصر فيها انقلب وهو حسير، وقد أطنب الناس فيها، وما بقي أكثر ممّا ذكروه، وقد دخلتها أواخر شعبان من سنة سبع وثلاثين وألف للهجرة، وأقمت بها إلى أوائل شوّال من السنة، وارتحلت عنها إلى مصر وقد تركت القلب فيها رهناً، وملك هواها

مني فكراً وذهناً، فكأنّها بلدي التي بها ربيت، وقراري الذي لي به أهل وبيت، لأن أهلها عاملوني بما ليس [لي] بشكره يدان، وها أنا إلى هذا التاريخ لا أرتاح لغيرها من البلدان، ولا يشوقني ذكر أرض بابل ولا بغدان، فالله سبحانه وتعالى يعطّر منها بالعافية الأردان. [أشعار في وصف دمشق] وقد عنّ لي أن أذكر جملة ممّا قيل فيها من الأمداح الرائقة، وأسرد ما خاطبني به أهلها من القصائد الفائقة، فأقول: قال البدر بن حبيب (1) : يمّم دمشق ومل إلى غربيّها ... والمح محاسن حسن جامع يلبغا من قال من حسدٍ رأيت نظيره ... بين الجوامع في البلاد فقد لغا وقال رحمه الله: لله ما أحلى محاسن جلّقٍ ... وجهاتها اللآتي تروق وتعذب بيزيد ربوتها الفرات وجنكها ... يا صاح كم كنّا نخوض ونلعب وقال في كتاب شنف السامع بوصف الجامع " (2) : لله ما أجمل وصف جلّقٍ ... وما حوى جامعها المنفرد

_ (1) من التعريف بالبدر بن حبيب، انظر 1: 68؛ وهو الحسن بن عمر بدر الدين الحلبي المتوفي سنة 779؛ وهذا هو ابنه طاهر بن الحسن بن عمر يعرف أيضا بابن حبيب (توفي سنة 808) وقد ذيل على تاريخ أبيه المسمى " درة الأسلاك "، وهو صاحب كتاب شنف السامع؛ وربما كان الأصوب أن يقال فيه " ابن البدر ". (2) ينقل عنه البدري صاحب نزهة الأنام في محاسن الشام ويسميه " تشنيف المسامع " (انظر ص: 44) ، واسمه في كشف الظنون كما أورده المقري.

قد أطرب الناس بصوت صيته ... وكيف لا يطرب وهو معبد وقال في ذكر باب الجامع المعروف بالزيادة (1) : يا راغباً في غير جامع جلّقٍ ... هل يستوي الممنوع والممنوح أقصر عناك وفي غلّوك لا تزد ... إنّ الزيادة بابها مفتوح وقال في منارته المعروفة بالعروس (2) : معبد الشام يجمع الناس طرّاً ... وإليه شوقاً تميل النفوس كيف لا يجمع الورى وهو بيتٌ ... فيه تجلى على الدوام العروس ومنه في ذكر بانيه الوليد: تالله ما كان الوليد عابثاً ... في صرفه المال وبذل جهده لكنّه أحرز ملك معبدٍ ... لا ينبغي لأحدٍ من بعده ومن أبيات في آخره: بجامع جلّقٍ ربّ الزعامه ... أقم تلق العناية والكرامه ويمم نحوه في كلّ وقتٍ ... وصلّ به تصل دار الإقامه مصلّى فيه للرحمن سرُّ ... ومثوىً للقبول به علامه محلٌّ كمّل الباري حلاه ... وبيتٌ أبدع الباني نظامه دمشقٌ لم تزل للشام وجهاً ... ومسجدها لوجه الشام شامه وبين معابد الآفاق طرّاً ... له أمر الإمارة والإمامه أدام الله بهجته وأبقى ... محاسنه إلى يوم القيامه

_ (1) البيتان في نزهة الأنام: 45. (2) هما في نزهة الأنام: 45.

ولم أقف على كل هذا الكتاب المذكور، بل على بعضه فقط. ومن قصيدة القاضي المهذّب بن الزبير (1) : بالله يا ريح الشّما ... ل إذا اشتملت الرّند (2) بردا وحملت من عرف (3) الخزا ... مى ما اغتدى للنّد ندّا ونسجت ما بين الغصو ... ن إذا عتنقن (4) هوىً وودّا وهززت عند الصبح من ... أعطافها قدّاً فقدّا ونثرت فوق الماء من ... أجيادها للزهر عقدا فملأت صفحة وجهه ... حتّى اكتسى آساً ووردا وكأنّما ألقيت في ... هـ منهما صدغاً وخدّا مرّي على بردى عسا ... هـ يزيد في مسراك بردا نهرٌ كنصل السيف تك ... سر متنه الأزهار عمدا صقلته أنفاس النّسي ... م بمرهنّ فليس يصدا ومنها: أحبابنا ما بالكم ... فينا من الأعداء أعدى وحياة حبّكم وحر ... مة وصلكم ما خنت عهدا

_ (1) هو الحسن علي بن إبراهيم بن الزبير، أبو محمد القاضي المهذب (- 561) أحد شعراء الخريدة (وانظر معجم الأدباء 9: 47) ، وبعض أبياته هذه في الخريدة 1: 214 (قسم مصر) . وهي المقتطفات (الورقة: 25) . (2) الخريدة: الليل؛ ق ودوزي: الروح، وفي الحاشية نقلا عن هامش إحدى النسخ: لعله " الرند "؛ ج: الريح. (3) الخريدة: نشر. (4) الخريدة: ونسجت في الأشجار بين غصونهن.

وقال الكمال الشّريشي (1) : يا جيرة الشام هل من نحوكم خبر ... فإن قلبي بنار الشوق يستعر بعدت عنكم فلا والله بعدكم ... ما لذّ للعين لا نومٌ ولا سهر إذا تذكرت أوقاتاً نأت ومضت ... بقربكم كادت الأحشاء تنفطر كأنّني لم أكن بالنيربين (2) ضحى ... والغيم يبكي ومنه يضحك الزهر (3) والورق تنشد والأغصان راقصةٌ ... والدّوح يطرب بالتصفيق والنهر والسفح أين عشيّاتي التي ذهبت (4) ... لي فيه فهي لعمري عندي العمر سقاك بالسفح (5) سفح الدمع منهمراً (6) ... وقلّ ذاك له إن أعوز المطر وحكى ابن سعيد وغيره أن غرناطة تسمى دمشق الأندلس لسكنى أهل دمشق الشام بها عند دخولهم الأندلس، وقد شبهوها بها لمّا رأوها كثيرة المياه والأشجار، وقد أطلّ عليها جبل الثلج، وفي ذلك يقول ابن جبير صاحب الرحلة: يا دمشق الغرب هاتي ... ك لقد زدت عليها تحتك الأنهار تجري ... وهي تنصبّ إليها قال ابن سعيد: أشار ابن جبير إلى أن غرناطة في مكانٍ مشرف وغوطتها

_ (1) في هامش طبعة ليدن أن هذه الأبيات في " درة الأسلاك " لابن حبيب مخطوطة ليدن رقم 425 ص: 260، ولم أطلع عليها وإنما أثبت الفروق التي وردت في حاشية الطبعة المذكورة، وهي كذلك في المقتطفات الورقة: 26 ولكمال الدين الشريشي ترجمة موجزة في الفوات 1: 109 والشذرات 6: 47. (2) في المقتطفات: بالنيرين. (3) درة الأسلاك: والزهر. (4) درة السلاك: سلفت. (5) درة الأسلاك: يا سفح. (6) دوزي: منهملا.

تحتها تجري فيها الأنهار، ودمشق في وهدة تنصبّ إليها الأنهار، وقد قال الله تعالى في وصف الجنّة " تجري من تحتها الأنهار " انتهى. وقال الشيخ الصفدي في تذكرته: أنشدني المولى الفاضل البارع شمس الدين محمد بن يوسف بن عبد الله الخياط بقلعة الجبل من الديار المصرية حرسها الله تعالى لنفسه في شعبان المكرم سنة 732 (1) : قصدت مصراً من ربى جلّقٍ ... بهمّةٍ تجري بتجريبي فلم أر الطّرّة حتى جرت ... دموع عيني بالمزيريب (2) وأنشدني لنفسه أيضاً: خلّفت بالشام حبيبي وقد ... يمّمت مصراً لعناً طارق والأرض قد طالت فلا تبعدي ... بالله يا مصر على العاشق (3) وأنشدني لنفسه أيضاً: يا أهل مصر أنتم للعلا ... كواكب الإحسان والفضل لو لم تكونوا لي سعوداً لما ... وافيتكم أضرب في الرمل وذكرته برمّته لحسن مغزاه. وقال الشيخ مجد الدين محمد بن أحمد المعروف بابن الظّهير الحنفي الإربلي (4) :

_ (1) قد مر البيتان وكذلك التعريف بابن الخياط (راجع النفح 1: 96) . (2) في الأصول: بالمزيريبي، وقد غيرت في طبعة ليدن فجعلت " بالمرازيبي " خلافا لما أثبت به من قبل ج 1 ص: 64 من الطبعة المذكورة، وصححها المعلق في المستدركات إلى " المريزيب " وهو الصواب. (3) في أمثالنا العامية بفلسطين: " مصر على المشتاق ما هي بعيدة "، وفي البيت تلميح إلى هذا المثل. (4) محمد بن أحمد بن عمر ابن الظهير الإربلي (677) شاعر من فقهاء الحنفية ولد بإربل وتنقل في البلاد وكانت وفاته بدمشق، وهو صاحب مختصر أمثال الشريف الرضي (انظر الفوات 2: 356 وذكر أن ديوان شعره في مجلدين وأخطأه في سنة وفاته إذ جعلها 697؛ والوافي 2: 123) وقصيدته هذه في الفوات وهي طويلة كثيرا؛ والأبيات الواردة هنا موجودة في المقتطفات الورقة: 26.

لعلّ سنا برق الحمى يتألّق ... على النأي أو طيفاً لأسماء يطرق فلا نارها تبدو لمرتقبٍ ولا ... عود الأمانيّ الكواذب تصدق لعلّ الرياح تدني لنازحٍ ... من الشام عرفاً كاللطيمة يعبق ديارٌ قضينا العيش فيها منعّماً ... وأيامنا تحنو علينا وتشفق سحبنا بها برد الشباب وشربنا ... لدينا كما شئنا لذيذٌ مروّق (1) مواطن منها السهم سهمي وظلّه ... تخبّ مطايا اللهو فيه وتعنق (2) كلا (3) جانبيه معلمٌ متجعدٌ ... من الماء في أطلاله يتدفّق إذا الشمس حلّت متنه فهو مذهبٌ ... وإن حجبتها دوحه فهو أزرق وإن فرج الأوراق جادت بنورها ... فرقمٌ أجادته الأكفّ منمّق يطلّ عليه قاسيون كأنّه ... غمامٌ معلّى أن نعامٌ معلّق تسافر عنه الشمس قبل غروبها ... وترجف إجلالاً له حين تشرق وتصفرّ من قبل الأصيل كأنّها ... محبٌّ من البين المشتّت مشفق وفي النّيرب الميمون (4) للّبّ سالبٌ ... من المنظر الزاهي وللطرف مومق (5) بدائع من صنع القديم ومحدثٌ ... تأنّق فيها المحدث المتأنّق رياض كموشيّ البرود يشقّها (6) ... جداوله، فالنّور بالماء يشرق فمن نرجسٍ يخشى فراق فريقه ... ترى الدمع في أجفانه يترقرق

_ (1) الفوات: مصفى مصفق. (2) الفوات: فكلنا نخب ... ونعنق. (3) في ج ق ودوزي: جلا، والتصويب عن الفوات. (4) الفوات: المرموق. (5) الفوات: مونق. (6) في المطبوع: كوشي للبرود؛ وفي الفوات: رياض كوشي البرد تزهو بحسنها.

ومن كلّ ريحانٍ مقيمٍ وزائرٍ ... يصافح ريّاه الرياض (1) فتعبق كأن قدود السّرو فيه موائساً ... قدود عذارى ميلها مترفق إذا ما تدلّت للشّقائق صدّها ... عيونٌ من النّور المفتّح ترمق وقصرٌ يكلّ الطرف عنه كأنّه ... إلى النّسر نسرٌ في السّماء معلّق وكم جدولٍ جارٍ يطارد جدولاً ... وكم جوسقٍ عالٍ يوازيه جوسق وكم بركةٍ فيها تضاحك بركةً ... وكم قسطلٍ للماء فيه تدفّق (2) وكم منزلٍ يعشي العيون كأنّما ... تألّق فيها بارقٌ يتألّق وفي الربوة الفيحاء (3) للقلب جاذبٌ ... وللهمّ مسلاةٌ وللعين مرمق عروسٌ جلاها الدهر فوق منصّةٍ ... من الدهر والأبصار ترمي وترمق فهام بها الوادي ففاضت عيونه ... فكلّ قرارٍ منه بالدمع يشرق تكفّل من دون الجداول شربها ... يزيد يصفّيه لها ويروّق وقال أبو تمام في دمشق (4) : لولا حدائقها وأنّي لا أرى ... عرشاً هناك ظننتها بلقيسا وأرى الزّمان غدا عليك بوجهه ... جذلان بسّاماً وكان عبوسا قد بوركت تلك البطون وقد سمت ... تلك الظهور وقدّست تقديسا وقال البحتري (5) : أمّا دمشق فقد أبدت محاسنها ... وقد وفى لك مطريها بما وعدا

_ (1) الفوات: تضاعف رياه الرياح. (2) الفوات: للماء في الماء يدفق. (3) الفوات: الشماء. (4) ديوان أبي تمام 2: 264. (5) ديوان البحتري 2: 710 والأبيات أيضا في تاريخ ددمشق 2: 171 ومعجم البلدان مادة " دمشق " والأعلاق الخطيرة (دمشق: 235) .

إذا أردت ملأت العين من بلدٍ ... مستحسنٍ وزمانٍ يشبه البلدا تمشي السّحاب على أجبالها فرقاً ... ويصبح النّور في صحرائها بددا فلست تبصر إلاّ واكفاً خضلاً ... أو يانعاً خضراً أو طائراً غردا كأنّما القيظ ولّى بعد جيئته ... أو الربيع دنا من بعد ما بعدا وفي دمشق يقول بعضهم: برزت دمشق لزائري أوطانها ... من كلّ ناحيةٍ بوجهٍ أزهر لو أن إنساناً تعمّد أن يرى ... مغنىً خلا من نزهةٍ لم يقدر وقال القيراطي في قصيدته التي أولها (1) : للصّبّ بعدك حالة لا تعجب ... لله ليلٌ كالنّهار قطعته ... بالوصل لا أخشى به ما يرهب وركبت منه إلى التصابي أدهماً ... من قبل أن يبدو لصبح أشهب أيام لا ماء الخدود يشوبه ... كدر العذار ولا عذاري أشيب كم في مجال اللهو لي من جولةٍ ... أضحت ترقّص بالسماع وتطرب وأقمت للندماء سوق خلاعةٍ ... تجبى المجون إليّ فيه وتجلب وذكرت في مغنى دمشقٍ معشراً ... أمّ الزمان بمثلهم لا تنجب لا يسأل القصّاد عن ناديهم ... لكن يدلّهم الثناء الطّيب قومٌ بحسن صفاتهم وفعالهم ... قد جاء يعتذر الزمان المذنب

_ (1) هو إبراهيم بن عبد الله الطائي برهان الدين القيراطي (781) ، شاعر قاهري جمع بين الفقه والأدب وتوفي بمكة، وله ديوان مطبوع سماه " مطلع النيرين " وأبياته في المقتطفات (الورقة: 27) وبعض أبياته في نزهة الأنام: 50 وحلبة الكميت: 277 (وترجمته في الدرر الكامنة 1: 31 وشذرات الذهب 6: 296) .

يا من لحرّان الفؤاد وطرفه ... بدمشق أدمعه غدت تتحلب أشتاق في وادي دمشق معهداً ... كلّ الجمال إلى حماه ينسب ما فيه إلا روضةٌ أو جوسقٌ ... أو جدولٌ أو بلبلٌ أو ربرب وكأنّ ذاك النهر فيه معصمٌ ... بيد النسيم منقّشٌ ومكتّب وإذا تكسر ماؤه أبصرته ... في الحال بين رياضه يتشعّب وشدت على العيدان ورقٌ أطربت ... بغنائها من غاب عنه المطرب فالورق تنشد والنسيم مشبّبٌ ... والنهر يسقي والحدائق تشرب وضياعها ضاع النسيم بها فكم ... أضحى له من بين روضٍ مطلب وحلت بقلبي من عساكر جنّةٍ ... فيها لأرباب الخلاعة ملعب ولكم رقصت على السماع بجنكها ... وغدا بربوتها اللسان يشبّب فمتى أزور معالماً أبوابها ... بسماحها كتب السّماح تبوّب وقال الصّفي الحلّي عند نزوله بدمشق مسمطاً لقصيدة السموأل بالحماسة (1) : قبيحٌ بمن ضاقت عن الرّزق أرضه ... وطول الفلا رحبٌ لديه وعرضه ... ولم يبل سربال الدجى فيه ركضه ... إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكلّ رداء يرتديه جميل إذا المرء لم يحجب عن العين نومها ... ويغل من النفس النفيسة سومها ... أضيع ولم تأمن معاليه لمها ... وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثّناء سبيل

_ (1) ديوان الصفي: 36، والمخمسة أيضاً في المقتطفات (الورقة: 24) .

رفعنا على هام السّماك محلّنا ... فلا ملكٌ إلاّ تغشّاه ظلّنا ... لقد هاب جيش الأكثرين أقلّنا ... ولا قلّ من كانت بقاياه مثلنا ... شبابٌ تسامى للعلا وكهولُ يوازي الجبال الراسيات وقارنا ... وتبنى على هام المجرّة دارنا ... ويأمن من صرف الزّمان جوارنا ... وما ضرّنا أنّا قليلٌ وجارنا ... عزيزٌ وجار الأكثرين ذليل ولمّا حللنا الشام تمّت أموره ... لنا وحبانا ملكه ووزيره ... وبالنّيرب الأعلى الذي عزّ طوره ... لنا جبلٌ يحتل من نجيره ... منيعٌ يردّ الطرف وهو كليل يريك الثريا من خلال شعابه ... وتحدق شهب الأفق حول هضابه ... ويقصر خطو السّحب دون ارتكابه ... رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرعٌ لا ينال طويل وقصرٍ على الشقراء قد فاض نهره ... وفاق على فخر الكواكب فخره ... وقد شاع ما بين البريّة شكره ... هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره ... يعزّ على من رامه ويطول

إذا ما غضبنا في رضا المجد غضبةً ... لندرك ثأراً أو لنبلغ رتبةً ... نزيد غدة الكرّ في الموت رغبةً ... وإنا لقومٌ لا نرى الموت سبّةً ... إذا ما رأته عامرٌ وسلول وكتب الشيخ محب الدين الحموي في ترجمة الشيخ (1) إسماعيل النابلسي شيخ الإسلام من مصر (2) : لواء التّهاني بالمسرّة يخفق ... وشمس المعالي في سما الفضل تشرق وسعدٌ وإقبالٌ ومجدٌ مخيّمٌ ... وأيّام عزّ بالوفا تتخلّق فيا أيّها المولى الذي جلّ قدره ... ويا أيّها الحبر اللبيب المدقّق أرى الشام مذ فارقتها زال نورها ... وثوب بهاها والنّضارة يخلق إذا غاب عنها غب عنها جمالها ... ونفسٌ بدون الروح لا تتحقّق وإن عدت فيها عاد كمالها ... وصار عليها من بهائك رونق فيا ساكني وادي دمشق مزاركم ... بعيدٌ وباب الوصل دوني مغلّق وليس على هذا النوى لي طاقةٌ ... فهل من قيود البين والبعد أطلق وإني إلى أخباركم متشوّفٌ ... وإني إلى لقياكم متشوّق أودّ إذا هبّ النسيم لنحوكم ... بأنّي في أذياله أتعلّق وأصبو لذكراكم إذا هبّت الصّبا ... لعلّي من أخباركم أتنشق

_ (1) ق: ترجمة للشيخ، وسقطت " في " من ق ج. (2) هو إسماعيل بن أحمد ابن الحاج إبراهيم النابلسي (937 - 993) شيخ الإسلام، وصاحب الفتاوي وصدر دمشق في عصره (انظر ترجمته في الكواكب السائرة 3: 130) . وأما محب الدين الحموي فهو محمد بن تقي الدين أبي بكر ابن داود بن عبد الرحمن بن عبد الخالق المحبي (951 - 1061) ، وهو صاحب تنزيل الآيات على الشواهد من الأبيات المعروف بشواهد الكشاف وغيره من المؤلفات (خلاصة الأثر 3: 322) .

ولي أنّةٌ أودت بجسمي ولوعةٌ ... ونار جوىً من حرّها أتفلّق فحنّوا على المضنى الذي ثوب صبره ... إذا مسّه ذيل الهوى يتمزّق غريبٌ بأقصى مصر أضحت دياره ... ولكنّ قلبي بالشآم معلّق وقد نسخ التبريح جسمي فهل إلى ... غبار ثرى أعتاب وصلٍ يحقّق فيا ليت شعري هل أفوز بروضةٍ ... وفيها عيون النرجس الغضّ تحدّق وأنظر واديها وآوي لربوةٍ ... وماءٍ معينٍ حولها يتدفّق ويحلو لي العيش الذي مرّ صفوه ... وهل عائدٌ ذاك النعيم المروّق وأنظر ذاك الجامع الفرد مرّةً ... وفي صحنه تلك الحلاوة تشرق وأصحابنا فيه نجومٌ زواهرٌ ... ونور محيّا وجههم يتألّق فلا برحوا في نعمةٍ وسعادةٍ ... وعزّ ومجدٍ شأوه ليس يلحق وقال ابن عنين (1) : ماذا على طيف الأحبّة لو سرى ... وعليهم لو ساعدوني (2) بالكرى جنحوا إلى قول الوشاة وأعرضوا ... والله يعلم أنّ ذلك مفترى يا معرضاً عنّي بغير جنايةٍ ... إلا لما نقل العذول (3) وزوّرا هبني أسأت كما تقول وتفتري ... وأتيت في حبّيك شيئاً منكرا ما بعد بعدك والصدود عقوبةٌ ... يا هاجري ما آن لي أن تغفرا لا تجمعنّ عليّ عتبك والنّوى ... حسب المحبّ عقوبةً أن يهجرا عبء الصدود أخفّ من عبء النّوى ... لو كان لي في الحبّ أن أتخيّرا فسقى دمشق ووادييها والحمى ... متواصل الأرهام (4) منفصم العرى

_ (1) ديوان ابن عنين: 3 وهي في مدح الملك العادل بن أيوب. (2) الديوان: سامحوني. (3) الديوان: رقش الحسود. (4) الديوان: الأرعاد.

حتى ترى وجه الرياض بعارضٍ ... أحوى وفود الدّوح أزهر نيّرا تلك المنازل لا ملاعب عالجٍ ... ورمال كاظمةٍ ولا وادي القرى أرضٌ إذا مرّت بها ريح الصّبا ... حملت على الأغصان مسكاً أذفرا فارقتها لا عن رضاً وهجرتها ... لا عن قلىً ورحلت لا متخيّرا أسعى لرزقٍ في البلاد مشتّتٍ ... ومن العجائب (1) أن يكون مقتّرا [تعريف بابن عنين] وابن عنين المذكور كان هجّاء، وهو صاحب مقراض الأعراض تجاوز الله تعالى عنه، فمن ذلك قوله (2) : أرح من نزح ماء البئر يوماً ... فقد أفضى إلى تعبٍ وعيّ مر القاضي بوضع يديه فيه ... وقد أضحى كرأس الدّولعيّ يعني أقرع؛ وسبب قوله البيتين أن المعظّم أمر بنزح ماء بقلعة دمشق، فأعياهم ذلك. ومن هجوه قوله (3) : شكا شعري إليّ وقال تهجو ... بمثلي عرض ذا الكلب اللئيم فقلت له تسلّ فربّ نجمٍ ... هوى في إثر شيطانٍ رجيم وقال فيمن خرج حاجّاً فسقط عن الهجين فتخلف: إذا ما ذمّ فعل النّوق يوماً ... فإنّي شاكرٌ فعل النياق

_ (1) الديوان: مفرق، ومن البلية. (2) ديوانه: 235. (3) وردت هذه المقطعات في ديوانه: 188، 227، 215، 235، 179، 69.

أراد الله بالحجّاج خيراً ... فثبّط عنهم أهل النفاق وقال: وراحلٍ سرت في ركبٍ أودعه ... تبارك الله ما أحلى تلاجينا (1) جئنا إلى بابه لاجين نسأله ... فليتنا عاقنا موتٌ ولا جينا راجين نسأل ميتاً لا حراك به ... مثل النصارى إلى الأصنام لاجينا وقال: وصلت منك رقعةٌ أسأمتني ... صيّرت صبري الجميل قليلا كنهار المصيف حرّاً وكرباً ... وكليل الشتاء برداً وطولا وأول " مقراض الأعراض " قوله: أضالعٌ تنطوي على كرب ... ومقلةٌ مستهلّة الغرب شوقاً إلى ساكني دمشق فلا ... عدت رباها مواطر السّحب مواطنٌ ما دعا توطّنها ... إلا ولبّى نداءها لبّي ثمّ ذكر من الهجو ما تصمّ عنه الآذان. وهو القائل في دمشق: ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً ... وظلّك يا مقرى عليّ ظليل وهل أرينّي بعدما شطّت النوى ... ولي في ذرا روضٍ هناك مقيل ومنها: دمشق بنا شوقٌ إليك مبرّحٌ ... وإن لجّ واشٍ أو ألحّ عذول

_ (1) الديوان: ما أشقى المساكينا.

بلادٌ بها الحصباء درٌّ، وتربها ... عبيرٌ، وأنفاس الشّمال شمول تسلسل فيها ماؤها وهو مطلقٌ ... وصحّ نسيم الروض وهو عليل وقد تقدم التمثيل بهذه الأبيات الثلاثة في خطبة هذا الكتاب. ومن هذه القصيدة: وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأيّ ظهير الدين فيّ جميل من القوم أمّا أحنفٌ فمسفّهٌ ... لديهم، وأمّا حاتمٌ فبخيل فتى المجد أما جاره فممنّعٌ ... عزيزٌ، وأمّا ضدّه فذليل وأمّا عطايا كفّه فمباحةٌ ... حلالٌ (1) ، وأمّا ظلّه فظليل وظهير الدين الممدوح هو طغتكين بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين، وكان ملك اليمن، وأحسن إلى ابن عنين إحساناً كثيراً وافراً، وخرج ابن عنين من اليمن بمال جم، وطغتكين: بضم الطاء المهملة، وبعدها غين معجمة، ثم تاء مثناة من فوقها مكسورة، ثم كاف مكسورة أيضاً، ثم ياء تحتية، ثم نون، وكان يلقب بالملك العزيز، ولذلك قال ابن عنين لما رجع من عنده إلى مصر أيام العزيز عثمان بن صلاح الدين فألزم أرباب الديوان ابن عنين بدفع الزكاة من المتاجر التي وصلت صحبته (2) : ما كلّ من يتسمّى بالعزيز له ... أهلٌ وما كلّ برقٍ سحبه غدقه بين العزيزين بونٌ في فعالهما ... هذاك يعطي وهذا يأخذ الصّدقه ومن هجو ابن عنين قوله في فقيهين يلقّب أحدهما بالبغل والآخر بالجاموس (3) :

_ (1) الديوان: فسوابع عذاب. (2) ديوانه: 223. (3) ديوانه: 205.

البغل والجاموس في حاليهما ... قد أصبحا مثلاً لكلّ مناظر قعدا (1) عشيّة يومنا فتناظرا ... هذا بقرنيه وذا بالحافر ما أحكما غير الصياح كأنّما ... لقنا جدال المرتضى بن عساكر جلفان ما لهما شبيهٌ ثالثٌ ... إلا رقاعة مذلويه الشاعر لفظٌ طويلٌ تحت معنىً قاصرٍ ... كالعقل في عبد اللطيف الناظر رجع إلى دمشق: وقال العز الموصلي: إليك حياض حمّامات مصرٍ ... ولا تتكثّري عندي بمين حياض الشام أحلى منك ماء ... وأطهر وهي دون القلّتين وهذان البيتان جوابٌ منه عن قول ابن نباتة (2) : أحواض (3) حمّام الشآ ... م ألا اسمعي لي كلمتين لا تذكري أحواض مص ... ر فأنت دون القلّتين وأمّا قول النّواجي سامحه الله تعالى: مصر قالت: يا دمشق لا ... تفتخر قطّ باسمها لو رأت قوس روضتي ... منه راحت بسهمها فهو من باب تفضيل الوطن من حبه، ومنه قول الوداعي: روّ بمصرٍ وبسكّانها ... شوقي وجدّد عهدي الخالي

_ (1) الديوان: برزا. (2) ديوان ابن نباتة: 537، ومطالع البدور 2: 12. (3) الديوان: أجران.

وازور لنا يا سعد عن نيلها ... حديث صفوان بن عسّال فهو مرادي لا " يزيدٌ " ولا ... ثور وإن رقّا ورقّا لي ومن ذلك النمط قول الشهاب الحجازي: قالوا دمشقٌ قد زهت لزهرها ... فامض وشاهد جوزها لوزها فقلت لا أبدل بلدتي بها ... ولست أرضى زهرها ولو زها (1) وقول الآخر: قد قال وادي جلّقٍ للنيل إذ ... كسروه أعين جبهتي لك ترفع فأجاب بحر النيل لمّا أن طغى ... عندي مقابل كلّ عينٍ إصبع وقد تذكرت هنا قول بعضهم: ماذا يفيد المعنّى ... من الأذى المتتابع بمصر ذات الأيادي ... ونيلها ذي الأصابع وقد شاع الخلاف قديماً وحديثاً في المفاضلة بين مصر والشام، وقد قال بعضهم: في حلبٍ وشامنا ... ومصر طال اللّغط فقلت قول منصفٍ ... خر الأمور الوسط

_ (1) زاد في التجارية بعد هذا البيت: وقول الخفاجي قاضي مصر، وإن لم يكن في دمشق لكن في السياق في النظم: قد فتن العاشقين حين بدا ... بطلعة كالهلال أبرزها طر له شارب على شفة ... كالورد في الآس حين طرزها وهذا ساقط من ق ج ودوزي.

[شعر في ذم دمشق] وأمّا قول بعضهم: تجنّب دمشق ولا تأتها ... وإن راقك الجامع الجامع فسوق الفسوق بها قائمٌ ... وفجر الفجور بها طالع فلا يلتفت إليه، ولا يعوّل عليه، إذ هو مجرّد دعوى خالية عن الدليل، وهي من نزعات بعض الهجائين الذين يعمدون إلى تقبيح الحسن الجميل [الجليل] : وما زالت الأشراف تهجى وتمدح ... ولا يقابل ألف مثنٍ عدل بفاسق يقدح: وفي تعبٍ من يحسد الشمس نورها ... ويأمل أن يأتي لها بضريب وأخفّ من هذا قول بعض الأندلسيين، وهو الكاتب أبو بكر محمد بن قاسم: دمشقٌ جنّة الدّنيا حقيقاً ... ولكن ليس تصلح للغريب بها قومٌ لهم عددٌ ومجدٌ ... وصحبتهم تؤول إلى الحروب ترى أنهارهم ذات ابتسامٍ ... وأوجههم تولّع بالقطوب أقمت بدارهم ستّين يوماً ... فلم أظفر بها بفتىً أديب والجواب واحد، ولا يضر الحقّ الثابت إنكار الجاحد، وأخفّ من الجميع قول العارف بالله تعالى سيّدي عمر بن الفارض رضي الله تعالى عنه: جلّقٌ جنّة من تاه وباهى ... ورباها أربي لولا وباها قال غالٍ: بردى كوثرها ... قلت: غالٍ برداها برداها

وطني مصر وفيها وطري ... ولنفسي مشتهاها مشتهاها ولعيني غيرها إن سكنت ... يا خليليّ سلاها ما سلاها وأخفّ منه قول ابن عبد الظاهر: لا تلوموا دمشق إن جئتموها ... فهي قد أوضحت لكم ما لديها إنّها في الوجوه تضحك بالزّه ... ر لمن جاء في الربيع إليها وتراها بالثلج تبصق في لح ... ية من مرّ في الشتاء عليها وقول ابن نباتة وهو بالشام يتشوّق إلى المقياس والنيل (1) : أرقٌ له بالشام نيل مدامعٍ ... يجريه ذكر منازل المقياس سقياً لمصر منازلاً معمورةً ... بنجوم أفقٍ أو ظباء كناس وطني سهرت له وشابت لمّتي ... ونعم على عيني هواه وراسي من لي به والحال ليس بآيسٍ ... كدرس وعطف الدهر ليس بقاسي والطرف يستجلي غزالاً آنساً ... بالنيل لم يعتد على باناس رجع إلى مدح دمشق: وقال الناصر داود بن المعظم عيسى (2) : إذا عاينت عيناي أعلام جلّقٍ ... وبان من القصر المشيد قبابه تيقّنت أنّ البين قد بان والنوى ... نأى شخصه والعيش عاد شبابه

_ (1) ديوان ابن نباتة: 264 - 265. (2) هو صاحب الكرك (603 - 656) ، تغلب على الشام بعد موت عمه الكامل محمد، ووقعت له أحداث كثيرة منثورة في كتب التاريخ كالنجوم الزاهرة ومرآة الزمان وغيرهما؛ (انظر ترجمته في الفوات 1: 382 والنجوم 7: 61 والشذرات 5: 275) وله قطعة صالحة من شعر ونثر في المقتطفات (الورقة: 62 وما بعدها) ؛ وهذان البيتان في النجوم والفوات والمقتطفات.

وقوله أيضاً رحمه الله تعالى: يا راكباً من أعالي الشّام يجذبه ... إلى العراقين إدلاجٌ وإسحار حدّثتني عن ربوعٍ طالما قضيت ... للنفس فيها لباناتٌ وأوطار لدى رياضٍ سقاها المزن ديمته ... وزانها زهرٌ غضٌّ ونوّار شحّ الندى أن يسقّيها مجاجته ... فجادها مفعم الشؤبوب مدرار بكت عليها الغوادي وهي ضاحكةٌ ... وراحت الريح فيها وهي معطار يا حسنها حين زانتها جواسقها ... وأينعت في أعالي الدوح أثمار فهي السماء اخضراراً في جوانبها ... كواكبٌ زهرٌ تبدو وأقمار حدّثتني وأنا الظامي إلى نبإٍ ... لا فضّ فوك فمنّي الريّ تمتار فهو الزلال الذي طابت مشاربه ... وفارقته عثاءاتٌ وأكدار كرّر على نازحٍ شطّ المزار به ... حديثك العذب لا شطّت بك الدار وعلّل النفس عنهم بالحديث بهم ... إنّ الحديث عن الأحباب أسمار وهذا الملك الناصر له ترجمة كبيرة، وهو ممّن أدركته الحرفة الأدبية، ومنع حقّه بالحمية والعصبية، وأنكرت حقوقه، وأظهر عقوقه، حتى قضى نحبه، ولقي ربّه. وقال سيف الدين المشد رحمه الله تعالى (1) : بشرى لأهل الهوى عاشوا به سعدا ... وإن يموتوا فهم من جملة الشهدا

_ (1) هو علي بن عمر بن قزل بن جلدك التركماني (602 - 656) وهو نسيب جمال الدين بن يغمور الذي اتصل به ابن سعيد؛ وكان يتولى شد الدواوين (أي كان رفيقاً للوزير متحدثاً في استخلاص الأموال وما في معنى ذلك) وكان ظريفاً طيب العشرة (انظر ترجمته في الفوات 2: 182 والنجوم الزاهرة 7: 64) .

شعارهم رقّة الشكوى ومذهبهم ... أنّ الضلالة فيهم في الغرام هدى عيونهم في ظلام الليل ساهرةٌ ... عبرى وأنفاسهم تحت الدّجى صعدا تجرّعوا كأس خمر الحبّ مترعةً ... ظلّوا سكارى وظنّوا غيّهم رشدا وعاسل القدّ معسولٍ مقبّله ... كالغصن لما انثنى والبدر حين بدا رقيم عارضه كهفٌ لعاشقه ... يأوي إليه فكم في حبّه شهدا نادمته وثغور البرق باسمةٌ ... والغيث ينزل منحلاًّ ومنعقدا كأنّ جلّق حيّا الله ساكنها ... أهدت إلى الغور من أزهارها مددا فاسترسل الجود منهلاًّ " يزيد " على ... ثورا ويعقد محلول الندى بردا وقال أيضاً: فؤادي إلى بانات جلّق مائل ... ودمعي على أنهارها يتحدّر يرنّحني لوز ابن كلاّب مزهراً ... وتهتزّني أغصانه وهو مثمر وإنّي إلى زهر السفرجل شيّقٌ ... إذا ما بدا مثل الدراهم ينثر غياضٌ يفيض الماء في عرصاتها ... فتزهو جمالاً عند ذاك وتزهر ترى بردى فيها يجول كأنّه ... وحصباءه سيفٌ صقيلٌ مجوهر وبي أحورٌ لاح العذار بخدّه ... يسامح قلبي في هواه ويعذر يحاورني فيه على الصبر صاحبي ... وكيف أطيق الصبر والطرف أحور إذا اشتقت وادي النيربين لمحته ... فانظر معناه به وهو أنضر حوى الشرف الأعلى من الحسن خدّه ... على أنّ ميدان العوارض أخضر وما أحسن قوله رحمه الله تعالى: وادٍ به أهل الحبيب نزول ... حيّا معاهده الحيا والنّيل وادٍ يفوح المسك من جنباته ... ويصحّ فيه للنسيم عليل يشتاقه ويودٌ لثم ترابه ... شوقاً ولكن ما إليه سبيل

متقلقل الأحشاء ملوب الكرى ... طلق الدموع فؤاده متبول يصبوا إلى الأثلات من وادي الغضى ... وحينّ إن خطرت هناك شمول قالوا تبدّل، قلت يا أهل الهوى ... والنّاس فيهم عاذرٌ وجهول هل بعد قطع الأربعين مسافةٌ ... للعمر فيها يحسن التبديل ولقد هفا بي في دمشق مهفهفٌ ... يسبي العقول رضابه المعسول يهتزّ إن مرّ النّسيم بقدّه ... ويميل بي نحو الصّبا فأميل أبدى لنا برداً تبسّم ثغره ... وإذا انثنى فقوامه المجدول لزم التسلسل مدمعي وعذاره ... فانظر إلى المهجات كيف تسيل وسقمت من سقم الجفون لأنّها ... هي علّةٌ وفؤادي المعلول لا تعجبوا إن راعني بذوائبٍ ... فالليل هولٌ والمحبّ ذليل ما صحّ لي أنّ الذؤابة حيّةٌ ... حتى سعت في الأرض وهي تجول وقال ناظر الجيش عون الدين بن العجمي (1) : يا سائقاً يقطع البيداء معتسفاً ... بضامرٍ لم يكن في سيره واني إن جزت بالشام شم تلك البروق ولا ... تعدل بلغت المنى عن ديرمرّان واقصد أعالي قلاليه فإنّ بها ... ما تشتهي النفس من حورٍ وولدان من كلّ بيضاء هيفاء القوام إذا ... ماست فواخجل (2) المرّان والبان وكلّ أسمر قد دان الجمال له ... وكمّل الحسن في فرط إحسان ورب صدغٍ بدا في خدّ مرسله ... في فترةٍ فتنت من سحر أجفان

_ (1) هو سليمان بن عبد المجيد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن عون الدين بن العجمي الكاتب (606 - 656) . خدم الملك الناصر داود، وكان كامل الرئاسة لطيف الشمائل (انظر ترجمته في الفوات 1: 358 ومعجم الألقاب 2/4: 977 وله ترجمة في الوافي والمنهل الصافي) . (2) الفوات: فيما خجلة.

فليت ريقته وردي ووجنته ... وردي ومن صدغه آسي وريحاني وعج على دير متّى ثمّ حيّ به ال ... ربّان بطرس فالربّان ربّاني فهمت منه إشاراتٍ فهمت بها ... وصنت منشورها في طيّ كتمان واعبر بدير حنينا وانتهز فرص ال ... لذّات ما بين قسيسٍ ومطران واستجل راحاً بها تحيا النفوس إذا ... دارت براح شماميسٍ ورهبان حمراء صفراء بعد المزج كم قذفت ... بشهبها من همومي كلّ شيطان كم رحت في الليل أسقيها وأشربها ... حتى انقضت ونديمي غير ندمان سألت توماس عمّن كان عاصرها ... أجاب رمزاً ولم يسمح بتبيان وقال: أخبرني شمعون ينقله ... عن ابن مريم عن موسى بن عمران بأنّها سفرت بالطّور مشرقةً ... أنوارها فكنوا عنها بنيران وهي المدام التي كان معتّقةً ... من عهد هرمس من قبل ابن كنعان وهي التي عبدتها فارسٌ فكنى ... عنها بشمس الضحى في قومه ماني سكرت منها فلا صحوٌ وجدت بها ... على الندامى وليس الشحّ من شاني وسوف أمنحها أهلاً وأنشده ... ما قيل فيها بترجيعٍ وألحان حتى تميل لها أعطافه طرباً ... وينثني الكون من أوصاف نشوان وهذه وإن لم تكن في دمشق على الخصوص فلا تخرج عمّا نحن بصدده، والأعمال بالنيات، وديباجة هذه القصيدة على نسج طائفة من الصوفية، وممن حاك هذه البرود الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى، قيل: إنّه الشيخ شعبان النحوي. وقال بعضهم: شوقي يزيد وقلب الصّب ما بردا ... وبان يأسي من المعشوق حين غدا

ومدمعي قنواتٌ، والعذول حكى ... ثورا، يلوم الفتى في عشقه حسدا على مغنّية بالجنك جاوبها ... شبّابةٌ كم بها من عاشقٍ سهدا فالبدر جبهتها، والردف ربوتها، ... وخلّها مات في خلخالها كمدا ولنذكر نبذة مما خوطبت به من علماء الشام وأدبائه حفظ الله تعالى كمالهم، وبلغ آمالهم. فمن ذلك قول شيخ الإسلام، مفتي الإنام، سيدي الشيخ عبد الرحمن العمادي الحنفي (1) حفظه الله تعالى، وكتبه لي بخطّه: شمس الهدى (2) أطلعها المغرب ... وطار عنقاء بها مغرب فأشرقت في الشام أنوارها ... وليتها في الدهر لا تغرب (3) أعني الإمام العالم المقّري ... أحمد يكتب أن يخطب شهاب علمٍ وثاقبٌ فضله ... ينظم عقداً وهو لا يثقب فرع علومٍ بالهدى مثمرٌ ... وروض فضلٍ بالندى معشب قد ارتدى ثوب علا وامتطى ... غارب مجدٍ فزها المركب درسٌ غريبٌ كلّ يومٍ له ... يملى ولكن حفظه أغرب محاضراتٌ مسكرٌ لفظها (4) ... بكأس سمعٍ راحها تشرب رياض آدابٍ سقاها الحيا ... ففاح مسكاً نشرها الأطيب فضائلٌ عمّت وطمّت فقد ... قصّر فيها كلّ من يطنب قلوبنا قد جذبت نحوه ... والحبّ من عادته يجذب إن بعدت عن غربه شرقنا ... فالفضل فينا نسبٌ أقرب

_ (1) قد مر التعريف بعبد الرحمن العمادي، انظر 1: 62. (2) ج: شمس هدى. (3) سقط البيت من ج. (4) ج: نطقها.

كم طلبت تشريفه (1) شامنا ... بشرى لها فليهنها المطلب قد سبقت لي معه صحبةٌ ... في حرمٍ يؤمن من يرهب أخوّةٌ في الله من زمزمٍ ... رضاعها طاب لها المشرب أنهلني ثمّ وداداً فلي ... بالشام منه عللٌ أعذب أهديت ذا النظم امتثالاً له ... وقد هجرت الشعر مذ أحقب نشّط قلبي لطفه فانثنى ... والقلب في أهل الهوى قلّب ضاء دجى العلم به للورى ... ما نار في جنح الدجى كوكب تحيّة الفقير الداعي، عبد الرحمن العمادي، انتهى. فأجبته بما نصّه: ما تبر راحً كأسها مذهب ... ما للنّهى عن حسنها مذهب تستدفع الأكدار من صفوها ... وتنهل الأفراح أو تنهب تسعى بها هيفاء من ثغرها ... أو شعرها النّور أو الغيهب فتّانة الأعطاف نفّاثةٌ ... سحراً بألباب الورى يلعب في روضةٍ قد كلّلت بالنّدى ... والزهر رأس الغصن إذ يعصب برودها بالنّور قد نمنمت ... كالوشي من صنعاء بل أعجب والماء يجري تحت جنّانها ... والنّار من نارنجها تلهب والظّلّ ضافٍ والنّسيم انبرى ... والجوّ ذاكي العرف مستعذب والطير للعشّاق بالعود قد ... غنّت فهاجت شوق من يطرب أبهى ولا أبهج في منظرٍ ... من نظم من تقديمه الأصوب مفتي دمشق الشام صدر الورى ... من في العلا تمّ به المطلب علاّمة الدهر ولا مريةٌ ... ملجأ الفضل ولا مهرب

_ (1) ج: تشريقه.

لله ما امتاز به من حلىً ... بغير منّ الله لا تكسب أبدى بها الرحمن في عبده ... مظاهر المنح التي تحسب جودٌ بلا منٍّ وعلمٌ بلا ... دعوى به التحقيق يستجلب وبيت مجدٍ مسندٌ ركنه ... إلى عمادٍ الدين إذ ينسب فبرقه الشاميّ من شامه ... نال مراماً والسّوى خلّب وما عسى أبديه في مدحه ... أو وصف أبناء له أنجبوا تسابقوا للمجد حتى حووا ... سبقاً لما في مثله يرغب أعيذهم بالله من شرّ ما ... يخشى من الأغيار أو يرهب وأسأل الله لهم عزّةً ... بادية الأضواء لا تحجب ولمّا حللت دمشق المحروسة، وطلبت موضعاً للسكنى يكون قريباً من الجامع الأموي الذي يعجز البليغ وصفه وإن ملأ طروسه، أرسل إلي أديب الشام فرد الموالي المدرسين ساحب أذيال الفخار (1) المولى أحمد الشاهيني (2) حفظه الله تعالى بمفتاح المدرسة الجقمقية، وكتب لي معه ما نصّه (3) : كنف المقّريّ شيخي (4) مقرّي ... وإليه من الزمان مفرّي كنفٌ مثل صدره في اتّساعٍ ... وعلومٍ كالدّرّ (5) في ضمن بحر أيّ بدرٍ قد أطلع الغرب منه ... ملأ الشرق نوره أيّ بدر أحمدٌ سيدي وشيخي وذخري ... وسميّي وفوق ذاك وفخري (6)

_ (1) ج: الفخر. (2) قد مر التعريف بأحمد الشاهيني، انظر 1: 64. (3) الأبيات في خلاصة الأثر 1: 304. (4) ج ق: شيخ مقري. (5) خلاصة الأثر: كالبحر. (6) خلاصة الأثر: وسميي وذاك أشرف فخري.

لو بغير الأقدام يسعى مشوقٌ ... جئته زائراً على وجه شكري العبد الحقير السمتعين، المخلص أحمد بن شاهين، انتهى. فأجبته بقولي (1) : أيّ نظمٍ في حسنه حار فكري ... وتحلّى بدرّه صدر ذكري طائر الصّيت لابن شاهين ينمى ... من بروض الندى له خير وكر أحمد الممتطين ذروة مجدٍ ... لعوانٍ من المعالي وبكر حلّ مفتاح فضله باب وصلٍ ... من معان تعريفه دون نكر يا بديع الزمان دم في ازديانٍ ... بالعلا وازدياد تجنيس شكر وكتب إليّ لما وقف علىكتابي فتح المتعال في مدح النعال بما نصّه: لكاتبه الحقير أحمد بن شاهين الشامي في تقريظ تأليف سيّدي ومولاي وقبلتي ومعتقدي شيخ الدّنيا والدين، وبركة الإسلام والمسلمين، حفظ الله تعالى وجوده آمين: أأحمد، فخراً يا ابن شاهين سامياً ... بأحمد ذاك المقّري المسدّد بمن راح خدّاماً لنعل محمدٍ ... وناهيك في العليا بأرفع سؤدد فإن أنا أخدم نعله فلطالما ... غدا خادماً نعل النبيّ الممجّد بتأليفه في وصف نعلٍ تكرّمت ... كتاباً حوى إجلال كلّ موحّد ويكفيك فخراً يا ابن شاهين أن ترى ... خدوماً لخدّامٍ لنعل محمّد فقلت له طوبى بخدمة أحمدٍ ... فقال كذا طوبى بخدمة أحمد فلا زال يرقى للمعالي مكرّماً ... وينتعل العيّوق في رغم فرقد فأجبته بقولي:

_ (1) انظر الأبيات في خلاصة الأثر 1: 305.

أأحمد وصفٍ بالعوارف يرتدي ... وأشرف مولى للمعارف يهتدي نجومك إذ أنت الخليل توقّدت ... فأنّى أجاريها بنحو المبرّد أتاني نظامٌ منك حيّر فكرتي ... على أنّه أعلى مرامي ومقصدي فأنت ابن شاهين الذي طار صيته ... بجوّ (1) العلا والضدّ ضلّ بفرقد فبرّك موصولٌ وشانيك منكرٌ ... وقدرك مرفوعٌ على رغم حسّد وعند حديث الفضل أسند عالياً ... بشامٍ فهم يروون مسند أحمد فوجهك عن بشرٍ ويمناك عن عطاً ... وفكرك يروي في الهدى عن مسدّد فلا زلت ترقى أوج سعدٍ ورفعةٍ ... ودمت بتوفيقٍ وعزٍّ مخلّد ولما خاطبته بقولي: يصيد ابن شاهينٍ بجوّ بلاغةٍ ... سوانح في وكر البدائع تفرخ وما كان ديك الجنّ مدرك نيلها ... إذا صرصر البازي فلا ديك يصرخ ولو جاد فكر البحتري بمثلها ... لكان على الطّائي بالأنف يشمخ ولو أنّ نظم ابن الحسين أتيحها ... لفاز بسبقٍ حكمه ليس ينسخ فلا زال ملحوظاً بعين عنايةٍ ... وكتب التّهاني عن علاه تؤرخ أجابني بما نصّه: أأنفاس عيسى ما بروعي ينفخ ... أم الطرس أضحى بالعبير يضمّخ وهذي قوافٍ أم هي الشمس إنّني ... أراها على الجوزاء بالأنف تشمخ بلى هي نصٌّ من ودادك محكمٌ ... تزول الرواسي وهي لم تك تنسخ أتتني بمدحٍ مخجلٍ فكأنّها ... لفرط حيائي قد أتتني توبّخ وهل أنا إلاّ خادمٌ نعل سيّدي ... وبيني وبين المدح في الحقّ برزخ

_ (1) ق: بحق.

وما هي إلا غرّةٌ حزت فخرها ... وإنّي بها بادي المحاسن أشدخ (1) فلا درّ درّي وانحرفت عن العلا ... إذا كان ودّي عن معاليك يفسخ وحبّك مهما طال شرقاً ومغرباً ... بوكر ابن شاهين الوفيّ يفرّخ وإنّي وإن أرّخت مجداً لماجدٍ ... فإنّي باسم المقّريّ أؤرّخ سميّي ومولاي الذي راح مدحه ... لرأس الأعادي بالمعاريض يرضخ ودم يا نظير البدر ترقى بأوجه ... ولا زلت في طرفي وقلبي ترسخ وكنت يوماً أروم الصعود لموضعٍ عالٍ فوقعت، وانفكّت رجلي، وألمت، فكتب إلي: لا ألمت رجلك يا سيّدي ... وصانها الله من الشّين ما هي إلا قدمٌ للعلا ... لا احتاج ذاك النّصل للقين زانت دمشق الشام في حلّها ... فلا رأت فيها سوى الزّين بانت عن الأهل لتشريفنا ... لا جمعت أيناً إلى بين عجبت من راسخةٍ في العلا ... والعلم إذ زاغت من العين إنّي أعاف المين بين الورى ... ولست والله أخا مين للمقّريّ المجتبى أحمدٍ ... دين الهوى والمدح كالدّين وأحمد الله على أنّني ... رأيته حاز الفريقين فلا أراه الله في عمره ... بيناً يؤدّيه إلى أين تعويداّ لمحب العبد الحقير الداعي أحمد بن شاهين، انتهى. وأهديت إليه حفظه الله تعالى سبحة وخاتماً، وكتبت إليه (2) : يا نجل شاهين الذي ... أحيا المعالي والمعالم

_ (1) ج: أشرخ؛ ق: أسرخ؛ والأشدخ: السائل الغرة. (2) انظر خلاصة الأثر 1: 306.

يا من به ريشت من ال ... مجد الخوافي والقوادم يا من دمشق بطيب ما ... يبديه عاطرة النّواسم فالنهر منها ذو صفاً ... والزهر مفترّ المباسم (1) والغصن يثني عطفه ... طرباً لتغريد الحمائم يا أحمد الأوصاف يا ... من حاز أنواع المكارم أنت الذي طوّقتني ... منناً لها تعنو الأعاظم فمتى أؤدي شكرها ... والعجز لي وصفٌ ملازم والعذر بادٍ إن بعث ... ت إليك من جنس الرتائم بنتيجة (2) الذكر التي ... جاءت بتصحيفٍ ملائم وبحائمٍ صادٍ (3) إلى ... فيض النّدى من كفّ حاتم فامدد على جهد المق ... ل رواق صفحٍ ذا دعائم واقبل عقيلة فكر من ... هو في بحار العيّ عائم لا زلت سابق غايةٍ ... بين الأعارب والأعاجم فأجابني بما صورته (4) : يا سيّداً شعري له ... ما إن يقاوي أو يقاوم كلاً، ولا قدري له ... يوماً يساوي أو يساوم يا من رأيت عطارداً ... منه بدا في شخص عالم يا من بنفحة خلقه ... وبنظمه السامي الملائم أضحى يريني معجزي ... ن من النواسم والمباسم

_ (1) ج: البواسم؛ ق: المناسم. (2) خلاصة الأثر: تسبيحة. (3) خلاصة الأثر: وبخاتم داع. (4) انظر خلاصة الأثر 1: 307.

ما زلت أبصر منهما ... حسن النّعامى والنّعائم بهما زماني حاسداً ... أضحى وبالتنغيص حاسم قلمي وقلبي بين ها ... مٍ في الثّناء له وهائم حبّي لأحمد سيّدي ... شيخ الورى فرضٌ ملازم المقّريّ المعتلي ... شرف المعالي والمعالم ما لي إليه وسيلةٌ ... إلاّ هوىً في القلب دائم قد جاء ما شرّفتني ... بخصوصه دون الأعاظم من خاتمٍ كفّي به ... ورثت سليمان العزائم وجعلتني لا أحسب ال ... عيّوق لي في فصّ خاتم وبسبحةٍ شبّهتها ... بالشّهب في أسلاك ناظم فتحسد الجوزاء ما ... أحرزت من تلك المكارم هي آلةٌ للذكّر ل ... كن ليس ذكراً في الحيازم فهواك في قلبي وما ... في القلب جلّ عن الرّتائم ما ذي رتائم سيّدي ... بل إنّها عندي تمائم لو أنّها من جنس ما ... يطوى غدت فوق العمائم لكنّها قد زيّنت ... كفّي وأزرت بالخواتم يا من يريش إذا رمى ... نسر السماء بلحظ حازم إنّ ابن شاهينٍ حوى ... منك الخوافي والقوادم هذي نوافل يا إما ... م الدهر ليست باللّوازم العذر عنها مخجلٌ ... عبداً لنعلك جدّ خادم بل أنت فوق العذر قد ... أصبحت للشّعرى تنادم لا زال دهرك سيّدي ... يلقاك منه ثغر باسم يهدي إليك من المرا ... حم والمكارم والغنائم ما لا يساوم مثله ... ذو الحظّ في أسنى المواسم

العبد الحقير الداعي لأستاذه مولاي الأجلّ بالتمكين، أحمد بن شاهين، حامداً مصلياً مسلماً، اتنهى. وقال مستجيزاً: الشيخ يشرب ماءً ... ونحن نشرب قهوه فقلت: لأنّه ذو قصورٍ ... فغطّ بالعذر سهوه ولما أزمعت على العود إلى مصر أوائل شهر (1) شوّال سنة 1037 خاطبني بقوله - حفظه الله -: أبداً إليك تشوّقي وحنيني ... وإلى جنابك، ما علمت، سكوني ولديك قلبي لا يزال رهينةً ... غلقت وتعلم ذمّة المرهون وعليك قد حبست شوارد مدحتي ... لمّا رأيتك فوق كلّ قرين قلبي كقلبك في المحبّة والهوى ... إذ كان في الأشواق دينك ديني ولّيته بهواك أرفع رتبةٍ ... وغدوت تعزل عنه كلّ خدين وأطاع أمرك في الوداد فلو أشا ... منه وحاشا سلوةً يعصيني ما كنت أحسب قبل طبعك أن أرى ... يوماً عطارد ناطقاً بفنون حتى رأيتك فاستبنت بأنه ... يروي أحاديث العلا بشجون ويفيد سمعي معجزاً بهر النّهى ... ويري عيوني آية التكوين يا من غدا يحي القلوب بلفظه ... ويردّد الأنفاس عن جبرين أحييت بالوحي المبين قلوبنا ... وحيّ (2) ، لعمر الله، جدّ أمين

_ (1) شهر: سقطت من ج. (2) ج: وحلى؛ ق: وجلى.

هذي دمشق، لعمر خلقك، روضةٌ ... قد جاد طبعك دوحها بمعين قد زارها غيث النّدى فبهارها ... أضحى يلوح بحلّة النّسرين لو لم تكن بدراً لما أحرزت ما ... قد خصّ في الأنوار بالتلوين حقّقت ما قد قيل حين حللتها ... إنّ المكان مشرّفٌ بمكين هي غادةٌ حيّيتها فتزيّنت ... ما كان أحوجها إلى التزيين مولاي أحمد يا سليل بني العلا ... يا فوق مدحي فيك أو تحسيني أغنى وجودك وهو عين الدّين عن ... علاّمة الدّنيا لسان الدين انظره تستغني به عن غيره ... وإلى العيان ارغب عن المظنون تلقى علوم النّاس في أوراقهم ... وعلومه في صدره المشحون فبعلمه اعبر كلّ بحرٍ زاخرٍ ... وبفهمه اسبر غامض المخزون وبحلمه ارغب عن تحلّم أحنفٍ ... وبعزمه اصحب بأس ليث عرين لمّا رأيتك فاستقمت لقبلتي ... أدعو وأشكر واردات شؤوني ألفيت قطرك يمنتي فأفادني ... فضل اليمين على اليسار يقيني فسقى الحيا للمقّريّ أخي العلا ... بلداً بأقصى الغرب جدّ هتون بلداً تبيّنت الهلال بأفقه ... ورأيت منه قرّةً لعيوني لولا هلال الغرب نوّر شرقنا ... بتنا بليل الحدس والتخمين يا راحلاً رحل الفؤاد بعزمه ... رفقاً بقلبٍ للوفاء ضمين أستودع الله العظيم، وإنّني ... مستودعٌ منه أجلّ أمين إنّي أودّع يوم بينك مهجتي ... وشبيبتي وتصبري وسكوني وأعود من توديع وجهك عودةً ... خلطت يقيني في الهوى بظنون حتى كأنّي قد فقدت تمائماً ... تقضي عليّ بحالة المجنون وتودّ نفسي أنّها لو حرّمت ... أبداً سكوني للهوى وركوني أوشكت أقتل بين معترك الهوى ... نفسي ومعترك الهوى بيميني ولقد وددت بأنّني متحمّلٌ ... تلك الخطا بمحاجري وجفوني

كيف السبيل إلى الحياة ومهجتي ... في قبضة الأشواق كالمسجون ما أنت إلا البدر لاح بأفقنا ... شهراً وكان ضياؤه يهديني وإليكها يا شيخ دهري غادةً ... غنيت عن التحسين والتزيين جاءتك تعرض في الوداد كمالها ... وإذا لحظت جمالها يكفيني هي بنت لحظتك التي تؤوي النّهى ... لا بنت ليلتي التي تؤويني ما الفخر في دعوى البديهة عندها ... الفخر قولك إنّها ترضيني حسبي أبا العباس منك إصاخةٌ ... تقضي بموت عداي أو تحييني يا لهف نفسي كيف أبلغ مدحةً ... أضمرتها في سريّ المكنون فلسان حبّي بالغٌ أقصى المدى ... ولسان مدحي في القصور يليني ما الشعر يستوفي حقوقك لي ولو ... أهديت في نظمي عقود سنيني حلّقت أصطاد النجوم، وإنّها ... تزهى بعقدٍ في علاك ثمين فرأيت في العيّوق طبعك سيدي ... نسراً أسفّ لعجزه شاهيني قد خفّ شعري من قصور طبيعتي ... ولربّما قد كان جدّ ركين وإذا عجزت عن الفرائض جاهداً ... فادأب عساك تفوز بالمسنون هو قبلتي فلأغتدي متمسكاً ... منه بحبلٍ في النجاة متين واسلم فديتك زائراً ومشرّفاً ... أفدي مواطئ نعله بجبيني وكذاك عمري في هواك مقسّمٌ ... بين الدعاء الجدّ والتأمين وقال حفظه الله تعالى في ذلك: حنانيك إنّ الدمع بالودّ معرب ... وإنّي في شرقٍ وأنت مغرّب ورحماك بي إنّي قتيل صبابةٍ ... بمن هو أوفى في الفؤاد وأنجب ووعدك لي بالعود إنّي معلّلٌ ... به مهجةً قد أوشكت تتصوّب

وهبتك قلبي ما حييت ولم أقل ... ولكن من الأشياء ما ليس يوهب " (1) فلو كنت شيخاً واحداً هدّ صدّه ... فكيف بشيخٍ لم يكن مثله أب وإنّا بحمد الله لما خصصتنا ... بزورة ذي ودّ دعاه التحبّب فرشنا له منّا الخدود مواطئاً ... وعدنا به شوقاً نجيء ونذهب وقلنا دمشقٌ أنت فها محكّمٌ ... وأشرافها ودّوا وجدّوا ورحّبوا وأنت لها روحٌ ومولى ومفخرٌ ... وقد زنت شرقاً مثل ما ازدان مغرب وفخراً عظيماً يا ابن شاهين إنّه ... غدا وكرنا نسر السما فيه يرغب فنحن، ونحن الناس، خدّام نعله ... فلا غرو أن يقلي الغضنفر أكلب وما نقموا منه سوى أنّه امرؤ ... ليأكل فيما قدّروه ويشرب هو الشيخ شيخ الدهر أحمد من غدت ... دمشق ومن فيها بعلياه تخطب هو المقّريّ العالم العلم الذي ... إليه تناهى الفضل والمجد ينسب وما هو إلا الشمس أزمع رحلةً ... وإنّا لفي ليلٍ إذا هي تغرب أو الغيث قد وافى فأمرعت النّهى ... به وانثنى والصدر بالودّ معشب أو الطائر العنقاء جاء مشرّقاً ... فأغرب والعنقاء في الطير مغرب وإنّك للخلّ الوفيّ وإنّه ... هو الواحد المطلوب إن عزّ مطلب (2) وإنّك بالتحقيق في كلّ حالةٍ ... لأسنى وأندى ثمّ أوفى وأغرب رعى الله وجهاً رحت ترغب نحوه ... وأيّ أخي جدّ له أنت ترغب وحيّا الحيا أرضاً وطئت ترابها ... فأصبح مسكاً وهي بالمجد تخصب ولا فارقت يوماً علاك كلاءةٌ ... من الله أنّى كنت والله أغلب مدى الدهر ما حنّت جوانح والهٍ ... مشوقٍ فأمسى للحقيقة يطرب ولمّا قرأ عليّ - أدام الله تعالى عزته، وحرس حوزته - عقيدتي المسماة

_ (1) للمتنبي، وصدره: " ولو جاز أن يحروا علاك وهبتها ". (2) سقط البيت من ق.

ب " إضاءة الدجنّة " في عقائد أهل السنّة سألني أن أجيزه فيها وفي غيرها، فكتبت له بما نصّه: أحمد من أطار في جوّ العلا ... صيت ابن شاهين الذي زان الحلى وراش منه للمعالي أجنحه ... نال بها فضلاً غدا مستمنحه وأسكن البيان من أوكار ... أفهامه بقنّة الأفكار فاصطاد كلّ شاردٍ بمخلب ... أبحاثه ومن يعارض يغلب والصقر لا يقاس بالبغاث ... والحقّ ممتازٌ عن الأضغاث نشكر من بلّغه مناه ... على نواله الذي سنّاه وننتحي نهج صلاةٍ باديا ... لخير من جاء الأنام هاديا مبيّناً دلائل التوحيد ... وموضحاً طرائق التسديد محمدٍ خير البرايا المنتقى ... أجلّ من خاف الإله واتّقى صلّى عليه الله مع أصحابه ... وآله الراوين عن سحابه ما اعترف العبد الفقير ذو العدم ... للربّ باستغنائه وبالقدم وبعد، فالعلوم والعوارف ... من أمّها يأوي لظلّ وارف وروضةٍ أزهارها تضوّعت ... لأنّها أفنانها تنوّعت وليس يحتاط بها نبيل ... إذ ذاك أمرٌ ما له سبيل فليصرف القول إلى ما ينفعه ... دنياً وفي أوج الأجور يرفعه وإنّ في علم أصول الدين ... هدىً وخيراً جلّ عن تبيين لأنّه أصلٌ يعمّ النفع ... به وكلّ ما سواه فرع وكيف يعبد الإله من لا ... يعرفه وعن رشادٍ ضلاً فهو الذي لا تقبل الأعمال ... إلاّ به وتنجح الآمال وإنّني كنت نظمت فيه ... لطالبٍ عقيدةً تكفيه سمّيتها " إضاءة الدّجنّه " ... وقد رجوت أن تكون جنّه

وبعد أن أقرأتها بمصر ... ومكّة بعضاً من أهل العصر درّستها لمّا دخلت الشاما ... بجامعٍ في الحسن لا يسامى وكان في المجلس جمعٌ وافر ... من جلّةٍ بدورهم سوافر منهم فريد الدهر ذو المعالي ... فخر دمشق الطيّب الفعال أحمد من راح لعلمٍ واغتدى ... وشام أنواراً لفهمٍ فاهتدى العالم الصدر الأجلّ المولى ... من وصفه الممدوح يعيي القولا وهو ابن شاهين وما أدراكا ... من بذّ جنس العرب والأتراكا ورام من مثلي بحسن الظنّ ... إجازةً فيما رواه عنّي فحرت في أمرين قد تناقضا ... بالنفي والإثبات إذ تعارضا ترك الإجابة لوصفي بالخطل ... والخطا، والجيد مني ذو (1) عطل وكم فرائضٍ بعجزٍ تسقط ... فكيف غيرها وهذا أحوط أو فعلها بحسب الإمكان ... رعياً لودٍّ محكم الأركان منه وما له من الحقوق ... ولا يجازي البرّ بالعقوق وبعد ما مرّ من الترداد ... أسعفته بمقتضى الوداد وسرت في طرقٍ من التساهل ... معترفاً بالجهل لا التجاهل مع أنّه أهلٌ لأن يجيزا ... لا أن يجاز إذ حوى التبريزا ومن رأى عيبي بعينٍ للرّضا ... لم يقف نهج من غدا معترضا فليرو عنّي كلّ ما أسمعته ... إياه بالشرط وما جمعته مع القصور راجياً للأجر ... من الفنون نظمها والنثر كهذه القصيدة السّديده ... والنعل ذات المدح العديده كذاك ما ألفت في عمامه ... من خصّ بالإسراء والإمامه والفقه والحديث والنحو وفي ... أسرار وفقٍ وهو بالقصد وفي

_ (1) ق: والجيد من در.

وغيرها ممّا به الوهّاب منّ ... على فقيرٍ عاجزٍ في غير فنّ وما أخذت في بلاد المغرب ... عن كلّ فذّ في العلوم مغرب ولي أسانيدٌ إذا سردتها ... طالت وفي كتبي قد أوردتها وقد أخذت الجامع الصحيحا ... وغيره عمّن حوى الترجيحا عمّي سعيدٌ عن سفين وهو عن ... القلقشندي عن الواعي السنن العسقلاني الشهاب ابن حجر ... بما له من الروايات اشتهر وقد أجزته بكلّ مالي ... يصحّ من ذاك بلا احتمال على شروطٍ قرّروها كافيه ... ليست على أفكاره بخافيه وقال هذا المقّريّ الخطّا ... والعيّ عمّ لفظه والخطّا عام ثلاثين وألفٍ بعدها ... سبعٌ أتمّت في السنين عدّها وكان ذا في رمضان السامي ... بحضرة السّعد دمشق الشّام والله نرجو أن يتيح الختما ... بالخير كي نعطى القبول حتما بجاه خير العالمين أحمدا ... صلّى عليه الله ما طال المدى وآله وصحبه ومن زكا ... فنال من حسن الختام مدركا وتذكرت بهذه الإجازة نظيرتها التي سألني فيها مولانا عين الأعيان، مفتي الأنام في مذهب النعمان، مولانا الشيخ عبد الرحمن العمادي مفتي الشام - حفظه الله تعالى - لأولاده الثلاثة، وكتب لي أصغرهم سنّاً استدعاء لذلك: أحمد من شيّد بالإسناد ... بيت العلوم السامي العماد وعمّ من خصّص بالروايه ... بنورها النافي دجى الغوايه وزان صدر النّبها كلّ زمن ... بجوهر الإجازة الغالي الثّمن نحمده سبحانه أن عرّفا ... من الحديث ما به قد شرّفا ونسأل المزيد من صلاته ... لمن أتيح القصد من صلاته ملجؤنا المعصوم أعلى سند ... لنا برغم جاحدٍ مفنّد

كهف الضعيف والقويّ المرتجى ... باب الهدايات وليس مرتجا من جاءنا بالجامع الصحيح من ... كلامه الهادي إلى نهجٍ أمن من فضله ما شكّ فيه مسلم ... من حبّه بكلّ خيرٍ معلم نبيّنا المرسل ذو الخلق الحسن ... والمعجز المفحم أرباب اللّسن محمد المرفوع قدره على ... سائر خلق الله جلّ وعلا صلّى عليه ربّنا وسلّما ... أزكى صلاةٍ ننتحيها معلما مع آله وصحبه ومن روى ... آثاره عن صحّةٍ وما غوى وبعد فالعلم عظيم القدر ... وليس من يدري كمن لا يدري ولم تزل همّة أهل المجد ... منوطةً بنيل علمٍ مجدي ومنه علم السّنّة الشريفه ... لأنّه ظلاله وريفه فمن درى الأخبار والشّمائل ... لم يك عن صوب الهدى بمائل وكم سميدعٍ لأجله رفض ... أوطانه وثوب ترحال نفض وكيف لا وهو أجلّ ما طلب ... موفّقٌ يروم حسن المنقلب لأنّه وسيلة السّعاده ... والعزّ في الإبداء والإعاده وإنّني لمّا انتحيت المشرقا ... ميمّماً بدر اهتداءٍ مشرقا ألقيت في مصر عصا التسيار ... بعد بلوغي أشرف الدّيار وبعد ذا جئت دمشق الشام ... مسكن من يزدان باحتشام فشاهدت عيناي فيها ما ملا ... قلبي سروراً إذ بلغت المأملا مدينةٌ فيّاضة الأنهار ... فضفاضة الأثواب بالأزهار أرجاؤها زاكية العبير ... ومدحها يجلّ عن تعبير وجلّ أهليها بحبي دانوا ... مع أن مثلي منهم يزدان فلاحظوا بالأعين الكليله ... عبداً غدا تقصيره دليله وقابلوا المولى الكبير المعتبر ... قرّة عين من رآه واختبر خصوصاً المولى الكبير المعتبر ... قرة عين من رآه واختبر

مفتي الورى في مذهب النعمان ... بها الوجيه عابد الرحمن ابن عماد الدين من تعيي القلم ... أوصافه اللاتي كنورٍ في علم حاوي طراف المجد والتّلاد ... نال المنى في النفس والأولاد وكنت في مكّة قد أبصرت ... منه علاً عن مدحه قصرت جلالةً ومحتداً وعلماً ... ورفعةً وسؤدداً وحلما مع التواضع الذي قد زانه ... حسن اعتقادٍ مثقلٍ ميزانه فحثّ من في الشام من أخيار ... لم يسلكوا مناهج الأغيار أن يأخذوا بعض الفنون عني ... بما اقتضاه منه حسن الظنّ مع أنّني والله لست أهلا ... لذاك، والتصدير ليس سهلا وكان من جملتهم أبناؤه ... عماد دينٍ قد علا بناؤه وصنوه الشهاب من توقّدا ... فهماً وإبراهيم سبّاق المدى وهو الذي قد ابتغى الإجازه ... لهم بوعدٍ طالباً إنجازه وكتب القصيدة الطنّانه ... في ذاك لي مهتصراً أفنانه وإنّهم كحلقةٍ قد أفرغت ... دامت لهم آلاء فيضٍ سوّغت فلم أجد بدّاً من الإجابه ... مع كون جهلي سادلاً حجابه فقد أجزتهم بما رويته ... طرّاً، وما ارتجلت أو روّيته وكلّ ما صنفت في الفنون ... مؤمّل التحقيق للظنون وما أخذت عن شيوخ المغرب ... وغيرهم من كلّ حبرٍ مغرب ولي أسانيد يطول شرحها ... شيد على تقوى الإله صرحها ولو سردت كلّ مروياتي ... هنا لطال القول في الأبيات وكلّ طولٍ غالباً مملول ... وحدّ من يعنى به مقلول فلنقتصر إذن على القليل ... تبركاً بالمطلب الجليل وقد أخذت جامع البخاري ... عن عمّي الحائز للفخار المقّري سعيد الإمام عن ... محمد يدعى خروفاً حين عنّ

التونسيّ الطيّب الأنفاس ... نزيل حضرة الملوك فاس عن الكمال القادريّ المرتضى ... عن الحجازيّ عن الحبر الرضى نجل أبي المجد عن الحجاري ... عن الزبيديّ بنقلٍ جاري عن مسند الإسلام عبد الأوّل ... عن الشهير الداوديّ المعتلي عن السّرخسيّ عن الفربري ... عن البخاريّ الإمام الحبر وفضله أظهر من أن يذكر ... وعلمه المعروف غير المنكر ومسلمٍ به إلى الكمال ... عن علم الدين أخي الجلال منسوب بلقين عن التّنوخي ... عن ابن حمزةٍ عن الشيوخ كابن المقير عن ابن ناصر ... عن ابن مندة وهو (1) القاصر عن جوزقيٍّ قد روى عن مكّي ... عن مسلم نافي دياجي الشكّ فليخبروا عنّي بذا والباقي ... من ستّةٍ حائزة السباق كذا موطّأ الإمام مالك ... إمامنا منير كلّ حالك ومسند الفذّ الرضى ابن حنبل ... والدارميّ ذي الثناء الأجمل والطبرانيّ وما أرويه ... من المعاجيم (2) بما تحويه وكلّها تشمله الإجازه ... بشرطها عند الذي أجاده فلتقبلوه فهي من جهد المقلّ ... إذ لست بالمطلوب مني أستقلّ ومن أسانيدي عن القصّار ... مفتي الأنام بهجة الأعصار عن شيخه خروفٍ الراقي الدرج ... عن الشريف الطحطحائي فرج قال: سمعت المصطفى في النوم ... صلّى عليه الله كلّ يوم يقول: من أصبح، يعني آمنا ... في سربه، الحديث فاعرف كامنا ولنمسك العنان في هذا الأرب ... مصلياّ على الذي زان العرب

_ (1) بياض في ج ودوزي. (2) ج ق: المعاجم.

وآله وصحبه الأعلام ... ومن تلا من أنجم الإسلام وخطّ هذا المقّريّ العاصي ... أجير يوم الأخذ بالنواصي سنة سبعٍ وثلاثين تلت ... ألفاً لهجرة بياسين علت عليه أزكى صلوات تستتمّ ... نرجو بها الزّلفى وحسن المختتم ونصّ الاستدعاء المشار إليه هو: فازت دمشق الشام بالمقّري ... الألمعيّ اللوذعيّ العبقري علاّمة العصر بلا مفترىً ... وواحد الدهر بلا ممتري كم سمعت أخبار أوصافه ... فقصّر المخبر عن منظر جامع علمّ بثّ إملاءه ... بالشام ملء الجامع الأكبر يقري فتقري السمع أنفاسه ... أنفس ما يقري وما قد قري مولاي يا من درّ ألفاظه ... صحاحها تزري على الجوهري إجازة نرفل من فضلها ... في ثوب عزٍّ وردا مفخر مسبلة الذيل على أكبر ... وأوسط الإخوة والأصغر أطلّ لنا إنشاءها بل أطب ... وانظم لنا من درّها وانثر لا زلت في نفع الورى دائباً ... تجود جود العارض الممطر العبد الداعي إبراهيم العمادي، انتهى. ومن الإجازات التي قلتها بدمشق الشام ما كتبته للأديب الحسيب سيدي يحيى المحاسني (1) حفظه الله تعالى: أحمد من زيّن بالمحاسن ... دمشق ذات الماء غير الآسن

_ (1) هو يحيى بن أبي الصفا ابن أحمد المعروف بابن محاسن الدمشقي الحنفي، درس على العمادي وغيره من شيوخ دمشق، ولما وردها المقري لزمه لزوم الظل للشبح وجمع من أماليه مجموعاً ودرس العلم في الغزالية وتوفي سنة 1053 (خلاصة الأثر 4: 463) .

وأطلع النّجوم من أعيان ... بأفقها السامي مدى الأحيان فكلّ أيّامهم مواسم ... من الصّفا ثغورها بواسم وذكرهم قد شاع بين الأحيا ... إذ قطرهم به الكما يحيا وبشرهم حديثه لا ينكر ... ومسند الجامع عنهم يذكر وقد حكت جوارح الذي ارتحل ... إليهم صحيح ما له انتحل فسمعه عن جابرٍ، والعين عن ... قرّة تروى، واللسان عن حسن فحلّ من أتاحهم آلاءه ... حتّى أبان نورهم لألاءه نحمده سبحانه أن أسدى ... من الأمان ما أنال القصدا وننتحي صوب صلاةٍ باهره ... إلى الرّسول ذي السّجايا الطاهره أجلّ من خاف الإله واتّقى ... محمد الهادي الرّسول والمقتدي وبعد، فالعلم أساس الخير ... وكيف لا وهو مزيح الضير وهو موصّلٌ إلى منهاج ... هدىً ورشدٍ ما له منهاجي وما بغير العلم يبدو العلم ... وليس من يدري كمن لا يعلم خصوصاً الحديث عن خير البشر ... فإنّ فضله على الكلّ انتشر ولم يزل يعنى به كلّ زمن ... من الرواة كلّ صدرٍ مؤتمن وإنّني عند دخول الشام ... لقيت من بها من الأعلام وشاهدت عيناي من إنصافهم ... ما حقّق المحكيّ عن أوصافهم وإنّ من جملتهم أوج الذكا ... والنيّر الزري سناه بذكا ابن المحاسن الذي قد طابقا ... منه مسمّى الإسم إذ تسابقا اللّوذعيّ الألمعيّ يحيى ... لا زال رسم المجد منه يحيا وهو الذي أغراه حسن الظنّ ... على انتمائه لأخذٍ عني وكان قارئ الحديث النّبوي ... لديّ في الجامع، أعني الأموي بمحضر الجمع الغزير الوافر ... ممّن وجوه فضلهم سوافر

وبعد ذاك استمطر الإجازه ... من نوء وعدي واقتضى انتجازه فلم أجد بدّاً من الإجابه ... مع أنّني لست بذي النجابه وإن أكن أجبت أمراً يمتثل ... منه ففي ذلكتصديق المثل فيمن درى شيئاً وغابت أشيا ... عنه ومن أهدى بصنعا وشيا فليرو عنّي كلّ ما يصحّ لي ... بشرطه الذي يزين كالحلي وقد أخذت جامع البخاري ... عن عمّي الإمام ذي الفخار سعيد الذي نأى عن دنس ... عن شيخه الحبر الشهير التّنسي أعني أبا عبد الإله وهو عن ... والده محمّدٍ راوي السّنن عن ابن مرزوقٍ محمّد الرضا ... عن جدّه الخطيب عن بدرٍ أضا الفارقيّ عن إمامٍ يدعى ... بابن عساكر الجميل المسعى بما له من الروايات التي ... على علوّ قدره قد دلّت وليرو عنّي ما انتمى للنّووي ... بذا إلى السابق ذي النّهج السوي أعني ابن مرزوق الخطيب الراوي ... عن شيخه يحيى الرضى المغراوي وهو روى عن صاحب التمكين ... ألنوويّ الشيخ محيي الدين وخطّ هذا أحمد البادي الوجل ... المقّريّ المالكين الذي ارتجل (1) في عام ألفٍ وثلاثين خلت ... من هجرة الهادي وسبعةٍ تلت ألبسه الله البرود الصافيه ... من منّه وعفوه والعافيه بجاه سيّد البرايا طرّا ... ملجإ من إلى الكروب اضطرّا عليه أسنى صلواتٍ تسدي ... حسن الختام ببلوغ القصد وسأل مني بعض ساكني دمشق (2) المحروسة أن أقرّظ له على شرحه

_ (1) الذي ارتجل: سقطت من ج. (2) هو محمد بن سعد الكشني كما سيصرح المقري بذلك في أرجوزته، وكان من أدباء الصوفية، وكان فضلاء دمشق يعاشرون منه رجلاً سهلاً خلوقاً متودداً صاحب نوادر وآداب؛ توفي سنة 1037 (خلاصة الأثر 3: 468) .

لرسالة العارف بالله تعالى سيدي الشيخ أرسلان، فكتبت ما صورته: أحمد من خصّص بالأسرار ... قدماً من الصوفيّة الأبرار أتاحهم عوارف المعارف ... والحكم السابغة المطارف فهم بهم تستمطر الأنواء ... وتظهر الأنوار والأضواء ومن أجلّهم سناءً وسنى ... من ذاد عن عين المعالي الوسنا شيخ الشيوخ العارف الكبير ... الشيخ أرسلانٌ الشهير فكم إشاراتٍ له أبانا ... بها علوماً من حلاها ازدانا وكم عباراتٍ تلا آياتها ... تعيا الفحول عن مدى غاياتها ومن رأى رسالة التوحيد ... له انتحى مناهج التسديد فهي تنادي من أبى أن يسلكا ... يا معرضاً شركٌ خفيٌّ كلّكا ومن أضلّ القصد في مهامه ... هدته للخروج عن أوهامه وكم بها من باب معنىً مغلق ... عمّن يقيّد الوجود المطلق فما بغير الفتح يدرى الباطن ... ووارد الفيض له مواطن وقد رأيت في دمشق الشّام ... شرحاً لها أنبأ عن إلهام للكلشنيّ ذي الوفا بالوعد ... شمس العلا محمد بن سعد لا زال في أوج التجليّ صاعدا ... وعون ربّنا له مساعدا ومذ أجلت ناظري في حسنه ... ألفيته مستبدعاً في فنّه ودلّ ما أبداه من معاني ... على شهودٍ بالهدى معاني لأنّه أجاد في تقرير ... ما اعتاص بالإتقان والتحرير وأبرز الأبكار من خدور ... أفكاره حالية الصدور فالله يجزيه الجزاء الأوفى ... في يوم تبدي الأنبياء الخوفا وخطّ هذا المقّريّ من وجل ... مرتجياً من ربّه عزّ وجلّ كشف كروبٍ عقد صبرٍ حلّت ... منه وغفران ذنوبٍ جلّت

بجاه طه الهاشميّ أحمدا ... عليه أزكى صلواتٍ سرمدا عاطرة النشر بلا اكتتام ... تأرّجت بالمسك في الختام وخاطبني السريّ الحسيب الماجد فخر المدرسين الأعيان مولانا الشمس محمد بن الكبير الشهير مولانا يوسف بن كريم الدين الدمشقي (1) حفظه الله تعالى بقوله: شمس المحاسن شرّقي أو غرّبي ... سعدت منازلنا بشمس المغرب شمسٌ لنا منها شموس فضائلٍ ... وسنا هدىً قد راح غير محجّب المقّريّ العالم النّدب الذي ... لسوى اسمه درج الحجى لم يكتب بدرٌ ولم تبد البدور بمشرقٍ ... إلا بدت من قبل ذاك بمغرب لسوى اكتساب سناه لم تغرب ذكا ... فلو أنها شعرت به لم تغرب علاّمةٌ ملأ البلاد بفضله ... وأفاده لمشرّقٍ ومغرّب عمري هو البحر المحيط فضائلاً ... إن قيس بالعذب الذي لم يعذب مولىً له سندٌ قويٌّ في العلا ... فعن الجدود روى العلا وعن الأب نسبٌ له المجد المؤثّل في الورى ... والمجد لم يكسب إذا لم يوهب هو في جبين الفضل أضحى غرةً ... يجلى بها للجهل ظلمة غيهب آمالنا قطعت ببشر جبينه ... أن لا ترى للدهر وجه مقطّب بدرٌ به زهيت دمشق وأهلها ... أحبب ببدرٍ حيث حلّ محبّب طود الفضائل باكرت أرجاءه ... ديم الحجى فغدا كروضٍ مخصب بحر الهدى والعلم إلاّ أنّه ... صفوٌ من الأكدار عذب المشرب هو قطب دائرة الفضائل في الورى ... فيكاد يخبرنا بكلّ مغيّب

_ (1) ترجمته في خلاصة الأثر (4: 273) تتلمذ للمقري والعمادي وغيرهما وكان متقناً للفارسية والتركية والموسيقى ملحناً، تردد إلى الروم ودرس بالمدرس العزية وله ديوان شعر؛ توفي سنة 1068.

في الفضل ما جاولت يوماً مثله ... كلاّ، ولا قست البدور بكوكب أنّى يجارى في الفضائل من له ان ... قاد الزّمان بأدهمٍ وبأشهب سننٌ لمدح الغير تسقط عندنا ... فله العلا تقضي بفرضٍ أوجب ما روضةٌ حلّى أزاهرها الحيا ... فافترّ فيها كلّ ثغرٍ أشنب ومشت بها خود الصّبا فتعطّرت ... أذيالها من كلّ عرفٍ طيّب للنّور فيها جدولٌ أخذت به ... شهب المجرّة حيرة المتعجّب باتت تناشدني بها ذكر الهوى ... ورق الأراك بكلّ صوتٍ مطرب تشكو إليّ بمثل ما أشكو لها ... شكوى المعذّب في الهوى لمعذّب فعلمت ما قد حلّ من وجدٍ بها ... وجهلن، وهو الفرق، ما قد حلّ بي لم تلق فيها من عليل يشتكي ... إلاّ النّسيم وذا الهوى إن تطلب بأغضّ حسناً من ربى آداب من ... حيّا رياض حجاه ألطف صيّب طبعٌ أرقّ من النسيم ومنطقٌ ... مستعذبٌ، وكذاك كلّ مهذّب لو جاد صوب حجاه قفراً مجدباً ... لنعمت منه بكلّ روضٍ معشب مولاي عذراً فالزمان يعوقني ... عن مطلبي والآن مدحك مطلبي وكذاك يفعل بالأديب زمانه ... فلذا يطول على الزمان تعتّبي لم ألق يوماً من يديه مهرباً ... إلاّ ثناك، وحبّذا من مهرب لولاك لم ينهض جواد قريحتي ... من كلّ وادٍ للضّلالة متعب فاسمع، ولست بآمرٍ، نظماً غدا ... في عقد مدحك لؤلؤاً لم يثقب كالراح يلعب بالعقول للطفه ... لكن بغير مسامعٍ لم يشرب من كلّ قافيةٍ غدت من حسنها ... مثلاً لغيرك في العلا لم يضرب خودٌ تقلّد من ثناك قلائداً ... بكرٌ لغيرك في الورى لم تخطب غنيت بمدحك زينةً ولربما ... يغني الجمال عن الوشاح المذهب

هي بعض أوصافٍ لذاتك قد غدت ... كالبحر عذباً ماؤه لم ينضب جاءتك تسألك القبول وحسبها ... فخراً قبولك وهو جلّ المطلب وتروم منك إجازةً فاقت بما ... ترويه بالسّند القويّ عن النبي حسبي الإجازة منك جائزةً ولم ... أك قبل غير الفضل بالمتطلّب لا بدع والإطناب إيجازاً غدا ... في مدحه إن لم أطل أو أسهب هيهات لا تحصى مآثر فضله ... بالمدح إن أطنب وإن لم أطنب خدمة الداعي محمد بن يوسف الكريمي، انتهى. فأجزته بما نصّه: أحمد من أطلع شمس الدين ... في أفق الرواية المبين وخصّ فضلاً منه بالإسناد ... أمّة طه مذهب العناد فلم يكن عصرٌ من الأعصار ... إلاّ وفيه أهل الاسبتصار ينفون عن حوزة دين الله ما ... يروم من عليه رشدٌ أبهما وأنتحي سبل صلاةٍ كامله ... على الذي له العطايا الشامله محمدٍ المرسل بالشرع الحسن ... ذي المعجز المفحم أرباب اللّسن مع حزبه من صحبه وعترته ... ومن تلا مؤمّلاً لأثرته وبعد فالعلم أجلّ ما اعتمد ... موفّقٌ من فيض مولاه استمد خصوصاً الحديث عن خير الورى ... صلّى عليه الله ما زندٌ ورى ولم يزل ذوو النهى يسعون في ... تحصيله إذ فضله غير خفي وإنّ مولانا الشهير السامي ... الماجد المولى نبيه الشام سالك نهج السّنّة القويم ... محمد بن يوسف الكريمي لا زال في عزٍّ وفي أمان ... مبلّغاً من قصده الأماني وجّه لي لمّا حللت الشاما ... وبرق حسن الظنّ مني شاما قصيدةً بليغةً مستعذبه ... غريبةً في فنّها مهذّبه

يسأل من مثلي بها الإجازه ... بشرطها عند الذي أجازه مستمسكاً بعروة الصّواب ... ولم أجد بدّاً من الجواب فليرو عنّي ما سمعت كلّه ... وما جمعت في الفنون جمله على شروطٍ قرّرت في الفنّ ... مرتجياً حصول كلّ منّ وصنوه الأكمل قد أبحته ... ذاك على الوجه الذي شرحته وإن أكن فيما ابتغى مقصّرا ... فذو الرضى ليس لعيبٍ مبصرا ولي أسانيد أبى وقتي عن تفصيلها ... لمّا من الرحلة عن والعذر بادٍ والكريم يقبل ... والصفح نهجٌ يقتفيه الأنبل وخطّ هذا المقّريّ الجاني ... أمّنه الله من الأشجان في عام ألفٍ وثلاثين قفا ... سبعاً لهجرة النبي المصطفى عليه أزكى صلواتٍ تغتنم ... يزكو بها متبدأٌ ومختتم وكتب إلي الفاضل الخطيب، الفهامة الأديب، وارث الفضل عن الأعلام ذوي اللّسن، سيدي الشمس محمد المحاسني (1) سبط شيخ الإسلام مولانا البوريني حسن، حفظه الله تعالى، بقوله: يا سيّدي وملاذي ... وعالم الثّقلين ومن غدا بمكانٍ ... علا على النّيّرين أجزت بالدرس قوماً ... فاقوا به الفرقدين فزيّن العبد أيضاً ... من مثل ذاك بزين إن لم يكن (2) في ختامٍ ... فذاك قرّة عيني

_ (1) هو محمد بن تاج الدين بن أحمد المحاسني الدمشقي الحنفي، درس على علماء دمشق، ومنهم العمادي والمقري وسافر إلى الروم صحبة والده وأخذ من علمائها ثم تولى الخطابة بجامع السلطان سليم بصالحية دمشق ثم الإمامة بجامع بني أمية، وتولى مناصب أخرى بين إمامة وخطابة وتدريس، وتوفي سنة 1027 (خلاصة الأثر 3: 408) . (2) ق: وإن يكن.

فأجزته بما نصّه: أحمد من أطلع من محاسن ... دمشق ما أربى على المحاسن وزانها بالجلّة الأعيان ... الرافلين في حلى التبيان الراغبين في الحديث النبوي ... السالكين في الهدى النهج السوي وبعد فالعلم أجلّ زينه ... وسبله في الرشد مستبينه وإنّ علم السنّة الشريفه ... ظلاله ضافيةٌ وريفه لذاك كان باعتناءٍ أجدرا ... من كلّ ما يمليه من تصدّرا وإنّ ذا الفضل الأديب البارع ... سابق ميدان الذكا المسارع الماجد المسدّد السامي الحسب ... محمد من للمحاسن انتسب ابن الشهير الصدر تاج الدين ... لا زال في عزٍّ وفي تمكين وجدّه لأمّه الشيخ الحسن ... وذاك بورينيهم معطى اللّسن يسألني إجازةً بكلّ ما ... أرويه عنواناً بحالي معلما وها أنا أجبته غير بطل ... مستغفراً من خطإ ومن خطل فليرو عني كلّ ما يصحّ ... على شروط غيثها يسحّ وهي عن الشروط لن تريما ... وليس يخفي علمه الكريما وكلّ ما ألّفت أو جمعت ... نظماً ونثراً مثل ما أسمعت ولي أسانيد يضيق الوقت ... عن سردها وبعضها قد سقت في غير هذا فليحقّق ذلك ... مقتفياً لأوضح المسالك وقد أخذت جامع البخاري ... ومسلمٍ عن جائز الفخار عمّي سعيدٍ وهو عمّن يدعى ... بالتّنسيّ قد أفاد الجمعا عن حافظ الغرب الرّضى أبيه ... عن ابن مرزوقٍ عن النبيه وما له من الروايات علم ... من كتبه التي حوت خير الكلم

وخطّ هذا المقّريّ عن عجل ... مؤمّلاً من ربه عزّ وجلّ غفران ما جنى من الذنوب ... والصفح عن معرّة العيوب بجاه خير العالمين أحمدا ... صلّى عليه الله دأباً سرمدا وآله وصحبه الأخيار ... ومن تلا لآخر الأعصار (1) ولما سألني في الإجازة الفاضل الأديب سيدي محمد بن علي ابن مولانا عالم الشام الشهير الذكر شيخ الإسلام سيدي ومولاي الشيخ عمر القاري (2) - حفظه الله تعالى - وأنا مستوفز للسفر، كتبت له عن عجل ما صورته: أحمد من زيّن بالآثار ... جيداً من الراوي النبيه القاري وشاد للعلياء في أوج السّند ... منازلاً لم يبلها طول الأمد وميّز الواعين للحديث ... بالفضل في القديم والحديث وزان منهم سماء الدين ... فأشرقت بالحفظ والتبيين فهم (3) بها للمهتدي نجوم ... وإنّها للمعتدي رجوم فكم أزاحوا عن حديث المجتبى ... صلّى عليه الله ما هبّت صبا تحريف ذي غلٍّ مصلٍّ غالي ... شانٍ لمنهاج الرشاد قالي وبعد فالإسناد للروايه ... وسيلةٌ تزحزح الغوايه والله قد خصّص هذي الأمّه ... به امتناناً وأزاح الغمّه هذا ولولا ذاك قال من شا ... ما شاءه فهو بحقٍّ منشا فلم يزل أهل النّهى كلّ زمن ... يسعون في تحصيله عن مؤتمن

_ (1) إلى هنا تنتهي نسخة ج من النفح وكتب في آخرها: " انتهى ما وجد في الجء الأول من نفح الطيب ويتلوه في الجزءالثاني: ولما سألني في الإجازة الفاضل الأديب الشيخ محمد بن علي ... إلخ ". (2) ترجمة محمد بن علي بن عمر المشهور بابن القاري في خلاصة الأثر (4: 54) درس الحديث على المقري مدرساً بالمدرسة الشامية الجوانية، وسافر إلى الروم ونال جاهاً، وكان بينه وبين أحمد الشاهيني مودة أكيدة ومراسلات. (3) ق: منهم.

وإنّ من جملة من تحرّى ... ومن بسبقٍ للعلوم غرّا (1) الفاضل المسدّد النّجيب ... الواصل الممجّد الأريب محمدٌ سليل ذي المجد علي ... ابن الإمام العالم الحبر الولي عمر الشيخ الشهير القاري ... طود السكون هضبة الوقار شيخ الشيوخ في دمشق الشام ... لا زال محفوفاً بعزٍّ سامي فكان من جملة من عنّي روى ... بعض الصحيح ظافراً بما نوى وبعد ذاك اقترح الإجازه ... مني ووعدها اقتضى إنجازه فانعجمت نفسي عن الإجابه ... إذ لست في ذا الأمر ذا نجابه مع أنّني مقصّرٌ ذو عيّ ... في مثل هذا المطلب المرعيّ وخفت أن آتيها شنعاء ... بحملي الوشي إلى صنعاء وبعد ذا أجزت قصد الأجر ... مرتجياً بذاك ربح التّجر وقد أجبته وإنّي أعلم ... أنّي من خوف الخطا لا أسلم فليروها ببالغ التمنّي ... جميع ما يصحّ لي وعني من ذلك الجامع للبخاري ... عن عمّي الشهير ذي الفخار سعيدٍ الآخذ عن سفين ... عن قلقشنديٍّ مزيح المين عن حافظ الإسلام أعني ابن حجر ... بما له من الرّوايات اشتهر وبعضها في صدر فتح الباري ... مبيّنٌ لطالب الأخبار ولي أسانيد يطول شرحها ... والروضة الغنّاء يكفي نفحها ومن رواياتي عن القصّار ... مفتي البرايا بهجة الأعصار حدثنا خروفٌ الذاكي الأرج ... عن الشريف الطحطحائي فرج سمعت في المنام طه يملي ... حديث من أصبح وفق النقل أي آمناً في سربه معافى ... في جسمه مع قوت يومٍ وافى

_ (1) ق: تحدى ... عدا.

وكلّ ما ألّفت في الفنون ... أرجو به التحقيق للظّنون فليروه عنّي بشرطٍ معتبر ... وربّما يصدّق الخبر الخبر ولي تآليف على العشرينا ... زادت ثمانياً حوت تعنينا (1) فليروها إن شاء بلا استثناء ... والله أرجو نيل قصدٍ نائي بجاه من شرّف بالإدناء ... صلّى عليه الله في الآناء أحمد خير المرسلين الهادي ... غوث البرايا ملجإ الأشهاد عليه أسنى صلواتٍ زاكيه ... مع صحبه ذوي المزايا الزاكيه ومن تلا ممّن أطاب عمله ... فنال من رجاءه ما أمّله وشمّ من عرف قبولٍ أرجا ... فنال من حسن الختام ما رجا وخاطبني من أهلها أيضاً خادم الشيخ الأكبر ابن عربي محيي الدين، وهو الشيخ الأكرمي سيدي إبراهيم (2) ، سلك الله بي وبه سبل المهتدين، بقوله: فكرت في فضل الإما ... م المقّريّ الحبر حينا فوجدته بكر الزما ... ن وواحد الدنيا يقينا ما إن رأيت ولا سمع ... ت بمثله في العالمينا وافى دمشقاً زائراً ... لو أنّه أضحى قطينا وأتى عجيب الاتفا ... ق بفطر شهر الصائمينا فكأنّه غرّته الهلا ... ل ونحن كنا ناذرينا والعلم قال مؤرخاً ... أدّى بها فضلاً مبينا وخاطبني أيضاً منهم الفقيه النبيه سيدي مصطفى بن محب الدين (3) حفظه الله

_ (1) ق ودوزي: تعيينا. (2) هو إبراهيم بن محمد الدمشقي الصالحي بالأكرمي، كان شاعراً مشهوراً في عصره بخمرياته وغزلياته، وهو وآباؤه خدام باب الشيخ ابن العربي، توفي سنة 1047 ودفن بسفح قاسيون (خلاصة الأثر 1: 39) . (3) هو مصطفى بن أحمد بن منصور بن إبراهيم بن محمد سلامة أبو الجود ابن محب الدين الدمشقي الأديب، سافر مرتين إلى مصر ودرس في الجامع الأزهر ثم تولى التدريس بجامع بني أمية بدمشق، توفي سنة 1061 (خلاصة الأثر 4: 365) .

تعالى بقوله: فضائل قطب الغرب في العلم والفضل ... هو المقّريّ الأصل حائزة الخصل حوى كلّ علمٍ كلّ عن بعضه السّوى ... فلا غرو أن أضحى فريداً بلا مثل وحاز فنوناً من ضروب معارفٍ ... ومن فضل تحقيقٍ ومن منطقٍ فصل توخّى دمشق الشام فافترّ ثغرها ... سروراً به وازّيّنت من حلى الفضل وشرّف مصراً قبلها فاكتست به ... ملابس فخرٍ زانها كرم الأصل لقد أشرقت من أفق غربٍ شموسه ... وناهيك أفقاً نوره قدره معلي نافسته فيها تنافست الورى ... بما قد غدا من درّ ألفاظه يملي مليٌّ من التحقيق إن عنّ مشكلٌ ... تكفّل بالتبيان والشرح والحلّ إذا ما أدار الدرّ من كأس لفظه ... سقانا عقار الفضل علاًّ على نهل نظامٌ له يحكي قلائد عسجدٍ ... وثغرٌ مليحٌ فائق الحسن والدلّ حكت حبراً حيكت نمارق من غزل له القلم الأعلى بشرقٍ ومغربٍ ... له الموضع الأسمى على الكلّ في الكلّ فيا سيّداً حاز المفاخر والعلا ... وفاقت حلى الآداب منه على الحليّ إليك من العبد الحقير تحيّةً ... لقد نشات عن خالص الودّ من خل موالٍ يوالي الحبّ والقرب منكم ... بظاهر غيبٍ لا يحيد عن الوصل فلا زلت محبوّاً بسابغ نعمةٍ ... وفضل نعيمٍ وافرٍ وارف الظلّ ودمت لدى الأسفار في نجح أوبةٍ ... وجمعٍ لشملٍ بالمواطن والأهل وخاطبني أيضاً الشيخ سيدي محمد بن سعد الكلشني بقوله: شهر شعبان جاءنا ليهنّا ... بقدوم الأستاذ كنز الفضائل

بهجة الكون روض علمٍ وحلمٍ ... وهو مغني اللبيب إن جاء سائل بمصابيح فضله قد أضاءت ... ساحة الجامع الكبير لآمل وبمختار لفظه صار يحوي ... لحديثٍ مسلسلٍ عن أفاضل ومن الغرب حين وافى لشرقٍ ... فاق بدر التّمام وسط المنازل حلّ مني في القلب لمّا ... لاح سعد السعود لي غير آفل وغدا بالأمان والسّعد أرّخ ... أحمد المقّريّ بالشام قائل وقال أيضاً شكراً لله تعالى نيته، وبلغه أمنيته: أتاك دمشق الشام أكرم وارد ... فقريّ به عيناً وللحسن شاهدي وهزّي دلالاً في أزاهر روضه ... معاطف لينٍ كالغصون الأمالد لك البشر يا عيني ظفرت بأمجدٍ ... رفيع الذرى من فوق فرق الفراقد لقد شاع بين الناس واسع فضله ... فكم قاصدٍ يسعى لنيل الفوائد من العالم الفرد المفيد الذي له ... أيادٍ سمت بالجود تولى لقاصد وذاك أبو العبّاس أحمد من صفت ... مناهله دوماً إلى كلّ وارد تراه إذا وافيته متهلّلاً ... ويبسم حبّاً في وجوه الأماجد إمامٌ سما قدراً على النجم رفعةً ... أرى وصفه في بيت نظم مشاهد لديه ارتفاع المشتري وسعوده ... وسطوة بهرامٍ وظرف عطارد شهدت بأن الله أولاه منحةً ... بنقل حديثٍ في جميع المساجد ومذ حلّ في وادي دمشق ركابه ... وسؤدده وافى بأعدل شاهد حوى كلّ إفضالٍ وكلّ فضيلةٍ ... بها يهتدى حقّاً لنيل المقاصد وماذا عسى في مدحه أنا قائلٌ ... ولو جئت فيه مطنباً بالقصائد إذا رمت أن تلقى نظيراً لمثله ... وفكرته قد قيّدت للشوارد ومنطقه حاوي الشّفا بجواهر ... صحاحٍ بها يزدان عقد القلائد

من الغرب وافى نحو شرقٍ فأشرقت ... شموس علومٍ أسفرت عن محامد فناديته يا سيّدي من بفضله ... تواترت الأخبار عن غي واحد عسى عطفةٌ منكم عليّ بنظرةٍ ... فأنت لموصول الجدا خير عائد وأنت على ريب الزمان مساعدي ... وأن يميني للحسود وساعدي فلا زلت تولي كلّ من هو آملٌ ... لبغيته من صادرٍ ثمّ وارد وتبقى مدى الأيام في المجد رافلاً ... بثوب الهنا تكفى شرور الحواسد وهاك عروساً تجتلي في حليّها ... إليك أتت في زيّ عذراء ناهد تهنّي بعيد الفطر من بعد صومكم ... بخيرٍ جزيلٍ من لذيذ الموائد وترجو جميل الستر إن هي مثّلت ... بحضرتك العلياء يا خير ماجد وعش في أمان الله بالعزّ دائماً ... مدى الدهر ما سحّ الحيا في الفدافد وما دارت الأفلاك من نحو قطبها ... وما بزغت شمس الضحى للمشاهد وقال أيضاً زاده الله تعالى من فضله: ظبيٌ بوسط الفؤاد قائل ... أعجز بالوصف كلّ قائل ظبيٌ بأجفانه سباني ... وسحرها ينتمي لبابل يرمي بسهم اللحاظ لمّا ... يرنو فيصمي الفؤاد عاجل قد فتن العقل مذ تجنّى ... عليّ حتى غدوت ذاهل له قوامٌ كخوط بانٍ ... أو كالقنا السّمهريّ عادل بدرٌ بدا كامل المعاني ... في القلب والطف عاد نازل قد أسر القلب في هواه ... بقيد حسنٍ وفرع سابل وما بقي منه لي خلاصٌ ... سوى مديحي رضى الأفاضل أعني به المقّريّ من قد ... سما على البدر في المنازل أحمد مولى له أيادٍ ... كالغيث يغني لكلّ سائل علاّمةٌ حاز كلّ فضلٍ ... سبقاً ومن بالعلوم عامل

من قد نشا في العلوم طرّاً ... وحاز علم البيان كامل طويل باعٍ بسيط فضلٍ ... مديد جودٍ لكلّ آمل ووافر العقل راح يهدي ... سريع فضلٍ لكلّ فاضل وجامع العلم في ابتهاجٍ ... بمنطقٍ في الأصول حافل وهكذا في الكلام مهما ... أفاده في الدروس شامل يروي صحيح الحديث دأباً ... بالسّند الواصل الدلائل وكم علومٍ أفاد من قد ... أتاه في مشكل المسائل وحلّ إبهام كلّ شكلٍ ... من فنّ وفقٍ إلى الوسائل (1) وغاص في لجّة المعاني ... واستخرج الدّرّ في المحافل وفي فنون البديع أضحى ... جناسه قد حوى رسائل وكم دليلٍ أقام لمّا ... برهانه أبهت المعازل إن كان وافى لنا أخيراً ... فهو الذي فاخر الأوائل بحرٌ محيطٌ يفيض منه ... على رياضٍ بكلّ ساحل وافى من الغرب نحو شرقٍ ... يجوب من فوق متن بازل في مهمهٍ صحصحٍ مهولٍ ... وحزنه كم به غوائل وحثّ فيه المسير حتى ... خلّفه من وراء كاهل وجاء باليمن في أمانٍ ... وصحّة الجسم والشمائل وحلّ فيا لشام عند قومٍ ... من أكرم الناس في القبائل ذاك ابن شاهين ذو المعالي ... ربّ الندى للألوف باذل كأنّه الشمس جاء يهدي ... للبدر ونوراً وليس آفل بل كان غيثاً لهم وكانوا ... روضاً أريضاً لشكر وابل فبجّلوه وعظّموه ... وادخروا عاجلاً لآجل

_ (1) يشير إلى عنوان مؤلف للمقري وهو: في الوفق المخمس الخالي الوسط.

جزاهم الله كلّ خيرٍ ... وصانهم من جدال جاهل وأحمدٌ دام في أمانٍ ... المقّريّ الرضى المعامل لربّه في دجى اللّيالي ... ويرشد الناس في الأصائل لا زال في نعمةٍ وخيرٍ ... وفي أمانٍ يعود عاجل وخاطبني الأديب الفاضل، الشيخ أبو بكر العمري (1) شيخ الأدباء بدمشق، حفظه الله تعالى، بقوله: تاهت تلمسان على مدن الدنى ... بعالمٍ في العالمين يحمد المقّريّ أحمدٌ ربّ الحجى ... الكامل البحر الخضمّ المزبد مالك هذا العصر شافعيّه ... أحمده نعمانه المسدّد مذ حلّ مصر أذعنت أعلامها ... لفضله وبجّلوا ومجّدوا وفي دمشق الشام دام سعدها ... كان له بها المقام الأسعد العلماء أجمعوا جميعهم ... على معاليه التي لا تجحد أقام شهراً أو يزيد وانثنى ... وفي الحشا منه المقيم المقعد سالت على فراقه دموعنا ... وفي القلوب زفرةٌ لا تخمد لو قيل من يحمد في تاريخه ... ما قلت إلا المقّريّ أحمد لا برحت أوقته مفيدةً ... ما صاح فوق عوده مغرّد قلت: وذكري لكلام أعيان دمشق - حفظهم الله تعالى - ومديحهم لي، ليس - علم الله - لاعتقادي في نفسي فضلاً، بل أتيت به دلالة فضلهم الباهر، حيث عاملوا مثلي من القاصرين بهذه المعاملة، وكسوه حلل تلك المجاملة،

_ (1) هو الأديب أبو بكر ابن منصور بن بركات بن حسن بن علي العمري الدمشقي، كان ينظم الموشح والدوبيت وأنواع الزجل وهو سابق في كل فن منها، وقد كان كثير الرحلة والتنقل، توفي آخر جمادى الآخرة سنة 1048 (خلاصة الأثر 1: 99) .

مع كوني لست في الحقيقة له بأهل، لما أنا عله من الخطإ والخطل والجهل. ولقد خاطبت من مصر مفتي الشام صدر الأكابر، وارث المجد كابراً عن كابر، ساحب أذيال الكمال، صاحب الخلال المبلغة الآمال، مولانا شيخ الإسلام الشيخ عبد الرحمن العمادي الحنفي، بكتاب لم يحضرني منه الآن غير بيتين في أوله، وهما: يا حادي الأظعان نحو الشّام ... بلّغ تحياتي لتلك الخيام (1) وابدأ بمفتيها العماديّ الرضى ... دام به شمل الهنا (2) في التئام فأجابني بما نصّه: إلى أهالي مصر أهدي السّلام ... مبتدئاً بالمقّريّ الهمام من ضاع نشر العلم من عرفه ... ولم يضع منه الوفا للذّمام أهدي تحف التحية، إلى حضرته العلية، وذاته ذات الفضائل السنية الأحمدية، التي من صحبها لم يزل موصولاً بطرائف الصّلات والعوائد، الأوحديّة الجامعة التي لها منها عليها شواهد (3) : وليس لله بمستنكرٍ ... أن يجمع العالم في واحد فيا من جذب قلوب أهل عصره إلى مصره (4) ، وأعجز عن وصف فضله كلّ بليغ ولو وصل إلى النثرة (5) بنثره، أو إلى الشّعرى بشعره، ومن زرع حبّ حبّه في القلوب فاستوى على سوقه، وكاد كل قلب يذوب بعد بعده من

_ (1) ق: التهام. (2) دوزي: الهوى. (3) البيت لأبي نواس. (4) في نسخة: لمصره. (5) النثرة: اسم لكوكبين.

حر شوقه، وظهرت شمس فضله منالجانب الغربي فبهرت بالشروق، وأصبح كل صب وهو إلى بهجتها مشوق، زار الشام ثم ما سلّم حتى ودّع، بعد أن فرع بروضها أفنان الفنون فأبدع، وأسهم لكلٍّ من أهلها نصيباً من وداده، فكان أوفرهم سهماً هذا المحب الذي رفع بصحبته سمك عماده، وعلق بمحبته شغاف فؤاده، فإنّه دنا من قلبه فتدلّى، وفاز من حبّه بالسهم المعلّى، أدام الله تعالى لك البقا، وأحسن لنا بك الملتقى، ومنّ علينا منك بنعمة قرب اللقا، آمين بمنّه ويمنه، هذا، وقد وصل من ذلك الخلّ الوفيّ، كتابٌ كريم هو اللطف الخفيّ، بل هو من عزيز مصر القميص اليوسفي، جاء به البشير ذو الفضل السني، الخل العز الأجل التاج المحاسني، مشتملاً على عقود الجواهر، بل النجوم الزواهر، بل الآيات البواهر، تكاد تقطر البلاغة من حواشيه (1) ، ويشهد بالوصول إلى طرفها الأعلى لموشّيه، فليت شعري بأي لسان، أثني على فصوله الحسان، العالية الشان، الغالية الأثمان، التي هي أنفس من قلائد العقيان، وأبدع من مقامات بديع الزمان، فطفقت أرتع من معانيها وفي أمتع رياض، وأقطع بأنّ في منشئها اعتياضاً لهذا العصر عن عياض (2) : ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدحٍ فلا أرضى لها كلمي ولا سيما فصل التعزية والتسلية، المشتمل على عقد التخلية بل عقود التحلية، لتلميذكم الولد إبراهيم، فإنّه له كرقية السليم، بعد أن كاد يهيم، فجاء ولله درّه في أحسن المحالّ، ووقع الموقع حتى كأن الولد نشط ببركه من عقال: وإذا الشيء أتى في وقته ... زاد في العين جمالاً لجمال

_ (1) تكاد ... حواشيه: سقطت من ق. (2) البيت لعمارة اليمني (النكت العصرية: 33) من قصيدة يمدح فيها الفائز الفاطمي ووزيره الملك الصالح طلائع بن رزيك ومطلعها: الحمد للعيس بعد العزم والهمم ... حمداً يقوم بما أولت من النعم

فجزاكم الله تعالى عنّا أحسن الجزاء، ثمّ أحسن لكم جميل العزاء، فيمن ذكرتم من كريمتي الأصل والفرع، وأبقى منكم ماكثاً في الأرض من به للناس أعمّ النفع. وأمّا من كان وليي وسميي ومنجدي، الشهيد السعيد المرحوم الشيخ عبد الرحمن المرشدي، فإنّها أصابت منّا منكم والأخوين، فقد عمّت الحرمين، بل طمت الثّقلين، ولقد عدّ مصابه في الإسلام ثلمة، وفقد به في حرم الله تعالى من كان يدعى للملمّة، ولم يبق بعده إلاّ من يدعى إذا يحاس الحيس (1) ، واستحق أن ينشد في حقّه وإن لم يقس به قيس (2) : وما كان قيسٌ هلكه هلك واحدٍ ... ولكنّه بنيان قومٍ تهدّما فالله تعالى يرفع درجاته في علّيّين، ويبقى وجودكم للإسلام والسلمين، وتلامذتكم الأولاد، يرجون من بركات أدعيتكم أعظم الأمداد، ويهدون أكمل التحيّة، إلى حضرتكم العليّة، ونبلغكم دعاء صاحب السعادة، أدام الله تعالى إسعادكم وإسعاده، ونحن من صحبته الشهية، في رياض فنون أدبية، أبهاها لمعات محاضرة في ذكر شمائلكم الجميلة، تنور المجالس، وأشهاها نسمات محاورة بنشر فضائلكم الجليلة، تعطر المجالس، وسلام جملة الأصحاب من أهل الشام، وعامة الخواص والعام، والدعاء على الدوام - المخلص الداعي عبد الرحمن العمادي، مفتي الحنفية، بدمشق المحمية. ووردت عليّ مع المكتوب مكاتبات لجماعة من أعيان الشام حفظهم الله تعالى؛ فمنها من الصديق الحميم، الرافل في حلل المجد الصميم، الخطيب، الأديب، سيدي الشيخ المحاسني يحيى، أسمى الله تعالى قدره في الدين والدنيا، كتابان نصّ أولهما: باسمه سبحانه:

_ (1) إشارة إلى قول الشاعر (السمط: 288 وذيله: 86، 84) : وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب (2) البيت من قصيدة لعبدة بن الطبيب يرثي فيها قيس بن عاصم (حماسة المرزوقي: 790) .

لئن حكّمت أيدي النّوى وتعرّضت ... عوارض بينٍ بيننا وتفرّق فطرفي إلى رؤياكم متشوّف ... وقلبي إلى لقياكم متشوّق يقبل الأرض الشريفة لا زالت مركزاً لدائرة التهاني، وقطباً لفلك تجري المجرّة في حجرته على الدقائق والثواني، ولا برحت ألسن البلاغة عن تمييز براعة يراعة حامي حماها معربة، وبلابل الآداب على الأغصان في رياض فضله بمثاني الثناء صادحة، وبألحان سجعها مطربة: أرضٌ بها فلك المعالي دائرٌ ... والشمس تشرق والبدور تحوم ولها من الزهر المنضّد أنجمٌ ... ولها على أفق السماء نجوم عمّر الله تعالى بالمسرّات محلّها، وعمّ بالخيرات من حلّها، ويبتدئ بسلام يخبر عن صحيح ودّه السالم، ومزيد غرام يؤكد حبّه الذي هو للولاء حازم، وينعت شوقاً يحرك ما سكن صميم الضمير، من صدق حبّ سلم جمعه من التكسير، ويؤكد السلام بتوابع المدح والثناء، ويعرب عن محبة مشيدة البناء، وينهي أن السبب في تسطيرها، والباعث على تحريرها، أشواق أضرم نارها في الفؤاد، ومحبّة لو تجسّمت لملأت البلاد، وأقول: شوقي لذاتك شوقٌ لا أزال أرى ... أجدّه يا إمام العصر أقدمه ولي فزٌ كاد ذكر الشوق يحرقه ... لو كان من قال: نارٌ، أحرقت فمه هذا وإن تفضّل المولى بالسؤال عن حال هذا العبد فهو باقٍ على ما تشهد الذات العلية، من صدق المحبّة ورقّ العبودية، ولم يزل يزين أفق المجالس بذكركم، ولا يقتطف عند المحاضرة إلاّ من زهركم، ولم ينس حلاوة العيش في تلك الأوقات التي مضت في خدمتكم المحروسة بعناية الملك المتعال، وليالي الأنس التي قيل فيها، " وكانت بالعراق لنا ليال ":

واهاً لها من ليالٍ هل تعود كما ... كانت، وأيّ ليالٍ عاد ماضيها لم أنسها مذ نأت عنّي ببهجتها ... وأيّ أنسٍ من الأيام ينسيها فنسأل الله تعالى أن يمن بالتلاق، ويفصل مانعة الجمع بطيّ شقة الفراق، إن ذلك على الله يسير، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير. وبعد، فالمعروض على مسامع سيدي الكريمة، لا زالت من كل سوء سليمة، أنّه وصلنا مكتوبكم الكريم، صحبة العم المحب القديم، فحصل لهذا العبد به جبر عظيم، وأنس جسيم، كما شهد بذلك السميع العليم، فعزمت على ترك الإجابة، لعدم الإجادة، ومتى تبلغ الألفاظ المذمومة ما بلغته الألفاظ المقّريّة وأين يصل صاحب الزّمر كما قيل إلى الدقات الخليلية ولكنّني خشيت من ترك الإجابة توهّم نقض ما أبنيه من رق العبوديّة وصحة الوداد، ومن انقطاع برق شيخي الذي هو لبيت شرفي العمدة والعماد، فلزم من ذلك أن كتبت لجنابه الشريف الجواب، وإن كان خطؤه أكثر من الصواب، وأرسلته قبل ذل بعشرة أيام، ومكتوب هذا العبد صحبته مكتوبان: أحدهما من محبكم شيخ الإسلام المفتي العمادي، والآخر من محبكم أحمد أفندي الشاهيني، وهما وبقية أكابر البلدة وأعيانها يبلغونكم السلام التام، ولا تؤاخذونا في هذا المكتوب فإنّي كتبته عجلاً، ومن جنابكم خجلاً، دام خيركم على الدوام، إلى قيام الساعة وساعة القيام، وحرره يوم الاثنين 11 من جمادى الثانية سنة 1038، الفقير الداعي يحيى المحاسني، انتهى. ونصّ الكتاب الثاني من المذكور أسماه الله باسمه سبحانه: مخلصك الذي محض لك وداده، ومحبك الذي أسلم لمحبتك قياده، بل عبد كالذي لا يروم الخروج عن رقّك، وتلميذك الذي لم يزل مغترفاً من فيض علومك، معترفاً بحقّك، من أسكنك لبّه، وأخلص لك بحبّه، واتخذك من بين الأنام ذخراً نافعاً، وكهفاً مانعاً، ومولى رفيعاً، وشهاباً ساطعاً، وتشبّث بأسباب علومك

وتمسّك، يهدي إليك سلاماً كأنّما تعطّر مسك ثنائك وتمسّك، واكتسب من لطف طبعك الرقة، واستعار من سنا وجهك حلّة مستحقّة، وتحية لم يكن مناه إلا أن تكون بالمواجهة، والمحاضرة والمشافهة، على أن فؤاده لم يبرح لك سكناً، وأحشاءه لك موطناً، ويبدي دعواتٍ يحقّق الفضل أنّها من القضايا المنتجة، وأن أبواب القبول لها غير مرتجة، مقبّلاً أياديك التي وكفت بوابل جودها، فهذا يرفل في حللها، وهذا يتحلّى بعقودها: فهي التي تعنو الرّياض لرقمها ... ويغار منها الدّرّ في تنضيدها ويحار أرباب البيان لنظمها ... فهم بحضرتها كبعض عبيدها متمسكاً من ولائك بوثيق العرى، متمسكاً من ثنائك الذي لا يزال الكون منه معنبرا، متشوقاً للقائك الذي بالمهج يستام وبالنفوس يشترى، متشوفاً إلى ما يرد من أنبائك التي تسرّ خبرا، وتحمد أثرا، أعني بذلك المولى الذي أقام بفناء الفسطاط مخيماً، وانتجع حماه رائد الفضل ميمماً، وشدّت لفضائله الرّحال، ووقفت عندها بل دونها فحول الرجال، وطلعت شموس علومه في سماء القاهرة، فاختفت نجوم فضلائها والأشعة باهرة: هو الشّمس علماً والجميع كواكبٌ ... إذا ظهرت لم يبد منهم كوكب فهو العالم الذي سرى ذكره في الآفاق، مسير الصّبا جاذب ذيلها النسيم الخفّاق، الذي أطلع شمس التحقيق من أفق بيانه، وأظهر بدر التدقيق من تبيانه، فلهذا عقدت عليه الخناصر بين علماء عصره، وانعطفت إليه الأواصر من فضلاء مصره، فلا يضاهيه في ذلك أحد في زمانه، وينسق ما نسقه من درّه ومرجانه، فهو المعوّل عليه في مشكلات العلوم، معقولها ومنقولها والمنطوق والمفهوم، الذي لم تسمح بمثله الأزمان والعصور، ولم يأت بنظيره تتابع الأعصار

والدهور، من عجز لسان القلم، عن التصريح باسمه الشريف في هذا الرقم، لا زالت المدارس مشرقة بإلقائه فيها الدروس، ولا برحت البقع عامرة بوجوده بعد الدّروس، ما سطّرت آيات الأشواق في الصحائف والطروس، وأرسلت من تلميذ إلى أستاذ بسبب نسبته إليه فحصل على المطلوب من شرف النفوس، هذا، والذي يبدي لحضرتكم، وينهي لطلعتكم، أن الراقم لهذه الصحيفة، المشرّفة ببعض أوصافكم اللّطيفة، المرسلة لساحة فضائلكم المنيفة، هو تلميذكم من تشرف بدرسكم، وافتخر بإجازتكم، يبدي لكم تلهّفه لنيران أشواقه التي التهبت، وتأسفه على الأيّام السالفة مذهبة في خدمتكم (1) لا ذهبت، وتوجّعه لهذه الأزمان التي استرجعت بالبعد عنه من ذمّته ما وهبت، وتطلعه إلى ما يشنّف به الأسماع من فضائله التي سلبت (2) العقول وانتهبت، فلم يزل يسأل الرواة عنها، ليلتقط منها، وقد تحقّق أن فرائدها لا يلفي لها نظيراً ولا يدرك لها كنها (3) ، وكيف لا ومنها يتعلّم الفاضل اللبيب، وإليها يفتقر السعيد ويتودّد حبيب، وعليها يعتمد ابن العميد، ولم تنفكّ راقيةً في درج المزيد، وعبد الحميد عبد الحميد، وعلم شيخي محيط بصدق محبتي وإخلاصها، وشدّة حرصي على تحصيل فوائد مولانا واقتناصها، وأنّني لا أزال ذاكراً لمحاسنه التي ليست في غيره مجموعة، ومتطفّلاً على ثمار أفكاره التي هي لا مقطوعة ولا ممنوعة، وخاطره الشريف على الحقيقة يشهد بذلك، فلا يحتاج هذا العبد إلى بيّنة لدى مولانا الأستاذ المالك، وحقيق على من فارق تلك الأخلاق الغرّ، والشمائل الزّهر، والعشرة المعشوقة، والسجايا الموموقة، والفضائل الموفورة، والمآثر المشهورة، أن يشق جيب الصبر، ويجعل النار حشو الصدر:

_ (1) أشواقه.... خدمتكم: سقطت من ق. (2) ق: سلبتها. (3) ق ودوزي: ولا يدرك كنهها.

وإنّي لتعروني لذكراك هزّةٌ ... كما انتفض العصفور بلّله القطر (1) ولو ملكت مرادي، لما اخضرّ إلاّ في ذراه مرادي، بل لو دار الفلك على اختياري، لما نضوت إلا عنده ليلي ونهاري: ولو نعطى الخيار لما افترقنا ... ولكن لا خيار مع الزمان وتحت ضلوعي لوعة لو كتمتها ... لخفت على الأحشاء أن تتضرّما ولو بحت في كتبي بما في جوانحي ... لأنطقتها ناراً وأبكيتها دما وأنا لا أقترح على الدهر إلاّ لقياه، ولا أقطع حاضر الوقت إلا بذكراه، وما أعد أيامي التي سعدت فيها بلقائه إلا مفتاح السرور، ومطالع السعود والحبور، ولست أعيبها إلا بقلة البقاء، وسرعة الانقضاء، وكذلك عمر السرور قصير، والدهر بتفريق الأحبّة بصير، وربما اهتزّ العود بعد الذبول، وطلع النجم بعد الأفول، وأديل الوصال من الفراق، وعاد العيش المرّ حلو المذاق: وما أنا من أن يجمع الله شملنا ... كأحسن ما كنّا عليه بآيس فأمّا الآن فلا أزجي الوقت إلا بقلب شديد الاضطراب، وجوانح لا تفيق من التوقد والالتهاب، وكيف لا وحالي حال من ودّع صفو الحية يوم وداعه، وانقطع عنه الأنس ساعة انقطاعه، وطوى الشوق جوانحه على غليل، وحلّ أضلاعه على كمد دخيل، وأغرى بي فلزمني ولزمته، وألف بيني وبين الوجد فألفني وألفته، فلا أسلك للعزاء طريقاً إلاّ وجدته مسدوداً، ولا أقصد للصبر باباً إلا ألفيته مردوداً، ولا أعدّ اليوم بعد فراق سيّدي إلا شهراً، والشهر دون لقائه إلاّ دهراً، ولست بناسٍ أيامنا التي هي تاريخ زماني، وعنوان الأماني، إذ ماء الاجتماع عذب، وغصن الازديار (2) رطب، وأعين الحواسد راقدة،

_ (1) البيت لأبي صخر الهذلي (ديوان الهذليين: 930) وينسب أحياناً لغيره. (2) ق: الأزدياد.

وأسواق صروف الدهر كاسدة، وفما كانت إلاّ لمحة الطرف، ووثبة الطّرف، ولمعة البرق الخاطف، وزورة الخيال الطائف، وما تذكر تلك الأيّام في أكناف فضائله ونضرتها، ورياض علومه في ظلّه وخضرتها، إلاّ أوجب على عينه أن تدمع، وانثنى على كبده خشية أن تصدّع (1) ، ثم لمّا ورد على عبدكم مكتوبكم الكريم، صحبة حضرة العم المحبّ القديم، فكان كالعافية للصبّ السقيم، كما يشهد بذلك السميع العليم، فوقف له منتصبا، وخفّف عنه برؤيته وصبا، وذكر أيام الجمع فهام وجداً وبها صبا، فاستخفّه الإعجاب طربا، وشاهد صدوره فقال: هكذا تكون الرياض، وعاين لطفه فقال: هكذا تكون الصّبا، وقبّل كل حرف منه ووضعه على الراس، وحصل له بعد ترقّبه غاية المجاورة (2) والاستئناس، فعند ذلك أنشد قول بعض الناس: ورد الكتاب فكان عند وروده ... عيداً، ولكن هيّج الأشواقا ألفاته قد عانقت صاداته ... كعناق مشتاق يخاف فراقا فكأنّما النّونات فيه أهلّة ... وكأنّما صاداته أحداقا فعسى الإله كما قضى بفراقنا ... يقضي لنا يوماً بأن نتلاقى فجعلته نصب عيني أتسلى به عند استيلاء الشوق على قلبي، وأطفئ بتأمّله نيران وجدي إذا التهبت في صدري، وسررت به سرور من وجد ضالة عمره، وأدرك جميع أمانيه من دهره، وأنست بتصفّحه أنس الرياض بانهلال القطر، والساري بطلوع البدر، والمسافر بتعريس (3) الفجر، وكيف لا وقد أصبح في وجه الأماني خدّا، بل في خدّها وردا، وصار حسنة من حسنات دهري،

_ (1) إشارة إلى قول الصمة القشيري: وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدعا (2) ق: المجابرة. (3) ق: بتعريسة.

لا يمحو مرور الأيام موضعها من صدري، وطلعت طوالع السرور وكانت آفلة، واهتزت غصون الفرح وكانت ذابلة، ولا سيّما لما تضمّن من البشارة السّارة بصحّة المولى وسلامته، وحلوله في منازل عزّه وكرامته، وموعده الكريم بعوده إلى دمشق الشام، سقاها صوب الغمام (1) ، مرّة ثانية، ويتم افتخارها على غيرها فلا تزال مفاخرة مباهية، نسأل الله تعالى أن يحقّق ذلك، وأن يسلك بسيدي أحسن المسالك، إنّه سبحانه وتعالى سامع الأصوات، ومجيب الدعوات، فإن عودكم يا سيّدي والله مرّة أخرى هو الحياة الشهية، والأمنية التي ترتجي النفس بلوغها قبل المنيّة، وما أنا من الله بآيس من أن يتيح سببا، يعيد المزار مقتربا، والشمل مجتمعا، وحبل البين منقطعا. ثم ليعرض على مسامع سيدي الكريمة، لا زالت من كل سوء سليمة، أنّا أوصلنا مكاتيبكم كما أمرتم لأربابها، لا سيّما مكتوب شيخ الإسلام سيدي عبد الرحمن أفندي المفتي بالشام، ومكتوب المولى الأعظم، والهمام الأفخم، أحمد أفندي الشاهيني، أعزّه الله تعالى فإنّه وقع عنده الموقع العظيم، وحصل له به السرور المقيم، كما يدل على ذلك جوابه الكريم، المحفوف بالتعظيم والتكريم، غير أنّه قد ساءنا ما اتصل بمولانا من نفوذ قضاء الله تعالى الذي يعم، في البنت والأم، فجعل الله تعالى في عمر سيدي البركة، وكان له في السكون والحركة، وماذا عسى أن يذكر لجنابكم في أمر التعزية ويقرّر، ومنكم يستفاد مثله وعنكم (2) يحرّر، والأستاذ أدرى بصروف الدهر وتفنّنها، وأحوال الزمان وتلوّنها، وأعرف بأنالدنيا دار لها بسكانها مدار، وأن الحياة ثوب مستعار، ونعيم الدنيا وبؤسها ما لواحد منهما فيها قرار، وأن لكل طالع أفولاً، ولكل ناضر ذبولاً، ووراء كل ضياء ظلاماً، ولكل عروة من عرى الدنيا انفصاماً، فهو

_ (1) ق: صوب الفحام. (2) عنكم: سقطت من ق.

محلّ لأني يقوى في العزاء عزائمه، ويصغر في عينه نوائب الدهر وعظائمه، ويغنيه عن عظة تجد له مقالاً، وتحلّ عن عقله عقالاً، وهو يتلقّى المصائب، بفكر ثاقب، وفهم صائب، وصبر يقصر عنه الطّود الأشم، وعزم ينفلق دونه الصخر الأصم، وحلم يرجح إذا طاشت الأحلام، وقدمٍ تثبت إذا زلّت الأقدام، ومدّ المقال في ضرب الأمثال، إلى جنابكم الشريف نوعٌ من تجاوز حدّ الإجلال، وأنا أسأل الله تعالى أن يجعل هذه المصيبة خاتمة، ولا يريه بعدها إلاّ دولة قائمة ونعمة دائمة، وأن يحرسه من غير الليل والنّهار، ويجعله وارث الأعمار بجاه نبينا محمد المختار، صلى الله عليه وسلّم وعلى آله وصحبه الأطهار، بمنّه وكرمه. ثمّ أبلغ سيدي - أطال الله عمره، وشرح صدره، ونشر بالخير ذكره - السلام التام، المقرون بألف تحيّة وإكرام، من أهل البلدة جميعاً، لا سيّما من مفتيها العمادي، حرس الله ذاته التي هي منهل للصادي والغادي، وأولاده الكرام، المستحقين للإعزاز والإكرام، ومن كبيرها، ومدبّرها ومشيرها، أحمد أفندي الشاهيني، أعزّه الله تعالى بعزّه، وجعله تحت كنفه وحرزه، ومن خطيبها مولانا الشيخ أحمد البهنسي، ونقيب أشرافها مولانا السيد كما الدين، وجميع المحبّين الداعين لذلكم الجناب، والمتمسّكين بتراب تلكم الأعتاب، ومن والوالد والعم، والله يا سيّدي إنّه ناشرٌ لواء الثّناء والمحامد، وداعٍ لذلك الجناب الكاسب للمفاخر والمحامد، وحضرة شيخنا شيخ الإسلام وبركة الشام، مولانا وسيّدنا الشيخ عمر القاري، أبقى الله تعالى وجوده، وضاعف علينا إحسانه وجوده، وأولاده يسلّمون عليكم السلام الوافر، وينهون لكم الشوق المتكاثر، وحرّر في 2 جمادى الثانية سنة 1038، المحبّ الداعي يحيى المحاسني، انتهى. وكتب إليّ عمّه الفاضل الأسمى ما صورته: باسمه سبحانه وتعالى:

وإنّي لمشتاقٌ إلى وجهك الذي ... تهلّله أهدى السناء إلى البدر وأخلاقك الغر اللواتي كأنّها ... تساقط أنداء الغمام على الزّهر سيدي الذي عبوديتي إليه مصروفة، ودواعي محبّتي لديه موفورة وعليه موقوفة، علم الله سبحانه أنّني لا أزجيّي أوقاتي إلا بذكراه، ولا أرجّي اليمن من ساعاتي إلا باستنشاق نسيم ريّاه، وأنّني إلى طلعته أشوق من الصادي إلى ماء صدّاء (1) ، ومن كثير عزّة إلى نوء تيماء: يرنّحني إليك الشوق حتّى ... أميل من اليمين إلى الشّمال ويأخذني لذكراك اهتزازٌ ... كما نشط الأسير من العقال ولي على صدق هذه الدعوى من نباهة لبّه شاهد معدّل، ومن نزاهة قلبه مزكٍّ غير ملوم ولا معذّل، كيف لا ومطالع البيان مشرقها من أفلاك فهومه، وجواهر التبيان مقذفها من بحار علومه، وهو بحر العلم الذي لا يقتحم بسفن الأفكار، وجبل الحلم الذي رسخ بالهيبة والوقار: لو اقتسمت أخلاقه الغر لم تجد ... معيباً ولا خلقاً من الناس عائبا وماذا عسى أصف به مولانا وقد عجز عن وصفه لسان كلّ واصف، وحر في بث فضائله أرباب المعارف والعوارف: فلو نظمت الثّريّا ... والشّعريين قريضا وكاهل الأرض ضرباً ... وشعب رضوى عروضا وصفت للدّرّ ضدّاً ... وللهواء نقيضا ولكنّني أقول: الثناء منجح أنّى سلك، والسخيّ جوده بما ملك، وإن لم يكن خمر فخلّ، وإن لم يصبها وابل فطلّ. هذا، وقد أوصلنا مكاتيبكم

_ (1) صداء: اسم ماء جرى فيه المثل: " ماء ولا كصداء ".

الشريفة لأربابها، فكانت لديهم أكرم قادم، وأشرف منادم، وقد تداولها الأفاضل وشهدوا أنّها من بنات الأفكار، التي لم يكشف عنها لغير سيدي حجب الاستتار، وقد وجدنا كلاًّ منهم ملتهباً بجمرات الشوق، متجاوزاً حدّ الصبابة والتّوق ليس لهم شغل إلاّ ذكر أوصافكم الحميدة، وبثّ ما أبديتموه بدروسكم المفيدة، وما منهم إلا ويرجو بلّ الصدى ونقع الظما برؤية ذلك المحيّا، والتملّي بتلك الطلعة العليا. وإن سأل سيدي عن أخبار دمشق المحروسة، دامت ربوعها المأنوسة، فهي ولله الحمد منتظمة الأحوال، أمنها الله من الشرور والأهوال، ولم يتجدد من الأخبار ما نعلم به ذلكم الجناب، لا زال ملحوظاً بعين عناية ربّ الأرباب، وأنا أسأل الله تعالى أن يصون جوهر تلك الذات من عوارض الحدثان، وأن يحمي تلك الحضرة العلية من طوارق حكم الدوران: آمين آمين لا أرضى بواحدةٍ ... حتى أضيف إليها ألف آمينا وهذا دعاء للبرية شامل - العبد الداعي، بجميع البواعث والدواعي، تاج الدين المحاسني، عفا الله تعالى عنه، انتهى. وبالهامش ما صورته: وكاتب الأحرف العبد الداعي محمد المحاسني يقبّل يدكم الشريفة، ويخصكم بالسلام الوافر، ويبثّ لديكم الشوق المتكاثر، غير أنّه قد نازعته نفسه في ترك المعاتبة، لسيده الذي لم يسعد عبد منه بالكتابة، على أنها مكاتبة تحكم عقد العبوديّة، ولا تخرج رقبته من طوق الرّقّيّة، والمطلوب أن يخصّه سيده وشيخه بدعواته المستطابة، التي لا شكّ أنّها مستجابة، كما هو في سائر أوقاته، وحسبان ساعاته، ودمتم، وحرر في رابع جمادى الثانية سنة 1038، انتهى. وكتب سيدي التاج المذكور لي ضمن رسالة من بعض الأصحاب ما وصورته: يا فاضل العصر يا من ... للشّرق والغرب شرّف

يا أحمد الناس طرّاً ... في كلّ ما يتصرّف يهدي إليك محبٌّ ... دموعه تتذرّف شوقاً وودّاً قديماً ... منكّراً يتعرّف ولنختم مخاطبات أهل دمشق لي بما كتبه لي أوحد الموالي الكبراء، السري، عين الأعيان، صدر أرباب البلاغة والبيان، مولانا أحمد الشاهيني السابق الذكر في هذا التأليف مرات، ضاعف الله تعالى لديه أنواع المبرات والمسرات، آمين، ليكون مسكاً للختام، إذ محاسنه ليس بها خفاء ولا لها انكتام، ونصّ محل الحاجة منه هو الفياض: " يا سيداً أحرز خصل العلا ... بالبأس والرأي السّديد الشّديد ومن على أهل النّهى قد علا ... بطبعه السامي المجيد المجيد ومن يزين الدهر منه حلى ... قولٍ نظيمٍ كالفريد النّضيد ومن صدا فكري منه جلا ... نظمٌ له القلب عميد حميد ومن له من يوم قالوا " بلى " (1) ... في مهجتي حبٌّ جديدٌ مزيد ومن غدا بين جميع الملا ... بالعلم والحلم الوحيد الفريد أفديك بالنفس مع الأهل لا ... بالمال، والمال عتيدٌ عديد أقسم بالله الذي علت كلمته، وعمّت رحمته، وسحرت القلوب والعقول رأفته ومحبته، وجعل الأرواح جنوداً مجنّدة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، أنّني أشوق إلى تقبيل أقدام شيخي من الظمآن للماء، ومن الساري لطلعة ذكاء، وليس تقبيل الأقدام، ممّا يدفع عن المشوق الأوام، وقد كانت الحال هذه وليس بيني وبينه حاجز إلا الجدار، إذ كان حفظه الله تعالى جار الدار، فكيف الآن بالغرام وهو حفظه الله تعالى بمصر وأنا بالشام،

_ (1) قالوا: بلى، أي عندما سأل الله الخلق " ألست بربكم ".

وليس غيبة مولانا الأستاذ عنّا، إلا غيبة العافية عن الجسم المضنى، بل غيبة الروح، عن الجسد البالي المطروح، ولا العيشة بعد فراقه، وهجر أحبابه ورفاقه، إلاّ - كما قال بديع الزمان - عيشة الحوت في البر، والثلج في الحر، وليس الشوق إليه بشوق، وإنّما هو العظم الكسير، والنزع العسير، والسم يسري ويسير، وليس الصبر عنه بصبر، وإنّما هو الصاب والمصاب، والكبد في يد القصاب، والنفس رهينة الأوصاب، والحين الحائن وأين يصاب، ولا أعرف كيف أصف شرف الوقت الذي ورد فيه كتاب شيخي بخطّه، مزيناً بضبطه، بلى، قد كان شرف عطارد، حتى اجتمع من أنواع البلاغة عندي كل شارد، وأمّا خطه فكما قال الصاحب بن عبّاد: أهذا خط قابوس، أم جناح الطاووس أو كما قال أبو الطّيب: من خطّه في كل قلبٍ شهوةٌ ... حتى كأنّ مداده الأهواء وأنا أقول ما هو أبدع وأبرع، وفي هذا الباب أنفع وأجمع: بل هو خط الأمان من الزمان، والبراءة من طوارق الحدثان، والحرز الحريز، والكلام الحر الإبريز، والجوهر النفيس العزيز، وأما الكتاب نفسه فقد حسدني عليه إخواني، واستبشر به أهلي وخلاّني، وكان تقبيلي لأماليه، أكثر من نظري فيه، شوقاً إلى تقبيل يد وشّته وحشّته، واعتياداً للثم أنامل جسّته ومسّته، وأمّا اليراعة، فلا شكّ أنها ينبوع البراعة، حتى جرى من سحر البلاغة منها ما جرى: فجاء الكتاب كسحر العيون ... بما راح يسبي عقول الورى وينادي بإحراز خصل سحر البيان من الثريا إلى الثرى، ولم أر كتاباً قبل تكون محاسنه متداخلة مترادفة، ولطائفه وبدائعه متضاعفة متراصفة وذلك لأنّه سرد من غرر درره الأحاسن، وورد على يد رأس أحبابنا تاج بني محاسن: أولئك قومٌ أحرزوا الحسن كلّه ... فما منهم إلاّ فتى فاق في الحسن

وكما قلت فيهم أيضاً: فبنو المحاسن بيننا ... كبني المنجّم في النجابه فهم القرابة إن عدم ... ت من الأنام هوى القرابه فيهم محاسن جمّةٌ ... منها الخطابة والكتابه ثمّ لم يكتف سيدي وشيخي بما أنعم به، وأحسن بكتبه، من كتابه المزين بخطه، المبين بضبطه، المسمى بين أهل الوفاء، بكتاب الأصفياء، حتى أضاف إليه كتاب الشفاء، في بديع الاكتفاء، كأنّه لم يرض طبعه الشريف المفرد المستثنى، إلا أن تكون حسناته لدى أحبابه مثنى مثنى، حتى كأن مراده بتضيف هذا الإكرام والإحسان، تعجيز العبد عن أداء خدمة الحمد بحصر البيان وعقد اللسان، إذ لست ذا لسانين، حتى أؤدّي شكر إحسانين، وغاية البليغ في هذا المضمار الخطير، أن يعترف بالقصور ويلتزم بالتقصير. ومن فصول هذا الكتاب ما نصّه: ومن باب إدخال السرور على سيدي وشيخي وبركتي خبر المدرسة الداخلية التي تصدى لها ذلك المولى العظيم، والسيد الحكيم، وصدر الموالي، ورونق الأيام والليالي، سيدي وسندي، وعمادي ومعتمدي، الفهامة شيخي أفندي، المعروف بالعلامة، حفظه الله، ووقاه، وأبقاه، الذي صدق عليه وعليّ قول الأول: ولي صديقٌ ما مسّني عدمٌ ... مذ وقعت عينه على عدمي أغنى وأقنى فما يكلّفني ... تقبيل كفٍّ له ولا قدم قام بأمري لمّا قعدت به ... ونمت عن حاجتي ولم ينم وقول الثاني: صديقٌ لي له أدب ... صداقة مثله نسب رعى لي فوق ما يرعى ... وأوجب فوق ما يجب

فلو نقدت خلائقه ... لبهرج عنده الذهب ولعمري إنّه كذلك قد تصدّى لحاجتي فقضاها، ولحجّتي فأمضاها، ولم يكن لي في الروم سواه وسواها، وما أصنع بالروم، إذا تخلف عني ما أروم، أبى الله إلاّ أن ينفعني ذلك الحرّ الكريمبنهيه وأمره، وأن يكون بياني وبناني مرتبطين بحمده وشكره، وهذه حاجة في نفسي قضيتها، وأمنية رضيت بها وأرضيتها، ولله الحمد. ولست أحصي، ولا أستقصي، يا سيدي ومولاي، شوق أخيكم سيدي ومولاي المفتي العمادي، حفظه الله تعالى وإياكم، وقد بلغ به شوقه وغرامه، وتعطّشه وأوامه، أن أفرد لجانب مولانا كتاباً، يستجلب مفخراً وجواباً، إذ الشام كما رأيتم عبارة عن وجوده الشريف والسلام، وكذلك أولاده الكرام، تلامذتكم يقبّلون الأقدام. وأما محبكم وصديقكم الشيخ البركة شيخ الإسلام مولانا عمر القاري فقد بلغته سلام سيدي، فكان جوابه الدعاء والثناء، مع العزيمة عليّ بأن أبالغ لجانبكم الكريم في تأدية سلامه، وتبليغ ما يتضمنه من المحبّة الخالصة فصيح كلامه. وأما الكريميّان ولدكم محمد أفندي وأخوه سيدي أكمل الدين، فهما لتقبيل أقدامكم من المستعدين. وكذلك لا أحصي ما هما عليه من الدعاء والثناء لجنابكم الكريم العالي، تلميذاكم بل عبداكم ولدنا الشيخ يحيى ابن سيدي أبي الصفاء، وولدنا الشيخ محمد ابن سيدي تاج الدين المحاسنيان. وأما عبداكم وتلميذاكم ولداي الشيخان الداعيان الأخوان الشيخ عبد السلام والقاضي نعمان، فليس لهما وظيفة إلا الدعاء والثناء، في كل صبح ومساء، لأن كلاًّ منهما خليفتي، والاشتغال بالدعاء لسيدي وظيفتي، ولا يقنعان بتقبيل اليدين الكريمتين، ولا بد من تقبيل القدمين المباركتين. وبعد، فلا ينقضي عجبي من بلاغة كتابكم الشريف الوارد لجناب أخيكم المفتي العمادي حفظكم الله تعالى وإيّاه، ولا كان من يشناك ويشناه، وعجبه به أعظم وأكبر

إذ هو - حفظه الله تعالى - بفهم كلام سيدي أحقّ وأجدر، فلا عدمنا تلك الأنفاس الملكية والفلكية، من كل منكما إذ هي والله البغية والأمنية، كما قلت: ليس فخري ولا اعتدادي بدهرٍ ... غير دهر أراكما من بنيه اللهم أختم هذا الكلام، للقبول التام، بالصلاة على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين. ومن فصول هذا الكتاب ما صورته: أطال الله يا سيدي بقاءك، ولا كان من يكره لقاءك، ورعاك بعين عنايته ووقاك، وأدامك وأبقاك، وضمن لك جزاء الصبر، وعوّضك عن مصابك الخير والأجر، ولقد كنت عزمت على أن أجعل في مصاب سيدي بأمّه، متّعه الله بعمره وعلمه، ودفع عنه سورة همّه وغمّه، قصيدة تكون مرثية، تتضمن تعزية وتسلية، فنظرت في مرثية أبي الطيب المتنبي لأمه، واكتفيت بنظمها ونثرها، وعقدها وحلها، وانتخبت قوله منها: لك الله من مفجوعة بحبيبها ... قتيلة شوقٍ غير مكسبها وصما ومنها: ولو لم تكوني بنت أكرم والد ... لكان أباك الضخم كونك لي أمّا لئن لذّ يوم الشامتين بيومها ... لقد ولدت مني لآنفهم رغما فقلت: هذه حال مولانا الراغم لأنوف الأعدا، المجدّد لأسلافه حمداً ومجدا، القاتل بشوقه لا خطأ ولا عمدا، ثم إنّي لما رأيت قوله في مرثية أخت سيف الدولة: إن يكن صبر ذي الرزيّة فضلا ... تكن الأفضل الأعزّ الأجلاّ أنت يا فوق أن تعزّى عن الأح ... باب فوق الذي عزّيك عقلا وبألفاظك اهتدى فإذا عزّا ... ك قال الذي له قلت قبلا

قد بلوت الخطوب حلواً ومرّاً ... وسلكت الأيام حزناً وسهلا وقتلت الزّمان علماً فما يغ ... رب قولاً وما يجدّد فعلا قلت: هذه والله حلى مولانا الأستاذ الذي عرف للزمان فعله، وفهم قوله، قد استعارها أبو الطّيب وحلّى بها مخدومه سيف الدولة، وكيف أستطيع إرشاد شيخي لطريق الصبر، وأذكّره بالثواب والأجر، وكيف وأنا الذي استقيت من ديمه، واهتديت إلى سبيل المعروف بشيمه، وسلكت جادة البراعة بهداية ألفاظه، وارتقيت إلى سماء البلاغة برعاية ألحاظه، وهل يكون التلميذ معلماً، وهل يرشد الفرخ قشعماً، وكيف يعضد الشبل الأسد، وهو ضعيف المنّة والمدد، ومن يعلّم الثغر الابتسام، والصدر الالتزام، ويختبر الحسام، وهو مجرب صمصام، وهل تفتقر الشمس في الهداية إلى مصباح وهل يحتاج البدر في سراه إلى دلالة الصباح ذلك مثل شيخي ومثل من يرشده إلى فلاح أو نجاح، وإنّما نأخذ عنه ما ورد في ذلك من الكتاب والسنّة، ونحذو حذوه في الطريق الموصّلة إلى الجنة، ثم لما وصلت في هذه القصيدة إلى قول أبي الطّيّب: إنّ خير الدموع عيناً لدمعٌ ... بعثته رعايةٌ فاستهلاّ رأيته قد أبدع فيه كل الإبداع، ونظم ما يكاد يجري الدمع من طريق السماع، فقلت: إنّا لله، وأكثرت الاسترجاع، وقلت في نفسي: إن ذلك الدمع الذي بعثته رعاية الحقوق، هو دمع شيخي الذي حمى الله قلبه الشفوق من العقوق، للمصيبة في الأم، التي حزنها يغم، ومصابها يعم، وكيف لا يعمنا مصابها، وقد كمل للمصيبة كفاها الله بموتها نصابها، هذا مع الفقد السليلة الجليلة، والكريمة الخليلة، وأي دمع لم تبعثه تلك الرعاية وأي نفس لا تتمنى أن تكون لسيدنا من كل ما يكره وقاية وأي كبد قاسية، لم تكن لأحبابها مواسية وأنّى يتسنّى، للعبد المعنّى، تسلية شيخه وهو الصبور الشكور، العارف بالأمور، العالم بتصاريف الدهور وما ظننت أن بناني، يساعدني على تحرير

بياني، لتعزية شيخي، حفظه الله تعالى في أصله وفرعه، وضرعه وزرعه، وفرعه ونبته، وأمه وبنته، أما الوالدة الماجدة فإنّي إن أمسكت عن بيان كرم أصلها، يسمو بها كرم فرعها ونسلها، فرحم الله تعالى سلفها، وأبقى خلفها، ولا حرم سيدي ثمرة رضاها، ورضي عنها وأرضاها؛ وأمّا المخدّرة الصغيرة، فالمصيبة فيها كبيرة، إذ العمومة مقّرية، والخؤولة وفائية، فهي ذات النّجارين، وحائزة الفخارين، كأنّ سيدي - أعزّه الله تعالى - لم يرض لها كفواً ومهراً، فاختار القبر أن يكون له صهراً، وخطبة الحمام لا يمكن ردها، وسطوة الأيام لا يستطاع صدها، كما قال أبو الطّيب المتنبي أيضاً: خطبةٌ للحمام ليس لها ر ... دّ وإن كانت المسمّاة ثكلا وإذا لم تجد من النّاي كفؤاً ... ذات خدرٍ أرادت الموت بعلا أسأل الله تعالى أن تكون هذه الخطبة قافية الخطوب، وهذا النّدب المبرّح آخر الندوب، وأن يعوض سيدي عن حبيبه المبرقع المقنّع، حبيباً معمّماً تتحرى النجابة منه المصنع، وأن يبدله عن ذات الخمار والخضاب، بمن يصول بالحراب، ويسطو باليراع ويشتغل بالكتاب: وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ... ولا التّذكير فخرٌ للهلال اللهم يا أرحم الراحمين، إنّي أتوسّل إليك بنبيّك محمّد صلى الله عليه وسلّم وآله الطيّبين الطاهرين، أن تأخذ بيد عبدك شيخي المقّريّ في كل وقت وحين، آمين. ومن فصول هذا الكتاب ما صورته: ولما وصلني سيدي بهديته التي أحسن بها من كتاب الاكتفاء، داخل طبعي الصفاء، ونشطت إلى نظم بيتين فيهما التزام عجيب لم أر مثله، وهو أن يكون اللّفظ المكتفى به معنى اللّفظ المكتفى منه، فإن الاحتفاء والاحتفال بمعنى الاعتناء، كما أفاده شيخي، فيكون على

هذا الاكتفاء وعدمه على حدّ سواء، إذ لو قطع النظر عن لفظ الاحتفال لأغنى عنه لفظ الاحتفاء، مع تسمية النوع فيهما، وهما: إنّ احتفال المرء لا ... أحبّه إلا مع الاكتفا مبالغات الناس مذمومةٌ ... فاسلك سبيل القصد في الاحتفا ولقد انقطع الثلج أيام الخريف، وكانت الحاجة إليه شديدة بعد غيبة سيدي حفظه الله تعالى عن دمشق، فتذكرت شغف شيخي به، فزاد على فقده غرامي، وفاض عليه تعطّشي وأوامي، فجعلت في ذلك عدّة مقاطيع، وأحببت عرضها على سيدي: أولها: ثلج يا ثلج يا عظيم الصفات ... أنت عندي من أعظم الحسنات ما بياضٌ بدا بوجهك إلاّ ... كبياضٍ بدا بوجه الحياة ثانيها: قد قلت لمّا ضلّ عنّي رشدي ... وما رأيت الثّلج يوماً عندي لا تقطع اللهمّ عن ذا العبد ... أعظم أسباب الثّنا والحمد ثالثها: ثلج يا ثلج أنت ماء الحياة ... ضلّ من قال ضرّ ذاك لهاتي ما بياضٌ بدا بوجهك إلاّ ... كبياضٍ قد لاح في المرآة قد رأى الناس وجههم في المرايا ... وأنا فيك شمت وجه حياتي وما عللت سيدي هذا التعليل، إلاّ لأشوقه إلى نسيم دمشق الذي خلّفه سيدي حفظه الله عليلاً وهو على الصحة غير عليل، ولم يشف أعزّه الله تعالى منه الغليل، ولسيدي الدعاء بطول البقاء والارتقاء، وهذه أبيات أحدثها العبد في وصف القهوة، طالباً من سيّده أن يغفر خطأه فيها وسهوه:

قهوةٍ كالعنبر السّحيق ... سوداء مثل مقلة المعشوق أتت كمسكٍ فائحٍ فتيق ... شبّهتها في الطعم بالرّحيق تدني الصديق من هوى الصديق ... وتربط الودّ مع الرفيق فلا عدمت مزجها بريقي ... وما زلت ألهج بما أفادنيه شيخي من أماليه، وأتصفح الدهر الذي جمعته عنه من أسافله إلى أعاليه، وأستشكل على الأحباب والأصحاب في أثناء المسامرة، ما أفادنيه سيدي من تسمية المرحوم القاضي التنوخي كتابه نشوار المحاضرة حتى ظفرت بأصلها في القاموس في مادة نشر، فإذا هي عربية محضة، فإنّه قال: ونشورت الدابة نشواراً: أبقت من علفها، ولقد تعجبت من بلاغة هذه التسمية وعذوبتها، وحسن المجاز فيها مع سلاستها وسهولتها، وأحببت عرضها على شيخي حفظه الله تعالى ليفرح لي بين تلامذته كما فرح طبعي به حفظه الله تعالى بين أساتذته، وليعلم أنّي لم أنس ما أفادنيه في خلال المحاورة، أيام المؤانسة والمجاورة، فوالله إنّه سميري، في ضميري، وكليمي، مابين عظمي وأديمي: يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم الطرس طما وما مضت قصتنا ... لا ذنب لنا حديثنا لذّ فطال وحرر يوم السبت المبارك غرّة جمادى الآخرة من شهور سنة ثمان وثلاثين بعد الألف، أحسن الله ختامها بحرمة محمد وآله الطيّبين الطاهرين، وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى والنصير، والحمد لله وحده، عبده الفقير الحقيرالمشتاق، المذنب المقصر لسيده عن اللحاق، الذي لم يبرح عن العهد المتين، أحمد الشامي بن شاهين، انتهى. ولو تتبعت ما له حفظه الله تعالى من النظم والنثر، اللذين غلب فيهما بلغاء

أهل العصر، بالشام ومصر، وغيرهما من الأقطار، لا زال مقامه مقضيّ الأوطار، لاستوعبت الأسفار، وفي الإشارات ما يغني عن الكلم، وقد تقدم في خطبة هذا التصنيف، ذكر شيء من نظمه ونثره وأنّه هو السبب الداعي إلى جمع هذا التأليف، والله سبحانه يديم جنابه السريّ الشريف، ويبوّئه من العزّ الظلّ الوريف، فلقد أولى من الحقوق ما لا نؤدّي بعضه فضلاً عن كلّه، وناهيك بما جلبناه من كلامه دليلاً على شرفه وفضله. ورسالته هذه إلي كانت جواباً عن مكتوب كتبته إليه من جملته: يا من له طائر صيتٍ علا ... في الجوّ فاصطاد الشريد الشديد يا نجل شاهين البديع الحلى ... تملّ بالعزّ الطويل المديد وفز بخصل السّبق بين الملا ... وسر بنهجٍ للمعالي سديد ورد مع الأحباب عذباً حلا ... منتظماً من الأماني البديد وارفل على طول المدى في ملا ... مسرّةٍ راقت وعزٍّ جديد والوالد المحروس بالله، لا ... بعدّة الخلق ولا العديد ومن نثرها: " سيدي الذي في الأجياد من عوارفه أطواق، وفي البلاد من معارفه ما تشهد به الفطرة السليمة والأذواق، وتشتدّ إلى مجده المطنب الذي لا يحطّ له رواقٌ الأشواق، وتعمر بفائده وفرائده من الآداب الأسواق، وتنقطع دون نداه السحب السواكب، وتقصر عن مداه في السّمو الكواكب، والله سبحانه له واق، المولى الذي ألقت إليه البلاغة أفلاذها، واتخذت البراعة طاعته عصمتها وملاذها، إذ بذّ أفرادها وأفذاذها، وأمطرت سماء أفكاره، على كل محبّ أو كاره، طائر في جو أو مستقر في أوكاره، صيّبها ورذاذها، وفاخرت دمشق بعلاه وحلاه أقطار البسيطة وبغذاذها ". ومنها: " أبقاه الله تعالى وحقيقة وعوده ينمقها النجاز، وحقيقة سعوده لا يطرقها المجاز ".

ومنها: فأنت الذي نفّست عني مخنّقا، وأصفيت مشربي وكان مرنّقا، وكاثرت بما به آثرت، وما استأثرت - رمل النقا، فلو رآك المأمون ابن الرشيد، لعلم أنّك المتمنّى ببيتي الغناء الذي غني به والنشيد: وإنّي لمشتاق إلى قرب صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت لديه عذيري من الإنسان لا إن جفوته ... صفا لي، ولا إن كنت طوع يديه ولم يقل: أعطني هذا الصديق وخذ مني الخلافة، وأنا أقول: قد ظفرنا به بحمد الله ولم أجد أحداً في دهره وافق الغرض فلم نر خلافه. ومنها: فهذه يا ابن شاهين أياديك البيض، تفرخ لك الشكر وتبيض، فلا دليل على ولائي، كإملائي، ولا شاهد لما في أحنائي، كثنائي، ولا حجّة على ودادي، كتكراري ذكرك وتردادي. وهي طويلة، لا يحضرني الآن منها سوى ما ذكرته. ولنقتصر من مكاتبات أعيان العصر من أهل دمشق المحروسة على هذا النحو المقدار، ونسأل الله تعالى أن يحفظهم جميعاً في الإيراد والإصدار. [رسائل من المغرب ترد للمؤلف] وفي تاريخ ورود هذه المكاتيب الشامية السابقة عليّ، اتفق ورود كتب من المغرب، وجّهها جماعة من أعيانه إليّ. فمن ذلك كتاب كتبه لي الأستاذ المجوّد الأديب الفهامة معلم الملوك سيدي الشيخ محمد بن يوسف المراكشي التامليّ (1) نصّه: " الحمد لله تعالى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد تتوالى، من المحب المخلص المشتاق، إلى السيد الذي

_ (1) ترجمته في خلاصة الأثر 4: 271 (وفيه التاولي) وقال إنه لم يقف على تاريخ وفاته؛ وانظر روضة الآس: 25.

وقع على محبته الاتفاق، وطلعت شموس معارفه في غاية الإشراق، وصار له في ميدان الكمال حسن الاستباق، الصدر الكامل، والعالم العامل، الفقيه الذي تهتدي الفقهاء بعلمه وعمله، البليغ الذي تقتدي البلغاء ببراعة قلمه، ناشر ألوية المعارف، ومسدي أنواع العوارف، العلامة إمام العصر، بجميع أدوات الحصر، سيدي أحمد بن محمد المقّري قدّس الله السلف، كما بارك في الخلف، سلامٌ من النسيم أرقّ، وألطف من الزهر إذا عبق. وبعد، فإن أخباركم دائماً ترد علينا، وتصل إلينا، بما يسر الخاطر، ويقرّ الناظر، مع كل وارد وصادر، والعبد يحمد الله تعالى على ذلك، ويدعو الله بالاجتماع معكم هنالك: ويرحم الله عبدا قال آمينا ... كتبته إليكم أيّها السيد من الحضرة المراكشية مع كثرة أشواق، لا تسعها أوراق، كتبكم الله سبحانه فيمن عنده، كما جعلكم ممّن أخلص في موالاة الحق قصده، وودّي إليكم غضّ الحدائق، مستجلٍ في مطلع الوفاء بمنظر رائق، لا يحيله عن مركز الثبوت عائق، وحقيق بمودة ارتبطت في الحق وللحق معاهدها (1) ، وأسست على المحبة في الله قواعدها، أن يزيد عقدها على مر الأيام شدة، وعهدها وإن شط المزار جدّه، وأن تدّر للأخرى عدّة، وإنّي ويعلم الله تعالى لممّن يعتقد بمحبتكم وموالاتكم عملاً صالحاً يقرب من الله تعالى ويزلف إليه، ويعتمدهما (2) وزراً يعوّل في الآخرة يوم لا ظل إلاّ ظلّه عليه، فإنّكم واليتم فأخلصتم في الولا، وعرفتم الله تعالى فقمتم بحقوق الصحبة على الولا، معرضين في تلكم الأخوّة عن غرض الدنيا وعرضها، موفين

_ (1) كذا في ق ودوزي، وقد تقرأ: " معاقدها ". (2) هذه رواية إحدى النسخ؛ وفي ق ودوزي: ويعلم.

بشروط (1) نقلها ومفترضها، إلى أن قضى الله تعالى بافتراقنا، وحقوقكم المتأكدة دين علينا، والأيام تمطل بقضائها عنا، وتوجّه الملام إلينا، فآونةً أقف فأقرع السنّ على التقصير ندماً، وآونة أستنيم إلى فضلكم فأتقدم قدماً، وفي أثناء هذا لا يخطر بالبال حق لكم سابق، إلا وقد كر عليه منكم آخر له لاحق، حتى وقفت موقف العجز، وضاقت عليّ العبارة عن حقيقة مقامكم في النفس فكدت لا أتكلم إلا بالرمز، إجلالاً لحقكم الرفيع، وإشفاقاً من التقصير المضيع، وقد كنت كتبت - أعزّكم الله تعالى - إليكم قبل هذا بكتب أربعة أو خمسة فيها عجالة قصائد كالعصائد، كالثريد من الكلام ككلامكم (2) السلس الكثير الفوائد، فعذراً ممّن كان أخرس من سمكة، وأشد تخبّطاً من طائر في شبكة، فما عرفت أوصل شيء من ذلك، أن حصل في أيدي المعاطب والمهالك وما رأيت غير رجل من صعاليك الحجاج التقيت به يوماً بالحضرة المراكشية، فقال لي: الشيخ الإمام المقّريّ يسأل عنك، وقد أرسل معي كتاباً إليك، فوقع في البحر مع جملة ما وقع، فقلت له: لا غرابة في ذلك فقد رجع إلى أصله، ومن ظلمة البحار تستخرج الدرر، وقد جاءني كتاب من بعض الأخلاء الصديقين وهو الحاج الصالح السيد أبو بكر من مكة المكرمة شرّفها الله تعالى، وذكر لي فيه أنّه متعه الله تعالى بلقائكم، وأخبرني بسؤالكم عني كثيراً، وإلى الآن يا نعم السيد إنما عرّفته بما كتبته لسيادتكم تعريف تذكّر لا تعريف منّة، فأنصفونا في الحكم عليكم في عدم الجواب بما ألفته الأدباء شريعة وسنّة، وبالجملة ففؤادي لمجدكم صحيح لا سقيم، واعتدادي بودكم منتج غير عقيم، والله تعالى يجعل الحب في ذاته الكريمة، ويقضي عن الأحبّة دين المحبّة فيوفي كل غريم غريمه، ويصلكم إن شاء الله تعالى هذا المرقوم،

_ (1) ق: بشروطها. (2) كذا في ق، والأصح هنا حذف كاف التشبيه.

وبه سؤال منظوم، لتتفضلوا بالجواب عنه بعد حمد الله، والصلاة والسّلام على مولانا رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: إلى المقّريّ الحبر صدر الأئمة ... من المخلص الوداد أزكى تحيّة فذلك يا صدر الصّدور عجالة ... لسمح بالجواب عمّا أكنّت فتى قد رأى عند العذارى فتية ... محرّمة عند الزوال فحلّت وعادت حراماً عند عصرٍ فعندما ... عشاءٌ أتى عادت حلالاً تجلّت وفي صبح ثاني اليوم عادت محرّماً ... وزالت زوالاً منه في غير مرية وفي ظهره حلّت فطابت قريرةً ... وفي عصره محرّماً قد تبدّت وعند العشاء بالضّرورة حلّلت ... وذلك بعد غرم مالٍ كفدية وفي صبحه عادت حراماً ترى به ... بروق سيوفٍ لامعاتٍ بسنّة وكان يضيق حسرةً تأسّفاً ... وحلّت له وقت العشاء وتمّت وعن أمةٍ أيضاً يموت سريّها ... قد أولدها في ملكه بعد وطأة وعادت لمملوك السريّ حليلةً ... بعقد نكاحٍ بعد من غير شبهة فجاءت ببنت، هل لها من تزوّج ... بنجل السريّ بيّنوا لي قصتي فإن السيوري مانعٌ من تزوّج ... له بابنةٍ منها بتلك القضيّة وما الفرق بينها وبين التي أتى ... بها ابن أبي زيد بأوضح حجّة وعن مشترٍ مملوكةً غير محرمٍ ... ومسلمة شراً صحيحاً بشرعة وليس بملكه له وطؤها يرى ... جوازاً على التأبيد تأخير جلّة (1) وما طالقٌ من عدّةٍ خرجت ولا ... يجوز على التأبيد في خير ملّة نكاحٌ لها من واحدٍ ومطلّق ... لها غير معصوم ترى ي الشّريعة وتمّت بحمد الله مبديةً لكم ... سلاماً كما أبدته في صدر طلعة

_ (1) كذا في ق؛ وجاء في دوزي: يا خير، وفي التجارية: من حين حلت.

وتقرير السؤال الثاني: أمة أولدها سيّدها فصارت حرّة، فمات عنها السيد، ثمّ تزوّجها عبد سيدها، فأتت ببنت، أما لولد سيدها أن يتزوّج هذه البنت فإن الرجل له أن يتزوّج بنت زوجة أبيه من رجل غيره، وهذه سريّة أبيه، فإن الإمام السيوري يمنع هذه المسألة، وما الفرق بينهما وتصلكم أيضاً إن شاء الله تعالى عجالة رجزية، في مآثركم السنية، ضمنتها أشطاراً من الألفية، فتفضّلوا بالإغضاء، وحسن الدعاء، أن يجمع الله شملنا بكم في تلك الأماكن المشرّفة، ثم المأمول من سيّدنا ومولانا أن يتفضّل علينا بكتاب طبقات القراء للإمام الحافظ الداني، إذ ليس عندنا منه نسخة، وأما تأليفكم الكثير الفوائد المسمّى بأزهار الرياض في أخبار عياض، وما يناسبها ممّا يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض، فقد انتشر بهذه الأقطار المرّاكشية، وانتسخت منه نسخ عديدة من نسخة المرحوم سيدي أحمد بن عبد العزيز بن الولي سيدي أبي عمر، وكسا الله سبحانه تأليفكم المذكور جلباب القبول، فما رآه أحد إلاّ نسخه، وعندي النسخة التي كتبها بخطّه السيد أحمد المذكور بخط حسن، وعلى هامشها في بعض الأماكن خطكم الرائق، وبعض التنبيهات من كلامكم الفائق، وأعلمونا بتأليفكم الذي سميتموه قطف المهتصر من أفنان المختصر (1) " هل خرج من المبيضة أم لا ووددنا لو اتصلنا منه بنسخة، وقد اشتاق فقهاء هذا الإقليم إليه غاية كالفقيه قاضي القضاة محبكم سيدي عيسى وغيره من أخلاء خليل، في كل محفل جليل، إلى أن قال: وأنا أتمثّل بكلام مولانا عليٍّ كرّم الله وجهه حيث يقول، تبرّكاً به: رضيت بما قسم الله لي ... وفوّضت أمري إلى خالقي كما أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقي

_ (1) ذكره المحبي في خلاصة الأثر باسم " قطف المهتصر في شرح المختصر " وهو حاشية على مختصر الشيخ خليل في الفقه المالكي.

ولي حفظكم الله تعالى تخميس على البيتين، وذلك أنّه نزلت بي شدة لا يمكن الخلاص منها عادة، فما فرغت من تخميسهما إلا وجاء الفرج في الحين، ونصّه: إذا أزمة نزلت قبلي ... وضقت وضاقت بها حيلي ... تذكرت بيت الإمام علي ... رضيت بما قسم الله لي ... وفوّضت أمري إلى خالقي لأنّ الإله اللطيف قضى ... على خلقه حكمه المرتضى ... فسلّم وقل قول من فوّضا ... " كما أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقي " فعذراً - أعزّكم الله سبحانه ونفع إخائكم - عن إغباب المراسلة بالمكاتبة عذراً، وصبراً على بعد اللّقاء صبراً، فإن يقدر في هذه الدار نلنا فيها ما نتمنى، وإلاّ فلن نعدم بفضل الله جزاء الحسنى، ولقاء لا يبيد ولا يفنى، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، إيقاناً بالوعد وتحقيقاً، فمن أوجب له محبته، أدخله جنّته، وأحضره مأدبته، وكمّل له أمنيته، جعلنا الله من المتحابين في جلاله، بكرمه وإفضاله، وكتبه محبكم ومعظمكم، الواصل حبل ودّه بودكم، والمشرّف لعهدكم، المنوّه بفخركم ومجدكم، العبد الفقير الحقير، المشفق على نفسه من التقصير والذنب الكبير، محمد بن يوسف التاملي، غفر الله ذنبه، وستر عيبه، وجبر قلبه، وجمعه بمن أحبّه، بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم، في عاشوراء المحرم فاتح سنة ثمانٍ وثلاثين وألف، انتهى. وصحبة هذا المكتوب ورقة نصّها: بسم الله الرّحمن الرحيم، وصلّى الله

على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم (1) . لله درّ العالم الجيّاني ... كأنّما ينظر بالعيان للمقّريّ العالم المفضال ... منظّراً بأحسن المثال وعالمٌ بأنّني من بعده ... أشير في نظامنا لقصده وها أنا بالله أستعين ... مضمّناً وربّنا المعين بالشطر من ألفية ابن مالك ... أيّدنا الله لنسج ذلك قال محمّد عبيد المالك ... وسالك الأحسن من مسالك نشير بالتّضمين للنحرير ... المقّريّ الفاضل الشّهير ذاك الإمام ذو العلاء والهمم ... " كعلم الأشخاص لفظاً وهو عم " فلن ترى في علمه مثيلا ... " مستوجباً ثنائي الجميلا " ومدحه عندي لازمٌ أتى ... " في النظم والنثر الصّحيح مثبتا " أوصاف سيدي بهذا الرجز ... " تقرّب الأقصى بلفظٍ موجز " فهو الذي له المعاني تعتزي ... " وتبسط البذل بوعد منجز " رتبته فوق العلا يا من فهم ... " كلامنا لقظٌ مفيد كاستقم " وكم أفاد دهره من تحف ... " مبدي تأوّلٍ بلا تكلّف " لقد رقى على المقام الطاهر (2) ... " كطاهر القلب جميل الظاهر " وفضله للطّالبين وجدا ... " على الذي في رفعه قد عهدا " قد حصّل العلم وحرّر السير ... " وما بإلاّ أو بإنّما انحصر " في كلّ فنّ ماهرٍ صفه ولا ... " يكون إلاّ غاية الذي تلا " سيرته جرت (3) على نهج الهدى ... " ولا يلي اختياراً أبدا "

_ (1) ورد بعض هذه الأرجوزة في خلاصة الأثر 4: 271. (2) خلاصة الأثر: إلى المقام الباهر. (3) خلاصة الأثر: سارت.

وعلمه وفضله لا ينكر ... " ممّا به عنه مبيناً يخبر " يقول دائماً بصدر انشرح ... اعرف بنا فإنّنا نلنا المنح يقول مرحباً لقاصديه من (1) ... " يصل إلينا يستعن بنا يعن " صدّق مقالتي وكن متّبعا ... " ولم يكن تصريفه ممتنعا " وانهض إليه فهو بالمشاهده ... " الخبر الجزء المتمّ الفائده " والزم جنابه وإيّاك الملل ... " إن يستطل وصل وإن لم يستطل " واقصد جنابه ترى مآثره ... " والله يقضي بهباتٍ وافره " وانسب له فإنّه ابن معطي ... " ويقتضي رضىً بغير سخط " واجعله نصب العين والقلب ولا ... " تعدل به فهو يضاهي المثلا " قد طالما أقاد علم مالك ... " أحمد ربي الله خير مالك " وحاسد له ومبغضٌ زمن ... " وهالك وميّت به قمن " وليس يشفى مبغضٌ له أعلّ ... " عيناً وفي مثل هراوة جعل " يقول عبد ربّه محمّد ... " في نحو خير القول إنّي أحمد " وهو بدهره عظيم الأمل ... " مروّع القلب قليل الحيل " فادع له وسادة قد حضروا ... " وافعل أوافق نغتبط إذ تشكر " واجبره بالدّعا عساه يغتنم ... " فجره وفتح عينه التزم " أنشدت فيكم ذا وقال قائل ... " في نحو نعم ما يقول الفاضل " أدعو لكم بالستر في كل زمن ... " لكونه بمضمر الرفع اقترن " مآثر لكم كثيرة سوى ... " ما مرّ فاقبل منه ما عدلٌ روى " قد انتهى تعريف ذا المعرّف ... " وذو تمام ما برفعٍ يكتفي " لأنتم تاج الأئمة الأول ... " وما بجمعه عنيت قد كمل " فالله يبقيكم لدينا وكفى ... " مصليّاً على الرسول المصطفى "

_ (1) خلاصة الأثر: القاصد من.

تترى عليه دائماً منعطفا ... وآله المستكملين الشّرفا ومن ذلك ما كتبه لي بعض الأصحاب ممّن كان يقرأ علي بالمغرب (1) ، وصورته: سيدنا وسيد أهل الإسلام، حامل راية علوم الأمّة الأحمدية، على صاحبها الصلاة والسلام، آية الله في المعاني والمعالي، وحسنة الأيام والليالي، وواسطة عقود الجوهر واللآلي، إمام مذهب مالك والأشعري والبخاري، والواقدي والخليل، العلاّمة القدوة السيد الكبير الشهير الجليل، ذو الأخلاق العذبة المذاق، والشمائل المفصحة عن طيب الأصول والأعراق، كبير زمانه دون منازع، وعالم أوانه من غير منكر ولا مدافع، شيخا ومعلمنا ومفيدنا وحبيب قلوبنا مولانا شيخ الشيوخ أبو العباس أحمد بن محمد المقّريّ المغربي التلمساني نزيل فاس ثم الديار المصرية، حفظه الله تعالى في مواطن استقراره، ورفع درجته بإشادة فخاره على مناره، عن شوق يودّ له الكاتب أن لو كان في طي كتابه، وتوقٍ إلى مشاهدتكم هو الغية في بابه، بعد إهداء السلام المحفوف بأنواع التحيّات والكرامات والبركات، الدائم ما دامت في الوجود السكنات والحركات، لمقامكم الأكبر، ومحفلكم الأشهر، ومن تعلّق بأذيالكم أو كان مستمطراً لنوالكم، أو صبّت عليه شآبيب أفضالكم، من أهل ومحب وصاحب وخديم، هذا وإنّه ينهي إلى الوداد القديم، وأن أهل المغرب الأدنى والأقصى حاضرة وبادية، كلّهم يتفكّهون بل يتقوتون بذكركم، ويشتاقون لرؤية وجهكم، ويتلذذون بطيب أخباركم، وإن كان المغرب الآن في تفاقم أحوال، وتراكم أهوال، في الغاية مدائن وبوادي، لا سيما مدينة فاس فإنّها في شر عظيم، وأميره مولاي عبد الملك مات في السنة السابعة والثلاثين بل في ذي الحجّة

_ (1) اسم هذا الكاتب كما يتبين من خاتمة الرسالة " علي بن عبد الواحد الأنصاري " (ت: 1054هـ) وكان فقيهاً محدثاً وله مؤلفات كثيرة، استوطن الجزائر آخر عمره وفيها توفي (انظر ترجمته في صفوة من انتشر للأفراني ص: 135 ط. فاس وكتاب الزاوية الدلائية: 126) .

قبلها؛ وفي المحرم من سنة سبع وثلاثين، توفّي ملك المغرب السلطان أبو المعالي زيدان (1) وبويع من بعده ابنه مولاي عبد الملك، وتقاتل مع أخويه الأميرين الوليد وأحمد وهزمهما، وإلى الله عاقبة الأمور، وأهل داركم بفاس بخير وعافية، ونعم ضافية، سوى ما أدركهم من طول الغيبة، نسأل الله تعالى أن يملأ بقدومكم العيبة، ومحبكم الأكبر، ووليكم الأصغر، سيد أهل المغرب اليوم وشيخ الطريقة، والكرامات سيدي محمد بن أبي بكرالدلائي (2) ، ويحييكم (3) ويعظم قدركم، ولسان لكم ذاكر ناشر شاكر، وهو على خير، وقد اجتمعت عليّ من بركتكم في مدينة سلا جماعة من طلاب العلم وفتح الله تعالى علي بتآليف عديدة منها كفاية الطالب النبيل في حل ألفاظ مختصر خليل ومنها شرحٌ على المنهج المنتخب للزّقاق في قواعد مالك، ومنظومة في أكثر من ألف بيت في السّير والشمائل، ومنها في رجال البخاري ولا كنسخ (4) الكلاباذي، ومنها خطب، وغير ذلك، والكل من بركتكم، ونسبته إليكم في صحيفتكم،

_ (1) بويع أبو المعالي زيدان بن أحمد المنصور بعد وفاة والده سنة 1012، وفي عهده جلا بقية من كان من العرب بالأندلس (سنة 1016) ؛ وقد خاض أبو المعالي حروباً كثيرة ضد الطامعين المحليين في كل من مراكش وفاس وضد الإسبان (راجع الاستقصا 6: 3 - 72) ؛ وقد بويع ابنه عبد الملك بعد وفاته سنة 1037 في شهر المحرم، فثار عليه أخواه الوليد وأحمد فوقعت بينه وبينهما معارك وحروب إلى أن هزمهما واستولى على ما كان بيدهما من العدة والذخيرة، وقد كان عبد الملك فاسد السيرة، قتله العلوج بمراكش سنة 1040 (المصدر نفسه 72 - 78) . (2) نسبة إلى زاوية الدلاء، وهي زاوية أسسها أبو بكر ابن محمد المجاطي، وكان لها دور كبير في تاريخه المغرب سياسياً ودينياً وعلمياً، وقد وضح هذا الدور الأستاذ محمد حجي في كتابه: " الزاوية الدلائية " - الرباط: 1964؛ ومحمد بن أبي بكر المذكور هنا هو من أعظم شيوخها، وكان عالماً في التفسير والحديث والكلام (انظر الاستقصا 6: 96 والزاوية الدلائية: 76) وقد كان للمقري علاقة وثيقة بالزاوية الدلائية إذ أنه أقام مدة ودرس الحديث على محمد بن أبي بكر. (3) ق: يحبكم. (4) كذا في ق؛ وفي نسخ أخرى " كنسج ".

والسلام من ولدكم المقر بفضلكم تراب نعالكم على بن عبد الواحد الأنصاري، لطف الله تعالى به، وحامله كبير كبراء قومه ممّن يحبكم ويعرفكم، وما تفعلوا معه من خير فلن تكفروه، والسلام، انتهى. ومنها كتاب افاني من علم قسمطينة وصالحها وكبيرها ومفتيها سلالة العلماء الأكابر، ووارث المجد كابراً عن كابر، المؤلف العلاّمة سيدي الشيخ عبد الكريم الفكون (1) حفظه الله، نصّه: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على من أنزل عليه في القرآن " وإنّك لعلى خلقٍ عظيمٍ " وآله وصحبه وسلّم أفضل التسليم، من مدنّس الإزار، المتسربل بسرابيل الخطايا والأوزار، الراجي للتنصّل منه رحمة العزيز الغفّار، عبد الله - سبحانه -، عبد الكريم محمد الفكون، أصلح الله بالتقوى حله، وبلّغه من متابعة السنّة النبوية (2) آماله، إلى الشيخ الشهير، الصدر النحرير، ذي الفهم الثاقب والحفظ الغزير، الأحبّ في الله المؤاخي من أجله سيدي أبي العباس أحمد المقّريّ، أحمد الله عاقبتي وعاقبته، وأسبل على الجميع عافيته، أمّا بعد فإنّي أحمد الله إليك، وأصلّي على نبيه سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلّم، ولا أريد إلا صالح الدعاء وطلبه منكم، فإنّي أحوج الناس إليه، وأشدهم في ظنّي إلحاحاً عليه، لما تحققت من أحوال نفسي الأمّارة، واستبطنت من دخيلائها المثابرة على حبّ الدنيا الغرّارة، كأنّها عميت عن الأهوال، التي أشابت رؤوس الأطفال، وقطعت أعناق كمّل الرجال، فتراها في لجج هواها خائضة، وفي ميدان شهواتها راكضة، طغت في غيها وما لانت، وجمحت فما انقادت ولا استقامت، فويلي ثمّ ويلي من يومٍ تبرز فيه

_ (1) هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم القسمطيني (- 1073) له مؤلفات كثيرة منها " محدد السنان في نحور إخوان الدخان " (راجع ترجمته في صفوة من انتشر ورحلة العياشي، واليواقيت الثمينة 1: 232) . (2) ق: المصطفية.

القبائح، وتنشر الفضائح، ومنادي العدل قائم بين العالمين " وإن مثقال حبّةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين " (الأنبياء: 47) فالله أسأل حسن الإلطاف، والستر عمّا ارتكبناه من التعدّ والإسراف، وأن يجعلنا من أهل الحمى العظيم وممّن يحشر تحت لواء خلاصته الكريم، سيدنا ومولانا وشفيعنا النبيّ الرؤوف الرحيم، ولنكفّ من القلم عنانه، لما أرجو من أجله ثواب الله سبحانه، وقد اتصل بيدي جوابكم، أطال الله في العلم (1) بقاءكم، فرأيت من عذوبة ألفاظكم، وبلاغة خطابكم، ما يذهل من العلماء فحولها، وينيلها لدى الجثوّ لسماعه سؤلها ومأمولها، بيد ما فيه من أوصاف من أمره قاصر، وعن الطاعة والاجتهاد فاتر، وأصدق قول فيه عند مخبره ومرآه " أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " (2) لكن يجازيكم المولى بحسن النيّة، البلوغ في بحبوحة الجنان غاية الأمنية، وقد ذيلتم ذلك بأبيات أنا أقلّ من أن أوصف بمثلها، على أنّي غير قائم بفرضها ونفلها، فالله تعالى يمدّكم بمعونته، ويجعلكم من أهل مناجاته في حضرته، ويسقينا من كاسات القرب ما نتمتّع منه بلذيذ منادمته، وقد ساعد البنان الجنان، في إجابتكم بوزنها وقافيتها، والعذر لي أنّني لست من أهل هذا الشان، والاعتراف بأنّني جبان وأيّ جبان، والكمال لكم في الرضى والقبول، والكريم يغضي عن عورات الأحمق الجهول، وظنّنا حققه الله تعالى أن نجعل على منظومتكم الكلاميّة يعني " إضاءة الدجنّة " (3) تقييداً، أرجو من الله توفيقاً وتسديداً، بحسب قدري لا على قدركم، وعلى مثل فكري القاصر لا على عظيم فكركم، وإن ساعد الأوان، وقضى بتيسيره ربّ الزمان، فآتي به إن شاء

_ (1) ق: في التعلم. (2) من الأمثال؛ وكان الكسائي يدخل فيه " أن " والعامة لا تذكرها فيه، وقال البكر حذف " أن " من المثل أشهر عند العلماء؛ يضرب في الرجل تكون له نباهة ولا منظر عنده (فصل المقال: 121 وأمثال الضبي 8 - 9 والميداني 1: 86 والعسكري 1: 186 والفاخر: 53) . (3) هي " إضاءة الدجنة بعقائد أهل السنة " وهي منظومة للمقري ألفها ودرسها في الحجاز والشام وانتسخت منها في حياته كثيرة؛ طبعت بمصر سنة 1304 بهامش شرح عليش على العقيدة السنية.

الله، الآجل (1) معي، لأنّني بالأشواق، إلى حضرة راكب البراق، ومخترق السبع الطباق، وكنت عازماً على أن أبعث لكم من الأبيات أكثر من الواقع، إلاّ أن الرفقة أعجلت، وصادفتني أيام موت قعيدة البيت، فلم يتيسر عاجلاً إلا ما ذكر وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبي ونعم الوكيل: يا نخبة الدهر في الدرايه ... علماً تعاضده الروايه (2) لا زلت بحراً بكلّ فنٍّ ... يروي به الطالبون غايه لقد تصدّرت في المعالي ... كما تعاليت في العنايه من فيك تستنظم المعاني ... بلّغت في حسنها النهايه رقّاك مولاك كلّ مرقىً ... تحوي به القرب والولايه أعجوبة ما لها نظيرٌ ... في الحفظ والفهم والهدايه يا أحمد المقّريّ دامت ... بشراك تصحبها الرعايه (3) بجاه خير العباد طرّاً ... والآل والصحب والنّقايه صلّى عليه الإله تترى ... نكفى بها الشّرّ والغوايه وأختم كتابي بالصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، وكتب بغاية عجلة، يوم السبت سابع أو ثامن رجب، من عام ثمانية وثلاثين وألف للهجرة على صاحبها الصلاة والسلام؛ انتهى. والمذكور عالم المغرب الأوسط غير مدافع، وله سلف علماء ذوو شعرة، ولهم في الأدب الباع المديد، غير أن المذكور مائل إلى التصوّف، ونعم ما فعل، تقبّل الله تعالى عملي وعمله، وبلّغ كلاًّ منا أمله؛ ولأشهر أسلافه العلاّمة الشيخ

_ (1) يريد: العام الآجل. (2) لا يتفق الشطران في الوزن. (3) خرج في الشطر الثاني عن وزن سائر الأبيات.

حسن بن علي بن عمر الفكون القسمطيني أحد أشياخ العبدري (1) صاحب الرحلة قصيدة مشهورة عند العلماء بالمغرب، وهي من درّ النظام، وحرّ الكلام، وقد ضمّنها ذكر البلاد التي رآها في ارتحاله من قسمطينة إلى مراكش، وأوّلها: ألا قل للسّريّ ابن السّري ... أبي البدر الجواد الأريحيّ (2) ومنها: وكنت أظنّ أنّ الناس طرّاً ... سوى زيدٍ وعمروٍ غير شيّ فلمّا جئت ميلة (3) خير دار ... أمالتني بكلّ رشا أبيّ وكم أورت ظباء بني ورارٍ ... أوار الشّوق بالريق الشّهيّ وجئت بجايةً فجلت بدوراً ... يضيق بوصفها حرف الرويّ وفي أرض الجزائر هام قلبي ... بمعسول المراشف كوثريّ وفي مليانةٍ قد ذبت شوقاً ... بلين العطف والقلب القسيّ وفي تنسٍ نسيت جميل صبري ... وهمت بكلّ ذي وجه وضيّ وفي مازونةٍ ما زلت صبّاً ... بوسنان المحاجر لوذعيّ وفي وهران قد أمسيت رهناً ... بظامي الخصر ذي ردفٍ رويّ وأبدت لي تلمسانٌ بدوراً ... جلبن الشّوق للقلب الخليّ

_ (1) وهم المقري هنا إذ أن العبدري لما حل بمدينة قسنطينة سأل من لقيه (وهو الحسن بن بلقاسم ابن باديس) عن الأديب أبي علي حسن بن علي بن عمر القسنطيني المعروف بابن الفكون فذكر ابن بلقاسم أنه أدرك الفكون وهو طفل صغير ولكنه لا يحفظ عام ولادته أو وفاته. قال العبدري: ورمت أن أجد من يروي عنه قصيدته المشهورة في رحلته من قسنطينة إلى مراكش فلم أجده، فقيدتها هنالك غير مروية وكان القسنطيني كتب بها إلى أبي البدر ابن مردنيش (رحلة العبدري: 30 وأثبت القصيدة هنالك ص 30 - 31) وقد عارض العبدري هذه القصيدة بقصيدة أثبتها في آخر رحلته. (2) هو أبو البدر ابن مردنيش، كما في التعليق السابق. (3) في ق ودوزي: ببلة، والتصويب عن الرحلة.

ولمّا جئت وجدة همت وجداً ... بمنخنث المعاطف معنويّ (1) وحلّ رشا الرباط رشا رباطي ... وتيّمني بطرفٍ بابليّ وأطلع قطر فاسٍ لي شموساً ... مغاربهنّ في قلب الشّجيّ وما مكناسة إلاّ كناسٌ ... لأحوى الطرف ذي حسنٍ سنيّ وإن تسأل عن أرض سلا ففيها ... ظباءٌ كاسراتٌ للكميّ وفي مراكشٍ يا ويح قلبي ... أتى الوادي فطمّ على القريّ بدورٌ بل شموسٌ بل صباحٌ ... بهيٌّ في بهيٍّ في بهيٍّ أبحن مصارع العشّاق لمّا ... سعين به فكم ميتٍ وحيّ بقامة كلّ أسمر سمهريٍّ ... ومقلة كلّ أبيض مشرفيّ إذا أنسيتني حسناً فإنّي ... أنسّيهم هوى غيلان ميّ فها أنا قد تخذت الغرب داراً ... وأدعى اليوم بالمرّاكشيّ على أنّ اشتياقي نحو زيدٍ ... كشوقك نحو عمروٍ بالسّويّ تقسّمني الهوى شرقاً وغرباً ... فيا للمشرقيّ المغربيّ فلي قلبٌ بأرض الشرق عانٍ ... وجسمٌ حلّ بالغرب القصيّ فهذا بالغدوّ يهيم غرباً ... وذاك يهيم شرقاً بالعشيّ فلولا الله متّ هوىً وشوقاً ... وكم لله من لطفٍ خفيّ وقد خرجنا بالاستطراد إلى الطول، وذلك منّا استرسال مع جاذب الأدب، فلنمسك العنان، والله المستعان. وما عددناه من القصائد والمقطوعات في مدح دمشق الشام فهو غيض من فيض، وفي نيتي أن أجمع في ذلك كتاباً حافلاً أسميه " نشق عرف دمشق "

_ (1) قال العبدري في تعليقه على هذا البيت: " قوله معنوي بعد منخنث المعاطف ... لقد استربت به حتى ظننت أنه مصحف، ولا أتبرأ فيه من تصحيف ".

أو " مشق قلم المدح لدمشق " (1) ولسان حالي الآن ينشد قول بعض الأكابر: نحن في مصر رهن شوقٍ إليكم ... هل لديكم بالشام شوقٌ إلينا فعجزنا عن أن ترونا لديكم ... وأبيتم عن أن نراكم لدينا حفظ الله عهد من حفظ العه ... د ووفّى به كما قد وفينا وقول ابن الصائغ: وددت لو أنّ عيني ... مكان كتبي إليكم حتى أراكم وأملي ... أخبار شوقي عليكم رجع إلى ابن جبير رحمه الله تعالى: ومن شعره قوله: إيّاك والشّهرة في ملبس ... والبس من الأثواب أسمالها تواضع الإنسان في نفسه ... أشرف للنّفس وأسمى لها وقال: تنزّه عن العوراء مهما سمعتها ... صيانة نفسٍ فهو بالحرّ أشبه إذا أنت جاوبت السّفيه مشاتماً ... فمن يتلقّى الشتم بالشتم أسفه وقال: أقول وقد حن الوداع وأسلمت ... قلوبٌ إلى حكم الأسى ومدمع: أيا ربّ أهلي في يديك وديعة ... وما عدمت صوناً لديك الودائع

_ (1) ذكره المحبي بين مؤلفاته وسماه " عرف النشق في أخبار دمشق " مما قد يدل على أنه حقق نيته وقم بتأليفه.

وقال أبو عبد الله ابن الحاج المعروف بمدغلّيس (1) صاحب الموشّحات يمدح ابن جبير المذكور: لأبي الحسين مكارمٌ لو أنّها ... عدّت لما فرغت ليوم المحشر وله عليّ فضائلٌ قد قصّرت ... عن بعض نعماها عظام الأبحر وقال ابن جبير من قصيدة مطلعها (2) : يا وفود الله فزتم بالمنى ... فهنيئاً لكم أهل منى قد عرفنا عرفاتٍ بعدكم (3) ... فلهذا برّح الشّوق بنا نحن في الغرب ويجري ذكركم ... بغروب الدمع يجري هتنا (4) ومنها: فيناديه على شحط النّوى ... من لنا يوماً بقلبٍ (5) ملّنا سر بنا يا حاديّ الركب (6) عسى ... أن نلاقي يوم جمعٍ سربنا ما دعا (7) داعي النّوى لمّا دعا ... غير صبٍّ شفّه برح العنا شم لنا البرق إذا لاح (8) وقل ... جمع الله بجمعٍ شملنا

_ (1) هو أبو عبد الله بن الحاج الزجال عاش في دولة الموحدين ويعد خليفة ابن قزمان في الزجل (انظر المغرب 2: 214، 220 والعاطل الحالي: 18 - 26 وسيأتي ذكره في النفح) . (2) انظر هذه القصيدة في الذيل والتكملة 5: 614 وبعضها في المغرب 2: 385، ومقدمة الرحلة: 18. (3) الذيل: معكم. (4) الذيل: نحن بالمغرب نجري ذكركم ... فغروب الدمع يجري هتنا (5) في النفح المطبوع: فقلت، والتصويب عن الذيل والتكملة. (6) الذيل: حادي العيس. (7) الذيل: ما عنى. (8) الذيل: إذا هب.

علّنا نلقى خيالاً منكم ... بلذيذ الذكر وهناً علّنا (1) لو حنا الدّهر علينا لقضى ... باجتماعٍ بكم بالمنحنى لاح برقٌ موهناً من نحوكم ... فلعمري ما هنا العيش هنا أنتم الأحباب نشكو بعدكم ... هل شكوتم بعدنا من بعدنا وله رحمه الله تعالى من قصيدة مطوّلة أوّلها (2) : لعلّ بشير الرّضى والقبول ... يعلّل بالوصل قلب الخليل وله أخرى أنشدها عند استقباله المدينة المشرفة، على صاحبها الصلاة وأتم السلام، وهي ثلاثة وثلاثون بيتاً من الغر، أوّلها: أقول وآنست باللّيل نارا ... لعلّ سراج الهدى قد أنارا وإلاّ فما بال أفق الدّجى ... كأنّ سنا البرق فيه استطارا ونحن من الليل في حندسٍ ... فما باله قد تجلّى نهارا وكان أبو الحسين ابن جبير المترجم به قد نال بالأدب دنيا عريضة، ثم رفضها وزهد فيها. وقال صاحب الملتمس في حقّه: الفقيه الكاب أبو الحسين ابن جبير، ممّن لقيته وجالسته كثراً ورويت عنه، وأصله من شاطبة، وكان أبوه أبو جعفر من كتّابها ورؤسائها، ذكره ابن اليسع في تاريخه، ونشأ أبو الحسين على طريقة أبيه، وتولّع بغرناطة، فسكن بها، قال: وممّا أنشدنيه لنفسه قوله: أبا عمران قد خلّفت قلبي ... لديك وأنت أهلٌ للوديعه

_ (1) هذا البيت وما يليه من أبيات لم ترد في الذيل والتكملة. (2) وردت هذه القصيدة في الذيل والتكملة 5: 602 والإحاطة 2: 171.

صحبت بك الزمان أخا وفاءٍ ... فها هو قد تنمّر للقطيعه قال: وكان من أهل المروءات، عاشقاً في قضاء الحوائج، والسعي في حقوق الإخوان، والمبادرة لإيناس الغرباء، وفي ذلك يقول: يحسب الناس بأنّي متعبٌ ... في الشّفاعات وتكليف الورى والذي يتعبهم من ذاك لي ... راحةٌ في غيرها لن أفكرا وبودّي لو أقضّي العمر في ... خدمة الطلاّب حتى في الكرى قال: ومن أبدع ما أنشده رحمه الله تعالى أول رحلته: طال شوقي إلى بقاعٍ ثلاثٍ ... لا تشدّ الرّحال إلاّ إليها إن للنّفس في سماء الأماني ... طائراً لا يحوم إلاّ عليها قصّ منه الجناح فهو مهيضٌ ... كلّ يومٍ يرجو الوقوع لديها وقال (1) : إذا بلغ العبد أرض الحجاز ... فقد نال أفضل ما أمّ له فإن زار قبر نبيّ الهدى ... فقد أكمل الله ما أمّله وعاد رحمه الله تعالى إلى الأندلس بعد رحلته الأولى التي حلّ فيها دمشق والموصل وبغداد، وركب إلى المغرب من عكا مع الإفرنج، فعطب في خليج صقلّية الضيق، وقاسى شدائد إلى أن وصل الأندلس سنة 581، ثم أعاد المسير إلى المشرق بعد مدة إلى أن مات بالإسكندرية كما تقدم. ومن شعره أيضاً: لي صديقٌ خسرت فيه ودادي ... حين صارت سلامتي منه ربحا

_ (1) البيتان في الإحاطة 2: 172 والذيل والتكملة 5: 604.

حسن القول سيّء الفعل كالج ... زّار سمّى وأتبع القول ذبحا وحدّث رحمه الله تعالى بكتاب الشفاء عن أبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي عن القاضي عياض، ولما قدم مصر سمع منه الحافظان أبو محمد المنذري وأبو الحسين يحيى بن علي القرشي. وتوفّي ابن جبير بالإسكندرية يوم الأربعاء السابع والعشرين من شعبان سنة 614، والدعاء عند قبره مستجاب، قاله ابن الرقيق رحمه الله تعالى وقال ابن الرقيق: في السنة بعدها. وقال أبو الربيع ابن سالم: أنشدني أبو محمد عبد الله بن التميمي البجائي، ويعرف بابن الخطيب، لأبي الحسين ابن جبير، وقال: وهو ممّا كتب به إليّ من الديار المصرية في رحلته الأخيرة لما بلغه ولايتي قضاء سبتة، وكان أبو الحسين سكنها قبل ذلك، وتوفّيت هنالك زوجته بنت أبي جعفر الوقّشي (1) فدفنها بها: بسبتة لي سكنٌ في الثّرى ... وخلٌّ كريمٌ إليها أتى فلو أستطيع ركبت الهوا ... فزرت بها الحيّ والميّتا وأنشد ابن جبير رحمه الله تعالى لنفسه عند صدوره عن الرحلة الأولى إلى غرناطة، أو في طريقها، قوله (2) : لي نحو أرض المنى من شرق أندلس ... شوقٌ يؤلّف بين الماء والقبس إلى آخرها.

_ (1) هي عاتكة المدعوة بأم المجد ووالدها هو الوزير الحيب أحمد بن عبد الرحمن الوقشي، وكانت وفاتها يوم السبت لعشر خلون من شعبان سنة 601 بعد زمانة طاولتها مدة؛ وقد قام ابن جبير برحلته الثالثة بعد وفاتها، فوصل مكة سنة 602 وجاور هنالك طويلاً. (2) قال هذه القصيدة لما قفل من رحلته الأولى ولاحت له وهو على ظهر البحر جبال دانية، انظر الذيل والتكملة: 604.

ومن شعره قوله: يا خير مولى دعاه عبدٌ ... أعمل في الباطل اجتهاده هب لي ما قد علمت منّي ... يا عالم الغيب والشهاده وقال رحمه الله تعالى: وإنّي لأوثر من أصطفي ... وأغضي على زلة العاثر وأهوى الزيارة ممّن أحبّ ... لأعتقد الفضل للزائر وقال رحمه الله تعالى: عجبت للمرء في دنياه تطمعه ... في العيش والأجل المحتوم يقطعه يمسي ويصبح في عشواء يخبطها ... أعمى البصيرة والآمال تخدعه يغترّ بالدهر مسروراً بصحبته ... وقد تيقّن أنّ الدهر يصرعه ويجمع المال حرصاً لا يفارقه ... وقد درى أنه للغير يجمعه تراه يشفق من تضييع درهمه ... وليس يشفق من دينٍ يضيّعه وأسوأ الناس تدبيراً لعاقبةٍ ... من أنفق العمر فيما ليس ينفعه وقال: صبرت على غدر الزّمان وحقده ... وشاب لي السمّ الزّعاف بشهده وجرّبت إخوان الزمان فلم أجد ... صديقاً جميل الغيب في حال بعده وكم صاحبٍ عاشرته وألفته ... فما دام لي يوماً على حسن عهده وكم غرّني تحسين ظنّي به فلم ... يضئ لي على طول اقتداحي لزنده وأغرب من عنقاء في الدهر مغربٍ ... أخو ثقةٍ يسقيك صافي ودّه بنفسك صادم كلّ أمرٍ تريده ... فليس مضاء السيف إلا بحدّه وعزمك جرّد عند كلّ مهمةٍ ... عما نافعٌ مكث الحسام بغمده

وشاهدت في الأسفار كلّ عجيبةٍ ... فلم أر من قد نال جدّاً بجدّه فكن ذا اقتصادٍ في أمورك كلّها ... فأحسن أحوال الفتى حسن قصده وما يحرم الإنسان رزقاً لعجزه ... كما لا ينال الرزق يوماً بكدّه حظوظ الفتى من شقوةٍ وسعادةٍ ... جرت بقضاءٍ لا سبيل لردّه وقال: الناس مثل ظروفٍ حشوها صبرٌ ... وفوق أفواها شيءٌ من العسل تغرّ ذائقها حتى إذا كشفت ... له تبيّن ما تحويه من دخل وقال: تغيّر إخوان هذا الزمان ... وكلّ صديقٍ عراه الخلل وكانوا قديماً على صحّةٍ ... فقد داخلتهم حروف العلل قضيت التعجب من أمرهم ... فصرت أطالع باب البدل وقد تقدم بيتان من هذه الثلاثة على وجهٍ آخر أوّل ترجمة المذكور (1) ، ورأيت بخط ابن سعيد البيتين على وجه آخر، وهو قوله: ثكلت أخلاّء هذا الزّمان ... فعندي ممّا جنوه خلل قضيت التعجّب من شأنهم ... فصرت أطالع باب البدل ولابن جبير رحمه الله تعالى (2) : من الله فسأل كلّ أمر تريده ... فما يملك الإنسان نفعاً ولا ضرّا ولا تتواضع للولاة فإنّهم ... من الكبر في حالٍ تموج بهم سكر

_ (1) انظر ص: 384 من هذا الجزء. (2) الأبيات في الذيل والتكملة 5: 613.

وإياك أن ترضى بتقبيل راحةٍ ... فقد قيل عنها إنها السجدة الصغرى وهو نحو قول القائل (1) : أيّها المستطيل بالبغي أقصر ... ربّما طأطأ الزّمان الرّؤسا وتذكّر قول الإله تعالى ... " إنّ قارون كان من قوم موسى " وقال، وقد شهد العيد بطندتة من قرى مصر: شهدنا صلاة العيد في أرض غربةٍ ... بأحواز مصرٍ والأحبّة قد بانوا فقلت لخلّي في النّوى جد بمدمعٍ ... فليس لنا إلاّ المدامع قربان وقال: قد أحدث الناس أموراً فلا ... تعمل بها إنّي امرؤ ناصح فما جماع الخير إلاّ الذي ... كان عليه السّلف الصالح وقال: ربّ إن لم تؤتني سعةً ... فاطو عنّي فضلة العمر لا أحبّ اللبث في زمنٍ ... حاجتي فيه إلى البشر فهم كسرٌ لمنجبرٍ ... ما هم جبرٌ لمنكسر ولمّا وصل ابن جبير، رحمه الله تعالى، إلى مكة في 12 ربيع الآخر سنة 579 أنشد قصيدته التي أوّلها: بلغت المنى وحللت الحرم ... فعاد شبابك بعد الهرم

_ (1) انفردت إحدى النسخ بإيراد ما يلي بعد كلمة (القائل ": قل لنصر والمرء في دولة ال ... سلطان أعمى ما دام يدعى أميراً فإذا زالت الولاية عنه ... واستوى بالرجل عاد بصيراً وقال ابن جبير رحمه الله تعالى: أيها المستطيل ... إلخ البيتين.

فأهلاً بمكّة أهلاً بها ... وشكراً لمن شكره يلتزم وهي طويلة، وسيأتي بعضها. وقال رحمه الله تعالى عند تحرّكه للرحلة الحجازية: أقول وقد دعا للخير داعٍ ... حننت له حنين المستهام حرامٌ أن يلذّ لي اغتماضٌ ... ولم أرحل إلى البيت الحرام ولا طافت بي الآمال إن لم ... أطف ما بين زمزم والمقام ولا طابت حياةٌ لي إذا لم ... أزر في طيبةٍ خير الأنام وأهديه السلام وأقتضيه ... رضىً يدني إلى دار السلام وقال: هنيئاَ لمن حجّ بيت الهدى ... وحطّ عن النفس أوزارها وإنّ السعادة مضمونةٌ ... لمن حجّ طيبة أو زارها (1) ولنختم ترجمته بقوله: أحبّ النبيّ المصطفى وابن عمّه ... عليّاً وسبطيه وفاطمة الزّهرا هم أهل بيتٍ أذهب الرجس عنهم ... وأطلعهم أفق الهدى أنجماً زهرا موالاتهم فرضٌ على كلّ مسلمٍ ... وحبّهم أسنى الذخائر للأخرى وما أنا للصّحب الكرام بمبغضٍ ... فإنّي أرى البغضاء في حقّهم كفرا هم جاهدوا في الله حقّ جهاده ... وهم نصروا دين الهدى بالظّبى نصرا عليهم سلام الله ما دام ذكرهم ... لدى الملإ الأعلى وأكرم به ذكرا وقوله في آخر الميمية: نبيٌّ شفاعته عصمةٌ ... فيوم التنادي به يعتصم

_ (1) البيتان في الذيل والتكملة 5: 604 والإحاطة 2: 172.

عسى أن تجاب لنا دعوةٌ ... لديه فنكفى بها ما أهم ويرعى لزواره في غدٍ ... ذماماً فما زال يرعى الذّمم عليه السلام، وطوبى لمن ... ألمّ بتربته فاستلم أخي كم نتابع أهواءنا ... ونخبط عشواءها في الظّلم رويدك جرت فعج واقتصد ... أمامك نهج الطريق الأعم وتب قبل عضّ بنان الأسى ... ومن قبل قرعك سنّ الندم ومنها: وقل ربّ هب رحمةً في غدٍ ... لعبدٍ بسيما العصاة اتّسم جرى في ميادين عصيانه ... مسيئاً ودان بكفر النّعم فيا ربّ صفحك عمّا جنى ... ويا ربّ عفوك عمّا اجترم 180 - ومن الراحلين إلى المشرق من الأندلس الأديب أبو عامر ابن عيشون. قال الفتح (1) : رجل حلّ المشيّدات والبلاقع، وحكى النسرين الطائر والواقع، واستدرّ خلفي البؤس والنعيم، وقعد مقعد البائس والزعيم، فآونة في سماط، وأخرى بين ردانك وأنماط، ويوماً في ناووس (2) ، وأخرى في مجلس مأنوس، رحل إلى المشرق فلم يحمد رحلته، ولم يعلق بأمل نحلته، فارتد على عقبه، وردّ من حبالة الفوت إلى منتظره ومرتقبه، ومع هذا فله تحقّق بالأدب، وتدفّق طبع إذا مدح أو نسب، وقد أثبتّ له ما تعلم حقيقة نفاذه، وترى سرعة وخده في طريق الإحسان وإغذاذه. ثم قال: وأخبرني أنّه دخل مصر وهو سارٍ في ظلم البوس، عارٍ من كل لبوس، قد خلا من النقد كيسه، وتخلى عنه إلا تعذيره (3) وتنكيسه، فنزل بأحد

_ (1) انظر قلائد العقيان: 288. (2) القلائد: الناموس. (3) القلائد: تغديره.

شوارعها لا يفترش إلاّ نكده، ولا يتوسّد إلا عضده، وبات بليلة ابن عبدل (1) ، تهب عليه صرصر لا ينفح منها عنبر ولا مندل، فلمّا كان من السحر دخل عليه ابن طوفان فأشفق لحاله، وفرط إمحاله، وأعلمه أن الأفضل ابن أمير الجيوش استدعاه، ولو ارتاد جوده بقطعة يغنيها له لأخصب مرعاه، فصنع له في حينه: قل للملوك وإن كانت لهم هممٌ تأوي إليها الأماني غير متّئد إذا وصلت بشاهنشاه لي سبباً فلن أبالي بمن منهم نفضت يدي من واجه الشمس لم يعدل بها قمراً يعشو إلى ضوئه لو كان ذا رمد فلمّا كان من الغد وافاه فدفع إليه خمسين مثقالاً مصرية وكسوة وأعلمه أنّه غنّاه، وجوّد الإظهار للفظه، ومعناه، وكرره، حتى أثبته في سمعه وقرره، فسأله عن قائله فأعلمه بقلته، وكلّمه في رفع خلّته، فأمر له بذلك. وله أيضاً رحمه الله تعالى: قصدت على أنّ الزيارة سنّةٌ يؤكّدها فرضٌ من الودّ واجب فألفيت باباً سهّل الله إذنه (2) ... ولكن عليه من عبوسك حاجب مرضت ومرّضت الكلام تثاقلاً إليّ إلى أن خلت أنّك عاتب فلا تتكلّف للعبوس مشقّةً سأرضيك بالهجران إذ أنت غاضب فلا الأرض تدميرٌ ولا أنت أهلها ولا الرزق إن أعرضت عنّي جانب وله يستعتبني (3) : كتبت ولو وفّيت برّك حقّه لما اقتصرت كفّي على رقم قرطاس ونابت عن الخطّ الخطا وتبادرت فطوراً على عيني وطوراً على راسي

_ (1) إشارة إلى الحكم بن عبدل أحد شعراء العصر الأموي وأوصافه لما يقاسيه من هموم بالليل. (2) القلائد: فتحه. (3) الضمير عائد إلى الفتح بن خاقان صاحب القلائد.

سل الكأس عني هل أديرت فلم أصغ مديحك ألحاناً يسوغ بها كاسي وهل نافح الآس النّدامى فلم أذع ... ثنائي (1) أذكى من منافحة الآس 181 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق أبو مروان الطّبني، وهو عبد الملك بن زيادة الله (2) . قال في الذخيرة: كان أبو مروان هذا أحد حماة سرح الكلام، وحملة ألوية الأقلام، من أهل بيت اشتهروا بالشعر، اشتهار المنازل بالبدر، أراهم طرأوا على قرطبة قبل افتراق الجماعة، وانتشار (3) شمل الطاعة، وأناخوا في ظلّها، ولحقوا بسروات أهلها، وأبو مضر أبوه زيادة الله بن علي التميمي الطّبني هو أوّل من بنى بيت شرفهم، ورفع في الأندلس صوته بنباهة سلفهم. قال ابن حيان: وكان أبو مضر نديم محمد بن أبي عامر أمتع الناس حديثاً ومشاهدةً، وأنصعهم (4) ظرفاً، وأحذقهم بأبواب الشحذ والملاطفة، وآخذهم بقلوب الملوك والجلّة، وأنظمهم لشمل إفادة ونجعة، انتهى المقصود منه. ثمّ قال في الذخيرة: فأمّا ابنه أبو مروان هذا فكان من أهل الحديث والرواية، ورحل إلى المشرق، وسمع من جماعة من المحدثين بمصر والحجاز، وقتل بقرطبة سنة سبع وخمسين وأربعمائة، انتهى. وقد ذكر قصّة قتله المستبشعة واتهم باغتياله ابنه. ومن نظم أبي مروان الطّبني المذكور ما وجده صاحب الذخيرة في بعض التعاليق بخط بعض أدباء قرطبة، قال: لما عدا أبو عامر أحمد بن محمد بن أبي

_ (1) القلائد: ثناءك. (2) ترجمة عبد الملك بن زيادة الله ابن الطيني في الذخيرة 2/1: 52 - 57 والمغرب 1: 92 والصلة: 343. (3) في بعض نسخ الذخيرة والتجارية: وانتشار. (4) في ق: وأنصفهم، والتصويب عن الذخيرة.

عامر على الحذلمي (1) في مجلسه وضربه ضرباً موجعاً، وأقرّ بذلك أعين مطالبيه، قال أبو مروان الطّبني فيه: شكرت للعامريّ ما صنعا ولم أقل للحذيلميّ لعا ليث عرين عدا بعزّته مفترساً في وجاره ضبعا لا برحت كفّه ممكّنةً من الأماني فنعم ما صنعا إن طال منه سجوده فلقد طال لغير السجود ما ركعا موقف ابن بسام في الذخيرة من الهجاء قال ابن بسام (2) : وابن رشيق القائل قبله: كم ركعة ركع الصّفعان تحت يدي ولم يقل سمع الله لمن حمده ثمّ قال ابن بسام في الذخيرة ما نصّه: والعرب تقول " فلان يركع لغير صلاة (3) " إذا كنوا عن عهر الخلوة، ومن مليح الكناية لبعض المتقدّمين يخاطب امرأته: قلت: التشيّع حبّ أصلع هاشم فترفّضي إن شئت أو فتشيّعي قالت: أصيلع هاشم، وتنفّست بأبي وأمي كل شيءٍ أصلع ولما صنت كتابي (4) هذا من شين الهجاء، وأكبرته أن يكون ميداناً للسفهاء،

_ (1) الذخيرة: الخديلمي. (2) الذخيرة 2/1: 61. (3) الذخيرة: فلان يخبأ العصا وفلان يركع ... الخ. (4) هذا من قول ان بسام أيضاً إلى آخر القول في أقسام الهجاء.

أجريت ههنا طلقاً (1) من مليح التعريض، في إيجاز القريض، ممّا لا أدب على قائليه، ولا وصمة عظمى (2) على من قيل فيه، والهجاء ينقسم قسمين: فقسم يسمونه هجو الأشراف وهو ما لم يبلغ أن يكون سباباً مقذعاً، ولا هجواً (3) مستبشعاً، وهو طأطأ قديماً من الأوائل، وثلّ عرش القبائل، إنّما هو توبيخ وتعبير، وتقديم وتأخير، كقول النجاشي في بني العجلان، وشهرة شعره منعتي عن ذكره، واستعدوا عليه عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، وأنشدوه قول النجاشي فيهم، فدرأ الحد بالشبهات، وفعل ذلك بالزبرقان حين شكا الحطيئة، وسأله أن ينشد ما قاله فيه، فأنشده قوله: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي فسأل عن ذلك كعب بن زهير، فقال: والله ما أودّ بما قال له حمر النعم، وقال حسان: لم يهجه، ولكن سلح عليه بعد أن أكل الشّبرم، فهمّ عمر، ورضي الله تعالى عنه، بعقابه، ثم استعطفه بشعره المشهور. وقال عبد الملك بن مروان يوماً: أحاسبكم (4) يا بني أميّة، فما أود أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس وأن الأعشى قال فيّ: تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا ولمّا سمع علقمة بن علاثة هذا البيت بكى، وقال: أنحن نفعل هذا بجاراتنا! ودعا عليه، فما ظنك بشيء يبكي علاثة، وقد كان عندهم لو ضرب بالسيف ما قال حس.

_ (1) الذخيرة: طرفاً. (2) الذخيرة: أعظم. (3) الذخيرة: هجراً. (4) الذخيرة: احفظوا أحسابكم.

وقد كان الراعي يقول: هجوت جماعة من الشعراء، وما قلت فيهم ما تستحي العذراء أن تنشده في خدرها. ولمّا قال جرير: فغضّ الطّرف إنّك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا أطفأ مصباحه ونام، وقد كان بات ليلته يتململ، لأنّه رأى أنّه قد بلغ حاجته وشفى غيظه. قال الراعي: فخرجنا من البصرة فما وردنا ماء من مياه العرب إلا وسمعنا البيت قد سبقنا إليه، حتى أتينا حاضر بني نمير فخرج إلينا النساء والصبيان يقولون: قبّحكم الله وقبّح ما جئتمونا به. والقسم الثاني: هو السباب الذي أحدثه جرير أيضاً وطبقته، وكان يقول: إذا هجوتم فأضحكوا، وهذا النوع منه لم يهدم قط بيتاً، ولا عيرت به قبيلة، وهو الذي صنّا هذا المجموع عنه، وأعفيناه أن يكون فيه شيء منه، فإن أبا منصور الثّعالبي كتب منه في يتيمته ما شانه اسمه، وبقي عليه إثمه. ومن مليح التعريض لأهل أفقنا قول بعضهم في غلام كان يصحب رجلاً يسمّى بالبعوضة: أقول لشادنكم قولةً ولكنّها رمزةٌ غامضه لزوم البعوض له دائماً يدلّ على أنّها حامضه وأنشدت في مثله قول بعض أهل الوقت: بيني وبينك سرٌّ لا أبوح به الكلّ يعلمه والله غافره وحكى أبو عامر ابن شهيد عن نفسه قال: عاتبت بعض الإخوان عتاباً شديداً عن أمر أوجع فيه قلبي، وكان آخر الشعر الذي خاطبته به هذا البيت:

وإنّي على ما هاج صدري وغاظني ليأمنني من كان عندي له سرّ فكان هذا البيت أشد عليه من عض الحديد، ولم يزل يقلق به حتى بكى إلي من بالدموع، وهذا الباب ممتدّ الأطناب، ويكفي ما مر ويمرّ منه في أضعاف هذا الكتاب، انتهى كلام ابن بسام في الذخيرة بلفظه. [من خطبة الذخيرة] ولا خفاء أنّه عارض بالذخيرة يتيمة الثعالبيّ، ولذا قال في خطبة الذخيرة (1) : أمّا بعد حمد الله وليّ الحمد وأهله، والصلاة على سيّدنا محمد خاتم رسله، فإن ثمرة هذا الأدب، العالي الرتب، رسالة تنثر وترسل، وأبيات تنظم وتفصل، تنثال تلك انثيال القطار، على صفحات الأزهار، وتتصل هذه اتصال القلائد، على نحور الخرائد، ومازال في أفقنا هذا الأندلسي القصيّ إلى وقتنا هذا من فرسان الفنّين، وأئمة النوعين، قوم هم ما هم طيب مكاسر، وصفاء جواهر، وعذوبة موارد ومصادر، لعبوا بأطراف الكلام المشقّق، لعب الدّجى بجفون المؤرقّ، وحدوا بفنون السحر المنمّق، حداء الأعشى ببنات المحلّق، فصبّوا على قوالب النجوم، غرائب المنثور والمنظوم، وباهوا غرر الضحى والأصائل، بعجائب الأشعار والرسائل، نثر لو رآه البديع لنسي اسمه، أو اجتلاه ابن هلال لولاّه حكمه، ونظم لو سمعه كثير ما نسب ولا مدح، أو تتبعه جرول ما عوى ولا نبح، إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل الشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعادة (2) ، رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طنّ بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا

_ (1) انظر مقدمة الذخيرة ج 1/ ص 1. (2) الذخيرة: المعتادة.

على هذا صنماً، وتلوا ذلك كتاباً محكماً، وأخبارهم الباهرة، وأشعارهم السائرة، مرمى القصيّة، ومناخ الرّذيّة، لا يعمر بها جنان ولا خلد، ولا يصرف فيها لسان ولا يد، فغاظني منهم ذلك، وأنفت ممّا هنالك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبّع محاسن أهل بلدي وعصري، غيرة لهذا الأفق الغريب أن تعود بدوره أهلة، وتصبح بحوره ثماداً مضمحلة، مع كثرة أدبائه، ووفور علمائه، وقديماً ضيّعوا العلم وأهله، وربّ (1) محسن مات إحسانه قبله، وليت شعري من قصر العلم على بعض الزمان، وخص أهل المشرق بالإحسان، وقد كتبت لأرباب هذا الشان، من أهل الوقت والزمان، محاسن تبهر الألباب، وتسحر الشعراء والكتّاب، ولم أعرض لشيء من أشعار الدولة المروانية، ولا المدائح العامرية، إذ كان ابن فرج الجيّاني قد رأى رأيي في النّصفة، وذهب مذهبي من الأنفة، فأملى في محاسن أهل زمانه كتاب الحدائق معارضاً لكتاب الزهرة للأصبهاني، فأضربت أنا عمّا ألف، ولم أعرض لشيء ممّا صنّف، ولا تعدّيت أهل عصري، ممّا شاهدته بعمري أو لحقه أهل دهري، إذ كلّ مردّدٍ ثقيل، وكل متكرّر مملول، وقد مجّت الأسماع: يا دار ميّة بالعلياء فالسند إلى أن قال بعد ذكره أنّه يسوق جملة من المشارقة مثل الشريف المرتضى والقاضي عبد الوهاب والوزير ابن المغربي وغيرهم ممّن يطول، ما صورته: وإنّما ذكرت هؤلاء ائتساء بأبي منصور، في تأليفه المشهور، المترجم بيتيمة الدهر في محاسن أهل العصر. انتهى المقصود منه.

_ (1) الذخيرة: ويا رب.

الجراوي يهجو قومه قلت: وتذكرت بما أنشده في الهجاء قول الباقعة الشاعر المشهور أبي العباس أحمد الغفجومي (1) الشهير بالجواري، وعامة الغرب يقولون الجراوي، يهجو قومه بني غفجوم وهم بربر بتادلا، متواصلاً بذلك إلى هجو أصلاء فاس بني الملجوم، ومستطرداً في ذلك ما هو في اطراده كالماء السجوم، وهو قوله: يا ابن السبيل إذا مررت بتادلا لا تنزلنّ على بني غفجوم أرضٌ أغار بها العدوّ فلن ترى إلاّ مجاوبة الصدى للبوم قومٌ طووا ذكر السماحة بينهم لكنّهم نشروا لواء اللّوم لا حظّ في أموالهم ونوالهم للسائل العافي ولا المحروم لا يملكون إذا استبيح حريمهم إلا الصّراخ بدعوة المظلوم يا ليتني من غيرهم ولو أنّني من أرض فاسٍ من بني الملجوم وقد ذكر غير واحد من المؤرخين أن أحد بني الملجوم قضاة فاس وأصلائها بيعت أوراق كتبه التي هي غير مجلّدة بل متفرّقة بستة آلاف دينار، ويكفيك ذلك في معرفة قدر القوم، ومع ذلك هجاهم بهذا، والله سبحانه يغفر الزلات. رجع إلى ما كنا فيه من ذكر من ارتجل من علماء الأندلس إلى البلاد المشرقية المحروسة، فنقول: 182 - ومنهم حبيب بن الوليد بن حبيب الداخل إلى الأندلس ابن عبد

_ (1) هو أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي (- 609) دخل الأندلس متردداً عليها وكان علاماً بالآداب، وقف ابن الأبار على ديوان شعره وألف كتاباً سماه " صفوة الأدب ونخبة كلام العرب "، وكانت وفاته بإشبيلية. ولم أجد أحداً بغيره " الجراوي " ولعله أن يكتب " الكواري " أو " القواري "، لأنه بجيم مصرية. انظر التكملة: 128 وصفحات مختلفة من البيان المغرب (طبع تطوان 1960) . ويجب التمييز بينه وبين أبي العباس الجراوي المسمى أحمد بن حسن بن سيد فهذا الثاني مالقي أصيل (انظر تحفة القادم: 44 ومخطوطة الوافي 8: 64 من مسودة المؤلف) وقد خلط بينهما عبد القادر محداد في حواشيه على زاد المسافر لصفوان ص: 7.

الملك بن عمر بن الوليد بن عبد الملك بن مروان (1) ، من أهل قربة، ويعرف بدحّون، رحل إلى المشرق أيام عبد الرحمن بن الحكم، وحج، ولقي أهل الحديث فكتب عنهم، وقفل بعلم كثير، وكانت له حلقة بجامع قرطبة يسمع الناس فيها، وهو يلبس الوشي الشامي، إلى أن أوصى غليه الأمير عبد الرحمن بترك ذلك، فتركه، وتوفّي بعد المائتين. ومن شعره قوله: قال العذول: وأين قلبك كلّما رمت اهتداءك لم يزل متحيرا قلت: اتّئد فالقلب أوّل خائن لمّا تغيّر من هويت تغيّرا ونأى فبان الصّبر عنّي جملة وبقيت مسلوب العزاء كما ترى ومن ولده سعيد بن هشام، وكان أديباً عالماً فقيهاً، رحم الله تعالى الجميع. ودخل دمشق وطنهم الأقدم وعاملها يومئذ للمعتصم بن الرشيد عمر بن فرج الرّخّجي، فوافق دخوله إيّاها غلاء شديداً ومجاعة أشكت أهلها، فضجوا إلى الرّخّجي أن يخرج عنهم من الغرباء القادمين عليهم من البلاد، فأمر بالنداء في المدينة على كل من بها من طارئ وابن سبيل ليخرجوا عنها، وضرب لهم أجلاً ثلاثة أيام أوعد من تخلّف منهم بعدها بالعقاب، فابتدر الغرباء الخروج عنها، وأقام دحّون لم يتحرك، فجيء به إلى الرّخّجي بعد الأجل، فقال له: ما بالك عصيت أمري أوما سمعت ندائي فقال له دحّون: ذلك النداء الذي وقفني، فقال له: وكيف فانتمى له، فقال

_ (1) ترجمة دحون في التكملة: 277 والمقتبس: 94 (تحقيق الدكتور محمود مكي) وانظر نسب الحبيبيين في جمهرة ابن حزم: 89 - 90.

له الرّخّجي: صدقت والله إنك لأحقّ بالإقامة فيها منّا، فأقم ما أحببت، وانصرف إذا شئت. وكان لدحّون هذا ابن يقال له بشر بن حبيب، ويعرف بالحبيبي، وهو من المشهورين بقرطبة، وأمّه المدنية الراوية عن مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه، وبنته عبدة بنت بشر مشهورة، ولها رواية عنه، رحم الله تعالى الجميع. 183 - ومنهم بهلول بن فتح من أهل أقليش (1) ، له رحلة حجّ فيها، وكان رجلاً صالحاً خيّراً، حكى عن نفسه أنّه رأى في منامه بعد قدومه من الحج كأنّه بمكّة وقائل يقول: انطلق بنا نصلّ مع النبيّ، صلى الله عليه وسلّم، قال: فكنت أقول لرجل من جيراني بأقليش: يا فلان انطلق بنا نصلّ مع النبيّ، صلى الله عليه وسلّم، فيقول لي: لست أجد إلى ذلك سبيلاً، فكنت أتوجّه وأصلي مع الناس والنبيّ، صلى الله عليه وسلّم، إمامنا، فلمّا سلّم من الصلاة رجع إليّ وقال لي: من أني أنت قلت له: من الأندلس، فكان يقول من أي موضع فكنت أقول: من مدينة أقليش، فيقول لي: أتعرف أبا إسحاق البوّاني فكنت أقول: هو جاري، وكيف لا أعرفه فيقول لي: أقرئه منّي السلام. 184 - ومنهم أبو الحسن ثابت بن أحمد بن عبد الولي، الشاطبي (2) . روى عن أبي زيد عبد الرحمن بن يعيش المهري (3) ، ورحل حاجّاً، فسمع منه بالإسكندريّة أبو الحسن ابن المفضل المقدسي، وحدث عنه بالحديث المسلسل في الأخذ باليد عن ابن يعيش المذكور عن أبي محمد عبد العزيز بن عبد الله بن سعيد ابن خلف الأنصاري عن أبي الحسن طاهر بن مفوّز، وعليه مداره بالأندلس،

_ (1) ترجمة بهلول الأقليشي في التكملة: 227. (2) انظر ترجمته في التكملة: 236. (3) التكملة: الهروي.

عن نصر السمرقندي بإسناده، وفيه بعد، قال الحافظ ابن الأبّار: وقد رويته مسلسلاً من طرق بعضها عن ابن المفضل، وأنبأني به ابن أبي جمرة عن أبي بحر الأسدي، عن نصر السمرقندي، فصار ابن المفضل بمنزلة من سمعه ممّن سمعه مني، والحمد لله تعالى، انتهى. 185 - ومنهم أبو أحمد جعفر بن لبّ بن محمد بن عبد الرحمن بن يونس ابن ميمون، اليحصبي (1) ، سكن شاطبة، وأصله من أنشيان عملها، يكنى أبا الفضل أيضاً، حج وسمع أبا طاهر ابن عوف والحافظ السّلفي وأبا عبد الله ابن الحضرمي وأبا الثناء الحراني وبدر بن عبد الله الحبشي وأبا الحسن ابن المفضل وغيرهم، وكان من أهل العناية بالرواية مع الصلاح والعدالة، حسن الخط جيد الضبط سماه التّجيبي في معجم مشيخته وهو في عداد أصحابه لاشتراكهما في السماع بإسكندرية وتركه هنالك، ثم قدم عليه تلمسان من شاطبة في أضحى سنة ست وثمانين وخمسمائة، وحكى ممّا أفاده عن ابن المفضل أن أبا عبد الله الكيزاني (2) - وكان شاعراً مجيداً - أتته امرأة مات ولدها، فسألته أن يرثيه، فقال: تبكي عليه بشجوٍ فقلت لا تندبيه هذا زمانٌ عجيبٌ قد عاش من مات فيه وأخذ عنه الحافظ أبو الربيع ابن سالم وقال: إنّه توفّي بعد التسعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.

_ (1) ترجمة ابن لب الشاطبي في التكملة: 242. (2) هو الفقيه الواعظ المصري أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن ثابت الأنصاري المعروف بابن الكيزاني (- 560) تنتمي إليه الطائفة الكيزانية وله شعر رقيق يذهب فيه مذهب المتصوفة (انظر الخريدة 2: 18 قسم مصر ووفيات الأعيان رقم: 650 والوافي 2: 347 والمغرب (قسم مصر) 1: 261 والنجوم الزاهرة 5: 368.

186 - ومنهم أبو أحمد جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيدبونه، الخزاعي، العابد (1) ، من أهل قسطنطانية عمل دانية، أخذ القراءات عن ابن هذيل، وسمع منه ومن ابن النعمة ببلنسية، رحل حاجّاً فأدى الفريضة، ودخل الإسكندرية مرافقاً لمن سمع من السّلفي، ولم يسمع منه شيئاً، قال ابن الأبار: فيما علمت وقفل إلى بلده مائلاً إلى الزهد والإعراض عن الدنيا، وكان شيخ المتصوفة في وقته، وعلا ذكره، وبعد صيته في العبادة، إلاّ أنّه كانت فيه غفلة، قال ابن الأبار: ورأيته إذ قدم بلنسية لإحياء ليلة النصف من شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة، وتوفّي عن سن عالية تقارب المائة، منتصف ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة، وشهد جنازته تشر كثير من جهات شتى، وانتاب الناس قبره دهراً طويلاً يتبرّكون بزيارته إلى حين إجلاء الروم من كان يشاركهم من المسلمين ببلاد شرق الأندلس التي تغلّبوا عليها، وذلك في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة. 187 - ومنهم أبو جعفر النحوي (2) ، أندلسي نزل مصر، وكان من رؤساء أهل العلم بالنحو، وممّن له حال جليلة، ذكره الطّبني فيما حكاه ابن الأبار. 188 - ومنهم أبو الحسن جابر بن أحمد بن عبد الله، الخزرجي القرطبي، وكناه بعضهم أبا الفضل (3) ، سمع ببلده من أبي محمد ابن عتاب وغيره، ورحل حاجّاً فأدى الفريضة، وكان أديباً ناظماً، كتب عنه أبو محمد العثماني بالإسكندرية بعض شعره. 189 - ومنهم أبو الحسن جهور بن خلف بن أبي عمر ابن قاسم بن ثابت

_ (1) ترجمته في التكملة: 244. (2) ترجمته في التكملة: 244. (3) ترجمته في التكملة: 246.

المعافري (1) . رحل حاجّاً إلى المشرق فأدى الفريضة، وسمع بالإسكندرية من أبي طاهر السّلفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وسمع أيضاً من غيره، وطال مكثه هنالك، وهو - فيما رجحه بعضهم (2) - من أهل غرب الأندلس. 190 - ومنهم أبو علي الحسن بن حفص بن الحسن، البهراني الأندلسي (3) ، رحل وتجوّل ببلاد المشرق، فسمع أبا محمد عبد الله بن حمّويه وأبا حامد أحمد ابن محمد بن رجاء بسرخس، وأبا محمد ابن أبي شريح بهراة، وأبا عبد الله الحسين بن عبد الله المفلحي بالأهواز، وأبا بكر أحمد بن جعفر البغدادي وأبا حامد أحمد بن الخليل وأبا حاتم حامد بن العباس وأبا محمد الحسن بن رشيق بمصر، وقدم دمشق فروى عنه من أهلها تمام بن محمد، وبنيسابور أحمد بن منصور بن خلف المغربي وغيره. ذكره ابن عساكر وقال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن أ؛ مد بن علي بن فطيمة وأبو القاسم زاهر بن طاهر قالا: أنا أبو بكر أحمد بن منصور، أنا أبو علي الحسن بن جعفر القضاعي، وأنا الحسن بن رشيق بمصر، أنا المفضل بن محمد الجندي، أنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، قال: سمعت مالك بن أنس يقول: لا يحمل العلم عن أهل البدع كلهم، ولا يحمل العلم عمّن لم يعرف بالطلب ومجالسة أهل العلم، ولا يحمل عمّن يكذب في حديث الناس، وإن كان في حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صادقاً؛ لأن الحديث والعلم إذا سمع من العالم فقد جعل حجّة بين الذي سمعه وبين الله تبارك وتعالى، وإنّما قال فيه القضاعي لأن بهراء من قضاعة. 191 - ومنهم أبو علي الحسن بن خلف بن يحيى بن إبراهيم بن محمد،

_ (1) ترجمته في التكملة: 254. (2) قال ابن الأبار: أحسبه من أهل غرب الأندلس. (3) ترجمته في التكملة: 255 وتهذيب ابن عساكر 4: 172.

الأموي (1) . من أهل دانية، ويعرف بابن برنجال، سمع من أبي بكر ابن صاحب الأحباس وأبي عثمان طاهر بن هشام وغيرهما، وله رحلة حج فيها وسمع من أبي إسحاق إبراهيم بن صالح القروي، وببيت المقدس من أبي الفتح نصر بن إبراهيم سنة خمس وستين وأربعمائة، وبعسقلان من أبي عبد الله محمد ابن الحسن بن سعيد التّجيبي، وأخذ عنه كتاب الوقف والابتداء لابن الأنباري بسماعه من عبد العزيز الشعيري عن مؤلفه، وكان فقيهاً على مذهب مالك، وولي الأحكام ببلده، وحدّث، وأخذ عنه، وسمع الناس منه بالإسكندريّة سنة تسع وستين، هم بدانية سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة، وتوفّي في نحو الخمسمائة، رحمه الله تعالى. 192 - ومنهم أبو علي الحسن بن إبراهيم بن محمد بن تقي، الجذامي، المالقي (2) ، روى بقرطبة عن أبي محمد ابن عتّاب، وعن أبي سكّرة الصّدفي بمرسية سنة ثمان وخمسمائة، وصحب أبا مروان ابن مسرّة، وكان من أهل الرواية والتقييد، وكانت له رحلة سمع فيها من أبي طاهر السّلفي مجالسه التي أملاها بسلماس برجب سنة خمس عشرة وخمسمائة حسبما ألفي بخط السلفي، وفي رحلته لقيه أبو علي الحسن بن علي البطليوسي نزيل مكّة، وحدّث عنه أبو طالب أحمد بن مسلم المعروف بالتّنوخي من أهل الإسكندرية بكتاب الاستيعاب لابن عبد البر، وأجاز له إجازة عامّة في السنة السابقة، وقال ابن عساكر في تاريخه، وذكر أبا ذر الهروي: سمعت أبا الحسن علي بن سليمان المرادي الحافظ الأندلسي بنيسابور يقول: سمعت أبا علي الحسن بن علي الأنصاري البطليوسي، قال ابن عساكر: وقد لقيته، ولم أسمعها منه، قال: سمعت أبا علي الحسن بن إبراهيم بن تقي الجذامي المالقي يقول: سمعت بعض

_ (1) ترجمته في التكملة: 257. (2) ترجمته في التكملة: 258 ومعجم أصحاب الصدفي: 72.

الشيوخ يقول: قيل لأبي ذر الهروي: أنت من هراة، فمن أين تمذهبت لمالك والأشعري فقال: إنّي قدمت بغداد أطلب الحديث، فلزمت الدارقطني، فلمّا كان في تعض الأيام كنت معه، فاجتاز به القاضي أبو بكر ابن الطيب، فأظهر الدارقطني من إكرامه ما تعجبت منه، فلمّا فارقه قلت: أيّها الشيخ الإمام من هذا الذي أظهرت من إكرامه ما رأيت فقال: أوما تعرفه قلت: لا، فقال: هذا سيف السنّة أبو بكر الأشعري، فلزمت القاضي منذ ذلك، واقتديت به في مذهبه، انتهى. 193 - ومنهم أبو علي الحسن بن علي بن الحسن بن عمر، الأنصاري، البطليوسي (1) ، رحل إلى المشرق، فأدى الفريضة، وتجوّل هناك، ولقي أبا الحسن ابن المفرّج الصقلي وأبا عبد الله الفراوي، فسمع منهما الصحيحين بعلوّ، وسمع من أبا الفتح ناصر بن أبي علي الطوسي سنن أبي داود، وحدّث بالموطإ عن أبي بكر الطّرطوشي، وله أيضاً رواية عن زاهر بن طاهر الشّحامي وعبد المنعم بن عبد الكريم القشيري وأبي محمد الحريري سمع منه مقامات الخمسين ببستانه من بغداد، ونزل بمكّة، وجاور بها، وحدّث فيها وفي غيرها، وأسنّ، وكان ثقة مسنداً يروي عنه أبو عبد الله ابن أبي الصيف اليمني وأبو جعفر ابن شراحيل الأندلسي وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم الإربلي، وسمع منه في صفر سنة ست وستين وخمسمائة، وقد لقيه أبو القاسم ابن عساكر الحافظ وروى عنه. 194 - ومنهم أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الأنصاري (2) : من أهل لرية عمل بلنسية، ويغرف بابن الرّهبيل (3) ، سمع من أبي الحسنابن النعمة

_ (1) ترجمته في التكملة: 260. (2) ترجمته في التكملة: 261. (3) التكملة وإحدى النسخ: الرهبيل.

كثيراً، واختص به، وعنه أخذ القراءات، وسمع من ابن هذيل أيضاً، ثم رحل حاجّاً، فلقي بالإسكندرية سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة أبا طاهر السّلفي وأبا عبد الله ابن الحضرمي، وسمع منهما، وجاور بمكّة، وأخذ بها عن أبي الحسن علي بن حميد الطرابلسي صحيح البخاري، وكان يرويه عن أبي مكتوم عيسى بن أبي ذر الهروي عن أبيه، وسمع أيضاً من أبي محمد المبارك بن الطباخ البغدادي، وأجاز له أبو المفاخر سعيد بن الحسين الهاشمي وأبو محمد عبد الحق ابن عبد الرحمن الإشبيلي ببجاية عند صدوره في ربيع الأول سنة سبع وسبعين، وقفل إلى بلده فلزم الانقطاع ولانقباض عن الناس والإقبال على ما يعنيه، وكان قد خطب به قبل رحلته، وحكى التّجيبي أن طلبة الإسكندرية تزاحموا عليه لسماع التيسير لأبي عمرو المقرئ منه بروايته عن ابن هذيل سماعاً في سنة ثلاث وخمسين، وصارت له بذلك عندهم وجاهة، وبعد قفوله أصابه خدر منعه من التصرف، وكان الصلاح غالباً عليه، وتوفّي غدوة الجمعة لثمان خلون من شعبان سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وكانت جنازته مشهودة، رحمه الله تعالى. 195 - ومنهم الحسين بن أحمد بن الحسين بن حي، التّجيبي، القرطبي (1) ، أخذ علم العدد والهندسة عن أبي عبد الله محمد بن عمر المعروف بابن برغوث (2) ، وكان كلفاً بصناعة التعديل، وله زيج مختصر ذكره القاضي صاعد ونسبه، وحكى أنّه خرج من الأندلس في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة بعد أن نالته بها وبالبحر محنٌ شداد، ولحق بمصر، ثم رحل عنها إلى اليمن، واتصل بأميرها، فحظي عنده، وبعثه رسولاً إلى القائم بأمر الله الخليفة ببغداد، ونال هناك دنيا عريضة،

_ (1) ترجمته في طبقات صاعد: 73 والتكملة: 273. (2) انظر ترجمة ابن برغوث في طبقات صاعد: 71 وكان هذا متحقاقاً بالعلوم الرياضية وخاصة الفلك (توفي سنة 440) .

وتوفّي باليمن بعد انصرافه من بغداد سنة ست وخمسين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. 196 - ومنهم أبو يوسف حماد بن الوليد، الكلاعي (1) ، أخذ بقرطبة عن أبي المطرف القنازعي وغيره، ورحل إلى المشرق، وحدث بالإسكندريّة فسمع منه بها يحيى بن إبراهيم بن عثمان بن شبل شرح الاعتقاد من تأليفه، ورسالة قمع الحرص وقصر الأمل والحث على العمل، وذلك في سنة سبع وأربعين وأربعمائة، ولقيه هنالك أبو مروان الطّبني، فسمع منه بعض فوائده. 197 - ومنهم أبو القاسم خلف بن فتح بن عبد الله بن جبير (2) ، من أهل طرطوشة، يعرف بالجبيري، وهو والد أبي عبيد الله القاسم بن خلف الجبيري الفقيه، وكانت له رحلة إلى المشرق، ومعه رحل ابنه وهو صغير، وكان من أهل العلم والنزاهة، وعليه نزل القاضي منذر بن سعيد بطرطوشة في ولايته قضاء الثغور الشرقية، قال أبو عبيد: نزل القاضي منذر بن سعيد على أبي، فمر على يديه كتاب فيه أرجوزة ابن عبد ربّه يذكر فيها الخلفاء ويجعل معاوية رابعهم، ولم يذكر عليّاً فيهم، ثم وصل ذلك بذكر الخلفاء بني مروان إلى عبد الرحمن بن محمد، فلمّا رأى ذلك منذر غضب وسبّ ابن عبد ربّه، وكتب في حاشية الكتاب: أوما عليٌّ لا برحت ملعّناًيا ابن الخبيثة عندكم بإمام

_ (1) ترجمة في التكملة: 285. (2) ترجمة في التكملة: 292.

ربّ الكساء وخير آل محمدٍ داني الولاء مقدّم الإسلام قال أبو عبيد: والأبيات بخطّه في حاشية كتاب أبي إلى الساعة، وكانت ولاية منذر للثغور مع الإشراف على العمال بها والنظر في الختلفين من بلاد الإفرنج إليها سنة ثلاثين وثلاثمائة. 198 - ومنهم أبو القاسم خلف بن محمد بن خلف، الغرناطي (1) ، له رحلة روى فيها بالإسكندرية عن مهدي بن يوسف الوراق، وحدث عنه أبو العباس ابن عيسى الداني بالتلقين للقاضي عبد الوهاب. 199 - ومنهم أبو القاسم خلف بن فرج بن خلف بن عامر بن فحلون، القنطري (2) ، من قنطرة السيف، وسكن بطليوس ويعرف بابن الروية، رحل حاجّاً فأدى الفريضة، ولقي بمكّة رزين بن معاوية الأندلسي فحمل عنه كتابه في تجريد الصحاح سنة خمس وخمسمائة، وفيها حج وقفل إلى بلده بعد ذلك؛ وكان فقيهاً مشاوراً، حدّث عنه ابن خير في كتابه إليه من بطليوس في نحو الثلاثين وخمسمائة. 200 - ومنهم زرارة بن محمد بن زرارة الأندلسي (3) ، رحل حاجّاً إلى المشرق، وسمع بمصر أبا محمد الحسن بن رشيق سنة سبع وستين وثلاثمائة وأبا بكر مسرّة بن مسلم الصدفي، حدث، وأخذ عنه. 201 - ومنهم طاهر الأندلسي، من أهل مالقة، يكنى أبا الحسين (4) ، رحل إلى قرطبة، وخرج منها لما دخلها البرابر عنوة سنة ثلاث وأربعمائة،

_ (1) ترجمة في التكملة: 299. (2) ترجمة في التكملة: 302. (3) ترجمة في التكملة: 334. (4) ترجمة في التكملة: 340.

فلم يزل بمكّة إلى حدود الخمسين وأربعمائة، وكان من أصحاب أبي عمر الطّلمنكي وملازميه لقراءة القرآن، وطلب العلم مع أبي محمد الشّنتجالي وأبي أيوب الزاهد إمام مسجد الكوّابين بقرطبة، وجاور بمكّة طويلاً، وأقرأ على مقربة من باب الصفا، وكان الشيبيون يكرمونه وفرجون له لضعفه عند دخوله البيت الحرام، ذكره الطّبني، قال ابن الأبار: وأحسبه المذكور في برنامج الخولاني، والذي قرأ لهم أكثر المدونة على أبي عمر أحمد ابن محمد الزيات، انتهى. 202 - ومنهم أبو الطاهر الأندلسي، من أهل لبلة (1) ، نزل مصر، وكانت له حلقة بجامع عمرو بن العاص، وكان - رحمه الله تعالى - نحويا، له شعر وترسيل وتعلق بالملوك للتأديب بالنحو، ثم ترك ذلك. 203 - أبو محمد طارق بن موسى بن يعيش، المنصفي، المخزومي (2) ، والمنصفي نسبة إلى قرية بغربي بلنسية، ويكنى أيضاً أبا الحسن، رحل قبل العشرين وخمسمائة، فأدى الفريضة، وجاور بمكّة، وسمع بها من أبي عبد الله الحسين بن علي الطبري، ومن الشريف أبي محمّد عبد الباقي الزهري المعروف بشقران أخذ عنه كتاب الإحياء للغزالي عن مؤلفه، وسمع بالإسكندرية من أبي بكر الطرطوشي وأبي الحسن ابن مشرف وأبي عبد الله الرازي وأبي طاهر السّلفي وغيرهم ثم قفل إلى بلده فحدث، وأخذ الناس عنه، وسمعوا منه، وكان شيخاً صالحاً عالي الرواية ثقة، قال ابن عياد: لم ألق أفضل منه، وكان مجاب الدعوة، وحدث عنه بالسماع والإجازة جلّةٌ منهم أبو الحسن ابن هذيل وأبي محمد القلني وأبو مروان ابن الصّيقل وأبو العباس الإقلبشي

_ (1) ترجمة في التكملة: 342. (2) ترجمة في التكملة: 343.

وأبو بكر ابن خير وابن سعد الخير وأبو محمد عبد الحق الإشبيلي وأبو بكر ابن جزيّ وغيرهم، ثم رحل ثانية إلى المشرق مع صهره أبي العباس الإقلبشي وأبي الوليد ابن خيرة الحافظ سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وقد نيّف على السبعين، فأقام بمكّة مجاوراً إلى أن توفي بها عن سن عالية - رحمه الله تعالى - سنة تسع وأربعين وخمسمائة. 204 - ومنهم محمد بن إبراهيم بن مزينٍ الأودي (1) من أهل أكشولبة غربي الأندلس، يكنى أبا مضر، ولاه عبد الرحمن بن معاوية قضاء الجماعة بقرطبة، وذلك في المحرّم سنة سبعين ومائة، وأقام شهراً، ثم استعفى فأعفاه، ورحل حاجّاً فأدى الفريضة، وسمع في رحلته إمامنا مالك بن أنس وانصرف ومات عن سن عالية سنة ثلاث وثمانين ومائة، وذكره ابن شعبان في الرواة عن مالك وحكى أنّه روى عنه: من قطع لسانه استؤني به عاماً، وأن مالكاً قال له: قد بلغني أن بالأندلس من نبت لسانه فإن لم ينبت أقيد، انتهى. 205 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد حيّاز، الشاطبي، الأوسي، قدم مصر، وكان قد أخذ عن ابن برطله وابن البراء وغيرهما، وعمل فهرست شيوخه على حروف المعجم، وحج وعاد إلى بلده، ومات يوم الجمعة حادي عشر رجب سنة ثماني عشرة وسبعمائة، رحمه الله تعالى وغفر له. 206 - ومنهم القاضي أبو مروان محمد بن أحمد بن عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن شريعة بن رفاعة ابن صخر بن سماعة اللّخمي الأندلسي الإشبيلي (2) . قال أبو شامة (3) : هو من

_ (1) ترجمته في التكلمة: 355 والذيل والتكملة 6 الورقة: 39 (نسخة باريس) . (2) ترجمة ابن مروان الباجي هذه مكررة، انظر رقم: 173. (3) انظر ذيل الروضتين: 164.

بيت كبير بالأندلس يعرف ببني الباجي مشهور كثير العلماء والفضلاء، وأصلهم من باجة القيروان، وليس منهم القاضي أبو الوليد الباجي الفقيه، فإنّه من بيت آخر من باجة الأندلس، وقدم أبو مروان حاجّاً من بلاده في البحر إلى عكّا من ساحل دمشق، ثم دخل دمشق سادس شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وستمائة، ونزل عندنا بالمدرسة العادليّة، وجدّه الأعلى أحمد ابن عبد الله بن محمد بن علي قدم إلى الديار المصرية وحجّ منها ومعه ولده محمد أخو عبد الملك ويعرف بصاحب الوثائق، وسمعا بها من جماعة من العلماء، وذكر أبو عبد الله الحميدي أحمد بن عبد الله هذا في " جذوة المقتبس " (1) ، وكنّاه أبا عمر، وذكر أنّه سكن إشبيلية وأثنى عليه كثيراً، وقال: مات في حدود الأربعمائة، وروى عنه ابن عبد البر وغيره. وأبوه عبد الله بن محمد بن علي يعرف بالرواية، ذكره الحميدي (2) أيضاً. وذكر ابن بشكوال في " الصلة " (3) عبد الملك بن عبد العزيز جد هذا الشيخ القادم وأثنى عليه، وقال: توفي سنة اثنتين وثلاثين، وخمسمائة. وكان هذا الشيخ أبو مروان حسن الأخلاق فاضلاً متواضعاً محسناً، وسمعته يقول، وقد سئل إعارة شيء، فبادر إليه، ثم قال: عند في قوله تعالى " ويمنعون الماعون " هو كل شيء. واستفدنا من هذا الشيخ فائدة جليلة، وهي معاينة قدر مدّ النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو عندهم متوارثٌ، وقد أخبر عن ذلك أبو محمد ابن حزم في كتابه المحلى وعايرت بذلك المدّ المدّ الذي لنا بدمشق حينئذ، وهو الكيل الكبير، فوجدت مدّنا يسع صاعين إلا يسيراً، ووجده ممسوحاً يسع صاعاً ونصفاً وشيئاً فيكون مدان ممسوحان ثلاثة آصعٍ زائدة، وقرأت في كتاب

_ (1) الجذوة: 120. (2) الجذوة: 233. (3) الصلة: 347.

المحلى لابن حزم، قال أبو محمد (1) : وخرط لي مدٌّ على تحقيقالمد المتوارث عند آل عبد الله بن علي الباجي، وهو عند أكثرهم (2) لا يفارق داره، أخرجه إليّ ثقتي الذي كفته ذلك علي بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن علي المذكور، وذكر أنّه مدّ أبيه، وأن جده أخذه وخرطه (3) على مد أحمد بن خالد، وأخبره أحمد بن خالد أنّه خرطه على مد يحيى بن يحيى، على مد مالك، قال أبو محمد: ثم كلته بالقمح الطيب، ثم وزنته فوجدته رطلاً ونصف رطلٍ بالفلفلي لا يزيد حبّة، وكلته بالشعير إلا أنّه لم يكن بالطيب فوجدته رطلاً واحداً ونصف أوقية، وسألت عن الرطل الفلفلي، فقيل لي: هو ست عشرة أوقية كل أوقية عشرة دراهم، وفي تقدير ابن حزم نظر. وتوفّي هذا الشيخ بالقاهرة سنة خمس وثلاثين وستمائة بعد رجوعه من الحج، رحمه الله تعالى. انتهى كلام أبي شامة، وبعضه بالمعنى. 207 - ومنهم أبو العباس أحمد بن محمد، الواعظ، الإشبيلي، ثم المصري (4) ، فاضل شرح الصدور بلفظه، ومتكلّم أحيا القلوب بوعظه، أحواله مشهورة، ومجالسه بالذكر معمورة، وله معرفة بالأدب، وخبرة بالشعر والخطب، وكلام وجهه حسن، ونظم يمتاز به على كثير من أرباب

_ (1) انظر المحلى 5: 245 - 246. (2) المحلى وأبو شامة: أكبرهم. (3) المحلى: وذكر أنه مد أبيه وجده وأبي جده خرطه ... إلخ. وما في النفح موافق لما في ذيل الروضتين. (4) هذا هو الشاعر المشهور باسم " الزين كتاكت " المصري (زين الدين كتاكت) أصل أهله من إشبيلية، أما هو فقد ولد بتنيس عام 605 وعلى ذلك فلا يصح أن يدرج في سياق الراحلين من الأندلس (انظر ترجمته في الوافي 7 الورقة: 160، والفوات 1: 108، والنجوم الزاهرة 7: 364) .

اللّسن، قاله ابن حبيب الحلبي، قال: وهو القائل (1) : من أنت محبوبه من ذا يعيّره ومن صفوت له من ذا يكّدره هيهات عنك ملاح الكون تشغلني والكلّ أعراض حسن أنت جوهره وقال (2) : اكشف البرقع عن بكر العقار واخل في ليلك مع شمس النهار وانهب العيش ودعه غلطاً ينقضي ما بين هتكٍ واستتار إن تكن شيخ خلاعات الصّبا فالبس الصبوة في خلع العذار وارض بالعار وقل: قد آن لي في هوىخمّار كاسي لبس عاري وقال: حثّوا إلى نجدٍ نياق الهوى فثمّ وادٍ جوّه معشب وانتظروا حتى يلوح الحمى فالعيش فيه طيّبٌ طيّب وتوفّي سنة أربع وثمانين وستمائة، هكذا ذكر ترجمته ابن حبيب، ثم بعد كتبها حصل لي شك: هو هو ممّن ارتحل بنفسه من الأندلس أو ولد بمصر وإنّما ارتحل إليها بعض سلفه والله تعالى أعلم. 208 - وكذا ذكر آخر بقوله في سنة سبع وثمانين وستمائة: وفيها توفّي الإمام زكي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد العزيز بن يحيى بن علي الإشبيلي المالكي (3) ، محدث، عالم، زاهد فيما ليس بدائم، كثير الخير،

_ (1) البيتان في النجوم الزاهرة 7: 365. (2) الأبيات في الوافي: 160. (3) نسبته في المصادر " اللوزي " وقيل أن لورة قلعة من أعمال إشبيلية، ولد سنة 614 وحج - ومعنى هذا القول أنه هاجر من الأندلس وأقام في المشرق، وتوفي بالينبع (انظر شذرات الذهب 5: 400 والنجوم الزاهرة 7: 378؛ وهذه الترجمة منقولة أيضاً عن درة الأسلاك حسب ما ورد في حاشية طبعة ليدن) .

جزيل المير، كان حسن المناهج، قاضياً للحوائج، محسناً إلى الصامت والمعرب، مقصداً لمن يرد من الحجاز والمغرب، سمع بمصر ودمشق وحلب، وأفتى ودرّس، مفيداً لذوي الطلب، ولم يبرح يعين بأياديه ويغيث، وهو أول من باشر بظاهرية دمشق مشيخى الحديث، وكانت وفاته بدمشق عن نيّف وسبعين سنة، انتهى. 209 - ومنهم الأحق بالسبق والتقدم، بقيّ بن مخلد بن يزيد، أبو عبد الرحمن، القرطبي، الأندلسي، الحافظ، أحد الأعلام، وصاحب التفسير والمسند (1) . أخذ عن يحيى بن يحيى الليثي ومحمد بن عيسى الأعشى، وارتحل إلى المشرق، ولقي الكبار، وسمع بالحجاز مصعباً (2) الزهري وإبراهيم ابن المنذر وطبقتهما، وبمصر يحيى بن بكير وزهير بن عبّاد وطائفة، وبدمشق إبراهيم الغساني (3) وصفوان بن صالح وهشام بن عمار وجماعة، وببغداد أحمد بن حنبل وطبقته، بالكوفة يحيى بن عبد الحميد الحماني ومحمد ابن عبد الله بن نمير وأبا بكر ابن أبي شيبة وطائفة، وبالبصرة أصحاب حماد بن زيد، وعني بالأثر عناية عظيمة لا مزيد عليها، وعدد شيوخه مائتان وأربعة وثلاثون رجلاً، وكان إماماً، زاهداً، صوّاماً، صادقاً، كثير التهجد، مجاب الدعوة، قليل المثل، مجتهداً، لا يقلد، بل يفتي بالأثر. ولد في رمضان سنة إحدى ومائتين، وتوفّي في جمادى الآخرة سنة ست وسبعين ومائتين.

_ (1) ترجمة بقي بن مخلد في الجذوة: 167 (وبغية الملتمس رقم: 584) وابن الفرضي 1: 107، والمرقبة العليا: 18، وتذكرة الحفاظ: 629، وطبقات المفسرين: 9. (2) ابن الفرضي: أبا المصعب. (3) دوزي: إبراهيم بن إبراهيم الغساني؛ وما هنا يوافق إحدى النسخ.

قال ابن حزم: أقطع أنّه لم يؤلّف في الإسلام مثل تفسيره، لا تفسير محمد ابن جرير ولا غيره، وكان محمد بن عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس محبّاً للعلوم عارفاً بها. فلمّا دخل بقيّ بن مخلد الأندلس بمصنف ابن أبي شيبة وقرئ عليه أنكر جماعة من أهل الرأي ما فيه من الخلاف واستبشعوه، وقام جماعة من العامة عليه، ومنعوه من قراءته، فاستحضره الأمير محمد وإياهم، وتصفح الكتاب جزءاً جزءاً حتى أتى على آخره، ثم قال لخازن كتبه: هذا الكتاب لا تستغني خزانتنا عنه، فانظر في نسخه لنا، وقال لبقيّ: انشر علمك، وارو ما عندك، نهاهم أن يتعرضوا له. قال ابن حزم: مسند بقيّ روى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيّف، ورتب حديث كل صاحب على أبواب الفقه فهو مسند ومصنّف (1) ، وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله، مع ثقته وضبته وإتقانه واحتفاله في الحديث، وله مصنف في فتاوى الصحابة والتابعين ممّن ذكرهم أربى فيه على مصنّف أبي بكر ابن أبي شيبة وعلى مصنّف عبد الرزّاق وعلى مصنف سعيد بن منصور. ثم ذكر تفسيره فقال: فصارت تصانيف هذا الإمام الفاضل قواعد الإسلام، لا نظير لها، وكان متخيراً لا يقلّد أحداً، وكان جارياً في مضمار البخاري ومسلم والنسائي. وذكر القشيري (2) أن امرأة جاءته فقالت له: إن ابني قد أسرته الفرنج، وإنّي لا أنام الليل من شوقي إليه، ولي دويرة أريد أن أبيعها لأفتكّه بها، فإن رأيت أن تشير إلى من يأخذها ويسعى في فكاكه، فليس لي ليل ولا نهار، ولا صبر ولا قرار، فقال: نعم، انصرفي حتى ننظر في ذلك إن شاء الله تعالى،

_ (1) الفرق بين المسند والمصنف أن الأول فيه الحديث بحسب رواته من الصحابة والثاني رتب فيه الحديث بحسب أبواب الفقه. (2) وردت القصة في الجذوة: 168 مسندة إلى أبي القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري، إجازة عنه؛ وفي النص اختلاف عما أورده المقري.

وأطرق الشيخ وحرك شفتيه يدعو الله، عزّ وجلّ، لولدها بالخلاص، فذهبت، فما كان غير قليل حتى جاءت وابنها معها فقالت: اسمع خبره يرحمك الله تعالى فقال: كيف كان أمرك فقال: إنّي كنت فيمن يخدم الملك، ونحن في القيود، فبينا أنا ذات يوم أمشي إذ سقط القيد من رجلي، فأقبل عليّ الموكل بي فشتمني، وقال: فككت القيد من رجليك، فقلت: لا والله ولكن سقط ولم أشعر، فجاءوا بالحدّاد فأعاده، وسمّر مسماره وأيّده، ثم قمت، فسقط أيضاً، فسألوا رهبانهم، فقالوا: ألك والدة فقلت: نعم، فقالوا: إنّه قد استجيب دعاؤها له، فأطلقوه، فأطلقوني، وخفروني إلى أن وصلت إلى بلاد الإسلام، فسأله بقيٌّ عن الساعة التي سقط القيد من رجليه فيها، فإذا هي الساعة التي دعا له فيها، رحمه الله تعالى. 210 - من الراحلين من الأندلس إلى المشرق يوسف بن يحيى بن يوسف الأزدي، المعروف بالمغامي (1) . من أهل قرطبة، وأصله من طليطلة، وهو من ذرية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. سمع من يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان، وروى عن عبد الملك بن حبيب مصنفاته، وارتحل إلى مصر، وسمع من يوسف بن يزيد القراطيسي، وعاد إلى الأندلس، وكان فقيهاً، نبيلاً، فصيحاً [بصيراً] (2) بالعربية، ثم بعد عوده من مصر أقام بقرطبة أعواماً، ثم عاد إلى مصر، وأقام بها، وسمع الناس منه، وعظم أمره بالبلاد الشرقية، ثم إنّه عاد إلى الغرب فتوفّي بالقيروان سنة ثمان وثمانين ومائتين، وبين بمصر الواضحة لابن حبيب، وصنف شيئاً في الرد على الشافعية في عشرة أجزاء، وألف كتاب فضائل مالك رضي الله تعالى عنه. والذي يرتضى أن من قلد إماماً من المجتهدين لا ينبغي له أن يغضّ من

_ (1) ترجمته في جذوة المقتبس: 350 (وبغية الملتمس رقم: 1452) وابن الفرضي 2: 200. (2) زيادة من ابن الفرضي وإحدى النسخ.

قد رغيره، وإن كان ولا بد من الانتصار مذهبه وتقوية حجّته فليكن ذلك بحسن أدب مع الأئمة، رضي الله تعالى عنهم، فإنّهم على هدى من ربهم، وقد ضلّ بعض الناس فحمله التعصب لمذهبه على التصريح بما لا يجوز في حق العلماء الذين هم نجوم الملّة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقد حكى أبو عبد الله الوادي آشي - حسبما رأيته بخطه - أن القاضي عبد الوهاب ابن نصر البغدادي المالكي ألّف كتاباً لنصرة مذهب مالك على غيره من المذاهب في مائة جزء، وسمّاه النصرة لمذهب إمام دار الهجرة، فوقع الكتاب بخطّه بيد بعض قضاة الشافعية بمصر، فغرّقه في النيل، فقضى الله تعالى أن السلطان فرج بن برقوق سافر إلى الشام ومعه القضاة الأربعة وغيرهم من الأعيان لدفع تيمورلنك عن البلاد، فلم يستطع شيئاً، وهزم إلى مصر، وتفرّقت العساكر، وأخذ القضاة والعلماء أسارى ومن جملتهم ذلك القاضي، فبقي في أسرتيمورلنك إلى أن ارتحل عن الشام، فأخذه معه أسيراً إلى أن وصل إلى الفرات، فغرق فيه، أعني القاضي، فرأى بعض الناس أن ذلك بسبب تغريقه الكتاب المذكور، والجزاء من جنس العمل، والله تعالى أعلم. بين أبن خلدون وتيمورلنك وقد نجّى الله تعالى من هذه الورطة قاضي القضاة أبا زيد عبد الرحمن ين خلدون الحضرمي المالكي صاحب كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في تاريخ العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر فإنّه كان من جملة القضاة الحاضرين في الهزيمة، فلمّا أدخلوا على تيمورلنك قال لهم ابن خلدون (1) : قدّموني للكلام تنجوا إن شاء الله تعالى، وإلا فأنتم في أخبر،

_ (1) أخبار ابن خلدون مع تيمورلنك وردت في التعريف: 366 وما بعدها وعجائب المقدور والسلوك للمقريزي وتاريخ ابن قاضي شهبة وقد قام ولتر فشل بدراستها في كتابه " ابن خلدون وتيمورلنك: 1952 ".

فقدّموه وعليه زي المغاربة، فلمّا رآه تيمورلنك قال: ما أنت من هذه البلاد وتكلّم معه فخلبه ابن خلدون بلسانه، وكان آية الله الباهرة، ثم قال لتيمورلنك: إنّي ألّفت كتاباً في تاريخ العالم، أو كما قال، ويقال: إن تيمورلنك هو الذي قال له: بلغني أنّك ألفت كتاباً في تاريخ العالم، ثم قال له تيمورلنك: كيف ساغ لك أن تذكرني فيه وتذكر بختنصر مع أنّنا خربنا العالم فقال له ابن خلدون: أفعالكما العظيمة ألحقتكما بالذكر مع ذوي المراتب الجسيمة، أو نحو هذا من العبارات، فأعجبه ذلك، وقيل: إنّه لما أنس بابن خلدون قال له: يا خوند، ما أسفي إلا على كتاب ألفته في التاريخ، وأنفقت فيه أيام عمري، وقد تركته بمصر، وإن عمري الماضي ذهب ضياعاً حيث لم يكن في خدمتك وتحت ظل دولتك، والآن أذهب فآتي بهذا الكتاب وأرجع سريعاً حتى أموت في خدمتك، ونحو هذا من الكلام، فأذن له، فذهب ولم يعد إليه، وقال بعض العلماء: إنّه لم ينج من يد ذلك الجبار أحد من العلماء غير ابن خلدون ورجل آخل، وقد ذكر ذلك ابن عرب شاه في عجائب المقدور وقد طال عهدي به فليراجع، وحكى غير واحد أن تيمورلنك لما أخذ حلب على الوجه المشهور في كتب التاريخ جمع العلماء فقال لهم على عادته في التعنت: قبل منّا ومنكم جماعة، فمن الذي في الجنّة قتلانا أو قتلاكم وكان مراده إبراز سبب لقتلهم، لأنّهم إن قالوا أحد الأمرين هلكوا، فقال بعض العلماء، وأظنّه ابن الشّحنة: دعوني أجبه وإلا هلكتم، فتركوه، فقال له: يا خوند، هذا السؤال أجاب عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عنه، فغضب تيمورلنك وقال: كيف يمكن أن يجيب عن هذا السؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن لم نكن في زمانه أو كلاماً هذا معناه

فقال العالم المذكور: روينا في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حميّة ويقاتل ليذكر ويرى مكانه، فمن الذي في الجنّة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الذي في الجنّة " أو كما قال صلى الله عليه وسلّم، فتعجّب تيمورلنك من هذا الجواب المفحم المسكت، وحقّ له أن يتعجّب منه، فإن هذا من الأجوبة التي يقل نظيرها، وفيها المخلص على كل حال بالإنصاف، وقد وفّق الله تعالى هذا العالم لهذا الجواب حتى يتخلّص على يده أولئك الأقوام من الطاغية الجبار العنيد الذي جعل تعالى فتنته في الإسلام وفتنة جنكزخان وأولاده من أعظم الفتن التي وهى بها المسلمون. وذكر بعض العلماء أن ابن خلدون لما أقبل على تيمولنك قال له: دعني أقبّل يدك، فقال: ولم فقال له: لأنّها مفتاح الأقاليم، يشير إلى أنّه فتح خمسة أقاليم، وأصابع يده خمس: فلكل إصبع إقليم، وهذا أيضاً من دهاء ابن خلدون. وقد كدنا نخرج عن المقصود في هذه الترجمة فلنصرف العنان، والله سبحانه المستعان. 211 - ومن الراحلين من الأندلس الإمام الحافظ أبو بكر ابن عطية، رحمه الله تعالى (1) ، قال الفتح: شيخ العلم، وحامل لوائه، وحافظ حديث النبي صلى الله عليه وسلّم وكوكب سمائه، شرح الله تعالى لحفظه (2) صدره، وطاول به عمره، مع كونه في كل علم وافر النصيب، مياسراً بالمعلّى والرقيب، رحل إلى المشرق لأداء الفرض، لابس بردٍ من العمر الغض، فروى وقيّد،

_ (1) ترجمة أبي بكر ابن عطية في قلائد العقيان: 207، وأزهار الرياض 3: 99، وتذكرة الحفاظ: 1369، والصلة: 432، واسمه غالب بن عبد الرحمن بن عطية. (2) القلائد: لتحفظه.

ولقي العلماء وأسند، وأبقى تلك المآثر وخلّد، نشأ في بيئةٍ (1) كريمة، وأرومة من الشف غير مرومة، لم يزل فيها على وجه الزمان أعلام علم، وأرباب مجد ضخم، قد قيدت مآثرهم الكتب، وأطلعتهم التواريخ كالشّهب، وما برح الفقيه أبو بكر يتسنم كواهل المعارف وغواربها، ويقيد شوارد المعاني وغرائبها، لاستضلاعه بالأدب الذي أحكم أصوله وفروعه، وعمر برهةً من شبيبته ربوعه، وبرز فيه تبريز لجواد المستولي على الأمد، وجلّى عن نفسه به كما جلّى الصقال عن النصل الفرد، وشاهد ذلك ما أثبته من نظمه الذي يروق جملة وتفصيلاً، ويقوم على قوّة العارضة دليلاً، فمن ذلك قوله يحذر من خلطاء الزّمان، وينبه على التحفظ من الإنسان: كن بذئبٍ صائدٍ مستأنساً وإذا أبصرت إنساناً ففرّ إنّما الإنسان بحرٌ ما له ساحلّ فاحذره إياك الغرر واجعل الناس كشخصٍ واحدٍ ثم كن من ذلك الشخص حذر وله في الزهد: أيّها المطرود من باب الرضى كم يراك الله تلهو معرضا كم إلى كم أنت في جهل الصّبا قد مضى عمر الصّبا وانقرضا قم إذا الليل دجت ظلمته واستلذّ الجفن أن يغتمضا فضع الخدّ على الأرض ونح واقرع السّنّ على ما قد مضى وله في هذا المعنى: قلبي يا قلبي المعنّى كم أنا أدعى فلا أجيب كم أتمادى على ضلالٍ لا أرعوي لا ولا أنيب

_ (1) دوزي: بيتتة، القلائد: بينة.

ويلاه من سوء ما دهاني ينوب غيري ولا أتوب وا أسفي كيف برء دائي دائي كما شاءه الطّبيب لو كنت أدنو لكنت أشكو ما أنا من بابه قريب أبعدني منه سوء فعلي وهكذا يبعد المريب ما لي قدرٌ وأيّ قدرٍ لمن أخلّت به الذنوب وله في هذا المعنى أيضاً: لا تجعلن رمضان شهر فكاهةٍ تلهيك فيه من القبيح فنونه واعلم بأنّك لا تنال قبوله حتى تكون تصومه وتصونه وله في مثل ذلك (1) : إذا لم يكن في السمع منّي تصاونٌ وفي بصري غضٌّ وفي مقولي صمت فحظي إذاً من صومي الجوع والظّما وإن قلت إنّي صمت يوماً فما صمت وله في المعنى الأول: جفوت أناساً كنت آلف وصلهم وما في الجفا عند الضرورة من باس بلوت فلم أحمد، وأصبحت آيساً ولا شيء أشفى للنفوس من الياس فلا تعذلوني في انقباضي فإنّني رأيت جميع الشّرّ في خلطة الناس وله يعاتب بعض إخوانه: وكنت أظنّ أنّ جبال رضوى تزول وأنّ ودّك لا يزول ولكنّ الأمور لها اضطرابٌ وأحوال ابن آدم تستحيل فإن يك بيننا وصل جميلٌ وإلاّ فليكن هجرٌ طويل

_ (1) ورد هذان البيتان أيضا في أخبار وتراجم أندلسية ص: 310.

وأمّا شعره الذي اقتدحه من مرخ الشباب وعفاره، وكلامه الذي وشحه بمآرب الغزل وأوطاره، فإنّه نسي إلى ما تناساه، وتركه حين كساه العلم والورع من ملابسه ما كساه، فممّا وقع من ذلك قوله: كيف السّلوّ ولي حبيبٌ هاجرٌ قاسي الفؤاد يسومني تعذيبا لمّا درى أنّ الخيال مواصلي جعل السّهاد على الجفون رقيباً وله أيضاً: يا من عهودي لديك ترعى أنا على عهدك الوثيق إن شئت أن تسمعي غرامي من مخبرٍ عالمٍ صدوق فاستخبري قلبك المعنّى يخبرك عن قلبي المشوق انتهى كلام الفتح. وأبو بكر ابن عطية المذكور هو والد الحافظ القاضي أبي محمد عبد الحق ابن عطية صاحب التفسير الشهير، رحم الله تعالى الجميع. ترجمة عبد الحق بن عطية قال في الإحاطة في حقّه ما ملخّصه (1) : [هو] الشيخ الإمام المفسر عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي، فقيه عالم بالتفسير والأحكام والحديث والفقه والنحو واللغة والأدب، حسن التقييد، له نظم ونثر ولي قضاء المرية سنة تسع وعشرين وخمسمائة في المحرم، وكان غاية في الذكاء والدهاء والتهمّم بالعلم، سريّ الهمّة في اقتناء الكتب، توخّى الحق، وعدل في الحكم، وأعز الخطّة، روى عن أبيه وأبوي علي الغساني والصدفي وطبقتهما، وألف كتابه

_ (1) انظر الإحاطة: 308 (نسخة الكتاني) .

الوجيز في التفسير فأحسن فيه وأبدع، وطار بحسن نيّته كلّ مطار، وبرنامجاً ضمّنه مروياته وأسماء شيوخه فحرّر وأجاد. ومن نظمه يندب عهد شبابه (1) : سقياً لعهد شبابٍ ظلت أمرح في ريعانه ولياي العيش أسحار أيام روض الصّبا لم تذو أغصنه ورونق العمر غضٌّ والهوى جار والنفس تركض في تضمير شرّتها طرفاً له في زمان اللهو إحضار عهداً كريماً لبسنا فيه أرديةً كانت عياناً ومحّت فهي آثار مضى وأبقى بقلبي منه نار أسىً كوني سلاماً وبرداً فيه يا نار أبعد أن نعمت نفسي وأصبح في ليل الشباب لصبح الشّيب إسفار وقارعتني اللّيالي فانثنت كسراً عن ضيغمٍ ما له نابٌ وأظفار إلا سلاح خلالٍ أخلصت فلها وفي منهل المجد إيرادٌ وإصدار أصبو إلى روض عيشٍ ورضه خضلٌ أو ينثني بي عن العلياء إقصار إذاً فعطّلت كفّي من شبا قلم آثاره في رياض العلم أزهار مولده سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وتوفّي في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ست وأربعين وخمسمائة بلورقة، قصد ميورقة (2) يتولى قضاءها فصدّ عن دخولها وصرف منها إلى لورقة اعتداء عليه، رحمه الله تعالى، انتهى. وقال الفتح في حقّه ما نصّه (3) : فتى العمر كهل العلاء، حديث السن قديم السناء، لبس الجلالة برداً ضافياً، وورد ماء الأصالة صافياً، وأوضح للفضل رسماً عافياً، وثنى من ذهنه للأعراض فنناً قصدا، وجعل فهمه شهاباً

_ (1) لم ترد القصيدة في نسخة الإحاطة، والمقري يشعر أنه ما يزال ينقل عنها. (2) الإحاطة: قصد مرسية. (3) لم يرد هذا النص في القلائد والمطمح المطبوعين.

رصدا، سما إلى رتب الكهول صغيراً، وشنّ كتيبة ذهنه على العلوم مغيراً، فسباها عنى وفصلاً، وحواها فرعاً وأصلاً، وله أدبٌ يسيل رضراضاً، ويستحيل ألفاظاً مبتدعة وأغراضاً. وقال أيضاً فيه (1) : نبعة دوح العلاء، ومحرز ملابس الثناء، فذّ الجلالة، وواحد العصر والأصالة، وقار كما رسا الهضب، وأدب كما اطّرد السّلسل العذب، وشيم تتضاءل لها قطع الرياض، وتبادر الظن به (2) إلى شريف الأغراض، سابق الأمجاد فاستولى على الأمد بعبابه (3) ، ولم ينض ثوب شبابه، أدمن التعب في السؤدد جاهداً، فتى تناول الكواكب قاعداً، وما اتكل على أوائله، ولا سكن إلى راحات بكره وأصائله، أثره في كل معرفةٍ علمٌ في رأسه نار، وطوالعه في آفاقها صبح أو منار (4) ، وقد أثبتّ من نظمه المستبدع ما ينفح عبيراً، ويتضح منيراً، فمن ذلك قوله من قصيدة: وليلةٍ جبت فيها الجزع مرتدياً بالسيف أسحب أذيالاً من الظّلم والنجم حيران في بحر الدجى غرقٌ والبرق في طيلسان الليل كالعلم كأنّما اللّيل زنجيٌّ بكاهله جرحٌ فيثعب أحياناً له بدم انتهى المقصود منه. وهو - أعني أبا بكر - أحد مشايخ عياض، حسبما ألمعت به في أزهار الرياض. 212 - ومنهم شهاب الدين أبو العباس أحمد بن فرح - بالحاء المهملة -

_ (1) انظر القلائد: 208. (2) القلائد: ويبادر به الظن. (3) القلائد: بغلابه. (4) القلائد: نهار.

ابن أحمد بن محمد، الإمام، الحافظ، الزاهد، بقية السلف، اللّخمي، الإشبيليّ، الشافعي (1) ، أسره الإفرنج سنة ست وأربعين وستمائة، وخلص، وقدم مصر سنة بضع وخمسين، وقيل: إنّه تمذهب للشافعي، وتفقّه على الشيخ عز الدين بن عبد السلام قليلاً، وسمع من شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري الحموي، والمعين أحمد بن زين الدين وإسماعيل بن عزوز والنجيب بن الصيقل وابن علاّق، وبدمشق من ابن عبد الدائم وخلق، وعني بالحديث، وأتقن ألفاظه، وعرف رواته وحفّاظه، وفهم معانيه، وانتقى لبابه ومبانيه. قال الصفدي (2) : وكان من كبار أئمّة هذا الشان، وممّن يجري فيه وهو طلق اللسان (3) ، هذا إلى ما فيه من ديانة، وورع وصيانة، وكانت له حلقة اشتغال بكرة بالجامع الأموي يلازمها، ويحوم عليه من الطلب حوائمها، سمع عليه الشيخ شمس الدين الذهبي، واستفاد منه، روى في تصانيفه عنه، وعرضت عليه مشيخة دارالحديث النورية فأباها، ولم يقبل حباها، وكان بزيّ الصوفية، ومعه فقاهة بالشافعية (4) ، ولم يزل على حاله حتى أحزن الناس ابن فرح، وتقدّم إلى الله وسرح، وشيع الخلق جنازته، وتولّوا وضعه في القبر وحيازته، وتوفّي رحمه الله تعالى تاسع جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وستمائة، ومولده سنة خمس وعشرين وستمائة. وله قصيدة غزلية في ألقاب الحديث سمعها منه الدّمياطي واليونيني، وسمع منه البرزالي والمقاتلي والنابلسي وأبو محمد ابن الوليد، ومات بتربة أم

_ (1) ترجمته في أعيان العصر (الورقة 105 أمن المخطوطة رقم 2962 آياصوفيا) والوافي 7: الورقة 138 وتذكرة الحفاظ: 1486 وطبقات السبكي 5: 12 وشذرات الذهب 5: 443. (2) النقل عن أعيان العصر. (3) أعيان العصر: العنان. (4) أعيان العصر: بالشامية.

الصالح بالإسهال. والقصيدة المذكورة هي هذه: غرامي صحيح والرّجا فيك معضل وحزني ودمعي مطلقٌ ومسلسل وصبري عنكم يشهد العقل أنّه ضعيفٌ ومتروك، وذلّي أجمل ولا حسنٌ إلا سماع حديثكم مشافهة يملى عليّ فأنقل وأمري موقوفٌ عليك، وليس لي على أحدٍ إلاّ عليك المعوّل ولو كان مرفوعاً إليك لكنت لي على رغم عذّالي ترقّ وتعدل وعذل عذولي منكرٌ لا أسيغه وزورٌ وتدليسٌ يردّ ويهمل أقضّي زماني فيك متصل الأسى ومنقطعاً عمّا به أتوصّل وها أنا في أكفان هجرك مدرج تكلّفني ما لا أطيق فأحمل وأجريت دمعي بالدماء مدبّجاً وما هو إلا مهجتي تتحلّل فمتّفقٌ سهدي وجفني (1) وعبرتي ... ومفترقٌ صبري وقلبي المبلبل ومؤتلف شجوي ووجدي (2) ولوعتي ... ومختلف حظّي وما منك آمل خذ الوجد عني مسنداً ومعنعناً فغيري موضوع الهوى يتحيّل وذي نبذٌ من بمبهم الحب فاعتبر وغامضه إن رمت شرحاً أحوّل عزيزٌ بكم ضبٌّ ذليل لغيركم ومشهور أوصاف المحبّ التذلل غريبٌ يقاسي البعد عنك، وما له وحقّ الهوى عن داره متحوّل فرفقاً بمقطوع الوسائل، ما له إليك سبيلٌ لا ولا عنك معدل فلا زلت في عزٍّ منيعٍ ورفعة وما زلت تعلو بالتجنّي فأنزل أورّي بسعدى والرّباب وزينب وأنت الذي تعنى وأنت المؤمّل فخذ أولاً من آخر ثم أولاً من النصف منه فهو فيه مكمّل

_ (1) أعيان العصر: جفني وسهدي. (2) أعيان العصر: وجدي وشجوي.

أبرّ إذا أقسمت أنّي بحبّه أهيم وقلبي بالصبابة يشعل وقد ذكرت شرحها في الجزء الثلاثين من تذكرتي، انتهى كلام الصفدي. وظاهر كلامه أنّه ابن فرح - بفتح الراء - والذي تلقيناه عن شيوخنا أنّه بسكون الراء، وقد شرح هذه القصيدة جماعة من أهل المشرق والمغرب يطول تعدادهم، وهي وحدها دالّة على تمكن الرجل، رحمه الله تعالى. 213 - ومنهم عبد العزيز بن عبد الملك بن نصر، أبو الأصبغ، الأموي، الأندلسي (1) ، سمع بمكّة وبدمشق ومصر وغيرها، وحدّث عن سليمان بن أحمد بن يحيى بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم " إن لكل بني أب عصبةً ينتمون إليها، إلا ولد فاطمة فأنا وليّهما وأنا عصبتهم، وهم عترتي، خلقوا من طينتي، ول للمكذّبين بفضلهم، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله ". وحدث عن أبي العباس أحمد بن محمد البرذعي بسنده إلى عبد الله بن المبارك قال: كنت عند مالك بن أنس وهو يحدثنا، فجاءت عقرب فلدغته ست عشرة مرّة، ومالك يتغير لونه ونتصبر، ولا يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلمّا فرغ من المجلس وتفرّق الناس عنه قلت له: يا أبا عبد الله، قد رأيت منك عجباً، قال: نعم، أنا صبرت إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم. ولد أبو الأصبغ المذكور بقرطبة وتوفّي ببخارى سنة 365. قال الحاكم أبو عبد الله: رأيت أبا الأصبغ في المنام في بستان فيه خضرة ومياه جارية وفرش كثيرة، وكأنّي أقول: إنّها له، فقلت: يا أبا الأصبغ، بماذا وصلت إليه أبالحديث فقال: أي والله، وهو نجوت إلاّ بالحديث قال: ورأيته أيضاً وهو يمشي بزي أحسن ما يكون، فقلت: أنت أبو الأصبغ فقال:

_ (1) ترجمته في ابن الفرضي 1: 321.

نعم، قلت: ادع الله تعالى أن يجمعني وإيّاك في الجنّة، فقل: إن أمام الجنّة أهوالاً، ثم رفع يديه وقال: اللهم اجعله معي في الجنّة بعد عمر طويل، انتهى. 214 - ومنهم القاضي أبو البقاء خالد، البلوي، الأندلسي، رحمه الله تعالى (1) ، وهو خالد بن عيسى بن أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد، البلوي، ووصفه الشاطبي بأنّه الشيخ الفقيه القاضي الأعدل، انتهى. وهو صاحب الرحلة المسماة: " تاج المفرق في تحلية أهل المشرق " (2) ، وممّا أنشده رحمه الله تعالى فيها لنفسه: ولقد جرى يوم النّوى دمعي دماً حتى أشاع النّاس أنّك فاني والله إن عاد الزّمان بقربنا لكففت عن ذكر النّوى وكفاني وهذه الرحلة المسماة بتاج المفرق مشحونة بالفوائد والفرائد، وفيه من العلوم والآداب ما لا يتجاوزه الرائد، وقد قال رحمه الله تعالى فيها في ترجمة الولي نجم الدين الحجازي، رضي الله تعالى عنه، ما نصّه (3) : وذكر لي رضي الله تعالى عنه قال: ممّا وصّى به الجد الأكبر أبو الحجاج يوسف المذكور - يعني سيدي أبا الحجّاج يوسف بن عبد الرحيم الأقصري القطب الغوث رضي الله تعالى عنه، وأعاد علينا من بركاته - خواصّه وأصدقاءه، قال: إذا أدركتكم الضرورة والفاقة فقولوا: حسبي الله، ربي الله يعلم أنّني في ضيق، قال: وذكر لي أيضاً رضي الله تعالى عنه قال: رأى هذا الجد يوسف المذكور النبيّ صلى الله

_ (1) ترجمة خالد البلوي في الإحاطة 1: 423 والكتيبة الكامنة: 134 ونيل الابتهاج: 99 نقلا عن فهرسة الحضرمي. (2) من هذه الرحلة نسخ كثيرة خطية، وسنعتمد منها النسخة رقم 1053 جغرافيا بدار الكتب المصرية، وإن لم تكن من خير النسخ. (3) تاج المفرق، الورقة: 140.

عليه وسلّم في النوم، بعد أن سأل الله تعالى ذلك، وقد كان أصابته فاقة، فشكا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " قل يا برّ (1) يا رحيم، يا برّ يا رحيم، الطف بي في قضائك، ولا تولّ أمري أحداً سواك، حتى ألقاك "، فلمّا قالها أذهب الله تعالى عنه فاقته. قال: وكان رحمه الله تعالى يوصي بها أصحابه وأحبابه، انتهى. ونسب بعضهم القاضي خالداً المذكور إلى انتحال كمال العماد في البرق الشامي، لأن خالداً أكثر في رحلته من الأسجاع التي للعماد، فلذا قال لسان الدين ابن الخطيب فيه: خليليّ إن يقض اجتماعٌ بخالد قولا له قولاً ولن تعدوا الحقّا سرقت العماد الأصبهانيّ برقه وكيف ترى في شاعر سرق الرقا وأظن أن لسان الدين كان منحرفاً عنه، ولذلك قال في كتابه " خطرة الطيف ورحلة الشتاء والصيف " (2) عندما جرى ذكر قنتورية (3) وقاضيها خالد المذكور ما صورته: لم يتخلف ولد عن والد، وركب قاضيها ابن أبي خالد، وقد شهرته النزعة الحجازية، ولبس من خشن الحجا زيّه، وأرخى من البياض طيلساناً، وتشبّه بالمشارقة شكلاً ولساناً، والبداوة تسمه على الخرطوم، وطبع الماء والهواء يقوده قود الجمل المخطوم، انتهى. ومن نظم أبي البقاء خالد البلوي المذكور قوله: أتى العيد واعتاد الأحبّة بعضهم ببعض وأحباب المتيّم قد بانوا

_ (1) تاج المفرق: يا رب. (2) نشرها الدكتور أحمد العبادي في كتابه " مشاهدات لسان الدين ابن الخطيب " ص 25 - 53، وانظر النص ص: 36 - 37. (3) قنتورية: (Cantoria) تقع إلى جنوب برشانة (Purchena) ، في ولاية المرية، وتكتب أيضا " قنتورية ".

وأضحى وقد ضحّوا بقربانهم وما لديه سوى حمر المدامع قربان وقال في رحلته: إنّه قال هذين البيتين بديهةً بمصلّى تونس في عيد النحر من سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. ومن نظمه أيضاً قوله رحمه الله تعالى: ومستنكر شيبي وما ذهب الصّبا ولا جفّ إيناع الشّبيبة من غصني فقلت فراقي للأحبّة مؤذن بشيبي وإن كنت ابن عشرين من سني ومحاسنه - رحمه الله تعالى - كثيرة، وفي الرحلة منها جملة. 215 - ومنهم برهان الدين أبو إسحاق ابن الحاج إبراهيم، النميري، الغرناطي (1) ، وهو أيضاً مذكور في ترجمة ابن الخطيب بما يغني عن تكرير ذكره هنا، وقال رحمه الله تعالى في رحلته: أخبرني شيخنا - يعني الشيخ الإمام الصالح أبا عبد الله محمد المعروف بخليل التوزري إمام المالكية بالحرم الشريف رضيا له تعالى عنه - قال: اعتكفت بجامع عمرو بن العاص كفّاً لشرّتي عن الناس، خصوصاً أذى الغيبة، نحو خمسين ليلة، أردت أن أدعو لطائفة من أصحابي بمطالب مختلفة، كلٌّ بحسب ظنّي فيه يومئذ، فأدركتني حيرة في التمييز والتخصيص، فألهمت أن قلت بديهة: شهدنا بتقصير ألبابنا فحسن اختيارك أولى بنا وأنت البصير بأعدائنا وأنت البصير بأحبابنا قال: ثم أردفتها بدعاء، وهو: اللهم يا من لا يعلم خيره إلاّ هو، أنت أعلم بأعدائنا وأودّائنا، فافعل بكل منهم ما يناسب حسن اختيارك لنا، حسبما علمته منّا، وكفى بك قديراً، وكفى بك بصيراً،

_ (1) ستأتي له ترجمة ضافية في النفح، حيث نذكر أهم المصادر التي أوردت ترجمته.

وكفى بك لطيفاً، وكفى بك خبيراً، وكفى بك نصيراً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً كثيراً. وقال ابن الحاج المذكور في الرحلة المذكورة: إذا التقى الرجل بعدوّه وهو على خوف منه فليقرأ هذه الحروف كهيعص، حمعسق وليعقد بكل حرف منها إصبعاً، يبدأ بإبهام يده اليمنى ويختم بإبهام يده اليسرى، فإذا قرب من عدوّه فليقرأ في نفسه سورة الفيل، فإذا وصل إلى قوله ترميهم فليكررها، وكلّما كررها فتح إصبعاً من أصابعه المعقودة تجاه العوّ، فيكررها عشر مرّات، ويفتح جميع أصابعه، فإذا فعل ذلك أمن من شرّه إن شاء الله تعالى، وهو مجرب، انتهى. ومن بديع نظم أبي إسحاق ابن الحاج النميري المذكور قوله: يا ربّ كاس لم يشجّ شمولها فاعجب لها جسماً بغير مزاج لمّا رأينا السحر من أشكالها جملاً نسبناه إلى الزجاج وله فيما أظنّ: له شفة أضاعوا النّشر فيها بلثم حين سدّت ثغر بدر فما أشهى لقلبي ما أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر وهو تضمين حسن. 216 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق إمام النحاة أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيّان، النّفزي، الأثري، الغرناطي (1) . قال ابن مرزوق الخطيب في حقّه: هو شيخ النحاة بالديار

_ (1) ترجم له الصفدي في الوافي وأعيان العصر ونكت الهميان: 280 وانظر أيضا الكتيبة الكامنة: 81 والدرر 4: 302 وبغية الوعاة: 121 وطبقات الشافعية 6: 31 وغاية النهاية 2: 285.

المصرية، وشيخ المحدثين بالمدرسة المنصورية، انتهت إليه رئاسه التبريز في علم العربية واللّغة والحديث، سمعت عليه وقرأت، وأنشدني الكثير، وإذا أنشدني شيئاً ولم أقيّده استعاده منّي فلم أحفظه، فأنشدني وكنت أظنّه لنفسه ارتجالاً إلى أنأخبرني أحد أصحابنا عنه أنّه أخبره أنهما لأبي الحسن التّجاني أنشدهما له ببيته بالمدرسة الصالحيّة رحمه الله تعالى: إنّ الذي يروي ولكنّه يحفظ ما يروي ولا يكتب كصخرةٍ تنبع أمواجها تسقي الأراضي وهي لا تشرب قال: ورويت عنه تواليف ابن أبي الأحوص: منها التبيان في أحكام القرآن والمعرب المفهم في شرح مسلم ولم أقف عليه، والوسامة في أحكام القسّامة، والمشرع السلسل في الحديث المسلسل وغير ذلك. وحدثني بسنن أبي داود عن ابن خطيب المزّة عن أبي حفص ابن طبرزدٍ عن أبي البدر الكروخي ومفلح الرومي عن أبي بكر ابن ثابت الخطيب عن أبي عمر الهاشمي عن اللؤلؤي عن أبي داود، وبسنن النسائي عن جماعة عن ابن باقا عن أبي زرعة عن ابن حميد الدّوسي عن أبي نصر الكسار عن ابن السني عن النسائي، وبالموطإ عن أبي جعفر ابن الطباع بسنده. وشكوت إليه يوماً ما يلقاه الغريب من أذاة العداة، فأنشدني لنفسه: عداتي لهم فضلٌ عليّ ومنّةٌ فلا أذهب الرحمن عن الأعاديا هم بحثوا عن زلّتي فاجتنبتها وهو نافسوني فاكتسبت المعاليا وأنشدني أيضاً من مداعباته، وله في ذلك النظم الكثير مع طهارته وفضله: علّقته سبجيّ اللّون قادحه ما ابيضّ منه سوى ثغرٍ حكى الدّررا قد صاغه من سواد العين خالقه فكلّ عينٍ إليه تدمن النّظرا

وأنشدني في جاهل لبس صوفاً وزها فيه: أيا كاسياً من جيّد الصوف نفسه ويا عارياً من كل فضل ومن كيس أتزهى بصوفٍ وهو بالأمس مصبحٌ على نعجةٍ واليوم أمسى على تيس انتهى ما اختصرته من كلام الخطيب ابن مرزوق. وأنشد الرحالة ابن جابر الوادي آشي لأبي حيّان قوله: وقصّر آمالي مآلي إلى الردى وأنّي وإن طال المدى سوف أهلك فصنت بماء الوجه نفساً أليّةً وجادت يميني بالذي كنت أملك ووقفت على أعيان العصر وأعوان النصر للصفدي، فوجدت فيه ترجمة أبي حيان واسعة فرأيت أن أذكرها بطولها لما فيها من الفوائد، وهي: الشيخ، الإمام، العالم، العلامة، الفريد، الكامل، حجّة العرب، مالك أزمّة الأدب، أثير الدين، أبو حيّان الأندلسي الجيّاني - بالجيم، والياء آخر الحروف مشدّدة، وبعد الألف نون - وكان أمير المؤمنين في النحو، والشمس السافرة شتاء في يوم الصّحو، والمتصرف في هذا العلم فإليه الإثبات والمحو، لو عاصر أئمة البصرة لبصّرهم، أو أهل الكوفة لكف عنهم اتباعهم السواد وحذرهم، نزل منه كتاب سيبويه في وطنه بعد أن كان طريداً، وأصبح به التسهيل بعد تعقيده مفيداً، وجعل سرحة شرحه وجنةً راقت النواظر توريداً، ملأ الزمان تصانيف، وأمال عنق الأيّام بالتواليف، تخرّج به أئمّة في هذا الفنّ، وروّق لهم في عصره منه سلافة الدّن، فلو رآه يونس بن حبيب لكان بغيضاً غير مجيب، أو عيسى بن عمر لأصبح من تقصيره وهو محذّر، أو الخليل لكان بعينه قذاه، أو سيبويه لما تردى من مسألته الزنبورية برداه، أو الكسائي لأعراه حلّة جاهه عند الرشيد وأناسه، أو الفرّاء لفرّ منه ولم يقتسم ولدا المأمون تقديم مداسه، أو اليزيدي لما ظهر نقصه من مكامنه، أو الأخفش

لأخفى جملةً من محاسنه، أو أبو عبيدة لما تركه ينصب لشعب الشعوبية، أو أبو عمروٍ لشغله بتحقق اسمه دون التعلّق بعربية، أو السكّري لما راق كلامه في المعاني ولا حلا، أو المازني لما زانه قوله إنّ مصابكم رجلا، او قطرب لما دبّ في العربية ولا درج، أو ثعلب لاستكن بمكره في وكره ولما خرج، أو المبرّد لأصبحت قواه مقترة، أو الزجّاج لأمست قواريره مكسرة، أو ابن الوزان لعدم نقده، أو الثمانيني لما تجاوز حدّه، أو ابن باب العلم أن قياسه ما اطّرد، أو ابن دريدلما بلع ريقه ولا ازدرد، أو ابن قتيبة لأضاع رحله، أو ابن السراج لمشاه إذا رأى وحله، أو ابن الخشاب لأضرم فيه ناراً، ولم يجد معه نوراً، أو ابن الخباز لما سجر له تنوراً، أو ابن القوّاس لما غرق في نزعه، أو ابن يعيش لأوقعه في نزعه، أو ابن خروف لما وجد له مرعىً، أو ابن إياز لما وجد لأوزاره وقعاً، أو ابن الطراوة لم يكن نحوه طريّاً، أو ابن الدباج لكان من حلّته الرائقة عريّاً، وعلى الجملة فكان إمام النحاة في عصره شرقاً وغرباً، وفريد هذا الفن الفذ بعداً وقرباً، وفيه قلت: سلطان علم النحو أستاذنا ال شيخ أثير الدين حبر الأنام فلا تقل زيدٌ وعمروٌ، فما في النحو معه لسواه كلام خدم هذا العلم مدّة تقارب الثمانين، وسلك من غرائبه وغوامضه طرقاً متشعّبة الأفانين، ولم يزل على حاله إلى أن دخل في خبر كان، وتبدّلت حركاته بالإسكان، وتوفّي رحمه الله تعالى بمنزله خارج باب البحر بالقاهرة في يوم السبت بعد العصر الثامن والعشرين من صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة ودفن من الغد بمقبرة الصوفية خارج باب النصر، وصلّي عليه في الجامع الأموي بدمشق صلاة الغائب في شهر ربيع الآخر، ومولده بمدينة مطخشارش في أخريات شوال سنة أربع وخمسين وستمائة. وقلت أنا أرثيه رحمه الله تعالى:

مات أثير الدين شيخ الورى فاستعر البارق واستعبرا ورقّ من جزنٍ نسيم الصّبا واعتلّ في الأسحار لمّا سرى وصادحات الأيك في نوحها رئته في السجع على حرف را يا عين جودي بالدّموع التي يروى بها ما ضمّه من ثرى واجري دماً فالخطب في شأنه قد اقتضى أكثر ممّا جرى مات إمامٌ كان في فنّه يرى إماماً والورى من ورا أمسى منادىً للبلى مفرداً فضمّه القبر على ما ترى يا أسفا كان هدىً ظاهراً فعاد في تربته مضمرا وكان جمع الفضل به برهةً صحّ فمّا أن قضى كسّرا وعرّف الفضل به برهةً والآن لمّا أن مضى نكّرا وكان ممنوعاً من الصرف لا يطرق من وافه خطبٌ عرا لا أفعل التفضيل ما بينه وبين من أعرفه في الورى لا بدلٌ عن نعته بالتّقى ففعله كان له مصدرا لم يدّغم في اللّحد إلا وقدفكّ من الصبر وثيق العرى بكى له زيدٌ وعمروٌ فمن أمثلة النحو وممّن قرا ما أعقد التسهيل من بعده فكم له من عسرةٍ يسّرا وجسّر الناس على خوضه إذ كان في النحو قد استبحرا من بعده قد حال تمييزه وحظّه قد رجع القهقرى شارك من قد ساد في فنّه وكم له فنٌّ به استأثرا دأب بني الآداب أن يغسلوا بدمعهم فيه بقايا الكرى والنحو قد سار الردى نحوه والصرف للتصريف قد غيّرا واللّغة الفصحى غدت بعده يلغى الذي في ضبطها قررا تفسيره البحر المحيط الذي يهدي إلى ورّاده الجوهرا فوائدٌ من فضله جمّةٌ عليه فيها نعقد الخنصرا

وكان ثبتاً نقله حجّةً مثل ضياء الصبح إن أسفرا ورحله في سنّة المصطفى أصدق من يسمع إن أخبرا له الأسانيد التي قد علت فاستفلت عنها سومي الذّرى ساوى بها الأحفاد أجدادهم فاعجب لماضٍ فاته من طرا وشاعراً في نظمه مفلقاً كم حرّر اللفظ وكم حبّرا لها معانٍ كلّما خطّها تستر ما يرقم في تسترا أفديه من ماضٍ لأمر الردى مستقبلاً من ربّه بالقرى ما بات في أبيض أكفانه إلاّ وأضحى سندساً أخضرا تصافح الحور له راحةً كم تعبت في كلّ ما سطّرا إن مات فالذكر له خالدٌ يحيا به من قبل أن ينشرا جاد ثرىً وافاه غيثٌ إذا مسّاه بالسّقي له بكرا وخصّه من ربّه رحمةٌ تورده في حشره الكوثرا وكان قد قرأ القراءات على الخطيب أبي محمد عبد الحق بن علي بن عبد الله نحواً من عشرين ختمة إفراداً وجمعاً، ثم على الخطيب الحافظ أبي جعفر أحمد الغرناطي المعروف بالطباع بغرناطة، ثم قرأ السبعة إلى آخر سورة الحجر على الخطيب الحافظ أبي علي الحسين بن عبد العيز بن محمد أبي الأحوص بمالقة، ثم إنّه قدم الإسكندريّة، وقرأ القراءات على عبد النصير بن علي بن يحيى المريوطي، ثم قدم مصر فقرأ بها القراءات على أبي الطاهر إسماعيل بن هبة الله المليحي، وسمع الكثير على الجم الغفير بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية والإسكندرية وديار مصر والحجاز، وحصّل الإجازات من الشام والعراق وغير ذلك، واجتهد فيطلب التحصيل والتقييد والكتابة، ولم أر في أشياخي أكثر اشتغالاً منه، لأنّي لم أره قط إلاّ يسمع أو يشتغل أو يكتب، ولم أره على غير ذلك، وله إقبال على الطلبة الأذكياء، وعنده تعظيم لهم، ونظم ونثر، وله الموشحات

البديعة، وهو ثبت فيما ينقله، محرّر لما يقوله، عارف باللّغة، ضابط لألفاظها، وأما النحو والتصريف فهو إمام الناس كلّهم فيهما، لم يذكر معه في أقطار الأرض غيره في حياته، وله اليد الطّولى في التفسير والحديث والشروط والفروع وتراجم الناس وطبقاتهم وحوادثهم، خصوصاً المغاربة، وتقييد أسمائهم على ما يتلفظون به من إمالة وترقيق وتفخيم، لأنّهم يجاورون بلاد الإفرنج وأسماؤهم قريبة من لغاتهم، وألقابهم كذلك، وقيّده وحرّره، وسأله شيخنا الذهبي أسئلة فيما يتعلّق بذلك، وأجابه عنها. له التصانيف التي سارت وطارت، وانتشرت وما انتثرت، وقرئت ودريت ونسخت وما فسخت، وأخملت كتب الأقدمين، وألهت المقيمين بمصر والقادمين، وقرأ الناس عليه، وصاروا أئمة وأشياخاً في حياته، وهو الذي جسّر الناس على مصنّفات ابن مالك رحمه الله تعالى، ورغّبهم فيها وفي قراءتها، وشرح لهم غامضها، وخاض بهم لججها، وفتح لهم مقفلها، وكان يقول عن مقدمة ابن الحاجب: هذه نحو الفقهاء، وكان التزم ان لا يقرئ أحداً إلاّ إن كان في كتاب سيبويه أو في التسهيل لابن مالك أو في تصانيفه، ولمّا قدم من بلاده لازم الشيخ بهاء الدين رحمه الله تعالى كثيراًن وأخذ عنه كتب الأدب. وكان شيخاً حسن العمة، مليح الوجه، ظاهر اللون، مشرباً حمرة، منور الشيبة، كبير اللّحية، مسترسل الشعر فيها لم تكن كثة، عبارته فصيحة بلغة الأندلس يعقد حرف القاف قريباً من الكاف، على أنّه لا ينطق بها في القرآن إلا فصيحة، وسمعته يقول: ما في هذه البلاد من يعقد حرف القاف. وكانت له خصوصية بالأمير سيف الدين أرغون كافل الممالك، ينبسط معه، ويبيت عنده في قلعة الجبل، ولما توفيت ابنته نضار طلع إلى السلطان الملك الناصر محمد، وسأل منه ا، يدفنها في بيته داخل القاهرة في البرقية، فأذن له في ذلك، وكان أولاً يرى رأي الظاهرية، ثمّ إنّه تمذهب للشافعي رضي الله تعالى عنه؛ بحث على الشيخ علم الدين العراقي المحرّر للرافعي، ومختصر المنهاج

للنووي، وحفظ المنهاج إلاّ يسيراً، وقرأأصول الفقه على أستاذه أبي جعفر ابن الزبير، بحث عليه من الإشارة للباجي، ومن المستصفى للغزالي، وعلى الخطيب أبي الحسن ابن فضيلة، وعلى الشيخ علم الدين العراقي، وعلى الشيخ شمس الدين الأصبهاني، وعلى الشيخ علاء الدين الباجي، وقرأ أشياء من أصول الدين على شيخه ابن الزبير، وقرأ عليه شيئاً من المنطق، وقرأ أشياء من المنطق على بدر الدين محمد بن سلطان البغدادي، وقرأ عليه شيئاً من الإرشاد للعميدي في الخلاف، ولكنّه برع في النحو، وانتهت إليه الرئاسة والمشيخة فيه، وكان خالياً من الفلسفة والاعتزال والتّجسيم، وكان أولاً يعتقد في الشيخ تقي الدين ابن تيمية وامتدحه بقصيدة، ثم إنّه انحرف عنه لما وقف على كتاب العرش له، قال الفاضل كما الدين الأدفوي: وجرى على مذهب كثير من النحويين في تعصبه للإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه التعصب المتين، قال: حكي لي أنّه قال لقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة: إن عليّاً رضي الله تعالى عنه عهد إليه النبيّ صلى الله عليه وسلّم أن لا يحبّك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق، أتراه ما صدق في هذا فقال: صدق، قال فقلت له: فالذين سلّوا السيوف في وجهه يبغضوه أو يحبّونه أو غير ذلك قال: وكان سيّء الظن بالناس كافة، فإذا نقل له عن أحد خبر لا يتكيف به وينثني عنه حتى عمّن هو عنده مجروح، فيقع في ذم من هو بألسنة العالم ممدوح، وبسبب ذلك وقع في نفس جمع كبير منه ألم كثير؛ انتهى. قلت: انا لم أسمع منه في حق أحد من الأحياء والأموات إلا خيراً، وما كنت أنقم عليه شيئاً إلا ما كان يبلغني عنه من الحط على الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، على أنّني أنا ما سمعت في حقه شيئاً، نعم كان لا يثق بهؤلاء الذي يدّعون الصلاح حتى قلت له يوماً: يا سيدي، فكيف تعمل في الشيخ أبي مدين فقال: هو رجل مسلم ديّن، وإلاّ ما كان يطير في الهواء، ولا يصلي الصلوات الخمس في مكة كما يدعي فيه هؤلاء الأغماء.

وكان فيه - رحمه الله تعالى - خشوع، يبكي إذا سمع القرآن، ويجري دمعه عند سماع الأشعار الغزلية، وقال كمال الدين المذكور: قال لي: إذا قرأت أشعار العشق أميل إليها، وكذلك أشعار الشجاعة تستميلني، وغيرهما، إلا أشعار الكرم ما تؤثر فيّ، انتهى. قلت: كان يفتخر بالبخل، كما يفتخر غيره بالكرم، وكان يقول لي: أوصيك احفظ دارهمك ويقال عنك بخيل، ولا تحتج إلى السفل. وأنشدني من لفظه لنفسه: رجاؤك فلساً قد غدا في حبائلي قنيصاً رجاءٌ للمّتاج من العقم أأتعب في تحصيله وأضيعه إذن كنت معتاضاً من البرء بالسّقم قلت: والذي أراه فيه أنّه طال عمره، وتغرّب، وورد البلاد ولا شيء معه، وتعب حتى حصّل المناصب تعباً كثيراً، وكان قد جرب الناس، وحلب أشطر الدهر ومرت به حوادث، فاستعمل الحزم، وسمعته غير مرّة يقول: يكفي الفقير في مصر أربعة أفلس: يشتري له بائنة بفلسين، وبفلس زبيباً، وبفلس كوز ماء، ويشتري ثاني يوم ليموناً بفلس يأكل به الخبز، وكان يعيب على مشتري الكتب ويقول: الله يرزقك عقلاً تعيش به، أنا أيّ كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف، وإذا أردت من أحد أن يعيرني رداهم ما أجد ذلك، وأنشدني له إجازة: إنّ الدراهم والنّساء كلاهما لا تأمننّ عليها إنسانا ينزعن ذا اللبّ المتين عن التّقى فترى إساءة فعله إحسانا وأنشدني له من أبيات: أتى بشفيع ليس يمكن ردّه دراهم بيضٌ للجروح مراهم تصيّر صعب الأمر أهون ما يرى وتقضي لبانات الفتى وهو نائم

ومن حزمه قوله: عداتي لهم فضل البيتين وقد مدحه كثير من الشعراء، والكبار الفضلاء، فمنهم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر بقوله: قد قلت لمّا أن سمعت مباحثاً في الذات قرّرها أجلّ مفيد هذا أبو حيّان قلت صدقتم وبررتم هذا هو التوحيدي وكان قد جاء يوماً إل بيت الشيخ صدر الدين ابن الوكيل فلم يجده، فكتب بالجص على مصراع الباب، فلمّا رأى ابن الوكيل ذلك قال: قالوا أبو حيّان غير مدافعٍ ملك النحاة فقلت بالإجماع اسم الملوك على النقود وإنّني شاهدت كنيته على المصراع ومدحه شرف الدين ابن الوحيد بقصيدة مطولة أولها: إليك أبا حيّان أعملت أينقي وملت إلى حيث الركائب تلتقي دعاني إليك الفضل فانقدت طائعاً ولبّيت أحدوها بلفظي المصدق ومدحه نجم الدين إسحق بن ألمي التركي، وسأله تكملة شرح التسهيل بقصيدة، وأرسلها إليه من دمشق، وأولها: تبدّى فقلنا وجهه فلق الصّبح وكمّله باليمن فيه وبالنّجح وسهّلت تسهي الفوائد محسناً فكن شارحاً صدري بتكملة الشرح ومدحه مجير الدين عمر بن الملطي بقصيدة أولها: يا شيخ أهل الأدب الباهر من ناظمٍ يلفى ومن ناثر

ومدحه نجم الدين يحيى الإسكندري بقصيدة أولها: ضيفٌ ألمّ بنا من أبرع النّاس لا ناقضٌ عهد أيّامي ولا ناسي عارٍ من الكبر والأدناس ذو شرفٍ لكنّه من سرابيل العلا كاسي ومدحه نجم الدين الطوفي بقصيدتين أول الأولى: أتراه بعد هجرانٍ يصل ويرى في ثوب وصلٍ مبتذل قمرٌ جار على أحلامنا إذ تولاّها بقدٍّ معتدل وأول الثانية: اعذروه فكريمٌ من عذر قمرته ذات وجهٍ كالقمر ومدحه بهاء الدين محمد بن شهار الدين الخيمي بقصيدة أولها (1) : فضضت عن العذب النّمير ختامها وفتّحت عن زهر الرياض كمامها ومدحه جماعة آخرون يطول ذكرهم، وكتبت أنا إليه من الرحبة سنة 729: لو كنت أملك من دهري جناحين لطرت لكنّه فيكم جنى حيني وإن سادةً نلت في مصرٍ بهم شرفاً أرقى به شرفاً ينأى عن العين وإن جرى لسما كيوان ذر علاً أحلّني فضلهم فوق السّماكين وليس غير أثير الدين أثّله فشاد ما شاد لي حقّاً بلا مين حبرٌ ولو قلت إنّ الباء رتبتها من قبل صدّقك الأقوام في ذين

_ (1) وقع هذا بعد قوله في المطبوعة التجارية: إنه الأثير أبا حيان أحيانا ... بنشره طي علم مات أحيانا ومدحه القاضي ناصر الدين شافع بقصيدة أولها فضضت عن العذب ... .......... (البيت)

أحيا علوماً أمات الدّهر أكثرها مذ جلّدت خلّدت ما بين دفّين يا واحد العصر ما قولي متّهمٍ ولا أحاشي امرءاً بين الفريقين هذي العلوم بدت من سيبويه كما قالوا وفيك انتهت يا ثاني اثنين فدم لها وبودّي لو أكون فدىً لما ينالك في الأيّام من شين يا سيبويه الورى في الدهر لا عجبٌ إذا الخليل غدا يفديك بالعين يقبّل الأرض وينهي ما هو عليه من الأشواق التي برّحت بألمها، وأجرت الدموع دماً، وهذا الطرس الأحمر يشهد بدمها، وأربت بسحّها على السحائب وأين دوام هذه من ديمها، وفرقت الأوصال على السقم لوجود عدمها: فيا شوق ما أبقى، ويا لي من النوى ويا دمع ماأجرى، ويا قلب ما أصبى وذكر ولاءه الذي تسجع به في الأرض الحمائم، ويسير تحت لوائه مسير الرياح بين الغمائم، وثناءه الذي يتضوع كالزهر بي الكمائم، ويتنسّم تنسّم هامات الرّبى إذا لبست من الربيع ملوّنات العمائم، ويشهد الله على ما قد قلته والله سبحانه نعم الشهيد. فكتب هو الجواب عن ذلك ولكنه عدم مني. وأنشدته يوماً لنفسي: قلت للكاتب الذي ما أراه قطّ إلاّ ونقّط الدمع شكله إن تخطّ الدموع في الخدّ شيئاً ما يسمى فقال خطّ ابن مقله وأنشدني هو من لفظه لنفسه: سبق الدّمع بالمسير المطايا إذ نوى من أحبّ عني نقله وأجاد الخطوط في صفحة الخ د ولم لا يجيد وهو ابن مقله وأنشدني في مليح نوتي: كلفت بنوتيٍّ كأنّ قوامه إذا يثني خوطٌ من البان ناعم

مجاذفه في كلّ قلبٍ مجاذبٌ وهزّاته للعاشقين هزائم وأنشدته أنا لنفسي: إنّ نوتيّ مركبٍ نحن فيه هام فيه صبّ الفؤاد جريحه أقلع القلب عن سلّوي لمّا أن بدا ثغره وقد طاب ريحه وأنشدته لنفسي أيضاً: نوتيّنا حسنه بديع وفيه بدر السّماء مغرى ما حكّ برّاً إلاّ وقلنا يا ليت أنّا نحكّ برّا فأعجباه رحمه الله تعالى، وزهزه لهما. وأنشدني هو لنفسه مليح أحدب: تعشّقته أحدباً كيّساً يحاكي نحيباً حنين النّعام إذا كدت أسقط من فوقه تعلّقت من ظهره بالسّنام فأنشدته لنفسي: وأحدبٍ رحت به مغرماً إذ لم تشاهد مثله عيني لا غرو أن هام فؤادي به وخصره ما بين دفّين وأنشدني من لفظه لنفسه في أعمى: ما ضرّ حسن الذي أهواه أنّ سنا كريمتيه بلا شينٍ قد احتجبا قد كانتا زهرتي روضٍ وقد ذوتا لكنّ حسنهما الفتّان ما ذهبا كالسيف قد زال عنه صقله فغدا أنكى وآلم في قلب الذي ضربا وأنشدته لنفسي في ذلك:

وربٌّ أعمى وجهه روضةٌ تنزّهي فيها كثير الديون وخدّه وردٌ غنينا به عن نرجسٍ ما فتحته العيون وأنشدته أيضاً لنفسي في ذلك: فيا حسن أعمى لم يخف حدّ طرفه محبٌّ غدا سكران فيه وما صحا إذا صاد خلٌّ بات يرعى حدوده غدا آمناً من مقلتيه الجوارحا وكتبت إليه استدعاءً، وهو: المسؤول من إحسان سيدنا الإمام العالم العلاّمة، لسان العرب، ترجمان الأدب، جامع الفضائل، عمدة وسائل السائل، حجّة المقلّدين، زين المقلّدين، قطب المؤملين، أفضل الآخرين، وارث علوم الأولين، صاحب اليد الطولى في كل مكان ضيق، والتصانيف التي تأخذ بمجامع القلب فكل ذي لبٍّ إليها شيّق، والمباحث التي أثارت الأدلة الراحجة من مكامن أماكنها، وقنصت أوابده الجامحة من مواطئ مواطنها، كشّاف معضلات الأوائل، سبّاق غايات قصّر عن شأوها سبحان وائل، فارع هضبات البلاغة في اجتلاء اجتلابها وهي في مرقدها، سالب تيجان الفصاحة في اقتضاء اقتضابها من فوق فرقدها، حتى أبرز كلامه جنانٌ فكلّ جنّانٍ من بعده عن الدخول إليها جبان، وأتى ببراهين وجوه حورها لم يطمثهن إنس قبله ولا جان، وأبدع خمائل نظم ونثر لا تصل إلى أفنان فنونها يد جانٍ، أثير الدين أبي حيان، لا زال ميت العلم يحييه، وهل عجيب ذلك من أبي حيان: حتى ينال بنو العلوم مرامهم ويحلّهم دار المنى بأمان إجازة كاتب هذه الأحرف ما رواه - فسح الله تعالى في مدته - من المسانيد والمصنفات والسنن والمجاميع الحديثية، والتصانيف الأدبية، نظماً ونثراً، إلى غير ذلك من أصناف العلوم على اختلاف أوضاعها، وتباين أجناسها وأنواعها، ممّا تلقاه ببلاد الأندلس وإفريقية والإسكندرية والديار المصرية والبلاد الحجازية

وغيرها من البلدان، بقراءة أو سماع أو مناولة أو إجازة خاصة أو عامة، كيفما تأدى ذلك إليه، وإجازة ما له - أدام الله إفادته - من التصانيف في تفسير القرآن العظيم والعلوم الحديثية والأدبية وغيرها، وما له من نظم ونثرإجازة خاصة، وأن يثبت بخطه تصانيفه إلى حني هذا التاريخ، وأن يجيزه إجازة عامة لما يتجدّد له من بعد ذلك على رأي من يراه ويجوزه، منعماً متفضلاً إن شاء الله تعالى. فكتب الجواب رحمه الله تعالى: أعزك الله، ظننت بإنسان جميلاً فغاليت، وأبديت من الإحسان جزيلاً وما باليت، وصفت منهو القتام يظنه الناس سماء، والسراب يحسبه الظمآن ماء، يا ابن الكرام وأنت أبصر من يشيم، أمع الروض النضير يرعى الهشيم، أما أغنتك فضائلك، وفواضلك، ومعارفك، وعوارفك، عن نغبة من دأماء، وتربة من يهماء، لقد تبلجت المهارق من نور صفحاتك، وتأرجت الأكوان من أريج نفحاتك، ولأنت أعرف من يقصد للدراية، وأنقد من يعتمد عليه في الرواية، لكنك أردت أن تكسو من مطارفك، وتتفضل من تالدك وطارفك، وتجلو الخامل في منصة النباهة، وتنقده من لكن الفهاهة، فتشيد له ذكراً، وتعلي له قدراً، ولم يمكنه إلاّ إسعافك فيما طلبت، وإجابتك إلى ما إليه ندبت، فإن المالك لا يعصى، والمتفضل المحسن لا يقصى، وقد أجزت لك - أيدك الله تعالى - جميع ما رويته عن أشياخي بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية وديار مصر والحجاز وغير ذلك، بقراءة أو سماع أو مناولة أو إجازة بمشافهة وكتابة ووجازة، وجميع ما أجيز لي أن أرويه بالشام والعراق وغير ذلك، وجميع ما صنفته واختصرته وجمعته وأنشأته نظماً ونثراً، وجميع ما سألت في هذا الاستدعاء: فمن مروياتي الكتاب العزيز قرأته بقراءة السبعة على جماعة من أعلاهم الشيخ المسند المعمّر فخر الدين أبو الطاهر إسماعيل بن هبة الله بن علي بن هبة الله المصري ابن المليحي، آخر من روى القرآن بالتلاوة على أبي الجود، والكتب الستة والموطأ ومسند عبد بن حميد ومسند الدراميّ ومسند الشافعي ومسند الطيالسي والمعجم الكبير للطّبراني والمعجم الصغير

له وسنن الدارقطني وغير ذلك. وأما الأجزاء فكثيرة جدّاً، ومن كتب النحو والآداب فأروي بالقراءة كتاب سيبويه، والإيضاح، والتكملة، والمفصل، وجمل الزجاجي، وغير ذلك، والأشعار الستة والحماسة وديوان حبيب والمتنبي والمعري، وأما شيوخي الذين رويت عنهم بالسماع أو بالقراءة فهم كثير، وأذكر الآن منهم جماعة: فمنهم القاضي أبو علي الحسن بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي، والمقرئ أبو جعفر أحمد بن سعيد بن أحمد بن بشير الأنصاري، وإسحاق بن عبد الرحيم ابن محمد بن عبد الملك بن درباس، وأبو بكر ابن عباس بن يحيى بن غريب القوّاس البغدادي، وصفي الدين الحسين بن أبي منصور بن ظافر الخزرجي، وأبو الحسين محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري، ووجيه الدين محمد بن عبد الرحمن بن أحمد الأزدي بن الدّهّان، وقطب الدين محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن القسطلاني، ورضي الدين محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي اللغوي، ونجيب الدين محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني، ومكي بن محمد بن أبي القاسم ابن حامد الأصبهاني الصفّار، ومحمد ابن عمر بن محمد بن علي السعدي الضرير ابن الفارض، وزين الدين أبو بكر محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن الأنماطي، ومحمد بن إبراهيم بن ترجم بن حازم المازني، ومحمد بن الحسين بن الحسن بن إبراهيم الداريّ ابن الخليلي، ومحمد ابن محمد بن عمر العنسي عرف بابن النّنّ، وعبد الله بن محمد بن هارون بن عبد العزيز الطائي القرطبي، وعبد الله بن نصر الله بن أحمد بن رسلان بن فتيان ابن كامل الخزمي، وعبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن فارس التميمي، وعبد الرحمن بن يوسف بن يحيى بن يوسف ابن خطيب المزة، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي المصري السكري، وعبد العزيز بن عبد المنعم بن علي ابن نصر بن الصيقل الحراني، وعبد العزيز بن عبد القادر بن إسماعيل الفيالي

الصالحي الكتاني، وعبد المعطي بن عبد الكريم بن أبي المكارم ابن منجى الخزرجي، وعلي بن صالح بن أبي علي ابن يحيى بن إسماعيل الحسني البهنسي المجاور، وغازي بن أبي الفضل ابن عبد الوهاب الحلاوي، والفضل بن علي بن نصر بن عبد الله بن الحسين بن رواحة الخزرجي، ويوسف بن إسحاق بن أبي بكر الطبري المكي، واليسر بن عبد الله بن محمد بن خلف بن اليسر القشيري، ومؤنسة بنت الملك العادل أبي بكر ابن أيوب بن شادي، وشامية بنت الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد التيمية، وزينب عبد اللطيف بن يوسف ابن محمد بن علي البغدادي. وممّن كتبت عنه من مشاهير الأدباء أبو الحكم مالك بن عبد الرحمن بن علي بن الفرج المالقي ابن المرحل، وأبو الحسن حازم بن محمد بن حازم الأنصاري القرطاجني، وأبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن يحيى بن عبد الله الهذلي التطيلي، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن ذنّون المالقي، وأبو عبد الله محمد بن عمر بن جبير الجلياني العكي المالقي، وأبو الحسين يحيى بن عبد العظيم بن يحيى الأنصاري الجزار، وأبو عمرو عثمان بن سعيد بن عبد الرحمن بن تولو القرشي، وأبو حفص بن عمر بن محمد بن أبي علي الحسن المصري الوراق، وأبو الربيع سليمان ابن علي بن عبد الله بن ياسين الكومي التلمساني، وأبو العباس أحمد بن أبي الفتح نصر الله بن باتكين القاهري، وأبو عبد الله محمد بن سعيد بن حمّاد بن محسن الصنهاجي البوصيري، وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن عبد المنعم العزازي. وممّن أخذت عنه من النحاة أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن الخشني الأبّدي، وأبو الحسن علي بن محمد بن علي بن يوسف الكتامي ابن الضائع، وأبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بن محمد بن الزبير الثقفي، وأبو جعفر أحمد بن يوسف بن علي بن يوسف الفهري اللّبلي، وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن نصر الحلبي ابن النحاس. وممّن لقيته من الظاهرية أبو العباس أحمد بن علي بن خالص الأنصاري

الإشبيلي الزاهد، وأبو الفضل محمد بن محمد بن سعدون الفهري الشّنتمري. وجملة الذي سمعت منهم نحو من أربعمائة شخص وخمسين. وأما الذين أجازوني فعالم كثير جداً من أهل غرناطة ومالقة وسبتة وديار إفريقية وديار مصر والحجاز والعراق والشام، وأما ما صنفته فمن ذلك البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم. إتحاف الأريب بما في القرآن من الغريب. كتاب الأسفار المخلص من كتاب الصّفّار شرحاً لكتاب سيبويه. كتاب التجريد لأحكام سيبويه. كتاب التذييل والكميل في شرح التسهيل. كتاب التنخيل المخلص من شرح التسهيل. كتاب التذكرة. كتاب المبدع في التصريف. كتاب الموفور. كتاب التقريب. كتاب التدريب. كتاب غاية الإحسان. كتاب النكت الحسان. كتاب الشذا في مسألة كذا. كتاب الفضل في أحكام الفصل. كتاب اللمحة. كتاب الشذرة. كتاب الارتضاء في الفرق بين الضاد والظاء. كتاب عقد اللآلي. كتاب نكت الأمالي. كتاب النافع في قراءة نافع. الأثير في قراءة ابن كثير. المورد الغمر في قراءة أبي عمرو. الروض الباسم في قراءة عاصم. المزن الهامر في قراءة ابن عامر. الرمزة في قراءة حمزة. تقريب النائي في قراءة الكسائي. غاية المطلوب في قراءة يعقوب. قصيدة النير الجلي في قراءة زيد بن علي. الوهاج في اختصار المنهاج. الأنوار الأجلى في اختصار المحلى. الحلل الحالية في أسانيد القرآن العالية. كتاب الإعلام بأركان الإسلام. نثر الزهر ونظم الزهر. قطر الحبيّ في جواب أسئلة الذهبي. فهرست مسموعاتي. نوافث السحر في دمائث الشعر. تحفة النّدس في نحاة الأندلس. الأبيات الوافية في علم القافية. جزء في الحديث. مشيخة ابن أبي المنصور. كتاب الإدراك للسان الأتراك. زهو الملك في نحو الترك. نفحة المسك في سيرة الترك. كتاب الأفعال في لسان الترك. منطق الخرس في

لسان الفرس. وممّا لم يكمل تصنفه: كتاب مسلك الرشد في تجريد مسائل نهاية ابن رشد. كتاب منهج السالك في الكلام على ألفية ابن مالك. نهاية الإغراب في علمي التصريف والإعراب. رجز مجاني الهصر في آداب وتواريخ لأهل العصر. خلاصة التبيان في علمي البديع والبيان. وجز نور الغبش في لسان الحبش. المخبور في لسان اليخمور قاله وكتبه أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان. وأنشدني الشيخ أثير الدين من لفظه لنفسه في صفات الحروف: أنا هاوٍ لمستطيلٍ أعنٍّ كلّما اشتد صارت النفس رخوه أهمس القول وهو يجهر سبّي وإذا ما انخفضت أظهر علوه فتح الوصل ثمّ أطبق هجراً بصفيرٍ والقلب قلقل شجوه لان دهراً ثمّ اغتدى ذا انحرافٍ وفشا السرّ مذ تكررت نحوه وأنشدني أيضاً لنفسه: يقول لي العذول ولم أطعه تسلّ فقد بدا للحبّ لحيه تخيّل أنها شانت حبيبي وعندي أنها زينٌ وحليه وأنشدني لنفسه أيضاً: شوقي لذاك المحيّا الزاهر الزاهي شوقٌ شديدٌ وجسمي الواهن الواهي أسهرت طرفي وولّهت الفؤاد هوىً فالطرف والقلب مني الساهر الساهي نبهت قلبي وتنهى أن أبوح بما يلقاه واشوقه للناهب الناهي بهرت كلّ مليحٍ بالبهاء فما في النّيّرين شبيه الباهرالباهي لهجت بالحبّ لمّا أن لهوت به عن كلّ شيءٍ فويح اللاّهج اللاّهي وأنشدني من لفظه لنفسه:

راض حبيبي عارضٌ قد بدا يا حسنه من عارضٍ رائض وظنّ قومٌ أنّ قلبي سلا والأصل لا يعتدّ بالعارض وأنشدني من لفظه لنفسه: تعشّقته شيخاً كأنّ مشيبه على وجنتيه ياسمينٌ على ورد أخا العقل يدري ما يراد من الهوى أمنت عليه من رقيبٍ ومن صدّ وقالوا الورى قسمان في شرعة الهوى لسود اللحى ناسٌ وناسٌ إلى المرد ألا إنني لو كنت أصبو لأمردٍ صبوت إلى هيفاء مائسة القدّ وسود اللحى أبصرت فيهم مشاركاً فأحببت أن أبقى بأبيضهم وحدي وأنشدني من لفظه لنفسه: ألا إنّ ألحاظاً بقلبي عوابثاً أظنّ بها هاروت أصبح نافثا إذا رام ذو وجدٍ سلوّاً منعنه وكنّ على دين التصابي بواعثا وقيدن من أضحى عن الحبّ مطلقاً وأسرعن للبلوى بمن كان رائثا بروحي رشاً من آل خاقان راحلٌ وإن كان ما بين الجوانح لابثا غدا واحداً في الحسن للفضل ثانياً وللبدر والشمس المنيرة ثالثا وأنشدني لنفسه، ومن خطه نقلت: أسحرٌ لتلك العين في القلب أم وخز ولينٌ لذاك الجسم في اللمس أم خزّ وأملود ذاك القدّ أم أسمرٌ غدا له أبداً في قلب عاشقه هزّ فتاةٌ كساها الحسن أفخر حلّةٍ فصار عليها من محاسنها طرز وأهدى إليها الغصن لين قوامه فماس كأنّ الغصن خامره العزّ يضوع أديم الأرض من نشر طيبها ويخضرّ من آثار تربتها الجرز وتختال في برد الشباب إذا مضت فينهضها قدٌّ ويقعدها عجز أصابت فؤاد الصبّ منها بنظرةٍ فلا رقيةٌ تجدي المصاب ولا حرز

وأنشدني إجازةً في مليح أبرص، ومن خطه نقلت: وقالوا الذي قد صرت طوع جماله ونفسك لاقت في هواه نزاعها به وضحٌ تأباه نفس أولي النّهى وأفظع داءٍ ما ينافي طباعها فقلت له لا عيب فيه يشينه ولا علّةٌ فيه يروم دفاعها ولكنّها شمس الضحى حين قابلت محاسنه ألقت عليه شعاعها وأنشدني من لفظه لنفسه في فحّام: وعلّقته مسود عينٍ ووفرةٍ وثوبٍ يعاني صنعة الفحم عن قصد كأنّ خطوط الفحم في وجناته لطاخة مسكٍ في جنيٍّ من الورد وأنشدني إجازة، ومن خطه نقلت: سأل البدر هل تبدّى أخوه قلت يا بدر لن تطيق طلوعا كيف يبدو وأنت يا بدر بادٍ أوبدران يطلعان جميعا وأنشدني من لفظه لنفسه موشحة عارض بها شمس الدين محمد بن التلمساني: عاذلي في الأهيف الأنس لو رآه الآن قد عذرا قمرٌ من سحبه الشّعر ثغرٌ في فيه أم درر حال بين الدرّ واللّعس خمرةٌ من ذاقها سكرا رجّةٌ بالردف أم كسل ريقةٌ بالثغر أم عسل وردةٌ بالخدّ أم خجل كحلٌ بالعين أم كحل يا لها من أعينٍ نعس جلبت للنّاظر السّهرا

مذ نأى عن مقلتيّ سني ما أذيقا لذّة الوسن طال ما ألقاه من شجن عجباً ضدّان في بدن بفؤادي جذوة القبس وبعيني الماء منفجرا قد أتاني الله بالفرج إذ دنا مني أبو الفرج قمرٌ قد حلّ في المهج كيف لا يخشى من الوهج غيره لو صابه نفسي ظنّه من حرّه شررا نسب العينين لي شركا فانثنى والقلب قد ملكا قمرٌ أضحى له فلكا قال لي يوماً وقد ضحكا أتجي من أرض أندلس نحو مصر تعشق القمرا وأما موشحة ابن التلمساني فهي: قمرٌ يجلو دجى الغلس بهر الأبصار مذ ظهرا آمنٌ من شبهة الكلف ذبت من عينيه بالكلف لم يزل يسعى إلى تكلفي بركاب الدّلّ والصّلف آه لولا أعين الحرس نلت منه الوصل مقتدرا يا أميراً جار مذ وليا كيف لا ترثي لمن بليا فبثغرٍ منك قد جليا قد حلا طعماً وقد حليا وبما أوتيت من كيس جد فما أبقيت مصطبرا

بد تمٍّ في الجمال سني ولهذا لقّبوه سني قد سباني لذّة الوسن بمحيّاً باهرٍ حسن هو خشفي وهو مفترسي فارو عن أعجوتبي خبرا لك خدٌّ يا أبا لافرج زين بالتّوريد والضّرج وحديثٌ عاطر الأرج كم سبى قلباً بلا حرج لو رآك الغصن لم يمس أو رآك البدر لاستترا يا مذيباً مهجتي كمدا فقت في الحسن البدور مدى يا كحيلاً كحله اعتمدا عجباً أن تبرئ الرمدا وبسقم الناظرين كسي جفنك السحّار وانكسرا وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً: إن كان ليلٌ داجوخاننا الإصباحفنورها الوهّاجيغني عن المصباح سلافةٌ تبدو كالكوكب الأزهر مزاجها شهد وعرفها عنبر وحبّذا الورد منها وإن أسكر قلبي بها قد هاجفما تراني صاحعن ذلك المنهاجوعن هوىً يا صاح وبي رشاً أهيف قد لجّ في بعدي بدر فلا يخسف منه سنا الخدّ بلحظه المرهف يسطو على الأسد كسطوة الحجّاجفي النّاس والسفّاحفما ترى من ناجمن لحظه السفّاح

علل بالمسك قلب رشاً أحور منعّم المسك ذي مبسمٍ أعطر ريّاه كالمسك وريقه كوثر غصنٌ على رجراجطاعت له الأرواحفحبذا الآراجإن هبّت الأرواح مهلاً أبا القاسم على أبي حيّان ما إن له عاصم من لحظك الفتّان وهجرك الدائم قد طال بالهيمان فدمعه أمواجوسرّه قد باحلكنّه ما عاجولا أطاع اللاح يا ربّ ذي بهتان يعذل في الراح وفي هوى غزلان دافعت بالراح وقلت لا سلوان عن ذاك يا لاح سبع الوجوه والتاجهي منية الأفراحفاختر لي يا زجّاجقمصال وزوج أقداح وأنشدني من لفظه لنفسه القصيدة الدالية التي نظمها في مدح النحو والخليل وسيبويه، ثم خرج منها إلى مديح صاحب غرناطة وغيره من أشياخه، وأولها: هو العلم لا كالعلم شيء تراوده لقد فاز باغيه وأنجح قاصده وهي قصيدة جيدة تزيد على مائة بيت. وحكي لي أن الشيخ أثير الدين رحمه الله تعالى ضعف فتوجه إليه جماعة يعودونه، وفيهم شمس الدين ابن دانيال، فأنشدهم الشيخ رحمه الله تعالى القصيدة المذكورة، فلما فرغت قال ابن دانيال: يا جماعة أخبركم أن الشيخ قد عوفي، وما بقي عليه بأس، لأنه لم يبق عنده فضلة، قوموا باسم الله.

وأنشدني من لفظه لنفسه رحمه الله تعالى قصيدته السينية التي أولها: أهاجك ربعٌ حائل الرسم دارسه كوحي كتابٍ أضعف الخطّ دارسه انتهى نص الصفدي. وما ذكره رحمه الله تعالى في موضع ولادة أبي حيان غير مخالف لما ذكره في الوافي أنه ولد بغرناطة، إلاّ أن قوله بمدينة مطخشارش فيه نظر، لأنه يقتضي أنها مدينة، وليس كذلك، وإنما هي موضع بغرناطة، ولذا قال الرعيني: إن مولد أبي حيان بمطخشارش من غرناطة، ونحوه لابن جماعة، انتهى، وهو صريح في المراد، وصاحب البيت أدرى على أنه يمكن أن يرد كلام الصفدي لذاك، والله تعالى أعلم. وذكر في الوافي أنه تولى تدريس التفسير بالقبة المنصورية، والإقراء بالجامع الأقمر، قال الصفدي: وقال لي: لم أر بعد ابن دقيق العيد أفصح من قراءتك، وكان ذلك حين قرأت عليه المقامات الحريرية بمصر جماعة، انتهى. وما وقع في كلام كثير من أهل المغرب أن أبا حيان توفي سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة غير ظاهر، لأن أهل المشرق أعرف بذلك، إذ توفي عندهم، وقد تقدم أنه توفي سنة خمس وأربعين وسبعمائة، فعلى كلام أهل المشرق في هذا المعوّل، والله أعلم. وكانت نضار بنت أبي حيان حجت، وسمعت بقراءة العلم البرزالي على بعض الشيوخ، وحدثت بشء من مروياتها، وحضرت على الدمياطي، وسمعت على جماعة، وهي بضم النون وتخفيف الضاد، وأجازها من المغرب أبو جعفر ابن الزبير، وحفظت مقدمة في النحو، ولمّا توفيت عمل والدها فيها كتاباً سمّاه النّضار في المسلاة عن نضار، وكان والدها يثني عليها كثيراً، وكانت تكتب وتقرأ، قال الصفدي: قال لي والدها: إنها خرّجت جزءاً لنفسها وإنها تعرب جيداً، وأظنه قال لي: إنها تنظم الشعر، وكان يقول دائماً: ليت أخاها حيان كان مثلها، وتوفيت رحمها الله تعالى في جمادى الآخرة سنة 730

في حياة والدها، فوجد عليها وجداً عظيماً ولم يثبت وانقطع عند قبرها بالبرقية، ولازمه سنة، ومولدها في جمادى الآخرة سنة702، قال الصفدي: وكنت بالرحبة لما توفيت، فكتبت لوالدها بقصيدة أولها: بكينا باللّجين على نضار فسيل الدمع في الخدين جاري فيا لله جاريةٌ تولّت فنبكيها بأدمعنا الجواري وقال الفقيه المحدث أبو عبد الله محمد بن سعيد الرعيني الأندلسي في برنامجه، عند ذكره شيخه أبا حيان زيادةً على ما قدمناه، ما ملخصه: إن أبا حيان قال: سمعت بغرناطة ومالقة وبلش والمرية وبجاية وتونس والإسكندرية ومصر والقاهرة ودمياط والمحلة وطهرمس والجيزة ومنية بني خصيب ودشنا وقنا وقوص وبلبيس وبعيذاب من بلاد السودان وبينبع ومكة شرّفها الله تعالى وجدة وأيلة، ثمّ فصّل من لقيه في كل بلد إلى أن قال: وبمكة أبا اليمن عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسن بن عبد الله بن عساكر، إلى أن قال: فهذه نبذة من شيوخي، وجملة من سمعت منه خمسمائة، والمجيزون أكثر من ألف، وعدّ من كتب القراءات التي أخذ تسعة عشر كتاباً، وقال في حق ابن المليحي: إنه أعلى شيوخي في القراءات وإن آخر من روى عنه السبع أبو الجود غياث بن فارس المنذري اللّخمي وإجازته منه سنة 604، قال: وقرأت البخاري على جماعة أقدمهم إسناداً فيه أبو العز الحراني قرأته عليه بلفظي إلا بعض كتاب التفسير من قوله تعالى " ويسألونك عن المحيض " إلى قول سبحانه " ولولا فضل الله عليكم ورحمته " في سورة النور، فسمعته بقراءة غيري، قال: أنبأنا به أبو المعالي أحمد بن يحيى ابن عبيد الله الخازن البيع سماعاً عليه سنة ستمائة ببغداد، أنبأنا أبو الوقت بسنده، وكمل له رحمه الله تعالى جامع الترمذي بين قراءة وسماع على ابن الزبير بغرناطة، وسمعه على محمد بن ترجم، أنبأنا ابن البناء أنبأنا الكروخي بسنده، وقرأ السنن لأبي داود بغرناطة على أبي زيد عبد الرحمن الربعي، عرف بالتونسي، أنبأنا

به سهل بن مالك، وقرأه بالقاهرة على أبي الفضل عبد الرحيم ابن خطيب المزة عن أبي حفص ابن طبرزد عن أبي بدر الكروخي ومفلح الرومي عن أي بكر ابن ثابت الخطيب أنبأنا أبو عمر الهاشمي أنبأنا اللؤلؤي أنبأنا أبو داود، وقرأ الموطأ على أبي حفص ابن الطباع عن أبي القاسم ابن بقي ابن عبد الحق عن ابن الطلاع بسنده، وهذا أعلى سند يوجد عن يونس بن مغيث في عصره. وسمع أبو حيان الأجزاء الخلعيات والغيلانيات والقطيعيات والنهرانيات والمحامليات والثقفيات وسداسيات الرازي بعلو، قرأها على صفي الدين عبد الوهاب بن الفرات عن أبي الطاهر إسماعيل بن ياسين الجيلي، وهو آخر من حدث عنه، عن أبي عبد الله الرازي سماعاً، وقرأ جزء الأنصاري على أبي بكر ابن الأنماطي بسماعه حضوراً في الرابعة على أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي، أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزار سنة 532، أنبأنا إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي قراءة عليه في رجب سنة 445، أنبأنا عبد الله بن إبراهيم بن ماس، أنبأنا أبو مسلم الكشي البصري، أنبأنا محمد بن عبد الله الأنصاري؛ وقرأ جميع كتاب سيبويه على البهاء ابن النحاس المشهور بالنحو في مصر والشام، بقراءته على علم الدين أبي محمد القاسم بن أحمد ابن الموفق، بقراءته على التاج أبي اليمن الكندي، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن علي ابن أحمد البغدادي مؤلف كتاب المبهج، أنبأنا أبو الكرم المبارك بن فاخر بن محمد بن يعقوب عرف بابن الدّباس، أنبأنا أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن عمر بن برهان الأسدي، أنبأنا أبو القاسم علي بن عبيد الله الرقيقي، أنبأنا علي بن عيسى بن عبد الله الرماني، أنبأنا أبو بكر ابن السراج، أنبأنا أبو العباس المبرد، أنبأنا أبو عمر الجرمي وأبو عثمان المازني، قالا: أنبأنا أبو الحسن الأخفش، أنبأنا سيبويه، قال الشيخ أبو حيان: ولا أعلم راوياً له بمصر والشام والعراق واليمن والمشرق غيري، ورويته عن الأساتيذ أبوي علي ابن الضائع وابن أبي الأحوص وأبي جعفر اللّبلي عن أبي علي الشلوبين، وسنده مشهور بالمغرب. ووقع لأبي حيان تساعيات كثيرة، وأغرب ما وقع له ثلاثة أحاديث بينه وبين

رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فيها ثمانية، أخبره المحدث نجيب محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني بقراءته عليه والجليلة السلطانية مؤنسة بنت الملك العادل أبي بكر ابن أيوب بن شادي قراءةً عليها وهو يسمع، قالا: أنبأنا أبو الفخر أسعد بن سعيد بن روح في كتابه، أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله بن أحمد الجوزدانية، أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريدة الضبي الأصبهاني، أنبأنا الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطر اللخمي الطبراني، أنبأنا عبيد الله بن رماحس القيسي برمادة الرملة سنة 274، أنبأنا أبو عمر زياد بن طارق وقد أتت عليه عشرون ومائة سنة، قال: سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي يقول: لما أسرنا رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، يوم هوازن أتيته فقلت: حس القيسي برمادة الرملة سنة 274، أنبأنا أبو عمر زياد بن طارق وقد أتت عليه عشرون ومائة سنة، قال: سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي يقول: لما أسرنا رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، يوم هوازن أتيته فقلت: امنن علينا رسول الله في كرمٍ فإنك المرء نرجوه وننتظر امنن على بيضةٍ قد عاقها قدرٌ مشتّت شملها في دهرها غير أبقت لنا الدهر هتّاناً على حزنٍ علا قلوبهم الغمّاء والغمر إن لم تداركهم نعماء تنشرها يا أرجح الناس حلماً حين يختبر امنن على نسوةٍ قد كنت ترضعها إذ فوك تملؤه من محضها الدرر إذ أنت طفلٌ صغير كنت ترضعها وإذ يريبك ما تأتي وما تذر لا تجعلنّا كمن شالت نعامته واستبق منّا فإنّا معشرٌ زهر إنّا نشكر للنعماء إذ كفرت وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر فألبس العفو من قد كنت ترضعه من أمّهاتك إن العفو مشتهر يا خير من مرحت كنت الجياد به عند الهياج إذا ما استوقد الشرر إنّا نؤمّل عفواً منك تلبسه هذي البرية إذ تعفو وتنتصر فاعف عفا الله عما أنت راهبه يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر فلما سمع، صلى الله عليه وسلّم، هذا الشعر قال: " ما كان لي ولبني

عبد المطلب فهو لكم "، فقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله، وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله، قال أبو القاسم الطبراني: لا يروى عن زهير إلاّ بهذا الإسناد، وتفرد به عبيد الله بن رماحس، وبالإسناد إلى الطبراني: أنبأنا جعفر بن حميد بن عبد الكريم بن فروخ بن ديزج بن بلال بن سعد بن بلال بن سعد الأنصاري الدمشقي، قال: حدثني جدي لأمي عمر بن أبان بن مفضل بن أبان المدني، قال: أراني أنس بن مالك الوضوء: أخذ ركوة فوضعها عن يساره، وصبّ على يده اليمنى فغسلها ثلاثاً، ثمّ أدار الركوة عن يده اليمنى وصبّ على يساره فغسلها ثلاثاً وثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً وأخذ ماء جديداً لصماخيه فمسح صماخيه، فقلت له: قد مسحت أذنيك، فقال: يا غلام، هل رأيت وفهمت أو أعيد عليك فقلت: قد كفاني، وقد فهمت، قال: فكذا رأيت رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يتوضأ، قال الطبراني: ولم يرو عمر بن أبان عن أنس حديثاً غير هذا، وبالإسناد إلى الطبراني: حدثنا محمد بن أحمد بن يزيد القصاص البصري، أنبأنا بن عبد الله مولى أنس بن مالك، حدثني أنس بن مالك قال: قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، " طوبى لمن رآني وآمن بي، ومن رأى من رآني وآمن بي، ومن رأى من رأى من رآني ". ثمّ قال الرعيني: وتصانيف أبي حيان تزيد على خمسين ما بين طويل وقصير، ثم قال الرعيني: وخرج أبو حيان من الأندلس مفتتح سنة 679، واستوطن القاهرة بعد حجه، وأنشد لشيخه أبي الحسن الزّجّاج (1) : رضيت كفافي رتبةً ومعيشةً فلست أسامي موسراً ووجيها ومن جرّ أثوابالزمان طويلةً فلا بدّ يوماً أن سيعثر فيها

_ (1) ق: الدجاج، وفي نسخة من أصول دوزي: الدباج.

وأنشد بإسناده لموسى بن أبي تليد: حالي مع الدهر في تقلّبه كطائرٍ ضمّ رجله شرك فهمّه في خلاص مهجته ويروم تخليصها فتشتبك ثم أورد الرعيني جملة من نظم الإمام أبي حيان، منها قوله: أريد من الدّنيا ثلاثاً وإنها لغاية مطلوبٍ لمن هو طالب تلاوة قرآنٍ، ونفسٌ عفيفةٌ، وإكثار أعمالٍ عليها أواظب وقوله: أرحت روحي من الإيناس بالنّاس لمّا غنيت عن الأكياس بالياس وصرت في البيت وحدي لا أرى أحداً بنات فكري وكتبي هنّ جلاّسي وقوله: وزهدّدني في جمعي المال أنّه إذا ما انتهى عند الفتى فارق العمرا فلا روحه يوماً أراح من العنا ولم يكتسب حمداً ولم يدّخر أجرا وقوله: يظنّ الغمر أنّ الكتب تجدي أخا ذهنٍ لإدراك العلوم وما يدري الجهول بأنّ فيها غوامض حيرت عقل الفهيم إذا رمت العلوم بغير شيخٍ ضللت عن الصراط المستقيم وتلتبس الأمور عليك حتّى تصير أضلّ من توما الحكيم وله لغز في قيراط زاعماً أنه لا يفك: وما اسمٌ خماسيٌّ إذا ما فككته يصير لنا فعلين أمراً وماضيا

بعكسٍ وهو كلٌّ وجزءٌ وجمعه بإبدال عينٍ حار فيه التناهيا ومع كونه فرداً وجمعاً فأولٌ وآخره أضحى لشخصٍ معاديا وفي عكسه صوتٌ فتبنيه صيغةً وتبني بمعناه وما أنت بانيا فكم فيه من معنىً خفيٍّ وإنّما عنيت بذكري للذي ليس خافيا ثمّ قال الرعيني: وهو شيخ فاضل، ما رأيت مثله، كثير الضحك والانبساط، بعيد عن الانقباض، جيد الكلام، حسن اللقاء، جميل المؤانسة، فصيح الكلام، طلق اللسان، ذو لمة وافرة، وهمّة فاخرة، له وجه مستدير، وقامته معتدلة التقدير، ليس الطويل ولا بالقصير، انتهى ما لخصته من كلام الرعيني. ولما قدم الأستاذ أبو حيان إلى مصر أوصى أهله بقوله: ينبغي للعاقل أن يعامل كل أحد في الظاهر معاملة الصديق، وفي الباطن معاملة العدو في التحفظ منه والتحرز، وليكن في التحرز من صديقه أشد من التحرز من عدوه، وأن يعتقد أن إحسان شخص إلى آخر وتودده إنما هو لغرض قام له فيه يتعلّق به يبعثه على ذلك لا لذات الشخص، وينبغي أن يترك الإنسان الكلام في ستة أشياء: في ذات الله تعالى، وما يتعلق بصفاته، وما يتعلق بأحوال أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وفي التعرض لما جرى بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وفي التعرّض لما جرى بين الصحابة، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وفي التعرّض لأئمة المذاهب، رحمهم الله تعالى ورضي عنهم، وفي الطعن على صالحي الأمة نفع الله بهم وعلى أرباب المناصب والرتب من أهل زمانه، وأن لا يقصد أذى أحد من خلق الله سبحانه وتعالى إلاّ على حسب الدفع عن نفسه، وأن يعذر الناس في مباحثهم وإدراكاتهم، فإن ذلك على حسب عقولهم، وأن يضبط نفسه عن المراء والاستزراء والاستخفاف بأبناء زمانه، وأن لا يبحث إلا مع من اجتمعت فيه شرائط الديانة والفهم والمزاولة لما يبحث، وأن لا يغضب على من لا يفهم مراده ومن لم يدرك ما يدركه، وأن يلتمس مخرجاً لمن ظاهر

كلامه الفساد، وأن لا يقدم (1) على تخطئة أحد ببادي الرأي، وأن يترك الخوض في علوم الأوائل، وأن يجعل اشتغاله بعلوم الشريعة، وأن لا ينكر على الفقراء، وليسلم لهم أحوالهم، وينبغي للعاقل أن يلزم نفسه التواضع لعبيد الله سبحانه وتعالى، وأني جعل نصب عينيه أنه عاجز مفتقر، وأن لا يتكبر على أحد، وأن يقلّ من الضحك والمزاح والخوض فيما لا يعنيه، وأن يتظاهر لكلٍّ بما يوافقه فيما لا معصية لله تعالى فيه ولا خرم مروءة، وأن يأخذ نفسه باجتناب ما هو قبيح عند الجمهور، وأن لا يظهر الشكوى لأحد من خلق الله تعالى، وأن لا يعرض بذكر أهله، ولا يجري ذكر حرمه بحضرة جليسه، وأن لا يطلع أحداً على عمل خير يعمله لوجه الله تعالى، وأن يأخذ نفسه بحسن المعاملة من حسن اللفظ وجميل التقاضي، وأن لا يركن إلى أحد إلاّ إلى الله تعالى، وأن يكثر من مطالعة التواريخ فإنها تلقح عقلاً جديداً، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهت وصية أبي حيان الجامعة النافعة، وقد نقلتها من خط الشيخ العلامة أبي الطيب ابن علوان التونسي المالكي الشهير بالمصري، وهو ممّن أخذ عن تلامذة الشيخ أبي حيان، رحمه الله تعالى. قلت: وبما في هذه الوصية من نهيه عن الطعن في صالحي الأمة نفع الله تعالى بهم وأمره التسليم لأحوالهم وعدم الإنكار عليهم؛ تعلم أن ما نقله الصفدين عنه فيما تقدم من قوله إن الشيخ أبا مدين إلى آخره كلام فيه نظر، لأن أبا حيان رضي الله تعالى عنه لا ينكر كرامات الأولياء، كيف وقد ذكر رحمه الله تعالى منها كثيراً، فمن ذلك ما حكى عنه تلميذه الرعيني بسنده إلى الفقيه المقرئ الصالح أبي تمام غالب بن حسن بن أحمد بن سيد بونه الخزاعي، حدث أنه زار قبر أبي الحسن ابن جالوت، ولم يكن زاره قبل، فاشتبه عليه فتركه، فسمع النداء من قبر معين: يا غالب أتمشي وما زرتني فزار ذلك القبر، وقعد عنده، ثمّ جاء

_ (1) ق: لا يقدر.

ابن أبي الحسن المذكور، فسأله عن القبر، فقال: هو الذي قعدت عنده، وغالب هذا وابن جالوت هما من أصحاب الشيخ أبي جعفر بن سيد بونه الخزاعي، وهو من أصحاب الشيخ أبي مدين، انتهى. فكيف ينكر أبو حيان كرامات الصالحين وهو يوصي على من ينهى عن الطعن فيهم، ويحكي كراماتهم، نعم قول الصفدي قبل ذلك الكلام إنه كان ينكر على فقراء الوقت كلامٌ صحيح في الجملة، لكثرة الدعاوى الباطلة ممّن ليس من أهل الصلاح، وأما إنكار الكرامات مطلقاً فمقام أبي حيان يجل عن إنكارها، والله تعالى أعلم. وقد أورد ابن جماعة له من قطعة قوله في أهل عصره: ومن يك يدّعي منهم صلاحاً فزنديقٌ تغلغل في الضلال وأول هذه القطعة: حلبت الدهر أشطره زماناً وأغناني العيان عن السؤال فما أبصرت من خلٍّ وفيٍّ ولا ألفيت مشكور الخلال ذئابٌ في ثيابٍ قد تبدّت لرائيها بأشكال الرجال ومن يك يدّعي منهم صلاحاً فزنديقٌ تغلغل في الضلال ترى الجهّال تتبعه وترضى مشاركةً بأهلٍ أو بمال فينهب مالهم ويصيب منهم نساءهم بمقبوح الفعال وتأخذ حاله زوراً فيرمي عمامته ويهرب في الرمال ويجرون التيوس وراء رجسٍ تقرمط في العقيدة والمقال أي اعتقدوا رأي القرامطة، ومذهبهم مشهور، فلا نطيل به، فظهر بما ذكر أن أبا حيان إنما أنكر على أهل الدعاوى، لا على غيرهم، والله تعالى أعلم. وقد أورد قاضي القضاة ابن جماعة للشيخ أبي حيان من النظيم غير ما قدمنا ذكره قوله:

أما إنه لولا ثلاثٌ أحبّها تمنّيت أني لا أعدّ من الأحيا فمنها رجائي أن أفوز بتوبةٍ تكفّر لي ذنباً وتنجح لي سعيا ومنهنّ صوني النفس عن كل جاهلٍ لئيمٍ فلا أمشي إلى بابه مشيا ومنهنّ أخذي بالحديث إذا الورى نسوا سنّة المختار واتّبعوا الرأيا أتترك نصّاً للرسول وتقتدي بشخصٍ لقد بدّلت بالرّشد الغيّا وقوله: سال في الخدّ للحبيب عذارٌ وهو لا شكّ سائلٌ مرحوم وسألت التثامه فتجنّى فأنا اليوم سائلٌ محروم وقوله: أمدّعياً علماً ولست بقارئٍ كتاباً على شيخٍ به يسهل الحزن أتزعم أن الذهن يوضح مشكلاً بلا موضح كلا لقد كذب الذهن وإن الذي تبغيه دون معلّمٍ كموقد مصباحٍ وليس له دهن وقوله عداتي - البيتين قال: وأخذ هذا المعنى من قول الطغرائي: من خصّ بالودّ الصّحاب فإنني أحبو بخالص ودّي الأعداء جعلوا التنافس في المعالي ديدني حتى وطئت بأخمصي الجوزاء ونعوا إليّ مثالبي فحذرتها ونفيت عن أخلاقي الأقذاء ولربما انتفع الفتى بعدوّه كالسّمّ أحياناً يكون دواء ومن نظم أبي حيان: يا منضي الطّرف في ميدان لذته وناضي الطّرف بين الراح والرود

ستشرب الروح راح الوقت كارهةً ويذهب الجسم بين الترب في الدود وله رحمه الله تعالى قصيدة سمّاها بالمورد العذب في معرضة قصيدة كعب وقصيدة في مدح الإمام الشافعي مطلعها: غذيت بعلم النحو إذ درّ لي ثديا وله رحمه الله تعالى من قصيدة في مدح أم ولده حيّان: جننت بها سوداء لونٍ وناظرٍ ويا طالما كان الجنون بسوداء وجدت بها برد النعيم وإن يكن فؤادي منها في جحيمٍ ولأواء وشاهدت معنى الحسن فيها مجسّداً فأعجب لمعنىً صار جوهر أشياء أطاعنةً من قدّه بمثقفٍ أصبت وما أغنى الفتى لبس حصداء لقد طعنت والقلب ساهٍ فمادرى أبالقد منها أم بصعدة سمراء ثمّ غير البيت الأول، وأنشد: جننت بها سوداء شعرٍ وناظرٍ وسمراء لونٍ تزدري كلّ بيضاء وقال يهنئ، قال ابن جماعة: خاطبني به ارتجالاً عند ولادة ابني عمر بعد بنتين: حبيت بريحانتي روضة وبعدهما جاء نجلٌ أغرّ وسمّيته اسم إمامٍ إذا رآه أبو مرّةٍ منه فرّ ولا عجبٌ منك عبد العزيز إذا كان نجلك يسمى عمر تفرّعتما من إمام الهدى وبدر الدجى ورئيس البشر فلا زال يوضح سبل الهدى ولا زلتما تقفوان الأثر

وقال: لقد زادني بالناس علماً تجاربي ومن جرّب الأيّام مثلي تعلّما وإنّي وتطلابي من الناس راحةً ... لكالمبتغي (1) وسط الجحيم تنعّما سأزهد حتى لا أرى لي صاحباً وأنجد حتى لا ألاقي متهما قال ابن جماعة: وقال في إملاك علي ابن قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي، وكان جميل الصورة، على أختي شقيقتي فاطمة: هنيئاً بتأليفٍ غريبٍ نظامه لقد حار في أوصافه نظم عارف غدت شمس حسن بنت بدرٍ سيادةً تزفّ لبدرٍ نجل شمس معارف سميّان للزهرا البتول وللرضا عليٍّ ونجلا الأكرمين الغطارف فدام عليٌّ عالي الجدّ سيّداً ولا زال في ظلٍّ من العيش وارف وقال يخاطب شيخه ابن النحاس وقد أغب زيارته: أعين حياتي والذي ببقائه بقائي لقد أصبحت نحوك شيّقا أقمت بقلبي غير أنّ لمقلتي برؤيتك الحظّ الذي يذهب الشقا وما كان ظني انك الدهر تاركي ولو أنني أصبحت بين الورى لقا لطائف معنىً في العيان ولم تكن لتدرك إلاّ بالتزاور واللّقا وقال يخاطب قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي، وقد أعيد إلى منصب القضاء، وكان يتطلّع إليه رجل يدعى نجم الدين: ذوو العلم في الدنيا نجومٌ زواهرٌ وإنك فيها الشمس حقّاً بلا لبس إذ لحت أخفى نوركم كلّ نيرٍ ألم تر أن النجم يخفى مع الشمس

_ (1) ق: الكالمبتني.

وقال: لم أؤخّر عمّن أحبّ كتابي لقلىً فيه أو لترك هواه غير أني إذا كتبت كتاباً غلب الدّمع مقلتي فمحاه وقال: تذكّري للبلى في قعر مظلمةٍ أصارني زاهداً في المال والرّتب أنّى أسرّ بحالٍ سوف أسلبها عمّا قريبٍ وأبقى رمّى الترب وقال: أتيت وما أدعى وأقبلت سامعاً فوائد مولى سيدٍ مساجدٍ ندب وأحضر جمعاً أنت فيه جماله أشنّف سمعي منك باللؤلؤ الرّطب وقال: لنا غرامٌ شديدٌ في هوى السّود نختارهنّ على بيض الطّلى الغيد لونٌ به أشرقت أبصارنا وحكى في اللون والعرف نفح المسك والعود لا شيء أحسن من آسٍ تركّبه في آبنوسٍ ولا أشفى لمبرود لا تهو بيضاء لون الجصّ واسم إلى سوداء حسناء لون الأعين السود في جيدها غيدٌ، في قدّها ميدٌ في خدّها صيدٌ، من سادةٍ صيد من آل حامٍ حمت قلبي بنار جوىٍ من هجرها وابتلت عين بتسهيد وقال في عكسه: إذا مال الفتى للسّود يوماً فلا رأيٌ لديه ولا رشاد أتهوى خنفساء كأنّ زفتاً كسا جلداً لها وهو السّواد وما السّوداء إلاّ قدر فرنٍ وكانونٍ وفحمٌ أو مداد

وما البيضاء إلاّ الشمس لاحت تنير العين منها والفؤاد سبيكة فضةٍ حشيت بوردٍ يلذّ السّهد معها والرقاد وبين البيض والسودان فرقٌ لدى عقلٍ به اتضح المراد وجوه المؤمنين بها ابيضاضٌ ووجه الكافرين به اسوداد وقال رحمه الله تعالى: أعاذل ذرني وانفرادي عن الورى فلست أرى فيهم صديقاً مصافيا نداماي كتبٌ أستفيد علومها أحبّاي تغني عن لقائي الأعاديا وآنسها القرآن فهو الذي به نجاتي إذا فكرت أو كنت تاليا لقد جلت في غرب البلاد وشرقها أنقّب عمّن كان لله داعيا فلم أر إلاّ طالباً لرياسةٍ وجمّاع أموالٍ وشيخاً مرئيا قبضت يدي عنهم وآثرت عزلةً عن الناس واستغنيت بالله كافيا قال العز ابن جماعة: وخاطب والدي وقد أبلّ من ضعف أشيع فيه موته مهنئاً: أدام الإله لك العافيه وصيّر دور العدا عافيه إذا لاح من بدركم نوره فكلّ النجوم به خافيه تخذت كلام الإله الدوا فآياته كانت الشافيه تشوّف ناسٌ لمنصبكم ورتبتهم للعلا نافيه فأين العلوم وأين الحلوم وخلقٌ موارده صافيه هم عصبةٌ لا تنال العلا ولو أنها قد سعت حافيه إذا كان خرقٌ تداركته وليست لما مزّقت رافيه فإن عنّ خطبٌ ثبتّ له وآراؤهم عنده هافيه سجاياك لينٌ ورفقٌ بنا وأخلاقهم كلّها جافيه

تصلي على سبعةٍ منهم وثامنهم نفسه طافيه يقيمون في تربهم همّداً وتسفي على قبرهم سافيه فلا زلت في صحّةٍ دائماً تجرّ ذيول السنى ضافيه ويوردك الله عين الحياة فتحيا بها مائةً وافيه فإن زاد عشراً فذاك المنى وعشرون أيضاً هي الكافيه وهذه القوافي أتت كمّلاً فلم تبق لي بعدها قافيه وقال رحمه الله تعالى أيضاً: خلق الإنسان فيكبد بوجود الأهل والولد كلّ عضوٍ فيه نافعه غير عضوٍ ضرّ للأبد منتجٌ ذلاًّ وفقد غنىً وفراخاً جمّة العدد من يمت منهم يذقه أسىً أو يعش ألقاه في نكد عاش في أمنٍ فتىً عزبٌ مستريح الفكر والجسد وقال رحمه الله تعالى أيضاً: جنّ غيري بعارضٍ فترجّى أهله أن يفيق عمّا قريب وفؤادي بعارضين مصابٌ فهو داءٌ أعيا دواء الطبيب وقال: سعت حيّةٌ من شعره نحو صدغه وما انفصلت من خدّه، إنّ ذا عجب وأعجب من ذا أنّ سلسال ريقه برودٌ ولكن شبّ في قلبي اللهب وقال: طالع تواريخ من في الدهر قد وجدوا تجد خطوباً تسلّي عنك ما تجد تجد أكابرهم قد جرّعوا غصصاً من الرزايا بها كم فتّتت كبد

عزلٌ ونهبٌ وضربٌ بالسياط وحب سٌ ثمّ قتلٌ وتشريدٌ لمن ولدوا وغن وقيت بحمد الله شرّتهم فتحمد الله فالعقبى لمن حمدوا وقال رحمه الله تعالى يمدح البخاري وكتابه الصحيح: أسامع أخبار الرسول لك البشرى لقد سدت في الدنيا وقد فزت في الأخرى تشنّف آذاناً بعقد جواهرٍ تودّ الغواني لو تقلّده النحرا جواهر كم حلّت نفوساً نفيسةً فحلّت بها صدراً وحلّت بها قدرا هل الدين إلاّ ما روته أكابرٌ لنا نقلوا الأخبار عن طيبٍ خبرا وأدّوا أحاديث الرسول مصونةً عن الزّيف والتصحيف فاستوجبوا الشكرا وإنّ البخاريّ الإمام لجامعٌ بجامعه منها اليواقيت والدرّا على مفرق الإسلام تاجٌ مرصعٌ أضاء به شمساً ونار به بدرا وبحر علومٍ يلفظ الدرّ لا الحصا فأنفس بها درّاً وأعظم به بحرا تصاينفه نورٌ ونورٌ لناظر فقد أشرقت زهراً وقد أينعت زهرا نحا سنّة المختار ينظم شتّها يلخّصها جمعاً ويخلصها تبرا وكم بذل النفس المصونة جاهداً فجاز لها بحراً وجاب لها برّا فطوراً عراقياً وطوراً يمانياً وطوراً حجازياً وطوراً أتى مصرا إلى أن حوى منها الصحيح صحيفةً فوافى كتاباً قد غدا الآية الكبرى كتابٌ له من شرع أحمد شرعةٌ مطهّرةٌ تعلو السماكين والنسرا قلت: وتتصل روايتي عن الإمام أبي حيّان من طرق عديدة: منها عن عمي وليّ الله العارف به شيخ الإسلام مفتي الأنام الخطيب الإمام ملحق الأحفاد بالأجداد سيدي سعيد بن أحمد المقّري التّلمساني، عن شيخه العالم أي عبد الله التّنسي، عن والده حافظ عصره سيدي محمد بن عبد الله بن عبد الجليل التّنسي ثمّ التّلمساني الأموي، عن عالم الدنيا أبي عبد الله ان مرزوق، عن جده الرئيس الخطيب سيدي أبي عبد الله محمد بن مرزوق، عن الأثير أبي حيان بكل مروياته:

فمنها أن أبا حيان قال: حدثنا ابن أبي الأحوص عن قاضي الجماعة أبي القاسم أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن مخلد بن عبد الرحمن ابن أحمد بن بقّي بن مخلد بن يزيد القرطبي عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه الإمام بقّي بن مخلد عن ابي بكر المقدمي عن عمر بن علي وعبد الله بن يزيد عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع عن عبد الله بن عمرو أن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، مر بمجلسين أحدهما يدعون الله ويدعون إليه، والآخر يتعلمون العلم ويعلمونه، فقال: " كل المجلسين خير، وأحدهما أفضل من الآخر، أما هؤلاء فيتعلمون ويعلمون الجاهل فهم أفضل، وأما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأنا بعثت معلماً "، ثم جلس معهم. قال أبو حيان: قلت: لا أعرف حديثاً اجتمعت فيه رواية الأبناء عن الآباء بعدد ما اجتمع في هذا إلاّ ما أخبرنابه أبو الحسن محمد بن محمد بن الحسن بن مامة بقراءتي عليه، أنبأنا أبو المعالي الأبرموي أنبأنا أبو بكر ابن عبد محمد بن سابور القلانسي، أنبأنا أبو المبارك عبد العزيز بن محمد بن مصور الشيرازي، أنبأنا رزق الله بن عبد الوهاب التميمي، قال: سمعت أبي أبا الفرج عبد الوهاب يقول: سمعت أبي أبا الحسن عبد العزيز يقول: سمعت أبي أبا بكر الحارث يقول: سمعت أبي أسداً يقول: سمعت أبي الليث يقول: سمعت أبي سليمان يقول: سمعت أبي الأسود يقول: سمعت أبي سفيان يقول: سمعت أي يزيد يقول: سمعت أبي أكيمة يقول: سمعت أبي الهشيم يقول: سمعت أبي عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يقول: " ما اجتمع قوم على ذكر إلاّ حفّتهم الملائكة وعمتهم الرحمة "، انتهى. قلت: قال الحافظ ابن حجر في فوائده: ما اجتمع حديث فيه من عدد الآباء أكثر من هذا، انتهى. ورأيت بخط بعض الحفاظ على قول أبي أكيمة ما صورته: صوابه أكينة

انتهى، فليحرر. ومنها أنّ أبا حيان قال: أنبأنا الأستاذ أبو جعفر الزبير صاحب الصلة، أنبأنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الأزدي، أنبأنا عبد الله محمد ابن حسن بن عطية، ح قال أبو حيان: وأنبأنا الأصولي أبو الحسين ابن القاضي أبي عامر ابن ربيع الأشعري، عن أبي الحسن الغافقي، قال: أنبأنا عياض، ح وكتب لنا الخطيب أبو الحجاج يوسف بن أبي ركانة، عن القاضي أبي القاسم أحمد بن عبد الودود بن سمحون عن عبد الله بن عطية قال هو وعياض: أنبأنا القاضي أبو بكر ابن العربي، أنبأنا أبو محمد هبة الله الأكفاني، أنبأنا الحافظ عبد العزيز الكناني الدمشقي، أنبأنا أبو عصمت نوح ابن الفرغاني، قال: سمعت أبا المظفر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن قتٍّ الخزرجي وأبا بكر محمد بن عيسى البخاري قالا: سمعنا أبا ذر عمّار بن محمد بن مخلد التميمي يقول: سمعت أبا المظفر محمد بن أحمد بن حامد بن الفضل البخاري يقول: لما عزل أبو العباس الوليد بن إبراهيم بن يزيد الهمداني عن قضاء الري ورد بخارى سنة 318 لجديد مودة كانت بينه وبين أبي الفضل البلعمي، فنزل في جزارنا، فحملني معلمي أبو إسحاق بن إبراهيم الختلي إليه فقال له: أسألك أن تحدث هذا الصبي ما سمعته من مشايخك فقال: ما لي سماع، فقال: وكيف وأنت فقيه فما هذا قال: لأني لما بلغت مبلغ الرجال تاقت نفسي إلى طلب الحديث ورواية الأخبار وسماعها، فقصدت محمد بن إسماعيل البخاري ببخارى صاحب التاريخ والمنظور إليه في علم الحديث، وأعلمته مرادي، وسألته الإقبال على ذلك، فقال لي: يا بني، لا تدخل في أمر إلاّ بعد معرفة حدوده والوقوف على مقاديره، فقلت: عرّفني - رحمك الله تعالى - حدود ما قصدتك له، ومقادير ما سألتك عنه، فقال لي: اعلم أن الرجال لا يصير محدّثاً كاملاً في حديثه إلاّ بعد أن يكتب أربعاً في أربع كأربع مثل أربع في أربع عند أربع بأربع على أربع عن أربع لأربع، وكل هذه الرباعيات لا تتم إلاّ بأربع مع أربع، فإذا تمت له كلها

هان عليه أربع، وابتلي بأربع، فإذا صبر على ذلك أكرمه الله تعالى في الدنيا بأربع وأثابه في الآخرة بأربع، قلت له: فسّر - رحمك الله تعالى - ما ذكرت من أحوال هذه الرباعيات من قلب صافٍ بشرحٍ كافٍ وبيان شاف طلباً للأجر الواف، فقال: نعم، أما الأربع التي تحتاج إلى كتبها فهي أخبار الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، وشرائعه، والصحابة، رضي الله تعالى عنهم، ومقاديرهم، والتابعين وأحوالهم، وسائر العلماء وتواريخهم، مع أسماء رجالهم وكناهم وأمكنتهم وأزمانهم، كالتحميد مع الخطب، والدعاء مع التوسّل، والبسملة مع السورة، والتكبير مع الصلوات، مثل المسندات والمرسلات، والموقوفات والمقطوعات، وفي صغره وفي إدراكه، وفي شبابه وفي كهولته، عند فراغه وعند شغله، وعند فقره وعند غناه، بالجبال والبحار، والبلدان والبراري، على الأحجار والأخزاف، والجلود والأكتاف، إلى الوقت الذي يمكنه نقلها إلى الأوراق، عمّن هو فوقه وعمّن هو مثله وعمّن هو دونه، وعن كتاب أبيه يتيقّن أنه بخط أبيه دون غيره، لوجه الله تعالى طلباً لمرضاته، والعمل بما وافق كتاب الله، عز وجل، منها، ونشرها بين طالبيها ومحبيها، والتأليف في إحياء ذكره بعده، ثمّ لا تتم له هذه الأشياء إلاّ بأربع، هي من كسب العبد، أعني معرفة الكتابة واللغة والصرف والنحو، مع أربع هي من إعطاء الله تعالى، أعني القدرة والصحة والحرص والحفظ، فإذا صحت له هذه الأشياء كلّها هان عليه أربع: الأهل، والولد، والمال، والوطن، وابتلي بأربع: بشماتة الأعداء، وملامة الأصدقاء، وطعن الجهلاء، وحسد العلماء، فإذا صبر على هذه المحن أكرمه الله جل وعلا في الدنيا بأربع: بعز القناعة، وبهيبة النفس، وبلذّة العلم، وبحياة الأبد، وأثابه في الآخرة بأربع: الشفاعة لمن أراد من إخوانه، وبظل العرش حيث لا ظل إلاّ ظله، وبسقي من أراد من حوض نبيه، صلّى الله عليه وسلّم، بجوار النبيين في أعلى علّيين في الجنة، فقد أعلمتك يا بني بمجملات جميع ما سمعت من مشايخي متفرقاً في هذا الباب، فأقبل الآن إلى ما قصدتني له أو دع، فهالني

قوله، فسكتّ متفكراً، وأطرقت متأدباً، فلما رأى ذلك مني قال: وإن لم تطق حمل هذه المشاق كلها فعليك بالفقه، يمكنك تعلمه وأنت في بيتك قارٌّ ساكنٌ لا تحتاج إلى بعد الأسفار، ووطء الديار، وركوب البحار، وهو ذا ثمرة الحديث، وليس ثواب الفقه دون ثواب المحدّث في الآخرة، ولا عزّه بأقلّ من عز المحدث، فلما سمعت ذلك نقض عزمي في طلب الحديث، وأقبلت على دراسة الفقه وتعلمه إلى أن صرت فيه متقدماً، ووقفت منه على معرفة ما أمكنني من علمه بتوفيق الله تعالى ومنته، فلذلك لم يكن عندي ما أمليه لذا الصبي يا أبا إبراهيم، فقال له أبو إبراهيم: إن هذا الحديث الواحد الذي لا يوجد عند غيرك خيرٌ للصبي من ألف حديث يجده عند غيرك، انتهى. وركوب البحار، وهو ذا ثمرة الحديث، وليس ثواب الفقه دون ثواب المحدّث في الآخرة، ولا عزّه بأقلّ من عز المحدث، فلما سمعت ذلك نقض عزمي في طلب الحديث، وأقبلت على دراسة الفقه وتعلمه إلى أن صرت فيه متقدماً، ووقفت منه على معرفة ما أمكنني من علمه بتوفيق الله تعالى ومنته، فلذلك لم يكن عندي ما أمليه لذا الصبي يا أبا إبراهيم، فقال له أبو إبراهيم: إن هذا الحديث الواحد الذي لا يوجد عند غيرك خيرٌ للصبي من ألف حديث يجده عند غيرك، انتهى. وجاء أبو حيان إلى ابن تيميّة والمجلس غاصٌّ فقال يمدحه ارتجالاً: لمّا أتينا تقيّ الدين لاح لنا داعٍ إلى الله فردٌ ما له وزر على محيّاه من سيما الألى صحبوا خير البريّة نورٌ دونه القمر حبرٌ تسربل منه دهره حبراً بحرٌ تقاذف من أمواجه الدّرر قام ابن تيميّةٍ في نصر شرعتنا مقام سيد تيمٍ إذ عصت مضر فأظهر الحقّ إذ آثاره درست وأخمد الشرّ إّ طارت له الشرر كنا نحدّث عن حبرٍ يجيء فها أنت الإمام الذي قد كان ينتظر ثمّ انحرف أبو حيان فيما بعد عن ابن تيمية، ومات وهو على انحرافه، ولذلك أسباب: منها أنه قال له يوماً: كذا قال سيبويه، فقال: يكذب سيبويه، فانحرف عنه، رحم الله تعالى الجميع. وحضرا لشيخ أبو حيان مع ابن بنت الأعز في الروضة فكتب إلى أبي حيان ووجّهه مع بعض غلمانه: حيّيت أثير الدين شيخ الأدبا أقضي له حقّاً كما قد وجبا حييت فتىً يطاق آسٍ نضرٍ كالقدّ بدا ملئت منه طربا

قال: فأنشدته: أهدى لنا غصناً من ناضر الآس أقضى القضاة حليف الجود والباس لمّا رأى سقمي أهداه مع رشإ حلو التثني فكان الشافي الآسي ولما أنشد الشيخ أبو حيان قول نور الدين القصري في روضة مصر: ذات وجهين فيهما قسم الحس ن فأضحت بها القلوب تهيم ذا يلي مصر فهو مصرٌ وهذا يتولّى وسيم فهو وسيم قد أعادت التصابي صباها وأبادت فيها الغموم الغيوم زاد فيها بيتاً، وهو: فبلجّ البحار يسبح نونٌ وبفجّ القفار يسفح ريم قال أبو حيان: وكنت ماشياً بين القصرين مع ابن النحاس، فعبر علينا صبي يدعى بجمال، وكان مصارعاً، فقال البهاء: لينظم كل منا فيه، ثمّ قال: مصارعٌ تصرع الآساد شمرته تيهاً فكلّ مليحٍ دونه سمج لما غدا راجحاً في الحسن قلت لهم عن حسنه حدثوا عنه ولا حرج فنظمت أنا: سباني جمالٌ من مليحٍ مصارعٍ عليه دليلٌ للملاحة واضح لئن عزّ منه المثل فالكلّ دونه وإن خفّ منه الخصر فالرّدف راجح وسمع العزازي نظمنا فقال، وأنشدنيه: هل حكمٌ ينصفني في هوى مصارعٍ يصرع أسد الشرى مذ فرّ عنّي الصبر فيحبّه حكى عليه مدمعي ما جرى

أباح قتلي في الهوى عامداً وقال كم لي عاشق في الورى رميته في أسر حبّي ومن أجفان عينيه أخذت الكرى وقال لسان الدين في الإحاطة: كان أثير الدين أبو حيان نسيج وحده في ثقوب الذهن، وصحة الإدراك، والاضطلاع بعلم العربية والتفسير وطريق الرواية، إمام النحاة في زمانه غير مدافع، نشأ في بلده غرناطة مشاراً إليه في التبريز بميدان الإدراك، وتغبير السوابق في مضمار التحصيل، ونالته نبوة لحق بسببها بالمشرق، واستقر بمصر، فنال بها ما شاء من عز وشهرة وتأثلٍ وافر وحظوة، وأضحى لمن حل بساحته من المغاربة ملجأ وعدّة، وكان شديد البسط مهيباً جهوريّاً، مع الدّعابة والغزل وطرح اتّسمّت، شاعراً، مكثراً، مليح الحديث، لا يمل وإن أطال، وأسنّ جدّاً فانتفع به، قال لي بعض أصحابنا: دخلت عليه وهو يتوضأ، وقد استقر على إحدى رجليه لغسل الأخرى كما تفعل البرك والإوز، فقال لي: لو كنت اليوم جار شلّير ما تركني لهذا العمل في هذا السن، ثمّ قال لي بعد كلام حدثنا عنه الجملة الكثيرة من أصحابنا كالحاج أبي يزيد خالد بن عيسى والمقري الخطيب أبي جعفر الشّقوري والشريف أبي عبد الله ابن راجح وشيخنا الخطيب أبي عبد الله ابن مرزوق قال: حدّثنا شيخنا أبو حيان في الجملة سنة 735 بالمدرسة الصالحية بين القصرين بمنزله، حدّثنا الأستاذ أبو جعفر ابن الزبير سماعاً من لفظه وكتبه من خطه بغرناطة، عن الكاتب أبي إسحاق ابن عامر الهمداني الطّوسي - بفتح الطاء - حدّثنا أبو عبد الله ابن محمد العنسي القرطبي، وهو آخر من حدّث عنه، أنبأنا عبد الله محمد الحافظ الجيّاني، أنبأنا حكم بن محمد، أنبأنا أبو بكر ابن المهندس، أنبأنا عبد الله بن محمد، أنبأنا طالوت بن عباد بن نصال بن جعفر، سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقول " اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة، إذا حدّث أحدكم فر يكذب، وإذا ائتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف

غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم ". ثمّ قال ابن الخطيب: إن أبا حيان حملته حدّة الشبيبة على التعرض للأستاذ أبي جعفر الطباع، وقد وقعت بينه وبين أستاذه ابن الزبير الوحشة، فنال منه، وتصدّى للتأليف في الرد عليه وتكذيب روايته، فرفع أمره للسلطان، فامتعض له، ونفذ الأمر بتنكيله، فاختفى، ثمّ أجاز البحر مختفياً، ولحق بالمشرق يلتفت خلفه. ثمّ قال: وشعره كثير يتصف بالإجادة وضدها، فمن مطوّلاته قوله: تعذلاه فما ذو الحبّ معذول العقل مختبلٌ والقلب متبول هزّت له أسمراً من خوط قامتها فما انثنى الصبّ إلا وهو مقتول جملة فصّل الحسن البديع لها فكم لها جملٌ منه تفصيل فالنحر مرمرةٌ، والنشر عنبرةٌ، والثغر جوهرةٌ، والريق معسول والطرف ذو غنج، والعرف ذو أرجِ، والخصر مختطفٌ، والمتن مجدول هيفاء ينطق في الخصر الوشاح لها درماء تخرس في الساق الخلاخيل من اللواتي غذاهنّ النعيم فما يشقين، آباؤها الصّيد البهاليل إلى أن قال: وقوله: نورٌ بخدّك أم توقّج نار وضنىً بجفنك أم فتور عقار وشذاً بريقك أن تأرّج مسكةٍ وسناً بثغرك أم شعاع دراري جمعت معاني الحسن فيك فقد غدت قيد القلوب وفتنة الأبصار متصاونٌ خفراً إذا ناطقته أغضى حياءً في سكون وقار فيوجهه زهرات روضٍ تجتلى من نرجسٍ مع وردةٍ وبهار خاف اقتطاف الورد من وجناتها فأدار من آسٍ سياج عذار وتسلّلت نمل العذار بخدّه ليردن شهدة ريقه المعطار وبخدّه نارٌ حمته وردها فوقفن بين الورد والإصدار

كم ذا أداري فيهواه محبّتي ولقد وشى بي فيه فرط أواري وقال ابن رشيد: حدثنا أبو حيان قال: حدثنا التاجر أبو عبد الله التبرجوني بمدينة عيذاب من بلاد السودان، وبرجونة قرية من قرى دار السلام، قال: كنت بجامع لولم من بلاد الهند ومعنا رجل مغربي اسمه يونس، فقال لي: اذكر لنا شيئاً، فقلت له: قال علي، رضي الله تعالى عنه: إذا وضع الإحسان في الكريم أثمر خيراً، وإذا وضع في اللئيم أثمر شرّاً، كالغيث يقع في الأصداف فيثمر الدر، ويقع في فيم الأفاعي فيثمر السم، فما راعنا إلاّ يونس المغربي قد أنشد لنفسه: صنائع المعروف إن أودعت عند كريمٍ زكّت النّعما وإن تكن عند لئيمٍ غدت مكفورةً موجبةً إثما كالغيث في الأصداف درٌّ، وفي فم الأفاعي يثمر السّمّا قال أبو حيان: فلما سمعت هذه الأبيات نظمت معناها في بيتين، وهما: إذا وضع الإحسان في الخبّ لم يفد سوى كفره، والحرّ يجزي به شكرا كغيثٍ سقى أفعى فجاءت بسمّها وصاحب أصدافاً فأثمرت الدّرّا قال أبو حيان: وأنشدنا الأمير بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن سيف الدولة أبي المعالي ابن رمّاح الهمداني لنفسه بالقاهرة: فلا تعجب لحسن المدح منّي صفتك أظهرت حكم البوادي وقد تبدي لك المرآة شخصاً ويسمعك الصدى ما قد تنادي وبعد كتبي ما نقله ابن رشيد عن أبي حيان رأيت لبعضهم أن أبا حيان هذا الذي ذكره ابن رشيد ليس هو أبا حيان النحوي الأندلسي، وإنما هو شخص

آخر، وفيه عندي نظر لا يخفى، والذي أعتقده ولا أرتاب فيه أنه أبو حيان النحوي. وقال ابن رشيد: وأنشدني أبو حيان لنفسه: إذا غاب عن عيني أقول سلوته وإن لاح حال اللون فاضطرب القلب يهيّجني عيناه والمبسم الذي به المسك منظومٌ به اللؤلؤ الرطب وقال الشريف ابن راجح: رايت أن ما وضعه الشيخ أبو حيان في تقدّم لسان الأتراك تضييع لعمره، وقلت: نفائس الأعمار أنفقتها أنا وأمثالي على غير شي شيوخ سوءٍ ليس يرضى بما ترضى به من المخازي صبي ومن نظم أبي حيان قوله: إنّ علماً تعبت فيه زماني باذلاً فيه طارفي وتلادي لجديرٌ بأن يكون عزيزاً ومصوناً إلاّ على الأجواد وقوله: وما لك والإتعاب نفساً شريفةً وتكليفها في الدهر ما ليس يعذب أرحها فعن قربٍ تلاقي حمامها فتنعم في دار البقا أو تعذّب واستشكل هذان البيتان بأن ظاهرهما خلاف الشرع، وأجيب بأن مراده أمر الرزق، لا أمر التكليف. وأفاد غير واحد أن سبب رحلة الشيخ أبي حيان عن الأندلس أنه نشأ شر بينه وبين شيخه أحمد بن علي بن الطباع فألف أبو حيان كتاباً سمّاه الإلماع في إفساد إجازة ابن الطباع فرفع ابن الطباع أمره للأمير محمد بن نصر المدعو بالفقيه، وكان أبو حيان كثير الاعتراض عليه أيام قراءته عليه، فنشأ شر عن

ذلك، وذكر أبو حيان أنه لم يقم بفاس إلاّ ثلاثة أيام، وأدرك فيها أبا القاسم الزياتي، وخرج أبو حيان من الأندلس سنة تسع وسبعين وستمائة. وكان جماعة من أعلام الأندلس رحلوا منها، فلما وصلوا إلى العدوة أقاموا بها، ولم يذهبوا إلى البلاد الشرقية: 217 - منهم الشيخ النحوي الناظم الناثر أبو الحسن حازم بن محمد القرطاجني (1) ، وهو القائل يمدح أمير المؤمنين المستنصر بالله صاحب تونس (2) : أمن بارقٍ أورى بجنح الدّجى سقطا تذكرت منحلّ الأجارع فالسّقطا وبان ولكن لم يبن عنك ذكره وشطّ ولكن طيفه عنك ما شطّا حبيب لو أن البدر جاراه في مدىً من الحسن لاستدنى مدى البدر واستبطا إذا انتجعت مرعاً خصيباً ركابه غدا لحظ عيني يشتكي الجدب والقحطا لقد أسرعت عني المطيّ بشادنٍ تسرّع في قتل النفوس وما أبطا ظننت الفلا دار ابن ذي يزنٍ بها وخلت المحاريب الهوادج والغبطا فكم دميةٍ للحسن فيها وصورةٍ تروق وتمثالٍ من الحسن قد خطا حمائل لاحت كالخمائل بهجةً سقيط الحيا فيهنّ لا يسأم السقطا توسّد غزلان الأوانس والمها به لوشي والديباج لا السّدر والأرطى ولم يسب قلبي غير أبهرها سناً وأطولها جيداً وأخفقها قرطا أيا أربّة الأحداج سيري فتعلمي ... وما بك جهلٌ، أنّ سهمك ما أخطا

_ (1) ترجمة حازم القرطاجني في اختصار القدح: 20 وبغية الوعاة: 214 وأزهار الرياض 3: 172 وشذرات الذهب 5: 387 (انظر بروكلمان 1: 317 وتكملته 1: 474) ، وجميع ديوانه الأستاذ عثمان الكعاك (ط. دار الثقافة بيروت 1964) . (2) ديوانه: 68 وبعض أبياتها في أزهار الرياض.

قفي تستبيني ما بعينيك من ضنىً كجسمي وعنوان الهوى فيه مختطّا فلم أر أعدى منك لحظاً وناظراً لقلبي ولا أعدى عليه ولا أسطى سقى الله عيشاً قد سقانا من الهوى كؤوساً بمعسول اللّمى خلطت خلطا وكم جنّةٍ قد ردت في ظلّ كافرٍ فلم أجز ما أولاه كفراً ولا غمطا وكم ليلةٍ قاسيتها نابغيةٍّ إلى أن بدت شيباً ذوائبها شمطا وبتّ أظنّ الشّهب مثلي لها هوىً وأغبطها في طول ألفتها غبطا على أنها مثلي عزيزة مطلبٍ ومن ذا الذي ما شاء من دهره يعطى كأنّ الثريّا كاعبٌ أزمعت نوىً وأمّت بأقصى الغرب منزلةً شحطا كأنّ نجوم الهقعة الزّهر هودجٌ لها عن ذرا الحرف المناخة قد حطّا كأنّ رشاء الدلو رشوة خاطبٍ لها جعل الأشراط في مهرها شرطا كأنّ السّها قد دقّ من فرط شوقه إليها كما قد دقّق الكاتب النّقطا كأنّ سهيلاً إذ تناءت وأنجدت غدا يائساً منها فأتهم وانحطّا كأنذ خفوق القلب قلب متيّمٍ تعدّى عليه الدّهر في البين واشتطّا كأنّ كلا النسرين قد ريع إذ رأى هلال الدّجى يهوي له مخلباً سلطا كأنّ الذي ضمّ القوادم منهما هوى واقعاً للأرض أو قص أو قطّا كأنّ أخاه رام فوتاً أمامه فلم يعج أن مدّ الجناح وأن مطّا كأنّ بياض الصبح معصم غادةٍ جنت يدها أزهار زهر الدجى لقطا كأنّ ضياء الشمس وجه إمامنا إذا ازداد بشراً في الوغى وإذا أعطى محمدٌ الهادي الي أنطق الورى ثناءً بما أسدى إليهم وما أنطى إمامٌ غدا شمس المعالي وبدرها وقد أصبحت زهر النجوم له رهطا جميل المحيّا مجملٌ طيب ذكره يعاطى سروراً كالحميّا ويستعطى إذا ما الزمان الجعد أبدى تجهّماً (1) ... أرانا الحياء الطّلق والخلق السّبطا

_ (1) الديوان: أبدى عبوسه.

كلا أبوي حفصٍ نماه إلى العلا فأصبح عن مرقاته النجم منحطّا بسيماه تدري أنّ كعباً جدوده وإن هو لم يذكر رزاحاً ولا قرطا إذا قبض الروع الوجوه فوجهه يزيد، لكون النصر نصلاً، له بسطا به تترك الأبطال صرعى لدى الوغى كأن قد سقوا من خمر بابل إسفنطا تراه إذا يعطي الرغائب باسماً له جذلٌ يربي على جذل المعطى وكم عنقٍ قد قلّدت بنواله ... فريداً وقد كانت قلادتها لطّا (1) متى ما تقس جود الكرام بجوده ... فبالبحر قايست الوقيعة والوقطا (2) يشفّ له عن كلّ غيبٍ حجابه ... فتحسبه دون المحجّب ما لطّا (3) تطيع الليالي أمره في عصاته ... وتردي أعاديه أساودها نشطا (4) وتمضي عليهم سيفه وسنانه فتبري الكلاى طعناً وتفري الطّلى قطّا فكيف ترجّت غرةً منه فرقةٌ غدا عزّها ذلاًّ ورفعتها هبطا وكم بالنّهى والحلم غطّى عليهم إلى أن جنوا ذنباً على العلم قد غطّى فأمطاهم دهم الحديد وطالما أنالهم دهم الجياد وما أمطى ورم لهم هدياً ولكنهم أبوا بغيّهم إلاّ الضلالة والخبطا وكان لهم يبغي المثوبة والرضى ولكن أبوا إلاّ العقوبة والسّخطا ولو قوبلت بالشكر منه مآربٌ ... لما اعتاض منها أهلها (5) الأثل والخمطا هو الناصر المنصور والملك الذي أعاد شباب الدهر من بعد ما اشمطّا أصاخت له الأيّام سمعاً وطاعةً وأحكمت الدنيا له عهدها ربطا فلا بدّ من أن يملك الأرض كلّها وأن تملأ الدّنيا إيالته قسطا

_ (1) اللط: القلادة من حب الحنظل. (2) الوقيعة: نقرة يستقر الماء فيها؛ الوقط: حوض يستنقع فيه الماء. (3) لط: أسدل وستر. (4) النشط: اللدغ. (5) ق ودوزي: أهيل.

ويغزو في آفاق أندلس العدا بجيش تخطّ الأرض ذبّله خطّا وكلّ جوادٍ خفّ سنبكه فما ... يمسّ الثرى إلاّ مخالسةً فرطا (1) يؤمّ بها الأعداء ملكٌ أمامه من الرّعب جيشٌ يسع السير إن أبطا ويرمي جبال الفتح من شطّ سبتةٍ بها فتوافي سبّقاً ذلك الشطّا بحيث التقى بالخضر موسى، وطارقٌ وموسى به رحلاً لغزو العدا حطّا وسعيك ينسي ذكر سعيهما به ويوسع سعي المشركين به حبطا ويوقع في الأعداء أعظم وقعةٍ بها تملأ الأسماع طير الملا لغطا تجاوب سحم الطير فيه وشهبها كما راطن الزنج النبيط أو القبطا وتنكر فيها الجوّ والأرض أعينٌ ترى الجوّ ناراً والصعيد دماً عبطا فتخضب منهم من أشابت بخوفها نصولٌ ترى منها بفود الدّجى وخطا ويحسم أدواء العدا كلّ صارمٍ (2) ... حسامٍ إذا لاقى الطّلى حدّه قطّا وكلّ كميٍّ كلما خطّ صفحةً بسيفٍ غدا بالرمح ينقط ما خطّا شجاع إذا التفّ الرماحان مثل ما ... تقلقل (3) في أسنان مشطٍ يدٌ مشطا إذا ما رجت منه أعاديه غرّةً رأت دون ما ترجو القتادة والخرطا فيجدع آناف العداة بسيفه ... وينشقها بالرمح ريح الردى سعطا (4) يبيد الأعادي سطوةً ومكيدةً فيحكي الأسود الغلب والأذؤب المعطا سرى في طلاب المعلوات فلم يزل يمدّ يداً مبسوطةً وندى بسطا ولو نازعت يمناه جذباً شماله لبوساً من الماذيّ لانعقّ وانعطّا يصول بخطّيٍّ لكلّ مرشّةٍ به أثرٌ يعزوه للحية الرّقطا قناً (5) تبصر الآكام فرعاً كواسياً ... بهنّ وقد أبصرن عاريةً مرطا

_ (1) فرطا: سبقا وإسراعا. (2) الديوان: كل ضارب. (3) الديوان: تغلغل. (4) في الأصل: قسطا، بسطا، والتصويب عن الديوان. (5) في الأصول: فتى، والتصويب عن الديوان.

إذا نسبت للخطّ أو لردينةٍ نسبن إلى العلينا ردينة والخطّا كماةٌ حماةٌ ما يزال إلى الوغى حنينٌ لهم ما حنّ نضوٌ وما أطّا عليهم نسيح السابغات كأنها جلودٌ عن الحيّات قد كشطت كشطا إذا لمعٌ للشمس لاحت عليهم رأيت صلالاً ألبست حللاً رقطا ترجرج كالزاروق (1) ليناً ومثله ... ترى نقطةً من بعد ما طرحت خطّا جيوش إذا غطى البلاد عبابها وأمواجها غطّت نفوس العدا غطّا فكم قد حكت في حصر حصن ومعقلّ ... وشاحاً على خصرٍ فآسفنه (2) ضغطا وخيل كأمثال النّعام تخالها لإفراط لوك اللّجم تبغي لها سرطا تخيّلها فتخاً إذا ارتفعت وإن سبحن بماء خلتها خفّةً بطّا فينعقّ منها مرط كلّ عجاجةٍ موازع لا يسأمن مرّاً ولا مرطا وكم خالطت سمر الرماح وأوردت مياهاً غدت حمر الدماء لها خلطا يجمّونها ليل السّرى فإذا دعوا نزال امتطوا منهنّ أشرف ما يمطى فكم جنبوها خلف معتادة السّرى عوارف لم تسمع لها أذنٌ نحطا وقد وسمت أعناقهن أزمّةٌ ... بطول السّرى حتى تظن لها علطا (3) إذا أوقدت ناراً بقذف الحصا حكت وبحر الدجى طامٍ سفيناً رمت نفطا وألقحتهم (4) عقم المنى عن حيالها ... فما ولدت عقماً ولا نتجت سقطا وصيرهم (5) في عقلةٍ سارح العدا ... وسرحتم الآمال من عقلها نشطا ومن كان يشكو سطوة الدهر قد غدا بعدلك لا يعدى عليه ولا يسطى

_ (1) الديوان: تدحرج كالزاووق. (2) الديوان: فأوسعنه. (3) ق ودوزي: حتى تظن بها غلطا. (4) في الأصول: وألحفتهم. (5) ق: وصيرتهم.

ففي كلّ حالٍ تؤثر القسط جارياً على السنن التّقوى وتجتنب القسطا فبوركت سبطاً جدّه عمر الرضى وبورك من جدٍّ غدوت له سبطا تلوت الإمام العدل (1) يحيى فلم تزل ... تزيد أمور الخلق من بعده ضبطا فزتم وضوحاً بعده واستقامةً وتوطئةً نهج السبيل الذي وطّا وما كان أبقى غايةً غير أنه حبيت بما لم يحب خلقٌ ولم يعطا إذا درر الأملاك (2) في الفخر نظّمت ... على نسقٍ عقداً فدولتك الوسطى وله أيضاً (3) فيه: في كلّ أفقٍ من كل صباح دجاكم نورٌ جلا خيط الظلام بخيطه راقت محاسن مجدكم فبهرن ما كسيته من حبر المديح وريطه وله - رحمه الله تعالى - عدة تآليف، وولد سنة 608، وتوفي ليلة السبت 24 رمضان سنة أربع وثمانين وستمائة بتونس، وممّن أخذ عنه الحافظ ابن رشيد الفهري، وذكره في رحلته وأثنى عليه، كما أثنى عليه العبدري في رحلته، فقال: حازم، وما أدراك ما حازم، وقد عرّفت به في أزهار الرياض ممّا يغني عن الإعادة، وكان هو والحافظ أبو عبد الله ابن الأبار فرسي رهان، غير أن ابن الأبار كان أكثر منه رواية. 218 - وهو الإمام الحافظ الكاتب الناظم الناثر المؤلف الراوية أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر ابن عبد الله بن أبي بكر، القضاعي، الأندلسي، البلنسي (4) ، كتب ببلنسية عن السيد أبي عبد الله ابن السيد أبي حفص ابن أمير

_ (1) العدل: سقطت من ق. (2) الديوان: دول الأملاك. (3) أيضا: سقطت من ق؛ والبيتان في الديوان: 73. (4) ترجمة ابن الأبار في اختصار القدح: 191 وأزهار الرياض 3: 204 وعنوان الدراية: 187 والفوات 2: 450 وشذرات الذهب 5: 275 والمغرب 2: 309 وقد كتب عنه الدكتور عبد العزيز عبد المجيد دراسة في كتاب (طبع بمعهد مولاي الحسن: 1951) .

المؤمنين عبد المؤمن بن علي، ثم عن ابنه السيد أبي زيد، ثم كتب عن الأمير ابن مردنيش، ولما نازل الطاغية بلنسية بعثه الأمير زيان بن مردنيش مع وفد أهل بلنسية بالبيعة للسلطان أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص وفي ضمن ذلك استصرخه لدفع عادية العدو، فأنشد السلطان قصيدته السينية التي مطلعها: أدرك بخيلك خيل الله أندلسا إنّ السبيل إلى منجاتها درسا وقد ذكرناها في غير هذا الموضع، ثم لما كان من أمر بلنسية ما كان رجع بأهله إلى تونس غبطة بإقبال السلطان عليه، فنزل منه بخير مكان، ورشّحه لكتب علامته في صدور مكاتباته، فكتبها مدة، ثم أراد السلطان صرفها لأبي العباس الغساني لكونه يحسن كتابتها، فكتبها مدة بالخط المشرقي، وكان آثر عند السلطان من المغربي، فسخط ابن الأبار أنفةً من إيثار غيره عليه، وافتأت على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه، لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه، وأن يبقى موضع العلامة منه لكاتبها، فجاهر بالرد، ووضعا استبداداً وأنفة، وعوتب على ذلك، فاستشاط غضباً، ورمى بالقلم، وأنشد متمثلاً: اطلب العزّ في لظىً وذر الذ لّ ولو كان في جنان الخلود فنمي ذلك إلى السلطان، فأمر بلزومه بيته، ثم استعتب السلطان بتأليفٍ رفعه إليه عد فيه من عوتب من الكتّاب، وأعتبه، وسماه إعتاب الكتّاب، واستشفع فيه بابنه المستنصر، فغفر السلطان له، وأقال عثرته، وأعاده إلى الكتابة، ولما توفي السلطان رفعه أمير المؤمنين المستنصر إلى حضور مجلسه، ثم حصلت له أمور معه كان آخرها أنه تقبض عليه، وبعث إلى داره، فرفعت إليه كتبه أجمع، وألفى أثناءها، فيما زعموا، رقعةً بأبيات أولها:

طغى بتونس خلفٌ سمّوه ظلماً خليفه فاستشاط السلطان لها، وأمر بامتحانه، ثمّ بقتله، فقتل قعصاً بالرماح وسط محرّم سنة 658، ثمّ أحرق شلوه، سيقت مجلدات كتبه وأوراق سماعه ودواوينه فأحرقت معه، وكان مولده ببلنسية سنة 595. وقال في حقه ابن سعيد في " المغرب " ما ملخصه (1) : حامل راية الإحسان، المشار إليه في هذا الأوان، ومن شعره قوله يصف الياسمين (2) : حديقة ياسمينٍ لا تهيم بغيرها الحدق إذا جفن الغمام بكى تبسّم ثغرها اليقق فأطراف الأهلّة سا ل في أثنائها الشّفق وكتب إلى الوزير أبي عبد الله ابن أبي الحسين ابن سعيد يستدعي منه منثوراً (3) : لك الخير أتحفني بخيريّ روضةٍ لأنفاسه عند الهجوم هبوب أليس أديب الروض يجعل ليله نهاراً فيذكو تحته ويطيب ويطوى مع الإصباح منشور نشره كما بان عن ربع المحبّ حبيب أهيم به عن نسبةٍ أدبيّةٍ ولا غرو أن يهوى الأديب أديب وقوله في الخسوف (4) : نظرت إلى البدر عند الخسوف وقد شين منظره الأزين كما سفرت صفحةٌ للحبي ب يحجبها برقعٌ أدكن

_ (1) هذا النقل غير موجود في المغرب المطبوع، فإما أن المقري ينقل عن نسخة أخرى وإما أنه ينقل عن القدح المعلى. (2) المغرب2: 310، واختصار القدح: 191. (3) المغرب: 310، واختصار القدح: 192. (4) المغرب: 310.

وقوله في المعنى (1) : ألم تر للخسوف وكيف أبدى ببدر التمّ لمّاع الضياء كمرآةٍ جلاها القين حتى أنارت ثمّ ردّت في غشاء وقوله: والثريّا بجانب البدر تحكي راحةً أومأت لتلطم خدّا وقوله (2) : من عاذري من بابليٍّ طرفه ولعمره ما حلّ يوماً بابلا أعتدّه خوطاً لعيشي ناعماً فيعود خطّيّاً لقتلي ذابلا وهو حافظ متقن، له في الحديث والأدب تصانيف، وله كتاب في متخير الأشعار سماه قطع الرياض وتكملة الصلة لابن بشكوال، وهداية المعترف في المؤتلف والمختلف، وكتاب التاريخ، وبسببه قتله صاحب إفريقية، وأحرقت كتبه على ما بلغنا، رحمه الله تعالى، وله تحفة القادم في شعراء الأندلس، و " الحلة السيراء في أشعار الأمراء " (3) . ومن شعره قوله: أمري عجيبٌ في الأمور بين التواري والظهور مستعملٌ عند المغي ب ومهملٌ عند الحضور وسبب هذا أن ملك تونس كان إذا أشكل عليه شيء أو ورد عليه لغز أو

_ (1) اختصار القدح: 348. (2) اختصار القدح: 193، والمغرب 2: 312. (3) طبع من كتبه الحلة السيراء وتكملة الصلة والمقتضب من تحفة القادم وإعتاب الكتاب ومعجم أصحاب الصدفي.

معمّىً أو مترجم بعث به إليه، فيحله، وإذا حضر عنده لا يكلّمه ولا يلتفت إليه، ووجد في تعاليقه ما يشين دولة صاحب تونس فأمر بضربه، فضرب حتى مات، أحرقت كتبه، رحمه الله تعالى، وكان أعداؤه يلقبونه بالفار، وحصلت بينه وبين أبي الحسن علي بن شلبون المعافري البلنسي مهاجاةٌ، فقال فيه (1) : لا تعجبوا لمضرّةٍ نالت جمي ع الناس صادرة عن الأبار أوليس فاراً خلقةً وخليقةً والفار مجبولٌ على الإضرار فأجابه ابن الأبار: قل لابن شلبونٍ مقال تنزّهٍ غيري يجاريك الهجاء فجار إنّا اقتسمنا خطّتينا بيننا فحملت برّة واحتملت فجار وهذا مضمّن من شعر النابغة الذبياني، انتهى ما لخصناه من كلام ابن سعيد في حقه. ومن شعر ابن الأبار أيضاً: لو عنّ لي عونٌ من المقدار لهجرت للدار الكريمة داري وحللت أطيب طيبة من طيبةٍ جاراً لمن أوصى بحفظ الجار حيث استبان الحقّ للأبصار لمّا ستثار حفائظ الأنصار يا زائرين القبر قبر محمّدٍ بشرى لكم بالسّبق في الزوّار أوضعتم لنجاتكم فوضعتم ما آدكم من فادح الأوزار فوزوا بسبقكم وفوها بالذي حمّلتم شوقاً إلى المختار

_ (1) هو علي بن لب بن شلبون البلنسي أبو الحسن وترجمته والأبيات في الذيل والتكملة 5: 274، وله ترجمة في تحفة القادم: 151.

أدّو السّلام سلمتم وبردّه أرجو الإجازة من ورود النار اللهم أجرنا منها يا رحيم يا رحمن يا كريم. ولنختم ترجمته بقوله: رجوت الله في اللأواء لمّا بلوت الناس من ساهٍ ولاهي فمن يك سائلاً عن فإني غنيت بالافتقار إلى إلهي وقد جوّدت ترجمته في أزهار الرياض في أخبار عياض فليراجع ذلك فيه من شاء. رجع إلى ما كنّا فيه من ذكر المرتحلين من الأندلس إلى المشرق: 219 - ومنهم الحافظ أبو المكارم جمال الدين بن مسدّي، وهو أبو بكر محمد، ويقال: أبو المكارم، ابن أبي أحمد يوسف بن موسى بن يوسف بن موسى ابن مسدّي (1) ، المهلبي، الأزدي، الأندلسي. شيخ السنّة، وحامل راياتها، وفريد الفنون، ومحكم آياتها، عرف الأحاديث وميز بين شهرتها وغرابتها، وكان المتلقي لراية السنّة بيمين عرابتها، طلع بمغربه شمساً قبل بزوغه بأفق المشرق، وملأ جزيرته الخضراء من بحر علومه المتدفق، وأفعمها بنوره المشرق، وطاف البلاد الإسلامية الغربية والمشرقية، فعقدت على كماله الخناصر، وجعله أرباب الدراية لمقلة الدين الباصر، ولقي أعيان الشيوخ في القطرين، وأخذ عنهم ما تقرّ به العين، ويدفع به عن القلب الرّين، مع فصاحة لسان، وطلاقة بيان وبنان، وخلال حسان، وبلاغة سحبته على سحبان، وظهر أزهار بان، وفوّضت إليه خطابة الحرم الشريف بمكة فكان كما يقال: هذا السّوار لمثل هذا المعصم

_ (1) ترجمة ابن مسدي في تذكرة الحفاظ: 1448، وشذرات الذهب 5: 313.

فكم وشى بها من مطارف للبلاغة وكم عنّم، حتى يظن الرائي عود منبره من وعظه مائساً، ولئن مال من سجع الحمام رطباً فقد مال من سجع هذا الإمام يابساً، وترجم على من لقي من الأعيان بسحر البيان، وفصّل أحوالهم بأحسن تبيان، وعدّتهم أربعة آلاف شيخ وناهيك بهذه مزية تقاد لها الفضائل في أرسان، وأرى تحقيق قول القائل: جمع الله تعالى العالم في إنسان، وله موضوعات مفيدة من حديث وفقه ونظم ونثر، وله مسند غريب جمع فيه مذاهب العلماء المتقدمين والمتأخرين (1) ، وهو أشهر من نار على علم، وكان يكتب بالقلمين المغربي والمشرقي، وكلاهما في غاية الجودة، ومثل هذا يعدّ نادراً، توفي شهيداً مطعوماً من أناس كانوا يحسدونه، فختم الله تعالى له بالشهادة، وبوّئ بها دار السعادة، وتوفي سنة 663 بمكة، ومولده سنة 598، رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا بأمثاله. 220 - ومنهم الكاتب أبو القاسم خلف بن عبد العزيز بن محمد بن خلف الغافقي القبتوري (2) - بفتح القاف، وسكون الباء الوحدة، وفتح التاء ثالثة الحروف، وسكون الواو، وبعدها راء - الإشبيلي المولد والمنشأ، ولد في شوال سنة 615، وقرأ على الأستاذ الدباج كتاب سيبويه والسبع، وله باع مديد في الترسّل مع التقوى والخير، وله إجازة من الرضي بن برهان والنجيب بن الصيقل، وكتب لأمير سبتة، وحدث بتونس عن الغرافي، وجاور زماناً، وتوفي بالمدينة سنة 704 (3) ، وحج مرتين. قال أبو حيان: قدم القاهرة مرتين، وحج في الأولى، وأنشدني من لفظه لنفسه: أسيلي الدمع يا عيني ولكن دماً، ويقلّ ذلك لي، أسيلي

_ (1) ق ودوزي: المتقدمين والمتقدمين. (2) ترجمة خلف بن عبد العزيز القبتوري في بغية الوعاة: 242 نقلا عن الصفدي والدرر الكامنة. (3) ق: 740 وهو مخالف لما في المصادر.

فكم في التّرب من طرف كحيل لتربٍ لي ومن خدٍّ أسيل وقال: ماذا جنيت على نفسي بما كتبت كفّي، فيا ويح نفسي من أذى كفّي ولو يشاء الذي أجرى عليّ بذا قضاءه الكفّ عنه كنت ذا كفّ وقال: واحسرتا لأمورٍ ليس يبلغها مالي وهنّ منى نفسي وآمالي أصبحت كالآل لا جدوى لديّ وما ألوت جهداً ولكن جد ّي الآلي وقال العلاّمة فتح الدين ابن سيد الناس إنه أنشده لنفسه بالحرم الشريف النبوي سنة ثلاث وسبعمائة (1) : رجوتك يا رحمن إنك خير من رجاه لغفران الجرائم مرتجي فرحمتك العظمة التي ليس بابها وحاشاك في وجه المسيء بمرتجي وقد أنشد له أبو حيان كثيراً من نظمه، رحمه الله تعالى. 221 - ومنهم أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج بن أبي الخليل، الأموي الإشبيلي، النباتي، المعروف بابن الرومية (2) ، كان عارفاً بالعشب والنبات، صنف كتاباً حسناً كثير الفائدة في الحشائش، ورتب فيه أسماءها على حروف المعجم، ورحل إلى البلاد، ودخل حلب، وسمع الحديث بالأندلس وغيرها. وقال البرزالي في حقّه: إنه كان يعرف الحشائش معرفة جيدة، وسمع

_ (1) البيتان في البغية والدرر الكامنة. (2) ترجمة ابن الرومية في اختصار القدح: 181 والإحاطة 1: 220 وتذكرة الحفاظ: 1425 والتكملة: 121 وبرنامج الرعيني: 142 والديباج: 42.

الحديث بدمشق من ابن الحرستاني، وابن ملاعب، وابن العطار، وغيرهم، وقال بعضهم: اجتمعت به، وتفاوضت معه في ذكر الحشائش، فقلت له: قصب الذريرة قد ذكر في كتب الطب، وذكروا أنه يستعمل منه شيء كثير، وهذا يدل على أنه كان موجوداً كثيراً، وأما الآن فلا يوجد، ولا يخبر عنه مخبر، فقال: هو موجود، وإنما لا يعلمون أين يطلبونه، فقلت له: وأين هو فقال: بالأهواز منه شيء كثير، انتهى (1) . وأجاز البحر بعد سنة 580 للقاء ابن عبيد الله بسبتة فلم يتهيأ له ذلك، وحج - رحمه الله تعالى - في رحلته الأولى، ولقي كثيراً، وروى عن عدد من رجال ونساء ضمنهم التذكرة له، وله مختصر كتاب الكامل لأحمد لن عدي في رجال الحديث، وله كتاب المعلم بما زاده البخاري على كتاب مسلم، ويعرف بالنباتي لمعرفته بالنبات، ومولده في نحو سنة 561، وتوفي رحمه الله تعالى بإشبيلية منسلخ ربيع النبوي سنة 637، وقد رثاه أناس من تلامذته، وألف بعضهم في التعريف به، سمع من ابن زرقون وابن الجد وابن عفير وغير واحد كأبي ذر الحبشي، وسمع ببغداد من جماعة، وحدث بمصر الأحاديث من حفظه، ويقال له الحزمي - بفتح الحاء - نسبة إلى مذهب ابن حزم لأنه كان ظاهري المذهب، وكان زاهداً صالحاً، وحكى بعضهم عنه أنه كان جالساً في دكانه بإشبيلية يبيع الحشائش وينسخ، فاجتاز به الأمير أبو عبد الله ابن هودٍ سلطان الأندلس، فسلم عليه، فرد عليه السلام، واشتغل بنسخه، ولم يرفع إليه رأسه، فبقي واقفاً منتظراً أني رفع إليه رأسه، ساعة طويلة، فلما لم يحفل به ساق فرسه ومضى، وله كتابان حسنان في علم الحديث: أحدهما يقال له الحافل في تكملة الكامل لابن عدي، وهو كتاب كبير؛ قال ابن الأبار: سمعت شيخنا أبا الخطاب ابن واجب يثني عليه ويستحسنه؛ والثاني اختصر فيه

_ (1) انتهى: سقطت من ق.

الكامل لأي أحمد ابن عدي كما سبق في مجلدين، وسمع بدمشق والموصل وغيرهما جماعة من أصحاب الحافظ أبي الوقت السجزي وأبي الفتح ابن البطي وأبي عبد الله الغراوي وغيرهم من الأئمة، وله فهرسة حافلة أفرد فيها روايته بالأندلس من روايته بالمشرق، وكان متعصباً لابن حزم بعد أن تفقه في المذهب المالكي على ابن زرقون أبي الحسين، وطالت صحبته له، وكان بصيراً بالحديث ورجاله، كثير العناية به، واختصر كتاب الدارقطني في غريب حديث مالك، وغيره أضبط منه، وفاق أهل زمانه في معرفة النبات، وقعد في دكان ليبيعه، قال ابن الأبار: وهنالك رأيته ولقيته غير مرة، ولم آخذ عنه، ولم أستجزه، وسمع منه جلّ أصحابنا، ومولده في شهر المحرم سنة 567 (1) ، وتوفي بإشبيلية ليلة الاثنين مستهلّ ربيع الآخر سنة 637 (2) ، وقال ابن زرقون: منسلخ شهر ربيع الأول، وحكى ذلك عن ولده أبي النور محمد بن أحمد، انتهى. 222 - ومنهم أبو العباس أحمد بن عبد السلام، الغافقي، الإشبيلي، الشهير المسيلي (3) ، رحل حاجّاً، وقفل إلى بلده، وحدث عنه أبو بكر ابن خير بوفاة القاضي ابن أبي حبيب، وروى عن أبي محمد ابن أبي السعادات المروروذي الخراساني، وأنه أنشده بثغر الإسكندرية عند وداعه إياه، قال: أنشدني أبو تراب جندل (4) عند الوداع لبعضهم: السمّ من ألسن الأفاعي أعذب من قبلة الوداع ودّعتهم والدموع تجري لمّا دعا للوداع داعي 223 - ومنهم العباس - ويقال: أبو جعفر - أحمد بن معدّ بن عيسى

_ (1) التكملة: سنة إحدى وستين وخمسمائة. (2) ق: 638، وهو مخالف لما في التكملة. (3) ترجمة المسيلي في التكملة: 60. (4) التكملة: ابن جندل.

ابن وكيل، التّجيبي، الزاهد ويعرف بابن الإقليشي (1) ، صاحب كتاب النجم من كلام سيد العرب والعجم، صلّى الله عليه وسلّم، عارض به شهاب القضاعي، وأصل أبيه من اقليش، وضبطها بعضهم بضم الهمزة، وسكن دانية وبها ولد ونشأ، سمع أباه أبا بكر وأبا العباس ابن عيسى، وتلمذ له، ورحل إلى بلنسية فأخذ العربية والآداب، عن أبي محمد البطليوسي، وسمع الحديث من صهره أبي الحسن طارق بن يعيش والحافظ أبي بكر ابن العربي وأبوي الوليد: ابن خيرة وابن الدباغ، ولقي بالمريّة أبا القاسم ابن ورد وأبا محمد عبد الحق بن عطية ووليّ الله سيدي أبا العباس ابن العريف، ورحل إلى المشرق سنة اثنتين وأربعين خمسمائة، وجاور بمكة سنين، وسمع بها من أبي الفتح الكروخي جامع الترمذي برباط أم خليفة العباسي سنة سبع وأربعين وخمسمائة، ثم كر راجعاً إلى المغرب فقبض في طريقه، وحدّث بالأندلس والمشرق، وكان عالماً، عاملاً، متصوفاً، شاعراً مجوّداً، مع التقدم في الصلاح والزهد والعزوف عن الدنيا وأهلها، والإقبال على العلم والعبادة، وله تصانيف: منها كتاب الغرر من كلام سيد البشر وكتاب ضياء الأولياء وهو أسفار عدة، وحمل الناس عنه معشّراته في الزهد، وكتبها الناس، وكان يضع يده على وجهه إذا قرأ القارئ فيبكي حتى يعجب الناس من بكائه، وكان الناس يدخلون عليه بيته والكتب عن يمينه وشماله، وقد وصف غير واحد إمامته وعلمه وورعه وزهده، وروى عنه أبو الحسين ابن كوثر وابن بيبش وغيرهما. ومن شعره قوله (2) : أسير الخطايا عند بابك واقف له عن طريق الحقّ قلب مخالف

_ (1) ترجمة ابن معد الإقشيلي في التكملة: 60، وإنباه الرواة 1: 176، وأخبار وتراجم أندلسية: 24 وياقوت " اقليش ". (2) الشعر في التكملة: 61.

قديماً عصى عمداً وجهلاً غرّةً ولم ينهه قلبٌ من الله خائف تزيد سنوه وهو يزداد ضلّةً فها هو في ليل الضّلالة عاكف تطلّع صبح الشّيب والقلب مظلم فما طاف منه من سنى الحق طائف ثلاثون عاماً قد تولّت كأنها حلومٌ تقضّت أو بروق خواطف وجاء المشيب المنذر المرء أنه إذا رحلت عنه الشبيبة تالف فيا أحمد الخوّان قد أدبر الصّبا وناداك من سن الكهولة هاتف فهل أرّق الطرف الزمان الذي مضى وأبكاه ذنبٌ قد تقدّم سالف فجد بالدموع الحمر حزناً وحسرةً فدمعك ينبي أنّ قلبك آسف وقد وافق في أول هذه القطعة قول أبي الوليد ابن الفرضي، أو أخذه منه نقلاً، وتوفي في صدره عن المشرق بمدينة قوص من صعيد مصر في عشر الخمسين وخمسمائة، ودفن عند الجميزة التي في المقبرة التالية لسوق العرب، وقال ابن عياد: إنه توفي سنة خمسين أو إحدى وخمسين بعدها - رحمه الله تعالى - وقد نيّف على الستين. 224 - ومنهم أبو العباس أحمد بن عمر، المعافري، المرسي (1) ، وأصله من طلبيرة، ويعرف بابن إفرند (2) ، روى عن أبي الحسين الصفدي (3) وغيره كالقاضي الحافظ أبي بكر ابن العربي وأبي محمد الرشاطي وأي إسحاق ابن حبيش وغيرهم، وله رحلة حج فيها، ولقي أبا الفتح ابن الرندانقاني - بلدٍ بين سرخس ومرو - من أصحاب أبي حامد الغزالي، وأنشد عنه ممّا قاله في وداع إخوانه بالبيت المقدس: لئن كان لي من بعد عودٌ إليكم قضيت لبانات الفؤاد لديكم

_ (1) ترجمة أحمد بن عمر المعافري في التكملة: 72. (2) التكملة: بابن افرندو. (3) أكبر الظن أن هذا خطأ، ففي التكملة روى عن أبي علي ابن سكرة وهذا هو الصدفي.

وإن تكن الأخرى ولم تك أوبةٌ وحان حمامي فالسلام عليكم وقد روى هذين البيتين أبو عمر ابن عياد وابنه محمد عن ابن إفرند هذا، وكان صالحاً زاهداً متصوفاً، رحمه الله تعالى. 225 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن عميرة بن يحيى، الضبي (1) ، من أهل لورقة، رحل حاجّاً، وكان منقبضاً زاهداً صواماً قواماً، وأقرأ القرآن، وسمع الحديث، وممّن حدث عنه الحافظان أبو سليمان وأبو محمد ابن حوط الله، ولقيه أبو سليمان (2) بلورقة سنة 575، وتوفي رحمه الله تعالى سنة 577، وقد قارب المائة. 226 - ومنهم أبو عمر ابن عات، وهو أحمد بن هارون بن أحمد بن جعفر بن عات النفزي (3) ، من أهل شاطبة، سمع أباه وأبا الحسن ابن هذيل وأبا عبد الله ابن سعادة وابن حبيش وغير واحد وطائفة كثيرة، ورحل إلى المشرق فأدى الفريضة، وسمع أبا الطاهر السّلفي وأبا الطاهر ابن عوف وغيرهما ممّن يطول ذكره، وأجاز له أبو الفرج ابن الجوزي وغيره ممّن أخذ عنه وسمع منه، وقد ضمن ذكر أشياخه وجملة صالحة من مروياته عنهم برنامجيه اللذين سمى أحدهما بالنزهة في التعريف بشيوخ الوجهة وهو كتاب حافل جامع، والآخر بريحانة التنفس وراحة الأنفس في ذكر شيوخ الأندلس. قال ابن عبد الملك المراكشي في الصلة (4) : حدثنا عنه شيخنا أبو محمد بن علي بن

_ (1) ترجمة أبي جعفر الضبي في التكملة: 79، والمقري ينقل عنها بإيجاز. (2) يعني ابن حوط الله. (3) ترجمة أبي عمر ابن عات في التكملة: 101 والنقل عنها باختصار وعن غيرها وخاصة الذيل والتكملة؛ وانظر الديباج: 59. (4) الصواب: في الذيل والتكملة.

القطان، وكان من أكابر المحدثين، وجلة الحفاظ (1) المسندين للحديث والآداب بلا مدافعة، يسرد الأسانيد والمتون ظاهراً فلا يخل بحفظ شيء منها، متوسط الطبقة في حفظ فروع الفقه ومعرفة المسائل، إذ لم يعن بذلك عنايته بغيره، فكان أهل شاطبة يفاخرون بأبوي عمر ابن عبد البر وابن عات، وكان على سنن السلف الصالح في الانقباض، ونزارة الكلام، ومتانة الدين، وأكل الحشف، ولزوم التقشف، والتقلل من الدنيا، والزهد فيها، والمثابرة على كثير من أفعال البر كالأذان والإمامة وبذل المعروف والتوسع بالصدقات على الضعفاء والمساكين. وحكي أنه حضر في جماعة من طلبة العلم لسماع السّير على بعض شيوخهم، فغاب الكتاب أو القارئ بكتابه، فقال أبو عمر: أنا أقرأ لكم، فقرأ لهم من حفظه، وقال أبو عمر عامر بن نذير: لازمته مدة ستة أشهر، فلم أر أحفظ منه، وحضرت إسماع الموطإ وصحيح البخاري منه، فكان يقرأ من كل واحد من الكتابين نحو عشر أوراق عرضاً بلفظه كل يوم عقب صلاة الصبح، لا يتوقف في شيء من ذلك، انتهى. وقال بعض المؤرخين (2) : إنه كان آخر (3) الحفاظ للحديث، يسرد المتون والأسانيد ظاهراً لا يخل بحفظ شيء منها، موصوفاً بالدراية والرواية، غالباً عليه الورع والزهد، على منهاج السلف، يلبس الخشن، ويأكل الحشف (4) ، وربما أذن في المساجد، وله تآليف دالة على سعة حفظه، مع حظ من النظم والنثر، وشهد وقيعة العقاب التي أفضت إلى خراب الأندلس بالدائرة على المسلمين فيها، وكانت السبب الأقوى في تحيّف الروم بلادها حتى استولت عليها، ففقد حينئذٍ ولم يوجد حيّاً ولا ميتاً، وذلك يوم الاثنين منتصف صفر سنة تسع وستمائة،

_ (1) دوزي: وجملة الحفاظ. (2) هو ابن الأبار في التكملة. (3) التكملة: أحد. (4) التكملة: الجشب.

ومولده سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، قاله ابن الأبار، وهو ممّن أجاز له المذكور فيما رواه أو ألفه، رحمه الله تعالى. 227 - ومنهم أبو العباس أحمد بن تميم بن هشام بن أحمد بن حنون، البهراني (1) ، من ساكني إشبيلية، وأصله من لبلة، روى عن أبيه وابن الجد وابن زرقون وابن جهور وغيرهم من أعلام الأندلس، ثمّ رحل إلى المشرق، فسمع ببغداد من أبي حفص عمر بن طبرزد، ويخراسان من المؤيد الطوسي، وبهراة من أبي روح عبد المعز، وبمرو من عبد الرحيم بن عبد الكريم السمعاني، ومن جماعة غير هؤلاء، وسمع أيضاً بدمشق من أبي الفضل الحرستاني وسواه، وبها توفي قبل العشرين وستمائة، فيما نقل ابن الأبار عن ابن نقطة، وقال غيره: إنه مات سنة خمس وعشرين وستمائة. 228 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد، المخزومي (2) ، من أهل قرطبة، ويعرف أبوه بكوزان (3) ، روى عن أبيه وغيره من مشيخة بلده، ورحل حاجّاً فلقي بالإسكندرية أبا الحسن ابن المقدسي وسمع منه، وأنشد نم لفظه بعض أصحاب ابن الأبار، قال: أنشدني شرف الدين أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي، قال: أنشدتني تقية (4) بنت غيث بن علي الأرمنازي لنفسها (5) : لا خير في الخمر، على أنها مذكورة في صفة الجنّه لأنها إن خامرت عاقلاً خامره في عقله جنّه يخاف أن تقذفه من علٍ ... فلا تقي مهجته جنّه (6)

_ (1) ترجمة أحمد بن تميم البهراني في التكملة: 112. (2) ترجمة أحمد بن إبراهيم المخزومي في التكملة: 112. (3) التكملة: بكوزاز. (4) ق: بقية وكذلك في دوزي. (5) زاد في ق: رحمها الله تعالى. (6) ق: الجنة.

229 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن أحمد بن عياش، الكناني، المرسي (1) ، سمع من ابن بشوال موطأ مالك رواية يحيى بن يحيى والقعنبي وابن بكير بقراءة أبي محمد ابن حوط الله، ورحل إلى المشرق سنة تسع وسبعين وخمسمائة، فحج سنة ثمانين وبعدها، وأقام بالحجاز والشام مدة، ولقي أبا الطاهر الخشوعي بدمشق فسمع منه مقامات الحريري وأخذها الناس عنه، وممّا أفاد وزاد في قول الحريري: إذا ما حويت جنى نخلة الأبيات - قوله: ولا تأسفنّ على خارج إذا ما لمحت سنا الداخل ولا تكثر الصمت في معشر وإن زدت عيّاً على باقل وسمع من أبي القاسم ابن عساكر السنن للبيهقي، ومن أبي حفص الميانشي جامع الترمذي، وقفل إلى الأندلس في سنة سبع وتسعين، وحدث بيسير، وكان يحسن عبارة الرؤيا، وكفّ بصره سنة ثمان وعشرين وستمائة أو نحوها، وتوفي على إثر ذلك، ومولده سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. 230 - ومنهم أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن حصن بن أحمد بن حزم الغافقي (2) ، ويقال فيه: إبراهيم بن حصن بن عبد الله بن حصن، أندلسي، سكن دمشق، وولي الحسبة بها ويكنى أبا إسحاق، سمع ببغداد من أبي بكر ابن مالك القطيعي وطبقته، وبدمشق من عبد الوهاب الكلابي ويوسف بن القاسم الميانجي، وبمصر من أبي طاهر الذّهلي (3) وأبي أحمد الغطريفي، وله أيضاً سماع

_ (1) ترجمة ابن عياش الكناني في التكملة: 118. (2) ترجمة إبراهيم بن حصن في التكملة: 133 وتهذيب ابن عساكر 2: 222. (3) التكملة: الذهبي.

بالرملة وأطرابلس والدينور وغيرها من البلدان، وحدث بيسير؛ روى عنه أبو نصر عبد الوهاب بن عبد الله الجبّان من شيوخ عبد العزيز بن أحمد الكناني، وكان مالكياً، وقيل: إنه يذهب إلى الاعتزال، وكان صارماً في الحسبة، ووليها سنة خمس وتسعين وثلاثمائة في أيام الحاكم العبيدي، وتوفي بدمشق في ذي الحجة سنة أربع وأربعمائة، قيل: ثاني عيد الأضحى، وقيل غير ذلك، ذكره ابن عساكر، رحمه الله تعالى. قلت: ما سمعت بمالكي معتزلي غير هذا، ولعله كان مالكيّاً بالمغرب، فلمّا دخل في خدمة الشيعة حصل منه ما حصل من نسبته لمذهب الاعتزال، فالله تعالى أعلم. 231 - ومنهم أبو أمية إبراهيم بن منبه بن عمر بن أحمد، الغافقي (1) ، من أهل المرية، ونزل مرسية، سمع ببلده من ابن (2) شفيع، وأخذ عنه القراءات، ومن الحافظ ابن سكرة وابن زغيبة (3) وعبد القادر بن الحناط، وبقرطبة من ابن عتاب وابن طريف وأبي بحر الأسدي وابن مغيث وغيرهم، ورحل حاجّاً، فسمع بمكة من أبي عليّ ابن العرجاء أحاديث جعفر بن نسطور وغيرها في شعبان سنة ست وعشرين، وسمع أيضاً من أبي الفتح سلطان بن إبراهيم المقدسي، وقفل إلى بلده، وانتقل بعد الحادثة عليه إلى مرسية، وولي القضاء والخطبة هنالك، وحدّث، وأخذ عنه، وكان فقيهاً مشاوراً، وقيل: إن ابن حبيش سمع منه الأحاديث النسطورية، وأسمع صحيح البخاري آخر ذي الحجة سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وكان يحدّث به عن سلطان بن إبراهيم عن كريمة المروزية، وحكى رحمه الله تعالى عن أبي ذرٍّ الهروي أنه قال عند موته: عليكم بكريمة فإنها تحمل

_ (1) ترجمة إبراهيم بن منبه في التكملة: 149. (2) ابن: سقطت من ق. (3) كذا في التكملة؛ ق: ابن زغبية.

كتاب البخاري من طريق أبي الهيثم، رحم الله تعالى الجميع. 232 - 233 - ومنهم أبو القاسم ابن فورتش، وهو إسماعيل بن يحيى ابن عبد الرحمن، السّرقسطي (1) ، وأخوه القاضي محمد بن يحيى، وكانا جميعاً زاهدين، لهما رحلة سمعا فيها من أبي ذر الهروي بمكة، وعادا إلى بلدهما، وولي محمد منهما القضاء، وقد لقيهما القاضي الحافظ أبو علي ابن سكرة ولم يسمع منهما، ويرويان عن أبي عمر الطلمنكي وأبي الحزم ابن أبي درهم، وتوفي أبو القاسم في نحو الخمسمائة. 234 - ومنهم أبو الطاهر إسماعيل بن أحمد بن عمر، القرشي، العلوي، الإشبيلي (2) ، رحل حاجّاً، ودخل العراق والموصل، وقيد الكثير ورواه، وسمع من أي حفص اليانشي بمكة سنة 570، وحدث بالموطإ عن أبي الحسن علي بن هابيل الأنصاري عن أبي الوليد الباجي، وحدث أيضاً عن غيره بما دل على أنه كان يخلط ولا يضبط، وكذلك قال أبو الصبر: كان له في الموطإ إسناد عالٍ جدّاً فتصفحته فوجدته ينقص منه رجل واحد (3) ، فاستربت في الرواية عنه بعد تحسين الظن به، ولم يتنبه أبو الصبر لأن ابن هابيل وغيره من شيوخه مجهولون، وأبو الصبر ممّن روى عن المذكور، وهو أبو الصبر السبتي، والله تعالى أعلم بحقيقة حال الرجل. 235 - ومنهم أبو الروح عيسى بن عبد الله بن محمد بن موسى بن محمد ابن عبد الله بن إبراهيم بن خليل، النفزي، الحميري، التاكرنّيّ. قال في تاريخ إربل: كان شابّاً متأدباً فاضلاً، قدم مصر، وله شعر حسن، وقال الحافظ عبد العظيم المنذري: أنشدنا المذكور لنفسه:

_ (1) ترجمة ابن فورتش وأخيه محمد بن يحيى في التكملة: 182. (2) ترجمة أبي الطاهر العلوي في التكملة: 185 وفيها: إسماعيل بن عمر بن أحمد. (3) التكملة: رجلاً واحد.

يا قلب ما لك لا تفيق من الهوى أوما يقرّ بك الزمان قرار ألكلّ ذي وجه جميل حنّة ولكلّ عهد سالف تذكار وله: يا رب أضحية وسوداء حالكة لم ترع في البيد إلاّ الشمس والقمرا تخال باطنها في اللون ظاهرها فهي الغداة كزنجيٍّ إذا كفرا ولد سنة 590 بتاكرنّا من بلاد الأندلس، وهي من نظر قرطبة، وتوفي بأرزن من ديار بكر سنة 629، عائداً من آمد، رحمه الله تعالى. ومن بديع شعره: إن أودع الطرس ما وشّاه خاطره أبدى لعينيك أزهاراً وأشجارا وإن تهدّد فيه أو يعد كرماً بثّ البريّة آجالاً وأعمارا وتاكرنا - بضم الكاف والراء وتخفيفها، وشد النون - وورد المذكور إربل سنة سبع وعشرين وستمائة، وله أبيات أجاز فيها قول شرف الدين عمر بن الفارض في غلام اسمه بركات، قال الأسدي الدمشقي، ومن خطه نقلت: كنت حاضر هذه الوقعة بالقاهرة بالجامع الأزهر، إذ قال ابن الفارض: بركات يحي البدر عند تمامه حاشاه بل شمس الضحى تحكيه فقال أبو الروح، وأنشدني ذلك: هذا الكمال فقل لمن قد عابه حسداً وآية كل شيء فيه لم تذو إحدى زهرتيه، وإنما كملت بذاك ملاحة التشبيه وكأنّه قد رام يغلق جفنه ليصيب بالسهم الذي يرميه وقال ابن المستوفي في تاريخ إربل: أنشدني أبو الروح لنفسه:

أوصيت قلبي أن يفرّ عن الصّبا ظنّاً بأني قد دعوت سميعا فأجابني لا تخش مني بعدها أفلتّ من شرك الغرام وقوعا حتى إذا نادى الحبيب رأيته آوى إليه ملبياً ومطيعا كذبالةٍ أخمدتها فإذا دنا منها الضرام تعلّقته سريعا قال: وأنشدني: وزائرٍ زارني والليل معتكرٌ والطّيب يفضحه والحي يشهره أمسكت قلبي عنه وهو مضطربٌ والشوق يبعثه والصّون يزجره فبتّ أصدى إلى من لا يحّلئني والورد صافٍ ولا شيء يكدره تراه عيني وكفّي لا تلامسه حتى كأنّي في المرآة أنظره قال: وأنشدني الإمام أبو عمرو ابن غياث الشريشي لنفسه رحمه الله تعالى: صبوت وهل عارٌ على الحرّ إن صبا وقيد ثغر الأربعين إلى الصّبا وقالوا مشيبٌ قلت واعجبا لكم أينكر صبحٌ قد تخلل غيهبا وليس مشيباً ما ترون، وإنما كميت الصّبا لمّا جرى عاد أشهبا وتوفي أبو عمرو (1) سنة 620، عن تسعين سنة. قال ابن المستوفي: وأنشدني المذكور قال: أنشدني أبو عمرو أيضاً لنفسه: أودع فؤادي حسرة (2) أو دع ... نفسك تؤذى أنت في أضلعي أمسك سهام اللحظ أو فارمها أنت بما ترمي تصابٌ معي موقعها القلب وأنت الذي مسكنه في ذلك الموضع قال: وأنشدني قال: أنشدني مطرف الغرناطي:

_ (1) ق: عمران. (2) دوزي: حرقاً.

أنا صبٌّ كما تشاء وتهوى شاعر ماجد كريم جواد سنّة سنّها قديماً جميل وأتى المحدثون مثلي فزادوا قال: وأنشدني أيضاً المطرف: وفي فروع الأيك ورقٌ إذا بلّ الندى أعطافها تسجع أو هزّها نفح نسيم الصّبا شاقك منها غرّدٌ شرّع كأنما ريطتها منيرٌ وهي خطيبٌ فوقه مصقع إن شبّها في طرفٍ لوعة جرى لها في طرفٍ مدمع أخذه من قول عبد الوهاب بن علي المالقي الخطيب: كأن فؤادي وطرفي معاً هما طرفا غصنٍ أخضر إذا اشتعل النار في جانبٍ جرى الماء في الجانب الآخر علي بن أحمد الحميري من المرتحلين من الأندلس إلى المشرق الإمام النحوي اللغوي نور الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن حمدون، الحميري، الأندلسي، المالقي. قال شرف الدين الصابوني: أنشدنا المذكور لنفسه سنة 667: فؤادلإ بأيدي النائبات مصاب وجفن لفيض الدمع فيه مصاب تناءت ديارٌ قد ألفت وجيرةٌ فهل لي عهد الوصال إياب وفارقت أوطاني ولم أبلغ المنى ودون مرادي أبحرٌ وهضاب مضى زمني والشيب حلّ بمفرقي وأبعد شيء أن يردّ شباب إذا مرّ عمر المرء ليس براجع وإن حلّ شيبٌ لم يفده خضاب فحلّ حمام الشيب في فرق لمتي وقد طار عنها للشباب غراب وكم عظةٍ لي في الزمان وأهله وبين فؤادي والقبول حجاب

فدع شهوات النفس عنك بمعزل فعذب الليالي مقتضاه عذاب وسلّ فؤاداً عن ربابٍ وزينبٍ فما القصد منها زينبٌ ورباب وأنوي متاباً ثمّ أنقض نيّتي فربع صلاحي الفساد خراب أقر بتقصيري وأطمع في الرضى وما القصد إلاّ مرجعٌ ومتاب ويعتبني في العجر خلٌّ وصاحبٌ وهل نافعٌ في الجامدات عتاب أطهّر أثوابي وقلبي مدنّسٌ وأزعم صدقاً والمقال كذاب وفارقت من غرب البلاد مواطناً فسقى ربى غرب البلاد سحاب فبالقلب من نار التشوق حرقةٌ وبالعين من فيض الدموع عباب وما بلغ المملوك قصداً ولا منىً ولا حطً عن وجه المراد نقاب وأخشى سهام الموت تفجأ غفلةً وما سار بي نحو الرسول ركاب وقلبي معمورٌ بحبّ محمّدٍ فما لي في غير الحجاز طلاب يحنّ إلى أوطانه كلّ مسلمٍ فقدّس منها منزلٌ وجناب فأسعد أيامي إذا قبل هذه منازل من وادي الحمى وقباب فجسمي في مصر وروحي بطيبةٍ فللروح عن جسمي هناك مناب على مثل هذا العجز والعمر منقضٍ تشقّ قلوبٌ لا تشقّ ثياب وأرجو ثواباً بامتداحي محمّداً وما كلّ مثنٍ في الزمان يثاب به أخمدت من قبل نيران فارسٍ وحقق من ظبي الفلاة خطاب وكم قد سقى من كفّه الجيش فارتووا وكم قد شفى منه العيون رضاب أجيب لما يختار في حضرة العلا وما كلّ خلقٍ حيث قال يجاب فلم تلهه دنياه عن خوف ربه ولا شغلته عن رضاه كعاب محمدٌ المختار أعلى الورى ندىً وأكرم مبعوثٍ أتاه كتاب أتحسب أن تحصى بعدٍّ صفاته وهيهات ما يحصي علاه حساب ثناء رسول الله خير ذخيرة وقد ذلّ جبّارٌ وخيف عقاب وقد نصب الميزان والله حاكمٌ وذلّت لأحكام الإله رقاب

فكلّ ثناءٍ واجبٌ لصفاته فما مدح مخلوقٍ سواه صواب إليك رسول الله أنهي مدائحي وإنّ رجائي راحةٌ وثواب إذا قيل من تعني بمدحك كلّه فأنت إذا خبرت عنه جواب فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضاب فأنت أجلّ العالمين مكانةً وأكرم مدفونٍ حواه تراب وله يرثي العز بن عبد السلام: أمد الحياة كما علمت قصير وعليك نقّادٌ بها وبصير عجباً لمغترٍّ بدار فنائه وله إلى دار البقاء مصير فسليمها للنائبات معرّضٌ وعزيزها بيد الردى مقهور أيظنّ أن العمر ممدودٌ له والعمر فيه على الردى مقصور وهي طويلة، ولم يحضرني سوى ما ذكرته. عبد البر بن فرسان الغسّاني عبد البر بن فرسان بن إبراهيم بن عبد الرحمن، الغسّاني، الوادي آشي، أبو محمد (1) وله أخبار كثيرة في الحماسة وعلوّ الهمة. ومن نظمه لما تعمم مخدومه ابن غانية (2) بعمامة بيضاء ولبس غفارة حمراء على جبة خضراء: فديتك بالنّفس التي قد ملكتها بما أنت موليها من الكرم الغضّ تردّيت للحسن الحقيقي بهجةً فصار لها الكليّ في ذاك كالبعض ولمّا تلالا نور غرّتك التي تقسّم في طول البلاد وفي عرض

_ (1) ترجمة ابن فرسان الوادي آشي في المغرب 2: 142، والمقتضب من تحفة القادم: 115، وكانت وفاة ابن فرسان سنة 611. (2) هو أبو زكريا بن إسحاق بن غانية أحد الثائرين على الموحدين أيام منصور بني عبد المؤمن، وفي المغرب: أبو الحسن ابن غانية وهو أخو يحيى.

تلفّعتها (1) خضراء أحسن ناظرٍ ... نبت عنك إجلالاً وذاك من الفرض وأسدلت حمراء الملابس فوقها بمفرق تاج المجد والشرف المحض فأصبحت بدراً طالعاً في غمامةٍ على شفقٍ دانٍ إلى خضرة الأرض وقال رحمه الله تعالى: أجبناً ورمحي ناصري وحسامي وعجزاً وعزمي قائدي وإمامي ولي منك بطّاش اليدين غضنفرٌ يحارب عن أشباله ويحامي وقال رحمه الله تعالى لما أسنّ يستأذن مخدومه في الحج والزيارة (2) : امنن بتسريحٍ عليّ فعلّه سبب الزيارة للحطيم ويثرب ولئن تقوّل كاشحٌ أنّ الهوى درست معالمه وأنكر مذهبي فمقالتي ما إن مللت وإنما ... عمري أبى حمل النّجاد ومنكبي (3) وعجزت عن أن أستثير كمينها وأشقّ بالصمصام صدر الموكب وقال رحمه الله تعالى، ولا خفاء ببراعته (4) : ندىً مخضلاً ذاك الجناح المنمنما وسقياً وإن لم تشك يا ساجعاً ظما أعدهنّ ألحاناً على سمع معربٍ يطارح مرتاحاً على القضب معجما وطر غير مقصوص الجناح مرفّهاً مسوّغ أشتات الحبوب منعّما مخلّىً وأفراخاً بوكرك نوّماً ألا ليت أفراخي معي كنّ نوّما وقال رحمه الله تعالى (5) :

_ (1) دوزي: تلفقتها. (2) الأبيات في المغرب. (3) المغرب: بمنكبي. (4) الأبيات في التحفة. (5) الأبيات في التحفة.

كفى حزناً أنّ الرماح (1) صقيلةٌ ... وأنّ الشّبا رهن الصدى بدمائه أنّ بياذيق الجوانب فرزنت ولم يعد رخّ الدّست بيت بنائه وكان - رحمه الله تعالى - من جلّة الأدباء، وفحول الشعراء، وبرعة الكتّاب، كتب عن ابن غانية الأمير أبي زكريا يحيى بن إسحاق (2) بن محمد بن علي السوفي الميرقي الثائر على منصور بني عبد المؤمن، ثم على من بعده من ذريته إلى أيام الرشيد منهم، وكان منقطعاً إليه، وممّن صحبه في حركاته، وكان آيةً في بعد الهمة، والذهاب بنفسه، والغناء في مواقف الحرب، والجنسية علة الضم، إذ ابن غانية كان غاية في ذلك أيضاً، ووجّه الميرقي المذكور عشية يوم من أيام حروبه إلى المأزق، وقد طال العراك، وكاد الناس ينفصلون عن الحرب [إلى أن يباكروها من الغد، فلمّا بلغ الصدر اشتدّ على الناس] (3) وذمر أرباب الحفيظة، وأنهى إليهم العزم من أميره في الحملة، فانهزم عدوّهم شرّ هزيمة، ولم يعد أبو محمد إلاّ في آخر الليل بالأسلاب والغنيمة، فقال له الأمير: وما حملك على ما صنعت فقال: الذي عملت هو شأني، وإذا أردت من يصرف الناس عن الحرب ويذهب ريحه فانظر غيري. وتشاجر له ولد صغير مع تربٍ له من أولاد أميره أبي زكريا فنال منه ولد الأمير، وقال: وما قدر أبيك فلمّا بلغ ذلك أباه خرج مغضباً لحينه، ولقي ولد الأمير الخاطب لولده فقال: حفظك الله تعالى، لست أشكّ في أني خديم أبيك، ولكني أحب أن أعرفك بنفسي ومقداري ومقدار أبيك، اعلم أن أباك وجّهني رسولاً إلى دار الخلافة ببغداد بكتاب عن نفسه، فلمّا بلغت بغداد أنزلت في دار اكتريت لي بسبعة دراهم في الشهر، وأجري عليّ سبعة دراهم في

_ (1) التحفة: الزجاج. (2) إسحاق: سقطت من ق. (3) ما بين قوسين ساقط من ق ودوزي.

اليوم، وطولع بكتابي، وقيل: من الميرقي الذي وجّهه فقال بعض الحاضرين: هو رضا مغربي ثائر على أستاذه، فأقمت شهراً، ثم استدعيت، فلمّا دخلت دار الخلافة وتكلمت مع من بها من الفضلاء وأرباب المعارف والآداب اعتذروا إلي، وقالوا للخليفة: هذا رجل جهل مقداره، فأعدت إلى محل اكتري لي بسبعين درهماً، وأجري عليّ مثلها في اليوم، ثم استدعيت فودعت الخليفة، واقتضيت ما تيسر من حوائجه وصدر لي شيء له حظ من صلته، وانصرفت إلى أبيك، فالمعاملة الأولى كانت على قدر أبيك عند من يعرف الأقدار، والثانية كانت على قدري؛ وترجمته رحمه الله متسعة. 238 - ومنهم عبد المنعم بن عمر الغساني، الوادي آشي (1) ، المؤلف، الرحالة، المتجول ببلاد المشرق سائحاً، صاحب المؤلفات الكثيرة التي منها جامع أنماط السائل في العروض (2) والخطب والرسائل. ومن نظمه قوله رحمه الله: ألا إنما الدنيا بحارٌ تلاطمت فما أكثر الغرقى على الجنبات وأكثر من لاقيت يغرق إلفه وقلّ فتىً ينجي من الغمرات توفي سنة 603، رحمه الله تعالى. 239 - ومنهم أبو العباس أحمد بن مسعود بن محمد، القرطبي، الخزرجي، كان إماماً في التفسير والفقه والحساب والفرائض والنحو واللغة والعروض والطب، وله تآليف حسان، وشعر رائق، فمنه قوله رحمه الله تعالى:

_ (1) ترجمة عبد المنعم بن عمر الغساني في الذيل والتكملة 5: 57 والتكملة رقم: 1815، وصلة الصلة: 15، وتحفة القادم: 90، وفوات الوفيات رقم 263، وابن أبي أصيبعة 2: 157 وهو الجلياني لأن جليانة من عمل وادي آش. (2) الذيل والتكملة: في القريض.

وفي الوجنات ما في الروض لكن لرونق زهرها معنىً عجيب وأعجب ما التّعجّب عنه أني أرى البستان يحمله قضيب وتوفي رحمه الله تعالى سنة 601. 240 - ومنهم أبو العباس القرطبي (1) ، صاحب المفهم في شرح مسلم، وهو أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر الأنصاري، المالكي، الفقيه، المحدث، المدرس، الشاهد بالإسكندرية. ولد بقرطبة سنة 578، وسمع الكثير هنالك، ثمّ انتقل إلى المشرق، واشتهر وطار صيته، وأخذ الناس عنه، وانتفعوا بكتبه، وقدم مصر، وحدث بها، واختصر الصحيحين، وكان بارعاً في الفقه والعربية، وعارفاً بالحديث، وممّن أخذ عنه القرطبي صاحب التذكرة، ومن تصانيفه رحمه الله تعالى المفهم في شرح مسلم وهو من أجلّ الكتب، ويكفيه شرفاً اعتماد الإمام النووي، رحمه الله تعالى، عليه في كثير من المواضع، وفيه أشياء حسنة مفيدة، ومنها اختصاره للصحيحين كما مر، وله غير ذلك وتوفي رحمه الله تعالى بالإسكندرية رابع ذي القعدة سنة 656 (2) ، وكان يعرف في بلاده باب المزين، وله كتاب كشف القناع عن الوجد والسماع أجاد فيه وأحسن، وكان يشتغل أولاً بالمعقول، وله اقتدار على توجيه المعاني بالاحتمال. قال الشيخ شرف الدين الدمياطي: أخذت عنه، وأجاز لي مصنفاته، رحمه الله تعالى، وحدث بالإسكندرية وغيرها، وصنف غير ما ذكرناه، وكان إماماً عالماً جامعاً لمعرفة الحديث والفقه والعربية وغيرها.

_ (1) ترجمة أبي العباس القرطبي في الديباج: 68، قال: وتوفي بالإسكندرية في ذي القعدة سنة ست وعشرين وستمائة، وفي كتاب الذيل والتكملة لقاضي الجماعة أبي عبد الله محمد بن عبد الملك المراكشي أنه توفي سنة ست وخمسين فانظره. (2) ق: 650.

241 - ومنهم العارف الكبير، الولي الصالح الشهير، أبو أحمد جعفر ابن عبد الله بن محمد بن سيد بونه، الخزاعي، الأندلسي (1) ، أحد الأعلام المنقطعين القربين أولي الهداية، كان - رضي الله تعالى عنه ونفعنا به - كثير الأتباع، بعيد الصيت، فذّاً شهيراً. قال الحافظ ابن الزبير: هو أحد الأعلام المشاهير فضلاً وصلاحاً، قرأ ببلنسية وتفقه، وحفظ نصف المدوّنة، وأقرأها، وكان يؤثر التفسير والحديث في رحلته من الأندلس جلّةً أكبرهم الولي الكبير سيدي أبو مدين شعيب، أفاض الله تعالى علينا من أنواره، وانتفع به، ورجع عنه بعجائب، فشهر بالعبادة، وتبرك الناس به، فظهرت عليه بركته، توفي رحمه الله تعالى في شوال سنة 624، وعاش نيّفاً وثمانين سنة. وله ترجمة في الإحاطة ملخصها ما ذكرناه. 242 - ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن يعقوب، الخزرجي، الأنصاري، الشاطبي (2) ، الفقيه، القاضي، الصّدر، التفنن، المحصل، المجيد، له علم محكم، وعقد صحيح مبرم، رحل إلى المشرق وحج، وكانت رحلته بعد تحصيله فزاد فضلاً إلى فضل، ونبلاً إلى نبل، وكان متثباً في فقهه، لا يستحضر من النقل الكثير، ولكنه يستحضر ما يحتاج إليه، وكان له علم بالعربية وأصول الفقه، ومشاركة في أصول الدين، له شرح على الجزولية، وكان أبوه قاضياً، وبيتهم بيت قضاء وعلم وسؤدد متوارث ومجد مكسوب ومنسوب؛ ثم ولي قضاء بجاية، فكان في قضائه على سنن الفضلاء وطريق الأولياء العقلاء بالحق مع

_ (1) ترجمة ابن سيد يونه في الإحاطة 1: 291 (ط. السلفية) (2) ترجمة محمد بن عبد الرحمن الخزرجي الشاطبي في عنوان الدراية: 67، وقد كانت وفاته عام 691.

الصدق، معارضاً للولاة، وكان يرى أن لا يقدم الشهود إلاّ عند الحاجة، وأما إن حصل من تحصل به الكفاية فلا يقدم غيره، ويرى أن الكثرة مفسدة، وقد طلب منه الملك أن يقدم رجلاً من أهل بجاية، فقال له مشافهة: إن شئتم قدمتموه وأخرتموني؛ وكان إذا جرى الأمر في مجرى الشهادة وما قاله القاضي ابن العربي أبو بكر وغيره من أنها قبول قول الغير على الغير بغير دليل يرى أن هذا من الأمر العظيم الذي لا يليق أن يمكن منه إلاّ الآحاد الذين تبين فضلهم في الوجود؛ وكان يرى أن جنايات الشاهد إنما هي صحيفة من يقدمه من باب قوله عليه الصلاة والسلام " من سن سنة حسنة، ومن سن سنة سيئة " وقد سئل (1) : من أولياء الله فقال: " شهود القاضي، لأنهم لا يأتون كبيرة، ولا يواظبون على صغيرة "، وإن كانت الشهادة على هذه الصفة فلا شيء أجلّ منها، وإن كانت خطة لا صفة فلا شيء أخس منها، ولما كانت واقعة بني مرين (2) بطنجة عرض عليه أهلها أن يتقدم وأن يبايعوه، فقال: والله لا أفسد ديني. ولما توفي عجز القاضي الذي تولى بعده عن سلوك منحاه، واقتفاء سننه الذي اقتفاه، قال هذا كله بمعناه وبعضه بحروفه الغبرينيّ في عنوان الدراية في علماء بجاية. 243 - ومنهم محمد بن يحيى الأندلسي، اللّبسي - بلام فموحدة فسين - قاضي القضاة (3) ، أخذ عن الحافظ ابن حجر، ونوّه به عند الأشرف، حتى ولاه قضاء المالكية بحماة، وسار سيرة السلف الصالح، ثم حنق على نائبها في بعض الأمور، وسافر إلى حلب مظهراً إرادة السماع على حافظها البرهان. ووصفه ابن حجر في بعض مجاميعه بقوله: الشيخ الإمام العالم العلاّمة في الفنون، قاضي الجماعة. وقال إنه إنسان حسن إمام في علوم منها الفقه

_ (1) عنوان الدراية: وقد سئل الجنيد. (2) كذا هو في ق وعنوان الدراية؛ وفي دوزي: مزين. (3) ترجمة محمد بن يحيى اللبسي في الضوء اللامع.

والنحو وأصول الدين، يستحضر علوماً كأنها بين عينيه، ووصفه أيضاً بعلامة دهره، وخلاصة عصره، وعين زمانه، وإنسان أوانه، جامع العلوم، وفريد كل منثور ومنظوم، قاضي القضاة، لا زالت رايات الإسلام به منصورة، وأعلام الإيمان به منشورة، ووجوه الحكام الشرعية بحسن نظره محبورة، ولد سنة 806، وتوفي ببرسّا من بلاد الروم أواخر شعبان سنة 884 (1) ، قاله السخاوي في الضوء اللامع. 244 - ومنهم الوزير الشهير أبو عبد الله ابن الحكيم، الرندي، ذو الوزارتين (2) ، رحل إلى مصر والحجاز والشام، وأخذ الحديث عن جماعة، وقد ترجمناه في باب مشيخة لسان الدين عند تعرضنا لذكر ابنه الشيخ أبي بكر ابن الحكيم، ولا بأس أن نزيد هنا ما ليس هنالك، فنقول (3) : إن من مشايخه برندة الشيخ الأستاذ النحوي أبا الحسن علي بن يوسف العبدري السفاح، أخذ عنه العربية، وقرأ عليه القرآن بالروايات السبع، وأخذ عن الخطيب بها أبي القاسم ابن الأيسر، وأخذ - رحمه الله تعالى - عن جملة من أعلام الأندلس، وأخذ في رحلته عن الجلّ الذين يضيق عن أمثالهم الحصر، فمن شيوخه الحافظ أبو اليمن ابن عساكر، لقيه بالحرم الشريف، وانتفع به، وأكثر من الرواية عنه، والشيخ أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحراني المعروف بابن هبة الله، والشيخ الشرف أبو العباس أحمد بن عبد الله بن عمر بن معطي ابن الإمام الجزائري - جزائر المغرب نزيل بغداد والشيخ الصفاء خليل بن أبي بكر الحنبلي، لقيه بالقاهرة، والشيخ رضي الدين أبو بكر القسمطيني، والشيخ شرف الدين الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي إمام الديار المصرية في الحديث وحافظها ومؤرخها،

_ (1) ق: 840. (2) ستجيء له ترجمة أخرى في النفح نشير فيها إلى مصادر ترجمته. (3) انظر الإحاطة 2: 280، فالمقري يلخص ترجمة ابن الحكيم عنها.

والشهاب ابن الخيمي، قرأ عليه قصيدته البائية الفريدة التي أولها: يا مطلباً ليس لي في غيره أرب إليك آل التقصّي وانتهى الطلب وفيها البيت المشهور الذي وقع النزاع فيه: يا بارقاً بأعالي الرّقمتين بدا لقد حكيت ولكن فتك الشّنب والشيخ جمال الدين أبو صادق محمد بن يحيى القرشي، ومن تخريجه الأربعون المروية بالأسانيد المصرية وسمع الحلبيات من ابن العماد الحراني والشيخ أبي الفضل عبد الرحيم خطيب الجزيرة (1) ، ومولده سنة 598، وزينب بنت الإمام أبي محمد عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، وتكنى أم الفضل، وسمعت من أبيها. ومن أشياخ ذي الوزارتين بن الحكيم المذكور الملك الأوحد يعقوب ابن الملك الناصر صلاح الدين داود ابن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، والشيخ عبد الرحمن بن سليمان بن طرخان وأخوه محمد بن سليمان، في طائفة كبيرة من مشايخ مصر والشام والعراق وغيرها من البلاد يطول تعدادهم، وأخذ ببجاية عن خطيبها أبي عبد الله ابن رحيمة الكناني، وبتونس عن قاضيها أبي العباس ابن الغماز البلنسي وأخذ العربية عن قدوة النحاة أبي الحسين عبد الله (2) بن أحمد ابن عبيد الله بن أبي الربيع القرشي. ومن شعر ذي الوزارتين ابن الحكيم المذكور قوله (3) : هل إلى ردّ عشيّات الوصال سببٌ أم ذلك من ضرب المحال حالة يسري بها الوهم إلى أنها تثبت برءاً باعتلال وليالٍ ما تبقّى بعدها غير أشواقي إلى تلك الليالي

_ (1) دوزي: الجيزة. (2) هكذا في ق ودوزي: الإحاطة: عبيد الله. (3) الشعر في الإحاطة 2: 289، وهي قصيدة رفعها إلى السلطان ببلدة رندة وهو إذ ذاك فتى.

إذ مجال الوصل (1) فيها مسرحي ... ونعيمي آمرٌ فيها ووال ولحالات التراضي جولةٌ مرحت بين قبولٍ واقتبال فبوادي الخيف خزفي مسعدٌ وبأكناف منىً أسنى موال ولست أنسى الأنس فيها أبداً لا ولا بالعذل في ذاك أبالي وغزالٍ قد بدا لي وجهه فرأيت البدر في حال الكمال ما أمال التيه من أعطافه ... لم يكن إلاّ على خصل (2) اعتدال خصّ بالحسن فما أنتترى بعده للناس حظّاً في الجمال من تسلّى عن هواه فأنا بسواه عن هواه غير سال فلئن أتعبني حبّي له فلكم نلت به أنعم حال إذ لآلي جيده من قبلي ووشاحاه يميني وشمالي خلّف النوم لي السّهد به وترامى الشخص لا طيف الخيال فتداوى بلمساه ظمإي مزجك الصهباء بالماء الزلال أو إرشادات بناء الملك الأو حد الأسمى الهمام المتعالي ملكٌ إن قلت فيه ملكاً لم تكن إلاّ محقاً في المقال أيّد الإسلام بالعدل فما إن ترى رسماً لأصحاب الضلال ذو أيادٍ شملت كلّ الورى ومعالٍ يا لها خير معال همّةٌ هامت بأحوال التّقى وصفاتٌ بالجلالات حوال وقف النّفس على إجهادها بين صومٍ وصلاةٍ ونوال وهي طويلة ومنها: أيها المولى الذي نعماؤه (3) ... أعجزت عن شكرها كنه المقال

_ (1) الإحاطة: الليل. (2) الإحاطة: فضل. (3) ق ودوزي: نعماكم؛ وفي الإحاطة: نعماؤه.

ها أنا أنشدكم مهنئاً من بديع النظم بالسحر الحلال فأنا العبد الذي حبّكم لم يزل والله في قلبي وبالي أورقت روضة آمالي بكم ... مذ تولاّها الرّباب المتوالي (1) [واقتنيت الجاه من خدمتكم ... فهي ما أذخره من كنز مال] (2) ومنها: يا أمير المسلمين هذه خدمتي تنبئ عن صادق حال هي بنت ساعةٍ أو ليلةٍ سهلّت بالحبّ في ذاك الجلال ما عليها إذ أجادت مدحها من بعيد الفهم يلغيها وقال فهي في تأدية الشكر لكم أبداً بين احتفاء واحتفال وكتب رحمه الله تعالى يخاطب أهله من مدينة تونس (3) : حيّ حيّي بالله يا ريح نجد وتحمّل عظيم شوقي ووجدي وإذا ما بثثت حالي فبلّغ من سلامي لم على قدر ودّي ما تناسيتهم وهل في مغيبي ... قد (4) نسوني على تطاول بعدي بي شوقٌ إليهم ليس يغزى لجميلٍ ولا لسكان نجد يا نسيم الصّبا إذا جئت قوماً ملئت أرضهم بشيحٍ ورند فتلطّف عند المرور عليهم وحقوقاً لهم عليّ فأدّ قل لهم قد غدوت من وجدهم في حال شوقٍ لكلّ رندٍ وزند وإن استفسروا حديثي فإنّي باعتناء الإله بلّغت قصدي

_ (1) الإحاطة: الكبير المتعالي. (2) سقط البيت من ق ودوزي ولم يرد في الإحاطة. (3) الأبيات في الإحاطة 2: 291. (4) كذا في ق ودوزي؛ الإحاطة: هم.

فلله الحمد إذ حباني بلطفٍ عنده قلّ كلّ شكرٍ وحمد وافتتح مخاطبته لأخيه الأكبر أي إسحاق إبراهيم بقصيدة أولها (1) : ذكر اللّوى شوقاً إلى أقماره فقضى أسىً أو كاد من تذكاره وعلا زفير حريق نار ضلوعه فرمى على وجناته بشراره يا عاذليه أقصروا فلشدّما (2) ... أفضى عتابكم إلى إضراره إن لم تعينوه على برجائه لا تنكروا بالله خلع عذاره ما كان أكتمه لأسرار الهوى لو أنّ جند الصّبر من أنصاره ما ذنبه والبين قطّع قلبه أسفاً وأذكى النار في أعشاره بخل اللّوى بالساكنيه وطيفهم وحديثه ونسيمه ومزاره يا برق خذ دمعي وعرّج باللوى فاسفحه في باناته وعراره وإذا لقيت بها الذي بإخائه ألقى خطوب الدهر أو بجواره فاقر السلام عليه قدر محبتي فيه وترفيعي إلى مقداره والمم بسائر إخوتي وقرابتي من لم أكن لجوارهم بالكاره ما منهم إلاّ أخٌ أو سيدٌ أبداً أرى دأبي على إكباره فابثث لذاك الحيّ أنّ أخاهم في حفظ عهدهم على استبصاره وقال رحمه الله تعالى في غرض كلفه سلطانه القول فيه (3) : ألا واصل مواصلة العقار ودع عنك التخلّق بالوقار

_ (1) الإحاطة: 292. (2) الإحاطة: فلربما. (3) الأبيات في الإحاطة 292 - 293.

وقم واخلع عذارك في غزالٍ يحقّ لمثله خلع العذار قضيبٌ مائسٌ من فوق دعصٍ تعمّم بالدجى فوق النّهار ولاح بخدّه ألفٌ ولامٌ فصار معرّفاً بين الدراري رماني قاسمٌ والسين صادٌ بأشفارٍ تنوب عن الشّفار وقد قسمت محاسن وجنتيه على ضدين من ماء ونار فذاك الماء من دمعي عليه وتلك النار من فرط استعاري عجبت له أقام بربع قلبي على ما شبّ فيه من الأوار ألفت الحبّ حتى صار طبعاً فما أحتاج فيه إلى ادّكار فما لي عن مذاهبه ذهابٌ وهذا فيه أشعاري شعاري وقال العلامة ابن رشيد في " ملء العيبة " (1) : لما قدمنا المدينة سنة 684 كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله ابن أبي القاسم ابن الحكيم، وكان أرمد، فلمّا دخلنا ذا الحليفة أو نحوها نزلنا عن الكوار، وقوي الشوق لقرب المزار، فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتساباً لتلك الآثار، وإعظاماً لمن حل تلك الديار، فأحسّ بالشفاء، فأنشد لنفسه في وصف الحال قوله: ولمّا رأينا من ربوع حبيبنا بيثرب أعلاماً أثرن لنا الحبّا وبالترب منها إذ كحلنا جفوننا شفينا فلا بأساً تخاف ولا كربا وحين تبدّى للعيون جمالها ومن بعدها عنّا أديلت لنا قربا نزلنا عن الأكوار نمشي كرامةً لمن حلّ فيها أن نلمّ به ركبا نسحّ سجال الدمع في عرصاتها ونلثم من حبٍّ لواطئه التربا وإنّ بقائي دونه لخسارةٌ ولو أن كفّي تملأ الشرق والغربا فيا عجبا ممّن يحبّ بزعمه يقيم مع الدعوى ويستعمل الكتبا

_ (1) لا يزال النقل مستمراً عن الإحاطة: 293.

وزلاّت مثلي لا تعدّد كثرةً وبعدي عن المختار أعظمها ذنبا انتهى. وخط الوزير ابن الحكيم في غاية الحسن، وقد رأيته مراراً، وملكت بعض كتبه، ونثره - رحمه الله تعالى - أعلى من شعره كما نبّه عليه لسان الدين في الإحاطة. ومن نثره في رسالة طويلة كتبها عن سلطانه، ما صورته (1) : وقد تقرر عند الخاص والعام، من أهل الإسلام، واشتهر في آفاق الأقطار، اشتهار الصباح في سواد الظلام، أنّا لم نزل نبذل جهدنا في أن تكون كلمة الله هي العليا، ونسمح في ذلك بالنفوس والأموال رجاء ثواب الله لا لعرض الدنيا، وأنّا ما قصرنا في الاستنفار والاستنصار (2) ، ولا أقصرنا عن الاعتضاد بكل من أملنا معاملته والاستظهار (3) ، ولا اكتفينا بمطوّلات الرسائل وبنات الأفكار، حتى اقتحمنا بنفسنا لجج البحار، فسمحنا بالطارف من أموالنا والتّلاد، وأعطينا رجاء نصرة الإسلام موفور الأموال والبلاد، واشترينا بما أنعم الله به علينا ما فرض الله على كافة أهل الإسلام من الجهاد، فلم يكن بين تلبية المدعوّ وزهده، ولا بين قبوله وردّه إلا كما يحسو الطائر ماء الثماد، ويأبى الله أن يكل نصرة الإسلام بهذه الجزيرة إلى سواه، ولا يجعل فيها شيئاً (4) إلا لمن أخلص لوجهه الكريم علانيته ونجواه، ولمّا أسلم الإسلام بهذه الجزيرة الغريبة إلى مناويه، وبقي المسلمون يتوقّعون حادثاً ساءت ظنونهم لمباديه (5) ، ألقينا

_ (1) انظر هذه الرسالة في الإحاطة: 297، وما بعدها. (2) الإحاطة: في الاستنصار والاستنفار. (3) ق: من الاستظهار. (4) الإحاطة: وأن يجعل فيها شيئاً؛ ق ودوزي: ولا يجعل فيها سبباً. (5) وبقي ... لمباديه: سقط من ق.

إلى الثقة بالله تعالى يد الاستسلام، وشمّرنا عن ساعد الجدّ (1) في جهاد عبدة الأصنام، وأخذنا بمقتضى قوله تعالى: " وأنفقوا في سبيل الله " أخذ الاعتزام، فأمدّنا الله تعالى في ذلك بتوالي البشائر، ونصرنا بألطاف أغنى فيها خلوص الضمائر عن قود العساكر، ونفلنا على أيدي قوّادنا ورجالنا من السّبايا والغنائم ما غدا ذكره في الآفاق كالمثل السائر " وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها " وكيف يحصيها المحصي أو يحصرها الحاصر، وحين أبدت لنا العناية الربانية وجوه الفتح سافرة المحيا، وانتشقنا نسائم النصر (2) الممنوح عبقة الرّيّا، استخرنا الله تعالى في الغزو بنفسنا (3) ونعم المستخار، وكتبنا بما قد علمتم (4) إلى ما قرب من أعمالنا بالحضّ على الجهاد والاستنفار، وحين وافى من خفّ للجهاد من الأجناد والمطّوعين، وغدوا بحكم رغبتهم في الثواب على طاعة الله مجتمعين، خرجنا بهم ونصر الله تعالى أهدى دليل، وعناية الله تعالى بهذه الفئة المفردة من المسلمين تقضي بتقريب البعيد من آمالنا وتكثير القليل، ونحن نسأل الله تعالى أن يحملنا على جادّة الرضى والقبول، وأن يرشدنا إلى طريق تفضي إلى بلوغ الأمنية والمأمول. وهذه رسالة طويلة سقنا بعضها كالعنوان لسائرها. ونال ابن الحكيم - رحمه الله تعالى - من الرياسة والتحكّم في الدولة ما صار كالمثل السائر، وخدمته العلماء الأكابر (5) ، كابن خميس وغيره، وأفاض عليهم سجال خيره، ثم ردت الأيام منه ما وهبت، وانقضت أيامه كأن لم تكن وذهبت، وقتل يوم خلع سلطانه، ومثّل به سنة 708، رحمه الله تعالى،

_ (1) الإحاطة: الجد والاجتهاد. (2) الإحاطة: من النصر ... عبق. (3) الإحاطة: بأنفسنا. (4) بما قد علمتم: سقطت من الإحاطة. (5) زاد في ق: الأخاير.

وانتهب من أمواله وكتبه وتحفه ما لا يعلم قدره إلاّ الله تعالى، أثابه الله تعالى بهذه الشهادة بجاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم وشرف وكرم ومجد وعظم. 245 - ومن المرتحلين من الأندلس إلى المشرق الحافظ نجيب الدين أبو محمد عبد العزيز ابن الأمير القائد أبي علي الحسن بن عبد العزيز بن هلال، اللخمي، الأندلسي، ولد سنة 577 تقريباً، ورحل فسمع بمكّة من زاهر بن رستم، ببغداد من أبي بكر أحمد بن سكينة وابن طبرزد وطائفة، وبواسط من أبي الفتح ابن المنداني، وبأصبهان من عين الشمس الثقفية وجماعة، وبخراسان من المؤيّد الطوسي وأبي روح وأصحاب الفراوي وهذه الطبقة، وخطّه مليح مغربي في غاية الدقة. وكان كثير الأسفار، ديّناً متصوفاً كبير القدر، قال الضياء في حقّه: رفيقنا وصديقنا، توفي بالبصرة عاشر رمضان سنة 617، ودفن إلى جانب قبر سهل التّستري رضي الله تعالى عنه، وما رأينا من أهل المغرب مثله، قال ابن نقطة: كان ثقة فاضلاً، صاحب حديث وسنّة كريم الأخلاق، وقال مفضل القرشي: كان كثير المروءة غزير الإنسانية، وقال ابن الحاجب: كان كيّس الأخلاق، محبوب الصورة، لين الكلام، كريم النفس، حلو الشمائل، محسناً إلى أهل العلم بماله وجاهه، وقيل: إنّه أوصى بكتبه للشرف المرسي، رحمه الله تعالى. 246 - ومنهم محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد، أبو بكر ابن العربي الإشبيلي (1) ، حفيد القاضي الحافظ الكبير أبي بكر ابن العربي، قرأ لنافع على قاسم ابن محمد الزقاق صاحب شريح، وحج فسمع من السّلفي وغيره، ثم رحل بعد نيّف وعشرين سنة إلى الشام والعراق، وأخذ عن عبد الوهاب بن سكينة وطبقته، ورجع فأخذوا عنه بقرطبة وإشبيلية، ثم سافر سنة 612، وتصوّف

_ (1) ترجمة ابن العربي الحفيد في التكملة: 603.

وتعبّد، وتوفّي بالإسكندرية سنة 617، قاله الذهبي في تاريخه الكبير. 247 - ومن المرتحلين من الأندلس يحيى بن عبد العزيز، المعروف بابن الخرّاز، أبو زكريا، القرطبي (1) ، سمع من العتبي وعبد الله بن خالد ونظرائهما من رجال الأندلس، ورحل فسمع بمصر من المزني والربيع بن سليمان المؤذن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ويونس بن عبد الأعلى محمد بن عبد الله ابن ميمون وعبد الغني بن أبي عقيل وغيرهم، وسمع بمكّة من علي بن عبد العزيز، وكانت رحلته ورحلة سعيد بن عثمان الأعناقي وسعيد بن حميد وابن أبي تمام واحدة، وسمع الناس من يحيى المذكور مختصر المزني ورسالة الشافعي وغير ذلك من علم محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وكان يميل في فقهه إلى مذهب الشافعي، وكان مشاوراً مع عبيد الله بن يحيى وأضرابه، وحدث عنه من أهل الأندلس محمد بن قاسم وابن بشر (2) وابن عبادة وغير واحد، ولم يسمع منه ابنه محمد لصغره، وتوفّي سنة 295، رحمه الله تعالى ورضي عنه. 248 - ومنهم الشيخ الإمام العالم العامل الكامل الزاهد الورع، العلامة جمال الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، البكري، الشريشي المالكي، كان من أكابر الصالحين والمتورعين، ومولده سنة 601 بشريش، وتوفّي برباط الملك الناصر بسفح قاسيون سنة 685 في 24 رجب، ودفن قبالة الرباط. وله المصنفات المفيدة، تولّى مشيخة الصخرة بحرم القدس الشريف، وقدم دمشق، وتولى مشيخة الرباط الناصري، فلمّا توفّي قاضي القضاة جمال الدين المالكي ولوه مشيخة المالكية بدمشق، وعرضوا عليه القضاء فلم يقبل، وبقي في المشيخة إلى أن توفّي، رحمه الله تعالى ونفعنا به وبأمثاله، آمين.

_ (1) ترجمة ابن الخراز في ابن الفرضي 2: 182؛ وفي دوزي: الجزار. (2) يعني أحمد بن بشر الأغبس.

249 - ومن الراحلين من الأندلس الفقيه الصالح أبو بكر ابن محمد بن علي بن ياسر، الجيّاني، المحدث الشهير. ذكره ابن السمعاني وغيره، سافر الكثير، وورد العراق، وطاف في بلاد خراسان، وسكن بلخ، وأكثر من الحديث، وحصّل الأصول، ونسخ بخطّه ما لا يدخل تحت حصر، قال ابن السمعاني: وله أنس ومعرفة بالحديث، لقيته بسمرقند، وكان قد قدمها سنة 549 مع جماعة من أهل الحجاز لدين له عليهم، وسمعت منه جزءاً خرّجه من حديث يزيد بن هرون ممّا وقع له عالياً، وجزءاً صغيراً من حديث أبي بكر ابن أبي الدنيا، وأحاديث أبي بكر الشافعي في أحد عشر جزءاً المعروف بالغيلانيات بروايته عن ابن الحصين عن ابن غيلان، وكان مولده بجيّان سنة 493 [أو في التي بعدها، الشك منه، ثم لقيته بنسف في أواخر سنة خمسين] (1) ولم أسمع منه شيئاً، ثم قدم علينا في (2) بخارى في أوائل سنة إحدى وخمسين وسمعت من لفظه جميع كتاب الزهد لهنّاد بن السّري الكوفي بروايته عن أبي القاسم سهل بن إبراهيم المسجدي عن الحاكم أبي عبد الرحمن محمد بن أحمد الشاذياخي عن الحاكم أبي الفضل محمد بن الحسين الحدّادي عن حماد بن أحمد السلمي عن مصنّفه، وأخبرنا الجيّاني بسمرقند، أبأنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن الحصين الكاتب ببغداد، أنبأنا أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزار، أخبرنا (3) أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي، أخبرنا (4) محمد بن مسلمة، أنبأنا يزيد بن هرون أنبأنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: " إذا دخل أهل الجنّة الجنة وأهل النار النار ناداهم منادٍ: يا أهل الجنّة، إن

_ (1) ما بين معقفين ساقط من ق ودوزي، ومثبت في التجارية. (2) في: سقطت من ق. (3) ق: أنبأنا. (4) ق: حدثنا.

لكم عند الله موعداً لم تروه، قالوا: وما هو ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنّة وينجينا من النار قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب من النظر إليه " ثم تلا هذه الآية " للّذين أحسنوا الحسنى وزيادة ". وقال ابن السمعاني أيضاً: وأخبرنا الجيّاني المذكور بسمرقند، أنبأنا هبة الله بن محمد بن عبد الواحد ببغداد، أنبأنا أبو طالب ابن غيلان، أنبأنا أبو بكر الشافعي، أنبأنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي، أنبأنا محمد بن حسان، أنبأنا مبارك بن سعيد، قال: أردت سفراً، فقال لي الأعمش: سل ربك أن يرزقك صحابة صالحين، فإن مجاهداً حدّثني قال: خرجت من واسط فسألت ربي أن يرزقني صحابة، ولم أشترط في دعائي، فاستويت أنا وهم في السفينة فإذا هم أصحاب طنابير. وقال ابن السمعاني أيضاً: أخبرنا أبو بكر الجياني المغربي بسمرقند، سمعت الإمام أبا طالب إبراهيم بن هبة الله ببلخ يقول: قرأت على أبي يعلى محمد بن أحمد العبدي بالبصرة قال: قرأت على شيخنا أبي الحسين ابن يحيى في كتاب العين بإسناده إلى الخليل بن أحمد أنّه أنشد قول الشاعر: إنّ في بيتنا ثلاث حبالى فوددنا أن قد وضعن جميعا زوجتي ثمّ هرتي ثمّ شاتي فإذا ما وضعن كنّ ربيعا زوجتي للخبيص، والهر للفا ر، وشاتي إذا اشتهينا مجيعا قال أبو يعلى: قال شيخنا بن يحيى: وذكر عن الخليل بن أحمد في العين أن المجيع أكل التمر باللبن، انتهى. 250 - ومنهم أبو الخطاب العلاء بن عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن ابن سعيد بن حزم، الأندلسي، المري، ذكره الحميدي في تاريخه وأثنى

عليه، وقال (1) : كان من أهل العلم والأدب والذكاء والهمّة العالية [في طلب العلم] (2) ، وكتب بالأندلس فأكثر، ورحل إلى المشرق فاحتفل في العلم والرواية والجمع. وذكره الحافظ الخطيب أبو بكر [أحمد بن علي] (3) بن ثابت البغدادي، وقال: هو من بيت جلالة وعم ورياسة، وأخرج عنه في غير موضع من مصنّفاته، وقدم بغداد ودمشق وحدّث فيهما، ثم عاد إلى المغرب فتوفّي ببلده المريّة 454، وحدّث عن أبي القاسم إبراهيم بن محمد بن زكريا الزهري، ويعرف بابن الإفليلي، الأندلسي النحوي وغيره، وكان صدوقاً ثقة، رحمه الله تعالى (4) . 251 - ومنهم أبو زكريا يحيى بن قاسم القرطبي (5) ، الفقيه المالكي أحد الأئمة الزهاد، كان يصوم حتى يخضرّ، توفّي سنة 272، وقيل: سنة 278، ورحل إلى المشرق، وسمع من عبد الله بن نافع صاحب مالك بن أنس، ومن سحنون بن سعيد، وغيرهما، وكان يفضّله ويصفه بالفضل والعلم، وهو صاحب الشجرة، قال عباس بن أصبغ: كانت في داره شجرة تسجد لسجوده إذا سجد، قاله ابن الفرضي، رحمه الله تعالى، ورضي عنه، ونفعنا به. 252 - ومنهم أبو بكر يحيى بن مجاهد بن عوانة، الفزاري، الإلبيري،

_ (1) ترجمة العلاء بن عبد الوهاب في جذوة المقتبس: 298 (وبغية الملتمس رقم: 1241) وتاريخ بغداد، والصلة: 421. (2) ما بين معقفين ساقط من ق. (3) ما بين معقفين ساقط من ق. (4) بعد هذه الترجمة وردت في ق ترجمة لأبي حفص عمر بن الحسن الهوزني وهي ترجمة مكررة نصاً وقد وردت رقم: 50، ولذلك لم نجد ضرورة لإثباتها، وكذلك سقطت عند دوزي. (5) ترجمة يحيى بن قاسم بن هلال في جذوة المقتبس: 355 (وبغية الملتمس رقم: 1487) وابن الفرضي 2: 180.

الزاهد (1) ، سكن قرطبة، قال ابن الفرضي: كان منقطع القرين في العبادة، بعيد الاسم في الزهد، حجّ، وعني بعلم القرآن والقراءات والتفسير، وسمع بمصر من الأسيوطي وابن الورد وابن شعبان وغيرهم، وكان له حظ من الفقه والرواية إلا أن العبادة غلبت عليه، وكان العمل أملك به، ولا أعلمه حدّث، توفّي رحمه الله تعالى سنة ست وستين وثلاثمائة، ودفن في مقبرة الرّبض، وصلى عليه القاضي محمد بن إسحاق بن السليم، ثم صلى عليه حيّان مرّة ثانية، رحمه الله تعالى وأفاض علينا من أنوار عنايته آمين. 253 - ومنهم أبو بكر محمد بن أحمد بن إبراهيم، الصدفي، الإشبيلي (2) ، الأديب البارع، له نظم حسن، وموشّحات رائقة، قرأ على الأستاذ الشلوبين وغيره، ومدح الملوك، ورحل من الأندلس فقدم ديار مصر، ومدح بها بعض من كان يوصف بالكرم، فوصله بنزر يسير، فكرّ راجعاً إلى المغرب، فتوفّي ببرقة، رحمه الله تعالى، وكان من النجباء في النحو وغيره. ومن نظمه من قصيدة: ما بي موارد أمسٍ (3) بل مصادره ... اللّحظ أوّله واللّحد آخره أرسلت طرفي مرتاداً فطلّ دمي روضٌ من الحسن مطلولٌ أزاهره رعيت في خصبه لحظي فأعقبني جدباً بجسمي ما يرويه هامره وبي وإن لم أكن بالذكر أشهره فالوصف فيه لفقد المثل شاهره وهي طويلة، وأثنى عليه أثير الدين أبو حيّان، وأورد جملة من محاسن كلامه وبدائع نظامه، رحم الله تعالى الجميع.

_ (1) ترجمة يحيى بن مجاهد في ابن الفرضي 2: 188 وجذوة المقتبس: 356 (وبغية الملتمس رقم: 1490) . (2) ترجمة أبي بكر الصدفي في الوافي 2: 135. (3) الوافي: حبي، التجارية: أمر.

254 - ومنهم أبو يحيى زكريا بن خطاب، الكلبي، التّطيلي (1) ، رحل سنة 293، فسمع بمكّة كتاب النسب للزبير بن بكار من الجرجاني الذي حدث له عن علي بن عبد العزيز بن الجمحي عن الزبير، وروى موطأ مالك ابن أنس رواية أبي مصعب أحمد بن عبد الملك الزهر ي عن إبراهيم بن سعيد الحذّاء، وسمع بها من إبراهيم بن عيسى الشيباني والقزاز في آخرين، وقدم الأندلس فكان الناس يرحلون إليه إلى تطيلة للسماع منه، واستقدمه المستنصر الحكم وهو وليّ عهد فسمع منه أكثر مروياته، وسمع منه جماعة من أهل قرطبة، وكان ثقة مأموناً، ولي قضاء بلده تطيلة إحدى مدائن الأندلس بعد عمر بن يوسف ابن الإمام. 255 - ومنهم سعد الخير بن محمد بن سعد، أبو الحسن، الأنصاري، البلنسي، المحدّث (2) ، رحل إلى أن دخل الصين، ولذا كان يكتب البلنسي الصيني، وركب البحار، وقاسى المشاق، وتفقه ببغداد على أبي حامد الغزالي، وسمع بها أبا عبد الله النّعّال وطراداً وغيرهما، وبأصبهان أبا سعد المطرز، وسكنها وتزوّج بها وولدت له فاطمة بها، ثم سكن بغداد، وروى عنه ابن عساكر وابن السمعاني وأبو موسى المديني وأبو اليمن الكندي وأبو الفرج ابن الجوزي وابنته فاطمة بنت سعد الخير في آخرين، وتأدب على أبي زكريا التبريزي، وتوفّي في المحرم سنة 541، رحمه الله تعالى، ببغداد، وصلى عليه الغزنوي، والشيخ الواعظ بجامع القصر، وكان وصيّه، وحضر جنازته قاضي القضاة الزينبي والأعيان، ودفن إلى جانب عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنهم أجمعين بوصية منه.

_ (1) ترجمة زكريا بن خطاب في جذوة المقتبس: 202 (وبغية الملتمس رقم: 473) وابن الفرضي 1: 176) . (2) ترجمة سعد الخير البلنسي في الذيل والتكملة 4: 16، والتكملة رقم: 2011.

256 - ومنهم أبو عثمان سعيد بن نصر بن عمر بن خلفون، الإستجي (1) ، سمع بقرطبة من قاسم بن أصبغ وابن أبي دليم وغيرهما، ورحل فسمع بمكّة من ابن الأعرابي، وببغداد من أبي علي الصفار وجماعة، وبها مات. 257 - ومنهم أبو عثمان سعيد الأعناقي، ويقال: العناقي، القرطبي (2) ، كان ورعاً زاهداً عالماً بالحديث بصيراً بعلله، سمع من محمد بن وضاح وصحبه ومن يحيى بن إبراهيم بن مزين ومحمد بن عبد السلام الخشني وغيرهم، ورحل فلقي جماعة من أصحاب الحديث منهم نصر بن مرزوق كتب عنه مسند أسد بن موسى وغير ذلك من كتبه، ويونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والحارث بن مسكين في آخرين، وحدث عنه أحمد بن خالد وابن أيمن ومحمد ابن قاسم وابن أبي زيد في عدد كثير، ومولده سنة 233، وتوفّي سنة 305 بصفر. والأعناقي: نسبة إلى موضع يقال له أعناق وعناق. 258 - ومنهم أبو المطرف عبد الرحمن بن خلف، التجييبي، الإقليشي (3) ، روى عن أبي عثمان سعيد بن سالم المجريطي وأبي ميمونة دراس بن إسماعيل فقيه فاس، ورحل حاجّاً سنة 349، فسمع بمكّة من أبي بكر الآجري وأبي حفص الجمحي، وبمصر من أبي إسحاق ابن شعبان، وروى عنه كتاب الزاهي جميعه وقد قرئ عليه جميعه، وحمل عنه، ومولده سنة 303 (4) ، رحمه الله تعالى.

_ (1) ترجمة سعيد بن نصر الإستجي في الصلة: 203 وجذوة المقتبس: 217 (رقم: 484 وبغية الملتمس رقم: 822) وقال ابن بشكوال والحميدي: توفي ببخاري سنة 350. (2) ترجمة سعيد الأعناقي في جذوة المقتبس: 214 (وبغية الملتمس رقم: 803) وابن الفرضي 1: 195، وهو سعيد بن عثمان بن سعيد بن سليمان التجيبي الأعناقي. (3) ترجمة عبد الرحمن الإقليشي في ابن الفرضي (1: 210) (4) كذا في ق ودوزي؛ وفي ابن الفرضي ثلاثمائة؛ وفي التجارية: 313.

259 - ومنهم أبو الأصبع عبد العزيز بن علي، المعروف بابن الطحان، الإشبيلي المقرئ (1) ، ولد بإشبيلية سنة 498، ورحل فدخل مصر والشام وحلبا، توفّي بحلب بعد سنة 559، وله كتاب نظام الأداء في الوقف والابتداء، ومقدمة في مخارج الحروف، ومقدمة في أصول القراءات، وكتاب الدعاء، وكان من القراء المجوّدين الموصوفين بالإتقان ومعرفة وجوه القراءات، وسمع الحديث على شريح بن محمد بن أحمد بن شريح الرعيني خطيب إشبيلية وأبي بكر يحيى بن سعادة القرطبي. وله شعر حسن منه قوله: دع الدّنيا لعاشقها سيصبح من رشائقها وعاد النفس مصطبراً ونكّب عن خلائقها هلاك المرء أن يضحي مجدّاً في علائقها وذو التقوى يذلّلها فيسلم من بوائقها وأخذ القراءات ببلده عن أبي العباس ابن عيشون وشريح بن محمد، وروى عنهما وعن أبي عبد الله ابن عبد الرزّاق الكلبي، وروى مصنّف النسائي عن أبي مروان ابن مسرّة، وتصدّى للإقراء، ثم انتقل إلى فاس، وحج ودخل العراق، وقرأ بواسط القراءات وأقرأها أيضاً، ودخل الشام واشتهر ذكره، وجلّ قدره، وروى عنه أبو محمد عبد الحق الإشبيلي الحافظ، وعلي بن يونس، قال بعضهم: سمعت غير واحد يقول: ليس بالغرب أعلم بالقراءات من ابن الطحان، قرأ عليه الأثير أبو الحسن محمد بن أبي العلاء وأبو طالب ابن عبد السميع وغيرهما، رحم الله تعالى الجميع.

_ (1) ترجمة ابن الطحان في التكملة رقم: 1759 (ص: 628) قال: ويعرف بالطحان وبابن الحاج ويكنى أبا محمد وأبا الاصبغ، رحل إشبيلية بعد سنة 554 وله من المؤلفات: " شعار الأخيار الأبرار في التسبيح والاستغفار ". وانظر غاية النهاية 1: 395.

260 - ومنهم أبو الأصبغ عبد العزيز بن خلف، المعافري (1) ، قدم مصر سنة 502، وولد سنة 448، وحدث بالموطإ عن سليمان بن أبي القاسم، أنبأنا أبو عمر ابن عبد البر، أنبأنا سعيد بن نصر، عن قاسم بن أصبغ عن محمد ابن وضاح عن يحيى بن يحيى عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة، رضي الله تعالى عنه. 261 - ومنهم أبو محمد عبد العزيز بن عبد الله بن ثعلبة، السعدي، الشاطبي (2) ، قدم مصر ودمشق طالب علم، وسمع أبا الحسن ابن أبي الحديد وأبا منصور العكبري وغيرهما، وصنف (3) غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلاّم على حروف المعجم، وسمعه عليه أبو محمد الأكفاني، وتوفّي بأرض حوران من أعمال دمشق في رمضان سنة 465، رحمه الله تعالى ورضي عنه. 262 - ومنهم الحكيم الطبيب أبو الفضل محمد عبد المنعم، الغساني، الجلياني (4) ، وهو عبد المنعم بن عمر بن عبد الله بن أحمد بن خضر بن مالك بن حسان، ولد بقرية جليانة من أعمال غرناطة سابع المحرم سنة 531، وقدم إلى القاهرة، وسار إلى دمشق فسكنها مدّة، ثم سافر إلى بغداد فدخلها سنة 601، ونزل بالمدرسة النظامية، وكتب الناس عنه كثيراً من نظمه، وكان أديباً فاضلاً، له شعر مليح المعاني أكثره في الحكم والإلهيات وآداب النفوس والرياضيات، وكان طبيباً حاذقاً، وله رياضات ومعرفة بعلم الباطن، وله كلام مليح على طريق القوم، وكان مليح السّمت، حسن الأخلاق، لطيفاً، حاضر الجواب،

_ (1) ترجمة عبد العزيز بن خلف في التكملة رقم: 1742 (ص: 624) . (2) ترجمة عبد العزيز السعدي في التكملة رقم: 1739 (ص: 623) وذكره ابن عساكر. (3) الصواب: ورتب، كما في التكملة. (4) هذا هو حكيم الزمان عبد المنعم الجلياني الذي مرت ترجمته رقم: 238 ولكن هذه الترجمة هنا أكثر إسهاباً، وقد ذكرنا في الحاشية هنالك مصادر ترجمته ولا أدري كيف وقع في اسمه " محمد " ولعله محمد [أو] عبد المنعم، لقول المقري من بعد: " وسماه بعضهم عبد المنعم ".

ومات بدمشق سنة 602، وكان يقال له: حكيم الزمان، وأراد القاضي الفاضل أن يغضّ منه فقال له بحضرة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب: كم بين جليانة وغرناطة فقال: مثل ما بين بيسان وبيت المقدس. ومن شعره قوله: خبرت بني عصري على البسط والقبض وكاشفتهم كشف الطبائع بالنبض فأنتج لي فيهم قياسي تخلّياً عن الكلّ إذ هم آفة الوقت والعرض ألازم كسر البيت خلواً، وإن يكن خروجٌ ففرداً ملصق الطّرف بالأرض أرى الشخص من بعدٍ فأغضي تغافلاً كمشدوه بالٍ في مهمته يمضي ويحسبني في غفلةٍ وفراستي على الفور من لمحي بما قد نوى تقضي أجانبهم سلماً ليسلم جانبي وليس لحقدٍ في النفوس ولا بغض تخلّيت عن قومي ولو كان ممكني تخلّيت عن بعضي ليسلم لي بعضي وقال: قالوا نراك عن الأكابر تعرض وسواك زوّارٌ لهم متعرّض قلت الزيارة للزمان إضاعةٌ وإذا مضى زمنٌ فما يتعوّض إن كان لي يوماً إليهم حاجةٌ فبقدر ما ضمن القضاء تقيّض وقال: حاول مفازك قبل أن يتحوّلا فالحال آخرها كحالك أولا إنّ المنيّ من المنيّة لفظه لتدلّ في أصل البناء على البلى وسماه بعضهم عبد المنعم، وذكره العماد في الخريدة وقال: هو صاحب البديع البعيد، والتوشيح والترشيح، والترصيع والتصريع، والتجنيس والتطبيق، والتوفيق والتلفيق، والتقريب والتقرير، والتعريف والتعريب، وهو مقيم

بدمشق، وقد أتى العسكر المنصور الناصري سنة 586 بظاهر ثغر عكا، وكتب إلى السلطان صلاح الدين وقد جرح فرسه: أيا ملكاً أفنى العداة حسامه ومنتجعاً أقنى العفاة ابتسامه لقاؤك يوماً في الزمان سعادةٌ فكيف بثاوٍ في حماك حمامه وعبدك شاكٍ دينه وهو شاكرٌ نداك الذي يغني الغمام غمامه ولي فرسٌ أصماه سهمٌ فردّه أثافيّ ربعٍ بالثلاث قيامه تعمر فيه بالجراحة ساحة وعطّل منه سرجه ولجامه أتينا لما عوّدتنا من مكارمٍ يلوذ بها الراجي فيشفى غرامه فرحماك غوثٌ لا يغيب نصيره ونعماك غيثٌ لا يغبّ انسجامه وله رحمه الله تعالى غير هذا، وترجمته واسعة. 263 - ومنهم الأستاذ أبو القاسم عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب بن عبد القدوس القرطبي، مؤلف المفتاح في القراءات، ومقرئ أهل قرطبة (1) ، رحل وقرأ القراءات على أبي علي الأهوازي، وبحرّان على أبي القاسم الرّيدي، وبمصر على أبي العباس ابن نفيس، وبمكّة على أبي العباس الكازريني، وسمع بدمشق من أبي الحسن ابن السمسار، وكان عجباً في تحرير القراءات ومعرفة فنونها، وكانت الرحلة إليه في وقته، ولد سنة 403، ومات في ذي القعدة سنة 461 (2) ، قرأ عليه أبو القاسم خلف ابن النحاس وجماعة، رحمه الله تعالى. 264 - ومنهم عبيد الله، وقيل عبد الله، بغير تصغير، ابن المظفر بن عبد الله بن محمد، أبو الحكم، الباهلي، الأندلسي (3) ، ولد بالمرية سنة 486،

_ (1) ترجمة عبد الوهاب بن محمد القرطبي في الصلة: 362 وغاية النهاية 1: 482. (2) الصلة: 462. (3) ترجمة الحكيم المغربي في وفيات الأعيان 2: 307 والخريدة (القسم الرابع 1: 369) وابن أبي أصيبعة 2: 240.

وحج سنة 516 وحج أيضاً سنة 518، ودخل دمشق وقرأ بصعيد مصر وبالإسكندرية، ثم مضى إلى العراق، وأقام ببغداد يعلم الصبيان وخدم السلطان محمود بن ملك شاه سنة 521، وأنشأ له معسكره مارستاناً ينقل على أربعين جملاً، فكان طبيبه، ثم عاد إلى دمشق ومات بها سنة 549، ودفن بباب الفراديس، وكان ذا معرفة بالأدب والطب والهندسة، وله ديوان شعر سمّاه نهج الوضاعة لأولي الخلاعة ذكر فيه جملة شعراء كانوا بمدينة دمشق كطالب الصوري ونصر الهيتي وغيرهما كعرقلة، وفيه نزهات أدبية، ومفاكهات غريبة، ممزوج جدّها بسخفها، وهزلها بظرفها، ورثى فيه أنواعاً من الدواب وأنواعاً من الأثاث وخلقاً من المغنين والأطراف، وشرح هذه الديوان ابنه الحكيم الفاضل أبو المجد محمد بن أبي الحكم الملقب بأفضل الدولة، وكان كثير الهزل والمداعبة، دائم اللهو والمطايبة، وكان إذا أتاه الغلام وما به شيء فيحس نبضه ثم يقول له: تصلح لك الهريسة، وكان أعور فقال فيه عرقلة: لنا طبيبٌ شاعرٌ أعورٌ أراحنا من طبّه الله ما عاد في صبحة يومٍ فتىً إلا وفي باقيه رثّاه وله أيضاً يرثيه: يا عين سحيّ بدمعٍ ساكبٍ ودم ... على الحكيم الذي يكنى (1) أبا الحكم قد كان لا رحم الرحمن شيبته ولا سقى قبره من صيّب الدّيم شيخاً يرى الصلوات الخمس نافلةً ويستحلّ دم الحجاج في الحرم ومن كنايات أبي الحكم المستحسنة قوله: ألم ترني أكابد فيك وجدي وأحمل منك ما لا يستطاع

_ (1) ق: يسمى.

إذا ما أنجم الجوّ استقلّت ومال الدلو وارتفع الذراع ومن شعره قوله: محاسن العالم قد جمّعت في حسنه المستكمل البارع وليس لله بسمتنكرٍ أن يجمع العالم في الجامع 265 - ومنهم أبو الربيع سليمان بن إبراهيم بن صافي، الغرناطي، القيساني، وقيسانة من عمل غرناطة، الفقيه المالكي، ولد سنة 564، وقدم القاهرة وناب في الحسبة، وله شعر حسن، توفي بالقاهرة سنة 634، رحمه الله تعالى. 266 - ومنهم طالوت بن عبد الجبار، المعافري، الأندلسي (1) ، دخل مصر، وحج ولقي إمامنا مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه، وعاد إلى قرطبة، وكان ممّن خرج على الحكم بن هشام بن عبد الرحمن من أهل ربض شقندة يريد خلعه وإقامة أخيه المنذر، وزحفوا إلى قصره بقرطبة، فحاربهم، وقتلهم، وفرّ من بقي منهم، فاستتر الفقيه طالوت عاماً عند يهودي، ثم ترامى على صديقه أبي البسّام الكاتب ليأخذ له أماناً من الحكم، فوشى به إلى الحكم، وأحضره إليه فعنفه ووبّخه، فقال له: كيف يحل لي أن أخرج إليك وقد سمعت مالك بن أنس يقول: سلطان جائرٌ مدةً خير من فتنة ساعة فقال: ألله تعالى لقد سمعت هذا من مالك فقال طالوت، اللهم إنّي قد سمعته، فقال: انصرف إلى منزلك وأنت آمن، ثم سأله: أين استتر فقال: عند يهودي مدة عام، ثم إنّي قصدت هذا الوزير فغدر بي، وغضب الحكم على أبي البسّام وعزله عن وزارته، وكتب عهداً أن لا يخدمه أبداً، فرؤي أبو البسّام بعد ذلك في فاقة وذل، فقيل: استجيبت فيه دعوة الفقيه طالوت، رحمه

_ (1) ترجمة طالوت في الذيل والتكملة 4: 150 والتكملة: 345 وابن القوطية: 75.

الله تعالى. 267 - ومنهم أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن محمد، ضياء الدين ونظامه، ابن خروف الأديب، القيسي، القرطبي، والقيذافي، الشاعر (1) ، قدم إلى مصر، ثم سار إلى حلب ومات بها متردياً في جب حنطة سنة 602، وقيل: في التي بعدها، وقيل: سنة خمس وستمائة، وله شرح كتاب سيبويه، وحمله إلى صاحب المغرب فأعطاه ألف دينار (2) ، وله شرح جمل الزجاجي، وكتبٌ في الفرائض وردٌّ على أبي زيد السهيلي، وغير ذلك (3) ، ومدح الأفضل ابن السلطان صلاح الدين ومدح الظاهر ابن الناصر أيضاً. وشعره جيد، فمنه قوله في كأس (4) : أنا جسمٌ للحميّا والحميّا لي روح بين أهل الظرف أغدو كلّ يومٍ وأروح

_ (1) المسمى علي بن محمد بن علي بن محمد المشهور بابن خروف وبالدريدنة، له ترجمة في الذيل والتكملة 5: 319 وصلة الصلة: 122 والتكملة رقم: 1884 ووفيات الأعيان 3: 22 وبرنامج الرعيني: 81 وجذوة الاقتباس: 307 ومعجم الأدباء 15: 75 وهذا هو ابن خروف النحوي الحضرمي الإشبيلي توفي بإشبيلية سنة 609 أما الشاعر فإنه اسمه علي بن محمد بن يوسف بن خروف القرطبي وله ترجمة في صلة الصلة: 114، والتكملة رقم: 1894 والذيل والتكملة 5: 396 ومسالك الأبصار 11: 480 وهذا هو المقري يخلط بين الاسمين فيترجم للشاعر تحت اسم النحوي وقد وقع في هذا الخلط ابن شاكر في الفوات 2: 160 والسيوطي في بغية الوعاة 354 وابن الساعي في الجامع المختصر: 306. (2) وله ... دينار سقط من ق. (3) قلت: صاحب هذه الشروح هو ابن خروف النحوي لا الشاعر، وشرحه على سيبويه يسمى " تنقيح الألباب في شرح غوامض الكتاب "؛ قال ابن عبد الملك: وكان كثير العناية بالرد على الناس فرد على إمام الحرمين ... وأبي القاسم السهيلي. (4) الفوات: 160.

وقال (1) في صبي حبس: أقاضي المسلمين حكمت حكماً غدا وجه الزّمان به عبوسا حبست على الدراهم ذا جمالٍ ولم تسجنه إذ سلب النّفوسا وقال: ما أعجب النيل ما أحلى شمائله في ضفّتيه من الأشجار أدواح من جنة الخلد فيّاضٌ على ترعٍ تهبّ فيها هبوب الريح أرواح ليست زيادته ماءّ كما زعموا وإنّما هي أرزاقٌ وأرباح والقيذافي: بقاف، ثم ياء آخر الحروف، بعدها ذال معجمة، ثم ألف وفاء. وله رسالة كتب بها إلى بهاء الدين بن شداد بحلب يطلب منه فروة، وهي: بهاء الدين والدّنيا ونور المجد والحسب طلبت مخافة الأنوا ... ء من جدواك (2) جلد أبي وفضلك عالم أني خروف بارع الأدب حلبت الدهر أشطره وفي حلبٍ صفا حلبي ذو الحسب الباهر، والنسب الزاهر، يسحب ذيول سير السيراء، ويحبّ النحاة من أجل الفرّاء (3) ، ويمن على الخروف النبيه، بجلد أبيه، قاني الصباغ، قريب عهد (4) بالدباغ، ما ضلّ طالب قرظه ولا ضاع، بل ذاع ثناء صانعه وضاع، إذا طهر إهابه، يخافه البرد ويهابه، أثيث خمائل الصوف، يهزأ

_ (1) ق: وله؛ والبيتان في الفوات أيضاً وكذلك سائر ما أورد له المقري من شعر ولم يورد في الفوات رسالته. (2) ق ودوزي: من حسناك. (3) ق ودوزي: ويحب النجاة من أهل (أجل) القراء، وهو مصحف. (4) ق: العهد.

بكل هوجاء عصوف، ما في اللباس له ضريب، إذا نزل الجليد والضريب، ولا في الثياب له نظير إذا عري من ورقه الغصن النّضير، والمولى يبعثه فرجيّ النوع، أرجيّ الضوع، يكون تارة لحافاً وتارة برداً، وهو في الحالين يحيي حرّاً ويميت برداً، لا كطيلسان ابن حرب، ولا كجلد عمرو الممزق بالضرب، إن عزاه السواد إلى حام فحام، أو نماه البياض إلى سام فسام، كأنّه من جلد جمل الحرباء، الذي يرعى القمر والنجم، لا من جلد السّخلة الجرباء، التي ترعى الشجر والنجم، لا زال مهديه سعيداً، ينجز للأخيار وعداً وللأشرار وعيداً، بالمنّة والطّول، والقوّة والحول. 268 - ومنهم مالك بن مالك، من أهل جيان، رحل حاجّاً فأدى الفريضة، وسكن حلب، ولقي عبد الكريم بن عمران، وأنشد له قوله: يا ربّ خذ بيدي مما دفعت له فلست منه على وردٍ ولا صدر الأمر ما أنت رائيه وعالمه وقد عتبت ولا عتبٌ على القدر من يكشف السوء إلاّ أنت بارئنا ومن يزيل بصفوٍ حالة الكدر 269 - ومنهم أبو علي ابن خميس، وهو منصور بن خميس بن محمد بن إبراهيم اللخمي من أهل المرية (1) . سمع من أبي عبد الله البوني (2) وابن صالح، وأخذ عنهما القراءات، وروى أيضاً عن الحافظ القاضي أبي بكر ابن العربي، وأبوي القاسم ابن رضا (3) وابن ورد وأبي محمد الرشاطي وأبي الحجّاج القضاعي وأبي محمد عبد الحق ابن عطية وأبي عمرو الخضر بن عبد الرحمن وأبي القاسم عبد الرحمن (4) بن محمد الخزرجي وغيرهم، ورحل حاجّاً فنزل الإسكندرية،

_ (1) ترجمة منصور بن خميس في التكملة: 711. (2) التكملة: الونتي. (3) ق: وأبوي القاضي ابن رضي ... الخ وهو خطأ. (4) كذا في ق ودوزي؛ وفي التكملة: وأبي القاسم عبد الرحيم؛ التجارية: عبد الحق.

وسمع منه أبو عبد الله بن عطية الداني سنة 596، وحدث عنه بالإجازة أبو العباس العزفي وغيره. 270 - ومنهم منصور بن لبّ بن عيسى، الأنصاري (1) ، من أهل المريّة، يكنى أبا علي، أخذ القراءات ببلده عن ابن خميس المذكور قبله، ورحل بعده، فنزل الإسكندريّة، وأجازه أبو الطاهر السّلفي في صغره (2) ، وقد أخذ عنه فيما ذكر بعضهم، ومولده سنة 571، رحمه الله تعالى. 271 - ومنهم مفرج بن حماد بن الحسين بن مفرج، المعافري (3) ، من أهل قرطبة، وهو جد ابن مفرج صاحب كتاب الاحتفال بعلم الرجال، صحب المذكور محمد بن وضاح في رحلته الثانية، وشاركه في كثير من رجاله، وصدر عن المشرق معه، فاجتهد في العبادة، وانتبذ عن الناس، ثم كرّ راجعاً إلى مكّة عند موت ابن وضاح، فنزلها واستوطنها إلى أن مات (4) ، فقبره هنالك. وقال في حقّه أبو عمر عفيف: إنّه كان من الصالحين، رحل فحجّ وجاور بمكّة نحو عشرين سنة إلى أن مات بها، رحمه الله تعالى. 272 - ومنهم محب بن الحسين (5) ، من أهل الثغر الشرقي، كانت له رحلة حج فيها، وسمع بالقيروان من أبي عبد الله ابن سفيان الكتاب الهادي في القراءات من تأليفه، وكان رجلاً صالحاً، حدث عنه أبو عبد الله محمد بن عبد

_ (1) ترجمة منصور بن لب في التكملة: 712. (2) كذا في التكملة؛ ق: في سفره. (3) ترجمة مفرج بن حماد المعافري في التكملة: 720، قال: يعرف بالقبشي، وحفيده هو الحسن ابن محمد بن مفرج ابو بكر. (4) زاد في ق: بها. (5) ترجمة محب بن الحسين في التكملة: 734.

الملك التجيبي من شيوخ أبي مروان ابن الصيقل. 273 - ومنهم مساعد بن أحمد بن مساعد، الأصبحي (1) ، من أهل أوريولة، يكنى أبا عبد الرحمن، ويعرف بابن زعوقة، روى عن ابن أبي تليد وابن جحدر، والحافظين أبي علي الصدفي وأبي بكر ابن العربي، وكتب إليه أبو بكر ابن غالب بن عطية، ورحل حاجّاً في سنة أربع وتسعين وأربعمائة، فأدى الفريضة سنة خمس بعدها، ولقي بمكّة أبا عبد الله الطبري، فسمع منه صحيح مسلم، مشتركاً في السماع مع أبي محمد ابن أبي جعفر الفقيه، ولقي أبا محمد ابن العرجاء وأبي بكر ابن الوليد الطرطوشي وأصحاب الإمام أبي حامد الغزالي وأبا عبد الله المازري وجماعة سواهم ساوى بلقائهم مشيخته، وانصرف إلى بلده فسمع منه الناس، وأخذوا عنه لعلو روايته، وكان من أهل المعرفة والصلاح والورع، وممن حدث عنه من الجلّة أبو القاسم ابن بشكوال، وأبو الحجاج الثغري الغرناطي، وأبو محمد عبد المنعم بن الفرس وغيرهم، وأغفله ابن بشكوال فلم يذكره في الصلة مع كونه روى عنه، وقال تلميذه أبو الحجاج الثغري الغرناطي: أخبرني أبو سليمان ابن حوط الله وغيره عنه، قال: أخبرني الحاج أبو عبد الرحمن ابن مساعد رضي الله تعالى عنه: أنّه لقي بالمشرق امرأة تعرف بصباح عند باب الصفا، وكان يقرأ عليها بعض التفاسير، فجاء بيت شعر شاهد، فسألت: هل له صاحب فسألوا الشيخ أبا محمد ابن العرجاء، فقال الشيخ: لا أذكر له صاحباً، فأنشدت: طلعت شمس من أحبّك ليلاً واستضاءت فما لها من مغيب إنّ شمس النّهار تغرب باللي ل وشمس القلوب دون غروب ولد في صفر سنة 468، وتوفّي بأوريولة سنة 545، قاله ابن سفيان.

_ (1) ترجمة مساعد بن أحمد الأصبحي في التكملة: 736.

274 - ومنهم أبو حبيب نصر بن القاسم (1) . قال ابن الأبار: أظنّه من أهل غرناطة، وله رحلة حج فيها، وسمع من أبي الطاهر السّلفي، وحدث عنه عن ابن فتح بمسند الجوهري، انتهى. 275 - ومنهم النعمان بن النعمان، المعافري (2) ، من أهل ميورقة منسوب إلى جده، رحل حاجّاً فأدى الفريضة وجاور بمكّة ثم قفل إلى بلده، واعتزل الناس، وكان يشار إليه بإجابة الدعوة، وتوفّي سنة 616رحمه الله تعالى ونفعنا به. 276 - ومنهم نعم الخلف بن عبد الله بن أبي ثور، الحضرمي (3) ، من أهل طرطوشة أو ناحيتها، رحل إلى المشرق، وأدى الفريضة، ولقي بمكة أبا عبد الله الأصبهاني، فسمع منه سنة 422، حدث عنه ابنه القاسم بن نعم الخلف بيسير. 277 - ومنهم نابت بن المفرج بن يوسف، الخثعمي (4) ، أصله من بلنسية، وسكن مصر يكنى أبا الزهر، قال السّلفي: قدم مصر بعد خروجي منها، وتفقّه على مذهب الشافعي، وتأدب، وقال الشعر الفائق، وكتب إليّ بشيء من شعره، ومات في رجب سنة 545بمصر. 278 - ومنهم ضمام بن عبد الله الأندلسي (5) ، رحل إلى المشرق،

_ (1) ترجمة نصر بن القاسم في التكملة: 748؛ وفي ق: صخر بن القاسم وهو مخالف لما في التكملة. (2) ترجمة النعمان بن النعمان المعافري في التكملة: 753. (3) ترجمة نعم الخلف بن ابي ثور في التكملة: 757. (4) ترجمة نابت بن المفرج في التكملة: 758. (5) ترجمة ضمام بن عبد الله في اتكملة: 770 والذيل والتكملة 4: 145 وجذوة المقتبس: 229 (وبغية الملتمس رقم: 858) .

ودخل بغداد، وهو ممّن يروي عن عبد السلام بن مسلمة (1) الأندلسي. وممّن روى عن ضمام أبو الفرج أحمد بن القاسم الخشاب البغدادي من شيوخ الدارقطني، قال ابن الأبار: هكذا وقع في نسخة عتيقة من تأليف الدارقطني في الرواة عن مالك في باب مسلمة منه ضمام - بالضاد المعجمة - وهكذا ثبت في رواية أبي زكريا ابن مالك بن عائذ عن الدارقطني، وقال فيه غيره: همّام بن عبد الله - بالهاء وتشديد الميم - وفي حرف الهاء أثبته أبو الوليد ابن الفرضي من تاريخه (2) ، والأول عندي أصح، والله تعالى أعلم، انتهى. 279 - ومنهم ضرغام بن عروة بن حجاج، بن أبي فريعة (3) ، واسمه زيد، مولى عبد الرحمن بن معاوية والداخل معه إلى الأندلس، من أهل لبلة، له رحلة إلى المشرق، وكان فقيهاً، ذكره الرازي. 280 - ومنهم عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر، المعافري (4) ، من أهل قرطبة، وأصله من الجزيرة الخضراء، وهو والد المنصور ابن أبي عامر ويكنى أبا حفص، سمع الحديث، وكتبه عن محمد بن عمر ابن لبابة وأحمد بن خالد ومحمد بن فطيس وغيرهم، ورحل إلى المشرق فأدى الفريضة، وكان من أهل الخير والدين والصلاح والزهد والقعود عن السلطان، وأثنى عليه الراوية أبو محمد الباجي وقال: كان لي خير صديق أنتفع به وينتفع بي، وأقابل معه كتبه وكتبي، ومات منصرفه ومن حجّه، ودفن بمدينة طرابلس المغرب، وقيل: بموضع يقال له رقّادة، وكان رجلاً عالماً صالحاً، وقال بعضهم: إنّه توفي في آخر خلافة عبد الرحمن الناصر.

_ (1) في الأصول: مسلم، والتصويب عن المصادر. (2) انظر تاريخ ابن الفرضي 2: 173. (3) ترجمة ضرغام بن عروة في التكملة: 770 والذيل والتكملة 4: 145. (4) ترجمة عبد الله بن أبي عامر المعافري في التكملة: 781.

281 - ومنهم أبو محمد بن عبد الله بن حمود، الزبيدي، الإشبيلي، ابن عم أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي اللغوي (1) ، كان من مشاهير أصحاب أبي علي البغدادي، ورحل إلى المشرق فلم يعد إلى الأندلس، ولازم السيرافي في بغداد إلى أن توفّي، فلازمه بعده صاحبه أبا علي الفارسي ببغداد والعراق، وحيثما جال، واتبعه إلى فارس، وحكى أبو الفتوح الجرجاني (2) أن أبا علي البغدادي غلّس لصلاة الصبح في المسجد، فقام إليه أبو محمد الزبيدي من مذود كان لدابته خارج الدار قد بات فيه أو أدلج (3) إليه ليكون أول وارد عليه، فارتاع منه، وقال: ويحك من تكون قال: أنا عبد الله الأندلسي، فقال له: إلى كم تتبعني والله إن على وجه الأرض أنحى منك. وكان من كبار النحاة وأهل المعرفة التامة والشعر، وجمع شرحاً لكتاب سيبويه، ويقال: إنّه توفّى ببغداد سنة 372. 282 - ومنهم عبد الله بن رشيق، القرطبي (4) ، رحل من الأندلس، فأوطن القيروان، واختص بأبي عمران الفاسي، وتفقّه به، وكان أديباً شاعراً عفيفاً خيّراً، وفي شيخه أبي عمران أكثر شعره، ورحل حاجّاً فأدى الفريضة، وتوفّي في انصرافه بمصر سنة 419، وأنشد له ابن رشيق في الأنموذج قوله رحمه الله تعالى: خير أعمالك الرضى بالمقادير والقضا

_ (1) ترجمة عبد الله بن حمود الزبيدي في التكملة: 783 والذيل والتكملة 4: 220 وطبقات الزبيدي 399 وبغية الوعاة: 282 وإنباه الرواة 2: 118 والمقري ينقل عن التكملة. (2) انظر هذه الحكاية في إنباه الرواة 2: 119 ومعجم الأدباء 14: 81. (3) ق ودوزي: أو دلج. (4) ترجمة عبد الله بن رشيق في التكملة: 793 والذيل والتكملة 4: 225 ومسالك الأبصار 11: 359.

بينما المرء ناضرٌ قيل: قد مات وانقضى وقوله: سأقطع حبلي من حبالك جاهداً وأهجر هجراً لا يجرّ لنا عرضا وقد يعرض الإنسان عمن يودّه ويلقى ببشرٍ من يسرّ له البغضا قال في الأنموذج: وأراد الحج فناله وجع فمات بمصر بعد اشتهاره فيها بالعلم والجلالة، وقد بلغ عمره نحو الأربعين سنة، رحمه الله تعالى، وهو مخالف لما قدمناه من أنّه أدى الفريضة، وقد ذكر ابن الأبار العبارتين، والله تعالى أعلم. 283 - ومنهم أبو بكر اليابري، ويكنى أيضاً أبا محمد، وهو عبد الله ابن طلحة بن محمد بن عبد الله (1) ، أصله من يابرة، ونزل هو إشبيلية، وروى عن أبي الوليد الباجي وعن جماعة بغرب الأندلس منهم أبو بكر ابن أيوب وأبو الحزم ابن عليم وأبو عبد الله ابن مزاحم البطليوسيّون وغيرهم، وكان ذا معرفة بالنحو والأصول والفقه وحفظ التفسير والقيام عليه، وحلّق به مدّة بإشبيلية وغيرها، وهو كان الغالب عليه مع القصص فيسرد منه جملاً على العامة، وكان متكلماً، وله ردّ على أبي محمد ابن حزم، وكان أحد الأئمّة بجامع العدبّس، ورحل إلى المشرق، فروى عن أبي بكر محمد بن زيدون بن علي كتابه المؤلف في الحديث المعروف بالزيدوني، وألف كتاباً في شرح صدر رسالة ابن أبي زيد، وبيّن ما فيها من العقائد، وله مجموعة في الأصول والفقه منها كتاب سمّاه المدخل إلى كتاب آخر سمّاه سيف الإسلام على مذهب مالك الإمام ألّفه للأمير علي بن تميم بن المعز الصنهاجي صاحب المهدية، وذكر

_ (1) ترجمة أبي بكر اليابري في التكملة: 815.

في فصل الحج منه أنّه رحل إلى المهدية سنة 514، واستوطن مصر مدة، ثم رحل إلى مكّة، وبها توفّي رحمه الله تعالى؛ وروى عنه أبو المظفر الشيباني وأبو محمد العثماني وأبو الحجاج يوسف بن محمد القيرواني وأبو عمرو عثمان ابن فرج العبدري وأبو محمد ابن صدقة المنكبي وأبو عبد الله ابن يعيش البلنسي وغيرهم، وكان سماع أبي الحجّاج منه موطأ مالك سنة 516، رحم الله تعالى الجميع. 284 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد بن مرزوق، اليحصبي، الأندلسي (1) ، رحل حاجّاً فسمع منه بالإسكندرية أبو الطاهر السّلفي كتاب طبقات الأمم لأبي القاسم صاعد بن أحمد الطليطلي، وحدّث به عنه عن ابن برّال عن صاعد. 285 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد، الصريحي، المرسي، ويعرف بابن مطحنة (2) ، روى عن أبي بكر ابن الفرضي النحوي، وتأدب به، ورحل إلى المشرق، ولقي أبا محمد العثماني وغيره، وحج، وقعد لتعليم الاداب، وممن أخذ عنه أبو عبد الله محمد بن عبد السلام وأبو عبد الله المكناسي وغيرهما، وأنشد رحمه الله تعالى قال: أنشدني أبو محمد عبد الله بن البيّاسي (3) بالإسكندريّة لنفسه: يمدّ الدهر من أجلي وعمري كما أنّي أمدّ من المداد لنا خطّان مختلفان جدّاً كما اختلف الموالي والمعادي فأكتب بالسواد على بياضٍ ويكتب بالبياض على السواد

_ (1) ترجمة ابن مرزوق اليصحبي في التكملة: 818. (2) ترجمة ابن مطحنة في التكملة: 830. (3) التكملة: ابن أبي اليابس.

وهذا نظير قول الآخر: ولي خطٌّ وللأيام خطٌّ وبينهما مخالفة المداد فأكتبه سواداً في بياضٍ وتكتبه بياضاً في سواد وبعضهم ينسب الأبيات الثلاثة السابقة للسّلفي الحافظ، فالله تعالى أعلم. 286 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن عيسى، الشّلبي (1) ، سمع من الصدفي وغيره، وكان من أهل الحفظ للحديث ورجاله والعلم بالأصول والفروع ومسائل الخلاف وعلم العربيّة والهيئة مع الخير والدين والزهد، وامتحن بالأمراء في قضاء بلده بعد أن تقلده نحو تسعة أعوام لإقامته الحق وإظهاره العدل حتى أدى ذلك إلى اعتقاله بقصر إشبيلية، ثم سرّح فرحل حاجّاً إلى المشرق، ودخل المهدية فلقي بها المازري، وأقام في صحبته نحو ثلاث سنين، ثم انتقل إلى مصر، وحج سنة 527، وأقام بمكّة مجاوراً، وحج ثانية سنة 528، ولقي بمكّة أبا بكر عتيق بن عبد الرحمن الأوريولي في هذه السنة، فحمل عنه، ودخل العراق وخراسان، وأقام بها أعواماً، وطار ذكره في هذه البلاد، وعظم شأنه في العلم والدين، وكان من بيت شرف وجاه في بلده عريض مع سعة الحال والمال، وتوفّي بهراة سنة 551، وقيل: إن وفاته سنة 548، وذكره العماد في الخريدة والسمعاني في الذيل، وأنشد له: تلوّنت الأيّام لي بصروفها فكنت على لونٍ من الصبر واحد فإن أقبلت أدبرت عنها وإن نأت فأهون بمفقودٍ لأكرم فاقد وولد سنة 484 بشلب، رحمه الله تعالى. 287 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن موسى، الأزدي، المرسي، ويعرف

_ (1) ترجمة عبد الله بن عيسى الشلبي في التكملة: 834 وسرد ابن الأبار نسبه أطول مما هنا.

بابن برطله (1) ، سمع من صهره القاضي الشهيد أبي علي الصدفي، ورحل حاجّاً سنة 510، فأدى الفريضة، وسمع من الطرطوشي والأنماطي والسّلفي وغيرهم، وانصرف إلى مرسية بلده، وكان حسن السّمت خاشعاً مخبتاً خيّراً متواضعاً نبيهاً نزهاً سالم الباطن، وحكى عن شيخه أبي عبد الله الرازي عن أبيه أنّه أخبره أن قاضي البرلس، وكان رجلاً صالحاً، خرج ذات ليلة إلى النّيل فتوضأ وأسبغ وضوءه، ثم قام فقرن قدميه وصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي، فسمع قائلاً يقول: لولا أناسٌ لهم سردٌ يصومونا وآخرون لهم وردٌ يقومونا لزلزلت أرضكم من تحتكم سحراً لأنّكم قوم سوء لا تبالونا قال: فتجوّزت في صلاتي، وأدرت طرفي فما رأيت شخصاً ولا سمعت حسّاً، فعلمت أن ذلك زاجر من الله تعالى. وقال ابن برطله رحمه الله تعالى: أنشدني أبو عامر قال: دخلت بعض مراسي الثغر، فوجدت في حجر منقوش هذه الأبيات: نزلت ولي أملٌ عودةٌ ولكنّني لست أدري متى ودافعني قدرٌ لم أطق دفاعاً لمكروهه إذ أتى ومن أمره في يدي غيره سيغلب إن لان وإن عتا فيا نازلاً بعدنا ههنا نحيّيك إن كنت نعم الفتى فسألت عن منشدها، فقيل لي: هو أبو بكر ابن أبي درهم الوشقي، وكان قد حج وأراد العودة، فقال هذه الأبيات، ورواها بعضهم رحلت مكان نزلت، وهو أصوب، وأبدل قوله يا نازلاً بيا ساكناً، والخطب سهل

_ (1) ترجمة عبد الله بن موسى بن برطله في التكملة: 841 ومعجم أصحاب الصدفي: 226.

فيه، وبعض يقول: إن الأبيات وجدت بجامع مصر، والله تعالى أعلم. 288 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد بن خلف بن سعادة، الداني، الأصبحي (1) ، لازم ابن سعد الخير، واحتذى أول أمره مثال خطّه فقاربه، وسمع منه، ثم رحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية من أبي الطاهر ابن عوف والسّلفي وغير واحد، قال التجيبي: كان معنا بالإسكندرية بالعادلية منها، وبقراءته سمعنا صحيح البخاري على السلفي سنة 573، قال: وأنشدني لشيخه الأستاذ أبي الحسن علي ابن إبراهيم بن سعد الخير البلنسي: يا لاحظاً تمثال نعل نبيه قبّل مثال النعل لا متكبرا والثم له (2) فلطالما عكفت به ... قدم النبي مروّحاً ومبكرا أولا ترى أن المحبّ مقبّلٌ طللاً وإن لم يلف فيه مخبرا وقد سبق ابن سعادة أبو عبد الله وهو غير هذا، والله تعالى أعلم. 289 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن يوسف، القضاعي، المري (3) ، سمع من أبي جعفر ابن غزلون صاحب الباجي وغير واحد، ورحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية من السّلفي والرازي، وتجول هنالك، وأخذ عنه أبو الحسن ابن المفضل المقدسي وغير واحد، وقال ابن المفضل: أنشدني المذكور، قال: أنشدني أبو محمد بن صارة: وكوكبٍ أبصر العفريت مسترقاً للسمع فانقضّ يدني خلفه لهبه

_ (1) ترجمة ابن سعادة الأصبحي في التكملة: 850 والذيل والتكملة: 227. (2) ق: به، وكذلك في التكملة. (3) ترجمة عبد الله بن يوسف القضاعي في التكملة: 856 وقال إن أصله من أندة.

كفارسٍ حلّ إعصارٌ (1) عمامته ... فجرّها كلّها من خلفه عذبه 290 - ومنهم شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن مهاجر، الوادي آشي، الحنفي (2) ، سكن طرابلس الشام، ثم انتقل إلى حلب، وأقام بها، وصار من العدول المبرزين في العدالة بحلب، ويعرف النحو والعروض، ويشتغل فيهما، وله انتماء إلى قاضي القضاة الناصر ابن العديم، قال الصفدي: رأيته بحلب أيام مقامي بها سنة 723 فرأيته حسن التودّد، وأنشدني لنفسه من لفظه: ما لاح في درعٍ يصول بسيفه والوجه منه يضيء تحت المغفر إلا حسبت البحر مدّ بجدول والشمس تحت سحائبٍ من عنبر قال الصفدي: جمع هذا المقطوع بين قول ابن عباد (3) : ولمّا اقتحمت الوغى دارعاً وقنّعت وجهك بالمغفر حسبنا محيّاك شمس الضحى عليها سحابٌ من العنبر وبين قول أبي بكر الرصافي (4) : لو كنت شاهده وقد غشي الوغى يختال في درع الحديد المسبل لرأيت منه والقضيب بكفّه بحراً يريق دم الكماة بجدول وقال يمدح الشيخ كمال الدين محمد بن الزملكاني وقد توجّه إلى حلب قاضي القضاة:

_ (1) التكملة: إحضار. (2) ترجمته في الوافي 7 الورقة: 66 وأعيان العصر (نسخة آياصوفيا رقم: 2962) : 73أوالدرر الكامنة 1: 182 والمقري ينقل عن الوافي. (3) ديوان المعتمد: 17 والقلائد: 8. (4) ديوان الرصافي البلنسي: 125 ولعلهما لغيره إذ كنية الرصافي البلنسي أبو عبد الله، وهذا يكنى أبا بكر.

يمنٌ ترنّم فوق الأيك طائره وطائرٌ عمّت الدنيا بشائره وسؤددٌ أصبح الإقبال ممتثلاُ في أمره ما أخوه العزّ آمره ومنها (1) : من مخبرٌ عني الشهباء أنّ كما ل الدين قد شيّدت فيه مقاصره وأنّ تقليده الزاهي وخلعته ال تي تطرّز عطفيها مآثره بالنفس أفديك من تقليد مجتهدٍ سواه يوجد في الدّنيا مناظره أنشدت حين أدار البشر كأس طلىً حكت أوائله صفواً أواخره وقد بدت في بياض الطّرس أسطره سوداً لتبدي ما أهدت محابره ساقٍ تكوّن من صبحٍ ومن غسقٍ فابيضّ خدّاه واسودّت غدائره وخلعة قلت إذ لاحت لتزرينا بالروض تطفو على نهر أزاهره وقد رآها عدوٌّ كان يضمر لي من قبل سوءاً فخانته ضمائره ورام صبراً فأعيته مطالبه وغيّض الدمع فانهلّت بوادره بعودة الدولة الغرّاء ثالثةً أمنت منك ونام الليل ساهره وقال أيضاً: تسعّر في الوغى نيران حربٍ بأيديهم مهنّدة ذكور ومن عجبٍ لظى قد سعّرتها جداول قد أقلّتها بدور وقال ملغزاً في قالب لبن: ما آكلٌ في فمين يغوط من مخرجين مغرىً بقبضٍ وبسطٍ وما له من يدين ويقطع الأرض سعياً من غير ما قدمين

_ (1) ومنها: سقطت من ق، وهي ثابتة في الوافي.

وخمّس لامية العجم مدحاً في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال الصفدي: ولمّا كنت في حلب كتب إليّ أبياتاً، انتهى. 291 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن صابر، القيسي (1) ، قال أبو حيان: كان المذكور رفيقاً للأستاذ أبي جعفر ابن الزبير شيخنا، وكان كاتباً مترسلاً شاعراً، حسن الخط، على مذهب أهل الظاهر، وكان كاتب أبي سعيد فرج ابن السلطان الغالب بالله بن الأحمر ملك الأندلس، وسبب خروجه من الأندلس أنّه كان يرفع يديه في الصلاة على ما صح في الحديث، فبلغ ذلك السلطان أبا عبد الله، فتوعده بقطع يديه، فضج من ذلك وقال: إن إقليماً تمات فيه سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى يتوعّد بقطع اليد من يقيمها لجدير أن يرحل منه، فخرج وقدم ديار مصر، وسمع بها الحديث، وكان فاضلاً نبيلاً، ومن شعره: أتنكر أن يبيضّ رأسي لحادثٍ من الدهر لا يقوى له الجبل الراسي وكان شعاراً في الهوى قد لبسته فرأسي أمّيٌّ وقلبي عباسي قلت: لو قال شيبي لكان الغاية. وأنشد له بعضهم: فلا تعجبا ممّن عوى خلف ذي علاً لكلّ عليٍّ في الأنام معاويه قلت: لا يخفى ما فيه من عدم سلوك الأدب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين (2) ، ويرحم الله بعض الأندلسيين حيث قال في رجز كبير: ومن يكن يقدح في معاويه فذاك كلبٌ من كلابٍ عاوية

_ (1) ترجمة أحمد بن صابر القيسي في المنهل الصافي 1: 299. (2) أجمعين: سقطت من ق.

وأنشد أبو حيان للمذكور: أرى الدهر ساد به الأرذلو ن كالسّيل يطفو عليه الغثا ومات الكرام وفات المديح فلم يبق للقول إلا الرثا وأنشد له أيضاً: لولا ثلاثٌ هنّ والله من أكبر آمالي في الدنيا حجٌّ لبيت الله أرجو به أن يقبل النيّة والسعيا والعلم تحصيلاً ونشراً إذا رويت أوسعت الورى ريّا وأهل ودٍّ أسأل الله أن يمتع بالبقيا إلى اللقيا ما كنت أخشى الموت أنّى أتى بل لم أكن ألتذّ بالمحيا وقال أبو حيان في هذه المادة: أما إنّه لولا ثلاثٌ أحبّها تمنيت أنّي لا أعدّ من الأحيا فمنها رجائي أن أفوز بتوبةٍ تكفّر لي ذنباً وتنجح لي سعيا ومنهم صوني النفس عن كلّ جاهل لئيمٍ فلا أمشي إلى بابه مشيا ومنهن أخذي بالحديث إذا الورى نسوا سنّة المختار واتبعوا الرأيا أتترك نصّاً للرسول وتقتدي ... بشخص لقد بدّلت بالرشد الغيّا (1) 292 - ومنهم الأستاذ أبو القاسم ابن الإمام القاضي أبي الوليد الباجي، سكن سرقسطة وغيرها، وروى عن أبيه معظم علمه، وخلفه بعد وفاته في حلقته وغلب عليه علم الأصول والنظر، وله تآليف تدل على حذقه: منها العقيدة في المذاهب السديدة ورسالة الاستعداد للخلاص من المعاد،

_ (1) زاد في ق ق بعد هذا لفظة " انتهى ".

وكان غاية في الورع، توفّي بجدة بعد منصرفه من الحج سنة 493، رحمه الله تعالى. 293 - ومنهم الإمام الفاضل الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الساحلي الغرناطي (1) . قال العز بن جماعة: قدم علينا من المغرب سنة 724، ثمّ رجع إلى المغرب في هذه السنة، وبلغنا أنّه توفّي بمراكش سنة نيّف وأربعين وسبعمائة (2) ، وأنشد والدي قصيدةً من نظمه امتدحه بها، وأنا أسمع، ومن خطه نقلت، وهي: قفا مورداً عيناً جرت بعدكم دما أناضي أسفارٍ طوين على ظما غدون أهلاّتٍ تناقل أنجماً ورحن حنيّات تفوّق أسهما يجشّمها الحادي الأمرّين حسّراً ويوطئها الحادي الأحرّين هيّما على منسميها للشقائق منبتٌ وفي فمويها للشقاشق مرتمى إلى أن قال: وتعساً لآمالٍ جهامٍ سحابها تزجّى ركاماً ما استهلّ ولا همى تجاذبها نفسٌ تجيش نفيسةً ومن لم يجد إلا صعيداً تيمّما فهل ذممٌ يرعاه ليلٌ طويته طواني سرّاً بين جنبيه منهما أقبّل منه للبروق مباسما وأرشف من بهماء ظلمائه لمى إلى أن تجلّى من كنانة بدرها فعرّس ركبي في حماه وخيّما

_ (1) ترجمة إبراهيم بن محمد الساحلي في الإحاطة 2: 337 والكتيبة الكامنة: 235 ومسالك الأبصار 11: 516 وقد ترجم له ابن الخطيب أيضاً في التاج وعائد الصلة وابن الأحمر في نثير الجمان وفي فرائد نثير الجمان الورقة: 52 وما بعدها. وهذا هو الطويجن وترجمته هنا مكررة وقد وردت في النفح برقم: 116. (2) قلت: قد مر من قبل أنه توفي بتنبكتو سنة 744.

ثمال اليتامى حيث ليس مظللٌ وكهف الأيامى أيّما عزٌّ مرتمى ومنها: فيا كفّه هل أنت أم غيث ديمةٍ أسالت عباباً في ثرى الجود عيلما ويا سعيه يهنيك أجرٌ ثنى به على معطفي علياه برداً مسهّما قضى بمنىً أوطار نفسٍ كريمةٍ وروّى صداها حين حلّ بزمزما وناداه داعي الحق حيّ على الهدى فأسرج طوعاً في رضاه وألجما فلله ما أهدى وأرشد واهتدى ولله ما أعطى وأوفى وأنعما ومنها: أمتّ بآدابٍ وعلمٍ كليهما أقاما لديك الدّعي فرضاً وألزما وهي طويلة. 294 - ومن الراحلين من الأندلس الوليد بن هشام، من ولد المغيرة بن عبد الرحمن الداخل فيما حكى بعض المؤرخين (1) ، خرج من الأندلس على طريقة الفقر والتجرّد، ووصل برقة بركوة لا يملك سواها فعرف بأبي ركوة، وأظهر الزهد والعبادة، واشتغل بتعليم الصبيان وتلقينهم القرآن، وتغيير المنكر، حتى خدع البربر بقوله وفعله، وزعم أن مسلمة بن عبد الملك بشّر بخلافته بما كان عنده من علم الحدثان، وكان يقال عن مسلمة: إنّه أخذ علم الحدثان عن خالد بن يزيد بن معاوية، وأخرج لهم أرجوزة أسنده إلى مسلمة، ومنها في وصفه: وابن هشامٍ قائمٌ في برقه به ينال عبد شمسٍ حقّه

_ (1) انظر أخبار أبي ركوة في الدرة المضية 6: 275 واتعاظ الحنفا: 304 وتاريخ ابن خلدون 4: 58 وابن الأثير 9: 197 - 203.

يكون في بربرها قيامه وقرّة العرب لها إكرامه واتفق أن قرة انحرفوا عن الحاكم فمالوا إليه، وحصروا معه مدينة برقة حتى فتحوها، وخطبوا له فيها بالخلافة، وكان قيامه في رجب سنة 397، فهزم عسكر باديس الصّنهاجي صاحب إفريقية وعسكر الحاكم بمصر، وأحيا أمره، وخاطبه بطانة الحاكم لكثرة خوفهم من سفك الحاكم الدماء، ورغبوه في الوصول إلى أوسيم، وهو مكان بالجيزة قبالة القاهرة، فلمّا وصل إليها قام بمحاربته الفضل بن صالح القيام المشهور إلى أن هزم أبا ركوة، ثم جاء به إلى القاهرة، فأمر الحاكم أن يطاف به على جمل، ثم قتل صبراً في 13 رجب سنة 399، ولما حصل في يد الحاكم كتب إليه: فررت ولم يغن الفرار، ومن يكن مع الله لم يعجزه في الأرض هارب ووالله ما كان الفرار لحاجةٍ سوى فزعي الموت الذي أنا شارب وقد قادني جرمي إليك برمّتي كما اجترّ ميتاً في رحى الحرب سالب وأجمع كلّ الناس أنّك قاتلي فيا ربّ ظنٍّ ربّه فيه كاذب وما هو إلاّ الانتقام وينتهي وأخذك منه واجباً وهو واجب ولأبي ركوة المذكور أشعار كثيرة، منها قوله: بالسّيف يقرب كلّ أمرٍ ينزح فاطلب به إن كنت ممّن يفلح وله: على المرء أن يسعى لما فيه نفعه وليس عليه أن يساعده الدهر وقوله: إن لم أجلها في ديا ر العدا تملأ وعر الأرض والسّهلا فلا سمعت الحمد من قاصدٍ يوماً ولا قلت له أهلا

وله غير ذلك ممّا يطول، وخبره مشهور. 295 - ومنهم أبو زكريا الطليطلي، يحيى بن سليمان (1) ، قدم إلى الإسكندرية، ثم رحل إلى الشام واستوطن حلب، وله ديوان شعر أكثر فيه من المديح والهجاء، قال بعض من طالعه: ما رأيته مدح أحداً إلا وهجاه، وله مصنفات في الأدب، ومن نظمه قوله: أرضٌ سقت غيطانها أعطانها وزهت على كثبانها قضبانها ومنها: فتكت بألباب الكماة فسيفها من طرفها وسنانها وسنانها لم يبق شخصٌ بالبسيطة سالماً إلاّ سبى إنسانه إنسانها ومنها: وتصاحبت وتجاوبت أطيارها وتداولت وتناولت ألحانها وتنسّمت وتبسّمت أيامها وتهلّلت وتكلّلت أزمانها بمديرها ومنيرها ونميرها ومعيرها حسناً جلاه عيانها 296 - ومنهم أبو بكر يحيى بن عبد الله بن محمد، القرطبي، المعروف بالمغيلي (2) ، سمع من محمد بن عبد الملك بن أيمن وقاسم بن أصبغ وغيرهما، ورحل فسمع من أبي سعيد ابن الأعرابي، وكان بصيراً بالعربية والشعر، ومؤلفاً جيد النظر حسن الاستنباط، حدّث، وتوفّي فجأة في شهر ربيع الأول سنة 362، قاله ابن الفرضي.

_ (1) ق: سلمان. (2) ترجمة يحيى بن عبد الله المغيلي في ابن الفرضي 2: 188.

297 - ومنهم الإمام المحدث أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن يحيى ابن سلمة، الأنصاري، الغرناطي، قدم المشرق وتوفّي بمصر سنة 703 عن نحو خمسين سنة، بالبيمارستان المنصوري، قال قاضي القضاة عبد العزيز ابن جماعة الكناني في كتابه نزهة الألباب (1) ": أنشدنا المذكور لنفسه بالقاهرة، بعد قدومه من مكّة والمدينة، وقد رام أن يعود إليهما فلم يتيسّر له: لئن بعدت عنّي ديار الذي أهوى فقلبي على طول التباعد لا يقوى فحدّث رعاك الله عن عرب رامةٍ فإنّي لهم عبدٌ على السرّ والنجوى فإن متّ شوقاً في الهوى وصبابةً فيا شرفي إن متّ في حبّ من أهوى فيا أيّها العذّال كفّوا ملامكم فما عندكم بعض الذي بي من الشكوى ويا جيرة الحيّ الذي ولهي بهم أما ترحموا صبّاً يحنّ إلى حزوى ويا أهل ذيّاك الحمى وحياتكم يمين وفيّ صادق القول والدّعوى ملكتم قيادي فارحموا وترفّقوا فأنتم مرادي لا سعاد ولا علوى فمالي سواكم سادتي لاعدمتكم فجودوا بوصلٍ أنتم الغاية القصوى انتهى. 298 - ومنهم الفاضل الأديب أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن علي (2) ، الغرناطي، قال ابن جماعة في الكتاب المسمى قريباً أنشدني المذكور لنفسه، على قبر سيّدنا حمزة رضي الله تعالى عنه: يا سيّد الشّهداء بعد محمدٍ ورضيع ذي المجد المرفّع أحمد يا ابن الأعزّة من خلاصة هاشمٍ سرج المعالي والكرام المجدّ يا أيّها البطل الشّجاع المحتمي دين الإله ببأسه المستأسد يا نبعة الشرف الأصيل المعتلي يا ذروة الحسب الأثيل الأتلد

_ (1) ق: الأولياء؛ وفي كشف الظموم: نزهة الألباب؛ ودوزي: الألباء. (2) ترجمته في الدرر الكامنة 4: 96.

يا نجدة الملهوف في قحم الوغى عند التهاب جحيمها المتوقّد يا غيث ذي الأمل البعيد مرامه يا غوث موتور الزمان الأنكد يا من لعظم مصابه خصّ الأسى قلب الرسول وعمّ كلّ موحد يا حمزة الخير المؤمّل نفعه يوم الهياج وعند فقد المنجد وافاك يا أسد الإله وسيفه وفدٌ ألمّوا من حماك بمعهد جئناك يا عمّ الرّسول وصنوه قصد الزيارة فاحتفل بالقصّد واسأل إلهك في اغتفار ذنوبنا شيم المزور قيامه بالعوّد لذنا بجانبك الكريم توسّلاً وكذا العبيد ملاذهم بالسّيّد فاشفع لضيفك فالكريم مشفّعٌ عند الكريم ومن يشفّع يقصد يا ابن الكرام المكرمين نزيلهم أهل المكارم والعلا والسؤدد نزل الضيوف جناب ساحتك التي منها يؤمّل كلّ عطفٍ مسعد فاجعل أبا يعلى قرانا عطفةٌ وارغب لربّك في هدانا واقصد فعسى يمنّ على الجميع بتوبةٍ يهدى بها نهج الطريق الأرشد فقد اعتمدنا منك خير وسيلةٍ نرجو بها حسن التجاوز في غد لم لا تؤمّ وأنت عمّ محمدٍ ولدينه قد صلت صولة أيّد وصحبته ونصرته وعضدته وذببت عنه باللسان وباليد وبذلت نفسك في رضاه بجنّة فقبلت في ذات الإله الأوحد فجزاك عنّا الله خير جزائه وسقى ثراك حيا الغمام المرعد وعلى رسول الله منه سلامه وعليك متّصل الرضى المتجدّد ولد ببعض أعمال غرناطة قبل التسعين وستمائة، وتوفّي بالمدينة الشريفة طابة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام سنة 715، ودفن بالبقيع، رحمه الله تعالى، انتهى. 299 - ومنهم الشيخ نور الدين أبو الحسن المايرقي، من أقارب بعض

ملوك المغرب، وكان من الفضلاء العلماء الأدباء، وله مشاركة جيدة في العلوم ونظم حسن، ومنه قوله: القضب راقصةٌ، والطير صادحةٌ والنشر مرتفعٌ، والماء منحدر وقد تجلّت من اللذات أوجهها لكنّها بظلال الدوح تستتر فكلّ وادٍ به موسى يفجّره وكلّ روضٍ على حافاته الخضر وقوله: وذي هيفٍ راق العيون انثناؤه بقدٍّ كريّانٍ من البان مورق كتبت إليه: هل تجود بزورةٍ فوقّع لا خوف الرقيب المصدق فأيقنت من لا بالعناق تفاؤلاً كما اعتنقت لا ثم لم تتفرق وهذا أحسن من قول ذي القرنين ابن حمدان (1) : إنّي لأحسد لا في أحرف المصحف إذا رأيت اعتناق اللام وللألف وما أظنّهما طالاجتماعهما إلاّ لما لقيا من لوعة الأسف وأحسن من هذا قول القيسراني: أستشعر اليأس في لا ثم تطعمني إشارة في اعتناق اللام للألف وكانت وفاة أبي الحسن المذكور في ربيع الأول سنة 655، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى، والأبيات التي أولها القضب راقصة ... الخ نسبها له اليونيني وغير واحد، والصواب أنها ليست له، وإنّما هي لنور الدين ابن سعيد صاحب المغرب، وقد تقدم ذكره، ولعل السهو سرى من تشارك الاسم واللقب والقطر، ومثل هذا كثيراً ما يقع، والله تعالى أعلم. 300 - ومن الراحلين من أهل الأندلس إلى المشرق ابن عتبة الإشبيلي،

_ (1) انظر اليتيمة 1: 106.

وكان فارق إشبيلية حين تولاها ابن هود، واضطرمت بفتنته الأندلس ناراً، ولما قدم مصر هارباً من تلك الأهوال تغيرت عليه البلاد، وتعدّلت به الأحوال، فلمّا سئل عن حاله، بعد بعده عن أرضه وترحاله، بادر وأنشد (1) : أصبحت في مصر مستضاماً أرقص في دولة القرود واضيعة العمر في أخيرٍ مع النصارى أو اليهود بالجدّ رزق الأنام فيهم لا بذواتٍ ولا جدود لا تبصر الدهر من يراعي معنى قصيدٍ ولا قصود أودّ من لؤمهم رجوعاً للغرب في دولة ابن هود وتذكرت بقوله أرقص في دولة القرود ما وقع لأبي القاسم ابن القطان، وهو ممّا يستطرف ويستظرف، وذلك انّه لما ولي الوزارة الزينبيّ دخل عليه أبو القاسم المذكور والمجلس حافل بالرؤساء والأعيان، فوقف بين يديه ودعا له، وأظهر الفرح والسرور، ورقص، فقال الوزير لبعض من يفضي إليه بسره: قبح الله هذا الشيخ، فإنّه يشير برقصه إلى قول الشاعر: وأرقص للقرد في دولته 301 - ومن المرتحلين أبو عبد الله ابن جابر محمد بن جابر الضرير (2) ، من أهل المرية، ويعرف بشمس الدين بن جابر الضرير، وله ترجمة في الإحاطة ذكرناها مع زيادة عليها عند تعرضنا لأولاد لسان الدين ابن الخطيب، رحمه الله تعالى، ورحل إلى المشرق ودخل مصر والشام واستوطن حلب، وهو صاحب البديعية المعروفة ببديعية العميان، وله أمداح نبوية كثيرة وتواليف: منها شرح ألفية ابن مالك وغير ذلك، وله ديوان شعر وأمداح نبوية في غاية الإجادة، ومن نظمه رحمه الله تعالى مورّياً بأسماء الكتب:

_ (1) الأبيات في اختصار القدح: 164 ومعها ترجمته وانظر المغرب 1: 258. (2) قد مرت الإشارة إلى ابن جابر الهواري الضرير وترجمته، ج 1: 38.

عرائس مدحي كم أتين لغيره فلمّا رأته قلن هذا من الأكفا نوادر آدابي ذخيرة ماجدٍ شمائل كم فيهن من نكت تلفى مطالعها هنّ المشارق للعلا قلائد قد راقت جواهرها رصفا رسالة مدحي فيك واضحةٌ، ولي مسالك تهذيبٍ لتنبيه من أغفى فيا منتهى سؤلي ومحصول غايتي لأنت امرؤٌ من حاصل المجد مستصفى وقد اشتملت هذه الأبيات الخمسة على التورية بعشرين كتاباً، وهي: العرائس للثعالبي، والنوادر للقالي وغيره والمطالع لابن قرقول وغيره والمشارق للقاضي عياض وغيره، والذخيرة لابن بسام وغيره، والشمائل للترمذي، والنكت لعبد الحق الصقلي وغيره، والقلائد لابن خاقان وغيره، ورصف المباني في حروف المعاني للأستاذ ابن عبد النور، وهو كتاب لم يصنف في فنّه مثله، والرسالة لابن أبي زيد وغيره، والواضحة لابن حبيب، والمسالك للبكري وغيره، والجواهر لابن شاس وغيره، والتهذيب في اختصار المدونة وغيره، والتنبيه لأبي إسحاق وغيره، ومنتهى السؤل لابن الحاجب، والمحصول للإمام الرازي، والغاية للنووي (1) وغيره، والحاصل مختصر المحصول، والمستصفى للغزالي، وما أحسن قول الحكيم موفّق الدين: لله أيامنا والشّمل منتظمٌ نظماً به خاطر التفريق ما شعرا والهف نفسي على عيشٍ ظفرت به قطعت مجموعه المختار مختصرا وهذه ثلاثة كتب مشهورة: المختارو المجموع والمختصر وأحسن منه قول الآخر: عن حالتي يا نور عين لا تسل ترك الجواب جواب تلك المسأله

_ (1) وغيره: سقطت من ق.

حالي إذا حدّثت لا لمعاً ولا جملاً لإيضاحي بها من تكمله عندي جوىً يذر الفصيح مبلداً فاترك مفصّله ودونك مجمله القلب ليس من الصحاح فيرتجى إصلاحه، والعين سحبٌ مثقله وقد أوردنا في ترجمة أبي عبد الله ابن جزي الكاتب (1) الأندلسي جملة مستكثرة في التورية بأسماء الكتب فلتراجع ثمة. رجع إلى الشمس بن جابر فنقول: ومن نظمه رحمه الله تعالى تثمينه للأبيات المشهورة: لم يبق فيّ اصطبار مذ خلّفوني وساروا وللحبيب أشاروا جار الكرام فجاروا لله ذاك الأوار بانوا فما الدار دار يا بدر أهلك جاروا وعلّموك التّجرّي كانوا من الودّ أهلي ما عاملوني بعدل أصموا فؤادي بنبل يا بين بيّنت ثكلي يا روح قلبي قل لي أهم دعوك لقتلي وحرّموا لك وصلبي وحلّلوا لك هجري

_ (1) الكاتب: سقطت من ق.

حسبي وماذا عناد هم المنى والمراد وإن عن الحقّ حادوا أو جاملوني وجادوا يا من به الكلّ سادوا والكلّ عندي سداد فليفعلوا ما أرادوا فإنّهم أهل بدر وتذكرت بهذا قول أبي البركات أيمن (1) بن محمد السعدي رحمه الله تعالى: للعاشقين انكسار وذلّةٌ وافتقار وللملاح افتخار وعزّةٌ واقتدار وأهل بدري أشاروا وودعوني وساروا يا بدر إلخ. كتبت والوصل يملي جدّ الهوى بعد هزل وحار ذهني وعقلي ما بين بدري وأهلي يا بدر فاحكم بعد إذا أتوك بعذل وحرّموا إلخ. لولا هواك المراد ما كنت ممن يصاد ولا شجاني البعاد يا بدر أهلك جادوا غلطت جاروا وزادوا لكنّهم بك سادوا فليفعلوا إلخ.

_ (1) أيمن: سقطت من ق.

رجع إلى ابن جابر، فنقول: توفّي رحمه الله تعالى في إلبيرة في جمادى الآخرة سنة 780، ومن نظمه قوله: يا أهل طيبة في مغناكم قمر يهدي إلى كل محمود من الطّرق كالغيث في كرم، والليث في حرم والبدر في أفق، والزهر في خلق وله: ولمّا وقفنا كي نودّع من نأى ولم يبق إلا أن تحثّ الركائب بكينا وحقٌّ للمحبّ إذا بكى عشيّة سارت عن حماه الحبائب وقال: أمّا معاني المعاني فهي قد جمعت في ذاته فبدت ناراً على علم كالبدر في شيمٍ، والبحر في ديمٍ والزهر في نعمٍ، والدهر في نقم وقال: ضحكت فقلت كأنّ جيدك قد غدا يهدي لثغرك من جواهر عقده وكأنّ ورد الخدّ منك بمائه قد شاب عذب لماك حالة ورده وقال (1) : منعتنا قرى الجمال وقالت: ليس في غر زادنا من مجال فأقمنا على الرحال وقلنا ما لنا حاجةٌ بحطّ الرّحال

_ (1) ق: وقوله.

وقال: عذّب قلبي رشأٌ ناعمٌ أسهر جفني طرفه الناعس يحرس باللحظ جنى خدّه يا ليته لو غفل الحارس وله: وافيت ربعهم وقد بعد المدى ونأى الفريق من الديار وسارا ما كدت أعرف بعد طول تأمّلٍ داراً بها طاف السرور ودارا وله: ولست أرى الرجال سوى أناسٍ همومهم موافاة الرجال أطالوا في النّدى إهلاك مال فعاشوا في الأنام ذوي كمال وقال: أيّها المتهمون نفسي فداكم أنجدوني على الوصول لنجد وقفوا بي على منازل ليلى فوجودي هناك يذهب وجدي وما كتبه على كتاب نسيم الصّبا لابن حبيب، وصورته: لما وقفت على الفصول الموسومة بنسيم الصّبا، المرسومة في صفحات الحسن فإذا أبصرها اللبيب صبا، انتعش بها الخاطر انتعاش النبت بالغمام، وهمت سحائب بيانها فأثمرت حدائق الكلام، وأخرجت أرض القرائح ما فيها من النبات، وسمعت الآذان صخبة الأذهان بهذه الأبيات: هذي فصول الربيع في الزمن كم حسنٍ أسندت إلى حسن

رقّت وراقت فمن شمائلها بمثل صرف الشّمول تتحفني كم ملحٍ قد حوت وكم لمحٍ يعجبني لفظها ويعجزني كم فيه من نفثٍ ومن نكتٍ أشهدني حسنها فأدهشني جمعٌ عدمنا له النظير فلا يصرف عن خاطرٍ ولا أذن يا خير أهل العلا وبحرهم أيّ بديع الكلام لم ترني بدرك في مطلع الفضائل لا يكون مثلٌ له ولم يكن هذي الفصول التي أتيت بها قد أفحمت كلّ ناطقٍ لسن كم فنّ معنىً بها يذكّرني شجوي لشدو الحمام في فنن فمن نسيبٍ مع النسيم جرى لطفاً فأزرى بالجوهر الثمن وحسن سجعٍ كالزّهر في أفقٍ والزّهر في ناعمٍ من الغصن له معانٍ أعيت مداركها كلّ معانٍ بنيلهن عني لا زال راقٍ للمجد راقمها ذا سننٍ حاز أحسن السنن فصول، هي للحسن أصول، وشمول، لها على كل القلوب شمول، ليس لقدامة على التقدم إليها حصول، ولا لسحبان لأن يسحب ذيلها وصول، ولا انتهى قسّ الإياديّ لهذه الأيادي، ولا ظفر بديع الزمان بهذه البدائع الحسان، لقد قصّر فيها حبيب عن ابنه، وحار بين لطافة فضله وفضل ذهنه، نزهت في طرف خمائلها، ونبهت بلطف شمائلها، تالله إنّها لسحر حلال، وخلال ما مثلها خلال، كلام كلّه كمال، ومجال لا يرى فيه إلا جمال، راقم بردها، وناظم عقدها، في كل فصل، جاء بكمال فضل، وفي كل معنى، عمر بالبراعة مغنى، أعرب فأغرب، وأوجز فأعجز، وأطل فأطاب، وأجاد حين أجاب، فما أنفس فرائده، وأنفع فوائده، وأفصح مقاله، وأفسح مجاله، وأطوع للنظم طباعه، وأطول في النثر باعه، وأزاهر نبتت في كتاب، وجواهر تكوّنت من ألفاظ عذاب، ومواهب لا تدرك

بيد اكتساب، فسبحان من يرزق منيشاء بغير حساب، فصول أحلى في الأفواه من الشّهد، وأشهى إلى النواظر من النوم بعد السّهد، سكب أدبها في قالب النكت الحسان، وذهب بمحامد عبد الحميد ومحاسن حسّان، فما أحقّها أن تسمى فصول الربيع، وأصول البديع، لا زال حسنها يملأ الأوراق بما راق، ويزين الآفاق بما فاق، ولا برحت حدائق براعته نزهة للأحداق، وحقائق بلاغته في جيد الإجازة بمنزلة الأطواق، بمنّ الله تعالى وكرمه، انتهى. وحيث جرى ذكر كتاب نسيم الصّبا فلا بأس بأن نذكر تقاريظ العلماء له، فمن ذلك قول القاضي شرف الدين بن ريان: وقفت على هذا الكتاب الذي أبد ع فيه مؤلفه، ونظم فيه الجواهر النفيسة مصنفه، وأينعت حدائق أدبه فدنا ثمرها لمن يقطفه، وعرفت مقدار ما فيه من الإنشاء وأين من يعرفه، فوجدته ألطف من اسمه، وأحسن من الدرر في نظمه، وأطيب من الورد عند شمّه، هبّت على رياض فصوله نسيم صباها، ففاقت الأزهار في رباها، وتشوقت قلوب الأدباء إلى انتشاق شذاها وطيب ريّاها، وفاضت عليه أنوار البدر فأغنى سناها، عن الشمس وضحاها، وتحلّت نحور البلغاء من كلامه بالدر اليتيم، ومن معانيه بالعقد النظيم، وترنّحت أفنان فنون الفصاحة لما هبّ عليها ذلك النسيم، كل فصل له في الفضل أسلوب على بابه، وطريق انفرد به منشئه محاسن لا توجد إلاّ في كتابه، صدر هذا الكتاب عن علم سابق وفكر ثاقب وذهن رائق ونفس صادق، وروية ملأت تصانيفها المغارب والمشارق، وقريحة إذا ذقت جناها، وشمت سناها، تذكرت ما بين العذيب وبارق، فالله تعالى يبقي مصنفه قبلة لأهل الأدب ويديمه، ويبلغه من سعادة الدنيا والآخرة ما يرومه، بمنّه وكرمه، انتهى. وقرظ عليه بعضهم بقوله: وقف المملوك سليمان بن داود المصري على فصول الحكم من هذه الفصول، ووجد من نسيم الصّبا أمارات القبول، ونزّه طرفه في رياض هذا الكتاب، وخاطب فكره العقيم في وصفه فعجز عن

رد الجواب: ماذا أقول وكلّ وصفٍ دونه أين الحضيض من السّماك الأعزل يا لها كلمات نقصت قدر الأفاضل، وفضحت فصحاء الأوائل، وسحبت ذيل الفصاحة على سحبان وائل، وزادت في البلاغة على فريد، وغيرت حال القدماء فما عبد الرحيم الفاضل وما عبد الحميد (1) ، وذلت لها تشبيهات ابن المعتز طوعاً، وملكت زمام البيان فما تركت للبديع منه نوعاً: قطف الرجال القول حين نباته وقطفت أنت القول لما نوّرا وخطاب أعجز الخطباء وصفه، وجواب ألغى البلغاء رصفه، وغرائب تعرّفت بمبديها، وشوارد تألفت بمهديها، وجنان بلاغة لم يطمث أبكارها إنسّ قبلك ولا جانٌ، ولم يقطف أزهارها عين ناظر ولا يد جانٍ، معانٍ تطرب السمع لها حكم وأحكام، وألفاظ هي الأرواح للأرواح أجسام، فلمّا ألقى فهمه عروة المتماسك، وضاقت عليه في وصفه المسالك، وعجز عن وصف بلوغ بلاغته عطف على حسن كتابته فرأى قطاً يسبي الطرف ويستغرق الظرف، نسج (2) قلمه الكريم من وشي البلاغة ديباجاً، واتخذ من محاسن الحسان طريقاً ومنهاجاً، فألفى ألفاتٍ كاعتدال القدود، ونوناتٍ كأهلّة السعود، وسينات كالطرر، ونقطاً كالدرر، جعل للأقلام حجّة قاطعة على السيوف، وحلّى الأسماع بحلية زائدة على الشنوف، فعطف ساعة يطنب (3) في دعائه وشكره، وآونة يميل من طربه بألفاظه وسكره، فلله درّ ألفاظك ودرر فضلك، وأحسن بوابلك الهاطل بالبيان وطلّك:

_ (1) ق ودوزي: ولا عبد الحميد. (2) ق ودوزي: نسخ. (3) ق ودوزي: يطيب.

لسانك غوّاصٌ، ولفظك جوهرٌ وصدرك بحرٌ بالفضائل زاخر والله المسؤول أن يرفع قدر مقالك ومقام قدرك، ويوضح منهاج الأدب بنور بدرك بمنّه وكرمه، إنّه على كل شيء قدير. وكتب قاضي القضاة تاج الدين السبكي، رحمه الله تعالى، في تقريظ الكتاب المذكور ما نصّه: الحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وحدّقت نحو الحدائق، وفوّقت سهمي تلقاء الغرض الشائق، وطرقت إلى ما يضيء أخا الحجى أسهل الطرائق، فما علّل صداي كنسيم الصّبا، ولا كمثله سهماً صائباً صابه من لا صبا، ولا نظرت نظيره حديقة تنبت فضة وذهباً: وتجيء من ملح الكلا م بطارفٍ أو تالده كلمٌ نوابغ نحو آفاق المطالع صاعده لو رامها قسٌّ لما ألفى أباه ساعده أبدى نتائج عيّه في ذي المعاني الشارده فعين الله تعالى عليها كلمات عليها منه رقيب، ومحاسن تسلى عندها بالحسن حبيب، وفوائد حسان يذكرنا بها حسان البعيد حسن القريب (1) ، كتبه عبد الوهاب السبكي، انتهى. وكتب ناصر الدين صاحب دواوين الإنشاء ما صورته: وقفت على هذا الكتاب الذي أشبه الدرّ في انتظامه، والثغر في ابتسامه، وقطر الندى في انسجامه، وزهر الروض في البكر إذا غنّت على غصونه مطربات حمامه، فوجدت بين اسمه ومسماه مناسبة اقتضاها طبع مؤلفه السليم، واتصالاً قريباً كاتصال الصديق الحميم، فتحققت أن مؤلفه - أبقاه الله تعالى وحرسه - أبدع في

_ (1) وفوائد ... القريب: سقط من ق.

تأليفه، وأصاب في تمييزه بهذا الاسم وتعريفه، فهو في اللطافة كالماء في إروائه، وكالهواء المعتدل في ملاءمة الأرواح بجوهر صفائه، وكالسلك إذا انتقي جوهره وأجيد في انتقائه، قد أينعت ثمرات فضائله فأصبحت دانية القطوف، وتجلت عرائس بلاغته فظهر بدرها بلا كسوف وانجابت ظلمات الهموم بسماع موصول مقاطعه التي هي في الحقيقة لأذن الجوزاء شنوف، فأكرم به من كتاب ما الروض بأبهى من وسيمه، ولا الرّيحان بأعطر من شميمه، ولا المدامة بأرق من هبوب نسيمه، ولا الدرّ بأسنى زهراً بل زهواً من رسومه، إذا تدبره الأديب أغنته تلك الأفانين، عن نغمات القوانين، وإذا تأمّله الأريب نزه طرفه في رياض البساتين، قد سوّر على كل نوع من البديع باب، لا يدخله إلا من خص من البلاغة باللّباب، والله تعالى يؤتيه الحكمة وفصل الخطاب، ويمتع بفضائله التي شهدها أهل العلم وذوو الألباب، بمنّه وكرمه، وكتبه محمد بان يعقوب الشافعي. وكتب الصفدي شارح لامية العجم بما نصّه: وقفت على هذا المصنّف الموسوم بنسيم الصّبا، والتأليف الذي لو مرّ بالمجنون لم ألف ليلاه ولا مال إليها ولا صبا، والإنشاء الذي إن شاء قائله جعل الكلام غيره في هبّات الهواء هبا، والنثر الذي أغار قائله على سبائك الذهب الإبريز وسبى، والكلام الذي نبا عنه الجاحظ جاحداً وما له ذكر ولا نبا، فسبّحت جواهره حروفه لمن أوجده في هذا العصر، وعلمت أن ألفاظه ترمي قلوب حساده بشررٍ كالقصر، وتحققت أن قعقعة طروسه أصوات أعلامه التي تخفق له بالنصر، وتيقنت أن سطوره غصون لا تصل إليها كف جناية بجنىً ولا هصر: وقلت لأهل النظم والنثر قابلوا ترائبها مصقولة كالسجنجل وميلوا بأعطاف التعجب إنّها نسيم الصّبا جاءت بريّا القرنفل ولما ملت بعدما ثملت، وغزلت بعدما هزلت، جردت من نفسي شخصاً

أخاطبه وأجاريه، في أوصاف محاسنها التي أناهبه منها وأناهيه، فقال لي: هذا الفن الفذ، والنثر الذي قهر أقران هذه الصناعة وبذ، والأدب الذي سد الطرق على أوابده فما فته شيء ولا شذ، هذا الإنشاء الذي ما له عديل في هذا العديد ولا ضريب، وهذا الكلام الذي فاق في الآفاق فما لحبيب بن أوس حسن حسن بن حبيب، فعين الله تعالى على هذه الكلم الساحرة، والفوائد التي أيقظت جفن الأدب بعدما كان بالساهرة، ومتع الله تعالى الزمان وأهله بهذا النوع الغض، والنقد النض، والبز البض، والبديع الذي رمّ ما تشعّث من ربع هذا الفن ورضّ، واقتضّ المعاني أبكاره وأفتضّ، وأرسل جارح بلاغته على الجوارح فصادها وانقص وانقض، وأنبط ماء الفصاحة لما تحدر وارفضّ، واستمال القلب الفظ لما فك ختم ذهوله وفض، وإنّه على كل شيء قدير، بالإجابة جدير، بمنّه وكرمه، وكتبه خليل الصفدي، انتهى. 302 - ومنهم الأديب أبو جعفرالألبيري (1) ، رفيق ابن جابر السابق الذكر، وهو البصير وابن جابر الأعمى، وله نظم بديع منه قوله: أبدت لي الصّدغ على خدّها فأطلع الليل لنا صبحه فخدّها مع قدّها قائلٌ هذا شقيقٌ عارضٌ رمحه وقوله وقد دخل حمص: حمصٌ لمن أضحى بها جنّةٌ يدنو لديها الأمل القاصي حلّ بها العاصي ألا فاعجبوا من جنّةٍ حلّ بها العاصي وقوله: إنّ بين الحبيب عندي موتٌ وبه قد حييت منذ زمان

_ (1) وردت في الإشارة إلى ابي جعفر الإلبيري الرعيني ومصادر ترجمته في النفح ج 1: ص 44.

ليت شعري متى تشاهده العي ن وتقضي من اللقاء الأماني قال: وفيه استخدام، لأن البين يطلق على البعد والقرب، انتهى. ومن نظمه أيضاً رحمه الله تعالى: ومورّد الوجنات دبّ عذاره فكأنّه خطٌّ على قرطاس لمّا رأيت عذراه مستعجلاً قد رام يخفي الورد منه بآس ناديته قف كي أودّع ورده ما في وقوفك ساعةً من باس وهذا المعنى قد تبارى فيه الشعراء وتسابقوا في مضماره، فمنهم من جلّى وبرز، وحز خصل السبق وأحرز، ومنهم من كان مصلّياً، ومنهم من غدا لجيد الإحسان محلّياً، ومنهم من عاد قبل الغاية مولّياً. رجع - ومن تأليفه رحمه الله تعالى شرحه لبديعية رفيقه ابن جابر المذكور. وقال في خطبته: ولما كانت القصيدة المنظومة في علم البديع المسمّاة بالحلة السيرا في مدح خير الورى التي أنشأها صاحبنا الإمام العلامة شمس الدين أبو عبد الله ابن جابر الأندلسي، نادرةً في فنها، فريدة في حسنها، ويجنى ثمر البلاغة من غصنها، وتنهل سواكب الإجادة من مزنها، لم ينسج على منوالها، ولا سمحت قريحة بمثالها، رأيت أن أضع لها شرحاً يجلو عرائس معانيها لمعانيها، ويبدي غرائب ما فيها لموافيها، لا أملّ الناظر فيه بالتطويل، ولا أعوقه بكثرة الاختصار عن مدارك التحصيل، فخير الأمور أوسطها، والغرض ما يقرّب المقاصد ويضبطها، فأعرب من ألفاظها كل خفي، وأسكت من لغاتها عن كل جلي، والله أسأل أن يبلغنا ما قصدناه، ويوردنا أحسن الموارد فيما أردناه، انتهى. وسمى الشرح الذكور طراز الحلة وشفاء الغلة، وممّا أورده رحمه الله تعالى في ذلك الشرح من نظم نفسه قوله:

طيبة ما أطيبها منزلاً سقى ثراها المطر الصيّب طابت بمن حلّ بأرجائها فالتربمنها عنبرٌ طيّب يا طيب عيشي عند ذكري لها والعيش في ذاك الحمى أطيب وقال رحمه الله تعالى في هذا الشرح بعد كلام ما نصّه: وإذا أردت أن تنظر إلى تفاوت درجات الكلام في هذا المقام فانظر إلى إسحاق الموصلي كيف جاء إلى قصر مشيد، ومحلّ سرور جديد، فخاطبه بما يخاطب به الطلول البالية، والمنازل الدارسة الخالية، فقال: يا دار غيّرك البلى ومحاك فأحزن في موضع السرور، وأجرى كلامه على عكس الأمور، وانظر إلى قول القطامي: إنّا محيّوك فاسلم أيّها الطلل وإن بليت وإن طالت بك الطّيل فانظر كيف جاء إلى طلل بالٍ، ورسم خالٍ، فأحسن حين حيّاه، ودعا له بالسلامة كالمبتهج برؤية محيّاه، فلم يذكر دروس الطلل وبلاه، حتى آنس المسامع بأوفى التحية وأزكى السلامة، والذي فتح هذا الباب، وأطنب فيه غاية الإطناب، صاحب اللواء، ومقدم الشعراء، حيث قال: ألا عم صباحاً أيّها الطّلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي وهل يعمن إلا سعيدٌ مخلّدٌ قليل الهموم ما يبيت بأوجال قيل وهذا البيت الأخير يحسن أن يكون من أوصاف الجنة لأن السعادة والخلود وقلة الهموم والأوجال لاتوجد إلا في الجنة وقال رحمه الله تعالى عند رحيله من غرناطة وأعلام نجد تلوح، وحمائمه تشدو على الأيك وتنوح:

ولمّا وقفنا للوداع وقد بدت قبابٌ بنجدٍ قد علت ذلك الوادي نظرت فألفيت السبيكة فضةً لحسن بياض الزهر في ذلك النادي فلمّا كستها الشمس عاد لجينها لها ذهباً فاعجب لإكسيرها البادي والسبيكة: موضع خارج غرناطة. وقال رحمه الله تعالى: هذه عشرةٌ تقضّت وعندي من أليم البعاد شوقٌ شديد وإذا ما رأيت إطفاء شوقي بالتلاقي فذاك رأيٌ سديد وقال رحمه الله تعالى وقد أهدى طاقية: خذها إليك هديةً ممّن يعزّك على أناسك اخترتها لك عندما أضحت هدية كلّ ناسك أرسلتها طاقيّةً لتنوب عن تقبيل راسك وله من رسالة: وافى كتابك فوجدناه أزهى من الأزهار، وأبهى من حسن الحباب على الأنهار، يشرق إشراق نجوم السماء، ويسمو إلى الأسماع سموّ حباب الماء. وقال رحمه الله تعالى في العروض على مذهب الخليل: خلّ الأنام ولا تخالط منهم أحداً ولو أصفى إليك ضمائره إنّ الموفّق من يكون كأنّه متقاربٌ فهو الوحيد بدائره وقال على مذهب الأخفش: إنّ الخلاص من الأنام لراحةٌ لكنّه ما نال ذلك سالك أضحى بدائرةٍ له متقارب يرجو الخلاص فعاقه متدارك

وله: دائرة الحبّ قد تناهت فما لها في الهوى مزيد فبحر شوقي بها طويلٌ وبحر دمعي بها مديد وإنّ وجدي بها بسيطٌ فليفعل الحسن ما يريد وهذا المعنى استعمله الشعراء كثيراً، ومنهم الشيخ شهاب الدين بن صارو البعلي. قال أبو جعفر المترجم به: أنشدنا شهاب الدين المذكور لنفسه بحماة: وبي عروضيٌّ سريع الجفا يغار غصن البان من عطفه الورد من وجنته وافرٌ لكنّه يمنع من قطفه قال: وأنشدني أيضاً لنفسه: وبي عروضيٌّ سريع الجفا وجدي به مثل جفاه طويل قلت له قطّعت قلبي أسىً فقال لي التقطيع دأب الخليل انتهى. وأنشد رحمه الله تعالى لرفيقه ابن جابر الضرير السابق الترجمة في ذلك: عالمٌ بالعروض يخبن قلبي في مديد الهوى بلحظٍ سريع عنده وافرٌ من الرّدف يبدو وخفيفٌ من خصره المقطوع

وله: صدوده لي مديدٌ وأمر حبّي طويل وفيه أسباب حسنٍ وتلك عندي الأصول فخصره لي خفيفٌ وردفه لي ثقيل وله: سببٌ خفيفٌ خصرها، ووراءه من ردفها سببٌ ثقيلٌ ظاهر لم يجمع النوعان في تركيبها إلاّ لأن الحسن فيها وافر وقد ذكر أبو جعفر - رحمه الله تعالى - لرفيقه ابن جابر السابق الذكر مقطوعات كثيرة، منها قوله: يا أيها الحادي اسقني كأس السّرى نحو الحبيب ومهجتي للساقي حيّ العراق على النوى واحمل إلى أهل الحجاز رسائل العشّاق يا حسن ألحان الحداة إذا جرت نغماتها بمسامع المشتاق وأورد له أيضا (1) ً: يا حسن ليلتنا الي قد زارني فيها فأنجز ما مضى من وعده قوّمت شمسجماله فوجدتها في عقرب الصّدع الذي في خدّه رجع إلى أبي جعفر - رحمه الله تعالى - ومن فوائده أنّه لمّا ذكر فذلكة الحساب قال: هي التي يصنعها أهل الحساب آخر جملتهم المتقدمة فيقولون: فذلك وكذا وكذا، انتهى.

_ (1) أيضاً: سقطت من ق.

ولما أنشد رحمه الله تعالى قول بعضهم: غزالٌ قد غزا قلبي بألحاظٍ وأحداق له الثلثان من قلبي وثلثا ثلثه الباقي وثلثا ثلث ما يبقى وباقي الثلث للساقي وتبقى أسهمٌ ستٌّ تقسّم بين عشاق قال ما نصّه: هذا الشاعر قسم قلبه إلى 81 سهماً، فجعل لمحبوبه منها الثلثين 54، وبقي الثلث 27، فزاده ثلثيه 18، فصار له 72، يبقى ثلث الثلث وهو 9، زاده منها ثلثي الثلث، وهو اثنان، وبقي من الثلث واحد أعطاه للساقي، فبقي من التسعة ستة، قسمها بين العشاق، فاجتمع لمحبوبه 74، وللساقي سهم واحد، وللعشاق ستة، والجملة 81، انتهى. وأنشد رحمه الله تعالى في علم الحساب لرفيقه ابن جابر السابق الذكر: قسم القلب في الغرام بلحظٍ يضرب القلب حين يرسل سهمه هذه في هواه يا قوم حالي ضاع قلبي ما بين ضربٍ وقسمه وأنشد له في الهندسة: محيطٌ بأشكال الملاحة وجهه كأنّ به إقليدساً يتحدّث فاعرضه خطّ استواء، وخاله به نقطةٌ، والشكل شكل مثلّث وأنشد له في خط الرمل: فوق خدّيه للعذار طريقٌ قد بدا تحته بياضٌ وحمره قيل ماذا فقلت أشكال حسنٍ تقتضي أن أبيع قلبي بنظره وأنشد له في علم الخط: قد حقّق الحسن نون حاجبه وخطّ في الصّدغ واو ريحان

ومدّ من حسن قدّه ألفاً أوقف عيني وقوف حيران وأنشد له أيضاً: ألف ابن مقلة في الكتاب كقدّه والنون مثل الصّدغ في التحسين والعين مثل العين لكن هذه شكلت بحسنٍ وقاحةٍ ومجون وعلى الجبين لشعره سينٌ بدت حار ابن مقلة عند تلك السين قل للذي قد خطّ تحت الصّدغ من خيلانه نقطاً لجلب فنون يا للرجال ويا لها فتنةٍ في وضع ذاك النّقط تحت النون وأورد له في ذكر الأقلام السبعة وغيرها: تعليق ردفك بالخصر الخفيف له ثلثالجمال وقد وفّته أجفان خدٌّ عليه رقاع الروض قد جعلت وفي حواشيه للصدعين ريحان خطّ الشباب بطومار العذار به سطراً ففضاحه للناس فتّان محقق نسخصبري عن هواه ومن توقيع مدمعي المنثور برهان يا حسن ما قلم الأشعار خطّ على ذاك الجبين فلا يسلوه إنسان أقسمت بالمصحف الشامي وأحرفه ما مرّ بالبال يوماً عنك سلوان ولا غبار على حبي فعندك لي حساب شوق له في القلب ديوان وأنشد له: يا صاحب المال ألو تستمع لقوله " ما عندكم ينفد " فاعمل به خيراً فوالله ما يبقى ولا أنت يه مخلد

وله: إن شئت أن تجد العدوّ وقد غدا لك صاحباً يولي الجميل ويحسن فاعمل كما قال الخبير بخلقه في قوله " ادفع بالتي هي أحسن " وله: إذا شئت رزقاً بلا حسبةٍ فلذ بالتقى واتّبع سبله وتصديق ذل في قوله " ومن يتّق الله يجعل له " وأورد له أيضاً (1) : عملٌ إن لم يوافق نيّةً فهو غرسٌ لا يرى منه ثمر " إنّما الأعمال بالنّيات " قد نصّه عن سيد الخلق عمر وقوله: حياء المرء يزجره فيخشى فخف من لا يكون له حياء فقد قال الرسول بأنّ ممّا به نطق الكرام الأنبياء " إذا ما أنت لم تستحي فاصنع كما تختار وافعل ما تشاء " وقوله: قال الرسول " الحياء خير " فاصحب من الناس ذا حياء وعن قليل الحياء فابعد فخيره ليس ذا رجاء وقوله: " من سلم المسلمون كلهم وآمنوا من لسانه ويده

_ (1) ق: قوله.

فذلك المسلم الحقيق " بذا جاء حديثٌ لا شك في سنده ولابن جابر ممّا كتب به إلى الصلاح الصّفدي (1) : إن البراعة لفظ أنت معناه وكلّ شيء بديع أنت مغناه إنشاد نظمك أشهى عند سامعه من نظم غيرك لو إسحاق غنّاه وهي طويلة، فأجابه الصفدي بقوله: يا فاضلاً كرمت فينا سجاياه وخصّنا باللآلي في هداياه خصصتني بقريض شفّ جوهره لمّا تألّق منه نور معناه من كل بيتٍ مبانيه مشيدة كم من خبايا معانٍ في زواياه وهي طويلة. رجع إلى نظم أبي جعفر فمن ذلك قوله: تريك قدّاً على ردفٍ تجاذبه كخوطةٍ في كثيب الرمل قد نبتت ريّا القرنفل في ريح (2) الصّبا سحراً ... يضوع منها إذا نحوي قد التفتت عقد بهما ألفاظ قول امرئ القيس: إذا التفتت نحوي تضوع ريحها نسيم الصّبا جاءت بريّا القرنفل وأورد له قوله: ولولا نجاء العيس حول ديارها غداة منىً لم يبق في الركب محرم ففوق ذرا المتنين بردٌ مهلل وتحت رداء الخز وجهٌ معلّم

_ (1) انظر القصيدة وجواب الصفدي عليها في الوافي ونكت الهميان. (2) ق: ريا.

عقد في الأول قول قيس بن الخطيم (1) : ديار التي كنّا ونحن على منىً تحوط بنا لولا نجاء الركائب وعقد في الثاني قول ابن أخي ربيعة: أماطت رداء الخزّ عن حرّ وجهها وأرخت على المتنين برداً مهلّلاً وأورد له قوله: إن ادّعى لك مروان الجلال فقل لا يجهل المرء بين الناس رتبته إن الجلالة حقّاً للمقول له " هذا الذي تعرف البطحاء وطأته " وقوله: من منصفي يا قوم من ظبيةٍ تسرف في هجري وتأبى الوصال وكلّما أسأل عن عذرها تقول لي: ما كلّ عذر يقال وقوله: هم حسدوا الرسول فلم يجيبوا وكم حسدوا فصار لهم فرار وهاجر عندما هجروا فأضحى لخيمة أمّ معبدٍ الفخار وقوله: بحسبك أن تبيت على رجاء ولو حطّتك لليأس الخطوب ومهما أكربتك صروف دهرٍ فقل ما قاله الرجل الأريب: " عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرجٌ قريب "

_ (1) ديوان قيس بن الخطيم: 34 وفيه: تحل بنا.

وقوله: خليليّ هذا قبر أشرف مرسل " قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل " رويدكما نبكي الذنوب التي خلت بسقط اللوى بين الدخول فحومل منازل كانت للتصابي فأقفرت " لما نسجتها من جنوب وشمأل " قال: ثم جرى على هذا النمط، واستخرج الدرر النفيسة من ذلك السّفط، وقال قبله: إنّه أخذ أعجاز هذه القصيدة من أولها إلى آخرها على التوالي، وصنع لها صدوراً، وصرفها إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلّم، فجاء في ذلك بما لم يسبق إليه، ولم يقف أحد في تلك المعاني على ما وقف عليه، انتهى. وقوله: كم ليالٍ خلت بكم كاللآلي نظمتها لنا يد الزمان أيّها النازحون عن رأي عيني وهم في جوانحي وجناني ما ألذّ الوصال بعد التنائي وأمرّ الفراق بعد التداني قد وكلناكم لربٍّ كريمٍ غير وانٍ عند عبده في أوان ما رحلنا عن اختيارٍ ولكن رحّلتنا تلوّنات الزمان وقوله: تشتكي الصّفر من يديه وترضى ال سمر عن راحتيه عند الحروب أحمر السيف أخضر السيب حيث أرض غبراء من سواد الخطوب وقوله ممّا التزم في أوله الدال: دفاعٌ لمكروهٍ، أمانٌ لخائفٍ سحابٌ لمستجدٍ، هلاكٌ لمستعدي دروبٌ على الحسنى، عفوٌّ لمن جنى مثيبٌ لمن أثنى، مجيبٌ لذي قصد

دع الغيث إن أعطى، دع الليث إن سطا دع الروض إذ يهدي، دع البدر إذ يهدي وقوله: غزالٌ ما توسّد ظلّ بانٍ بهاجرةٍ ولا عرف الظلالا تبسّم لؤلؤاً، واهتز غصناً وأعرض شادناً، وبدا هلالا وقوله: رفع الخصر فوق منصور ردفٍ ولجزم القلوب فرعيه جرّا مال غصناً، رنا رشاً، فاح مسكاً تاه درّاً، أرخى دجىً، لاح بدرا وقوله حين زار قبر قسّ بن ساعدة بجبل سمعان: هذي منازل ذي العلا قسّ بن ساعدة الإيادي كم عاش في الدّنيا وكم أسدى إلينا من أيادي قد زانها بحلى البلا غة مفصحاً في كل نادي قد قرّ في بطن الثرى متفرّداً بين العباد قال أبو جعفر: زرنا قبره فرأينا موضعاً ترتاح إليه النفس، ويلوح عليه الأنس، وعند قبره عين ماء يقال: إنّه ليس بجبل سمعان عين تجري غيرها هنالك، وأورد قوله: كرامٌ فخامٌ من ذؤابة هاشمٍ يقولون للأضياف أهلاً ومرحبا فيفع في فقر المقلّين جودهم كفعل عليٍّ يوم حارب مرحبا رجع إلى أبي جعفر، رحمه الله تعالى فنقول: إنّه كان بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم سنة 755، ولما ذكر الروضى قال: قيل: ولا تكون الروضة إلاّ بماء يسقيها أو إلى جنبها، ولا يقال في موضع الشجر روضة، انتهى، وقال:

لقوامه الألف التي جاءت بحسنٍ ما ألف عانقته فكأنّني لامٌ معانقة الألف وقال رحمه الله تعالى معتذراً عمّن لم يسلّم: لا تعتبنّ على ترك السلام فقد جاءتك أحرفه كتباً بلا قلم قالسين من طرّتي واللام من ألفٍ من عارضيّ وهذا الميم ميم فمي وقال رحمه الله تعالى: لا يقنطنّك ذنبٌ قد كان منك، عظيم فالله قد قال قولاً وهو الجواد الكريم " نبّئ عبادي أنّي أنا الغفور الرحيم " وقال: إذا ظلم المرء فاصبر له فبالقرب يقطع منه الوتين فقد قال ربّك وهو القويّ " وأملي لهم إنّ كيدي متين " ومن نثره لما ذكر قصيدة كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه ما نصّه: وهذه القصيدة لها الشرف الراسخ، والحكم الذي لم يوجد له ناسخ، أنشدها كعبٌ (1) في مسجد المصطفى بحضرته وحضرة أصحابه، وتوسّل بها فوصل إلى العفو عن عقابه، فسدّ صلى الله عليه وسلم خلّته، وخلع عليه حلّته، وكفّ عنه كفّ من أراده، وأبلغه في نفسه وأهله مراده، وذلك بعد إهدار دمه، وما سبق من هذر كلمه، فمحت حسناتها تلك الذنوب، وسترت محاسنها وجه تلك العيوب، ولولاها لمنع المدح والغزل، وقطع من أخذ الجوائز على الشعر

_ (1) كعب: سقطت من ق.

الأمل، فهي حجّة الشعراء فيما سلكوه، وملاك أمرهم فيما ملكوه، حدثني بعض شيوخنا بالإسكندرية بإسناديه أبن بعض العلماء كان لا يستفتح مجلسه إلا بقصيدة كعب، فقيل له في ذلك، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، قصيدة كعب أنشدها بين يديك فقال: " نعم، وأنا أحبها وأحب من يحبها "، قال: فعاهدت الله أنّي لا أخلو من قراءتها كل يوم. قلت: ولم تزل الشعراء من ذلك الوقت إلى الآن ينسجون على منوالها، ويقتدون بأقوالها، تبرّكاً بمن أنشدت بين يديه، ونسب مدحها إليه، ولمّا صنع القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلّم على وزن بانت سعاد قال: لقد قال كعبٌ في النبيّ قصيدةً وقلنا عسى في مدحه نتشارك فإن شملتنا بالجوائز رحمةٌ كرحمة كعبٍ فهو كعبٌ مبارك انتهى. وقال رحمه الله تعالى: لقد كرّ العذار بوجنتيه كما كرّ الظلام على النهار فغابت شمس وجنته وجاءت على مهلٍ عشيّات العذار فقلت لناظري لمّا رآها وقد خلط السواد بالاحمرار تمتّع من شميم عرار نجد فما بعد العشيّة من عرار وقال: قالوا عشقت وقد أضرّ بك الهوى فأجبتهم يا ليتني لم أعشق قالوا سبقت إلى محبة حسنه فأجبتهم ما فاز من لم يسبق ولما أنشد رحمه الله تعالى قول ابن الخشاب في المستضيء بالله:

ورد الورى سلسال جودك فارتووا ووقفت دون الورد وقفة حائم ظمآن أطلب خفّةً من زحمةٍ والورد لا يزداد غير تزاحم قال ما نصّه: فانظر حسن هذين البيتين كيف جريا كالماء في سلاسته، ووقعا من القلوب كالشهد في حلاوته، مع أن ناظمهما ما خرج عن وصف الماء كلامه، ولا تعدى ذلك المعنى نظامه، حتى قيل: إن فيهما عشرة مواضع من مراعاة النظير، فهما في الحسن ما لهما من نظير، لكنّه ما سلم مليحٌ من عيب، ولا خلا من وقوع ريب، فمع هذه المحاسن الوافية، ما سلما من عيب القافية، انتهى. ولنختم ترجمته بقوله عند شرح بيت رفيقه: خير الليالي ليالي الخير في إضمٍ والقوم قد بلغوا أقصى مرادهم ما نصّه: يقول: إن خير الليالي التي تنشرح لها الصدور، ويحمد فيها الورود والصدور، ليالي الخير في إضم، حيث النزيل لم يضم، والقوم قد وردوا موارد الكرم، وبلغوا أقصى مرادهم في ذلك الحرم. 303 - ومن الراحلين الوليّ الصالح أبو مروان عبد الملك بن إبراهيم ابن بشر، القيسي. وهو ابن أخت ابن صاحب الصلاة البجانسي، نسبة إلى بجانس قرية من قرى وادي آش، وكان - رحمه الله تعالى - في أواسط المائة السابعة، وقد ذكره الفقيه أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن يحيى الأزد يالفشتالي في تأليفه الذي سمّاه تحفة المغرب ببلاد المغرب، وقال فيه: رضوا نفوسهم لتنقاد للمولى سرّاً وعلناً، وزهدوا في الدنيا فلم يقولوا معنا ولا لنا، وانتدبوا لقول الله تعالى: " والّذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا ". وقال صاحب التأليف المذكور: سألت الشيخ أبا مروان يوماً في مسيري معه من وادي آش إلى بلده بجانس سنة تسع وأربعين وستمائة، فقلت له: أنت

يا سيدي لم تكن قرأت ولا لازمت المشايخ قبل سفرك للمشرق، ولا سافرت مع عالم تقتدي ببركته في هذا الطريق، فقال لي: أقام الله تعالى لي من باطني شيخاً، قلت له: كيف قال: كنت إذا عرض لي أمر نظرت في خاطري فيخطر لي خاطران في ذلك، أحدهما محمود والآخر مذموم، فكنت أجتنب المذموم وأرتكب المحمود، فإذا وصلت إلى أقرب بلد سألت عمّن فيه من المشايخ والعلماء، فأسأله عن ذلك، فكان يذكر لي المحمود محموداً والمذموم مذموماً، فأحمد الله تعالى أن وقفني، ومع تتابع ذلك واتصاله دون مخالفة لم أعتمد على ما يقع بخاطري من الأمور الشرعية إلى الآن حتى أسأل عنه من حضر من العلماء، انتهى. ومن كلام صاحب التأليف المذكور قوله في حق الصوفية، نفعنا الله تعالى بهم: حموا طريق الحق فحاماهم، ونوّر بصائرهم فأصمهم عن الباطل وأعماهم، وأهانوا في رضاه نفوسهم، ورفضوا نعماهم، فأعلى قدرهم عنده وعند الناس وأسماهم، انتهى. وما أحسن قوله في التأليف المذكور: يا هذا، من حافظ حوفظ عليه، ومن طلب الخير بصدق وصل إليه، ومن أخلص العبودية لربه قام الأحرار خدمة بين يديه، انتهى. 304 - ومنهم الطبيب الماهر الشهير ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد ابن البيطار (1) ، المالقي، نزيل القاهرة، وهو الذي عناه ابن سعيد في كتابه المغرب بقوله: وقد جمع أبو محمد المالقي الساكن الآن بقاهرة مصر كتاباً في هذا الشأن حشر فيه ما سمع به فقدر عليه من تصانيف الأدوية المفردة ككتاب الغافقي وكتاب الزهراوي وكتاب الشريف الإدريسي الصقلي وغيرها، وضبطه على جروف المعجم، وهو النهاية في مقصده.

_ (1) ترجمة ابن البيطار في ابن أبي أصيبعة 2: 133 والفوات 1: 434.

وقد ذكرت كلام ابن سعيد هذا بجملته في غير هذا الموضع، فليراجع. وكان ابن البيطار أوحد زمانه في معرفة النبات، سافر إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم والمغرب، واجتمع بجماعة كثيرة من الذي يعانون هذا الفن، وعاين منابته وتحققها، وعاد بعد أسفاره، وخدم الكامل بن العادل، وكان يعتمد عليه في الأدوية والحشائش، وجعله في الديار المصرية رئيساً على سائر العشّابي وأصحاب البسطات، ومن بعده خدم ولده الصالح، وكان حظيّاً عنده، إلى أن توفي بشعبان سنة 646 التي توفّي بها ابن الحاجب، وله من المصنفات كتاب الجامع في الأدوية المفردة وكتاب المغني أيضاً في الأدوية، وكتاب الإبانة والإعلام بما في المنهاج من الخل والأوهام، وكتاب الأفعال العجيبة والخواص الغريبة، وشرح كتاب ديسقوريدوس، قال الذهبي: انتهت إليه معرفة تحقيق النبات وصفاته، وأماكنه ومنافعه، وتوفّي بدمشق، انتهى. 305 - ومنهم الشيخ أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن علي، القرشي، البسطي، الشهير بالقلصادي - بفتحات - كما قال السخاوي (1) ، الصالح الرحلة، المؤلف، المفرضي، آخر من له التآليف الكثيرة من أئمة الأندلس، وأكثر تصانيفه في الحساب والفرائض، كشرحيه العجيبين على تلخيص ابن البناء والحوفي، وكفاه فخراً أن الإمام السنوسي صاحب العقائد أخذ عنه جملة من الفرائض والحساب، وأجازه جميع مروياته، وأصله من بسطة، ثم انتقل إلى غرناطة، لاستوطنها، وأخذ بها عن جماعة كابن فتوح والسرقسطي وغيرهما، ثم ارتحل إلى المشرق ومر بتلمسان فأخذ بها عن الإمام عالم الدنيا ابن مرزوق والقاضي أبي الفضل قاسم العقباني وأبي العباس ابن زاغ وغيرهم،

_ (1) ترجمة القلصادي في الضوء اللامع 5: 14 ونيل الابتهاج: 209 (هامش الديباج) وانظر فيه أعلام الزركلي للاطلاع على مصادر أخرى (5: 163) .

ثم ارتحل فلقي بتونس تلامذة ابن عرفة كابن عقاب والقلشاني وحلولو وغيرهم، ثم حج ولقي أعلاماً، وعاد فاستوطن غرناطة إلى أن حل بوطنه ما حل، فتحيل في خلاصه من الشرك وارتحل، ومر بتلمسان فنزل بها على الكفيف ابن مرزوق ابن شيخه، ثم وجدت به الرحلة إلى أن وافته منيته بباجة إفريقية منتصف ذي الحجّة سنة 891 (1) ، وكان كثير المواظبة على الدرس والكتابة والتأليف، ومن تآليفه أشرف المسالك إلى مذهب مالك وشرح مختصر خليل، وشرح الرسالة، وشرح التلقين، وهداية الأنام في شرح مختصر قواعد الإسلام وهو شرح مفيد، وشرح رجز القرطبي، وتنبيه الإنسان إلى علم الميزان، والمدخل الضروري، وشرح إيساغوجي في المنطق، وله شرح الأنوار السنية لابن جزي، وشرح رجز الشراز في الفرائض الذي أوله: بحمد خير الوارثين أبتدي وبالسّراج النبويّ أهتدي وشرح حكم ابن عطاء الله، ورجز أبي عمرو بن منظور في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، وشرح البردة، ورجز ابن بري، ورجز شيخه أبي إسحاق بن فتوح في النجوم الذي أوله: سبحان رافع السماء سقفا ناصبها دلالةً لا تخفى وشرح رجز أبي مقرعة، وله النصيحة في السياسة العامة والخاصة، وهداية النظّار في تحفة الأحكام والأسرار، وكشف الجلباب عن علم الحساب، وكشف الأسرار عن علم الغبار، والتبصرة، وقانون الحساب في قدر التلخيص، وشرحه، وشرحان على التلخيص كبير وصغير، وشرح ابن الياسمين في الجبر والمقابلة، ومختصره، وكليات الفرائض، وشرحها،

_ (1) ق: 871 وهو مخالف لما في المصادر.

وشرحان للتلمسانية كبير وصغير، وشرح فرائض صالح بن شريف وابن الشاط وفرائض مختصر خليل والتلقين وابن الحاجب، وله كتاب الغنية في الفرائض، وغنية النحاة وشرحاها الكبير والصغير، وتقريب المواريث، ومنتهى العقول البواحث، وشرح مختصر العقباني، ولم يتم، ومدح اللطالبين، ومختصر مفيد في النحو، وشرح رجز ابن مالك، والجرومية، وجمل الزجاجي، وملحة الحريري، والخزرجية، ومختصر في العروض، وغير ذلك وأخذ عن الحافظ ابن حجر والزين طاهر النويري وأبي القاسم النويري والعلامة الجلال المحلّي والتقي الشمني وأبي الفتح المراغي وغيرهم، وحسبما ذكر ذلك في رحلته الشهيرة، وهي حاوية لشيوخه بالمغرب والمشرق وجملة من أحوالهم، رحم الله تعالى الجميع. 306 - ومنهم أبو عبد الله الراعي، وهو شمس الدين محمد بن إسماعيل الأندلسي الغرناطي (1) ، ولد بها سنة 782 تقريباً، ونشأ بها، وأخذ الفقه والأصول والعربية عن جماعة، منهم أبو جعفر أحمد بن إدريس بن سعيد الأندلسي، وسمع على أبي بكر عبد الله بن محمد بن محمد المعافري ابن الدب، ويعرف بابن أبي عامر، والخطيب أبي عبد الله محمد بن علي بن الحفار، ومحمد بن عبد الملك بن علي القيسي المنتوري صاحب الفهرسة الكبيرة الشهيرة، وممّا أخذ عنه الجرومية بأخذه لها عن الخطيب أبي جعفر أحمد بن محمد بن سالم الجذامي عن القاضي أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الحضرمي عن مؤلفها أبي عبد الله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي عرف بابن آجروم، وجميع خلاصة الباحثين في حصر حال الوارثين للقاضي أبي بكر عبد الله بن يحيى بن زكريا الأنصاري بأخذه لها عن مؤلفها، وأجاز له أبو الحسن علي بن عبد الله بن الحسن الجذامي، والقاضي

_ (1) ترجمة الراعي في الضوء اللامع 9: 203 وشذرات الذهب 7: 278 وبغية الوعاة: 100 واسمه كاملاً محمد بن محمد بن إسماعيل.

أبو الفضل قاسم بن سعيد العقباني، والعلامة أبو الفضل محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن الإمام، وعالم الدنيا أبو عبد الله محمد بن مرزوق التلمساني، وغيرهم من المغاربة، ومن أشياخه من أهل المشرق الكمال لن خير السكندري، والزين أبو بكر المراغي، والزين محمد الطبري، وأبو إسحاق إبراهيم بن العفيف النابلسي، في آخرين، ودخل القاهرة سنة 825 فحج واسوطنها، وسمع بها من الشهاب المتبولي وابن الجزري والحافظ ابن حجر وطائفة، وأمّ بالمؤيدية وقتاً، وتصدى للاشتغال، فانتفع به الناس طبقة بعد أخرى، لا سيّما في العربية، بل هي كانت فنه الذي اشتهر به وبجودة الإرشاد لها، وشرح كلاًّ من الجروميّة والألفيّة والقواعد وغيرها ممّا حمله عنه الفضلاء، وله نظم وسط، قال السخاوي: كتبت عنه منه الكثير، وممّا لم أسمعه منه ما أودعه في مقدمة كتاب صنفه في نصرة مذهبه وأثبته دفعاً لشيء نسب إليه، فقال: عليك بتقوى الله ما شئت واتّبع ... أئمّة دين الحقّ تهد وتسعد فمالكهم والشافعيّ وأحمد ... ونعمانهم كلٌّ إلى الخير يرشد فتابع لمن أحببت منهم ولا تمل ... لذي الجهل والتعصيب إن شئت تحمد فكلٌّ سواءٌ في وجيبة الاقتدا ... متابعهم جنّات عدن يخلد وحبّهم دينٌ يزين وبغضهم ... خروجٌ عن الإسلام والحقّ يبعد فلعنة ربّ العرش والخلق كلهم ... على من قلاهم والتعصب يقصد وكان حاد اللسان والخلق، شديد النفرة من الشيخ يحيى العجيسي، أضر بآخرة، ومات بسكنه بالصالحيّة يوم الثلاثاء 27 ذي الحجّة سنة 853، بعد أن أنشد قبيل موته بشهر في حال صحته الشيخ جمال الدين ابن الأمانة من نظمه قوله: أفكّر في موتي وبعد فضيحتي ... فيحزن قلبي من عظيم خطيئتي وتبكي دماً عيني وحقّ لها البكا ... على سوء أفعالي وقلة حيلتي

وقد ذابت أكبادي عناءً وحسرةً ... على بعد أوطاني وفقد أحبتي فما لي إلاّ الله أرجوه دائماً ... ولا سيما عند اقتراب منيّتي فنسأل ربي في وفاتي مؤمناً ... بجاه رسول الله خير البريّة قال السخاوي: وممّا كتبته عنه: ألفيته حول المعلّم باكياً ... ودموعه قد صاغها من كوثر نثر الدموع على الخدود فخلتها ... درّاً تناثر في عقيق أحمر وقوله: عليك بنعم ربّ العلا ... وراع الملوك لرعي الذّمم وذو العلم فارع له حقّه ... وإلاّ تفارق وتلق الندم فهذا مقالي فلتسمعوا ... نصيحة حبرٍ من أهل الحكم إذا كنت في نعمةٍ فارعها ... فإنّ المعاصي تزيل النعم وقال (1) : للغرب فضلٌ شائعٌ لا يجهل ... ولأهله شرفٌ ودينٌ يكمل ظهرت به أعلام حقّ حقّقت ... ما قاله خير الأنام المرسل من أنهم حتى القيامة لن يزا ... لوا ظاهرين على الهدى لن يخذلوا وممّن حدث عن الراعي الحافظ ابن فهد والرهان البقاعي، ومن تأليفه شرح القواعد وكتاب انتصار الفقير السالك لمذهب الإمام الكبير مالك في كراريس أربعة حسن في موضوعه، وله النوازل النحوية في عشرة كراريس أو أكثر وفيها فوائد حسنة وأبحاث رائقة، تكلم معه في بعضها أبو

_ (1) ق: وقوله.

عبد الله ابن العباس التلمساني. وذكر بعضهم أنّه اختصر شرح شيخه ابن مرزوق على مختصر الشيخ خليل من باب القضاء إلى آخر الكتاب، انتهى. وجرت له في صغره حكاية دلت على نبله، وهي أنّه دخل على الطلبة رجل وهم بجامع غرناطة، فسألهم عمّن كان رواء إمام، فحدث فلإمام عذر ذهب لأجله، مثل الرعاف مثلاً، فصلوا بعض الصلاة لأنفسهم، ثم اقتدوا بإمام منهم قدموه فيما بقي، فهل تصح صلاتهم أم لا فلم يكن عند أحد من الحاضرين فيها علم، فقال هو: إن الصلاة باطلة، لأن النحاة يقولون: الإتباع بعد القطع لا يجوز. وقد حكى ذلك في شرحه للجروميّة الذي سمّاه بعنوان الإفادة في باب النعت إذ قال ما نصّه: كنت جالساً بمسجد قيسارية غرناطة أنتظر سيدنا وشيخنا أبا الحسن علي بن سمعة رحمه الله تعالى مع جماعة من كبار طلبته، وكنت إذ ذاك أصغرهم سنّاً وأقلهم علماً، فدخل سائل سأل عن مسألة فقهية نصها: إن إماماً صلى بجماعة جزءاً من صلاة، ثم غلب عليه الحدث، فخرج ولم يستخلف عليهم، فقام كل واحد من الجماعة وصلى وحده جزءاً من الصلاة، ثم بعد ذلك استخلفوا من أتمّ بهم الصلاة، فهل تصحّ تلك الصلاة أم لا فلم يكن فيها عند الحاضرين جواب، فقلت: هذا إتباع بعد القطع، وهو ممتنع عند النحويين، فصلاة هؤلاء باطلة، فاستظرفها مني من حضر لصغر سني، ثم طلبنا النصّ فيها فلم نلقه في ذلك التاريخ، ولو لقيناه لكان الجواب حسناً، انتهى. ومن ألغازه قوله: حاجيتكم نحاتنا المصريّه ... أولي الذكا والعلم والطعميه ما كلماتٌ أربعٌ نحويّه ... جمعن في حرفين للأحجيه

يعني فعل الأمر للواحد من وأى يئي إذا أضمر، فإنّك تقول فيه: إ يا زيد على حرف واحد، وهو الهمزة المقطوعة، فإذا قلت قل إ ونقلت حركته على لغة النقل إلى الساكن صار هكذا قل فذهب فعل الأمر وفاعله، فهي كلمات أربع فعلا أمر وفاعلاهما جمعن في حرفين القاف واللام، فافهم، وأحسن من هذا قوله ملغزاً في ذلك أيضاً: في أيّ لفظٍ يا نحاة الملّه ... حركةٌ قامت مقام الجمله وبالجملة فمحاسنه كثيرة، رحمه الله تعالى ورضي عنه. ومن فوائده قوله: حكى لي بعض علماء المالكية قال: كنّا نقرأ المدوّنة على الشيخ سراج الدين البلقيني الشافعي، فوقعت مسألة خلافية بين مالك والشافعي، فقال الشيخ في مسألة مذهبنا كذا في مسألة لم يقل الشافعي بما قال، وإنّما نسبها البلقيني لنفسه، ثم فطن وخاف أن ينتقد عليه المالكية ويقولوا له: أنت شافعي وهذا ليس مذهب الشافعي، فقال: فإن قلتم يا مالكية لسنا بمالكية، وإنّما أنتم شافعية، قلنا: كذلك أنت قاسمية، وقد اجتمعنا الكل في مالك، قال: وهذا الكلام حلو حسن في غاية الإنصاف من الشيخ. قال: ولما قرئ عليه كتاب الشفاء مدحه وأثنى عليه إلى الغاية، وكان يحضره جماعة من المالكية فقال القاضي جمال الدين ابنه: ما لكم يا مالكيّة لا تكونون مثل القاضي عياض فقال له أبوه الشيخ سراج الدين المذكور: وما لك لا تقول للشافعية ما لكم يا شافعية لا تكونون مثل القاضي عياض ومن فوائد الراعي في باب العلم من شرحه على الألفية: في الكلب عشر خصال محمودة ينبغي أن تكون في كل فقير، لا يزال جائعاً، وهو من دأب الصالحين، ولا يكون له موضع يعرف به، وذلك من علامة المتوكلين، ولا ينام من الليل إلا القليل، وذلك من صفات المحبين، وإذا مات لا يكون له ميراث، وذلك من أخلاق الزاهدين، ولا يهجر صاحبه وإن جفاه وطرده

وذلك من شيم المريدين، ويرضى من الدنيا بأدنى يسير، وذلك من إشارة القانعين، وإذا غلب عن مكانه تركه وانصرف إلى غيره، وذلك من علامة المتواضعين، وإذا ضرب وطرد ثم دعي أجاب، وذلك من أخلاق الخاشعين، وإذا حضر شيء من الأكل وقف ينظر من بعيد، وذلك من أخلاق المساكين، وإذا رحل لا يرحل معه بشيء، وذلك من علامة المتجردين، انتهى بمعناه. وقد نسبه للحسن البصري رحمه الله تعالى ورضي عنه بمنّه. ومن تصانيفه رحمه الله تعالى كتاب الفتح المنير في بعض ما يحتاج إليه الفقير في غاية الإفادة، ملكته بالمغرب ولم أره بهذه البلاد المشرقية، وحفظت منه فوائد ممتعة. 307 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق بعد أخذ جميع بلاد الأندلس - أعادها الله تعالى - قاضي الجماعة بغرناطة أبو عبد الله محمد بن علي ابن محمد بن الأزرق (1) ، قال السخاوي: إنّه لازم الأستاذ إبراهيم بن أحمد ابن فتوح مفتي غرناطة في النحو والأصلين والمنطق، بحيث كان جلّ انتفاعه به، وحضر مجالس أبي عبد الله محمد السّرقسطي العالم الزاهد مفتيها أيضاً في الفقه، ومجالس الخطيب أبي الفرج عبد الله بن أحمد البقني، والشهاب قاضي الجماعة بغرناطة أبي العباس أحمد بن أبي يحيى بن شرف التلمساني، انتهى. وله رحمه الله تعالى تآليف: منها " بدائع السلك في طبائع الملك " (2) كتاب حسن مفيد في موضوعه، لخص في كلام ابن خلدون في مقدمة تاريخه وغيره مع زوائد كثيرة، ومنها روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام

_ (1) ترجمة ابن الأزرق في أزهار الرياض 3: 317 والأنس الجليل 2: 591، وكانت وفاته في ذي الحجة من سنة 896. (2) منه نسختان بخزانة الرباط رقم: D1340، D 582.

مجلد ضخم فيه فوائد وحكايات لم يؤلف في فنّه مثله، وقفت عليه بتلمسان وحفظت منه ما أنشده لبعض أهل عصره ممّا يكتب في سيف: إن عمّت الأفق من نقع الوغى سحبٌ ... فشم بها بارقاً من لمع إيماضي وإن نوّت حركات النصر أرض عدىً ... فليس للفتح إلا فعلي الماضي ومن إنشائه في التأليف المذكور ما صورته: قلت: ولقد كان شيخنا العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن فتوح قدّي الله تعالى روحه يفسح لصاحب البحث مجالاً رحباً، ويوسع المراجع له قبولاً ورحباً، بل يطالب بذلك ويقتضيه، ويختار طريق لتعليم به ويرتضيه، توفيقاً على ما خلص له تحقيقه، ووضح له معيار الاختيار تدقيقه، وإلاً فقد كان ما يلقيه غاية ما يتحصل، ويتهمد به مختار ما يحفظ ويتأصّل، انتهى. وهو يدل على ملكته في الإنشاء، ويحقّق ما يحصله، إلا أن ذلك إذا طال حتى وقع الملل والضجر أو كاد فينبغي الإمساك عن البحث، لئلاّ يفضي الحال إلى ما ينهى عنه. قال: ومخالفة التلميذ الشيخ في بعض المسائل إذا كان لها وجه وعليها دليل قائم يقبله غير الشيخ من العلماء ليس من سوء أدب التلميذ مع الشيخ، ولكن مع ملازمة التوقير الدائم، والإجلال الملائم، فقد خالف ابن عباس عمر وعليّاً وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم، وكان قد أخذ عنهم، وخالف كثير من التابعين بعض الصحابة، وإنّما أخذوا العلم عنهم، وخالف مالك كثيراً من أشياخه، وخالف الشافعي وأشهب مالكاُ في كثير من المسائل، كل من أخذ العلم أن يخالفه بعض تلامذته في عدة مسائل، ولم يزل ذلك دأب التلاميذ مع الأساتيذ إلى زماننا هذا، وقال: وشاهدنا ذلك في أشياخنا مع أشياخهم رحمهم الله تعالى، قال: ولا ينبغي للشيخ أن يتبرّم من هذه المخالفة

إذا كانت على الوجه الذي وصفناه، والله تعالى أعلم، انتهى. ولمّا أنشد ابن الأزرق المذكور في كتابه روضة الأعلام قول القائل في مدح ابن عصفور: نقل النحو إلينا الدّؤلي ... عن أمير المؤمنين البطل بدأ النحو عليٌّ وكذا ... ختم النحو ابن عفصورٍ علي قال بعده ما نصّه: على أن صاحبنا الكاتب الأديب الأبرع أبا عبد الله محمد ابن الأزرق الوادي آشي رحمه الله تعالى قد قال فيما يدافع ابن عصفور عمّا اقتضاه هذا المدح له بتفضيل الأستاذ المحقّق أبي الحسن بن الضائع عليه، ولقد أبدع في ذلك ما شاء لما تضمه من التورية: بضائعك ابن الضائع النّدب قد أتت ... بخظٍّ من التحقيق والعلم موفور فطرت عقاباً كاسراً أوما ترى ... مطارك قد أعيا جناح ابن عصفور انتهى. وقد نقل عن ابن الأزرق صاحب المعيار في جامعه، وأثنى عليه غير واحد ومن أعظم تآليفه شرحه الحافل على مختصر خليل المسمى بشفاء الغليل في شرح مختصر خليل وقد توارد معه الشيخ ابن غازي على هذه التسمية، وكان مولانا العم الإمام شيخ الإسلام سيدي سعيد بن أحمد المقّري رضي الله تعالى عنه قال لي حين سألته عن هذا التوارد: لعل تسمية ابن الأزرق شفاء العليل بالعين، قلت: يبعد ذلك أن جماعة من تلامذته الأكابر كالوادي آشي وغيره كتبوه بخطوطهم بالغين المعجمة، فبان أنّه من توارد الخواطر، وأن كلاًّ منهما لم يقف على تسمية الآخر، والله تعالى أعلم، وقد رأيت جملة من هذا الشرح بتلمسان وذلك نحو ثلاثة مجلدات، ولا أدري هل أكمله أم لا، لأن تقديره بحسب ما رأيت يكون عشرين مجلداً، إذ المجلد الأول ما أتم مسائل الصلاة

ورأيت الخطبة وحدها في أكثر من كراسة أبان فيها عن علوم، ولم أر في شروح خليل مع كثرتها مثله، ودخل تلمسان لما استولى العدو على بلاد الأندلس، ثم ارتحل إلى المشرق، فدخل مصر، واستنهض عزائم السلطان قايتباي لاسترجاع الأندلس، فكان كمن يطلب بيض الأنواق، أو الأبيض العقوق. ثم حج ورجع إلى مصر فجدّد الكلام في غرضه، فدافعوه عن مصر بقضاء القضاة في بيت المقدس، فتولاه بنزاهة وصيانة وطهارة، ولم تطل مدته هنالك حتى توفّي به بعد سنة خمس وتسعين وثمانمائة، حسبما ذكره صاحب الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل فليراجع فإنّه طال عهدي به. ومن بارع نظمه رحمه الله تعالى قوله في المجبّنات: وربّ محبوبةٍ تبدّت ... كأنّها الشمس في حلاها فاعجب لحال الأنام من قد ... أحبّها منهم قلاها ومنه قوله رحمه الله تعالى: عذري في هذا الدخان الذي ... جاور داري واضحٌ في البيان قد قلتم إنّ بها زخرفاً ... ولا يلي الزخرف إلا الدخان وقوله: تأمّلت من حسن الربيع نضارةً ... وقد غرّدت فوق الغصون البلابل حكت في غصون الدّوح قسّاً فصاحة ... لتعلم أن النبت في الروض باقل وقوله: وقائلةٍ صف الربيع محاسناً ... فقلت وعندي للكلام بدار همى ببطاح الأرض صوبٌ من الحيا ... فللنّبت في وجه الزمان عذار

وقوله: تعجّبت من يانع الورد في ... سنا وجنةٍ نبتها بارض ولم لا يرى وردها يانعاً ... وقد سال من فوقها العارض وقوله رحمه الله تعالى عند وفاة والدته: تقول لي ودموع العين واكفةٌ ... ما أفظع البين والتّرحال يا ولدي فقلت أين السّرى قالت لرحمة من ... قد عزّ الملك لم يولد ولم يلد قال تلميذه الحافظ ابن داود: ممّا ألفيته بخط قاضي الجماعة أبي عبد الله ابن الأزرق عن علي رضي الله تعالى عنه: من أراد أن يطّول الله عمره، ويظفر بعدوّه، ويصان من فتن الدنيا، ويوسّع عليه باب رزقه، فليقل هذا التسبيح إذا أصبح ثلاثاً، وإذا أمسى ثلاثاً: سبحان الله ملء رزقه، ومنتهى العلم، ومبلغ الرضى، وعدد النعم، وزنة العرش، والحمد لله ملء الميزان، ومنتهى العلم، ومبلغ الرضى، وعدد النعم، وزنة العرش، ولا إله إلاّ الله ملء الميزان، ومنتهى العلم، ومبلغ الرضى، وعدد النعم، وزنة العرش، والله أكبر ملء الميزان، ومنتهى العلم، ومبلغ الرضى، وعدد النعم، وزنة العرش، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم مثل ذلك، وصلى الله على سيدنا محمد وآله مثل ذلك. قال: وبخطّه أيضاً لنيل الرزق وما يراد: يا باسط، يا جواد، يا علي في عرشك، بحق حقّك على جميع خلقك، ابسط [لي] رزقك، وسخر لي خلقك. وبخطّه أيضاً: بسم الله الرحمن الرحيم الدافع المانع الحافظ الحي القيوم القوي القادر الولي الناصر الغالب الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم. وبخطّه أيضاً: يا فتّاح، يا عليم، يا نور، يا هادي، يا حق، يا مبين

افتح لي فتحاً تنوّر به قلبي، وتشرح به صدري، واهدني إلى طريق ترضاه، وبيّن لي أمري، وصلى الله على سيدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً. انتهى. وقال رحمه الله تعالى مورّياً: من تكن صنعته الإنشاء لا ... ينكر الرزق لأقصى العمر ولو استعلى على السبع الدرا ... ريّ بما في فمه من درر فأنا الكاتب لكن لو يبا ... ع لي العتق لكنت المشتري هكذا رأيت نسبتها إليه. ولنختم ترجمته، بل والباب جميعاً، بقوله، رحمه الله تعالى، عند نزول طاغية النصارى بمرج غرناطة أعادها الله تعالى للإسلام بجاه النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: مشوقٌ بخيمات الأحبّة مولع ... تذكّره نجدٌ وتغريه لعلع مواضعكم يل لائمين على الهوى ... فلم يبق للسّلوان في القلب موضع ومن لي بقلبٍ تلتظي فيه زفرة ... ومن لي بجفنٍ تنهمي منه أدمع رويدك فارقب للّطائف موضعاً ... وخلّ الذي من شرّه يتوقّع وصبراً فإنّ الصبر خير غنيمةٍ ... ويا فوز من قد كان للصبر يرجع وبت واثقاً باللطف من خير راحمٍ ... فألطافه من لمحة العين أسرع وإن جاء خطبٌ فانتظر فرجاً له ... فسوف تراه في غدٍ عنك يرفع وكن راجعاً لله في كلّ حالة ... فليس لنا، إلا إلى الله، مرجع

في ذكر بعض الوافدين على الأندلس من أهل المشرق، المهتدين في قصدهم إليها

بسم الله الرحمن الرحيم الباب السادس في ذكر بعض الوافدين على الأندلس من أهل المشرق، المهتدين في قصدهم إليها بنور الهداية المضيء المشرق، والأكابر الذين حلوا بحلولهم فيها الجيد منها والمفرق، والمفتخرين برؤية قطرها المونق، على المشئم والمعرق اعلم أن الداخلين للأندلس من المشرق قوم كثيرون لا تحصر الأعيان منهم، فضلاً عن غيرهم، ومنهم من اتخذها وطناً، وصيرها سكناً، إلى أن وافته منيته ومنهم من عاد إلى المشرق بعد أن قضيت بالأندلس أمنيته. 1 - فمن الداخلين إلى الأندلس المنيذر الذي يقال إنه صحابي رأى رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم. قال ابن الأبار في التكملة (2) : المنيذر الإفريقي، له صحبة، وسكن (3) إفريقية، ودخل الأندلس فيما ذكره عبد الملك بن حبيب، قاله أبو محمد الرشاطي، ولم يذكره أحد غيره، روى عنه أبو عبد الرحمن الحبلي (4) ، انتهى.

_ (1) ق: رأى النبي. (2) التكملة: 731؛ وانظر أيضا الإصابة 6: 144. (3) التكملة: وكان يسكن. (4) اسمه عبد الله بن يزيد المعافري وكان رجلا صالحا فاضلا بعثه عمر بن عبد العزيز إلى أهل إفريقية ليفقههم، وتوفي بالقيروان سنة 100هـ (رياض النفوس 1: 64 - 66) وستجيء ترجمته في النفح (رقم: 5) .

وأنكر غير واحد دخول أحد من الصحابة الأندلس. وذكر بعض الحفاظ المنيذر المذكور، وقال: إنه المنيذر اليماني، وذكر الحجاري أنه من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وأنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير غازياً، وقال ابن بشكوال: يقال فيه المنيذر لكونه من أحداث الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقد حكى ذلك الرازي، وذكره ابن عبد البر في كتاب " الاستيعاب في الصحابة " (1) وسماه بالمنيذر الإفريقي، وقال ابن بشكوال: إن ابن عبد البر روى عنه حديثاً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكره أبو علي ابن السكن في كتاب الصحابة وقال: روي عنه حديث واحد، وأرجو أن يكون صحيحاً، وذكره ابن قانع في معجم الصحابة له. وذكره البخاري في تاريخه الكبير إذ قال: أبو المنيذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد حدث بإفريقية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " من قال رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فأنا الزعيم لآخذن بيده فأدخله الجنة " كذا ذكره البخاري بالكنية، وهذا الحديث هو الذي رووه عنه لا يعرف له غيره، وذكره أبو جعفر أحمد ابن رشدين في كتاب " مسند الصحابة " له، فقال، المنيذر اليماني إما من مذحج أو غيرها، وذكر الحديث سواء، وقد أشرنا فيما سبق إلى المنيذر هذا (2) . 2 - ومن التابعين الداخلين الأندلس أميرها موسى بن نصير، وقد سبق من الكلام عليه مافيه كفاية (3) .

_ (1) انظر الاستيعاب: 1485، والحديث الذي رواه ابن عبد البر هو الحديث الذي سيورده المؤلف نقلا عن البخاري؛ وقد أورده أيضا فيما سبق ج: 1، ص: 179. (2) انظر ص: 279 من المجلد الأول. (3) راجع ما سبق ج 1: 269 - 287.

3 - ومن التابعين الداخلين الأندلس حنش الصنعاني (1) . وفي كتاب ابن بشكوال قال ابن وضاح: حنش لقب له، واسمه حسين بن عبد الله، وكنيته أبو علي، ويقال: أبو رشدين، قال ابن بشكوال: وهو من صنعاء الشام. وذكره أبو سعيد ابن يونس في تاريخ أهل مصر وإفريقية والأندلس، فقال: إنه كان مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وغزا المغرب مع رفيقه رويفع بن ثابت، وغزا الأندلس مع موسى بن نصير، وكان فيمن ثار مع ابن الزبير على عبد الملك بن مروان، فأتى به عبد الملك في وثاق فعفا عنه، وكان أول من ولي عشور إفريقية في الإسلام، وتوفي بإفريقية سنة مائة. وذكر ابن يونس عن حنش أنه كان إذا فرغ من عشائه وحوائجه وأراد الصلاة من الليل أوقد المصباح، وقرب المصحف وإناء فيه ماء فإذا وجد النعاس استنشق الماء، وإذا تعايا في آية نظر في المصحف، وإذا جاء سائل يستطعم لم يزل يصيح بأهله: أطعموا السائل، حتى يطعم. قال ابن حبيب: دخل الأندلس من التابعين حنش بن عبد الله الصنعاني، وهو الذي أشرف على قرطبة من الفج المسمى بفج المائدة، وأذن، وذلك في غير وقت الأذان، فقال له أحد أصحابه في ذلك، فقال إن هذه الدعوة لا تنقطع من هذه البقعة إلى أن تقوم الساعة، هكذا ذكره غير واحد، وقد كشف الغيب خلاف ذلك، فلعل الرواية موضوعة أو مؤولة، والله تعالى أعلم. وذكره ابن عساكر في تاريخه، وطول ترجمته، وقال: إن صنعاء المنسوب إليها قرية من قرى الشام، وليست صنعاء اليمن، وقد قيل: إنه لم يرو عن حنش الشاميون، وإنما روى عنه المصريون، وحدث حنش عن عبد الله بن عباس أنه قال له: إن استطعت أن تلقى الله تعالى وسيفك حليته حديد فافعل.

_ (1) انظر ترجمته في رياض النفوس 1: 78 ومعالم الإيمان 1: 144 وتهذيب ابن عساكر 5: 7 وابن الفرضي 1: 148 والجذوة: 189.

وكان عبد الملك بن مروان حين غزا المغرب مع معاوية بن حديج نزل عليه بإفريقية سنة خمسين، فحفظ له ذلك، فعفا عنه حين أتي به في وثاق حين ثار مع ابن الزبير. وسئل أبو زرعة عن حنش فقال: ثقة ولم يذكر ابن عساكر أن حنشاً لقب له، وأن اسمه حسين، بل اقتصر على اسمه حنش، ولعله الصواب، لاما قاله ابن وضاح، والله تعالى أعلم (1) . وفي تاريخ ابن الفرضي أبي الوليد أن حنشاً كان بسرقسطة، وأنه الذي أسس جامعها، وبها مات، وقبره بها معروف عند باب اليهود بغربي المدينة، وفي تاريخ ابن بشكوال أنه أخذ أيضاً قبلة جامع إلبيرة، وعدل وزن قبلة قرطبة الذي هو فخر الأندلس. 4 - ومن الداخلين من التابعين للأندلس أبو عبد الله علي بن رباح اللخمي (2) . ذكر ابن يونس في تاريخ مصر أنه ولد سنة خمس عشرة عام اليرموك، وكان أعور ذهبت عينه يوم ذات السواري في البحر مع عبد الله بن سعد سنة أربع وثلاثين، وكان يفد لليمانية من أهل مصر على عبد الملك بن مروان، وكانت له من عبد العزيز بن مروان منزلة، وهو الذي زفّ أم البنين بنت عبد العزيز إلى الوليد بن عبد الملك، ثم عنت عليه عبد العزيز فأغزاه إفريقية، فلم يزل بإفريقية إلى أن توفي بها، ويقال: كانت وفاته سنة أربع عشرة ومائة. قال ابن بشكوال: أهل مصر يقولون: علي بن رباح، بفتح العين، وأما أهل العراق فعلي، بضم العين، وقد سبق هذا الكلام عن ابن معين في الباب الثاني. وقال: وقال ابنه موسى بن علي: من قال لي موسى بن علي بالتصغير لم أجعله في حل.

_ (1) ميز ابن عساكر بين اثنين لقب كل منهما حنش؛ والثاني منهما اسمه حسين وهو رحبي صنعاني همداني - من صنعاء الشام أيضا، ولكنه سكن واسطا (5: 9) . (2) ترجمة علي بن رباح في ابن الفرضي 1: 354 ورياض النفوس 1: 77.

5 - ومن التابعين الداخلين أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المعافري الحبلي (1) . قال ابن بشكوال: إنه يروي عن أبي أيوب الأنصاري وعبد الله ابن عمرو رضي الله تعالى عنهم وغيرهم، وروى عنه جماعة. وذكر البخاري في تاريخه الكبير أنه يعد في المصريين، وذكر ابن يونس في تاريخ المغرب أنه توفي بإفريقية سنة مائة، وكان رجلاً صالحاً فاضلاً، رحمه الله تعالى، ويذكر أهل قرطبة أنه توفي بقرطبة، وأنه دفن بقبليها، وقبره مشهور يتبرك به، والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر في ذلك. 6 - ومن الداخلين من التابعين حبان بن أبي جبلة (2) . ذكر ابن بشكوال أنه مولى قريش، ويكنى أبا النضر، وذكره أبو العرب محمد بن تميم في تاريخ إفريقية، وقال: حدثني فرات بن محمد أن عمر بن عبد العزيز أرسل عشرة من التابعين يفقهون أهل إفريقية منهم حبان بن أبي جبلة، روى عن عمرو ابن العاص وعبد الله بن عباس وابن عمر، رضي الله تعالى عنهم. ويقال: توفي بإفريقية سنة اثنتين وعشرين ومائة، وقيل: سنة خمس وعشرين ومائة، وذكر ابن الفرضي أنه غزى مع موسى بن نصير حين افتتح الأندلس حتى انتهى إلى حصن من حصونها يقال له قرقشونة فتوفي به. قال (3) : وقال لنا أبو محمد الثغري: بين قرقشونة وبرشلونة مسافة خمسة وعشرين ميلاً، وفيها الكنيسة المعظمة عندهم المسماة شنت مرية، ذكر أن فيها سبع سوار من فضة خالصة لم ير الراؤون مثلها لا يحزم الإنسان بذراعيه واحدة منها مع طول مفرط، هكذا نقله ابن سعيد عمن ذكر، والله تعالى أعلم.

_ (1) انظر ترجمة أبي عبد الرحمن الحبلي في ابن الفرضي 1: 250، وابن سعد 7: 511. (2) ترجمة حبان في ابن الفرضي 1: 146 ورياض النفوس 1: 73 ومعالم الإيمان 1: 158 وتهذيب التهذيب 1: 162. (3) لم يرد هذا النص في كتاب ابن الفرضي.

7 - ومن الداخلين من التابعين فيما ذكر: المغيرة ابن أبي بردة نشيط ابن كنانة العذري (1) . روى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ويروي عنه مالك في موطئه، وذكره البخاري في تاريخه الكبير، وفي كتاب الحافظ ابن بشكوال أنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير فكان موسى بن نصير يخرجه على العساكر. 8 - ومن التابعين حيوة بن رجاء التميمي (2) ، ذكر ابن حبيب أنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير وأصحابه، وأنه من جملة التابعين، رضي الله تعالى عنهم، قاله ابن بشكوال في مجموعة المترجم ب " التنبيه والتعيين لمن دخل الأندلس من التابعين ". قال ابن الأبار: وقد سمعته (3) من أبي الخطاب ابن واجب، وسمعه هو منه، انتهى. وقال ابن الأبار في موضع آخر ما صورته: رجاء بن حيوة مذكور في الذين دخلوا الأندلس من التابعين، وفي ذلك عندي نظر، وما أراه يصح، والله تعالى أعلم، انتهى. فانظر هذا فانه سماه رجاء بن حيوة، وذلك السابق حيوة بن رجاء، فالله سبحانه أعلم بحقيقة الأمر في ذلك. 9 - ومنهم عياض بن عقبة الفهري، من خيار التابعين، ذكره ابن حبيب في الأربعة الذين حضروا غنائم الأندلس، ولم يغلوا. 10 - ومنهم عبد الله بن شماسة الفهري، ذكر ابن بشكوال أنه مصري، وأن البخاري ذكره في تاريخه.

_ (1) ترجمة المغيرة في رياض النفوس 1: 80. (2) حيوة بن رجاء في التكملة: 282 ورجاء بن حيوة في التكملة: 322. (3) يعني كتاب ابن بشكوال المذكور.

11 - ومنهم عبد الجبار بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، جده عبد الرحمن أحد العشرة رضي الله تعالى عنهم، وهو ممن ذكره ابن بشكوال في الأربعة من التابعين الذين لم يغلوا. 12 - ومنهم منصور بن حزامة، فيما يذكر، قال ابن بشكوال: قرأت في كتاب روايات الشيخ أبي عبد الله ابن عابد الراوية رحمه الله تعالى قال: وممن دخل الأندلس من المعمرين ما وجدت بخط المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن الناصر رضي الله تعالى عنه في بعض كتبه المختزنة أنه قال: طرأ علينا رجل أسود من ناحية السودان في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، فذكر أنه منصور بن حزامة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يزعم أنه أدرك أيام عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وأنه كان مراهقاً، وكان مع عائشة رضي الله تعالى عنها يوم الجمل، وأنه شهد صفين، وأن حزامة أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج عن الأندلس في سنة ثلاثين وثلاثمائة إلى المغرب، انتهى. قلت: هذا كله لا أصل له، ويرحم الله تعالى حافظ الإسلام ابن حجر حيث كتب على هذا الكلام ما صورته: هذا هذيان لا أصل له، ولا يغتر به، وكذلك ترجمة أشج الغرب اتفق الحفاظ على كذبه، انتهى. قلت: وما هو إلا من نمط عكراش، والله تعالى يحفظنا من سماع الأباطيل بمنه. ومن هذه الأكاذيب ما يذكرون عن أبي الحسن علي بن عثمان بن خطاب، وأنه يعرف بأبي الدنيا، وأنه كان معمراً مشهوراً بصحبة علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وأنه رأى جماعة من كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ووصفهم بصفاتهم، وأنه رأى عائشة رضي الله عنها فيما زعم، وقدم قرطبة على المستنصر الحكم بن الناصر وهو ولي عهد، وسأله أبو بكر بن القوطية عن مغازي علي وكتبها عنه، وقد ذكره ابن بشكوال وغيره في كتبهم وتواريخهم، فقد ذكر الثقات العارفون بالفن أنه كذاب دجال مائن

جاهل، فإياك والاغترار بمثل ذلك مما يوجد في كتب كثير من المؤرخين بالمشرق والأندلس، ولا يلتفت إلى قول تميم بن محمد التميمي: إنه كان إذا لقيه ابن ثلاثمائة سنة وخمس سنين، قال تميم واتصلت بنا وفاته ببلده في نحو سنة عشرين وثلاثمائة، وبالجملة فلا أصل له، وإنما ذكرناه للتنبيه عليه. وقد عرفت بما ذكرناه التابعين الداخلين الأندلس، على أن التحقيق أنهم لم يبلغوا ذلك العدد، وإنما هم نحو خمسة أو أربعة كما ألمعنا به في غير هذا الموضع (1) ، والله تعالى أعلم. 13 - ومن الداخلين إلى الأندلس مغيث فاتح قرطبة، وقد تقدم بعض الكلام عليه، وذكر ابن حيان والحجاري أنه رومي، زاد الحجاري: وليس برومي على الحقيقة، وتصحيح نسبه أنه مغيث بن الحارث بن الحويرث ابن جبلة بن الأيهم الغساني، سبي من الروم بالمشرق وهو صغير، فأدبه عبد الملك بن مروان مع ولده الوليد، وأنجب في الولادة، وصار منه بنو مغيث الذين نجبوا في قرطبة، وسادوا وعظم بيتهم، وتفرعت دوحتهم، وكان منهم عبد الرحمن بن مغيث حاجب عبد الرحمن بن معاوية صاحب الأندلس وغيره. ونشأ مغيث بدمشق، ودخل الأندلس مع طارق فاتحها، وجاز على ما في طريقها من البلاد إلى الشام، وقدمه طارق لفتح قرطبة ففتحها ووقع بينه وبين طارق ثم وقع بينه وبين موسى بن نصير سيد طارق، فرحل معهما إلى دمشق ثم عاد إلى ظافراً عليهما الأندلس، وأنسل بقرطبة البيت المذكور، وفي " المسهب " أنه فتح قرطبة في شوال سنة اثنين وتسعين، ثم فتح الكنيسة التي تحصن بها ملك قرطبة بعد حصار ثلاثة أشهر في محرم سنة ثلاث وتسعين، ولم يذكر له مولداً ولا وفاة. وذكر الحجاري أنه تأدب بدمشق مع بني عبد الملك فأفصح بالعربية، وصار يقول من الشعر والنثر مايجوز كتبه، وتدرب على الركوب، وأخذ نفسه بالإقدام

_ (1) انظر ما تقدم ج: 1، ص: 287.

في مضايق الحروب، حتى تخرج في ذلك تخرجاً أهله في التقدم على الجيش الذي فتح قرطبة، وكان مشهوراً بحسن الرأي والكيد، وقد قدمنا كيفية فتحه قرطبة وأسره ملكها الذي لم يؤسر من ملوك الأندلس غيره، لأن منهم من عقد على نفسه أماناً، ومنهم من فر إلى جليقية. وذكر الحجاري أنه لما حصل بيده ملك قرطبة وحريمه رأى فيهن جارية كأنها بينهن بدر بين نجوم، وهي تكثر التعرض له بجمالها، فوكل بها من عرض عليها العذاب إن لم تقر بما عزمت عليه في شأن مغيث، وأنه قد فطن من كثرة تعرضها له بحسنها لما أضمرته من المكر في شأنه، فأقرت أنها أكثرت التعرض لتقع بقلبه، إذ حسنها فتان، وقد أعدت له خرقةً مسمومةً لتمسح بها ذكره عند وقاعها، فحمد الله تعالى على ما ألهمه إليه من مكرها، وقال: لو كانت نفس هذه الجارية في صدر أبيها ما أخذت قرطبة من ليلة. وذكر أن سليمان بن عبد الملك لما أصغى إلى طارق في شأن سيده موسى بن نصير فعذبه واستصفى أمواله أراد أن يصرف سلطان الأندلس إلى طارق، وكان مغيث قد تغير عليه، فاستشار سليمان مغيثاً في تولية طارق، وقال له: كيف أمره بالأندلس فقال: لو أمر أهلها بالصلاة إلى أي قبلة شاءها لتبعوه ولم يروا أنهم كفروا، فعملت هذه المكيدة في نفس سليمان، وبدا له في ولايته، فلقيه بعد ذلك طارق، فقال له: ليتك وصفت أهل الأندلس بعصياني، ولم تضمر في الطاعة ما أضمرت، فقال مغيث: ليتك تركت لي العلج فتركت لك الأندلس، وكان طارق قد أراد أن يأخذ منه ملك قرطبة الذي حصل في يده، فلم يمكنه منه، فأغرى به سيده موسى بن نصير، وقال له: يرجع إلى دمشق وفي يده عظيم من عظماء الأندلس، وليس في أيدينا مثله، فأي فضل يكون لنا عليه فطلبه منه، فامتنع من تسليمه، قال ابن حيان: فهجم موسى على العلج وانتزعه من مغيث، فقيل له: إن سرت به معك حياً ادعاه مغيث والعلج لا ينكر، ولكن اضرب عنقه، ففعل، فاضطغنها عليه مغيث، وبالغ

في أذيته عند سليمان. وذكر الحجاري في " المسهب " أن لمغيث من الشعر ما يجوز كتبه، فمن ذلك شعر خاطب به موسى بن نصير ومولاه طارقاً ويكفي منه هنا قوله: أعنتكم ولكن ما وفيتم فسوف أعيث في غربٍ وشرق وعنوان طبقته في النثر أن موسى بن نصير قال له وقد عارضه بكلام في محفل من الناس: كفّ لسانك، فقال: لساني كالمفصل، ما أكفه إلا حيث يقتل (1) . وأضافه ابن حيان والحجاري إلى ولاء الوليد بن عبد الملك، وهو الذي وجهه إلى الأندلس غازياً ففتح قرطبة، ثم عاد إلى المشرق، فأعاده الوليد رسولاً عنه إلى موسى بن نصير يستحثه على القدوم عليه، فوفد معه، فوجدوا الوليد قد مات، فخدم بعده سليمان بن عبد الملك. 14 - 15 - ومن الداخلين أيوب (2) بن حبيب اللخمي. وذكر ابن حيان أنه ابن أخت موسى بن نصير، وأن أهل إشبيلية قدموه على سلطان الأندلس بعد قتل عبد العزيز بن موسى، واتفقوا في أيامه على تحويل السلطان من إشبيلية إلى قرطبة، فدخل إليها بهم، وكان قيامه بأمرهم ستة أشهر، وقيل: إن الذي نقل السلطنة من إشبيلية إلى قرطبة الحر بن عبد الرحمن الثقفي. قال الرازي: قدم الحر والياً على الأندلس في ذي الحجة سنة سبع وتسعين ومعه أربعمائة رجل من وجوه إفريقية، فمنهم أول طوالع الأندلس المعدودين، وقال ابن بشكوال: كانت مدة الحر سنتين وثمانية أشهر، وكانت ولايته بعد قيام أيوب بن حبيب اللخمي. 16 - 26 - ومن الداخلين السمح بن مالك الخولاني، ولي الأندلس

_ (1) ق ودوزي: سأكفه إلا حيث يقبل. (2) ق: أبو أيوب؛ وانظر أخبار مجموعة: 21.

بعد الحر بن عبد الرحمن السابق، قال ابن حيان: ولاه عمر بن عبد العزيز، وأوصاه أن يخمس من أرض الأندلس ما كان عنوة، ويكتب إليه بصفتها وأنهارها وبحارها، قال: وكان من رأيه أن ينقل المسلمين عنها لانقطاعهم وبعدهم عن أهل كلمتهم، قال: وليت الله تعالى أبقاه حتى يفعل، فإن مصيرهم مع الكفار إلى بوار إلى أن يستنقذهم الله تعالى برحمته (1) . وذكر ابن حيان أن قدوم السمح كان في رمضان سنة مائة، وأنه الذي بنى قنطرة قرطبة بعدما استأذن عمر بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى، وكانت دار سلطانه قرطبة. قال ابن بشكوال: استشهد بأرض الفرنجة يوم التروية سنة اثنتين ومائة. قال ابن حيان: كانت ولايته سنتين وثمانية أشهر، وذكر أن قتل في الوقعة المشهورة عند أهل الأندلس بوقعة البلاط (2) ، وكانت جنود الإفرنجة قد تكاثرت عليه فأحاطت بالمسلمين، فلم ينج من المسلمين أحد، قال ابن حيان: فيقال: إن الأذان يسمع بذلك الموضع إلى الآن. وقدم أهل الأندلس على أنفسهم بعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي. وذكر ابن بشكوال أنه من التابعين الذين دخلوا الأندلس، وأنه يروي عن عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهما، قال: وكانت ولايته للأندلس في حدود العشر ومائة من قبل عبيدة بن عبد الرحمن القيسي صاحب إفريقية، واستشهد في قتال العدو بالأندلس سنة خمس عشرة، انتهى. وفيه مخالفة لما سبق أنه ولي بعد السمح، وأن السمح قتل سنة102، وهذا يقول تولى سنة 110، فأين ذا من ذاك والله تعالى أعلم.

_ (1) أورد هذا صاحب أخبار مجموعة: 23 وابن القوطية: 39 وابن عذاري 2: 26. (2) المرجح أن السمح بن مالك واصل تقدمه وراء جبال البرتات حتى شارف طولوشة (Tolosa) وهناك دارت معركة بينه وبين دوقها أسفرت عن مقتله؛ وهذا يتعارض مع قول صاحب أخبار مجموعة " فعزل بشر السمح بن مالك وولي عنبسة بن سحيم ... " (ص 24) .

ووصفه الحميدي بحسن السيرة والعدل في قسمة الغنائم (1) ، وذكر الحجاري أنه ولي الأندلس مرتين، وربما يجاب بهذا عن الإشكال الذي قدمناه قريباً (2) ، ويضعفه أن ابن حيان قال: دخل الأندلس حين وليها الولاية الثانية من قبل ابن الحبحاب في صفر سنة ثلاث عشرة ومائة، وغزا الإفرنج فكانت له فيهم وقائع جمة إلى أن استشهد، وأصيب عسكره في شهر رمضان سنة 114، في موضع يعرف ببلاط الشهداء. قال ابن بشكوال: وتعرف غزوته هذه بغزوة البلاط، وقد تقدم مثل هذا في غزوة السمح، فكانت ولايته سنة وثمانية أشهر، وفي رواية سنتين وثمانية أشهر، وقيل غير ذلك، وكان سرير سلطانه حضرة قرطبة. وولي الأندلس بعده عنبسة بن سحيم الكلبي (3) ، وذكر ابن حيان أنه قدم على الأندلس والياًمن قبل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج حين كان صاحب إفريقية، وكان قدومه الأندلس في صفر سنة103، فتأخر بقدومه عبد الرحمن المتقدم الذكر، قال ابن بشكوال: فاستقامت به الأندلس، وضبط أمرها، وغزا بنفسه إلى أرض الإفرنجة وتوفي في شعبان سنة 107 (4) ، فكانت ولايته أربعة أعوام وأربعة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر.

_ (1) انظر الجذوة: 255 - 256. (2) هذا حقا يزيل الإشكال الذي أشار إليه؛ ذلك أن عبد الرحمن الغافقي أنقذ بقية الجند بعد مقتل السمح فولاه الجند أمر الأندلس سنة 102 حتى يقدم وال جديد، فلما وصل عتبة بن سحيم الكلبي أخذ الولاية من يده، ثم عاد عبد الرحمن إلى ولاية الأندلس في حدود 112هـ. وهذا لا يتعارض مع قول ابن حيان وإنما يتعارض مع قول ابن بشكوال إنه تولى في حدود سنة 110هـ. وقد سها ابن بشكوال عن أن بين عنبسة وعبد الرحمن واليا هو عذرة بن عبد الله الفهري. (3) يريد بعد ولاية عبد الرحمن الأولى. (4) انظر فجر الأندلس حيث وصف المؤلف استمرار عنبسة في الغزو حتى سنة 112 (ص 247) ثم ذكر (ص 254) أن عنبسة أصيب بجراح بالغة توفي على أثرها سنة 107هـ؛ ولعل هذا بسبب اضطراب المصادر القديمة نفسها في ترتيب ولاة الأندلس.

وذكر ابن حيان أنه في أيامه قام بجليقية علجٌ خبيثٌ يدعى بلاي (1) ، فعاب على العلوج طول الفرار، وأذكى قرائحهم حتى سما بهم إلى طلب الثار، ودافع عن أرضه، ومن وقته أخذ نصارى الأندلس في مدافعة المسلمين عما بقي بأيديهم من أرضهم والحماية عن حريمهم، وقد كانوا لا يطمعون في ذلك، وقيل: إنه لم يبق بأرض جليقية قرية فما فوقها لم تفتح إلا الصخرة التي لاذ بها هذا العلج ومات أصحابه جوعاً إلى أن بقي في مقدار ثلاثين رجلاً ونحو عشر نسوة، وما لهم عيش إلا من عسل النحل في جباح (2) معهم في خروق الصخرة، وما زالوا ممتنعين بوعرها إلى أن أعيا المسلمين أمرهم، واحتقروهم، وقالوا: ثلاثون علجاً ما عسى أن يجيء منهم فبلغ أمرهم بعد ذلك في القوة والكثرة والاستيلاء ما لا خفاء به. وملك بعده أذفونش جد عظماء الملوك المشهورين بهذه السمة. قال ابن سعيد: فآل احتقار تلك الصخرة ومن احتوت عليه إلى أن ملك عقب من كان فيها المدن العظيمة، حتى إن حضرة قرطبة في يدهم الآن، جبرها الله تعالى، وهي كانت سرير السلطنة لعنبسة. قال ابن حيان والحجاري: إنه لما استشهد عنبسة قدم أهل الأندلس عليهم عذرة (3) بن عبد الله الفهري، ولم يعده ابن بشكوال في سلاطين الأندلس، بل قال: ثم تتابعت ولاة الأندلس مرسلين من قبل صاحب إفريقية: أولهم يحيى بن سلمة، وذكر الحجاري أن عذرة كان من صلحائهم وفرسانهم، وصار لعقبه نباهة،

_ (1) سيعود المقري إلى ذكر " بلاي " في أول الباب الثامن من القسم الأول؛ وانظر كذلك أخبار مجموعة: 61 وابن عذاري 2: 29؛ وقد أسهب الدكتور مؤنس (فجر الأندلس 313 - 343) في توضيح أمر بلاي هذا (Pelayo وباللاتينية: Pelagius) بدراسة الروايات العربية والإسبانية. (2) كذلك وردت هذه اللفظة في أخبار مجموعة: 28 والمقصود بها " الخلايا "؛ انظر ملحق المعاجم لدوزي: " جبح ". (3) ق ودوزي: عزرة.

وولده هشام بن عذرة هو الذي استولى على طليطلة قصبة الأندلس، وفي عقبه بوادي آش من مملكة غرناطة نباهة وأدب، قال ابن سعيد: وهم إلى الآن ذوو بيت مؤصل، ومجد مؤثل، وكان سرير سلطنة عذرة قرطبة. وولي بعده يحيى بن سلمة الكلبي، قال ابن بشكوال: أنفذه إلى الأندلس بشر بن صفوان الكلبي والي إفريقية إذ استدعى منه أهلها والياً بعد مقتل أميرهم عنبسة، فقدمها في شوال سنة سبع ومائة، وأقام عليها سنة وستة أشهر لم يغز فيها بنفسه غزوةً - ونحوه لابن حيان - وكان سريره قرطبة. وتولى بعده عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، وذكر ابن بشكوال: أنه قدم عليها والياً من قبل عبيدة بن عبد الرحمن السلمي صاحب إفريقية في شعبان سنة عشر ومائة، ثم عزل سريعاً بعد خمسة أشهر، وكان سرير سلطانه بقرطبة. وولي بعده حذيفة بن الأحوص القيسي، قال ابن بشكوال: وأتى إليها والياً من قبل عبيدة المذكور، على اختلاف فيه وفي ابن أبي نسعة أيهما تولى قبل صاحبه، وكان قدوم حذيفة في ربيع الأول سنة عشر ومائة، وعزل عنها سريعاً أيضاً، وقيل: إن ولايته استتمت سنة، وكان بقرطبة. وولي بعده الأندلس الهيثم بن عدي الكلابي، قال ابن بشكوال: ولاه عبيدة المذكور فوافى الأندلس في المحرم سنة إحدى عشرة ومائة، وقيل: إنه ولي سنتين وأياماً، وقد قيل: أربعة أشهر، وكان بقرطبة. وولي بعده محمد بن عبد الله الأشجعي، قال ابن بشكوال: قدمه الناس عليهم، وكان فاضلاً فصلى بهم شهرين. قال: ثم قدم عليهم والياً عبد الرحمن ابن عبد الله الغافقي الذي تقدمت ترجمته، وذكرت ولايته الأولى للأندلس، وليها من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية إلى أن استشهد كما تقدم. وولي الأندلس بعده عبد الملك بن قطن الفهري، وذكر الحجاري أن من نسله بني القاسم أصحاب البونت وبني الجد أعيان إشبيلية، قال ابن بشكوال: قدم الأندلس في شهر رمضان سنة أربعة عشرة ومائة فكانت مدة ولايته عامين

وقيل أربع سنين، ثم عزل عنها ذميماً في شهر رمضان سنة ست عشرة ومائة، قال: وكان ظلوماً في سيرته، جائراً في حكومته، وغزا أرض البشكنس فأوقع بهم. وذكر ابن بشكوال أنه لما عزل وولي عقبة بن الحجاج وثب ابن قطن عليه فخلعه، لا أدري أقتله أم أخرجه، وملك الأندلس بقية إحدى وعشرين ومائة إلى أن رحل بلج بن بشر بأهل الشام إلى الأندلس، فغلبه عليها، وقتل عبد الملك بن قطن، وصلب في ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين ومائة بعد ولاية بلج بعشرة أشهر، وصلب بصحراء ربض قرطبة بعدوة النهر حيال رأس القنطرة، وصلبوا عن يمينه خنزيراً وعن يساره كلباً، وأقام شلوه على جذعه إلى أن سرقه مواليه في الليل وغيبوه، فكان المكان بعد ذلك يعرف بمصلب ابن قطن. فلما ولي ابن عمه يوسف بن عبد الرحمن الفهري استأذنه ابنه أمية بن عبد الملك، وبنى فيه مسجداً نسب إليه، فقيل: مسجد أمية، وانقطع عنه اسم المصلب، وكان سن عبد الملك عند مقتله نحو التسعين. وذكر ابن بشكوال أن عقبة بن الحجاج السلولي ولاه عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية الأندلس ودخلها سنة سبع وعشرة ومائة، وقيل: في السنة التي قبلها، فأقام بها سنين محمود السيرة، مثابراً على الجهاد، مفتتحاً البلاد، حتى بلغ سكنى المسلمين أربونة وصار رباطهم على نهر رودنة (1) ، فأقام عقبة بالأندلس سنة إحدى وعشرين ومائة، وكان قد اتخذ بأقصى ثغر الأندلس الأعلى مدينة يقال لها أربونة كان ينزلها للجهاد، وكان إذا أسر الأسير لم يقتله حتى يعرض عليه الإسلام ويبين له عيوب دينه، فأسلم على يده ألفا رجل، وكانت ولايته خمس سنين وشهرين، قال الرازي: فثار أهل الأندلس بعقبة، فخلعوه في صفر سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام ابن عبد الملك، وولوا على أنفسهم عبد الملك بن قطن، وهي ولايته الثانية،

_ (1) ق: رودنة - حيثما وقع - وقد صوبناه فيما سبق؛ والإدريسي رودنو (يعني نهر الرون) ؛ وفي بعض المصادر " رادنه ".

فكانت ولاية عقبة الأندلس ستة أعوام وأربعة أشهر، وتوفي في صفر سنة 123، وسريره قرطبة. 27 - 31 - ومن الداخلين إلى الأندلس بلج بن بشر بن عياض القشيري. قال ابن حيان: لما انتهى إلى الخليفة هشام بن عبد الملك ماكان من أمر خوارج البربر بالمغرب الأقصى والأندلس وخلعهم لطاعته وعيثهم في الأرض شق عليه فعزل عبيد الله بن الحبحاب عن إفريقية، وولى عليها كلثوم ابن عياض القشيري، ووجه معه جيشاً كثيفاً لقتالهم، كان فيه مع ما انضاف إليه من جيوش البلاد التي صار عليها سبعون ألفاً ومع ذلك فإنه لما تلاقى مع ميسرة البربري المدعي للخلافة هزمه ميسرة وجرح كلثوم ولاذ بسبتة، وكان بلج ابن أخيه معه، فقامت قيامه هشام لما سمع بما جرى عليه، فوجه لهم حنظلة بن صفوان فأوقع بالبربر ففتح الله تعالى على يديه. ولما اشتد حصار بلج وعمه كلثوم ومن معهما من فلّ أهل الشام بسبتة وانقطعت عنهم الأقوات وبلغوا من الجهد الغاية استغاثوا بإخوانهم من عرب الأندلس، فتثاقل عنهم صاحب الأندلس عبد الملك بن قطن لخوفه على سلطانه منهم، فلما شاع خبر ضرهم عند رجال العرب أشفقوا عليهم، فأغاثهم زياد بن عمرو اللخمي بمركبين مشحونين ميرةً أمسكا من أرماقهم، فلما بلغ ذلك عبد الملك ابن قطن ضربه سبعمائة سوط، ثم اتهمه بعد ذلك بتضريب الجند عليه، فسمل عينيه، ثم ضرب عنقه، وصلبه وصلب عن يساره كلباً، واتفق في هذا الوقت أن برابر الأندلس لما بلغهم ما كان من ظهور برابر العدوة على العرب انتفضوا على عرب الأندلس، واقتدوا بما فعله إخوانهم، ونصبوا عليهم إماماً، فكثر إيقاعهم بجيوش ابن قطن، واستفحل أمرهم، فخاف ابن قطن أن يلقى منهم ما لقي العرب ببر العدوة من إخوانهم، وبلغه أنهم قد عزموا على قصده، فلم ير أجدى من الاستعداد بصعاليك عرب الشام أصحاب بلج الموتورين، فكتب

لبلج وقد مات عمه كلثوم في ذلك الوقت، فأسرعوا إلى إجابته، وكانت أمنيتهم، فأحسن إليهم، وأسبغ النعم عليهم، وشرط عليهم أن يأخذ منهم رهائن، فإذا فرغوا له من البربر جهزهم (1) إلى إفريقية، وخرجوا له عن أندلسه، فرضوا بذلك، وعاهدوه عليه، فقدم عليهم وعلى جنده ابنيه قطناً وامية، والبربر في جموع لايحصيها غير رازقها، فاقتتلوا قتالاً صعب فيه المقام، إلى أن كانت الدائرة على البربر، فقتلتهم العرب بأقطار الأندلس حتى ألحقوا فلهم بالثغور، وخفوا عن العيون، فكر الشاميون وقد امتلأت أيديهم من الغنائم، فاشتدت شوكتهم، وثابت همتهم، وبطروا، ونسوا العهود، وطالبهم ابن قطن بالخروج عن الأندلس إلى الأندلس إلى إفريقية، فتعالوا عليه، وذكروا صنيعه بهم أيام انحصارهم في سبتة، وقتله الرجل الذي أغاثهم بالميرة، فخلعوه، وقدموا على أنفسهم أميرهم بلج بن بشر، وتبعه جند ابن قطن، وحملوا عليه في قتل ابن قطن، فأبى فثارت اليمانية وقالوا: قد حميت لمضرك، والله لا نطيعك، فلما خاف تفرق الكلمة أمر بابن قطن فأخرج إليهم وهو شيخ كبير كفرخ نعامةٍ قد حضر وقعة الحرّة مع أهل اليمامة، فجعلوا يسبونه، ويقولون له: أفلتّ من سيوفنا يوم الحرّة، ثم طالبتنا بتلك الترة فعرضتنا لأكل الكلاب والجلود وحبستنا بسبتة محبس الضنك حتى أمتّنا جوعاً، فقتلوه وصلبوه كما تقدم، وكان أمية وقطن ابناه عندما خلع قد هربا، وحشدا لطلب الثأر، واجتمع عليهما العرب الأقدمون والبربر، وصار معهم عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة ابن عقبة بن نافع الفهري كبير الجند، وكان في أصحاب بلج، فلما صنع بابن عمه عبد الملك ماصنع فارقه، فانحاز فيمن يطلب ثأره، وانضم إليهم عبد الرحمن بن علقمة اللخمي صاحب أربونة، وكان فارس الأندلس في وقته، فأقبلوا نحو بلج في مائة ألف أو يزيدون، وبلج قد استعد

_ (1) ق: همزمهم؛ وانظر أخبار مجموعة: 39.

لهم في مقدار اثني عشر ألفاً سوى عبيد له كثيرة وأتباع من البلديين، فاقتتلوا، وصبر أهل الشام صبراً لم يصبر مثله أحدٌ قط، وقال عبد الرحمن بن علقمة اللخمي: أروني بلجاً، فو الله لأقتلنه أو لأموتنّ دونه، فأشاروا إليه نحوه، فحمل بأهل الثغر حملةً انفرج لها الشاميون، والراية في يده، فضربه عبد الرحمن ضربتين مات منهما بعد ذلك في أيامٍ قلائل، ثم إن البلديين انهزموا بعد ذلك هزيمةً قبيحة، واتبعهم الشاميون يقتلون ويأسرون، فكان عسكراً منصوراً مقتولاً أميره، وكان هلاك بلج في شوال سنة أربع وعشرين ومائة، وكانت مدته أحد عشر شهراً، وسريره قرطبة، والعرب الشاميون الداخلون معه إلى الأندلس يعرفون عند أهل الأندلس بالشاميين، والذين كانوا في الأندلس قبل دخوله يشهرون بالبلديين. ولما هلك بلج قدم الشاميون عليهم بالأندلس ثعلبة بن سلامة العاملي، وقد كان عندهم عهد الخليفة هشام بذلك، فسار فيهم بأحسن سيرة، ثم إن أهل الأندلس الأقدمين من العرب والبربر سموا بعد الوقعة لطلب الثأر، فآل أمره معهم إلى أن حصروه بمدينة ماردة، وهم لا يشكّون في الظفر، إلى أن حضر عيدٌ تشاغلوا به، فأبصر ثعلبة منهم غرةً وانتشاراً وأشراً بكثرة العدد والاستيلاء، فخرج عليهم في صبيحة عيدهم وهم ذاهلون، فهزمهم هزيمة قبيحة، وأفشى فيهم القتل، وأسر منهم ألف رجل، وسبى ذريتهم وعيالهم، وأقبل إلى قرطبة من سبيهم بعشرة آلاف أو يزيدون، حتى نزل بظاهر قرطبة يوم خميس وهو يريد أن يحمل الأسارى على السيف بعد صلاة الجمعة. وأصبح الناس منتظرين لقتل الأسارى، فإذا بهم قد طلع عليهم لواءٌ فيه موكب، فنظروا فإذا أبو الخطار قد أقبل والياً على الأندلس، وهو أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي. وذكر ابن حيان أنه قدم والياً من قبل حنظلة بن صفوان صاحب إفريقية، والخليفة حينئذٍ الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وذلك في رجب سنة خمس وعشرين ومائة، بعد عشرة أشهر وليها ثعلبة بن سلامة، قال: وكان

مع فروسيته شاعراً محسناً، وكان في أول ولايته قد أظهر العدل فدانت له الأندلس، إلى أن مالت به العصبية اليمانية على المضرية، فهاج الفتنة العمياء، وكان سبب هذه الفتنة أن أبا الخطار قد بلغ به التعصب لليمانية أن اختصم عنده رجل من قومه مع خصم له من كنانة كان أبلج حجةً من ابن عم أبي الخطار، فمال أبو الخطار مع ابن عمه، فأقبل الكناني إلى الصميل ابن حاتم الكلابي أحد سادات مضر، فشكا له حيف أبي الخطار، وكان أبياً للضيم حامياً للعشيرة، فدخل على أبي الخطار وأمض عتابه، فنجهه أبو الخطار وأغلظ له، فرد الصميل عليه، فأمر به أبو الخطار، فأقيم ودعّ قفاه حتى مالت عمامته، فلما خرج قال له بعض من على الباب: أبا جوشن، ما بال عمامتك مائلة فقال: إن كان لي قوم فسيقيمونها. وأقبل إلى داره، فاجتمع إليه قومه حين بلغهم ذلك ممتعضين، فباتوا عنده، فلما أظلم الليل قال: ما رأيكم فيما حدث علي فإنه منوط بكم فقالوا: أخبرنا بما تريد، فإن رأينا تبع رأيك، فقال: والله أريد إخراج هذا الأعرابي من هذا السلطان على ماخيلت، وأنا خارج لذلك عن قرطبة، فإنه ما يمكنني ما أريد إلا بالخروج، فإلى أين ترون أقصد فقالوا: اذهب حيث شئت، ولاتأت أبا عطاء القيسي، فإنه لا يواليك على أمر ينفعك، وكان أبو عطاء هذا سيداً مطاعاً يسكن بإستجة، وكان مشاحناً للصميل مسامياً له في القدر، فسكت عند ذكره أبو بكر ابن الطفيل العبدي، وكان من أشرافهم، إلا أنه كان حديث السن، فقال له الصميل: ألا تتكلم فقال: أتكلم بواحدة ماعندي غيرها، قال: وما هي قال: إن عدوت إتيان أبي عطاء وشتت أمرك به لم يتم أمرنا وهلكنا، وإن أنت قصدته لم ينظر في شيء مما سلف بينكما، وحركته الحمية لك، فأجابك إلى ما تريد، فقال له الصميل: اصبت الرأي، وخرج من ليلته، وقام أبو عطاء في نصرته على ما قدره العبدي، وعمد إلى ثوابة ابن يزيد الجذامي أحد أشراف اليمن وساداتهم، وكان ساكناً بمورور وقد استفسد إليه أبو الخطار، فأجابهما في

القيام والتقدم على المضرية، فاجتمعوا في شذونة، وآل الأمر إلى أن هزموا أبا الخطار على وادي لكة، وحصل أسيراً في أيديهم، فأرادوا قتله، ثم أرجأوه، وأوثقوه وأقبلوا به إلى قرطبة، وذلك في رجب سنة 127 بعد ولاية أبي الخطار بسنتين. ولما سجن أبو الخطار في قرطبة امتعض له عبد الرحمن بن حسان الكلبي، فأقبل إلى قرطبة ليلاً في ثلاثين فارساً مهعم طائفة من الرجالة، فهجموا على الحبس وأخرجوه منه، ومضوا به إلى غرب الأندلس، فعاد في طلب سلطانه، ودبَّ في يمانيته حتى اجتمع له عسكر أقبل بهم إلى قرطبة، فخرج إليه ثوابة ومعه الصميل، فقام رجل من المضرية ليلاً فصاح بأعلى صوته: يا معشر اليمن، مالكم تتعرضون إلى الحرب وتردون المنايا عن أبي الخطار أليس قد قدرنا عليه لو أردنا قتله لفعلنا، لكننا مننا وعفونا وجعلنا الأمير منكم، أفلا تفكرون في أمركم، فلو ان الأمير من غيركم عذرتم، ولا والله لا نقول هذا رهبةً منكم ولا خوفاً لحربكم، ولكن تحرجاً من الدماء ورغبةً في عافية العامة، فتسامع الناس به، وقالوا: صدق، فتداعوا للرحيل ليلاً، فما أصبحوا إلا على أميال. قال الرازي: ركب أبو الخطار البحر من ناحية تونس في المحرم سنة 125، وفي كتاب أبي الوليد ابن الفرضي: كان أبو الخطار أعرابياً عصبياً، أفرط في التعصب لليمانيين، وتحامل على مضر، واسخط قيساً، فثار به زعيمهم الصميل، فخلعه، ونصب مكانه ثوابة، وهاج بين الفريقين الحروب المشهورة، وخلع أبو الخطار بعد أربع سنين وتسعة أشهر، وذلك سنة 128، وآل أمره إلى أن قتله الصميل. وولي الأندلس ثوابة بن سلامة الجذامي، قال ابن بشكوال: لما اتفقوا عليه خاطبوا بذلك عبد الرحمن بن حبيب صاحب القيروان، فكتب إليه بعهد الأندلس، وذلك سلخ رجب سنة 127، فضبط البلد، وقام بأمره كله

الصميل واجتمع عليه أهل الأندلس، واقام والياً سنةً أو نحوها، ثم هلك، وفي كتاب ابن الفرضي أنه ولي سنتين. ثم ولي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة ابن نافع الفهري، وجده عقبة بن نافع صاحب إفريقية وباني القيروان المجاب الدعوة صاحب الغزوات والآثار الحميدة، ولهذا البيت في السلطنة بإفريقية والأندلس نباهة. وذكر الرازي أن مولده بالقيروان، ودخل أبوه الأندلس من إفريقية مع حبيب بن أبي عبيدة الفهري عند افتتاحهم، ثم عاد إلى إفريقية، وهرب عنه ابنه يوسف هذا من إفريقية إلى الأندلس مغاضباً له، فهوي الأندلس، واستوطنها فساد بها، قال الرازي: كان يوسف يوم ولي الأندلس ابن سبع وخمسين سنة، وأقامه أهل الأندلس بعد أميرهم ثوابة، وقد مكثوا بغير والٍ أربعة أشهر، فاجتمعوا عليه بإشارة الصميل من أجل أنه قرشي رضي به الحيان، فرفعوا الحرب، ومالوا إلى الطاعة، فدانت له الأندلس تسع سنين وتسعة أشهر، وقال ابن حيان: قدمه أهل الأندلس في ربيع الآخر سنة 129، واستبد بالأندلس دون ولاية أحد له غير من بالأندلس، وحكى ابن حيان أنه أنشد قول حرقة بنت النعمان بن المنذر يوم خلعه بالأمان من سلطانه ودخوله عسكر عبد الرحمن الداخل المرواني: فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقةٌ نتنصَّف قال ابن حيان: لما سمع أبو الخطار بتقديمه حرك يمانيته، فأجابوا دعوته، فأدى ذلك إلى وقعة شقندة بين اليمانية والمضرية فيقال: إنه لم يك بالمشرق ولا بالمغرب حربٌ أصدق منها جلاداً ولا أصبر رجالاً، طال صبر بعضهم على بعض، إلى أن فني السلاح، وتجاذبوا بالشعور، وتلاطموا بالأيدي وكل بعضهم عن بعض، وثابت للصميل غرة في اليمانية في بعض الأيام، فأمر بتحريك أهل الصناعات بأسواق قرطبة، فخرجوا في نحو أربعمائة رجل من

أنجادهم بما حضرهم من السكاكين والعصي ليس فيهم حامل رمح ولا سيف إلا قليلاً، فرماهم على اليمانية وهم على غفلة، وما فيهم من يبسط يداً لقتال، ولا ينهض لدفاع، فانهزمت اليمانية ووضعت المضرية السيف فيهم، فأبادوا منهم خلقاً، واختفى أبو الخطار تحت سرير رحى، فقبض عليه وجيء به إلى الصميل، فضرب عنقه، وقد ذكرنا خبر انخلاع يوسف عن سلطانه في ترجمة عبد الرحمن الداخل، وهو آخر سلاطين الأندلس الذين ولوها من غير موارثة، حتى جاءت الدولة المروانية. وذكر ابن حيان أن القائم بدولة يوسف والمستولي عليها الصميل ابن حاتم ابن شمر ابن ذي الجوشن الكلابي، وجده شمر هو قاتل الحسين، رضي الله تعالى عنه، وكان شمر قد فر من المختار بولده من الكوفة إلى الشام، فلما خرج كلثوم بن عياض للمغرب كان الصميل فيمن خرج معه، ودخل الأندلس في طالعة بلج، وكان شجاعاً جواداً جسوراً على قلب الدول، فبلغ مابلغ، وآل أمره إلى أن قتله عبد الرحمن الداخل المرواني في سجن قرطبة مخنوقاً. وذكر ابن حيان أنه كان ممن ثار على يوسف الفهري عبد الرحمن بن علقمة اللخمي فارس الأندلس، ووالي ثغر أربونة، وكان ذا بأسٍ شديدٍ ووجاهةٍ عظيمة، فبينما هو في تدبير غزو يوسف إذ اغتاله أصحابه واقبلوا برأسه إليه. ثم ثار عليه بعد ذلك بمدينة باجة عروة بن الوليد في أهل الذمة وغيرهم، فملك إشبيلية، وكثر جمعه إلى أن خرج له يوسف فقتله، وثار علية بالجزيرة الخضراء عامر العبدري، فخرج له، وأنزله على أمان في سكنى قرطبة، ثم ضرب عنقه بعد ذلك. وقيل: إن أول من خرج على يوسف عمرو بن يزيد الأزرق في إشبيلية فظفر به فقتله، وثار عليه في كورة سرقسطة الحباب الزهري إلى أن ظفر به يوسف فقتله، ثم جاءته الداهية العظمى بدخول عبد الرحمن بن معاوية المرواني إلى الأندلس وسعيه في إفساد سلطانه، فتم له ماأراده، والله تعالى أعلم.

32 - ومن الداخلين من المشرق إلى الأندلس ملكها عبد الرحمن بن معاوية ابن أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك بن مروان، المعروف بالداخل (1) . وذلك أنه لما أصاب دولتهم ماأصاب، واستولى بنو العباس على ماكان بأيديهم، واستقر قدمهم في الخلافة، فرّ عبد الرحمن إلى الأندلس فنال بها ملكاً أورثه عقبه حقبةً من الدهر. قال ابن حيان في " المقتبس ": إنه لما وقع الاختلال في دولة بني أمية والطلب عليهم، فرّ عبد الرحمن، رلم يزل في فراره منتقلاً بأهله وولده إلى أن حلّ بقرية على الفرات ذات شجرٍ وغياضٍ، يريد المغرب، لما حصل في خاطره من بشرى مسلمة (2) ، فمما حكي عنه أنه قال: إني لجالس يوماً في تلك القرية في ظلمة بيت تواريت فيه لرمدٍ كان بي، وابني سليمان بكر ولدي يلعب قدّامي، وهو يومئذٍ ابن أربع سنينٍ أو نحوها، إذ دخل الصبي من باب البيت فازعاً باكياً فأهوى إلى حجري، فجعلت أدفعه إلى ما كان بي ويأبى إلا التعلق، وهو دهشٌ يقول ما يقوله الصبيان عند الفزع، فخرجت لأنظر، فإذا بالروع قد نزل بالقرية، ونظرت فإذا بالرايات السود عليها منحطة، وأخٍ لي حديث السن كان معي يشتد هارباً ويقول لي: النجاء يا أخي، فهذه رايات المسودة (3) ، فضربت بيدي على دنانير تناولتها، ونجوت بنفسي والصبي أخي معي، وأعلمت أخواتي بمتوجهي ومكان مقصدي، وأمرتهن أن يلحقنني ومولاي بدر معهن، وخرجت فكمنت في موضع ناء عن القرية، فما كان إلا ساعةً حتى أقبلت

_ (1) انظر اخبار عبد الرحمن الداخل في ابن القوطية: 45 وأخبار مجموعة: 50 وابن عذاري 2: 40 والنويري 22: 1 (الباب الخامس) وذكر بلاد الأندلس، الورقة: 89 والمقتطفات، الورقة: 109 ونص هذا الأخير مطابق لنص النفح. (2) نسب إلى مسلمة بن عبد الملك أنه كان يخبر بأمور من الحدثان والملاحم، وكان يرى أن نهاية بني أمية في المشرق قد اقتربت ويتنبأ بظهور عبد الرحمن (راجع أخبار مجموعة: 51 - 52) وسيأتي شيء من ذلك في هذا الكتاب. (3) المقتطفات: فهذه الرايات السود.

الخيل فأحاطت بالدار، فلم تجد أثراً ومضيت ولحقني بدر، فأتيت رجلاً من معارفي بشط الفرات، فأمرته أن يبتاع لي دواب وما يصلح لسفري، فدلّ علي عبد سوء له العامل، فما راعنا إلا جلبة الخيل تحفزنا فاشتددنا (1) في الهرب، فسبقناها إلى الفرات (2) ، فرمينا فيه بأنفسنا، والخيل تنادينا من الشط: ارجعا لا بأس عليكما، فسبحت حاثاً لنفسي وكنت أحسن السبح، وسبح الغلام أخي، فلما قطعنا نصف الفرات قصر أخي ودهش، فالتفت إليه لأقوي من قلبه، وإذا هو قد أصغى إليهم وهم يخدعونه عن نفسه، فناديته: تقتل ياأخي، إلي إلي، فلم يسمعني، وإذا هو قد اغتر بأمانهم، وخشي الغرق، فاستعجل الإنقلاب نحوهم، وقطعت أنا الفرات، وبعضهم قد هم بالتجرد للسباحة في أثري، فاستكفه أصحابه عن ذلك، فتركوني، ثم قدموا الصبي أخي الذي صار إليهم بالأمان فضربوا عنقه، ومضوا برأسه وأنا أنظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فاحتملت فيه ثكلاً ملأني مخافةً، ومضيت إلى وجهي أحسب أني طائر وأنا ساعٍ على قدمي، فلجأت إلى غيضةٍ أشبة، فتورايت فيها حتى انقطع الطلب، ثم خرجت (3) أؤم المغرب حتى وصلت إلى إفريقية. قال ابن حيان: وسار حتى أتى إفريقية وقد ألحقت به أخته شقيقته أم الأصبغ مولاه بدراً، ومولاه سالماً، ومعهما دنانير للنفقة، وقطعة من جوهر، فنزل بإفريقية وقد سبقه إليها جماعة من فل بني أمية، وكان عند واليها عبد الرحمن ابن حبيب الفهري يهودي حدثاني صحب مسلمة ابن عبد الملك، وكان يتكهن له ويخبره بتغلب القرشي المرواني الذي هو من أبناء ملوك القوم، واسمه عبد

_ (1) المقتطفات: فخرجنا واشتددنا. (2) المقتطفات: وسبقنا الخيل إلى أن وصلنا الفرات. (3) المقتطفات ودوزي: ثم خرجت هاربا.

الرحمن، وهو ذو ضفيرتين يملك الأندلس ويورثها عقبه، فاتخذ الفهري عند ذلك ضفيرتين أرسلهما رجاء أن تناله الرواية، فلما جيء بعبد الرحمن ونظر إلى ضفيرتيه قال لليهودي: ويحك، هذا هو، وأنا قاتله، فقال له اليهودي: إنك إن قتلته فما هو به، وإن غلبت عن تركه إنه لهو. وثقل فل بني أمية على ابن حبيب صاحب إفريقية، فطرد كثيراً منهم مخافةً، وتجنى على ابنين للوليد بن يزيد كانا قد استجارا به فقتلهما، وأخذ مالاً كان مع اسماعيل ابن أبان بن عبد العزيز ابن مروان، وغلبه على أخته فتزوجها بكرهه، وطلب عبد الرحمن فاستخفى، انتهى. وذكر ابن عبد الحكم أن عبد الرحمن الداخل أقام ببرقة مستخفياً خمس سنين، وآل أمره في سفره إلى أن استجار ببني رستم ملوك تيهرت من المغرب الأوسط، وتقلب في قبائل البربر إلى أن استقر على البحر عند قومٍ من زنانة، وأخذ في تجهيز بدر مولاه إلى العبور للأندلس لموالي بني أمية وشيعتهم بها، وكانت الموالي المروانية المدونة بالأندلس في ذلك الأوان ما بين الأربعمائة والخمسمائة، ولهم جمرة، وكانت رياستهم إلى شخصين: أبي عثمان عبيد الله بن عثمان، وعبد الله بن خالد، وهما من موالي عثمان، رضي الله تعالى عنه، وكانا يتوليان لواء بني أمية يعتقبان حمله ورياسة جند الشام النازلين بكورة إلبيرة، فعبر بدر مولى عبد الرحمن إلى أبي عثمان بكتاب عبد الرحمن يذكره فيه أيادي سلفه من بني أمية وسببه بهم ويعرفه مكانه من السلطان وسعيه لنيله، إذ كان الأمر لجده هشام فهو حقيقٌ بوارثته، ويسأله القيام بشأنه وملاقاة من يثق به من الموالي الأموية وغيرهم، ويتلطف في إدخاله إلى الأندلس ليبليي عذراً في الظهور عليها، ويعده بإعلاء الدرجة، ولطف المنزلة، ويأمره أن يستعين في ذلك بمن يأمنه، ويرجو قيامه معه، ويأخذ فيه مع اليمانية ذوي الحنق على المضرية لما بين الحيين من التراث، فمشى أبو عثمان لما دعاه إليه، وبانت له فيه طماعية، وكان عند ورود بدر قد تجهزإلى ثغر سرقسطة لنصرة

صاحبها الصميل بن حاتم وجه دولة يوسف بن عبد الرحمن صاحب الأندلس، فقال لصهره عبد الله بن خالد المذكور: لو كنا ذاكرنا الصميل خبر بدرٍ وما جاء به لنختبر ما عنده في موافقتنا، وكانا على ثقةٍ في أنه لايظهر على سرهما أحداً لمروءته وأنفته، فقال له: إن نحن فعلنا لم نأمن من أن تدركه الغيرة على سلطان يوسف لما هو عليه من شرف القدر وجلالة المنزلة فيتوقع سقوط رياسته فلا يساعدنا، قال أبو عثمان: فنمسح (1) إذاً على أمره، ونذكر له أنه قصد لإرادة الإيواء والأمان وطلب أخماس جده هشام لدينا ليتعيش بها، لا يريد غير ذلك، فاتفقا على هذا. فلما ودعا الصميل خلوا به في ذلك، وقد ظهر لهما منه حقدٌ على صاحبه يوسف في إبطائه عن إمداده لما حاربه الحباب الزهري بكورة سرقسطة، فقال لهما: أنا معكما فيما تحبان، فاكتبا إليه أن يعبر، فإذا حضر سألنا يوسف أن ينزله في جواره وأن يحسن له، ويزوجه بابنته، فإن فعل وإلا ضربنا صلعته بأسيفنا، وصرفنا الأمر عنه إليه، فشكراه وقبلا يده ثم ودعاه، وأقام بطليطلة وقد ولاه يوسف عليها وعزله عن الثغر، وانصرفا إلى وطنهما بإلبيرة، وقد كانا لقيا من كان معهما في العسكر من وجوه الناس وثقاتهم، فطارحاهم أمر ابن معاوية، ثم دسّا في الكور إلى ثقاتهما بمثل ذلك، فدب أمره فيهم دبيب النار في الجمر، وكانت سنة خلف بالأندلس بعد خروج من المجاعة التي دامت بالناس. وفي رواية أن الصميل لان لهما في أن يطلب الأمر عبد الرحمن الداخل لنفسه ثم دبر ذلك لما انصرفا، فتراجع فيه، فردهما، وقال: إني روّيت في الأمر الذي أدرته معكما فوجدت الفتى الذي دعوتماني إليه من قومٍ لو بال أحدهم بهذه الجزيرة غرقنا نحن وأنتم في بوله، وهذا رجلٌ نتحكم عليه، ونميل على جوانبه، ولا يسعنا بدل منه، ووالله لو بلغتما بيوتكما ثم بدا لي فيما

_ (1) في المقتطفات: ننسخ؛ وفي ق: فتمسح.

فارقتكما عليه لرأيت أن لا أقصر حتى ألقاكما لئلاّ أغركما من نفسي، فإني أعلمكما أن أول سيف يسلّ عليه سيفي، فبارك الله لكما في رأيكما، فقالا له: ما لنا رأي إلا رأيك، ولا مذهب لنا عنك. ثم انصرفا عنه على أن يعينهما في أمره إن طلب غير السلطان، وانصرفا عنه إلى إلبيرة عازمين على التصميم في أمره، ويئسا من مضر وربيعة، ورجعا إلى اليمانية، وأخذا في تهييج أحقاد أهل اليمن على مضر، فوجداهم قوماً قد وغرت صدورهم عليهم، يتمنون شيئاً يجدون به السبيل إلى إدراك ثأرهم، واغتنما بعد يوسف صاحب الأندلس في الثغر، وغيبة الصميل، فابتاعا مركباً ووجها فيه أحد عشر رجلاً منهم مع بدر الرسول، وفيهم تمام بن علقمة وغيره، وكان عبد الرحمن قد وجه خاتمه إلى مواليه، فكتبوا تحت ختمه إلى من يرجونه في طلب الأمر، فبثوا من ذلك في الجهات مادبّ به أمرهم، ولما وجه أبو عثمان المركب المذكور مع شيعته ألفوه بشطّ مغيلة من بلاد البربر، وهو يصلي، وكان قد اشتد قلقه وانتظاره لبدر رسوله، فبشره بدر بتمكن الأمر، وخرج إليه تمام مكثراً لتبشيره، فقال له عبد الرحمن: ما اسمك قال: تمام، قال: وما كنيتك قال: أبو غالب، فقال: الله أكبر! الآن تمّ أمرنا وغلبنا بحول الله تعالى وقوته، وأدنى منزلة أبي غالب لما ملك، ولم يزل حاجبه حتى مات عبد الرحمن. وبادر عبد الرحمن بالدخول إلى المركب، فلما هم بذلك أقبل البربر فتعرضوا دونه، ففرقت فيهم من مال كان مع تمام صِلاتٌ على أقدارهم، حتى لم يبق أحد حتى أرضاه، فلما صار عبد الرحمن بداخل المركب أقبل عاتٍ منهم لم يكن أخذ شيئاً فتعلق بحبل الهودج يعقل المركب، فحول رجل اسمه شاكر يده بالسيف، فقطع يد البربري، وأعانتهم الريح على التوجه بمركبهم، حتى حلوا بساحل إلبيرة في جهة المنكب، وذلك في ربيع الآخر سنة 138، فأقبل إليه نقيباه أبو عثمان وصهره أبو خالد، فنقلاه إلى

قرية طرش (1) منزل أبي عثمان، فجاءه يوسف بن بخت، وانثالت عليه الأموية، وجاءه جدار (2) بن عمرو المذحجي من أهل مالقة، فكان بعد ذلك قاضيه في العساكر، وجاءه أبو عبدة حسان بن مالك الكلبي من إشبيلية فاستوزره، وانثال عليه الناس انثيالاً، فقوي أمره مع الساعات فضلاً عن الأيام، وأمده الله تعالى بقوة عالية، فكان دخوله قرطبة بعد ذلك بسبعة أشهر. وكان خبر دخوله للأندلس قد صادف صاحبها يوسف الفهري بالثغر، وقد قبض على الحباب الزهري الثائر بسرقسطة، وعلى عامر العبدري الثائر معه، فبينما هو بوادي الرمل بمقربة من طليطلة وقد ضرب عنق عامر العبدري وابن عامر برأي الصميل إذ جاءه قبل أن يدخل رواقة رسول يركض من عند ولده عبد الرحمن بن يوسف من قرطبة يعلمه بأمر عبد الرحمن ونزوله بساحل جند دمشق، واجتماع الموالي المروانية إليه، وتشوف الناس لأمره، فانتشر الخبر في العسكر لوقته، وشمت الناس بيوسف لقتله القرشين عامراً وابنه، وختره بعدهما، فسارع عدد كثير إلى البدار لعبد الرحمن الداخل، وتنادوا بشعارهم، وقوضوا عن عسكره، واتفق أن جادت السماء بوابلٍ لا عهد بمثله لما شاء الله تعالى من التضييق على يوسف، فأصبح وليس في عسكره سوى غلمانه وخاصته وقوم الصميل قيس وأتباعه، فأقبل إلى طليطلة وقال للصميل: ما الرأي فقال: بادره الساعة قبل أن يغلظ في أمره، فإني لست آمن عليك هؤلاء اليمانية لحنقهم علينا، فقال له يوسف: أتقول ذلك ومع من نسير إليه وأنت ترى الناس قد ذهبوا عنا وقد أنفضنا من المال، وأنضينا الظهر، ونهكتنا المجاعة في سفرتنا هذه، ولكن نسير إلى قرطبة، فنستأنف الاستعداد له، بعد أن ننظر في أمره ويتبين لنا خبره، فلعله دون ما كتب

_ (1) طرش (Torrox) على الساحل الشرقي، وهي تعد اليوم في مديرية مالقة. (2) ق: حدران؛ المقتطفات: جديران؛ ابن عذاري: جدار؛ أخبار مجموعة (76) : جداد.

إلينا. فقال الصميل: الرأي ما أشرت به عليك، وليس غيره، وسوف تتبين غلطك فيما تنكبه، ومضوا إلى قرطبة. وسار عبد الرحمن الداخل إلى إشبيلية، وتلقاه رئيس عربها أبو الصباح ابن يحيى اليحصبي، واجتمع الرأي على أن يقصدوا به دار الإمارة قرطبة، فلما نزلوا بطشانة (1) قالوا: كيف نسير بأمير لا لواء له ولا علم نهتدي إليه فجاؤوا بقناة وعمامة ليعقدوها عليه، فكرهوا أن يميلوا القناة لتعقد تطيراً فأقاموها بين زيتونتين متجاورتين، فصعد رجل فرع إحداهما فعقد اللواء والقناة قائمة، كما سيأتي، وحكي أن فرقداً العالم صاحب الحدثان مر بذلك الموضع، فنظر إلى الزيتونتين، فقال: سيعقد بين هاتين الزيتونتين لواء لأمير لا يثور عليه لواء إلا كسره، فكان ذلك اللواء يسعد به هو وولده من بعده، ولما أقبل إلى قرطبة خرج له يوسف، وكانت المجاعة توالت قبل ذلك ست سنين فأورثت أهل الأندلس ضعفاً، ولم يكن عيش عامة الناس بالعسكر ماعدا أهل الطاقة مذ خرجوا من إشبيلية إلا الفول الأخضر الذي يجدونه في طريقهم، وكان الزمان زمان ربيع، فسمي ذلك العام عام الخلف، وكان نهر قرطبة حائلاً، فسار يوسف من قرطبة وأقبل ابن معاوية على بئر إشبيلية والنهر بينهما، فلما رأى يوسف تصميم عبد الرحمن إلى قرطبة رجع مع النهر محاذياً له، فتسايرا والنهر حاجز بينهما، إلى أن حل يوسف بصحراء المصارة غربي قرطبة، وعبد الرحمن في مقابلته، وتراسلا في الصلح، وقد أمر يوسف بذبح الجزر، وتقدم بعمل الأطعمة، وابن معاوية آخذ في خلاف ذلك قد أعد للحرب عدتها، واستكمل أهبتها، وسهر الليل كله على نظام أمره، كما سنذكره، ثم انهزم أهل قرطبة، وظفر عبد الرحمن الداخل، ونصر نصراً لا كفاء له، وانهزم

_ (1) المقتطفات: بشطانة؛ وهذا خطأ؛ وطشانة (Tocina) قد عدها العذري (109) من أقاليم إشبيلية.

الصميل، وفر إلى شوذر من كورة جيان، وفر يوسف إلى جهة ماردة. وذكر أن أبا الصباح رئيس اليمانية قال لهم عند هزيمة يوسف: يامعشر يمن، هل لكم إلى فتحين في يوم قد فرغنا من يوسف وصميل، فلنقتل هذا الفتى المقدامة ابن معاوية فيصير الأمر لنا، نقدم عليه رجلاً منا، ونحل عنه هذه المضرية، فلم يجبه أحد لذلك، وبلغ الخبر عبد الرحمن فأسرها في نفسه إلى أن اغتاله بعد عام، فقتله. ولما انقضت الهزيمة أقام ابن معاوية بقرطبة ثلاثة أيام، حتى أخرج عيال يوسف من القصر، وعف وأحسن السيرة، ولما حصل دار الإمارة، وحل محل يوسف، لم يستقر به قرار من إفلات يوسف والصميل، فخرج في إثر عدوه واستخلف على قرطبة القائم بأمره أبا عثمان، واستكتب كاتب يوسف أمية بن زياد، واستنام إليه إذ كان من موالي بني أمية، ونهض في طلب يوسف فوقع يوسف على خبره فخالفه إلى قرطبة ودخل القصر، وتحصن أبو عثمان خليفة عبد الرحمن بصومعة الجامع فاستنزله بالأمان، ولم يزل عنده إلى أن عقد الصلح بينه وبين ابن معاوية، وكان عقد الصلح المشتمل عليه وعلى وزيره الصميل في صفر سنة 139، وشارطه على أن يخلي بينه وبين أمواله حيثما كانت، وأن يسكن بلاط الحر - منزلة بشرقي قرطبة - على أن يختلف كل يوم إلى ابن معاوية ويريه وجهه، وأعطاه رهينة على ذلك ابنه أبا الأسود محمد بن يوسف، زيادةً على ابنه عبد الرحمن الذي أسره ابن معاوية يوم الوقعة، ورجع العسكران وقد اختلطا إلى قرطبة. وذكر ابن حيان أن يوسف بن عبد الرحمن نكث سنة 141، فهرب من قرطبة، وسعى بالفساد في الأرض، وقد كانت الحال اضطربت به في قرطبة ودس له قوم قاموا عليه في أملاكه، زعموا أنه غصبهم إياها، فدفع معهم إلى الحكام (1)

_ (1) المقتطفات: إلى أحكام الحكام.

فأعنتوه. وحمل عنه في التألم بذلك كلامٌ رفع إلى ابن معاوية أصاب أعداء يوسف به السبيل إلى السعاية به والتخويف منه، فاشتد توحشه، فخرج إلى جهة ماردة، واجتمع إليه عشرون ألفاً من أهل الشتات، فغلظ أمره، وحدثته نفسه بلقاء ابن معاوية، فخرج نحوه من ماردة، وخرج ابن معاوية من قرطبة، فبينما ابن معاوية في حصن المدوّر مستعد (1) ، إذ التقى بيوسف عبد الملك بن عمر مروان صاحب إشبيلية، فكانت بينهما حرب شديدة انكشف عنهايوسف بعد بلاء عظيم منهزماً، واستحر القتل في أصحابه فهلك منهم خلق كثير، وسار يوسف لناحية طليطلة، فلقيه في قرية من قراها عبد الله بن عمرو الأنصاري، فلما عرفه قال لمن معه: هذا الفهري يفر، قد ضاقت عليه الأرض، وقتله الراحة له، والراحة (2) منه، فقتله واحتز رأسه وقدم به إلى عبد الرحمن، فلما قرب وأوذن عبد الرحمن به أمره أن يتوقف به دون جسر قرطبة، وأمر بقتل ولده عبد الرحمن المحبوس عنده، وضم إلى رأسه، رأسه، ووضعنا على قناتين مشهرين إلى باب القصر. وكان عبد الرحمن لما فر يوسف قد سجن وزيره الصميل لأنه قال له: أين توجه فقال: لا أعلم فقال: ماكان ليخرج حتى يعلمك، ومع ذلك فإن ولدك معه، وأكد عليه في أن يحضره، فقال: لو أنه تحت قدمي هذه ما رفعتها لك عنه، فاصنع ما شئت، فحينئذٍ أمر به للحبس وسجن معه ولدي يوسف أبا الأسود محمداً المعروف بعد بالأعمى وعبد الرحمن، فتهيأ لهما الهرب من نقب، فأما أبو الأسود فنجا سالماً، واضطرب في الأرض يبغي الفساد إلى أن هلك حتف أنفه، وأما عبد الرحمن فأثقله اللحم فانبهر، فرد إلى الحبس، حتى قتل كما تقدم، وأنف الصميل من الهرب فأقام بمكانه، فلما

_ (1) المقتطفات: مشتغل. (2) المقتطفات: راحة له وراحة ...

قتل يوسف أدخل ابن معاوية على الصميل من خنقه، فأصبح ميتاً، فدخل على مشيخة المضرية في السجن، فوجدوه ميتاً وبين يديه كأسٌ ونقل، كأنه بغت على شرابه، فقالوا: والله إنا لنعلم يا أبا جوشن أنك ما شربتها ولكن سقيتها. ومما ظهر من بطش الأمير عبد الرحمن بن معاوية وصرامته فتكه بإحدى دعائم دولته رئيس اليمانية أبي الصباح يحيى (1) ، وكان قد ولاه إشبيلية وفي نفسه منه ما أوجب فتكه به. ومن ذلك النوع حكايته مع العلاء بن مغيث اليحصبي إذ ثار بباجة، وكان قد وصل من إفريقية على أن يظهر الرايات السود بالأندلس، فدخل في ناس قليلين، فأرسى بناحية باجة، ودعا أهلها ومن حولهم فاستجاب له خلق كثير، إلى أن لقيه عبد الرحمن بجهة إشبيلية فهزمه، وجيء به وبأعلام أصحابه، فقطع يديه ورجليه، ثم ضرب عنقه وأعناقهم، وأمر فقرطت الصكاك في آذانهم بأسمائهم، وأودعت جوالقاً محصناً، ومعها اللواء الأسود، وأنفذ بالجوالق تاجراً من ثقاته، وأمره أن يضعه بمكة أيام الموسم، ففعل، ووافق أبا جعفر المنصور قد حج، فوضعه على باب سرادقه، فلما كشفه ونظر إليه سقط في يده، واستدعى عبد الرحمن وقال: عرضنا هذا البائس - يعني العلاء - للحتف، ما في هذا الشيطان مطمع، فالحمد لله الذي صير هذا البحر بيننا وبينه. ولما أوقع عبد الرحمن باليمانة الذين خرجوا في طلب ثأر رئيسهم أبي الصباح اليحصبي وأكثر القتل فيهم، استوحش من العرب قاطبة، وعلم أنهم علي دغل وحقد، فانحرف عنهم إلى اتخاذ المماليك، فوضع يده في الابتياع، فابتاع موالي الناس بكل ناحية، واعتضد أيضاً بالبرابر، ووجه عنهم إلى بر العدوة فاْحسن لمن وفد عليه إحساناً رغب من خلفه في المتابعة، قال ابن

_ (1) ق والمقتطفات: ابن يحيى.

حيان: واستكثر منهم ومن العبيد، فاتخذ أربعين ألف رجل، صار بهم غالباً على أهل الأندلس من العرب، فاستقامت مملكته وتوطدت. وقال ابن حيان (1) : كان عبد الرحمن راجح الحلم، فاسح العلم (2) ، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئاً من العجز، سريع النهضة متصل الحركة، لايخلد إلى راحة، ولايسكن إلى دعة، ولايكل الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيهن شجاعاً مقداماً، بعيد الغور شديد الحدة قليل الطمأنينة بليغاً مفهوماً شاعراً محسناً سمحاً سخياً طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتم به ويؤثره، وكان قد أعطي هيبة (3) من وليه وعدوه، وكان يحضر الجنائز، ويصلي عليها، ويصلي بالناس إذا كان حاضراً الجمع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى، ويكثر مباشرة الناس والمشي بينهم، إلى أن حضر في يوم جنازة فتصدى له في منصرفه عنها رجل متظلم عامي وقاح ذو عارضة فقال له: أصلح الله الأمير، إن قاضيك ظلمني وأنا أستجيرك من الظلم، فقال له: تنصف إن صدقت، فمد الرجل يده إلى عنانه وقال: أيها الأمير أسالك بالله لما برحت من مكانك حتى تأمر قاضيك بإنصافي فإنه معك، فوجم الأمير والتفت إلى من حوله من حشمه، فرآهم قليلاً، ودعا بالقاضي وأمر بإنصافه، فلما عاد إلى قصره كلمه بعض رجاله ممن كان يكره خروجه وابتذاله فيما جرى، فقال له: إن هذا الخروج الكثير - أبقى الله تعالى الأمير - لا يجمل بالسلطان العزيز، وإن عيون العامة تخلق تجلته، ولا تؤمن بوادرهم عليه، فليس الناس كما عهدوا، فترك من يومئذ شهود الجنائز وحضور المحافل، ووكل بذلك ولده هشاماً.

_ (1) انظر هذا النص في " ذكر بلاد الأندلس ": 91. (2) المصدر السابق: راجح العقل راسخ العلم واسع الحلم. (3) المقتطفات: وكان مهابا جدا.

ومن نظم عبد الرحمن الداخل ما كتب به إلى أخته بالشام (1) : أيّها الراكب الميمم أرضي ... اقر منّي بعض السلام لبعضي إنّ جسمي كما تراه بأرضٍ ... وفؤادي ومالكيه بأرض قدّر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضي قد قضى الدهر بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضي وكتب إلى بعض من وفد عليه من قومه لما سأله الزيادة في رزقه، واستقل ما قابله به وذكره بحقه بهذه الأبيات (2) : شتّان من قام ذا امتعاضٍ ... منتضي الشّفرتين نصلا (3) فجاب قفراً وشقّ بحرا ... مسامياً لجّةً ومحلا دبّر ملكاً وشاد عزّا (4) ... ومنبراً للخطاب فصلا وجنّد الجند حين أودى ... ومصّر المصر حين أجلى ثمّ دعا أهله إليه (5) ... حيث انتأوا أن هلمّ أهلا فجاء هذا طريد جوعٍ ... شديد روعٍ يخاف قتلا (6) فنال أمناً ونال شبعاً ... ونال مالاً ونال أهلا (7) ألم يكن حقّ ذا على ذا ... أعظم من منعمٍ ومولى وحكى ابن حيان أن عبد الرحمن لما أذعن له يوسف صاحب الأندلس

_ (1) وردت هذه الأبيات في أكثر المصادر التي ترجمت للأمير عبد الرحمن؛ انظر ذكر بلاد الأندلس: 91 والحلة السيراء 1: 36 وجذوة المقتبس: 10. (2) انظر الحلة السيراء 1: 39 وذكر بلاد الأندلس: 97 وابن عذاري 2: 59. (3) في رواية ابن حيان: فشال ما قل واضمحلا، وستأتي هذه الرواية فيما يلي ص: 43. (4) الحلة: فشاد مجدا وبز ملكا. (5) الحلة: جميعا. (6) الحلة: شريد سيف أباد قتلا. (7) الحلة: وحاز ... وضم.

واستقر ملكه استحضر الوفود إلى قرطبة، فانثالوا عليه، ووالى القعود لهم في قصره عدة أيام في مجالس يكلم فيها رؤساءهم ووجوههم بكلامٍ سرّهم وطيّب نفوسهم، مع أنه كساهم وأطعمهم ووصلهم، فانصرفوا عنه محبورين مغتبطين، يتدارسون كلامه، ويتهافتون بشكره، ويتهانون بنعمة الله تعالى عليهم فيه. وفي بعض مجالسهم هذه مثل بين يديه رجلٌ من جند قنسرين يستجديه فقال له: يا ابن الخلائف الراشدين، والسادة الأكرمين، إليك فررت وبك عذت من زمنٍ ظلومٍ ودهرٍ غشومٍ، قلّل المال وكثر العيال وشعث الحال فصير إلى نداك المآل، وأنت ولي الحمد والمجد والمرجو للرفد، فقال له عبد الرحمن مسرعاً: قد سمعنا مقالتك وقضينا حاجتك، وأمرنا بعونك على دهرك، على كرهنا لسوء مقامك، فلا تعودن ولا سواك لمثله من إراقة ماء وجهك بتصريح المسألة والإلحاف في الطلبة، وإذا ألم بك خطب أو حزبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك، كيما نستر عليك خلتك، ونكف شمات العدو عنك، بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا عز وجهه بإخلاص الدعاء وصدق النية، وأمر له بجائزة حسنة، وخرج الناس يتعجبون منه من حسن منطقه وبراعة أدبه، وكف فيما بعد ذوو الحاجات عن مقابلته بها شفاهاً في مجلسه. قال ابن حيان: ووقع إلى سليمان بن يقظان الأعرابي على كتاب منه سلك به سبيل الخداع: أما بعد فدعني من معاريض المعاذير، والتعسف عن جادة الطريق، لتمدن يداً إلى الطاعة، والاعتصام بحبل الجماعة، أو لأزوين بنانها عن رصف المعصية، نكالاً بما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد. وفي " المسهب " أن عبد الرحمن كان من البلاغة بالمكان العالي، الذي يرتد عنه أكثر بني مروان حسيراً. وقد جرى بينه وبين مولاه بدر ما لا يحب إهماله (1) ،

_ (1) زاد في المقتطفات: أو تعتبر بلاغته.

وذلك أنه لما سعى بدر في تكميل دولته من ابتدائها إلى استقرارها صحبه عجب وامتنان كادا يردان به حياض المنية، فأول ما بدأ به أن قال: بعنا أنفسنا وخاطرنا بها في شأن من هانت عليه لما بلغ أقصى أمله. وقال وقد أمره بالخروج إلى غزاة: إنما تعبنا أولاً لنستريح آخراً، وما أرانا إلا في أشدّ مما كنا، وأطال أمثال هذه الأقوال، وأكثر الإستراحة في جانبه، فهجره وأعرض عنه، فزاد كلامه، وكتب له رقعة منها: أما كان جزائي في قطع البحر وجوب القفر، والإقدام على تشتيت نظام مملكة وإقامة أخرى غير الهجر، الذي أهانني في عيون أكفائي وأشمت بي أعدائي، وأضعف أمري ونهيي عند من يلوذ بي، وبتر مطامع من كان يكرمني ويحفدني على الطمع والرجاء، وأظن أعداءنا بني العباس لو حصلت بأيديهم ما بلغوا بي أكثر من هذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فلما وقف عبد الرحمن على رقعته اشتد غيظه عليه، فوقّع عليها: " وقفت على رقعتك المنبئة عن جهلك وسوء خطابك ودناءة أدبك ولئيم معتقدك، والعجب أنك متى أردت أن تبني لنفسك عندنا متاتاً أتيت بما يهدم كل متات مشيد مما تمن به، مما قد أضجر الأسماع تكراره، وقدحت في النفوس إعادته، مما استخرنا الله تعالى من أجله على أمرنا باستئصال مالك، وزدنا في هجرك وإبعادك، وهضنا جناح إدلالك، فلعل ذلك يقمع منك ويردعك حتى نبلغ منك ما نريد إن شاء الله تعالى؛ فنحن أولى بتأديبك من كل أحد، إذ شرّك مكتوب في مثالبنا، وخيرك معدود في مناقبنا ". فلما ورد هذا الجواب على بدر سقط في يده وسلم للقضاء، وعلم أنه لا ينفع فيه قول، ووجه عبد الرحمن من استأصل ماله وألزمه داره، وهتك حرمته وقص جناح جاهه، وصيره أهون من قعيس على عمته، ومع هذا فلم ينته بدر عن الإكثار من مخاطبة مولاه، تارة يستلينه وتارة يذكره، وتارة ينفث مصدوراً بخط قلمه ما يلقيه عليه بلسانه، غير مفكر فيما يؤول إليه، إلى أن كتب له: قد طال هجري، وتضاعف همي وفكري، وأشد ما عليّ كوني سليباً من مالي، فعسى أن تأمر

لي بإطلاق مالي وأتحد به في معزل لا أشتغل بسلطان ولا أدخل في شيء من أموره ما عشت، فوقّع له: إن لك من الذنوب المترادفة ما لو سلب معها روحك لكان بعض ما استوجبته، ولا سبيل إلى ردّ مالك، فإن تركك بمعزل في بلهنية الرفاهية وسعة ذات اليد والتخلي من شغل السلطان أشبه بالنعمة منه بالنقمة، فايأس من ذلك فإن اليأس مريح. فسكت لما وقف على هذه الإجابة مدة إلى أن أتى عيد فاشتد به حزنه لما رأى من حاجة من يلوذ به وهمهم بما يفرح به الناس، فكتب إليه في ذلك رقعةً منها: " وقد أتى هذا العيد الذي خالفت فيه أكثر من أساء إليك وسعى في خراب دولتك، ممن عفوت عنه، فتبنك النعمة في ذراك، واقتعد ذروة العز، وأنا على ضدٍّ من هذا سليباً من النعمة، مطرحاً في حضيض الهوان، أيأس مما يكون، وأقرع السن على ما كان ". فلما وقف على هذه الرقعة أمر بنفيه عن قرطبة إلى أقصى الثغر، وكتب له على ظهر رقعته: " لتعلم أنك لم تزل بمقتك، حتى ثقلت على العين طلعتك، ثم زدت إلى أن ثقل على السمع كلامك، ثم زدت إلى أن ثقل على النفس جوارك، وقد أمرنا بإقصائك إلى أقصى الثغر فبالله إلا ما أقصرت، ولا يبلغ بك زائد المقت إلى أن تضيق بك معي الدنيا، ورأيتك تشكو لفلان وتتألم من فلان، وما تقوّلوه عليك، وما لك عدو أكبر من لسانك، فما طاح بك غيره، فاقطعه قبل أن يقطعك ". ولما فتح الداخل سرقسطة، وحصل في يده ثائرها (1) الحسين الأنصاري، وشدخت رؤوس وجوهها بالعمد، وانتهى نصره فيها إلى غاية أمله، أقبل خواصه يهنئونه، فجرى بينهم أحد من لا يؤبه به من الجند، فهنأه بصوت عال، فقال: والله لولا أن هذا اليوم يوم أسبغ علي فيه النعمة من هو فوقي فأوجب علي ذلك أن أنعم فيه على من هو دوني لأصلينك ما تعرضت له من

_ (1) المقتطفات: الثائر بها.

سوء النكال، من تكون حتى تقبل مهنئاً رافعاً صوتك غير متلجلج ولا متهيب لمكان الإمارة ولا عارف بقيمتها حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك وإن جهلك ليحملك على العود لمثلها، فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة، فقال: ولعل فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتصال جهلي وذنوبي، فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة، لا أعدمنيه الله تعالى، فتهلل وجه الأمير، وقال: ليس هذا باعتذار جاهل، ثم قال: نبهونا على أنفسكم، إذا لم تجدوا من ينبهنا عليها، ورفع مرتبته، وزاد في عطائه. ولما أنحى أصحابه على أصحاب الفهري بالقتل يوم هزيمتهم على قرطبة قال: لا تستأصلوا شأفة أعداءٍ ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشد عداوةً منهم، يشير إلى استبقائهم ليستعان بهم على أعداء الدين. ولما اشتد الكرب بين يديه يوم حربه مع الفهري، ورأى شدة مقاساة أصحابه، قال: هذا اليوم هو أُس ما يبنى عليه، إما ذل الدهر وإما عز الدهر، فاصبروا ساعة فيما لا تشتهون تربحوا بها بقية أعماركم فيما تشتهون. ولما خرج من البحر أول قدومه على الأندلس أتوه بخمر، فقال: إني محتاج لما يزيد في عقلي، لا لما ينقصه، فعرفوا بذلك قدره؛ ثم أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن، وردها على صاحبها. ولما استقامت له الدولة بلغه عن بعض من أعانه أنه قال: لولا أنا ما توصل لهذا الملك، ولكان منه أبعد من العيوق، وأن آخر قال: سعده أعانه، لا عقله وتدبيره، فحركه ذلك إلى أن قال: لا يلف ممتنٌّ علينا قائلٌ ... لولاي ما ملك الأنام الداخل سعدي وحزمي والمهنّد والقنا ... ومقادرٌ بلغت وحالٌ حائل

إنّ الملوك مع الزمان كواكبٌ ... نجمٌ يطالعنا ونجمٌ آفل والحزم كلّ الحزم أن لا يغفلوا ... أيروم تدبير البريِّة غافل ويقول قومٌ سعده لا عقله ... خير السعادة ما حماها العاقل أبني أميّة قد جبرنا صدعكم ... بالغرب رغماً والسعود قبائل ما دام من نسلي إمامٌ قائمٌ ... فالملك فيكم ثابتٌ متواصل وحكى ابن حيان أن جماعةً من القادمين عليه من قبل الشام حدثوه يوماً في بعض مجالسهم عنده ما كان من الغمر بن يزيد بن عبد الملك أيام محنتهم، وكلامه لعبد الله بن علي بن عباس الساطي بهم، وقد حضروا رواقه وفيه وجوه المسودة من دعاة القوم وشيعتهم راداً على عبد الله فيما أراقه من دماء بني أمية، وثلبهم والبراءة منهم، فلم تردعه هيبته وعصف ريحه واحتفال جمعه عن معارضته والرد عليه بتفضيله لأهل بيته والذبّ عنهم، وأنه جاء في ذلك بكلام غاظ عبد الله وأغصه بريقه، وعاجل الغمر بالحتف، فمضى وخلف في الناس ما خلف من تلك المعارضة في ذلك المقام، وكثر القوم في تعظيم ذلك، فكأن الأمير عبد الرحمن احتقر ذلك الذي كان من الغمر في جنب ما كان منه في الذهاب بنفسه عن الإذعان لعدوهم، والأنف من طاعتهم، والسعي في اقتطاع قطعة من مملكة الإسلام عنه، وقام عن مجلسه، فصاغ هذه الأبيات بديهةً: شتّان من قام ذا امتعاض ... فشال ما قلّ (1) واضمحلاّ ومن غدا مصلتاً لعزمٍ ... مجرِّداً للعداة نصلا فجاب قفراً وشقّ بحراً ... ولم يكن في الأنام كلاّ فشاد ملكاً وشاد عزّاً ... ومنبراً للخطاب فصلا

_ (1) ق: فمر ما قال؛ وآثرنا رواية الحلة السيراء.

وجنّد الجند حين أودى ... ومصّر المصر حين أجلى ثمّ دعا أهله جميعاً ... حيث انتأوا أن هلمّ أهلا وله غير ذلك من الشعر، وسيأتي بعضه مما يقارب هذه الطبقة. وأول ناصر لعبد الرحمن سائر معه في الخمول والاستخفاء مولاه المتقدم الذكر، سعى في سلطانه شرقاً وغرباً وبراً وبحراً، فلما كمل له الأمر سلبه من كل نعمة، وسجنه ثم أقصاه إلى أقصى الثغر، حتى مات وحاله أسوأ حال، والله تعالى أعلم بالسرائر، فلعل له عذراً ويلومه من يسمع مبداه ومآله. ورأس الجماعة الذين توجه إليهم بدر في القيام بسلطانه أبو عثمان، ولما توطدت دولة الداخل استغنى عنه وعن أمثاله، فأراد أبو عثمان أن يشغل خاطره وينظر في شيءٍ يحتاج به إليه، فجعل ابن أخته يثور عليه في حصنٍ من حصون إلبيرة، فوجه عبد الرحمن من قبض عليه وضرب عنقه، ثم أخذ أبو عثمان مع ابن أخي الداخل، وزين له القيام عليه، فسعي لعبد الرحمن بابن أخيه قبل أن يتم أمره، فضرب عنقه وأعناق الذين دبروا معه، وقيل له: إن أبا عثمان كان معه، وهو الذي ضمن له تمام الأمر، فقال: هو أبو سلمة هذه الدولة (1) ، فلا يتحدث الناس عنه بما تحدثوا عن بني العباس في شأن أبي سلمة، لكن سأعتبه عتباً أشد من القتل، وجعل يوعده، ثم رجع له إلى ما كان عليه في الظاهر. وكان صاحبه الثاني في المؤازرة والقيام بالدولة صهره عبد الله بن خالد، وكان قد ضمن لأبي الصباح رئيس اليمانية عن الداخل أشياء لم يف بها الداخل، وقتل أبا الصباح، فانعزل عبد الله وأقسم لا يشتغل بشغل سلطان حياته، فمات منفرداً عن السلطان.

_ (1) يشير إلى أبي سلمة الخلال الذي كان يلقب وزير آل محمد، وقد تخلص منه العباسيون حين تمهدت الدولة.

وكان ثالثهما في النصرة والاختصاص تمام بن علقمة، وهو الذي عبر البحر إليه وبشره باستحكام أمره، فقتل هشام بن عبد الرحمن ولد تمام المذكور، وكذلك فعل بولد أبي عثمان المتقدم الذكر، قال ابن حيان: فذاقا من ثكل ولديهما على يدي أعزّ الناس عليهما ما أراهما أن أحداً لا يقدر أن ينظر في تحسين عاقبته. وإذا تتبع الأمر في الذين يقومون في قيام دولة كان مآلهم مع من يظهرونه هذا المآل وأصعب. وذكر أن أول حجّاب الداخل تمام بن علقمة مولاه ذو العمر الطويل، ثم يوسف بن بخت الفارسي مولى عبد الملك بن مروان، وله بقرطبة عقبٌ نابه، ثم عبد الكريم بن مهران من ولد الحارث بن أبي شمر الغساني، ثم عبد الرحمن بن مغيث بن الحارث بن حويرث بن جبلة بن الأيهم الغساني، وأبوه مغيث فاتح قرطبة الذي تقدمت ترجمته، ثم منصور الخصي، وكان أول خصيٍّ استحجبه بنو مروان بالأندلس، ولم يزل حاجبه إلى أن توفي الداخل. ولم يكن للداخل من ينطلق عليه سمة (1) وزير، لكنه عين أشياخاً للمشاورة والمؤازرة (2) ، أولهم أبو عثمان المتقدم الذكر، وعبد الله بن خالد السابق الذكر، وأبو عبدة صاحب إشبيلية، وشهيد بن عيسى بن شهيد مولى معاوية بن مروان ابن الحكم، وكان من سبي البرابر، وقيل: إنه رومي، وبنو شهيد الفضلاء من نسله، وعبد السلام بن بسيل الرومي مولى عبد الله بن معاوية، ولولده نباهةٌ عظيمة في الوزارة وغيرها، وثعلبة بن عبيد بن النظام الجذامي صاحب سرقسطة لعبد الرحمن، وعاصم بن مسلم الثقفي من كبار شيعته وأول من خاض النهر وهو عريان يوم الوقعة بقرطبة، ولعقبه في الدولة نباهة.

_ (1) المقتطفات: تسمية. (2) المقتطفات: والمزاورة.

وأول من كتب له عند خلوص الأمر له واحتلاله بقرطبة كبير نقبائه أبو عثمان وصاحبه عبد الله بن خالد المتقدما الذكر، ثم لزم كتابته أمية بن يزيد مولى معاوية بن مروان، وكان في عديد من يشاوره أيضاً ويفضل أمره وآراءه، وكان يكتب قبله ليوسف الفهري، وقيل: إنه ممن اتهم في ممالأة اليزيدي في إفساد دولة عبد الرحمن، فاتقف أن مات قبل قتل اليزيدي واطلاع عبد الرحمن على الأمر. وذكر ابن زيدون أن الداخل ألفى على قضاء الجماعة بقرطبة يحيى بن يزيد اليحصبي، فأقره حيناً، ثم ولى بعده أبا عمرو معاوية بن صالح الحمصي، ثم عمر ابن شراحيل، ثم عبد الرحمن بن طريف، وكان جدار بن عمرو يقضي في العساكر. وكان الداخل يرتاح، لما استقر سلطانه بالأندلس، إلى أن يفد عليه فل بيته بني مروان، حتى يشاهدوا ما أنعم الله تعالى عليه، وتظهر يده عليهم، فوفد عليه من بني هشام بن عبد الملك أخوه الوليد ابن معاوية وابن عمه عبد السلام ابن يزيد ابن هشام، قال ابن حيان: وفي سنة 163 قتل الداخل عبد السلام ابن يزيد ابن هشام المعروف باليزيدي، وقتل معه من الوافدين عليه عبيد الله بن أبان بن معاوية بن هشام، وهو ابن أخي الداخل، وكانا تحت تدبير يبرمانه في طلب الأمر، فوشى بينهما مولى لعبيد الله بن أبان، وكان قد ساعدهما على ما هما به من الخلاف أبو عثمان كبير الدولة، فلم ينله ما نالهما. وذكر الحجاري أن الداخل كان يقول: أعظم ما أنعم الله تعالى به علي بعد تمكني من هذا الأمر القدرة على إيواء من يصل إلي من أقاربي، والتوسع في الإحسان إليهم، وكبري في أعينهم وأسماعهم ونفوسهم بما منحني الله تعالى من هذا السلطان الذي لا منة لأحد علي فيه لأحدٍ غيره. وذكر ابن حزم أنه كان فيمن وفد عليه ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية، فسعى في طلب الأمر لنفسه، فقتله سنة 167، وقتل معه من أصحابه هذيل بن الصميل بن حاتم، ونفى أخاه الوليد بن معاوية والد المغيرة المذكور إلى العدوة

بماله وولده وأهله. وفي " المسهب " حدث بعض موالي عبد الرحمن الخاصين به أنه دخل على الداخل إثر قتله ابن أخيه المغيرة المذكور، وهو مطرق شديد الغم، فرفع رأسه إليّ وقال: ما عجبي إلا من هؤلاء القوم، سعينا فيما يضجعهم في مهاد الأمن والنعمة، وخاطرنا فيه بحياتنا، حتى إذا بلغنا منه إلى مطلوبنا، ويسّر الله تعالى أسبابه، أقبلوا علينا بالسيوف، ولما آويناهم وشاركناهم فيما أفردنا الله تعالى به حتى أمنوا ودرت عليهم أخلاف النعم هزوا أعطافهم، وشمخوا بآنافهم، وسموا إلى العظمى، فنازعونا فيما منحنا الله تعالى، فخذلهم الله بكفرهم النعم إذ أطلعنا على عوراتهم، فعاجلناهم قبل أن يعاجلونا، وأدى ذلك إلى أن ساء ظننا في البريء منهم، وساء أيضاً ظنه فينا، وصار يتوقع من تغيرنا عليه ما نتوقع نحن منه، وإن أشد ما علي في ذلك أخي والد هذا المخذول، كيف تطيب لي نفسٌ بمجاورته بعد قتل ولده وقطع رحمه أم كيف يجتمع بصري مع بصره اخرج له الساعة فاعتذر إليه، وهذه خمسة آلاف دينار ادفعها إليه، واعزم عليه في الخروج عني من هذه الجزيرة إلى حيث شاء من بر العدوة. قال: فلما وصلت إلى أخيه وجدته أشبه بالأموات منه بالأحياء، فآنسته وعرفته، ودفعت له المال، وأبلغته الكلام، فتأوه وقال: إن المشئوم لا يكون بليغاً في الشؤم حتى يكون على نفسه وعلى سواه، وهذا الولد العاق الذي سعى في حتفه قد سرى ما سعى فيه إلى رجل طلب العافية، وقنع بكسر بيت في كنف من يحمل عنه معرة الزمان وكله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا مرد لما حكم به وقضاه (1) ، ثم ذكر أنه أخذ في الحركة إلى بر العدوة. قال: ورجعت إلى الأمير فأعلمته يقوله، فقال: إنه نطق بالحق، ولكن لا يخدعني بهذا القول عما في نفسه، والله لو قدر أن يشرب من دمي ما عف عنه لحظة، فالحمد لله الذي أظهرنا

_ (1) المقتطفات: لا مرد لحكم به قضى.

عليهم بما نويناه فيهم، وأذلهم فيما نووه فينا. واعلم أنه دخل الأندلس أيام الداخل من بني مروان وغيرهم من بني أمية جماعة كثيرون سرد أسماءهم غير واحد من المؤرخين، وذكر أعقابهم بالأندلس، ومنهم جزيّ بن عبد العزيز أخو عمر بن عبد العزيز، وسيأتي قريباً. وقد ثار على عبد الرحمن الداخل من أعيان الغرب وغيرهم جماعة كثيرون ظفّره الله تعالى بهم، وقد سبق ذكر بعضهم، ومنهم الدعي (1) الفاطمي البربري بشنت مرية فأعيا الداخل أمره، وطال شره سنين متوالية، إلى أن فتك به بعض أصحابه فقتله. ومنهم حيوة بن ملابس الحضرمي رئيس إشبيلية، وعبد الغفار بن حميد اليحصبي رئيس لبلة، وعمرو بن طالوت رئيس باجة، اجتمعوا وتوجهوا نحو قرطبة يطلبون دم رئيس اليمانية أبي الصباح، فقتلوا في هزيمة عظيمة، وقيل: نجوا بالفرار، فأمنهم الداخل. وفي سنة 157 ثار بسرقسطة الحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي، وشايعه سليمان بن يقظان الأعرابي الكلبي رأس الفتن، وآل أمرهما إلى أن فتك الحسين بسليمان، وقتل الداخل الحسين كما مرّ. وفي سنة 163 ثار الرماحس بن عبد العزيز الكناني بالجزيرة الخضراء، فتوجه له عبد الرحمن الداخل، ففرّ في البحر إلى المشرق. قال ابن حيان: كان مولد عبد الرحمن الداخل سنة 113، وقيل: في التي قبلها، بالعلياء من تدمر، وقيل: دير حنّا من دمشق، وبها توفي أبوه معاوية في حياة أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك، وكان قد رشحه للخلافة - وبقبر معاوية المذكور استجار الكميت الشاعر حين أهدر هشام دمه -. وتوفي الداخل لستٍ بقين من ربيع الآخر سنة 171، وهو ابن سبع وخمسين سنة وأربعة

_ (1) دوزي: الداعي.

أشهر، وقيل: اثنتان وستون سنة ودفن بالقصر من قرطبة، وصلى عليه ابنه عبد الله. وكان منصوراً مؤيداً مظفراً على أعدائه، وقد سردنا من ذلك جملة، حتى قال بعضهم: إن الراية التي عقدت له بالأندلس (1) حين دخلها لم تهزم قط، وإن الوهن ما ظهر في ملك بني أمية إلا بعد ذهاب تلك الراية، قال أكثر هذا مؤرخ الأندلس الثبت الثقة أبو مروان ابن حيان، رحمه الله تعالى. ولا بأس أن نورد زيادة على ما سلف وإن تكرر بعض ذلك، فنقول: قال بعض المؤرخين من أهل المغرب بعد كلام ابن حيان الذي قدمنا ذكره، ما نصه (2) : كان الإمام عبد الرحمن الداخل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، كثير الحزم، نافذ العزم، لم ترفع له قط راية على عدو إلا هزمه، ولا بلد إلا فتحه، شجاعاً، مقداماً، شديد الحذر، قليل الطمأنينة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل الأمر إلى غيره، كثير الكرم، عظيم السياسة، يلبس البياض ويعتم به، ويعود المرضى ويشهد الجنائز، ويصلي بالناس في الجمع والأعياد، ويخطب بنفسه، جند الأجناد وعقد الرايات واتخذ الحجاب والكتاب، وبلغت جنوده مائة ألف فارس. وملخص دخوله الأندلس أنه لما اشتد الطلب على فل بني أمية بالمشرق من وارثي ملكهم بني العباس خرج مستتراً إلى مصر، فاشتد الطلب على مثله، فاحتال حتى وصل برقة، ثم لم يزل متوغلاً في سيره إلى أن بلغ المغرب الأقصى، ونزل بنفزة، وهم أخواله، فأقام عندهم أياماً ثم ارتحل إلى مغيلة بالساحل، فأرسل مولاه بدراً بكتابه إلى مواليهم بالأندلس عبيد الله بن عثمان وعبد الله بن خالد وتمام بن علقمة وغيرهم، فأجابوه واشتروا مركباً وجهزوه بما يحتاج

_ (1) المقتطفات: في الأندلس بين الزيتونتين. (2) قد تقدم أن هذا النص لابن حيان. (انظر ص 2: 37) .

إليه، وكان الذي اشتراه عبيد الله بن عثمان، وأركب فيه بدراً، وأعطاه خمسمائة دينار برسم النفقة، وركب معه تمام بن علقمة، وبينما هو يتوضأ لصلاة المغرب على الساحل إذ نظر إلى المركب في لجة البحر مقبلاً حتى أرسى أمامه، فخرج إليه بدر سابحاً، فبشره بما تم له بالأندلس، وبما اجتمع عليه الأمويون والموالي، ثم خرج إليه تمام ومن معه في المركب فقال له: ما اسمك وما كنيتك فقال: اسمي تمام، وكنيتي أبو غالب، فقال: ثم أمرنا وغلبنا غدوّنا إن شاء الله، ثم ركبوا المركب معه فنزل بالمنكب، وذلك غرّة ربيع الأول سنة 138. فلما اتصل خبر جوازه بالأموية أتاه عبيد الله بن عثمان وجماعة فتلقوه بالإعظام والإكرام، وكان وقت العصر، فصلى بهم العصر، وركبوا معه إلى قرية طرّش من كور إلبيرة فنزل بها، وأتاه بها جماعة من وجوه الموالي وبعض العرب، فبايعوه وكان من أمره ما يذكر، وقيل: إنه أقام بإلبيرة حتى كمل من معه ستمائة فارس من موالي بني أمية ووجوه العرب، فخرج من إلبيرة إلى كورة رية فدخلت في جماعته ثم بايعته أهلها وأجنادها، ثم ارتحل إلى شذونة ثم إلى مورور، ثم سار إلى إشبيلية. وقال بعضهم: لما أراد عبد الرحمن قصد قرطبة عند دخوله الأندلس من المشرق نزل بطشانة، فأشاروا عليه أن يعقد له لواء، فجاءوا بعمامة وقناة، فكرهوا أن يميلوا القناة تطيراً، فأقاموها بين شجرتين من الزيتون متجاورتين، وصعد رجل على فرع إحداهما فعقد اللواء والقناة قائمة، وتبرك هو وولده بهذا اللواء، فكان بعد أن بلي لا تحل منه العقدة التي عقدت أولاً، بل تعقد فوقها الألوية الجدد، وهي مستكنة تحتها، ولم يزل الأمر على ذلك حتى انتهت الدولة إلى عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، وقيل: إلى ابنه محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، فاجتمع الوزراء على تجديد اللواء، فلما رأوا تحت اللواء أسمالاً خلقة ملفوفة

معقدة جهلوها فاسترذلوها، وأمروا بحلها ونبذها، وجددوا غيرها، وكان جهور بن يوسف بن بخت شيخهم غائباً، فحضر في اليوم الثاني وطولع بالقصة، فأنكرها أشد إنكار وساءه ما فعلوه، وقال: إن جهلتم شأن تلك الأخلاق فكان ينبغي أن تتوقفوا عن نبذها حتى تسألوا المشايخ وتتفكروا في أمرها، وخبرهم خبرها، فتطلبوا تلك الأخلاق فلم توجد، ويقال كما قال ابن حيان: إنه لم يزل يعرف الوهن في ملك بني أمية بالأندلس من ذلك اليوم، وقد كان الذي عقده أولاً عبد الله بن خالد من موالي بني أمية، وكان والده خالد عقد لواء مروان بن الحكم جد عبد الرحمن الأعلى لما اجتمع عليه بنو أمية وبنو كلب بعد انقراض دولة بني حرب على قتال الضحاك بن قيس الفهري يوم مرج راهطٍ، فانتصر على الضحاك وقتله، ولما عرف الأمير بقصة اللواء حزن أشد حزن، وانفتقت عليه إثر ذلك الفتوق العظام، وكانوا يرون أنها جرت بسبب اللواء لأنه لم ينهزم قط جيش كان تحته، على ما اقتضته حكمة الله التي لا تتوصل إليها الأفكار، وتولى حمل هذا اللواء لعبد الرحمن الداخل أبو سليمان داود الأنصاري، ولم يزل يحمله ولده من بعده إلى أيام محمد بن عبد الرحمن. ولما تلاقى عبد الرحمن الداخل مع أمير الأندلس يوسف الفهري بالقرب من قرطبة وتراسلا، فخادعه يومين آخرهما يوم عرفة من سنة ثمان وثلاثين ومائة، أظهر عبد الرحمن قبول الصلح، فبات الناس على ذلك ليلة العيد، وكان قد أسر خلاف ما أظهر، واستعد للحرب، ولما أصبح يوم الأضحى لم ينشب أن غشيت الخيل، ووكل عبد الرحمن بخالد بن زيد الكاتب رسول يوسف جماعة، وأمرهم إن كانت الدائرة عليهم أن يضربوا عنقه، وإلا فلا، فكان خالد يقول: ما كان شيء في ذلك الوقت أحب إلي من غلبة عبد الرحمن الداخل عدو صاحبي، وركب عبد الرحمن جواداً، فقالت اليمانية الذين أعانوه: هذا فتىً حديث السن تحته جواد وما نأمن أول ردعةٍ يردعها أن يطير منهزماً

على جواده ويدعنا، فأتى عبد الرحمن أحد مواليه فأخبره بمقالتهم، فدعا أبا الصباح، وكان له بغل أشهب يسميه الكوكب، فقال له: إن فرسي هذا قلق تحتي، لا يمكنني من الرمي، فقدم إلي بغلك المحمود أركبه، فقدمه، فلما ركب اطمأن أصحابه، وقال عبد الرحمن لأصحابه: أي يوم هذا قالوا: الخميس يوم عرفة، فقال: فالأضحى غداً يوم الجمعة، والمتزاحفان أموي وفهري، والجندان قيس ويمن، قد تقابل الأشكال جداً، وأرجو أنه أخو يوم مرج راهط، فأبشروا وجدوا، فذكرهم يوم مرج راهط الذي كانت فيه الوقعة بين جده مروان بن الحكم وبين الضحاك بن قيس الفهري، وكانت يوم جمعة ويوم أضحى، فدارت الدائرة لمروان على الضحاك، فقتل الضحاك، وقتل معه سبعون ألفاً من قبائل قيس وأحلافهم، وقيل: إنه لم يحضر مرج راهط من قيس مع مروان غير ثلاثة نفر: عبد الرحمن (1) بن مسعدة الفزاري، وابن هبيرة المحاربي، وصالح الغنوي، وكذا لم يحضر مع عبد الرحمن الداخل يوم المصارة غربي قرطبة من قيس غير ثلاثة: جابر بن العلاء بن شهاب، والحصين بن الدجن، العقيليان، وهلال بن الطفيل العبدي، وكان الظفر لعبد الرحمن، وانهزم يوسف، وصبر الصميل بن حاتم بعده معذراً وعشيرته يحفونه، فلما خاف انهزامهم عنه تحول على بغله الأشهب معارضةً لعبد الرحمن الداخل، فمر به أبو عطاء فقال له: يا أبو جوشن، احتسب نفسك، فإن للأشباه أشباهاً: أموي بأموي، وفهري بفهري، وكلبي بكلبي، ويوم أضحى بيوم أضحى، ويمني بقيسي، والله إني لأحسب هذا اليوم بمثل مرج رهط سواء، فقال له الصميل: كبرت وكبر علمك، الآن تنجلي الغماء، وسحرك (2) منتفخ، فانثنى أبو عطاء لوجهه منقلباً، وانهزم الصميل، وملك عبد الرحمن قرطبة.

_ (1) دوزي: عبد الله. (2) السحر: الرئة.

ويوسف الفهري هو ابن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة ابن عقبة بن نافع الفهري، باني القيروان، وأمير معاوية على إفريقية والمغرب، وهو مشهور. وأما الصميل فهو ابن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن، وقيل: الصميل بن حاتم بن عمرو بن جندع بن شمر بن ذي الجوشن، كان جده شمر من أشراف الكوفة وهو أحد قتلة الحسين، رضي الله تعالى عنه، ودخل الصميل الأندلس حين دخل كلثوم بن عياض المغرب غازياً، وساد بها، وكان شاعراً كثير السكر أمياً لا يكتب، ومع ذلك فانتهت إليه في زمانه رياسة العرب بالأندلس، وكان أميرها يوسف الفهري كالمغلوب معه، وكانت ولاية الفهري الأندلس سنة تسع وعشرين ومائة، فدانت له تسع سنين وتسعة أشهر، وعنه كما مرّ انتقل سلطانها إلى بني أمية، واستفحل ملكهم بها إلى بعد الأربعمائة، ثم انتثر سلكهم، وباد ملكهم، كما وقع لغيرهم من الدول في القرون السالفة، سنة الله التي قد خلت في عباده. وكانت مدة الأمراء قبل عبد الرحمن الداخل من يوم فتحت الأندلس إلى هزيمة يوسف الفهري والصميل ستاً وأربعين سنة وشهرين وخمسة أيام، لأن الفتح كان حسبما تقدم لخمسٍ خلون من شوال سنة اثنتين وتسعين، وهزيمة يوسف يوم الأضحى لعشرٍ خلون من ذي الحجة سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة، والله غالب على أمره. وحكي أن عبد الرحمن بن معاوية دخل يوماً على جده هشام، وعنده أخوه مسلمة بن عبد الملك، وكان عبد الرحمن إذ ذاك صبياً، فأمر هشام أن ينحّى عنه، فقال له مسلمة: دعه يا أمير المؤمنين، وضمه إليه ثم قال: يا أمير المؤمنين هذا صاحب بني أمية، ووزرهم عند زوال ملكهم، فاستوص به خيراً، قال: فلم أزل أعرف مزيةً من جدي من ذلك الوقت. وكان الداخل يقاس بأبي جعفر المنصور في عزمه وشدته وضبط المملكة، ووافقه في أن أم كل منهما بربرية، وأن كلاً منهما قتل ابن أخيه، إذ قتل

المنصور ابن السفاح، وقتل عبد الرحمن ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية. ومن شعر عبد الرحمن وقد رأى نخلة برصافته (1) : تبدّت لنا وسط الرصافة نخلةٌ ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل فقلت شبيهي في التغرّب والنّوى ... وطول اكتئابي عن بنيَّ وعن أهلي نشأت بأرضٍ أنت فيها غريبةٌ ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي سقتك غوادي المزن في المنتأى الذي ... يسحُّ ويستمري السماكين (2) بالوبل وكان نقش خاتمه " بالله يثق عبد الرحمن، وبه يعتصم ". وأشاع سنة 163 الرحيل إلى الشام لانتزاعها من بني العباس، وكاتب جماعة من أهل بيته ومواليه وشيعته، وعمل على أن يستخلف ابنه سليمان بالأندلس في طائفة، ويذهب بعامة من أطاعه، ثم أعرض عن ذلك بسبب أمر الحسين (3) الأنصاري الذي انتزى عليه بسرقسطة، فبطل ذلك العزم. ومن شعر عبد الرحمن أيضاً قوله يتشوّق إلى معاهد الشام (4) : أيّها الراكب الميمّم أرضي ... اقر منّي بعض السلام لبعضي إن جسمي كما علمت بأرضٍ ... وفؤادي ومالكيه بأرض قدّر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضي قد قضى الله بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضي وترجمة الداخل طويلة، وقد ذكر منها ما فيه مقنع، انتهى؛ والله تعالى الموفق للصواب.

_ (1) انظر ابن عذاري 2: 62 والحلة السيراء: 27. (2) المقتطفات وق: يصح ويستمري المساكين. (3) المقتطفات وق: الحسن؛ وقد تقدم ذكره باسم " الحسين ". (4) تقدمت هذه الأبيات ص: 38.

وفي بنائه جامع قرطبة يقول بعضهم: وأبرز في ذات الإله ووجهه ... ثمانين ألفاً من لجينٍ وعسجد وأنفقها في مسجدٍ زانه التّقى ... وقرّ به دين النبي محمّد ترى الذهب الوهّاج بين سموكه ... يلوح كلمح البارق المتوقّد 33 - ومن الوافدين على الأندلس أبو الأشعث الكلبي (1) ، دخل الأندلس، وكان شيخاً مسناً يروي عن أمه عن عائشة رضي الله تعالى عنها، إلا أنه كان مندراً صاحب دعابة، وكان مختصاً بعبد الرحمن بن معاوية، وله منه مكانةٌ لطيفةٌ يدل بها عليه، ولما توفي حبيب بن عبد الملك بن عمر بن الوليد ابن عبد الملك بن مروان، وكانت له من عبد الرحمن خاصةٌ لم تكن لأحد من أهل بيته، جعل عبد الرحمن يبكي ويجتهد في الدعاء والاستغفار لحبيب، وكان إلى جنبه أبو الأشعث هذا قائماً، وكانت له دالة عليه ودعابة يحتملها منه، فأقبل عند استعباره كالمخاطب للمتوفى علانيةً يقول: يا أبا سليمان، لقد نزلت بحفرة قلما يغني عنك فيها بكاء الخليفة عبد الرحمن بعرةً، فأعرض عنه عبد الرحمن، وقد كاد التبسم يغلبه؛ هكذا ذكره ابن حيان رحمه الله تعالى في " المقتبس "، ونقله عن الحافظ ابن الأبار. 34 - ومن الداخلين إلى الأندلس جزي بن عبد العزيز (2) ، أخو عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه؛ دخل الأندلس، ومات في مدة الداخل، وكان من أولياء الله تعالى مقتفياً سبيل أخيه عمر بن عبد العزيز، رحمهما الله تعالى.

_ (1) انظر التكملة: 312 والنقل عنه حرفي دون إخلال أو إيجاز. والترجمة في " المقتطفات ": 123، وفي ق: أبو الأشعب الكلبي. (2) الجمهرة: 105 وقال ابن حزم: ولجزي عقب بقرطبة؛ وترجمته في الجذوة: 178 (وبغية الملتمس رقم: 627) .

35 - ومنهم بكر بن سوادة بن ثمامة، الجذامي (1) ويكنى أبا ثمامة، وجده صحابي، وكان بكر هذا فقيهاً كبيراً من التابعين، روى عن جماعة من الصحابة كعبد الله بن عمرو بن العاص وقيس بن سعد بن عبادة وسهل بن سعد الساعدي وسفيان بن وهب الخولاني وحبان بن سمح الصدائي، - وقيد اسمه الدار القطني رحمه الله تعالى حبان، بكسر الحاء المهملة، وبباء معجمة بواحدة، ونقله الأمير كذلك، وهو ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد فتح مصر، قال ابن يونس: ويقال فيه حبان بالكسر، وحبان بالفتح أصح، انتهى، وضبطه بعضهم بالياء المثناة تحت -. رجع - وممن روى عنه بكر من الصحابة أبة ثور الفهمي، وأبو عميرة المزني، وروى عن جماعة من التابعين أيضاً كسعيد بن المسيب وأبي سلمة ابن عبد الرحمن وعروة بن الزبير وجماعة سواهم يكثر عددهم ويطول سردهم، منهم ربيعة بن قيس الجملي وأبو عبد الرحمن الحبلي وزياد بن نعيم الحضرمي وسفيان بن هانئ الجيشاني وسعيد بن شمر السبائي وعبد الله بن المستورد بن شداد الفهري وعبد الرحمن بن أوس المزني وزيادة بن ثعلبة البلوي وشيبان بن أمية القتابي وعامر بن ذريح الحميري وعمير بن الفيض اللخمي وأبو حمزة الخولاني وعياض بن فروخ المعافري ومسلم بن مخشي المدبجي (2) وهانئ بن معاوية الصدفي وغيرهم ممن اشتمل على ذكرهم التاريخان لابن عبد الحكم وابن يونس. وممن روى عن بكر المذكور عبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحارث وجعفر ابن ربيعة وأبو زرعة ابن عبد الحكم الإفريقي وغيرهم. قال ابن يونس: توفي بإفريقية في خلافة هشام بن عبد الملك، وقيل: بل

_ (1) انظر ترجمته في الجذوة: 169 (وبغية الملتمس رقم: 586) ورياض النفوس 1: 74 ومعالم الإيمان 1: 160. (2) ق: المربخي؛ ولم ينسبه الذهبي في ميزان الاعتدال (1: 107) وقال: تفرد بحديث الفراسي في ماء البحر؛ ما حدث عنه غير بكر بن سوادة.

غرق في مجاز الأندلس، سنة ثمان وعشرين ومائة، قال: وجده ثمامة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله بمصر حديث رواه عمرو بن الحارث. وقال أبو بكر عبد الله بن محمد القيرواني المالكي في تاريخه المسمى ب " رياض النفوس " وقد ذكر بكراً هذا: إنه كان أحد العشرة التابعين، يعني الموجهين إلى إفريقية من قبل عمر بن عبد العزيز في خلافته ليفقهوا أهل إفريقية ويعلموهم أمر دينهم، قال: وأغرب بحديث عن عقبة بن عامر، لم يروه غيره فيما علمت، حدث عبد الله بن لهيعة عنه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان رأس مائتين فلا تأمر بمعروف، ولا تنه عن منكر، وعليك بخاصة نفسك "، وحكى المالكي أيضاً عن أبي سعيد بن يونس قال: كان فقيهاً مفتياً، سكن القيروان، وكانت وفاته كما تقدم، وذكره الحميدي في الداخلين إلى الأندلس، ولم يذكره ابن الفرضي. 36 - ومنهم رزيق بن حكيم (1) ، أحد المعدودين في الداخلين إلى الأندلس، ذكره أبو الحسن ابن النعمة عن أبي المطرف عبد الرحمن بن يوسف الرفاء القرطبي، وحكى أنه كتب ذلك من خطه، وسماه مع جماعة منهم حبان بن أبي جبلة وعلي ين أبي رباح وأبو عبد الرحمن الحبلي وحنش بن عبد الله الصنعاني ومعاوية ابن صالح وزيد ابن الحباب العكلي، وانتهى عددهم برزيق هذا سبعة، ولم يذكره ابن الفرضي ولا غيره، قاله الحافظ أبو عبد الله القضاعي. 37 - ومنهم زيد بن قاصد السكسكي (2) . قال ابن الأبار: وهو تابعي، دخل الأندلس وحضر فتحها، وأصله من مصر، يروي عن عبد الله بن عمرو

_ (1) ق: زريق؛ وأثبته ابن الأبار في حرف الراء " رزيق " (التكملة: 324) وكذلك سماه الذهبي في المشتبه: 312 واسم والده مصغر أيضا؛ وما أورده المقري في ترجمته منقول عن ابن الأبار. (2) التكلمة: 330 والجذوة: 204 (وبغية الملتمس رقم: 757) .

ابن العاص رضي الله تعالى عنه، وروى عنه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، ذكره يعقوب بن سفيان، وأورد له حديثاً؛ من كتاب الحميدي (1) ، انتهى. 38 - ومنهم زرعة بن روح الشامي (2) ؛ دخل الأندلس، وحدث عنه ابنه مسلمة بن زرعة بحكاية عن القاضي مهاجر بن نوفل. 39 - ومنهم محمد بن أوس بن ثابت الأنصاري (3) ، قال ابن الأبار: تابعي، دخل الأندلس، يروي عن أبي هريرة، قرأته بخط ابن حبيش، وقال أبو سعيد ابن يونس مؤرخ مصر: إنه يروي عنه الحارث بن يزيد ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وكان غزا المغرب والأندلس مع موسى بن نصير، ويروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وقال الحميدي: إنه كان من أهل الدين والفضل معروفاً بالفقه، ولي بحر إفريقية سنة ثلاث وتسعين، وغزا المغرب والأندلس مع موسى بن نصير، فيما حكاه ابن يونس صاحب تاريخ مصر، وكان على بحر تونس سنة ثنتين ومائة على ما حكاه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم. ولما قتل يزيد بن أبي مسلم والي إفريقية اجتمع رأي أهلها عليه، فولوه أمرهم، وذلك في خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان، إلى أن ولي بشر بن صفوان الكلبي إفريقية، وكان على مصر فخرج إليها واستخلف أخاه حنظلة، انتهى. 40 - ومنهم عبد الملك بن عمرو بن مروان بن الحكم، الأموي (4) ، فر من الشام خوفاً من المسودة، فمر بمصر ومضى إلى الأندلس، وقد غلب عليها الأمير عبد الرحمن بن معاوية الداخل، فأكرمه ونوه به، وولاه إشبيلية لأنه

_ (1) يريد ابن الأبار أنه نقل هذه الترجمة من كتاب الحميدي (جذوة المقتبس) . (2) انظر التكملة: 326. (3) ترجمته في التكملة: 354 وجذوة المقتبس: 42 (وبغية الملتمس رقم: 67) . (4) ترجمته في الحلة السيراء 1: 56 والمقتطفات: 123.

كان قعدد بني أمية، ثم إنه لما وجد الداخل يدعو لأبي جعفر المنصور أشار عليه بقطع اسمه من الخطبة، وذكره بسوء صنيع بني العباس ببني أمية، فتوقف عبد الرحمن في ذلك، فما زال به عبد الملك حتى قطع الدعاء له، وذلك أنه قال له حين امتنع من ذلك: إن لم تقطع الخطبة لهم قتلت نفسي، فقطع حينئذ عبد الرحمن الخطبة بالمنصور بعد أن خطب باسمه عشرة أشهر، ولما زحف أهل غرب الأندلس نحو قرطبة لحرب الأمير عبد الرحمن أنهض إليهم عبد الملك هذا، فنهض في معظم الجيش، وقدم ابنه أمية أمامه في أكثر العساكر، فخالطهم أمية، فوجد فيهم قوة، فخاف الفضيحة معهم، فانحاز منهزماً إلى أبيه، فلما جاءه سقط في يده، وقال له: ما حملك على أن استخففت بي وجرأت الناس علي والعدو إن كنت قد فررت من الموت فقد جئت إليه، فأمر بضرب عنقه، وجمع أهل بيته وخاصته وقال لهم: طردنا من الشرق إلى أقصى هذا الصقع، ونحسد على لقمة تبقي الرمق، اكسروا جفون السيوف، فالموت أولى أو الظفر، ففعلوا وحملوا، وتقدمهم، فهزم اليمانية وأهل اشبيلية، ولم تقم بعدها لليمانية قائمة، وقتل بين الفريقين ثلاثون ألفاً، وجرح عبد الملك، فأتاه عبد الرحمن وجرحه يجري دماً وسيفه يقطر دماً، وقد لصقت يده بقائم سيفه، فقبل بين عينيه، وجزاه خيراً، وقال له: يا ابن عمّ، قد أنكحت ابني وولي عهدي هشاماً ابنتك فلانة، وأعطيتها كذا وكذا، وأعطيتك كذا ولأولادك كذا، وأقطعتك وإياهم كذا، ووليتكم الوزارة. ومن شعره لما نظر نخلة منفردة بإشبيلية فتذكر وطنه بالشام، وقال (1) :

_ (1) نسب ابن الأبار هذه الأبيات لعبد الرحمن الداخل (الحلة: 37) ثم قال: وقد قيل إن الأبيات الأربعة الأول (تبدت لنا وسط الرصافة نخلة ... ) لعبد الملك بن بشر بن عبد الملك، وقيل في الأبيات الأخيرة (يا نخل أنت غريبة ... ) إنها لعبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم؛ ثم عاد فذكر أن هناك ما يقوي نسبتها إلى عبد الرحمن.

يا نخل أنت فريدةٌ مثلي ... في الأرض نائيةٌ عن الأهل تبكي وهل تبكي مكممةٌ ... عجماء لم تجبل على جبلي ولو أنها عقلت إذا لبكت ... ماء الفرات ومنبت النخل لكنّها حرمت وأخرجني ... بغضي بني العباس عن أهلي 41 - ومن الداخلين من المشرق إلى الأندلس هاشم بن الحسين بن إبراهيم ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ونزل حين دخوله بلبلة، وتعرف منازلهم فيها بمنازل الهاشمي، وذكره أمير المؤمنين الحكم المستنصر في كتابه " أنساب الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب ". 42 - ومن الداخلين إلى الأندلس عبد الله بن المغيرة، الكناني (1) ، حليف بني عبد الدار، سماه أبو محمد الأصيلي الفقيه في الداخلين الأندلس من التابعين، حكى ذلك عنه أبو القاسم ابن بشكوال في مجموعه المسمى ب " التنبيه والتعيين "، قال ابن الأبار: وما أراه يتابع عليه؛ وذكره أبو سعيد ابن يونس من أهل إفريقية، انتهى، وذكر أنه يروي عن سفيان بن وهب الخولاني. 43 - ومنهم عبد الله المعمر (2) الذي طرأ على الأندلس في آخر الزمان، وكان يزعم أنه لقي بعض التابعين. قال ابن الأبار روى عنه أبو محمد أسد الجهني، ذكر ذلك القبشي، وفيه عندي نظر، انتهى. 44 - ومنهم أبو عمرو عبد الرحمن بن شماسة بن ذئب، المهري (3) ، روى عن أبي ذر، وقيل عن أبي نضرة عن أبي ذر، وعائشة وعمرو بن العاص

_ (1) ترجمته في التكملة: 772. (2) التكملة: 912. (3) ترجمته في التكملة رقم: 1525، وفيه " ابن ذؤيب ".

وابنه عبد الله وزيد بن ثابت وأبي نضرة الغفاري (1) وعقبة بن عامر الجهني وعوف ابن مالك الأشجعي، ومعاوية ابن حديج ومسلمة بن مخلد وأبي رهم، ذكره ابن يونس في تاريخ مصر، وسماه ابن بشكوال في الداخلين الأندلس من التابعين، وروى ذلك عن الحميدي، قاله ابن الأبار؛ وقال ابن يونس: وآخر من حدث عنه بمصر حرملة بن عمران. 45 - ومن الداخلين إلى الأندلس من المشرق عبد الله بن سعد ابن عمار ابن ياسر (2) ، رضي الله تعالى عنه، وقد ذكره ابن حيان في مقتبسه، وأخبر أن يوسف بن عبد الرحمن الفهري كتب له أن يدافع عبد الرحمن المرواني الداخل للأندلس، وكان المذكور إذ ذاك أميراً على اليمانية من جند دمشق، وإنما ركن إليه في محاربة عبد الرحمن لما بين بني عمار وبين بني أمية من الثأر بسبب قتل عمار بصفين، وكان عمار رضي الله تعالى عنه من شيعة علي، كرم الله وجهه. وهذا عبد الله بن سعد هو جد بني سعيد أصحاب القلعة الذين منهم عدة رؤساء وأمراء وكتاب وشعراء، ومنهم صاحب " المغرب " وغير واحد ممن عرفنا به في هذا الكتاب، ومن مشاهيرهم أبو بكر محمد بن سعيد ابن خلف ابن سعيد صاحب أعمال غرناطة في مدة الملثمين، قال: وهو القائل يفتخر (3) : إن لم أكن للعلاء أهلاً ... بما تراه فمن يكون فكلُّ ما أبتغيه دوني ... ولي على همّتي ديون ومن يرم ما يقلّ عنه ... فذاك من فعله جنون

_ (1) التكملة: أبي بصرة؛ وذكر صاحب الأغاني أن أبا بصرة الغفاري المحدث هو والد عزة صاحبة كثير؛ قال: واسمه صميل بن وقاص (9: 24) . (2) انظر ما تقدم: ج 2: 330. (3) مرت هذه الأبيات والتي تليها؛ ج 2: ص 331 من هذا الكتاب.

فرعٌ بأفق السماء سامٍ ... وأصله راسخٌ مكين وقوله: الله يعلم أنّي ... أحبّ كسب المعالي وإنّما أتوانى ... عنها لسوء المآل تحتاج للكدّ والبذ ... ل واصطناع الرجال دع كل من شاء يسمو ... لها بكلّ احتيال فحالهم في انعكاسٍ ... بها وحالي حالي وتراجمهم واسعة، وقد بسطت في " المسهب " و " المغرب " وغيرهما، وقد قدمنا في الباب قبل هذا من أخبار بني سعيد هؤلاء ما يثلج الصدر فليراجع. 46 - ومن الوافدين على الأندلس من المشرق أبو زكريا عبد الرحيم بن أحمد بن نصر بن إسحاق بن عمرو بن مزاحم بن غياث، التميمي، البخاري (1) ، الحافظ، نزيل مصر. سمع ببخارى بلده من إبراهيم بن محمد بن يزداد وأخيه أحمد، وكانا يرويان معاً عن عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وعن أبي الفضل السليماني ببيكند، وأبي عبد الله محمد بن أحمد المعروف بغنجار، وأبي يعلي حمزة بن عبد العزيز المهلبي وأقرانه باليمن، وأبي القاسم تمام بن محمد الرازي بدمشق، وابن أبي كامل بأطرابلس الشام، وأبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ بمصر، وله رواية عن أبي نصر الكلاباذي وأبي عبد الله الحاكم وأبي بكر بن فورك المتكلم وأبي العباس ابن الحاج الإشبيلي وأبي القاسم علي بن أحمد الخزاعي صاحب الهيثم ابن كليب وأبي الفضل العباس بن محمد الحداد التنيسي وأبي الفتح محمد بن إبراهيم الجحدري وأبي بكر محمد بن داود العسقلاني وهلال الحفار وصدقة بن محمد

_ (1) ترجمته في التكملة رقم: 1671.

ابن مروان الدمشقي، ولقي بإفريقية العابد ولي الله سيدي محرز بن خلف التميمي مولاهم وصحبه، وقال: لقد هبته يوم لقيته هيبة لم أجدها لأحد في نفسي من الناس، ودخل الأندلس وبلاد المغرب، وكتب بها عن شيوخها، ولم يزل يكتب إلى أن مات حتى كتب عمن دونه، وله " رسالة الرحلة (1) وأسبابها وقول لا إله إلا الله وثوابها "، فسمع منه أبو عبد الله الرازي وذكره في مشيخته، قال الحافظ ابن الأبار: ومنها نقلت اسمه وتعرفت دخوله الأندلس، وحدث عنه هو وجماعة منهم أبو مروان الطبني - وقال: هو من الرحالين في الآفاق، أخبرني أنه يحدث عن مئين من أهل الحديث - وأبو عبد الله الحميدي وأبو بكر [جماهر بن عبد الرحمن] (2) الطليطلي وأبو عبد الله ابن منصور الحضرمي وأبو سعيد الرهاوي وأبو محمد جعفر بن محمد السراج وأبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الباقي وأبو الحسن ابن مشرف الأنماطي وأبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي وأبو محمد شعيب بن سبعون الطرطوشي وأبو بكر ابن نعمة العابد (3) وأبو الحسن علي بن الحسين الموصلي الغراف (4) وأبو عثمان سعد بن عبد الله الحيدري من شيوخ السلفي، وأبو محمد عبد الكريم بن حمزة بن الخضر السلمي، وأبو إسحاق الكلاعي من شيوخ أبي بحر الأسدي، وأبو محمد ابن عتاب كتب إليه بجميع ما رواه ولم يعرف ذلك في حياته. وسماه أبو الوليد ابن الدباغ في الطبقة العاشرة من طبقات أئمة المحدثين من تأليفه، مع أبي عمر ابن عبد البر وأبي محمد ابن حزم وأبي بكر ابن ثابت الخطيب، وذكره أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه، وقال: سمع بما وراء النهر والعراق ومصر واليمن والقيروان، ثم سكن مصر وقدم دمشق قديماً وحدث بها، وسمى جماعة كثيرة من الرواة عنه، وحكى أنه قال: لي ببخارى أربعة عشر ألف جزء حديث أريد أن أمضي وأجيء بها،

_ (1) التكملة: رسالة الرحمة. (2) زيادة من التكملة. (3) دوزي: العابر. (4) التكملة: الفراء.

قال: وسئل عن مولده، فقال: في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، قال: وتوفي بالحوراء سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى ورضي عنه، انتهى. قلت: والذي أعتقده أنه لم يدخل الأندلس من أهل المشرق أحفظ منه للحديث، وهو ثقة عدل ليس له مجازفة، والحق أبلج. 47 - وممن دخل الأندلس من المشرق عبد الجبار بن أبي سلمة الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، القرشي، الزهري (1) ، دخل الأندلس مع موسى بن نصير، وكان على ميسرة معسكره، ونزل باجة ثم بطليوس، ومن نسله الزهريون الأشراف الذين كانوا بإشبيلية انتقلوا إلى سكناها قديماً، هكذا في خبر القاضي أبي الحسين الزهري منهم عن أبي بكر ابن خير وغيره، قال ابن بشكوال في مجموعه المسمى ب " التنبيه والتعيين لمن دخل الأندلس من التابعين ": عبد الجبار بن أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف من التابعين، وقع ذكره في كتاب شيخنا أبي الحسن ابن مغيث، انتهى. قال ابن الأبار: ولم يزد على هذا، انتهى 48 - ومن الداخلين إلى الأندلس من المشرق أبو محمد عبد الوهاب بن عبد الله بن عبد الوهاب (2) ، من أهل مصر، وسكن بغداد، ويعرف بالطندتائي، قرية بمصر نسب إليها، روى عن أبي محمد الشارمساحي، وتفقه به، وقدم الأندلس رسولاً بزعمه من عند الخليفة العباسي، فسكن مرسية ودرس بها، وخرج منها سنة اثنتين وأربعين وستمائة بعد أن تملكها النصارى صلحاً، وأسر بناحية صقلية، قال ابن الأبار: ثم بلغني أنه تخلص ولحق ببلده، رحمه الله تعالى. 49 - ومنهم عبد الخالق بن إبراهيم الخطيب، يكنى أبا القاسم. قال

_ (1) ترجمته في التكملة رقم: 1772. (2) ترجمته في التكملة رقم: 1796.

ابن الأبار (1) : لا أعرف موضعه من بلاد المشرق، وكان أديباً قوي العارضة، مطبوع الشعر، مديد النفس. ومن شعره من قصيدة صنعها في وقت رحلته إلى الأندلس قوله: على الذلّ أو فاحلل عقال الركائب ... وللضيم أو فاحلل صدور الكتائب فإمّا حياةٌ بعد إدراك منيةٍ ... وإمّا مماتٌ تحت عزّ القواضب فما العيش في ظل الهوان بطيّبٍ ... وما الموت في سبل العلاء بعائب 50 - ومنهم عبد اللطيف بن أبي الطاهر أحمد بن محمد بن هبة الله، أبو محمد الهاشمي، الصدفي، من أهل بغداد، يعرف بالنرسي، دخل الأندلس، وكان يزعم أنه روى عن أبي الوقت السجزي وأبي الفرج الجوزي وغيرهما، وله تأليف سماه " الدليل في الطريق من أقاويل أهل التحقيق " ذكره أبو عبد الله محمد بن سعيد الطراز وضعفه بعدما سمع منه، أخذ عنه وسمع منه هو وأبو القاسم عبد الرحمن بن القاسم المغيلي وغيرهما، وقال: ورد علينا غرناطة قريباً من سنة ثلاث عشرة وستمائة، وتوفي، عفا الله تعالى عنه، بإشبيلية قريباً من هذا التاريخ، وقال فيه أبو القاسم ابن فرقد: عبد اللطيف بن عبد الله الهاشمي البغدادي النرسي، منسوب إلى قرية من قرى بغداد، سمع صحيح البخاري من أبي الوقت السجري، وروى عن غيره، وله تآليف، قال ابن الأبار (2) : في التصوف، منها تأليف في إباحة السماع، قرأت عليه أكثره، وقرأت عليه عوالي النقيب بمدينة إشبيلية بحومة القصر المبارك عام خمسة عشر وستمائة. 51 - ومنهم أبو بكر عمر بن عثمان بن محمد بن أحمد، الخراساني،

_ (1) لم ترد ترجمته في كتاب التكملة المطبوع. (2) لم يرد أيضا في كتاب التكملة المطبوع.

الباخرزي، الماليني، يكنى أبا بكر (1) ، سمع من أبي الخير أحمد بن إسماعيل الطالقاني القزويني وأبي يعقوب يوسف بن عمر بن أحمد الخالدي الزنجاني، وقدم الأندلس، وحدث بصحيفتي الأشج وجعفر بن نسطور الرومي، وسمع منه بغرناطة ومرسية وغيرهما من بلاد الأندلس، وحدث عنه أبو القاسم الملاحي، وسمع منه بمالقة أبو جعفر بن عبد الجبار وأبو علي بن هاشم في صفرسنة 600، ومولده في ربيع الأول سنة 560، انتهى من تكملة ابن الأبار (2) . قلت: ولا يخفى على من له بصر بعلم الحديث أن الأشج وابن نسطور لا يلتفت إليهما، ويرحم الله تعالى السلفي الحافظ إذ قال: حديث ابن نسطورٍ وقيسٍ ويعنمٍ ... وبعد أشجّ الغرب ثم خراش ونسخة دينارٍ ونسخة تربه ... أبي هدبة القيسيّ شبه فراش قال ابن عات: كان الحافظ السلفي إذا فرغ من إنشاد هذين البيتين ينفخ في يديه إشارةً إلى أن هذه الأشياء كالريح، انتهى. 52 - ومن الوافدين على الأندلس من أهل المشرق علي بن بندار بن اسماعيل بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، البرمكي، من أهل بغداد، قدم الأندلس تاجراً سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وكان قد أخذ عن أبي الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس الفقيه الداودي، وتلمذ له، وسمع منه " الموضح " و " المنجح " من تآليفه في الفقه، وما تم له من أحكام القرآن، هكذا نقله الحافظ بن حزم عن أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله المعتني بهذا الشأن، رحمه الله تعالى. 53 - ومنهم أبو العلاء عبيد بن محمد بن عبيد، أبو العلاء، النيسابوري.

_ (1) انظر التكملة رقم: 1830. (2) جاءت ترجمته في التكملة المطبوع ناقصة كثيرا عما أثبته المقري.

لقيه الحافظ أبو علي الصدفي ببغداد وأخذ عنه إذ قدمها حاجاً، وهو يحدث عن أبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد البصروي، قال أبو علي: وأراه دخل الأندلس، ويغلب على ظني أني لقيته بسرقسطة، ذكر ذلك القاضي عياض في " المعجم " من تأليفه، والله تعالى أعلم. 54 - ومنهم سهل بن علي بن عثمان، التاجر، النيسابوري، يكنى أبا نصر (1) ، سمع جماعة من الخراسانيين وغيرهم؛ منهم أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي وأبو الفتح السمرقندي، وأدرك الإمام أبا المعالي الجويني، وحضر مجلسه ودرسه، ولقيه بعده أصحابه القشيري والطوسي وغيرهما، وكان شافعي المذهب، ذكره عياض وقال: حدثني بحكايات وفوائد، وأنشدني لأبي طاهر السلفي، وأجازني جميع رواياته وحدثني أن وفاة أبي المعالي كانت بنيسابور سنة خمس أو أربع وسبعين وأربعمائة، وقال أبو محمد العثماني: أنشدني أبو نصر سهل بن علي النيسابوري الحقواني قال: أنشدنا أبو الفتح نصر بن الحسن، أنشدنا أبو العباس العذري، قال: أنشدنا أبو محمد ابن حزم الحافظ لنفسه: ولمّا رأيت الشّيب حلّ مفارقي ... نذيراً بترحال الشباب المفارق رجعت إلى نفسي فقلت لها انظري ... إلى ما أتى، هذا ابتداء الحقائق دعي دعوات اللهو قد فات وقتها ... كما قد أفات الليل نور المشارق دعي منزل اللّذّات ينزل أهله ... وجدّي لما ندعى إليه وسابقي قال عياض: توفي سهل هذا غريقاً في البحر منصرفاً إلى بلده من المرية، رحمه الله تعالى (2) .

_ (1) ترجمة أبي نصر النيسابوري في التكملة رقم: 2008. (2) زاد في التكملة: سنة 531.

55 - ومنهم أبو المكارم هبة الله بن الحسين، المصري (1) ، كان من أهل العلم، عارفاً بالأصول، حافظاً للحديث، متيقظاً، حسن الصورة والشارة، دخل الأندلس، وولي قضاء إشبيلية منها آخر شعبان سنة تسع وسبعين وخمسمائة. قال ابن الأبار: وبه صرف أبو القاسم الخولاني، وأقام بها سنة، وحضر غزوة شنترين، وكان قدوم أبي المكارم هذا الأندلس خوفاً من صلاح الدين يوسف بن أيوب في قوم من شيعة العبيدي ملك مصر، ووفد أيضاً معه أبو الوفاء المصري، ثم استصحبه أمير المؤمنين يعقوب المنصور معه في غزوة قفصة الثانية، وولاه حينئذ قضاء تونس، وكان قد ولي قضاء فاس، وولي أيضاً أبو الوفاء صاحبه القضاء، وتوفي وهو يتولى قضاء تونس سنة ست وثمانين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. 56 - ومنهم يحيى بن عبد الرحمن ابن عبد المنعم بن عبد الله، القيسي، الدمشقي (2) ، أصله من دمشق، وبها ولد، ويعرف بالأصبهاني قي مجلس أبي طاهر السلفي لدخوله إياها وإقامته بها أزيد من خمسة أعوام لقراءة الخلافيات، ويكنى أبا زكريا، وسمع بالمشرق أبا بكر ابن ماشاذه السكري وأبا الرشيد ابن خالد البيع وأبا الطاهر السلفي وغيرهم، وقصد المغرب بعد أداء الفريضة فلقي ببجاية أبا محمد عبد الحق الإشبيلي، وأجازه وحضه على الوعظ والتذكير، فامتثل ذلك، ودخل الأندلس، وتجول ببلادها، واستوطن غرناطة منها، وكان فقيهاً على مذهب الشافعي، عارفاً بالأصول والتصوف، زاهداً، ورعاً، كثير المعروف والصدقة، يعظ الناس، ويسمع الحديث، ولم يكن بالضابط فيما قاله الحافظ ابن الأبار، قال: وله كتاب " الروضة الأنيقة " من تأليفه، حدث عنه جماعة من الجلة، منهم أبو جعفر ابن عميرة الضبي (3) ، وابنا حوط الله أبو محمد وأبو

_ (1) ترجمته في التكملة رقم: 2024. (2) التكملة رقم: 2071. (3) ق: حميرة.

سليمان، وأبو القاسم الملاحي، وأبو العباس ابن الجيار، وأبو الربيع ابن سالم، وقال: أنشدني عند توديعي إياه بغرناطة قال: سمعت بعض المذكورين ينشد: يازائراً زار وما زار ... كأنّه مقتبسٌ نارا مرّ بباب الدار مستعجلاً ... ما ضرّه لو دخل الدارا نفسي فداء لك من زائرٍ ... مازار حتى قيل قد سار وسمع منه أبو جعفر ابن الدلال كتاب " المعالم " للخطابي في شرح " سنن أبي داود " بقراءة جمعيه عليه. ومولده في شوال سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وتوفي بغرناطة بعد أن سكنها يوم الاثنين سادس شوال سنة ثمان وستمائة، قال ابن الأبار: وفي هذا اليوم بعينه كانت وفاة شيخنا أبي عبد الله ابن نوح ببلنسية، رحمهما الله تعالى. 57 - ومن الوافدين من المشرق إلى الأندلس إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي، القرشي (1) ، من ذرية عبد بن زمعة أخي سودة أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنها، رحل من مصر إلى الأندلس في زمن السلطان الحاكم المستنصر بالله أعوام الستين وثلاثمائة حين ملك بنو عبيد مصر وأظهروا فيها معتقدهم الخبيث، فحل يومئذ من الحكم المستنصر محل الرحب والسعة، ولما ثارت الدولة العامرية أوى إلى إشبيلية، وأوطنها داراً، واتخذها قراراً، وبها لقيه أبو عمر ابن عبد البر علامة الأندلس فدرس عليه، واقتبس مما لديه، وقد ذكره في تاريخ شيوخه، ولم يزل عقبه بها إلى أن نجم منهم أبو الحسين سالم ابن محمد بن سالم، وهو من رجال " الذخيرة " (2) وله نثر، كما تفتح الزهر، وتدفق البحر، ونظم كما اتسق الدر، وسفرت عن محاسنها الأوجه الغر،

_ (1) ترجمته في جذوة المقتبس: 153 (وبغية الملتمس رقم: 545) . (2) لم يرد اسمه في فهرست الذخيرة 1 / 1: 11 - 20.

فمن نظمه قوله: خليليّ، هل ليلى ونجدٌ كعهدنا ... فيا حبّذا ليلى ويا حبّذا نجد عسى الدّهر أن يقضي لنا بالتفاتةٍ ... فيا ربّ قربٍ قد يجدّده بعد وله أثناء رسالة: قوس العلا وضعت في كف باريها ... وأسهم الخطب عادت نحو راميها ومنها: وإنّما الشمس لاحت في مطالعها ... بلى وأجرى جياد الخيل مجريها ونشأ هذا النجم الثاقب، والصيب الساكب، وقد أخذ من العلوم في غبر ما فن، وحقق فيه كل ما ظن، وذكره في " المسهب " و " سمط الجمان " وفضله شهير، رحمه الله تعالى. 58 - ومنهم أبو علي القالي، صاحب الأمالي والنوادر (1) ، وفد على الأندلس أيام الناصر أمير المؤمنين عبد الرحمن، فأمر ابنه الحكم - وكان يتصرف عن أمر أبيه كالوزير - عاملهم ابن رماحس أن يجيء مع أبي علي إلى قرطبة، ويتلقاه قي وفد من وجوه رعيته ينتخبهم من بياض أهل الكورة تكرمةً لأبي علي، ففعل، وسار معه نحو قرطبة في موكب نبيل، فكانوا يتذاكرون الأدب في طريقهم، ويتناشدون الأشعار، إلى أن تحاوروا يوماً وهم سائرون أدب عبد الملك بن مروان ومساءلته جلساءه عن أفضل المناديل وإنشاده بيت عبدة ابن الطبيب (2) :

_ (1) انظر ترجمة القالي في طبقات الزبيدي: 202 وابن الفرضي 1: 83 والجذوة: 154 (وبغية الملتمس رقم: 547) وفهرسة ابن خير 395 وابن خلكان 1: 204 وإنباه الرواة 1: 204 ومعجم الأدباء 7: 25 والشذرات 3: 18 ومعجم البلدان: (قاليقلا) وبروكلمان 2: 277 (الترجمة العربية) . (2) البيت: 51 من المفضلية رقم: 26.

ثمّت قمنا إلى جردٍ مسوّمة ... أعرافهن لأيدينا مناديل وكان الذاكر للحكاية الشيخ أبا علي، فأنشد الكلمة في البيت " أعرافها لأيدينا مناديل " فأنكرها ابن رفاعة الإلبيري، وكان من أهل الأدب والمعرفة، وفي خلقه حرج وزعارة، فاستعاد أبا علي البيت متثبتاً مرتين، في كلتيهما أنشده " أعرافها "، فلوى ابن رفاعة عنانه منصرفاً وقال: مع هذا يوفد على أمير المؤمنين وتتجشم الرحلة لتعظيمه، وهو لا يقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه والله لا تبعته خطوة، وانصرف عن الجماعة، وندبه أميره ابن رماحس أن لا يفعل، فلم يجد فيه حيلة، وكتب إلى الحكم يعرفه ويصف له ما جرى لابن رفاعة ويشكوه، فأجابه على ظهر كتابه: الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطىء وافد أهل العراق إلينا، وابن رفاعة أولى بالرضى عنه من السخط، فدعه لشأنه، واقدم بالرجل غير منتقص من تكرمته، فسوف يعليه الاختبار إن شاء الله تعالى أو يحطه. وبعض المؤرخين يزعم أن وفادة أبي علي القالي إنما كانت في خلافة الحكم المستنصر بالأندلس، لا في خلافة أبيه الناصر، والصواب أن وفادته في أيام الناصر، لما ذكره غير واحد من حصره وعيه عن الخطبة يوم احتفال الناصر لرسول الإفرنج كما ألمعنا به في غير هذا الموضع (1) . وفي القالي يقول شاعر الأندلس الرمادي (2) : من حاكم بيني وبين عذولي ... الشجو شجوي والعويل عويلي في أي جارحة أصون معذّبي ... سلمت من التعذيب والتنكيل

_ (1) انظر خبر الخطبة يوم وفادة رسل الفرنجة ج 1 ص: 368 من هذا الكتاب؛ وقد كان وصول ءأبي علي إلى الأندلس عام 330 فلا خلاف بعد ذلك في أنه وصل أيام الناصر، وسيذكرنا ذلك صاحب النفح. (2) وردت أبيات الرمادي في اليتيمة 2: 100 والمطمح: 70 ومطلعها في الجذوة: 347.

إن قلت في بصري فثمّ مدامعي ... أو قلت في قلبي فثمّ غليلي لكن جعلت له المسامع موضعاً ... وحجبتها عن عذل كلّ عذول ولما سمع المتنبي البيت الثاني قال: يصونه في استه. وكان الرمادي لما سمع قول المتنبي: كفى بجسمي نحولاً أنّني رجلٌ ... لولا مخاطبتي إيّاك لم ترني قال: أظنه ضرطة، والجزاء من جنس العمل. وباسم أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله طرز الشيخ أبو علي القالي كتاب " الأمالي ". وكان الحكم كريماً، معنياً بالعلم، وهو الذي وجه إلى الحافظ أبي الفرج الأصبهاني ألف دينار على أن يوجه له نسخة من كتاب الأغاني، وألف أبو محمد الفهري كتاباً في نسب أبي علي البغدادي ورواياته ودخوله الأندلس. وحكى ابن الطيلسان عن ابن جابر أنه قرأ هذين البيتين في لوح رخام كان سقط من القبة المبنية على قبر أبي علي البغدادي عند تهدمها، وهما: صلوا لحد قبري بالطريق وودّعوا ... فليس لمن وارى التراب حبيب ولا تدفنوني بالعراء فربّما ... بكى أن رأى قبر الغريب غريب واسم أبي علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد ابن سليمان، وجده سليمان مولى عبد الملك بن مروان، وكان أبو علي أحفظ أهل زمانه باللغة والشعر ونحو البصريين، وأخذ الأدب عن أبي بكر ابن دريد الأزدي وأبي بكر ابن الأنباري وابن درستويه وغيرهم، وأخذ عنه أبو بكر الزبيدي الأندلسي صاحب " مختصر العين "، ولأبي علي التصانيف الحسان ك " الأمالي " و " البارع "، وطاف البلاد، وسافر إلى بغداد سنة 303، وأقام بالموصل لسماع الحديث من أبي يعلى الموصلي، ودخل بغداد سنة 303، وأقام بها إلى سنة 328، وكتب بها الحديث، ثم خرج من بغداد قاصداً الأندلس، وسمع

من البغوي وغيره. قال ابن خلكان: ودخل قرطبة لثلاث بقين من شعبان سنة ثلاثين وثلاثمائة، انتهى. وهو مما يعين أنه قدم في زمن الناصر، لا في زمن ابنه الحكم كما تقدم، وقد صرح بذلك الصفدي في الوافي فقال: ولما دخل المغرب قصد صاحب الأندلس الناصر لدين الله عبد الرحمن، فأكرمه، وصنف له ولولده الحكم تصانيف وبث علومه هناك، انتهى. وقال ابن خلكان إنه استوطن قرطبة إلى أن توفي بها في شهر ربيع الآخر، وقيل: جمادى الأولى سنة 356، ليلة السبت لست خلون من الشهر المذكور، ودفن ظاهر قرطبة، ومولده بمنازجرد من ديار بكرسنة 288، وقيل: سنة 280، وإنما قيل له " القالي " لأنه سافر إلى بغداد مع أهل قاليقلا، وهي من أعمال ديار بكر. وهو من محاسن الدنيا، رحمه الله تعالى. وعيذون: بفتح العين، وسكون الياء المثناة التحتية، وضم الذال المعجمة. وقال ابن خلكان في ترجمة ابن القوطية (1) : إن أبا علي القالي لما دخل الأندلس اجتمع به، وكان يبالغ في تعظيمه، قال له الحكم بن عبد الرحمن الناصر: من أنبل من رأيته ببلدنا هذا في اللغة فقال: محمد بن القوطية، وكان ابن القوطية مع هذه الفضائل من العباد النساك، وكان جيد الشعر صحيح الألفاظ حسن المطالع والمقاطع إلا أنه تركه ورفضه، وقال الأديب أبو بكر ابن هذيل (2) : إنه توجه يوماً إلى ضيعة له بسفح جبل قرطبة، وهي من بقاع الأرض الطيبة

_ (1) ابن خلكان 4: 4 - 6 وهناك ترجمات أخرى لابن القوطية في ابن الفرضي 2: 78 والجذوة: 71 والديباج 262 وإنباه الرواة 3: 178 وبغية الوعاة: 84 ومعجم الأدباء 18: 272. (2) هو يحيى بن هذيل التميمي الشاعر الكفيف أستاذ الرمادي (انظر الجذوة: 358 وبغية الملتمس رقم: 1495) وله عدد صالح من الأشعار في كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس لابن الكتاني.

المونقة، فصادف أبا بكر ابن القوطية المذكور صادراً عنها، وكانت له أيضاً هناك ضيعة، قال: فلما رآني عرج علي، واستبشر بلقائي، فقلت مداعباً له: من أين أقبلت يا من لا شبيه له ... ومن هو الشمس والدنيا له فلك قال: فتبسم وأجاب بسرعة: من منزل تعجب النساك خلوته ... وفيه ستر على الفتّاك إن فتكوا فما تمالكت أن قبّلت يده، إذ كان شيخي ودعوت له، انتهى. وهو صاحب كتاب " الأفعال " الذي فتح به هذا الباب، فتلاه ابن القطاع، وله كتاب " المقصور والممدود " جمع فيه مالا يحد ولا يعد، وأعجز من بعده به، وفاق من تقدمه، رحمه الله تعالى ورضي عنه. وممن أخذ عن أبي علي القالي بالأندلس أبو بكر محمد الزبيدي صاحب كتاب " مختصر العين " وغيره، وكان الزبيدي كثيراً ما ينشد: الفقر في أوطاننا غربة ... والمال في الغربة أوطان والأرض شيء كلّها واحدٌ ... والناس إخوانٌ وجيران وترجمه الزبيدي واسعة (1) ، وكان مؤدب المؤيد هشام، ووصفه بأنه كان في صباه في غاية الحذق والذكاء، رحمه الله تعالى. وكان القالي قد بحث على ابن درستويه كتاب سيبويه، ودقق النظر، وانتصر للبصرين، وأملى شيئاً من حفظه ككتاب " النوادر والأمالي "، و " المقصور والممدود "، و " الإبل والخيل "، و " البارع في اللغة " نحو خمسة آلاف

_ (1) انظر ترجمة الزبيدي في الجذوة: 43 وابن الفرضي 2: 92 والمغرب 1: 250 واليتيمة 2: 71 وابن خلكان 4: 7 وإنباه الرواة 3: 109 ومعجم الأدباء 18: 180 والوافي 2: 251 وبغية الوعاة: 34 وانظر كتاب الحركة اللغوية في الأندلس ففيه دراسة لأهم مؤلفاته.

ورقة، لم يصنف مثله في الإحاطة والجمع، ولم يتم، ورتب كتاب " المقصور والممدود " على التفعيل ومخارج الحروف من الحلق مستقصى في بابه لا يشذ منه شيء، وكتاب " فعلت وأفعلت " وكتاب " مقاتل الفرسان " و " تفسير السبع الطوال ". وكان الزبيدي إماماً في الأدب، ولكنه عرف فضل القالي، فمال إليه، واختص به، واستفاد منه، وأقر له. وكان الحكم المستنصر قبل ولايته الأمر وبعدها ينشط أبا علي، ويعينه على التأليف بواسع العطاء، ويشرح صدره بالإفراط في الإكرام، وكانوا يسمونه " البغدادي " لوصوله إليها من بغداد، ويقال: إن الناصر هو الذي استدعاه من بغداد لولائه فيهم، وفيه يقول الرمادي متخلصاً في لاميته السابق بعضها: روضٌ تعاهده السحاب كأنّه ... متعاهدٌ من عهد إسماعيل قسه إلى الأعراب تعلم أنّه ... أولى من الأعراب بالتفضيل حازت قبائلهم لغاتٍ فرّقت ... فيهم وحاز لغات كلّ قبيل فالشرق خالٍ بعده وكأنّما ... نزل الخراب بربعه المأهول فكأنّه شمسٌ بدت في غربنا ... وتغيبت عن شرقهم بأفول يا سيدي هذا ثنائي لم أقل ... زورا ًولا عرّضت بالتنويل من كان يأمل نائلاً فأنا امرؤٌ ... لم أرج غير القرب في تأميلي وقد تقدمت أبيات القالي التي أجاب بها منذر بن سعيد في الباب قبل هذا، فلتراجع ثمة، والله تعالى أعلم. 59 - ومن الوافدين إلى الأندلس من المشرق أبو العلاء صاعد بن الحسين ابن عيسى البغدادي، اللغوي (1) .

_ (1) ترجمة صاعد في الذخيرة 4 / 1: 2 - 39 وابن خلكان 2: 181 وإنباه الرواة 2: 85 وبغية الوعاة: 267 والجذوة: 223.

وأصله من الموصل، قال ابن بسام (1) : ولما دخل صاعد قرطبة أيام المنصور بن أبي عامر عزم المنصور على أن يعفي به آثار أبي علي البغدادي الوافد على بني أمية، فما وجد عنده ما يرتضيه، وأعرض عنه أهل العلم، وقدحوا في علمه وعقله ودينه، ولم يأخذوا عنه شيئاً لقلة الثقة به، وكان ألف كتاباً سماه كتاب " الفصوص " فدحضوه ورفضوه ونبذوه في النهر، ومن شعره قوله: ومهفهفٍ أبهى من القمر ... قهر الفؤاد بفاتن النّظر خالسته تفّاح وجنته ... فأخذتها منه على غرر فأخافني قومٌ فقلت لهم: ... لا قطع في ثمرٍ ولا كثر والكثر: الجمّار، وهذا اقتباس من الحديث. وقال الحميدي (2) : سمعت أبا محمد ابن حزم الحافظ يقول: سمعت أبا العلاء صاعداً ينشد بين يدي المظفر عبد الملك بن أبي عامر من قصيدة يهنيه فيها بعيد الفطر سنة 396: حسبت المنعمين على البرايا ... فألفيت اسمه صدر الحساب وما قدّمته إلاّ كأنّي ... أقدّم تالياً أمّ الكتاب وذكر الحميدي أن عبد الله بن ما كان (3) الشاعر تناول نرجسة فركبها في وردة ثم قال لصاعد ولأبي عامر ابن شهيد: صفاها، فأفحما، ولم يتجه لهما القول، فبينما هم على ذلك إذ دخل الزهيري (4) صاحب أبي العلاء وتلميذه، وكان شاعراً

_ (1) نقل النص عن الذخيرة بتصرف. (2) الجذوة: 224. (3) ذكر الحميدي (الجذوة: 373) من اسمه أبو عبد الله ابن فاكان وقال فيه: أديب شاعر يتكلم على معاني الآداب ومحاسن الأشعار، ذكره أبو عامر ابن شهيد وذكر له مع صاعد بن الحسن منازعات في ذلك. ثم عاد فذكره بهذا الاسم (ص: 384) . (4) القصة في الجذوة 384 - 385، ولكن الشاعر مذكور هنالك باسم الزبيري، ووردت أيضا في البدائع والبدائه 2: 109 وفيه " الزهري ".

أديباً أمياً لا يقرأ، فلما استقر به المجلس أخبر بما هم فيه، فجعل يضحك ويقول: ما للأديبين قد أعيتهما ... مليحةٌ من ملح الجنّه نرجسةٌ في وردةٍ ركّبت ... كمقلةٍ تطرف في وجنه انتهى. ومن غريب ما جرى (1) لصاعد أن المنصور جلس يوما ًوعنده أعيان مملكته ودولته من أهل العلم كالزبيدي والعاصمي وابن العريف وغيرهم، فقال لهم المنصور: هذا الرجل الوافد علينا يزعم أنه متقدم في هذه العلوم، وأحب أن يمتحن، فوجه إليه، فلما مثل بين يديه والمجلس قد احتفل خجل فرفع المنصور محله وأقبل عليه، وسأله عن أبي سعيد السيرافي، فزعم أنه لقيه وقرأ عليه كتاب سيبويه، فبادره العاصي بالسؤال عن مسألة من الكتاب، فلم يحضره جوابها، واعتذر بأن النحو ليس جل بضاعته، فقال له الزبيدي: فما تحسن أيها الشيخ فقال: حفظ الغريب، قال: فما وزن أولق، فضحك صاعد، وقال: أمثلي يسأل عن هذا إنما يسأل عنه صبيان المكتب، قال الزبيدي (2) : قد سألناك، ولا نشك أنك تجهله، فتغير لونه، وقال: أفعل وزنه، فقال الزبيدي: صاحبكم ممخرق، فقال له صاعد: إخال الشيخ صناعته الأبنية، فقال له: أجل، فقال صاعد: وبضاعتي أنا حفظ الأشعار، ورواية الأخبار، وفك المعمّى، وعلم الموسيقى، فقال: فناظره ابن العريف، فظهر عليه صاعد، وجعل لا يجري في المجلس كلمة إلا أنشد عليها شعراً شاهداً، وأتى بحكاية يجانسها، فأعجب المنصور، ثم أراه كتاب " النوادر " لأبي علي القالي، فقال:

_ (1) القصة في الذخيرة 4 / 1: 6 - 8. (2) ق ودوزي: الزهري؛ وفي الذخيرة ما أثبتناه.

إن أراد المنصور أمليت على كتاب دولته (1) كتاباً أرفع منه وأجل لا أورد فيه خبراً مما أورده أبو علي، فأذن له المنصور في ذلك، وجلس بجامع مدينة الزاهرة يملي كتابه المترجم ب " الفصوص "، فلما أكمله تتبعه أدباء الوقت، فلم تمر فيه كلمة صحيحة عندهم، ولا خبر ثبت لديهم، وسألوا المنصور في تجليد كراريس بياض تزال جدتها، حتى توهم القدم، وترجم عليه كتاب " النكت " تأليف أبي الغوث الصنعاني، فترامى إليه صاعد حين رآه، وجعل يقلبه، وقال: إي والله، قرأته بالبلد الفلاني على الشيخ أبي فلان، فأخذه المنصور من يده خوفاً أن يفتحه، وقال له: إن كنت قد قرأته كما تزعم، فعلام يحتوي فقال: وأبيك لقد بعد عهدي به، ولا أحفظ الآن منه شيئاً، ولكنه يحتوي على لغة منثورة لا يشوبها شعر ولا خبر، فقال المنصور: أبعد الله مثلك! فما رأيت أكذب منك، وأمر بإخراجه، وأن يقذف كتاب " الفصوص " في النهر، فقال فيه بعض الشعراء: قد غاص في النهر كتاب الفصوص ... وهكذا كلّ ثقيلٍ يغوص فأجابه صاعد: عاد إلى معدنه، إنّما ... توجد في قعر البحار الفصوص قال ابن بسام (2) : وما أظن أحداً يجترىء على مثل هذا، وإنما صاعد اشترط أن لا يأتي إلا بالغريب غير المشهور، وأعانهم على نفسه بما كان يتنفق به من الكذب. وحكى ابن خلكان (3) أن المنصور أثابه على كتاب " الفصوص " بخمسة

_ (1) الذخيرة: أمليت على مقيدي خدمته وكتاب دولته. (2) النقل عن الذخيرة 4 / 1: بإيجاز شديد. (3) وفيات الأعيان 2: 181.

آلاف دينار (1) . ومن أعجب (2) ما جرى له أنه كان بين يدي المنصور، فأحضرت إليه وردة في غير وقتها لم يستتم فتح ورقها، فقال فيها صاعد مرتجلاً: أتتك أبا عامر وردةٌ ... يذكرك المسك أنفاسها كعذراء أبصرها مبصر ... فغطت بأكمامها راسها فسر بذلك المنصور، وكان ابن العريف حاضراً، فحسده، وجرى إلى مناقضته، وقال لابن أبي عامر: هذان البيتان لغيره، وقد أنشد فيهما بعض البغداديين بمصر لنفسه، وهما عندي على ظهر كتاب بخطه، فقال له المنصور: أرنيه، فخرج ابن العريف، وركب وحرك دابته حتى أتى مجلس ابن بدر (3) ، وكان أحسن أهل زمانه بديهة، فوصف له ما جرى، فقال هذه الأبيات ودس فيها بيتي صاعد: عشوت إلى قصر عبّاسة ... وقد جدّل النوم حراسها فألفيتها وهي في خدرها ... وقد صرع السكر أنّاسها فقالت: أسارٍ على هجعة ... فقلت: بلى، فرمت كاسها ومدّت يديها إلى وردة ... يحاكي لك الطيب أنفاسها كعذراء أبصرها مبصرٌ ... فغطت بأكمامها راسها وقالت: خف الله لا تفضح ... نّ في ابنة عمّك عبّاسها فوليت عنها على غفلة ... وما خنت ناسي ولا ناسها فطار ابن العريف بها، وعلقها على ظهر كتاب بخط مصري ومداد أشقر،

_ (1) زاد في ق: دراهم. (2) عاد إلى النقل عن الذخيرة. (3) جعلها دوزي " ابن برد " ونقل المقدمة صاحب بدائع البدائه 2: 28.

ودخل بها على المنصور، فلما رآها اشتد غيظه على صاعد، وقال للحاضرين: غداً أمتحنه، فإن فضحه الإمتحان أخرجته من البلاد، ولم يبق في موضع لي عليه سلطان، فلما أصبح وجه إليه فأحضر، وأحضر جميع الندماء، فدخل بهم إلى مجلس محفل قد أعد فيه طبقاً عظيماً فيه سقائف مصنوعة من جميع النواوير، ووضع على السقائف لعب من ياسمين في شكل الجواري، وتحت السقائف بركة ماء، قد ألقي فيها اللآلئ مثل الحصباء، وفي البركة حيةٌ تسبح، فلما دخل صاعد ورأى الطبق قال له المنصور: إن هذا يوم إما أن تسعد فيه معنا، وإما أن تشقى بالضد عندنا، لأنه قد زعم قومٌ أن كل ما تأتي به دعوى، وقد وقفت من ذلك على حقيقة، وهذا طبق ما توهمت أنه حضر بين يدي ملك قبلي شكله، فصفه بجميع ما فيه، وعبر بعض عن هذه القصة بقوله: أمر فعبئ له طبق فيه أزهار ورياحين وياسمين وبركة ماء حصباؤها اللؤلؤ، وكان في البركة حية تسبح، وأحضرها صاعد، فلما شاهد ذلك قال له المنصور: إن هؤلاء يذكرون أن كل ما تأتي به دعوى لا صحة لها، وهذا طبق ما ظننت أنه عمل لملك مثله، فإن وصفته بجميع ما فيه علمت صحة ما تذكره، فقال صاعد بديهةً: أبا عامرٍ هل غير جدواك واكف ... وهل غير من عاداك في الأرض خائف يسوق إليك الدّهر كلّ غريبةٍ ... وأعجب ما يلقاه عندك واصف وشائع نورٍ صاغها هامر الحيا ... على حافتيها عبقرٌ ورفارف ولمّا تناهى الحسن فيها تقابلت ... عليها بأنواع الملاهي الوصائف كمثل الظباء المستكنّة كنّساً ... تظلّلها بالياسمين السّقائف وأعجب منها أنّهن نواظرٌ ... إلى بركة ضمّت إليها الطرائف حصاها اللآلي سابحٌ في عبابها ... من الرّقش مسموم الثعابين (1) زاحف

_ (1) الذخيرة: مسموم اللعابين.

ترى ماتراه (1) العين في جنباتها ... من الوحش حتّى بينهنّ السلاحف فاستغربت له يومئذٍ تلك البديهة في مثل ذلك الموضع، وكتبها المنصور بخطه، وكان إلى ناحيته من تلك السقائف سفينة فيها جارية من النوار تجدف بمجاديف من ذهب لم يرها صاعد، فقال له المنصور: أحسنت، إلا أنك أغفلت ذكر المركب والجارية، فقال للوقت: وأعجب منها غادةٌ في سفينةٍ ... مكلّلةٌ تصبو إليها المهاتف (2) إذا راعها موجٌ من الماء تتّقي ... بسكّانها ما أنذرته (3) العواصف متى كانت الحسناء ربّان مركبٍ ... تصرّف في يمنى يديه المجاذف ولم تر عيني في البلاد حديقةً ... تنقّلها في الراحتين الوصائف (4) ولا غرو أن شاقت معاليك روضةٌ ... وشتها أزاهير الرّبى والزخارف فأنت امرؤ لو رمت نقل متالعٍ ... ورضوى ذرتها من سطاك نواسف إذا قلت قولاً أو بدهت بديهةً ... فكلني له إنّي لمجدك واصف فأمر له المنصور بألف دينار ومائة ثوب، ورتب له في كل شهر ثلاثين ديناراً، وألحقه بالندماء. قال (5) : وكان شديد البديهة في ادعاء الباطل، قال له المنصور يوماً: ما الخنبشار فقال: حشيشة يعقد بها اللبن ببادية الأعراب، وفي ذلك يقول شاعرهم: لقد عقدت محبّتها بقلبي ... كما عقد الحليب بخنبشار

_ (1) الذخيرة: ما تشاء. (2) الذخيرة: المهايف؛ وجعلها دوزي: المهافف. (3) جعلها دوزي: ما إن ذرته؛ وفي البدائع: الرواجف. (4) الذخيرة: المناصف؛ وتعني الخدم. (5) الذخيرة 4 / 1: 21.

وقال له يوماً، وقد قدم إليه طبق فيه تمر: ما التمركل في كلام العرب فقال: " يقال تمركل الرجل تمركلاً " إذا التف قي كسائه. وكان مع ذلك عالماً. قال (1) : وكان لابن عامر فتى يسمى فاتناً أوحد لا نظير له في علم كلام العرب، فناظر صاعداً هذا فقطعه وظهر عليه وبكته، فأعجب المنصور منه، فتوفي فاتن هذا سنة 402، وبيعت في تركته كتب مضبوطة جليلة مصححة، وكان منقاداً لما نزل به من المثلة فلم يتخذ النساء كغيره، وكان في ذلك الزمان بقرطبة جملة من الفتيان المخانيث ممن أخذ بأوفر نصيب من الأدب. قال: ورأيت تأليفاً لرجل منهم يعرف بحبيب ترجمه بكتاب " الاستظهار والمغالبة على من أنكر فضائل الصقالبة " وذكر فيه جملة من أشعارهم وأخبارهم ونوادرهم. وقال ابن بسام وغيره (2) : ومن عجائب ما جرى لصاعد أنه أهدى إيلاً إلى المنصور، وكتب على يد موصله: يا حرز كلّ مخوّف وأمان ك ... لّ مشرّد ومعزّ كلّ مذلّل يا سلك كلّ فضيلةٍ ونظام ك ... لّ جزيلةٍ وثراء كلّ معيّل ومنها: ما إن رأت عيني وعلمك شاهدٌ ... شروى (3) علائك في معمٍّ مخول ومنها:

_ (1) الذخير 4 / 1: 22. (2) المصدر نفسه: 22؛ والجذوة: 229. (3) في الأصل: جدوى، والتصحيح عن الجذوة.

وأبي مؤانس غربتي وتحفّظي ... من صفر أيامي ومن مستعملي (1) عبدٌ جذبت بضبعه ورفعت من ... مقداره أهدى إليك بإيّل سميته غرسيّةً وبعثته ... في حبله ليصحّ فيه تفاؤلي فلئن قبلت قتلك أنفس منّةً ... أسدى بها ذو منحة وتطول صبحتك غادية السرور وجلّلت ... أرجاء ربعك بالسحاب المخضل (2) فقضي قي سابق علم الله سبحانه وتعالى أن ملك الروم غرسية أسر في ذلك اليوم الذي بعث فيه بالإيل، وسماه باسمه على التفاؤل، انتهى. وكان غرسية أمنع من النجم، وسبب أخذه أنه خرج يتصيد، فلقيته خيل للمنصور من غير قصد، فأسرته وجاءته به، فكان هذا الاتفاق مما عظم به العجب (3) . ولنزد من أخبار صاعد فنقول: حكي أن المصور قال بسبب هذه القضية: أنه لم يتفق لصاعد هذا الفأل الغريب إلا لحسن نيته وسريرته، وصفاء باطنه، فرفع قدره من ذلك اليوم فوق ما كان، ورجحه على أعدائه، وحق له ذلك. وفي الزهرة الثامنة والعشرين من كتاب " الأزهار المنثورة في الأخبار المأثورة " حكي أن صاعداً قال (4) : جمعت خرق الأكياس والصرر التي قبضت فيها صلات المنصور محمد بن أبي عامر، فقطعت لكافور الأسود غلامي منها قميصاً كالمرقعة، وبكرت به معي إلى قصر المنصور، فاحتلت قي تنشيطه حتى طابت نفسه فقلت: يا مولانا لعبدك حاجة، فقال: اذكرها، قلت:

_ (1) رواه في الجذوة: مولاي مؤنس غربتي متخطفي ... من ظفر أيامي، ممنع معقلي (2) البيت مضطرب في الأصل: منحتك ... يعزة، وحللت أوجا، وقد اعتمدت رواية الجذوة. (3) الخبر عن كيفية أسر غرسية في الذخيرة 4 / 1: وهو مختلف عما قال المقري. (4) في الذخيرة: 16 شبيه بهذه القصة، غير أن ما ورد هنالك يحكي أن صاعدا هو الذي لبس القميص تحت ثيابه فلما خلا المجلس ورأى فرصة لما أراد تجرد وبقي في القميص المخيط من الخرائط.

وصول غلامي كافور إلى هنا، فقال: وعلى هذه الحال فقلت: لا أقنع بسواه إلا بحضوره بين يديك، فقال: أدخلوه، فمثل قائما ًبين يديه في مرقعته وهو كالنخلة إشرافاُ، فقال: قد حضر، وإنه لباذ الهيئة، فمالك أضعته فقلت: يا مولانا هنالك الفائدة، اعلم يا مولاي أنك وهبت لي اليوم ملء جلد كافور مالاً، فتهلل وقال: لله درك من شاكر مستنبط لغوامض معاني الشكر! وأمر لي بمال واسع وكسوة، وكسا كافوراً أحسن كسوة، انتهى. ولما دخل صاعد دانية، وحضر مجلس الموفق مجاهد العامري أمير البلد، كان في المجلس أديب يقال له بشار، فقال للموفق: دعني أعبث بصاعد، فقال له: لا تتعرض إليه، فإنه سريع الجواب، فأبى إلا مساءلته، وكان بشار المذكور أعمى، فقال لصاعد: يا أبا العلاء ما الجرنفل في كلام العرب فعرف صاعد أنه وضع هذه الكلمة، وليس لها أصل في اللغة، فقال بعد أن أطرق ساعة: الجرنفل في اللغة الذي يفعل بنساء العميان ولا يتجاوزهن إلى غيرهن، وهو في ذلك كله يصرح ولا يكني، فخجل بشار وانكسر، وضحك من كان حاضراً، فقال له الموفق: قلت لك لا تفعل فلم تقبل، انتهى. والجرنفل - بضم الجيم والراء، وسكون النون، وضم الفاء، وبعدها لام. ولصاعد أخبار ونوادر كثيرة غير ما تقدم، وله مع المنصور بن أبي عامر رحمه الله تعالى من ذلك كثير، وبعضه ذكرناه في هذا الكتاب. ومن حكاياته (1) أنه خرج معه يوماً إلى رياض الزاهرة، فمد المنصور يده إلى شيء من الريحان المعروف بالترنجان، فعبث به ورماه إلى صاعد، وأشار إليه أن يقول فيه، فارتجل: لم أدر قبل ترنجان عبثت به ... الأبيات الآتية.

_ (1) الذخيرة 4 / 1: 12.

[طرف من أخبار المنصور] وهذا المنصور بن أبي عامر قد تقدمت جملة من أخباره، ومن أعجب ما وقع له ما رأيته بخزانة فاس في كتاب ألفه صاحبه في الأزهار والأنوار، حكى فيه في ترجمة النيلوفر أن المنصور لما قدم عليه رسول ملك الروم الذي هو أعظم ملوكهم في ذلك الزمان ليطلع على آحوال المسلمين وقوتهم، فأمر المنصور أن يغرس في بركة عظيمة ذات أميال نيلوفر على ما تسع، ثم أمر بأربعة قناطير من الذهب وأربعة قناطير من الفضة فسبكت قطعاً صغاراً على قدر ما تسع النيلوفرة، ثم ملأ بها جميع النيلوفر الذي في البركة، وأرسل إلى الرومي فحضر عنده قبل الفجر في مجلسه السامي بالزاهرة بحيث يشرف على موضع البركة، فلما قرب طلوع الشمس جاء ألف من الصقالبة عليهم أقبية الذهب والفضة ومناطق الذهب والفضة، وبيد خمسمائة أطباق ذهب، وبيد خمسمائة أطباق فضة، فتعجب الرسول من حسن صورهم وجمال شارتهم، ولم يدر ما المراد، فحين أشرقت الشمس ظهر النيلوفر من البركة، فبادروا لأخذ الذهب والفضة من النيلوفر، وكانوا يجعلون الذهب في أطباق الفضة والفضة في أطباق الذهب، حتى التقطوا جميع ما فيها، وجاوؤا به فوضعوه بين يدي المنصور، حتى صار كوماً بين يديه، فتعجب النصراني من ذلك، وأعظمه، وطلب المهادنة من المسلمين، وذهب مسرعاً إلى مرسله، وقال له: لا تعاد هؤلاء القوم، فإني رأيت الأرض تخدمهم بكنوزها، انتهى. وهذه القضية من الغرائب، وأنها لحيلة عجيبة في إظهار عز الإسلام وأهله. وكان المنصور بن أبي عامر آية الله سبحانه في السعد ونصرة الإسلام، قال ابن بسام نقلاً عن ابن حيان (1) : إنه لما انتهت خلافة بني مروان بالأندلس إلى الحكم تاسع الأئمة، وكان مع فضله قد استهواه حب الولد، حتى خالف الحزم

_ (1) الذخيرة: 4: 40 وما بعدها.

في توريثه الملك بعده في سن الصبا دون مشيخة الإخوة وفتيان العشيرة، ومن كان ينهض بالأمر ويستقل بالملك، قال ابن بسام: وكان يقال " لا يزال ملك بني أمية بالأندلس في إقبال ودوام ما توارثه الأبناء عن الأباء، فإذا انتقل إلى الإخوة وتوارثوه فيما بينهم أدبر وانصرم "، ولعل الحكم لحظ ذلك، فلما مات الحكم أخفى جؤذر وفائق فتياه ذلك، وعزما على صرف البيعة إلى أخيه المغيرة، وكان فائق قد قال له: إن هذا لا يتم لنا إلا بقتل جعفر المصحفي، فقال له جؤذر: ونستفتح أمرنا بسفك دم شيخ مولانا (1) ، فقال له: هو والله ما أقول لك، ثم بعثا إلى المصحفي ونعيا إليه الحكم، وعرفاه رأيهما في المغيرة، فقال لهما المصحفي: وهل أنا إلا تبع لكما، وأنتما صاحبا القصر، ومدبرا الأمر، فشرعا في تدبير ما عزما عليه، وخرج المصحفي وجمع أجناده وقواده ونعى إليهم الحكم، وعرفهم مقصود جؤذر وفائق في المغيرة، وقال إن بقينا على ابن مولانا كانت الدولة لنا، وإن بدلنا استبدل بنا، فقالوا: الرأي رأيك، فبادر المصحفي بإنفاذ محمد بن أبي عامر مع طائفة من الجند إلى دار المغيرة لقتله، فوافاه ولا خبر عنده، فنعى إليه الحكم أخاه، فجزع، وعرفه جلوس ابنه هشام في الخلاقة، فقال: أنا سامع مطيع، فكتب إلى المصحفي بحاله، وما هو عليه من الاستجابة، فأجابه المصحفي بالقبض عليه، وإلا وجه غيره ليقتله، فقتله خنقاً. فلما قتل المغيرة واستوثق الأمر لهشام بن الحكم افتتح المصحفي أمره بالتواضع والسياسة واطراح الكبر ومساواة الوزراء في الفرش، وكان ذلك من أول ما استحسن منه، وتوفر على الاستئثار بالأعمال والاحتجان للأموال، وعارضه محمد بن أبي عامر - فتىً ماجدٌ أخذ معه بطرفي نقيض بالبخل جوداً وبالاستبداد أثرةً، وتملك قلوب الرجال إلى أن تحركت همته للمشاركة في التدبير بحق الوزارة، وقوي على أمره بنظره في الوكالة، وخدمته

_ (1) الذخيرة: دم شيخ دولة مولانا.

للسيدة صبح أم هشام، وكانت حاله عند جميع الحرم أفضل الأحوال بتصديه لمواقع الإرادة، ومبالغته في تأدية لطيف الخدمة، فأخرجن له أمر هشام الخليفة إلى الحاجب جعفر المصحفي بأن لا ينفرد عنه برأي، وكان غير متخيل منه سكوناً إلى ثقته، فامتثل الأمر وأطلعه على سره، وبالغ في بره، وبالغ محمد ابن أبي عامر في مخادعته والنصح له، فوصل المصحفي يده بيده، واستراح إلى كفايته، وابن أبي عامر يمكر به، ويضرب عليه، ويغري به الحسدة (1) ، ويناقضه في أكثر ما يعامل به الناس، ويقضي حوائجهم، ولم يزل على ما هذه سبيله إلى أن انحل أمر المصحفي، وهوى نجمه، وتفرد محمد بن أبي عامر بالأمر، ومنع أصحاب الحكم وأجلاهم وأهلكهم وشردهم وشتتهم وصادرهم، وأقام من صنائعهم من استغنى به عنهم، وصادر الصقالبة وأهلكهم وأبادهم في أسرع مدة. قال ابن حيان (2) : وجاشت النصرانية بموت الحكم، وخرجوا على أهل الثغور فوصلوا إلى باب قرطبة (3) ، ولم يجدوا عند جعفر المصحفي غناء ولا نصرة، وكان مما أتى عليه (4) أن أمر أهل قلعة رباح بقطع سد نهرهم، لما تخيله من أن في ذلك النجاة من العدو، ولم تتسع (5) حيلته لأكثر منه، مع وفور الجيوش وجموم الأموال، وكان ذلك من سقطات جعفر، فأنف محمد بن أبي عامر من هذه الدنية، وأشار على جعفر بتجريد (6) الجيش بالجهاد، وخوفه سوء العاقبة في تركه، وأجمع الوزراء على ذلك، إلا من شذ منهم، واختار ابن أبي عامر

_ (1) في أصول النفح ودوزي: الحرة، وقد تنصرف إلى صبح - وهو مستبعد - وفي الذخيرة: " وابن أبي عامر يمكر به ويضرب بين حسدته ". (2) النقل مستمر عن الذخيرة 4 / 1: 44. (3) الذخيرة: فجاء صراخهم إلى باب قرطبة. (4) الذخيرة: وكان مما غرب به لجبنه وعظيم أفنه ... (5) في ق ودوزي: ولم تقع، والتصويب عن الذخيرة. (6) في ق: بتبديد؛ والتصويب عن الذخيرة؛ وفي ابن عذاري: بتجهيز.

الرجال، وتجهز للغزاة، واستصحب مائة ألف دينار، ونفذ بالجيش، ودخل على الثغر الجوفي [إلى جليقية] ونازل حصن الحامة، ودخل الربض، وغنم وقفل فوصل الحضرة بالسبي بعد اثنين وخمسين يوماً، فعظم السرور به، وخلصت قلوب الأجناد له، واستهلكوا في طاعته لما رأوه من كرمه. ومن أخبار كرمه (1) ما حكاه محمد بن أفلح غلام الحكم قال: دفعت إلى ما لا أطيقه من نفقة في عرس ابنة لي، ولم يبق معي سوى لجام محلى، ولما ضاقت بي الأسباب قصدته بدار الضرب حين كان صاحبها، والدراهم بين يديه موضوعة مطبوعة، فأعلمته ما جئت له، فابتهج بما سمعه مني، وأعطاني من تلك الدراهم وزن اللجام بحديده وسيوره، فملأ حجري، وكنت غير مصدق بما جرى لعظمه، وعملت العرس، وفضلت لي فضلة كثيرة، وأحبه قلبي حتى لو حملني على خلع طاعة مولاي الحكم لفعلت، وكان ذلك في أيام الحكم قبل أن يقتعد (2) ابن أبي عامر الذروة. وقال غير واحد: إنه صنع يومئذ قصراً من فضة لصبح أم هشام، وحمله على رؤوس الرجال فجلب حبها بذلك، وقامت بأمره عند سيدها الحكم، وحدث الحكم خواصه بذلك، وقال: إن هذا الفتى قد خلب عقول حرمنا بما يتحفهن به، قالوا: وكان الحكم لشدة نظره في عالم الحدثان يتخيل في ابن أبي عامر أنه المذكور في الحدثان، ويقول لأصحابه: أما تنظرون إلى صفرة كفيه ويقول في بعض الأحيان: لو كانت به شجة لقلت إنه هو بلا شك، فقضى الله أن تلك الشجة حصلت للمنصور يوم ضربه غالب بعد موت الحكم بمدة. قال ابن حيان (3) : وكان بين المصحفي وغالب صاحب مدينة سالم وشيخ الموالي وفارس الأندلس عداوة عظيمة، ومباينة شديدة، ومقاطعة مستحكمة،

_ (1) عن الذخيرة: 45. (2) ق: يعتقد. (3) عن الذخيرة: 46 مع اختلاف في الرواية.

وأعجز المصحفي أمره، وضعف عن مباراته، وشكا ذلك إلى الوزراء، فأشاروا عليه بملاطفته واستصلاحه، وشعر بذلك ابن أبي عامر، فأقبل على خدمته، وتجرد لإتمام إرادته، ولم يزل على ذلك حتى خرج الأمر بأن ينهض غالب إلى تقدمة جيش الثغر، وخرج ابن أبي عامر إلى غزوته الثانية، واجتمع به، وتعاقدا على الإيقاع بالمصحفي، وقفل ابن أبي عامر ظافراً غانماً، وبعد صيته، فخرج أمر الخليفة هشام بصرف المصحفي عن المدينة، وكانت في يده يومئذ، وخلع على ابن أبي عامر ولا خبر عند المصحفي، وملك ابن أبي عامر الباب بولايته للشرطة، وأخذ على المصحفي وجوه الحيلة، وخلاه وليس بيده من الأمر إلا أقله، وكان ذلك بإعانة غالب له، وضبط المدينة ضبطاً أنسى به أهل الحضرة من سلف من الكفاة أولي (1) السياسة، وانهمك ابن أبي عامر في صحبة غالب، ففطن المصحفي لتدبير ابن أبي عامر عليه، فكاتب غالباً يستصلحه، وخطب أسماء بنته لابنه عثمان، فأجابه غالب لذلك، وكادت المصاهرة تتم له، وبلغ ابن أبي عامر الأمر، فقامت قيامته، وكاتب غالباً يخوفه الحيلة، ويهيج حقوده، وألقى عليه أهل الدار وكاتبوه فصرفوه عن ذلك، ورجع غالب إلى ابن أبي عامر، فأنكحه البنت المذكورة، وتم له العقد في محرم سنة سبع وستين وثلاثمائة، فأدخل السلطان تلك الابنة إلى قصره، وجهزها إلى محمد بن أبي عامر من قبله، فطهر أمره وعز جانبه، وكثر رجاله، وصار جعفر المصحفي بالنسبة إليه كلا شيء، واستقدم السلطان غالباً، وقلده الحجابة شركة مع جعفر المصحفي، ودخل ابن أبي عامر على ابنته ليلة النيروز، وكانت أعظم ليلة عرس في الأندلس، وأيقن المصحفي بالنكبة وكف عن اعتراض ابن أبي عامر في شيء من التدبير، وابن أبي عامر يساتره ولا يظاهره، وانفض عنه الناس، وأقبلوا على ابن أبي عامر إلى أن صار المصحفي يغدو إلى قصر قرطبة

_ (1) ق ودوزي: وتولى السياسة، وهو سهو؛ والتصويب عن الذخيرة.

ويروح وهو وحده، وليس بيده من الحجابة سوى اسمها، وعوقب المصحفي بإعانته على ولاية هشام، وقتل المغيرة. ثم سخط السلطان على المصحفي وأولاده وأهله وأسبابه وأصحابه، وطولبوا بالأموال، وأخذوا برع الحساب لما تصرفوا فيه، وتوصل ابن أبي عامر بذلك إلى اجتثاث أصولهم وفروعهم، وكان هشام ابن أخي المصحفي قد توصل إلى أن سرق من رؤوس النصارى التي كانت تحمل بين يدي ابن أبي عامر في الغزاة الثالثة ليقدم بها على الحضرة، وغاظه ذلك منه، فبادره بالقتل في المطبق قبل عمه جعفر المصحفي، فلما استقصى ابن أبي عامر مال جعفر حتى باع داره بالرصافة (1) ، وكانت من أعظم قصور قرطبة، واستمرت النكبة عليه سنين (2) مرة يحتبس ومرة يترك ومرة يقر بالحضرة ومرة ينفر عنها، ولا براح له (3) من المطالبة بالمال، ولم يزل على هذا الحكم حتى استصفي، ولم يبق فيه محتمل، واعتقل في المطبق بالزهراء إلى أن هلك، وأخرج إلى أهله ميتاً، وذكر أنه سمه في ماء شربه، قال محمد بن إسماعيل: سرت مع محمد بن مسلمة إلى الزهراء لنسلم جسد جعفر ابن عثمان إلى أهله بأمر المنصور، وسرنا إلى منزله فكان مغطى بخلق كساء لبعض البوابين ألقاه على سريره، وغسل على فردة باب اختلع من ناحية الدار، وأخرج وما حضر جنازته سوى إمام مسجده المستدعى للصلاة عليه ومن حضر من ولده، فعجبت من الزمان، انتهى. وما أحسن صاحب المطمح عن هذه القضية إذ قال (4) : قال محمد بن إسماعيل كاتب المنصور: سرت بأمره لتسليم (5) جسد جعفر إلى أهله وولده،

_ (1) كذا في ق والذخيرة؛ وجعله دوزي: " فلما قتل استصفى ابن عامر مال جعفر حتى باع ... إلخ ". (2) كذا في ق والذخيرة، وجعله دوزي: " سنتين ". وهو مستدرك في التعليقات لأن المصحفي أقام في الإذلال والتعذيب خمس سنين. (3) الذخيرة: ولا يراح. (4) المطمح: 6. (5) ق: لتسلم.

والحضور على إنزاله في ملحده، فنظرته ولا أثر فيه، وليس عليه شىء يواريه، غير كساء خلق لبعض البوابين، فدعا له محمد بن مسلمة بغاسل فغسله والله على فردة باب اقتطع من جانب الدار، وأنا أعتبر من تصرف الأقدار، وخرجنا بنعشه إلى قبره وما معنا سوى إمام مسجده المستدعى للصلاة عليه، وما تجاسر أحد منا للنظر إليه، وإن لي في شأنه لخبراً ما سمع بمثله طالب وعظ، ولا وقع في سمع ولا تصور في لحظ، وقفت (1) له في طريقه من قصره، أيام نهيه وأمره، أروم أن أناوله قصة، كانت به مختصة، فو الله ما تمكنت من الدنو منه بحيلة لكثافة موكبه، وكثرة من حف به، وأخذ الناس السكك عليه وأفواه الطرق داعين، ومارين بين يديه وساعين، حتى ناولت قصتي بعض كتابه الذين نصبهم جناحي موكبه لأخذ القصص، فانصرفت وفي نفسي ما فيها من الشرق بحاله والغصص (2) ، فلم تطل المدة حتى غضب عليه المنصور واعتقله، ونقله معه في الغزوات واحتمله (3) ، واتفق أن نزلت بجليقية إلى جانب خبائه في ليلة نهى فيها المنصور عن وقود النيران ليخفى على العدو أثره، ولا ينكشف إليه خبره، فرأيت والله عثمان ولده يسفه (4) دقيقاً قد خلطه بماء يقيم به أوده، ويمسك بسببه رمقه، بضعف حال وعدم زاد، وهو يقول (5) : تعاطيت (6) صرف الحادثات فلم أزل ... أراها توفّي عند موعدها الحرا فلله أيام مضت بسبيلها ... فإني لا أنسى لها أبداً ذكرا

_ (1) انظر أيضا الذخيرة 4 / 1: 49. (2) فانصرفت ... والغصص: سقطت من ق. (3) ق: وأخمله؛ المطمح: وحمله. (4) الذخيرة: يسقيه. (5) انظر أيضا الحلة 1: 265. (6) المطمح والحلة: تأملت.

تجافت بها عنّا الحوادث برهةً ... وأبدت لنا منها الطّلاقة والبشرا ليالي ما يدري الزمان مكاننا ... ولا نظرت منها حوادثه شزرا وما هذه الأيام إلاّ سحائبٌ ... على كلّ أرضٍ تمطر الخير والشرّا انتهى. وأما غالب الناصري فإنه حضر مع ابن أبي عامر في بعض الغزوات، وصعد إلى بعض القلاع، لينظرا في أمرها، فجرت محاورة (1) بين ابن أبي عامر وغالب، فسبه غالب وقال له: ياكلب، أنت الذي أفسدت الدولة، وخربت القلاع، وتحكمت في الدولة، وسل سيفه فضربه، وكان بعض الناس حبس يده، فلم تتم الضربة وشجه، فألقى ابن أبي عامر نفسه من رأس القلعة خوفاً من أن يجهز عليه، فقضى الله تعالى أنه وجد شيئاً في الهوي منعه من الهلاك، فاحتمله أصحابه وعالجوه حتى برىء، ولحق غالب بالنصارى، فجيش بهم، وقابله ابن أبي عامر بمن معه من جيوش الإسلام، فحكمت الأقدار بهلاك غالب وتم لابن أبي عامر ما جد له، وتخلصت دولته من الشوائب. قالوا (2) : ولما وقعت وحشة بين ابن أبي عامر والمؤيد، وكان سببها تضريب الحساد فيما بينهما، وعلم أنه ما دهي إلا من جانب حاشية القصر، فرقهم ومزقهم، ولم يدع فيه منهم إلا من وثق به أو عجز عنه، ثم ذكر له أن الحرم (3) قد انبسطت أيديهن في الأموال المختزنة بالقصر، وما كانت السيدة صبح أخت رائق تفعله من إخراج الأموال عندما حدث من تغيرها على ابن أبي عامر، وأنها أخرجت في بعض الأيام مائة كوز مختومة على أعناق الخدم الصقالبة فيها الذهب والفضة، وموهت ذلك كله بالمري (4) والشهد وغيره

_ (1) محاورة: سقطت من ق. (2) عاد إلى تلخيص كلام ابن حيان الذي أورده صاحب الذخيرة 4 / 1: 52 - 56. (3) ق ودوزي: الخدم. (4) في الذخيرة: بالمربى؛ والمري - بتشديد الراء - والعامة تخففها وباللاتينية: (Muria) أنواع من مستحضرات تتخذ في صنع الأطعمة منها المري النقيع والطيب ومري الخبز ومري الحوت وبعض أنواعه يصنع من عصير الخنب بالأفاويه دون خبز محرق، والعامة تصنعه من العسل المحرق والخبز المحرق وغيرهما. ويقول دوزي إنه مركب يصنع من الدقيق والملح والعسل والتمر وأشياء أخرى. ويقول ابن البيطار إن نوعا منه يعمل من السمك المالح واللحوم المالحة وينقل عن الجاحظ قوله " المري هو جوهر الطعام وروح البارد المستظرف والحار المستنظف ... " (انظر قاموس دوزي " مادة مري " ومفردات ابن البيطار 4: 149 - 150 وكتاب الطبيخ: 82 ومواضع أخرى منه) .

والأصباغ المتخذة بقصر الخلافة، وكتبت على رؤوس الكيزان أسماء ذلك، ومرت على صاحب المدينة، فما شك في أنه ليس إلا ما هو عليها، وكان مبلغ ما حملت فيها من الذهب ثمانين ألف دينار، فأحضر ابن أبي عامر جماعة أعلمهم أن الخليفة مشغول عن حفظ الأموال بانهماكه في العبادة، وأن في إضاعتها آفة على المسلمين، وأشار بنقلها إلى حيث يؤمن عليها فيه، فحمل منها خمسة آلاف ألف دينار عن قيمة ورق وسبعمائة ألف دينار، وكانت صبح قد دافعت عما بالقصر من الأموال، ولم تمكن من إخراجها، فاجتمع ابن أبي عامر بالخليفة هشام، واعترف له بالفضل والغناء في حفظ قواعد الدولة، فخرست ألسنة الأعداء والحسدة، وعلم المنصور ما في نفوس الناس لظهور هشام ورؤيتهم له، إذ كان منهم من لم يره قط، فأبرزه للناس وركب الركبة المشهورة، واجتمع لذلك من الخلق ما لا يحصى، وكانت عليه الطويلة (1) والقضيب في يده زي الخلاقة، والمنصور يسايره. ثم خرج المنصور لآخر غزواته، وقد مرض المرض الذي مات فيه، وواصل شن الغارات، وقويت عليه العلة، فاتخذ له سرير خشب ووطىء عليه ما يقعد عليه، وجعلت عليه ستارة، وكان يحمل على أعناق الرجال والعساكر تحف به، وكان هجر الأطباء قي تلك العلة لاختلافهم فيها، وأيقن بالموت، وكان يقول: إن زمامي يشتمل على عشرين ألف مرتزق ما أصبح

_ (1) الطويلة: هي القلنسوة.

فيهم أسوأ حالة مني - ولعله يعني من حضر تلك الغزاة، وإلا فعساكر الأندلس ذلك الزمان أكثر من ذلك العدد - واشتغل ذهنه بأمر قرطبة وهو في مدينة سالم، فلما أيقن بالوفاة أوصى ابنه عبد الملك وجماعته وخلا بولده وكان يكرر وصاته، وكلما أراد أن ينصرف يرده، وعبد الملك يبكي، وهو ينكر عليه بكاءه ويقول: وهذا من أول العجز، وأمره أن يستخلف أخاه عبد الرحمن على العسكر. وخرج عبد الملك إلى قرطبة ومعه القاضي ابن ذ كوان، فدخلها أول شوال، وسكن الإرجاف بموت والده، وعرف الخليفة كيف تركه. ووجد المنصور خفة فأحضر جماعة بين يديه، وهو كالخيال لا يبين الكلام، وأكثر كلامه بالإشارة كالمسلم المودع، وخرجوا من عنده، فكان آخر العهد به ومات لثلاث بقين من شهر رمضان، وأوصى أن يدفن حيث يقبض، فدفن في قصره بمدينة سالم. واضطرب العسكر، وتلوم ولده أياماً، وفارقه بعض العسكر إلى هشام، وقفل هو إلى قرطبة فيمن بقي معه، ولبس فتيان (1) المنصور المسوح والأكسية بعد الوشي والحبر والخز. وقام ولده عبد الملك المظفر بالأمر، وأجراه هشام الخليفة على عادة أبيه، وخلع عليه، وكتب له السجل بولاية الحجابة، وكان الفتيان قد اضطربوا فقوم المائل، وأصلح الفاسد، وجرت الأمور على السداد، وانشرحت الصدور بما شرع فيه من عمارة البلاد، فكان أسعد مولود ولد في الأندلس. ولنمسك عنان القلم في أمر ابن أبي عامر، فقد قدمنا في محله جملة من أحواله، وما ذكرناه هنا وإن كان محله ما سبق وبعضه قد تكرر معه فهو لا يخلو من فوائد زوائد، والله تعالى ولي التوفيق.

_ (1) ق ودوزي: قيان.

رجع إلى أخبار صاعد اللغوي البغدادي: حكي (1) أنه دخل على المنصور يوم عيد، وعليه ثياب جدد وخف جديد، فمشى على حافة البركة لازدحام الحاضرين في الصحن، فزلق فسقط في الماء، فضحك المنصور، وأمر بإخراجه، وقد كاد البرد أن يأتي عليه، فخلع عليه، وأدنى مجلسه، وقال له: هل حضرك شيء فقال: شيئان كانا في الزّمان عجيبة ... ضرط ابن وهب ثمّ وقعة (2) صاعد فاستبرد ما أتى به فقال أبو مروان الكاتب الجزيري: هلا قلت: سروري بغرّتك المشرقه ... وديمة راحتك المغدقه ثناني نشوان حتى غرق ... ت في لجة البركة المطبقه لئن ظلّ عبدك فيها الغريق ... فجودك من قبلها أغرقه فقال له المنصور: لله درك يا أبا مروان، قسناك بأهل بغداد ففضلتهم، فبمن نقيسك بعد انتهى. وقال في الذخيرة في ترجمة صاعد (3) : وفد على المنصور نجماً من المشرق غرب، ولساناً عن العرب، وأراد المنصور أن يعفي به آثار أبي علي القالي فألفى سيفه كهاماً، وسحابه جهاماً، من رجل يتكلم بملء فيه، ولا يوثق بكل ما يذره، ولا ما يأتيه، انتهى باختصار. وأصل صاعد من ديار الموصل، وقال ارتجالاً وقد عبث المنصور بترنجان: لم أدر قبل ترنجانٍ عبثت به ... أن الزمرد أغصانٌ وأوراق

_ (1) انظر الذخيرة 4 / 1: 23. (2) الذخيرة: زلقة. (3) الذخيرة 4 / 1؛ وبدائع البدائه 2: 31.

من طيبه الأترجّ نكهته ... يا قوم حتى من الأشجار سرّاق كأنّما الحاجب المنصور علّمه ... فعل الجميل فطابت منه أخلاق وقدمه الحجازي بقوله: كأن إبريقنا والرّاح في فمه ... طيرٌ تناول ياقوتاً بمنقار وقبله: وقهوة من فم الإبريق صافية ... كدمع مفجوعة بالإلف معبار (1) وقال في بدائع البدائه (2) : دخل صاعد اللغوي على بعض أصحابه في مجلس شراب، فملأ الساقي قدحاً من إبريق، فبقيت على فم الإبريق نقطة من الراح قد تكونت ولم تقطر، فاقترح عليه الحاضرون وصف ذلك فقال: وقهوة من فم الإبريق ساكبة ... البيتين. ثم قال بعدهما: وإنما اهتدم صاعد قول الشريف أبي البركات علي بن الحسين العلوي (1) : كأنّ ريح الروض لمّا أتت ... فتت علينا مسك عطّار كأنّما إبريقنا طائر ... يحمل ياقوتاً بمنقار انتهى.

_ (1) ق: مغيار. (2) بدائع البدائه 2: 32. (1) ق: مغيار.

ومن نظم صاعد: قلت له والرقيب يعجله ... مودعاً للفراق: أين أنا فمدّ كفاً إلى ترائبه ... وقال: سر وداعاً فأنت هنا وقال صاعد، لما أمر المنصور بن أبي عامر بمعارضة قصيدة لأبي نواس: إنّي لأستحيي علا ... ك من ارتجال القول فيه من ليس يدرك (1) بالرويّ ... ة كيف يدرك بالبديه وقال حاشد البغدادي في صاعد اللغوي، وكان صاعد ينشدهما ويبكي ويقول: ما هجيت بشيء أشد علي منهما: اقبل هديت أبا العلاء نصيحتي ... بقبولها وبواجب الشكر لا تهجونّ أسنّ منك فربما ... تهجو أباك وأنت لا تدري نعوذ بالله من لسان الشعراء، وأنواع البلاء، بجاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ومن نظم صاعد قوله (2) : بعثت إليك من خيريّ روضٍ ... محرّمة (3) كأوراق العقيق توكل بالغروب (4) عن التصابي ... وتصطاد الخليع من الطريق وروى صاعد عن أبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي، وأبي علي

_ (1) ق: يحسن. (2) الذخيرة 4 / 1: 12. (3) كذا في ق وأصل الذخيرة وجعلها دوزي: " محزمة ". (4) كذا ولعل الصواب: بالعزوف، أي العازف عن التصابي، كما ثبت في الذخيرة.

الحسن بن أحمد الفارسي، وأبي بكر ابن مالك القطيعي، وأبي سليمان الخطابي، وغيرهم. قال الحميدي (1) : خرج من الأندلس في الفتنة وقصد صقلية، فمات بها قريباً من سنة عشر وأربعمائة. وقال ابن حزم (2) : توفي بصقلية سنة سبع عشرة وأربعمائة. وقال ابن بشكوال في حقه: إنه يتهم بالكذب وقلة الصدق فيما يورده، عفا الله تعالى عنه؛ وقدم الأندلس من مصر أيام المؤيد وتحكم المنصور بن أبي عامر في حدود سنة 380، فأكرمه المنصور، وزاد في الإحسان إليه، والإفضال عليه، وكان عالماُ باللغة والآداب والأخبار، سريع الجواب، حسن الشعر، طيب المعاشرة، فكه المجالسة. وقال بعضهم (3) : دخل صاعد على المنصور وعنده كتاب ورد عليه من عامل له في بعض الجهات اسمه مبرمان (4) بن يزيد يذكر فيه القلب والتزبيل، وهما عندهم اسم الأرض قبل زراعتها (5) ، فقال له: يا أبا العلاء، قال: لبيك يا مولانا، فقال: هل رأيت أو وصل إليك من الكتب القوالبة والزوالبة لمبرمان ابن يزيد قال: إي والله ببغداد في نسخة لأبي بكر ابن دريد بخط ككراع النمل، في جوانبها [علامات الوضاع] (6) فقال له: أما تستحي أبا العلاء من هذا الكذب هذا كتاب عاملي ببلد كذا واسمه كذا يذكر فيه كذا، فجعل يحلف له أنه ما كذب، ولكنه أمر وافق. ومات عن سن عالية، رحمه الله تعالى.

_ (1) الجذوة: 227. (2) نقله أيضا ابن بشكوال في ترجمة صاعد ص: 232. (3) راجع الجذوة: 224 والذخيرة 4 / 1: 20. (4) في الذخيرة: ميدمان. (5) الحميدي: وهما عندهم من معاناة الأرض قبل زراعتها. (6) زيادة من الجذوة والذخيرة.

60 - ومن الوافدين على الأندلس من المشرق الشيخ تاج الدين بن حمويه السرخسي (1) ، ولد سنة 572، وقد ذكر في رحلته عجائب شاهدها بالمغرب ومشايخ لقيهم، فمنهم الحافظ أبو محمد عبد الله بن سليمان بن داود بن حوط الله الأنصاري، قال: سمعت عليه سنة سبع وتسعين وخمسمائة الحديث وشيئاً من تصانيف المغاربة، وروى لنا عن الحافظ أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف ابن إبراهيم بن قرقول، وولي ابن حوط الله المذكور قضاء غرناطة، وأدرك ابن بشكوال وابن حبيش وابن حميد المرسي النحوي وأبا يزيد السهلي صاحب الروض وغيرهم. ومن الشيوخ الذين لقيهم السرخسي المذكور بالمغرب (2) الفقيه ابن أبي تميم، قال: وأنشدني: اسمع أخيّ نصيحتي ... والنصح من محض الديانه لا تقربنّ إلى الشّها ... دة والوساطة والأمانه تسلم من أن تعزى لزو ... رٍ أو فضولٍ أوخيانه وذكر أنه أدرك الشيخ الولي العارف بالله سيدي أبا العباس أحمد بن جعفر الخزرجي السبتي صاحب الحالات والكرامات الظاهرة والطريقة الغربية والأحوال العجبية، قال: أدركته بمراكش سنة أربع وتسعين وخمسمائة وقد ناهز الثمانين، ومهما حصل عنده مال فرقه في الحال، وتركته في سنة ثمان وتسعين حياً يرزق، انتهى. وولي الله السبتي قد ذكرت في غير هذا الموضع بعض أحواله، فلتراجع في الباب الثامن من ترجمة لسان الدين ابن الخطيب، ومحله مقصود

_ (1) هو أبو أحمد عبد الله عمر بن محمد بن حمويه تاج الدين شيخ الشيوخ (- 642) كان مفتنا في العلوم عارفا بالأصلين والفروع والترسل والتواريخ والهندسة والطب، وله كتاب المؤنس في أصول الأشياء، وأمال وتواريخ كثيرة، بقي في المغرب بعد وفاة يعقوب المنصور، وعاد إلى الشام سنة 600 وحج سنة 604، وكان نزها عفيفا شريف النفس. (راجع ترجمته في مرآة الزمان: 748 - 749 وذيل أبي شامة: 174 والشذرات: 5: 214) . (2) الروض ... بالمغرب: سقطت هذه العبارة من ق.

لقضاء الحاجات، وقد زرته مراراً عديدة سنة 1010. وقال لسان الدين في " نفاضة الجراب ": كتبت عن السلطان الغني بالله محمد بن يوسف بن نصر ونحن بفاس يخاطب الضريح المقصود، والمنهل المورود، والمرعى المنتجع، والخوان الذي يكفي الغرثى، ويمرض المرضى، ويقوت الزمنى، ويتعداهم إلى أهل الجدة زعموا والغنى، قبر ولي الله سيدي أبي العباس السبتي نفعنا الله به، وجبر حالنا، وأعاد علينا النعم، ودفع عنا النقم: يا وليّ الإله أنت جوادٌ ... وقصدنا إلى حماك المنيع راعنا الدّهر بالخطوب فجئنا ... نرتجي من علاك حسن الصّنيع فمددنا لك الأكفّ نرجّي ... عودة العزّ تحت شملٍ جميع قد جعلنا وسيلةً تربك الزا ... كي وزلفى إلى العليم السميع كم غريبٍ أسرى إليك فوافى ... برضىً عاجلٍ وخيرٍ سريع يا ولي الله جعل جاهه سبباً لقضاء الحاجات، ورفع الأزمات، وتصريفه باقياً بعد الممات، وصدق نقول الحكايات ظهور الآيات، نفعني الله بنيتي في بركة تربك، وأظهر علي أثر توسلي بك إلى الله ربك، مزق شملي، وفرق بيني وبين أهلي، وتعدي علي، وصرفت وجوه المكايد إلي، حتى أخرجت من وطني وبلدي، ومالي وولدي، ومحل جهادي، وحقي الذي صار لي طوعاً عن آبائي وأجدادي، عن بيعة لم يحل عقدتها الدين، ولا ثبوت جرحة تشين، وأنا قد قرعت باب الله سبحانه بتأميلك، فالتمس لي قبوله بقبولك، وردني إلى وطني على أفضل حال، وأظهر علي كرامتك التي تشد إليها ظهور الرحال، فقد جعلت وسيلتي إليك رسول الحق، إلى جميع الخلق، والسلام عليك أيها الولي الكريم، الذي يأمن به الخائف وينتصف الغريم، ورحمه الله، انتهى. رجع - والسرخسي المذكور قال في حقه بعض الأئمة: إنه الشيخ الإمام

شيخ الشيوخ، تاج الدين أبو محمد عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن حمويه، له رحلة مغربية، انتهى. وهو من بيت كبير، وقال البدري في تاريخه في حقه ما صورته: تاج الدين، شيخ الشيوخ بدمشق، أحد الفضلاء المؤرخين المصنفين، له كتاب في ثماني مجلدات ذكر فيه أصول الأشياء، وله " السياسة الملوكية " صنفها للملك الكامل محمد، وغير ذلك، وسمع الحديث، وحفظ القرآن، وكان قد بلغ الثمانين، وقيل: لم يبلغها، وقد سافر إلى بلاد المغرب سنة ثلاث وتسعين، واتصل بمراكش، عند ملكها المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، فأقام هناك إلى سنة ستمائة، وقدم مصر، وولي مشيخة الشيوخ بعد أخيه صدر الدين ابن حمويه، انتهى. وقال غيره: إنه كان فاضلاً متواضعاً نزهاً حسن الاعتقاد، قال أبو المظفر: كان يحضر مجالسي، وأنشدني يوماً: لم ألق مستكبراً إلا تحوّل لي ... عند اللقاء له الكبر الذي فيه ولا حلا لي من الدنّيا ولذّتها ... إلاّ مقابلتي للتيه بالتيه وقال السرخسي المذكور في رحلته: إني وإن كنت خراساني الطينة، لكني شامي المدينة، وإ، كانت العمومة من المشرق، فإن الخؤولة من المغرب، فحدث باعث يدعو إلى الحركات والأسفار، ومشاهدة الغرائب في النواحي والأقطار، وذلك في حال ريعان الشباب الذي تعضده عزائم النفوس بنشاطها، والجوارح بخفة حركاتها وانبساطها، فخرجت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة إلى زيارة البيت المقدس وتجديد العهد ببركاته، واغتنام الأجر في حلول بقاعه ومزاراته، ثم سرت منه إلى الديار المصرية، وهي آهلة بكل ما تتجمل به البلاد وتزدهي، وينتهي وصف الواصف لشؤونها ولا تنتهي، ثم دخلت الغرب من الإسكندرية في البحر ودخلت مدينة مراكش أيام السيد الإمام أمير المؤمنين

أبي يوسف يعقوب المنصور ابن يوسف بن عبد المؤمن بن علي، فاتصلت بخدمته، والذي علمت من حاله أنه كان يجيد حفظ القرآن، ويحفظ متون الأحاديث ويتقنها، ويتكلم في الفقه كلاماً بليغاً، وكان فقهاء الوقت يرجعون إليه في الفتاوى، وله فتاوى مجموعة حسبما أدى إليه اجتهاده، وكان الفقهاء ينسبونه إلى مذهب الظاهر، وقد شرحت أحوال سيرته، وما جرى في أيام دولته، في كتاب التاريخ المسمى " عطف الذيل ". وقد صنف كتاباً يجمع فيه متون أحاديثٍ صحاح تتعلق بالعبادات سماه " الترغيب ". وتهدده ملك الإفرنج الفنش في كتابه فمزقه، وقال لرسوله: " ارجع إليهم فلنأتينّهم بجنودٍ لا قبل لهم بها، ولنخرجنّهم منها أذلّة وهم صاغرون " إن شاء الله تعالى، ثم قال للكاتب: اكتب على هذه القطعة، يعني من كتابه الذي مزقه: الجواب ما ترى لا ما تسمع: فلا كتب إلا المشرفّية والقنا ... ولا رسلٌ إلا الخميس العرمرم (1) ومن شعره أبيات كتب بها إلى العرب، وهي: يا أيها الراكب المزجي مطيّته ... على عذافرة تشقى بها الأكم بلّغ سليماً على بعد الديار بها ... بيني وبينكم الرحمن والرّحم يا قومنا لا تشبّوا الحرب إن خمدت ... واستمسكوا بعرى الإيمان واعتصموا كم جرّب الحرب من قد كان قبلكم ... من القرون فبادت دونها الأمم حاشا الأعارب أن ترضى بمنقصةٍ ... يا ليت شعري هل ترآهم علموا يقودهم أرمنيٌّ لا خلاق له ... كأنه بينهم من جهلهم علم يعني بالأرمني قراقوش مملوك بني أيوب الذي كان ذهب إلى بلاد الغرب

_ (1) ورد هذا الجواب ي الحلل الموشية: 30 ولكنه منسوب هناك ليوسف بن تاشفين وكذلك قال ابن عبد الغفور في أحكام صنعة الكلام ص: 164؛ والبيت للمتنبي.

الأدنى، وأوقد النار الحربية من طرابلس إلى تونس مع ابن غانية اللمتوني، وحديثه مشهور (1) ، وتمام الأبيات: الله يعلم أنّي ما دعوتكم ... دعاء ذي قوّةٍ يوماً فينتقم ولا لجأت لأمرٍ يستعان به ... من الأمور وهذا الخلق قد علموا لكن لأجزي رسول الله عن نسبٍ ... ينمى إليه وترعى تلكم الذّمم فإن أتيتم فحبل الوصل متصلٌ ... وإن أبيتم فعند السيف نحتكم ثم قال السرخسي: وبلغني أن قوماً من الغرباء قصدوه، ومعهم حيوانات معلمة منها أسد وغراب، أما الأسد فيقصده من دون أهل المجلس، ويربض بين يديه، وربما أومأ بالسجود ومد ذراعيه، وأما الغراب فكان يقول: النصر والتمكين لسيدنا أمير المؤمنين، وفي ذلك يقول بعض الشعراء: أنس الشبل ابتهاجاً بالأسد ... ورأى شبه أبيه فقصد أنطق الخالق مخلوقاته ... شهدوا والكلّ بالحقّ شهد أنّك الخيرة من صفوته ... بعدما طال على الناس الأمد فأعطاهم وكساهم، وأحسن حباهم. وبلغني أن قوماً أتوه بفيلٍ من بلاد السودان هدية، فأمر لهم بصلة، ولم يقبله منهم، وقال: نحن لا نريد أن نكون أصحاب الفيل. وقال لي يوماً: كيف ترى هذه البلاد وأين هي من بلادك الشامية فقلت: يا سيدنا، بلادكم (2) حسنة أنيقة مجملة مكملة، وفيها عيب واحد، فقال: ما هو فقلت: أنها تنسي الأوطان، فتبسم وظهر لي إعجابه

_ (1) تجد تفصيلا لأعمال قراقوش وابن غانية في رحلة التجاني وتاريخ ابن الأثير وابن خلدون (الجزء السادس) والبيان المغرب (الجزء الثالث) وراجع كتابي " تاريخ ليبيا ": 157 - 194. (2) ق: بلاد.

بالجواب، وأمر لي من غد بزيادة رتبة وإحسان. وحدثني بعض عمالهم أنه فرق على الجند والأمراء والفقراء في عيد سنة أربع وتسعين ثلاثة وسبعين ألف شاة من ضأن ومعز. ودرج إلى رحمة الله تعالى سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وكان قد استخلف ولده محمداً وقرر الأمر له، انتهى. قلت: بهذا وأمثاله تعلم فساد ما زعمه غير واحد أن يعقوب المنصور هذا تخلى عن الملك، وفر زاهداً فيه إلى المشرق، وأنه دفن بالبقاع، لأن هذه مقالة عامية لا يثبتها علماء المغرب، وسبب هذه المقالة تولع العامة به، فكذبوا في موته، وقالوا: إنه ترك الملك، وحكوا ما شاع إلى الآن وذاع مما ليس له أصل. ويرحم الله تعالى الإمام العلامة القاضي الشريف الغرناطي شارح الخزرجية، إذ قال في شرح مقصورة حازم عند ذكره وقعة الأرك ما معناه (1) : إن بعض الناس يزعمون أن المنصور ترك الملك وذهب إلى المشرق، وهذا كلام لا يصح، ولا أصل له. انتهى. وقال في " المغرب ": كان أبوه يوسف قد استوزره في حياته، وتخرج بين يديه، وتمرس، وهزم الفرنج الهزيمة العظيمة، وتولع بالعلم حتى نفى التقليد وحرق كتب المذاهب، وقتل على السكر، انتهى. وحكى لسان الدين الوزير ابن الخطيب في شرح كتابه " رقم الحلل في نظم الدول " أن المنصور طلب من بعض أعيان دولته رجلين لتأديب ولده يكون أحدهما براً في عمله، والآخر بحراً في علمه، فجاءه بشخصين زعم أنهما على وفق مقترح المنصور، فلما اختبرهما لم يجدهما كما وصف، فكتب إلى الآتي بهما " ظهر الفساد في البر والبحر "، انتهى. وناهيك

_ (1) نص ما أورده الشريف الغرناطي (رفع الحجب: 2: 155) " وكذب الكافة من العامة بوفاته فآونة يجعلونه يرابط ببلاد الأندلس مستكتما بها، وتارة يقولون إنه خرج زاهدا في الملك فتوجه نحو بيت الله وجاور في المدينة عند قبر رسول الله (ص) حيث يخفي أمره، ولهم في ذلك حكايات يقولونها إلى الآن، كلها تخرص وأباطيل "، وانظر البيان المغرب 3: 211 (ط. تطوان) .

بهذا دلالةً على قوة فطنته ومعرفته، رحمه الله تعالى. رجع إلى أخبار السرخسي: وقال في رحلته لما ذكر السيد أبا الربيع سليمان بن عبد الله أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي (1) ، وكان في تلك المدة يلي مدينة سجلماسة وأعمالها: اجتمعت به حين قدم إلى مراكش بعد وفاة المنصور يعقوب لمبايعة ولده محمد، فرأيته شيخاً بهي المنظر، حسن المخبر، فصيح العبارة باللغتين العربية والبربرية، ومن كلامه في جواب رسالة إلى ملك السودان بغانة ينكر عليه تعويق التجار قوله: نحن نتجاور بالإحسان، وإن تخالفنا في الأديان، ونتفق على السيرة المرضية، ونتألف على الرفق بالرعية، ومعلوم أن العدل من لوازم الملوك في حكم السياسة الفاضلة، والجور لا تعانيه إلا النفوس الشريرة الجاهلة، وقد بلغنا احتباس مساكين التجار ومنعهم من التصرف فيما هم بصدده، وتردد الجلابة إلى البلد مفيد لسكانها، ومعين على التمكن من استيطانها، ولو شئنا لاحتبسنا من في جهاتنا من أهل تلك الناحية لكنا لا نستصوب فعله، ولا ينبغي لنا أن ننهى عن خلق ونأتي مثله، والسلام. ووقع إلى عامل له كثرت الشكاوى منه: قد كثرت فيك الأقوال، وإغضائي عنك رجاء أن تتيقظ فتنصلح الحال، وفي مبادرتي إلى ظهور الإنكار عليك نسبة إلى شر الاختيار وعدم الاختبار، فاحذر فإنك على شفا جرف هار. ومن شعره المشهور قصيدة يمدح فيها ابن عمه المنصور يعقوب (2) :

_ (1) أبو الربيع الموحدي سليمان بن عبد الله (- 604) ، ولي بجاية، وشارك في بعض الأعمال الحربية ضد ابن غانية بتونس؛ وقال الشقندي فيه إنه من مفاخر بني عبد المؤمن، كان قديرا على النظم حافظا للآداب، وله ديوان شعر (انظر الغصون اليانعة: 131 - 134) ويبدو أن قسما من هذا الشعر قد نحله إياه أحد كتابه (المعجب: 378) . (2) هي في ديوانه ص 20 (ومخطوطة الرباط من ديوانه: الورقة 157) قالها يهنئ الخليفة أبا يوسف بفتح قفصة سنة 583.

هبّت بنصركم الرياح الأربع ... وجرت بسعدكم النجوم الطّلّع واستبشر الفلك الأثير تيقناً ... أن الأمور إلى مرادك ترجع وأمدّك الرحمن بالفتح الذي ... ملأ البسيطة نوره المتشعشع لم لا وأنت بذلت في مرضاته ... نفساً تفدّيها الخلائق أجمع ومضيت في نصر الإله مصمّماً ... بعزيمةٍ كالسيف بل هي أقطع لله جيشك والصوارم تنتضى ... والخيل تجري والأسنّة تلمع من كلّ من تقوى الإله سلاحه ... ما إن له غير التوكّل مفزع لا يسلمون إلى النوازل جارهم ... يوماً إذا أضحى الجوار يضيّع ومنها يصف انهزام العدو: إن ظنّ أن فراره منجٍ له ... فبجهله قد ظنّ ما لا ينفع أين المفرّ ولا فرار لهاربٍ ... والأرض تنشر في يديك وتجمع أخلفية الله الرضى هنّيته ... فتحٌ يمدّ بما سواه (1) ويشفع فلقد كسوت الدين عزّاً شامخاً ... ولبست منه أنت ما لا يخلع هيهات سرّ الله أودع فيكم ... والله يعطي من يشاء ويمنع لكم الهدى لا يدّعيه سواكم ... ومن ادعاه يقول ما لا يسمع إن قيل من خير الخلائق كلّها ... فإليك يا يعقوب تومي الإصبع إن كنت تتلو السابقين فإنّما ... أنت المقدّم والخلائق تبّع خذها أمير المؤمنين مديحةً ... من قلب صدقٍ لم يشنه تصنّع واسلم أمير المؤمنين لأمةٍ ... أنت الملاذ لها وأنت المفزع فالمدح منّي في علاك طبيعةٌ ... والمدح من غيري إليك تطبّع وعليك يا علم الهداة تحيةٌ ... يفنى الزمان وعرفها يتضوّع

_ (1) الديوان: بمثله.

قال لي الفقيه أبو عبد الله محمد القسطلاني: دخلت إلى السيد أبي الربيع بقصرسجلماسة، وبين يديه أنطاع عليها رؤوس الخوارج الذين قطعوا الطريق على السفار بين سجلماسة وغانة، وهو ينكت الأرض بقضيب من الآبنوس، ويقول: ولا غرو أن كانت رؤوس عداته ... جواباً إذا كان السيوف رسائله ومات بعد الستمائة، رحمه الله تعالى، انتهى. وقال لما هجره أمير المؤمنين يعقوب المنصور، ووافق ذلك أن وفد على حضرة الخلافة مراكش جمع من العرب والغز (1) من بلاد المشرق، ونزلوا بتمرتانسقت ظاهر مراكش، واستأذنوا في وقت الدخول، فكتب إلى المنصور (2) : يا كعبة الجود التي حجّت لها ... عرب الشآم وغزّها والدّيلم طوبى لمن أمسى يطوف بها غداً ... ويحلّ بالبيت الحرام ويحرم ومن العجائب أن يفوز بنظرةٍ ... من بالشآم ومن بمكّة يحرم فعفا عنه، وأحسن إليه، وأمره بالدخول بهم، والتقدم عليهم. وقال في " المغرب " في حق السيد أبي الربيع المذكور، ما ملخصه (3) : لم يكن في بني عبد المؤمن مثله في هذا الشأن الذي نحن بصدده، وكان تقدم على مملكتي سجلماسة وبجاية، وكان كاتباً شاعراً أديباً ماهراً، وشعره مدون، وله ألغاز،

_ (1) الغز: فريق من الجيش الذي كان يلتف حول شرف الدين قراقوش وفيه عناصر تركية في الأغلب وردوا المغرب حوالي 582 أو التي بعدها، فأكرمهم الخليفة الموحدي وجعل لهم جامكية شهرية لا تختل (انظر المعجب: 365 - 367) حين رتبهم في جيشه، وقد نوه المنصور بالغز في وصيته حين قال: " وهؤلاء الأغزاز أمرنا لهم بهذه البركة يأخذونها فاتركوها على ما رتبنا وربطنا لأن الموحدين لهم سهام يرجعون إليها وليس للأغزاز سهام " (البيان 3: 208 " ط. تطوان) . (2) لم ترد في ديوانه: 144. (3) لم ترد هذه الترجمة في المغرب.

وهو القائل في جارية اسمها ألوف (1) : خليليّ قولا أين قلبي ومن به ... وكيف بقاء المرء من بعد قلبه ولو شئتما إسم الذي قد هويته ... لصحّفتما أمري لكم بعد قلبه (2) وله الأبيات المشهورة التي منها (3) : أقول لركب أدلجوا بسحيرة ... قفوا ساعة حتى أزور ركابها وأملأ عيني من محاسن وجهها ... وأشكو إليها أن طالت عتابها فإن هي جادت بالوصال وأنعمت ... وإلا فحسبي أن رأيت قبابها وقال يخاطب ابن عمه يعقوب المنصور (4) : فلأملأن الخافقين بذكركم ... ما دمت حيّاً ناظماً ومرسّلاً ولأبذلن نصحي لكم جهدي وذا ... جهد المقلّ وما عسى أن أفعلا ولأخلصنّ لك الدعاء، وما أنا ... أهلٌ له، ولعلّه أن يقبلا وله مختصر كتاب " الأغاني " انتهى. رجع - وذكر السرخسي أيضاً في رحلته السد أبا الحسن علي بن عمر ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن، وقال في حقه: إنه كان من أهل الأدب والطرب، ولي بجاية مدة، ثم عزل عنها لإهماله وإغفاله وانهماكه في ملاذه، أنشدني محمد ابن سعيد المهدوي كاتبه قال: كتب الأمير أبو الحسن إلى أمير المؤمنين يعقوب يمدحه ويستزيده، ويطلب منه ما يقضي به ديونه:

_ (1) الديوان: 117. (2) أمره هو الفعل " قولا " في البيت الأول، وتصحيفه بعد قلبه هو " ألوف ". (3) الديوان: 49. (4) الديوان: 39.

وجوه الأماني بكم مسفره ... وضاحكةٌ لي مستبشره ولي أملٌ فيكم صادقٌ ... قريبٌ عسى الله قد يسّره عليّ ديون وتصحيفها ... وعندكم الجود والمغفره يعني ذنوب. وحدثني الشيخ أبو الحسن ابن فشتال (1) الكاتب وقد أنشدته: أوحشتني ولو اطّلعت على الذي ... لك في ضميري لم تكن لي موحشا فقال: أنشدته هذا البيت في مجلس السيد أبي الحسن، فقال ولمن حضر: هل تعرفون لهذا البيت ثانياً فما فينا من عرفه، فأنشدنا: أترى رشيت على اطّراح مودتي ... ولقد عهدتك ليس تثنيك الرّشا أوحشتني - البيت، انتهى. وقال في " المغرب " في حق السيد المذكور، ما ملخصه: كان هذا السيد أبو الحسن قد ولي مملكة تلمسان وبجاية، وله حكايات في الجود برمكية، ونفس عالية زكية، كتب إليه السيد أبو الربيع يوم جمعة (2) : اليوم يوم الجمعة ... يوم سرورٍ ودعه وشملنا مفترقٌ ... فهل ترى أن نجمعه فأجابه بقوله: اليوم يوم الجمعة ... وربّنا قد رفعه والشرب فيه بدعةٌ ... فهل ترى أن ندعه

_ (1) ق: قشتال. (2) ديوان أبي الربيع: 137.

قال: ولفظة " السيد " في المغرب بذلك العصر لا تطلق إلا على بني عبد المؤمن بن علي، انتهى. رجع - قال السرخسي، وقد ذكر في الرحلة المذكورة السيد أبا محمد عبد الله صاحب فاس: وله من أبيات في الفخر وقد انتحلها غيره: ألست ابن من تخشى الليالي انتقامهم ... وترجو نداهم غاديات السحائب يخطّون بالخطّيّ في حومة الوغى ... سطور المنايا في نحور المقانب كتاباً بأطراف العوالي ونقسه ... دم القلب مشكولاً بنضج الترائب وما كنت أدري قبلهم أنّ معشراً ... أقاموا كتاباً من نفوس الكتائب وأنشدني المقدم الأمير أبو زيد بن يكيت قال: أنشدني بعض السادة من بني عبد المؤمن: فديت من أصبحت في أسره ... وليس لي من حكمه فادي إن حلّ يوماً وادياً كان لي ... جنّة عدن ذلك الوادي ثم ذكر رحمه الله تعالى جملة من علماء الأندلس والمغرب لقيهم في هذه الرحلة. ومن نظم السرخسي المذكور قوله رحمه الله تعالى: يا ساهر المقلة لاعن كرىً ... غفلت عن هجعي وأوصابي لو لم يكن وجهك لي قبلةً ... ما أصبح الحاجب محرابي وكان متفنناً في العلوم، وهو عم الأمراء الوزراء الرؤساء فخر الدين وإخوته، ومن مصنفاته " المسالك والممالك " و " عطف الذيل " في التاريخ، وله أمالٍ وتخاريج وقدمه المنصور صاحب المغرب على جماعة، وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق، ودفن في مقابر الصوفية عند المنيبع، وكان عالي الهمة

شريف النفس، قليل الطمع، لا يلتفت إلى أحد رغبة قي دنياه، لا من أهله ولا من غيرهم، وذكره صاحب " المرآة " وغيره، وترجمته واسعة، رحمه الله تعالى. 61 - ومن الوافدين على الأندلس ظفر البغدادي (1) ، سكن قرطبة، وكان من رؤساء الوراقين المعروفين بالضبط وحسن الخط كعباس بن عمرو الصقلي ويوسف البلوطي وطبقتهما، واستخدمه الحكم المستنصر بالله في الوراقة، لما علم من شدة اعتناء الحكم بجمع الكتب واقتنائها، وقد أشار ابن حيان في كتاب " المقتبس " إلى ظفر هذا، رحمه الله تعالى. 62 - ومنهم الرازي، وهو محمد بن موسى بن بشير بن جناد بن لقيط، الكناني، الرازي (2) ، والد أبي بكر أحمد بن محمد صاحب التاريخ، غلب عليه اسم بلده، وكان يفد من المشرق على ملوك بني مروان تاجراً، وكان مع ذلك متقناً (3) في العلوم، وهلك منصرفه من الوفادة على الأمير المنذر بن محمد بإلبيرة، في شهر ربيع الآخر سنة 273، ذكره ابن حيان في " المقتبس ". 63 - ومنهم الوزير أبو الفضل محمد بن عبد الواحد بن عبد العزيز ابن الحارث بن أسد بن ليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان التميمي، الدرامي، البغدادي (4) ، سمع من أبي طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص (5)

_ (1) ترجمة ظفر الوراق في التكملة: 346. (2) انظر ترجمته في التكملة: 670. (3) التكملة: مفتنا. (4) ترجمة أبي الفضل البغدادي في الجذوة: 68 (وبغية الملتمس رقم: 209) والذخيرة 4 / 1: 67 - 92 وفيه تفصيل رحلته وتقلبه في البلاد. (5) في الجذوة: سمع من أبي طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص جزءين، وقد يوهم أن " المخلص اسم كتاب، وعند حاجي خليفة " المخلصيات " من حديث أبي طاهر لابن العباس ابن مخلص الذهبي. (ص 1639) .

وغيره، وخرج من بغداد رسولاً عن أمير المؤمنين القائم بأمر الله العباسي رضي الله تعالى عنه إلى صاحب إفريقية المعز بن باديس، واجتمع مع أبي العلاء المعري بالمعرة، وأنشده قصيدة لامية يمدح بها صاحب حلب، فقبل عينيه، وقال له: لله أنت من ناظم، وخرج من إفريقية من أجل فتنة العرب، وخيم عند المأمون ابن ذي النون بطليطلة (1) ، وله فيه أمداح كثيرة، ومن فرائد شعره قوله (2) : يا ليل ألاّ انجليت عن فلق ... طلت ولا صبر لي على الأرق جفا لحاظي (3) التغميض فيك فما ... تطبق أجفانها (4) على الحدق كأنني صورةٌ ممثّلةٌ ... ناظرها الدّهر غير منطبق وقال: يزرع ورداً ناضراً ناظري ... في وجنة كالقمر الطالع أمنع أن أقطف أزهاره ... في سنّة المتبوع والتّابع فلم منعتم شفتي قطفها ... والحكم أن الزرع للزارع هكذا نسبها له غير واحد كابن سعيد كتيلة (5) ، وبعضهم ينسبها للقاضي عبد الوهاب. قلت: وقد أجاب عنها بعض المغاربة بقوله: سلّمت أنّ الحكم ما قلتم ... وهو الذي نصّ عن الشارع

_ (1) كان دخوله طليطلة يوم الجمعة لثلاث بقين من جمادى الأولى سنة 454. (2) الذخيرة: 75. (3) الذخيرة: جفوني. (4) الذخيرة: تسبل أشفارها. (5) في ق: وأبو كيلة، وقد اضطربت في النسخ بين: كتيلة، كثيلة، كتبلة، كما جاء موضعها

فكيف تبغي شفةٌ قطفه ... وغيرها المدعوّ بالزارع ورده شيخ شيوخ شيوخنا الإمام الحافظ أبو عبد الله التّنسي ثم التلمساني بقوله: في ذا الذي قد قلتم مبحثٌ ... إذ فيه إيهامٌ على السامع سلّمتم الحكم له مطلقاً ... وغير ذا نصّ عن الشارع يعني أنه يلزم على قول المجيب أن يباح له النظر مطلقاً، والشرع خلافه. وأجاب بعض الحنفية بقوله: لأنّ أهل الحبّ في حكمنا ... عبيدنا في شرعنا الواسع والعبد لا ملك له عندنا ... فحقّه للسيّد المانع وهو جواب حسن لا بأس به. ورأيت جواباً لبعض المغاربة على غير روية، وهو: قل لأبي الفضل الوزير الذي ... باهى به مغربنا الشرق غرست ظلماً وأردت الجنى ... وما لعرق ظالم حقّ قلت: وهذا مما يعين أن الأبيات لأبي الفضل الدرامي المذكور في الذخيرة، لا للقاضي عبد الوهاب، والله تعالى أعلم. ومن شعر الوزير المذكور قوله: بين كريمين منزلٌ واسع ... والودّ حالٌ تقرّب الشاسع والبيت إن ضاق عن ثمانيةٍ ... متسعٌ بالوداد للتاسع وولد رحمه الله تعالى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وهو من بيت علم وأدب، قال الحميدي: أخبرني بذلك أبو عمر (1) رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز

_ (1) الجذوة: أبو محمد.

ابن الحارث، وتوفي بطليطلة سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وقال ابن حيان: توفي ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمس وخمسين وأربعمائة، في كنف المأمون يحيى بن ذي النون، وذكر أنه كان يتهم بالكذب، فالله تعالى أعلم بحقيقة الأمر. وقال ابن ظافر في كتابه " بدائع البدائه " (1) ما نصه: أبو الفضل الدرامي البغدادي مجلس المعز بن باديس، وبالمجلس ساقٍ وسيم قد مسك عذاره ورد خديه، وعجزت الراح أن تفعل في الندامى فعل عينيه، فأمر المعز بوصفه، فقال بديهاً: ومعذّرٍ نقش الجمال بمسكه ... خدّاً له بدوم القلوب مضرّجا لما تيقّن أن سيف جفونه ... من نرجسٍ جعل العذار بنفسجا وقوله في جارية تبخترت بالند (2) : ومحطوطة المتنين مهضومة الحشا ... منعّمة الأرداف تدمى من اللمس إذا ما دخان الند من جيبها علا ... على وجهها أبصرت غيماً على شمس وقوله (3) : لأغرّرنّ بمهجتي في حبّه ... غرراً يطيل مع الخطوب خطابي ولئن تعزز إنّ عندي ذلّةً ... تستعطف الأعداء للأحباب وقوله (4) :

_ (1) بدائع البدائه 2: 40 وانظر الذخيرة 4 / 1: 73. (2) الذخيرة: نفس الصفحة. (3) الذخيرة: 74. (4) الذخيرة: 75.

دعتني عيناك نحو الصبا ... دعاء يكرر في كلّ ساعه ولولا وحقّك عذر المشيب ... لقلت لعينيك سمعاً وطاعه وقد تمثل بهذين البيتين لسان الدين ابن الخطيب في خطبة تأليفه المسمى ب " روضة التعريف بالحب الشريف ". وقال أبو الفضل الدرامي المذكور أيضاً (1) : سطا الفراق عليهم غفلةً فغدوا ... من جوره فرقاً من شدّة الفرق فسرت شرقاً وأشواقي مغرّبةٌ ... يا بعد ما نزحت عن طرقهم طرقي لولا تدارك دمعي يوم كاظمةٍ ... لأحرق الركب ما أبديت من حرق يا سارق القلب جهراً غير مكترثٍ ... أمنت في الحبّ أن تعدى على السّرق أرمق بعين الرضى تنعش بعاطفةٍ ... قبل المنيّة ما أبقيت (2) من رمقي لم يبق مني سوى لفظٍ يبوح بما ... ألقى فيا عجباً للّفظ كيف بقي صلني إذا شئت أو فاهجر علانيةً ... فكلّ ذلك محمولٌ على الحدق وقال (3) : تذكّر نجداً والحمى فبكى وجدا ... وقال: سقى الله الحمى وسقى نجدا وحيّته (4) أنفاس الخزامى عشية ... فهاجت إلى الوجد القديم به وجدا فأظهر سلواناً وأضمر لوعةً ... إذا طفئت نيرانها وقدت وقدا ولو أنّه أعطى الصبابة حكمها ... لأبدى الذي أخفى وأخفى الذي أبدى

_ (1) الذخيرة: 84. (2) الذخيرة: ما أوهيت. (3) الذخيرة: 78. (4) في ق: وخفة؛ والتصويب عن الذخيرة.

وقال أيضاً (1) : قلت للملقي على الخ ... دين من وردٍ خمارا أسبل الصّدغ على خ ... دّك من مسكٍ عذارا أم أعان الليل حتّى ... قهر الليل النهار قال: ميدانٌ جرى الحس ... ن عليه فاستدارا ركضت فيه عيونٌ ... فأثارته غبارا وقال (2) : وكاتبٍ أهديت نفسي له ... فهي من السوء فدا نفسه فلست أدري بعد ما حلّ بي ... بمسكه أتلف أم نقسه سلّط خدّيه على مهجتي ... فاستأصلتها وهي من غرسه وقال: وشادنٍ أسرف في صدّه ... وزاد في التيه على عبده الحسن قد بثّ على خدّه ... بنفسجاً يزهو على ورده رأيته يكتب في طرسه ... خطّاً يباري الدّرّ من عقده فخلت ما قد خطّه كفّه ... للحسن قد خطّ على خدّه وقال: إنّي عشقت صغيراً ... قد دبّ فيه الجمال وكاد يفشي حديث ال ... فضول منه الدّلال لو مرّ في طرق الهج ... ر لاعتراه ضلال

_ (1) الذخيرة: 77. (2) وردت سائر القطع في الذخيرة، فلا حاجة إلى إثبات ذلك عند كل قطعة.

يريك بدراً منيراً ... في الحسن وهو هلال وقال: ظبيٌ إذا حرّك أصداغه ... لم يلتفت خلقٌ إلى العطر غنّى بشعري منشدا ًليتني الل ... فظ الذي أودعته شعري فكلّما كرّر إنشاده ... قبّلته فيه ولم يدر وقال: أينفع قولي إنّني لا أحبّه ... ودمعي بما يمليه وجدي يكتب إذا قلت للواشين لست بعاشقٍ ... يقول لهم فيض المدامع يكذب وقال: وهبني قد أنكرت حبّك جملةً ... وآليت أنّي لا أروم محطّها فمن أين في الحبّ جرح شهادةٍ ... سقامي أملاها ودمعي خطّها وقال: أنا أخشى إن دام ذا الهجر أن ين ... شط من حبّه عقال وثاقي فأريح الفؤاد ممّا اعتراه ... وأردّ الهوى على العشّاق وقال: كلانا لعمري ذائبان (1) من الهوى ... فنارك من جمرٍ وناري من هجر فأنت على ما قد تقاسين من أذىً ... فصدرك في نارٍ وناري في صدري

_ (1) الذخيرة: ذو بيان.

وقال: ومن عجب العشق أن القتيل ... يحنّ ويصبو إلى القاتل وقال: ألم أجعل مثار النقع بحراً ... على أنّ الجياد له سفين وقال: أصبحت أحلب تيساً لا مدرّ له ... والتيس من ظنّ أن التيس محلوب وأما الحكيم أبو محمد المصري وهو القائل (1) : رعى الله دهراً قد نعمنا بطيبه ... لياليه من سمش الكؤوس أصائل ونرجسنا درٌ على التبر جامدٌ ... وخمرتنا تبرٌ على الدرّ سائل فقد ترجمه في " الذخيرة " فليراجع، فإن الذخيرة غريبة في البلاد المشرقية. وقد كان عندي بالمغرب من هذا النوع ما أستعين به، فخلفته هنالك، والله تعالى يلم الشمل. وقد ذكر فيها أنه مغربي سافر إلى مصر، فقيل له " المصري " لذلك، فليعلم، والله تعالى أعلم. 64 - ومن الوافدين على الأندلس أشهب بن العضد الخراساني. قال ابن سعيد: أنشدنا لما وفد على ابن هود في إشبيلية قصيدة ابن النبيه: طاب الصّبوح لنا فهاك وهات (2) ... وادعاها، وفيها:

_ (1) هو أبو محمد عبد الله بن خليفة المصري، ترجم له ابن بسام في الذخيرة في قسم الغرباء الطارئين على الأندلس بعد ترجمة ابن حميدس (في القسم الذي لم يطبع بعد) وانظر 4 / 1: 69 - 105، وقد ذمه ابن حيان دون أن يذكر اسمه ص: 109. (2) عجزه: واشرب هنيئا يا أخا اللذت (الفوات 2: 147) .

في روضة غنّا تخال طيورها ... وغصونها همزاً على ألفات ولم أجد هذا البيت في قصيدة ابن النبيه، انتهى. 65 - ومن الوافدين على الأندلس من المشرق أبو الحسن البغدادي الفكيك (1) ، وهومذكور في الذخيرة، وكان حلو الجواب، مليح التندر، يضحك من حضرن ولا يضحك هو إذا ندر، وكان قصيراً دميماً، قال: ورأيته يوماً وقد لبس طاقاً أحمر على بياض، وفي رأسه طرطور أخضر، عمم عليه عمة لازوردية، وهو بين يدي المعتمد بن عباد ينشد شعراً قال فيه: وأنت سليمان في ملكه ... وبين يديك أنا الهدهد وأنشد له في المعتمد: أبا القاسم الملك المعظّم قدره ... سواك من الأملاك ليس يعظّم لقد أصبحت حمصٌ بعدلك جنةً ... وقد أبعدت عن ساكنيها جهنم ولي بحياك الريع عاماً وأشهراً ... أزخرف أعلام الثناء وأرقم وأنفقت ما أعطيتني ثقةً بما ... أؤمّل فالدينار عندي درهم وقلبي إلى بغداد يصبو وإنّني ... لنشر صباها دائماً أتنسّم وقال: وذرّى على ربع العقيق دموعه ... عقيقاً ففيها توأمٌ وفريد شهدت وما تغني شهادة عاشقٍ ... بأن قتيل الغانيات شهيد ومنها:

_ (1) راجع فهرست الذخيرة 1 / 1: 19 وهو في القسم الذي لم يطبع بعد، في تراجم الغرباء الطارئين على الأندلس.

إذا قابلوه قبّلوا ترب أرضه ... وهم لعلاه ركّعٌ وسجود وقد هزّ منه الله للملك صارماً ... تقام بحدّي شفرتيه حدود وقال: لأيّة حالٍ حال عن سنة الكرى ... ولم أصغي وماً في هواه إلى العذل ومنها: كأنّ بقاء الطّلّ فوق جفونها ... دموع التصابي حرن في الأعين النّجل ومنها: تملّكت رقّي بالعوارف منعماً ... وأغنيتني بالجود عن كلّ ذي فضل وأنسيتني أرض العراق ودجلةً ... وربعي حتى ما أحنّ إلى أهلي وقال في المقتدر بن هود: لعزّك ذلّت ملوك البشر ... وعفّرت تيجانهم في العفر وأصبحت أخطرهم بالقنا ... وأركبهم لجود الخطر سهرت وناموا عن المأثرات ... فما لهم في المعالي أثر وجلّيت في حيث صلّى الملوك ... فكلٌّ بذيل المنى قد عثر ومنها: وأنتم ملوكٌ إذا شاجروا ... أظلّتهم من قناهم شجر وقال الفكيك من قصيدة: غنّى حسامك في أرجاء قرطبةٍ ... صوتاً أباد العدى والليل معتكر حيث الدماء مدامٌ والقنا زهرٌ ... والقوم صرعى بكأس الحتف قد سكروا

وكان مشهوراً بالهجاء، وله في نقيب بغداد وكانت في عنقه غدة: بلع الأمانة فهي في حلقومه ... لا ترتقي صعداً ولا تتنزّل وقال ناصر الدولة بن حمدان: ولئن غلطت بأن مدحتك طالباً ... جدواك مع علمي بأنّك باخل فالدولة الغرّاء قد غلطت بأن ... سمّتك ناصرها وأنت الخاذل إن تمّ أمرك مع يدٍ لك أصبحت ... شلاّء فالأمثال شىء باطل ومما ينسب إليه، وقيل لغيره: ووعدتني وعداً حسبتك صادقاً ... فجعلت من طعمي أجيء وأذهب فإذا اجتمعت أنا وأنت بمجلسٍ ... قالوا مسيلمةٌ وهذا أشعب 66 - ومنهم إبراهيم بن سليمان الشامي، دخل الأندلس من المشرق في أخريات أيام الحكم شادياً للشعر، وهو من موالي بني أمية، ولم ينفق على الحكم، وتحرك في أيام ولده الأمير عبد الرحمن فنفق عليه، ووصله، ثم في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن، وكان أدرك بالمشرق كبار المحدثين كأبي نواس وأبي العتاهية. ومن شعره ما كتب به إلى الأمير عبد الرحمن: يا من تعالى من أميّة في الذرى ... قدما ًفأصبح عالي الأركان إن الغمام غياثه في وقته ... والغيث من كفّيك كلّ أوان فالغيث قد عمّ البلاد وأهلها ... وظمئت بينهم فبلّ لساني وله في الأمير عبد الرحمن بن الحكم: ومن عبد شمسٍ بالمغارب عصبةٌ ... فأسعدها الرحمن حيث أحلّها دحا تحتها مهداً من العزّ آمناً ... ومدّ جناحاً فوقها فأظلّها

67 - ومنهم أبو بكر بن الأزرق، وهو محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن حامد بن موسى بن العباس بن محمد بن يزيد، وهو الحصني، ابن محمد ابن مسلمة بن عبد الملك بن مروان، من أهل مصر، خرج من مصر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، وصار إلى القيروان، وامتحن بها مع الشيعة، وأقام محبوساً بالمهدية، ثم أطلق ووصل الأندلس سنة تسع وأربعين، فأحسن إليه المستنصر بالله الحكم، وكان أديباً حكيماً، سمع من خاله أبي بكر أحمد بن مسعود الزهري، وولد سنة تسع عشرة وثلاثمائة بمصر، وتوفي بقرطبة في ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، رحمه الله تعلى. 68 - ومن الواردين على الأندلس من المشرق رئيس المغنين أبو الحسن علي بن نافع، الملقب بزرياب (1) ، مولى أمير المؤمنين المهدي العباسي، قال في " المقتبس ": زياب لقب غلب عليه ببلاده من أجل سواد لونه، مع فصاحة لسانه، وحلاوة شمائله، شبه بطائر أسود غرد عندهم، وكان شاعراً مطبوعاً، وكان ابنه أحمد قد غلب عليه الشعر أيضاً، وكان من خبره في الوصول إلى الأندلس أنه كان تلميذاً لإسحاق الموصلي ببغداد، فتلقف من أغانيه استراقاً، وهدي من فهم الصناعة وصدق العقل مع طيب الصوت وصورة الطبع إلى ما فاق به إسحاق، وإسحاق لا يشعر بما فتح عليه، إلى أن جرى بالرشيد مع إسحاق خبره المشهور في الاقتراح عليه بمغنٍ غريب مجيد للصنعة، لم يشتهر مكانه إليه، فذكر له تلميذه هذا، وقال: إنه مولىً لكم، وسمعت له نزعات حسنة، ونغمات رائقة ملتاطة بالنفس، إذا أنا وقفته على ما استغرب منها وهو من اختراعي واستنباط فكري، أحدث أن يكون له شأن، وقال الرشيد: هذا طلبتي، فأحضرنيه لعل حاجتي عنده، فأحضره، فلما كلمه الرشيد أعرب عن نفسه

_ (1) انظر الجزء الأول من النفح: 344، وقد توفي زرياب سنة 238 قبل وفاة الأمير عبد الرحمن بأربعين يوما (المقتبس: 87 وترجته فيه قد سقطت) ؛ وانظر المغرب 1: 51.

بأحسن منطق وأوجز خطاب، وسأله عن معرفته بالغناء، فقال: نعم أحسن منه ما يحسنه الناس، وأكثر ما أحسنه لا يحسنونه، مما لا يحسن إلا عندك ولا يدخر إلا لك، فإن أذنت غنيتك ما لم تسمعه أذن قبلك، فأمر بإختصار عود أستاذه إسحاق، فلما أدني إليه وقف عن تناوله، وقال: لي عود نحته بيدي وأرهفته بإحكامي، ولا أرتضي غيره، وهو بالباب، فليإذن لي أمير المؤمنين في استدعائه، فأمر بإدخاله إليه، فلما تأمله الرشيد وكان شبيهاً بالعود الذي دفعه قال له: ما منعك أن تستعمل عود أستاذك فقال: إن كان مولاي يرغب في غناء أستاذي غنيته بعوده، وإن كان يرغب في غنائي فلا بد لي من عودي، فقال له:ما أراهما إلا واحداً، فقال: صدقت يا مولاي، ولا يؤدي النظر غير ذلك، ولكن عودي وإن كان في قدر جسم عوده ومن جنس خشبه فهو يقع من وزنه في الثلث أو نحوه، وأوتاري من حرير لم يغزل بماء سخن يكسبها أناثه ورخاوة، وبمها ومثلثها اتخذتهما من مصران شبل أسد، فلها في الترنم والصفاء والجهارة والحدة أضعاف ما لغيرها من مصران سائر الحيوان، ولها من قوة الصبر على تأثير وقع المضارب المتعاورة بها ما ليس لغيرها، فاستبرع الرشيد وصفه وأمره بالغناء، فجس، ثم اندفع فغناه: يا أيّها الملك الميمون طائره ... هارون راح إليك الناس وابتكروا فأتم النوبة، وطار الرشيد طرباً، وقال لإسحاق: والله لولا أني أعلم من صدقك لي على كتمانه إياك لما عنده وتصديقه لك من أنك لم تسمعه قبل لأنزلت بك العقوبة لتركك إعلامي بشأنه، فخذه إليك واعتن بشأنه، حتى أفرغ له، فإن لي فيه نظراً، فسقط في يد إسحاق، وهاج به من داء الحسد ما غلب صبره، فخلا بزرياب وقال: يا علي، إن الحسد أقدم الأدواء وأدواها، والدنيا فتانة، والشركة في الصناعة عداوة، لا حيلة في حسمها وقد مكرت بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلو طبقتك، وقصدت منفعتك

فإذا أنا قد أتيت نفسي من مأمنها بإدنائك، وعن قليل تسقط منزلتي، وترتقي أنت فوقي، وهذا ما لا أصاحبك عليه ولو أنك ولدي، ولولا رعيي لذمة تربيتك لما قدمت شيئاً على أن أذهب نفسك، يكون في ذلك ما كان، فتخير في ثنتين لا بد لك منهما: إما أن تذهب عني في الأرض العريضة لا أسمع لك خبراً بعد ذلك الأيمان الموثقة، وأنهضك لذلك بما أردت من مال وغيره، وإما أن تقيم على كرهي ورغمي مستهدفاً إلي، فخذ الآن حذرك مني فلست والله أبقي عليك، ولا أدع اغتيالك باذلاً في ذلك بدني ومالي، فاقض قضاءك. فخرج زرياب لوقته، وعلم قدرته على ما قال، واختار الفرار قدامه، فأعانه إسحاق على ذلك سريعاً، وراش جناحه، فرحل عنه، ومضى يبغي مغرب الشمس، واستراح قلب إسحاق منه. وتذكر الرشيد بعد فراغه من شغل كان منغمساً فيه، فأمر إسحاق بحضوره، فقال: ومن لي به يا أمير المؤمنين ذاك غلام مجنون يزعم أن الجن تكلمه وتطارحه ما يزهى به من غنائه، فما يرى في الدنيا من يعد له، وما هو إلا أن أبطأت عليه جائزة أمير المؤمنين وترك استعادته، فقدر التقصير به والتهوين بصناعته، فرحل مغاضباً ذاهباً على وجهه مستخفياً عني، وقد صنع الله تعالى في ذلك لأمير المؤمنين، فإنه كان به لمم يغشاه ويفرط خطبه، فيفزع من رآه، فسكن الرشيد إلى قول إسحاق، وقال: على ما كان به فقد فتنا منه سرور كثير. ومضى زرياب إلى المغرب فنسي بالمشرق خبره، غذ لم يكن اسمه شهر هنالك شهرته بالصقع الذي قطنه ونزعت إليه نفسه وسمت به همته، فأم أمير الأندلس الحكم المباين لمواليه، وخاطبه وذكر له نزاعه إليه واختباره إياه ويعلمه بمكانه من الصناعة التي ينتحلها وسأله الإذن في الوصول إليه، فسر الحكم بكتابه وأظهر له من الرغبة فيه والتطلع إليه وإجمال الموعد ما تمناه، فسار زرياب نحوه بعياله وولده، وركب بحر الزقاق إلى الجزيرة الخضراء، فلم يزل بها حتى توالت عليه الأخبار بوفاة الحكم، فهم بالرجوع إلى العدوة، فكان معه منصور

اليهودي المغني رسول الحكم إليه، فثناه عن ذلك ورغبه في قصد القائم مقام الحكم، وهو عبد الرحمن ولده، وكتب إليه بخبر زرياب، فجاءه كتاب عبد الرحمن يذكر تطلعه إليه والسرور بقدومه عليه، وكتب إلى عماله على البلاد أن يحسنوا إليه ويوصلوه إلى قرطبة، وأمر خصياً من أكابر خصيانه أن يتلقاه ببغال ذكور وإناث وآلات حسنة، فدخل هو وأهله البلد ليلاً صيانةً للحرم، وأنزله في دار من أحسن الدور، وحمل إليها جميع ما يحتاج إليه، وخلع عليه، وبعد ثلاثة أيام استدعاه، وكتب له في كل شهر بمائتي دينار راتباً، وأن يجرى على بنيه الذين قدموا معه - وكانوا أربعة: عبد الرحمن، وجعفر، وعبيد الله، ويحيى - عشرون ديناراً لكل واحد منهم كل شهر، وأن يجرى على زرياب من المعروف العام ثلاثة آلاف دينار، منها لكل عيد ألف دينار، ولكل مهرجان ونوروز خمسمائة دينار، وأن يقطع له من الطعام العام ثلاثمائة مدي ثلثاها شعير وثلثها قمح، وأقطعه من الدور والمستغلات بقرطبة وبساتينها ومن الضياع ما يقوم بأربعين ألف دينار. فلما قضى له سؤله وأنجز موعوده (1) وعلم أن قد أرضاه وملك نفسه استدعاه، فبدأ بمجالسته على النبيذ وسماع غنائه، فما هو إلا أن سمعه فاستهوله واطرح كل غناء سواه، وأحبه حباً شديداً وقدمه على جميع المغنين، وكان لما خلا به أكرمه غاية الإكرام وأدنى منزلته وبسط أمله، وذاكره في أحوال الملوك وسير الخلفاء ونوادر العلماء، فحرك منه بحراً زخر عليه مده، فأعجب الأمير به وراقه ما أورده، وحضر وقت الطعام فسرفه بالأكل معه هو وأكابر ولده، ثم أمر كاتبه بأن يعقد له صكاً بما ذكرناه آنفاً، ولما ملك قلبه واستولى عليه حبه فتح له باباً خاصاً يستدعيه منه متى أراده. وذكر أن زرياباً ادعى أن الجن كانت تعلمه كل ليلة ما بين نوبة إلى

_ (1) ق: موعده.

صوت واحد، كان يهب من نومه سريعاً فيدعو بجاريتيه غزلان وهنيدة، فتأخذان عودهما، ويأخذ هو عوده، فيطارحهما ليلته ويكتب الشعر ثم يعود عجلاً إلى مضجعه، وكذلك يحكى عن إبراهيم الموصلي في لحنه البديع المعروف بالماخوري أن الجن طارحته إياه، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك. وزاد زرياب بالأندلس في أوتار عوده وتراً خامساً اختراعاً منه، إذ لم يزل العود ذا أربعة أوتار على الصنعة القديمة التي قوبلت بها الطبائع الأربع، فزاد عليها وتراً خامساً أحمر متوسطاً، فاكتسب به عوده ألطف معنى وأكمل فائدة، وذلك أن الزير صبغ أصفر اللون، وجعل في العود بمنزلة الصفراء من الجسد، صبغ الوتر الثاني بعده أحمر، وهو من العود مكان الدم من الجسد، وهو في الغلظ ضعف الزير، ولذلك سمي مثنى، وصبغ الوتر الرابع أسود، وجعل من العود مكان السوداء من الجسد، وسمي البم، وهو أعلى أوتار العود، وهو ضعف المثلث الذي عطل من الصبغ وترك أبيض اللون، وهو من العود بمنزلة البلغم من الجسد، وجعل ضعف المثنى في الغلظ، ولذلك سمي المثلث، فهذه الأربعة من الأوتار مقابلة للطبائع الأربع تقضي طبائعها بالعتدال، فالبم حار يابس يقابل المثنى وهو حار رطب وعليه تسويته، والزير حار يابس يقابل المثلث وهو حار رطب، قوبل كل طبع بضده حتى اعتدل واستوى كاستواء الجسم بأخلاطه، إلا أنه عطل من النفس، والنفس مقرونة بالدم، فأضاف زرياب من أجل ذلك إلى الوتر الأوسط الدموي هذا الوتر الخامس الأحمر الذي اخترعه بالأندلس، ووضعه تحت المثلث (1) وفوق المثنى، فكمل في عوده قوى الطبائع الأربع، وقام الخامس المزيد مقام النفس في الجسد. وهو الذي اخترع بالأندلس مضراب العود من قوادم النسر، معتاضاً به من مرهف الخشب، فأبرع في ذلك للطف قشر الريشة ونقائه وخفته على

_ (1) ق: المثلثة.

الأصابع وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إياه. وكان زرياب عالماً بالنجوم وقسمة الأقاليم السبعة واختلاف طبائعها وأهويتها وتشعب بحارها وتصنيف بلادها وسكانها، مع ما سنح له من فك كتاب الموسيقى، مع حفظه لعشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها، وهذا العدد من الألحان غاية ما ذكره بطليموس واضع هذه العلوم ومؤلفها. وكان زرياب قد جمع إلى خصاله هذه الاشتراك في كثير من ضروب الظرف وفنون الأدب، ولطف المعاشرة، وحوى من آداب المجالسة وطيب المحادثة ومهارة الخدمة الملوكية ما لم يجده أحد من أهل صناعته، حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنه لهم من آدابه، واستحسنه من أطعمته، فصار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوباً إليه معلوماً به: فمن ذلك أنه دخل إلى الأندلس وجميع من فيها من رجل أو امرأة يرسل جمته مفروقاً وسط الجبين عاماً للصدغين والحاجبين، فلما عاين ذوو التحصيل تحذيفه هو وولده ونساؤه لشعورهم، وتقصيرها دون جباههم، وتسويتها مع حواجبهم، وتدويرها إلى آذانهم، ولإسبالها إلى أصداغهم - حسبما عليه اليوم الخدم الخصية والجواري - هوت إليه أفئدتهم، واستحسنوه. ومما سنه استعمال المرتك المتخذ من المرداسنج لطرد ريح الصنان من مغابنهم، ولا شيء يقوم مقامه، وكانت ملوك الأندلس تستعمل قبلة ذرور الورد وزهر الريحان وما شاكل ذلك من ذوات القبض والبرد، فكانوا لا تسلم ثيابهم من وضر، فدلهم على تصعيدها بالملح، وتبييض لونها، فلما جربوه أحمدوه جداً. وهو أول من اجتنى بقلة الهليون المسماة بلسانهم الإسفراج (1) ، ولم يكن أهل الأندلس يعرفونها قبله. ومما اخترعوه من الطبيخ اللون المسمى عندهم بالتفايا (2) ، وهو مصطنع بماء الكزبرة

_ (1) في مفردات ابن البيطار: الاسفزاج، والصواب بالراء المهملة، وهو يقابل (Asparagus) . (2) التفايا: عددها صاحب كتاب الطبيخ من بسائط الأطعمة وهي أنواع منها التفايا البيضاء وتحضر من لحم الضأن الفتي السمين في قطع صغار ويضاف إليها ملح وفلفل وكزبرة يابسة ويسير من ماء بصلة مدقوقة ومغرفة من الزيت العذب وماء وتجعل على نار لينة وتحرك، ويجعل فيها بندق ولوز مقشر مقسوم، فإذا اردتها خضراء أضفت إليها ماء الكزبرة الرطبة، ومنها تفايا مبيضة وأخرى مقلية وأنواع منها مشرقية (كتاب الطبيخ 85 - 88، 118 - 119) .

الرطبة محلى بالسنبوسق والكباب، ويليه عندهم لون التقلية المنسوبة إلى زرياب. ومما أخذه عنه الناس بالأندلس تفضيلة آنية الزجاج الرفيع على آنية الذهب والفضة، وإيثاره فرش أنطاع الأديم اللينة الناعمة على ملاحف الكتان، واختياره سفر الأديم لتقديم الطعام فيها على الموائد الخشبية إذ الوضر يزول عن الأديم بأقل مسحة، ولبسه كل صنف من الثياب في زمانه الذي يليق به، فإنه رأى أن يكون ابتداء الناس للباس البياض وخلعهم للملون من يوم مهرجان أهل البلد المسمى عندهم بالعنصرة الكائن في ست بقين من شهر يونية الشمسي من شهورهم الرومية، فيلبسونه إلى أول شهر أكتوبر الشمسي منها ثلاثة أشهر متوالية ويلبسون بقية السنة الثياب الملونة، ورأى أن يلبسوا في الفصل الذي بين الحر والرد المسمى عندهم الربيع من مصبغهم جباب الخز والملحم والمحرر والدراريع التي لا بطائن لها لقربها من لطف ثياب البياض الظهائر التي ينتقلون إليها لخفتها وشبهها بالمحاشي، ثياب العامة، وكذا رأى أن يلبسوا في آخر الصيف وعند أول الخريف المحاشي المروية والثياب المصمتة وما شاكلها من خفائف الثياب الملونة ذوات الحشو والبطائن الكثيفة، وذلك عند قرس البرد في الغدوات، إلى أن يقوى البرد فينتقلوا إلى أثخن منها من الملونات، ويستظهرون من تحتها إذا احتاجوا إلى صنوف الفراء. واستمر بالأندلس أن كل من افتتح الغناء قيبدأ بالنشيد أول شدوه بأي نقر كان، ويأتي إثره بالبسيط، ويختم بالمحركات والأهزاج تبعاً لمراسم زرياب. وكان إذا تناول الإلقاء على تلميذ يعلمه أمره بالقعود على الوساد المدور المعروف بالمسورة، وأن يشد صوته جداً إذا كان قوي الصوت، فإن كان لينه أمره أن يشد على بطنه عمامة، فإن ذلك مما يقوي الصوت، ولا يجد متسعاً في الجوف

عند الخروج على الفم، فإن كان ألص الأضراس لا يقدر على أن يفتح فاه، أو كانت عادته زم أسنانه عند النطق، راضه بأن يدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاث أصابع يبيتها في فمه ليالي حتى ينفرج فكاه، وكان إذا أراد أن يختبر المطبوع الصوت المراد تعليمه من غير المطبوع أمره أن يصيح بأقوى صوته: ياحجام، أو يصيح: آه، ويمد بها صوته، فإن سمع صوته بهما صافياً ندياً قوياً مؤدياً لا يعتريه غنة ولا حبسة ولا ضيق نفس عرف أن سوف ينجب وأشار بتعليمه، وإن وجده خلاف ذلك أبعده. وكان له من ذكور الولد ثمانية: عبد الرحمن وعبيد الله ويحيى وجعفر ومحمد وقاسم وأحمد وحسن. ومن الإناث ثنتان: علية وحمدونة. وكلهم غنى ومارس الصناعة، واختلفت بهم الطبقة، فكان أعلاهم عبد الله ويتلوه عبد الرحمن، لكنه ابتلي من فرط التيه وشدة الزهو وكثرة العجب بغنائه والذهاب بنفسه بما لم يكن له شبه فيه، وقلما يسلم مجلس حضوره من كدر يحدثه، ولا يزال يجترىء على الملوك، ويستخف بالعظماء، ولقد حمله سخفه على أن يحضر يوماً مجلس بغض الأكابر الأعاظم في أنس قد طاب به سروره، وكان صاحب قنص تغلب عليه لذته، فاستدعى بازياً كان كلفاً به كثير التذكر له، فجعل يمسح أعطافه ويعدل قوادمه ويرتاح لنشاطه، فسأله عبد الرحمن أن يهبه له، فاستحيا من رده وأعطاه إياه مع ضنه به، فدفعه عبد الرحمن إلى غلامه ليعجل به إلى منزله، وأسر إليه فيه بسر لم يطلع عليه، فمضى لشأنه، ولم يلبث أن جاءه بطيفورية مغطاة مكرمة بطابع مختوم عليها من فضة، فغذا به لون مصوص قد اتخذ من البازي بعد ذبحه على ما حده لأهله، وذهب إلى الإنتقال عليه في شرابه، وقال لصاحب المجلس: شاركني في نقلي هذا فإنه شريف المركب (1) بديع الصنعة، فلما رآه الرجل أنكر صفته وعاب

_ (1) ق ودوزي: الموكب؛ والمركب يعني التركيب.

لحمه، وسأله عنه، فقال: هو البازي الذي كنت تعظم قدره، ولا تصبر عنه، قد صيرته إلى ما ترى، فغضب صاحب المنزل حتى ربا في أثوابه وفارقه حلمه وقال له: قد كان والله أيها الكلب السفيه على ما قدرته وما اقتديت فيه إلا بكبار الناس المؤثرين لمثله، وما أسعفتك به إلا معظماً من قدرك ما صغرت من قدري، وأظهرت من هوان السنة عليك باستحلالك لسباع الطير المنهي عنها، ولا أدع والله الآن تأديبك إذ أهملك أبوك معلم الناس المروءة، ودعا له بالسوط وأمر بنزع قلنسوته وساط هامته مائة سوط، فاستحسن جميع الناس فعله وأبوا الشماتة به. وكان محمد منهم مؤنثاً، وكان قاسمهم أحذاقهم غناء مع تجويده، وتزوج الوزير هشام بن عبد العزيز حمدونة. وذكر الشاعر أن أول من دخل الأندلس من المغنين علون وزرقون، دخلا في أيام الحكم بن هشام، فنفقا عليه، وكانا محسنين، لكن غناؤهما ذهب لغلبة غناء زرياب عليه. وقال عبد الرحمن بن الشمر منجم الأمير عبد الرحمن ونديمه في زرياب: يا عليّ بن نافعٍ يا عليّ ... أنت أنت المهذّب اللّوذعيّ أنت في الأصل حين يسأل عنه ... هاشميّ وفي الهوى عبشميّ وقال ابن سعيد: وأنشد لزرياب والدي في معجمه: علّقتهما ريحانةً ... هيفاء عاطرةً نضيره بين السمينة والهزي ... لة والطويلة والقصيره لله أيامٌ لنا ... سلفت على دير المطيره لاعيب فيها للمتيّ ... م غير أن كانت يسيره انتهى.

وكان لزرياب جارية اسمها متعة، أدّبها وعلّمها أحسن أغانيه حتى شبت، وكانت رائعة الجمال، وتصرفت بين يدي الأمير عبد الرحمن بن الحكم تغنيه مرة وتسقيه أخرى، فلما فطنت لإعجابه بها أبدت له دلائل الرغبة، فأبى إلا التستر، فغنته بهذه الأبيات، وهي لها في ظن بعض الحفاظ: يا من يغطّي هواه ... من ذا يغطّي النهارا قد كنت أملك قلبي ... حتى علقت فطارا يا ويلتا أتراه ... لي كان، أو مستعارا يا بأبي قرشيٌّ ... خلعت فيه العذارا فلما انكشف لزرياب أمرها أهداها إليه فحظيت عنده. وكانت حمدونة بنت زرياب متقدمة في أهل بيتها، محسنة لصناعتها، متقدمة على أختها علية، وهي زوجة الوزير هاشم بن عبد العزيز كما مر، وطال عمر علية بعد أختها حمدونة، ولم يبق من أهل بيتها غيرها، فافتقر الناس إليها، وحملوا عنها. وكانت مصابيح جارية الكاتب أبي حفص عمر بن قلهيل أخذت عن زرياب الغناء، وكانت غاية في الإحسان والنبل وطيب الصوت، وفيها يقول ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، وكتب به إلى مولاها (1) : يا من يضنّ بصوت الطائر الغرد ... ما كنت أحسب هذا الضنّ من أحد لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة ... أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد من أبيات، فخرج حافياً لما وقف على ذلك، وأدخله إلى مجلسه، وتمتع من سماعها، رحم الله تعالى الجميع.

_ (1) انظر الجذوة: 95.

وقال علويه: كنت مع المأمون لما قدم الشام، فدخلنا دمشق، وجعلنا نطوف فيها على قصور بني أمية، فدخلنا قصراً مفروشاً بالرخام الأخضر، وفيه بركة يدخلها الماء ويخرج منها فيسقي بستاناً، وفي القصر من الأطيار ما بغني صوته عن العود والمزمار، فاستحسن المأمون ما رأى، وعزم على الصبوح، فدعا بالطعام فأكلنا وشربنا، ثم قال لي: غن بأطيب صوت وأطربه، فلم يمر على خاطري غير هذا الصوت: لو كان حولي بنو أميّة لم ... ينطق رجال أراهم نطقوا فنظر إلي مغضباً، وقال: عليك لعنة الله وعلى بني أمية، فعلمت أني قد أخطأت، فجعلت أعتذر من هفوتي، وقلت: يا أمير المؤمنين، أتلومني أن أذكر موالي بني أمية، وهذا زرياب مولاك عندهم بالأندلس، يركب في أكثر من مائة مملوك وفي ملكه ثلاثمائة ألف دينار دون الضياع، وإني عندكم أموت جوعاً، وفي الحكاية طول واختلاف، ومحل الحاجة منها ما يتعلق بزرياب، رحم الله تعالى الجميع. وذكرها الرقيق في كتاب " معاقرة الشراب " على غير هذا الوجه، ونصه: وركب المأمون يوماً من دمشق يريد جبل الثلج، فمر ببركة عظيمة من برك بني أمية، وعلى جانبها أربع سروات، وكان الماء يدخل سيحاً، فاستحسن المأمون الموضع، ودعا بالطعام والشراب، وذكر بني أمية، فوضع منهم وتنقصهم، فأخذ علويه العود واندفع يغني: أرى أسرتي في كلّ يومٍ وليلةٍ ... يروح بهم داعي المنون ويغتدي أولئك قومٌ بعد عزّ وثروة ... تفانوا فإلاّ أذرف العين أكمد فضرب المأمون بكأسه الأرض، وقال لعلويه: يا ابن الفاعلة، لم يكن لك وقت تذكر مواليك فيه إلا هذا الوقت فقال: مولاكم زرياب عند موالي بالأندلس يركب في مائة غلام، وأنا عندكم بهذه الحالة! فغضب عليه نحو شهر، ثم

رضي عنه، انتهى. ونحوه لابن الرقيق في كتابه " قطب السرور " وقال في آخر الحكاية: وأنا عندكم أموت من الجوع، ثم قال: وزرياب مولى المهدي، ووصل إلى بني أمية بالأندلس فعلت حاله، حتى كان كما قال علويه، انتهى. ولما غنى زرياب بقوله (1) : ولو لم يشقني الظاعنون لشاقني ... حمام تداعت في الديار وقوع تداعين فاستبكين من كان ذا هوى ... نوائح ما تجري لهنّ دموع ذيلها عباس بن فرناس يمدح بعض الرؤساء بديهة فقال: شددت بمحمودٍ يداً حين خانها ... زمانٌ لأسباب الرجاء قطوع بنى لمساعي الجود والمجد قبلةً ... إليها جميع الأجودين ركوع وكان محمود جواداً، فقال له: يا أبا القاسم، أعز ما يحضرني من مالي القبة، يعني قبة قامت عليه بخمسمائة دينار، وهي لك بما فيها مع كسوتي هذه، ونكون في ضيافتك بقية يومنا، ودعا بكسوة فلبسها، ودفع إليه الكسوة. 69 - ومن الوافدين من المشرق الأمير شعبان بن كوجبا (2) ، من غز الموصل، وفد على أمير المؤمنين يعقوب المنصور ملك الموحدين، ورفع له أمداحاً جليلة، وقدمه على إمارة مدينة بسطة من الأندلس. قال أبو عمران بن سعيد: أنشدني لنفسه: يقولون إن العدل في الناس ظاهر ... ولم أر شيئاً منه سرّاً ولا جهرا

_ (1) الشعر لذي الرمة في ديوانه: 352. (2) ق: كوحيا؛ وقد ذكر عبد الواحد المراكشي " شعبان الغزي " دون أن يذكر اسم أبيه في المعجب 367، وقال إنه سأله أن يكتب من شعره فأبى، وكان ربما يدرت له الأبيات الجيدة.

ولكن رأيت الناس غالب أمرهم ... إذا ما جنى زيد أقادوا به عمرا وإلاّ فما بال النطاسيّ كلّما ... شكوت له يمنى يدي فصد اليسرى 70 - ومن الوافدين من المشرق على الأندلس أبو اليسر إبراهيم بن أحمد الشيباني (1) ، من أهل بغداد، وسكن القيروان، ويعرف بالرياضي، وكان له سماع ببغداد، من جلة المحدثين والفقهاء والنحويين، لقي الجاحظ والمبرد وثعلباً وابن قتيبة، ولقي من الشعراء أبا تمام والبحتري ودعبلاً وابن الجهم، ومن الكتاب سعيد ابن حميد وسليمان بن وهب وأحمد بن أبي طاهر وغيرهم، وهو الذي أدخل إفريقية رسائل المحدثين وأشعارهم وطرائف أخبارهم، وكان عالماً أديباً، ومرسلاً بليغاً، ضارباً في كل علم وأدبن سمع وكتب بيده أكثر كتبه، مع براعة خطه وحسن وراقته. وحكي أنه كتب على كبره كتاب سيبويه كله بقلم واحد، ما زال يبريه حتى قصر، فأدخله في قلم آخر، وكتب به حتى فني بتمام الكتاب. وله تآليف: منها " لقيط المرجان " وهو أكبر من " عيون الأخبار "، وكتاب " سراج الهدى " في القرآن ومشكلة إعرابه ومعانيه، و " المرصعة " و " المدبجة ". وجال في البلاد شرقاً وغرباً من خراسان إلى الأندلس، وقد ذكر ذلك في أشعار له. وكان أديب الأخلاق، نزيه النفس، كتب لأمير إفريقية إبراهيم بن أحمد بن الأغلب، ثم لإبنه أبي العباس عبد الله، وكان أيام زيادة الله ابن عبد الله آخر ملوك الأغالبة على بيت الحكمة، وتوفي بالقيروان سنة ثمان وتسعين ومائتين في أول ولاية عبيد الله الشيعي، وهو ابن خمس وسبعين سنة. وممن ألم بذكره المؤرخ الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم المعروف بالرقيق. وقال عريب بن سعد في حقه: إنه كان أديباً شاعراً مرسلاً حسن التأليف،

_ (1) ترجمة أبي اليسر الرياضي في التكملة: 173.

وقدم الأندلس على الإمام محمد بن عبد الرحمن، وذكر له معه قصة ذكرها ابن الأبار في كتابه " إفادة الوفادة " وحكى أن له مسنداً في الحديث، وكتاباً في القرآن سماه " سراج الهدى " والرسالة الوحيدة، والمؤنسة، وقطب الأدب، وغير ذلك من الأوضاع. قال: وكتب لبني الأغلب حتى انصرمت أيامهم، ثم كتب لعبيد الله حتى مات، ومن الرواة عنه أبوة سعيد عثمان بن سعيد الصيقل مولى زيادة الله بن الأغلب، وأسند إليه الحافظ ابن الأبار رواية شعر أبي تمام بأن قال: قرأت شعر حبيب علي أبي الربيع بن سالم، وقرأت جملة منه على غيره، وناولني جميعه وحدثني به عن أبي عبد الله بن زرقون عن الخولاني عن ابي القاسم حاتم بن محمد عن أبي غالب تمام بن غالب بن عمر اللغوي عن أبيه أبي تمام عن أبي سعيد المذكور، يعني ابن الصيقل، عن أبي اليسر عن حبيب، وهو إسناد غريب، انتهى. 71 - ومنهم إبراهيم بن خلف بن منصور، الغساني، الدمشقي، أبو اسحاق المعروف بالسنهوري (1) - وسنهور: من بلاد مصر - روى عن أبي القاسم ابن عساكر وأبي اليمن الكندي وأبي المعالي الفراوي وأبي الطاهر الخشوعي وغيرهم. قال أبو العباس النباتي: قدم علينا - يعني إشبيلية - سنة ثلاث وستمائة، وسمى جماعة من شيوخه، وحكى أنه كان يروي موطأ أبي مصعب وصحيح مسلم بعلو. وقال أبو سليمان ابن حوط الله: أجازني وابني محمداً جميع ما رواه عن شيوخه الذين منهم أبو الفخر فناخسرو بن فيروز الشيرازي، وذكر أن روايته بنزول، لأنه لم يرحل إلا بعد وفاة الشيوخ المشاهير بهذا الشأن. وقال أبو الحسن ابن القطان، وسماه في شيوخه: قدم علينا تونس سنة

_ (1) ترجمة السنهوري في التكملة: 176.

اثنتين وستمائة، واستجزته لابني حسن فأجازه وإياي، قال: وانصرف من تونس إلى المغرب، ثم الأندلس، وقدم علينا بعد ذلك مراكش مفلتاً من الأسر، فظهر في حديثه عن نفسه تجازف واضطراب وكذب زهد فيه، وإثر ذلك انصرف إلى المشرق راجعاً، وقد كان إذا أجاز ابني كتب ببخطه جملة من أسانيده وسمى كتباً منها الموطأ والصحيحان وغير ذلك، قال: وقد تبرأت من عهدة جميعه لما أثبتوا من حاله، وحدثني أبو القاسم ابن أبي كرامة صاحبنا بتونس أن السنهوري هذا لما انصرف إلى مصر امتحن بملكها الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب لأجل معاداته أبا الخطاب ابن الجميل، فضرب بالسياط، وطيف به على جمل مبالغة في إهانته، انتهى. وقال بعض المؤرخين في حقه ما نصه: الشيخ المحدث الرالة إبراهيم السنهوري صاحب الرحلة إلى البلاد، دخل الأندلس كما ذكره ابن النجار وغيره، وهو الذي ذكر لمشايخ الأندلس وعلمائها أن الشيخ أبا الخطاب ابن دحية يدع يأنه قرأ على جماعة من شيوخ الأندلس القدماء، فأنكروا ذلك وأبطلوه وقالوا: لم يلق هؤلاء ولا أدركهم وإنما اشتغل بالطلب أخيراً، وليس نسبه بصحيح فيما يقوله، ودحية لم يعقب، فكتب السنهوري محضراً وأخذ خطوطهم فيه بذلك، وقدم به ديار مصر، فعلم أبو الخطاب ابن دحية بذلك، فاشتكى إلى السلطان منه، وقال: هذا يأخذ عرضي ويؤذيني، فأمر السلطان بالقبض عليه، فقبض وضرب بالسياط (1) وأشهر على حمار، وأخرج من ديار مصر، وأخذ ابن دحية المحضر وحرقه، ولم يزل ابن دحية على قرب من السلطان إلى حين وفاته، وبنى له داراً للحديث، وهي الكاملية ببين القصرين، فلم يزل يحدث بها إلى أن مات. وقد ذكرنا في ترجمة ابن دحية من هذا الكتاب شيئاً من أحواله وأن الناس

_ (1) بالسياط: سقطت من ق.

فيه معتقد ومنتقد، وهكذا جرت العادة خصوصاً في حق الغريب المنتسب للعلم: " وعند الله تجتمع الخصوم " ... وممن كان عليه لا له أبو المحاسن محمد بن نصر المعروف بابن عنين فإنه قال فيه (1) : دحية لم يعقب فلم تعتزي ... إليه بالبهتان والإفك ما صحّ عند الناس شيء سوى ... أنّك من كلبٍ بلا شكّ هكذا ذكره ابن النجار، وأطال في الوقيعة في أبي الخطاب ابن دحية. وقال الذهبي: قرأت بخط الضياء عندما ذكر ابن دحية أنه قال: لقيته بأصبهان، ولم أسمع منه شيئاً، وأخبرني إبراهيم السنهوري بأصبهان أنه دخل المغرب وأن مشايخه كتبوا له جرحه وتضعيفه، وقد رأيت أنا منه غير شيء مما يدل على ذلك، وبسببه بنى السلطان الملك الكامل دار الحديث بالقاهرة وجعله شيخها، وقد سمع منه الإمام أبو عمرو ابن الصلاح الموطأ سنة نيف وستمائة، وأخبره به عن جماعة منهم أبو عبد الله ابن زرقون. وقال ابن واصل: كان أبو الخطاب، مع معرفته بالحديث، وحفظه الكثير منه، متهماً بالمجازفة في النقل، وبلغ ذلك الملك العادل فأمره أن يعلق على كتاب " الشهاب "، فعلق كتاباً تكلم فيه على أحاديثه وأسانيده، فلما وقف الملك الكامل على ذلك قال له بعد أيام: قد ضاع مني ذلك الكتاب، فعلق لي مثله، ففعل، فجاء في الثاني مناقضة للأول، فعلم الملك الكامل صحة ما قيل عنه، ونزلت مرتبته عنده، وعزله عن دار الحديث أخيراً، وولى أخاه أبا عمرو عثمان.

_ (1) ديوان ابن عنين: 220.

وقال ابن نقطة: كان أبو الخطاب موصوفاً بالمعرفة والفضل ولم أره، إلا أنه كان يدعي أشياء لا حقيقة لها، ذكر لي أبو القاسم بن عبد السلام - وكان ثقة - قال: نزل عندنا ابن دحية فقال: إني أحفظ صحيح مسلم والترمذي، فأخذت خمسة أحاديث من الترمذي ومثلها من المسند ومثلها من الموضوعات، فجعلتها في جزء، ثم عرضت عليها حديثاً من الترمذي فقال: ليس بصحيح، وآخر فقال: لا أعرفه، ولم يعرف منها شيئاً، فأفسد نفسه بذلك. وقال سبط ابن الجوزي (1) : إنه كان يتزيد في كلامه، ويثلب المسلمين، ويقع فيهم، فترك الناس الرواية عنه وكذبوه، وقد كان الملك الكامل مقبلاً عليه، فلما انكشف له شأنه أخذ منه دار الحديث وأهانه. وقال العماد بن كثير: قد تكلم الناس فيه بأنواع من الكلام، ونسبه بعضهم إلى وضع حديث في قصر صلاة المغرب، وكنت أود أن أقف على إسناده ليعلم كيف رجاله، وقد أجمع العلماء - كما ذكره ابن المنذر وغيره - على أن صلاة المغرب لا تقصر، واتفق أنه وصل في جمادى الأولى سنة 616 إلى غزة، فخرج كل من في غزة بالأسلحة والعصي والحجارة إلى الموضع الذي هو فيه، وضربوه ضرباً شديداً بعد أن انهزم من كان معه، انتهى. وقدمنا في ترجمته توثيق جماعة له، فربك أعلم بحاله. 72 - ومنهم عبد الله بن محمد بن آدم، القارئ، الخراساني (2) ، رحل من خراسان إلى الأندلس، يكنى أبا محمد، ذكره أبو عمرو المقرئ، وقال: سمعته يقرأ مرات كثيرة، فكان من أحسن الناس صوتاً، ولم تكن له معرفة بالقراءة ولا دراية بالأداء، انتهى.

_ (1) مرآة الزمان: 698. (2) التكملة: 913.

73 - ومنهم عبد الرحمن بن داود بن علي، الواعظ (1) ، من أهل مصر، يعرف بالزبزاري، يكنى أبا البركات وأبا القاسم، ويلقب زكي الدين، قدم على الأندلس وتجول في بلادها واعظاً ومذكراً، وسمع منه الناس بقرطبة وإشبيلية ومرسية وبلنسيا سنة 608. قال ابن الأبار: وسمعت وعظه إذ ذاك بالمسجد الجامع من بلنسيا، وادعى الرواية عن أبي الوقت السجزي والسلفي وأبي الفضل عبد الله بن أحمد الطوسي وأبي محمد بن المبارك بن الطباخ وأبي الفضل محمد بن يوسف الغزنوي وشهدة الكاتبة بنت الإبري، زعم أنه قرأ عليها صحيح البخاري، وجماعة بالمشرق والأندلس لم يلقهم ولم يسمع منهم، وربما حدث بواسطة عن بعضهم وأكثرهم مجهولون، وقفت على ذلك في فهرست روايته، فزهد أكثر السامعين منه، واطرحوا الرواية عنه، ومنهم أبو العباس النباتي وأبو عبد الله بن أبي البقاء وجمع أربعين حديثاً مسلسلة سماها باللآلئ المفصلة، حدث فيها عن ابن بشكوال وابن غالب الشراط وغيرهما من الأندلسيين الذين لم يلقهم ولا أجازوا له، أخذها عنه ابن الطيلسان وغيره، وكان - مع هذا - فقيهاً على مذهب الشافعي، رضي الله تعالى عنه، فصيحاً مشاركاً في فنون من العلم، سمح الله تعالى له، انتهى. ولا بأس أن نذكر جملة من النساء القادمات من المشرق على الأندلس، ثم نعود أيضاً إلى ذكر أعلام الرجال، فنقول: 74 - من النساء الداخلات الأندلس من المشرق عابدة المدنية، أم ولد حبيب ابن الوليد المرواني، المعروف بدحون. وكانت جارية سوداء من رقيق المدينة، حالكة اللون، غير أنها تروي عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة

_ (1) التكملة رقم: 1655.

وغيره من علماء المدينة، حتى قال بعض الحفاظ: إنها تروي عشرة آلاف حديث. وقال ابن الأبار: إنها تسند حديثاً كثيراً، وهي أم ولده بشر بن حبيب، والذي وهبها لدحون في رحلته إلى الحج هو محمد بن يزيد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان، فقدم بها الأندلس، وقد أعجب بعلمها وفهمها، واتخذها لفراشه، رحم الله تعالى الجميع. 75 - ومنهن فضل المدنية، وكانت حاذقة بالغناء، كاملة الخصال وأصلها لإحدى بنات هارون الرشيد، ونشأت وتعلمت ببغداد، ودرجت من هناك إلى المدينة المشرفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فازدادت ثم طبقتها في الغناء، واشتريت هناك للأمير عبد الرحمن صاحب الأندلس مع صاحبتها علم المدنية، وصواحب غيرها إليهن تنسب دار المدنيات بالقصر، وكان يؤثرهن لجودة غنائهن ونصاعة ظرفهن ورقة أدبهن، وتضاف إليهن جارية يقال لها قلم، وهي ثالثة فضل وعلم في الحظوة عند الأمير المذكور، وكانت أندلسية الأصل رومية من سبي البشكنس، وحملت صبية إلى المشرق، فوقعت بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلمت هنالك الغناء فحذقته، وكانت أديبة ذاكرة حسنة الخط، راوية للشعر حافظة للأخبار، عالمة بضروب الآداب. 76 - ومن النساء الداخلات إلى الأندلس من المشرق قمر جارية بن حجاج اللخمي، صاحب إشبيلية (1) ، وكانت من أهل الفصاحة والبيان والمعرفة بصوغ الألحان، وجلبت إلبه من بغداد، وجمعت أدباً وظرفاً، ورواية وحفظاً، مع فهم بارع، وجمال رائع، وكانت تقول الشعر بفضل

_ (1) التكملة رقم: 2114.

أدبها، ولها في مولاها تمدحه: ما في المغارب من كريم يرتجى ... إلاّ حليف الجود إبراهيم إنّي حللت لديه منزل نعمةٍ ... كلّ المنازل ما عداه ذميم وأنشد لها السالمي لما ذكرها عدة أشعار منها قولها تتشوق إلى بغداد: آهاً على بغدادها وعراقها ... وظبائها والسحر في أحداقها ومجالها عند الفرات بأوجه ... تبدو أهلّتها على أطواقها متبخترات في النّعيم كأنّما ... خلق الهوى العذريّ من أخلاقها نفسي الفداء لها فأيّ محاسن ... في الدهر تشرق من سنا إشراقها 77 - ومنهن الجارية العجفاء (1) ، قال الأرقمي (1) : قال لي أبو السائب - وكان من أهل الفضل والنسك - هل لك في أحسن الناس غناء فجئنا إلى دار مسلم بن يحيى مولى بني زهرة، فأذن لنا فدخلنا بيتاً عرضه اثنا عشر ذراعاً في مثلها، وطوله في السماء ستة عشر ذراعاً، وفي البيت نمرقتان قد ذهب عنهما اللحم وبقي السدى، وقد حشيتا بالليف، وكرسيان قد تفككا من قدمهما، ثم أطلعت علينا عجفاء كلفاء، عليها قرقل هروي أصفر غسيل، وكأن وركيها في خيط من رسحها (3) ، فقلت لأبي السائب: بأبي أنت! ما هذه فقال: اسكت، فتناولت عوداً فغنت (4) : بيد الذي شغف الفؤاد بكم ... تفريج ما ألقى من الهمّ فاستيقني أن قد كلفت بكم ... ثم افعلي ما شئت عن علم قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل الموت بالصرم

_ (1) هذا الخبر عن العجفاء في الأغاني 23: 285. (1) هذا الخبر عن العجفاء في الأغاني 23: 285. (3) ق ودوزي: من وسخها، والتصويب عن الأغاني. (4) الشعر لأبي صخر الهذلي (الأغاني 23: 282) .

قال: فتحسنت في عيني، وبدا ما أذهب الكلف عنها، وزحف أبو السائب وزحفت معه، ثم تغنت: برح الخفاء فأيما بك تكتم ... ولسوف يظهر ما تسرّ فيعلم ممّا تضمن من غريرة (1) قلبه ... يا قلب إنك بالحسان لمغرم يا ليت أنّك يا حسام بأرضنا ... تلقي المراسي طائعاً وتخيّم فتذوّق لذّة عيشنا ونعيمه ... ونكون إخواناً فماذا تنقم فقال أبو السائب: إن نقم هذا فأعضه الله تعالى بكذا وكذا من أبيه، ولا يكنى، فزحفت مع أبي السائب حتى فارقنا النمرقتين، وربت العجفاء في عيني كما يربو السويق بماء مزنة، ثم غنت: يا طول ليلي أعالج السقما ... إذ حلّ (2) كلّ الأحبّة الحرما ما كنت أخشى فراقكم أبداً ... فاليوم أمسى فراقكم عزما فألقيت طيلساني، وأخذت شاذكونة (3) فوضعتها على رأسي، وصحت كما يصاح على اللوبيا بالمدينة، وقام أبو السائب فتناول ربعة (4) في البيت فيها قوارير ودهن، فوضعها على رأسه، وصاح صاحب الجارية وكان ألثغ: قوانيي، يعني قواريري، فاصطكت القوارير وتكسرت، وسال الدهن على رأس أبي السائب وصدره، وقال للعجفاء: لقد هجت لي داء قديماً، ثم وضع الربعة. وكنا نختلف إليها حتى بعث عبد الرحمن بن معاوية صاحب الأندلس فابتيعت له العجفاء، وحملت إليه.

_ (1) الأغاني: عزيرة. (2) ق ودوزي: أدخل. (3) الشاذكونة: مضربة كبيرة. (4) الربعة: جونة العطار.

78 - ومن القادمين على الأندلس من المشرق الشيخ عبد القاهر بن محمد بن عبد الرحمن، الموصلي. قال أبو حيان: قدم علينا رسولاً من ملك مصر إلى ملك الأندلس، فسمعت منه بالمرية، انتهى. 79 - ومنهم أحمد بن الحسن بن الحارث بن عمرو بن جرير بن إبراهيم بن مالك، المعروف بالأشتر، ابن الحارث، النخعي (1) ، يكنى أبا جعفر، دخل الأندلس في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن، وأصله من الكوفة، وكان يروي أحاديث عظيمة العدد، ذكر ذلك الرازي، وحكى أن الأمير محمداً روى عنه منها، وأنزله برية. 80 - ومنهم أحمد بن أبي عبد الرحمن، واسمه يزيد بن أحمد بن أبي عبد الرحمن القرشي، الزهري، من ولد عبد الرحمن بن عوف (2) ، منأهل مصر، وفد على الناصر بقرطبة، وكان دخوله إليها في محرم سنة 343، فأكرم الناصر مثواه، وكان فقيه أهل مصر، ذكره ابن حيان. 81 - ومنهم أبو الطاهر إسماعيل ابن الإسكندراني (3) ، لقي ببلده أبا طاهر السلفي، وسمع منه، ودرس عليه كتاب " الاصطلاح " للسمعاني، وقدم الأندلس، ودخل مرسية تاجراً، وكان فقيهاً على مذهب الشافعي، وأنشد عن السلفي قوله: أنا من أهل الحدي ... ث وهم خير فئة عشت تسعين وأرجو ... أن أعيش لمائة فعاش كما تمنى، رحمه الله تعالى.

_ (1) ترجمته في التكملة: 126. (2) ترجمته في التكملة: 127. (3) ترجمته في التكملة: 190.

82 - ومنهم أبو الحسن علي بن محمد بن إسماعيل بن بشر، الأنطاكي، الإمام، أبو الحسن، التميمي (1) ، نزيل الأندلس ومقرئها ومسندها، أخذ القراءة عرضاً وسماعاً عن إبراهيم بن عبد الرزاق ومحمد بن الأخرم وأحمد بن يعقوب التائب وأحمد بن محمد بن خشيش ومحمد بن جعفر بن بيان، وصنف قراءة ورش، قرأ عليه جماعة: منهم أبو الفرج الهيثم الصباغ وإبراهيم بن مبشر المقرئ وطائفة آخرون من قراء الأندلس، وسمع منه عبد الله بن أحمد بن معاذ الداراني. قال أبو الوليد بن الفرضي: أدخل الأنطاكي الأندلس علماً جماً، وكان بصيراً بالعربية والحساب وله حظ من الفقه، قرأ الناس عليه، وسمعت أنا منه، وكان رأساً في القراءات، لا يتقدمه أحد في معرفتها في وقته، وكان مولده بأنطاكية سنة 299، ومات بقرطبة في ربيع الأول سنة 377، رحمه الله تعالى. 83 - ومنهم عمر بن مودود بن عمر، الفارسي، البخاري، يكنى أبا البركات (2) ، ولد بسلماس، ونشأ بها، وكتب الحديث هنالك، وتعلم العربية والفقه، وهو من أبناء الملوك، وانتقل إلى المغرب، فدخل الأندلس، ونزل مالقة في حدود ثلاثين وستمائة، ودخل إشبيلية، وكانت له رواية بالمشرق. قال ابن الأبار: أجاز لي مارواه ولم يسم أحداً من شيوخه، وبلغني أنه سمع صحيح البخاري بالدامغان على أبي عبد الله محمد بن محمود، وكانت إجازته لي سنة 631، وعاش بعد ذلك وتوفي بمراكش بعد الأربعين وستمائة (3) ، وحدث بالأندلس، وأخذ عنه الناس، وكان من أهل التصوف والتحقق بعلم

_ (1) ترجمة الأنطاكي في ابن الفرضي 1: 361 وغاية النهاية 1: 564. (2) ترجمته في التكملة رقم: 2252 وصلة الصلة: 74. (3) صلة الصلة: سنة 639.

الكلام، رحمه الله تعالى. 84 - ومنهم الشريف الأجل الرحالة الشيخ نجم الدين بن مهذب الدين، وكنت لا أتحقق من أي البلاد هو من المشرق، ثم إني علمت أنه من بغداد إذا وقفت على كتابين كتبهما في شان العناية به الأديب العلامة أبو المطرف أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي: أحدهما لأبي العلاء حسان، والثاني للكاتب أبي الحسن العنسي، وهو الذي يفهم منه أنه من بغداد. ونص الأول: يا ابن الوصيّ إذا حملت وصيّتي ... أوجبت حقّاً للحقوق يضاف وتحيتي كلّ التّحايا دونها ... وكذاك دون رسولها الأشراف أحسن بأن تلقى ابن حسانٍ بها ... مهتزّةً لورودها الأعطاف كالروض باكره الندى فلعرفها ... يا ابن النبي على النديّ مطاف وعلاك إنّ أبا العلا ومكانه ... يلفى به الإسعاد والإسعاف وأحقّ من عرف الكرام بوصفهم ... من جمّعت منهم له أوصاف هذه يا سيدي تحية تجب لها إجابة وحية، وتصلح بها هشاشة وأريحية، أودعتها بطن هذه العجالة، وبعثتها مع صدر من أبناء الرسالة، ولله در من راضع در النبوة، متواضع مع شرف الأبوة، نازعته طرق الأشعار، وأطراف الأخبار، فوجدت بحراً حصاه الدر النفيس وروضاً يجني منه أطايب السمر الجليس، وينعت بنجم الدين وهو كنعته نجم يضئ سناه ويحل بيتاً من الشرف ربه بناه، وقد جاب الفضاء العريض، وقد رأى القصور الحمر والبيض، وورد الحجون، بعدما شرب من ماء جيحون، وزار مشاهد الحرمين، ثم سار في أرض الهرمين، وفارق إفريقية لهذا الأفق مختاراً وعبر إلى الأندلس فأطال بها اعتباراً، وتشوق إلى حضرة الأنوار المفاضة، والنعم السابغة الفضفاضة، وجعل قصدها بحجة سفره طواف الإفاضة، وهمه أن

يشاهد سناء العلوي، ويبصر ما يحقر عنده المرئي والمروي، وهي غاية يقول للأمل: عليها أطلت حومي، وجنة يتلو الداخل لها " ياليت قومي " وسيدي هو منهاباب على الفتح بني، وجناب عنان الأمل إليه ثني، وقصده من هذا الشريف أجل قاصد وأظلته سماء المجد بجمال المشتري وظرف عطارد، ومتى نعتناه فالخبر ليس كالعيان، ومتى شبهناه فالتمويه بالشبه عقوق العقيان، ومن يفضح قريحته بأن يقول لها صفيه، لكن يعرف عن نفسه بما ليس في وسع واصفيه، ويقتضي من عزيمة بره ما لا سعة للمترخص فيه، إن شاء الله، وهو يديم علاكم، ويحرس مجدكم وسناكم، بمنه، والسلام الكريم، الطيب العميم، يخصكم به معظم مجدكم، المعتد بذخيرة ودكم، المحافظ على كريم عهدكم، ابن عميرة، ورحمة الله تعالى وبركاته، في الرابع والعشرين من ربيع الآخر من سنة 639، انتهى. ونص الثاني: هل لك يا سيّدي أبا الحسن ... فيمن له كلّ شاهدٍ حسن في الشرف المنتقى له قدمٌ ... أثبتها بالوصيّ والحسن أيها الأخ الذي ملكته قيادي، وأسكنته فؤادي، عهدي بك تعتام الآداب النقية، وتشتاق اللطائف المشرقية، وتنصف فترى أن في سيلنا جفاء، وفي مغربنا جفاء، وأن المحاسن نبت أرضٍ ما بها ولدنا، وزرع وادٍ ليس مما عهدنا، وأنا في هذا أشايعك وأتابعك، وأناضل من ينازلك وينازعك، وقد أتانا الله تعالى بحجة تقطع الحجج، وتسكت المهج، وهو الشريف الأجل، السيد المبارك نجم الدين بن مهذب الدين نجل الذرية المختارة، ونجم الدرية السيارة، جرى مع زعزع ونسيم، ورتع في جميم وهشيم، وشاهد عجائب كل إقليم، وشرق إلى مطلعه ابن جلا، وغرب حتى نزل شاطئ سلا، وقد توجه الآن إلى حضرة الإمامة الرشيدية أيدها الله تعالى لينتهي من أصابع العد

إلى العقدة، ويحصل من مخض الحقيقة على الزبدة، وقد علم أنه ما كل الخطب كخطبة المنبر، ولا جميع الأيام مثل يوم الحج الأكبر، وأدبه ياسيدي من نسبة أفقه، بل على شكل حسبه وخلقه، فإذا رأيته شهدت بأن الشرق قد أتحف إفريقية ببغداذه، بل رمانا بجملة أفلاذه، والحظ فيما يجب من بره وتأنيسه، إنما هو في الحقيقية لجليسه، فيا غبطة من يسبق لجواره، ويقبس من أنواره، وأنت لامحالة تفهمه فهمي، وتشيم من شيمه عارضاً بري القلوب الهيم يهمي، وتضرب في الأخذ من فوائده وقلائده بسهم وددت أنه سهمي، والسلام، انتهى. 85 - ومنهم تقي الدين محمد ابن الشيخ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن الغرس، الحنفي، المصري. قال الوادي آشي فيه: إنه من أعيان مصر، قال: وسألته هل يقع بين أهل مصر تنازع في تفضيل بعض المذاهب على بعض فأجابني بأن هذا لا يقع عندهم بين أهل الرسوخ في العلم، وذوي المعرفة والفهم (1) ، وإنما يصدر هذا بين الناشئين، قال: وللحنيفة الظهور عليهم حين يقولون لهم: لنا عليكم اليد الطولى في الخبز، لكونه بمصر يطبخ في الفرن بأرواث الدواب، وكذلك تسخين الحمام، فإن المالكية وغيرهم بمصر يقلدون الحنفية في ذلك، قال: وسألته حفظه الله تعالى: هل للوباء بمصر وقت معلوم فقال لي: جرت العادة عندهم بقدر الله تعالى وسره في خليقته أن كل سنة أولها ثاء مثلثة يكون فيها الوباء، والله تعالى أعلم، وأن هذا متعارف عندهم، هكذا قال لي. وعيب ما يقع من بعض النقاد بتونس وما يصدر عنهم بكثرة من إلقائهم الأسئلة العويصة في أصول الدين وغيرها على من يرد عليهم قصداً في تعجيزه وتعنيته، ثم قال: إن من المنقول عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن من حفظت عنه تسع وتسعون خصلة تقتضي الكفر وواحدة تقتضي الإيمان

_ (1) ق: والوهم.

أن الواحدة المقتضية للإيمان تغلب وتبقى حرمتها عليها، انتهى. وقد ذكرنا في الباب الأول من هذا القسم حكاية البصري المغني القادم من المشرق إلى البصرة على عبد الوهاب الحاجب بإفريقية في دولة بني المعز بن باديس، وسردنا دخوله عليه في مجلس أنسه، وما اتفق في ذلك له معه، وأنه وصف له بلاد الأندلس وحسنها وطيبها، فارتحل المغني إليها، ومات بها، حسبما لخصناه من كلام الكاتب ابن الرقيق الأديب المؤرخ في كتابه " قطب السرور " ولولا أنه لم يسم المغني المذكور لجعلنا له ترجمة في هذا الباب، إذ هو به أليق، والأمر في ذلك سهل، والله تعالى الموفق للصواب. 86 - ومنهم الولي الصالح العارف بالله سيدي يوسف الدمشقي، رضي الله تعالى عنه، وهو كما قال ابن داوود من كبار الأولياء، شاذلي الطريقة، قدم من المشرق إلى الأندلس، وكان يأتي مدينة وادي آش الكرة بعد الكرة لزيارة معارف له بها، وكان من الذين أخفاهم الله، لا يعرف به إلا من تعرف له، أعاد الله تعالى علينا من بركاته. قال العلامة ابن داوود: وحدثني مولاي والدي رضي الله تعالى عنه من لفظه بتلمسان أمنها الله تعالى يوم الاثنين لثني عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 895، قال: دخل علي سنة شهر رمضان المعظم في زمان ولايتي الخطابة والإمامة بالعراص من خارج وادي آش، أعادها الله تعالى، فقعدت أول ليلة منه منفرداً بالمسجد الأعظم من الرباط المذكور بين العشائين، وفكرت في ذكر أتخذه في هذا الشهر المبارك يكون جامعاً بين الدنيا والآخرة، فأجمعت على مطالعة " حلية " النواوي لعلي أقف على ما أختاره لذلك، فلما أصبحت دخلت إلى المدينة، ولم أكن أطلعت على فكرتي أحداً، فلقيني الحاج الأستاذ أبو عبد الله بن خلف رحمه الله تعالى في الطريقٍ، فقال لي: سيدي يوسف الدمشقي يسلم عليك ويقول لك: الذكر الذي تعمر به هذا الشهر الفاضل:

" اللهم ارزقني الزهد في الدنيا، ونور قلبي بنور معرفتك "، قال لي والدي رضي الله تعالى عنه: وكان هذا سبب تعرفي له، ولقائي إياه، وكنت قبل ذلك منكراً عليه لكثرة الدعاوى في هذا الطريق، نفع الله تعالى به، انتهى. ولنجعل هذه الترجمة آخر هذا الباب، تبركاً بهذا الولي الصالح، نفعنا الله تعالى ببركاته، مع علمي بأن الوافدين من المشرق على الأندلس كثيرون جداً إلا أن عدم المادة التي أستعين بها في هذه البلاد تبين عذري، ولو اجتمعت على كتبي المخلفة بالمغرب لأتيت في ذلك وغيره بما يشفي ويكفي: وفي الإشارة ما يغني عن الكلم

الباب السابع

الباب السابع في نبذة مما من الله تعالى به على أهل الأندلس من توقد الأذهان، وبذلهم في اكتساب المعارف والمعالي ما عز أوهان وحوزهم في ميدان البراعة، من قصب البراعة، خصل الرهان، وجملة من أجوبتهم، الدالة على لوذعيتهم، وأوصافهم المؤذنة بألمعيتهم، وغير ذلك من أحوالهم التي لها على فضلهم أوضح برهان [نقول في فضائل الأندلس] [1 - عن فرحة الأنفس] اعلم أن فضل أهل الأندلس ظاهر، كما أن حسن بلادهم باهر، ولذلك ذكر ابن غالب في " فرحة الأنفس " لما أثنى على الأندلس وأهلها أن بطليموس جعل لهم - من أجل ولاية الزهرة لبلادهم - حسن الهمة في الملبس والمطعم، والنظافة والطهارة، والحب للهو والغناء، وتوليد اللحوم، ومن أجل ولاية عطارد حسن التدبير، والحرص على طلب العلم، وحب الحكمة والفلسفة والعدل والإنصاف. وذكر ابن غالب أيضاً ما خصوا به من تدبير المشتري والمريخ. وانتقد عليه بعضهم بأن أقاليم الأندلس الرابع والخامس والسادس فساحلها الشمالي، والسابع في جزائر المجوس، وللإقليم الرابع الشمس، وللخامس الزهرة، وللسادس عطارد، وللسابع القمر، والمشتري للإقليم الثاني، والمريخ للثالث، ولا مدخل لهما في الأندلس، انتهى. ثم قال صاحب الفرحة (1) : وأهل الأندلس عرب في الأنساب والعزة

_ (1) م: ثم قال صاحب فرحة الأنفس.

والأنفة وعلو الهمم وفصاحة الألسن وطيب النفوس وإباء الضيم وقلة احتمال الذل والسماحة بما في أيديهم والنزاهة عن الخضوع وإتيان الدنية، هنديون في إفراط عنايتهم بالعلوم وحبهم فيها وضبطهم لها وروايتهم، بغداديون في ظرفهم ونظافتهم ورقة أخلاقهم ونباهتهم وذكائهم وحسن نظرهم وجودة قرائحهم ولطافة أذهانهم وحدة أفكارهم ونفوذ خواطرهم، يونانيون في استنباطهم للمياه ومعاناتهم لضروب الغراسات واختيارهم لأجناس الفواكه وتدبيرهم لتركيب الشجر وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر وصنوف (1) الزهر، فهم أحكم الناس لأسباب الفلاحة، ومنهم ابن بصال صاحب " كتاب الفلاحة " الذي شهدت له التجربة بفضله، وهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال ومقاساة النصب في تحسين الصنائع أحذق الناس بالفروسية، وأبصرهم بالطعن والضرب. وعد رحمه الله تعالى من فضائلهم اختراعهم للخطوط المخصوصة بهم، قال: وكان خطهم أولاً مشرقياً، انتهى. قال ابن سعيد: أما أصول الخط المشرقي وما تجد له في القلب واللحظ من القبول فمسلم له، لكن خط الأندلس الذي رأيته في مصاحف ابن غطوس الذي كان بشرق الأندلس وغيره من الخطوط المنسوبة عندهم له حسنٌ فائق، ورونق آخذ بالعقل، وترتيب يشهد لصاحبه بكثرة الصبر والتجويد، انتهى. ونحو صدر كلام ابن غالب السابق مذكورٌ في رسالة لابن حزم، وقال فيها: إن أهل الأندلس صينيون في إتقان الصنائع العملية وإحكام المهن الصورية، تركيون في معاناة الحروب ومعالجة آلاتها والنظر في مهماتها، انتهى. وعد ابن غالب من فضائلهم اختراعهم للموشحات التي قد (2) استحسنها

_ (1) م: وأصناف. (2) قد: سقطت من ب.

أهل المشرق وصاروا ينزعون منزعها، وأما نظمهم ونثرهم فلا يخفى على من وقف عليهما علو طبقاتهم. ثم قال ابن غالب: ولما نفذ قضاء الله تعالى على أهل الأندلس بخروج أكثرهم عنها في هذه الفتنة الأخيرة المبيرة تفرقوا ببلاد المغرب الأقصى من بر العدوة مع بلاد إفريقية، فأما أهل البادية فمالوا في البوادي إلى ما اعتادوه، وداخلوا أهلها وشاركوهم فيها فاستنبطوا المياه، وغرسوا الأشجار، وأحدثوا الأرحي الطاحنة بالماء وغير ذلك، وعلموهم أشياء لم يكونوا يعلمونها ولا رأوها، فشرفت بلادهم وصلحت أمورهم وكثرت مستغلاتهم وعمتهم الخيرات، فهم أشبه الناس باليونانيين فيما ذكرت ولأن اليونانيين سكنوا الأندلس فورثواعنهم ذلك، وأما أهل الحواضر فمالوا إلى الحواضر واستوطنوها، فأما أهل الأدب فكان منهم الوزراء والكتاب والعمال وجباة الأموال والمستعملون في أمور المملكة، ولا يستعمل بلدي ما وجد أندلسي، وأما أهل الصنائع فإنهم فاقوا أهل البلاد، وقطعوا معاشهم، وأخملوا أعمالهم، وصيروهم أتباعاً لهم، ومتصرفين بين أيديهم، ومتى دخلوا في شغل عملوه في أقرب مدة، وأفرغوا فيه من أنواع الحذق والتجويد ما يميلون به النفوس إليهم، ويصير الذكر لهم، قال: ولا يدفع هذا عنهم إلا جاهل أو مبطل، انتهى. [2 - عن ابن سعيد] وقال ابن سعيد، لما ذكر جملة من محاسن الأندلسيين: يعلم الله تعالى أني ما أقصد إلا إنصاف المنصفين الذين لا يميل بهم التعصب، ولا يجمح بهم الهوى، ولكن الحق أحق أن يتبع، فلعل مطلعاً يقف على ما ذكره ابن غالب فيقول: تعصب هذا الرجل لأهل بلده، ثم يغمس التابع له والراضي بنقل قوله في هذه الصبغة ويحمله على ذلك بعده عن الأرضين:

ولو أبصروا ليلى أقرّوا بحسنها ... وقالوا بأنّي في الثناء مقصّر ويكفي في الإنصاف أن أقول: إن حضرة مراكش هي بغداد المغرب، وهي أعظم ما في بر العدوة، وأكثر مصانعها ومبانيها الجليلة وبساتينها إنما ظهرت في مدة بني عبد المؤمن، وكانوا يجلبون لها صناع الأندلس من جزيرتهم (1) ، وذلك مشهور معلوم إلى الآن. ومدينة تونس بإفريقية قد انتقلت إليها السعادة التي كانت في مراكش (2) بسلطان إفريقية الآن أبي زكريا يحيى بن أبي محمد بن أبي حفص، فصار فيها من المباني والبساتين والكروم ما شابهت به بلاد الأندلس وعرفاء صناعه من الأندلس وتماثيله التي يبنى عليها، وإن كان أعرف خلق الله باختراع محاسن هذا الشأن، فإنما أكثرها من أوضاع الأندلسيين، وله من خاطره تنبيهات وزيادة ظهر حسن موقعها، ووجوه صنائع دولته لا تكاد تجدهم إلا من الأندلس، فصح قول ابن غالب، انتهى. [3 - عن الحميدي] قال الحميدي: أنشد بحضرة بعض ملوك الأندلس قطعة لبعض أهل المشرق وهي: وماذا عليهم لو أجابوا (3) فسلّموا ... وقد علموا أنّي المشوق المتيّم سروا ونجوم الليل زهرٌ طوالعٌ ... على أنّهم بالليل للناس أنجم وأخفوا على تلك المطايا مسيرهم ... فنمّ عليها (4) في الظلام التبسّم فأفرط بعض الحاضرين في استحسانها، وقال: هذا ما لا يقدر أندلسي

_ (1) م: جزيرتها. (2) م: بمراكش. (3) ق ب: أثابوا (اقرأ: أنابوا) . (4) ب: عليهم.

على مثله، وبالحضرة أبو بكر يحيى (1) بن هذيل، فقال بديهاً: عرفت بعرف الريح أين تيمّموا ... وأين استقلّ الظاغنون وخيّموا خليليّ ردّاني إلى جانب الحمى ... فسلت إلى غير الحمى أتيمّم أبيت سمير الفرقدين كأنّما ... وسادي قتادٌ أو ضجيعي أرقم وأحور وسنان الجفون كأنّه ... قضيبٌ من الريحان لدنٌ منعّم نظرت إلى أجفانه وإلى الهوى ... فأيقنت أنّي لست منهنّ أسلم كما أنّ إبراهيم أوّل نظرةٍ ... رأى في الدراري أنّه سوف يسقم انتهى. [4 - عن ابن بسام] ومن كلام ابن بسام صاحب " الذخيرة " في جزيرة الأندلس (2) : أشراف عرب المشرق افتتحوها، وسادات أجناد الشام والعراق نزلوها، فبقي النسل فيها بكل إقليم، على عرق كريم، فلا يكاد بلد منها يخلو من كاتب ماهر، وشاعر قاهر. وذكر أن أبا علي اليغدادي صاحب الأمالي الوافد على الأندلس في زمان بني مروان قال: لما وصلت القيروان وأنا أعتبر من أمر به من أهل الأمصار فأجدهم درجات في العبارات (3) وقلة الفهم، بحسب تفاوتهم في مواضعهم منها بالقرب والبعد، كأن منازلهم من الطريق هي منازلهم من العلم محاصة ومقايسة. قال أبو علي: فقلت إن نقص أهل الأندلس عن مقادير من رأيت في أفهامهم بقدر نقصان (4) هؤلاء عمن قبلهم فسأحتاج إلى ترجمان، في هذه الأوطان؛ قال ابن بسام: فبلغن يأ، هـ كان يصل كلامه هذا بالتعجب

_ (1) ق ب م ودوزي: أبو بكر ابن يحيى. (2) بعض هذا النص في مقدمة الذخير 1 / 1: 4. (3) الذخيرة: في الغباوة. (4) م: نقص.

من أهل الأفق الأندلسي في ذكائهم، ويتغطى عنهم عند المباحثة والمفاتشة، ويقول لهم: إن علمي علم رواية، وليس بعلم دراية، فخذوا عني ما نقلت، فلم آل لكم أن صححت، هذا مع إقرار الجميع له يومئذٍ بسعة العلم وكثرة الروايات، والأخذ عن الثقات، انتهى. [5 - عن الحجاري] ومن كلام الحجاري في " المسهب ": الأندلس عراق المغرب عزة أنساب، ورقة آداب، واشتغالاً بفنون العلوم، وافتناناً في المنثور والمنظوم، لم تضق لهم في ذلك ساحة، ولا قصرت عنه راحة، فما مر فيها بمصر إلا وفيه نجوم وبدور وشموس، وهم أشعر الناس فيما كثره الله تعالى في بلادهم، وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والأطيار والكؤوس، لا ينازعهم أحد في هذا الشأن، وابن خفاجة سابقهم في هذا المضمار الحائز فيه قصب الرهان. وأما إذا هب نسيم، ودار كأس في كف ظبي رخيم، ورجع بم وزير، وصفق الماء خرير، أو رقت العشية، وخلعت السحب أبرادها الفضية والذهبية، أو تبسم عن شعاعٍ ثغر نهر، أو ترقرق بطلٍ جفن زهر، أو خفق بارق، أو وصل طيف طارق، أو وعد حبيب فزار من الظلماء تحت جناح، وبات مع من يهواه كالماء والراح، إلى أن ودع حين أقبل رائد الصباح، أو أزهرت دوحة السماء بزهر كواكبها، أو قوضت عند فيض نهر الصباح بيض مضاربها، فأولئك هم السابقون السابقون، الذين لا يجارون ولا يلحقون، وليسوا بالمقصرين في الوصف إذا تقعقعت السلاح، وسالت خلجان الصوارم بين قضبان الرماح، وبنت الحرب من العجاج سماء، وأطلعت شبه النجوم أسنةً وأجرت شبه الشفق دماء، وبالجملة فإنهم في جميع الأوصاف والتخيلات أئمة، ومن وقف على أشعارهم في هذا الشأن فضلهم فيه على أصناف الأمة

وقد أعانتهم على الشعر أنسابهم العربية، وبقاعهم النضرة وهممهم الأبية، ولشطار الأندلس من النوادر والتنكيتات، والتركيبات وأنواع المضحكات، ما تملأ الدواوين كثرته، وتضحك الثكلى وتسلي المسلوب قصته، مما لو سمعه الجاحظ لم يعظم عنده ما حكى وما ركب، ولا استغرب أحدٌ ما أورده ولا تعجب، إلا أن مؤلفي هذا الأفق طمحت هممهم عن التصنيف في هذا الشأن فكان يمر بياعاً، فقمت محتسباً للظرف فتداركته جامعاً فيه ما أمسى شعاعاً، انتهى. [6 - رسالة ابن الحزم في فضل الأندلس (1) ] قلت: وقد رأيت أن أذكر رسالة أبي محمد ابن حزم الحافظ التي ذكر فيها بعض فضائل علماء الأندلس، لاشتمالها على ما نحن بصدده. وذلك أنه كتب أبو علي الحسن بن محمد بن أحمد بن الربيب التميمي القيرواني (2) ، إلى أبي المغيرة عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن بن حزم يذكر تقصير أهل الأندلس في تخليد (3) أخبار علمائهم ومآثر فضائلهم وسير ملوكهم، ما صورته: كتبت يا سيدي، وأجل عددي، كتب الله تعالى لك السعادة، وأدام لك العز والسيادة، سائلاً مسترشداً، وباحثاً مستخبراً، وذلك أني فكرت في بلادكم إذ كانت قرارة كل فضل، ومنهل كل خير، ومقصد كل طرفة، ومورد كل تحفة، وغاية آمال الراغبين، ونهاية أماني الطالبين، إن بارت تجارة فإليها

_ (1) سماها ابن خير (الفهرسة: 226) رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها. (2) ترجم العمري في المسالك 11: 319 نقلا عن أنموذج ابن رشيق لمن اسمه ابن الربيب القاضي الحسين بن محمد التميمي، وقال إن أصله من تاهرت، وكان عارفا بالأدب وعلم النسب قوي الكلام يتكلفه بعض تكلف، وكان عبد الكريم النهشلي أستاذ ابن رشيق يعده شاعرا مقدما. (3) ب: تخليص.

تجلب، وإن كسدت بضاعة ففيها تنفق، مع كثرة علمائها، ووفور أدبائها (1) ، وجلالة ملوكها، ومحبتهم في العلم وأهله، يعظمون من عظمه علمه، ويرفعون من رفعه أدبه، وكذلك سيرتهم في رجال الحرب: يقدمون من قدمته شجاعته، وعظمت في الحروب نكايته، فشجع الجبان، وأقدم الهيبان، ونبه الخامل، وعلم الجاهل، ونطق العيي، وشعر البكي، واستنثر البغاث، وتثعبن الحفاث (2) ، فتنافس الناس فيى العلوم، وكثر الحذاق في جميع (3) الفنون، ثم هم مع ذلك على غاية التقصير ونهاية التفريط، من أجل علماء الأمصار دونوا فضائل أمصارهم، وخلدوا في الكتب مآثر بلدانهم، وأخبار الملوك والأمراء، والكتاب والوزراء، والقضاة والعلماء، فأبقوا لهمذكراً في الغابرين يتجدد على مر الليالي والأيام، ولسان صدقٍ في الآخرين يتأكد مع تصرف الأعوام، وعلمائكم مع استظهارهم على العلوم كل امرئ منهم قائم في ظله لا يبرح، وراتبٌ على كعبه لا يتزحزح، يخاف إن صنف، أن يعنف، وإن ألف أن يخالف، ولا يآلف، أو تخطفه الطير أوتهوي به الريح في مكان سحيق، لم يتعب أحد منهم نفساً في جميع فضائل أهل بلده، ولم يستعمل خاطره في مفاخر ملوكه، ولا بل قلماً بمناقب كتابه ووزرائه، ولا سود قرطاساً بمحاسن قضاته وعلمائه، على أنه لو أطلق ما عقل الإغفال من لسانه، وبسط ما قبض الإهمال من بيانه، لوجد للقول مساغاً ولم تضق عليه المسالك، ولم تخرج به المذاهب، ولا اشتبهت عليه المصادر والموارد، ولكن هم أحدهم أن يطلب شأو من تقدمه من العلماء ليحوز قصبات السبق، ويفوز بقدح ابن مقبل، ويأخذ بكظم دغفل، ويصير شجاً في حلق أبي

_ (1) ق ب: آدابها. (2) تثعبن الحفاث: أخذ هيئة الثعبان؛ والحفاث: حيوان كالثعبان يفح فحيحه ويثب مثل وثبه ولكنه غير مؤذ (انظر الحاشية ص 646 من الجزء الأول) . (3) ب: لجميع؛ ق: بجميع.

العميشل، فإذا أدرك بغيته، واخترمته منيته، ودفن مع أدبه وعلمه، فمات ذكره، وانقطع خبره، ومن قدمنا ذكره من علماء الأمصار احتالوا لبقاء ذكرهم احتيال الأكياس فألفوا دواوين بقي لهم بها ذكر مجدد طول الأبد. فإن قلت: إنه كان مثل ذلك من علمائنا، وألفوا كتباً لكنها لم تصل إلينا، فهذه دعوى لم يصحبها تحقيق لأنه ليس بيننا وبينكم غير روحة راكب، أو رحلة قارب، لو نفث من بلدكم مصدور، لأسمع من ببلدنا في القبور، فضلاً عمن في الدور والقصور، وتلقوا قوله بالقبول كما تلقوا ديوان أحمد بن عبد ربه الذي سماه بالعقد، على أنه يلحقه في بعض اللوم، لا سيما إذ لم يجعل فضائل بلده واسطة عقده، ومناقب ملوكه يتيمة سلكه، أكثر الحز وأخطأ المفصل، وأطال الهز بسيف غير مقصل، وقعد به ما قعد بأصحابه من ترك ما يعنيهم، وإغفال ما يهمهم. فأرشد أخاك أرشدك الله واهده هداك الله إن كانت عندك في ذلك الجلية وبيدك فصل القضية، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. فكت بالوزير الحافظ أبو محمد عل يبن أحمد بن سعيد بن حزم عند وقوفه على هذه الرسالة، ما نصه: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سبدنا محمد عبده ورسوله، وعلى أصحابه الأكرمين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته الفاضلين الطيبين. أما بعد يا أخي يا أبا بكر (1) ، سلامٌ عليك سلام أخ مشوق طالت بينه وبينك الأميال والفراسخ وكثرت الأيام والليالي ثم لقيك (2) في حال سفر ونقلة، ووادك في خلال جولة ورحلة، من مجاورتك أرباً، ولا بلغ في

_ (1) هو أبو بكر محمد بن إسحاق المهلبي الإسحاقي الوزير، من أهل الأدب والفضل (الجذوة: 42) وقد كان صديقا لابن حزم يتنقلان معا في أرجاء الأندلس، واعتقلهما خيران معا كذلك. (2) ق م: لقيتك.

محاورتك مطلباً، وإني لما احتللت بك، وجالت يدي في مكنون كتبك، ومضمون دواوينك، لمحت عيني في تضاعيفها درجاً، فإذا فيه خطاب لبعض الكتاب من مصاقبينا في الدار أهل إفريقية، ثم ممن ضمته حاضرة قيروانهم، إلى رجل أندلسي لم يعينه باسمه (1) ، ولا ذكره بنسبه، يذكر له فيها أن علماء بلدنا بالأندلس - وإن كانوا على الذروة العليا من التمكن بأفانين العلوم، وفي الغاية القصوى من التحكم على وجوه المعارف - فإن هممهم قد قصرت عن تخليد مآثر بلدهم، ومكارم ملوكهم، ومحاسن فقهائهم، ومناقب قضاتهم، ومفاخر كتابهم، وفضائل علمائهم، ثم تعدى ذلك إلى أن أخلى أرباب العلوم منا من أن يكون لهم تأليف يحيي ذكرهم، ويبقي علمهم، بل قطع على أن كل واحد منهم قد مات فدفن علمه معه، وحقق ظنه في ذلك، واستدل على صحته عند نفسه بان شيئاً من هذه التآليف لو كان منا موجوداً لكان إليهم منقولاً، وعندهم ظاهراً، لقرب المزار، وكثرة السفار (2) ، وترددهم إليهم، وتكررهم علينا. ثم لما ضمنا المجلس الحافل بأصناف الآداب، والمشهد الآهل بأنواع العلوم، والقصر المعمور بأنواع الفضائل، والمنزل المحفوف بكل لطيفة وسيعة من دقيق المعاني وجليل المعالي، قرارة المجد ومحل السؤدد، ومحط رحال الخائفين، وملقى (3) عصا التسيار عند الرئيس الأجل الشريف قديمه وحسبه، الرفيع حديثه ومكتسبه، الذي أجله عن كل خطة يشركه فيها من لا توازي قومته نومته، ولا ينال حضره هويناه، وأربأ به عن كل مرتبة يلحقه فيها من لايسمو إلى المكارم سموه، ولا يدنو من المعالي دنوه، ولا يعلو في حميد

_ (1) لعل ابن حزم يعني أنه لم يجد في الرسالة التي بعثها ابن الربيب اسم المرسل إليه ونسبته، وقد صرح ابن بسام - كما ذكر المقري في النفح - أن ابن الربيب خاطب أبا المغيرة ابن حزم، وأن أبا المغيرة رد عليه برسالة أطال فيها القول وختم بذكر جملة من تواليف أهل الأندلس (الذخيرة 1 / 1: 111 - 116) . (2) م: السفرة. (3) م: ومحط؛ ب: ومحطى.

الحلال علوه، بل أكتفي من مدحه باسمه المشهورن فحسبي بدينك العلمين دليلاً على سعيه المشكور، وفضله المشهور، أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم صاحب البونت (1) أطال الله بقاءه، وأدام اعتلائه، ولا عطل الحامدين من تحليهم بحلاه، ولا أخلى الأيام من تزينها بعلاه، فرأيته أعزه الله تعالى حريصاً على أن يجاوب هذا المخاطب، وراغباً في أن يبين له ما لعله قد رآه فنسي أو بعد عنه فخفي، فتناولت الجواب المذكور بعد أن بلغني أن ذلك المخاطب قد مات، رحمنا الله تعالى وإياه، فلم يكن لقصده بالجواب معنى، وقد صارت المقابر له مغنى، فلسنا بمسمعين من في القبور، فصرفت عنان الخطاب إليك، إذ من قبلك صرت إلى الكتاب المجاوب عنه، ومن لدنك وصلت إلى الرسالة المعارضة، وفي وصول كتابي على هذه الهيئة حيثما وصل كفاية لمن غاب عنه من أخبار تآليف أهل بلدنا مثل ما غاب عن الباحث الأول، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وإن كنت في إخباري إياك بما أرسمه في كتابي هذا كمهد إلى البركان نار الحباحب، وباني صوىً في مهيع القصد اللاحب، فإنك وإن كنت المقصود والمواجه، فإنما المراد من أهل تلك الناحية من نأى عنه علم ما استجلبه السائل الماضي، وما توفيقي إلا بالله سبحانه. فأما مآثر بلدنا فقد ألف في ذلك أحمد بن محمد الرازي التاريخي (2) كتباً جمة: منها كتاب ضخم ذكر فيه مسالك الأندلس ومراسيها، وأمهات مدنها وأجنادها الستة، وخواص كل بلد منها، وما فيه مما ليس في غيره، وهو

_ (1) ذكر ابن الأبار في التكملة: 388 أن ابن حزم كتب هذه الرسالة بطلب من أبي عبد الله محمد بن عبد الله الفهري صاحب البونت ويلقب: " يمن الدولة "؛ والبونت (Alpuente) من أعمال بلنسية استقل فيها بنو قاسم الفهريون بعد الفتنة، وأولهم عبد الله بن قاسم (- 421) وخلفه يمن الدولة وبقي حاكما حتى سنة 434 (أعمال الأعلام: 208) . (2) ترجمة الرازي في الجذوة: 96 وطبقات الزبيدي: 327.

كتاب مريح مليح، وأنا أقول: لو لم يكن لأندلسنا إلا ما رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر به (1) ووصف أسلافنا المجاهدين فيه بصفات الملوك على الأسرة في الحديث الذي رويناه من طريق أبي حمزة أنس بن مالك أن خالته أم حرام بنت ملحان زوج أبي الوليد عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين حدثته به عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبرها بذلك (2) ، لكفى شرفاً بذلك يسر عاجله، ويغبط آجله. فإن قال قائل: فلعله صلوات الله تعالى عليه إنما عنى بذلك الحديث أهل صقلية وإقريطش، وما الدليل على ما ادعيته من أنه صلى الله عليه وسلم عنى الأندلس حتماً ومثل هذا التأويل لا يتساهل فيه ذو ورع دون برهان واضح، وبيان لائح، لا يحتمل التوجيه، ولا يقبل التجريح، فالجواب - وبالله التوفيق - أنه صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب، وأمر بالبيان لما أوحي إليه، وقد أخبر في ذلك الحديث المتصل سنده بالعدول عن العدول بطائفتين من أمته يركبون ثبج هذا البحر غزاة واحدة بعد واحدة، فسألته أم حرام أن يدعو ربه تعالى أن يجعلها منهم، فأخبرها صلى الله عليه وسلم وخبره الحق بأنها من الأولين، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو إخباره بالشيء قبل كونه، وصح البرهان على رسالته بذلك، وكانت من الغزاة إلى قبرس، وخرت عن بغلتها هناك، فتوفيت، رحمها الله تعالى، وهي أول غزاة ركب فيها المسلمون البحر، فثبت يقيناً أن الغزاة إلى قبرس هم الأولون الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أم حرام منهم كما أخبر صلوات الله تعالى وسلامه عليه، ولا سبيل أن يظن به

_ (1) م: إلا ما بشر به رسول الله ... إلخ. (2) صحيح مسلم 2: 104، وفيه أن رسول الله (ص) نام ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت له أم ملحان: ما يضحكك يا رسول الله قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة ... إلخ، وأنه نام مرة أخرى، وفعل كفعله الأول، فلما قالت له أم ملحان: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: انت من الأولين.

وقد أوتي ما أوتي من البلاغة والبيان أنه يذكر طائفتين قد سمى إحداهما أولى إلا والتالية لها ثانية، فهذا من باب الإضافة وتركيب العدد، وهذا يقتضي طبيعة صناعة المنطق، إذ لا تكون الأولى أولى إلا لثانية، ولا الثانية ثانية إلا لأولى، فلا سبيل إلى ذكر ثالث إلا بعد ثان ضرورة، وهو صلى الله عليه وسلم إنما ذكر طائفتين، وبشر بفئتين، وسمى إحداهما الأولين، فاقتضى ذلك بالقضاء الصدق آخرين، والآخر من الأول والثاني الذي أخبر صلى الله عليه وسلم أنه خير القرون بعد قرنه، وأولى القرون بكل فضل بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه خير من كل قرن بعده، ثم ركب البحر بعد ذلك أيام سليمان بن عبد الملك إلى القسطنطينية، وكان الأمير بها في تلك السفن هبيرة الفزاري، وأما صقلية فإنها فتحت صدر أيام الأغلبة سنة 212، أيام قاد إليها السفن غازياً أسد بن الفرات القاضي صاحب أبي يوسف رحمه الله تعالى، وبها مات، وأما إقريطش فإنها فتحت بعد الثلاث والمائتين (1) ، افتتحها أبو حفص عمر بن شعيب المعروف بابن الغليظ (2) ، من أهل قرية بطروج من عمل فحص البلوط المجاور لقرطبة من بلاد الأندلس، وكان من فل الربضيين، وتداولها بنوه بعده إلى أن كان آخرهم عبد العزيز بن شعيب الذي غنمها في أيامه أرمانوس بن قسطنطين ملك الروم سنة 350 (3) ، وكان أكثر المفتتحين لها أهل الأندلس.

_ (1) في الجذوة: بعد الثلاثين والمائتين؛ وفي ياقوت (إقريطش) : بعد سنة 250، وذكر أبو سعيد ابن يونس أن شعيب بن عمر بن عيسى أبا عمر، تولى فتح جزيرة إقريطش بعد سنة عشرين ومائتين، وقال البلاذري (فتوح: 279) إن أبا حفص عمر بن عيسى الأندلسي المعروف بالإقريشي غزاها في خلافة المأمون وافتتح حصنا واحدا ونزله ثم لم يزل يفتح منها شيئا بعد شيء؛ ولعل هذا هو سبب الاختلاف في تاريخ فتحها. (2) ترجمة عمر بن شعيب في الجذوة: 282 نقلا عن ابن حزم. (3) افتتحها ارمانوس في منتصف المحرم 350 فقتل ونهب وأخذ صاحبها عبد العزيز بن شعيب وبني عمه وأموالهم إلى القسطنطينية (ياقوت: إقريطش) .

وأما في قسم الأقاليم فإن قرطبة مسقط رؤوسنا، ومعق (1) تمائمنا، مع سر من رأى في إقليم واحد، فلنا من الفهم والذكاء ما اقتضاه إقليمنا، وإن كانت الأنوار لا تأتينا إلا مغربة عن مطالعها على الجزء المعمور، وذلك عند المحسنين للأحكام التي تدل عليها الكواكب ناقص من قوى دلائلها، فلها من ذلك على كل حال حظ يفوق حظ أكثر البلاد، بارتفاع أحد النيرين بها تسعين درجة، وذلك من أدلة التمكن في العلوم والنفاذ فيها عند من ذكرنا، وقد صدق ذلك الخبر، وأبانته التجربة، فكان أهلها من التمكن في علوم القراءات والروايات وحفظ كثير من الفقه والبصر بالنحو والشعر واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم بمكان رحب الفناء واسع العطن متنائي الأقطار سيح المجال، والذي نعاه علينا الكاتب المذكور لو كان كما ذكره لكنا فيه شركاء لأكثر أمهات الحواضر وجلائل البلاد ومتسعات الأعمال، فهذه القيروان بلد المخاطب لنا، ما أذكر أني رأيت في أخبارها تأليفاً غير " المعرب (2) عن أخبار المغرب " وحاشا تواليف محمد بن يوسف الوراق (3) ، فإنه ألف للمستنصر رحمه الله تعالى في مسالك إفريقية وممالكها ديواناً ضخماً وفي أخبار ملوكها وحروبهم والقائمين عليهم كتباً جمة، وكذلك ألف أيضاً في أخبار تيهرت ووهران وتنس وسجلماسة ونكور والبصرة (4) وغيرها تواليف حساناً، ومحمد هذا أندلسي الأصل والفرع، آباؤه من وادي الحجارة، ومدفنه بقرطبة، وهجرته إليها وإن كانت نشأته بالقيروان. ولا بد من إقامة الدليل على ما أشرت إليه هاهنا إذ مرادنا أن نأتي منه

_ (1) ب: ومعقد؛ ومعق التمائم، أي موضع قطعها دلالة على تجاوز سن الطفولة. (2) ق: المغرب. (3) محمد بن يوسف أبو عبد الله التاريخي الوراق (الجذوة: 90 وبغية الملتمس رقم: 304 وفيهما ما قاله ابن حزم) . (4) يعني بصرة المغرب، وكانت قريبا من مدينة أصيلا.

بالمطلب، فيما يستأنف إن شاء الله تعالى، وذلك أن جميع المؤرخين من أئمتنا السالفين والباقين، دون محاشاة أحد، بل قد تيقنا إجماعهم على ذلك، متفقون على أن ينسبوا الجل إلى مكان هجرته التي استقر بها ولم يرحل عنها رحيل تركٍ لسكناها إلى أن مات، فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة رضي الله تعالى عنهم، وإنما سكن علي الكوفة خمسة أعوام وأشهراً، وقد بقي 58 عاماً وأشهراً بمكة والمدينة شرفهما الله تعالى. وكذلك أيضاً أكثر أعمار من ذكرنا، وإن ذكروا البصريين بدأوا بعمران بن حصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر وأبي بكرة، وهؤلاء مواليدهم وعامة زمن أكثرهم وأكثر مقامهم بالحجاز وتهامة الطائف، وجمهرة أعمارهم خلت هنالك، وإن ذكروا الشاميين نوهوا بعبادة ابن الصامت وأبي الدرداء وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ ومعاوية، والأمر في هؤلاء كالأمر فيمن قبلهم، وكذلك في المصريين عمرو بن العاص وخارجة بن حذافة العدوي، وفي المكيين عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، والحكم في هؤلاء كالحكم فيمن قصصنا فمن هاجر إلينا من سائر البلاد فنحن أحق به، وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا الذين إجماعهم فرض إتباعه، وخلافه محرم اقترافه (1) ، ومن هاجر منا إلى غيرنا فلاحظنا فيهن والمكان الذي اختاره أسعد به، فكما لا ندع إسماعيل بن القاسم (2) فكذلك لا ننازع في محمد بن هانئ سوانا (3) ، والعدل أولى ما حرص عليه، والنصف أفضل ما دعي إليه، بعد التفصيل الذي ليس هذا موضعه، وعلى ما ذكرنا من الأنصاف تراضى الكل.

_ (1) م: اقترابه؛ ق: اقترانه. (2) يريد أبا علي القالي، أي أنه يعده أندلسيا - حسب مقياسه - لأنه هاجر إلى الأندلس واقام فيها حتى توفي. (3) سوانا: سقطت من م.

وهذه بغداد حاضرة الدنيا ومعدن كل فضيلة، والمحلة التي سبق أهلها إلى حمل ألوية المعارف، والتدقيق في تصريف العلوم ورقة الأخلاق والنباهة والذكاء وحدة الأفكار ونفاد الخواطر، وهذه البصرة وهي عين المعمور في كل ما ذكرنا، وما أعلم في أخبار بغداد تأليفاً غير كتاب أحمد بن أبي طاهر (1) ، وأما سائر التواريخ التي ألفها أهلها فلم يخصوا بلدتهم بها دون سائر البلاد، ولا أعلم في أخبار البصرة غير كتاب عمر بن شبة (2) ، وكتاب لرجل من ولد الربيع بن زياد المنسوب إلى أبي سفيان في خطط البصرة وقطائعها، وكتابين لرجلين من أهلها يسمى أحدهما عبد القاهر كريزي النسب [في] صفاتها (3) وذكر أسواقها ومحالها وشوارعها، ولا أعلم في أخبار الكوفة غير كتاب عمر (4) بن شبة، وأما الجبال وخراسان وطبرستان وجرجان وكرنان وسجستان والري (5) والسند وأرمينية وأذربيجان وتلك الممالك الكثيرة الضخمة فلا أعلم في شيء منها تأليفاً قصد به أخبار ملوك تلك النواحي، وعلمائها وشعرائها وأطبائها (6) ، ولقد تاقت النفوس إلى أ، يتصل بها تأليف في أخبار فقهاء بغداد، وما علمناه علم، على أنهم العلي الرؤساء، والأكابر العظماء، ولو كان في شيء من ذلك تأليف لكان الحكم في الأغلب أن يبلغنا كما بلغ سائر تآليفهم، وكما بلغنا كتاب حمزة بن الحسن الأصبهاني في أخبار أصبهان (7) ،

_ (1) أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور (- 280) وكتابه المشار إليه " بغداد " بقيت منه قطعة نشرها هنسي كلر بالزنكوغراف (1908) وأعيد طبعها بمصر (1368هـ) ؛ انظر ترجمته في معجم الأدباء 1: 152. (2) هو كتاب " أخبار أهل البصرة " ولمؤلفه ترجمة في معجم الأدباء 6: 481 والتهذيب 7: 460 وبغية الوعاة: 361 ونور القبس: 231. (3) ب ق: وصفاتها. (4) عمر: سقطت من ق. (5) والري: زيادة من ق ب. (6) كثرت المؤلفات في البلدان بعد ابن حزم؛ انظر الإحاطة 1: 90 والإعلان: 121 - 135. (7) انظر ترجمة حمزة الأصبهاني في تاريخ أصبهان 1: 300 وقد وصلنا من كتبه كتابه تواريخ سي ملوك الأرض والأنبياء، والدرة الفاخرة (مخطوط) وشرح ديوان أبي نؤاس، أما كتابه في تاريخ بلده فلم يصلنا.

وكتاب الموصلي (1) وغيره في أخبار مصر، وكما بلغنا سائر تواليفهم في أنحاء العلوم، وقد بلغنا تأليف القاضي أبي العباس محمد بن عبدون القيرواني في الشروط (2) واعتراضه على الشافعي رحمه الله تعالى، كذلك بلغنا رد القاضي أحمد بن طالب التميمي على أبي حنيفة (3) وتشيعه على الشافعي، وكتب ابن عبدوس (4) ومحمد ابن سحنون (5) وغير ذلك من خوامل (6) تآليفهم دون مشهورها. وأما جهتنا فالحكم في ذلك ما جرى به المثل السائر " أزهد الناس في عالمٍ أهله "، وقرأت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال: " لا يفقد النبي حرمته إلا في بلده " وقد تيقنا ذلك بما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من قريش - وهم أوفر الناس أحلاماً وأصحهم عقولاً وأشدهم تثبتاً، مع ما خصوا به من سكناهم أفضل البقاع، وتغذيتهم بأكرم المياه - حتى خص الله تعالى الأوس والخزرج بالفضيلة التي أبانهم بها على جميع الناس، والله يؤتي فضله من يشاء، ولا سيما أندلسنا فإنها خصت من حسد أهلها للعالم الظاهر فيهم الماهر منهم، واستقلالهم

_ (1) في م: الوصلي، ولعلها أن تقرأ " المصري " إذ لا أعلم - بعد البحث - أن موصليا ألف في تاريخ مصر وأخبارها؛ ومن الكتب التي يرجح أن ابن حزم عرفها في تاريخ مصر كتاب (أو كتب) أبي عمر الكندي صاحب تاريخ الولاة والقضاة، وتاريخ مصر لمحمد بن عبد الحكم (توفي 268) . (2) أبو العباس محمد بن عبدون بن أبي ثور، كان قاضيا على القيروان نحو ثلاثين شهرا، وعزله عنها إبراهيم بن الأغلب؛ وكان حافظا لمذهب أبي حنيفة موثقا كاتبا للشروط والوثائق (علماء إفريقية: 241، 307) . (3) صوابه: عبد الله بن أحمد بن طالب، قال فيه الخشني: وكان له نظر ومناظرة يرد فيها على الشافعي لا بأس بها (علماء إفريقية: 257، 297) . (4) هنالك اثنان هما محمد وإسحاق ابنا إبراهيم بن عبدوس والأول منهما كان حافظا لمذهب مالك، وله على مذهبه كتاب اسمه " المجموعة " (توفي سنة 258) . انظر علماء إفريقية: 182. (5) انظر علماء إفريقية: 256، 296. (6) في الأصول: خواصل.

كثير ما يأتي به، واستهجانهم حسناته، وتتبعهم سقطاته وعثراته، وأكثر ذلك مدة حياته، بأضعافما في سائر البلاد، إن أجاد قالوا: سارق مغير ومنتحل مدع، وإن توسط قالوا: غث بارد وضعيف ساقط، وإن باكر الحيازة لقصب السبق قالوا: متى كان هذا ومتى تعلم وفي أي زمان قرأ ولأمه الهبل! وبعد ذلك إن ولجت به الأقدار أحد طريقين إما شفوفاً بائناً يعليه على نظرائه أو سلوكاً في غير السبيل التي عهدوها فهنالك حمي الوطيس على البائس، وصار غرضاً للأقوال وهدفاً للمطالب ونصباً للتسبب إليه ونهباً للألسنة وعرضة للتطرق إلى عرضه، وربما نحل ما لم نقل وطوق ما لم يتقلد وألحق به ما لم يفه به ولا اعتقده قلبه، وبالحرى وهو السابق المبرز إن لم يتعلق من السلطان بحظ أن يسلم من المتالف وينجو من المخالف، فإن تعرض لتأليف غمز ولمز وتعرض وهمز واشتط عليه، وعظم يسير خطبه واستشنع هين سقطه وذهبت محاسنه وسترت فضائله وهتف ونودي بما أغفل، فتنكس لذلك همته وتكل نفسه وتبرد حميته، وهكذا عندنا نصيب من ابتدأ يحوك شعراً أو يعمل رسالة، فإنه لا يفلت من هذه الحبائل، ولا يتخلص من هذا النصب إلا الناهض الفائت والمطفف المستولي على الأمد. وعلى ذلك فقد جمع ما ظنه الظان غير مجموع، وألفت عندنا تآليف في غاية الحسن، لنا خطر السبق في بعضها: فمنها كتاب " الهداية " لعيسى بن دينار (1) ، وهي أرفع كتب جمعت في معناها على مذهب مالك وابن القاسم، وأجمعها للمعاني الفقهية على المذهب، فمنها كتاب الصلاة وكتاب البيوع وكتاب الجدار (2) في الأقضية وكتاب النكاح والطلاق، ومن الكتب المالكية التي

_ (1) عيسى بن دينار بن واقد الغافقي (الجذوة: 279 وبغية الملتمس رقم: 1144 وابن الفرضي 1: 373) . صحب عبد الرحمن العتقي صاحب مالك وتفقه عليه وأصبح إماما في الفقه على مذهب مالك (توفي سنة 212) . (2) موضع كلمة " الجدار " بياض في ب.

ألفت بالأندلس كتاب القطني مالك بن علي (1) ، وهو رجل قرشي من بني فهر لقي أصحاب مالك وأصحاب أصحابه، وهو كتاب حسن فيه غرائب ومستحسنات من الرسائل المولدات، ومنها كتاب أبي إسحاق [يحيى بن] (2) إبراهيم بن مزين في تفسير الموطأ والكتب (3) المستقصية لمعاني الموطأ وتوصيل مقطوعاته من تآليف ابن مزين أيضاً، وكتابه في رجال الموطأ وما لمالك عن كل واحد منهم من الآثار في موطإه. وفي تفسير القرآن كتاب أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد فهو الكتاب الذي أقطع قطعاً لا أستثني فيه أنه لم يؤلف في الإسلام تفسير مثله، ولا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره (4) . ومنها في الحديث مصنفه الكبير الذي رتبه (5) على أسماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف، ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه وأبواب الأحكام، فهو مصنف ومسند، وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله، مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وجودة شيوخه، فإنه روى عن مائتي رجل وأربعة وثمانين رجلاً ليس فيهم عشرة ضعفاء، وسائرهم أعلام مشاهير. ومنها مصنفه في فضل (6) الصحابة والتابعين ومن دونهم

_ (1) هو مالك بن علي بم عبد الملك بن قطن (ولذلك يقال له القطني؛ وفي دوزي والأصول القصي) أبو خالد الزاهد، له مختصر في الفقه على مذهب مالك، وتوفي سنة 268؛ انظر الجذوة: 324 وبغية الملتمس رقم: 1350 وابن الفرضي 2: 3. (2) زيادة لازمة أخلت بها الأصول؛ وقد قال الحميدي (الجذوة: 148) إن إبراهيم بن مزين تكن له رواية؛ أما ابنه يحيى فهو الذي يقصده ابن حزم هنا؛ توفي سنة 259 (انظر الجذوة: 350 وبغية الملتمس رقم: 1457 وابن الفرضي 2: 178) . (3) كذا بصيغة الجمع ولعله يعني الأجزاء؛ وذكر ابن الفرضي أن له كتابا استقصى فيه علل الموطإ سماه " المستقصية ". (4) انظر الجذوة: 167 (وهو ينقل كلام ابن حزم) والصلة: 118. (5) م: ألفه ورتبه. (6) الجذوة: فتاوى.

الذي أربى فيه على مصنف أبي بكر ابن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق بن همام ومصنف سعيد بن منصور وغيرها وانتظم علماً عظيماً لم يقع في شيء من هذه، فصارت تآليف هذا الإمام العلي قواعد للإسلام، لا نظير لها، وكان متخيراً لا يقلد أحداً، وكان ذا خاصة من أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه. ومنها في أحكام القرآن كتاب ابن أمية (1) الحجاري، وكان شافعي المذهب بصيراً بالكلام على اختياره، وكتاب القاضي أبي الحكم منذر بن سعيد، وكان داودي المذهب قوياً على الانتصار له، وكلاهما في أحكام القرآن غاية، ولمنذر مصنفات منها كتاب " الإبانة عن حقائق أصول الديانة ". ومنها في الحديث مصنف أبي محمد قاسم بن أصبغ بن يوسف بن ناصح، ومصنف محمد بن عبد الملك بن أيمن (2) ، وهما مصنفان رفيعان احتويا من صحيح الحديث وغريبه على ما ليس في كثير من المصنفات، ولقاسم بن أصبغ هذا تآليف حسان جداً، منها أحكام القرآن على أبواب كتاب إسماعيل (3) وكلامه، ومنها كتاب " المجتبى على أبواب كتاب ابن الجارود المنتقى " وهو خير منه وأنقى حديثاً وأعلى سنداً وأكثر فائدةً، ومنها كتاب في فضائل قريش وكنانة (4) ، وكتابه في الناسخ والمنسوخ، وكتاب غرائب حديث مالك بن أنس مما ليس في الموطأ. ومنها كتاب " التمهيد " لصاحبنا أبي عمر يوسف بن عبد البر، وهو الآن بعد في الحياة (5) لم يبلغ سن الشيخوخة، وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً فكيف أحسن منه، ومنها كتاب " الاستذكار " وهو اختصار التمهيد (6) المذكور، ولصاحبنا أبي عمر بن عبد البر

_ (1) الجذوة: ابن آمنة (ص: 380) . (2) انظر الجذوة: 63. (3) يعني إسماعيل بن إسحاق (الجذوة: 311) وبقية النص عن قاسم بن أصبغ مثبت في الجذوة. (4) وكنانة: لم تذكر في الجذوة. (5) م: بقيد الحياة، وقد توفي ابن عبد البر سنة 463 (راجع الصلة: 640 والجذوة: 344) . (6) م: التهذيب.

المذكور كتبٌ لا مثيل لها: منها كتابه المسمى بالكافي في الفقه على مذهب مالك وأصحابه خمسة عشر كتاباً (1) اقتصر فيه على ما بالمفتي الحاجة إليه وبوبه وقربه فصار مغنياً عن التصنيفات الطوال في معناه، ومنها كتابه في الصحابة ليس لأحد من المتقدمين مثله على كثرة ما صنفوا في ذلك (2) ، ومنها كتاب " الاكتفاء في قراءة نافع وأبي عمرو ابن العلاء، والحجة لكل واحد منهما "، ومنها كتاب " بهجة المجالس وأنس المجالس، مما يجري في المذاكرات من غرر الأبيات ونوادر الحكايات "، ومنها كتاب " جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته " (3) . ومنها كتاب شيخنا القاضي أبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن الفرضي في المختلف والمؤتلف في أسماء الرجال، ولم يبلغ عبد الغني الحافظ البصري في ذلك إلا كتابين، وبلغ أبو الوليد رحمه الله تعالى نحو الثلاثين لا أعلم مثله في فنه البتة، ومنها تاريخ أحمد بن سعيد (4) ، ما وضع في الرجال أحد مثله إلا ما بلغنا من تاريخ محمد بن موسى العقيلي البغدادي، ولم أره، وأحمد بن سعيد هو المتقدم إلى التأليف القائم في ذلك، ومنها كتب محمد بن [أحمد بن] (5) يحيى بن مفرج القاضي، وهي كثيرة منها أسفار سبعة جمع فيها فقه الحسن البصري، وكتب كثيرة جمع فيها فقه الزهري. ومما يتعلق بذلك شرح الحديث لقاسم بن ثابت (6) السرقسطي، فما شآه

_ (1) الجذوة: ستة عشر جزءا. (2) يعني كتاب " الاستيعاب ". (3) من كتب ابن عبد البر أيضا الدرر في اختصار المغازي والسير، والشواهد في إثبات خبر الواحد، والبيان عن تلاوة القرآن، والعقل والعقلاء، وأخبار أئمة الأنصار، القصد والأمم، وغيرهما. (4) أحمد بن سعيد الصدفي ألف في تاريخ الرجال كتابا كبيرا جمع فيه جميع ما حصل عليه من أقوال في التعديل والتجريح، توفي سنة 350 (الجذوة: 117 وابن الفرضي 1: 55) . (5) زيادة من الجذوة: 38. (6) في الأصول ودوزي: لعامر بن خلف، وهو خطأ واضح؛ ولقاسم كتاب " غريب الحديث " وقول ابن حزم فيه مذكور في الجوذة: 312.

أبو عبيد إلا بتقدم العصر فقط. ومنها في الفقه " الواضحة " والمالكيون لا تمانع بينهم في فضلها واستحسانهم إياها، ومنها " المستخرجة من الأسمعة " وهي المعروفة ب " العتبية "، ولها عند أهل إفريقية القدر العالي والطيران الحثيث (1) ، والكتاب الذي جمعه أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام الإشبيلي المعروف بابن المكوي (2) ، والقرشي أبو مروان المعيطي (3) في جمع أقاويل مالك كلها على نحو الكتاب " الباهر " الذي جمع فيه القاضي أبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد البصري أقاويل الشافعي كلها، ومنها كتاب " المنتخب " (4) الذي ألفه القاضي محمد بن يحيى بن عمرو بن لبابة، وما رأيت لمالك قط كتاباً أنبل منه في جمع روايات المذهب وشرح مستغلقها وتفريع وجوهها، وتآليف قاسم بن محمد المعروف بصاحب الوثائق وكلها حسن في معناه، وكان شافعي المذهب نظاراً جارياً في ميدان البغدادين (5) . ومنها في اللغة الكتاب " البارع " (6) الذي ألفه إسماعيل بن القاسم يحتوي على لغة العرب، وكتابه في " المقصور والممدود والمهموز " لم يؤلف مثله في بابه، وكتاب " الأفعال " لمحمد بن عمر بن عبد العزيز (7) المعروف بابن القوطية بزيادات ابن طريف مولى العبديين (8) فلم يوضع في فنه مثله، وكتاب جمعه أبو

_ (1) الواضحة لعبد الملك بن حبيب والعتيبة لتلميذه العتبي (الجذوة: 264، 37) . (2) في الأصول: الكوي، والتصويب عن الجذوة: 123 والصلة: 28؛ (توفي سنة 401) . (3) المعيطي هو محمد بن عبيد الله القرشي، وقد قال ابن بشكوال إنهما جمعا الكتاب للمستنصر أما الحميدي فذكر أنهما جمعاه بأمر المنصور بن أبي عامر، واسم الكتاب " الاستيعاب ". (4) انظر الجذوة: 91 وأورد قول ابن حزم. (5) قاسم بن محمد (توفي سنة 278) وله كتاب " الإيضاح في الرد على المقلدين " - الجذوة: 310. (6) بقيت من هذا الكتاب قطعة أخرجها فلتون (Fulton) بالزنكوغراف (لندن: 1933) . (7) في الأصول: لمحمد بن عامر الغزي؛ وكتابه " الأفعال " مطبوع مرتين، إحداهما بمصر. (8) ترجمة ابن طريف في الجذوة: 381.

غالب تمام بن غالب المعروف بابن التياني (1) في اللغة لم يؤلف مثله اختصاراً وإكثاراً وثقة نقل، وهو أظن (2) في الحياة بعد. وههنا قصة لا ينبغي أن تخلو رسالتنا منها، وهي أن أبا الوليد عبد الله بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الفرضي، حدثني أن أبا الجيش مجاهداً صاحب الجزائر ودانية وجه إلى أبي غالب أيام غلبته على مرسية وأبو غالب ساكن بها ألف دينار أندلسية على أن يزيد في ترجمة الكتاب المذكور " مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد " فرد الدنانير وأبى من ذلك، ولم يفتح في هذا باباً البتة، وقال: والله لو بذل لي الدنيا على ذلك ما فعلت ولا استجزت الكذب، لأني لم أجمعه له خاصة بل لكل طالب، فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها. ومنها كتاب أحمد بن أبان بن سيد (3) في اللغة المعروف بكتاب " العالم " نحو مائة سفر على الأجناس في غاية الإيعاب، بدأ بالفلك وختم بالذرة، وكتاب " النوادر " (4) لأبي علي إسماعيل بن القاسم، وهو مبارٍ لكتاب " الكامل " لأبي العباس المبرد، ولعمري لئن كان كتاب أبي العباس أكثر نحواً وخبراً فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعراً، وكتاب " الفصوص " (5) لصاعد بن الحسن الربعي، وهو جارٍ في مضمار الكتابين المذكورين. ومن الأنحاء تفسير الجرفي (6) لكتاب الكسائي، حسن في معناه، وكتاب

_ (1) ترجم له الحميدي مرتين: 172، 380 وأورد في الأولى قصته مع أبي الجيش مجاهد بصدد كتابه في اللغة واسمه " تلقيح العين ". (2) م: أظنه. (3) ق: سعيد؛ م: سيدة؛ وترجمة ابن سيد في الجذوة: 110 والصلة: 14 وكان صاحب الشرطة بقرطبة وتتلمذ للقالي، توفي سنة 382، وترجم له الحميدي مرة أخرى تحت " ابن سيد " (ص: 381) . (4) هو المعروف بكتاب أمالي القالي. (5) من هذا الكتاب مخطوطة جيدة بخزانة القرويين بفاس. (6) في الأصول: الحوفي والتصويب عن الجذوة: 384 إذ ضبطه بالجيم المضمومة.

ابن سيده في ذلك المنبوز ب " العالم والمتعلم " وشرح له لكتاب الأخفش (1) . ومما ألف في الشعر كتاب عبادة بن ماء السماء في " أخبار شعراء الأندلس " كتاب حسن (2) ، وكتاب " الحدائق " لأبي عمر أحمد بن فرج عارض به كتاب الزهرة لأبي محمد بن داوود رحمه الله تعالى، إلا أن أبا بكر إنما أدخل مائة باب في كل باب مائة بيت، وأبو عمر أورد مائتي باب في كل باب مائة بيت ليس منها باب تكرر اسمه لأبي بكر، ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئاً، وأحسن الاختيار ما شاء وأجاد، فبلغ الغاية، وأتى الكتاب فرداً في معناه (3) ، منها كتاب " التشبيهات من أشعار أهل الأندلس " جمعه أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الحسن الكاتب وهو حي بعد (4) ، ومما يتعلق بذلك شرح أبي القاسم إبراهيم بن محمد الإفليلي لشعر المتنبي، وهو حسن جداً (5) . ومن الأخبار تواريخ (6) أحمد بن محمد بن موسى الرازي في أخبار ملوك الأندلس وخدمتهم وغزواتهم ونكباتهم، وذلك كثير جداً، وكتاب له في صفة قرطبة وخططها ومنازل الأعياد بها، على نحو ما بدأ به ابن أبي طاهر في أخبار بغداد وذكر منازل صحابة أبي جعفر المنصور بها، وتواريخ متفرقة رأيت منها: أخبار عمر بن حفصون القائم برية ووقائعه وسيره وحروبه، وتاريخ آخر في أخبار عبد الرحمن بن مروان الجليقي القائم بالجوف، وفي أخبار بني

_ (1) ذكر الحميدي كتابي " العالم والمتعلم " و " شرح كتاب الأخفش " لأبان بن سيد المتقدم الذكر، لا لابن سيده صاحب المخصص والمحكم. (2) لم يصلنا هذا الكتاب، ولكن ابن سعيد ينقل عنه في المغرب. (3) أورد الحميدي (ص: 97) نص كلام ابن حزم هذا في الحدائق، وأكثر الحميدي وابن الأبار في الحلية وابن سعيد في المغرب، النقل عن هذا الكتاب. (4) ترجمة ابن أبي الحسن في الجذوة: 290، قال الحميدي: وعاش إلى أيام الفتنة. (5) هذا الشرح موجود ولكنه لم ينشر بعد. (6) م: تاريخ؛ وهذا النص في الجذوة: 97.

قسي والتجيبيين وبني الطويل بالثغر (1) ، فقد رأيت من ذلك كتباً مصنفة في غاية الحسن، وكتاب مجزأ في أجزاء كثيرة في أخبار رية وحصونها وحروبها وفقهائها وشعرائها تأليف إسحاق بن سلمة بن إسحاق القيني (2) ، وكتاب محمد بن الحارث الخشني في " أخبار القضاة بقرطبة (3) وسائر الأندلس "، وكتاب " في أخبار الفقهاء " بها، وكتاب لأحمد بن محمد بن موسى في " أنساب مشاهير أهل الأندلس " في خمسة أسفار ضخمة من أحسن كتاب في الأنساب وأوسعها، وكتاب قاسم بن أصبغ في " الأنساب " في غاية الحسن والإيجاز، وكتابه في " فضائل بني أمية "، وكان من الثقة والجلالة بحيث اشتهر أمره وانتشر ذكره، ومنها كتب مؤلفة في أصحاب المعاقل والأجناد الستة بالأندلس، ومنها كتب كثيرة جمعت فيها أخبار شعراء الأندلس للمستنصر رحمه الله تعالى، رأيت منها " أخبار شعراء إلبيرة " في نحو عشرة أجزاء، ومنها كتاب " الطوالع " في أنساب أهل الأندلس، ومنها كتاب " التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس " تأليف أبي مروان ابن حيان نحو عشرة أسفار من أجل كتاب ألف في هذا المعنى (4) ، وهو في الحياة بعد لم يتجاوز الاكتهال، وكتاب " المآثر العامرية " لحسين بن عاصم في سير ابن أبي عامر وأخباره (5) ، وكتاب الأقشتين (6) محمد بن عاصم النحوي في

_ (1) ورد طرف من أخبار هؤلاء الثائرين في المقتبس وابن عذاري، وانظر في أنسابهم كتاب الجمهرة: 464. (2) في الأصول: الليثي، والتصويب عن الجذوة: 159، ومعجم البلدان (رية) . (3) كتاب " قضاة قرطبة " للخشني مطبوع مع " علماء إفريقية " له بمصر سنة 1372هـ عن نشرة ريبيرا (1914) . (4) أبو مروان ابن حيان كبير مؤرخي الأندلس وصاحب المقتبس والمتين وغيرهما (الصلة: 150 والذخيرة 1 / 2: 84 - 114) وقد نشر من مقتبسه ثلاث قطع، ويعتمد ابن بسام عليه في الأجزاء التاريخية من كتاب الذخيرة. (5) انظر الجذوة: 181. (6) الأقشين (Augustine) له ترجمة في الجذوة مرتين 74، 82 مرة باسم محمد بن عاصم ومرة باسم محمد بن موسىبن هاشم (وبغية الملتمس رقم: 243، 268) وطبقات الزبيدي: 305 (وكتب خطأ: الأفشنيق) وابن الفرضي 2: 216، وأكبر الظن هناك خطأ وقع بين " عاصم " و " هاشم ". ولم يذكر الزبيدي " محمد بن عاصم " في النحويين، وهو أعرف بهم.

" طبقات الكتاب بالأندلس "، وكتاب سكن بن سعيد في ذلك (1) ، وكتاب أحمد بن فرج في " المنتزين والقائمين بالأندلس وأخبارهم "، وكتاب " أخبار أطباء الأندلس " لسليمان بن جلجل (2) . وأما الطب فكتب الوزير يحيى بن إسحاق (3) وهي كتب رفيعة حسان، وكتب محمد بن الحسن المذحجي أستاذنا رحمه الله تعالى، وهو المعروف بابن الكتاني (4) ، وهي كتب رفيعة حسان، وكتب التصريف لأبي القاسم خلف بن عياش (5) الزهراوي، وقد أدركناه وشاهدناه، ولئن قلنا إنه لم يؤلف في الطب أجمع منه ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع لنصدقن، وكتب ابن الهيثم (6) في الخواص والسموم والعقاقير من أجل الكتب وأنفعها. وأما الفلسفة فإني رأيت فيها رسائل مجموعة وعيوناً مؤلفة لسعيد بن فتحون السرقسطي المعروف بالحمار دالة على تمكنه من هذه الصناعة (7) ، وأما رسائل أستاذنا أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي في ذلك فمشهورة متداولة وتامة الحسن فائقة الجودة عظيمة المنفعة.

_ (1) انظر ترجمة سكن بن سعيد في الجذوة: 319 والبغية رقم: 834. (2) نشره الأستاذ فؤاد السيد (القاهرة: 1955) مع مقدمة ضافية في التعريف بالكتاب ومؤلفة. (3) ترجمته في ابن جلجل: 100 وابن أبي أصيبعة 2: 43 والجذوة: 351 والبغية رقم: 1460. (4) ترجمته في ابن اصيبعة 2: 45 والجذوة: 45 والبغية رقم: 81 وهو أيضا صاحب كتاب التشبيهات، وانظر هنالك تحقيقنا لاسمه ومواضع ترجمته. (5) في النفح عياش؛ وفي المصادر التي ترجمت له (ابن أبي أصيبعة 2: 52 والجذوة: 195 والبغية رقم: 715) " عباس " ومن كتابه التصريف نسخ في برلين وباريس وولي الدين وغيرها (راجع بروكلمان) . (6) هو عبد الرحمن بن إسحاق (ابن أبي اصيبعة 2: 46) . (7) سعيد بن فتحون السرقسطي: ترجمته في طبقات صاعد: 68 والجذوة: 216 وبغية الملتمس رقم: 813 وبغية الوعاة: 256 والذيل والتكملة 4: 40 وانظر فهرست كتاب التشبيهات لابن الكتاني.

وأما العدد والهندسة فلم يقسم لنا في هذا العلم نفاذ، ولا تحققنا به، فلسنا نثق بأنفسنا في تمييز المحسن من المقصر في المؤلفين فيه من أهل بلدنا إلا أني سمعت من أثق بعقله ودينه من أهل العلم ممن اتفق على رسوخه فيه يقول: إنه لم يؤلف في الأزياج مثل زيج مسلمة (1) وزيج ابن السمح (2) ، وهما من أهل بلدنا، وكذلك كتاب المساحة المجهولة لأحمد بن نصر فما تقدم إلى مثله في معناه. وإنما ذكرنا التآليف المستحقة للذكر، والتي تدخل تحت الأقسام السبعة (3) التي لا يؤلف عاقل عالم إلا في أحدها، وهي إما شيء لم يسبق إليه يخترعه، أو شيء ناقص يتمه، أو شيء مستغلق يشرحه، أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء متفرق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مؤلفه يصلحه. وأما التواليف المقصرة عن مراتب غيرها فلم نلتفت إلى ذكرها، وهي عندنا من تأليف أهل بلدنا أكثر من أن نحيط بعلمها. وأما علم الكلام فإن بلادنا وإن كانت لم تتجاذب فيها الخصوم، ولا اختلفت فيها النحل، فقل لذلك تصرفهم في هذا الباب، فهي على كل حال غير عرية عنه، وقد كان فيهم قوم يذهبون إلى الاعتزال، نظار على أصوله، ولهم فيه تواليف: منهم خليل بن إسحاق (4) ، ويحيى بن السمينة (5) ، والحاجب موسى بن حدير وأخوه الوزير صاحب المظالم أحمد (6) ، وكان داعية إلى الاعتزال

_ (1) يعني أبا القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي (توفي 398) ، وله تعديل زيج البتاني. انظر ابن أبي أصيبعة 2: 39 وطبقات صاعد: 78 وتاريخ الحكماء: 326 وملحق بروكلمان. (2) هو أصبغ بن محمد بن السمح المهندس الغرناطي، ألف زيجا على أحد مذاهب الهند (وتوفي سنة 426) ، انظر ابن أبي أصيبعة 2: 39 وطبقات صاعد: 79 وملحق بروكلمان. (3) قارن هذا بما ذكره ابن حزم في كتاب " التقريب لحد المنطق " ص: 10. (4) لعل صوابه " خليل بن عبد الملك " وهو من أصحاب ابن مسرة، وعليه درس ابن السمينة (ابن الفرضي 1: 165 والتكملة: 309) . (5) يحيى بن السمينة توفي سنة 315 (انظر الجذوة: 316 والبغية رقم: 1320) . (6) راجع ترجمة موسى بن حدير في الجذوة: 316 والبغية رقم: 1320، وكان أخوه أحمد بن محمد صاحب الوزارة أيام عبد الرحمن الناصر.

لا يستتر بذلك. ولنا على مذهبنا الذي تخيرناه من مذاهب أصحاب الحديث كتاب في هذا المعنى (1) ، وهو وإن كان صغير الجرم قليل عدد الورق يزيد على المائتين زيادة يسيرة فعظيم الفائدة لأنا أسقطنا فيه المشاغب كلها، وأضربنا عن التطويل جملة، واقتصرنا على البراهين المنتخبة من المقدمات الصحاح الراجعة إلى شهادة الحس وبديهة العقل لها بالصحة. ولنا فيما تحققنا به تآليف جمة، منها ما قد تم، ومنها ما شارف التمام، ومنها ما قد مضى منه صدر ويعين الله تعالى على باقيه، لم نقصد به قصد مباهاة فنذكرها، ولا أردنا السمعة فنسميها، والمراد بها ربنا جل وجهه، وهو ولي العون فيها، والمللي بالمجازاة عليها، وما كان لله تعالى فسيبدو، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وبلدنا هذا - على بعده من ينبوع العلم، ونأيه من محلة العلماء - فقد ذكرنا من تآليف أهله ما إن طلب مثلها بفارس والأهواز وديار مضر وديار ربيعة واليمن والشام أعوز وجود ذلك، على قرب المسافة في هذه البلاد من العراق التي هي دار هجرة الفهم وذويه ومراد المعارف وأربابها. ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي (2) في الشعر لم نباه به إلا جريراً والفرزدق، لكونه في عصرهما، ولو أنصف لاستشهد بشعره، فهو جارٍ على مذهب الأوائل، لا على طريقة المحدثين، وإذا سمينا بقي بن مخلد لم نسابق به إلا محمد بن اسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري وسليمان بن الأشعث وأحمد بن شعيب النسائي، وإذا ذكرنا قاسم بن محمد (3) لم نباه به إلا القفال ومحمد بن عقيل الفريابي، وهو شريكهما في صحبة المزني أبي (4) إبراهيم والتلمذة له، وإذا نعتنا عبد الله بن قاسم بن هلال ومنذر بن سعيد لم نجار

_ (1) أغلب الظن أنه يعني كتاب " المجلى " وهو متن شرحه بالمحلى. (2) ترجمة أبي الأجرب في الجذوة: 177 وبغية الملتمس رقم: 626 والمغرب 1: 131. (3) قد مر ذكره، وهذا النص عنه ثابت في الجذوة. (4) في الأصول: بن.

بهما إلا أبا الحسن ابن المفلس والخلال والديباجي ورويم بن أحمد. وقد شاركهم عبد الله في أبي سليمان وصحبته، وإذا أشرنا إلى محمد بن عمر بن لبابة وعمه محمد بن عيسى وفضل بن سلمة لم نناطح بهم إلا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن سحنون ومحمد بن عبدوس (1) ، وإذا صرحنا بذكر محمد بن يحيى الرباحي (2) وأبي عبد الله محمد بن عاصم لم يقصرا عن أكابر أصحاب محمد بن يزيد المبرد. ولو يكن لنا من فحول الشعراء إلا أحمد بن دراج القسطلي لما تأخر عن شأو بشار بن برد (3) وحبيب والمتنبي، فكيف ولنا معه جعفر بن عثمان الحاجب، وأحمد بن عبد الملك بن مروان، وأغلب بن شعيب، ومحمد بن شخيص، وأحمد بن فرج، وعبد الملك بن سعيد المرادي (4) ، وكل هؤلاء فحل يهاب جانبه، وحصان ممسوح الغرة. ولنا من البلغاء أحمد بن عبد الملك بن شهيد صديقنا وصاحبنا، وهو حي بعد لم يبلغ سن الاكتهال، وله من التصرف في وجوه البلاغة وشعابها مقدار يكاد ينطق فيه بلسان عمرو وسهل (5) ومحمد بن عبد الله بن مسرة (6) في طريقه التي سلك فيها، وإن كنا لا نرضى مذهبه، في جماعة يكثر تعدادهم.

_ (1) وإذا أشرنا ... عبدوس: ورد هذا النص في الجذوة: 71 وبغية الملتمس رقم: 222. (2) الرباحي (نسبة إلى قلعة رباح) من كبار نحويي الأندلس قبل دخول القالي إليها؛ انظر طبقات الزبيدي: 335 وابن الفرضي 2: 71 والجذوة: 91 وبغية الملتمس رقم: 312 والقفطي 3: 229 والوافي 2: 372 وبغية الوعاة: 113. (3) بن برد: زيادة من ق. (4) أحمد بن عبد الملك بن مروان (الجذوة: 123) وأغلب بن شعيب الجياني من شعراء عبد الرحمن الناصر (ص: 165) ومحمد بن شخيص (الجذوة: 84 واليتيمة 2: 23 والمغرب 1: 203 وصفحات متفرقة من المقتبس تحقيق حجي) ، وعبد الملك بن سعيد المرادي الخازن (الجذوة: 266) . (5) يريد: عمرو بن بحر الجاحظ وسهل بن هارون. (6) في ابن المسرة ومذهبه كتاب مستوفي للمستشرق آثين بلاسيوس وخلاصة عنه في تاريخ الفكر الأندلسي لبالنثيا، وانظر كتاب تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة: 52 وما بعدها.

وقد انتهى ما اقتضاه خطاب الكاتب رحمه الله تعالى من البيان، ولم نتزيد فيما رغب فيه إلا ما دعت الضرورة إلى ذكره لتعلقه بجوابه، والحمد لله الموفق لعلمه، والهادي إلى الشريعة المزلفة منه والموصلة، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم، وشرف وكرم. انتهت الرسالة. وكتب الحافظ بن حجر على هامش قوله فيها " وإنما سكن على الكوفة خمسة أعوام وأشهراً " ما نصه: صوابه أربعة أعوام، انتهى. [7 - تذييل ابن سعيد على رسالة ابن حزم] وقال ابن سعيد، بعد ذكره هذه الرسالة ما صورته: رأيت أن أذيل ما ذكره الوزير الحافظ أبو محمد ابن حزم من مفاخر أهل الأندلس بما حضرني والله تعالى ولي الإعانة. أما القرآن فمن أجل ما صنف في تفسيره كتاب " الهداية إلى بلوغ النهاية " في نحو عشرة أسفار، صنفه الإمام العالم الزاهد أبو محمد مكي بن أبي طالب القرطبي (1) ، وله كتاب " تفسير إعراب القرآن "، وعد ابن غالب في كتاب " فرحة الأنفس " تآليف مكي المذكور، فبلغ بها 77 تأليفاً، وكانت وفاته سنة 437، ولأبي محمد بن عطية الغرناطي في تفسير القرآن الكتاب الكبير الذي اشتهر وطار في الغرب والشرق، وصاحبه من فضلاء المائة السادسة (2) . وأما القراءات فلمكي المذكور فيها كتاب " التبصرة "؛ وكتاب " التيسير "

_ (1) ترجمته في الصلة: 597 وغاية النهاية 2: 307؛ اقرأ في جامع الزاهرة حتى انقضت دولة العامريين فنقله المهدي إلى المسجد الجامع بقرطبة واقرأ فيه مدة الفتنة إلى أن قلده أبو الحزم ابن جهور الصلاة والخطبة بالمسجد الجامع؛ ومن الغريب أن ابن حزم أغفل ذكره مع أنه عاصره. (2) توفي أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي سنة 542 (انظر الصلة: 367 والقلائد 208 والمرقبة العليا: 109 والديباج: 174 والمغرب 2: 117؛ والنفح 2: 526) .

لأبي عمرو الداني (1) مشهورٌ في أيدي الناس. وأما الحديث فكان بعصرنا في المائة السابعة الإمام أبو الحسن علي بن القطان القرطبي الساكن بحضرة مراكش (2) ، وله في تفسير غرائبه وفي رجاله مصنفات، وإليه كانت النهاية والإشارة في عصرنا، وسمعت أنه كان اشتغل بجمع أمهات كتب الحديث المشهورة، وحذف المكرر، وكتاب رزين بن عمار الأندلسي (3) في جمع ما يتضمنه كتاب مسلم والبخاري والموطأ والسنن والنسائي والترمذي كتاب جليل مشهور في أيدي الناس بالمشرق والمغرب، وكتاب " الأحكام " لأبي محمد عبد الحق الإشبيلي مشهور متداول القراءة، وهي أحكام كبرى، وأحكام صغرى، قيل: ووسطى، وكتاب " الجمع بين الصحيحين " للحميدي مشهور. وأما الفقه فالكتاب المعتمد عليه الآن الذي ينطلق عليه اسم الكتاب عند المالكية حتى بالإسكندرية فكتاب " التهذيب " للبراذعي السرقسطي (4) ، وكتاب " النهاية " (5) لأبي الوليد ابن رشد كتاب جليل معظم معتمد عليه عند المالكية، وكذلك كتاب " المنتقى " للباجي. وأما أصول الدين وأصول الفقه فللإمام أبي بكر ابن العربي الإشبيلي من

_ (1) أبو عمر عثمان بن سعيد الداني من شيوخ القراء وأبعدهم شهرة؛ انظر في أخباره وكتبه مقدمة المحكم تحقيق الدكتورة عزة حسن (دمشق 1960) . والنفح 2: 135 (رقم: 76) . (2) ترجمة ابن القطان في التكملة رقم: 1920 وصلة الصلة: 131 (توفي سنة 628) وقد استدرك على كتاب الأحكام الآتي ذكره لابن عبد الحق بكتاب سماه " الوهم والإيهام الواقعين على كتاب الأحكام ". (3) هو رزين بن معاوية بن عمار العبدري سرقسطي يكنى أبا الحسن، توفي سنة 524 وكان من علماء الحديث (الصلة: 184) . (4) البراذعي واسمه خلف بن أبي القاسم الأزدي، قيرواني ارتحل إلى صقلية وألف فيها كتابه تهذيب المدونة (الديباج: 112) وفرع منه سنة 327هـ وليس البراذعي سرقسطيا، ويبدو أنه نسب إلى سرقوسة بصقلية واضطرب الأمر في ذلك على ابن سعيد؛ ومن التهذيب نسخة خطية بدار الكتب رقم: 405 فقه مالكي؛ وانظر كتابنا العرب في صقلية: 97 - 98. (5) هو كتاب " نهاية المجتهد " (ابن أبي اصيبعة 2: 77) .

ذلك ما منه كتاب " العواصم والقواصم " المشهور بأيدي الناس، وله تآليف في غير هذا، ولأبي الوليد ابن رشد في أصول الفقه ما منه " مختصر المستصفى ". وأما التواريخ فكتاب ابن حيان الكبير المعروف " بالمتين " في نحو ستين مجلدة وإنما ذكر ابن حزم كتاب " المقتبس " وهو في عشر مجلدات، والمتين يذكر فيه أخبار عصره ويمعن فيها مما شاهده، ومنه ينقل صاحب الذخيرة، وقد ذيل عليه أبو الحجاج البياسي أحد معاصرينا، وهو الآن بإفريقية في حضرتها تونس عند سلطانها تحت إحسانه الغمر، وكتاب المظفر ابن الأفطس لمك بطليوس المعروف " بالمظفري " نحو كتاب " المتين " في الكبر، وفيه تاريخ على السنين، وفنون آداب كثيرة، وتاريخ ابن صاحب الصلاة في الدولة اللمتونية (1) ، وذكر ابن غالب أن ابن الصيرفي الغرناطي له كتاب في " أخبار دولة لمتونة " (2) ، وأن أبا الحسن السالمي له كتاب " في أخبار الفتنة الثانية بالأندلس " (3) بدأ من سنة 539، ورتبه على السنين وبلغ به سنة 547، وأبو القاسم خلف بن بشكوال له كتاب في " تاريخ أصحاب الأندلس " من فتحها إلى زمانه، وأضاف إلى ذلك من أخبار قرطبة وغيرها ما جاء في خاطره، وله كتاب " الصلة " في تاريخ العلماء، وللحميدي قبله " جذوة المقتبس " وقد ذيل كتاب الصلة ف عصرنا هذا أبو عبد الله ابن الأبار البلنسي كاتب سلطان إفريقية. وذكر ابن غالب أن الفقيه أبا جعفر ابن عبد الحق الخزرجي القرطبي له كتاب كبير بدأ فيه من بدء

_ (1) لابن صاحب الصلاة عبد الملك بن محمد الباجي كتاب في ثورة المريدين، ولا أعرف له كتابا في تاريخ اللمتونيين؛ وهو أيضا صاحب كتاب " المن بالإمامة على المستضعفين ". (2) يعد ابن الصير في حجة في تاريخ المرابطين؛ وينقل عنه لسان الدين في أعمال الأعلام أخبارا عن دول الطوائف ليس فيها تحامل امرئ كان وثيق الصلة بالمرابطين؛ انظر ترجمته في المغرب 2: 118 والتكملة: 723. (3) سماه ابن عبد الملك (الذيل 6: الورقة 3 من نسخة المتحف البريطاني) " في الفتنة الكائنة على اللمتونيين بالأندلس سنة أربعين وما يليها "؛ وله مختصر سماه " عبرة العبر وعجائب القدر في ذكر الفتن الأندلسية والعدوية بعد فساد الدولة المرابطية ".

الخليقة إلى أن انتهى في أخبار الأندلس إلى دولة عبد المؤمن، قال: وفارقته سنة 565. وأبو محمد ابن حزم صاحب الرسالة المتقدمة الذكر له كتب جمة في التواريخ، مثل كتاب " نقط العروس في تواريخ (1) الخلفاء " وقد صنف أبو الوليد ابن زيدون كتاب " التبيين في خلفاء بني أمية بالأندلس " على منزع كتاب " التعيين في خلفاء المشرق " للمسعودي. وللقاضي أبي القاسم صاعد بن أحمد الطليطلي كتاب " التعريف بأخبار علماء الأمم من العرب والعجم " وكتاب " جامع أخبار الأمم ". وأبو عمر بن عبد البر له كتاب " القصد والأمم في معرفة أخبار العرب والعجم ". وعريب بن سعد القرطبي له كتاب " اختصار تاريخ الطبري " قد سعد باغتباط الناس به، وأضاف إليه تاريخ إفريقية والأندلس، ولأحمد بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن [أبي] الفياض كتاب " العبر " (2) ، وكتاب أبي بكر الحسن بن محمد الزبيدي في " أخبار النحويين واللغويين بالمشرق والأندلس " (3) ، وكتاب القاضي أبي الوليد ابن الفرضي في " أخبار العلماء والشعراء " وما يتعلق بذلك وليحيى بن حكم الغزال تاريخ ألفه كله منظوماً (4) ، كما صنع أيضاً بعده أبو طالب المتنبي من جزيرة شقر في التاريخ الذي أورد منه صاحب الذخيرة ما أورد (5) ، وكتاب " الذخيرة " لابن بسام في جزيرة الأندلس ليس هذا مكان الإطناب في تفصيلها وهي كالذيل على حدائق ابن فرج، وفي عصرها (6) صنف الفتح كتاب " القلائد " وهو مملوء بلاغة،

_ (1) ب: تاريخ. (2) ابن أبي الفياض أصله من إستجة وسكن المرية، قال ابن بشكوال (الصلة: 63) له تأليف في الخبر والتاريخ، ولكنه لم يمسه؛ توفي سنة 459. (3) هو الذي نشير إليه في هذه التعليقات باسم " طبقات الزبيدي ". (4) انظر ترجمة الغزال في النفح 2: 254 (رقم: 165) . (5) راجع الذخيرة 1 / 2: 405 حيث تجد أرجوزة ابن عبد الجبار المتنبي. (6) م: عصرنا.

والمحاكمة بين الكتابين ذكرت بمكان (1) آخر، ولصاحب القلائد كتاب " المطمح " وهو ثلاث نسخ: كبرى، ووسطى، وصغرى، يذكر فيها من الذين ذكرهم في القلائد ومن غيرهم الذين كانوا قبل عصرهم، وكتاب " سمط الجمان وسقط (2) المرجان " لأبي عمرو ابن الإمام بعد الكتابين المذكورين، ذكر من أخلا بتوفيته حقه من الفضلاء، واستدرك من أدركه بعصره في بقية المائة السادسة، وذيل عليه - وإن كان ذيلاً قصيراً - أبو بحر (3) صفوان بن إدريس المرسي بكتاب " زاد المسافر " ذكر فيه جماعة ممن أدرك المائة السابعة، وكتاب أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الحجاري المسمى ب " المسهب في فضائل المغرب " صنفه بعد " الذخيرة " و " القلائد " من أول ما عمرت الأندلس إلى عصره، وخرج فيه عن مقصد الكتابين إلى ذكر البلاد وخواصها مما يختص بعلم الجغرافية، وخلطه بالتاريخ وتفنن الأدب على ما هو مذكور في غير هذا المكان، ولم يصنف في الأندلس مثل كتابه، ولذلك فضله المصنف له عبد الملك بن سعيد، وذيل عليه، ثم ذيل على ذلك ابناه أحمد ومحمد ثم موسى بن محمد ثم علي بن موسى كاتب هذه النسخة ومكمل كتاب " فلك الأدب المحيط بحلى لسان العرب " المحتوي على كتابي " المشرق في حلى المشرق " و " المغرب في حلى المغرب "، فيكفي الأندلس في هذا الشأن تصنيف هذا الكتاب بين ستة أشخاص في 115 سنة آخرها سنة 645، وقد احتوى على جميع ما يذاكر به ويحاضر بحلاه من فنون الأدب المختارة على جهد الطاقة في شرق وغرب على النوع الذي هو مذكور في غير هذا الموضع، ومن أغفلت التنبيه على عصرهن وغير ذلك من المصنفين المتقدمي الذكر، فيطلب الملتمس منه في مكانه المنسوب إليه كابن

_ (1) ق: في مكان. (2) ب م: وسقيط؛ وعن هذا الكتاب ينقل ابن سعيد في المغرب. (3) ق: أبو يحيى؛ وهو خطأ.

بسام في شنترين، والفتح في إشبيلية، وابن الإمام في إستجة، والحجاري في وادي الحجارة. وأما ما جاء منثوراً من فنون الأدب فكتاب " سراج الدب " لأبي عبد الله ابن أبي الخصال الشقوري رئيس كتاب الأندلس (1) ، صنفه على منزع كتاب " النوادر " لأبي علي، و " زهر الآداب " للحصري؛ وكتاب " واجب الأدب " لوالدي موسى بن محمد بن سعيد، واسمه يغني عن المراد به؛ وكتاب " اللآلئ " لأبي عبيد البكري على كتاب " الأمالي " لأبي علي البغدادي مفيد في الأدب، وكذلك كتاب " الاقتضاب في شرح أدب الكتاب " لأبي محمد ابن السيد البطليوسي، وأما شرح " سقط الزند " له فهو الغاية، ويكفي ذكره عند أرباب هذا الشأن وثناؤهم عليه، وشروح أبي الحجاج الأعلم بشعر المتنبي والحماسة وغير ذلك مشهورة. وأما النحو فلأهل الأندلس من الشروح على " الجمل " (2) ما يطول ذكره، فمنها شرح ابن خروف، ومنها شرح الرندي، ومنها شرح شيخنا أبي الحسن ابن عصفور الإشبيلي، وإليه انتهت علوم النحو، وعليه الإحالة الآن من المشرق والمغرب، وقد أتيت له من إفريقية بكتاب " المقرب " في النحو فتلقي باليمين من كل جهة، وطار بجناح الاغتباط، ولشيخنا أبي علي الشلوبين كتاب " التوطئة " على الجزولية وهو مشهور، ولابن السيد وابن الطراوة والسهيلي من التقييدات في النحو ما هو مشهور عند أصحاب هذا الشأن المعتمد عليه، ولأبي الحسن ابن خروف شرح مشهور على كتاب سيبويه. وأما علم الجغرافيا فيكفي في ذلك كتاب المسالك والممالك لأبي عبيد البكري

_ (1) راجع ترجمة أبي عبد الله ابن أبي الخصال في المطرب: 187 وبغية الملتمس رقم: 282 وقلائد العقيان: 175 والصلة: 557 وبغية الوعاة: 104 ورايات المبرزين: 74، وله ذكر في المعجب والمغرب ومعجم شيوخ الصدفي وجذوة الاقتباس. (2) انظر كشف الظنون: 603 - 604 ففيه ذكر لبعض شروح الجمل من تأليف الأندلسيين وغيرهم.

الأونبي وكتاب " معجم مستعجم من البقاع والأماكن "، وفي كتاب " المسهب " للحجاري في هذا الشأن وتذييلنا عليه في هذا الكتاب الجامع زبد (1) الأولين والآخرين في ذلك. واما الموسيقى فكتاب أبي بكر ابن باجة الغرناطي في ذلك فيه كفاية وهو في المغرب بمنزلة أبي نصر الفارابي بالمشرق، وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد، وليحيى الخذوج (2) المرسي كتاب " الأغاني الأندلسية " على منزع الأغاني لأبي الفرج، وهو ممن أدرك المائة السابعة. واما الطب فالمشهور بأيدي الناس الآن في المغرب، وقد سار أيضاً في المشرق لنبله، كتاب " التيسير " (3) لعبد الملك بن أبي العلاء بن زهر وله كتاب " الأغذية " (4) أيضاً مشهور مغتبط به في المغرب والمشرق، ولأبي العباس ابن الرومية الإشبيلي (5) من علماء عصرنا بهذا الشأن كتاب في الأدوية المفردة، وقد جمع أبو محمد المالقي (6) الساكن الآن بقاهرة مصر كتاباً في هذا الشأن حشر عليه ما سمع به فقدر عليه من تصانيف الأدوية المفردة ككتاب الغافقي وكتاب الزهراوي وكتاب الشريف الإدريسي الصقلي وغيرها وضبطه على حروف المعجم، وهو النهاية في مقصده. وأما الفلسفة فإمامها في عصرنا أبو الوليد ابن رشد القرطبي، وله فيها تصانيف جحدها لما رأى انحراف منصور بني عبد المؤمن عن هذا العلم،

_ (1) م: زبدة. (2) في الأصول: الخدج: وقد ضبطه الرعيني في برنامجه: 164 وهو أبو زكرياء يحيى بن إبراهيم الأصبحي الحكيم؛ قال: عرض علي كتابه الكبير الذي سماه الأغاني الأندلسية وقرأت عليه خطبته ومواضع منه وناولني جميع أسفاره. (3) هو كتاب التيسير في المداواة والتدبير (ابن أبي أصيبعة 2: 67) . (4) ألف ابن زهر كتاب الأغذية للخليفة عبد المؤمن بن علي (المصدر السابق) . (5) انظر ترجمة ابن الرومية في ابن أبي أصيبعة 2: 87 والإحاطة 1: 88 (ط. السلفية) والنفح 2: 596 (رقم: 221) ومزيدا من المصادر في الحاشية. (6) يريد ابن البيطار صاحب كتاب المفردات وقد مرت ترجمته في المجلد 2: 691 (رقم: 304) .

وسجنه بسببها، وكذلك ابن حبيب (1) الذي قتله المأمون بن المنصور المذكور على هذا العلم بإشبيلية، وهو علم ممقوت بالأندلس لا يستطيع صاحبه إظهاره، فلذلك تخفى تصانيفه. وأما التنجيم فلابن زيد الأسقف القرطبي فيه تصانيف، وكان مختصاً بالمستنصر بن الناصر المرواني، وله ألف كتاب " تفصيل الأزمان ومصالح الأبدان " وفيه من ذكر منازل القمر وما يتعلق بذلك ما يستحسن مقصده وتقريبه، وكان مطرف الإشبيلي في عصرنا قد اشتغل بالتصنيف في هذا الشأن، إلا أن أهل بلده كانوا ينسبونه للزندقة بسبب اعتكافه على هذا الشأن فكان لا يظهر شيئاً مما يصنف. [8 - رسالة الشقندي في الدفاع عن الأندلس] ثم قال ابن سعيد: أخبرني والدي قال: كنت يوماً في مجلس صاحب سبتة أبي يحيى ابن أبي زكريا صهر ناصر بني عبد المؤمن، فجرى بين أبي الوليد الشقندي وبين أبي يحيى ابن المعلم الطنجي نزاع في التفضيل بين البرين، فقال الشقندي لولا الأندلس لم يذكر بر العدوة، ولا سارت عنه فضيلة، ولولا التوقير للمجلس لقلت ما تعلم، فقال الأمير أبو يحيى: أتريد أن تقول كون أهل برنا عرباً وأهل بركم (2) بربر فقال: حاش لله! فقال الأمير: والله ما أردت غير هذا، فظهر في وجهه أنه أراد ذلك، فقال ابن المعلم: أتقول هذا وما الملك والفضل إلا من بر العدوة فقال الأمير: الرأي عندي أن يعمل كل واحد منكما رسالة في تفضيل بره، فالكلام هنا يطول ويمر ضياعاً، وأرجو إذا أخليتما له فكركما يصدر عنكما ما يحسن تخليده، ففعلا ذلك:

_ (1) هو ابن حبيب القصري (المغرب 1: 296) . (2) م: بلدنا ... بلدكم.

فكانت رسالة الشقندي: الحمد لله الذي جعل لمن يفخر بجزيرة الأندلس (1) أن يتكلم ملء فيه، ويطنب ما شاء فلا يجد من يعترض عليه ولا من يثنيه، إذ لا يقال للنهار: يا مظلم، ولا لوجه النعيم: يا قبيح. وقد وجدت مكان القول ذا سعةٍ ... فإن وجدت لساناً قائلاً فقل أحمده على أن جعلني ممن أنشأته، وحباني بأن كنت ممن أظهرته، فامتد في الفخر باعي، وأعانني على الفضائل كرم طباعي، وأصلي على سيدنا محمد نبيه الكريم، وعلى آله وصحبه الأكرمين، وأسلم تسليماً. أما بعد؛ فإنه حرك مني ساكناً، وملأ مني فارغاً، فخرجت عن سجيتي في الإغضاء، مكرهاً إلى الحمية والإباء، منازعٌ في فضل الأندلس أراد أن يخرق الإجماع، ويأتي (2) بما لا تقبله النواظر والأسماع، إذ من رأى ومن سمع لا يجوزعنده (3) ذلك، ولا يضله من تاه في تلك المسالك، رام أن يفضل بر العدوة على بر الأندلس فرام (4) أن يفضل على اليمين اليسار، ويقول: الليل أضوأ من النهار، فيا عجبا كيف قابل العوالي بالزجاج، وصادم الصفاة (5) بالزجاج، فيا من نفخ في غير ضرم، ورام صيد البزاة بالرخم، كيف تتكثر بما جعله الله قليلاً، وتتعزز بما حكم الله أن يكون ذليلاً وكيف تبدي أمام الفتاة العجوز سل العيون إلى وجه من تميل واستخبر الأسماع إلى حديث من تصغي (6)

_ (1) ب: ببر الأندلس. (2) ب: ويتأتى. (3) م: له. (4) م: رام. (5) م: قابل للآلي ... الصفاح؛ ب: الصفة بالرجاج. (6) البيت لربيعة الرقي. انظر الأغاني 16: 189 وفيه هجاء ليزيد بن أسيد وكان جليلا عند المنصور والمهدي، وتفصيل ليزيد بن حاتم الأزدي.

لشتّان ما بين اليزيدين في النّدى ... يزيد سليم والأغرّ ابن حاتم اقن حياءك أيها المغرد (1) بالنحيب، المتزين بالخلق المتحبب إلى الغواني بالمشيب الخضيب، أين عزب عقلك وكيف نكص على عقبه (2) فهمك ولبك أبلغت العصبية من قلبك، أن تطمس على نوري (3) بصرك ولبك أما قولك " الملوك منا " فقد كان الملوك منا أيضاًن وما نحن إلا كما قال الشاعر: فيومٌ علينا ويومٌ لنا ... ويومٌ نساء ويومٌ نسرّ إن كان الآن كرسي جميع بلاد المغرب عندكم بخلافة بني عبد المؤمن، أدامها الله تعالى، فقد كان عندنا بخلافة القرشيين الذين يقول مشرقيهم: وإنّي من قوم كرام أعزّة ... لأقدامهم صيغت رؤوس المنابر خلائف في الإسلام في الشرك قادة ... بهم وإليهم فخر كلّ مفاخر ويقول مغربيهم (4) : ألسنا بني مروان كيف تبدلت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر إذا ولد المولود منّا تهلّلت ... له الأرض واهتزّت إليه المنابر وقد نشا في مدتهم من الفضلاء والشعراء ما اشتهر في الآفاق، وصار أثبت في صحائف (5) الأيام، من الأطواق في أعناق الحمام:

_ (1) ق: المفرد. (2) م: على عقبيه؛ ب: على عقب. (3) م: نور، وسقطت اللفظة من ق هي والعبارة من قوله: أبلغت ... لبك. (4) البيتان من شعر محمد بن عبد الملك حفيد عبد الرحمن الناصر (الحلة 1: 209) قال ابن الأبار: وقد أنشد أبو منصور الثعالبي في اليتيمة من تأليفه هذا الشعر ونسبه إلى الحكم المستنصر بالله ... وهذا من أغلاظ أبي منصور وأوهامه الفاحشة. (5) ب ودوزي: على صحائف.

وسار مسير الشمس في كلّ بلدةٍ ... وهبّ هبوب الريح في البرّ والبحر ولم تزل ملوكهم في الاتساق كما قيل: إنّ الخلافة فيكم لم تزل نسقاً ... كالعقد منظومة فيه فرائده إلى أن حكم الله بنثر سلكهم، وذهاب ملكهم، فذهبوا وذهبت أخبارهم، ودرسوا ودرست آثارهم (1) : جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسّير فكم مكرمة أنالوها، وكم (2) عثرة أقالوها: وإنّما المرء حديثٌ بعده ... فكن حديثاً حسناً لمن وعى وكان من حسنات ملكهم المنصور الن أبي عامر، وما أدراك، الذي بلغ في بلاد النصارى غازياً إلى البحر الأخضر، ولم يترك أسيراً في بلادهم من المسلمين، ولم يبرح (3) في جيش الهرقل وعزمة الاسكندر، ولما قضى نحبه كتب على قبره (4) : آثاره تنبيك عن أوصافه ... حتّى كأنّك بالعيان تراه تالله لا يأتي الزّمان بمثله ... أبداً ولا يحمي الثغور سواه وقد قيل فيه من الأمداح، وألف له من الكتب، ما سمعت وعلمت، حتى قصد من بغداد، وعم خيره وشره أقاصي (5) البلاد، ولما ثار بعد انتثار

_ (1) زاد في م: كما قيل. (2) م: وكم من. (3) م: ولم يزل. (4) مر البيتان، انظر ج: 1 ص: 398. (5) أقاصي: سقطت من م.

هذا النظام ملوك الطوائف وتفرقوا في البلاد، كان في تفرقهم اجتماعٌ على النعملفضلاء العباد، إذ نفقوا سوق العلوم، وتباروا في المثوبة على المنثور والمنظوم، فما كان أعظم مباهاتهم إلا قول: العالم الفلاني عند الملك الفلاني، والشاعر الفلاني مختص بالملك الفلاني، وليس منهم إلا من بذل وسعه في المكارم، ونبهت الأمداح من مآثره ما ليس طول الدهر بنائم، وقد سمعت ما كان من الفتيان العامرية مجاهد ومنذر وخيران، وسمعت عن الملوك العربية: بنو عباد وبنو صمادح وبنو الأفطس وبنو ذي النون وبنو هود، كل منهم قد خلد فيه من الأمداح، ما لو مدح به الليل لصار أضوأ من الصباح (1) ، ولم تزل الشعراء تتهادى بينهم تهادي النواسم بين الرياض، وتفتك في أموالهم فتكة البراض، حتى إن أحد شعرائهم بلغ به ما رآه من منافستهم في أمداحه أن حلف أن لا يمدح أحداً منهم بقصيدة إلا بمائة دينار وأن المعتضد بن عباد على ما اشتهر من سطوته وإفراط هيبته كلفه أن يمدحه بقصيدة فأبى حتى يعطيه ما شرطه (2) في قسمه، ومن أعظم ما يحكى من المكارم التي لم نسمع لها أختاً أن أبا غالب اللغوي ألف كتاباً، فبذل له مجاهد العامري ملك دانية ألف دينار ومركوباً وكسىً على أن يجعل الكتاب باسمه، فلم يقبل ذلك أبو غالب، وقال: كتاب ألفته لينتفع به الناس، وأخلد فيه همتي، أجعل في صدره اسم غيري، وأصرف الفخر له، لا أفعل ذلك، فلما بلغ هذا مجاهداً استحسن أنفته وهمته، وأضعف له العطاء، وقال: هو في حلٍ من أن يذكرني فيه، لا نصده عن غرضه (3) . وإن كان كل ملوك الأندلس المعروفين بملوك الطوائف قد تنازعوا (4) في ملاءة الحضر، فإني أخص منهم بني عباد، كما قال الله

_ (1) م: النهار. (2) م: شرط. (3) مرت الحكاية في رسالة ابن حزم؛ انظر ما تقدم ص: 172. (4) الصواب إسقاط " في "، من قول الخنساء: يتنازعان ملاءة الحضر.

تعالى " فيهما فاكهةٌ ونخلٌ ورمان " فإن الأيام لم تزل بهم كأعياد، وكان لهم من الحنو على الأدب، ما لم يقم به بنو حمدان في حلب، وكانوا هم وبنوهم ووزراؤهم صدوراً في بلاغتي النظم والنثر، مشاركين في فنون العلم، وآثارهم مذكورة، وأخبارهم مشهورة، وقد خلدوا من المكارم التامة، ما هو متردد في ألسن الخاصة والعامة، وبالله إلا سميت لي بمن تفخرون قبل هذه الدعوة المهدية، أبسقوت (1) الحاجب أم بصالح البرغواطي (2) أم بيوسف بن تاشفين الذي لولا توسط ابن عباد لشعراء الأندلس في مدحه ما أجروا له ذكراً، ولا رفعوا لملكه قدرا وبعدما ذكروه بوساطة المعتمد بن عباد فإن المعتمد قال له، وقد أنشدوه أيعلم أمير المسلمين ما قالوه قال: لا أعلم ولكنهم يطلبون الخبز، ولما انصرف عن المعتمد إلى حضرة ملكه كتب له المعتمد (3) رسالة فيها: بنتم وبنّا فما ابتلت جوانحنا ... شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينا حالت لفقدكم أيامنا فغدت ... سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا فلما قرئ عليه هذان البيتان قال للقارئ: يطلب منا (4) جواري سوداً وبيضاً، قال: لا يا مولانا، ما أراد إلا أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهاراً لأن الليالي السرور بيض، فعاد نهاره ببعده (5) ليلاً لأن أيام الحزن ليالٍ سود، فقال: والله جيد، اكتب له في جوابه: إن دموعنا

_ (1) ب: ابسقمود؛ ق ودوزي: أبسقموت؛ وهو سقوط البرغواطي المتغلب على مدينة سبتة ومنه أخذها يوسف بن تاشفين (انظر مفاخر البربر: 54 وما بعدها) . (2) هو صالح بن طريف الذي استحدث لبرغوطة مذهبا مستقلا، حوالي سنة 123هـ. (انظر الاستبصار 198 - 200 في بعض الأخبار عنه وعن مذهبه) . وفي م: البغرواطي. (3) زاد في م: يتشوق. (4) م: هو يطلب، وسقطت " هو يطلب منا " في ب. (5) م: ببعد أمير المسلمين.

تجري عليه، ورؤوسنا توجعنا من بعده، فليت العباس بن الأحنف قد عاش حتى يتعلم من هذا الفاضل رقة الشوق: ولا تنكرن مهما رأيت مقدماً ... على حمرٍ بغلاً فثمّ تناسب فاسكتوا (1) فلولا هذه الدولة، لما كان لكم على الناس صولة: وإن الورد يقطف من قتاد ... وإنّ النار تقبس من رماد وإنك إن تعرضت للمفاضلة بالعلماء (2) فأخبرني: هل لكم في الفقه مثل عبد الملك بن حبيب الذي يعمل بأقواله إلى الآن، ومثل أبي الوليد الباجي، ومثل أبي بكر ابن العربي، ومثل أبي الوليد ابن رشد الأكبر، ومثل أبي الوليد ابن رشد الأصغر، وهو ابن ابن الأكبر، نجوم الإسلام، ومصابيح شريعة محمد عليه السلام، وهل لكم في الحفظ مثل أبي محمد ابن حزم الذي زهد في الوزارة والمال ومال إلى رتبة العلم، ورآها فوق كل رتبة، وقال وقد أحرقت كتبه (3) : دعوني من إحراق رقّ وكاغدٍ ... وقولوا بعلمٍ كي يرى الناس من يدري فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس، إذ هو في صدري ومثل أبي عمر ابن عبد البر صاحب " الاستذكار " و " التمهيد " ومثل أبي بكر ابن الجد حافظ الأندلس في هذه الدولة، وهل لكم في حفاظ اللغة كابن سيده صاحب كتاب " المحكم " وكتاب " السماء والعالم " الذي إن أعمى الله بصره فما أعمى بصيرته، وهل لكم في النحو مثل أبي محمد ابن السيد وتصانيفه ومثل ابن الطراوة، ومثل أبي علي الشلوبين الذي بين أظهرنا الآن، وقد سار في المغارب والمشارق ذكره، وهل لكم في علوم اللحون والفلسفة كابن باجة،

_ (1) م: فاسكتوا يا أهل العدوة. (2) ب: العلماء. (3) انظر ج 2: 82.

وهل لكم في علم النجوم والفلسفة والهندسة ملك كالمقتدر بن هود صاحب سرقسطة، فإنه كان في ذلك آية وهل لكم في الطب مثل ابن طفيل صاحب رسالة " حي بن يقظان " المقدم في علم (1) الفلسفة، ومثل بني زهر أبي العلاء ثم ابنه عبد الملك ثم ابنه أبي بكر ثلاثة على نسق وهل لكم في علم التاريخ كابن حيان صاحب " المتين " و " المقتبس " وهل عندكم في رئساء علم الأدب مثل أبي عمر بن عبد ربه صاحب " العقد " وهل لكم في الاعتناء بتخليد مآثر فضلاء إقليمه والاجتهاد في حشد محاسنهم مثل ابن بسام صاحب " الذخيرة " وهب أنه كان يكون لكم مثله فما تصنع الكيسة في البيت الفارغ وهل لكم في بلاغة النثر كالفتح بن عبيد الله الذي إن مدح رفع، وإن ذم وضع، وقد ظهر له من ذلك في كتاب " القلائد " ما هو أعدل شاهد، ومثل ابن أبي الخصال في ترسيله، ومثل أبي الحسن سهل بن مالك الذي بين أظهرنا الآن في خطبه، وهل لكم في الشعر ملك مثل المعتمد ابن عباد في قوله (2) : وليل بسدّ النهر أنساً قطعته ... بذات سوارٍ مثل منعطف النهر نضت بردها عن غصن بانٍ منعم ... فيا حسن ما انشقّ الكمام عن الزهر وقوله في أبيه (3) : سميدعٌ يهب الآلاف مبتدءاً ... وبعد ذلك يلفى وهو يعتذر (4) له يدٌ كلّ جبّار يقبّلها ... لولا نداها لقلنا إنها الحجر ومثل ابنه الراضي (5) في قوله:

_ (1) ب: المتقدم؛ م: في علوم. (2) ديوانه: 12، والمقتطف، الورقة: 31 وعنوان المرقصات: 22 والقلائد: 6. (3) ديوانه: 37 - 38 وعنوان المرقصات: 22 والثاني في المقتطف: 29. (4) ب: معتذر. (5) م: الراضي بالله؛ وانظر البيتين في الحلة 2: 71.

مرّوا بنا أصلاً من غير ميعاد ... فأوقدوا نار قلبي أيّ إيقاد لا غرو إن زاد في وجدي مرورهم ... فرؤية الماء تذكي غلّة الصادي وهل لكم ملك ألف في فنون الآداب كتاباً في نحو مائة مجلدة مثل المظفر ابن الأفطس ملك بطليوس ولم تشغله الحروب ولا المملكة عن همة الأدب وهل لكم من الوزراء مثل ابن عمار في قصيدته التي سارت أشرد من مثل، وأحب إلى الأسماع من لقاء حبيب وصل التي منها (1) : أثمرت رمحك من رؤوس ملوكهم ... لمّا رأيت الغصن يعشق مثمرا وصبغت درعك من دماء كماتهم ... لمّا رأيت الحسن يلبس أحمرا ومثل ابن زيدون في قصيدته التي لم يقل مع طولها في النسيب أرق منها، وهي التي يقول فيها: كأنّنا لم نبت والوصل ثالثنا ... والسّعد قد غضّ من أجفان واشينا سرّان في خاطر الظّلماء يكتمنا ... حتّى يكاد لسان الصبح يفشينا وهل لكم من الشعراء مثل ابن وهبون في بديهته بين يدي المعتمد بن عباد وإصابته الغرض حين استحسن المعتمد قول المتنبي: إذا ظفرت منك المطيّ بنظرة ... أثاب بها معيي المطيّ ورازمه فارتجل: لئن جاد شعر ابن الحسين فإنّما ... تجيد العطايا واللها تفتح اللها تنبأ عجباً بالقريض ولو درى ... بأنّك تروي شعره لتؤلّها

_ (1) أورد المقري قصيدة ابن عمار، في النفح ج: 1 ص: 655.

وهل لكم مثل شاعر الأندلس ابن دراج الذي قال فيه الثعالبي (1) " هو بالصقع الأندلسي كالمتنبي بصقع الشام " الذي إن مدح الملوك قال مثل قوله (2) : ألم تعلمي أنّ الثّواء هو التّوى ... وأنّ بيوت العجزين قبور وأنّ خطيرات المهالك ضمّنٌ ... براكبها أنّ الجزاء خطير تخوّفني طول السّفار وإنّه ... بتقبيل كفّ العامريّ جدير (3) مجير الهدى والدين من كلّ ملحدٍ ... وليس عليه للضّلال مجير تلاقت عليه من تميمٍ ويعربٍ ... شموسٌ تلاقت في العلا وبدور هم يستقلّون الحياة لراغبٍ ... ويستصغرون الخطب وهو كبير ولمّا توافوا للسّلام ورفّعت ... عن الشمس في أفق الشروق ستور وقد قام من زرق الأسنّة دونها ... صفوفٌ ومن بيض السيوف سطور رأوا ساعة الرحمن كيف اعتزازها ... وآيات صنع الله كيف تنير وكيف استوى بالبرّ والبحر مجلسٌ ... وقام بعبء الراسيات سرير فجاؤوا عجالاً والقلوب خوافقٌ ... وولّوا بطاء والنواظر صور يقولون والإجلال يخرس ألسناً ... وحازت عيون ملأها وصدور لقد حاط أعلام الهدى بك حائطٌ ... وقدّر فيك المكرمات قدير وأنا أقسم بما حازته هذه الأبيات، من غرائب الآيات، لو سمع هذا المدح سيد بني حمدان لسلى به عن مدح شاعره الذي ساد كل شاعر، ورأى أن هذه الطريقة أولى بمدح الملوك من كل ما تفنن فيه كل ناظم وناثر. وإن ذكر الغرب عن الأوطان، ومكابدة نوائب الزمان، قال (4) :

_ (1) م: الثعالبي في اليتيمة. (2) ديوان ابن دراج. (3) الديوان: لتقبيل كف العامري سفير. (4) ديوان ابن دراج: 110، 112 وانظر المغرب 2: 61.

قالت وقد مزج الفراق مدامعاً ... بمدامع وترائباً بترائب أتفّرقٌ حتى بمنزل غربة ... كم نحن للأيّام نهبة ناهب ولئن جنيت عليها ترحة راحلٍ ... فأنا الزعيم لها بفرحة آيب هل أبصرت عيناك بدراً طالعاً ... في الأفق إلاّ من هلالٍ غارب وإن شبه قال (1) : كمعاقلٍ من سوسنٍ قد شيّدت ... أيدي الربيع بناءها فوق القضب شرفاتها من فضّة وحماتها ... حول الأمير لهم سيوف من ذهب وهل من شعرائكم من تعرض لذكر العفة فاستنبط ما يسحر به السحر، ويطيب به الزهر، وهو أبو عمر ابن فرج في قوله (2) : وطائعة الوصال عففت عنها ... وما الشّيطان فيها بالمطاع بدت في الليل سافرةً فباتت ... دياجي اللّيل سافرة القناع وما من لحظةٍ إلاّ وفيها ... إلى فتن القلوب لها دواعي فملّكت النّهى جمحات شوقي ... لأجري في العفاف على طباعي وبتّ بها مبيت السّقب (3) يظما ... فيمنعه الكعام من الرضاع كذاك الروض ما فيه لمثلي ... سوى نظر وشمٍّ من متاع ولست من السوائم مهملات ... فأتّخذ الرياض من المراعي وهل بلغ أحد من مشبهي شعرائكم أن يقول مثل قول أبي جعفر اللمائي (4) :

_ (1) ديوانه: 36. (2) الأبيات لأبي عمر أحمد بن محمد بن فرج الجياني (الجذوة: 97 - 98 والمطمح: 80 والمغرب: 2: 56) . (3) م: السقط. (4) ترجمته في المطمح: 25 ولم يورد البيتين؛ والذخيرة 1 / 2: 132، وهما منسوبان لابن برد في الذخيرة 1 / 2: 47، وأوردهما ابن سعيد للمائي في عنوان المرقصات: 22.

عارضٌ أقبل في جنح الدّجى ... يتهادى كتهادي ذي الوجى بدّدت (1) ريح الصّبا لؤلؤه ... فانبرى يوقد عنها سرجا ومثل قول أبي حفص ابن برد (2) : وكأنّ الليل حين لوى ... ذاهباً (3) والصبح قد لاحا كلّةٌ سوداء أحرقها ... عامدٌ أسرج مصباحا وهل منكم من وصف ما تحدثه الخمرة من الحمرة على الوجنة بمثل قول الشريف الطليق (4) : أصبحت شمساً وفوه مغربا ... ويد الساقي المحيّي مشرقا وإذا ما غربت في فمه ... تركت في الخدّ منه شفقا بمثل هذا الشعر (5) فليطلق اللسان ويفخر (6) كل إنسان. وهل منكم من عمد إلى قول امرؤ (7) القيس: سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سموّ حباب الماء حالاً على حال فاختلسه اختلاس النسيم لنفحة الأزهار، واستلبه (8) بلطفٍ استلاب ثغر الشمس لرضاب طل الأسحار، فلطفه تلطيفاً يمتزج بالأرواح، ويغني في

_ (1) الذخيرة: أتلفت. (2) البيتان في الذخيرة 1 / 2: 48 وعنوان المرقصات: 22. (3) الذخيرة: هاربا. (4) من قصيدة أورد أكثرها ابن بسام في الذخيرة 1 / 2: 81 - 82. (5) ب: الشاعر. (6) ب م: ويفخر على. (7) هذا هو ما ذكره ابن شهيد نفسه (الذخيرة 1 / 1: 244 - 245) . (8) ق: وسلبه.

الارتياح عن شراب الراح وهو ابن شهيد في قوله (1) : ولمّا تملأّ من سكره ... ونام ونامت عيون الحرس دنوت إليه على رقبةٍ (2) ... دنوّ رفيقٍ درى ما التمس أدبّ إليه دبيب الكرى ... وأسموا إليه سموّ النفس أقبل منه بياض الطّلى ... وأرشف منه سواد اللّعس فبتّ به ليلتي ناعماً ... إلى أن تبسم ثغر الغلس وقد تناول هذا المعنى ابن أبي ربيعة على عظم قدره وتقدمه فعارض الصهيل بانهاق، وقابل العذب بالزعاق، فقال وليته سكت: ونفضتّ عنّي العين أقبلت مشية ال ... حباب وركني خيفة القوم أزور وأنا أقسم (3) لو زار جملٌ محبوبة له لكان ألطف في الزيارة من هذا الأزور الركن المنفض للعيون، لكنه إن أساء هنا فقد أحسن في قوله (4) : قالت لقد أعييتنا حجّة ... فأت إذا ما هجع الساهر واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لا ناهٍ ولا زاجر ولله در محمد ابن سفر (5) أحد شعرائنا المتأخرين عصراً المتقدمين قدراً، حيث نقل السعي إلى محبوبته فقال وليته لم يزل يقول مثل هذا، فبمثله ينبغي أن يتكلم، ومثله يليق أن يدون:

_ (1) في قوله: سقطت من م. (2) في الأصول: على قربه. (3) م: أقسم أن. (4) ينسب هذا الشعر لوضاح اليمن. (5) أبو الحسين محمد بن سفر (أو صفر) شاعر المرية في عصره؛ انظر المغرب 2: 212 والتحفة: 101 والوافي 3: 114 والنفح ج: 1 ص: 476، وقد نسب المريني في النفح وعنوان المرقصات وأغلب الظن أن صوابه " المريي " نسبة إلى بلده المرية.

وواعدتها والشمس تجنح للنّوى ... بزورتها شمساً وبدر الدّجى يسري فجاءت كما يمشي سنا الصبح في الدّجى ... وطوراً كما مرّ النسيم على النّهر فعطّرت الآفاق حولي فأشعرت ... بمقدمها والعرف يشعر بالزهر فتابعت بالتقبيل آثار سعيها ... كما يتقصّى قارئٌ أحرف السطر فبتّ بها والليل قد نام والهوى ... تنبّه بين الغصن والحقف والبدر أعانقها طوراً وألثم تارةً ... إلى أن دعتنا للنوى راية الفجر ففضّت عقوداً للتعانق بيننا ... فيا ليلة القدر اتركي ساعة النفر وهل منكم من قيد بالإحسان فأطلق لسانه الشكر، فقا وهو ابن اللبانة (1) : بنفسي وأهلي جيرةٌ ما استعنتهم ... على الدّهر إلا وانثنيت معانا أراشوا جناحي ثمّ بلّوه بالنّدى ... فلم أستطع من أرضهم طيرانا ومن يقول لقد قطع عنه ممدوحه ما كان يعتاده منه من الإحسان، فقابل ذلك بقطع مدحه له، فبلغه أنه عتبه على ذلك، وهو ابن وضاح (2) : هل كنت إلاّ طائراً بثنائكم ... في دوح مجدكم أقوم وأقعد إن تسلبوني ريشكم وتقلّصوا ... عنّي ظلالكم فكيف أغرّد وهل منكم شاعر رأى الناس قد ضجّوا من سماع تشبيه الثغر بالأقاح، وتشبيه الزهر بالنجوم، وتشبيه الخدود بالشقائق، فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خلقه في الأسماع جديداً، وكليله في الأفكار حديداً، فأغرب أحسن إغراب، وأعرب عن فهمه بحسن تخيله أنبل إعراب، وهو ابن الزقاق (3) :

_ (1) البيتان في عنوان المرقصات: 36. (2) عنوان المرقصات: 38. (3) مقطوعات ابن الزقاق هذه في ديوانه: 124، 197، 125 وفيه التخريجات.

وأغيدٍ طاف بالكؤوس ضحىً ... وحثّها والصّباح قد وضحا والروض أهدى لنا شقائقه ... وآسه العنبريّ قد نفحا قلنا: وأين الأقاح قال لنا ... أودعته ثغر من سقى القدحا فظلّ ساقي المدام يجحد ما ... قال فلما تبسّم افتضحا وقال: أديراها على الروض المندّى ... وحكم الصبح في الظّلماء ماضي وكأس الرّاح تنظر عن حبابٍ ... ينوب لنا عن الحدق المراض وما غلبت نجوم الأفق لكن ... نقلن من السماء إلى الرّياض وقال: ورياضٍ من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تروق لون الراح قلت: ما ذنبها فقال مجيباً: ... سرقت حمرة الخدود الملاح فانظر كيف زاحم بهذا الاختيال المخترعين وكيف سابق بهذا اللفظ المبتدعين وهل منكم من برع في أوصاف الرياض والمياه وما يتعلق بذلك فانتهى إلى راية السباق، وفضح كل من طمع بعده في اللحاق، وهو أبو إسحاق ابن خفاجة القائل (1) : وعشيّ أنسٍ أضجعتنا نشوةٌ ... فيها يمهّد مضجعي ويدمّث خلعت عليّ بها الأراكة ظلّها ... والغصن يصغي والحمام يحدّث

_ (1) م: في قوله؛ وأشعار ابن خفاجة هذه في ديوانه: 185، 356، 254، 291، 140، 119، 235، 123.

والشمس تجنح للغروب مريضةً ... والرًعد يرقي والغمامة تنفث والقائل: لله نهرٌ سال في بطحاء ... أشهى وروداً من لمى الحسناء متعطّفٌ مثل السّوار كأنّه ... والزهر يكنفه مجرّ سماء قد رقّ حتى ظنّ قرصاً مفرغاً ... من فضةٍ في بردة خضراء وغدت تحفّ به الغصون كأنّها ... هدبٌ تحفً بمقلةٍ زرقاء ولطالما أعطيت فيه مدامةً ... صفراء تخضب أيدي الندماء والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء والقائل: حثّ المدامة والنّسيم عليل ... والظلّ خفاق الرواق ظليل والرّوض مهتزّ المعاطف نعمةً ... نشوان تعطفه الصّبا فيميل ريّان فضّضه الندى ثمّ انجلى ... عنه فذهّب صفحتيه أصيل والقائل: أذن الغمام بديمةٍ وعقار ... فامزج لجيناً منهما بنضار واربع على حكم الربيع بأجرعٍ ... هزج الندامى مفصح الأطيار متقسّم الألحاظ بين محاسنٍ ... من ردف رابيةٍ وخصر قرار نثرت بحجر الروض فيه يد الصّبا ... درر الندى ودراهم الأنوار وهفت بتغريدٍ هنالك أيكةٌ ... خفّاقةٌ بمهبّ ريح عرار هزّت له أعطافه ولربّما ... خلعت عليه ملاءة النوّار (1)

_ (1) م: الأنوار.

والقائل: سقياً لها من بطاح خزٍّ ... ودوح نهرٍ بها مطلّ إذ لا ترى غير وجه شمسٍ ... أطلّ فيه عذار ظلّ القائل: نهرٌ كما سال اللّمى سلسال ... وصباً بليلٌ ذيلها مكسال وهبّ نفحة ليلةٍ مطلولةٍ ... في جانبيها للنّسيم مجال غازلتها والأقحوانة مبسمٌ ... والآس صدغٌ والبنفسج خال والقائل: وساقٍ كحيل اللّحظ في شأو حسنه ... جماحٌ وبالصبر الجميل حران ترى للصبا ناراً بخدّيه لم يثر ... لها من سوادي عارضيه دخان سقاها وقد لاح الهلال عشيةً ... كما اعوجّ في درع الكميّ سنان عقاراً نماها الكرم فهي كريمةٌ ... ولم تزن بابن المزن فهي حصان وقد جال من (1) جون الغمامة أدهمٌ ... له البرق سوطٌ والشّمال عنان وضمّخ ردع (2) الشمس نحر حديقةٍ ... عليه من الطّلّ السقيط جمان ونمّت بأسرار الرّياض خميلةٌ ... لها النّور ثغرٌ والنسيم لسان والقائل في وصف فرس ولم يخرج عن طريقته: وأشقرٍ تضرم منه الوغى ... بشعلةٍ من شعل الباس من جلّنارٍ ناضرٍ لونه ... وأذنه من ورق الآس يطلع للغرّة في شقرةٍ ... حبابةً تضحك في كاس

_ (1) م: جال في. (2) في الأصول: درع؛ والردع: الخلوق.

وهل منكم من يقول منادماً لنديمه وقد باكر روضاً بمحبوب وكأس، فألفاه قد غطى محاسنه ضباب، فخاف أن يكسل نديمه عن الوصول إذا رأى ذلك، وهو أبو الحسن ابن بسام (1) : ألا بادر فما ثانٍ سوى ما ... عهدت الكأس والبدر التمام ولا تكسل برؤيته ضباباً ... تغصّ (2) به الحديقة والمدام فإن الرّوض ملثمٌ إلى أن ... توافيه فينحطّ اللثام وهل منكم من تغزل في غلام حائك بمثل قول الرصافي (3) : قالوا وقد أكثروا في حبّه عذلي ... لو لم تهم بمذال القدر مبتذل قفلت: لو كان أمري في الصبابة لي ... لاخترت ذاك، ولكن ليس ذالك لي علّقته حببيّ الثّغر عاطره ... حلو اللمى ساحر الأجفان والمقل غزيّلٌ لم تزل في الغزل جائلةً ... بنانه جولان الفكر في الغزل جذلان تلعب بالمحواك أنمله ... على السّدى لعب الأيّام بالأمل ضمّاً بكفّيه أو فحصاً بأخمصه ... تخبّط الظبي في أشراك محتبل ومثل قوله في تغلب مسكة الظلام على خلوق الأصيل (4) : وعشيٍّ رائقٍ منظره ... قد قطعناه علىصرف الشّمول وكأنّ الشّمس في أثنائه ... ألصقت بالأرض خدّاً للنزول والصّبا ترفع أذيال الرّبى ... ومحيّا الجوّ كالنهر الصقيل حبّذا منزلنا مغتبقاً ... حيث لا يطرقنا غير الهديل

_ (1) الأبيات في عنوان المرقصات: 36. (2) ب م: تغض. (3) ديوان الرصافي: 121. (4) ديوان الرصافي: 123.

طائرٌ شادٍ وغصنٌ منثنٍ ... والدجى تشرب صهباء الأصيل وهل منكم من يقول في موشح فيما يجره هذا المعنى: ورداء الأصيل ... تطويه كفّ الظلام وهو أبو قاسم ابن الفرس (1) . وهل منكم من وصف غلاماً جميل الصورة راقصاً بمثل قول ابن خروف (2) : ومنزع (3) الحركات يلعب بالنّهى ... لبس المحاسن عند خلع لباسه متأوّداً كالغصن وسط رياضه ... متلاعباً كالظبي عند كناسه بالعقل يلعب مقبلاً أو مدبراً ... كالدهر يلعب كيف شاء بناسه ويضمّ للقدمين منه رأسه ... كالسيف ضمّ ذبابه لرئاسه وهل منكم من وصف خالاً بأحسن من قول النشار (4) : ألوّامي على كلفي بيحيى ... متى من حبّه أرجو سراحا وبين الخدّ والشفتين خالٌ ... كزنجيّ أتى روضاً صباحا تحيّر في جناه فليس يدري ... أيجني الورد أم يجني الأقاحا وهل منكم من اهتدى إلى معنى في لثم وردة الخد ورشف رضاب الثغر لم يهتد إليه أحد غيره، وهو أبو الحسن سلام بن سلام المالقي (5) في قوله:

_ (1) ق ب: أبو القاسم؛ والأرجح أن هذا البيت من موشحة له في المغرب 2: 122. (2) ابن خروف هذا هو علي بن محمد بن يوسف بن خروف القيسي الراحل إلى المشرق؛ توفي بحلب حوالي سنة 620 وترجمته في الذيل والتكملة 5: 396، ومصادر ترجمته في الحاشية؛ وأبياته في الذيل وصلة الصلة: 115 وانظر النفح 2: 640 (رقم 267) . (3) كذا في أصول النفح؛ وفي الذيل: ومنوع. (4) أبو علي النشار بلنسي من شعراء زاد المسافر (ص: 57) وأبياته هنالك. (5) صاحب المقامات السبع وكتاب الذخائر والأعلاق في أدب النفوس ومكارم الأخلاق (توفي 544) راجع ترجمته في المغرب 1: 434 والذيل والتكملة 4: 48 وجعله ابن عبد الملك إشبيليا؛ وبيتاه في المغرب.

لمّا ظفرت بليلةٍ من وصله ... والصبّ غير الوصل لا يشفيه أنضجت وردة خدّه بتنفسي ... وطفقت أرشف ماءها من فيه وهل منكم من هجا من غير النطق بإقذاع فبلغ ما لم يبلغه المقذع، وهو المخزومي في قوله (1) : يودّ عيسى نزول عيسى ... عساه من دائه يريح وموضع الداء منه عضوٌ ... لا يرتضي مسّه المسيح ولمّا أقذع أتى أيضاً بأبدع، فقال: يا فارس الخيل ولا فارسٌ ... إلا على متن الجواد الخصى زدت على موسى وآياته ... تفجّر الماء وتخفي العصا وهل منكم من مدح بمعنى فبلغ به النهاية من المدح، ثم نقله إلى الهجاء فبلغ به النهاية من الذم، وهو اليكي (2) في قوله مادحاً: قومٌ لهم شرف العلا في حميرٍ ... وإذا انتموا لمتونةً فهم هم لمّا حووا أحراز كلّ فضيلةٍ ... غلب الحياء عليهم فتلثّموا وفي قوله هاجياً: إن المرابط باخلٌ بنواله ... لكنّه بعياله يتكرم

_ (1) هو المخزومي الأعمى الذي مرت قصته مع نزهون (النفح 1: 190 - 193) ، انظر بيتيه الأولين في زاد المسافر: 75. (2) سماه ابن سعيد (المغرب 2: 266) " ابن رومي عصرنا وحطيئة دهرنا " وبيتاه الأولان في المغرب: 268.

الوجه من مخلّقٌ بقبيح ما ... يأتيه فهم من آجله يتلثم وهل منكم من هجا أشتر العين بمثل قول أبي العباس ابن حنون (1) الإشبيلي: يا طلعةً أبدت قبائح جمّةً ... فالكلّ منها إن نظرت قبيح أبعينك الشتراء عينٌ ثرّةٌ ... منها ترقرق دمعها المسفوح شترت فقلنا: زورق في لجّة ... مالت بإحدى دفّتيه الريح وكأنمّا إنسنها ملاّحها ... قد خاف منغرقٍ فظلّ يميح وهل منكم من حضر مع عدوٍ له جاحدٍ لما فعله معه من الخير، وأمامهما زجاجة سوداء فيها خمر، فقال له الحسود المذكور: إن كنت شاعراً فقل في هذه، فقال ارتجالاً، وهو ابن مجبر (2) : سأشكو إلى الندمان أمر زجاجةٍ ... تردّت بثوبٍ حالك اللون أسحم نصبّ بها شمس المدامة بيننا ... فتغرب في جنحً من الليل مظلم وتجحد أنوار الحميّا بلونها ... كقلب حسودٍ جاحدٍ يد منعم وهل منكم من قال لفاضل جمع بينه وبين فاضل، وهو أبو جعفر الذهبي (3) :

_ (1) أبو العباس أحمد بن حنون (عنوان المرقصات: حيون) الإشبيلي، أهله من أغنياء إشبيلية اتهم بالقيام على الموحدين، ثم عفي عنه مدة منصور بني عبد المؤمن (راجع ترجمته في المغرب 1: 244 وزاد المسافر: 50 وشعره فيهما وفي عنوان المرقصات: 44) . (2) يحيى بن مجبر أبو بكر من بلش (Velz Malaga) ، توفي سنة 588 بمراكش؛ ترجمته في زاد المسافر: وبغية الملتمس رقم: 1493 وله شعر كثير سيرد في النفح؛ وفي شرح المقصورة والجزء الثالث من البيتان المغرب. (3) هو أبو جعفر أحمد بن عتيق بن جرج المعروف بابن الذهبي من أعيان بلنسية غلبت عليه الفلسفة، وهو من أصحاب ابن رشد، إلا أنه اختفى حين طلب أستاذه إلى أن صدر العفو عنه (انظر المغرب 2: 321 وابن أبي أصيبعة 2: 81 والديباج: 69 وبغية الوعاة: 144 والغصون اليانعة: 36 والتكملة: 95 وأبياته في المغرب) .

أيّها الفاضل الذي قد هداني ... نحو من قد حمدته باختبار شكر الله ما أتيت وجازا ... ك ولا زلت نجم هدى لساري أيّ يرقٍ أفاد أيّ غمامٍ ... وصباح أدى لضوء نهار وإذا ما غدا النسيم دليلي ... لم يحلني إلا على الأزهار وهل منكم أعمى قال في ذهاب بصره وسواد شعره، وهو التطيلي (1) : أما اشتفت منّي الأيام في وطني ... حتى تضايق فيما عنّ من وطري ولا قضت من سواد العين حاجتها ... حتى تكرّ على ما طلّ في الشّعر وهل منكم الذي طار في مشارق الأرض ومغاربها قوله، وهو أبو القاسم محمد بن هانئ الإلبيري: فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمدكم فلق الصّباح المسفر وجنيتم ثمر الوقائع يانعاً ... بالنصر من ورق الحديد الأخضر وقد سمعت فائتيه في النجوم، ولولا طولها لأنشدتها هنا، فأنها أحسن ما قيل في معناها. وهل منكم من قال في الزهد مثل قول أبي الوهب العباسي القرطبي (2) : أنا في حالتي التي قد تراني ... إن تأملت أحسن الماس حالاً منزلي حيث شئت من مستقرّ ال ... أرض أسقى من المياه زلالا ليس لي كسوةٌ أخاف عليها ... من مغيرٍ ولا ترى لي مالا أجعل الساعد اليمين وسادي ... ثم أثنى إذا انقلبت الشمالا

_ (1) ديوان التطيلي: 49. (2) له ترجمة مسهبة في المغرب 1: 58 وأبياته مثبتة هنالك.

ليس لي والدٌ ولا لي مولو ... دٌ ولا حزت مذ عقلت عيالا قد تلذّذت حقبةً (1) بأمورٍ ... فتأمّلتها (2) فكانت خيالا ومثل قول أبي محمد عبد الله بن العسال الطليطلي (3) : انظر الدّنيا فإن أب ... صرتها شيئاً يدوم فاغد منها في أمانٍ ... إن يساعدك النعيم وإذا أبصرتها من ... ك على كرهٍ تهيم فاسل عنها واطّرحها ... وارتحل حيث تقيم وهل نشأ عندكم من النساء مثل ولاّدة المروانية (4) التي تقول مداعبة للوزير ابن زيدون، وكان له غلام اسمه علي: ما لابن زيدون على فضله ... يغتابني ظلماً ولا ذنب لي ينظرني شزراً إذا جئته ... كأنّما جئت لأخصي علي ومثل زينب بنت زياد المؤدب الوادي آشية التي تقول: ولمّا أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار وشنّوا على أسماعنا كلّ غارة ... وقلّ حماتي عند ذاك وأنصاري غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسيف والماء والنار وأنا أختم هذه القطع المتخيرة بقول ابي بكر ابن بقيّ ليكون الختام مسكاً (5) :

_ (1) م: خيفة. (2) المغرب: فتدبرتها. (3) م: أبي عبد الله محمد؛ وراجع ترجمة ابن العسال في المغرب 2: 21 والحاشية. (4) ستأتي تراجم لأدبيات الأندلس في النفح وسيجري التعريف بهن وبمصادر ترجمتهن هنالك. (5) اشتهرت هذه الأبيات عند المشارقة، فعارضوها ووردت في عدة مصادر؛ انظر المغرب 2: 21 ومعجم الأدباء 19: 21.

عاطيته والليل يسحب ذيله ... صهباء كالمسك الفتيق لناشق وضممته ضمّ الكميّ لسيفه ... وذؤابتاه حمائلٌ في عاتقي حتى إذا مالت به سنة الكرى ... زحزحته شيئاً وكان معانقي باعدته (1) عن أضلعٍ تشتاقه ... كيلا ينام على وسادٍ خافق وبثقول القاضي أبي حفص ابن عمر القرطبي (2) : هم نظروا لواحظها فهاموا ... وتشرب لبّ شاربها المدام يخاف الناس مقلتها سواها ... أيذعر قلب حامله الحسام سما طرفي إليها وهو باكٍ ... وتحت الشمس ينسكب الغمام وأذكر قدّها فأنوح وجداً ... على الأغصان تنتدب الحمام وأعقب بينها في الصدر غمّاً ... إذا غربت ذكاء أتى الظلام وبقوله أيضاً: لها ردفٌ تعلّق في لطيف ... وذاك الردف لي ولها ظلوم يعذّبني إذا فكّرت فيه ... ويتعبها إذا رامت تقوم وقد أطلت عنان النظم (3) ، علىأني اكتفيت عن الاستدلال على النهار بالصباح، فبالله إلا ما أخبرتني (4) : من شاعركم الذي تقابلون به شاعراً ممن ذكرت لا أعرف لكم أشهر ذكراً، وأضخم شعراً، من أبي العباس الجراوي،

_ (1) ب: أبعدته. (2) هو القاضي الأديب أبو حفص عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر السلمي، كان من أهل الفتيا بمدينة فاس ثم ترقى إلى الخطابة والقضاء، ولاه المنصور الموحدي قضاء إشبيلية ومات بها وهو قاض سنة 603 (انظر الغصون اليانعة: 91 وصلة الصلة: 72 وزاد المسافر: 101؛ والقطعتان في الغصون والثانية في زاد المسافر؛ وفي الشريشي 1: 158) . (3) م: عنان القلم في النظم. (4) ق: أخبرت.

وأولى لكم أن تجحدوا فخره، وتنسوا ذكره، فقد كفاكم ما جرى من الفضيحة عليكم في قوله من قصيدة يمدح بها خليفة: إذا كان أملاك الزمان أراقماً ... فإنّك فيهم دائم الدهر ثعبان فما أقبح ما وقع ثعبان وما أضعف ما جاء دائم الدهر، ولقد أنشدت أحد ظرفاء الأندلس هذا البيت، فقال: لا ينكر هذا على مثل الجراوي، فسبحان من جعل نسبه وروحه وشعره تتناسب في الثقالة (1) . وإذا أردت الافتخار بالفرسان، والتفاضل باالشجعان، فمن كان قبلنا منهم في مدة المنصور بن أبي عامر ومدة ملوك الطوائف أخبارهم مشهورةٌ، وآثارهم مذكورة، وكفاك من أبطال عصرنا ما سمعت عن الأمير أبي عبد الله ابن مردنيش وأنه كان يدفع في المواكب ويشقها يميناً ويساراً منشداً: أكرّ على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها حتى إنه دفع يوماً في موكب من النصارى فصرع وقتل، وظهر منه ما أعجبت به نفسه، فقال لشيخ من خواصه، عالم بأمور الحرب مشهور بها: كيف رأيت فقال له: لو رآك السلطان زاد فيما لك في بيت المال، وأعلى مرتبتك، أمن يكون رأس جيش يقدم هذا الإقدام، ويتعرض بهلاك نفسه إلى هلاك جيشه (2) فقال له: دعني فإني لا أموت مرتين، وإذا مت أنا فلا عاش من بعدي. والقائد أبو عبد الله ابن قادس الذي اشتهر من شجاعته وما واقعه في النصارى وحسن بلائه ماصير النصارى من رعبه والإقرار بفضله في هذا الشأن أن يقول

_ (1) في الثقالة: سقطت من ب. (2) ب: هلاكهم؛ ق: هلاككم.

أحدهم لفرسه إذا سقاه فلم يقبل على الماء: ما لك أرأيت ابن قادس في الماء وهذه مرتبة عظيمة: " والفضل ما شهدت به الأعداء " ... ولقد أخبرني من أثق به أنه خرج من عسكرٍ في كتيبة مجردة برسم الغارة على بلاد النصارى، فوقع في جمع كبير منهم، فجهد جهده في الخلاص منهم والرجوع إلى العسكر، فجعل يقاتل مه أصحابه في حالة الفرار إلى أن كبا بأحد جنده فرسه، وفرّ عنه، فناداه مستغيثاً، فقال: اصبر، ثم نظر إلى فارس من النصارى قد طرق فقال: اجر إلى هذا النصراني فخذ فرسه، وركض نحوه فأسقطه، وقال لصاحبه: اركب، فركب ونجا معه سالماً؛ وأمثال هذا كثير، وإنما جئت بحصاة من ثبير. وأما كرم النفس وشمائل الرياسة، فأنا أحكي لك حكاية تتعجب منها، وهي مما جرى في عصرنا، وذلك أن أبا بكر ابن زهر نشأت بينه وبين الحافظ أبي بكر ابن الجد عداوة مفرطة للاشتراك في العلم والرياسة وكثرة المال والبلدية (1) ، فأجرى ابن زهر يوماً ذكره في جماعة من أصحابه، وقال: لقد آذانا هذا الرجل أشد أذية، ولم يقصر في القول عند أمير المؤمنين وعند خواص الناس وعوامهم، فقال له أحد عوامهم: إني (2) أذكر لك عليه عقداً فيه مخاصمة في موضع مما يعز عليه من مواضعه، ومتى خاصمته في ذلك بلغت منه في النكاية أشد مبلغ، فحرج ابن زهر، وأظهر الغضب الشديد، والإنكار لذلك، وقال لوكيله: أمثلي يجازي على العداوة بما يجازي به السفل والأوباش وإني أجعل ابن الجد في حل من موضع الخصام، وأمر بأن يحمل له العقدن ثم قال: وإني

_ (1) وكثرة ... والبلدية: سقطت من م. (2) م: أنا.

والله ما أروم بذلك أ، أصالحه، فإن عداوته من حسد، وأنا أسأل الله تعالى أن يديمها لأنها مقترنة بدوام نعم الله علي. وإن تعرضت إلى ذكر البلاد، وتفسير محاسنها، وما خصها الله تعالى به مما حرمها غيرها، فاسمع ما يميت الحسود كمداً: أما إشبيلية فمن محاسنها اعتدال الهواء، وحسن المباني، وتزيين الخارج والداخل، وتمكن التمصر، حتى إن العامة تقول: لو طلب لبن الطير في إشبيلية وجد، ونهرهاالأعظم الذي يصعد المد فيه اثنين وسبعين ميلاً ثم يحسر، وفيه يقول ابن سفر: شقّ النسيم عليه جيب قميصه ... فانساب من شطّيه يطلب ثاره فتضاحكت ورق الحمام بدوحها ... هزءاً فضمّ من الحياء إزاره وزيادته على الأنهار كون ضفتيه مطرزتين (1) بالمنازه والبساتين والكروم والأنشام (2) متصل ذلك اتصالاً لا يوجد على غيره. وأخبرني شخص من الأكياس دخل مصر وقد سألته عن نيلها أنه (3) لا تتصل بشطيه البساتين والمنازه اتصالها بنهر إشبيلية، وكذلك أخبرني شخص آخر دخل بغداد، وقد سعد هذا الوادي بكونه لا يخلو من مسرةٍ، وأن جميع أدوات الطرب وشرب الخمر فيه غير منكر لا ناهٍ عن ذلك ولا منتقد، ما لم يؤد السكر إلى شر وعربدة، وقد رام من وليها من الولاة المظهرين للدين قطع ذلك، فلم يستطيعوا إزالته، وأهله أخف الناس أرواحاً، وأطبعهم نوادر، وأحملهم لمزاح بأقبح ما يكون من السب، قد مرنوا على ذلك، فصار لهم ديدناً حتى صار عندهم من لا يبتذل فيه ولا يتلاعن ممقوتاً ثقيلاً. وقد سمعت عن شرف إشبيلية الذي ذكره أحد الوشاحين في موشحة مدح بها المعتضد ابن عباد:

_ (1) في الأصول: مطرزة. (2) الأنشام: نوع من الشجر. (3) م: فذكر أنه.

إشبيليا عروساً ... وبعلها عبّاد وتاجها الشرف ... وسلكها الواد أي شرف قد حاز ما شاء من الشرف إذ عم أقطار الأرض خيره، وسفر ما يعصر من زيتونه من الزيت حتى بلغ الإسكندرية، وتزيد قراه على غيرها من القرى بانتخاب مبانيها، وتهمم سكانها فيها داخلاً وخارجاً، إذ هي من تبييضهم لها نجوم في سماء الزيتون. وقيل لأحد من رأى مصر والشام: أيها رأيت أحسن هذان أم إشبيلية فقال بعد تفضيل إشبيلية: وشرفها غابة بلا أسد، ونهرها نيل بلا تمساح. وقد سمعت عن جبال الرحمة بخارجها، وكثرة ما فيها من التين القوطي والشعري، وهذان الصنفان أجمع المتجولون في أقطار الأرض أن ليس في غير إشبيلية مثلٌ لهما، وقد سمعت ما في هذا البلد من أصناف أدوات الطرب كالخيال والكريج والعود والروطة والرباب والقانون والمؤنس (1) والكثيرة (2) والفنار (3) والزلامي والشقرة (4) والنورة وهما مزماران الواحد غليظ الصوت والآخر رقيقه - والبوق (5) ، وإن كان جميع هذا موجوداً في غيرها من بلاد الأندلس فإنه فيها أكثر وأوجد، وليس في بر العدوة من هذا شيء إلا ما جلب إليه (6) من الأندلس وحسبهم الدف وأقوال واليرا وأبو قرون ودبدبة السودان وحماقي البرابر، وأما جواريها ومراكبها براً وبحراً ومطابخها وفواكهها الخضراء واليابسة فأصناف

_ (1) م: والدنس. (2) دوزي: الكنيرة. (3) دوزي: الغنار. (4) ب: والسفرة. (5) وقد أثبت دوزي أسماء هذه الآلات الموسيقية في ملحق المعاجم ولكنه لم يحدد مدلولاتها في الأكثر، ومن الصعب ضبط بعض أسمائها. (6) م: إليها.

أخذت من التفضيل بأوفر نصيب، وأما مبانيها فقد سمعت عن إتقانها واهتمام أصحابها بها وكون أكثر ديارها لا تخلو من الماء الجاري والأشجار المتكاثفة كالنارنج والليمون والزنبوع وغير ذلك، وأما علماؤهم في كل صنف رفيع أو وضيع جداً أو هزلاً فأكثر من أن يعدوا، وأشهر من أن يذكروا، وأما ما فيها من الشعراء والوشاحين والزجالين فما لو قسموا على بر العدوة ضاق بهم، والكل ينالون خير رؤسائها ورفدهم، وما من جميع ما ذكرت في هذه البلدة الشريفة إلا وقصي به العبارة عن فضائل جميع الأندلس، فما تخلو بلادها من ذلك، ولكن جعلت غشبيلية، بل الله جعلها أم قراها، ومركز فخرها وعلاها، إذ هي أكبر مدنها، وأعظم أمصارها. وأما قرطبة فكرسي المملكة في القديم، ومركز العلم ومنار التقى ومحل التعظيم والتقديم، بها استقرت ملوك الفتح وعظماؤه، ثم الملوك المروانية، وبها كان يحيى ابن يحيى راوية مالك، وعبد الملك ابن حبيب، وقد سمعت من تعظيم أهلها للشريعة، ومنافستهم في السؤدد بعلمها، وأن ملوكها كانوا يتواضعون لعلمائها، ويرفعون أقدارهم، ويصدرون عن آرائهم، وأنهم كانوا لا يقدمون وزيراً ولا مشاوراً ما لم يكن عالماًن حتى إن الحكم المستنصر لما كره له العلماء شرب الخمر (1) هم بقطع شجرة العنب من الأندلس، فقيل له: فإنها تعصر من سواها، فأمسك عن ذلك؛ وأنهم كانوا لا يقدمون أحداً للفتوى ولا لقبول الشهادة حتى يطول اختباره، وتعقد له مجالس المذاكرة، ويكون ذا مال في غالب الحال خوفاً من أن يميل به الفقر إلى الطمع (2) فيما في أيدي الناس فيبيع به حقوق الدين، ولقد أخبرت أن الحكم الربضي أراد تقديم شخص من الفقهاء يختص به للشهادة، فأخذ في ذلك مع يحيى ابن يحيى وعبد الملك وغيرهما من أعلام العلماء، فقالوا له: هم أهل، ولكنه شديد الفقر، ومن

_ (1) م ق: بغض الخمر. (2) ب: للطمع.

يكون في هذه الحالة لا تأمنه (1) على حقوق المسلمين، لا سيما وأنت تريد انتفاعه وظهوره في الدخول في المواريث والوصايا وأشباه ذلك، فسكت ولم ير منازعتهم، وبقي مهموماً من كونهم لم يقبلوا قوله، فنظر إليهولده عبد الرحمن الذي ولي الملك بعده، وعلى وجهه أثر ذلك، فقال: ما بالك يامولاي فقال: ألا ترى لهؤلاء الذين نقدمهم وننوه عند الناس بمكانهم حتى إذا كلفناهم ما ليس عليهم فيه شطط، بل ما لا يعيبهم (2) ، ولا هو مما يرزؤهم شيئاً صدونا عنه، وغلقوا أبواب الشفاعة، وذكر له ما كان منهم، فقال: يا مولاي، أنت أولى الناس بالإنصاف، إن هؤلاء ما قدمتهم أنت ولا نوهت بهم، وإنما قدمهم ونوه بهم علمهم، أو كنت تأخذ قوماً جهالاً فتضعهم في مواضعهم قال: لا، قال: فأنصفهم فيما تعبوا فيه من العلم لينالوا به لذة الدنيا وراحة الآخرة، قال: صدقت، ثم قال: وأما كونهم لم يقبلوا هذا الرجل لشدة فقره فالعلة في ذلك تنحسم بما يبقي لك في الصالحات ذكراً، قال: وما هو قال: تعطيه من مالك قدر ما يلحق به من الغنى ما يؤهله لتلك المنزلة، ويزيل عنك هذا خجل ردهم لك، وتكون هذه مكرمة ما سبقك إليها أحد، فتهلل وجه الحكم وقال: إلي إلي، إنها والله شنشنة عبشمية وإن الذي قال فينا لصادق: وأبناء أملاك خضارٍ سادة ... صغيرهم عند الأنام كبير ثم استدعى عبد الملك بن حبيب وسأله عن قدر ما يؤهله لتلك المرتبة من الغنى، فذكر له عدداً، فأمر له به في الحين، ونبه قدره بان أعطاه من إسطبله مركوباًن وكانت هذه أكرومة (3) لا خفاء بعظمها:

_ (1) ب: ومن يكن ... تؤمنه. (2) ب: بل ما لا يعنيهم. (3) م: مكرمة.

" يفنى الزمان وما بنته (1) مخلّدٌ " ... ثم إنه إذا كان له من الغنى ما يكفه عن أموال الناس ومن الدين ما يصده عن محارم الله تعالى، ومن العلم ما لا يجهل به التصرف في الشريعة، أباحوا له الفتوى والشهادة، وجعلوا علامة لذلك بين الناس القالس والرداء. وأهل قرطبة أشد الناس محافظة على العمل بأصح الأقوال المالكية، حتى إنهم كانوا لا يولون حاكماً إلا بشرط أن لا يعدل في الحكم عن مذهب ابن القاسم. وقال ابن سارة لما دخل قرطبة: الحمد لله قد وافيت قرطبةً ... دار العلوم وكرسيّ السلاطين وهي كانت مجمع جيوش الإسلام، ومنها نصر الله على عبدة (2) الصليب. يقال: إن المنصور ابن أبي عامر - حين تم له ملك البرين، وتوفرت الجيوش والأموال - عرض بظاهر قرطبة خيله ورجله، وقد جمع من أقطار البلاد ما ينهض به إلى قتال العدو وتدويخ بلاده، فنيف الفرسان على مائتي ألف، والرجالة على ستمائة ألف. وبها حتى الآن من صناديد المسلمين وقوادهم من لا يفتر عن محاربة، ولا يمل من مضاربة، أسماؤهم بأقاصي بلاد النصارى مشهورة، وآثارهم فيها مأثورة، وقلوبهم على البعد بخوفهم معمورة. ويحكى أن العمارة في مباني قرطبة والزاهرة والزهراء اتصلت إلى أن كان يمشى فيها لضوء السرج المتصلة عشرة أميال، وأما جامعها الأعظم فقد سمعت أن ثرياته من نواقيس النصارى، وأن الزيادة التي زاد في بنائه ابن أبي عامر من تراب نقله النصارى على رؤوسهم مما هدم من كنائس بلادهم، وقد

_ (1) ب: بنيته، والصواب " بنيت ". (2) م: عباد.

سمعت أيضاً عن قنطرتها العظمى وكثرة أرحي واديها، يقال: إنها تنيف على خمسة آلاف حجر، وقد سمعت عن كنبانيتها وما فضل الله تعالى به تربها من بركة وما ينبت فيها من القمح وطيبه، وفيها جبال الورد الذي بلغ الربع منه مرات إلى ربع درهم، وصار أصحابه يرون الفضل لمن قطف بيده ما يمنحونه منه، ونهرها إن صغر عندها عن عظمه عند إشبيلية فإن لتقارب بريه هنالك وتقطع خدره ومروجه معنى آخر وحلاوة أخرى، وزيادة أنس، وكثرة أمان من الغرق، وفي جوانبه من البساتين والمروج ما زاده نضارة وبهجة. وأما جيان فإنها لبلاد الأندلس قلعة، إذ هي أكثرها زرعاً، وأصرمها أبطالاً، وأعظمها منعة، وكم رامتها من عساكر النصارى عند فترات الفتن فرأوها أبعد من العيوق، وأعز منالاً من بيض الأنوق، ولا خلت من علماء ولا من شعراء، ويقال لها " جيان الحرير " لكثرة اعتناء باديتها وحاضرتها بدود الحرير. ومما يعد في مفاخرها ما ببياسة إحدى بلاد أعمالها من الزعفران الذي يسفر (1) براً وبحراً، وما في أبده من الكروم التي كاد العنب فيها لا يباع ولا يشترى كثرة، وما كان بأبدة من أصناف الملاهي والرواقص المشهورات بحسن الانطباع والصنعة، فإنهن أحذق خلق الله تعالى باللعب بالسيوف والدك، وإخراج القروى والمرابط والمتوجه (2) . وأما غرناطة فإنها دمشق بلاد الأندلس، ومسرح الأبصار، ومطمح الأنفس، لها القصبة المنيعة ذات الأسوار الشامخة، والمباني الرفيعة، وقد اختصت بكون النهر يتوزع على ديارها وحماماتها، وأسواقها وأرحاها الداخلة والخارجة وبساتينها، وزانها الله تعالى بأن جعلها مرتبة على بسيطها الممتد الذي تفرعت (3)

_ (1) ب: يسافر. (2) ب: والمتوحة. (3) م: تفرغت.

فيه سبائك الأنهار بين زبرجد الأشجار، ولنسيم نجدها وبهجة منظر حورها في القلوب والأبصار، استلطاف يروق الطباع، ويحدث فيها ما شاءه الإحسان من الإختراع والابتداع، ولم تخل من أشراف أماثل، وعلماء أكابر، وشعراء أفاضل، ولو لم يكن لها إلا ما خصها الله تعالى به من كونها قد نبغ فيها من الشواعر مثل نزهون القلاعية وزينب بنت زياد، وقد تقدم شعرهما، وحفصة بنت الحاج وناهيك في الظرف والأدب، وهل ترى أظرف منها في جوابها للوزير الحسيب الناظم الناثر أبي جعفر ابن القائد الأجل أبي مروان ابن سعيد، وذلك أنهما باتا بحور مؤمل على ما يبيت به الروض والنسيم، من طيب النفحة ونضارة النعيم، فلما حان الانفصال قال أبو جعفر (1) : رعى الله ليلاً لم يرع بمذمّمٍ ... عشيّة وارانا بحور مؤمّل وقد خفقت من نحو نجدٍ أريجةٌ ... إذا نفحت هبّت بريّا القرنفل وغرّد قمريٌّ على الدّوح وانثنى ... قضيبٌ من الريحان من فوق جدول ترى الروض مسروراً بما قد بدا له ... عناقٌ وضمٌ وارتشاف مقبّل وكتبه إليها بعد الإفتراق، لتجاوبه على عادتها في ذلك، فكتبت له ما لا يخفى فيه قيمتها: لعمرك ما سرّ الرّياض بوصلنا ... ولكنّه أبدى لنا الغلّ والحسد ولا صفّق النهر ارتياحاً لقربنا ... ولا صدح القمريّ إلا بما وجد (2) فلا تحسن الظنّ الذي أنت أهله ... فما هو في كلّ المواطن بالرشد فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه ... لأمرٍ سوى كيما تكون لنا رصد وأما مالقة فإنها قد جمعت بين منظر البحر والبر بالكروم التي

_ (1) ستأتي أخبار جعفر ابن سعيد وحفصة مفصلة في النفح. (2) ق: وجدا بما وجد.

لا تكاد ترى فيها فرجة لموضع غامر، والبروج التي شابهت نجوم السماء، كثرة عدد وبهجة ضياء، وتخلل الوادي الزائر لها في فصلي الشتاء والربيع في سرر بطحائها، وتوشيحه لخصور أرجائها، ومما اختصت به من بين سائر البلاد التين الريي المنسوب إليها، لأن اسمها في القديم رية، ولقد أخبرت أنه يباع في بغداد على جهة الاستطراف (1) ، وأما ما يسفر منه المسلمون والنصارى في المراكب البحرية فأكثر من أن يعبر عنه بما يحصره، وقد اجتزت بها مرة، وأخذت على طريق الساحل من سهيل إلى أن بلغت إلى بليش قدر ثلاثة أيام متعجباً فيما حوته هذه المسافة من شجر التين، وإن بعضها ليجتني جميعها الطفل الصغير من لزوقها بالأرض، وقد حوت ما يتعب الجماعة كثرة، وتين بليش (2) هو الذي قيل فيه للبربري: كيف رأيته قال: لا تسألني عنه، وصب في حلقي بالقفة؛ وهو لعمر الله معذور، لأنه نعمة حرمت بلاده منها، وقد خصت بطيب الشراب احلال والحرام حتى سار المثل بالشراب المالقي، وقيل لأحد الخلعاء، وقد أشرف على الموت: اسأل ربك المغفرة، فرفع يديه وقال: يارب، أسألك من جميع ما في الجنة خمر مالقة وزبيبي إشبيلية، وفيها تنسج الحلل الموشية التي تجاوز أثمانها الآلاف ذات الصور العجيبة المنتخبة برسم الخلفاء فمن دونهم، وساحلها محط تجارة لمراكب (3) المسلمين والنصارى. وأما المرية فإنها البلد المشهور الذكر، العظيم القدر، الذي خص أهله باعتدال المزاج، ورونق الديباج، ورقة البشرة، وحسن الوجوه والأخلاق، وكرم المعاشرة والصحبة، وساحلها أنظف السواحل وأشرحها (4) وأملحها منظراً،

_ (1) م: لأجل الاستطراف. (2) م: بلش. (3) م: مراكب. (4) م: وأشرقها.

وفيها الحصى الملون العجيب الذي يجعله رؤساء مراكش في البراريد (1) والرخام الصقيل الملوكي وواديها المعروف بوادي بجانة من أفرج الأودية، ضفتاه بالرياض كالعذارين حول الثغر، فحق أن ينشد فيها: أرض وطئت الدر رضراضاً بها ... والترب مسكاً والرّياض جنانا (2) وفيها كان ابن ميمون القائد الذي قهر النصارى في البحر، وقطع سفرهم فيه، وضرب على بلاد الرمانية، فقتل وسبى، وملأ صدور أهلها رعباً، حتى كان منه كما قال أشجع (3) : فإذا تنبّه رعته وإذا غفا ... سلّت عليه سيوفك الأحلام وبها كان محط مراكب النصارى، ومجتمع ديوانهم، ومنها كانت تسفر (4) لسائر البلاد بضائعهم، ومنها كانوا يوسقون جميع البضائع التي تصلح لهم، وقصد بضبط ذلك بها حصر ما يجتمع في أعشارهم، ولم يوجد لهذا الشأن مثلها، لكونها متوسطة ومتسعة قائمة بالوارد والصادر، وهي أيضاً مصنع للحلل الموشية النفيسة. وأما مرسية فإنها حاضرة شرق الأندلس، ولأهلها من الصرامة والإباء ما هو معروف مشهور، وواديها قسيم وادي إشبيلية، كلاهما ينبع من شقورة وعليه من البساتين المهتدبة الأغصان، والنواعير المطربة الألحان، والأطيار المغردة، والأزهار المتنضدة، ما قد سمعت، وهي من أكثر البلاد فواكه وريحاناً، وأهلها أكثر الناس راحات وفرجاً لكون (5) خارجها معيناً على ذلك

_ (1) ب: البواريد. (2) ب م: جنابا. (3) هو أشجع السلمي، وبيته من قصيدة في مدح الرشيد. (4) م: تسافر؛ وكانت سقطت من ق. (5) ب: يكون.

بحسن منظره، وهي بلدة تجهز منها العروس التي تنتخب شورتها لا تفتقر في شيء من ذلك إلى سواها، وهي للمرية ومالقة في صنعة الوشي ثالثة، وقد اختصت بالبسط التنتلية التي تسفر (1) لبلاد المشرق، وبالحصر التي تغلف بها الحيطان المبهجة للبصر، إلى غير ذلك مما يطول ذكره، ولو تخل من علماء وشعراء وأبطال. وأما بلنسية فإنها لكثرة بساتينها تعرف بمطيب الأندلس، ورصافتها من أحسن متفرجات الأرض، وفيها البحيرة المشهورة الكثيرة الضوء والرونق، ويقال إنه لمواجهة الشمس لتلك البحيرة يكثر ضوء بلنسية إذ هي موصوفة بذلك، ومما خصت به النسيج البلنسي الذي يسفر لأقطار المغرب، ولم تخل من علماء ولا شعراء، ولا فرسان يكابدون مصاقبة (2) الأعداء، ويتجرعون فيها النعماء ممزوجة بالضراء، واهلها أصلح الناس مذهباً، وأمتنهم ديناً، وأحسنهم صحبة، وأرفقهم بالغريب. وأما جزيرة ميورقة فمن أخصب بلادالله تعالى أرجاء، وأكثرها زرعاً ورزقاً وماشية، وهي على انقطاعها من البلاد مستغنية عنها، يصل فاضل خيرها إلى غيرها، إذ فيها من الحضارة والتمكن والتمصر وعظم البادية ما يغنيها، وفيها من الفوائد ما فيها، ولها فضلاء وابطال اقتصروا على حمايتها من الأعداء المحدقة بها: من كلّ من جعل الحسام خليله ... لا يبتغي أبداً سواه معينا هذا - زان الله تعالى فضلك بالإنصاف، وشرف كرمك بالاعتراف - ما حضرني الآن في فضل جزيرة الأندلس، ولم أذكر من بلادها إلا ما كل

_ (1) ب: تسافر. (2) ب: مصادمة؛ م: مصاففة، وأثبتناه ما في ق.

بلد منها مملكة مستقلة يليها ملوك بني عبد المؤمن على انفراد، وغيرها في حكم التبع. وأما علماؤها وشعراؤها فإني لم أعرض منهم إلا لمن هو في الشهرة كالصباح، وفي مسير الذكر كمسير الرياح، وأنا أحكي لك حكاية جرت لي في مجلس الفقيه الرئيس أبي بكر ابن زهر، وذلك أني كنت يوماً بين يديه، فدخل علينا رجل عجمي من فضلاء خراسان، وكان ابن زهر يكرمه، فقلت له: ما تقول في علماء الأندلس وكتابهم وشعرائهم فقال: كبرت، فلم أفهم مقصده، واستبردت (1) ما أتى به، وفهم مني أبو بكر ابن زهر أني نظرته نظر المستبرد المنكر، فقال لي: أقرأت شعر المتنبي فقلت: نعم، وحفظت جميعه، قال: فعلى نفسك إذن فلتنكر، وخاطرك بقلة الفهم فلتتهم، فذكرني بقول المتنبي: كبّرت حول ديارهم لمّا بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق فاعتذرت للخراساني، وقلت له: قد والله كبرت في عيني بقدر ما صغرت نفسي عندي، حين لم أفهم نبل مقصدك (2) ، فالحمد لله الذي أطلع من المغرب هذه الشموس، وجعلها بين جميع أهله بمنزلة الرؤوس، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه المختار من صفوة العرب، وعلى آله وصحبه، صلاةً متصلة إلى (3) غابر الحقب. كملت رسالة الشقندي. [ترجمة الشقندي] وهو أبو الوليد إسماعيل بن محمد، وشقندة المنسوب إليها قرية مطلة

_ (1) ب: واستربت؛ وهو خطأ. (2) ب: مقصودك. (3) ب: على.

على نهر قرطبة مجاورة لها من جهة الجنوب. قال ابن سعيد (1) : وهو ممن كان بينه وبين والدي صحبة أكيدة، ومجالسات أنس عديدة، ومزاورات (2) تتصل، ومحاضرات لا تكاد تنفصل، وانتفعت بمجالسته، وله رسالة في تفضيل الأندلس، يعارض بها أبا يحيى في تفضيل بر العدوة أورد فيها من المحاسن ما يشهد له بلطافة المنزع وعذوبة المشرع، وكان جامعاً لفنون من العلوم الحديثة والقديمة، وعني (3) بمجلس المنصورفكانت له فيه مشاهد غير ذميمة، وولي قضاء بياسة وقضاء لورقة، ولم يزل محفوظ (4) الجانب، محمود المذاهب، سمعته ينشد والدي قصيدةً في المنصور وقد نهض للقاء العدو، منها: إذا نهضت فإنّ السيف منتهض (5) ... ترمي السعود سهاماً والعدا غرض لك البسيطة تطويها وتنشرها ... فليس في كلّ ماتنويه معترض قال: وسمعته يقول له: أنشدت الوزير أبا سعيد ابن جامع قصيدة أولها: استوقف الرّكب قد لاحت لك الدار ... واسأل بربع تناءت عنه أقمار لا خفّف الله عنّي بعد بينهم ... فإنّني سرت والأحباب ما ساروا ومنها: ألا رعى الله ظبياً في قبابهم ... منه لهم في ظلام الليل أنوار وله: علّلاني بذكر من همت فيه ... وعداني عنه بما أرتجيه

_ (1) انظر اختصار القدح: 138. (2) القدح: ومداورات. (3) القدح: وعين. (4) القدح: ملحوظ. (5) القدح: السعد منتصر.

وإذا ما طربتما لارتياحي ... فاجعلا خمرتي مدامة فيه ليت شعري وكم أطيل الأماني ... أيّ يومٍ في خلوةٍ ألتقيه وإذا ما ظفرت (1) يوماً بشكوى ... قال لي: أين كلّ ما تدّعيه لا دموع ولا سقام فماذا ... شاهدٌ عنك بالذي تدّعيه (2) قلت دعني أمت بدائي فإّني ... لو براني الغرام لا أبديه وقال في عوده لما مرض (3) : إنّي مرضت مرضةً ... أسقط منها في يدي فكان في الإخوان من ... لم أره في العوّد فقلت في كلّهم ... قول امرئ مقتصد اير الذي قد عادني ... في آست الذي لم يعد مات بإشبيلية سنة 629، انتهى. [استطراد في الإشادة بالأندلس] وقال ابن سعيد: أنشدني والدي للحافظ أبي الطاهر السلفي، قال وكفى به شاهداً، وبقوله مفتخراً: بلاد أذربيجان في الشرق عندنا ... كأندلسٍ بالغرب في العلم والأدب فما إن تكاد الدهر تلقى مميزاً ... من آهليهما إلا وقد جدّ في الطلب وحكى غير واحد كابن الأبار أن عباس بن ناصح الشاعر لما توجه من قرطبة

_ (1) القدح: ظهرت. (2) القدح: بالذي تخفيه؛ وهو أجود لكي لا تتكرر القافية. (3) م: في عوده لمن مرض.

إلى بغداد، ولقي أبا نواس، قال له: أنشدني لأبي الأجرب، قال: فأنشدته، ثم قال: أنشدني لبكر الكناني، فأنشدته، وهذان شاعران من الأندلس. [حكايات واشعار أندلسية] واعلم أنا إن تتبعنا كلام الأندلسيين وحكاياتهم الدالة على سبقهم طال بنا الكتاب، ولم نستوف المراد، فرأينا أن نذكر بعضاً من ذلك بحسب ما اقتضاه الحال وأبداه، ليكون عنواناً دالاً على ما عداه: يكفي من الحلي ما قد حف بالعنق ... 1 - ولنبدأ ما نسوقه من أخبار الأندلسيين وأشعارهم وحكاياتهم في الجد والهزل، والتولية والعزل، بقول الفقيه الزاهد أبي عمران موسى بن عمران المارتلي (1) ، وكان سكن إشبيلية: لا تبك ثوبك إن أبليت جدّته ... وابك الذي أبلت الأيام من بدنك (2) ولا تكوننّ مختالاً بجدّته ... فربّما كان هذا الثوب من كفنك ولا تعفه إذا أبصرته دنساً ... فإنما اكتسب الأوساخ من درنك (3) 2 - وقال أبو عمرو (4) اليحصبي اللوشي: شرّد النوم عن جفونك وانظر ... حكمةً توقظ النفوس النياما

_ (1) المارتلي ويكتب أيضا الميرتلي نسبة إلى بلده " حصن مارتلة " من حصون باجة؛ أحد شعراء الزهد بالأندلس؛ توفي سنة 604 (انظر المغرب 1: 406 والغصون اليانعة: 135 والتكملة: 687) وله شعر كثير في شرح الشريشي على المقامات. (2) م: جسدك. (3) م ق: بدنك. (4) ق ب: عمر.

فحرامٌ على امرئ لم يشاهد ... حكمة الله أن يذوق المناما وقال أيضاً: ليس للمرئ اختيارٌ في الذي ... يتمنّى من حراكٍ وسكون إنّما المرء لربٍّ واحدٍ ... إن يشأ قال له: كن فيكون 3 - شعر أبو وهب القرطبي (1) : تنام وقد أعدّ لك السهاد ... وتوقن بالرحيل وليس زاد وتصبح مثل ما تمسي مضيعاً ... كأنّك لست تدري ما المراد أتطمع أن تفوز غداً هنيئاً ... ولم يك منك في الدنيا اجتهاد إذا فرّطت في تقديم زرعٍ ... فكيف يكون من عدمٍ حصاد وقيل: إن الأبيات السابقة التي أولها: " أنا في حالتي التي ... الخ " وجدت في تركته بخطه في شقف (2) ، وبعضهم ينسبها لغيره، واسم أبي وهب المذكور عبد الرحمن، وذكره ابن بشكوال في الصلة (3) ، وأثنى عليه بالزهد والانقطاع، وكان في أول أمره قد حسب عامة الناس أنه مختل العقل، فجعلوا يؤذونه ويرمونه بالحجارة، ويصيحون عليه: يا مجنون يا أحمق، فيقول: يا عاذلي أنت به جاهلٌ ... دعني به لست بمغبون أما تراني أبداً والهاً ... فيه كمسحورٍ ومفتون أحسن ما أسمع في حبّه ... وصفي بمختلٍ ومجنون

_ (1) مرت الإشارة إليه، انظر ما تقدم ص: 207. (2) م: شقة. (3) لم أجد ترجمة في الصلة؛ وأغلب الظن أن هذا وهم من المقري، لأن ابن بشكوال أفرد للعباسي مؤلفا خاصا.

4 - وقال الخطيب أبو محمد ابن برطله: بأربعةٍ أرجو نجاتي وإنّها ... لأكرم مذخورٍ لديّ وأعظم شهادة إخلاصي وحبي محمداً ... وحسن ظنوني ثم أنّي مسلم 5 - وقال ابن حبيش: قالوا تصبّر عن الدنيا الدنيّة أو ... كن عبدها واصطبر للذّل واحتمل لا بدّ من أحد الصبرين، قلت: نعم ... الصبر عنها بعون الله أوفق لي 6 - وقال ابن الشيخ: اطلب لنفسك فوزها واصبر لها ... نظر الشفيق وخف عليها واتّق من ليس يرحم نفسه ويصدّها ... عمّا سيهلكها فليس بمشفق 7 - وقال أبو محمد القرطبي (1) : لعمرك ما الدنيا وسرعة سيرها ... بسكّانها إلا طريق مجاز حقيقتها أن المقام بغيرها ... ولكنّهم قد أولعوا بمجاز 8 - وقال السمسير (2) : لله في الدّنيا وفي أهلها ... معمّياتٌ قد فككناها من بشرٍ نحن فمن طبعنا ... نحبّ فيها المال والجاها دعني من الناس ومن قولهم ... فإنّما النّاسك خلاّها (3)

_ (1) هو عبد الله بن الحسن بن أحمد الأنصاري القرطبي أبو محمد (انظر ترجمته في الذيل والتكملة 4: 191 والتكملة: 879 وتذكرة الحفاظ: 1396 وبرنامج الرعيني: 141) والبيتان البرنامج والذيل: 210. (2) في الأصول ودوزي: الشميس؛ وصوبناه. (3) في ب: الناس أخلاها.

لم تقبل الدنيا على ناسكٍ ... إلا وبالرحب تلقّاها وإنّما يعرض عن وصلها ... من صرفت عنه محيّاها 9 - وقال أبو القاسم ابن بقي: ألا إنّما الدنيا كراحٍ عتيقةٍ ... أراد مديروها بها جلب الأنس فلمّا أداروها أثارت حقودهم ... فعاد الذي راموا من الأنس بالعكس 10 - وقال أبو محمد عبد الله بن العسال الطليطلي (1) : انظر الدّنيا فإن أب ... صرتها شيئاً يدوم فاغد منها في أمانٍ ... إن يساعدك النعيم وإذا أبصرتها من ... ك على كرهٍ تهيم (2) فاسل عنها واطّرحها ... وارتحل حيث تقيم 11 - وقال ابن هشام القرطبي: وأبي المدامة ما أريد بشربها ... صلف الرقيع ولا انهماك اللاهي لم يبق من عهد الشباب وطيبه ... شيء كعهدي لم يحل إلاّ هي إن كنت أشربها من غير وفائها ... فتركتها للناس لا لله 12 - وقال أبو محمد ابن السيد البطليوسي مما نسبه إليه في " المغرب (3) ": أخو العلم حيٌّ خالدٌ بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم وذو الجهل ميتٌ وهو ماشٍ على الثرى ... يظنّ من الأحياء وهو عديم

_ (1) انظر ما تقدم ص: 208. (2) م ق: تقيم. (3) ليسا في ترجمته في المغرب (1: 385) وهما في أزهار الرياض 3: 103.

13 - وقال أبو الفضل ابن شرف (1) : لعمرك ما حصلت على خطيرٍ ... من الدنيا ولا أدركت شيّا وها أنا خارجٌ منها سليباً ... أقلّب نادماً كلتا يديّا وأبكي ثمّ أعلم أنّ مبكا ... ي لا يجدي فأمسح مقلتيّا ولم أجزع لهول الموت لكن ... بكيت لقلّة الباكي عليّا وأنّ الدهر لم يعلم مكاني ... ولا عرفت بنوه ما لديّا زمانٌ سوف أنشر فيه نشراً ... إذا أنا بالحمام طويت طيّا أسرّ بأنّني ساعيش ميتاً ... به ويسوءني أن متّ حيا 14 - وقال الزاهد العارف بالله سيدي أبو العباس ابن العريف نفعنا الله تعالى به (2) : سلو عن الشوق من أهوى فإنّهم ... أدنى إلى النفس من وهمي ومن نفسي فمن رسولي إلى قلبي ليسألهم ... عن مشكلٍ من سؤال الصبّ ملتبس حلّوا فؤادي فما يندى، ولو وطئوا ... صخراً لجاد بماء منه منبجس وفي الحشا نزلوا والوهم يجرحهم ... فكيف قرّوا على أذكى من القبس لأنهضنّ إلى حشري بحبّهم ... لا بارك الله فيمن خانهم ونسي قلت: لقد زرت قبره المعظم بمراكش سنة عشر وألف، وهو ممن

_ (1) راجع أبياته في التكملة: 870. (2) أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله الصنهاجي المشهور بابن العريف؛ صاحب كتاب " محاسن المجالس " اختار طريقة الزهد والتصوف، وصادف ذلك ظهور جماعة من المتصوفة بمدينة شلب وانتشر مذهبهم فيها وفي لبلة ومارتلة، ثم تفرقوا ووصل رئيسهم إلى المرية وفيها شيخ المتصوفة ابن العريف، فوجه علي بن يوسف اللمتوني في طلبه وطلب أبي الحكم ابن برجان، فتوفيا بمراكش سنة 537 (أو 536) . انظر وفيات الأعيان 1: 151 وأعمال الأعلام: 248 - 249 والمغرب 2: 211 وبغية الملتمس ص: 154 والصلة: 84 والمطرب: 90 ومعجم الصفدي: 18 والتحفة: 17 والوافي: 8 الورقة: 50 وأبياته في المغرب والمطرب.

يتبرك به في تلك الديار، ويستسقى به الغيث، وهو من أهل المرية، وأحضره السلطان إلى مراكش فمات بها، وله كرامات شهيرة ومقامات كبيرة، نفعنا الله تعالى به. 15 - واعلم أن أهل الأندلس كانوا في القديم (1) على مذهب الأوزاعي، وأهل الشام منذ أول الفتح، ففي دولة الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل - وهو ثالث الولاة بالأندلس من الأمويين - انتقلت الفتوى إلى رأي مالك بن أنس واهل المدينة، فانتشر علم مالك ورأيه بقرطبة والأندلس جميعاً، بل والمغرب، وذلك برأي الحكم واختياره، واختلفوا في السبب المقتضي لذلك، فذهب الجمهور إلى أن سببه رحلة علماء الأندلس إلى المدينة، فلما رجعوا إلى الأندلس وصفوا فضل مالك وسعة علمه، وجلالة قدره، فأعظموه كما قدمنا ذلك، وقيل: عن الإمام مالكاً سأل بعض الأندلسيين عن سيرة ملك الأندلس، فوصف له سيرته، فأعجبت مالكاً لكون سيرة بني العباس في ذلك الوقت لم تكن بمرضية، وكابد لما صنع أبو جعفر المنصور بالعلوية بالمدينة من الحبس والإهانة وغيرهما على ما هو مشهور في كتب التاريخ، فقال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه لذلك المخبر: نسأل الله تعالى أن يزين حرمنا بملككم، أو كلاماً هذا معناه، فنميت المسألة إلى ملك الأندلس، مع ما علم من جلالة مالك ودينه، فحمل الناس على مذهبه، وترك مذهب الأوزاعي، والله تعالى أعلم. 16 - وحكي أن القاضي الزاهد أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن أبي يغمور لما ندبه أهل الأمر لولاية القضاء بمدينة فاس استعفى، فلم يقبل منه، وخرج إلى تلك الناحية، وخرج الناس لوداعه، فأنشد: عليكم سلام الله إنّي راحلٌ ... وعيناي من خوف التفرّق تدمع

_ (1) في القديم: سقطت من م.

فإن نحن عشنا فهو يجمع بيننا ... وإن نحن متنا فالقيامة تجمع وأنشد أصحابه رحمه الله تعالى، ولا أدري هل هي له أو لغيره: كنّا نعظّم بالآمال قدركم ... حتى انقضت فتساوى عندنا الناس لم تفضلونا بشيء غير واحدةٍ ... هي الرجاء فسوّى بيننا الياس وأنشد أيضاً: بلوتهم مذ كنت طفلاً فلم أجد ... كما أشتهي منهم صديقاً وصاحبا فصوّبت رأيي في فراري منهم ... وشمّرت أذيالي وأمعنت هاربا وأنشد لغيره في الكتمان: أخفى الغرام فلا جوارحه ... شعرت بذاك ولا مفاصله كالسيف يصحبه الحمام ولم ... يعلم بما حملت حمائله وأنشد: قد كنت أمرض في الشبيبة دائماً ... والموت ليس يمرّ لي في البال والآن شبت وصحّتي موجودةٌ ... وأرى كأنّ الموت في أذيالي ولمّا أنشده تاج الدين بن حمويه السرخسي الوافد على المغرب من المشرق قول بعضهم: فلا تحقرنّ عدوّاً رماك ... وإن كان في ساعديه قصر فإنّ السيوف تحزّ الرقاب ... وتعجز عمّا تنال الإبر قال: حسنٌ جيد، ولكن اسمع ما قال شاعرنا القسطلي (1) ، وأنشد:

_ (1) يريد ابن دراج، والأبيات من قصيدته في مدح المنصور بن أبي عامر (ديوانه: 303) .

أثرني لكشف الخطب والخطب مشكلٌ ... وكلني لليث الغاب وهو هصور فقد تخفض الأسماء وهي سواكنٌ ... ويعمل في الفعل الصريح ضمير وتنبو الردينيّات، والطول وافر ... ويبعد وقع السهم وهو قصير 17 - وكان الوزير الكريم أبو محمد عبد الرحمن بن مالك المعافري (1) أحد وزراء الأندلس كثير الصنائع جزل المواهب عظيم المكارم، على سنن عظماء الملوك وأخلاق السادة، لم ير بعده مثله في رجال الأندلس، ذاكراً للفقه والحديث، بارعاً في الآداب، شاعراً مجيداً، وكاتباً بليغاً، كثير الخدم والأهل، ومن آثاره الحمام بجوفي الجامع الأعظم من غرناطة، وزاد من سقف الجامع من صحنه وعوض من أرجل قسيه أعمدة الرخام، وجلب الرؤوس والموائد من قرطبة، وفرش صحنه بكذان الصخر، ووجهه أميره علي بن يوسف بن تاشفين إلى طرطوشة برسم بنائها، فلما حلها سأل قاضيها فكتب له جملة من أهلها ممن ضعفت حاله وقل تصرفه من ذوي البيوتات، فاستعملهم أمناء، ووسع أرزاقهم، حتى كمل له ما أرد من عمله، ومن عجز أن يستعمله وصله من ماله، فصدر عنها وقد أنعش خلقاً، رضي الله تعالى عنه ورحمه. ومن شعره في مجلس أطربه سماعه، وبسط احتشاد الأنس فيه واجتماعه، فقال (2) : لا تلمني إذا طربت لشجوٍ ... يبعث الأنس فالكريم طروب ليس شقّ الجيوب حقّاً علينا ... إنّما الحقّ أن تشقّ القلوب وقطف غلام من غلمانه نوارة ومد بها يده إلى أبي نصر الفتح بن عبيد الله، فقال أبو نصر:

_ (1) ترجمته في القلائد: 170. (2) القلائد: 170؛ والنقل عنه حتى قوله " من النوى ".

وبدرٍ بدا والطّرف مطلع حسنه ... وفي كفّه من رائق النّور كوكب فقال أبو محمد ابن مالك (1) : يروح لتعذيب النفوس ويغتدي ... ويطلع في أفق الجمال ويغرب ويحسد منه الغصن أيّ مهفهفٍ ... يجيء على مثل الكثيب ويذهب وقد سبق هذا. وكتب إلى الفتح من غير ترو: يا سيدي، جرت الأيام بفراقك، وكان الله جارك في انطلاقك (2) ، فغيرك روع بالظعن، وأوقد للوداع جاحم الشجن، فإنك من أبناء هذا الزمن، خليفة الخضر لا يستقر على وطن، كأنك - والله يختار لك ما تأتيه وما تدعه - موكل بفضاء الأرض تذرعه (3) ، فحسب من نوى بعشرتك الاستمتاع، أن يعدك من العواري السريعة الارتجاع، فلا يأسف على قلة الثوى، وينشد: " وفارقت حتى ما أبالي من النّوى (4) " ... ومات رحمه الله بغرناطة سنة 518، وحضر جنازته الخاصة والعامة وهو من محاسن الأندلس، رحمه الله تعالى. 18 - ومن نوادر الاتفاق (5) أن جارية مشت بين يدي المعتمد، وعليها قميص لا تكاد تفرق بينه وبين جسمها، وذوائبها تخفي آثار مشيها، فسكب

_ (1) البيت الأول من هذين ورد منسوبا للفتح نفسه في أصولالنفح. (2) من قول البحتري: الله جارك في انطلاقك ... تلقاء شامك أو عراقك (3) عجز بيت لابن زريق البغدادي، وصدره: كأنما هو في حل ومرتحل. (4) ق م: من الهوى. (5) انظر هذه القصة في بدائع البدائه.

عليها ماء ورد كان بين يديه، وقال: علّقت جائلة الوشاح غريرة ... تختال بين أسنّة وبواتر وقال لبعض الخدم: سر إلى أبي الوليد البطليوسي المشهور بالنحلي وخذه بإجازة هذا البيت ولا تفارقه حتى يفرغ منه، فأجاب النحلي لأول وقوع الرقعة بين يديه: راقت محاسنها ورقّ أديمها ... فتكاد تبصر باطناً من ظاهر وتمايلت كالغصن في دعص النّقا ... تلتفّ في ورق الشباب الناضر يندى بماء الورد مسبل شعرها ... كالطّلّ يسقط من جناح الطّائر تزهى برونقها وعزّ جمالها ... زهو المؤيّد بالثناء العاطر ملكٌ تضاءلت الملوك لقدره ... وعنا له صرف الزمان الجائر وإذا لمحت جبينه ويمينه ... أبصرت بدراً فوق بحرٍ زاخر فلما قرأها المعتمد استحضره، وقال له: أحسنت، أو معنا كنت فقال له: يا قاتل المحل، أما تلوت " وأوحى ربّك إلى النّحل ". وأصبح المعتمد يوماً ثملاً فدخل الحمام، وأمر أن يدخل النحليّ معه، فجاء وقعد في مسيح (1) الحمام حتى يستأذن عليه، فجعل المعتمد يحبق في الحمام وهو خالٍ وقد بقيت في رأسه بقية من السك، وجعل كل ما سمع دويّ ذلك الصوت يقول: الجوز، اللوز، القسطل، ومر على هذا ساعة، إلى أن تذكر النحلي، فصادفه (2) ، فلما دخل قال له: من أي وقت أنت هنا قال: من أول ما رتب مولانا الفواكه في النصبة، فغشي عليه من الضحك، وأمر له بإحسان. والنصبة: مائدة يصبون فيها هذه الأصناف.

_ (1) ق: مسلخ. (2) ق م: فصادمه.

ولما استحسن المعتمد قول المتنبي (1) : إذا ظفرت منك المطيّ بنظرة ... أثاب بها معيي المطيّ ورازمه قال ابن وهبون بديهة: " وقالوا أجاد ابن الحسين ... الخ البيتين "، وقد تقدم ذكرهما، فأمر له بمائتي دينار. ولما قال ابن وهبون المذكور: غاض الوفاء فما تلقاه في رجلٍ ... ولا يمرّ لمخلوقٍ على بال قد صار عندهم عنقاء مغربةً ... أو مثلما حدّثوا عن ألف مثقال قال له المعتمد: عنقاء مغربة وألف مثقال يا عبد الجليل عنك سواء فقال: نعم، قال: قد أمرنا لك بألف دينار وبألف دينار أخرى تنفقها. 19 - وذكر القرطبي صاحب " التذكرة " في كتابه " قمع الحرص بالزهد والقناعة "، ما صورته: روينا أن الإمام أبا عمر بن عبد البر رضي الله تعالى عنه بلغه وهو بشاطبة أن أقواماً عابوه بأكل طعام السلطان وقبول جوائزه، فقال: قل لمن ينكر أكلي ... لطعام الأمراء أنت من جهلك هذا ... في محلّ السفهاء لأن الاقتداء بالصالحين، من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى من المسلمين، من السلف الماضين، وهو ملاك الدين، فقد كان زيد بن ثابت - وكان من الراسخين في العلم - يقبل جوائز معاوية وابنه يزيد، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما - مع ورعه وفضله - يقبل هدايا صهره المختار ابن أبي عبيد، ويأكل

_ (1) انظر ما تقدم ص: 194.

طعامه، ويقبل جوائزه، وقال عبد الله بن مسعود - وكان قد ملئ علماً - لرجل سأله، فقال: إن لي جاراً يعمل بالربا، ولا يجتنب في مكسبه الحرام، يدعوني إلى طعامه، أفأجيبه قال: نعم، لك المهنأ وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراماً، وقال عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه - حين سئل عن جوائز السلاطين -: لحم ظبي ذكي، وكان الشعبي - وهو من كبار التابعين وعلمائهم - يؤدب بني عبد الملك بن مروان، ويقبل جوائزه ويأكل طعامه، وكان إبراهيم النخعي وسائر علماء الكوفة والحسن البصري - مع زهده وورعه - وسائر علماء البصرة وأبو سلمة ابن عبد الرحمن وأبان ابن عثمان والفقهاء السبعة بالمدينة - حاشا سعيد بن المسيب - يقيلون جوائز السلطان، وكان ابن شهاب يقبلها، ويتقلب في جوائزهم، وكانت أكثر كسبه، وكذلك أبو الزناد، وكان مالك وأبو يوسف والشافعي وغيرهم من فقهاء الحجاز والعراق يقبلون جوائز السلاطين والأمراء، وكان سفيان الثوري - مع ورعه وفضله - يقول: جوائز السلطان أحب إلي من صلة الإخوان، لأن الإخوان يمنون والسلطان لا يمن، ومثل هذا عن العلماء والفضلاء كثير، وقد جمع الناس فيه أبواباً، ولأحمد ابن خالد فقيه الأندلس وعالمها في ذلك كتاب حمله على وضعه وجمعه طعن أهل بلده عليه في قبوله جوائز عبد الرحمن الناصر، إذ نقله إلى المدينة بقرطبة، وأسكنه داراً من دور الجامع قربه، وأجرى عليه الرزق من الطعام والإدام والناض، وله ولمثله في بيت المال حظ، والمسؤول عن التخليط فيه هو السلطان، كما قال عبد الله بن مسعود " لك المهنأ وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراماً " ومعنى قول ابن مسعود هذا قد أجمع العلماء عليه، فمن علم الشيء بعينه حراماً مأخوذاً من غير حله كالجريمة وغيرها وشبهها من الطعام أو الدابة وما كان مثل ذلك كله من الأشياء المتعينة غصباً أو سرقة أو مأخوذة بظلم بين لا شبهة فيه فهذا الذي لم يختلف أحد في تحريمه، وسقوط عدالة آكله، وأخذه وتملكه، وما أعلم من علماء التابعين أحداً تورع عن جوائز السلطان إلا سعيد بن المسيب بالمدينة، ومحمد ابن

سيرين بالبصرة، وهما قد ذهبا مثلاً في التورع، وسلك سبيلهما في ذلك أحمد ابن حنبل وأهل الزهد والورع والتقشف، رحمة الله تعالى عليهم أجمعين. والزهد في الدنيا من أفضل الفضائل، ولا يحل لمن وفقه الله تعالى وزهد فيها أن يحرم ما أباح الله تعالى منها، والعجب من أهل زماننا يعيبون الشبهات وهم يستحلون المحرمات، ومثالهم عندي كالذين سألوا عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن المحرم يقتل القراد والحلمة، فقال للسائلين له: من أنتم فقالوا: من أهل الكوفة، فقال: تسألونني عن هذا وأنتم قتلتم الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما أتاك من غير مسألة فكله وتموّله "، وروي هذا الحديث أيضاً عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما " ما أتاك من غير مسألة فكله وتموّله "، وروى أبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه، وفي حديث أحدهما " إنما هو رزق رزقكه الله تعالى "، وفي لفظ بعض الرواة " ولا تردّ على الله رزقه "، وهذا كله مركب مبني على ما أجمعوا عليه، وهو الحق، فمن عرف الشيء المحرم بعينه فإنه لا يحل له، فهذه المسألة من كلام ابن عبد البر، انتهى. 20 - وحضر ابن مجبر مع عدو له جاحد لمعروفه، وأمامهما زجاجة سوداء فيها خمر، فقال له الحسود: إن كنت شاعراً فقل في هذه، فقال ارتجالاً: " سأشكوا إلى الندمان "، إلى آخر الحكاية، وقد تقدمت في رسالة الشقندي (1) رحمه الله تعالى. [ترجمة ابن مجبر وشعره] وابن مجبر هو أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن عبد الرحم بن مجبر الفهري،

_ (1) انظر ما تقدم ص: 206.

كان في وقته شاعر المغرب ويشهد له بقوة عارضته وسلامة طبعه قصائده التي صارت مثالاً، وبعدت على قربها منالاً، وشعره كثير يشتمل على أكثر من تسعة آلاف وأربعمائة بيت، واتصل بالأمير أبي عبد الله ابن سعد ابن مردنيش، وله فيه أمداح، وأنشد يوسف بن عبد المؤمن يهنيه بفتح: إنّ خير الفتوح ما جاء عفواً ... مثل ما يخطب الخطيب ارتجالا وكان أبو العباس الحراوي حاضراً، فقطع عليه لحسادةٍ وجدها، وقال: يا سيدنا اهتدم بيت وضاح: خير شرابٍ ما كان عفواً ... كأنّه خطبة ارتجال فبدر (1) المنصور، وهو حينئذ وزير أبيه وسنه قريب العشرين، وقال: إن كان اهتدمه فقد استحقه لنقله إياه من معنى خسيس إلى معنى شريف، فسر أبوه بجوابه، وعجب الحاضرون. ومر المنصور أيام إمرته بأونبة (2) من أرض شلب، فوقف على قبر الحافظ أبي محمد ابن حزم، وقال: عجباً لهذا الموضع، يخرج منه مثل هذا العالم، ثم قال: كل العلماء عيال على ابن حزم، ثم رفع رأسه وقال: كما أن الشعراء عيال عليك يا أبا بكر، يخاطب ابن مجبر. ومن شعر ابن مجبر يصف خيل المنصور من قصيدة في مدحه: له حلبة الخيل العتاق كأنّها ... نشاوى تهاوت تطلب العزف والقصفا عرائس أغنتها الحجول عن الحلى ... فلم تبغ خلخالاً ولا التمست وقفا فمن يققٍ كالطّرس تحسب أنّه ... وإن جرّدوه في ملاءته التفّا

_ (1) م: فنطق. (2) ق: بأوقية؛ ب: بأوقبة.

وأبلق أعطى الليل نصف إهابه ... وغار عليه الصّبح فاحتبس النّصفا ووردٍ تغشّى جلده شفق الدجى ... فإذ حازه دلّى له الذيل والعرفا وأشقر مجّ الراح صرفاً أديمه ... وأصفر لم يمسح بها جلده صرفا وأشهب فضّيّ الأديم مدنّرٍ ... عليه خطوطٌ غير مفهمةٍ حرفا كما خطّط الزاهي بمهرق كاتبٍ ... فجرّ عليه ذيله وهو ما جفّا تهبّ على الأعداء منها عواصفٌ ... ستنسف أرض المشركين بها نسفا ترى كلّ طرفٍ كالغزال فتمتري ... أظبياً ترى تحت العجاجة أم طرفا وقد كان في البيداء يألف سربه ... فربّته مهراً وهي تحسبه خشفا تناوله لفظ الجواد لأنّه ... إذا (1) ما أردت الجري أعطاكه ضعفا ولما اتخذ المنصور مقصورة الجامع بمراكش بدار ملكها، وكانت مدبرة على انتصابها إذا استقر المنصور ووزراؤه بمصلاه، واختفائها إذا انفصلوا عنها، أنشد في ذلك الشعراء فقال ابن مجبر من قصيدة أولها: أعلمتني ألقي عصا التسيار ... في بلدةٍ ليست بدار قرار إلى أن قال (2) : طوراً تكون بمن حوته محيطةً ... فكأنّها سورٌ من الأسوار وتكون حيناً عنهم مخبوءةً ... فكأنّها سرٌّ من الأسرار كأنّها علمت مقادير الورى ... فتصرفت لهم على مقدار فإذا أحسّت بالإمام يزورها ... في قومه قامت إلى الزوّار يبدو فتبدو ثمّ تخفى بعده ... كتكوّن الهالات للأقمار

_ (1) ق ب: على. (2) وردت هذه الأبيات في الحلل الموشية: 120.

وممن روى عنه أبو علي الشلوبين وطبقته، وتوفي بمراكش سنة 588، وعمره 53 سنة، رحمه الله تعالى. وقد حكى الشريف الغرناطي شارح المقصورة هذه الحكاية بأتمّ مما ذكرناه، فقال عن الكاتب ابن عياش كاتب يعقوب المنصور الموحدي، قال (1) : كانت لأبي بكر ابن مجبر وفادة على المنصور في كل سنة، فصادف في إحدى وفاداته فراغه من إحداث المقصورة التي كان أحدثها بجامعه المتصل بقصره المتصل بقصره في حضرة (2) مراكش، وكانت قد وضعت على حركات هندسية ترفع بها لخروجه وتخفض لدخوله، وكان جميع من بباب المنصور يومئذ من الشعراء والأدباء قد نظموا أشعاراً أنشدوه إياها في ذلك، فلم يزيدوا على شكره، وتجزيته الخير فيما جدد من معالم الدين وآثاره، ولم يكن فيهم من تصدى لوصف الحال حتى قام أبو بكر ابن مجبر فأنشد قصيدته التي أولها " أعلمتني ألقي عصا التسيار " واستمر فيها حتى ألم بذكر المقصورة فقال يصفها " طوراً تكون - الخ " فطرب المنصور لسماعها، وارتاح لاختراعها، انتهى. وقد بطلت حركات هذه المقصورة الآن، وبقيت آثارها حسبما شاهدته سنة عشر والف، والله تعالى وارث الأرض ومن عليها. ومن نظم ابن مجبر أيضاً ما كتب به إلى السلطان ملك المغرب، رحمه الله تعالى، وقد ولد له ابن، أعني لابن مجبر: ولد العبد الذي إنعامكم ... طينةٌ أنشئ منها جسده وهو دون اسمٍ لعلمي أنّه ... لا يسمّي العبد إلا سيّده وقوله: ملك ترويك منه شيمةٌ ... أنست الظلماء زرق النّطف

_ (1) انظر شرح المقصورة 1: 71. (2) م: مدينة.

جمعت من كلّ مجدٍ فحكت ... لفظةً قد جمّعت من أحرف يعجب السامع من وصفي لها ... ووراء العجز ما لم أصف لو أعار السهم ما في رأيه ... من سداد وهدىً لم يصف حلمه الرّاجح ميزان الهدى ... يزن الأشياء وزن المنصف 21 - وقال ابن خفاجة (1) : صحّ الهوى منك ولكنّني ... أعجب من بينٍ لنا يقدر كأنّنا في فلكٍ دائرٍ ... فأنت تخفى وأنا أظهر وهما الغاية في معناهما، كما قاله ابن ظافر، رحمه الله تعالى. 22 - وقال الأعمى التطيلي (2) : أما اشتفت منّي الأيام في وطني ... حتى تضايق فيما عزّ من وطري فلا قضت من سواد العين حاجتها ... حتى تكرّ على ما طلّ في الشّعر 23 - وقال القاضي أبو حفص ابن عمر القرطبي (3) : هم نظروا لواحظها فهاموا ... وتشرب لبّ شاربها المدام يخاف الناس مقلتها سواها ... أيذعر قلب حامله الحسام سما طرفي إليها وهو باكٍ ... وتحت الشمس ينسكب الغمام وأذكر قدّها فأنوح وجداً ... على الأغصان تنتدب الحمام فأعقب بينها في الصدر غمّاً ... إذا غربت ذكاء أتى الظلام 24 - وقال الحاجب عبد الكريم ابن مغيث (4) :

_ (1) ليسا في ديوان ابن خفاجة. (2) انظر ما سبق ص: 207؛ وديوان الأعمى: 49. (3) انظر ما سبق ص: 209. (4) عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث حاجبا للحكم الربضي، وكان بليغا شاعرا مفوها (انظر الحلة 1: 135 - 136) وكان له أخ اسمه عبد الملك تولى سرقسطة، ولم يذكر ابن الأبار أخاه أحمد.

طارت بنا الخيل ومن فوقها ... شهب بزاةٍ لحمام الحمام كأنّما الأيدي قسيٌّ لها ... والطير أهدافٌ وهنّ السهام 25 - وقال أخوه أحمد: اشرب على البستان من كفّ من ... يسقيه من فيه وأحداقه وانظر إلى الأيكة في برده ... ولاحظ البدر بأطواقه وقد بدا السّرو على نهره ... كخائضٍ شمّر عن ساقه 26 - وقال أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله بن أمية البلنسي: إذا كان ودّي وهو أنفس قربةٍ ... يجازى ببغضٍ فالقطيعة أحزم ومن أضيع الأشياء ودٌّ صرفته ... إلى غير من تحظى لديه وتكرم [حكايات في البديهة والارتجال] 27 - ومن حكايات أهل الأندلس (1) في خلع العذار والطرب والظرف وغير ذلك كسرعة الارتجال ما حكاه صاحب " بدائع البدائه " قال (2) : أخبرني من أثق به بما هذا معناه، قال: خرج الوزير أبو بكر بن عمار والوزير أبو الوليد ابن زيدون ومعهما الوزير ابن خلدون من إشبيلية إلى منظرة لبني عباد لموضع يقال له الفنت (3) تحف بها مروجٌ مشرقة الأنوار، متنسمة الأنجاد والأغوار، متبسمة عن ثغور النوّار في زمان ربيع سقت الأرض السحب فيه

_ (1) هنا يأخذ المقري بالنقل عن بدائع البدائه لابن ظافر الأزدي أكثر حكايات هذا الباب (2) بدائع البدائه 1: 214. (3) في الأصول: القنت؛ والبدائع: الغيث.

بوسميها ووليها، وجلتها في زاهر ملبسها وباهر حليتها، وأرداف الربى قد تأزرت بالأزر الخضر من نباتها، وأجياد الجداول قد نظم النوار قلائده حول لباتها، ومجامر الزهر تعطر أردية النسائم عند هباتها، وهناك من البهار ما يزري على مداهن (1) النضار، ومن النرجس الريان ما يهزأ بنواعس الأجفان، وقد نووا الانفراد للهو والطرب، والتنزه في روضي النبات والأدب، وبعثوا صاحباً لهم يسمى خليفة هو قوام لذتهم، ونظام مسرتهم، ليأتيهم بنبيذ يذهبون الهم بذهبه في لجين زجاجه، ويرمونه منه بما يقضي بتحريكه للهرب عن القلوب وإزعاجه، وجلسوا لانتظاره، وترقب عوده على آثاره، فلما بصروا به مقبلاً من أول الفج بادروا إلى لقائه، وسارعوا إلى نحوه وتلقائه، واتفق أن فارساً من الجند ركض فرسه فصدمه ووطئ عليه فهشم أعظمه وأجرى دمه، وكسر قمعل (2) النبيذ الذي كان معه، وفرق من شملهم ما كان الدهر قد جمعه، ومضى على غلوائه راكضاً حتى خفي عن العين، خائفاً من متعلقٍ به يحين بتعلقه الحين، وحين وصل الوزراء إليه، تأسفوا عليه، وأفاضوا في ذكر الزمان وعدوانه، والخطب وألوانه، ودخوله بطوام المضرات، على تمام المسرات، وتكديره الأوقات المنعمات، بالآفات المؤلمات، فقال ابن زيدون: أنلهو والحتوف بنا مطيفه ... ونأمن والمنون لنا مخيفه فقال ابن خلدون: وفي يومٍ وما أدراك يومٌ ... مضى قمعالنا ومضى خليفه

_ (1) البدائع: بمداهن. (2) القمعل: القدح الضخم.

فقال ابن عمار: هما فخّارتا راحٍ وروحٍ ... تكسرتا فأشقافٌ (1) وجيفه انتهى. 28 - وذكر ابن بسام ما معناه (2) أن أبا عامر ابن شهيد حضر ليلة عند الحاجب أبي عامر المظفر ابن المنصور ابن أبي عامر بقرطبة، فقامت تسقيهم وصيفة عجيبة صغيرة الخلق (3) ، ولم تزل تسهر في خدمتهم إلى أ، هم جند الليل بالانهزام، وأخذ في تقويض خيام الظلام، وكانت تسمى أسيماء، فعجب الحاضرون من مكابدتها السهر طول ليلتها (4) على صغر سنها، فسأله المظفر وصفها، فصنع ارتجالاً: أفدي أسيماء من نديمٍ ... ملازمٍ للكؤوس راتب قد عجبوا في السّهاد منها ... وهي لعمري من العجائب قالوا: تجافى الرقاد عنها ... فقلت: لا ترقد الكواكب 29 - وحكى ابن بسام (5) ما معناه أن ابن شهيد المذكور كان يوماً مع جماعة من الأدباء عند القاضي ابن ذكوان، فجيء بباكورة باقلاّ، فقال ابن ذكوران: لا ينفرد بها إلا من وصفها، فقال ابن شهيد: أنا لها، وارتجل: إنّ لآليك أحدثت صلفا ... فاتّخذت من زمرّدٍ صدفا تسكن ضرّاتها البحور وذي ... تسكن للحسن روضةً أنفا هامت بلحف الجبال فاتخذت ... من سندسٍ في جنانها لحفا

_ (1) البدائع: فشقفات. (2) بدائع البدائه 2: 32. (3) البدائع: وصيفة صغيرة ظريفة الخلق. (4) البدائع: ليلها. (5) بدائع البدائه 2: 33؛ وانظر الذخيرة 4 / 1: 28.

شبهتها بالثغور من لطف ... حسبك هذا من بر (1) من لطفا جاز ابن ذكوان في مكارمه ... حدود كعبٍ وما به وصفا قدّم درّ الرّياض منتخباً ... منه لأفراس مدحه علفا أكلٌ ظريفٌ وطعم ذي أدبٍ ... والفول يهواه كلّ من ظرفا رخّص فيه شيخٌ له قدرٌ ... فكان حسبي من المنى وكفى 30 - وقال ابن بسام (2) : إن جماعة من أصحاب ابن شهيد المذكور قالوا له: يا أبا عامر، إنك لآتٍ بالعجائب، وجاذب بذوائب الغرائب، ولكنك شديد الإعجاب بما يأتي منك، هازٌّ لعطفك عند النادر يتاح لك، ونحن نريد منك أن تصف لنا مجلسنا هذا، وكان الذي طلبوه منه زبدة التعنيت، لأن المعنى إذا كان جلفاً ثقيلاً على النفس، قبيح الصورة عند الحس، كلت الفكرة عنه وإن كانت ماضية، وأساءت القريحة في وصفه وإن كانت محسنة، وكان في المجلس بابٌ مخلوع معترض على الأرض ولبد أحمر مبسوط قد صففت خفافهم (3) عند حاشيته، فقال مسرعاً: وفتيةٍ كالنجوم حسناً ... كلّهم شاعرٌ نبيل متّقد الجانبين ماضٍ ... كأنّه الصارم الصّقيل راموا انصرافي عن المعالي ... والغرب من دونها كليل (4) فاشتدّ في إثرها (5) فسيحٌ ... كلّ كثيرٍ له قليل في مجلس زانه التصابي ... وطاردت وصفه العقول

_ (1) دوزي: رفد. (2) بدائع البدائه 2: 32؛ وانظر الذخيرة 4 / 1: 27. (3) ب: قد رصت؛ البدائع: نعالهم. (4) في الأصول قليل، والتصويب عن البدائع والذخيرة؛ وفي الأصول أيضا: عن دونها. (5) في الأصول: فالشد في أمرها.

كأنّما بابه أسيرٌ ... قد عرضت (1) دونه مصول يراد منه المقال قسراً ... وهو على ذاك لا يقول ننظر من لبده لدينا ... بحر دمٍ تحتنا يسيل كأنّ أخفافنا عليه ... مراكب ما لها دليل ضلّت فلم تدر أين تجري ... فهل على شطّه تقيل فعجب القوم من أمره، ثم خرج من عندهم فمر على بعض معارفه من الطرائفيين وبين يديه زنبيل ملآن حرشفاً (2) ، فجعل يده في لجام بغلته، وقال: لا أتركك أو تصف الحرشف، فقد وصفه صاعد فلم يقل شيئاً، فقال له ابن شهيد: ويحك! أعلى مثل هذه الحال قال: نعم، فارتجل (3) : هل أبصرت عيناك يا خليلي ... قنافذاً تباع في زنبيل من حرشفٍ معتمدٍ جليل ... ذي إبرٍ تنفذ جلد الفيل كأنّها أنياب بنت (4) الغول ... لو نخست في است امرئ ثقيل لقفزته نحو أرض النّيل ... ليس يرى طيّ حشا منديل نقل السّخيف المائن الجهول ... وأكل قومٍ نازحي العقول أقسمت لا أطعمها أكيلي ... ولا طعمتها على شمولي انتهى. 31 - وقال في " بدائع البدائه " (5) : دخل الوزير أبو العلاء زهر ابن الوزير أبي مروان عبد الملك ابن زهر على الأمير عبد الملك ابن رزين في مجلس أنس، وبين يديه ساق يسقي خمرين من كأسه ولحظه، ويبدي درين من حبابه

_ (1) ب: عارضت. (2) ب: زنبيل حرشف. (3) الذخيرة 4 / 1: 28. (4) ب ودوزي: نبت. (5) بدائع البدائه 2: 42.

ولفظه، وقد بدا خط عذاره في خده، وكمل حسنه باجتماع الضد مع ضده، فكأنّه بسحر لحظه أبدى ليلاً في شمسن وجعل يومه في الحسن أحسن من أمس، فسأله ابن رزين أن يصنع فيه، فقال بديهاً: تضاعف وجدي إذ تبدّى عذاره ... ونمّ فخان القلب منّي اصطباره وقد كان ظنّي أن سيمحق ليله ... بدائع حسنٍ هام فيها نهاره فأظهر ضدٌّ ضدّه فيه إذا وشت ... بعنبره في صفحة الخدّ ناره واستزاده، فقال بديهاً: محيت آية النهار فأضحى ... بدر تمّ وكان شمس نهار كان يعشي العيون نوراً إلى أن ... شغل الله خدّه بالعذار وصنع أيضاً: عذار ألمّ فأبدى لنا ... بدائع كنّا لها في عمى ولو لم يجنّ النهار الظلا ... م ولم يستبن كوكبٌ في السما وصنع أيضاً: تمّت محاسن وجهه وتكاملت ... لمّا استدار به عذارٌ مونق وكذلك البدر المنير جماله ... في أن يكنّفه سماء أزرق انتهى. 32 - وحكى الحميدي (1) وغيره أن عبد الله بن عاصم صاحب الشرطة بقرطبة كان أديباً شاعراً سريع البديهة، كثير النوادر، وهو من جلساء الأمير محمد بن عبد الرحمن الأموي ملك الأندلس، وحكموا أنه دخل عليه في يوم ذي غيم،

_ (1) الجذوة: 245؛ وبدائع البدائه 2: 86.

وبين يديه غلام حسن المحاسن، جميل الزي، لين الأخلاق، فقال الأمير: يا ابن عاصم ما يصلح في يومنا هذا، فقال: عقار تنفّر الذبان (1) ، وتؤنس الغزلان، وحديث كقطع الروض قد سقطت فيه مؤونة التحفظ، وأرخي له عنان التبسط، يديرها هذا الأغيد المليح، فاستضحك الأمير، ثم أمر بمراتب الغناء، وآلات الصهباء، فلما دارت الكأس، واستمطر الأمير نوادره (2) ، أشار إلى الغلام أن يلح في سقيه، ويؤكد عليه، فلما أكثر رفع رأسه إليه وقال على البديهة: يا حسن الوجه لا تكن صلفاً ... ما لحسان الوجوه والصّلف تحسن أن تحسن القبيح ولا ... ترثي لصبٍّ متيّمٍ دنف فاستبدع الأمير بديهيته، وأمر له ببدرة، ويقال: إنه خيره بينها وبين الوصيف، فاختارها نفيا للظنة عنه (3) ، انتهى. [استطراد حول ابن ظافر] قلت أذكرتني هذه الحكاية ما حكاه علي ابن ظافر عن نفسه إذ قال (4) : كنت عند المولى الملك الأشرف ابن العادل ابن أيوب سنة 603 بالرها، وقد وردت إليه في رسالة، فجعلني بين سمعه وبصره، وأنزلني في بعض دوره بالقلعة بحيث يقرب عليه حضوري في وقت طلبتي أو إرادة الحديث معي، فلم أشعر في بعض الليالي وأنا نائم في فراشي إلا به، وهو قائم على رأسي، والسكر قد غلب عليه، والشمع تزهر حواليه (5) ، وقد حف مماليكه به، وكأنهم الأقمار الزواهر، في

_ (1) في أصول النفح: تنفد الدنان. (2) ب: نواره. (3) ويقال ... عنه: سقطت هذه العبارة من ب. (4) بدائع البدائه 2: 61. (5) البدائع: والشموع تزهر بين يديه.

ملابس كالرياض ذات الأزاهر، فقمت مروعاً، فأمسكني وبادر بالجلوس إلى جانبي بحيث منعني عن القيام عن الوساد، وأبدى من الجميل ما أبدلني بالنفاق بعد الكساد، ثم قال: غلبني الشوق إليك، ولم أرد إزعاجك والتثقيل عليك، ثم استدعى من كان في مجلسه من خواص القوالين، فحضروا وأخذوا من الغناء فيما يملأ المسامع التذاذاً، ويجعل القلوب من الوجد جذاذاً، وكان له في ذلك الوقت مملوكان هما نيرا سماء ملكه، وواسطتا در سلكه، وقطبا فلك طربه ووجده (1) ، وركنا بيت سروره ولهوه، وكانا يتناوبان في خدمته، فحضر أحدهما في تلك الليلة وغاب الآخر، وكان كثيراً ما يداعبني في أمرهما ويستجلب مني القول فيهما والكلام في التفضيل بينهما، فقلت للوقت: يا مالكاً لم يحك سيرته ... ماضٍ ولا آتٍ من البشر اجمع لنا تفديك أنفسنا ... في الليل بين الشمس والقمر فطرب، وأمر في الحال باستدعاء الغائب منهما، فحضر والنوم قد زاد أجفانه تفتيراً، ومعاطفه تكسيراً، فقلت بين يديه بديهاً في صفة المجلس: سقى الرحمن عصراً قد مضى لي ... بأكناف الرّهى صوب الغمام وليلاً باتت الأنوار فيه ... تعاون في مدافعة الظّلام فنورٌ من شموع (2) أو ندامى ... ونورٌ من سقاةٍ أو مدام يطوف بأنجم الكاسات فيه ... سقاةٌ مثل أقمار التّمام تريك به الكؤوس جمود ماء ... فتحسب راحها ذوب الضّرام يميل به غصوناً من قدودٍ ... غناء مثل أصوات الحمام فكم من موصليٍّ فيه يشدو ... فينسي النفس عادية الحمام

_ (1) البدائع: وزهوه. (2) ب: شعاع.

وكم من زلزلٍ للضرب فيه ... وكم للزّمر فيه من زنام لدى موسى بن أيوب المرجّى ... إذا ما ضنّ غيثٌ بانسجام ومن كمظفّر الدين المليك ال ... أجلّ الأشرف النّدب الهمام فما شمسٌ تقاس إلى نجومٍ ... تحاكي قدره بين الكرام فدام مخلّداً في الملك يبقى ... إذا ما ضنّ دهرٌ بالدوام فلما أنشدتها قام فوضع فرجية من خاص ملابسه كانت عليه على كتفي، ووضع شربوشه بيده على رأس مملوك صغير كان لي، انتهى. ولابن ظافر هذا بدائع: منها ما حكاه عن نفسه إذ قال (1) : ومن أعجب ما دهيت به ورميت، إلا أن الله بفضله نصر، وأعطى الظفر، وأعان خاطري الكليل، حتى مضى مضاء السيف الصقيل، أنني كنت في خدمة مولانا السلطان الملك العادل بالإسكندرية سنة إحدى وستمائة مع من ضمته حاشية العسكر المنصور من الكتاب والحواشي والخدام، ودخلت سنة اثنتين وستمائة ونحن بالثغر مقيمون في الخدمة، مرتضعون لأفاويق النعمة، فحضرت في جملة من حضر الهناء، من الفقهاء بالثغر والعلماء، والمشايخ والكبراء، وجماعة الديوان والأمراء، واتقف أن كان اليوم من أيام الجلوس لإمضاء الأحكام والعرض لطوائف الأجناد، فلم يبق أحد من أهل البلد ولا من أهل العسكر إلا حضر مهنياً، ومثل شاكراً وداعياً، فحين غص المجلس بأهله، وشرق بجمع السلطان وحفله، وخرج مولانا السلطان إلى مجلسه، واستقر في دسته، أخرج من بركة قبائه كتاباً ناوله للصاحب الأجل صفي الدين أبي محمد عبد الله بن علي وزير دولته، وكبير جملته، وهو مفضوض الختام، مفكوك الفدام، ففتحه فإذا فيه قطعة وردت من المولى الملك المعظم كتبها إليها يتشوقه ويستعطفه لزيارته، ويرققه ويستحثه على عود ركابه إلى بلاد الشام، للمثاغرة

_ (1) بدائع البدائه 2: 55.

بها، وقمع عدوها، ويعرض بذكر مصر وشدة حرها، ووقد جمرها، وذلك بعد أن كان وصل لخدمته بالثغر ثم رجع إليها، والأبيات: أروي رماحك من نحور عداكا ... وانهب بخيلك من أطاع سواكا واركب خيولاً كالسّعالي شزّباً ... واضرب بسيفك من يشقّ عصاكا واجلب من الأبطال كلّ سميدعٍ ... يفري بعزمك كلّ من يشناكا واسترعف السّمر الطّوال وروّها ... واسق المنيّة سيفك السفّاكا وسر الغداة إلى العداة مبادراً ... بالضرب في هام العدوّ دراكا وانكح رماحك للثغور فإنّها ... مشتاقةٌ أن تبتني بعلاكا فالعزّ في نصب الخيام على العدا ... تردي الطّغاة وتدفع الملاّكا والنصر مقرونٌ بهمّتك التي ... قد أصبحت فوق السّماك سماكا فإذا عزمت وجدت من هو طائعٌ ... وإذا نهضت وجدت من يخشاكا والنصر في الأعداء يوم كريهةٍ ... أحلى من الكأس الذي روّاكا والعجز أن تضحي بمصرٍ راهناً ... وتحلّ في تلك العراص عراكا فأرح حشاشتك الكريمة من لظى ... مصرٍ لكي نحظى الغداة بذاكا فلقد غدا قلبي عليك بحرقةٍ ... شغفاً ولا حرّ البلاد هناكا وانهض لإلى راجي لقاك مسارعاً ... فمنه من كلّ الأمور لقاكا وابرد فؤاد المستهام بنظرةٍ ... وأعد عليه العيش من رؤياكا واشف الغداة غليل صبّ هائمٍ ... أضحى مناه من الحياة مناكا فسعادتي بالعادل الملك الذي ... ملك الملوك وقارن الأفلاكا فبقيت لي يا ملكي في غبطةٍ ... وجعلت من كلّ الأمور فداكا فلما تلا الصاحب على الحاضرين محكم آياتها، وجلا منها العروس التي حازت من المحاسن أبعد (1) غاياتها، أخذ الناس في الاستحسان لغريب نظامها،

_ (1) م: أبدع.

وتناسق التئامها، والثناء على الخاطر الذي نظم بديع أبياتها، وأطلع من مشرق فكره آياتها، فقال السلطان: نريد من يجيبه عنا بأبيات على قافيتها، فالتفت مسرعاً إلي مأنا عن يمينه، وقال: يا مولانا مملوكك فلان هو فارس هذا الميدان، والمعتاد للتخلص من مضايق هذا الشان، ثم قطع وصلاً من درج كان بين يديه، وألقاه إلي، وعمد إلى دواته فأدارها (1) بين يدي، فقال له السلطان: أهكذا على مثل هدا الحال وفي مثل هذا الوقت فقال: نعم أنا قد جربته فوجدته متقد الخاطر، حاضر الذهن، سريع إجابة الفكر، فقال السلطان: وعلى كل حال قم إلى هنا لتنكف عنك أبصار الناظرين، وتنقطع عنك ضوضاء الحاضرين، وأشار إلى مكان عن يمين البيت الخشب الذي هو بالجلوس قيه منفرد، فقمت وقد فقدت رجلي انخذالاً، وذهني اختلالاً، لهيبة المجلس في صدري، وكثرة من حضره من المترقبين لي، المنتظرين حلوله فاقرة الشماتة بي، فما هو إلا أن جلست حتى ثاب إلي خاطري، انثال الكلام على سرائري (2) ، فكنت أتوهم أن فكري كالباز الصيود لا يرى كلمة إلا أنشب فيها منسرة، ولا معنى إلا شك فيه ظفره، فقلت في أسرع وقت: وصلت من الملك المعظّم تحفةٌ ... ملأت بفاخر درّها الأسلاكا أبيات شعرٍ كالنجوم جلالةً ... فلذا حكت أوراقها الأفلاكا عجباً وقد جاءت كمثل الروض إذ ... لم تذوها بالحر نار ذكاكا جلت الهموم عن الفؤاد كمثل ما ... تجلو بغرّة وجهك الأحلاكا كقميص يوسف إذ شفت يعقوب ريّ ... اه شفتني مثله ريّاكا قد أعجزت شعراء هذا العصر كلّ ... هم فلم لا تعجز الأملاكا ما كان هذا الفضل يمكن مثله ... أن يحتويه من الأنام سواكا

_ (1) م: فألقاها. (2) البدائع: وانثال الشعر على ضمائري.

لم لا أغيب عن الشآم وهل له ... من حاجةٍ عندي وأنت هناكا أم كيف أخشى والبلاد جميعها ... محميّةٌ في جاه طعن قناكا يكفي الأعادي حرّ بأسك فيهم ... أضعاف ما يكفي الوليّ نداكا ما زرت مصر لغير ضبط ثغورها ... فلذا صبرت فديت عن رؤياكا أن البلاد علا عليها قدرها ... لا سيّما مذ شرّفت بخطاكا طابت وحقّ لها ولم لا وهي قد ... حوت المعلاّ في القداح أخاكا أنا كالسحاب أزور أرضاً ساقياً ... حيناً، وأمنح غيرها سقياكا مكثي جهادٌ للعدوّ لأنّني ... أغزوه بالرأي السديد دراكا لولا الرباط وغيره لقصدت بال ... سير الحثيث إليك نيل رضاكا ولئن أتيت إلى الشآم فإنّما ... يحتثّني شوقٌ إلى لقياكا إنّي لأمنحك المحبّة جاهداً ... وهواي فيما تشتهيه هواكا فافخر فقد أصبحت بي وببأسك ال ... حامي وكلّ مملّكٍ يخشاكا لا زلت تقهر من يعادي ملكنا ... أبداً ومن عاداك كان فداكا وأعيش أبصر ابنك الباقي أباً ... وتعيش تخدم في السعود أباكا ثم عدت إلى مكاني وقد بيضتها، وحليت بزهرها ساحة القرطاس وروضتها، فلما رآني السلطان وقد عدت قال لي: هل عملت شيئاً ظناً منه أن العمل في تلك اللمحة القريبة معجز متعذر، وبلوغ الغرض فيها غير متصور، فقلت: قد أجبت، فقال: أنشدنا (1) ، فصمت الناس، وحدقت الأبصار، وأصاخت الأسماع، وظن الناس بي الظنون، وترقبوا مني ما يكون، فما هو إلا أن توالى الإنشاد لأبياتها حتى صفقت الأيدي إعجاباً، وتغامزت الأعين استغراباً، وحين انتهيت إلى ذكر مولانا الملك الكامل، بأنه المعلى في البنين إذا ضربي قداحهم، وسردت أمداحهم، اغرورقت عيناه دمعاً لذكره، وأبان صمته

_ (1) ب: أنشد.

مخفي المحبة حتى أعلن بسره، وحين انتهيت إلى آخرها فاض دمعه، ولم يمكنه دفعه، فمد يده مستدعياً للورقة، فناولتها إلى يد الصاحب، فناولها له، وعند حصولها في يده قام من غير إشعار لأحد بما دار منه إرادة القيام في خلده، ستراً لما ظهر عليه من الرقة على الموالي الأولاد، وكتماً لما عليه من الوجد بهم والمحبة لهم، وانفض المجلس. وإنما حمل الصاحب على هذا الفعل الذي غرر بي فيه وخاطر بي بالتعريض له أشياء كان يقترحها علي فأنفذ فيها من بين يديه، ويخف الأمر منها علي لدالتي عليه، منها أنني كنت في خدمته سنة 599 بدمشق، فورد عليه كتاب من الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين صاحب حماة، وقد بعث صحبته نسخة من ديوان شعره فتشاغل بتسويد جواب كتابه، فلما كتب بعضه التفت إلي وقال: اصنع أبياتاً أكتبها إليه في صدر الجواب، واذكر فيها شعره، فقلت له: على مثل هذه الحال فقال: نعم، فقلت بقد ما أنجز بقية النسخة: أيا ملكاً قد أوسع الناس نائلاً ... وأغرقهم بذلاً وعمّهم عدلا فديناك هب للناس فضلاً يزينهم ... فقد حزت دون الناس كلّهم الفضلا ودونك فامنحهم من العلم والحجى ... كما منحتهم كفّك الجود والبذلا إذا حزت أوفى الفضل عفواً فما الذي ... تركت لمن كان القريض له شغلا وماذا عسى من ظلّ بالشعر قاصداً ... لبابك أن يأتي به جلّ أو قلاّ فلا زلت في عزٍّ يدوم ورفعةٍ ... تحوز فناءاً يملأ الوعر والسهلا ووقع لابن ظافر أيضاً من هذا النمط (1) أنه دخل في أصحاب له يعودون صاحباً لهم، وبين يديه بركة قد راق ماؤها، وصحت سماؤها، وقد رصّ تحت دساتيرها نارنج فتن قلوب الحضّار وملأ بالمحاسن عيون النظار، فكأنما

_ (1) بدائع البدائه 2: 54.

رفعت صوالج فضة على كرات من النضار، فأشار الحاضرون إلى وصفها، فقال بديهاً: أبدعت يا ابن هلال في فسقيّةٍ ... جاءت محاسنها بما لم يعهد عجباً لأمواه الدساتير التي ... فاضت على نارنجها المتوقّد فكأنّهنّ صوالجٌ من فضّةٍ ... رفعت لضرب كراة خالص عسجد [قدرة ابن قلاقس في الارتجال] ومن بديع الارتجال ما حكاه المذكور ابن قلاقس الإسكندري رحمه الله تعالى إذ قال (1) : دخل الأعز أبو الفتوح ابن قلاقس على بلال بن مدافع بن بلال الفزازي، فعرض عليه سيفاً قد نظم الفرند في صفحته جوهره، وأذكر الدهر ناره وجمد نهره، وألبسه من سلخ الأفاعي رداءً وجسمه ردىً أو داءً، لا يمنع من برقه بدر مجن ولا ثريا مغفر، ولا يسلم منحده من ثبت ولا ينجو بطوله من فر، وهو يبكي للنفاق ويضحك، ويرعد للغيظ ويفتك، وأمره بصفة شانه، فقال على لسانه: أروق كما أروّع فإن تصفني ... فإنّي رائق الصفحات رائع تدافع بي خطوب الدهر حتى ... نقلت إلى بلالٍ عن مدافع وقال أيضاً في: ربّ يومٍ له من النّقع سحبٌ ... ما لها غير سائل (2) الدم ودق قد جلته يمنى بلالٍ بحدّي ... فكأنّي في راحة الشمس برق

_ (1) المصدر نسفه 2: 47. (2) ب: مائر.

وقال أيضاً فيه: أنا في الكريهة كالشّهاب الساطع ... من صفحةٍ تبدو وحدّ قاطعي فكأنّما استمليت تلك وهذه ... من وصف كفّ بلالٍ ابن مدافع وقال أيضاً فيه: انظر لمطّرد المياه بصفحتي ... ولنار حدّي كم بها من صالي قد عاد شدّي في المضايق شيمتي ... كبلالٍ ابن مدافع بن بلال وسأله صاحبٌ له وصف مشط عاج قد أشبه الثريا شكلاً ولوناً، وشق ليلاً من الشعر جوناً، فقال: ومتيّمٍ بالآبنوس وجسمه ... عاجٌ ومن أدهانه شرفاته (1) كتب الدياجي الشّعر منه بدرها ... فوشت به للعين عيّوقاته وقال فيه: وأبيض ليل الآبنوس إذا سرى ... تمزّق عن صبحٍ من العاج باهر وإن غاص في بحر الشعور رأيته ... تبشّرنا أطرافه بالجواهر وقال فيه: ومشرقٍ يشبه لون الضّحى ... حسناً ويسري في الدّجى الفاحم وكلّما قلّب في لمّةٍ ... أضحكها عن ثغرٍ باسم وجلس بمصر في دار الأنماط يوماً مع جماعة، فمرّت بهم امرأة تعرف بابنة أمين الملك، وهي شمس تحت سحاب النقاب، وغصن في أوراق الشباب،

_ (1) ب: حرقاته.

فحدقوا إليها تحديق الرقيب إلى الحبيب، والمريض إلى الطبيب، فجعلت تتلفت تلفت الظبي المذعور، أفرقه القانص فهرب، وتتثنى تثني الغصن الممطور عانقه النسيم فاضطرب، فسألوه العمل في وصفها، فقال: هذا يصلح أن يعكس فيه قول العطار الأزدي القيرواني: أعرضن لمّا أن عرضن، فإن يكن ... حذراً فأين تلفّت الغزلان ثم صنع: لها ناظرٌ في ذرا ناضرٍ ... كما ركّب السنّ فوق القناة لوت حين ولّت لنا جيدها ... فأيّ حياةٍ بدت من وفاة كما ذعر الظبي من قانصٍ ... فمرّ وكرّر في الالتفات (1) ثم صنع أيضاً: ولطيفة الألفاظ لكن قلبها ... لم أشك منه لوعةً إلاّ عتا كملت محاسنها فودّ البدر أن ... يحظى ببعض صفاتها أو ينعتا قد قلت لمّا أعرضت وتعرضت ... يا مؤيساّ يا مطعماّ قل لي متى قالت أنا الظبي الغرير وإنما ... ولّى وأوجس نبأةً (2) فتلفّتا قال علي بن ظافر: وحضر يوماً عند بني خليف بظاهر الإسكندرية في قصر رسا بناؤه وسما، وكاد يمزق بمزاحمته أبواب السما، قد ارتدى جلابيب السحائب ولاث عمائم الغمائم، وابتسمت ثنايا شرفاته، واتسمت بالحسن حنايا غرفاته، وأشرف على سائر نواحي الدنيا وأقطارها، وحبته الرياض بما ائتمنتها عليه السحب من ودائع أمطارها، والرمل بفنائه قد نثر تبره في زبرجد

_ (1) سقط هذا البيت من ب. (2) في الأصول: نبوة.

كرومه، والجو قد بعث بذخائر الطيب لطيمة نسيمه، والنخل قد أظهرت جواهرها، ونشرت غدائرها، والطل ينثر لؤلؤه في مسارب النسيم ومساحبه، والبحر يرعد غيظاً من عبث الرياح به، فسأله بعض الحضور أن يصف ذلك الموضع الذي تمت محاسنه، وغبط به ساكنه، فجاشت لذلك لجج بحره، وألقت إليه جواهره لترصيع لبة ذلك القصر ونحره، فقال: قصرٌ بمدرجة النّسيم تحدثت ... فيه الرياض بسرّها المستور خفض الخورنق والسّدير سموّه ... وثنى قصور الروم ذات قصور لاث الغمام عمامةً مسكيّةً ... وأقام في أرضٍ (1) من الكافور غنّى الربيع به محاسن وصفه ... فافترّ عن نورٍ يروق ونور فالدّوح يسحب حلّةً من سندسٍ ... تزهى بلؤلؤ طلّها المنثور والنخل كالغيد الحسان تقرّطت ... بسبائك المنظوم والمنثور والرمل في حبك النسيم كأنما ... أبدى غصون سوالف المذعور والبحر يرعد متنه فكأنّه ... درعٌ تشنّ بمعطفي مقرور وكأنّنا والقصر يجمع شملنا ... في الأفق بين كواكبٍ وبدور وكذاك دهر بني خليفٍ لم يزل ... يثني المعاطف في حبير حبور ثم قال ابن ظافر: وأخبرني الفقيه أبو الحسن علي ابن الطوسي المعروف بابن السيوري الإسكندري النحوي بما هذا معناه، قال: كنت مع الأعز بن قلاقس في جماعة، فمر بنا أبو الفضائل ابن فتوح المعروف بالمصري، وهو راجع من المكتب، ومعه دواته، وهو في تلك الأيام قرة العين ظرفاً وجمالاً وراحة القلب قرباً ووصالاً، كل عين إلى وجهه محدقة، ولمشهد خديه بخلوق الخجل مخلقة، فاقترحنا عليه أن يتغزل فيه، فصنع بديهاً:

_ (1) م ب: روض.

علّقته متعلّقاً ... بالخطّ معتكفاً عليه حمل الدواة ولا دوا ... ء لعاشق يرجى لديه فدماء حبّات القلو ... ب تلوح صبغاً في يديه لم أدر ما أشكو إلي ... هـ أهجره أمقلتيه والحبّ يخرسني على ... أنّي ألكّع سيبويه ما لي إذا أبصرته (1) ... شغلٌ سوى نظري إليه وقد آن وقت الرجعة إلى كلام الأندلسيين الذين حلا، وأبعدنا عنه بما مر النجعة، فنقول: 33 - ذكر الفتح في قلائد العقيان، كما قال ابن ظافر، ما معناه (2) : أخبرني الوزير أبو عامر ابن بشتغير أنه حضر مجلس القائد أبي عيسى ابن لبون في يوم سفرت فيه أوجه المسرات، ونامت عنه أعين المضرات، وأظهرت سقاته غصوناً تحمل بدوراً، وتطوف من المدام بنار مازجت من الماء نوراً، وشموس الكاسات تطلع في أكفها كالورد في السوسان، وتغرب بين أقاحي نجوم الثغور فتذبل نرجس الجفان، وعنده الوزير أبو الحسن ابن الحاج اللورقي، وهو يومئذ قد بذل الجهد، في التحلي بالزهد، فأمر القائد بعض السقاة أن يعرض عليه ذهب كاسه، ويحييه بزبرجد آسه، ويغازله بطرفه ويميل عليه بعطفه، ففعل ذلك عجلاً، فأنشد أبو الحسن مرتجلاً: ومهفهفٍ مزج الفتور بشدّةٍ ... وأقام بين تبذّلٍ وتمنّع يثنيه من فعل المدامة والصّبا ... سكران سكر طبيعةٍ وتطبّع أوما إليّ بكأسه فكففتها ... ورنا فشفّعها بلحظٍ مطمع

_ (1) البدائع: قابلته. (2) بدائع البدائه 2: 87؛ والقلائد: 139.

والله لولا أن يقال هوى الهوى ... منه بفضل عزيمةٍ وتورّع لأخذت في تلك السبيل بمأخذي ... فيما مضى ونزعت فيها منزعي 34 - وحكى الحميدي (1) أن عبد الملك ابن إدريس الجزيري كان ليلة بين يدي الحاجب ابن أبي عامر والقمر يبدو تارة، ويخفيه السحاب تارة، فقال بديهاً: أرى بدر السّماء يلوح حيناً ... فيبدو ثمّ يلتحف السحابا وذاك لأنّه لمّا تبدّى ... وأبصر وجهك استحيا فغابا مقالٌ لو نما عنّي إليه ... لراجعني بتصديقي جوابا 35 - وكان صاعد اللغوي (2) صاحب كتاب " الفصوص " - وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب - كثيراً ما يمدح بلاد العراق بمجلس المنصور ابن أبي عامر، ويصفها ويقرظها، فكتب الوزير أبو مروان عبد الملك ابن شهيد والد الوزير أبي عامر أحمد ابن شهيد صاحب الغراءب، وقد تقدم بعض كلامه قريباً، إلى المنصور في يوم برد - وكان أخص وزرائه به - بهذه الأبيات: أما ترى برد يومنا هذا ... صيّرنا للكمون أفذاذا قد فطرت صحّة الكبود به ... حتى لكادت تعود أفلاذا فادع بنا للشّمول مصطلياً ... نغذّ سيراً إليك إغذاذا وادع المسمّى بها وصاحبه (3) ... تدع نبيلاً وتدع أستاذا ولا تبال أبا العلاء زها ... بخمر قطربّلٍ وكلواذا ما دام من أرملاط مشربنا ... دع دير عمّى وطيزناباذا (4)

_ (1) جذوة المقتبس: 262؛ وبدائع البدائه 2: 96. (2) بدائع البدائه 2: 103؛ والذخيرة 4 / 1: 16. (3) يريد غلاما اسمه " شمول ". (4) سقط هذا البيت من م.

وكان المنصور قد عزم ذلك اليوم على الانفراد بالحرم، فأمر بإحضار من جرى رسمه من الوزراء والندماء، وأحضر ابن شهيد في محفة لنقرس كان يعتاده، وأخذوا في شأنهم، فمر لهم يوم لم يشهدوا مثله، ووقت لم يعهدوا نظيره، وطما الطرب وسما بهم، حتى تهايج القوم ورقصوا، وجعلوا يرقصون بالنوبة، حتى انتهى الدور إلى ابن شهيد، فأقامه الوزير أبو عبد الله ابن عباس، فجعل يرقص وهو متوكئ عليه، ويرتجل ويومئ إلى المنصور، وقد غلب عليه السكر (1) : هاك شيخاً قاده عذرٌ لكا ... قام في رقصته مستهلكا لم يطق يرقصها مستثبتاً ... فانثنى يرقصها مستمسكا عاقه عن هزّها منفرداً ... نقرسٌ أخنى عليه فاتّكا من وزيرٍ فيهم رقّاصةٍ ... قام للسكر يناغي ملكا أنا لو كنت كما تعرفني ... قمت إجلالاً على رأسي لكا قهقه الإبريق مني ضاحكاً ... ورأى رعشة رجلي فبكى قال ابن ظافر: وهذه قطعة مطبوعة، وطرفها الأخير واسطتها، وكان حاضرهم ذلك اليوم رجلٌ بغدادي يعرف بالفكيك، حسن النادر سريعها، وكان ابن شهيد استحضره إلى المنصور فاستطبعه، فلما رأى ابن شهيد يرقص قائماً مع ألم المرض الذي كان يمنعه من الحركة قال: لله درك يا وزير! ترقص بالقائمة، وتصلي بالقاعدة، فضحك المنصور، وأمر لابن شهيد بمال جزيل، ولسائر الجماعة، وللبغدادي. 36 - وقال ابن بسام (2) : حدث أبو بكر محمد بن أحمد بن جعفر بن

_ (1) الذخيرة 4 / 1: 17؛ وزاد في م: وقال ارتجالا. (2) بدائع البدائه 2: 106.

عثمان المصحفي قال، دخلت يوماً على أبي عامر ابن شهيد، وقد ابتدأت علته التي مات بها، فأنس بي، وجرى الحديث إلى أن شكوت له تجني بعض أصحابي (1) علي، ونفاره عني، فقال لي: سأسعى في إصلاح ذات البين، فخرجت عنه، واتفق لقائي لذلك المتجني علي مع بعض أصحابي وأعزهم علي، فلما رآني ذلك الصديق مولياً عنه أنكر عليه، وسأله عن السبب الموجب، فأخبره، وزاد في مشيهما حتى لحقا بي، وعزم علي في مكالمة صاحبي، وتعاتبنا عتاباً أرق من الهواء، وأشهى من الماء على الظماء، حتى جئنا دار أبي عامر، فلما رآنا جميعاً ضحك وقال: من كان الذي تولى إصلاح ما كنا سررنا بفساده قلنا: قد كان ما كان، فاطرق قليلاً تم أنشد: من لا أسمّي ولا أبوح به ... أصلح بيني وبين من أهوى أرسلت من كابد الهوى فدرى ... كيف يداوى مواقع البلوى ولي حقوقٌ في الحبّ ثابتةٌ ... لكنّ إلفي يعدّها دعوى وقد ذكرنا في هذا الكتاب من غرائب أبي عامر ابن شهيد في مواضع متفرقة الغرائب، وقدمنا في الباب الرابع حكايته مع المرأة الداخلة في رمضان لجامع قرطبة وحكينا [ها] هناك بلفظ " المطمح " فلتراجع. وعبر ابن ظافر عن معناها بقوله (2) : إن أبا عامر كان مع جماعة من أصحابه بجامع قرطبة في ليلة السابع والعشرين من رمضان (3) ،فمرت امرأة به من بنات أجلاء قرطبة، قد كملت حسناً وظرفاً ومعها طفل يتبعها كالظبية تستتبع خشفاً، وقد حفت بها الجواري، كالبدر حف بالدراري، فحين رأت تلك الجماعة، المعروفة بالخلاعة، وقد رمقوا ذلك الظبي بعيون أسودٍ رأت فريسة،

_ (1) البدائع: إخواني. (2) بدائع البدائه 2: 107. (3) من رمضان: سقطت من ب.

ارتاعت وتخوفت أن تخطف منها (1) تلك الدرة النفيسة، فاستدنت إليها خشفها، وألزمته عطفها، فارتجل ابن شهيد قائلاً: وناظرةٍ تحت طيّ القناع..إلخ ... ومرت في الباب الرابع هذه الأبيات. 37 - وقال الرئيس أبو الحسن عبد الرحمن بن راشد الراشدي (2) : لما نعيت أبا عامر ابن شهيد إلى أبي عبد الله الحناط (3) الشاعر، وقد عرف ما كان بينهما من المنافسة، بكى وأنشدني لنفسه بديهة: لمّا نعى النّاعي أبا عامرٍ ... أيقنت أنّي لست بالصابر أودى فتى الظّرف وترب النّدر ... وسيّد الأوّل والآخر 38 - وقال ابن بسام (4) : اصطبح المعتصم بن صمادح يوماً مع ندمائه، فأبرز لهم وصيفة مهدوية متصرفة في أنواع اللعب المطرب من الدك، وحضر أيضاً هناك لاعب مصري ساحر فكان لعبه حسناً، فارتجل أبو عبد الله بن الحداد: كذا فلتلح قمراً زاهرا ... وتجني الهوى ناظراً ناضرا وسيبك سيب ندىً مغدقٍ ... أقام لنا هامياً هامرا وإنّ ليومك ذا رونقاً ... منيراً كنور الضّحى باهرا صباح اصطباحٍ بإسفاره ... لحظنا محيّا العلا سافرا وأطلعت فيه نجوم الكؤوس ... فما زال كوكبها زاهرا وأسمعتنا لاحناً فاتناً ... وأحضرتنا لاعباً ساحرا

_ (1) منها: سقطت من ب. (2) بدائع البدائه 2: 109. (3) في الأصول: الخياط. (4) بدائع البدائه 2: 121.

يرفرف فوق رؤوس القيان ... فننظر ما يذهل الناظرا ويحفظها ذيل سرباله ... فننظر طالعها غائرا فظاهرها ينثني باطناً ... وباطنها ينثني ظاهرا وثنّاه ثانٍ لألعابه ... دقائق تثني الحجى حائرا (1) وفي سورة الرّاح من سحره ... خواطر دلّهت الخاطرا إذا ورد اللّحظ أثناءها ... فما الوهم عن وردها صادرا ومن حسن دهرك إبداعه ... فما انفكّ عارضها ماطرا وسعدك يجتلب المغربات ... فيجعل غائبها حاضرا 39 - قال (2) : وحضر الأديب أحمد بن الشقاق عند القائد ابن دري (3) بجيان، هو وأبو زيد ابن مقانا الأشبوني، فأحضر لهما (4) عنباً أسود مغطى بورق أخضر، فارتجل ابن الشقاق: عنبٌ تطلّع من حشا ورقٍ لنا (5) ... صبغت غلائل جلده بالإثمد فكأنّه من بينهنّ كواكبٌ ... كسفت فلاحت في سماء زبرجد 40 - قال (6) : وحضر ابن مرزقان ليلة عند ذي النون بن خلدون، وبحضرته وصيفة تحمل شمعة، فاستحسنها ابن مرزقان، فقال بديهاً: يا شمعةً تحملها أخرى ... كأنّها شمسٌ علت بدرا امتحنت إحداكما مهجتي ... بمثل ما تمتحن الأخرى

_ (1) اضطربت النسخة م بعد هذا البيت وسقط منها قسط كبير وسنشير إلى موضع التئامها مع النسختين ق ب. (2) بدائع البدائه 2: 122 وروى ابن بسام القصة (الذخيرة 1 / 2: 262) عن المنفتل عبد العزيز ابن خيرة القرطبي. (3) ق ب: ابن دريد. (4) ب: فأحضرهما. (5) ب: له؛ الذخيرة: ندي. (6) بدائع البدائه 2: 123.

41 - قال (1) : ودخل الأديب غانم يوماً على باديس صاحب غرناطة، فوسع له على ضيق كان في المجلس، فقال بديهاً: صيّر فؤادك للمحبوب منزلةً ... سمّ الخياط مجالٌ للمحبّين ولا تسامح بغيضاً في معاشرةٍ ... فقلّما تتسع الدنيا بغيضين وأخذه من قول الخليل " ما تضايق سمّ الخياط بمتحابّين، ولا اتسعت الدنيا لمتباغضين " (2) . وكان الخليل على نمرقة صغيرة، والمجلس متضايق، فدخل عليه بعض أصحابه، فرحب به وأجلسه معه على النمرقة، فقال له الرجل: إنها لا تسعنا، فقال ما ذكر. 42 - وقال ابن بسام أيضاً (3) : أمر الحاجب المنذر بن يحيى التجيبي صاحب سرقسطة بعرض بعض الجند في بعض الأيام، ورئيسهم مملوك له رومي يقال له خيار في نهاية الجمال، فجعل ينفخ في القرن ليجتمع أصحابه على عادة لهم في ذلك، فقال ابن هندو الداني فيه ارتجالاً: أعن بابلٍ أجفان عينيك تنفث ... ومن قوم موسى أنت للعهد تنكث أفي الحقّ أن تحكي سرافيل نافخاً ... وأمكث في رمث الصّدود وألبث عساك، نبيّ الحسن، تأتي بآيةٍ ... فتنفخ في ميت الصّدود فيبعث 43 - قال: وكان بقرطبة غلام وسيم فمر عليه ابن فرج الجياني ومعه صاحب له، فقال صاحبه: إنه لصبيح لولا صفرة فيه، فقال ابن فرج ارتجالاً (4) :

_ (1) المصدر نفسه: 123. (2) ب: بمتباغضين. (3) الذخير (3: 282) . (4) الذخيرة (3: 280) .

قالوا: به صفرةٌ عابت محاسنه ... فقلت: ما ذاك من عيبٍ به نزلا عيناه تطلب في أوتار من قتلت ... فلست تلقاه إلاّ خائفاً وجلا قال: وكان يوماً مع لمة من أهل الأدب في مجلس أنس، فاحتاج رب المنزل إلى دينار، فوجه إلى السوق، فدخل به عليهم غلام من الصيارف في نهاية الجمال، فرمى بالدينار إليهم من فيه تماجناً، فقال ابن فرج (1) : أبصرت ديناراً بكفّ مهفهفٍ ... يزهى به من كثرة الإعجاب أوما به من فيه ثمّ رمى به ... فكأنّه بدرٌ رمى بشهاب 44 - قال (2) : وخرج الأديب أبو الحسن ابن حصن الإشبيلي إلى وادي قرطبة في نزهة، فتذكر إشبيلية، فقال بديهاً: ذكرتك يا حمص ذكرى هوىً ... أمات الحسود وتعنيته كأنّك والشمس عند الغروب ... عروسٌ من الحسن منحوته غدا النهر عقدك والطّود تا ... جك والشمس أعلاه ياقوته 45 - وعبر بعضهم، وهو صاحب " بدائع البدائه " عن بعض حكايات صاحب القلائد بما يقاربها في المعنى، فقال (3) : إن المستعين بن هودٍ ملك سرقسطة والثغور ركب نهر سرقسطة يوماً لتفقد بعض معاقله، المنتظمة بجيد ساحله، وهو نهر رقّ ماؤه وراق، وأزرى على نيل مصر ودجلة العراق، قد اكتنفته البساتين من جانبيه، وألقت ظلالها عليه، فما تكاد عين الشمس أن

_ (1) الذخيرة (3: 280) . (2) بدائع البدائه 2: 124. (3) بدائع البدائه 2: 124.

تنظر إليه، هذا على اتساع عرضه، وبعد سطح مائه من أرضه، وقد توسط زورقه زوارق حاشيته توسط البدر للهالة، وأحاطت به إحاطة الطفاوة (1) بالغزالة، وقد أعدوا من مكايد الصيد ما استخرج ذخائر الماء، وأخاف حتى حوت السماء، وأهلة الهالات الطالعة من الموج في سحاب، وقانصة من بنات الماء كل طائرة كالشهاب، فلا ترى إلا صيوداً كقصد الصوارم، وقدود اللهاذم، ومعاصم الأبكار النواعم، فقال الوزير أبو الفضل ابن حسداي والطرب قد استهواه، وبديع ذلك المرأى قد استرق هواه: لله يومٌ أنيقٌ واضح الغرر ... مفضّضٌ مذهب الآصال والبكر كأنّما الدهر لمّا ساء أعتبنا ... فيه بعتب فأبدى صفح معتذر نسير في زورقٍ حفّ السرور به ... من جانبيه بمنظومٍ ومنتثر مدّ الشراع به قدّاً على ملكٍ ... بذّ الأوائل في أيامه الأخر هو الإمام الهمام المستعين حوى ... علياء مؤتمنٍ في هدي مقتدر تحوي السفينة منه آيةً عجباً ... بحرٌ تجمّع حتى صار في نهر تثار من قعره النينان مصعدةً ... صيداً كما ظفر الغواص بالدرر وللندامى به عبٌّ ومرتشفٌ ... كالريق يعذب في ورد وفي صدر والشرب في ودّ مولى خلقه زهرٌ ... يذكو وبهجته أبهى من القمر ثم قال ما معناه (2) : وقوله " نينان " غير معروف، فإن نوناً لم يجئ جمعها على نينان، وقد كان سيبويه لحن بشار بن برد في قوله في صفة السفينة: تلاعب نينان البحور وربّما ... رأيت نفوس القوم من جريها تجري فغيره بشار ب " تيار البحور " وقد قال أبو الطيب يصف خيلاً:

_ (1) الطفاوة: دارة الشمس. (2) بدائع البدائه 2: 127.

فهنّ مع السّيدان في البرّ عسلٌ ... وهنّ مع النينان في البحر عوّم انتهى. والمستعين بن هود هو أحمد بن المؤتمن على أمر الله يوسف بن المقتدر بالله أحمد بن المستضيء بالله سليمان بن هود، الجذامي، رحم الله تعالى الجميع. 46 - وعبر المذكور عن قضية ابن وهبون في هلال شوال بما نصه (1) : خرج ابن وهبون يوما لنظر هلال شوال، وأبو بكر ابن القبطرنة الوزير يسايره، وهو يومئذ غلام يخجل البدر، ويذوي (2) الغصن النضر، وصفحته لم يسطرها العذار بأنقاسه، ووردة خده لم يسترها الشعر بآسه، فارتجل عبد الجليل: يا هلال استتر بوجهك عنّي ... إن مولاك قابضٌ بشمالي هبك تحكي سناه خدّاً بخدٍّ ... قم فجئني لقدّه بمثال وقد ذكرنا هذه الحكاية في غير هذا الموضع بلفظ الفتح في " القلائد " ولكننا أعدناها هنا لتعبير صاحب " البدائع " عنها محاكياً لطريقته. 47 - وذكر ابن بسام (3) أن الوزير أبا عبد الله ابن أبي الخصال وقف بباب بعض القضاة، واستأذن عليه، فحجب عنه، فكتب إليه بديهاً (4) : جئناك للحاجة الممطول صاحبها ... وأنت تنعم والإخوان في بوس وقد وقفنا طويلاً عند بابكم ... ثم انصرفنا على رأي ابن عبدوس أشار به إلى قول الوزير أبي عامر ابن عبدوس:

_ (1) المصدر السابق 2: 128. (2) البدائع: ويزري. (3) بدائع البدائه 2: 147. (4) ب: بديهة.

لنا قاضٍ له خلق ... أقلّ ذميمه النّزق إذا جئناه يحجبنا ... فنلعنه ونفترق وهو تلميح مليح، سامح الله تعالى الجميع. 48 - وقال أبو جعفر الكاتب القرطبي الربضي (1) : وأبي المدامة ما أريد بشربها ... صلف الرقيع ولا انهماك اللاهي لم يبق من عصر الشباب وطيبه ... شيء كعهدي لم يحل إلاّ هي إن كنت أشربها لغير وفائها ... فتركتها للناس لا لله وبعضهم ينسبها لأبي القاسم عامر بن هشام، والصواب - كما قال ابن الأبار (2) - الأول. وقال أبو جعفر المذكور في فوارة رخام كلفه وصفها والي قرطبة (3) : ما شغل الطّرف مثل فائرة ... تمجّ صرف الحياة من فيها اشرب بها والحباب في جذل ... يظهره حسنها ويخفيها تكاد من رقّةٍ تضمنها ... تخطبها العين إذ توافيها كأنّها درّةٌ منعّمةٌ ... زهراء قد ذاب نصفها فيها ومن شعره أيضاً:

_ (1) انظر ما سبق ص: 228، وأبو جعفر هذا هو أحمد بن عبد الرحمن اللخمي الكاتب من أهل قرطبة ويعرف بالربضي لسكناه بالربض الشرقي منها؛ توفي سنة 610 (المقتضب من تحفة القادم: 126) . (2) قال ابن الأبار: وهذه الأبيات قد أنشدنيها بعض الأعلام لأبي القاسم عامر بن هشام وإنما هي لأبي جعفر هذا أنشدنيها صاحبنا أبو الحسن حازم بن محمد الأديب ... إلخ (الوافي 7: 24 نقلا عن التحفة ولم يرد في المقتضب) . (3) الأبيات في الوافي 7: الورقة 24؛ وكذلك الأبيات التي تليها.

ضحك المشيب براسه ... فبكى بأعين كاسه رجلٌ تخوّنه الزّما ... ن ببؤسه وبباسه فجرى على غلوائه ... طلق الجموح بناسه أخذاً بأوفر حظّه ... لرجائه من ياسه 49 - وقال أحد بني القبطرنة الوزراء (1) : ذكرت سليمى ونار الوغى ... بقلبي كساعة فارقتها وأبصرت قدّ القنا شبهها ... وقد ملن نحوي فعانقتها وهذا معنى بديع ما أراه سبق به. 50 - وقال أبو الحسن ابن الغليظ المالقي (2) : قلت يوماً للأديب أبي عبد الله ابن السراج المالقي، ونحن على جرية ماء: أجز: شربنا على ماء كأنّ خريره ... فقال مبادراً: بكاء محبٍّ بان عنه حبيب ... فمن كان مشغولاً كئيباً بإلفه ... فإني مشغوفٌ به وكئيب 51 - وكتب أبو بكر البلنسي (3) إلى الأديب أبي بحر صفوان بن إدريس هذين البيتين يستجيزه القسيم الأخير منهما:

_ (1) انظر القلائد: 155 والمغرب 1: 368. (2) بدائع البدائه 1: 73. (3) بدائع البدائه 1: 79.

خليلي أبا بحر وما قرقف اللّمى (1) ... بأعذب من قولي خليلي أبا بحر أجز غير مأمورٍ قسيماً نظمته ... تأمّل على نحر المياه حلى الزّهر فأجازه: تأمّل على حلى المياه حلى الزّهر ... كعهدك بالخضراء والأنجم الزّهر وقد ضحكت للياسمين مباسمٌ ... سروراً بآداب الوزير أبي بكر وأصغت من الآس النضير مسامعٌ ... لتسمع ما يتلوه من سور الشعر 52 - وقال ابن خفاجة (2) : وما الأنس إلاّ في مجاج زجاجةٍ ... ولا العيش إلا في صرير سرير وإني وإن جئت المشيب لمولعٌ ... بطرّة ظلٍّ فوق وجه غدير وقال ابن خفاجة أيضاً (3) : وأسودٍ يسبح في لجّةٍ ... لا تكتم الحصباء غدرانها كأنها في شكلها مقلةٌ ... وذلك الأسود إنسانها [قصائد لابن زيدون] 53 - وكتب الوزير الشهير أبو الوليد ابن زيدون إلى الوزير أبي عبد الله ابن عبد العزيز إثر صدوره عن بلنسية (4) : راحت فصحّ (5) بها السقيم ... ريحٌ معطّرة النّسيم مقبولةٌ هبّت قبو ... لاً فهي تعبق في الشميم

_ (1) ب: الطلى. (2) ديوان ابن خفاجة: 181. (3) ديوان ابن خفاجة: 363؛ وفي ق: وله. (4) ديوان ابن زيدون: 201، وهي في الذخيرة والقلائد. (5) الديوان: فراح.

أفضيض مسكٍ أم بلن ... سيةٌ لريّاها نميم بلدٌ حبيبٌ أفقه ... لفتىً يحلّ به كريم إيه أبا عبد الإل ... هـ نداء مغلوب العزيم إن عيل صبري من فرا ... قك فاعذاب به أليم أو أتبعتك حنينها ... نفسي فأنت لها قسيم ذكري لعهدك كالعرا ... ر سرى فبرّج بالسليم مهما ذممت فما زما ... ني في ذمامك بالذميم زمنٌ كمألوف الرضا ... ع يشوق ذكراه الفطيم أيّام أعقد ناظري ... في ذلك المرأى الوسيم وأرى الفتوّة غضّةً ... في ثوب أوّاهٍ حليم الله يعلم أنّ حبّ ... ك من فؤادي في الصميم ولئن تحمّل عنك لي ... جسمٌ فعن قلبٍ مقيم قل لي بأيّ خلال سر ... ك فيك أفتن أو أهيم ألمجدك العمم الذي ... نسق الحديث مع القديم أم ظرفك الغضّ الجنى ... أم عرضك الصافي الأديم أم برّك العذب الجما ... م وبشرك الغضّ الجميم إن أشمست تلك الطلا ... قة فالندى منها مغيم أم بالبدائع كاللآ ... لي من نثيرٍ أو نظيم لبلاغةٍ إن عدّ أه ... لوها فأنت بها زعيم فقرٌ تسوغ بها المدا ... م وبشرك الغضّ الجميم إن الذي قسم الحظو ... ظ حباك بالخلق العظيم لا أستزيد الله نع ... مى فيك لا بل أستديم فلقد أقرّ العين أن ... ك غرّة الزمن البهيم حسبي الثناء بحسن برّ ... ك ما بدى برقٌ وشيم

ثمّ الدّعاء بأن ته ... نّأ طول عيشك في نعيم ثمّ السلام تبلّغن ... هـ فغيب مهديه سليم ولما ورد إشبيلية نزل بدار الوزير الكاتب ذي الوزارتين أبي عامر ابن مسلمة وهو يبني مجلساً، فصنع أبياتاً كتبت فيه (1) : عمّر من يعمر ذا المجلسا ... أطول عمرٍ يبهج الأنفسا وبعد ذا عوّضٍ من داره ... عدناً ومن ديباجه السّندسا ولقّي النور (2) بها والرضى ... ووقّي الأسواء والأبؤسا ودام عبّادٌ لعضد (3) الهدى ... يحرس حتى يفني الأحرسا معتضدٌ بالله إحسانه ... جمّ إذا ما الدهر يوماً أسا الملك الغمر الندى المقتني ... من كلّ حمدٍ علقه الأنفسا إن رام يوماً وصف عليائه ... مفوّهٌ مقتدرٌ أخرسا لا زال بدراً طالعاً نيّراً ... يكشف عن آمالنا الحندسا وقال فيه أيضاً (4) : أدرها فقد حسن المجلس ... وقد آن أن تترع الأكؤس ولا تنس أنّ أوان الربيع (5) ... إذا لم تجد فقده الأنفس فإنّ خلال أبي عامرٍ ... بها يحقر الورد والنرجس وكتب إلى الوزير أبي المعالي المهلب بن عامر يستدعيه (6) :

_ (1) ديوان ابن زيدون: 227. (2) الديوان: ووفي الفوز. (3) الديوان: لعهد. (4) ديوان ابن زيدون: 228. (5) الديوان: ولا بأس إن كان ولى الربيع. (6) الديوان: 228.

طابت لنا ليلتنا الخاليه ... فلنتبعنها هذه الثانيه (1) أبا المعالي نحن في راحةٍ ... فانفل إلينا القدم العاليه لأنها (2) عاطلةٌ إن تغب ... عنّا فزرنا كي ترى حاليه أنت الذي لو تشترى ساعةٌ ... منه بدهرٍ لم تكن غاليه وكتب إليه ذو الوزارتين أبو عامر المذكور معاتباً (3) : تباعدنا على قرب الجوار ... كأنّا صدّنا شحط المزار تطلع لي هلال الهجر بدراً ... وصار هلال وصلك في سرار وشاع شنيع قطعك لي بوصلي ... فهلاّ كان ذلك في استتار أيجمل أن ترى عنّي صبوراً ... فأصبح (4) مولعاً دون اصطبار وكنت أزيد سمعك من عتابي ... ولكن عاقني فرط الخمار فراع مودّتي واحفظ جواري ... فإنّ الله أوصى بالجوار وزرني منعماً من غير أمرٍ ... وآنس موحشاً من عقر داري فكتب إليه ابن زيدون (5) : هواي وإن تناءت عنك داري ... كمثل هواي في حال الجوار مقيمٌ لا تغيره عوادٍ ... تباعد بين أحيان المزار رأيتك قلت إنّ الهجر بدرٌ ... متى خلت البدور من السرار ورابك أنّني جلدٌ صبورٌ ... وكم صبرٍ يكون عن اصطبار

_ (1) الديوان: فلتنسناها ... التاليه. (2) الديوان: ليلتنا. (3) الديوان: 204. (4) ب: وأصبح. (5) الديوان: 205.

ولم أهجر لعتبٍ، غير أنّي ... أضرّت بي معاقرة العقار (1) وإنّ الخمر ليس لها خمارٌ ... يبرّح بي فكيف مع الخمار وهل أنسى لديك نعيم عيشٍ ... كوشي الخدّ طرّز بالعذار وساعاتٍ يجول اللهو فيها ... مجال الطلّ في حدق البهار (2) وإن يك فرّ عنك اليوم جسمي ... فديت فما لقلبي من فرار وكنت على البعاد أجلّ شيء ... لديّ فكيف إذ أصبحت جاري وكان أبو العطاف إذا ورد إشبيلية رسولاً قد سأله أن يريه شيئاً من شعره فمطله به، حتى كتب إليه شعراً يستبطئه، فأجابه ابن زيدون في العروض والقافية (3) : أفدتني (4) من نفائس الدّرر ... ما أبرزته غوائص الفكر من لفظةٍ قارنت نظائرها ... قران سقم الجفون للحور وهي أكثر مما ذكر (5) . وكتب رحمه الله تعالى - أعني ذا الوزارتين ابن زيدون - إلى ولادة (6) : أضحى التّنائي بديلاً من تدانينا ... وناب عن طيب دنيانا تجافينا ألا وقد حان صبح الليل صبّحنا ... حينٌ فقام بنا للحين ناعينا من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم ... حزناً مع الدهر لا يبلى ويبلينا أنّ الزمان الذي ما زال يضحكنا ... أنساً بقربهم قد عاد يبكينا غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغصّ فقال الدهر آمينا

_ (1) هذا البيت والذي يليه سقطا من ب. (2) في الأصول: الظل ... النهار، والتصويب عن الديوان. (3) الديوان 206. (4) ب: أفادني. (5) هي في عشرين بيتا. (6) ديوان ابن زيدون: 121.

فانحلّ ما كان معقوداً بأنفسنا ... وانبتّ ما كان موصولاً بأيدينا بالأمس كنّا (1) وما يخشى تفرّقنا ... واليوم نحن وما يرجى تلاقينا يا ليت شعري ولم نعتب أعاديكم ... هل نال حظاً من العتبى أعادينا لم نعتقد بعدكم إلاّ الوفاء لكم ... رأياً ولم نتقلّد غيره دينا كنّا نرى اليأس تسلينا عوارضه ... وقد يئسنا فما لليأس يغرينا بنّم وبنّا فما ابتلّت جوانحنا ... شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينا نكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسّينا حالت لفقدكم أيّامنا فغدت ... سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا إذ جانب العيش طلقٌ من تألّفنا ... ومورد اللهو صافٍ من تصافينا وإذ هصرنا فنون الوصل دانيةٍ ... قطوفها فجنينا منه. ما شينا ليسق عهدكم عهد السرور فما ... كنتم لأرواحنا إلا رياحينا لا تحسبوا نأيكم عنّا يغيّرنا ... أن طال ما غيّر النّاي المحّبينا والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً ... منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا يا ساري البرق غاد القصر فاسق به ... من كان صرف الهوى والودّ يسقينا واسأل هنالك هل عنّى تذكّرنا ... إلفاً تذكره أمسى يعنّينا ويا نسيم الصّبا بلّغ تحيّتنا ... من لو على البعد حيّا كان يحيينا من لا يرى الدهر يقضينا مساعفةً ... فيه وإن لم يكن عنّا يقاضينا من بيت (2) ملكٍ كأنّ الله أنشأه ... مسكاً وقد أنشأ الله الورى طينا أو ساقه ورقاً محضاً وتوّجه ... من ناصع التبر إبداعاً وتحسينا إذا تأوّد آدته رفاهيةً ... توم العقود (3) وأدمته البرى لينا

_ (1) الديوان: وقد نكون. (2) الديوان: ربيب. (3) ب: تدمي العقول.

كانت له الشمس ظئراً في تكلّله ... بل ما تجلّى لها إلاّ أحايينا كأنما أثبتت في صحن وجنته ... زهر الكواكب تعويذاً وتزيينا ما ضرّ أن لم نكن أكفاءه شرفاً ... وفي المودة كافٍ من تكافينا يا روضةً طالما أجنت لواحظنا ... ورداً جلاه الصّبا غضّاً ونسرينا ويا حياةً تملّينا بزهرتها ... منىً ضروباً ولذّاتٍ أفانينا ويا نعيماً خطرنا من غضارته ... في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا لسنا نسمّيك إجلالاً وتكرمةً ... وقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا إذا انفردت وما شوركت في صفةٍ ... فحسبنا الوصف إيضاحاً وتبيينا يا حنّة الخلد أبدلنا بسلسلها ... والكوثر العذب زقّوماً وغسلينا كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ... والسعد قد غضّ من أجفان واشينا سرّان في خاطر الظّلماء تكتمنا ... حتى يكاد لسان الصّبح يفشينا لا غرو في أن ذكرنا الحزن حين نهت ... عنه النّهى وتركنا الصّبر ناسينا إنّا قرأنا الأسى يوم النّوى سوراً ... مكتوبةً وأخذنا الصبر تلقينا أمّا هواك فلم نعدل بمشربه ... شرباً وإن كان يروينا فيظمينا لم نجف أفق جمالٍ أنت كوكبه ... سالين عنه ولم نهجره قالينا ولا اختياراً تجنّبناك عن كثبٍ ... لكن عدتنا على كرّه عوادينا نأسى عليك إذا حثّت مشعشعةً ... فينا الشمول وغنّانا مغنّينا لا أكوس الرّاح تبدي من شمائلنا ... سيم ارتياحٍ ولا الأوتار تلهينا دومي على العهد ما دمنا محافظةً ... فالحرّ من دان إنصافاً كما دينا فما استعضنا خليلاً عنك يحبسنا ... ولا استفدنا حبيباً عنك يغنينا ولو صبا نحونا من أفق مطلعه ... بدر الدّجى لم يكن حاشاك يصبينا أبلي وفاءً وإن لم تبذلي صلةً ... فالطّيف يقنعنا والذكر يكفينا وفي الجواب متاعٌ لو شفعت به ... بيض الأيادي التي ما زلت تولينا عليك منّي سلام الله ما بقيت ... صبابةٌ بك نخفيها وتخفينا

وإنما ذكرت هذه القصيدة - مع طولها - لبراعتها، ولأن كثيراً من الناس لا يذكر جملتها، ويظن أن ما في القلائد وغيرها منها هو جميعها، وليس كذلك، فهي وإن اشتهرت بالمشرق والمغرب لم يذكر جملتها إلا القليل، وقد كنت وقفت بالمغرب على تسديس لها لبعض علماء المغرب، ولم يحضرني منه الآن إلا قوله في المطلع: ما للعيون بسهم الغنج تصمينا ... وعن قطاف جنى الأعطاف تحمينا تألّفٌ كان يحيينا ويضنينا ... تفرّق عاث في شمل المحبّينا أضحى التّنائي بديلاً من تدانينا ... وناب عن طيب دنيانا تجافينا وما أحسن قوله في هذا التسديس: ما للأحبّة دانوابالنّوى ورأوا ... تعريض عهد اللّقا بالبعد حين نأوا رعاهم الله كانوا للعهود رعوا ... فغيّرتهم وشاةٌ بالفساد سعوا غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغصّ فقال الدهر آمينا وقد ذكرنا في الباب الرابع موشحة ابن الوكيل التي وطأ فيها بنونية ابن زيدون هذه فلتراجع (1) . رجع - وقال ذو الوزارتين ابن زيدون يتغزل (2) : وضح الصبح (3) المبين ... وجلا الشكّ اليقين ورأى الأعداء ما غ ... رتهم منك الظنون أمّلوا ما ليس يمنى ... ورجوا ما لا يكون وتمنّوا أن يخون ال ... عبد مولىً لا يخون

_ (1) انظر النفح ج ص: 632. (2) ديوان ابن زيدون: 176. (3) الديوان: الحق.

فإذا الغيب سليمٌ ... وإذا العهد مصون قل لمن دان بهجري ... وهواني إذ يدين (1) أرخص الحبّ فؤادي ... لك والعلق ثمين يا هلالاً تتراءا ... هـ نفوسٌ لا عيون عجباً للقلب يقسو ... منك والعطف يلين ما الذي ضرّك لو س ... رّ بمرآك الحزين وتلطّفت بصبٍّ ... حينه فيك يحين فوجوه اللّطف شتّى ... والمعاذير فنون وقال أيضاً (2) : إليك من الأنام غدا ارتياحي ... وأنت من الزمان مدى اقتراحي وما اعترضت هموم النفس إلاّ ... ومن ذكراك ريحاني وراحي فديتك إنّ صبري عنك صبري ... لدى عطشي عن الماء القراح ولي أملٌ لو الواشون كفّوا ... لأطلع غرسه ثمر النجاح وأعجب كيف يغلبني عدوٌّ ... رضاك عليه من أمضى سلاح ولما أن جلتك لي اختلاساً ... أكفّ الدهر للحين المتاح رأيت الشمس تطلع في نقابٍ ... وغصن البان يرفل في وشاح فلو أستطيع طرت إليك شوقاً ... وكيف يطير مقصوص الجناح على حالي وصال واجتناب ... وفي يومي دنوٍّ وانتزاح وحسبي أن تطالعك الأماني ... بأفقك في مساءٍ أو صباح فؤادي من أسىً بك غير خالٍ ... وقلبي من هوىً لك غير صاح

_ (1) الديوان: وهواه لي دين. (2) ديوانه: 148.

وأن تهدي السّلام إليّ شوقاً ... ولو في بعض أنفاس الرياح وقال (1) : كم ذا أريد ولا أراد ... لله ما لقي الفؤاد أصفي الوداد إلى الذي (2) ... لم يصف لي منه الوداد كيف السّلوّ عن الذي ... مثواه من قلبي السواد يقضي عليّ دلاله ... في كلّ حينٍ أو يكاد ملك القلوب بحسنه ... فلها إذا أمر انقياد يا هاجري كم أستفي ... د الصبر عنك فلا أفاد أفلا رثيت لمن يبي ... ت وحشو مقلته السهاد إن أجن ذنباً في الهوى ... خطأً فقد يكبو الجواد كان الرضى وأعيذه ... أن يعقب الكون الفساد وقال (3) : متى أنبّيك ما بي ... يا راحتي وعذابي متى ينوب لساني ... في شرحه عن كتابي الله يعلم أنّي ... أصبحت فيك لما بي فما يلذّ منامي ... ولا يسوغ شرابي يا فتنة المتعزّي ... وحجّة المتصابي الشمس أنت توارت ... عن ناظري بالحجاب (4)

_ (1) ديوان ابن زيدون: 178. (2) الديوان: مدللا. (3) ديوانه: 149. (4) إلى هنا ينتهي ما سقط من النسخة م.

ما النّور شفّ سناه ... على رقيق السحاب إلاّ كوجهك لمّا ... أضاء تحت النّقاب وقال (1) : هل لداعيك مجيب ... أم لشاكيك طبيب يا قريباً حين ينأى ... حاضراً حين يغيب كيف يسلوك محبٌّ ... زانه منك حبيب إنّما أنت نسيمٌ ... تتلقّاه القلوب قد علمنا علم ظنٍّ ... هو لا شكّ مصيب إنّ سرّ الحسن ممّا ... أضمرت تلك القلوب وقال (2) : أنّى تضيّع عهدك ... أم كيف تخلف وعدك وقد رأتك الأماني رضىً ... فلم تتعدّك يا ليت شعري وعندي ... ما ليس في الحبّ عندك (3) هل طال (4) ليلك بعدي ... كطول ليلي بعدك سلني حياتي أهبها ... فلست أملك ردّك الدهر عبدي لمّا ... أصبحت في الحبّ عبدك وقال رحمه الله تعالى، وقد أمره السلطان أي يعارض قطعاً كان يغنى بها واستحسن ألحانها (5) :

_ (1) ديوان ابن زيدون: 164. (2) ديوانه: 165. (3) الديوان: يا ليت ما لك عندي ... من الهوى لي عندك (4) الديوان: فطال. (5) ديوانه: 512.

يقصّر قربك ليلي الطويلا ... ويشفي وصالك قلبي العليلا وإن عصفت منك ريح الصّدود ... فقدت نسيم الحياة البليلا كما أنّني إن أطلت العثار ... ولم يبد عذري وجهاً جميلا وجدت أبا القاسم الظّافر الم ... ؤيّد بالله مولىً مقيلا لأقلامه فعل (1) أسيافه ... يظلّ الصّرير يباري الصليلا وقال يهنيه بالقدوم من السفر (2) : أيّها الظّافر أبشر بالظّفر ... واجتل التأييد في أبهى الصور وتفيّأ ظلّ سعدٍ يجتنى ... فيه من غرس المنى أحلى الثمر ورد النّجح فكم مستوحشٍ ... شائقٍ منك إلى أنس الصدر كان من قربك في عيشٍ ندٍ ... عاطر الآصال وضّاح البكر فثوى دونك مثوى قلقٍ ... يشتكي من ليله مطل السّحر قل لساقينا يجد أكؤسه ... ولشادينا يطل (3) قطع الوتر ومنها: لي فيه المثل السائر في ... جالب التمر إلى أرض هجر ثمّ قد وفّق عبدٌ عظمت ... نعمة المولى عليه فشكر لا عدى حظّك إقبالٌ يرى ... قاضياً أثناءه كلّ وطر واصطبح كأس الرّضى من ملك ... سرت في إرضائه أزكى السّير حين صممت إلى أعدائه ... فانتحتهم منك صمّاء الغبر (4)

_ (1) الديوان: وأقلامه وفق. (2) ديوانه: 514. (3) الديوان: يجز ... يصل. (4) صماء الغبر: الداهية.

فاض غمرٌ للندى من فوقهم ... كان يروي شربهم منه الغمر سبق الناس فصلّى سابقٌ ... إذ رأى آثاره مثل الزّهر (1) وهي طويلة. وقال رحمه الله تعالى (2) : لم يكن هجر حبيبي عن قلى ... لا ولا ذاك التجنّي مللا سرّه دعوى ادّعائي ثمّ لم ... يدر ما غاية صبري فابتلى أنا راضٍ بالذي يرضى به ... لي ما لو قال ما قلت لا مثلٌ في كلّ حسنٍ مثل ما ... صار حالي في هواه مثلا يا فتيت المسك يا شمس الضحى ... يا قضيب البان يا ظبي الفلا لإن يكن لي أملٌ غير الرّضى ... منك لا بلّغت ذاك الأملا وقال رحمه الله تعالى (3) : أذكرتني سالف العيش الذي طابا ... يا ليت غائب ذاك الوقت (4) قد آبا إذ نحن في روضةٍ للوصل أنعمها ... من السرور غمامٌ فوقها صابا إنّي لأعجب من شوقٍ يطالبني ... فكلّما قيل فيه قد قضى ثابا كم نظرةٍ لك عندي قد علمت بها ... يوم الزيارة أنّ القلب قد ذابا قلبٌ يطيل معاصاتي لطاعتكم ... فإن أكلّفه يوماً سلوةً يابى وقال رحمه الله تعالى (5) :

_ (1) الديوان: .......... منك من ... إن رأى آثاره الزهر اقتفر (2) ديوانه: 165. (3) ديوانه: 123. (4) الديوان: العهد. (5) ديوانه: 192.

عاودت ذكر الهوى من بعد نسياني ... واستحدث القلب بعد العشق سلواني من حبّ جاريةٍ يبدو بها صنمٌ ... من اللّجين عليها تاج عقيان غريرةٌ لم تفارقها تمائمها ... تسبي القلوب بساجي الطّرف وسنان لأستجدّنّ في عشقي لها زمناً ... يحيي سوالف أيّامي وأزماني حتى يكون لمن أحببت خاتمةً ... نسخت في حبّها كفراً بإيمان وقال رحمه الله تعالى (1) : أنت معنى الهوى وسرّ الدموع ... وسبيل الهوى وقصد الولوع أنت والشمس ضرّتان ولكن ... لك عند الغروب فضل الطّلوع ليس يا مؤنسي نكلّفك (2) العت ... ب دلالاً من الرضى الممنوع إنّما أنت والحسود معنّىً ... كوكبٌ يستقيم بعد الرجوع وقال رحمه الله تعالى (3) : يا ليل طل لا أشتهي ... إلاّ كعهدي (4) قصرك لو بات عندي قمري ... ما بتّ أرعى قمرك يا ليل خبّر أنّني ... ألتذّ عنه خبرك بالله قل لي هل وفى ... فقال لا بل غدرك وقال رحمه الله تعالى (5) : لئن فاتني منك حظّ النظر ... لأكتفين بسماع الخبر

_ (1) ديوانه: 166. (2) الديوان: تكلفك. (3) ديوانه: 182. (4) الديوان: بوصل. (5) ديوانه: 168.

وإن عرضت غفلةٌ للرقيب ... فحسبي بتسليمةٍ (1) تختصر أحاذر أن يتجنّى (2) الوشاة ... وقد يستدام الهوى بالحذر فأصبر مستيقناً أنّه ... سيحظى بنيل المنى من صبر وقال أيضاً رحمه الله تعالى (3) . أيّها البدر الذي يم ... لأ عيني من تأمّل حمل القلب تباري ... ح التجنّي فتحمّل ثمّ لا تيأس (4) فكم قد ... نيل أمرٌ لم يؤمّل وقال أيضاً رحمه الله تعالى (5) : أجدّ ومن أهواه في الحبّ عابث ... وأوفي له بالعهد غذ هو ناكث حبيبٌ نأى عنّي مع القرب، والأسى ... مقيمٌ له في مضمر القلب ماكث جفاني بألطاف العدى وأزاله ... عن الوصل رأيٌ في القطيعة حادث تغيرت عن عهدي وما زلت واثقاً ... بعهدك لكن غيّرتك الحوادث وما كنت إذ ملّكتك القلب عالماً ... بأنّي عن حقفي بكفي باحث ستبلى الليالي والوداد بحاله ... مقيمٌ، وغضٌّ وهو للأرض وارث فلو أنّني أقسمت أنّك قاتلي ... وأني مقتولٌ لما قيل حانث وقال رحمه الله تعالى (6) :

_ (1) الديوان: تسليمة. (2) الديوان: يتظنى. (3) الديوان: 182. (4) الديوان: لا يأس. (5) الديوان: 183. (6) الديوان: 186.

يا غزالاً أصارني ... موثقاً في يد المحن إنّني مذ هجرتني ... لم أذق لذة الوسن ليت حظّي إشارةٌ ... منك أو لحظةٌ تعنّ (1) شافعي يا معذبي ... في الهوى وجهك الحسن كنت خلواً من الهوى ... وأنا اليوم مرتهن كان سرّي مكتّماً ... وهو الآن قد علن ليس لي عنك مذهبٌ ... فكما شئت لي فكن وقال رحمه الله تعالى (2) : أيوحش لي الزمان وأنت أنسي ... ويظلم لي النهار وأنت شمسي وأغرس في محبّتك الأماني ... وأجني الموت من ثمرات غرسي لقد جازيت غدراً عن وفائي ... وبعت مودّتي ظلماً ببخس ولو أنّ الزمان أطاع حكمي ... فديتك من مكارهه بنفسي (3) ومحاسن ابن زيدون كثيرة، وقد ذكرنا منها في غير هذا المحل جملة. وسألت جارية من جواري الأندلس ذا الوزارتين أبا الوليد ابن زيدون أن يزيد على بيت أنشدته إياه، وهو (4) : يا معطشي من وصالٍ كنت وارده ... هل منك لي غلّةٌ إن صحت: وا عطشي قال: وكانت الجارية المذكورة تتعشق فتىً قرشياً، والوزير يعلم ذلك، وهي لا تعلم أنه يعلم، فقال:

_ (1) الديوان: عنن. (2) الديوان: 185. (3) استطردت نسخة م بعد هذا البيت بإيراد أشعار أخرى لابن زيدون وذكر ترجمته من القلائد. (4) ديوان ابن زيدون: 170.

كسوتني من ثياب السّقم أسبغها ... ظلماً وصيّرت من لحف الضنى فرشي أنّى بصرف الهوى عن مقلةٍ كحلت ... بالسّحر منك وخدٍّ بالجمال وشي لمّا بدا الصّدغ مسودّاً بأحمره ... أرى التشاكل (1) بين الروم والحبش أوفى إلى الخدّ ثمّ انصاع منعطفاً ... كالعقربان انثنى من خوف محترش لو شئت زرت وسلك الليل (2) منتظمٌ ... والأفق يختال في ثوبٍ من الغبش جفا إذا التذّت الأجفان طيب كرىً ... جفني (3) المنام وصاح الليل: يا قرشي هذا وإن تلفت نفسي فلا عجبٌ ... قد كان قتلي في تلك الجفون حشي 54 - وكان لابن الحاج صاحب (4) قرطبة ثلاثة أولاد من أجمل الناس صورة: رحمون، وعزون، وحسون، فأولع بهم الحافظ الشهير أبو محمد ابن السيد البطليوسي صاحب " شرح أدب الكاتب " وغيره وقال فيهم: أخفيت سقمي حتى كاد يخفيني ... وهمت في حبّ عزّونٍ فعزّوني ثمّ ارحموني برحمونٍ وإن ظمئت ... نفسي إلى ريقٍ حسّونٍ فحسّوني قال: ثم خاف على نفسه، فخرج عن قرطبة، وهو القائل: نفسي الفداء لجؤذرٍ حلو اللّمى ... مستحسنٍ بصدوده أفناني في فيه سمطا جوهرٍ يروي الظّما ... لو علّني ببروده أحياني وهذان البيتان تخرج منهما عدة مقطعات كما لا يخفى. 55 - وقال أبو بكر محمد ابن أحمد الأنصاري الإشبيلي المعروف بالأبيض،

_ (1) الديوان: التسالم. (2) الديوان: النجم. (3) الديوان: صبا........ جفا. (4) انظر أزهار الرياض 3: 102، 134؛ والقطعة الثانية تنفك منها ست قطع.

في تهنئة بمولود، قال ابن دحية (1) : وهذا أبدع ما قيل في هذا المعنى: أصاخت الخيل آذاناً لصرخته ... واهتزّ كلّ هزبرٍ عندما عطسا تعشّق الدرع مذ شدّت لفائفه ... وأبغض المهد لمّا أبصر الفرسا تعلّم الركض أيّام المخاض به ... فما امتطى الخيل إلاّ وهو قد فرسا 56 - وقال الوزير الكاتب أبو عامر السالمي (2) في غلام يرش الماء على خديه فتزداد حمرتهما: لقد نعمت بحمّامٍ تطلّع في ... أرجائه قمرٌ والحسن يكمله أبصرته كلّما راقت محاسنه ... ونعمة الجسم والأرداف تخذله يرشّ بالماء خدّيه فقلت له: ... صف لي لما أحمر الياقوت تصقله فقال: طرفي سفّاكٌ بصارمه ... دماء قومٍ على خدّي فأغسله وقال أيضاً (3) : أوقد النار بقلبي ... ثمّ هبّت ريح صدّه فشرار النار طارت ... فانطفت في ماء خدّه وهو تخييل عجيب. 57 - وقال ابن الحناط المكفوف الأندلسي في المعنى المشهور (4) : لم يخل من نوب الزمان أديب ... كلاّ فشأن النائبات عجيب وغضارة الأيّام تأبى أن يرى ... فيها لأبناء الذكاء نصيب

_ (1) المطرب: 76. (2) المطرب: 77 والشعر ليس للسالمي، وإنما أنشده السالمي وهو لأبي الحسين ابن مظفر. (3) المطرب: 78؛ وهذا الشعر صحيح النسبة للسالمي. (4) الذخير 1 / 1: 392.

وكذاك منصحب الليالي طالباً ... جدّاً وفهماً فاته المطلوب [أشعار لابن الزقاق] 58 - وكان ابن الزقاق الأندلسي الشاعر المشهور - وقد تكرر ذكره في هذه التآليف مرا تكثيرة - يسهر في الليل، ويشتغل بالأدب، وكان أبوه فقيراً جداً، فلامه، وقال له: نحن فقراء، ولا طاقة لن بالزيت الذي تسهر عليه، فاتفق أن برع في الأدب والعلم ونظم الشعر، فقال في أبي بكر ابن عبد العزيز صاحب بلنسية قصيدة أولها (1) : يا شمس خدرٍ ما لها مغرب ... أرامة خدرك أم يتثرب ذهبت فاستعبر طرفي دماً ... مفضّض الدمع به مذهب ومنها: ناشدتك الله نسيم الصّبا ... أنّى استقرّت بعدنا زينب لم نسر إلاّ بشذا عرفها ... أو لا فماذا النّفس الطيب إيهٍ وإن عذّبني حبّها ... فمن عذاب النفس ما يعذب فأطلق له ثلاثمائه دينار، فجاء بها إلى أبيه وهو جالس في حانوته مكبٌّ على صنعته، فوضعها في حجره، وقال: خذها فاشتر بها زيتاً. وقال رحمه الله تعالى في غلام رمى حجراً فشدخ وجهه (2) : وأحوى رمى عن قسيّ الحور ... سهاماً يفوّقهنّ النّظر يقولون وجنته قسّمت ... ورسم محاسنه قد دثر

_ (1) ديوان ابن الزقاق: 80 والمغرب 2: 325 والغيث 2: 84. (2) ديوانه: 179 والمطرب: 101 ولمح السحر: 48 والمغرب 2: 332 والوافي: 134.

وما شقّ وجنته عابثاً ... ولكنّها آيةٌ للبشر جلاها لنا الله كيما نرى ... بها كيف كان انشقاق القمر وقال أيضاً (1) : بأبي وغير أبي أغنّ مهفهفٌ ... مهضوم ما خلف الوشاح خميصه لبس السّواد (2) ومزّقته جفونه ... فأتى كيوسف حين قدّ قميصه وقال أيضاً (3) : سقتني بيمناها وفيها فلم أزل ... يجاذبني من ذا ومن هذه سكر ترشّفت فاها إذ ترشّفت كأسها ... فلا والهوى لم أدر أيهما الخمر وقال (4) : رقّ النسيم وراق الروض بالزّهر ... فنبّه الكأس والإبريق بالوتر ما العيش إلاّ اصطباح الراح أو شنبٌ ... يغني عن الراح من سلسال ذي أشر قل للكواعب غضّي للكرى مقلاً ... فأعين الزّهر أولى منك بالسّهر وللصباح ألا فانشر رداء سناً ... هذا الدجى قد طوته راحة السّحر (5) وقام بالقهوة الصهباء ذو هيفٍ ... يكاد معطفه ينقدّ بالنظر يطفو عليها إذا ما شجّها دررٌ ... تخالها اختلست من ثغره الخصر والكأس من كفّه بالراح محدقةٌ ... كهالةٍ أحدقت في الأفق بالقمر

_ (1) الديوان: 196 والمطرب: 103 والشريشي 2: 164 والمغرب 2: 334. (2) الديوان: الفؤاد. (3) ديوان ابن الزقاق: 178 والمطرب: 104 والفوات 2: 126 والوافي: 134. (4) الديوان: 173 والمطرب: 106 والمغرب 2: 332. (5) الديوان: لوته راحة السمر.

وقال (1) : تضوّعن أنفاساً وأشرقن أوجهاً ... فهنّ منيرات الصباح بواسم لئن كنّ زاهراً فالجوانح أبرجٌ ... وإن كنّ زهراً فالقلوب كمائم وهو من بديع التقسيم. 59 - وقال السميسر (2) : تحفّظ من ثيابك ثم صنها ... وإلاّ سوف تلبسها حدادا وميّز في زمانك كلّ حبرٍ ... وناظر (3) أهله تسد العبادا وظنّ بسائر الأجناس خيراً ... وأما جنس آدم فالبعادا أرادوني بجمعهم فردّوا ... على الأعقاب قد نكصوا فرادى وعادوا بعد ذا إخوان صدقٍ ... كبعض عقاربٍ رجعت جرادا 60 - وقال ابن رزين، وهو من رجال الذخيرة (4) : لأسرحنّ نواظري ... في ذلك الروض النضير ولآكلنّك بالمنى ... ولأشربنّك بالضّمير 61 - وقال سلطان بلنسية عبد الملك بن مروان بن عبد الله بن عبد العزيز (5) : ولا غرو بعدي أن يسوّد معشرٌ ... فيضحي لهم يومٌ وليس لهم أمس كذاك نجوم الجوّ تبدو زواهراً ... إذا ما توارت في مغاربها الشمس

_ (1) الديوان: 146 والمطرب: 108 والشريشي 2: 353. (2) الذخيرة 1 / 2: 383. (3) الذخيرة: كل حين، ونافر.... (4) ترجمته في الذخيرة 3: 33 والمغرب 2: 428 والقلائد: 51. (5) المغرب 2: 300.

62 - وتحاكم إلى أبي أيوب سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي المعروف بالملتمس (1) غلامان جميلان لأحدهما وفرة شقراء، وللآخر سوداء: أيهما أحسن والملتمس المذكور هو صاحب كتاب " الأحكام فيما لا يستغني عنه الحكام " فقال: وشادنين ألمّا بي على مقةٍ ... تنازعا الحسن في غايات مستبق كأنّ لمّة ذا نرجسٍ خلقت ... على بهارٍ وذا مسكٍ على ورق وحكّما الصبّ في التفضيل بينهما ... ولم يخافا عليه رشوة الحدق فقام يدلي إليه الريم حجّته ... مبيّناً بلسانٍ منه منطلق فقال: وجهي بدرٌ يستضاء به ... ولون شعري مصبوغٌ من الغسق وكحل عيني سحرٌ للنّهى وكذا ... والسحر أحسن ما يعزى إلى الحدق فقال صاحبه: أحسنت وصفك ل ... كن فاستمع لمقالٍ فيّ متّفق أنا على أفقي شمس النّهار، ولم ... تغرب، وشقرة شعري حمرة الشفق وفضل ما عيب في عينيّ من زرقٍ ... أنّ الأسنّة قد تعزى إلى الزّرق قضيت للّمّة الشقراء حيث حكت ... نوراً (2) كذا حبّها يقضي على رمقي فقام ذو اللمّة السوداء يرشقني ... سهام أجفانه من شدّة الحنق وقال جرت فقلت الجور منك على ... قلبي ولي شاهدٌ من دمعي الغدق فقلت عفوك إذ أصبحت متّهماً ... فقال دونك هذا الحبل فاختنق 63 - وقال أبو محمد عبد الله بن غالب: ومهفهفٍ خنث الجفون كأنّما ... من أرجل النمل استفاد عذارا فتخاله ليلاً إذا استقبلته ... وتخال ما يجري عليه نهارا

_ (1) ترجمته في الجذوة: 206 وبغية الملتمس رقم: 762 وقصيدته هذه في التشبيهات: 126. (2) الطالع: لونا.

64 - وقال أبو القاسم خلف بن فرج السميسر المتقدم (1) : الناس مثل حبابٍ ... والدهر لجّة ماء فعالمٌ في طفوٍّ ... وعالم في انطفاء 65 - وقال أحمد بن برد الأندلسي في النرجس، وهو البهار عند الأندلسيين، ويسمى العبهر (2) : تنبّه فقد شقّ البهار مغلّساً ... كمائمه عن نوره (3) الخضل الندى مداهن تبرٍ في أنامل فضّةٍ ... على أذرعٍ مخروطةٍ من زبرجد 66 - وقال الوزير عبد المجيد بن عبدون في دار أنزله بها المتوكل بن الأفطس وسقفها قديم، فهطل عليه المطر منه: أيا سامياً من جانبيه إلى العلا ... " سموّ حباب الماء حالاً إلى حال " لعبدك دارٌ حلّ فيها كأنّها ... " ديارٌ لسلمى عافياتٌ بذي الخال " يقول لها لمّا رأى من دثورها ... " ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي " فقالت وما عيّت جواباً بردّها ... " وهل يعمن من كان في العصر الخالي " فمر صاحب الانزال فيها بفاضلٍ ... " فإنّ الفتى يهذي وليس بفعّال " قيل: وهو أبو عذرة تضمين لامية امرئ القيس، وقد أولع الناس بعده بتضمينها. 67 - وقال أبو الفضل ابن حسداي (4) ، وكان يهودياً فأسلم، ويقال: إنه

_ (1) تقدم هذان البيتان في م على اللذين قبلهما (رقم: 63) . (2) الذخيرة 1 / 2: 48. (3) الذخيرة: زهره. (4) ترجمته في القلائد: 183 والأبيات فيه ص: 184 وانظر المجلد الأول: 640.

من ولد موسى على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام: توريد خدّك للأحداق لذّات ... عليه من عنبر الأصداغ لامات نيران هجرك للعشّاق نار لظىً ... لكن وصالك إن واصلت جنّات كأنما الراح والراحات تحملها ... بدور تمٍّ وأيدي الشّرب هالات حشاشةٌ ما تركنا الماء يقتلها ... إلاّ لتحيا بها منّا حشاشات قد كان من قبلها في كأسها ثقلٌ ... فخفّ إذ ملئت منها الزجاجات وقد تبارى المشارقة والمغاربة من المتقدمين والمتأخرين في هذا الوزن والقافية، ولولا خوف السآمة لذكرت من ذلك الجملة الشافية الكافية (1) . 68 - ومن سرعة جواب أهل الأندلس (2) أن ابن عبد ربه كان صديقاً لأبي محمد يحيى القلفاط الشاعر، ففسد ما بينهما بسبب أن ابن عبد ربه صاحب العقد (3) مر به يوماً وكان في مشيه اضطراب، فقال: أبا عمر ما علمت أنك آدر إلا اليوم لما رأيت مشيك، فقال له ابن عبد ربه: كذبتك عرسك أبا محمد، فعز على القلفاظ كلامه، وقال له: أتتعرض للحرم والله لأرينك كيف الهجاء، ثم صنع فيه قصيدة أولها: يا عرس أحمد إني مزمعٌ سفرا ... فودّ عيني سرّاً من أبي عمرا ثم تهاجيا بعد ذلك، وكان القلفاظ يلقبه بطلاس لأنه كان أطلس اللحية، ويسمس كتاب العقد حبل الثوم، فاتفق اجتماعها يوماً عند بعض الوزراء، فقال الوزير للقلفاظ: كيف حالك اليوم مع أبي عمر فقال مرتجلاً:

_ (1) م: جملة كافية شافية. (2) بدائع البدائه 1: 51. (3) صاحب العقد: سقطت من ب.

حال طلاسٌ لي عن رائه ... وكنت في قعدد أبنائه فبدر ابن عبد ربه وقال: إن كنت في قعدد أبنائه ... فقد سقى أمّك من مائه فلانقطع القلفاظ خجلاً؛ وعاش ابن عبد ربه 82 سنة، رحمه الله تعالى. 69 - ومن الحكايات في مروءة أهل الأندلس ما ذكره صاحب " الملتمس " في ترجمة الكاتب الأديب الشهير أبي الحسين بن جبير صاحب الرحلة، وقد قدمنا ترجمته في الباب الخامس من هذا الكتاب، وذكرنا هنالك أنه كان من أهل المروءات عاشقاً في قضاء الحواجز والسعي في حقوق الإخوان، وأنشدنا هنالك قوله: " يحسب الناس بأني متعبٌ ... إلخ. ... وقد ذكر ذلك كله صاحب " الملتمس " ثم قال - أعني (1) صاحب " الملتمس " - ومن أغرب ما يحكى أني كنت أحرص الناس (2) على أن أصاهر قاضي غرناطة أبا محمد عبد المنعم بن الفرس، فجعلته - يعني ابن جبير - الواسطة حتى تيسر ذلك، فلم يوفق الله ما بيني وبين الزوجة، فجئته وشكوت له ذلك، فقال: أنا ما كان القصد لي في اجتماعكما، ولكن سعيت جهدي في غرضك، وها أنا أسعى أيضاً في افتراكما، إذ هو من غرضك، وخرج في الحين ففصل القضية، ولم أر في وجهه أولاً ولا آخراً عنواناً لامتنانٍ ولا تصعيب، ثم إنه طرق بابي، ففتحت له، ودخل وفي يده محفظة فيها مائة دينار مؤمنية، ثم قال (3) : يا ابن

_ (1) أعني: سقطت من م. (2) الناس: سقطت من م. (3) م: فقال.

أخي، اعلم أني كنت السبب في هذه القضية، ولم أشك أنك خسرت فيها ما يقارب هذا القدر الذي وجدته الآن عند عمك، فبالله إلا ما سررتني بقبوله، فقلت له: أنا ما أستحيي منك في هذا الأمر، والله إن أخذت هذا المال لأتلفنه فيما أتلفت فيه مال والدي (1) من أمور الشباب، ولا يحل لك أن تمكنني منه بعد أن شرحت لك أمري، فتبسم وقال: لقد احتلت في الخروج عن المنة بحيلة، وانصرف بماله، انتهى. 70 - ثم قال صاحب " الملتمس ": وتذاكرنا يوماً معه حالة الزاهد أبي عمران المارتلي، فقال: صحبته مدة فما رأيت مثله، وأنشدني شعرين ما نسيتهما ولا أنساهما ما استطعت، فالأول قوله (2) : إلى كم أقول فلا أفعل ... وكم ذا أحوم ولا أنزل وأزجر عيني فلا ترعوي ... وأنصح نفسي فلا تقبل وكم ذا تعلّل لي ويحها ... بعلّ وسوف وكم تمطل وكم ذا أؤمّل طول البقا ... وأغفل والموت لا يغفل وفي كلّ يومٍ ينادي بنا ... منادي الرحيل ألا فارحلوا (3) أمن بعد سبعين أرجو البقا ... وسبعٍ أتت بعدها تعجل كأن بي (4) وشيكاً إلى مصرعي ... يساق بنعشي ولا أمهل فيا ليت شعري بعد السؤال ... وطول المقام لما أنقل والثاني قوله: اسمع أخيّ نصيحتي ... والنّصح من محض الدّيانه

_ (1) م: مالي ومال أبي. (2) هاتان القطعتان في ترجمته في المغرب والغصون اليانعة، والثانية منهما مرت فيما تقدم ص: 99. (3) المغرب: ألا فانزلوا. (4) م: كأني.

لا تقربنّ إلى الشّها ... دة والوساطة والأمانه تسلم من آن تعزى لزو ... رٍ أو فضولٍ أو خيانه قال: فقلت له: أراك لم تعمل بوصيته في الوساطة، فقال: ما ساعدتني رقة وجهي على ذلك، انتهى. رجع إلى نظم الأندلسيين: 71 - وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز (1) : أفضل ما استصحب النّبيل فلا ... تعدل به في المقام والسّفر جرمٌ إذا ما التمست قيمته ... جلّ عن التبر (2) وهو من صفر مختصرٌ وهو إذ نفتّشه ... عن ملح العلم غير مختصر ذو مقلةٍ تستبين ما رمقت ... عن صائب اللحظ صادق الخبر تحمله وهو حاملٌ فلكاً ... لو لم يدر بالبنان لم يدر مسكنه الأرض وهو ينبئنا ... عن كلّ ما في السماء من خبر أبدعه ربّ فكرةٍ بعدت ... في اللطف عن أن تقاس بالفكر فاستوجب الشكر والثناء به ... من كلّ ذي فتنةٍ من البشر فهو لذي اللّبّ شاهدٌ عجبٌ ... على اختلاف العقول والصور قلت: وهي أحسن ما سمعت في الاصطرلاب. وأمر رحمه الله تعالى أن يكتب على قبره (3) : سكنتك يا دار الفناء مصدّقاً ... بأني إلى دار البقاء أصير وأعظم ما في الأمر أنّي صائرٌ ... إلى عادلٍ في الحكم ليس يجور

_ (1) الخريدة 4 / 1: 272. (2) ب: جل على التبر. (3) مرت في المجلد الثاني: 108.

فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها ... وزادي قليلٌ والذنوب كثير فإن أك مجزيّاً بذنبي فإنّني ... بشرّ عقاب المذنبين جدير وإن يك عفوٌ من غنيٍّ ومفضلٍ ... فثمّ نعيمٌ دائمٌ وسرور 72 - وقال ابن خفاجة (1) ، وهو مما أورده له صاحب الذخيرة: لقد زار من أهوى على غير موعدٍ ... فعابنت بدر التمّ ذاك التلاقيا وعاتبته والعتب يحلو حديثه ... وقد بلغت روحي لديه التراقيا فلمّا اجتمعنا قلت من فرحي به ... من الشعر بيتاً والدموع سواقيا " وقد يجمع الله الشّتيتين بعدما ... يظنّان كلّ الظنّ أن لا تلاقيا " 73 - ومن مجون الأندلسيين هذه القصيدة المنسوبة لسيدي أبي (2) عبد الله ابن الأزرق، وهي: عم باتصال الزمن ... ولا تبالي بمن وهو يواسي بالرضى ... من سمجٍ أو حسن أو من عجوزٍ تحتظي (3) ... والظهر منها منحني أو من مليحٍ مسعدٍ ... موافقٍ في الزمن مهما تبدّى خدّه ... يبدو لك الورد الجني والغصن في أثوابه ... إذا تمشّى ينثني لا أمّ لي لا أمّ لي ... إن لم أبرّد شجني وأخلعنّ في المجو ... ن والتصابي رسني وأجعل الصبر على ... هجر الملاح ديدني

_ (1) ديوان ابن خفاجة: 365 (نقلا عن النفح) . (2) م: لأبي. (3) م: تختطي.

يا عاذلي في مذهبي ... أرداك شرب اللّبن أعطيت في البطن سنا ... ناً إن تخالف سنني أيّ فتىً خالفني ... يوماً ولمّا يلقني فإنّني لناصحٌ ... وإنّني وإنّني فلا تكن لي لاحياً ... وفي الأمور استفتني فلم أزل أعرب عن ... نصحي لمن لم يلحني وإن تسفّه نظري ... ومذهبي وتنهني فالصفع تستوجبه ... نعم ونتف الذّقن والزبل في وجهك يع ... لو باتصال الزمن وبعد هذا أشتفي ... منك ويبرا شجني وأضرب الكفّ أما ... م ذلك الوجه الدّني طقطق طقٍ طقطق طقٍ ... أصخ بسمع الأذن شطر أولقحقح قح قحقح قح ... الضحك يغلبلبني (1) قد كان أولى بك عن ... هذي المخازي تنثني النّفي تستوجبه ... لواسطٍ أو عدن عرضت بالنفس كذا ... إلى ارتكاب المحن أفدي صديقاً كان لي ... بنفسه يسعدني فتارةً أنصحه ... وتارةً ينصحني وتارةً ألعنه ... وتارةً يلعنني وربما أصفعه ... وربما يصفعني أستغفر الله فه ... ذا القول لا يعجبني يا ليت هذا كلّه ... فيما مضى لم يكن

_ (1) م: يغللبني.

أضحكت والله بذا ال ... حديث من يسمعني دهرٌ تولّى وانقضى ... عنّي كطيف الوسن يا ليتني لم أره ... وليته لم يرني دنّست فيه جانبي ... وملبسي بالدّرن وبعت فيه عيشتي ... لكن ببخس الثّمن كأنّني ولست أد ... ري الآن ما كأنّني والله ما التشبيه عن ... د شاعرٍ بهيّن لكنّه أنطقني ... بالقول ضيق العطن وا حسرتي وا أسفي ... زلت وضاعت فطني لو أنصف الدهر لما ... أخرجني من وطني وليس لي من جنّةٍ ... وليس لي من مسكن أسرّح الطّرف وما ... لي دمنةٌ من الدمن وليس لي من فرسٍ ... وليس لي من سكن (1) يا ليت شعري وعسى ... يا ليت أن تنفعني هل أمتطي يوماً إلى ال ... شّرق ظهور السّفن وأجتلي ما شئته ... في المنزل المؤتمن (2) حينئذٍ أخلع في ... هذي القوافي رسني وتحسن الفكرة في بال ... عدوس (3) والسّمنسني (4) واللحم مع شحمٍ ومع ... طوابق الكبش الثّني والبيض في المقلاة بال ... زيت اللذيذ الدهن

_ (1) سقط البيت من م. (2) ب: المؤمن. (3) ب: بالغندوس. (4) ب: والشمشيني؛ م: والسمتني.

وجلدة الفرّوج مش ... وياً كثير السمن من منقذي أفديه من ... ذا الجوع والتمسكن وعلة (1) قد استوى ... فيها الفقير والغني هل للثريد عودةٌ ... إليّ قد شوقني تغوص فيه أنملي ... غوص الأكول المحسن ولي إلى الإسفنج شو ... قٌ دائمٌ يطربني وللأرزّ الفضل إذ ... تطبخه باللّبن وللشواء والرقا ... ق من هيامٍ أنثني واسكت عن الجبن فإنّ ... بنته تذهلني ظاهرها كالورد أو ... باطنها كالسوسن أيّ امرئٍ أبصرها ... يوماً ولم يفتتن تهيم فيها فكر الأس ... تاذ والمؤذّن لو كان عندي معدنٌ ... لبعت فيها معدني لكنني عزمت أن ... أبيع كمّ البدن والكمّ قد أكسبه ... بعد ولا يكسبني لا تنسبوا لي سفهاً ... فالجوع قد أرشدني وهات ذكر الكسكسو ... فهو شريفٌ وسني لا سيّما إن كان مص ... نوعاً بفتلٍ حسن أرفع منه كوراً ... بهنّ تدوي (2) أذني وإن ذكرت غير ذا ... أطعمةً في الوطن فابدأ من المثوّما ... ت بالجبنّ الممكن

_ (1) م: وقلة. (2) ب: (بها) تداوى.

من فوقها الفرّوج قد ... أنهي في التسمّن وثنّ بالعصيدة ال ... تي بها تطربني لا سيّما إن صنعت ... على يدي ممركن كذلك البلياط بال ... زيت الذي يقنعني تطبخه حتى يرى ... يحمرّ في التلوّن والزبزبنّ في الصحا ... ف حسب أهل البطن (1) فاسمع قضاء ناصحٍ ... يأتي بنصحٍ بيّن من اقتنى التفين فه ... والآن نعم المقتني وإنّ في شاشية ال ... فقير أنساً للغني تبعدني عن وصلها ... عن وصلها تبعدني تؤنسني عن اللقا ... عن اللقا تؤنسني (2) فأضلعي إن ذكرت ... تهفو كمثل الغصن كم رمت تقريباً لها ... لكنه لم يهن وصدّني عن ذاك ق ... لة الوفا باثمن إيهٍ خليلي هذه ... مطاعمٌ لكنني أعجب من ريقك إذ ... يسيل فوق الذقن هل نلت منها شبعاً ... فذكرها أشبعني وإن تكن جوعان يا ... صاح فكل بالأذن فليس عند شاعرٍ ... غير كلام الألسن يصوّر الأشياء وه ... ي أبداً لم تكن

_ (1) سقط من م؛ وأول لفظة فيه بياض في ب. (2) م: تؤيسني.

فقوله يريك ما ... ليس يرى بالممكن فاسمح وسامح واقتنع ... واطو حشاك واسكن ولننصرف فقصدنا ... إطراف هذا الموطن انتهى. 74 - وقال ابن خفاجة رحمه الله تعالى (1) : درسوا العلوم ليملكوا بجدالهم ... فيها صدور مراتبٍ ومجالس وتزهدوا حتى أصابوا فرصةً ... في أخذ مال مساجدٍ وكنائس وهذا المعنى استعمله الشعراء كثيراً. 75 - وقال - فيما أظن - الفقيه الكاتب المحدث الأديب الشهير أبو عبد الله محمد بن الأبار القضاعي، وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب في مواضع: لقد غضبت حتى على السّمط نخوةً ... فلم تتقلّد غير مبسمها سمطا وأنكرت الشّيب الملمّ بلمّتي ... ومن عرف الأيام لم ينكر الوخطا [نقول من القدح المعلى] 76 - وقال ابن سعيد في القدح المعلى في حقه (2) : كاتب مشهور، وشاعر مذكور، كتب عن ولاة بلنسية، وورد رسولاً حين أخذ النصارى بمخنق تلك الجهات، وأنشد قصيدته السينية: أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا وعارضه جمعٌ من الشعراء ما بين مخطئٍ ومحروم، وأغري الناس بحفظها

_ (1) ديوان ابن خفاجة: 366 (عن النفح) . (2) اختصار القدح: 191.

إغراء بني تغلب بقصيدة عمر بن كلثوم، إلا أن أخلاقه لم تعنه على الوفاء بأسباب الخدمة، فقلصت عنه تلك النعمة، وأخر عن تلك (1) العناية، وارتحل إلى بجاية، وهو الآن بها عاطلٌ من الرتب، خالٍ من حلى الأدب، مشتغلٌ بالتصنيف في فنونه، متنفل منه بواجبه ومسنونه، ولي معه مجاسات آنق من الشباب، وأبهج من الروض غب نزول السحاب، ومما أنشدنيه من شعره (2) : يا حبّذا بحديقةٍ دولاب ... سكنت إلى حركاته (3) الألباب عنّى ولم يطرب وسقى وهو لم ... يشرب ومنه العود والأكواب لو يدّعي لطف الهواء أو الهوى ... ما كنت في تصديقه أرتاب وكأنّه ممّا شدى مستهزئ (4) ... وكأنّه ممّا بكى ندّاب وكأنّه بنثاره ومداره ... فلكٌ كواكبه لها أذناب 77 - وقال أبو المعالي القيجاطي (5) : فقلت يا ربعهم أين من ... أحببته فيك وأين النديم فقال عهدٌ قد غدا شمله ... كمثل ما ينثر درٌّ نظيم 78 - وقال أبو عمرو ابن الحكم القبطلي (6) ، وقبطلة من أعمال وادي إشبيلية: كم أقطع الدهر بالمطال ... ساءت وحقّ الإله حالي

_ (1) القدح: ظل تلك. (2) القدح: 192. (3) ب: بحركاتها. (4) القدح: مستهتر. (5) القدح: 211. (6) القدح: 200؛ وفي ب: عبد الحكم.

رحلت أبغي بكم نجاحاً ... فلم تفيدوا سوى ارتحالي وعدتم ألف ألف وعدٍ ... لكنّني عدت بالمحال 79 - وقال أبو عمران القلعي (1) : طلعت عليّ والأحوال سودٌ ... كما طلع الصباح على الظلام فقل لي كيف لا أوليك شعري ... وإخلاص التّحيّة والسّلام 80 - وقال أبو إسحاق إبراهيم بن أيوب المرسي (2) : أنا سكران ولكن ... من هوى ذاك الفلاني كلمّا رمت سلوّاً ... لم يزل بين عياني وقال: حبيبي ما لصبّك من مراد ... سوى أن لا تدوم على البعاد وإن كان ابتعادك بعد هذا ... مقيماً فالسّلام على فؤادي قال ابن سعيد: وكان المذكور إذا غنى هذه الأشعار اللطيفة على الأوتار لم يبق لسامعه عند الهموم من ثار، مع أخلاق كريمة، وآداب كانسكاب الديمة، انتهى. 81 - وقال ابن سعيد (3) في أبي بكر محمد بن عمار البرجي كاتب ابن هود القائل:

_ (1) القدح: 201. (2) القدح: 214 وفيه ابن لبون. (3) القدح: 217.

[قل] لمن يشهد حرباً ... تحت رايات ابن هود إلخ ... : يا ابن عمّار لقد أح ... ييت لي ذاك السميّا في حلى نظمٍ ونثرٍ ... علّقا في مسمعيّا ولقد حزت مكاناً ... من ذرى الملك عليّا مثل ما قد حاز لكن ... عش بنعماك هنيّا 82 - وقال أبو بكر عبد الله بن عبد العزيز الإشبيلي المعروف بابن صاحب الرد (1) : يا أبدع الخلق بلا مرية ... وجهك فيه فتنة الناظرين لا سيّما إذ نلتقي خطرةً ... فيغلب الورد على الياسمين طوبى لمن قد زرته خالياً ... فمتّع النفس ولو بعد حين من ذلك الثغر الذي ورده ... ما زال فيه لذة الشاربين وما حوى ذاك الإزار الذي ... لم يعد عنه أمل الزائرين وهذه الأبيات يقولها في غلام كان أدباء إشبيلية قد فتنوا به، وكان مروره على داره. وحكى عنه أنه أعطاه في زيارة خمسين دينار، ومرت أيام ثم صادفه عند داره، فقال له: أتريد أن أزورك ثانية فقال له: لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين، وهذا الجواب على ما فيه من قلة الأدب، وهتك حجاب الشريعة - من أشد الأجوبة إصابةً للغرض، والله تعالى يسمح له، فقد قال ابن سعيد في حقه: إن بيته بإشبيلية من أجل البيوت، ولم يزل له مع تقلب الزمان ظهور

_ (1) القدح: 112 - 113.

وخفوت، وكان أديباً شاعراً ذواقاً لأطراف العلوم، انتهى. 83 - ومن المشهورين بالمجون والخلاعة بالأندلس - مع البلاغة والبراعة - أبو جعفر أحمد بن طلحة الوزير الكاتب (1) ، وهو من بيت مشهور من جزيرة شقر، من عمل بلنسية، وكتب عن ولاة من بني عبد المؤمن، ثم استكتبه السلطان ابن هود حين تغلب على الأندلس، وربما استوزره في بعض الأحيان، قال ابن سعيد: وهو ممن كان والدي يكثر مجالسته، ولم أستفد منه إلا ما كنت أحفظه في مجالسته، وكان شديد التهور، كثير الطيش، ذاهباً بنفسه كل مذهب، سمعته مرة وهو في محفلٍ يقول: تقيمون القيامة لحبيب والبحتري والمتنبي وفي عصركم من يهتدي إلى ما لم يهتدوا إليه فأهوى له شخصٌ له قحةٌ وإقدام، فقال: يا أبا جعفر، فأرنا برهان ذلك، ما أظنك تعني إلا نفسك، فقال: نعم، ولم لا وأنا الذي أقول ما لم يتنبه (2) إليه متقدم، ولا يهتدي لمثله متأخر: يا هل ترى أظرف من يومنا ... قلّد جيد الأفق طوق العقيق وأنطق الورق بعيدانها ... مرقصةً كلّ قضيبٍ وريق والشمس لا تشرب خمر الندى ... في الروض (3) إلا بكؤوس الشقيق فلم ينصفوه في الاستحسان، وردوه في الغيظ إلى أضيق مكان (4) ، فقلت له: يا سيدي، هذا هو السحر الحلال، فبالله إلا ما زدتني من هذا النمط، فقال: أدرها فالسّماء بدت عروساً ... مضخّمة الملابس بالغوالي

_ (1) ترجمته في اختصار القدح: 114 وعنه ينقل المقري، وانظر المغرب 2: 136 والمقتضب من التحفة: 157 والإحاطة 1: 244. (2) القدح: لم يهتد؛ دوزي: لم ينته. (3) ب ودوزي: الأرض. (4) القدح: إلى أشد مما كان

وخدّ الروض حمّره (1) أصيلٌ ... وجفن النهر كحّل بالظلال وجيد الغصن يشرق في لآلٍ ... تضيء بهنّ أكناف الليالي فقلت: زد وعد، فعاد والارتياح ملك عطفه، والتيه قد رفع أنفه، فقال: لله نهرٌ عندما زرته ... عاين طرفي منه سحراً حلال إذ أصبح الطلّبه ليلةً ... وجال فيه الغصن شبه الخيال فقلت: زد، فأنشد: ولمّا ماج بحر الليل بيني ... وبينكم وقد جدّدت ذكرا أراد لقاءكم إنسان عيني ... فمدّ له المنام عليه جسرا فقلت: إيه، فقال: ولمّا أن رأى إنسان عيني ... بصحن الخدّ منه غريق ماء أقام له العذار عليه جسراً ... كما مدّ الظّلام على الضياء فقلت: أعد، فأعاد، وقال: حسبك لئلا تكثر عليك المعاني، فلا تقوم بحق قيمتها، وأنشد: هات المدام إذا رأيت شبيهها ... في الأفق يا فرداً بغير شبيه فالصبح قد ذبح الظلام بنصله ... فغدت تخاصمه الحمائم فيه ثم قال: وكان قد تهتك في غلام لابن هود، ولكثرة انهزام ابن هود ربما انهزم مع العلج، وفيه يقول:

_ (1) القدح: خفره.

ألفت الحرب حتى علّمتني ... مقارعة الحوادث والخطوب ولم أك عالماً وأبيك حرباً ... بغير لواحظ الرشإ الرّبيب فها أنا بين تلك وبين هذي ... مصابٌ من عدوٍّ أو حبيب ولما هرب بالعلج إلى سبتة أحسن غليه القائم بها أبو العباس الينشتي (1) ، فلم يقنع بذلك الإحسان، وكان يأتي (2) بما يوغر صدره، فقال يوماً في مجلسه: رميت مرةً بقوس، فبلغ السهم إلى كذا (3) ، فقال ابن طلحة لشخصٍ بجانبه: لو كان قوس قزح ما بلغ إلى كذا، فشعر بقوله، فأسرها في نفسه، ثم بلغه أن هجاه بقوله: سمعنا بالموفّق فارتحلنا ... وشافعنا له حسبٌ وعلم ورمت يداً أقبّلها وأخرى ... أعيش بفضلها أبداً وأسمو فأنشدنا لسان الحال فيه ... يدٌ شلاّ وأمرٌ لا يتمّ فزاد في حنقه، وبقي مترصداً له الغوائل، فحفظت عنه أبياتٌ قالها وهو في حالة استهتار في شهر رمضان، وهي: يقول أخو الفضول وقد رآنا ... على الإيمان يغلبنا المجون أتنتهكون شهر الصوم هلاّ ... حماه منكم عقلٌ ودين فقلت اصحب سوانا، نحن قوم ... زنادقةٌ مذاهبنا فنون ندين بكلّ دينٍ غير دين الر ... عاع فما به أبداً ندين بحيّ على الصّبوح الدّهر نحن ندعو ... وإبليسٌ يقول لنا أمين

_ (1) في الأصول: البنتي؛ وصوابه ما اثبتناه، ويكتب أيضا " اليناشتي ". (2) القدح: يستريح. (3) زاد في القدح: ذكر مدى بعيدا.

فيا شهر الصّيام إليك عنّا ... إليك ففيك أكفر ما نكون فأرسل إليه من هجم عليه وهو على هذه الحال، وأظهر أنه يرضي العامة بقتله، فقتله، وذلك سنة 631، انتهى. وحاكي الكفر ليس بكافر، والله سبحانه وتعالى للزلات غير الكفر غافر. 84 - وقال محمد بن أحمد الإشبيلي ابن البناء (1) : كأنك من جنس الكواكب كنت لم ... يفتك طلوعاً حالها وتواريا تجلّيت من شرقٍ تروق تلألؤاً ... فلمّا انتحيت الغرب أصبحت هاويا 85 - ولما أمر المستنصر الموحدي (2) بضرب ابن غالب الداني ألف سوط وصلبه، وضرب بغشبيلية خمسمائة فمات، وضرب بقية الألف حتى تناثر لحمه، ثم صلب، قال ابنه أبو الربيع (3) يرثيه: جهلاً لمثلك أن يبكي لما قدرا ... وأن يقول أسىً يا ليته قبرا فاضت دموعك أن قاموا بأعظمه ... وقد تطاير عنه اللحم وانتثرا ومنها: ضاقت به الأرض ممّا كان حمّلها ... من الأيادي فمجّت شلوه ضجرا وعزّ جسمك (4) أن يحظى به كفنٌ ... فما تسربل إلاّ الشمس والقمرا 86 - وقال أبو العلاء عبد الحق المرسي رحمه الله تعالى (5) :

_ (1) القدح: 118 والمغرب 1: 249. (2) القدح: 127 والتحفة: 83 والمغرب 2: 406. (3) ق: الربيع. (4) القدح: إذ ذاك. (5) القدح: 126.

يا أبا عمران دعني والذي ... لم يمل خاطري إلاّ إليه ما نديمي غير من يخدمني ... لا الذي يجلسني بين يديه يرفع الكلفة عنّي ويرى ... أنها واجبةٌ منّي عليه 87 - وقال ابن غالب الكاتب بمالقة (1) : لا تخش قولاً قد عقدت الألسنا ... وابعث خيالك قد سحرت الأعينا واعطف عليّ فإنّ روحي زاهقٌ ... وانظر إليّ بنظرةٍ إن أمكنا لا يخدعنّك أن تراني لابساً ... ثوبي فقد أصبحت فيه مكفّنا ما زال سحرك يستميل خواطري ... بأرقّ من ماء الصفاء وألينا حتى غدوت ببحر حبٍّ زاخرٍ ... فرمت بي الأمواج في شطّ الضّنى وقال: ما للنسيم لدى الأصيل عليلا ... أتراه يشكو زفرةً وغليلا جرّ الذيول على ديار أحبّتي ... فأتى يجرّ من السّقام ذيولا 88 - وقال أبو عبد الله بن عسكر الغساني قاضي مالقة (2) : أهواك يا بدر وأهوى الذي ... يعذلني فيك وأهوى الرقيب والجار والدار ومن حلّها ... وكلّ من مرّ بها من قريب ما إن تنصّرت ولكنّني ... أقول بالتثليث قولاً غريب تطابق الألحان والكاس إذ ... تبسم عجباً والغزال الربيب 89 - وكان أبو أمية ابن عفير (3) قاضي إشبيلية - مع براعته، وتقدمه في

_ (1) القدح: 128. (2) القدح: 130. (3) القدح: 132.

العلوم الشرعية - أقوى الناس بالعلوم الأدبية المرعية، وقد اشتهر بسرعة الخاطر في الارتجال، وعدم المناظر له في ذلك المجال، قال ابن سعيد: رأيته كثيراً ما يصنع القصائد والمقاطعات، وهو يتحدث أو يفصل بين الغرماء في أكثر الأوقات، ومن شعره: ديارهم صاح (1) نصب عيني ... وليس لي وصلةٌ إليها إلاّ سلامي لدى ابتعادٍ ... من بعد سكانها عليها وقوله رحمه الله تعالى: ووجهٍ تغرق الأبصار فيه ... ولكن يترك الأرواح هيما أتاني ثمّ حيّاني حبيبٌ ... به وأباحني الخدّ الرقيما فمرّ لنا مجونٌ في فنونٍ ... سلكت به الصراط المستقيما قلت: أما مجرد الارتجال فأمر عن (2) الكثير صادر، وأما كونه مع التحدث أو فصل الخصومات فهو نادر، وقد حكينا منها في هذا الكتاب من القسم الأول موارد ومصادر. [عود للحديث عن ابن ظافر] ويعجبني من الواقع لأهل المشرق من ذلك قضية علي بن ظافر، إذ قال (3) : بتّ ليلة والشهاب يعقوب ابن أخت نجم الدين في منزل اعترفت له مشيدات القصور، والانخفاض والقصور، وشهدت له ساميات البروج، بالاعتلاء والعروج، قد ابيضت حيطانه، وطاب استيطانه، وابتهج به سكانه وقطانه، والبدر قد محا خضاب الظلماء، وجلا محياه (4) في زرقة قناع السماء، وكسا الجدران

_ (1) القدح: تلك؛ ب ق: ديارهم هي. (2) م: فما مر من. (3) البدائع 2: 206. (4) ق: وحكى محياه.

ثياباً من فضة، ونثر كافوره على مسك الثرى بعد أن سحقه ورضه، والروض قد ابتسم محياه، ووشت بأسرار محاسنه رياه، والنسيم قد عانق قامات الأغصان فميّلها، وغصبها مباسم نورها فقبّلها، وعندنا مغنٍ قد وقع على تفضيله الإجماع، وتغايرت على محاسنه الأبصار والأسماع، إن بدا فالشمس طالعة، وإن شدا فالورق ساجعة، تغازله مقلة سراج قد قصر على وجهه تحديقه، وقابله فقلنا البدر قابل عيوقه، وهو يغار عليه من النسيم كلما خفق وهب، ويستجيش عليه بتلويح بارقه الموشى بالذهب، ويديم حرقته وسهده، ويبذل في إلطافه طاقته وجهده، فتارة يضمخه بخلوقه، وتارة يحليه بعقيقه، وآونةً يكسوه أثواب شقيقه، فلم نزل كذلك حتى نعس طرف المصباح، واستيقظ نائم الصباح، فصنعت بديهاً في المجلس، وكتبت بها إلى الأعز بن المؤيد رحمه الله تعالى أصف تلك الليلة التي ارتفعت على أيام العيد، كارتفاع الرؤوس عن الأجياد، بل فضلت ليلات الدهر، كفضل البدر على النجوم الزهر: غبت عنّي يابن المؤيد في وق ... تٍ شهيٍّ يلهي المحبّ المشوّقا ليلة ظلّ بدرها يلبس الجد ... ران ثوباً مفضّضاً مرموقا وغدا الطّلّ فيه ينثر كافو ... راً فيعلو مسك التراب السحيقا وتبدّى النّسيم يعتنق الأغ ... صان لمّا سرى عناقاً رفيقا بتّ فيها منادماً لصديقٍ ... ظلّ بين الأنام خلاًّ صدوقا هو مثل الهلال وجهاً صبيحاً ... ومثال النسيم ذهناً رقيقاً وغزال كالبدر وجهاً وغصن ال ... بان قدّاً والخمرة الصرف ريقا مظهرٌ للعيون ردفاً مهيلاً ... وحشاً ناحلاً وقدّاً رشيقا إن تغنّى سمعت داود، أو لا ... ح تأمّلت يوسف الصدّيقا وإذا قابل السراج رأينا ... منه بدراً يقابل العيّوقا وأظنّ الصباح هام بمرآ ... هـ فأبدى قلباً حريقاً خفوقا

هو نجمٌ ما لاح في الجدر كافو ... ر بياضٍ إلاّ كساه خلوقا ما بدا نرجس الكواكب إلا ... قام من نومه يرينا الشقيقا وإذا ما بدت جواهرها في الج ... وّ وأبدى في الأرض منهم عقيقا فغدونا تحت الدجى نتعاطى ... من رقيق الآداب خمراً رحيقا وجعلنا ريحاننا طيب ذكرا ... ك فخلناه عنبراً مفتوقا ذاك وقتٌ لولا مغيبك عنه ... كان بالمدح والثناء خليقا قال فأجاب عنها من الوزن دون الروي: قد أتتني من الجمال قصيدٌ ... يا لها من قصيدةٍ غرّاء جمعت رقّة الهواء وطيب ال ... مسك في سبكها وصفو الماء فأرتنا طباعه وشذاه ... والذي حاز ذهنه من ذكاء سيدي هل جمعت فيها اللآلي ... يا أخا المجد أم نجوم السماء أفحمتني حسناً وحقّ أيادي ... ك التي لا تعدّ بالإحصاء فتركت الجواب والله عجزاً ... فابسط العذر فيه يا مولائي هل يسامي الثّرى الثريّا وأنّى ... يدّعي النجم فرط نور ذكاء رجع إلى أهل الأندلس: 90 - وقال ابن السماك (1) : إياك أن تكثر الإخوان مغتنماً ... في كلّ يومٍ إلى أن يكثر العدد في واحدٍ منهم تصفي الوداد له ... من التكاليف ما يفنى به الجلد وله:

_ (1) القدح: 134؛ وفي م: السماد؛ ق: السماذ.

تحنّ ركابي نحو أرضٍ وما لها ... وما لي من ذاك الحميم سوى الهمّ وكم راغبٍ في موضعٍ لا يناله ... وأمسيت منه مثل يونس في اليمّ بهذا قضى الرحمن في كلّ ساخطٍ ... يموت على كرهٍ ويحيى على رغم 91 - ولما قام الباجي (1) بإشبيلية وخلع طاعة ابن هود، وأبدل أشعاره الأسود العباسي في البنود، قال أبو محمد عبد الحق الزهري القرطبي في ذلك: كأنما الراية السوداء قد نعبت ... لهم غراباً ببين الأهل والولد مات الهوى تحتها من فرط روعته ... فأظهر الدهر منها لبسة الكمد وأنشدهما القائم الباجي في جملة قصيدة. 92 - وقال الوزير أبو الوليد إسماعيل بن حجاج الأعلم الإشبيلي (2) : 93 -......................... ............................. (3) أمسى الفراش يطوف حول كؤوسنا ... إذ خالها تحت الدّجى قنديلا ما زال يخفق حولها بجناحه ... حتى رمته على الفراش قتيلا وله: لاموا على حبّ الصبا والكاس ... لمّا بدا وضح المشيب براسي والغصن أحوج ما يكون لسقيه ... أيّام يبدو بالأزاهر كاسي وله، وقد رأى على نهر قرطبة ثلاثين نفساً مصلوبين من قطاع الطريق:

_ (1) القدح: 135. (2) ترجمة أبي الوليد إسماعيل بن حجاج الأعلم في اختصار القدح: 140 ولقبه هناك " الأفلح " ولكن الشعر التالي ليس له. (3) هذه الأشعار التالية لأبي يحيى ابن هشام القرطبي في القدح: 89 - 92 والمعتقد أن سهوا حدث في نسخ النفح سقط فيه شعر الأعلم واسم القرطبي صاحب هذه المقطعات.

ثلاثون قد صففوا كلّهم ... وقد فتحوا أذرعاً للوداع وما ودّعوا غير أرواحهم ... فكان وداعاً لغير (1) اجتماع وله في فتىً وسيم عضّ كلبٌ وجنته: وأغيد وضّاح المحاسن باسمٍ ... إذا قامر الأرواح ناظره قمر تعمّد كلبٌ عضّ وجنته التي ... هي الورد إيناعاً وأبقى بها أثر فقلت لشهب الأفق كيف صماتكم ... وقد أثّر العوّاء في صفحة القمر 94 - وقال الفقيه أبو الحجاج يوسف بن محمد البياسي (2) المؤرخ الأديب، المصنف الشهير، وكان حافظاً لنكت الأندلسيين حديثاً وقديماً، ذاكراً لفكاهاتهم التي صيرته للمملوك خليلاً ونديماً (3) ، في صبي من أعيان الجزيرة الخضراء تهافت في حبه جماعة من الأدباء والشعراء (4) : قد سلونا عن الذي تدريه ... وجفوناه إذ جفا بالتيه وتركناه صاغراً لأناسٍ ... خدعوه بالزّور والتمويه لمضلٍّ يسوقه لمضلٍّ ... وسفيهٍ يقوده لسفيه وكان من القوم الذين هاموا بالمذكور، وقاموا فيه المقام المشهور، أديبٌ يقال له الفار، فتسلط على البياسي حتى سافر من الجزيرة وكان يلقب بالقط، [فقال أحد الشعراء] : عذرت أبا الحجاج من ربّ شيبةٍ ... غدا لابساً في الحبّ ثوباً من القار وألجأه الفار المشارك للنوى ... ولم أر قطّاً قبله فرّ من فار

_ (1) ب: بغير. (2) القدح: 94 - 95. (3) القدح: جليسا ونديما. (4) كان هذا النص في النفح شديد الاضطراب، فصوبناه على حسب رواية القدح المعلى.

وله، وقد كتب إلى بعض أصحابه يذكره بالأيام السوالف: أبا حسنٍ لعمرك إنّ ذكري ... لأيام النعيم من الصواب أمثلي ليس يذكر عهد حمصٍ ... وقد جمحت بنا خيل التصابي ونحن نجرّ أثواب الأماني ... مطرّزةً هنالك بالشباب وعهدٌ بالجزيرة ليس ينسى ... وإن أغفلته عند الخطاب هو الأحلى لديّ وإن حماني ... عن العسل اجتماعٌ للذّباب أشار (1) إلى المحبوب وكان كثير الاجتماع به في جنة لوالده على وادي العسل وقال (2) : جنّة وادي العسل ... كم لي بها من أمل لو لم يكن ذبابها ... يمنع ذوق العسل قال ابن سعيد: ولما التقينا بتونس بعد إيابي من المشرق، وقد ولج (3) ظلام الشعر على [صبح] وجهه المشرق، قلت لأبي الحجاج مشيراً إلى محبوبه، وقد غطى هواه عنده على عيوبه: خلّ (4) أبا الحجاج هذا الذي ... قد كنت فيه دائم الوجد وانظر إلى لحيته واعتبر ... ممّا جنى الشّعر على الخدّ والله سبحانه يسمح للجميع، في هذا الهزل الشنيع، ويصفح عنا في ذكره، إنه مجيبٌ سميع.

_ (1) في أصول النفح: وسار، والتصويب عن القدح. (2) في الأصول: فقال - عطفا على سار - قال ابن سعيد: ولما اجتمعت به مستحسنا لهذا المقصد قال لي قد كنت ذكرته أيام تلك المزاحمات ثم أنشد " جنة وادي ... إلخ ". (3) القدح: دلج. (4) القدح: خلي.

[عود إلى النقل عن بدائع البدائه] 95 - وقال صاحب " البدائع " (1) ركب الأستاذ أبو محمد ابن صارة مع أصحاب له في نهر إشبيلية في عشية سال أصيلها على لجين الماء عقيانا، وطارت زواريقها في سماء النهر عقبانا، وأبدى نسيمها من الأمواج والدارات سرراً وأعكانا، في زورقٍ يجول جولان الطّرف، ويسودّ اسوداد الطّرف، فقال بديهاً: تامّل حالنا والجوّ طلقٌ ... محيّاه وقد طفل المساء وقد جالت بنا عذراء حبلى ... تجاذب مرطها ريحٌ رخاء بنهرٍ كالسجنجل كوثريٍّ ... تعبّس وجهها فيه السماء واتفق أن وقف أبو إسحاق ابن خفاجة على القطعة واستظرفها واستلطفها، فقال يعارضها على وزنها ورويها وطريقتها: ألا يا حبّذا ضحك الحميّا ... بحانتها وقد عبس المساء وأدهم من جياد الماء مهرٍ (2) ... تنازع جلّه ريحٌ رخاء إذا بدت الكواكب فيه غرقى ... رأيت الأرض تحسدها السماء 96 - وقال الأديب ابن خفاجة في ديوانه (3) : صاحبت في صدري من المغرب سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة ابا محمد عبد الجليل بن وهبون شاعر المعتمد، وكان أبو جعفر ابن رشيق يومئذ قد تمنع ببعض حصون مرسية، وشرع في النفاق فقطع السبيل، وأخاف الطريق، ولما حاذينا قلعته وقد احتدمت جمرة الهجير،

_ (1) بدائع البدائه: 2: 142. (2) ب: نهد؛ ق: نهر. (3) وردت هذه القصص المتعلقة بابن خفاجة في بدائع البدائه 2: 143، 145.

وملّ الركب رسيمه وزميله، وأخذ كلٌّ منّا يرتاد مقيله، اتفقنا على أن لا نطعم طعماً، ولا نذوق مناناً، حتّى نقول في صورة تلك الحال، وذلك التّرحال، ما حضر، وشاء الله أن أجبل ابن وهبون واعتذر، وأخذت عفو خاطري، فقلت أتربص به (1) ، وأعرّض بعظم لحيته: ألا قل للمريض القلب مهلاً ... فإنّ السيف قد ضمن الشفاء ولم أر كالنفاق شكاة حرٍّ ... ولا كدم الوريد له دواء وقد دحي النجيع هناك أرضاً ... وقد سمك العجاج به سماء وديس به انحطاطاً بطن وادٍ ... مذ أعشب شعر لحيته ضراء وقال ابن خفاجة أيضاً: حضرت يوماً مع أصحاب لي، ومعهم صبي متهم في نفسه، واتفق أنهم تحاوروا في تفضيل الرمان على العنب، فانبرى ذلك الصبي فأفرط في تفضيل العنب، فقلت بديهاً أعبث به: صلني لك الخير برمّانةٍ ... لم تنتقل عن كرم العهد لا عنباً أمتصّ عنقوده ... ثدياً كأني بعد في المهد وهل يرى بينهما نسبةً ... من عدل الخصية بالنّهد فخجل خجلاً شديداً وانصرف. قال: وخرجت يوماً بشاطبة إلى باب السّمّارين، ابتغاء الفرجة على خرير ذلك الماء بتلك الساقية، وذلك سنة 480، وإذا بالفقيه أبي عمران ابن أبي تليد رحمه الله تعالى قد سبقني إلى ذلك، فألفيته جالساً على دكان كانت هناك مبنية لهذا الشأن، فسلمت عليه، مستأنساً به، فجرى أثناء ما تناشدناه ذكر قول ابن رشيق:

_ (1) البدائع: أريض نار نزوته.

يا من يمرّ ولا تمرّ ... به القلوب من الفرق بعمامةٍ من خدّه ... أو خدّه منها استرق فكأنه وكأنها ... قمرٌ تعمّق بالشفق فإذا بدى وإذا انثنى ... وإذا شدى وإذا نطق شغل الخواطر والجوا ... نح والمسمع والحدق فقلت، وقد أعجبت بها جدّاً، وأثنى عليها كثيراً: أحسن ما في القطعة سياقة الاعداد، وإلاّ فأنت تراه قد استرسل فلم يقابل بين ألفاظ البيت الأخير والبيت الذي قبله فينزل بإزاء كلّ واحدة منها ما يلائمها، وهل ينزل بإزاء قوله وإذا نطق قوله شغل الحدق، وكأنه نازعني القول في هذا غاية الجهد، فقلت بديهاً: ومهفهفٍ طاوي الحشا ... خنث المعاطف والنظر ملأ العيون بصورةٍ ... تليت محاسنها سور فإذا رنا وإذا مشى ... وإذا شدا وإذا سفر فضح الغزالة والغما ... مة والحمامة والقمر فجنّ بها استحساناً، انتهى. قال ابن ظافر: والقطعة القافيّة ليست لابن رشيق، بل هي لأبي الحسين علي بن بشر الكاتب أحد شعراء اليتيمة (1) . 97 - وكان بين السميسر الشاعر (2) وبين بعض رؤساء المريّة واقع لمدح

_ (1) هذا وهم من ابن ظافر تابعه فيه المقري فإن أبا الحسن (لا أبا الحسين) علي بن أبي البشر الكاتب هو أحد شعراء الدرة الخطيرة لابن القطاع، وهو من ثم أحد شعراء الخريدة (4 / 1: 5 وسماه ابن البشائر) ؛ وقد ترجم له الصفدي في الجزء الثالث من الوافي، نسخة مكتبة أحمد الثالث؛ وذكره أبو الصلت في رسالته المصرية (نوادر المخطوطات 1: 22) . (2) البدائع 2: 148.

مدحه فلم يجزه عليه، فصنع ذلك الرجل دعوة للمعتصم بن صمادح صاحب المرية واحتفل فيها بما يحتفل مثله في دعوة سلطان مثل المعتصم، فصبر السميسر إلى أن ركب السلطان متوجهاً إلى الدعوة، فوقف له في الطريق، فلمّا حاذاه رفع صوته بقوله: يا أيها الملك الميمون طائره ... ومن لذي مأتم في وجهه عرس لا تفرسنّ (1) طعاماً عند غيركم ... إنّ الأسود على المأكول تفترس فقال المعتصم: صدق والله، ورجع من الطريق، وفسد على الرجل ما كان عمله. [حكاية مشرقية] ونظير هذه الحكاية (2) أن عبّاد بن الحريش كان قد مدح رجلاً من كبار أصبهان أرباب الضيع والأملاك والتبع الكثير، فمطله بالجائزة، ثمّ أجازه بما لم يرضه، فرده عليه، وبعد ذلك بحين عمل الرجل دعوة غرم عليها ألوف دنانير كثيرة لأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي على أن يجيء إليه من الكرج، ووصل أبو دلف، فلمّا عين عبّاد عليه وهو يساير بعض خواصه أومأ إلى ذلك السائر وأنشد بأعلى صوته: قل له يا فديته ... قول عبّاد: ذا سمج جئت في ألف فارسٍ ... لغداء من الكرج ما على النّفس بعد ذا ... في الدناءات من حرج فقال أبو دلف، وكان أخوف الناس من شاعر: صدق والله، أجيء من

_ (1) البدائع: لا تقربن. (2) البدائع 2: 149.

الكرج إلى أصبهان حتّى أتغذى بها والله بعد هذا ما في دناءة النفس من شيء. ثمّ رجع من طريقه، وفسد على الرجل كلّ ما غرمه، وعرف من أين أتي. وتخوف أن يعود عبّاد عليه بشرّ (1) منها، فسيّر إليه جائزة سنيّة مع جماعة من أصحابه، فاجتمعوا به، وسألوه فيه، وفي قبول الجائزة، فلم يقبل الجائزة، ثمّ أنشد بديهاً: وهبت يا قوم لكم عرضه ... فقالوا: جزاك الله تعالى خيراً، فقال: كرامةً للشعر لا للفتى ... لأنه أبخل من ذرّةٍ ... على الذي تجمعه في الشتا انتهى. 98 - وذكر أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي ما معناه (2) : أنه عزم بمصر هو ورفقة له على الاصطباح، فقصدوا بركة الحبش، في وقت ولاية الغبش، وحلّوا منها روضاً بسم زهره، ونسم عطره، فأداروا كؤوساً، تطلع من المدام شموساً، وعاينوها نجوماً، تكون لشاطين الهموم رجوماً، فطرب حتّى أظهر الطرب نشاطه، وأبرز ابتهاجه وانبساطه، فقال: لله يومي ببركة الحبش ... والجوّ بين الضياء والغبش والنّيل تحت الرّياح مضطربٌ ... كصارمٍ في يمين مرتعش ونحن في روضةٍ مفوّقةٍ ... دبّج بالنّور عطفها ووشي قد نسجتها يد الغمام لنا ... فنحن من نورها على فرش

_ (1) ب: بأشد. (2) البدائع 2: 151، ونوادر المخطوطات 1: 20 - 21.

فعاطني الراح إنّ تاركها ... من سورة الهمّ غير منتعش وأسقني (1) بالكبار مترعةً ... فهنّ أروى لشدّة العطش فأثقل النّاس كلّهم رجلٌ ... دعاه داعي الصّبا فلم يطش وهذا أبو الصّلت أمية من كبراء أدباء الأندلس العلماء الحكماء، وقد ترجمناه في الباب الخامس في المرتحلين من الأندلس إلى المشرق. 99 - وقال رحمه الله تعالى (2) : كنت مع الحسن بن علي بن تميم بن المعز بن باديس بالمهدية في الميدان، وقد وقف يرمي بالنشاب، فصنعت فيه بديهاً: ياملكاً مذ خلقت كفّه ... لم تدر إلاّ الجود والباسا إنّ النّجوم الزّهر مع بعدها ... قد حسدت في قربك الناسا وودّت الأفلاك لو أنّها ... تحوّلت تحتك أفراسا كما تمنّى البدر لو أنه ... عاد لنشّابك برجاسا انتهى. 100 - وصنع الوزير (3) أبو جعفر أحمد الوقشي وزير الرئيس أبي إسحاق ابن همشك صهر الأمير أبي عبد الله بن مردنيش في غلام أسود في يده قضيب نور بديهاً: وزنجيٍّ أتى بقضيب نورٍ ... وقد زفّت لنا بنت الكروم فقال فتى من الفتيان صفها ... فقلت الليل أقبل بالنّجوم

_ (1) ب: وسقني. (2) البدائع 2: 152. (3) البدائع 2: 153؛ وهذان البيتان في الحلة 2: 266 للرصافي (ديوانه: 135) ؛ قال: وغلط أبو مروان ابن صاحب الصلاة الإشبيلي فنسبهما في تاريخه إلى بعض الأمراء (يعني الوقشي) ، وفي المغرب 2: 257 أنهما لأبي الحسين بن أم الحور.

101 - ولمّا أفرط أبو [بكر] يحيى اليكي (1) في هجاء أهل فاس تعسّفوا عليه، وساعدهم واليهم مظفر الخصي من قبل أمير المسلمين (2) علي بن يوسف، والقائد عبد الله بن خيار الجياني (3) ، وكان يتولى أمورأً سلطانية بها، فقدّموا رجلاً ادعى عليه بدين، وشهد عليه به رجل فقيه يعرف بالزناتي، ورجل آخر يكنّى بأبي الحسين من مشايخ البلد، فأثبت الحق عليه، وأمر به إلى السجن، فرفع إليه، وسيق سوقاً عنيفاً، فلمّا وصل إلى بابه طلب ورقة من كاتبه، وكتب فيها، وأنفذها إلى مظفر مع العون الذي أوصله إلى السجن، فكان ما كتب: ارشوا الزناتيّ الفقيه ببيضةٍ ... يشهد بأنّ مظفّراً ذو بيضتين واهدوا إليه دجاجةً يحلف لكم ... ما ناك عبد الله عرس أبي الحسين 102 - وقال أبو الحسن علي بن عتيق بن مؤمن القرطبي الأنصاري: عمل والدي محملاً للكتب من قضبان تشبه سلّماً، فدخل عليه أبو محمد عبد الله بن مفيد، فرآه، فقال ارتجالاً: أيها السيّد الذكيّ الجنان ... لا تقسني بسلّم البنيان فضل شكل على السلالم أنّي ... محملٌ للعلوم والقرآن حزت من حلية المحبين ضعفي ... واصفراري ورقّة الأبدان فادع للصانع المجيد بفوزٍ ... ثمّ وال الدعاء للإخوان ثمّ عمل أيضاً: أيها السيد الكريم المساعي ... التفت صنعتي وحسن ابتداعي

_ (1) البدائع 2: 157؛ وانظر بعض أهاجيه في أهل فارس في زاد المسافر. (2) ب: المؤمنين؛ وهو غير دقيق. (3) راجع ترجمة ابن خيار الجياني في الحلة 2: 235.

أنا للنّسخ محملٌ خفّ حملي ... أنا في الشّكل سلّم الإطلاع 103 - وقال أحمد بن رضى المالقي: ليس المدامة ممّا أستريح له ... ولا مجاوبة الأوتار والنغم وإنّما لذّتي كتبٌ أطالعها ... وخادمي أبداً في نصرتي قلمي 104 - وقال أبو القاسم البلوي الإشبيلي: لمن أشكو مصابي في البرايا ... ولا ألقى سوى رجلٍ مصاب أمورٌ لو تدبّرها حكيمٌ ... لعاش مدى الزمان أخا اكتئاب أما في الدّهر من أفشي إليه ... بأسراري فيؤنس بالجواب يئست من الأنام فما جليسٌ ... يعزّ على نهاي سوى كتابي 105 - وقال أبو زكريا يحيى، ابن صفوان بن إدريس صاحب كتاب " العجالة " و " زاد المسافر " وغيرهما: ليت شعري كيف أنتم ... وأنا الصبّ المعنّى كلّ شيء لم تكونوا ... فيه لفظٌ دون معنى وله في نصراني وسيم لقيه يوم عيد: توحّد في الحسن من لم يزل ... يثلث والقلب في صدّه يشفّ لك الماء من كفّه ... ويقتدح النّار من خدّه وهذان البيتان نسبهما له بعض معاشريه، وأبوه صفوان سابق الميدان. 106 - وقال ابن بسام (1) : ساير ابن عمّار في بعض أسفاره غلامان من

_ (1) بدائع البدائه 2: 130.

بني جهور أحدهما أشقر العذار والآخر أخضره. فجعل يميل بحديثه لمخضر العذار. ثم قال ارتجالاً: تعلّقته جهوريّ النّجار ... حليّ (1) اللّمى جوهريّ الثنايا من النّفر البيض أسد الزمان ... رقاق الحواشي كرام السجايا ولا غرو أن تغرب الشارقات ... وتبقى محاسنها بالعشايا ولا وصل إلاّ جمان الحديث ... نساقطه من ظهور المطايا شنأت المثلّث للزعفران ... وملت إلى خضرةٍ في التفايا ومعناه أن ابن عمّار أبغض المثلّث لدخول الزعفران فيه لشبهه بعذار الأشقر منهما، وأحبّ خضرة التفايا (2) ، وهو لون طعام يعمل بالكزبرة، لشبهها بعذار الأخضر منهما. 107 - وقال أبو العرب ابن معيشة الكناني السبتي (3) : أخبرني شيخ من أهل إشبيلية كان قد أدرك دولة آل عبّاد، وكان عليه من أثر كبر السن ودلائل التعمير ما يشهد له بالصدق، وينطق بأن قوله الحق، قال: كنت في صبايّ حسن الصورة، بديع الخلقة، لا تلمحني عين أحد إلاّ ملكت قلبه، وخلبت خلبه، وسلبت لبّه، وأطلت كربه، فبينا أنا واقف على باب دارنا إذا بالوزير أبي بكر ابن عمّار قد أقبل في موكب زّجل، على فرس كالصخرة الصمّاء قدّت من قنّة الجبل، فحين حاذاني ورآني اشرأبّ إليّ ينظرني وبهت يتأملني ثمّ دفع بمخصرة كانت بيده في صدري، وأنشد:

_ (1) ب: حلو. (2) راجع شرح التفايا ج 3 ص: 127 الحاشية: 2. (3) بدائع البدائه 2: 132 وفيه " ابن معوشة ".

كفّ هذا النّهد عني ... فبقلبي منه جرح هو في صدرك نهدٌ ... وهو في صدري رمح 108 - وعبر في البدائع على طريقة القلائد بما صورته (1) : ذكر الفتح بن خاقان ما هذا معناه: أخبرني ذو الوزارتين أبو مطرف ابن عبد العزيز أنّه حضر عند المؤتمن بن هود في يوم أجرى الجو فيه أشقر برقه، ورمى بنبل ودقه، وحملت الرياح فيه أوقار السحاب على أعناقها، وتمايلت قامات الأغصان في الحلل الخضر من أوراقها، والأزهار قد تفتحت عيونها، والكمائم قد ظهر مكنونها، والأشجار قد انصقلت بالقطر، ونشرت ما يفوق ألوان البزّ وبثّت ما يعلو العطر، والراح قد أشرقت نجومها في بروج الراح، وحاكت شمسها شمس الأفق فتلفعت بغيوم الأقداح، ومديرها قد ذاب ظرفاً فكاد يسيل من إهابه، وأخجل خدّها حسناً فتكلل بعرق حبابه، إذا بفتىً رومي من أصبح فتيان المؤتمن قد أقبل متدرعاً كالبدر اجتاب سحاباً، والخمر اكتست حباباً، والطاووس انقلب حباباً، فهو ملكٌ حسناً إلاّ أنه جسد، وغزالٌ ليناً إلاّ أنّه في هيئة الأسد، وقد جاء يريد استشارة المؤتمن في الخروج إلى موضع كان عوّل فيه عليه، وأمره أن يتوجه إليه، فحين وصل إلى حضرته لمحه ابن عمّار والسكر قد استحوذ على لبّه، وانبثّت سراياه في ضواحي قلبه، فأشار إليه وقرّبه، واستبدع ذلك اللباس واستغربه، وجدّ في أن يستخرج تلك الدرة من ماء ذلك الدّلاص، وأن يجلي عنه سهكه كما يجلى الخبث عن الخلاص، وأن يوفر على ذلك الوفر نعمة جسمه، ويكون هو الساقي على عادته القديمة ورسمه، فأمره المؤتمن بقبول أمره وامتثاله، واحتذاء أمثاله، فحين ظهرت تلك الشمس من حجبها، ورمت شياطين النفوس من كمت المدام بشهبها، ارتجل ابن عمّار:

_ (1) بدائع البدائه 2: 133؛ وانظر النفح ج 1 ص: 654.

وهويته يسقي المدام كأنّه ... قمرٌ يدور بكوكبٍ في مجلس متناوح الحركات يندى عطفه ... كالغصن هزّته الصبا بتنفسّ يسقي بكأسٍ في أنامل سوسنٍ ... ويدير أخرى من محاجر نرجس يا حامل السيف الطويل نجاده ... ومصرّف الفرس القصير المحبس إيّاك بادرة الوغى من فارسٍ ... خشن القناع على عذارٍ أملس جهمٍ وإن حسر القناع فإنما ... كشف الظلام عن النهار المشمس يطغى ويلعب في دلال عذاره ... كالمهر يلعب في اللجام المجرس سلّم فقد قصف القنا غصن النقا ... وسطا بليث الغاب ظبي المكنس عنّا بكأسك قد كفتنا مقلةٌ ... حوراء قائمةٌ بسكر المجلس وصنع فيه أيضاً: وأحور من ظباء الروم عاطٍ ... بسالفتيه من دمعي فريد قسا قلباً وشنّ عليه درعاً ... فباطنه وظاهره حديد بكيت وقد دنا ونأى رضاه ... وقد يبكي من الطرب الجليد وإنّ فتىً تملّكه برقٍّ ... وأحرز حسنه لفتىً سعيد انتهى. 109 - وذكر في " البدائع " مؤلفه ما نصه (1) : خرج المعتصم بن صمادح صاحب المرية يوماً إلى بعض متنزهاته، فحلّ بروضة قد سفرت عن وجهها البهيج، وتنفست عن مسكها الأريج، وماست معاطف أغصانها، وتكللت بلؤلؤ الطلّ أجياد قضبانها، فتشوّق إلى الوزير أبي طالب ابن غانم أحد كبراء دولته، وسيوف صولته، فكتب إليه بديهاً بورقة كرنب بعود من شجرة:

_ (1) البدائع 2: 139، وانظر أيضا 2: 140 للحكاية التالية عن المعتصم.

أقبل أبا طالبٍ إلينا ... واسقط سقوط النّدى علينا 110 - وجلس المعتصم بن صمادح المذكور يوماً وبين يديه ساقية قد أخمدت ببردها حرّ الأوار، والتوى ماؤها فيها التواء فضة السوار، فقال ارتجالاً: انظر إلى الماء كيف انحطّ من صببه ... كأنّه أرقمٌ قد جدّ في هربه 111 - وقال السميسر (1) : بعوضٌ شربن دمي قهوةً ... وغنيّنني بضروب الأغان كأنّ عروقي أوتارهنّ ... وجسمي الرباب وهنّ القيان (2) 112 - وأحسن منه قول ابن شرف القيرواني (3) : لك مجلس كملت بشارة لهونا ... فيه، ولكن تحت ذلك حديث غنّى الذباب فظلّ يزمر حوله ... فيه البعوض ويرقص البرغوث 113 - والسابق إلى هذا المعنى أبو [الحسن] أحمد بن أيوب من شعراء اليتيمة إذ قال (4) : لا أعذل الليل في تطاوله ... لو كان يدري ما نحن فيه نقص لي والبراغيث والبعوض إذا ... أجنّنا (5) حندس الظلام قصص إذا تغنّى بعوضه طرباً ... أطرب (6) برغوثه الغنا فرقص

_ (1) البدائع 2: 176. (2) زاد في مطبوعة التجارية بعد هذين البيتين مقطوعتين في البرغوث والبعوض يظهر أنهما من زيادات النساخ. (3) البدائع 2: 176 والمطرب: 70 ومعجم الأدباء: 19: 38. (4) بدائع البدائه 2: 176 واليتيمة 4: 383، ومنه تصويب الاسم. (5) اليتيمة: ألحفنا. (6) اليتيمة: ساعد.

114 - ونحو هذا قول الحصري فيما نسبه إليه ابن دحية (1) : ضاقت بلنسيةٌ بي ... وذاد عني غموضي رقص البراغيث فيها ... على غناء البعوض رجع إلى أهل الأندلس، فنقول: 115 - كان ابن سعد الخير البلنسي الشاعر كثير الذهول، مفرط النسيان، ظاهر التغفل، على جوده نظمه، ورطوبة طبعه، وكان كثيراً ما يسلك سكة الإسكافيين الذين يعملون الخفاف على بغلة له، فاتخذت البغلة النفور من أطراف الأدم وفضلات الجلود الملقاة في السكة عادةً لها، واتفق أن عبر في السكة راجلاً، ومعه جماعة من أصحابه، فلمّا رأى الجلود الملقاة قفز ووثب راجعاً على عقبيه، فقال له أصحابه: ما هذا أيها الأستاذ فقال: البغلة نفرت، فعجبوا من تخلّفه وتغفله كيف ظن مع ما يقاسيه من ألم المشي ونصب التعب أنه راكب وأن حركته الاختيارية منه حركة الدابة الضرورية له، فكان تغفله ربما أوقعه في تهمة عند من لم يعرفه، فاقترح عليه بعض الأمراء أن يصنع بيتين أول أحدهما كتاب وآخره ذئب، وأول الآخر جوارح وآخره أنابيب، فصنع بديهاً: كتاب نجيعٍ (2) لاح في حومة الوغى ... وقارنه نسرٌ هنالك أو ذيب جوارح أهليه حروفٌ وربما ... تولّته من نقط الطعان أنابيب 116 - وقال الحميدي (3) : ذكر لي أبو بكر المرواني أنه شاهد محبوباً الشاعر النحوي قال بديهة في صفة ناعورة:

_ (1) المطرب: 94 وبدائع البدائه 2: 176. (2) م: نجيح. (3) الجذوة: 328.

وذات حنينٍ ما تغيض جفونها ... من اللجج الخضر الصوافي على شطّ وتبكي فتحيي من دموع جفونها ... رياضاً تبدّت بالأزاهر (1) في بسط فمن أحمرٍ قانٍ وأصفر فاقعٍ ... وأزهر مبيضٍّ وأدكن مشمطّ كأنّ ظروف الماء من فوق متنها ... لآلي جمانٍ قد نظمن على قرط وقال أبو الخطاب ابن دحية (2) : دخلت على الوزير الفقيه الأجلّ أبي بكر عبد الرحمن بن محمد بن مغاور السلمي، فوقع الكلام في علوم لم تكن من جنس فنونه، فقال بديهاً: أيها العالم ادّركني سماحاً ... فلمثلي يحقّ منك السماح إن تخلني إذا نطقت عييّاً ... فبناني إذا كتبت وقاح أحرز الشأو في نظامٍ ونثرٍ ... ثمّ أثني وفي العنان جماح فبهزلٍ كما تأوّد غصنٌ ... وبجدٍّ كما تهزّ الصفاح وقال (3) : دخلت عليه منزله بشاطبة في اليوم الذي توفي فيه وهو يجود بنفسه، فأنشد بديهاً: أيها الواقف اعتباراً بقبري ... استمع فيه قول عظمي الرميم أودعوني بطن الضريح وخافوا ... من ذنوبٍ كلومها بأديمي ودعوني بما اكتسبت رهيناً ... غلق الرهن عند مولى كريم 118 - وقال ابن طوفان (4) : دعا أبي أبا الوليد النّحلي، فلمّا قضوا وطرهم من الطعام سقيتهم، وجعلت أترع الكاسات، فلمّا مشت في النّحلي

_ (1) الجذوة: من أزاهير. (2) بدائع البدائه 2: 171، ولم ترد في المطرب. (3) المصدر نفسه: 172. (4) بدائع البدائه 2: 191، وفي ب: طفوان.

سورة الحميّا ارتجل: لابن طوفانٍ أيادٍ ... قلّ فيها مشبهوه ملأ الكاسات حتّى ... قيل في البيت أبوه ونظيره قول المنفتل (1) من شعراء الذخيرة في الشاعر ابن الفراء: فإذا ما قال شعراً ... نفقت سوق أبيه 119 - وذكر في " بدائع البدائه " (2) أن جماعة من الشعراء في أيّام الأفضل خرجوا متنزهين إلى الأهرام ليروا عجائب مبانيها، ويتأملوا ما سطره الدّهر من العبر فيها، فاقترح بعض من كان معهم العمل فيها، فصنع أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي: بعيشك هل أبصرت أعجب منظراً ... على ما رأت عيناك من هرمي مصر أنافا بأعنان (3) السّماء فأشرفا ... على الجوّ إشراف السماك أو النسر وقد وافيا نشزاً من الأرض عالياً ... كأنهما نهدان قاما على صدر وصنع أبو منصور ظافر الحداد: تأمّل هيئة الهرمين وانظر ... وبينهما أبو الهول العجيب كعماريتين (4) على رحيلٍ ... بمحبوبين بينهما رقيب وفيض البحر عندهما دموعٌ ... وصوت الريح بينهما نحيب وظاهر سجن يوسف مثل صبٍّ ... تخلّف فهو محزون كئيب

_ (1) المصدر السابق: 192. (2) المصدر نفسه 1: 243 وانظر نوادر المخطوطات 1: 26. (3) م: بأسباب؛ البدائع: بأكناف. (4) العمارية: الهودج.

120 - وقال ابن بسام (1) : كان للمتوكل ابن الأفطس فرس أدهم أغر محجل على كفله ست نقط بيض، فندب المتوكل الشعراء لصفته، فصنع النّحلي أبو الوليد فيه بديهاً: ركب البدر جواداً سابحاً ... تقف الريح لأدنى مهله لبس الليل قميصاً سابغاً ... والثريّا نقطٌ في كفله وغدير الصبح قد خيض به ... فبدا تحجيله من بلله كلّ مطلوبٍ وإن طالت به ... رجله من أجله في أجله ثمّ انتدب الشعراء بعد ذلك للعمل فيه، فصنع ابن اللبّانة: لله طرفٌ جال يا ابن محمّدٍ ... فحبت (2) به حوباؤه التأميلا لمّا رأى أنّ الظّلام أديمه ... أهدى لأربعه الهدى تحجيلا وكأنما في الردف منه مباسمٌ ... تبغي هناك لرجله تقبيلا وقال فيه أبو عبد الله ابن عبد البر الشنتريني من قطعة: وكأنما عمرٌ على صهواته ... قمرٌ تسير به الرياح الأربع ويعني بعمر المتوكل المذكور لأن اسمه عمر. 121 - وقال أحمد بن عبد الرحمن بن الصقر الخزرجي قاضي إشبيلية: لله إخوانٌ تناءت دراهم ... حفظوا الوداد على النوى أو خانوا يهدي لنا طيب الثناء ودادهم ... كالندّ يهدي الطيب وهو دخان

_ (1) البدائع 1: 260. (2) البدائع: فجنت؛ ب: فجبت.

[أخبار عن المروانيين] 122 - وحكي أن أيوب بن سليمان السهيلي المرواني حضر يوماً عند ابن باجة والشاعر أبو الحسن ابن جودي هناك، فتكلم المرواني بكلام ظهر فيه نبل وأدب، فتشوف أبو الحسن ابن جودي لمعرفته، وكان إذ ذاك فتيّ السن، فقال له: من أنت أكرمك الله تعالى فقال: هلا سألت غيري عني فيكون ذلك أحسن لك أدباً ولي توقيراً، فقال ابن جودي: قد سألت من المعرف عنك فلم يعرفك، فقال: يا هذا، لطالما مر علينا زمان يعرفنا من يجهل، ولا يحتاج من يرانا فيه إلى أن يسأل، وأطرق ساعة، ثمّ رفع رأسه وأنشد: أنا ابن الألى قد عوّض الدهر عزّهم ... بذلٍّ وقلوا واستحبّوا التنكرا ملوكٌ على مرّ الزمان بمشرقٍ ... وغربٍ دهاهم دهرهم وتغيّرا فلا تذكرنهم بالسؤال مصابهم ... فإن حياة الرّزء أن يتذكّرا ففطن ابن جودي أنه منبني مروان، فقام وقبّل رأسه، واعتذر إليه، ثمّ انصرف المرواني، فقال ابن باجة لابن جودي: أساء أدبك بعد ما عهدت منك كيف تعمد إلى رجل في مجلسي تراني قد قربته وأكرمته وخصصته بالإصغاء إلى كلامه فتقدم عليه بالسؤال عن نفسه فاحذر أن تكون لك عادة، فإنها من أسوء الأدب، فقال ابن جودي: لم أزل من الشيخ على ما قاله أبو تمام: نأخذ من ماله ومن أدبه (1) ... 123 - وحكي أن بكاراً المرواني (2) لمّا ترك وطنه وخرج في الجهاد وقتل، قال صاحب السقط: إنه اجتمع به في أشبونة فقال: قصدت منزله بها، ونقرت

_ (1) صدر البيت: ننقل أسبابنا إلى ملك. (2) انظر أخبار بكار وأشعاره في المغرب 1: 415.

الباب، فنادى: من هذا فقلت: رجل ممّن يتوسل لرؤيتك بقرابة، فقال: لا قرابة إلاّ بالتقى، فإن كنت من أهله فادخل، وإلاّ فتنحّ عني، فقلت: أرجو في الاجتماع بك والاقتباس منك أن أكون من أهل التقى، فقال: ادخل، فدخلت عليه فإذا به في مصلاّه وسبحة أمامه، وهو يعدّ حبوبها ويسبّح فيها، فقال لي: ارفق عليّ حتّى أتمم وظيفتي من هذا التسبيح، وأقضي حقك، فقعدت إلى أن فرغ، فلمّا قضى شغله عطف عليّ وقال: ما القرابة التي بيني وبينك فانتسبت له، فعرف أبي وترحّم عليه، وقال لي: لقد كان نعم الرجل، وكان لديه أدب ومعرفة، فهل لديك أنت ممّا كان لديه شيءٌ فقلت له: إنه كان يأخذني بالقراءة وتعلّم الأدب، وقد تعلقت من ذلك (1) بما أتميز به، فقال لي: هل تنظم شيئاً قلت: نعم، وقد ألجأني الدّهر إلى أن أرتزق به، فقال: يا ولدي إنه بئسما يرتزق به، ونعم ما يتحلى به إذا كان على غير هذا الوجه، وقد قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: " إنّ من الشّعر لحكمةً " ولكن تحلّ الميتة عند الضرورة، فأنشدني أصلحك الله تعالى ممّا على ذكرك من شعرك، قال: فطلبت بخاطري شيئاً أقابله به ممّا يوافق حاله فما وقع لي إلاّ فيما لا يوافقه من مجون ووصف خمر وما أشبه ذلك، فأطرقت قليلاً، فقال: لعلك تنظم، فقلت: لا ولكن أفكر فيما أقابلك به، فقولي أكثره فيما حملني عليه الصّبا والسخف، وهو لائق بغير مجلسك، فقال: يا بني، ولا هذا كله، إنّا لا نبلغ من تقوى الله إلى حدّ نخرج به عن السلف الصالح، وإذا صح عندنا أن عبد الله ابن عباس ابن عم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، ومفسر كتاب الله تعالى ينشد مثل قول القائل: إن يصدق الطير ننك لميسا ...

_ (1) م: بذلك.

فمن نحن حتّى نأبى أن نسمع مثل هذا والله لا نشذ عن السلف الصالح، أنشدني ما وقع لك غير متكلف، فلم يمدني خاطري إلى غير قولي من شعر أمجن فيه: أبطأت عنّي، وإني ... لفي اشتياقٍ شديد وفي يدي لك شيء ... قد قام مثل العمود لو ذقته مرة لم ... تعد لهذا (1) الصدود فتبسم الشيخ وقال: أما كان في نظمك أطهر من هذا فقلت له: ما وفقّت لغيره، فقال: لا بأس عليك، فأنشدني غيره، ففكرت إلى أن أنشدته قولي: ولمّا وقفت على ربعهم ... تجرعت وجدي بالأجرع وأرسل دمعي شرار الدموع ... لنارٍ تأجّج في الأضلع فقال عذولي، لمّا رأى ... بكائي: رفقاً على الأدمع فقلت له: هذه سنّةٌ ... لمن حفظ العهد في الأربع قال: فرأيت الشيخ قد اختلط، وجعل يجيء ويذهب ثمّ أفاق وقال: أعد بحقّ آبائك الكرام، فأعدت فأعاد ما كان فيه وجعل يردده، فقلت له: لو علمت أن هذا يحركك ما أنشدتك إيّاه، فقال: وهل حرك مني إلاّ خيراً وعظة يا بني إن هذه القلوب المخلاة لله كالورق التي جفت، وهي مستعده لهبوب الرياح، فإن هبّ عليها أقلّ ريحٍ لعب بها كيف شاء، وصادف منها طوعه، فأعجبني منزعه، وتأنست به، ولم أر عنده ما يعتاد من هؤلاء المتدينين من الإنجماح والانكماش، بل ما زال يبسطني ويحدثني بأخبار فيها هزل، ويذكر لي من تاريخ بني أمية وملوكها ما أرتاح له، ولا أعلم أكثره، فلمّا كثر تأنسي به

_ (1) م: تصد هذا.

أهويت إلى يده كي أقبّلها، فضمها بسرعة، وقال: ما شأنك فقلت: راغباً لك في أن تنشدني شيئاً من نظمك، فقال: أما نظمي في زمان الصبا فكان له وقت ذهب، ويجب للنظم أن يذهب معه، وأمّا نظمي في هذا الوقت فهو فيما أنا بسبيله، وهو يثقل عليك، فقلت له: إن أنصف سيدي الشيخ نفعنا الله تعالى به أنشدني من نظم صباه، ومن نظم شيخوخته (1) ، فيأخذ كلانا بحظه، فضحك وقال: ما أعصيك وأنت ضيف وقريب ولك حرمة أدب ووسيلة قصد، ثمّ أنشدني وقد بدا عليه الخشوع وخنقته العبرة: ثق بالذي سوّاك من ... عدمٍ فإنّك من عدم وانظر لنفسك قبل قر ... ع السنّ من فرط الندم واحذر وقيت من الورى ... واصحبهم أعمى أصم قد كنت في تيهٍ إلى ... أن لاح لي أهدى علم فاقتدت نحو ضيائه ... حتّى خرجت من الظّلم لكن قناديل الهوى ... في نور رشدي كالحمم قال: فوالله لقد أدركني فوق ما أدركه، وغلب على خاطري بما سمعت من هذه الأبيات، وفعلت بي من الموعظة غاية لم أجد منها التخلص إلاّ بعد حين، فقال لي الشيخ: إن هذه يقظة يرجى معها خيرك، والله مرشدك ومنقذك، ثمّ قال لي: يا بني هذا ما نحن بسبيله الآن، فاسمع فيما مضى والله وليّ المغفرة، وإنّا لنرجو منه غفران الفعل، فكيف القول، وأنشد: أطلّ عذارٌ على خدّه ... فظنّوا سلوّي عن مذهبي وقالوا غرابٌ لوشك النوى ... فقلت اكتسى البدر بالغيهب وناديت قلبي أين المسير ... وبدر الدجى حلّ في العقرب

_ (1) ق ب: شيخه.

فقال ولو رمت عن حبّه ... رحيلاً عصيت ولم أذهب قال: فسمعت ما يقصر عنه صدور الشعراء، وشهدت له بالتقدم، وقلت له: لم أر أحسن من نظمك في جدٍّ ولا هزل، ثمّ قلت له: أأرويه عنك فقال: نعم، ما أرى به بأساً بعد اطلاع من يعلم السرائر، على ما في الضمائر، فما قدر هذه الفكاهة في إغضاء من يغفر الكبائر، ويغضي عن العظائم قال: فقلت له: فإن أسبغت عليّ النعمة بزيادة شيء من هذا الفن فعلت ما تملك به قلبي آخر الدّهر، فقال: يا بني لا ملك قلبك غير حب الله تعالى، ثمّ قال: ولا أجمع عليك ردّ قول ومنعاً، وأنشد: أيها الشادن الذي ... حسنه في الورى غريب لحظ ذاك الجمال يط ... فىء ما بي من اللهيب وعليه أحوم ده ... ري ولكنّني أخيب كلّما رمت زورةً ... قيّض الله لي رقيب قال: فمازج قلبي من الرقة واللطافة لهذا الشعر ما أعجز عن التعبير عنه، فقلت له: زدني زادك الله تعالى خيراً، فأنشدني: ما كان قلبي يدري قدر حبّكم ... حتّى بعدتم فلم يقدر على الجلد وكنت أحسب أنّي لا أضيق به ... ذرعاً فما حان حتّى فتّ في عضدي ثمّ استمرّت على كرهٍ مريرته ... فكاد يفرق بين الروح والجسد عساكم أن تلاقوا باللقا رمقي ... فليس لي مهجةٌ تقوى على الكمد ثمّ قال: حسبك، وإن كلفتني زيادة فالله حسبك، فقلت له: قد وكلتني إلى كريم غفور رحيم، فبالله إلاّ مازدتني، وأكببت لأقبّل رجليه، فضمهما وأنشد:

لله من قال لمّا ... شكوت فيه نحولي أمّا السبيل لوصولٍ ... فما له من وصول فقلت حسبي التماحٌ ... بحسن وجهٍ جميل وجهٌ تلوح عليه ... علامةٌ للقبول فقال دعني فهذا ... تعرّضٌ للفضول فقلت عاتب وخاطب ... بالأمن أهل العقول فملأ سمعي عجائب، وبسط أنسي، وكتبت كل ما أنشدني، ثمّ قلت له: لولا خوفي من التثقيل عليك لم أزل أستدعي منك الإنشاد حتّى لا تجد ما تنشد، فقال: إن عدت إن شاء الله تعالى إلى هنا تذكرت، وأنشدتك، فما عندي ممّا أضيفك غير ما سمعت، وما تراه، ثمّ قام وجاء من بيت آخر في داره بصحفة فيها حساً من دقيق وكسور باردة، فجعل يفتّ فيها، ثمّ أشار إليّ أن أشرب فشبت ثم شرب إلى أن أتينا على آخرها (1) ، ثمّ قال لي: هذا غذاء عمك نهاره، وإنه لنعمة من الله تعالى أستديم بشكرها اتصالها، قال: فقلت له: يا عم، ومن أين عيشك فقال: يا بني، عيشي بتلك الشبكة أصطاد بها في سواحل البحر ما أقتات به، ولي زوجة وبنت يعود من غزلهما مع ذلك ما نجد فيه معونة، وهذا مع العافية والاستغناء عن النّاس خيرٌ كثير، جعلنا الله تعالى ممّن يلقاه على حالة يرضاها، وختم لنا بخاتمة لا يخاف معها فضيحة. قال: فتركته وقمت وفي نيّتي أن أعود إلى زيارته، ونويت أن يكون ذلك بعد أيّام خوف التثقيل، فعدت إليه بعد ثلاثة أيّام، فنقرت الباب، فكلمتني المرأة بلسان عليه أثر حزن، وقالت: إن الشيخ خرج إلى الغزو، وذلك بعد انفصالك عنه بيوم، ناله كالجنون، فقلت له: ما شأنك فقال: أريد أن أموت شهيداً في الغزو، وهؤلاء جيران لي قد

_ (1) ب: على آخره.

عزموا على الغزو، وأنا إن شاء الله تعالى ماضٍ معهم، ثمّ احتل في سيفٍ ورمح وتوّجه معهم، وقال: نفسي هي التي قتلتني بهواها، أفلا أقتصّ منها فأقتلها قال: فقلت لها: ومن خلف للنظر في شأنكم فقالت: ليس ذلك لك، فالذي خلقنا لا نحتاج معه إلى غيره، فأدركني من جوابها روعة، وعلمت أنها مثله زهداً وصلاحاً، فقلت: إني قريبه، ويجب أن عليّ أن أنظر في حالكم بعده، فقالت: يا هذا إنك لست بذي محرم، ولنا من العجائز من ينظر منا ويبيع غزلنا ويتفقد أحوالنا، فجزاك الله تعاىل عنّا خيراً، انصرف عنّا مشكوراً، فقلت لها هذه دراهم خذوها تستعينوا بها، فقالت ما اعتدنا أن نأخذ شيئاً من غير الله تعالى، وما كان لنا أن نخلّ بالعادة، فانصرفت نادماً على ما فاتني من الاستكثار من شعر الشيخ والتبرك بزيادة دعائه، ثمّ عدت بعد ذلك لدياره سائلاً عنه، فقالت لي المرأة: إنه قد قبله الله تعالى، فعلمت أنه قد قتل، فقلت لها: أقتل فقرأت: " ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله00 الآية " فانصرفت معتبراً من حاله، رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا به. وكانت للمروانيين بالأندلس يد عليا، في الدين والدنيا. انتهى. 124 - وقال محمد بن أيوب المرواني، لمّا كلّف قوماً حاجة له سلطانية فما نهضوا بها فكلّفها رأس بني مروان القائد سعيد بن المنذر، فنهض بها: نهضت بما سألتك غير وانٍ ... وقد صعبت لسالكها الطريق وليس يبين فضل المرء إلاّ ... إذا كلّفته ما لا يطيق وعتبه يوماً سعيد بن المنذر في كونه يتعرض لمدح خدام بني مروان، فقال له: أعز الله تعالى القائد الوزير، إنكم جعلتموني ذنباً وجعلوني رأساً، والنفس تتوق إلى من يكرمها وإن كان دونها أكثر منها إلى من يهينها وإن كان فوقها

وإني من هذا وهذا في أمر لا يعلمه إلاّ الذي أبلاني به، ويا ويح الشجيّ من الخليّ، وأنا الذي أقول فيما يتخلل هذا المنزع: نسبت لقومٍ ليتني نجل غيرهم ... فلي نسبٌ يعلو وحظي يسفل أقطّع عمري بالتعلّل والمنى ... وكم يخدع المرء اللبيب التعلّل فما لي مكانٌ أرتضيه لهمّة ... ولا مال منه أستعفّ وأفضل ولكنني أقضي الحياة تجمّلاً ... وهل يهلك الإنسان إلاّ التجمّل فقال له: سعيد قصدنا لومك فعطف اللائمة علينا، ونحن أحق بها، وسننظر إن شاء الله تعالى فيما يرفع اللوم عن الجانبين، ثمّ تكلم مع الناصر في شأنه، فأجرى له رزقاً أغناه عن التكفف، فكانت هذه من حسنات سعيد وأياديه. 125 - وقال المطرف بن عمر (1) المرواني يمدح المظفر بن المنصور بن أبي عامر: إنّ المظفّر لا يزال مظفّراً ... حكماً من الرحمن غير مبدّل وهو الأحقّ بكلّ ما قد حازه ... من رفعةٍ ورياسةٍ وتفضّل تلقاه صدراً كلمّا قلّبته ... مثل السنان بمحفلٍ وبجحفل وحضر يوماً مع شاعر الأندلس في زمانه ابن دراج القسطليّ، فقال له القسطليّ: أنشدني أبياتك التي تقول فيها " على قدر ما يصفو الخليل يكدّر ". فأنشده: تخيّرت من بين الأنام مهذّباً ... ولم أدر أني خائبٌ حين أخبر فمازجني كالراح للماء، واغتدى ... على كل ما جشّمته يتصبر

_ (1) ب: عمير.

إلى أن دهاني إذ أمنت غروره ... سفاهاً وأدّاني لما ليس يذكر وكدّر عيشي بعد صفوٍ، وإنما ... على قدر ما يصفو الخليل يكدّر فاهتزّ القسطليّ وقال: والله إنّك في هذه الأبيات لشاعر، وأنا أنشدك فيما يقابلها لبلال بن جرير: لو كنت أعلم أنّ آخر عهدهم ... يوم الفراق فعلت ما لم أفعل ولكن جعل نفسه فاعلاً وعرّضت نفسك لأن يقال: إنّك مفعول، فقال: ومن أين يلوح ذلك فقال القسطليّ: من قولك " وأدّاني لما ليس يذكر " فما يظن في ذلك إلاّ أنّه أداك إلى موضع فعل بك فيه، فاغتاظ الأموي وقال: بني مروان يحملنا على أن نخرق العادة في الحمل على مكارمهم، فسكن غيظه. وكتب المرواني المذكور إلى صاحب له يستعير منه دابة يخرج عليها للفرجة والخلاعة: أنهض الله تعالى سيدي بأعباء المكارم، إنّ هذا اليوم قد تبسم أفقه، بعدما بكى ودقه، وصقلت أصداء أوراقه، وفتحت أحداق حدائقه، وقام نوره خطيباً على ساقه، وفضضت غدرانه، وتوّجت أغصانه، وبرزت شمسه من حجابها، بعدما تلفعت بسحابها، وتنبّه في أرجاء الروض أرج النسيم، وعرف في وجهه نضرة النعيم، وقد دعا كلّ هذا ناظر أخيك إلى أن يجيله في هذه المحاسن، ويجددّ نظره في المنظر الذي هو غير مبتذل والماء الذي هو غير آسن، والفحص اليوم أحسن ما ملح، وأبدع ما حرن فيه وجمح، فجد لي بإعارة ما أنهض عليه لمشاهدته ويرفع عني خجل الابتذال، بمناكفة الأنذال، لا زلت نهّاضاً بالآمال، مسعفاً بمراد كل خليل غير مقصر ولا آل. 126 - وكتب الأمير هشام بن عبد الرحمن إلى أخيه عبد الله المعروف بالبلنسي حين فرّ كتاباً يقول في بعض فصوله: والعجب من فرارك دون أن

ترى شيئاً. فخاطبه بجواب يقول فيه: ولا تتعجب من فراري دون أن أرى شيئاً؛ لأنني خفت أن أرى ما لا أقدر على الفرار بعده، ولكن تعجب مني أن حصلت في يدك بعدما أفلتّ منك. وقال له وزيره أحمد بن شعيب البلنسي: أليس من العار أن يبلغ بك الخور من هذا الصبي أن تجعل بينك وبينه البحر، وتترك بلاد ملكك وملك أبيك فقال: ما أعرف ما تقول، وكل ما وقي به إتلاف النفس ليس بعار، بل هو محض العقل، وأوّل ما ينظر الأديب في حفظ رأسه، فإذا نظر في ذلك نظر فيما بعده. 127 - وقال عبد الله بن بعد العزيز الأموي ويعرف بالحجر (1) : اجعل لنا منك حظّاً أيها القمر ... فإنما حظّنا من وجهك النظر رآك ناسٌ فقالوا: إنّ ذا قمرٌ ... فقلت: كفّوا فعندي منهما الخبر البدر ليس بغير النّصف بهجته ... حتّى الصباح وهذا كلّه (2) قمر 128 - وقال أبو عبد الله محمد بن محمد بن الناصر يرثي أبا مروان ابن سراج (3) : وكم من حديثٍ للنبيّ أبانه ... وألبسه من حسن منطقه وشياً وكم مصعبٍ للنحو قد راض صعبه ... فعاد ذلولاً بعدما كان قد أعيا 129 - وحكي أنه دخل بعض شعراء الأندلس على الفقيه سعيد بن أضحى، وكان من أعيان غرناطة، فمدحه بقصيدة، ثمّ بموشّحة، ثمّ بزجل، فلم

_ (1) الجذوة: 244 (وبغية الملتمس رقم: 933) . (2) الجذوة: البدر ليلة نصف الشهر.... وهذا دهره. (3) الذخيرة 1 / 2: 317.

يعطه شيئاً، بل شكا إليه فقراً، حتّى إنه بكى، فأخذ الدواة والقرطاس وكتب ووضع بين يديه: شكا مثال الذي أشكوه من عدمٍ ... وساءه مثل ما قد ساءني فبكى إنّ المقلّ الذي أعطاك دمعته ... نعم الجواد فتىً أعطاك ما ملكا 130 - وقال ابن خفاجة (1) : نهرٌ كما سال (2) اللّمى سلسال ... وصباً بليلٌ ذيلها مكسال ومهبّ نفحة روضةٍ مطلولةٍ ... فيها لأفراس النسيم (3) مجال غازلته والأقحوانة مبسمٌ ... والآس صدغٌ والبنفسج خال وقال (4) : وساقٍ كحيل الطّرف (5) في شأو حسنه ... جماحٌ، وبالصبر الجميل حران ترى للصّبا ناراً بخدّيه لم يثر ... لها من سوادي عارضيه دخان سقانا وقد لاح الهلال عشيّةً ... كما اعوجّ في درع الكميّة سنان عقاراً نماها الكرم فهي كريمةٌ ... ولم تزن بابن المزن فهي حصان وقد جال من جون الغمامة أدهمٌ ... له البرق سوطٌ والعنان عنان وضمّخ ردع الشمس نحر حديقة ... عليه من الطّلّ السقيط جمان ونمّت بأسرار الرياض خميلةٌ ... لها النّور ثغرٌ والنسيم لسان

_ (1) ديوان ابن خفاجة: 119 والنفح 3: 202. (2) الديوان: ساغ. (3) الديوان: في جلهتيها للنسيم. (4) ديوان ابن خفاجة: 235 وقد تقدمت الأبيات ص: 202 من هذا المجلد. (5) ديوانه: لخيل اللحظ؛ وهو أصوب.

وقال في وصف فرس أصفر، ولم يخرج عن طريقته (1) : وأشقرٍ تضرم منه الوغى ... بشعلةٍ من شعل الباس من جلّنارٍ ناضرٍ لونه ... وأذنه من ورق الآس يطلع للغرة في شقرةٍ ... حبابةً تضحك في الكاس 131 - وقال أبو بكر يحيى (2) بن سهل اليكي يهجو: أعد الوضوء إذا نطقت به ... مستعجلاً من قبل أن تنسى واحفظ ثيابك إن مررت به ... فالظلّ منه ينجّس الشّمسا 132 - وقال ابن اللّبّانة (3) : أبصرته قصّر في المشيه ... لمّا بدت في خدّه لحيه قد كتب الشّعر على خدّه ... " أو كالّذي مرّ على قريه " 133 - وقال الوزير الكاتب أبو محمد [ابن] عبد الغفور الإشبيلي في الأمير أبي بكر سير من أمراء المرابطين، وكتب بها إليه في غزاة غزاها (4) : سر حيث سرت يحلّه النّوار ... وأراك فيه مرادك المقدار وإذا ارتحلت فشيّعتك سلامةٌ ... وغمامةٌ لا ديمةٌ مدرار تنفي الهجير بظلّها وتنيم بال ... رشّ القتام وكيف شئت تدار وقضى الإله بأن تعود مظفّراً ... وقضت بسيفك نحبها (5) الكفّار

_ (1) ديوانه: 123 ومرت الأبيات ص: 202 من هذا المجلد. (2) في الأصول: محمد، وهو خطأ اقتضى التصويب. (3) القلائد: 252. (4) القلائد: 163 والمغرب 1: 137. (5) ب م: نحوها.

هذا غير ما تمناه الجعفي حيث قال (1) : حيث ارتحلت وديمة (2) ، وما تكاد تنفذ معها عزيمة، وإذا سفحت على ذي سفر، فما أحراها بأن تعوق عن الظفر، ونعتها بمدرار، فكان ذلك أبلغ في الإضرار، وما أحسن قول القائل: فسر ذا رايةٍ خفقت بنصرٍ ... وعد في جحفلٍ بهج الجمال إلى حمصٍ فأنت بها حليٌّ ... تغاير فيه ربّات الحجال 134 - وقال الحجاري في " المسهب ": كتبت إلى القاضي أبي عبد الله محمد اللوشي أستدعي منه شعره لأكتبه في كتابي، فتوقّف عن ذلك وانقبض عني، فكتبت إليه: يا مانعاً شعره عن سمع ذي أدب ... نائي المحلّ بعيد الشخص مغترب يسير عنك به في كلّ متّجهٍ ... كما يمرّ نسيم الريح بالعذب إنّي وحقّك أهلٌ أن أفوز به ... واسأل فديتك عن ذاتي وعن أدبي فكان جوابه: يا طالباً شعر من لم يسم في الأدب ... ماذا تريد بنظم غير منتخب إنّي وحقّك لم أبخل به صلفاً ... ومن يضنّ على جيدٍ بمخشلب لكنني صنت قدري عن روايته ... فمثلّه قلّ عن سامٍ إلى الرّتب خذه إليك كما أكرهت مضطرباً ... محلّلاً ذمّ مولاه مدى الحقب قال: ثمّ كتب لي ممّا أتحفني به من نظمه محاسن أبهى من الأقمار، وأرقّ من نسيم الأسحار.

_ (1) القلائد: هذا ما تمناه الولي ما تمناه الجعفي حيث قال. (2) يريد قول المتنبي: وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة ... حيث اتجهت وديمة مدرار

135 - وقال صالح بن شريف في البحر وهو أحسن ما قيل فيه: البحر أعظم ممّا أنت تحسبه ... من لم ير البحر يوماً ما رأى العجبا طامٍ له حببٌ طافٍ على زرقٍ ... مثل السّماء إذا ما ملّئت (1) شهبا وقال أيضاً: ما أحسن العقل وآثاره ... لو لازم الإنسان إيثاره يصون بالعقل الفتى نفسه ... كما يصون الحرّ أسراره لا سيّما إن كان في غربةٍ ... يحتاج أن يعرف مقداره 136 - وقال ابن برطله (2) : خطوب زماني ناسبتني غرابةً ... لذلك يرميني بهنّ مصيب غريبٌ أصابته خطوبٌ غريبةٌ ... " وكلّ غريبٍ للغريب نسيب " وهذا من أحسن التضمين، الذي يزري بالدّرّ الثمين. 137 - ودخل ابن بقيّ الحمّام وفيه الأعمى التّطيلي فقال له: أجز (3) : حمّامنا كزمان القيظ محتدمٌ ... وفيه للبرد صرٌّ غير ذي ضرر فقال الأعمى: ضدّان ينعم جسم المرء بينهما ... كالغصن ينعم بين الشمس والمطر ولا يخفى حسن ما قال الأعمى.

_ (1) م: حليت. (2) م: برطالة. (3) انظر مطالع البدور 2: 10.

وقد ذكر في " بدائع البدائه " (1) البيتين معاً منسوبين إلى ابن بقيّ، ولنذكر كلامه برمته لما اشتمل عليه من الفوائد، ونصه: ذكر ابن بسام قال: دخل الأديبان أبو جعفر ابن هريرة التّطيلي المعروف بالأعمى وأبو بكر ابن بقيّ الحمام، فتعاطيا العمل فيه، فقال الأعمى: يا حسن حمّامنا وبهجته ... مرأى من السحر كلّه حسن ماءٌ ونارٌ حواهما كنفٌ ... كالقلب فيه السرور والحزن ثمّ أعجبه المعنى فقال: ليس على لهونا مزيد ... ولا لحمّامنا ضريب ماء وفيه لهيب نارٍ ... كالشمس في ديمةٍ تصوب وابيّض من تحته رخامٌ ... كالثلج حين ابتدا يذوب وقال ابن بقيّ: حمّامنا فيه فصل القيظ ... البيتين فقال الأعمى وقد نظر فيه إلى فتّى صبيح: هل استمالك جسم ابن الأمير وقد ... سالت عليه من الحمّام أنداء كالغصن باشر حرّ النار من كثبٍ ... فظلّ يقطف من أعطافه الماء [وصف حمّام مشرقي] قلت: تذكرت هنا عند ذكر الحمّام ما حكاه بدر الدين الحسن بن زفير الإربلي المتطبب إذ قال (2) : رأيت في بغداد في دار الملك شرف الدين هرون ابن

_ (1) البدائع 1: 242 والذخيرة 1 / 1: 258. (2) مطالع البدور 2: 8.

الوزير الصحب شمس الدين محمد الجويني حمّاماً متقن الصنعة، حسن البناء، كثير الأضواء، قد احتفّت به الأزهار والأشجار، فأدخلني إليه سائسه، وذلك بشفاعة الصاحب بهاء الدين بن الفخر عيسى المنشىء الإربلي، وكان سائس هذا الحمّام خادماً حبشياً كبير السن والقدر، فطاف بي عليه، وأبصرت مياهه وشبابيكه وأنابيبه المتخذ بعضها من فضة مطلية بالذهب وغير مطلية وبعضها على هيئة طائر إذا خرج منها الماء صوّت بأصوات طيبة، ومنها أحواض رخام بديعة الصنعة والمياه تخرج من سائر الأنابيب إلى الأحواض ومن الأحواض إلى بركة حسنة الإتقان، ثمّ منها إلى البستان، ثمّ أراني نحو عشر خلوات، كلّ خلوة صنعتها أحسن من صنعة أختها، ثمّ انتهى بي إلى خلوة عليها باب مقفل بقفل حديد، ففتحه، ودخل بي إلى دهليز طويل كلّه مرخم بالرخام الأبيض الساذج، وفي صدر الدهليز خلوة مربعة تسع بالتقريب نحو أربعة أنفس إذا كانوا قعوداً وتسع اثنين إذا كانوا نياماً، ورأيت من العجائب في هذه الخلوة أن حيطانها الأربعة مصقولة صقالاً لا فرق بينه وبين صقال المرآة، يرى الإنسان سائر بشرته في أي حائط شاء منها، ورأيت أرضها مصورة بفصوص حمر وصفر وخضر ومذهبة وكلّها متخذة من بلّور مصبوغ بعضه أصفر وبعضه أحمر، فأما الأخضر فيقال إنّه حجارة تأتي من الروم، وأما المذهب فزجاج ملبس بالذهب، وتلك الصورة في غاية الحسن والجمال، على هيئات مختلفة في اللون وغيره، وهي ما بين فاعل ومفعول به، إذا نظر المرء إليها تحركت شهوته، وقال لي الخادم السائس: هذا صنع على هذه الصفة لمخدومي، حتّى إنّه إذا نظر إلى ما يفعله هؤلاء بعضهم مع بعض من المجامعة والتقبيل ووضع أيدي بعضهم على أعجاز بعض تتحرك شهوته سريعاً، فيبادر إلى مجامعة من يحبه. قال الحاكي: وهذه الخلوة دون سائر الخلوات التي دخلت إليها هي مخصوصة بهذا الفعل، إذا أراد الملك شرف الدين هرون الاجتماع في الحمّام بمن يهواه من الجواري الحسان والصور الجميلة والنساء الفائقات الحسن لم يجتمع به إلاّ في هذه

الخلوة، من أجل أنه يرى كل محاسن الصور الجميلة مصوّرة في الحائط ومجسمة بين يديه، ويرى كل منهما صاحبه على هذه الصفة، ورأيت في صدر الخلوة رخام مضلع وعليه أنبوب مركب في صدره، وأنبوب آخر (1) برسم الماء البارد، والأنبوب الأول برسم الماء الفاتر، وعن يمين الحوض ويساره عمدان صغار منحوتة من البلور يوضع عليها مباخر الندّ والعود، وأبصرت منها خلوة شديدة الضياء مفرحة بديعة قد أنفق عليها أموالٌ كثيرة، وسألت الخادم عن تلك الحيطان المشرقة المضيئة: من أي شيء صنعت فقال لي: ما أعلم. قال الحاكي: فما رأيت في عمري ولا سمعت بمثل تلك الخلوة، ولا بأحسن من ذلك الحمّام، مع أني ما أحسن أن أصفهما كما رأيتهما، فإنه لم تتكرر رؤيتي لهما، ولا اتفق لي الظفر بصناعتهما ومباشرتهما، وفي الذي ذكرت كفاية. انتهى. [دار جمال الملك البغدادي] ولمّا اتصل أبو القاسم علي بن أفلح البغدادي الكاتب بأمير المؤمنين المسترشد بالله العباسي، ولقبه جمال الملك، وأعطاه أربع ديار في درب الشاكرية اشترى دوراً أخرى إلى جانبها، وهدم الكل وأنشأ داره الكبيرة، وأعانه الخليفة في بنائها، وأطلق له أموالاً وآلات البناء، وكان في جملة ما أطلق له مائتا ألف آجرّة وأجريت الدار بالذهب، وصنع فيها الحمّام العجيب الذي فيه بيت مستراح فيه أنبوب إن فركه الإنسان يميناً خرج ماء حار وإن فركه شمالاً خرج ماء بارد، وكان على إيوان الدار مكتوباً (2) : إن عجب الراءون من ظاهري ... فباطني لو علموا أعجب

_ (1) ب: وعليه مركب في صورة أنبوب آخر برسم الماء؛ م: مركب في صدره أنبوب وآخر ... (2) ب م: مكتوب.

شيّدني من كفّه مزنةٌ ... يهمل منها العارض الصّيّب ودبجت روضة أخلاقه ... فيّ رياضاً نورها مذهب صدرٌ كسا صدري من نوره ... شمساً على الأيّام لا تغرب وكتب على الطرز: ومن المروءة للفتى ... ما عاش دارٌ فاخره فاقنع من الدنيا بها ... واعمل لدار الآخره هاتيك وافيةٌ بما ... وعدت، وهذي ساخره (1) وكتب على النادي: ونادٍ كأن جنان الخلود ... أعارته من حسنها رونقا وأعطته من حادثات الزما ... ن أن لا تلمّ به موثقا فأضحى يتيه على كلّ ما ... بنى مغرباً كان أو مشرقا تظلّ الوفود به عكفّاً ... وتمسي الضيوف به طرّقا بقيت له يا جمال الملو ... ك والفضل مهما أردت البقا وسالمه فيك ريب الزمان ... ووقّيت فيه الذي يتقّى [أشعار للمشارقة في الحمّام] وعلى ذكر الحمّام فما أحكم قول ابن الوردي فيما أظن (2) : وما أشبه الحمّام بالموت لامرىءٍ ... تذكر؛ لكن أين من يتذكر يجرّد عن أهلٍ ومالٍ وملبسٍ ... ويصحبه من كلّ ذلك مئزر

_ (1) ب: خاسرة. (2) مطالع البدور 2: 13.

وقال الشهاب بن فضل الله (1) : وحمّامكم كعبةٌ للوفود ... تحجّ إليه حفاةً عراه يكرر صوت أنابيبه ... كتاب الطهارة باب المياه وقد تمثل بهذين البيتين البرهان القيراطي في جواب كتاب استدعاه فيه بعض أهل عصره إلى الحمّام، وافتتح الجواب بقوله (2) : قد أجبنا وأنت أيضاً فصبّح ... ت بصبحي سوالفٍ وسلاف وبساقٍ يسبي العقول بساقٍ ... وقوامٍ وفق العناق خلافي ووصله بنثرٍ تمثل فيه بالبيتين كما مر. ولبعضهم (3) : إن حمّامنا الذي نحن فيه ... أيّ ماءٍ به وأيّة نار قد نزلنا به على ابن معينٍ ... وروينا عنه صحيح البخار [ي] وألغز بعضهم في الحمّام بقوله (4) : ومنزل أقوامٍ إذا ما تقابلوا ... تشابه فيه وغده ورئيسه ينفّس كربي إذ ينفّس كربه ... ويعظم أنسي إذ يقلّ أنيسه إذا ما أعرت الجوّ طرفاً تكاثرت ... على من به أقماره وشموسه رجع إلى ما كنّا فيه من كلام أهل الأندلس، فنقول:

_ (1) مطالع البدور 2: 11، 17. (2) مطالع البدور 2: 16. (3) المصدر نفسه: 10. (4) المصدر نفسه: 9.

138 - وكان محمد بن خلف بن موسى البيري (1) متكلماً متحققاً برأي الأشعرية، وذاكراً لكتب الأصول في الاعتقاد، مشاركاً في الأدب، مقدماً في الطب، ومن نظمه يمدح إمام الحرمين رحمه الله تعالى: حبّ حبرٍ يكنى أباً للمعالي ... هو ديني ففيه لا تعذلوني أنا والله مغرمٌ بهواه ... عللوني بذكره عللّوني 139 - وكتب (2) أبو الوليد ابن الجنان الشاطبي (3) يستدعي بعض إخوانه إلى مجلس أنس بما صورته: نحن في مجلس أغصانه الندامة، وغمامه الصهباء، فبالله إلاّ ما كنت لروض مجلسنا نسيماً، ولزهر حديثنا شميماً، وللجسم روحاً، وللطيب ريحاً، وبيننا عذراء زجاجتها خدرها، وحبابها ثغرها، بل شقيقة حوتها كمامة، أو شمس حجبتها غمامة، إذا طاف بها معصم الساقي فوردة على غصنها، أو شربها مقهقهةً فحمامة على فننها، طافت علينا طوفان القمر على منازل الحلول، فأنت وحياتك إكليلنا وقد آن حلولها في الإكليل. انتهى. وقال أبو الوليد المذكور: فوق خدّ الورد دمعٌ ... من عيون السّحب يذرف برداء الشمس أضحى ... بعدما سال يجفّف [حكاية مشرقية عن الورد والياسمين] وتذكرت هنا بذكر الورد ما حكاه الشيخ أبو البركات هبة الله بن محمد النصيبي المعروف بالوكيل، وكان شيخاً ظريفاً فيه آداب كثيرة، إذ قال:

_ (1) م: البشيري. (2) م: وكتب الوزير. (3) مرت ترجمته رقم: 68 في الراحلين إلى المشرق (2: 120) .

كنت في زمن الربيع والورد في داري بنصيبين، وقد أحضر من بستاني من الورد والياسمين شيء كثير، وعملت على سبيل الولع دائرة من الورد تقابلها دائرة من الياسمين، فاتفق أن دخل علي شاعران كانا بنصيبين أحدهما يعرف بالمهذب والآخر يعرف بالحسن ابن البرقعيدي، فقلت لهما: اعملا في هاتين الدائرتين، ففكرّا ساعة ثمّ قال المهذب: يا حسنها دائرةً ... من ياسمينٍ مشرق والورد قد قابلها ... في حلّةٍ من شفق كعاشقٍ وحبّه ... تغامزا بالحدق فاحمرّ ذا من خجلٍ ... واصفرّ ذا من فرق قال: فقلت للحسن: هات، فقال: سبقني المهذب إلى ما لمحته في هذا المعنى، وهو قولي: يا حسنها دائرةً ... من ياسمينٍ كالحلي والورد قد قابلها ... في حلّةٍ من خجل كعاشقٍ وحبّه ... تغامزا بالمقل فاحمرّ ذا من خجلٍ ... واصفرّ ذا من وجل قال: فعجبت من اتفاقهما في سرعة الاتحاد، والمبادرة إلى حكاية الحال. انتهى. وما ألطف قول بعضهم: أرى الورد عند الصبح قد مدّ لي فماً ... يشير إلى التقبيل في حالة اللّمس وبعد زوال الشمس ألقاه وجنةً ... وقد أثّرت في وسطها قبلة الشمس

140 - وقال ابن ظافر في " بدائع البدائه " (1) : اجتمع الوزير أبو بكر ابن القبطرنة والأديب أبو العباس ابن صارة الأندلسيان في يوم جلا ذهب برقه، وأذاب ورق ودقه، والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء، واهتزت وربت عند نزول الماء، فقال ابن القبطرنة: هذي البسيطة كاعبٌ أبرادها ... حلل الربيع وحليها النّوّار فقال ابن صارة: وكأنّ هذا الجوّ فيها عاشقٌ ... قد شفّه التعذيب والإضرار ثم قال ابن صارة أيضاً: وإذا شكا فالبرق قلبٌ خافقٌ ... وإذا بكى فدموعه الأمطار فقال ابن القبطرنة: من أجل ذلّة ذا وعزة هذه ... يبكي الغمام وتضحك الأزهار [بديهة ابن ظافر] وتذكرت هنا ما حكاه ابن ظافر (2) في الكتاب المذكور أنّه اجتمع مع القاضي الأعز يوماً فقال له ابن ظافر: أجز: طار نسيم الروض من وكر الزّهر ... فقال الأعز: وجاء مبلول ... الجناح بالمطر انتهى.

_ (1) بدائع البدائه 1: 186 ومطالع البدور 1: 123. (2) البدائع 1: 70.

ويعجبني قول ابن قرناص (1) : أظنّ نسيم الروض والزهر قد روى ... حديثاً ففاحت من شذاه المسالك وقال دنا فصل الربيع فكلّه ... ثغورٌ لما قال النسيم ضواحك رجع إلى الأندلسيين: 141 - وما أرق قول ابن الزقاق (2) : ورياضٍ من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح زرتها والغمام يجلد منها ... زهراتٍ تفوق لون الراح قلت: ما ذنبها فقال مجيباً: ... سرقت حمرة الخدود الملاح 142 - وقال أبو إسحاق ابن خفاجة (3) : تعلقته نشوان (4) من خمر ريقه ... له رشفها دوني ولي دونه السكر ترقرق ماءً مقلتاي ووجهه ... ويذكي على قلبي ووجنته الجمر أرقّ نسيبي فيه رقّة حسنه ... فلم أدر أيٌّ قبلها منهما السحر وطبنا معاً شعراً وثغراً كأنّما ... له منطقي ثغرٌ ولي ثغره شعر 143 - وقال أبو الصّلت أمية بن عبد العزيز (5) : وقائلةٍ: ما بال مثلك خاملاً ... أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز فقلت لها: ذنبي إلى القوم أنّني ... لما لم يحوزه من المجد حائز

_ (1) مطالع البدور 1: 125. (2) ديوان ابن الزقاق: 125 والمغرب 2: 324 والشريشي 1: 120 وقد مرت ص: 200. (3) ديوان ابن خفاجة: 353. (4) الديوان: ريان. (5) الخريدة 4 / 1: 277.

وما فاتني شيء سوى الحظّ وحده ... وأما المعالي فهي عندي غرائز وقال: جدّ بقلبي وعبث ... ثمّ مضى وما اكترث وا حربا (1) من شادنٍ ... في عقد الصبر نفث يقتل من شاء بعي ... نيه ومن شاء بعث 144 - وقال البليغ الفاضل يحيى بن هذيل (2) أحد أعيان شعراء الأندلس: نام طفل النبت في حجر النّعامى ... لاهتزاز الطّلّ في مهد الخزامى وسقى الوسميّ أغصان النّقا ... فهوت تلثم أفواه الندامى كحل الفجر لهم جفن الدجى ... وغدا في وجنة الصبح لثاما تحسب البدر محيّاً ثملٍ ... قد سقته راحة الصبح مداما حوله الزهر كؤوسٌ قد غدت ... مسكة الليل عليهنّ ختاما وتذكرت هنا قول الآخر، وأظنّه مشرقيّاً (3) : بكر العارض تحدوه النّعامى ... فسقاك الريّ يا دار أماما وتمشّت فيك أرواح الصّبا ... يتأرّجن بأنفاس الخزامى قد قضى حفظ الهوى أن تصبحي ... للمحبين مناخاً ومقاما وبجرعاء الحمى قلبي، فعج ... بالحمى واقرأ على قلبي السلاما وترحّل فتحدّث عجباً ... أنّ قلباً سار عن جسمٍ أقاما قل لجيران الغضا آهاً على ... طيب عيش بالغضا لو كان داما

_ (1) الخريدة: وا حزني. (2) الكتيبة الكامنة: 74 منسوبة خطأ لابن شقرال، ونثير الفرائد: 322. (3) هي لمهيار الديلمي، ديوانه: 3: 327.

حمّلوا ريح الصّبا من نشركم ... قبل أن تحمل شيحاً وثماما وابعثوا أشباحكم لي في الكرى ... إن أذنتم لجفوني أن تناما 145 - وخرج بعض علماء (1) الأندلس من قرطبة إلى طليطلة، فاجتاز بحريز (2) بن عكاشة الشجاع المشهور الذي ذكرنا في هذا الباب ما يدل على شجاعته وقوته وأيده، بقلعة رباح، فنزل بخارجها في بعض جنباتها، وكتب إليه: يا فريداً دون ثان ... وهلالاً في العيان عدم الراح فصارت ... مثل دهن البلسان فبعث إليه بها، وكتب معها: جاء من شعرك روضٌ ... جاده صوب اللسان فبعثناها سلافاً ... كسجاياك الحسان [أشعار لابن شهيد] 146 - وقال الوزير أبو عامر ابن شهيد يتغزل (3) : أصباحٌ (4) شيم أم برقٌ بدا ... أم سنا المحبوب أورى زندا هبّ من مرقده منكسراً ... مسبلاً للكمّ مرخٍ للرّدا يمسح النعسة من عيني رشاً ... صائدٍ في كلّ يومٍ أسدا

_ (1) ب: شعراء؛ ق ودوزي: أدباء. (2) كذا في م؛ وفي ق: بجدير. (3) انظرها في الذخيرة 1 / 1: 223 والمطمح: 18 وديوان ابن شهيد: 49. (4) الذخيرة: أصفيح.

أوردته لطفاً آياته ... صفوة العيش وأرعته ددا فهو من دلٍّ عراه زبدةٌ ... من مريجٍ لم تخالط زبدا قلت هب لي يا حبيبي قبلة ... تشف من عمك تبريح الصّدى فانثنى يهتزّ من منكبه ... مائلاً لطفاً وأعطاني اليدا كلّما كلّمني قبّلته ... فهو إمّا قال قولاً ردّدا كاد أن يرجع من لثمي له ... وارتشاف الثغر منه أدردا وإذا استنجزت يوماً وعده ... أمطل الوعد وقال: اصبر غدا (1) شربت أعطافه ماء الصّبا ... وسقاه الحسن حتّى عربدا فإذا بتّ به في روضةٍ ... أغيد يقرو (2) نباتاً أغيدا قام في الليل بجيدٍ أتلعٍ ... ينفض اللّمّة من دمع الندى ومكانٍ عازبٍ عن جيرة ... أصدقاءٍ وهم عين العدا ذي نباتٍ طيّبٍ أعراقه ... كعذار الشّعر في خدّ بدا تحسب الهضبة منه جبلاً ... وحدور الماء منه أبردا وقال يرثي القاضي ابن ذكوان، نجيب ذلك الأوان، وقد افتنّ في الآداب، وسنّ فيها سنّة ابن داب، وما فارق ربع الشباب شرخه، ولا استمجد في الكهولة عفاره ولا مرخه، وكان لأبي عامر هذا قسيم نفسه، ونسيم أنسه (3) : ظننّا الذي نادى محقّاً بموته ... لعظم الذي أنحى من الرّزء كاذبا وخلنا الصباح الطّلق ليلاً وأنّنا ... هبطنا خداريّاً من الحزن كاربا ثكلنا الدّنى لمّا استقلّ وإنمّا ... فقدناك يا خير البريّة ناعبا وما ذهبت إذ حلّ في القبر نفسه ... ولكنّما الإسلام أدبر ذاهبا

_ (1) الذخيرة: قال لي يمطل ذكرني غدا. (2) الذخيرة: يعرو؛ ب م ق: يغزو. (3) المطمح: 19؛ وديوانه: 23.

ولمّا أبى إلاّ التحمّل رائحاً ... منحناه أعناق الكرام ركائبا يسير به النعش الأعزّ وحوله ... أباعد كانوا للمصاب أقاربا عليه حفيفٌ للملائك أقبلت ... تصافح شيخاً ذاكر الله تائبا تخال لفيف الناس حوله ضريحه ... خليط قطاً وافى الشريعة هاربا إذا ما امتروا سحب الدموع تفرعت ... فروع البكا عن بارق الحزن لاهبا فمن ذا لفصل القول يسطع نوره ... إذا نحن ناوينا الألدّ المناوبا ومن ذا ربيع المسلمين يقوتهم ... إذا الناس شاموها بروقاً كواذبا فيا لهف قلبي آهٍ ذابت حشاشتي ... مضى شيخنا الدّفّاع عنّا النوائبا ومات الذي غاب السرور لموته ... فليس وإن طال السّرى منه آيبا وكان عظيماً يطرق الجمع عنده ... ويعنو له ربّ الكتيبة هائبا وذا مقولٍ عضب الغرارين صارمٍ ... يروح به عن حومة الدين ضاربا أبا حاتمٍ صبر الأديب (1) فإنّني ... رأيت جميل الصبر أحلى عواقبا وما زلت فينا ترهب الدهر سطوةً ... وصعباً بها نعي الخطوب المصاعبا سأستعتب الأيّام فيك لعلّها ... لصحّة ذاك الجسم تطلب طالبا لئن أفلت شمس المكارم عنكم ... لقد أسأرت بدراً لها وكواكبا قال في " المطمح " (2) : ودبّت إلى أبي عامر ابن شهيد أيّام العلويين عقارب، برئت بها منه أباعد وأقارب، واجهه بها صرف قطوب، وانبرت إليه منها خطوب، نبا لها جنبه عن المضجع، وبقي بها ليالي يأرق ولا يهجع، إلى أن أعلقت في الاعتقال آماله، وعقلته في عقال أذهب ماله، فأقام مرتهناً، ولقي وهناً، وقال:

_ (1) ب م ق: الأديم. (2) المطمح: 20 وانظر الذخيرة 1 / 1: 224.

قريبٌ بمحتلّ الهوان مجيد ... يجود ويشكو حزنه فيجيد نعى صبره عند الإمام فيا له ... عدوّ لأبناء الكرام حسود وما ضرّه إلاّ مزاحٌ ورقّةٌ ... ثنته سفيه الذكر وهو رشيد جنى ما جنى في قبّة الملك غيره ... وطوّق منه بالعظيمة جيد وما فيّ إلاّ الشّعر أثبته الهوى ... فسار به في العالمين فريد أفوه بما لم آته متعرضاً ... لحسن المعاني تارةً فأزيد فإن طال ذكري بالمجون فإنّها ... عظائم لم يصبر لها جليد وهل كنت في العشاق أول عاقلٍ ... هوت بحجاه أعينٌ وخدود فراقٌ وشجوٌ واشتياقٌ وذلة ... وجبّار حفّاظٍ عليّ عتيد فمن يبلغ الفتيان أنّي بعدهم ... مقيمٌ بدار الظالمين وحيد مقيمٌ بدارٍ ساكنوها من الأذى ... قيامٌ على جمر الحمام قعود ويسمع للجنّان في جنباتها ... بسيطٌ كترجيع الصّدى ونشيد ولست بذي قيدٍ يرنّ، وإنّما ... على اللحظ من سخط الإمام قيود وقلت لصدّاح الحمام وقد بكى ... على القصر إلفاً والدّموع تجود ألا أيّها الباكي على من تحبّه ... كلانا معنّىً بالخلاء فريد وهل أنت دانٍ من محبٍّ نأى به ... عن الإلف سلطانٌ عليه شديد فصفّق من ريش الجناحين واقعاً ... على القرب حتّى ما عليه مزيد وما زال يبكيني وأبكيه جاهداً ... وللشوق من دون الضّلوع وقود إلى أن أبكى الجدران من طول شجونا ... وأجهش بابٌ جانباه حديد أطاعت أمير المؤمنين كتائبٌ ... تصرّف في الأموال كيف تريد فللشمس عنها بالنهار تأخّرٌ ... وللبدر شحنا بالظلام صدود ألا إنّها الأيام تلعب بالفتى ... نحوسٌ تهادى تارةً وسعود وما كنت ذا أيدٍ فأذعن ذا قوىً ... من الدهر مبدٍ صرفه ومعيد وراضت صعابي سطوةٌ علويةٌ ... لها بارقٌ نحو الندى ورعود

تقول التي من بيتها كفّ مركبي ... أقربك دانٍ أم مداك بعيد (1) فقلت لها أمري إلى من سمت به ... إلى المجد آباء له وجدود ثمّ قال (2) : ولزمته آخر عمره علّة دامت به سنين، ولم تفارقه حتّى تركته يد جنين، وأحسب أن الله أراد بها تمحيصه، وإطلاقه من ذنب كان قنيصه، فطهره تطهيراً، وجعل ذلك على العفو له ظهيراً، فإنّها أقعدته حتّى حمل في المحفّة، وعاودته حتّى غدت لرونقه مشتفّة، وعلى ذلك فلم يعطل لسانه، ولم يبطل إحسانه، ولم يزل يستريح إلى القول، ويزيح ما كان يجده من الغول، وآخر شعر قاله قوله: ولمّا رأيت العيش لوّى برأسه ... وأيقنت أن الموت لا شكّ لاحقي تمنّيت أنّي ساكنٌ في عباءةٍ (3) ... بأعلى مهبّ الريح في رأس شاهق أردّ (4) سقيط الطّلّ في فضل عيشتي ... وحيداً وأحسو الماء ثني المعالق خليليّ من ذاق المنيّة مرّةً ... فقد ذقتها (5) خمسين، قولة صادق كأني وقد حان ارتحالي لم أفز ... قديماً من الدنيا بلمحة بارق فمن مبلغٌ عنّي ابن حزمٍ وكان لي ... يداً في ملمّاتي وعند مضايقي عليك سلام الله إني مفارقٌ ... وحسبك زاداً من حبيبٍ مفارق فلا تنس تأبيني إذا ما ذكرتني (6) ... وتذكار أيّامي وفضل خلائقي وحرّك له بالله من أهل فننّا (7) ... إذا غيبوني كلّ شهمٍ غرانق

_ (1) م: نواك؛ ق ب: نداك بعيد. (2) المطمح: 21، وانظر الذخيرة 1 / 1: 282. (3) الذخيرة: غيابة. (4) الذخيرة: أدر. (5) ق ب: من رام ... فقد رمتها. (6) الخذيرة: فقدتني. (7) ق ب: مهما ذكرتني، وسقط البيت من م.

عسى هامتي في القبر تسمع بعضه ... بترجيع شادٍ أو بتطريب طارق فلي في ادّكاري بعد موتي راحةٌ ... فلا تمنعوها لي علالة زاهق وإني لأرجو الله فيما تقدّمت ... ذنوبي به ممّا درى من حقائق 147 - وكان أبو مروان عبد الملك بن غصن مستولياً على وزارة ابن عبيدة ولسانه ينشد: وشيّدت مجدي بين أهلي ولم أقل ... ألا ليت قومي يعلمون صنيعي وهجا ابن ذي النون بقوله: تلقبت بالمأمون ظلماً، وإنّني ... لآمن كلباً حيث لست مؤمّنه حرامٌ عليه أن يجود ببشره ... وأما الندى فاندب هنالك مدفنه سطور المخازي دون أبواب قصره ... بحجّابه للقاصدين معنونه فلمّا تمكّن منه المأمون سجنه، فكتب إلى ابن هودٍ من أبيات: أيا راكب الوجناء بلّغ تحيّةً ... أمير جذامٍ من أسيرٍ مقيّد ولمّا دهتني الحادثات ولم أجد ... لها وزراً أقبلت نحوك أعتدي (1) ومثلك من يعدي على كلّ حادثٍ ... رمى بسهامٍ للردى لم ترصد فعلّك أن تخلو بفكرك ساعةً ... لتنقذني من طول همٍّ مجدّد وها أنا في بطن الثرى وهو حاملٌ ... فيّسر على رقبى (2) الشفاعة مولدي حنانيك (3) ألفاً بعد ألفٍ فإنّني ... جعلتك بعد الله أعظم مقصدي وأنت الذي يدري إذا رام حاجةً ... تضلّ بها الآراء من حيث يهتدي

_ (1) ب: أغتدي. (2) م: رمل؛ ق: قيل. (3) م: حنانك.

فرّق له ابن هود، وتحيّل حتّى خلّصه بشفاعته، فلمّا قدم عليه أنشده: حياتي موهوبةٌ من علاكا ... وكيف أرى عادلاً عن ذراكا ولو لم يكن لك من نعمةٍ ... عليّ وأصبحت أبغي سواكا لناديت في الأرض هل مسعفٌ ... مجيبٌ فلم يصغ إلاّ نداكا فطرب ابن هود، وخلع عليه ثوب وزارته، وجعله من أعلام سلطنته وإمارته. 148 - وقال المنصور بن أبي عامر للشاعر المشهور أبي عمر يوسف الرمادي: كيف ترى حالك معي فقال فوق قدري ودون قدرك، فأطرق المنصور كالغضبان، فانسلّ الرمادي وخرج وقد ندم على ما بدر منه، وجعل يقول: أخطأت، لا والله ما يفلح مع الملوك من يعاملهم بالحق، ما كان ضرّني لو قلت له: إنّي بلغت السماء، وتمنطقت بالجوزاء، وأنشدته (1) : متى يأت هذا الموت لا يلف حاجةً ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها لا حول ولا قوة إلاّ بالله. ولمّا خرج كان في المجلس من يحسده على مكانه من المنصور، فوجد فرصة فقال: وصل الله لمولانا الظفر والسعد، إنّ هذا الصنف صنف زور وهذيان لا يشكرون نعمة، ولا يرعون إلاًّ ولا ذمّة، كلاب من غلب، وأصحاب من أخصب، وأعداء من أجدب، وحسبك منهم أن الله جلّ جلاله يقول فيهم " والشّعراء يتّبعهم الغاوون ... إلى مالا يفعلون "، والابتعاد منهم أولى من الاقتراب، وقد قيل فيهم: ما ظنّك بقوم الصدق يستحسن إلاّ منهم فرفع المنصور رأسه، وكان محبّاً في أهل الأدب والشعر، وقد اسودّ وجهه، وظهر فيه الغضب المفرط، ثمّ قال: ما بال أقوام يشيرون في شيء لم يستشاروا فيه، ويسيئون الأدب بالحكم فيما

_ (1) البيت لقيس بن الخطيم، ديوانه: 10.

لا يدرون أيرضي أم يسخط وأنت أيّها المنبعث للشرّ دون أن يبعث، قد علمنا غرضك في أهل الأدب والشعر عامة، وحسدك لهم، لأن الناس كما قال القائل: من رأى الناس له فض ... لاً عليهم حسدوه وعرفنا غرضك في هذا الرجل خاصّة، ولسنا إن شاء الله تعالى نبلّغ أحداً غرضه في أحد، ولو بلّغناكم بلغنا في جانبكم، وإنّك ضربت في حديد بارد، وأخطأت وجه الصواب، فزدت بذلك احتقاراً وصغاراً، وإنّي ما أطرقت من خطاب الرمادي إنكاراً عليه، بل رأيت كلاماً يجلّ عن الأقدار الجليلة، وتعجبت من تهدّيه له بسرعة، واستنباطه له على قلّته من الإحسان الغامر ما لا يستنبطه غيره بالكثير، والله لو حكّمته في بيوت الأموال لرأيت أنّها لا ترجح ما تكلّم به قلبه ذرة (1) ، وإيّاكم أن يعود أحد منكم إلى الكلام في شخص قبل أن يؤخذ معه فيه، ولا تحكموا علينا في أوليائنا ولو أبصرتم منّا التغيّر عليهم، فإنّنا لا نتغير عليهم بغضاً لهم وانحرافاً عنهم، بل تأديباً وإنكاراً، فإنّا من نريد إبعاده لم نظهر له التغير، بل ننبذه مرّة واحدة، فإن التغير إنّما يكون لمن يراد استبقاؤه، ولو كنت مائل السمع لكل أحد منكم في صاحبه لتفرقتم أيدي سبا، وجونبت أنا مجانبة الأجرب، وإنّي قد أطلعتكم على ما في ضميري فلا تعدلوا عن مرضاتي، فتجنبوا سخطي بما جنيتموه على أنفسكم؛ ثمّ أمر أن يردّ الرمادي وقال له: أعد عليّ كلامك، فارتاع، فقال: الأمر على خلاف ما قدرت، الثواب أولى بكلامك من العقاب، فسكن لتأنيسه، وأعاد ما تكلّم به، فقال المنصور: بلغنا أن النعمان بن المنذر حشا فم النابغة بالدر لكلام استحسنه منه، وقد أمرنا لك بما لا يقصر عن ذلك ما هو أنوه وأحسن عائدة؛ وكتب له بمال وخلع وموضع يتعيّش منه، ثمّ ردّ رأسه إلى المتكلّم في شأن الرمادي،

_ (1) قلبه ذرة: سقطت من م.

وقد كان يغوص في الأرض لو وجد لشدة ما حلّ به ممّا رأى وسمع، وقال: والعجب من قوم يقولون الابتعاد من الشعراء أولى من الاقتراب، نعم ذلك لمن ليس له مفاخر يريد تخليدها، ولا أيادٍ يرغب في نشرها، فأين الذين قيل فيهم (1) : على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلّين السماحة والبذل وأين الذي قيل فيه (2) : إنّما الدنيا أبو دلفٍ ... بين مبداه (3) ومحتضره فإذا ولّى أبو دلفٍ ... ولّت الدنيا على أثره أما كان في الجاهلية والإسلام أكرم ممّن قيل فيه هذا القول بلى، ولكن صحبة الشعراء والإحسان إليهم أحيت غابر ذكرهم، وخصتهم بمفاخر عصرهم، وغيرهم لم تخلد الأمداح مآثرهم فدثر ذكرهم، ودرس فخرهم، انتهى. [بنو صمادح] 149 - ومن حكاياتهم في العدل أنه لمّا بنى المعتصم بن صمادح ملك المرية قصوره المعروفة بالصمادحية غصبوا أحد الصالحين في جنّة وأحقوها بالصمادحية، وزعم ذلك الصالح أنها لأيتام من أقاربه، فبينا المعتصم يوماً يشرب على الساقية الداخلة إلى الصمادحية إذ وقعت عينه على أنبوب قصبة مشمع، فأمر من يأتيه به، فلمّا أزال عنه الشمع وجد فيه ورقة فيها: إذا وقفت أيّها الغاصب على هذه الورقة فاذكر قول الله تعالى " إنّ هذا أخي له تسعٌ

_ (1) البيت لزهير بن أبي سلمة، ديوانه: 22 (شرح الأعلم) . (2) الشعر لعلي بن جبلة، انظر طبقات ابن المعتز: 172. (3) م: باديه.

وتسعون نعجةً ولي نعجةٌ واحدةٌ فقال أكفلنيها وعزّني في الخطاب " لا إله إلاّ الله، أنت ملك قد وسّع الله تعالى عليك، ومكّن لك في الأرض، ويحملك الحرص على ما يفنى أن تضم إلى جنّتك الواسعة العظيمة قطعة أرضٍ لأيتام حرّمت بها حلالها، وخبثت طيبها، ولأن تحجبت عني بسلطانك، واقتدرت عليّ بعظم شأنك، فنجتمع غداً بين يدي من لا يحجب عن حق، ولا تضيع عنده شكوى. فلمّا استوعب قراءتها دمعت عيناه، وأخذته خشية خيف عليه منها، وكانت عادته رحمه الله تعالى، وقال: عليّ بالمشتغلين ببناء الصمادحية، فأحضروا، فاستفسرهم عمّا زعم الرجل، فلم يسعهم إلاّ صدقه، واعتذروا بأن نقصها من الصمادحية يعيبها في عين الناظر، فاستشاط غضباً وقال: والله إنّ عيبها في عين الخالق أقبح من عيبها في عين المخلوق، ثمّ أمر بأن تصرف عليه، واحتمل تعويرها لصمادحيته. ولقد مرّ بعض أعيان المرية وأخيارها مع جماعة على هذا المكان الذي أخرجت منه جنّة الأيتام فقال أحدهم: والله لقد عورت هذه القطعة هذا المنظر العجيب، فقال له: اسكت، فوالله إنّ هذه القطعة طراز هذا المنظر وفخره، وكان المعتصم إذا نظر إليها قال: أشعرتم أنّ هذا المكان المعوج في عيني أحسن من سائر ما استقام من الصمادحية ثمّ إن وزيره ابن أرقم لم يزل يلاطف الشيخ والأيتام حتّى باعوها عن رضىً بما اشتهوا من الثمن، وذلك بعد مدة طويلة، فاستقام بها بناء الصمادحية، وحصل للمعتصم حسن السمعة في الناس، والجزاء عند الله تعالى. 150 - ولمّا مات المعتصم بن صمادح ركب البحر ابنه وليّ عهده الواثق عز الدولة أبو محمد عبد الله (1) ، وفارق الملك كما أوصاه المعتصم والده وفي ذلك يقول (2) :

_ (1) انظر الحلة 2: 90 حيث سماه " أبو مروان عبيد الله ". (2) الشعر في المغرب 2: 1.

لك الحمد بعد الملك أصبحت خاملاً ... بأرض اغترابٍ لا أمرّ ولا أحلي وقد أصدأت فيها الجذاذة أنملي (1) ... كما نسيت ركض الجياد بها رجلي فلا مسمعي يصغي لنغمة شاعرٍ ... وكفّي لا تمتدّ يوماٌ إلى بذل قال ابن اللبانة الشاعر: ما علمت حقيقة جور الدهر حتى اجتمعت ببجاية مع عز الدولة بن المعتصم بن صمادح فإني رأيت منه خير من يجتمع به، كأنه لم يخلقه الله تعالى إلا للملك والرياسة وإحياء الفضائل، ونظرت إلى همته تنم من تحت خموله كما ينم فرند السيف وكرمه من تحت الصدأ، مع حفظه لفنون الأدب والتواريخ وحسن استماعه وإسماعه، ورقة طباعه ولطافة ذهنه، ولقد ذكرته لأحد من صحبته من الأدباء في ذلك المكان ووصفته بهذه الصفات، فتشوق إلى الاجتماع به، ورغب إلي في أن أستاذنه في ذلك، فلما أعلمت عز الدولة قال: يا أبا بكر لتعلم أنا اليوم في خمول وضيق لا يتسع لنا معهما، ولا يجمل بنا الاجتماع مع أحد، لاسيما مع ذي أدب ونباهة يلقانا بعين الرحمة، ويزورنا بمنة التفضل في زيارتنا، ونكابد من ألفاظ توجعه وألحاظ تفجعه ما يجد لنا هما قد بلي، ويحيي كمداً قد فني، وما لنا قدرة على أن نجود عليه بما يرضى به عن همتنا، فدعنا كأننا في قبر، نتدرع لسهام الدهر بدرع الصبر، وأما أنت فقد اختلطت بنا اختلاط اللحم بالدم، وامتزجت امتزاج الماء بالخمر، فكأنا لم نكشف حالنا لسوانا، ولا أظهرنا ما بنا لغيرنا، فلا تحمل غيرك محملك، قال ابن اللبانة: فملأ والله سمعي بلاغة لاتصدر إلا عن سداد ونفس أبية متمكنة من أعنة البيان، وانصرفت متمثلاً: لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده ... ولم يبق إلا صورة اللحم والدم وكائن ترى من صامت لك معجبٍ ... زيادته أو نقصه في التكلم

_ (1) المغرب: الهوادة؛ دوزي: منهلي.

وكتب إليه ابن اللبانة (1) : يا ذا الذي هز أمداحي بحليته (2) ... وعزه أن يهز المجد والكرما واديك لازرع فيه اليوم تبذله ... فخذ عليه لأيام المنى سلما فتحيل في قليل بر ووجهه إليه وكتب معه: المجد يخجل من يفديك من زمن ... ثناك عن واجب البر الذي علما فدونك النزر من مصفٍ مودته ... حتى يوفيك أيام المنى السلما ومن شعر عز الدولة المذكور (3) : أفدي أبا عمرو وإن كان عاتباً ... ملا خير في ود يكون بلا عتب وما كان ذاك الود إلا كبارقٍ ... أضاء لعيني ثم أظلم في قلبي وقال الشقندي في الطرف: إن عز الدولة أشعر من أبيه. 151 - وأما أخوه رفيع الدولة (4) الحاجب أبو زكريا يحيى بن المعتصم فله أيضاً نظم رائق، ومنه ما كتب به إلى يحيى بن مطروح يستدعيه لأنس (5) : يا أخي بل سيدي بل سندي ... في مهمات الزمان الأنكد لح بأفقٍ غاب عنه بدره ... في اختفاءٍ من عيون الحسد وتعجل فحبيبي حاضرٌ ... وفمي يشتاق كأسي في يدي فأجابه ابن مطروح، وهو من أهل باغه، بقوله:

_ (1) البيتان في الحلة 2: 91 ومعهما رد ابن صمادح. (2) ب م ق: بحيلته. (3) هذا الشعر منسوب في الحلة (2: 96) والمغرب (2: 200) لرفيع الدولة. (4) انظر ترجمة رفيع الدولة في المطمح: 30 والحلة 2: 92 والمغرب 2: 199. (5) المغرب 2: 200.

أنا عبدٌ من أقل الأعبد ... قبلتي وجهٌ بأفق الأسعد كلما أظمأني وردٌ فما ... منهلي إلا بذاك المورد ها أنا بالباب أبغي إذنكم ... والظما قد مد للكأس يدي وكان قد سلط عليه إنسان مختل إذا رآه يقول: هذا ألف لاشيء عليه، يعني أن ملكه ذهب عنه وبقي فارغاً منه، فشكا رفيع الدولة ذلك إلى بعض أصحابه، فقال: أنا أكفيك مؤونته، واجتمع مع الأحمق، واشترى له حلواء، وقال له: إذا رأيت رفيع الدولة بن المعتصم فسلم عليه وقبل يده ولا تقل هذا ألف لاشيء عليه، فقال: نعم، واشترط الوفاء بذلك، إلى أن لقيه فجرى نحوه وقبل يده وقال: هذا هو باء، بنقطة من أسفل، فقامت قيامة رفيع الدولة، وكان ذلك أشد عليه، وكان به علة الحصى فظن أن الأحمق علم ذلك وقصده، وصار كلما أحس به في موضع تجنبه. واستأذن يوماً على أحد وجوه دولة المرابطين فقال أحد جلسائه {تلك أمةٌ قد خلت} (البقرة: 134، 141) استحقاراً له واستثقالاً للإذن له، فبلغ ذلك رفيع الدولة فكتب إليه: خلت أمتي لكن ذاتي لم تخل ... وفي الفرع ما يغني إذا ذهب الأصل وما ضركم لو قلتم قول ماجدٍ ... يكون له فيما يجيء به الفضل وكل إناء بالذي فيه راشحٌ ... وهل يمنح الزنبور ما مجه النحل سأصرف وجهي عن جنابٍ تحله ... ولو لم تكن إلاّ إلى وجهك السبل فما موضعٌ يحتله بمرفعٍ ... ولا يرتضى فيه مقالٌ ولا فعل وقد كنت ذا عذ لٍ لعلك ترعوي ... ولكن بأرباب العلا يجمل العذل 152 - وأما أخوهما أبو جعفر ابن المعتصم (1) فله ترجمة في المسهب

_ (1) المغرب 2: 200.

والمطرب، ومن شعره: كتبت وقلبي ذو اشتياقٍ ووحشةٍ ... ولو أنّه يسطيع مرّ يسلّم جعلت سواد العين فيه سواده ... وأبيضه طرساً وأقبلت ألثم فخيّل لي أنّي أقبّل موضعاً ... يصافحه ذاك البنان المسلم وأما أختهم أم الكرم فذكرناها مع النساء فلتراجع. 153 - وقال أبو العلاء ابن زهر (1) : تمت محاسن وجهه وتكاملت ... لمّا بدا وعليه صدغٌ مونق وكذلك البدر المنير جماله ... في أن تكنّفه سماء أزرق 154 - وقال أبو الفضل ابن شرف: يا من حكى البيدق في شكله ... أصبح يحكيك وتحكيه أسفله أوسع أجزائه ... ورأسه أصغر ما فيه 155 - وقال ابن خفاجة (2) : يا أيّها الصبّ المعنّى به ... ها هو لاخلٌّ ولا خمر سوّد ما ورّد من خدّه ... فصار فحماً ذلك الجمر 156 - وقال أبو عبد الله البياسي: صغر الرأس وطول العنق ... شاهدا عدلٍ بفرط الحمق ولما سمعه أبو الحسن ابن حريق قال:

_ (1) مر البيتان ص: 247. (2) ديوان ابن خفاجة: 190.

صغر الرأس وطول العنق ... خلقةٌ منكرةٌ في الخلق فإذا أبصرتها من رجلٍ ... فاقض في الحين له بالحمق 157 - وقال أبو الحسن ابن الفضل (1) يذكر مقاماً قامه سهل بن مالك وابن عياش (2) : لعمري لقد سرّ الخلافة قائماً ... بخطبته الغرّاء سهل بن مالك وأما ابن عياشٍ ومن كان مثله ... فضلّوا جميعاً بين تلك المسالك ومات وماتوا حسرةً وحسادةً ... وغيظاً فقلنا هالكٌ في الهوالك وسهل بن مالك له ترجمةٌ مطولة، رحمه الله تعالى. 158 - ومن حكاياتهم في الوفاء (3) وحسن الاعتذار والقيام بحق الإخاء أن الوزير الوليد بن عبد الرحمن بن غانم كان صديقاً للوزير هاشم بن عبد العزيز، ثابتاً على مودته، ولما قضى الله تعالى على هاشم بالأسر أجرى السلطان محمد بن عبد الرحمن الأموي ذكره في جماعةٍ من خدامه، والوليد حاضر، فاستقصره، ونسبه للطيش والعجلة والاستبداد برأيه، فلم يكن فيهم من اعتذر عنه غير الوليد، فقال: أصلح الله تعالى الأمير، إنه لم يكن على هاشم التخير في الأمور، ولا الخروج عن المقدور، بل قد استعمل جهده، واستفرغ نصحه، وقضى حق الإقدام، ولم يكن ملاك النصر بيده، فخذله من وثق به، ونكل عنه من كان معه، فلم يزحزح قدمه عن موطن حفاظه، حتى ملك مقبلاً غير مدبر، مبلياً غير فشل، فجوزي خيراً عن نفسه وسلطانه، فإنه لا طريق للملام عليه، وليس عليه ما جنته الحرب الغشوم، وأيضاً فإنه ما قصد

_ (1) ترجمته في القدح: 108. (2) ب: وابن يعيش. (3) انظرها في المقتبس (تحقيق مكي) : 232 (الورقة 282 - أ) .

أن يجود بنفسه إلا رضىً للأمير، واجتناباً لسخطه، فإذا كان ما اعتمد فيه الرضى جالب التقصير فذلك معدود في سوء الحظ، فأعجب الأمير كلامه، وشكر له وفاءه، وأقصر فيما بعد على تفنيد هاشم، وسعى في تخليصه، واتصل الخبر بهاشم، فكتب إليه: الصديق من صدقك في الشدة لا في الرخاء، والأخ من ذب عنك في الغيب لا في المشهد، والوفي من وفى لك إذا خانك زمان، وقد أتاني من كلامك بين يدي سيدنا - جعل الله تعالى نعمته سرمداً - ما زادني بمودتك اغتباطاً، وبصداقتك ارتباطاً، ولذلك ما كنت أسد يدي على وصلك، وأخصك بإخائي، وأنا الآن بموضع لا أقدر فيه على جزاء غير الثناء، وأنت أقدر مني على أن تزيد ما بدأت به بأن تتم ما شرعت فيه، حتى تتكمل لك المنة، ويستوثق عقد الصداقة، إن شاء الله تعالى، وكتب إليه بشعر منه: أيا ذاكري بالغيب في محفلٍ به ... تصامت جمعٌ عن جوابٍ به نصري أتتني والبيداء بيني وبينها ... رقى كلماتٍ خلّصتني من الأسر لئن قرّب الله اللّقاء فإنّني ... سأجزيك ما لا ينقضي غابر الدهر فأجابه الوليد: خلصك الله أيها البدر من سرارك، وعجل بطلوعك في أكمل تمامك وإبدارك، وصلني شكرك على أن قلت ما علمت، ولم أخرج عن النصح للسلطان بما زكنته من ذلك، والله تعالى شاهد، على أن ذلك في مجالس غير المجلس المنقول لسيدي إن خفيت عن المخلوق فما تخفى عن الخالق، ما أردت بها إلا أن أداء بعض ما أعتقده لك، وكم سهرت وأنا نائم، وقمت في حقي وأنا قاعد، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ثم ذكر أبياتاً لم تحضرني الآن. 159 - ومن حكاياتهم في علو الهمة في العلم والدنيا أنه دخل أبو بكر ابن الصائغ المعروف بابن باجة جامع غرناطة، وبه نحويٌ حوله شباب يقرؤون، فنظروا إليه، وقالوا له مستهزئين به: مكا يحمل الفقيه وما يحسن من العلوم وما يقول فقال لهم: أحمل اثني عشر ألف دينار، وها هي تحت إبطي

وأخرج لهم اثنتي عشرة ياقوتة، كل واحدة منها بألف دينار، وأما الذي أحسنه فاثنا عشر علماً أدونها علم العربية الذي تبحثون فيه، وأما الذي أقول فأنتم كذا، وجعل يسبهم، هكذا نقلت هذه الحكاية من خط الشيخ أبي حيان النحوي، رحمه الله تعالى. 160 - ومن حكاياتهم في الذكاء واستخراج العلوم واستنباطها أن أبا القاسم عباس بن فرناس (1) ، حكيم الأندلس، أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة وأول من فك بها كتاب العروض للخليل، وأول من فك الموسيقى، وصنع الآلة المعروفة بالمنقانة (2) ليعرف الأوقات على غير رسم ومثال، واحتال في تطيير جثمانه، وكسا نفسه الريش، ومد له جناحين، وطار في الجو مسافة بعيدة، ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه، فتأذى في مؤخره، ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زمكه ولم يعمل له ذنباً، وفيه قال مؤمن بن سعيد الشاعر من أبيات: يطمّ على العنقاء في طيرانها ... إذا ما كسا جثمانه ريش قشعم وصنع في بيته هيئة السماء، وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود، وفيه يقول مؤمن بن سعيد أيضاً: سماء عباسٍ الأديب أبي ال ... قاسم ناهيك حسن رائقها أمّا ضراط استه فراعدها ... فليت شعري ما لمع بارقها لقد تمنيت حين دوّمها ... فكري بالبصق في است خالقها

_ (1) المغرب 1: 333 والمقتبس (تحقيق مكي) الورقة 256 ب. (2) في الأصول ودوزي: بالمناقلة؛ وهذه صورة من صور الكلمة وأقربها إلى اللفظ المغربي ما أثبتناه، إذ تسمى في المغرب " المنجانة " وهي البنكام أو البنكان الفارسية أي الساعة أو آلة حساب الوقت، وقد تصحفت في المغرب إلى " الميقاتة ".

وأنشد ابن فرناس الأمير محمداً من أبيات: رأيت أمير المؤمنين محمداً ... وفي وجهه بذر المحبة يثمر فقال له مؤمن بن سعيد: قبحاً لما ارتكبته، جعلت وجه الخليفة محرثاً يثمر فيه البذر، فخجل وسبه. [المشهورون بعلوم الأوائل] (1) 161 - وأول من اشتهر في الأندلس بعلن الأوائل والحساب والنجوم أبو عبيدة مسلم بن أحمد المعروف بصاحب القبلة، لأنه كان يشرق في صلاته، وكان عالماً بحركات الكواكب وأحكامها، وكان صاحب فقه وحديث، دخل المشرق، وسمع بمكة من علي بن عبد العزيز، وبمصر من المزني وغيره. ومنهم يحيى بن يحيى المعروف بابن السمينة، من أهل قرطبة، وكان بصيراً بالحساب والنجوم والنحو (2) واللغة والعروض ومعاني الشعر والفقه والحديث والأخبار والجدل، ودخل إلى المشرق، وقيل: إنه كان معتزلي المذهب. وأبو القاسم أصبغ بن السمح، وكان بارعاً في علم النجوم (3) والهندسة والطب، وله تآليف منها كتاب " المدخل إلى الهندسة في تفسير إقليدس "، وكتاب كبير في الهندسة، وكتابان (4) في الأسطرلاب، وزيج على مذاهب الهند المعروف بالسند هند. وأبو القاسم ابن الصفار، وكان عالماً بالهندسة والعدد والنجوم، وله زيج مختصر على مذاهب السند هند، وله كتاب في عمل الأسطرلاب. ومنهم أبو الحسن الزهراوي، وكان عالماً بالعدد والطب والهندسة، وله

_ (1) يعتمد المقري في هذا الفصل على طبقات صاعد 64 - 72 ويستمد أيضا من الطرب: 223 - 224، وللمقارنة انظر ابن أبي أصيبعة 2: 36 - 49. (2) والنحو: سقطت من م. (3) ق ب: علم النحو. (4) ب: وكتاب.

كتاب شريف في المعاملات على طريق البرهان. ومنهم أبو الحكم عمر الكرماني، من أهل قرطبة، من الراسخين في علم العدد والهندسة، ودخل المشرق، واشتغل بحران، وهو أول من دخل برسائل إخوان الصفا إلى الأندلس. ومنهم أبو مسلم ابن خلدون من أشراف إشبيلية، وكان متصرفاً في علوم الفلسفة والهندسة والنجوم والطب؛ وتلميذه ابن برغوث، وكان عالماً بالعلوم الرياضية، وتلميذه أبو الحسن مختار الرعيني، وكان بصيراً بالهندسة والنجوم، وعبد الله بن أحمد السرقسطي، كان نافذاً في علم الهندسة والعدد والنجوم، ومحمد بن الليث، كان بارعاً في العدد والهندسة وحركات الكواكب، وابن حي، قرطبي بصير بالهندسة والنجوم، وخرج عن الأندلس سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، ولحق بمصر، ودخل اليمن، واتصل بأميرها الصليحي القائم بدعوة المستنصر (1) العبيدي، فحظي عنده، وبعثه رسولاً إلى بغداد إلى القائم بأمر الله، وتوفي باليمن بعد انصرافه من بغداد، وابن الوقشي الطليطلي، عارف بالهندسة والمنطق والزيوج، وغيرهم ممن يطول تعدادهم. وكان الحافظ أبو الوليد هشام الوقشي من أعلم الناس بالهندسة وآراء الحكماء والنحو واللغة ومعاني الأشعار والعروض وصناعة الكتابة والفقه والشروط والفرائض وغيرها، وهو كما قال الشاعر: وكان من العلوم بحيث يقضى ... له في كلّ فنٍّ بالجميع ومن شعره قوله: قد بيّنت فيه الطبيعة أنّها ... بدقيق أعمال المهندس ماهره عنيت بمبسمه فخطّت فوقه ... بالمسك خطّاً من محيط الدائره

_ (1) ب: من المستنصر؛ ق ودوزي: معن المستنصر.

وعزم على ركوب البحر إلى الحجاز فهاله ذلك، فقال: لا أركب البحر ولو أنّني ... ضربت فيه بالعصا فانفلق ما إن رأت عيني أمواجه ... في فرقٍ إلا تناهى الفرق وكان الوزير أبو المطرف عبد الرحمن بن مهند (1) مصنف الأدوية المفردة آية الله تعالى في الطب وغيره، حتى إنه عانى جميع ما في كتابه من الأدوية المفردة، وعرف ترتيب قواها ودرجاتها، وكان لا يرى التداوي بالأدوية ما أمكن بالأغذية أو يقرب منها، وإذا اضطر إلى الأدوية فلا يرى التداوي بالمركبة ما وجد سبيلاً إلى المفردة، وإذا اضطر إلى المركب لم يكثر التركيب، بل يقتصر على أقل ما يمكنه، وله غرائب مشهورة في الإبراء من الأمراض الصعبة والعلل المخوفة بأيسر علاج وأقربه. ومنهم ابن البيطار (2) ، وهو عبد الله بن أحمد المالقي الملقب بضياء الدين، وله عدة مصنفات في الحشائش لم يسبق إليها، وتوفي بدمشق سنة ست وأربعين وستمائة، أكل عقاراً قاتلاً فمات من ساعته، رحمه الله تعالى. 162 - ومن حكاياتهم في الحفظ أن الأديب الأوحد حافظ إشبيلية، بل الأندلس في عصره، أبا المتوكل الهيثم بن أحمد بن أبي غالب كان أعجوبة دهره في الرواية للأشعار والأخبار، قال ابن سعيد (3) : أخبرني من أثق به أنه حضر معه ليلة عند أحد رؤساء إشبيلية فجرى ذكر حفظه، وكان ذلك في أول الليل، فقال لهم: إن شئتم تختبروني أجبتكم، فقالوا: بسم الله، إنّا نريد أن نتحدث عن تحقيق، فقال: اختاروا أي قافية شئتم لا أخرج عنها، حتى

_ (1) في أصول النفح ودوزي: شهيد؛ والتصويب عن ابن أبي أصيبعة (2: 49) . (2) ابن أبي أصيبعة 2: 133 والنفح 2: 691. (3) اختصار القدح: 158 والمغرب 1: 258 والتكملة رقم: 2025.

تعجبوا (1) ، فاختاروا القاف، فابتدأ من أول الليل إلى أن طلع الفجر، وهو ينشد وزن: أرق على أرقٍ ومثلي يأرق ... وسماره قد نام بعض وضل بعض، وهو ما فارق قافية القاف. وقال أبو عمران ابن سعيد: دخلت عليه يوماً بدار الأشراف بإشبيلية، وحوله أدباء ينظرون في كتب منها ديوان ذي الرمة، فمد الهيثم يده (2) إلى الديوان المذكور، فمنعه منه أحد الأدباء، فقال: يا أبا عمران، أواجب أن يمنعه مني وما يحفظ منه بيتاً، وأنا أحفظه فأكذبته الجماعة، فقال: اسمعوني وأمسكوه، فابتدأ من أوله حتى قارب نصفه، فأقسمنا عليه أن يكف، وشهدنا له بالحفظ. وكان آية في سرعة البديهة، مشهوراً بذلك، قال أبو الحسن ابن سعيد: عهدي به في إشبيلية يملي على أحد الطلبة شعراً، وعلى ثانٍ موشحه، وعلى ثالثٍ زجلاً، كل ذلك ارتجالاً. ولما أخذ الحصار بمخنق إشبيلية في مدة الباجي خرج خروج القارظين (3) ، ولا يدري حيث ولا أين. ومن شعره وقد نزل بداره عبيد السلطان، وكتب به إلى صاحب الأنزال: كم من يدٍ لك لا أقوم بشكرها ... وبها أشير إليك إن خرست فمي وقد استشرتك في الحديث فهل ترى ... أن يدخل الغربان وكر الهيثم

_ (1) ق ب: تعجبوا. (2) ب: فمد يده الهيثم. (3) يعني خرج ولم يعد، فعل القارظين المضروب بهما المثل في عدم الأوبة.

وله (1) : يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبةً ... باب الغنيّ، كذا حكم المقادير وإنّما الناس أمثال الفراش فهم ... بحيث تبدو مصابيح الدنانير وله: عندي لفقدك أوجالٌ أبيت بها ... كأنّني واضعٌ كفّي على قبس ولا ملامة إن لم أهد نيّره ... حتى تمدّ إليها كفّ مقتبس قد كنت أودع سرّ الشوق في طرس ... لكنّني خفت أن يعدو على الطّرس وأنشد له أبو سهل شيخ دار الحديث بالقاهرة في إملائه: قف بالكثيب لغيرك التأنيب ... إنّ الكثيب هوىً لنا محبوب يا راحلين لنا عليكم وقفةٌ ... ولكم علينا دمعنا المسكوب تخلى الديار من المحبّة والهوى ... أبداً وتعمر أضلعٌ وقلوب وقال ارتجالاً في صفة فرس أصفر: أطرفٌ فات طرفي أم شهاب ... هفا كالبرق ضرّمه التهاب أعار الصبح صفحته نقاباً ... ففرّ به وصحّ له النقاب فمهما حثّ خال الصبح وافى ... ليطلب ما استعار فما يصاب إذا ما انقضّ كلّ النجم عنه ... وضلّت عن مسالكه السحاب فيا عجباً له فضل الدراري ... فكيف أذال أربعه التراب سل الأرواح عن أقصى مداه ... فعند الريح قد يلفى الجواب 163 - وقال أبو عمر الطلمنكي: دخلت مرسية، فتشبث بي أهلها

_ (1) القدح: 159 والمغرب؛ 258 وقد تأخر موضعهما في ب بعد وصف الفرس.

يسمعوا علي الغريب المصنف، فقلت: انظروا من يقرأ لكم، وأمسكت أنا كتابي، فأتوني برجل أعمى يعرف بان سيده، فقرأه (1) علي من أوله إلى آخره، فعجبت من حفظه، وكان أعمى ابن أعمى، وابن سيده المذكور هو أبو الحسن علي بن أحمد بن سيده، وهو صاحب كتاب " المحكم ". ومن نظمه مما كتب به إلى ابن الموفق: ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيلٌ فإنّ الأمن في ذاك واليمنى ومنها: ضحيت فهل في برد ظللك نومةٌ ... لذي كبدٍ حرّى وذي مقلةٍ وسنى وتوفي ابن سيده المذكور سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وعمره نحو الستين، رحمه الله تعالى. 164 - ومن حكاياتهم في حب العلم أن المظفر بن الأفطس صاحب بطليوس كان كما قال ابن الأبار كثير الأدب، جم المعرفة، محباً لأهل العلم، جماعةً للكتب، ذا خزانة عظيمة، لم يكن في ملوك الأندلس من يفوقه في أدب ومعرفة، قاله ابن حيان. وقال ابن بسام (2) : كان المظفر أديب ملوك عصره غير مدافع ولا منازع، وله التصنيف الرائق، والتأليف الفائق، المترجك بالتذكرة والمشتهر أيضاً اسمه بالكتاب المظفري، في خمسين مجلداً، يشتمل على فنون وعلوم من مغازٍ وسير ومثل وخبر وجميع ما يختص به علم الأدب، أبقاه للناس (3) خالداً، وتوفي المظفر سنة ستين وأربعمائة. وكان يحضر العلماء للمذاكرة، فيفيد

_ (1) ب: قرأه. (2) الذخيرة 2: 255. (3) الذخيرة: في الناس.

ويستفيد، رحمه الله تعالى. 165 - ومن التآليف الكبار لأهل الأندلس كتاب " السماء والعالم " (1) الذي ألفه أحمد بن أبان صاحب شرطة قرطبة، وهو مائة مجلد، رأيت بعضه بفاس، وتوفي ابن أبان سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، رحمه الله تعالى. [روح الفكاهة عند الأندلسيين] ولأهل الأندلس دعابة وحلاوة في محاوراتهم، وأجوبة بديهية مسكتة، والظرف فيهم والأدب كالغريزة، حتى في صبيانهم ويهودهم، فضلاً عن علمائهم وأكابرهم. ولنذكر جملة من ذكر الجلة فنقول: 166 - حكي عن عالم المرية القاضي أبي الحسن مختار الرعيني، وكان فيه حلاوة ولوذعية ووقار وسكون، أنه استدعاه يوماً زهير ملك المرية من مجلس حكمه، فجاءه يمشي مشية قاضٍ قليلاً قليلاً، فاستعجله رسول زهير، فلم يعجل، فلما دخل عليه قال له: يا فقيه، ما هذا البطء فتأخر إلى باب المجلس، وطلب عصا، وشمر ثيابه، فقال له زهير: ما هذا قال: هذا يليق باستعجال الحاجب لي، فوقع في خاطري أنه عزلني عن القضاء وولاني الشرطة، فضحك زهير واستحلاه ولم يعد إلى استعجاله. وهذا القاضي هو القائل - وقد دخل حماماً فجلس بإزائه عاميٌ أساء الأدب عليه -: ألا لعن الحمّام داراً فإنّه ... سواءٌ به ذو العلم بالعلم والجهل في القدر تضيع به الآداب حتى كأنّها ... مصابيح لم تنفق على طلعة الفجر

_ (1) الجذوة: 110، 381.

167 - وروي أن المقرئ أبا عبد الله محمد بن الفراء إمام النحو واللغة في زمانه - وكانت فيه فطنة ولوذعية - أبطأ خروجه يوماً إلى تلامذته، فطال بهم الكلام في المذاكرة فقال أحدهم نصف بيت، وكان فيهم وسيم من أبناء الأعيان، وكان ابن الفراء كثير الميل إليه، فلما خرج قال له: يا أستاذ، علمت نصف بيت، وأريد أن تتمه، فقال ما هو فقال: ألا بأبي شادنٌ أوطف ... فقال الأستاذ ابن الفراء بديهاً: إذا كان وردك لا يقطف ... وثغر ثناياك لا يرشف فأيّ اضطرارٍ بنا أن نقول: ... ألا بأبي شادنٌ أوطف وهذا ابن الفراء هو القائل (1) : قيل لي: قد تبدّلا ... فاسل عنه كما سلا لك سمعٌ وناظرٌ ... وفؤادٌ فقلت: لا قيل: غالٍ وصاله ... قلت: لمّا غلا حلا أيّها العاذل الذي ... بعذابي توكّلا عد صحيحاً مسلّماً ... لا تعيّر فتبتلى وتذكرت بهذا ما أنشده لسان الدين في كتابه " روضة التعريف بالحب الشريف ": قلت للساخر الذي ... رفع الأنف واعتلى أنت لم تأمن الهوى ... لا تعيّر فتبتلى

_ (1) زاد المسافر: 100.

ومن بديع نظم ابن الفراء المذكور قوله (1) : شكوت إليه بفرط الدّنف ... فأنكر من قصتي ما عرف وقال: الشهود على المدّعي ... وأمّا أنا فعليّ الحلف فجئنا إلى الحاكم الألمعيّ ... قاضي المجون وشيخ الطّرف وكان بصيراً بشرع الهوى ... ويعلم من أين أكل الكتف فقلت له: اقض ما بيننا ... فقال: الشهود على ما تصف فقلت له: شهدت أدمعي ... فقال: إذا شهدت تنتصف ففاضت دموعي من حينها ... كفيض السحاب إذا ما يكف فحرّك رأساً إلينا وقال: ... دعوا دعوا يا مهاتيك هذا الصلف كذا تقتلون مشاهيرنا ... إذا مات هذا فأين الخلف وأوما إلى الورد أن يجتنى ... وأوما إلى الريق أن يرتشف فلمّا رآه حبيبي معي ... ولم يختلف بيننا مختلف أزال العناد فعانقته ... كأنّي لامٌ وحبّي ألف فظلت عتابه في الجفا ... فقال: عفا الله عمّا سلف 168 - وحكي عن الزهري خطيب إشبيلية - وكان أعرج - أنه خرج مع ولده إلى وادي إشبيلية، فصادف جماعة في مركب (2) ، وكان ذلك بقرب الأضحى، فقال بعضهم له: بكم هذا الخروف وأشار إلى ولده، فقال له الزهري: ما هو للبيع، فقال: بكم هذا التيس وأشار إلى الشيخ الزهري، فرفع رجله العرجاء وقال: هو معيب لا يجزئ في الضحية، فضحك كل

_ (1) زاد المسافر: 99. (2) ب: وكان ذلك في مركب.

من حضر، وعجبوا من لطف خلقه. وركب مرة هذا النهر مع الباجي يوم خميس، فلما أصبحا وصعد الزهري يخطب يوم الجمعة، والباجي حاضر قدامه، فنظر إليه الباجي وأومأ إلى محل الحدث، وأخرج لسانه، فجعل الزهري يلمس عصا الخطبة، يشير بالعصا إلى جوابه على ما قصد، رحمه الله تعالى. 169 - ومر العالم أبو القاسم ابن ورد صاحب التآليف في علم القرآن والحديث بجنة لحد الأعيان فيها ورد فوقف بالباب وكتب إليه: شاعر قد عراك يبغي أباه ... عندما اشتاق حسنه وشذاه وهو بالباب مصغياً لجوابٍ ... يرتضيه النّدى فماذا تراه فعندما وقف على البيتين علم أنه ابن ورد فبادر من جملته إلبه، وأقسم في النزول عليه، ونثر من الورد ما استطاع بين يديه. 170 - وحكي أن أبا الحسين سليمان بن الطراوة نحوي المرية حضر مع ندماء، وإلى جانبه من أخذ بمجامع قلبه، فلما بلغت النوبة إليه استعفى من الشرب، وأبدى القطوب، فأخذ ابن الطراوة الجام من يده وشربها عنه، ويا بردها على كبده، ثم قال بديهاً: يشربها الشيخ وأمثاله ... وكلّ من تحمد أفعاله والبكر إن لم يستطع صولةً ... تلقى على البازل أثقاله ودخل عليه وهو مع ندمائه غلام بكأس في يده فقال: ألا بأبي وغير أبي غزالٌ ... أتى وبراحه للشرب راح فقال منادمي في الحسن صفه ... فقلت الشّمس جاء بها الصّباح

وقال فيمن جاء بالراح: ولمّا رأيت الصبح لاح بخدّه ... دعوتهم رفقاً تلح لكم الشمس وأطلعها مثل الغزالة وهو كال ... غزال فتمّ الطيب واكتمل الأنس وقال، وقد شرب ليلة القمر: شربنا بمصباح السماء مدامةً ... بشاطي غديرٍ والأزاهر تنفح وظلّ جهولٍ يرقب الصبح ضلّةً ... ومن أكؤسي لم يبرح الليل يصبح 171 - وكان أبو عبد الله ابن الحاج المعروف بمدغليس صاحب الموشحات يشرب مع ندماء ظراف في جنة بهجة، فجاءت ورقة من ثقيل يرغب في الإذن، وكان له ابن مليح فكتب إليه مدغليس: سيّدي هذا مكانٌ ... لا يرى فيه بلحيه غير تيسٍ مصفعان ... يّ له بالصّفع كديه أو له ابنٌ شافعّ في ... هـ فيلقى بالتحيّه أيّها القابل بادر ... سائقاً تلك المطيّه وكان مدغليس هذا مشهوراً بالانطباع والصنعة في الأزجال، خليفة ابن قزمان في زمانه، وكان أهل الأندلس يقولون: ابن قزمان في الزجالين بمنزلة المتنبي في الشعراء، ومدغليس بمنزلة أبي تمام، بالنظر إلى الانطباع والصناعة، فابن قزمان ملتفت إلى المعنى، ومدغليس ملتفت للفظ وكان أديباً معرباً بكلامه مثل ابن قزمان، ولكنه لما رأى نفسه في الزجل أنجب اقتصر عليه. ومن شعره قوله: ما ضرّكم لو كتبتم ... حرفاً ولو باليسار إذ أنتم نور عيني ... ومطلبي واختياري

172 - وقال الخطيب الأديب النحوي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الفراء - المذكور قبل هذا بقريب - الضرير، في صبي كان يقرأ عليه النحو اسمه حسن، وهو في غاية الجمال - بعد أن سأله: كيف تقول إذا تعجبت من حسنك فقال أقول: ما أحسني -: يا حسناً مالك لم تحسن ... إلى نفوسٍ بالهوى متعبه رقمت بالورد وبالسسوسن ... صفحة خدّ بالسنا مذهبه وقد أبى صدغك أن أجتني ... منه وقد ألدغني عقربه يا حسنه إذ قال ما أحسني ... ويا لذاك اللّفظ ما أعذبه ففوّق السهم ولم يخطني ... وإذ رآني ميّتاً أعجبه وقال كم عاش وكم حبّني ... وحبّه إيّاي قد عذّبه يرحمه الله على أنّني ... قتلي له لم أدر ما أوجبه وهذا ابن الفراء من فضلاء المائة السادسة، ذكره ابن غالب في " فرحة الأنفس في فضلاء العصر من الأندلس " وكان شاعراً مجيداً، يعلم بالمرية القرآن والنحو واللغة، وكانت فيه فطنة ولوذعية، وذكاء وألمعية، خرق بها العوائد. وحكي أن قاضي المرية قبل شهادته في سطل ميزه في حمام باللمس، واختبره في ذلك بحكاية طويلة. وذكره صفوان في " زاد المسافر " ووصفه بالخطيب. [رسالة أبي عبد الله ابن الفراء إلى ابن تاشفين] وجده القاضي أبو عبد الله ابن الفراء مشهور بالصلاح والفضل والزهد، ومن العجائب أنه ليس له ترجمة في " المغرب "، ولما كتب أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين إلى أهل المرية يطلب منهم المعونة جاوبه بكتابه المشهور الذي يقول فيه: فما ذكره أمير المسلمين من اقتضاء المعونة وتأخري عن ذلك، وأن

الباجي وجميع القضاة والفقهاء بالعدوة والأندلس أفتوا بأن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه اقتضاها، وكان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعه في قبره ولا يشك في عدله، فليس أمير المسلمين بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بضجيعه في قبره، ولا من لا يشك في عدله، فإن كان الفقهاء والقضاة أنزلوك بمنزلته في العدل فالله تعالى سائلهم عن تقلدهم فيك، وما اقتضاها عمر رضي الله تعالى عنه حتى دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف أن ليس عنده درهم واحد في بيت مال المسلمين ينفقه عليهم، فتدخل المسجد الجامع هنالك بحضرة من أهل العلم وتحلف أن ليس عندك درهم واحد ولا في بيت مال المسلمين، وحينئذ تستوجب ذلك، والسلام، انتهى. 173 - وأما ابن الفراء الأخفش بن ميمون (1) الذي ذكره الحجاري فيه " المسهب " فليس هو من هؤلاء، بل هو من حسن القبذاق من أعمال قلعة بني سعيد، وتأدب في قرطبة، ثم عاد إلى حضرة غرناطة، واعتكف بها على مدح وزيرها اليهودي، وهو القائل: صابح محياه تلق النجح في الآمال ... وانظر بناديه حسن الشمس في الحمل ما إن يلاقي خليلٌ فيه من خللٍ ... وكلّما حال صرف الدهر لم يحل وكان يهاجي المنفتل شاعر إلبيرة، ومن هجاء المنفتل (2) له قوله: لابن ميمون قريضٌ ... زمهرير البرد فيه فإذا ما قال شعراً ... نفقت سوق أبيه ولما وفد على المرية مدح رفيع الدولة ابن المعتصم ابن صمادح بشعر، فقال له

_ (1) المغرب 2: 182. (2) ق ب: ومن هجائه المنفتل له؛ والبيتان في الذخيرة 2 / 1: 264.

بعض من أراد ضره: يا سيدي لا تقرب هذا اللعين، فإنه قال في اليهودي: ولكنّ عندي للوفاء (1) شريعةً ... تركت بها الإسلام يبكي على الكفر فقال رفيع الدولة: هذا والله هو الحر الذي ينبغي أن يصطنع، فلولا وفاؤه ما بكى كافراً بعد موته وقد وجدنا في أصحابنا من لا يرعى مسلماً في حياته. وقال فيه المنفتل (2) : إن كنت أخفش عينٍ ... فإنّ قلبك أعمى فكيف تنثر نثراً ... وكيف تنظم نظما ومن شعر الأخفش المذكور قوله: إذا زرتم غبّاً فلم ألق بالبرّ ... وإن غبت لم أطلب ولم أجر في الذكر فإنّي إذن أولى الورى بفراقكم ... ولا سيّما بعد التجلّد والصبر ولما وفد على المنصور ابن أبي عامر الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن مسعود الغساني البجاني (3) اتهم برهق في دينه، فسجنه في المطبق مع الطليق القرشي، والطليق غلام وسيم، وكان ابن مسعود كلفاً به يومئذ وفيه يقول: غدوت في السجن (4) خدناً لابن يعقوب ... وكنت أحسب هذا في التكاذيب رامت عداتي تعذيبي وما شعرت ... أنّ الذي فعلوه ضدّ تعذيبي راموا بعادي عن الدنيا وزخرفها ... فكان ذلك إدنائي وتقريبي لم يعلموا أنّ سجني لا أبا لهم ... قد كان غاية مأمولي ومرغوبي

_ (1) ب: في الوفاء. (2) المغرب 2: 184. (3) في الأصول ودوزي: البجالي؛ وترجمته في الجذوة: 86؛ وانظر الذخيرة 1 / 2: 79. (4) الذخيرة: الجب.

وانطلق ابن مسعود والطليق قبله، ووقع بينه وبين الطليق، وعاد المدح هجاء، فقال فيه (1) : ولي جليسٌ قربه منّي ... بعد الأماني كذباً (2) عنّي قد قذيت من لحظه مقلتي ... وقرحت من لفظه أذني راهنني في السجن من قربه ... أشدّ في السجن من السجن لو أنّ خلقاً كان ضدّاً له ... زاد على يوسف في الحسن إذا ارتمى فكري في وجهه ... سلّط إبطيه على ذهني كأنّما يجلس من ذا وذا ... بين كنيفين من النّتن وقال يخاطب المنصور من السجن: دعوت لمّا عيل صبري فهل ... يسمع دعواي المليك الحليم مولاي مولاي ألا عطفةٌ ... تذهب عنّي بالعذاب الأليم إن كنت أضمرت الذي زخرفوا ... عنّي فدعني للقدير الرحيم فعنده نزّاعةٌ للشّوى ... وعنده الفردوس ذات النعيم 175 - وركب بعض أهل المرية في وادي إشبيلية، فمر على طاقة من طاقات شنتبوس، وهو يغني: خلّين من واد ومن قوارب ... ومن نزاها في شنتبوس غرس الحبق الذي في داري ... أحب عندي من العروس (3) فأخرجت رأسها جارية وقال له: من أي البلاد أنت يا من غنى فقال:

_ (1) الذخيرة: 83. (2) الذخيرة: كلها. (3) في ق ب ودوزي: الفردوس، وهو خطأ؛ والعروس من متنزهات إشبيلية.

من المرية، فقالت: وما أعجبك في بلدك حتى تفضله على وادي إشبيلية وهو بوجه مالح وقفاً أحرش، وهذا من أحسن تعييب، وذلك أنها أتته بالنقيض من إشبيلية، فإن وجهها النهر العذب، وقفاها بجبال الرحمة أشجار التين والعنب، لا تقع العين إلا على خضرة في أيام الفرج، وأين إشبيلية من المرية، وفي المرية يقول السميسر شاعرها: بئس دار المرية اليوم داراً ... ليس فيها لساكنٍ ما يحبّ بلدةٌ لا تمار إلا بريحٍ ... ربّما قد تهبّ أو لا تهبّ يشير إلى مرافقها مجلوبة، وأن الميرة تأتيها في البحر من بر العدوة، وفيها يقول أيضاً: قالوا المريّة فيها ... نظافةٌ قلت: إيه كأنّها طست تبر ... ويبصق الدم فيه 176 - وحكى مؤرخ الأندلس أبو الحجاج البياسي، أنه دخل عليه في مجلس أنس شيخٌ ضخم الجثة مستثقل، فقال البياسي (1) : اسقني الكأس ضاحيه ... ودع الشيخ ناحيه فقال الكاتب أبو جعفر أحمد بن رضي: إن تكن ساقياً له ... ليس ترويه ساقيه 177 - وحكي أن العالي إدريس الحمودي لما عاد إلى ملكه بمالقة وبخ قاضيها الفقيه أبا علي ابن حسون، وقال له: كيف بايعت عدوي من بعدي وصحبته فقال: وكيف أنت تركت ملكك لعدوك فقال: ضرورة القدرة حملتني على ذلك، فقال: وأنا أيضاً حصلت في يد من لا يسعني إلا طاعته.

_ (1) المغرب 1: 427.

ومن نظم القاضي المذكور: رفعت من دهري إلى جائر ... ويبتغي العدل بأحكامي أضحت به أملاكه مثل أش ... كال خيالٍ طوع أيام هذا لما أبرم ذا ناقضٌ ... كأنّهم في حكم أحلام 178 - وكان الفقيه العالم أبو محمد عبد الله الوحيدي (1) قاضي مالقة جرى - كما قال الحجاري - في صباه طلق الجموح ولم يزل يعاقب بين غبوق وصبوح، إلى أن دعاه النذير، فاهتدى منه بسراج منير، وأحلته تلك الرجعة، فيما شاء من الرفعة. وقال بعض معاشريه: كنت أماشيه زمن الشباب، فكلما مررنا على امرأة يدعو حسنها وشكلها إلى أن تحير الألباب، أمال إليه طرفه، ولم ينح عنها صرفه، ثم سايرته بعد لما رجع عن ذلك واقتصر، فرأيته يغض البصر، ويخلي الطريق معرضاً إلى ناحية، متى زاحمته امرأة ولو حكت الشمس ضاحية، فقالت له في ذلك، فقال: ذاك وقتٌ قضيت فيه غرامي ... من شبابي في سترة الإظلام ثمّ لمّا بدا الصباح لعيني ... من مشيبي ودّعته بسلام (2) ومن شعره في صباه: لا ترتجوا رجعتي باللّوم عن غرضي ... ولتتركوني وصيدي فرصة الخلس طلبتم ردّ قلبي عن صبابته ... ومن يردّ عنان الجامح الشرس ولما أقصر باطله، وعريت أفراسه الصبا ورواحله، قال (3) :

_ (1) ترجمة الوحيدي في المغرب 1: 431 وبغية الملتمس (ص: 326) والصلة: 290 والمرقبة العليا: 104. (2) م: بالسلام. (3) البيتان في المغرب 1: 431.

ولمّا بدا شيبي عطفت على الهدى ... كما يهتدي حلف السّرى بنجوم وفارقت أشياع الصبابة والطّلا ... وملت إلى أهلي علاً وعلوم 179 - ولما تألب بنو حسون على القاضي الوحيدي المذكور صادر عنه العالم الأصولي أبو عبد الله ابن الفخار، وطلع في حقه إلى حضرة الإمامة مراكش، وقام في مجلس أمير المسلمين ابن تاشفين، وهو قد غص بأربابه، وقال: إنه لمقام كريم، نبدأ فيه بحمد الله على الدنو منه، ونصلي على خيرة أنبيائه محمد الهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وصحابته نجوم الليل البهيم، أما بعد فإنا نحمد الله الذي اصطفاك للمسلمين أميراً، وجعلك للدين الحنيف نصيراً وظهيراً، ونفزع إليك مما دهمنا في حماك، ونبث إليك ما لحقنا من الضيم ونحن تحت ظل علاك، ويأبى الله أن يدهم من احتمى بأمير المسلمين، ويصاب بضيم من ادرع بحصنه الحصين، شكوى قمت بها بين يديك في حق أمرك الذي عضده مؤيده، لتسمع منها ما تختبره برأيك وتنقده، وإن قاضيك ابن الوحيدي الذي قدمته في مالقة للأحكام، ورضيت بعدله فيمن بها من الخاصة والعوام، لم يزل يدل على حسن اختيارك بحسن سيرته، ويرضي الله تعالى ويرضي الناس بظاهره وسريرته، ما علمنا عليه من سوء، ولا درينا له موقف خزي، ولم يزل جارياً على ما يرضي الله تعالى ويرضيك ويرضينا إلى أن تعرضت بنو حسون إلى الطعن في أحكامه، والهد من أعلامه، ةلم يعلموا أن اهتضام المقدم، راجعٌ على المقدم، بل جمحوا في لجاجهم فعموا وصموا، وفعلوا وأمضوا ما به هموا. وإلى السحب يرفع الكف من قد ... جف عنه مسيل عين ونهر فملأ سمعه بلاغة أعقبت نصره ونصر صاحبه. ومن شعر ابن الفخار المذكور، ويعرف بابن نصف الربض، قوله: أمستنكرٌ شيب المفارق في الصّبا ... وهل ينكر النّور الفتح في الغصن أظنّ طلاب المجد شيّب مفرقي ... وإن كنت في إحدى وعشرين من سني

وقوله: أقلّ عتابك إنّ الكريم ... يجازي على حبّه بالقلى وخلّ اجتنابك إنّ الزّمان ... يمرّ بتكديره ما حلا وواصل أخاك بعلاته ... فقد يلبس الثوب بعد البلى وقل كالذي قال شاعرٌ ... نبيلٌ وحقّك أن تنبلا إذا ما خليلٌ أسا مرّةً ... وقد كان في ما مضى مجملا ذكرت المقدّم من فعله ... فلم يفسد الآخر الأولا 180 - ولما وفد أبو الفضل ابن شرف من برجة في زي تظهر عليه البداوة بالنسبة إلى أهل حضرة المملكة العظمى أنشده قصيدته الفائقة وهي (1) : مطل الليل بوعد الفلق ... وتشكّى النجم طول الأرق ضربت ريح الصّبا مسك الدجى ... فاستفاد الروض طيب العبق وألاح الفجر خدّاً خجلاً ... جال من رشح الندى في عرق جاوز الليل إلى أنجمه ... فتساقطن سقوط الورق واستفاض الصبح فيه فيضةً ... أيقن النجم لها بالغرق فانجلى ذاك السنا عن حلكٍ ... وانمحى ذاك الدجى عن شفق بأبي بعد الكرى طيفٌ سرى ... طارقاً عن سكنٍ لم يطرق زارني والليل ناعٍ سدفه ... وهو مطلوبٌ بباقي الرّمق ودموع الطّلّ تمريها الصّبا ... وجفون الروض غرقى الحدق فتأنّى في إزارٍ ثابتٍ ... وتثنّى في وشاحٍ قلق وتجلّى وجهه عن شعره ... فتجلى فلقٌ عن غسق نهب الصبح دجى ليلته ... فحبا الخدّ ببعض الشفق

_ (1) انظرها في الذخيرة (3: 277) وبعضها في المغرب 2: 230.

سلبت عيناه حدّي سيفه ... وتحلّى خدّه بالرونق وامتطى من طرفه ذا خببٍ ... يلثم الغبراء إن لم يعنق أشوس الطرف علته نخوةٌ ... يتهادى كالغزال الخرق لو تمطّى بين أسراب المها ... نازعته في الحشا والعنق حسرت دهمته عن غرّةٍ ... كشفت ظلماؤها عن يقق لبست أعطافه ثوب الدجى ... وتحلّى خدّه باليقق وانبرى تحسبه أجفل عن ... لسعةٍ أو جنةٍ أو أولق مدركاً بالمهل ما لا ينتهي ... لاحقاً بالرّفق ما لم يلحق ذو رضىً مستترٍ في غضبٍ ... ذو وقارٍ منطوٍ في خرق وعلى خدٍّ كعضبٍ أبيضٍ ... أذنٌ مثل سنانٍ أزرق كلّما نصّبها مستمعاً ... بدت الشهب إلى مسترق حاذرت منه شبا خطّيّة ... لا يجيد الخطّ ما لم يمشق كلّما شامت عذاري خدّه ... خفقت خفق فؤاد الفرق في ذرا ظمآن فيه هيفٌ ... لم يدعه للقضيب المورق يتلقّاني بكفٍّ (1) مصقعٍ ... يقتفي شأو عذارٍ مفلق إن يدر دورة طرفٍ يلتمح ... أو يجل جول لسانٍ ينطق عصفت ريحٌ على أنبوبه ... وجرت أكعبه في زئبق كلّما قلّبه باعد عن ... متن ملساء كمثل البرق جمع السّرد قوى أزرارها ... فتآخذن بعهدٍ موثق أوجبت في الحرب من وخز القنا ... فتوارت حلقاً في حلق كلّما دارت بها أبصارها ... صوّرت منها مثال الحدق زلّ عنه متن مصقول القوى ... يرتمي في مائها بالحرق

_ (1) دوزي: بكعب.

لو نضا وهو عليه ثوبه ... لتعرى عن شواظٍ محرق أكهبٌ من هبواتٍ أخضرٌ ... من فرندٍ أحمرٌ من علق وارتوت صفحاه حتى خلته ... بحيا منٍّ لكفّيك سقي يا بني معنٍ لقد ظلّت بكم ... شجرٌ لولاكم لم تورق لو سقي إحسان إحسانكم ... ما بكى ندمانه في جلّق أو دنا الطائيّ من حيّكم ... ما حدا البرق لربع الأبرق أبدعوا في الفضل حتى كلّفوا ... كاهل الأيّام ما لم يطق فلما سمعها المعتصم لعبت بارتياحه، وحسده بعض من حضر، وكان من جملة من حسده ابن أخت غانم، فقال له: من أي البوادي أنت قال: أنا من الشرف في الدرجة العالية، وإن كانت البادية علي بادية، ولا أنكر حالي، ولا أعرف بخالي، فمات ابن أخت غانم خجلاً، وشمت به كل من حضر. وابن شرف المذكور (1) هو الحكيم الفيلسوف أبو الفضل جعفر ابن أديب إفريقية أبي عبد الله محمد بن شرف الجذامي، ولد ببرجة، وقيل: إنه دخل الأندلس مع أبيه وهو ابن سبع سنين، ومن نظمه قوله: رأى الحسن ما في خدّه من بدائعٍ ... فأعجبه ما ضمّ منه وحرّفا وقال لقد ألفيت فيه نوادراً ... فقلت له لا بل غريباً مصنّفا وقوله: قد وقف الشكر بي لديكم ... فلست أقوى على الوفاده ونلت أقصى المراد منكم ... فصرت أخشى من الزياده

_ (1) ترجمة أبي الفضل ابن شرف في المغرب 2: 230 والذخيرة (3: 276) والقلائد: 252 والصلة: 129 والمطرب: 71 وبغية الملتمس ص: 239.

وقوله: إذا ما عدوّك يوماً سما ... إلى رتبةٍ لم تطق نقضها فقبّل ولا تأفن كفّه ... إذ أنت لم تستطع عضّها وقوله، وقد تقدم على كل شاعر: لم يبقى للجور في أيامهم أثرٌ ... إلا الذي في عيون الغيد من حور وأول هذه القصيدة قوله: قامت تجرّ ذيول العصب والحبر ... ضعيفة الخصر والميثاق والنظر وكان قد قصر أمداحه على المعتصم، وكان يفد عليه في الأعياد وأوقات الفرج والفتوحات، فوفد عليه مرة يشكو عاملاً ناقشه في قرية يحرث فيها، وأنشده الرائية التي مر مطلعها إلى أن بلغ قوله: لم يبق للجور ... البيت فقال له: كم في القرية التي تحرث فيها فقال: فيها نحو خمسين بيتاً، فقال له: أنا أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد، ثم وقع له بها، وعزل عنها نظر كل والٍ. وله ابنٌ فيلسوف شاعر مثله، وهو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل (1) المذكور، وهو القائل: وكريمٍ أجارني من زمانٍ ... لم يكن منخطوبه لي بدّ منشدٍ كلّما أقول تناهى ... ما لمن يبتغي المكارم حدّ

_ (1) ترجمته في المغرب 2: 232 والمسالك 11: 238.

181 - وابن أخت غانم هو العالم اللغوي أبو عبد الله محمد بن معمر (1) ، من أعيان مالقة، متفنن في علوم شتى، إلا أن الغالب عليه علم اللغة، وكان قد رحل من مالقة إلى المرية، فحل عند ملكها المعتصم بن صمادح بالمكانة العلية، وهو القائل في ابن شرف المذكور: قولوا لشاعر برجةٍ هل جاء من ... أرض العراق فحاز طبع البحتري وافى بأشعارٍ تضجّ بكفّه ... وتقول هل أعزى لمن لم يشعر يا جعفراً ردّ القربض لأهله ... واترك مباراةً لتلك الأبحر لا تزعمن ما لم تكن أهلاً له ... هذا الرّضاب لغير فيك الأبخر وذكره ابن اليسع في معربه (2) وقال: إنه حدثه بداره في مقالة وهو ابن مائة سنة، وأخذ عنه عام أربعة وعشرين وخمسمائة، وله تآليف منها " شرح كتاب النبات " لأبي حنيفة الدينوري، في ستين مجلداً، وغير ذلك. وغانٍ خاله الذي يعرف به هو الإمام العالم غانم المخزومي، نسب إليه بشهرة ذكره، وعلو قدره. 182 - ولما قرأ العالم الشهير أبو محمد ابن عبدون في أول شبابه على أبي الوليد ابن ضابط النحوي المالقي جرى بين يديه ذكر الشعر، وكان قد ضجر منه، فقال: الشعر خطّة خسف ... فقال ابن عبدون معرضاً به حين كان مستجدياً بالنظم، وكان إذ ذاك شيخاً: لكلّ طالب عرف ...

_ (1) ترجمته في المغرب 1: 433 وبغية الوعاة: 106 وأبياته في المغرب 1: 433. (2) في الأصول ودوزي: مغربه.

للشيخ عيبة عيبٍ ... وللفتى ظرف ظرف وابن ضابظ هو القائل في المظفر ابن الأفطس: نظمنا لك الشعر البديع لأنّنا ... علمنا بأنّ الشعر عندك ينفق فإن كنت منّي بامتداح مظّفرا ... فإنّي في قصدي إليك موفقّ (1) ودخل غانم المخزومي السابق ذكره، وهو من رجال الذخيرة، على الملك ابن حبوس صاحب غرناطة، فوسع له على ضيق كان في المجلس، فقال (2) : صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سمّ الخياط مجالٌ للمحبّين ولا تسامح بغيضاً في معاشرتي ... فقلّما تسع الدنيا بغيضين وهو القائل: وقد كنت أغدو نحو قطرك فارحاً ... فها أنا أغدو نحو قبرك ثاكلا وقد كنت في مدحيك سبحان وائل ... فها أنا من فرط التأسّف باقلا وله أيضاً: الصبر أولى بوقار الفتى ... من ملك يهتك ستر الوقار من لزم الصبر على حالةٍ ... كان على أيامه بالخيار 184 - وكتب أبو علي الحسن بن الغليظ إلى صاحبه أبي عبد الله ابن السراج، وقد قدم من سفر (3) :

_ (1) انظر التكملة: 407. (2) مر البيتان، انظر ص: 265 وانظر بدائع البدائه 2: 123. (3) البيتان في المغرب 1: 436.

يا من أقلّب طرفي في محاسنه ... فلا أرى مثله في الناس إنسانا لو كنت تعلم ما لقّيت بعدك ما ... شربت كأساّ ولا استحسنت ريحانا فورد عليه من حينه وقال: أردت مجاوبتك، فخفت أن أبطئ، وصنعت الجواب في الطريق: يامن إذا ما سقتني الراح راحته ... أهدت إليّ بها روحاً وريحانا من لم يكن في صباح السبت يأخذها ... فليس عندي بحكم الظرف إنسانا فكن على حسن هذا اليوم مصطحبا ... مذكّراً حسناً فيه وإحسانا وفي البساتين إن ضاق المحل بنا ... مندوحةٌ لا عدمنا الدهر بستانا 185 - ووفد أبو علي الحسن بن كسرين (1) المالقي الشاعر المشهور على ملك إشبيلية السيد أبي إسحاق إبراهيم ابن أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي، فأنشده قصيدة طار مطلعها في الأقطار، كل مطار، وهو: قسماً بحمصٍ إنّه لعظيم ... فهي المقام وأنت إبراهيم 186 - ووصف الشاعر عطاء المالقي غادةً جعلت على رأسها تاجاً فقال: وذات تاج رصّعوا دوره ... فزاد في لألائها باللآل كأنّها شمسٌ وقد توّجت ... بأنجم الجوزاء فوق الهلال قد اشتكى الخلخال منها إلى ... سوارها فاشتبها في المقال وأجريا ذكر الوشاح الذي ... لمّا يزل من خصرها في مجال فقال: لم أرض بما نلته ... وليتني مثلكما لا أزال أغصّ بالخصر وأعيا به ... كغصّ ظمآنٍ بماء زلال وإنّما الدهر بغير الرضى ... يقضي فكلٌّ غير راضٍ بحال

_ (1) في التحفة: 91 ابن كسرى، وكذلك في التكملة: 264.

وهو القائل: سل بحمّامنا الذي ... كلّ عن شكره ثمي كم أراني بقربه ... جنّةً في جهنم 187 - وكان يحضر حلقة الإمام السهيلي وضيء الوجه من تلامذته، فانقطع لعارضٍ، فخرج السهيلي ماراً في الطريق الذي جرت عادته بالمشي فيه، فوجد قناة تصلح، فمنعته من المرور، فرجع وسلك طريقاً آخر، فمر على دار تلميذه الوضيء، فقال له بعض أصحابه ممازحاً بعبوره على منزله، فقال: نعم، وأنشد ارتجالاً: جعلت طريقي على بابه ... وما لي على بابه من طريق وعاديت من أجله جيرتي ... وآخيت من لم يكن لي صديق فإن كان قتلي حلالاً لكم ... فسيروا بروحي سيراً رفيق وأبو القاسم السهيلي مشهور، عرف به ابن خلكان وغيره، ويكنى أيضاً بأبي زيد، وهو صاحب كتاب " الروض الأنف " وغيره. واجتاز على سهيل وقد خربه العدو لما أغار عليه وقتلوا أهله وأقاربه، وكان غائباً عنهم، فاستأجر من أركبه دابة، وأتى به إليه، فوقف بإزائه، وأنشد (1) : يا دار أين البيض والآرام ... أم أين جيرانٌ عليّ كرام راب المحبّ من المنازل أنّه ... حيّا فلم يرجع غليه سلام لمّا أجابني الصّدى عنهم ولم ... يلج المسامع للحبيب كلام طارحت ورق حمامها مترنّماً ... بمقال صبّ والدموع سجام " يادار ما فعلت بك الأيام ... ضامتك والأيام ليس تضام "

_ (1) الأبيات في المغرب 1: 370.

وجرى بين السهيلي والرصافي الشاعر المشهور ما اقتضى قول الرصافي: عفى الله عنّي فإنّي امرؤٌ ... أتيت السلامة من بابها على أنّ عندي لمن هاجني ... كنائن غصّت بنشّابها ولو كنت أرمي بها مسلماً ... لكان السهيلي أولى بها وتوفي السهيلي بمراكش سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وزرت قبره بها مراراً سنة عشر وألف، وسكن رحمه الله تعالى إشبيلية مدة، ولازم القاضي أبا بكر ابن العربي وابن الطراوة، وعنه أخذ لسان العرب، وكان ضريراً. ومن شعره أيضاً لما قال: " كيف أمسيت " موضع " كيف أصبحت ": لئن قلت صبحاً كيف أمسيت مخطئا ... فما أنا في ذاك الخطا بملوم طلعت وأفقي مظلمٌ لفراقكم ... فخلتك بدراً والمساء همومي 188 - وحكي أن الوزير الكاتب أبا الفضل ابن حسداي الإسلامي السرقسطي، وهو من رجال الذخيرة، عشق جاريةً ذهبت بلبه، وغلبت على قلبه، فجن به جنونه، وخلع عليها دينه، وعلم بذلك صاحبه فزفها إليه، وجعل زمامها في يديه، فتجافى عن موضعه من وصلها أنفة من أن يظن الناس أن إسلامه كان من أجلها، فحسن ذكره، وخفي على كثير من الناس أمره، ومن شعره قوله (1) : وأطربنا غيمٌ يمازج شمسه ... فيستر طوراً بالسحاب ويكشف ترى قزحاً في الجوّ يفتح قوسه ... مكبّاً على قطنٍ من الثلج يندف وكان في مجلس المقتدر بن هود ينظر في مجلد، فدخل الوزير الكاتب أبو

_ (1) البيتان في الذخيرة (3: 164) .

الفضل ابن الدباغ وأراد أن يندر به، فقال له، وكان ذلك بعد إسلامه: يا أبا الفضل، ما الذي تنظر فيه من الكتب، لعله التوراة فقال: نعم، وتجليدها من جلدٍ دبغه من تعلم، فمات خجلاً، وضحك المقتدر. 189 - وأراد الشاعر أبو الربيع سليمان السرقسطي حضور نديم له، فكتب إليه: بالراح والريحان والياسمين ... وبكرة الندمان قبل الأذين وبهجة الروض بأندائه ... مقلداً منه بعقدٍ ثمين ألا أجب سبقاً ندائي إلى ال ... كأس تبدّت لذة الشاربين هامت بها الأعين من قبل أن ... يخبرها الذوق بحقّ اليقين لاحت لدينا شفقاً معلناً ... فكن له بالله صبحاً مبين 190 - وكتب علي بن خير التطيلي (1) إلى ابن عبد الصمد السرقسطي يستدعيه إلى مجلس أنس: أنا - أطال الله تعالى بقاء الكاتب سراج العلم وشهاب الفم - في مجلس قد عبقت تفاحه، وضحكت راحه (2) ، وخفقت حولنا للطرب ألوية، وسالت بيننا للهو أودية، وحضرتنا مقلة تسأل منك إنسانها (3) ، وصحيفة فكن (4) عنوانها، فإن رأيت أن تجعل إلينا القصد، لنحصل بك في جنة الخلد، صقلت نفوساً أصدأها بعدك، وأبرزت شموساً (5) أدجاته فقدك.

_ (1) هذا النص في الذخيرة (3: 256) وقد صدره ابن بسام بقوله " وأخبرت أن بعض أدباء الثغر استدعى هذا الشيخ (يعني أبا الصمد؛ وكان في عصر أبي حفص ابن برد الأصغر، فهو غير أبي بحر ابن عبد الصمد) لمجلس أنس بهذا النثر: أنا أطال الله بقاء الكاتب ... إلخ. (2) الذخيرة: وصفت أقداحه. (3) الذخيرة: فنحن لنأيك عنا مقلة تسأل إنسانها. (4) الذخيرة: نشر. (5) الذخيرة: وأنرت سرجا؛ وهو أجود.

فأجابه أبو (1) عبد الصمد: فضضت - أيها الكاتب العليم، والمصقع الحبر الصميم - طابع كتابك، فمنحني منه جوهر منتخب، لا يشوبه مخشلب، هو السحر إلا أنه حلال، دل على ود حنيت ضلوعك عليه، ووثيق عهد انتدب كريم سجيتك إليه، فسألت فالق الحب، وعامر القلب بالحب، أن يصون لي حظي منك، ويدرأ لي النوائب عنك، ولم يمنعني أن أصرف وجه الإجابة إلى مرغوبك، وأمتطي جواد الانحدار إلى محبوبك، إلا عارض ألمٍ ألم بي فقيد بقيده نشاطي، وروى براحته بساطي، وتركني أتململ على فراشي كالسليم، وأستمطر الإصباح من الليل البهيم، وأنا منتظر لإدباره. 191 - ومن لطف أهل الأندلس ورقة طباعهم ما حكاه أبو عمرو ابن سالم المالقي قال: كنت جالساً بمنزلي بمالقة، فهاجت نفسي أن أخرج إلى الجبانة، وكان يوماً شديد الحر، فراودتها على القعود، فلم تمكني من القعود، فمشيت حتى انتهيت إلى مسجد يعرف برابطة الغبار، وعنده الخطيب أبو محمد عبد الوهاب بن علي المالقي، فقال لي: إني كنت أدعوا الله تعالى أن يأتيني بك، وقد فعل، فالحمد لله، فأخبرته بما كان مني، ثم جلست عنده، فقال: أنشدني، فأنشدته لبعض الأندلسيين: غصبوا الصباح فقسّموه خدودا ... واستوعبوا قضب الأراك قدودا ورأوا حصى الياقوت دون نحورهم ... فتقلدوا شهب النجوم عقودا لم يكفهم حدّ الأسنّة والظّبى ... حتى استعاروا أعيناً وخدودا فصاح الشيخ، وأغمي عليه، وتصبب عرقاً، ثم أفاق بعد ساعة، وقال: يا بني اعذرني فشيئان يقهراني، ولا أملك نفسي عندهما: النظر إلى الوجه الحسن، وسماع الشعر المطبوع، انتهى. وستأتي هذه الأبيات في هذا الباب

_ (1) في الأصول: ابن.

بأتم من هذا وعلى كل حال فهي لأهل الأندلس، لا لابن دريد كما ذكره بعضهم، وسيأتي تسمية صاحبها الأندلسي، كما في كتاب " المغرب " لابن سعيد العنسي المشهور، رحمه الله تعالى. 192 - وقال بعض الأدباء ليحيى الجزار، وهو يبيع لحم ضأن (1) : لحم إناث الكباش مهزول ... فقال يحيى: يقول للمشترين مه زولوا ... 193 - وقال التطيلي الأعمى في وصف أسد رخام يرمي بالماء على بحيرة (2) : أسدٌ ولو أنّي أنا ... قشه الحساب لقلت صخره وكأنّه أسد السما ... ء يمجّ من فيه المجرّه 194 - وحضر جماعة من أعيان الأدباء مثل الأبيض وابن بقي وغيرهما من الوشاحين، وافقوا على أن يصنع كل واحد منهم موشحة، فلما أنشد الأعمى موشحته التي مطلعها (3) : ضاحك عن جمان ... سافر عن بدر ضاق عنه الزمان ... وحواه صدري خرق كل منهم موشحته. 195 - وتحاكمت امرأة إلى القاضي أبي محمد عبد الله اللاردي الأصبحي،

_ (1) انظر زاد المسافر: 98. (2) ديوان التطيلي: 249. (3) أزهار الرياض 2: 208.

وكانت ذا جمال ونادرة، فحكم لزوجها عليها، فقالت له: من يضيع قلبه كل طرف فاتر جدير أن يحكم بهذا، تشير إلى قوله: أين قلبي أضاعه كلّ طرفٍ ... فاترٍ يصرع الحليم لديه كلمّا ازداد ضعفه ازداد فتكاً ... أيّ صبرٍ ترى يكون عليه 196 - وحضر أبو إسحاق ابن خفاجة مجلساً بمرسية مع أبي محمد جعفر ابن عنق الفضة الفقيه السالمي، وتذاكرا، فاستطال ابن عنق الفضة، ولعب بأطراف الكلام، ولم يكن ابن خفاجة يعرفه، فقال له: يا هذا لم تترك لأحد حظاً في هذا المجلس، فليت شعري من تكون فقال: أنا القائل: الهوى علّمني سهد الليال ... ونظام الشعر في هذي اللآل كلّما هبّت شمالٌ منهم ... لعبت بي عن يمينٍ وشمال وأرقّت فكرتي أرواحها ... فأتت منهنّ بالسحر الحلال كان كالملح أجاجاً خاطري ... وسحاب الحبّ أبدته زلال فاهتز ابن خفاجة، وقال: من يكون هذا قوله لا ينبغي أن يجهل، ولك المعذرة في جهلك، فإنك لم تعرفنا بنفسك، فبالله من تكون فقال: أنا فلان، فعرفه وقضى حقه. 197 - وحكى ابن غالب في " فرحة الأنفس " أن الوزير أبا عثمان ابن شنتفير (1) وأبا عامر ابن غندشلب وفدا رسولين على المعتمد بن عباد، عن إقبال الدولة بن مجاهد والمعتصم بن صمادح والمقتدر بن هود، لإصلاح ما كان بين المعتمد مبين ابن ذي النون، فسر المعتمد بهم وأكرمهم، ودعاهم إلى طعام صنعه لهم، وكان لا يظهر شرب الراح منذ ولي الملك، فلما رأوا انقباضه عن ذلك تحاموا الشراب، فلما أمر بكتب أجوبتهم كتب إليه أبو عامر:

_ (1) لعله: ابن بشتغير كما ورد من قبل ص: 259.

بقيت حاجة لعبد رغيب (1) ... لم يدع غيرها له من نصيب أنا خيرية المساء حديثاً ... وأنا في الصباح أخشى رقيبي فإذا أمس كان عندي نهاراً ... لم تخفني عليه بعد الغروب وإذا الليل جنّ حدّثت جلا ... سي بما كان من حديثٍ عجيب قيل إن الدّجى لديك نهارٌ ... وكذاك الدّجى نهار الأريب فتمنّيت ليلةً ليس فيها ... لذ كا ذلك السّنا من مغيب حيث أعطيك في الخلاء وتعطي ... ني مداماً كمثل ريق الحبيب ثم أغدو كأنّني كنت في النو ... م وأخفي المنام خوف هزيب والهزيب: الرقيب العتيد في كلام أهل الأندلس، فسر المعتمد وانبسط بانبساطه، وضحك من مجونه، وكتب إليه: يا مجاباً دعا إلى مستجيب ... فسمعنا دعاءه من قريب إن فعلت الذي دعوت إليه ... كنت فيما رغبت عين رغيب واستحضره فنادمه خالياً، وكساه ووصله، وانقلب مسروراً، وظن المعتمد أن ذلك يخفى من فعله عن ابن شنتفير، فأعلم بالأمر القائد ابن مرتين، فكاد يتفطر حسداً وكتب إلى المعتمد: أنا عبدٌ أوليته كلّ برّ ... لم تدع (2) من فنون برّك فنّا غير رفع الحجاب في شربك الرا ... ح فماذا جناه أن يتجنّى وتمنّى شراب سؤرك في الكأ ... س فبالله أعطه ما تمنّى فسرته أبياته، وأجابه:

_ (1) م: غريب. (2) في الأصول: لم يدع.

يا كريم المحلّ في كلّ معنى ... والكريم المحلّ ليس يعنّى هذه الخمر تبتغيك فخذها ... أو فدعها أو كيفما شئت كنّا 198 - وكان يقرأ في مجلس ملك السهلة أبي مروان ابن رزين ذي الرياستين ديوان شعر محمد بن هانئ، وكان القارئ فيه بله، فلما وصل إلى قوله: حرام حرام زمان الفقير ... اتفق أن عرض للملك ما اشتغل به، فقال القارئ: أين وقفت فقال: في حر آم، فقام الملك، وقال: هذا موضع لا أقف معك فيه، ادخل أنت وحدك، ثم دخل إلى قصره، وانقلب المجلس ضحكاً. 199 - وكان للملك المذكور وزير من أعاجيب الدهر، وهو الكاتب أبو بكر ابن سدراي (1) ، وذكره الحجاري في " المسهب " وقال: إن له شعراً أرق من نسيم السحر، وأندى من الطلّ على الزهر، ومنه قوله: ما ضركم لو بعثتم ... ولو بأدنى تحيّه تهزّني من شذاها ... إليكم الأريحيّه خذوا سلامي إليكم ... مع الرياح النّديّه في كلّ سحرة (2) يومٍ ... تترى وكلّ عشيّه يا ربّ طال اصطباري ... ما الوجد إلا بليّه غيلان بالشرق أضحى ... وحلّت الغرب ميّه وقوله: سأبغي المجد في شرقٍ وغربٍ ... فما ساد الفتى دون اغتراب

_ (1) انظر المغرب 2: 340 وبعض أبياته هنالك. (2) المغرب: غرة.

فإن بلّغت مأمولاً فإنّي ... جهدت ولم أقصر في الطلاب وإن أنا لم أفز بمراد سعيي ... فكم من حسرةٍ تحت التراب 200 - وقال ملك بلنسية مروان بن عبد العزيز لما ولي مكانه من لا يساويه: ولا غرو بعدي أن يسوّد معشرٌ ... فيضحي لهم يومٌ وليس لهم أمس كذاك نجوم الجوّ تبدو زواهراً ... إذا ما توارت في مغاربها الشمس وقال ابن دحية: دخلت عليه وهو يتوضأ، فنظر إلى لحيته وقد اشتعلت بالشيب اشتعالاً، فأنشدني لنفسه ارتجالاً (1) : ولمّا رأيت الشيب أيقنت أنّه ... نذيرٌ لجسمي بانهدام بنائه إذا ابيضّ مخضرّ النبات فإنّه ... دليلٌ على استحصاده وفنائه 201 - واعتل ابن ذي الوزارتين أبي عامر ابن الفرج (2) وزير المأمون بن ذي النون، وهو من رجال الذخيرة والقلائد (3) ، فوصف له أن يتداوى بالخمر العتيق، وبلغه أن عند بعض الغلمان منها شيئاً، فكتب إليه يستهديه (4) : ابعث بها مثل ودّك ... أرقّ من ماء خدّك شقيقة النفس، فانضح ... بها جوى ابني وعبدك وهو القائل معتذراً عن تخلّفه عمن جاءه منذراً (5) :

_ (1) المطرب: 80. (2) ترجم له صاحب المطمح: 15 وانظر الذخيرة (القسم الثالث) والمغرب 2: 303 والحلة 2: 171. (3) كذا قال ابن سعيد أيضا ولكن ليست لابن فرج ترجمة في القلائد المطبوع، وإنما ترجمته في المطمح. (4) البيتان في المطمح والحلة. (5) انظر المصدرين السابقين.

ما تخلّفت عنك إلاّ لعذرٍ ... ودليلي في ذاك خوفي عليكا هبك أنّ الفرار من غير عذرٍ ... أتراه يكون إلاّ إليكا وله من رسالة هناء: أهنئ بالعيد من وجهه ... هو العيد لو لاح لي طالعا وأدعو إلى الله سبحانه ... بشملٍ يكون لنا جامعا وكتب إلى الوزير المصري (1) يستدعيه أن يكون من ندمائه، فكتب إليه الوزير المصري يستعلمه اليوم، فلما أراده كتب إليه (2) : ها قد أهبت بكم وكلّكم هوىً ... وأحقّكم بالشكر منّي السابق كالشمس أنت وقد أظلّ طلوعها ... فاطلع وبين يديك فجرٌ صادق وله في رئيس مرسية أبي عبد الرحمن ابن طاهر، وكان ممتع المجالسة كثير النادرة: قد رأينا منك الذي قد سمعنا ... فغدا الخبر عاضد الأخبار قد وردنا لديك بحراً نميراً ... وارتقينا حيث النجوم الدراري ولكم مجلسٍ لديك انصرفنا ... عنه مثل الصّبا عن الأزهار 202 - وشرب الأديب الفاضل أبو الحسن علي بن حريق (3) عشيةً مع من يهواه، ورام الانفصال عنه لداره، فمنعه سيلٌ حال بينه وبين داره، فبات عنده على غير اختياره، فقال ابن حريق (4) :

_ (1) هو أبو محمد المصري: (أبو محمد عبد الله بن خليفة القرطبي) . (2) الشعر في الحلة والمطمح. (3) ترجمته في المغرب 2: 318 وزاد المسافر: 23 والتكملة: 629 والفوات 2: 70. (4) هذه القطعة واللتان تليانها في المغرب: 319، 318.

يا ليلةً جادت الليالي ... بها على رغم أنف دهري للسيل فيها عليّ نعمى ... يقصر عنها لسان شكري أبات في منزلي حبيبي ... وقام في أهله بعذر فبتّ لا حالةٌ كحالي ... ضجيع بدرٍ صريع سكر يا ليلة القدر في اللّيالي ... لأنت خيرٌ من ألف شهر ومن حسنات ابن حريق المذكور قوله: يا ويح من بالمغرب الأقصى ثوى ... حلف النوى وحبيبه بالمشرق لولا الحذار على الورى لملأت ما ... بيني وبينك من زفيرٍ محرق وسكبت دمعي ثمّ قلت لسكبه ... من لم يذب من زفرةٍ فليغرق لكن خشيت عقاب ربي إن أنا ... أحرقت أو أغرقت من لم أخلق وله: لم يبق عندي للصّبا لذّةٌ ... إلا الأحاديث على الخمر وله: فقبّلت إثرك فوق الثرى ... وعانقت ذكرك في مضجعي وله (1) : إنّ ماءً كان في وجنتها ... وردته السنّ حتى نشفا وذوى العنّاب من أنملها ... فأعادته الليالي حشفا وأورد له بحر في " زاد المسافر " قوله:

_ (1) زاد المسافر، 22، 23، 24 (ثلاث قطع) .

كلّمته فاحمرّ من خجلٍ ... حتى اكتسى بالعسجد الورق وسألته تقبيل راحته ... فأبى وقال أخاف أحترق حتى زفيري عاق عن أملي ... إنّ الشّقيّ بريقه شرق وقوله في السواقي: وكأنّما سكن الأراقم جوفها ... من عهد نوحٍ مدّة الطوفان فإذا رأينا الماء يطفح نضنضت ... من كل خرقٍ حيّةٌ بلسان 203 - وقال الفيلسوف أبو جعفر ابن الذهبي فيمن جمع بينه وبين أحد الفضلاء (1) : أيّها الفاضل الذي قد هداني ... نحو من قد حمدته باختبار شكر الله ما أتيت وجازا ... ك ولا زلت نجم هدي لساري أيّ برقٍ أفاد أيّ غمامٍ ... وصباحٍ أدّى لضوء نهار وإذا ما النسيم كان دليلي ... لم يحلني إلاّ على الأزهار 204 - وأنشد أبو عبد الله محمد بن عبادة الوشاح المعتصم بن صمادح شعراً يقول فيه: ولو لم أكن عبداً لآل صمادحٍ ... وفي أرضهم أصلي وعيشي ومولدي لما كان لي إلا إليهم ترحّلٌ ... وفي ظلّهم أمسي وأضحي وأغتدي فارتاح، وقال: يا ابن عبادة، ما أنصفناك بل أنت الحر لا العبد، فاشرح لنا في أملك، فقال: أنا عبدكم كما قال ابن نباتة: لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل

_ (1) مرت الأبيات ص: 207.

فالتفت إلى ابنه الواثق يحيى ولي عهده وقال: إذا اصطنعت الرجال فمثل هذا فاصطنع، ضمه إليك وافعل معه ما تقتضيه وصيتي به، ونبهني إليه كل وقت، فأقام نديماً لوليّ العهد المذكور. وله فيهما الموشحات المشهورة، كقوله (1) : كم في قدود البان ... تحت اللمم من أقمر عواطي بأنملٍ وبنان ... مثل العنم لم تنبري للعاطي 205 - ولما بلغ المعتصم أن خلف بن فرج السميسر هجاه احتال في طلبه حتى حصل في قبضته، ثم قال له: أنشدني ما قلت في، فقال له: وحق من حصلني في يدك ما قلت شراً فيك، وإنما قلت: رأيت آدم في نومي فقلت له: ... أبا البرية إنّ الناس قد حكموا أن البرابر نسلٌ منك، قال: إذن ... حواء طالقةٌ إن كان ما زعموا فنذر ابن بلقين صاحب غرناطة دمي، فخرجت هارباً إلى بلادك فوضع علي من أشاع ما بلغك عني لتقتلني أنت فيدرك ثأره بك، ويكون الإثم عليك، فقال: وما قلت فيه خاصة مضافاً إلى ما قلته في عامة قومه فقال: لما رأيته مشغوفاً بتشييد قلعته التي فيها بغرناطة قلت: يبني على نفسه سفاهاً ... كأنّه دودة الحرير فقال له المعتصم: لقد أحسنت في الإساءة إليه، فاختر: هل أحسن إليك وأخلي سبيلك أم أجيرك منه فارتجل: خيّرني المعتصم ... وهو بقصدي أعلم

_ (1) انظر هذه الموشحة في دار الطراز: 60.

وهو إذا يجمع لي ... أمناً ومنّاً أكرم فقال: خاطرك خاطر شيطان، ولك المن والأمان، فأقام في إحسانه بأوطانه، حتى خلع عن ملكه وسلطانه. 206 - ولما أنشده عمر بن الشهيد قصيدته التي يقول فيها (1) : سبط البنان كأنّ كلّ غمامةٍ ... قد ركّبت في راحتيه أناملا لا عيش إلا حيث كنت، وإنّما ... تمضي ليالي العمر بعدك باطلا التفت إلي من حضر من الشعراء وقال: هل فيكم من يحسن أن يجلب القلوب بمثل هذا فقال أبو جعفر ابن (2) الخراز البطرني (3) : نعم، ولكن للسعادة هبات، وقد أنشدت مولانا قبل هذا أبياتاً أقول فيها (4) : وما زلت أجني منك والدهر ممحلٌ ... ولا ثمرٌ يجنى ولا الزرع يحصد ثمار أيادٍ دانياتٍ قطوفها ... لأغصانها ظلّ عليّ ممدّد يرى جارياً ماء المكارم تحتها ... وأطيار شكري فوقهنّ تغرّد فارتاح المعتصم، وقال: أأنت أنشدتني هذا قال: نعم، قال: والله كأنها ما مرت بسمعي إلى الآن، صدقت، للسعد هبات، ونحن نجيزك بجائزتين: الأولى لها والثانية لمطل راجيها وغمط إحسانها، انتهى.

_ (1) الذخيرة 1 / 2: 195. (2) ابن: سقطت من م ب. (3) هو أبو جعفر أحمد بن الخراز (الجزار في المغرب) البطرني (نسبة إلى بطرنة من قرى بلنسية) وهو الذي أثار ابن غرسية إلى كتابة رسالته في الشعوبية وعارضه أبو جعفر برسالة تناظرها (المغرب 2: 355 والحاشية) . (4) الأبيات في المغرب 2: 356.

207 - وقال بعض ذرية (1) ملوك غشبيلية: نثر الورد بالخليج وقد درّ ... جه بالهبوب مرّ الرياح مثل درع الكميّ مزقها الطع ... ن فسالت بها دماء الجراح 208 - وقال ابن صارة في النارنج (2) : كرات عقيق في غصون زبرجدٍ ... بكفّ نسيم الريح منها صوالج نقبّلها طوراً وطوراً نشمّها ... فهنّ خدودٌ بيننا ونوافج [أشعار لابن الزقاق] 209 - وقال أبو الحسن ابن زقاق ابن أخت ابن خفاجة (3) : وما شقّ وجنته عابثاً ... ولكنّها آيةٌ للبشر جلالها لنا الله كيما نرى ... بها كيف كان انشقاق القمر وقال: ضربوا ببطن الواديين قبابهم ... بين الصوارم والقنا الميّاد والورق تهتف حولهم طرباً بهم ... فبكلّ محنية ترنّم شادي يا بانة الوادي كفى حزناً بنا ... أن لا نطارح غير بانة وادي وقال: نحن في مجلسٍ به كمل الأن ... س ولو زرتنا لزاد كمالا

_ (1) ذرية: سقطت من م. والبيتان لابن الزقاق (ديوانه: 131) . (2) من أبيات في الذخيرة (2: 325) . (3) انظر هذه القطع في ديوان ابن الزقاق: 179، 144 والقطع الثلاث الأخيرة لم ترد في ديوانه؛ والقطعة الأولى مرت في النفح ص: 290.

طلعت فيه من كؤوس الحميّا ... ومن الزهر أنجمٌ تتلالا غير أنّ النجوم دون هلالٍ ... فلتكن منعماً لهنّ الهلالا وقال: وهويتها سمراء غنّت وانثنت ... فنظرت من ورقاء في أملودها تشدو ووسواس الحليّ يجبيها ... مهما انثنت في وشيها وعقودها أوليس من بدع الزمان حمامة ... غنّت فغنّى طوقها في جيدها وقال: لئن بكيت دماً والعزم من شيمي ... على الخليط فقد يبكي الحسام دما [أشعار للحجام] 210 - وقال أبو تمام غالب ابن رباح الحجام (1) في دولابٍ طار منه لوحٌ فوقف (2) : وذات شدوٍ وما لها حلمٌ ... كلّ فتىً بالضمير حيّاها وطار لوحٌ بها فأوقفها ... كلمحة العين ثمّ أجراها وكان المذكور ربي في قلعة رباح غربي طليطلة، ولا يعلم له أب، وتعلم الحجامة فأتقنها، ثم تعلق بالأدب حتى صار آية، وهو القائل في ثريا الجامع (3) : تحكي الثريّا الثريّا في تألّقها ... وقد عراها نسيمٌ فهي تتّقد

_ (1) ترجمة أبي تمام غالب الحجام في الذخيرة (3: 256) والمغرب 2: 40 والمسالك 11: 451. (2) الذخيرة: 261. (3) المصدر نفسه: 260.

كأنّها لذوي الإيمان أفئدةٌ ... من التخشّع جوف الليل ترتعد وقال: زرت الحبيب ولا شيءٌ أحاذره ... في ليلةٍ قد لوت بالغمض أجفارا في ليلةٍ خلت من حسنٍ كواكبها ... دراهماً وحسبت البدر دينارا وقال في الثريا أيضاً: انظر إلى سرجٍ في الليل مشرقةٍ ... من الزجاج تراها وهي تلتهب كأنّها ألسن الحيّات قد برزت ... عند الهجير فما تنفكّ تضطرب وقال (1) : ترى النّسر والقتلى على عدد الحصى ... وقد مزّقت أحشاءها والترائبا مضرّجةً ممّا أكلن كأنّها ... عجائز بالحنّا خضبن ذوائبا وقال، وقد أبدع غاية الإبداع، وأتى بما يحير الألباب، وإن كان أبو نواس فاتح هذا الباب: وكأسٍ ترى كسرى بها في قرارةٍ ... غريقاً ولكن في خليجٍ من الخمر وما صورته فارساً عبثاً به ... ولكنّهم جاؤوا بأخفى من السحر أشاروا بما كانوا له في حياته ... فنومي إليه بالسجود وما ندري وما أحلى قوله (2) : الأقحوان رمى عليك ظلامةً ... لمّا عنفت عليه بالمسواك

_ (1) المصدر نفسه: 261. (2) الذخيرة: 262.

لا يحمل النّور الأنيق تمسّه ... كفٌّ بعود بشامةٍ وأراك وجلاؤه المخلوق فيه قد كفى ... من أن يراع عراره بسواك وقوله (1) : صغار الناس أكثرهم فساداً ... وليس لهم لصاحةٍ نهوض ألم تر في سباع الطير سرباً ... تسالمنا ويأكلنا البعوض وقد بلغ غاية الإحسن في قوله (2) : فما للملك ليس يرى مكاني ... وقد كحلت لواحظه بنوري كذا المسواك مطّرحاً مهانا ... وقد أبقى جلاءً في الثغور ومن حسناته قوله (3) : لي صاحبٌ ما كان من صاحبٍ ... فإنّه في كبدي جرحه يحكي إذا أبصر لي ذلّةٍ ... ذبابةٍ تبصر في قرحه ولقيه أبو حاتم الحجاري على فرسٍ في غاية الضعف والرذالة قد أهلكها الوجى، وكانا في جماعتين، فقال له: يا أبا تمام أنشدني قولك: وتحتي ريحٌ تسبق الريح إن جرت ... وما خلت أنّ الريح ذات قوائم لها في المدى سبقٌ إلى كلّ غايةٍ ... كأنّ لها سبقاً يفوق عزائمي وهمّة نفسي نزهتها عن الوجا ... فيا عجباً حتى العلا في البهائم فلما أنشده إياها رد رأسه أبو حاتم إلى الجماعتين وقال: ناشدتكم الله

_ (1) المغرب 2: 40 والذخيرة: 263. (2) المغرب: 41. (3) الذخيرة: 264.

أيجوز لحجام على فرس مثل هذه الرمكة الهزيلة العرجاء، أن يقول مثل هذا فضحك جميع من حضر، وأقبل أبو تمام في غيظه يسبه. ومن شعر الحجام المذكور قوله: لا يفخر السيف والأقلام في يده ... قد صار قطع سيوف الهند للقصب فإن يكن أصلها لم يقو قوّتها ... " فإنّ في الخير معنىً ليس في العنب " وقال: ثقلت على الأعداء إلاّ أنّها ... خفّت على السّبّاب والإبهام أخذت من الليل البهيم سواده ... وبدت تنمّق أوجه الأيام وقال (1) : نظر الحسود فازدرى لي هيئةً ... والفضل منّي لا يزال مبينا قبحت صفاتي من تغيّر ودّه ... صدأ المرات يقبّح التحسينا وقال (2) : تصبّر وإن أبدى العدوّ مذمّةً ... فمهما رمى ترجع إليه سهامه كما يفعل النّحل الملمّ بلسعه ... يريد به ضرّاً وفيه حمامه وقال: وبارد الشعر لم يؤلم به ولقد ... أضرّ منه جميع النّاس واعتزلا كأنّه الصلّ لا تأذيه ريقته ... حتى إذا مجّها في غيره قتلا

_ (1) الذخيرة: 263. (2) المصدر نفسه: 263.

211 - وقال ابن الزقاق (1) : دعاك خليلٌ والأصيل كأنّه ... عليلٌ يقضي مدة الرمق الباقي إلى شطّ منسابٍ كأنّك ماؤه ... صفاء ضميرٍ أو عذوبة أخلاق ومهوى جناحٍ للصّبا يمسح الرّبى ... خفيّ الخوافي والقوادق خفّاق على حين راح البرقّ في الجوّ مغمداً ... ظباه ودمع المزن من جفنه راق وقد حان منّي للرياض التفاتةٌ ... حبست بها كأسي قليلاً عن الساق على سطح خيريّ ذكرتك فانثنى ... يميل بأعناقٍ ويرنو بأحداق فصل زهراتٍ منه هذا كأنّها ... وقد خضلت قطراً محاجر عشّاق 212 - ولما مدح الحسيب أبو [محمد] القاسم بن مسعدة (2) الأوسي (3) أمير المؤمنين عبد المؤمن بقوله: حنانيك مدعوّاً ولبّيك داعيا ... فكلٌ بما ترضاه أصبح راضيا طلعت على أرجائنا بعد فترةٍ ... وقد بلغت منّا النفوس التراقيا وقد كثرت منّا سيوفٌ لدى العلا ... ومن سيفك المنصور نبغي التقاضيا وغيرك نادينا زماناً فلم يجب ... وعزمك لم يحتج علاه مناديا كتب اسمه وزير عبد المؤمن في جملة الشعراء، فلما وقف على ذلك عبد المؤمن ضرب على اسمه وقال: إنما يكتب هذا في جملة الحسباء، لا تدنسوه بهذه النسبة، فلسنا ممن يتغاضى على غمط حسبه، ثم أجزل صلته، وأمر له بضيعة يحرث له بها، يعني بذلك أنه من ذرية ملوك، لأن جده كان ملك وادي الحجارة.

_ (1) ديوانه: 286 (عن النفح) . (2) ب: سعدة. (3) م: الأونبي؛ وانظر ترجمته في المغرب 2: 26 وسماه في المغرب " أبو محمد القاسم " ولذلك صوبناه في النفح؛ والمطرب: 216 وبغية الوعاة: 377؛ وأبياته هذه في المغرب.

213 - وقال أبو بكر محمد بن أزرق (1) : هل علم الطائر في أيكه ... بأنّ قلبي للحمى طائر ذكّرني عهد الصّبا شجوه ... وكلّ صبّ للصّبا ذاكر سقى عهوداً لهم بالحمى ... دمعٌ له ذكرهم ناثر 214 - وقال أبو جعفر ابن أزرق (2) : أراك ملكت الخافقين مهابةً ... بها ما تلحّ الشّهب بالخفقان وتغضي العيون عن سناك كأنّها ... تقابل منك الشمس في اللمعان وتصفرّ ألوان العداة كأنّما ... رموا منك طول الدهر باليرقان 215 - وقال أبو القاسم ابن أزرق: ذاك الزمان الذي تقضّى ... يا ليته عاد منه حين بكلّ عمري الذّي تبقّى ... وما أنا في الشّرا غبين 216 - وقال راشد بن عريف الكاتب (3) : جمّع في مجلسٍ ندامى ... تحسدني فيهم النجوم فقال لي منهم نديم (4) : ... ما لك إذ قمت لا تقوم فقلت: إن قمت كلّ حين ... فإن حظّي بكم عظيم وليس عندي إذن ندامى ... بل عندي المقعد المقيم

_ (1) ترجمته وشعره في المغرب 2: 28 ويكتب فيه " أزراق ". (2) ترجمته وشعره في المغرب 2: 29. (3) ترجمته وشعره في المغرب 2: 32. (4) المغرب: خليل.

217 - وقال الحسيب أبو جعفر ابن عائش (1) : ولي أخٌ أورده سلسلاً ... لكنّه يوردني مالحا ألقاه كي أبسطه ضاحكاً ... ويلتقيني أبداً كالحا وليس ينفكّ عنائي به ... ما رمت من فاسده صالحا قال الحجاري: وكتب إلى إبراهيم في يوم صحوٍ بعد مطر: إذا رأيت الجو يصحو فلا ... تصح، سقاك الله، من سكر تعال فانظر لدموع الندى ... ما فعلت في مبسم الزهر ولا تقل إنّك في شاغلٍ ... فليس هذا آخر الدهر يخلف ما فات سوى ساعةٍ ... تقنص فيه لذّة الخمر فأجابه: لبّيك لبّيك ولو أنّني ... أسعى على الرأس إلى مصر فكيف والدار جواري وما ... عندي من شغلٍ ولا عذر ولو غدا لي ألف شغلٍ بلا ... عذرٍ تركت الكلّ للحشر وكلّما أبصرني ناظرٌ ... بباكم عظّم من قدري أنا الذي يشربها دائماً ... ما حضرت في الصحو والقطر وليس نقلي أبداً بعدها ... إلا الذي تعهد من شكري قال الحجاري: ولم يقصر جدي في جرابه، وكن ابن عائش أشعر منه في ابتدائه، ولو لم يكن له إلا قوله " تعال فانظر - إلخ " لكفاه، قال: وفيه يقول جدي إبراهيم يمدحه:

_ (1) هو أحمد بن عائش أحد أعيان وادي الحجارة، وكان في زمان المأمون بن ذي النون ملك طليطلة (المغرب 2: 27) .

ولو كان ثانٍ في الندى لابن عائشٍ ... لما كان في شرقٍ وغربٍ أخو فقر يهشّ إلى الأمداح كالغصن للصّبا ... وبشر محيّاه ينوب عن الزهر فيا ربّ زد في عمره إنّ عمره ... حياة أناسٍ قد كفوا كلفة الدهر وقتله ابن مسعدة ملك وادي الحجارة الثائر بها، ولما قدمه ليقتله قال: إرفق علي أخاصم عن نفسي، فقال: على لسانك قتلناك، فقال له: لا رفق الله عليك يوم تحتاج إلى رفقه! فقال بجبروته: ما رهبنا السيوف الحداد، نرهب دعاء الحساد! 218 - وقال أبو [علي] الحسن بن علي [بن] شعيب (1) : انزعي الوشي فهو يستر حسناً ... لم تخزه برقمهنّ الثياب ودعيني عسى أقبّل (2) ثغراً ... لذّ فيه اللمى وطاب الرّضاب وعجيبٌ أن تهجريني ظلماً ... وشفيعي إلى صباك الشباب 219 - وقال أخوه أبو حامد الحسين حين كبا به فرسه فحصل في أسر العدو (3) : وكنت أعدّ طرفي للرزايا ... يخلّصني إذا جعلت تحوم فأصبح للعدا عوناً لأنّي ... أطلت عناءه فأنا الظلوم وكم دامت مسراتي عليه ... وهل شيءٌ على الدنيا يدوم 220 - وقال أبو الحسن علي بن رجاء صاحب دار السكة والأحباس بقرطبة:

_ (1) المغرب 2: 27. (2) المغرب: اتركني حتى أقبل. (3) المغرب 2: 28.

يا سائلي عن حالتي إنّني ... لا أشتكي حالي لمن يضعف مع أنّني أحذر من نقده ... لا سيّما إن كان لا ينصف وأنشد له الحميدي في " الجذوة " (1) : قل لمن نال عرض من لم ينله ... حسبنا ذو الجلال والإكرام لم يزدني شيئاً سوى حسناتٍ ... لا ولا نفسه سوى آثام كان ذا منعة فثقّل ميزا ... ني بهذا فصار من خدّامي 221 - وقال أبو محمد القاسم ابن الفتح (2) : أيام عمرك تذهب ... وجميع سعيك يكتب ثمّ الشهيد عليك من ... ك فأين المهرب 222 - وقال أبو مروان عبد الملك بن غصن (3) : فديتك لا تخف منّي سلوّاً ... إذا ما غير الشعر الصّغارا أهيم بدنّ خمرٍ صار خلاً ... وأهوى لحيةً كانت عذارى وقال (4) : قد ألحف الغيم بانسكابه ... والتحف الجوّ في سحابه وقام داعي السرور يدعوا ... حيّ على الدنّ وانتهابه وتاه فيه النديم ممّا ... يزدحم الناس عند بابه وكان أحد الأعلام في الآداب والتاريخ والتأليف.

_ (1) الجذوة: 295. (2) م: أبو القاسم محمد بن الفتح. (3) الذخيرة (3: 113، 115) والمغرب 2: 33. (4) الذخيرة: 114.

ونقم عليه المأمون بن ذي النون بسبب صحبته لرئيس بلده ابن عبيدة، وبلغه أنه يقع فيه فنكبه أشر نكبة، وحبسه فكتب إليه من السجن: فديتك هل لي منّك رحمى لعلّني ... أفارق قبراً في الحياة فأنشر وليس عقاب المذنبين بمنكرٍ ... ولكن دوام السخط والعتب ينكر ومن عجبٍ قول العداة مثقّلٌ ... ومثلي في إلحاحه الدهر يعذر وألف للمأمون رسالة " السجن والمسجون والحزن والمحزون " ورسالة أخرى سماها ب " العشر كلمات "، وقال (1) : يا فتيةً خيرةً فدتهم ... من حادثات الزمان نفسي شربهم الخمر في بكورٍ ... ونطقهم عندها بهمس أما ترون الشتاء يلقي ... في الأرض بسطاً من الدمقس مقطّبٌ عابسٌ ينادي ... يوم سرورٍ ويوم أنس وقال عنه الحميدي في الجذوة (2) : إنه شاعرٌ أديب، دخل المشرق، وتأدب، وحج، ورجع، وشعره كثير. وله أبيات كتبها في طريق الحج إلى أحد القضاة: يا قاضياً عدلاً كأنّ إمامه ... ملكٌ يريه واضح المنهاج طافت بعبدك في البلاد علّةٌ ... قعدت به عن مقصد الحجاج واعتلّ في البحر الأجاج فكن له ... بحراً من المعروف غير أجاج 223 - وقال الزاهد الورع المحدث أبو محمد إسماعيل ابن الديواني:

_ (1) الذخيرة: 115. (2) الجذوة: 278 وهنالك الأبيات أيضا.

ألا أيّها العائب (1) المعتدي ... ومن لم يزل مؤذياً ازدد مساعيك يكتبها الكاتبون ... فبيّض كتابك أو سوّد 224 - وقال ابنه أبو بكر محمد: خاصم عدوّك باللسا ... ن وإن قدرت فبالسّنان إنّ العداوة ليس يص ... لحها الخضوع مدى الزمان 225 - وقال إبراهيم الحجاري جد صاحبه " المسهب " (2) : لئن كرهوا يوم الوداع فإنّني ... أهيم به وجداً من آجل عناقه أصافح من أهواه غير مساترٍ ... وسرّ التلاقي مودعٌ في فراقه وقال: كن كما شئت إنني لا أحول ... غير مصغٍ لما يقول العذول لك والله في الفؤاد محلٌّ ... ما إليه مدى الزمان وصول ومرادي بأن تزور خفيّاً ... ليت شعري متى يكون السبيل وقال: قد توالت في حالتينا الظنون ... فلنصدق ما كذبته العيون ومرادي بأن تلوح بأفقي ... بدر تمّ وذاك ما لا يكون أنا قد قلت ما دعاني إليه ... كثرة اليأس، والحديث شجون وإذا شئت أن تسفّه رأيي ... فمحلّي من الرقيب مصون وبه ما تشاء من كلّ معنى ... كلّ من لم يجب له مجون

_ (1) م: الظالم. (2) المغرب 2: 33 - 34 وفيه البيتان.

وإلى كم تضلّ ليل الأماني ... ومن اليأس لاح صبحٌ مبين وقال: سألته عن أبيه ... فقال خالي فلان فانظر عجائب ما قد ... أتت به الأزمان دهرٌ عجيبٌ لديه ... عن المعالي حران (1) فما له غير ذمّ ... كما تدين تدان 226 - وقال الكاتب العالم أبو محمد ابن خيرة الإشبيلي (2) صاحب كتاب " الريحان والريعان " يمدح السيد أبا حفص ملك إشبيلية ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي قصيدة: كأنّما الأفق صرحٌ والنجوم به ... كواعبٌ وظلام الليل حاجبه وللهلال اعتراضٌ في مطالعه ... كأنّه أسودٌ قد شاب حاجبه وأقبل الصبح فاستحيت مشارقه ... وأدبر الليل فاستخفت كواكبه كالسيد الماجد الأعلى الهمام أبي ... حفصٍ لرحلته ضمّت مضاربه وأنشد له ابن الإمام في " سمط الجمان ": رعياً لمنزله الخصيب وظلّه ... وسقى الثرى النجديَّ سحّ ربابه واهاً على ساداته لا أدّعي ... كلفاً بزينبه ولا بربابه ويعرف (3) رحمه الله تعالى بابن المواعيني.

_ (1) هذا البيت والذي يليه سقطا من م. (2) ترجمته في المغرب 1: 242 والتكملة: 515 ومن كتابه " الريحان والريعان " جزء موجود بمكتبة الفاتح باستانبول (رقم: 3909) . (3) قوله: ويعرف ... وكفا: سقط هذا كله من م.

227 - وقال ابنه أبو جعفر أحمد: يا أخي هاتها وحجّب سناها ... عن مثير بها جنوناً وسخفا هذه الشمس إن بدت لضعيف ال ... عين زادت في ذلك الضعف ضعفا إنّما يشرب المدامة من إن ... خشنت كفّه جفاها وكفّا 228 - وكتب الوزير أبو الوليد إسماعيل بن حبيب الملقب بحبيب إلى أبيه (1) : لما خلق الربيع من أخلاقك الغر، وسرق زهره من شيمك الزهر، حسن في كل عين منظره، وطاب في كل سمعٍ خبره (2) ، وتاقت النفوس إلى الراحة فيه، ومالت إلى الإشراف على بعض ما يحتويه، من النور الذي بسط على الأرض (3) حللا (4) ، لا ترى في أثنائها خللا، سلوكٌ نثرت على الثرى، وقد ملئت مسكاً وعنبرا، إن تنسمتها فأرجة، أو توسمتها فبهجة: فالأرض في بزّة من يانع الزهر ... تزري إذا قستها بالوشي والحبر قد أحكمتها أكفّ المزن واكفةً ... وطرزتها بما تهمي من الدرر تبرّجت فسبت منّا العيون هوىً ... وفتنةً بعد طول الستر والخفر فأوجد لي سبيلاً إلى إعمال بصري (5) فيها، لأجلو بصيرتي بمحاسن نواحيها، والفصل على أن يكمل أوانه، ويتصرم وقته وزمانه، فلا تخلني من بعض التشفي منه، لأصدر نفسي متيقظة عنه، فالنفوس تصدأ كما يصدأ الحديد، ومن سعى في جلائها (6) فهو الرشيد السديد.

_ (1) الذخيرة (2: 48) وكتاب البديع: 28. (2) ب: مخبره. (3) البديع: كسا الأرض. (4) ومالت ... حللا: سقطت العبارة من م. (5) ب: نظري. (6) البديع: ومن أجمها.

ومن شعره يصف ورداً بعث به إلى أبيه (1) : يا من تأزّر بالمكارم وابتلى ... بالمجد والفضل الرفيع الفائق انظر إلى خدّ الربيع مركباً ... في وجه هذا المهرجان الرائق وردٌ تقدّم تقدّم إذ تأخرّ واغتدى ... في الحسن والاحسان أول سابق وافاك مشتملاً بثوب حيائه ... خجلاً لأن حيّاك آخر لاحق وله (2) : أتى الباقلاء الباقل اللون لابساً ... برود سماء من سحائبها غذي ترى نوره يلتاح في ورقاته ... كبلق جيادٍ في جلال زمرد وقال (3) : إذا ما أدرت كؤوس الهوى ... ففي شربها لست بالمؤتلي مدامٌ تعتّق بالناظرين ... وتلك تعتّق بالأرجل وكان وهو ابن سبع عشرة سنة ينظم النظم الفائق، وينثر النثر الرائق، وأبو جعفر ابن الأبار هو الذي صقل مرآته، وأقام قناته، وأطلعه شهاباً ثاقباً، وسلك به إلى فنون الآداب طريقاً لاحباً، وله كتاب سماه ب " البديع في فصل الربيع " جمع فيه أشعار أهل الأندلس خاصة، أعرب فيه عن أدب غزير، وحظ من الحفظ موفور، وتوفي وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، واستوزره داهية الفتنة، ورحى المحنة، قاضي إشبيلية عباد جد المعتمد، ولم يزل يصغي إلى مقامه، ويرضى بفعاله، وهو ما جاوز العشرين إذ ذاك،

_ (1) الذخيرة: 50 والبديع: 128. (2) م: وله في نور الباقلاء؛ والشعر في كتاب البديع: 155. (3) الذخيرة: 52.

وأكثر نظمه ونثره في الأزاهر، وذلك يدل على رقة نفسه، رحمه الله تعالى. 229 - وقال الوزير الكاتب أبو الحسن علي بن حصن وزير المعتضد بن عباد (1) : عليّ أن أتذلّل ... له وأن يتدلّل خدٌّ كأنّ الثريا ... عليه قرطٌ مسلسل وقال: طلّ على خدّه العذار ... فافتضح الآس والبهار وابيضّ هذا واسودّ هذا ... فاجتمع الليل والنّهار 230 - وقال الوزير أبو الوليد ابن طريف في المعتمد بعد خلعه: يا آل عبادٍ ألا عطفةٌ ... فالدهر من بعدكم مظلم من الذي يرجى لنيل العلا ... ومن إليه يفد المعدم ما أنكر الدهر سوى أنّه ... بجودكم في فعله يرغم وله: من حلقت لحية جارٍ له ... فليسكب الماء على لحيته 231 - وقد أجرينا في هذا الكتاب ذكر جملة من أخبار المعتمد بن عباد ونظمه في أماكن متعددة فلتراجع؛ ومن نظمه (2) : ثلاثةٌ منعتها عن زيارتنا ... خوف الرقيب وخوف الحاسد الحنق

_ (1) الذخيرة 2: 63، 66. (2) م: ومن نظم المعتمد؛ والشعر في ديوانه: 22 وفي الشريشي 1: 225.

ضوء الجبين، ووسواس الحليّ، وما ... تحوي معاطفها من عنبرٍ عبق هب الجبين بفضل الكمّ تستره ... والحلي تنزعه، ما حيلة العرق وقال (1) : يوم يقول الرسول قد أذنت ... فأت على غير رقبة ولج أقبلت أهوي إلى رحالهم ... أهدى إليها بريحها الهرج قالوا ويستدل على الملوكية بالطيب في المواطن التي يكون الناس فيها غير معروفين كالحمام ومعارك الحرب ومواسم الحج. رجع إلى ما كنا فيه (2) : 232 - وقال أبو العباس أحمد الخزرجي (3) القرطبي: وفي الوجنات مافي الروض لكن ... لرونق زهرها معنىً عجيب وأعجب ما التعجّب منه أنّي ... أرى البستان يحمله قضيب 233 - وقال الوزير أبو [أيوب] سليمان بن أبي أمية (4) يخاطب رئيساً قد بلغه عن بعض أصحابه كلام فيه غض منه: هوّن عليك كلامه ... واسمح له فيمن سمح ماذا يسوءك إن هجا ... ماذا يسرّك إن مدح أوما علمت بلى جهل ... ت بأنّه غلٌّ طفح وخفيٌّ حقدٍ كامنٍ ... دأبوا له حتى اتضح

_ (1) ديوان المعتمد: 119. (2) رجع ... فيه: سقطت من م. (3) الخزرجي: سقطت من ب. (4) ترجمته في المغرب 1: 243 والمطمح: 28 والمسالك 11: 424.

هذا بمستنّ الوقا ... ر فكيف لو دار القدح فاشكر عوارف ذي الجلا ... ل بما وقى وبما منح 234 - وقال أبو علي عمر بن أبي خالد يخاطب أبا الحسن علي بن الفضل: أبا حسنٍ وما قدمت عهودٌ ... لنا بين المنارة والجزيره أتذكر أنسنا والليل داجٍ ... بخمرٍ في زجاجتها منيره إذا الملاح ضلّ رنا إليها ... فأبصر في مناحيه مسيره 235 - وقال الكاتب عبد الله المهيريس (1) ، وكان حلو النادرة، لما شرب عند الوزير أبي العلاء ابن جامع وقد نظر إلى فاختة فأعجبه حسنها ولحنها: ألا خذها إليك أبا العلا ... حلى الأمداح ترفل في الثّناء وهبها قينةً تجلى عروساً ... خضيب الكفّ قانية الرداء لأجعلها محلّ جليس أنسي ... وأغنى بالهديل عن الغناء وحكي أنه ناوله ليمونة وأمره بالقول فيها فقال: أهدى إليّ بروضةٍ ليمونةً ... وأشار بالتشبيه فعل السيد فصمتّ حيناً ثم قلت: كجلجلٍ ... من فضةٍ تعلوه صفرة عسجد 236 - وقال الكاتب أبو بكر ابن البناء يرثني أحد بني عيد المؤمن، وقد عزل من بلنسية وولي إشبيلية فمات بها (2) : كأنّك من جنس الكواكب كنت لم ... تفارق طلوعاً حالها وتواريا

_ (1) سماه في المغرب " عبد الله بن عمر الإشبيلي المهيرس وكنيته أبو محمد " (1: 248) وفي القدح: أبو عبد الله عمر المعروف بالمهيدر (198) وشعره في المصدرين. (2) القدح: 119 والمغرب 1: 249.

تجلّيت من شرقٍ تروق تلألؤاً ... فلمّا انتحيت الغرب أصبحت هاويا 237 - وكان محمد بن مروان بن زهر - كما في المغرب والمسهب والمطرب، وقد قدمنا بعض أخباره - منشأ الدولة العبادية وأول من تثنى عليه الخناصر، وتستحسنه البواصر، فضاقت الدولة العبادية عن مكانه، وأخرج عن بلده، فاستصفيت أمواله، فلحق بشرق الأندلس، وأقام فيه بقية عمره، ونشأ ابنه (1) الوزير أبو مروان عبد الملك بن محمد، فما بلغ أشده، حتى سد مسده، ومال إلى التفننفي أنواع التعاليم من الطب وغيره، ورحل إلى المشرق لأداء الفرض، فملأ البلاد جلالة، ونشأ ابنه ابو العلاء زهر بن عبد الملك، فاخترع فضلاً لم يكن في الحساب، وشرع نبلاً قصرت عنه نتائج أولي الألباب، ونشأ بشرق الأندلس والآفاق تتهادى عجائبه، والشام والعراق تتدارس بدائعه وغرائبه، ومال إلى علم الأبدان فلولا جلالة قدره، لقلنا جاذب هاروت طرفاً من سحره، ولولا أن الغلو آفة المديح، لتجاوزت طلق الجموح، ولكنني اكتفيت بالكناية عن التصريح (2) ، ولم يزل مقيماً بشرق الأندلس إلى أن كان من غزاة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ومن انضم إليه من ملوك الطوائف ما علم، وشخص أبو العلاء معهم، فلقيه المعتمد بن عباد، واستماله واستهواه، وكاد يغلب على هواه، وصرف عليه أملاكه فحن إلى وطنه، حنين النيب إلى عطنه، والكريم إلى سكنه، ونزع إلى مقر سلفه، نزوع الكوكب إلى بيت شرفه، إلا أنه لم يستقر بإشبيلية إلا من بعد خلع المعتمد، وحل عند يوسف بن تاشفين محلاً لم يحله الماء من العطشان، ولا الروح من جسد الجبان، ولما كتب إليه حسام الدولة ابن رزين ملك السهلة بقوله: عاد اللئيم فأنت من أعدائه ... ودع الحسود بغلّه وبذائه

_ (1) راجع الذخيرة (2: 91) وشعره مثبت هنالك. (2) أثبتنا هنا نص الذخيرة.

لا كان إلا من غدت أعداؤه ... مشغولةً أفواههم بجفائه أأبا العلاء لئن حسدت لطالما ... حسد الكريم بجوده ووفائه فخر العلاء فكنت من آبائه ... وزها السناء فكنت من أبنائه كن كيف شئت مشاهداً أو غائباً ... لا كان قلبٌ لست في سودائه أجابه بقوله: يا صارماً حسن العدا بمضائه ... وتعبّد الأحرار حسن وفائه ما أثّر العضب الحسام بذاته ... إلا بأن سمّيت من أسمائه وكلفه الحسام المذكور القول في غلام قائم على رأسه، وقد عذر، فقال (1) : محيت آية النهار فأضحى ... بدر تمٍّ وكان الشمس نهار كان يعشي العيون ناراً إلى أن ... أشغل الله خدّه بالعذار وقال: عذارٌ ألمّ فأبدى لنا ... بدائع كنّا لها في عمى ولو لم يحنّ النهار الظلا ... م لم يستبن كوكبٌ في السما وقال: يا راشقي بسهامٍ ما لها غرض ... إلا الفؤاد وما منه له عوض وممرضي بجفون لحظها غنجٌ ... صحّت وفي طبعها التمريض والمرض امنن ولو بخيالٍ منك يؤنسني ... فقد يسدّ مسدّ الجوهر العرض وهذا معنى في غاية الحسن. وكان بينه وبين الإمام أبي بكر ابن باجة - بسبب المشاركة - ما يكون

_ (1) مرت القطعة والتي تليها ص: 247.

بين النار والماء، والأرض والسماء، ولما قال فيه ابن باجة: يا ملك الموت وابن زهرٍ ... جاوزتما الحدّ والنهايه ترفّقا بالورى قليلاً ... في واحد منكما الكفايه قال أبو العلاء: لا بد للزنديق أن يصلبا ... شاء الذي يعضده أو أبى قد مهّد الجذع له نفسه ... وسدّد الرمح إليه الشّبا والذي يعضده مالك بن وهب جليس أمير المسلمين وعالمه. 238 - وأما حفيده أبو بكر محمد بن عبد الملك بن زهر فهو وزير إشبيلية وعظيمها وطبيبها وكريمها، ومن شعره: رمت كبدي أخت السماء فأقصدت ... ألا بأبي رامٍ يصيب ولا يخطي قريبة ما بين الخلاخيل إن مشت ... بعيدة ما بين القلادة والقرط نعمت بها حتى أتيحت لنا النوى ... كذا شيم الأيام تأخذ ما تعطي وتوفيسنة خمس وتسعين وخمسمائة، وأمر أن يكتب على قبره: تأمّل بفضلك يا واقفاً ... ولاحظ مكاناً دفعنا إليه تراب الضريح على صفحتي ... كأنّي لم أمش يوماً عليه أداوي الأنام حذار المنون ... فها أنا قد صرت رهناً لديه رحمه الله تعالى، وعفى عنه. وفي هذه الأبيات إشارة إلى طبه ومعالجته للناس، رحمه الله تعالى، وقد ذكرنا بعض أخباره في غير هذا الموضع.

239 - وقال أبو الوليد ابن حزم (1) : مرآك مرآك شمسٌ ولا قمر ... وورد خدّيك لا وردٌ ولا زهر في ذمّة الله قلبٌ أنت ساكنه ... إن بنت بان فلا عينٌ ولا أثر وقال (2) : لله أيامٌ على وادي القرى ... سلفت لنا والدهر ذو ألوان إذ نجتلي في ظله ثمر المنى ... والطير ساجعةٌ على الأغصان والشمس تنظر من محاجر أرمدٍ ... والطّلّ يركض في النسيم الواني فلثمت فاه والتزمت عناقه ... ويد الوصال على قفا الهجران 240 - وقال ابن عبد ربه (3) : يا قابض الكفّ لا زالت مقبّضةً ... فما أناملها للنّاس أرزاق وغب إذا شئت حتى لا ترى أبداً ... فما لفقدك في الأحشاء إقلاق وقال في المدح: وما خلقت كفّاك إلاّ لأربعٍ ... عقائل لم تخلق لهنّ يدان لتقبيل أفواهٍ، وإعطاء نائل ... وتقليب هنديّ، وحبس عنان 241 - وقال الكاتب أبو عبد الله ابن مصادق (4) الرندي الأصل: صارمته إذ رأت عارضه ... عاد من بعد الشّباب أشيبا

_ (1) ترجمته في المغرب 1: 239 والذخيرة 2: 231 والمسالك 11: 434. (2) الذخيرة (2: 238) . (3) هاتان المقطوعتان في الشريشي 1: 184. (4) دوزي: مصادف.

قلت ما ضرّك شيبٌ فلقد ... بقيت فيه فكاهات الصّبا هو كالعنبر غالٍ نفحه ... وشذاه أخضراً أو أشهبا وقال: ووردة وردت في غير موقتها ... والسّحب قد هملت أجفانها هطلا وإنّما الروض لمّا لم يفد ثمراً ... يقريكه انفتحت في خده خجلا وله: لم أحتفل لقدوم العيد من زمن ... قد كان يبهجني إذ كنت في وطني لم ألق أهلي ولا إلفي (1) ولا ولدي ... فليت شعري سروري واقعٌ بمن وقال: يقول لي العاذل تب عن هوى ... من ليس يدنيك إلى مطلب وكيف لي والدين دين الهوى ... فلا أرى من مذهبي أليس باب التوب قد سده ... طلوعه شمساً من المغرب (2) وله: امنع كرائمك الخروج ولا ... تظهر لذلك وجه منبسط لا تعتبر منهن مسخطةً ... نيل الرضى في ذلك السخط أولسن مثل الدرّ في شبهٍ (3) ... والدرّ من صدفٍ إلى سفط

_ (1) ب: إلفي ولا أهلي. (2) هو كقول الصقلي: أيأسني التوبة من حبه ... طلوعه شمسا من المغرب. (3) م: سفط.

242 - وقال المعتمد بن عباد (1) : تمّ له الحسن بالعذار ... واختلط الليل بالنّهار أخضرٌ في أبيضٍ تبدّى ... فذاك آسي وذاك بهاري فقد حوى مجلسي تماماً ... إن يك من ريقه عقاري 243 - وقال ابن فرج الجياني رحمه الله تعالى (2) : وطائعة الوصال صددت عنها ... وما الشيطان فيها بالمطاع بدت في الليل سافرةً فباتت ... دياجي الليل سافرة القناع وما من لحظةٍ إلا وفيها ... إلى فتن القلوب لها دواعي فملّكت الهوى جمحات أمري ... لأجري في العفاف على طباعي كذاك الروض ما فيه لمثلي ... سوى نظرٍ وشمّ من متاعٍ ولست من السوائم مهملات ... فأتخذ الرياض من المراعي وقال (3) : بأيهما أنا في الشكر بادي ... بشكر الطيف أم شكر (4) الرقاد سرى فازداد لي أملي ولكن ... عففت فلم أنل منه مرادي وما في النوم من حرجٍ ولكن ... جريت مع العفاف على اعتيادي 244 - وقال الرصافي (5) : وعشيّ أنسٍ للسرور وقد بدا ... من دون قرص الشمس ما يتوقّع

_ (1) ديوان المعتمد: 17. (2) مرت هذه الأبيات ص: 196 وانظر الشريشي 1: 211 والجذوة: 97. (3) انظر الجذوة: 97 والمطمح: 80 واليتيمة 2: 17 والشريشي 1: 211. (4) ب: بطيب. (5) ديوان الرصافي: 105.

سقطت فلم يملك نديمك (1) ردّها ... فوددت يا موسى لو آنّك يوشع 245 - وقال ابن عبد ربه (2) : يراعةٌ غرّني منها وميض سناً ... حتى مددت إليها الكفّ مقتبسا فصادفت حجراً لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا كأنّما صيغ من لؤمٍ ومن كذبٍ ... فكان ذاك له روحاً وذا نفسا 246 - وقال ابن صارة في فروة (3) : أودت بذات يدي فريّة أرنبٍ ... كفؤاد عروة في الضّنى والرّقة يتجشّم الفرّاء من ترقيعها ... بعد المشقّة في قريب الشّقّة لو أنّ ما أنفقت في ترقيعها ... يحصى لزاد على رمال الرّقّة إن قلت بسم الله عند لباسها ... قرأت عليّ " إذا السماء انشقّت " 247 - وقال الغزال (4) : والمرء يعجب من صغيرة غيره ... أيّ امرئ إلاّ وفيه مقال لسنا نرى من ليس فيه غميزةٌ ... أيّ الرجال القائل الفعّال (5) 248 - وقال أبو حيان: لا ترجونّ دوام الخير من أحدٍ ... فالشرّ طبعٌ وفيه الخير بالعرض ولا تظنّ امرءاً أسدى إليك ندىً ... من أجل ذاتك بل أسداه للغرض

_ (1) م: نديمي. (2) العقد 1: 131 والشريشي 1: 127. (3) أبيات ابن صارة في أخبار وتراجم: 15 والقلائد: 261 والشريشي 1: 125. (4) في الأصول ودوزي: الغزالي. (5) ب: القائل البطال.

249 - وقال ابن شهيد (1) : ولما فشى بالدمع ما بين وجدنا ... إلى كاشحينا ما القلوب كواتم أمرنا بإمساك الدموع جفوننا ... ليشجى بما نطوي عذولٌ ولائم أبى دمعنا يجري مخافة شامتٍ ... فنظّمه بين المحاجر ناظم وراق الهوى منّا عيوناً كريمةً ... تبسّمن حتى ما تروق المباسم وقال في الانتحال (2) : وبلّغت أقواماً تجيش صدورهم ... عليّ وإنّي فيهم فارغ الصدر أصاخوا إلى قولي فأسمعت معجزاً ... وغاصوا على سري فأعجزهم أمري فقال فريقٌ: ليس ذا الشعر شعره ... وقال فريقٌ أيمن الله ما ندري فمن شاء فليخبر فإنّي حاضرٌ ... ولا شيء أجلى للشكوك من الخبر 250 - وينظر إلى مثل هذا قصة أبي بكر ابن بقي (3) حين استهدى من بعض إخوانه أقلاماً فبعث إليه بثلاث من القصب، وكتب معها: خذها إليك أبي بكر العلا قصباً ... كأنّما صاغها الصوّاغ من ورقه يزهى بها الطرس حسناً ما نثرت بها ... مسك المداد على الكافور من ورقه فأجابه أبو بكر: أرسلت نحوي ثلاثاً من قناً سلبٍ ... ميّادة تطعن القرطاس في درقه (4) فالخطّ ينكرها والحظّ يعرفها ... والرّقّ يخدمها بالرّقّ في عنقه

_ (1) الذخيرة 1 / 1: 276 وديوانه: 139 والشريشي 1: 46. (2) الذخيرة: 262 وديوانه: 68 والشريشي 1: 46. (3) الشريشي 1: 47. (4) ب م: منآدة ... في ورقه.

فحسده عليه بعض من سمعه، ونسبه إلى الانتحال، فقال أبو بكر يخاطب صاحبه الأول: وجاهلٍ نسب الدعوى إلى كلمي ... لمّا رماه بمثل النّبل في حدقه فقلت من حنقٍ لما تعرّض لي ... من ذا الذي أخرج اليربوع من نفقه ما ذمّ شعري وأيم الله لي قسمٌ ... إلا امرؤ ليست الأشعار من طرقه والشعر يشهد أنّي من كواكبه ... بل الصباح الذي يستنّ من أفقه 251 - وقال ابن شهيدٍ أيضاً في ضيف (1) : وما انفكّ معشوق الثناء يمدّه (2) ... ببشرٍ وترحيبٍ وبسط بنان إلى أن تشهّى البين من ذات نفسه ... وحنّ إلى الأهلين حنّة حاني فأتبعه ما سدّ خلّة حاله ... وأتبعني ذكراً بكلّ مكان وقال (3) : وبتنا نراعي اللّيل لم يطو برده ... ولم يجل شيب الصبح في فوده وخطا تراه كملك الزنج من فرط كبره ... إذا رام مشياً في تبختره أبطا مطلاًّ على الآفاق والبدر تاجه ... وقد جعل الجوزاء في أذنه قرطا 252 - وقال بعضهم في لباس أهل الأندلس البياض في الحزن، مع أن أهل المشرق يلبسون فيه السواد (4) : ألا يا أهل أندلسٍ فطنتم ... بلطفكم إلى أمرٍ عجيب

_ (1) الذخيرة: 267 وديوانه: 168. (2) الديوان: الثواء نمده. (3) الذخيرة: 237 وديوانه: 88 واليتيمة 2: 43 والشريشي 1: 63. (4) الشريشي 1: 49.

لبستم في مآتمكم بياضاً ... فجئتم منه في زيّ غريب صدقتكم فالبياض لباس حزنٍ ... ولا حزنٌ أشدّ من المشيب 253 - وقال أبو جعفر ابن خاتمة: هل جسومٌ يوم النوى ودّعوها ... باقياتٌ لسوء ما أودعوها يا حداة القلوب ما العدل هذا ... أتبعوها أجسامها أو دعوها 254 - وقال القسطلي يصف هول البحر (1) : إليك ركبنا الفلك تهوي كأنّها ... وقد ذعرت عن مغرب الشمس غربان على لجج خضرٍ إذا هبّت الصّبا ... ترامى بها فينا ثبيرٌ وثهلان مواثل ترعى في ذراها موائلاً ... كما عبدت في الجاهلية أوثان يقلن وموج البحر (2) والهمّ والدجى ... يموج بها فيها عيونٌ وآذان ألا هل إلى الدنيا معادٌ وهل لنا ... سوى البحر قبرٌ أو سوى الماء أكفان 255 - وقال الرمادي يهنئ ابن العطار الفقيه بمولود: يهنيك ما زادت الأيام في عددك ... من فلذةٍ برزت للسعد من كبدك كأنّما الدهر دهرٌ كان مكتئباً ... من انفرادك حتى زاد في عددك لا خلّفتك الليالي تحت ظلّ ردىً ... حتى ترى ولداً قد شبّ من ولدك 256 - وقال ابن صارة في النار: هات التي للأيك أصل ولادها ... ولها جبين الشمس في الأشماس يتقشّع الياقوت في لبّاتها ... بوساوسٍ تشفي من الوسواس

_ (1) ديوان ابن دراج: 87 والذخيرة 1 / 1: 74. (2) في الأصول: مقاتل موج.

أنس الوحيد وصبح عين المجتلي ... ولباس من أمسى بغير لباس حمراء ترفل في السواد كأنّما ... ضربت بعرقٍ في بني العباس وقال فيها أيضاً (1) : لابنة الزّند في الكوانين جمرٌ ... كالدراري في الليلة (2) الظلماء خبروني عنها ولا تكذبوني ... ألديها صناعة الكيمياء سبكت فحمها سبائك (3) تبرٍ ... رصّعته بالفضّة البيضاء كلمّا ولول النسيم عليها ... رقصت في غلالةٍ حمراء سفرت عن جبينها (4) فأرتنا ... حاجب الليل طالعاً بالعشاء لو تراها من حولنا قلت يومٌ ... يتعاطون أكؤس الصّهباء 257 - وقال فيها الفقيه الأديب (5) ابن لبال: فحمٌ ذكا في حشاه جمرٌ ... فقلت مسكٌ وجلّنار أو خدّ من قد هويت لمّا ... أطلّ من فوقه العذار 258 - وكان أبو المطرف الزهري جالساً في باب داره مع زائر له، فخرجت عليهما من زقاقٍ ثانٍ جاريةٌ سافرة الوجه كالشمس الطالعة فحين نظرتهما على غفلةٍ منها نفرت خجلة، فرأى الزائر ما أبهته فكلّفه وصفها، فقال مرتجلاً:

_ (1) القلائد: 266. (2) القلائد: كالدراري في دجى. (3) القلائد: صفائح. (4) القلائد: سفرت في عشائها. (5) م: الأديب الفقيه؛ ولعله أبو الحسن علي بن أحمد بن البال الشريشي (- 583) وله ترجمة في التحفة: 74 والذيل والتكملة 5: 169.

يا ظبيةً نفرت والقلب مسكنها ... خوفاً لختلي بل عمداً لتعذيبي لا تختشي فابن عبد الحقّ أنحلنا ... عدلاً يؤلف بين الظبي والذيب 259 - وقال ابن شهيد (1) : أصباحٌ لاح أم بدرٌ بدا ... أم سنا المحبوب أورى زندا هبّ من نعسته منكسراً ... مسبلٌ للكمّ مرخٍ للرّدا يمسح النعسة من عيني رشا ... صائد في كلّ يوم أسدا قلت هب لي ياحبيبي قبلة ... تشف من همّك (2) تبريح الصّدى فانثنى يهتزّ من منكبه ... قائلاً لا ثمّ أعطاني اليدا كلّما كلّمني قبّلته ... فهو ما قال كلاماّ ردّدا قال لي يلعب صد لي طائراً ... فتراني الدهر أجري بالكدا وإذا استنجزت يوماً وعده ... قال لي يمطل ذكّرني غدا شربت أغصانه (3) خمر الصّبا ... وسقاه الحسن حتى عربدا رشأ بل غادةٌ ممكورةٌ ... عمّمت صبحاً بليلٍ أسودا أححت (4) من عضة في نهدها ... ثم عضت حرّ وجهي عمدا فأنا المجروح من عضّتها ... لا شفاني الله منها أبدا 260 - وقال محمد بن هانئ في الشيب (5) : بنتم فلولا أن أغبّر لمّتي ... عبثاّ وألقاكم عليّ غضابا

_ (1) مرت هذه القصيدة ص: 358. (2) الرواية المشهورة: من عمك؛ وتصحف إلى " غمك ". (3) م: أعطافه، وهو أجود. (4) هذه رواية الذخيرة، وفي م: أحجمت. (5) ديوان ابن هانئ: 198 - 199 والشريشي 1: 214.

لخضبت شيباً في مفارق لمتي (1) ... ومحوت محو النفس عنه شبابا وخضبت مبيضّ (2) الحداد عليكم ... لو أنّني أجد البياض خضابا وإذا أردت على المشيب وفادةً ... فاجعل مطيّك دونه الأحقابا فلتأخذنّ من الزمان حمامةً ... ولتدفعنّ إلى الزمان غرابا 261 - وكتب ابن عمار إلى ابن رزين وقد عتب عليه أن اجتاز ببلده ولم يلقه (3) : لم تثن عنك عناني سلوةٌ خطرت ... ولا فؤادي ولا سمعي ولا بصري لكن عدتني عنكم خجلةٌ خطرت ... كفاني العذر منها بيت معتذر " لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر " 262 - وقال ابن الجد (4) : وإنّي لصبٌّ للتلاقي وإنّما ... يصبّ ركابي عن معاهدك العسر أذوب حياء من زيارة صاحبٍ (5) ... إذا لم يساعدني على برّهالوفر 263 - وقال ابن عبد ربه (6) : يا من عليه حجابٌ من جلالته ... وإن بدا لك يوماً غير محجوب ما أنت وحدك مكسوّاً ثياب ضنى ... بل كلّنا بك من مضنى ومشحوب ألقى عليك يداً للضرّ كاشفةً ... كشّاف ضرّ نبيّ الله أيوب

_ (1) الديوان: في عذاري كاذبا. (2) الديوان: مسود. (3) الذخيرة (2: 160) والشريشي 1: 234 والبيت المضمن للمعري. (4) الشريشي 1: 234. (5) م: سيد. (6) أبيات ابن عبد ربه في الشريشي 1: 305.

264 - وقال النحلي في مغنية: ولاعبة الوشاح كغصن (1) بانٍ ... لها أثرٌ بتقطيع القلوب إذا سوّت طريق العود نقراً ... وغنّت في محبّ أو حبيب فيمناها تقدّ بها فؤادي ... ويسراها تعدّ بها ذنوبي 265 - وقال ابن شهيد (2) : كلفت (3) بالحب حتى لو دنا أجلي ... لما وجدت لطعم الموت من ألم وعاقني (4) كرمي عمّن ولهت به ... ويلي من الحبّ أو ويلي من الكرم 266 - وكان بشريش (5) صوفي حافظ للشعر، فلا يعرض في مجلسه معنى إلا وهو ينشد عليه، فاتفق أن عطس رجل بمجلسه، فشمته الحاضرون، فدعا لهم، فرأى الصوفي أنه إن شمته قطع إنشاده بما لا يشاكله من النظم، وإن لم يشمته كان تقصيراً في البر، فرغب حين أصبح من الطلبة نظم هذا المعنى، فقال الوزير الحسيب أبو عمرو ابن أبي محمد (6) : يا عاطساً يرحمك الله إذ ... أعلنت بالحمد على عطستك ادع لنا ربّك يغفر لنا ... وأخلص النية في دعوتك وقل له يا سيدي رغبتي ... حضور هذا الجمع في حضرتك وأنت يا ربّ النّوى ... بارك ربّ الناس في ليلتك فإن يكن منكم لنا عودةٌ ... فأنت محمودٌ على عودتك

_ (1) ق ب: بغصن. (2) ديوان ابن شهيد: 148. (3) الديوان: ألمت. (4) الديوان: وذادني. (5) الشريشي 1: 341. (6) الشريشي: ابن محمد.

وهذا الوزير المذكور كان يصرف شعره في أوصاف الغزلان ومخاطبات الإخوان، وكتب إلى الشريشي - شارح المقامات (1) - يستدعي منه كتاب العقد: أيا من غدا سلكاً لجيد معارفه ... ومن لفظه زهرٌ أيقٌ لقاطفه محبّك أضحى عاطل الجيد فلتجد ... بعقدٍ على لبّاته وسوالفه ووعك في بعض الأعياد، فعاده من أعيان الطلبة جملة، فلما هموا بالانصراف أنشدهم ارتجالاً: لله درّ أفاضل (2) أمجاد ... شرف النّديّ بقصدهم والنادي لمّا أشاروا بالسلام وأزمعوا ... أنشدتهم وصدقت في الإنشاد في العيد عدتم وهو يوم عروبةٍ ... يا فرحتي بثلاثة الأعياد قال الشريشي في شرح المقامات: ولقد زرته في مرضه الذي توفي فيه رحمه الله تعالى أنا وثلاثة فتيان من الطلبة، فسألني عنهم وعن آبائهم، فلما أرادوا الانصراف ناول أحدهم محبرة، وقال له: اكتب، وأملى عليه ارتجالاً: ثلاثة فتيانٍ يؤلف بينهم ... نديٌّ كريمٌ لا أرى الله بينهم تشابه خلقٌ منهم وخليقةٌ ... فإن قلت أين الحسن فانظره أين هم وزيّنهم أستاذهم إذ غدا لهم ... معلم آياتٍ فتمم زينهم فإن خفت من عينٍ ففي الكلّ فل تقل ... وقى الله ربّ الناس للكلّ عينهم 267 - وقال الشريشي (3) : حدثنا شيخنا أبو الحسين ابن زرقون، عن أبيه أبي عبد الله، أنه قعد مع صهره أبي الحسن عبد الملك بن عياش

_ (1) م: صاحب كتاب شرح المقامات. (2) الشريشي: در عصابة. (3) الشريشي 1: 365.

الكاتب على بحر المجاز، وهو مضطرب الأمواج، فقال له أبو الحسن: أجز: وملتطم الغوارب موّجته ... بوارح في مناكبها غيوم فقال أبو عبد الله: تمنّع لا يعوم به سفينٌ ... ولو جذبت به الزّهر النجوم 268 - وكان لابن عبد ربه فتىً يهواه، فأعلمه أنه يسافر غداً، فلما أصبح عاقه المطر عن السفر، فانجلى عن ابن عبد ربه همه، وكتب إليه (1) : هلا ابتكرت لبينٍ أنت مبتكر ... هيهات يأبى عليك الله والقدر ما زلت أبكي حذار البين ملتهباً ... حتى رثى لي فيك الريح والمطر يا برده من حيا مزنٍ على كبدٍ ... نيرانها بغليل الشوق تستعر آليت أن لا أرى شمساً ولا قمراً ... حتى أراك فأنت الشمس والقمر وقال ابن عبد ربه (2) : صل من هويت وإن أبدى معاتبةً ... فأطيب العيش وصلٌ بين إلفين واقطع حبائل خدنٍ لا تلائمه ... فقلّما تسع الدنيا بغيضين 269 - وقال أبو محمد غانم بن الوليد المالقي (3) : صيّر فؤادك للمحبوب منزلةً ... سمّ الخياط مجالٌ للمحبّين ولا تسامح بغيضاً في معاشرةٍ ... فقلّما تسع الدنيا بغيضين 270 - وكان المتوكل صاحب بطليوس ينتظر وفود أخيه عليه من

_ (1) أبيات ابن عبد ربه في المطمح: 51. (2) العقد 2: 316. (3) مر البيتان ص: 265، 398.

شنترين يوم الجمعة، فأتاه يوم السبت، فلما لقيه عانقه وأنشده: تخيرت اليهود السبت عيداً ... وقلنا في العروبة يوم عيد فلمّا أن طلعت السبت فينا ... أطلت لسان محتجّ اليهود 271 - وقال أبو بكر ابن بقي (1) : أقمت فيكم على الإقتار والعدم ... لو كنت حرّاً أبيّ النفس لم أقم فلا حديقتكم يجنى لها ثمرٌ ... ولا سماؤكم تنهلّ بالدّيم أنا امرؤ إن نبت بي أرض أندلسٍ ... جئت العراق فقامت لي على قدم ما العيش بالعلم إلاّ عيشةٌ ضعفت ... وحرفةٌ وكلت بالقعدد البرم 272 - وقال الأبيض بالفقهاء المرائين (2) : أهل الرياء لبستم ناموسكم ... كالذئب يدلج (3) في الظلام العاتم فملكتم الدنيا بمذهب مالكٍ ... وقسمتم الأموال بابن القاسم وركبتم شهب البغال بأشهبٍ ... وبأصبغٍ صبغت لكم في العالم وقال (4) : قل للإمام سنا الأئمّة مالكٍ ... نور العيون ونزهة الأسماع لله درّك من همامٍ ماجدٍ ... قد كنت راعينا فنعم الراعي فمضيت محمود النقيبة (5) طاهراً ... وتركتنا قنصاً لشرّ سباع

_ (1) أبيات ابن بقي في القلائد: 281. (2) زاد المسافر: 71 وهي في المعجب: 235 منسوبة لابن البني؛ وانظر الشريشي 1: 185. (3) زاد المسافر: يختل. (4) زاد المسافر: 71. (5) م: المناقب.

أكلوا بك الدنيا وأنت بمعزلٍ ... طاوي الحشا متكفّت الأضلاع تشكوك دنيا لم تزل بك برّةً ... ماذا رفعت بها من الأوضاع 273 - وقال ابن صارة: يا من يعذّبني لمّا تملّكني ... ماذا تريد بتعذيبي وإضراري تروق حسناً وفيك الموت أجمعه ... كالصقل في السيف أو كالنور في النار 274 - وقال عبدون البلنسي (1) : يا من محيّاه جنّاتٌ مفتّحةٌ ... وهجره لي ذنبٌ غير مغفور لقد تناقضت في خلقٍ وفي خلقٍ ... تناقض النار بالتدخين والنّور 275 - وقال الوزير ابن الحكيم: رسخت أصول علاكم تحت الثرى ... ولكم على خطّ المجرّة دار إنّ المكارم صورةٌ معلومةٌ ... أنتم لها الأسماع والأبصار تبدو شموس الدّجن من أطواقكم ... وتفيض من بين البنان بحار ذلّت لكم نسم الخلائق مثل ما ... ذلّت لشعري فيكم الأشعار فمتى مدحت ولا مدحت سواكم ... فمديحكم في مدحه إضمار 276 - وقال القاضي أبو جعفر ابن برطال (2) :

_ (1) هو أبو محمد عبد الله بن يحيى الحضرمي ابن صاحب الصلاة ويعرف بعبدون من أهل دانية وسكن شاطبة وتوفي ببلنسية (- 578) وترجمته في التحفة: 68 والتكملة رقم: 1402. (2) هو أحمد بن محمد بن علي الأموي ويكنى أبا جعفر ويعرف بابن برطال، كان من أهل الخير والانقباض والعفة والوقار يتكسب بصناعة التوثيق، ثم أصبح قاضيا لغرناطة وإماما بمسجدها الأعظم حتى عام 741 وتوفي بمالقة سنة 750 (انظر ترجمته وشعره في الإحاطة 1: 177 - 179) .

أستودع الرحمن من لوداعهم ... قلبي وروحي آذنا بوداع بانوا وطرفي والفؤاد ومقولي ... باكٍ ومسلوب العزاء وداع فتولّ يا مولاي حفظهم ولا ... تجعل تفرّقنا فراق وداع (1) 277 - وقال ابن خفاجة (2) : وما هاجني إلاّ تألّق بارقٍ ... لبست به برد الدّجنّة معلما وهي طويلة. وقال من أخرى (3) : جمعت ذوائبه ونور جبينه ... بين الدّجنّة والصباح المشرق 278 - وقال ذو الوزارتين أبو الوليد ابن الحضرمي البطليوسي في غلام للمتوكل بن الأفطس يرثيه (4) : غالته أيدي المنايا ... وكنّ في مقلتيه وكان يسقي الندامى ... بطرفه ويديه عصنٌ ذوى وهلالٌ ... جار الكسوف عليه 279 - وقال الفقيه العالم أبو أيوب سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي عالمها في المذهب المالكي، وقد تحاكم إليه وسيمان أشقر وأكحل فيمن يفضل بينهما (5) : وشادنين ألمّا بي على مقةٍ ... تنازعا الحسن في غايات مستبق

_ (1) سقط البيت من م. (2) ديوانه: 173. (3) ديوانه: 150 (4) انظر ترجمته في المغرب 1: 365. (5) مرت الأبيات ص: 292.

كأنّ لمّة ذا من نرجسٍ خلقت ... على بهار وذا مسك على ورق وحكّما الصبّ في التفضيل بينهما ... ولم يخافا عليه رشوة الحدق فقال يبدي هلال الدّجن حجّته ... مبيّناً بلسان منه منطلق فقال وجهي بدرٌ يستضاء به ... ولون شعري مقطوعٌ من الغسق وكحل عينيّ سحرٌ للنّهى وكذا ... ك الحسن أحسن ما يعزى إلى الحدق وقال صاحبه أحسنت وصفك ل ... كن فاستمع لمقالٍ فيّ متّفق أنا على أفقي شمس النّهار ولم ... تغرب وشقرة شعري شقرة الشفق وفضل ما عيب في العينين من زرق ... أنّ الأسنّة قد تعزى إلى الزّرق قضيت للمّة الشقراء حيث حكت ... نوراً كذا حبّها يقضي على رمقي فقام ذو اللمّة السوداء يرشقني ... سهام أجفانه من شدّة الحنق وقال جرت فقلت الجور منك على ... قلبي ولي شاهدٌ من دمعي الغدق وقلت عفوك إذ أصبحت متّهماً ... فقال دونك هذا الحبل فاختنق وكان فيه ظرف وأدب، وعنوان طبقته هذه الأبيات. وقال: وغاب من الأكواس فيها ضراغم ... من الراح ألباب الرجال فريسها قرعت بها سنّ الحلوم فأقطعت ... وقد كاد يسطو بالفؤاد رسيسها وله رحمه الله تعالى " شرح البخاري " وأكثر ابن حجر من النقل عنه في " فتح الباري "، وله كتاب " الأحكام " وغير ذلك، وترجمته شهيرة. 280 - وقال الأديب النحوي المؤرخ أبو إسحاق إبراهيم بن [قاسم] الأعلم البطليوسي صاحب التواليف التي بلغت نحو خمسين (1) :

_ (1) انظر ترجمته في المغرب 1: 369 واختصار القدح: 157 وبغية الوعاة: 185 والبيتان في المغرب والقدح.

يا حمص لا زلت داراً ... لكلّ بؤسٍ وساحه ما فيك موضع راحه ... إلاّ وما فيه راحه وهوشيخ أبي الحسن ابن سعيد صاحب " المغرب " وأنشده هذين البيتين لما ضجر من الإقامة بإشبيلية أيام فتنة الباجي. 281 - وقال الأديب الطبيب أبو الأصبغ عبد العزيز البطليوسي الملقب بالقلندر (1) : جرت منّي الخمر مجرى دمي ... فجلّ حياتي من سكرها ومهما دجت ظلمٌ للهموم ... فتمزيقها بسنى بدرها وخرج يوماً وهو سكران، فلقي قاضياً في نهاية من قبح الصورة، فقال: سكران خذوه، فلما أخذه الشرطي قال للقاضي: بفضل من ولاك على المسلمين بهذا الوجه القبيح عليك إلا ما أفضلت علي وتركتني، فقال القاضي: والله لقد ذكرتني بفضلٍ عظيم؛ ودرأ عنه الحد. 282 - وقال ابن جاخ الصباغ البطليوسي (2) ، وهو من أعاجيب الدنيا، لا يقرأ ولا يكتب: ولمّا وقفنا غداة النّوى ... وقد أسقط البين ما في يدي رأيت الهوادج فيها البدور ... عليها البراقع من عسجد وتحت البراقع مقلوبها ... تدبّ على ورد خدٍّ ندي تسالم من وطئت خدّه ... وتلدغ قلب الشّجي المكمد

_ (1) المغرب 1: 369 وفيه " القلمندر ". (2) ترجمته في الجذوة: 381 (وبغية الملتمس رقم: 1562) ؛ والأبيات التي أوردت هنا ذكر صاحب المطرب (184) أنها لعلي بن إسماعيل الأشبوني وأخذها ابن جاخ وادعاها لنفسه.

وقال في المتوكل، وقد سقط عن فرس: لا عتب للطّرف إن زلّت قوائمه ... ولا يدنّسه من عائبٍ دنس حمّلت جوداً وبأساً فوقه ونهىً ... وكيف يحمل هذا كلّه الفرس 283 - وقال الشاعر المشهور بالكميت البطليوسي (1) : لا تلوموني فإنّي عالمٌ ... بالذي تأتيه نفسي وتدع بالحميّا والمحيّا صبوتي ... وسوى حبّهما عندي بدع فضّل الجمعة يوماً وأنا ... كلّ أيامي بأفراحي جمع 284 - وقال أبو عبد الله محمد بن البين البطليوسي، وهو ممن يميل إلى طريقة ابن هانئ (2) : غصبو الصباح فقسّموه خدودا ... واستنهبوا قضب الأراك قدودا ورأوا حصى الياقوت دون محلّهم ... فاستبدلوا منه النجوم عقودا واستودعوا حدق المها أجفانهم ... فسبوا بهنّ ضراغماً وأسودا لم يكفهم حمل الأسنّة والظّبى ... حتى استعاروا أعيناً وقدودا وتضافروا بضفائرٍ أبدوا لنا ... ضوء النّهار بليلها معقودا صاغوا الثغور من الأقاحي بينها ... ماء الحياة لو اغتدى مورودا 285 - وكان عند المتوكل مضحك يقال له الخطارة، فشرب ليلة مع المتوكل، وكان في السقاة وسيم، فوضع عينه عليه، فلما كان وقت السحر دب إليه، وكان بالقرب من المتوكل، فأحس به، فقال له: ما هذا يا خطارة

_ (1) ترجمة الكميت في الجذوة: 314 (وبغية الملتمس رقم: 1215) وهو الكميت بن الحسن أبو بكر من شعراء عماد الدولة ابن هود بسرقسطة؛ وانظر المغرب 1: 370. (2) الشعر في الذخيرة (2: 307) والمغرب 1: 370 وانظر ما تقدم ص: 403.

فقال له: يا مولاي هذا وقت تفرغ الخطارة الماء في الرياض، فقال له: لا تعد لئلا يكون ماء أحمر، فرجع إلى نومه، ولم يعد في ذلك كلمة بقية عمره معه، ولا أنكر منه شيئاً، ولم يحدث بها الخطارة حتى قتل المتوكل، رحمه الله تعالى. والخطارة: صنف من الدواليب الخفاف يستقي به أهل الأندلس من الأدوية، وهو كثير على وادي إشبيلية، وأكثر ما يباكرون العمل في السحر. 286 - وقال الوزير أبو زيد عبد الرحمن بن مولود: أرني يوماً من الده ... ر على وفق الأماني ثمّ دعني بعد هذا ... كيفما شئت تراني 287 - وقال أديب الأندلس وحافظها أبو محمد عبد المجيد بن عبدون الفهري اليابري، وهو من رجال الذخيرة والقلائد، وشهرته مغنية عن الزيادة، يخاطب المتوكل وقد أنزله في دار وكفت عليه (1) : أيا سامياً من جانبيه كليهما ... " سموّ حباب الماء حالاً على حال " لعبدك دارٌ حلّ فيها كأنّها ... " ديار لسلمى عافياتٌ بذي خال " يقول لها لمّا رأى من دثورها ... " ألا عم صباحاً أيّها الطّلل البالي " فقالت وما عيّت جواباً بردّها ... " وهل يعمن من كان في العصر الخالي " فمر صاحب الانزال فيها بعاجلٍ ... " فإنّ الفتى يهذي وليس بفعّال " وقال في جمع حروف الزيادة حسبما ذكره عنه في " المغرب " (2) : سألت الحروف الزائدات عن اسمها ... فقالت ولم تكذب: أمان وتسهيل

_ (1) مرت هذه الأبيات ص: 293 وانظر المطرب: 182. (2) لم يرد البيت في ترجمة ابن عبدون في المغرب (1: 374) وإنما أورده صاحب المطرب: 180.

[ضوابط حروف الزيادة] قلت وعلى ذكر حروف الزيادة فقد أكثر الناس في انتقاء الكلمات الضابطة لها، وقد كنت جمعت فيها نحو مائة ضابط، ولنذكر الآن بعضها، فنقول: منها " أهوى تلمسانا " ونظمتها فقلت: قالت حروف زياداتٍ لسائلها ... هل هويت بلدة: أهوى تلمسانا وجمعها ابن مالك في بيت واحد بأربعة أمثلة من غير حشو، وهو: هناء وتسليم، تلا يوم أنسه، ... نهاية مسؤول، أمان وتسهيل ومنها " هويت السمان ". وحكي أن أبا عثمان المازني سئل عنه فأنشد: هويت السمان فشيّبنني ... وقد كنت قدماً هويت السمانا فقيل له: أجبنا، فقال: أجبتكم مرتين، ويروى أنه قال: سألتمونيها، فأعطيتكم ثلاثة أجوبة، هكذا حكاه بعض المحقققين، وهو أرق مما حكاه غير واحد على غير هذا الوجه، ومنها: " سألتمونيها "، ومنها: اليوم تنساه، الموت ينساه، أسلمني وتاه، هم يتساءلون، التناهي سمو، تنمي وسائله، أسلمي تهاون، تهاوني أسلم، التمس هواني، ما سألت يهون، مؤنس التياه، لم يأتنا سهو، يا أويس هل نمت، نويت سؤالهم، نويت مسائله، سألتم هواني، تأملها يونس، أتاني وسهيل، هوني مسألتها، سألت ما يهون، وسليمان أتاه، تسأل من يهوى، استملاني هو، أسلمت وهناي، هو استمالني، سايل وأنت هم، يا هول استنم، أتاه وسليمان. قلت: وليس هذا تكراراً مع السابق الذي هو " وسليمان أتاه " لأن التقديم والتأخير يصيرهما شيئين. ومنها: الوسمي هتان، أوليتم سناه، واليتم أنسه، أمسيت وناله، أنله

توسيماً، أملتني سهواً، أتوسل يمنها، سألتهن يوماً، سألت يومنها، سألت ما يوهن، نهوي ما سألت، يهون ما سألت، وقد سبق " سألت ما يهون " وعدهما شيئين من أجل التقديم والتأخير كما مر نظيره، ألا تنس يومه، ليتأس ماؤه، سله موتي أنا، أنسته اليوم، سألم هوينا، آوي من تسأله، وهين ما سألت، وهني ما سألت، مسألتي نواه. ومنها: مسألتي هاون، سهوان يتألم، أيلتم سهوان، أو يلتم ناسه، مسألتي أهون، أو ميت تنساه، سموتهن إليها، أمليت سهوان، وسألتم هينا، يهون ما تسأل، أتلو من سهيا، أسلم وانتهى، يتأمل سهوان، يتأمل ناسوه، يتأملن سواه، ايتأمل نسوه، الهوى أتنسم، وليت ماه آسن، تولين أسهما، اتلوا سهمين، أول ساهمتني، أسماؤه تنيل، يتأملنه سوا، أولم يتسناه، آمن ويتساهل، أمسيتن لهواً، توسميه لناء، هو ما تسألين، لأيهما نتوسم، أيهما نتوسل، أتاني لسموه، سميتهن أولاً، أولاهن سميت، سلمتني أهوا، أسلمتني هوا، أو نستميلها، أيستمهلونا، هنأت الموسى، سليم انتهوا، وأنت سائلهم، ساءلته ينمو، تهنأ لا يسمو، اسألي مؤنته، سألتي موهناً، التمس هوناً، استملي أهون، التناه موسى، لهواء يتسنم، نهوى ما تسأل، ماؤه ليتأسن، تنسمي لهواء، تلومي إن سها، ألمتني سهواً، ستولينا أمه، يتمهلون أسا، أمهلتني سوا، التناسي وهم، أهويت سلمان، هويت المأنس، المأنس تهوي، هويت أم ناسل، أوليس تم هنا، استوهن أملي، استهون ألمي، استلمنا وهيأ، أتسلمونيها، أيتسلمونها، ألا يتسمونه، أليس توهمنا، ألا يتسنموه. فهذه مائة وأربعة وثلاثون تركيباً، منها ما هو متين، ومنها ما هو غير متين، وقد جمع ابن خروف فيها اثنين وعشرين تركيباً محكياً وغير محكي، وأحسنها بيت ابن عبدون السابق، ويليه بيت ابن مالك، وقال الطغمي جامعاً لها أربع مرات:

آلمتني سهواً، تلومي إن سها ... أو ليس تم هنا، الهوا يتسم هكذا بخطه يتسنم، ولو قال يتنسم لكان أنسب، وقال أيضاً: وليت ما سناه والتمسي هنا ... ما تسألين هو الهنا يتوسم قلت: وقد جمعت في المغرب زيادة على ما تقدم، وكنت قدرت رسالة فيها أسميها " إتحاف أهل السيادة بضوابط حروف الزيادة ". 288 - وقال أبو محمد عبد الله بن الليث يستدعي الوزير أبا الحسن اليابري في يوم غيم: رقم الربيع بروضنا أزهاره ... فجرى على صفحاته أنهاره فعسى تشرفنا ببهجة سيّدٍ ... ألقى على ليل الخطوب نهاره تتمتّع الآداب من نفحاته ... فيشمّ منها ورده وبهاره يا سيداً بهر البرية سؤدداً ... أبدى إلينا سرّه وجهاره يومٌ أظلّ الغيم وجه ضيائه ... فعليك يا شمس العلا إظهاره 289 - وقال أبو القاسم ابن الأبرش (1) : أدر كاس المدام فقد تغنّى ... بفرع الأيك طائره الصّدوح وهبّ على الرياض نسيم صبحٍ ... يمرّ كما دنا سارٍ طليح ومال النهر يشكو من حصاه ... جراحاتٍ كما أنّ الجريح وقال: حلفت ويشهد دمعي بما ... أقاسيه من هجرك الزائد

_ (1) هو أبو القاسم خلف بن يوسف بن فرتون الأبرش النحوي (توفي: 532) وترجمته في التحفة: 13 والصلة: 174 وبغية الملتمس رقم: 722 وبغية الوعاة: 234.

فإن كنت تجحد ما أدّعي ... وحاشاك تعرف بالجاحد فإنّ النبيّ عليه السلام ... قضى باليمين مع الشاهد 290 - وقال أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني صاحب الذخيرة، وشهرته تغني عن ذكره، ونظمه دون نثره، يخاطب أبا بكر ابن عبد العزيز: أبا بكرٍ المجتبى للأدب ... رفيع العماد قريع الحسب أيلحن فيك الزمان الخؤون ... ويعرب عنك لسان العرب وإن لم يكن أفقنا واحداً ... فينظمنا شمل هذا الأدب وقد ذكرنا له في غير هذا المحل قوله: ألا بادر فلا ثانٍ سوى ما ... عهدت الكأس والبدر التمام ... الأبيات وتأخرت وفاته إلى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وهو منسوب إلى " شنترين " من الكور الغربية البحرية من أعمال بطليوس. 291 - وقال أبو عمر يوسف بن كوثر: مررت به يوماً يغازل مثله ... وهذا على ذا بالملاحة يمتنّ فقلت: اجمعا في الوصل رأيكما فما ... لمثلكما كان التغزل والمجن عسى الصب يقضي الله بينكما له ... بخيرٍ فقالا لي: اشتهى العسل السّمن 292 - وقال أبو محمد ابن سارة (1) : أعندك أن البدر بات ضجيعي ... فقضّيت أوطاري بغير شفيع

_ (1) الذخيرة (2: 324) .

جعلت ابنة العنقود بيني وبينه ... فكانت لنا أمّاً وكان رضيعي وقال (1) : أيا من حارت الأوهام فيه ... فلم تعلم له الأقدار كنها يجيد النبل منّاعقد أنسٍ ... أقام بغير واسطةٍ فكنها 293 - وقال أبو الحسن [ابن] منذر الأشبوني: فديتك إنّي عن جنابك راحلٌ ... فهل لي يوماً من لقائك زاد وحسبك والأيام خونٌ غوادرٌ ... فراقٌ كما شاء العدا وبعاد 294 - وقال خلف بن هرون القطيني: من أنبت الورد في خدّيك يا قمر ... ومن حمى قطفه إذ ليس مصطبر الزّهر بالرّوض مقرونٌ بأزمنةٍ ... وروض خدّك موصولٌ به الزّهر 295 - وكان لابن الحاج صاحب قرطبة ثلاثة أولاد من أجمل الناس حسون وعزون ورحمون، فأولع بهم الإمام أبو محمد ابن السيد النحوي، وقال فيهم (2) : أخفيت سقمي حتّى كاد يخفيني ... وهمت في حبّ عزّون فعزّوني ثم ارحموني برحمون فإن ظمئت ... نفسي إلى ريق حسّون فحسّوني ثم خاف على نفسه فخرج من قرطبة، هكذا رأيته بخط بعض المؤرخين والله أعلم.

_ (1) الذخيرة (2: 326) . (2) مر البيتان ص: 287 وقد حذفهما في م وقال: " وقد تقدمت هذه الحكاية ".

296 - وقال ابن خفاجة يداعب من بقل عذاره (1) : أيّها التائه مهلا ... ساءني أن تهت جهلا هل ترى فيما ترى ... إلاّ شباباً قد تولّى وغراماً قد تسرّى ... وفؤاداً قد تسلّى أين دمعٌ فيك يجري ... أين جنبٌ يتقلّى أين نفسٌ بك تهذي ... وضلوعٌ فيك تصلى أيّ باكٍ كان لولا ... عارضٌ وافى فولّى وتخلّى عنك إلاّ ... أسفاً لا يتخلّى وانطوى الحسن فهلاّ ... أجمل الحسن وهلاّ أما بعد أيها النبيل النبيه، فإنه لا يجتمع العذار والتيه، قد كان ذلك وغصن تلك الشبيبة رطب، ومنهل ذلك المقبل عذب، وأما والعذار فقد بقل، والزمان قد انتقل، والصب قد صحا فعقل، فقد ركدت رياح الأشواق، ورقدت عيون العشاق، فدع عنك من نظرة التجني، ومشية التثني، وغض من عنانك، وخذ في ترضي إخوانك، وهش عند اللقاء هشة أريحية، واقنع بالإيماء رجع تحية، فكأني بفنائك مهجوراً، وبزائرك مأجوراً والسلام. 297 - وقال الرصافي لما بعث إليه من يهواه سكيناً (2) : تفاءلت بالسكين لمّا بعثته ... لقد صدقت منّي العيافة والزجر فكان من السكين سكناك في الحشا ... وكان من القطع القطيعة والهجر

_ (1) ديوان ابن خفاجة: 129. (2) ديوان الرصافي: 99 (عن النفح) .

298 - وحضر الفقيه أبو بكر ابن جبيش ليلة مع بعض الجلة وطفئ السراج، فقال ارتجالا: أذك السراج يرينا غرة سفرت ... فباتت الشمس تستحيي وتستتر أو خله فكانا وجه سيدنا ... لا يطلب النجم من في بيته (1) القمر 299 - وقصد أحد الأدباء بمرسية أحد السادات من بني عبد المؤمن، فأمر له بصلة خرجت على يد ابن له صغير، فقال المذكور ارتجالا: تبرك بنجل جاء باليمن والسعد ... يبشر بالتأييد طائفة المهدي تكلم روح الله في المهد قبله ... وهذا براء بدل اللام في المهد 300 - وخرج الأستاذ أبو الحسن ابن جابر الدباج (2) ، يوما مع طلبته للنزهة بخارج إشبيلية، وأحضرت مجبنات ما خبا نارها (3) ، ولا هدأ أوراها، فما خام عنها ولا كف، ولا صرف حرها عن اختضابها البنان ولا الكف، فقال: أحلى مواقعها إذا قربتها ... وبخارها فوق الموائد سام إن أحرقت لمسا فإن أوراها ... في داخل الأحشاء برد سلام 301 - وقال أبو بكر أحمد بن محمد الأبيض الإشبيلي يتهكم برجل زعم أنه ينال الخلافة (4) : أمير المؤمنين نداء شيخ ... أفادك من نصائحه اللطيفة

_ (1) م: في وجهه. (2) القصة والبيتان في القدح: 156 وانظر المغرب 1: 256. (3) كانت عادة أهل إشبيلية أكل هذه المجبنات يوم خميس إبريل. (4) زاد المسافر: 69.

تحفظ أن يكون الجذع يوما ... سريرا من أسرتك المنيفه أفكّر فيك مطويّاً فأبكي ... وتضحكني أمانيك السخيفه 302 - وقال صفوان: ونهار أنسٍ لو سألنا دهرنا ... في أن يعود بمثله لم يقدر خرق الزّمان لنا به عاداته ... فلو اقترحنا النجم لم يتعذر في فتيةٍ علمت ذكاء بحسنهم ... فتلفّعت من غيمها في مئزر والسرحة الغنّاء قد قبضت بها ... كفّ النسيم على لواء أخضر وكأن شكل الغيم (1) منخل فضّةٍ ... يلقي على الآفاق رطب الجوهر 303 - واجتاز بعض الغلمان على أبي بكر ابن يوسف، فسلم عليه بإصبعه، فقال أبو بكر في ذلك وأشار في البيت الثالث إلى أن والد الغلام كان خطيب البلد: مرّ الغزال بنا مروعاً نافراً ... كشبيهه في القفر ريع بصائده لثم السّلامى في السّلام تستراً ... ثم انثنى حذر الرقيب لراصده هلاّ تكلّف وقفةً لمحبّه ... ولو آنها قصراً كجلسة والده 304 - وقال أبو القاسم القبتوري: واحسرتا لأمورٍ ليس يبلغها ... مالي وهنّ منى نفسي وآمالي أصبحت كلآل لا جدوى لديّ وما ... آليت جدّاً ولكن جدّي الآلي 305 - وقال أبو الحسن ابن الحاج (2) :

_ (1) ب: الماء. (2) هو جعفر بن الحاج، ترجم له القلائد: 139 والمغرب: 2: 277 وانظر الحاشية، وورد البيتان فيه ص: 281 والمطرب: 175 وقد وقعا في م قبل بيتي القبتوري.

كفى حزناً أنّ المشارع جمّةٌ ... وعندي إليها غلّةٌ وأوام ومن نكد الأيام أن يعدم الغنى ... كريمٌ وأنّ المكثرين لئام 306 - وقال أحمد بن أمية البلنسي: قال رئيسي حين فاوضته ... وما درى أنّ مقامي عسير أقم فقلت الحال لا تقتضي ... فقال سر قلت جناحي كسير 307 - وقال ابن برطله: لله ما ألقاه من همّةٍ ... لا ترتضي إلا السّها منزلا ومن خمولٍ كلما رمت أن ... أسمو به بين الورى قال لا 308 - وكتب ابن خروف لبعض الرؤساء: يا من حوى كلّ مجدٍ ... بجدّه وبجدّه أتاك نجل خروفٍ ... فامنن عليه بحدّه وكتب أيضاً لبعضهم يستدعي فروة: بهاء الدين والدنيا ... ونور المجد والحسب طلبت مخافة الأنوا ... ء من جدواك جلد أبي وفضلك عالمٌ أنّي ... خروفٌ بارع الأدب حلبت الدهر أشطره ... وفي حلبٍ صفا حلبي وبعد كتبي لما ذكر خشيت أن لا يكون لابن خروف المشرقي لا الأندلسي (1) ، والله تعالى أعلم.

_ (1) هو كما قدر المقري فإن هاتين القطعتين لابن خروف أبي الحسن علي بن خمد، ولكنه أيضا قرطبي الأصل استقر بحلب (انظر الغصون اليانعة: 138 وزاد المسافر: 20) .

309 - وركب محبوب أبي بكر ابن مالك (1) كاتب ابن سعد بغلةً رديف رجل يعرف بالدب، فقال أبو بكر في ذلك: وبغلةٍ ما لها مثال ... يركبها الدّب والغزال كأنّ هذا وذا عليها ... سحابةً خلفها هلال 310 - وخرج محبوب لأبي الحسن ابن حريق (2) يوماً لنزهة وعرض سيل عاقه عن دخول البلد، فبات ليلة عند أبي الحسن، فقال في ذلك: يا ليلةً جادت الأماني ... بها على رغم أنف دهري تسيل فيها عليّ نعمى ... يقصر عنها لسان شكري أبات في منزلي حبيبي ... وقام في أهله بعذر وبتّ لا حالةٌ كحالي ... صريع سكرٍ ضجيع بدر يا ليلة القدر في اللّيالي ... لأنت خيرٌ من آلف شهر 311 - وقال أبو الحسن ابن الزقاق (3) : عذيري من هضيم الكشح أحوى ... رخيم الدّل قد لبس الشّبابا أعدّ الهجر (4) هاجرةً لقلبي ... وصيّر وعده فيها سرابا 312 - وقال أبو بكر ابن الجزار السرقسطي: ثناء الفتى يبقى ويفنى ثراؤه ... فلا تكتسب بالمال شيئاً سوى الذكر فقد أبلت الأيّام كعباً وحاتماً ... وذكرهما غضٌّ جديدٌ إلى الحشر

_ (1) زاد المسافر: 33. (2) هذا الخبر والشعر سقطا من م؛ وقد مرت الأبيات ص: 410. (3) ديوان ابن الزقاق: 98. (4) ب: العتب.

313 - وقال الأديب أبو عبد الله الجذامي (1) : كان لشخصٍ من أصحابنا قينة، فبينما هو ذات يوم قد رام تقبيلها على أثر سواك أبصره بمبسمها إذ مرّ فوال ينادي على فول يبيعه، قال فكلفني أن أقول في ذلك شيئاً، فقلت: ولم أنس يوم الأنس حين سمحت لي ... وأهديت لي من فيك فول سواك ومرّ بنا الفوّال للفول مادحاً ... وما قصده في المدح فول سواك وشرب يوماً أبو عبد الله المذكور عند بعض الأجلة وذرعه القيء، فارتجل في العذر: لا تؤاخذ من أخلّ به ... قهوةٌ في الكاس كالقبس كيف يلحى في المدام فتىً ... أخذته أخذ مفترس دخلت في الحلق مكرهةً ... ضاق عنها موضع النفس خرجت من موضعٍ دخلت ... أنفت من مخرج النجس 314 - وجلس سلمة بن أحمد إلى جنب وسيم يكتب من محبرة فانصب الحبر منها على ثوب سلمة، فخجل الغلام، فقال سلمة: صبّ المداد وما تعمّد صبّه ... فتورّد الخدّ المليح الأزهر يا من يؤثّر حبره في ثوبنا ... تأثير لحظك في فؤادي أكبر 315 - وكان لأبي الحسن ابن حزمون (2) بمرسية محبوب يدعى أبا عامر، وسافر أبو الحسن، فبينما هو بخارج المرية لإذ لقي فتىً يشبه محبوبه، وسأله عن اسمه، فأخبره بأنه يدعى أبا عامر، فقال أبو الحسن في ذلك: إلى كم أفرّ أمام الهوى ... وليس لذا الحبّ من آخر

_ (1) الخبر والبيتان التاليان ساقطة من م. (2) من شعراء زاد المسافر: 64 وله شعر في المعجب والبيان المغرب.

وكيف أفرّ أمام الهوى ... وفي كلّ وادٍ أبو عامر 316 - وحضر أبو بكر ابن مالك كاتب ابن سعد مع محبوبه لارتقاب هلال شوال، فأغمي على الناس ورآه محبوبه، فقال أبو بكر في ذلك (1) : توارى هلال الأفق عن أعين الورى ... ولاح لمن أهواه منه فحيّاه (2) فقلت لهم: لم تفهموا كنه سرّه ... ولكن خذوا عنّي حقيقة معناه بدا الفق كالمرآة راق صفاؤه ... فأبصر دون الناس فيه محيّاه 317 - وكتب أبو بكر ابن حبيش لمن يهواه بقوله: متى ما ترم شرحاً بحالي وتبيينا ... فصحّف على قلبي " علومك تحيينا " أراد " إني بحبك مولع ". 318 - وكتب القاضي ابن السليم (3) إلى الحكم المستنصر بالله: لو أنّ أعضاء جسمي ألسنٌ نطقت ... بشكر نعماك عندي قلّ شكري لك أو كان ملّكني الرحمن من أجلي ... شيئاً وصلت به يا سيدي أجلك ومن تكن في الورى آماله كثرت ... فإنّما أملي في أن ترى أملك 319 - وقال الوزير ابن أبي الخصال: وكيف أؤدّي شكر من إن شكرته ... على برّ يومٍ زادني مثله غدا فإن رمت أقضي اليوم بعض الذي مضى ... رأيت له فضلاً عليّ مجدّدا

_ (1) زاد المسافر: 33. (2) م: محياه. (3) ب: ابن سليم.

320 - وقال الرصافي (1) : قلّدت جيد الفكر من تلك الحلى ... ما شاءه المنثور والمنظوم وأشرت قدّامي كأنّي لاثمٌ ... وكأن كفّي ذلك الملثوم وقال: ويا لك نعمةً رمنا مداها ... فما وصل اللسان ولا الضمير عجزنا أن نقوم لها بشكرٍ ... على أنّ الشكور لها كثير 321 - وقال ابن باجة: قومٌ إذا انتقبوا رأيت أهلّةً ... وإذا هم سفروا رأيت بدوراً لا يسألون عن النوال عفاتهم ... شكراً ولا يحمون منه نقيرا لو أنهم مسحوا على جدب الرّبى ... بأكفهم نبت الأقاح نضيرا (2) 322 - وقال ابن الأبار يمدح أبا زكريا سلطان إفريقية: تحلّت بعلياك اللّيالي العواطل ... ودانت لسقياك السحاب الهواطل وما زينة الأيام إلا مناقبٌ ... يفرّعها أصلان: بأسٌ ونائل إذا الطّول والصّول استقلاّ براحةٍ ... ترقّت لها نحو النجوم أنامل وقال أيضاً في سعيد بن حكم رئيس منرقة: سيّدٌ أيّدٌ رئيسٌ بئيسٌ ... في أساريره صفات الصباح قمرٌ في أفق المعالي تجلّى ... وتحلّى بالسؤدد الوضّاح سلم البحر في السماحة منه ... لجوادٍ سموّه بحر السماح

_ (1) ديوان الرصافي: 131، 87. (2) ب: صغيرا.

323 - وقال أبو العباس أحمد الإشبيلي: يا أفضل الناس إجماعاً ومعرفتي ... تغني وما الحسن في ريب ولا ريب ورثت عن سلفٍ ما شئت من شرفٍ ... فقد بهرت بموروثٍ ومكتسب 324 - وقال ابن زهر الحفيد: يا من يذكّرني بعهد أحبّتي ... طاب الحديث بذكرههم ويطيب أعد الحديث عليّ من جنباته ... إنّ الحديث عن الحبيب حبيب ملأ الضلوع وفاض عن أحنائها ... قلبٌ إذا ذكر الحبيب يذوب ما زال يضرب خافقاً بجناحه ... يا ليت شعري هل تطير قلوب وقال في زهر الكتان: أهلاً بزهر اللاّزورد ومرحبا ... في روضة الكتّان تعطفه الصّبا لو كنت ذا جهلٍ لخلتك لجّةً ... وكشفت عن ساقٍ كما فعلت سبا ولما قال الموشحة المشهورة التي أولها: صادني ولم يدر ما صادا ... قال أبو بكر ابن الجد: لو سئل عما صاد لقال: تيس بلحية حمراء. ولما قال الموشحة التي أولها: هات ابنة العنب ... واشرب إلى قوله: وفدّه بأبي ... ثمّ بي سمعها أبوه فقال: يفديه بالعجوز السوء أمه، وأما أنا فلا.

325 - وهنالك أبو بكر ابن زهر الأصغر (1) ، وهو ابن عم هذا الأكبر. ومن نظم الأصغر: والله ما أدري بما أتوسّل ... إذ ليس لي ذاتٌ بها أتوصّل لكن جعلت مودتي مع خدمتي ... لعلاك أحظى شافعٍ يتقبّل إن كنت من أدوات زهرٍ عاطلاً ... فالزّهر منهنّ السّماك الأعزل وهذه الأبيات خاطب ها المأمون بن المنصور صاحب المغرب. 326 - وقال الأديب أبو جعفر عمر ابن صاحب الصلاة: وما زالت الدنيا طريقاً لهالك ... تباين في أحوالها وتخالف ففي جانبٍ منها تقوم مآتمٌ ... وفي جانبٍ منها تقوم معازف فمن كان فيها قاطناً فهو ظاغنٌ ... ومن كان فيها آمناً فهو خائف 327 - وقال أبو بكر محمد ابن صاحب الصلاة يخاطب أخيل (2) لما انتقل إلى العدوة: لا تنكرنّ زماناً ... رماك منه بسهم وأنت غاية مجدٍ ... في كلّ علمٍ وفهم هذي دموعي حتى ... يراك طرفي تهمي يا ليت ما كنت أخشى ... عليك عدوان همّ وإنّما الدهر يبدي ... ما لا يجوز بوهم ما زال شيهم مسٍّ ... لكلّ يقظان شهم ولما وفد اهل الأندلس على عبد المؤمن قام خطيباً ناثراً وناظماً، فأتى

_ (1) هو أبو بكر محمد بن قسورة الإيادي، وترجمته وأبياته في القدح: 150 - 151. (2) بياض في ب؛ م: اخال.

بالعجب، وباهى به أهل الأندلس في ذلك الوقت. وله في عبد المؤمن: هم الألى وهبوا للحرب أنفسهم ... وأنهبوا ما حوت أيديهم الصّفدا ما إن يغبّون كحل الشمس من رهجٍ ... كأنّما عينها تشكو لهم رمدا 328 - وقال ابن السيد البطليوسي في أبي الحكم عمرو بن مذحج ابن حزم، وقد غلب على لبه، وأخذ بمجامع قلبه (1) : رأى صاحبي عمراً فكلّف وصفه ... وحمّلني من ذاك ما ليس في الطّوق فقلت له: عمرٌ كعمرٍ فقال لي ... صدقت ولكن ذاك شبّ (2) عن الطوق وفيه يقول ابن عبدون (3) : يا عمرو ردّ على الصّدور قلوبها ... من غير تقطيعٍ ولا تحريق وأدر علينا من خلالك أكؤساً ... لم تأل تسكرنا بغير رحيق وفيه يقول أحدهما: قل لعمرو بن مذحج ... جاء ما كنت أرتجي شاربٌ من زبرجدٍ ... ولمىً من بنفسج وكتب إليه ابن عبدون: سلامٌ كما هبّت من المزن نفحةٌ ... تنفّس عند الفجر في وجهها الزهر

_ (1) مر البيتان في المجلد الأول: 636 وهنا خطأ فصاحب البيتين كما هو أبو الحسن البطليوسي (ابن القبطورنة) ، ذكر ذلك ابن بسام في الذخيرة وابن سعيد في المغرب 1: 238. (2) ب م: ولكن ذا أشب. (3) الذخيرة (2: 232) .

ومنها: أبا حسن أبلغ سلام فمي يدي ... أبي حسنٍ وارفق فكلتاهما بحر ولا تنس يمناك التي (1) هي والندى ... رضيعا لبانٍ لا اللّجين ولا التّبر فأجابه من أبيات: تحيّر ذهني في مجاري صفاته ... فلم أدر شعرٌ ما به فهت أم سحر أرى الدهر أعطاك التقدّم في العلى ... وإن كان قد وافى أخيراً بك الدهر لئن حازت الدنيا بك الفضل آخراً ... ففي أخريات الليل ينبلج الفجر ولعمرو في أبي العلاء ابن زهر (2) : قدمت علينا والزمان جديد ... وما زلت تبدي في الندى وتعيد وحقّ (3) العلا لولا مراتبك العلا ... لما اخضرّ في أفق المكارم عود فلوحوا بني زهرٍ فإنّ وجوهكم ... نجومٌ بأفلاك العلاء سعود وقوله لأبي الوليد ابن عمه (4) : إنّي لأعجب أن يدنو بنا وطنٌ ... ولا يقضّى من اللّقيا لنا وطر لا غرو إن بعدت دارٌ مصاقبة ... بنا وجدّ بنا للحضرة السّفر فمحجر العين لا يلقاه ناظرها ... وقد توسّع في الدنيا به النظر وقال ابن عمه أبو بكر محمد بن مذحج يخاطب ابن عمه أبا الوليد (5) :

_ (1) الذخيرة: لي تلك التي. (2) الذخيرة (2: 234) ؛ وفي م: ولعمرو في ابن زهر. (3) الذخيرة: وعيش. (4) الذخيرة (2: 235) . (5) الذخيرة (2:234) .

ولمّا رأى حمص استخّفت بقدره ... على أنّها كانت به ليلة القدر تحمّل عنها والبلاد عريضةٌ ... كما سلّ من غمد الدّجى صارم الفجر وقال أبو الوليد المذكور (1) : أتجزع من دمعي وأنت أسلته ... ومن نار أحشائي وأنت لهيبها وتزعم أنّ النّغس غيرك علّقت ... وأنت ولا منٌّ عليك حبيبها إذا طلعت سمشٌ عليّ بسلوةٍ ... أثار الهوى بين الضلوع غروبها وله أيضاً (2) : لمّا استمالك معشرٌ لم أرضهم ... والقول فيك، كما علمت، كثير داريت دونك مهجتي فتماسكت ... من بعد ما كادت إليك تطير فاذهب فغير جوانحي لك منزلٌ ... واسمع فغير وفائك المشكور وقال: يقول وقد لمته في هوى ... فلانٍ وعرّضت شيئاً قليلا أتحسدني قلت: لا والذي ... أحلّك في الحبّ مرعىً وبيلا وكيف وقد حلّ ذاك الجناب ... وقد سلك الناس ذاك السبيلا وله مما يكتب على قوس (3) : إنّا إذا رفعت سماء عجاجةٍ ... والحرب تقعد بالرّدى وتقوم وتمرّد الأبطال في جنباتها ... والموت من فوق النّفوس يحوم

_ (1) الذخيرة: 237. (2) المغرب 1: 240. (3) الذخيرة (2: 244) ؛ م: ومما يكتب على قوس قوله.

مرقت لهم منّا الحتوف كأنّما ... نحن الأهلّة والسهام نجوم (1) 329 - وقال أبو الحسين ابن فندلة في كلب صيد (2) : فجعت بمن لو رمت تعبير وصفه ... لقلّ ولو أنّي غرفت من البحر بأخطل وثّابٍ طموحٍ مؤدّبٍ ... ثبوتٍ يصيد النّسر لو حلّ في النسر كلون الشباب الغضّ في وجهه سناً ... كأنّ ظلاماً ليس فيه سوى البدر إذا سار والبازيّ أقول تعجّباً ... ألا ليت شعري يسبق الطير من يجري ولا يلتفت إلى أقول أبي العباس ابن سيد فيه (3) : الموت لا يبقي على مهجةٍ ... لا أسداً يبقي ولا نعثله (4) ولا شريفاً لبني هاشمٍ ... ولا وضيعاً لبني فندله وكان ابن سيد مسلطاً على هذا البيت، قال ابن سعيد: وإنما ينبح الكلب القمر. 330 - قال أبو العباس النجار (5) : كان أبو الحسين يلقب بالوزغة، فوصلت إلى بابه يوماً، فتحجب عني، فكتبت على الباب: تحجّب الفندليّ عنّي ... فساء من فعله ضميري ينفر من رؤيتي كأنّي ... مضمّخ الجيب بالعبير قال: ومن عادة الوزغة أن تكره رائحة الزعفران وتهرب منه.

_ (1) الذخيرة: رجوم. (2) ترجمته في المغرب 1: والحاشية؛ وكنيته فيه أبو الحسن. (3) هو أحمد بن سيد الملقب (المغرب 1: 252 والحاشية) . (4) ب: تتفله؛ م: شكله. (5) ب: الأبار؛ ق: النبار.

331 - وقال أبو القاسم ابن حسان (1) : ألا ليتني ما كنت يوماً معظّماً ... ولا عرفوا شخصي ولا علموا قصري أكلّف في حال المشيب بمثل ما ... تحمّلته والغصن في ورقٍ نضر فما عاش في الأيام في حرّ عيشةٍ ... سوى رجل ناءٍ عن النّهي والأمر 332 - وقال أبو بكر ابن مرتين (2) : صحبت منك العلا والفضل والكرما ... وشيمةً في النّدى لا ترتضي السأما مودّةٌ في ثرى الإنصاف راسخةٌ ... وسمكها فوق أعناق السّماء سما وقال: أنصفتني فمحضتك الودّ الذي ... يجزى بصفوته الخليل المنصف لا تشكرنّ سوى خلالك إنّها ... جلبت إليك من الثنا ما يعرف وقال: يا هلالاً يتجلّى ... وقضيباً يتثنّى كلّ أنسٍ لم تكنه ... فهو لفظٌ دون معنى 333 - وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن زرقون: ذكر العهد والديار غريب ... فجرى دمعه ولجّ النّحيب ذكر العهد والنّوى من حبيبٍ ... حبّذا العهد والنّوى والحبيب إذ صفاء الوداد غير مشوبٍ ... بتجنٍّ وودّنا مشبوب

_ (1) ترجمته في القدح: 148 (توفي سنة 625) . (2) أبو بكر محمد بن مرتين وزر للظافر بن المعتمد أثناء ولايته على قرطبة؛ (انظر المغرب 1: 234 وفيه البيتان الأولان) .

وإذا الدهر دهرنا وإذا الدا ... ر قريبٌ وإذ يقول الرّقيب ومنها: أسأل الله عفوه فلئن سا ... ء مقالي لقد تعفّ القلوب قد ينال الفتى الصغائر ظرفاً ... لا سواها وللذّنوب ذنوب وأخو الشّعر لا جناح عليه ... وسواءٌ صدوقه والكذوب 334 - وقال الخطيب أبو عبد الله محمد بن عمر الإشبيلي (1) : وكلٌّ إلى طبعه عائدٌ ... وغن صدّه المنع عن قصده كذا الماء من بعد إسخانه ... يعود سريعاً إلى برده وقال: يا معدن الفضل وطود الحجى ... لا زلت من بحر العلا تغترف عبدك بالباب فقل منعماً ... يدخل أو يصبر أو ينصرف 335 - وقال إمام اللغة أبو بكر محمد بن الحسن (2) الزبيدي الإشبيلي: ما طلبت العلوم إلاّ لأنّي ... لم أزل من فنونها في رياض ما سواها له بقلبي حظٌّ ... غير ما كان للعيون المراض وقال: أشعرن قلبك ياسا ... ليس هذا الناس ناسا ذهب الإبريز منهم ... فبقوا بعد نحاسا

_ (1) هو المعروف بالمهيرس، وقد مرت الإشارة إلى ترجمته، قتل في واقعة تالمست سنة 625. (2) ق ب: الحسين.

سامريّين يقولو ... ن جميعاً لا مساسا وكان كتاب " العين " للخليل مختل القواعد، فامتعض له هذا الإمام، وصقل صدأه كما يصقل الحسام، وأبرزه في أجمل منزع، حتى قيل: هذا مما أبدع واخترع، وله كتاب في النحو يسمى " الواضح " وصيره الحكم المستنصر مؤدباً لولده هشام المؤيد، وبالجملة فهو في المغرب بمنزلة ابن دريد في المشرق (1) . 336 - وقال النحوي أبو بكر محمد بن طلحة الإشبيلي (2) ، وشعره رقيق خارج عن شعر النحاة، ومنه: إلى أيّ يومٍ بعده يرفع الخمر ... وللورق تغريدٌ وقد خفق النّهر وقد صقلت كفّ الغزالة أفقها ... وفوق متون الروض أرديةٌ خضر وكم قد بكت عين السماء بدمعها ... عليها ولولا ذاك ما بسم الزهر وقال (3) : بدا الهلال فلمّا ... بدا نقصت وتمّا كأنّ جسمي فعلٌ ... وسحر عينيه " لمّا " وكان لا يملك نفسه في النظر إلى الصور الحسان، وأتاه يوماً أحد أصحابه بولد له فتان الصورة، فعندما دخل مجلسه قصر عليه طرفه، ولم يلتفت إلى والده، وجعل والده يوصيه عليه وهو لا يعلم ما يقوله، وقد افتضح في طاعة هواه، فقال له الرجل: يا أبا بكر حقق النظر فيه لعله مملوك ضاع لك، وقد

_ (1) م ب: بالمشرق. (2) ترجمته في المغرب 1: 253 والتكملة: 605 وبغية الوعاة: 49 وبرنامج الرعيني: 79. (3) البيتان في المغرب.

جبره الله تعالى عليك، ولكن على من يتركه عندك لعنة الله، هذا ما علمت بمحضري، والله إن غاب معك عن بصري لمحة لتفعلن به ما اشتهر عنك؛ وأخذ ولده وانصرف به، فانقلب المجلس ضحكاً. 337 - وقال أبو جعفر أحمد ابن الأبار الإشبيلي (1) ، وهو من رجال " الذخيرة ": زارني خيفة الرقيب مريبا ... يتشكّى منه القضيب الكثيبا رشأٌ راش لي سهام المنايا ... من جفونٍ يسبي بهنّ القلوبا قال لي ما ترى الرقيب مطلاًّ ... قلت دعه أتى الجناب الرحيبا عاطه أكؤس المدام دراكاً ... وأدرها عليه كوباً فكوبا واسقنيها من خمر عينيك صرفاً ... واجعل الكأس منك ثغراً شنيبا ثمّ لمّا أن نام من نتّقيه ... وتلقّى الكرى سميعاً مجيبا (2) قال لا بدّ أن تدبّ عليه ... قلت أبغي رشاً وآخذ ذيبا قال فابدأ بنا وثنّ عليه ... قلت عمري لقد أتيت قريبا فوثبنا على الغزال ركوباً ... وسعينا على الرقيب دبيبا فهل آبصرت أو سمعت بصبٍّ ... ناك محبوبه وناك الرّقيبا وأنشد له ابن حزم (3) : أوما رأيت الدهر أقبل معتباً ... متنصلاً بالعذر ممّا أذنبا بالأمس أذبل في رياضك أيكةً ... واليوم أطلع في سمائك كوكبا

_ (1) انظر الذخيرة (2: 52) والمغرب 1: 253 والجذوة: 107 وبغية الملتمس رقم: 364 ووفيات الأعيان 1: 64 والمسالك 11: 418. (2) سقط من م؛ وفي ب: ثم لما أتى الرقيب سريعا. (3) يعني في الجذوة: 107.

وقيل: إنه خاطب بهما ابن عباد ملك إشبيلية وقد ماتت له بنتٌ وولد له ابنٌ، وبعضهم ينسبهما لغيره. 338 - ودخل الأديب أبو القاسم [ابن] (1) العطار الإشبيلي حماماً بإشبيلية، فجلس إلى جانبه وسيم خمري العينين، فافتتن بالنظر إليه إلى أن قام وقعد في مكانه أسود، فقال: مضت جنّة المأوى وجاءت جهنّم ... فها أنا أشقى بعدما كنت أنعم وما كان إلا الشمس حان غروبها ... فأعقبها جنحٌ من الليل مظلم 339 - وقال الأديب المصنف أبو عمرو عثمان بن علي بن عثمان ابن الإمام الإشبيلي صاحب " سمط الجمان ": عذيري من اليام لا درّ درّها ... لقد حمّلتني فوق ما كنت ارهب وقد كنت جلداً ما ينهنهني النوى ... ولا يستبيني الحادث المتغلّب يقاسي صروف الدهر مني مع الصّبا ... جذيل حكاكٍ أو عذيقٌ مرجّب وكنت إذا ما الخطب مذّ جناحه ... عليّ تراني تحته أتقلّب فقد صرت خفّاق الجناح يروعني ... غرابٌ إذا أبصرته وهو ينعب وأحسب من ألقى حبيباً مودّعاً ... وأنّ بلاد الله طرّاً محصّب وقد امتعض للاداب في صدر دولة بني عبد المؤمن، فجمع شمل الفضلاء الذين اشتملت عليهم المائة السابعة إلى مبلغ سنه منها في ذلك الأوان، واستولى بذلك على خصل الرهان، وانفرد بهذه الفضيلة التي لم ينفرد بها إلا فلان وفلان. 340 - وكان الأديب العالم الصالح أبو الحسن علي بن جابر الدباج الإشبيلي إماماً في فنون العربية، ولكن شهر بإقراء كتب الآداب كالكامل للمبرد ونوادر

_ (1) زيادة من المغرب 1: 254 وانظر القلائد: 284 والمسالك 11: 394.

القالي وما أشبه ذلك، وكان - مع زهده - فيه لوذعية، ومن ظرفه أن أحد تلامذته قال لغلام جميل الصورة: بالله أعطني قبلة تمسك رمقي، فشكاه إلى الشيخ وقال له: يا سيدي، قال لي هذا كله، فقال له الشيخ: وأعطيته ما طلب فقال: لا، فقال له: ما هذه الثقالة ما كفام أن حرمته حتى تشتكي به أيضاً وحسبك من جلالة قدره أن أهل إشبيلية رضوا به إماماً في جامع العدبس. وله (1) : لمّا تبدّت وشمس الأفق باديةٌ ... أبصرت شمسين من قربٍ ومن بعد من عادة الشمس تعشي عين ناظرها ... وهذه نورها يشفي من الرّمد 341 - وقال مالك بن وهب: أراميتي بالسحر من لحظاتها ... نعيذك كيف الرمي من دون أسهم ألا فاعلمي أن قد أصبت، فواصلي ... سهامك أو كفّي فلست بمسلم فإنسان عين الدهر أصميت فاحذري ... مطالبةً بالقلب واليد والفم أما هو في غيلٍ إذا غابه القنا ... تحفّ به آساد كلّ ملثّم ولو أنّ لي ركناً شديداً بنجوة ... أويت له من بأس لحظك فارحمي وهو إشبيلي، كان من أهل الفلسفة كما في " المسهب "، قال: وهو فيلسوف المغرب، ظاهر الزهد والورع، استدعاه من إشبيلية أمير المسلمين علي بن يوسف ابن تاشفين إلى حضرة مراكش، وصيره جليسه وأ، يسه، وفيه يقول بعض أعدائه: دولةٌ لابن تاشفين عليٍّ ... طهرت بالكمال من كلّ عيب غير أنّ الشيطان دسّ إليها ... من خباياه مالك بن وهيب

_ (1) القدح: 156.

وأمره علي بمناظرة محمد بن تومرت الملقب بالمهدي الذي أنشأ دولة بني عبد المؤمن. [أشعار لأبي الصلت] 342 - وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز المذكور في غير هذا الموضع من هذا الكتاب يستدعي بعض إخوانه (1) : بمعاليك وجدّك ... جد بلقياك لعبدك حضر الكلّ ولكن ... لم يطب شئ لفقدك وقال: وراغبٍ في العلوم مجتهدٍ ... لكنّه في القبول جلمود فهو كذي عنّةٍ به شبقٌ ... ومشتهي الأكل وهو ممعود وقال: لئن عرضت نوى وعدت عواد ... أدالت من دنوّك بالعاد فما بعدت عن اللقيا جسومٌ ... تدانت بالمحبّة والوداد ولكن قرب دارك كان أندى ... على كبدي وأحلى في فؤادي وله في مجمرة: ومحرورة الأحشاء لم تدر ما الهوى ... ولم تدر ما يلقى المحبّ من الوجد إذا ما بدا برق المدام رأيتها ... تثير غماماً في النديّ من النّدّ ولم أر ناراً كلّما شبّ جمرها ... رأيت الندامى منه في جنّة الخلد

_ (1) معظم هذه القطع لأبي الصلت وردت في الخريدة 4 / 1: 258 - 320.

وقوله من قصيدة: وإن هم نكصوا يوماً فلا عجبٌ ... قد يكهم السيف وهو الصارم الذكر العود أحمد والأيّام ضامنةٌ ... عقبى النجاح ووعد الله منتظر وقال: تقريب ذي الأمر لأهل النّهى ... أفضل ما ساس به أمره هذا به أولى وما ضرّه ... تقريب أهل الهوى في النّدره عطاردٌ في جلّ أوقاته ... أدنى إلى الشمس من الزّهره وقوله: تفكّر في نقصان مالك دائماً ... وتغفل عن نقصان جسمك والعمر ويثنيك خوف الفقر عن كلّ بغيّةٍ ... وخوفك حال الفقر شرّ من الفقر وقوله: يا ليلة لم تبن من القصر ... كأنّها قبلةٌ على حذر لم تك إلاّ كلا ولا مضت ... تدفع في صدرها يد السّحر وقال فيمن نظر إليه فأعرض عنه: قالوا: ثنى عنك بعد البشر صفحته ... فهل أصاخ إلى الواشي فغيّره فقلت: لا بل درى وجدي بعارضه ... فردّ صفحته عمداً لأبصره وقال: حكت الزمان تلوّناً ... لمحبّها العاني الأسير فوصالها برد الأصي ... ل وهجرها حرّ الهجير

وقال يستدعي: هو يومٌ كما تراه مطير ... كلب القرّ فيه والزمهرير وأرانا الغمام والبرد ثوبي ... ن علينا كلاهما مجرور ولدينا شمسان شمسٌ من الرّا ... ح وشمسٌ تسعى بها وتدور فمن الرأي أن تشبّ الكواني ... ن بأجذالها وترخى الستور فاترك الاعتذار فيه فترك ال ... شرب في مثل يومنا تعذير وقال: هو البحر غص فيه إذا كان ساكناً ... على الدّرّ واحذره إذا كان مزبدا وقال: غبت عنّا فغاب كلّ جمالٍ ... ونأى إذ نأيت كلّ سرور ثمّ لمّا قدمت عاودنا الأن ... س وقرّت قلوبنا في الصدور فلو آنّا نجزي البشير بنعمى ... لوهبنا حياتنا للبشير وقال: كم ضيّعت منك المنى حاصلاً ... كان من الأحزم أن يحفظا فالفظ بها عنك فمن حقّ ما ... يخفي صواب الرأي أن يلفظا فإن تعللت بأطماعها ... فإنّما تحلم مستيقظا وقال: يقولون لي صبراً وإنّي لصابرٌ ... على نائبات الدهر وهي فواجع سأصبر حتى يقضي الله ما قضى ... وإن أنا لم أصبر فما أنا صانع

وقال: بأبي خودٌ شموعٌ (1) ... أقبلت تحمل شمعه فالتقى نوراهما واخ ... تلفا قدراً ورفعه ومسير الشمس تسته ... دي بضوء النجم بدعه وقال في فرس أشهب: وأشهبٍ كالشهاب أضحى ... يلوح في مذهب الجلال قال حسودي وقد رآه ... يخبّ تحتي (2) إلى القتال: من ألجم الصبح بالثريا ... وأسرج البرق بالهلال وقال: رمتني صروف الدهر بين معاشرٍ ... أصحّهم ودّاً عدوٌّ مقاتل وما غربة الإنسان في غير داره ... ولكنّها في قرب من لا يشاكل وقال: أصبحت صبّاً دنفاً مغرما ... أشكو جوى الحبّ وأبكي دما هذا وقد سلّم إذ مرّ بي ... فكيف لو مرّ وما سلّما وقال: وقفنا للنّوى فهفت قلوبٌ ... أضرّ بها الجوى وهمت شؤون يناجي بعضنا باللحظ بعضاً ... فتعرب عن ضمائرنا العيون فلا والله ما حفظت عهودٌ ... كما ضمنوا ولا قضيت ديون

_ (1) الشموع: اللعوب. (2) الخريدة: يجنب خلفي.

ولو حكم الهوى يوماً بعدلٍ ... لأنصف من يفي ممّن يخون أمرّ بداركم وأغضّ طرفي ... مخافة أن تظنّ بي الظنون 343 - ولما رأى عبد الرحمن بن شبلاق (1) الحضرمي الإشبيلي في النوم أنه مر على قبرٍ وقوم يشربون حوله وسط أزاهر فأمروه أن يرثي صاحب القبر، وهو أبو نواس الحسن بن هانئ، قال: جادك يا قبر انسكاب (2) الغمام ... وعاد بالروح عليك السلام ففيك أضحى الظّرف مستودعاً ... واستترت عنّا عيون الظلام 344 - وقال أبو بكر محمد بن نصر الإشبيلي (3) : وكأنّما تللك الرياض عرائسٌ ... ملبوسهنّ معصفرٌ ومزعفر أو كالقيان لبسن موشيّ الحلى ... فلهنّ في وشي اللباس تبختر 345 - وقال أحمد بن محمد الإشبيلي (4) : أما ترى النرجس الغضّ الذكيّ بدا ... كأنّه عاشقٌ شابت ذوائبه أو المحبّ شكا لمّا أضرّ به ... فرط السّقام فعادته حبائبه وقال (5) : ربّ نيلوفرٍ غدا مخجل الرا ... ئي إليه نفاسةً وغرابه كمليكٍ للزنج في قبّةٍ بي ... ضاء يدنو الدجى فيغلق بابه

_ (1) في الأصول: سبلاق، والتصويب عن الجذوة: 255. (2) الجذوة: نشاص؛ وهو السحاب المرتفع. (3) البيتان في كتاب البديع: 27. (4) هو أبو جعفر ابن الأبار الذي سبق ذكره؛ وترجم له صاحب المغرب 1: 259 وفيه القطعتان. (5) البديع: 146.

346 - وقال أبو [الحسن] (1) الأصبغ بن سيد: كأنّما النرجس في منظر ال ... حسن الذي أمثاله تبتغى أناملٌ من فضّةٍ فوقه ... كأسٌ من التبر أفرغا 347 - وقال أبو إسحاق إبراهيم ابن خيرة الصباغ مما أنشده له أبو عامر ابن مسلمة في كتاب " حديقة الارتياح " (2) : يومٌ كأنّ سحابه ... لبست عمامي المصامت حجبت به شمس الضحى ... بمثال أجنحة الفواخت فالغيث يبكي فقدها ... والبرق يضحك مثل شامت والرعد يخطب مفصحاً ... والجوّ كالمحزون ساكت والروض يسقيه الحيا ... والنّور ينظر مثل باهت فاشرب ولذّ بجنّةٍ ... واطرب فإنّ العمر فائت وله: ربّ ليلٍ طال لا صبح له ... ذي نجومٍ أقسمت أن لا تغور قد هتكنا جنحه من فلقٍ ... من خمورٍ ووجوهٍ كالبدور إذ بدت تشبهها في كأسها ... نار إبراهيم في بردٍ ونور صرعتنا إذ علونا ظهرها ... في ميادين التصابي والسرور وكأنّا حين قمنا معشرٌ ... نشروا بعد مماتٍ من قبور 348 - وقال أبو بكر ابن حجاج (3) :

_ (1) زيادة من الجذوة: 164؛ قال الحميدي: وهو شاعر إشبيلي رأيته قبل الخمسين واربعمائة. (2) الجذوة: 145 وفيه بعض الأبيات التائية، ونسبها لأبي عامر ابن مسلمة في المطمح: 23 وهي في المغرب 1: 260 لابن خيرة. (3) هو ابو بكر عبد الله بن حجاج من شعراء المعتضد، هجر إشبيلية إلى الجزيرة الخضراء وأخذ يمدح محمد بن القاسم بن حمود (المغرب 1: 261) .

لمّا كتمت الحبّ لا عن قلىً ... ولم أجد إلاّ البكا والعويل ناديت والقلب به مغرمٌ ... يا حسبي الله ونعم الوكيل وقال: يقولون إنّ السحر في أرض بابلٍ ... وما السحر إلاّ ما أرتك محاجره وما الغصن إلا ما انثنى تحت برده ... وما الدّعص إلاّ ما طوته مآزره وما الدّرّ إلاّ ثغره وكلامه ... وما الليل إلا صدغه وغدائره وهذه الأبيات من قصيدة في محمد بن القاسم بن حمود ملك الجزيرة الخضراء، أعادها الله تعالى. 349 - وقال الرصافي أبو عبد الله الشاعر المشهور، وهو ابن رومي الأندلس، في حريري (1) : وبنفسي من لا أسميه إلاّ ... بعض إلمامةٍ وبعض إشاره هو والظبي في المجال سواءٌ ... ما استفاد الغزال منه استعاره أغيدٌ يمسك الحرير بفيه ... مثل ما يمسك الغزال العراره وهو القائل يمدح أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي: لو جئت نار الهدى من جانب الطّور ... قبست ما شئت من علمٍ ومن نور 350 - ولأبي جعفر أحمد بن الجزار (2) : وما زلت أجني منك والدهر ممحلٌ ... ولا ثمرٌ يجنى ولا زرع يحصد ثمار أيادٍ دانياتٌ قطوفها ... لأوراقها ظلٌّ عليّ ممدّد

_ (1) ديوان الرصافي: 100 (عن النفح) ؛ 77. (2) مرت الأبيات ص: 314، وانظر المغرب 2: 356.

يرى جارياً ماء المكارم تحتها ... وأطيار شكري فوقهنّ تغرّد 351 - ولما نفي أبو جعفر ابن البني (1) من ميورقة، وأقلع في البحر ثلاثة أميال، ونشأت ريح ردته، لم يتجاسر أحد من إخوانه على إتيانه، فكتب إليهم: أحبّتنا الألى عتبوا علينا ... وأقصونا وقد أزف الوداع لقد كنتم لنا جذلاً وأنساً ... فما بالعيش بعدكم انتفاع أقول وقد صدرنا بعد يومٍ: ... أشوقٌ بالسفينة أم نزاع إذا طارت بنا حامت عليكم ... كأنّ قلوبنا فيها شراع وله (2) : غصبت الثريا في البعاد مكانها وأودعت في عينيّ صادق نوئها وفي كلّ حالٍ لم تزالي بخيلةً فكيف أعرت الشمس حلّة ضوئها وله في غلام يرمي الطيور: قالوا تصيب طيور الجوّ أسهمه ... إذا رماها فقلنا: عندنا الخبر تعلمت قوسه من قوس حاجبه ... وأيّد السهم من أجفانه الحور يلوح في بردةٍ كالنّقس حالكةٍ ... كما أضاء بجنح الليلة القمر وربما راق في خضراء مونقةٍ ... كما تفتّح في أوراقه الزّهر 352 - وقال الأديب الكاتب القاضي أبو المطرف ابن عميرة المخزومي،

_ (1) هو شخص آخر غير أبي جعفر أحمد بن عبد الولي الذي أحرقه السيد الكنبيطور في بلنسية، وقد خلط بعض الناس بينهما ونبه ابن الأبار على ذلك في التكملة: 24. انظر ترجمة البني في القلائد: 298 والمطمح: 91 والمغرب 2: 357 والحاشية؛ وكتب اسمه في م ب " ابن البنا ". (2) القلائد: 300، والقطعتان الأخيرتان فيه وفي المغرب.

لما قص شعر ملك شرق الأندلس زيان بن مردنيش مزين، في يوم رفع فيه أبو المطرف شعراً، فخرجت صلة المزين، ولم تخرج صلة أبي المطرف (1) : أرى من جاء بالموسى مواساً ... وراحة من أذاع المدح صفرا فأنجح سعي ذا إذ قصّ شعراً ... وأخفق سعي ذا إذ قصّ شعرا واسم أبي المطرف أحمد، وهو من جزيرة شقر، من كورة بلنسية. 353 - وكان الكاتب الحسيب أبو جعفر أحمد بن طلحة يعشق علجاً من علوج ابن هود ويماشيه في غزواته، وفيه يقول (2) : ما أحضر الغزو من صلاحٍ ... كلاّ ولا رغبة في الجهاد لكن لكيما يكون داعٍ ... لقربنا خيرة الجياد ولقد تقدمت حكايته فلتراجع. 354 - وكان صنوبري الأندلس أبو إسحاق ابن خفاجة، وهو من رجال الذخيرة والقلائد والمسهب والمطرب والمغرب، وشهرته تغني عن اإطناب فيه، مغرىً بوصف الأنهار والأزهار وما يتعلق بها، وأهل الأندلس يسمونه الجنان، ومن أكثر من شيء عرف به، وتوفي سنة ثلاث أو خمس وثلاثين وخمسمائة، وولد سنة خمسين وأربعمائة، ومن نظمه قوله (3) : ربّما استضحك الحباب حبيبٌ ... نفضت لونها عليه المدام كلّما مرّ قاصراً من خطاه ... يتهادى كما يمرّ (4) الغمام

_ (1) القدح: 43. (2) القدح 114 - 117. وانظر ما تقدم ص 307 - 310. (3) ديوان ابن خفاجة: 62، 183، 360، 356. (4) م: كما تهادى.

سلّم الغصن والكثيب علينا ... فعلى الغصن والكثيب السّلام وبات مع بعض الرؤساء فكاد ينطفئ السراج ثم تراجع نوره، فقال: وأغرّ ضاحك وجهه مصباحه ... فأنار ذا قمراً وذلك فرقدا ما إن خبا تلقاء نور جبينه ... حتى ذكا بذكائه فتوقّدا وله: كتبت وقلبي في يديك أسير ... يقيم كما شاء الهوى ويسير وفي كلّ حينٍ من هواك وأدمعي ... بكلّ مكانٍ روضةٌ وغدير وله: كتابنا ولدينا البدر ندمان ... وعندنا أكؤسٌ للراح شهبان والقضب مائسةٌ، والطير ساجعة ... والأرض كاسيةٌ، والجوّ عريان 355 - ولما سئل أبو بكر محمد بن أحمد الأنصاري المعروف بالأبيض عن لغة فعجز عنها بمحضر من خجل منه أقسم أن يقيد رجليه بقيد حديد، ولا ينزعه حتى يحفظ " الغريب المصنف " فاتفق أن دخلت عليه أمه في تلك الحال، فارتاعت، فقال: ريعت عجوزي أن رأتني لابساً ... حلق الحديد ومثل ذاك يروع قالت: جننت فقلت: بل هي همّةٌ ... هي عنصر العلياء والينبوع سنّ الفرزدق سنّةً فتبعتها ... إنّي لما سنّ الكرام تبوع وكان شاعراً وشاحاً وطاح دمه على يد الزبير أمير قرطبة لما هجاه بمثل قوله: عكف الزبير على الضلالة جاهداً ... ووزيره المشهور كلب النار ما زال يأخذ سجدةً في سجدةٍ ... بين الكؤوس ونغمة الأوتار

فإذا اعتراه السهو سبّح خلفه ... صوت القيان وزنّة المزمار ولما بلغ الزبير عنه ذلك وغيره أمر بإحضاره، فقرعه، وقال: ما دعاك إلى هذا فقال: إني لم أر أحق بالهجو منك، ولو علمت ما أنت عليه من المخازي لهجوت نفسك إنصافاً، ولم تكلها إلى أحد، فلما سمع الزبير ذلك قامت قيامته، وأمر بقتله. وأنشد له ابن غالب في " فرحة الأنفس " قوله في حاقة خائط: وحلقةٍ كشعاع الشمس صافيةٍ ... لو قابلت كوكباً في الجوّ لالتهبا تأنّق القين في إحكام صنعتها ... حتى أفاض على أطرافها الذهبا كأنّها بيضةٌ قد قدّ قونسها ... وكلّ جنبٍ لها بالطعن قد ثقبا وقال فيمن يحدث نفسه بالخلافة (1) : أمير المؤمنين، نداء شيخٍ ... أفادك من أماليه اللّطيفه تحفّظ أن يكون الجذع يوماً ... سريراً من أسرّتك المنيفه وأذكر منك مصلوباً فأبكي ... وتضحكني أمانيك السخيفه وهاجى ابن سارة، فقال فيه ابن سارة (2) : ومن العجائب أن يكون الأبيض ... بحماره بين السوابق يركض 356 - وقال إمام النحاة بالأندلس أبو علي عمر الشلوبين فيمن اسمه قاسم (3) :

_ (1) مرت الأبيات ص: 461؛ وقد سقطت من نسخة " م ". (2) زاد المسافر: 67. (3) القدح: 153.

وممّا شجى قلبي وفضّ مدامعي ... هوىً قد قدّ قلبي إذ كلفت بقاسم وكنت أظنّ الميم أصلاً فلم تكن ... وكانت كميمٍ ألحقت بالزراقم والزراقم: الحيات، مشتقة من الزرقة، والميم زائدة، يريد أن ميم قاسم كميمها، فهو قاسٍ، وهو منسوب إلى حصن شلوبينة (1) على ساحل غرناطة، وله من الشهرة والتآليف ما يغني عن الإطناب في وصفه، وله " التوطئة " و " شرح الجزولية " وغيرهما، وكان مغفلاً، ومع ذلك فهو آية الله تعالى في العربية، وكان في لسانه لكنة، ولما اراد مأمون بني عبد المؤمن التوجه إلى مرسية، وقد ثار بها ابن هود، وأنشده الشعراء، وتكلم في مجلسه الخطباء، قام الشلوبين وقال دعاء منه: ثلمك الله ونثرك، يريد سلمك الله ونصرك، لأن بلكنته يرد السين والصاد ثاء، فكان كما قال: عاد المأمون وقد ثلم عسكره ونثر. 357 - ولما مرض الفقيه الزاهد أبة إسحاق إبراهيم الإلبيري (2) دخل عليه الوزير أبو خالد هاشم بن رجاء، فرأى ضيق مسكنه، فقال: لو اتخذت غير هذا المسكن لكان أولى بك، فقال وهو آخر شعر قاله: قالوا ألا تستجيد بيتاً ... تعجب من حسنه البيوت فقلت: ما ذلكم صواباً ... عشٌّ (3) كثير لمن يموت لولا شتاء، ولفح قيظٍ ... وخوف لص، وحفظ قوت ونسوةٌ يبتغين ستراً ... بنيت بنيان عنكبوت

_ (1) هكذا قال ابن سعيد في القدح، ولكن يبدو أنه سمي بذلك لأن أحد أجداده كان أبيض أشقر، وذلك هو معنى كلمة " شلوبين "؛ انظر ترجمته في الذيل والتكملة 5: 460 والحاشية؛ وفي م: شلوبينية. (2) انظر ديوان الالبيري: 109. (3) الديوان: حفش.

358 - وقال أبو بكر ابن عبادة القزاز الموشح في ابن بسام صاحب " الذخيرة ": يا منيفاً على السماكين سام ... حزت خصل السباق عن بسّام إن تحك مدحةً فأنت زهيرٌ ... أو تشبّب فعروة بن حزام أو تباكر صيد المها فابن حجرٍ ... أو تبكّ الديار فابن حذام أو تذمّ الزمان وهو حقيقٌ ... فأبو الطيّب البعيد المرامي 359 - ولما انتثر سلك نظام ملك لمتونة تفرق ملك الأندلس رؤساء البلاد، وكان من جملتهم الأمير أبو الحسن ابن نزار لما له من الأصالة في وادي آش، فحسده أهل بلده، وقصدوا تأخيره عن تلك المرتبة، فخطبوا في بلدهم لملك شرق الأندلس محمد بن مردنيش، ووجه لهم عماله وأوصاهم أن يخرج هذا الأسد من غيله، ويفرق بينه وبين تأميله، ورفعوا له أشعاراً كان يستريح بها على كاسه، ويبثها بمحضر من يركن إليه من جلاسه، ومنها قوله، وقد استشعر من نفسه أنها أهل للتقديم، مستحقة لطلب سلفه القديم: الآن أعرف قدر والضّرر ... فكيف أصدر ما للملك من صدر وكيف أطلع في أفق العلا قمراً ... ويستهلّ بكفّي واكف الدرر وكيف أملأ صدر الدهر من رعبٍ ... وأستقلّ بحمل الحادث النّكر وأستعدّ لما ترمي الخطوب به ... وأستطيل على الأيام بالفكر لكنّني ربما بادرت منتهزاً ... لفرصةٍ مرقت كاللمح بالبصر في أمّ رأسي ما يعيا الزمان به ... شرحاً فسل بعدها الأيام عن خبري فعندما وقف ابن مردنيش على هذا القول وجه إلى وادي آش من حمله إليه وقيده، وقدم به إلى مرسية أسيراً، بعدما كان مرتقباً أن يقدم أميراً، فلما وقعت عين ابنمردنيش عليه قال له: أمكن الله منك يا فاجر، فقال:

أنت - أعزك الله - أولى بقول الخير من قول الشر، ومن أمكنه الله من القدرة على الفعل فما يليق به أن يستقدر بالقول، فاستحيا منه، وأمر به للسجن، فمكث فيه مدة، وصدرت عنه أشعار في تشوقه إلى بلاده، منها قوله: لقد بلغ الشوق فوق الذي ... حسبت فهل للتّلاقي سبيل فلو أنّني متّ منشوقكم ... غراماً لما كان إلا قليل تعلّلني بالتداني المنى ... وينشدني الدهر: صبرٌ جميل فقل لبثينة إن أصبحت ... بعيداً فلم يسل عنها جميل أغضّ جفوني عن غيرها ... وسمعي عن اللوم فيها يميل ولم يزل على حاله من السجن إلى أن تحيّل في جارية محسنة للغناء حسنة الصوت وضع موشحته التي أولها: نازعك البدر اللّياح ... بنت الدنان فلم يدع لك اقتراح ... على الزمان وفيها يقول: يا هل أقول للحسود ... والعيس تحدى يا لائمي على السّراح ... كانت أماني أخرجها ذاك السماح ... إلى العيان وجعل يلقيها على الجارية حتى حفظتها، وأحكمت الغناء بها، وأهداها إلى ابن مردنيش بعدما أوصاها أنّها متى استدعاها إلى الغناء وظفرت به في أطرب ساعة وأسرها غنته بهذه الموشحة، وتلطّفت في شأن رغبتها في سراح قائلها، فلعلّ الله تعالى يجعل في ذلك سبباً، واتفق أن ظفرت بما أوصاها به، وأحسنت غناء الموشحة، فطرب ابن مردنيش لسماع مدحه، وأعجبه مقاصد قائلها

فسألها: لمن هي فقالت: لمولاي عبدك ابن نزار، فقال: أعيدي عليّ قوله " يا لائمي على السراح " فأعادته، فداخلته عليه الرأفة والأريحية بما أصابه، فأمر في الحين بحل قيده، واستدعى به إلى موضعه في ذلك الوقت، فلما دخل خلع عليه وأدناه وقال له: يا أبا الحسن، قد أمرنا لك بالسراح على رغم الحسود، فارجع إلى بلدك مباحاً لك أن تطلب الملك بها وبغيرها إن قدرت، فأنت أهل لأن تملك جميع الأندلس، لا وادي آش، فقال له: والله يا سيدي بل ألتزم طاعتك وغلإقرار بأنك بعثتني من قبر زماني فيه الحساد والوشاة، ثم شربا حتى تمكنت بينهما المطايبة، فقال له: يا ابن نزار، الآن أريد أن أسألك عن شيء، قال: وما هو يا سيدي قال: عما في أم رأسك حين قلت: في أمّ رأسي ما يعيا الزمان به ... شرحاً فسل بعدها الأيام عن خبري فقال له: يا سيدي لا تسمع إلى غرور نفس ألفته على لسان نشوان لعبت بأفكاره الأماني وغطت على عقله الآمال، والله لقد بقيت في داري أروم الاجتماع بجارية مهينة قدر سنة فما قدرت على ذلك، ومنعتني منها (1) زوجتي، فكيف أطلب ما دونه قطع الرؤوس ونهب النفوس فضحك ابن مردنيش، وجدّد له الإحسان، وجهزه إلى بلده، وأمر عماله أن يشاركوه في التدبير، ويستأذنوه في الصغير والكبير، فتأثّل به مجده، وعظم سعده. ومن شعره قوله: انظر إلى الروض سحيراً وقد ... بثّ به الطلّ علينا العيون ترقب منّا يقظةً للمنى ... فقل لها أهلاً بداعي المجون وحثّها شمساً إلى أن ترى ... شمس الضحى تطرق تلك الجفون

_ (1) ب: من ذلك.

وقوله: تنبه لمعشوقٍ وكأسٍ وقينةٍ ... وروضٍ ونهرٍ ليس يبرح خفّاقا فقد نبّهت هذي الحدائق ورقها ... وفتّح فيها الصبح بالطّلّ أحداقا ومهما تكن في ضيقةٍ فأدر لها ... كؤوس الطلا فالسكر يوسع ما ضاقا وقوله: عطف القضيب مع النسيم تميّلا ... والنخر موشيّ الخمائل والحلى تركته أعطاف الغصون مظلّلا ... ولنا عن النهج القويم مضلّلا أمسى يغازلنا بمقلة أشهلٍ ... والطرف أسحر ما تراه أشهلا وقال بعضهم: استدعاني أبو الحسن ابن نزار لمجلس بوادي آش، فلما احتفل مجلسنا، وطابت لذتنا، قال: والله ما تمام هذه المسرة إلا حضور أبي جعفر ابن سعيد وهو الآن بوادي آش، فوافقناه على ذلك لما نعلم من طيب حالتنا معهما، وأنهما لا يأتيان إلا بما يأتي به اجتماع النسيم والروض، فخلا في موضع وكتب له: يا خير من يدعى لكاسٍ دائر ... ووجوه أقمارٍ وروضٍ ناضر إنّا حضرنا في النّديّ عصابةً ... معشوقةً من ناظمٍ أو ناثر كلٌّ مخلّىً للذي يختاره ... في الأمن من ناهٍ له أو زاجر ما إن لهم شغلٌ بفنٍّ واحدٍ ... بل كلّ ما يجري بوفق الخاطر شدوٌ ورقصٌ واقتطاف فكاهةٍ ... وتعانقٌ وتغامزٌ بنواظر وهم كما تدري بأفقي أنجمٌ ... لكن لنا شوقٌ لبدرٍ زاهر سيدي، لا زلت متقدماً لكل مكرمة، هل يجمع التخلف عن نادٍ قام فيه

السرور على ساق، وضحك فيه النس ملء فيه، وانسدل (1) به ستر الصون، وفاء عليه ظلّ النعيم، وسفرت فيه وجوه الطرب، وركضت خيل اللهو، وثار قتام الند، وهطلت سحاب ماء الورد، وطيبت الكؤوس، كالعرائس على كراسي العروس (2) ، المثقلة بالعاج والآبنوس، وكأن قطع النهار ممتزجة بقطع الظلام، أو بني حام قد خالطت بني سام، وعلى رؤوس الأقداح، تيجان نظمها امتزاج الماء بالراح، فطوراً تستحيي فيبدو خجلها، وطوراً تمتزج (3) فيظهر وجلها، والعود ترجمان المسرة قد جعلته أمه في حجرها، كولد ترضعه بدرها، وساقي الشرب كالغصن الرطيب، أوراقه أردية الشرب، وأزهاره الكؤوس، التي لا تزال تطلع وتغرب كالشمس، ساقٍ يفهم بالإشارة، حلو الشمائل عذب العبارة، ذو طرف سقيم، وخد كأنه من خفره لطيم، ولدينا من أصناف الفواكه والأزاهر، ما يحار فيه الناظر، وهل تكمل لذة دون إحضار خدود الورد، وعيون النرجس، وأصداغ الآس، ونهود السفرجل، وقدود قصب السكر، ومباسم قلوب اللوز، وسرر التفاح، ورضاب ابنة العنب، فقد اكتمل بهذه الأوصاف المختلسة من أوصاف الحبائب الطرب: فطر بجناح الشوق عند وصولها ... إليك ولا تجعل سواك جوابها فلا عين إلا وهي ترنو بطرفها ... إليك فيسّر في المطال حسابها فقد أصبحت تعلو عليها غشاوةٌ ... لبعدك فاكشف عن سناها ضبابها قال أبو جعفر: فجعلت وصولي جواب ما نظم ونثر، والفيت الحالة يقصر عن خبرها الخبر، فانغمسنا في النعيم، انغماس عرف الزهر في

_ (1) ب: فانسدل. (2) ب: العرائس. (3) م ودوزي: يخلف.

النسيم، ومر لنا يومٌ غض الدهر عنه جفنه، حتى حسبناه عنواناً لما وعد الله تعالى به في الجنة. وشرب يوماً مع أبي جعفر ابن سعيد والكتندي الشاعر في جنة بزاوية غرناطة، وفيها صهريج ماء قد أحدق به شجر نارنج وليمون وغير ذلك من الأشجار، وعليه أنبوب ماء تتحرك به صورة جارية راقصة بسيوف وطيفور رخامٍ يصنع في أنبوبة الماء صورة خباء، فقالوا: نقتسم هذه الأوصاف الثلاثة، فقال أبو جعفر يصف الراقصة: وراقصةٍ ليست تحرّك دون أن ... يحركها سيفٌ من الماء مصلت يدور بها كرهاً فتنضى صوارماً ... عليه فلا تعيا ولا هو يبهت إذا هي دارت سرعة خلت أنّها ... إلى كلّ وجه في الرياض تلفّت وقال ابن نزار في خباء الماء: رأيت خباء الماء ترسل ماءها ... فنازعها هبّ الرياح رداءها تطاوعه طوراً وتعصيه تارةً ... كراقصةٍ حلّت وضمّت قباءها وقد قابلت خير الأنام فلم تزل ... لديه من العلياء تبدي حياءها إذا أرسلت جوداً أمام يمينه ... أبى العدل إلاّ أن يردّ إباءها وقد قيل: إن هذه الأبيات صنعها بمحضر الأمير أبي عبد الله ابن مردنيش ملك شرق الأندلس، وإنه لما ألجأته الضرورة أن يرتجل في مثل ذلك شيئاً، وكانت هذه عنده معدة، فزعم أنه ارتجلها، قال أبو عمرو ابن سعيد: وهذا هو الصحيح، فإنه ما كانت عادته أن يخاطب عمي أبا جعفر بخير الأنام، فإن كل واحد منهما كفؤ الآخر. وقال الكتندي: وصهريجٍ تخال به لجيناً ... يذاب وقد يذهّبه الأصيل

كأن الروض يعشقه فمنه ... على أرجائه ظلّ ظليل وتمنحه أكفّ الشمس عشقاً ... دنانير فمنه لها قبول إذا رفع النسيم القضب عنها ... فحينئذٍ يكون لها سبيل وللنّارنج تحت الماء لمّا ... تبدّى عكسها جمرٌ بليل ولليمون فيه دون سبكٍ ... جلاجل زخرفٍ بصبا تجول فيا روضاً به صقلت جفوني ... وأرهف متنه الزهر الكليل تناثر فيك أسلاك الغوادي ... وقبّل صفح جدولك الشّمول بدورٌ تستدير بها نجومٌ ... مع الإصباح ليس لها أفول يهيم بهم نسيم الروض إلفاً ... فمن وجدٍ له جسم عليل 360 - وروي أن الوزير أبا الأصبغ عبد العزيز بن الأرقموزير المعتصم ابن صمادح رأى رايةً خضراء فيها صنيفة بيضاء في يد علجٍ من علوج المعتصم نشرها على رأسه، فقال: نشرت عليك من النعيم جناحا ... خضراء صيّرت الصباح وشاحا تحكي بخفقٍ قلب من عاديته ... مهما يصافح صفحها الأرواحا ضمنت لك النعمى برأيٍ ظافرٍ ... فترقّب الفأل المشير نجاحا وكان هذا الوزير آية الله تعالى في الوفاء، وأرسله المعتصم إلى المعتمد بن عباد، فأعجبت المعتمد محاولته، ووقع في قلبه، فأراد إفساده على صاحبه، وأخذ معه في أن يقيم عنده، فقال له: ما رأيت من صاحبي ماأكره فأوثر عند غيره ماأحب، ولو رأيت ماأكره لما كان من الوفاء تركي في حين فوّض إلي أمره، ووثق بي، وحملني أعباء دولته، فاستحسن ذلك ابن عباد، وقال له: فاكتم علي، فلما عاد إلى صاحبه سأله عن جميع ما جرى له، فقال له

في أثناء ذلك: وجرى لي معه ما إن أعلمتك به خفت أن تحسب فيه كالامتنان والاستظهار، وتظن أن خاطري فسد به، وإن كتمتك لم أوف النصيحة حقها، وخفت أن تطلع عليه من غيري، فيحطني ذلك من عينك، وتحسب فيه كيداً، فحمل عليه في أن يعلمه، فأعلمه بعد أن تلطف هذا التلطف، وهو من رجال الذخيرة والمسهب، وابنه الوزير أبو عامر من رجال القلائد. ومن نظم أبي عامر: فتى الخيل يقتادها ذبّلاً ... خفاقاً تبارى القنا الذابلا ترى كلّ أجرد سامي التّليل ... وتحسبه غصناً مائلا 361 - وللوزير الكاتب أبي محمد ابن فرسان واسمه عبد البر، وهو حسنة وادي آش، يخاطب يحيى الميورقي (1) : أنعم بتسريح عليّ فعلّه ... سبب الزيارة للحطيم ويثرب ولئن تقوّل كاشح أن الهوى ... درست معالمه وأنكر مذهبي فمقالتي ما إن مللت وإنّما ... عمري أبى حمل النّجاد بمنكبي وعجزت عن أن أستثير كمينها ... وأشقّ بالصّمصام صدر الموكب وهذه الأبيات كتب بها إليه وقد أسن ومل من الجهد معه، يرغب في سراحه إلى الحجاز، رحمه الله تعالى، وتقبل نيته بمنه ويمنه. 362 - وقال حاتم بن حاتم بن سعيد العنسي (2) ، وكان صاحب سيف وقلم، وعلم وعلم: يا دانياً مني وما أنا زائر ... لا أنت معذورٌ ولا أنا عاذر

_ (1) ترجمته والشعر في المغرب 2: 142 وانظر التحفة: 115. (2) ترجمته والشعر في المغرب 2: 168 والإحاطة 1: 310.

ماذا يضرك إذ ظللت بظلمة ... أن لا يطالع منك بدرٌ زاهر وتوفي المذكور بغرناطة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة. 363 - وقال التطيلي الأعمى في أسد نحاس يقذف الماء (1) : أسد ولو أنّي أنا ... قشه الحساب لقلت صخره فكأنّه أسد السّما ... ء يمجّ من فيه المجرّه [من بدائه ابن ظافر] قال ابن ظافر (2) : صرنا في بعض العشايا على البساتين المجاورة للنيل، فرأينا فيه بئراً عليها دولابان متحاذيان (3) ، قد دارت أفلاكهما بنجومالقواديس، ولعبت بقلوب ناظريهما لعب الأماني بالمفاليس، وهما يئنان أنين الأشواق، ويفيضان ماء أغزر من دموع العشاق، والروض قد جلا للأعين زبرجده، والأصيل قد راقه حسنه فنثر عليه عسجده، والزهر قد نظم جواهره في أجياد الغصون، والسواقي قد أذالت من سلاسل فضتها كل مصون، والنبت قد اخضر شاربه وعارضه، وطرف النسيم قد ركضه في ميادين الزهر راكضه، ورضاب الغيث (4) قد استقر من الطين في لمى، وحيات المجاري حائرة تخاف من زمرد النبات أن يدركها العمى، والبحر (5) قد صقل النسيم درعه، وزعفران العشي قد ألقى في ذيل الجو ردعه، فأوسعنا ذلك المكان

_ (1) مر البيتان ص: 404. (2) بدائع البدائه 1: 232. (3) البدائع: يتجاذبان. (4) البدائع: الماء. (5) البدائع: والنهر.

حسناً وقلوبنا استحواذاً (1) ، وملأ أبصارنا وأسماعنا مسرةً والتذاذاً، وملنا إلى الدولابين شاكين أزمرا حين سجعت قيان الطير بألحانها، وشدت على عيدانها، أم ذكرا أيام نعما وطابا، وكانا أغصاناً رطبة، فنفيا عنهما لذيذ الهجوع، ورجعا النوح وأفاضا الدموع طلباً للرجوع، وجلسنا نتذاكر ما في تركيب الدواليب، من الأعاجيب، ونتناشد ما وصفت به من الأشعار، الغالية الأسعار، فأفضى بنا الحديث الذي هو شجون، إلى ذكر قول الأعمى التطيلي في أسد نحاس يقذف الماء: أسد ولو أنّي ... إلخ ... فقال لي القاضي أبو الحسن علي بن المؤيد رحمه الله تعالى: يتولد من هذا في الدولاب معنى يأخذ بمجامع المسامع، ويطرب الرائي والسامع، فتأملت ما قاله بعين بصيرتي البصيرة، واستمددت مادة غريزة يالغريزة، فظهر لي معنىً ملأني أطراباً، وأوسعني إعجاباً (2) ، وأطرق كل منا ينظم ما جاش به مد بحره، وأنباه به شيطان فكره، فلم يكن إلا كنقرة العصفور، الخائف من الناطور، حتى كمل ما أردنا من غير أن يقف واحد منا على ما صنعه الآخر، فكان الذي قال: حبّذا ساعة العشيّة والدّو ... لاب يهدي إلى النفوس المسرّه أدهم لا يزال يعدو ولكن ... ليس يعدو مكانه قدر ذرّه ذو عيون من القواديس تبكي ... كل عين من فائض الدمع ثرّه (3) فلكٌ دائر يرينا نجوماً ... كلّ نجم يبدي لدينا (4) المجرّه

_ (1) البدائع: فاستحوذ علينا ذلك الموضع استحواذا. (2) واستمددت ... إعجابا: تغيرت صياغة هذه العبارة في البدائع. (3) البدائع: تبدي ... عبرة. (4) البدائع: منها يرينا.

وكان الذي قلت: ودولاب يئنّ أنين ثكلى ... ولا فقداً شكاه ولا مضرّه ترى الأزهار في ضحكٍ إذا ما ... بكى بدموع عين منه ثرّه حكى فلكاً تدور به نجومٌ ... تؤثّر في سرائرنا المسرّه يظلّ النجم يشرق بعد نجمٍ ... ويغرب بعد ما تجري المجرّه فعجبنا من اتفاقنا، وقضى العجب منه سائر رفاقنا، انتهى. رجع: 364 - وكان لأبي محمد عبد الله بن شعبة الوادي آشي (1) ابنٌ شاعرٌ، فعرض عليه شعراً نظمه، فأعجبه، فقال: شعرك كالبستان في شكله ... يجمع بين الآس والورد فاصنع به إن كنت لي طائعاً ... ما يصنع الفارس بالبند 365 - ولشاعر الأندلس أبي عبد الله ابن الحداد الوادي آشي (2) ، وهو من رجال الذخيرة: لزمت قناعتي وقعدت عنهم ... فلست أرى الوزير ولا الأميرا وكنت سمير أشعاري سفاهاً ... فعدت بها لفلسفتي سميرا وله في العروض تأليفٌ مزج فيه بين الأنحاء الموسيقية، والآراء الخليلية، ورد فيه على السرقسطي المنبوز بالحمار.

_ (1) ترجمته والشعر في المغرب 2: 140. (2) ترجمته في الذخيرة 1 / 2: 201 والمطمح: 80 والوافي 2: 86 والإحاطة 2: 250 والمسالك 11: 400 والفوات 2: 167 والمغرب 2: 143 واسمه محمد بن أحمد بن الحداد، والقطعة الأولى في الذخيرة.

وله في المعتصم بن صمادح (1) : لعلّك بالوادي المقدّس شاطئ ... فكالعنبر الهنديّ ما أنا واطئ وإنّي في ريّاك واجد ريحهم ... فجمر (2) الأسى بين الجوانح ناشئ ولي في الّرى من نارهم ومنارهم ... هداةٌ حداةٌ، والنجوم طوافئ لذلك ما حنّت ركابي وحمحمت ... عرابي وأوحى سيرها المتباطئ فهل هاجها ما هاجني ولعلّها ... إلى الوخد من نيران قلبي لواجئ رويداً فذا وادي لبيني وإنّه ... لورد لباناتي وإنّي لظامئ موارد (3) تهيامي ومسرح ناظري ... فللشوق غاياتٌ بها ومبادئ واعترض عليه بعضهم بأنه همز في هذه القصيدة ما لا يهمز، فقال (4) : عجبت لغمازين علمي بجهلهم ... وإنّ قناتي لا تلين على الغمز تجلّت لهم آيات فهمي ومنطقي ... مبيّنة الإعجاز ملزمة العجز ولاحت لهم همزيةٌ أوحديةٌ ... وويلٌ بها ويلٌ لذي الهمز واللمز رموها بنقصٍ بينت فيه نقصهم ... ومن لمس الأفعى شكا ألم النكز فإن أنكرت أفهامهم بعض همزها ... فقد عرفت أكبادهم صحّة الهمز وله وهو مما يتغنى به بالأندلس (5) : فذر العقيق مجانباً لعقوقه ... ودع العذيب عذيب ذات الخال أفقٌ محلّى بالقواضب والقنا ... للأغيد المعطار لا المعطال

_ (1) الذخيرة: 218. (2) الخريدة: فروح. (3) الخريدة: ميادين. (4) الذخيرة: 219. (5) الذخيرة: 223.

حجبوك إلاّ من توهّم خاطري ... وحموك إلاّ من تصوّر بالي والقارظان حميل صبري والكرى ... فمى أرجّي منك طيف خيال ومن بدائعه قوله (1) : سامح (2) أخاك إذا أتاك بزلّةٍ ... فخلوص شيء قلما يتمكّن في كلّ شيء آفةٌ موجودةٌ ... إنّ السراج على سناه يدخّن وأنشد أحد الأدباء هذين البيتين متمثلاً، فأعجبا المعتصم، وسأل عن قائلهما، فأخبر، فتبسم وقال: أتعرف إلى من أشار بهذا المعنى قال: ما أعرف إلا أنه مليح، فقال المعتصم: كنت في الصبا وهو معي ألقب بسراج الدولة، فقاتله الله ما أشعره، فسلوه، فلما باحثوه في ذلك أقر بحسن حدس المعتصم. واكتنفته سعايات، وكان ممن يغلب لسانه على عقله، ففر من المرية، وحبس أخوه بها فقال (3) : الدهر لا ينفكّ من حدثانه ... والمرء منقادٌ لحكم زمانه وعلمت أن السعد ليس بمنجح ... ما لا يكون السعد من أعوانه والجدّ دون الجدّ ليس بنافع ... والرمح لا يمضي بغير سنانه وبلغت الأبيات المعتصم فقال: شعره أعقل منه، صدق فإنّه لا يتهيأ له صلاح عيش إلا بأخيه، وهو منه بمنزلة السنان من الرمح، ثم أمر بإطلاقه ولحاقه به. ولما قال في المعتصم:

_ (1) الذخيرة: 235. (2) الذخيرة: واصل. (3) الذخيرة: 231.

يا طالب المعروف دونك فاتركن ... دار المرية وارفض ابن صمادح رجل إذا أعطاك حبّة خردل ... ألقاك في قيد الأسير الطائح لو قد مضى لك عمر نوحٍ عنده ... لا فرق بينك والبعيد النازح اغتاظ عليه، وأبعده، ففر عن بلده. ومن المنسوب إليه في النساء: خن عهدها مثل ما خانتك منتصفاً ... وامنح هواها بنسيان وسلوان فالغيد كالروض في خلق وفي خلق ... إن مرّ جانٍ أتى من بعده جان وله: حيثما كنتا ظاغناً أو مقيما ... دم رفيعاً وعش منيعاً سليما 366 - وقال ابن دحية في " المطرب " (1) : إن من المجيدين في الجدّ والهزل، ورقيق النظم والجزل، صاحبنا الوزير أبا بلال (2) ، وقال لي: إنه كان وبرد شبابه قشيب، وغصن اعتداله رطيب، بقميص النسك متقمص، وبعلم الحديث متخصص، فاجتاز يوماً وبيده مجلد من صحيح مسلم بقصر بعض ملوك الأكابر، ومن بعض مناظره ناظر، ومجلسه بخواص ندمائه حالٍ، وصوت المثاني والمثالث عالٍ، فقال: أطلعوا لنا هذا الفقيه، فعلنا نضحك منه. فلما مثل بين يديه وحيا، أمر الساقي بمناولته كأس الحميا، فتقبض متأففاً، وأبدى تمعراً وتقشفاً، والسلطان يستغرب ضحكاً بما هجم عليه، ويد

_ (1) المطرب: 241. (2) في المطرب: كصاحبنا الوزير أبي القاسم ابن البراق، ومعنى ذلك أن هذا الخبر والأشعار التالية بعده كان يجب أن تعطي رقما واحدا؛ ولابن البراق ترجمة في المغرب 2: 149 وكنيته هنالك أبو عمرو، وتحفة القادم: 80 والوافي 4: 156.

الساقي مدودة إليه، واتفق أن انشقت من ذاتها الزجاجة، فظهر من السلطان التطير من ذلك، فأنشد الفقيه مرتجلاً: ومجلس بالسّرور مشتمل ... لم يخل فيه الزجاج من أدب سرى بأعطافه يرنّحه ... فشقّ أثوابه من الطرب فسر السلطان وسري عنه، واستحسن من الفقيه ما بدا منه، وأمر له بجائزة سنية، وخلعة رائقة [بهية] . 367 - وماأحسن قول ابن البراق (1) : يا سرحة الحيّ يا مطول ... شرح الذي بيننا يطول ولي ديون عليك حلّت ... لو أنّه ينفع الحلول وقوله: انظر إلى الوادي إذا ماغرّدت (2) ... أطياره شقّ النسيم ثيابه أتراه أطربه الهديل وزاده ... طرباً وحقّك أن حللت جنابه وله في الغلام على فمه أثر المداد: يا عجباً للمداد أضحى ... على فمٍ ضمّن الزّلالا كالفار أضحى على الحميّا ... واللّيل قد لامس الهلالا 368 - وكتب أبو محمد عبد الله بن عذرة (3) إلى بعض أصحابه من الأسر في طليطلة:

_ (1) المغرب: 149، 150. (2) المغرب: الذي مذ غردت. (3) في الأصول ودوزي: في معذرة؛ وفي م: بن مغدرة والتصويب عن المغرب 2: 148 وفيه الأبيات.

لو كنت حيث تجيبني ... لأذاب قلبك ما أقول يكفيك منّي أنني ... لا أستقلّ من الكبول وإذا أردت رسالة ... لكم فما ألفي رسول هذا وكم بتنا وفي ... أيماننا كأس الشّمول والعود يخفق والدخا ... ن العنبريّ به يجول حال الزمان ولم يزل ... مذ كنت أعهده يحول 369 - ولأبي الحسن علي بن مهلهل الجلياني (1) في أبي بكر ابن سعيد صاحب أعمال غرناطة في دولة الملثمين: لولا النهود لما عراك تنهّد ... وعلى الخدود القلب منك يخدّد يا نافذاً قلبي بسهم جفونه ... ما لي على سهم رميت به يد 370 - وقال أبو زكريا يحيى بن مطروح في غلام كاتب أطل عذاره (2) : يا حسنه كاتباً قد خطّ عارضه ... في خدّه حاكياً ما خطّ بالقلم لام العذول عليه حين أبصره ... فقلت دعني فزين البرد بالعلم وانظر إلى عجب ممّا تلوم به ... بدرٌ له هالة قدّت من الظّلم قولوا عن البحر ما شئتم ولا عجبٌ ... من عنبر الشّحر او من در مبتسم وله، وقد عزل عن مالقة والٍ غير مرضي، ونزل المطر على إثره، وكان الناس في جدب: وربّ والٍ سرّنا عزله ... فبعضنا هنّأه البعض قد واصلتنا السّحب من بعده ... ولذّ في أجفاننا الغمض

_ (1) ترجمته في المغرب 2: 150 وفيه البيتان؛ وفي ب: " الجياني ". (2) ترجمته والشعر في المغرب 2: 155.

لو لم يكن من نجسٍ شخصه ... ما طهّرت من بعده الأرض 371 - وكان الكاتب أبو بكر محمد بن نصر الأوسي (1) مختصاً بوزير عبد المؤمن أبي جعفر ابن عطية، فقال فيه: أبا جعفر نلت الذي نال جعفر ... ولا زلت بالعليا تسرّ وتحبر عليك لنا فضل وبرٌّ وأنعمٌ ... ونحن علينا كلّ مدح يحبّر وحدث من حضر مجلس الوزير ابن عطية وقد أحس من عبد المؤمن التغير الذي أفضى إلى قتله، وقد افتتح ابن نصر مطلع هذه القصيدة، فتغير وجه أبي جعفر، لأن جعفر بن يحيى كان آخر أمره الصلب، فكأن هذا عمّم الدعاء، والعجب أنه قتل مثل جعفر بعد ذلك. وهذا الشاعر هو القائل: وما أنا عن ذاك الهوى متبدّلٌ ... وذا الغدر بالإخوان غير كريم بغيرك أجري ذكر فضلك في الندى ... كما قد جرى بالروض هبّ نسيم وإن كان عندي للجديد لذاذة ... فلست بناسٍ حرمةً لقديم 372 - ولأبي عبد الله محمد بن علي اللوشي (2) يخاطب صاحب " المسهب ": بي إليكم شوقٌ شديدٌ ولكن ... ليس يبقى مع الجفاء اشتياق إن يغيّركم الفراق فودّي ... لو خبرتكم يزيد فيه الفراق وله: لو أنّ لي قلباً كقلب ... ك كنت أهجر هجركا

_ (1) ترجمته والبيتان في المغرب 2: 156. (2) ذكره ابن سعيد في المغرب باسم " محمد بن عبد المولى " (1: 158) وفيه البيتان الأولان.

يكفيك أنّك قد نسي ... ت ولست أنسى ذكركا ومن العجائب أنّني ... أفنى وأكتم سرّكا كن كيفما تختاره ... فالحبّ يبسط عذركا وله: هل عندكم علمٌ بما فعلت بنا ... تلك الجفون الفاتكات بضعفها نصحاً لكم أن تأمنوها إنّها ... سحر النّهى ما تبصرون بطرفها 373 - ولابنه أبي محمد عبد المولى، وكان ماجناً، لما نعي إليه وهو على الشراب أحد أصحابه مرتجلاً: إنّما دنياك أكلٌ ... وشرابٌ وقحاب ثم من بعد صراخٌ ... ووداعٌ وتراب وله: يا نديم اشرب على أف ... قٍ صقيلٍ وحديقه واسقني ثمّ اسقني ث ... مّ اسقني خمراً وريقه من غزالٍ تطلع الشم ... س بخدّيه أنيقه لا تفوّت ساعة من ... كأس خمرٍ وعشيقه واجتنب ما سخرت جه ... لاً له هذي الخليقه رغبوا في باطل زو ... ر بزهدٍ في الحقيقه ليس إلا ما تراه ... أنا أدرى بالطريقه قال أبو عمران موسى بن سعيد: قلنا له: ما هذا الاعتقاد الفاسد الذي لا ينبغي لأحد أن يصحبك به فقال: هذا قول لا فعل، وقد قال الله تعالى:

{ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون} (الشعراء: 224) . ثم قال ابن سعيد: ولولا أن حاكي الكفر ليس بكافر ماذكرتها، وهذا منزع من قال من المجوس: خذ من الدّنيا بخطٍّ ... قبل أن ترحل عنها فهي دارٌ لا ترى من ... بعدها أحسن منها وهذا كفرٌ صراح، وقائله قد تقمص كفراً، اللهم غفراً. وطلب منه بعض الأرذال، أن يكتب له شفاعة عند أحد العمال، فكتب له رسالة فيها هذه الأبيات: كتبته مولاي في طالع ... ما طار فيه طائر اليمن وفكرةٌ حائلةٌ والحشا ... ينهب بالهمّ وبالحزن كلّفنيه ساقطٌ أخرقٌ ... مشتهرٌ بالطحن والقرن أكذب خلق الله أرداهم ... أخوفهم في الخوف والأمن يكفر ما يسدى إليه ولا ... يعذر خلقاً سيء الظنّ فإن صنعت الخير ألفيته ... شراً وأضحى المجد ذا غبن وانتقد الناس عليك الذي ... تسدي له في أيّ مافنّ فافعل به ما هو أهلٌ له ... واسمعه تفسيراً ولا أكني (1) أهنه واصفعه ولا تترك ال ... بوّاب يكرمه لدى الإذن واقطع بفيه القول واحرمه من ... ردّ جوابٍ أنسه يدني وكلما استنبط رأياً فس ... فهه ودعه مسخن الجفن فهو إذا أكرمته فاسد ... وصالحٌ بالهون واللّعن

_ (1) ب: ولا تكن.

شفاعتي في مثله هذه ... فلا سقله هاطل المزن ودفع إليه الكتاب مختوماً، فسر به، وحمله إلى العامل، وسافر إليه أياماً، فلما دفعه إليه قرأه وضحك، ودفعه إلى من يشاركه في ذلك من أصحابه، فوعده بخير وأخرجه إلى شغل لم يرضه، فلما عاد منه قال له: أخرجتني لأرذل شغل وأخسه فما فائدة الشفاعة إذن فقال له: أوتريد أن أفعل معك ما تقتضيه شفاعة صاحبك قال: لا أقل من ذلك، قأمر من يأتيه بالأبيات، فقرئت عليه، فانصرف في أسوإ حال، فلما دخل غرناطة - وكان عبد المولى تزوج فيها امرأة اغتبط بها - تزيا هذا الرجل بزي أهل البادية، وزور كتاباً على لسان زوجة لعبد المولى في بلدة أخرى، وقال في الكتاب: وقد بلغني أنك تزوجت غيري، وأردت أن أكتب إليك في أن تطلقني، فوصلني كتابك تعرفني فيه أن الزوجة الجديدة لم توافق اختيارك، وأنك ناظر في طلاقها، فردني ذلك عما عزمت عليه، فانظر في تعجيل ما وعدت به من طلاقها، فإنك إن لم تفعل لم أبق معك أبداً، فلما مر بدار عبد المولى رأى جارية زوجته فقال لها: أنا رجل بدوي اتيت من عند فلانة زوجة أبي محمد عبد المولى، فعندما سمعت ذلك أعلمت ستها، وأخذت الكتاب، فوقفت على مافيه غير شاكة في صحته، فلما دخل عبد المولى وجدها على خلاف ما فارقها عليه، فسألها عن حالها، فقالت: أريد الطلاق، فقال: ماسبب هذا وأنا ارغب الناس فيك فألقت إليه الكتاب، فلما وقف عليه حلف لها أن هذا ليس بصحيح، وأن عدواً له اختلقه عليه، فلم يفد ذلك عندها شيئاً، ولم يطب له بعد ذلك معها عيش، فطلقها، وعلم أن ذلك الرجل هو الذي فعل ذلك، فقال له: لا جزاك الله خيراً، ولا أصلح لك حالاً! فقال: وأنت كذلك، فهذه بتلك، والبادي أظلم، فما كان ذنبي عندك حين كتبت في حقي ما كتبت فقال له: مثلك لا يقول " ماذنبي " أنت كلك ذنوب:

ألست بألأم الثّقلين طرّاً ... وأثقلهم وافحشهم لسانا فمهما تبغ برّاً عند شخص ... تزد منه بما تبغي هوانا فانصرف عنه عالي اللسان بلعنته. وكان أحد بني عبد المؤمن قد ألزمه أن ينسخ له كتاباً بموضع منفرد، فخطر له يوماً جلد عميرة، واتفق أن مر السيد يوماً بذلك الموضع، فنظر إليه في تلك الحال، فقال له السيد (1) : ما تصنع فقال: الدواة جفت، ولم أجد ما أسقيها (2) به إلا ماء ظهري، فضحك السيد، وأمر له بجارية، فقال: قل للعميرة طلّق ... ت بعد طول زواج قد كان مائي ضياعاً ... يمرّ في غير حاج حتى حباني بحسنا ... ء قابلٍ للنتاج فكان ناقل خمرٍ ... من حنتم لزجاج كانت تمرّ ضياعاً ... فأصبحت كالسراج 374 - وقال حاتم بن سعيد: جنّبوني عن المدامة إلا ... عند وقت الصباح أو في الأصيل واشفعوها بكلّ وجه مليح ... ودعوني من كلّ قالٍ وقيل وإذا ماأردتم طيب عيشي ... فاحجبوني عن كلّ وجهٍ ثقيل 375 - وقال مالك بن محمد بن سعيد (3) : أتاني زائراً فبسطت خدّي ... له ويقلّ بسط الخدّ عندي

_ (1) ق ب: الخادم؛ وسقطت اللفظة من م. (2) دوزي: ماء أسقيها. (3) ترجمته في المغرب 2: 171.

فقلت له أيا مولاي ألفاً ... فقال وأنت ألفاً عبد عبدي وعانقني وقبّلني ونادى ... بلطف منه كيف رأيت وعدي وقال في استهداء مقص: ألا قل نعم في مطلب قد حكاه لا ... يفصّل إذ نبغي الوصال موصّلا نشقّ به صدر النهار وقد بدا ... ظلاماً بأمثال النجوم مكلّلا وقال: سارت كبدرٍ وليل الخدر يسترها ... ولو بدا وجهها جاءتك بالفلق ودونها من صليل اللامعات حمىً ... فالبرق والرعد دون الشمس في الأفق 376 - واجتمع بغرناطة محمد بن غالب الرصافي الشاعر المشهور ومحمد ابن عبد الرحمن الكتندي (1) الشاعر وغيرهما من الفضلاء والرؤساء، فأخذوا يوماً في أن يخرجوا لنجد أو لحور مؤمل، وهما منتزهان من أشرف وأظرف منتزهات غرناطة، ليتفرجوا ويصقلوا الخواطر بالتطلع في ظاهر البلد، وكان الرصافي قد أظهر الزهد وترك الخلاعة، فقالوا: ما لنا غنى عن أبي جعفر ابن سعيد، اكتبوا له، فصنعوا هذا الشعر وكتبوا له، وجعلوا تحته أسماءهم: بعثنا إلى ربّ السّماحة والمجد ... ومن ما له في ملّة الظرف من ندّ ليسعدنا عند الصبيحة في غدٍ ... لنسعى إلى الحور المؤمل أو نجد نسرّح منّا أنفساً من شجونها ... ثوت في شجونٍ هنّ شرٌّ من اللحد ونظفر من بخل الزّمان بساعة ... ألذّ من العليا وأشهى من الحمد على جدول ما بين ألفاف دوحة ... تهزّ الصّبا فيها لواء من الرّند ومن كان ذا شربٍ يخلّى بشأنه ... ومن كان ذا زهدٍ تركناه للزّهد وما ظرفه يأبى الحديث على الطّلى ... ولا أن يديل الهزل حيناً من الجدّ

_ (1) ترجمة الكتندي في المغرب 2: 264 والتكملة: 535 وأدباء مالقة، الورقة: 27.

تهزّ معاني الشعر أغصان ظرفه ... ويمرح في ثوب الصبابة والوجد وما نغّص العيش المهنّأ غير أن ... يمازجه تكليف ما ليس بالودّ نظمنا من الخلاّن عقد فرائد ... ولما نجد إلاّك واسطة العقد فماذا تراه لا عدمناك ساعةً ... فنحن بما تبديه في جنّة الخلد ورشدك مطلوب وامرك نحوه ار ... تقابٌ وكلٌّ منك يهدي إلى الرشد فكان جوابه لهم: هو القول منظوماً أو الدرّ في العقد ... هو الزّهر نفّاح الصبا أم شذا الودّ أتاني وفكري في عقالٍ من الأسى ... فحلّ بنفث السّحر ما حلّ من عقد ومن قبل علمي أين مبعث وجهه ... علمت جناب الورد من نفس الورد وايقنت ان الدهر ليس براجع ... لتقديم عصرٍ أو وقوفٍ على حدّ فكلّ أوانٍ فيه أعلام فضله ... ترادف موج البحر رداً إلى ردّ فكم طيها من فائتٍ متردّم ... يهزّ بما قد أضمرت معطف الصّلد قيا من بهم تزهى المعالي ومن لهم ... قياد المعاني ما سوى قصدكم قصدي فسمعاً وطوعاً للّذي قد أشرتم ... به لا أرى عنه مدى الدهر من بدّ فقوموا على اسم الله نحو حديقةٍ ... مقلّدة الأجياد موشية البرد بها قبّةٌ تدعى الكمامة (1) فاطلعوا ... بها زهراً أذكى نسيماً من الندّ وعندي ما يحتاج كلّ مؤمّلٍ ... من الرّاح والمعشوق والكتب والنرد فكلٌّ إلى ماشاءه لست ثانياً ... عناناً له إنّ المساعد ذو الودّ ولست خليّاً من تأنس قينةٍ ... إذا ما شدت ضلّ الخليّ عن الرشد لها ولدٌ في حجرها لا تزيله ... أوان غناء ثمّ ترميه بالبعد فيا ليتني قد كنت منها مكانه ... تقلّبني ما بين خصر إلى نهد ضمنت لمن قد قال إنّي زاهدٌ ... إذا حلّ عندي أن يحول عن الزهد

_ (1) دوزي: الحمامة.

فإن كان يرجو جنّة الخلد آجلاً ... فعندي له في عاجلٍ جنّة الخلد فركبوا إلى جنته، فمر لهم أحسن يومٍ على ما اشتهوا، ومازالوا بالرصافي إلى أن شرب لما غلب عليه الطرب، فقال الكتندي: غلبناك عمّا رمته يا ابن غالب ... براحٍ وريحانٍ وشدوٍ وكاعب فقال أبو جعفر: بدا زهده مثل الخضاب فلم يزل ... به ناصلاً حتى بدا زور كاذب فلما غربت الشمس قالوا: ما رأينا أقصر من هذا اليوم، وما ينبغي ان يترك بغير وصف، فقال أبو جعفر: أنا له، ثم قال بعد فكرة، وهو من عجائبه التي تقدم بها المتقدمين وأعجز المتأخرين (1) : لله يوم مسرّةٍ ... أضوا وأقصر من ذباله لما نصبنا للمنى ... فيه بأوتارٍ حباله طار النّهار به كمر ... تاع فأجفلت الغزاله فكأنّنا من بعده ... بعنا الهداية بالضّلاله والنهار: ذكر الحبارى، وإليه أشار بقوله " طار النهار " والغزالة: الشمس، ولا يخفى حسن التوريتين، فسلم له الجميع، تسليم السامع المطيع. وعلى ذكر الغزالة في هذا الموضع فلأبي جعفر أيضاً فيها، وهو من بدائعه، قوله (2) : بدا ذنب السرحان ينبئ أنّه ... تقدّم سبتٌ (3) والغزالة خلفه

_ (1) المغرب 2: 167. (2) المصدر نفسه. (3) كذا في الأصول، ولعل الصواب " سيد " بمعنى الذئب.

ولم ترعيني مثله من متابع ... لمن لا يزال الدهر يطلب حتفه وقوله: اسقني مثل ما أنار لعيني ... شفقٌ ألبس الصباح جماله قبل أن تبصر الغزالة تستد ... رج منه على السماء غلاله وتأمّل لعسجد سال نهراً ... كرعت فيه، أو تقضّى، غزاله ومن نظم أبي جعفر قوله: لو لم يكن شدو الحمائم فاضلاً ... شدو القيان لما استخف الأغصنا طربٌ ثنى حتّى الجماد ترنحاً ... وافاض من دمع السحائب أعينا وقوله (1) : في الروض منك مشابهٌ من أجلها ... يهفو له طرفي وقلبي المغرم الغصن قدٌّ، والأزاهر حلية، ... والورد خدٌّ، والأقاحي مبسم وقوله: ألا حبّذا نهر إذا ما لحظته ... أبى أن يردّ اللحظ عن حسنه الأنس ترى القمرين الدهر قد عنيا به ... يفضّضه بدرٌ وتذهبه شمس وقوله، وقد مر بقصر من قصور أمير المؤمنين عبد المؤمن وقد رحل عنه (2) : قصر الخليفة لا أخليت من كرمٍ ... وإن خلوت من الأعداد والعدد جزنا عليك فلم تنقص مهابته ... والغيل يخلو وتبقى هيبة الأسد

_ (1) المغرب 2: 167. (2) المصدر نفسه.

وقوله من أبيات: سرّح لحاظك حيث شئت فإنّه ... في كلّ موقع لحظةٍ متأمّل وقوله أيضاً: ولقد قلت للذي قال حلّوا ... ههنا: سر فإننا ما سئمنا لا تعيّن لنا مكاناً ولكن ... حيثما مالت اللواحظ ملنا وقال: ألا هاتها إنّ المسرّة قربها ... وما الحزن إلاّ في توالي جفائها مدام بكى الإبريق عند فراقها ... فأضحك ثغر الكاس عند لقائها وقال: عرّج على الحور وخيّم به ... حيث الأماني ضافيات الجناح واسبق له قبل ارتحال النّدى ... ولا تزره دون شادٍ وراح وكن مقيماً منه حيث الصّبا ... تمتار مسكاً من أريج البطاح والقضب مال البعض منها على ... بعض كما يثني القدود ارتياح وسقّ جيب الصبح نور كما (1) ... شقّت جيوب الطلّ منها الرّياح لم أحص كم غاديته ثابتاً ... واسترقصتني الراح عند الرواح وقوله: ألا حبّذا روضٌ بكرنا له ضحىً ... وفي جنبات الروض للطّل أدمع وقد جعلت بين الغصون نسيمةٌ ... تمزّق ثوب الطلّ منها وترقع ونحن إذا ما ظلّت القضب ركّعاً ... نظلّ لها من هزة السكر نركع

_ (1) هذه رواية م؛ وفي ق ب: وشق جيب الصبر قصف إذا.

377 - وكان ابن الصابوني (1) في مجلس أحد الفضلاء بإشبيلية، فقدم فيما قدم خيار، فجعل أحد الأدباء يقشرها بسكين، فخطف ابن الصابوني السكينمن يده، فألح عليه في استرجاعها، فقال له ابن الصابوني: كف عني وإلا جرحتك بها، فقال له صاحب المنزل: اكفف عنه لءلا يجرحك ويكون جرحك جباراً، تعريضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم " جرح العجماء جبار "، فاغتاظ ابن الصابوني، وخرج من الاعتدال، وأخطأ بلسانه، وما كف إلا بعد الرغبة والتضرع. ومن نظم ابن الصابوني (2) : بعثت بمرآةٍ إليك بديعةٍ ... فأطلع بسامي أفقها قمر السعد لتنظر فيها حسن وجهك منصفاً ... وتعذرني فيما أكنّ من الوجد فأرسل بذال الخدّ لحظك برهةً ... لتجني منه ما جناه من الورد مثالك فيها منك أقرب ملمساً ... وأكثر إحساناً وأبقى على العهد وقوله في لابس أحمر (3) : أقبل في حلّةٍ مورّدةٍ ... كالبدر في حلّة من الشّفق تحسبه كلّما أراق دمي ... يمسح في ثوبه ظبى الحدق ورحل إلى القاهرة والإسكندرية فلم يلتفت إليه، ولا عول عليه، وكان شديد الانحراف، فانقلب على عقبه يعض يديه، على ماجرى عليه، فمات عند إيابه إلى الإسكندرية كمداً، ولم يعرف له بالديار المصرية مقدار.

_ (1) هو أبو بكر محمد بن أحمد الصابوني شاعر إشبيلية في عصره، رحل إلى تونس ثم إلى القاهرة وتوفي سنة 636 (القدح: 69 والمغرب 1: 236 والوافي 2: 9 والتحفة: 161 والفوات 2: 209) (2) المغرب والقدح: 72. (3) البيتان في القدح، وأكثر اعتماد المقري عليه في سائر أخبار ابن الصابوني.

وحضر يوماً بين يدي المعتضد الباجي ملك إشبيلية وقد نثرت أمامه جملة من دنانير سكت باسمه، فأنشد: قد فخر الدينار والدرهم ... لمّا علا ذين لكم ميسم كلاهما يفصح عن مجدكم ... وكلّ جزءٍ منه فرد فم ومر فيها إلى أن قال في وصف الدنانير (1) : كأنها الأنجم والبعد قد ... حقّق عندي أنّها الأرجم فأشار السلطان إلى وزيره، فأعطاه منها جملة، وقال له: بدل هذا البيت لئلا يبقى ذماً. وكان يلقب بالحمار، ولذا قال فيه ابن عتبة الطبيب: يا عير حمصٍ عيرتك الحمير ... بأكلك البرّ مكان الشّعير وهو أبو بكر محمد ابن الفقيه أبي العباس أحمد بن الصابوني شاعر إشبيلية الشهير الذكر، والذي أظهره مأمون بني عبد المؤمن، وله فيه قصائد عدة، منها قوله في مطلع: استول سبّاقاً على غاياتها ... نجح الأمور يبين في بدآتها وله الموشحات المشهورة، رحمه الله تعالى. 378 - ومن حكايات الصبيان أن ابن أبي الخصال (2) ، وهو من شقورة، اجتاز بأبدة وهو صبي صغير يطلب الأدب، فأضافه بها القاضي ابن مالك،

_ (1) سقط هذا السطر من م. (2) الشريشي 1: 364.

ثم خرج معه إلى حديقة معروشة، فقطف لهما منها عنقوداً أسود، فقال القاضي: انظر إليه في العصا ... فقال ابن أبي الخصال: كرأس زنجي عصى ... فعلم أنه سيكون له شأن في البيان. 379 - وحدث أبو عبد الله ابن زرقون (1) أن أبا بكر ابن المنخل وأبا بكر الملاح الشلبيين كانا متواخيين متصافيين، وكان لهما ابنان صغيران قد برعا في الطلب، وحازا قصب السبق في حلبة الأدب، فتهاجى الابنان بأقذع هجاء، فركب ابن المنخل في سحر من الأسحار مع ابنه عبد الله، فجعل يعتبه على هجاء بني الملاح ويقول له: قد قطعت مابيني وبين صديقي وصفيي أبي بكر في إقذاعك في ابنه، فقال له ابنه: إنه بدأني والبادي أظلم، وإنما يجب أن يلحى من بالشر تقدم، فعذره أبوه، فبينما هما على ذلك إذ أقبلا على واد تنق فيه الضفادع، فقال أبو جعفر لابنه: أجز: تنقّ ضفادع الوادي ... فقال ابنه: بصوتٍ غير معتاد ... فقال الشيخ: كأنّ نقيق مقولها ... فقال ابنه: بنو الملاح في النادي ...

_ (1) المصدر نفسه وانظر زاد المسافر: 88.

فلما أحست الضفادع بهما صمتت، فقال أبوبكر: وتصمت مثل صمتهم ... فقال ابنه: إذا اجتمعوا على زاد ... فقال الشيخ: فلا غوثٌ لملهوف ... فقال الابن: ولا غيثٌ لمرتاد ... ولا خفاء أن هذه الإجازة لو كانت من الكبار لحصلت منها الغرابة، فكيف ممن هو في سن الصبا. 380 - ومن حكايات النصارى واليهود من أهل الأندلس - أعادها الله تعالى إلى الإسلام عن قريب، إنه سميع مجيب - ما حكي أن ابن المرعزي (1) النصراني الإشبيلي أهدى كلبة صيد للمعتمد بن عباد وفيها يقول: لم أر ملهىً لذي اقتناص ... ومكبساً مقنع (2) الحريص كمثل خطلاء (3) ذات جيد ... أتلع في صفرة القميص (4) كالقوس في شكلها ولكن ... تنفذ كالسهم للقنيص إن تخذت أنفها دليلاً ... دلّ على الكامن العويص لو أنها تستثير برقاً ... لم يجد البرق من محيص

_ (1) في المغرب (1: 264) المرعز؛ وفيه الأبيات؛ وقد تصحف الاسم في الأصول وأثبتناه ما في ب. (2) المغرب: ومقنع الكاسب. (3) في الأصول: خطار؛ والخطلاء: المسترخية الأذن. (4) المغرب: أغيد تبرية القميص.

ومنها في المديح: يشفع تنويله بودّ ... شفع القياسات بالنّصوص وقال: الله أكبر أنت بدرٌ طالعٌ ... والنّقع دجنٌ والكماة نجوم والجود أفلاكٌ وأنت مديرها ... وعدوّك الغاوي وهنّ رجوم وقال: نزلت في آل مكحول وضيفهم ... كنازل بين سمع الأرض والبصر لا تستضيء بضوء في بيوتهم ... ما لم يكن لك تطفيلٌ على القمر وسببهما أنه نزل عندهم فلم يوقدوا له سراجاً. 381 -[شعراء اليهود] 1 - وقال نسيم الإسرائيلي: يا ليتني كنت طيراً ... أطير حتى أراكا بمن تبدّلت غيري ... أو لم تحل عن هواكا هو شاعر وشاحمن أهل إشبيلية، وذكره الحجاري في المسهب. 2 - وقال إبراهيم بن سهل الإسرائيلي في أصفر ارتجالاً (1) : كان محيّاك له بهجة ... حتى إذا جاءك ماحي الجمال

_ (1) انظر دراسة عنه في مقدمة ديوانه (ط. دار صادر 1967) وفيها إلمام بمصادر ترجمته. وهذه الأبيات الواردة هنا مثبتة في ديوانه.

أصبحت كالشمعة لما خبا ... منها الضياء اسودّ فيها الذّبال وهو شاعر إشبيلية ووشاحها، وقرأ على أبي علي الشلوبين وابن الباج وغيرهما، وقال العزّ في حقه، وكان أظهر الإسلام، ما صورته: كان يتظاهر بالإسلام، ولا يخلو مع ذلك من قدح واتهام، انتهى. وسئل بعض المغاربة عن السبب في رقة نظم ابن سهل، فقال: لأنه اجتمع فيه ذلان، ذل العشق، وذل اليهودية. ولما غرق قال فيه بعض الأكابر: عاد الدر إلى وطنه. ومن نظم ابن سهل المذكور قوله: وألمى بقلبي منه جمرٌ مؤجّجٌ ... تراه على خدّيه يندى ويبرد يسائلني من أي دين مداعباً ... وشمل اعتقادي في هواه مبدّد فؤادي حنيفي، ولكنّ مقلتي ... مجوسية من خدّه النار تعبد ومنه قوله: هذا أبو بكر يقود بوجهه ... جيش الفتور مطرّز الرايات أهدى ربيع عذاره لقلوبنا ... حرّ المصيف فشبّها لفحات خدٌّ جرى ماء النعيم بجمره ... فاسودّ مجرى الماء في الجمرات وذكر الحافظ أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري في رحلتهالكبيرة القدر والجرم المسماة ب " ملء العيبة فيما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة " خلافاً في إسلام ابن سهل باطناً، وكتب على هامش هذا الكلام الخطيب العلامة سيدي أبو عبد الله ابن مرزوق ما نصه: صحح لنا من أدركناه من أشياخنا أنه مات على دين الإسلام، انتهى. ورأيت في بعض كتب الأدب بالمغرب أنه اجتمع جماعة مع ابن سهل في مجلس أنس، فسألوه لما أخذت منه الراح عن إسلامه: هل هو في الظاهر والباطن أم لا فأجابهم بقوله: للناس ما ظهر، ولله ما استتر، انتهى.

واستدل بعضهم على صحة إسلامه بقوله: تسلّيت عن موسى بحبّ محمدٍ ... هديت ولولا الله ما كنت أهتدي وما عن قلىً قد كان ذاك، وإنّما ... شريعة موسى عطّلت بمحمد وله ديوان كبير مشهور بالمغرب، حاز به قصب السبق في النظم والتوشيح. وماأحسن قوله من قصيدة: تأمّل لظى شوقي وموسى يشبّها ... " تجد خير نار عندها خير موقد " وأنشد بعضهم له قوله: لقد كنت أرجو أن تكون مواصلي ... فأسقيتني بالبعد فاتحة الرعد فبالله برّد ما بقلبي من الجوى ... بفاتحة الأعراف من ريقك الشهد وقال الراعي رحمه الله تعالى: سمعت شيخنا أبا الحسن علي بن سمعة الأندلسي رحمه الله تعالى يقول: شيئان لا يصحان: إسلام إبراهيم بن سهل، وتوبة الزمخشري من الاعتزال، ثم قال الراعي: قلت: وهما في مروياتي، أما إسلام إبراهيم بن سهل فيغلب على ظني صحته لعلمي بروايته، وأما الثاني - وهو توبة الزمخشري - فقد ذكر بعضهم أنه رأى رسماً بالبلاد المشرقية محكوماً فيه يتضمن توبة الزمخشري من الاعتزال فقوي جانب الرواية، انتهى باختصار. وقال الراعي أيضاً ما نصه: وقد نكت الأديب البارع إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الأندلسي على الشيخ أبي القاسم في تغزله حيث قال: أموسى أيا بعضي وكلّي حقيقة ... وليس مجازاً قولي الكلّ والبعضا خفضت مكاني إذ جزمت وسائلي ... فكيف جمعت الجزم عندي والخفضا

وفي هذا دليل على أن يهود الأندلس كانوا يشتغلون بعلم العربية، فإن إبراهيم قال هذين البيتين قبل إسلامه، والله تعالى أعلم. وقد روينا أنه مات مسلماً غريقاً في البحر، فإنه كان حقاً فالله تعالى رزقه الإسلام في آخر عمره والشهادة، انتهى. ومن نظم ابن سهل في التوجيه باصطلاح النحاة قوله: رفعت (1) عوامله وأحسب رتبتي ... بنيت على خفض فلن تتغيرا ومنه: تنأى وتدنو والتفاتك واحدٌ ... كالفعل يعمل ظاهراً ومقدّرا وقوله: إذا كان نصر الله وقفاً عليكم ... فإنّ العدا التنوين يحذفه الوقف وقوله: ليتني نلت منه وصلاً وأجلى ... ذلك الوصل عن صباح المنون وقرأنا باب المضاف عناقاً ... وحذفنا الرقيب كالتنوين وقوله: بنيت بناء الحرف خامر طبعه ... فصار لتأثير العوامل مانعا (2) وقوله: لك الثناء فإن يذكر سواك به ... يوماً فكالرابع المعهود في البدل

_ (1) في الأصول: رقت. (2) هذا البيت مضطرب في الأصول وقافيته " جازما " وقد صوبناه عن الديوان.

يعني الغلط، وقوله: إذا اليأس ناجى النفس منك بلن ولا ... أجابت ظنوني ربّما وعساني (1) وقوله: وقلت عساه عن أقمت يرقّ لي ... وقد نسخت لا عنده ما اقتضت عسى وقوله: ينفي لي الحال ولكنّه ... يدخل لا في كل مستقبل وقوله: خفضت مقامي إذ جزمت وسائلي ... فكيف جمعت الجزم عندي والخفضا وقوله في غلام شاعر: كيف خلاص القلب من شاعرٍ ... رقت معانيه عن النّقد يصغر نثر الدرّ عن نثره ... ونظمه جلّ عن العقد وشعره الطائل في حسنه ... طال على النابغة الجعدي وحدث أبو حيان عن قاضي القضاة أبي بكر محمد بن أبي نصر الفتح بن علي الأنصاري الإشبيلي بغرناطة أن إبراهيم بن سهل الشاعر الإشبيلي كان يهودياً ثم أسلم، ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصيدة طويلة بارعة، قال أبو حيان: وقفت عليها، وهي من أبدع مانظم في معناها، وكان سن ابن سهل حين غرق نحو الأربعين سنة، وذلك سنة تسع وأربعين وستمائة، وقيل: إنه جاوز الأربعين، وكان يقرأمع المسلمين ويخالطهم، وما أحسن قوله:

_ (1) في الأصول: وعسائي، وهو من قصيدة نونية (ص: 214) .

مضى الوصل إلاّ منية تبعث الأسى ... أداري بها همّي إذا الليل عسعسا أتاني حديث الوصل زوراً على النوى ... أعد ذلك الزور اللّذيذ المؤنسا ويا أيّها الشوق الذي جاء زائراً ... أصبت الأماني خذ قلوباً وأنفسا كساني موسى من سقام جفونه ... رداء وسقّاني من الحبّ أكؤسا ومن أشهر موشحاته قوله (1) : ليل الهوى يقظان ... والحبّ ترب السّهر والصبر لي خوّان ... والنوم عن عيني بري وقد عارضه غير واحد فما شقوا له غباراً. 3 - وأما إبراهيم بن الفخار اليهودي (2) فكان قد تمكن عند الأذفونش ملكطليطلة النصراني، وصيره سفيراً بينه وبين ملوك المغرب، وكان غارفاً بالمنطق والشعر، قال ابن سعيد: أنشدني لنفسه يخاطب أديباً مسلماً كان يعرفه قبل أن تعلو رتبته ويسفر بين الملوك، ولم يزده على ما كان يعامله به من الإذلال، فضاق ذرع ابن الفخار وكتب إليه: أيا جاعلاً أمرين شبهين ماله ... من العقل إحساسٌ به يتفقّد جعلت الغنى والفقر والذلّ والعلا ... سواءً فما تنفكّ تشقى وتجهد وهل يستوي في الأرض نجد وتلعة ... فتطلب تسهيلاً وسيرك مصعد وما كنت ذا ميز لمن كنت طالباً ... بما كنت في حال الفراغ تعوّد وقد حال ما بيني وبينك شاغلٌ ... فلا تطلبنّي بالذي كنت تعهد فإن كنت تأبى غير إقدام جاهلٍ ... فإنك لا تنفكّ تلحى وتطرد

_ (1) ديوانه: 296. (2) ترجم له في المغرب 2: 23 وأورد بيتيه في مدح الأذفونش.

ألا فأت في أبوابه كلّ مسلك ... ولا تك محلاً حيثما قمت تقعد قال ابن سعيد: وأنشدني لنفسه: ولمّا دجا ليل العذار بخدّه ... تيقنت أنّ الليل أخفى وأستر وأصبح عذّالي يقولون صاحبٌ ... فأخلو به جهراً ولا أتستّر وقال يمدح الأذفونش لعنهما الله تعالى: حضرة الأذفنش لا برحت ... غضة (1) أيامها عرس فاخلع النعلين تكرمةً ... في ثراها إنّها قدس قال: وأدخلوني إلى بستان الخليفة المستنصر، فوجدته في غاية الحسن كأنه الجنة، ورأيت على بابه بواباً في غاية القبح، فلما سألني الوزير عن حال فرجتي قلت: رأيت الجنة إلا أني سمعت أن الجنة يكون على بابها رضوان، وهذه على بابها مالك، فضحك واخبر الخليفة بما جرى، فقال له: قل له إنا قصدنا ذلك، فلو كان رضوان عليها بواباً لخشينا أن يرده عنها، ويقول له: ليس هذا موضعك، ولما كان هناك مالك أدخله فيها، وهو لا يدري ما وراءه، ويخيل أنها جهنم، قال: فلما أعلمني الوزير بذلك قلت له: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} (الأنعام: 124) . 4 - وكان في زمان الياس بن المدور (2) اليهودي الطبيب الرندي طبيب آخر كان يجري بينهما من المحاسدة ما يجري بين مشتركين في صنعة، فأصلح الناس بينهما مراراً، وظهر لإلياس من ذلك الرجل الطبيب ما ينفر الناس منه فكتب إليه:

_ (1) في الأصول: غادة. (2) ترجمة الياس في المغرب 1: 336 وهو من شعراء المائة السادسة.

لا تخدعنّ فما تكون مودّة ... ما بين مشتركين أمراً واحدا انظر إلى القمرين حين تشاركا ... بسناهما كان التلاقي واحدا يعني أنهما معاً لما اشتركا في الضياء وجب التحاسد بينهما والتفرقة: هذا يطلع ليلاً وهذه تطلع نهاراً، واعتراضهما يوجب الكسوف. 5 - وكتب أيوب بن سليمان المرواني (1) إلى بسام بن شمعون اليهودي الوشقي في يوم مطير: لما كنت - وصل الله تعالى إخاءك وحفظك - مطمح نفسي، ومنزع اختياري من أبناء جنسي، على جوانبك أميل، وأرتع في رياض خلقك الجميل، هزتني خواطر الطرب والارتياح، في هذا اليوم المطير، الداعي بكاؤه إلى ابتسام الأقداح، واستنطاق البم والزير، فلم أر معيناً على ذلك، ومبلغاً إلى ما هنالك، إلا حسن نظرك، وتجشمك من المكارم ماجرت به عادتك، وهذا يوم حرم الطرف فيه الحركة، وجعل في تركها الخير والبركة، فهل توصل مكرمتك أخاك إلى التخلي معك في زاوية، متكءاً على دن مستنداً إلى خابية، ونحن خلال ذلك نتجاذب أهداب الحديث الذي لم يبق من اللذات إلا هو، ونجيل الألحاظ فيما تعودت عندك من المحاسن والأسماع في أصناف الملاهي، وأنت على ذلك قدير، وكرمك بتكلفه جدير: ولا يعين المرء يوماً على ... راحته إلاّ كريم الطباع وها أنا والسمع مني إلى ال ... باب وذو الشوق حليف استماع فإن أتى داعٍ بنيل المنى ... ودّع أشجاني ونعم الوداع وهذا المرواني من ذرية عبد العزيز أخي عبد الملك بن مروان، وهو من أهل المائة السادسة.

_ (1) ترجمة أيوب المرواني في المغرب 1: 60.

6 - وكانت بالأندلس شاعرة من اليهود يقال لها قسمونة بنت إسماعيل اليهودي، وكان أبوها شاعراً، واعتنى بتأديبها، وربما صنع من الموشحة قسماً فأتمتها هي بقسم آخر، وقال لها أبوها يوماً: أجيزي: لي صاحبٌ مهجةٍ قد قابلت ... نعمى بظلمٍ (1) واستحلّت جرمها ففكرت غير كثير وقالت: كالشمس منها البدر يقبس نوره ... أبداً ويكسف بعد ذلك جرمها فقام كالمختبل، وضمها إليه، وجعل يقبل رأسها، ويقول: أنت والعشر كلمات أشعر مني. ونظرت في المرآة فرأت جمالها وقد بلغت أوان التزويج ولم تتزوج، فقالت: أرى روضةً قد حان منها قطافها ... ولست أرى جانٍ يمدّ لها يدا فوا أسفا يمضي الشّباب مضيّعاً ... ويبقى الّذي ماإن أسمّيه مفردا فسمعها أبوها، فنظر في تزويجها. وقالت في ظبية عندها: يا ظبيةً ترعى بروضٍ دائماً ... إنّي حكيتك في التوحّش والحور أمسى كلانا مفرداً عن صاحبٍ ... فلنصطبر أبداً على حكم القدر 382 - واستدعى أبو عبد الله محمد بن رشيق القلعي (2) ظثم الغرناطي بعض أصحابه إلى أنس، بقوله: سيدي عندي أتر ... جٌّ ونارنجٌ وراح

_ (1) في الأصول: ذو بهجة ... منعا بظهر. (2) ترجمته في المغرب 2: 180.

وجنى آسٍ وزهرٍ ... وحمانا لا يباح ليس إلاّ مطربٌ يس ... لي النّدامى، والملاح ومكانٌ لانهتاكٍ ... قد نأى عنه الفلاح لا يرى يطلع فيه ... دون أكواسٍ صباح فيه فتيانٌ لهم في ... لذة العيش جماح طرحوا الدّنيا يساراً ... فاستراحت واستراحوا لا كقومٍ أوجعتهم ... لهم فيها نباح وله: قال العذول: إلى كم ... تدعو لمن لا يجيب فقلت: ليس عجيباً ... أن لا يجيب حبيب هوّن عليك فإنّي ... من حبّه لا أتوب قال أبو عمران ابن سعيد: دخلت عليه وهو مسجون بدار الأشراف بإشبيلية، وقد بقي عليه من مال السلطان اثنا عشر ألف دينار قد أفسدها في لذات نفسه، فلما لمحني أقبل يضحك ويشتغل بالنادر والحكايات الطريفة، فقلت له: قالوا: إنك أفسدت للسلطان اثني عشر ألف دينار، وما أحسبك إلا زدت على هذا العدد لما أراك فيه من المسرة والاستبشار، فزاد ضحكاً، وقال: يا أبا عمران، أتراني إذا لزمت الهم والفكر يرجع علي ذلك العدد الذي أفسدت ثم فكر ساعة وأنشدني (1) : ليس عندي من الهموم حديثٌ ... كلّما ساءني الزمان سررت أتراني أكون للدهر عوناً ... فإذا مسّني بضرّ ضجرت

_ (1) الأبيات في المصدر السابق.

غمرةٌ ثم تنجلي فكأنّي ... عند إقلاع همّها ما ضررت 383 - وقال النحوي اللغوي أبو عيسى لب بن عبد الوارث القلعي (1) : بدا ألف التعريف في طرس خدّه ... فيا هل تراه بعد ذاك ينكر وقد كان كافوراً فهل أنا تارك ... له عندما حيّاه مسك وعنبر وما خير روضٍ لا يرفّ نباته ... وهل أفتن الأثواب إلاّ المشهر وقال: أبى لي أن أقول الشّعر أنّي ... أحاول أن يفوق السحر شعري وأن يصغي إليه كلّ سمعٍ ... ويعلق ذكره في كلّ صدر قال الحجاري: أخبرني أنه أحب أحد أولاد الأعيان ممن كان يقرأ عليه، فلما خلا به شكا إليه ما يجده، فقال له: الصبيان يفطنون بنا، فإذا أردت أن تقول شيئاً فاكتبه لي في ورقة، [قال] : فلما سمعت ذلك منه تمكن الطمع مني فيه، وكتبت له: يا من له حسنٌ يفوق به الورى ... صل هائماً قد ظلّ فيك محيّرا وامنن عليه بقبلةٍ أو غيرها ... إن كنت تطمع في الهوى أن تؤجرا وكتبت بعدها من الكلام ما رأيته، فلما حصلت الورقة عنده كتب إلي في غيرها: أنا من بيتٍ عادة أهله أن يكونوا اسم فاعل لا اسم مفعول، وإنما أردت أن يحصل عندي خطك شاهداً على ما قابلتني به لئلا أشكوك إلى أبي فيقول لي: حاش لله أن يقع الفقيه في هذا، وإنما أنت خبيث، رأيته يطالبك بالتزام الحفظ فاختلقت عليه لأخرجك من عنده، فأبقى معذباً معك ومعه، وإن

_ (1) ترجمته في المغرب 2: 180 وبغية الوعاة: 383 وفي المغرب أبياته الأولى.

أنا أوقفته على خطك صدقني واسترحت، ولكن لا أفعل هذا إلا إذا لم تنته عني، وإن انتهيت فلا أخبر به أحداً، قال ابن عبد الوارث: فلما وقفت على خطه علمت قدر ما وقعت فيه، وجعلت أرغب إليه في أن يرد الرقعة إلي، فأبى وقال: هي عندي رهن على وفائك بأن لا ترجع تتكلم في ذلك الشأن، قال: فكان والله يبطل القراءة ولا أجسر أكلمه، لأني رأيت صيانتي وناموسي قد حصل في يده، وتبت من ذلك الحين عن هذا وأمثاله. 384 - وقال جابر بن خلف الفحصي - وكان في خدمة عبد الملك بن سعيد، وقرأمع أبي جعفر ابن سعيد وتهذّب معه - يخاطبه حين عاثت الذئاب في غنمه: أيا قائداً قد سما في العلا ... وساد علينا بذاتٍ وجدّ غدا الذئب في غنمي عائثاً ... وقد جئت مستعدياً بالأسد وكثر عليه الدين، فكتب إليه أيضاً: أفي أيّامك الغرّ ... أموت كذا من الضرّ وأخبط في دجى همّي ... ووجهك طلعة الفجر فضحك وأدى دينه. 385 - ولما خلع أهل المرية طاعة عبد المؤمن، وقتلوا نائبه ابن مخلوف، قدموا عليهم أبا يحيى ابن الرميمي (1) ، ثم كان عليه من النصارى ما علم، ففر إلى مدينة فاس، وبقي بها ضائعاً حاملاص، يسكن في غرفة، ويغيش من النسخ، فقال:

_ (1) ترجمته في المغرب 2: 198، وانظر البيان المغرب (ج 3) والمعجب للمراكشي.

أمسيت بعد الملك في غرفةٍ ... ضيقة الساحة (1) والمدخل تستوحش الأرزاق من وجهها ... فما تزال الدّهر في معزل النسخ بالقوات لديها ولا ... تقرعها كفّ أخٍ مفضل وأنشدها لبعض الأدباء، فبينما هو ليلة ينسخ بضوء السراج إذا بالباب يقرع، ففتحه، فإذا شخص متنكر لا يعرفه، وقد مد يده إليه بصرة فيها جملة دنانير، وقال: خذها من كف أخ لا يعرفك ولا تعرفه، وأنت المفضل بقبولها، فأخذها، وحسن بها حاله. وقال له بعضٌ: هذا شعرك أيام خلعك، فهل قلت أيام أمرك قال: نعم، لما قتل أهل المرية ابن مخلوف عامل عبد المؤمن وأكرهوني أن أتولى أمرهم قلت: أرى فتناً تكشّف عن لظاها ... رمادٌ بالنّفاق له انصداع وآل بها النظام إلى انتثارٍ ... وساد الأسافل والرعاع سأحمل كلّ ما جشّمت منها ... بصدرٍ فيه للهول اتساع وأصل بني الرميمي من بني أمية ملوك الأندلس، ونسبوا إلى رميمة قريةٍ من أعمال قرطبة. 386 - وقال أبو بحر يوسف بن عبد الصمد (2) : فوصلت أقطاراً لغير أحبّةٍ ... ومدحت أقواماً بغير صلات أموال أشعاري نمت فتكاثرت ... فجعلت مدحي للبخيل زكاتي وهذا من غريب المعاني.

_ (1) ب: الساحات. (2) ترجمة ابن عبد الصمد في الذخيرة (3: 251) والمغرب 2: 203 ومسالك الأبصار 11: 450.

387 - وفي بني عبد الصمد يقول بعض أهل عصرهم، لما رأى من كثرة عددهم، والتباسهم بالسلطان: ملأت قلبي هموماً مثل ما ... ملأ الدّنيا بنو عبد الصمد كاثر الشيخ أبوهم آدماً ... فغدا أكثر نسلاً وولد كلهم ذئب إذا آمنته ... والرّعايا بينهم مثل النّقد 388 - وكان الوزير الكاتب أبو جعفر أحمد بن عباس (1) وزير زهير الصقلبي ملك المرية بذ الناس في وقته بأربعة أشياء: المال، والبخل، والعجب، والكتابة، قال ابن حيان: وكان قبل محنته صير هجيراه أوقات لعب الشطرنج أو ما يسنح له هذا البيت: عيون الحوادث عني نيام ... وهضمي على الدهر شيء حرام وذاع هذا البيت في الناس حتى قلب له مصراعه الأخير بعض الأدباء فقال: سيوقظها قدرٌ لا ينام ... وكان حسن الكتابة، جميل الخط، مليح الخطاب، عزيز الأدب، قوي المعرفة، مشاركاً في الفقه، حاضر الجواب، جماعاً للدفاتر، حتى بلغت أربعمائة ألف مجلد، وأما الدفاتر المخرومة فلم يوقف على عددها لكثرتها، وبلغ ماله خمسمائة ألف مثقال جعفرية سوى غير ذلك، وكان مقتله بيد باديس ابن حبوس (2) ملك غرناطة، وكفى دليلاً على إعجابه قوله: لي نفس لا ترتضي الدهر عمراً ... وجميع الأنام طرّاً عبيدا لو ترقّت فوق السّماك محلاًّ ... لم تزل تبتغي هناك صعودا

_ (1) انظر الذخيرة 1 / 2: 151 والمغرب 2: 205 والإحاطة 1: 129. (2) تفصيل الخبر عن مقتله في الذخيرة: 166.

أنا من تعلمون شيّدت مجدي ... في مكاني ما بين قومي وليدا وكان يتهم بداء أبي جهل فيما ينقل، حتى كتب بعض الأدباء على برجه بالمرية: خلوت بالبرج فما الذي ... تصنع فيه ياسخيف الزّمان فلما نظر إليه أمر أن يكتب: أصنع فيه كلّ ما أشتهي ... وحاسدي خارجه في هوان 389 - وكان الأعمى التطيلي (1) شاعراً مشهوراً، وكان الصبيان يقولون له " تحتاج كحلاً يا أستاذ " فكان ذلك سبب انتقاله من مرسية، وقيل له: يا أبا بكر، كم تقع في الناس فقال: أنا أعمى، وهم لا يبرحون حفراً فما عذري في وقوعي فيهم فقال له السائل: والله لا كنت قط حفرة لك، وجعل يواليه بره ورفده. ومن شعره: وجوهٌ تعزّ على معشرٍ ... ولكن تهون على الشاعر قرونهم مثل ليل المحبّ ... وليل المحبّ بلا آخر وله: زنجيّكم بالفسوق داري ... يدلي من الحرص كالحمار يخلو بنجل الوزير سرّاً ... فيولج الليل في النّهار

_ (1) أغلب الظن أن هذا الشاعر هو التطيلي الأصغر، وهو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد التطيلي (التحفة: 27 ونكت الهميان: 90) إلا إن قدرنا أن المقري وقع في الوهم فإن القطعة الثانية أوردها ابن سعيد للمخزومي الأعمى (المغرب 1 227) وهو الذي يكنى بأبي بكر.

390 - ومن شعر أبي جعفر أحمد بن الخيال الاستبي (1) كاتب ابن الأحمر فيمن اسمه " فضل الله ": من الناس من يؤتى بنقدٍ ومنهم ... بكرهٍ ومنهم من يناك إذا انتشى ومنهم فتى يؤتى على كلّ حالةٍ ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا 391 - ولعبد الملك بن سعيد الخازن (2) : ما حمدناك إذ وقفنا ببابك ... للذي كان من طويل حجابك قد ذممنا الزّمان فيك فقلنا ... أبعد الله كلّ دهرٍ أتى بك 392 - وقال في " المسهب ": كنت بمجلس القاضي ابن حمدين، وقد انشده شعراء قرطبة وغيرها، وفي الجملة هلال شاعر غرناطة، ومحمد بن الاستجي شاعر استجة الملقب بزحكون، فقام الاستجي وأنشد قصيدة، منها: إليك ابن حمدين انتخلت قصائداً ... بها رقصت في القضب ورق الحمائم أنا العبد لكن بالمودّة أشترى ... إذا كان غيري يشترى بالدراهم فشكره ابن حمدين، ونبه على مكان الإحسان، فحسده هلال البياني على ذلك، فلما فرغ من القصيدة قال له هلال: اعد علي البيت الذي فيه " رقص الحمام " فأعاده، فقال له: لو أزلت النقطة عن الخاء كنت تصدق، فقال له في الحين: ولو أزلت النقطة عن العين كنت تحسن. وكانت على عين هلال نقطة فكان ذلك من الاتفاق العجيب والجواب الغريب، وعمل فيه.

_ (1) في القدح: 66 أبو عبد الله ابن الخيال الاستجي وكان يكتب لابن الأحمر وأورد له البيتين المثبتين هنا؛ وفي ب: السبتي وسقطت اللفظة من م. (2) ترجمته في الجذوة: 267 (وبغية الملتمس رقم: 1067) والمغرب 1: 228 وهنالك البيتان وانظر اليتيمة (ج 2) وكتاب التشبيهات.

393 - ولما قال المقدم بن المعافى (1) في رثاء سعيد بن جودي: من ذا الذي يطعم أو يكسو ... وقد حوى حلف الندى رمس لا اخضرّت الأرض ولا أوراق ال ... عود ولا أشرقت الشمس بعد ابن جوديّ الذي لن ترى ... أكرم منه الجنّ والإنس فقيل له: أترثيه وقد ضربك فقال: والله إن نفعني حتى بذنوبه، ولقد نهاني ذلك الأدب عن مضار جمة كنت أقع فيها على رأسي، أفلا أرعى له ذلك والله ما ضربني إلا وأنا ظالم له، أفأبقى على ظلمي له بعد موته وقيل له: لم لا تهجو مؤمن بن سعيد فقال: لا أهجو من لو هجا النجوم ما اهتدى أحد بها. 394 - وقال أبو مروان عبد الملك بن نظيف (2) : لا أشرب الراح إلاّ ... مع كلّ خرق كريم ولست أعشق إلاّ ... ساجي الجفون رخيم 395 - ومدح هلال البياني ابن حمدين بقصيدة أولها: عرّج على ذاك الجناب العالي ... واحكم على الأموال بالآمال فيه ابن حمدين الّذي لنواله ... من كلّ أرضٍ شدّ كلّ رحال فقال له القاضي: ما هذا الوثوب على المدح من أول وهلة، ألا تدري أنهم عابوا ذلك، كما عابوا الطول أيضاً، وأن الأولى التوسط فقال: يا سيدي، اعذرني بما لك في قلبي من الإجلال والمحبة، فإني كلما ابتدأت في مدحك لم

_ (1) ترجمة مقدم في الجذوة: 333 وبغية الملتمس رقم: 1386 وشعره في سعيد بن جودي في الحلة السيراء 1: 156 - 157. (2) ترجمته في الجذوة: 268 وبغية الملتمس (رقم: 1081) .

يتركني غرامي في اسمك إلى أن أتركه عند أول بيت، فاستحسن ذلك منه، وأحسن إليه. ومن هذه القصيدة: قاضٍ موالٍ برّه ونواله ... فله جميع العالمين موالي وكان يهوى وسيماً من متأدبي قرطبة، فصنع فيه شعراً أنشده منه: وكّلت عيني برعي النّجم في الظلّم ... وعبرني قد غدت ممزوجةً بدم فقال له الغلام: أنت لا تبرح بكوكب من عينك ليلاً ولا نهاراً، وعاشقاً وغير عاشق، فخجل هلال، وكان على عينه نقطة. 396 - وحكى ابن حيّان (1) ان الأمير عبد الرحمن عثرت به دابته وهو سائر في بعض أسفاره، وتطأطأت، فكاد يكبو لفيه، ولحقه جزع، وتمثل إثره بقول الشاعر: وما لا ترى ممّا يقي الله أكثر ... وطلب صدر البيت فعزب عنه، وأمر بالسؤال عنه فلم يوجد من يحفظه إلا الكاتب محمد بن سعيد الزجالي، وكان يلقب بالأصمعي لذكائه وحفظه، فأنشد الأمير: ترى الشيء ممّا يتّقى فتهابه ... فأعجب الأمير، واستحسن شكله، فقال له: الزم السرادق. وأعقب ابناً يسمى حامداً.

_ (1) انظر المغرب 1: 330 والمقتبس (تحقيق مكي) : 34.

وحضر مع الوزير عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني في مجلس فيه رؤساء، فعرض عليهم فرس مطهم، فتمثل فيه الواحد بقول امرئ القيس: بريد السّرى بالليل من خيل بربرا ... ففهم الزجالي أنه عرض بأنه من البربر، فلم يحتمل ذلك وأراد الجواب، فقال مدبجاً لما أراده ومعرضاً: أحسن عندي من ليل يسرى بي فيه على مثل هذا يوم على الحال التي قال فيها القائل: ويومٍ كظلّ الرمح قصّر طوله ... دم الزّقّ عنّا واصطفاق المزاهر وإنما عرض للإسكندراني بأنه كان يشهد مجالس الراحات في أول أمره ومعرفة الغناء، فقلق الوزير، وشكاه إلى الحاجب عيسى بن شهيد، فاجتمع مع الزجالي وأخذ معه في ذلك، فحكى له الزجالي ما جرى من الأول إلى الآخر، وأنشد: وما الحرّ إلاّ من يدين بمثل ما ... يدان ومن يخفي القبيح وينصف هم شرعوا التعريض قذفاً فعندما ... تبعناهم لاموا عليه وعنّفوا ومن نوادر ابنه حامد أنه غلط أمامه في قوله تعالى {الزانية والزاني} (النور: 2) بأن قال " فانكحوهما " فأنشده حامد (1) : أبدع القارئ معنىً ... لم يكن في الثّقلين أمر النّاس جميعاً ... بنكاح الزانيين وقال لبعض أصحابه حينئذ: أما سمعت ما أتى به إمامنا من تبديل الحدود وتضاحكا.

_ (1) المغرب: 331.

397 -[تراجم من المطمح] 1 - وكتب الوزير أبو عبد الله ابن عبد العزيز (1) إلى المنصور صاحب بلنسية، ويعرف بالمنصور الصغير، قطعةً أولها: يا أحسن الناس آداباً وأخلاقا ... وأكرم الناس أغصاناً وأوراقا ويا حيا الأرض لم نكّبت عن سنني ... وسقت نحوي إرعاداً وإبراقا ويا سنا الشمس لم أظلمت في بصري ... وقد وسعت بلاد الله إشراقا من أيّ بابٍ سعت غير الزمان إلى ... رحيب صدرك حتى قيل قد ضاقا قد كنت أحسبني في حسن رأيك لي ... أنّي أخذت على الأيّام ميثاقا فالآن لم يبق لي بعد انحرافك ما ... آسى عليه وأبدي منه إشفاقا فأجابه بهذه القطعة: مازلت أوليك إخلاصاً وإشفاقا ... وأنثني عنك مهما غبت مشتاقا وكان من أملي أن أقتنيك أخاً ... فأخفق الأمل المأمول إخفاقا فقلت غرسٌ من الإخوان أكلؤه ... حتى أرى منه إثماراً وإيراقا فكان لمّا زهت أزهاره ودنت ... أثمارها حنظلاً مرّاً لمن ذاقا فلست أوّل إخوانٍ سقيتهم ... صفوي وأعلقتهم بالقلب إعلاقا فما جزوني بإحساني ولا عرفوا ... قدري ولا حفظوا عهداً وميثاقا والوزير المذكور قال في حقه في المطمح: إنه وزير المنصور بن عبد العزيز، ورب السبق في وده والتبريز، ومنقض الأمور ومبرمها، ومخمد الفتن ومضرمها، اعتقل بالدهي، واستقل بالأمر والنهي، على انتهاض بين الأكفاء، واعتراض المحو لرسومه والإعفاء، فاستمر غير مراقب، وأمر

_ (1) المطمح: 11 - 13.

ما شاء غير ممتثل للعواقب، ينتضي عزائم تنتضى، فإن ألمت من الأيام مظلمة أضا، إلى أن أودى، وغار منه الكوكب الأهدى، فانتقل الأمر إلى ابنه أبي بكر، فناهيك من أي عرف ونكر، فقد أربى على الدهاة، وما صبا إلى الظبية ولا إلى المهاة، واستقل بالهول يقتحمه، والأمر يسديه ويلحمه، فأي ندىً أفاض، وأي أجنحة بمدىً هاض، فانقادت إليه الآمال بغير خطام، ووردت من نداه ببحرٍ طامٍ، ولم يزل بالدولة قائماً، وموقظاً من بهجتها ما كان نائماً، إلى أن صار الأمر إلى المأمون بن ذي النون أسد الحروب، ومسد الثغور والدروب، فاعتمد عليه واتكل، ووكل الأمر إلى غير وكل، فما تعدى الوزارة إلى الرياسة، ولا تردى بغير التدبير والسياسة، فتركه مستبداً، ولم يجد من ذلك بداً. وكان أبو بكر هذا ذا رفعة غير متضائلة، وآراء لم تكن آفلة، أدرك بها ما أحب، وقطع غارب كل منافس وجب، إلى أن طلحه العمر وأنضاه، وأغمده الذي انتضاه، فخلى الأمر إلى ابنيه، فتبلدا في التدبير، ولم يفرقا بين القبيل والدبير، فغلب عليهما القادر بن ذي النون، وجلب إليهما كل خطبٍ (1) ما خلا المنون، فانجلوا، بعدما ألقوا ما عندهم وتخلوا، وكان لأبي عبد الله نظم مستبدع، يوضع بين الجوانح ويودع، انتهى المقصود من الترجمة. 2 - وكان للوزير أبي الفرج (2) ابنٌ مكبود قد أعياه علاجه، وتهيأ للفساد مزاجه، فدل على خمر قديمة، فلم يعلم بها إلا عند حكم، وكان وسيماً، وللحسن قسيماً، فكتب إليه (3) : أرسل بها مثل ودّك ... أرقّ من ماء خدّك

_ (1) ب: جلب. (2) المطمح 15 - 16. (3) انظر ما سبق ص: 408.

شقيقة النفس فانضح ... بها جوى ابني وعبدك وكتب رحمه الله تعالى معتذراً، عما جناه منذراً: ما تغيّبت عنك إلاّ لعذر ... ودليلي في ذاك حرصي عليكا هبك أن الفرار من عظم ذنبٍ ... أتراه يكون إلا إليكا وقال في المطمح في حق أبي الفرج: من ثنية رياسة، وعترة نفاسة، مامنهم إلا من تحلى بالإمارة، وتردى بالوزارة، وأضاء في آفاق الدول، ونهض بين الخيل والخول، وهو أحد أمجادهم، ومتقلد نجادهم، فاتهم أدباً ونبلاً، وباراهم كرماً تخاله وبلاً، إلا أنه بقي وذهبوا، ولقي من الأيام ما رهبوا، فعاين تنكرها، وشرب عكرها، وجال على الآفاق، واستدر أخلاف الأرزاق، وأجال للرجاء (1) قداحاً متواليات الإخفاق، فأخمل قدره، وتوالى عليه جور الزمان وغدره، فاندفعت آثاره، وعفت أخباره، وقد أثبت له بعض ما قاله وحاله قد أدبرت، والخطوب إليه قد انبرت، أخبرني الوزير الحكيم أبو محمد المصري وهو الذي آواه، وعنده استقرت نواه، وعليه كان قادماً، وله كان منادماً، أنه رغب إليه في أحد الأيام أن يكون من جملة ندمائه، وأن لا يحجب عنه وتكون منةً من أعظم نعمائه، فأجابه بالإسعاف، واستساغ منه ما كان يعاف، لعلمه بقلته، وإفراط خلته، فلما كان ظهر (2) ذلك اليوم كتب إليه: أنا قد أهبت بكم وكلكم هوىً ... وأحقّكم بالشكر مني السابق فالشمس أنت وقد أظلّ طلوعها ... فاطلع وبين يديك فجرٌ صادق

_ (1) م ب: الرجاء. (2) ظهر: سقطت من ب.

3 - وقال الوزير أبو عامر ابن مسلمة (1) : حجّ الحجيج منىً ففازوا بالمنى ... وتفرقت عن خيفه الأشهاد ولنا بوجهك حجةٌ مبرورةٌ ... في كلّ يومٍ تنقضي وتعاد وقال الفتح في حقه ما صورته: نبتة (2) شرفٍ باذج، ومفخر على ذوائب الجوزاء شامخ، وزروا للخلفاء، فانتجعتهم الأدباء واتبعتهم العظماء، وانتسبت لهم النعماء، وتنفست عن نور بهجتهم الظلماء، وأبو عامر هذا هو جوهرهم المنتخل، وجوادهم الذي لا يبخل، وزعيمهم المعظم، وسلك مفخرهم المنظم، وكان فتى المدام، ومستفتى الندام، وأكثر من النعت للراح والوصف، وآثر الأفراح والقصف، وأرى قينات السرور مجلوة، وآيات الحسن متلوة، وله كتاب سماه " حديقة الارتياح في وصف حقيقة الراح "، واختص بالمعتضد اختصاصاً جرعه رداه، وصرعه في مداه، فقد كان في المعتضد من عدم تحفظه للأرواح، وتهاونه باللوام في ذلك واللواح، فاطمأن إليه أبو عامر واغتر، وأنس إلى مابسم من مؤانسته وافتر، حتى أمكنته في اغتياله فرصة، لم يعلق فيها حصة، ولم يطلق عليه إلا أنه زلت به قدمه فسقط في البحيرة وانكفا، ولم يعلم به إلا بعدما طفا، فأخرج وقد قضى، وأدرج منه في الكفن حسام المجد منتضى، فمن محاسنه قوله يصف السوسن، وهو مما أبدع فيه وأحسن: وسوسنٍ راق مرآه ومخبره ... وجلّ في أعين النظّار منظره كأنّه كؤس البلّور قد صنعت ... مسندساتٍ تعالى الله مظهره وبينها ألسنٌ قد طوّقت ذهباً ... من بينها قائمٌ بالملك يؤثره

_ (1) المطمح: 23 - 24. (2) المطمح: بيت.

إلى أن قال: واجتمع بجنة بخارج إشبيلية مع إخوانٍ له علية، فبينما هم يديرون الراح، ويشربون من كأسها الأفراح، والجو صاح، إذا بالأفق قد غيم، وأرسل الديم، بعدما كسا الجو بمطارف اللاذ (1) ، وأشعر الغصون زهر قباذ (2) ، والشمس منتقبة (3) بالسحاب، والرعد يبكيها بالانتحاب، فقال (4) : يومٌ كأن سحابه ... لبست عمامات الصوامت حجبت به شمس الضّحى ... بمثال أجنحة الفواخت والغيث يبكي فقدها ... والبرق يضحك مثل شامت والرعد يخطب مفصحاً ... والجوّ كالمخزون ساكت وخرج إلى تلك الخميلة والربيع قد نشر رداه، ونثر على معاطف الغصون نداه، فأقام بها وقال: وخميلةٍ رقم الزّمان أديمها ... بمفضّضٍ ومقسّمٍ ومشوب رشفت قبيل الصبح ريق غمامةٍ ... رشف المحب مراشف المحبوب وطردت في أكنافها ملك الصّبا ... وقعدت واستوزرت كلّ أديب وأدرت فيها اللهو حقّ مداره ... مع كلّ وضّاح الجبين حسيب (5) 4 - وقال الوزير الكاتب أبو حفص أحمد بن برد (6) : قلبي وقلبك لا محالة واحدٌ ... شهدت بذلك بيننا الألحاظ

_ (1) م: الرذاذ. (2) م: دهر قباذ. (3) ب: متنقبة. (4) مرت الأبيات ص: 485. (5) ب والمطمح: مهوب. (6) المطمح: 24 - 25.

فتعال فلنغظ الحسود بوصلنا ... إنّ الحسود بمثل ذاك يغاظ وقال: يا من حرمت لذاذتي بمسيره ... هذي النوى قد صعّرت لي خدّها زوّد جفوني من جمالك نظرة ... والله يعلم إن رأيتك بعدها وقال في المطمح في ابن برد المذكور: إنه غذي بالأدب (1) ، وعلا إلى أسمى (2) الرتب، وما من أهل بيته إلا شاعر كاتب، لازم لباب السلطان راتب (3) ، ولم يزل في الدولة العامرية بسبقٍ يذكر، وحق لا ينكر، وهو بديع الإحسان، بليغ القلم واللسان، مليح الكتابة، فصيح الخطابة، وله " رسالة السيف والقلم " (4) ، وهو أول من قال بالفرق بينهما، وشعره مثقف المباني، مرهف كالحسام اليماني، وقد أثبت منه ما يلهيك سماعاً، ويريك الإحسان لماعاً، فمن ذلك قوله يصف البهار: تأمل فقد شقّ البهار كمائماً ... وأبرز عن نوّاره الخضل الندي مداهن تبرٍ في أنامل فضةٍ ... على أذرعٍ مخروطةٍ من زبرجد وله يصف معشوقاً، أهيف القد ممشوقاً، أبدى صفحة ورد، وبدا في ثوب لازورد: لمّا بدا في لازور ... ديّ الحرير وقد بهر كبّرت من فرط الجما ... ل وقلت: ما هذا بشر فأجابني لا تنكرن ... ثوب السماء على القمر

_ (1) المطمح: هذه ثنية غذيت بالأدب. (2) المطمح: وربت في سماء. (3) ق ب ودوزي: مراتب. (4) راجع هذه الرساله في الذخيرة 1 / 2: 435.

5 - وقال الوزير الكاتب أبو جعفر ابن اللمائي (1) : ألمّا فديتكما نستلم ... منازل سلمى على ذي سلم منازل كنت بها نازلاً ... زمان الصّبا بين جيدٍ وفم أما تجدنّ الثرى عاطراً ... إذا ما الرياح تنفسن ثم وقال في المطمح فيه: إمامٌ من أئمة الكتابة ومفجر ينبوعها، والظاهر على مصنوعها بمطبوعها، إذا كتب نثر الدر في المهارق، ونمت فيه أنفاسه كالمسك في المفارق، وانطوى ذكره على انتشار إحسانه، وقصر أمره مع امتداد لسانه، فلم تطل لدوحته فروع، ولا اتصل لها من نهر الإحسان كروع، فاندفنت محاسنه من الإهمال في قبر، وانكسرت الآمال بعدم بدائعه كسراً بعد جبر، وكان كاتب علي بن حمود العلوي وذكر أنه كان يرتجل بين يديه ولا يروي، فيأتي على البديه، بما يتقبله المروي ويبديه (2) ، فمن ذلك ما كتب معتنياً من بعض رسالة: روض القلم في خنائك مونق وغصن الأدب بمائك مورق، وقد قذف بحر الهند درره، وبعث روض نجدٍ زهره، فأهدى ذلك على يدي فلان الجاري في حمده، على مباني قصده. 6 - وقال الوزير حسان بن مالك بن أبي عبدة في المهرجان (3) : أرى المهرجان قد استبشرا ... غداة بكى المزن واستعبرا وسربلت الأرض أمواهها ... وجللت السندس الأخضرا وهزّ الرياح صنابيرها ... فضوّعت المسك والعنبرا تهادى به الناس ألطافه ... وسامى المقلّ به المكثرا

_ (1) المطمح: 25 - 26. (2) المطمح: ويفديه؛ وفي م: بما يفصله؛ ب: يفعله؛ دوزي: يتقبله. (3) المطمح: 26 - 27.

وقال في حقه في المطمح: من بيت جلالة، وعترة (1) أصالة، كانوا مع عبد الرحمن الداخل، وتوغلوا معه في متشعبات تلك المداخل، وسعوا في الخلافة حتى حضر مبايعها، وكثر مشايعها، وجدوا في الهدنة وانعقادها، وأخمدوا نار الفتنة عند اتقادها، فانبرمت (2) عراها، وارتبطت أولاها وأخراها، فظهرت البيعة واتضحت، وأعلنت الطاعة وأفصحت، وصاروا تاج مفرقها، ومنهاج طرقها، وهو ممن بلغ الوزارة بعد ذلك وأدركها، وحل مطلعها وفلكها، مع اشتهار في اللغة والآداب، وانخراط في سلك الشعراء والكتاب، وإبداع لما ألف، وانتهاض بما تكلف، ودخل على المنصور وبين يديه كتاب ابن السري وهو به كلف، وعليه معتكف، فخرج وعمل على مثاله كتاباً، سماه " ربيعة وعقيل "، جرد له من ذهنه أي سيفٍ صقيل، وأتى به منتسخاً مصوراً في ذلك اليوم من الجمعة الأخرى، وأبرزه والحسن يتبسم عنه ويتفرى، فسر به المنصور وأعجب، ولم يغب عن بصره ساعة ولا حجب، وكان له بعد هذه المدة حين أدجت الفتنة ليلها وأزجت إبلها وخيلها، اغتراب كاغتراب الحارث بن مضاض، واضطراب بين القوافي والمواضي، كالحية النضاض، ثم اشتهر بعد، وافتر له السعد، وفي تلك المدة يقول يتشوق إلى أهله: سقى بلداً أهلي به وأقاربي ... غوادٍ بأثقال الحيا وروائح وهبّت عليهم بالعشيّ وبالضحى ... نواسم بردٍ والظًلال فوائح تذكرتهم والنأي قد حال دونهم ... ولم أنس لكن أوقد القلب لافح وممّا شجاني هاتفٌ فوق أيكةٍ ... ينوح ولم يعلم بما هو نائح فقلت اتّئد يكفيك أني نازحٌ ... وأن الذي أهواه عني نازح ولي صبيةٌ مثل الفراخ بقفرةٍ ... مضى حاضناها فاطّحتها الطوائح (3)

_ (1) المطمح: وغرة؛ ب: ومحمدة؛ م: ومجرة. (2) المطمح: فأبرمت. (3) المطمح: متى حضناها طوتها الطوائح.

إذا عصفت ريحٌ أقامت رؤوسها ... فلم يلقها إلاّ طيورٌ بوارح فمن لصغارٍ بعد فقد أبيهم ... سوى سانحٍ في الدهر لو عنّ سانح واستوزره المستظهر عبد الرحمن بن هشام أيام الفتنة فلم يرض بالحال، ولم يمض في ذلك الانتحال، وتثاقل عن الحضور في كل وقت، وتغافل في ترك الغرور بذلك المقت، وكان المستظهر يستبد بأكثر تلك الأمور دونه، وينفرد مغيباً عنه شؤونه، فكتب إليه: إذا غبت لم أحضر وإن جئت لم أسل ... فسيّان منّي مشهدٌ ومغيب فأصبحت تيمياً وما كنت قبلها ... لتيمٍ ولكنّ الشبيه نسيب وله: رأت طالعاً للشيب بين ذوائبي ... فباحت بأسرار الدّموع السواكب وقالت: أشيبٌ قلت: صبح تجاربي ... أنار على أعقاب ليل نوائبي ولما مات رثاه الوزير أبو عامر ابن شهيد بقوله: أفي كلّ عامٍ مصرعٌ لعظيم ... أصاب المنايا حادثي وقديمي وكيف اهتدائي في الخطوب إذا دجت ... وقد فقدت عيناي ضوء نجوم مضى السلف الوضّاح إلا بقيةً ... كغرّة مسودّ القميص بهيم فإن ركبت مني اللّيالي هضيمة ... فقبلي ما كان اهتضام تميم أبا عبدةٍ إنّا غدرناك عندما ... رجعنا وغادرناك غير ذميم أنخذل من كنّا نرود بأرضه ... ونكرع منه في إناء علوم ويجلو العمى عنّا بأنوار رأيه ... إذا أظلمت ظلماء ذات غيوم كأنّك لم تلقح بريحٍ من الحجى ... عقائم أفكار بغير عقيم ولم نعتمد مغناك غدواً ولم نزر ... رواحاً (1) لفصل الحكم دار حكيم

_ (1) المطمح: ولم نزل نؤم.

7 - وقال الوزير الفقيه أبو أيوب ابن أبي أمية (1) : أمسك دارين حيّاك النّسيم به ... أم عنبر الشّحر أم هذي البساتين بشاطئ النهر حيث النّور مؤتلقٌ ... والراح تعبق أم تلك الرياحين وحلاه في المطمح بقوله: واحد الأندلس الذي طوقها فخاراً، وطبقها بأوانه افتخاراً، ماشئت من وقار لا تحيل الحركة سكونه، ومقدار يتمنى مخبرٌ ان يكونه، إذا لاح رأيت المجد مجتمعاً، وإذا فاه أضحى كل شيء مستمعاً، تكتحل منه مقل المجد، وتنتحل المعالي أفعاله انتحال ذي كلف بها ووجد، لوتفرقت في الخلق سجاياه لحمدت الشيم، ولو استسقيت بمحياه لما استمسكت الديم، ودعي للقضاء فمارضي، وأعفي عنه فكأنه ما استقضي، لديه تثبت الحقائق، وتنبت العلائق، وبين يديه يسلك عين الجدد (2) ، ويدع اللدد اللدد (3) ، وله أدب إذا حاضر به فلا البحر إذا عصف، ولا أبو عثمان إذا وصف، مع حلاوة مؤانسةٍ تستهوي الجليس، وتهوي حيث شاءت بالنفوس، وأما تحبيره وإنشاؤه، ففبهما للسامع تحييره وانتشاؤه، وقد اثبت له بدعاً، يثني إليها الإحسان جيداً وأخدعاً، فمن ذلك قوله في منزل حله متنزهاً: يا منزل الحسن أهواه وآلفه ... حقاً لقد جمعت في صحنك البدع لله ما اصطنعت نعماك عندي في ... يومٍ نعمت به والشمل مجتمع وحل منية صهره الوزير أبي مروان ابن الدب بعدوة إشبيلية المطلة على النهر، المشتملة على بدائع الزهر، وهو معرس ببنته (4) ، فأقام بها أياماً متأنسا،

_ (1) المطمح: 28 - 29؛ وقد سقط " أبو أيوب " من م. (2) ب: مسلك؛ ودوزي: يسلك من الحق الجدد. (3) ق: الألد اللدد. (4) ب: معرس مبيته؛ م: معرس بابنته.

ولجذوة السرور مقتبساً، فوالى عليه من التحف، وأهدى إليه من الطرف، ما غمر كثرة، وبهر نفاسة وأثرة، فلما ارتحل وقد اكتحل من حسن ذلك الموضع بما اكتحل، كتب إليه: قل للوزير وأين الشكر من مننٍ ... جاءت على سننٍ تترى وتتّصل غشيت مغناك والروض الأنيق به ... يندى وصوب الحيا يهمي وينهمل وجال طرفي في أرجائه مرحاً ... وفق اجتيازي يستعلي ويستفل ندعو بلفتته حيث ارتمى زهرٌ ... عليه من منثني أفنانه كلل محلّ أنسٍ نعمنا فيه آونةً ... من الزّمان وواتانا به الأمل وحل بعد ذلك متنزهاً بها على عادته، فاحتفل في موالاة ذلك البر وإعادته، فلما رحل كتب إليه: يا دار أمنّك الزّما ... ن صروفه ونوائبه وجرت (1) سعودك بالذي ... يهوى نزيلك آيبه فلنعم مأوى الضيف أن ... ت إذا تحاموا جانبه خطرٌ شأوت به الديا ... ر وأذعنت (2) لك قاطبه وصنع له ولد ابن عبد الغفور (3) رسالة سماها ب " الساجعة " حذا بها حذو أبي العلاء المعري في " الصاهل والشاحج " وبعث بها إليه، فعرضها عليه، فأقامت عنده أباماً ثم استدعاها منه فصرفها إليه، وكتب معها: بكرٌ زففتها أعزك الله تعالى نحوك، وهززت بمقدمها سناك وسرورك، فلم ألفظها عن شبع، ولا

_ (1) ب والمطمح: ودنت. (2) ب: فأذعنت. (3) هو صاحب إحكام صنعة الكلام؛ وقد تحدث عن رسالة " الساجعة " هنالك، وسقطت لفظة " ولد " من م.

جهلت ارتفاعها عما يجتلى من نوعها ويستمع، ولكن لما أنسته (1) من أنسك بانتجاعها، وحرصك على ارتجاعها، دفعت في صدر الولوع، وتركت بينها وبين مجاثمها تلك الربوع، حيث الأدب غضٌّ، وماء البلاغة مرفضٌّ، فأسعد أعزك الله بكرتها، وسلها عن أفانين معرتها، بما تقطفه من ثمارك، وتغرفه من بحارك، وترتاح له ولإخوانه من نتائج أفكارك، وغنها لشنشنة أعرفها فيكم من أخزم، وموهبة حزتموها وأحرزتم السبق فيها منذ كم. انتهى. 8 - وابن عبد الغفور هو الوزير أبو القاسم الذي قال فيه الفتح (2) : فتى زكا فرعاً وأصلاً، وأحكم البلاغة معنىً وفصلاً، وجرد من ذهنه على الأغراض نصلاً، قد هابه وفراها، وقدح زند المعالي حتى أوراها، مع صون يرتديه، ولا يكاد يبديه، وشبيبة ألحقته بالكهول، فأقفرت منه ربعها المأهول، وشرف ارتداده، وسلفٍ اقتفى أثره الكريم واقتداه، وله شعر بديع السرد، مفوف البرد، وقد أثبت له منه ما ألفيت، وبالدلالة عليه اكتفيت، فمن ذلك قوله: تركت التّصابي للصّواب وأهله ... وبيض الطّلى للبيض والسّمر للسّمر مدامي مدادي والكؤوس محابري ... وندامي أقلامي ومنقلتي سفري وله: لا تنكروا أنّنا في رحلةٍ أبداً ... نحثّ في نفنفٍ (3) طوراً وفي هدف فدهرنا سدفةٌ ونحن أنجمها ... وليس ينكر مجرى النّجم في السّدف لو أسفر الدهر لي أقصرت عن سفري ... وملت عن كلفي بهذه الكلف

_ (1) ب م: أنست. (2) المطمح: 29 - 30. (3) ب م: ثقف.

وله من قصيدة: رويدك يا بدر التّمام فإنّني ... أرى العيس حسرى والكواكب ظلعّا كأن أديم الصبح قد قدّ أنجماً ... وغودر درع الليل فيها مرقّعا فإنّي وإن كان الشباب محبّباً ... إليّ وفي قلبي أجلّ وأوقعا لآنف من حسنٍ بشعري مفترى ... وآنف من حسنٍ بشعري قنّعا 9 - وقال الوزير أبو الوليد ابن حزم (1) : إلك أبا حفصٍ وما عن ملالة ... ثنيت عناني والحبيب حبيب مقالاً يطير الجمر عن جنباته ... ومن تحته قلبٌ عليك يذوب مضت لك في أفياء ظلّي قولة ... لها بين أحناء الضّلوع دبيب ولكن أبى إلا إليك التفاته ... فزاد عليه من هواك رقيب وكم بيننا لو كنت تحمد ما مضى ... إذ العيش غضٌّ والزمان قشيب وتحت جناح الغيم أحشاء روضةٍ ... بها لخفوق العاصفات وجيب وللزهر في ظلّ الرياض تبسّمٌ ... وللطير منها في الغصون نحيب وقال في الزهد: ثلاثٌ وستون قد جزتها ... فماذا تؤمّل أو تنتظر وحلّ عليك نذير المشيب ... فما ترعوي أو فما تزدحر تمرّ لياليك مراً حثيثاً ... وانت على ماأرى مستمر فلو كنت تعقل ما ينقضي ... من العمر لاعتضت خيراً بشرّ فما لك لا تستعدّ إذن ... لدار المقام ودار المقرّ أترغب عن فجأةٍ للمنون ... وتعلم أن ليس منها مفرّ

_ (1) المطمح: 31 - 34.

فإمّا إلى جنّة أزلفت ... وإمّا إلى سقرٍ تستعر 10 - وقال ابن أبي زمنين (1) : الموت في كلّ حينٍ ينشر الكفنا ... ونحن في غفلةٍ عمّا يراد بنا لا تطمئنّ إلى الدنيا وبهجتها ... وإن توشّحت من أثوابها الحسنا أين الأحبّة والجيران ما فعلوا ... أين الذين هم كانوا لنا سكنا سقاهم الموت كأساً غير صافيةٍ ... فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا تبكي المنازل منهم كلّ منسجمٍ ... بالمكرمات وترثي البر والمننا حسب الحمام لو ابقاهم وأمهلهم ... ان لا يظنّ على معلوّةٍ حسنا وقال في المطمح: الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين فقيه متبتل، وزاهد لا منحرف إلى الدنيا ولا منفتل (2) ، هجرها هجر المنحرف، وحل أوطانه فيها محل المعترف، لعلمه بارتحاله (3) عنها وتقويضه (4) ، وإبداله منها وتعويضه، فنظر بقلبه لا بعينه، وانتظر يوم فراقه وبينه، ولم يكن له بعد ذلك بها اشتغال، ولا في شعاب تلك المسائل إيغال، وله تواليف في الوعظ والزهد وأخبار الصالحين تدل على تخليته عن الدنيا واتراكه، والتلفت من حبائل الاغترار وأشراكه، والتنقل من حال إلى حال، والتأهب للارتحال، ويستدل به على ذلك الانتحال، فمنها قوله: الموت في كلّ حينٍ ينشر الكفنا فذكر الأبيات، انتهى.

_ (1) المطمح: 49 - 50 وزاد في م: في الزهد. (2) المطمح: متنقل. (3) ق ب: بارتحالها عنه. (4) في الأصول: وتفويضه.

11 - وقال خلف بن هرون يمدح الحافظ أبا محمد ابن حزام (1) : يخوض إلى المجد والمكرمات ... بحار الخطوب وأهوالها وإن ذكرت للعلا غايةُ ... ترقّى إليها وأهوى لها وقال في المطمح فيه: فقيه مستبط، ونبيه بقياسه مرتبط، ما تكلم تقليداً، ولا عدا (2) اختراعاً وتوليداً، ما تمنت به الأندلس أن تكون كالعراق، ولا حنت الأنفس معه إلى تلك الآفاق، أقام بوطنه، وما برح عن عطنه فلم يشرب ماء الفرات، ولم يقف عيشة الثمرات (3) ، ولكنه أربى على من من ذلك غذي، وأزرى على من هنالك نعل وحذي، تفرد بالقياس، واقتبس نار المعارف أي اقتباس، فناظر بها أهل فاس، وصنف وحبر حتى أفنى الأنقاس، ونابذ الدنيا، وقد تصدت له بأفتن محيا، وأهدت إليه أعبق عرف وريا، وخلع الوزارة وقد كسته ملاها، وألبسته حلاها، وتجرد للعلم وطلبه، وجد في اقتناء نخبه، وله تآليف كثيرة، وتصانيف أثيرة، منها " الإيصال إلى فهم كتاب الخصال " وكتاب " الإحكام لأصول الأحكام " وكتاب " الفصل (4) في الأهواء والملل والنحل " وكتاب " مراتب العلوم " (5) وغير ذلك، مما لم يظهر مثله من هنالك، مع سرعة الحفظ، وعفاف اللسان واللحظ، وفيه يقول خلف بن هرون: يخوض إلى المجد والمكرمات ... ولابن حزم في الأدب سبقٌ لا ينكر، وبديهة لا يعلم انه روى فيها ولا

_ (1) المطمح: 55 - 56. (2) المطمح: تعدى. (3) كذا، ولعله: عشية السمرات. (4) م ب ق: القصد. (5) هذه رسالة نشرتها ضمن " رسائل ابن حزم " (القاهرة 1954) .

فكر، وقد أثبت من شعره ما يعلم أنه أوحد، وما مثله فيه أحد، ثم ذكر جملة من نظمه ذكرناها في غير هذا الموضع. 12 - وكتب أبو عبد الله ابن مسرة (1) إلى أبي بكر اللؤلؤي يستدعيه في يوم طين ومطر، لقضاء أرب من الأنس ووطر: أقبل فإنّ اليوم يوم دجن ... إلى مكانٍ كالضمير مكني لعلّنا نحكم أشهى فنّ ... فأنت في ذا اليوم أمشى مني وقال في المطمح: إن ابن مسرة كان على طريق من الزهد والعبادة سبق فيها، وانتسق في سلك مقتفيها، وكانت له إشارة غامضة، وعبارة عن منازل الملحدين غير داحضة، ووجدت له مقالات ردية، واستباطات مردية، نسب بها إليه رهق، وظهر له فيها مزحل عن الرشد ومزهق، فتتبعت مصنفاته بالحرق، واتسع في استباحتها الخرق، وغدت مهجورة، على التالين محجورة، وكان له تنميق في البلاغة وتدقيق لمعانيها، وتزويق لأغراضها وتشييد لمبانيها، انتهى. وهو من نمط الصوفية الذين تكلم فيهم، والتسليم أسلم، والله تعالى بأمرهم أعلم. 13 - ومن حكايات أهل الأندلس في الانقباض عن السلطان، والفرار من المناصب، مع العذر اللطيف: ما حكاه في المطمح في ترجمة الفقيه أبي عبد الله الخشني (2) إذ قال: كان فصيح اللسان، جزيل البيان (3) ، وكان أنوفاص منقبضاً عن السلطان، لم يتشبث بدنيا، ولم ينكث له مبرم عليا، دعاه الأمير محمد إلى

_ (1) المطمح: 58. (2) المطمح: 56 - 57 وفي ب م: الحسني. (3) ب: التبيان.

القضاء فلم يجب، ولم يظهر رجاءه المحتجب، وقال: أبيت عن أمانة هذه الديانة، كما أبت السموات والأرض عن حمل الأمانة، إباية إشفاق، لا إباية عصيان ونفاق، وكان الأمير قد أمر الوزراء بإجباره، أو حمل السيف إن تمادى على تأبيه وإصراره، فلما بلغه قوله هذا أعفاه، قال: وكان الغالب عليه علم النسب، واللغة والأدب، ورواية الحديث، وكان مأموناً ثقة، وكانت القلوب على حبه متفقة، وله رحلة دخل العراق، ثم عاد إلى هذه الآفاق، وعندما اطمأنت داره، وبلغ أقصى مناه مداره، قال: كأن لم يكن بينٌ ولم تك فرقةٌ ... الأبيات، انتهى. وهذه الأبيات قدمناها في الباب الخامس في ترجمة القاضي ابن أبي عيسى. فأنت ترى كلام الفتح قد اضطرب في نسبتها، فمرة نسبها إلى هذا ومرة نسبها إلى ذاك، وهي قطعة عرفها ذاكٍ. 398 - ومن دعابات أهل الأندلس وملحهم: ما يحكى عن ابن أبي حلى، وهو علي بن أبي حلى المكناسي (1) أبو الحسن، قال لسان الدين: كان شيخاً مليح الحديث، حافظاً للمسائل الفقهية، قائماً على المدونة (2) ، مضطلعاً بمشكلاتها، كثير الحكايات، يحكي أنه شاهد غرائب وتملحاً فينمقها عليه بعض الطلبة، ويتعدون ذلك إلى الافتعال والمداعبة، حتى جمعوا من ذلك جزءاً سموه " السالك والمحلى في أخبار ابن أبي حلى "، فمن ذلك أنه كانت له هرة فدخل البيت يوماً فوجدها قد بلت إحدى يديها وجعلتها في الدقيق حتى علق بها ونصبتها

_ (1) م: الكناني. (2) م ب: الدولة.

بإزاء كوة فأر ورفعت اليد الأخرى لصيده، فناداها باسمها، فردت رأسها، وجعلت إصبعها على فمها، على هيئة المشير بالصمت، وأشباه ذلك، وتوفي المذكور سنة 406، قاله في الإحاطة. 399 - ومن أجوبة ملوك الأندلس: ان نزاراً العبيدي صاحب مصر كتب إلى المرواني صاحب الأندلس كتاباً يسبه فيه ويهجوه، فكتب إليه المرواني: أما بعد فإنك عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لأجبناك، والسلام، فاشتد ذلك على نزار وأفحمه عن الجواب، وحكي أنه كتب إلى العبيدي ملك مصر مفتخراً (1) : ألسنا بني مروان كيف تبدلت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر إذا ولد المولود منا تهللت ... له الأرض واهتزت إليه المنابر [حريز بن عكاشة] 400 - ومن غريب ما يحكى من قوة أهل الأندلس وشجاعتهم: أن الأمير حريز بن عكاشة (2) من ذرية عكاشة بن محصن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بساحة أذفونش (3) ملك ملوك الروم، فبدأهم بخراب ضياعها وقطع الشجر، فكتب إليه حريز: ليس من أخلا ق القدير، الفساد والتدمير، فإن قدرت على البلاد أفسدت ملكك، ولو كان الملك في عشرة أمثال عددي لم ينزل لي بساحة، ولا تمكن منها براحة، فلما وصلته الرسالة عف، وأمر بالكف، وبعث الملك يرغبه في الاجتماع به، فاسترهنه في نفسه عدة من ملوك

_ (1) مر البيتان ص: 188. (2) قد مر شيء عنه ص: 358 وانظر الحلة 2: 176 - 179. (3) الحلة: 179 والمطمح: 30.

الروم، فأجاب إلى ما ارتهن، ولما صاروا بالمدينة البيضاء - وهي قلعة رباح غربي طليطلة - خرج حريز لابساً لأمة حربه، يرمق الروم منه شخصاً أوتي بسطة في الجسم والبسالة يتعجبون من آلات حربه، ويتحدثون بشجاعة قلبه. ولما وصل فسطاط الملك تلقته الملوك بالرحب والسعة، ولما أراد النزول عن فرسه ركز رمحه، فأبصر الملك منه هيئة تشهد له بما عنه حدث، وهيبة يجزع للقائها الشجاع ويكترث، فدعاه إلى البراز عظيم أبطالهم، فقال له الملك: يا حريز أريد أن أنظر إلى مبارزتك هذا البطل، فقال له حريز: المبارز لا يبارز إلا أكفاءه، وإن لي بينة إلى صدق قولي أن ليس لي فيهم كفء، هذا رمحي قد ركزته، فمن ركب واقتلعه بارزته، كان واحداً أو عشرة، فركب عظيمهم فلم يهز الرمح من مكانه حين رامه، ثم فعل ذلك مراراً، فقال له الملك: أرني يا حريز كيف تقلعه، فركب وأشار بيده واقتلعه، فعجب القوم، ووصله الملك وأكرمه، انتهى. وكان حريز هذا شاعراً، ولما اجتاز به كاتب ابن ذي النون الوزير أبو المطرف ابن المثنى كتب إليه (1) : يا فريداً دون ثان ... وهلالاً في العيان عدم الراح فصارت ... مثل دهن البلسان فجاوبه حريز، وهو يومئذٍ أمير قلعته: يا فريداً لا يجارى ... بين أبناء الزّمان جاء من شعرك روضٌ ... جاده صوب البيان فبعثناها سلافاً ... كسجاياك الحسان

_ (1) مرت هذه الحكاية ص: 358 وانظر الحلة 2: 179 والمطمح: 30.

وكان لحريز كاتب يقال له عبد الحميد بن لاطون فيه تغفل شديد، فأمره ان يكتب إلى المأمون بن ذي النون في شان حصنٍ دخله النصارى، فكتب: وقد بلغني أن الحصن الفلاني دخله النصارى إن شاء الله تعالى، فهذه الواقعة التي ذكرها الله تعالى في القرآن، بل هي الحادثة الشاهدة بأشراط الزمان، فإنا لله على هذه المصيبة التي هدت قواعد المسلمين، وأبقت في قلوبهم حسرة إلى يوم الدين. فلما وصل الكتاب للمأمون ضحك حتى وقع للأرض، وكتب لابن عكاشة جوابه، وفيه: وقد عهدناك منتقياً لأمورك، نقاداً لصغيرك وكبيرك، فكيف جاز عليك أمر هذا الكتاب الأبله الجلف، وأسندت إليه الكتب عنك دون أن تطلع عليه، وقد علمت أن عنوان الرجل كتابه، ورائد عقله خطابه، وما أدري من أي شيء يتعجب منه، هل من تعليقه إن شاء الله تعالى بالماضي أم من حسن تفسيره للقرآن ووضعه مواضعه أم من تورعه عن تأويله إلا بتوقيف من سماع عن إمام أم من تهويله لما طرأ على من يخاطبه أم من علمه بشأن هذا الحصن الذي لو أنه في القسطنطينية العظمى ما زاد عن عظمه وهو له شيئاً ولو أن حقيراً يخفى عن علم الله تعالى لخفي عنه هذا الحصن، ناهيك من صخرة حيث لا ماء ولا مرعى، منقطع عن بلاد الإسلام، خارج عن سلك النظام، لا يعبره إلا لص فاجر، أو قاطع طريق غير متظاهر، حراسه لا يتجاوزون الخمسين، ولا يرون خبز البر عندهم إلا في بعض السنين، باعه أحدهم بعشرين ديناراً، ولعمري إنه لم يغبن في بيعه ولا ربح أرباب ابتياعه، وأراح من الشين بنسبته والنظر في خداعه، فليت شعري ما الذي عظمه في عين هذا الجاهل، حتى خطب في أمره بما لم يخطب به في حرب وائل. فلما وقف حريز على الكتاب كتب لابن ذي النون جواباً منه: وإن المذكور ممن له حرمة قديمة، تغنيه عن أن يمت بسواها، وخدمة محمود أولاها وأخراها، ولسنا ممن اتسعت مملكته، وعظمت حضرته، فنحتاج إلى انتقاء الكتاب، والتحفظ في الخطاب، وإنما نحن أحلاس ثغور، وكتاب كتائب

لا سطور، وإن كان الكاتب المذكور لا يحسن فيما يلقيه على القلم، فإنه يحسن كيف يصنع في مواطن الكرم، وله الوفاء الذي تحدث به فلان وفلان، بل سارت بشأنه في أقصى البلاد الركبان، وليس ذلك يقدح عندنا فيه، بل زاده لكونه دالاً على صحة الباطن والسذاجة في الإكرام والتنويه، انتهى. ولهذا الكاتب شعر يسقط فيه سقوط الأغبياء، وقد يتنبه فيه تنبه الأذكياء، فمنه قوله في قصيدة يمدح حريزاً المذكور مطلعها: يذكرني بهم العنبر ... وظلم ثناياهم سكّر إلى أن قال: ولولا معاليك يا ذا النّدى ... لما كان في الأرض من يشعر فلا تنكرنّ زحاماً على ... ذراك وفي كفّك الكوثر ومشى في موكبه وهم في سفر، وكان في فصل المطر والطين، فجعل فرسه في ذنب فرس ابن عكاشة، فلما أثارت يدا فرسه طيناً جاء في عنق أميره، ففطن لذلك الأمير، فقال له: يا أبا محمد، تقدم، فقال: معاذ الله أن أسيء الأدب بالتقدم على أميري، فقال: فإن كان ذلك فتأخر مع الخيل، فقال: مثلي لا يزال عن ركابك في مثل هذه المواضع، فقال له: فقد والله أهلكتني بما ترمي يدا فرسك علي من الطين، فقال: أعز الله الأمير، يعذرني، فوالله ما علمت أن يد فرسي تصل إلى عنقك، فضحك ابن عكاشة حتى كاد يسقط عن مركوبه. 401 - وكان بسرقسطة غلام اسمه يحيى بن يطفت من بني يفرن، قد نشأ عند ملكها المقتدر بن هود، وتخلق بالركوب والأدب، وكان في غاية الجمال والحلاوة والظرف فعلق بقلب ابن هود، وكتم حبه زماناً فلم ينكتم، فكتب له: يا ظبي بالله قل لي ... متى ترى في حبالي

يمرّعمري وحالي ... في خيبتي منك خالي فكتب له الغلام في ظهر الرقعة: إن كنت ظبياً فأنت ال ... هزبر تبغي اغتيالي وليس يخطر يوماً ... حلول غيلٍ ببالي ثم كتب بعدهما: هذا ما اقتضاه حكم الجواب في النظم، وأنا بعد قد جعلت رسني بيد سيدي، فعسى أن يقودني إلى ما أحب، لا ما أكره، والذي أحبه أن يكون بيننا من المحبة ما يقضي بدوام الإخلاص، ونأمن في مغبته من العار والقصاص، فتركه مدة، ثم كتب له يوماً على الصورة التي ذكرها: ماذا ترى في يوم أمنٍ طرّزت ... حلل السحاب به البروق المذهبة وأنا وكاسي لا جليسٌ غيره ... ملآن لا يخلو إلى أن تشربه والأنس إن يسّرته متيسّرٌ ... ومتى تصعّبه فيا ما أصعبه فأجابه: يا مالكاً بذّ الملوك بعلمه ... وخلاله وعلوّه في المرتبه وافى نداك فحرت عند جوابه ... إذ ما تضمّن ريبةً مستغربه إنّا إذا نخلو، تقوّل حاسدٌ ... وغدا بهذا الأمر ينصر مذهبه هبني إلى يومٍ تطيش به النّهى ... والبيض تنضى والقنا متأشبّه وهناك فانظرني بعين بصيرةٍ ... فالشّبل يعرف أصله من جرّبه ثم أعلاه إلى درجة الوزارة والقيادة، إلى أن قتل في جيش كان قدمه عليه، فقال فيه من قصيدة: يا صارماً أغمدته ... عن ناظريّ الصّوارم

وزهرة غيّبتها ... من الطيور كمائم يا كوكباً خرّ من أن ... جمي وأنفي راغم بكت عليّ وشقّت ... جيوبهنّ الغمائم قل للحمائم إنّي ... أصبحت أحكي الحمائم وأنثر الدمع مهما ... رأيت للزهر باسم تالله لا لذّ عيشٌ ... لمترفٍ لك عادم 402 - ولما رحل الوزير عبد البر بن فرسان من وادي آش إلى علي الميورقي صاحب فتنة إفريقية أقبل عليه، ثم ولي أخوه يحيى الإمارة بعده، فأسند جميع أموره إليه، فقال يخاطبه: أجبناً ورمحي ناصري وحسامي ... وعجزاً وعزمي قائدي وإمامي ولي منك بطّاش اليدين غضنفر ... يحارب عن أشباله ويحامي ألا غنّياني بالصّهيل فإنّه ... سماعي ورقراق الدماء مدامي وحطّا على الرمضاء رحلي فإنّها ... مهادي وخفّاق البنود خيامي 403 - وكان الأمير أبو عبد الله ابن مردنيش (1) ملك شرق الأندلس من أبطال عصره، وكان يدفع في المواكب، ويشقها يميناً وشمالاً منشداً: أكرّ على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها حتى إنه دفع مرة في مواكب النصارى، فصرع منهم وقتل، وظهر منه ما أعجبت به نفسه، فقال لشخص من خواصه عالم بأمور الحرب: كيف رأيت فقال: لو رآاك السلطان لزاد فيما لك في بيت المال، وأعلى مرتبتك، أمن يكون رأس جيش يقدم هذا الإقدام، ويتعرض بهلاك نفسه إلى هلاك من

_ (1) مرت هذه الحكاية ص: 210.

معه فقال له: دعني فإني لا أموت مرتين، وإذا مت أنا فلا عاش من بعدي. 404 - ومن حكاياتهم في الظرف (1) : أن القاضي أبا عبد الله محمد بن عيسى من بني يحيى بن يحيى خرج إلى حضور جنازة، وكان لرجل من إخوانه منزل بقرب مقبرة قريش، فعزم عليه في الميل إليه، فنزل وأحضر له طعاماً، وغنت جارية: طابت بطيب لثاتك الأقداح ... وزهت بحمرة وجهك التفاح وإذا الربيع تنسمت أرواحه ... نمت بعرف نسيمك الأرواح وإذا الحنادس ألبست ظلماءها ... فضياء وجهك في الدجى مصباح فكتبها القاضي طرباً على ظهر يده (2) ، قال الراوي: فلقد رأيته يكبر على الجنازة والأبيات على ظهر يده. 405 - ومن حكاياتهم في البلاغة ما ذكر في " المطمح " أن أبا الوليد ابن عيال (3) لما انصرف من الحج اجتمع مع أبي الطيب في مسجد عمرو بن العاص بمصر، ففاوضه قليلاً، ثم قال له: أنشدني لمليح الأندلس، يعني ابن عبد ربه، فأنشده: يا لؤلؤاً يسبي العقول أنيقا ... ورشاً بتعذيب القلوب رفيقا ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... درّاً يعود من الحياء عقيقا وإذا نظرت إلى محاسن وجهه ... أبصرت وجهك في سناه غريقا يا من تقطّع خصره من رقّةٍ ... ما بال قلبك لا يكون رقيقا

_ (1) انظر الجذوة: 70. (2) الجذوة: على باطن كفه. (3) المطمح: 52 وفيه أبا الوليد ابن عباد؛ وفي م: ابن عتال.

فلما كمل إنشادها استعادها، ثم صفق بيديه وقال: يا ابن عبد ربه، لقد تأتيك العراق حبواً، انتهى. 406 - وقال مؤلف كتاب " واجب الأدب " (1) : مما يجب حفظه من مخترعات الأندلسيين قول ابن عبد ربه (1) : يا ذا الذي خطّ العذار بخدّه ... خطيّن هاجا لوعةً وبلابلا ما كنت أقطع أنّ لحظك صارمٌ ... حتى حملت من العذار حمائلا 407 - وحكي أن الوزير أبا الوليد ابن زيدون (3) توفيت ابنته، وبعد الفراغ من دفنها وقف للناس عند منصرفهم من الجنازة ليتشكر لهم، فقيل: إنه ما أعاد في ذلك الوقت عبارة قالها لأحد، قال الصفدي: وهذا من التوسع في العبارة، والقدرة على التفنن في أساليب الكلام، وهو أمر صعب إلى الغاية، وأرى أنه أشق مما يحكى عن واصل بن عطاء أنه ما سمعت منه كلمة فيها راء، لأنه كان يلثغ بحرف الراء لثغة قبيحة، والسبب في تهوين هذا الأمر وعدم تهويله أن واصل بن عطاء كان يعدل إلى ما يرادف تلك الكلمة مما ليس فيه راء، وهذا كثير في كلام العرب، فإذا أراد العدول عن لفظ فرس قال جواد أو ساعٍ أو صافن، أو العدول عن رمح قال قناة أو صعدة أو يزني أو غير ذلك، أو العدول عن لفظ صارم قال حسام أو لهذم أو غير ذلك، وأما ابن زيدون فأقول في حقه إنه أقل ما كان في تلك الجنازة، وهو وزير، ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يتشكر له، ويضطر إلى ذلك، فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر، وهذا كثير إلى الغاية، لا سيما من محزون، فقد

_ (1) هو والد الأديب الجغرافي علي بن موسى بن سعيد. (1) هو والد الأديب الجغرافي علي بن موسى بن سعيد. (3) انظر الذخيرة 1 / 1: 200 وسرح العيون: 4.

قطعةً من كبده: ولكنه صوب العقول إذا انبرت ... سحائب منه أعقبت بسحائب وقد استعمل الحريري هذا في مقاماته عندما يذكر طلوع الفجر، وهو من القدرة على الكلام، وأرى الخطيب ابن نباتة ممن لا يلحق في هذا الباب، فإنه أملى مجلدة معناها من أولها إلى آخرها: يأيها الناس اتقوا الله واحذروه فإنكم إليه راجعون، وهذا أمر بارع معجز، والناس يذهلون عن هذه النكتة فيه، انتهى كلام الصفدي ملخصاً. وقال في الوافي، بعد ذكره جملةً من أحوال ابن زيدون، ما نصه: وقال بعض الأدباء: من لبس البياض، وتختم بالعقيق، وقرأ لأبي عمرو، وتفقه للشافعي، وروى شعر ابن زيدون، فقد استكمل الظرف. وكان يسمى بحتري المغرب لحسن ديباجة نظمه، وسهولة معانيه، انتهى. رجع إلى كلام أهل الأندلس: 408 - وكان الأديب المحدث أبو الربيع سليمان بن علي الشلبي الشهير بكثير (1) يهوى من يتجنى عليه ويقول: إنه أبرد من الثلج، فخاطبه كثير بقوله: يا حبيباً له كلامٌ خلوب ... قلّبت في لظى هواه القلوب كيف تعزو إلى محبّك برداً ... ومن الحبّ في حشاه لهيب أنت شمسٌ وقلت إني ثلجٌ ... فلهذا إذا طلعت أذوب

_ (1) هناك من يترجم له ابن سعيد (في المغرب 1: 398 والقدح: 189) باسم كثير العلياوي نسبة إلى العليا وهي من قرى شلب، وهو يقول فيه: أديب مشهور في عصرنا، كان بإشبيلية ورحل إلى بجاية فأكثر كلامه فيما لا يعنيه فضرب وجرس ونفي في البحر؛ ويقول إنه كان يتجنب مجالسته بإشبيلية لأنها تجلب مشارته لحدة فيه، ولا أقطع بأنه علي بن سليمان الشلبي هذا.

409 - وقال ابن مهران مما يشتمل على أربعة أمثال (1) : المال زينٌ، والحياة شهيّةٌ، ... والجود يفقر، والشجاعة تقتل والبخل عيبٌ، والجبان مذمّمٌ، ... والقصد أحكم، والتوسط أجمل 410 - وقال ابن السيد البطليوسي متغزلاً (2) : نفسي الفداء لجؤذرٍ حلو اللّمى ... مستحسن بصدوده أضناني في فيه سمطا جوهرٍ يروي الظما ... لو علّني ببروده أحياني ويخرج من هذه القطعة عدة قطع. 411 - وقال ابن صارة مضمناً (3) : إلى كم ينفر (4) الدينار منّي ... ويطلب كفّ من عنه يحيد ألم أنشده في وادي هيامي ... به لو كان يعطفه النشيد حبيبي أنت تعلم ما أريد ... ولكن لا ترقّ ولا تجود وكم غنّيت حين تنكبتني ... منىً شيطانها أبداً مريد " يريد المرء أن يؤتى مناه ... ويأبى الله إلا ما يريد " 412 - وقال ذو الرياستين أبو مروان عبد الملك بن رزين (5) : بالله إن لم تزدجر ... يا مشبه البدر المنير

_ (1) لعله سليمان بن مهران السرقسطي (الجذوة: 209 وبغية الملتمس رقم: 773 والذخيرة 3: 157 والمغرب 2: 442 والمسالك 11: 447) . (2) مر البيتان، انظر ص: 287. (3) الأبيات في الذخيرة (2: 327) . (4) في الأصول: ينفد، والتصويب عن الذخيرة. (5) مر بيتان من هذه الثلاثة ص: 291.

لأسرّحنّ نواظري ... في ذلك الورد النضير ولآكلنّك بالمنى ... ولأشربنّك بالضمير 413 - وقال ابن عبد ربه (1) : اشرب على المنظر الأنيق ... وامزج بريق الحبيب ريقي واحلل وشاح الكعاب رفقاً ... خوفاً على خصرها الرقيق وقل لمن لام في التصابي ... خلّ قليلاً عن الطريق وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباً من بلاغة أهل الأندلس في الجد والهزل ما فيه مقنع لمن اقتصر عليه. 414 - ومن حكاياتهم في عدم احتمال الضيم والذل والوصف بالأنفة: أنه لما ثار أيوب بن مطروح في المائة الخامسة في الفتنة على ملك غرناطة عبد الله بن بلقين بن حبوس وخاض بحار الفتنة حتى رماه موجها فيمن رمى على الساحل، وحصل فيما بث عليهم يوسف بن تاشفين من الحبائل، وكانت له همة وأنفة عظيمة، وخلع عن إمارته، وحصل في حبالته، أدخل رأسه تحته، فانتظر من حضر معه أن يتكلم أو يخرج رأسه، فلم يكن إلا قليل حتى وقع ميتاً، رحمه الله تعالى. 415 - ولما ثار الميورقي بإفريقية على بني عبد المؤمن الثورة المشهورة، وخدمه جملة من أعيان أهل الأندلس، وكان من جملتهم مالك بن محمد بن سعيد العنسي (2) ، كتب عنه من رسالة: وبعد، فإنا لا نحتاج لك إلى برهان على أمير لسانه الحسام، وأيده التأييد الرباني الذي لا يرام، قد نصب خيامه

_ (1) العقد 6: 285، 427. (2) انظر ترجمة مالك في المغرب 2: 171.

بالبراح، ولم يتخذ سوراً غير سمر القنا وبيض الصفاح، له من العزم ردء (1) ومن الرأي كمين (2) : إذا صدق الحسام ومنتضيه ... فكلّ قرارةٍ حصنٌ حصين وهو من القوم الذين لا يجورون على جار، ولا يرحلون بخزية ولا يتركون من عار، دينهم دين التقوى، وإن كنت من ذلك في شك فاقدم علينا حتى يصح لك اختبار الذهب بالسبك، وأنت بالخيار في الظعن والإقامة، فإن حللت نزلت خير منزل، وإن رحلت ودعت أفضل وداع، وسرت في كنف السلامة، إذ قد شهرنا بأنا لا نقيد إلا بالإحسان، وأن ندع لاختياره كل إنسان. 416 - ومن حكايات أهل الأندلس في الجود والفضل ومكارم الأخلاق (3) : أن أبا العرب الصقلي حضر مجلس المعتمد بن عباد، فأدخلت عليه جملة من دنانير السكة، فأمر له بخريطتين منها، وبين يديه تصاوير عنبر من جملتها صورة جمل مرصع بنفيس الدر، فقال أبو العرب: ما يحمل هذه الدنانير إلا جمل، فتبسم المعتمد وأمر له به، فقال: أعطيتني (4) جملاً جوناً شفعت به ... حملاً من الفضّة البيضاء لو حملا نتاج جودك في أعطان مكرمةٍ ... لا قدّ تعرف من منعٍ ولا عقلا فاعجب لشأني فشأني كله عجبٌ ... رفّهتني فحملت الحمل والجملا ومن نظم أبي العرب المذكور: إلام اتباعي للأماني الكواذب ... وهذا طريق المجد بادي المذاهب

_ (1) في الأصول: رداء. (2) البيت للأعمى التطيلي، ديوانه: 202 (البيت رقم: 21) . (3) بدائع البدائه 2: 136. (4) البدائع: أجديتني.

أهمّ ولي عزمان: عزمٌ مشرّقٌ ... وآخر يثني همّتي للمغارب ولا بدّ لي أن أسأل العيس حاجةً ... تشقُّ على أخفاقها والغوارب إذا كان أصلي من ترابٍ فكلّها ... بلادي وكلّ العالمين أقاربي 417 - وذكر الحافظ الحجاري في " المسهب " أنه سأل عمه أبا محمد عبد الله بن إبراهيم (1) عن أفضل من لقي من أجواد تلك الحلبة، فقال: ياابن أخي، لم يقدر أن يقضي لي الاستمطار بهم، في شباب أمرهم قد هرم، وساءت بتغير الأحوال ظنونهم، وملوا الشكر، وضجروا من المروءة، وشغلتهم المحن والفتن، فلم يبق فيهم فضل للإفضال وكانوا كما قال أبو الطيب: أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرّهم وأتيناه على الهرم فإن يكن أتاه على الهرم فإنا أتيناه وهو في سياق الموت، ثم قال: ومع هذا فإن الوزير أبا بكر ابن عبد العزيز، رحمه الله تعالى، كان يحمل نفسه ما لا يحمله الزمان، ويبسم في موضع القطوب، ويظهر الرضى في حالة الغضب، ويجهد ألا ينصرف عنه أحدٌ غير راضٍ، فإن لم يستطع الفعل عوض عنه القول. قلت له: فالمعتمد بن عباد كيف رأيته فقال: قصدته وهو مع أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في غزوته للنصارى المشهورة، فرفعت له قصيدة منها: لا روّع الله سرباً في رحابهم ... وإن رموني بترويعٍ وإبعاد ولا سقاهم على ما كان من عطشٍ ... إلا ببعض ندى كفّ ابن عباد ذي المكرمات التي مازلت تسمعها ... أنس المقيم وفي الأسفار كالزاد يا ليت شعري ماذا يرتضيه لمن ... ناداه يا موئلي في جحفل النادي

_ (1) ترجمة أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الحجاري في المغرب 2: 34.

فلما انتهيت إلى هذا البيت قال: أما ما أرتضيه لك فلست أقدر في هذا الوقت عليه، ولكن خذ ما ارتضى لك الزمان، وأمر خادماً له فأعطاني ما أعيش في فائدته إلى الآن، فإني انصرفت به المرية، وكان يعجبني سكناها والتجارة بها، لكونها ميناء لمراكب التجار من مسلم وكافر، فتجرت فيها فكان إبقاء ماء وجهي على يديه، رحمة الله تعالى عليه. ثم أخذ البطاقة وجعل يجيل النظر والفكر في القصيدة، وانا مترقب لنقده، لكونه في هذا الشأن من أئمته، وكثيراً ما كان الشعراء يتحامونه لذلك إلا من عرف من نفسه التبريز، ووثق بها، إلى أن انتهى إلى قولي: لا سقاهم على ما كان من عطش ... إلا ببعض ندى كف ابن عبّاد فقال: لأي شيء بخلت عليهم أن يسقوا بكفه فقلت: إذن كان يلحقني من النقد ما لحق ذا الرمة في قوله: ولا زال منهلاًّ بجرعائك القطر (1) ... وكان طوفان نوح أهون عليهم من ذلك، فتألقت غرته، وبدت مسرته، وقال: إنا لله على أن لم يعنا الزمان على مكافأة مثلك. قال: وكنت ممن زاره بسجنه بأغمات، وحملتني شدة الحمية له والامتعاض لما حل به أن كتبت على حائط سجنه متمثلاً: فإن تسجنوا القسريّ لا تسجنوا اسمه ... ولا تسجنوا معروفه في القبائل ثم تفقدت الكتابة بعد أيام، فوجدت تحت البيت: لذلك سجناه (2) :

_ (1) صدر البيت: ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ... (2) البيت التالي للمتنبي.

ومن يجعل الضرغام في الصيد بازه ... تصيّده الضرغام فيما تصيدا فما أدرى من جاوب بذلك، ثم عدت له ووجدته قد محي، وأعلمت بذلك ابن عباد، فقال: صدق المجاوب، وأنا الجاني على نفسه، والحافر بيده لرمسه، ولما أردت وداعه أمر لي بإحسان على قدر ما استطاع، فارتجلت: آليت لا أقبل إحسانكم ... والدّهر فيما قد عراكم مسي ففي الذي أسلفتم غنيةٌ ... وإن يكن عندكم قد نسي قال: وفيه أقول من قصيدة: يا طالب الإنصاف من دهره ... طلبت أمراً غير معتاد فلو يكون العدل في طبعه ... لما عدا ملك ابن عبّاد وللحجاري المذكور كتاب في البديع سماه " الحديقة " وأنشد لنفسه فيه (1) : وشادنٍ ينصف من نفسه ... أمنّني من سطوة الدهر ينام للشرب على جنبه ... ويصرف الذنب إلى الخمر وله في فرس: ومستبقٍ يّحار الطّرف فيه ... ويسلم في الكفاح من الجماح كأنّ أديمه ليلٌ بهيمٌ ... تحجّل باليسير من الصباح إذا احتدم التسابق صار جرماً ... تقلّب بين أجنحة الرياح 418 - وكتب أبو العلاء إدريس بن أزرق إلى ابن رشيق ملك مرسية، وقد طالت إقامته عند ابن عبد العزيز (2) :

_ (1) البيتان في المغرب 2: 34. (2) انظر ترجمته وشعره في الجذوة: 88 وبغية الملتمس رقم: 298.

ألا ليت شعري هل أعود إلى الذي ... عهدت من النّعمى لديكم بلا جهد فوالله مذ فارقتكم ما تخلّصت ... من الدهر عندي ساعةٌ دون ما كدّ فمنّوا بإذنٍ كي أطير إليكم ... فلا عار في شوقٍ إلى المال والمجد ووقف بعض أعدائه على هذه الأبيات، فوشى بها إلى ابن عبد العزيز قاصداً ضرره، وكان ذلك في محفل ليكون أبلغ، فقال: والله لقد ذكرتني أمره، ولقد أحسن الدلالة على حاله، فإن الرجل كريم، وعلينا موضع اللوم، لا عليه، ووالله لأوسعنه مالاً ووجداً بقدر وسعي، ثم أخذ في الإحسان إليه حتى برّ يمينه، رحمه الله تعالى: هكذا هكذا تكون المعالي ... طرق الجدّ غير طرق المزاح 419 - ولنذكر جملة من بني مروان بالأندلس فنقول: 1 - قال محمد بن هشام المرواني صاحب كتاب " أخبار الشعراء " (1) : وروضةٍ من رياض الحزن حالفها ... طلٌّ أطلت به في أفقها الحلل كأنما الورد فيما بينها ملكٌ ... موفٍ ونوّارها من حوله خول وكان في مدة الناصر، وأدخل عليه يوماً ليذاكره، فاستحسنه، وأمره بالتزام بينه ليؤدبهم بحسن أدبه، ويتخلقوا بخلقه، فاستعفى من ذلك، وقال: إن الفتيان لا يتعلمون إلا بشدة الضبط والقيد والإغلاظ، وأنا أكره أن أعامل بذلك أولاد الخليفة فيكرهوني، وقد يحقد لي بعضهم ذلك إلى أن يقدر على النفع والضرر. قالوا: وكان يتعشق المستنصر بالله ولي عهد الناصر وهو غلام، وله فيه:

_ (1) ترجمته في الجذوة: 139 وبغية الملتمس رقم: 457.

متّع بوجهك جفني ... يا كوكباً فوق غصن يا من تحجّب حتّى ... عن كلّ فكرٍ وأذن وخامر الخوف فيه ... فما يجول بذهن فليس للطّرف والقل ... ب غير دمعٍ وحزن فإنّني ذو ذنوبٍ ... وأنت جنّة عدن 2 - وقال أخوه أحمد بن هشام: قطعت اللّيالي بارتجاء وصالكم ... وما نلت منكم غير متّصل الهجر وما كنت أدري ما التصبر قبلكم ... فعّلمتموني كيف أقوى على الصبر وما كنت ممّن يعلق الصبر فكرة ... ولكن خشيت الصبر يذهب بالعمر ومن حكاياتهم في علو الهمة: أنه كان سبب قراءته واجتهاده أنّه حضر مجلساً فيه القائد أحمد بن أبي عبدة، وهو غلام، فاستخبره القائد، فرآه بعيداً من الأدب والظرّف، ورأى له ذهناً قابلاً للصلاح، فقال: أيّ سيف لو كانت عليه حلية! فقامت من هذه الكلمة قيامته، وثابت له همة ملوكية عطف بها على الأدب والتعلم، إلى أن صار ابن أبي عبدة عنده كما كان هو عند ابن أبي عبدة أولاً، فحضر بعد ذلك معه، وجالا في مضمار الأدب، فرأى ابن أبي عبدة جواداً لا يشق غباره، فقال: ما هذا أين هذا مما كان فقال: عن كلمتك عملت في فكري ما أوجب هذا، فقال: والله إن هذه حلية تليق بهذا السيف، فجزاك الله عن همتك خيراً. ثم قال له: سر، إن لي عليك حقاً إذ بعثتك على التأديب والتميز، فإذا حضرنا في جماعة فلا تتطاول على تقصيري، وحافظ على أن لا أسقط من العيون بإرباء غيري علي، فقال: لك ذلك وزيادة. 3 - وكان المنذر ابن الأمير عبد الرحمن الأوسط سيء الخلق في أول

أمره، كثير الإصغاء إلى أقوال الوشاة، مفرط القلق مما يقال في جانبه، معاقباً على ذلك لمن يقدر على معاقبته، مكثر التشكي ممن لا يقدر عليه لوالده الأمير عبد الرحمن، فطال ذلك على الأمير، فقال لوكيل خاص به عارف بالقيام بما يكلفه به: الموضع الفلاني الذي بالجبل الفلاني المنقطع عن العمران تبني فيه الآن بناء أسكن فيه ابني المنذر، وأوصاه بالاجتهاد فيه، ففرغ منه، وعاد إليه، فقال له: تعلم المنذر أني أمرته بالانفراد فيه، ولاتترك أحداً من أصحابه ولا أصحاب غيره يزوره، ولا يتكلم معه البتة، فإذا ضجر من ذلك وسألك عنه فقل له: هكذا أمر أبوك، فتولى الثقة ذلك على ما أمر به، ولما حصل المنذر في ذلك المكان وبقي وحده، وفقد خوله ومن كان يستريح إليه (1) ، ونظر إلى ماسلبه من الملك ضجر، فقال للثقة: عسى أن يصلني غلماني وأصحابي أتأنس بهم، فقال له الثقة: إن الأمير أمر أن لا يصلك أحد، وأن تبقى وحدك لتستريح مما يرفع لك أصحابك من الوشاية، فعلم أن الأمير قصد محنته بذلك وتأديبه، فاستدعى دواة وكتب إلى أبيه: إني قد توحشت في هذا الموضع توحشاً ما عليه من مزيد، وعدمت فيه من كنت آنس إليه، وأصبحت مسلوب العز فقيد الأمر والنهي، فإن كان ذلك عقاباً لذنبٍ كبير ارتكبته وعلمه مولاي ولم أعلمه فإني صابر على تأديبه، ضارع إليه في عفوه وصفحه: وإنّ أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر، لا عارٌ بما فعل الدهر فلما وقف الأمير على رقعته، وعلم أن الأدب بلغ به حقه، استدعاه فقال له: وصلت رقعتك تشكو ما أصابك من توحش الانفراد في ذلك الموضع، وترغب أن تأنس بخولك وعبيدك وأصحابك، وإن كان لك ذنب يترتب عليه

_ (1) ب: يفزع إليه.

أن تطول سكناك في ذلك المكان، ومافعلت ذلك عقاباً لك، وإنما رأيناك تكثر الضجر والتشكي من القال والقيل، فأردنا راحتك بأن نحجب عنك سماع كلام من يرفع لك وينم، حتى تستريح منهم، فقال له: سماع ما كنت أضجر منه أخف علي من التوحد والتوحش والتخلي مماأنا فيه من الرفاهية والأمر والنهي، فقال له: فإذ قد عرفت وتأدبت فارجع إلى ما اعتدته، وعول على أن تسمع كأنك لم تسمع، وترى كأنك لم تر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لو تكاشفتم ما تدافنتم "، واعلم أنك أقرب الناس إلي وأحبهم في، وبعد هذا فما يخلو صدرك في وقت من الأوقات عن إنكار علي، وسخط لما أفعله في جانبك أو جانب غيرك، ما لو أطلعني الله تعالى عليه لساءني، لكن الحمد لله الذي حفظ ما بين القلوب بستر بعضها عن بعض فيما يجول فيها، وإنك لذو همة ومطمح، ومن يكن هكذا يصبر ويغض ويحمل، ويبدل العقاب بالثواب، ويصير الأعداء من قبيل الأصحاب، ويصبر من الشخص على ما يسوء، فقد يرى منه بعد ذلك ما يسر، ولقد يخف علي اليوم من قاسيت من فعله وقوله، ولو (1) قطعتهم عضواً عضواً لما ارتكبوه مني ما شفيت فيهم غيظي، ولكن رأيت الإغضاء والاحتمال، لا سيما عند الاقتدار، أولى، ونظرت إلى جميع من حولي ممن يحسن ويسيء فوجدت القلوب متقاربة بعضها من بعض، ونظرت إلى المسيء يعود محسناً، والمحسن يعود مسيئاً، وصرت أندم على من سبق له مني عقاب، ولا أندم على من سبق له مني ثواب، فالزم يا بني معالي الأمور، وإن جماعها في التغاضي، ومن لا يتغاضى لا يسلم له صاحب، ولا يقرب منه جانب، ولا ينال ما تترقى إليه همته، ولا يظفر بأمله، ولا يجد معيناً حين يحتاج إليه، فقبل المنذر يده وانصرف، ولم يزل يأخذ نفسه بما أوصاه والده حتى تخلق بالخلق الجميل، وبلغ ما أوصاه

_ (1) ب: من لو.

به أبوه، ورفع قدره. ومن شعره في ابن عم له: ومولىً أبى إلاّ أذاي وإنّني ... لأحلم عنه وهو بالجهل يقصد توددته فازداد بعداً وبغضةً ... وهل نافعٌ عند الحسود التودد وقوله: خالف عدوك فيما ... أتاك فيه لينصح فإنما ينبغي أن ... تنام عنه فتربح ومن كرم نفسه أن أحد (1) التجار أهدى له جارية بارعة الحسن، واسمها طرب، ولها صنعة في الغناء حسنة، فعندما وقع بصره على حسنها ثم أذنه على غنائها أخذت بمجامع قلبه، فقال لأحد خدامه: ماترى أن ندفع لهذا التاجر عوضاً عن هذه الجارية التي وقعت منا أحسن موقع فقال: تقدر ما تساوي من الثمن وتدفع له بقدرها، فقومت بخمسمائة دينار، فقال المنذر للخديم: ما عندك فيما ندفع له فقال: الخمسمائة، فقال: إن هذا للؤم، رجل أهدى لنا جارية، فوقعت منا موقع استحسان، نقابله بثمنها، ولو أنه باعها من يهودي لوجد عنده هذا، فقال له: إن هؤلاء التجار لؤماء بخلاء، وأقل القليل يقنعهم، فقال: وإنا كرماء سمحاء، فلا يقنعنا القليل لمن نجود عليه، فادفع له ألف دينارٍ، واشكره على كونه خصنا بها، وأعلمه بأنها وقعت منا موقع رضى. وفيها يقول:

_ (1) م: بعض.

ليس يفيد السرور والطرب ... إن لم تقابل لواحظي طرب أبهت في الكأس لست أشربها ... والفكر بين الضلوع يلتهب يعجب مني معاشرٌ جهلوا ... ولو رأوا حسنها لما عجبوا وقال له أبوه يوماً: إن فيك لتيهاً مفرطاً، فقال له: حق لفرعٍ أنت أصله أن يعلو، فقال له: يابني إن العيون تمج التائه، والقلوب تنحرف عنه، فقال: ياأبي لي من العز والنسب وعلو المكان والسلطان ما يجمل من ذلك، وإني لم أر العيون إلا مقبلة علي، ولا الأسماع إلا مصغية إلي، وإن لهذا السلطان رونقاً يرنقه (1) التبذل، وعلواً يخفضه الانبساط، ولا يصونه ويشرفه إلا التيه والانقباض، وإن هؤلاء الأنذال لهم ميزان يسبرون به الرجل منا، فإن رأوه راجحاً عرفوا له قدر رجاحته، وإن رأوه ناقصاً عاملوه بنقصه، وصيروا تواضعه صغراً، وتخضعه (2) خسةً، فقال له أبوه: لله أنت فابق وما رأيت. 4 - وكان له أخ أديب أيضاً اسمه المطرف بن عبد الرحمن الأوسط، ومن شعره: أفنيت عمري في الشّر ... ب والوجوه الملاح ولم أضيّع أصيلاً ... ولا اطلاع صباح أحيي الليالي سهداً ... في نشوةٍ ومراح ولست أسمع ماذا ... يقول داعي الفلاح والعياذ بالله من هذا الكلام، وحاكي الكفر ليس بكافر. وعتبه أحد إخوانه على هذا القول فقال: إني قلته وأنا لا أعقل، ولم أعلم أنه يحفظ عني، وأنا أستغفر الله تعالى منه، والذي يغفر الفعل أكرم من

_ (1) م ب: يريقه. (2) ب: وتخفضه.

أن يعاقب على القول. ومن جيد شعره قوله: يا أخي فرّقت صروف الليالي ... بيننا غير زورة الأحلام فغدونا بعد ائتلافٍ وقربٍ ... نتناجى بألسن الأقلام 5 - وقال أخوهما الثالث هشام بن عبد الرحمن فيمن اسمه ريحان: أحبك يا ريحان ما عشت دائماً ... ولو لامني في حبك الإنس والجان ولولاك لم أهو الظّلام وسهده ... ولا حبّبت لي في ذرا الدار غربان وما أعشق الريحان إلاّ لأنّه ... شريكك في اسمٍ فيه قلبي هيمان على أنّه لم يكمل الظرف مجلسٌ ... إذا لم يكن فيه مع الراح ريحان وله فيه: إذا أنا مازحت الحبيب فإنّما ... قصدت شفاء الهمّ في ذلك المزح فما العيش إلاّ أن أراه مضاحكاً ... كما ضحك الليل البهيم عن الصبح 6 - وقال أخوهم الرابع يعقوب بن عبد الرحمن (1) : إذا أنا لم أجد يوماً وقومي ... لهم في الجود آثار عظام فمن يرجى لتشييد المعالي ... إذا قعدت عن الخير الكرام ومدحه بعض الشعراء، فأمر له بمال جزيل، فلما كان مثل ذلك الوقت جاءه بمدح آخر، فقال أحد خدام يعقوب: هذا اللئيم له دين عندنا جاء يقتضيه فقال الأمير: يا هذا، إن كان الله تعالى خلقك مجبولاً على كره رب الصنائع

_ (1) ترجمة يعقوب في الحلة السيراء 1: 124 وقال فيه: " كان أديبا شاعرا مطبوعا كلفا بالعلوم جوادا لا يليق شيئا ".

فاجر على ما جبلت عليه نفسك، ولا تكن كالأجرب يعدي غيره، وإن هذا الرجل قصدنا قبل، فكان منا له ما أنس به وحمله على العودة، وقد ظن فينا خيراً، فلا نخيب ظنه، والحديث أبداً يحفظ القديم، وقد جاءنا على جهة التهنئة بالعمر، ونحن نسأل الله تعالى أن يطيل عمرنا حتى يكثر ترداده، ويديم نعمنا حتى نجد ماننعم به عليه، ويحفظ علينا مروءتنا حتى يعيننا على التجمل معه، ولا يبلينا بجليس مثلك يقبض أيدينا عن إسداء الأيادي، وأمر للشاعر بما كان أمر له به قبل، وأوصاه بالعود عند حلول لك الأوان ما دام العمر. 7 - وقال أخوهم الخامس الأمير محمد ابن الأمير عبد الرحمن (1) لأخيهم السادس أبان وقد خلا معه على راحة: هل لك أمل نبلغك إياه فقال: لم يبق لي أملٌ إلاّ أن يديم الله تعالى عمرك ويخلد ملكك، فأعجب ذلك الأمير، وقال: ما مالت إليك نفسي من باطل، وكان واحد منهما يهيم بالآخر، وفي ذلك يقول أبان: يا من يلوم ولا يدري بمن أنا مف ... تونٌ لو ابصرته ما كنت تلحاني من مازجت روحه روحي وشاطرني ... يا حسنه حين أهواه ويهواني وكان للأمير محمد ابن الأمير عبد الرحمن ثلاثة أولاد نجباء: القاسم، والمطرف، ومسلمة، ولهم أخ رابع اسمه عثمان. 8 - فمن نظم القاسم (2) في عثمان أخيه، وقد زاره فاستسقاه ماء، فأبطأ عليه غلامه لعلة لم يقبلها القاسم: الماء في دار عثمان له ثمن ... والخبز شيء له شأن من الشّان (3)

_ (1) ترجمته في الحلة 1: 119. (2) ترجمة القاسم في الحلة 1: 127 والمقتبس (تحقيق مكي) : 200. (3) قال ابن الأبار بعد أن أورد البيتين: كذا قال ابن حيان (المقتبس: 201) وهو غلط لا خفا به وإنما البيتان من قطعة لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أنشدها ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس.

فاسلح على كلّ عثمان مررت به ... غير الخليفة عثمان بن عفان وله: شغلت بالكيمياء دهري ... فلم أفد غير كلّ خسر إتعاب فكرٍ، خداع عقلٍ ... فساد مالٍ، ضياع عمر 9 - وقال شقيقه المطرف (1) ، ويعرف بابن غزلان، وهي أمه، وكانت مغنية بديعة محسنة عوادة أديبة: هل أتّكي مشرفاً على نهرٍ ... أرمي بطرفي إليه من قصري عند أخٍ لو دهته حادثةٌ ... أعطيته ما أحبّ من عمري 10 - وقال أخوهما مسلمة (2) : إنّ شيباً وصبوةً لمحال ... أولم يأن أن يكون زوال فدع النفس عن مزاحٍ ولهوٍ ... تلك حالٌ مضت وجاءتك حال وكان يقول: إني لا أفارق إلا من اختار مفارقتي، ومن خادعني انخدعت له، وأريته أني غير فطن بخداعه، ليعجبه أمره، وأدخل عليه مسرة بنفسه ورأيه. 11 - وقال محمد ابن الأمير منذر ابن الأمير محمد في جاريته الأراكة: قل للأراكة قد زا ... د بالدنوّ اشتياقي

_ (1) انظر ترجمة المطرف في الحلة 1: 128 والمقتبس (تحقيق مكي) : 205 والجمهرة: 98 وبيتاه في الحلة: 129 والمقتبس: 208. (2) راجع المقتبس ص: 211.

وهاج ما بي إليها ... تمثّلي للعناق وإنّني وبقلبي ... جمرٌ جرى في المآقي طويت ما بي ليومٍ ... يكون فيه التلاقي فإن أعد لاجتماعٍ ... حرّمت يوم افتراق لا يعرف الشوق إلاّ ... من ذاق طعم الفراق 12 - وقال عبد الله بن الناصر (1) ، وقد أهدى له سعيد بن فرج ياسميناً أبيض وأصفر، وكتب معه (2) : مولاي قد أرسلت نحوك تحفةً ... بمراد ما أبغيه منك تذكّر من ياسمين كاللّجين تبرجت ... بيضاً وصفراً والسماح يعبّر فأجابه بما نصه: أتاك تفسيري ولمّا يحل ... عني على أضغاث أحلام فاجعله رسماً دائماً زائراً (3) ... منك ومنّي غرّة العام وبعث إليه بهذين البيتين مع ملء الطبق من دنانير ودراهم، فقال ابن فرج: قد سمعنا بجود كعبٍ وحاتم ... ما سمعنا جوداً مدى العمر لازم فدعائي بأن تدوم دعاءٌ ... لي لا زال طول ما عشت دائم ما سمعنا كمثل هذا اختراعاً ... هكذا هكذا تكون المكارم وتشبه هذه الحكاية حكاية اتفقت لبعض ملوك إفريقية، وذلك أن رجلاً

_ (1) عبد الله بن الناصر: له ترجمة في الجذوة: 244 وبغية الملتمس رقم: 949 والمغرب 1: 182 والحلة السيراء 1: 206. (2) البيتان وجوابهما في المغرب. (3) المغرب: باقيا.

أهدى له في قادوس ورداً أحمر وأبيض، فأمر أن يملأ له دراهم، فقالت له جارية من جواريه: إن رأى الأمير أن يلون ما أعطاه، حتى يوافق ما أهداه، فاستحسن ذلك الأمير، وامر أن يملأ دنانير ودراهم. وكان المرواني المذكور يساير أحد الفقهاء الظرفاء، فمرا بجميل، فمال عبد الله بطرفه على وجهه، وظهر ذلك لمسايره، فتبسم، ففهم عبد الله عنه، فقال: إن هذه الوجوه الحسان خلابة، ولكنا لا نتغلغل في نظرها، ولا ندعي العفة عنها بالجملة، وفيها اعتبار وتذكار بالحور العين التي وعد الله تعالى، فقال له الفقيه: احتج لروحك بما شئت. فقال: أوما هي حجة تقبل فقال الفقيه: يقبلها من رق طبعه، وكاد يضيق عن الصبر وسعه، فقال: وأراك شريكاً لي، فقال: ولولا ذلك للمتك، فأطرق عبد الله ساعة ثم أنشد: أفدي الذي مرّ بي فمال له ... لحظي ولكن ثنيه غضبا ما ذاك إلا مخاف منتقدٍ ... فالله يعفو ويغفر الذنبا فقال له الفقيه: إن كنت ثنيت لحظك خوف انتقادي فإني أدعوه إليك حتى تملأ منه، ولا تنسب إلي ما نسبت، فتبسم عبد الله وقال: ولا هذا كله، وقال له: إن مثلك في الفقهاء لمعدوم، فقال له: ما كنت إلا أديباً، ولكني لما رأيت سوق الفقه بقرطبة نافقة اشتغلت به، فقال له: ومن عقل المرء أن لايفني عمره فيما لا ينفقه عصره. وكان (1) عبد الله المذكور يسمى الزاهد، فبايع قوماً على قتل والده الناصر وأخيه الحكم المستنصر ولي العهد، فأخذ يوم عيد الأضحى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فذبح بين يديه، رحمه الله تعالى. 13 - وقال أخوه أبو الأصبغ عبد العزيز بن الناصر (2) ، وقد دخل ابن له

_ (1) ورد في المغرب نقلا عن الرقيق. (2) ترجمة عبد العزيز بن الناصر في الجذوة: 270 وبغية الملتمس رقم: 1093 والمغرب 1: 184 والحلة 1: 208 وأبياته الأولى في المصادر السابقة ما عدا المغرب والقطعة الثانية في المغرب وحده.

الكتاب، فكتب أول لوح، فبعثه إلى أخيه الحكم المستنصر ملك الأندلس، ومعه: هاك يا مولاي خطّا ... مطّه في اللوح مطّا ابن سبعٍ في سنيه ... لم يطق للوح ضبطا دمت يا مولاي حتى ... يلد ابن ابنك سبطا وله: زارني من همت فيه سحراً ... يتهادى كنسيم السّحر أقبس الصبح ضياء ساطعاً ... فأضا والفجر لم ينفجر واستعار الروض منه نفحةً ... بثّها بين الصّبا والزهر أيّها الطّالع بدراً نّيراً ... لا حللت الدهر إلاّ بصري وكان مغرىً مغرماً بالخمر والغناء، فقطع الخمر، فبلغه أن المستنصر لما بلغه تركه الخمر قال: الحمد لله الذي أغنانا عن مفاتحته، ودله على ما نريد منه، ثم قال: لو ترك الغناء لكمل خيره، فقال: والله لا تركته حتى تترك الطيور تغريدها، ثم قال (1) : أنا في صحّة وجاه ونعمى ... هي تدعو لهذه الألحان وكذا الطير في الحدائق تشدو ... للذي سرّ نفسه بالقيان 14 - وقال أخوه محمد بن الناصر (2) لما قدم أخوهما المستنصر من غزوة: قدمت بحمد الله أسعد مقدم ... وضدّك أضحى لليدين وللفم

_ (1) المغرب: 184. (2) ترجمة محمد بن الناصر في المغرب 1: 184 وفيه البيتان.

لقد حزنت فيها السبق إذ كنت أهله ... كما حاز " بسم الله " فضل التقدّم 15 - وأما أخوهما محمد بن عبد الملك بن الناصر (1) فقال الحجاري فيه: إنه لم يكن في ولد الناصر ممن لم يل الملك أشعر منه ومن ابن أخيه، وكتب إلى العزيز صاحب مصر (2) : ألسنا بني مروان كيف تبدّلت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر إذا ولد المولود منّا تهلّلت ... له الأرض واهتزت إليه المنابر وكان جواب العزيز له: أما بعد فإنك علمتنا فهجوتنا، ولو علمناك لهجوناك. وله في الصنوبر: إن الصنوبر حصنٌ ... لديه حرزٌ وباس خفّت من أجل إرها ... ب من عداه تراس كأنّما هو ضدٌّ ... لما حواه الرئاس وبعض سيوف الأندلس محفور صدر الرئاس على صورة قشور الصنوبر إلاّ أن تلك ناتئة وهذه محفورة، وقال (3) : أتاني وقد خطّ العذار بخدّه ... كما خطّ في ظهر الصفيحة عنوان تزاحمت الألحاظ في وجناته ... فشقت عليه للشقائق أردان وزدت غراماً حين لاح كأنّما ... تفتّح بين الورد والآس سوسان (4)

_ (1) ترجمته في الحلة 1: 208 والمغرب 1: 185 واليتيمة 1: 355. (2) مرالبيتان ص: 188؛ وانظر المصادر السابقة، وفي اليتيمة نسبا للحكم المستنصر وتعقبه ابن الأبار في ذلك. (3) هذه القطعة والتي تليها في المغرب: 185. (4) المغرب: آس وسوسان.

وقال: لئن كنت خلاّع العذار بشادنٍ ... وكأسٍ فإنّي غير نزر المواهب وإنّي لطعّانٌ إذا اشتجر القنا ... ومقحم طرفي في صدور الكتائب وإنّي إذا لم ترض نفسي بمنزلٍ ... وجاش بصدري الفكر جمّ المذاهب جليدٌ يودّ (1) الصخر لو أنّ صبره ... كصبري على ما نابني للنّوائب وأسري إلى أن يحسب الليل أنّني ... لطول مسيري فيه بعض الكواكب 16 - وأما ابن أخيه مروان بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن الناصر (2) فكان في بني أمية شبه عبد الله بن المعتز في بني العباس، بملاحة شعره وحسن تشبيهه. ومن شعره القصيدة المشهورة (3) : غصنٌ يهتزّ في دعص نقا ... يجتني منه فؤادي حرقا سال لام الصدغ في صفحته ... سيلان التّبر وافى الورقا فتناهى الحسن فيه إنّما ... يحسن الغصن إذا ما أورقا ومنها: أصبحت شمساً وفوه مغرباً ... ويد الساقي المحيّي مشرقا فإذا ما غربت في فمه ... تركت في الخدّ منه شفقا

_ (1) في الأصول: يؤدد، والتصويب عن المغرب. (2) هو المشهور باسم الشريف الطليق وله ترجمة في الحلة 1: 220 والجذوة: 321 رقم: 1343 واليتيمة 2: 61 والذخيرة 1 / 2: 81 والمغرب 1: 186 والمعجب: 285 والمسالك 11: 176 وانظر كتاب التشبيهات وفهرسته. (3) أوردها ابن بسام في الذخيرة، ومنها قطع في المصادر المذكورة، وفي الحلة منها قسط وافر.

ومنها: وكأن الورد يعلوه النّدى ... وجنة المحبوب تندى عرقا قالوا: وهذا النمط قد فاق به أهل عصره، ويظن أنّه لا يوجد لأحد منهم أحلى وأكثر أخذاً بمجامع القلوب من قوله: ودّعت من أهوى أصيلاً، ليتني ... ذقت الحمام ولا أذوق نواه فوجدت حتى الشمس تشكو وجده ... والورق تندب شجواها بهواه وعلى الأصائل رقّةٌ من بعده ... فكأنها تلقى الذي ألقاه وغدا النسيم مبلّغاً ما بيننا ... فلذاك رقّ هوىً وطاب شذاه ما الروض قد مزجت به أنداؤه ... سحراً بأطيب من شذا ذكراه والزهر مبسمه ونكهته الصّبا ... والورد أخضله النّدى خدّاه فلذاك أولع بالرّياض لأنّها ... أبداً تذكّرني بمن أهواه ولله قوله: وعشيٍّ كأنّه صبح عيدٍ ... جامعٍ بين بهجةٍ وشحوب هبّ فيه النسيم مثل محبٍّ ... مستعيراً شمائل المحبوب ظلت فيه ما بين شمسين هذي ... في طلوعٍ وهذه في غروب وتدلّت شمس الأصيل ولكن ... شمسنا لم تزل بأعلى الجيوب ربّ هذا خلقته من بديعٍ ... من رأى الشمس أطلعت في قضيب أي وقتٍ قد أسعف الدهر فيه ... وأجابت به المنى عن قريب قد قطعناه نشوةً ووصالاً ... وملأناه من كبار الذنوب حين وجه السعود بالبشر طلقٌ ... ليس فيه أمارةٌ للقطوب ضيّع الله من يضيّع وقتاً ... قد خلا من مكدّرٍ ورقيب

وبات عند أحد رؤساء بني مروان، فقدّم إليه ذلك الرئيس قدحاً من فضة فيه راح أصفر، وقال: اشرب وصف فداك ابن عمك، فقام إجلالاً وشرب صائحاً بسروره، ثم قال: الدواة والقرطاس، فأحضرا، فكتب: اشرب هنيئاً لا عداك الطرب ... شرب كريم في العلا منتخب وافاك بالراح وقد ألبست ... برد أصيلٍ (1) معلماً بالحبب في قدحٍ لم يك يسقى به ... غير أولي المجد وأهل الحسب ما جار إذ سقّاك من كفّه ... في جامد الفضة ذوب الذهب فقم على رأسك براً به ... واشرب على ذكراه طول الحقب (2) ويحكى أنه لما قتل أباه وقد وجده مع جارية له كان يهواها سجنه المنصور ابن أبي عامر مدة، إلى أن رأى في منامه النبي، صلى الله عليه وسلم، يأمره بإطلاقه فأطلقه، فمن أجل ذلك عرف بالطليق. 17 - وقال أحمد ابن سليمان بن أحمد بن [عبد الرحمن بن] عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر في ابن حزم لما عاداه علماء عصره (3) : لما تحلّى بخلقٍ ... كالمسك أو نشر عود نجل الكرام ابن حزمٍ ... وقام في العلم عودي فتواه جدّد ديني ... جدواه أورق عودي وله في أبي عامر ابن المظفر بن عامر من قصيدة يمدحه بها: بأبي عامرٍ وصلت حبالي ... فزماني به زمانٌ سعيد

_ (1) م: بردا أصيلا. (2) متقدم على سابقه في م. (3) الجذوة: 116 وبغية الملتمس رقم: 107 والقطعة الأولى فيهما.

فمتى زدت فيه وداً وشكراً ... فنداه وقد تناهى يزيد كيف لي وصفه وفي كلّ يومٍ ... منه في المكرمات معنى جديد 18 - وقال أبو عبد الله محمد بن محمد بن الناصر يرثي أبا مروان ابن سراج (1) : وكم من حديث للنبي أبانه ... وألبسه من حسن منطقه وشيا وكم مصعب للنحو قد راض صعبه ... فعاد ذلولاً بعدما كان قد أعيا 19 - وقال عبيد الله بن محمد المهدي، وهو من حسنات بني مروان، ويعرف بالأقرع: أقول لآمالي ستبلغ إن بدا ... محيّا ابن عطّافٍ ونعم المؤمل فقالت دعاني كلّ يومٍ تعلّلٌ ... فقلت لها: إن لاح يفنى التعلل لئن كان مني كلّ حينٍ ترحّلٌ ... فإني إن أحلل به لست أرحل فتىً ترد الآمال في بحر جوده ... وليس على نعمى سواه المعوّل وقال هذه في الوزير ابن عطاف، فضن عليه حتى برجع الجواب، فكتب إليه بقصيدة منها: أيّها الممكن من قدرته ... لا يراك الله إلاّ محسنا إنّما المرء بما قدّمه ... فتخيّر بين ذمٍّ وثنا لا تكن بالدهر غرّاً وإذا ... كنت فانظر فعله في ملكنا كل ما خوّلت منه ذاهبٌ ... والذي تصحب منه الكفنا مدّ كفّاً نحو كفٍّ طالما ... أمطرت فيه السحاب الهتّنا أو أرحني بجوابٍ مؤيسٍ ... فمطال البرّ من شرّ العنا

_ (1) مر البيتان، انظر ص: 343.

فلم يعطه شيئاً، وكان له كاتب فتحيل في خمسين درهماً فأعطاها له، فلما سمع الوزير بذلك طرده، وقال له: من أنت حتى تحمل نفسك هذا وتعطيه قال: فوالله ما لبث إلا قليلاً حتى مات الوزير، وتزوج الكاتب بزوجته، وسكن في داره، وتخول في نعمته، فحملني ذلك على أن كتبت بالفحم في حائط داره: أيا دار قولي أين ساكنك الذي ... أبى لؤمه أن يترك الشكر خالدا تسمّى وزيراً والوزارة سبّةٌ ... لمن قد أبى أن يستفيد المحامدا وولّى ولكن ليس يبرح ذمّه ... فها هو قد أرضى عدوّاً وناقدا وأضحى وكيلٌ كان يأنف فعله ... نزيلك في الحوض الممنّع واردا جزاءً بإحسانٍ لذا وإساءةٍ ... لذاك، وساعٍ ورّث الحمد قاعدا والمثل السائر في هذا " ربّ ساعٍ لقاعد ". 20 - وقال سليمان بن المرتضى بن محمد بن عبد الملك بن الناصر، وكان في غاية الجمال، ويلقب بالغزال: قدم الربيع عليك بعد مغيب ... فتلقّه بسلافةٍ وحبيب فصلٌ جديدٌ فلتجدّد حالةً ... يأتي الزمان بها على المرغوب الجوّ طلقٌ فالقه بطلاقةٍ ... وإذا تقطّب فالقه بقطوب لله أيامٌ ظفرت بها ومن ... أهواه منقادٌ بغير رقيب وله: لي في كفالات الرماح لو أنها ... وفّت ضمانٌ يبلغ الآمالا وكّلت دهري في اقتضاء ضمانها ... ضناً به أن لا يحول فحالا وكان مولعاً بالفكاهة والنادر، محباً في الظرفاء، وكان يلتزم خدمته المضحك

المشهور بالزرافة، ويحضر معه، ولعبوا في مجلس سليمان لعبة أفضوا فيها إلى أن تقسموا اثنين اثنين، كل شخص ورفيقه، فقال سليمان: ومن يكون رفيقي: فقال له المضحك: يا مولاي، وهل يكون رفيق الغزال إلا الزرافة فضحك منه على عادته. ودخل عليه وهو قاعد في رحبة قصره، وقد أطل عذاره، فقال له: ما تطلب الزرافة فقال: ترعى الحشيش، وأشار إلى عذاره، فقال له: اعزب لعنك الله! ومر سليمان به يوماً وهو سكران، وقد أوقف ذكره وجعل يقول له: ماذا رأيت في القيام في هذا الزمان أما رأيت كل ملك قام كيف خلع وقتل والله إنك سيء الرأي، فقال له سليمان: وبم لقبت هذا الثائر فقال: يا مولاي بصفته القائم، فقال: ويحتاج إلى خاتم فقال: نعم ويكون خاتم سليمان، فقال له: أخزاك الله، إن الكلام معك لفضيحة. 21 - وقال سعيد بن محمد المرواني (1) ، وقد هجره المنصور بن أبي عامر مدة لكلام بلغه عنه، فدخل المجلس غاصٌ، وأنشد: مولاي مولاي أما آن أن ... تريحني بالله من هجركا وكيف بالهجر وأنى به ... ولم أزل أسبح في بحركا فضحك ابن أبي عامر (2) على ما كان يظهره من الوقار، وقام وعانقه وعفا عنه، وخلع عليه. وله: والبدر في جوّ السماء قد انطوى ... طرفاه حتى عاد مثل الزورق

_ (1) قال الحميدي (214) اختلف علي في نسبه: فهو سعيد بن عثمان بن مروان القرشي المعروف بالبلينه وقيل: سعيد بن محمد، وقيل: سعيد بن مروان؛ ويقال له ابن عمرون؛ وانظر المغرب 1: 192 واليتيمة 2: 54 وكتاب التشبيهات. (2) ضحك ابن أبي عامر لأن سعيدا كان يلقب " البلينه " أي الحوت وقد ماثل بقوله " ولم أزل أسبح ... ".

فتراه من تحت المحاق كأنّما ... غرق الكثير وبعضه لم يغرق وهو مأخوذ من قول ابن المعتز: وانظر إليه كزورقٍ من فضةٍ ... قد أثقلته حمولةٌ من عنبر 22 - وقال قاسم بن محمد المرواني (1) يستعطف المنصور بن أبي عامر، وقد سجنه لقول صدر عنه: ناشدتك الله العظيم وحقّه ... في عبدك المتوسّل المتحرّم بوسائل المدح المعاد نشيدها ... في كلّ مجمع موكبٍ أو موسم لا تستبح مني حمىً أرعاكه ... يا من يرى في الله أحمى محتمي 23 - وقال الأصم المرواني (2) يمدح أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي بجبل الفتح معارضاً بائية أبي تمام: السيف أصدق أنباء من الكتب ... بقصيدة طويلة منها: ما للعدا جنّةٌ أوقى من الهرب ... أين المفرّ وخيل الله في الطلب وأين يذهب من في رأس شاهقةٍ ... إذا رمته سماء الله بالشّهب ومنها: وطود طارق قد حلّ الإمام به ... كالطّور كان لموسى أيمن الرّتب لو يعرف الطّود ما غشّاه من كرمٍ ... لم يبسط النور فيه الكفّ للسّحب

_ (1) ترجمة قاسم بن محمد هذا في الجذوة: 310 وبغية الملتمس رقم: 1296 وفيهما أبياته. (2) من شعراء زاد المسافر: 84 وقال المراكشي في المعجب: 284 إن جده هو الشريف الطليق؛ وبعض البائية في المصدرين والقطعة الثانية والخامسة في زاد المسافر.

ولو تيقّن بأساً حلّ ذروته ... لصار كالعين من خوفٍ ومن رهب منه يعاود هذا الفتح ثانيةً ... أضعاف ما حدّثوا في سالف الحقب ويلبس الدين غضّاً ثوب عزّته ... كأنّ أيام بدرٍ عنه لم تغب وقال في نارنجة: وبنت أيكً دنا من لثمها قزحٌ ... فصار منه على أرجائها أثر يبدو لعينيك منها منظرٌ عجبٌ ... زبرجدٌ ونضارٌ صاغه المطر كأنّ موسى نبيّ الله أقبسه ... ناراً وجرّ عليها كفّه الخضر وقال (1) : وشادنٍ قلت له صف لنا ... بستاننا هذا ونارنجنا فقال لي بستانكم جنّةٌ ... ومن جنى النارنج ناراً جنى وقال في زلباني (2) : لله سفّاحٌ بدا لي مسحراً ... فأفاد علم الكيميا بيمينه (3) ذهّبت فضة خدّه بلواحظي ... وكذاك تفعل ناره بعجينه وقال، وقد نزل في فندق لا يليق بمثله: يا هذه لا تفنّديني ... أن صرت في منزلٍ هجين فليس قبح المحلّ ممّا ... يقدح في منصبي وديني فالشمس علويّةٌ ولكن ... تغرب في حمأةٍ وطين

_ (1) زاد في م: في النارنج. (2) يريد قالي الزلابية؛ وفي م: زلفاني. (3) م ب: بحسنه، ولا يستقيم مع القافية.

24 - وقال أحمد المرواني: حلفت بمن رمى فأصاب قلبي ... وقلّبه على جمر الصدود لقد أودى تذكّره بجسمي ... ولست أشكّ أن النفس تودي فقيدٌ وهو موجودٌ بقلبي ... فواعجبا بموجودٍ فقيد 25 - وقال الأصبغ القرشي يرثي ابن شهيد وهو من أصحابه: نأى من به كان السرور مواصلاً ... وأسلم قلبي للصّبابة والفكر ومنها: لعمرك ما يجدي النعيم إذا نأت ... وجوههم عني ولا فسحة العمر 26 - وقال سليمان بن عبد الملك الأموي: وذي جدل أطال القول منه ... بلا معنى وقد خفي الصواب فقلت أجيبه فازداد رداً ... فقلت له قد ازدحم الجواب ولم أر غير صمتي من مريحٍ ... إذا ما لم يفد فيه الخطاب 27 - وقال أبو يزيد ابن العاصي: عابه الحاسد الذي لام فيه ... أن أرى فوق خدّه جدريّا إنّما وجهه هلال تمامٍ ... جعلوا برقعاً عليه الثريا وله: إذا شئت أن يصفو صديقك فاطرح ... نزاع الذي يبديه في الهزل والجدّ وإن كنت من أخلاقه في جهنمٍ ... فأنزله من مثواك في جنّة الخلد إلى أن يتيح الله من لطف صنعه ... فراقاً جميلاً فاجعل العذر في البعد

وليكن هذا آخر ما نورده من كلام بني مروان رحمهم الله تعالى. ولنرجع إلى أهل الأندلس جملة، فنقول: 420 - أمر الحجاج المنصفي أن يكتب على قبره (1) : قالت لي النفس: أتاك الرّدى ... وأنت في بحر الخطايا مقيم هلا ادّخرت الزاد قلت: اقصري ... لا يحمل الزاد لدار الكريم وقد ذكرنا هذين البيتين في غير هذا الموضع (2) . وقال ابن مرج الكحل (3) : اجتمعنا في حانوت بعض الأطباء بإشبيلية، فأضجرناه بكثرة جلوسنا عنده، وتعذرت المنفعة عليه من أجلنا، فأنشدنا: خفّفوا عنّا قليلاً ... ربّ ضيقٍ في براح هل شكوتم من سقامٍ ... أو جلسنا للصحاح فأضفت إليهما ثالثاً، وأنشدته إياه على سبيل المداعبة: إن أتيتم ففرادى ... ذاك حكم المستراح 421 - ودخل أبو محمد غانم بن وليد مجلس باديس بن حبوس، فوسّع له على ضيق كان فيه، فقال (4) :

_ (1) أبو الحجاج يوسف المنصفي زاهد مشهور سكن سبتة (والمنصف التي ينسب إليها من قرى بلنسية) راجع المغرب 2: 354. (2) انظر المغرب. (3) هو أبو عبد الله محمد بن إدريس يعرف بمرج كحل (توفي بجزيرة شقر سنة 634) انظر: زاد المسافر: 27 والإحاطة 2: 634 والتكملة: 636 وشرح المقصورة 1: 25، 20، 195 والوافي 2: 181 والمغرب 2: 373. (4) انظر ما سبق ص: 265، 398، 447.

صيّر فؤادك للمحبوب منزلةً ... سمّ الخياط مجالٌ للمحبّين ولا تسامح بغيضاً في معاشرةٍ ... فقلّما تسع الدنيا بغيضين 422 - ودخل على أبي جعفر اللمائي بعض أصحابه عائداً في علته التي مات فيها، وجعل يروح عليه بمروحة، فقال أبو جعفر على البديهة: روّحني عائدي فقلت له: ... لا لا تزدني على الذي أجد أما ترى النار وهي خامدةٌ ... عند هبوب الرياح تتقد 423 - وقال الأعلم: ليكن محفوظك من النظم مثل قول ابن القبطرنة (1) : دعاك خليلك واليوم طل ... وعارض وجه الثرى قد بقل لقدرين فاحا وشمّامةٍ ... وإبريق راحٍ ونعم المحل ولو شاء زاد ولكنه ... يلام الصديق إذا ما احتفل 424 - وقال أبوعامر ابن ينق الشاطبي (2) : ما أحسن العيش لو أن الفتى أبداً ... كالبدر يرجو تماماً بعد نقصان إذ لا سبيل إلى تخليد مأثرةٍ ... إذ لا سبيل إلى تخليد جثمان 425 - وقال أبو الحسن اللورقي (3) : عجباً لمن طلب المحا ... مد وهو يمنع ما لديه ولباسط آماله ... للغير لم يبسط يديه لم لا أحبّ الضيف أو ... أرتاح من طربٍ إليه

_ (1) المغرب 1: 368 والقلائد: 152. (2) ترجمة أبي عامر محمد بن ينق في القلائد: 186 والمغرب 2: 388 والتكملة: 479 ومعجم الصدفي: 162. (3) هو أبو الحسن جعفر بن الحاج اللورقي وأبياته في المغرب 2: 280 والقلائد: 142.

والضّيف يأكل رزقه ... عندي ويحمدني عليه 426 - وقال أبو عيسى ابن لبون، وهو من قواد المأمون بن ذي النون (1) : نفضت كفّي من الدنيا وقلت لها ... إليك عنّي فما في الحقّ أغتبن من كسر بيتي لي روضٌ ومن كتبي ... جليس صدقٍ على الأسرار مؤتمن أدري به ما جرى في الدهر من خبرٍ ... فعنده الحقّ مسطورٌ ومختزن وما مصابي سوى موتي ويدفنني ... قومٌ وما لهم علمٌ بمن دفنوا 427 - وقال أبو عامر ابن الحمارة (2) : ولي صاحبٌ أحنو عليه وإنّه ... ليوجعني حيناً فلا أتوجّع أقيم مكاني ما جفاني وربما ... يسائلني الرّجعى فلا أتمنّع كأني في كفّيه غصن أراكةٍ ... تميل على حكم النسيم وترجع 428 - وقال أبو العباس ابن السعود (3) : تبّاً لقلب عن الأحباب منصرفٍ ... يهوى أحبّته ما خالس النظرا مثل السّجنجل فيه الشخص تبصره ... حتى إذا غاب لم يترك به أثرا 429 - ومرض أبو الحكم ابن غلندة (4) ، فعاده جماعة من أصحابه فيهم

_ (1) أبياته في المغرب 2: 377 والقلائد: 102. (2) ترجمته في المغرب 2: 120 والحاشية؛ وفي م: وقال أبو عامر الملقب بابن الجبارة. (3) هو أبو العباس أحمد بن السعود كاتب ابن همشك (المغرب 2: 52) ؛ وفي م: وقال الفقيه الأديب ... إلخ. (4) هو أبو الحكم عبيد الله بن علي بن غلندة الكاتب من أهل سرقسطة وسكن إشبيلية وتوفي بمراكش (- 581) وقد أسن (التحفة: 71 وفيها البيتان) .

فتى صغير السن، فوفّاه من بره ماأوجب تغيرهم، ففطن لذلك وأنشد ارتجالاً: تكثّر من الإخوان للدهر عدّةً ... فكثرة درّ العقد من شرف العقد وعظّم صغير القوم وابدأ بحقّه ... فمن خنصري كفّيك تبدأ بالعقد [ثم نظر إليهم وأنشدهم ارتجالاً قوله: مغيث أيوب والكافي لذي النون ... يحلّني فرجاً بالكاف والنّون كم كربة من كروب الدهر فرّجها ... عني ولم ينكشف وجهي لمن دوني] (1) 430 - وقال القاضي أبو موسى ابن عمران: ما للتجارب من مدىً ... والمرء منها في ازدياد قد كنت أحب ذا العلا ... من حاز علماً واستفاد فإذا الفقيه بغير ما ... لٍ كالخباء بلا عماد شرف الفتى بنضاره ... إنّ الفقير أخو الجماد ما العلم إلا جوهرٌ ... قد بيع في سوق الكساد 431 - وقال أبو بكر ابن الجزار السرقسطي: إياك من زلل اللسان فإنّما ... عقل الفتى في لفظه المسموع والمرء يختبر الإناء بنقره ... ليرى الصحيح به من المصدوع 432 - وقال أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد (2) : تناول بعض أصحابنا نرجسة، فركّبها في وردة، ثم دفعها إليّ وإلى صاعد، وقال: قولا،

_ (1) ما بين معقفين زيادة من م. (2) راجع هذه القصة فيما تقدم: 76، والزهيري قد اضطربت في الأصول، وقد تقرأ " الزميري " في م.

فأبهمت دوننا أبواب القول، فدخل الزهيري، وكان أمياً لا يذكر من الكلام إلا ما علق بنفسه في المجالس، وينفذ مع هذا في المطولات من الأشعار، فأشعر بأمرنا، فجعل يقول دون روية: ما للأدبين قد اعيتهما ... مليحةٌ من ملح الجنّه نرجسةٌ في وردةٍ ركبّت ... كمقلة تطرف في وجنه 433 - وقال أبو محمد ابن حزم في " طوق الحمامة " (1) : خلوت بها والرّاح ثالثةٌ لنا ... وجنح ظلام الليل قد مدّ واعتلج (2) فتاةٌ عدمت العيش إلا بقربها ... فهل في ابتغاء العيش ويحك من حرج كأني وهي والكأس والخمر والدجى ... حياً وثرىً والدرّ والتبر والسبج قال: وهذه خمس تشبيهات لا يقدر أحد على أكثر منها إذ تضيق الأعاريض عنه. قال أبو عامر ابن مسلمة: ولا أذكر مثلها إلا قول بعض: فأمطرت لؤلؤاً من نرجسٍ فسقت ... ورداً وعضّت على العنّاب بالبرد (3) إلا أنه لم يعطف خمسة على خمسة كما صنع ابن حزم، بل اكتفى بالعلم في التشبيهات. قال: ومن أغرب ما وقع لي من التشبيهات في بيتٍ قول ابن برون الأكشوني (4) الأندلسي يصف فرساً ورداً أغر محجلاً:

_ (1) طوق الحمامة: 16. (2) الطوق: قد مد ما انبلج. (3) هامش م: المراد به الوأواء الدمشقي من قصيدته الفريدة ... إلخ. قلت انظر ديوانه: 84. (4) لعلها " الأكشونبي "؛ وسقطت لفظة " برون " من ب.

فكأنّ غرّته وتحجيلاته ... خمسٌ من السوسان وسط شقائق قال: وهذا على التحقيق ستةٌ على ستة، ولم أسمع بمثله لأحد من [الأندلسيين ولا من المشارقة] (1) . قال ابن الجلاب: وكلام أبي عامرٍ هذا لا يخلو من النقد. 434 - وقال ابن صارة: انظر إلى البدر وإشراقه ... على غديرٍ موجه يزهر كمشحذٍ من حجرٍ أخضرٍ ... خطّ عليه ذهبٌ أحمر 435 - وقال أبو القاسم ابن العطار الإشبيلي (2) : ركبنا (3) سماء النّهر والجوّ مشرقٌ ... وليس لنا إلا الحباب نجوم وقد ألبسته الأيك برد ظلالها ... وللشمس في تلك البرود رقوم 436 - وقال ابن صارة (4) : والنهر قد رّقت غلالة صبغه ... وعليه من ذهب الأصيل طراز تترقرق الأمواج فيه كأنّها ... عكن الخصور تضمّها الأعجاز 437 - وقال سهل بن مالك (5) : وربّ يومٍ وردنا فيه كلّ منىً ... وقلّ في مثل ذلك اليوم أن نردا في روضتين بشطّي سلسلٍ شبمٍ ... كما اجتليت من المحبوب مفتقدا

_ (1) زيادة من م. (2) القلائد: 285. (3) القلائد: عبرنا. (4) انظر القلائد: 270؛ وفي م: وقال الأديب البارع ... إلخ. (5) زاد في م: في صفة النهر.

يبدّد القطر في أثنائه حلقاً ... فتنظم الريح منها فوقه زردا (1) 438 - وقال ابن صارة: انظر النهر في رداء عروسٍ ... صبغته بزعفران العشيّ ثمّ لمّا هبّ النسيم عليه ... هزّ عطفيه في دلاص الكميّ 439 - ولبعضهم في شكل يرمي الماء مجوفاً مثل الخباء وتمزقه الريح أحياناً: ومطنّب لماء ما أوتاده ... إلا نتائج فكر طبٍّ حاذق لعبت به أيدي الصّبا فكأنّها ... أيدي الصبابة بالفؤاد العاشق 440 - وقال صفوان بن إدريس يصف تفاحة في الماء: ولم أر فيما تشتهي العين منظراً ... كتفاحةٍ في بركةٍ بقرار يفيض عليها ماؤها فكأنّها ... بقيّة خدٍّ في اخضرارعذار (2) 441 - وقال أبو جعفر ابن وضاح في دولاب: وباكيةٍ والروض يضحك كلّما ... ألحّت عليه بالدموع السّواجم يروقك منها إن تأمّلت نحوها ... زئير أسةدٍ والتفات أراقم تخلّص من ماء الغدير سبائكاً ... فتنبتها في الروض مثل الدّراهم

_ (1) زاد في م قطعتين بعد هذه لابن مالك؛ وقال أيضا من التشبيهات العجيبة: وتحدث الماء الزلال مع الحصى ... فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى فكأن فوق الماء وشيا ظاهرا ... وكأن تحت الماء درا مضمرا وقوله أيضا في تشبيه الخمرة وهو عجيب: إذا كان عندي قوت يوم وليلة ... من الخمر تنفي الهم إذا امتنع فلست تراني سائلا عن خليفة ... ولا عن وزير للخليفة ما صنع (2) زاد بعدهما هنا في م بيتين لسهل بن مالك: شربنا وجفن الليل يغسل كحله ... ............ .. البيتين.

442 - وقال الوزير ابن عمار: يومٌ تكاثف غيمه فكأنّه ... دون السماء دخان عودٍ أخضر والطّل مثل برادةٍ من فضّةٍ ... منثورةٍ في تربةٍ من عنبر والشمس أحياناً تلوح كأنّها ... أمةٌ تعرّض نفسها للمشتري 443 - وقال أبو الحسن ابن سعد الخير (1) : لله دولابٌ يفيض بسلسلٍ ... في روضةٍ قد أينعت أفنانا قد طارحته بها الحمائم شجوها ... فيجيبها ويرجّع الألحانا فكأنّه دنفٌ يدور بمعهدٍ ... يبكي ويسأل فيه عمّن بانا ضاقت مجاري طرفه عن دمعه ... فتفتحت أضلاعه أجفانا 444 - وقال ابن أبي الخصال: ووردٍ جنيٍّ طالعتنا خدوده ... ببشرٍ ونشرٍ يبعثان على السكر وحفّ ترنجانٌ به فكأنّه ... خدود العذارى في مقانعها الخضر 445 - وقال ابن صارة (2) : يا ربّ نارنجةٍ يلهو النديم بها ... كأنّها كرةٌ من أحمر الذهب أو جذوةٌ حملتها كفّ قابسها ... لكنّها جذوةٌ معدومة اللهب 446 - وقال الخفاجي (3) :

_ (1) أبو الحسن علي بن سعد الخير من شعراء زاد المسافر: 103 وانظر المغرب 2: 317 والتكملة رقم: 1867 والتحفة: 51 والذيل والتكملة 5: 187 ووصفه للدولاب ورد في أكثرها؛ م: وقال أبو الحسن ... في دولاب. (2) القلائد: 267؛ م: وقال ابن صارة في نارنجة يشبهها. (3) ديوانه: 69؛ م: وقال الخفاجي الأندلسي في أيكة.

وميّاسةٍ تزهو وقد خلع الحيا ... عليها حلىً حمراً وأرديةً خضرا يذوب بها ريق الغمامة فضّةً ... ويجمد في أعطافها ذهباً نضرا 447 - وقال ابن صارة أيضاً (1) : ونارنجةٍ لم يدع حسنها ... لعيني في غيرها مذهبا فطوراً أرى لهباً مضرماً ... وطوراً أرى شفقاً مذهبا 448 - وقال ابن وضاح في السرو (2) : أيا سرو لا يعطش منابتك الحيا ... ولا يدعن أعطافك الخضل النضر فقد كسيت منك الجذوع بمثل ما ... تلفّ على الخطيّ راياته الخضر 449 - وقال أبو إسحاق الخولاني (3) : نيلوفرٌ شكله كشكلي ... يعوم في أبحر الدموع قد ألبست عطفه دروعاً ... خودٌ لريح الصّبا شموع يلوح إذ لونه كلوني ... من فوق فضفاضةٍ هموع مثل مسامير مذهباتٍ ... في حلقاتٍ من الدروع 450 - وقال ابن الأبار (4) : وسوسناتٍ أرت من حسنها بدعاً ... ولم يزل عصر مولانا يري بدعه شبيهةٌ بالثريّا في تألّفها ... وفي تألّقها تلتاح ملتمعه

_ (1) زاد في م: في تشبيه نارنجة. (2) م: شجر السرو. (3) زاد في م: في النيلوفر. (4) زاد في م: الأديب المشهور في السوسن.

هامت بيمناه تبغي أن تقبّلها ... واستشرفت تجتلي مرآه مطّلعه ثم انثنى بعضها من بعضها غلباً ... على البدار فوافت وهي مجتمعه ورفع هذه الأبيات إلى الأمير أبي يحيى زكريا (1) . 451 - وقال حازم: لا نور يعدل نور اللوز في أنقٍ ... وبهجةٍ عند ذي عدلٍ وإنصاف نظام زهرٍ يظلّ الدرّ منتثراً ... عليه من كلّ هامي القطر وكّاف بينا ترى وهي أصداف لدرّ حياً ... بيضٍ غدت في خضر أصداف 452 - وقال ابن سعد الخير في رمّانة (2) : وساكنةٍ في ظلال الغضون ... بروضٍ (3) يروقك أفنانه تضاحك أترابها فيه إذ ... غدا الجوّ تدمع أجفانه كما فتح الليث فاه وقد ... تضرّج بالدم أسنانه 453 - وقال ابن نزار الوادي آشي (4) : ورمّانةٍ قد فضّ عنها ختامها ... حبيبٌ أعار البدر بعض صفاته فكسّر منها نهد غذراء كاعبٍ ... وناولني منها شبيه لداته 454 - وقال بعضهم في القراسيا (5) ، ويقال له بالمغرب " حب الملوك ": ودوحٍ تهدّل أشطانه ... رعى الدهر من حسنه ما اشتهى

_ (1) ب م: أبي زكريا. (2) التحفة: 53. (3) التحفة: بخدر. (4) زاد في م: في رمانة. (5) م: القرسيا.

فما احمرّ منه فصوص العقيق ... وما اسودّ منه عيون المها 455 - وقال بعضهم (1) : وأين معاهدٌ للحسن فيها ... وللأنس التقاء البهجتين وللأوتار والأطيار فيها ... لدى الأسحار أطرب ساجعين (2) فكم بدرٍ تجلّى من رباها ... ومن بطحائها في مطلعين وأغيد يرتعي من تلعتيها ... ومن ثمر القلوب بمرتعين إذا أهوى لسوسنة يميناً ... عجبت من التقاء السوسنين وكم يومٍ توشّح من سناه ... ومن زهراتها في حلتين وراح أصيله ما بين نهرٍ ... ودولابٍ يدور بمسمعين بنهرٍ كالسماء يجول فيه ... سحائب من ظلال الدوحتين تدرّع للنّواسم حين هزت ... عليها كلّ غصن كالرّديني ملاعب في غرامي عند ذكري ... صباه وغصنه المتلاعبين 456 - وقال الوزير محمد بن عبد الرحمن بن هانئ: يا حرقة البين كويت الحشا ... حتى أذبت القلب في أضلعه أذكيت فيه النار حتى غدا ... ينساب ذاك الذّوب من مدمعه يا سؤل هذا القلب حتى متى ... يؤسى برشف الرّيق من منبعه فإنّ في الشهد شفاء الورى ... لا سيّما إن مصّ من مكرعه والله يدني منكم عاجلاً ... ويبلغ القلب إلى مطمعه 457 - ولو لم يكن للأندلسيين غير كتاب " شذور الذهب " لكفاهم دليلاً على البلاغة، ومؤلفه هو علي بن موسى بن علي بن محمد بن خلف أبو

_ (1) زاد في م: في خضرة وروض واجتماع أحباب. (2) ب م: سامعين.

الحسن الأنصاري، الجياني، نزيل فاس، وولي خطابتها، ولم ينظم أحدٌ في الكيمياء مثل نظمه بلاغة معانٍ، وفصاحة ألفاظٍ، وعذوبة تراكيب، حتى قيل فيه: إن لم يعلمك صناعة الذهب علمك الأدب. وفي عبارة بعضهم: إن فاتك ذهبه، لم يفتك أدبه. وقيل فيه: إنه شاعر الحكماء، وحكيم الشعراء. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة. [عود إلى النقل عن بدائع البدائه] ولنذكر هنا نبذة من سرعة بديهة أهل الأندلس، وإن مرت من ذلك جملة، وستأتي أيضاً زيادة على الجميع، فنقول: 458 - قال في " بدائع البدائه " ما صورته (1) : روى عبد الجبار بن حميدس الصقلي قال: صنع عبد الجليل بن وهبون المرسي الشاعر لنا نزهة بوادي إشبيلية، فأقمنا فيه يومنا، فلما دنت الشمس للغروب هب نسيم ضعيف غضّن وجه الماء، فقلت للجماعة: أجيزوا: حاكت الريح من الماء زرد ... فأجازه كل منهم بما تيسر له، فقال لي أبو تمام غالب بن رباح، الحجاج: كيف قلت يا أبا محمد فأعدت القسيم له، فقال: أيّ درعٍ لقتالٍ لو جمد ... وقد ذكرنا في هذا الكتاب ما يخالف هذا، فليراجع في محله (2) . ثم قال صاحب " بدائع البدائه " (3) بعد ما سبق ما صورته: وقد نقله ابن

_ (1) البدائع 1: 63. (2) سيجيء ما يخالفه في ترجمة الرميكية في الجزء الرابع من النفح. (3) ص: 64 - 65.

حميدس إلى غير هذا الوصف، فقال: نثر الجوّ على الترب برد ... أيّ درٍّ لنحورٍ لو جمد فتناقض المعنى بذكر البرد، وقوله " لو جمد " إّ ليس البرد إلا ما جمده البرد، اللهم إلا أن يريد بقوله " لو جمد " دام جموده، فيصح وينعقد على التحقيق. ومثل هذا قول المعتمد بن عباد يصف فوارة: ولربّما سلّت لنا من مائها ... سيفاً وكان عن النواظر مغمدا طبعته لجيّاً فزانت صفحةً ... منه ولو جمدت لكان مهنّدا وقد أخذت أنا هذا المعنى (1) فقلت أصف روضاً: فلو دام ذاك النبت كان زبرجداً ... ولو جمدت أنهاره كنّ بلّورا وهذا المعنى مأخوذ من قول علي التونسي الإيادي من قصيدته الطائية المشهورة: ألؤلؤٌ قطر هذا قطر هذا الجوّ أم نقط ... ما كان أحسنه لو كان يلتقط وهذا المعنى كثير للقدماء، قال ابن الرومي من قطعة في العنب الرازقي: لو أنّه يبقى على الدهور ... قرّط آذان الحسان الحور 459 - قال علي بن ظافر (2) : وأخبرني من أثق به قال: ركب المعتمد على الله أبو القاسم ابن عباد لنزهة بظاهر إشبيلية في جماعة من ندمائه، وخواص شعرائه، فلما أبعد أخذ في المسابقة بالخيول، فجاء فرسه بين البساتين سابقاً،

_ (1) يعني ابن ظافر. (2) البدائع 1: 66 - 67.

فرأى شجرة تين قد أينعت وزهت وبرزت منها ثمرة قد بلغت وانتهت، فسدد إليها عصاً كانت في يده فأصابها، وثبتت على أعلاها، فأطربه ما رأى من حسنها وثباتها، والتفت ليخبر به من لحقه من أصحابه، فرأى ابن جاخ الصباغ أول من لحق به فقال: أجز: كأنّها فوق العصا ... فقال: هامة زنجيٍّ عصا ... فزاد طربه وسروره بحسن ارتجاله، وأمر له بجائزة سنية. قال علي بن ظافر (1) : وأخبرني أيضاً أن سبب اشتهار ابن جاخ (2) هذا أن الوزير أبا بكر ابن عمار كان كثير الوفادة على ملوك الأندلس، لا يستقر ببلد ولا يستفزه عن وطره وطن، وكان كثير التطلب لما يصدر عن أرباب المهن، من الأدب الحسن، فبلغه خبر ابن جاخ عذا قبل اشتهاره، فمر على حانوته وهو آخذ في صباغته، والنيل قد جر على يديه ذيلاً، وأعاد نهارهما ليلاً، فأراد أن يعلم سرعة خاطره، فأخرج زنده ويده بيضاء من غير سوء، وأشار إلى يده وقال: كم بين زندٍ وزند ... فقال: ما بين وصلٍ وصدّ ... فعجب من حسن ارتجاله، ومبادرة العمل واستعجاله، وجذب بضبعه، وبلغ من الإحسان إليه غاية وسعه.

_ (1) المصدر نفسه: 67. (2) ب م: ابن جامع، حيثما وقعت، وهو خطأ.

460 - وبلغني أيضاً أنه دخل سرقسطة فبلغه خبر يحيى القصاب السرقسطي، فمر عليه، ولحم خرفانه بين يديه، فأشار ابن عمار إلى اللحم، وقال (1) : لحم سباط الخرفان مهزول ... فقال: " يقول يا مشترين (2) مه زولوا " ... 461 - ولما صنع المتوكل (3) على الله بن الأفطس صاحب بطليوس هذا القسيم: الشّعر خطّة خسف ... أرتج عليه، فاستدعى أبا محمد عبد المجيد بن عبدون صاحب الرائية التي أولها: الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب، وهو أحد وزراء دولته، وخواص حضرته، فاستجازه إياه، فقال: لكلّ طالب عرف ... للشيخ عيبة عيبٍ ... وللفتى ظرف ظرف وذكر ابن بسام في الذخيرة أن قائل القسيم الأول الأستاذ أبو الوليد ابن ضابط، وأن عبد المجيد أجازه ارتجالاً، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقد ذكرنا ما يقرب من ذلك في هذا الكتاب.

_ (1) انظر ما تقدم ص: 404. (2) البدائع: للمفلسين. (3) البدائع 1: 72، وقد مرت الحكاية ص: 397.

462 - وقال ابن الغليظ المالقي (1) : قلت يوماً للأديب أبي عبد الله ابن السراج المالقي، ونحن على جرية ماء: أجز: شربنا على ماءٍ كأنّ خريره ... فقال بديهاً: بكاء محبٍّ بان عنه حبيب ... فمن كان مشغوفاً كئيباً بإلفه ... فإنّي مشغوفٌ به وكئيب 463 - وذكر ابن بسام في الذخيرة (2) أنه اجتمع ابن عبادة وابن القابلة السبتي بالمرية، فنظر إلى وسيم يسبح في البحر، وقد تعلق بسكان بعض المراكب، فقال ابن عبادة: أجز: انظر إلى البدر الذي لاح لك ... فقال ابن القابلة: في وسط اللّجّة تحت الحلك ... قد جعل الماء سماء له ... واتخذ الفلك مكان الفلك 464 - وقال أبو عامر ابن شهيد (3) : لما قدم زهير الصقلبي (4) إلى حضرة قرطبة من المرية وجه وزيره أبو جعفر ابن عباس إلى لمة من أصحابنا منهم ابنبرد وأبو بكر المرواني وابن الحناط والطبني، فحضروا إليه، فسألهم عني،

_ (1) البدائع 1: 73 ومرت الحكاية ص: 270. (2) البدائع 1: 73. (3) البدائع 1: 75. (4) ب م: الصقلي، وهو خطأ، وكان زهير من فتيان الصقالبة بالأندلس.

وقال: وجهوا إليه، فوافاني رسوله مع دابة بسرج محلىً ثقيل، فسرت إليه، ودخلت المجلس، وأبو جعفر غائب، فتحفز المجلس لدخولي، وقاموا جميعاً لي، حتى طلع أبو جعفر علينا ساحباً ذيلاً لم أر أحداً سحبه قبله، وهو يترنم، فسلمت عليه سلام من يعرف قدر الرجال، فرد رداً لطيفاً، فعلمت أن في أنفه نعرة ر تخرج إلا بسعوط الكلام، ولا ترام إلا بمستحصد النظام، ورأيت أصحابي يصيخون إلى ترنمه. فقال لي ابن الحناط، وكانكثير الانحاء علي، جالباً في المحافل ما يسوء إلي: إن الوزير حضر قسيم، وهو يسألنا إجازته، فعلمت أني المراد، فاستنشدته، فأنشد: مرض الجفون ولثغةٌ في المنطق ... فقلت لمن حضر: لا تجهدوا أنفسكم، فما المراد غيري، ثم أخذت الدواة فكتبت: سببان جرّا عشق من لم يعشق ... من لي بألثغ لا يزال حديثه ... يذكي على الأحشاء جمرة محرق ينبي فينبو في الكلام لسانه ... فكأنّه من خمر عينيه سقي لا ينعش الألفاظ من عثراتها ... ولو آنها كتبت له في مهرق ثم قمت عنهم، فلم ألبث أن وردوا علي، وأخبروني أن أبا جعفر لم يرض بما جئت به من البديهة، وسألوني أن أحمل مكاوي الهجاء على حتاره، فقلت: أبو جعفرٍ كاتبٌ محسنٌ ... مليح سنا الخطّ حلو الخطابه تمّلأ شحماً ولحماً وما ... يليق تملّؤه بالكتابه له عرقٌ ليس ماء الحياء ... ولكنّه رشح ماء الجنابه جرى الماء في سفله جري لينٍ ... فأحدث في العلو منه صلابه

465 - وذكر الوزير أبو بكر ابن اللبانة الداني (1) في كتابه " سقيط الدرر ولقيط الزهر " أن المعتمد بن عباد صنع قسيماً في القبة المعروفة بسعد السعود فوق المجلس المعروف بالزاهي، وهو: سعد السعود يتيه فوق الزاهي ... ثم استجاز الحاضرين فعجزوا، فصنع ولده عبد الله الرشيد: وكلاهما في حسنه متناهي ... ومن اغتدى سكناً لمثل محمدٍ ... قد جلّ في العليا عن الأشباه لا زال يبلغ فيهما ما شاءه ... ودهت عداه من الخطوب دواهي 466 - وخرج القاضي الفقيه (2) أبو الحسن علي بن القاسم بن محمد بن عشرة أحد رؤساء المغرب الأوسط في جماعة من أصحابه منهم محمد بن عيسى ابن سوار الأشبوني ورجل يسمى بأبي موسى خفيف الروح، ثقيل الجسم، فجعل يعبث بالحاضرين بأبيات من الشعر يصنعها فيهم، فصنع القاضي أبو الحسن معابثاً له: وشاعرٍ أثقل من جسمه ... ثم استجاز ابن سوار، فقال: ......... ... تأتي معانيه على حكمه يهجو فلا يهجا فهل عندكم ... ظلامةٌ تعدي على ظلمه لسانه في هجوه حيّةٌ ... منيّة الحيّة في سمّه

_ (1) البدائع 1: 78. (2) البدائع 1: 78.

يصيب سرّ المرء في رميه ... كأنّما العالم في علمه أمّا أبو موسى ففي كفّه ... عصا ابنه والسحر في نظمه 467 - وفي " المقتبس في تاريخ الأندلس " (1) أن الأمير عبد الرحمن خرج في بعض أسفاره فطرقه خيال جاريته طروب أم ولده عبد الله، وكانت أعظم حظاياه عنه، وأرفعهن لديه، لا يزال كلفاً بها، هائماً بحبها، فانتبه وهو يقول: شاقك من قرطبة الساري ... في الليل لم يدر به الداري ثم أنبه عبد الله بن الشمر نديمه فاستجازه كمال البيت، فقال: زار فحيّا في ظلام الدجى ... أحبب به من زائرٍ ساري وصنع الأمير عبد الرحمن المذكور في بعض غزواته قسيماً (2) ، وهو: نرى الشيء ممّا يتّقى فنهابه ... ثم أرتج عليه، وكان عبد الله بن الشمر نديمه وشاعره غائباً عن حضرته، فأراد من يجيزه، فأحضر بعض قواده محمد بن سعيد الزجالي، وكان يكتب له، فأنشده القسيم فقال: وما لا نرى ممّا يقي الله أكثر ... فاستحسنه وأجازه، وحمله استحسانه على أن استوزره.

_ (1) البدائع 1: 87. (2) انظر المقتبس (تحقيق مكي) : 34 ومنه يفهم أن الأمير لم يصنع القسيم وإنما تمثل به ونسي تمامه فأتمه الرجالي من حفظه، وانظر ما سبق ص: 539.

468 - وذكر ابن بسام (1) أن المعتمد بن عباد أمر بصياغة غزال وهلال من ذهب، فصيغا، فجاء وزنهما سبعمائة مثقال، فأهدى الغزال إلى السيدة ابنة مجاهد، والهلال إلى ابنه الرشيد، فوقع له إلى أن قال: بعثنا بالغزال إلى الغزال ... وللشمس المنيرة بالهلال ثم أصبح مصطحباً، وجاء الرشيد فدخل عليه، وجاء الندماء والجلساء، وفيهم أبو القاسم ابن مرزقان (2) ، فحكى لهم المعتمد البيت، وأمرهم بإجازته، فبدر ابن مرزقان فقال: فذا سكني أبوّئه فؤادي ... وذا نجلي أقلّده المعالي شغلت بذا الطلا خلدي ونفسي ... ولكني بذاك رخيّ بال دفعت إلى يديه زمام ملكي ... محلّىً بالصوارم والعوالي فقام يقرّ عيني في مضاءٍ ... ويسلك مسلكي في كلّ حال فدمنا للعلاء ودام فينا ... فإنّا للسماح وللنزال 469 - ولما أنشد أبو القاسم ابن الصيرفي قول عبد الله بن السمط: حار طرفٌ تأمّلك ... ملكٌ أنت أم ملك قال بديهاً: بل تعاليت رتبةً ... فلك الأرض والفلك 470 - وذكر ابن بسام في الذخيرة (3) أنه غني يوماً بين يدي العالي بالله الإدريسي بمالقة بيتٌ لعبد الله بن المعتز:

_ (1) البدائع 1: 107. (2) م: ابن مرزبان. (3) الذخيرة 1 / 2: 355 والبدائع 1: 148.

هل ترين البين يحتال ... أن غدت للحي (1) أجمال فأمر الفقيه أبا محمد غانم بن الوليد المالقي بإجازته، فقال بديهاً: إنّما العالي إمام هدىً ... حليت في عصره الحال ملكٌ أقيال دولته ... لذوي الأفهام إقبال قل لمن أكدت مطالبه ... راحتاه الجاه والمال 471 - وغنى أبو الحسن زرياب (2) يوماً بين يدي الأمير عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بهذين البيتين، وهما لأبي العتاهية: قالت ظلوم سميّة الظّلم ... مالي رأيتك ناحل الجسم يا من رمى قلبي فأقصده ... أنت الخبير بموقع السهم فقال عبد الرحمن: هذان البيتان منقطعان، فلو كان بينهما ما يصلهما لكان أبدع، فصنع عبيد الله (3) بن فرناس بديهاً: فأجبتها والدمع منحدرٌ ... مثل الجمان وهى من النّظم فاستحسنه، وأمر له بجائزة. 472 - وذكر ابن بسام أيضاً أن المعتمد بن عباد غني بين يديه بقول ابن المعتز (4) : وخمّارةٍ من بنات المجوس ... ترى الزقّ في بيتها شائلا وزنّا لها ذهباً جامدا ... فكالت لنا ذهباً سائلا

_ (1) الذخيرة: للبين. (2) البدائع 1: 155. (3) ب: عبد الرحمن. (4) البدائع 1: 154.

فقال بديهاً يجيزه: وقلت خذي جوهراً ثابتاً ... فقالت خذوا عرضاً زائلاً 473 - وركب المعتمد (1) في بعض الأيام قاصداً الجامع، والوزير أبو بكر ابن عمار يسايره، فسمع اذان مؤذن، فقال المعتمد: هذا المؤذّن قد بدا بأذانه ... فقال ابن عمار: يرجو بذاك العفو من رحمانه ... فقال المعتمد: طوبى له من شاهدٍ بحقيقةٍ ... فقال ابن عمار: إن كان عقد ضميره كلسانه ... 474 - وقال عبد الجبار بن حمديس الصقلي (2) : أقمت بإشبيلية لما قدمتها على المعتمد بن عباد مذة لا يلتفت إلي ولا يعبأ بي، حتى قنطت لخيبتي مع فرط تعبي، وهممت بالنكوص على عقبي، فإني لكذلك ليلة من الليالي في منزلي إذا بغلام (3) معه شمعة ومركوب، فقال لي: أجب السلطان، فركبت من فوري، ودخلت عليه، فأجلسني على مرتبة فنك (4) ، وقال لي افتح الطاق التي تليك، ففتحتها فإذا بكور زجاج على بعد، والنار تلوح من بابيه، وواقدة تفتحهما تارة وتسدهما أخرى، ثم دام سد أحدهما وفتح الآخر، فحين تأملتهما قال لي: أجز:

_ (1) البدائع 1: 171. (2) البدائع 1: 171. (3) البدائع: إذ أتاني غلام. (4) البدائع: على مرتبته.

انظرهما في الظلام قد نجما ... فقلت: كما رنا في الدّجنّة الأسد ... فقال: يفتح عينيه ثمّ يطبقها ... فقلت: فعل امرئٍ في جفونه رمد ... فقال: فابتزّه الدهر نور واحدةٍ ... فقلت: وهل نجا من صروفه أحد ... فاستحسن ذلك، وأمر لي بجائزة سنية، وألزمني خدمته. وقد ذكرنا هذه الحكاية في هذا الكتاب، ولكن ما هنا أتم مساقاً فلذلك نبهت عليه. 475 - وذكر صاحب " فرحة الأنفس في أخبار أهل الأندلس " (1) أن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر جلس في جماعة من خواصه، ومعهم أبو القاسم لب، وكان يعده للمجون والتطايب، فقال له: اهج عبد الملك بن جهور، يعني أحد وزرائه، فقال: أخافه، فقال لعبد الملك: فاهجه أنت، فقال: أخاف على عرضي منه، فقال: أهجوه أنا وأنت، ثم صنع: لبٌّ أبو القاسم ذو لحيةٍ ... طويلةٍ أزرى بها الطول (2)

_ (1) البدائع 1: 185. (2) ب م: كبيرة في طولها ميل.

فقال عبد الملك: وعرضها ميلان إن كسّرت ... والعقل مأفونٌ ومخبول فقال الناصر للب: اهجه فقد هجاك، فقال بديهاً: قال أمين الله في عصرنا ... لي لحيةٌ أزرى بها الطول وابن جهيرٍ قال قول الذي ... مأكوله القرضيل والفول لولا حيائي من إمام الهدى ... نخست بالمنخس شو ... ثم سكت، فقال له الناصر: هات تمام البيت، فامتنع، فقال له " قولو " يعني تمام البيت، كلمة قالها الناصر مسترسلاً غير متحفظ من زيادة الواو وإبدال الهاء واواً، إذ صوابها " قله " على حكم المشي مع الطبع والراحة من التكلف، فقال لب: يا مولانا أنت هجوته، ففطن الناصر والحاضرون، وضحكوا، وأمر له بجائزة. والقرضيل: شوك له ورق عريض تأكله البقر، وقوله " شو " اسم لذكر الرجل (1) بالرومية، و " قولو " اسم للاست بها، فكأنه قال: لولا حيائي من إمام الهدى نخست بالمنخس - الذي هو الذكر - استه. انتهى المجلد الثالث

_ (1) م: اسم الرجل.

تتمة

بسم الله الرحمن الرحيم الباب السابع (تتمة) 476 - وقال ابن ظافر (1) : أخبرني من أثق به قال: اجتمع الوزير أبو بكر ابن القبطرنة والأستاذ أبو العباس ابن صارة في يوم جلا ذهب برقه، وأذاب ورق ودقه، والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء، واهتزت وربت عند نزول الماء، فترافدا في صفتها، فقال ابن صارة: هذي البسيطة كاعب أبرادها ... حلل الربيع وحليها النوار فقال ابن القبطرنة: وكأن هذا الجو فيها عاشقٌ ... قد شفّه التعذيب والإضرار فقال ابن صارة: فإذا شكا فالبرق قلبٌ خافقٌ ... وإذا بكى فدموعه الأمطار فقال ابن القبطرنة: فمن أجل عزّة ذا وذلّة هذه ... تبكي الغمام وتضحك الأزهار

_ (1) البدايع 1: 186 وهذا مكرر، انظر ج 3: 355.

477 - وقال أبو بكر محمد بن [الحسن] الزبيدي النحوي (1) صاحب الشرطة يخاطب الوزير أبا الحسن جعفر بن عثمان المصحفي لما كتب كتاباً له فيه " فاضت نفسه " بالضاد مبيناً له الخطأ دون تصريح: قل للوزير السنيّ محتده ... لي ذمّةٌ منك أنت حافظها عناية بالعلوم معجزةٌ ... قد بهظ الأولين باهظها يقرّ لي عمرها ومعمرها ... فيها ونظّامها وجاحظها قد كان حقاً قبول حرمتها ... لكنّ صرف الزمان لافظها وفي خطوب الزمان لي عظةٌ ... لو كان يثني النفوس واعظها إن لم تحافظ عصابةٌ نسبت ... إليك قدماً فمن يحافظها لا تدعن حاجتي بمطرحةٍ ... فإنّ نفسي قد فاظ فائظها فأجابه المصحفيّ: خفّض فواقاً فأنت أوحدها ... علماً ونقّابها وحافظها كيف تضيع العلوم في بلدٍ ... أبناؤها كلّهم يحافظها ألفاظهم كلّها معطّلةٌ ... مالم يعوّل عليك لافظها من ذا يساويك إن نطقت وقد ... أقرّ بالعجز عنك جاحظها علمٌ ثنى العالمين عنك كما ... ثنى عن الشمس من يلاحظها وقد أتتني فديت شاغلةٌ ... للنفس أن قلت فاظ فائظها فأوضحنها تفز بنادرةٍ ... قد بهظ الأوّلين باهظها فأجابه الزبيدي، وضمن شعره الشاهد على ذلك: أتاني كتابٌ من كريمٍ مكرّمٍ ... فنفّس عن نفسٍ تكاد تفيظ

_ (1) الجذوة: 43 - 45.

فسرّ جميع الأولياء وروده ... وسيء رجالٌ آخرون وغيظوا لقد حفظ العهد الذي قد أضاعه ... لديّ سواه والكريم حفيظ وباحثت عن فاظت وقبلي قالها ... رجالٌ لديهم في العلوم حظوظ روى ذاك عن كيسان سهلٌ وأنشدوا ... مقال أبي الغياظ وهو مغيظ " وسميت غياظاً ولست بغائظٍ ... عدواً ولكن للصديق تغيظ " " فلا رحم الرحمن روحك حيّةً ... ولا هي في الأرواح حين تفيظ " قلت: وفي خطاب الوزير بهذا البيت وإن حكي عن قائله ما لا يخفى أن اجتنابه المطلوب، على أنه قد يقال " فاضت نفسه " بالضاد، كما ذكره ابن السكيت في خلل " الألفاظ " له، والله أعلم. وكتب الزبيدي المذكور إلى أبي مسلم ابن فهد (1) : أبا مسلمٍ إنّ الفتى بجنانه ... ومقوله، لا بالمراكب واللبس وليست ثياب المرء تغني قلامةً ... إذا كان مقصوراً على قصر النفس وليس يفيد العلم والحلم والحجى ... أبا مسلمٍ طول القعود على الكرسي وقال، وقد استأذن الحكم المستنصر في الرجوع إلى أهله بإشبيلية ولم يأذن له، فكتب إلى جاريته سلمى (2) : ويحك يا سلم لا تراعي ... لا بدّ للبين من زماع لا تحسبيني صبرت إلا ... كصبر ميتٍ على النزاع ما خلق الله من عذابٍ ... أشدّ من وقفة الوداع ما بنيها والحمام فرقٌ ... لولا المناحات والنواعي

_ (1) الجذوة: 43. (2) المصدر نفسه.

إن يفترق شملنا وشيكاً ... من بعد ما كان ذا اجتماع فكلّ شملٍ إلى افتراقٍ ... وكلّ شعبٍ إلى انصداع وكلّ قربٍ إلى بعادٍ ... وكلّ وصلٍ إلى انقطاع 478 - واجتمع جماعة من الأدباء فيهم أبو الحسن سهل بن مالك والمهر ابن الفرس وغيرهما بمدينة سبتة سنة 581، فتذاكروا محبوباً لهم يسكن الجزيرة الخضراء أمامهم، فقالوا: ليقل كلّ واحد منكم شيئاً فيه، فقال سهل بن مالك (1) : لما حططت (2) بسبتة قتب النّوى ... والقلب يرجو أن يحوّل حاله والجوّ مصقول الأديم كأنّما ... يبدي الخفي من الأمور صقاله عاينت من بلد الجزيرة مكنساً ... والبحر يمنع أن يصاد غزاله كالشكل في المرآة تبصره وقد ... قربت مسافته وعزّ مناله فقال الجماعة: والله لا يقول أحد منا بعد هذا شيئاً. 479 - ولما قرأ أبو محمد عبد الله بن مطروح البلنسي صداق إملاك، وغيّر فيه حال القراءة لفظة " غير " برفع ما كان منصوباً أو بالعكس، أنشد بديهاً بعد الفراغ معتذراً عن لحنه: غيرت غيراً فصرت عيرا ... وهكذا من يجدّ سيرا فأجابه الحافظ أبو الربيع ابن سالم الكلاعي، وكان إلى جانبه، بديهة: ما أنت ممن يظنّ فيه ... بذاك جهلٌ فظنّ خيرا

_ (1) اختصار القدح: 62. (2) القدح: أنخت.

480 - ووقف أبو أمية ابن حمدون بباب الأستاذ الشلوبين، فكتب في ورقة " أبو أمية بالباب " ودفع الورقة لخادم الأستاذ، فلما نظر إليها الأستاذ نوّن تاء أمية، ولم يزد على ذلك، وأمر الخادم بدفع الورقة إليه، فلما نظر فيها أبو أمية انصرف، علماً منه أن الأستاذ صرفه، فانظر إلى فطنة الشيخ والتلميذ، مع أن الشيخ منسوب إلى التغفل في غير العلم. 481 - ومن حكايات أهل الأندلس في العفو أن المعتصم بن صمادح كان قد أحسن للنّحلي البطليوسي، ثم إن النّحلي سار إلى إشبيلية، فمدح المعتضد ابن عباد بشعر قال فيه: أباد ابن عبّاد البربرا ... وأفنى ابن معنٍ دجاج القرى ونسي ما قاله، حتى حلّ بالمريّة، فأحضره ابن صمادح لمنادمته، وأحضر للعشاء موائد ليس فيها غير الدجاج فقال: النحلي: يامولاي، ماعندكم في المدية لحم غيرالدجاج إنما أردت أن أكذبك في قولك: وأفنى ابن معنٍ دجاج القرى ... فطار سكر النحلي وجعل يعتذر فقال له خفض عليك إنما ينفق مثلك بمثل هذا وإنما العتب على ما سمعه فاحتمله منك في حق من هو في نقابه ثم أحسن إليه وخاف النحلي فغير من المرية، ثم ندم فكتب إلى المعتصم: رضى ابن صمادح فارقته ... فلم يرضي بعده العالم وكانت مرتيه جنة ... فجئت بما جاءه آدم فما زال يتفقده بالإحسان على بعد دياره، وخروجه عن اختياره، انتهى. 482 - وقال في بلنسية أبو عبد الله الرصافي، وقد خرج منها صغيراً (1) :

_ (1) ديوان الرصافي: 69.

بلادي التي ريشت قويدمتي بها ... فريخاً وآورتني قرارتها وكرا مهادي ولين العيش في ريق الصّبا ... أبى الله أن أنسى اعتيادي بها خيرا 483 - وقال أبو بكر محمد بن يحيى الشلطيشي (1) : وفاة المرء سرٌّ لم يكاشف ... ولم تثبت حقيقته درايه سيفنى كلّ ذي شبحٍ ونفسٍ ... وتلتحق النهاية بالبدايه وينصدع الجميع إلى صدوعٍ ... تعود به البريّة كالبرايه كأن مصائب الدنيا سهامٌ ... لها الأيام أغراض الرمايه فنل ما شئت إن الفقر حدٌّ ... وعش ما شئت إن الموت غايه 484 - وقال أبو بكر محمد بن العطار اليابسي، وهو من رجال الذخيرة: أمطيت عزمك منه متن سابحة ... خلت الحباب على لبّاتها لببا تبدو على الموج أحياناً ويضمرها ... كالعيس تعتسف الأهضام والكثبا 485 - وقال محمد بن الحسن الجبلي النحوي (2) : وما الأنس بالناس الذين عهدتهم ... بأنسٍ ولكن فقد رؤيتهم أنس إذا سلمت نفسي وديني منهم ... فحسبي أنّ العرض مني لهم ترس 486 - وقال محمد بن حرب (3) : طوبى لروضة جنّةٍ ... لك قد نويت ورودها نظمت على لبّاتها ... أيدي الغمام عقودها

_ (1) يعرف بابن القابلة، انظر المغرب 1: 352 والمسالك 11: 227. (2) الجذوة: 47. (3) هو محمد بن مروان بن حرب (الجذوة: 85 ومقطوعته وردت فيها) .

وسقت بماء الورد وال ... مسك الفتيت صعيدها والطير تشدو في الغصو ... ن المائدات قصيدها وتعير سمع المستعي ... ر نظيمها ونشيدها 487 - وكان في دار محمد بن اليسع شاعر الدولة العامرية وردة (1) ، وكان يهدي وردها كل عام إلى عارض الجيش أحمد بن سعيد (2) ، فغاب العارض سنة فقال: قال لي الورد وقد لا ... حظته في روضتيه وهو قد أينع طيباً ... جمع الحسن لديه أين مولاي الذي قد ... كنت تهديني إليه قلت غاب العام فايأس ... أن ترى بين يديه فبدا يذبل حتّى ... ظهر الحزن عليه 488 - وقال أحمد بن أفلح (3) : ما أستريح إلى حالٍ فأحمدها ... بالبين قلبي وقبل البين قد ذهبا إن كان لي أربٌ في العيش بعدكم ... فلا قضيت إذن من حبّكم أربا 489 - وقال أحمد بن تليد الكاتب (4) : لم أرض بالذل وإن قلا ... والحر لا يحتمل الذلاّ يا ربّ خلٍّ كان لي خاملٍ ... صار إلى العزّة فاحولاّ حرّمت إلمامي على بابه ... ووصله لم أره حلاّ

_ (1) ترجمته ومقطوعته في الجذوة: 90 - 91. (2) الجذوة: سعد. (3) ترجمته وشعره في الجذوة: 110؛ زاد في م: وهو من الشعراء المجيدين. (4) الجذوة: 111.

تأبى عليّ النفس من أن أرى ... يوماً على مستثقلٍ كلاّ 490 - وقال إسحاق بن المنادى، وقد أهدى له من يهواه تفاحة (1) : مجال العين في ورد الخدود ... يذكّر طيب جنّات الخلود وآرجةٌ من التفّاح تزهو ... بطيب النشر والحسن الفريد أقول لها فضحت المسك طيباً ... فقالت لي بطيب أبي الوليد 491 - وقال غالب بن عبد الله الثغري (2) : يا راحلاً عن سواد المقلتين إلى ... سواد قلبٍ عن الأضلاع قد رحلا غدا كجسمٍ وأنت الروح فيه فما ... ينفكّ مرتحلاً ما دمت (3) مرتحلا وللفراق جوىً لو مرّ أبرده ... من بعد فرقتكم بالماء (4) لاشتعلا (5) 492 - وقال الزوير أبو الحسن ابن الإمام الغرناطي يهجو مراكش المحروسة (6) : ياحضرة الملك ما أشهاك لي وطناً ... لولا ضروب بلاءٍ فيك مصبوب ماءٌ زقاقٌ وجوٌّ كلّه كدرٌ ... وأكلةٌ من بذنجان ابن معيوب وابن معيوب هذا كان من خدام أبي العلاء ابن زهر، يزعم الناس أنه سمّ

_ (1) الجذوة: 158 - 159. (2) الجذوة: 306. (3) الجذوة: إذ ظلت؛ م ب: ما دام. (4) الجذوة: بجامد الماء مر البرق. (5) زاد في م بعد هذه الأبيات: وقال المذكور من قصيدة وهو بديع: ومما شجاني أنني كنت نائماً ... أعلل من فرط الكرى بالتنسم (في أربعة أبيات....) . (6) هو ابو الحسن علي بن الإمام الفرناطي كاتب تميم بن يوسف بن تاشفين (المغرب 2: 116) .

ابن باجة لعداوته لابن زهر في باذنجان. 493 - ولما بنى الفقيه أبو العباس ابن القاسم (1) قصره بسلا وشيده وصفته الشعراء، وهنته به، ودعت له، وكان بالحضرة حينئذٍ الوزير أبو عامر ابن الحمارة، ولم يكن أعد شيئاً فأفكر قليلاً ثم قال: يا واحد الناس قد شيّدت واحدةً ... فحلّ فيها محلّ الشمس في الحمل فما كدارك في الدّنيا لذي أملٍ ... ولا كدارك في الأخرى لذي عمل وفيهم (2) يقول ابن بقي في موشحته الشهيرة التي آخرها (3) : إن جئت أرض سلا ... تلقاك بالمكارم فتيان (4) هم سطور العلا ... ويوسف بن القاسم عنوان 494 - وكان محمد بن عبادة بالمرية، ومعه ابن القابلة السبتي، فنظر إلى غلام وسيم يسبح، وقد تعلق بمركب فقال ابن عبادة (5) : انظر إلى البدر الذي لاح لك ... فقال ابن القابلة: ... في وسط اللجة تحت الحلك قد جعل الماء مكان السما ... واتخذ الفلك مكان الفلك

_ (1) أبو العباس ابن القاسم من بني عشرة أعيان سلا وقد مدحهم كثيرون من شعراء الأندلس والمغرب ومن مداحهم الأعمى التطيلي وابن بقي. (2) يريد بني عشرة. (3) انظر هذه الموشحة في ديوان التطيلي: 272. (4) م: فيدان. (5) انظر ما تقدم ج 3: 610.

495 - وقال ابن خروف، ويروى لغيره (1) : أيتها النفس اذهبي إليه اذهبي ... فحبّه المشهور من مذهبي مفضّض الثغر له شامةٌ ... مسكيةٌ في خده المذهب أيأسني التوبة من حبّه ... طلوعه شمساً من المغرب 496 - واجتمع في بستان واحد ثلاثة من شعراء الأندلس، وهم: ابن خفاجة، وابن عائشة، وابن الزقاق، فقال ابن خفاجة يصف الحال هنالك (2) : لله نوريّة المحيا ... تحمل نارية الحميّا درنا بها تحت ظلّ دوحٍ ... قد راق مرأى وطاب ريّا تجسّم النور فيه نوراً ... فكلّ غصنٍ به ثريّا وقال ابن عائشة (3) : ودوحةٍ قد علت سماءً ... تطلع أزهارها نجوما هفا نسيم الصّبا علينا ... فخلتها أرسلت رجوما كأنما الأفق غار لما ... بدت فأغرى بها النّسيما وقال ابن الزقاق (4) : ورياضٍ من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح زرتها والغمام يجلد منها ... زهراتٍ تفوق لون الراح

_ (1) نسبها ابن سعيد (في القسم الخاص بصقلية) لأبي القاسم ابن طلحة الصقلي (كان في دولة منصور بني عبد المؤمن) . (2) ديوان ابن خفاجة: 72. (3) المغرب 2: 314. (4) ديوانه: 125 وقد مرت الأبيات ج 3: 200، 256.

قلت ما ذنبها فقال مجيباً ... سرقت حمرة الخدود الملاح 497 - وقال الأديب أبو الحسن ابن زنون: وقع بيدي وأنا أسير بقيجاطة (1) - أعادها الله تعالى دار إسلام - كتابٌ ترجمته " كتاب التحف والطرف " لابن عفيون فوجدت فيه: قال الحسين بن الضحاك (2) : ما كان أحوجني يوماً إلى رجلٍ ... في وسطه ألف دينارٍ على فرس في كفّه حربةٌ يفري الدروع بها ... وصارمٌ مرهف الحدين كالقبس فلو رجعت ولم أظفر بمهجته ... وقد خضبت ذباب الصارم الشكس فلا اغتبطت بعيشٍ وابتليت بما ... يحول بيني وبين الشادن الأنس ووقف على هذه القطعة أبو نواس فقال: ما كان أحوجني يوماً إلى خنثٍ ... حلو الشمائل في باقٍ من الغلس في كفّه قهوةٌ يسبي (3) النفوس بها ... محكّم الطّرف للألباب مختلس فلو رجعت ولم أظفر بتكتّه ... وقد رويت من الصهباء كالقبس فلا هنيت بعيشٍ وابتليت بما ... يكون منه صدود الشادن الأنس هذا ألذّ وأشهى من منى رجلٍ ... في وسطه ألف دينارٍ على فرس ووقف على ذلك الوزير أبو عامر ابن ينق فقال: ما كان أحوجني يوماً إلى رجلٍ ... يردّد الذكر في باقٍ من الغلس في حلقه غنّةٌ يشفي النفوس بها ... وفي الحشا زفرةٌ مشبوبة القبس فلو رجعت ولم أوثر تلاوته ... على سماع غناء الشادن الأنس

_ (1) تعد قيطاجة من أعمال جيان، وكانت مدينة نزهة في نهاية من الخصب. (2) لم ترد في ديوانه، جمع الأستاذ عبد الستار فراج. (3) ق: يثني.

فلا حمدت إذن نفسي ولا اعتمدت ... بي النجائب قصد البيت والقدس (1) وأسلت بقبر المصطفى مقلاً ... تبكي عليه بهامي الدمع منبجس فوقفت على ذلك - يقول ابن زنون - فقلت: وكلٌ ينفق مما عنده، ومن عجائب الله أنه عند فراغي من كتب هذه القطعة وصل الفكاك إلي، وحل قيودي وأخرجني إلى بلاد المسلمين، وهي: ما كان أحوجني يوماً إلى رجلٍ ... يأتي فينبهني في فحمة الغلس يفك قيدي وغلّي غير مرتقبٍ ... ولا مبالٍ (2) من الحجاب والحرس وقوله لي تأنيساً وتسليةً ... هذا سلاحي فالبسه وذا فرسي فلو جبنت ولم أقبل مقالته ... وأمتطي الطّرف وثباً فعل مفترس إذن خلعت لباس المجد من عنقي ... وصار حظي منه حظّ مختلس وأخلفتني أمانيّ التي طمحت ... نفسي إليها وإحساني لكلّ مسي 498 - وقال أبو بكر ابن حبيش، وقد زاره بعض أودائه في يوم عيد الفطر: أكلّ ذا الإجمال في ذا الجمال ... الله أستحفظ ذاك الكمال يا مالكاً بالبّر رقّي أما ... يكفيك أن تملكني بالوصال سرت إلى ربعي زوراً كما ... سرى إلى المهجور طيف الخيال العيد لي وحدي بين الورى ... حقّاً لأني قد رأيت الهلال صومي مقبولٌ وبرهانه ... أني أدخلت جنان الوصال 499 - وقال أبو بكر ابن يوسف اللخمي، وقد عاده في شكاية فتى وسيم من الأعيان كان والده خطيب البلد:

_ (1) ق ب: في القدس؛ وأثبتنا رواية م. (2) ب: ولا يبالي؛ والبيت متأخر عن تاليه في م.

يا عائدي وهو أصل مابي ... أفديك من ممرضٍ طبيب أصميت لما رميت قلبي ... بسهم ألحاظك المصيب وجئتني منكراً لسقمي ... وتلك من عادة الحبيب يا ساعةً قد غفرت فيها ... ما كان للدهر من ذنوب ما كان في فضلها مقالٌ ... لو لم تكن جلسة الخطيب 500 - وخاطب أبو زيد ابن أبي العافية أبا عبد الله ابن العطار القرطبي بقصيدة منها هذا البيت: وكيف يفيق ذو صبرٍ قصيرٍ ... حليف وساوسٍ حولٍ طوال يعرض له بطوله وحوله، ولصاحبه أبي محمد ابن بلال بقصره، فراجعه أبو عبد الله المذكور بهذه الأبيات يعرض له فيها بجربه، وكان أبو زيد أصابه جربٌ كثير: أجل يا نافث السحر الحلال ... أتاني منك نظمٌ كاللآلي يروقك أولاً لفظاً ومعنىً ... ويلدغ آخراً لدغ الصّلال تعرّض فيه أنك ذو مطالٍ ... حليف وساوسٍ حولٍ طوال كأنك لم تجرّب قطّ خلقاً ... ولم تعرف بتجربة الليالي أأنسيت التجارب إذ تجاري ... بهنّ الجربياء مع الشمال فلا تغفل عن التجريب يوماً ... ولو أعطيت فيه جراب مال وجرّب جار بيتك واختبره ... وجرّ برجله إن كان قالي وجار بينك لا تستحي منه ... ومن نجّار بابك لا تبال وأجر ببالك الجرباء تبصر ... نجوم الأفق تجري بانتقال وجرّب أهل جربة تلف قوماً ... أبوا لبس الجوارب والنّعال تجاراً باعةً تجروا بزيتٍ ... تسمّوا بالتّجار بغير مال

إذا سمعوا بتمرٍ في جريبٍ ... جروا ببطاء ذي التمر (1) البوالي إذا جرّبت هذا الخلق أبدى ... لك التجريب أجربةً خوالي جرى بالنّجح دهراً جرّ بؤساً ... عليك وجار بالنّوب الثقال ثلاثة أدباء صلوا خلف إمام فأخطأ في قراءته 501 - وخرج ثلاثة أدباء لنزهة خارج مرسية، وصلوا خلف إمام بمسجد قرية، فأخطأ في قراءته، وسها في صلاته، فلما خرج أحدهم كتب على حائط المسجد: يا خجلتي لصلاةٍ ... صلّيتها خلف خلف (2) فلما خرج الثاني كتب تحته: أغضّ عنها حياءً ... من المهيمن طرفي فلما خرج الثالث كتب تحته: فليس تقبل منا ... لو انها ألف ألف 502 - وقال أبو إسحاق ابن خفيف الأندلسي (3) في أحدب أخذ مع صبي في خلوة فضربا، وطيف بهما، والأحدب على عنق الصبي: رأيت اليوم محمولاً ... وأعجب منه من حمله جمال الناس تحملهم ... وهذا حاملٌ جمله 503 - وقال أبو الصلت الأندلسي (4) :

_ (1) ب: إبطاء للتمر؛ م: ببطانة التمر. (2) الخلف: المتخلف الذي لا خير فيه. (3) الأندلسي: زيادة من م. (4) مر البيتان ج 3: 356 وزاد بعدهما في م: وقوله أيضاً فيما قرب من هذه: وقائلة ما لي أراك مجانباً ... أموراً وفيها للتجارة مربح فقلت لها ما لي بربحك حاجة ... ونحن أناس بالسلامة تفرح

وقائلةٍ ما بال مثلك خاملاً ... أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز فقلت لها ذنبي إلى القوم أنّني ... لمل لم يحوزوه من المجد حائز 504 - وكتب بعض المغاربة لأبي العباس ابن مضاء يذكره بحاله: يا غارسًا لي ثمار مجدٍ ... سقيتها العذب من زلالك أخاف من زهرها سقوطاً ... إن لم يكن سقيها ببالك 505 - وكتب الكاتب أبو عبد الله القرطبي مستنجزاً وعداً: أبا عبد الإله وعدت وعداً ... فأنجز تربح الشكر الجزيلا ولا تمطل فإن المطل يمحو ... من الإحسان رونقه الصقيلا إذا كان الجميل يحب طبعاً ... فإني أكره الصبر الجميلا 506 - وكتب ابن هذيل الفزاري للغني بالله سلطان لسان الدين بن الخطيب: ليس يا مولاي لي من جابرٍ ... إذ غدا قلبي من البلوى جذاذا غير صكٍّ أحمرٍ تكتب لي ... فيه يمناك اعتناءً: صحَّ هذا 507 - وقال أبو الحسن ابن الزقاق في غلام يهودي كان يجلس معه وينادمه يوم سبت (1) : وحبّب يوم السبت عندي أنني ... ينادمني فيه الذي أنا أحببت ومن أعجب الأشياء أني مسلمٌ ... حنيفٌ، ولكن خير أيامي السبت 508 - وقال أبو حيان (2) : ويعجبني رشف تلك الشفاه ... وعضُّ الخدود وهصر القوام

_ (1) ديوان ابن الزقاق: 113. (2) زاد في م: النحوي في الأوصاف.

محاسن فاتت قضيب الأراك ... وورد الرياض وكأس المدام 509 - وكتب أحد الأدباء بمرسية إلى فتى وسيم من أعيان كان يلازم حانوت بعض القضاة بها للتفقه، عليه بأبيات في غرض، فراجعه عنه أبو العباس ابن سعيد بقوله: ما للمحبّ لديّ غير صبابةٍ ... تقضي عليه ولوعةٍ وغرام فدع الطماعة واسترح باليأس من ... وصلٍ عليك إلى الممات حرام 510 - وقال السميسر (1) : قرابة السوء شرّ داءٍ ... فاحمل أذاهم تعش حميدا ومن تكن قرحةٌ بفيه ... يصبر على مصّه الصديدا 511 - وقال ابن الخفاجة (2) : إنّ للجنّة بالأندلس ... مجتلى عين وريّا نفس فسنا صبحتها من شنب ... ودجى ليلتها من لعس فإذا ما هبّت الريح صباً ... صحت واشوقي إلى الأندلس 512 - وقال بعض الأندلسيين ممن لم يحضرني اسمه الآن: إذا صال ذو ودٍّ بمدّ صديقه ... فيا أيها الخل المصاحب لي صل بي فأني مثل الماء ليناً لصاحبي ... وناهيك للأعداء من رجل صلب 513 - وقال أبو يحيى ابن هشام القرطبي: وخائط رائع جمالاً ... وصاله غاية اقتراحي

_ (1) زاد في م: الشاعر، في قرباء السوء. (2) ديوان ابن خفاجة: 136 وزاد في م: السابق ذكره أولاً.

تنعم منه الخيوط فتلاً ... بين اقاح وبين راح تداه في السلم ذا طعان ... بنا فذات بلا جراح حلقته اشبهت فؤادي أيدي ... لكثرة الوخز (1) في النواحي تقطّع الثوب راحتاه ... كصنع ألحاظه الملاح فقبله ما رأيت بدراً ... ممزّقاً بردة الصباح 514 - وقال أبو جعفر أحمد بن عبد الولي البلنسي (2) : غصبت الثريّا في البعاد مكانها ... وأودعت في عينيّ صادق نوئها وفي كلّ حالٍ لم تزالي بخيلةً ... فكيف أعرت الشمس حلّة ضوئها قال ابن الأبار: أنشد مؤلف " قلائد العقيان " هذين البيتين لأبي جعفر البني اليعمري، وأحدهما غالط من قبل اشتباه نسبهما، والتفرقة بينهما مستوفاة في تأليفي المسمى ب " هداية المعتسف في المؤتلف والمختلف " انتهى. وأبو حعفر ابن عبد الولي المذكور أحرقه القنبيطور - لعنه الله تعالى - حين تغلبه بالروم على بلنسية. قال ابن الأبار: وذلك في سنة ثمانٍ وثمانين وأربعمائة، وقيل: إن إحراقه كان سنة تسعين وأربعمائة، انتهى. 515 - وقال أبو العباس القيجاطي فيما انشده له ابن الطيلسان (3) : ليس الخمول بعارٍ ... على امرىءٍ ذي جلال فليلة القدر تخفى ... وتلك خير الليالي

_ (1) ب: الوجد. (2) التكملة: 24؛ وفي م: وكتب أبو جعفر ابن عبد المولى إلى أحمد البلنسي؛ وانظر ج 3: 487. (3) التكملة: 46.

516 - وقال أبو محمد ابن جحاف المعافري البلنسي (1) : أقول وقد خوّفوني القران ... وما هو من شرّه كائن ذنوبي أخاف وأمّا القران ... فإنّي من شرّه آمن وأبوه أبو أحمد وهو المحرّق ببلنسية كما ذكرناه في غير هذا الموضع. 517 - وقال أبو العباس المالقي (2) : وبين ضلوعي للصبابة لوعةٌ ... بحكم الهوى تقضي عليّ ولا أقضي جنى ناظري منها على القلب ما جنى ... فيا من رأى بعضاً يعين على بعض 518 - ودخل أبو القاسم ابن عبد المنعم، وكان أزرق وسيماً، ومعه أبو عبد الله الشاطبي وأبو عثمان سعيد بن قوشترة، على صاحب كتاب " مشاحذ الأفكار في مآخذ النظار " فقال ابن قوشترة: عابوه بالزّرق الذي بجفونه ... والماء أزرق والسّنان كذلكا فقال الشاطبي: والماء يهدي للنّفوس حياتها ... والرمح يشرع للمنون مسالكا فقال أبو بكر ابن طاهر صاحب كتاب " المشاحذ ": وكذاك في أجفانه سبب الرّدى ... لكن أرى طيب الحياة هنالكا وهذا من بارع الإجازة، وكم لأهل الأندلس من مثل هذا الديباج الخسرواني، رحمهم الله تعالى وسامحهم.

_ (1) التكلمة: 56. (2) التكلمة: 69.

519 - وكتب الشيخ الإمام العالم العلامة أبو عبد الله محمد بن الصائغ الأندلسي النحوي عند قول الحريري (1) " أمنا أن يعززا بثالث " مانصه: قد جيء لهما بثالث ورابع في قافيتهما، وهو قول بعض الفضلاء: ما الأمة اللّكعاء بين الورى ... كمسلمٍ حرٍّ أتى ملأمه فمه إذا استجديت من قول لا ... فالحرّ لا يملأ منها فمه ثم قال: وبخامس وسادس: انقد مهوى أزره فاثنى ... مهيا عذولي في الذي انقد مه مندمةٌ قتل المعنى فلا ... ترسل سهام اللحظ تأمن دمه قلت: رأيت في المغرب (2) في هذا المعنى ما ينيف على سبعين بيتاً كلها مساجلة لبيتي الحريري، رحمه الله تعالى (3) . 520 - وقال أبو بكر عبادة الشاعر في أبي بكر والد الوزير أبي الوليد ابن زيدون: أيّ ركنٍ من الرياسة هيضا ... وجمومٍ من المكارم غيضا حملوه من بلدةٍ نحو أخرى ... كي يوافوا به ثراه الأريضا مثل حمل السحاب ماءً طبيباً ... لتداوي به مكاناً مريضا وكان المذكور توفي في ضيعة له، ونقل تابوته إلى قرطبة فدفن في الربض سنة 405، وولد سنة 304. 521 - وقال أبو بكر ابن قزمان صاحب الموشحات (4) :

_ (1) ق: قول بيتي الحريري. (2) أكبر الظن أنه يعني هنا بلاد المغرب لا كتاب المغرب. (3) انظر الذيل والتكملة 4: 49 - 35 حيث أورد تماذج من هذه المساجلة لبيتي الحريري. (4) الأصح أن يقول: صاحب الأزجال.

وعهدي بالشباب وحسن قدّي ... حكى ألف ابن مقلة في الكتاب فصرت اليوم منحنياً كأنّي ... أفتّش في التراب على شبابي وقال (1) : يا رب يومٍ زارني فيه من ... أطلع من غرّته كوكبا ذو شفة لمياء معسولةٍ ... ينشع من خدّيه ماء الصبا قلت له هب لي بها قبلةً ... فقال لي مبتسماً مرحبا فذقت شيئاً لم أذق مثله ... لله ما أحلى وما أعذبا أسعدني الله بإسعاده ... يا شقوتي يا شقوتي لو أبى قال لسان الدين: كان ابن قزمان نسيج وحده أدباً وظرفاً ولوذعية وشهرة، قال ابن عبد الملك: كان أديباً بارعاً، حلو الكلام، مليح التندير، مبرزاً في نظم الزجل (2) ، قال لسان الدين: وهذه الطريقة الزجلية بديعة تتحكم فيها ألقاب البديع، وتنفسح لكثير مما يضيق على الشاعر سلوكه، وبلغ فيهاأبو بكر، رحمه الله تعالى، مبلغاً حجره الله عن من سواه، فهو آيتها المعجزة، وحجتها البالغة، وفارسها المعلم، والمبتدىء فيها والمتمم. وقال الفتح في حقه (3) : مبرز في البيان، ومحرز للسبق (4) عند تسابق الأعيان، اشتمل عليه المتوكل على الله فرقاه (5) إلى مجالس، وكساه ملابس، فامتطى أسمى الرتب وتبوئها، ونال أثنى الخطط (6) وما تملأها، وقد أثبت

_ (1) م: وقال المذكور أيضاً في زيارة الحبيب. (2) قال لسان ... الزجل: سقطت هذه العبارة من ق. (3) القلائد: 187. (4) القلائد: الخصل. (5) القلائد: اشتمالا أرقاه إلى.... (6) القلائد: الحظوظ.

له ما يعلم به رفيع قدره (1) ، ويعرف كيف أساء له الزمان بغدره، كقوله: ركبوا السيول من الخيول وركّبوا ... فوق العوالي السّمر زرق نطاف وّتجللوا الغدران من ماذيّهم ... مرتجة إلا على الأكتاف (2) والماذي: العسل، والنطاف: جمع النطفة، وهي الماء الصافي قل أو كثر. 522 -[نقول من المطمح] 1 - وقال الفقيه أبو بكر ابن القوطية صاحب الأفعال في اللغة والغريب، في زمن الربيع (3) : ضحك الثرى وبدا لك استبشاره ... فاخضرّ شاربه وطرّ عذاره ورنت حدائقه وزرّر نبته ... وتعطرت (4) أنواره وثماره واهتزّ ذابل كلّ ماء (5) قرارةٍ ... لمّا أتى متطلّعاً آذاره وتعمّمت صلع الرّبى بنباته ... وترنمت من عجمةٍ أطياره وقال في المطمح في حق ابن القوطية المذكور (6) : إنه ممن له سلف، وثنية كلها شرف، وهو أحد المجتهدين في الطلب، والمشتهرين بالعلم والأدب، والمنتدبين للعلم والتصنيف، والمرتبين له بحسن الترتيب والتأليف، وكان له شعر نبيه، وأكثره أوصاف وتشبيه، انتهى. 2 - وقال القاضي الأجل يونس بن عبد الله بن مغيث (7) :

_ (1) القلائد: ما تعلم به حقيقة قدره. (2) ب: الأعطاف. (3) المطمح: 59 والبديع: 20. (4) المطمح: ودنت ... وآزر ... ؛ البديع: وربت.... وآزر.... وتفطرت. (5) البديع: كل نبت. (6) المطمح: 58. (7) المطمح: 59.

أتوا حسبةً إذ قيل جدّ نحو له ... فلم يبق من لحمٍ عليه ولا عظم فعادوا قميصاً في فراشٍ فلم يروا (1) ... ولا لمسوا شيئاً يدلدعلى جسم طواه الهوى في ثوب سقمٍ من الضنى ... وليس بمحسوسٍ بعينٍ ولا وهم وقال في المطمح فيه: إنه قاضي الجماعة بقرطبة، فاضل ورع مبرز في النساك والزهاد، دائم الأرق في التخشع والسهاد، مع التحقق بالعلم والتمييز بحمله (2) ، والتحيز إلى فئة الورع وأهله، وله تآليف في التصوف والزهد (3) ، منها كتاب " المنقطعين إلى الله " وكتاب " المجتهدين " وأشعار في هذا المعنى، منها قوله: فررت إليك من ظلمي لنفسي ... وأوحشني العباد وأنت أنسي قصدت إليك منقطعاً غريباً ... لتؤنس وحدتي في قعر رمسي وللعظمى من الحاجات عندي ... قصدت وأنت تعلم سرّ نفسي ولما أراد المستنصر بالله غزو الروم تقدم إلى أبي محمد والده بالكون في صحبته، ومسايرته في غزوته، فاعتذر بعذر يجده، وألم لا ينجده، فقال له الحكم: إن ضمن لي أن يؤلف في أشعار خلفائنا بالمشرق والأندلس مثل كتاب الصولي في أشعار خلفاء بني العباس أعفيته من الغزاة، وجازيته أفضل المجازاة، فأجابه إليه على أن يؤلفه بالقصر، فزعم أنه رجل مزور، وأن ذلك الموضع ممتنع على من يلم به ويزور، فألفه بدار الملك المطلة على النهر، وأكمله فيما دون شهر، وتوفي والمستنصر بعد في غزاته (4) .

_ (1) م ق ب: فلم يجد. (2) المطمح: والتمييز بفضله. (3) المطمح: وله تصانيف في الزهد والتصوف. (4) في الأصول: وتوفي المستنصر إذ ذاك؛ وهو خطأ لأن المستنصر توفي سنة 366؛ وفي المطمح: وتوفي بعد المستنصر في غزاته.

3 - وقال ابن سيده صاحب المحكم يخاطب إقبال الدولة: ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيلٌ فإنّ الأمن في ذاك واليمنا قال في المطمح (1) : الفقيه أبو الحسن علي بن أحمد المعروف بابن سيده إمام في اللغة والعربية، وهمام في الفئة الأدبية، وله في ذلك أوضاع، لأفهام أخلافها استدرار واسترضاع، حررها تحريراً، وأعاد طرف الذكاء بها قريراً، وكان منقطعاً إلى الموفق صاحب دانية، وبها أدرك أمانيه، ووجد تجرده للعلم وفراغه، وتفرد بتلك الإراغة، ولا سيما كتابه المسمى بالمحكم، فإنه أبدع كتاب (2) وأحكم، ولما مات الموفق رائش جناحه، ومثبت غرره وأوضاحه، خاف من ابنه إقبال الدولة، وأطاف به مكروهاً (3) بعض من كان حوله، إذ أهل الطلب كحيات مساورة، ففر إلى بعض الأعمال المجاورة، وكتب إليه منها مستعطفاً: ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيل فإنّ الأمن في ذلك واليمنا فتنضى همومٌ طلّحته خطوبها ... ولا غارباً يبقين منه ولا متنا غريبٌ نأى أهلوه عنه وشفّه ... هواهم فأمسى لا يقرّ ولا يهنا فيا ملك الأملاك إني محلأ ... عن الورد لا عنه أذاد ولا أدنى تحققت مكروهاً فأقبلت شاكياً ... لعمري أمأذونٌ لعبدك أن يعنى وإن تتأكد في دمي لك نيةٌ ... فإني سيف لا أحبّ له جفنا إذا ما غدا من حرّ سيفك بارداً ... فقدماً غدا من برد نعماكم سخنا وهل هي إلاّ ساعةٌ ثمّ بعدها ... ستقرع ما عمّرت من ندمٍ سنّا

_ (1) المطمح: 60. (2) المطمح: كتاب في اللغة؛ م: في فنه. (3) المطمح: مكروه.

ومالي من دهري حياةٌ ألذّها ... فتجعلها نعمى عليّ وتمتنّا إذا ميتةٌ أرضتك عنّا فهاتها ... حبيبٌ إلينا ما رضيت به عنّا وقال الفقيه أبو محمد غانم بن الوليد الأندلسي المخزومي المالقي (1) : صيّر فؤادك للمحبوب منزلةً ... سمّ الخياط مجالٌ للمحبيّن ولا تسامح بغيضاً في معاشرةٍ ... فقلّما تسع الدنيا بغيضين وله: الصبر أولى بوقار الفتى ... من قلق يهتك ستر الوقار من لزم الصبر على حالةٍ ... كان على أيّامه بالخيار وقال في المطمح فيه: إنّه عالم متفرس، وفقيه مدرس، وأستاذ متجرد (2) ، وإمام لأهل الأندلس مجود، وأما الأدب فكان جل شرعته، ورأس بغيته، مع فضل وحسن طريقة، وجدٍ في جميع الأمور وحقيقة، انتهى. 5 - وقال المحدث الحافظ أبو عمر ابن عبد البر يوصي ابنه بمقصورة (3) : تجاف عن الدنيا وهوّن لقدرها ... ووفّ سبيل الدين بالعروة الوثقى

_ (1) المطمح: 60 - 61؛ وفي م لم يرو هذين البيتين له وأورد بدلهما قوله: أهل الحرابة والفساد من الورى ... يعزون في التشبيه للذكار مرآهم ذكراً إذا ما أبصروا ... فوق الجذوع وفي ذرى الأسوار لو عم فضل الله جملة خلقه ... ما كان أكثرهم من أهل النار وقوله: الصبر أولى بوقار الفتى ... واأولان وردا في ج 3: 265، 398، 447 والتاليان وردا في ج 3: 398. (2) المطمح: مجود. (3) المطمح: 62، وترجمة ابن عبد البر: 61.

وسارع بتقوى الله سرّاً وجهرةً ... فلا ذمة أقوى هديت من التقوى ولا تنس شكر الله في كلّ نعمةٍ ... يمنّ بها فالشكر مستجلب النّعمى فدع عنك ما لا حظّ فيه لعاقلٍ ... فإن طريق الحقّ أبلج لا يخفى وشح بأيّامٍ بقين قلائلٍ ... وعمرٍ قصيرٍ لا يدوم ولا يبقى ألم تر أنّ العمر يمضي مولّياً ... فجدّته يبلى ومدّته تفنى نخوض ونلهو غفلةً وجهالةً ... وننشر أعمالاً وأعمارنا تطوى تواصلنا فيه الحوادث بالردى ... وتنتابنا فيه النوائب بالبلوى عجبت لنفسٍ تبصر الحقّ بيّناً ... لديها وتأبى أن تفارق ما تهوى وتسعى لما فيه عليها مضرّةٌ ... وقد علمت أن سوف تجزى بما تسعى ذنوبي أخشاها ولست بآيس ... وربّي أهلٌ أن يخاف وأن يرجى وإن كان ربي غافراً ذنب من يشا ... فإنّي لا أدري أأكرم أم أخزى وقال في المطمح (1) : الفقيه الإمام العالم الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، إمام الأندلس وعالمها، الذي التاحت به معالمها، صحح المتن والسند، وميز المرسل من المسند، وفرق بين الموصول والقاطع، وكسا الملة منه نورٌ ساطع، حصر الرواة، وأحصى الضعفاء منهم والثقات، وجد في تصحيح السقيم، وجدد منه ما كان كالكهف والرقيم، مع معلنات العلل، وإرهاف ذلك العلل، والتنبيه والتوقيف، والإتقان والتثقيف، وشرح المقفل، واستدراك المغفل، وله فنون هي للشريعة رتاج، وفي مفرق الملة تاج، أشهرت للحديث ظبى، وفرعت لمعرفته ربى، وهبت لتفهمه شمال (2) وصبا، وشفت منه وصبا، وكان ثقة، والأنفس على تفضيله متفقة، وأما أدبه فلا تعبر

_ (1) م: وقال في حقه. (2) المطمح: شمالاً.

لجته، ولا تدحض حجته، وله شعر لم نجد منه إلا ما نفث به أنفة، وأقصى (1) فيه عن معرفة، فمن ذلك قوله - وقد دخل إشبيلية فلم يلق فيها مبرة، ولم يلق من أهلها تهلل أسرة، فأقام بها حتى أخلقه مقامه، وأطبقه اغتمامه، فارتحل وقال: تنكّر من كنّا نسرّ بقربه ... وعاد زعافاً بعدما كان سلسلا وحقّ لجارٍ لم يوافقه جاره ... ولا لاءمته الدار أن يتحوّلا بليت بحمصٍ والمقام ببلدةٍ ... طويلاً لعمري مخلقٌ يورث البلى إذا هان حرٌّ عند قومٍ أتاهم ... ولم ينأ عنهم كان أعمى وأجهلا ولم تضرب الأمثال إلا لعالم ... وما عوتب الإنسان إلا ليعقلا 6 - وقال الفقيه أبو بكر ابن أبي الدوس (2) : إليك أبا يحيى مددت يد المنى ... وقدماً غدت عن جود غيرك تقبض وكانت كنور العين يلمع بالدجى ... فلمّا دعاه الصبح لبّاه ينهض وقال في المطمح: إنه من أبدع الناس خطاً، وأصحهم نقلاً وضبطاً، اشتهر بالإقراء، واقتصر بذلك على الأمراء، ولم ينحط لسواهم، ومطل الناس بذلك ولواهم، وكان كثير التحول، عظيم التجول، لا يستقر في بلد، ولا يستظهر على حرمانه بجاد، فقذفته النوى، وطردته عن كل ثوا، ثم استقر آخر عمره بأغمات، وبها مات، وكان له شعر بديع يصونه أبداً، ولا يمد به يداً. أخبرني من (3) دخل عليه بالمرية فرآه في غاية الإملاق، وهو في ثياب أخلاق، وقد توارى في منزله تواري المذنب، وقعد عن الناس قعود

_ (1) المطمح: وأوصى. (2) المطمح: 64؛ وفي ق: ابن الدودس، وانظر ارجمته في المطمح: 63. (3) م: أخبرني في من أثق به أنه.

مجتنب، فلما علم ما هو فيه، وترفعه عمن يجتديه، عاتبه في ذلك الاعتزال، وآخذه حتى استنزله بفيض الاستنزال، وقال له: هلا كتبت إلى المعتصم، فما في ذلك ما يصم، فكتب إليه: إليك أبا يحيى مددت يد المنى - البيتين، انتهى. 7 - وقال الفقيه القاضي الفاضل أبو الفضل ابن الأعلم (1) ، حين اقلع وأناب، وودع ذلك الجناب، وتزهد وتنسك، وتمسك من طاعة الله بما تمسك، وتذكر يوماً يتجرد من أمله، وينفرد فيه بعمله: الموت يشغل ذكره ... عن كل معلومٍ سواه فاعمر له ربع ادّكا ... رك في العشيّة والغداه واكحل به طرف اعتبا ... رك طول أيام الحياه قبل ارتكاض النفس ما ... بين الترائب واللهاه فيقال هذا جعفرٌ ... رهنٌ بما كسبت يداه عصفت به ريح المنو ... ن فصيرته كما تراه فضعوه في أكفانه ... ودعوه يجني ما جناه وتمتّعوا بمتا ... هـ المخزون واحووا ما حواه يا منظراً مستبشعاً ... بلغ الكتاب به مداه لقّيت فيه بشارةً ... تشفي فؤادي من جواه ولقيت بعدك خير من ... نبّاه ربي واجتباه في دار خفضٍ ما اشتهت ... نفس المقيم بها أتاه وقال في المطمح: إنه كهل الطريقة، وفتى الحقيقة، تدرع الصيانة،

_ (1) المطمح: 66، وتبدأ ترجمته ص: 64.

وبرع في الورع والديانة، وتماسك عن الدنيا عفافاً، وما تماسك (1) التماساً بأهلها والتفافاً، فاعتقل النهى، وتنقل في مراتبها حتى استقر فيها في السها، وعطل أيام الشباب، ومطل فيها سعاد وزينب والرباب، إلا ساعات وقفها على المدام، وعطفها إلى الندام، حتى تخلى عن ذلك واترك، وأدرك من المعلومات ما أدرك، وتعرى من الشبهات، وسرى إلى الرشد مستيقظاُ من تلك السنات، وله تصرف في شتى الفنون، وتقدم في معرفة المفروض والمسنون، وأما الأدب فلم يجاره في ميدانه أحد، ولا استولى على إحسانه فيه حصر ولا حد، وجده أبو الحجاج الأعلم هو خلّد منه ما خلّد، ومنه تقلد ما تقلد، وقد أثبت لأبي الفضل هذا ما يسقيك ماء الإحسان زلالاً، ويريك سحر البيان حلالاً، فمن ذلك ما كتب به إلي، وقد مررت على شنت مرية بعدما رحل عنها وانتقل، واعتقل من نوانا (2) وبيننا ما اعتقل، وشنت مرية هذه داره، وبها كمل هلاله وإبداره، وفيها استقضي، وشيم مضاؤه وانتضي، فالتقينا بها على ظهر، وتعاطينا ذكر ذلك الدهر، فجددت من شوقه، ما كان قد شب عن طوقه، فرامني على الإقامة، وسامني على ذلك بكل كرامة، فأبيت إلا النوى وانثنيت عن الثوا، فودعني، ودفع إلي تلك القطعة حين شيعني: بشراي أطلعت السعود على ... آفاق أنسي بدرها كملا وكسا أديم الأرض منه سناً ... فكست بسائطها به حللاً إيه أبا نصرٍ، وكم زمنٍ ... قصر ادكارك عندي الأملا هل تذكرن والعهد يخجلني ... هل تذكرن أيامنا الأولا أيام نعثر في أعنّتنا ... ونجرّ من أبرادنا خيلا ونحل روض الأنس مؤتنفاً ... وتحلّ شمس مرادنا الحملا

_ (1) المطمح: وما تمالك. (2) ب: ثواناً.

ونرى ليالينا مساعفة ... تدعو إلينا رفقنا الجفلى زمنٌ نقول على تذكره ... ما تم حتى قيل قد رحلا عرضت لزورتكم وما عرضت ... إلاّ لتمحق كلّ ما فعلا ووافيته عشية من العشايا أيام ائتلافنا، وعودنا إلى مجلس الطلب واختلافنا، فرأيته مستشرفاً متطلعاُ، يرتاد موضعاً يقيم به لثغور الأنس مرتشفاً ولثديه مرتضعاً، فحين مقلني (1) ، تقلدني إليه واعتقلني، وملنا إلى روضة قد سندس الربيع في بساطها ودمج الدهر وأنك أوساطها أشعرت النفوس فيها سرورها وانبساطها، فأقمنا بها نتعاطى كؤوس أخبار، ونتهادى أحاديث جهابذة وأخبار، إلى أن نثر زعفران العشي، وأذهب الأنس خوف العالم الوحشي، فقمت وقام، وعوج الرعب من ألسنتنا ما كان استقام، وقال: وعشيّة كالسيف إلاّ حده ... بسط الربيع بها لنعلي خدّه عاطيت كأس الأنس فيها واحداً ... ما ضرّه أن كان جمعاً وحده وتنزه يوماً بحديقة من حدائق الحضرة قد اطرد نهرها، وتوقد زهرها، والريح يسقطه فينظم بلبّة الماء، ويبتسم به فتخاله كصفحة خضرة السماء، فقال: انظر إلى الأزهار كيف تطلعت ... بسماوة الروض المجود نجومها وتساقطت فكأنّ مسترقاً دنا ... للسمع فانقضّت عليه رجوما وإلى مسيل الماء قد رقمت به ... صنع الرياح من الحباب رقوما ترمي الرياح لها نثيراً زهره ... فتمده في شاطئيه رقيما وله يصف قلم يراعة، وبرع في صفته أعظم براعة:

_ (1) ب: رمقني.

ومهفهفٍ ذلق صليب المكسر ... سببٌ لنيل المطلب المتعذّر متألّقٌ تنبيك صفرة لونه ... بقديم صحبته لآل الأصفر ما ضره أن كان كعب يراعةٍ ... وبحكمه اطّردت كعوب السّمهري له عندما شارف الكهولة، واستأنف قطع صرة كانت موصولة: أمّا أنا فقد ارعويت عن الصّبا ... وعضضت من ندم عليه بناني فأطعت نصّاحي وربّ نصيحةٍ ... جاءوا بها فلججت في العصيان أيام أسحب من ذيول شبيبتي ... مرحاً وأعثر في فضول عناني وأجلّ كأسي أن ترى موضوعةً ... فعلى يدي أو في يدي ندماني أيام أحيا بالغواني والغنا ... وأموت بين الراح والريحان في فتيةٍ فرضوا اتصال هواهم ... فمناهم دنٌّ من الأدنان هزّت علاهم أريحيّات الصّبا ... فهي النسيم وهم غصون البان من كلّ مخلوع الأعنّة لم يبل ... في غيّه بمصارف الأزمان إلى أن قال: ومن نثره يصف فرساً: انظر إليه سليم الأديم، كريم القديم، كأنما نشأ بين الغبراء واليحموم (1) ، نجمٌ إذا بدا، ووهمٌ إذا عدا، يستقبل بغزال، ويستدبر برال، ويتحلى بشيات (2) تقسيمات الجمال. وله يصف سرجاً: بزة جياد، ومركب أجواد، جميل الظاهر، رحيب ما بين القادمة والآخر، كأنما قد من الخدود أديمه، واختص بإتقان الحبك تقويمه. وله في وصف لجام: متناسب الأشلاء، صريح الانتماء، إلى ثريا السماء، فكله نكال، وسائره جمال.

_ (1) م ب: والنجوم. (2) ب: شبيهات؛ والمطمح: بشتات.

وله في وصف رمح: مطرد الكعوب، صحيح اتصال الغالب والمغلوب، أخ ينوب كلما استنيب ويصيب. وله في وصف قميص: كافوري الأديم، بابلي الرسوم، تباشر منه الجسوم، ما يباشر الروض من النسيم. وله في وصف بغل: مقرف (1) النسب، مستخبر الشرف آمن الكبب، إن ركب امتنع اعتماله، أو ركب استقل به أخواله. وله في وصف حمار: وثيق المفاصل، عتيق النهضة إذا ونت المراسل، انتهى ببعض اختصار. 8 - وقال الأديب الشاعر ابو عمر (2) يوسف بن هرون الكندي، المعروف بالرمادي (3) : أومى لتقبيل البساط خنوعا ... فوضعت خدّي في التراب خضوعا ما كان مذهبه الخنوع لعبده ... إلاّ زيادة قلبه تقطيعا قولوا لمن أخذ الفؤاد مسلّماً ... يمنن عليّ بردّه مصدوعا العبد قد يعصي، وأحلف أنني ... ما كنت إلاّ سامعاً ومطيعا مولاي يحيى في حياةٍ كاسمه ... وأنا أموت صبابةً وولوعا لا تنكروا غيث الدموع فكلّ ما ... ينحلّ من جسمي يكون دموعا والرمادي المذكور عرف به غير واحد، منهم الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتابه " جذوة المقتبس " وقال (4) : أظن أن أحد آبائه كان من أهل الرمادة، وهي موضع بالمغرب، وهو قرطبي، كثير الشعر، سريع القول، مشهور عند

_ (1) م ق ب: مترف. (2) ق: ابو عمرو. (3) المطمح: 71. (4) جذوة المقتبس: 346.

الخاصة والعامة هنالك، لسلوكه في فنون من المنظور والمنثور مسالك، حتى كان كثير من شيوخ الأدب في وقته يقولون: فتح الشعر بكندة وفتح في كنده، يعنون امرأ القيس والمتنبي ويوسف بن هرون، على أن في كون المتنبي من كندة القبيلة كلاماً مشهوراً. وأخذ أبو عمر ابن عبد البر عن الرمادي هذا قطعة من شعره، وضمنها بعض تأليفه. قال ابن حيان: توفي الرمادي سنة 403، وذكر ابن سعيد في " المغرب " ان الرمادي اكتسب صناعة الأدب من شيخه أبي بكر يحيى بن هذيل الكفيف عالم أدباء الأندلس، وهو القائل رحمه الله تعالى: لا تلمني على الوقوف بدارٍ ... أهلها صيّروا السّقام ضجيعي جعلوا لي إلى هواهم سبيلاً ... ثمّ سدّوا عليّ باب الرجوع وروى الرمادي عن أبي علي كتاب " النوادر " ومدح أبا علي بقصيدة كما أشرنا إليه في غير هذا الموضع. وقال في المطمح (1) : إنه شاعر مفلق، انفرج له من الصناعة المغلق، وومض له برقها المؤتلق، وسال بها طبعه كالماء المندفق، فأجمع على تفضيله المختلف والمتفق، فتارة يحزن وأخرى يسهل، وفي كلتيهما بالبديع يعل وينهل، فاشتهر عند الخاصة والعامة بانطباعه في الفريقين، وإبداعه في الطريقين، وكان هو وأبو الطيب متعاصرين، وعلى الصناعة متغايرين، وكلاهما من كندة، وما منهما إلا من اقتدح في الإحسان زنده وتمادى بأبي عمر (2) ، طلق العمرحتى أفرده صاحبه ونديمه، وهريق شبابه واستشن أديمه،

_ (1) المطمح: 69. (2) ق ب والمطمح: عمرو.

ففارق تلك الأيام وبهجتها، وأدرك الفتنة فخاض لجتها، وأقام فرقاً من هيجانها، شرقاًبأشجانها، ولحقته فيها فاقة نهكته، وبعدت عنه الإفاقة حتى أهلكته، وقد أثبت من محاسنه ما يعجبك سرده، ولا يمكنك نقده، فمن ذلك قوله: شطّت نواهم بشمسٍ في هوادجهم ... لولا تلألؤها في ليلهنّ عشوا شكت محاسنها عيني وقد غدرت ... لأنّها بضمير القلب تنجمش شعرٌ ووجهٌ تبارى في اختلافهما ... بحسن هذا وذاك الروم والحبش شككت في سقمي منها أفي فرشي ... منها نكست وإلاّ الطيف والفرش إلى أن قال: وكان كلفاً بفتىً نصراني استسهل (1) لباس زناره، والخلود معه في ناره، وخلع بروده لمسوحه، وتسوغ الأخذ عن مسيحه (2) ، وراح في بيعته، وغدا من شيعته، ولم يشرب نصيبه، حتى حط عليه صليبه، فقال: أدرها مثل ريقك ثم صلّب ... كعادتهم (3) على وهمي وكاسي فيقضى ماأمرت به اجتلاباً ... لمسروري وزاد خضوع (4) راسي وله في مثله: ورأيت فوق النّحر در ... عاً فاقعاً من زعفران فزجرته لوناً سقا ... مي بالنوى، والزّجر شاني يامن نأى عنّي كما ... تنأى العيون (5) الفرقدان فأرى بعيني الفرقدي ... ن ولا أراه ولا يراني

_ (1) المطمح: استحسن. (2) خطأ في الأصلين؛ وأثبتنا عبارة المطمح. (3) المطمح: كعادتكم. (4) المطمح: فقضى ... خنوع؛ م: خنوع. (5) المطمح: ينأى لعيني.

لا قدرت لك أوبة ... حتى يؤوب القارظان هل ثم إلا الموت فر ... داً لاتكون منيتان وله أيضاً: اشرب الكاس يا نصير وهات ... إن هذا النهار من حسناتي بأبي غرة ترى الشخص فيها ... في صفاء أصفى من المرآة تنزع (1) الناس نحوها بازدحام ... كازدحام الحجيج في عرفات هاتها يا نصير إنا اجتمعنا ... بقلوب في الدين مختلفات إنما نحن في مجالس لهو ... نشرب الراح ثم أنت مواتي فإذا ما انقضت دنانة ذا الله ... و (2) اعتمدنا مواضع الصلوات لو مضى الدهر دون راح وقصف ... لعددنا هذا من السيئات وشاعت عنه أشعار في دولة الخلافة (3) وأهلها، سدد إليهم صائبات نبلها، وسقاهم كؤوس نهلها، أوغرت عليه الصدور، ونفرت (4) عليه المنايا ولكن لم يساعدها المقدور، فسجنه الخليفة دهراً، وأسكنه (5) من النكبة وعراً، فاستعطفه أثناء ذلك واستلطفه، وأجناه كل زهر من الاحسان وأقطفه، فما أصغى إليه، ولا ألغى موجدته عليه، وله في السجن أشعار صرح فيها ببثه، وأفصح فيها عن جل الخطب لفقد صبره ونكثه، فمن ذلك قوله: لك الأمن من شجو يزيد تشوقي ...

_ (1) ق: تنزح؛ والمطمح: تسرع؛ م: تترع. (2) المطمح: دنان على اللهو؛ م: ذنانات ذا اللهو. (3) المطمح: الخليفة. (4) المطمح: وفغرت. (5) المطمح: وأسلكه.

ومنها: فوافوا بنا الزهراء في حال خالع ال ... أئمة (1) لاستيفائهم في التوثق وحولي من أهل التأدب مأتم ... ولا جؤذر إلا بثوب مشقق فلو أن في عيني الحمام كروضها ... وإن كان في ألوانه غير مشفق ونادى حمامي مهجتي لتقلقلت (2) ... فهلا أجابت وهو عندي لمحنق أعيني إن كانت لدمعي فضلة ... تثبت صبري ساعة فتدفقي فلو ساعدت ثالث أمن عدة الأمس ... تنقت دمومي أم من البحر تستقي ومنها: وقالت تظن الدهر يجمع بيننا ... فقلت لها من لي بظن محقق ولكنني فيما زجرت بمقلتي ... زجرت اجتماع الشمل بعد التفرق فقد كانت الأشفار في مثل بعدنا ... فلما التقت بالطيف قالت سنلتقي أباكية يوما ولم يأتي وقته ... سينفد قبل اليوم دمعك فارفقي إلى أن قال: وله أيضاً: على كبري تهمي السحاب وتذرف ... ومن جزعي تبكي الحمام وتهتف كأن السحاب الواكفات غواسلي ... وتلك على فقدي نوائح هتف ألا ظعنت ليلى وبان قطينها ... ولكنني باق فلوموا وعنفوا وآنست في وجه الصباح لبينها ... نحولاً كأن الصبح مثلي مدنف وأقرب عهد رشفة بلت الحشا ... فعاد شتاء بارداً وهو صيف وكانت على خوف فولت كأنها ... من الردف في قيد الخلاخل ترسف

_ (1) المطمح: حلة ثلائم. (2) المطمح: فتغافلت.

وله: قبلته قدام قسيسه ... شربت كاسات بتقديسه يقرع قلبي عند ذكري له ... من فرط شوقي قرع ناقوسه وسجن معه غلام من أولاد العبيد فيه مجال، وفي نفس متأمله من لوعته أوجال، فكتب يخاطب الموكل بالسجن بقطعة منها: جليسك ممن أتلف الحب قلبه ... ويلذع قلبي حرقة دونها الجمر هلال وفي غير السماء طلوعه ... وريم ولكن ليس مسكنه القفر تأملت عينيه فخامرني السكر ... ولا شك في أن العيون هي الخمر أناطقه كيما يقول، وإنما ... أناطقه عمداً لينتثر الدر أنا عبده وهو المليك كما اسمه ... فلي منه شطر كامل وله شطر انتهى باختصار. 9 - وقال محمد بن هانئ (1) : قد مررنا على مغانيك تلك ... فرأينا بها مشابه منك عارضتنا المها الخواذل سرباً ... عند أجراعها فلم نسل عنك لا يرع للمها بذكرك سرب ... أشبهتك في الوصف إن لم تكنك كن عذيري لقد رأيت معاجي ... يوم تبكي بالجزع ولهى (2) وأبكي بحنين مرجع وتشك ... وأنين موجع كتشكي وقال صاحب المطمح في حقه: الأديب أبو القاسم محمد بن هانئ، ذخر (3)

_ (1) المطمح: 77، وترجمته ص: 74. (2) المطمح: وجداً. (3) المطمح: علق.

خطير، وروض أدب مطير، غاص في طلب الغريب حتى أخرج دره المكنون، وبهرج بافتنانه فيه كل الفنون، وله نظم تتمنى الثريا أن تتوج به وتتقلد، ويود البدر أن يكتب ما اخترع فيه وولد، زهت به الأندلس وتاهت، وحاسنت ببدائعه الأشمس وباهت، فحسد المغرب فيه المشرق، وغص به من بالعراق وشرق، غير أنه نبت به أكنافها، وشمخت عليه آنافها، وبرئت منه، وزويت الخيرات فيها عنه، لأنه سلك مسلك المعري، وتجرد من التدين وعري، وأبدى الغلو، وتعدى الحق المجلو، فمجته الأنفس، وأزعجته الأندلس، فخرج على غير اختيار، وما عرج على هذه الديار، إلى أن وصل الزاب واتصل بجعفر ابن الأندلسية، مأوى تلك الجنسية، فناهيك من سعد ورد عليه فكرع، ومن باب ولج فيه وما قرع، فاسترجع عنده شبابه، وانتجع وبله وربابه، وتلقاه بتأهيل ورحب، وسقاه صوب تلك السحب، فأفرط في مدحه فيه في الغلو وزاد، وفرغ عنده تلك المزاد، ولم يتورع، ولا ثناه ذو ورع، وله بدائع يتحير فيها ويحار، ويخال لرقتها أنها أسحار، فغنه اعتمد التهذيب والتحرير، واتبع في أغراضه الفرزدق مع جرير، وأما تشبيهاته فخرق فيها المعتاد، وما شاء منها اقتاد، وقد أثبت له ما تحن له الأسماع، ولا تتمكن منه الأطماع، فمن ذلك قوله: أليلتنا إذ أرسلت وارداً وحفا ... وبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا وبات لنا ساق يقوم على الدجى ... بشمعة صبح لاتقط ولاتطفا أغن غضيض خفف اللين قده ... وثقلت الصهباء أجفانه الوطفا ولم يبق إرعاش المدام له يداً ... ولم يبق إعنات التثني له عطفا نزيف نضاه السكر إلا ارتجاجة ... إذا كل عنها الخصر حملها الردفا يقولون حقف فوقه خيزرانة ... أما يعرفون الخيزرانة والحقفا جعلنا حشايانا ثياب مدامنا ... وقدت لنا الأزهار من جلدها لحفا

فمن كبد توحي إلى كبد هوى ... ومن شفة تومي إلى شفة رشفا ومنها: كأن السماكين اللذين تراهما ... على لبنتيه ضامنان له حتفا فذا رامح يهوي إليه سنانه ... وذا أعزل قد عض أنمله لهفا كأن سهيلاً في مطالع أفقه ... مفارق إلف لم يجد بعده إلفا كأن بني نعش ونعشاً مطافل ... بوجزة قد أضللن في مهمه خشفا كأن سهاها عاشق بين عود ... فآونة يبدو وآونة يخفى كأن قدامى النسر والنسر واقع ... قصصن فلم تسم الخوافي له ضعفا كان أخاه حين حوم طائر ... أتى دون نصف البدر فاختطف النصفا كان ظلام الليل إذ مال ميلة ... صريع مدام بات يشربها صرفا كأن عمود الصبح خاقان معشر ... من الترك نادى بالنجاشي فاستخفى كأن لواء الشمس غرة جعفر ... رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا (1) وله أيضاً: فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمدكم فلق الصباح المسفر وجنيتم ثمر الوقائع يانعاً ... بالنصر من علق (2) الحديد الأحمر أبني العوالي السمهرية والسيو ... ف المشرفية والعديد الأكثر من منكم الملك المطاع كأنه ... تحت السوابغ تبع في حمير جيش تعد له الليوث وفوقها ... كالغيل من قصب الوشيج الأخضر وكأنما سلب القشاعم ريشها ... مما يشق من العجاج الأكدر لحق القبول مع الدبور وسار في ... جمع الهرقل وعزمة الإسكندر

_ (1) المطمح: لطفاً. (2) المطمح: ورق.

في فتية صدأ الحديد لباسهم ... في عبقري البيض جنة عبقر وكفاه من حب السماحة أنه ... منها بموضع مقلة من محجر ومنها: نعماؤه من رحمة، ولباسه ... من جنة، وعطاؤه من كوثر وله أيضاً من قصيدة في جعفر بن علي: ألا أيها الوادي المقدس بالندى (1) ... وأهل الندى قلبي إليك مشوق ويا أيها القصر المنيف قبابه ... على الزاب لايسدد إليك طريق ويا ملك الزاب الرفيع عماده ... بقيت لجمع المجد وهو فريق فما أنس لاأنس الأمير إذا غدا ... تروع بحوراً فلكه وتروق (2) ولا الجود يجري من صفيحة وجهه ... إذا كان من ذاك الجبين شروق وهزته للمجد حتى كأنما ... جرت في سجاياه العذاب رحيق أما وأبي تلك الشمائل إنها ... دليل على أن النجار عتيق فكيف بصبر النفس عنه ودونه ... من الأرض مغبر الفجاج عميق فكن كيف شاء الناس أو شئت دائماً ... فليس لهذا الملك غيرك فوق ولا تشكر الدنيا على نيل رتبة ... فما نلتها إلا وأنت حقيق وله من أخرى: خليلي أين الزاب مني وجعفر ... وجنات عدن بنت عنها وكوثر فقبلي نأى عن جنة الخلد آدم ... فما راقه من جانب الأرض منظر لقد سرني أني أمر بباله ... فيخبرني عنه (3) بذلك مخبر

_ (1) المطمح: بالطوى. (2) هذا الشطر مضطرب في الأصل، ولا يزال - على التصويب - قلقاً. (3) ب: فيخبره عني.

وقد ساءني أني أراه ببلدة ... بها منسك منه عظيم ومشعر وقد كان لي منه شفيع مشفع ... به يمحص به الله الذنوب ويغفر أتى الناس أفواجاً إليك كأنما ... من الزاب بيت أو من الزاب محشر فأنت لمن مزق الله شمله ... ومعشره والأهل أهل ومعشر وله أيضاً: ألا طرقتنا والنجوم ركود ... وفي الحي أيقاظ وهن هجود وقد أعجل الفجر الملمع خطوها ... وفي أخريات الليل منه عمود سرت عاطلاً غضبي على الدر وحده ... ولم يدر نحر ما دهاه وجيد فما برحت إلا ومن سلك أدمعي ... قلائد في لباتها وعقود ويا حسنها في يوم نضت سوالفاً ... تريع إلى أترابها وتحيد ألم يأتها أنا كبرنا عن الصبا ... وأنا بلينا والزمان جديد ولا كالليالي ما لهن مواثق ... ولا كالغواني ما لهن عهود ولا كالمعز ابن النبي خليفة ... له الله بالفخر المبين شهيد وله من قصيدة يمدح بها يحيى بن علي بن رمان: قفا بي فلا مسرى سرينا ولانسري ... وإلا نرى مشي القطا الوارد الكدر قفا نتبين أين ذا البرق منهم ... ومن أين تأتي الريح طيبة النشر لعل ثري الوادي الذي كنت مرة ... أزورهم فيه تضوع للسفر وإلافما واد يسيل بعنبر ... وإلا فما تدري الركاب ولا ندري أكل الناس بالصبر لم تظنه ... كناس الظباء الدعج والشدن العفر وهل عجبوا ألي أسئل عنهم ... وهم بين أحناء الجوانح والصدر وهل علموا أني أيمم أرضهم ... وما لي بها غير التعسف من خبر ولي سكن تأتي الحوادث دونه ... فيبعد عن عيني ويقرب من فكري

إذا ذكرته النفس جاشت بذكره ... كما عثر الساقي بجام من الخمر فلا تسألاني عن زماني الذي خلا ... فوالعصر إني قبل يحيى لفي خسر وآليت لا أعطي الزمان مقادتي ... على مثل يحيى ثم أغضي على الوتر حنيني إليه ظاعناً ومخيماً ... وليس حنين الطير إلا إلى الوكر وله من قصيدة: فتكات طرفك أم سيوف أبيك ... وكؤوس خمرك أم مراشف فيك أجلاد مرهفة وفتك محاجر ... لا أنت راحمة ولا أهلوك يا بنت ذي السيف الطويل نجاده ... أكذا يجوز الحكم في ناديك عيناك أم مغناك موعدنا، على ... وادي الكرى ألقاك أم واديك وله أيضاً: أحبب بهاتيك القباب قبابا ... لا بالحداة ولا الركاب ركابا فيها قلوب العاشقين تخالها ... عنماً بأيدي البيض أو عنابا والله لولا أن يعنفني الهوى ... ويقول بعض العاذلين تصابى لكسرت دملجها بضيق عناقها ... ورشفت من فيها البرود رضابا بنتم فلولا أن أغير لمتي ... عبثاً وألقاكم علي غضابا لخضبت شيباً في مفارق لمتي ... ومحوت محو النفس عنه شبابا وخضبت مبيض الحداد عليكم ... لو أنني أجد البياض خضابا وإذا أردت على المشيب وفادةً ... فاحثث مطيك دونه الأحقابا فلتأخذن من الزمان حمامةً ... ولتبعثن إلى الزمان غرابا ومنها: قد طيب الأقطار طيب ثنائه ... من أجل ذا نجد الثغور عذابا ام تدنني أرض إليك وإنما ... جئت السماء ففتحت أبوابا

ورأيت حولي وفد كل قبيلة ... حتى توهمت العراق الزابا أرض وطئت الدر من رضراضها ... والمسك ترباً والرياض جنابا ورأيت أجبل أرضها منقادةً ... فحسبتها مدت إليك رقابا سد الإمام بها الثغور وقبلها ... هزم النبي بقومك الأحزابا وقال ابن هانئ يصف الأسطول: معطفة الأعناق نحو متونها ... كما نبهت أيدي الحواة الأفاعيا إذا ما وردن الماء شوقاً لبرده ... صدرن ولم يشربن غرفاً صواديا إذا أعملوا فيها المجاذيف سرعةً ... ترى عقرباً منها على الماء ماشيا 10 - وقال الأديب أبو عمر أحمد بن فرج الجياني رحمه الله تعالى (1) : وطائعة الوصال عدوت عنها ... وما الشيطان فيها بالمطاع بدت في الليل سائرة ظلام ال ... دياجي منه (2) سافرة القناع وما من لحظة إلا وفيها ... إلى فتن القلوب لها دواعي فملكت النهى جمحات (3) شوقي ... لأجرى بالعفاف على طباعي وبت بها مبيت الطفل يظما ... فيمنعه الفطام عن الرضاع كذاك الروض ليس به لمثلي ... سوى نظر وشم من متاع ولست من السوائم مهملات ... فأتخذ الرياض من المراعي وقال: للروض حسن فقف عليه ... واصرف عنان الهوى إليه

_ (1) المطمح: 80، وقد سقطت القطعة من ب م، وألحقت التالية باشعار ابن هانئ؛ وانظرها في ج 3: 196. (2) ق: ظلام الليالي وهي؛ المطمح: ساترة دياجي ظلام الليل. (3) ق: حجاج.

أما ترى نرجساً نضيراً ... يرنو إليه بمقلتيه نشر حبيبي على رباه ... وصفرتي فوق وجنتيه وقال: بمهلكة يستهلك الحمد عفوها ... ويترك شمل العزم وهو مبدد ترى عاصف الأرواح فيها كأنها ... من الأين تمشي ظالع أو مقيد وقال فيه في المطمح: محرز الخصل، مبرز في كل معنى وفصل (1) ، متميز بالإحسان، منتم إلى فئة البيان، ذكي الخلد مع قوة العارضة، والمنة الناهضة، حضر مجلس بعض القضاة وكان مشتهراً لضبط منتهراً (2) لمن انبسط فيه بعض البسط، حتى إن أهله لايتكلمون فيه إلارمزاً، ولا يخاطبون إلا إيماء فلا تسمع لهم ركزاً، فكلم فيه خصماً له كلاماً استطال به عليه لفضل بيانه، وطلاقة لسانه، ففارق عادة المجلس في رفض الأنفة، وخفض الحجة المؤتنفة، وهز عطفه وحسر عن ساعده، وأشار بيده، ماداً بها لوجه خصمه، خارجاً عن حد المجلس ورسمه، فهم الأعوان بتقويمه وتثقيفه، ووزعهم رهبة منه وخشية، حتى تناوله القاضي بنفسه، وقال له: مهلاً عافاك الله اخفض صوتك، واقبض يدك، ولاتفارق مركزك، ولا تعد حقك، وأقصر عن إدلالك (3) ، فقال له: مهلاً يا قاضي، أمن المخدرات أنا فأخفض صوتي وأستر يدي، وأغطي معاصمي لديك أم من الأنبياء أنت فلا يجهر بالقول عندك وذلك لم يجعله الله تعالى إلا لرسوله عليه الصلاة والسلام، لقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لاترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي -

_ (1) المطمح: وفضل. (2) في الأصول والمطمح: مشهراً. (3) المطمح: انتمائك وإدلالك.

إلى قوله: لاتشعرن. ولست به ولاكرامة، وقد ذكر الله تعالى أن النفوس تجادل في القيامة في موقف الهول الذي لايعد له مقام، ولايشبه انتقامه انتقام، فقال تعالى: يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، إلى قوله: وهم لايظلمون. لقد تعديت طورك، وعلوت في منزلك (1) ، وإنما البيان، بعبارة اللسان، وبالنطق يستبين الحق من الباطل، ولابد في الخصام، من إفصاح الكلام. وقام وانصرف. فبهت القاضي، ولم يحر جواباً. وكان في الدولة صدراً من أعيانها، وناسق درر تبيانها، ونفق في سوقها وصنف، وقرط محاسنها وشنف، وله الكتاب الرائق، المسمى بالحدائق، وأدركه في الدولة سعي، ورفض له فيها الرعي، واعتقله الخليفة وأوثقه في مكان أخيه فلم يومض له عفو، ولم يشب كدر حاله صفو، حتى قضى معتقلاً، ونعي للنائبات نعياً مثكلاً، وله في السجن أشعار كثيرة، وأقوال مبدعات منيرة، فمن ذلك ما أنشده ابن حزم يصف خيالاً طرقه، بعدما أسهره الوجد وأرقه: بأيهما أنا في الشكر بادي ... بشكر الطيف أم شكر الرقاد سرى وازداد في أملي ولكن ... عففت فلم أجد منه مرادي وما في النوم من حرج ولكن ... جريت من العفاف على اعتيادي 11 - وقال الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن الحداد (2) : يا غائباً خطرات القلب محضره ... الصبر بعدك شيء لست أقدره تركت قلبي وأشواقي تفطره ... ودمع عيني وأحداقي تحدره لو كنت تبصر في تدمير حالتنا ... إذن لأشفقت مما كنت تبصره

_ (1) المطمح: منزلتك. (2) المطمح: 81؛ وترجمته ص: 80 - 83.

فالعين دونك لاتحلى بلذتها ... والدهر بعدك لايصفو تكدره أخفي أشتياقي وما أطويه من أسف ... عن البرية والأنفاس تظهره قال في المطمح: هو شاعر مادح وعلىأيك الندى صارح ولم ينطفه إلا معن (1) أوصمادح.فلم يرم ينتجع سواهما واقتصر على المرية. واختصر قطع المهامة وخوض البرية فعكف فيها ينثر دره في ذللك المنتدى شف أبداً ثغور ذلك الندى، مع تميزه بالعلم، وتحيزه إلى فئة الوقار والحلم، وانتمائه إلى آية سلف، ومذهبه مذاهب أهل الشرف، وكان له لسن ورواء يشهدان له بالنباهة، ويقلدان كاهله ما شاء من الوجاهة، وقد أثبت له بعض ما قذفه من درره، وفاه به من محاسن غرره؛ فمن ذلك قوله: إلى الموت رجعى بعد حين فإن أمت ... فقد خلدت خلد الزمان مناقبي وذكري في الآفاق طار كأنه ... بكل لسان طيب عذراء كاعب ففي أي علم لم تبرز سوابقي ... وفي أي فن لم تبرز كتائبي وحضر مجلس المعتصم بحضور ابن اللبانة فأنشد فيه قصيداً أبرز به من عرى الإحسان ما لم ينفصم واستمر فيها يستكمل بدائعها وقوافيها، فإذا هو قد أغار على قصيد ابن الحداد الذي أوله: عج بالحمى حيث الظباء (2) العين ... فقال ابن الحداد مرتجلاً: حاشا لعدلك يا ابن معن أن يرى ... في سلك غيري دري المكنون

_ (1) المطمح: جود معن. (2) المطمح: الخماص.

وإليكها تشكو استلاب مطيها ... عج بالحمى حيث الظباء العين فاحكم لها واقطع لساناً لا يداً ... فلسان من سرق القريض يمين وله: إن المدامع والزفير ... قد أعلنا ما في الضمير فعلام أخفي ظاهراً ... سقمي علي به ظهير هب لي الرضى من ساخط ... قلبي بساحته الأسير وله أيضاً: أيها الواصل هجري ... أنا في هجران صبري ليت شعري أي نفع ... لك في إدمان ضري وله أيضاً: يا مشبه الملك الجعدي تسميةً ... ومخجل القمر البدري أنواراً وله (1) : تطالبني نفسي بما فيه صونها ... فأعصي ويسطو شوقها فأطيعها ووالله ما يخفى علي ضلالها ... ولكنها تهوي فلا أستطيعها وقال: بخافقة القرطين قلبك خافق ... وعن خرس القلبين دمعك ناطق وفي مشرق الصدغين للبدر مغرب ... وللفكر حالات وللعين شارق وبين حصى الياقوت ماء وسامة ... محلأة عنه الظباء السوابق

_ (1) سقط البيتان من ق.

وحشو قباب الرقم أحوى مقرطق ... كما آس روض عطفه والقراطق انتهى باختصار. 12 - وقال الأسعد بن بليطة (1) : برامة ريم زارني بعدما شطا ... تقنصته بالحلم في الشط فاشتطا رعى من أفانين الهوى ثمر الحشا ... جنياً ولم يرع العهود ولا الشرطا خيال لمرقوم غرير برامة ... تأوبني بالرقمتين لدى الأرطى فأكسبني من خدها روضة الجنى ... وألدغني من صدغها حية رقطا وباتت ذراعاها نجاداً لعاتقي ... إذا ما التقاها الحلي غنى لها لغطا وسل اهتصاري غصنها من مخصر ... طواه الضنى طي الطوامير فامتطا وقد غاب كحل الليل (2) في دمع فجره ... إلى أن تبدى الصبح في اللمة الشمطا ومنها في وصف الديك: وقام لها ينعى الدجى ذو شقيقة ... يدير لنا من عين أجفانه سقطا إذا صاح أصغى سمعه لأذانه ... وبادر ضرباً من قوادمه الإبطا كأن انوشروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كف مارية القرطا سبى حلة الطاووس حسن لباسها ... ولم يكفه حتى سبى المشية البطا ومن غزلها: غلامية جاءت وقد جعل الدجى ... لخاتم فيها فص غالية خطا فقلت أحاجيها بما في جفونها ... وما في الشفاه اللعس من حسنها المعطى محيرة العينين من غير سكرة ... متى شربت ألحاظ عينيك إسفنطا

_ (1) المطمح: 83 - 84. (2) ب: العين.

أرى نكهة المسواك في حمرة اللمى ... وشاربك المخضر بالمسك قد خطا عسى قزح قبلته فإخاله ... على الشفة اللمياء قد جاء مختطا وقال في المطمح في تحلية الأسعد: إنه سرد البدائع أحسن السرد، وافترس المعاني كالأسد الورد، وأبرز درر المحاسن من صدفها، وحاز من بحر الإجادة وشرفها، ومدح ملوكاً طوقهم من مدائحه قلائد، وزف إليهم منها خرائد، وجلاها عليهم كواعب، بالألباب لواعب، فأسالت العوارف، وما تقلص له من الحظوة ظل وارف، وقد أثبت له ما يعترف بحقه، ويعرف به مقدار سبقه، فمن ذلك قوله: لو كنت شاهدنا عشية أمسنا ... والمزن يبكينا بعيني مذنب والشمس قد مدت أديم شعاعها ... في الأرض تجنح غير أن لم تغرب وقوله: وتلذ تعذيبي كأنك خلتني ... عوداً فليس يطيب ما لم يحرق وهو مأخوذ من قول ابن زيدون: تظنونني كالعود حقاً وإنما ... تطيب لكم أنفاسه حين يحرق انتهى ببعض اختصار (1) . 13 - وقال الأديب أبو بكر عبادة بن ماء السماء، وهو كما في المطمح (2) : من فحول الشعراء، وأئمتهم الكبراء، وكان منتجعاً بشعره، مسترجعاً من صروف دهره، وكانت له همة أطالت همه، وأكثرت كمده وغمه:

_ (1) هو كما في المطمح المطبوع دون اختصار. (2) المطمح: 84.

يؤرقني الليل الذي أنا نائمه ... فتجهل ما ألقى وطرفك عالمه وفي الهودج المرقوم وجه طوى الحشا ... على الحزن فيه الحسن قد حار راقمه إذا شاء وقفاً أرسل الحسن فرعه ... يضلهم عن منهج القصد فاحمه أظلماً رأوا تقليده الدر أم زروا ... بتلك اللآلي أنهن تمائمه 14 - وقال الأديب أبو عبد الله ابن عائشة في فتى طرزت غلالة خده، وركب من عارضه سنان على صعده قده (1) : إذا كنت تهوى خده وهو روضة ... به الورد غض والأقاح مفلج فزد كلفاً فيه وفرط صبابة ... فقد زيد فيه من عذار بنفسج وحلاه في المطمح بأن قال: اشتهر صوناً وعفافاً، ولم يخطب بعقيلة حضرة زفافاً، فآثر انقباضاً وسكوناً، واعتمد إليها ركوناً، إلى أن أنهضه أمير المسلمين إلى بساطه فهب من مرقد خموله، وشب لبلوغ مأموله، فبدا منه في الحال انزواء، في تسنم تلك الرسوم والتواء، وقعود عن مراتب الأعلام، وجمود لايحمد فيه ولايلام، إلا أن أمير المسلمين ألقى منه عليه محبة، جلبت إليه مسرى الظهور ومهبه، وكان له أدب واسع المدى، يانع كالزهر بلله الندى، ونظم مشرق الصفحة، عبق النفحة، إلا أنه قليلاً ما كان يحل ربعه، ويذيل له طبعه، وقد أثبت له منه ما يدع الألباب حائرة، والقلوب إليه طائرة، فمن ذلك قوله في ليلة سمحت له بفتى كان يهواه، ونفحت له هبة وصل بردت جواه: لله ليل بات عندي به ... طوع يدي من مهجتي في يديه وبت أسقيه كؤوس الطلا ... ولم أزل أسهر شوقاً إليه عاطيته حمراء ممزوجة ... كأنها تعصر من وجنتيه

_ (1) المطمح: 84 - 86.

وخرج من بيته يوماً إلى منية الوزير الأجل أبي بكر ابن عبد العزيز وهي من أبدع منازل الدنيا وقدمت عليها أرواحها الأفيا وأهدت إليها أزهارها العرف والرياء والنهر قد غص بمائه والروض قد خص مثل أنجم سمائه، وكانت لبني عبد العزيز فيها أطراب، تهيأ لهم فيها من الأيام آراب، فلبسوا فيها الأشر حتى أبلوه، ونشروا فيها الأنس وطووه، أيام كانوا بذلك الأفق طلوعاً، لم تضم عليهم النوب ضلوعاً، فقعد أبو عبد الله مع لمة من الأدباء تحت دوحة من أدواحها، فهبت ريح أنس من أرواحها، سطت بإعصارها، وأسقطت لؤلؤها على باسم أزهارها، فقال: ودوحة قد علت سماءً ... تطلع أزهارها نجوماً هفا نسيم الصبا عليها ... فأرسلت فوقنا رجوما كأنما الجو غار لما ... بدت فأغرى بها النسيما وكان في زمان عطلته، ووقت اصفراره وعلته، ومقاساته من العيش أنكده، ومن التخوف أجهده، كثيراً ما ينشرح بجزيرة شقر ويستريح، ويستطيب تلك الريح، ويجول في أجارع واديها، وينتقل من نواديها إلى بواديها، فإنها صحيحة الهواء، قليلة الأدواء، خضلة العشب والأزاهر (1) ، قد أحاط بها نهرها كما تحيط بالمعاصم الأساور، والأيك قد نشرت ذوائبها على صفيحه، والروض قد عطر جوانبه (2) بريحه، وأبو اسحاق ابن خفاجة هو كان منزع نفسه، ومصرع أنسه، نفح له بالمنى عبق وشذا، ومسح عن عيون مسراته القذى، وغدا على ما كان وراح، وجرى متهافتاً في ميدان ذلك المراح، قريب عهد بالفطام، ودهره ينقاد في خطام، فلما اشتعل رأسه شيباً، وزرت عليه الكهولة جيباً، أقصر عن تلك الهنات، واستيقظ من تلك السنات، وشب

_ (1) المطمح: زاهية الأزاهر. (2) المطمح: جوانبها.

عن ذلك الطوق، وأقصر عن الهوى والشوق، وقنع بأدنى تحية، وما يستشعره في وصف تلك العهاد من أريحية، فقال: ألا خلياني والأسى والقوافيا ... أرددها شجوي (1) وأجهش باكيا أآمن شخصاً للمسرة بادياً ... وأندب رسماً للشبيبة باليا تولى الصبا إلا توالي فكرة ... قدحت بها زنداً وما زلت واريا وقد بان حلو العيش إلا تعلةً ... تحدثني عنها الأماني خاليا (2) ويا برد هذا الماء هل منك قطرةً ... تهل فيستسقى غمامك صاديا وهيهات حالت دون حزوى وأهلها ... ليال وأيام تخال اللياليا فقل في كبير عاده صائد الظبا ... إليهن مهتاجاً وقد كان ساليا فيا راكباً يستعمل الخطو قاصداً ... ألا عج بشقر رائحاً أو مغاديا وقف حيث سال النهر ينساب أرقماً ... وهب نسيم الأيك بنفث راقيا وقل لأثيلات هناك وأجزع ... سقيت أثيلات وحييت واديا انتهى ببعض اختصار (3) . وابن عائشة أشهر من أن يطال في أمره، وليس الخبر كالعيان. 523 - وقال أبو عمرو يزيد بن عبد الله بن أبي خالد اللخمي الإشبيلي الكاتب في فتح المهدية سنة 602: كم غادر الشعراء من متردم ... ذخرت عظائمه لخير معظم تبعاً لمذخور الفتوح فإنه ... جاءت له بخوارق لم تعلم من كل سامية المنال إذا انتمت ... رفعت إلى اليرموك صوت المنتمي

_ (1) ب: شكوى؛ م: شجوا. (2) المطمح: خواليا. (3) لم يختصر شيئاً من المطمح المطبوع.

وتوسطت في النهروان بنسبة ... كرمت ففازت بالمحل الأكرم قال ابن الأبار في " تحفة القادم " (1) : هو صدر في نبهائها وأدبائها، يعني إشبيلية، وممن له قدر في منجبيها ونجبائها، وإلى سلفه ينسب المعقل المعروف بحجر أبي خالد (2) ، وتوفي بها سنة 612، وأورد له قوله: ويا للجواري المنشآت وحسنها ... طوائر بين الماء والجو عوما إذا نشرت في الجو أجنحة لها ... رأيت بها روضاً ونوراً مكمما وإن لم تهجه الريح جاء مصافحاً ... فمدت له كفاً خضيباً ومعصما مجاذف كالحيات مدت رؤوسها ... على وجل في الماء كي تروي الظما كما أسرعت عداً أنامل حاسب ... بقبض وبسط يسبق العين والفما هي الهدب في أجفان أكحل أوطف ... فهل صنعت من عندم أو بكت دما قال ابن الأبار: أجاد ما أراد في هذا الوصف، وإن نظر إلى قول أبي عبد الله ابن الحداد بصف أسطول المعتصم ابن صمادح: هام صرف الردى بهام الأعادي ... أن سمت نحوهم لها أجياد وتراءت بشرعها كعيون ... دأبها مثل خائفيها سهاد ذات هدب من المجاذيف حاك ... هدب باك لدمعه إسعاد حمم فوقها من البيض نار ... كل من أرسلت عليه رماد ومن الخط في يدي كل در ... ألف خطها على البحر صاد قال: وما أحسن قول شيخنا أبي الحسن ابن حريق في هذا المعنى من قصيدة أنشدنيها:

_ (1) تحفة القادم: 120 وفيه الأشعار حتى قوله: انتهى؛ والنص هنا أوفي مما هو في المقتضب. (2) كذا في الأصول؛ وفي التحفة: ابن أبي خالد.

وكأنما سكن الأراقم جوفها ... من عهد نوح خشية الطوفان فإذا رأين الماء يطفح نضنضت ... من كل خرق حية بلسان قال: ولم يسبقهم إلى الإحسان، وإنما (1) سبقهم بالزمان، علي بن محمد الإيادي التونسي في قوله: شرعوا جوانبها مجاذف أتعبت ... شادي الرياح لها ولما تتعب تنصاع من كثب كما نفر القطا ... طوراً وتجتمع اجتماع الربرب والبحر يجمع بينها فكأنه ... ليل يقرب عقرباً من عقرب وعلى جوانبها أسود خلافة ... تختال في عدد السلاح المذهب وكأنما البحر استعار بزيهم ... ثوب الجمال من الربيع المعجب ومن هذه القصيدة الفريدة في ذكر الشراع: ولها جناح يستعر يطيرها ... طوع الرياح وراحة المتطرب يعلو بها حدب العباب مطاره ... في كل لج زاخر معلولب يسمو بآخر في الهواء منصب ... عريان منسرح الذؤابة شوذب يتنزل الملاح منه ذؤابة ... لو رام يركبها القطا لم يركب وكأنما رام استراقة مقعد ... للسمع إلا أنه لم يشهب وكأنما جن ابن داود هم ... ركبوا جوانبها بأعنف مركب سجروا جواهم بينهم فتقاذفوا ... منها بألسن مارج متلهب من كل مسجون حريق إذا انبرى ... من سجنه انصلت انصلات الكوكب عريان يقدمه الدخان كأنه ... صبح يكر على ظلام غيهب ومن أولها:

_ (1) م: وإن؛ التحفة: وإن كان.

أعجب بأسطول الإمام محمد ... وبحسنه وزمانه المستغرب لبست به الأمواج أحسن منظر ... يبدو لعين الناظر المتعجب من كل مشرفة على ما قابلت ... إشراف صدر الأجدل المتنصب ومنها: جوفاء تحمل موكباً في جوفها ... يوم الرهان وتستقل بموكب وهي طويلة من غرر القصائد، وقد سرد جملة منها صاحب المناهج وغيره. وقال أبو عمر القسطلي (1) : وحال الموج بين بني سبيل ... يطير بهم إلى الغول ابن ماء أعز له جناح من صباح ... يرفرف جنح من سماء وأخذه أبوإسحاق ابن خفاجة فقال (2) : وجاية ركبت بها ظلاماً ... يطير من الصباح بها جناح إن الماء اظمأن ورق خصراً ... علا من موجة ردف رداح وقد نقر الحمام هناك فاه ... وأتلع جيده الأجل المتاح ولا يخفاك حسن هذه العبارة الصقيلة المرآة، فالله تعالى يرحم قائلها. وقال ابن الأبار: وقد قلت أنا في ذلك: يا حبذا من بنات الماء سابحةً ... تطفو لما شب أهل النار تطفئه تطيرها الريح غرباناً بأجنحة ال ... حمائم البيض للأشراك ترزؤه

_ (1) ديوانه: 323 ورفع الحجب 1: 142. (2) ديوان ابن خفاجة: 138.

من كل أدهم لا يلفى به جرب ... فما لراكبه بالقار يهنؤه يدعى غراباً وللفتخاء سرعته ... وهو ابن ماء وللشاهين جؤجؤه واجتمع ابن أبي خالد وأبو الحسن ابن الفضل الأديب عند أبي الحجاج ابن مرطير الطبيب بحضرة مراكش، وجرى ذكر قاضيها حينئذ أبي عمران موسى ابن عمران بينهم، وما كان عليه من القصور والبعد عما أتيح له، وأوثر به، فقال أبو الحجاج: ليس فيه من أبي موسى شبه ... فقال أبو الحسن: فأبوه فضة وهو شبه ... فقال ابن أبي خالد: كم دعاه إذ رآه عرةً ... وأباه إذ دعاه يا أبه 524 - وقال أبو العباس الأعمى (1) : بهيمة لو جرى في الخيل أكبرها ... لفاتت الريح في الأحجال والغرر (2) تجري فللماء ساقا عائم درب ... وللرياح جناحا طائر حذري (3) قد قسمتها يد التقدير (4) بينهما ... على السواء فلم تسبح ولم تطر 525 - وقال عبد الجليل بن وهبون يصف الأسطول (5) :

_ (1) هو الأعمى التطيلي، انظر ديوانه: 51. (2) رواية الديوان: بهية لو توفي كنه شرتها ... لفاتت الخيل في الأحجال والغرر (3) الديوان: ذكر. (4) الديوان: التدبير. (5) الذخيرة (2: 207) .

يا حسنها يوماً شهدت زفافها ... بنت الفضاء إلى الخليج الأزرق ورقاء كانت أيكة فتصورت ... لك كيف شئت من الحمام حيث الغراب يجر شملة عجبه ... وكأنه من عزة (1) لم ينعق من كل لابسة الشباب ملاءة ... حسب اقتدار الصانع المتأنق شهدت لها الأعيان أن شواهنا ... أسماؤها فتصحفت في المنطق من كل ناشرة قوادم أجنح ... وعلى معاطفها وهادة سوذق زأرت زئير الأسد وهي صوامت ... وزحفن زحف مواكب في مأزق ومجاذف تحكي أراقم ربوة ... نزلت لتكرع من غدير متأق 526 - وفال ابن خفاجة (2) : سقياً لها من بطاح خز ... ودوح نهر بها مطل فما ترى غير وجه شمس ... أطل فيه عذار ظل وهو من بديع الشعر، وكم لابن خفاجة من مثله. 527 -[قطعة منقولة عن المغرب] 1 - وقال عبيد الله بن جعفر الإشبيلي، وقد زار صاحباً له مرات ولم يزره هو، فكتب على بابه (3) : يا من يزار على بعد المحل ولا ... يزورنا مرةً من بين مرات زر من يزورك واحذر قول عاذلة ... تقول عنك: فتىً يؤتى ولا يأتي

_ (1) ب: عسرة؛ ق: عرة؛ وأثبتنا رواية م. (2) ديوانه: 140 وقد مر البيتان ج 1: 19. (3) ترجمته والبيتان الأولان في المغرب 1: 262.

ومن مجونياته، سامحه الله تعالى: وأغيد ليس تعدوه الأماني ... ولو حكمت عليه باشتطاط سقيت الراح حتى مال سكراً ... ونلم على النمارق والبساط وأسلم لي على طول التجني ... وأمكنني فرط التعاطي فأولجت المقادر جيد بكر ... ولا كفران في سم الخياط وغناني بصوت من حشاه ... فأطربني وبالغ في نشاطي فما نقر المثالث والمثاني ... بأطرب من تلاحين الضراط ولولا الريق لم اظفر بشيء ... على عدم اهتبالي واحتياطي فلا تسخر بريق بعد هذا ... فإن الريق مفتاح اللواط 2 - وقال أبو الحسن علي بن جحدر الزجال (1) : كيف أصبحت أيهذا الحبيب ... نحن مرضى الهوى وأنت الطبيب كل قلب إليك يهفو غراماً ... ويحها يا علي (2) منك القلوب إن تلح حومت عليك هياماً ... أو تغب حنها عليك الوجيب غير أني من بينهم مستريب ... حين تبدو وليس لي ما يريب كل ما قد ألقاه منك ومني ... دون هذا له تشق الجيوب 3 - وقال أحمد المعروف بالكساد، في موسى الذي كان يتغزل فيه شعراء إشبيلية (3) : ما لموسى قد خر لله لما ... فاض نوراً غشاه ضوء سناه وأنا قد صعقت من نور موسى ... لا أطيق الوقوف حين أراه

_ (1) المغرب 1: 262 والقدح: 172. (2) هذه رواية القدح؛ وفي الأصول: وتجانى عليّ. (3) ترجمة الكساد ومقطعاته في المغرب 1: 288.

ولله دره في رثاء موسى المذكور إذ قال: فر (1) إلى الجنة حوريها ... وارتفع الحسن من الأرض وأصبح العشاق في مأتم ... بعضهم يبكي إلى بعض وقوله فيه: هتف الناعي بشجو الأبد ... إذ نعى موسى بن عبد الصمد ما عليهم ويحهم لو دفنوا ... في فؤادي قطعةً من كبدي ولقب بالكساد لقوله: وبيع الشعر في سوق الكساد ... 4 - وقال أبو القاسم ابن أبي طالب الحضرمي المنيشي (2) : صاغت يمين الرياح محكمةً ... في نهر واضح الأسارير فكلما ضاعفت به حلقاً ... قام لها القطر بالمسامير 5 - وقال أبو زيد عبد الرحمن العثماني، وهو من بيت إمارة (3) : لا تسلني عن حالتي فهي هذي ... مثل حالي لا كنت يا من يراني ملني الأهل والأخلاء لما ... أن جفاني بعد الوصال زماني فاعتبر بي ولا يغرك دهر ... ليس منه ذو غبطة في أمان 6 - وقال أبو زكريا يحيى بن محمد الأركشي (4) :

_ (1) المغرب: رد. (2) هو الملقب بعصا الأعمى لأنه كان في صحبة الأعمى التطيلي، انظر المغرب 1: 289. (3) ترجم ابن سعيد في القدح: 196 لعبد الرحمن العثماني وقال فيه: " كان من الخواص في جميع ما به تلبس " إلا أنه كناه القاسم. ويبدو أن ترجمته سقطت من المغرب. (4) ترجمة الأركشي في المغرب 1: 316 والتكملة رقم: 2053. وصلة الصلة: 184.

لا حبذا المال والإفضال يتلفه ... والبخل يحميه والأقدار تعطيه وقال: لا تبكين لإخوان تفارقهم ... فإنني قبلك استخبرت إخواني فما حمدتهم في حال قربهم ... فكيف في حال إبعاد وهجران 7 - وقال أبو عمران موسى الطرياني لما دخل يوم نيروز إلى بعض الأكابر، وعادتهم أن يصنعوا في مثل هذا اليوم مدائن من العجين لها صور مستحسنة، فنظر إلى صورة مدينة، فأعجبته، فقال له صاحب المجلس: صفها وخذها (1) : مدينة مسوره ... تحار فيها السحره لم تبنها إلا يدا ... عذراء أو مخدره بدت عروساً تجتلي ... من درمك مزعفره وما لها مفاتح ... إلا البنان العشره 8 - وقال أبو عمرو ابن حكم (2) : حاشا لمن أملكم أن يخيب ... وينثني نحو العدا مستريب هذا وكم أقرأني بشركم ... {نصر من الله وفتح قريب} 9 - وقال أبو الحسن علي بن الجعد القرموني (3) : إياك من زلل اللسان فإنه ... قدر الفتى في لفظه المسموع

_ (1) ترجمته وشعره في المغرب 1: 294 والقدح: 202. (2) ترجمة ابن حكم وشعره في المغرب 1: 292 والقدح: 200؛ وفي م: ابن حاكم. (3) ترجمته في المغرب 1: 300، وقد جاءت هذه الفقرة في م بعد مقطعات ابن لبال.

المرء يختبر الإناء بنقره ... ليرى الصحيح به من المصدوع 10 - وقال الفقيه أبو الحسن علي بن لبال في محبرة عناب محلاة بفضة (1) : منعلة بالهلال، ملجمة ... بالنسر، مجدولة من الشفق كأنما حبرها تميع في ... فرضتها سائلاً من الغسق فأنت مهما ترد تشبهها ... في كل حال فانظر إلى الأفق وقال في محبرة آبنوس: وخديمة للعلم في أحشائها ... كلف بجمع حرامه وحلاله لبست رداء الليل ثم توشحت ... بنجومه وتتوجت بهلاله 11 - وقال أبو جعفر أحمد الشريشي (2) : تفاحة بت بها ليلتي ... أبثها سري والشكوى أضمها معتنقاً لاثماً ... إذا ذكرت خد من أهوى وقال أبو العابس أحمد بن شكيل الشريشي (3) : تفاحة بت بها ليلتي ... أبثها سري والشكوى أضمها معتنقاً لائماً ... إذا ذكرت خد من أهوى وقال: تفاحة حامضة عضها ... في ثمل من قطب الوجها

_ (1) المغرب 1: 303؛ والحاشية في مصادر ترجمته؛ والذيل والتكملة 5: 169. (2) ترجمة أحمد الشريشي في المغرب 1: 304. (3) انظر المغرب 1: 304.

ولم أخل من قبلها محسناً ... يجزى عليه العض والنجها 13 - وقال أبو عمر ابن غياث (1) : وقالوا مشيب واعجبا لكم ... أينكر صبح قد تخلل غيهبا وليس مشيباً ما ترون وإنما ... كميت الصبا لما جرى عاد أشهبا 14 - وقال الوزير أبو بكر بن ذي الوزارتين أبي مروان عبد الملك ابن عبد العزيز يخاطب ابن عبدون (2) : في ذمة الفضل والعلياء مرتحل ... فارقت صبري إذ فارقت موضعه ضاءت به برهةً أرجاء قرطبة ... ثم استقل فسد البين مطلعه عذراً إلى المجد عني حين فارقني ... ذاك الجلال فأعيا أن أشيعه قد كنت أصحبته قلبي وأقعدني ... ما كان أودعني عن أن أودعه وفيهم يقول ابن عبدون: بحور بلاغة ونجوم عز ... وأطواد رواس من جلال 15 - وقال الوزير الكاتب أبو القاسم ابن أبي بكر ابن عبد العزيز: نديمي لا عدمتك من نديم ... أدرها في دجى الليل البهيم فخير الأنس أنس تحت ستر ... يصان عن السفيه أو الحليم 16 - وقال الثائر أبو عبد الله الجزيري (3) : في أم رأسي سر ... يبدو لكم بعد حين

_ (1) انظر المغرب 1: 305 وترجمته في التكملة: 610 والتحفة: 129 والوافي 4: 10. (2) المغرب 1: 307. (3) المغرب 1: 323.

لأبلغن مرادي ... إن كان سعدي معيني أو لا فأكتب ممن ... سعى لإظهار دين وسبب قوله هذا أن بني عبد المؤمن لما غيروا رسم مهديهم، وصيروا الخلافة ملكاً، وتوسعوا في الرفاهية، وأهملوا حق الرعية، جعل يتستر، وقال هذه الأبيات، وشاع سره في مدة ناصر بني عبد المؤمن، فطلبه، ففر، ولم يزل يتنقل مستخفياً مع أصحابه إلى أن حصل في حصن قولية من عمل مدينة بسطة، فبينما هو ذات يوم في جامعها مع أصحابه وهم يأكلون بطيخاً ويرمون قشره في صحن الجامع، إذ أنكر ذلك رجل من العامة، وقال لهم: ما تتقون الله تعالى! تتهاونون ببيت من بيوته فضحكوا منه، واستهزأوا به، وأهل تلك الجهة لاتحتمل شيئاً من ذلك، فصاح بفتية من العامة، فاجتمع جمع وحملوا إلى الوالي مكان عند الوالي من عرفه، فقتلوا جميعاً، وأمر الناصر أن يرفع عن جميع أرض قولية جميع تكاليف السلطان. 17 - ولما عتب المنصور بن أبي عامر على الكاتب عبد الملك الجزيري، وسجنه في الزاهرة، ثم صفح عنه، قال وكتب به إليه (1) : عجبت من عفو أبي عامر ... لا بد أن تتبعه منه كذلك الله إذا ما عفا ... عن عبده أدخله الجنه فاستحسن ذلك، وأعاده إلى حاله. وقال على لسان بهار العامرية، وهو النرجس (2) : حدق الحسان تقر لي وتغار ... وتضل في وصفي النهى وتحار

_ (1) المغرب 1: 321 وقد مر البيتان (ج 1: 419) منسوبين لغيره. (2) تقدمت هذه الأبيات والقطعتان بعدها، ج 1: 531، 588.

طلعت على قضبي عيون تمائمي ... مثل العيون تحفها الأشفار وأخص شيء بي إذا شبهته ... در تمنطق سلكه دينار أنا نرجس، حقاً بهرت عقولهم ... ببديع تركيبي فقيل بهار وقال في بنفسجها: شهدت لنوار البنفسج ألسن ... من لونه الأحوى ومن إيناعه بمشابه الشعر الأحم أعاره ... قمر المنير الطلق نور شعاعه ولربما جمد النجيع من الطلى ... في صارم المنصور يوم قراعه فحكاه غير مخالف في لونه ... لا في روائحه وطيب طباعه وقال في القمر حين جعل يختفي بالسحاب ويبدو أمام المنصور: أرى بدر السماء يلوح حيناً ... فيظهر ثم يلتحف السحابا وذلك أنه لما تبدى ... وأبصر وجهك استحيا وغابا 18 - وقال الحجاري في " المسهب " (1) : سألت أبا الحسن علي بن حفص الجزيري أن ينشدني شيئاً من شعره، فقال يا أبا محمد، إذا لم ينظم الإنسان مثل قول ابن شرف: لم يبق للجور في أيامكم أثر ... إلا الذي في عيون الغيد من جور فالأولى له أن يترك نظم الشعر. إلى أن خرجت معه يوماً إلى سيف الجزيرة الخضراء، فلقي غلاماً قد كدر رونق حسنه السفر، وأثر في وجهه كآثار الكلف في القمر، فصافحه، ثم قال: بأبي الذي صافحته فتوردت ... وجناته وأناء نحوي قده

_ (1) المغرب 1: 325.

قمر بدا كلف السرى في خده ... لما توالى في الترحل جهده لكن معالم حسنه تمت كما ... قد تم عن صدإ الحسام فرنده فحفظتها من سمعه، ثم قلت له: قد أخذت عنك من نظمك، بغير شكرك، فضحك وقال: فاحفظ هذا، وأنشد: لا تقولن فلان ... صاحب قبل اختبار وانتظر ويحك نقد ال ... ليل فيه والنهار أنا جربت فلم أل ... ف صديقاً باختياري وأنشد: كم قد بكرت إلى الرياض وقضبها ... قد ذكرتني موقف العشاق يا حسنها والريح يلحف بعضها ... بعضاً كأعناق إلى أعناق والورد خد والأقاحي مبسم ... وغدا البهار ينوب عن أحداق لم أنفصل عنها بكأس مدامة ... حتى حملت محاسن الأخلاق 19 - ولما كتب أبو الحسن ابن سعيد إلى الأديب القائد أبي العباس أحمد ابن بلال يستدعيه ليوم أنس بقوله (1) : أبا العباس لو أبصرت حولي ... ندامى بادروا العيش الهنيا يبيحون المدام ولا انتقاد ... وقارهم ويزدادون غيا وهم مع ما بدا لك من عفاف ... يحبون الصبية والصبيا ويهوون المثالث والمثاني ... وشرب الراح صبحاً أو عشيا على الروض الذي يهدي لطرف ... وأنف منظراً بهجاً وريا فلا تلم السري على ارتياح ... حكى طرباً بجانبه سريا

_ (1) المغرب 1: 326 والقدح: 86.

وبادر نحو ناد ما خلا من ... نداك فقد عهدتك لوذعيا أجابه بقوله: أبيت سوى المعالي يا عليا ... فمل تنفك دهرك أريحيا تميل إذا النسيم سرى كغصن ... وتسري للمكارم مشرفيا وترتاح ارتياحاً للمثاني (1) ... وتقتنص الصبية والصبيا وتهوى الروض قلده نداه ... وألبسه مع الحلل الحليا وإن غنى الحمام فلا اصطبار ... وإن خفق الخليج فنيت حيا تذكرني الشباب فلست أدري ... أصبحاً حين تذكر أم عشيا فلة أدركتني والغصن غض ... لأدركت الذي تهوى لديا ولم أترك وحقك قدر لحظ ... وقد ناديتني ذاك النديا 528 (2) - وقال بعض أهل الأندلس: وفرع كان يوعدني بأسر ... وكان القلب ليس له قرار فنادى وجهه لاخوف فاسكن ... كلام الليل يمحوه النهار ولست على يقين أن قائلهما أندلسي، غير أني رأيت في كلام بعض الأفاضل نسبتهما لأهل الأندلس، والله تعالى أعلم. 20 - وقال أبو الوليد القسطلي (3) : وفوق الدوحة الغنى غدير ... تلألأ صفحةً وسجا قرارا إذا ما انصب أزرق مستقيماً ... تدور في البحيرة فاستدارا يجرده فم الأنبوب صلتاً ... حساماً ثم يفلته سوارا

_ (1) م: بالمثاني. (2) ميزنا هذه القطعة برقم لأنها ليست من المغرب ثم يعود الترقيم إلى ما نقله المقري عن المغرب نفسه. (3) المغرب 1: 328 والتكلمة رقم: 2101 وزاد المسافر: 15 - 19 وانظر الخريدة 1/4: 443.

21 - ولأبي كثير الطريفي يمدح الناصر بن المنصور (1) : فتوح لها يهتز شرق ومغرب ... كما اطردت في السمهرية أكعب تجلت على الدنيا شموس منيرة ... فلم يبق في ليل الكآبة غيهب أقام بها الإسلام شدو مغرد ... وظلت بأرض الشرك بالخطب تخطب فلا سمع إلا وهو قد مال نحوها ... ولا قلب إلا في مناها يقلب 22 - وقال أبو عامر ابن الجد (2) : لله ليلة مشتاق ظفرت بها ... قطعتها بوصال اللثم والقبل نعمت فيها بأوتار تعللني ... أحلى من المن أو أمنية الغزل أحبب إلي بها إذ كلها سحر ... أراحت الصب من عذر ومن عذل 23 - وقال الكاتب أبو عبد الله محمد الشلبي (3) كاتب ملك افريقية عبد الواحد بن أبي حفص: مد إلي الكاس من لحظه ... لا يحوج الشرب إلى الكاس ومنذ حياني بآس فلم ... أيأس ولكن كان لي آسي وقال لولا الناس قبلته ... ما أشأم الناس على الناس 24 - وقال أبو بكر محمد بن الملح (4) ، وهو من رجال الذخيرة، على لسان حال سوار مذهب: أنا من الفضة البيضاء خالصةً ... لكن دهتني خطوب غيرت جسدي

_ (1) المغرب 1: 319 واسمه عنده " كثير "، والطريفي نسبة إلى جزيرة طريف. (2) المغرب 1: 342 وبغية الوعاة: 275. (3) لم يرد ذكره في المغرب في القسم الخاص يشلب. (4) المغرب 1: 383 والقلائد: 187 والذخيرة (2: 182) ومسالك الأبصار 8: 257.

علقت غصناً على أحوى فأحسدني ... جري الوشاح وهذي صفرة الحسد وما أحسن قوله من قصيدة في المعتضد والد المعتمد: غرته الشمس والحيا يده ... بينهما للنجيع قوس قزح 25 - وأما ابنه أبو القاسم (1) فهو من رجال المسهب وكان اشتغل أول أمره بالزهد وكتب التصوف، فقال له أبوه: يا بني، هذا الأمر ينبغي أن يكون آخر العمر، وأما الآن فينبغي أن تعاشر الأدباء والظرفاء، وتأخذ نفسك بقول الشعر، ومطالعة كتب الأدب، فلما عاشرهم زينوا له الراح، فتهتك في الخلاعة، وفر إلى إشبيلية، وتزوج بامرأة لاتليق بحاله، وصار يضرب معها بالدف، فكتب إليه أبوه: يا سخنة العين يا بنيا ... ليتك ما كنت لي بنيا أبكيت عيني، أطلت حزني ... أمت ذكري وكان حيا حططت قدري وكان أعلى ... في كل حال من الثريا أما كفاك الزنا ارتكاباً ... وشرب مشمولة الحميا حتى ضربت الدفوف جهراً ... وقلت للشر جيء إليا فاليوم أبكيك ملء عيني ... إن كان يغني البكاء شيا فأجاب أباه بقوله: يا لائم الصب في التصابي ... ما عنك يغني البكاء شيا أوجفت خيل العتاب نحوي ... وقبل أوثبتها إليا وقلت هذا قصير عمر ... فاربح من الدهر ما تهيا قد كنت أرجو المتاب مما ... فتنت جهلاً به وغيا

_ (1) انظر المغرب 1: 384.

لولا ثلاث شيوخ سوء ... أنت وإبليس والحميا 26 - وقال أبو بكر محمد بن عبد القادر الشلبي (1) يستدعي: فديتك باكر نحو قبة روضة ... تسيح بها الأمواه والطير تهتف وقد طلعت شمس الدنان بأفقها ... ونحن لديها في انتظارك وقف فلا تتخلف ساعةً عن محلة ... صدودك عمن حل فيها تخلف 27 - وقال أخو إمام نحاة الأندلس أبي محمد عبد الله بن السيد البطليوسي، وهو أبو الحسن علي بن السيد (2) : يا رب ليل قد هتكت حجابه ... بزجاجة وقادة كالكوكب يسعى بها ساق أغن كأنها ... من خده ورضاب فيه الأشنب بدران بدر قد أمنت غروبه ... يسعى ببدر جانح للمغرب فإذا نعمت برشف بدر طالع ... فانعم ببدر آخر لم يغرب حتى ترى زهر النجوم كأنها ... حول المجرة ربرب في مشرب والليل منحفز يطير غرابه ... والصبح يطرده بباز أشهب 28 - ولما مدح أبو بكر محمد بن الروح الشلبي (3) الأمير إبراهيم الذي خطب به الفتح في القلائد، وهو ابن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وكان يدل عليه وينادمه، بقصيدته التي أولها: أنا شاعر الدنيا وأنت أميرها ... فما لي لا يسري إلي سرورها أشار الأمير إلى مضحك له كان حاضراً أن يحبق له لقوله " أنا شاعر الدنيا "

_ (1) لم ترد ترجمته في المغرب المطبوع بين رجال شلب. (2) يعد ابن السيد من شلب في الأصل (انظر المغرب 1: 385) ، وكل هذا يدل على أن المقري ينقل نقلاً متتابعاً عن نسخة من المغرب غير التي وصلتنا. (3) المغرب 1: 386.

فقال له ابن الروح: على من حبقت يعني أنه يحتمل أن يكون ذلك الفعل لقوله أنا شاعر الدنيا أو لقوله وأنت أميرها، ففطن الأمير لما قصده وضحك وتغافل. 29 - وقال أبو بكر ابن المنخل الشلبي (1) : كم ليلة دارت علي كواكب ... للخمر تطلع ثم تغرب في فمي قبلتها في كف من يسعى بها ... وخلطت قبلتها بقبلة معصم وكأن حسن بنانه مع كأسه ... غيم يشير لنا ببعض الأنجم 30 - وقال ذو الوزارتين أبو بكر ابن عمار (2) : قرأت كتابك مستشفعاً ... بوجه أبي الحسن من رده ومن قبل فض ختام الكتاب ... قرأت الشفاعة في خده وقال: غزا القلوب غزال ... حجت إليه العيون قد خط في الخد نوناً ... وآخر الحسن نون قال الحجاري: وإكثار ابن عمار في المعذرين وإحسانه فيهم يدلك على أنه، كما قيل عنه، كان مشغوفاً بالكاس، والاستلقاء من غير نعاس. 31 - وكان أبو الفضل ابن الأعلم (3) أجمل الناس وأذكرهم (4) في علم الأدب والنحو، وأقرأ علم النحو قبل أن يلتحي، فقال ابن صارة فيه:

_ (1) المغرب 1: 387 والوافي 2: 7 وزاد المسافر: 87 والتكلمة: 496. (2) المغرب 1: 388. (3) المغرب 1: 396. (4) م: وأذكاهم.

أكرم بجعفر اللبيب فإنه ... ما زال يوضح مشكل الإيضاح ماء الجمال بخده مترقرق ... فالعين منه تجول في ضحضاح ما خده جرحته عيني، وإنما ... صبغت غلالته دماء جراحي لله زاي زبرجد في عسجد ... في جوهر في كوثر في راح ذي طرة سبجية، ذي غرة ... عاجية، كالليل والإصباح رشأ له خد البريء ولحظه ... أبداً شريك الموت في الأرواح 32 - وقال الرمادي (1) : نوء وغيث مسبل ... وقهوة تسلسل تدور بين فتية ... بخلقهم تمثل والأفق من سحابه ... طل ضعيف ينزل كأنه من فضة ... برادة تغربل وقال (2) : بدر بدا يحمل شمساً بدت ... وحدها في الحسن من حده تغرب في فيه ولكنها ... من بعد ذا تطلع في خده 33 - ومن نظم أبي الفضل ابن الأعلم السابق الذكر: وعشية كالسيف إلا حده ... بسط الربيع بها لنعلي خده عاطيت كأس الأنس فيها واحداً ... ما ضره أن كان جمعاً وحده وهو جعفر ابن الوزير أبي بكر محمد ابن الستاذ الأعلم، من رجال " القلائد "

_ (1) المغرب 1: 392 والأبيات في كتاب التشبيهات: 36. (2) المغرب: 393، والبيتان للصنوبري في الفوات 1: 112 وتهذيب ابن عساكر 1: 458 والوافي 7: 185.

و " المسهب " و " سمط الجمان "، وكان قاضي شنتمرية، والأستاذ الأعلم هو إمام نحاة زمانه أبو الحجاج يوسف بن عيسى من رجال الصلة والمسهب والسمط، وهو شارح الأشعار الست، ومن نظمه يخاطب المعتمد بن عباد: يا من تملكني بالقول والعمل ... ومبلغي في الذي أملته أملي كيف الثناء وقد أعجزتني نعماً ... ما لي بشكري عليها الدهر من قبل رفعت للجود أعلاماً مشهرةً ... فبابك الدهر منها عامر السبل 34 - وقال أبو علي إدريس بن اليماني العبدري (1) : قبلة كانت على دهش ... أذهبت ما بي من العطش ولها في القلب منزلة ... لو عدتها النفس لم تعش طرقتني والدجى لبست ... خلعاً من جلدة الحبش وكأن النجم حين بدا ... درهم في كف مرتعش وسأله المعتضد أن يمدحه بقصيدة يعارض بها قصيدته السينية التي مدح بها ابن حمود فقال له: أشعاري مشهورة، وبنات صدري كريمة، فمن أراد أن ينكح بكرها، فقد عرف مهرها، وكانت جائزته مائة دينار. ومن مشهور شعره بالمغرب والمشرق قوله: ثقلت زجاجات أتتنا فرغاً ... حتى إذا ملئت بصرف الراح خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح 35 - وكانت بين الأديب الحسيب أبي عمرو ابن طيفور والحافظ الهيثم

_ (1) المغرب 1: 400 وانظر الجذوة: 160 والذخيرة 3: 115 والمسالك 11: 204.

مهاجاة، فقال فيه الحافظ (1) : لابن طيفور قريض ... فيه شوك وغموض عدمت فيه القوافي ... والمعاني والعروض وقال فيه ابن طيفور: إنما الهيثم سفر ... من كلام الناس ضخم لا تطالبه بفهم ... ليس للديوان فهم 36 - وقال أبو عمران ابن سعيد: أخبرني والدي أنه زار ابن حمدين بقرطبة في مدة يحيى بن غانية، [قال] : فوجدته في هالة من العلماء والأدباء، فقام وتلقاني، ثم قال: يا أبا عبد الله، ما هذا الجفاء فاعتذرت بأني أخشى التثقيل، وأعلم أن سيدي مشغول بما هو مكب عليه، فأطرق قليلاً ثم قال: لو كنت تهوانا طلبت لقاءنا ... ليس المحب عن الحبيب بصابر فدع المعاذر إنما هي جنة ... لمخادع فيها، ولست بعاذر فقلت: تصديق سيدي عندي أحب إلي وإن ترتبت علي فيه الملامة من منازعته منتصراً لحقي، فاستحسن جوابي، وقال لي: كرره فإنه والله ماح لكل ذنب، ثم سألته كتب البيتين عنه، فقال لي: وما تكتب فيهما فقلت: أليس في الإنعام ذلك لأجد ما أخبر به والدي إذا أبت إليه فأملاهما علي، فقلت: من قائلهما قال: قائلهما، فعلمت أنهما له، وقنعت بذلك. 529 - وقال الحجاري صاحب " المسهب في أخبار المغرب ": كم بت من أسر السهاد بليلة ... ناديت فيها هل لجنحك آخر

_ (1) المغرب 1:

إذ قام هذا الصبح يظهر ملةً ... حكمت بأن ذبح الظلام الكافر وعلى ذكر المسهب فقد كنت كثيراً ما أستشكل هذه التسمية، لما قال غير واحد: إن المسهب إنما هو بفتح الهاء، كقولهم سيل مفعم - بفتح العين - والفقرة الثانية وهي المغرب تقتضي أن يكون بكسر الهاء، ولم يزل ذلك يتردد في خاطري إلى أن وقفت على سؤال في ذلك رفعه المعتمد بن عباد سلطان الأندلس إلى الفقيه الأستاذ أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى النحوي الشنتمري المشهور بالأعلم، ونص السؤال: سألك - أبقاك الله - الوزير الكاتب أبو عمرو ابن غطمش، سلمه الله، عن المسهب وزعم أنك تقول بالفتح والكسر، والذي ذكر ابن قتيبة في أدب الكاتب والزبيدي في مختصر العين أسهب الرجل فهو مسهب إذا أكثر الكلام، بالفتح خاصةً، فبين لي - أبقاك الله تعالى - ما تعتقد فيه، وإلى أي كتاب تسند القولين، لأقف على صحة من ذلك. فأجابه: وصل إلي - أدام الله تعالى توفيك - هذا السؤال العزيز، ووقفت على ما تضمنه، والذي ذكرته من قول ابن قتيبة والزبيدي في الكتابين موضوع كما ذكرته، والذي أحفظه وأعتقده أن المسهب بالفتح المكثر في غير صواب، وأن المسهب بالكسر البليغ المكثر من الصواب، إلا أني لا أسند ذلك إلى كتاب بعينه، ولكني أذكره عن أبي علي البغدادي من كتاب البارع أو غيره، معلقاً في عدة نسخ من كتاب البيان والتبيين على بيت في صدره لمكي بن سوادة وهو: حصر مسهب جريء جبان ... خير عي الرجال عي السكوت والمعلقة: تقول العرب: أسهب الرجل فهو مسهب وأحصن فهو محصن وألفج فهو ملفج، إذا افتقر، قال الخليل: يقال رجل مسهب ومسهب، قال أبو علي: أسهب الرجل فهو مسهب بالفتح إذا أكثر في

غير الصواب، وأسهب فهو مسهب بالكسر إذا أكثر وأصاب، قال أبو عبيدة: أسهب الرجل فهو مسهب إذا أكثر من خرف وتلف ذهن، وقال أبو عبيدة عن الأصمعي: أسهب الرجل فهو مسهب بالفتح إذا أخرف وأهتر، فإن أكثر من الخطإ قيل: أفند فهو مفند، انتهت المعلقة. فرأي مملوكك - أيدك الله تعالى - واعتقاده أن المسهب بالفتح هو المكثر من الكلام بموجب أن المكثر هو البليغ المصيب، ألا ترى إلى قول الشاعر حصر مسهب أنه قرن فيه المسهب بالحصر وذمه بالصفتين، وجعل المسهب أحق بالعي من الساكت والحصر فقال: خير عي الرجال عي السكوت ... والدليل على أن المسهب بالكسر يقال للبليغ المكثر من الصواب أنهم يقولون للجواد من الخيل مسهب بالكسر خاصة لأنها بمعنى الإجادة والإحسان، وليس قول ابن قتيبة والزبيدي في المسهب بالفتح هو المكثر من الكلام بموجب أن المكثر هو البليغ المصيب، لأن الإكثار من الكلام داخل في معنى الذم، لأنه من الثرثرة والهذر، ألا تراهم قالوا: رجل مكثار، كما قالوا: ثرثار، ومهذار، وقال الشاعر: فلا تمارون إن ماروا بإكثار ... فهذا ما عندي، والله تعالى الموفق للصواب. قال الأعلم: ثم نظمت السؤال العزيز والجواب المذكور، فقلت: سلام الإله وريحانه ... على الملك المجتبى المنتخل سلام امرئ ظل من سيبه ... خصيب الجناب رحيب المحل أتاني سؤالك أعزز به ... سؤال مبر على من سأل يسأل عن حالتي مسهب ... ومسهب المبتلى بالعلل

لم اختلفا في بناءيهما ... وحكمهما واحد في فعل أتى ذا على مفعل لم يعل ... وذاك على مفعل قد أعل فقلت مقالاًعلى صدقه ... شهيد من العقل لا يستزل بناء البليغ أتى سالماً ... سلامته من فضول الخطل وأسهب ذاك مسيئاً فزل ... زليلاً ثنى متنه فانخذل وأحسن ذا فجرى وصفه ... على سنن المحسن المستقل فهذا مقالي مستبصراً ... ولست كمن قال حدساً فضل تقلدت في رأيه مذهباً ... يخصك بين الظبى والأسل سموك في الروع مستشرفاً ... إلى مهجة المستميت البطل كأنك فيها هلال السما ... يزيد بهاءً إذا ما أهل بل أنت مطل كبدر السما ... يمضي الظلام إذا ما أطل قلت: رأيت في بعض الحواشي الأندلسية: أن ابن السكيت ذكر في بعض كتبه ما جعله بعض العرب فاعلاً وبعضهم مفعولاً: رجل مسهب ومسهب، لكثير الكلام، وهذا يدل على أنهما بمعنى واحد، انتهى. 530 - وسأل بعض الأدباء الأستاذ الأعلم المذكور عن المسألة الزنبورية، المقترنة بالشهادة الزورية، الجارية بين سيبويه والكسائي أو الفراء، والقضاء بينهم فيها، وهي ظننت أن العقرب أشد لسعةً من الزنبور، فإذا هو هي، أو إياها، وعن نسب سيبويه: هل هو صريح أم مولى وعن سبب لزومه الخليل بعد أن كان يطلب الحديث والتفسير، وعن علة تعرضه لمناظرة الكسائي والفراء، وعن كتابه الجاري بين الناس: هل هو أول كتاب أو أنشأه بعد كتاب أول ضاع كما زعم بعض الناس فأجاب: أما المسألة الزنبورية المأثورة بين سيبويه والكسائي. أو بينه وبين

الفراء على حسب الاختلاف في ذلك، بحضرة الرشيد، أو بحضرة يحيى بن خالد البرمكي فيما يروى، فقد اختلفت الرواة فيها: فمنهم من زعم أن الكسائي أو الفراء قال لسيبويه: كيف تقول ظننت أن العقرب أشد لسعةً من الزنبور، فإذا هو هي، ففيها من الاختلاف عنهم ما ترى، فإن كان أجاب بإذا هو هي، فقد أصاب لفظاً ومعنى، ولم تدخل عليه في جوابه شبهة، ولا علقة لمعترض، لأن إذا في المسألة من حروف الابتداء المتضمنة للتعليق بالخبر، فإذا اعتبرت المضمرين بعدها بالاسمين المظهرين لزمك أن تقول فإذا الزنبور العقرب أو اللسعة اللسعة أي مثلها سواء، فلو قلت فإذا هو إياها بنصب الضمير الأخير للزمك أن تقول: فإذا الزنبور العقرب، بالنصب، وهذا لا وجه له، فإذا لم يجز نصب الخبر المضمر الواقع موقعه ويروى في المسألة أن الكسائي أو الفراء قال لسيبويه بعد أن أجاب برفع الضميرين على ما يوجبه القياس: كيف تقول يا بصري خرجت فإذا زيد قائم، أو قائماً فقال سيبويه: أقول قائم ولا يجوز النصب، فقال الكسائي: أقول قائم وقائماً، والقائم والقائم، بالرفع والنصب في الخبر مع النكرة والمعرفة، فتأول الكسائي والفراء في اختيارهما فإذا هو إياها حمل الخبر المضمر في النصب على الخبر المظهر المعرفة مع الإعراب بوجه النصب، فكأنه قال: فإذا الزنبور العقرب، كما: فإذا زيد القائم، فيجري المعرفة في النصب مجرى النكرة، وقولهما في هذا خطأ من جهتين: إحداهما: أن نصب الخبر بعد إذا لا يكون إلا بعد تمام الكلام الأول في الاسم مع حرف المفاجأة، ومع كون الخبر نكرة، كقولك: خرجت فإذا زيد قائماً، لأنك لو قلت خرجت فإذا زيد تم الكلام، لتعلق المفاجأة بزيد على معنى حضوره، ثم تبين حاله في المفاجأة المتعلقة به فتقول قائماً أي: خرجت ففاجأني زيد في هذا الحال

وقوله في المسألة إياها لا يتم الكلام في الاسم الأول دونها، ألا ترى أنك لو قلت: ظننت أن العقرب أشد لسعةً من الزنبور فإذا هو وسكت، لم يتم الكلام أولاً، ولا أفدت بذكر المفاجأة وتعليقها بالزنبور فائدة، وإنما المفاجأة للضمير الآخر، فلا بد من ذكره والاعتماد عليه، وهذا يوجب الرفع في الخبر؛ لأن الظرف له، لا للمخبر عنه، فهذا بين واضح، والجهة الأخرى في غلطهما أن إياها معرفة، والحال لا تكون إلا نكرة، فقد اجتمع في قولهما أن أتيا بحالٍ لم يتم الكلام دونها، معرفة، والحال لا تكون إلا بعد تمام الكلام ومع التنكير، فقد تبين خطؤهما وإصابة سيبويه في لزوم الرفع في الخبر فقط. وأما من زعم عن سيبويه أنه قال خرجت فإذا زيد قائم بالرفع لا غير باطل، وكيف ينسب إليه وهو علمنا أن الظرف إذا كان مستقراً للاسم المخبر عنه نصب الخبر، وإذا كان مستقراً للخبر رفع الخبر، ونحن نقول: خرجت فإذا زيد فيتم الكلام، ونظرت فإذا الهلال طالع فيتبعه الخبر رفعاً، كما تقول في الدار زيد قائم، وقائماً واليوم سيرك سريع، وسريعاً، ولكن الخبر إذا كان الظرف له ولم يتعلق إلا به لم يكن إلا رفعاً، كقولك اليوم زيد منطلق، وغداً عمرو خارج لأن الظرف لا يكون مستقراً للاسم المخبر عنه إذا كان زماناً، والمخبر عنه جثة، وكذلك المفاجأة إذا كانت للخبر لم يكن إلا مرفوعاً، معرفة كان أو نكرة، فإذا كانت للمخبر عنه والخبر نكرة انتصب على الحال، فجرى قولك ظننت أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، وظننت زيداً عالماً فإذا هو جاهل في لزوم الرفع في الخبر مجرى اليوم زيد منطلق، وغداً عمرو خارج كما جرى خرجت فإذا زيد قائم، وقائماً في جواز الرفع والنصب مجرى في الدار زيد جالس وجالساً، فتأمل الفرق بينهما وحصله، فإن النحويين المتقدمين والمتأخرين قد أغفلوا الفرق بين المفاجأتين. وأما نصب الخبر المعرفة بعد إذ، تم الكلام أو لم يتم، فباطل لا تقوله

العرب، ولا يجيزه إلا الكوفيون. وإن كان سيبويه رحمه الله تعالى أجاب بقوله: فإذا هو إياها كما روى بعضهم فظاهر جوابه مدخول، لما قدمت، والخطأ فيه بين من جهة القياس كما ذكرنا، فإن كان قاله والتزمه دون الرفع فقد أخطأ خطأً لا مخرج له منه، وإن كان قد قاله وهو أن الرفع أولى وأحق، إلا أنه آثر النصب للإعراب حملاً على المعنى الخفي، دون ما يوجبه القياس واللفظ الجلي، فلجوابه عندي وجهان حسنان: أحدهما: أن يكون الضمير المنصوب وهو إياها كنايةً عن اللسعة، لا عن العقرب، والضمير المرفوع كناية عن الزنبور، فكأنه قال ظننت أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا الزنبور لسعة العقرب، أي فإذا الزنبور يلسع لسعة العقرب، فاختزل الفعل لما تقدم من الدليل عليه، بعد أن أضمر اللسعة متصلة بالفعل، فكأنه قال فإذا الزنبور يلسعها فاتصل الضمير بالفعل لوجوده، فلما اختزل الفعل انفصل الضمير، لعدم الفعل. ونظير هذا من كلام العرب قولهم إنما أنت شرب الإبل أي: إنما أنت تشرب شرب الإبل، فاختزل الفعل، وبقي عمله في المصدر، ولم يرفع لأنه غير الاسم الأول، فلو أضمرت شرب الإبل بعدما جرى ذكره فقلت ما يشرب زيد شرب الإبل، إنما أنت تشربه لاتصل الضمير بالفعل، فلو حذفته لانفصل الضمير فقلت إنما أنت إياه فتدبره تجده منقاداً صحيحاً. والوجه الآخر: أن يكون قوله فإذا هو إياها محمولاً على المعنى الذي اشتمل عليه أصل الكلام من ذكر الظن أولاً وآخراً، لأن الأصل في تأليف المسألة ظننت أن العقرب أشد لسعةً من الزنبور فلما لسعني الزنبور ظننته هو إياها فاختصر الكلام لعلم المخاطب، وحذف الظن آخراً لما جرى من ذكره أولاً، ودلت إذا لما فيها من المفاجأة على الفعل الواقع بعد لما الدالة على وقوع الشيء لوقوع غيره، فإذا جاز حذف الكلام إيثاراً للاختصار مع وجود الدليل على

المحذوف كان قولنا فإذا هو إياها بمنزلة قولنا فلما لسعني الزنبور ظننته هو إياها فحذف الظن مع مفعوله الأول، وبقي الضمير الذي هو العماد والفصل مؤكداً للضمير المحذوف مع الفعل ودالاً على ما يأتي بعده من الخبر المحتاج إليه، فيكون في حذف المخبر عنه لما تقدم من الدليل عليه مع الإتيان بالعماد والفصل المؤكد له المثبت لما بعده من الخبر المحتاج إليه مثل قوله " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم " فحذف البخل الذي هو المفعول الأول لقوله يحسبن وبقي الضمير مؤكداً له مثبتاً لما بعده من الخبر، وجاز حذفه لدلالة يبخلون عليه، والمعنى: لا يحسبن الذين يبخلون البخل هو خيراً لهم، فهو في المسألة عماد مؤكد لضمير الزنبور المحمول على الظن المضمر ومثبت لما يجيء بعده من الخبر الذي هو إياها فتفهمه فإنه متمكن من جهة المعنى، وجارٍ من الاختصار لعلم المخاطب على قياس وأصل، وشاهده القرآن في الحذف واستعمال العرب النظائر، وهي أكثر من أن تحصى، فمنها قولهم ما أغفله عنك شيئاً أي تثبت شيئاً ودع الشك، وقولهم لمن أنكر عليه ذكر إنسان ذكره من أنت زيداً أي: من أنت تذكر زيداً، وربما قالوا من أنت زيد بالرفع على تقدير: من أنت ذكرك زيد، فحذفوا الفعل مرة وأبقوا عمله، وحذفوا المبتدأ أخرى وأبقوا خبره، وكل ذلك اختصار، لعلم المخاطب بالمعنى، وكذلك قولهم هذا ولا زعماتك أي هذا القول والزعم الحق ولا أتوهم زعماتك، فحذف هذا لعلم السامع مع تحصل المعنى وقيامه عند المخاطب، والحمل في كلامهم على المعنى أكثر من أن يحصى. فإن كان الضمير الأول في المسألة للزنبور والضمير الآخر للعقرب لم يجز البتة إلا رفع الضميرين بالابتداء والخبر، على حد قولك ظننت زيداً عاقلاً فإذا هو أحمق، وحسبت عبد الله قاعداً فإذا هو قائم ولو تقدم ذكر الخبر والمخبر عنه لقلت فإذا هو هو ولم يجز فإذا هو إياه البتة. ويجوز في المسألة

إذا قلت: فإذا هو، لأبى أن يكون الضمير للزنبور والعقرب على حد قولك الزنبور العقرب ويجوز أن تقول فإذا هي هو على التقديم والتأخير على حد قولك فإذا العقرب الزنبور أي سواء في شدة اللسعة كما تقول خرجت فإذا قائم زيد على تقدير فإذا زيد قائم، ويجوز أن يكون هو كناية عن اللسع بدلالة اللسعة عليه، وتكون هي كناية على اللسعة على تقدير: فإذا لسع الزنبور لسعة العقرب، ويجوز فإذا هي هو على إضمار اللسعة واللسع، والتقدير: فإذا لسعة الزنبور لسع العقرب، وهذا كله لا يجوز فيه إلا الرفع عند البصريين، لن الآخر هو الأول، والخبر معرفة متعلق بالمفاجأة فلا يجوز فيه الحال، والكوفيون يجيزون النصب كما تقدم، وهو غلط بين، وخطأ فاحش، لا تقوله العرب، ولا تعلق له بقياس، فاعلمه. ويجوز في المسألة فإذا هو هو على تقدير: فإذا اللسع اللسع، ويجوز فإذا هي هي على تقدير: فإذا اللسعة اللسعة، وفي هذا كفاية إن شاء الله تعالى. وأما نسب سيبويه ففارسي مولى لبني حارث بن كعب بن علة بن خلدة ابن مالك، وهو مذحج، واسمه عمرو بن عثمان بن قنبر، وكنيته أبو بشر، ولقبه الذي شهر به سيبويه، ومعناها بالفارسية رائحة التفاح، وكان من أطيب الناس رائحة، وأجملهم وجهاً، وقيل: معنى سي ثلاثون، ومعنى بويه رائحة، فكأن معناها: الذي ضوعف طيب رائحته ثلاثين مرة. وأما سبب تعويله على الخليل في طلب النحو - مع ما كان عليه من الميل إلى التفسير والحديث - فإنه سأل يوماً حماد بن سلمة فقال له: أحدثك هشام ابن عروة عن أبيه في رجل رعف في الصلاة، بضم العين، فقال له حماد: أخطأت، إنما هو رعف بفتح العين، فانصرف الخليل، فشكا إليه ما لقيه من حماد، فقال له الخليل: صدق حماد، ومثل حماد يقول هذا، ورعف بضم العين لغة ضعيفة، وقيل: إنه قدم البصرة من البيداء من قرى شيراز من عمل فارس، وكان مولده ومنشؤه بها، ليكتب الحديث ويرويه، فلزم حلقة حماد

ابن سلمة، فبينما هو يستملي على حماد قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس من أصحابي إلا من لو شئت لأقدت عليه، ليس أبا الدرداء " فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء بالرفع، وخمنه اسم ليس، فقال له حماد: لحنت يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت، إنما ليس ههنا استثناء، فقال سيبويه: سأطلب علماً لا تلحنني فيه، فلزم الخليل، وبرع في العلم. وأما سبب وفوده على الرشيد ببغداد وتعرضه لمناظرة الكسائي والفراء، فلما كانا عليه من تمكن الحال، والقرب من السلطان، وعلو همته، وطلبه للظهور مع ثقته بعلمه؛ لأنه كان أعلم أهل زمانه، وكان بينه وبين البرامكة أقوى سبب، فوفد على يحيى بن خالد بن برمك وابنيه جعفر والفضل، فعرض عليهم ما ذهب إليه من مناظرة الكسائي وأصحابه، فسعوا له في ذلك، وأوصلوه إلى الرشيد، فجرى بينه وبين الكسائي والفراء ما ذكر واشتهر، وكان آخر أمره أن الكسائي وأصحابه لما ظهروا عليه بشهادة الأعراب على حسب ما لقنوا أن قال يحيى بن خالد أو الكسائي للرشيد، ياأمير المؤمنين، إن رأيت أن لا يرجع خائباً فعلت، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وانصرف إلى الأهواز، ولم يعرج على البصرة، وأقام هنالك مدةً إلى أن مات كمداً، ويروى أنه ذربت معدته فمات، فيرون أنه مات غماً، ويروى أن الكسائي لما بلغه موته قال للرشيد: ده يا أمير المؤمنين فإني أخاف أن أكون شاركت في دمه، ولما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه فقطرت دمعة من دموعه على خده، فرفع عينيه وقال: أخيين كنا فرق الدهر بيننا ... إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدهرا ومات على السنة والجماعة، رحمه الله تعالى. وأما كتابه الجاري بين الناس فلم يصح أنه أنشأه بعد كتاب آخر قبله، على أن ذلك قد ذكر. فهذا ما حضر فيما سألت عنه؛ فمن قرأه وأشرف فيه على تقصير فليبسط

العذر فإنه لساعتين من نهار، إملاء يوم الثلاثاء عشي النهار لثمان خلون لصفر سنة 476، انتهى. 531 - وقال الإلبيري، رحمه الله تعالى (1) : لا شيء أخسر صفقةً من عالم ... لعبت به الدنيا مع الجهال فغدا يفرق دينه أيدي سبا ... ويذيله حرصاً بجمع المال لا خير في كسب الحرام، وقلما ... يرجى الخلاص لكاسبٍ الحلال فخذ الكفاف ولا تكن ذا فضلةٍ ... فافضل تسأل عنه أي سؤال 532 - وكان أبو الفضل ابن الأعلم من أحسن الناس وجهاً، وأذكرهم في علم النحو والأدب، وأقرأ النحو في صباه، وفيه يقول ابن صارة الأندلسي، رحمه الله تعالى (2) : أكرم بجعفرٍ اللبيب فإنه ... ما زال يوضح مشكل الإيضاح ماء الجمال بوجهه مترقرقٌ ... فالعين منه تجول في ضحضاح ما خده جرحته عيني، إنما ... صبغت غلالته دماء جراحي لله زاي زبرجدٍ في عسجدٍ ... في جوهرٍ في كوثرٍ في راح ذي طرة سبجية، ذي غرةٍ ... عاجية، كالليل والإصباح رشأ له خد البريء، ولحظه ... أبداً شريك الموت في الأرواح (3) 533 - وقال محمد بن هانئ الأندلسي من قصيدة (4) : السافرات كأنهن كواكبٌ ... والناعمات كأنهن غصون

_ (1) ديوان الإلبيري: 81. (2) قد مر هذا ص: 73 - 74 من هذا الجزء. (3) زاد في م بعده: وقد سبقت هذه الأبيات قبل هذا. (4) ديوان ابن هانئ: 171.

ماذا على حلل الشقيق لو أنها ... عن لابسيها في الخدود تبين لأعطشن الروض بعدهم ولا ... يرويه لي دمعٌ عليه هتون أأعير لحظ العين بهجة منظرٍ ... وأخونهم أني إذاً لخؤون لا الجو جو مشرقٌ وإن اكتسى ... زهواً، ولا الماء المعين معين لا يبعدن إذ العبير له ثرى ... والبان روح، والشموس قطين الظل لا متنقلٌ، والحوض لا ... متكدرٌ، والأمن لا ممنون 534 - وقال القسطلي في أسطول أنشأه المنصور بن أبي عامر من قصيدة (1) : تحمل منه البحر بحراً من القنا ... يروع بها أمواجه ويهول بكل ممالات الشراع كأنها ... وقد حملت أسد الحقائق غيل إذا سابقت شأو الرياح تخيلت ... خيولاً مدى فرسانهن خيول سحائب تجزيها الرياح فإن وفت ... أطافت بأجياد النعام فيول ظباء سمام مالهن مفاحصٌ ... وزرقٍ حمام ما لهن هديل سواكن في أوطانهن كأن سما ... بها الموج حيث الراسيات نزول كما رفع الآل الهوادج بالضحى ... غداة استقلت بالخليط حمول أراقم تحوي ناقع السم ما لها ... بما حملت دون العداة مقيل وقد أطنب الناس في وصف السفن وأطابوا، وقرطسوا القريض وأصابوا، ووقد ذكرنا نبذة في ذلك من هذا الكتاب. 535 - وقال أبو بحر صفوان بن إدريس التجيبي: حدثني بعض الطلبة بمراكش أن أبا العباس الجراوي كان في حانوت وراق بتونس، وهناك فتى يميل إليه، فتناول الفتى سوسنة صفراء، وأومأ بها إلى خديه مشيراً، وقال: أين الشعراء تحريكاً للجراوي، فقال ارتجالاً:

_ (1) ديوان ابن دراج: 5.

وعلوي الجمال إذا تبدى ... أراك جبينه بدراً أنارا أشار بسوسنٍ يحكيه عرفاً ... ويحكي لون عاشقه اصفرارا قال أبو بحر: ثم سألني أن أقول في هذا المعنى، فقلت بديهاً: أومى إلى خده بسوسنةٍ ... صفراء صيغت من وجنتي عبده لم تر عيني من قبله غصناً ... سوسنه نابتٌ إذا ورده أعملت زجري فقلت ربتما ... قرب خد المشوق من خده فحدثني المذكور أنه اجتمع مع أبي بكر ابن يحيى بن مجبر، رحمه الله تعالى، قبل اجتماعه بي في ذلك الموضع الذي اجتمع فيه بي بعينه، فحدثه بالحكاية كما حدثني، وسأله أن يقول في تلك الحال، فقال بديهاً: بي رشأ وسنان مهما انثنى ... حار قضيب البان في قده مذ ولي الحسن وسلطانه ... صارت قلوب الناس من جنده أودع في وجنته زهرةً ... كأنها تجزع من صده وقد تفاءلت على فعله ... أني أرى خدي على خده فتعجبت من توارد خاطرينا على معنى هذا البيت الأخير. قال أبو بحر: ثم قلت في تلك الحال: أبرز من وجنته وردةً ... أودعها سوسنةً صفرا وإنما صورته آيةٌ ... ضمنها من سوسنٍ عشرا 536 - وقال بعضهم (1) في الباذنجان: ومستحسن عند الطعام مدحرج ... غذاه نمير الماء في كل بستان

_ (1) بعض شعراء الأندلس.

تطلع في أقماعه فكأنه ... قلوب نعاجٍ في مخاليب عقبان 537 - وقال ابن خروف، ويقال أنها في وصف دمشق: إذا رحلت عروبة عن حماها ... تأوه كل أواه حليم إلى سبتٍ حكى فرعون موسى ... يجمع كل سحار عليم فتبصر كل أملود قويمٍ ... يميس بكل ثعبانٍ عظيم إذا انسابت أراقمها عليها ... تذكرنا بها ليل السليم وشاهدنا بها في كل حينٍ ... حبالاً ألقيت نحو الكليم 538 - وقال أبو القاسم ابن هشام (1) ارتجالاً في وسيم عض وردة ثم رمى بها، وسئل ذلك منه امتحاناً: ومعجز الأوصاف والوصاف في ... بردي جمالٍ طرزا بالتيه سوسان أنمله تناول وردةً ... فغدا يمزقها أقاحي فيه فكأنني شبهت وجنته بها ... فرما بها غضباً على التشبيه وقال أيضاً (2) فيمن عض كلبٌ وجنته: وأغيد وضاح المحاسن باسمٍ ... إذا قامر الأسياف ناظره قمر تعمد كلب عض وجنته التي ... هي الورد إيناعاً وأبقى بها أثراً فقلت لشهب الأفق كيف صماتكم ... وقد أثر العواء في صفحة القمر 539 - وقال آخر يصف شجة في خد وسيم: عذيري من ذي صفحةٍ يوسفية ... بها شجةٌ جلت عن اللثم واللمس

_ (1) ترجمة أبي القاسم ابن هشام في زاد المسافر: 62. (2) م: وقال آخر.

يقولون من عجب: أتحسن وصفها ... فقلت: هلال لاح في شفق الشمس 540 - وقال القاضي أبو الوليد الوقشي فيمن طر شاربه (1) : قد بينت فيه الطبيعة أنها ... لبديع أفعال المهندس باهره عنيت بمبسمه فخطت فوقه ... بالمسك خطاً من محيط الدائرة 541 - وقال أبو الحسن ابن عيسى: عابوه أسمر ناحلاً ذا ذرقةٍ ... رمداً وظنوا أن ذاك يشينه جهلوا بأن السمهري شبيهه ... وخطابه بدم القلوب يزينه 542 - وقال الأستاذ أبو ذر الخشني: أنكر صحبي إذ رأوا طرفه ... ذا حمرة يشفى بها المغرم لا تنكروا ما احمر من طرفه ... فالسيف لا ينكر فيه الدم 543 - وقال أبو عبد الله محمد (2) بن أبي خالص الرندي: يا شادناً برز العذار بخده ... وازداد حسناً، ليته لم يبرز الآن أعلم حين جد بي الهوى ... كم بين مختصرٍ وبين مطرز 544 - وقال أبو الحسين عبد الملك بن مفوز المعافري: ومعذرٍ من خده ورقيبه ... شغلان حلا عقد كل عزيمة خد وخب عيل صبري منهما ... هذا بنمنمةٍ وذا بنميمة 545 - وقال أبو الوليد ابن زيدون فيمن أصابه جدري (3) :

_ (1) مر البيتان، انظر ج 3: 376. (2) محمد: سقطت من م. (3) ديوان ابن زيدون: 124.

قال لي اعتل من هويت حسود ... قلت: أنت العليل ويحك لا هو ما الذي قد نكرت من بثرات ... ضاعفت حسنه وزانت حلاه جسمه في الصفاء والرقة الما ... ء فلا غرو أن حبابٌ علاه 546 - وقال الهيثم (1) : قالوا: به جربٌ فقلت لهم قفوا ... تلك الندوب مواقع الأبصار هو روضةٌ والقد غصنٌ ناعمٌ ... أرأيتم غصناٌ بلا نوار 547 - وقال أبو بكر محمد بن عياض القرطبي (2) في مخضوبة الأنامل: وعلقتها فتانةً أعطافها ... تزري بغصن البانة المياد من للغزالة والغزال بحسنها ... فى الخد أو في العين أو في الهادي خضبت أناملها السواد وقلما ... أبصرت أقلاماً بغير مداد 548 - وقال أبو الحسين النفزي (3) : بدا يوسفاً وشدا معبداً ... فللعين ما تشتهي والأذن كأن بأعلاه قمريةً ... تغرد من قده في غصن 549 - وقال ابن صارة: مقام حر بأرض هونٍ ... عجزٌ لعمري من المقيم سافر فإن لم تجد كريماً ... فمن لئيمٍ إلى لئيم

_ (1) زاد في م: في من اعتل بجرب. (2) ترجمته في التكملة: 515. (3) م: وقال أبو الحسن النفزي في مهفهف أهيف.

550 -[أشعار المعتمد] وقال المعتمد بن عباد، رحمه الله تعالى (1) : مولاي اشكو إليك داءً ... أصبح قلبي به قريحا سخطك قد زادني سقاماً ... فابعث إلي الرضى مسيحا قال بعضهم: وقوله مسيحا من القوافي التي يتحدى بها. وكتب إلى أبيه جواباً عن تحفة (2) : يا مالكاً قد أصبحت كفه ... ساحرةً بالعارض الهاطل قد أفحمتني منةٌ مثلها ... يضيق القول على القائل وإن أكن قصرت في وصفها ... فحسنها عن وصفها شاغلي وكتب إلى وزيره ابن عمار: لما نأيت نأى الكرى عن ناظري ... وودته لما انصرفت عليه طلب البشير بشارةً يجزى بها ... فوهبت قلبي واعتذرت إليه وقال في جارية له كان يحبها، وبينما هي تسقيه إذ لمع البرق فارتاعت: يروعها البرق وفي كفها ... برقٌ من القهوة لماع يا ليت شعري وهي شمس الضحى ... كيف من الأنوار ترتاع ومن توارد الخواطر أن ابن عباد أنشد عبد الجليل بن وهبون البيت الأول، وأمره أن يذيله، فقال: ولن ترى أعجب من آنسٍ ... من مثل ما يمسك يرتاع

_ (1) ديوان المعتمد: 33. (2) وردت هذه القطع في ديوان المعتمد 42، 63، 31، 12، 14، 19، 3، 10، 25، 7.

وقال المعتمد، رحمه الله تعالى: داوى ثلاثته بلطف ثلاثة ... فثنى بذاك رقيبه لم يشعر أسراره بتستر، وأوراه ... بتصبر، وخباله بتوقر وكانت له جارية اسمها " جوهرة " وكان يحبها، فجرى بينهما عتاب، ورأى أن يكتب إليها يسترضيها، فأجابته برقعة لم تعنونها باسمها، فقال: لم تصف لي بعد وإلا فلم ... لم أرى في عنوانها جوهرة درت بأني عاشقٌ لاسمها ... فلم ترد للغيظ أن تذكره قالت: إذا أبصره ثابتاً ... قبله، والله لا أبصره وقال في هذه الجارية: سرورنا بعدكم ناقصٌ ... والعيش لا صافٍ ولا خالص والسعد إن طالعنا نجمه ... وغبت (1) فهو الآفل الناكص سموك بالجوهر مظلومةُ ... مثلك لا يدركه غائص وقال فيها أيضاً: جوهرةٌ عذبني ... منك تمادي الغضب فزفرتي في صعدٍ ... وعبرتي في صبب يا كوكب الحسن الذي ... أزرى بزهر له الشهب مسكنك القلب، فلا ... ترضى له بالوصب وقال في جاريت اسمها وداد: اشرب الكأس في وداد ودادك ... وتأنس بذكرها في انفرادك

_ (1) ق: وغيث.

قمرٌ غاب عن جفونك مرآ ... هـ وسكناه في سواد فؤادك وقال (1) : لك الله كم أودعت قلبي من أسى ... وكم لك ما بين الجوانح من كلم لحظاك طول الدهر حربٌ لمهجي ... ألا رحمةٌ تثنيك يوماً إلى سلمي وقال: قلت متى ترحمني ... قال: ولا طول الأبد قلت: فقد أيأسني ... من الحياة، قال: قد 551 - وأهدى أبو الوليد ابن زيدون باكورة تفاحٍ إلى المعتضد والد المعتمد، وكتب له معها (2) : يا من تزينت الريا ... سة حين ألبس ثوبها جاءتك جامدة المدا ... م فخذ عليها ذوبها 552 - وقال المعتمد وقد أمره أبوه المعتضد أن يصف مجناً فيه كواكب فضة (3) : مجنٌّ حكى صانعوه السما ... لتقصر عنه طوال الرماح وقد صوروا فيه شبه الثريا ... كواكب تقضي له بالنجاح 553 - وقال ابن اللبانة: كنت بين يدي الرشيد ابن المعتمد في مجلس أنسه، فورد الخبر بأخذ يوسف بن تاشفين غرناطة سنة 483، فتفجع وتلهف،

_ (1) سقط البيتان من م. (2) ديوان ابن زيدون: 221. (3) ديوان المعتمد: 29.

واسترجع وتأسف، وذكر قصر غرناطة فدعونا لقصره بالدوام، ولملكه بتراخي الأيام، وأمر عند ذلك أبا بكر الإشبيلي بالغناء، فغنى: يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد فاستحالت مسرته، وتجهمت أسرته، وأمر بالغناء من ستارته، فغنى: إن شئت أن لا ترى صبراً لمصبرٍ ... فانظر على المقليَّن من أهل المروءات أنَّ اعتذاري إلى من جاء يسألني ... ما لست أملك من إحدى المصيبات قال: فتلافيت الحال بأن قلت: محلٌّ مكرمة لا هدّ مبناه ... وشمل مأثرةٍ لا شتت (1) الله البيت كالبيت لكن زاد ذا شرفاً ... أن الرشيد مع المعتمد ركناه ثاوٍ على أنجم الجوزاء مقعده ... وراحلٌ في سبيل السعد مسراه حتم على الملك أن يقوى وقد وصلت ... بالشرق والغرب يمناه ويسراه بأسٌ توقد، فاحمرت لواحظه ... ونائلٌ شبَّ، فاخضرت عذراه فلعمري لقد بسطت من نفسه، وأعادت عليه بعض أنسه، على أني وقعت فيما وقع فيه الكل لقولي " البيت كالبيت ". وأمر إثر ذلك أبا بكر بالغناء، فغنى: ولما قضينا من منىً كل حاجةٍ ... ولم يبق إلا أن تزم الركائب

_ (1) ب: لا شته.

فأيقنا أن هذا التطير، يعقبه التغير. 554 - وقد كان المعتضد بن عباد - حين تصرمت أيامه، وتدانى حمامه - استحضر مغنياً يغنيه ليجعل ما يبدأ به فألاً، وكان المغني السوسي، فأول شعر قاله: نطوي المنازل علماً أن ستطوينا ... فشعشعيها بماء المزن واسقينا فمات بعد خمسة أيام، وكان الغناء من هذا الشعر في خمسة أبيات: 555 - وقال المعتمد بعدما خلع وسجن (1) : قبح الدهر فماذا صنعا ... كلما أعطى نفيساً نزعا قد هوى ظلماً بمن عاداته ... أن ينادي كل من يهوي: لعا من إذا قيل الخنى صم، وإن ... نطق العافون همساً سمعا قل لمن يطمع في نائله ... قد أزال اليأس ذاك الطمعا راح لايملك إلا دعوةً ... جبر الله العفاة الضيعا 556 - وقال ابن اللبانة: كنت مع المعتمد بأغمات، فلما قاربت الصدر، وأزمعت السفر، صرف حيله، واستنفد ما قبله، وبعث إلي مع شرف الدولة ولده - وهذا من بنيه أحسن الناس سمتاً، وأكثرهم صمتاً، تخجله اللفظة، وتجرحه اللحظة، حريص على طلب الأدب، مسارع في إقتناء الكتب، مثابر على نسخ الدواوين، مفتح فيها من خطه زهر الرياحين - بعشرين مثقالاً مرابطية، وثوبين غير مخيطين، وكتب معها أبياتاً منها (2) : إليك النزر من كف الأسير ... وإن تقنع تكن عين الشكور

_ (1) ديوان المعتمد: 108. (2) ديوانه: 102.

تقبل ما يذوب له حياءً ... وإن عذرته حالات الفقير فامتنعت من ذلك عليه، وأجبته بأبيات منها: تركت هواك وهو شقيق ديني ... لئن شقت برودي عن غدور ولا كنت الطليق من الرزايا ... إذا أصبحت أجحف بالأسير جذيمة أنت، والزباء خانت ... وما أنا من يقصر عن قصير تصرف في الندى حيل المعالي ... فتسمح من القليل بالكثير وأعجب منك أنك في ظلامٍ ... وترفع للعفاة منار نور رويدك سوف توسعني سروراً ... إذا عاد ارتقاؤك للسرير وسف تحلني رتب المعالي ... غداة تحل في تلك القصور تزيد على ابن مروانٍ عطاءً ... بها وأزيد ثم على جرير تأهب أن تعود إلى طلوعٍ ... فليس الخسف ملتزم البدور وأتبعتها أبياتاً منها: حاشا لله أن أجيح كريماً ... يتشكى فقراً وقد سد فقرا وكفاني كلامك الرطب نيلاً ... كيف ألغي دراً وأطلب تبرا لم تمت إنما المكارم ماتت ... لا سقى الله بعدك الأرض قطرا ورأى ابن اللبانة أحد أبناء المعتمد، وهو غلام وسيم، وقد اتخذ الصياغة صناعة، وكان يلقب أيام سلطانهم من الألقاب السلطانية بفخر الدولة، فنظر إليه وهو ينفخ الفحم بقصبة الصائغ، وقد جلس في السوق يتعلم الصياغة، فقال: شكاتنا لك يا فخر العلا عظمت ... والرزء يعظم ممن قدره عظما طوقت من نائبات الدهر مخنقةً ... ضاقت عليك وكم طوقتنا نعما وعاد طوقك في دكان قارعةٍ ... من بعد ما كنت في قصر حكى إرما

صرفت في آلة الصواغ أنملةٌ ... لم تدر إلا الندى والسيف والقلما يدٌ عهدتك للتقبيل تبسطها ... فتستقل الثريا أن تكون فما يا صائغاً كانت العليا تصاغ له ... حلياً وكان عليه الحلي منتظما للنفخ في الصور هولٌ ما حكاه سوى ... هولٍ رأيتك فيه تنفخ الفحما وددت إذ نظرت عيني إليك به ... لو أن عيني تشكو قبل ذاك عمى ما حطك الدهر لما حط عن شرفٍ ... ولا تحيف من أخلاقك الكرما لح في العلا كوكباً، إن لم تلح قمراً ... وقم بها ربوة، إن لم تقم علما واصبر فربما أحمدت عاقبةً ... من يلزم الصبر يحمد غب ما لزما والله لو أنصفتك الشهب لانكسفت ... ولو وفى لك دمع الغيث لانسجما أبكى حديثك حتى الدر حين غدا ... يحكيك رهطاً وألفاظاً ومبتسما 557 - وقال لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى (1) : وقفت على قبر المعتمد بن عباد بمدينة أغمات في حركة راحة أعملتها إلى الجهات المراكشية، باعثها لقاء الصالحين ومشاهدة الآثار سنة761، وهو بمقبرة أغمات في نشز من الأرض، وقد حفت به سدرة، وإلى جانبه قبر اعتماد حظيته مولاة رميك، وعليهما هيئة التغرب ومعاناة الخمول من بعد الملك، فلا تملك العين دمعها عند رؤيتها، فأنشدت في الحال: قد زرت قبرك عن طوعٍ بأغمات ... رأيت ذلك من أولى المهمات لم لا أزورك يا أندى الملوك يداً ... ويا سراج الليالي المدلهمات وأنت من لو تخطى الدهر مصرعه ... إلى حياتي لجادت فيه أبياتي أناف قبرك في هضبٍ يميزه ... فتنتحيه حفيات التحيات كرمت حياً وميتاً واشتهرت علاً ... فأنت سلطان أحياءٍ وأموات

_ (1) انظر مشاهدات لسان الدين: 133 نقلاً عن نفاضة الجراب، وأزهار الرياض 1: 297 وستأتي القصيدة في الباب الخاص بشعر لسان الدين.

ما ريء مثلك في ماضٍ، ومعتقدي ... أن لا يرى الدهر في حال وفي آت وقد زرت أنا قبر المعتمد بن عباد بمدينة أغماد سنة 1010، ورأيت فيه مثل ما ذكره لسان الدين رحمه الله تعالى، فسبحان من لايبيد ملكه، لا إله إلا هو. 558 - وقال وزيره أبو الوليد ابن زيدون (1) : متى أخف الغرام يصفه جسمي ... بألسنة الضنى الخرس الفصاح فلو أن الثياب نزعن عني ... خفيت خفاء خصرك في الوشاح وقال يخاطب المعتمد: وطاعة أمرك فرضٌ أراه ... من كل مفترضٍ أو كدا هي الشرع أصبح دين الضمير ... فلو قد عصاك لقد ألحدا وقال فيه: يا ندى يمنى أبي القاسم عم ... يا سنا بشر المحيا أشمس وارتشف معسول ثغر أشنبٍ ... لحبيبٍ من عجاجٍ ألعس وقال: مهما امتدحت سواك قبل فإنما ... مدحي إلى مدحي لك استطراد تغشى الميادين الفوارس حقبةً ... كيما يعلمها النزال طراد وقال:

_ (1) وردت هذه المقطعات في ديوان ابن زيدون: 429، 216، 212، 465، 436، 229.

يحييني بريحان التجني ... ويصحبني معتقة السماح فها أنا قد ثملت من الأيادي ... إذا اتصل اغتباقي باصطباحي وكتب إلى أبي عامر يستدعيه: أبا المعالي نحن في روضةٍ ... فانقل علينا القدم العاليه أنت الذي لو نشتري ساعةً ... ولو أنها لم تكن غاليه وتذكرت هنا قول بعض المشارقة فيما أظن: لله أيامٌ مضت مأنوسةً ... ما كان أحسنها وأنضرها معا لو ساعةٌ منها تباع شريتها ... ولو أنها بيعت بعمري أجمعا رجع: 559 - وقال أبو القاسم أسعد من قصيدة في المعتصم بن صمادح (1) : وقد ذاب كحل الليل في دمع فجره ... إلى أن تبدى الليل كاللمة الشمطا كأن الدجى جيشٌ من الزنج نافذٌ ... وقد أرسل الإصباح في إثره القبطا ومنها: إذا سار سار الجود تحت لوائه ... فليس يحط المجد إلا إذا حطا 560 - وقال ابن خلصة المكفوف (2) النحوي من قصيدة: ملكٌ تملك حر المجد، لا يده ... نالت بظلم ولا مالت إلى البخل مهذب الجد ماضي الحد مضطلع ... لما تحمله العلياء من ثقل

_ (1) المطمح: 83 وقد مرت بعض أبيات هذه القصيدة ص: 51. (2) ترجمة ابن خلصة في التحفة (ص: 1) والوافي 3: 42، 232.

أغر، لا وعده يخشى له أبداً ... خلفٌ، ولا رأيه يؤتى من الزلل قد جاوزت نطق الجوزاء همته ... به، وما زحلت عن مرتقى زحل يأبى له أن يحل الذم ساحته ... ما صد من جللٍ أو سد من خلل ومنها: إن لم تكن بكم حالي مبدلةً ... فما انتفاعي بعلم الحال والبدل 561 - وقال ابن الحداد يمدح المعتصم بن صمادح: عج بالحمى حيث الغياض العين ... فعسى تعن لنا مهاه الغين واستقبلن أرج النسيم فدارهم ... ندية الأرجاء لا دارين أفقٌ إذا ما رمت لحظ شموسه ... صدتك للنقع المثار دجون أنى أراع لهم وبن جوانحي ... شوقٌ يهون خطبهم فيهون أنى يهاب ضرابهم وطعانهم ... صبٌ بألحاظ العيون طعين فكأنما بيض الصفاح جداولٌ ... وكأنما سمر الرماح غصون ذرني أسر بين الأسنة والظبى ... فالقلب في تلك القباب رهين يا ربة القرط المعير خفوقه ... قلبي، أما لحراكه تسكين توريد خدك للصبابة موردٌ ... وفتور طرفك للنفوس فتون فإذا رمقت فوحي حبك منزلٌ ... وإذا نطقت فإنه تلقين ومنها في وصف قصر: رأسٌ بظهر النون إلا أنه ... سامٍ، فقبته بحيث النون هو جنة الدنيا تبوأ نزلها ... ملكٌ تملكه التقى والدين فكأنما الرحمن عجلها له ... ليرى بما قد كان ما سيكون وكأن بانيه سنمارٌ فما ... يعدوه تحسينٌ ولا تحصين

وجزاؤه فيه نقيض جزائه ... شنان ما الإحياء والتحيين ومنها في المديح: لا تلقح الأحكام حيفاً عنده ... فكأنما الأفعال والتنوين ومنها: وبدا هلال الأفق أحنى ناسخاً ... عهد الصيام كأنه العرجون فكأن بين الصوم خطط نحوه ... خطاً خفياً بان منه النون 562 - وقال عبد الجليل بن وهبون: زعموا الغزال حكاه قلت لهم: نعم ... في صده عن عاشقيه وهجره وكذا يقولون المدام كريقه ... يا رب ما علموا مذاقة ثغره 563 - وقال أبو الحسن علي بن أحمد بن أبي وهب الأندلسي: قالوا: تدانيت من وداعهم ... ولم نر الصبر عنك مغلوبا فقلت: للعلم أنني بغدٍ ... أسمع لفظ الوداع مقلوبا وهذا كقول بعض شعراء اليتيمية (1) : إذا دهاك الوداع فاصبر ... ولا يروعنك البعاد وانتظر العود عن قريبٍ ... فإن قلب الوداع عادوا 564 - وقال ابن اللبانة (2) : إن تكن تبتغي القتال فدعني ... عنك في حومة القتال أحامي

_ (1) مر البيتان في ج 1: 92. (2) زاد في م: في التورية.

خذ جناني عن جنةٍ، ولسلني ... عن سنانٍ، وخاطري عن حسام 565 - وقال القزاز يمدح ابن صمادح، وخلط النسيب بالمديح: نفى الحب عن مقلتي الكرى ... كما قد نفى عن يدي العدم فقد قر حبك في خاطري ... كما قر في راحتيك الكرم وفر سلوك عن فكرتي ... كما فر عن عرضه كل ذم فحبي ومفخره باقيان ... لا يذهبان بطول القدم فأبقى لي الحب خالٌ وجدٌ ... وأبقى له الفخر خالٌ وعم 566 - وقال أبو الحسن ابن الحاج: أذوب اشتياقاً يوم يحجب شخصه ... وإني على ريب الزمان لقاسي وأذعر منه هيبةً وهو المنى ... كما يذعر المخمور أول كاس وقال (1) : أبا جعفرٍ، مات فيك الجمال ... فأظهر خدك لبس الحداد وقد كان ينبت نور الربيع ... فقد صار ينبت شوك القتاد فهل كنت من عبد شمسٍ فأخشى ... عليك ظهور شعار السواد وقال، وما أحكمه: ما عجبي من بائعٍ دينه ... بلذةٍ يبلغ فيها هواه

_ (1) انظر المغرب 2: 281 والقلائد: 144.

وإنما أعجب من خاسرٍ ... يبيع أخراه بدنيا سواه وقال في مخمسة يرثي فيها ابن صمادح، ويندب الأندلس زمن الفتنة: من لي بمجبول على ظلم البشر ... صحف في أحكامه حاء الحور مر بنا يسحب أذيال الخفر ... ما احسد الظبي له إذا نفر وأشبه الغصن به إذا خطر ... كافورةٌ قد طرزت بمسك ... جوهرةٌ لم تمتهن بسلك بذت فيها ورعي ونسكي ... بعد لجاجي في التقى ومحكي فاليوم قد صح رجوعي واشتهر ... نهيت قدماً ناظري عن نظر ... علماً بما يجري ركوب الغرر وقلت: عرج عن سبيل الخطر ... فاليوم قد عاين صدق الخبر إذ بات وقفاً بين دمعٍ وسهر ... سقى الحيا عهداً لنا بالطاق ... معترك الألباب والأحداق وملتقى الأنفس والأشواق ... أيأس فيه الدهر عن تلاقي وربما ساءك دهرٌ ثم سر ... أحسن به مطلعاً ما أغربا ... قابل من دجلة مرأى معجبا إن طلعت شمسٌ وقد هبت صبا ... حسبته ينشر برداً مذهبا بمنظرٍ فيه جلاءٌ للبصر ... يا رب أرضٍ قد خلت قصورها ... وأصبحت آهلةً قبورها يشغل عن زائرها مزورها ... لا يأمل العودة من يزورها هيهات: ذاك الورد ممنوع الصدر ...

567 -[أشعار لابن خفاجة] وقال ابن خفاجة في صفة قوس (1) : عوجاء تعطف ثم ترسل تارةً ... فكأنما هي حيةٌ تنساب وإذا انحنت، والسهم منها خارجٌ ... فهي الهلال انقض منه شهاب وقال: وعسى الليالي أن تمن بنظمنا ... عقداً كما كنا عليه وأكملا فلربما نثر الجمان تعمداً ... ليعاد أحسن في النظام وأجملا وهو من قول مهيار: عسى الله يجعلها فرقةً ... تعود بأكمل مستجمع وقول المتنبي: سألت الله يجعله رحيلاً ... يعين على الإقامة في ذراكا وقال: اقض على خلك أو ساعد ... عشت بجد في العلا صاعد فقد بكى جفني دماً سائلاً ... حتى لقد ساعده ساعداي وقال: وأسودٍ يسبح في بركةٍ ... لا تكتم الحصباء غدرانها كأنها في صفوها مقلةٌ ... زرقاء، والأسود إنسانها

_ (1) راجع ديوان ابن خفاجة: 361، 369، 363، 370 والثانية مرت في ج 1: 31.

وقال: حيا بها ونسيمها كنسيمه ... فشربتها من كفه في وده منساغةً فكأنها من ريقه ... محمرةً فكأنها من خده وقال: لعمري لو أوضعت في منهج التقى ... لكان لنا في كل صالحة نهج فما يستقيم الأمر، والملك جائر ... وهل يستقيم الظل، والعود معوج وقال يرثي صديقاً من أبيات: تيقن أن الله اكرم جيرةٍ ... فأزمع عن دار الحياة رحيلا فان أقفرت منه العيون فإنه ... تعوض منها بالقلوب بديلا ولم ار أنساً قبله عاد وحشةً ... وبرداً علا الأكباد عاد غليلا ومن تك أيام السرور قصيرة ... به كان ليل الحزن فيه طويلاً وقال: تفاوت نجلا أبي جعفرٍ ... فمن متعالٍ ومن منسفلٍ فهذا يمين بها أكله ... وهذا شمالٌ بها يغتسل 568 - وقال ابن الرفاء: ولما رأيت الغرب قد غص بالدجى ... وفي الشرق من ضوء الصباح دلائل توهمت أن الغرب بحرٌ أخوضه ... وأن الذي يبدو من الشرق ساحل 569 - وقال أبو محمد ابن عبد البر الكاتب: لا تكثرن تأملاً ... وامسك عليك عنان طرفك

فلربما أرسلته ... فرماك في ميدان حتفك 570 - وقال أبو القاسم السميسر (1) : يا آكلاً كل ما اشتهاه ... وشاتم الطب والطبيب ثمار ما قد غرست تجني ... فانتظر السقم عن قريب يجتمع الداء كل يومٍ ... أغذية السوء كالذنوب وكان كثير الهجاء، وله كتاب سماه بشفاء الأمراض في أخذ الأعراض والعياذ بالله. ومن قوله: خنتم فهنتم وكم أهنتم ... زمان كنتم بلا عيون فأنتم تحت كل تحتٍ ... وأنتم دون كل دون سكنتم يا رياح عادٍ ... وكل ريحٍ إلى سكون وقال (2) : يا مشفقاً من خمول قومٍ ... ليس لهم عندنا خلاق ذلوا ويا طالما أذلوا ... دعهم يذوقوا الذي أذاقوا وقال: وليتم فما أحسنتم مذ وليتم ... ولا صنتم عما يصونكم عرضا وكنتم سماء لا ينال منالها ... فصرتم لدى من لا يسائلكم أرضا ستسترجع الأيام ما أفرضتكم ... ألا إنها تسترجع الدين والقرضا

_ (1) الذخيرة 2/1: 380. (2) الذخيرة: 2/1: 375.

571 - وقال ابن شاطر السرقسطي: قد كنت لاأدري لأية علةٍ ... صار البياض لباس كل مصاب حتى كساني الدهر سحق ملاءةٍ ... بيضاء من شيبي لفقد شبابي فبذا تبين لي إصابة من رأى ... لبس الباض على نوى الأحباب 572 - وهذه عادة أهل الأندلس، ولهذا قال الحصري: إذا كان البياض لباس حزنٍ ... بأندلسٍ فذاك من الصواب ألم ترني لبست ببياض شيبي ... لأني قدت حزنت على الشباب وما أحسن قوله رحمه الله تعالى: لو كنت زائرتي لراعك منظري ... ورأيت بي ما يصنع التفريق ولحال من دمعي وحر تنفسي ... بيني وبينك لجةٌ وحريق 573 - وقال ابن عبد الصمد يصف فرساً: إلى سابحٍ فردٍ يفوت بأربعٍ ... له أربعاً منها الصبا والشمائل من الفتخ خوار العنان كأنه ... مع البرق سارٍ أو مع السيل سائل 574 - وقال ابن عبد الحميد البرجي: أرح متن المهند والجواد ... فقد تعبا بجدك في الجهاد قضيت بعزمةٍ حق العوالي ... فقض براحةٍ حق الهوادي 575 - وقال عبادة: إنما الفتح هلالٌ طالعٌ ... لاح من أزراره في فلك خده شمسٌ، وليلٌ شعره ... من رأى الشمس بدت في حلك

576 - وقال ابن المطرف المنجم: يرى العواقب في أثناء فكرته ... كأن أفكاره بالغيب كهان لا طرفةٌ منه إلا تحتها عمل ... كالدهر لا دورةٌ إلا لها شان 577 - وقال أبو الحسن ابن اليسع: راموا ملامي، وكان إغرا ... وذم حبي، وكان إطرا لو علم العاذلون ما بي ... لانقلبت فيه لامهم را وقال: لما قدمت وعندي ... شطرٌ من الشوق وافي قدمت قلبي قبلي ... فصنه حتى أوافي 578 - ولما خاطب المستنصر ملك إفريقية ابن سيد الناس بقوله: ما حال عينيك يا عين الزمان فقد ... أورثتني حزناً من أجل عينيكا وليس لي حيلةٌ غير الدعاء فيا ... رب براوي الصحيحين حنانيكا أجابه الحافظ أبو المطرف ابن عميرة المخزومي خدمة عن الحافظ أبي بكر ابن سيد الناس: مولاي حالهما والله صالحةٌ ... لما سألت فأعلى الله حاليكا ما كان من سفرٍ أو كان من حضرٍ ... حتى تكون الثريا دون نعليكا 579 - وقال الأديب أبو العباس الرصافي، وهو من أصحاب أبي حيان: هذا هلال الحسن أطلع بيننا ... وجميعنا بحلى محاسنه شغف

لما رأى صل العذار بخده ... ماء النعيم أتى إليه ليرتشف فكأن ذاك الخد أنكر أمره ... فاحمر من حنقٍ عليه وقال قف وقال: وعشيةٍ نعمت بها أرواحنا ... والخمر قد أخذت هنالك حقها وكأنما ابريقنا لما جثا ... ألقى حديثاً للكؤوس وقهقها 580 - وقال الإمام الحافظ أبو الربيع ابن سالم: كأنما إبريقنا عاشقٌ ... كل عن الخطو فما أعمله غازل من كأسي حبيباً له ... فكلما قبله أخجله 581 - وقال أبو القاسم ابن الأبرش: رأيت ثلاثةً تحكي ثلاثاً ... إذا ما كنت في التشبيه تنصف فتنجو (1) النيل منفعةً وحسناً ... وشنترين مصر، وأنت يوسف وقال في غريق، وقيل: إنه مما تمثل به (1) : الحمد لله إلى كل حال ... قد أطفأ الماء سراج الجمال أطفأه من كان محياً له ... قد يطفئ الزيت ضياء الذبال وهو القائل أيضاً: لو لم يكن لي آباء أسود بهم ... ولم يؤسس رجال الغرب لي شرفا ولم أنل ملك العصر منزلةً ... لكان في سيبويه الفخر لي وكفى فكيف علمٌ ومجدٌ قد جمعتهما ... وكل مختلقٍ في مثل ذا وقفا

_ (1) كذا ولعله فتجو أي " تاجه " اسم النهر (Tagus) . (1) كذا ولعله فتجو أي " تاجه " اسم النهر (Tagus) .

582 - وقال أبو الحسن أبن حريق: أصبحت تدمير مصراً كاسمها ... وأبو يوسف فيها يوسفا 583 - وقال أبو القاسم ابن العطار الإشبيلي في بعض الهوزنيين وقد غرق في نهر طلبيرة عند فتحها (1) : ولما أن رأوا أن لا مقر لسيفه ... سوى هامهم لاذوا بأجرأ منهم فكان من النهر المعين معينهم ... ومن ثلم السد الحسام المثلم فيا عجباً للبحر غالته نطفةٌ ... وللأسد الضرغام أرداه أرقم 584 -[نقول من التكملة] 1 - وقال أبو العباس اللص (2) : وقائلة والضنى شاملي ... علام سهرت ولم ترقد وقد ذاب حسمك فوق الفرا ... ش حتى خفيت على العود فقلت: وكيف أرى نائماً ... ورائي المنية بالمرصد ولما قرئ عليه ديوان أبي تمام، ومر فيه وصف سيف، قال: أنا أشعر منه حيث أقول: تراه في غداة الغيم شمساً ... وفي الظلماء نجماً أو ذبالا يروعهم معينةً ووهماً ... ولو ناموا لروعهم خيالا 2 - وقال أبو إسحاق الإلبيري (3) :

_ (1) الشعر في القلائد: 288 والبيت الثالث في المغرب 1: 254. (2) القطعتان في التكملة: 80. (3) التكملة: 137 وديوانه: 159.

تمر لداتي واحداً بعد واحدٍ ... وأعلم أني بعدهم غير خالد وأحمل موتاهم وأشهد دفنهم ... كأني بعيد عنهم غير شاهد فها أنا في علمي لهم وجهالتي ... كمستيقظٍ يرنو بمقلة راقد قيل: ولو قال في البيت الثاني: كأني عنهم غائبٌ غير شاهد ... لكان أحسن وأبدع وأبرع في الصناعة الشعرية، قاله ابن الأبار رحمه الله تعالى. 3 - وقال الوزير الوليد ابن مسلمة (1) : إذا خانك ارزق في بلدةٍ ... ووافاك من همها ما كثر فمفتاح رزقك في بلدةٍ ... سواها فردها تنل ما يسر كذا المبهمات بوسط الكتا ... ب مفتاحها أبداً في الطرر 4 - وقال أبو الطاهر إسماعيل الخشني الجياني المعروف بابن أبي ركب، وقيل: إن أخاه الأستاذ أبا بكر هو المعروف بذلك (2) : يقول الناس في مثلٍ ... تذكر غائباً تره فما لي لا أرى سكني ... ولا أنسى تذكره 5 - وأنشد أبو المعالي الإشبيلي الواعظ بمسجد رحبة القاضي من بلنسية أبياتاً منها (3) :

_ (1) التكملة: 184. (2) التكملة: 185. (3) التكملة: 196.

10 - وحكي عن الفقيه الأديب النحوي أبي عبد الله محمد بن ميمون الحسيني، قال (1) : كانت لي في صبوتي جاريةً، وكنت مغرىً بها، وكان أبي رحمه الله يعذلني ويعرض لي بيعها، لأنها كانت تشغلني عن الطلب والبحث عليه، فكان عذله يزيدني إغراء بها، فرأيت ليلةً في المنام كأن رجلاً يأتيني في زي أهل المشرق كل ثيابه بيض، وكان يلقى في نفسي أنه الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، وكان ينشدني: تصبو إلى مي، ومي لا تني ... تزهو ببلواك التي لا تنقضي وفخارك القوم الألى ما منهم ... إلا إمام أو وصي أو نبي فاثن عنانك للهدى عن ذي الهوى ... وخف الإله عليك ويحك وارعوي قال: فانتبهت فزعاً فيما رأيته، فسألت الجارية، هل كان لها اسم قبل أن تتسمى بالاسم الذي أعرفه فقالت: لا، ثم عاودتها حتى ذكرت أنها كانت تسمى مية، فبعتها حينئذٍ، وعلمت أنه وعظٌ وعظني الله به، عز وجل، وبشرى. 11 - وقال ابن الحداد أول قصيدته " حديقة الحقيقة " (2) : ذهب الناس فانفرادي أنيسي ... كتابي محدثي وجليسي صاحبٌ قد أملت منه ملالاً ... واختلالاً وكل خلقٍ بئيس ليس في نوعه بحيٍ ولكن ... يلتقي الحي منه بالمرموس 12 - وقال بعض أهل الجزيرة الخضراء (3) :

_ (1) التكملة: 396. (2) التكملة: 399. (3) التكملة: 415.

ألحاظكم تجرحنا في الحشا ولحظنا يجرحكم في الخدود جرحٌ بجرحٍ فاجعلوا ذا بذا فما الذي أوجب جرح الصدود وقال ابن النعمة: إنهما لابن شرف، وقد ذكرناهما مع جوابهما في غير هذا الموضع. 13 - وقال المعتمد بن عباد (1) : اقنع بحظك في دنياك ما كانا وعز نفسك إن فارقت أوطانا في الله من كل مفقودٍ مضى عوضٌ فأشعر القلب سلواناً وإيمانا أكلما سنحت ذكرى طربت لها مجت دموعك في خديك طوفانا أما سمعت بسلطانٍ شبيهك قد بزته سود خطوب الدهر سلطانا وطن على الكره وارقب إثره فرجاً واستغفر الله تغنم منه غفرانا 14 - وقال أبو عامر البرياني في الصنم الذي بشاطبة (2) : بقيةٌ من بقايا الروم معجبةٌ أبدى البناة بها من علمهم حكما لم أدر ما أضمروا فيه سوى أمم تتابعت بعد سموه لنا صنما كالمبرد الفرد ما أخطأ مشبهه حقاً لقد برد الأيام والأمما كأنه واعظٌ طال الوقوف به مما يحدث عن عاد وعن إرما فانظر إلى حجرٍ صلد يكلمنا أسمى وأوعظ من قس لمن فهما قيل: لو قال مكان حكما علما لأحسن. 15 - وقال السميسر (3) :

_ (1) التكملة: 427 وديوانه: 114. (2) التكملة: 436. (3) التكملة: 470 وفيه القطعة التالية أيضاً.

إذا شئت إبقاء أحوالكا فلا تجر جاهاً على بالكا وكن كالطريق لمجتازها يمر وأنت على حالكا وقال: هن إذا مانلت حظاً فأخو العقل يهون فمتى حطك دهرٌ فكما كنت تكون 16 - وقال أبو الربيع ابن سالم الكلاعي: انشدني ابو محمد الشلبي، أنشدني أبو بكر ابن منخل، لنفسه (1) : مضت لي ست بعد سبعين حجةً ولي حركات بعدها وسكون فيا ليت شعري أين أو كيف أو متى يكون الذي لا بد أن سيكون 17 - وقال أبو محمد عبد الحق الإ (2) شبيلي: لايخدعنك عن دين الهوى نفر لم يرزقوا عن دين الحق تاييدا عمي القلوب عروا عن كل فائدة لأنهم كفروا بالله تقليدا 18 - وقال ابو محمد ابن صارة (3) : والدنيا بجهل عظموها فعزت عندهم وهي الحقيره يهارش بعضهم بعضاً عليها مهارشة الكلاب على العقيره وقال: اسعد بما لك في الحياة ولاتكن تبقي عليه حذار فقرٍ حادث

_ (1) التكملة: 496. (2) التكملة: 699. (3) التكملة: 817 وفيه القطعة التالية أيضاً.

فالبخل بين الحادثين، وإنما مال البخيل لحادث او وارث 19 - ودخل ابو محمد الطائي القرطبي على القاضي أبي الوليد ابن رشد فأنشده ارتجالا (1) : قام لي السيد الهمام قاضي قضاةالورى الإمام فقلت قم بي ولاتقم لي فقلما يؤكل القيام 20 - وقال الحافظ ابو محمد ابن حزم (2) : لاتلمني لأن سبقت لحظ فات إدراكه ذوي الألباب يسبق الكلب وثبة الليث في العد ويعلو النخال فوق اللباب 21 - وقال أبو عبد الله الجبلي الطبيب القرطبي (3) : اشدد يديك على كلبٍ ظفرت به ولا تدعه فإن الناس قد ماتو قلت: تذكرت بهذا قول الآخر: اشدد يديك بكلبٍ إن ظفرت به فأكثر الناس قد صاروا خنازيرا 22 - وقال محمد ابن عبد الله الحضرمي مولى بني أمية: عاشر الناس بالجمي ل وسدد وقارب واحترس من أذى الكرا م وجد بالمواهب لايسود الجميع من لم يقم بالنوائب ويحوط الاذىوير عى ذمام الاقارب

_ (1) التكملة: 824. (2) التكملة: 875 ومر البيتان ج 2: 84. (3) التكملة: 909.

لاتواصل إلا الشري ف البكريم المناصب من له خير شاهد وله خير غائب واجتنب وصل كل وغ دٍ دنيء المكاسب ابن الأبار 585 - وقال الكاتب الحافظ أبو عبد الله ابن الأبار (1) : لله نهرٌ كالحباب ترقيشه سامي الحباب يصف السماء صفاؤه فحصاه ليس بذي احتجاب وكانما هو رقةً من خالص الذهب المذاب غارت على شطيه أب كار المنى عصر الشباب والظل يبدو فوقه كالخال في خد الكعاب لا بل أدار عليه خو ف الشمس منه كالنقاب مثل المجرة جر في ها ذيله جون السحاب وقال: شتى محاسنه، فمن زهرٍ على نهرٍ تسلسل كالحباب تسلسلا غربت به شمس الظهيرة لاتني إحراق صفحته لهيباً مشعلا حتى كساه الدوح من أفنانه برداً بمزنٍ في الأصيل مسلسلا وكأنما لمع الظلال بمتنه قطع الدماء جمدن حين تحللا وقال يمدح المستنصر صاحب إفريقية: إن البشائر كلها جمعت للدين والدنيا وللأمم

_ (1) أزهار الرياض 3: 223 وفيه القطعة التالية أيضاً.

في نعمتين جسيمتين هما برء الإمام وبيعة الحرم قال ابن الأبار: وأخبرني بعض أصحابنا - يعني أبا عمرو ابن عبد الغني - أنه أنشدهما الخليفة فسبقه إلى عجز البيت الثاني، فقلت له على البديهة: فخر لشعري على الأشعار يحفظه خليفة الله كان الله حافظه وأشار بقوله وبيعة الحرم إلى ما ذكره ابن خلدون وغير واحد من المؤرخين أن أهل مكة خطبوا للمستنصر صاحب تونس بعرفة، وكتبوا له بيعة من إنشاء ابن سبعين المتصوف، وقد ذكر ابن خلدون نص البيعة في ترجمة المستنصر، فليراجعها من أرادها. وقال ابن الأبار: ألا اسمع في الأمير مقال صدق وخذه عن امرئ خدم الأميرا متى يكتب ترد وشلاً أجاجاً وإن يركب ترد عذباً نميرا وقال مجيباً للتجاني: أيها الصاحب الصفي، مباح لك عني فيما نصصت الروايه إن عناني إسعاف قصدك فيها فلكم لم تزل بها ذا عنايه ولها شرطها فحافظ عليه ثم كافئ وصيتي بالكفايه وتحام الإخلال جهدك، لاقي ت من الله عصمة وحمايه ونص استدعاء التجاني: إن رأى سيدي الذي حاز في العل م مع الحلم والعلا كل غايه وحوى المجد عن جدود كرام كلهم في السماح والفضل آيه أن أرى عنه بالإجازة أروي كل ما فيه لي تصح الروايه

من حديث وكل نظم ونثر وفنون له بهن درايه فله في ذاك الثواب من الل هـ ومنا الثناء دون نهايه دام في رفعة وعز وسعد وأمان ومكنة وحمايه ما تولى جيش الظلام هزيماً وعلت للصباح في الأفق رايه ولابن الأبار ترجمة واسعة ذكرتها في أزهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض فلتراجع فيه. 586 - وأما التجاني أبو عبد الله هذا المذكور فقد وصفه قريبه أبو الفضل محمد حفيد عمه في كتابه الحلى التيجانية والحلل التيجانية، قال ابن رشيد: وجمعه باسمنا حفظه الله تعالى وشكره، وقال في موضع آخر: إنه باسمه واسم صاحبه الوزير ابن الحكيم، رحمهما الله تعالى، انتهى. 587 - وقال ابن مفوز أبو الحسين: إذا عرتك عيلة يعجز عنها ما تجد فلتقتصد فإنه ما عال قط مقتصد وقال: حاز دنياه كلها محرزاً أكبر المنن من حوى قوت يومه آمناً سالم البدن وقال: أعن أخاك في الذي يأمله ويرتجيه فالله في عون الفتى ما كان في عون أخيه وقال: أنفس ما أودعته قلبك ذكرى موقظه

وخير ما أتلفته مال أفاد موعظه 588 - وقال أبو البركات القميحي: أنشدنا ابن العباس ابن مكنون، وقد رأى اهتزاز الثمار وتمايلها، مرتجلاً: حارت عقول الناس في إبداعها ألسكرها أم لشكرها تتأود فيقول أرباب البطالة: تنثني ويقول أرباب الحقيقة: تسجد قال الشيخ أبو البركات القميحي: قلت لابن مكنون: ما الذي يدل على أنهما في وصف الثمار فقال: وطئ أنت لهما، فقلت: يا من أتى متنزهاً في روضة أزهارها من حسنها تتوقد انظر إلى الأشجار في دوحاتها والريح تنسف والريح تغرد فترى الغصون تمايلت أطرافها وترى الطيور على الغصون تعربد قال ابن رشيد: غلط المذكور في نسبته البيتين لابن مكنون، وإنما هما لأبي زيد الفازازي من قصيدة أولها: نعم الإله بشكره تتقيد فالله يشكر في النوال ويحمد مدت إليه أكفاننا محتاجة فأنالها من جوده ما تعهد والبيتان في أثنائها، غير أن أولهما في ديوانه هكذا: تاهت غقول الناس في حركاتها انتهى. ورأيت في روضة التعريف للسلن الدين بعدهما بيتاً ثالثاً، وهو: وإذا أردت الجمع بينهما فقل في شكر خالقها تقوم وتقعد

589 - وحكي أن حافظ الأندلس إمام الأدباء (1) ، رئيس المؤلفين، حسنة الزمان، نادرة الإحسان، أبا محمد عبد الله بن إبراهيم الصنهاجي الحجاري صاحب كتاب المسهب كان سبب اتصاله بعبد الملك بن سعيد جد علي بن موسى صاحب المغرب أنه وفد عليه في قلعته، فلما وقف على بابه وهو بزي بداوة ازدراه البوابون، فقال لهم: استأذنوا لي على القائد، فضحكوا به، وقالوا له: ما كان وجد القائد من يدخل عليه في هذه الساعة إلا أنت فمد يده إلى دواة في حزامه وسحاءة، وكتب بها: بباب القائد الأعلى - لازال آهلاً بأهل الفضيلة - رجل وفد عليه من شلب بقصيدة مطلعها: عليك أحالني الذكر الجميل فإن رأى سيدي أن يحجب من بلده شلب ومن قصيده هذا فهو أعلم بما يأتي ويذر، ولا عتب على القدر، ورغب إلى أحد غلمانه، فأوصل الورقة، فلما وقف عليها القائد، قال: من شلب، وهذا مطلع قصيدته، ما لهذا إلا شأن، ولعله الوزير ابن عمار، وقد نشر إلى الدنيا، عجلوا بالإذن له، فأذنوا له ودخل وبقي واقفاً لم يسلم ولا كلم أحداً، فاستثقله الحاضرون، واستبردوا مقصده، ونسبوه للجهل وسوء الأدب، فقال له أحدهم: ما لك لا تسلم على القائد، وتدخل مداخل الأدباء والشعراء فقال: حتى أخجل جميعكم قدر ما أخجلتموني على الباب مع أقوام أنذال، وأعلم أيضاً من هو الكثير الفضول من أصحاب القائد أعزه الله تعالى، فأكون أتقيه إن قدر لي خدمته، فقال له عبد الملك: أتأخذ بما فعل السفهاء منا قال: لا والله، بل أغفر لك ذنوبك الدهر أجمع، وإنما هي أسباب نقصدها لنحاور بها مثلك أعزك الله تعالى. ويتمكن التأنيس، وينحل قيد الهيبة، ثم أنشد من رأسه ولا ورقة في يده:

_ (1) ب: الأدب.

عليك أحالني الذكر الجميل فصح العزم واقتضي الرحيل وودعت الحبيب بغير صبر ولم أسمع لما قال العذول وأسلبت الظلام علي ستراً ونجم الأفق ناظره كليل ولم أشك الهجير وقد دعاني إلى أرجائك الظل الظليل وهي طويلة، فأكرمه وقربه، رحم الله تعالى الجميع. 590 - وأهديت للمعتمد بن عباد شمعة، فقال في وصفها أبو القاسم ابن مرزقان الإشبيلي وهو ممن قتل في فتنة المعتمد (1) : مدينة في شمعة صورت قامت حماة فوق أسوارها وما رأينا قبلها روضة تتقد النار بنوارها تصير الليل نهاراً إذا ما أقبلت ترفل في نارها كأنها بعض الأيادي التي تحت الدجى تسري بأنوارها من ملك معتمد ماجد بلاده أوطان زوارها 591 - وقال أبو الأصبغ ابن رشيد الإشبيلي لما هطلت بإشبيلية سحابة بقطر أحمر يوم السبت الثالث عشر من صفر عام أربعة وستين وخمسمائة: لقد آن للناس أن يقلعوا ويمشوا على السنين الأقوام متى عهد الغيث يا غافلاً كلون العقيق أو العندم أظن الغمائم في جوهرها بكت رحمة للورى بالدم وفيها أيضاً: لا تكن دائم الكآبة مما قد غدا في الثرى نميراً نجيعا

_ (1) المغرب 1: 261.

لطم البرق صفحة المزن حتى سال منه على الرياض نجيعا وله في دولاب: ومنجنون إذا دارت سمعت لها صوتاً أجش وظل الماء ينهمل كأن أقداسها ركب إذا سمعوا منها حداء بكوا للبين وارتحلوا وله فيمن اسمه مالك: غزالي الجفون شقيق بدر تبسم عن عقيق فوق در له نفحات مسك أي مسك له نفثات سحر أي سحر شكوت له الهوى والهجر منه فقال: عليك باسمي سوف تدري تعلمت القساوة من سميي وأحرقت القلوب بنار هجري 592 - وقال أبو بكر ابن حجاج الغافقي في موسى وسيم إشبيلية الذي كان شعراؤه يتغزلون فيه (1) : ممن مبلغ موسى المليح رسالة بعثت له من كافري عشاقه ما كان خلق راغباً عن دينه لو لم تكن توراته من ساقه وقال: إن الزويلي فتى شاعر قد أعجب العالم من نظمه وأنت يا موسى قد اخترته واختار موسى قبل من قومه وقال: على معاذ قرون لو يعاينها فرعون ما قال أوقد لي على الطين

_ (1) المغرب 1: 261.

قالت له عرسه إذ جاء ينكحها ماذا دهيت به من كل عنين هلا استعنت بميمون، فقال لها إني استعنت على نفسي بميمون 593 - وقال أبو وهب ابن عبد الرؤوف النحوي، وكان له حظ في قرض الشعر، وكان سناطاً (1) : ليس لمن ليست له لحية باس إذا حصلته، لبسا وصاحب اللحية مستقبح يشبه في طلعته التيسا إن هبت الريح تلاهت به وماست به الريح به ميسا 594 - وقال أبو عبد الله محمد بن يحيى القلفاظ: يا غزالاً عن لي فاب تز قلبي ثم ولى أنت مني بفؤادي يا منى نفسي أولى 595 - وقال أحمد بن المبارك الحبيبي في الناصر قبل أن يلي عهد جده (2) : يا عابد الرحمن فقت الورى بهذه العليا وهذا الكرم ما جعل الله الندى في امرئ إلا وقد جنبه كل ذم 596 - واستدعى الوزير عبيد الله بن إدريس أبا بكر أحمد بن عثمان المرواني، ونادمه ليلة، فلما قرب الصباح قال له: أين ما يحدث عنك من حسن الشعر فهذا موضعه، فقال: الدواة والقرطاس، فأمر له بإحضارهما، فجعل يفكر ويكتب إلى أن أنشده هذه الأبيات: بتنا ندامى صفاء يستحث لنا في جامد الفضة التبر الذي سبكا

_ (1) السناط: الذي ليس في عارضيه شعر. (2) إلى هنا انتهت النسخة ب، وسقطت سائر الأوراق منها.

كل مصيخ إلى ما قال صاحبه ولا يبالي أصدقاً قال أم أفكا موقرون خفاف عند شربهم ولا يخافون فيما أحدثوا دركا لا تعدمن إذا أبصرتهم فرحاً أما ترى الصبح من بشر بهم ضحكا 597 - وقال أبو محمد عبد الله المرواني في الخيري: عجبت من الخير يكتم عرفه نهاراً ويسري بالظلام فيعرب فتجني عروس الطيب منه يد الدجى ويبدو له وجه الصباح فيحجب 598 - وقال إبراهيم بن إدريس العلوي: للبين في تعذيب نفسي مذهب ولنائبات الدهر عندي مطلب أما ديون الحادثات فإنها تأتي لوقت صادق لا يكذب 599 - وخرج الأديب النحوي هذيل الإشبيلي يوماً من مجلسه، فنظر إلى سائل عاري الجسم، وهو يرعد ويصيح، الجوع والبرد، فأخذ بيده، ونقله إلى موضع بلغته الشمس، وقال له: صح الجوع، فقد كفاك الله مؤونة البرد. 600 - ومر المعتمد بن عباد (1) ليلة مع وزيره ابن عمار بباب شيخ كثير التهكم والتنذير، يمزج ذلك بانحراف يضحك الثكلى، فقلا لابن عمار: تعال نضرب على هذا الشيخ الساقط بابه حتى نضحك معه، فضربا عليه الباب، فقال: من هذا فقال ابن عباد: إنسان يرغب أن تقد له هذه الفتيلة، فقال: والله لو ضرب ابن عباد بابي في هذا الوقت ما فتحت له، فقال: فإني ابن عباد، فقال: مصفوع ألف صفعة، فضحك ابن عباد حتى سقط إلى الأرض، وقال لوزيره: امض بنا قبل أن يتعدى الصفع من القول إلى الفعل، فهذا شيخ ركيك؛ ولما كان من غد تلك الليلة وجه له ألف درهم، وقال

_ (1) راجع هذه الحكاية في المغرب 1: 286 - 287.

لموصلها: قل له هذه حق الألف صفعة التي كانت البارحة. 601 - وكان في زمان المعتمد السارق المشهور بالبازي الأشهب، وكان له في السرقة كل (1) غريبة، وكان مسلطاً على أهل البادية، وبلغ من سرقته أنه سرق وهو مصلوب؛ لأن ابن عباد أمر بصلبه على ممر أهل البادية لينظروا إليه، فبينما هو على خشبته على تلك الحال إذ جاءت إليه زوجته وبناته، وجعلن يبكين حوله ويقلن: لمن تتركنا نضيع بعدك وإذ ببدوي على بغل وتحته حمل ثياب وأسباب، فصاح عليه: يا سيدي، انظر إلى تلك البئر، لما أرهقني الشرط رميت فيها مائة دينار، فعسى تحتال في إخراجها، وهذه زوجتي وبناتي يمسكن بغلك خلال ما تخرجها، فعمد البدوي إلى حبل ودلى نفسه في البئر بعدما اتفق معه على أن يأخذ النصف منها، فلما حصل أسفل البئر قطعت زوجة السارق الحبل، وبقي حائراً يصيح، وأخذت ما كان على البغل مع بناتها، وفرت به، وكان ذلك في شدة حر، وما سبب الله شخصاً يغيثه إلا وقد غبن عن العين وخلصن، فتحيل ذلك الشخص مع غيره على إخراجه، وسألوه عن حاله، فقال: هذا الفاعل الصانع احتال علي حتى مضت زوجته وبناته بثيابي وأسبابي، ورفعت هذه القصة إلى ابن عباد، فتعجب منها، وأمر بإحضار البازي الأشهب، وقال له: كيف فعلت هذا مع أنك في قبضة الهلكة فقال له: يا سيدي لو علمت قدر لذتي في السرقة خليت ملكك واشتغلت بها، فلعنه وضحك منه، ثم قال له: إن سرحتك وأحسنت إليك وأجريت عليك رزقاً يقلك أتتوب من هذه الصنعة الذميمة فقال: يا مولاي كيف لا أقبل التوبة وهي تخلصني من القتل فعاهده وقدمه على رجال أنجاد،

_ (1) م: ألف.

وصار من جملة حراس أحواز (1) المدينة. 602 - ويحكى أن منصور بني عبد المؤمن لما أراد بناء صومعة إشبيلية العظيمة القدر أحضر لها العرفاء والصناع من مظانهم، فعرف بشيخ مغفل صحيح المذهب عارف بالبناء الذي يجهله كثير من الصناع، فاحضر، فقال له المنصور: كم تقدر أن ينفق على هذه الصومعة فضحك وقال: يا سيدي، البنيان إنما هو مثل ذكر ليس يقدر حتى يقوم، فكاد المنصور يفتضح من الضحك، وصرف وجهه عنه، وبقيت حكايته يضحك عليها زماناً. 603 - وكان احمد المقريني المعروف بالكساد شاعراً وشاحاً زجالاً إشبيلياً، وقال في موسى الذي تغزل (2) فيه ابن سهل (3) : ما لموسى قد خر لله لما فاض نور غشاه ضوء سناه وأنا قد صعقت من نور موسى لا أطيق الوقوف حين أراه وقال في رثائه (4) : فر إلى الجنة حوريها وارتفع الحسن من الأرض وأصبح العشاق في مأتم بعضهم يبكي على بعض وقال فيه: هتف الناعي بشجو الأبد إذ نعى موسى بن عبد الصمد ما عليهم ويحهم لو دفنوا في فؤادي قطعة من كبدي

_ (1) أحواز: سقطت من م. (2) م: يتغزل. (3) مر البيتان ص: 61. (4) هذه القطعة والتي تليها لم تردا في م، وتعليل ذلك أنهما وردتا قبلاً ص: 61 - 62 ونسخة " م " قد جرى فيها بعض الحذف للمكرر، كما أن فيها زيادات انفردت بها سنثبتها في مواضعها.

ولابن سهل الإسرائيلي في موسى هذا ما هو مثبت في ديوانه. 604 - وكان محمد بن أحمد بن أبي بكر القرموطي المرسي من أعرف أهل الأندلس بالعلوم القديمة: المنطق والهندسة والعدد والموسيقى والطب، فيلسوفاً طبيباً ماهراً، آية الله في المعرفة في الأندلس، يقرئ الأمم بألسنتهم فنونهم التي يرغبون فيها وفي تعلمها، ولما تغلب طاغية الروم على مرسية عرف له حقه، فبنى له مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود، وقال له يوماً وقد أدنى منزلته: لو تنصرت وحصلت الكمال كان لك عندي كذا، وكنت كذا، فأجابه بما أقنعه؛ ولما خرج من عنده قال لأصحابه: أنا عمري كله أعبد إلهاً واحداً، وقد عجزت عما يجب له، فكيف حالي لو كنت أعبد ثلاثة كما طلب الملك مني انتهى. 605 - وقال أبو عبد الله محمد بن سالم القيسي الغرناطي يخاطب السلطان على ألسنة أصحابه الأطباء الذين ببابه مورياً بأسمائهم: قد جمعنا ببابكم (1) سطر علم ... لبلوغ المنى ونيل الإراده ومن أسمائنا لكم (2) حسن فال ... سالم ثم غالب وسعاده 606 - وقال أبو عبد الله ابن عمر (3) الإشبيلي الخطيب: وكل إلى طبعه عائد وإن صده المنع عن قصده كذا الماء من بعد إسخائه يعود سريعاً إلى برده 607 - وقال الكاتب أبو زيد عبد الرحمن العثماني لما تغير حاله بإشبيلية (4) :

_ (1) ك: ببابهم. (2) م: لهم. (3) م: عمرو. (4) قد مرت الأبيات في ما تقدم ص: 62 من هذا المجلد؛ وقد سقطت من م.

لا تسلني عن حالتي فهي هذي مثل حالي لا كنت يا من يراني ملني الأهل والأخلاء لما أن جفاني بعد الوصال زماني فاعتبر بي ولا يغرك دهر ليس منه ذو غبطة في أمان 608 - ودخل الأديب النحوي أبو عمران موسى الطرياني (1) إلى بعض الأكابر يوم نيروز، وعادتهم أن يصنعوا في مثل هذا اليوم مدائن من العجين لها صور مستحسنة، فنظر إلى مدينة أعجبته، فقال له صاحب المجلس: صفها وخذها، فقال: مدينة مسوره تحار فيها السحره لم تبنها إلا يدا عذراء أو مخدره بدت عروساً تجتلى من درمك مزعفره وما لها مفاتح إلا البنان العشره ورفع إلى القائد أبي السرور صاحب ديوان سبتة قصيدة يعرض له فيها بزاد وقد عزم على سفر، فأنعم عليه بذلك، ثم أتبعه بتحف مما يكون في الديوان مما يجلبه الإفرنج إلى سبتة، ولم يكن التمس منه ذلك ولا خطر بخاطره، فكتب إليه: أيا سابقاً بالذي لم يجل بفكري ولم يبدو لي في خطاب ويا غائصاً في بحار الندى ويا فاتحاً للعلا كل باب كذا فلتكن نعم الأكرمين تفاجي بنيل المنى والطلاب ولم أر أعظم من نعمة أتتني ولم تكن لي في حساب سأشكرها شكر عهد الرضى وأذكرها ذكر غض الشباب

_ (1) قد مر خذا الخبر والأبيات ص: 63 وقد سقطا من م.

609 - وكتب مجاهد صاحب دانية إلى المنصور بن أبي عامر الأصغر ملك بلنسية رقعة، ولم يضمنها غير بيت الحطيئة (1) : دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فأخرجت (2) المنصور، وأقامته وأقعدته، فأحضر وزيره أبا عامر ابن التاكرني فكتب عنه: شتمت مواليها عبيد نزار شيم العبيد شتيمة الحرار فسلا المنصور عما كان فيه. ومن شعر المذكور في المنصور: انهض على اسمك إنه منصور وارم العدو فإنه مقهور ولو اغتنيت عن النهوض كفيتهم فبذكر بأسك كلهم مذعور ولتبلغن مدى مرادك فيهم ويكون يوم في العدى مشهور وقال له المنصور يوماً: والله لقد سئمت من هؤلاء الجند، وودت الراحة منهم، فقال له: يصبر مولاي فلا بد من السآمة، فهي على حالتين: إما ممن يكون أمرك إليه، أو يكون أمره إليك، والحمد لله الذي رفعه عن الحالة الأولى. 610 - وقال بعض الهجائين في رندة (3) : قبحاً لرندة مثلما قبحت مطالعة الذنوب

_ (1) المغرب 1: 332. (2) كذا في ق م والتقدير " فأخرجته عن طوره ". (3) هو أبو الفتح ابن فاخر التونسي (المغرب 1: 344) .

بلد عليه وحشة ما إن يفارقه القطوب ما حلها أحد فين وي بعد بين أن يؤوب لم آتها عند الضحى إلا وخيل لي غروب أفق أغم وساحة تملا القلوب من الكروب 611 - وقال حبلاص الشاعر الرندي (1) : لا تفرحن بولاية سوغتها فالثور يعلف أشهراً كي يذبحا وله في بعض رؤساء (2) الملثمين من قصيدة: ولو لم تكن كالبدر نوراً ورفعة لما كنت غراً بالسحاب ملثما وما ذاك إلا للنوال علامة كذا القطر مهما لثم الفق انهمى فاهتز الملثم وأعجبه، وأمر له بكسوة وذهب. 612 - ولما ذكر أبو بكر ابن عمر الأندي في مجلس بعض الرؤساء بحضرة أبي الحسن علي بن سعيد، وأطنب في الثناء عليه، وعمر المجلس بشكره، وأخبر بذلك، أطرق ساعة ثم قال (3) : لا تذكرن ما غاب عني من ثنا أطنبت فيه فليس ذلك يجهل فمتى حضرت بمجلس وجرى به خبري فإن الذكر فيه يجمل 613 - ولما نفى بنو ذي النون أرقم من نسبهم لأنه كان ابن أمة مهينة، واقعها أبو الظافر في حال سكره، ولم يكن فيهم من ينظم ويتولع بالأدب غيره،

_ (1) المغرب 1: 336. (2) م: شعراء. (3) المغرب 1: 338 وترجمته في القدح: 168.

وولي ابنه يحيى، وكان أحسد من طلعت عليه الشمس، فمال على أرقم بالأذية ففر عن مملكته، وقال مرتجلاً (1) : لئن طبتم نفساً بتركي دياركم فنفسي عنكم بالتفرق أطيب إذا لم يكن لي جانب في دياركم فما العذر لي أن لا يكون تجنب زعمتم بأني لست فرعاً لأصلكم فهلا علمتم أنني عنه أرغب وحسبي إذا ما البيض لم ترع نسبة بأنني إلى سيفي ورمحي أنسب وإن مدت الأيام عمري للعلا يشرق ذطري في الورى ويغرب 614 - وكتب الوزير الكاتب أبو محمد ابن سفيان إلى أبي أمية ابن عصام (2) قاضي قضاة شرق الأندلس عين زمانه، فوقعت نقطة إلى العين، فتوهمها، وظن أنه أبهمها واعتقدها، وعددها وانتقدها، فقال: لا تلزمني ما جنته يراعة طمست بريقتها عيون ثناء حقدت علي لزامها فتحولت أفعى تمج سمامها بسحاء غدر الزمان وأهله عرف ولم أسمع بغدر يراعة وإباء 615 - وشرب المأمون بن ذي النون مع أبي بكر محمد بن أرفع رأسه الطليطلي وحفل من رؤساء ندمائه كابن لبون وابن سفيان وابن الفرج وابن مثنى، فجرت مذاكرة في ملوك الطوائف في ذلك العصر، فقال كل واحد ما عنده بحسب غرضه، فقال ابن أرفع رأسه ارتجالاً (3) : دعوا الملوك وأبناء الملوك فمن أضحى على البحر لم يشتق إلى نهر ما في البسيطة كالمأمون ذو كرم فانظر لتصديق ما أسمعت من خبر

_ (1) المغرب 2: 14. (2) القلائد: 139. (3) المغرب 2: 18 والصلة رقم: 874.

يا واحداً ما على علياه مختلف مذ جاد كفك لم نحتج إلى المطر وقد طلعت لنا شمساً فما نظرت عين إلى كوكب يهدي ولا قمر وقد بدوت لنا وسطى ملوكهم فلم نعرج على شذر ولا درر 616 - فداخل ابن ذي النون من الارتياح ما ليس عليه مزيد، وأمر له بإحسان جزيل عتيد. وقال أبو أحمد عبد المؤمن الطليطلي: رأيت حيائي قادحاً في معيشتي ويصعب تركي للحياء ويقبح وقد فسد الناس الذين عهدتهم وقد طال تأنيبي لمن ليس يصلح وله: ولما غدو بالغيد فوق جمالهم طفقت أنادي لا أطيق بهم همسا عسى عيس من أهوى تجود بوقفة ولو كوقوف العين لاحظت الشمسا 617 - وقال الزاهد أبو محمد عبد الله بن العسال (1) : أعندكم علم بأني متيم وإلا فما بال المدامع تسجم وما بال عيني لا تغمض ساعة كأني في رعي الدراري منجم 618 - وكان الوزير أبو جعفر الوقشي تياهاً معجباً بنفسه، ومن شعره في غرضه الفاسد: إذا لم أعظم قدر نفسي وإنني عليم بما حازته من عظم القدر فغيري معذور إذا لم يبرني ولا يكبر الإنسان شيء سوى الكبر

_ (1) في م ق: الغسال؛ وانظر ترجمته في المغرب 2: 21.

وله: يرومون بي غير المكان الذي له خلقت، وبغضي منكر ذاك من بعضي فقولوا لبدر الأفق يترك سماءه ويحتل من أجل التواضع في الأرض وقال: تكبر وإن كنت الصغير تظاهراً وباعد أخا صدق متى ما اشتهى القربا وكن تابعاً للهر (1) في حفظ أمره ... ألست تراه عندما يبصر الكلبا وقال له بعض ندماء ملكه يوماً صاحب جيان، ابن همشك: يا أبا جعفر، أنت جملة محاسن، وفيك الأدوات العلية التي هي أهل لكل فضيلة، غير أنك قد قدحت في ذلك كله بكثرة عجبك، وإذا مشيت على الأرض تشمئز منها، فقال له: كيف لا أشمئز من شيء أشترك معك في الوطء عليه فضحك جميع من حضر من جوابه. وله جواب لمن اعتذر عن غيبته عنه: لك الفضل في أن لا تلوح لناظري وتبعد عني ما بقيت مدى الدهر فوجهك في لحظي كما صور الردى ولفظك في سمعي حديث عن الفقر ومن حاز من قد حزته من ركاكة وغاب فلا يحتج إلى كلفة العذر وله أيضاً (2) : لك يومان لم تلح لعياني ولك الفضل في زيادة شهر ولك الفضل في زيادة عام ولك الفضل في زيادة دهر ولك الفضل أن تغيب عني ذلك الوجه ما تطاول عمري

_ (1) ق: للمهر. (2) أيضاً: سقطت من م.

وله، وقد شرب على صهريج فاختنق الأسد الذي يرمي بالماء، فنفخ فيه رجل أبخر، فجرى: ليث بديع الشكل لا مثل له صيغ من الماء له سلسله يقذف بالماء على حينه كأنه عاف الذي قبله 619 - وقال أبو الوليد هشام الوقشي: برح بي أن علوم الورى اثنان ما إن فيهما من مزيد حقيقة يعجز تحصيلها وباطل تحصيله لا يفيد وله (1) : وفاره يركبه فاره مر بنا في يده صعده سنانها مشتمل لحظه وقدها منتحل قده يزحف للنساك في جحفل من حسنه وهو يرى وحده قلت لنفسي حين مدت لها ال آمال والآمال ممتده لا تطمعي فيه كما الشعر لا ... يطمع في تسويده خده (2) وقال: عجباً للمدام ماذا استعارت من سجايا معذبي وصفاته طيب أنفاسه وطعم ثنايا هـ وسكر العقول من لحظاته وسنا وجهه وتوريد خدي هـ ولطف الديباج من بشراته والتداوي منها بها كالتداوي ... برضى من هويت من سطواته (3)

_ (1) ق: وله أيضاً. (2) ق م: .... الشمس لا ... يطمع في تدنيسه حده (3) البيت والذي يليه سقطا من م.

وهي من بعد ذا علي حرام مثل تحريمه جنى رشفاته ومن تآليفه نكت الكامل للمبرد وقد مر ذكر هذا الرجل الفرد قبل هذا. وحضر يوماً مجلس ابن ذي النون، فقدم نوع من الحلوى يعرف بآذان القاضي، فتهافت جماعة من خواصه عليها يقصدون التندير فيه، وجعلوا يكثرون من أكلها، وكان فيما قدم من الفاكهة طبق فيه نوع يسمى عيون البقر، فقال له المأمون: يا قاضي أرى هؤلاء يأكلون أذنيك، فقال: وأنا أيضاً آكل عيونهم، وكشف عن الطبق، وجعل يأكل منه، وكان هذا من الاتفاق الغريب. 620 - وكان الفاضل ابو الحسين ابن الوزير أبي جعفر الوقشي آية الله في الظرف، وكيف لا ووالداه الوزير أبو جعفر، وصهره أبو الحسين ابن جبير، وشيخه في علم الموسيقى والتهذيب والظرف والتدريب أبو الحسن ابن الحسن ابن الحاسب شيخ هذه الطريقة، وقد رزق أبو الحسين المذكور فيها ذوقاً مع صوت بديع، أشهى من الكأس للخليع، قال أبو عمران ابن سعيد: ما سمعته إلا تذكرت قول الرصافي (1) : ومطارح مما تجس بنانه لحناً أفاض عليه ماء وقاره يثني الحمام فلا يروح لوكره طرباً، ورزق بنيه في منقاره وكنت أرتاح إلى لقائه، ارتياح العليل إلى شفائه، ولم أزل أقرع باباً فباباً، وأخرق للاتصال حجاباً فحجاباً، حتى هجمت مع شفيع لا يرد عليه، وجلست بين يديه، فحينئذ حرضه حسبه على الإكرام، وتلقى بما أوسع من البشر والسلام، وقال: ليعلم سيدي أني كنت أود الناس في لقائه، وأحبهم في

_ (1) ديوان الرصافي: 101 (نقلا عن النفح) .

إخائه، والحمد لله الذي جعلني أنشد: وليس الذي يتبع الوبل رائداً كمن جاءه في داره رائد الوبل ثم قام إلى خزانة، فأخرج منها عود غناء يطرب دون أن تجس أوتاره، وتلحن أشعاره، واندفع يغني دون أن أسأله ذلك، ولا أتجشم تكليفه الدخول في تلك المسالك: ومل زلت أرجو في الزمان لقائكم فقد يسر الرحمن ما كنت أرتجي فذكركم ما زلت أتلوه دائباً إذا ذكروا ما بين سلمى ومنعج فلما فرغ من استهلاله وعمله قبلت رأسه، وقلت له: لا أدري علام أشكرك قبل، هل على تعجيلك بما لم تدعني أسألك في شأنه أم على ما تفردت في إحسانه فما هذا الصوت قال: هذا نشيد خسرواني من تلحيني، قال: وأنشدني لنفسه: حننت إلى صوت النواعير سحرة فأضحى فؤادي لا يقر ولا يهدا وفاضت دموعي مثل فيض دموعها أطارحها تلك الصبابة والوجدا وزاد غرامي حين أكثر عاذلي فقلت له أقصر ولا تقدح الزندا اهيم بهم في كل واد صبابة وأزداد مع طول البعاد لهم ودا وأنشدني لنفسه: ولقد مررت على المنازل بعدهم أبكي وأسأل عنهم وأنوح وقال: وكتب إلي: يا حسرة ما قضت من لذة وطرا أين الزمان الذي يرجى به الخلف

أبكيك ملء جفوني ثم يرجعني إلى التصبر ثم أنصرف قال أبو عمران: وكنت في أيام الفتنة إذا ركنت إلى الآمال، هونت على نفسي ما ألقى من أهوالها بقولي مع خاطري قوله: أين الزمان الذي يرجى به الخلف انتهى. 621 - وكان أبو الحسين علي بن الحمارة (1) ممن برع في الألحان وعلمها، وهو من أهل غرناطة، واشتهر عنه أنه كان يعمد إلى الشعراء (2) ، فيقطع العود بيده، ثم يصنع منه عوداً للغناء، وينظم الشعر ويلحنه، ويغني به، فيطرب سامعيه، ومن شعره قوله: إذا ظن وكري مقلتي طائر الكرى رأى هدبها فارتاع خوف الحبائل وقال بعض العلماء في حقه: إنه آخر فلاسفة الأندلس، وقال: وأعجب ما وقع له في الشعر أنه دخل سلا وقد فرغ ابن عشرة من بناء قصره، والشعراء تنشده في ذلك، فارتجل ابن الحمارة هذين البيتين، وأنشدهما بعدهم: يا واحد الناس قد شيدت واحدة فحل فيها محل الشمس في الحمل فما كدارك في الدنيا لذي أمل ولا كدارك في الأخرى لذي عمل وسيأتي ذكر هذين البيتين. 622 - وكان أهل الأندلس في غاية الاستحضار للمسائل العلمية على البديهة،

_ (1) ترجمته في المغرب 2: 120 وفيه أبو عامر محمد بن الحمارة، وانظر الوافي 2: 242 وبغية الملتمس ص: 517. (2) م: الشجر.

قال ابن مسدي: أملى علينا ابن المناصف النحوي بدانية على قول سيبويه هذا باب ما الكلم من العربية عشرين كراساً، بسط القول فيها في مائة وثلاثين وجهاً، انتهى. وهذا وأشباهه يكفيك في تبحر أهل الأندلس في العلم، وربما سئل العالم منهم عن مسألة التي يحتاج في جوابها إلى مطالعة ونظر، فلم يحتج إلى ذلك، ويذكر من فكره ما لا يحتاج معه إلى زيادة. 623 - ومن الحكايات في مثل ذلك أن الأديب البليغ الحافظ أبا بكر ابن حبيش لما قال في تخميسه المشهور: بماذا على كل من الحق أوجبت اعترض عليه أبو زكريا اليفرني بما نصه: استعمل المخمس ماذا في البيت تكثيراً وخبراً، والمعروف من كلام العرب استعمالها استفهاماً، فجاوبه بقوله: أما استعمالها استفهاماً كما قال فكثير، لا يحتاج إلى شاهد، وأما استعمالها في ألسن فصحاء العرب للكثرة فكثير لا يحتاج إلى شاهد لو وصل بحث، واستعمل مكث، فلم يعترض علي ولي، ولا تشكك في جلي: ولا يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل قال الله تعالى في سورة يونس " قل انظروا ماذا في السموات والأرض، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون " ووقع في صحيح البخاري في رثاء المقتولين من المشركين يوم بدر (1) : وماذا بالقليب قليب بدر ... ومن الفتيان والشرب الكرام (2)

_ (1) الشعر لشداد بن الأسود؛ انظر أنساب الأشراف 1: 307 وابن هشام: 530 وفي مناقب الأنصار من البخاري 43/63 (حديث: 21) . (2) روايته في البلاذري: ونقب عن أخيك أبي يزيد ... أخي القينات والشرب الكرام

وماذا بالقليب قليب بدر ... من الشيزى تكلل بالسنام (1) وفي السير في رثاء المذكورين أيضاً (2) : وماذا ببدر فالعقنقل من مرازبة جحاجح وهذا الشعر لأميةبن أبي الصلت الثقفي، ووقع في الأغاني للوليد بن يزيد يرثي نديماً له يعرف بابن الطويل (3) : لله قبر ضمنت فيه عظام ابن الطويل ماذا تضمن إذ ثوى فيه من الرأي الصيل والخبر طويل، وأجلى من هذا وأعلى، وأحق بكل تقديم وأولى، ولكن الواو لا تفيد رتبة، ولا تتضمن نسبة، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ماذا أنزل الليلة من الفتن " وهو في الصحاح (4) ، ووقع في الحماسة، وقد أجمعوا على الاستشهاد بكل ما فيها: ماذا أجال وثيرة (5) بن سماك ... من دمع باكية عليه وباك (6) وفي الحماسة أيضاً وأظنها لأبي دهبل (7) : ماذا رزئنا غداة الحل من زمع عند التفرق من خيم ومن كرم ووقع في نوادر القالي لكعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار (8) :

_ (1) القليب: البئر؛ والشيزي: جفان تصنع من خشب بهذا الاسم. (2) الأبيات في أنساب الأشراف 1: 306 وابن هشام: 531 - 532. (3) انظر ديوانه: 58 (نقلاً عن الأغاني 6: 133) . (4) م: الصحيح. (5) م ق: أحال؛ ق: وتيرة؛ وهو رواية ثانية. (6) الحماسية رقم: 320 من شرح المرزوقي. (7) هي الحماسية رقم: 706 لأبي دهبل. (8) أمالي القالي 2: 146.

هوت أمه ما يبعث الصبح غادياً وماذا يرد الليل حين يؤوب ووقع في شعر الخنساء ترثي أخاها صخراً: ألا ثكلت أم الذين غدوا به إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر وماذا يواري القبر تحت ترابه من الحود في بؤسى الحوادث والدهر ولجرير وهو في الحماسة (1) : إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلاً بعينك لا يزال معينا غيضن من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا وفي الحماسة أيضاً (2) : ماذا من البعد بين البخل والجود ووقع في الحماسة أيضاً، وهو لامرأة (3) : هوت أمهم ماذا بهم يوم صرعوا بجيشان من أسباب مجد تصرما أرادت ماذا تصرم لهم يوم صرعوا بجيشان من أسباب مجد تصرما. ومما يستظهر به قول أبي الطيب المتنبي: ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها أني بما أنا باك منه محسود وقوله أيضاً: وماذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا

_ (1) ديوان جرير: 476. (2) الحماسية رقم: 685 وصدره: ألا ترين وقد قطعتني عذلا. (3) هو لأم الصريح، الحماسية: 318.

ومن ملح المتأخرين: كان بمرسية أبو جعفر المذكور في المطمح، وكان يلقب بالبقيرة، فقال فيه بعض أهل عصره: قالوا: البقيرة يهجونا فقلت لهم: ماذا دهيت به حتى من البقر هذا وليس بثور بل هو ابنته وأين منزلة الأنثى من الذكر وأنشد صاحب الزهر، ولا أذكر قائله (1) : ماذا لقيت من المستعربين ومن قياس قولهم هذا الذي ابتدعوا إن قلت قافية بكراً يكون لها معنى يخالف ما قالوا وما وضعوا قالوا لحنت وهذا الحرف منتصب وذاك خفض، وهذا ليس يرتفع وضربوا بين عبد الله واجتهدوا وبين زيد فطال الضرب والوجع وقال صاحب الزهر (2) : أنشد أبو حاتم ولم يسم قائله: ألا في سبيل الله ماذا تضمنت بطون الثرى واستودع البلد القفر هذا ما حضر بفضل الله من الاستشهاد على أن ماذا تستعمل بمعنى الخبر والتكثير، ووالله الذي لا إله غيره ما طالعت عليه كتاباً، ولا فتحت فيه باباً، وإنما هو ثمالة من حوض التدكار، وصبابة مما علق به شرك الأفكار، وأثر مما سدك به السمع، أيام خلو الذرع، وعقدت علي الحبى، في عصر الصبا، ورحم الله من تصفح، وتلمح فتسمح، وصحح ما وقع إليه (3) من الاعتلال، وأصلح ما وضع لديه من اختلال، فخير الناس، من أخذ بالبر والإيناس، فبصر من جهلة، وادكر عن وهلة، وإنما المؤمنون إخوة،

_ (1) لم أجده في زهر الآداب. (2) م: الروض؛ وانظر زهر الآداب: 796. (3) م: له.

وتحابهم في الله رفعة وحظوة، ولهم في السلف الكريم، ومحافظتهم على الود القديم، أسوة كريمة وقدوة. قال ابن الطراح: انظر تحصيل هذا الإمام الرئيس، والأسمى النفيس، واستحضاره كلام الدباء، وسير النقاد البلغاء، ومساجلته مع فرسان المعاني، ووصفه تلك المغاني، وقد كان حالم لواء الأدب وفائق أبناء جنسه فب مرقب الطلب، وهذه الكلمة - أعني ماذا - جرت بسببها مناظرة بين الأستاذ ابي الحسين (1) ابن أبي الربيع النحوي المشهور وبين مالك بن المرحل بسبتة، حتى ألف مالك كتاب الرمي بالحصى والضرب بالعصى وفيه هنات لا ينبغي لعاقل أن يذكرها، ولا لذي طي في البيان ان ينشرها، وفي ذلك قال الأستاذ أبو الحسين رحمه الله تعالى: كان ماذا ليتها عدم جنبوها قربها ندم ليتنب يا مال لم ارها إنها كالنار تضطرم وقوله يا مال ترخيم مالك. وحكى الستاذ ابن غازي أنهم اختلفوا: هل يقال: كان ماذا أم لا وقال: إن الأستاذ ابن أبي الربيع تطفل على مالك بن المرحل في الشعر، كما أن ابن المرحل تطفل عليه في النحو، قال: ومن نظم مالك بن المرحل في هذه القضية: عاب قوم كان ماذا ليت شعري كان ماذا إن يكن ذلك جهلاً منهم فكان ماذا ومن نظم ابن حبيش المذكور قوله:

_ (1) م: الحسن، في الموضعين.

إذا ما شئت أن تحيا هنياً رفيع القدر ذا نفس كريمه فلا تشفع إلى رجل كبير ولا تشهد ولا تحضر وليمه وله أيضاً: لأعملن إلى لقياكم قدمي ولو تجشمت بين الطين والماء لأن يبل ثيابي الغيث أهون بي من أن تحرق نار الشوق أحشائي ترجمة اليفرني النحوي وأبو زكريا المعترض على ابن حبيش هو الفقيه النحوي الديب أبو زكريا يحيى بن علي بن سلطان اليفرني (1) ، ولد سنة 641، وبرع في العربية، وكان يلقب في المشرق جبل النحو، وكان عند نفسه مجتهداً، وكان لا يجيز نكاح الكتابيات، خلافاً للإمام مالك، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، ويتمسك بقوله تعالى " وجعل بينكم مودة ورحمة " وكان يرى أن الطلاق لا يكون إلا مرتين: مرة للاستبراء، ومرة للانفصال، ولا يقول بالثلاث، وهو خلف الإجماع، وكان يقول في نهيه عليه الصلاة والسلام عن أكل ذي ناب من السباع: أي مأكول كل ذي ناب، وتبقى هي على الإباحة، ويدل عليه قوله تعالى " وما أكل السبع " وكان يقول في قوله تعالى " إن هذان لساحران " الهاء اسم إن، وذان لساحران جملة خبر لإن، ولا تحتاج لرابط لأنها تفسيرية، والمعنى عنده وأسروا النجوى قالوا إنها أي نجوانا هذان لساحران، أي قولنا هذان لساحران، تثبيطاً للناس عن اتباعهما، وخط المصحف يرده، لكن في المصحف أشياء كتبت على غير المصطلح، مثل مال هذا، ولا أوضعوا

_ (1) انظر ترجمته في بغية الوعاة: 412 وفيه نقل عن رحلة ابن رشيد.

ولا أذبحه. قال ابن الطراح: ورأيت هذا المعنى لغيره، وأظنه ابن النحاس، وتوفي اليفرني المذكور سنة 700، ومن شعره: ماذا على الغصن المياس لو عطفا على صبابة صب حالف الدنفا يا رحمة لفؤادي من معذبه كم ذا يحمله أن يحمل الكلفا ويا رعى الله داراً ظل يجمعنا ... في ظل عيش صفا من طيبه وضفا (1) مودة بيننا في الحب كاملة ونحن لا نعرف الإعراض والصلفا رجع إلى كلام الأندلسيين 624 - قال صالح بن شريف الرندي رحمه الله تعالى في سكين الكتابة: أنا صمصامة الكتابة، ما لي من شبيه في المرهفات الرقاق فكاني في الحسن يوم وصال وكأني في القطع يوم فراق وقال في المقص: ومصطحبين ما اتهما بعشق وإن وصفا بضم واعتناق لعمر أبيك ما اجتمعا لشيء سوى معنى القطيعة والفراق 625 - ولبعض الأندلسيين: هلا اقتدى ذو خلة بفعالنا فيكون واصل خله كوصالنا مهما يجئ أحد ليقطع بيننا نقطعه ثم نعد لأحسن حالنا 626 - وجرح بعض الكتاب يده بالمقص، فأنشد أحد جلسائه، وغالب ظني أنه أندلسي:

_ (1) م: ضفا من طيبه وصفا.

عداوة لا لكفك من قديم فلا تعجب لمقراض لئيم لئن أدماك فهو للا شبيه وقد يعدو اللئيم على الكريم 627 - ولما ألف ابن عصفور كتابه المقرب في النحو انتقده جماعة من أهل قطره الأندلسيين وغيرهم، منهم ابن الصائغ وابن هشام الجزيري، وله عليه المنهج المعرب في الرد على المقرب وفيه تخليط كثير وتعسف: وفي تعب من يحسد الشمس نورها ويأمل أن ياتي لها بضريب ومنهم ابن الحاج وأبو الحسن حازم القرطجاني الخزرجي، وسماه شد الزيار على جحفلة الحمار، وابن مؤمن القابسي، وبهاء الدين ابن النحاس. 628 - ومن شعر حازم الأندلسي المذكور قوله: لم تدر إذ سألتك ما أسلاكها أبكت أسى أم قطعت أسلاكها وعارضه التجاني بقوله: يا ساحر الألحاظ يا فتاكها فتيا جواز الصد من أفتاكها 629 - ومن حكاياتهم في المجون (1) وما يجري مجراه أن الوزير ابا بكر ابن الملح كان له ابن شاب، فاسترسل مع الأدب إلى أن خرج من القول إلى الفعل، واتى بأشياء لا تليق بمثله، فكتب إليه أبوه: يا سخنة العين يا بنيا ليتك ما كنت لي بنيا أبكيت عيني، أطلت حزني أمت صيتي وكان حيا حططت قدري وكان أعلى في كل حال من الثريا

_ (1) قد وردت هذه القصة والشعر فيما مر ص: 71 وسقطت من م.

أما كفاك الزنا ارتكاباً وشرب مسشمولة الحميا حتى ضربت الدفوف جهراً وقلت للشر: جئ إليا فاليوم أبكيك ملء عيني لو كان يغني البكاء شيا فأجابه ابنه بقوله: يا لائم الصب في التصابي ما عنك يغني البكاء شيا أوجفت خيل العتاب نحوي وقبل وثبتها إليا وقلت عمر الهنا قصير فاربح من العيش ما تهيا قد كنت أرجو المتاب مما فتنت جهلاً به وغيا لولا ثلاث شيوخ سوء أنت وإبليس والحميا 630 - وقال أبو جعفر ابن صفوان المالقي رحمه الله تعالى: سألته الإتيان نحوي مقبلاً فقال سل نحوي كي تحصلا قرأت باب الجمع من شوقي له وهو بالاشتغال عني قد سلا للاستغاثة ابتدأت تالياً وهو لأفعال التعدي قد تلا وكلما طلبت منه في الهوى عطفاً غدا يطلب مني بدلا وإن أرم محض إضافة له أعمل في قطعي عنه الحيلا في ألف الوصل ظللت باحثاً وهو باب الفصل قد تكفلا فلست موصولاُ وليس عائداً وليس حالي عن أسى منتقلا فيا منى نفسي ومن لفهمه دانت فهوم الأذكياء النبلا وجدي موقوف عليك لا أرى عنك مدى الدهر له تنقلا فما الذي يمنع من تسكينه والوقف بالتسكين حكم أعملا والحب مرفوع إليك مفرد فلم ترى لضمتي مستثقلا فالضم للرفع غدا علامة في مفرد مثلي فأوضح مشكلا

لا زلت للهيام عني رافعاً للوصل ناصباً، لقولي معملا للشوق مسكناً، لهجري صارفاً بالقرب من حال البعاد مبدلا تجزم أمراً في الأماني ماضياً وتبتدي بما تشا مستقبلا 631 - وقال محمد بن إدريس القضاعي الأصطبوني: علاه رياض أورقت بمحامد تنور بالجدوى وتثمر بالأمل تسح عليها من نداه غمامة تروي ثرى المعروف بالعل والنهل وهل هو إلا الشمس نفساً ورفعة فيقرب بالجدوى ويبعد بالأمل تعم أياديه البرية كلها فدان وقاص جود كفيه قد شمل 632 - وقال محمد التطيلي الهذلي، من أعيان غرناطة (1) : جارت علي لواحظ الآرام لما رمت أجفانها بسهام حكمت علي بحكمها فتبسمت فغدا الضنى منها لدى أحكام يا قاتلي عمداً بسيف لحاظه اغمد ظباه قبل وقع حمامي كم رمت وصلك والصدود يصدني ويفل عزمي أمره ومرامي إني عدمت النفس يوم فراقكم والبين أسلمها إلى الإعدام كيف المقام وأصل جسمي ناحل إن النفوس مقيمة الأجسام صعب العلاج فكيف يمكن برؤها حتى يعود الشهر مثل العام قد كنت أفرح بالسلو فها أنا قد زم قلبي في الهوى بزمام مالت به نحو الفتون بدائع من شادن يحكيه بدر تمام فقوام أنفسنا بلذة وصله وجميع أعيننا عليه سوام قد أبرزت خداه روض محاسن عظمت على الأفكار والأوهام

_ (1) ترجمة الهذلي التطيلي في المغرب 2: 450 وبرنامج الرعيني: 202؛ والمقري ينقل عن الإحاطة.

تندى بماء شبيبة وتنعم فيروق منها الزهر في الأكمام فكأنما وجناتها في لونها ورد الرياض ربا بصوب غمام وكأنما درع الدجى من شعره قد حاكه منها يد الإظلام وكأنما ريق حواه ثغره مسك أديف بعنبر ومدام وكأنما سيف نضت ألحاظه سيف الأمير ممهد الإسلام ذاك الأمير محمد بن محمد ناهيك من ملك أغر الإعظام لو كان يعتقل السها لأتاه في شكل الفتاة ملثماً بلثام أو كان يرضى بالمجرة أجرداً لجرت إلى الإسراج والإلجام فالسعد يفعل للأماني قولها والنصر يخدمه مع الأيام واليوم يعشقه ويحسد ليله فيه كعشق سيوفه للهام نامت عيون الشرك خوف سنانه لولاه ما اكتحلت بطيف منام بهر الأنام بسيفه وببأسه فسبى وأنعم أيما إنعام فالمعتفي يجني جزيل هباته والمعتدي يصلى الردى بحسام مهما استعنت به فضيغم معرك وإذا استجرت به فطود شمام أجرى مياه العدل بعد جفوفها وأزال نار الظلم بعد ضرام كم من كتيبة جحفل قد هدها في معرك بمهند صمصام المقتني الجرد المذاكي عدة للكر في الأعداء والإقدام من كل أبيض كان اديمه لون الصباح أتى عقيب ظلام ومنها: يا خير من ركب الجياد وقادها تحت اللواء، وعمدة الأقوام لا زلتم والسعد يخدم أمركم فب غبطة موصولة بدوام حتى يصير الأمن في أرجائنا عبداً يقوم لنا على الإقدام

والله ينصركم ويعلي مجدكم ماسح إثر الصحو ماء غمام 633 - وكان يحيى السرقسطي أديباً، فرجع إلى الجزارين، فأمر الحاجب ابن هود أبا الفضل ابن حسداي أن يوبخه على ذلك، فكتب إليه (1) : تركت الشعر من عدم الإصابه وملت إلى التجارة والقصابه فأجابه يحيى: تعيب علي مألوف القصابه ومن لم يدر قد الشيء عابه ولو أحكمت منها بعض فن لما استبدلت منها بالحجابه ولو تدري بها كلفي ووجدي علمت علام أحتمل الصبابه وإنك لو طلعت علي يوماً وحولي من بني كلب عصابه لهالك ما رأيت وقلت هذا هزبر صير الأوضام غابه وكم شهدت لنا كلب وهر بأن المجد قد حزنا لبابه فتكنا في بني العنزي فتكاً أقر الذعر فيهم والمهابه ولم نقلع عن الثوري حتى مزجنا بالدم القاني لعابه ومن يغتر منهم بامتناع فإن إلى صوارمنا إبابه ويبرز واحد منا لألف فيغلبهم وذاك من الغرابه ومنها: أبا الفضل الوزير أجب ندائي وفضلك ضامن عنك الإجابه وإصغاء إلى شكوى شكور أطلت على صناعته عتابه وحقك ما تركت الشعر حتى ... رأيت البخل (2) قد أوصى صحابه (3)

_ (1) المغرب 2: 44 والذخيرة (3: 286) وزاد المسافر: 98. (2) م: المحل. (3) المغرب: أذكى شهابه.

وحتى زرت مشتاقاُ خليلي (1) ... فأبدى لي التحيل (2) والكآبه وظن زيارتي لطلاب شيء فنافرني وغلظ لي حجابه 634 - وقال الأديب أبو الحسن ابن الحداد: قالت وأبدت صفحة كالشمس من تحت القناع بعت الدفاتر وهي آخر ما يباع من المتاع فأجبتها ويدي على كبدي وهمت بانصداع لا تعجبي مما رأي ت فنحن في زمن الضياع 635 - وقال الأديب أبو زكريا ابن مطروح من أهل مدينة باغه، وقد عزل وال فنزل المطر على إثره، وهو من أحسن شعر قاله، وكان الوالي غير مرضي: ورب وال سرنا عزله فبعضنا هنأه البعض قد واصلتنا السحب من بعده ولذ في أجفاننا الغمض لو لم يكن من نجس شخصه ما طهرت من بعده الأرض 636 - وقال القاضي أبو البركات ابن الحاج البلفيقي، رحمه الله تعالى: وعشية حكمت على من تاب من أهل الخلاعة أن يعود لما مضى جمعت لنا شمل السرور بفتية إلا الرياء مع الخطابة والقضا 637 - وقال أبو الحجاج يوسف الفهري من أهل دانية:

_ (1) المغرب: حبيباً. (2) ق: التخيل؛ المغرب: التجهم.

أبى الله إلا أن أفارق منزلاً يطالعني وجه المنى فيه سافرا كأن على الأيام أن لا أحله رويداً فما أغشاه إلا مسافرا 638 - وقال بعضهم في الرثاء: عبرات تفيض حزناً وثكلا وشجون تعم بعضاً وكلا ليس إلا صبابة أضرمتها حسرة تبعث الأسى ليس إلا 639 - ولأبي جعفر البغيل أحد شعراء المرية وكتابها: عزاء على هذا المصاب الذي دهى وشتت شمل الأنس من بعد ما انتهى بفرع علاء في منابت سؤدد تسامى رقياً في المعالي إلى السها أصبت به من بعد ما تم مجده وقد شمخت منه الشماريخ وازدهى فأية شمس فيه للمجد كورت وأي بناء للمكارم قد وهى فصبراً عليه لا رزئت بمثله فمثلك من يعزى إلى الحلم والنهى 640 - وقال الكاتب الماهر أبو جعفر أحمد بن أيوب اللمائي المالقي (1) : طلعت طلائع للربيع فأطلعت فب الروض ورداً قبل حين أوانه حيا أمير المؤمنين مبشراً ومؤملاً للنيل من إحسانه ضنت سحائبه عليه بمائه فأتاه يستسقيه ماء بنانه دامت لنا أيامه موصولة بالعز والتمكين في سلطانه 641 - وقال أبو جعفر أحمد بن طلحة من جزيرة شقر (2) : يا هل ترى أظرف من يومنا قلد جيد الأفق طوق العقيق وأنطق الورق بعيدانها مطربة كل قضيب وريق

_ (1) الإحاطة 1: 110. (2) اختصار القدح: 114 والإحاطة 1: 112.

والشمس لا تشرب خمر الندى في الروض إلا بكؤوس الشقيق 642 - وقال أبو جعفر الغساني من أهل وادي آش، واستوطن غرناطة، ثم مات بالمرية، فكتب على حمالة قراب لموطإ الإمام مالك، بعدما استنجد قرائح أدباء عصره، واستصرخ الختراعاتهم لنصره، فكلهم قصر عن غرضه، وأداء مفترضه، فقال هو: يا طالباً لكمال حفظي أتم كمالك فما تقلدت مثلي إذ لم تقلد كمالك 643 - وقال أبو بكر يحيى بن بقي: خذها على وجه الربيع المخصب لم يقض حق الروض من لم يشرب هممي سماء علاً وهمي مارد فارجمه من تلك الكؤوس بكوكب وهو رحمه الله تعالى صاحب الأبيات المشهورة: زحزحته عن أضلع تشتاقه كيلا ينام على فراش خافق وانتقد عليه بعض اللطفاء فقال: إنه كالن جافي الطبع حيث قال زحزحته ولو قال باعدت عنه أضلعاً تشتاقه لكان أحسن. 644 - وقال السلطان المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس يستدعي (1) : انهض أبا طالب إلينا واسقط سقوط الندى علينا فنحن عقد بغير وسطى ما لم تكن حاضراً لدينا وتذكرت هنا بعض المشارقة فيما أظن والله تعالى أعلم:

_ (1) القلائد: 46 وانظر ج 1: 666.

نحن في مجلس أنس ما به غير محبك فتصدق بحضور واجمع الوقت بقربك وخف الآن عتابي مثل خوفي عند عتبك 645 - وقال أبو عبد الله ابن خلصة الضرير (1) : ولو جاد بالدنيا وثنى بمثلها لظن من استصغارها أنه ضنا ولا عيب في إنعامه غير أنه إذا من لم يتبع مواهبه منا وله أيضاً (2) : يا مالكاً حسدت عليه زمانه أمم خلت من قبله وقرون ما لي أرى الآمال بيضاً وضحاً ووجوه آمالي حوالك جون أنا آمن فرق، وراج آيس ورو صد، ومسرح مسجون 646 - وقال ابن اللبانة: كرمت فلا بحر حكاك ولا حياً وفت فلا عجم وأوليتني منك الجميل فواله عسى السح من نعماك يتبعه السكب 647 - وقال أبو علي ابن اليمان (3) : أبنات الهديل أسعدن أو عد ن قليل العزاء بالإسعاد بيد أني لا أرتضي ما فعلت ن فأطواقكن في الأجياد

_ (1) هو أبو عبد الله محمد بن خلصة الذوني ويقال له الضرير تمييزاً عن من ينسب سواه إلى خلصة، انظر الجذوة: 51 ونكت الهميان: 248 والمسالك 11: 45 والذخيرة (3: 109) . (2) الذخيرة: 111. (3) هو إدريس بن اليمان؛ ووهم المقري أو من ينقل عنه في نسبة البيتين له فهما لأبي العلاء المعري من داليته " غير مجد في ملتي واعتقادي "، ولعل سبب الوهم أبيات ابن اليمان في الحمامة (الذخيرة 3: 119) .

648 - وقال أبو أحمد بن الدودين من كلمة (1) : فغدت غواني الحي عنك غوانياً وأسلن ألحاظ الرباب ربابا 649 - وقال ابن أبي الخصال في مليحة لها أربع جوار قبيحات: وليلة طولها على سنة بات بها الجفن نادباً وسنه بأربع بينهن واحدة كسيئات وبينها حسنه 650 - وقال غالب بن تمام الملقب بالحجام: صغار الناس أكثرهم قبيحاً وليس لهم بصالحة نهوض ألم تر في سباع الطير نسراً يسالمنا ويؤذينا البعوض 651 - وقال ابن عائشة (2) : وروضة قد علت سماء تطلع أزهارها نجوما هفا نسيم الصبا عليها ... فخلتها أرسلت رجوما (3) كأنما الجو غار لما بدت فأغرى بها النسيما وله يصف فرساً، وهو من بدائعه: قصرت له تسع وطالت أربع وزكت ثلاث منه للمتأمل وكأنما سال الظلام بمتنه وبدا الصباح بوجهه المتهلل وكأن راكبه على ظهر الصبا من سرعة أو فوق ظهر الشمأل

_ (1) هو من رجال الذخيرة (3: 219) والمغرب 2: 322؛ والبيت فيه. (2) مرت هذه الأبيات ص: 54 وانظر الذخيرة (3: 279) . (3) سقط هذا البيت من م.

وقال: تربة مسك، وجو عنبرة وغيم ند، وطش ما ورد كأنما جائل الحباب به يلعب في جانبيه بالنرد وتروى هذه الأبيات لغيره (1) . وقال (2) : هم سلبوني حسن صبري إذ بانوا بأقمار أطواق مطالعها بان لئن غادروني باللوى إن مهجتي مسايرة أظغانهم حيثما كانوا 652 - وقال أبو محمد ابن سفيان، وهو من أبدع التخلص: فقلت وجفني وقد تداعت شؤونه وحر ضلوعي مقعد ومقيم لئن دهمت دهم الخطوب وآلمت فإن أبا عيسى أغر كريم 653 - وقال ابن الزقاق (3) : بأبي وغير أبي أغن مهفهف مهضوم ما تحت الوشاح خميصه لبس الفؤاد ومزقته جفونه فأتى كيوسف حين قد قميصه وقال: سلام على أيامكم ما بكى الحيا وسقياً لذاك العهد ما ابتسم الزهر كأن لم نبت في ظل أمن تضمنا من الليلة الظلماء أردية خضر ولم نغتبق تلك الأحاديث قهوة وكم نجلس طيب الحديث به خمر ألا في ضمان الله في كل ساعة يجدد لي فيها بشوقي له ذكر

_ (1) وتروى ... لغيره: سقطت من م. (2) وردت القصيدة بتمامها في أزهار الرياض 3: 121 منسوبة لابن السيد البطليوسي. (3) وردت قطعتا ابن الزقاق في ديوانه: 196، 171.

يذكرنيه البرق جذلان باسماً ويذكرني إسفار غرته الفجر وما رق زهر الروض إلا تمثلت لناظر عيني منه آدابه الزهر 654 - وقال يحيى السرقسطي: هاتها عسجدية كوثريه بنت كرم رحيقة عطريه كلما شفها النحول تقوت فاعجبوا من ضعيفة وقويه رب خمارة سريت إليها والدجى في ثيابه الزنجيه ومنها: كم عقار بدلته بعقار وثياب صبغتها خمريه إن خير البيوع ما كان نقداً ليس ما كان آجلاً بنسيه وله (1) : نسبتم الظلم لعمالكم ونمتم عن قبح أعمالكم والله لو حكمتم ساعة ما خطر العدل على بالكم 655 - وقال الرصافي في الدولاب (2) : وذي حنين يكاد شجواً يختلس الأنفس اختلاسا إذا غدا للرياض جاراً وقال لها المحل لا مساسا يبتسم الروض حين يبكي بأدمع ما رأين باسا من كل جفن يسل سيفاً صار له عقده رئاسا 656 - وخرج أبو بكر الصابوني لنزهة بوادي إشبيلية، وكان يهوى

_ (1) زاد المسافر: 99. (2) ديوان الرصافي: 102 والمغرب 2: 351 والمعجب: 143 ورفع الحجب: 135.

فتى اسمه علي، فقال: أبا حسن أبا حسن بعادك قد نفى وسني وما أنسى تذكره فهل أنسى فيذكرني ويشبه هذا القول الطاهر بن أبي ركب (1) : يقول الناس في مثل تذكر غائباً تره فما لي لاأرى سكني وما أنسى تذكره 657 - وكتب بعض الأدباء إلى ابن حزم الأندلسي بقوله: سألت الوزير الفقيه الأجل سؤال مدل على من سأل فقلت أيا خير مسترشداً ويا خير من عن إمام نقل أيحرم أن نالني قبلة غزال ترشف فيه الغزل وعانقني والدجى خاضب فبتنا ضجيعين حتى نصل وجئتك أسأل مسترشداً فبين فديت لمن قد سأل فأجابه ابن حزم بقوله: إذا كان ما قلته صادقاً وكنت تحريت جهد المقل وكان ضجيعك طاوي الحشا أعار المهاة احمرارالمقل ففي أخذ أشهب عن مالك عن ابن شهاب عن الغير قل بترك الخلاف على جمعهم على أن ذلك حل وبل 658 - ونظر الرصافي يوماً إلى صبي يبكي، ويأخذ من ريقه ويبل

_ (1) انظر ما تقدم ص: 113.

عينيه، كي يخفي أثر البكاء، فارتجل الرصافي (1) : عذيري من جذلان يبدي كآبة وأضلعه مما يحاوله صفر أميلد مياس إذا قاده الصبا إلى ملح الإدلال أيده السحر يبل مآقي مقلتيه بريقه ليحكي البكا عمداً كما ابتسم الزهر أيوهم أن الدمع بل جفونه وهل عصرت يوماً من النرجس الخمر وكان المذكور - أعني الرصافي - يميل في شبيبته لبعض فتيان الطلبة، وأجمع الطلبة على أن يصنعوا نزهة بالوادي الكبير بمالقة، فركبوا زورقاً للمسير إلى الوادي، فوافق أن اجتمع في الزورق شمل الرصافي بمحبوبه، ثم إن الريح الغربية عصفت وهاج البحر، ونزل المطر، فنزلوا من الزورق، وافترق شمل الرصافي من محبوبه، فارتجل في ذلك، ويقال إنها من أول شعره: غار بي الغرب إذ رآني مجتمع الشمل بالحبيب فأرسل الماء عن فراق وأرسل الريح عن رقيب فلما سمع ذلك أستاذه استنبله، وقال له: إنك ستكون شاعر زمانك. 659 - وحكي أن أبا بكر ابن مجبر قال في ابن لأبي الحسن ابن القطان بمحضره والده: جاء وفي يساره قوس وفي اليمنى قدح كأنه شمس بدت وحولها قوس قزح يا لائمي في حبه ما كل من لام نصح فقال ابن عياش الكاتب: هذه أبيات لأندلسي استوطن المشرق في تركي،

_ (1) ديوان الرصافي: 67.

فأقسم أبو بكر أنه لم يسمع شيئاً من ذلك، وإنما ارتجلها، وقيل: إنها لأبي الفتح محمد بن عبيد الله من أهل بغداد، وأولها: جد بقلبي ومزح فالله أعلم بحقيقة الأمر. 660 - وخرج أبو بكر ابن طاهر وأبو ذر الحشني والقاضي أبو حفص ابن عمر، وهو إذ ذاك وسيم، فأثرت الشمس في وجهه، فقال أبو ذر: وسمتك الشمس يا عمر سمة في القلب تنتثر فقال الآخر: علمت قدر الذي صنعت فأتت صفراء تعتذر 661 - وقال أبو الحسين البلنسي الصوفي: كان لي صديق أمي لا يقرأ ولا يكتب، فعلق فتى، وكان خرج لنزهة فأثرت الشمس في وجهه، فأعجبه ذلك وأنشد: رأيت أحمد لما جاء من سفر والشمس قد أثرت في وجهه أثرا فانظر لما أثرته الشمس في قمر والشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا 662 - واجتمع أبو الوليد الوقشي وأبو مروان عبد الملك بن سراج القرطبي، وكانا فريدي عصرهما حفظاً وتقدماً، فتعارفا، وتساءلا، ثم بادر أبو الوليد بالسؤال، وقال: كيف يكون قول القائل: ولو أن ما بي بالحصى فعل (1) الحصى ... وبالريح لم يسمع لهن هبوبُ

_ (1) م: فلق.

ما ينبغي أن يكون مكان فعل الحصى فقال أبو مروان فلق الحصى، فقال: وهمت، إنما يكون قلق الحصى ليكون مطابقاً لقوله لم يسمع لهن هبوب يريد أن ما به يحرك ما شأنه السكون ويسكن ما شانه الحركة، فقال أبو مروان: ما يريد الشاعر بقوله: وراكعة في ظل غصن منوطة بلؤلؤة نيطت بمنقار طائر وكان اجتماعهما في مسجد، فأقيمت الصلاة إثر فراغ ابن سراج من إنشاد البيت، فلما انقضت الصلاة قال له الوقشي: ألغز الشاعر باسم أحمد، فالراكعة الحاء، والغصن كناية عن الألف، واللؤلؤة الميم، ومنقار الطائر الدال، فقال له ابن سراج: ينبغي أن تعيد الصلاة لشغل خاطرك بهذا اللغز، فقال له الوقشي: بين الإقامة وتكبيرة الإحرام فككته. والبيت الأول لعبد الله بن الدمينة، وبعده: ولو أنني أستغفر الله كلما ذكرتك لم تكتب علي ذنوب 663 - وقال الوزير أبو الحسن ابن أضحى: ومشتشفع عندي بخير الورى عندي وأولاهم بالشكر مني وبالحمد وصلت فلما لم أقم بجزائه ... " لففت له رأسي حياء من المجد " (1) وكان سبب قوله هذين البيتين أنه كتب إليه بعض الوزراء شافعاً لأحد الأعيان، فلما وصل إليه بره وأنزله وأعطاه عطاء استعظمه واستجزله، وخلع عليه خلعاً، وأطلعه من الأحمال بدراً لم يكن مطلعاً، ثم اعتقد أنه قد جاء مقصراً، فكتب إليه معتزراً بالبيتين، هكذا حكاه الفتح (2) ، وقال بعد ذلك ما صورته: ومن باهر جلاله، وطاهر خلاله، أنه أعف الناس بواطن،

_ (1) عجز بيت لأبي تمام وصدره: " أتاني مع الركبان ظن ظننته ". (2) القلائد: 217 ومر بعضه.

أشرفهم في التقى مواطن، ما علمت له صبوة، ولا حلت له إلى مستنكر حبوة، مع عدل لا شيء يعدله، وتحجب عما يتقى مما يرسل عليه حجابه ويسدله، وكان لصاحب البلد الذي كان يتولى القضاء به ابن من أحسن الناس صورة، وكانت محاسن الأقوال والأفعال عليه مقصورة، مع ما شئت من لسن، وصوت حسن، وعفاف، واختلاط بالبهاء والتفاف، قال الفتح: وحملنا لإحدى ضياعه بقرب من حضرة غرناطة فحللنا قرية على ضفة نهر، أحسن من شاذ مهر، تشقها جداول كالصلال، ولا ترمقها الشمس من تكاثف الظلال، ومعنا جملة من أعيانها، فأحضرنا من أنواع الطعام، وأرانا من فرط الإكرام والإنعام، ما لا يطاق ولا يحد، ويقصر عن بعضه العد، وفي أثناء مقامنا بدا لي من ذلك الفتى المذكور ما أنكرته، فقابلته بكلام أعتقده، وملام أحقده، فلما كان من الغد لقيت منه اجتناب، ولم أر منه ما عهدته من الإنابة، فكتبت إليه مداعباً له، فراجعني بهذه القطعة: أتتني أبا نصر نتيجة خاطر سريع كرجع الطرف في الخطرات فأعربت عن وجد كمين طويته بأهيف طاو فاتر اللحظات غزال أحم المقلتين عرفته بخيف منى للحسن أو عرفات رماك فأصمي والقلوب رمية لكل كحيل الطرف ذي فتكات وظن بأن القلب منك محصب فلباك من عينيه بالجمرات تقرب بالنساك في كل منسك وضحى غداة النحر بالمهجات وكانت له جيان مثوى فأصبحت ضلوعك مثواه بكل فلاة يعز علينا أن تهيم فتنطوي كئيباً على الأشجان والزفرات فلو قبلت للناس في الحب فدية فديناك بالأموال والبشرات ومن إيثار ديانته، وعلامة حفظه للشرع وصيانته، وقصده مقصد المتورعين، وجريه جري المتشرعين، أن أحد أعيان بلده كان متصلاً به اتصال الناظر

بسواده، محتلاً في عينه وفؤاده (1) ، لا يسلمه إلى مكروه، ولا يفرده في حادث يعروه، وكان من الأدب في منزلة تقتضي إسعافه، ولا تورده من تشفيعه في مورد قد عافه، فكتب إليه ضارعاً في رجل من خواصه اختلط بامراة طلقها ثم تعلها، وخاطبه في ذلك بشعر، فلم يسعفه، وكتب إليه مراجعاً: ألا أيها السيد المجتبى ويا أيها الألمعي العلم أتتني أبياتك المحكمات بما قد حوت من ببيع الحكم ولم أر من قببلها مثلها وقد نفثت سحرها في الكلم ولكنه الدين لا يشترى بنثر ولا بنظام نظم وكيف أبيح حمى مانعاً وكيف أحلل ما قد حرم ألست أخاف عقاب الإله وناراً مؤججه تضطرم أأصرفها طالقاً بتة على أنوك قد طغى واجترم ولو أن ذاك الغوي (2) الزري ... تثبت في أمره ما ندم ولكنه طاش مستعجلاً فكان أحق الورى بالندم انتهى كلام الفتح الذي أردت جلبه هنا. ولا خفاء أن هذه الحكاية مما يدخل في حكايات عدل قاة الأندلس. ومن نظم ابن الضحى المذكور ما كتب به إلى بعض من يعز عليه (3) : يا ساكن القلق رفقاً كم تقطعه الله في منزل قد ظل مثواكا يشيد الناس للتحصين منزلهم وأنت تهدمه بالعنف عيناكا والله والله ما حبي لفاحشة أعاذني الله من هذا وعافاكا

_ (1) م: محتفلا في عينيه وفؤاده. (2) م: الغبي. (3) القلائد: 218.

وله في مثل ذلك (1) : روحي غليك فرديه إلى جسدي من لي على فقده بالصبر والجلد بالله زوري كئيباً لا عزاء له وشرفيه ومثواه غداة غد لو تعلمين بما ألقاه يا أملي بايعتني الود تصفيه يداً بيد عليك مني سلام الله ما بقيت آثار عينيك في قلبي وفي كبدي ذكر جملة من نساء أهل الأندلس 664 - وإذا وصلت إلى هذا الموضع من كلام أهل الأندلس، فقد رأيت أن أذكر جملة من نساء أهل الأندلس اللاتي لهن اليد الطولى في البلاغة، كي يعلم أن البراعة في أهل الأندلس كالغريزة لهم، حتى في نسائهم وصبيانهم. 1 - فمن النساء المشهورات بالأندلس، أم السعد بنت عصام الحميري (2) ، من أهل قرطبة، تعرف بسعدونة، ولها رواية عن أبيها وجدها وغيرهما، كما حكاه ابن الأبار في ترجمتها من التكملة. وأنشدت لنفسها في تمثال نعل النبي صلى الله عليه وسلم تكملة لقول غيرها ما صورته (3) : سألتم التمثال إذ لم أجد للثم نعل المصطفى من سبيل لعلني أحظى بتقبيله في جنة الفردوس أسنى مقيل في ظل طوبى ساكناً آمناً أسقى بأكواس من السلسبيل وأمسح القلب به عله يسكن ما جاش به من غليل فطالما استشفى بأطلال من يهواه أهل الحب في كل جيل وأنشدني ابن جابرالوادي آشي عن شيخه المحدث أبي محمد ابن هرون

_ (1) في مثل ذلك: سقطت من م. (2) ترجمة أم السعد في التكملة (رقم: 2128) والذيل والتكملة (آخر قسم الغرباء) والسيوطي: 26؛ وساق ابن عبد الملك نسبها وقال: توفيت بمالقة سنة أربعين وستمائة أو نحوها. (3) يريد أن البيت الأول من نظمها.

القرطبي لجدته سعدونة، وأظنها هذه: آخ الرجال من الأبا عد والأقارب لا تقارب إن الأقارب كالعقا رب أو أشد من العقارب هكذا نقله الخطيب ابن مرزوق، ورأيت نسبة البيتين لابن العميد (1) ، فالله أعلم. 2 - ومنهن حسانة التميمية بنت أبي المخشى الشاعر (2) . تأدبت وتعلمت الشعر، فلما مات أبوها كتبت إلى الحكم، وهي إذ ذاك بكر لم تتزوج: إني إليك أبا العاصي موجعة أبا المخشى سقته الواكف الديم قد كنت أرتع في نعماه عاكفة فاليوم آوي إلى نعماك يا حكم أنت الإمام الذي انقاد الأنام له وملكته مقاليد النهى الأمم لا شيء أخشى إذا ما كنت لي كنفاً آوي إليه ولا يعروني العدم لا زلت بالعزة القعساء مرتدياً حتى تذل إليك العرب والعجم فلما وقف الحكم على شعرها استحسنه، وأمر لها بإحراء مرتب، وكتب إلى عامله على إلبيرة فجهزها بجهاز حسن. ويحكى أنها وفدت على ابنه عبد الرححمن بشكية من عامله جابر بن لبيد

_ (1) انظر يتيمة الدهر 3: 183 - 184 حيث نسبهما لابن العميد. (2) ترجمة حسانة التيمية في الذيل والتكملة (آخر قسم الغرباء) وكتاب ذكر بلاد الأندلس (109، 117) وذكر أنها كانت بإلبيرة وأورد الأبيات التي كتبتها للحكم بن هشام ثم وفادتها على عبد الرحمن وما أنشدته من شعر؛ وأبو المخشي والدها هو عاصم بن زيد أحد قدامى الشعراء بالأندلس وهو تميمي عبادي وقد قطع لسانه هشام بن عبد الرحمن الداخل (انظر المغرب 2: 123 والجذوة: 377 والبغية رقم: 1543 وقد كتب في أصول النفح خطأ - أبو الحسين) .

والي إلبيرة، وكان الحكم قد وقع لها بخط يده تحرير أملاكها، وحملها في ذلك على البر والإكرام، فتوسلت إلى جابر بخط الحكم، فلم يفدها، فدخلت إلى الإمام عبد الرحمن، فأقامت بفنائه، وتلطفت مع بعض نسائه، حتى أوصلتها إليه، وهو في حالة طرب وسرور، فانتسبت إليه، فعرفها وعرف أباها، ثم أنشدته: إلى ذي الندى والمجد سارت ركائبي على شحط تصلى بنار الهواجر ليجبر صدعي إنه خير جابر ويمنعني من ذي الظلامة جابر فإني وأيتامي بقبضة كفه كذي ريش أضحى في مخالب كاسر جدير لمثلي أن يقال مروعة لموت أبي العاصي الذي كان ناصري سقاه الحيا لو كان حياً لما اعتدى علي زمان باطش بطش قادر أيمحو الذي خطته يمناه جابر لقد سام بالأملاك إحدى الكبائر ولما فرغت رفعت إليه خط والده، وحكت جميع أمرها، فرق لها، وأخذ خط أبيه فقبله ووضعه على عينيه، وقال: تعدى ابن لبيد طوره، حين رام نقض رأي الحكم، وحسبنا أن نسلك سبيله بعده، ونحفظ بعد موته عهده، انصرفي يا حسانة فقد عزلته لك، ووقع لها بمثل توقيع أبيه الحكم، فقبلت يده، وأمر لها بجائزة، فانصرفت وبعثت إليه بقصيدة منها: ابن الهشامين خير الناس مأثرة وخير منتجع يوماً لرواد إن هز يوم الوغى أثناء صعدته روى أنابيبها من صرف فرصاد قل للإمام أيا خير الورى نسباً مقابلاً بين أباء وأجداد جودت طبعي ولم ترض الظلامة لي فهاك فضل ثناء رائح غاد فإن أقمت ففي نعماك عاطفة وإن رحلت فقد زودتني زادي

3 - ومنهن أم العلاء بنت يوسف الحجارية (1) . ذكرها صاحب المغرب وقال: إنها من أهل المائة الخامسة، ومن شعرها: كل ما يصدر منكم حسن وبعلياكم تحلى الزمن تعطف العين على منظركم وبذكراكم تلذ الأذن من يعش دونكم في عمره فهو في نيل الأماني يغبن وعشقها رجل أشيب، فكتبت إليه: الشيب لا يخدع فيه الصبا بحيلة فاسمع إلى نصحي فلا تكن أجهل من في الورى يبيت في الجهل كما يضحي ولها أيضاً: افهم مطارح أحوالي وما حكمت به الشواهد واعذرني ولا تلم ولا تكلني إلى عذر أبينه سر المعاذير ما يحتاج للكلم وكل ما جئته من زلة فيما أصبحت في ثقة من ذلك الكرم والحجارية - بالراء المهملة - نسبة إلى وادي الحجارة. 4 - ومنهن أمة العزيز (2) . قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتاب المطرب من أشعار المغرب: أنشدتني أخت جدي الشريفة الفاضلة أمة العزيز الشريفة الحسينية لنفسها:

_ (1) ترجمة أم العلاء الحجارية في المغرب 2: 38 والسيوطي: 22 واشعارها في المصدر الثاني. (2) انظر المطرب: 6، والبيتان ينسبان لغيرها، ولم يقل ابن دحية إن البيتين لها وإنما قال " وأنشدتني ".

لحاظكم تجرحنا في الحشا ولحظنا يجرحكم في الخدود جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا فما الذي أوجب جرح الصدود قلت: هذا السؤال يحتاج إلى جواب، وقد رأيت لبلدينا القاضي الإمام الفاضل أبي الفضل قاسم العقباني التلمساني رحمه الله تعالى جوابه؛ والغالب أنه من نظمه، وهو قوله: أوجبه مني يا سيدي جرح بخد ليس فيه الجحود وأنت فيما قلته مدع فأين ما قلت وأين الشهود انتهى. 5 - ومنهن أم الكرام بنت المعتصم بن صمادح ملك المرية (1) . قال ابن سعيد في المغرب: كانت تنظم الشعر، وعشقت الفتى المشهور بالجمال من دانية المعروف بالسمار، وعملت فيه الموشحات، ومن شعرها فيه: يا معشر الناسش ألا فاعجبوا مما جنته لوعة الحب لولاه لم ينزل ببدر الدجى من أفقه العلوي للترب ححسبي بمن أهواه، لو أنه فارقني تابعه قلبي 6 - ومنهن الشاعرة الغسانية البجانية (2) - بالنون - نسبة إلى بجانة، وهي كورة عظيمة، وتشتهر بإقليم المرية، وهي من أهل المائة الرابعة، فمن نظمها من أبيات:

_ (1) أم الكرام، وتكتب أحياناً " أم الكرم " الصمادحية: ترجم لها في المغرب 2: 202 والسيوطي: 20. (2) ترجمة الغسانية في الجذوة: 379 (وبغية الملتمس رقم: 1585) والصلة: 657 والسيوطي: 107 وقد مدحت خيران العامري، اي أدركت آخر الدولة الأموية وعهد الفتنة وأوائل حكم الطوائف.

عهدتهم والعيش في ظل وصلهم أنيق وروض الوصل أخضر فينان ليالي سعد لا يخاف على الهوى عتاب ولا يخشى على الوصل هجران 7 - ومنهن العروضية مولاة أبي المطرف عبد الرحمن بن غلبون الكاتب. سكنت بلنسية، وكانت قد أخذت عن مولاها النحو واللغة، لكنها فاقته في ذلك، وبرعت في العروض، وكانت تحفظ الكامل للمبرد والنوادر للقالي وتشرحهما، قال أبو داود سليمان بن نجاح: قرأت عليها الكتابين، وأخذت عنها العروض، وتوفيت بدانية بعد سيدها في حدود الخمسين والأربعمائة، رحمها الله تعالى. 8 - ومنهن حفصة بنت الحاج الركونية (1) الشاعرة الأديبة المشهورة بالجمال، والحسب والمال. ذكرها الملاحي في تاريخه، وأنشد لها مما قالته في أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي ارتجالاً بين يديه: يا سيد الناس يا من يؤمل الناس رفده امنن علي بطرس يكون للدهر عده تخط يمناك فيه: الحمد لله وحده وأشارت بذلك إلى العلامة السلطانية عند الموحدين، فإنها كانت أن يكتب السلطان بخط غليظ في رأس المنشور الحمد لله وحده. 665 - استطراد بقصتين وتذكرت بذلك، والشيء بالشيء يذكر، أنه لما قفل السلطان الناصر أمير

_ (1) ترجمة حفصة الركونية في الإحاطة 1: 499 والمغرب 2: 138 والمطرب: 10 والسيوطي: 40 والتحفة: 167 ومعجم الأدباء 10: 219.

المؤمنين ابن أمير المؤمنين يعقوب المنصور ابن أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن بن علي سلطان المغرب والأندلس من إفيريقية سنة ثلاث وستمائة بعد الفتح المهدية هنأته الشعراء بذلك، ثم اجتمع أبو عبد الله ابن مرج الكحل بالشعراء والكتاب، فتذكروا الفتح وعظمه، فأنشدهم ابن مرج الكحل في الوقت لنفسه: ولما توالى الفتح من كل وجهة ولم تبلغ الأوهام في الوصف حده تركنا أمير المؤمنين لشكره بماأودع السر الإلهي عنده فلا نعمة إلا تؤدي حقوقها علامته بالحمد لله وحده فاستحسن الكتاب له ذلك، ووقع أحسن موقع. وحكى صاحب كتاب روح الشعر وروح الشحر وهو الكاتب أبو عبد الله محمد بن الجلاب الفهري أن أمير المؤمنين يعقوب المنصور لما قفل من غزوة الأراكة المشهورة، وكانت يوم الأربعاء تاسع شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، ورد عليه الشعراء من كل قطر يهنؤنه، فلم يكن لكثرتهم أن ينشد كل إنسان قصيدته، بل كان يختص منها بالإنشاد البيتين أو الثلاثة المختارة، فدخل أحد الشعراء فأنشده: ما أنت في أمراء الناس كلهم إلا كصاحب هذا الدين في الرسل أحييت بالسيف دين الهاشمي كما أحياه جدك عبد المؤمن بن علي فأمر له بالفي دينار، ولم يصل أحداً غيره لكثرة الشعراء، وأخذ بالمثل منع الجميع، أرضى للجميع، وقال: وانتهت رقاع القصائد وغيرها إلى أن حالت بينه وبين من كان أمامه لكثرتها، انتهى. رجع إلى أخبار حفصة: وأنشد لها ابو الخطاب في المطرب قولها:

ثنائي على تلك الثنايا لأنني أقول على علم وانطق عن خبر وأنصفها لا أكذب الله إنني رشفت بها ريقاً أرق من الخمر وتولع بها السيد أبو سعيد ابن عبد المؤمن ملك غرناطة، وتغير بسببها على ابي جعفر ابن سعيد، حتى أدى تغيره عليه أن قتله، وطلب أبو جعفر منها الاجتماع، فمطلته قدر شهرين، فكتب لها: يا من أجانب ذكر اس مه وحسبي علامه ما إن أرى الوعد يقضى والعمر أخشى انصرامه اليوم أرجوك لا أن تكون لي في القيامه لو قد بصرت بحالي والليل أرخى ظلامه أنوح وجداً وشوقاً إذ تستريح الحمامه صب أطال هواه على الحبيب غرامه لمن يتيه عليه ولا يرد سلامه إن لم تنيلي أريحي فاليأس يثني زمامه فأجابته: يا مدعي في هوى الحس ن والغرام الإمامه أتى قريضك، لكن لم أرض منه نظامه أمدعي الحب يثني ياس الحبيب زمامه ضللت كل ضلال ولم تفدك الزعامه ما زلت تصحب مذ كن ت في السباق السلامه حتى عثرت وأخجل ت بافتضاح السآمه بالله في كل وقت يبدي السحاب انسجامه والزهر في كل حين يشق عنه كمامه

لو كنت تعرف عذري كففت غرب الملامه ووجهت هذه البيات مع موصل أبياته، بعدما لعنته وسبته، وقالت له: لعن الله المرسل والمرسل، فما في جميعكما خير، ولا لي برؤيتكما حاجة، وانصرف بغاية من الخزي، ولما أطل على أبي جعفر وهو في قلق لانتظاره قال له: ما وراءك يا عصام قال: ما يكون وراء من وجهه خلف إلى فاعلة تاركة، إقرأ الأبيات تعلم، فلما قرأ الأبيات قال للرسول: ما أسخف عقلك وأجهلك! إنها وعدتني للقبة في جنتي المعروفة بالكمامة، سر بنا، فبادروا للكمامة، فما كان إلا قليلاً، وإذا بها قد وصلت، وأراد عتبها، فأنشدت: دعي عد الذنوب إذا التقينا تعالي لا نعد ولا تعدي وجلسا على أحسن حالة، وإذا برقعة الكتندي الشاعر لأبي جعفر، وفيها: أبا جعفر يا ابن الكرام الأماجد خلوت بمن تهواه رغماً لحاسد فهل في خل قنوع مهذب كتوم عليم باختفاء المراصد يبيت إذا يخلو المحب بحبه ممتع لذات بخمس ولائد فقرأها على حفصة، فقالت: لعنه الله، قد سمعنا بالوارش على الطعام والواغل على الشراب، ولم نسمع اسماً لمن يعلم باجتماع محبين فيروم الدخول عليهما، فقال لها: بالله سميه لنكتب له بذلك، فقالت: أسميه الحائل، لأنه يحول بيني وبينك إن وقعت عيني عليه، فكتب له في ظهر رقعته: يا من إذا ما أتاني جعلته نصب عيني تراك ترضى جلوساً بين الحبيب وبيني إن كان ذاك فماذا تبغي سوى قرب حيني

والآن قد حصلت لي بعد المطال بديني فإن أتيت فدفعاً منها بكلتا اليدين أو ليس تبغي وحاشا ك أن ترى طير بين وفي مبيتك بالخم س كل قبح وشين فليس حقك إلا ال خلو بالقمرين وكتب له تحت ذلك ما كان منها من الكلام، وذيل ذلك بقوله: سماك من أهواه حائل إن كنت بعد العتب واصل مع أن لونك مزعج لو كنت تحبس بالسلاسل فلما رجع إليه الرسول وجده قد وقع بمطمورة نجاسة، وصار هتكة، فلما قرأ البيات قال للرسول: أعلمها بحالي، فرجع الرسول، وأخبرهما بذلك، فكاد أن يغشى عليهما من الضحك، وكتب إليه كل واحد بيتاً، وابتدأ أبو جعفر فقال: قل للذي خلصنا منه الوقوع في الخرا ارجع كما شاء الخرا يا ابن الخرا إلى ورا وإن تعد يوماً إلى وصالنا سوف ترى يا أسقط الناس ويا أنذلهم بلا مرا هذا مدى الدهر تلا قي لوأتيت في الكرى يا لحية تشغف في ال خرء وتشنا العنبرا لا قرب الله اجتما ... عاً بك حتى تقبرا (1) ومن شعرها: سلام يفتح في زهره ال كمام وينطق ورق الغصون

_ (1) سقط البيت من م.

على نازح قد ثوى الحشا وإن كان تحرم منه الجفون فلا تحسبوا البعد ينسيكم (1) ... فذلك والله ما لا يكون وقولها من أبيات: ولو لم يكن نجماً لكان ناظري وقد غبت عنه مظلماً بعد نوره سلام على تلك المحاسن من شج تناءت بنعماه وطيب سروره وقولها: سلوا البارق الخفاق والليل ساكن أظل بأحبابي يذكرني وهنا لعمري لقد أهدى لقلبي خفقة وأمطرني منهل عارضه الجفنا ونسب بعض إليها البيتين الشهيرين (2) : أغار عليك من عيني رقيبي ومنك ومن زمانك والمكان ولو أني خبأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني والله تعالى أعلم. وكتبت إلى أبي جعفر: رأست فما زال العداة بظلمهم ... وعلمهم النامي يقولون ما (3) رأس وهل منكر أن ساد أهل زمانه جموح إلى العليا حرون عن الدنس وقال ابن دحية: حفصة من أشراف غرناطة، رخيمة الشعر، رقيقة النظم والنثر، انتهى.

_ (1) ق: العبد ينساكم. (2) م: ومما ينسب إليها. (3) م: لم؛ ق: لي.

ومن قولها في السيد أبي سعيد ملك غرناطة تهنئه بيوم عيد، وكتبت بذلك إليه: يا ذا العلا وابن الخلي فة والإمام المرتضى يهنيك عيد قد جرى فيه بما تهوى القضا وأتاك من تهواه في قيد الإنابة والرضى ليعيد من لذاته ما قد تصرم وانقضى وذكر الملاحي في تاريخه أنها سألتها امرأة من أعيان أهل غرناطة أن تكتب لها شيئاً بخطها، فكتبت إليها: يا ربة الحسن، بل يا ربة الكرم غضي جفونك عما خطه قلمي تصفحيه بلحظ الود منعمة لا تحفلي برديء الخط والكلم واتفق أن بات أبو جعفر ابن سعيد معها في بستان بحور مؤمل، على ما يبيت به الروض والنسيم، من طيب النفحة ونضارة النعيم، فلما حان الانفصال، قال أبو جعفر وكان يهواها كما سبق: رعى الله ليلاً لم يرح بمذمم عشية وارانا بحور مؤمل وقد خفقت من نحو نجد أريجة إذا نفحت هبت بريا القرنفل وغرد قمري على الدوح وانثنى قضيب من الريحان من فوق جدول يرى الروض مسروراً بما قد بدا له: عناق وضم وارتشاف مقبل وكتب بها إليها بعد الافتراق، لتجيبه على عادتها في مثل ذلك، فكتبت إليه بقولها: لعمرك ما سر الرياض بوصلنا ولكنه أبدا لنا الغل والحسد ولا صفق النهر ارتياحاً لقربنا ولا غرد القمري إلا لما وجد

فلا تحسن الظن الذي أنت أهله فما هو في كل المواطن بالرشد فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه لأمر سوى كيما تكون لنا رصد وقال ابن سعيد في الطالع السعيد: كتبت حفصة الركونية إلى بعض أصحابها: أزورك أم تزور فإن قلبي إلى ما تشتهي أبداً يميل فثغري مورد عذب زلال وفرع ذؤابتي ظل ظليل وقد أملت أن تظمى وتضحى إذا وافى إليك بي المقيل فعجل بالجواب فما جميل إباؤك عن بثينة يا جميل 666 - سلمى بنت القراطيسي قال التجاني: تشبه أبيات حفصة هذه أبيات أنشدها ابن أبي الحصين في تاريخه لسلمى بنت القراطيسي من أهل بغداد، وكانت مشهورة بالجمال، وهي: عيون مها الصريم فداء عيني وأجياد الظباء فداء جيدي أزين بالعقود وإن نحري لأزين للعقود من العقود ولا أشكو من الأوصاب ثقلاً وتشكو قامتي ثقل النهود وبلغت هذه الأبيات المقتفي أمير المؤمنين فقال: اسألوا هل تصدق صفتها قولها فقالوا: ما يكون أجمل منها، فقال: اسألوا عن عفافها، فقالوا: هي أعف الناس، فأرسل إليها مالاً جزيلاً، وقال: تستعين به على صيانة جمالها، ورونق بهجتها، انتهى. رجع إلى حفصة: وقال أبو جعفر ابن سعيد: أقسم ما رأيت ولا سمعت بمثل ححفصة، ومن

بعض ما أجعله دليلاً على تصديق عزمي، وبر قسمي، أني كنت يوماً في منزلي مع من يحب أن يخلى معه من الأجواد الكرام على راحة سمحت بها غفلات الأيام، فلم نشعر إلا بالباب يضرب، فخرجت جارية تنطر من الضارب، فوجدت إمرأة، فقالت لها: ما تريدين فقالت: ادفعي لسيدك هذه الرقعة، فجاءت برقعة فيها: زائر قد أتى بجيد الغزال مطلع تحت جنحه للهلال بلحاظ من سحر بابل صيغت ورضاب يفوق بنت الدوالي يفضح الورد ما حوى منه خد وكذا الثغر فاضح للآلي ما ترى في دخوله بعد إذن أو تراه لعارض في انفصال قال: فعلمت أنها حفصة، وقمت مبادراً للباب، وقابلتها بما يقابل به من يشفع له حسنه وآدابه والغرام به، وتفضله بالزيارة دون طلب في وقت الرغبة في الأنس به، انتهى. 667 - أبو جعفر ابن سعيد قلت: وإذ قد جرى ذكر أبي جعفر ابن سعيد سابق الحلبة فلنلم ببعض أحواله فنقول (1) : هو أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد العنسي، قال قريبه أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد في المغرب: سمعت أبي يقول: لا أعلم في بني سعيد أشعر منه، بل لا أعلم في بلده، وعشق حفصة شاعرة الأندلس، وكانا يتجاوبان تجاوب الحمام، ولما استبد والده بأمر القلعة حين ثار أهل الأندلس بسبب صولة بني عبد المؤمن على الملثمين اتخذه وزيراً، واستنابه في

_ (1) ترجمة أبي جعفر ابن سعيد في الإحاطة 1: 94 والمغرب 2: 164 والمسالك 11: 279 وما أورده المقري يعد أكثر شيء إسهاباً في أخباره.

أموره، فلم يصبر على ذلك، واستعفى فلم يعفه، وقال: أفي مثل هذا الوقت الشديد تركن إلى الراحة فكتب إليه: مولاي في أي وقت أنال في العيش راحه إن لم أنلها وعمري ما إن أنار صباحه وللملاح عيون تميل نحو الملاحه وكأس راحي ما إن تمل مني راحه والخطب عني أعمى لم يقترب لي ساحه وأنت دوني سور من العلا والرجاحه فأعفني وأقلني مما رأيت صلاحه ما في الوزارة حظ لمن يريد ارتياحه كل وقال وقيل ممن يطيل نباحه أنسي أتى مستغيثاُ فاترك فديت سراحه فلما قرأ الأبيات قال: لا ينفع الله بما لا يكون مركباً في الطبع مائلة له النفس، ثم وقع على ظهر ورقته: قد تركنا سراح أنسك، وألحقنا يومك بأمسك. ولما رجع ثوار الأندلس إلى عبد المؤمن وبايعه عبد الملك بن سعيد فغمره إحساناً وبراً، وولي السيد أبو سعيد ابن عبد المؤمن غرناطة طلب كاتباً من أهلها، فوصف له فضل أبي جعفر وحسبه وأدبه، فاستكتبه، فطلب أن يعفيه، فأبى إلى أن شرب أبو جعفر يوماً مع خواصه، وخرج ثاني يوم إلى الصيد وكان اليوم ذا غيم وبرد، ولما اشتد البرد مالوا يوماً مع خواصه، وخرج ثاني يوم إلى الصيد وكان اليوم ذا غيم وبرد، ولما اشتد البرد مالوا إلى خيمة ناطور، وجعلوا يصطلون ويشربون على ما اصطادوا، فحمل أبا جعفر بقية السكر على أن قال يصف يومه، ويستطرد بما في نفسه: ويوم تجلى فيه الأفق بعنبر من الغيم لذنا فيه باللهو والقنص وقد بقيت فينا من الأمس فضلة من السكر تغرينا بمنتهب الفرص

ركبنا له صبحاً وليلاً وبعضنا أصيلاً وكل إن شدا جلجل رقص وشهب بزاة قد رجمنا بشهبها طيوراً يساغ اللهو إن شكت الغصص وعن شفق تغري الصباح أو الدجى إذا أوثقت ما قد تحرك أو قمص وملنا وقد نلنا من الصيد سؤلنا على قنص اللذات والبرد قد قرص بخيمة ناطور توسط عذبها جحيم به من كان عذب قد خلص أدرنا عليه مثله ذهبية دعته إلى الكبرى فلم يجب الرخص فقل لحريص أن يراني مقيداً بخدمته لا يجعل الباز في القفص وما كنت إلا طوع نفسي فهل أرى مطيعاً لمن عن شأو فخري قد نقص فكان في أصحابه من حفظ هذين البيتين، ووشى بهما للسيد، فعزله أسوأ عزل، ثم بلغه بعد ذلك أنه قال لحفصة الشاعرة: ما تحبين في ذلك الأسود وأنا أقدر أن أشتري لك من سوق العبيد عشرة خيراً منه (1) وكان لونه مائلاً إلى السواد، فأسرها في نفسه إلى أن فر عبد الرحمن بن عبد الملك بن سعيد إلى ملك شرق الأندلس محمد بن مردنيش، فوجد له بذلك سبباً، فقتله صبراً بمالقة. وكان عبد الملك بن سعيد يذكر ابنه ابا جعفر لعبد المؤمن، وينشده من شعره رغبة في تشريفه بالحضور بين يديه وإنشاده في مجلسه، فأمره بحضوره، فعندما دخل عليه قبل يده وأنشد قصيدة منها قوله: عليك أحالني داعي النجاح ... ونحوك حثني حادي (2) الفلاح وكنت كساهر ليلا طويلا ترنح حين بشر بالصباح وذي جهل تغلغل في قفار شكا ظمأ فدل على القراح دعانا نحو وجهك طيب ذكر ويذكر للرياض شذا الرياح

_ (1) دوزي: أحسن منه. (2) ق م والمغرب: هادي.

وله في غلام أسود ساق ارتجالا أدار علينا الكاس ظبي مهفهف غدا نشره واللون للعنبر الشحري وزاد لنا حسناً بزهر كؤوسه وحسن ظلام الليل بالانجم الزهر وقوله فيه وقد لبس ابيض: وغصنٍ من ألابنوس ارتدى بعاج كليل علاه فلق يحاكي لنا الكأس في كفه صباح بجنح علاه شف وقوله مما كتب به إلى أخيه محمد وقد ورد منه كتاب بإنعام: وافى كتابك ينبي عن سابغ الانعام فقلت در ودر من زاخر وغمام وقوله يذم حماماً: يا رب حمام لعنا بما أبدى إلينا كل حمام أفق له قطر حميم كما أصمت سهام من يدي رامي يخرق سحباً للدخان الذي لاح لغيم العارض الهامي وقيم يجذبني جذبة وتارة يكسر إبهامي وجمع الأوساخ من لؤمه في عضدي قصداً لإعلامي وازدحم الأنذال فيه وقد ضجوا ضجيجاً دون إفهام وجملة الأمر دخلنا بني سام وعدنا كبني حام وله في ضد ذلك، والنصف الأخير لابن بقي: لا أنس ما عشت حماماً ظفرت به وكان عندي أحلى من جني الظفر نعمت جسمي في ضدين مغتنماً تنعم الغصن بين الشمس والمطر

وقال له السيد أبو سعيد ابن عبد المؤمن صاحب غرناطة: ما أنت إلا حسن الفراسة وافر العقل، فقال: نسبتم لمن هذبتموه فراسةً وعقلاً ولولاكم للازمه الجهل وما هو أهل للثناء وإنما علاكم لتقليد الأيادي له أهل وما أنا إلا منكم وإليكم وما في من خير فأنتم له أصل وقال: ولما رأيت السعد في صفح وجهه منيراً دعاني ما رأيت إلى الشكر وأقبل يبدي لي غرائب نطقه وما كنت أدري قبله منزع السحر فأصغيت إصغاء الجديب إلى الحيا وكان ثنائي كالرياض على القطر وله: لا تكثرن عتابي إن طال عنك فراقي فما يضر بعاد يطول والود باقي وله: ما خدمناكم لأن تشفعوا في نا بدار الجزاء يوم الحساب ذاك يوم أنا وأنت سواء فيه، كل يخاف سوء العقاب إنما الشأن الذب في هذه الدن يا بسلطانكم عن الأصحاب وإذا ما خذلتموهم بشكوى وبخلتم عنهم برد الجواب فاعذروهم أن يطلبوا من سواكم نصرة وارفعوا حجال العتاب وإذا أرض مجدب لفظته فله العذر في اتباع السحاب وله وقد تقدم أمامه في ليلة مظلمة أحد أصحابه، فطفئ السراج في يده، فقال لوقته:

لي من جبينك هادي في الليل نحو مرادي فما أريد سراجاً يدلني لرشاد أنى وكفك سحب يبدو بها ذا اتقاد وله في قوادة: قوادة تفخر بالعار أقود من ليل على سار ولاجة في كل دار وما يدري بها من حذقها داري ظريفة مقبولة الملتقى خفيفة الوطء على الجار لحافها لا ينطوي دائماً أقلق من راية بيطار قد ربيت مذ عرفت نفعها ما بين فتاك وشطار جاهلة حيث ثوى مسجد عارفة حانة خمار بسامة مكثرة برها ذات فكاهات وأخبار علم الرياضيات حوته وسا سته بتقويم وأسحار مناعة للنعل من كيسها موسرة في حال إعسار تكاد من لطف أحاديثها تجمع بين الماء والنار وما سمعنا في هذا الباب أحسن من هذا، والبيت السائر: تقود، من السياسة، ألف بغل إذا حرنت، بخيط العنكبوت وشرب ليلة مع أصحاب له وفيهم وسيم، فأعرض بجانبه وقطب، فتكدر المجلس، فقال أبو جعفر: يا من نأى عنا إلى جانب صد كميل الشمس عند الغروب لا تزو عنا وجهك المجتلى فالشمس لا يعهد منها قطوب إن دام هذا الحال ما بيننا فإننا عما قريب نتوب

ما تشتكي الدهر ولا خطبه لولاك ما دارت علينا خطوب وله أيضاً: أيا لائمي في حمل صحبة جاهل قطوب المحيا سيء اللحظ والسمع لمنفعة ترجى لديه صحبته وإن كان ذا طبع يخالفه طبعي كما احتمل الإنسان شرب مرارة ال دواء لما يرجو لديه من النفع وله، وقد أحسن ما شاء: تركتكم لا كارهاً في جنابكم ولكن أبى ردي إلى بابكم دهري وطاحت بي الأطماع غي كل وجهة تنقلني من كل سهل إلى وعر وما باختيار فارق الخلد آدم وما عن مراد لاذ أيوب بالصبر ولكنها الأيام ليست مقيمة على ما اشتهاه مشته أمد الدهر وإنك إن فكرت فيما أتيته تيقنت أن الترك لم يك عن غدر ولكن لجاج في النفوس إذا انقضى رجعت كما قد عاد طير إلى وكر وإني لمنسوب إليكم وإن نأت بي الدار عنكم والغدير إلى القطر وإني لمثن بالذي نلت منكم مقيم على ما تعلمون من البر وإن خنتكم يوماًفخانني المنى وساء لديكم بعد إحماده ذكري على أنني أقررت أني مذنب وذو المجد من يغني المقر عن العذر وله يصف ناراً: نظرت إلى نار تصول على الدجى إذا ما حسبناها تدانت يبعد ترفعها أيدي الرياح، وتارة تخفضها مثل المكبر يسجد وإلا فمن لا يملك الصبر قلبه يقوم به غيظ هناك ويقعد لها ألسن تشكو بها ما أصابها وقد جعلت من شدة القر ترعد

وله على لسان إنسان أخلقت بردته: مولاي هذي بردتي أخلقت وليس شيء دونها أملك وصرت من بأس ومن فاقة أبكي إذا أبصرتها تضحك وله يستدعي أحد أبناء الرؤساء إلى يوم اجتماع: تداركنا فإنا في سرور وما بسواك يكتمل السرور أهلة أنسنا بك في تمام أليس تتم بالشمس البدور وله، وقد خطر على منزله من إليه له ميل، وقال: لولا أخاف التثقيل لدخلت، وانصرف، فلما أعلم أبو جعفر كتب إليه: مولاي لم تقصد تعذيب من يهوى وما قصدك مجهول طلبت تخفيفاً ببعد وفي تخفيف من تهواه تثقيل غيرك إن زار جنى ضجرة ولج منه القال والقيل وأنت إن زرت حياة وما ال ... عيش إذا ما طال مملول (1) وله، وقد جلس إلى جانبه رجل تكلم فأنبأ عن علو قدر، فسأله عن بلده، فقال: إشبيلية، ففكر ثم قال: يا سيداً لم أكن من قبل أعرفه حتى تكلم مثل الروض بالعبق وزادني أن غدا في حمص منشؤه لقد تشاكل بين البدر والأفق وله وقد حضر مجلساً مع إخوان له في انبساط ومزاح، فدخل عليهم أحد ظرفاء (2) الغرباء بوجه طلق وبشاشة، فاهتز لما سمع بينهم، وجعل يصل ما

_ (1) دوزي: ممطول. (2) م: أحد الغرباء.

يحتاج من مزاحهم إلى صلة بأحسن منزع وأنبل مقصد، فأنشده أبو جعفر ارتجالاً: يا سيداً قد ضمه مجلس حل به للمزح إخوان لم نلق من فجأته خجلة ولا ثنانا عنه كتمان كأنه من جمعنا واحد لم ينب منا عنه إنسان ولم نكن ندريه لكن بدا في وجهه للظرف عنوان وله وقد لقي أحد إخوانه وكان قد أطال الغيبة عنه، فدار بينهما ما أوجب أن قال: إن لحت لم تلمح سواك الأعين أو غبت لم تذكر سواك الألسن أنت الذي ما إن يمل حضوره ومغيبه السلوان عنه يؤمن وله وهو من آياته: إني لأحمد طيفها وألومها والفرق بينهما لدي كبير هي إن بدت لي شيبة في جفوة والطيف في حين المشيب يزور وإذا توالى صدها أو بينها وافى على أن المزار عسير وله وقد سافر بعض الأرذال بماله، فنكب في سفره، وعاد فقيراً بأسوإ أحواله: اغد (1) ولا يغن عنك القيل والقال ... فالجود مبتسم والفضل يختال قالوا فلان رماه الله في سفر رآه رأياً بما حالت به الحال فآب منه سليباً مثل مولده عليه ذل وتفجيع وإقلال فقلت لا خفف الرحمن عنه، فلم يكن لديه على القصاد إقبال فقل له: دام في ذل ومسغبة ولا أعيدت له في المال آمال

_ (1) ق م: أعد.

قد كان حمقك حسن المال يستره فاليوم أصبحت لا عقل ولا مال وله وقد سافر أحد الرؤساء من أصحابه: أيا غائباً لم يغب ذكره ولا حال عن وده حائل لئن مال دهري بي عنكم فقلبي نحوكم مائل فإني شاهدت منكم علاً من العجز قس بها باقل لئن طال بي البعد عن لحظكم فما في حياتي إذاً طائل وله وهو من حسناته: شقت جيوب فرحاً عندما آبت، وفي البعد تشق القلوب فقلت هذا موقف ما يشق ال جيب فيه غير صب طروب فابتسمت زهواً وقالت كذا ال أفق لعود الشمس شق الجيوب وله وقد أجمع (1) رأيه على أن يفد على أمير المؤمنين عبد المؤمن، فأخذ في ذلك مع أصحاب له، فجعلوا يثنونه عن ذلك، وظهر عليهم الحسد له، فقال: سر نحو ما تختار لا تسمعن ما قاله زيد ولا عمرو كلهم يحمد ما رمته مهما يساعد رأيك الدهر عجبت ممن رام صدر العلا يروم أن يصفو له دهر فقالوا له: اتهمتنا في الود، فقال: لو لم أتهمكم كنت أتهم عقلي، والعياذ بالله تعالى من ذلك، وكيف لا أتهمكم وقد غدوتم تثنونني عن زيارة خليفة لوالدي عنده مكان، وله علينا إحسان، ولي شافع عنده مقرب لمجلسه عقلي ولساني، ولكنني أنا المخطئ الذي عدلت عن العمل بقول القائل (2) :

_ (1) دوزي: اجتمع. (2) هو سعد بن نائب (الحماسية: 10 من المرزوقي) .

ولم يستشر في أمره غير نفسه ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا وله في شعاع القمر والشمس على النهر: ألا حبذا نهر إذا ما لحظته أبى أن يرد اللحظ عن حسنه الأنس ترى القمرين الدهر قد عنيا به يفضضه بدر وتذهبه شمس وله في والده وقد سن عليه درعاً: أيا قائد الأبطال في كل وجهة تطير قلوب الأسد فيها من الذعر لقد قلت لما أن رأيتك دارعاً أيا حسن ما لاح الحباب على البحر وأنشدت والأبطال حولك هالة أيا حسن ما دار النجوم على البدر وفوله وقد بلغه أن حاسداً شكره: متى سمعت ثناء عمن غدا لك حاسد فكان منك انخداع به فرأيك فاسد بصدره منك نار لهيبها غير خامد وعله لك ما زد ت في السعادة زائد وإنما ذاك منه كالحب في فخ صائد وله: أبصره من يلوم فيه فقال ذا في الجمال فائق أما ترى ما دهيت منه كان عذولاً فصار عاشق وله في أبيه وقد سجنه عبد المؤمن: مولاي إن يحبسك خير خليفة فبذاك فخرك واعتلاء الشأن فالجفن يحبس نوره من غبطة والمرهفات تصان في الأجفان

فابشر فنزع الدر من أصدافه يعليه للأسلاك والتيجان ولئن غدا من ظل دونك مطلقاً إن القذى ملقىً عن الأجفان والعين تحبس دائماً أجفانها وهداية الإنسان بالإنسان والطرس يختم ما حواه نفاسة ويهان ما يبدو من العنوان فاهنأ به لكن ملياً مكثه سجناً لغير مذاة وهوان فلتعلون رغم الأعادي بعده بذرى الخليفة في ذرى كيوان مولاي غيرك يعزى بما لم يزل يجري على الكرام، ويذكر تأنيساَ له في الوحشة بما يطرأ من الكسوف والخسوف على الشمس المنيرة والبدر التمام: وأنت تعلم الناس التعزي ... وخوض الموت في الحرب السجال (1) وقد كان مولاي أنشدني لعلي بن الجهم قائلاً: إن أحداً لم يسل نفسه عما ناله من السجن بمثله (2) : قالوا سجنت فقلت ليس بضائر سجني وأي مهند لا يغمد الأبيات، ماذا تفيدك من العلم وصدرك ينبوعه، وبحاطرك لا يزال غروبه وطلوعه، وإنما هي عادة تبعناها أدباً، وقضينا بها في النفس من الإعلام بالتوجع والتفجيع أرباً، ولعل الله تعالى يتبع هذه التسلية بتهنئة، ويعقب بالنعمة هذه المرزئة. فقال: فأمر الملك بتسريحه إثر ذلك، فلما اجتمع وجهه بوجهه جعل يحمد الله جهراً ويغرد بهذه الأبيات، وكان سراحه بكرة: طلعت علينا كالغزالة بالضحى وعزك طماح ووجهك مشرق

_ (1) البيت للمتنبي من قصيدته في رثاء أم سيف الدولة. (2) انظر ديوان ابن الجهم: 41.

فغفراً لذنب الدهر أجمع إنه أتى اليوم من حسناه ما هو أليق فلح في سماء العز بالسعد طالعاً وقدرك سام أفقه ليس يلحق فقد سرحت لما غدوت مسرحاً قلوب وأفكار وسمع ومنطق فاهتز أبوه من شدة الطرب، وقال له: والله إنك لتملا الدلو إلى عقد الكرب. وله يعتذر، وقد دعي إلى مجلس أنس: سيدي ساعدك سولك، لما وصل إلى أخيك المعتد بك رسولك، قابله بما يجب من القبول، وأبدى له من الشغل ما منع من الوصول: ومن ذا الذي يدعى لعدن فلا يرى على الرأس إجلالاً إليها يبادر ولكن الاضطرار، لا يكون معه اختيار، وإني لأشوق الناس إلى مشاهدة تلك المكارم، وأحبهم في محاضرة تلك الآداب المترادفة ترادف الغمائم، ولكن شغلني عارض قاطع، وبرغمي أني لدعوتك عاص وله طائع، وإني بعد ذلك لحامل على تلك السجية الكريمة في الغفران، مستجير بالخلاص الذي أعهد من خرق فلان ومكر فلان، فإني متى غبت لا أعدم مترصداً قرحة يقع عليها ذبابه، ومستجمعاً إذا أبصر فرصة سل عليها ذبابه: ولكنني أدري بأني نازح ودان سواء عند من يحفظ العهدا وإني لأقول وقد غبت عن تلك الحضرة العلية، وجانبت ذلك الجناب السامي والمثابة السنية: لئن غبت عمن نوره نور ناظري فحسبي لديه أن أغيب عقابا وسوف أوافيه مقراً بزلتي وفي حلمه أن لا يطيل حسابا وله في قصر النهار، ولو لم يكن له غيره لكفاه:

لله يوم مسرة أضوا وأقصر من ذباله لما نصبنا للمنى فيه بأوتار حباله طار النهار به كمر تاع وأجفلت الغزاله وهذا المعنى لم يسبق إليه، ولم يقدر أحد أن ينتزعه من يديه. ولما وصل صحبة والده إلى إشبيلية افتتن بواديها، واعتكف على الخلاعة فيها، مصعداً ومنحدراً بين بساتينه ومنازهه، فمر ليلة بطريانة فمال نحو منزه فيه طرب سمعه، فاستوقفه هنالك، وهو في الزورق متكئ وأصحابه وأصحاب أبيه مظهرون انحطاطهم عنه في المرتبة، فأخرج رأسه أحد الأنذال المعتادين بالنادر من شرجب، - والشرجب: هو الدرابزين من خشب فيه طاقات، وطريانة مقابلة إشبيلية، وبها المنازه والأبنية الحسنة - فضرط له ذلك النذل بغاية ما قدر، فرفع رأسه وقد أخذ منه السكر، ولم يعتد مثل ذلك في بلده، وقال: يا سفلة (1) ، أتقدم علي بهذا قبل معرفتي! فثنى عليه والحدة أخرى، ثم رفع ثوبه عن ذكره وهو منعظ، وقال: يا وزير اجعل هذا عندك وديعة حتى أعرف من تكون، ثم رفع ما على استه من ثيابه وقال: واعمل من هذا غلافاً للحيتك فإذا عرفناك ذهبناه لك؛ فغلبه الضحك على الحرج، وجعل أصحابه يقولون له: ما سمعت أن من دخل هذا الوادي يعول على هذا وأمثاله فمال عن ذلك المنزه قليلاً، وأطرق ساعة وقال: نهر حمص لا عدمنا ك فما مثلك نهر فيك يلتذ ارتياح أبد الدهر وسكر كل عمر قد خلا من ك فما ذلك عمر خصه الله بمعنى فيه للألباب سر

_ (1) م: يا سفيه.

يلعن الإنسان فيه وهو يصغي ويسر ثم سأل بعد ذلك عن رب المنزه، فسمي له؛ وأعلم أن ابن سيد الشاعر المشهور باللص كان حاضراً وأنه أملى على السفلة (1) ما قال وصنع. فكتب له أبو جعفر: ياسميي وإن أفاد اشتراك غير ما يرتضيه فضل وود أكذا يزدرى الخليل بأفق أنت فيه ولم يكن منك رد لا أدري من سلطت وغداً ولكن ليس يخفى عليك من هو وغد فلما وقف على هذه الأبيات كتب له: مولاي وسيدي، وأجل ذخري للزمان وعضدي، الذي أفخر بمشاركة اسمه، وتتيه هذه الصناعة بذكره ورسمه (2) : وخير الشعر أشرفه رجالاً وشر الشعر ما قال العبيد سلام كتسنيم، على ذلك المقام الكريم، ورحمة الله تعالى وبركاته، وإن كان مولاي لم يفاتحني بالسلام، ولا رآني أهلاً لمقاومة الكرام، لكن حط قدري عنده ما نسب لي من الذنب المختلق، ولا والله ما نطقت بلسان ولا كنت ممن رمق، بل الذي زور لسيدي في هذه الوشاية كان المعين (3) عليها، والملم إليها، فبادر إليكم قبل أن أسبقه فاتسم بأسقط خطتين: النذالة الأولى والوشاية الأخرى، ولولا أن المجالس بالأمانات، وأن الخلاعة بساط يطوى على ما كان فيه، لكنت أسبق منه، لكني يأبى ذلك خلقي، وما تأدبت به، ومع ذلك فإني أقول:

_ (1) م: السفيه. (2) م: ووسمه. (3) ق: العين.

فإن كنت ذا ذنب فقد جئت تائباً ومثلك غفار ومثلك قابل ولولا ما أخشى من التثقيل، وما أتوقع من الخجل إذا التقى الوجهان، لأتيت ختى أبلغت في الاعتذار بالمشافهة ما لا يسع القرطاس، لكنني متكل على حلم سيدي وإغضائه، متوسل إليه في الغفران بعلائه، وكتب ذلك شعراً طويلاً منه: ولا غرو أن تعفو وأنت ابن من غدا تعود عفواً عن كبار الجرائم لكم آل عمار بيوت رفيعة تشيد من كسب الثنا بدعائم إذا نحن أذنبنا رجونا ثوابكم ولم نقتنع بالعفو دون المكارم وإنك فرع من أصول كريمة ولا تلد الأزهار غير الكمائم وإني مظلوم لزور سمعته مقد جئت أرجو العفو في زي مظلوم فأجابه أبو جعفر بما نصه: سيدي الذي أكبر قدره، وأجل (1) ذكره، وأجزل شكره، وصل جوابك الذي لو كان لك من الذنب ما تحمله ابن ملجم، لأضربت لك عنه صفحاً ونسيت بما تأخر ما تقدم، ومعاذ الله أت أنسب لفضلك عيباً، فأذم لك حضوراً أو غيباً، وإنما قصدت بالمعاتبة، ما تحتها من المطارحة والمداعبة، على أن سيدي لو تيقنت أنه ظالم لأنشدت: منذ غدا طرفك لي ظالماً آليت لا أدعو على ظالم لكنني أتيقن خلاف ذلك، وأعلم حتى كأني حاضر ما كان هنالك، وقد أطلت عليك، وبعد هذا فلتعتمد على أن تصل إلي أو أصل إليك، فهذا يوم كما قال البستي (2) : يوم له فضل على الأيام مزج السحاب ضياءه بظلام

_ (1) م: وأجمل. (2) اليتيمة 4: 304.

فالبرق يخفق مثل قلب هائم والغيم يبكي مثل جفن هام فالختر لنفسك أربعاً هن المنى وبهن تصفو لذة الأيام وجه الحبيب ومنظراً مستشرفاً ومغنياً غرداً وكأس مدام وقد حضرت عند محبك الثلاثة فكن رابعها، ونادت بك همم الأماني فكن بفضلك سامعها، ومركز أفلاك هذه المسرة حين كتب هذه الرقعة إلى مجدك منزه مطل على جزيرة شنتبوس لا زال أترنم فيه بقول ابن وكيع: قم فاسقني والخليج مضطرب والرح تثني ذوائب القضب كأنها والرياح تعطفها صف قناً سندسية العذب والجو في حلة ممسكة قد طرزتها البروق بالذهب فإن كان سيدي في مثل هذا المكان، جرينا إليه جري الحلبة لخصل الرهان، وإن كان في كسر بيته فليبادر إلى محل تقصر عنه همة قيصر وكسرى، وإن أبطأ فإن الرقاع بالاستدعاء لا تزال عليه تترى، وإن كان لا يجدي هذا الكلام، فما نقنع من العقوبة المؤلمة بالملام، وعلى المودة المرعية الداعية أكمل ما يكون من السلام. فعندما قرأ الرقعة ركب إليه زورقاً وصنع هذه الأبيات في طريقه، فعند وصوله أنشده إياها: ركبت إليك النهر يا بحر فالقنا بما يتلقى جوده كل قادم بفيض ولكن من مدام وهزة ولكن إلى بذل الندى والمكارم وكنا نسمي قبل كونك حاتماً ومذ لحت فينا لم نعد ذكر حاتم بآل سعيد يفخر السعد والعلا فأيديهم تلغي أيادي الغمائم فامتلأ أبو جعفر سروراً، وخلع عليه ما كان عنده هناك، ووعده بغير ذلك، فأطرق لينظم شيئاً في شكره، فأقسم عليه ألا يشغل خاطره في ذلك

الوقت عن الارتياح، وحث أكؤس الراح، فأقبلوا على شأنهم، وكان ابن سيد في ذلك الحين متستراً بشرب الراح، وكان عند أبي جعفر خديم كثير النادر والالتفات، يخاف أهل التستر من مثله، فقال ابن سيد: هات دواة وقرطاساً، فأعطاه ذلك، فكتب: يا سيدي قد علمت أني بهذه الحال لا أظاهر أخشى أناساً لهم عيون نواظر مني المعاير أحذرهم طاقتي وإني وثقت بالله فهو غافر ولا تقس حالتي بحال ... منك (1) اعتذار فالفرق ظاهر فأنت إن كنت ذا جهار غيرمبال فالجاه ساتر لا تخش من قول ذي اعتراض ولا حسود عليك قادر وإنني قد رأيت ممن يكثر القول وهو ساخر ما قد أراب العفيف منه ضحك وظن به يجاهر أخشى إذا قيل كيف كنتم قال بحال تسر ناظر واللص ما بيننا صريعاً بكل كأس عليه دائر مطرحاً للصلاة يصغي لصولة الدف والمزامر فأغتدي سيدي مشاراً إلي مهما مررت خاطر وإن أتيت الملوك أبغي نوالهم قيل أي شاعر يذكر في شعره خلافاً (2) ... وهو لزور المحال ذاكر بالأمس قد كان ذا انتهاك فما له بعد ذاك عاذر إن كان هذا فإن حظي وافى لربح فآب خاسر فقال أبو جعفر: يا أبا العباس، اشرب هنيئاً غير مقدر ما قدرت، فلو كان

_ (1) م: هذا. (2) م: غلافاً.

هذا المضحك على الصفة التي ذكرت كان الذنب منسوباً إلي في كوني إحضر في مجلسي من يهتك ستر المستةرين، ومهما تره هنا بهذه الخفة والطيش والتسرع للكلام فإنه إذا فارقنا أثقل من جبل، وأصمت من سمكة، متزي بزي خطيبفي نهاية من السكون والوقار: وتحت الثياب العار لو كان باديا فكن في أمن ما شربت معي، فإني والله لا أسمع أحداً من أصحابنا تكلم في شأنك بأمر إلا عاقبته أشد العقاب، والذنب في ذلك راجع إلي. فسكن ابن سيد وجعل يحث الأقداح، ويمرح أشد المراح، على ما كان يظهره من الانقباض، تقية لما يخشاه من الاعتراض، إلى أن قاربت الشمس الغروب، ومد لها في النهر معصم مخضوب، فقال أبو جعفر: انظر إلى الشمس قد أل صقت على الأرض خدا فقال ابن سيد: هي المرآة ولكن من بعدها الأفق يصدا فقال أبو جعفر: مدت طرازاً على النه ر عندما لاح بردا فقال ابن سيد: أهدت لطرفك منه ما للأكارم يهدى فقال أبو جعفر: درع اللجين عليه سيف من التبر مدا

فقال ابن سيد: فاشرب عليه هنيئاً وزد سروراً وسعدا ثم لما أظلم الليل نظروا إلى منارة شنتبوس قد عكست مصابيحها في النهر، وإلى النجوم قد طلعت فيه، فقال ابن سيد: اخلع على النهر ثوب ال كرى فذلك واجب فقال أبو جعفر: وانظر إلى السرج فيه كالزهر ذات الذوائب وحين صفق للأف ق نقطته الكواكب فقبل ابن سيد رأسه، وقال: ما تركت بعد هذا مقالاًلقائل، ثم جعلوا يشربون. فقال أبو جعفر: سقني والأفق برد بنجوم الليل معلم فقال ابن سيد: وبساط النهر منها وهو فضي مدرهم فقال أبو جعفر: ورواق الليل مرخى والشذا بالروض قد نم فقال ابن سيد: والندى في الزهر منثو ر على عقد منظم فقال أبو جعفر: والصبا جرت على مي ت الطلى كف ابن مريم

فقال ابن سيد: كان مبهوتاً فلما نفخت فيه تكلم فقال أبو جعفر: وكأن الكأس والقه وة دينار ودرهم فقال ابن سيد: وبدا الدف يناغي ال عود والمزمار هيم فقال أبو جعفر: فأذاع الأنس منا كل ما قد كان مكتم فقال ابن سيد: أي عيش يهتك المس تور لو كان ابن أدهم فقال أبو جعفر: هكذا العيش ودعني من زمان قد تقدم فقال ابن سيد: حين لا خمر سوى ما بكؤوس البيض من دم فقال أبو جعفر: والله ما تعديت ما جال الساعة في خاطري، فإني ذكرت أيام الفتنة وما كابدنا فيها من المحن، وأنا لم نزل في مصادمة ومقارعة، ثم رأيت ما نحن الآن فيه بهذه الدولة السعيدة التي أمنت وسكنت، فشكرت الله تعالى، ودعوت بدوامها. ثم لما طلع الفجر قال أبو جعفر: نثر الطل عقوده ونضا الليل بروده

فقال ابن سيد: وبدا الصبح بوجه مطلع فينا سعوده فقال أبو جعفر: وغدا ينشر لما فتر الليل بنوده فقال ابن سيد: فهلم اشرب وقبل من غدا ينطق عوده فقال أبو جعفر: ثم صافحه على رغ م النوى وافرك نهوده فقال ابن سيد: واجعل الشكر على ما نلته منه جحوده فقال أبو جعفر: يا أبا العباس، إنك أغرت على التهامي في هذا البيت في قوله: وشكر أيادي الغانيات جحودها قال: فلم لقبت باللص لولا هذا وأمثاله ما كان ذلك. واللص المذكور اسمه أحمد بن سيد، يكنى أبا العباس، وهو من مشهوري شعراء الأندلس. ولما أنشد أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي بجبل الفتح قوله: غمض عن الشمس واستقصر مدى زحل وانظر إلى الجبل الراسي على جبل قال له: أنت شاعر هذه الجزيرة، لولا أنك بدأتنا بغمض وزحل والجبل. ومن بديع نظم اللص قوله: سلبت قلبي بلحظ أبا الحسين خلوب

فلم أسمي بلص وأنت لص القلوب ولما اجتمع أبو جعفر ابن سعيد المترجم به باللص أبي العباس المذكور في جبل الفتح عندما وفد فضلاء الأندلس على عبد المؤمن، واستنشده، فجعل ينشده ما استجفاه به لخروجه عن حلاوة منزع أبي جعفر، إلى أن أنشده قوله: وما أفنى السؤال لكم نوالا ولكن جودكم أفنى السؤالا فقال له أبو جعفر: لا جعلك الله في حل من نفسك، يكون في شعرك مثل هذا وتنشدني ما كان يحملني على أن أسأت معك الأدب والله لو لم يكن لك غير هذا البيت لكنت به أشعر أهل الأندلس. وكتب إلى أبي جعفر أبو الحكم بن هرودس (1) في يوم بارد بغرناطة: يا سميي، في علم مجدك ما يح تاج فيه هذا النهار المطير نديف الثلج فيه قطناً علينا ففرنا بعدلكم نستجير والذي أبتغيه في اللحظ منه ... ورضاب الذي هويت نظير (2) يوم قر يود من حل فيه لو تبدي لمقلتيه سعير فوجه بما طلب، وجاوبه بما كتب: أيها السيد الأجل الوزير الذي قدره معلى خطير قد بعثنا بما أشرت إليه دمت للأنس والسرور تشير كان لغزاً فككتهدون فكر إن فهمي بما تريد خبير

_ (1) هو أبو الحكم أحمد بن هردوس كاتب عثمان بن عبد المؤمن ملك غرناطة (توفي سنة 573 أو في التي قبلها) انظر المغرب 2: 210 والحاشية، وسيأتي ذكره عند الحديث عن الموشحات والأزجال. (2) المغرب: ورضاه في كل أمر يسير.

ومن نظم أبي الحكم: إذا ضاقت عليك فول عنها وسر في الأرض واختبر العبادا ولا تمسك رحالك في بلاد غدوت بأهلها خبراً معادا 668 - أخيل الرندي ولما مدح أبو القاسم أخيل بن إدريس الرندي عبد المؤمن في جبل الفتح بقصيدة أولها: ما الفخر إلا فخر عبد المؤمن أثنى عليه كل عبد مؤمن قال أبو جعفر ابن سعيد: دعاه التجنيس إلى الضعف والخروج عن المقصود، والأولى أن لو قال " شاد الخلافة وهو أول مبتني ". ومن هذه القصيدة: أما ابن سعد فهو أول مارق يا ليته بأبيه سعد يكتني ما قدر مرسية وحكمك نافذ إن شئت من عدن لأرض المعدن فلما أكملها قال له عبد المؤمن: أجدت، فقال ارتجالاً: من لي أمير المؤمنين بموقفي هذا وقولك لي أجدت ولم تن فلقد مدحتك خائفاً أن لا يفي لسني بما يعيي جميع الألسن ولابن إدريس المذكور: أيها البدر هل علمت بأني لم أبت راعياً محياك ودا أنا لو بات من حكيت بجنبي لم يكن عنه ناظري يتعدى

وله: شتان ما بيني وبينك في الهوى أنا أبتغيك وأنت عني تصدف وإذا عتبتك وارعويت يبين لي في الحين منك بأن ذاك تكلف ياليت شعري كيف يقضى وصلنا والعمر يفنى والمواعد تخلف وقيل له لما هجره عبد المؤمن: اكتب له واعتذر وبرهن عن نفسك، فقال: ما يكون أمير المؤمنين هجرني إلا وقد صح عنده، ولا أنسبه في أمري لقلة التثبت والجور، وإنما أرغب في عفوه ورحمته، فكأن هذا الكلام ألان عليه قلب عبد المؤمن لما بلغه، وكان قد نقل عنه حساده أنه قال: كيف تصح له الخلافة، وليس بقرشي 669 - ترجمة النص ولا بأس أن نزيد من أخبار اللص الذي جرى ذكرنا له مع أبي جعفر ابن سعيد فنقول (1) : وهو النحوي المبرز في الشعر أبو العباس أحمد بن سيد، الإشبيلي، ذكره ابن دحية في المطرب وأخبر أنه شيخه، وختم كتاب سيبويه مرتين على النحوي أبي القاسم ابن الرماك، واجتمع به أبو جعفر ابن سعيد بجبل الفتح كما سبق، ولقب اللص لإغارته على أشعار الناس. وله: شاموا الردى فأشموا الترب آنفهم ولم يبالوا بما فيها من الشمم ثم جعل يقول: قطع الله لساني إن كان اليوم على وجه الأرض من يعرف

_ (1) ترجمة اللص في المغرب 1: 252 والمطرب: 200 وبغية الوعاة: 149 والتكملة: 80.

أن يسمعه، فضلاً عن أن يقوله. وله القصيدة الشهيرة: نداك الغيث إن محل توالى وأنت الليث إن شاءوا القتالا سلبت الليث شدة ساعديه نعم، وسلبت عينيه الغزالا وما أفنى السؤال لكم نوالا ولكن جودكم أفنى السؤالا وقد تقدم في حلقة خياط، وهو من محاسنه: كأنها بيضة وخز الرماح بها بادوقونسها بالسيف قد قطعا وقال: فالليل إن واصلت كالليل إن هجرت أشكو من الطول ما أشكو من القصر رجع إلى أخبار أبي جعفر ابن سعيد قال في الأزهار المنثورة في الأخبار المأثورة ما نصه: لما قبض على الوزير أبي جعفر ابن عبد الملك بن سعيد العنسي، وثقف بمالقة، دخل إليه (1) ابن عمه، ووصل إلى الاجتماع به ريثما استؤذن السيد أبو سعيد ابن الخليفة عبد المؤمن في أمره، قال: فدمعت عيناي حين رأيته مكبولاً، فقال لي: أعلي تبكي بعدما بلغت من الدنيا أطايب لذاتها، فأكلت صدور الدجاج، وشربت في الزجاج، ولبست الديباج، وتمتعت بالسراري والأزواج، واستعملت من الشمع السراج الوهاج، وركبت كل هملاج، وها أنا في يد الحجاج، منتظر محنة الحلاج، قادم على غافر لا يحتاج إلى اعتذار ولا احتجاج، قال فقلت: أفلا يؤسف

_ (1) م: عليه.

على من ينطق بهذا الكلام، ثم يفقد وقمت عنه فكان آخر العهد به، انتهى. رجع إلى أخبار النساء 9 - ومن أشهرهن بالأندلس ولادة بنت المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمن ابن عبيد الله بن الناصر لدين الله (1) ، وكانت واحدة زمانها، المشار إليها في أوانها، حسنة المحاضرة، مشكورة المذاكرة، كتبت بالذهب على طرازها الأيمن: أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها وكتبت على الطراز الأيسر: وأمكن عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها وكانت مع ذلك نشهورة بالصيانة والعفاف، وفيها خلع ابن زيدون عذاره، وقال فيها القصائد الطنانة والمقطعات، وكانت لها جارية سوداء بديعة المعنى، فظهر لولادة أن ابن زيدون مال إليها، فكتبت إليه: لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا لم تهو جاريتي ولم تتخير وتركت غصناً مثمراً بجماله وجنحت للغصن الذي لم يثمر ولقد علمت بأنني بدر السما لكن ولعت، لشقوتي، بالمشتري ولقبت ابن زيدون بالمسدس، وفيه تقول: ولقبت المسدس وهو نعت تفارقك الحياة ولا يفارق فلوطي ومأبون وزان وديوث وقرنان وسارق وقالت فيه:

_ (1) ترجمة ولادة في الذخيرة 1/1: 376 والمطرب: 7 والصلة: 657 والسيوطي: 101.

إن ابن زيدون على فضله يغتابني ظلماً ولا ذنب لي يلحظني شزراً إذا جئته كأنني جئت لأخصي علي وقالت فيه أيضاً: إن ابن زيدون على فضله يعشق قضبان السراويل لو أبصر الأير على نخلة صار من الطير الأبابيل وقالت ولادة تهجو الأصبحي: يا أصبحي اهنأ فكم نعمة جاءتك من ذي العرش رب المنن قد نلت باست ابنك ما لم ينل براج بوران أبوها الحسن وكتبت إليه لما أولع بها بعد طول تمنع: ترقب إذا جن الظلام زيارتي فإني رأيت الليل أكتم للسر وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر ووفت بما وعدت، ولما أرادت الانصراف ودعته بهذه الأبيات: ودع الصبر محب ودعك ذائع من سره ما استودعك يقرع السن على أن لم يكن زاد في تلك الخطى إذ شيعك يا أخا البدر سناءً وسناً حفظ الله زماناً أطلعك إن يطل بعدك ليلي فلكم بت أشكو قصر الليل معك وكتبت إليه: ألا هل لنا من بعد هذا التفرق سبيل فيشكو كل صب بما لقي وقد كنت أوقات التزوار في الشتا أبيت على جمر من الشوق محرق فكيف وقد أمسيت في حال قطعة لقد عجل المقدور ما كنت أتقي

تمر الليالي لا أرى البين ينقضي ولا الصبر من رق التشوق معتقي سقى الله أرضاً قد غدت لك منزلاً بكل سكوب هاطل الوبل مغدق فأجابها بقوله: لحى الله يوماً لست فيه بملتق محياك من أجل النوى والتفرق وكيف يطيب العيش دون مسرة وأي سرور للكئيب المؤرق وكتب في أثناء الكلام بعد الشعر: وكنت ربما حثثتني على أن أنبهك على ما أجد فيه عليك نقداً، وإني انتقدت عليك قولك: سقى الله أرضاً قد غدت لك منزلاً فإن ذا الرمة قد انتقد عليه قوله مع تقديم الدعاء بالسلامة: ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولا زال منهلاً بجرعائك القطر إذ هو أشبه بالدعاء على المحبوب من الدعاء له، وأما المستحسن فقول الآخر: فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهمي وبسببها خاطب ابن عبدوس بالرسالة المشهورة التي شرحها غير واحد من أدباء المشارقة كالجمال ابن نباتة والصفدي وغيرهما، وفيها من التلميحات والتنديرات ما لا مزيد عليه. وقد ذكر ولادة ابن بشكوال في الصلة فقال: كانت أديبة، شاعرة، جزلة القول، حسنة الشعر، وكانت تناضل الشعراء، وتساجل الأدباء، وتفوق البرعاء، وعمرت عمراً طويلاً، ولم تتزوج قط، وماتت لليلتين خلتا من صفر سنة ثمانين، وقيل: أربع وثمانين وأربعمائة، رحمها الله تعالى.

وكان أبوها المستكفي بايعه أهل قرطبة لما خلعوا المستظهر، كما ألمعنا به في غير هذا الموضع، وكان جاهلاً ساقطاً، وخرجت هي في نهاية من الأدب والظرف: حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، وعلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب، على أنها أوجدت للقول فيها السبيل بقلة مبالاتها، ومجاهرتها بلذاتها. ولما مرت بالوزير أبي عامر ابن عبدوس وأمام داره بركة تتولد عن كثرة الأمطار، وربما استمدت بشيء مما هنالك من الأقذار، وقد نشر أبو عامر كميه، ونظر في عطفيه، وحشر أعوانه إليه، فقالت: أنت الخصيب وهذه مصر فتدفقا فكلاكما بحر فتركته لا يحير حرفاً، ولا يرد طرفاً. وقال في المغرب بعد ذكره أنها بالغرب كعلية بالشرق: إلا أن هذه تزيد بمزية الحسن الفائق، وأما الأدب والشعر والنادر وخفة الروح فلم تكن تقصر عنها، وكان لها صنعة في الغناء، وكان لها مجلس يغشاه أدباء قرطبة وظرفاؤها فيمر فيه من النادر وإنشاد الشعر كثير لما اقتضاه عصرها من مثل ذلك، وفيها يقول ابن زيدون: بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا وقال أيضاً يخاطب ابن عبدوس لاشتراكه معه في هواها: أثرت هزبر الشرى إذ ربض ونبهته إذ هدا فاغتمض وما زلت تبسط مسترسلاً إليه يد البغي لما انقبض

حذار حذار فإن الكريم إذا سيم خسفاً أبى فامتعض وإن سكون الشجاع النهو س ليس بمانعه أن يعض عمدت لشعري ولم تتئد تعارض جوهره بالعرض أضاقت أساليب هذا القري ض أم قد عفا رسمه فانقرض لعمري فوقت سهم النضال وأرسلته لو أصبت الغرض ومنها: وغرك من عهد ولادة سراب تراءى وبرق ومض هي الما يعز على قابض ويمنع زبدته من محض ومن أخبار ولادة مع ابن زيدون ما قاله الفتح في القلائد (1) : إن ابن زيدون كان يكلف بولادة ويهيم، ويستضيء بنور محياها في الليل البهيم، وكانت من الأدب والظرف، وتتميم السمع والطرف، بحيث تختلس القلوب والالباب، وتعيد الشيب الى أخلاق الشباب، فلما حل بذلك الغرب، وانحل عقد صبره بيد الكرب، فر إلى الزهراء ليتوارى في نواحيها، ويتسلى برؤية موافيها، فوافاها والربيع قد خلع عليها برده، ونشر سوسنه وورده، وأترع جداولها، وانطق بلابلها، فارتاح ارتياح جميل بوادي القرى، وخاف تلك النوائب والمحن، فكتب إليها يصف فرط قلقه، وضيق أمده إليها وطلقه، ويعلمها أنه ما سلا عنها بخمر، ولا خبا ما في ضلوعه من ملتهب جمر (2) ، ويعاتبها على إغفال تعهده، ويصف حسن محضره بها ومشهده: إني ذكرتك بالزهراء مشتاقأ والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا

_ (1) القلائد: 73. (2) ويعلمها ... جمر: سقط هذا من القلائد المطبوع.

وللنسيم اعتلال في أصائله كأنما رق لي فاعتل إشفاقا والروض عن مائه الفضي مبتسم كما حللت عن اللبات أطواقا يوم كأيام لذات لنا انصرمت بتنا لها حين نام الدهر سراقا نلهو بما يستميل العين من زهر جال الندى فيه حتى مال أعناقا كأن أعينه إذ عاينت أرقي بكت لما بي فجال الدمع رقراقا ورد تألق في ضاحي منابته فازداد منه الضحى في العين إشراقا سرى ينافحه نيلوفرعبق وسنان نبه منه الصبح أحداقا كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا إليك، لم يعد عنها الصدر أن ضاقا لو كان وفى المنى في جمعنا بكم لكان من أكرم الأيام أخلاقا لا سكن الله قلباً عن ذكركم فلم يطر بجناح الشوق خفاقا لو شاء حملي نسيم الريح حين هفا وافاكم بفتىً أضناه ما لاقا يا علقي الأخطر الأسنى الحبيب إلى نفسي إذا ما اقتنى الأحباب أعلاقا كان التجاري بمحض الود مذ زمن ميدان أنس جرينا فيه أطلاقا فالآن أحمد ما كنا لعهدكم سلوتم وبقينا نحن عشاقا وقال أيضاً (1) : أن ابن زيدون لم يزل يروم دنو ولادة فيعتذر، ويباح دمه دونها ويهدر، لسوء أثره في ملك قرطبة وواليها، وقبائح كان ينسبها إليه ويواليها، أحقدت بني جهور عليه، وسددت أسهمهم إليه، فلما يئس من لقياها، وحجب عنه محياها، كتب إليها يستديم عهدها، ويؤكد ودها، ويعتذر من فراقها بالخطب الذي غشيه، ويعلمها أنه ما سلا عنها بخمر، ولا خبى ما في ضلوعه من ملتهب الجمر، وهي قصيدة ضربت في الإبداع بسهم، وطلعت في كل خاطر ووهم، ونزعت منزعاً قصر عنه حبيب وابن الجهم، وأولها:

_ (1) القلائد: 81.

بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا تكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا وأخبار ولادة كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية. 10 - ومن المشهورات بالأندلس " اعتماد " (1) جارية المعتمد بن عباد، وأمك أولاده، وتشتهر بالرمكية، وفي المسهب والمغرب أنه ركب المعتمد في النهر ومعه ابن عمار وزيره، وقد زردت الريح النهر، فقال ابن عباد لابن عمار: أجز: صنع الريح من الماء زرد فأطال ابن عمار الفكرة، فقالت امرأة من الغسالات: أي درع لقتال لو جمد فتعجب ابن عباد من حسن ما أتت به، مع عجز ابن عمار، ونظر إليها فإذا هي صورة حسنة، فأعجبته فسألها: أذات زوج هي فقالت: لا، فتزوجها، وولدت له أولاده الملوك النجباء، رحمهم الله تعالى. وحكى البعض منهم صاحب البدائه بسنده إلى بعض أدباء الأندلس، وسماه ولم يحضرني الآن، أنه هو الذي قال للمعتمد: أي درع لقتال لو جمد قال: فاستحسنه المعتمد، وكنت رابعاً فجعلني ثانياً، وأجازني بجائزة سنية. قال ابن ظافر: وقد أخذت هذا المعنى، فقلت أصف روضاً:

_ (1) القلائد: 22؛ وانظر المجلد 3: 606.

فلو دام ذاك النبت كان زبرجداً ولو جمدت أنهاره كانت بلورا ولما قال ابن ظافر: وقد أذكت الشمس على الما لهبا قال القاضي الأعز: فكست الفضة منه ذهبا رجع: ولما خلع المعتمد وسجن بأغمات قالت له: يا سيدي لقد هنا هنا، فقال: قالت لقد هنا هنا مولاي أين جاهنا قلت لها إلهنا صيرنا إلى هنا وحكي أنها قالت له وقد مرض: يا سيدي، ما لنا قدرة على مرضاتك في مرضاتك. ولما قال الوزير ابن عمار قصيدته اللامية الشهيرة في المعتمد والرمكية أغرت المعتمد به حتى قتله، وضربه بالطبرزين ففلق رأسه، وترك الطبرزين في رأسه، فقالت الرمكية: قد بقي ابن عمار هدهداً، والقصيدة أولها: ألا حي بالغرب حياً حلالا أناخوا جمالاً وحازوا جمالا وعرج بيومين أم القرى ونم فعسى أن تراها خيالا ويومين: قرية بإشبيلية كانت منها أولية بني عباد، وفي هذه القصيدة يقول معرضاً بالرمكية: تخيرتها من بنات الهجان رمكية ما تسلاوي عقالا

فجاءت بكل قصير العذار لئيم النجارين عماً وخالا قصار القدود ولكنهم أقاموا عليها قروناً طوالا أتذكر أيامنا بالصبا وأنت إذا لحت كنت الهلالا أعانق منك القضيب الرطيب وأرشف من فيك ماءً زلالا وأقنع منك بدون الحرام فتقسم جهدك أن لا حلالا سأهتك عرضك شيئاً فشيئاً وأكشف سترك حالاً فحالا ومنها: فيا عامر الخيل يا زيدها منعت القرى وأبحت العيالا وسبب قول ابن عمار هذه القصيدة أن المعتمد ندر به وذيل على قصيدته الرائية المذكورة في القلائد بعد قوله: كيف التفلت بالخديعة من يدي رجل الحقيقة من بني عمار وسخر به في أبيات مشهورة. 670 - أخبار المعتمد قال الفتح في حق المعتمد بعد كلام: وما زالت تلك الداخلة تدب، وريحها العاصفة تهب، ونارها تقد، وضلوعها تحنق وتحقد، وتضمر الغدر وتعتقد، حتى دخل البلد من واديه، وبدت من المكروه بواديه، وكر عليه الدهر بعوائده وعواديه، وهو مستمسك بعرى لذاته، منغمس فيها بذاته، ملقى بين جواريه، مغتر بودائع ملكه وعواريه، التي استرجعت منه في يومه، ونبهه فواتها من نومه، ولما انتشر الداخلون في البلد، وأوهنوا القوى والجلد

خرج والموت يتسعر في الحاظه، ويتصور من الفاظه، وحسامه يعد بمضائه، ويتوقد عند انتضائه، فلقيهم برحبة القصر، وقد ضاق بهم فضاؤها، وتضعضعت من رجتهم أعضاؤها، فحمل فيهم حملة صيرتهم فرقاً، وملأتهم فرقاً، ومازال يواري عليهم الكر المعاد، حتى أوردهم النهر وما بهم جواد، وأودعهم حشاه كأنهم له فؤاد، ثم انصرف وقد أيقن بانتهاء حاله، وذهاب ملكه وارتحاله، وعاد إلى قصره واستمسك فيه يومه وليلته مانعاً لحوزته، دافعاً للذل عن عزته، وقد عزم على أفظع أمر، وقال: بيدي لا بيد عمرو، ثم صرفه تقاه، عما كان نواه، فنزل من القصر بالقسر، إلى قبضة الأسر، فقيد للحين، وحان له يوم شر ما ظن أنه يحين، ولما قيدت قدماه، وذهبت عنه رقة الكبل ورحماه، قال يخاطبه: إليك فلو كانت قيودك أسعرت تضرم منها كل كف ومعصم مخافة من كان الرجال بسيبه ومن سيفه في جنة أو جهنم ولما آلمه عضه، ولازمه كسره ورضه، وأوهاه ثقله، وأعياه نقله، قال: تبدلت من عز ظل البنود بذل الحديد وثقل القيود وكان حديد سناناً ذليقاً وعضباً رقيقاً صقيل الحديد فقد صار ذاك وذا أدهماً يعض بساقي عض الأسود ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت، وضمتهم جوانحها كأنهم أموات، بعدما ضاق عنهم القصر، وراق منهم العصر، والناس قد حشروا بضفتي الوادي، وبكوا بدموع كالغوادي، فساروا والنوح يحدوهم، والبوح باللوعة لا يعدوهم، وفي ذلك يقول ابن اللبانة: تبكي السماء بمزن رائح غاد على البهاليل من أبناء عباد على الجبال التي هدت قواعدها وكانت الأرض منها ذات أوتاد

عريسة دخلتها النائبات على أساود لهم فيها وآساد وكعبة كانت الآمال تخدمها فاليوم لا عاكف فيها ولا باد يا ضيف أقفر بيت المكرمات فخذ في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد ويا مؤمل واديهم ليسكنه خف القطين وجف الزرع بالوادي وأنت يا فارس الخيل التي جعلت تختال في عدد منهم وأعداد ألق السلاح وخل المشرفي فقد أصبحت في لهوات الضيغم العادي لما دنا الوقت لم تخلف له عدة وكل شيء لميقات وميعاد إن يخلعوا فبنو العباس قد خلعوا وقد خلت قبل حمص أرض بغداد حموا حريمهم حتى إذا غلبوا سيقوا على نسق في حبل مقتاد وأنزلوا عن متون الشهب واحتملوا فويق دهم لتلك الخيل أنداد وعيسى في كل طوق من دروعهم فصيغ منهن أغلال لأجياد نسيت إلا غدات النهر كونهم في المنشآت كأموات بألحاد والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا من لؤلؤ طافيات فوق أزياد حط القناع فلم تستر مخدرة ومزقت أوجه تمزيق أبراد حان الوداع فضجت كل صارخة وصارخ من مفداة ومن فاد سارت سفائنهم والنوح يصحبها كأنها إبل يحدوا بها الحادي كم سال في الماء من دمع وكم حملت تلك القطائع من قطعات أكباد انتهى ما قصد جلبه من كلام الفتح رحمه الله تعالى وسامحه. وقال ابن اللبانة في كتاب نظم السلوك في مواعظ الملوك في أخبار الدولة العباسية: إن طائفة من أصحاب المعتمد خامرت عليه، فأعلم باعتقادها، وكشف له عن مرادها، وحض على هتك حرمها، وأغري بسفك دمها، فأبى ذلك مجده الأثيل، ومذهبه الجميل، وما خصه الله تعالى به من حسن اليقين، وصحة الدين، إلى أن أمكنتهم الغرة فانتصروا ببغاث مستنسر، وقاموا بجمع

غير مستبصر، فبرز من قصره، متلافياً لأمره، عليه غلالة ترف على جسده، وسيفه في يده: وذاك السيف راق وراع حتى كأن عليه شيمة منتضيه كأن الموت أودع فيه سراً ليرفعه إلى يوم كريه فلقي على باب من أبواب المدينة فارساً مشهوراً بنجدة، فرماه الفارس برمح التوى على غلالته، وعصمه الله تعالى منه، وصب هو سيفه على عاتق الفارس، فشقه إلى أضلاعه فخر صريعاًسريعاً، فرأيت القائمين عندما تسنموا الأسوار تساقطوا منها، وبعدما أمسكوا الأبواب تخلوا عنها، وأخذوا على غير طريق، وهوت بهم ريح الهيبة في مكان سحيق، فظننا أن البلد من أقذائه قد صفا، وثوب العصمة علينا قد ضفا، إلى أن كان يوم الأحد الحادي والعشرون من رجب فعظم الأمر في الخطب الواقع، واتسع الخرق فيه على الراقع، ودخل البلد من جهة واديه، وأصيب حاضره بعادية باديه، بعد أن ظهر من دفاع المعتمد وبأسه، وتراميه على الموت بنفسه، ما لا مزيد عليه، ولا انتهى خلق إليه، فشنت الغارة في البلد، ولم يبق فيه على سبد لأحد ولا لبد، وخرج الناس من منازلهم، يسترون عوراتهم بأناملهم، وكشفت وجوه المخدرات العذارى، ورأيت الناس سكارى، وما هم بسكارى، ورحل بالمعتمد وآله، بعد استئصال جميع ماله، لم يصحب معه بلغة زاد، ولا بغية مراد، فأمضيت عزيمتي في اتباعه، فوصلت إليه بأغمات عقب ثقاف استنقذه الله منه، فذكرت به شعراً كان لي في صديق اتفق له مثل ذلك الشهر بعينه من العام الماضي، وهو الأمير أبو عبد الله ابن الصفار، وهو: لم نقل في الثقاف كان ثقافا كنت قلباً به وكان شغافا يمكث الزهر في الكمام ولكن بعد مكث الكمام يدنو القطافا وإذا ما الهلال غاب بغيم لم يكن ذلك المغيب انكسافا

إنما أنت درة للمعالي ركب الدهر فوقها أصدافا حجب البيت منك شخصاً كريماً مثلما تحجب الدنان السلافا أنت للفضل كعبة ولو اني كنت أسطيع لاستطعت الطوافا قال أبو بكر: وجرت بيني وبينه مخاطبات ألذ من غفلات الرقيب، وأشهى من رشفات الحبيب، وأدل على السماح، من فجر على صباح، انتهى (1) . ثم قال: ولما خلع المعتمد وذهب إلى أغمات طلب من حواء بنت تاشفين خباء عارية، فاعتذرت بأنها ليس عندها خباء، فقال: هم أوقدوا بين جنبيك نارا أطالوا بها في حشاك استعارا أما يخجل المجد أن يرحلوك ولم يصحبوك خباء معارا فقد قنعوا المجد إن كان ذاك وحاشاهم منك خزياً وعارا يقل لعينيك أن يجعلوا سواد العيون عليكم شعارا ثم إنه بقي مأسوراً بأغمات إلى سنة 486، فأخذ بمالفة رجل كبير يعرف بابن خلف، فسجن مع أصحاب له، فنقبوا السجن وذهبوا إلى حصن منت ميور ليلاً فأخرجوا قائدها، ولم يضروه، وبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رجل، فسألوه فإذا هو عبد الجبار بن المعتمد، فولوه على أنفسهم، وظن الناس أنه الراضي، فبقي في الحصن، ثم أقبل مركب من الغرب يعرف بمركب ابن الزرقاء، فانكسر بمرسى الشجرة قريباً من الحصن، فأخذوا بنوده وطبوله وما فيه من طعام وعدة فاتسعت بذلك حالهم، ثم وصلت أم عبد الجبار إليه، ثم خاطبه أهل الجزيرة وأهل أركش فدخلها سنة 448، ولما بلغ خبر عبد الجبار إلى ابن تاشفين أمر بثقاف المعتمد في الحديد، وفي ذلك يقول: قيدي أما تعلمني مسلماً أبيت أن تشفق أو ترحما

_ (1) زاد في م ورقة ونصف ورقة، ولكنا آثرنا عدم إثباتها هنا لأنها سترد في سياق الأخبار من بعد.

يبصرني فيك أبو هاشم فينثني القلب وقد هشما وبقي إلى أن توفي رحمه الله سنة 488. وقد ساق الفتح قضية ثورة عبد الجباربن المعتمد بعبارته البارعة فقال (1) : وأقام بالعدوة برهة لا يروع له سرب وإن لم يكن آمناً، ولا يثور له كرب وإن كان في ضلوعه كامناً، إلى أن ثار أحد بنيه بأركش - معقل كان مجاوراً لإشبيلية مجاورة الأنامل للراح، ظاهر على بسائط وبطاح، لا يمكن معه عيش، ولا يتمكن من منازالته جيش، فغدا على أهلها بالمكاره وراح، وضيق عليهم المتسع من جهاتها والبراح، فسار نحوع الأمير سير بن أبي بكر (2) رحمه الله تعالى، قبل أن يرتد طرف استقامته إليه، فوجده وشره قد تشمر، وضره قد تنمر، وجمره مستعر، وأمره متوعر، فنزل عدوته، وحل للحزم حبوته، وتدارك داءه قبل إعضاله، ونازله وما أعد آلات نضاله، وانحشدت الجيوش إليه من كل قطر، وأفرغ من مسالكه كل قطر، فبقي محصوراً لا يشد إليه إلا سهم، ولا ينفذ عنه إلا نفس أو وهم، وامتسك شهوراً حتى حتى عرضه أحد الرماة بسهم فرماه، فأصماه، فهوى في مطلعه، وخر قتيلاً في موضعه، فدفن إلى جانب سريره، وأمن عاقبة تغريره، وبقي أهله ممتنعين مع طائفة من وزرائه حتى اشتد عليهم الحصر، وارتد عنهم النصر، وعمهم الجوع، وأغب أجفانهم الهجوع، فنزلت منهم طائفة متهافتة، وولت بأنفاس خافتة، فتبعهم من بقي، ورغب في التنعم من شقي، فوصلوا إلى قبضة الملمات، وحصلوا في قبضة الممات، فوسمهم الحيف، وتقسمهم السيف، ولما زأر الشبل خيفت سورة الأسد، ولم يرج صلاح الكل والبعض قد فسد، فاعتقل المعتمد خلال تلك الحال وأثناءها، وأحل ساحة الخطوب

_ (1) القلائد: 25. (2) زاد في م: أمير ابن تاشفين.

وفناؤها، وحين أركبوه أساودا، وأورثوه حزناً بات له معاودا، فقال: غمتك أغماتية الألحان ثقلت على الأرواح والأبدان قد كان كالثعبان رمحك (1) في الورى ... فغدا عليك القيد كالثعبان متمرداً يحميك كل تمرد متعطفاً لا رحمة للعاني قلبي إلى الرحمن يشكو بثه ماخاب من يشكو إلى الرحمن يا سائلاً عن شأنه ومكانه ما كان أغنى شأنه عن شان هاتيك قينته وذلك قصره من بعد أي مقاصر وقيان ولما فقد من يجالسه، وبعد عنه من كان يؤانسه، وتمادى كربه، ولم تسالمه حربه، قال: تؤمل للنفس الشجية فرجة وتأبى الخطوب السود إلا تماديا لياليك في زاهيك أصفى صحبتها كذا صحبت قبلي الملوك اللياليا نعيم وبؤس ذا لذلك ناسخ وبعدهما نسخ المنايا الأمانيا ولما امتدت في الثقاف مدته، واشتدت عليه قسوة الكبل وشدته، وأقلقته همومه، وأطبقته غمومه، وتوالت عليه الشجون، وطالت لياليه الجون، قال: أنباء أسرك قد طبقن آفاقا بل قد عممن جهات الأرض إقلاقا سرت من الغرب لا تطوى لها قدم حتى أتت شرقها تنعاك إشراقا فأحرق الفجع أكباداً وأفئدة وأغرق الدمع آماقاً وأحداقا قد ضاق صدر المعالي إذ نعيت لها وقيل: إن عليك القيد قد ضاقا أنى غلبت وكنت الدهر ذا غلب للغالبين وللسباق سباقا قلت الخطوب أذلتني طوارقها وكان غربي إلى الأعداء طراقا

_ (1) م ق: قيدك.

متى رأيت صروف الدهر تاركة إذا انبرت لذوي الأخطار أرماقا وقال لي من أثقه: لما ثار ابنه حيث ثار، وأثار من حقد أمير المؤمنين عليه ما أثار، جزع جزعاً مفرطاً، وعلم أنه قد صار في أنشوطة الشر متورطاً، وجعل يتشكى من فعله ويتظلم، ويتوجع منه ويتألم، ويقول: عرض بي للمحن، ورضي لي أن أمتحن، ووالله ما أبكي إلا انكشاف من أتخلفه بعدي، ويتحيفه بعدي، ثم أطرق ورفه رأسه وقد تهللت أسرته، وظللته مسرته، ورأيته قد استجمع، وتشوف إلى السماء وتطلع، فعلمت أنه قد رحا عودة إلى لطانه وأوبة إلى أوطانه، فما كان إلا بمقدار ما تنداح دائرة، أو تلتفت مقلة حائرة، حتى قال: كذا يهلك السيف في جفنه على هز كفي طويل الحنين كذا يعطش الرمح لم أعتقله ولم تروه من نجيع يميني كذا يمنع الطرف علك الشكي م مرتقباً غرة في كمين كأن الفوارس فيه ليوث تراعي فرائسها في عرين ألا شرف يرحم المشرفي مما به من شمات الوتين ألا كرم ينعش السمهري ويشفيه من كل داء دفين ألا حنة لابن محنية شديد الحنين ضعيف الأنين يؤمل من صدرها ضمة تبوئه صدر كفؤ معين وكانت طائفة من أهل فاس قد عاثوا فيها وفسقوا، وانتظموا في سلك الطغيان واتسقوا، ومنعوا جفون أهلا السنات، وأخذوا البنين من حجور آبائهم والبنات، وتلقبوا بالإمارة، وأركبوا السوء نفوسهم الأمارة، حتى كادت أن تقفز على أيديهم، وتدثر رسومها بإفراط تعديهم، إلى أن تدارك أمير المسلمين رحمه الله تعالى أمرهم، وأطفأ جمرهم، وأوجعهم ضرباً، وأقطعهم ما شاء حزناً وكرباً، وسجنهم بأغمات، وضمتهم جوانح الملمات

والمعتمد إذ ذاك معتقل هناك، وكانت فيهم طائفة شعرية، مذنبة أو بيرة، فرغبوا إلى سجانهم، أن يستريحوا مع المعتمد من أشجانهم، فخلى ما بينهم وبينه، وغمض لهم في ذلك عينه، فكان المعتمد رحمه الله تعالى يتسلى بمجالستهم، ويجد أثر مؤانستهم، ويستريح إليهم بجواه، ويبوح لهم بسره ونجواه، إلى أن شفع فيهم وانطلقوامن وثاقهم، وانفرج لهم مبهم أغلاقهم، وبقي المعتمد في محبسه (1) يشتكي من ضيق الكبل، ويبكي بدمع كالوبل، فدخلوا عليه مودعين، ومن بثه متوجعين، فقال: أما لانسكاب الدمع في الخد راحة لقد آن أن يفنى، ويفنى به الخد هبوا دعوة يا آل فاس لمبتلىً بما منه قد عافاكم الصمد الفرد تخلصتم من سجن أغمات والتوت علي قيود لم يحن فكها بعد من الدهم أما خلقها فأساود تلوى وأما الأيد والبطش فالأسد فهنيتم النعما، ودامت لكلكم سعادته إن كان قد خانني سعد خرجتم جماعات وخلفت واحداً ولله في أمري وأمركم الحمد ومر عليه في موضع اعتقاله سرب قطاً لم يعلق لها جناح، ولا تعلق بها من الأيام جناح، ولا عاقها عن أفراخها الأشراك، ولا أعوزها البشام ولا الأراك، وهي تمرح في الجو، وتسرح في مواقع النو، فتنكد بما هو فيه من الوثاق، وما دون أحبته من الرقباء والأغلاق، وما يقاسيه من كبله، ويعانيه من وجده وخبله، وفكر في بناته وافتقارهن إلى نعيم عهدنه، وحبور حضرنه وشهدنه، فقال: بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي سوارح لا سجن ولا كبل ولم تك، والله المعيذ، حسادة ولكن حنيناً أن شكلي لها شكل

_ (1) القلائد: في مجلسه.

فأسرح لا شملي صديع، ولا الحشا وجيع، ولا عيناي يبكيهما ثكل هنيئاً لها أن لم يفرق جميعها ولا ذاق منها البعد عن أهلها أهل وإذ لم تبت مثلي تطير قلوبها إذا اهتز باب السجن أو صلصل القفل وما ذاك مما يعتريه، وإنما وصفت التي في جبلة الخلق من قبل لنفسي إلى لقيا (1) الحمام تشوف ... سواي يحب العيش في ساقه كبل ألا عصم الله القطا في فراخها فإن فراخي خانها الماء والظل وفي هذه الحالة زاره الأديب أبو بكر ابن اللبانة، وهو أجد شعراء دولته المرتضعين دررها، المنتجعين دررها، وكان المعتمد رحمه الله تعالى يميزه بالشفوف والإحسان، ويجوزه في فرسان هذا الشان، فلما رآه وحلقات الكبل قد عضت بساقيه عض الأسود، والتوت عليه التواء الأساود السود، وهو لا يطيق إعمال قدم، ولا يريق دمعاً إلا ممزوجاً بدم، بعدما عهده فوق منبر وسرير، ووسط جنة وحرير، تخفق عليه الألوية، وتشرق منه الأندية، وتكف الأمطار من راحته، وتشرف (2) الأقدار بحلول ساحته، ويرتاع الدهر من أوامره ونواهيه، ويقصر النسر أن يقارنه أو يضاهيه، ندبه بكل مقال يلهب الأكباد، ويثير فيها لوعة الحرث بن عباد، أبدع من أناشيد معبد، وأصدع للكبد من مراثي أربد، أو بكاء ذي الرمة بالمربد، سلك فيها للاحتفاء طريقاً لاحباً، وغدا فيها لذيول الوفاء ساحباً، فمن ذلك قوله: انفض يديك من الدنياوساكنها فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا وقل لعالمها السفلي قد كتمت سريرة العالم العلوي أغمات طوت مظلتها لا بل مذلتها من لم تزل فوقه للعز رايات من كان بين الندى ولبأس أنصله هندية وعطاياه هندية

_ (1) م: أن ألقى. (2) ق ودوزي: وتشرق.

رماه من حيث لم تستره سابغة دهر مصيباته نبل مصيبات أنكرت إلا التواءات القيود به وكيف تنكر في الروضات حيات غلطت بين همامين عقدن له وبينها فإذا الأنواع أشتات وقلت هن ذؤابات فلم عكسن من رأسه نحو رجليه الذؤابات حسبتها من قناه أو أعنته إذا بها لثقاف المجد آلات دروه ليثاً فخافوا منه عادية عذرتهم فلعدو الليث عادات لم كان يفرج عنه بعض آونة قامت بدعوته حتى الجمادات بحر محيط عهدناه تجيء له كنقطة الدارة السبع المحيطات لهفي على آل عباد فإنهم أهلة ما لها في الأفق هالات راح الحيا وغدا منهم بمنزلة كانت لنا بكر فيها وروحات أرض كأن على أقطارها سرجاً قد أوقدتهن بالأدهان أنبات وفوق شاطئ واديها رياض ربىً قد ظللتها من الأنشام دوحات نهر شربت بعبريه على صور كانت لها في قبل الراح سورات وربما كنت أسمو للخليج به وفي الخليج لأهل الراح راحات وبالعروسات لا جفت منابتها من النعيم غروسات جنيات ولم تزل كبده تتوقد بالزفرات، وخلده يتردد بين النكبات والعثرات، ونفسه تتقسم بين الأشجان والحسرات، إلى أن شفته منيته، وجاءته بها أمنيته، فدفن بأغمات، وأريح من تلك الأزمات: وعطلت المآثر من حلالها وأفردت المفاخر من علاها ورفعت مكارم الأخلاق، وكسدت نفائس الأعلاق، وصار أمره عبرة في عصره، وصاب أندى عبرة في مصره. وبعد أيام وافى أبو بحر ابن عبد الصمد شاعره المتصل به، المتوصل إلى المنى بسببه، فلما كان يوم العيد وانتشر

الناس ضحىً، وظهر كل متوار واضحاً، قام على قبره عند انفصالهم من مصلاهم، واختيالهم بزينتهم وحلاهم، وقال بعد أن طاف بقبره والتزمه، وخر على تربه ولثمه: ملك الملوك، أسامع فأنادي أم قد عدتك عن السماع عوادي لما خلت منك القصور فلم تكن فيها كما قد كنت في الأعياد قبلت في هذا الثرى لك خاضعاً وتخذت قبرك موضع الإنشاد وهي قصيدة أطال إنشادها، وبنى بها اللواعج وشادها، فانحشر الناس إليه وانحفلوا، وبكوا ببكائه وأعولوا، وأقاموا أكثر نهارهم مطيفين به طواف الحجيج، مديمين للبكاء والعجيج، ثم انصرفوا وقد نزفوا ماء عيونهم، وأقرحوا مآقيهم بفيض شؤونهم، وهذه نهاية كل عيش، وغاية كل ملك وجيش، والأيام لا تدع حياً، ولا تألو كل نشر طياً، تطرق رزاياها كل سمع، وتفرق مناياها كل جمع، وتصمي كل ذي أمر ونهي، وترمي كل مشيدبوهي، ومن قبله طوت (1) النعمان ابن الشقيقة، ولوت مجازه في تلك الحقيقة، انتهى ما قصدنا جلبه من كلام الفتح مما يدخل في أخبار المعتمد بن عباد المناسبة لما مر. وكلام الفتح كله الغاية، وليس الخبر كالعيان، ولذا قال بعض من عرف به: إنه أراد أن يفضح الشعراء الذين ذكرهم في كتبه بنثره، ساكحه الله تعالى. وأخبار المعتمد رحمه الله تعالى تحتمل مجلدات، وآثاره إلى الآن بالغرب مخلدات، وكان من النادر الغريب قولهم في الدعاء في الصلاة على جنازته الصلاة على الغريب بعد اتساع ملكه، وانتظام سلكه، وحكمه على إشبيلية وأنحائها، وقرطبة وزهرائها، وهكذا شأن الدنيا في تدريسها نحو ندبتها وإغرائها. وقد توجه لسان الدين الوزير ابن الخطيب إلى أغمات لزيارة قبر المعتمد رحمه

_ (1) ق: ما طوت.

الله تعالى، ورأى ذلك من المهمات، وأنشد على قبره أبياته الشهيرة التي ذكرتها في جملة نظمه الذي هو أرق من النسيم، وأبهج من المحيا الوسيم. قلت: وقد زرت أنا قبر المعتمد والرميكية أم أولاده، حين كنت بمراكش المحروسة عام عشرة وألف، وعمي علي أمر القبر المذكور، وسألت عنه من تظن معرفته له، حتى هداني إليه شيخ طعن في السن، وقال لي: هذا قبر ملك (1) ملوك الأندلس، وقبر حظيته التي كان قلبه بحبها خفاقاً غير مطمئن، فرأيته في ربوة حسبما وصفه ابن الخطيب رحمه الله تعالى في الأبيات، وحصلت لي في ذلك المحل خشية وادكار، وذهبت بي الأفكار، في ضروب الآيات، فسبحان من يؤتي ملكه من يشاء لا إله غيره وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وما أحسن قول الوزير ابن عبدون في مطلع رائيته الشهيرة: الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح والصور وهو القائل: يا نائم الليل في فكر الشباب أفق فصبح شيبك في أفق النهى بادي غضت عنانك أيدي الدهر ناسخة علماً بجهل وإصلاحاً بإفساد وأسلمت للمنايا آل مسلمة وعبدت للرزايا آل عباد لقد هوت منك، خانتها قوادمها، بكوكب في سماء المجد وقاد ومنها: ومالك كان يحمي (2) شول قرطبة ... أستغفر الله، لا بل شول بغداد

_ (1) ق: ملك من. (2) في الأصول: يحيي وهو خطأ؛ والقول ناظر إلى المثل " الفحل يحمي شوله مغلولاً ".

شق العلوم نطافاً والعلا زهراً ثبين، ما بين رواد ووراد وأين هذه القصيدة في مدحهم من قصيدة الغض منهم، وهي قول أبي الحسن جعفر بن إبراهيم ابن الحاج اللورقي: تعز عن الدنيا ومعروف أهلها إذا عدم المعروف في آل عباد حللت بهم ضيفاً ثلاثة أشهر بغير قرىً ثم ارتحلت بلا زاد وهذا يدلك على أن الشعراء، لم يسلم من لسانهم من أحسن فضلاً عمن أساء، من العظماء والرؤساء، وما أمدح قول أبي محمد غانم فيهم: ومن الغريب غروب شمس في الثرى وضياؤها باق على الآفاق وقال في المطمح في حق بني عباد وأوليتهم ما صورته (1) : الوزير أبو القاسم محمد بن عباد، هذه بقية منتماها في لخم، ومرتماها إلى مفخر ضخم، وجدهم المنذر بن ماء السماء، ومطلعهم من جو تلك السماء، وبنو عباد ملوك أنس بهم الدهر، وتنفس منهم عن أعبق الزهر، وعمروا ربع الملك، وأمروا بالحياة والهلك، ومعتضدهم أحد من أقام وأقعد، وتبوأ كاهل الإرهاب واقتعد، وافترش من عريسته، وافترس من مكايد فريسته، وزاحم بعود، وهد كل طود، وأخمل كل ذي زي وشاة، وختل بوحي وإشارة، ومعتمدهم كان أجود الأملاك، وأحد نيرات تلك الأفلاك، وهو القائل، وقد شغل عن منادمة خواص دولته بمنادمة العقائل: لقد حننت إلى ما اعتدت من كرم حنين أرض إلى مستأخر المطر فهاتها خلعاً أرضي السماح بها محفوفة في أكف الشرب بالبدر

_ (1) المطمح: 10.

وهو القائل وقد حن في طريقه، إلى فريقه: أدار النوى كم طال فيك تلذذي وكم غقتني عن دار أهيف أغيد حلفت به لو قد تعرض دونه كماة الأعادي في النسيج المسرد لجردت للضرب المهند، فانقضى مرادي، وعزماً مثل حد المهند والقاضي أبو القاسم هذا جدهم، وبه سفر مجدهم، وهو الذي اقتنص لهم الملك النافر، واختصهم منه بالحظ الوافر، فإنه أخذ الرياسة من أيدي جبابر، وأضحى من ظلالها أعيان أكابر، عندما أناخت بها أطماعهم، وأصاخت إليها أسماعهم، وامتدت إليها من مستحقيها اليد، وأتلعوا أجياد زانها الجيد، وفغر عليها فمه حتى هجا بيت العبدى، وتصدى إليها من تحضر وتبدى، فاقتعد سنامها وغاربها، وأبعد عنها عجمها وأعاربها، وفاز من الملك بأوفر حصة، وغدت سمته به صفة مختصة، فلم يمح رسم القضاء، ولم يتسم بسمة الملك مع ذلك النفوذ والمضاء، وما زال يحمي حوزته، ويجلو غرته، حتى حوته الرجام، وخلت منه تلك الآجام، وانتقل الملك إلى ابنه المعتضد، وحل منه في روض نمق له ونضد، ولم يعمر فيه ولم يدم ولاه، وتسمى بالمعتضد بالله، وارتمى إلى أبعد غايات الجود بما أناله وأولاده، لولا بطش في اقتضاء النفوس كدر ذلك المنهل، وعكر أثناء ذلك صفو العل والنهل (1) ، وما زال للأرواح قابضاً، وللوثوب عليها رابضاً، يخطف أعداءه اختطاف الطائر من الوكر، وينتصف منهم بالدهاء والمكر، إلى أن أفضى الملك إلى ابنه المعتمد، فاكتحل منه طرفه الرمد، وأحمد مجده، وتقلد منه أي بأس ونجدة، ونال به الحق مناه، وجر رسنه، وأقام في الملك ثلاثاً وعشرين سنة، لم تعدم له فيها حسنة ولا سيرة مستحسنة، إلى أن غلب على سلطانه، وذهب به من أوطانه، فنقل،

_ (1) م: وتصدر أثناء العل والنهل؛ المطمح: وتصور.... إلخ.

إلى حيث اعتقل، وأقام كذلك إلى أن مات، ووارته برية أغمات، وكان للقاضي جده أدب غض، ومذهب مبيض، ونظم يرتجله كل حين، ويبعثه أعطر من الرياحين، فمن ذلك قوله يصف النيلوفر: يا ناظرين لذا النيلوفر البهج وطيب مخبره في الفوح والأرج كأنه جام در في تألقه قد أحكموا وسطه فصاً من السبج انتهى المقصود منه. 671 - تراجم منقولة عن الفتح 1 - ترجمة ابن البني من المطمح وهو - أعني الفتح - يشيد قصور الشرف إذا مدح، ويهدم معاقلها إذا هجا وقدح. ومن أغراضه قوله في المطمح في حق الأديب أبي جعفر ابن البني (1) : رافع رايات القريض، وصاحب آيات التصريح والتعريض، أقام شرائعه، وأظهر بدائعه، إذا نظم أزرى بالعقود، وأتى بأحسن من رقم البرود، وكان أليف غلمان، وحليف كفر لا إيمان، ما نطق متشرعاً، ولا رمق متورعاً، ولا اعتقد حشراً، ولا صدق بعثاً ولا نشراً، وربما تنسك مجوناً وفتكاً، وتمسك باسم التقى وقد هتكه هتكاً، لا يبالي كيف ذهب، ولا بما تمذهب، وكانت له أهاجي جرع بها صاباً، ودرع منها أوصاباً، وقد أثبت له ما يرتشف ريقاً، ويشرب تحقيقاً، فمن ذلك قوله يتغزل: من لي بغرة فاتن يختال في حلل الجمال إذا بدا وحليه لو شمت في وضح النهار شعاعها ما عاد جنح الليل بعد مضيه

_ (1) المطمح: 91 وله ترجمة في القلائد: 298؛ وانظر النفح 3: 487.

شرقت لآلي الحسن حتى خلصت ذهبيه في الخد من فضيه في صفحتيه من الجمال أزاهر غذيت بوسمي الحيا ووليه سلت محاسنه، لقتل محبه من سحر عينيه، حسام سميه وله فيه: كيف لا يزداد قلبي من جوى الشوق خبالا وإذا قلت علي بهر الناس جمالا هو كالغصن وكالبد ر قواماً واعتدالا أشرق البدر كمالا وانثنى الغصن اختيالا إن من رام سلوي عنه قد رام محالا لست أسلو عن هواه كان رشداً أو ضلالا قل لمن قصر فيه عذل نفسي أو أطالا دون أن تدرك هذا تسلب الأفق الهلالا وكنت بميورقة وقد حلها متسماً بالعبادة، وهو أسرى إلى الفجور من خيال أبي عبادة (1) ، وقد لبس أسمالاً، ولبس منه أقوالاً وأفعالاً، سجوده هجود، ولإقراره بالله جحود، وكانت له رابطة لم يكن للوازمها مرتبطاً، ولا بسكناها (2) مغتبطاً، سماها بالعقيق وسمى فتى كان يتعشقه بالحمى، وكان لا يتصرف إلا في صفاته، ولا يقف إلا بعرفاته، ولا يؤرقه إلا جواه، ولا يشوقه (3) إلا هواه، فإذا بأحد دعاة حبيبه، ورواة تشبيبه، قال له: كنت البارحة بحماه، وذكر لي خبراً ورى به عني وعماه، فقال:

_ (1) أبو عبادة البحتري ذكره لإكثاره من وصف طيف الخيال وطروقه. (2) م: بسكانها. (3) دوزي: يشرقه.

تنفس بالحمى مطلول أرض (1) ... فأودع نشره نشراً شمالا فصبحت العيون إلي كسلى تجرر فيه أرداناً خضالا أقول وقد شممت الترب مسكاً بنفحتها يميناً أوشمالا نسيم جاء يبعث منك طيباً ويشكو من محبتك اعتلالا ولما تقرر عند ناصر الدولة من أمره ما تقرر، وتردد على سمعه انتهاكه وتكرر، أخرجه من بلده ونفاه، وطمس رسم فسقه وعفاه، فأقلع إلى المشرق وهو جار، فلما صار من ميورقة على ثلاثة مجار (2) ، نشأت له ريح صرفته عن وجهته، إلى فقد مهجته، فلما لحق بميورقة أراد ناصر الدولة إماحته، وأخذ ثأر الدين منه وإراحته، ثم آثر صفحه، وأخمد ذلك الجمر ولفحه، وأقام أياماً ريحاً علها تزجيه، ويستهديها لتخلصه وتنجيه، وفي أثناء بلوته، لم يتجاسر أحد على إتيانه من إخوته، فقال يخاطبهم: أحبتنا الألى عتبوا علينا فأقصرنا وقد أزف الوداع لقد كنتم لنا جذلاً وأنساً فهل في العيش بعدكم انتفاع أقول وقد صدرنا بعد يوم أشوق بالسفينة أم نزاع إذا طارت بنا حامت عليكم كأن قلوبنا فيها شراع وله يتغزل: بني العرب الصميم ألا رعيتم مآثركم بآثار السماح رفعتم ناركم فعشا إليها بوهن فارس الحي الوقاح فهل في القعب فضل تنضحوه به من محض ألبان اللقاح لعل الرسل شابته الثنايا بشهد من ندى نور الأقاح

_ (1) م: روض. (2) المطمح: جوار.

وله أيضاً: وكأنما رشأ الحمى لما بدا لك في مضلعة الحديد المعلم غصب الغمام قسيه فأراكها من حسن معطفه قويم الأسهم وله أيضاً: نظرت إليه فاتقاني بمقلة ترد إلى نحري صدور رماح حميت الجفون النوم يا رشأ الحمى وأظلمت أيامي وأنت صباحي وقال: قالوا تصيب طيور الجو أسهمه إذا رماها فقلنا عندنا الخبر تعلمت قوسها من قوس حاجبه وأيد السهم من ألحاظه الحور يروح في بردة كالنفس حالكة كما أضاء بجنح الليل القمر وربما راق في خضراء مورقة كما تفتح في أوراقه الزهر 2 - ترجمة ابن لبال من المطمح وقال في ترجمة أبي الحسن ابن لبال (1) : شاعر سمح، متقلد بالإحسان متشح، أم الملوك والرؤساء، ويمم تلك العزة القعساء، فانتجع مواقع خيرهم، واقتع ما شاء من ميرهم، وتمادت أيامه إلى هذا الأوان، فجالت به في ميدان الهوان، فكسد نفاقه، وارتدت آفاقه، وتوالى عليه حرمانه وإخفاقه، وأدركته وقد خبنته سنونه، وانتظرت منونه، ومحاسنه كعهدها في الاتقاد، وبعدها من الانتقاد، وقد أثبت منها ما يعذب جنىً وقطافاً، ويستعذب استنزالاً واستلطافاً، فمن ذلك قوله يستنجد الأمير الأجل أبا إسحاق ابن أمير المسلمين:

_ (1) المطمح: 93 وكتب فيه خطأ " ابن لسان ". وفي ق م أحياناً: ابن لبان.

قل للأمير ابن الأمير بل الذي أبدا به في المكرمات وفي الندى والمجتنى بالرزق وهي بنفسج ورد الجراح مضعفاً ومنضدا جاءتك آمال العفاة ظوامئاً فاجعل لها من ماء جودك موردا وانثر على المداح سيبك، إنهم نثروا المدائح لؤلؤاً وزبرجدا فالناس إن ظلموا فأنت هو الحمى والناس إن ضلوا فأنت هو الهدى أخبرني وزير السلطان أن هذه القطعة لما ارتفعت، اعتنت بجملة الشعراء وشفعت، فأنجز لهم الموعود، وأورق لهم ذلك العود، وكثر اللغط في تعظيمها، واستجادة نظيمها، وحصل له بها ذكر، وانصقل له بسببها فكر. وله من قطعة يصف بها سيفاً: كل نهر توقدت شفرتاه كاتقاد الشهاب في الظلماء فهو ماء قد ركبت فوق نار أو كنار قد ركبت فوق ماء وكتب إلي معزياً عن والدتي: على مثله من مصاب وجب ... على من أصيب (1) به المنتجب وقلب فروق ولب خفوق ونفس تشب، وهم نصب فقد خشعت للتقى هضبة ذؤابتها في صميم العرب من الجاعلات محاريبها هوادجها أبداً والقتب من القائمات بظل الدجى ولا من تسامر إلا الشهب فكم ركعت إثرها في الدجى تناجي بها ربها من كثب وكم سكبت في أوان السجود مدامع كالغيث لما انسكب وقد خلفت ولداً باسلاً فصيحاً إذا ما قرا أو خطب

_ (1) م: أصاب.

يفل السيوف بأقلامه ويكسر صم القنا بالقصب وكان القائد أبو عمرو عثمان بن يحيى بن إبراهيم أجل من جال في خلد، واستطال على جلد، رشأ يحيى باحتشامه، ويسترد البدر بلثامه، ويزري بالغصن تثنيه، ويثمر الحسن لو دنت قطوفه لمجتنيه، مع لوذعية تخالها جريالا، وسجية يختال فيها الفضل اختيالا، وكان قد بعد عن أنسنا بحمص، وانتضى من تلك القمص، وكان بثغر الأشبونة فسده، ولم ينفرج لنا من الأنس بعده ما يسد مسده، إلى أن صدر، فأسرع إلينا وابتدر، فالتقينا وبتنا ليلة نام عنها الدهر وغفل، وقام لنا بما شئنا فيها وتكفل، فبينا نحن نفض ختامها، وننفض عنا غبار الوحشة وقتامها، إذا أنا بابن لبال هذا وقد دخل إذنه علينا فأمرناه بالنزول والتقيناع بترحيب، وأنزلناه بمكان من المسرة رحيب، وسقيناه صغاراً وكباراً، وأريناه إعظاماً وإكباراً، فلما شرب، طرب، وكلما كرعها، التحف السلوة وتدرعها، ومازال يشرب أقداحاً، وينشد فينا أمداحاً، ويفدي بنفسه، ويستهدي الاستزادة من أنسه، فهتكنا الظلام بما أهداه من البديع، واجتلينا محاسنه كالصديع (1) ، وانفصلت ليلته عن أتم مسرة، وأعم مبرة، وارتحل عثمان أعزه الله إلى ثغره، وأقام به برهة من دهره، فمشيتبها إليه مجدداً عهداً، ومتضلعاً من مؤانسته شهداً، فكتب ابن لبال هذه القطعة من القصيدة يذهب إلى شكره، ويجتهد في تجديد ذكره: ما شام إنسان إنسان كعثمان ولا كبغيته من حسن إحسان بدر السيادة يبدو في مطالعه من المحلسن محفوفاً بشهبان له التمام وما بالأفق من قمر متمم دون أن يرمى بنقصان به الشبيه تزهى من نضارتها كما تساقط طل فوق بستان

_ (1) الصديع: الصبح.

معصفر الحسن للأبصار ناصعه كأنه فضة شيبت بعقيان نبئت عنه بأنباء إذا نفحت تعطلت نفحات المسك والبان قامت عليه براهين تصدقها كالشكل قام عليه كل برهان قد زادها ابن عبيد الله من وضح ما زادت الشمس نور الفجر للراني بالله بلغه تسليمي إذا بلغت تلك الركاب وعجل غير ليان وليت أني لو شاهدت أنسكما على كؤوس وطاسات وكيزان فألفظ الكلم المنثور بينكما كأنما هو من در ومرجان لله درك يا ذا الخطتين لقد خططت بالمدح فيه كل ديوان كلاكما البحر في جود وفي كرم أو الغاماة تقي كل ظمآن إن كان فارس هيجاء ومعترك فأنت فارس إفصاح وتبيان فاذكر أبا نصر المعمور منزله بالرفد ما شئت من مثنى ووحدان قصائداً لأخي ود وإن نزحت بك الركاب إلى أقصى خراسان 3 - ترجمة عبد المعطي من المطمح وقال في ترجمة الأديب أبي بكر عبد المعطي (1) : بيت شعر ونباهة، وأبو بكر ممن انتبه خاطره للبدائع أي انتباهه، وله أدب باهر، ونظم كما سفرت أزاهر، وقد أثبت له جمالاً، يبلغ آمالاً، فمن ذلك قوله، وقد اجتمنا في ليلة لم يضرب لها وعد، ولم يعزب عنها سعد، وهو قعدي، وقد شب عن طوق الأنس في الندي، وما قال خالي عمرو ولا عدي (2) ، والكهولة قد قبضته، وأقعدته عن ذلك وما أنهضته:

_ (1) المطمح: 96. (2) في الأصول والمطمح: وما قال خلا عمرو ولا عدا؛ والإشارة هنا إلى المثل " شب عمرو عن الطوق " وهو عمرو بن عدي، الذي ثأر لجذيمة.

إمام النثر والمنظوم فتح جميع الناس ليل وهو صبح له قلم جليل لا يجارى يقر بفضله سيف ورمح يباري المزن ما سحت سماحاً وإن شحت فليس لديه شح وكان مرتسماً في عسكر قرطبة، وكان ابن سراج يقوم له بكل ما يبغي تطلبه، خبفة من لسانه، ومحافظة على إحسانه، ولما خرج إلى إقليش خرج معه، وجعل يساير من شيعه، فلما حصلوا بفحص سرادق، وهو موضع توديع المفارق للمفارق، قرب منه أبو الحسين ابن سراج لوداعه، وأنشده في تفرق الشمل وانصداعه: هم رحلوا عنا لأمر لهم عنا فما أحد منهم على أحد حنا وما رحلوا حتى استقادوا نفوسنا كأنهم كانوا أحق بها منا فيا ساكني نجد لتبعد داركم ظننا بكم ظناً فأخلفتم الظنا غدرتم ولم أغدر، وخنتم ولم أخن وقلتم ولم أعتب، وجرتم وما جرنا وأقسمتم أن لاتخونون في الهوى فقد، وذمام الحب، خنتم وما خنا ترى تجمع الأيام بيني وبينكم ويجمعنا دهر نعود كما كنا فلما استتم إنشاده لحق بالسلطان واعتذر إليه بمريض خلفه، وهو يخاف تلفه، فأذن له بالانصراف، وكتب إلى أبي الحسين ابن سراج: أما والهدايا ما رحلنا ولا حلنا وإن عن من دون الترحل ما عنا تركنا ثواب الفضل والعز للعزى (1) ... على مضض منا وعدنا كما كنا وليس لنا عنكم على البين سلوة وإن كان أنتم عندكم سلوة عنا وجمعتنا عشية بربض الزجالي (2) بقرطبة، ومعنا لمة من الإخوان وهو في

_ (1) كذا في م ق وفي المطمح: للعرى؛ وفي التجارية: تركنا ثواب الغزو والقصد للعدا. (2) م: الرحال.

جملتهم، وناهض لأعيانهم وجلتهم، بفضل أدبه، وكثرة سحبه، فجعل يرتجل ويروي، وينشر محاسن الآداب ويطوي، ويمتعنا بتلك الأخبار، ويقطعنا منها جانب اعتبار، ويطلعنا على إقبال الأيام والإدبار، ثم قال: أيا ابن عبيد الله يا ابن الأكارم لقد بخلت يمناك صوب الغمائم لك القلم الأعلى الذي عطل القنا وفل ظبات المرهفات الصوارم وأخلاقك الزهر الأزاهر (1) بالربى ... ترف بشؤبوب الغيوث السواجم بقيت لتشييد المكارم والعلى تظاهرها بالسالف المتقادم واجتمع عند أبيه لمة من أهل الأدب، وذوي المنازل والرتب، في عشية غيم أعقب مطراً، وخط فيها البرق أسطراً، والبرد يتساقط كدر من نظام، ويتراءى كثنايا غادة ذات ابتسام، وهو غلام ما نضا برد شبابه، ولا انتضى مرهف آدابه، فقال معرضاً بهم، ومتعرضاً لتحقق أدبهم: كأن الهواء غدير جمد بحيث البروق تذيب البرد خيوط وقد عقدت في الهواء وراحة ريح تحل العقد وشرب في دار ابن الأعلم في يوم لم ير الدهر فيه إساءة، وليل نسخ نور أنسه مساءه، ومعهم جملة من الشعراء، وجماعة من الوزراء، منهم أبناء القبطرنة فوقع بينهم عتاب وتعذال، وامتهان في ميدان المشاجرة وابتذال، آل به إلى تجريد السيف، وتكدير ما صفا بذلك الخيف، فسكنوه بالاستنزال، وثنوه عن ذلك النزال. 4 - ترجمة ابن بقي من المطمح والقلائد وقال في المطمح في حق أبي بكر يحيى بن بقي القرطبي صاحب الموشحات البديعة: كان نبيل السيرة والنظام، كثير الارتباط في سلكه والانتظام، أحرز خصالاً، وطرز بمحاسنه بكراً وآصالاً، وجرى في ميدان الإحسان إلى أبعد

_ (1) م: الزواهر.

أمد، وبنى من المعارف أثبت عمد، إلا أن الأيام حرمته، وقطعت حبل رعايته وصرمته، فلم تتم له وطراً، ولم تسجم عليه الحظوة مطراً، ولا سوغت من الحرمة نصيباً، ولا انزلته مرعى خصيباً، فصار راكب صهوات، وقاطع فلوات، لا يستقر يوماً، ولا يستحسن نوماً، مع توهم لا يظفره بأمان، وتقلب ذهن كالزمان، إلا أن يحيى بن علي بن القاسم نزعه من ذلك الطيش، وأقطعه جانباً من العيش، وأرقاه إلى سمائه، وسقاه صيب نعمائه، وفيأه ظلاله، وبوأه أثر النعمة يجوس خلاله، فصرف به أقواله، وشرف بعواقبه فعاله، وأفرده منها بأنفس در، وقصده منها بقصائد غر، انتهى المقصود جلبه من ترجمته في المطمح. وقال في حقه في القلائد: رافع راية القريض، وصاحب آية التصريح فيه والتعريض، أقام شرائعه، وأظهر روائعه، وصار عصيه طائعه، إذا نظم زرى بنظم العقود، وأتى بأحسن من رقم البرود، وطفا عليه حرمانه، فما صفا له زمكانه، انتهى. وابن بقي المذكور هو القائل: بأبي غزال غازلته مقلتي بين العذيب وبين شطي بارق الأبيات المذكورة في غير هذا الموضع. ومن موشحاته قوله: غلب الشوق بقلبي فاشتكى ألم الوجد فلبت أدمعي أيها الناس فؤادي شغف وهو من بغي الهوى لا ينصف كم أداريه ودمعي يكف أيها الشادن من علمكما بسهام اللحظ قتل السبع

بدر تم تحت ليل أغطش طالع في غصن بان منتشي أهيف القد بخد أرقش ساحر الطرف وكم ذا فتكا بقلوب الأسد بين الأضلع أي ريم رمته فاجتنبا وانثنى يهتز من سكر الصبا كقضيب هزه ريح الصبا قلت هب لي يا حبيبي وصلكا واطرح أسباب هجري ودع قال خدي زهره مذ فوفا جردت عيناي سيفاً مرهفا حذراً منه بأن لا يقطفا إن من رام جناه هلكا فأزل عنك علال الطمع ذاب قلبي في هوا ظبي غرير وجهه في الدجن صبح مستنير وفؤادي بين كفيه أسير لم أجد للصبر عنه مسلكا فانتصاري بانسكاب الأدمع وقال رحمه الله تعالى: خذ حديث الشوق عن نفسي وعن الدمع الذي همعا ما ترى شوقي وقد وقدا

وهما دمعي واطردا واغتدى قلبي عليك سدى آه من ماء ومن قبس بين طرفي والحشا جمعا بأبي ريم إذا سفرا أطلعت أزراره قمرا فاحذروه كلما نظرا فبألحاظ الجفون قسي أنا منها بعض من صرعا أرتضيه جار أو عدلا قد خلعت العذر والعذلا إنما شوقي إليه جلا كم وكم أشكو إلى اللعث ظمئي لو أنه نفعا صال عبد الله بالحور وبطرف فاتر النظر حكمه في أنفس البشر مثل حكم الصبح في الغلس إن تجلى نوره صدعا شبهته بالرشا الأمم فلعمري أنهم ظلموا فتغنى من به السقم أين ظبي القفر والكنس من غزال في الحشا رتعا انتهى.

وله أيضاً: ما ردني لابسثوب الضنى الدارسإلا قمر في غصن مائسشعاعه عاكسضوء البصر أسير كالسيلإليه لا باعإلا ودادي والطيف في خيللهن إسراعمع الرقاد يا كوكب الليلإن كنت تراعفلم فؤادي كالأسد العابسلكنه خانسمن الحور ومن نظمه قصيدة مدح يحيى بن علي بن القاسم المذكور بها، منها في المديح قوله: نوران ليسا يحجبان عن الورى كرم الطباع ولا جمال المنظر وكلاهما جمعا ليحيى فليدع كتمان نور علائه المتشهر في كل أفق من جمال ثنائه عرف يزيد على دخان المجمر رد في شمائله ورد في جوده بين الحديقة والغمام الممطر بدر عليه من الوقار سكينة فيها لقيطة كل ليث مخدر مثل الحسام إذا انطوى في غمده ألقى المهابة في نفوس الحضر أربى على المزن الملث لأنه أعطى كما أعطى ولم يستعبر ومنها: أقبلت مرتاداً لجودك إنه صوب الغمامة بل زلال الكوثر ولاأيت وجه النجح عندك أبيضاً فركبت نحوك كل لج أخضر وهي طويلة. استطراد وقوله " أربى على المزن الملث - البيت " هو معنى تلاعب الشعراء بكرته

وأورده كل منهم على حسب مقدرته، فقال بعض: من قاس جدواك بالغمام فما أنصف في الحكم بين شيئين أنت إذا جدت ضاحك أبداً وهو إذا جاد دامع العين وقال آخر: ما نوال الغمام يوم ربيع كنوال الأمير يوم سخاء فنوال الأمير بدرة عين ونوال الغمام قطرة ماء وهما من شواهد البديع. وقال أبو عبد الله الحوضي التلمساني في قصيدة مدح بها سلطان تلمسان أبا عبد الله الزياني: أصبح المزن من عطائك يحكي يوم الاثنين للأنام عطاء كيف يدعى لك الغمام شبيهاً ولقد فقته سناً وسناء أنت تعطي إذا تقصر مالاً وهو يعطي إذا تطول ماء رجع - وذكر العماد في الخريدة ابن بقي المذكور، وأورد له جملة من المقطعات، ومحاسنه كثيرة رحمه الله تعالى؛ وبقي على وزن علي. رجع إلى بني عباد وقال ابن اللبانة في بني عباد ما نصه: بماذا أصفهم وأحليهم، وأي منقبة من الجلالة أوليهم، فهم القوم الذين تجل مناقبهم عن العدل والاحصاء، ولا يتعرض لها بالاستيفاء والاستقصاء، ملوك زينت بهم الدنيا وتحلت، وترقت حيث شاءت وحلت، إن ذكرت الحروب فعليهم يوقف منها الخبر اليقين، أو عدت المآثر فهم في ذلك في درجة السابقين، أصبح الملك بهم مشرق القسام، والأبام

ذات بهجة وابتسام، حتى أناخ بهم الحمام، وعطل من محاسنهم الوراء والأمام، فنقل إلى العدم وجودهم، ولم يرع بأسهم جودهم، وكل ملك آدمي فمفقود، " وما نؤخره إلا لأجل معدود "، فأول ناشئة ملكهم، ومحصل الأمر تحت ملكهم، عظيمهم الأكبر، وسابقة شرفهم الأجل الأشهر، وزينهم الذي يعد في الفضائل بالوسطى والخنصر، محمد بن عباد، ويكنى أبا القاسم، واسم والده اسماعيل، ومن شعره قوله: يا حبذا الياسمين إذ يزهر فوق غصون رطيبة نضر قد امتطى للجبال ذروتها فوق بساط من سندس أخضر كأن والعيون ترمقه زمرد في حلاله جوهر ولنذكر كلام ابن اللبانة وغيره في حقهم فنقول: وصف المعتضد رحمه الله تعالى بما صورته (1) : المعتضد أبو عمرو عباد رحمه الله تعالى، لم تخل أيامه في أعدائه من تقييد قدم، ولا عطل سيفه من قبض روح وسفك دم، حتى لقد كانت في باب داره حديقة لا تثمر إلا رؤوساً، ولا تنبت إلا رئيساً ومرؤوساً، فكان نظره إليها أشهى مقترحاته، وفي التلفت إليها استعمل جل بكره وروحاته، فبكى وأرق، وشتت وفرق، ولقد حكي عنه من أوصاف التجبر ما ينبغي أن تصان عنه الأسماع، ولا يتعرض له بتصريح ولا إلماع، ومن نظمه عفا الله عنه: أتتك أم الحسن تشدو بصوت حسن تمد في ألحانها من الغناء المدني تقود مني ساكناً كأنني في رسن أوراقها أستارها إذا شدت في فنن وقوله: شربنا وجفن الليل يغسل كحله بماء صباح، والنسيم رقيق

_ (1) الذخيرة (2: 9 - 10) .

معتقة كالتبر أما نجارها فضخم وأما جسمها فرقيق وقوله: لقد وجدنا الحبيب يصي وداده وحمدنا ضميره واعتقاده قرب الحب من فؤاد محب لا يرى هجره ولا إبعاده وقال عند حصول رندة في ملكه: لقد حصلت يا رنده فصرت لملكنا عده أفادتناك أرماح وأسياف لها حده وقال رحمه الله تعالى: اشرب على وجه الصباح وانظر إلى نور الأقاح واعلم بأنك جاهل ما لم تقل بالصطباح فالدهر شيء بارد ما لم تسخنه براح 672 - ابن خفاجة والمعتضد ومن حكايات المعتضد عباد ما ذكره غير واحد أن ابن جاخ الشاعر ورد على حضرته، فدخل الدار المخصوصة بالشعراء، فسألوه، فقال: إني شاعر، فقالوا: أنشدنا من شعرك، فقال: إني قصدت إليك يا عبادي قصد القليق بالجري للوادي فضحكوا منه وازدروه، فقال بعض العقلاء: دعوه فإن هذا شاعر، وما يبعد أن يدخل مع الشعراء ويندرح في سلكهم، فلم يبالوا بكلام الرجل، وتنادروا على المذكور، فبقي معهم، وكان لهم في تلك الدولة يوم مخصوص

لا يدخل فيه على الملك غيرهم، وربما كان يوم الاثنين، فقال بعض لبعض: هذه شنعة بنا أن يكون مثل هذا البادي يقدم علينا، ويجترئ على الدخول معنا، فاتفقوا على أن يكون هو أول متكلم في اليوم المخصوص بهم عند جلوس السلطان، وقد رأوا أن يقول مثل ذلك الشعر المضحك فيطرده عنهم، ويكون ذلك حسماً لعلة إقدام مثله عليهم. فلما كان اليوم المذكور، وقعد السلطان في مجلسه، ونصب الكرسي لهم، رغبوا منه أن يكون هذا القادم أول متكلم في ذلك اليوم، فأمر بذلك، فصعد الكرسي، وانتظروا أن ينشد مثل الشعر المضحك المتقدم، فقال: قطعت يا يوم النوى أكبادي وحرمت عن عيني لذيذ رقادي وتركتني أرعى النجوم مسهداً والنار تضرم في صميم فؤادي فكأنما آلى الظلام ألية لا ينجلي إلا إلى ميعاد يا بين بين أين تقتاد النوى إبل الذين تحملوا بسعاد ولرب خرق قد قطعت نياطه والليل يرفل في ثياب حداد بشملة حرف كأن ذميلها سرح الرياح وكل برق غادي والنجم يحدوها وقد ناديتها يا ناقتي عوجي على عباد ملك إذا ما أضرمت نار الوغى وتلاقت الأجناد بالأجناد فترى الجسوم بلا رؤوس تنثني وترى الرؤوس لقى بلا أجساد يا أيها الملك المؤمل والذي قدماً سما شرفاً على الأنداد إن القريض لكاسد في أرضنا وله هنا سوق بغير كساد فجلبت من شعري إليك قوافياً يفنى الزمان وذكرها متمادي من شاعر لم يضطلع أدباً ولا خطت يداه صحيفة بمداد فقال له الملك: أنت ابن جاخ فقال: نعم، فقال: اجلس فقد وليتك رئاسة الشعراء، وأحسن إليه، ولم يأذن في الكلام في ذلك اليوم لأحد بعده، انتهى.

رحع إلى أخبار بقية بني عباد المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن المعتضد أبي عمرو عباد ابن القاضي أبي القاسم ابن عباد رحمه الله تعالى، ملك مجيد، وأديب على الحقيقة مجيد، وهمام تحلى به للملك وللنظم جيد، أفنى الطغاة بسيفه وأباد، وأنسى بسيبه ذكر الحارث بن عباد، فأطلع أيامه في الزمان حجولاً وغروراً، ونظم معاليه في أجيادها جواهر ودرراً، وشيد في كل معلوة فناءه، وعمر بكل نادرة مستغربة وبادرة مستظرفة أوقاته وآناءه، فنفقت به للمحامد سوق، وبسقت ثمرات إحسانه أي بسوق، منع وقرى، وراش وبرى، ووصل وفرى، وكان له من أبنائه عدة أقمار نظمهم نظم السلك، وزين بهم سماء ذلك الملك، فكانوا معاقل بلاده، وحماة طارفه وتلاده، إلى أن استدار الزمان كهيئته، وأخذ البؤس في فيئته، واعتز الخلاف وظهر، وسل الشتات سيفه وشهر، والمعتمد رحمه الله تعالى يطلب نفسه أثناء ذلك بالثبات، بين تلك الثبات، والمقام، في ذلك المقام، إلى أن بدل القطب بالواقع، واتسع الخرق على الراقع، فاستعضد بابن تاشفين فورد عليه خطابه يشعر بالوفاء، فثاب إليه فكر خاطره وفاء، وثبت خلال تلك المدة للنزال، ودعا من رام حربه نزال، إلى أن أصبح والحروب قد نهبته، والأيام تسترجع منه ما وهبته، فثل ذلك العرش، واعتدت الليالي حين أمنت من الأرش، فنقل من صهوات الخيول إلى بطون الأجفان، وهذه الدنيا جميع ما لديها زائل وكل من عليها فان، فما أغنت تلك المملكة وما دفعت، وليتها ما ضرت إذ لم تكن نفعت، وكل يلقى معجله ومؤجله، ويبلغ الكتاب أجله. وقال الفقيه القاضي أبو بكر ابن خميس رحمه الله تعالى حين ذكر تاريخ بني عباد: وقد ذكر الناس للمعتمد من أوصافه، ما لا يبلغ مع كثرته إلى إنصافه، وأنا الآن أذكر نبذاً من أخباره، وأردفها بما وقفت عليه من منظومات

أشعاره، فإنه رحمه الله تعالى جم الأدب رائقه، عالي النظم فائقه، كان يسمى بمحمد، ويكنى بأبي القاسم، على كنية جده القاضي، استبد بالأمر عند موت أبيه المعتضد، وفي ذلك يقول الحصري رحمه الله تعالى: مات عباد ولكن بقي الفرع الكريم قكأن الميت حي غير أن الضاد ميم قال ابن اللبانة رحمه الله تعالى: ولم يزل المعتمد بخير إلى أن كانت سنة خمس وسبعين وأرعمائة، ووصل اليهودي ابن شاليب لقبض الجزية المعلومة مع قوم من رؤساء النصارى، وحلوا بباب من أبواب إشبيلية، فوجه لهم المعتمد المال، مع جماعة من وجوه دولته، فقال اليهودي: والله لا أخذت هذا العيار، ولا آخذه منه إلا مشجراً، وبعد هذا العام لا آخذ منه إلا أجفان البلاد، ردوه إليه، فرد المال إلى المعتمد، وأعلم بالقصة، فدعا بالجند، وقال: ائتوني باليهودي وأصحابه، واقطعوا حبال الخباء، ففعلوا وجاؤوا بهم، فقال: اسجنوا النصارى، واصلبوا اليهودي الملعون، فقال اليهودي: لا تفعل، وأنا أفتدي منك بزنتي مالاً، فقال: والله لو أعطيتني العدوة والأندلس ما قبلتهما منك، فصلب، فبلغ الخبر النصراني، فكتب فيهم، فوجه إليه بهم، فأقسم النصراني أن يأتي من الجنود بعدد سعر رأسه حتى يصل إلى بحر الزقاق، وأمير المسلمين يوسف بن تاشفين إذ ذاك محاصر سبتة، فجاز المعتمد إليه، ووعده بنصرته، فرجع وحث ملوك الأندلس على الجهاد، ثم وصل ابن تاشفين، فكانت غزوة الزلاقة المشهورة، ورجع ابن تاشفين إلى المغرب، ثم جاز بعد ذلك إلى الأندلس، وتوهم ابن عباد أنه إذا أخذ البلاد يأخذ أموالها ويترك الأجفان، فعزم ابن تاشفين على أن يخلع ملوك الأندلس، ودارت إذ ذاك مكايد جمة، ثم وجه ابن تاشفين من سبتة إلى المعتمد يطلب منه الجزيرة الخضراء وفيها ابنه يزيد، فكتب إليه معتذراً عنها، فلم يكن إلا كلمح بالبصر وإذا بمائة شراع قد أطلت على الجزيرة

فطير ابنه الحمام إليها، فأمره بإخلائها، فظهر عند ذلك ابن تاشفين، وقيل: إنه لم يجز المرة الأولى حتى طلب من المعتمد الجزيرة لتكون عدة له، وكان ذلك بدسيسة بعض أهل الأندلس نصحاً لابن تاشفين، ثم شرع ابن تاشفين في خلع ملوك الأندلس وقتالهم، وأرسل إلى كل مملكة حماعة من أخل دولته وأجناده يحاصرونها، وأرسل إلى حضرة المعتمد إشبيلية، وشرع في قتالها، والناس قد ملوا الدولة العبادية وسئموها، على ما جرت به العادة من حب الجديد، لا سيما وقد ظهر من ابن عباد من التهتك في الشرب والملاهي ما لا يخفى أمره، فتمنى أكثر الناس الراحة من دولتهم، ولما اشتد مخنق المعتمد وجه عن النصارى، فأعد لهم ابن تاشفين من لقيهم في الطريق، فهزمهم، وجهز ابن تاشفين القطائع لإشبيلية، وجد في حصارها، والمعتمد مع ذلك منغمس في لذاته، وقد ألقى الأمور بيد ابنه الرشيد، فلم يشعر ابن عباد إلا والعسكر معه في البلد، فأفاق من نومه، وصحا من سكره، وركب فرسه وحسامه في يده، وليس عليه إلا ثوب واحد، فوافق العسكر قد دخل من باب الفرج، ووافق هنالك طبالاً فضربه بسيفه ضربة قسمه بها نصفين، ففر الناس أمامه، وتراموا من السور، ووقف حتى بان الباب، وفي ذلك يقول الأبيات المذكورة فيما يأتي: إن يسلب القوم العدا.... إلخ. فلما وصل إلى باب الصباغين وجد ابنه مالكاً مقتولاً، فاسترحم له، ودخل القصر، وزاد الأمر بعد ذلك، ودخل البلد من كل جهاته فطلب الأمان له ولمن معه، فأمن وجميع من له، وأعدت له مراكب، واجتاز إلى طنجة، فلقيه الحصري الشاعر، وكان قد ألف له كتاب " المستحسن من الأشعار " فلم يقض بوصوله إليه إلا وهو على تلك الحالة، فلما أخذ المعتمد الكتاب قال للحصري: ارفع ذلك البساط فخذ ما تحته، فوالله ما أملك غيره، فوجد تحته جملة مال، فأخذه، ثم انتقل حتى وصل أغمات، ولم يزل بها إلى أن مات، رحمه الله تعالى.

وقال الفتح في ترجمة ما نصه (1) : ملك قمع العدا، وجمع البأس والندى، وطلع على الدنيا بدر هدى، لم يتعطل يوماً كفه ولا بنانه، آونة يراعه وآونة سنانه، وكانت أيامه مواسم، وثغوره بواسم (2) ، ولياليه كلها دررا، وللزمان حجولاً وغرراً، لم يغفلها من سمات عوارف، ولم يضحها من ظل إيناس وارف، ولا عطلها من مأثرة بقي أثرها بادياً، ولقي معتفيه منها إلى الفضل هادياً، وكانت حضرته مطمحاً للهمم، ومسرحاً لآمال الأمم، ومقذفاً لكل كمي، وموقفاً لكل ذي أنف حمي، لم تخل من وفد، ولم يصح جوها من انسجام رفد، فاجتمع تحت لوائه من جماهير الكاة، ومشاهير الحماة، أعداد يغص بهم الفضاء، وأنجاد يزهى بهم النفوذ والمضاء، وطلع في سمائه كل نجم متقد، وكل ذي فهم منتقد، فأصبحت حضرته ميداناً لرهان الأذهان، ومضماراً لإحراز الخصل، في كل معنى وفصل، فلم يلتحق بزمامه إلا كل بطل نجد، ولم يتسق في نظامه إلا ذكاء ومجد، فأصبح عصره أجمل عصر، وغدا مصره أكمل مصر، تسفح فيه ديم الكرم، ويفصح فيه لساناً سيف وقلم، ويفضح الضى في وصفه أيام ذي سلم، وكان قومه وبنوه لتلك الحلبة زيناً، ولتلك الجملة عيناً، إن ركبوا خلت الأرض فلكاً يحمل نجوماً، وإن وهبوا رأيت الغمائم سجوماً، وإن أقدموا أحجم عنترة العبسي، وإن فخروا أفحم عرابة الأوسي، ثم انحرفت الأيام فألوت بإشراقه، وأذوت يانع إيراقه، فلم يدفع الرمح ولا الحسام، ولم تنفع تلك المنن الجسام، فتملك بعد الملك، وحط من فلكه إلى الفلك، فأصبح خائضاً تحدوه الرياح، وناهضاً يجزيه البكاء والصياح، قد ضجت عليه أياديه، وارتجت جوانب ناديه، وأضحت منازله قد بان عنها الأنس والحبور، وألوت ببهجتها الصبا والدبور، فبكت العيون عليه دماً، وعاد

_ (1) القلائد: وما بعدها. (2) م: والمطمح: وثغور بره بواسم.

موجود الحياة عدماً، وصار أحرار الدهر فيه خدماً، فسحقاً لدنيا ما رعت حقوقه، ولا أبقت شروقه، فكم أحياها لبنيها، وأبداها رائقة لمجتنيها، وهي الأيام لا يتقى من تجنيها (1) ، ولا تبقي على مواليها ومدانيها، أدثرت آثار جلق، وأخمدت نار المحلق، وذلت عزة ابن شداد، وهدت القصر ذا الشرفات من سنداد، ونعمت ببؤس النعمان، وأكمنت غدرها له في طلب الأمان، انتهى. ثم ذكر الفتح من أخباره وأشعاره ومجالس أنسه وغير ذلك من أمره نبذاً ذكرنا بعضها في هذا الكتاب. 673 - الراضي ابن المعتمد وقال في ترجمة ابنه الراضي بالله أبي خالد يزيد بن المعتمد ما نصه (2) : ملك تفرع من دوحة سناء، أصلها ثابت وفرعها في السماء، وتحدر من سلالة أكابر، ورقاة أسرة ومنابر، وتصرف أثناء شبيبته بين دراسة معارف وإفاضة عوارف، وكلف بالعلم حتى صار ملهج لسانه، وروضة أجفانه، لا يستريح بغرته منه إلا إلى متن سائل الغرة، ميمون الأسرة، يسابق به الرياح، ويحاسن بغرته البدر اللياح، عريق في السناء، عتيق الاقتناء، سريع الوخد والإرقال، من آل أعوج أو لذي العقال (3) ، إلى أن ولاه أبوه الجزيرة الخضراء، وضم إليها رندة الغراء، فانتقل من متن الجواد، إلى ذروة الأعواد، وأقلع عن الدراسة، إلى تدبير الرياسة، وما زال يدبرها بجوده ونهاه، ويورد الآمل فيها مناه، حتى غدت عراقاً، وامتلأت إشراقاً، إلى أن اتفق في أمر الجزيرة ما اتفق، وخاب

_ (1) وهي ... تجنيها: سقطت من م. (2) القلائد: 31. (3) القلائد: أو ولد العقال؛ والإشارة إلى قول الشاعر: وترى الجياد يبتن حول خبائنا ... من آل أعوج أو لذي العقال وأعوج والعقال: فحلان من فحول الجياد.

فيها الرجاء وأخفق، واستحالت بهجتها، وأحالت عليها من الحال لجتها (1) ، فانتقل إلى رندة معقل أشب، ومنزل للسماك منتسب، وأقام فيها رهين حصار، ومهين حماة وأنصار، ولقيت ريحه كل إعصار، حتى رمته سهام الخطوب عن قسيها، وأمكنت منه يدي مسيها، فحواه رمسه، وطواه عن غده أمسه، حسبما بسطنا القول فيه فيما مر من أخبار أبيه، انتهى. والذي أشار إليه هنا وأحال عليه فيما تقدم له من أخبار المعتمد هو قوله بعد حكايته قتل المأمون بن المعتمد بقرطبة وسياقه أخبار ذلك ما نصه (2) : ثم انتقلوا إلى رندة أحد معاقل الأندلس الممتنعة، وقواعدها السامية المرتفعة، تطرد منها على بعد مرتقاها، ودنو النجوم من ذراها، عيون لانصبابها دوي كالرعد القاصف، والرياح العواصف، ثم تتكون وادياً يلتوي بجوانبها التواء الشجاع، ويزيدها في التوعر والامتناع، وقد تجونت نواحيها وأقطارها، وتكونت فيها لباناتها وأوطارها، لا يتعذر لها مطلب، ولا يتصور فيها عدو إلا علقه ناب أو مخلب، فلما أناخوا منها على بعد، وأقاموا من الرجاء فيها على غير وعد، وفيها ابنه الراضي لم يحفل بإناختهم بإزائه، ولا عدها من أرزائه، لامتناعه من منازلتهم، وارتفاعه عن مطاولتهم، إلى أن انقضى في أمر إشبيلية ما انقضى، وأفضى أمر أبيه إلى ما أفضى، فحمل على مخاطبته لينزل عن صياصيه، ويمكنهم من نواصيه، فنزل براً بأبيه، وإبقاء على أرماق ذويه، بعد أن عاقدهم مستوثقاً، وأخذ عليهم عهداً من الله وموثقاً، فلما وصل إليهم، وحصل في يديهم، مالوا به عن الحصن وجرعوه الردى، وأقطعوا الثرى حين أودى، وفي ذلك يقول المعتمد يرثيهما، وقد رأى قمربة بائحة بشجنها، نائحة بفننها على سكنها، وأمامها وكر فيه طائران يرددان نغماً، ويغردان ترحة وترنماً:

_ (1) القلائد: وسالت عليها من الحوادث لجتها. (2) القلائد: 20.

بكت أن رأت إلفين ضمهما وكر مساء وقد أخنى على إلفها الدهر وناحت فباحت واستراحت بسرها وما نطقت حرفاً يبوح به سر فما لي لا أبكي أم القلب صخرة وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر بكت واحداً لم يشجها غير فقده وأبكي لألاف عديدهم كثر بني صغير أو خليل موافق يمزق ذا قفر وغرق ذا بحر ونجمان زين للزمان احتواهما ... بقرطبة النكداء (1) أو رندة القبر غدرت إذاً إن ضن جفني بقطرة وإن لومت نفسي فصاحبها الصبر فقل للنجوم الزهر تبكيهما معي لمثلهما فلتحزن الأنجم الزهر وقال في ترجمة الراضي ما صورته (2) : وكان المعتمد رحمه الله تعالى كثيراً ما يرميه بملامه، ويصميه بسهامه، فلربما استلطفه بمقال أفصح من دمع المحزون، وأملح من روض الحزون، فإنه كان ينظم من بديع القول لآلئ وعقوداً، تسل من النفوس سخائم وحقوداً، وقد أثبت من كلامه في بث آلامه، واستجارة عذله وملامه، ما تستبدعه، وتحله النفوس (3) وتودعه، فمن ذلك ما قاله وقد أنهض جماعة من إخوته وأقعده، وأدناهم وأبعده: أعيذك أم يكون بنا خمول ويطلع غيرنا ولنا أفول حنانك إن يكن جرمي قبيحاً فإن الصفح عن جرمي جميل ألست بفرعك الزاكي وماذا يرجي الفرع خانته الأصول ثم قال الفتح بعد كلام (4) : ومرت عليه - يعني الراضي - هوادج وقباب، فيها حبائب كن له وأحباب، ألفهن أيام خلائه من دولة، وجال معهن في

_ (1) م: النكراء. (2) القلائد: 32. (3) م: النفس. (4) القلائد: 33.

ميدان المنى أعظم جولة، ثم انتزعوا منه ببعده، وأودعوا الهوادج من بعده، ووجهوا هدايا إلى العدوة، وألموا بها إلمام قريش بدار الندوة، فقال: مروا بنا أصلاً بغير ميعاد فأوقدوا نار شوقي أي إيقاد وأذكروني أياماً لهوت بهن فيها ففازوا بإيثاري وإحمادي لا غرو أن زاد في وجدي مرورهم فرؤية الماء تذكي غلة الصادي ولما وصل المعتمد (1) لورقة أعلم أن العدو قد جيش لها واحتشد، ونهد نحوها وقصد، ليتركها خاوية على عروشها، طاوية الجوانح على وحوشها، فتعرض له المعتمد دون بغيته، وطلع عليه من ثنيته، وأمر الراضي بالخروج إليه في عسكر جرده لمحاربته، وأعده لمصادمته ومضاربته، فأظهر التمارض والتشكي، وأضمر التقاعص والتلكي، فراراً من المصادمة، وإحجاماً عن المساومة، وجزعاً من منازلة الأقران، ومقابلة ذوابل المران، ومقاساة الطعان، وملاقاة أبطال كالرعان، ورأى أن المطالعة، أرجح من المقارعة، ومعانة العلوم، أربح من مداواة الكلوم، فقد كان عاكفاً على تلاوة ديوان، عارفاً بإجادة سطر وعنوان، فعلم المعتمد ما نواه، وتحقق ما لواه، فأعرض عنه، ونفض يده منه، ووجه المعتد (2) مع ذلك الجيش الذي لم تنشر بنوده، ولا نصرت جنوده، فعندما لاقوا العدو لاذوا بالفرار، وعاذوا بإعطاء الغرة بدلاً من الغرار، وتفرقوا في تلك الأماريت (3) ، وفرقوا من تخطف أولئك العفاريت، فتحيف العدو من بقي مع المعتمد واهتضمه، وخضم ما في العسكر وقضمه، وغدت مضاربه مجر عواليه، ومجرى مذاكيه، وآب أخسر من بائع السدانة (4) ، ومضيع الأمانة، فانطبقت سماء المعتمد على أرضه، وشغلته عن إقامة نوافله وفرضه، فكتب إليه الراضي:

_ (1) ق م: العدو. (2) ق م: وتوجه المعتد. (3) الأماريت: الأراضي المنبسطة؛ وفي ق م: الأفاريت. (4) يعني أبا عبشان الذي باع سدانة الكعبة لقصي، قيل: برق خمر.

لايكرثنك خطب الحادث الجاري فما عليك بذاك الخطب من عار ماذا على ضيغم أمضى عزيمته إن خانه حد أنياب وأظفار لئن أتوك فمن جبن ومن خور قد ينهض العير نحو الضيغم الضاري عليك للناس أن تبقى لنصرتهم ... وما عليك لهم إسعاد أقدار (1) لو يعلم الناس فيما أن تدوم لهم بكوا لأنك من ثوب الصبا عاري ولو أطاقوا انتقاصاً من حياتهم لم يتحفوك بشيءً غير أعمار فحجب عنه وجه رضاه، ولم يستنزله (2) بذلك ولا استرضاه، وتمادى على إعراضه، وقعد عن إضهاره وإنهاضه، حتى بسطته سوانح السلو، وعطفته عليه جوانح (3) الحنو، فكتب إليه بهزل، غلب فيه كل منزع جزل، وهو: الملك في طي الدفاتر فتخل عن قود العسكر طف بالسريرمسلماً وارجع لتوديع المنابر وازحف الى جيش المعا رف تقهر الحبر المقامر واطعن بأطراف اليرا ع نصرت في ثغر المحابر واضرب بسكين الدوا ة مكان ماضي الحد باتر أولست رسطاليس إن ذكر الفلاسفة الأكابر وأبو حنيفة ساقط في الرأي حين تكون حاضر وكذاك إن ذكر الخلي ل فأنت نحوي وشاعر من هرمس من سيبوي هـ من ابن فورك إذ تناظر هذي المكارم قد حوي ت فكن لمن حاباك شاكر واقعد فإنك طاعم كاس وقل: هل من مفاخر

_ (1) هذا البيت سقط من ق م. (2) القلائد: ولم يستمله. (3) ق م: جوانب، وأثبتنا رواية القلائد.

لحجبت وجه رضاي عن ك وكنت قد تلقاه سافر أولست تذكر وقت لو رقة وقلبك ثم طائر لا يستقر مكانه وأبوك كالضرغام خادر هلا اقتديت بفعله وأطعته إذ ذاك آمر قد كان أبصر بالعوا قب والموارد والمصادر فكتب إليه الراضي مراجعاً بقطعة منها: مولاي قد أصبحت كافر بجميع ما تحوي الدفاتر وفللت سكين الدوا ة وظلت للأقلام كاسر وعلمت أن الملك ما بين الأسنة والبواتر والمجد والعلياء في ضرب العساكر بالعساكر لا ضرب أقوال بأق وال ضعيفات مناكر قد كنت أحسب من سفا هـ أنها أصل المفاخر فإذا بها فرع لها والجهل للإنسان عاذر لا يدرك الشرف الفتى إلابعسال وباتر وهاجرت من سميتهم وجحدت أنهم أكابر لو كنت تهوى ميتتي لوجدتني للعيش هاجر ضحك الموالي بالعبي د إذا تؤمل غير ضائر إن كان لي فضل فمن ك وهل لذاك النور ساتر أو كان بي نقص فم ني غير أن الفضل غامر ذكرت عبدك ساعة يبقى لها ما عاش ذاكر يا ليته قد غيبت هـ عندها إحدى المقابر أتريد مني أن أكو ن كمن غدا في الدهر نادر هيهات ذلك مطمع يعيي الأوائل والأواخر

لاتنس يا مولاي قو لة ضارع لا قول فاخر ضبط الجزيرة عندما نزلت بعقوبتها العساكر أيام ظلت بها فري داً ليس غير الله ناصر إذ كان يعشي ناظري لمع الأسنة والبواتر ويصم أسماعي بها قرع الحجارة بالحوافر وهي الحضيض سهولة لكن ثبت بها مخاطر هبني أسأت كما أسأ ت أما لهذا العتب آخر هب زلتي لبنوتي واغفر فإن الله غافر فقربه وأدناه، وصفح عما كان جناه، ولم تزل الحال آخذة في البوار، والأمور معتلة اعتلال حب الفرزدق للنوار، حتى مضوا لغير طية، وقضوا بين الصوارم والرماح الخطية، حسبما سردناه، وإذا أراد الله سبحانه إنفاذ أمر سبق في علمه، فلا مرد له ولا معقب لحكمه، ولا إله إلا هو رب العالمين؛ انتهى كلام الفتح. وعلى الجملة فكانت دولة بني عباد بالأندلس من أبهج الدول في الكرم والفضل والأدب، حتى قال ابن لبانة رحمه الله تعالى: إن الدولة العبادية بالأندلس أشبه شيء بالدولة العباسية ببغداد، سعة مكارم، وجمع فضائل، ولذلك ألف فيها كتاباً مستقلاً سماه " الاعتماد في أخبار بني عباد " ولا يلتفت لكلب عقور نبح بقوله: مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتضد فيها ومعتمد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد لأن هذه مقالة متعسف كافر للنعم، ومثل ذلك في حقهم لا يقدح، وما زالت الأشراف تهجى وتمدح.

وللمعتمد أولاد ملوك منهم المأمون والرشيد والراضي والمعتد وغيرهم، وقد سردنا خبر بعضهم. 674 - مدائح ابن اللبانة في بني عباد وكان الداني المذكور مائلاً إلى بني عباد بطبعه، إذ كان المعتمد هو الذي جذب بضبعه، وله فيه المدائح الأنيقة، التي هي أذكى من زهر الحديقة، فمن ذلك قوله من قصيدة يمدحه بها ويذكر أولاده الأربعة، الذين عمروا من المجد أربعة، وهم الرشيد عبيد الله والراضي يزيد والمأمون والمؤتمن، وكانوا نجوم ذلك الأفق وغيوث ذلك الزمن، ولقد أجاد في ذلك كل الإجادة، وأطال لمجدهم نجاده: يغيثك في محل، يعينك في ردى يروعك في درع، يروقك في برد جمال وإجمال وسبق وصولة كشمس الضحى كالمزن كالبرق كالرعد بمهجته شاد العلا ثم زادها بناء بأبناء جحاجحة لد بأربعة مثل الطباع تركبوا لتعديل ذكر المجد والشرف العد والمأمون بن المعتمد قتله لمتونة بقرطبة، والراضي يزيد قتلوه برندة كما سقنا خبره آنفاً، وفي حالتهم هذه يقول الشاعر المشهور عبد الجبار بن حميدس الصقلي: ولما رحلتم بالندى في أكفكم وقلقل رضوى منكم وثبير رفعت لساني بالقيامة قد دنت فهذي الجبال الراسيات تسير وفي قصة المعتمد يقول الداني المذكور: لكل شيء من الأشاء ميقات وللمنى في مناياهن غايات

والدهر في صفة الحرباء منغمس ألوان حالاته فيها استحالات ونحن من لعب الشطرنج في يده وطالما قمرت بالبيدق الشاة انفض يديك من الدنيا وزينتها فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا وقل لعالمها الأرضي قد كتمت سريرة العالم العلوي أغمات وهي طويلة ذكرها الفتح وغيره. وللداني أيضاً قصيدة عملها في المعتمد وهو بأغمات سنة 486 (1) : تنشق بريحان السلام فإنما أفض به مسكاً عليك مختما وقل لي مجازاً إن عدمت حقيقة لعلك في نعمي فقد كنت منعما أفكر في عصر مضى بك مشرقاً فيرجع ضوء الصبح عندي مظلما وأعجب من أفق المجرة إذ رأى كسوفك شمساً كيف أطلع أنجما لئن عظمت فيك الرزية إننا وجدناك منها في الرزية أعظما قناة سعت للطعن حتى تقسمت وسيف أطال الضرب حتى تثلما ومنها: بكى آل عباد (2) ولا كمحمد ... وأولاده صوب الغمامة إذ همى حبيب إلى قلبي حبيب لقوله عسى طلل يدنو بهم ولعلما صباحهم كنا به نحمد السرى فلما عدمناهم سرينا على عمى وكنا رعينا العز حول حمامهم فقد أجدب المرعى وقد أقفر الحمى وقد ألبست أيدي الليالي قلوبهم مناسج سدى الغيث فيها وألحما قصور خلت من ساكنيها فما بها سوى الأدم تمشي حول واقفة الدمى

_ (1) سمو 486: سقطت من م. (2) ق م: محمود.

تجيب بها الهام الصدى ولطالما أجاب القيان الطائر المترنما كأن لم يكن فيها أنيس، ولا التقى بها الوفد جمعاً والخميس عرمرما ومنها: حكيت وقد فارقت ملكك مالكاً ومن لهي أحكي عليك متمما مصاب هوى بالنيرات من العلا ولم يبق في أرض المكارم معلما تضيق علي الأرض حتى كأنما خلقت وإياها سواراً ومعصما ندبتك حتى لم يخل لي الأسى دموعاً بها أبكي عليك ولا دما وإني على رسمي مقيم فإن أمت سأجعل للباكين رسمي موسما بكاك الحيا والريح شقت جيوبها عليك وناح الرعد باسمك معلما ومزق ثوب البرق واكتست الضحى حداداً وقامت أنجم الجو أفحما وحار ابنك الإصباح وجداً فما اهتدى وغار أخوك البحر غيضاً فما طمى وما حل بدر التم بعدك دارة ولا أظهرت شمس الظهيرة مبسما قضى الله أن حطوك عن ظهر أشقر بشم وأن أمطوك أشأم أدهما وكان قد انفكت عنه القيود، فأشار إلى ذلك بقوله فيها: قيودك ذابت فنطلقت لقد لقدغدت قيودك منهم بالمكارم أرحما عجبت لأن لان الحديد وأن قسوا لقد كان منهم بالسريرة أعلما سينجيك من نجى من السجن يوسفاً ويؤويك من آوى المسيح بن مريما ولأبي بكر الداني المذكور في البكاء على أيامهم وانتثار نظامهم عدة مقطوعات وقصائد، هي قرة عين الطالب ونجعة الرائد، وقد اشتمل عليها جزء لطيف، صدر عنه في هيئة تصنيف، سماه " السلوك في وعظ الملوك "، ووفد على المعتمد وهو بأغمات، عدة وفادات، لم يخل في جميعها من إفادات، وقال في إحداها، هذه وفادة وفاء لا وفادة اجتداء.

675 - مقتطفات من أخبار المعتمد قال غير واحد: من النادر الغريب أنه نودي في جنازته " الصلاة على الغريب " بعد عظم سلطانه، وسعة أوطانه، وكثرة صقلبته وحبشانه، وعظم أمره وشانه، فتبارك من له العزة والبقاء والدوام، واجتمع عند قبره جماعة من الأقوام، الذين لهم في الأدب حصة، ولقضية المعتمد في صدورهم غصة، منهم البالغ في البلاغة الأمد، شاعره أبو بحر عبد الصمد، وكان به خصيصاً، وكم ألبسه من بره حلة وقميصاً، فقال من قصيدة طويلة أجاد فيها ما شا، وجلب بها إلى أنفس الحاضرين بعد الأنس إيحاشا، مطلعها: ملك الملوك أسامع فأنادي أم قد عدتك عن السماع عوادي ومنها: لما خلت منك القصور ولم تكن فيها كما قد كنت في الأعياد قبلت من هذا الثرى لك خاضعاً وجعلت قبرك موضع إنشاد فلما بلغ من إنشاده، إلى مراده، قبل الثرى ومرغ جسمه وعفر خده، فبكى كل من حضر وصرفه ذلك عن سرور العيد وصده، إذ كانت هذه القصة يوم عيد، فسبحان المبدئ المعيد. ويحكى أن رجلاً رأى في منامه إثر الكائنة على المعتمد بن عباد كأن رجلاً صعد منبر جامع قرطبة فاستقبل الناس وأنشد هذه الأبيات متمثلاً: رب ركب قد أناخوا عيسهم في ذرى مجدهم حين بسق سكت الدهر زماناً عنهم ثم أبكاهم دماً حين نطق وعاش أبو بكر ابن اللبانة المعروف بالداني المذكور آنفاً بعد المعتمد، وقدم ميورقة آخر شعبان سنة 489، ومدح ملكها مبشر بن سليمان بقصيدة مطلعها:

ملك يروعك في حلى ريعانه راقت برونقه صفات زمانه وأين هذا من أمداحه في المعتمد وتذكرت هنا من أحوال الداني أنه دخل على ابن عمار في مجلس، فأراد أن يندر به وقال له: اجلس ياداني، بغير ألف، فقال له: نعم يا ابن عمار، بغير ميم، وهذا هو الغاية في سرعة الجواب والأخذ بالثأرفي المزاح. ونظيره - وإن كان من باب آخر - أن المعتمد مر مع وزيره ابن عمار ببعض أرجاء إشبيلية، فلقيتهما امرأة ذات حسن مفرط، فكشفت وجهها، وتكلمت بكلام لايقتضيه الحياء، وكان ذلك بموضع الجباسين الذين يصنعون به الجبس والجيارين الصانعين للجير، بإشبيلية، فالتفت المعتمد إلى موضع الجيارين، وقال: يا ابن عمار الجيارين، ففهم مراده، وقال في الحال: يا مولاي والجباسين، فلم يفهم الحاضرون المراد، وتحيروا، فسألوا ابن عمار، فقال له المعتمد: لاتبعها منهم إلا غالية، وتفسيرها أن ابن عباد صحف " الحيا زين " بقوله الجيارين إشارة إلى أن تلك المرأة لو كان لها حياء لازدانت، فقال له والجباسين وتصحيفه " والخناشين " أي: هي وإن كانت جميلة بديعة الحسن لكن الخنا شانها، وهذا شأو لا يلحق. ومن أخبار المعتمد أنه جلس يوماً والبزاة تعرض عليه، فاستحث الشعراء في وصفها، فصنع ابن وهبون بديهاً: للصيد قبلك سنة مأثورة لكنها بك أبدع الأشياء تمضي البزاة وكلما أمضيتها عاطيتها بخواطر الشعراء فاستحسنهما، وأسنى جائزته. وذكر ابن بسام أن أبا العرب الصقلي حضر مجلس المعتمد يوماً وقد حمل إليه حمولة وافرة من قراريط الفضة، فأمر له بسكين منها، وكان بين يديه تماثيل

عنبر من جملتها جمل مرصع بالذهب واللآلئ، فقال أبو العرب معرضاً: ما يحمل هذين الكيسين إلا جمل، فابتسم المعتمد وأمر له به، فقال أبو العرب بديهاً: أهديتني (1) جملاً جوناً شفعت به ... حملاً من الفضة البيضاء لو حملاً نتاج جودك في أعطان مكرمة لا قد تصرف من منع ولا عقلا فاعجب لشأني فشأني كله عجب رفهتني فحملت الحمل والجملا وذكر الحجاري هذه القصة فقال: قعد المعتمد في مجلس احتفل في تنضيده وإحضار الطرائف الملوكية، وكان في الجملة تمثال جمل من بلور، وله عينان من ياقوتتين، وقد حلي بنفائس الدر، فأنشده أبو العرب قصيدة، فأمر له بذهب كثير مما كان بيده من السكة الجديدة، فقال معرضاً بذلك الجمل: ما يحمل هذه الصلة إلا جمل! فقال: خذ هذا الجمل، فإنه حمال أثقال، فارتجل شعراً منه: رفهتني فحملت الحمل والجملا وذكر أن ذلك الجمل بيع بخمسمائة مثقال، فسارت بهذا الخبر الركائب، وتهادته المشارق والمغارب. وتباحث المعتمد مرة مع الجلساء في بيت المتنبي الذي زعم أنه أمير شعره: أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي فقال: ما قصر في مقابلة كل لفظة بضدها إلا أن فيه نقداً خفياً، ففكروا فيه، فلما فكروا وقالوا له: ما وقفنا على شيء، فقال: الليل لا يطابق إلا بالنهار لأن الليل كلي والصبح جزئي، فتعجب الحاضرون، وأثنوا على تدقيق انتقاده.

_ (1) أهديت لي؛ وقد مرت الأبيات في ج 3: 569.

قال الصفدي: قلت: ليس هذا بنقد صحيح، والصواب مع أبي الطيب، لأنه قال " أزورهم وسواد الليل يشفع لي " فهذا محب يزور أحبابه في سواد الليل خوفاً ممن يشي به، فإذا لاح الصبح أغرى به الوشاة، ودل عليه أهل النميمة، والصبح أول ما يغري به قبل النهار، وعادة الزائر المريب أن يزور ليلاً، وينصرف عند انفجار الصبح خوفاً من الرقباء، ولم تجر العادة أن الخائف يتلبث إلى أن يتوضح النهار، ويمتلئ الأفق نوراً، فذكر الصبح هنا أول من ذكر النهار، والله أعلم، انتهى. قلت: كان يختلج في صدري ضعف ما قال الصفدي، حتى وقفت على ما كتبه البدر البشتكي، ومن خطه نقلت ما صورته: هو ما انتقد عليه المعنى، إنما انتقد عليه مطابقة الليل بالصبح، فإن ذلك فاسد، انتهى، فحمدت الله على الموافقة، انتهلى. وقال في بدائع البدائه (1) : جلس المعتمد للشرب وذلك في وقت مطر أجرى كل وهدة نهراً، وحلى جيد كل غصن من الزهر جوهراً، وبين يديه جارية تسقيه وهي تقابل وجهها بنجم الكأس في راحة كالثريا، وتخجل الزهر بطيب العرف والريا، فاتفق أن لعب البرق بحسامه، وأجال سوطه المذهب يسوق به ركامه، فارتاعت لخطفته، وذعرت من خيفته، فقال المعتمد بديهاً: روعها البرق وفي كفها برق من القهوة لماع عجبت منها وهي شمس الضحى كيف من الأنوار ترتاع فاستدعى عبد الجليل بن وهبون المرسي، وأنشده البيت الأول مستجزياً، فقال عبد الجليل: ولن ترى أعجب من آنس من مثل ما يمسك يرتاع

_ (1) بدايع البدائه 1: 100 - 101؛ وانظر ص: 92 من هذا الجزء.

فاستحسنه، وأمر له بجائزة. قال ابن ظافر: وبيته عندي أحسن من بيت المعتمد، انتهى. وقال ابن بسام (1) : كان في قصر المعتمد فيل من الفضة على شاطئ بركة يقذف الماء، وهو الذي يقول فيه عبد الجليل بن وهبون من بعض قصيدة: ويفرغ فيه مثل النصل بدع من الأفيال لا يشكو ملالا رعى رطب اللجين فجاء صلباً تراه قلما يخشى هزالا فجلس المعتمد يوماً على تلك البركة والماء يجري من ذلك الفيل، وقد أوقدت شمعتان من جانبيه، والوزير أبو بكر ابن الملح عنده، فصنع الوزير فيهما عدة مقاطيع بديهاً منها: ومشعلين من الأضواء قد قرنا بالماء والماء بالدولاب منزوف لاحا لعيني كالنجمين، بينهما خط المجرة ممدود ومعطوف وقال أيضاً: كأنما النار فوق الشمعتين سناً والماء من نفذ الأنبوب منسكب غمامة تحت جنح الليل هامعة في جنبيها حفاف البرق يضطرب وقال أيضاً: وأنبوب ماء بين نارين ضمنا هوىً لكؤوس الراح تحت الغياهب كأن اندفاع الماء بالماء حية يحركها في الماء لمع الحباحب وقال أيضاً: كأن سراجي شربهم في التظائها وأنبوب ماء الفيل في سيلانه كريم تولى كبره من كليهما لئيمان في إنفاقه يعذلانه

_ (1) بدايع البدائه 2: 137.

676 - ابن زيدون عند بني عباد ولما مات والد المعتمد واستقل بالملك قال ذو الوزارتين ابن زيدون يرثي المعتضد ويمدح المعتمد بقصيدة طويلة أولها (1) : هو الدهر فاصبر للذي أحدث الدهر ... فمن شيم الأحرار (2) في مثلها الصبر ستصبر صبر اليأس أو صبر حسبة (3) ... فلا تؤثرالوجه الذي معه الوزر حذارك من أن يعقب الرزء فتنة يضيق بها عن مثل إيمانك العذر إذا آسف الذكل اللبيب فشفه ... رأى أفدح الثكلين أن يذهب (4) الأجر مصاب الذي يأسى بموت ثوابه هو البرح لا الميت الذي أحرز القبر حياة الورى نهج إلى الموت مهيع لهم فيه إيضاع كما يوضع السفر ومنها: إذا الموت أضحى قصد كل معمر فإن سواء طال أو قصر العمر ألم تر أن الدين ضيم ذماره فلم يغن أنصاره عديدهم دثر بحيث استقل الملك ثاني عطفه وجرر من أذياله العسكر المجر هو الضيم لو غير القضاء يرومه ثناه المرام الصعب والمسلك الوعر إذا عثرت جرد العناجيج في القنا بليل عجاج ليس يصدعه فجر ومنها: أعباد يا أوفى الملوك لقد عدا عليك زمان من سجيته الغدر إلى أن قال بعد أبيات كثيرة:

_ (1) ديوان ابن زيدون: 562. (2) الديوان: الأبرار. (3) في الأصول: وحشة. (4) الديوان: أن يهلك.

ألا أيها المولى الوصول عبيده لقد رابنا أن يتلو الصلة الهجر يغاديك داعينا السلام كعهده فما يسمع الداعي ولا يرفع الستر أعتب علينا ذاد عن ذلك الرضى ... فتسمع (1) أم بالسمع المعتلي وقر ومنها: وكيف بنسيان وقد ملأت يدي جسام أياد منك أيسرها الوفر وإن كنت لم أشكر لك المنن التي ... تمليتها تترى فأوبقني (2) الكفر فهل علم الشلو المقدس أنني مسوغ حال حار في كنهها الفكر وأن متاتي لم يضعه محمد خليفتك العدل الرضى وابنك البر هو الظافر الأعلى المؤيد بالذي له في الذي وافاه من صنعه سر له (3) في اختصاصي ما رأيت وزادني ... مزية زلفى من نتائجها الفخر وأرغم في بري أنوف عصابة لقاؤهم جهم ولحظهم شزر إذا ما استوى في الدست عاقد حبوة وقام سماطا حفله فلي الصدر وفي نفسه العلياء لي متبوأ ... يساجلني (4) فيه السماكان والنسر ومنها: لك الخير إن الرزء كان غيابة (5) ... طلعت لنا فيها كما طلع البدر فقرت عيون كان أسخنها البكا وقرت قلوب كان زلزلها الذعر ومنها: ولما قدمت الجيش بالأمر أشرقت إليك من الآمال آفاقها الغبر

_ (1) الديوان: فنعتب. (2) الأصول: فلا بقي؛ وهو خطأ. (3) الديوان: رأي. (4) الديوان: ينافسي. (5) في الأصول والديوان: غيابة - بالباء الموحدة -؛ والغاية: السحابة، وهو أنسب لذكر البدر.

فقضيت من فرض الصلاة لبانة ... فشيعها نسك وقارنها (1) طهر ومن قبل ما قدمت مثنى نوافل ... يلاقي بها من صام من عوز (2) فطر ورحت إلى القصر الذي غض طرفه ... بعيد التسامي أن غدا غيره قصر وأجمل عن الثاوي العزاء فإن ثوى فإنك لا الواني ولا الضرع الغمر وما أعطت السبعون قبل أولي الحجى من اللب ما أعطاك عشروك والعمر ألست الذي إن ضاق ذرع بحادث تبلج منه الوجه واتسع الصدر فلا تهض الدنيا جناحك بعده فمنك لمن هاضت نوائبها جبر ولا زلت موفور العديد بقرة لعينك مشدوداً بها ذلك الأزر فإنك شمس في سماء رياسة تطلع منهم حولنا أنجم زهر شككنا فلم نثبت: أأيام دهرنا بها وسن أم هز أعطافها سكر وما إن تغشتها مغازلة الكرى ... وما إن تمشت في معاطفها الخمر (3) سوى نشوات من سجايا مملك يصدق في عليائها الخبر الخبر أرى الدهر إن يبطش فأنت ينينه وإن تضحك الدنيا فأنت لها ثغر وكم سائل بالغيب عنك أجبته هناك الأيادي الشفع والسودد الوتر هناك التقى والعلم والحلم والنهى وبذل اللها والبأس والنظم والنثر همام إذا لاقى المناجز رده وإقباله خطر وإدباره حصر محاسن ما للروض سامره الندى رواء إذا نصت حلاها ولا نشر متى انتشقت لم تدر (4) دارين مسكها ... حياء ولم تفخر بعنبرها الشحر عطاء ولا من، وحكم ولا هوى وحلم ولا عجز، وعز ولا كبر قد استوفت النعماء فيك تمامها علينا فمنا الحمد لله والشكر

_ (1) الديوان: مشيعها ... وفارطها. (2) في الصول: غيره. (3) الديوان: في مفاصلها خمر. (4) الديوان: لم تطر.

وكتب ابن زيدون المذكور إلى المعتمد رحمهما الله تعالى يشوقه إلى تعاطي الحميا، في قصوره البديعة التي منها المبارك والثريا (1) : فز بالنجاح وأحرز الإقبالا وخذ المنى وتنجز الآمالا وليهنك التأييد والظفر اللذا صدقاك في السمة العلية فالا يا أيها الملك الذي لولاه لم تجد العقول الناشدات كمالا أما الثريا فالثريا نسبة وإفادة وإنافة وجمالا قد شاقها الإغباب حتى إنها لو تستطيع سرت إليك خيالا رفه ورودكها لتغنم راحة وأطل مزاركها لتنعم بالا وتأمل (2) القصر المبارك وجنة ... قد وسطت فيها الثريا خالا وأدر هناك من المدام كؤوسها ... وأتمها (3) وأشفها جريالا قصر يقر العين منه مصنع بهج الجوانب لو مشى لاختالا لا زلت تفترش السرور حدائقاً فيه وتلتحف النعيم ظلالا وأهدى إليه تفاحاً، واعتقد أن يكتب معه قطعة، فبدأ بها، ثم عرض له غيرها فتركها ثم ابتدأ (4) : دونك الراح جامده وفدت خير وافده وجدت سوق ذوبها عندك اليوم كاسده فاستحالت إلى الجمو د وجاءت مكايده وكتب إلى المعتمد (5) :

_ (1) ديوان ابن زيدون: 520. (2) الديوان: وتمثل. (3) الديوان: أنمها أرجاً زكا. (4) الديوان: 224. (5) الديوان: 616.

يا أيها الظافر نلت المنى ولا أتانا فيك محذور إن الخلال الزهر قد ضمها ثوب عليك الدهر مزرور لا زال للمجد الذي شدته ربع بتعميرك معمور وافاك نظم لي في طيه معنى معمى اللفظ مستور مرامه يصعب ما لم يبح بالسر قمري وشحرور وذكر أبياتاً فيها أسماء طيور عمى بها عن بيت طيره فيها، والبيت المطير فيه: أنت إن تغز ظافر فليطع من ينافر ففكه المعتمد وجاوبه (1) : يا خير من يلحظه ناظري ... شهادة ما شأنها (2) زور ومن إذا خطب دجا ليله لاح به من رأيه نور جاءتني الطير التي سرها نظم به قلبي مسرور شعر هو السحر فلا تنكروا أنني به ما عشت مسحور اللفظ والقرطاس إن شبها قيل هما مسك وكافور هوى لحسن الطير من فكرتي صقر فولى وهو مقهور ولاح لي بيت فؤادي له دأباً على ودك مقصور حظك من شكري يا سيدي ... حظ تمالا منك (3) موفور فصرت في نظمي فاعذر فمن ضاهاك في التقصير معذور فأنت إن تنظم وتنثر فقد أعوز منظوم ومنثور

_ (1) انظر ديوان ابن زيدون: 618. (2) الديوان: شابها. (3) الديوان: بما بدا لي منك.

لا يعدكم روض من الحظ في ال إكرام والترفيع ممطور فكتب إليه ابن زيدون (1) : حظي من نعماك موفور وذنب دهري بك مغفور وجانبي إن رامه أزمة (2) ... حجر لدى ظلك محجور يا ابن الذي سرب الهدى آمن منذ انبرى يحميه مخفور وآمر الدهر الذي لم يزل ... يصغي إليه منه مأمور ألبس منك الدهر (3) أسنى الحلى ... بظافر منحاه منصور يا مروري (4) المأثور يا من له ... مجد مع الأيام مأثور عبدك إن أكثر من شكره فهو بما توليه مكثور إن تعف عن تقصيره منعماً فاليسر أن يقبل معسور إن حلال السحر إن صغته في صحف الأنفس مسطور نظم زهاني منه إذ جاءني علق عظيم القدر مذخور لا غرو أن أفتن إذ لاحظت فكري منه أعين حور تنم عن معناه ألفاظه كما وشى بالراح بلور جهلت إذ عارضته غير أن لا بد أن ينفث مصدور يا آل عباد موالاتكم زاك من الأعمال مبرور إن الذي يرجو موازاتكم من المناوين لمغرور مكانه منكم كما انحط عن منزلة المرفوع مجرور لا زلتم في غبطة ما انجلى عن فلق الإصباح ديجور

_ (1) ديوانه: 620. (2) الديوان: إن زمني رامه. (3) الديوان: الملك. (4) في الصول: قام وفي؛ والمأثور: السيف.

ولا يزال يجري بما شئتم أعماركم لله مقدور وكتب المعتمد إلى ابن زيدون بعد أن فك معمى كتب به إليه ابن زيدون ما صورته (1) : العين بعدك تقذى بكل شيء تراه فليجل شخصك عنها ما بالمغيب جناه وقد قدمنا من كلام أبي الوليد ابن زيدون رحمه الله تعالى ما فيه كفاية. رجع إلى بني عباد قال ابن حمديس (2) : لما قدمت وافداً على المعتمد بن عباد استدعاني وقال: افتح الطاق، فإذا بكير زجاج والنار تلوح من بابيه، وواقده يفتحهما تارة ويسدهما أخرى، ثم أدام سد أجدهما، وفتح آخر، فحين تأملتهما قال لي: أجز: انظرهما في الظلام قد نجما فقلت: كما رنا في الدجنة الأسد فقال: يفتح عينيه ثم يطبقها فقلت: فعل امرىء في جفونه رمد

_ (1) ديوان ابن زيدون: 214. (2) انظر هذا الخبر ومقطعات ابن حمديس في ديوانه: 8، 533، 543، والخبر في النفح 3: 616 - 617.

فقال: فابتزه الدهر نور واحدة فقلت: وهل نجا من صروفه أحد فاستحسن ذلك وأطربه، وأمر لي بجائزة، وألزمني الخدمة. 677 - مقطعات لابن حمديس وعلى ذكر ابن حمديس فما أحسن قوله: أراك ركبت في الأهوال بحراً عظيماً ليس يؤمن من خطوبه تسير فلكه شرقاً وغرباً وتدفع من صباه إلى جنوبه وأصعب من ركوب البحر عندي أمور ألجأتك إلى ركوبه ولغيره: إن ابن آدم طين والبحر ماء يذيبه لولا الذي فيه يتلى ما جاز عندي ركوبه وقال ابن حمديس في هذا المعنى: لا أركب البحر، أخشى علي منه المعاطب طين أنا وهو ماء والطين في الماء ذائب رجع إلى بني عباد رحمهم الله تعالى قال ابن بسام (1) : أخبرني الحكيم النديم المطرب أبو بكر ابن الإشبيلي، قال: حضرت مجلس الرشيد بن المعتمد بن عباد وعنده الوزير أبو بكر ابن عمار،

_ (1) بدائع البدائه: 129.

فلما دارت الكأس، وتمكن الأنس، وغنيت أصواتاً ذهب الطرب بابن عمار كل مذهب، فارتجل يخاطب الرشيد: ما ضر أن قيل إسحاق وموصله ها أنت أنت وذي حمص وإسحاق أنت الرشيد فدع من قد سمعت به وإن تشابه أخلاق وأعراق لله درك داركها مشعشعة واحضر بساقيك ما قامت بنا ساق وكان الرشيد هذا أحد أولاد المعتمد النجبا، وله أخبار في الكرم يقضي الناظر فيها من أمرها عجبا، وكذلك إخوته، وقد ألمعنا في هذا الكتاب بجملة من محاسنهم، وأمهم اعتماد الملقبة بالرميكية هي التي ترجمناها في هذا الموضع، واقتضت المناسبة ذكر أمر بني عباد، فلنعد إلى ما كنا بصدده من أخبارها رحمها الله تعالى، فنقول: رجع إلى ذكر الرميكية قال ابن سعيد في بعض مصنفاته: كان المعتمد كثيراً ما يأنس بها، ويستظرف نوادرها، ولم تكن لها معرفة بالغناء، وإنما كانت مليحة الوجه، حسنة الحديث، حلوة النادر، كثيرة الفكاهة، لها في كل ذلك نوادر محكية، وكانت في عصرها ولادة بنت محمد بن عبد الرحمن، وهي أبدع منها ملحاً، وأحسن افتناناً، وأجل منصباً، وكان أبوها أمير قرطبة، ويلقب بالمستكفي بالله، وأخبار أبي الوليد ابن زيدون معها وأشعاره فيها مشهورة، انتهى ملخصاً. ومن أخبار الرميكية القصة المشهورة في قولها " ولا يوم الطين " وذلك أنها رأت الناس يمشون في الطين، فاشتهت المشي في الطين، فأمر المعتمد، فسحقت أشياء من الطيب، وذرت في ساحة القصر حتى عمته، ثم نصبت الغرابيل، وصب فيها ماء الورد على أخلاط الطيب، وعجنت بالأيدي حتى عادت كالطين

وخاضتها مع جواريها. وغاضبها في بعض الأيام، فأقسمت أنها لم تر منه خيراً قط، فقال: ولا يوم الطين فاستحيت واعتذرت، وهذا مصداق نبينا صلى الله عليه وسلم في حق النساء " لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط ". قلت: ولعل المعتمد أشار في أبياته الرائية إلى هذه القضية حيث قال في بناته: يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا وحتمل أن يكون أشار بذلك إلى ما جرت به عادة الملوك من ذر الطيب في قصورهم حتى يطؤوه بأقدامهم، زيادة في التنعم. وسبب قول المعتمد ذلك ما حكاه الفتح فقال (1) : وأول عيد أخذه - يعني المعتمد - بأغمات وهو سارح، وما غير الشجون له مبارح (2) ، ولا زي إلا حالة الخمول، واستحالة المأمول، فدخل عليه من بنيه، من يسلم عليه ويهنيه (3) ، وفيهم بناته وعليهن أطمار، كأنها كسوف وهن أقمار، يبكين عند التساؤل، ويبدين الخشوع بعد التخايل، والضياع قد غير صورهن، وحير نظرهن، وأقدامهن حافية، وآثار نعيمهن عافية، فقال (4) : فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فساءك العيد في أغمات مأسورا ترى بناتك في الأطمار جائعة يغزلن للناس ما يملكن قطميرا برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا

_ (1) القلائد: 25. (2) كذا في ق م؛ وفي القلائد: مسارح. (3) في الصول اضطراب، واثبتنا ما في القلائد. (4) لم تورد نسخة م هذه القصيدة، لأنها من قبل (الورقة: 232) وأثبتت في موضعها: " وقد سبقت هذه الأبيات ".

يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا لا خد إلا تشكى الجدب ظاهره وليس مع الأنفاس ممطورا أفطرت في العيد لا عادت مساءته فكان فطرك للأكباد تفطيرا قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً فردك الدهر منهياً ومأمورا من بات بعدك في ملك يسر به فإنما بات بالأحلام مغرورا 678 - عود إلى أخبار المعتمد وقال الفتح أيضاً (1) : ولما نقل المعتمد من بلاده، وأعري من طارفه وتلاده، وحمل في السفين، وأحل في العدوة محل الدفين، تندبه منابره وأعواده، ولا يدنو منه زواره ولا عواده، بقي أسفاً تتصعد زفراته، وتطرد اطراد المذانب عبراته، لا يخلو بمؤانس، ولا يرى إلا عريناً بدلاً من تلك المكانس، ولما لم يجد سلواً، ولم يؤمل دنواً، ولم ير وجه مسرة مجلواً، تذكر منازله فشاقته، وتصور بهجتها فراقته، وتخيل استيحاش أوطانه، وإجهاش قصره إلى قطانه، وإظلام جوه من أقماره، وخلوه من حراسه وسماره، فقال: بكى المبارك في إثر ابن عباد بكى على إثر غزلان وآساد بكت ثرياه لا غمت كواكبها بمثل نوء الثريا الرائح الغادي بكى الوحيد، بكى الزاهي وقبته والنهر والتاج، كل ذله بادي ماء السماء على أفيائه درر يا لجة البحر دومي ذات إزباد وفي ذلك يقول ابن اللبانة (2) : أستودع الله أرضاً عندما وضحت بشائر الصبح فيها بدلت حلكا

_ (1) القلائد: 3. (2) أوجزت " م " هنا، لورود الأبيات قبلاً.

كان المؤيد بستاناً بساحتها يجني النعيم وفي عليائها فلكا في أمره لملوك الدهر معتبر فليس يغتر ذو ملك بما ملكا نبكيه من جبل خرت قواعده فكل من كان في بطحائه هلكا وكان القصر الزاهي (1) من أجمل المواضع لديه وأبهاها، وأحبها إليه وأشهاها، لإطلاله على النهر، وإشرافه على القصر، وجماله في العيون، واشتماله بالزهر (2) والزيتون، وكان له به من الطرب، والعيش المزري بحلاوة الضرب، ما لم يكن بحلب لبني حمدان، ولا لسيف بن ذي يزن في رأس غمدان، وكان كثيراً ما يدير به راحه، ويجعل فيه انشراحه، فلما امتد الزمان إليه بعدوانه، وسد عليه أبواب سلوانه، لم يحن إلا إليه، ولم يتمن غير الحلول لديه، فقال (3) : غريب بأرض المغربين أسير سيبكي عليه منبر وسرير وتندبه البيض الصوارم والقنا وينهل دمع بينهن غزير مضى زمن والملك مستأنس به وأصبح منه اليوم وهو نفور برأي من الدهر المضلل فاسد متى صلحت للصالحين دهور أذل بني ماء السماء زمانهم وذل بني ماء السماء كبير فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة أمامي وخلفي روضة وغدير بمنبتة الزيتون مورثة العلا تغني حمام أو ترن طيور بزاهرها السامي الذي جاده الحيا تشير الثريا نحونا ونشير ويلحظنا الزاهي وسعد سعوده غيورين والصب المحب غيور تراه عسيراً لا يسيراً مناله ألا كل ما شاء الإله يسير وقال الحجاري في " المسهب ": إن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين أهدى

_ (1) القلائد: الحصن الزاهر. (2) القلائد: بالشجر. (3) اختصرت " م " إيراد هذه القصيدة لأن هذه الأبيات تقدمت.

إلى المعتمد جارية مغنية قد نشأت بالعدوة، وأهل العدوة بالطبع يكرهون أهل الأندلس، وجاء بها إلى إشبيلية وقد كثر الإرجاف بأن سلطان الملثمين ينتزع بلاد ملوك الطوائف منهم، واشتغل خاطر ابن عباد بالفكر في ذلك، فخرج بها إلى قصر الزاهر على نهر إشبيلية، وقعد على الراح، فخطر بفكرها أن غنت عندما انتشى هذه الأبيات: حملوا قلوب الأسد بين ضلوعهم ولووا عمائمهم على الأقمار وتقلدوا يوم الوغى هندية أمضى إذا انتضيت من الأقدار إن خوفوك لقيت كل كريهة أو أمنوك حللت دار قرار فوقعفي قلبه أنها عرضت بساداتها، فلم يملك غضبه، ورمى بها في النهر، فهلكت، انتهى، فقدر الله تعالى أن كان تمزيق ملكه على يدهم تصديقاً للجارية في قولها: إن خوفوك لقيت كل كريهة وحصره جيوش لمتونة الملثمين حتى أخذوه قهراً، وسيق إلى أمير المسلمين، والقصة مشهورة. وقال الفتح في شأن حصار المعتمد ما صورته (1) : ولما تم في الملك أمده، وأراد الله أن تخر عمده، وتنقرض أيامه، وتتقوض عن عراص الملك خيامه، نازلته جيوش أمير المسلمين ومحلاته، وظاهرته فساطيطه ومظلاته، بعدما نثرت حصونه وقلاعه، وسعرت بالنكاية جوانحه وأضلاعه، وأخذت عليه الفروج والمضايق، وثنت إليه الموانع والعوايق، وطرقته بطوارقها بالإضرار، وأمطرته من النكاية كل ديمة مدرار، وهو ساه بروض ونسيم، لاه براح

_ (1) القلائد: 21.

ومحيا وسيم، زاه بفتاة تنادمه، ناه عن هدم أنس هو هادمه، لا يصيخ إلى نبأة سمعه، ولا ينيخ إلا على لهو يفرق جموعه جمعه، وقد ولى المدامة ملامه، وثنى إلى ركنها طوافه واستلامه، وتلك الجيوش تجوس خلاله، وتقلص ظلاله، وحين اشتد حصاره، وعجز عن المدافعة أنصاره، ودلس عليه ولاته، وكثرت أدواؤه وعلاته، فتح باب الفرج، وقد لفح شواظ الهرج، فدخلت عليه من المرابطين زمرة، واشتعلت من التغلب جمرة، تأجج اضطرامها، وسهل بها إيقاد الفتنة (1) وإضرامها، وعندما سقط الخبر عليه خرج حاسراًمن مفاضته، جامحاً كالمهر قبل رياضته، فلحق أوائلهم عند الباب المذكور وقد انتشروا في جنباته، وظهروا على البلد من أكثر جهاته، وسيفه في يده يتملظ للطلى والهام، ويعد بانفراج ذلك الاستبهام، فرماه أحد الداخلين برمح تخطاه، وجاوز مطاه، فبادره بضربة أذهبت نفسه، وأغربت شمسه، ولقي ثانياً فضربه وقسمه، وخاض حشا ذلك الداء وحسمه، فأجلوا عنه، وولوا فراراً منه، فأمر بالبا فسد، وبني منه ما هد، ثم انصرف وقد أراح نفسه وشفاها، وأبعد الله تعالى عنه الملامة ونفاها، وفي ذلك يقول عندما خلع، وأودع من المكروه ما أودع: إن يسلب القوم العدى ملكي وتسلمني الجموع فالقلب بين ضلوعه لم تسلم القلب الضلوع قد رمت يوم نزالهم أن لا تحصنني الدروع وبرزت ليس سوى القمي ص على الحشا شيء دفوع أجلي تأخر لم يكن بهوادي ذلي والخضوع ما سرت قط إلى القتا ل وكان من أملي الرجوع شيم الألى أنا منهم والأصل تتبعه الفروع

_ (1) القلائد: البقية.

وما زالت عقارب تلك الداخلة تدب، ثو ذكر الفتح تمام هذا الكلام فراجعه فيما مر بنحو ثلاث ورقات. ومن حكايات مجالس أنسه أيام ملكه، قبل أن ينظمه صرف الدهر في سلكه، ما حكاه الفتح (1) عن ذخر الدولة أنه دخل عليه في دار المزينية (2) والزهر يحسد إشراق مجلسه، والدر يحكي اتساق تأنسه، وقد رددت الطير شدوها، وجودت (3) طربها ولهوها، وجددت كلفها وشجوها، والغصون قد التحفت بسندسها، والأزهار تحيي بطيب تنفسها، والنسيم يلم بها فتضعه بين أجفانها، وتودعه أحاديث آذارها ونيسانها، وبين يديه فتى من فتيانه يتثنى تثني القضيب، ويحمل الكأس في راحة أبهى من الكف الخضيب، وقد توشح وكأن الثريا وشاحه، وأنار فكأن الصبح من محياه كان اتضاحه، فكلما ناوله الكأس خامرته سوره، وتخيل أن الشمس تهديه نوره، فقال المعتمد: لله ساف مهفهف غنج قد قام يسقي فجاء بالعجب أهدى لنا من لطيف حكمته في جامد الماء ذائب الذهب ولما وصل لورقة استدعى ذا الوزارتين القائد أبا الحسن ابن اليسع ليلته تلك في وقت لم يخف فيه زائر من مراقب، ولم يبد فيه غير نجم ثاقب، فوصل وما للأمن إلى فؤاده وصول، وهو يتخيل أن الجو صوارم ونصول، بعد أن وصى بما خلف، وودع من تخلف، فلما مثل بين يديه آنسه، وأزال توجسه، وقال له: خرجت من إشبيلية وفي النفس غرام طويته بين ضلوعي، وكففت فيه غرب دموعي، بفتاة هي الشمس أو كالشمس إخالها، لا يجول قلبها ولا خلخالها، وقد قلت في يوم وداعها، عند تفطر كبدي وانصداعها:

_ (1) القلائد: 9. (2) ق م: المرينية؛ القلائد: المزنية. (3) ق: وجردت؛ وفي القلائد: وقد رددت الطير شجوها، وجددت طربها وشجوها.

ولما التقينا للوداع غدية وقد خفقت في ساحة القصر رايات بكينا دماً حتى كأن عيوننا لجري الدموع الحمر منها جراحات وقد زارتني هذه الليلة في مضجعي، وأبرأتني من توجعي، ومكنتني من رضابها، وفتنتني بلالها وخضابها، فقلت: أباح لطيفي طيفها الخد والنهدا فعض بها تفاحة واجتنى وردا ولو قدرت زارت على حال يقظة ولكن حجاب البين ما بيننا مدا أما وجدت عنا الشجون معرجاً ولا وجدت منا خطوب النوى بدا سقى الله صوب القطر أم عبيدة كما قد سقت قلبي على حره بردا هي الظبي جيداً، والغزالة مقلة، وروض الربى عرفاً، وغصن النقا قدا فكرر استجادته، وأكثر استعادته، فأمر له بخمسمائة دينار وولاه لورقة من حينه. قال الفتح (1) : وأخبرني ابن اللبانة أنه استدعاه ليلة إلى مجلس قد كساه الروض وشيه، وامتثل الدهر فيه أمره ونهيه، فسقاه الساقي وحياه، وسف له الأنس عن مونق محياه، فقام للمعتمد مادحاً، وعلى دوحة تلك النعماء صادحاً، فاستجاد قوله، ةأفاض عليه طوله، فصدر وقد امتلأت يداه، وغمره جوده ونداه، فلما حل بمنزلة وافاه رسوله بقطيع وكأس من بلار، قد أترعا بصرف العقار، ومعهما: جاءتك ليلاً في ثياب نهار من نورها وغلالة البلار كالمشتري قد لف من مريخه إذ لفه في الماء جذوة نار لطف الجمود لذا وذا فتألفا لم يلق ضد ضده بنفار

_ (1) القلائد: 6.

يتحير الراءون في نعتيهما أصفاه ماء أم صفاء دراري وقال الفتح أيضاً (1) : وأخبرني ذخر الدولة أنه استدعاه في ليلة قد ألبسها البدر رواءه، وأوقد فيها أضواءه، وهو على البحيرة الكبرى، والنجوم قد انعكست فيها تخالها زهرا، وقابلتها المجرة فسالت فيها نهرا، وقد أرجت نوافج الند، وماست معاطف الرند، وحسد النسيم الروض فوشى بأسراره، وأفشى حديث آسه وعراره، ومشى مختالاً بين لبات النور وأزراره، وهو وجم، ودمعه منسجم، وزفراته تترجم عن غرامه، وتجمجم عن تعذر مرامه، فلما نظر إليه استدناه وقربه، وشكا إليه من الهجران ما استغربه، وأنشده: أيا نفس لا تجزعي واصبري وإلا فإن الهوى متلف حبيب جفاك، وقلب عصاك ولاح لحاك، ولا منصف شجون منعن الجفون الكرى وعوضنها أدمعاً تنزف فانصرف ولم يعلمه بقصته، ولا كشف له عن غصته، انتهى. وقال الفتح أيضاً (2) : أخبرني ذخر الدولة بن المعتضد أنه دخل عليه في ليلة فد ثنى السرور منامها، وامتطى الحبور غاربها وسنامها، وراع الأنس فؤادها، وستر بياض الأماني سوادها، وغازل نسيم الروض زوارها وعوادها، ونور السرج قد قلص أذيالها، ومحا من لجين الأرض نيالها، والمجلس مكتس بالمعالي، وصوت المثاني والمثالث عالي، والبدر قد كمل، والتحف بضوئه القصر واشتمل، وتزين بسناه وتجمل، فقال المعتمد: ولقد شربت الراح يسطع نورها والليل قد مد الظلام رداء

_ (1) القلائد: 8. (2) القلائد: 6.

حتى تبدى البدر في جوزائه ملكاً تناهى بهجة وبهاء وتناهضت زهر النجوم يحفه لألاؤها فاستكمل اللألاء لما أراد تنزهاً في غربه جعل المظلة فوقه الجوزاء وترى الكواكب كالمواكب حوله رفعت ثرياها عليه لواء وحكيته في الأرض بين كواكب وكواعب جمعت سنا وسناء إن نشرت تلك الدروع حنادساً ملأت لنا هذي الكؤوس ضياء وإذا تغنت هذه في مزهر لم تأل تلك على التريك غناء وأخبرني ابن إقبال الدولة [بن مجاهد] (1) أنه كان عنده في يوم نشر من غيمة رداء ند، وأسكب من قطره ماء ورد، وأبدى من برقه لسان نار، وأظهر من قوس قزحه حنايا آس (2) حفت بنرجس وجلنار، والروض قد بعث رياه، وبث الشكر لسقياه، فكتب إلى الطبيب الأديب أبي محمد المصري: يا أيها الصاحب الذي فارقت عي ني ونفسي منه السنا والسناء نحن في المجلس الذي يهب الرا حة والمسمع الغنى والغناء نتعاطى التي تنسي من الرق ة واللذة الهوى والهواء فأته تلف راحة ومحيا قد أعدا لك الحيا والحياء فوافاه وألفى مجلسه وقد أتلعت فيه أباريقه أجيادها، وأقامت فيه خيل السرور طرادها، وأعطته الأماني انطباعها وانقيادها، وأهدت الدنيا ليومه مواسمها وأعيادها، وخلعت عليه الشمس شعاعها، ونشرت فيه الحدائق إيناعها، فأديرت الراح، وتعوطيت الأقداح، وخامر النفوس الابتهاج والارتياح، وأظهر المعتمد من إيناسه، ما استرق به نفوس جلاسه، ثم دعا

_ (1) زيادة من القلائد. (2) الأصول: خبايا آس.

بكبير، فشربه كالشمس غربت في ثبير، وعندما تناولها، قام المصري أبياتاً تمثلها (1) : اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً بشاذمهر ودع غمدان لليمن فأنت أولى بتاج الملك تلبسه من هوذة بن علي وابن ذي يزن فطرب حتى زحف عن مجلسه، وأسرف في تأنسه، وأمر فخلعت عليه خلع لا تصلح إلا للخلفاء، وأدناه حتى أجلسه مجلس الأكفاء، وأمر له بدنانير عدداً، وملأ بالمواهب يداً. وله في غلام (2) رآه يوم العروبة من ثنيات الوغى طالعاً، ولطلى الأبطال قارعاً، وفي الدماء والغاً، ولمستبشع كؤوس المنايا سائغاً، وهو ظبي قد فارق كناسه، وعاد أسداً صارت القنا أخياسه، ومتكاثف العجاج قد مزقه إشراقه، وقلوب الدارعين قد شكتها أحداقه، فقال: أبصرت طرفك بين مشتجر القنا فبدا لطرفي أنه فلك أوليس وجهك فوقه قمراً يجلى بنير نوره الحلك وقال فيه: ولما اقتحمت الوغى دارعاً وقنعت وجهك بالمغفر حسبنا محياك شمس الضحى عليها سحاب من العنبر وقد جمع بنا القلم في ترجمة المعتمد بن عباد بعض جموح، وما ذلك إلا لما علمنا أن نفوس الأدباء إلى أخباره رحمه الله تعالى شديدة الطموح، وقد جعل الله تعالى له كما ابن الأبار في " الحلة السيراء " رقة في القلوب وخصوصاً

_ (1) نسب المبرد البيتين لشاعر من أهل الري يكنى ابا يزيد أنشدهما عبد الله بن طاهر الكامل (2: 24) . (2) القلائد: 8.

بالمغرب فإن أخباره وأخبار الرميكية إلى الآن متداولة بينهم، وإن فيها لأعظم عبرة، رحم الله تعالى الجميع. رجع إلى أخبار النساء 11 - ومنهن العبادية جارية المعتضد عباد (1) ، والد المعتمد، أهداها إليه مجاهد العامري من دانية، وكانت أديبة، ظريفة، كاتبة، شاعرة، ذاكرة لكثير من اللغة، قال ابن عليم في شرحه لأدب الكتاب لابن قتيبية، وذكر الموسعة وهي خشبة بين حمالين يجعل كل واحد منهما طرفها على عنقه، ما صورته: وبذكر الموسوعة أغربت جارية لمجاهد أهداها إلى عباد كاتبة شاعرة على علماء إشبيلية وبالهزمة (2) التي تظهر في أذقان بعض الأحداث، وتعتري بعضهم في الخدين عند الضحك، فأما التي في القن فهي النونة، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه: دسموا (3) نونته لتدفع العين، وأما التي في الخدين عند الضحك فهي الفحصة، فما كان في ذلك الوقت في إشبيلية من عرف منها واحدة0 وسهر عباد ليلة لأمر حزبه وهي نائمة، فقال: تنام ومدنفها يسهر وتصبر عنه ولا يصبر فأجابته بديهة بقولها: لئن دام هذا وهذا له ... سيهلك وجداً ولا يشعر (4) ويكفيك هذا شاهداً على فضلها يرحمها الله تعالى وسامحها (5) .

_ (1) ترجمتها في الذيل والتكملة (آخر جزء الغرباء) ، وما أثبته المقري منقول بنصه عنه. (2) هكذا في الذيل، وفي ق: وبالفرجة. (3) م: وسموا؛ وهي بالدال في الذيل وفوقها علامة " صح ". (4) الذيل: ولا يصبر. (5) وسامحها: زيادة من ق.

12 - ومنهن: بثينة بنت المعتمد بن عباد، وأمها الرميكية السابقة الذكر، وكانت بثينة هذه نحواً من أمها في الجمال والنادرة ونظم الشعر، ولما أحيط بأبيها ووقع النهب في قصره كانت من جملة من سبي، ولم يزل المعتمد والرميكية عليها في وله دائم لايعلمان ما آل إليه أمرها إلى أن كتبت إليهما بالشعر المشهور المتداول بين الناس بالمغرب، وكان أحد تجار إشبيلية اشتراها على أنها جارية سرية ووهبها لابنه، فنظر من شأنها وهيئت له، فلما أراد الدخول عليها امتنعت، وأظهرت نسبها، وقالت: لا أحل لك إلا بعقد نكاح إن رضي أبي بذلك الذي، وأشارت عليهم بتوجيه كتاب من قبلها لأبيها، وانتظار جوابه، فكان الذي كتبته بخطها من نظمها ما صورته: اسمع كلامي واستمع لمقالتي فهي السلوك بدت من الأجياد لا تنكروا أني سبيت وأنني بنت لملك من بني عباد ملك عظيم قد تولى عصره وكذا الزمان يؤول للإفساد لما أراد الله فرقة شملنا وأذاقنا طعم الأسى عن زاد قام النفاق على أبي في ملكه فدنا الفراق ولم يكن بمراد فخرجت هاربة فحازني امرؤ ... لم يأت في إعجاله (1) بسداد إذ باعني بيع العبيد فضمني من صانني إلا من الانكاد وأرادني لنكاح نجل طاهر حسن الخلائق من بني الأنجاد ومضى إليك يسوم رأيك في الرضى ولأنت تنظر في طريق رشادي فعساك يا أبتي تعرفني به إن كان ممن يرتجى لداد وعسى رميكية الملوك بفضلها تدعو لنا باليمن والإسعاد فلما وصل شعرها لأبيها وهو بأغمات، واقع في شراك الكروب

_ (1) دوزي: أفعاله.

والأزمات، سر هو وأمها بحياتها، ورأيا أن ذلك للنفس من أحسن أمنياتها، إذ علما مآل أمرها، وجبرها كسرها، إذ ذلك أخف الضررين، وإن كان الكرب قد ستر القلب منه حجاب رين، وأشهد على نفسه بعقد نكاحها من الصبي المذكور، وكتب إليها أثناء كتابه مما يدل على حسن صبره المشكور: بنيتي كوني به برة فقد قضى الوقت بأسعافه وأخبار المعتمد بن عباد، تذيب الأ كباد، فلنرجع إلى ذكر نساء الأندلس فنقول: 13 - ومنهن حفصة بنت حمدون (1) ، من وادي الحجارة، ذكرها في " المغرب " وقال: إنها من أهل المائة الرابعة، ومن شعرها: رأى ابن جميل أن يرى الدهر مجمل فكل الورى قد عمهم سيب نعمته له خلق كالخمر بعد امتزاجها وحسن فما أحلاه من حين خلقته بوجه كمثل الشمس يدعو ببشره ... عيوناً ويعشيها بإفراط (2) هيبته ولها: لي حبيب لا ينثني لعتاب وإذا ما تركته زاد تيها قال لي هل رأيت لي من شبيه قلت أيضاً وهل ترى لي شبيها ولها تذم عبيدها: يا رب إني من عبيد على جمر الغضا، ما فيهم من نجيب إما جهول أبله متعب أو فطن من كيده لا يجيب

_ (1) ترجمة حفصة بنت حمدون في الذيل والتكملة والسيوطي: 46 والمغرب 2: 37. (2) م: بإطراق.

وقال ابن الأبار: إنها كانت أديبة عالمة شاعرة، وذكرها ابن فرج صاحب " الحدائق " وأنشد لها أشعاراًمنها قولها: يا وحشتي لأحبتي يا وحشة متماديه يا ليلة ودعتهم يا ليلة هي ما هيه 14 - ومنهن زينب المرية (1) ، كانت أديبة شاعرة، وهي القائلة: يا أيها الراكب الغادي لطيته عرج أنبئك عن بعض الذي أجد ما عالج الناس من وجد تضمنهم ووده آخر الأيام أجتهد 15 - ومنهن غاية المنى (2) ، وهي جارية أندلسية متأدبة، قدمت إلى المعتصم بن صمادح، فأراد أختبارها فقال لها: مااسمك فقالت: غاية المنى، فقال لها: أجيزي: اسألوا غاية المنى فقالت: من كسا جسمي الضنى وأراني مولهاً سيقول الهوى أنا هكذا أورد السالمي هذه الحكاية في تاريخه. قال ابن الأبار: وقرأت بخط الثقة حاكياً عن القاضي أبي القاسم ابن حبيش قال: سيقت لابن صمادح جارية نبيلة تقول الشعر وتحسن المحاضرة، فقال:

_ (1) سقطت هذه الترجمة من نسخة " م "؛ وترجمة زينب المرية في الذيل والتكملة. (2) ترجمة غاية المنى في الذيل والتكملة وفيه ما أورده المقري.

تحمل إلى الأستاذ ابن الفراء الخطيب ليختبرها، وكان كفيفاً، فلما وصلته قال: ما اسمك فقالت: غاية المنى، فقال: أجيزي: سل هوى غاية المنى من كسا جسمي الضنى فقالت تجيزه: وأراني متيماً سيقول الهوى أنا حكى ذلك لابن صمادح، فاشتراها، انتهى. 6 - ومنهن حمدة، ويقال حمدونة بنت زيادة المؤدب (1) من وادي آش، وهي خنساء المغرب، وشاعرة الأندلس، ذكرها الملاحي وغيره، وممن روى عنها أبو القاسم ابن البراق. ومن عجيب شعرها قولها: ولما أبى الواشون إلا فراقنا وما لهم عندي وعندك من ثار وشنوا على أسماعنا كل غارة وقل حماتي عند ذاك وأنصاري غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ومن نفسي بالسيف والسيل والنار وبعض يزعم أن هذه الأبيات لمهجة بنت عبد الرزاق الغرناطية، وكونهت لحمدة أشهر، والله سبحانه وتعالى أعلم. وخرجت حمدة مرة للوادي مع صبية، فلما نضت عنها ثيابها وعامت قالت:

_ (1) ترجمة أحمد (أو حمدونة) بنت زياد في التكملة (رقم: 2120) والإحاطة 2: 498 وتحفة القادم: 162، المطرب: 11 والسيوطي: 48 والذيل والتكملة، وابوها هو زياد بن بقي العوفي، وهي أخت زينب.

أباح الدمع أسراري بوادي له للحسن آثار بوادي فمن نهر يطوف بكل روض ومن روض يرف بكل وادي ومن بين الظباء مهاة إنس لها لبي وقد ملكت فؤادي لها لحظ ترقده لأمر وذاك الأمر يمنعني رقادي إذا سدلت ذوائبها عليها ... رأيت البدر في جنح الدآدي (1) كأن الصبح مات له شقيق فمن حزن تسربل بالحداد وقال ابن البراق في سوق هذه الحكاية: أنشدتنا حمدة العوفية لنفسها، وقد خرجت متنزهة بالرملة من نواحي وادي آش فرأت ذات وجه وسيم أعجبها، فقالت - وبين الروايتين خلاف - أباح الدمع، إلى آخره، ونسب بعضهم إلى حمدة هذه الأبيات الشهيرة بهذه البلاد المشرقة، وهي: وقانا لفحة الرمضاء واد سقاه مضاعف الغيث العميم حللنا دوحه فحنا علينا حنو المرضعات على الفطيم وأرشفنا على ظمإ زلالاً ألذ من المدامة للنديم يصد الشمس أنى واجهتنا فيحجبها ويأذن للنسيم يروع حصاه حالية العذارى فتلمس جانب العقد النظيم وممن جزم بذلك الرعيني، وقال: إن مؤرخي بلادنا نسبوها لحمدة من قبل أن يوجد المنازي الذي ينسبها له أهل المشرق، وقد رأيت أن أذكر كلامه برمته ونصه: كانت من ذوي الألباب، وفحول أهل الآداب، حتى إن بعض المنتحلين تعلق بهذه الأهداب، وادعى نظم هذين البيتين - يعني: ولما أبى الواشون، إلى آخره - لما فيهما من المعاني والألفاظ العذاب، وما غره في ذلك

_ (1) في الأصول: أفق السودا؛ واخترنا رواية ابن عبد الملك؛ والدآدي: ثلاث ليال من آخر الشهر؛ وفي المطرب: رأيت الصبح أشرق في الدآدي.

إلا بعد دارها، وخلو هذه البلاد المشرقية من أخبارها، وقد تلبس بعضهم أيضاً بشعارها، وادعى غير هذا من أشعارها، وهو قولها: وقانا لفحة الرمضاء واد، إلى آخره، وإن هذه الأبيات نسبها أهل البلاد للمنازي من شعرائهم، وركبوا التعصب في جادة ادعائهم، وهي أبيات لم يخلبها غير لسانها، ولا رقم برديها غير إحسانها، ولقد رأيت المؤرخين من أهل بلادنا وهي الأندلس أثبتوها لها قبل أن يخرج المنازي من العدم إلى الوجود، ويتصف بلفظة الموجود، انتهى. وهو أبو جعفر الأندلسي الغرناطي، نزيل حلب. وحكى ابن العديم في تاريخ حلب ما نصه: وبلغني أن المنازي عمل هذه الأبيات ليعرضها على أبي العلاء المعري، فلما وصل إليه أنشده الأبيات، فجعل المنازي كلما أنشد المصراع الأول من كل بيت سبقه أبو العلاء إلى المصراع الثاني الذي هو تمام البيت كما نظمه، ولما أنشده قوله: نزلنا دوحة فحنا علينا قال أبو العلاء: حنو الوالدات على الفطيم فقال المنازي: إنما قلت " على اليتيم " فقال أبو العلاء: الفطيم أحسن، انتهى. وهذا يدل على أن الرواية عنده " حنو الوالدات " وقد تقدم المرضعات، والله تعالى أعلم. وقال ابن سعيد: يقال لنساء غرناطة المشهورات بالحسب والجلالة " العربيات " لمحافظتهن على المعاني العربية، ومن أشهرهن زينب بنت زياد الوادي آشي، وأختها حمدة، وحمدة هي القائلة وقد خرجت إلى نهر منقسم الجداول بين الرياض مع نسائها فسبحن في الماء وتلاعبن:

أباح الدمع أسراري بوادي الأبيات، انتهى. 17 - ومنهن عائشة بنت أحمد القرطبية (1) . قال ابن حيان في " المقتبس " لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعدلها علماً وفهماً وأدباً وشعراً وفصاحة، تمدح ملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرض لها من حاجة، وكانت حسنة الخط، تكتب المصاحف، وماتت عذراء لم تنكح سنة أربعمائة. وقال في " المغرب ": إنها من عجائب زمانها، وغرائب أوانها، وأبو عبد الله الطبيب عمها، ولو قيل " إنها أشعر منه " لجاز، ودخلت على المظفر ابن المنصور بن أبي عامر وبين يديه ولد، فارتجلت: أراك الله فيه ما تريد ولا برحت معاليه تزيد فقد دلت مخايله على ما تؤمله وطالعه السعيد تشوقت الجياد له وهز ال حسام هوى وأشرقت البنود فسوف تراه بدراً في سماء من العليا كواكبه الجنود وكيف يخيب سبل قد نمته إلى العليا ضراغمة الأسود فأنتم آل عامر خير آل زكا الأبناء منكم والجدود وليدك لدى رأي كشيخ وشيخكم لدى الحرب وليد وخطبها بعض الشعراء ممن لم ترضه فكتبت إليه: أنا لبوة لكنني لا أرتضي نفسي مناخاً طول دهري من أحد ولو أنني أختار ذلك لم أجب كلباً وكم غلقت سمعي عن أسد

_ (1) ترجمة عائشة القطربية في الصلة: 654 والسيوطي: 71 واسم أبيها أحمد بن حمد بن قادم.

18 - ومنهن مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري (1) . سكنت إشبيلية، وأصلها والله أعلم من شلب. وذكرها ابن دحية في " المطرب " (2) وقال: إنها أديبة شاعرة " جزلة " مشهورة، وكانت تعلم النساء الأدب، وتحتشم لدينها وفضلها، وعمرت عمراً طويلاً، سكنت إشبيلية، واشتهرت بها بعد الأربعمائة، وذكرها الحميدي، وأنشد لها جوابها لما بعث المهدي إليها بدنانير، وكتب إليها: ما لي بشكر الذي أوليت من قبل لم أنني حزت نطق اللسن في الحلل يا فذة الظرف في هذا الزمان ويا وحيدة العصر في الإخلاص في العمل أشبهت مريماً العذراء في ورع وفقت خنساء في الأشعار والمثل ونص الجواب منها: من ذا يجاريك في قول وفي عمل وقد بدرت إلى فضل ولم تسل ما لي بشكر الذي نظمت في عنقي من اللآلي وما أوليت من قبل حليتني بحلى أصبحت زاهية بها على كل أنثى من حلى عطل لله أخلاقك الغر التي سقيت ماء الفرات فرقت رقة الغزل أشبهت مروان من غارت بدائعه وأنجدت وغدت من أحسن المثل من كان والده العضب المهند لم يلد من النسل غير البيض والأسل ومن شعرها وقد كبرت: وما يرتجى من بنت سبعين حجة وسبع كنسيج العنكبوت المهلهل تدب دبيب الطفل تسعى إلى العصا وتمشي بها مشي الأسير المكبل

_ (1) ترجمة مريم في الصلة: 656 والجذوة: 389 (وبغية الملتمس رقم: 1584) والسيوطي: 90. (2) يبدو أن المقري وهم هنا، فأثبت الصلة ونسبه للمطرب، وليس في المطرب ترجمة لمريم هذه.

19 - ومنهن أسماء العامرية (1) ، من أهل إشبيلية، كتبت إلى عبد المؤمن ابن علي رسالة نمت فيها إليه بنسبها العامري، وتسأله في رفع الانزالعن دارها، والاعتقال عن مالها، وفي آخرها قصيدة أولها: عرفنا النصر والفتح المبين لسيدنا أمير المؤمنينا إذا كان الحديث عن المعالي رأيت حديثكم فينا شجونا ومنها: رويتم علمه فعلمتموه وصنتم عهده فغدا مصونا 20 - ومنهن أم الهناء بنت القاضي أبي محمد عبد الحق بن عطية، سمعت أباها، وكانت حاضرة النادرة، سريعة التمثل، من أهل العلم والفهم والعقل، ولها تأليف في القبور، ولما ولي أبوها قضاء المرية دخل داره وعيناه تذرفان وجداً لمفارقة وطنه، فأنشدته متمثلة: يا عين صار الدمع عندك عادة تبكين في فرح وفي أحزان وهذا البيت من جملة أبيات هي: جاء الكتاب من الحبيب بأنه سيزورني فاستعبرت أجفاني غلب السرور علي حتى إنه ... من عظم فرط (2) مسرتي أبكاني وبعده البيت، وبعده: فاستقبلي بالبشر يوم لقائه ودعي الدموع لليلة الهجران

_ (1) ترجمتها في الذيل والتكملة؛ وما ورد هنا منقول عنه. (2) م: من فرط عظم.

21 - ومنهن مهجة القرطبية (1) صاحبة ولادة رحمهما الله تعالى، وكانت من أجل نساء زمانها، وعلقت بها ولادة، ولازمت تأديبها، وكانت من أخف الناس روحاً، ووقع بينها وبين ولادة ما اقتضى أن قالت: ولادة قد صرت ولادة من غير بعل، فضح الكاتم حكت لنا مريم لكنه نخلة هذي ذكر قائم قال بعض الأكابر: لو سمع ابن الرومي هذا لأقر لها بالتقديم. ومن شعرها: لئن قد حمى عن ثغرها كل حائم فما يزال يحمى فذلك تحميه القواضب والقنا وهذا حماه من لواحظها السحر وأهدى إليها من كان يهيم بها خوخاً، فكتبت إليه: يا متحفاً بالخوخ أحبابه أهلاً به من مثلج للصدور حكى ثدي الغيد تفليكه لكنه أخزى رؤوس الأيور 22 - ومنهن هند جارية أبي محمد عبد الله بن مسلمة الشاطبي، وكانت أديبة شاعرة، كتب إليها أبو عامر ابن ينق يدعوها للحضور عنده بعودها: يا هند هل لك في زيارة فتية نبذوا المحارم غير شرب السلسل سمعوا البلابل قد شدوا فتذكروا نغمات عودك في الثقيل الأول فكتبت إليه في ظهر رقعته: يا سيداً حاز العلا عن سادة شم الأنوف من الطراز الأول

_ (1) ترجمة مهجة في المغرب 1: 143 والسيوطي: 93 ونسبتها القرطبية تميزها عن مهجة الفرناطية وقد ترجم للثانية ابن عبد الملك.

حسبي من الإسراع نحوك أنني كنت الجواب مع الرسول المقبل 23 - ومنهن الشلبية، قال ابن الأبار، ولم أقف على اسمها، وكتبت إلى السلطان يعقوب المنصور تتظلم من ولاة بلدها وصاحب خراجه: قد آن أن تبكي العيون الآبية ولقد أرى أن الحجارة باكية يا قاصد المصر الذي يرجى به إن قدر الرحمن رفع كراهية ناد الأمير إذا وقفت ببابه يا راعياً إن الرعية فانية أرسلتها هملاً ولا مرعى لها وتركتها نهب السباع العادية شلب كلا شلب، وكانت جنة فأعادها الطاغون ناراً حامية حافوا وما خافوا عقوبة ربهم والله لا تخفى عليه خافية فيقال: إنها ألقيت يوم الجمعة على مصلى المنصور، فلما قضى الصلاة وتصفحها بحث عن القصة فوقف على حقيقتها، وأمر للمرأة بصلة. وحكي أن بعض قضاة لوشة كانت له زوجة فاقت العلماء في معرفة الأحكام والنوازل، وكان قبل أن يتزوجها ذكر له وصفها فتزوجها، وكان في مجلس قضائه تنزل به النوازل، فيقوم إليها فتشير عليه بما يحكم به، فكتب إليه بعض أصحابه مداعباً بقوله: بلوشة قاض له زوجة وأحكامها في الورى ماضية فيا ليته لم يكن قاضياً ويا ليتها كانت القاضية فأطلع زوجته عليه حين قرأه فقالت: ناولني القلم، فناولها، فكتبت بديهة: هو شيخ سوء مزدرى له شيوب عاصية كلا لأن لم ينته لنسفعاً بالناصية

وسمعت بعض أشياخنا يحكي القضية عن لسان الدين بن الخطيب، وأنه هو الذي كتب يداعب زوج المرأة فكتبت إليه: إن الإمام ابن الخطيب له شيوب عاصية إلى آخره، فالله أعلم. ومنهن نزهون الغرناطية (1) . قال في المغرب: من أهل الماء الخامسة ذكرها الحجاري في المسهب ووصفها بخفة الروح، والانطباع الزائد، والحلاوة، وحفظ الشعر، والمعرفة بضرب الأمثال، مع جمال فائق، وحسن رائق، وكان الوزير أبو بكر ابن سعيد أولع الناس بمحاضرتها ومذاكرتها ومراسلتها، فكتب لها مرة: يا من له ألف خل من عاشق وصديق أراك خليت للنا س منزلاً في الطريق فأجابته: حللت أبا بكر محلاً منعته سواك، وهل غير الحبيب له صدري وإن كان لي كم من حبيب فإنما يقدم أهل الحق حب أبي بكر قيل: لو قالت " وإن كان خلاني كثيراً...... إلخ " لكان أجود. ولما قال فيها المخزومي:

_ (1) ترجمة نزهون في التحفة: 164 والمغرب 2: 121 والذيل والتكملة والسيوطي: 97 والإحاطة 1: 434 وقال ابن الأبار: إنها عاصرت حمدة أو قاربت عصرها، ونقل ابن عبد الملك عنه قوله: هو (اي القليعي) فيما أحسب أبو بكر محمد بن أحمد بن خلف بن عبد الملك بن غالب الغساني.

على وجه نزهون من الحسن مسحة وتحت الثياب العار لو كان باديا قواصد نزهون توارك غيرها ومن قصد البحر استقل السواقيا قالت: إن كان ما قلت حقاً من بعض عهد كريم فصار ذكري ذميماً يعزى إلى كل لوم وصرت أقبح شيء في صورة المخزومي وقد تقدمت حكايتها في الباب الأول من هذا، فلتراجع. وقال لها بعض الثقلاء: معلى من أكل معك خمسمائة صوت فقالت: وذي شقوة لما رآني رأى له تمنيه أن يصلى معي جاحم الضرب فقلت له كلها هنيئاً فإنما خلقت إلى لبس المطارف والشرب 679 - ابن قزمان وقال ابن سعيد في طالعه لما وصف وصول ابن قزمان إلى غرناطة واجتماعه بجنته بقرية الزاوية من خارجها بنزهون القلاعية الأديبة، وما جرى بينهما، وأنها قالت له بعقب ارتجال بديع - وكان يلبس غفارة صفراء على زي الفقهاء حينئذ - أحسنت يا بقرة بني إسرائيل، إلا أنك لا تسر الناظرين، فقال لها: إن لم أسر الناظرين (1) فأنا أسر السامعين، وإنما يطلب سرور الناظرين يا فاعلة يا صانعة، وتمكن السكر من ابن قزمان، وآل الأمر إلى أن تدافعوا معه حتى رموه في البركة، فما خرج إلا وهو قد شرب كثيراً من الماء، وثيابه تهطل، فقال: اسمع يا وزير، ثم أنشد:

_ (1) إن ... الناظرين: زيادة من م.

إيه أبا بكر ولا حول لي بدفع أعيان وأنذال وذات فرج واسع دافق بالماء يحكي حال أذيالي غرقتني في الماء يا سيدي كفره بالتغريق في المال فأمر بتجريد ثيابه، وخلع عليه ما يليق به، ومر لهم يوم بعد عهدهم بمثله. ولم ينتقل ابن قزمان من غرناطة إلا من بعد ما أجزل له الإحسان، ومدحه بما هو ثابت له في ديوان أجزاله. وحكي عنه فيما أظن - أعني ابن قزمان - ويحتمل أنه غيره أنه تبع إحدى الماجنات، وكان أحول، فأطعمته في نفسها، وأشارت إليه أن يتبعها، فاتبعها حتى أتت سوق الصاغة بإشبيلية، فوقفت على صائغ من صياغها، فقالت له: يا معلم مثل هذا يكون فص الخاتم الذي قلت لك عنه، تشير إلى عين ذلك الأحول الذي تبعها، وكانت قد كلفت ذلك الصائغ أن يعمل لها خاتماً يكون فصه عين إبليس، فقال لها الصائغ: جيئيني بالمثال، فإني لم أر هذا ولا سمعته قط، فجاءته به عن مثال، وحكاها بعضهم على وجه آخر وأنها ذهبت إلى الصائغ وقالت له: صور لي صورة الشيطان، فقال لها: ائتيني بمثال، فلما تبعها ابن قزمان جاءت به، وقالت له: مثل هذا، فسأل ابن قزمان فأعلمه فخجل ولعنها، وكتب أبو بكر ابن قزمان على باب جنته: وقائل يا حسنها جنة لا يدخل الحزن على بابها فقلت والحق له صولة أحسن منها مجد أربابها وله: كثير المال تمسكه فيفنى وقد يبقى مع الجود القليل ومن غرست يداه ثمار جود ففي ظل الثناء له مقيل رجع إلى أخبار نزهون بنت القليعي حكي أنها مكانت تقرأ على أبي بكر المخزومي الأعمى، فدخل عليهما أبو

بكر الكتندي، فقال يخاطب المخزومي: لو كنت تبصر من تجالسه فأفحم، وأطال الفكر فما وجد شيئاً، فقالت نزهون: لغدوت أخرس من خلاله البدر يطاع من أزرته والغصن يمرح في غلائله وكانت ماجنة، ومن شعرها قولها: لله در الليالي ما أحيسنها وما أحيسن منها ليلة الأحد لو كنت حاضرنا فيها وقد غفلت عين الرقيب فلم تنظر إلى أحد أبصرت شمس الضحى في ساعدي قمر بل ريم خازمة في ساعدي أسد مقطعات لابن الزقاق وهذا المعنى متفق مع قول ابن الزقاق (1) : ومرتجة الأرداف أما قوامها فلدن وأما ردفها فرادح ألمت فبات الليل من قصر بها يطير، ولا غير السرور جناح فبت وقد زارت بأنعم ليلة يعانقني حتى الصباح صباح على عاتقي من ساعديها حمائل وفي خصرها من ساعدي وشاح وابن الزقاق هذا له في النظم والغوص على المعاني الباع المديد، ومن نظمه قوله:

_ (1) انظر مقطعات ابن الزقاق هذه في ديوانه: 129، 295، 177، 291، 292، 202، 208، 206، 298، 294، 113 (وبعضها عن النفح نفسه) .

رئيس الشرق محمود السجايا يقصر عن مدائحه البليغ نسميه بيحيى وهو ميت كما أن السليم هو اللديغ يعاف الورد إن ظمئت حشاه وفي مال اليتيم له ولوغ زقزله: كتبت ولو أنني أستطيع لإجلال قدرك بين البشر قددت اليراعة من أنملي وكان المداد سواد البصر وقوله: غرير يباري الصبح إشراق خده وفي مفرق الظلماء منه نصيب ترف بفيه ضاحكاً أقحوانة ويهتز في برديه منه قضيب وقوله: ومهفهف نبت الشقيق بخده واهتز أملود النقا في برده ماء الشبيبة والغرام أرق من صقل الحسان المنتقى وفرنده يحيي الورى بتحية من وصله من بعد ما وردوا الحمام بصده إن كنت أهديت الفؤاد له فقل أي الجوى بجوانح لم يهده وقوله: أرق نسيم الصبا عرفه وراق قضيب النقا عطفه ومر بنا يتهادى وقد نظر سيف أجفانه طرفه ومد لمبسمه راحة فخلت الأقاح دنا قطفه أشارت بتقبيلها للسلام فقال فمي ليتني كفه وقوله: بأبي من لم يدع لي لحظه في الهوى من رمق حين رمق

جمعت نكهته في ثغره عبقاً في نسق يسبي الحدق وبدت خجلته في خده شفقاً في فلق تحت غسق وقال: وعشية لبست ملاء شقيق تزهى بلون للخدود أنيق أبقت بها الشمس المنيرة مثل ما أبقى الحياء بوجني معشوق لو أستطيع شربتها كلفاً بها وعدلت فيها عن كؤوس رحيق وقال في مسامرة كتاب زعماء: لله ليلتنا التي استخذى بها فلق الصباح لسدفة الإظلام طرأت علي مع النجوم بأنجم من فتية بيض الوجوه كرام إن حوربوا فزعوا إلى بيض الظبى أو خوطبوا فزعوا إلى الأقلام فترى البلاغة إن نظرت إليهم والبأس بين يراعة وحسام وقال: ومجدين في السرى قد تعاطوا غفوات الهوى بغير كؤوس جنحوا وانحنوا على العيس حتى خلتهم يعتبون أيدي العيس نبذوا الغمض وهو حلو إلى أن وجدوه سلافة في الرؤوس وقال: وحبب يوم السبت عندي أنني ينادمني فيه الذي أنا أحببت ومن أعجب الأشياء أني مسلم حنيف ولكن خير أيامي السبت ولنقتصر من نساء الأندلس على هذا المقدار، ونعد غلى ما كنا فيه من جلب كلام بلغاء الأندلس ذوي الأقدار، فنقول:

681 - قال الخفاجي رحمه الله تعالى (1) : وهاتفة في البان تملي غرامها علينا وتتلو من صبابتها صحفا عجبت لها تشكو الفراق جهالة وقد جاوبت من كل ناحية إلفا ويشجي قلوب العاشقين أنينها وما فهموا مما تغنت به حرفا ولو صدقت فيما تقول فيه من الأسى لما لبست طوقاً ولا خضبت كفا 682 - وقال الأستاذ أبو محمد ابن صارة: متى تلتقي عيناي بدر مكارم تود الثريا أنها من مواطئه ولما أهل المدلجون بذكره وفاح تراب البيد مسكاً لواطئه عرفنا بحسن الذكر حسن صنيعه كما عرف الوادي بخضرة شاطئه وقال يتغزل: يا من تعرض دونه شحط النوى فاستشرفت لحديثه أسماعي إني لمن يحظى بقربك حاسد ونواظري يحسدن فيك رقاعي لم تطوك الأيام عني إنما نقلتك من عيني إلى أضلاعي 683 - مقطعات لابن العطار وقال الأديب أبو القاسم ابن العطار (2) : عبرنا سماء الجو والنهر مشرق وليس لنا إلا الحباب النجوم وقد ألبسته الأيك برد ظلالها وللشمس في تلك البرود رقوم

_ (1) ديوان ابن خفاجة: 370 (عن النفح) . (2) القلائد: 285.

وله أيضاً (1) : لله بهجة نزهة ضربت به ... فوق الغدير رواقها الأنشام (2) فمع الأصيل النهر درع سابغ ومع الضحى يلتاح فيه حسام وقال أيضاً (3) : هبت الريح بالعشي فحاكت زرداً للغدير ناهيك جنه وانجلى البدر بعد هدء (4) فحاكت ... كفه للقتال منه أسنه وقال أيضاً (5) : لله حسن حديقة بسطت لنا منها النفوس سوالف ومعاطف تختال في حلل الربيع وحليه ومن الربيع قلائد ومطارف وله (6) : وسنان ما إن يزال عارضه يعطف قلبي بعطفة اللام أسلمني للهوى فوا حزني أن بزني عفتي وإسلامي لحاظه أسهم، وحاجبه قوس، وإنسان عينه رامي 684 - وارتجل أبو جعفر ابن خاتمة رحمه الله تعالى لما بات في قرية بيش:

_ (1) القلائد، والمغرب 1: 254. (2) الأنشام - بالشين - نوع من الشجر. (3) القلائد: 285. (4) م: هذا. (5) القلائد: 286. (6) القلائد: 288 والثالث في المغرب.

لله منزلنا بقرية بيش كاد الهوى فيها ادكاراً بي يشي رحنا إليها والبطاح كأنها صحف مذهبة بإبريز العشي فأجازه الوزير ابن جزي بقوله: في فتية هزت حميا الأنس من أعطافهم فالكل منها منتشي يأتي علاهم بالصحيح، ولفظهم بالمنتقى، وجمالهم بالمدهش 685 - وقال السلطان أبو الحجاج النصري مرتجلاً أيام مقامه بظاهر جبل الفتح سنة 815: ولم يتركوا أوطانهم بمرادهم ولكن لأحوال أشابت مفارقي أقام بها ليل التهاني تقلباً وقد سكنت جهلاً نفوس الخلائق فعوضتها ليل الصبابة بالسرى وأنس التلاقي بالحبيب المفارق ولم يثنني طرف من النور ناعس ولا معطف للبان وسط الحدائق ولا منهض الأشبال في عقر غيرهم ولا ملعب الغزلان فوق النمارق وعاطيتها صبح الدياجي مدامة تميل بها الركبان فوق الأيانق إذا ما قطعنا بالمطي تنوفة دلجنا لأخرى بالجياد السوابق بحيث التقى موسى مع الخضر آية عسى ترجع العقبى كموسى وطارق وله: من عاذري من غزال زانه حور قد هام لما بدا في حسنه البشر ألحاظه كسيوف الهند ماضية لها بقلبي وإن سالمتها أثر 686 - وقال القاضي أبو القاسم ابن حاتم: شكوت بما دهاك وكان سراً لمن ليست مودته صحيحه فتلك مصيبة عادت ثلاثاً لصحبتها الشماتة والفضيحه

687 - وقال الفقيه محمد بن سعيد الأندلسي مخاطباً للفقيه الفخار: خفف علينا قليلاً أيها المعلم فربما كان فينا من به ألم لا يستطيع نهوضاًمن ألمه وإن تمادى قليلاً خانت القدم كفى وصية مولانا وسيدنا محمد فاسمعوا ما قال والتزموا 688 - وقال ابن جبير اليحصبي فيمن أهدى إليه تفاحاً: خليل لم يزل قلبي قديماً يميل بفرط صاغية إليه أتاني مقبلاً والبشر يبدي وسائل برة كرمت لديه وجاء بعرف تفاح ذكي فقلت أتى الخليل بسيبويه فأهدى من جناه بكل شكل يلوح جمال مهديها عليه 689 - وقال قاضي مالقة سيدي إبراهيم البدوي: قطعت يأسي فصنت نفسي عن الوقوف لذي وجاهه قصدت ربي فكان حسبي ألبسني فضله وجاهه فال يرى ينثني عناني مدى حياتي إلا تجاهه 690 - وقال ابن خليل السكوني في فهرسته: شاهدت بجامع العدبس بإشبيلية ربعة مصحف في أسفار ينحى به لنحو خطوط الكوفة إلا أنه أحسن خطاً وأبينه وأبرعه وأتقنه، فقال لي الشيخ الأستاذ أبو الحسن ابن الطفيل بن عظيمة: هذا خط ابن مقلة، وأنشد: خط ابن مقلة من أرعاه مقلته ودت جوارحه لو أنها مقل ثم قسنا حروفه بالضابط فوجدنا أنواعها تتماثل في القدر والوضع، فالألفات على قدر واحد، واللامات كذلك، والكافات والواوات وغيرها بهذه النسبة، انتهى.

قلت: رأيت بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام مصحفاً بخط ياقوت المستعصمي بهذه المثابة، وهو من الأوقاف الرستمية، ورأيت بالحجرة الشريفة على صاحبها الصلاة والسلام مصحفاً مكتوباً في آخره ما صورته: كتبته بقلم واحد فقط ما قط قط إلا مرة فقط، انتهى. رجع: 691 - وقال ابن عبدون رحمه الله تعالى: أذهبن من فرق الفراق نفوسا ونثرن من در الدموع تفيسا فتبعتها نظر الشجي فحدقت رقباؤها نحوي عيوناً شوسا وحللن عقد الصبر إذ ودعنني فحللن أفلاك الخدور شموسا حلته إذ حلته حتى خلته عرشاً لها وحسبتها بلقيسا فازور جانبها وكان جوابها: لو كنت تهوانا صحبت العيسا وهي طويلة. قلت: ما أظن لسان الدين نسج قصيدته من هذا البحر والروي إلا على منوال هذه، وإن كان الحافظ التنسي قال: إنه نسجها على قصيدة أبي تمام حسبما ذكرنا ذلك في محله، فليراجع. 692 - وقال أبو عبد الله ابن المناصف قاضي بلنسية ومرسية رحمه الله تعالى: ألزمت نفسي خمولا عن رتبة الأعلام لا يخسف البدر إلا ظهوره في تمام وتذكرت به قول غيره: ليس الخمول بعار على امرئ ذي جلال فليلة القدر تخفى وتلك خير الليالي

693 - وقال الوزير ابن عمار، وقد كتب له أبو المطرف ابن الدباغ شافعاً لغلام طر له عذار: أتاني كتابك مستشفعاً بوجه أبي الحسن من رده ومن قبل فضي ختم الكتاب قرأت الشفاعة في خده 694 - وقال القاضي الأديب، والفيلسوف الأريب، أبو الوليد الوقشي قاضي طليطلة (1) : برح بي أن علوم الورى قسمان ما إن فيهما من مزيد حقيقة يعجز تحصيلها وباطل تحصيله لا يفيد 695 - وقال أبو عبد الله ابن الصفار وهو من بيت القضاء والعلم بقرطبة: لا تحسب الناس سواء متى ما اشتبهوا فالناس أطوار زانظر إلى الأحجار، في بعضها ماء، وبعض ضمنه نار وهذا مثل قول غيره (2) : الناس كالأرض ومنها هم من خشن الطبع ومن لين مرو تشكى الرجل منه الوجى وإثمد يجعل في الأعين ومن نظم ابن الصفار المذكور: إذا نويت انقطاعاً فاعمل حساب الرجوع 696 - وقال أبو مروان الجزيري: ومن العجائب والعجائب جمة أن يلهج الأعمى بعيب الأعور

_ (1) انظر ما تقدم ص: 137. (2) الحصري (التكملة: 434) .

697 - وقال حسان بن المصيصي كاتب بن عباد ملك قلطبة: لا تأمنن من العدو لبعده إن امرأ القيس اشتكى الطماحا 698 - وقال الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين بن عربي في كتابه الإسفار عن نتائج الأسفار: أنشدني الكاتب أبو عمرو ابن مهيب بإشبيلية أبياتاً عملها في حمود بن إبراهيم بن أبي بكر الهرغي، وكان أجمل أهل زمانه، رآه عندنا زائراً وقد خط عذاره، فقلت: يا أبا عمرو، ما تنظر إلى حسن هذا الوجه فعمل الأبيات في ذلك، وهي: وقالوا العذار جناح الهوى إذا ما استوى طار عن وكره وليس كذاك فخبرهم قياماً بعذري أو عذره إذا كمل الحسن في وجنة فخاتمه ويك من شعره قال بعضهم: رأيت آخر الكتاب المذكور بعد فراغه شعراً نسبه إليه، وهو: يا جاضراً بجماله في خاطري ومحجباً بجلاله عن ناظري إن غبت عن عيني فإنك نورها وضمير سرك سائر في سائري ومن العجائب أنني أبداً إلى رؤياك ذو شوق مديد وافر وع أنني ما كنت قط بمجلس إلا وكنت كنادمي ومسامري 699 - وأنشد في الإحاطة لعبد الله الجذامي: أيا سيدي أشكو لمجدك أنني صددت مراراً عن مثولي بساحتك شكاة اشتياق أنت حقاً طبيبها وما راحتي إلا بتقبيل راحتك قال: وهو عبد الله بن عبد الله بن أحمد بن محمد الجذامي، فاضل ملازم

للقراءة، عاكف على الخير، مشارك في العربية، خاطب للرياسة الأدبية، اختص بالأمير أبي علي المنصور ابن السلطان أيام مقامه بالأندلس، ومما خاطبه به معتذراً: أيا سيدي...... البيتين انتهى. 700 - وقال في ترجمة عبد الله بن أحمد المالقي قاضي غرناطة، وكان فقيهاً بارع الأدب: إنه كتب إلى أبي نصر صاحب القلائد والمطمح أثناء رسالة بقوله: تفتحت الكتابة عن نسيم نسيم المسك في خلق كريم أبا نصر رسمت لها رسوماً تخال رسومها وضح النجوم وقد كانت عفت فأنرت منها سراجاً لاح في الليل البهيم فتحت من الصناعة كل باب فصارت في طريق مستقيم فكتاب الزمان ولست منهم إذا راموا مرامك في هموم فما قس بأبدع منك لفظاً ولا سحبان مثلك في العلوم 701 - وقال الذهبي، وقد جرى ذكر محمد بن الحسن المذحجي الأندلسي ابن الكتاني: إنه أديب شاعر متفنن ذو تصانيف، حمل عنه ابن حزم، ومن شعره: ألا قد هجرنا الهجر واتصل الوصل وبانت ليالي البين واجتمع الشمل فسعدي نديمي، والمدامة ريقها، ووجنتها روضي، وتقبيلها النقل 702 - وقال العلامة محمد بن عبد الرحمن الغرناطي: الشعب ثم قبيلة وعمارة بطن وفخذ والفصيلة تابعه

فالشعب مجتمع القبيلة كلها ثم القبيلة للعمارة جامعه والبطن تجمعه العمائر فاعلمن والفخذ تجمعه البطون الواسعه والفخذ يجمع للفصائل هاكها جاءت على نسق لها متتابعه فخزيمة شعب، وإن كنانة لقبيلة منها الفصائل شائعه وقريشها تسمى العمارة يا فتى وقصي بطن للأعادي قامعه ذا هاشم فخذ وذا عباسها أثر الفصيلة لا تناط بسابعه وكتبت هذه الأبيات وإن لم تشتمل على البلاغة لما فيها من الفائدة، ولأن بعض الناس سألني فيها لغرابتها، والأعمال بالنيات. 703 - ولما دخل أبو محمد الكلاعي الجياني على القاضي ابن رشد قام له فأنشده أبو محمد بديهة: قام لي السيد الهمام قاضي قضاةالورى الإمام فقلت قم بي، ولا تقم لي فقلما يؤكل القيام 704 - وقال أبو عبد الرحمن ابن جحاف البلنسي: لئن كان الزمان أراد حطي وحاربني بأنياب وظفر كفاني أن تصافيني المعالي وإن عاديتني يا أم دفر فما اعتز اللئيم وإن تسامى ولا هان الكريم بغير وفر 705 - وقال أبو محمد ابن برطله (1) : ألا إنما سيف الفتى صنو نفسه فنافس بأوفى ذمة وإخاء يزينك مرأى أو يعينك حاجة فيحسن حالي شدة ورخاء

_ (1) زاد في م: وقد سبق ذكره.

وقال أيضاً (1) : أنفسي صبراً لا يروعك حادث بإرتاجه واستشعري عاجل الفتح فرب اشتداد في الخطوب لفرجة ... كما انشق ليل طال عن فلق الصبح (2) وقال أيضاً: متى يدنو لوعدكم انتجاز ويبعد من حقيقته المجاز أيجمل أن يؤمكم رجائي فيوقف لا يرد ولا يجاز وجدكم كفيل بالأماني ومطلوبي قريب مستجاز إذا ما أمكنت فرص المساعي فعجز أن يطاولها انتهاز وها أنا قد هززتكم حساماً ويحسن للمهندة اهتزاز فما الإنصاف أن ينضى كهام ويودع غمده العضب الجراز كما نعم العراق بعذب بحر ويشقى بالظما البرح الحجاز فأعيى الناس في المقدار (3) حكم ... تجاذبه خمول واعتزاز 706 - وأنشد الشيخ أبو بكر ابن حبيش لابن وضاح البيت المشهور، وهو: أسرى وأسير في الآفاق من قمر ومن نسيم ومن طيف ومن مثل

_ (1) م: وقوله وقد أجاد وأبلغ في الموعظة. (2) زاد في م بعد هذه المقطوعة مقطوعتين لابن برطله وهما قوله: وأمر كأن المصطلين بحره ... وإن لم تكن نار وقوف على الجمر صبرت له حتى تناءى وإنما ... تفرج أيام الكريهة بالصبر وقوله: نفسي تنازعني فقلت لها اصبري ... موت يريحك أو صعود المنبر ما قد قضي سيكون فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدر (3) م: المقدور.

وابن حبيش المذكور هو أبو بكر محمد بن الحسن بن يوسف (1) بن حبيش - بفتح الحاء - وقد عرف به تلميذه ابن الفهري في رحلته، فقال بعد كلام: أما النظم فبيده عنانه، وأما النثر فإن مال إليه توكف له بنانه (2) ، مع تواضع زائد، على صلة مخبره عائد، لقيته بمنزله ليوم أو يومين من مقدمي على تونس، فتلقى بكل فن يونس، وصادفته بحالة مرض، من وثء (3) في رجله عرض، وعنده جملة من العواد، من الصدور الأمجاد، فأدنى وقرب، وسهل ورحب، وتفاوض أولئك الصدور، في فنون من الأدب كأنها الشذور، إلى أن خاضوا في الأحاجي، واستضاءوا بأنوار أفكارهم في تلك الدياجي، فخضت معهم في الحديث، وأنشدتهم بيتين كنت صنعتهما وأنا حديث، لقصة بلغتني عن أبي الحسن سهل بن مالك، وهي أنه كان يسائل أصحابه وهو في المكتب ويقول لهم: أخرجوا اسمي، فكل ينطق على تقديره، فيقول لهم: إنكم لم تصيبوه مع أنه سهل، فنظمت هذا المعنى فقلت: وما اسم فكه سهل يسير يكون مصغراً نجماً يسير مصحفه له في العين حسن وقلبي عند صاحبه أسير وكان الشيخ أبو بكر على فراشه، فزحف مع ما به من ألم، إلى محبرة وطرس وقلم، وكتب البيتين بخطه، وقال للحاضرين: ارووا هذين البيتين عن قائلهما. ومن شيوخ ابن حبيش المذكور أبو عبد الله ابن عسكر المالقي، كتب له ولأخيه أبي الحسين بخطه إجازة جميع ما يجوز له، وعنه، وضمن آخرها هذه الأبيات:

_ (1) م: يونس؛ قلت وصوابه محمد بن الحسن بن يوسف بن الحسن بن يونس كما أورده ابن رشيد في ملء العيبة (1736 من نسخة الاسكوريال) . (2) ابن رشيد: عنانه. (3) ابن رشيد: من ألم، وفي هامش الرحلة: وثء.

أجبتكما لكن مقراً بأنني أقصر فيما رمتما عن مداكما فإنكما بدران في العلم أشرقا فسلم إذعاناً وقسراً عداكما فسيروا على حكم الوداد فإنني أجود بنفسي أن تكون فداكما قال ابن رشيد: وقد جمع صاحبنا أبو العباس الأشعري لابن حبيش فهرسة جامعة، ولما وقف عليها ابن حبيش كتب في أولها ما نصه: الحمد لله حق حمده، أحسن هذا الفاضل فيما صنع أحسن الله إليه، وبالغ فيما جمع بلغ الله تعالى به أشرف المراتب لديه، غير أني أقول واحدة، ما سريرتي لها بجاحدة (1) ، وأصرح بمقال، لا يسعني كتمه بحال: والله ما أنا للإجازة بأهل، ولا مرامها لدي بسهل، إذ من شرط المجيز أن يعد فيمن كمل، ويعد العلم والعمل، اللهم غفراً، كيف ينيل من عدم وفراً، أو يجيز من أصبح صدره من المعارف قفراً، وصحيفته من الصالحات صفراً، وكيف يرتسم في ديوان الجلة، من يتسم بالأفعال المخلة، ومتى يقترن الشبه بالإبريز، أو يوصف السكيت بالتبريز، ومن ضعف النهى، مجانسة الأقمار بالسها، ومن أعظم التوبيخ، تشييخ من لا يصلح للتشييخ، وإن هذا المجموع ليروق ويعجب، ولكنه جمع لمن لا يستوجب، وإن القراءة قد تحصلت، ولكن القواعد ما تأصلت، وإن القارئ علم، ولكن المقروء عليه عدم، ولقد شكرت لهذا السري ما جلب، وكتبت مسعفاً له بما طلب، وقرنت إلى دره هذا المخشلب، قلت وحليي عطل، ونطقي خطل، مكره أخاك (2) لا بطل، والله سبحانه وتعالى ينفع بما أخلص له عند الاعتقاد، ويسمح للبهرج عند النتقاد، كتبه العبد المذنب [المستغفر] (3) محمد بن الحسن بن يوسف بن حبيش اللخمي حامداً الله تعالى

_ (1) ابن رشيد: جاحدة. (2) ابن رشيد: أخوك. (3) زيادة من رحلة ابن رشيد.

ومصلياً على نبيه الكريم المصطفى وعلى آله أعلام الطهارة والهدى ومسلماً تسليماً. وكتب أيضاً رحمه الله تعالى في جواب استجازة: المسؤول مبذول، إن شاء الله تعالى على التنجيز، ولكن شروط الإجازة موجودة في المجاز معدومة في المجيز، والله تعالى يصفح بكرمه ومنه، ويشكر كل فاضل على تحصيل ظنه، وهو المسؤول سبحانه أن يحفظ بعنايته مهجاتهم، ويرفع بالعلم والعمل درجاتهم، ويمتعهم بالكمال الرائق المعجب، ويقر بالنجيبين عين المنجب، وكتبه ابن حبيش، انتهى. 707 - وقال الوزير الكاتب أبو بكر ابن القبطرنة يستجدي بازياً من المنصور بن الأفطس صاحب بطليوس: يا أيها الملك الذي آباؤه شم الأنوف من الطراز الأول حليت بالنعم الجسام جسيمة عنقي فحل يدي كذاك بأجدل وامنن به ضافي الجناح كأنما حذيت قوائمه بريح شمأل متلفتاً والطل ينثر برده منه على مثل اليماني المحمل أغدو به عجباً أصرف في يدي ريحاً وآخذ مطلقاً بمكبل 708 - وأدخلت على المعتمد يوماً باكورة نرجس، فكتب إلى ابن عمار يستدعيه: قد زارنا النرجس الذكي وآن من يومنا العشي ونحن في مجلس أنيق وقد ظمئنا وفي ري ولي خليل غدا سميي يا ليته ساعد السمي فأجابه ابن عمار: لبيك لبيك من مناد له الندى الرحب والندي

ها أنا بالباب عبد قن قبلته وجهك السني شرفه والداه باسم شرفته أنت والنبي واصطبح المعتمد يوم غيم مع أم الربيع، واحتجب عن الندماء، فكتب إليه ابن عمار: تجهم وجه الأفق واعتلت النفس لأن لم تلح للعين أنت ولا الشمس فإن كان هذا منكما من توافق وضمكما أنس فيهنيكما الأنس فأجابه المعتمد بقوله: خليلي قولا هل علي ملامة إذا لم أغب إلا لتحضرني الشمس وأهدي بأكواس المدام كواكباً إذا أبصرتها العين هشت لها النفس سلام سلام أنتما الأنس كله وإن غبتما أم الربيع هي الأنس واستدعى جماعة من إخوان ابن عمار منه شراباً في موضع هو فيه مفقود، فبعث لهم به وبرمانتين وتفاحتين، وكتب لهم مع ذلك: خذاهما مثلما استدعيتماهما عروساً لا تزف إلى اللئام ودونكما بها ثديي فتاة أضفت إليهما خدي غلام 709 - وشرب ذو الوزارتين القائد أبو عيسى ابن لبون مع الوزراء والكتاب ببطحاء لورقة عند أخيه، وابن اليسع غائب، فكتب إليه: لو كنت تشهد يا هذا عشيتنا والمزن يسكن أحياناً وينحدر والأرض مصفرة بالمزن طافية أبصرت دراً عليه التبر ينتثر 710 - وقال الحجاري من القصيدة المشهورة: عليك أحالني الذكر الجميل

في وصف زيه البدوي المستثقل وما في طيه: ومثلني بدن فيه خمر يخف به ومنظره ثقيل ولما انصرف (1) عن ابن سعيد إلى ابن هود عذله ابن سعيد على تحوله عنه، فقال: النفس تواقة، وما لي بغير التغرب طاقة، ثم قال: يقولون لي ماذا الملال تقيم في محل فعند الأنس تذهب راحلا فقلت لهم مثل الحمام إذا شدا على غصن أمسى بآخر نازلا 711 - وقد رأيت أن أكفر ما تقدم ذكره من الهزل الذي أتينا به على سبيل الإحماض بما لا بد منه من الحكم والمواعظ وما يناسبها، فنقول: 1 - قال أبو العباس ابن خليل: فهموا إشارات الحبيب فهاموا وأقام أمرهم الرشاد فقاموا وتوسموا بمدامع منهلة تحت الدياجي والأنام نيام وتلوا من الذكر الحكيم جوامعاً جمعت لها الألباب والأفهام يا صاح لو أبصرت ليلهم وقد صفت القلوب وصفت الأقدام لرأيت نور هداية قد حفهم فسرى السرور وأشرق الإظلام فهم العبيد الخادمون مليكهم نعم العبيد وأفلح الخدام سلموا من الآفات لما استسلموا فعليهم حتى الممات سلام 2 - وقال العالم الكبير الشهير صاحب التآليف أبو محمد عبد الحق الإشبيلي رحمه الله تعالى: قالوا صف الموت يا هذا وشدته فقلت وامتد مني عندها الصوت

_ (1) م: انصرف المذكور.

يكفيكم (1) منه أن الناس إن وصفوا ... أمراً يروعهم قالوا هو الموت 3 - وقال الخطيب الأستاذ أبو عبد الله محمد بن صالح الكناني الشاطبي نزيل بجاية: جعلت كتاب ربي لي بضاعه فكيف أخاف فقراً أو إضاعه وأعددت القناعة رأس مال وهل شيء أعز من القناعه 4 - وقال القاضي الكبير الأستاذ الشهير أبو العباس أحمد بن الغماز البلنسي نزيل إفريقية: هو الموت فاحذر أن يجيئك بغتة وأنت على سوء من الفعل عاكف وإياك أن تمضي من الدهر ساعة ولا لحظة إلا وقلبك واجف وبادر بأعمال تسرك أن ترى إذا نشرت يوم الحساب الصحائف ولا تيأسن من رحمة الله إنه لرب العباد بالعباد لطائف وقال رحمه الله تعالى: أما آن للنفس أن تخشعا أما آن للقلب أن يقلعا أليس الثمانون قد أقبلت فلم تبق في لذة مطمعا تقضى الزمان ولا مطمع لما قد مضى منه أن يرجعا تقضى الزمان فواحسرتي لما فات منه وما ضيعا ويا ويلتاه لذي شيبة يطيع هوى النفس فيما دعا وبعداً وسحقاً له إذ غدا ... يسمع وعظاً ولن يسمعا (2)

_ (1) م ق: يكفيهم. (2) زاد في م بعد هذا المقطوعتين التاليتين لابن الغماز، وله أيضاً وهو غريب في معناه: أيا صاحب الهم إن الهم منفرج ... كم من أمور شداد فرج الله اليأس يقطع أحياناً بصاحبه ... لا تيأسن فإن الفاتح الله الله حسبك فيما عذت منه به ... وأين يأمنهم من حسبه الله إذا قضى الله فاستسلم لقدرته ... ما لأمرئ حيلة فيما قضى الله سلم إلى الله فيما شاء وأرض به ... فالخير أجمع فيما يصنع الله وقال عفا الله عنه وأجاد في قوله ونصحه: صن النفس وأحملها على ما يزينها ... تعش سالماً والقول منك جميل وإن قل رزق اليوم فأصبر إلى غد ... عسى نائبات الدهر عنك تزول يعز غني النفس إن قل ماله ... ويفنى فقير النفس وهو ذليل وما أكثر الأحباب حين تعدهم ... ولكنهم في النائبات قليل

5 - وقال الأستاذ الزاهد أبو إسحاق الإلبيري الغرناطي رحمه الله تعالى (1) : كل امرئ فيما يدين يدان سبحان من لم يخل منه مكان يا عامر الدنيا ليسكنها وما هي بالتي يبقى بها سكان تفنى وتبقى الأرض بعدك مثلما يبقى المناخ وترحل الركبان أأسر في الدنيا بكل زيادة ... وزيادتي فيها هي النقصان (2) وقال أيضاً رحمه الله تعالى (3) : وذي غنى أوهمته همته أن الغنى عنه غير منفصل

_ (1) ديوان الإلبيري (القطعة: 35 في الملحق - نقلاً عن النفح) . (2) زاد هنا في م للإبيري قوله: وقال عفا الله عنه مبتهلاً إلى مولاه: أتيتك راجياً يا ذا الجلال ... ففرج ما ترى من سوء حالي عصيتك سيدي ويلي بجهلي ... وعيب الذنب لم يخطر ببالي إلى من يشتكي المملوك إلا ... إلى مولاه يا مولي الموالي لعمري ليت أمي لم تلدني ... ولم أغضبك في ظلم الليالي فها أنا عبدك العاصي فقير ... إلى رحماك فاقبل لي سؤالي فإن عاقبت يا ربي تعاقب ... محقاً بالعذاب وبالنكال وإن تعف فعفوك قد أراني ... لأفعالي وأوزاري الثقال (3) زاد في م: في تيه الغنى بغناه وهو كلا شيء في عقباه؛ والقطعة رقم 34 في ديوانه نقلاً عن النفح.

يجر أذيال عجبه بطراً واختال للكبرياء في الحلل بزته أيدي الخطوب بزته فاعتاض بعد الجديد بالسمل فلا تثق بالغنى فآفته ال فقر وصرف الزمان ذو دول كفى بنيل الكفاف عنه غنى فكن به فيه غير محتفل وقال رحمه الله تعالى (1) : لا شيء أخسر صفقة من عالم لعبت به الدنيا مع الجهال فغدا يفرق دينه أيدي سبا ويديله حرصاً لجمع المال لا خير في كسب الحرام وقلما يرجى الخلاص لكاسب الحلال فخذ الكفاف ولا تكن ذا فضلة فالفضل تسأل عنه أي سؤال وقال رحمه الله تعالى (2) : الشيب نبه ذا النهى فتنبها ونهى الجهول فما استفاق ولا انتهى فإلى متى أهو وأخدع بالمنى والشيخ أقبح ما يكون إذا لها ما حسنه إلا التقى لا أن يرى صباً بألحاظ الجآذر والمها أنى يقاتل وهو مفلول الشبا كابي الجواد إذا استقل تأوها محق الزمان هلاله فكأنما أبقى له منه على قدر السها فغدا حسيراً يشتهي أن يشتهى ولكم جرى طلق الجموح كما اشتهى إن أن أواه وأجهش بالبكا لذنوبه ضحك الجهول وقهقها ليست تنبهه العظات ومثله في سنه قد آن أن يتنهنها فقد اللدات وزال غياً بعدهم هلا تيقظ بعدهم وتنبها يا ويحه ما باله لا ينتهي عن غيه والعمر منه قد انتهى

_ (1) في م: عفا الله عنه في علماء السوء؛ والقطعة رقم: 5 في ديوانه. (2) زاد في م: في المشيب إن حل أوانه؛ والقطعة رقم: 8 في ديوانه.

6 - وقال الأستاذ ولي الله سيدي أبو العباس ابن العريف: من لم يشافه عالماً بأصوله فيقينه في المشكلات ظنون من أنكر الأشياء دون تيقن وتثبت فمعاند مفتون الكتب تذكرة لمن هو عالم وصوابها بمحالها معجون والفكر غواص عليها مخرج والق فيها لؤلؤ مكنون 7 - وقال أبو القاسم ابن الأبرش: أيأسوني لما تعاظم ذنبي أتراهم هم الغفور الرحيم فذروني وما تعاظم منه ... إنما يغفر العظيم العظيم (1) 8 - وقال أبو العباس ابن صقر الغرناطي أو المري، وأصله من سرقسطة (2) : أرض العدو بظاهر متصنع إن كنت مضطراً إلى استرضائه كم من فتى ألقى بوجه باسم وجوانحي تنقد من بغضائه 9 - وقال الكاتب الشهير الشهيد أبو عبد الله محمد بن الأبار القضاعي البلنسي رحمه الله تعالى من أبيات:

_ (1) زاد في م: وقال وقد أحسن ظنه بالمولى تعالى سبحانه: إذا ما بت من ترب فراشي ... وبت مجاور الرب العظيم فهنوني صحابي ثم قولوا ... لك البشرى قدمت على كريم وقال غيره وأظنه من المشارقة: قدمت على الكريم بغير زاد ... من الحسنات بالقلب السليم وحمل الزاد أقبح كل شيء ... إذا كان القدوم على كريم (2) هو أحمد بن عبد الرحمن بن صقر الأنصاري أصله من سرقسطة، وخرج منها أبوه فسكن بلنسية ثم انتقل غلى المرية وبها ولد ابنه سنة 492 وتوفي بمراكش سنة 569؛ انظر التحفة: 49 والوافي 7 الورقة: 22.

يا شقيق النفس أوصيك وإن شق في الإخلاص ما تنتهجه لا تبت في كمد من كبد رب ضيق عاد رحباً مخرجه وبلطف الله أصبح واثقاً كل كرب فعليه فرجه ولابن الأبار المذكور ترجمة طويلة استوفيت منها ما أمكنني في أزهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض. قال الغبريني في " عنوان الدراية " (1) : لو لم يكن له من الشعر إلا قصيدته السينية التي رفعها للأمير أبي زكريا رحمه الله تعالى يستنجده ويستصرخه لنصرة الأندلس لكان فيها كفاية، وإن كان قد نقدها ناقد، وطعن عليه فيها طاعن، ولكن كما قال أبو العلاء المعري: تكلم بالقول المضلل حاسد وكل كلام الحاسدين هراء ولو لم يكن له من التآليف إلا كتابه المسمى ب " معادن (2) اللجين في مراثي الحسين " لكفاه في ارتفاع درجته، وعلو منصبه وسمو رتبته. ثم قال: توفي بتونس ضحوة يوم الثلاثاء الموفي عشرين لمحرم سنة658 ومولده لآخر شهر ربيع سنة595 ببلنسية، رحمه الله تعالى وسامحه، انتهى. وقال ابن علوان: إنه يتصل سنده به من طرق، منها من طريق الرواية أبي عبد الله محمد بن جابر القيسي الوادي آشي عن الشيخ المقرئ المحدث المتبحر أبي عبد الله محمد بن حيان الأوسي الأندلسي نزيل تونس عنه، ومن طريق والدي صاحب عنواو الدراية عن الخطيب أبي عبد الله ابن صالح عنه، انتهى. قلت: وسندي إليه عن العم عن التنسي عن أبيه عن ابن مرزوق عن جده

_ (1) عنوان الدراية: 185. (2) الغبريني: بكتاب.

الخطيب عن ابن جابر الوادي آشي به كما مر. 10 - وقال ابن عبد ربه: بادر إلى التوبة الخلصاء مجتهداً والموت ويحك لم يمدد إليك يدا وارقب من الله وعداً ليس يخلفه لا بد لله من إنجاز ما وعدا 11 - وقال الصدر أبو العلاء ابن قاسم القيسي: يا واقف الباب في رزق يؤمله لا تقطنن فإن الله فاتحه إن قدر الله رزقاً أنت طالبه لا تيأسن فإن الله مانحه 12 - وقال الأعمى التطيلي (1) : تنافس الناس في الدنيا وقد علموا أن سوف تقتلهم لذاتها بددا قل للمحدث عن لقمان أو لبد لم يترك الدهر لقماناً ولا لبدا وللذي همه البنيان يرفعه ... إن الردى لم يغادر في الثرى أحدا (2) ما لابن آدم لا تفنى مطامعه (3) ... يرجو غداً وعسى أن لا يعيش غدا وقال أبو العباس التطيلي (4) : والناس كالناس إلا أن تجربهم وللبصيرة حكم ليس للبصر كالأيك مشتبهات في منابتها وإنما يقع التفضيل في الثمر 13 - وقال القاضي أبو العباس ابن الغماز البلنسي:

_ (1) زاد في م: وقد سبق ذكره مراراً؛ والقطعة في ديوان الأعمى: 27. (2) الديوان: في الشرى أسداً. (3) الديوان: مطالبه. (4) م: وقال الفقيه العالم أبو العباس التطيلي؛ قلت: وهذا يوهم أنه شخص آخر غير الأعمى التطيلي، وهو نفسه والبيتان في ديوانه: 48.

من كان يعلم لا محالة أنه لا بد أن يؤدي وإن طال المدى هلا استعد لمشهد يجزي به من قد أعد من اهتدى ومن اعتدى وقال أيضاً (1) : هو الموت فاحذر أن يجيئك بغتة وأنت على سوء من الفعل عاكف وإياك أن تمضي من الدهر ساعة ولا لحظة إلا وقلبك واجف فبادر بأعمال تسرك أن ترى إذا نشرت يوم الحساب الصحائف ولا تيأسن من رحمة الله إنه لرب العباد بالعباد لطائف 14 - ولما اسوزر باديس صاحب غرناطة اليهودي الشهير بابن نغدلة (2) ، وأعضل داؤه المسلمين، قال زاهد إلبيرة وغرناطة أبو إسحاق الإلبيري قصيدته النونية المشهورة التي منها في إغراء صنهاجة باليهود (3) : ألا قل لصنهاجة أجمعين بدور الزمان وأسد العرين مقالة ذي مقة مشفق صحيح النصيحة دنيا ودين لقد زل سيدكم زلة أقر بها أعين الشامتين تخير كاتبه كافراً ولو شاء كان من المؤمنين فعز اليهود به وانتموا وسادوا وتاهوا على المسلمين وهي قصيدة طويلة، فثارت إذ ذاك صنهاجة على اليهود، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وفيهم الوزير المذكور - وعادة أهل الأندلس أن الوزير هو الكاتب - فأراح الله البلاد والعباد، ببركة هذا الشيخ الذي نور الحق على كلامه باد.

_ (1) م: وقال رحمه الله أيضاً في الموت وأهواله؛ وقد مرت الأبيات ص: 316. (2) هذا وجه من وجوه كتابة هذا الاسم، وكثيراً ما يرد: النغراله والنغريله. (3) انظر ديوان الإلبيري: 151 وما بعدها.

15 - وقال أبو الطاهر الجياني المشهور بابن أبي ركب - بفتح الراء وسكون الكاف (1) -: يقول الناس في مثل تذكر غائباً تره فما لي لا أرى وطني (2) ... ولا أنسى تذكره وكان أبو الطاهر هذا في جملة من الطلبة، فمر بهم رجل معه محبرة آبنوس تأنق في حليتها واحتفل في عملها، فأراهم إياها، وقال: أريد أن أقصد بها بعض الأكابر، وأريد أن تتموا احتفالي بأن تصنعوا لي بينكم أبيات شعر أقدمها معها، فأطرق الجماعة، وقال أبو طاهر: وافتك من عدد العلا زنجية في حلة من حلية تتبختر صفراء سوداء الحلي كأنها ليل تطرزه نجوم تزهر فلم يغب الرجل عنهم إلا يسيراً، وإذا به قد عاد إليهم، وفي يده قلم نحاس مذهب، فقال لهم: وهذا مما أعددته للدفع مع هذه المحبرة، فتفضلوا بإكمال الصنيعة عندي بذكره، فبدر أبو الطاهر وقال: حملت بأصفر من نجار حليها تخفيه أحياناً وحيناً يظهر خرسان إلا حين يرضع ثديها فتراه ينطق ما يشاء ويذكر قال ابن الأبار في تحفة القادم: وحضر يوماً في جماعة من أصحابه وفيهم أبو عبد الله ابن زرقون في عقب شعبان في مكان، فلما تملأوا من الطعام قال أبو الطاهر لابن زرقون: أجز يا أبا عبد الله، وأنشد: حمدت لشعبان المبارك شبعة تسهل عندي الجوع في رمضان

_ (1) مر البيتان ص: 113، 160 والأبيات والترجمة عن تحفة القادم: 22 بإيجاز. (2) التحفة: سكني.

كما حمد الصب المتيم زورة تحمل فيها الهجر طول زمان فقال: دعوها بشعبانية ولو أنهم دعوها بشبعانية لكفاني 16 - وقال أبو عبد الله ابن خميس الجزائري: تحفظ من لسانك، ليس شيء أحق بطول سجن من لسان وكن للصمت ملتزماً إذا ما أردت سلامة في ذا الزمان وقال أيضاً (1) : كن حلس بيتك مهما فتنة ظهرت تخلص بدينك وافعل دائماً حسنا وإن ظلمت فلا تحقد على أحد إن الضغائن فاعلم تنشئ الفتن وقال: بدا لي أن خير الناس عيشاً من آمنه الإله من الأنام فليس لخائف عيش لذيذ ولو ملك مع الشآم وله (2) : جانب (3) جميع الناس تسلم منهم ... إن السلامة في مجانبة الورى وإذا رأيت من إمرئ يوماً أذى لا تجزه أبداً بما منه ترى وله (4) :

_ (1) م: وقال وقد أجاد ونصح بموعظته. (2) م: وقال في مجانبة الناس والعفو عمن ظلمك. (3) دوزي: سالم. (4) م: وله في تأديب الصغار والحسد.

من أدب ابناً له صغيراً قرت به عينه كبيرا وأرغم الأنف من عدو يحسد نعماءه كثيرا 17 - وقال أبو محمد (1) ابن هرون القرطبي: بيد الإله مفاتح الرزق الذي أبوابه مفتوحة لم تغلق عجباً لذي فقر يكلف مثله في الوقت شيئاً عنده لم يخلق وقال أيضاً (2) : لعمرك ما الإنسان يرزق نفسه ولكنما الرب الكيريم يسخره وما بيد المخلوق في الرزق حيلة تقدمه عن وقته أو تؤخره 18 - وقال الأديب الأستاذ أبو محمد ابن صارة رحمه الله تعالى: يا من يصيخ إلى داعي السفاة وقد نادى به الناعيان الشيب والكبر إن كنت لا تمسع الذكرى ففيما ثوى في رأسك الواعيان السمع والبصر ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل لم يهده الهاديان العين والأثر لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك ال أعلى ولا النيران الشمس والقمر ليرحلن عن الدنيا وإن كره فراقهما الثاويان البدو والحضر وقال رحمه الله تعالى في ابنة ماتت له: ألا يا موت كنت بنا رؤوفاً فجددت الحياة لنا بزوره حماد لفعلك المشكور لما كفيت مؤونة وسترت عوره فأنكحنا الضريح بلا صداق وجهزنا الفتاة بغير شوره

_ (1) م: وقال محمد. (2) م: وقال رحمه الله في الرزق وتسخيره.

19 - وأنشد أبو عبد الله ابن الحاج البكري الغرناطي: يا غادياً في غفلة ورائحاً إلى متى تستحسن القبائحا وكم إلى كم لا تخاف موقفاً يستنطق الله به الجوارحا يا عجباً منك وكنت مبصراً كيف تجنبت الطريق الواضحا كيف تكون حين تقرا في غد صحيفة قد ملئت فضائحا أم كيف ترضى أن تكون خاسراً يوم يفوز من يكون رابحا وممن روى عنه هذه الأبيات الكاتب الرئيس أبو الحسن ابن الجياب، وتوفي ابن الحاج المذكور سنة 715 رحمه الله تعالى. 20 - وقال حافظ الأندلس ومحدثها أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي رحمه الله تعالى: إلهي مضت للعمر سبعون حجة ولي حركات بعدها وسكون فيا ليت شعري أين أو كيف أو متى يكون الذي لا بد أن سيكون والصواب أنهما لغيره كما ذكرته في غير هذا الموضع، وبالجملة فهما من كلام الأندلسيين، وإن لم يحقق ناظمهما بالتعيين (1) . 21 - وقال أبو بكر يحيى التطيلي رحمه الله تعالى: إليك بسطت الكف في فحمة الدجى نداء غريق في الذنوب عريق رجاك ضميري كيف تخلص جملتي وكم من فريق شافع لفريق 22 - وحكي أن بعض المغاربة كتب إلى الملك الكامل بن العادل بن أيوب رقعة في ورقة بيضاء، إن قرئت في ضوء السراج كانت فضية، وإن قرئت في

_ (1) انظر ص: 117 وكذلك نسبهما لأبي بكر ابن منخل الشلبي في التكملة: 496 وإنما أنشدهما أبو الربيع وقال لتلميذه إنه رآهما في ديوان ابن منخل.

الشمس كانت زهبية، وإن قرئت في الظل كانت حبراً أسود، وفيها هذه الأبيات: لئن صدني البحر عن موطني وعيني بأشواقها زاهره فقد زخرف الله لي مكة بأنوار كعبته الزاهره وزخرف لي بالنبي يثربا وبالملك الكامل القاهره فقال الملك الكامل قل: وطيب لي بالنبي طيبة وبالملك الكامل القاهره وأظن أن المغربي أندلسي لقوله: لئن صدني البحر عن موطني، فلذلك أدخلته في أخبار الأندلسيين ولست على تحقيق ويقين، والله أعلم. 23 - وأنشد ابن الوليد المعروف بابن الخليع قال: أنشدنا أبو عمر ابن عبد البر النمري الحافظ: تذكرت من يبكي علي مداوماً فلم ألف إلى العلم بالدين والخبر علوم كتاب الله والسنن التي أتت عن رسول الله مع صحة الأثر وعلم الألى من ناقديه وفهم ما له اختلفوا في العلم بالرأي والنظر وأنشد له أيضاً: مقالة ذي نصح وذات فوائد إذا من ذوي الألباب كان استماعها عليكم بآثار النبي فإنه من افضل أعمال الرشاد اتباعها 24 - وقال أبو الحسن عبد الملك بن عياش الكاتب الأزدي اليابري، وسكن أبوه قرطبة (1) : عصيت هوى نفسب صغيراً وعندما رمتني الليالي بالمشيب وبالكبر

_ (1) الذيل والتكملة 5: 28.

أطعت الهوى، عكس القضية ليتني خلقت كبيراً وانتقلت إلى الصغر وقيل: إن ابنه أبا الحسن علي بن عبد الملك قال بيتاً مفرداً في معنى ذلك، وهو: هنيئاً له إذ لم يكن كابنه الذي ... أطاع الهوى في حالتيه وما اعتبر (1) وقيل: إن هذا البيت رابع أربعة أبيات (2) . 25 - وقال أبو إسحاق ابن خفاجة لما اجتمع به أبو العرب (3) وسأله عن حاله وقد بلغ في عمره إحدى وثمانين سنة، فأنشده لنفسه: أي عيش أو غذاء أو سنه لابن إحدى وثمانين سنه قلص الشيب به ظل امرئ طالم جر صباه رسنه تارة تسطو به سيئة تسخن العين وأخرى حسنه 26 - وقال أبو محمد عبد الوهاب بن محمد القيسي المالقي: الموت حصاد بلا منجل يسطو على القاطن والمنجلي لا يقبل العذر على حالة ما كان من مشكل أو من جلي 27 - وقال الشيخ عبد الحق الإشبيلي الأزدي صاحب كتاب العاقبة

_ (1) الذيل: وما ائتمر؛ وعن ابن الأبار: وما اعتذر. (2) قلت: أورد في الذيل والتكملة ثلاثة أبيات قبله وهي: أبي قال قولا سار في البدو والحضر ... وخلف في الباقين ذكراً وقد غبر وأسلف إحساناً أوان اقتباله ... وخاف من التقصير في حيز الكبر لذلك ما وإلى أنينا وزفرة ... وأصبح يهوى أن يعاد إلى الصغر هنيئاً له........ ... ......... (البيت) . (3) هو أبو العرب عبد الوهاب التجيبي والأبيات في بغية الملتمس ص: 203 والمعجم: 61 والديوان: 355.

والإحكام وغيرهما: إن في الموت والمعاد لشغلاً وإدكاراً لذي النهى وبلاغا فاغتنم خطتين قبل المنايا صحة الجسم يا أخي والفراغا 28 - وقال أبو الفضل عبد المنعم بن عمر بن عبد الله بن حسان الغساني من أهل جليانة من عمل وادي آش (1) : ألا إنما الدنيا بحار تلاطمت فما أكثر الغرقى على الجنبات وأكثر من صاحبت يغرق إلفه وقل فتى ينجى من الغمرات وكان المذكور من أهل العلم والأدب، رحل وحج وتجول في البلاد، ونزل القاهرة المعزية، وكان أحد السياحين في الأرض، وله تآليف منها جامع أنماط الوسائل في القريض والخطب والرسائل وأكثره من نظمه ونثره، رحمه الله تعالى. 29 - وقال عبد العليم بن عبد الملك بن حبيب القضاعي الطرطوشي: وما الناس ألا كالصحائف غيرت وألسنهم إلا كمثل التراجم إذا اشتجر الخصمان في فطنة الفتى فمقوله في ذاك أعدل حاكم 30 - وقال أبو الحكم عبد المحسن البلنسي: من كان للدهر للدهر خدناً في تصرفه أبدت له صفحة الدهر الأعاجيبا من كان خلواً من الآداب سربله مر الليالي على الأيام تأديبا 31 - وقال أبو حاتم عمر بن محمد بن فرج من أهل ميرتلة، مدينة بغرب الأندلس، يمدح شهاب الأندلس، يمدح شهاب القضاعي (2) :

_ (1) مرا في ج 2: 614. (2) م: يمدح بها شهاب القضاعي المشهور وهي.

شهب السماء ضياؤها مستور عنا إذا أفلت توارى النور فانزع هديت إلى شهاب نوره متألق آماله تبصير تشفي جواهره القلوب من العمى ولطالما انشرحت بهن صدور فإذا أتى فيه حدبث محمد خذ في الصلاة عليه يا مغرور وترحمن على القضاعي الذي وضع الشهاب فسعيه مشكور 32 - وقال الأستاذ أبو محمد غانم بن وليد المخزومي المالقي: ثلاثة يجهل مقدارها الأمن والصحة والقوت فلا تثق بالمال من غيرها ... لو أنه در وياقوت (1) وتذكرت بهذا قول الآخر: إذا القوت تأتى ل ك والصحة والأمن وأصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن وكل ذلك أصله الحديث النبوي [على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فإنه قال] (2) : " من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، معه قوت يومه، فكأنما سيقت له الدنيا بحذافيرها ". وأخبرنا شيخنا القصار أبو عبد الله محمد بن قاسم القيسي مفتي مدينة فاس وخطيبها سنة عشر وألف، قال: حدثنا شيخنا أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل التونسي نزيل فاس الشهير بخروف [قال] حدثنا الإمام سيدي فرج الشريف

_ (1) زاد في م هنا المقطوعة الآتية: وقال آخر: قميص من القطن من حله ... وشربة ماء قراح وقوت ينال بها المرء ما يبتغي ... وهذا كثير على من يموت وتذكرت بالأخرى ... إلخ. (2) زيادة من م.

الطحطاوي، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقول " من أصبح آمناً في سربه..... الحديث ". رجع وقال الأستاذ العارف بالله سيدي أبو العباس أحمد بن العريف الأندلسي دفين مراكش، وقد زرت قبره سنة 1010 (1) : إذا نزلت بساحتك الرزايا فلا تجزع لها جزع الصبي فإن لكل نازلة عزاء بما قد كان من فقد النبي وقال رحمه الله تعالى: شدوا الرحال وقد نالوا المنى بمنى وكلهم بأليم الشوق قد باحا راحت ركائبهم تندى روائحها طيباً بما طاب ذاك الوفد أشباحا نسيم قبر النبي المصطفى لهم راح إذا سكروا من أجله فاحا يا راحلين إلى المختار من مضر زرتم جسوماً وزرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على شوق وعن قدر ومن أقام على عذر كمن راحا 34 - وقال (2) أبو محمد المحاربي: داء الزمان وأهله داء يعز له العلاج أطلعت في ظلمائه رأياً كما سطع السراج لمعاشر أعيا ثقا في من قناتهم اعوجاج كالدر ما لم تختبر فإذا اختبرت فهم زجاج

_ (1) القطعة في التحفة: 17 والوافي 8 الورقة: 50. (2) م: وقال الأديب.

35 - وقال أبو عبد الله غربيب الثقفي القرطبي (1) : يهددني بمخلوق ضعيف يهاب من المنية ما أهاب له أجل ولي أجل وكل سيبلغ حيث يبلغه الكتاب وما يدري لعل الموت منه ... قريب أينا قبل (2) المصاب وله (3) : أيها الآمل ما ليس له طالما غر جهولاً أمله رب من بات يمني نفسه خانه دون مناه أجله وفتى بكر في حاجاته عاجلاً أعقب ريثاً عجله قل لمن مثل في أشعاره يذهب المرء ويبقى مثله نافس المحسن في إحسانه فسيكفيك مسيئاً عمله قال ابن الأبار: وهذا البيت الأخير في برنامج الطبني. 36 - وقال أبو الحسين سليمان بن الطراوة النحوي المالقي (4) : وقائلة أتصبو للغواني وقد أضحى بمفرقك النهار فقلت لها حثثت على التصابي أحق الخيل بالركض المعار 37 - وقال الحافظ أبو الربيع ابن سالم: إذا برمت نفسي بحال أحلتها على أمل ناء فقرت به النفس

_ (1) غربيب بن عبد الله الطليطلي من قدامى الشعراء وكان أهل بلده يشاورونه في أمورهم؛ انظر الجذوة: 307 (وبغية الملتمس رقم: 1281) والمغرب 2: 23 والقطعة الأولى في المصادر المذكورة. (2) قبل: رواية الجذوة، وفي الأصول: أينا منه. (3) م: وله أيضاً في طول الأمل وما الأمل إلا غرور. (4) انظر أخبار وتراجم أندلسية (السلفي) : 17.

وأنزل أرجاء الرجاء ركائبي إذا رام إلماماً بساحتي اليأس وإن أوحشتني من أماني نبوة فلي في الرضى بالله والقدر الأنس 38 - وقال أبو الحسن سلام بن عبد الله بن سلام الباهلي الإشبيلي (1) مما أنشده لنفسه في كتابه الذي سماه الذخائر والأعلاق في أدب النفوس ومكارم الأخلاق: إذا تم عقل المرء تمت فضائله وقامت على الإحسان منه دلائله فلا تنكر الأبصار ما هو فاعله ولا تنكر الأسماع ما هو قائله وكان أبو المذكور من وزراء المعتمد بن عباد، رحم الله تعالى الجميع. 39 - وقال أبو بكر الزبيدي اللغوي: اترك الهم إذا ما طرقك وكل الأمر إلى من خلقك وإذا أمل قوم أحداً فإلى ربك فامدد عنقك 40 - وقال القاضي أبو الوليد هشام بن محمد القيسي الشلبي المعروف بابن الطلاء: فاوضت القاضي أبا عبد الله ابن شبرين (2) ما يحذر من فتنة النظر إلى الوجوه الحسان، فقلت: لا تنظرن إلى ذي رونق أبداً واحذر عقوبة ما يأتي به النظر فكم صريع رأيناه صريع هوى زو نظرة قادها يوماً له القدر فأجابني في المعنى الذي انتحيته:

_ (1) سلام - بتخفيف اللام - كان شيخاً جليلاً أديباً شاعراً وله خطب بارعة ومقامات سبع، وقد أودع كتابه المذكور جملة وافرة من شعره؛ توفي بشلب سنة 544 (الذيل والتكملة 4: 48) . (2) زاد في م: العالم الفقيه المحدث، فسألته ما يحدث وما ... الخ.

إذا نظرت فلا تولع بتقليب فربما نظرة عادت بتعذيب ورب هنا للتكثير. 41 - وقال الأستاذ ابن حطوط الله: أتدري أنك الخطاء حقاً وأنك بالذي تأتي رهين وتغتاب الألى فعلوا وقالوا وذاك الظن والإفك المبين قال في " الإحاطة " (1) : أبو محمد عبد الله بن سليمان بن داود بن عمر بن حطوط الله الأنصاري الحارثي، كان فقيهاً جليلاً أصولياً كاتباً أديباً شاعراً متفنناً في العلوم ورعاً ديناً حافظاً ثبتاً فاضلاً، درس كتاب سيبويه ومستصفى أبي حامد الغزالي، وكان، رحمه الله تعالى، مشهوراً بالعقل والفضل، معظماً عند الملوك، معلوم القدر لديهم، يخطب في مجالس الأمراء والمحافل الجمهورية، مقدماً في ذلك بلاغة وفصاحة إلى أبعد مضمار، ولي قضاء إشبيلية وقرطبة ومرسية وسبتة وسلا وميورقة، فتظاهر بالعدل، وعرف بما أبطن من الدين والفضل، وكان من العلماء العاملين، مجانباً لأهل البدع والأهواء، بارع الخط، حسن التقييد، وسمع الحديث، فحصل له سماع لم يشاركه فيه أحد من أهل الغرب، وسمع على الجهابذة كابن بشكوال ةغيره، وقرأ أكثر من ستين تأليفاً بين كبار وصغار، منها الصحيحان، وأكثر عن ابن حبيش وابن الفخار والسهيلي وغيرهم، ومولده في محرم سنة 541، ومات بغرناطة سحر يوم الخميس ثاني ربيع الأول سنة612، ونقل منها في تابوته الذي ألحد فيه يوم السبت تاسع عشر شعبان من السنة المذكورة إلى مالقة فدفن بها، رحمه الله تعالى، انتهى، وبعضه بالمعنى مختصراً.

_ (1) الإحاطة، الورقة: 219.

وللمذكور ترجمة واسعة جداً، وألمعت بما ذكرت على وجه التبرك بذكره، رحمه الله تعالى ورضي عنه. 42 - وقال أبو المتوكل الهيثم بن أحمد السكوني الإشبيلي (1) : يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبة باب الغني، كذا حكم المقادير وإنما الناس أمثال الفراش فهم يرون حيث مصابيح الدنانير وقال تلميذه ابن الأبار: أنشدني بعض أصحابنا عنه هذين البيتين، ولم أسمعهما منه، انتهى. قلت: وبهذا تعرف وهم من نسب البيتين إلى عبد المهيمن الحضرمي، فإن هذا كان قبل أن يخلق والد عبد المهيمن الحضرمي، وقد أنشدهما الجلاب الفهري في روح الشعر وروح الشحر. 43 - وقال أبو محمد القاسم بن الفتح الحجاري المعروف بابن افريولة: ركابي بأرجاء الرجاء مناخة ورائدها علمي بأنك لي رب وأنك علام بما أنا قائل كما أنت علام بما أضمر القلب لئن آدها ذنب تولت بعبئه لقد قرعت باباً به يغفر الذنب وقال أيضاً (2) : عجباً لحبر قد تيقن أنه سيرى اقتراف يديه في ميزانه ثم امتطى ظهر المعاصي جهرة لم يثنه التأنيب عن عصيانه أنى عصى ولكل جزء نعمة من نفسه وزمانه ومكانه 44 - وقال الشاعر الكبير الشهير أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن مجبر الفهري:

_ (1) انظر ما تقدم ج 3: 379. (2) م: ومما ينسب إليه أيضاً قوله.

إن الشدائد قد تغشى الكريم لأن تبين فضل سجاياه وتوضحه كمبرد القين إذ يعلو الحديد به وليس يأكله إلا ليصلحه وقال (1) : لا تغبط المجدب في عمله وإن رأيت الخصب في حاله إن الذي ضيع من نفسه فوق الذي ثمر من ماله 45 - وقال أبو الحجاج يوسف بن أحمد الأنصاري المنصفي البلنسي (2) : قال لي النفس أتاك الردى وأنت في بحر الخطايا مقيم هلا اتخذت الزاد قلت أقصري هل يحمل الزاد لدار الكريم وكان المنصفي المذكور صالحاً، وله رحلة حج فيها، ومال إلى علم التصوف، رحمه الله تعالى، وله فيه أشعار حملت عنه. 46 - وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن الصائغ القرشي الأموي الأندلسي (3) مخمساً أبيات عز الدين بن جماعة قاضي القضاة رحمه الله تعالى: هم الأبي على مقدار منصبه وبسط راحته في طي منصبه ما أنت والدهر تشكو من تقلبه يا مبتلى بقضاء قد بليت به عليك بالصبر واحذر يا أخي جزعك صبراً فللصبر في حرب العدا عدد ذر العدو يمته الغيظ والحسد ولا يكن لك إلا الله معتمد واعلم بأن جميع الخلق لو قصدوا أذاك لم يقدروا والله قد رفعك

_ (1) م: ومن نكته العجيبة قوله. (2) انظر ما تقدم ج 3: 595. (3) ترجم له الصفدي (الوافي 3: 375) ، وكان ممن لقيه بالقاهرة، ولقبه محب الدين وله كنية أخرى هي " أبو البقاء ".

أعلاك في رتب غر معظمة بالعرف معروفة بالعلم معلمة ومن يناويك في بهماء مظلمة فاصرف هواك وجانب كل مظلمة واصحب فديتك من بالنصح قد نفعك قد اجتلبت من الأيام تبصرة وقد كفاك الهدى والذكر تذكرة فاشكر وقدم مع الإخلاص معذرة واسأل إلهك في الإسحار مغفرة منه وكن معه حتى يكون معك وتوفي المذكور بالقاهرة في الطاعون العام سنة 749. 47 - وقال أبو عبد الله الحميدي (1) : الناس نبت وأرباب القلوب لهم روض وأهل الحديث الماء والزهر من كان قول رسول الله حاكمه فلا شهود له إلا الألى ذكروا وقال أيضاً: من لم يكن للعلم عند فنائه أرج فإن بقاءه كفنائه بالعلم يحيا المرء طول حياته فإذا انقضى أحياه حسن ثنائه وقال أيضاً: دين الفقيه حديث يستضيء به عند الحجاج وإلا كان في الظلم إن تأوه ذو مذهب في قفر مشكلة لاح الحديث له في الوقت كالعلم ولما تعرض بعض من لا يبالي بما ارتكب إلى أصحاب الحديث بقوله: أرى الخير في الدنيا يقل كثيره وينقص نقصاً والحديث يزيد

_ (1) م: محمد الحميدي الأندلسي.

فلو كان خيراً كان كالخير كله ولكن شيطان الحديث مريد ولابن معين في الرجال مقالة سيسأل عنها والمليك شهيد فإن يك حقاً قوله فهي غيبة وإن يك زوراً فالقصاص شديد أجابه الإمام أبو عبد الله الحميدي بقصيدة طويلة، منها: وإني إلى إبطال قولك قاصد ولي من شهادات النصوص جنود إذا لم يكن خيراً كلام نبينا لديك فإن الخير منك بعيد وأقبح شيء أن جعلت لما أتى عن الله شيطاناً وذاك شديد وما زلت في ذكر الزيادة معجباً بها تبدئ التلبيس ثم تعيد كلام رسول الله وحي ومن يرم زيادة شيء فهو فيه عنيد ومنها (1) في ابن معين: وما هو إلا واحد من جماعة وكلهم فيما حكوه شهود فإن صد عن حكم الشهادة جاهل فإن كتاب الله فيه عتيد ولولا رواة الدين ضاع وأصبحت معالمه في اللآخرين تبيد هم حفظوا الآثار من كل شبهة وغيرهم عما اقتنوه رقود وهم هاجروا في جمعها وتبادروا إلى كل أفق والمرام كؤود وقاموا بتعديل الرواة وجرحهم فدام صحيح النقل وهو جديد بتبليغهم صحت معالم ديننا حدود تحروا حفظها وعهود وصح لأهل النقل منها احتجاجهم فلم يبق إلا عاند وحقود وحسبهم أن الصحابة بلغوا وعنهم رووا لا يستطاع جحود فمن حاد عن هذا اليقين فمارق مريد لإظهار الشكوك مريد

_ (1) م: ومن هذه القصيدة.

ولكن إذا جاء الهدى ودليله فليس لموجود الضلال وجود وإن رام أعداه الديانة كيدها فكيدهم بالمخزيات مكيد 48 - وقال أبو بكر محمد بن محرز الزهري البلنسي (1) ، والتزم الراء في كل كلمة: اشكر لربك وانتظر في إثر عسر الأمر يسرا واصبر لربك وادخر في ستر ضر الفقر أجرا فالدهر يعثر بالورى والصبر بالأحرار أحرى والوفر أظهر معشرا والفقر بالأخيار يغرى وقال أيضاً: اقنع بما أوتيته تنل الغنى وإذا دهتك ملمة فتصبر واعلم بأن الرزق مقسوم فلو رمنا زيادة ذرة لم نقدر والله أرحم بالعباد فلا تسل بشراً تعش عيش الكرام وتؤجر وإذا سخطت لضر حالك مرة ورأيت نفسك قد عدت فاستبصر وانظر إلى من كان دونك تدكر لعظيم نعمته عليك فتشكر 49 - وقال الحافظ أبو محمد ابن حزم: أنشدني والدي أحمد بن سعيد ابن حزم (2) : إذا شئت أن تحيا غنياً فلا تكن على حالة إلا رضيت بدونها 50 - وقال القاضي أبو العباس أحمد بن الغماز البلنسي نزيل تونس: وقالوا أما تخشى ذنوباً أتيتها ولم تك ذا جهل فتعذر بالجهل

_ (1) ترجمته في التحفة: 143. (2) الجذوة: 118.

فقلت لهم هبني كما قد ذكرتم تجاوزت في قولي وأسرفت في فعلي أما في رضى مولى الموالي وصفحه رجاء ومسلاة لمقترف مثلي وأنشد رحمه الله تعالى لنفسه في اليوم الذي مات فيه، وهو آخر ما سمع منه ليلة عاشوراء سنة 693: أدعوك يا رب مضطراً على ثقة بما وعدت كما المضطر يدعوكا دارك بعفوك عبداً لم يزل أبداً في كل حال من الأحوال يرجوكا طالت حياتي ولما أتخذ عملاً إلا محبة أقوام أحبوكا 51 - وقال ابن الزقاق، ويقال إنها مكتوبة على قبره (1) : أإخواننا والموت قد حال دوننا وللموت حكم نافذ في الخلائق سبقتكم للموت والعمرطية وأعلم أن الكل لا بد لاحقي بعيشكم أو باضطجاعي في الثرى ألم نك في صفو من العيش رائق فمن مر بي فليمض لي مترحماً ولا يك منسياً وفاء الأصادق 52 - وقال الخطيب (2) أبو عبد الله محمد بن صالح الكتاني الشاطبي، ومولده سنة614 (3) : أرى العمر يفنى والرجاء طويل وليس إلى قرب الحبيب سبيل حباه إله الخلق أحسن سيرة فما الصبر عن ذاك الجمال جميل متى يشتفي قلبي بلثم ترابه ويسمح دهر بالمزار بخيل دللت عليه في أوائل أسطري فذاك نبي مصطفى ورسول

_ (1) ديوانه: 205. (2) زاد في م: الجليل الصالح الفقيه. (3) م: الشاطبي الأندلسي ومولده بشاطبة ... الخ.

53 - وقال أيمن بن محمد الغرناطي نزيل طيبة على ساكنها الصلاة والسلام: أرى حجرات قد أحاطت عراصها ببحر محيط حصره غير ممكن بحار المعالي والمعاني وإن طمت لدى لجة تفنى وعن هوله تني محمد المحمود في كل موطن أبو القاسم المختار من خير معدن نبي إذا أبصرت غرة وجهه تيقنت أن العز عز المهيمن لك الله من بدر إذا الشمس قابلت محياه قالت إن ذا طالع سني وله (1) : كل القلوب مطيعة لك في الهوى جانب فديتك من تشاء ووال الحسن وال، والقلوب رعية وعلى الرعية أن تطيع الوالي وقال أيضاً (2) : ألا أيها الباكي على ما يفوته من الحظ في الدنيا جهلت وما تدري على فوت حظ من جوار محمد حقيق بأن تبكي إلى آخر العمر ستدري إذا قمنا وقد رفع اللوا وأحمدها ديناً إلى موقف الحشر من الفائز المغبوط في يوم عرضه أجار النبي المصطفى أم أخو الوفر وله: فررت من الدنيا إلى ساكن الحمى فرار محب لائذ بحبيب لجأت إلى هذا الجناب، وإنما لجأت إلى سامي العماد رحيب وناديت مولاي الذي عنده الغنى نداء عليل في الزمان غريب

_ (1) م: ومن عجيب قوله ورقيق تغزله قوله. (2) م: وقال أيضاً يفخر بسيدنا محمد (ص) .

أمولاي إني قد أتيتك لائذاً وأنت طبيبي يا أجل طبيب فقال لك البشرى ظفرت من الرضى بأوفر حظ مجزل ونصيب تناومت في أطلال ليل شبيبتي فأدركني بالفجر صبح مشيبي 54 - وقال أبو بكر الزبيدي اللغوي: لو لم تكن نار ولا جنة للمرء إلا أنه يقبر لكان فيه واعظ زاجر ناه لمن يسمع أو يبصر ولقد صدق رحمه الله تعالى ورضي عنه. 55 - ولبعض فقهاء طلبيرة: رأيت الانقباض أجل شيء وأدعى في الأمور إلى السلامه فهذا الخلق سالمهم ودعهم فرؤيتهم تؤول إلى الندامه ولا تغنى بشيء غير شيء يقود إلى خلاصك يوم القيامه 56 - وأمر الكاتب أبو بكر ابن مغاور بكتب هذه الأبيات على قبره، وهي له (1) : أيها الواقف اعتباراً بقبري استمع فيه قول عظمي الرميم أودعوني بطن الضريح وخافوا من ذنوب كلومها بأديمي قلت لا تجزعوا علي فإني حسن الظن بالرؤوف الرحيم ودعوني بما اكتسبت رهيناً غلق الرهن عند مولى كريم 57 - وقال (2) الخطيب ابن صفوان:

_ (1) مرت ثلاثة من هذه الأبيات في ج 3: 331. (2) م: وقال العالم العلامة.

رأيتك يدنيني إليك تباعدي فأبعدت نفسي لابتغائي في القرب هربت له منه إليه فلم يكن بي البعد في قربي فصح به قربي فيا رب هل نعمى على العبد بالرضى ينال بها فوزاً من القرب بالقرب وقال الوادي آشي: وهذا النظم معناه جليل، وتكرار القرب وإن قبح عند تاعروضي فهو المحب جميل، وهم القوم يسلم لهم في الأفعال والأقوال، وترتجى بركتهم في كل الأحوال، انتهى. 58 - وقال بعض قدماء الأندلس: سئمت الحياة على حبها وحق لذي السقم أن سأما فلا عيش إلا لذي صحة تكون له للتقى سلما وذيله آخر منهم بقوله: ولا داء إلا لمن لم يزل يقارب في دينه مأثما فلست تعالج جرح الهوى هديت بمثل التقى مرهما 59 - وقال أبو جعفر أحمد (1) السياسي القيسي المري: إذا ما جنى يوماً عليك جناية ظلوم يدق السمر بأساً ويقصف فلا تنتقم يوماً عليه بما جنى وكل أمره للدهر فالدهر منصف وقال أيضاً (2) : ليس حلم الضعيف حلماً، ولكن حلم من لو يشاء صال اقتدارا

_ (1) أحمد: سقطت من ق؛ ولعل السياسي أن تكون " البياسي ". (2) م: وله أيضاً في الحلم والتجاوز عن سيئات من زل إن هفا.

من تغاضى عن السفيه بحلم أصبح الناس دونه أنصارا من يزوج كريمة الهمة العل يا علواً فقد أجاد الخيارا ستريه عند الولاد بنيها ال علم والحلم والأناة كبارا 60 - وقال الخطيب الصالح أبو إسحاق ابن أبي العاصي: اعمل بعلمك تؤت علماً إنما جدوى علوم المرء نهج الأقوم وإذا الفتى قد نال علماً ثم لم يعمل به فكأنه لم يعلم وقال موطئاً غلى البيت الأخير: أمولاي أنت العفو الكريم لبذل النوال وللمعذره علي ذنوب وتصحيفها ومن عندك الجود والمغفره 61 - وقال الخطيب المتصوف الشهير أبو جعفر أحمد بن الزيات من بلش مالقة: يقال خصال أهل العلم ألف ومن جمع الخصال الألف سادا ويجمعها الصلاح فمن تعدى مذاهبه فقد جمع الفسادا وقال أيضاً: إن شئت فوزاً بمطلوب الكرام غداً فاسلك من العمل المرضي منهاجا واغلب هوى النفس لا يغررك خادعه فكل شيء يحط القدر منها جا 62 - وقال الأديب الكبير الشهير أبو محمد عبد الله بن محمد بن صارة البكري الشنتريني رحمه الله تعالى (1) :

_ (1) انظر أيضاً ما تقدم ص: 117

بنوا الدنيا بجهل عظموها فجلت عندهم وهي الحقيره يهارش بعضهم بعضاً عليها مهارشة الكلاب على العقيره وقال: أي عذر يكون لا أي عذر لابن سبعين مولع بالصبابه وهو ماء لم تبق منه الليالي في إناء الحياة إلا صبابه وقال أيضاً: ولقد طلبت رضى البرية جاهداً فإذا رضاهم غاية لا تدرك وأرى القناعة للفتى كنز له والبر أفضل ما بخ يتمسك 63 - وقال أبو محمد ابن صاحب الصلاة الداني، ويعرف بعبدون (1) : وعجل شيبي أن ذا الفضل مبتلى بدهر غدا ذو النقص فيه مؤملا ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى بها الحر يشقى واللئيم ممولا متى ينعم المعتر عيناً إذا اعتفى جواداً مقلاً أو غنياً مبخلا 64 - وقال أبو الحكم عبيد الله الأموي مولاهم الأندلسي: إذا كان إصلاحي لجسمي واجباً فإصلاح نفسي لا محالة أوجب وإن كان ما يفنى إلى النفس معجباً فإن الذي يبقى إلى العقل أعجب 65 - وقال الفقيه الزاهد أبو إسحاق إبراهيم ابن مسعود الإلبيري رحمه الله تعالى: لله أكياس جفو أوطانهم فالأرض أجمعها لهم أوكطان

_ (1) انظر التكملة: 69.

جالت عقولهم مجال تفكر وجلالة فبدا لها الكتمان ركبت بحار الفهم في فلك النهى وجرى بها الإخلاص والإيمان فرست بهم لما انتهوا بجفونهم ... مرسى لهم فيه غنى وأمان (1) 66 - وقال أبو جعفر ابن خاتمة رحمه الله تعالى: يا من يغيث الورى من بعدما قنطوا ارحم عباداً أكف الفقر قد بسطوا عودتهم بسط أرزاق بلا سبب سوى جميل رجاء نحوه انبسطوا وعدت بالفضل في ورد وفي صدر بالجود إن أقسطوا والحلم إن قسطوا عوارف ارتبطت شم الأنوف لها وكل صعب بقيد الجود يرتبط يا من تعرف بالمعروف فاعترفت بجم إنعامه الأطراف والوسط وعالماً بخفيات الأمور فلا وهم يجوز عليه لا ولا غلط عبد فقير بباب الجود منكسر من شأنه أن يوافي حين ينضغط مهما أتى يمد الكف أخجله قبائح وخطايا أمرها فرط يا واسعاً ضاق خطو الخلق عن نعم منه إذا خطبوا في شكرها خبطوا وناشراً بيد الإجمال رحمته فليس يلحق منه مسرفاً قنط ارحم عباداً بضنك العيش قد قنعوا فأينما سقطوا بين الورى لقطوا إذا توزعت الدنيا فما لهم غير الدجنة لحف والثرى بسط لكنهم من ذرا علياك في نمط سام رفيع الذرى ما فوقه نمط ومن يكن بالذي يهواه مجتمعاً فما يبالي أقام الحي أم شحطوا

_ (1) زاد في م أبياتاً قال: وقال الشيخ ابو بكر ابن مغاور (م: مفاوز) وقيل إنها لابن لبال: ودعتها ومدامعي ... تنهل بالدمع الطليق فبكت وأذرت أدمعاً ... في صفحة الخد الأنيق ومصت تعض بنانها ... بين التلهف والشهيق فرأيت دراً ساقطاً ... من نرجسين على شقيق ورأيت مبيض اللجين ... يعض محمر العقيق

نحن العبيد وأنت الملك ليس سوى وكل شيء يرجى بعد ذا شطط وقال رحمه الله تعالى: ملاك الأمر تقوى الله فاجعل تقاه عدة لصلاح أمرك وبادرنحو طاعته بعزم فما تدري متى يمضي بعمرك وقال أيضاً (1) : إذا كنت تعلم أن الأمور بحكم الإله كما قد قضى ففيم التفكر والحكم ماض ولا رد للحكم مهما مضى فخل الوجود كما شاءه مدبره وابغ منه الرضى وقال (2) : إذا ما الدهر نابك منه خطب وشد عليك من حنق عقاله فكل لله أمرك لا تفكر ففكرك فيه خبط في حباله وقال (3) : عدوك داره ما اسطعت حتى يعود لديك كالخل الشفيق فما في الأرض أردى من عدو وما في الأرض أجدى من صديق وقال (4) : إن أعرضت دنياك عنك بوجهها وغدت ومنها في رضاك نزاع فاحذر بنيها واحتتفظ من شرهم إن النبين لأمهم أتباع

_ (1) م: في تفويض الأمر إلى الله والإتكال عليه. (2) م: وقال في معناه في توكيل الأمر إلى الله تعالى. (3) م: في مداراة العدو ومكايدته. (4) م: وقد أبلغ في النصيحة وأجاد إلى الغاية.

وقال (1) : يا مجيب المضطر عند الدعاء منك دائي وفي يديك دوائي جذبتني الدنيا إليها بضبعي ودعتني لمحنتي وشقائي يا إلهي وأنت تعلم حالي لا تذرني شماتة الأعداء 67 - وقال الحافظ الكبير الشهير أبو عبد الله الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين رحمه الله تعالى (1) : كتاب الله عز وجل قولي وما صحت به الآثار ديني وما اتفق الجميع عليه بدءاً تكن منها على عين اليقين وقال: طريق الزهد أفضل ما طريق وتقوى الله بادية الحقوق فثق بالله يكفك، واستعنه يعنك، وذر بنيات الطريق 68 - وقال أبو بكر مالك بن جبير رحمه الله تعالى: رحلت وإنني من غير زاد وما قدمت شيئاً للمعاد ولكني وثقت بجود ربي وهل يشقى المقل مع الجواد وتوفي المذكور بأريولة - أعادها الله تعالى إلى الإسلام - سنة 561. 69 - وقال ابن جبير اليحصبي وهو الكتب أبو عبد الله محمد: كلما رمت أن أقدم خيراً لمعادي ورمت أني أتوب

_ (1) م: في التضرع إليه تعالى والابتهال إليه. (1) م: في التضرع إليه تعالى والابتهال إليه.

صرفتني بواعث النفس قسراً ... فتقاعست والذنوب ذنوب رب قلب قلبي لعزمة خير ... لمتاب ففي يديك القلوب ولتعلم أن كلام أهل الأندلس بحر لا ساحل له، ويرحم الله تعالى لسان الدين بن الخطيب حيث قال في صدر الإحاطة: وهذا الغرض الذي وضعنا له هذا التأليف يطلبنا فيه ما قصدنا به من المباهاة والافتخار بالإكثار، واستيعاب النظام والنثار، ويحملنا فيه خوف السآمة على الاختصار والاقتصار، وكفى بهذا جلاء في الأعذار، والله تعالى مقيل العثار، وساتر العيب المثار، بفضله، انتهى. 70 - ولنختم هذا الباب بقول أبي زكريا يحيى بن سعد بن مسعود القلني: عفوك اللهم عنا ... خير شيء نتمنا رب إنا قد جهلنا ... في الذي قد كان منا وخطينا وخلطنا ... ولهونا ومجنا إن نكن رب أسأنا ... ما أسأنا بك ظنا وذيلته بقولي: فأنلنا الختم بالحس ... نى وإنعاماً ومنا آمين (1) .

_ (1) إلى هنا انتهت النسخة: م.

الباب الثامن في ذكر تغلب العدو الكافر على الجزيرة بعد صرفه وجوه الكيد إليها وتضريبه بين ملوكها ورؤسائها بمكره، واستعماله في أمرها حيل فكره، حتى استولى - دمره الله تعالى - عليها، ومحا منها التوحيد واسمه، وكتب على مشاهدها ومعاهدها وسمه، وقرر مذهب التثليث، والرأي الخبيث، لديها، واستغاث أهلها استغاثة أضرابها بالنظم والنثر، أهل ذلك العصر، من سائر الأقطار، حين تعذرت بحصصارها، مع قلة حماتها وأنصارها، المآرب والأوطار، وجاءها الأعداء من خلفها ومن بين يديها، أعاد الله تعالى إليها كلمة الإسلام، وأقام فيها شريعة سيد الانما، عليه أفضل الصلاة والسلام، ورفع يد الكفر عنها وعما حواليها، آمين. ظهور بلاي وخلفائه قال غير واحد من المؤلفين: أول من جمع فل النصارى بالأندلس - بعد غلبة العرب لهم - علج يقال له بلاي (1) ، من أهل أشتوريش من جليقية، كان رهينة عن طاعة أهل بلده، فهرب من قرطبة أيام الحر بن عبد الرحمن الثقفي، الثاني من أمراء العرب بالأندلس، وذلك في السنة السادسة من افتتاحها، وهي سنة ثمان وتسعين من الهجرة، وثار النصارى معه على نائب الحر بن عبد الرحمن، فطردوه وملكوا البلاد، وبقي الملك فيهم إلى الآنن وكان عدة من ملك منهم إلى آخر أيام الناصر لدين الله اثنين وعشرين ملكاً، انتهى. وقال عيسى ابن أحمد الرازي: في أيام عنبسة ابن سحيم الكلبي قام بأرض

_ (1) انظر ما تقدم عن بلاي ج 3: 17.

جليقية علج خبيث يقال له بلاي من وقعة أخذ النصارى بالأندلس، وجد الفرنج في مدافعة المسلمين عما بقي بأيديهم، وقد كانوا لا يطمعون في ذلك، ولقد استولى المسلمون بالأندلس على النصرانية وأجلوهم، وافتتحوا بلادهم، حتى بلغوا أريولة من أرض الفرنجة، وافتتحوا بلبونة من جليقية، ولم يبق إلا الصخرة فإنه لاذ بها ملك يقال له بلاي، فدخلها في ثلاثمائة رجل، ولم يزل المسلمون يقاتلونه حتى مات أصحابه جوعاً، وبقي في ثلاثين رجلاً وعشر نسوة، ولا طعام لهم إلا العسل يشتارونه من خروق بالصخرة فيتقوتون به، حتى أعيا المسلمين أمرهم، واحتقروا بهم، وقالوا: ثلاثون علجاً ما عسى أن يجيء منهم فبلغ أمرهم بعد ذلك من القوة والمثرة ما لا خفاء به، وفي سنة مائة وثلاث وثلاثين، هلك بلاي المذكور، وملك ابنه فافله (1) بعده، وكان ملك بلاي تسع عشرة سنة، وابنه سنتين، فملك بعدهما أذفونش بن بيطر (2) جد بني أذفونش هؤلاء اللذين اتصل ملكهم إلى اليوم، فأخذوا ما كان المسلمون أخذوه من بلادهم، انتهى باختصار. وقال المسعودي بعد ذكره غزوة سمورة أيام الناصر، ما صورته (3) : وأخذ ما كان بأيدي المسلمين من ثغور الأندلس مما يلي الفرنجة ومدينة أربونة (4) ، خرجت عن أيدي المسلمين سنة ثلاثمائة وثلاين مع غيرها مما كان بأيديهم من المدن والحصون، وبقي ثغر المسلمين في هذا الوقت وهو سنة 336 (5) من شرق الأندلس طرطوشة، وعلى سائر بحر الروم مما يلي طرطوشة آخذاً في الشمال إفراغه على نهر عظيم ثم لاردة، انتهى.

_ (1) (Fafila) . (2) (Alphonso) ابن (pedro) ؛ وكان أذفونش هذا قد تزوج ابنة بلاي واسمها أرمنسندا (Ermensida) (فجر الأندلس: 344) . (3) مروج الذهب 1: 162. (4) المروج: وآخر ما كان ... مدينة أربونة. (5) المروج: وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.

الاستيلاء على طليطلة ومن أول ما استرد الإفرنج من مدن الأندلس العظيمة مدينة طليطلة من يد ابن ذي النون سنة 475، وفي ذلك يقول عبد الله بن فرج اليحصبي المشهور بابن العسال: يا أهل أندلس حثوا مطيكم فما المقام بها إلا من الغلط الثوب ينسل من أطرافه وأرى ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط ونحن بين عدو لا يفارقنا كيف الحياة مع الحيات في سفط ويروى صدر البيت الثالث هكذا: ومن جاور الشر لا يأمن بوائقه كيف الحياة مع الحيات في سفط وتروى الأبيات هكذا: حثوا رواحلكم يا أهل أندلس فما المقام بها إلا من الغلط السلك ينثر من أطرافه، وأرى سلك الجزيرة منثوراً من الوسط من جاور الشر لا يأمن عواقبه كيف الحياة مع الحيات في سفط وقال آخر: يا أهل أندلس ردوا المعار فما في العرف عارية إلا مردات ألم تروا بيدق الكفار فرزنه وشاهنا آخر الأبيات شهمات وقال بعض المؤرخين: أخذ الأذفونش طليطلة من صاحبها القادر بالله بن المأمون يحيى بن ذي النون بعد أن حاصرها سبع سنين، وكان أخذه لها في منتصف محرم سنة478؛ انتهى. وفيه بعض مخالفة لما قبله في وقت أخذها، وسيأتي قريباً بعض ما يؤيده.

قال: وهي مدينة حصينة قديمة أزلية من بناء العمالقة، على ضفة النهر الكبير، ولها قصبة حصينة في غاية المنعة، ولها قنطرة واحدة عجيبة البنيان على قوس واحد والماء يدخل تحته بعنف وشدة جرى، ومع آخر النهر ناعورة ارتفاعها في الجو تسعون ذراعاً، وهي تصعد الماء إلى أعلى القنطرة، ويجري الماء على ظهرها فيدخل المدينة، وطليطلة هذه دار مملكة الروم، وبها كان البيت المغلق الذي كانوا يتحامون فتحه حتى فتحه لذريق فوجد فيه صورة العرب؛ انتهى. وقد تقدم شيء من هذا فيما مر من هذا الكتاب (1) . وقد حكى ابن بدرون في شرح العبدونية (2) أن المأمون يحيى بن ذي النون صاحب طليطلة بنى بها قصراً تأنق في بنائه، وأنفق فيه مالاً كثيراً، وصنع فيه بحيرة، وبنى في وسطها قبة، وسيق الماء إلى رأس القبة على تدبير أحكمه المهندسون، فكان الماء ينزل من أعلى القبة حواليها محيطاً بها متصلاً بعضه ببعض، فكانت القبة في غلالة من ماء سكب لا يفتر، والمأمون بن ذي النون قاعد فيها لا يمسه من الماء شيء، ولو شاء أن يوقد فيها الشمع لفعل، فبينما هو فيها إذ سمع منشداً ينشد: أتبني بناء الخالدين، وإنما بقاؤك فيها، لو علمت، قليل لقد كان في ظل الأراك كفاية لمن كل يوم يعتريه رحيل فلم يلبث بعد هذا إلا يسيراً حتى قضى نحبه، انتهى. وقال ابن خلكان (3) : إن طليطلة أخذت يوم الثلاثاء مستهل صفر سنة 478 بعد حصار شديد، انتهى.

_ (1) انظر ما تقدم ج 1: 161، 206. (2) البسامة: 271. (3) وفيات الأعيان 4: 118.

وقال ابن غلقمة: إن طليطلة أخذت يوم الأربعاء لعشر خلون من المحرم سنة478، وكانت وقعة الزلاقة في السنة بعدها، انتهى. وقعة الزلاقة نقلاً عن الروض المعطار وغيره ورأيت هنا أن أذكر وقعة الزلاقة التي نشأت عن أخذ طليطلة وما يتبع ذلك من كلام صاحب الروض المعطار وغيره فنقول (1) : إنه لما ملك يوسف بن تاشفين اللمتوني المغرب، وبنى مدينتي تلمسان ومراكش الجديدة، وأطاعته البربر مع شكيمتها الشديدة، وتمهدت له الأقطار الطويلة المديدة، تاقت نفسه إلى العبور لجزيرة الأندلس، فهم بذلك، وأخذ في إنشاء المراكب والسفن ليعبر فيها، فلما علم بذلك ملوك الأندلس كرهوا إلمامه بجزيرتهم، وأعدوا له العدة والعدد، وصعبت عليهم مدافعته، وكرهوا أن يكونوا بين عدوين الفرنج من شمالهم والمسلمين من جنوبهم، وكانت الفرنج تشتد وطأتها (2) عليهم، وتغير تنهب، وربما يقع بينهم صلح على شيء معلوم كل سنة يأخذونه من المسلمين، والفرنج ترهب ملك المغرب يوسف بن تاشفين، إذ كان له اسم كبير وصيت عظيم، لنفاذ أمره وسرعة تملكه بلاد المغرب، وانتقال الأمر إليه في أسرع وقت، مع ما ظهر لأبطال الملثمين ومشايخ صنهاجة في المعارك من ضربات السيوف ورعب في قلوب المنتدبين لقتاله، وكان ملوك الأندلس يفيئون إلى ظله، ويحذرونه خوفاً على ملكهم، مهما عبر إليهم وعاين بلادهم، فلما رأوا ما دلهم على عبوره إليهم وعلموا ذلك، راسل بعضهم بعضاً يستنجدون آراءهم في أمره، وكان مفزعهم في ذلك إلى المعتمد بن عباد، لأنه أشجع القوم، وأكبرهم مملكة، فوقع اتفاقهم

_ (1) أكثر هذا النص منقول عن ابن خلكان 6: 112 وما بعدها. (2) ق ص: تشتد وطاستها.

على مكاتبته لما تحققوا أنه يقصدهم يسألونه الإعراض عنهم، وأنهم تحت طاعته، فكتب عنهم كاتب من أهل الأندلس كتاباً، وهو: أما بعد فإنك إن أعرضت عنا نسبت إلى كرم، ولم تنسب إلى عجز، وإن أجبنا داعيك نسبنا إلى عقل، ولم ننسب إلى وهن، وقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبتينا، فاختر لنفسك أكرم نسبتيك، فإنك بالمحل الذي لا يجب أن تسبق فيه إلى مكرمة، وإن في استباقك ذوي البيوت ما شئت من دوام لأمرك وثبوت، والسلام. فلما وصله الكتاب مع تحف وهدايا، وكان يوسف بن تاشفين لا يعرف باللسان العربي، لكنه ذكي الطبع، يجيد فهم المقاصد، وكان له كاتب يعرف اللغتين العربية والمرابطية، فقال له: أيها الملك، هذا الكتاب من ملوك الأندلس يعظمونك فيه، ويعرفونك أنهم أهل دعوتك، وتحت طاعتك، ويلتمسون منك أن لا تجعلهم في منزلة الأعادي، فإنهم مسلمون وذوو بيوتات، فلا تغير بهم، وكفى بهم من وراءهم من الأعداء الكفار، وبلدهم ضيق لا يحتمل العساكر، فأعرض عنهم إعراضك عمن أطاعك من أهل الغرب، فقال يوسف ابن تاشفين لكاتبه: فما ترى أنت فقال: أيها الملك اعلم أن تاج الملك وبهجته شاهده الذي لا يرد، فإنه خليق بما حصل في يده من الملك والمال أن يعفو إذا استعفي، وأن يهب إذا استوهب، وكلما وهب جليلاً جزيلاً كان لقدره أعظم، فإذا عظم قدره تأصل ملكه، وإذا تأصل ملكه تشرف الناس بطاعته، وإذا كانت طاعته شرفاً جاءه الناس، ولم يتجشم المشقة إليهم، وكان وارث الملك من غير إهلاك لآخرته، واعلم أن بعض الملوك الحكماء الأكابر البصراء بطريق تحصيل الملك قال: من جاد ساد، ومن ساد قاد، ومن قاد ملك البلاد، فلما ألقى الكاتب هذا الكلام على السلطان يوسف بلغته فهمه وعلم صحته، فقال للكاتب: أجب القوم، واكتب بما يجب في ذلك، واقرأ علي كتابك، فكتب الكاتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من يوسف بن تاشفين، سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، تحية من سالمكم وسلم عليكم، وإنكم مما في أيديكم من الملك في أوسع إباحة، مخصوصين منا بأكرم إيثار

وسماحة، فاستديموا وفاءنا بوفائكم، واستصلحوا إخاءنا بإصلاح إخائكم، والله ولي التوفيق لنا ولكم، والسلام. فلما فرغ من كتابه قرأه على يوسف بن تاشفين بلسانه، فاستحسنه، وقرن به ما يصلح لهم من التحف ودرق اللمط التي لا توجد إلا ببلاده، وأنفذ ذلك إليهم، فلما وصلهم ذلك وقرأوا كتابه فرحوا به، وعظموه، وسروا بولايته، وتقوت نفوسهم على دفع الفرنج عنهم، وأزمعوا إن رأوا من الفرنج ما يريبهم أنهم يرسلون إلى يوسف بن تاشفين ليعبر إليهم، أو يمدهم بإعانة منه. وكان ملك الإفرنج الأذفونش لما وقعت الفتنة بالأندلس وثار الخلاف، وكان كل من حاز بلداً وتقوى فيه ملكه وادعى الملك وصار مثل ملوك الطوائف، فطمع فيهم الأذفونش بسبب ذلك، وأخذ كثيراً من ثغورهم، فقوي شأنه، وعظم سلطانه، وكثرت عساكره، وأخذ طليطلة من صاحبها القادر بالله بن المأمون يحيى بن ذي النون بعد أن حاصرها سبع سنين، وكان أخذه لها في نتصف محرم سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، فزاد لعنه الله تعالىبملكه طليطلة قوة إلى قوته، وأخذ يجوس من خلال الديار، ويستفتح المعاقل والحصون. قال ابن الأثير في " الكامل " (1) : وكان المعتمد بن عباد أعظم ملوك الأندلس ومتملك أكثر بلادها (2) ، مثل قرطبة وإشبيلية، وكان - مع ذلك - يؤدي الضريبة إلى الأذفونش كل سنة، فلما تملك الأذفونش طليطلة أرسل إليه المعتمد الضريبة المعتادة (3) ، فلم يقبلها منه، وأرسل إليه يهدده ويتوعده بالمسير إلى قرطبة ليفتحها، إلا أن يسلم إليه جميع الحصون المنيعة (4) ، ويبقى السهل للمسلمين، وكان الرسول في جمع كثير نحو خمسمائة فارس، فانزله المعتمد، وفرق أصحابه على قواد

_ (1) الكامل 10: 142 (ط. صادر) . (2) ابن الأثير: وكان يملك أكثر البلاد. (3) ابن الأثير: على عادته. (4) ابن الأثير: الحصون التي بالجبل.

عسكره، ثم أمر قواده أن يقتل كل منهم من عنده من الكفرة، وأحضر الرسول وصفعه (1) حتى خرجت عيناه، وسلم من الجماعة ثلاثة نفر، فعادوا إلى الأذفونش وأخبروه الخبر، وكان متوجهاً إلى قرطبة ليحاصرها، فرجع إلى طليطلة ليجمع آلات الحصار، ويكثر العدد والعدة، انتهى. وقال الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن المنعم الحميري في كتابه الروض المعطار في ذكر المدن والأقطار ما ملخصه (2) : إنه لما اشتغل المعتمد بغزو ابن صمادح صاحب المرية حتى تأخر الوقت الذي كان يدفع فيه الضريبة للأذفونش وأرسلها إليه بعد ذلك، استشاط الطاغية غضباً وتشطط، وطلب بعض الحصون زيادة على الضريبة، وأمعن في التجني، وسأل في دخول امرأته القمجيطة (3) إلى جامع قرطبة لتلد فيه، إذ كانت حاملاً، لما أشار عليه بذلك القسيسون والأساقفة لمكان كنيسة كانت في الجانب الغربي منه معظمة عندهم عمل عليها المسلمون الجامع الأعظم، وسأل أن تنزل امرأته المذكورة بالمدينة الزهراء غربي مدينة قرطبة - وهي (4) التي أنشأ بناءها الناصر لدين الله، وأمعن في بنائها، وأغرب في حسنها، وجلب إليها الرخام الملون والمرمر الصافي والحوض المشهور من البلاد والأقطار، وكان يثيب على السارية بكذا وكذا غير الثمن وأجرة الحمل، وأنفق فيها الأموال العظيمة، واشتغل بها، وكان يباشر الصناع بنفسه، حتى تخلف عن حضور الجمعة ثلاث مرات متواليات، وحضر في الرابعة، وكان الخطيب يومئذ الفقيه الزاهد منذر بن سعيد البلوطي، فعلض به في الخطبة، ووبخه على رؤوس الملأ، وقصته في ذلك مشهورة، وبناء الزهراء أيضاً من أغرب مباني الإسلام، فمن أراد الوقوف على ذلك فعليه بتاريخ ابن حيان -.

_ (1) في بعض أصول ابن الأثير: وضغطه. (2) الروض: 84 - 95. (3) الروض: القمطيجة. (4) وهي.... ابن حيان: استطراد من المقري ليس في الروض المعطار.

ولنرجع إلى الأذفونش فإن الأطباء والقسوس لما أشاروا أن تكون المرأة المذكورة ساكنة بالزهراء، وتتردد إلى الجامع المذكور حتى تكون ولادتها بين طيب نسيم الزهراء وفضيلة موضع الكنيسة من الجامع المذكور، وكان السفير في ذلك يهودياً كان وزير الأذفونش، فامتنع ابن عباد من ذلك، فراجعه، فأباه وأيأسه من ذلك، فراجعه اليهودي في ذلك، وأغلظ له في القول، وواجهه (1) بما لم يحتمله ابن عباد، فأخذ ابن عباد محبرة كانت بين يديه وضرب بها رأس اليهودي، فأنزل دماغه في حلقه، وأمر به فصلب منكوساً بقرطبة، واستفتى لما سكن غضبه الفقهاء عن حكم ما فعله باليهودي، فبادر الفقيه محمد بن الطلاع بالرخصة في ذلك لتعدي الرسول حدود الرسالة إلى ما استوجب به القتل، إذ ليس له في ذلك، وقال للفقهاء: إنما بادرت بالفتوى خوفاً أن سكسل الرجل عما عزم عليه من منابذة العدو، وعسى الله أن يجعل في عزيمته للمسلمين فرجاً. وبلغ الأذفونش ما صنعه ابن عباد، فأقسم بآلهته ليغزونه بإشبيلية، ويحاصره في قصره، فجرد جيشين جعل على أحدهما كلباً من مساعير كلابه وأمره أن يسير على كورة باجة من غرب الأندلس ويغير على تلك التخوم والجهات، ثم يمر على لبلة إلى إشبيلية، وجعل موعده إياه طريانة للاجتماع معه، ثم زحف الأذفونش بنفسه في جيش آخر عرمرم، فسلك طريقاً غير الطريق التي سلكها الآخر، وكلاهما عاث في البلاد وخرب ودمر، حتى اجتمعا لموعدهما بضفة النهر الأعظم قبالة قصر ابن عباد، وفي أيام مقامه هنالك كتب إلى ابن عباد زارياً عليه: كثر بطول مقامي في مجلسي الذبان، واشتد علي الحر، فأتحفني من قصرك بمروحة أروح بها على نفسي، وأطرد بها الذباب عن وجهي، فوقع له ابن عباد بخط يده في ظهر الرقعة: قرأت كتابك، وفهمت خيلاءك وإعجابك، وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية تروح منك لا تروح عليك، إن شاء الله

_ (1) الروض: وشافهه.

تعالى. فلما وصلت الأذفونش رسالة بن عباد، وقرئت عليه، وعلم مقتضاها، أطرق إطراق من لم يخطر له ذلك ببال. وفشا في الأندلس توقيع ابن عباد، وما أظهر من العزيمة على جواز يوسف بن تاشفين، والاستظهار به على العدو، فاستبشر الناس، وفرحوا بذلك، وفتحت لهم أبواب الآمال. وأما ملوك طوائف الأندلس فلما تحققوا عزم ابن عباد وانفراده برأيه في ذلك، اهتموا منه، ومنهم من كاتبه، ومنهم من كلمه مواجهة، وحذروه عاقبة ذلك، وقالوا له: الملك عقيم، والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد، فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلاً: رعي الجمال خير من رعي الخنازير، ومعناه أن كونه مأكولاً ليوسف بن تاشفين أسيراً له يرعى جماله في الصحراء خير من كونه ممزقاً للأذفونش أسيراً له يرعى خنازيره في قشتالة. وقال لعذاله ولوامه: يا قوم إني من أمري على حالتين: حالة يقين، وحالة شك، ولا بد لي من إحداهما، أما حالة الشك فإني إن استندت لإلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففي الممكن أن يفي لي ويبقى على وفائه، ويمكن أن لا يفعل، فهذه حالة الشك، وأما حالة اليقين فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أرضي الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطت الله تعالى، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة، فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه فحينئذ قصر أصحابه عن لومه. ولما اعتزم أمر صاحب بطليوس المتوكل عمر بن محمد وعبد الله بن حبوس الصنهاجي صاحب غرناطة أن يبعث إليه كل منهما قاضي حضرته، ففعلا، واستحضر قاضي الجماعة بقرطبة أبا بكر عبيد الله بن أدهم، وكان أعقل أهل زمانه، فلما اجتمع عنده القضاة بإشبيلية أضاف إليهم وزيره أبا بكر ابن زيدون، وعرفهم أربعتهم أنهم رسله إلى يوسف بن تاشفين، وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف بن تاشفين وترغيبه في الجهاد، وأسند إلى وزيره ما لا بد منه في تلك السفارة من إبرام العقود السلطانية، وكان يوسف بن تاشفين لا تزال

تفد عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين، مجهشين بالبكاء، ناشدين الله والإسلام، مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته، فيسمع إليهم، ويصغي لقولهم، وترق نفسه لهم. فما عبرت رسل ابن عباد البحر إلا ورسل يوسف بالمرصاد، ولما انتهت الرسل إلى ابن تاشفين أقبل عليهم، وأكرم مثواهم، واتصل ذلك بابن عباد، فوجه من إشبيلية أسطولاً نحو صاحب سبتة، فانتظمت في سلك يوسف، ثم جرت بينه وبين الرسل مراوضات، ثم انصرفت إلى مرسلها، ثم عبر يوسف البحر عبوراً سهلاً، حتى أتى الجزيرة الخضراء، فتحوا له، وخرج إليه أهلها بما عندهم من الأقوات والضيافات، وأقاموا له سوقاً جلبوا إليه ما عندهم من سائر المرافق، وأذنوا للغزاة في دخول البلد والتصرف فيه، فامتلأت المساجد والرحبات بالمطوعين، وتواصوا بهم خيراً، هذا مساق صاحب الروض المعطار. وأما ابن الأثير (1) فإنه لما ذكر وقعة الزلاقة ذكر ما تقدم من فعل المعتمد بالأرسال وقتلهم، وتخوف أكابر الأندلس من الأذفونش، وأنه اجتمع منهم رؤساء، وساروا إلى القاضي عبيد الله (2) بن محمد بن أدهم وقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصغار والذلة وإعطائهم الجزية، بعد أن كانوا يأخذونها، وقالوا: قد غلب على البلاد الفرنج، ولم يبق إلا القليل، وإن طال هذا الأمر عادت نصرانية كما كانت أولاً، وقد رأينا رأياً نعرضه عليك، قال: وماهو قالوا: نكتب إلى عرب إفريقية، ونبذل لهم إذا وصلوا إلينا شطر أموالنا، ونخرج معهم مجاهدين في سبيل الله، فقال لهم: إنا نخشى إن وصلوا إلينا أن يخربوا بلادنا كما فعلوا بإفريقية، ويتركوا الإفرنج ويبدأوا بنا، والمرابطون أصلح منهم، وأقرب إلينا، فقالوا له: فكاتب أمير المسلمين، واسأله العبور إلينا أو إعانتنا بما تيسر من الجند، فبينما هم في ذلك يتراوضون إذ قدم عليهم المعتمد بن عباد

_ (1) الكامل 10: 151 وقد أورده ابن خلكان أيضاً 4: 119. (2) في ابن الأثير: عبد الله؛ راجع الصلة: 293.

قرطبة، فعرض عليه القاضي ابن أدهم ما كانوا فيه، فقال له ابن عباد: أنت رسولي إليه في ذلك، فامتنع، وإنما أراد أن يبرئ نفسه من ذلك، فألح عليه المعتمد، فسار إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فوجده بسبتة، وأبلغه الرسالة وأعلمه بما فيه المسلمون من الخوف من الأذفونش، ففي الحال أمر بعبور العساكر إلى الأندلس، وأرسل إلى مراكش في طلب من بقي من العساكر، فأقبلت إليه يتلو بعضها بعضاً، فلما تكاملت عنده عبر البحر، واجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان المعتمد قد جمع عساكره أيضاً، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير، وقصده المطوعة من سائر بلاد الأندلس، ووصلت الأخبار إلى الأذفونش فجمع عساكره، وحشد جنوده، وسار من طليطلة، وكتب إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين كتاباً كتبه له بعض غواة أدباء المسلمين يغلظ له في القول، ويصف ما معه من القوة والعدد والعدد، وبالغ في ذلك، فلما وصله وقرأه يوسف أمر كاتبه أبا بكر ابن القصيرة أن يجيبه، وكان كاتباً مفلقاً، فكتب وأجاد، فلما قرأه على أمير المسلمين قال: هذا كتاب طويل، أحضر كتاب الأذفونش واكتب في ظهره: الذي يكون ستراه وأرسله إليه، فلما وقف عليه الأذفونش ارتاع له، وعلم أنه بلي برجل لا طاقة له به. وذكر ابن خلكان (1) أن يوسف بن تاشفين أمر بعبور الجمال فعبر منها ما أغص الجزيرة، وارتفع رغاؤها إلى عنان السماء، ولم يكن أهل الجزيرة رأوا جملاً قط ولا خيلهم، فصارت الخيل تجمح من رؤية الجمال ومن رغائها، وكان ليوسف في عبور الجمال رأي مصيب، فكان يحدق بها عسكره، ويحضرها للحرب، فكانت خيل الفرنج تجمح منها، وقدم يوسف بين يديه كتاباً للأذفونش يعرض عليه فيه الدخول في الإسلام أو الجزية أو الحرب، كما هي السنة، ومن جملة ما في الكتاب: بلغنا يا أذفونش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا، وتمنيت أن

_ (1) وفيات الأعيان 6: 115.

تكون لك سفن تعبر بها البحر إلينا، فقد عبرنا إليك، وقد جمع الله تعالى في هذه الساحة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك " وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " انتهى بمعناه، وأكثره بلفظه. ولنرجع إلى كلام صاحب " الروض المعطار " (1) فإنه أقعد بتاريخ الأندلس، إذ هو منهم، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه (2) ، قال رحمه الله تعالى: فلما عبر يوسف وجميع جيوشه إلى الجزيرة الخضراء انزعج إلى إشبيلية على أحسن الهيئات، جيشاً بعد جيش، وأميراً بعد أمير، وقبيلاً بعد قبيل، وبعث المعتمد ابنه إلى لقاء يوسف، وأمر عمال البلاد بجلب الأقوات والضيافات، ورأى يوسف من ذلك ما سره ونشطه، وتواردت الجيوش مع أمرائها على إشبيلية، وخرج المعتمد إلى لقاء يوسف من إشبيلية في مائة فارس وجوه أصحابه، فلما أتى محلة يوسف ركض نحو القوم، وركضوا نحوه، فبرز إليه يوسف وحده، والتقيا منفردين، وتصافحا وتعانقا، وأظهر كل منهما لصاحبه المودة والخلوص، وشكرا نعم الله تعالى، وتواصيا بالصبر والرحمة، وبشرا أنفسهما بما استقبلاه من غزو أهل الكفر، وتضرعا إلى الله تعالى في أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه، مقرباً إليه، وافترقا، فعاد يوسف لمحلته، وابن عباد إلى جهته، وألحق ابن عباد ما كان أعده من هدايا وتحف وضيافات أوسع بها على محلة يوسف بن تاشفين، وباتوا تلك الليلة، فلما أصبحوا وصلوا الصبح ركب الجميع، وأشار ابن عباد على يوسف بالتقدم نحو إشبيلية، ففعل، ورأى الناس من عزة سلطانه ما سرهم، ولم يبق من ملوك الطوائف بالأندلس إلا من بادر أو أعان وخرج أو أخرج، وكذلك فعل الصحراويون مع يوسف، كل صقع من أصقاعه رابطوا وصابروا (3) . وكان الأذفونش لما تحقق الحركة والحرب استنفر جميع أهل بلاده

_ (1) الروض: 87. (2) بالذي فيه: سقطت من ق. (3) في الأصول: وكابروا.

وراءها ورفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم، ونشروا أناجيلهم، فاجتمع له من الجلالقة والإفرنجة ما لا يحصى عدده، وجواسيس كل فريق تتردد بين الجميع، وبعث الأذفونش إلى ابن عباد: إن صاحبكم يوسف قد تعنى من بلاده، وخاض البحور، وأنل أكفيه العناء فيما بقي، ولا أكلفكم تعباً، أمضي إليكم وألقاكم في بلادكم رفقاً بكم وتوفيراً عليكم، وقال لخاصته وأهل مشورته: إني رأيت أني إن مكنتهم من الدخول إلى بلادي، فناجزوني فيها وبين جدرها، وربما كانت الدائرة علي، يستحكمون البلاد، ويحصدون من فيها غداة واحدة، ولكني أجعل يومهم معي في حوز بلادهم، فإن كانت علي اكتفوا بما نالوه، ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلا بعد أهبة أخرى فيكون في ذلك صون لبلادي، وجبر لمكاسري، وإن كانت الدائرة عليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خفت أنا أن يكون في وفي بلادي إذا ناجزوني في وسطها، ثم برز بالمختار من جنوده، وأنجاد جموعه على باب دربه، وترك بيقة جموعه خلفه، وقال حين نظر إلى ما اختاره منهم: بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء، فالمقلل يقول: المختارون أربعون ألف ذراع، ولكل واحد أتباع. وأما النصارى فيعجبون ممن يزعم ذلك، ويرون أنهم أكثر من ذلك كله. واتفق الكل أن عدد المسلمين أقل من الكفرة، ورأى الأذفونش في نومه كأنه راكب فيل يضرب نقيرة طبل، فهالته الرؤيا، وسأل عنها القسوس والرهبان فلم يجبه أحد، فدس يهودياً عمن يعلم تأويلها من المسلمين، فدل على معبر، فقصها عليه، ونسبها لنفسه، فقال له المعبر: كذبت، ما هذه الرؤيا لك، ولا أعبرها لك إلا إن صدقتني بصاحب الرؤيا، فقال له: اكتم علي، الرؤيا للأذفونش، فقال المعبر: صدقت ولا يراها غيره، والرؤيا تدل على بلاء عظيم، ومصيبة فادحة فيه وفي عسكره، وتفسيرها قوله تعالى " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " وأما ضربه النقيرة فتأويلها " فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير " فانصرف اليهودي وذكر للأذفونش

ما وافق خاطره. ثم خرج الأذفونش ووقف على الدروب، ومال بجيوشه إلى الجهة الغربية من بلاد الأندلس، وتقدم السلطان يوسف فقصده، وتأخر ابن عباد لبعض مهماته، ثم انزعج يقفو أثره بجيش فيه حماة الثغور، ورؤساء الأندلس، وجعل ابنه عبد الله على مقدمته، وسار وهو ينشد لنفسه متفائلاً مكملاً البيت المشهور: لا بد من فرج قريب يأتيك بالعجب العجيب غزو عليك مبارك سيعود بالفتح القريب لله سعدك إنه نكس على دين الصليب لا بد من يوم يكو ... ن له أخاً يوم القليب (1) ووافت الجيوش كلها بطليوس، فأناخوا بظاهرها، وخرج إليهم صاحبها المتوكل عمر بن محمد بن الأفطس، فلقيهم بما يجب من الضيافات والأقوات وبذل المجهود، وجاءهم الخبر بشخوص الأذفونش، ولما ازدلف بعضهم إلى بعض أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين خوفاً عليهم من مكايد الأذفونش، إذ هم غرباء لا علم لهم بالبلاد، وجعل يتولى ذلك بنفسه، حتى قيل: إن الرجل من الصحراويين لا يخرج على طرف المحلة لقضاء أمر أو حاجة إلا ويجد ابن عباد بنفسه مطيفاً بالمحلة، بعد ترتيب الخيل والرجال على أبواب المحلات، وقد تقدم كتاب السلطان يوسف إلى الأذفونش يدعوه إلى إحدى الثلاث المأمور بها شرعاً، فامتلأ الكافر غيظاً، وعتا وطغى، وراجعه بما يدل على شقائه، وقامت الأساقفة والرهبان فرفعوا (2) صلبانهم، ونشروا أناجيلهم وتبايعوا على الموت، ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما، وقام الفقهاء والصالحون مقام الوعظ، وحضوهم على الصبر والثبات، وحذروهم من الفشل والفرار،

_ (1) يوم القليب يعني معركة بدر. (2) ق: ونصبوا.

وجاءت الطلائع تخبر أن العدو مشرف عليهم صبيحة يومهم، وهو يوم الأربعاء، فأصبح المسلمون وقد أخذوا مصافهم، فكع الأذفونش، ورجع إلى إعمال المكر والخديعة، فعاد الناس إلى محلاتهم، وباتوا ليلتهم، ثم أصبح يوم الخميس فبعث الأذفونش إلى ابن عباد يقول: غداً هو الجمعة، وهو عيدكم، والأحد عيدنا، فليكن لقاؤنا بينهما، وهو السبت، فعرف المعتمد بذلك السلطان يوسف، وأعلمه أنها حيلة منه وخديعة، وإنما قصد الفتك بنا يوم الجمعة، فليكن الناس على استعداد له يوم الجمعة كل النهار، وبات الناس ليلتهم على أهبة واحتراس. وبعد مضي جزء من الليل انتبه الفقيه الناسك أبو العباس أحمد ابن رميلة القرطبي - واكن في محلة ابن عباد - فرحاً مسروراً يقول: إنه رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، في تلك الليلة في النوم فبشره بالفتح والموت على الشهادة في صبيحة تلك الليلة، فتأهب ودعا وتضرع ودهن رأسه وتطيب، وانتهى ذلك إلى ابن عباد، فبعث إلى يوسف يخبره بها تحقيقاً لما توقعه من غدر الكافر بالله تعالى. ثم جاء بالليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة الأذفونش وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة، ثم تلاحق بقية الطلائع متحققين بتحرك الأذفونش، ثم جاءت الجواسيس من داخل محلتهم تقول: استرقنا السمع فسمعنا الأذفونش يقول لأصحابه: ابن المعتمد مسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الحروب فهم غير عارفين بهذه البلاد، وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه، واصبروا فإن انكشف لكم هان عليكم الصحراويون بعده، ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة، فعند ذلك بعث ابن عباد الكاتب أبا بكر ابن القصيرة إلى السلطان يوسف يعرفه بإقبال الأذفونش، ويستحث نصرته، فمضى ابن القصيرة يطوي المحلات حتى جاء يوسف بن تاشفين، فعرفه بجلية الأمر، فقال له: قل له إني سأقرب منه إن شاء الله تعالى، وأمر يوسف بعض قواده أن يمضي

بكتيبة رسمها له حتى يدخل محلة النصارى فيضرمها ناراً ما دام الأذفونش مشتغلاً مع ابن عباد. وانصرف ابن القصيرة إلى المعتمد، فلم يصله إلا وقد غشيته جنود الطاغية، فصدم ابن عباد صدمة قطعت آماله، ومال الأذفونش عليه بجموعه، وأحاطوا به من كل جهة، فهاجت الحرب، وحمي الوطيس، واستحر القتل في أصحاب ابن عباد، وصبر ابن عباد صبراً لم يعهد مثله لأحد، واتبطأ السلطان يوسف وهو يلاحظ طريقه، وعضته الحرب، واشتد عليه وعلى من معه البلاء، وأبطأ عليه الصحراويون وساءت الظنون، وانكشف بعض أصحاب ابن عباد وفيهم ابنه عبد الله، وأثخن ابن عباد جراحات، وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه وجرحت يمنى يده، وطعن في أحد جانبيه، وعقرت تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحد قدم له آخر، وهو يقاسي حياض الموت، ويضرب يميناً وشمالاً، وتذكر في تلك الحالة ابناً له صغيراً كان مغرماً به تركه في إشبيلية عليلاً، وكنيته أبو هاشم، فقال: أبا هاشم هشمتني الشفار فلله صبري لذاك الأوار ذكرت شخيصك تحت العجاج فلم يثنني ذكره للفرار ثم كان أول من وافى ابن عباد من قواد ابن تاشفين داود بن عائشة، وكان بطلاً شجاعاً شهماً، فنفس بمجيئه عن ابن عباد، ثم أقبل يوسف بعد ذلك، وطبوله تصعد أصواتها إلى الجو، فلما أبصره الأذفونش وجه حملته إليه، وقصده بمعظم جنوده، فبادر إليهم السلطان يوسف، وصدمهم بجمعه، فردهم إلى مركزهم، وانتظم به شمل ابن عباد، واستنشق ريح الظفر، وتياشر بالنصر، ثم صدقوا جميعاً الحملة، فتزلزلت الأرض بحوافر خيولهم، وأظلم النهار بالعجاج والغبار، وخاضت الخيل في الدماء، وصبر الفريقان صبراً عظيماً، ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف، وحمل معه حملة جاء معها النصر، وتراجع

المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين، وصدقوا الحملة، فانكشف الطاغية، ومر هارباً منهزماً وقد طعن في إحدى ركبتيه طعنة بقي يخمع بها بقية عمره. وعلى سياق ابن خلكان (1) أن ابن تاشفين نزل على أقل من فرسخ من عسكر العدو في يوم الأربعاء، وكان الموعد في المناجزة في يوم السبت، فغدر الأذفونش ومكر، فلما كان سحر يوم الجمعة منتصف رجب أقبلت طلائع ابن عباد، والروم في أثرها، والناس على طمأنينة، فبادر ابن عباد للركوب، وبث الخبر في العساكر فماجت بأهلها، ووقع البهت، ورجفت الأرض، وصار الناس فوضى على غير تعبية ولا أهبة، ودهمتهم خيل العدو، فأحاطت بابن عباد، وحطمت ما تعرض لها، وتركت الأرض حصيداً خلفها، وجرح ابن عباد جرحاً أشواه (2) ، وفر رؤساء الأندلس وتركوا محلاتهم وأسلموها، وظنوا أنه وهي لا يرقع، ونازلة لا تدفع، زظن الأذفونش أن السلطان يوسف في المنهزمين ولم يعلم أن العاقبة للمتقين، فركب أمير المسلمين، وأحدق به أنجاد (3) خيله ورجله من صنهاجة رؤساء القبائل، وقصدوا محلة الأذفونش فاقتحموها ودخلوها، وفتكوا فيها، وقتلوا، وضربت الطبول، وزعقت البوقات، فاهتزت الأرض، وتجاوبت الجبال والآفاق، وتراجع الروم إلى محلاتهم بعد أن علموا أن أمير المسلمين فيها، فصدموا أمير المسلمين، فأفرج (4) لهم عنها، ثم كر عليهم فأخرجهم منها، ثم كروا عليه فخرج لهم عنها، ولم تزل الكرات بينهم تتوالى إلى أن أمر أمير المسلمين حشمه السودان فترجل منهم زهاء أربعة آلاف،

_ (1) انظر ابن خلكان 6: 116 وهو ينقل عن كتاب " تذكر العاقل وتنبيه الغافل " للبياسي. (2) في الأصول: أساءه. (3) في الأصول: جياد. (4) في الأصول: فخرج.

ودخلوا المعترك بدرق اللمط وسيوف الهند ومزاريق الران (1) ، فطعنوا الخيل فرمحت بفرسانها، وأجمحت (2) عن أقرانها، وتلاحق الأذفونش بأسود نقدت مزاريقه، فأهوى ليضربه بالسيف، فلصق به الأسود، وقبض على عنانه، وانتضى خنجراً كان متمنطقاً به، فأثبته في فخذه، فهتك حلق درعه، ونفذ من فخذه مع بداد سرجه، وكان وقت الزوال، وهبت ريح النصر، فأنزل الله سكينته على المسلمين، ونصر دينه القويم، وصدقوا الحملة على الأذفونش وأصحابه، فأخرجوهم عن محلتهم، فولوا ظهورهم وأعطوا أعناقهم، والسيوف تصفعهم والرماح تطعنهم، إلى أن لحقوا ربوة لجأوا إليها واعتصموا بها، وأحدقت بهم الخيل، فلما أظلم الليل انساب الأذفونش وأصحابه من الربوة، وأفلتوا بعدما تشبثت (3) بهم أظفار المنية، واستولى المسلمون على ما كان في محلتهم من الآلات والسلاح والمضارب والأواني وغير ذلك، وأمر ابن عباد بضم رؤوس قتلى المشركين، فاجتمع من ذلك تل عظيم، انتهى، وبعضه بالمعنى. رجع إلى كلام صاحب الروض المعطار قال (4) : ولجأ الأذفونش إلى تل كان يلي محلته في نحو خمسمائة فارس كل واحد منهم مكلوم، وأباد القتل والأسر من عداهم من أصحابهم، وعمل المسلمون من رؤوسهم مآذن (5) يؤذنون عليها، والمخذول ينظر إلى موضع الوقيعة ومكان الهزيمة فلا يرى إلا نكالاً محيطاً به وبأصحابه، وأقبل ابن عباد على السلطان يوسف وصافحه وهنأه وشكره وأثنى عليه، وشكر يوسف صبر ابن عباد ومقامه وحسن

_ (1) في الأصول: الزان. (2) ق ص: وأجمحت، ابن خلكان: وأحجمت. (3) ابن خلكان: نشبت. (4) الروض: 93. (5) الروض: صوامع.

بلائه وجميل صبره، وسأله عن حاله عندما أسلمته رجاله بانهزامهم عنه، فقال له: هم هؤلاء قد حضروا بين يديك فليخبروك. وكتب ابن عباد إلى ابنه بإشبيلية كتاباً مضمونه: كتابي هذا من المحلة المنصورة يوم الجمعة الموفي عشرين من رجب، وقد أعز الله الدين، ونصر المسلمين، وفتح لهم الفتح المبين، وهزم الكفرة والمشركين، وأذاقهم العذاب الأليم، والخطب الجسيم، فالحمد لله على ما يسره وسناه من هذه المسرة العظيمة، والنعمة الجسيمة، في تشتيت شمل الأذفونش والاحتواء على جميع عساكره، أصلاه الله نكال الجحيم، ولا أعدمه الوبال العظيم المليم، بعد إتيان النهب على محلاته، واستئصال القتل في جميع أبطاله وحماته، حتى اتخذ المسلمون من هاماتهم صوامع يؤذنون عليها، فلله الحمد على جميل صنعه، ولم يصبني والحمد لله إلا جراحات يسيرة آلمت لكنها فرجت بعد ذلك، فلله الحمد والمنة، والسلام. واستشهد في ذلك اليوم جماعة من الفضلاء والعلماء وأعيان الناس، مثل ابن رميلة صاحب الرؤية المذكورة، وقاضي مراكش أبي مروان عبد الملك المصمودي، وغيرهما، رحمهما الله تعالى. وحكي أن موضع المعترك كان على اتساعه ما كان فيه موضع قدم، إلا على ميت أو دم، وأقامت العساكر بالموضع أربعة أيام، حتى جمعت الغنائم، واستؤذن في ذلك السلطان يوسف، فعف عنها، وآثر بها ملوك الأندلس، وعرفهم أن مقصده الجهاد والأجر العظيم، وما عند الله في ذلك من الثواب المقيم، فلما رأت ملوك الأندلس إيثار يوسف لهم بالغنائم استكرموه، وأحبوه وشكروا له ذلك. ولما بلغ الأذفونش إلى بلاده وسأل عن أبطاله وشجعانه وأصحابهم ففقدهم ولم يسمع إلا نواح الثكلى عليهم، اهتم ولم يأكل ولم يشرب حتى هلك هماً وغما، وراح إلى أمه الهاوية، ولم يخلف إلا بنتاً واحدو جعل الأمر إليها، فتحصنت بطليلة. ورحل المعتمد إلى إشبيلية ومعه السلطان يوسف بن تاشفين، فأقام السلطان

يوسف بن تاشفين بظاهر لإشبيلية ثلاثة أيام، وردت عليه من المغرب أخباراً تقتضي العزم فسافر وذهب معه ابن عباد يوماً وليلة، فحلف ابن تاشفين وعزم عليه في الرجوع، وكانت جراحاته تورمت عليه، فسير معه ولده عبد الله إلى أن وصل البحر، وعبر إلى المغرب. ولما رجع ابن عباد إلى إشبيلية جلس للناس، وهنئ بالفتح، وقرأت القراء، وقام على رأسه الشعراء، فأنشدوه، قال عبد الجليل بن وهبون: حضرت ذلك اليوم، وأعددت قصيدة أنشدها بين يديه، فقرأ القارئ " إلا تنصروه فقد نصره الله " فقلت: بعداً لي ولشعري، والله ما أبقت لي هذه الآية معنى أحضره وأقوم به. ولما عزم السلطان (1) يوسف بن تاشفين إلى بلاده ترك الأمير سير بن أبي بكر أحد قواده المشاهير، وترك معه جيشاً برسم غزو الفرنج، فاستراح الأمير المذكور اياماً قلائل، ودخل بلاد الأذفونش، واطلق الغارة ونهى وسبى، وفتح الحصون المنيعة والمعاقل الصعبة العويصة، وتوغل في البلاد، وحصل أموالاً وذخائر عظيمة، ورتب رجالاً وفرساناً في جميع ما أخذه، وأرسل للسلطان يوسف جميع ما حصله، وكتب له يعرفه أن الجيوش بالثغور مقيمة على مكابدة العدو وملاومة الحرب والقتال فيس أضيق العيش وانكده، وملوك الأندلس في بلادهم وأهليهم في أرغد العيش وأطيبه، وسأله مرسومه، فكتب إليه أن يأمرهم بالنقلة والرحيل إلى أرض العدوة، فمن فعل فذاك، ومن أبى فحاصره وقاتله، ولا تنفس عليه، ولتبدأ بمن والى الثغور، ولا تتعرض للمعتمد بن عباد، إلا بعد استيلائك على البلاد، وكل بلد أخذته فول فيه أمراً من عساكرك، فأول من ابتدأ به من ملوك الأندلس بنو هود، وكانوا بروطة - بضم الراء المهملة، وبعدها واو ساكنة، وطاء مهملة مفتوحة، وبعدها هاء ساكنة، وهي قلعة منيعة من

_ (1) عاد إلى النقل عن ابن خلكان بإيجاز.

عاصمات الذرا، ومائها ينبع من أعلاها، وفيها من الأقوات والذخائر المختلفات ما لا تفنيه الأزمان - فحاصرها فلم يقدر عليها ورحل عنها، وجند أجناداً على هيئة الفرنج وزيهم، وأمرهم أن يقصدوها ويغيروا عليها، وكمن هو وأصحابه بقرب منها، فلما رآهم أهل القلعة استضعفوهم، فنزلوا إليهم، ومعهم صاحب القلعة، فخرج عليه سير المذكور، وقبضه باليد، وتسلم الحصن. ثم نازل بني ضاهر بشرق الأندلس، فأسلموا له البلاد، ولحقوا ببر العدوة. ثم نازل بني صمادح بالمرية، ولها قلعة حصينة، فحاصرهم وضيق بهم، ولما علم ابن صمادح الغلب أسف ومات غبناً، فأخذ القلعة واستولى على المرية وجميع أعمالها. ثم قصد بطليوس، وكان بها المتوكل عمر بن محمد بن الأفطس المتقدم ذكره، فحاصره وأخذه واستولى على جميع أعماله وماله، ولم يبق له إلا المعتمد بن عباد، فكتب للسلطان يوسف يعرفه بما فعل، ويسأله مرسومه في ابن عباد، فكتب إليه يأمره انه يعرض عليه النقلة لبر العدوة بجميع الأهل والعشيرة، فإن رضي، وإلا فحاصره وخذه وأرسل به كسائر أصحابه، فواجهه وعرفه بما رسم به السلطان يوسف، وسأله الجواب، فلم يجب بنفي ولا إثبات، ثم إنه نازل إشبيلية وحاصره بها وألح عليه فأقام الحصار شهراً، ودخل البلد قهراً، واستخرجه من قصره، فحمل وجميع أهله وولده إلى العدوة فأنزل بأغمات، وأقام بها إلى أن مات، رحمه الله تعالى وعفا عنه. وأما ابن الأثير ففي كلامه تقديم وتأخير وبعض خلاف لما مر. وأخبار المعتمد بن عباد، وما رآه من الملك والعز على كل حاضر وباد، وما قاساه في الأسر من الضيق والعسر وسوء العيش أمر عجيب، يتعظ به العاقل الأريب، وأما ما مدحته به الشعراء وأجوبته لهم في حالي يسره وعسرهن وملكه وأسره، وطيه ونشره، وتجهمه وبشره، فهو كثير، وفي كتب التواريخ منه نظم ونثير، وقد قدمنا منه في هذا الكتاب ما يبعث الاعتبار ويثير، وخصوصاً في الباب السابع من هذا التأليف الذي هو عند المنصف أثير، وفي المعتمد وأبيه

المعتضد يقول بعض الشعراء (1) : من بني منذر وذاك انتساب زاد في فخرهم بنوا عباد فتية لم تلد سواها المعالي والمعالي قليلة الأولاد وقال ابن القطاع في كتابه " لمح الملح " (2) في حق المعتمد: إنه أندى ملوك الأندلس راحة، وأرحبهم ساحة، وأعظمهم ثماداً، وأرفعهم عماداً، ولذلك كانت حضرته ملقى الرحال (3) ، وموسم الشعراء، وقبلة الآمال، ومألف الفضلاء، حتى إنه لم يجتم بباب أحد من الملوك من أعيان الشعراء، وأفاضل الأدباء، ما كان يجتمع ببابه، وتشتمل عليه حاشيتا جنابه. وقال ابن بسام في " الذخيرة " (4) : للمعتمد شعر، كما انشق الكمام عن الزهر، لو صار مثله ممن جعل الشعر صناعة، واتخذه بضاعة، لكان رائقاً معجباً، ونادراً مستغرباً، [فمن ذلك قوله] (5) : أكثرت هجرك غير أنك ربما عطفتك أحياناً على أمور فكأنما زمن التهاجر بيننا ليل، وساعات الوصال بدور وقال: وهذا المعنى ينظر إلى قول بعضهم من أبيات: أسفر ضوء الصبح عن وجهه فقام ذاك الخال فيه بلال كأنما الخال على خده ساعات هجر في زمان الوصال

_ (1) ابن خلكان 4: 112. (2) نقل العمري في المسالك قطعة موجزة من هذا الكتاب؛ وهذا النص قد نقله المقري عن ابن خلكان 4: 115. (3) ق ص: الرجال. (4) لا يزال المقري يتابع نص ابن خلكان ص: 115. (5) زيادة من ابن خلكان.

وعزم على إرسال حظاياه من قرطبة إلى إشبيلية فخرج معهن يشيعهن فسايرهن من أول الليل إلى الصبح، فودعهن ورجع، وأنشد أبيتاً منها: سليرتهم والليل عقد ثوبه حتى تبدى للنواظر معلما وفقفت ثم مودعاً وتسلمت مني يد الإصباح تلك الأنجما وهذا المعنى في نهاية الحسن، ثم ذكر من كلامه جملة. عود وانعطاف: ولما جاء أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى ناحية غرناطة (1) - بعدما حصر بعض حصون الفرنج، فلم يقدر عليه - خرج غلى لقائه صاحب غرناطة عبد الله بن بلكين، فسلم عليه، ثم عاد إلى بلده ليخرج له التقادم، فغدر به ودخل البلد، وأخرج عبد الله، ودخل قصره فوجد فيه من الذخائر والأموال ما لا يحد ولا يحصى، ثم رجع إلى مراكش وقد أعجبه حسن بلاد الأندلس وبهجتها، وما بها من المباني والبساتين والمطاعم وسائر الأصناف التي لا توجد في بلاد العدوة، إذ هي بلاد بربر وأجلاف عربان، فجعل خواص يوسف يعظمون عنده بلاد الأندلس ويحسنون له أخذها، ويوغرون قلبه على المعتمد بأشياء نقلوها عنه، فتغير على المعتمد وقصد مشارفة الأندلس. وحكى ابن خلدون أن علماء الأندلس أفتوا ابن تاشفين بجواز خلع المعتمد وغيره من ملوك الطوائف، وبقتاله إن امتنعوا، فجهز يوسف العساكر إلى الأندلس، وحاصر سير بن أبي بكر أحد عظماء دولة يوسف إشبيلية وبها المعتمد، فكان من دفاعه وشدة ثباته ما هو معلوم، ثم أخذ أسيراً، وصار طرف الملك بعه حسيراً.

_ (1) لم يكن هذا في الجواز الأول ليوسف.

وفي وصف ذلك يقول صاحب القلائد بعد كلام (1) : ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت، وضمتهم جوانحها كأنهم أموات، بعدما ضاق عنهم القصر، وراق منهم المصر (2) ، والناس قد حشروا (3) بضفتي الوادي، يبكون بدموع كالغوادي، فساروا والنوح يحدوهم، والبوح باللوعة لا يعدوهم، انتهى. ولما فرغ أمير المؤمنين يوسف بن تاشفين (4) من أمر غزوة الزلاقة المتقدم ذكرها ورجع تكرم له ابن عباد، وسأله أن ينزل عنده، فعلاج إلى بلاده إذ أجابه إلى ما طلب، فلما انتهى ابن تاشفين إلى إشبيلية مدينة المعتمد - وهي من أحسن المدن وأجلها منظراً - أمعن يوسف النظر فيها وفي محلها، وهي على نهر عظيم مستبحر تجري فيه السفن بالبضائع جالبة من بر المغرب وحاملة إليه، وفي غربيها رستاق عظيم مسيرة عشرين فرسخاً يشتمل على آلاف من الضياع كلها تين وعنب وزيتون، وهذا هو المسمى بشرف إشبيلية، وتمتاز بلاد المغرب كلها بهذه الأصناف منه، وفي جانب المدينة قصور المعتمد وأبيه المعتضد في غاية الحسن والبهاء، وفيها أنواع ما يحتاج إليه من المطعوم والمشروب والملبوس والمشروف وغير ذلك، فأنزل المعتمد يوسف بن تاشفين في أحدها، وتولى من إكرامه وخدمته ما أوسع شكر ابن تاشفين له، وكان مع ابن تاشفين أصحاب له ينبهونه على حسن تلك الحال وتأملها، وما هي عليه من النعمة والإتراف، ويغرونه بإتخاذ مثلها، ويقولون له: إن فائدة الملك قطع العيش فيه بالتنعم واللذة، كما هو المعتمد وأصحابه، وكان ابن تاشفين داهية (5) عاقلاً مقتصداً

_ (1) القلائد: 23. (2) القلائد: العصر. (3) ق: حشدوا. (4) عاد لمتابعة ابن خلكان 6: 118 وما بعدها. (5) داهية: سقطت من ق.

في أموره، غير متطاول ولا مبذر، غير سالك نهج الترف والتأنق في اللذة والنعيم، إذ ذهب صدر عمره في بلاده بالصحراء في شظف العيش، فأنكر على من أغراه بذلك الإسراف، وقال له: الذي يلوح لي من أمر هذا الرجل - يعني المعتمد - أنه مضيع لما في يده من الملك، لأن هذه الأموال الكثيرة التي تصرف في هذه الأحوال لا بد أن يكون لها أرباب لا يمكن أخذ هذا القدر منهم على وجه العدل أبداً، فأخذه بالظلم وإخراجه في هذه الترهات من أفحش استهتار، ومن كانت همته في هذا الحد من التصرف فيما لا يعدو الأجوفين متى تستنجد (1) همته في ضبط بلاده وحفظها، وصون رعينه والتوقير لمصالحها ولعمري لقد صدق في كل ذلك. ثم إن يوسف بن تاشفين سأل عن أحوال المعتمد في لذاته: هل تختلف فتنقص عما عليه في بعض الأوقات فقيل له: بل كل زمانه على هذا فقال: أفكل أصحابه وأنصاره على عدوه ومنجديه على الملك ينال حظاً من ذلك فقالوا: لا، قال: فكيف ترون رضاهم عنه فقالوا: لا رضى لهم عنه، فأطرق وسكت، وأقام عند المعتمد على تلك الحال أياماً. وفي أثنائها (2) استأذن رجل على المعتمد ودخل وهو ذو هيئة رثة، وكان من أهل البصائر، فلما مثل بين يديه قال: أصلحك الله أيها السلطان، وإن من أوجب الواجبات شكر النعمة، وإن من شكر النعمة إهداء النصائح، وإني رجل من رعيتك حالي في دولتك إلى الاختلال، أقرب منها إلى الاعتدال، ولكنني مع ذلك مستوجب لك من النصيحة ما للملك على رعيته، فمن ذلك خبر وقع في أذني من بعض أصحاب ضيفك هذا يوسف بن تاشفين يدل على أنهم يرون أنفسهم وملكهم، أحق بهذه النعمة منك، وقد رأيت رأياً، فإن آثرت الإصغاء

_ (1) في الأصول: تستجد؛ وفي دوزي: يستجد همة. (2) ابن خلكان: وفي بعض تلك الأيام.

إليه قلته، فقال المعتمد له: قله، فقال له: رأيت أن هذا الرجل الذي أطلعته على ملكك مستأسد على الملوك، قد حطم على زناتة ببر العدوة، وأخذ الملك من أيديهم، ولم يبق على واحد منهم، ولا يؤمن أن يطمح إلى الطمع في ملكك، بل في ملك جزيرة الأندلس كلها، لما قد عاينه من هناءة (1) عيشك، وإنه لمتخيل في مثل حالك سائر ملوك الأندلس (2) ، وإن له من الولد والأقارب وغيرهم من يود له الحلول لما أنت فيه من خصب الجناب، وقد أردى الأذفونش وجيشه واستأصل شأفتهم، وأعدمك منه أقوى ناصر عليه لو احتجت إليه، فقد كان لك منه أقوى عضد وأوقى مجن، وبعد فإنه إن فات الأمر في الأذفونش فلا يفتك الحزم فيما هو ممكن اليوم، فقال له المعتمد: وما هو الحزن اليوم فقال: أن تجمع أمرك على قبض ضيفك هذا واعتقاله في قصرك، وتجزم أنك لا تطلقه حتى يأمر كل من بجزيرة الأندلس من عسكره أن يرجع من حيث جاء، حتى لا يبقى منهم أحد بالجزيرة طفل فمن فوقه، ثم تتفق أنت وملوك الجزيرة على حراسة هذا البحر من سفينة تجري فيه له، ثم بعد ذلك تستحلفه بأغلظ الأيمان ألا يضمر في نفسه عوداً إلى هذه الجزيرة إلا باتفاق منكم ومنه، وتأخذ منه على ذلك رهائن فإنه يعطيك من ذلك ما تشاء، فنفسه أعز عليه من جميع ما يلتمس منه، فعند ذلك يقتنع هذا الرجل ببلاده التي لا تصلح إلا له، وتكون قد استرحت بعدما استرحت من الأذفونش، وتقيم في موضعك على غير حال، ويرتفع ذكرك عند ملوك الجزيرة ويتسع ملكك وينسب هذا الاتفاق لك إلى سعادة وحزم وتهابك الملوك، ثم اعمل بعد هذا ما يقتضيه حزمك في مجاورة من عاملته هذه المعاملة، واعلم أنه قد تهيأ لك من هذا أمر سماوي تتفانى الأمم وتجري بحار الدم دون حصولمثله، فلما سمع المعتمد كلام

_ (1) ابن خلكان: بلهنية. (2) في الأصول: وإني لمتخيل في مثل ذلك لسائر ... الخ.

الرجل استصوبه، وجعل يفكر بانتهاز الفرصة. وكان للمعتمد ندماء قد انهمكوا معه في اللذات، فقال أحدهم لهذا الرجل الناصح: ما كان المعتمد على الله - وهو إمام أهل المكرمات - ممن يعامل بالحيف، ويغدر بالضيف، فقال الرجل: إنما الغدر أخذ الحق من يد صاحبه، لا دفع الرجل عن نفسه المحذور إذا ضاق به، فقال ذلك النديم: ضيم مع وفاء، خير من حزم مع جفاء. ثم إن ذلك الناصح استدرك الأمر وتلافاه، فشكر له المعتمد، ووصله بصلة. واتصل هذا الخبر بيوسف فأصبح غادياً، فقدم له المعتمد الهدايا السنية والتحف الفاخرة، فقبلها ثم رحل. انتهى خبر وقعة الزلاقة وما يتبعه ملخصاً من كتب التاريخ. ولما انقرض بالأندلس ملك ملوك الطوائف بني عباد وبنيهم ذي النون وبني الأفطس وبني صمادح وغيرهم انتضمت في سلك اللمتونيين، وكانت لهم فيها وقعات بالأعداء مشهورة في كتب التواريخ. دخول الأندلس في طاعة الموحدين ولما مات يوسف بن تاشفين سنة خمسمائة قام بالملك بعده ابنه أمير المسلمين علي بن يوسف، وسلك سنن أبيه، وإن قصر عنه في بعض الأمور، ودفع العدو عن الأندلس مدة، إلى أن قيد الله تعالى للثورة عليه محمد بن تومرت الملقب بالمهدي الذي أسس دولة الموحدين، فلم يزل يسعى في هدم بنيان لمتونة إلى أن مات ولم يملك حضرة سلطنتهم مراكش، ولكنه ملك كثيرالً من البلاد، فاستخلف عبد المؤمن بن علي، فكان من استيلاءه على مملكة اللمتونيين ما هو معروف، ثم جاز إلى الأندلس وملك كثيراً منها، ثم أخرج الإفرنج من مهدية إفريقية، وملك بلاد إفريقية وضخم ملكه، وتسمى بأمير المسلمين.

عبد المؤمن بن علي ولما كانت سنة 545 سار الأذفونش صاحب طليطلة وبلاد الجلالقة إلى قرطبة ومعه أربعون ألف فارس فحاصرها، وكان أهلها في غلاء شديد، فبلغ الخبر عبد المؤمن، فجهزإليهم جيشاً يحتوي على اثني عشر ألف فارس، فلما أشرفوا على الأذفونش رحل عنها، وكان فيها القائد أبو الغمر السائب، فسلمها إلى صاحب جيش عبد المؤمن يحيى بن ميمون فبات فيها، فلما أصبح رأى الفرنج عادوا إلى مكانهم، ونزلوا في المكان الذي كانوا فيه، فلما عاين ذلك رتب هنالك ناساً، وعاد إلى عبد المؤمن، ثم رحل الفرنج إلى ديارهم. وفي السنة بعدها دخل جيش عبد المؤمن إلى الأندلس في عشرين ألفاً عليهم الهنتاتي، فصار إليه صاحب غرناطة ميمون وابن همشك وغيرهما، فدخلوا تحت طاعة الموحدين، وحرصوا على قصد ابن مردنيش ملك شرق الأندلس، وبلغ ذلك ابن مردنيش، فخاف وأرسل إلى صاحب برشلونة من الإفرنج يستنجده، فتجهز إليه في عشرة آلاف من الإفرنج عليهم فارس، وسار صاحب جيش عبد المؤمن إلى أن قارب ابن مردنيش، فبلغه أمر البرشلوني الإفرنجي فرجع، ونازل مدينة المرية وهي بأيدي الروم فحاصرها، فاشتد الغلاء في عسكره فرجع إلى إشبيلية فأقام فيها، وسار عبد المؤمن إلى سبتة فجهز الأساطيل وجمع العساكر. ثم سار عبد المؤمن سنة574 (1) إلى المهدية فملكها، وملك إفريقية، وضخم ملكه كما قدمناه. يوسف بن عبد المؤمن ولما مات بويع بعده ولده يوسف بن عبد المؤمن، ولما تمهدت له الأمور،

_ (1) انظر المعجب: 298 حيث جعل سير عبد المؤمن للمهدية سنة 543.

واستقرت قواعد ملكه، دخل إلى جزيرة الأندلس لكشف مصالح دولته (1) وتفقد أحوالها، وكان ذلك سنة ست وستين وخمسمائة، وفي صحبته مائة ألف فارس من الموحدين والعرب، فنزل بحضرة إشبيلية، وخاف ملك شرق الأندلس - مرسية وما انضاف إليها - الأمير الشهير أبو عبد الله محمد بن سعد المعروف بابن مردنيش، وحمل على قلب ابن مردنيش، فمرض مرضاً شديداً ومات، وقيل: إنه سم، ولما مات جاء أولاده وأهله إلى أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن وهو بإشبيلية، فدخلوا تحت حكمه وسلموا لأحكامه البلاد، فصاهرهم وأحسن إليهم وأصبحوا عنده في أعز مكان، ثم شرع في استرجاع البلاد التي استولى عليها الإفرنج، فاتسعت مملكته بالأندلس، وصارت سراياه تغير إلى باب طليطلة، وقيل: إنه حاصرها، فاجتمع الفرنج كافة عليه، واشتد الغلاء في عسكره، فرجع عنها إلى مراكش حضرة ملكه، ثم ذهب إلى إفريقية فمهدها، ثم رجع إلى حضرته مراكش، ثم جاز البحر إلى الأندلس سنة ثمانين وخمسمائة ومعه جمع كثيف، وقصد غربي بلادها، فحاصر مدينة شترين، وهي من أعظم بلاد العدو، وبقي محاصراً لها شهراً، فأصابه المرض فمات في السنة المذكورة، وحمل في تابوت إلى إشبيلية، وقيل: أصابه سهم من قبل الإفرنج، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة الحال. وفي ابنه السيد أبي إسحاق يقول مطرف التجيبي رحمه الله تعالى: سعد كما شاء العلا والفخار تصرف الليل به والنهار ما دانت الأرض لكم عنوة وإنما دانت لأمر كبار مهدتموها فصفا عيشها ... واتصل الأمن (2) ، فنعم القرار

_ (1) تفصيل هذه الأحداث في ابن عذاري 3: 88 (ط. المغرب) . (2) ق ص: الابن.

ومنها: فالشاة لا يختلها ذئبها وإن أقامت معه في وجار يعقوب المنصور ولما مات يوسف قام بالأمر بعده ابنه الشهير أمير المؤمنين يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، فقام بالأمر أحسن قيام، ولما مات يوسف المذكور رثاه أديب الأندلس أبو بكر يحيى بن مجبر بقصيدة طويلة أجاد فيها، وأولها: جل الأسى فأسل دم الأجفان ماء الشؤون لغير هذا الشان ويعقوب المنصور هو الذي أظهر أبهة ملك الموحدين، ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، وبسط الأحكام الشرعية، وأظهر الدين وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأقام الحدود على القريب والبعيد، وله في ذلك أخبار، وفيه يقول الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي الأسود الشاعر المشهور: أزال حجابه عني وعيني تراه من المهابة في حجاب وقربني تفضله ولكن بعدت مهابة عند اقترابي وكثرت الفتوحات في أيامه، وأول ما نظر فيه عند صيرورة الأمر إليه بلاد الأندلس، فنظر في شأنها ورتب مصالحها، وقرر المقاتلين في مراكزهم، ورجع إلى كرسي مملكته مراكش المحروسة. وفي سنة586 بلغه أن الإفرنج ملكوا مدينة شلب وهي من غرب الأندلس، فتوجه إليها بنفسه وحاصرها وأخذها، وأنفذ في الوقت جيشاً من الموحدين والعرب، ففتح أربع مدن مما بأيدي الإفرنج من البلاد التي كانوا أخذوها من المسلمين قبل ذلك بأربعين سنة، وخافه صاحب طليطله، وسأله الهدنة والصلح، فهادنه خمس سنين وعاد إلى مراكش.

وأنشد القائد أبو بكر بن وزير الشلبي (1) وهو من أمراء كتائب إشبيلية قصيدة يخاطب بها يعقوب المنصور فيما جرى في وقعة مع الفرنجكان الشلبي المذكور مقدماً فيها: ولما تلاقينا جرى الطعن بيننا فمنا ومنهم طائحون عديد وجال غرار الهند فينا وفيهم فمنا ومنهم قائم وحصيد فلا صدر إلا فيه صدر مثقف وحول الوريد للحسام ورود صبرنا ولا كهف سوى البيض والقنا ... كلانا على حر الجلاد (2) جليد ولكن شددنا شدة فتبلدوا ومن يتبلد لا يزال يحيد فولوا وللسمر الطوال بهامهم ركوع وللبيض الرقاق سجود رجع إلى أخبار المنصور بعد هدنة الإفرنج: ولما انقضت مدة الهدنة، ولم يبق منها إلا القليل، خرج طائفة من الإفرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين فنهبوا وسعوا وعاثوا عيثاً فظيعاً، فانتهى الخبر إليه، فتجهز لقصدهم في جيوش موفرة وعساكر مكتبة، واحتفل في ذلك، وجاز إلى الأندلس سنة 591، فعلم به الإفرنج، فجمعوا جمعاً كثيراً من أقاصي بلادهم وأدانيها، وأقبلوا نحوه، وقيل: إنه لما أراد الجواز من مدينة سلا مرض مرضاً شديداً، ويأس منه أطباؤه، فعاث الأذفونش في بلاد المسلمين بالأندلس، وانتهز الفرصة، وتفرقت جيوش المسلمين بسبب مرض السلطان، فأرسل

_ (1) زدنا ما بين معقفين اعتماداً على ما سيورده المقري فيما بعد عند حديثه عن سقوط المرية؛ وقد أورد ابن الأبار نسبه على نحو آخر (الحلة 2: 271) فقال أبو بكر محمد بن سيدراي بن عبد الوهاب ابن وزير القيسي، وأورد الأبيات الدالية التي أوردها المقري، وقال فيه: ولي قصر الفتح المنسوب إلى أبي دانس عند استرجاعه من أيدي الروم في جمادى الأولى سنة سبع وثمانين وخمسمائة؛ وتوفي في صدر المائة السابعة بعد حصوره بموقعة العقاب. (2) الحلة: الطعان.

الأذفونش يتهدد ويتوعد ويرعد ويبرق، ويطلب بعض الحصون المتاخمة له من بلاد الأندلس، وخلاصة اللأمر أن المنصور توجه بعد ذلك إلى لقاء النصارى، وتزاحف الفريقان، فكان المصاف شمالي قرطبة على قرب قلعة رباح في يوم الخميس تاسع شعبان سنة 591، فكانت بينهم وقعة عظيمة استشهد فيها جمع كبير من المسلمين. وحكي أن يعقوب المنصور جعل مكانه تحت الأعلام السلطانية الشيخ أبا يحيى ابن أبي حفص عم السلطان أبي زكريا الحفصي الذي ملك بعد ذلك إفريقية، وخطب له ببعض الأندلس، فقصد الإفرنج الأعلام ظناً أن السلطان تحتها، فأثروا في المسلمين أثراً قبيحاً، فلم يرعهم إلا والسلطان يعقوب قد أشرف عليهم بعد كسر شوكتهم، فهزمهم شر هزيمة، وهرب الأذفونش في طائفة يسيرة، وهذه وقعة الأرك الشهيرة الذكر. وحكي أن الذي حصل لبيت المال من دروع الإفرنج ستون ألفاً، وأما الدواب على اختلاف أنواعها فلم يحصر لها عدد، ولم يسمع بعد وقعة الزلاقة بمثل وقعة الأرك هذه، وربما صرح بعض المؤرخين بأنها أعظم من وقعة الزلاقة. وقيل: إن فل الإفرنج هربوا إلى قلعة رباح فتحصنوا بها، فحاصرها السلطان يعقوب حتى أخذها، وكانت قبل للمسلمين، فأخذها العدو، فردت في هذه المرة، ثم حاصر طليطلة وقاتلها أشد قتال وقطع أشجارها وشن الغارات على أرجائها، وأخذ من أعمالها حصوناً وقتل رجالها وسبى حريمها وخرب منازلها وهدم أسوارها وترك الإفرنج في أسوأ حال، ولم يبرز إليه أحد من المقاتلة، ثم رجع إلى إشبيلية، وأقام إلى سنة 593، فعاد إلى بلاد الفرنج، وفعل فيها الأفاعيل، فلم يقدر العدو على لقائه، وضاقت على الإفرنج الأرض بما رحبت، فطلبوا الصلح فأجابهم إليه، لما بلغه من ثورة الميرقي عليه بإفريقية مع قراقوش مملوك بني أيوب سلاطين مصر والشام. ثم توفي السلطان يعقوب سنة 595. وما يقال إنه ساح في الأرض

وتخلى عن الملك ووصل إلى الشام، ودفن بالبقاع لا أصل فيه، وإن حكى ابن خلكان بعضه. وممن صرح ببطلان هذا القول الشريف الغرناطي في شرح مقصورة حازم، وقال: إن ذلك من هذيان العامة، لولوعهم بالسلطان المذكور. محمد الناصر ووقعة العقاب وولي بعده ولده محمد الناصر المشؤوم على المسلمين، وعلى جزيرة الأندلس بالخصوص، فإنه جمع جمعاً اشتملت على ستمائة ألف مقاتل فيما حكاه صاحب " الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية " (1) ودخله الإعجاب بكثرة من معه من الجيوش، فصاف الإفرنج، فكانت عليه وعلى المسلمين وقعة العقاب المشهورة التي خلا بسببها أكثر المغرب، واستولى الإفرنج على أكثر الأندلس بعدها، ولم ينج من الستمائة ألف مقاتل غير عدد يسير جداً لم يبلغ الألف فيما قيل، وهذه الوقعة هي الطامة على الأندلس بل والمغرب جميعاً، وما ذاك إلا لسوء التدبير، فإن رجال الأندلس العارفين بقتال الإفرنج استخف بهم الناصر ووزيره، فشنق بعضهم، ففسدت النيات، فكان ذلك من بخت الإفرنج، والله غالب على أمره، وكانت وقعة العقاب هذه المشؤومة سنة 609، ولم تقم بعدها للمسلمين قائمة تحمد. نهاية الموحدين ولما مات الناصر سنة عشرين وستمائة ولي بعده ابنه يوسف المستنصر، وكان مولعاً بالراحة، فضعفت الدولة في أيامه، وتوفي سنة 620.

_ (1) الذخيرة السنية: 41.

فتولى عم أبيه عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن، فلم يحسن التدبير، وكان إذ ذاك بالأندلس العادل بن المنصور، فرأى أنه أحق بالأمر، فاستولى على ما بقي في أيدي المسلمين من الأندلس بغير كلفة، ولما خلع عبد الواحد وخنق بمراكش ثارت الإفرنج على العادل بالأندلس، وتصاف معهم، فانهزم ومن معه المسلمين هزيمة شنعاء، فكانت الأندلس قرحاً على قرح، فهرب العادل، وهرب البحر يروم مراكش، وترك بإشبيلية أخاه أبا العلا إدريس، ودخل العادل مراكش بعد خطوب، ثم قبض عليه الموحدون، وقدموا يحيى بن الناصر صغير السن غير مجرب للأمور، فادعى حينئذ الخلافة أبو العلاء إدريس بإشبيلية، وبايعه أهل الأندلس، ثم بايعه أهل مراكش وهو مقيم بالأندلس، فثار على أبي العلاء بالأندلس الأمير المتوكل محمد بن يوسف الجذامي، ودعا إلى بني عباس، فمال الناس إليه، ورجعوا عن أبي العلاء، فخرج عن الأندلس - أعني أبا العلاء - وترك ما وراء البحر لابن هود. ولم يزل أبو العلاء يتحارب مع يحيى بن الناصر إلى أن قتل يحيى، وصفا الأمر لأبي العلاء بالمغرب، دون الأندلس، ثم مات سنة 630. وبويع ابنه الرشيد، وبايعه بعض أهل الأندلس، ثم توفي سنة640. وولي بعده أخوه السعيد، وقتل على حصن بينه وبين تلمسان سنة 646. وولي بعده المرتضى عمر بن إبراهيم بن يوسف بن علد المؤمن، وفي سنة 665 دخل عليه الواثق المعروف بأبي دبوس ففر، ثم قبض وسيق إلى الواثق فقتله، ثم قتل الواثق بنو مرين سنة 668، وبه انقرضت دواة بني عبد المؤمن، وكانت من أعظم الدول الإسلامية، فاستولى بنو مرين على المغرب. ظهور ابن هود وابن الأحمر وأما المتوكل بن هود فملك معظم الأندلس، ثم كثرت عليه الخوارج قريب موته، وقتله غدراً وزيره ابن الرميمي بالمرية، واغتنم الإفرنج الفرصة بافتراق

الكلمة، فاستولوا على كثير مما بقي بأيدي المسلمين من البلاد والحصون. ثم آل الأمر إلى أن ملك بنو الأحمر، وخطب بعض أهل الأندلس لأبي زكريا الحفصي صاحب إفيرقية، وقد سبق الكلام على أكثر المذكور هنا، وأعدناه لتناسق الحديث، ولما في بعض من زيادة الفائدة على البعض الآخر، وذلك لا يخفى على المتأمل، وقد بسطنا في الباب الثالث أحوال ابن هود وابن الأحمر وغيرهما، رحم الله تعالى الجميع. الدولة المرينية ثم استفحل ملك يعقوب بن عبد الحق صاحب المغرب وحضرة ملك فاس، فانتصر به الأندلس على الإفرنج الذين تكالبوا عليهم، فاجتاز إلى الأندلس وهزم الإفرنج أشد هزيمة، حتى قال بعضهم: ما نصر المسلمون من العقاب حتى دخل يعقوب المريني وفتك في بعض غزواته بملك من النصارى يقال له ذوننه، ويقال: إنه قتل من جيشه أربعين ألفاً وهزمهم أشد هزيمة، ثم تتابعت غزواته بالأندلس وجوازه للجهاد، وكان له من بلاد الأندلس رندة والجزيرة الخضراء وطريف وجبل طارق وغير ذلك، وأعز الله تعالى به الدين بعد تمرد الفرنج المعتدين. ولما مات ولي بعده ابنه يوسف بن يعقوب، ففر إليه الأذفونش ملك النصارى لائذاً به وقبل يده، ورهن عند تاجه، فأعانه على استرجاع ملكه. ولم يزل ملوك بني مرين يعينون أهل الأندلس بالمال والرجال، وتركوا منهم حصة معتبرة من أقارب السلطان بالأندلس غزاة، فكانت لهم وقائع في العدو مذكورة، ومواقف مشكورة، وكان عند ابن الأحمر منهم جماعة بغرناطة، وعليهم رئيس من بيت ملك بني مرين يسمونه شيخ الغزاة. ولما أفضى الملك إلى السلطان الكبير الشهير أبي الحسن المريني، وخلص له المغرب وبعض بلاد الأندلس

أمر بإنشاء الأساطيل الكثيرة برسم الجهاد بالأندلس، واهتم بذلك غاية الاهتمام، فقضى الله تعالى أن استولى الإفرنج على كثير من تلك المراكب بعد أخذهم الجزيرة الخضراء، وكان الإفرنج جمعوا جموعاً كثيرة برسم الاستيلاء على ما بقي للمسلمين بالأندلس، فاستنفر أهل الأندلس السلطان أبا الحسن المذكور، فجاء بنفسه إلى سبتة فرضة المجاز ومحل أساطيل المسلمين، فإذا الإفرنج جاءوا بالسفن التي لا تحصى ومنعوه العبور وإغاثة أهل الأندلس حتى استولوا على الجزيرة الخضراء، وأنكوه في مراكبه أعظم نكاية، ولله الأمر. وق أفصح عن ذلك كتاب صدر من السلطان أبي الحسن المذكور إلى سلطان مصر والشام والحجاز الملك الصالح ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي الألفي، رحم الله الجميع. رسالة من أبي الحسن المريني إلى الملك الصالح 745 للهجرة وهذه نسخة الكتاب المذكور الذي خاطب به أمير المسمين السلطان أبو الحسن المريني المذكور ملك المغرب رحمه الله تعالى السلطان الملك الصالح ابن السلطان الملك الشهير الكبير الناصر محمد بن قلاوون، ووصل إلى مصر في النصف - وقيل في العشر الأواخر - من شعبان المكرم سنة 745 بعد البسملة والصلاة: من عبد الله أمير المسلمين، المجاهد في سبيل الله رب العالمين، المنصور بفضل الله المتوكل عليه، المعتمد في جميع أموره لديه، سلطان البرين، حامي العدوتين، مؤثر المرابطة والثاغرة، مؤازر حزب الإسلام حق المؤازرة، ناصر الإسلام، مظاهر دين الملك العلام، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، فخر السلاطين، حامي حوزة الدين، ملك البرين، إمام العدوتين، ممهد البلاد، مبدد شمل الأعاد، مجند الجنود، المنصور الرايات والبنود، محط الرحال، مبلغ الآمال، أبي سعيد ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، حسنة الأيام، حسام الإسلام، أبي الأملاك، شجا أهل العناد والإشراك، مانع البلاد، رافع علم الجهاد

مدوخ أقطار الكفار، مصرخ من ناداه للانتصار، القائم لله بإعلاء دين الحق، أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أخلص الله لوجهه جهاده، ويسر في قهر عداة الدين مراده. إلى محل ولدنا الذي طلع في أفق العلاء بدراً تماً، وصدع بأنواع الفخار فجلا ظلاماً وظلماً، وجمع شمل المملكة الناصرية فأعلى منها علماً، وأحيا لها رسماً، حائط الحرمين، القائم بحفظ القبلتين، باسط الأمان، قابض كف العدوان، الجزيل النوال، الكفيل تأمينه بحياطة النفوس والأموال، قطب المجد وسماكه، حب الحمد وملاكه، السلطان الجليل، الرفيع الأصيل، الحافل العادل، الفاضل الكامل، الشهير الخطير، الأضخم الأفخم، المعان المؤزر، المؤيد المظفر، الملك الصالح أبو الوليد إسماعيل، ابن محل أخينا الشهير علاؤه، المستطير في الآفاق ثناؤه، زين الأيام والليال، كمال عين إنسان المجد وإنسان عين الكمال، وارث الدول، النافث بصحيح رأيه في عقود أهل الملل والنحل، حامي القبلتين بعدله وحسامه، النامي في حفظ الحرمين أجر اضطلاعه بذلك وقيامه، هازم أحزاب المعاندين وجيوشها، هادم الكنائس والبيع فهي خاوية على عروشها، السلطان الأجل، الهمام الأحفل، الأفخم الأضخم، الفاضل العادل، الشهير الكبير، الرفيع الخطير، المجاهد المرابط، المقسط عدله في الجائز والقاسط، والمؤيد المظفر، المنعم المقدس المطهر، زين السلاطين، ناصر الدنيا والدين، أبي المعالي محمد، ابن الملك الأرضي، الهمام الأمضى، والد السلاطين الأخيار، عاقد لواء النصر في قهر الأرمن والفرنج والتتار، ومحيي رسوم الجهاد، معلي كلمة الإسلام في البلاد، جمال الأيام، ثمال الأعلام، فاتح الأقالم، صالح ملوك عصره المتقادم، الإمام المؤيد، المنصور المسدد، قسيم أمير المؤمنين فيما تقلد، الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، مكن الله له تمكين أوليائه، ونمى دولته التي أطعلها السعد شمساً في سمائه، وأحسن إيزاعه للشكر أن جعله وارث آبائه.

سلام كريم يفاوح زهر الربى مسراه، وينافح نسيم الصبا مجراه، يصحبه رضوان يدوم ما دامت تقل الفلك حركاته، ويتولاه روح وريحان تحييه به رحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله مالك الملك، جاعل العاقبة للتقوى صدعاً باليقين ودفعاً للشك، وخاذل من أسر في النفاق النجوى فأصر على الدخن والإفك، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله الذي محا بأنوار الهدى ظلم الشرك، ونبيه الذي ختم به الأنبياء وهو واسطة ذلك السلك، ودحا به حجة الحق فمادت بالكفرة محمولة الأفلاك وماجت بهم حاملة الفلك، والرضى عن آله وصحبه الذين سلكوا سبيل هداه فسلك في قلوبهم أجمل السلك، وملكوا أعنة هواهم فلزموا من محجة الصواب أنجح السلك، وصابروا في جهاد الأعداء فزاد خلوصهم مع الابتلاء والذهب يزيد خلوصاً على السبك، والدعاء لأولياء الإسلام، وحماته الأعلام، بنصر لمضائه في العدا أعظم الفتك، ويسر بقضائه درك آمال الظهور وأحفل بذلك الدرك، فكتبناه إليكم - كتب الله لكم رسوخ القدم وسبوغ النعم - من حضرتنا بمدينة فاس المحروسة، وصنع الله سبحانه يعرف مذاهب الألطاف، ويكيف مواهب تلهج الألسنة في القصور عن شكرها بالاعتراف، ويصرف من أمره العظيم، وقضائه المتلقى بالتسليم، ما يتكون بين النون والكاف، ومكانكم العتيد سلطانه، وسلطانكم المجيد مكانه، وولاءكم الصحيح برهانه، وعلاؤكم الفسيح في مجال الجلالة ميدانه. وإلى هذا زاد الله سلطانكم تمكيناً، وأفاد مقامكم تحصيناً وتحسيناً، وسلك بكم من سنن من خلفتموه سبيلاً مبيناً، فلا خفاء بما كانت عقدته أيدي التقوى، ومهدته الرسائل التي على الصفاء تطوى، بيننا وبين والدكم نعم الله روحه وقدسه، وبقربه مع الأبرار في عليين آنسه، من مواخاة أحكمت منها العهود تالية الكتب والفاتحة، وحفظ عليها محكم الإخلاص معوذاتها المحبة والنية الصالحة، فانعقدت على التقوى والرضوان، واعتضدت بتعارف الأرواح عند تنازح الأبدان، حتى استحكمت وصلة الولاء، والتأمت كلحمة النسب لحمة

الإخاء، فما كان إلا وشيكاً من الزمان، ولا عجب قصر زمن الوصلة أن يشكوه الخلان، ورد وارد رنق المشارب، وحقق قول " ومن يسأل الركبان عن كل غائب " (1) ، أنبأ باستئثار الله تعالى بنفسه الزكية، وإكنان درته السنية، وانقلابه إلى ما أعد له من المنازل الرضوانية، بجليل ما وقر لفقده في الصدور، وعظيم ما تأثرت له النفوس لوقوع ذلك في الصدور، حناناً للإسلام بتلك الأقطار، وإشفاقاً من أن يعتور قاصدي بيت الله الحرام من جراء الفتن عارض الإضرار، ومساهمة في مصاب الملك الكريم، والولي الحميم، ثم عميت الأخبار، وطويت طي السجل الآثار، فلم نر مخبراً صدقاً، ولا معلماً بمن استقر له ذلكم الملك حقاً. وفي أثناء ذلك أحفزنا للحركة عن حضرتنا استصراخ أهل الأندلس وسلطانها، وتواتر الأخبار بأن النصارى أجمعوا على خراب أوطانها، ونحن أثناء ذلكم الشان، نستخبر الوارد (2) من تلكم البلدان، عما أجلى عنه ليل الفتن بتلكم الأوطان، فبعد لأي وقعنا منها على الخبير، وجاءنا بوقاية حرم الله بكم البشير، وتعرفنا أن الملك استقر منكم في نصابه، وتداركه الله تعالى منكم بفاتح الخير من أبوابه، فأطفأ بكم نار الفتنة وأخمدها، وأبرأ من أدواء النفاق ما أعل البلاد وأفسدها، فقام سبيل الحج سابلاً، وتعبد طريقه لمن جاء قاصداً وقافلاً، ولما احتفت بهذا الخبر القرائن، وتواتر بنقل الحاضر له والمعاين، أثار حفظ الاعتقاد البواعث، والود الصحيح تجره حقاً الموارث، فأصدرنا لكم هذه المخاطبة المتفننة الأطوار، الجامعة بين الخبر والاستخبار، الملبسة من العزاء والهناء ثوبي الشعار والدثار، ومثل ذلكم الملك رضوان الله عليه من تجل المصائب لفقدانه، وتحل عرى الاصطبار بموته ولات حين أوانه، لكن الصبر أجمل ما ارتداه ذو عقل حصين، والأجر أولى ما اقتناه ذو دين متين، ومثلكم من لا يخف وقاره، ولا يشف عن ظهور الجزع الحادث اصطباره، ومن خلفكم فما مات ذكره، ومن

_ (1) تمامه: فلا بد أن يلقى بشيراً وناعياً. (2) ق: نستجير الوارد.

قمتم بأمره فما زال بل زاد فخره، وقد طالت والحمد لله العيشة الراضية بالحقب، وطاب بين مبداه ومحتضره هنيئاً بما من الأجر اكتسب، وصار حميداً إلى خير المنقاب، ووفد من كرم الله على أفضل ما منح موقناً ووهب، فقد ارتضاكم الله بعده لحياطة أرضه المقدسة، وحماية زوار بيته مقيلة أو معرسة. ونحن بعد بسط هذه التعزية، نهنيكم بما خولكم الله أجمل والإظهار، فاستقبلوا دولة ألقى العز عليها رواقه، وعقد الظهور عليها نطاقه، وأعطاها أمان الزمان عقده وميثاقه، ونحن على ما عاهدنا عليه الملك الناصر رضوان الله عليه من عهود موثقة، وموالاة محققة، وثناء كمائمه عن أذكى من الزهر غب القطر مفتقة. ولم يغب عنكم ما كان من بعثنا المصحفين الأكرمين اللذين خطتهما منا اليمين، وأوت بهما الرغبة من الحرمين الشريفين إلى قرار مكين، وإنه كان لوالدكم الملك الناصر تولاه الله برضوانه، وأورده موارد إحسانه، في ذلكم من الفعل الجميل، والصنع الجليل، ما ناسب مكانه الرفيع، وشاكله فضله من البر الذي لايضيع، حتى طبق فعله الآفاق ذكراً، وطوق أعناق الوراد والقصاد براً، وكان من أجمل ما به تحفى وأتحف، وأعظم ما بعرفه إلى رضى الملك العلام في ذلك تعرف، إذنه للمتوجهين إذ ذاك الوقف مع اختلاف الجديدين، فجرت أحوال القراء فيهما بذلك الخراج المستقاد، ريثما يصلحهم من خراج ما وقفناه عليهم بهذه البلاد، على ما رسمه رحمة الله عليه من عناية بهم متصلة، واحترام في تلك الأوقاف فوائدها به متوفرة متحصلة، وقد أمرنا مؤدي هذا لكمالكم، وموفده على جلالكم، كاتبنا الأسنى الفقيه الأجل، الأحظى الأكمل، أبا المجد، ابن كاتبنا الشيخ الفقيه الأجل الحاج الأتقى، الأضرى الأفضل، الأحظى الاأكمل، المرحوم أبي عبد الله ابن أبي ندين حفظ الله عليه رتبته، ويسر في قصد

البيت الحرام بغيته، بأن يتفقد أحوال تلك الأوقاف، ويتعرف تصرف الناظر عليها وما فعله من سداد وإسراف، وأن يتخير لها من يرضى لذلك، ويحمد تصرفه فيما هنالك، وخاطبنا سلطانكم في هذا الشأن، جرياً على الود الثابت الأركان، وإعلاماً بما لوالدكم رحمه الله تعالى في ذلك من الأفعال الحسان، وكمالكم يقضي تخليد ذلكم البر الجميل، وتجديد عمل ذلكم الملك الجليل، وتشييد ما اشتمل عليه من الشكر الأصيل، والأجر الجزيل، والتقدم بالإذن السلطاني في إعانة هذا الوافد بهذا الكتاب، على ما يتوخاه في ذلك الشأن من طرق الصواب، وثنائنا عليكم الثناء الذي يفاوح زهر الربى، ويطارح نغم حمام الأيك مطربا. وبحسب المصافاة، ومقتضى الموالاة، نشرح لكم المتزايدات، بهذه الجهات، وننبئكم بموجب إبطاء إنفاذ هذا الخطاب على ذلكم الجناب: وذلك أنه لما وصلنا من الأندلس الصريخ، ونادى مناد للجهاد عزماً لمثل نداءه يصيخ، أنبئنا أن الكفار قد جمعوا أحزابهم من كل صوب، وحتم عليهم باباهم اللعين التناصر من كل أوب، وأن تقصد طوائفهم البلاد الأندلسية بإيجافها، وتنقص بالمنازلة أرضها من أطرافها، ليمحوا كلمة الإسلام منها، ويقلصوا ظل الإيمان نعنها، فقدمنا من يشتغل بالأساطيل من القواد، وسرنا على إثرهم إلى سبتة منتهى المغرب الأقصى وباب الجهاد، فما وصلناها إلا وقد أخذ أخذه العدو الكفور، وسدت أجفان الطواغيت على التعاون مجاز العبور، وأتوا من أجفانهم بما لا يحصى عدداً، وأرصدوها بمجمع البحر حيث المجاز إلى دفع العدا، وتقلصوا عن الانبساط في البلاد، واجتمعوا إلى الجزيرة الخضراء أعادها الله بكل من جمعوه من الأعاد لكنا مع انسداد تلك الاسبيل، وعدم أمور نستعين بها في ذلكم العمل الجليل، حاولنا امداد تلكم البلاد بحسب الجهد، وأصرخناهم بمن أمكن من الجند، وجهزنا أجفاناً مختلسين فرصة الإجازة، تتردد على خطر بمن جهز للجهاد جهازه، وأمرنا بصاحب الأندلس من المال، بما يجهز به حركته

لمداناة محلة حزب الضلال، وأجرينا له ولجيشه العطاء الجزل مشاهرة، وأرضخنا لهم في النوال ما نرجو به ثواب الآخرة، وجعلت أجفاننا تتردد في ميناء السواحل، وتلج أبواب الخوف العاجل، لإحراز الأمن الآجل، مشحونة بالعدد الموفورة، والأبطال المشهورة، والخيل المسومة، والأقوات المقومة، فمن ناج حارب دونه الأجل وشهيد مضى لما عند الله عز وجل، وما زالت الأجفان تتردد على ذلك الخطر، حتى تلف منها سبع وستون قطعة غزوية أجرها عند الله يدخر، ثم لم نقنع بهذا العمل في الامداد، فبعثنا أحد أولادنا أسعدهم الله تعالى مساهمة به لأهل تلك البلاد، فلقي من هول البحر وارتجاجه، وإلحاح العدو ولجاجه، ما به الأمثال تضرب، وبمثله يتحدث ويستغرب، ولما خلص بتلك العدوة بمن أبقته الشدائد، نزل بإزاء الكافر الجاحد، حتى كان منه بفرسخن أو أدنى، وقد ضرب بعطن يصابح العدو ويماسيه بحرب بها يمنى. وقد كان من مدننا بالجزيرة جيش شريت شرارته، وقويت في الحرب بدارته، يبلون البلاء الأصدق، ولا يبالون بالعدو وهم منه كالبشامة البيضاء في البعير الأورق، إلا أن المطاولة بحصرها في البحر مدة ثلاثة أعوام ونصف، ومنازلتها في البر نحو عامين معقودتاً عليها الصف بالصف، أدى إلى فناء الأقوات بالبلد، حتى لم يبق لأهله قوت نصف شهر مع انقطاع المدد، وبه من الخلق يربي على عشرة آلاف دون الحرم والولد، فكتب إلينا سلطان الأندلس يرغب في الإذن له عقد الصلح، ووقع الاتفاق على أنه لاستخلاص المسلمين من وجوه النحج، فأذنا له فيه الإذن العام، إذ في إصراخه وإصراخ من بقطره من المسلمين توخينا ذلك المرام، هنالك دعي النصارى إلى السلم فاستجابوا، وقد كانوا علموا فناء القوت وما استرابوا، فتم الصلح إلى عشر سنين، وخرج من بها من فرسان وأهل وبنين، ولم يرزأوا مالاً ولا عدة، ولا لقوا في خروجهم غير النزوع عن أول أرض مس الجلد ترابها شدة، ووصلوا إلينا فأجزلنا لهم العطاء، وأسليناهم عما جرى بالحباء، فمن خيل تزيد على الألف

عتاقها، وخلع تربي على عشرة آلاف أطواقها وأموال عمت الغني والفقير، ورعاية شملت الجميع بالعيش النضير، وكف الله ضر الطواغيت عما عداها، وما انقلبوا بغير مدرة عفا رسمها وصم صداها، وقد كان من لطف الله حين قضى بأخذ هذا الثغر، أن قدر لنا (1) فتح جبل طارق من أيدي الكفر، وهو المطل على هذه المدرة، والفرصة منها إن شاء الله متيسرة، حتى (2) يفرق عقد الكفار، ويفرج بهذه الجهة منهم مجاورو هذه الأقطار، فلولا إجلابهم من كل جانب، وكونهم سدوا مسلك العبور بما لجميعهم من الأجفان والمراكب، لما بالينا بإصعاقهم، ولحللنا بعون الله عقد اتفاقهم، ولكن للموانع أحكام، ولا راد لما جرت به الأقلام، وقد أمرنا لذلك الثغر بمزيد المدد، وتخيرنا له ولسائر تلك البلاد العدد والعدد، وعدنا لحضرتنا فاس لتستريح الجيوش من وعثاء السفر، وترتبط الجياد وتنتخب العدد لوقت الظهور المنتظر، وتكون على أهبة الجهاد، وعلى مرقبة الفرصة عند تمكنها في الأعاد. وعند عودنا من تلك المحاولة، تيسر الركب الحجازي موجهاً إلى هنالكم رواحله، فأصدرنا إليكم هذا الخطاب، إصدار الود الخالص والحب اللباب، وعندنا لكم ما عند أحنى الآباء، واعتقادنا فيكم في ذات الله لا يخشى جديده من البلاء، وما لكم من غرض بهذه الأنحاء، فموفى قصده على أكمل الأهواء، موالى تتميمه على أجمل الآراء، والبلاد باتحاد الود متحدة، والقلوب والأيدي على مرضاة الله، عز وجل، منعقدة (3) ، جعل الله ذلكم خالصاً لرب العباد، مدخوراً ليوم التناد، مسطوراً في الأعمال الصالحة يوم المعاد، بمنه وفضله، وهو سبحانه وتعالى يصل إليكم سعداً تتفاخر به سعود الكواكب،

_ (1) ص: قدم؛ ق: قد ولينا. (2) ص: حين. (3) ق ص: معتضدة.

وتتضافر على الانقياد له صدور المواكب، وتتقاصر عن نيل مجده متطاولات المناكب، والسلام والأتم يخصكم كثثيراً أثيراً ورحمة الله وبركاته، وكتب في يوم الخميس السادس والعشرين لشهر صفر المبارك من عام خمسة وأربعين وسبعمائة، وصورة العلامة (1) ، وكتب في التاريخ المؤرخ. جواب الملك الصالح من إنشاء الصفدي ونسخة الجواب عن ذلك من إنشاء خليل الصفدي شارح لامية العجم في سادس شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة، بعد البسملة، في قطع النصف بقلم الثل؛ عبد الله ووليه، صورة العلامة، ولده اسماعيل بن محمد السلطان الملك الصالح السيد العالم العادل المؤيد المجاهد المرابط المثاغر المظفر المنصور عماد الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، وارث الملك، ملك العرب والعجم والترك، فاتح الأقطار، واهب الممالك والأمصار، إسكندر الزمان، مملك أصحاب المنابر والأسرة والتخوت والتيجان، ظل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، مالك البحرين، خادم الحرمين الشريفين، سيد الملوك والسلاطين، جامع كلمة الموحدين، ولي أمير المؤمنين، أبو الفداء إسماعيل ابن السلطان الشهيد السعيد الملك الناصر ناصر الدنيا والدين أبي الفتح محمد ابن السلطان الشهيد السعيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، خلد الله تعالى سلطانه، وجعل الملائكة أنصاره وأعوانه، يخص المقام العالي الملك الأجل الكبير المجاهد المؤيد المرابط المثاغر المعظم المكرم المظفر المعمر الأسعد الأصعد الأوحد الأمجد الأنجد، السني السري المنصور أبا الحسن علي ابن أمير المسلمين أبي سعيد ابن أمير المسلمين أبي يوسف

_ (1) في هامش أصول دوزي أن العلامة هكذا.

يعقوب بن عبد الحق، أمده الله بالظفر، وقرن عزمه بالتأييد، في الآصال والبكر. سلام وشت البروق وشائعه، وادخرت الكواكب ودائعه، واستوعب الزمان ماضيه ومستقبله ومضارعه، وثناء اتخذ النفحات المسكية صلائعه، ونبه للتغريد في الروض سواجعه، وجلى في كأسه من الشفق المحمر مدامه ومن النجوم فواقعه، بعد حمد الله على نعم أدت لنا الأمانة في عودة سلطنة والدنا الموروثة، وأجلستنا على سرير مملكة زرابيها بين النجوم مبثوثة، وأحسنت بنا الخلف عن سلف عهوده في الأعناق غير منكورة ولا منكوثة، وصلاته على سيدنا محمد عبده وسوله، وعلى آله وصحبه الذين بلغ بجهادهم في الكفرة غاية أمله وسوله، صلاة تحط بالرضوان سيولها، وتجر بالغفران ذيولها، ما ترسل أصحاب، وتواصل أحباب، ويوضح للعلم الكريم، ورود كتابكم العظيم، وخاطبكم على الدر النظيم، تفاخر الحمائل سطوره، ويصبغ خد الورد بالخجل منثوره، ويحكي الرياض اليانعة فالألفات غصونه والهمزات عليها طيوره، ويخلع على الآفاق حلل الأيام والليالي فالطرس صاحبه والنقس د يجوره، لفظه يطرب، ومعناه يعرب فيغرب، وبلاغته تدل على أنه آية لآن شمس بينها طلعت من المغرب، فاتخذنا سطوره ريحاناً، ورجعنا ألفاظه ألحاناً، ولرجعنا إلى الجد فشبهنا ألفاته بظلال الرماح، وورقه بصقال الصفاح، وحروفه المفرقة بأفواه الجراح، وسطوره المنتظمة بالفرسان المزدحمة في يوم الكفاح، وانتهينا إلى ما أودعتموه من اللفظ المسجوع، والمعنى الذي يطرب طائره المسموع، والبلاغة التي فضح المتطبع بيانها المطبوع. فأما العزاء بأخيكم الوالد قدس الله روحه وسقى عهده، وأحسن لسلفه خلفنا بعده، فلنا برسول الله أسوة حسنة، ولولا الوثوق بأنه عدة الشهداء ما رأى القلب قراره ولا الطرف وسنه، عاش سعيداً يملك الأرض، ومات

شهيداً يفوز بالجنة يوم العرض، قد خلد الله ذكره يسير ميسر الشمس (1) في الآفاق، ويوقف على نضارة حدائقه نظرات الأحداق، وورثنا منه حسن الإخاء لكم، والوفاء بعهود مودة تشبه في اللطف شمائلكم، وأما الهناء بوارثة ملكه، والانخراط مع الملوك في سلكه، فقد شكرنا لكم منحى هذه المنحه، وقابلناها بثناء يعطر النسيم في كل نفحة، ووقفنا عليها حمداً جعل الود علينا إيراده (2) وعلى أنفاس سرحة الروض شرحه، وتحققنا به حسن ودكم الجميل، وكريم إخائكم الذي لا يميد طود رسوخه ولا يميل. وأما ما ذكر تموه من أمر المصحفين الشريفين اللذين وقفتموهما على الحرمين المنيفين، وأنكم جهزتم كاتبكم الفقيه الأجل الأسنى الأسمي أبا المجد ابن كاتبكم أبي عبد الله ابن أبي مدين أعزه الله تعالى لتفقد أحوالهما، والنظر في أمر أوقافهما، فقد وصل المذكور بمن معه في حرز السلامة وأكرمنا نزلهم، وسهلنا بالترحيب سبلهم، وجمعنا على بذل الإحسان إليهم شملهم، وحضر المذكور بأيدينا وقربناه، وسمعنا كلامه وخاطبناه، وأمرنا في أمر المصحفين الشريفين بما أشرتم، ورسمنا لنوابنا في نواحي أوقافهما بما ذكرتم، وهذا الوقف المبرور جار على أحسن عادة ألفها، وأثبت قاعدة عرفها، مرعي الجوانب، محمي المنازل والمضارب، آمن من إزالة رسمه، أو إزالة حكمه، بدره أبداً في مطالع تمه، وزهره دائماً يرقص في كمه، لا يزداد إلا تخليداً، ولا إطلاق ثبوته إلا تقييداً، ولا عنق اجتهاده إلا تقليداً، جرياً على عادة أوقاف ممالكنا، وقاعدة تصرفاتنا في مسالكنا، وله مزيد الرعاية، وإفادة الحماية، ووفادة العناية. وأما ما وصفتموه من أمر الجزيرة الخضراء وما لاقاه أهلها، ومني به من

_ (1) ص: السمر. (2) ص: أيراده.

الكفار حزنها وسهلها، فإن شق علينا سماعه الذي أنكى أهل الإيمان، وعدد به ذنوب الزمان، كل قلب بأنامل الخفقان، وطالما فزتم بالظفر، ورزقتم النصر على عدوكم فجر ذيل الهزيمة وفر، ولكن الحروب سجال، وكل زمان لدوائه دولة ولرجائه رجال، ولو أمكنت المساعدة لطارت بنا إليكم عقبان الجياد المسومة، وسالت على عدوكم أباطحهم بقسينا المعوجة وسهامنا المقومة، وكحلنا عيون النجوم بمراود الرماح، وجعلنا ليل العجاج (1) ممزقاً ببروق الصفاح، واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات، وفرجنا مضايق الحرب بتوالي الكرات، وعطفنا إليهم الأعنة، وخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنة، وفلقنا الصخرات بالصرخات، وأسلنا العبرات بالرعبات، ولكن أين الغية من هذا المدى المتطاول وأين الثريا من يد المتناول وما لنا غير إمدادكم بجنود الدعاء الذي نرفعه نحن ورعايانا، والتوجه الصادق الذي تعرفه ملائكة القبول من سجايانا. وأما ما فقدتموه من الأجفان التي طرقها طيف التلاف، وأم حر فنائها الفناء وطاف به بعد الإلطاف، فقد روع هذا الخبر قلب الإسلام، ونوع له الحزن على اختلاف الإصباح والإظلام، وهذه الدار ما يخلو صفوها من كدر القدر، وطالما أنامت بالأمن أول الليل وخاطبت بالخطب في السحر، ولكن في بقائكم ما يسلس من خطب العطب، ومع سلامة نفسكم الكريمة فلأمر هين لأن الدر يفدى بالذهب. وأما ما رأيتموه من الصلح فرأي عقده مبارك، وأمر فيه فارط عزم وإن كان فيتدارك، والأمر يجيء كما يحب لا كما نحب، والحروب يزورها نصرها تارة ويغيب، ومع اليوم غدا، وقد يرد الله الردى، ويعيد الظفر بالعدا. وأما عودكم إلى فاس المحروسة طلباً لإراحة من عندكم من الجنود،

_ (1) ق ص: الليل العجاج.

وتجهيزاً لمن يصل من عندكم إلى الحجاز الشريف من الوفود، فهذا أمر ضروري التدبير سروري التثمير، لأن النفوس تمل وثير المهاد، فكيف ملازمة صهوات الجياد، وتسأم من مجالسة الشرب، فكيف بممارسة الحرب، وتعرض عن دوام اللذة، فكيف بمباشرة المنايا الفذة، وهذا جبل طارق الذي فتح الله به عليكم، وساق هدي هديته إليكم، لعله يكون سبباً إلى ارتجاع ما شرد، وحسماً لها الطاغية الذي مرد، ورداً لهذا التنازل الذي قدم ورد الصبر لما ورد، فعادة الألطاف الإلهية بكم معروفة، وعزماتكم إلى جهات الجهاد مصرفة، وقد تفاءلنا لكم من هذا الجبل بأنه طارق خير من الرحمن يطرق، وجبل يعصم من سهم يمر من قسي الكفار ويمرق. وأما ما منحتموه من الخيل العتاق، والملابس التي تطلع بدور الوجوه مشارق الأطواق، والأموال زكت عند الله تعالى ونمت على الإنفاق، فعلى الله عز وجل خلفها، ولكم في منازل الدنيا والآخرة شرفها، وإليكم تساق هدايا أثنيتها وتحفكم تحفها، وإذا وصل وفدكم الحاج، وأنار له بوجه إقبالنا عليهم ليلهم الداج، كانوا مقيمين تحت ظل إكرامنا، وشمول إسعافنا لهم وإنعامنا، يتخولون تحفاً أنتم سببها، ويتناولون طرفاً في كؤوس الاعتناء بهم تنضد حببها، وإذا كان أوان الرحيل إلى الحج فسحنا لهم الطريق، وسهلنا لهم الرفيق، وبلغناهم بحول الله تعالى مناهم من منى، وسولهم ممن إذا زاروا حجرته الشريفة حازوا الراحة من العنا، وفازوا بالغنى، وإذا عادوا عاملناهم بكل جميل ينسيهم مشقة ذلك الدرب، ويخيل إليهم أن لا مسافة لمسافر بين الشرق والغرب، وغمرناهم بالإحسان في العود إليكم، وأمرناهم بما ينهونه شفاهاً لديكم، وعناية الله تعالى تحوط ذاتكم، وتوفر لأخذ الثأر حماتكم، وتخصكم بتأييد تنزلون روضة الأنضر، وتجنون به النصر اليانع من ورق الحديد الأخضر، وتتحفكم بسعد لا يبلى قشبيه، وعز لا يمحو شبابه مشيبه، وتحيته المباركة تغاديكم وتراوحكم، وتفاوحكم أنفاسها المعنبرة وتنافحكم، بمنه وكرمه؛ انتهى.

إجازة من الصفدي رواية الرسالتين ورأيت بخط منشئ هذا الجواب الصلاح الصفدي رحمه الله تعالى إثر ذكره ما نصه: أما بعد حمد الله تعالى على نعمائه، وصلاته على سيدنا محمد عبده ورسوله خاتم أنبياءه، فقد قرأ الشيخ الإمام العالم العامل العلامة المفيد القدوة عز الدين أبو يعلى حمزة ابن الرئيس الكبير الفاضل القاضي قطب الدين موسى بن أحمد ابن شيخ السلامية الأحمدي (1) - أمتع الله بفوائده - الكتاب الوارد من سلطان المغرب الملك المجاهد المرابط أبي الحسن المريني، صاحب مراكش تغمده الله تعالى برحمته والجواب عنه عن السلطان الشهيد الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان الشهيد الملك الناصر محمد قدس الله تعالى روحهما من إنشائي، وأنا أسمع ذلك جميعاً من أولهما إلى آخرهما، قراءة أطربت السمع لفصاحتها، وأمالت العطف لرجاحتها: وأخجلت ورق الحمى باللوى إن صدحت في ذروة الغصن تكاد من لطف ومن رقة تدخل في الأذن بلا إذن وذلك في مجلس واحد في ذي القعدة سنة 756، بالجامع الأموي بدمشق المحروسة، فإن رأى رواية ذلك عني فله علو الرأي في تشريفي بذلك، وكتبه خليل ابن أبيك الشافعي عفا الله عنه؛ انتهى. أبو الحسن يكتب ثلاثة مصاحف وكان السلطان أبو الحسن المريني المذكور كتب ثلاثة مصاحف شريفة بخطه، وأرسلها إلى المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وأوقف عليها أوقافأً جليلة، كتب توقيعه سلطان مصر والشام من إنشاء الأديب الشهير جمال الدين ابن نباتة المصري، ونص ما يتعلق به الغرض منه هنا قوله: وهو

_ (1) دوزي: الحنبلي.

الذي مد يمينه بالسيف والقلم فكتب في أصحابها، وسطر الختمات الشريفة فأيد الله حزبه بما سطر من أحزابها، واتصلت أخبار ملائكة النصر بلوائه تغدو وتروح، وكثرت فتوحه لأملياء الغرب فقالت أوقاف الشرق لا بد للفقراء من فتوح، ثم وصلت ختمات شريفة كتبها بقلمه المجيد المجدي، وخط سطورها بالعربي وطالما خط في صفوف الأعداء بالهندي، ورتب عليها أوقافاً تجري أقلام الحسنات في إطلاقها وطلقها، وحبس أملاكاً شامية تحدث بنعم الأملاك التي سرت من مغرب الأرض إلى مشرقها، والله تعالى يمتع من وقف هذه الختمات بما سطر له في أكرم الصحائف، وينفع الجالس من ولاة الأمور في تقريرها ويتقبل من الواقف؛ انتهى. قلت: وقد رأيت أحد المصاحف المذكورة، وهو الذي ببيت المقدس، وربعته في غاية الصنع. نبذة من أخبار أبي الحسن وقال بعض المشارفة في حق السلطان أبي الحسن، ما صورته: ملك أضاء المغرب بأنوار هلاله، وجرت إلى المشرق أنواء نواله، وطابت نسماته، واشتهرت عزماته، كان حسن الكتابة، كثير الإنابة، ذا بلاغة وبراعة، وشهامة وشجاعة، كتب بخطه ثلاثة مصاحف ووقفها على المساجد الثلاثة، أقام في الملك عشر سنين وسبعة أيام، ثم صرف بولده أبي عنان بعد حروب يطول شرحها، انتهى من كتاب نزهة الأنام. ولما ذكر الإمام الخطيب أبو عبد الله ابن مرزوق في كتابه المسند الصحيح الحسن من أخبار السلطان أبي الحسن أمر الربعة التي أرسلها السلطان أبو الحسن بخطه قال ما ملخصه: وأرسل معها للسلطان الملك الناصر بن قلاوون صاحب الديار المصرية من أحجار الياقوت العظيم القدر والثمن ثمانمائة وخمسة وعشرين، ومن الزمرد مائة وثمانية وعشرين، ومن الزبرجد مائة وثمانية وعشرين

ومن الجوهر النفيس الملوكي ثلاثمائة وأربعة وستين، وأرسل حللاً كثيرة منها مذهبة ثلاثة عشر، ومن الإناق عشرين مذهبة، ومن الخلادي ستة وأربعين، ومن القنوع ستة وعشرين مذهبة، ومن المحررات المختمة ثمانمائة، ومن الرصان عشرين شقة، والأكسية المحررة أربعة وعشرين، والبرانس المحررة ثمانية عشر، والمشففات (1) مائة وخمسين، وأحارم الصوف المحررة عشرين، ومن شقق الملف الرفيع ستة عشر، ومن الفضالي المنوعة والفرش والمخاد المنبوق والحلل ثمانمائة، وأوجه اللحف المذهبة عشرين، وحائطان حلة وحنابل مائة واثني عشر كلها حرير (2) ، وفرش جلد مخروز بالذهب والفضة، ومن السيوف المحلاة بالذهب المنظم بالجوهر عشرة، والسروج عشرة بركب ذهب ومهاميز ذهب كذلك، وثلاث ركب فضة، وست مزججة ومذهبة، ومضمتان من ذهب مما يليق بالملوك، وشاشية حرير مطوقة بذهب مكلل بالجوهر، ومن لزمات الفضة عشرة، وسرج مخروزة بالفضة عشرة، وعشر علامات معششة مذهبة، وعشر رايات مذهبة، وعشر براقع مذهبة، وعشر أمثلة (3) مرقومة، وثلاثين جلد أشرك (4) ، وأربعة ألاف درقة لمط منها مائتان بنهود الذهب وثمانية عشر بنهود الفضة، وخباء قبة كبيرة من مائة بنيقه (5) لها أربعة أبواب، وقبة أخرى مضربة من ست وثلاثين بنيقة مبطنة بحلة مذهبة، وهي حرير أبيض ومرابطها حرير ملون وعمودها عاج وأبنوس وأكبارها من فضة مذهبة، ومن البزاة الأحرار المنتقاة أربعة وثلاثين (6) ، ومن عتاق الخيل العراب ثلاثمائة وخمسة وثلاثين، ومن البغال الذكور والإناث مائة وعشرين، ومن الجمال سبعمائة، وتوجهت مع هذه الهدية أمم برسم الحج مع الربعة المكرمة، وأعطى الحرة أم أخته أم

_ (1) ص: والمشققات. (2) قد شرح دوزي أكثر هذه الألفاظ في ملحق المعاجم ولكنه استمد معانيها من النص نفسه. (3) ص: أشلة. (4) ص: وثلاث زجلوا شركي. (5) دوزي: نبيقة. (6) هذا العدد والأعداد التالية وردت بصورة الرفع في ص.

ولد أبيه مريم آلاف وخمسمائة ذهباً، ولقاضي الركب ثلاثمائة وكسوة، ولقائد الركب أربعمائة وكساوى متعددة وبغلات، وللرسول المعين للهدية ألفاً، ولشيخ الركب أحمد بن يوسف بن أبي محمد صالح خمسمائة، ولجماعة الضعفاء من الحجاج ستمائة، وبرسم العطاء للعرب ثلاثة آلاف وثمانمائة، ولشراء ربع ستة عشر ألفاً وخمسمائة ذهباً؛ انتهى. وذكر في الكتاب المذكور أن السلطان أبا الحسن الموصوف أهدى هدايا غير هذه لكثير من الملوك، ومنها لصاحب الأندلس صلة وصدقة في مرات، ومنها لملوك النصارى بعد هداياهم، ومنها لسلاطين السودان كصاحب مالي، ومنها لصاحب إفريقية، ومنها لصاحب تلمسان؛ انتهى. وقال مؤرخ مصر المقريزي في كتاب السلوك في سنة 738 ما نصه: وفي ثاني عشرين من رمضان قدمت الحرة من عند السلطان أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب المريني صاحب فاس تريد الحج، ومعها هدية جليلة إلى الغاية، نزل لحملها من الإصطبل السلطاني ثلاثون قطاراً من بغال النقل سوى الجمال، كان من جملتها أربعمائة فرس منها مائة حجرة ومائة فحل ومائتا بغل، وجميعها بسرج ولجم مسقطة بالذهب والفضة، وبعضها سرجها وركبها كلها ذهب، وكذلك لجمها، وعدتها اثنان وأربعون رأساً، منها سرجان من ذهب مرصع بجوهر، وفيها اثنان وثلاثون بازاً، وفيها سيف قرابه ذهب مرصع، وحياصته ذهب مرصع، وفيها مائة كساء، وغير ذلك من القماش العال، وكان قد خرج المهمندار إلى لقائهم، وأنزلهم بالقرافة قريب مسجد الفتح، وهم جمع كبير جداً، وكان يوم طلوع الهدية من الأيام المذكورة، ففرق السلطان الهدية على الأمراء بأسرهم على قدر مراتبهم، حتى نفدت كلها سوى الجواهر واللؤلؤ فإنه اختص به، فقدرت قيمة هذه الهدية بما يزيد على مائة ألف دينار، ثم نقلت الحرة إلى الميدان بمن معها، ورتب لها من الغنم والدجاج والسكر والحلوى والفاكهة في كل يوم بكرة وعشية ماعمهم وفضل عنهم، فكان

مرتبهم كل يوم عدة ثلاثين رأساً من الغنم، ونصف إردب أرز، وقنطار حب رمان، وربع قنطار سكر، وثماني فانوسيات شمع، وتوابل الطعام، وحمل إليها برسم النفقة مبلغ خمسة وأربعين ألف درهم، وأجرة حمل أثقالهم مبلغ ستين ألف درهم، ثم خلع على جميع من قدم مع الحرة، فكانت عدة الخلع مائتين وعشرين خلعة على قدر طبقاتهم، حتى خلع على الرجال الذين قادوا الخيول، وحمل إلى الحرة من الكسوة ما يجل قدره، وقيل لها أن تملي ما تحتاج إليه ولا يعوزها شيء، وإنما تريد عناية السلطان بإكرامها وإكرام من معها حيث كانوا، فتقدم السلطان إلى النشو وإلى الأمير أحمد أقبغا بتجهيزها اللائق بها، فقاما بذلك، واستخدما لها السقائين والضوية، وهيئا كل ما تحتاج إليه في سفرها من أصناف الحلاوات والسكر والدقيق والبقسماط، وطلبا الحمالة لحمل جهازها وازودتهان وندب السلطان للسفر معها جمال الدين متولي الجيزة، وأمره أن يرحل بها في مركب لها بمفردها قدام المحمل، ويمتثل كل ما تأمر به، وكتب لأميري مكة والمدينة بخدمتها أتم خدمة. وقال في سنة خمس وأربعين وسبعمائة ما نصه: وفي نصف شعبان قدمت الحرة أخت صاحب المغرب في جماعة كثيرة، وعلى يدها كتاب السلطان أبي الحسن يتضمن السلام، وأن يدعو له الخطباء يوم الجمعة وخطبها ومشايخ الصلاح وأهل الخير بالنصر على عدوهم، ويكتب إلى أهل الحرمين بذلك، وذلك أن في السنة الخالية كانت بينه وبين الفرنج وقعة عظيمة قتل فيها ولده، ونصره الله تعالى بمنه على العدو، وقتل كثيراً منهم، وملكوا منهم الجزيرة الخضراء، فعمر الفرنج مائتي شيني، وجمعوا طوائفهم، وقصدوا المسلمين، وأوقعوا بهم على حين غفلة، فاستشهد عالم كثير، ونجا أبو الحسن في طائفة من ألزامه بعد شدائد، وملك الفرنج الجزيرة، وأسروا وسبوا وغنموا شيئاً يجل وصفه، ثم مضوا إلى جهة غرناطة، ونصبوا عليها مائة منجنيق حتى صالحهم أهلها على قطيعة يقومون بها، وتهادنوا مدة عشر سنين، انتهى كلامه.

وقد تقدم نص هذا الكتاب الموجه من السلطان أبي الحسن فليراجع قريباً. وقال ابن مرزوق في المسند الصحيح الحسن بعد كلام ما ملخصه: وكان يعني السلطان أبا الحسن مجتهداً في الجهاد بنفسه وحرمه، وجاز للأندلس برسم ذلك بنفسه، وأظهر آثاره الجميلة، ومنها ارتجاع جبل الفتح ليد المسلمين بعد أن أنفق عليه الأموال، وصرف إليه الجنود والحشود إذ كان من عمالته هو والجزيرة ورندة، ونازلته جيوشه مع ولده وخواصه وضيقوا به إلى أن استرجعوه ليد المسلمين، وأنفق على بنائه (1) أحمال المال، واعتنى بتحصينه، وبنى حصنه وأبراجه وسوره وجامعه ودوره ومخازنه، ولما كاد يتم ذلك نازله العدو براً وبحراً، فصبر المسلمون صبر الكرام، فخيب الله تعالى أمل العدو، وعاد خاسراً (2) ، والمنة لله، فرأى أن يحصن سفح الجبل بسور يحيط به من جميع جهاته حتى لا يطمع عدو في منازلته، ولا يجد سبيلاً للتضييق عند محاصرته، ورأى الناس ذلك من المحال، فأنفق الأموال، وأنصف العمال، فأحاط بمجموعه إحاطة الهالة بالهلال، وأما بناؤه للمحاسن (3) والطوالع فأمر غير مجهول؛ انتهى. رسائل للسان الدين ابن الخطيب 1 - رسالة إلى أحد سلاطين بني مرين وقد رأيت أن أذكر هنا بعض إنشاء لسان الدين ابن الخطيب في شأن ما يتعلق بجبل الفتح وغيره من بلاد الأندلس، وحال العدو الكافر، وما ينخرط في هذا السلك: فمن ذلك على لسان سلطانه يخاطب أحد السلاطين من أولاد السلطان أبي الحسن المريني، ونصه: المقام الذي يصرخ وينجد، ويتهم في الفضل وينجد، ويسعف

_ (1) ص: وأنفقوا فيه. (2) ص: ورجعوا خاسرين. (3) ص: للمحارس.

ويسعد، ويبرق في سبيل الله ويرعد، فيأخذ الكفر من عزماته المقيم المقعد، حتى ينجز من نصر الله تعالى الموعد، مقام محل أخينا الذي حسن الظن بمجده جميل، وحد الكفر بسعده كليل، وللإسلام فيه رجاء وتأميل، ليس للقلوب عنه مميل، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى وعزمه الماضي لصولة الكفر قامعاً، وتدبيره الناجح لشمل الإسلام جامعاً، وملكه الموفق لنداء الله مطيعاً سامعاً، معظم مقداره، وملتزم إجلاله وإكباره، المعتد في الله بكرم شيمته وطيب نجاره، المستظهر على عدو الله بإسراعه إلى تدمير الكافر وبداره. سلام كريم عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد حمد الله مجيب دعوة السائل، ومتقبل الوسائل، ومتيح النعم الجلائل، مربح (1) من عامله في هذا الوجود الزائف الزائل، والأيام القلائل، بالمتاع الدائم الطائل، والنعيم غير الحائل، ومقيم أود الإسلام المائل، بأولي المكارم من أوليائه والفضائل، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله المنقذ من الغوائل، المنجي من الروع الهائل، الصادع بدعوة الحق الصائل، بين العشائر والفصائل، الذي ختم به وبرسالته ديوان الرسل والرسائل، وجعله في الأواخر شرف الأوائل، فحبه كنز العائل، والصلاة عليه زكاة القائل، والرضى عن آله وصحبه وعترته وحزبه تيجان الأحياء والقبائل، المتميزين بكر السجايا وطيب الشمائل، والدعاء لمقام أخوتكم في البكر والأصائل، بالسعد الصادق المخايل، والصنع الذي تتبرج مواهبه تبرج العقائل، والنصر الذي تهز له الصعاد الملد عكف المترانح المتخايل، فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم عزاً يانع الخمائل، ونصراً يكفن للكتائب المدونة في الجهاد ومرضاة رب العباد بسرد المسائل وإقناع السائل، ومن حمراء غرناطة، حرسها الله تعالى، ولا زائد بفضل الله سبحانه إلا استبصار في التوكل على من بيده الأمور، وتسبب مشروع تتعلق به بإذن الله تعالى أحكام القدر

_ (1) ص: مريح.

المقدور، ورجاء فيما وعد به من الظهور، يتضاعف على توالي الأيام وترادف الشهور، والحمد لله كثيراً كما هو أهله، فلا فضل إلا فضله، ومقامكم المعروف محله الكفيل بالإرواء نهله وعله، وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم، وحرس مجدكم، ووالى النعم عندنا وعندكم (1) ، فإننا في هذه الأيام، أهمنا من أمر الإسلام، ما رنق بالشراب ونغص الطعام، وذاد المنام، لما تحققنا من عمل الكفر على مكايدته، وسعي الضلال - والله الواقي - في استئصال بقيته، وعقد النوادي للاستشارة في شأنه، وشروع الحيل في هد أركانه، ومن يؤمل من المسلمين لدفع الردى وكشف البلوى وبث الشكوى، وأهله - حاطهم الله تعالى وتولاهم، وتمم عوائد لطفه الذي أولاهم، فهو مولاهم - في غفلة ساهون، وعن المغبة فيه لاهون، قد شغلتهم دنياهم عن دينهم، وعاجلهم عن آجلهم، وطول الأمل، عن نافع العمل، إلا من نور الله تعالى قلبه بنور الإيمان وتململ بمناصحة الله تعالى والإسلام تململ السليم، واستدل بالشاهد على الغائب، وصرف الكفر إى مطالب (2) الأمم النوائب، فلما رأينا أن الدولة المرينية التي هي على مر الأيام شجا العدا، ومتوعد من يكيد الهدى، وفئة الإسلام التي إليها يتحيز، وكهفه الذي إليه يلجأ، قد أذن الله تعالى في صلاح أمورها، ولم شعثها، وإقامة صغاها، بأن صرف الله تعالى عنها هنات الغدر (3) ، وأراحها من مس الضر، ورد قوسها إلى يد باريها، وصير حقها إلى وارثها، وأقام لرعي مصالحها من حسن الظن بحسبه ودينه، ورجي الخير من ثمرات نصحه، ومن لم يعلم إلا الخير من سعيه (4) والسداد من سيرته، ومن لا يستريب المسلمون بصحة عقده، واستقامة قصده، أردنا أن نخرج لكم عن العهدة في هذا

_ (1) وعندكم: سقطت من ص. (2) ص: معاطب. (3) ص: العدو. (4) من سعيه: سقطت من ق.

الدين الحنيف الذي وسمت دعوته وجوه أحبابكم شملهم الله تعالى بالعافية، وتشبثت به أنفس من صار إلى الله تعالى من السلف تغمدهم الله بالرحمة والمغفرة، وفي هذا القطر الذي بلاده ما بين مكفول يجب رعيه طبعاً وشرعاً، وجار يلزم حقه ديناً ودنيا وحمية وفضلا، وعلى الحالين فعليكم بعد الله المعول، وفيكم والمؤمل، فأرعونا أسماعكم المباركة نقص عليكم ما فيه رضى الله، والمنجاة من نكيره، والفخر والأجر وحفظ النعم، والخلف بالذرية بهذا وعدت الكتب المنزلة، والرسل المرسلة: وهو أن هذا القطر الذي تعددت فيه المحارب والمنابر، والراكع والساجد، والذاكر والعابد، والعالم واللفيف، والأرملة والضعيف، قد انقطع عنه ارفاد الإسلام، وشحت الأيدي به منذ أعوام، وسلم إلى عبدة الأصنام، وقوبلت ضرائره بالأعذار، والمواعيد المستغرقة للأعمار، وإن عرضت شواغل وفتن، وشواغب وإحن، فقد كانت بحيث لا يقطع السبب بجملته، ولا يذهب المعروف بكليته: ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع (1) ولو كانت الأشغاب تقطع المعروف وتصرف عن الواجب لم يفتح المقدس والدكم جبل الفتح وهو منازل أخاه بسجلماسة، ولا أمده ولده السلطان أبو عنان وهو بمراكش، وبالأمس بعثنا إلى الجبل وشمانة في جملة ما أهمنا مبلغ جهد وسداد من عوز، وقد فضلت عن ضرائرنا، أموال فرضت من أجل الله على عباده، وطعام سمحنا به على الاحتياج إليه في سبيل جهاده، فلم يسهم المتغلب منها الجانب الله بحبه، ولا أقطعه منها ذرة مستخفاً به جل وعلا، متهاوناً بنكيره الذي هو أحق أن يخشى، فضاععت الأمور واختلت الثغور، وتشذبت الحامية، وتبددت العدد، وخلت المخازن، وهلكت بها الجرذان، وعظمت

_ (1) ص ق: يتفجع.

بها حسرة الإسلام، أضعاف ما عظمت حبرته أيام ما كانت تكفلها همم الملوك، الكرام والخلفاء العظام، والوزراء والنصحاء، والأشياخ الأمجاد، قدس الله تعالى أرواحهم، وضاعف أنوارهم، ولا كالحسرة في الجبل باب الأندلس، وركاب الجهاد وحسنة بني مرين ومآثر آل يعقوب وكرامة الله للسلطان المقدس أبي الحسن والد الملوك وكبير الخلفاء والمجاهدين والدكم الذي ترد على قبره (1) مع الساعات والأنفاس وفود الرحمة، وهدايا الزلفة، وريحان الجنة، فلولا أنكم على علم من أحواله لشرحنا المجمل، وشكلنا المهمل، إنما هو اليوم شبح ماثل، وطلل بائد، لولا أن الله تعالى شغل العدا عنه بفتنة لم يصرف وجهه إلا إليه، ولا حوم طيره إلا عليه، ولكان بصدد أن يتخذه الصليب داراً، وأن يقر به عيناً، والعدوة فضلاً عن الأندلس، قد أوسعها شراً، وأرهق ما يجاوره عسراً، نسألأ الله تعالى بنور وجهه أن لا يسود الوجوه بالفجع فيه، ولا يسمع المسلمين الثكلة، وما دونه فهو - وإن أنعش بالتعليل عليه ووقع بالجهد خلقه - لحم على وضم، إلا أن يصل الله تعالى وقايته، ويوالي دفاعه وعصمته، لا إله إلا هو الولي النصير، ومازلنا نشكو إلى غير المصمت، ونمد اليد إلى المدبر عن الله المعرض، ونخطب له زكاة الأموال من المباني الضخمة، والخزائن الثرة، والأهراء الطامية، والحظ التافه من المفترض برسمه، فتمضي الأيام لا تزيد الضرائر فيها إلا ضيقاً، ولا الأحوال إلا شدة، ولا الثغر إلا ضعة، ولا نعلم أن نظراً وقع له ولا فكراً أعمل فيه إلا ما كان من تسخير رعيته الضعيفة، وبلالة مجباه السخيفة، في بناء قصر بمنت ميور من جباله: شاده مرمراً أوجلله كل ... ساً فللطير في ذراه وكور (2) جلب إليه الزليج (3) ، واختلفت فيه الأوضاع في رأس نيق، لأمل نزوة،

_ (1) زاد في ص: منه بعد لفظة قبره. (2) البيت لعدي بن زيد العبادي. (3) ص: الأزليج.

وسوء فكرة، فلما تم أقطع الهجران، فهو اليوم ممتنع البوم وحظ الخراب، فلا حول ولا قوة إلا بالله، حتى جاء أمر الله خالي الصحيفة من البر، صفر اليد من العمل الصالح، نعوذ بالله من نكيره، ونسأله الإلهام والسداد، والتوفيق والرشاد، وقد بذلنا جهدنا قولاً وفعلاً، وموعظة ونصحاً، واستدعينا لتلك الجهة صدقة المسلمين محمولة على أكتاد العباد الضعفاء الذين كانت صدقات فاتحيه رضي الله تعالى عنهم ترفدهم، ونوافله تتعهدهم، فما حرك ذلك الجؤوار حلوباً، ولا استدعى مطلوباً، ولا رفداً مجلوباً، فإلى متى تنضى ركاب الصبر وقد بلغ الغاية، واستنفذ البلالة، بعد أن أعاد الله تعالى العهد، وجبر المال، وأصلح السعي، وأجرى ينابيع الخير، وأنشق رياح الإقالة، وجملة ما نريد أن نقرره فهو لباب الجامع، والقصد الشامل، والداعي والباعث، أن صاحب قشتالة لما عاد إلى ملكه، ورجع إلى قطره، جرت بيننا وبينه المراسلة التي أسفرت بعدم رضاه عن كدحنا لنصره، ومظاهرتنا إياه على أمره، وإن كنا قد بلغنا جهداً، وأبعدنا وسعاً، وأجلت عن شروط ثقيلة لم نقبلها، وأغراض صعبة لم نكملها، ونحن نتحقق أنه إما أن تهيج حفيظته، وتثور إحنته، فيكشف وجه المطالبة مستكثراً بالأمة التي داس بها أهل قشتالة، فراجع أمره غلاباً، وحقه ابتزازاً واستلاباً، أو يصرفها ويهادن المسلمين بخلال ما لا يدع جهة من جهات دينه الغريب إلا عقد معها صلحاً، وأخذ عليها بإعانتها إياه عهداً، ثم تفرغ إلى شفاء غليله، وبلوغ جهده، ولا شك أنها تجيبه صرفاً لبأسه عن نحورها، ومقارضة كما وقع باطريرة من مضيق صدورها، ومؤسف جمهورها، وكل من له دين ما فهو يحرص على التقرب إلى من دانه به وكلفه وظائف تكليف، رجاء لوعده وخوفاً من وعيده، وبالله ندفع ما لا نطيق من جموع تداعت من الجزر ووراء البحور والبر المتصل الذي لا تقطعه الرفاق، ولا تحصي ذرعه الحذاق، وقد أصبحنا بدار غربة، ومحل روعة، ومفترس نبوة، ومظنة فتنة، والإسلام عدده قليل، ومنتجعه في هذه البقعة جديب، وعهده بالإرفاد والإمداد

من المسلمين بعيد " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا - إلى آخر السورة ". (البقرة: 286) . وإذا تداعت أمم الكفر نصرة لدينها المكذوب، وحمية لصليبها المنصوب، فمن يستدعى لنصر دين الله وحفظ أمانة نبيه إلا أهل ذلك الوطن حيث المآذن بذكر الله تعالى تملأ الآفاق، وكلمة الإسلام قد عمت الربى والوهاد، إنما الإسلام غريق قد تشبث بأهدابكم، يناشدكم الله في بقية الرمق، وقبل الرمي تراش السهام، وهذا أوان الاعتناء، واختيار الحماة، وإعداد الأقوات، قبل أن يضيق المجال، وتمنع الموانع، وقد وجهنا هذا الوفد المبارك للحضور بين يديكم مقرراً الضرورة، منهياً الرغبة، مذكراً بما يقرب عند الله، مذكراً لذمام الإسلام، جالباً على من ورائهم بحول الله تعالى من المسلمين البشرى التي تشرح الصدور، وتسني الآمال، وتستدعي الدعاء والثناء، فالمؤمن كثير بأخيه، ويد الله مع الجماعة، والمسلمون يد على من سواهم، والمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، والتعاون على البر والتقوى مشروع، وفي الذكر الحكيم مذكور، وحق الجار مشهور، وما كان جبريل يوصي به في الصحيح مكتوب وكما راع المسلمين اجتماع كلمة الكفر، فنرجو أن يروع الكفر من العز بالله، وشد الحيازيم في سبيل الله، ونفير النفرة لدين الله، والشعور في حماية الثغور وعمرانها، وإزاحة عللها، وجلب الأقوات إليها، وإنشاء الأساطيل، وجبر ما تلف من عدة البحر، أمور تدل على ما ورائها، وتخبر بمشيئة الله تعالى عما بعدها " وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " ومن خطب على رضي الله تعالى عنه: أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رهبة ألبسه الله تعالى سيما الخسف، ووسمه بالصغار، وما بعد الدنيا إلا الآخرة، وما بعد الآخرة إلا إحدى داري البقاء، أفي الله شك " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ". (الحشر: 9) .

والاعتناء بالجبل عنوان هذا الكتاب، ومقدمة هذا الباب، والغفلة عنه منذ أعوام قد صيرتنا لا نقنع باليسير، وقد أبرمته المواعيد، وغير رسومه الانتظار، ومن المنقول " ارحموا السائل ولو جاء على فرس "، والإسراف في الخير أرجح في هذا المحل من عكسه، وكان بعض الأجواد يقول وقد أقتر: اللهم هب لي الكثير، فإن حالي لا تقوم على القليل، وعسى أن يكون النظر له بنسبة الغفلة عنه، والمتعاض له مكافئاً للإزراء به، وخلو البحر يغتنم لإمداده وإرفاده، قبل أن يثوب نظر الكفر إلى قطع المدد وسد البحر، ومن ضيع الحزم ندم، ولا عذر لمن علم، والله عز وجل يطلع من قبلكم على ما فيه شفاء الصدور، وجبر القلوب، وشعب الصدوع، وما نقص مال من صدقة، وطعام الواحد كاف لاثنين، والدين دينكم، والبلاد بلادكم، ومحل رباطكم وجهادكم، وسوق حسناتكم، " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " وقد قلدنا العهد الحفيظ علينا، المصروف العناية بفضل الله تعالى إلينا، والله المستعان، وعليه التكلان؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ انتهى. وفي اعتقادي أن هذا المكتوب للسلطان أبي فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن المريني، وأن المراد بالمتغلب الوزير عمر بن عبد الله الذي ظفر به أبو فارس المذكور واستقل بالملك بعد محو أثره، حسبما ذكرناه في غير هذا المحل؛ والله سبحانه أعلم. 2 - رسالة أخرى في استنهاض السلطان المريني ومن إنشاء لسان الدين على لسان سلطانه في استنهاض عزم صاحب فاس السلطان المريني لنصرة الأندلس، ما نصه: المقام الذي يؤثر حظ الله إذا اختلفت الحظوظ وتعددت المقاصد، ويشرع الأدنى منه إذا تفاضلت المشارع وتمايزت

الموارد، وتشمل عادة حلمه وفضله الشارد، ويسع وارف ظله الصادر والوارد، والغائب والشاهد، ويعيد من نصر الله للإسلام العوائد، ويسد الذرائع ويدر الفوائد، مقام محل أخينا الذي حسنت في الملك سيره، وتعاضد في الفضل خبره وخبره، ودلت شواهد مداركه للحقوق، وتغمده للعقوق، على أن الله تعالى لا يهمله ولا يذره، فسلك فخره متسقة درره، ووجه ملكه شادخة غرره، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله رفيعاً علاؤه، هامية لديه منن الله تعالى وآلاؤه، مزدانة بكواكب السعد سماؤه، محروسة بعز النصر أرجاؤه، مكملاً من فضل الله تعالى في نصر الإسلام، وكبت عبدة الأصنام، أمله ورجاؤه، معظم قدره الذي يحق له التعظيم، وموقر سلطانه الذي له الحسب الأصيل والمجد الصميم، الداعي إلى الله تعالى باتصال سعادته حتى ينتصف من عدو الإسلام الغريم، ويتاح على يد سلطانه الفتح الجسيم، فلان؛ سلام كريم، طيب عميم، ورحمة الله تعالى وبركاته. أما بعد حمد الله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يخيب من أخلص الرغبة إليه أملا، وموفي من ترك له حقه أجره المكتوب متمماً مكملا، وجاعل الجنة لمن اتقاه حق تقاته نزلا، ملك الموت الذي جل وعلا، وجبار الجبابرة الذي لا يجدون على قدره محيصاً ولا من دونه موثلا، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد الذي أنزل الله تعالى عليه الكتاب مفصلا، وأوضح طريق الرشد وكان مغفلا، وفتح باب السعادة ولولاه كان مقفلا، والرضى على آله وأصحابه، وعترته وأحزابه، الذي ساهموه فيما مر وما حلا، وخلفوه من بعد بالسير التي راقت مجتلى، ورفعوا عماد دينه فاستقام لا يعرف ميلا، وكانوا في الحلم والعفو مثلا، والدعاء لمقامكم الأسمى بالنصر الذي يلقى نصه صريحاً لا متأولا، والصنع الذي يبهر حاللاً ومستقبلا، والعز الذي يرسو جبلا، والسعد الذي لا يبلغ أمداً ولا أجلا، فإنا كتبناه إليكم أصحب الله تعالى ركابكم حليف التوفيق حلاً ومرتحلا، وعرفكم عوارف

اليمن الذي يثير جدلا، ويدعوا وافد الفتح المبين فيرد (1) مستعجلا، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى سلطانه، ومهد أوطانه، إلا الخير الذي نسأل بعده تحسين العقبى، وتوالي عادة الرحمى، والحمد لله على التي هي أزكى، وسدل جناح الستر الأضفى، وصلة اللطائف التي هي أكفل وأكفى، وأبر وأوفى، ومقامكم عندنا العدة التي بها نصول ونرهب، والعمدة التي نطيل في ذكرها، ونسهب، وقد أوفدنا عليكم كل ما زاد لدينا، أو فتح الله تعالى به علينا، ونحن مهما شد المخنق بكم نستنصر، أو تراخى ففي ودكم نستبصر، أو فتح الله تعالى فأبوابكم نهني ونبشر، وقررنا عندكم أن العدو في هذه الأيام توقف عن بلاد المسلمين فلم تصل منه إليها سرية، ولا بطشت له يد جرية، ولا اقترعت من تلقائه ثنية، ولا ندري المكيدة تدبر، أم آراء تنقض بحول الله وتتبر، أو لشاغل في الباطن لا يظهر، وبعد ذلك وردت على بابنا من بعض كبارهم، وزعماء أقطارهم، مخاطبات يندبون فيها إلى جنوحها للسلم في سبيل النصح، لأياد سلفت منا لهم قررها، ووسائل ذكرها، فلم يخف عنا أنه أمر دبر بليل، وخيبة تحت ذيل، فظهر لنا أن نسبر الغور، ونستفسر الأمر، فوجهنا إليه - على عادتنا مع سلفه - لنعتبر ما لديه، وننظر إلى بواطن أمره، ونبحث عن زيد قومه وعمره، فتأتى ذلك وجر مفاوضة في الصلح أعدنا (2) لأجلها الرسالة، واستشعرنا البسالة ووازنا الأحوال واختبرنا، واعتززنا في الشروط ما قدرنا، ونحن نرتقب ما يخلق الله تعالى من مهادنة تحصل بها الأقوات المهيأة للانتساف، وتسكن (3) ما ساء البلاد المسلمة من هذا الإرجاف،

_ (1) ق ص: ويرد. (2) ق: أعددنا. (3) ص: وتسكين.

ونفرغ (1) الوقت لمطاردة هذه الآمال العجاف، أو حرب يبلغ الاستبصار فيه غايته، حتى يظهر الله تعالى في نصر الفئة القليلة آيته، ولم نجعل سبب الاعتزاز فيما أدرنا، وشموخ الأنف فيما أصدرنا، إلا ما أشعنا من عزمكم على نصرة الإسلام، وارتقاب خفوق الأعلام، والخفوف إلى دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن الأرض حمية لله تعالى قد اهتزت، والنفرة (2) قد غلبت للنفوس واستفزت، واستظهرنا بكتبكم التي تضمنت ضرب المواعد، وشمرت عن السواعد، وأن الخيل قد أطلقت إلى الجهاد في سبيل الله الأعنة، والثنايا سدتها بروق الأسنة، وفرض الجهاد قد قام به المسلمون، والأموال قد سمح بها المؤمنون، وهذه الأمور التي تمشت بقريبها أو بعيدها أحوال الإسلام، والأماني المعدة لتزجية الأيام، ثم اتصل بنا الخبر الكارث، بما كان من حور العزائم المؤمنة بعد كورها، وتسويف مواعد النصرة، بعد استشعار فورها، وأن الحركة معملة إلى مراكش الجهة التي في يديكم زمامها، وإليكم وإن تراخى الطول ترجع أحكامها، والقطر الذي لا يفوتكم مع الغفلة، ولا يعجزكم عن الصولة، ولا يطلبكم إن تركتموه، ولا يمنعكم إن طرقتموه أو عركتموه، فسقط في الأيدي الممدودة، واختلفت المواعد المحدودة، وخسئت الأبصار المرتقبة، ورجفت المعاقل الأشبة، وساءت الظنون، وذرفت العيون، وأكذب الفضلاء الخبر، ونفوا أن يعتبر، وقالوا: هذا لا يمكن حيث الدين الحنيف، والملك المنيف، والعلماء الذين أخذ الله تعالى ميثاقهم، وحمل النصيحة أعناقهم، هذا المفترض الذي يبعد، والقائم الذي يقعد، يأباه الله تعالى والإسلام، وتأباه العلماء والأعلام، وتأباه المآذن والمنابر، وتأباه الهمم والأكابر، فبادرنا نستطلع طلع هذا النبأ الذي إن كان باطلاً فهو الظن، ولله المن، وإن كان خلافه لرأي ترجح، وتنفق بقرب الملك وتبجح، فنحن نوفد كل من

_ (1) ق: ونقرع. (2) ص: والنعرة.

يقدم إلى الله تعالى بهذا القطر في شفاعة، ويمد إليه كف ضراعة، ومن يوسم بصلاح وعبادة، ويقصد في الدين بث (1) إفادة، يتطارحون عليكم في نقض ما أبرم، ونسخ ما أحكم، فعنكم تجنون به على من استنصركم عكس ما قصد، وتحلون عليه ما عقد، وهب لعذر يقبل في عدم الإعانة، وضرورة الاستعانة والاستكانة، أي عذر يقبل في الاطراح، والإعراض الصراح كأن الدين غير واحد (2) ، كأن هذا القطر لكلمة الإسلام جاحد، وكأن ذمام الإسلام غير جامع، كأن الله غير راء ولا سامع، فنحن نسألكم بالله الذي تساءلون به والأرحام، ونأنف لكم (3) من هذا الإحجام، ونتطارح عليكم أن تتركوا حظكم في أهل تلك الجهة حتى يحكم الله بيننا وبين العدو الذي يتكالب علينا بإدباركم، بعدما تضاءل لاستنفاركم، ولا نكلفكم غير اقتراب داركم، وما سامكم المسلمون بها شططاً، وما حملوكم إلا قصداً وسطا، وما ذهبتم إليه لا يفوت، ولا يبعد وقد تجاوزت البيوت، إنما الفائت من وراءكم، من حديث تأنف من سماعه أوداؤكم، ودين يشمت به أعداؤكم، فأسعفوا بالشفاعة فيمن بتلك الجهة المراكشية قصدنا، وحاشا إحسانكم أن يرضى فيه ردنا، وأنتم بعد بالخيار فيما يجريه الله على يديكم من قدرة، أو يلهمكم إليه من نصرة، وجوابكم مرتقب بما يليق بكم، ويجمل بحسبكم، والله سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام الكريم عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. 3 - رسالة على لسان يوسف بن نصر إلى سلطان فاس ومن إنشاء لسان الدين أيضاً في مخاطبة سلطان فاس والمغرب على لسان

_ (1) ص: ببث. (2) كأن ... واحد: سقطت من ص. (3) لكم: سقطت من ق.

سلطان غرناطة فيما يقرب من الأنحاء السابقة، ما نصه: المقام الذي أقمار سعده في انتظام واتساق، وجياد عزه إلى الغاية القصوى ذات استباق، والقلوب على حبه ذات اتفاق، وعناية الله تعالى عليه مديدة الرواق، وأياديه الجمة في الأعناق، ألزم من الأطواق، وأحاديث مجده سمر النوادي وحديث الرفاق، مقام محل أبينا الذي شان قلوبنا الاهتمام بشأنه، وأعظم مطلوبنا من الله تعالى ساعدة سلطانه، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى والصنائع الإلهية تحيط ببابه، والألطاف الخفية تعرس في جنابه، والنصر العزيز يحف بركابه، وأسباب التوفيق متصلة بأسبابه، والقلوب الشجية لفراقه، مسرورة بإيابه، معظم سلطانه الذي له الحقوق المحتومة، والفواصل المشهورة المعلومة، والمكارم المسطورة المرسومة، والمفاخر المنسوقة المنظومة، الداعي إلى الله تعالى في وقاية ذاته المعصومة، وحفظها على هذه الأمة المرحومة، الأمير عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل ابن فرج بن نصر، سلام كريم، طيب بر عميم، كما سطعن في غيهب الشدة أنوار الفرج، وهبت نواسم ألطاف الله عاطرة الأرج، يخص مقامكم الأعلى، ورحمة الله تعالى وبركاته. أما بعد حمد الله جالي الظلم بعد اعتكارها، ومقيل الأيام من عثارها، ومزين سماء الملك بشموسها المحتجبة، وأقمارها، ومريح القلوب من وحشة أفكارها، ومنشئ سحاب الرحمة على هذه الأمة بعد افتقارها، وشدة اضطرابها واضطرارها، ومتداركها باللطف الكفيل بتمهيد أوطانها وتسيير أوطارها، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله صفوة النبوة ومختارها، ولباب مجدها السامي ونجارها (1) ، نبي الملاحم وخائض تيارها، ومذهب رسوم الفتن ومطفئ نارها، الذي لم ترعه الشدائد باضطراب بحورها، حتى بلغت

_ (1) ص: وفخارها.

كلمة الله ما شاءت من سطوع أنوارها، ووضوح آثارها، والرضى عن آله وأصحابه الذين تمسكوا بعهده على إحلاء الحوادث وإمرارها، وباعوا نفوسهم في إعلاء دعوته الحنيفية وإظهارها، والدعاء لمقامكم الأعلى باتصال السعادة واستمرارها، وانسحاب العناية الإلهية وإسدال أستارها، حتى تقف الأيام ببابكم موقف اعتذارها، وتعرض على مثابتكم ذنوبها راغبة في اغتفارها، فإنا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم أوفى ما كتب لصالحي الملوك من مواهب إسعاده، وعرفكم عوارف الآلاء في إصدار أمركم الرفيع وإيراده، وأجرى الفلك الدوار بحكم مراده، وجعل العاقبة الحسنى كما وعد به في محكم كتابه المبين للصالحين من عباده - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى، وليس بفضل الله الذي عليه في الشدائد الاعتماد، وإلى كنف فضله الاستناد، ثم ببركة من خلالها، وتخبر سيماها بطلوع السعود واستقبالها، وتدل مخايل يمنها على حسن مآلها، لله الحمد على نعمه التي نرغب في كمالها، ونستدر عذب زلالها، وعندنا من الاستبشار باتساق أمركم وانتظامه، والسرور بسعادة أيامه، والدعاء إلى الله تعالى في إظهاره وإتمامه، ما لا تفي العبارة بأحكامه، ولا تتعاطى (1) حصر أحكامه، وإلى هذا أيد الله تعالى أمركم وعلاه (2) ، وصان سلطانكم وتولاه، فقد علم الحاضر والغائب، وخلص الخلوص الذي لا تغيره الشوائب، ما عندنا من الحب الذي وضحت منه المذاهب، وأننا لما اتصل بنا ما جرت به الأحكام من الأمور التي صحبت مقامكم فيها العناية من الله والعصمة، وجعل على العباد والبلاد الوقاية والنعمة، لا يستقر بقلوبنا القرار، ولا تتأتى بأوطاننا الأوطار، تشوفاً لما تتيحه (3) لكم الأقدار، ويبرزه من سعادتكم الليل والنهار،

_ (1) ص ق: يتعاطى. (2) ق: وعلاكم. (3) ص ق: تشوقاً لما تنتجه.

ورجاؤنا في استئناف سعادتكم يشتد على الأوقات ويقوى، علماً بان العاقبة للتقوى، وفي هذه الأيام عميت الأنباء، وتكالبت في البر والبحر الأعداء، واختلفت الفصول والأهواء، وعاقت الوارد الأنواء، وعلى ذلك من فضل الله الرجاء، ولو كنا نجد للاتصال بكم سبباً، أو نلفي لإعانتكم مذ خباً ملا شغلنا البعد الذي بيننا اعترض، والعدو بساحتنا في هذه الأيام ربض، وكان خديمكم الذي رفع من الوفاء راية خافقة، واقتنى منه في سوق الكساد بضاعة نافقة، الشيخ الأجل الأوفى، الأود الأخلص الأصفى، أبو محمد ابن أحبانا (1) سنى الله مأموله، وبلغه من سعادة أمركم سؤلهن وقد ورد على بابنا، وتحيز إلى اللحاق بجنابنا، ليتيسر له من جهتنا القدوم، ويتأتى له بإعانتنا الغرض المروم، فبينما نحن ننظر في تتميم غرضه، وإعانته على الوفاء الذي قام بمفترضهن إذ اتصل بنا خبر قرقورتين من الأجفان التي استعنتم بها على الحركة، والعزيمة (2) المقترنة بالبركة، حطت إحداها بمرسى المنكب والأخرى بمرسى المرية، في كنف العناية الإلهية، فتلقينا (3) من الواصلين فيها الأنباء المحققة بعد التباسها، والأخبار التي يغني نصها عن قياسها، وتعرفنا ما كان من عزمكم على السفر، وحركتكم المعروفة باليمن والظفر، وأنكم استخرتم الله تعالى في اللحاق بالأوطان التي يؤمن قدومكم خائفها، ويؤلف طوائفها، ويسكن راجفها، ويصلح أحوالها، ويسكن أهوالها، وأنكم سبقتم حركتها بعشرة أيام مستظهرين بالعزم المبرور، والسعد الموفور، واليمن الرائق السفور، والأسطول المنصور، فلا تسألوا عن انبعاث الآمال بعد سكونها، ونهوض طيور الرجاء من وكونها، واستبشار الأمة المحمدية منكم بقرة عيونها، وتحقق ظنونها، وارتياح البلاد إلى دعوتكم التي ألبستها ملابس العدل والإحسان، وقلدتها قلائد السير الحسان، وما منها إلا من باح بما يخفيه من وجدهن وجهر

_ (1) ص: أجانا. (2) ق ص: والعزمة. (3) ص: تلقينا.

بشكر الله تعالى وحمده، وابتهل إليه في تيسير غرض مقامكم الشهير وتتميم قصده، واستئناس نور سعده، وكم مطل الانتظار بديون آمالها، والمطاولة من اعتلالها. طاولة من اعتلالها. وأما نحن فلا تسألوا عمن استشعر دنو حبيبه، بعد طول مغيبه، إنما بلغنا هذا الخبر بادرنا إلى إنجاز ما بذلنا لخديمكم المذكور من الوعد، واغتنمنا ميقات هذا السعد، ليصل سببه بأسبابكم، ويسرع لحاقه بجنابكم، فعنده خدم نرجو أن يسير الله تعالى أسبابها، ويفتح بنيتكم الصالحة أبوابها، وقد شاهد من امتعاضنا لذلك المقام الذي ندين له بالتشييع الكريم الوداد، ونصل له على بعد المزار ونزوح الأقطار سبب الاعتداء، ما يغني عن القلم والمداد، وقد ألقينا إليه من ذلك كله ما يلقيه إلى مقامكم الرفيع المعتمد، وكتبنا إلى من بالسواحل من ولاتنا نحد لهم ما يكون عليه عملهم في بر من يرد عليهم من جهة أبوتكم الكريمة، ذات الحقوق العظيمة والأيادي الحديثة والقديمة، وهم يعملون في ذلك بحسب المراد، وعلى شاكلة جميل الاعتقاد، ويعلم الله تعالى أننا لو لم تعق العوائق الكبيرة، والموانع الكثيرة، والأعداء الذين دهيت (1) بهم في الوقت هذه الجزيرة، ما قدمنا عملاً على اللحاق بكم، والاتصال بسببكم، حتى نوفي لأبوتكم الكريمة حقها، ونوضح من المسرة طرقها، لكن الأعذار واضحة وضوح المثل السائر، والله العلم بالسرائر، وغلى الله تعالى نبتهل في أن يوضح لكم من التيسير طريقاً، ويجعل السعد لكم مصاحباً ورفيقاً، ولا يعدمكم عناية منه وتوفيقاً، ويتم سرورنا عن قريب بتعرف أنبائكم السارة، وسعودكم الدارة، فذلك منه سبحانه غاية آمالنا، وقيه إعمال ضراعتنا وسؤالنا، هذا ما عندنا باردتا لإعلامكم به أسرع البدار، والله تعالى يوفد علينا أكرم الأخبار، بسعادة ملككم السامي المقدار، وييسر ما له من الأوطار، ويصل سعدكم،

_ (1) ص: ذهبت.

ويحرس مجدكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، انتهى. وكان طاغية النصارى الملعون لكثرة ما مارس من أمور ملوك الأندلس وسلاطين فاس كثيراً ما يدس لأقارب الملوك القيام على صاحب الأمر، ويزين له الثورة، ويعده بالإمداد بالمال والعدة، وقصده بذلك كله توهين المسلمين، وإفساد تدبيرهم، ونسخ الدول بعضها ببعض، لما له في ذلك من المصلحة، حتى بلغ أبعده الله تعالى من أمله الغاية. 4 - رسالة إلى السلطان المريني في الاعتذار عن فرار أبي الفضل المريني من غرناطة ومن إنشاء لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى، عن سلطان الأندلس إلى سلطان فاس المريني، يعتذر عن فرار الأمير أبي الفضل المريني الذي كان معتقلاً بغرناطة، فتحيل الطاغية في أمره حتى خرج طالباً للملك، ما نصه: المقام الذي شهد اللي والنهار بأصالة سعادته، وجرى الفلك الدوار بحكم إرادته، وتعود الظفر بما يناؤه فاطرد والحمد لله جريان عادته، فوليه متحقق لإفادته، وعدوه مرتقب لإبادته، وحلل الصنائع الإلهية تضفو على أعطاف مجادته، مقام محل أخينا الذي سهم سعده صائب، وأمل من كاده خاسر خائب، وسير الفلك المدار في مرضاته دائب، وصنائع الله تعالى له تصحبها الألطاف العجائب، فسيان شاهد منه في عصمة وغائب، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى مسدد السهم، ماضي العزم، تجل سعوده عن تصور الوهم، ولا زال مرهوب الحد ممتثل الرسم، موفور الحظ من نعمة الله تعالى عند تعدد القسم، فائزاً بفلج الخصام عند لدد الخصم، معظم قدره، وملتزم بره، المبتهج بما يسببه الله تعالى له من إعزاز نصرهن وإظهار أمره، فلان: سلام كريم، طيب بر عميم، يخص مقامكم الأعلى، ومثابتكم الفضلى، التي حازت في الفخر الأمد البعيد، وفازت من التأييد والنصر بالحظ السعيد، ورحمة الله تعالى وبركاته.

أما بعد حمد الله الذي فسح لملككم الرفيع في العز مدى، وعرف عوارفه آلائه وعوائد النصر على أعدائه يوماً وغدا، وحرس سماء علائه بشهب من قدره وقضائه " فمن يستمع الآن يجد له شهباًُ رصدا " وجعل نجح أعماله وحسن مآله قياسا مطردا، فرب مريد ضره ضر نفسه وهاد إليه أهدى وما هدى، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبيه ورسوله الذي ملأ الكون نوراً وهدى، وأحيا مراسم الحق وقد صارت طرائق قددا، أعلى الأنام يدا، وأرفهم محتدا، الذي بجاهه نلبس أثواب السعادة جددا، ونظفر بالنعيم الذي لا ينقط أبدا، والرضى عن آله وأصحابه الذين رفعوا لسماء سنته عمدا، وأوضحوا من سبيل اتباعه مقصدا، وتقبلوا شيمه الطاهرة ركعاً وسجدا، سيوفاً على من اعتدى ونجوماً لمن اهتدى، وعلت فروع ملته صعدا، وأصبح بناؤها مديداً مخلدان والدعاء لمقامكم الأسمى بالنصر الذي يتوالى مثنى وموحدا، كما جمع لملككم ما تفرق من الألقاب على توالي الأحقاب، فجعل سيفكم سفاحاً وعلمكم منصوراً ورأيكم رشيداً وعزمكم مؤيدان فإنا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم صنعاً يشرح للإسلام خلدا، ونصراً يقيم للدين الحنيف أودا، وعزماً يملأ أفئدة الكفر كمدا، وجعلكم ممن هيأ له من أمره رشدا، ويسر لكم العاقبة الحسنى كما وعد في كتابه العزيز والله أصدق موعدا - من حمراء غرناطة حرسها الله ولا زائد بفضل الله سبحانه إلا استطلاع سعودكم في آفاق العناية، واعتقاد جميل صنع الله في البداية والنهاية، والعلم بأن ملككم تحدى من الظهور على أعدائه بآية وأجرى جياد السعد في ميدان لا يحد بغاية، وخرق حجاب المعتاد بما لم يظهر إلا لأصحاب الكرامة والولاية، ونحن على ما علمتم من السرور بما يهز لملككم المنصور عطفا، ويسدل عليه من العصمة سجفان نقاسمه الارتياح لمواقع نعم الله تعالى نصفاً ونصفا، ونعقد بين أنباء مسرته وبين الشكر لله حلفا، ونعد التشييع له مما يقربنا إلى الله زلفى، ونؤمل

من إمداده ونرتقب من جهاده وقتاً يكفل به الدين ويكفى، وتروى غلل النفوس وتشفى. وإلى هذا وصل الله سعدكم، ووالى نصركم وعضدكم، فإنا من لدن صدر عن أخيكم أبي الفضل ما صدر من الانقياد لخدع الآمال، والاعتزاز بموارد الآل، وقال رأيه في اقتحام الأهوال، وتورط في هفو حار فيها حيرة أهل الكلام في الأحوال، وناصب من أمركم السعيد جبلاً قضى الله له بالاستقرار والاستقبال، ومن ذا يزاحم الأطواد ويزحزح الجبال وأخلف الظن منا في وفائهن وأضمر عملاً استأثر عنا بإخفائهن واستعان من عدو الدين بمعين قلما يري لمن استنصر به زند، ولا خفق لمن تولاه بالنصر بند، وإن الطاغية أعانه وأنجده ورأى أنه سهم على المسلمين سدده، وغضب للفتنة جرده، فسخر له الفلك، وأمل أن يستخدمه بسبب ذلك الملك، فأورده الهلك والظلم الحلك، علمنا أن طرف سعادته كاب، وسحاب آماله غير ذات انسكاب، وقدم غرته لم يستقر من السداد في غرز ركاب، فغن نجاح أعمال النفوس، مرتبط بنياتها، وغايات الأمور تظهر في بداياتها، وعوائد الله تعالى فيمن نازع قدرته لا تجهل، ومن غالب أمر الله خاب منه المعول. فبينما نحن نرتقب خسار تلك الصفقة المعقودة، وخمود تلك الشعلة الموقودة، وصلنا كتابكم يشرح الصدور ويشرح الأخبار، ويهدي طرف المسرات على أكف الاستبشار، ويعرب بلسان حال المسارعة والابتدار، عن الود الواضح وضوح النهار، والتحقق بخلوصنا الذي يعلمه عالم الأسرار، فأعاد في الإفادة وأبدى، وأسدى من الفضائل الجلائل ما أسدى فعلم منه مآل (1) من رام أن يقدح زند الشتات من بعد الالتئام، ويثير عجاجة المنازعة من بعد ركود القتام، هيهات تلك قلادة الله تعالى التي ما كان يتركها بغير نظام، ولم يدر

_ (1) ص: مثال.

أنكم نصبتم له من الحزم حبالة لا يفلتها قنيص، وسددتم له من السعد سهماً ما له عنه من محيص، بما كان من إرسال جوارح الأسطول السعيد في مطاره، حائلاً بينه وبين أوطاره (1) ، فما كان إلا التسمية والإرسال، ثم الإمساك والقتال، ثم الاقتيات والاستعمال، فيا له من زجر استنطق لسان الوجود فجدله (2) ، واستنصر البحر فخذله، وصارع القدر فجدله (3) لما جد له، وإن خدامكم استولوا على ما كان فيه من مؤمل (4) غاية بعيدة، ومنتسب إلى نصبة غير سعيدة، وشانئ غمرته من الكفار، خدام الماء وأولياء النار، تحكمت فيهم أطراف العوالي وصدور الشفار، وتحصل منهم من تخطاه الحمام في قبضة الإسار، فعجبنا من تيسير هذا المرام، وإخماد الله لهذا الضرام، وقلنا: تكييف لا يحصل في الأوهام، وتسديد لا تستطيع إصابته السهام، كلما قدح الخلاف زنداً أطفأ سعدكم شعلته، أو أظهر الشتات ألماً أبرأ يمن طائركم علته، وما ذاك إلا لنية صدقت معاملتها في جنب الله تعالى وصحت، واسترسلت بركتها وسحت، وجهاد نذرتموه إذا فرغت شواغلكم وتمت، واهتمام بالإسلام يكفيه الخطوب التي أهمت، فنحن نهنيكم بمنح الله ومننه، ونسأله أن يلبسكم من عنايته أوقى جننه، فأملنا أن تطرد آمالكم، وتنجح في مرضاة الله أعمالكم، فمقامكم هو العمدة التي يدفع العدو بسلاحها وتنبلج ظلمات صفاحها، وكيف لا نهنيكم بصنع على جهتنا يعود، وبآفاقنا تطلع منه السعود، فتيقنوا ما عندنا من الاعتقاد الذي رسومه قد استقلت واكتفت، وديمه بساحة الود قد وكفت، والله عز وجل يجعل لكم الفتوح عادة، ولا يعدمكم عناية وسعادة، وهو سبحانه يعلي مقامكم، وينصر أعلامكم، ويهني الإسلام أيامكم، والسلام الكريم

_ (1) ص: أوكاره. (2) ق: فحدله. (3) ق: فخذله. (4) ص: مذموماً.

يخصكم، ورحمة الله وبركاته؛ انتهى. وكان سلطان الأندلس في الأزمان المتأخرة كثيراً ما يشم أرج الفرج في سلم الكفار ومهادنتهم، حيث لم يقدر في الغالب على مقاومتهم، ولذلك لما قتل السلطان أبو الحجاج الذي كان لسان الدين كاتبه ووزيره، وقام بالأمر بعده ابنه محمد الغني بالله الذي ألقى مقاليده للسان الدين - أكد أمر السلم، وانتظر ما يبرمه القضاء الجزم، والقدر الحتم. 5 - رسالة عن لسان الغني بالله إلى أبي عنان من إنشاء لسان الدين في ذلك على لسان الغني مخاطباً لسلطان فاس والمغرب أبي عنان ما صورته: المقام الذي يغني عن كل مفقود بوجوده، ويهز إلى جميل العوائد أعطاف بأسه وجوده، ونستضيء عند إظلام الخطوب بنور سعوده، ونرث من الاعتماد عليه أسنى ذخر يرثه الولد عن آبائه وجدوده مقام محل أبينا الذي رعي الأذمة شانه، وصلة الرعي سجية انفرد بها سلطانه، ومواعد النصر ينجزها زمانه، والقول والفعل في ذات الله تعالى تكفلت بهما يده الكريمة ولسانه، وتطابق فيهما إسراره وإعلانه، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى محروساً من غير الأيام جنابه، موصولة بالوقاية الإلهية أسبابه، مسدولاً عن ذاته الكريمة ستر الله تعالى وحجابه، مصروفاً عنه من صرف القدر ما يعجز عن رده بوابه، ولا زال ملجأ تنفق لديه الوسائل التي تدخرها لأولادها أولياؤه وأحبابه، ويسطر في صحف الفخر ثوابه، وتشتمل على مكارم الدين والدنيا أثوابه وتتكفل بنصر الإسلام وجبر القلوب عند طوارق الأيام كتائبه وكتابه، معظم ما عظم من حقه السائر من إجلاله وشكر خلاله على لاحب طرقه، المستضيء في ظلمة الخطب بنور أفقه، الأمير عبد الله محمد ابن أمير

المسلمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد ابن فرج بن نصر: سلام كريم، طيب بر عميم، يخص مقامكم الأعلى، ورحمة الله تعالى وبركاته. أما بعد حمد الله الذي لا راد لأمره ولا معارض لفعله، مصرف الأمر بحكمته وقدرته وعدله، الملك الحق الذي بيده ملاك الأمر كله، مقدر الآجال والأعمار فلا يتأخر شيء عن ميقاته ولا يبرح عن محله، جاعل الدنيا مناخ قلعة لا يغتبط العاقل بمائه ولا بظله، وسبيل رحلة فما أكثب ظعنه من حله، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد صفوة خلقه وخيرة أنبيائه وسيد رسله، الذي نعتصم بسببه الأقوى ونتمسك بحبله، ونمد يد الافتقار إلى فضلهن ونجاهد في سبيله من كذب به أو حاد عن سبله، ونصل إليه ابتغاء مرضاته ومن أجله، والرضى على آله وأحزابه وأنصاره وأهله، المستولين من ميدان الكمال على خصله، والدعاء لمقامكم الأعلى بعز نصره ومضاء فضله، فإنا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم وقاية لا تطرق الخطوب حماها، وعصمة ترجع عنها سهام النوائب كلما فوقها الدهر ورماها، وعناية لا تغير الحوادث اسمها ولا مسماها، وعزاً يزاحم أجرام الكواكب منتماها - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ونعم الله سبحانه تتواتر لدينا دفعاً ونفعاً، وألطافه نتعرفها وتراً وشفعاً، ومقامكم الأبوي هو المستند الأقوى، والمورد الذي ترده آمال الإسلام فتروى، وتهوي إيه أفئدتهم فتجد ما تهوى، ومثابتكم العدة التي تأسست مبانيها على البر والتقوى. وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم، وأبقى مجدكم، فإننا لما نعلم من مساهمة مجدكم التي تقتضيها كرام الطباع وطباع الكرم، وتدعو إليها ذمم الرعي ورعي الذمم، نعرفكم بعد الدعاء لملككم بدفاع الله تعالى عن ارتقائه، وإمتاع المسلمين ببقائه، بما كان من وفاة مولانا الوالد نفعه الله تعالى بالشهادة التي ألبسه حلتها، والشهادة التي في أعماله الزكية كتبها، والدرحة العالية التي حتمها له وأوجبها، وبما تصير إلينا من أمره، وضم بنا من نشرهن وسدل على من

خلفه من ستره، وإنها لعبرة لمن ألقى السمع، وموعظة تهز الجمع وترسل الدمع، وحادثة أجمل الله سبحانه فيها الدفع، وشرح مجملها وإن أخرس اللسان هولها، وأسلم العبارة قوتها وحولها، أنه رضي الله تعالى عنه لما برز لإقامة سنة هذا العيد، مستشعراً شعار كلمة التوحيد، مظهراً سمة الخضوع للمولى الذي تضرع بين يديه رقاب العبيد، آمناً بين قومه وأهله، متسربلاً في حلل نعم الله تعالى وفضله، قرير العين باكتمال عزه واجتماع شمله، قد احترس بأقصى استطاعته، واستظهر بخلصان طاعته، والأجل المكتوب قد حضر، والإرادة الإلهية قد أنفذت القضاء والقدر، وسجد بعد الركعة الثانية من صلاته، أتاه أمر الله لميقاته، على حين الشباب غض جلبابه، والسلاح زاخر عبابه، والدين بهذا القطر قد أينع بالأمن جنابه، وأمر من يقول للشيء كن فيكون قد بلغ كتابه، ولم يرعه وقد اطمأنت بذكر الله تعالى القلوب، وخلصت الرغبات إلى فضله المطلوب، إلا شقي قيضه الله لسعادته غير معروف ولا منسوب، وخبيث لم يكن بمعتبر ولا محسوب، تخلل الصفوف المعقودة، إلى طاعة الله المحشودة، لا تدل العين عليه شارة ولا بزة، ولا تحمل على الحذر من مثله أنفة ولا عزة، وإنما هو خبيث ممرور، وكلب عقور، وحية سمها وحي محذور، وآلة مصرفة لينفذ بها قدر مقدور، فلما طعنه وأثبته، وأعلق به شرك الحين فما أفلتهن قبض عليه من الخلصان الأولياء، من خبر ضميره، وأحكم تقريره، فلم يجب عند الاستفهام جواباً يعقل، ولا عثر منه على شيء عنه ينقل، لطفاً من الله أفاد براءة الذمم، وتعاوته للحين أيدي التمزيق، وأتبع شلوه بالتحريق، واحتمل مولانا الوالد العزيز رحمه الله تعالى إلى القصر وبه دماء لم يلبث بعد الفتكة العمرية إلا أيسر من اليسير، وتخلف الملك ينظر من الطرف الحسير، وينهض بالجناح الكسير، وقد عاد جمع السلامة إلى التكسير، إلا أن الله تعالى تدارك هذا القطر الغريب بان أقامنا مقامه

لوقته وحينه، ورفع بناء عماد ملكه ولم شعث دينه، وكان جميع من حضر المشهد من شريف الناس ومشروفهم، وأعلامهم ولفيفهم، قد جمعه ذلك الميقات، وحضر الأولياء الثقات، فلم تختلف علينا كلمة، ولا شذت منهم عن بيعتنا نفس مسلمة، ولا أخيف بري، ولا حذر جري، ولا فري فري، ولا وقع لبس، ولا استوحشت نفس، ولا نبض للفتنة عرق، ولا أغفل للدين حق، فاستند النقل إلى نصه، ولم يعدم من فقيدنا غير شخصه، وبادرنا إلى مخاطبة البلاد نمدها ونسكنها، ونقرر الطاعة في النفوس ونمكنها، وأمرنا الناس بها بكف الأيدي، ورفع التعدي، والعمل من حفظ شروط المسالمة المعقودة بما يجدي، ومن شره منهم للفرار (1) ، عاجلناه بالإنكار، وصرفنا على النصارى ما أوصاه مصحباً بالاعتذار، وخاطبنا صاحب قشتالة نرى ما عنده في صلة السلم إلى أمدها من الأخبار، واتصلت بنا البيعات من جميع الأقطار، وعفى على حزن المسلمين بوالدنا ما ظهر عليهم بولايتنا من الاستبشار، واستبقوا تطير بهم أجنحة الابتدار، جعلنا الله تعالى ممن قابل الحوادث بالاعتبار، وكان على حذر من تصاريف الأقدار، واختلاف الليل والنهار، وأعاننا على إقامة دينه في هذا الوطن الغريب المنقط بين العدو الطاغي والبحر الزخار، وألهمنا من شكره لما يتكفل بالمزيد من نعمه، ولا قطع عنا عوائد كرمه. وإن فقدنا والدنا فأنتم لنا من بعده الوالد، الذي تكرم منه العوائد، والحب يتوارث كما ورد في الأخبار التي صحت (2) منها الشواهد، ومن أعد مثلكم لبنيه، فقد تيسرت من بعد الممات أمانيه، وتأسست قواعد ملكه وتشيدت مبانيه، فالاعتقاد الجميل موصول، والفرع لها في التشيع إليكم أصول، وفي تقرير فخركم محصول، وأنتم ردء المسلمين بهذه البلاد المسلمة الذي يعينهم

_ (1) ص: للغوار. (2) ق ص: وضحت.

بإرفاده، وينصرهم بإنجاده، ويعامل الله تعالى فيها بصدق جهاده. وعندما استقر هذا الأمر الذي تبعت المحنة فيه المحنة، وراقت من فضل الله تعالى ولطفه فيه الصفحة، وأخذنا البيعة من أهل حضرتنا بعد استدعاء خواصهم وأعيانهم، وتزاحمت على رقها المنشور خطوط أيمانهم، وتأصلت قواعد ألفاظها ومعانيها في قلوبهم وآذانهم، وضمنوا الوفاء بما عاهدوا الله عليه وقد خبر سلفنا والحمد لله وفاء ضمانهم، بادرنا تعريف مقامكم الذي نعلم مساهمته فيما ساء وسر وأحلى وأمر، عملاً بمقتضى الخلوص الذي ثبت واستقر، والحب الذي ما مال يوماً ولا ازور، وما أحق تعريف مقامكم بوقوع هذا الأمر المحذور، وانجلاء ليله عن صنع الصبح البادي السفور وإن كنا قد خاطبنا من خدامكم من يبادر إعلامكم بالأمور، إلا أنه أمر له ما بعده، وحادث يأخذ حده، ونبعث إلى بابكم من شاهد الحال ما بين وقوعها إلى استقرارها رأي العيان وتولى تسديد الأمور بأعماله الكريمة ومقاصده الحسان، ليكون أبلغ في البر وأشرح للصدر وأوعب للبيان، فوجهنا إليكم وزير أمرنا، وكاتب سرنا، الكذا أبا فلان، وألقينا إليه من تقرير تعويلنا على ذلك المقام الأسنى، واستنادنا من التشييع إليه إلى الركن الوثيق المبنى، ما نرجو أن يكون له فيه المقام الأعنى، والثمرة العذبة المنى، فلاهتمامه بهذا الغرض الأكيد الذي هو أساس بنائنا، وقامع أعدائنا، آثرنا توجيهه على توفر الاحتياج له، ومدار الحال عليه، والمرغوب من أبوتكم المؤملة أن يتلقاه قبولها بما يليق بالملك العالي، والخلافة السامية المعالي، والله عز وجل يديم أيامكم لصلة الفضل (1) المتوالي، ويحفظ مجدكم من غير الأيام والليالي، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، ويوالي نصركم وعضدكم، والسلام الكريم يخصكم، ورحمة الله وبركاته؛ انتهى.

_ (1) ق: فضله.

وقوله في هذه الرسالة " فوجهنا إليكم وزير أمرنا - إلى آخره " هو لسان الدين رحمه الله تعالى، إذ هو كان الوزير إذ ذاك والسفير في هذه القضية، ومن صفحات هذا الكلام يتضح لك ما نال لسان الدين رحمه الله تعالى من الرياسة والجاه ونفوذ الكلمة بالأندلس وبالمغرب رحمه الله تعالى، وقد أكرمه السلطان أبو عنان في هذه الوفادة وغيرها غاية الإكرام، وكان المقصود الأعظم من هذه الوفادة استعانة سلطان الأندلس الغني بالله بالسلطان أبي عنان على طاغية النصارى، كما ألمعنا بذلك في الباب الثاني من القسم الثاني الذي يتعلق بلسان الدين، وكان السلطان أبو عنان ابن السلطان أبي الحسن معتنياً بالأندلس غاية الاعتناء، وخصوصاً بجبل الفتح، حتى أنه بلغ من اهتمامه به أن أمر عليه ولده أبا بكر السعيد، وهو الذي تولى الملك بعده. 6 - رسالة عن الغني إلى الأمير السعيد ومن إنشاء لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى على لسان سلطانه ما خاطب به الأمير السعيد المذكور إذ قلده والده جبل الفتح، وهو: الإمارة التي أشرق في سماء الملك شهابها، واتصلت بأسباب العز أسبابها، واشتملت على الفضل والطهارة أثوابها، وأجيلت قداح المفاخر فكان إلى جهة الله تعالى انتدابها، إمارة محل أخينا الذي تأسس على مرضاة الله تعالى أصيل فخره، واتسم بالمرابط المجاهد على اقتبال سنه وجدة عمره، وبدأ بفضل الجهاد صحيفة أجره، وافتتح بالرباط والصلاح ديوان نهيه وأمره، لما يسره من سعادة نصبته وحباه من عز نصره، الأمير الأجل الأعز الأرفع الأسنى الأطهر الأظهر الأمنع الأصعد الأسمى الموفق الأرضى، محل أخينا العزيز علينا، المهداة أنباء مأمول جواره إلينا، أبي بكر السعيد ابن محل والدنا الذي مقاصده للإسلام وأهله على مرضاة الله تعالى جارية، وعزائمه على نصر الملة الحنيفية

متبارية، السلطان الكذا أبو عنان ابن السلطان الكذا أبي الحسن ابن السلطان الكذا أبي سعيد ابن السلطان يعقوب ابن عبد الحق، أبقاه الله تعالى سديدة آراؤه ناجحة أعماله، ميسرة أغراضه من فضل الله تعالى متتمة آماله، رحيباً في السعد مجاله، يكنفه من السر تعالى ومحل أبينا غمام وارفة ظلاله، هامر نوله، حتى يرضي الله تعالى مصاعه بين يديه ومصاله، وتمضي في الأعداء أمام رايته المنصورة نصاله، أخوه المسرور بقربه، المنطوي على مضمر حبه، أمير المسلمين محمد بن أمير المسلمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين أبي الو ليد ابن فرج ابن نصر: سلام كريم، طيب بر عميم، يخص أخوتكم الفضى، وإمارتكم التي آثار فضلها بحول الله تتلى، ورحمة الله تعالى وبركاته. أما بعد حمد الله على ما يكفيك من ألطافه المشرقة الأنوار، ويسره لهذه الأوطان بنصرته من الأوطار، فكلما دجت به شدة طلع الفرج عليها طلوع النهار، وكلما اضطرب منها جانب أعاده بفضل الله تعالى من أقامه لذلك واختاره إلى حال السكون والقرار، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله المصطفى المختار، الذي أكد عليه جبريل صلوات الله عليه حق الجوار، حتى كاد يلحقه بالوسائل والقرب الكبار، الذي وصانا بالالتئام، واتصال اليد في نصرة الإسلام، فنحن نقابل بساطه بالبدار، ونجري على نهجه الواضح الآثار، ونرتجي باتباعه الجمع بين سعادة هذه الدار وتلك الدار، والرضى عن آله وأصحابه، وأنصاره وأحزابه، أكرم الآل والأصحاب والأحزاب والأنصار، الذين كانوا كما أخبرنا الله تعالى عنهم على لسان الصادق الأخبار، رحماء بينهم أشداء على الكفار، والدعاء لإمارتكم السعيدة السعيدية بالتوفيق الذي تجري به الأمور على حسب الاختيار، والعز المنيع الذمار، والسعد القويم المدار، والوقاية التي يأمن بها أهلها من السرار، فإنا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم أسنى ما كتب للأمراء الأرضياء الأخيار، ومتعكم من بقاء والدكم بالعدة العظمى والسيرة الرحمى والجلال الرفيع المقدار - من حمراء

غرناطة حرسها الله تعالى، ولا زائد بفضل الله تعالى سبحانه ثم ببركة سيدنا ومولانا محمد رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أوضح برهانه إلا ألطاف باهرة، وعناية من الله تعالى باطنة وظاهرة، وبشارة بالقبول واردة وبالشكر صادرة، والله تعالى يصل لدينا نعمه، ويوالي فضله وكرمه. وإلى هذا فإننا اتصل بنا في هذه الأيام ما كان من عناية والدكم محل أبينا أبقاه الله تعالى بهذه البلاد المستندة إلى تأميل مجده، وإقطاعها الغاية التي لا فرقها من حسن نظره وجميل قصده، وتعينكم إلى المقام بجبل الفتح إبلاغاً في اجتهاده الديني وجده، فقلنا: هذا خبر إن صدق مخبره، وتحصل منتظره، فهو فخر تجددت أثوابه، واعتناء تفتحت أبوابه، وعمل عند الله ثوابه، فإن الأندلس - عصمها الله تعالى - وإن أنجدته عدده وأمواله، ونجحت في نصرها مقاصده الكريمة وأعماله، لا تدري موقع النظر لها من نفسه، وزيادة يومه في العناية على أمسه، حتى يسمح لها بولده، ويخصها بقرة عينه وفلذة كبده، فلما ورد منه (1) الخبر الذي راقت منه الحبر، ووضحت من سعادته الغرر، بإجازتكم البحر، واختياركم في حال الشبيبة الفخر، وصدق مخيلة الدين فيكم، واستقراركم في الثغر الشهير الذي افتتحه سيف جدكم واستنفذه سعد أبيكم، سررنا بقرب المزار، ودنو الديار، وقابلنا صنع الله تعالى بالاستبشار، ووثقنا وإن لم نزل على ثقة من عناية الله تعالى وعناية محل والدنا بهذه الأقطار، وحمدنا الله تعالى على هذه الآلاء المشرقة، والنعم المغدقة، والصنائع المتألقة، بادرنا نهنيء إخوتكم أولاً بما سيره الله تعالى لكم من سلامة المجاز، ثم بما منحكم الله تعالى من فضل الاختصاص بهذا الغرض والامتياز، فإمارتكم الإمارة التي أخذت بأسباب السماء، وركبت إلى الجهاد في سبيل الله تعالى جيال الخيل والماء، واصبحي على حال الشبيبة شجاً في حلوق الأعداء، ونحن أحق بهذا

_ (1) منه: زيادة من ق.

الهناء، ولكنها عادة الود وسنة الإخاء، فالله عز وجل يجعله مقدماً ميمون الطائر، متهلل البشائر، تتهلل بصنع الله بعده وجوه القبائل والعشائر، ويجري خبر سعادتكم مجرى المثل السائر، ويشكر محل والدنا فيما كان من اختياره، ومزيد إيثاره، ويجازيه جزاء من سمح في ذاته بمظنة ادخاره، ومذ رأينا أن هذا الغرض لا يجتزي فيه بالكتابة، دون الاستنابة، وجهنا لكم من يقوم بحقه، ويجري من تقرير ما لدينا على أوضح طرقه، وهو القائد الكذا، ومجدكم يصغي لما يلقيه، ويقابل بالقبول ما من ذلك يؤديه، والله تعالى يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام؛ انتهى. وكان الطاغية الملعون أيام السلطان أبي عنان رحمه الله تعالى نازل جبل الفتح ثم كفى الله تعالى شره في ذلك التاريخ. 7 - من أبي الحجاج إلى أبي عنان ومن إنشاء لسان الدين على لسان سلطانه أبي الحجاج يخاطب أبا عنان سلطان فاس والمغرب وذلك بما نصه: المقام الذي رمى له الملك الأصيل بأفلاذه، وأدى منه الإسلام إلى ملجئه الأحمى وملاذه، وكفلت السعود بإمضاء أمره المطاع وإنفاذه، وشأى حلبة (1) الكرم فكان وحيد آحاده وفذ أفذاذه، وابتدع غرائب الجود فقال لسان الوجود: نعمت البدعة هذه، مقام محل أخينا الذي أركان مجده راسية راسخة، وغرر عزه بادية باذخة، وأعلام فخره سامية شامخة، وآيات سعده محكمة ناسخة، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى يجري بسعده الفلك، ويجلى بنور هديه الحلك، ويسطر حسنات ملكه الملك، ويشهد بفضل بأسه

_ (1) ص: حلية.

ونداه النادي والمعترك. معظم حقوقه التي تأكد فرضها، المثني على مكارمه التي أعيا الأوصاف البليغة بعضها، أمير المسلمين عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر: سلام كريم، طيب بر عميم، يخص أخوتكم الفضلى، ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله الذي هيأ لملة الإسلام، بمظاهرة ملككم المنصور الأعلام، إظهاراً وإعزازاً، وجعل لها العاقبة الحسنى بيمن مقامكم الأسنى تصديقاً لدعوة الحق وإنجازاً، وسهل لها بسعدكم كل صعب المرام وقد سامتها صروف الأيام لياً وإعوازاً، وأتاح لها منكم ولياً يسوم أعداءها استلاباً وابتزازاً، ويسكن آمالها وقد استشعرت انحفازاً، حمداً يكون على حلل النعم العميمة والآلاء الكريمة طرازاً، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي بهرت آياته وضوحاً وإعجازاً، واستحقت الكمال صفاته حقيقة لا مجازاً، ونبيه الذي بين للخلق أحكام دينه الحق امتناعاً وجوازاً، ويسر لهم وقد ضلوا في مفاوز الشك مفازاً، والرضى عن آله وأصحابه المستولين على ميادين فضائل الدنيا والدين اختصاصاً بها وامتيازاً، فكانوا غيوثاً إن وجدوا محلاً وليوثاً إن شهدوا برازاً، والدعاء لمقام أخوتكم الأسمى بنصرٍ على أعدائه تبدي له الجياد الجرد ارتياحاً والرماح الملد اهتزازاً، وعز يطأ من أكناف البسيطة وأرجائها المحيطة سهلاً وعزازاً، ويمن يشمل من بلاد الإيمان أقطاراً نازحة ويعم أحوازاً، وسعد تجول في ميدان ذكره المذاع أطراف ألسنة اليراع إسهاباً وإيجازا، وفخر يجوب جيوب الأقطار جوب المثل السيار عراقاً وحجازاً، ولا زالت كتائب سعده تنتهز فرص الدهر انتهازا، وتوسع مملكات (1) الكفر انتهاباً واحتيازاً، فإنا كتبناه إلى مقامكم - كتب الله تعالى لكم سعداً ثابت المراكز، وعزاً لا تلين قناته في يد الغامز، وثناء لا يثني عنان سراه عرض المفاوز، وصنعاً رحيب الجوانب

_ (1) ق ص: ملكات.

رغيب الحوائز - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وفضله، عز وجل، قد أدال العسر يسراً وأحال القبض بسطا، وقرب نوازح الآمال بعد أن تناءت ديارها شحطا، وراض مركب الدهر الذي كان لا يلين لمن استمطى، وقرب غريم الرجاء في هذه الأرجاء وكان مشتطا، والتوكل عليه سبحانه وتعالى قد أحكم منه اليقين والاستبصار المبين ربطا، ومشروط المزيد من نعمه قد لزم من الشكر شرطا، ومقامكم هو عدة الإسلام إذا جد حفاظه، وظله الظليل إذا لفح للكفر شواظه، وملجؤه الذي تنام في كنف أمنه أيقاظه، ووزره الذي إلى نصره تمد أيديه وتشير ألحاظه، ففي أرجاء ثنائه تسرح معانيه وألفاظه، ولخطب تمجيده وتحميده يقول قسه وتحتفل عكاظه، وتشيعنا إلى ذلك الجناب الكريم طويل عريض، ومقدمات ودنا إياه لا يعترضها نقيض، وأفلاك تعظيمنا له ليس لأوجها الرفيع حضيض، وأنوار اعتقادنا الجميل فيه يشف سواد الحبر عن أوجهها البيض. وإلى هذا - ألبسكم الله تعالى ثوب السعادة المعادة فضفاضاً، كما صرف ببركته إيالتكم الكريمةعلى ربوع الإسلام وجوه الليالي والأيام وقد ازوروت إعراضاً وبسطت آمالها وقد استشعرت انقباضاً - فإننا ورد علينا كتابكم الذي كرم أنحاء وأغراضاً، وجالت البلاغة من طرسه الفصيح المقال رياضاً، ووردت الأفكار من معانيه الغرائب وألفاظه المزرية بدرر النحور والترائب بحوراً صافيةً وحياضاً، فاجتلينا منه حلة من حلل الورد سابغة، وحجة من حجج المجد بالغة، وشمساً في فلك السعد بازغة، الذي بين المقاصد الكريمة وشرحها، وجلا الفضائل العميمة وأوضحها، فما أكرم شيم ذلك الجلال وأسمحها، وأفضل خلال ذلك الكمال وأرجحها، حثثتم فيه على إحكام السلم التي تحوط الأنفس والحريم بسياج، ويداوى القطر العليل منها بأنجع علاج، والحال ذات احتياج، وساحة الجبل عصمه الله تعالى ميدان هياج، ومتبوأ أعلاج، ومظنة اختلاف الظنون الموحشة واختلاج، فحضر لدينا محتمله وزيركم الشيخ

الأجل الأعظم الموقر الأسمى الخاصة الأحظى أبو علي ابن الشيخ الوزير الأجل الحافل الفاضل المجاهد (1) الكامل أبي عبد الله ابن محلى والشيخ الفقيه الأستاذ الأعرف الفاضل الكامل أبو عبد الله ابن الشيخ الفقيه الأجلالعارف الفاضل الصالح المبارك المبرور المرحوم أبي عبد الله الفشتالي، وصل الله سبحانه سعادتهما، وحرس مجادتهما، حالين من مراتب ترفيعنا أعلى محل الإعزاز، وواردين على أحلى القبول الذي لا تشاب حقيقته بالمجاز، عملاً بما يجب علينا لمن يصل إلينا من تلك الأنحاء الكريمة والأحواز، فتلقينا ما اشتملت عليه الإحالة السلطانية من الود الذي كرم مفهوماً ونصاً، والبر الذي ذهب من مذاهب الفضل والكمال الأمد الأقصى، وقد كان سبقهما صنع الله جل جلاله بما أخلف الظنون، وشرح الصدور وأقر العيون، فلم يصلا إلينا إلا وقد أهلك الله تعالى الطاغية، ومزق أحزابه الباغية، نعمة منه سبحانه وتعالى ومنة ملأت الصدور انشراحاً، وعمت الأرجاء أفراحاً، وعنواناً على سعد مقامكم الذي راق غرراً في المكرمات وأوضاحاً، ومد يده إلى سهام المواهب الإلهية فحاز أعلاها قداحاً، فتشوفت (2) نفوس المسلمين إلى ما كانت تؤمله من فضل الله تعالى وترجوه، وبدت في القضية التي أشرتم بأعمالها الوجوه، وانبعثت الآمال بما آلت إليه هذه الحال انبعاثاً، والتاثت أمور العدو قصمته الله تعالى التياثاً، وانتقض غزله من بعد قوته بفضل الله تعالى أنكاثاً، واحتملت المسألة التي تفضلتم بعرضها وأشرم إلى فرضها مأخذاً وأبحاثاً، فألقينا في هذه الحال إلى رسوليكم أعزهما الله تعالى ما يلقيانه إلى مقامكم الأعلى، ومثابتكم الفضلى، وما يتزيد عندنا من الأمور فركائب التعريف بها إليكم محثوثة، وجزئياتها بين يدي مقامكم الرفيع مبثوثة، وقد اضطربت أحوال الكفر وفالت آراؤه، واستحكم بالشتات داؤه، وارتجت بزلزال الفتن

_ (1) ق: الماجد. (2) ق: فتشوقت.

أرجاؤه، وتيسرت آمال الإسلام بفضل الله تعالى ورجاؤه، وما هو إلا السعد يذلل لكم صعب العدو ويروضه، والله سبحانه يهيئ لكم فضل الجهاد حتى تقضى بكم فروضه. وأما الذي لكم عندنا من الخلوص الصافية شرائعه، والثناء الذي هو الروض تأرج ذائعه، فأوضح من فلق الصبح إذا أشرقت طلائعه، جعله الله تعالى في ذاته، ووسيلةً إلى مرضاته؛ ورسولاكم يشرحان لكم الحال بجزئياته، ويقرران ما عندنا من الود الذي سطع نور آياته، وهو سبحانه وتعالى يصل لكم سعداً سامي المراتب والمراقي، ويجمع لكم بعد بعد المدى وتمهيد دين الهدى بين نعيم الدنيا والنعيم الباقي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ انتهى. 8 - رسالة عن يوسف النصري وأبين من هذا في القضية كتابٌ آخر من إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى صورته: من أمير المسلمين عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، إلى محل أخينا الذي نثني على مجادته أكرم الثناء، ونجدد له ما سلف بين الأسلاف الكرام من الولاء، ونتحفه من سعادة الإسلام وأهله بالأخبار السارة والأنباء، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى رفيع المقدار، كريم المآثر والآثار، وعرفه من عوارف فضله كل مشرق الأنوار، كفيل بالحسنى وعقبى الدار: سلام كريم، بر عميم، يخص جلالكم الأرفع، ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله على عميم آلائه، وجزيل نعمائه، ميسر الصعب بعد إبائه، والكفيل بتقريب الفرج وإدنائه، له الحمد والشكر ملء أرضه وسمائه، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم رسله الكرام وأنبيائه، الهادي إلى سبيل الرشاد وسوائه، مطلع نور الخلق يجلو ظلم الشك بضيائه، والرضى

عن آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه وخلفائه، السائرين في الدنيا والآخرة تحت لوائه، الباذلين نفوسفهم في إظهار دينه القويم وإعلائه، والدعاء لمقامكم بتيسير أمله من فضل الله سبحانه ورجائه، واختصاصه بأوفر الحظوظ من اعتنائه، فإنا كتبناه إليكم - كتبكم الله تعالى فيمن ارتضى قوله وعمله من أوليائه، وعرفكم عوارف السعادة المعادة في نهاية كل أمر وابتدائه - من حمراء غرناطة، حرسها الله تعالى، ولا زائد بفضل الله سبحانه ثم ببركة سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم الذي أوضح برهانه، وعظم أمره ورفع شانه، ثم بما عندنا من الود الكريم وتجديد العهد القديم لمقامكم أعلى الله تعالى سلطانه، إلا الخير الهامي السحاب، واليسر المتين الأسباب، واليمن المفتح الأبواب، والسعد الجديد الأثواب، ومقامكم معتمد بترفيع الجناب، متعهد بالود الخالص والاعتقاد اللباب، معلوم له من فضل الدين وأصالة الأحساب. وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم مديد الأطناب، ثاقب الشهاب، وأطلع عليكم وجوه البشائر سافرة النقاب، فإنه قد كان بلغكم ما آلت الحال إليه بطاغية قشتالة الذي كلب على هذه الأقطار الغربية من وراء البحار، وما ساماها من الإرهاق والأضرار، وأنه جرى في ميدان الإملاء والاغترار، ومحص المسلمون على يده بالوقائع العظيمة الكبار، وأنه نكث العهد الذي عقده، وحل الميثاق الذي أكده، وحمله الطمع الفاضح على أن أجلب على بلاد المسلمين بخيله ورجله، ودهمها بتيار سيله وقطع ليله، وأمل أن يستولي على جبل الفتح الذي يدعى منه فتحها، وطلع للملة المحمد ية صبحها، فضيقه حصاراً، واتخذه داراً، وعندما عظم الإشفاق، وأظلمت الآفاق، ظهر فينا لقدرة الله تعالى الصنع العجيب، ونزل الفرج القريب، وقبل الدعاء السميع المجيب، وطرق الطاغية، جندٌ من جنود الله تعالى أخذه أخذةً رابية، ولم يبق له من باقية، فهلك على الجبل حتف أنفه، وغالته غوائل حتفه، فتفرقت جموعه وأحزابه، وانقطعت أسبابه، وتعجل لنار الله تعالى مآبه، وأصبحت البلاد

مستبشرة، ورحمة الله منتشرة، ورأينا أن هذه البشارة التي يأخذ منها كل مسلم بالنصيب الموفور، ويشارك فيما جلبته من السرور، أنتم أولى من نتحفه بطيب رياها، ونطلع عليه جميل محياها، لما تقرر عندنا من دينكم المتين، وفضلكم المبين، وعملكم من المساهمة على شاكلة صالحي السلاطين، فما ذلك إلا فضل نيتكم للمسلمين في هذه البلاد، وأثر ما عندكم من جميل الاعتقاد. وقد ورد رسولنا إليكم القائد أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح، أعزه الله تعالى، مقرراً ما لديكم من الود الراسخ القواعد، والخلوص الصافي الموارد، الواضح الشواهد، وأثنى على مكارمكم الأصيلة، وألقى ما عندكم من المذاهب الجميلة، فقابلنا ذلك بالشكر الذي يتصل سببه، ويتضح مذهبه، وسألنا الله أن يجعله وداً في ذاته، ووسيلة إلى مرضاته، وتعرفنا ما كان من تفضلكم بالطريدة المفتوحة المؤخر، وما صدر عن الرئيس المعروف بالناظر من خدام دار الصنعة بالمرية من قبح محاولته، وسوء معاملته، فأمرنا بقطع جرايته وثقافه بمطمورة القصبة جزاء لجنايته، ولولا أننا توقفنا أن يكون عظيم عقابه مما لا يقع من مقامكم بوفقه، لمشهور عفافه ورفقه، لجعلناه نكالاً لأمثاله، وعبرة لأشكاله، وقد وجهنا جفناً سفرياً لإيساق الخيل التي ذكرتم، وإيصال ما إليه من ذلك أشرتم، ويكمل القصد إن شاء الله تعالى تحت لحظ اعتنائكم، وفضل ولائكم. هذا ما تزيد عندنا عرفناكم به، عملاً على شاكلة الود الجميل، والولاء الكريم الجملة والتفصيل، فعرفونا بما يتزيد عندكم يكن من جملة أعمالكم الفاضلة، ومكارمكم الحافلة، والله تعالى يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام الكريم عليكم ورحمة الله وبركاته؛ انتهى. 9 - رسالة في حاجة الأندلس إلى بر العدوة ومن إنشاء لسان الدين فيما يتعلق بالأندلس وانقطاعها، وأنها لا غنى لها عن العدوة وغير ذلك، ما صورته:

المقام الذي بنور سعادته تنجلي الغماء وتتصل النعماء، من نيته قد حصل منها لجانب الله تعالى الانتماء، واتفقت منه المسميات والأسماء، مقام محل أبينا الذي تتفيأ هذه الجزيرة الغربية أفياء نيته الصالحة وعمله، وتثق بحسن العاقبة اعتماداً على وعد الله تعالى المنزل على خيرة رسله، وتجتني ثمار النجح من أفنان آرائه المتألقة تألق الصبح حالي ريثه وعجله، وتتعرف حالي المورود والمكروه عارفة الخير والخيرة من قبله، أبقاه الله تعالى يحسم الأدواء كلما استشرت، ويحلي موارد العافية كلما أمرت، ويعفي على آثار الأطماع الكاذبة مهما خدعت بخلبها وغرت، ويضمن سعده عودة الأمور إلى أفضل ما عليه استقرت، معظم مقامه الذي هو بالتعظيم حقيق، وموقر ملكه الذي لا يلتبس منه في الفخر والعز طريق، ولا يختلف في فضله العميم ومجده الكريم فريق. أما بعد حمد الله المثيب المعاقب، الكفيل لأهل التقوى بحسن العواقب، المشيد بالعمل الصالح إلى أرفع المراقي والمراقب، يهدي من يشاء ويضل من يشاء فبقضائه وقدره اختلاف المسالك والمذاهب، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الحاشر العاقب، ونبيه الكريم الرؤوف الرحيم ذي المفاخر السامية والمناقب، والرضى عن آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه الذين ظاهروه في حياته بإعمال السمر العوالي والبيض القواضب، وخلفوه في أمتهبخلوص الضمائر عند شوب الشوائب، فكانوا في سماء ملته كالنجوم النجوم الثواقب، والدعاء لمقامكم الأسمى بالسعادة المعادة في الشاهد من الزمن والغائب، والنصر الذي يقضي بعز الكتائب، والصنع الذي تطلع من ثناياه غرر الصنائع العجائب، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ولا زائد بفضل الله سبحانه ثم بما عندنا من الاعتداد بمقامكم أعلى الله تعالى سلطانه، وشمل بالتمهيد أوطانه، إلا تشيع ثابت ويزيد، وإخلاص ما عليه في ميدان الاستطاعة مزيد، وتعظيم أشرف منه جيد، وثناء راق فوق رياضه تحميد وتمجيد. وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم، وحرس الطاهر الكريم مجدكم، فقد

وصلنا كتابكم الذي هو على الخلوص والاعتقاد عنوان، وفي الاحتجاج على الرضى والقبول برهان، تنطق بالفضل فصوله، وتشير إلى كرم العقد فروعه الزكية وأصوله، ويحق أن ينسب إلى ذلك الفخر الأصيل محصوله، عرفتمونا بما ذهب إليه عيسى بن الحسين من الخلاف الذي ارتكبه، وسبيل الصواب الذي انتكبه، وتنبهون (1) على ما حده الحق في مثل ذلك وأوجبه، حتى لا يصل أحد من جهتنا سببه، ولا يظاهره مهما ندبه، ولا يسعف في الإيواء طلبه، فاستوفينا ما استدعاه ذلك البيان الصريح وجلبه، وخطه القلم الفصيح وكتبه، وليعلم مقامكم وهو من أصالة النظر غني عن الإعلام، ولكن لا بد من الاستراحة بالكلام، والتنفس بنفثات الأقلام، أننا إنما نجري أمورنا مع هذا العدو الكافر الذي رمينا بجواره، وبلينا والحمد لله بمصادمة تياره، على تعداد أقطاره، واتساع براريه وبحاره، بأن تكون الأمة المحمدية بالعدوتين تحت وفاق، وأسواق النفاق غير ذات نفاق، والجماهير تحت عهد لله تعالى وميثاق، فمهما تعرفنا أن اثنين اختلف منهما بالعدوتين عقد، ووقع بينهما في قبول الطاعة رد، ساءنا واقعه، وعظمت لدينا مواقعه، وسألنا أن يتدارك الخرق راقعه، لما نتوقعه من التشاغل عن نصرنا، وتفرغ العدو إلى ضرنا، فكيف إذا وقعت الفتنة في صقعنا وقطرنا، إنما هي شعلة في بعض بيوتنا وقعت، وحادثة إلى جهتنا أشرعت (2) ، وإن كان لسوانا لفظها فلنا معناها، وعلى وطننا يعود جناها، فنحن أحرص الناس على إطفائها وإخمادها، وأسعى في إصلاح فسادها، والمثابرة على كفها واستشهادها، وما الظن بدارٍ فسد بابها، وآمالٍ رثت أسبابها، وجزيرة لا تستقيم أحوال من بها إلا بالسكون، وسلم العدو المغرور المفتون، حتى تقضى من بإعانتكم الديون، وإن اضطرابها إنما هو داء

_ (1) ق: وتنبهونا. (2) ق: أسرعت؛ ص: شرعت.

نستنصر من رأيكم فيه بطبيب، وهدف خطب نرميه من عزمكم بسهم مصيب، وأمر نضرع في تداركه إلى سميع للدعاء مجيب، ونحن في يد أمام يدكم، ومقصدنا فيه تبع لقصدكم، وتصرفنا على حد إشارتكم جار، وعزمنا إلى منتهى مرضاتكم متبار، وعقدنا في مشايعة أمركم متوار. وقد كنا لأول اتصال هذا الخبر، القبيح العين والأثر، بادرنا تعريفكم بجميع ما اتصل بنا في شأنه، ولم نطو عنكم شيئاً من إسراه ولا إعلانه، وبعثنا رسولنا إلى بابكم العلي نعتد بسلطانه، ونرتجي تمهيد هذا الوطن بتمهيد أوطانه، وبادرنا بالمخاطبة من وجبت مخاطبته من أهل مربلة وأسطبونة نثبت بصائرهم ي الطاعة ونقويها، ونعدهم بتوجيه من يحفظ جهاتهم ويحميها، وعجلنا إلى بعضها مدداً من الرماة والسلاح ليكون ذلك عدة فيها، وعلمنا ما أوجب الله تعالى من الأعمال التي يزلف بها ويرتضيها، وكيف لا نظاهر أمركم الذي هو العدة المذخورة، والفئة الناصرة المنصورة، والباطل سراب يخدع، والحق إليه يرجع، والبغي يردي ويصرع، وكم تقدم في الدهر منتز شذ عن الطاعة، وخرج عن الجماعة ومخالف على الدول، في العصور الأول، بهرج الحق زائفه، ورجمت شهب الأسنة طائفه، وأخذت عليه الضيقة وهاده وتنائفه، فتقلص ظله ونبا به محله، وكما قال يذهب الباطل أهله، لا سيما وسعادة ملككم قد وطئت المسالك ومهدتها، وقهرت الأعداء وتعبدتها، وأطفأت جداول سيوفكم النار التي أوقدتها، وكأن بالأمور إذا أعلمتم فيها رأيكم السديد وقد عادت إلى خير أحوالها، والبلاد بيمن تدبيركم قد شفي ما ظهر من اعتلالها، وعلى كل حال فإنما نحن على تكميل مرضاتكم مبادرون، وفي أغراضكم الدينية واردون وصادرون، ولإشارتكم التي تضمن الخير والخيرة منتظرون، عندنا من ذلك عقائد لا يحتمل نصها التأويل، ولا يقبل صحيحها التعليل، فلتكن أبوتكم من ذلك على أوضح سبيل، فشمس النهار لا تحتاج إلى دليل، والله تعالى يثني لكم عوائد الصنع الجميل، حتى لا يدع عزمكم

مغصوباً إلا رده، ولا ثلماُ في ثغر الدين إلا سده، ولا هدفاً متعاصياً إلا هده، ولا عرقاً من الخلاف إلا جده، وهو سبحانه يبقي ملككم ويصل سعده ويعلي أمره ويحرس مجده، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته، انتهى. 10 - رسالة عن أبي الحجاج إلى الرعايا ومن إنشائه رحمه الله تعالى من جملة رسالة على لسان سلطانه أبي الحجاج يخاطب الرعايا، ما نص محل الحاجة منه: وإلى هذا فقد علمتم ما كانت الحال آلت إليه من ضيقة البلاد والعباد بهذا الطاغية الذي جرى في ميدان الأمل جري الجموح، ودارت عليه خمرة النخوة والخيلاء مع الغبوق والصبوح، حتى طمح بسكر اغتراره، ومحص المسلمون على يده بالوقائع التي تجاوز منتهى مقداره، وتوجهت إلى استئصال الكلمة مطامع أفكاره، ووثق بأنه يطفئ نور الله بناره، ونازل جبل الفتح فشد مخنق حصاره، وأدار أشياعه في البر والبحر دور السوار على أسواره، وانتهز الفرصة بانقطاع الأسباب وانبهام الأبواب، والأمور التي لم تجر للمسلمين بالعدوتين على مألوف الحساب، وتكالب التثليث على التوحيد، وساءت الظنون في هذا القطر الوحيد، المنقطع بين الأمة الكافرة والبحور الزاخرة والمرام البعيد، وإننا صابرنا بالله تعالى سيله، واستضأنا بنور التوكل عليه في جنح هذا الخطب ودجنة ليله، ولجأنا إلى من بيده نواصي الخلائق، واعتقلنا من حبله المتين بأوثق العلائق، وفسحنا مجال الأمل في ذلك الميدان المتضايق، وأخلصنا لله مقيل العثار ومؤوي أولي الاضطرار قلوبنا، ورفعنا إليه أمرنا ووقفنا عليه مطلوبنا، ولم نقصر مع ذلك في إبرام العزم، واستشعار الحزم، وإمداد الثغور بأقصى الإمكان، وبعث الجيوش إلى ما يلينا من بلاد على الأحيان، فرحم الله تعالى انقطاعنا إلى كرمه، والتجاءنا إلى حرمه، فجلى بفضله

سبحانه ظلم الشدة، ومد على الحريم والأطفال ظلال رحمته الممتدة، وعرفنا عوارف الصنع الذي قدم به العهد على طول المدة، ورماه بجيش من جيوش قدرته أغنى عن إيجاف الركاب، واحتشاد الأحزاب، وأظهر فينا قدرة ملكه عند انقطاع الأسباب، واستخلاص العباد والبلاد من بين الظفر والناب، فقد كان جعجع على الحق بأباطيله، وسد المجاز بأساطيله، ورمى الجزيرة الأندلسية بشؤبوب شره، وصيرها فريسة بين غربان بحره وعقبان بره، فلم يخلص إلى المسلمين من إخوانهم مرقبة إلا على الخطر الشديد، والإفلات من يد العدو العنيد، مع توفر العزائم والحمد لله على العمل الحميد، والسعي فيما يعود على الدين بالتأييد. وبينما شفقتنا على جبل الفتح تقيم وتقعد، وكلب الأعداء عليه يبرق ويرعد، واليأس والرجاء خصمان هذا يقرب وهذا يبعد، إذ طلع علينا البشير بانفراج الأزمة، وحل تلك العزمة، وموت شاه تلك الرقعة، وإبقاء الله تعالى على تلك البقعة، وأنه سبحانه أخذ الطاغية أكمل ما كان اغتراراً، وأعظم أنصاراً، وزلزل أرض عزه وقد أصابت قراراً، وأن شهاب سعده قد أصبح آفلاً، وعلم كبره انقلب سافلاً، وأن من بيده ملكوت السموات والأرض طرقه بحتفه، وأهلكه برغم أنفه، وأن محلته عاجلها التباب والتبار، وعاثت في منازلها النار، وتمخض عن سوء عاقبتها الليل والنهار، وأن حماتها يخربون بيوتهم بأيديهم، وينادي بشتات الشمل لسان مناديهم، وتلاحق الفرسان من جبل الفتح المعقل الذي عليه من عناية الله تعالى رواق مضروب، والرباط الذي من حاربه فهو المحروب، فأخبرت بانفراج الضيق، وارتفاع العائق لها عن الطريق، وبرء الداء الذي أشرق بالريق، وأن النصارى دمرها الله تعالى جدت في ارتحالها، وأسرعت بجبفة طاغيتها إلى سوء مآلها وحالها، وسمحت للنار والنهب بأسلابها وأموالها، فبهرنا هذا الصنع الإلهي الذي مهد الأقطار بعد رجفانها، وأنام العيون بعد سهاد أجفانها، وسألنا الله تعالى أن يعيننا على

شكر هذه النعمة التي إن سلطت عليها قوى البشر فضحتها، ورجحتها، ورأينا سر اللطائف الخفية كيف سريانه في الوجود، وشاهدنا بالعيان أنوار اللطائف الإلهية والجود، وقلنا: إنما هو الفتح الأول شفيع بثان، وقواعد الدين الحنيف أيدت من صنع الله تعالى ببنيان، اللهم لك الحمد على نعمك الباطنة والظاهرة، ومننك الوافرة، إنك ولينا في الدنيا والآخرة؛ انتهى. 11 - رسالة توضح ضيق حال الأندلس ومن إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى من أخرى مما يتعلق بضيق حال المسلمين بالأندلس ما صورته: وإن تشوفتم إلى أحوال هذا القطر ومن به من المسلمين، بمقتضى الدين المتين والفضل المبين، فاعلموا أننا في هذه الأيام ندافع من العدو تياراً، ونكابر بحراً زخاراً، ونتوقع - إلا إن وقى الله تعالى - خطوباً كباراً، ونمد اليد إلى الله تعالى انتصاراً، ونلجأ إليه اضطراراً، ونستمد دعاء المسلمين بكل قطر استعداداً به واستظهاراً، ونستشير من خواطر الفضلاء ما يحفظ أخطاراً، وينشئ ريح روح الله طيبة معطاراً، فإن القومس الأعظم قيوم دين النصرانية الذي يأمرها فتطيع، ومخالفته لا تستطيع، رمى هذه الأمة الغريبة المنقطعة منهم بجراد لا يسد طريقها، ولا يحصى فريقها، التفت على أخي صاحب قشتالة وعزمها أن تملكه بدله، وتبلغه أمله، ويكون الكل يداً واحدة على المسلمين، ومناصبة هذا الدين، واستئصال شأفة المؤمنين، وهي شدة ليس لأهل هذا الوطن بها عهد، ولا عرفها نجد ولا وهد، وقد اقتحموا الحدود القريبة، والله تعالى ولي هذه الأمة الغريبة، وقد جعلنا مقاليد أمورنا بيد من يقوي الضعيف، ويدرأ الخطب المخيف، ورجونا أن نكون ممن قال الله تعالى فيهم " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل

" وهو سبحانه المرجو في حسن العقبى والمآل، ونصر فئة الهدي على فئة الضلال، وما قل من كان الحق كنزه، ولا ذل من استمد من الله عزه " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " ودعاء من قبلكم من المسلمين مدد موفور، والله سبحانه على كل حال محمود مشكور؛ انتهى. 12 - من رسالة طويلة ومن أخرى طويلة من جملتها ما صورته: وقد اتصل بنا الخبر الذي يوجب نصح الإسلام، ورعي الجوار والذمام، وما جعل الله تعالى للمأموم على الإمام، إيقاظكم من مراقدكم المستغرقة، وجمع أهوائكم المتفرقة، وتهييئكم إلى مصادمة الشدائد المرعدة المبرقة، وهو أن كبير دين النصرانية الذي إليه ينقادون، وفي مرضاته يصادقون ويعادون، وعند رؤية صليبه يكبرون ويسجدون، لما رأى الفتن قد أكلتهم خضماً وقضماً، وأوسعتهم هضماً، فلم تبق عصباً ولا عظماً، ونثرت ما كان نظماً، أعمل نظره فيما يجمع منهم ما افترق، ويرفع ما طرق، ويرفو ما مزق الشتات وخرق، فرمى الإسلام بأمة عددها القطر المنثال، وأمرهم وشأنهم الامتثال، أن يدمثوا لمن ارتضاه من أمته الطاعة، ويجمعوا في ملته الجماعة، ويطلع الكل على هذه الفئة القليلة الغريبة بغتة كقيام الساعة، وأقطعهم - قطع الله تعالى بهم - العباد والبلاد، والطارف والتلاد، وسوغهم الحريم والأولاد، وبالله تعالى نستدفع ما لا نطيقه، ومنه نسأل عادة الفرج فما سدت طرقه، إلا أنا رأينا غفلة الناس مؤذنة البوار، وأشفقنا للدين المنقطع من وراء البحار، وقد أصبح مضغة في لهوات الكفار، وأردنا أن نهزكم بالموعظة التي تكحل البصائر بميل الاستبصار، فإن جبر الله تعالى الخواطر بالضراعة إليه والانكسار، ونسخ الإعسار بالإيسار، وأنجد اليمين بأختها اليسار، وإلا فقد تعين في الدنيا والآخرة حظ الخسار، فإن من ظهر عليه عدو دين الله تعالى وهو من الله مصروف

وبالباطل مشغوف، وبغير العرف معروف، وعلى الحطام المسلوب عنه ملهوف، فقد تله الشيطان للجبين، وقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، ومن نفذ فيه أو له قدر الله عن أداء الواجب وبذل المجهود، وأفرد بالعبودية وجه الواحد الأحد المعبود، ووطن النفس على الشهادة المبوئة دار الخلود، العائدة بالحياة الدائمة والوجود، أو الظهور على عدوه المحشور إليه المحشود، صبراً على المقام المحمود، وبيعاً من الله تعالى تكون الملائكة فيه الشهود، حتى تعين يد الله في ذلك البناء المهدود، والسواد الأعظم الممدود، كان على أمريه بالخيار المردود " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " انتهى. ضياع المدن الأندلسية وقال صاحب مناهج الفكر بعد وصفه لجزيرة الأندلس وأقطارها، ما صورته: ولم تزل هذه الجزيرة منتظمة لمالكها في سلك الانقياد والوفاق، إلى ن طما بمترفيها سيل العناد والنفاق، فامتاز كل رئيس منهم بصقع كان مسقط راسه، وجعله معقلاً يعتصم فيه من المخاوف بأفراسه، فصار كل منهم يشن الغارة على جاره، ويحاربه في عقر داره، إلى أن ضعفوا عن لقاء عدو في الدين يعادي، ويراوح معاقلهم بالعيث ويغادي، حتى لم يبق في أيديهم منها إلا ما هو في ضمان هدنة مقدرة، وإتاوة في كل عام على الكبير والصغير مقررة، كان ذلك في الكتاب مسطوراً، وقدراً في سابق علم الله مقدوراً، انتهى. وهذا قاله قبل أن يستولي العدو على جميعها، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

[طليطلة 478] ولنرجع إلى ما كنا بصدده من أخذ النصارى قواعد الأندلس فنقول: قد قدمنا أوائل هذا الباب أن طليطلة أعادها الله تعالى من أول ما أخذ الكفار من المدن العظام بالأندلس، قال ابن بسام (1) : لما توالت على أهل طليطلة الفتن المظلمة، والحوادث المصطلمة، وترادف عليهم البلاء والجلاء، واستباح الفرنج لعنهم الله تعالى أموالهم وأرواحهم، كان من أعجب ما جرى من النوادر الدالة على الخذلان أن الحنطة كانت تقيم عندهم مخزونة خمسين سنة لا تتغير، ولا يؤثر فيها طول المدة بما يمنع من أكلها، فلما كانت السنة التي استولى عليها العدو فيها لم ترفع الغلة من الأندر حتى أسرع فيها الفساد، فعلم الناس أن ذلك بمشيئة الله تعالى لأمر أراده، من شمول البلوى، وعموم الضراء، فاستولى العدو على طليطلة، وأنزل من بها على حكمه، وخرج اين ذي النون منها على أقبح صورة، وأفظع سيرة، ورآه الناس وبيده إصطرلاب يأخذ به وقتاً يرحل فيه، فتعجب منه المسلمون، وضحك عليه الكافرون، وبسط الكافر العدل على أهل المدينة، وحبب التنصر إلى عامة طغامها، فوجد المسلمون من ذلك ما لا يطاق حمله، وشرع في تغيير الجامع كنيسة في ربيع الأول سنة ست وتسعين وأربعمائة. ومما جرى في ذلك (2) اليوم أن الشيخ الأستاذ المغامي رحمه الله تعالى صار إلى الجامع، وصلى فيه، وأمر مريداً له بالقراءة، ووافاه الفرنج لعنهم الله تعالى وتكاثروا لتغيير القبلة، فما جسر أحد منهم على إزعاج الشيخ ولا معارضته، وعصمه الله تعالى منهم، إلى أن أكمل القراءة وسجد سجدة، ورفع رأسه، وبكى على الجامع بكاء شديداً، وخرج ولم يعرض أحد له بمكروه. وقيل لملك

_ (1) انظر الذخيرة 1/4: 127 ويبدو أن المقري ينقل بالمعنى. (2) المصدر السابق: 190.

النصارى: ينبغي أن تلبس التاج كمن كان قبلك في هذا الملك، فقال: حتى نأخذ قرطبتهم، وأعد لذلك ناقوساً تأنق فيه وفيما رصع به من الجواهر، فأكذبه الله وأزعجه. وورد أمير المسلمين وناصر الدين يوسف بن تاشفين، فما قصر فيما أثر من إذلال المشركين، وإرغام الكافرين، واستدراك أمور المسلمين؛ انتهى ملخصاً، وقد مر مطولاً. وقعة بطرنة 456 وكانت قبلها وقعة بطرنة (1) سنة ست وخمسين وأربعمائة، وذلك أن الفرنج - خذلهم الله تعالى - انتدبت منهم قطعة كثيفة، ونزلت على بلنسية في السنة المذكورة، وأهلها جاهلون بالحرب، مغترون بأمر الطعن والضرب، مقبلون على اللذات من الأكل والشرب، وأظهر الفرنج الندم على منازلتها، والضعف عن مقاومة من فيها، وخدعوهم بذلك فانخدعوا، وأطعموهم فطمعوا، وكمنوا في عدة أماكن جماعة من الفرسان، وخرج أهل البلد بثياب زينتهم، وخرج معهم أميرهم عبد العزيز بن أبي عامر، فاستدرجهم العدو - لعنهم الله تعالى - ثم عطفوا عليهم فاستأصلوهم بالقتل والأسر، وما نجا منهم إلا من حصنه أجله، وخلص الأمير بنفسه، ومما حفظ عنه أنه أنشد لما أعياه الأمر: خليلي ليس الرأي في صدر واحد أشيرا علي اليوم ما تريان وفي أهل بلنسية يقول بعض الشعراء حين خرجوا في ثياب الزينة والترفه: لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم حلل الحرير عليكم ألوانا ما كان أقبحهم وأحسنكم بها لو لم تكن ببطرنة ما كانا

_ (1) (Paterna) : راجع خبر هذه الوقعة في ابن عذاري 3: 252 وهو ينقل عن ابن بسام.

قال ابن بسام: وهكذا جرى لأهل طليطلة، فإن العدو - خذله الله تعالى - استظهر عليهم، وقتل جماهيرهم، وكان من جملة ما غنمه الفرنج من أهلها لما خرجوا إليهم في ثياب الترفه ألف غفارة خارجاً عما سواها. بربشتر وقال ابن حيان (1) : وكان تغلب العدو - خذله الله تعالى - على بربشتر قصبة بلد برطانية، وهي تقرب من سرقسطة، سنة ست وخمسين وأربعمائة، وذلك أن جيش الأردمليس (2) نازلها وحاصرها، وقصر يوسف بن سليمان بن هود في حمايتها، ووكل أهلها إلى نفوسهم، فأقام العدو عليها أربعين يوماً، ووقع فيما بين أهلها تنازع في القوت لقلته، واتصل ذلك بالعدو، فشدد القتال عليها والحصر لها حتى دخل المدينة الأولى في خمسة آلاف مدرع، فدهش الناس، وتحصنوا بالمدينة الداخلة، وجرت بينهم حروب شديدة قتل فيها خمسمائة إفرنجي، ثم اتفق أن القناة التي كان الماء يجري فيها من النهر إلى المدينة تحت الأرض في سرب موزون (3) انهارت وفسدت، ووقعت فيها صخرة عظيمة سدت السرب بأسره، فانقطع الماء عن المدينة، ويئس من بها من الحياة، فلاذوا بطلب الأمان على أنفسهم خاصة دون مال وعيال، فأعطاعهم العدو الأمان، فلما خرجوا نكث بهم وغدر، وقتل الجميع إلا القائد ابن الطويل والقاضي ابن عيسى في نفر من الوجوه، وحصل للعدو من الأموال والأمتعة ما لا يحصى، حتى إن الذي خص بعض مقدمي العدو لحصنه - وهو قائد خيل رومة - نحو ألف وخمسمائة جارية أبكاراً، ومن أوقار الأمتعة والحلى

_ (1) انظر الذخيرة (3: 58) في الخير عن بربشتر نقلاً عن ابن خلكان. (2) في الذخيرة: جيش الأردمانيين (Nordmanni) . (3) الذخيرة: بتقدير موزون.

والكسوة خمسمائة جمل، وقدر من قتل وأسر بمائة ألف نفس، وقيل: خمسون ألف نفس، ومن النوادر ما جرى على هذه المدينة لما فسدت القناة وانقطعت المياه أن المرأة كانت تقف على السور وتنادي من يقرب منها أن يعطيها جرعة ماء لنفسها أو ولدها فيقول لها: أعطيني ما معك، فتعطيه ما معها من كسوة وحلي وغيره. قال: وكان السبب في قتلهم أنه خاف من يصل لنجدتهم وشاهد من كثرتهم ما هاله، فشرع في القتل لعنة الله عليه تعالى، حتى قتل منهم نيفاً وستة آلاف قتيل، ثم نادى الملك بتأمين من بقي وأمر أن يخرجوا فازدحموا في الباب إلى أن مات منهم خلق عظيم، ونزلوا من الأسوار في الحبال للخشية من الازدحام في الأبواب ومبادرة إلى شرب الماء، وكان قد تحيز في وسط المدينة قدر سبعمائة نفس من الوجوه وحاروا في نفوسهم، وانتظروا ما ينزل بهم، فلما خلت ممن أسر وقتل وأخرج من الأبواب والأسوار وهلك في الزحمة نودي في تلك البقية بأن يبادر كل منهم إلى داره بأهله، وله الأمان، وأرهقوا وأزعجوا، فلما حصل كل واحد بمن معه من أهله في منزلهم اقتسم الإفرنج لعنهم الله تعالى بأمر الملك، وأخذ كل واحد داراً بمن فيها من أهلها، نعوذ بالله تعالى. وكان من أهل المدينة جماعة قد عاذوا برؤوس الجبال، وتحصنوا بمواضع منيعة، وكادوا يهلكون من العطش، فأمنهم الملك على نفوسهم، وبرزوا في صور الهلكى من العطش، فأطلق سبيلهم، فبينما هم في الطريق إذ لقيتهم خيل الكفر ممن لم يشهد الحادثة، فقتلوهم إلا القليل ممن نجا بأجله. قال: وكان الفرنج لعنهم الله تعالى، لما استولوا على أهل المدينة يفتضون البكر بحضرة أبيها، والثيب بعين زوجها وأهلها، وجرى من هذه الأحوال ما لم يشهد المسلمون مثله قط فيما مضى من الزمان، ومن لم يرض منهم أن يفعل ذلك في خادم أو ذات مهنة أو وخش أعطاعهن خوله وغلمانه يعيثون فيهن عيثة، وبلغ الكفرة منهم يومئذ ما لا تلحقه الصفة على الحقيقة، ولما عزم ملك الروم

على القفول إلى بلده تخير من بنات المسلمين الجواري الأبكار والثياب ذوات الجمال، ومن صبيانهم الحسان ألوفاً عدة حملهم معه ليهديهم إلى من فوقه، وترك من رابطة خيله ببربشتر ألفاً وخمسمائة، ومن الرجالة ألفين، انتهى. قال ابن حيان: وأختم هذه الأخبار الموقظة لقلوب أولي الألباب بنادرة منها يكتفى باعتبارها عما سواها، وهي أن بعض تجار اليهود جاء بربشتر بعد الحادثة ملتمساً فدية بنات بعض الوجوه ممن نجا من أهلها حصلن في سهم قومس من الرابطة فيها كان يعرفه، قال: فهديت إلى منزله فيها، واستأذنت عليه، فوجدته جالساً مكان رب الدار، مستوياً على فراشه، رافلاً في نفيس ثيابه، والمجلس والسرير كما تخلفهما ربهما يوم محنته لم يغير شيئاً من رياشهما وزينتهما، ووصائفه مضمومات الشعور، قائمات على رأسه، ساعيات في خدمته، فرحب بي، وسألني قصدي، فعرفته وجهه، وأشرت إلى وفور ما أبذله في بعض اللواتي على رأسه وفيهن كانت حاجتي، فتبسم وقال بلسانه: ما أسرع ما طمعت فيمن عرضناه لك! أعرض عمن هنا وتعرض لمن شئت ممن صيرته لحصني من سبيي وأسراي أقاربك فيمن شئت منهن، فقلت له: أما الدخول إلى الحصن فلا رأي لي فيه، وبقربك أنست، وفي كنفك اطمأننت، فسمني ببعض من هنا فإني أصير إلى رغبتك، فقال: وما عندك قلت: العين الكثير الطيب والبز الرفيع الغريب، فقال: كأنك تشهيني ما ليس عندي، يا مجة (1) ، ينادي بعض أولئك الوصائف، يريد بهجة فغيره بعجمته، قومي فاعرضي عليه ما في ذلك الصندوق، فقامت إليه وأقبلت ببدر الدنانير وأكياس الدراهم وأسفاط الحلى، فكشف وجعل بين يدي العلج حتى كادت تواري شخصه، ثم قال لها: أدني إلينا من تلك التخوت، فأدنت منه عدة من قطع الوشي والخز والديباج الفاخر مما حار له ناظري وبهت،

_ (1) الذخيرة: يا مجة.

واسترذلت ما عندي، ثم قال لي: لقد كثر هذا عندي حتى ما ألذ به، ثم حلف بإلهه أنه لو لم يكن عنده شيء من هذا ثم بذل له بأجمعه في ثمن تلك ما سخت بها يدي، فهي ابنة صاحب المنزل، وله حسب في قومه، اصطفيتها لمزيد جمالها لولادتي حسبما كان قومها يصنعون بنسائنا نحن أيام دولتهم، وقد رد لنا الكرة عليهم، فصرنا فيما تراه، وأزيدك بأن تلك الخودة الناعمة، وأشار إلى جارية أخرى قائمة إلى ناحية أخرى، مغنية والدها التي كانت تشدو له على نشواته، إلى أن أيقظناه من نوماته، يا فلانة - يناديها بلكنته - خذي عودك تغني زائرنا بشجوك، قال: فأخذت العود، وقعدت تسويه، وإني لأتأمل دمعها يقطر على خدها، فتسار قالعلج مسحه، واندفعت تغني بشعر ما فهمته أنا فضلاً عن العلج، فصار من الغريب أن حث شربه هو عليه، وأظهر الطرب منه، فلما يئست ما عنده قمت منطلقاً عنه، وارتدت لتجارتي سواه، واطلعت لكثرة ما لدى القوم من السبي والمغنم على ما طال عجبي به، فهذا فيه مقنع لمن تدبره، وتذكر لمن تذكره. قال ابن حيان: قد أشفينا بشرح هذه الحادثة الفادحة مصائب جليلة مؤذنة بوشك القلعة طالما حذر أسلافنا لحاقها بما احتملوه عمن قبلهم من أثارة، ولا شك عند ذمي الألباب أن ذلك مما دهانا من داء التقاطع وقد أمرنا بالتواصل والألفة، فأصبحنا من استشعار ذلك والتمادي عليه على شفا جرف يؤدي إلى الهلكة لا محالة، انتهى ببعض اختصار. وذكر بعده كلاماً في ذم أهل ذلك الزمان من أهل الأندلس، وأنهم يعللون أنفسهم بالباطل، وأن من أدل الدلائل على جهلهم اغترارهم بزمانهم، وبعدهم عن طاعة خالقهم، ورفضهم وصية نبيهم، وغفلتهم عن سد ثغورهم، حتى أطل عدوهم الساعي لإطفاء نورهم، يجوس خلال ديارهم، ويستقري بسائط بقاعهم، ويقطع كل يوم طرفاً، ويبيد أمة، ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكرهم، لهاة عن بثهم، ما إن سمع عندنا بمسجد من

مساجدنا أو محفل من محافلنا، مذكر لهم أو داع، فضلاً عن نفر إليهم أو ماش لهم، حتى كأنهم ليسوا منا أو كان بثقهم ليس بمفض إلينا، وقد بخلنا عليهم بالدعاء بخلنا عليهم بالغناء، عجائب فاتت التقدير، وعرضت للتغيير، ولله عاقبة الأمور، وإليه المصير. ولقد صدق رحمه الله تعالى، فإن البثق سرى إليهم جميعاً كما ستراه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقال قبله: إن بربشتر هذه تناسختها قرون المسلمين منذ ثلاثمائة وثلاث وستين سنة، من عهد الفتوح الإسلامية بجزيرة الأندلس، فرسخ فيها الإيمان، وتدورس القرآن، إلى أن طرق الناعي بها قرطبتنا صدر رمضان من العام، فصك الأسماع، وأطار الأفئدة، وزلزل أرض الأندلس قاطبة، وصير لكل شغلاً يشغل الناس في التحدث به، والتساؤل عنه، والتصور لحلول مثله، أياماً لم يفارقوا فيها لم يفارقوا فيها عادتهم من استبعاد الوجل، والاغترار بالأمل، والاستناد إلى أمراء الفرقة الهمل، الذين هم منهم ما بين فشل ووكل، يصدونهم عن سواء السبيل، ويلبسون عليهم وضوح الدليل، ولم تزل آفة الناس منذ خلقوا في صنفين هم كالملح فيهم الأمراء والفقهاء بصلاحهم يصلحون وبفسادهم يفسدون، فقد خص الله تعالى هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج صنفيهم لدينا بما لا كفاية له ولا مخلص منه، فالأمراء القاسطون قد نكبوا عن نهج الطريق ذياداً عن الجماعة، وجرياً إلى الفرقة، والفقهاء أئمتهم صموت عنهم صدوف عما أكده الله تعالى عليهم من التبيين لهم، قد أصبحوا ما بين آكل من حلوائهم، وخابط في أهوائهم، وبين مستشعر مخافتهم، آخذ في التقية في صدقهم، وأولئك هم الأقلون فيهم، فما القول في أرض فسد ملحها الذي هو المصلح لجميع أغذيتها، وما هي إلا مشفية من بوارها، ولقد طما العجب من أفعال هؤلاء الأمراء، لم يكن عندهم لهذه الحادثة إلا الفزع لحفر الخنادق، وتعلة الأسوار، وشد الأركان، وتوثيق البنيان، كاشفين لعدوهم عن السوأة

السوأى من إلقائهم يومئذ بأيديهم إليه - أمور قبيحات الصور، مؤذنات الصدور بأعجاز الغير: أمور لو تدبرها حكيم إذاً لنهى وهيب ما استطاعا استرجاع بربشتر ثم قال ابن حيان: فلما كان عقب جمادى الأولى سنة 457 ساع الخبر بقرطبة برجوع المسلمين إليها، وذلك أن أحمد المقتدر بن هود المفرط فيها، والمتهم على أهلها، لانحرافهم إلى أخيه، صمد لها مع إمداد لحليفه عباد، وسعى لإصمات سوء المقالة عنه، وقد كتب الله تعالى عليه منها ما لا يمحوه إلا عفوه، فتأهب لقصد بربشتر في جموع من المسلمين، فجالدوا الكفار بها جلاداً ارتاب منه كل جبان، وأعز الله سبحانه أهل الحفيظة الشجعان، وحمي الوطيس بينهم إلى أن نصر الله تعالى أولياءه، وخذل أعداءه، وولوا الأدبار مقتحمين أبواب المدينة، فاقتحمها المسلمون عليهم، وملكوهم أجمعين، إلا من فر من مكان الوقعة، ولم يدخل المدينة، فأجيل السيف في الكافرين، واستؤصلوا أجمعين، إلا من استرق من أصاغرهم، وفدي من أعاظمهم، وسبوا جميع من كان فيها من عيالهم وأبناءهم، وملكوا المدينة بقدرة الخالق البارئ، وأصيب على منحة النصر المتاح طائفة من حماة المسلمين الجادين في نصر الدين، نحو الخمسين، كتب الله تعالى لهم شهادتهم، وقتل فيه من أعداء الله الكافرين نحو ألف فارس وخمسة آلاف راجل، فغسلها المسلمون من رجس الشرك، وجلوها من صدإ الإفك، انتهى. وليت طليطلة البائسة استرجعت كهذه، ومع هذا فقد غلب العدو بعد على الكل، والله سبحانه المرجو في الإدالة.

تطيلة وطرسونة وقال ابن اليسع: أخذ العدو مدينة تطلية وأختها طرسونة سنة أربع وعشرين وخمسمائة. بلنسية والقنبيطور ولما صار أمر بلنسية إلى الفقيه القاضي أبي أحمد ابن جحاف قاضيها صيرها لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فحصره بها القادر بن ذي النون الذي مكن الأذفونش من طليطلة، فهجم عليه القاضي في لمة من المرابطين، وقتله، ودفع ابن جحاف لما لم يعهد من تدبير السلطان، ورجعت عنه طائفة الملثمين الذين كان يعتد بهم، وجعل يستصرخ إلى أمير المسلمين فيبطئ عليه، وفي أثناء ذلك أنهض يوسف بن أحمد بن هود صاحب سرقسطة ردريق الطاغية للاستيلاء على بلنسية، فدخلها، وعاهده القاضي ابن جحاف، واشترط عليه إحضار ذخيرة كانت للقادر بن ذي النون، فأقسم عليه أنها ليست عنده، فاشترط عليه أنه إن وجدها عنده قتله، فاتفق أنه وجدها عنده، فأحرقه بالنار، وعاث في بلنسية (1) ، وفيها يقول ابن خفاجة حينئذ: عاثت بساحتك الظبا يا دار ومحا محاسنك البلى والنار فإذا تردد في جنابك ناظر طال اعتبار فيك واستعبار أرض تقاذفت الخطوب بأهلها وتمخضت بخرابها الأقدار كتبت يد الحدثان في عرصاتها لا أنت أنت ولا الديار ديار وكان استيلاء القنبيطور - لعنه الله تعالى - عليها سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وقيل: في التي قبلها، وبه جزم ابن الأبار قائلاً: فتم حصار القنبيطور إياها

_ (1) راجع الخبر عن حادثة بلنسية في ابن عذاري 4: 31 - 42 والذخيرة (3: 30 - 33) .

عشرين شهراً، وذكر أنه دخلها صلحاً، وقال غيره: إنه دخلها عنوة، وعاث فيها، وممن أحرق فيها الأديب أبو جعفر ابن البني (1) الشاعر المشهور رحمه الله تعالى وعفا عنه، فوجه أمير المؤمنين يوسف بن تاشفين الأمير أبا محمد مزدلي ففتحها الله تعالى على يديه سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وتوالى عليها أمراء الملثمين، ثم صارت ليحيى بن غانية الملثم حين ولي جميع شرق الأندلس، فقدم عليها أخاه عبد الله بن غانية، ولما ثارت الفتنة في المائة السادسة أخرجه منها مروان بن عبد العزيز، إلى أن قام عليه جيش بلنسية سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وبايعوا لابن عياض ملك شرق الأندلس، ففر مروان إلى المرية، ثم رجعت بلنسية إلى أبي عبد الله ابن مردنيش ملك شرق الأندلس بعد ابن عياض، وقدم عليه (2) أخاه أبا الحجاج يوسف بن سعد بن مردنيش، إلى أن رجع أبو الحجاج إلى جهة بني عبد المؤمن، إلى أن ولي عليها السيد أبو زيد عبد الرحمن ابن السيد أبي عبد الله ابن أبي حفص ابن أمير المسلمين عبد المؤمن بن علي، فلما ثار العادل بمرسية تمنع واعتز، وأظهر طاعة في باطنها معصية، ودام على ذلك مع أبي العلاء المأمون، وكان قائد الأعنة المشار إليه في الدفاع عن بلنسية الأمير زيان بن أبي الحملات ابن أبي الحجاج ابن مردنيش، فأخرجه من بلنسية، وملكه، وفر السيد إلى النصارى. نهاية بلنسية ولم يزل أمر بلنسية يضعف باستيلاء العدو على أعمالها إلى أن حصرها ملك برشلونة النصراني، فاستغاث زيان بصاحب إفريقية أبي زكريا ابن أبي حفص،

_ (1) دوزي: أبو جعفر البتي وكذلك كتب في التكملة المطبوعة؛ ولكن سجع ابن سعيد يدل على أن بنه بالنون " كتاب المنه في حل قرية بنه " وهي من قرى بلنسية؛ وقد سبق أن أشرت إلى أن البني الذي حرقه القنبيطور هو غير البني الذي ترجم له صاحب القلائد. (2) عليه: سقطت من ص.

وأوفد عليه في هذه الرسالة كاتبه الشهير أبا عبد الله ابن الأبار القضاعي صاحب كتاب التكملة وإعتاب الكتاب وغيرهما، فقام بين يدي السلطان منشداً قصيدته السينية الفريدة التي فضحت من باراها، وكبا دونها من جاراها، وهي (1) : أدرك بخيلك خيل الله أندلسا إن السبيل إلى منجاتها درسا وهب لها من عزيز النصر ما التمست فلم يزل منك عز النصر ملتمسا وحاش مما تعانيه حشاشتها فطالما ذاقت البلوى صباح مسا يا للجزيرة أضحى أهلها جزراً للحادثات وأمسى جدها تعسا في كل شارقة إلمام بائقة يعود مأتمها عند العدا عرسا وكل غاربة إجحاف نائبة تثني الأمان حذاراً والسرور أسى تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم إلا عقائلها المحجوبة الأنسا وفي بلنسية منها وقرطبة ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا مدائن حلها الإشراك مبتسماً جذلان، وارتحل الإيمان مبتئسا وصيرتها العوادي العائثات بها يستوحش الطرفمنها ضعف ما أنسا فمن دساكر كانت دونها حرسا ومن كنائس كانت قبلها كنسا يا للمساجد عادت للعدا بيعاً وللنداء غدا أثناءها جرسا لهفي عليها إلى استرجاع فائتها مدارساً للمثاني أصبحت درسا وأربعاً نمنمت أيدي الربيع لها ما شئت من خلع موشية وكسا كانت حدائق للأحداق مونقة فصوح النضر من أدواحها وعسا وحال ما حولها من منظر عجب يستجلس الركب أو يستركب الجلسا سرعان ما عاث جيش الكفر واحربا عيث الدبا في مغانيها التي كبسا

_ (1) أورد ابن خلدون (6: 283) هذه القصيدة، وانظر أزهار الرياض 2: 207.

وابتز بزتها مما تحيفها تحيف الأسد الضاري لما افترسا فأين عيش جنيناه بها خضراً وأين عصر جليناه بها سلسا محا محاسنها طاغ أتيح له ما نام عن هضمها حيناً ولا نعسا ورج أرجاءها لما أحاط بها فغادر الشم من أعلامها خنسا خلا له الجو فامتدت يداه إلى إدراك ما لم تطأ رجلاه مختلسا وأكثر الزعم بالتثليث منفرداً ولو رأى راية التوحيد ما نبسا صل حبلها أيها المولى الرحيم فما أبقى المراس لها حبلاً ولامرسا وأحي ما طمست منها العداة كما أحييت من دعوة المهدي ما طمسا أيام صرت لنصر الحق مستبقاً وبت من نور ذاك الهدي مقتبسا وقمت فيها بأمر الله منتصراً كالصارم اهتز أو كالعارض انبجسا تمحو الذي كتب التجسيم من ظلم والصبح ماحية أنواره الغلسا وتقتضي الملك الجبار مهجته يوم الوغى جهرة لا ترقب الخلسا هذي رسائلها تدعوك من كثب وأنت أفضل مرجو لمن يئسا وافتك جارية بالنجح راجية منك الأمير الرضى والسيد الندسا خاضت خضارة (1) يعليها ويخفضها ... عبابه فتعاني اللين والشرسا وربما سبحت والريح عاتية كما طلبت بأقصى شده الفرسا تؤم يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص مقبلة من تربه القدسا ملك تقلدت الأملاك طاعته ديناً ودنيا فغشاها الرضى لبسا من كل غاد على يمناه مستلماً وكل صاد إلى نعماه ملتمسا مؤيد لو رمى نجماً لأثبته ولو دعا أفقاً لبى وما احتبسا تالله إن الذي ترجى السعود له ما جال في خلد يوماً ولا هجسا إمارة يحمل المقدار رايتها ودولة عزها يستصحب القعسا

_ (1) خضارة: البحر.

يبدي النهار بها من ضوئه شنباً ويطلع الليل من ظلمائه لعسا ماضي العزيمة والأيام قد نكلت طلق المحيا ووجه الدهر قد عبسا كأنه البدر والعلياء هالته تحف من حوله شهب القنا حرسا تدبيره وسع الدنيا وما وسعت وعرف معروفه واسى الورى وأسا قامت على العدل والإحسان دولته وأنشرت من وجود الجود ما رمسا مبارك هديه باد سكينته ما قام إلا إلى حسنى وما جلسا قد نوره الله بالتقوى بصيرته فما يبالي طروق الخطب ملتبسا برى العصاة وراش الطائعين فقل في الليث مفترساً والغيث مرتجسا ولم يغادر على سهل ولا جبل ... حياً لقاحاً (1) إذا وافيته بخسا فرب أصيد لا تلفي به صيداً ورب أشوس لا تلقى له شوسا إلى الملائك ينمى والملوك معاً في نبعة أثمرت للمجد ما غرسا من ساطع النور صاغ الله جوهره وصان صيقله أن يقرب الدنسا له الثرى والثريا خطتان فلا أعز من خطتيه ما سما ورسا حسب الذي باع في الأخطار يركبها إليه محياه أن البيع ما وكساد إن السعيد امرؤ ألقى بحضرته عصاه محتزماً بالعدل محترسا فظل يوطن من أرجائها حرماً وبات يوقد من أضوائها قبسا بشرى لعبد إلى الباب الكريم حدا ... آماله ومن العذب (2) المعين حسا كأنما يمتطي واليمن يصحبه من البحار طريقاً نحوه يبسا فاستقبل السعد وضاحاً أسرته من صفحة فاض منها النور وانعكسا وقبل الجود طفاحاً غواربه من راحة غاص فيها البحر وانغمسا يا أيها الملك المنصور أنت لها علياء توسع أعداء الهدى تعسا وقد تواترت الأنباء أنك من يحيي بقتل ملوك الصفر أندلسا

_ (1) الحي اللقاح: الذين لا يدينون للملوك. (2) ق: العد؛ والعد: البئر القديمة الغزيرة الماء.

طهر بلادك منهم إنهم نجس ... ولا طهارة مل لم تغسل (1) النجسا وأوطئ الفيلق الجرار أرضهم حتى يطأطئ رأساً كل من رأسا وانصر عبيداً بأقصى شرقها شرقت ... عيونهم أدمعاً تهمي زكا وخسا (2) هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت داء متى لم تباشر حسمه انتكسا فاملأ هنيئاً لك التأييد ساحتها جرداً سلاهب أو خطية دعسا واضرب لها موعداً بالفتح ترقبه لعل يوم الأعادي قد أتى وعسى فبادر السلطان بإعانتهم (3) ، وشحن الأساطيل بالمدد إليهم، من المال والأقوات والكسى، فوجدهم في هوة الحصار، إلى أن تغلب الطاغية على بلنسية، ورجع ابن الأبار بأهله إلى تونس، وكان تغلب العدو على بلنسية صلحاً يوم الثلاثاء السابع عشر لصفر من سنة ست وثلاثين وستمائة، فهزت هذه القصيدة من الملك عطف ارتياح، وحركت من جنانه أخفض جناح، ولشغفه بها وحسن موقعها منه أمر شعراء حضرته بمجاوبتها، فجاوبها غير واحد، وحال العدو بين بلنسية وبينه، وتعاهد أهلها مع النصراني على أن يسلمهم في أنفسهم، وذلك سنة سبع وثلاثين وستمائة، أعادها الله تعالى للإسلام. كتندة - 514 وقد كانت وقعة كتندة (4) على المسلمين قبل هذا التاريخ بمدة، وكتندة - ويقال قتندة بالقاف - من حيز دورقة من عمل سرقسطة من الثغر، وكانت

_ (1) قال المقري في الأزهار: " نغسل النجسا " هكذا ثبت بالنون كما رايته في بعض النسخ العتيقة وهو أصوب مما وقع بخط بعضهم بالتاء، لأن مثله لا يصلح للمخاطبات السلطانية، ولم يشتهر عند أكثر الناس إلا بالتاء، والصواب ما قدمته أنه بالنون، والله أعلم. (2) الزكا: الزوج، والخسا: الفرد. (3) انظر ابن عذاري 3: 344 - 345 (ط. المغرب) . (4) في الخبر عن وقعة كتندة راجع معجم أصحاب الصدفي (7 - 8) ومعجم ياقوت (قتندة) .

الهزيمة على المسلمين جبرهم الله تعالى، قتل فيها من المطوعة نحو من عشرين قتيلاً، ولم يقتل فيها من العسكر أحد، وكان على المسلمين الأمير إبراهيم بن يوسف بن تاشفين الذي ألف الفتح باسمه قلائد العقيان وكانت سنة أربع عشرة وخمسمائة، وممن حضرها الشيخ أبو علي الصدفي السابق الذكر، وقرينه في الفضل أبو عبد الله ابن الفراء خرجا غازيين، فكانا ممن فقد فيها. وقال غير واحد: إن العسكر انصرف مفلولاً إلى بلنسية، وإن القاضي أبا بكر ابن العربي كان ممن حضرها، وسئل مخلصه منها عن حاله، فقال: حال من ترك الخباء والعباء، بمعنى أنه ذهب جميع ما لديه. لوشة - 622 ودخل العدو لوشة سنة اثنتين وعشرين وستمائة (1) ، مع السيد أبي محمد البياسي في الفتنة التي كانت بينه وبين العادل، فعاثوا فيها أشد العيث، ثم ردها المسلمون إلى أن أخذت بعد ذلك كما يأتي. المرية - 542 ودخل العدو مدينة المرية يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، عنوة، وحكى أبو زكريا الجعيدي (2) عن أبي عبد الله بن سعاد الشاطبي المعمر أن أبا مروان ابن ورد أتاه في النوم شيخ عظيم الهيئة فرمى يديه في عضديه من خلفه، وهزه هزاً عنيفاً حتى أرعبه، وقال له قل:

_ (1) سنة 623 عند ابن عذاري (3: 249) . (2) الجعيدي هو يحيى بن زكريا بن علي بن يوسف الأنصاري البلنسي، توفي سنة 619 (التكملة رقم: 2063) . وفي ص: الحميدي، وهو خطأ.

ألا أيها المغرور ويحك لاتنم فلله في ذا الخلق أمر قد انبهم فلا بد أن يرزوا بأمر يسوءهم فقد أحدثوا جرماً على حاكم الأمم قال: وكان هذا في سنة أربعين وخمسمائة، فلم يمض إلا يسير حتى تغلب الروم على المرية في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، بعد تلك الرؤيا بعامين أو نحوهما، وهو مما حكاه ابن الأبار الحافظ في كتاب التكملة له. ترجمة الرشاطي وفي وقعة المرية هذه استشهد الرشاطي الإمام المشهور (1) ، وهو أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن خلف بن أحمد بن عمر، اللخمي الرشاطي، المريي، وكانت له عناية كبيرة بالحديث والرجال والرواة والتواريخ، وهو صاحب كتاب اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار أخذه الناس عنه، وأحسن فيه، وجمع وما قصر، وهو على أسلوب كتاب أبي سعد ابن السمعاني الحافظ المسمى الأنساب، وولد الرشاطي سنة 466 بقرية من أعمال مرسية يقال لها أوريواله - بفتح (2) الهمزة، وسكون الواو، وكسر الراء، وضم المثناة التحتية، وبعد الألف لام مفتوحة، وبعدها هاء - وتوفي شهيداً بالمرية عند تغلب العدو عليها صبيحة الجمعة العشرين من جمادى الأولىسنة 542. والرشاطي - بضم الراء، وفتح الشين الخففة - وذكر هو أن أحد أجداده كان في جسمه شامة كبيرة، وكانت حاضنته عجمية، فإذا لاعبته قالت: رشاطة (3) ، وكثر ذلك منها، فقيل له: الرشاطي؛ انتهى ملخصاً من وفيات الأعيان وبعضه بالمعنى.

_ (1) سقطت ترجمة الرشاطي من التكملة وهي وارد في معجم أصحاب الصدفي (رقم: 200) وابن خلكان 2: 291 - 292 وعنه ينقل المقري؛ وتذكرة الحفاظ: 1307. (2) ابن خلكان: بضم. (3) يعني Roseta.

استرداد المرية وضياعها نهائياً وبعد أخذ النصارى المرية هذه المرة رجعت إلى المسلمين، واستنقذها الله تعالى على يد الموحدين، وبقيت بأيدي أهل الإسلام سنين، وكان أول الولاة عليها حين استولى عليها أمير المسلمين عبد المؤمن بن علي رجلاً يقال له يوسف بن مخلوف، فثار عليه أهل المرية وقتلوه وقدموا على أنفسهم الرميمي، فأخذها النصارى منه عنوة كما ذكرنا، وأحصي عدد من سبي من أبكارها فكان أربعة عشر ألفاً. وقال ابن حبيش (1) آخر الحفاظ بالأندلس: كنت في وقعة المرية لما وقع الاستيلاء عليها أعادها الله تعالى للإسلام، فتقدمت إلى زعيم الروم السليطين، وهو ابن بنت الأذفونش، وقلت له: إني أحفظ نسبك منك إلى هرقل، فقال لي: قل، فذكرته له، فقال لي: اخرج أنت وأهلك ومن معك طلقاء بلا شيء. وابن حبيش شيخ ابن دحية وابن حوط الله وأبي الربيع الكلاعي، رجمهم الله تعالى. ولما أخذت المرية أقبل إليها السيدان أبو حفص وأبو سعيد ابنا أمير المؤمنين فحصرا النصارى بها، وزحف إليهما أبو عبد الله ابن مردنيش ملك شرق الأندلس محارباً لهما، فكانا يقاتلان النصارى والمسلمين داخلاً وخارجاً، ثم رأى ابن مردنيش العار على نفسه في قتالهم مع كونهم يقاتلون النصارى، فارتحل، فقال النصارى: ما رحل ابن مردنيش إلا وقد جاءهم مدد، فاصطلحوا، ودخل الموحدون المدينة، وقد خربت وضعفت، إلى أن أحيا رمقها الرئيس أبو العباس أحمد بن كمال، وذلك أن أخته أخذت سبية في دخلة عبد المؤمن

_ (1) يعني أبا القاسم الإمام الحافظ عد الرحمن بن الأنصاري نزيل مرسية، وحبيش هو خاله نسب إليه، ولد بالمرية سنة 504 وتوفي سنة 584 وقد ترجم له كل من ابن الأبار (رقم: 1617) وابن الزبير (انظر تذكرة الحفاظ: 1353) .

لبجانة، فاحتلت بقصره واعتنت بأخيها، فولاه بلده، فصلح به حالها، وكان جواداً حسن المحاولة كثير الرفق، واشتهر من ولاتها في مدة بني عبد المؤمن في المائة السابعة الأمير أبو عمران ابن أبي حفص عم ملك إفريقية أبي زكريا. ولما كانت سنة خمس وعشرين وستمائة وثارت الأندلس على مأمون بني عبد المؤمن بسبب قيام ابن هود بمرسية قام في المرية بدعوة ابن هود أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي يحيى ابن الرميمي، وجده أبو يحيى هو الذي أخذها النصارى من يده، ولما قام بدعوة ابن هود وفد عليه بمرسية وولاه وزارته، وصرف إليه سياسته، وآل أمره معه إلى أن أغراه بأن يحصن قلعة مرية، ويجعلها له عدة، وهو يبغي ذلك عدة لنفسه، وترك ابن هود فيها جارية تعلق ابن الرميمي بها، واجتمع معها، فبلغ ذلك ابن هود، فبادر إلى المرية، وهو مضمر الإيقاع بابن الرميمي، فتغدى به قبل أن يتعشى به، وأخرج من قصره ميتاً، ووجهه في تابوت إلى مرسية في البحر، واستبد ابن الرميمي بملك المرية، ثم ثار عليه ولده، وآل الأمر بعد أحوال إلى أن تملكها ابن الأحمر صاحب غرناطة، وبقيت في يد أولاده بعده إلى أن أخذها العدو الكافر عندما طوي بساط بلاد الأندلس كما سننبه عليه، والله غالب على أمره. شعر في العقاب وما أحسن قول أبي إسحاق إبراهيم بن الدباغ الإشبيلي في هزيمة العقاب بإشبيلية: وقائلة أراك تطيل فكراً كأنك قد وقفت إلى الحساب فقلت لها أفكر في عقاب غدا سبباً لمعركة العقاب فما في أرض أندلس مقام وقد دخل البلا من كل باب

ابن وزير وقول القائد أبي بكر ابن الأمير ملك شلب أبي محمد عبد الله (1) بن وزير يخاطب منصور بني عبد المؤمن وقد التقى هو وأصحابه مع جماعة من الفرنج فتناصفوا، ثم كان الظفر للمسلمين: ولما تلاقينا جرى الطعن بيننا فمنا ومنهم طائحون عديد وجال غرار الهند فينا وفيهم فمنا ومنهم قائم وحصيد فلا صدر إلا فيه صدر مثقف وحول الوريد للحسام ورود صبرنا ولا كهف سوى البيض والقنا كلانا على حر الجلاد جليد ولكن شددنا شدة فتبلدوا ومن يتبلد لا يزال يحيد فولوا وللسمر الطوال بهامهم ركوع وللبيض الرقاق سجود وكان المذكور من فرسان الأندلس، وكان ابنه الفاضل أبو محمد غير مقصر عنه فروسية وقدراً وأدباً وشعراً، وولاه ناصر بني عبد المؤمن مدينة قصر أبي دانس في الجهة الغربية، وقتله ابن هود بإشبيلية، وزعم أنه يروم القيام عليه، ومن شعره قوله في ابن عمرو صاحب أعمال إشبيلية: لا تيأسن من الخلافة بعدما ولي ابن عمرو خطة الأشراف تباً لدهر هذه أفعاله يضع النوافج في يدي كناف ضياع ماردة رجع - ودخل العدو كورة ماردة من محمد بن هود سنة ست وعشرين

_ (1) قد قدمت التعليق على هذا الاسم، وهو أبو بكر ابن أبي محمد سيداري بن عبد الوهاب بن وزير القيسي؛ ومن بني وزير عبد الله بن وزير الذي كان يدافع عن حصن أبي دانس لما كان البرتغاليون يحاولون الاستيلاء عليه سنة 614.

وستمائة، وكانت مفتتح المصائب على يده، أعادها الله تعالى للإسلام، وهي قاعدة بلاد الجوف في مدة العرب والعجم، والحضرة المستجدة بعدها هي مدينة بطليوس، وبين ماردة وقرطبة خمسة أيام. المظفر وابنه المتوكل وملك بطليوس وماردة وما إليها المظفر بن المنصور بن الأفطس مشهور، وهو من رجال القلائد والذخيرة وهو أديب ملوك عصره بلا مدافع ولا منازع، وله التصنيف الرائق، والتأليف الفائق، المترجم بالتذكر المظفري خمسون مجلداً اشمل على فنون وعلوم من مغاز وسير ومثل وأخبار وجميع علوم الأدب، وقال يوماً: والله ما يمنعني من إظهار الشعر إلا كوني لا أقول مثل قول أبي العشائر ابن حمدان (1) : أقرأت منه ما تخط يد الوغى والبيض تشكل والأسنة تنقط وقول أبي فراس ابن عمه (2) : وجررنا العوالي في مقام (3) ... تحدث عنه ربات الحجال كأن الخيل تعلم من عليها ففي بعض على بعض تعالى فأين هذا من قولي: أنفت من المدام لأن عقلي أعز علي من أنس المدام ولم أرتح إلى روض وزهر ولكن للحمائل والحسام

_ (1) يتيمة الدهر 1: 210. (2) ديوان أبي فراس: 284. (3) الديوان: وعدت أجر رمحي عن مقام.

إذا لم أملك الشهوات قهراً ... فلم أبغي الشفوف على الأنام (1) وله رحمه الله تعالى: يا لحظه زد فتوراً تزد علي اقتدارا فالحظ كالسيف أمضا هـ ما يرق غرارا وابنه المتوكل من رجال القلائد والمسهب وكان في حضرة بطليوس كالمعتمد بن عباد بإشبيلية، قد أناخت الآمال بحضرتهما، وشدت رحال الآداب إلى ساحتهما، يتردد أهل الفضائل بينهما كتردد النواسم بين جنتين، وينظر الأدب منهما عن مقلتين، والمعتمد أشعر، والمتوكل أكتب. شعر لأبي عبد الله الفازازي رجع - وقال الفاضل الكاتب أبو عبد الله محمد الفازازي، وقيل: إنها وجدت برقعة في جيبه يوم موته: الروم تضرب في البلاد وتغنم والجور يأخذ ما بقي والمغرم والمال يورد كله قشتالة والجند تسقط والرعية تسلم وذوو التعين ليس فيهم مسلم إلا معين في الفساد مسلم أسفي على تلك البلاد وأهلها الله يلطف بالجميع ويرحم وقيل: إن هذه الأبيات رفعت إلى سلطان بلده، فلما وقف عليها قال بعدما بكى: صدق رحمه الله تعالى، ولو كان حياً ضربت عنقه.

_ (1) سقط البيت من ص.

ترجمة أبي زيد الفازازي وهذا الفازازي أخو الشاعر الشهير الكاتب الكبير أبي زيد عبد الرحمن الفازازي (1) صاحب الأمداح في سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، وهو كما قال فيه بعضهم: صاحب القلم الأعلى، والقدح المعلى، أبرع من ألف وصنف، وأبدع من قرط وشنف، فقد طاع القلم لبنانه، والنظم والنثر لبيانه، كان نسيج وحده رواية وأخباراً، ووحيد نسجه روية وابتكاراً، وفريد وقته خبراً وإخباراً، وصدر عصره إيرادا وإصدرًا، صاحب فهوم، ورافع ألوية علوم، أما الأدب فلا يسبق فيه مضماره، ولا يشق غباره، إن شاء إنشاء أنشى ووشى، سائل الطبع، عذب النبع، له في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، بدائع قد خضع لها البنيان وسلم، أعظم تلك المعجزات نظماً ونثراً، وأوجز في تحبير تلك الآيات البينات فجلا سحراً، ورفع للقوافي راية استظهاراً تخير فيه الأظهر، فعجم وعشر وشفع وأوتر، وأما الأصول فهي من فروعه، في متفرق منظومه ومنثور مجموعه، واما النسب، فإلى حفظه انتسب، وأما الأيام والدول، ففي تاريخه الأواخر والأول، وقد سبك من هذه العلوم في منثوره وموزونه، ما يشهد بإضافتها إلى فنونه، وله سماع في الحديث ورواية، وفهم بقوانينه ودراية، سمع من أبي الوليد بن عبد الرحمن بن بقي القاضي، ومن أبي الحسن جابر بن أحمد القرشي التاريخي، وهو آخر من حدث عنه، ومن أبي عبد الله التجيبي كثيراً وهو أول من سمع عنه في حياة الحافظ أبي الطاهر السلفي إذ قدم عليهم تلمسان، وأجازه الحافظ السهلي وابن خلف

_ (1) هو عبد الرحمن بن يخلفتن بن أحمد اليجنشي الفازازي، ولد بقرطبة ونشأ بها ثم سكن تلمسان، وكان عالماً بالحديث متصرفاً في فنونه، كاتباً شاعراً مجوداً، مشاركاً في أصول الفقه، ذا معرفة بعلم الكلام، تجول ببلاد العدوة والأندلس كثيراً، وغلب عليه شعر الزهد والتصوف (التكملة رقم: 1641) .

الحافظ وغيرهما، وولد بعد الخمسين والخمسمائة، وتوفي في مراكش سنة 637، رحمه الله تعالى، انتهى ملخصاً. سقوط ميورقة عن ابن عميرة رجع - ولما ثارت الأندلس على طائفة عبد المؤمن كان الوالي بجزيرة ميورقة أبو يحيى ابن أبي عمران التينمللي (1) فأخذها الفرنج منه، كذا قال ابن سعيد، وقال ابن الأبار: إنها أخذت يوم الاثنين الرابع عشر من صفر سنة سبع وعشرين وستمائة. وقال المخزومي في تاريخ ميورقة (2) : إن سبب أخذها من المسلمين أن أميرها محمد بن علي بن موسى كان في الدولة الماضية أحد أعيانها، ووليها سنة ست وستمائة، واحتاج إلى الخشب المجلوب من اليابسة، فأنفذ طريدة بحرية وقطعة حربية، فعلم بها والي طرطوشة، فجهز إليها من أخذها، فعظم ذلك على الوالي، وحدث نفسه بالغزو لبلاد الروم، وكان ذلك رأياً مشؤوماً، ووقع بينه وبين الروم، وفي آخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وستمائة بلغه أن مسطحاً من برشلونة (3) ظهر على يابسة، ومركباً آخر من طرطوشة انضم إليه، فبعث ولده في عدة قطع إليه حتى نزل مرسى يابسة، ووجد فيه لأهل جنوة مركباً كبيراً، فأخذه وسار حتى وصل إلى المسطح، فقاتله وأخذه، وظن أنه غاب الملوك، وغاب عنه أنه أشأم من عاقر الناقة (4) ، وأن الروم لما بلغهم الخبر

_ (1) ق: التيفلي. (2) هو أبو المطرف ابن عميرة المخزومي، وقد ألف كتاباً في كائنة ميورقة قال فيه ابن عبد الملك: إنه نحا فيه منحى العماد في الفتح القمي، فالمقري هنا يلخص وينقل بتصرف. (انظر كتاب " أبو المطرف ابن عميرة " للأستاذ بن شريفة 287 - 291) . (3) ص: برجلونة. (4) هو قدار الذي يضرب به المثل في الشؤم.

قالوا لملكهم وهو من ذرية أذفونش: كيف يرضى الملك بهذا الأمر ونحن نقاتل بنفوسنا وأموالنا فأخذ عليهم العهد بذلك، وجمع عشرين ألفاً من أهل البلاد، وجهز في البحر ستة عشر ألفاً، وشرط عليهم حمل السلاح، وفي سنة ست وعشرين وستمائة اشتهر أمر هذه الغزوة فاستعد لها الوالي، وميز نيفاً على ألف فارس من فرسان الحضر والرعية مثلهم، ومن الرجالة ثمانية عشر ألفاً، وذلك في شهر ربيع الأول من السنة، ومن سوء الاتفاق أن الوالي أمر صاحب شرطته أن يأتيه بأربعة من كبراء المصر، فساقهم وضرب أعناقهم، وكان فيهم ابنا خاله، وخالهما أبو حفص ابن سيري ذو المكانة الوجيهة، فاجتمعت الرعية إلى ابن سيري، فأخبره بما نزل، وعزوه فيمن قتل وقالوا: هذا أمر لا يطاق، ونحن كل يوم إلى الموت نساق، وعاهدوه على طلب الثأر، وأصبح الوالي يوم الجمعة منتصف شوال، والناس من خوفه في أهوال، ومن أمر العدو في إهمال، فأمر صاحب شرطته بإحضار خمسين من أهل الوجاهة والنعمة فأحضرهم، وإذا بفارس على هيئة النذير دخل إلى الوالي، وأخبره بأن الروم قد أقبلت، وأنه عد فوق الأربعين من القلوع، وما فرغ من إعلامه حتى ورد آخر من جانب آخر وقال: إن أسطول العدو قد تظاهر، وقال: إنه عد سبعين شراعاً، فصح الأمر عنده، فسمح لهم بالصفح والعفو، وعرفهم بخبر العدو، وأمرهم بالتجهز، فخرجوا إلى دورهم، كأنما نشروا من قبورهم، ثم ورد الخبر بأن العدو قرب من البلد، فإنهم عدوا مائة وخمسين قلعاً، ولما عبر وقصد المرسى أخرج الوالي جماعة تمنعهم النزول، فباتوا على المرسى في الرجل والخيل، وفي الثامن عشر من شوال وهو يوم الاثنين وقع المصاف، وانهزم المسلمون، وارتحل النصارى إلى المدينة، ونزلوا منها على الحريبة الحزينة من جهة باب الكحل، ولم يزل الأمر في شدة وقد أشرفوا على أخذ البلد، ولما رأى ابن سيري (1) أن العدو قد استولى على البلد خرج

_ (1) ق: ابن شيري.

إلى البادية، ولما كان يوم الجمعة الحادي عشر من صفر قاتلوا البلد قتالاً شديداً، ولما كان يوم الأحد لأخذ البلد، وأخذ منه أربعة وعشرون ألفاً قتلوا على دم واحد، وأخذ الوالي وعذب، وعاش بعد ذلك خمسة وأربعين يوماً، ومات تحت العذاب، وأما ابن سيري فإنه صعد إلى الجبل، وهو منيع لا ينال ون تحصن فيه، وجمع عنده ستة عشر ألف مقاتل، وما زال يقاتل إلى أن قتل يوم الجمعة، عاشر ربيع الآخر سنة 628، وجده من آل جبلة بن الأيهم الغساني، وأما الحصون فأخذت في آخر رجب سنة 628، وفي شهر شعبان لحق من نجا من المسلمين إلى بلاد الإسلام، انتهى ما ذكره ابن عميرة المخزومي ملخصاً. وكان بميورقة جماعة أعلام وشعراء، ومن شعر ابن عبد الولي الميورقي (1) : هل أمان من لحظك الفتان وقوام يميل كالخيزران مهجتي منك في جحيم، ولكن جفوني قد متعت في جناني فتنتني لواحظ ساحرات لست أخشى من فتنة الشيطان سعيد بن حكم في ميورقة ولما استولى النصارى على ميورقة في التاريخ المتقدم سار بجزيرة منورقة، وهي قريبة منها، الجواد العادل العالم أبو عثمان سعيد بن حكم القرشي، وكان وليها من قبل الوالي أبي يحيى المقتول، وتصالح مع النصارى على ضريبة معلومة، واشترط أن لا يدخل جزيرته أحد من النصارى، وضبطها أحسن ضبط، قال أبو الحسن علي بن سعيد: أخبرني أحد من اجتمع به أنه لقي منه براً حبب إليه الإقامة في تلك الجزيرة المنقطعة، وذكر أنه ركب معه فنظر إلى حمالة سيف

_ (1) ترجمته وشعره في المغرب 2: 468.

ضيقة وقد أثرت في عنقه، فأمر له بإحسان وغنباز، وكتب معه: حمالة السيف توهي جيد حاملها لا سيما يوم إسراع وإنجاز وخير ما استعمل الإنسان يومئذ لحسم علتها إلباس غنباز والغنباز عند أهل المغرب صنف من الملبوس غليظ يستر العنق. وأصل أبي عثمان من مدينة طبيرة من غرب الأندلس، وقد ألفت باسمه التآليف المشهورة بالمغرب ككتاب روح الشحر وروح الشعر وغيره، وأخذ العدو منورقة بعد مدة. سقوط عدة مدن وأخذ العدو جزيرة شقر صلحاً سنة 639 في آخرها. وأخذ العدو - دمره الله تعالى - مدينة سرقسطة يوم الأربعاء لأربع خلون من رمضان سنة اثني عشرة وخمسمائة. وكان استيلاء الإفرنج على شرق الأندلس شاطبة وغيرها وإجلاءهم من يشاركهم من المسلمين فيما تغلبوا عليه منها في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة. وكان استيلاء العدو - دمره الله تعالى - على مدينة قرطبة يوم الأحد الثالث والعشرين لشوال من سنة ست وثلاثين وستمائة. وكان تملك العدو مرسية صلحاً ظهر يوم الخميس العاشر من شوال، قدم أحمد بن محمد بن هود ولد والي مرسية بجماعة من وجوه النصارى فملكهم إياها صلحاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وحصر العدو إشبيلية سنة خمس وأربعين وستمائة. وفي يوم الاثنين الخامس من شعبان للسنة بعدها ملكها الطاغية صاحب قشتالة صلحاً بعد منازلتها حولاً كاملاً وخمسة أشهر أو نحوها. وقال ابن الأبار في ترجمة أبي علي الشلوبين من التكملة

ما صورته: وتوفي بين يدي منازلة الروم إشبيلية ليلة الخميس منتصف صفر سنة خمس وأربعين وستمائة، وفي العام القابل ملكها الروم. موقعة أنيشة - 634 ترجمة أبي الربيع ابن سالم وكانت وقعة أنيجة (1) التي قتل بها الحافظ أبو الربيع الكلاعي رحمه الله تعالى يوم الخميس لعشر بقين من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وستمائة، ولم يزل رحمه الله تعالى متقدماً أمام الصفوف زحفاً إلى الكفار مقبلاً على العدو ينادي بالمنهزمين: أعن الجنة تفرون حتى قتل صابراً محتسباً برد الله تعالى مضجعه، وكان دائماً يقول: إن منتهى عمره سبعون سنة لرؤيا رآها في صغره، فكان كذلك، ورثاه تلميذه الحافظ أبو عبد الله ابن الأبار بقصيدته الميمية الشهيرة التي أولها (2) : ألما بأشلاء العلا والمكارم تقد بأطراف القنا والصوارم وعوجا عليها مأرباً وحفاوة (3) ... مصارع خصت بالطلى والجماجم نحيي وجوهاً في الجنان وجيهة [بما لقيت حمراً وجوه الملاحم] [وأجساد إيمان كساها نجيعها] (4) ... مجاسد من نسج الظبي واللهاذم وهي طويلة. ومن شعر الحافظ أبي الربيع المذكور (5) :

_ (1) انظر الروض المعطار: (أنيشة) . (2) أوردها ابن عبد الملك في الذيل 4: 90 - 95. (3) الأصول: ومفازة. (4) صوبناه عن الذيل بزيادة ما بين معقفين. (5) الذيل والتكملة 4: 88.

تولت ليال للغواية جون ووافى صباح للرشاد مبين ركاب شباب أزمعت عنك رحلة وجيش مشيب جهزته منون ولا أكذب الرحمن فيما أجنه وكيف ولا يخفى عليه جنين ومن لم يخل أن الرياء يشينه فمن مذهبي أن الرياء يشين لقد ريع قلبي للشباب وفقده كما ريع بالعلق الفقيد ضنين وآلمني وخط المشيب بلمتي فخطت بقلبي للشجون فنون وليل شبابي كان أنضر منظراً وآنق مهما لاحظته عيون فآهاً على عيش تكدر صفوه وأنس خلا منه صفا وحجون ويا ويح فودي أو فؤادي كلما تزيد شيبي كيف بعد يكون حرام على قلبي سكون بغرة (1) ... وكيف مع الشيب الممض سكون وقالوا شباب المرء شعبة جنة فما لي عراني للمشيب جنون وقالوا شجاك الشيب حدثان ما أتى ولم يعلموا أن الحديث شجون وقوله (2) : أمولى الموالي ليس غيرك مولى ... وما أحد يا رب منك بذا (3) أولى تبارك وجه وجهت نحوه المنى فأوزعها شكراً وأوسعها طولا وما هو إلا وجهك الدائم الذي أقل حلى عليائه يخرس القولا تبرأت من حولي إليك وقوتي فكن قوتي في مطلبي وكن الحولا وهب لي من الرضا ما لي سوى ذاك مبتغى ولو لقيت نفسي على نيله الهولا وكان - رحمه الله تعالى - حافظاً للحديث، ومبرزاً في نقده تام المعرفة

_ (1) الذيل: يفره. (2) الذيل: 87. (3) ق: بنا.

بطرقه، ضابطاً لأحكام أسانيده، ذاكراً لرجاله، ريان من الأدب، خطب ببلنسية، واستقضى، وكان مع ذلك من أولي الحزم والبسالة والإقدام والجزالة، حضر الغزوات وباشر القتال بنفسه وأبلى بلاء حسناً، وروى عن أبي القاسم ابن حبيش وطبقته، وصنف كتباً منها مصباح الظلم في الحديث، والأربعون عن أربعين شيخاً لأربعين من الصحابة، والأربعون السباعية والسباعيات من حديث الصدفي، وحلية الأمالي في الموافقات والعوالي و " تحفة الوراد ونجعة الرواد " (1) والمسلسلات والإنشادات وكتاب الاكتفاء في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازي الثلاثة الخلفاء، وميدان السابقين وحلبة الصادقين المصدقين في غرض كتاب الاستيعاب، ولم يكمله، والمعجم فيمن وافقت كنيته [كنية] زوجه من الصحابة، والإعلام بأخبار البخاري الإمام والمعجم في مشيخة أبي القاسم ابن حبيش، و " برنامج رواياته " (2) وجنى الرطب في سني الخطب ونكتة الأمثال ونفثة السحر الحلال، و " جهد النصيح (3) في معارضة المعري في خطبة الفصيح "، والامتثال لمثال المبهج في ابتداع الحكم واختراع الأمثال ومفاوضة القلب العليل ومنابذة الأمل الطويل بطريقة المعري في ملقى السيل، ومجاز فتيا اللحن للاحن الممتحن مائة مسألة ملغزة، ونتيجة الحب الصميم وزكاة المنثور والمنظوم في مثال النعل النبوية على لابسها أفضل الصلاة والسلام، قال ابن رشيد: لو قال وزكاة النثير والنظيم لكان أحسن، وله كتاب الصحف المنشرة في القطع المعشرة وديوان رسائل سفر، وديوان شعره سفر (4) ، وكتب إلى الأديب الشهير أبي بحر صفوان بن إدريس المرسي عقب انفصاله من

_ (1) سماه ابن عبد الملك: تحفة الرواد في العوالي والاضداد. (2) الذيل: مروياته. (3) الذيل: وجهد النصيح وحظ المنيح. (4) الذيل: سفير.

بلنسية سنة 587: أحن إلى نجد ومن حل في نجد وماذا يغني حنيني أو يجدي وقد أوطنوها وادعين وخلفوا محبهم رهن الصبابة والوجد تبين بالبين اشتياقي إليهم ... ووجدي فساوى ما أجن الذي أبدي (1) وضاقت علي الأرض حتى كأنها وشاح على بخصر أو سوار على زند إلى الله أشكو مما ألاقي من الجوى وبعض الذي لاقيته من جوى يردي فراق أخلاء وصد أحبة كأن صروف الدهر كانت على وعد فيا سرحتي نجد، نداء متيم له أبداً شوق إلى سرحتي نجد ظمئت فهل طل يبرد لوعتي ضحيت فهل ظل يسكن من وجدي ويا زمناً قد بان غير مذمم لعل لأنس قد تصرم من رد ليالي نجني الأنس من شجر المنى ونقطف زهر الوصل من شجر الصلد وسقياً لإخوان بأكناف حاجز كرام السجايا لا يحولون عن عهد وكم لي بنجد من سري ممجد ولا كابن إدريس أخي البشر والمجد أخو همة كالزهر في بعد نيلها وذو خلق كالزهر غب الحيا العد تجمعت الأضداد فيه حميدة فمن خلق سبط ومن حسب جعد أيا راحلاً أودى بصبري رحيله وفلل من عزمي وثلم من حدي أتعلم ما يلقى الفؤاد لبعدكم ألا مذ نأيتم ما يعيد ولا يبدي فيا ليت شعري هل تعود لنا المنى وعيش كما نمنمت حاشيتي برد عسى الله أن يدني السرور بقربكم فيبدو، ومنا الشمل منتظم العقد ابن العربي ومعركة 527 وقال القاضي أبو بكر ابن العربي في " أحكام القرآن " (2) عند تفسير

_ (1) ق: وما أبدي. (2) انظر أحكام القرآن ج 2: 943.

قوله تعالى انفروا خفافاً وثقالاً ما صورته: ولقد نزل بنا العدو - قصمه الله تعالى - سنة سبع وعشرين وخمسمائة، فجاس ديارنا، وأسر جيرتنا، وتوسط بلادنا في عدد حدد الناس عدده فكان كثيراً، وإن لم يبلغ ما حددوه، فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدو الله قد في الششرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتكن منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج عليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار، فيحاط به، فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له، فغلبت الذنوب، ورجفت بالعاصي القلوب، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وجاره، وإن رأى المكيدة بجاره، فإن لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، عنوان على النهايات. قصيدة الوقشي في مدح أبي يعقوب وقال أبو جعفر الوقشي البلنسي (1) نزيل مالقة يمدح أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي: أبت غير ماء بالنخيل ورودا وهامت به عذب الجمام برودا وقالت لحاديها أثم زيادة على العشر في وردي له فأزيدا غلبتك ما هذا القنوع وما أنا عهدتك لا تثنين عنه وريدا أنوناً إذا ما كنت منه قريبة وضباً إذا ما كان عنك بعيداً ردي حضرة الملك الظليل رواقه لعمري ففيها تحمدين ورودا بحيث إمام الدين يوسع فضله جميع البرايا مبدئاً ومعيدا

_ (1) البلنسي: سقطت من ق؛ وقد كان أبو جعفر الوقشي وزيراً لابن همشك، وهو ممدوح الرصافي البلنسي.

أعاد إليها الأنس بعد شروده وأحيا لنا ما كان منه أبيدا ولين أيام الزمان بعدله وكانت حديداً في الخطوب حديدا فلا ليلة إلا يروقك حسنها ولا يوم إلا عاد يفضل عيدا ومنها يصف حال الأندلس ويبعث على الجهاد: ألا ليت شعري هل يمد لي المدى فأبصر شمل المشركين طريدا وهل بعد يقضى بالنصارى بنصرة تغادرهم للمرهفات حصيدا ويغزو أبو يعقوب في شنت ياقب يعيد عميد الكافرين عميدا ويلقي على إفرنجهم عبء كلكل فيتركهم فوق الصعيد هجودا يغادرهم جرحى وقتلى مبرحاً ركوعاً على وجه الفلا وسجودا ويفتك من أيدي الطغاة نواعماً تبدلن من نظم الحجول قيودا وأقبلن في خشن المسوح وطالما سحبن من الوشي الرقيق برودا وغبر منهن التراب ترائباً وخدد منهن الهجير خدودا فحق لدمعي أن يفيض لأزرق تملكها دعج المدامع سودا ويا لهف نفسي من معاصم طفلة تجاور بالقد الأليم نهودا ويا أسفاً ما إن يزال مردداً على شمل أعياد أعيد بديدا وآهاً تمد الصوت منتحباً على خلو ديار لو يكون مفيدا وقال في آخرها، وهو مما استحسنه الناس: حملت من نظامي قلادة يلقبها أهل الكلام قصيدا غدت يوم إنشاء القريض وحيدة كما قصدت في المعلوات وحيدا ولما تمهدت الأندلس اعبد المؤمن وبنيه كان لهم فيها وقائع مع عدو الدين، واجتاز إليها عبد المؤمن. ثم لما ولي بعده ملكه ابنه يوسف دخل الأندلس سنة 566، وفي صحبته مائة ألف فارس من العرب الموحدين، فنزل في إشبيلية

فخافه الأمير أبو عبد الله محمد بن سعد بن مردنيش صاحب شرق الأندلس: مرسية وأعمالها وما انضاف إليها، فحمل على قلبه فمرض ومات، وشرع السلطان يوسف في استرجاع بلاد المسلمين من أيدي الفرنج، فاتسعت مملكته في الأندلس، وأغارت سراياه على طليطلة إذ هي قاعدة ملكهم، ثم إنه حاصرها فاجتمعت الفرنج عليه، واشتد الغلاء في عسكره، فرحل عنها وعاد إلى حضرة ملكه مراكش المحروسة. قصيدة في استنهاض الحفصي بعد سقوط بلنسية ولم يزال أهل الأندلس بعد ظهور النصارى - دمرهم الله تعالى - على كثير منها يستنهضون عزائم الملوك والسوقة لأخذ الثأر، بالنظم والنثار، فلم ينفعهم ذلك حتى اتسع الخرق، وأعضل الداء أهل الغرب والشرق، فمن القصائد الموجهة في ذلك قول بعضهم لما أخذت بلنسية يخاطب إفريقية أبا زكريا ابن عبد الواحد بن أبي حفص: نادتك أندلس فلب نداءها واجعل طواغيت الصليب فداءها صرخت بدعوتك العلية فاحبها من عاطفتك ما يقي حوباءها واشدد بجلبك جرد خيلك أزرها تردد على أعقابها أرزاءها هي دارك القصوى أوت لإيالة ضمنت لها مع نصرها إيواءها وبها عبيدك لا بقاء لهم سوى سبل الضراعة يسلكون سواءها خلعت قلوبهم هناك عزاءها لما رأت أبصارهم ما سواها دفعوا لأبكار الخطوب وعونها فهم الغداة يصابرون عناءها وتنكرت لهم الليالي فاقتضت سراءها وقضتهم ضراءها تلك الجزيرة لا بقاء لها إذا لم يضمن الفتح القريب بقاءها رش أيها المولى الرحيم جناها واعقد بأرشية النجاة رشاءها

أشفى على طرف الحياة ذماؤها فاستبق للدين الحنيف ذماءها حاشاك أن تفنى حشاشها وقد قصرت عليك نداءها ورجاءها طافت بطائفة الهدى آمالها ترجو بيحيى المرتضى إحياءها واستشرفت أمصارها لإمارة عقدت لنصر المستضام لواءها يا حسرتي لعقائل معقولة سئم الهدى نحو الضلال هداءها إيه بلنسية وفي ذكراك ما يمري الشؤون دماءها لا ماءها كيف السبيل إلى احتلال معاهد شب الأعاجم دونها هيجاءها وإلى ربى وأباطح لم تعر من حلل الربيع مصيفها وشتاءها طاب المعرس والمقيل خلالها وتطلعت غرر المنى أثناءها بأبي مدارس كالطول دوارس نسخت نواقيس الصليب نداءها ومصانع كسف الضلال صباحها فيخاله الرائي إليه مساءها راحت بها الورقاء تسمع شدوها وغدت ترجع نوحها وبكاءها عجباً لأهل النار حلوا جنة منها تمد عليهم أفياءها أملت لهم فتعجلوا ما أملوا أيامهم لا سوغوا إملاءها بعداً لنفس أبصرت إسلامها فتوكفت عن حزبها إسلاءها أما العلوج فقد أحالوا حالها فمن المطيق علاجها وشفاءها أهدى إليها بالمكاره جارح للكفر كره ماؤه وهواؤه وكفى أسى أن الفواجع جمة فمتى يقاوم أسوها أسواءها هيهات في نظر الإمارة كف ما تخشاه، ليت الشكر كان كفاءها مولاي هاك معادة أنباءها لتنيل منك سعادة أبناءها جرد ظباك لمحو لآثار العدا تقتل ضراغمها وتسب ظباءها واستدع طائفة الإمام لغزوها تسبق إلى أمثالها استدعاءها لا غرو أن يعزي الظهور لملة لم يبرحوا دون الورى ظهراءها إن الأعاجم للأعارب نهبة مهما أمرت بغزوها أحياءها

تالله لو دبت لها دبابوها لطوت عليها أرضها وسماءها ولو استقلت عوفها لقتالها لاستقبلت بالمقربات عفاءها أرسل جوارحها تجئك بصيدها صيداً وناد لطحنها أرحاءها هبوا لها يا معشر التوحيد قد آن الهبوب وأحرزوا علياءها إن الحفائظ من خلالكم التي لا يرهب الداعي بهن خلاءها هي نكتة المحيا فحيهلا بها تجدوا سناها في غد وسناءها أولوا الجزيرة مصرة إن العدى تبغي على أقطارها استيلاء نقصت بأهل الشرك من أطرافها فاستحفظوا بالمؤمنين نماءها حاشاكم أن تضمروا إلغاءها في أزمة أو تضمروا إقصاءها خوضوا إليها بحرها يصبح لكم رهواً وجوبوا نحوها بيداءها وافى الصريخ مثوباً يدعو لها فلتجملوا قصد الثواب ثواءها دار الجهاد فلا تفتكم ساحة ساوت بها أحياؤها شهداءها هذي رسائلها تناجي بالتي وقفت عليها ريثها ونجاءها ولربما أنهت سوالب للنهى من كائنات حملت أنهاءها وفدت على الدار العزيزة تجتني آلاءها أو تجتلي آراءها مستسقيات من غيوث غياثها ما وقعه يتقدم استسقاءها قد أمنت في سبلها أهواءها إذا سوغت في ظلها أهواءها وبحسبها أن الأمير المرتضى مترقب بفتوحها آناءها في الله ما ينويه من إدراكها بكلاءة ليفدي أبي أكلاءها بشرى لأندلس تحب لقاؤه ويحب في ذات الله لقاءها صدق الرواة المخبرون بأنه يشفي ضناها أو يعيد رواءها إن دوخ العرب الصعاب مقادة وأبى عليها أن تطيع إباءها فكأن بفيلقه العرمرم فالقاً هام الأعاجم ناسفاً أرجاءها أنذرهم بالبطشة الكبرى فقد نذرت صوارمه الرقاق دماءها

لا يعدم الزمن انتصار مؤيد تتسوغ الدنيا به سراءها ملك أمد النيرين بنوره وأفاده لألاؤه لألاءها خضعت جبابرة الملوك لعزه ونضت بكف صغارها خيلاءها أبقى أبو حفص إمارته له فسما إليها حاملاً أعباءها سل دعوة المهدي عن آثارها تنبيك أن ظباها قمن إزاءها فغزا عداه واسترق رقابها وحمى حماها واسترد بهاءها قبضت يداه على البسيطة قبضة قادت له في قده أمراءها فعلى المشارق والمغارب ميسم لهداه شرف وسمه أسماءها تطمو بتونسها بحار جيوشه فيزور زاخر موجها زوراءها وسع الزمان فضاق عنه جلالة والأرض طراً ضنكها وفضاءها ما أزمع الإيغال في أكنافها إلا تصيد عزمه زعماءها دانت له الدنيا وشم ملوكها فاحتل من رتب العلا شماءها ردت سعادته على أدراجها ليل الزمان ونهنهت غلواءها إن يعتم الدول العزيزة بأسه فالآن يولي جوده إعطاءها تقع الجلائل وهو راس راسخ فيها يوقع للسعود جلاءها كالطود في عصف الرياح وقصفها لا رهوها يخشى ولا هوجاءها سامي الذوائب في أعز ذؤابة أعلت على قمم النجوم بناءها بركت بكل محلة بركاته شفعاً يبادر بذلها شفعاءها كالغيث صب على البسيطة صوبه فسقى عمائرها وجاد قواءها ينميه عبد الواحد الأراضي إلى عليا فتمنح بأسها وسخاءها في نبعة كرمت وطابت مغرساً وسمت وطالت نضرة نظراءها ظهرت لمحتدها السماء وجاوزت لسرادقات فخارها جوزاءها فئة كرام لا تكف عن الوغى حتى تصرع حولها أكفاءها وتكب في النار القرى فوق الذرى من عزة ألويها وكباءها

قد خلقوا الأيام طيب خلائق فثنت إليهم حمدها وثناءها ينضون في طلب النفائس أنفساً حبسوا على إحرازها إمضاءها وإذا انتضوا يوم الكريهة بيضهم أبصرت فيهم قطعها ومضاءها لا عذر عند المكرمات لهم متى لم تستبن لعفاتهم عذراءها قوم الأمير فمن يقوم بما لهم من صالحات أفحمت شعراءها صفحاً جميلاً أيها الملك الرضي عن محكمات لم نطق إحصاءها تقف القوافي دونهن حسيرة لا عيها تخفي ولا إعياءها فلعل علياكم تسامح راجياً إصغاءها ومؤملاً إغضاءها في رثاء طليطلة ومن ذلك قول بعضهم يندب طليطلة أعادها الله تعالى للإسلام: لثكلك كيف تبتسم الثغور سروراً بعدما سبيت ثغور أما وأبي مصاب هد منه ثبير الدين فاتصل الثبور لقد قصمت ظهور حين قالوا أمير الكافرين له ظهور ترى في الدهر مسروراً بعيش مضى عنا لطيته السرور أليس بها أبي النفس شهم يدير على الدوائر إذ تدور لقد خضعت رقاب كن غلباً وزال عتوها ومضى النفور وهان على عزيز القوم ذل وسامح في الحريم فتى غيور طليطلة أباح الكفر منها حماها، إن ذا نبأ كبير فليس مثالها إيوان كسرى ولا منها الحورنق والسدير محصنة محسنة بعيد تناولها ومطلبها عسير ألم تك معقلاً للدين صعباً فذلله كما شاء القدير وأخرج أهلها منها جميعاً فصاروا حيث شاء بهم مصير

وكانت دار إيمان وعلم معالمها التي طمست تنير فعادت دار كفر مصطفاة قد اضطربت بأهليها الأمور مساجدها كنائس، أي قلب على هذا يقر ولا يطير فيا أسفاه يا أسفاه حزناً يكرر ما تكررت الدهور وينشر كل حسن ليس يطوى إلى يوم يكون به النشور أديلت قاصرات الطرف كانت مصونات مساكنها القصور وأدركها فتور في انتظار لسرب في لواحظه فتور وكان بنا وبالقينات (1) أولى ... لو انضمت على الكل القبور لقد سخنت بحالتهن عين وكيف يصح مغلوب قرير لئن غبنا عن الإخوان إنا بأحزان وأشجان حضور نذور كان للأيام فيهم بمهلكهم فقد وفت النذور فإن قلنا العقوبة أدركتهم وجاءهم من الله النكير فإنا مثلهم وأشد منهم نجور وكيف يسلم من يجور أنأمن أن يحل بنا انتقام وفينا الفسق أجمع والفجور وأكل للحرام ولا اضطرار إليه فيسهل الأمر العسير ولكن جرأة في عقر دار كذلك يفعل الكلب العقور يزول الستر عن قوم إذا ما على العصيان أرخيت الستور يطول علي ليلي، رب خطب يطول لهوله الليل القصير خذوا ثأر الديانة وانصروها فقد حامت على القتلى النسور ولا تهنوا وسلوا كل عضب تهاب مضارباً له النحور وموتوا كلكم فالموت أولى بكم من أن تجاروا أو تجوروا أصبراً بعد سبي وامتحان يلام عليها القلب الصبور

_ (1) ص: وبالفتيات.

فأم الثكل مذكار ولود وأم الصقر مقلات نزور نخور إذا دهينا بالرزايا وليس بمعجب بقر يخور ونجبن وليس نزأر، لو شجعنا ولم نجبن لكان لنا زئير لقد ساءت بنا الأخبار حتى أمات المخبرين بها الخبير أتتنا الكتب فيها كل شر وبسرنا بأنحسنا البشير وقيل تجمعوا لفراق شمل طليطلة تملكها الكفور فقل في خطة فيها صغار يشيب لكربها الطفل الصغير لقد صم السميع فلم يعول على نبإ كما عمي البصير تجاذبنا الأعادي باصطناع فينجذب المخول والفقير فباق في الديانة تحت خزي تثبطه الشويهة والبعير وآخر مارق هانت عليه مصائب دينه فله السعير كفى حزناً بأن الناس قالوا إلى أين التحول والمسير أنترك دورنا ونفر عنها وليس لنا وراء البحر دور ولا ثم الضياع تروق حسناً نباكرها فيعجبنا البكور وظل وارف وخرير ماء فلا قر هناك ولا حرور ويؤكل من فواكهها الطري ويشرب من جداولها نمير يؤدى مغرم في كل شهر ويؤخذ كل صائفة عشور فهم أحمى لحوزتنا وأولى بنا وهم الموالي والعشير لقد ذهب اليقين فلا يقين وغر القوم بالله الغرور فلا دين ولا دنيا ولكن غرور بالمعيشة ما غرور رضوا بالرق يا لله ماذا رآه وما أشار به مشير مضى الإسلام فابك دماً عليه فما ينفي الجوى الدمع الغزير ونح واندب رفاقاً في فلاة حيارى لا تحط ولا تسير ولا تجنح إلى سلم وحارب عسى أن يجبر العظم الكسير

أنعمى عن مراشدنا جميعاً وما إن منهم إلا بصير ونلقى واحداً ويفر جمع كما عن قانص فرت حمير ولو أنا ثبتنا كان خيراً ولكن ما لنا كرم وخير إذا ما لم يكن صبر جميل فليس بنافع عدد كثير ألا رجل له رأي أصيل به مما نحاذر نستجير يكر إذا السيوف تناولته وأين بنا إذا ولت كرور ويطعن بالقنا الخطار حتى يقول الرمح ما هذا الخطير عظيم أن يكون الناس طراً بأندلس قتيل أو أسير أذكر بالقراع الليث حرصاً على أن يقرع البيض الذكور يبادر خرقها قبل اتساع لخطب منه تنخسف البدور يوسع للذي يلقاه صدراً فقد ضاقت بما تلقى صدور تنغصت الحياة فلا حياة وودع جيرة إذ لا مجير فليل فيه هم مستكن ويوم فيه شر مستطير ونرجو أن يتيح الله نصراً عليهم، إنه نعم النصير نونية الرندي وشيء من شعره ومن مشهور ما قيل في ذلك قول الأديب الشهير أبي البقاء صالح بن شريف الرندي رحمه الله تعالى (1) :

_ (1) هو صالح بن أبي الحسن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم ابن علي بن شريف يكنى بأبي الطيب وأبي البقاء؛ كان فقيهاً حافظاً متفنناً في النثر والنظم؛ وله مقامات ومختصر في الفرائض وكتاب اسمه الوافي (أو الكافي) في نظم القوافي (منه عدة مخطوطات، إحداها بالرباط رقم ك: 1730) انظر ترجمته في الذيل والتكملة 4: 137 ومسالك الأبصار 11: 480 والإحاطة (المخطوطة المغربية: 179 ونسخة الإسكوريال رقم: 1683 ومجلة معهد الدراسات الإسلامية 6: 211) .

لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان يمزق الدهر حتماً كل سابغة إذا نبت مشرفيات وخرصان وينتضي كل سيف للفناء ولو كان ابن ذي يزن والغمد غمدان أين الملوك ذوو التيجان من يمن وأين منهم أكاليل وتيجان وأين ما شاده شداد في إرم وأين ما ساسه في الفرس ساسان وأين ما حازه قارون من ذهب وأين عاد وشداد وقحطان أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا وصار ما كان من ملك ومن ملك كما حكى عن خيال الطيف وسنان دار الزمان على دارا وقاتله وأم كسرى فما آواه إيوان كأنما الصعب لم يسهل له سبب يوماً ولا ملك الدنيا سليمان فجائع الدهر أنواع منوعة وللزمان مسرات وأحزان وللحوادث سلوان يسهلها وما لما حل بالإسلام سلوان دهى الجزيرة أمر لا عزاء له هوى له أحد وانهد ثهلان أصابها العين في الإسلام فامتحنت حتى خلت منه أقطار وبلدان فاسأل بلنسية ما شأن مرسية وأين شاطبة أم أين جيان وأين قرطبة دار العلوم، فكم من عالم قد سما فيها له شان وأين حمص وما تحويه من نزه ونهرها العذب فياض وملآن قواعد كن أركان البلاد فما عسى البقاء إذا لم تبق أركان تبكي الحنيفية البيضاء من أسف كما بكى لفراق الإلف هيمان على ديار من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عمران حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان

يا غافلاً وله في الدهر موعظة إن كنت في سنة فالدهر يقظان وماشياً مرحاً يلهيه موطنه أبعد حمص تغر المرء أوطان تلك المصيبة أنست ما تقدمها وما لها مع طول الدهر نسيان يا راكبين عتاق الخيل ضامرة كأنها في مجال السبق عقبان وحاملين سيوف الهند مرهفة كأنها في ظلام النقع نيران وراتعين وراء البحر في دعة لهم بأوطانهم عز وسلطان أعندكم نبأ من أهل أندلس فقد سرى بحديث القوم ركبان كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان ألا نفوس أبيات لها همم أما على الخير أنصار وأعوان يا من لذلة قوم بعد عزهم أحال حالهم كفر وطغيان بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم واليوم هم في بلاد الكفر عبدان فلو تراهم حيارى لا دليل لهم عليهم من ثياب الذل ألوان ولو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الأمر واستهوتك أحزان يا رب أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت كأنما هي ياقوت ومرجان يقودها العلج للمكروه مكرهة والعين باكية والقلب حيران لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان انتهت القصيدة الفريدة، ويوجد بأيدي الناس زيادات فيها ذكر غرناطة وبسطة وغيرهما مما أخذ من البلاد بعد موت صالح بن شريف، وما اعتمدته منها نقلته من خط من يوثق به على ما كتبته، ومن له أدنى ذوق علم أن ما يزيدون فيها من الأبيات ليست تقاربها في البلاغة، وغالب ظني أن تلك الزيادة لما أخذت غرناطة وجميع بلاد الأندلس إذ كان أهلها يستنهضون همم الملوك

بالمشرق والمغرب، فكأن بعضهم لما أعجبته قصيدة صالح بن شريف زاد فيها تلك الزيادات، وقد بينت ذلك في " أزهار الرياض " (1) فليراجع. وصالح بن شريف الرندي صاحب القصيدة من أشهر أدباء الأندلس، ومن بديع نظمه قوله (2) : سلم على الحي بذات العرار وحي من أجل الحبيب الديار وخل من لام على حبهم فما على العشاق في الذل عار ولا تقصر في اغتنام المنى فما ليالي الأنس إلا قصار وإنما العيش لمن رامه نفس تدارى وكؤوس تدار وروحه الراح وريحانه في طيبه بالوصل أو بالعقار لا صبر للشيء على ضده والخمر والهم كماء ونار مدامة مدنية للمنى في رقة الدمع ولون النضار مما أبو ريق أباريقها تنافست فيها النفوس الكبار معلتي والبرء من علتي ما أطيب الخمرة لولا الخمار ما أحسن النار التي شكلها كالماء لو كف شرار الشرار وبي وإن عذبت في حبه ببعده على اقتراب المزار ظبي غرير نام عن لوعتي ولا أذوق النوم إلا غرار ذو وجنة كأنها روضة قد بهر الورد بها والبهار رجعت للصبوة في حبه وطاعة اللهو وخلع العذار يا قوم قولوا بذمام الهوى أهكذا يفعل حب الصغار وليلة نبهت أجفانها والفجر قد فجر نهر النهار والليل كالمهزوم يوم الوغى والشهب مثل الشهب عند الفرار

_ (1) أزهار الرياض 1: 47. (2) بعضها في الإحاطة: 186.

كأنما استخفى السها خيفة وطولب النجم بثار فثار لذاك ما شابت نواصي الدجى وطارح النسر أخاه فطار وفي الثريا قمر سافر عن غرة غير منها السفار كأن عنقوداً تثنى به (1) ... إذ صار كالعرجون عند السرار كأنها تسبك ديناره وكفها يفتل منه السوار كأنما الظلماء مظلومة تحكم الفجر عليها فجار كأنما الصبح لمشتاقه عز غنى من بعد ذل افتقار كأنما الشمس وقد أشرقت وجه أبي عبد الإله استنار محمد محمد كاسمه شخص له في كل معنى يشار أما المعالي فهو قطب لها والقطب لا شك عليه المدار مؤثل المجد صريح العلا مهذب الطبع كريم النجار تزهى به لخم وساداتها وتنتمي قيس له في الفخار يفيض من جود يديه على عافيه ما منه تحار البحار اليمن من يمناه حكم جرى واليسر من شيمة تلك اليسار أخ صفا منه لنا واحد فالدهر مما قد جنى في اعتذار فإن شكرنا فضله مرة فقد سكرنا من نداه مرار ونحن منه في جوار العلا تدور للسعد بنا منه دار الحافظ الله وأسماؤه لذلك الجار وذاك الجوار رسالة ابن عميرة إلى ابن الأبار في سقوط بلنسية رجع - وقد رأيت أن أثبت هنا رسالة خاطب بها الكاتب البارع القاضي أبو المطرف ابن عميرة المخزومي الشيخ أبا عبد الله ابن الأبار، يذكر له

_ (1) الإحاطة: بها ماثل.

أخذ العدو مدينة بلنسية وهي (1) : ألا فيئة للدهر تدنو بمن نأى وبقيا يرى منها خلاف الذي رأى ويا من عذيري منه، يغدر من أوى ... إليه ولا يدري سوى خلف من وأى (2) ذخائر ما في البر والبحر صيده فلا لؤلؤاً أبقى عليه ولا وأى أيها الأخ الذي دهش ناظري لكتابه، بعد أن أدهش خاطري من إغبابه، وسرني من بشره إيماض، بعد أن ساءني من جهته إعراض، جرت على ذكره الصلة فقوم قدح نبعتها، وروى أكناف تلعتها، وأحدث ذكراً من عهدنا الماضي فنقط وجه عروسه، وشعشع خمر كؤوسه، وسقى بماء الشبيبة ثراه، وأبرز مثل مرآة الغريبة مرآه، فبورك فيه أحوذياً وصل رحمه، وكسا منظره من البهجة ما كان حرمه، وحيا الله تعالى منه ولياً على سالف عهدي تمادى، وبشعار ودي نادى، وبين الإحسان شيمته، وأبان والبيان لا تنجاب عنه ديمته، ولا تغلو بغير قلمه قيمته، واعتذر عن كلمة تمنى تبديلها، ودعوة ذكر وجوم النادي لها، ثم أرسلها ترجف بوادرها من خيفة، وتوغر بوغم (3) صدر قلم وصحيفة، وتنذر من ريحانه قريش أن تمنعه عرفها، وتحدق إليه طرفها، واتقى غارة على غرة، من الناجي برأس طمرة، ولم يأمن هجران المهاجر بعد وصله، وعكر عكرمة المغطي بحلمه على أبي جهله، وعند ذكر كتيبة خالد أجحم، وذكر يوم أحاطت به فارس فاستلحم، فاعتذر عما قال، وأضمر الحذر إلا أن يقال، فمهلاً أيها الموفي على علمه، النافث بسحر قلمه، أتظن منزلتك في البلاغة ومهيعها لاحب، ومنزعها بالعقول لاعب، تسفل وقد ترفعت، أو تخفى وإن تلفعت، عرفناك يا سودة، وشهرت حلة

_ (1) ورد بعض هذه الرسالة في الروض المعطار: 48. (2) وأي: وعد. (3) في الأصول: رغم؛ والوغم: الحقد والترة.

عطارد الملاحة والجودة، فلم حين تهيب الأخ الأوحد من قصي غطاريفها، ولو استثار من حفائظها تالدها وطريفها، لم يذكر يد قومه عند أبيها، وقد رام خطة أشرف على تأبيها، حين أهاب بكم لمهمه، ودعا منكم أخاه لأمه، ولولا ذلك لما خلا له وجه الكعبة، ولا خلص من تلك المضايق الصعبة، وبأن أعرتموه نجدتكم الموصوفة، غلب على ما كان بأيدي صوفة، فكيف نجحد اليد عند عمنا، أو نشحذ أسنة الألسنة لذمنا، أو كيف نلقاكم بجدنا، وأبوكم أبو بكر معدنا، وما تيامنكم إلى سبأ بن يشجب (1) ، وإن أطلنا فيه التعجب، بالذي يقطع أرحامنا، ويمنع اشتباكنا والتحامنا، بعد أن شددنا فعالنا بفعالكم، ورأينا أقدامنا في نعالكم، ولو شئتم توعدتم بأسود سؤددكم عند الإقدام، وإلحاح إلحافكم في ضرب الهام، لكن نقول إن قومنا لكرام، ولو شاءوا كان لنا منهم شرة وعرام. وأعود من حيث بدأ الأخ الذي أبثه شوقي، وأتطعم حلاوة عشرته باقية في حاسة ذوقي، طارحني (2) حديث مورد جف، وقطين خف، فيا لله لأتراب درجوا، وأصحاب عن الأوطان خرجوا، قصت الأجنحة وقيل طيروا، وإنما هو القتل أو الأسر أو تسيروا، فتفرقوا أيدي سبا، وانتشروا ملء الوهاد والربى، ففي كل جانب عويل وزفرة، وبكل صدر غليل وحسرة، ولكل عين عبرة، لا ترقأ من أجلها عبرة، داء خامر بلادنا حين أتاها، وما زال بها حتى سجى على موتاها، وشجا ليومها الأطول كهلها وفتاها، وأنذر بها في القوم بحران أنيجة (3) ، يوم أثاروا أسدها المهيجة، فكانت تلك الحطمة طل الشؤبوب، وباكورة البلاء المصبوب، أثكلتنا إخواناً أبكانا نعيهم، ولله أحوذيهم

_ (1) بعد أن ألمع مآثر مخزوم وذكر بعض رجالها، عاد يتحدث عن قضاعة ومواقفها، ثم تحولها بنسبها إلى يمن. (2) من هنا في الروض المعطار. (3) يريد أن البحران (أي المرض) الذي أصاب أنيجة كان إنذاراً بما بعده من سقوط بلنسية.

وألمعيهم، ذاك أبو ربيعنا (1) ، وشيخ جميعنا، سعد بشهادة يومه، ولم ير ما يسوءه في أهله وقومه، وبعد ذلك أخذ من الأم بالمخنق، وهي بلنسية ذات الحسن والبهجة والرونق، وما لبث أن أخرس من مسجدها لسان الأذان، وأخرج من جسدها روح الإيمان، فبرح الخفاء، وقيل: على آثار من ذهب العفاء، وانعطفت النوائب مفردة ومركبة كما تعطف الفاء، فأودت الخفة والحصافة، وذهب الجسر والرصافة، ومزقت الحلة والثملة، وأوحشت الجرف والرملة، ونزلت بالحارة وقعة الحرة، وحصلت الكنيسة (2) من جآذرها وظبائها على طول الحسرة، فأين تلك الخمائل ونضرتها، والجداول وخضرتها، والأندية وأرجها، والأودية ومنعرجها، والنواسم وهبوب مبتلها، والأصائل وشحوب معتلها، دار ضاحكت الشمس بحرها وبحيرتها، وأزهار ترى من أدمع الطل في أعينها ترددها وحيرتها، ثم زحفت كتيبة الكفر بزرقها وشقرها، حتى أحاطت بجزيرة شقرها، فآهاً لمسقط الرأس هوى نجمه، ولفادح الخطب سرى كلمه، ويا لجنة أجرى الله تعالى النهر تحتها، وروضة أجاد أبو إسحاق (3) نعتها، وإنما كانت داره التي فيها دب، وعلى أوصاف محاسنها أكب، وفيها أتته منيته كما شاء وأحب، ولم تعدم بعده محبين قشيبهم إليها ساقوه، ودمعهم عليها أراقوه، وقد أثبت من النظم ما يليق بهذا الموضع، وإن لم يكن له ذلك الموقع: أقلوا ملامي أو فقولوا وأكثروا ملومكم عما به ليس يقصر وهل غير صب ماتني عبراته إذا صعدت أنفاسه تتحدر يحن وما يجدي عليه حنينه إلى أربع معروفها متنكر

_ (1) هو أبو الربيع ابن سالم شيخ ابن الأبار الذي استشهد في أنيجة مقبلاً غير مدبر وهو يحض الناس على القتال، وقد طعن في السن. (2) يعدد أبو المطرف هنا المعالم البارزة في بلنسية. (3) يعني ابن خفاجة وهو بلدي أبي المطرف فهما من جزيرة شقر.

ويندب عهداً بالمشقر فاللوى وأين اللوى منه وأين المشقر تغير ذاك العهد بعدي وأهله ومن ذا على الأيام لا يتغير وأقفر رسم الدار إلا بقية لسائلها عن مثل حالي تخبر فلم تبق إلا زفرة إثر زفرة ضلوعي لها تنقد أو تتفطر وإلا اشتياق لا يزال يهزني فلا غاية تدنو ولا هو يفتر أقول لساري البرق في جنح ليلة كلانا بها قد بات يبكي ويسهر تعرض مجتازاً فكان مذكراً بعهد اللوى والشيء بالشيء يذكر أتأوي لقلب مثل قلبك خافق ودمع سفوح مثل قطرك يقطر وتحمل أنفاساً كومضك نارها إذا رفعت تبدو لمن يتنور يقر بعيني أن أعاين من نأى لما أبصرته منك عيناي تبصر وأن يتراءاك الخليط الذين هم بقلبي وإن غابوا عن العين حضر كفى حزناً أنا كأهل محصب بكل طريق قد نفرنا وننفر وأن كلينا من مشوق وشائق بنار اغتراب في حشاه تسعر ألا ليت شعري والأماني ضلة وقولي ألا ليت شعري تحير هل النهر عقد للجزيرة مثلما عهدنا وهل حصباؤه وهي جوهر وهل للصبا ذيل عليه تجره فيزور عليه موجه المتكسر وتلك المغاني هل عليها طلاوة بما راق منها أو بما رق تسحر ملاعب أفراس الصبابة والصبا تروح إليها تارة وتبكر وقبلي ذاك النهر كانت معاهد بها العيش مطلول الخميلة أخضر بحيث بياض الصبح أزار جيبه تطيب وأردان النسيم تعطر ليال بماء الورد ينضح ثوبها وطيب هواء فيه مسك وعنبر وبالجبل الأدنى هناك خطى لنا إلى اللهو لا تكبو ولا تتعثر جناب بأعلاه بهار ونرجس فأبيض مفتر الثنايا وأصفر وموردنا في قلب قلت كمقلة حذاراً علينا من قذى العين تستر

وكم قد هبطنا القاع نذعر وحشه ويا حسنه مستقبلاً حين يذعر نقود إليه طائعاً كل جارح له منخر رحب وخصر مضمر إذا ما رميناه به عبثت به مؤللة الأطراف عنهن تكشر تضم لأروى النيق حزان سهلها وقد فقدت فيها مهاة وجؤذر كذاك إلى أن صاح بالقوم صائح وأنذر بالبين المشتت منذر وفرقهم أيدي سبا وأصابهم على غرة منهم قضاء مقدر ونعود إلى حيث كنا من تبدد شمل الجيرة، وطي بساط الجزيرة: أما شاطبة فكانت من قصبتها شوساء الطرف، وببطحائها عروساً في نهاية الظرف، فتخلى عن الذروة من أخلاها، وقيل الكافر: شأنك وأعلاها، فقبل أن تضع الحرب أوزارها، كشط عنها إزارها، فاستحل الحرمة أو تأولها، وما انتظر أقصر المدة ولا أطولها، وأما تدمير فجاد عودها على الهصر، وأمكنت عدوها من القصر، فداجى الكفر الإيمان، وناجى الناقوس الأذان، وما وراءها من الأصقاع التي باض الكفر فيها وفرخ، وأنزل بها ما أنسى التاريخ ومن أرخ، فوصفكم على الحادثة فيها أتى، وفي ضمان القدرة الانتصاف من عدو عثا وعتا، وإنا لنرجوها كرة تفك البلاد من أسرها، وتجبرها بعد كسرها، وإن كانت الدولة العامرية منعت بالقراع ذمارها، ورفعت على اليفاع نارها، فهذه العمرية بتلك المنقبة أخلق، والعدو لها أهيب ومنها أفرق، وما يستوي نسب مع البقل نبت، وبالمستفيض من النقل ما ثبت، وآخر علت سماؤه على اللمس، ورسا ركنه في الإسلام رسو قواعده الخمس، وكان كما قال أبو حنيفة في خبر المسح: جاءنا مثل الشمس، والأيام العمرية هي أم الوقائع المحكية، ومن شاء عدها من اليرموكية إلى الأركية، وهذه الأيام الزاهرة هي زبدة حلاوتها، وسجدة تلاوتها، وإمامتها العظمى أيدها الله تعالى، تمهل الكافر مدة إملائه، ثم تشفي الإسلام من دائه، وتطهر الأرض بنجس دمائه، بفضل الله تعالى، المرجو

زيادة نعمه قبلها وآلائه. راجعت سيدي مؤدياً ما يجب أداؤه، ومقتدياً وما كل أحد يحسن اقتداؤه، وإنما ناضلت ثعلباً (1) ، وعهدي بالنضال قديم، وناظرت جدلياً، وما عندي للمقال تقديم، وأطعته في الجواب ولقريحتي يعلم الله تعالى نكول، ورويتي لولا حق المسألة بطير الحوادث المرسلة عصف مأكول، أتم الله تعالى عليه آلاءه، وحفظ مودته وولاءهن ومتع بخلته الكريمة أخلاءه، بمنه، والسلام؛ انتهت الرسالة. ورأيت في رحلة ابن رشيد لما ذكر أبا المطرف ما صورته: وأما الكتابة فقد كان حامل لوائها، كما قال بعض أصحابنا: ألان الله تعالى له الكلام، كما ألان الحديد لداود عليه السلام، وأخبرني شيخنا أبو بكر أن شيخه أبا المطرف رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فأعطاه حزمة أقلام، وقال: استعن بهذه على كتابتك، أو كما قال صلى الله عليه وسلم؛ انتهى. رسالة ابن الأبار التي أجاب أبو المطرف عنها وبعد كتبي لهذه الرسالة رأيت أن أذكر رسالة الحافظ ابن الأبار التي هذه جواب عنها، وهي من غرض ما نحن فيه فلنقتبس نور البلاغة منها، وهي: سيدي وإن وجم لها النادي، وجمجم بها المنادي، ذلك لصغرها عن كبره في المعارف الأعلام، وصدرها يوغر صدور الصحائف والأقلام، وأعيذ ريحانة قريش، أن تروح من حفيظتها في جيش، قد هابتها مغاوير كل حي، وأجابتها الغطاريف من قصي، تدلف بين يديها كتيبة خالد، وتحلف لا قدحت نار الهيجاء بزند صالد، أو تنصف من غامطها، وتقذف به وسط غطامطها (2) ،

_ (1) أي من بني ثعل وهم مضرب المثل في رمي السهام. (2) الغطامط: الموج المرتفع.

لا جرم أني من جريمتي حذر، وعما وضحت به قيمتي للمجد معتذر، إلا أن يصوح من الروض نبته وجناته، ويصرح بالقبول حلمه وأناته، الحديث عن القديم شجون، والشأن بتقاضي الغريم شؤون، فلا غرو أن أطارحه إياه، وأفاتحه الأمل في لقياه، ومن لي بمقالة مستقلة، أو إخالة غير مخلة، أبت البلاغة إلا عمادها، وعلى ذلك فاستنبئ عمادها: درجت اللدات والأتراب، وخرجت الروم بنا إلى حيث الأعراب، أيام دفعنا لأعظم الأخطار، وفجعنا بالأوطان والأوطار، فإلام نداري برح الألم، وحتام نساري النجم في الظلم، جمع أوصاب ما له من انفضاض، ومضض اغتراب شذ عن ابن مضاض (1) ، فلو سمع الأول بهذا الحادث، ما ضرب المثل بالحارث، يا لله من جلاء ليس به يدان، وثناء قلما يسفر عن تدان، وعد الجد العاثر لقاءه فأنجز، ورام الجلد الصابر انقضاءه فأعجز، هؤلاء الخوان، مكثهم لا يمتع به أوان، وبينهم كنبت الأرض ألوان، بين هائم بالسرى، ونائم في الثرى، من كل صنديد بطل، أو منطيق غير ذي خطإ ولا خطل، قامت عليه النوادب، لما قعدت النوائب، وهجمت بيوتها لمنعاه الجماجم والذوائب، وأما الأوطان المحبب عهدها بحكم الشباب، المشبب فيها بمحاسن الأحباب، فقد ودعنا معاهدها وداع الأبد، وأخنى عليها الذي أخنى على لبد، أسلمها الإسلام، وانتظمها الانتثار والاصطلام، حين وقعت أنسرها الطائرة، وطلعت أنحسها الغائرة، فغلب على الجذل الحزن، وذهب مع المسكن السكن: كزعزع الريح صك الدوح عاصفها فلم يدع من جنى فيها ولا غصن واهاً وآهاً يموت الصبر بينهما موت المحامد بين البخل والجبن أين بلنسية ومغانيها، وأغاريد ورقها وأغانيها، أين حلى رصافتها

_ (1) يريد الحارث بن مضاض الجرهمي وله في تفرق جرهم قصيدة باكية؛ ولكن أين تفرق قومه مما حل ببلنسية

وجسرها، ومنزلا عطائها ونصرها أين أفياؤها تندى غضارة، وذكاؤها تبدو من خضارة أين جداولها الطفاحة وخمائلها أين جنائبها النفاحة وشمائلها شد ما عطل من قلائد أزهارها نحرها، وخلعت شعشعانية ضحاها بحيرتها وبحرها، فأية حلية لا حيلة في صرفها مع صرف الزمان، وهل كانت حتى بانت إلا رونق الحق وبشاشة الإيمان، ثم لم يلبث داء عقرها، أن دب إلى جزيرة شقرها، فأمر عذبها النمير، وذوى غصنها النضير، وخرست حمائم أدواحها، وركدت نواسم أرواحها، ومع ذلك اقتحمت من الأيام دانية، فنزحت قطوفها وهي دانية، ويا لشاطبة وبطحائها، من حيف الأيام وإنحائها، وا لهفاه ثم لهفاه على تدمير وتلاعها، وجيان وقلاعها، وقرطبة ونواديها، وحمص وواديها، كلها رعي كلؤها، ودهي بالتفريق والتمزيق ملؤها، عض الحصار أكثرها، وطمس الكفر عينها وأثرها، وتلك إلبيرة بصدد البوار، ورية في مثل حلقة السوار، ولا مرية في المرية وخفضها على الجوار، إلى بنيات، لواحق بالأمهات، ونواطق بهاك لأول هاتف بهات. ما هذا النفخ بالمعمور أهو نفخ في الصور أم النفر عارياً من الحج المبرور وما لأندلس أصيبت بأشرافها، ونقصت من أطرافها قوض عن صوامعها الأذان، وصمت بالنواقيس فيها الآذان، أجنت ما لم تجن الأصقاع أعقت الحق فحاق بها الإيقاع كلا بل دانت للسنة، وكانت من البدع في أحصن جنة: هذه المروانية مع اشتداد أركانها، وامتداد سلطانها، ألقت حب آل النبوة في حبات القلوب، وألوت ما ظفرت من خلعه ولا قلعه بمطلوب، إلى المرابطة بأقاصي الثغور، والمحافظة على معالي الأمور، والركون إلى الهضبة المنيعة، والروض المريعة، من معاداة الشيعة، وموالاة الشريعة، فليت شعري بم استوثق تمحيصها ولم تعلق بعموم البلوى تخصيصها اللهم غفراً طالما ضر ضجر، ومن الأنباء ما فيه مزدجر، جرى بما لم نقدره المقدور، فما عسى أن ينفث به المصدور وربنا الحكيم العليم، فحسبنا

التفويض له والتسليم، ويا عجباً لبني الأصفر أنسيت مرج الصفر، ورميها يوم اليرموك بكل أغلب غضنفر دع ذا فالعهد به بعيد، ومن اتعظ بغيره فهو سعيد، هلا تذكرت العامرية وغزواتها، وهابت العمرية وهبواتها، أما الجزيرة بخيلها محدقة، وبأحاديث فتحها مصدقة، هذا الوقت المرتقب، والزمان الذي زجيت له الشهور والحقب، وهذه الإمامة أيدها الله تعالى هي المنقذة من أسرها، والمنفذة لسلطانهم مراسم نصرها، فيتاح الأخذ بالثار، ويزاح عن الجنة أهل النار، ويعلم الكافر لمن عقبى الدار. حاورت سيدي بمثار الفاجي الفاجع، وحاولت برء الجوى من جوابه بالعلاج الناجع، وبودي لو تقع في الأرجاء مصاقبة، فترفع من الأرزاء معاقبة، أليس لدبه أسو المكلوم، وتدارك المظلوم وبيديه أزمة المنثور والمنظوم: خيال يختر () في إقناع إياد، وصوغ ما لم يخطر على قلب زيد ولا بخاطر زياد، بست الجبال الطوامح فما بست وأبو فتحها (1) ، وغيضت البحار الطوافح فمن يعبأ بالركايا ومتحها، أين أبو الفضل ابن العميد من العماد الفاضل، وصمصامة عمرو من قلمه الفاصل هذا مدرهها الذي فعل الأفاعيل، وأحمدها (2) الذي سما على إبراهيم وإسماعيل (3) ، وهما إماما الصناعة، وهماما البراعة واليراعة، بهما فخر من نطق بالضاد، وبسببها حسدت الحروف الصاد، لكن دفعهم بالراح، وأعرى مدرعهم من المراح، وشرف دونهم ضعيف القصب على صم الرماح، أبقاه الله تعالى وبيانه صادق الأنواء، وزمانه كاذب الأسواء، ولا زال مكانه مجاوزاً ذؤابة الجوزاء، وإحسانه مكافأ بأحسن الجزاء، والسلام.

_ (1) يشير إلى أبي الفتح البستي؛ وفي الأصول: " لما ". (2) أحدهما: هو أحمد بن عميرة المخزومي، يريد أنه تفوق في النثر على أولئك الأعلام. (3) إبراهيم هو الصابي أبو إسحاق، وإسماعيل هو الصاحب بن عباد.

فصول من درر السمط لابن الأبار وقد عرفت بابن الأبار في " أزهار الرياض " بما لا مزيد عليه، غير أني رأيت هنا أن أذكر فصولاً مجموعة من كلامه في كتابه المسمى ب " درر السمط في خبر البسط ". قال رحمه الله تعالى (1) : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، فروع النبوة والرسالة، وينابيع السماحة والبسالة، صفوة آل أبي طالب، وسراة (2) بني لؤي بن غالب الذين حباهم (3) الروح الأمين، وحلاهم الكتاب المبين، فقل في قوم شرعوا الدين القيم، ومنعوا اليتيم أن يقهر والأيم، ما قد من أديم آدم أطيب من أبيهم طينة، ولا أخذت الأرض أجمل من مساعيهم زينة، لولاهم ما عبد الرحمن، ولا عهد الإيمان، وعقد الأمان، ذؤابة غير أشابة، فضلهم ما شأنه نقص ولا شايه، سرارة محلتهم سر المطلوب، وقرارة محبتهم حبات القلوب، أذهب الله عنهم الرجس، وشرف بخلقهم الجنس، فإن تميزوا فبشريعتهم البيضاء، أو تحيزوا فلعشيرتهم الحمراء، من كل يعسوب الكتيبة، منسوب لنجيب ونجيبة، نجاره الكرم، وداره الحرم، نمته العرانين من هاشم إلى النسب الأصرح الأوضح (4) ، إلى نبعة فرعها في السماء ومغرسها سرة الأبطح، أولئك السادة أحيي وأفدي، والشهادة بحبهم أوفي وأودي، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه. فصل (5) - ما كانت خديجة لتأتي بخداج (6) ، ولا الزهراء لتلد إلا أزاهر

_ (1) درر السمط: الورقة الأولى. (2) الدرر: وسرارة. (3) الدرر: حياهم. (4) الأوضح: سقطت من الدرر. (5) الدرر: 15. (6) الخداج: الناقص.

كالسراج، مثل النحلة لا تأكل إلا طيباً، ولا تضع إلا طيباً، خلدت بنت خويلد ليزكو عقبها من الحاشر العاقب (1) ، ويسمو مرقبها على النجم الثاقب، لم تخد بمثلها المهارى، ولم يلد له عيرها من المهارى، آمت من بعولتها قبلة، لتصل السعادة بحبلها حبله، ملاك العمل خواتمه، رب ربات حجال، أنفذ من فحول رجال: وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ... ولا التذكير فخرٌ للهلال (2) هذه خديجة من أخيها حزام أحزم، ولشعار الصدق من شعارات القص ألزم، ركنت إلى الركن الشديد، وسددت للهدى كما هديت للتسديد، يوم نبىء خاتم الأنبياء، وأنبىء بالنور المنزل عليه والضياء. فصل (3) - وكان قبيل المبعث، وبين يدي لم الشعث، يثابر على كل حسنى وحسنة، ويجاور شهراً من كل سنة، يتحرى حراء بالتعهد، ويزجي تلك المدة في التعبد، وذلك الشهر المقصور على التبرر، المقدور فيه رفع التضرر، شهر رمضان، المنزل (4) فيه القرآن، فبيناه، لاينام قلبه وإن نامت عيناه، جاءه الملك مبشراً بالنجح، وقد كان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، فغمره بالكلاءة، وأمره بالقراءة، وكلما تحبس له غطه ثم أرسله، وإذا أراد الله بعبد خيراً عسله: تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بدّ دون الشهد من إبر النحل كذلك حتى عاذ بالأرق من الفرق، وقد علق فاتحة العلق، فلا يجري

_ (1) الحاشر العاقب من أسماء الرسول (ص) . (2) من قصيدة المتنبي في رثاء أم سيف الدولة. (3) الدرر: 18. (4) الدرر: الذي أنزل.

غيرها على لسانه، وكأنما كتب في جنانه. فصل (1) - ولما أصبح يؤم الأهل، وتوسط الجبل يريد السهل، وقد قضى الأجل، وما نضا الوجل، نوجي بما في الكتاب المسطور، ونودي كما نودي موسى من جانب الطور، فعرض له في طريقه، ما شغله عن فريقه، فرفع رأسه متأملاً، فأبصر الملك في صورة رجل متمثلاً يشرفه بالنداء، ويعرفه بالاجتباء، وإنما عضد خبر الليلة بعيان اليوم، وأري في اليقظة مصداق ما أسمع في النوم، ليحق الله الحق بكلماته، وعلى ما ورد في الأثر، وسرد رواة السير، فذلك اليوم كان عيد فطرنا الآن وغير بدع ولا بعيد، أن يبدأ الوحي بعيد كما ختم بعيد " اليوم أكملت لكم دينكم " المائدة:3 فبهت عليه السلام لما سمعه وراءه، وثبت لا يتقدم أمامه ولا يرجع وراءه: وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متقدمٌ عنه ولا متأخر (2) ثم جعل في الخوف والرجاء (3) ، لايقلب وجهه في السماء، إلا تعرض له في تلك الصورة، وعرض عليه ما أعطاه الله سبحانه من السورة، فيقف موقف التوكل، ويمسك حتى عن التأمل (4) : تتوق إليك النفس ثم أردها حياء، ومثلي بالحياء حقيق أذود سوام (5) الطرف عنك، وما له ... إلى أحد إلا إليك طريق فصل (6) - وفطنت خديجة لاحتباسه، فأمعنت في التماسه، تزوجوا الودود

_ (1) الدرر: 20. (2) البيت مغير القافية وصوابه " متأخر عنه ولا متقدم " وهو لأبي الشيص الخواعي. (الأغاني 15: 336 والشعر والشعراء: 722) . (3) الدرر: بين الرجاء والخوف. (4) الشعر للمجنون (ديوانه: 207) . (5) الديوان: أرد سواء. (6) الدرر: 24.

الولود، ولفورها بل لفوزها بعثت في طلبه رسلها، وانبعثت تأخذ عليه شعاب مكة وسبلها: إن المحب إذا لم يستزر زارا طال عليها الأمد، فطار إليها الكمد، والمحب حقيقة، من لايفيق فيقة، بالنفس النفيسة سماحه وجوده، وفي وجود المحبوب الأشرف وجوده (1) : كأن بلاد الله ما لم تكن بها وإن كان فيها الخلق طراً بلا نقع أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني والهم بالليل حامع نهاري نهار الناس حتى إذا دجا لي الليل هزتني إليك المضاجع لقد ثبتت في القلب منك محبة كما ثبتت في الراحتين الأصابع فصل (2) - وبعد لأي ما ورد عليها، وقعد مضيفاً إليها، فطفقت بحكم الإجلال تمسح أركانه، وتفسح مجال السؤال عما خلف له مكانه، فباح لها بالسر المغيب، وقد لاح وسم الكرامة على الطيب المطيب، فعلمت أنه الصادق المصدوق، وحكمت بأنه السابق لا المسبوق، اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، وما زالت حتى أزالت ما به من الغمة، وقالت: إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة: إني تفرست فيك الخير أعرفه والله يعلم أن ما خانني البصر أنت النبي ومن يحرم شفاعته يوم الحساب فقد أزرى به القدر لا ترهب فسوف تبهر، وسيبدو أمر الله تعالى ويظهر، أنت الذي سجعت به الكهان، ونزلت له من صوامعها الرهبان، وسارت بخبر كرامته الركبان، أنت الذي ما حملت أخف منه حامل، ودرت ببركته الشاة فإذا هي حافل:

_ (1) ينسب الشعر للمجنون (ديوانه: 185) كما ينسب لابن الدمينة (ديوانه: 88) . (2) الدرر: 26.

وأنت لما ولدت أشرقت ال أرض وضاءت بنورك الأفق فنحن في ذلك الضياء وفي النو ر وسبل الرشاد تخترق فصل (1) - وما لبثت أن غلقت أبوابها، وجمعت عليها أثوابها، وانطلقت إلى ورقة بن نوفل، تطلبه بتفسير ذلك المجمل، وكان يرجع إلى عقل حصيف، ويبحث عمن يبعث بالدين الحنيف، فاستبشر به ناموسا، وأخبر أنه الذي كان يأتي موسى، فازدادت إيماناً، وأقامت على ذلك زماناً، ثم رأت أن خبر الواحد قد يلحقه التنفيذ، ودرت أن المجتهد لايجوز له التقليد، طلب العلم فريضة على كل مسلم، فرجعت أدراجها في ارتياد الإقناع، وألقي في روعها إلقاء الخمار والقناع، فهناك وضح لها البرهان، وصح لها (2) أن الآتي ملك لا شيطان: تدلى عليه الروح من عند ربه ينزل من جو السماء ويرفع نشاوره فيما نريد وقصدنا إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع فصل (3) - سبقت لها من الله تعالى الحسنى، فصنعت حسناً وقالت حسنا، ومن يؤمن بالله يهد قلبه، ما فتر الوحي بعدها، ولا مطل الحق الحي وعدها، وعد الله لا يخلف الله وعده، دانت لحي ذي الإسلام (4) ، فحياها الملك بالسلام من الملك السلام، من كان لله كان الله له، أغنت غناء الأبطال، فغناها (5) لسان الحال: هل تذكرين فدتك النفس مجلسنا يوم التقينا فلم أنطق من الحصر

_ (1) الدرر: 30. (2) الدرر: لديها. (3) الدرر: 32. (4) الدرر: دانت بالحق دين الإسلام. (5) الدرر: فغنتها.

لا أرفع الطرف حولي من مراقبة بقياً علي، وبعض الحزم في الحذر يسرت لاحتمال الأذى والنصب، فبشرت ببيت في الجنة من قصب، هل أمنت (1) إذ آمنت من الرعب، حتى غنيت عن الشبع بما في الشعب: لا تحسب المجد تمراً أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا (2) واهاً لها احتملت عض الحصار، وما أطاقت فقد المختار: يطول اليوم لا ألقاك فيه ... وشهر (3) نلتقي فيه قصير (4) والحبيب سمع المحب وبصره، وله طول محياه وقصره: أنت كل الناس عندي فإذا غبت عن عيني لم ألق أحد مكثت للرياسة (5) مواسية وآسية، فثلثت في بحبوحة الجنة مريم وآسية، ثم ربعت البتول فبرعت، نطقت بذلك الآثار وصدعت، خير نساء العالمين أربع. فصل (6) - إلى البتول سير بالشرف التالد، وسيق الفخر بالأم الكريمة والوالد، حلت في الجيل الجيل، وتحلت بالمجد الأثيل، ثم تولت إلى الظل الظليل: وليس يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل وأبيها إن أم أبيها، لاتجد لها شبيها، نثرة النبي، وطلة الوصي، وذات

_ (1) الدرر: ما أمنت. (2) الشعر في أمالي القالي (1: 112) لبعض العرب. (3) الدرر: وحول. (4) البيت لجميل بثينة في ديوانه: 99 وأمالي القالي 1: 202 والزهرة: 60 وروايته: يطول اليوم إن شحطت نواها، وحلو ... الخ. (5) الدرر: للرسالة. (6) الدرر: 37.

الشرف المستولي على الأمد القصي، كل ولد الرسول درج في حياته، وحملت هي ما حملت من آياته، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لا فرع للشجرة المباركة من سواها، فهل جدوى أوفر من جدواها، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، حفت بالتطهير والتكريم، وزفت إلى الكفؤ الكريم، فوردا صفو العارفة والمنة، وولدا سيدي شباب أهل الجنة، عرضت من الأمتعة الفاخرة، بسيدي الدنيا (1) والآخرة، ما أثقلنحوها طهراً، ولا بذل غير درعه مهراً، كان صفر اليدين من البيضاء والصفراء، وبحالة لا حيلة معها في إهداء الحلة السيراء، فصاهره الشارع وخالله، وقال في بعض صعلوك لا مال له، نرفع درجات من نشاء. فصل: أتنهب الأيام أفلاذ أحمد ... وأفلاذ من عاداهم تتعدد (2) ويضحى ويظما أحمد وبناته وبنت زياد وردها لا يصرد أفي دينه في أمنه في بلاده ... تضيق عليهم فسحة تتورد (3) وما الدين إلا دين جدهم الذي به أصدروا في العالمين وأوردوا انتهى ما سنح لي ذكره من " دررالسمط " وهو كتاب غاية في بابه، ولم أورد منه غير ما ذكرته، لأن في الباقي ما تشم منه رائحة التشيع، والله سبحانه يسامحه بمنه وكرمه. رجع إلى ما كنا بسبيله، فنقول: قد ذكرنا في الباب الثاني رسالة أبي المطرف ابن عميرة إلى أبي جعفر ابن أمية (4) ، وهي مشتملة على التلهف على الجزيرة الأندلسية، حين أخذ العدو بلنسية، وظهرت له مخايل الاستيلاء على ما بقي

_ (1) الدرر: بسيد في الدنيا. (2) صرح باسمه في الدرر - وهو معاوية - ولعل المقري كنى عنه تقوى وورعاً. (3) في الأصول: تتودد، وصوبناه عن الدرر. (4) انظر الجزء الأول من النفح ص: 305.

من الأندلس، فراجعها فيما سبق، وإن كان التناسب التام في ذكرها هنا فالمناسبة هناك حاصلة أيضاً، والله سبحانه الموفق. وذكرنا هنالك أيضاً جملة غيرها من كلامه - رحمه الله تعالى - تتعلق بهذا المعنى وغيره، فلتراجع ثمة. نهاية الأندلس كما يصورها كتاب " جنة الرضى " لابن عاصم ورأيت أن أثبت هنا ما رأيته بخط الأديب الكاتب الحافظ المؤرخ أبي عبد الله محمد بن الحداد الوادي آشي نزيل تلمسان رحمه الله تعالى ما صورته (1) : حدثني الفقيه العدل سيدي حسن ابن القائد الزعيم الأفضل سيدي إبراهيم العراف أنه حضر مرة لإنزال الطلسم المعروف بفروج الرواح من العلية بالقصبة القديمة من غرناطة بسبب البناء والإصلاح، وأنه عاينه من سبعة معادن مكتوباً فيه: إيوان غرناطة الغراء معتبرٌ طلسمهبولاة الحال دوار وفارس روحه ريحٌ تدبره من الجماد، ولكن فيه أسرار فسوف يبقى قليلاً ثم تطرقه دهياء يخرب منها الملك والدار وقد صدق قائل هذه الأبيات، فإنه طرقت الدهياء ذلك القطر الذي ليس له في الحسن مثال، ونسل الخطب إليه من كل حدب وانثال، وكل ذلك من اختلاف رؤسائه وكبرائه، ومقدميه وقضاته وأمرائه ووزرائه، فكل يروم الرياسة لنفسه، ويجر نارها لقرصه، والنصارى - لعنهم الله تعالى - يضربون بينهم بالخداع والمكر والكيد، ويضربون عمراً منهم بزيد، حتى تمكنوا من أخذ البلاد، والاستيلاء على الطارف والتلاد. قال الرائس القاضي العلامة الكاتب الوزير أبو يحيى ابن عاصم رحمه الله تعالى في كتابه " جنة الرضى في التسليم

_ (1) انظر هذا الخبر والشعر عن الطلسم في أزهار الرياض 3: 314.

لما قدر الله تعالى وقضى " ما صورة محل الحاجة منه (1) : ومن استقرأ التواريخ المنصوصة، علم أن النصارى - دمرهم الله تعالى - لم يدركوا في المسلمين ثاراً، ولم يرحضوا عن أنفسهم عاراً، ولم يخربوا من الجزيرة منازل ودياراً، ولم يستولوا عليها بلاداً جامعة وأمصاراً، إلا بعد تمكينهم لأسباب الخلاف، واجتهادهم في وقوع الافتراق بين المسلمين والاختلاف، وتضريبهم بالمكر والخديعة بين ملوك الجزيرة، وتحريشهم بالكيد والخلابة بين حماتها في الفتن المبيرة، ومهما كانت الكلمة مؤتلفة، والآراء لا مفترقة ولا مختلفة، والعلماء بمعاناة اتفاق القلوب إلى الله مزدلفة، فالحرب إذ ذاك سجال، ولله تعالى في إقامة الجهاد في سبيله رجال، وللممانعة في غرض المدافعة ميدان رحب ومجال، وروية وارتجال. إلى أن قال: وتطاولت الأيام ما بين مهادنة ومقاطعة، ومضاربة ومقارعة، ومنازلة ومنازعة، وموافقة وممانعة، ومحاربة وموادعة، ولا أمل للطاغية إلا في التمرس بالإسلام والمسلمين، وإعمال الحيلة على المؤمنين، وإضمار المكيدة للموحدين، واستبطان الخديعة للمجاهدين، وهو يظهر أنه ساعٍ للوطن في العاقبة الحسنى، وأنه منطوٍ لأهله على المقصد الأسنى، ومهتم بمراعاة أمورهم، وناظر بنظر المصلحة لخاصتهم وجمهورهم، وهو يسر حسواً في ارتغائه، ويعمل الحيلة في التماس هلك الوطن وابتغائه، فتباً لعقول تقبل مثل هذا المحال، وتصدق هذا الكذب بوجهٍ أو بحال، وليت المغرور لو يقبل هذا لو فكر في نفسه، وعرض هذا المسموع على مدركات حسه، وراجع أوليات عقله وتجريبات حدسه، وقاس عدوه التي لا ترجى مودته على أبناء جنسه، فأنا أناشده الله عل بات قط بمصالح النصارى وسلطانهم مهتماً، وأصبح من خطبٍ طرقهم مغتماً، ونظر لهم نظر المفكر في العاقبة الحسنة، أو قصد لخم قصد المدبر

_ (1) من هنا يشترك النفح مع أزهار الرياض 1: 50 - 55 في النقل عن كتاب ابن عاصم.

في المعيشة المستحسنة، أو خطر على قلبه أن يحفظ في سبيل القربة أربابهم وصلبانهم، أو عمر ضميره من تمكين عزمهم بما ترضاه أحبارهم ورهبانهم، فإن لم يكن ممن يدين بدينهم الخبيث، ولم يشرب قبله حب التثليث، ويكون صادق اللهجة، منصفاً عند قيام الحجة، فسيعترف أن ذلك لم يخطر له قط على خاطر ولا مر له ببال، وأن عكس ذلك هو الذي كان به ذا اغتباط وبفعله ذا اهتبال، وإن نسب لذلك المعنى فهو عليه أثقل من الجبال، وأشد على قلبه من وقع النبال، هذا وعقده التوحيد، وصلاته التحميد، وملته الغراء، وشريعته البيضاء، ودينه الحنيف القويم، ونبيه الرؤوف الرحيم، وكتابه القرآن الحكيم، ومطلوبه بالهداية الصراط المستقيم، فكيف نعتقد هذه المريبة الكبرى، والمنقبة الشهرى، لمن عقده التثليث، ودينه المليث، ومعبوده الصليب، وتسميته التصليب، وملته المنسوخة، وقضيته المفسوخة، وختانه التغطيس، وغافر ذنبه القسيس، وربه عيسى المسيح، ونظره ليس البين ولا الصحيح، وأن ذلك الرب قد ضرج بالدماء، وسقي الخل عوض الماء، وأن اليهود قتلته مصلوباً، وأدركته مطلوباً، وقهرته مغلوباً، وأنه جزع من الموت وخاف، إلى سوى ذلك مما يناسب هذه الأقاويل السخاف، فكيف يرجى من هؤلاء الكفرة، من الخير مقدار الذرة، أو يطمع منهم في جلب المنفعة أو دفع المضرة اللهم احفظ علينا العقل والدين، واسلك بنا سبيل المهتدين. ثم قال بعد كلام ما صورته: كانت خزانة هذه الدار النصرية مشتملة على كل نفيسة من الياقوت، ويتيمة من الجوهر، وفريدة من الزمرد، وثمينة من الفيروزج، وعلى كل واقٍ من الدروع، وحامٍ من العدة، وماضٍ من الأسلحة، وفاخر من الآلة، ونادر من الأمتعة، فمن عقود فذة، وسلوك جمة، وأقراط تفضل على قرطي مارية نفاسةً فائقة وحسناً رائقاً، ومن سيوف شواذ في الإبداع غرائب في الإعجاب، منسوبات الصفائح في الطبع، خالصات الحلى من التبر، ومن دروع مقدرة السرد متلاحمة النسج، واقية للناس في يوم

الحرب، مشهورة النسبة إلى داوود نبي الله، ومن جواشن سابغة اللبسة، ذهبية الحلية، هندية الضرب، ديباجية الثوب، ومن بياضات عسجدية الطرق، جوهرية التنضيد، وزبرجدية التقسيم، ياقوتية المركز، ومن نطاق لجينية الصوغ، عريضة الشكل، مزججة الصفح، ومن درق لمطية، مصمتة المسام، لينة المجسة، معروفة المنعة، صافية الأديم، ومن قسي ناصعة الصبغة، هلالية الخلقة، منعطفة الجوانب، زارية بالحواجب، إلى آلات فاخرة من أتوار (1) نحاسية، ومنابر بلورية، وطيافير (2) دمشقية، وسبحات زجاجية، وصحاف صينية، وأكواب عراقية، وأقداح طباشيرية، وسوى ذلك مما لا يحيط به الوصف، ولا يستوفيه العد، وكل ذلك التهبه شواظ الفتنة، والتقمه تيار الخلاف والفرقة، فرزئت الدار منه بما يتعذر إتيان الدهور بمثله، وتقصر ديار الملوك المؤثلة النعمة عن بعضه فضلاً عن كله؛ انتهى كلامه رحمه الله تعالى (3) . ولما أخذت قواعد الأندلس مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة ومرسية وغيرها انحاز أهل الإسلام إلى غرناطة والمرية ومالقة ونحوها، وضاق الملك بعد اتساعه، وصار تنين العدو يلتقم كل وقت بلداً أو حصناً، ويهصر من دوح تلك البلاد غصناً، وملك هذا النزر اليسير الباقي من الجزيرة ملوك بني الأحمر، فلم يزالوا مع العدو في تعب وممارسة كما ذكره ابن عاصم قريباً، وربما أثخنوا في الكفار كما علم في أخبارهم، وانتصروا بملوك فاس بني مرين، في بعض الأحايين. ولما قصد ملوك الإفرنج السبعة في المائة الثامنة غرناطة ليأخذوها اتفق أهلها على أن يبعثوا لصاحب المغرب من بني مرين يستنجدونه، وعينوا للرسالة الشيخ

_ (1) ص ق: أتاور؛ والأتوار: الآتية، والمفرد تور. (2) الطيافير: أطباق مستديرة عميقة قاعها مستو وحافاتها مرتفعة. (3) إلى هنا وقف النقل في أزهار الرياض.

أبا إسحاق ابن أبي العاصي والشيخ أبا عبد الله الطنجالي والشيخ ابن الزيات البلشي نفع الله تعالى بهم؛ ثم بعد سفرهم نازل الإفرنج غرناطة بخمسة وثلاثين ألف فارس ونحو مائة ألف راجل مقاتل، ولم يوافقهم سلطان المغرب، فقضى الله تعالى ببركة المشايخ الثلاثة أن كسر النصارى في الساعة التي كسر خواطرهم فيها صاحب المغرب، وظهرت في ذلك كرامة لسيدي أبي عبد الله الطنجالي رحمه الله تعالى. ثم إن بني الأحمر ملوك الأندلس الباقية بعد استيلاء الكفار على الجل كانوا في جهاد وجلاد في غالب أوقاتهم، ولم يزل ذلك شأنهم حتى أدرك دولتهم الهرم الذي يلحق الدول، فلما كان زمان السلطان أبي الحسن علي بن سعد النصري الغالبي الأحمري، واجتمعت الكلمة عليه بعد أن كان أخوه أبو عبد الله محمد بن سعد المدعو بالزغل قد بويع بمالقة، بعد أن جاء به القواد من عند النصارى وبقي بمالقة برهة من الزمن، ثم ذهب إلى أخيه، وبقي من بمالقة من اقواد والؤساء فوضى، وآل الحال إلى أن قامت مالقة بدعوة السلطان أبي الحسن، وانقضت الفتنة. واستقل السلطان أبو الحسن بملك ما بقي بيد المسلمين من بلاد الأندلس، وجاهد المشركين، وافتتح عدة أماكن، ولاحت له بارقة الكرة على العدو الكافر، وخافوه، وطلبوا هدنته، وكثرت جيوشه، فأجمع على عرضها كلها بين يديه، وأعد لذلك مجلساً أقيم له بناؤه خارج الحمراء قلعة غرناطة، وكان ابتداء هذا العرض يوم الثلاثاء تاسع عشر ذي الحجة عام اثنين وثمانين وثمانمائة، ولم تزل الجنود تعرض عليه كل يوم إلى الثاني والعشرين من محرم السنة التي تليها، وهو يوم ختام العرض، وكان معظم المتنزهين والمتفرجين بالسبيكة وما قارب ذلك، فبعث الله تعالى سيلاً عارماً على وادي حدره بحجارة وماء غزير كأفواه القرب، عقاباً من الله سبحانه وتأديباً لهم لمجاهرتهم بالفسق والمنكر، واحتمل الوادي ما على حافتيه من المدينة من حوانيت ودور ومعاصر وفنادق وأسواق وقناطر وحدائق، وبلغ تيار السيل إلى رحبة الجامع الأعظم

ولم يسمع بمثل هذا السيل في تلك البلاد. وكان بين رؤساء الإفرنج في ذلك الوقت اختلاف، فبعضهم استقل بملك قرطبة، وبعض بإشبيلية، وبعض بشريش، وعل ذلك كان صاحب غرناطة السلطان أبو الحسن قد استرسل في اللذات، وركن إلى الراحات، وأضاع الأجناد، وأسند الأمر إلى بعض وزرائه، واحتجب عن الناس، ورفض الجهاد والنظر في الملك، ليقضي الله تعالى ما شاء، وكثرت المغارم والمظالم، فأنكر الخاصة والعامة ذلك منه، وكان أيضاً قد قتل كبار القواد وهو يظن أن النصارى لا يغزون بعد البلاد، ولا تنقضي بينهم الفتنة ولا ينقطع الفساد. وافق أن صاحب قشتالة تغلب على بلادها بعد حروب، وانقاد له رؤساء الشرك المخالفون، ووجدت النصارى السبيل إلى الإفساد، والطريق إلى الاستيلاء على البلاد، وذلك أنه كان للسلطان أبي الحسن ولدان محمد ويوسف وهما من بنت عمه السلطان أبي عبد الله الأيسر، وكان قد اصطفى على أمهما رومية كان لها منه بعض ذرية، وكانت حظية عنده مقدمة في كل قضية، فخيف أن يقدم أولاد الرومية، على أولاد بنت عمه السنية، وحدث بين خدام الدولة التنافر والتعصب، لميل بعضهم إلى أولاد الحرة، وبعض إلى أولاد الرومية، وكان النصارى أيام الفتنة بينهم هادنوا السلطان لأمدٍ حددوه وضربوه، ولما تم أمد الصلح وافق وقته هذا الشأن بين أولياء الدولة بسبب الأولاد، وتشكى الناس مع ذلك بالوزير والعمال لسوء ما عاملوا به الناس من الحيف والجور، فلم يصغ غليهم، وكثر الخلاف واشتد الخطب، وطلب الناس تأخير الوزير، وتفاقم المر، وصح عند النصارى - لعنهم الله تعالى - ضعف الدولة واختلاف القلوب فبادروا إلى الحامة (1) فأخذوها غدراً آخر أيام الصلح على يد صاحب قادس سنة سبع وثمانين وثمانمائة، وغدوا للقلعة، وتحصنوا بها، ثم شرعوا في أخذ البلد، فملأوا الطرق خيلاً ورجالاً، وبذلوا السيف فيمن ظهر من المسلمين، ونهبوا

_ (1) ص ق: الحمة.

الحريم، والناس في غفلة نيام من غير استعداد كالسكارى، فقتل من قضى الله تعالى بتمام أجله، وهرب البعض وترك أولاده وحريمه، واحتوى العدو على البلد بما فيه، وخرج العامة والخاصة من أهل غرناطة عندما بلغهم العلم، وكان النصارى عشرة آلاف بين ماشٍ وفارس، وكانوا عازمين على الخروج بما غنموه، وإذا بالسرعان من أهل غرناطة وصلوا، فرجع العدو إلى البلد، فحاصرهم المسلون، وشددوا في ذلك، ثم تكاثر المسلمون خيلاً ورجالاً من جميع بلاد الأندلس، ونازلوا الحامة، وطمعوا في منع الماء عن العدو، وتبين للعامة أن الجند لمينصحوا، فأطلقوا ألسنتهم بأقبح الكلام فيهم وفي الوزير، وبينما هم كذلك إذا بالنذير جاء أن النصاى أقبلوا في جمع عظيم لإغاثة من بالحامة من النصارى، فأقلع جند المسلمين من الحامة، وقصدوا ملاقاة الواردين من بلاد العدو، ولما علم بهم العدو ولوا الأدبار من غير ملاقاة محتجين بقتلهم، وكان رئيسهم صاحب قرطبة. ثم إن صاحب إشبيلية جمع جنداً عظيماً من جيش النصارى الفرسان والرجالة، وأتى لنصره من في الحامة من النصارى، وعندما صح هذا عند العسكر اجتمعوا، وأشاعوا عند الناس أنهم خرجوا بغير زاد ولا استعداد، والصلاح الرجوع إلى غرناطة، ليستعد الناس ويأخذوا ما يحتاج إليه الحصار من العدة والعدد، فعندما أقلع المسلمون عنها دخلتها النصارى الواردون، وتشاوروا في إخلائها أو سكناها، واتفقوا على الإقامة بها، وحصنوها، وجعلوا فيها جميع ما يحتاج إليه، وانصرف صاحب إشبيلية، وترك أجناده، وفرق فيهم الأموال، ثم عاد المسلمون لحصارها، وضيقوا عليها، وطمعوا فيها من جهة موضع كان النصارى في غفلة عنه، ودخل على النصارى جملة وافرة من المسلمين، وخاب السعد بذلك بأن شعر بهم النصارى، فعادوا عليهم، وتردى بعضهم من أعلى الجبل، وقتل أكثرهم، وكانوا من أهل بسطة ووادي آش، فانقطع أمل الناس من الحامة، ووقع الإياس من ردها.

وفي جمادى الأولى من السنة تواترت الأخبار أن صاحب قشتالة أتى في جنود لا تحصى ولا تحصر، فاجتمع الناس بغرناطة، وتكلموا في ذلك، وإذا به قصد لوشة ونازلها قصداً أن يضيفها إلى الحامة، وجاء بالعدة والعدد، وأغارت على النصارى جملة من المسلمين، فقتلوا من لحقوه، وأخذوا جملة من المافع الكبار، ثم جاءت جماعة أخرى من أهل غرناطة، وناوشوا النصارى، فألجؤوهم إلى الخروج عن الخيام، وأخذوها وغيرها، فهرب النصارى، وتركوا طعاماً كثيراً وآلة ثقيلة، وذلك في السابع والعشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة. وفي هذا اليوم بعينه هرب الأميران أبو عبد الله محمد وأبو الحجاج يوسف خوفاً من أبيهما أن يفتك بهما بإشارة حظيته الرومية ثريا، واستقرا بوادي آش، وقامت بدعوتهما، ثم بايعتهما تلك المرية وبسطة وغرناطة، وهرب أبوهما السلطان أبو الحسن إلى مالقة. وفي صفر سنة ثمان وثمانين وثمانمائة اجتمع جميه رؤساء النصارى، وقصدوا قرى مالقة وبلش، في نحو الثمانية آلاف، وفيهم صاحب إشبيلية وصاحب شريش وصاحب إستجة وصاحب أنتقيرة وغيرهم، فلم يتمكنوا من أخذ حصن، ونشبوا في أوعار ومضايق وخنادق وجبال، واجتمع عليهم أهل بلش ومالقة، وصار المسلمون ينالون منهم في كل محل، حتى بلغوا مالقة، ففر كبيرهم، ومن بقي أسر أو قتل، وكان السلطان أبو الحسن في ذلك الوقت قد تحرك لنواحي المنكب، وبقي أخوه أبو عبد الله بمالقة ومعه بعض الجند، وقتل من النصارى في هذه الوقعة نحو ثلاثة آلاف، وأسر نحو ألفين، ومن جملتها خال السلطان وصاحب إشبيلية وصاحب شريش وصاحب أنتقيرة وغيرهم، وهم نحو الثلاثين من الأكابر، وغنم المسلمون غنيمة وافرة من الأنفس والأموال والعدة والذهب والفضة، وبعقب ذلك سافر أهل مالقة لبلاد النصارى، فكسوا هنالك كسرة شنيعة قتل فيها أكثر قواد غرب الأندلس.

ولما استقر السلطان أبو عبد الله ابن السلطان أبي الحسن بغرناطة وطاعت له البلاد غير مالقة والغربية تحرك السلطان أبو الحسن على المنكب ونواحيها، وأتى ابنه السلطان أبو عبد الله في جند غرناطة والجهة الشرقية، والتقوا في موضع يعرف بالدب، فكسر السلطان أبو عبد الله. ولما سمع السلطان أبو عبد الله صاحب غرناطة بأن عمه بمالقة غنم من النصارى أعمل السفر للغزو بأهل بلاده من غرناطة والشرقية، وذلك في ربيع الأول من السنة، إلى أن بلغ نواحي لشانة، وقتل وأسر وغنم، فتجمعت عليه النصارى من جميع تلك النواحي ومعه كبير قبرة، وحالوا بين المسلمين وبلادهم في جبال وأوعار، فانكسر الجند، وأسر من الناس كثير وقتل آخرون، وكان في جملة من أسر السلطان أبو عبد الله، ولم يعرف، ثم علم به صاحب لشانة، وأراد صاحب قبرة أن يأخذ منه، فهرب به ليلاً، وبلغه إلى صاحب قشتالة، ونال بذلك عنده رفعة على جميع القواد، وتفاءل به، فقلما توجه لجهةٍ أو بعث سريةً إلا وبعثه فيها. ولما أسر السلطان أبو عبد الله اجتمع كبراء غرناطة وأعيان الأندلس، وذهبوا به لغرناطة، وبايعوه، مع أنه كان أصابه مثل الصرع إلى أن ذهب بصره، وأصابه ضرر، ولما تعذر أمره قدم أخاه أبا عبد الله، وخلع له نفسه، ونزل بالمنكب، فأقام بها إلى أن مات، واستقل أخوه أبو عبد الله المعروف بالزغل بالملك بعده. وأما عبد الله ابن السلطان أبي الحسن فهو في أسر العدو. وفي شهر ربيع الآخر من سنة تسعين وثمانمائة خرج العدو في قوة إلى نواحي مالقة، بعد أن كان في السنة قبلها استولى على حصون، فاستولى هذه السنة على بعض الحصون، وقصد ذكوان، فهد أسوارها، وكان جملة من أهل الغربية ورندة، ودخل ألف مدرع ذكوان عنوة، فأظفر الله تعالى بهم أهل ذكوان، فقتلوهم جميعاً، ثم طلبوا الأمان وخرجوا.

ثم انتقل في جمادى الأولى إلى رندة وحاصرها، وكان أهلها خرجوا إلى نصرة ذكوان وسواها، فحاصر رندة وهد أسوارها، وخرج أهلها على الأمان، وطاعت له جميع تلك البلاد، ولم يبق بغربي مالقة إلا من دخل في طاعة الكافر وتحت ذمته، وضيق بمالقة، وفرق حصصه على بعض الحصون ليحاصروا مالقة، وعاد إلى بلاده. وفي تاسع عشر شعبان من العام سافر صاحب غرناطة لتحصين بعض البلاد، وبينما هو كذلك إذا بالخبر جاءه أن محلة العدو خارجة لذلك الحصن. وفي صبيحة الثاني والعشرين من شعبان أصبحت جنود النصارى على الحصن، كانوا قد سروا إليه ليلاً، وأصبحوا عند الفجر مع جند المسلمين، فقاتلهم المسلمون من غير تعبية، فاختل نظام المسلمين، ووصل النصارى إلى خباء السلطان، ثم التحم القتال واشتد، وقوى الله تعالى المسلمين فهزموا النصارى شر هزيمة، وقتل منهم خلائق، وقصر المسلمون خوفاً من محلة السلطان النصارى إذ كانت قادمة في أثر هذه، ولما رجعت إليهم الفلول رجعوا القهقرى، واستولى المسلمون على غنائم كثيرة وآلات، وجعلوا ذلك كله بالحصن، ولم يحدث شيء بعد إلى رمضان، فتوجه الكافر إلى حصن قنبيل ونازله وهد أسواره، ولم رأى المسلمون أن الحصن قد دخل طلبوا الأمان، وخرجوا بأموالهم وأولادهم مؤمنين، وفر الناس من تلك المواضع مع البراجلة هاربين، واستولى العدو على عدة حصون مثل مشاقر وحصن اللوز، وضيق العدو بجميع بلاد المسلمين، ولم يتوجه إلى ناحية إلا استأصلها، ولا قصد جهة إلا أطاعته وحصلها، ثم إن العدو دبر الحيلة مع ما هو عليه من القوة، فبعث إلى السلطان أبي عبد الله الذي تحت أسره وكساه ووعده بكل ما يتمناه، وصرفه لشرقي بسطة، وأعطاه المال والرجال، ووعده أن من دخل تحت حكمه من المسلمين وبايعه من أهل البلاد فإنه في الهدنة والصلح والعهد والميثاق الواقع بين السلطانين، وخرج لبلش فأطاعه أهلها، ودخلت بلش في طاعته، ونودي بالصلح في الأسواق، وصرخت

به في تلك البلاد الشياطين، وسرى هذا الأمر حتى بلغ أرض البيازين من غرناطة، وكانوا من التعصب وحمية الجاهلية والجهل بالمقام الذي لا يخفى، وتبعهم بعض المفسدين المحبين في تفريق كلمة المسلمين، وممن مال إلى الصلح عامة غرناطة لضعف الدولة، ووسوس للناس شياطين الفتنة وسماسرتها بتقبيحٍ وتحسينٍ، إلى أن قام ربض البيازين بدعوة السلطان الذي كان مأسوراً عند المشركين، ووقعت فتنة عظيمة في غرناطة نفسها بين المسلمين لما أراده الله تعالى من استيلاء العدو على تلك الأقطار، ورجموا البيازين بالحجارة من القلعة، وعظم الخطب، وكانت الثورة ثالث شهر ربيع الأول عام أحد وتسعين وثمانمائة، ودامت الفتنة إلى منتصف جمادى الأولى من العام، وبلغ الخبر أن السلطان الذي قاموا بدعوته قدم على روشة ودخلها على وجه رجاء الصلح بينه وبين عمه الزغل صاحب قلعة غرناطة، بأن العم يكون له الملك، وابن أخيه تحت إيالته بلوش أو بأي المواضع أحد، ويكونون يداً واحدة على عدو الدين، وبينهم في هذا إذا بصاحب قشتالة قد خرج بجند عظيم ومحلة قوية وعدد وعدد، ونازل لوشة حيث السلطان أبو عبد الله الذي كان أسيراً، وضيق بها الحصار، وكان قد دخلها جماعة من أهل البيازين بنية الجهاد ولمعاضدة وليهم، وخاف أهل غرناطة وسواها من أن يكون ذلك حيلة، فلم يأت لنصرته غيرالبيازين، واشتد عليهم الحصار، وكثرت الأقاويل، وصرحت الألسن بأن ذلك باتفاق بين السلطان المأسور وصاحب قشتالة، ودخل على أهل لوشة في ربضهم، وخافوا من الاستئصال، فطلبوا الأمان في أموالهم وأنفسهم وأهليهم، فوفى لهم صاحب قشتالة بذلك، وأخذ البلد في السادس والعشرين لجمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وثمانمائة. وهي - أعني لوشة - كانت بلد سلف الوزير لسان الدين ابن الخطيب، كما ذكرناه مستوفى في غير هذا الموضع، وهاجر أهل لوشة إلى غرناطة، وبقي السلطان أبو عبد الله الذي كان مأسوراً مع النصراني في لوشة، فصرح عند ذلك أهل غرناطة بأنه ما جاء للوشة إلا ليدخل إليها العدو الكافر

ويجعلها فداء له، وقيل: إن سرح له حينئذٍ ابنه إذ كان مرهوناً في الفداء، وكثر القيل والقال بينهم وبين أهل البيازين، فظهر بذلك ما كان كامناً بالقلوب، ثم رجع صاحب قشتالة إلى بلاده ومعه السلطان المذكور. وفي نصف جمادى الثانية خرج إلى إلبيرة فهد بعض الأسوار، وتوعد الناس، فأعطاه أهله الحصن على الأمان، فخرجوا وقدموا على غرناطة، ثم فعل بحصن المتلين (1) مثل ذلك، وقاتلوا قتالاً شديداً، ولما ضاقوا ذرعاً أعطوه بالمقادة على الأمان، فخرجوا إلى غرناطة وأطاع أهل قلنبيرة من غير قتال، فخرجوا إلى غرناطة ثم وصل العدو إلى منتفريد، فرمى عليهم بالمحروقات وغيرها وأحرق دارالعدة، وطلبوا الأمان، وخرجوا إلى غرناطة، وانتقل للصخرة فأخذها، وحصن هذه الحصون كلها، وشحنها بالرجال والعدة، ورتب فيها الخيل لمحاصرة غرناطة، ثم عاد الكافر لبلاده، وتعاهد مع السلطان الذي في أسره بأن من دخل في حكمه وتحت أمره فهو في الأمان التام، وأشاعوا أن ذلك بسبب فتنة وقعة بينه وبين صاحب إفرنسية، فخرج لبلش وأطاعته، ثم بعث لمن والاه من البلاد أنه أتى بصلح صحيح وعقد وثيق، وأن من دخل تحت أمره أمن من حركة النصارى عليه، وأن معه وثائق بخطوط السلاطين، فلم يقبل الناس ذلك، إلا القليل منهم مثل أهل البيازين، فلهجوا بهذا الصلح وأقاموا على صفحته الدلائل، وتكلموا في أهل غرناطة بالكلام القبيح، مع تمكن الفتنة والعداوة في القلوب، فبعث له أهل البيازين أنه إذا قدم بهذه الحجج لتلك الجهات اتبعه الناس، وقاموا بدعوته من غير التباس، فأتى على حين غفلة، ولم يكن يظن اتيانه بنفسه، فأتى البيازين ودخلها ونادى في أسواقها بالصلح التام الصحيح، فلم يقبل ذلك منه أهل غرناطة، وقالوا: ما بعهد لوشة من قدم، ودخل ربض البيازين سادس شوال سنة إحدى وتسعين وثمانمائة، وعمه بالحمراء،

_ (1) هذا ما ثبت في ص؛ وفي ق: الملتين، وفي دوزي: المثلين.

انتقل للقلعة، واشتد أمر الفتنة، ثم إن صاحب قشتالة أمد صاحب البيازين بالرجال والعدة والمال والقمح والبارود وغيرها، واشتد أمره بذلك، وعظمت أسباب الفتنة، وفشا في الناس القتل والنهب، ولم يزل الأمر كذلك إلى السابع والعشرين من محرم سنة اثنين وتسعين وثمانمائة، فعزم أهل غرناطة مع سلطانهم على الدخول على البيازين عنوةً، وتكلم أهل العلم في من النتصر بالنصارى ووجوب مدافعته، ومن أطاعه عصى الله ورسوله، فدخلوا على أهل البيازين دخول فشل، ثم إن صاحب غرناطة بعث إلى الأجناد والقواد من أهل بصرة ووادي آش والمرية والمنكب وبلش ومالقة وجميع الأقطار، وتجمعوا بغرناطة، وتعاهدوا، وتحالفوا على أن يدهم واحدة على أعداء الدين، ونصرة من قصده العدو من المسلمين، وخاف صاحب البيازين فبعث لصاحب قشتالة في ذلك فخرج لمحلته قاصداً نواحي بلش، وكان صاحب البيازين بعث وزيره إلى ناحية مالقة وإلى حصن المنشأة يذكر ويخوف، ومعه نسخة من عقود الصلح، فقامت مالقة وحصن المنشأة بعوته، ودخلوا في إيالته خوفاً من صاحب قشتالة وصولته، وطمعاً في الصلح وصحته، ثم اجتمع كبار مالقة مع أهل بلش وذكروا لهم سبب دخولهم في هذه الدعوة، والسبب الحالمل لهم على ذلك، فلم يرجع أهل بلش عما عاهدوا عليه أهل غرناطة وسائر الأندلس من العهود والمواثيق، وخرج صاحب قشتالة قاصداً بلش مالقة، ونزل عليها في ربيع الثاني سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة وحاصرها، ولما صح عند صاحب غرناطة ذلك اجتمع بالناس، فأشاروا بالمسير لإغاثة بلش للعهد الذي عقدوه، وأتى أهل وادي آش وغيرها وحشود البشرات، وخرج صاحب غرناطة منها في الرابع والعشرين لربيع الثاني من السنة، ووصل بلش، فوجد العدو نازلاً عليها براً وبحراً، فنزل بجبلٍ هنالك، وكسر لغط الناس، وحملوا على النصارى من غير تعبية، وحين حركتهم بالحملة بلغ السلطان الزغل أن غرناطة بايعت صاحب البيازين، فالتقوا مع النصارى فشلين وقبل الالتحام انهزموا، وتببد جموعهم مع كون

النصارى خائفين وجلين منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فرجعوا منهزمين، وقد شاع عند الخواص ثورة غرناطة على السلطان، فقصدوا وادي آش، وعاد النصارى إلى بلش بعد أن كانوا رتبوا جيوشهم للقاء السلطان وأهل غرناطة، فلما عادوا إلى بلش دخلوا عنوة ربضها، وضيقوا بها، وكانت ثورة غرناطة، خامس جمادى الأولى. ولما رأى أهل بلش تكالب العدو عليهم وإدبار جيوش المسلمين عنهم طلبوا الأمان، فخرجوا يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى من السنة، وأطاعت النصارى جميع البلاد التي بشرقي مالقة وحصن قمارش. ثم انتقل العدو إلى حصار مالقة، وكان أهل مالقة قد دخلوا في الصلح وأطاعوا صاحب البيازين، وأتى إليها النصارى بالميرة، ولما نزل بلش بعثوا هدية لصاحب قشتالة مع قائدهم وزير صاحب البيازين وقائد شريش الذي كان مأسوراً عندهم، فلم يلتفت إليهم صاحب قشتالة لقيام جبل فاره وهو حصن مالقة بدعوة صاحب وادي آش، وارتحل صاحب قشتالة إلى مالقة ونازلها براً وبحراً، وقاتله أهلها قتالاً عظيماً بمدافعهم وعدتهم وخيلهم ورجلهم، وطال الحصار حتى أداروا على مالقة من البر الخنادق والسور والأجفان من البحر، ومنع الداخل إليها، ولم يدخلها غير جماعة من المرابطين حال الحصار، وحاربوا حرباً شديداً، وقربوا المدافع ودخلوا الأرباض، وضيقوا عليهم بالحصار إلى أن فني ما عندهم من الطعام (1) فأكلوا المواشي والخيل والحمير، وبعثوا الكتب للعدوتين وهم طامعون في الإغاثة فلم يأت إليهم أحد، وأثر فيهم الجوع، وفشا في أهل نجدتهم القتل، ولم يظهروا مع ذلك هلعاً ولا ضعفاً، إلى أن ضعف حالهم، ويئسوا من ناصر أو مغيث من البر والبحر، فتكلموا مع النصارى في الأمان كما وقع ممن سواهم، فعوتبوا على ما صدر منهم وما وقع من الجفاء، وقيل لهم

_ (1) من الطعام: سقطت من ص.

لما تحقق العدو التجاءهم: تؤمنون من الموت، وتعطون مفتاح القلعة والحصن، والسلطان ما يعاملكم إلا بالخير إذا فعلتم، وهذا خداع من الكفار، فلما تمكن العدو منهم أخذهم أسرى، وذلك أواخر شعبان سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة، ولم يبق في تلك النواحي موضع إلا وملكه النصارى. وفي عام ثلاثة وتسعين وثمانمائة خرج العدو الكافر إلى الشرقية وبلش التي كانت في الصلح، فاستولى عليها، واحتجوا بالصلح، فلم يلتفت إليهم، وأخذ تلك البلاد كلها صلحاً، ثم رجع لبلاده. وفي عام أربعة وتسعين وثمانمائة خرج لبعض حصون بسطة فأخذها بعد حرب، واستولى على ما هنالك من الحصون، ثم نازل بسطة، وكان صاحب وادي آِ لما تعين العدو بمحلته بعث جميع جنده وقواده، وحشد أهل نجدة تلك البلاد من وادي آش والمرية والمنكب والبشرات، فلما نزل العدو بسطة أتت الحشود المذكورة ودخلوها ووقعت بين المسلمين والنصارى حروب عظيمة حتى تقهقر العدو عن قرب بسطة، ولم يقدر على منع الداخل والخارج، وبقي الأمر كذلك رجباً وشعبان ورمضان ومحلات المسلمين نازلة خارج البلد، ثم إن العدو شد الحصاروجد في القتال، وقرب المدافع والآلات من الأسوار حتى منع الداخل والخارج بعض منعٍ، واشتد الحال في ذي القعدة وذي الحجة وقل الطعام، وفي آخر ذي الحجة اختبروا الطعام في خفية فلم يجدوا إلا القليل، وكانوا طامعين في إقلاع العدو عند دخول فصل الشتاء، وإذا بالعدو بنى وعزم على الإقامة، وقوي اليأس على المسلمين، فتكلموا في الصلح على ما فعل غيرهم من الأماكن، وظن العدو أن الطعام لم يبق منه شيء، وأن ذلك هو الملجئ لهم للكلام، وفهموا عنه ذلك، فاحتالوا في إظهار جميع أنواع الطعام بالأسواق، وأبدوا للعدو القوة مع كونهم في غاية الضعف، والحرب خدعة، فدخل بعض كبار النصارى للتكلم معهم وهو عين ليرى ما عليه البلد وما صفة الناس، وعند تحققهم بقاء الطعام والقوة أعطوهم الأمان على أنفسهم دون من أعانهم من أهل

وادي آش والمنكب والمرية والبشرات، فإن دفعوا هؤلاء عنهم صح لهم الأمان، وإلا فلا، فلم يوافق أهل البلد على هذا، وطال الكلام، وخاف أهل البلد من كشف الستر، فاتفقوا أن تكون العقدة على بسطة ووادي آش والمرية والمنكب والبشرات، ففعلوا ذلك، ودخل جميع هؤلاء في طاعة العدو على شروط شرطوها وأمور أظهروها بعضها للناس وبعضها مكتوم، وقبض الخواص مالاً، وحصلت لهم فوائد. وفي يوم الجمعة عاشر محرم سنة خمس وتسعين وثمانمائة دخل النصارى قلعة بسطة وملكوها، ولم يعلم العوام كيفية ما وقع عليه الشرط والالتزام، وقالوا لهم: من بقي بموضعه فهو آمن، ومن انصرف خرج بماله وسلاحه سالماً، ثم أخرج العدو المسلمين من البلد، وأسكنهم بالربض خوف الثورة، ثم ارتحل العدو للمرية، وأطاعته جميع تلك البلاد، ونزل صاحب وادي آش للمرية ليلقاه بها، فلقيه وأخذ الحصون والقلاع والبروج، وبايع له السلطان أبو عبد الله على أن يبقى تحت طاعته في البلاد التي تحت حكمه كما أحب، فوعده بذلك، وانصرف معه إلى وادي آش، ومكنه من قلعتها أوائل صفر من العام المذكور، وأطاعته جميع البلاد، ولم يبق غير غرناطة وقراها، وجميع ما كان في حكم صاحب وادي آش صار للنصارى في طرفة عين، وجعل في كل قلعة قائداً نصرانياً، وكان قائد من المسلمين أصحاب هذه البلاد دفع لهم الكفار مالاً من عند صاحب قشتالة إكراماً منه لهم بزعمهم، فتباً لعقولهم، وما ذلك منه إلا توفير لرجاله وعدته ودفع بالتي هي أحسن، ثم أخذ برج الملاحة وغيره، وبناه وحصنه، وشحن الجميع بالرجال والذخيرة، وأظهر الصحبة والصلح مع صاحب وادي آش، وأباح الكلام بالسوء في حق صاحب غرناطة مكراً منه وخداعاً ودهاء، ثم بعث في السنة نفسها رسلاً لصاحب غرناطة أن يمكنه من الحمراء كما مكنه عمه من القلاع والحصون، ويكون تحت إيالته، ويعطيه مالاً جزيلاً على ذلك، وأي بلاء شاء من الأندلس يكون فيها تحت حكمه، قالوا:

وأطعمه صاحب غرناطة في ذلك، فخرج العدو في محلاته لقبض الحمراء والاستيلاء على غرناطة، وهذا في سر بين السلطانين، فجمع صاحب غرناطة الأعيان والكبراء والأجناد والفقهاء والخاصة والعامة وأخبرهم بما طلب منه العدو وأن عمه أفسد عليه الصلح الذي كان بينه وبين صاحب قشتالة بدخوله تحت حكمه، وليس لنا إلا إحدى خصلتين: الدخول تحته، أو القتال، فاتفق الرأي على الجهاد والوفاء بما عقده من صلح، وخرج بمحلته. ثم إن صاحب قشتالة نزل على مرج غرناطة، وطلب من أهل غرناطة الدخول في طاعته، وإلا أفسد عليهم زروعهم، فأعلنوا بالمخالفة، فأفسد الزرع، وذلك في رجب سنة خمس وتسعين وثمانمائة، ووقعت بين المسلمين والعدو حروب كثيرة، ثم ارتحل العدو عند الإياس منهم ذلك الوقت، وهدم بعض حصون، وأصلح برج همدان والملاحة، وشحنهما بما ينبغي، ثم رجع إلى بلاده، وعند انصرافه نزل صاحب غرناطة بمن معه إلى بعض الحصون التي في يد النصارى ففتحها عنوة، وقتل من فيها من النصارى، وأسكنها المسلمين، ورجع لغرناطة، ثم أعمل الرحلة إلى البشرات في رجب المذكور، فأخذ بعض القرى، وهرب من بها من النصارى والمرتدين أصحابهم، ثم أتى حصن أندرش فتمكن منه، وأطاعته البشرات، وقامت دعوة الإسلام بها، وخرجوا عن ذمة النصارى، وهنالك عمه أبو عبد الله محمد بن سعد بجملة وافرة، فقصدهم في شعبان من غرناطة، واستقر عمه بالمرية، وأطاعت صاحب غرناطة جميع البشرات إلى برجة، ثم تحرك عمه مع النصارى إلى أندرش فأخذها لرمضان، ورج صاحب غرناطة لقرية همدان، وكان برجها العظيم مشحوناً بالرجال والعدة والطعام، فحاصره أهل غرناطة، ونصبوا عليه أنواعاً من الحرب، ومات فيه خلق كثير منهم، ونقبوا البرج الأول والثاني والثالث، وألجؤوهم للبرج الكبير، وهو القلعة، فنقبوها ثم أسروا من كان بها، وهو ثمانون ومائة، واحتووا على ما هنالك من عدة وآلات حرب.

وفي آخر رمضان خرج صاحب غرناطة بقصد المنكب، فلما وصل حصن شلوبننية نزله، وأخذه عنوة بعد حصارة، وامتنعت القلعة، وجاءتهم الأمداد من مالقة بحراً فلم تقدر على شيء، وضيقوا بالقلعة، فوصلهم الخبر أن صاحب قشتالة خرج بمحلته لمرج غرناطة، فارتحل صاحب غرناطة عن قلعة شلوبانية، وجاء غرناطة ثالث شوال، وبعد وصولهم غرناطة وصل العدو إلى المرج ومعه المرتدون والمدجنون، وبعد ثمانية أيام ارتحل العدو لبلاده بعد هدم برج الملاحة وإخلائه وبرج آخر، وتوجه إلى وادي آش، فأخرج المسلمين منها، ولم يبق بها مسلم في المدينة ولا الربض، وهدم قلعة أندرش، وحاف على البلاد، ولما رأى ذلك السلطان الزغل وهو أبو عبد الله محمد بن سعد عم سلطان غرناطة بادر بالجواز لبر العدوة فجاز لوهران، ثم لتلمسان، واستقر بها، وبها نسله إلى الآن يعرفون ببني سلطان الأندلس، ودخل صاحب قشتالة لأقاصي مملكته بسبب فتنة بينه وبين الإفرنج ثم تحرك صاحب غرناطة على برشانة وحاصرها وأخذها، وأسر من كان بها من النصارى وأرادت فتيانه (1) القيام على النصارى، فجاء صاحب وادي آش ففتك فيهم. وفي ذي القعدة من السنة رفع صاحب غرناطة من الند وخلت تلك الأوطان من الانس. وفي ثاني عشري جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وثمانمائة خرج العدو بمحلاته إلى مرج غرناطة، وأفسد الزرع، ودوخ الأرض، وهدم القرى، وأمر ببناء موضع بالسور والحفير، وأحكم بناءه، وكانوا يذكرون أنه عزم على الانصراف فإذا به صرف الهمة إلى الحصار والإقامة، وصار يضيق على غرناطة كل يوم، ودام القتال سبعة أشهر، واشتد الحصار بالمسلمين، غبر أن النصارى على بعد، والطريق بين غرناطة والبشرات متصلة بالمرافق والطعام من ناحية

_ (1) ق ص: ر فنيانه.

جبل شلير، إلى أن تمكن فصل الشتاء، وكلب البرد، ونزل الثلج، فانسد باب المرافق، وقطع الجالب، وقل الطعام، واشتد الغلاء، وعظم البلاء، واستولى العدو على أكثر الأماكن خارج البلد، ومنع المسلمين من الحرث والسبب، وضاق الحال، وبان الاختلال، وعظم الخطب، وذلك أول عام سبعة وتسعين وثمانمائة، وطمع العدو في الاستيلاء على غرناطة بسبب الجوع والغلاء دون الحرب، ففر ناس كثيرون من الجوع إلى البشرات، ثم اشتد الأمر في شهر صفر من السنة، وقل الطعام، ثم تفاقم الخطب، فاجتمع ناس مع من يشار إليه من أهل العلم، وقالوا: انظروا في أنفسكم وتكلموا مع سلطانكم، فأحضر السلطان أهل الدولة وأرباب المشورة، وتكلموا في هذا المعنى، وأن العدو يزداد مدده كل يوم، ونحن لا مدد لنا، وكان ظننا أنه يقلع عنا في فصل الشتاء، فخاب الظن، وبنى وأسس، وأقام، وقرب منا، فانظروا لأنفسكم وأولادكم، فاتفق الرأي على ارتكاب أخف الضررين، وشاع أن الكلام وقع بين النصارى ورؤساء الأجناد قبل ذلك في إسلام البلد خوفاً على نفوسهم وعلى الناس، ثم عددوا مطالب وشروطاً أرادوها، وزادوا أشياء على ما كان في صلح وادي آش: منها أن صاحب رومة يوافق على الالتزام والوفاء بالشرط إذا أمكنوه من حمراء غرناطة والمعاقل والحصون، ويحلف على عادة النصارى في العهود، وتكلم الناس في ذلك، وذكروا أن رؤساء أجناد المسلمين لما خرجوا للكلام في ذلك امتن عليهم النصارى بمال جزيل وذخائر، ثم عقدت بينهم الوثائق على شروط قرئت على أهل غرناطة، فانقادوا إليها، ووافقوا عليها، وكتبوا البيعة لصاحب قشتالة، فقبلها منهم، ونزل سلطان غرناطة من الحمراء. وفي ثاني ربيع الأول من السنة - أعني سنة سبع وتسعين وثمانمائة - استولى النصارى على الحمراء ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان رهناً خوف الغدر، وكانت الشروط سبعة وستين منها: تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم

وعقارهم، ومنها إقامة شريعتهم على ما كانت ولا يحكم أحد عليهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك، وأن لايدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحداً، وأ، لايولى على المسلمين إلا مسلم أو يهودي ممن يتولى عليهم من قيل سلطانهم قبل، وأن يفتك جميع من أسر في غرناطة من حيث كانوا، وخصوصاً أعياناً نص عليهم، ومن هرب من أسارى المسلمين ودخل غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا سواه، والسلطان يدفع ثمنه لمالكه، ومن أراد الجواز للعدوة لا يمنع، ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان لا يلزمهم إلا الكراء ثم بعذ تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء (1) ، وأن لايؤخذ أحد بذنب غيره، وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى ودينهم، وأن من تنصر من المسلمين يوقف أياماً حتى يظهر حاله ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد، ولا يعاتب على من قتل نصرانياً أيام الحرب، ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداوة، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى (2) ولا يسفر لجهة من الجهات، ولا يزيدون على المغارم المعتادة، وترفع عنهم جميع المظالم والمغارم المحدثة، ولا يطلع نصراني للسور، ولا يتطلع على دور المسلمين، ولا يدخل مسجداً من مساجدهم، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمناً في نفسه وماله، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن، ولا يمنع مؤذن ولا مصلٍ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك منه يعاقب، ويتركون من المغارم سنين معلومة، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده، وأمثال هذا مما تركنا ذكره. م بعذ تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء، وأن لايؤخذ أحد بذنب غيره، وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى ودينهم، وأن من تنصر من المسلمين يوقف أياماً حتى يظهر حاله ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد، ولا يعاتب على من قتل نصرانياً أيام الحرب، ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداوة، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى ولا يسفر لجهة من الجهات، ولا يزيدون على المغارم المعتادة، وترفع عنهم جميع المظالم والمغارم المحدثة، ولا يطلع نصراني للسور، ولا يتطلع على دور المسلمين، ولا يدخل مسجداً من مساجدهم، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمناً في نفسه وماله، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن، ولا يمنع مؤذن ولا مصلٍ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك منه يعاقب، ويتركون من المغارم سنين معلومة، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده، وأمثال هذا مما تركنا ذكره. وبعد انبرام ذلك ودخول النصارى للحمراء والمدينةة جعلوا قائداً بالحمراء وحكاماً ومقدمين بالبلد، ولما علم ذلك أهل البشرات دخلوا في هذا الصلح، وشملهم حكمه على هذه الشروط، ثم أمر العدو الكافر ببناء ما يحتاج إليه في

_ (1) ثم ... والكراء: سقطت من ص. (2) أيام ... النصارى: سقطت من ص.

الحمراء وتحصينها، وتجديد بناء قصورها وإصلاح سورها، وصار الطاغية يختلف إلى الحمراء نهاراً ويبيت بمحلته ليلاً إلى أن اطمأن من خوف الغدر، فدخل المدينة، وتطوف بها، وأحاط خبراً بما يرومه، ثم أمر سلطان المسلمين أن ينتقل لسكنى البشرات وأنها تكون له وسكناه بأندرش، فانصرف إليها وأخرج الأجناد منها، ثم احتال في ارتحاله لبر العدوة، وأظهر أن ذلك طلبه منه المذكور، فكتب لصاحب المرية أنه ساعة وصول كتابي هذا لا سبيل لأحد أن يمنع مولاي أبا عبد الله من السفر حيث أراد من بر العدوة، ومن وقف على هذا الكتاب فليصرفه ويقف معه وفاء بما عهد له، فصرف في الحين بنص هذا الكتاب، وركب البحر، ونزل بمليلة، واستوطن فاساً، وكان قبل طلب الجواز لناحية مراكش، فلم يسعف بذلك وحين جوازه لبر العدوة لقي شدة وغلاء ووباء. ثم إن النصارى نكثوا العهد، ونقضوا الشروط عروة عروة، إلى أن آل الحال لحملهم المسلمين على التنصر سنة أربع وتسعمائة، بعد أمور وأسباب أعظمها وأقواها عليهم أنهم قالوا: إن القسيسين كتبوا على جميع من كان أسلم من النصارى أن يرجعوا قهراً للكفر، ففعلوا ذلك، وتكلم الناس ولا جهد لهم ولا قوة، ثم تعدوا إلى أمر آخر، وهو أن يقولوا للرجل المسلم: إن جدك كان نصرانياً فأسلم فترجع نصرانياً، ولما فحش هذا الأمر قام أهل البيازين على الحكام وقتلوهم، وهذا كان السبب للتنصر، قالوا: لأن الحكم خرج من السلطان أن من قام على الحاكم فليس إلا الموت إلا أن يتنصر فينجو من الموت، وبالجملة فإنهم تنصروا عن آخرهم وبادية وحاضرة، وامتنع قوم من التنصر، واعتزلوا الناس، فلم ينفعهم ذلك، وامتنعت قرى وأماكن كذلك منها بلفيق وأندرش وغيرهما، فجمع لهم العدو الجموع، واستأصلهم عن آخرهم قتلاً وسبياً، إلا ما كان من جبل بللنقة فإن الله تعالى أعانهم على عدوهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة مات فيها صاحب قرطبة، وأخرجوا على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خف من مالهم دون الذخائر، ثم بعد هذا كله كان من أظهر التنصر من المسلمين

يعبد الله في خفية ويصلي، فشدد عليهم النصارى في البحث، حتى إنهم أحرقوا منهم كثيراً بسبب ذلك، ومنعوهم من حمل السكين الصغيرة فضلاً عن غيرها من الحديد، وقاموا في بعض الجبال على النصارى مراراً ولم يقيض الله لهم ناصراً، إلى أن كان إخراج النصارى إياهم بهذا العصر القريب أعوام سبعة عشر وألف، فخرجت ألوف بفاس، وألوف أخر بتلمسان من وهران، وجمهورهم خرج بتونس، فتسلط عليهم الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى في الطرقات، ونهبوا أموالهم،وهذا ببلاد تلمسان وفاس، ونجا القليل من هذه المعرة، وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم، وهم لهذا العهد عمروا قراها الخالية وبلادها، وكذلك بتطاوين وسلا ومتيجة (1) الجزائر. ولما استخدم سلطان المغرب الأقصى منهم عسكراً جراراً وسكنوا سلا كان منهم من الجهاد في البحر ما هو مشهور الآن، وحصنوا قلعة سلا، وبنوا بها القصور والدور والحمامات وهم الآن بهذا الحال، ووصل جماعة إلى القسطنطينية العظمى وإلى مصر والشام وغيرها من بلاد الإسلام، وهم لهذا العهد على ما وصف، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. والسلطان المذكور الذي أخذت على يده غرناطة هو أبو عبد الله محمد الذي انقرضت بدولته مملكة الإسلام بالأندلس، ومحيت رسومها، ابن السلطان أبي الحسن ابن السلطان سعد ابن الأمير علي ابن السلطان يوسف ابن السلطان محمد الغني بالله، واسطة عقدهم، ومشيد مبانيهم الأنيقة، وسلطان دولتهم على الحقيقة، وهو المخلوع الوافد على الأصقاع المرينية بفاس، العائد منها لملكه في أرفع الصنائع الحمانية العاطرة الأنفاس، وهوسلطان لسان الدين ابن الخطيب، وقد ذكرنا جملة من أخباره في غبر هذا الموضع، ابن السلطان أبي الحجاج يوسف ابن السلطان اسماعيل قاتل سلطان النصارى دون بطره بمرج غرناطة ابنفرج "

_ (1) ق ص: وقيجة.

[ابن اسماعيل] بن يوسف بن نصر بن قيس، الأنصاري، الخزرجي، رحمهم الله تعالى جميعاً. وانتهى السلطان المذكور بعد نزوله بمليلة إلى مدينة فاس بأهله وأولاده معتذراً عما أسلفه، متلهفاً على ما خلفه، وبنى بفاس بعض قصور على طريق بنيان الأندلس، رأيتها ودخلتها، وتوفي رحمه الله تعالى بفاس عام أربعين وتسعمائة، ودفن بإزاء المصلى خارج باب الشريعة وخلف ولدين اسم أحدهما يوسف والآخر أحمد وعقب هذا السلطان بفاس إلى الآن، وعهدي بذريته بفاس سنة 1027،يأخذون من أوقاف الفقراء والمساكين، ويعدون من جملة الشحاذين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. رسالة المخلوع أبي عبد الله إلى الشيخ الوطاسي وقد رأيت أن أذكر هنا الرسالة التي كتب بها المخلوع المذكور إلى سلطان فاس الشيخ الوطاسي (1) ، وهي من إنشاء الكاتب المجيد البارع البليغ أبي عبد الله محمد بن عبد الله العربي العقيلي رحمه الله تعالى وسماها ب " الروض العاطر الأنفاس في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس " ونصها بعد الافتتاح: مولى الملوك ملوك العرب والعجم رعياً لما مثله يرعى من الذّمم بك استجرنا ونعم الجار أنت لمن جار الزّمان عليه جور منتقم حتى غدا ملكه بالرغم مستلباً وأفظع الخطب ما يأتي على الرغم حكمٌ من الله حتمٌ لا مردّ له وهل مردٌّ لحكمٍ منه منحتم وهي الليالي وقاك الله صولتها تصول حتى على الآساد في الأجم كنّا ملوكاً لنا في أرضنا دولٌ نمنا بها تحت أفنانٍ من النعم

_ (1) وردت هذه الرسالة في أزهار الرياض 1: 72 - 102.

فأيقظتنا سهام للردى صيب يرمى بأفجع حتف من بهن رمي فلا تنم تحت ظلّ الملك نومتنا وأيّ ملكٍ بظلّ الملك لك ينم يبكي عليه الذي قد كان يعرفه بأدمعٍ مزجت أمواهها بدم كذلك الدّهر لم يبرح كما زعموا يشمّ بوّ الصّغار الأنف ذا الشمم وصل أواصر قد كانت لنا اشتبكت فالملك بين ملوك الأرض كالرحم وابسط لنا الخلق المرجوّ باسطه واعطف ولا تنحرف واعذر ولا تلم لا تأخذنّا بأقوال الوشاة ولم ... نذنب ولو كثرت أقوال ذي الوخم (1) فما أطقنا دفاعاً للقضاء، ولا أرادت آنفسنا ما حلّ من نقم ولا ركوباً بإزعاجٍ لسابحةٍ في زاخر بأكفّ الموج ملتطم والمرء ما لم يعنه الله أضيع من طفلٍ تشكّى بفقد الأم في اليتم وكل ما كان غير الله يحرسه فإنّ محروسه لحمٌ على وضم كن كالسموأل إذ سار الهمام له ... في جحفلٍ كسواد اللّيل مرتكم فلم يبح أدرع الكندي وهو يرى أن ابنه البر قد أشفى على الرجم أو كالمعلّى مع الضليل الأروع إذ أجاره من أعاريب ومن عجم وصار يشكره شكراً يكافئ ما أسدى إليه من الآلاء والنّعم ولا تعاتب على أشياء قد قدرت وخطّ مسطورها في اللوح بالقلم " وعدّ عمّا مضى إذ لا ارتجاع له " (3) ... وعدّ أحرارنا في جملة الخدم إيهٍ حنانيك يا ابن الأكرمين على ... " ضيفٍ ألمّ بفاسٍ غير محتشم " (4)

_ (1) من قول كعب بن زهير: لا تأخذني بأقوال الوشاة فلم ... أذنب وإن كثرت فيّ الأقاويل (3) مضمن من الشعر القديم. (4) اقتبس صدر بيت المتنبي، وعجزه " السيف أحسن فعلاً منه باللمم ".

فأنت أنت ولولا أنت ما نهضت بنا إليها خطا الوخّادة الرّسم رحماك يا راحماً ينمى إلى رحما في النفس والأهل والأتباع والحشم فكم مواقف صدقٍ في الجهاد لنا والخيل عالكة الأشداق للّجم والسيف يخضب بالمحمرّ من علق ما ابيضّ من سبلٍ واسودّ من لمم ولا ترى صدر عضب غير منقصف ولا ترى متن لدن غير منحطم حتى دهينا بدهيا لا اقتدار لها سوى على الصون للأطفال والحرم فقال من لم يشاهدها فربّتما يخال جامحها يقتاد بالخطم هيهات لو زبنته الحرب كان بها ... أعيى يداً من يدٍ جالت على رحم (1) تالله ما أضمرت غشّاً ضمائرنا ولا طوت صحّةً منها على سقم لكن طلبنا من الأمر الذي طلبت ولاتنا قبلنا في الأعصر الدّهم فخاننا عنده الجدّ الخؤون، ومن تقعد به نكبات الدهر لم يقم فاسودّ ما اخضرّ من عيشٍ دهته عداً بالأسمر اللّدن أو بالأبيض الخذم وشتت البين شملاً كان منتظماً والبين أقطع للموصول من جلم فربّ مبنى شديد قد أناخ به ركب البلا فقرته أدمع الديم قمنا لديه أصيلاناً نسائله ... أعيا جواباً وما بالربع من إرم (2) وما ظننّا بأن نبقى إلى زمن نرى به غرر الأحباب كالحمم لكن رضىً بالقضا الجاري وإن طويت منّا الضلوع على برحٍ من الألم لبّيك يا من دعانا نحو حضرته دعاء إبراهم الحجّاج للحرم واعط الأمان الذي رصّت قواعده على أساس وفاء غير منهدم خليفة الله وافاك العبيد فكن في كلّ فضلٍ وطولٍ عند ظنهم وبين أسلافنا ما قد علمت به من اعتقاد بحكم الإرث مقتسم

_ (1) يشير إلى قولهم " أذل من يد في رحم ". (2) من قول النابغة: وقفت فيها أصيلاناً أسائلها ... عيت جواباً وما بالربع من أحد

وأنت منهم كأصلٍ مطلع غصناً أو كالشراك الذي قد قدّ من أدم وقد خطوت خطاهم في مآثرهم فلم يذموا إذن فيها ولم تذم وصيت مولى الورى الشيخ الإمام غدا في الناس أشهر من نارٍ على علم سلالة الأمراء الجلّة الكبراء العلية الظهراء القادة البهم بنو مرين ليوثٌ في عرين ابوا رؤيا قرينٍ لهم في البأس والكرم النازلين من البيضاء وسط حمىً أحمى من الأبلق السامي ومن إرم والجائسين بدهم الخيل كل ذرا والداعسين بسمر الخط كل كمي يريك فارسهم إن هزّ عامله في مارقٍ بلظى الهيجاء مضطرم ليثاً على أجدلٍ عارٍ من آجنحةٍ يسطو بأرقم لدّاغ بغير فم في اللاّم يدغم من عسّاله ألفاً ولم نجد ألفاً أصلاً بمدّغم أهل الحفيظة يوم الروع يحفظهم من عصمة الله ما يربي على العصم يا من تطير شرارٌ منه محرقةٌ لكلّ مدّرعٍ بالحزم محتزم هم بطائفة التثليث قد فتكوا كمثل ما يفتك السرحان بالغنم وإن يلثمهم يوم الوغى رهجٌ أنسوك ما ذكروه عن ذوي اللثم تضيء آراؤهم في كلّ معضلةٍ إضاءة السّرج في داجٍ من الظّلم هذا ولو من حياءٍ ذاب محتشمٌ لذاب منهم حياءً كلّ محتشم طابت مدائحهم إذ طابت آنفسهم فاشتقّت النسمات آسماً من النسم لله درّهم والسّحب باخلة بدرّهن على الأنعام والنعم بحيث آلافق يرى من لون حمرته كالشيب يخضب بالحنّاء والكتم هناك تنهلّ أيديهم بصوب حياً يحيي بالاجداث ما فيها من الرّمم وأنّ بيتي زيادٍ (1) طالما ذكرا ... إذ ألمّت أحاديث بذكرهم أحلام عادٍ وأجسامٌ مطهّرةٌ من لمعقّة والآفات والأثم

_ (1) زياد: النابغة الذبياني.

يرون حقاًعليهم حفظ جارهم فلم يضر نازلٌفيهم ولم يضم فروعه بالدواهي لا يراع، ولا يغمّ منها بما يعرو من الغمم هم البحار سماحاً غير أنّ بها ما قد أناف على الأطواد من همم وليس يسلم من حتفٍ محاربهم حتى يكون إليهم ملقي السّلم كم فيهم من أميرٍ أوحد ندسٍ يقرطس الغرض المقصود بالفهم ولا كبسط أبي حسون (1) من حسنت ... أمداحه حسن ما فيه من الشيم هذاكم ابن أبي ذكرى الهمام فقل في أصله المنتقى من مجده العمم خليفة الله حقّاً في خليقته كنائب ناب في حكمٍ عن الحكم مهما تنر قسماتٌ منه نيرةٌ تنل بنازله ما جلّ من نعم فوجهه بدجىً أو كفّه بجدىً أبهى من الزهر أو أندى من الديم وفضله وله الفضل المبين جرى كجري آلامثال في الأقطار والأمم وجوده المتوالي للبريّة ما وجوده بينها طرّاً بمنهدم إذا ابتغت نعماً منه العفاة له لم يسمعوا كلمةً منه سوى نعم وإن يعبّس زمانٌ في وجوههم لم يبصروا غير وجهٍ منه مبتسم وجه تبين سمات المكرمات به كما تبين سمات الصدق في الكلم وراحةٌ لم تزل في كلّ آونةٍ في نيلها راحة الشاكي من العدم لله ما التزمته من نوافله أيّام لا فرض مفروضٍ بملتزم أنسى الخلائف في حلمٍ وفي شرفٍ وفي سخاءٍ وفي علمٍ وفي فهم فجاز معتمداً منهم ومعتضداً وامتاز عن واثقٍ منهم ومعتصم وناصر الدين في الإقبال فاق، وفي محبّة العلم أزرى بابنه الحكم أفعال أعدائه معتلّةٌ أبداً متى يرم جذمها بالحذف تنجزم

_ (1) أبو حسون: هو أبو الحسن علي بن محمد الشيخ بن أبي زكريا يحيى بن زيان الوطاسي ويعرف بابن حسون الباذسي، بويع بفاس أول مرة سنة 932.

فويل أهل القلى من حيّة ذكرٍ للمتلئبّ المهام المجر ملتقم راموا عداوة من إن شاء غادرهم من الأحاديث عن عادٍ وعن إرم فسوف يأكلهم من جيشه لجبٌ بكلّ قرمٍ إلى لحمانهم قرم وإنّ آلاعراب إذ ساروا لغايته لسائرون إلى لقمٍ على لقم وهم كما قاله ماضٍ " أرى قدمي بسعيه نحو حتفي قد أراق دمي " فقل إذاً للمناوي الناو لان أذىً يا غرّ غرك ما أبصرت في الحلم له صوارم لو ناجتك ألسنها لبشّرتك بعمرٍ منك منصرم وأنّ روحك عن قربٍ سيقبضه قبض المسلّم ما قد حاز من سلم فهو الذي ما له ندٌّ يشابهه من كلّ متّصفٍ بالدهي متّسم يدبّر الأمر تدبيراً يخلّصه ممّا عسى أن يرى فيه من الوهم ويبصر الغيب لحظ الذهن منه إذا تعمى عن آدراكه ألحاظ كلّ عمي وينعم النّظر المفضي بناظره لصوب وجه صواب واضح اللقم ذو منطقٍ لم تزل تجلو نتائجه عن مبطل بخصام المبطل الخصم ومسمعٍ ليس يصغي للوشاة فلم ينفق لديه الذي عنهم إليه نمي فعقله لا توازيه العقول، وهل يوازن الطود ما قد طال من أكم إيهٍ جميع الورى من بدو آو حضر نداء مرتبط بالنّصر مرتسم شدوا وجدّوا ولا تعنوا ولا تهنوا قد لفّها الليل بالسّوّاقة الحطم هذا الإمام المريني السعيد له سعدٌ يؤيده في كل مصطدم قد أقسمت أنّه المنصور ألسنةٌ من نخبة الأوليا مبرورة القسم فشيّعوه ووالوه تروا عجباً وتظفروا معه بالأجر والغنم والحمد لله إذ أبقى خلافته كهفاً لنا من يخيّم فيه لم يرم حرز حريزٌ وعزٌّ قائمٌ وندىً غمرٌ دراكٌ بلا منّ ولا سأم دامت ودام لها سعدٌ يساعدها في كلّ مبتدإ منه ومختتم فالله عزّ اسمه قد زانها بحلىً من غرّ أمداحه كالدّرّ في النّظم

الواهب الألف بعد الألف من ذهبٍ كالجمر يلمع في مستوقد الضّرم والفاعل الفعل لم يهمم به أحدٌ والقائل القول فيه حكمة الحكم ذاكم هو الشيخ فاعجب أنّه هرمٌ جوداً وحاشاه أن يعزى إلى هرم وحسبنا أن أيدينا به اعتصمت من حبله بوثيقٍ غير منفصم فما مخالفه يوماً بمضطهدٍ ولا مؤالفه يوماً بمهتضم ولا موافيه في جهدٍ بمطّرحٍ ولا مصافيه في ودٍّ بمتّهم ولا محيّا محيّيه بمنكسفٍ ولا رجاء مرجّيه بمنخرم وما تكرّمه سرّاً بمنكشفٍ ولا تنكّره جهراً بمكتتم وليس لامح مرآه بمكتئبٍ وليس راضع جدواه بمنفطم ولا مقبّل يمناه الكريمة في محلّ ممتهنٍ بل دست محترم وما وسيلتنا العظمى إليه سوى ما ليس ينكر ما فيها من العظم وإنما هي وما أدراك ما هي من وسيلةٍ ردّها أدهى من الوخم نبيّنا المصطفى الهادي بخير هدىً محمّدٌ خير خلق الله كلّهم داعي الورى من أولي خيم وأهل قرى إلى طريق رشادٍ لاحبٍ أمم عليه منّا صلاة الله ما ذكرت ... " أمن تذكّر جيرانٍ بذي سلم " (1) وما تشفّع فيها بالشّفيع له دخيل حرمته العلياء في الحرم ربنا ظلمكنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم، نعم المولى ونعم النصير. أما بعد حمد الله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد الذي طلع طلوع الفجر بل البدر فلاح، يدعو إلى سبيل

_ (1) صدر قصيدة البوصيري المشهورة في مدح الرسول (ص) .

كل فلاح، أولي قلوب غافلة ونفوس سواه، والرضى عن آله وأصحابه وعترته الأكرمين وأحزابه الذين تلقوا بالقبول ما أورده عليهم من أوامر ونواه، وعزروه ونصروه في حال قربه ونواه، فيما مولانا الذي أولانا من النعم ما أولانا لا حط الله تعالى لكم من العزة رواقاً، ولا أذوى لدوحة دولتكم أغصاناً ولا أوراقاً، ولا زالت مخضرة العود، مبتسمةً عن زهرات البشائر متحفة بثمرات السعود، ممطورة بسحائب البركات المتداركات دون بروق ولا رعود، هذا مقام العائذ بمقامكم، المتعلق بأسباب ذمامكم، المترجي لعواطف قلوبكم وعوارف إنعامكم، المقبل الأرض تحت أقدامكم، المتلجلج اللسان عند محاولة مفاتحة كلامكم، وما الذي يقول من وجهه خجل، وفؤاده وجل، وقضيته المقضية عن لتنصل والاعتذار تجل، بيد أني أقول لكم ما أقوله لربي واجترائي عليه أكثر، واحترامي إليه أكبر: اللهم لا بريء (1) فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، لكني مستقيل، مستنيل مستعتب مستغفر " وما أبرّئ نفسي، إنّ النّفس لأمّارةٌ بالسّوء "، هذا على طريق التنزل والإنصاف، بما تقتضيه الحال ممن يتحيز إلى حيز الإنصاف، وأما على جهة التحقيق، فأقول ما قالته الأم ابنة الصديق (2) : " والله إني لأعلم أني إن أقررت بما يقوله الناس والله يعلم أني منه بريئة لأقول ما لم يكن، ولئن أنكرت ما تقولون لا تصدقوني، فأقول ما قاله أبو يوسف: صبر جميل والله المستعان على ما تصفون ". على أني لا أنكر عيوبي فأنا معدن العيوب، ولا أجحد ذنوبي فأنا جبل الذنوب، إلى الله أشكو عجري وبجري، وسقطاتي وغلطاتي، نعم كل شيء ولا ما يوله المتقول، المشنع المهول، الناطق بفم الشيطان المسول، ومن أمثالهم " سبني واصدق، ولا تفتر ولا تخلق "، أفمثلي كان يفعل أمثالها، ويحتمل من الأوزار أحمالها ويهلك نفسه ويحبط أعمالها، عياذاً بالله

_ (1) ص ق: لا بريكة. (2) انظر إمتاع الأسماع: 209 مع اختلاف في النص.

من خسران الدين، وإيثار الجاحدين والمعتدين، قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، وايم الله لو علمت شعرة في فودي تميل إلى تلك الجهة لقطعتها، بل لقطفت ما تحت عمامتي من هامتي وقطعتها، غير أن الرعاع في كل وقت وأوان، للملك أعداء وعليه أحزاب وأعوان، كان أحمق أو أجهل من أبي ثروان (1) ، أو أعقل أو أعلم من أشج بني مروان (2) ، رب متهم بري ومسربلٍ بسربال وهو منه عري، وفي الأحاديث صحيح وسقيم، ومن التراكيب المنطقية منتج وعقيم، ولكن ثم ميزان عقل، تعتب ربه أوزان النقل، وعلى الراجح الاعتماد، ثم إشاعة الأحماد، المتصل المتماد، وللمرجوح الاطراح، ثم التزام (3) الصراح، بعد النفض من الراح، وأكثر ما تسمعه الكذب، وطبع جمهور الخلق إلا من عصمه الله تعالى إليه منجذب، ولقد قذفنا من الأباطيل بأحجار، ورمينا بما لا يرمى به الكفار، فضلاً عن الفجار، وجرى من الأمر المنقول على لسان زيد وعمر ما لديكم منه حفظ الجار، وإذا عظم الإنكاء، فعلى تكاءة التجلد الاتكاء، أكثر المكثرون، وجهد في تعثيرنا المتعثرون، ورمونا عن قوس واحدة، ونظمونا في سلك الملاحدة، أكفراً أيضاً كفراً، غفراً (4) اللهم غفراً، أعد نظراً يا عبد قيس، فليس الأمر على ما خيل لك ليس، وهل زدنا على أن طلبنا حقنا، ممن رام محقه ومحقنا، فطاردنا في سبيله عداة كانوا لنا غائظين، فانفتق علينا فتقٌ لم يمكنا له رتق، وما كنا للغيب حافظين. وبعد فاسأل أهل الحل والعقد، والتمييز والنقد، فعند جهينتهم تلقى الخبر يقينا، وقد رضينا بحكمهم يؤثمنا فيوبقنا أو يبرئنا فيقينا، إيه يا من اشرأب إلى ملامنا، وقدح حتى في إسلامنا، رويداً رويداً، فقد وجدت قوةً وأيداً، ويحك إنما طال لسانك علينا، وامتد بالسوء

_ (1) هو هبنقة القيسي مضرب المثل في الحمق. (2) هو عمر بن عبد العزيز. (3) ق ص: الزم. (4) ص ق: غداً.

إلينا لأن الزمان لنا مصغر ولك مكبر، والأمر عليك مقبل وعنا مدبر، كما قال كاتب الحجاج الموبر، وعلى الجملة فهبنا صرنا إلى تسليم مقالك جدلاً، وذهبنا فأقررنا بالخطإ في كل ورد وصدر، فلله در القائل (1) : " إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر " ... وكأنا بمعتسف إذا وصل إلى هنا، وعدم إنصافه يعلمه إلهنا، قد ازور متجانفاً، ثم افتر متهانفاً، وجعل يتمثل بقولهم: إذا عيروا قالوا مقادير قدرت، وبقولهم: المرء يعجزه المحال، فيعارض الحق بالباطل، والحالي بالعاطل، ومنزع بقول القائل: رب مسمع هائل، وليس تحته [من] طائل، وقد فرغنا أول أمس من جوابه، وتركنا الضغن يلصق حرارة (2) الجوى به. وسنلم الآن بما يوسعه تسكيتاً، ويقطعه تبكيتاً، فنقول له: ناشدناك الله تعالى، هل اتفق لك قط وعرض، خروج أمر ما عن القصد منك فيه والغرض مع اجتهادك أثناءه في إصدارك وإيرادك، في وقوعه على وفق اقتراحك ومرادك، أو جميع ما تزاوله بإدارتك، ل يقع إلا مطابقاً لإرادتك، أو كل ما تقصده وتنويه، تحرزه كما تشاء وتحويه فلا بد أن يقر اضطراراً، بأن مطلوبه يشذ عنه مراراً، بل كثيراً ما يفلت صيده من أشراكه. ويطلبه فيعجز عن إدراكه، فنقول: ومسألتنا من هذا القبيل، أيها النبيه النبيل، ثم نسرد له من الأحاديث النبوية ما شينا، مما يسايرنا في غرضنا ويماشينا، كقوله صلى الله عليه وسلم " كل شيء بقضاء وقدر، حتى العجز والكيس " وقوله أيضاً " لو اجتمع أهل السموات والأرض على أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه " أو كما قال، صلى الله عليه وسلم،

_ (1) هو أبو العتاهية (ديوانه: 449) وقبله: هي المقادير فلمني أو فذر ... تجري المقادير على غرز الإبر (2) ص: حزازة.

فأخلق أن يلوذ بأكناف الإحجام، ويزم على نفثة فيه كأنما ألجم بلجام، حينئذٍ نقول له والحق قد أبان وجهه وجلاه، وقهره بحجته وعلاه: ليس لك من الأمر شيء قل إن الأمر كله لله، وفي محاجة آدم وموسى ما يقطع لسان الخصم، ويرخص عن أثواب أعراضنا ما عسى أن يعلق بها من درن الوصم، وكيفما كانت الحال، وإن ساء الرأي والانتحال، ووقعنا في أوجال وأوحال، فثل عرشنا، وطويت فرشنا، ونكس لوانا، وملك مثوانا، فنحن أمثل من سوانا، وفي الشر خيار، ويد اللطائف تكسر من صولة الأغيار، فحتى الآن لم نفقد من اللطيف تعالى لطفاً، ولا عدمنا أدوات أدعية تعطف بلا مهلة على جملتنا المقطوعة جمل النعم الموصولة عطفاً، وإلا فتلك بغداد دار السلام، ومتبوأ الإسلام، المحفوف بفرسان السيوف والأقلام، مثابة الخلافة العباسية، ومقر العلماء والفضلاء أولي السير الأويسية (1) ، والعقول الإياسية (2) ، قد نوزلت بالجيوش ونزلت، وزوولتت بالزحوف وزلزلت، وتحيف جوانبها الجيف، ودخلها كفار التتار عنوة بالسيف، ولا تسل إذ ذاك عن كيف، أيام تجلت عروس المنية كاشفة عن ساقها مبدية، وجرت الدماء في الشوارع والطرق كالأنهار والأودية، وقيد الأئمة والقضاة تحت ظلال السيوف المنتضاة بالعمائم في رقابهم والأردية، وللنجيع سيول، تخوضها الخيول، فتخضبها إلى أرساغها، وتهم ظماؤها بوردها فتنكل عن تجرعها ومساغها، فطاح عاصمها ومستعصمها، وراح ولم يعد ظالمها ومتظلمها، وخربت مساجدها وديارها، واصطلم بالحسام أشرارها وخيارها، فلم يبق من جمهور أهلها عين تطرف، حسبما عرفت أو حسبما تعرف، فلا تك متشككاً متوقفاً، فحديث تلك الواقعة الشنعاء أشهر عند المؤرخين من قفا، فأين تلك الجحافل، والآراء المدارة في المحافل حين أراد الله تعالى

_ (1) نسبة إلى أويس القرني الزاهد. (2) نسبة إلى غياس بن معاوية القاضي الذي يضرب به المثل في الزكانة.

بإدالة الكفر، لم تجد ولا قلامة ظفر، فمن سلمت له نفسه التي هي رأس ماله، وعياله وأطفاله اللذان هما من أعظم آماله، وكل أو جل أو أقل (1) رياشه، وأسباب معاشه الكفيلة بانتهاضه وانتعاشه، ثم وجد مع ذلك سبيلاً إلى الخلاص، في حال مياسرة ومساهلة دون تعصب واعتياص، بعد أن ظن كل الظن أن لا محيد ولا مناص، فما أحقه حينئذٍ وأولاه، أن يحمد خالقه ورازقه ومولاه، على ما أسداه غليه من رفده وخيره، ومعافاته مما ابتلي به كثير من غيره، ويرضى بكل إيراد وإصدار، تتصرف فيهما الأحكام الإلهية والأقدار، فالدهر غدار، والدنيا دار مشحونة بالأكدار، والقضاء لا يرد، ولا يصد، ولا يغالب، ولا يطالب، والدائرات تدور، ولا بد من نقص وكمال للبدور، والعبد مطيع لا مطاع، وليس يطاع إلا المستطاع، وللخالق القدير جلت قدرته في خليقته علم غيبٍ للأذهان عن مداه انقطاع. ومالي والتكلف لما لا أحتاج إليه من هذا القول، بين يدي ذي الجلالةالمجادة والفضل والطول فله من العقل الأرجح، ومن الخلق الأسجح، ما لا تلتاط معه تهمتي بصفره (2) ، ولا تنفق عنده وشاية الواشي لا عد من نفره، ولا فاز قدحه بظفره، والمولى يعلم أن الدنيا تلعب باللاعب، وتجر براحتها إلى المتاعب، وقديماً للأكياس من الناس خدعت، وانحرفت عن وصالهم أعقل ما كانوا وقطعت، وفعلت بهم ما فعلت بيسار الكواعب تلك التي جبت وجدعت، ولئن رهصت وهصرت، فقد نبهت وبصرت، ولئن قرعت وأمعضت، لقد ارشدت ووعظت، ويا ويلنا من تنكرها لنا بمرة، ورميها لنا في غمرةٍ أي غمرة، أيام قلبت لنا ظهر المجن، وغيم أفقها المصحي وادجن، فسرعان ما عاينا حبالها منيتة، ورأينا منه مالم نحتسب كما تقوم الساعة بغتة، فمن استعاذ من شيء

_ (1) ق ص: أعقل. (2) يريد: لا تعلق بقلبه.

فليستعذ مما صرنا إليه من الحور بعد الكور، والانحطاط من النجد إلى الغور: فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقةٌ تتنصّف (1) فأفٍّ لدنيا لا يدوم نعيمها تقلّب تاراتٍ بنا وتصرّف وأبيها لقد أرهقتنا إرهاقاً، وجرعتنا من صاب الأوصاب كأساً دهاقاً، ولم نفزع إلى غير بابكم المنيع الجناب، المنفتح حين سدت الأبواب، ولك نلبس غير لباس نعمائكم حين خلعنا ما ألبسنا الملك من الأثواب، وإلى أمه يلجأ الطفل لجأ اللهفان، وعند الشدائد تمتاز السيوف في الأجفان من الأجفان، ووجه الله تعالى يبقى وكلّ من عليها فانٍ، وإلى هنا ينتهي القائل ثم يقول: حسبي هذا وكفان. ولا ريب في اشتمال العلم الكريم، على ما تعارفته الملوك بينها في الحديث والقديم، من الأخذ باليد عند زلة القدم، وقرع الأسنان وعض البنان من الندم، ديناً تدينت حتى مع اختلاف الأديان، وعادة اطردت فيهم على تعاقب الأزمان والأحيان. ولقد عرض علينا صاحب قشتالة مواضع معتبرة خير فيها، وأعطى من أمانه المؤكد فيه خطه بأيمانه ما يقنع النفوس ويكفيها، فلم نر ونحن من سلالة الأحمر، مجاورة الصفر، ولا سوغ لنا الإيمان الإقامة بين ظهراني الكفر، ما وجدنا عن ذلك مندوحة ولو شاسعة، وأمنا من المطالب المشاغب حمة شرٍ لنا لاسعة، وادكرنا أي ادكار، قول الله تعالى المنكر لذلك غاية الإنكار " ألم تكن أرض الله واسعة " وقول الرسول، عليه الصلاة والسلام، المبالغ في ذلك بأبلغ الكلام " أنا بريء من مؤمن مع كافر لا تتراءى ناراهما " (2) وقول الشاعر الحاث على

_ (1) ورد البيتان في قصة حرقة بنت النعمان تخاطب فروة بن إياس بن قبيصة (المحاسن والأضداد: 115) . (2) نص الحديث: أنا بريء من كل مسلم مع شرك، قيل: لم يا رسول الله قال: لا تراءى ناراهما.

حث المطية، المتثاقلة عن السير في طريق منجاتها البطية: وما أنا والتلدّد نحو نجد ... وقد غصّت تهامة بالرجال ووصلت أيضاً من الشرق إلينا، كتبٌ كريمة المقاصد لدينا، تستدعي الانحياز إلى تلك الجنبات، وتتضمن ما لا مزيد عليه من الرغبات، فلم نختر إلا دارنا التي كانت دار آبائنا من قبلنا، ولم نرتض الإنضواء إلا لمن بحبله وصل حبلنا، وبريش نبله ريش نبلنا، إدلالاً على محل إخاء متوارث لا عن كلالة، وامتثالاً لوصاة أجداد لأنظارهم وأقدارهم أصالة وجلالة، إذ قد روينا عمن سلف من أسلافنا، في الإيصاء لمن يخلف بعدهم من أخلافنا، أن لا يبتغوا إذا دهمهم داهم بالحضرة المرينية بدلاً، ولا يجدوا عن طريقها في التوجه إلى فريقها (1) معدلاً، فاخترقنا إلى الرياض الأريضة الفجاج، وركبنا إلى البحر الفرات ظهر البحر الأجاج، فلا غرو أن نرد منه على ما يقر العين، ويشفي النفس الشاكية من ألم البين، ومن توصل هذا التوصل، وتوسل بمثل ذلك التوسل، تطارحاً على سدة أمير المؤمنين، المحارب للمحاربين، والمؤمن للمستأمنين، فهو الخليق الحقيق بأن يسوغ أصفى مشاربه، ويبلغ أوفى مآربه، على توالي الأيام والشهور والسنين، ويخلص من الثبور إلى الحبور، ويخرج من الظلمات إلى النور، خروج الجنين، ولعل شعاع سعادته يفيض علينا، ونفحة قبول إقباله تسري إلينا، فتخامرنا أريحية تحملنا على أن نبادر، لإنشاد قول الشريف الرضي في الخليفة القادر (2) : عطفاً أمير المؤمنين فإنّنا ... في دوحة العلياء لا نتفرّق ما بيننا يوم الفخار تفاوتٌ ... أبداً، كلانا في المعالي معرق إلاّ الخلافة ميّزتك، فإنّني ... أنا عاطلٌ منها وأنت مطوّق

_ (1) ص: أفريقيا. (2) ديوان الرضي 2: 42.

لا بل الأحرى بنا والأحجى، والأنجح لسعينا والأرجى، أن نعدل عن هذا المنهاج، ويقوم وافدنا بين يدي علاه مقام الخاضع المتواضع الضعيف المحتاج، وينشد ما قال في الشيرازي ابن حجاج (1) : الناس يفدونك اضطراراً ... منهم، وأفديك باختياري وبعضهم في جوار بعضٍ ... وأنت حتى أموت جاري فعش لخبزي وعش لمائي ... وعش لداري وأهل داري ونستوهب من الوهاب تعالى جلت أسماؤه، وتعاظمت نعماؤه، رحمةً تجعل في يد الهداية أعنتها، وعصمةً تكون في مواقف المخاوف جنتنا، وقبولاً يعطف علينا نوافر القلوب، وصنعاً يسني لنا كل مرغوب ومطلوب، ونسأله وطالما بلغ السائل سؤالاً ومأمولاً، متاباً صادقاً على موضوع الندم محمولاً، ثم عزاءً حسناً وصبراً جميلاً، عن أرض أورثها من شاء من عباده معقباً لهم ومديلاً، وسادلاً عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولاً " سنة الله التي قد خلت من قيل ولن تجد لسنة الله تبديلاً " فليطر طائر الوسواس المرفرف مطيراً، كان ذلك في الكتاب مسطوراً، لم نستطع عن مورده صدوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. ألا وإن لله سبحانه، في مقامكم العلي الذي أيده وأعانه، سراص من النصر يترجم عنه لسان من النصل، وترجع فروع البشائر الصادقة، بالفتوحات المتلاحقة، من قاعدته المتأصلة، إلى أصل، فبمثله يجب اللياذ، والعياذ، ولشبهه يحق الالتجاء، والارتجاء، ولأمر ما آثرناه واخترناه، بعد أن استرشدنا الله سبحانه واستخرناه، ومنه جل جلاله نرغب أن يخير لنا ولجميع المسلمين ويأوينا من حمايته ووقايته إلى معقل منيع وجناب رفيع أمين، آمين آمين، ونرجو أن يكون ربنا، الذي هو في جميع الأمور حسبنا، قد خار لنا حيث أرشدنا وهدانا،

_ (1) من أبيات لابن حجاج في أبي الفضل الشيرازي (اليتيمة 3: 47) .

وساقنا توفيقه وحدانا، إلى الإستجارة بملك حفي، كريم وفي، أعز جاراً من أبي داوود، وأحمى أنفاً من الحارث بن عباد، يشهد بذلك الداني والقاصي والحاضر والباد، إن أغاث ملهوفاً فما الأسود ابن قنان يذكر، وإن أنعش حشاشة هالكٍ فما كعب بنم مامة (1) على فعله وحده يشكر، جليسه كجليس القعقاع ابن شور (2) ، ووذاكره كمذاكر سفيان المنتسب من الرباب إلى ثور (3) ، إلى التحلي بأمهات الفضائل، التي أضدادها أمهات الرذائل، وهي الثلاث: الحكمة والعدل والعفة التي تشملها الثلاثة الأقوال والأفعال والشمائل، وينشأ منها ما شئت من عزم وحزم، وعلم وحلم، وتيقظ وتحفظ، واتقاء وارتقاء، وصول وطول، وسماح ونائل، فبنور حلاه المشرق، يفتخر المغرب على المشرق، وبمحتده السامي خطره في الأخطار، وبيته الذي ذكره في النباهة والنجابة قد طار، يباهي جميع ملوك الجهات والأقطار، وكيف لا وهو الرفيع المنتمى والنجار، الراضع من الطهارة صفو ألبان، الناشئ من السراوة وسط أحجار، في ضئضئ المجد وبحبوح الكرم، وسراوة أسرة المملكة التي أكنافها حرم، وذؤابة الشرف التي مجاذبتها لم ترم، من معشر أي معشر بخلوا إن وهبوا ما دون أعمارهم، وجبنوا إن لم يحموا سوى ذمارهم، بنو مرين، وما أدراك ما بنو مرين: سمّ العداة وآفة الجزر (4) ... النازلون بكلّ معتركٍ ... والطيبون معاقد الأزر لهم من الهفوات انتفاء، وعندهم من السير النبوية اكتفاء، انتسبوا إلى بر

_ (1) مضرب المثل في الإيثار لأنه آثر صاحبه النمري على نفسه بالماء ومات ظمأً. (2) يضرب به المثل في حسن المجالسة، قال الشاعر: وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس (3) يريد سفيان الثوري، والرباب مجموعة قبائل فيها ثور وعوف وضبة. (4) صدر هذا البيت من شعر الخرنق " لا يبعدن قومي الذين هم ".

ابن قيس، فخرجوا في البر عن القيس (1) ، ما لهم القديم المعروف، قد نفد في سبيل المعروف، وحديثهم الذي نقلته رجال الزحوف، من طرق القنا والسيوف، على الحسن من المقاصد موقوف، تحمد من صغيرهم وكبيرهم ولدنهم، فلله آباء أنجبوهم وأمهات ولدنهم: شمّ الأنوف من الطراز الأوّل (2) ... إليهم في الشدائد الاستناد وعليهم في الأزمات المعول، ولهم في الوفاء والصفاء والاحتفاء والعناية والحماية والرعاية الخطو الواسع والباع الأطول، كأنما عناهم بقوله جرول (3) : أولئك قومٌ إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا وإن كانت النّعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدّروها ولا كدّوا وتعذلني أبناء سعدٍ عليهم ... وما قلت إلاّ بالتي علمت سعد وبقوله الوثيق مبناه، البليغ معناه (4) : قومٌ إذا عقدوا عقداً لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا (5) يزيحون عن النزيل كل نازح قاصم، وليس له منهم عائب ولا واصم، فهم أحق بما قاله في منقر قيس بن عاصم (5) :

_ (1) القيس: المقايسة. (2) عجز بيت لحسان، وصدره " بيض الوجوه كريمة أحسابهم ". (3) ديوان الحطيئة: 41. (4) ديوان الحطيئة: 16. (5) العناج: حبل يجعل في أسفل الدلو تشد به العراقي، والكرب عقد مثني يشد على العراقي، والمعنى: إذا عقدوا أوفوا لمن عقدوا وكان عقدهم وثيقاً. (5) العناج: حبل يجعل في أسفل الدلو تشد به العراقي، والكرب عقد مثني يشد على العراقي، والمعنى: إذا عقدوا أوفوا لمن عقدوا وكان عقدهم وثيقاً.

لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جوارهم فطن حلاهم هذه الغريزة التي ليست باستكراه ولا جعل، وأمير المؤمنين دام نصره قسيمهم فيها حذو النعل بالنعل، ثم هو عليهم وعلى من سواهم بالأوصاف الملوكية مستعل، ارفض مزنهم منه عن غيث ملثٍ يمحو آثار اللزبة، وانشق غيلهم منه عن ليث ضارٍ متقبض على براثنه للوثبة، فقل لسكان الفلا: لا تغرنكم أعدادكم وأمدادكم، فلا يبالي السرحان المواشي سواء مشى إليها النقرى أو الجفلى (1) ، بل يصدمهم صدمة تحطم منهم كل عرنين، ثم يبتلع بعد أشلائهم المعفرة ابتلاع التنين، فهو كما عرفوه، وعهدوه وألفوه، أخو المنايا، وابن جلا وطلاع الثنايا، مجتمع أشده، قد احتنكت سنه وبان رشده، جاد مجد، محتزم بحزام الحزم مشمر عن ساعد الجد: لا يشرب الماء إلا من قليب دم ... ولا يبيت له جار على وجل (2) أسدي القلب آدمي الرواء، لابس جلد النمر يزوي العناد والنواء (3) : وليس بشاوي (4) عليه دمامة ... إذا ما سعى يسعى بقوس وأسهم ولكنه يسعى عليه مفاضة دلاص كأعيان الجراد المنظم فالنجاء النجاء سامعين له طائعين، والوحى الوحى (5) لاحقين به خاضعين، قبل أن تساقوا إليه مقرنين في الأصفاد، ويعيا الفداء بنفائس النفوس والأموال على الفاد، حينئذ يعض ذو الجهل والفدامة، على يديه حسرة وندامة، إذا رأى

_ (1) النقري: الدعوة الخاصة، والجفلى: العامة، يعني وحده أو مع جماعة. (2) البيت لأبي سعيد المخزومي (أمالي القالي 1: 259) . (3) انظر اللسان (شوه - عين) . (4) الشاوي: صاحب الشاء. (5) في ق ص: والوجل الوجل.

أبطال الجنود، تحت خوافق الرايات والبنود، قد لفحتهم نار ليست بذات خمود، وأخذتهم صاعقة مثل صاعقة الذين من قبلهم عاد وثمود، زعقات تؤز الكتائب أزاً، وهزاً محققاً للخيل بعد المد المشبع للأعنة همزاً (1) ، وسلاً للهندية سلاً وهزاً للخطية هزاً، حتى يقول النسر للذئب: " هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً "، ثق خليفة الله بذاك، في كل من رام أذى رعيتك أو أذاك، فتلك عادة الله سبحانه وتعالى في ذوي الشقاق والنفاق، الذين يشقون عصا المسلمين ويقطعون طريق الرفاق، وينصبون حبائل البغي والفساد في جميع النواحي والآفاق، فلم يجعلهم الله عز وجل من الآمنين، أنى وكيف وقد أفسدوا وخانوا وهو سبحانه لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين، وها نحن قد وجهنا إلى كعبة مجدكم وجوه صلوات التقديس والتعظيم، بعدما زينا معاطفها باستعطافكم بدر سناء أبهى من در العقد النظيم، منتظمين في سلك أوليائكم، متشرفين بخدمة عليائكم، ولا فقد عزة ولا عدمها، من قصد مثابتكم العزيزة وخدمها، وإن المترامى على سنائكم، لجدير بحرمتكم واعتنائكم، وكل ملهوف تبوأ من كنفكم حصناً حصيناً، عاش بقية عمره محروساً من الضيم مصوناً، وقد قيل في بعض الكلام: من قعدت به نكاية الأيام، أقامته إغاثة الكرام، ومولانا أيده الله تعالى ولي ما يزفه إلينا من مكرمة بكر، ويصنعه لنا من صنيع حافل يخلد في صحائف حسن الذكر، ويروي معنعن حديث حمده، وشكره طرس عن قلم عن بنان عن لسان عن فكر، وغيره من ينام عن ذلك فيوقظ، ويسترسل مع الغفلة حتى يذكر ويوعظ، وما عهد منذ وجد إلا سريعاً إلى داعي الندى والتكرم، بريئاً من الضجر بالمطال والتبرم، حافظاً للجار الذي أوصى النبي، صلى الله عليه وسلم، بحفظه، مستفرغاً وسعه في رعيه المستمر ولحظه، آخذاً من حسن الثناء في جميع الأوقات والآناء بحظه:

_ (1) ص: وعمزاً.

فهو من دوحة السنا فرع عز ... ليس يحتاج مجتنيه لهز كفه في الأمحال أغزر وبل ... وذراه في الخوف أمنع حرز حلمه يسفر اسمه لك عنه ... فتفهم يا مدعي الفهم لغزي لا تسله شيئاً ولا تستنله ... نظرة منه فيك تغني وتجزي فنداه هو الفرات الذي قد ... عام فيه الأنام عوم الأوز وحماه هو المنيع الذي تر ... جع عنهالخطوب مرجع عجز فدعوا ذهنه يزاول قولي ... فهو أدرى بما تضمن رمزي دام يحيا بكل صنع ومل ... ويعافى من كل بؤس ورجز وكأنا به قد عمل على شاكلة جلاله، من مد ظلاله، وتمهيد حلاله، وتلقى ورودنا بحسن تهلله واستهلاله، وتأنيسنا بجميل قبوله وإقباله، وإيرادنا على حوض كوثره المترع بزلاله، والله سبحانه يسعد مقامه العلي ويسعدنا به في حله وارتحاله، ومآله وحاله، ويؤيد جنده المظفر ويؤيدنا بتأييده على نزال عدوه واستنزاله، وهز الذوابل لإطفاء ذباله، وهو سبحانه وتعالى المسؤول أن يريه قرة العين في نفسه وأهله وخدامه وأمواله، وأنظاره وأعماله، وكافن شؤونه وأحواله، وأحق ما نصل بالسلام وأولى، على المقام الجليل مقام الخليفة المولى، أزكى الصلاة والسلام على خاتمة أنبياءه وأرساله، سيدنا ومولانا محمد، صلى الله عليه وسلم وعلى جميع أصحابه وآله، صلاة وسلاماً دائمين أبداً موصولين بدوام الأبد واتصاله، ضامنين لمجددهما ومرددهما صلاح فاسد أعماله، وبلوغ غاية آماله، وذلك بمشيئة الله تعالى وإذنه وفضله وإفضاله، انتهى. [ترجمة محمد العربي كاتب الرسالة نقلاً عن الوادي آشي] وكاتب هذه الرسالة على لسان السلطان المخلوع، قال الوادي آشي في حقه (1) :

_ (1) انظر تعريفاً بالفقيه أبي عبد الله محمد بن عبد الله العقيلي العربي صاحب هذه الرسالة في أزهار الرياض 1: 103.

إنه إمام الصناعة، وفارس حلبة القرطاس واليراعة، وواسطة عقد البلاغة والبراعة الذي قطف الكمال لما نور، ورتب محاسن البديع في درر فقره وطور، وغرف من بحر عجاج، واقتطف من خاطر وهاج، أبو عبد الله محمد بن عبد الله العربي العقيلي، وما أحسن قوله فيمن قد ظفر به المسلمون: ألا رب مغرور تنصر ضلة ... فحاق به شؤم الضلال وشره فإن يرتفع عند النصارى بالابتدا ... فكم عندنا من حرف حبل يجره وقال الوادي آشي أيضاً في موضع آخر ما نصه: ولشاعر العصر، ومالك زمامي النظم والنثر، والفقيه العالم المتقن المتفنن العارف الأوحد النبيه النبل، سيدي محمد العربي وصلى الله تعالى رفعة قدره، وحرس من غير الأيام أشعة بدره (1) : الحب في جمهور أنواره ... فأين الإخوان والأحباب وأين أين الإجتماعات، قد ... تهيأت لهن الأسباب وأين بنت الجبن مهما بدت ... طارت إليها شوقاً الباب وأين الألبان لأكوابها ... في برم الأرز تسكاب واللحم بالبسباس قد ألفت ... لطبخه في القدر الأحطاب والعود ذو دندنة يطبي ... آثارها للطاري دبداب وملح الأصوات قد طورحت ... وجاء معبدٌ وزرياب (2) وفض للهو ختام ولم ... يسد في وجه الهوى باب وقيل للوقار قم قبل أن ... تسلب عنك الآن الاثواب وكلّ إنسانٍ وما يشتهي ... ليس على مناه حجاب

_ (1) قد تقرأ القصيدة معربة بشيء من التعسف، ولكني اعتقد أنها قد تعد من الشعر الملحون. (2) سقط هذا البيت من ص.

مسترسلاً ليس له عذل ... كلا ولا عليه رقاب في راحة خلعت أرسانها ... لمثلها تعصر الأعناب فكل بستان قد استأسدت ... فيه النواوير والاعشاب وأطلع التراب أدواحه ... كأنها العرب الاتراب لما تحلت بحلى زهرها ... داخلها بالحسن الاعجاب عرائس ليس لها في سوى ... ماية أو ينية خطاب أيام تبدي ثمرات بدا ... في جنباتهن الارطاب كأنه في العيتن يافوت أو ... كأنه في الفم جلاب هيهات هيهات أمان لها ... خلب برق لك خلاب ما حوت الرؤوس أمثالها ... فكيف تحويهن الأذناب قد عاق عن ذلك دهر به ... تعدم الأفراح والأطراب يروم الإنسان غلاباً له ... والدهر للإنسان غلاب وقال رحمه الله تعالى لما نزل النصارى لمحاصرة غرناطة: بالطبل في كل يوم ... وبالنفير نراع وليس من بعد هذا ... وذاك إلا القراع يا رب جبرك يرجو ... من هيض منه الذراع لا تسلبني صبراً ... منه لقلب ادراع وله رحمه الله تعالى في الموشحات اليد الطولى، فمن ذلك قوله: بدر أهل الزمان ... الرفيع القدر لا تزل في أمان ... من كسوف البدر

هل يصح الأمان ... من شبيه البدر وهو مثل الزمان ... منتم للغدر لم يغر الأغر ... غير غمر جاهل عيشه الحلو مر ... وهو فيه ناهل والصبا الغض مر ... وهو عنه ذاهل مرشف البهرمان ... فوق ثغر الدرر مطمع للأمان ... باقتراب الدر وعارض رحمه الله تعالى بهاتين الموشحتين الموشحة المشهورة: ضاحك عن جمان ... سافر عن بدر ضاق عنه الزمان ... وحواه صدري وممن عارض هذه الموشحة ابن أرقم إذ قال: مبسم البهرمان ... في المحيا الدري صاد قلبي وبان ... وأنا لم أدري والإنصاف أن معارضة العربي أحسن من هذه. وله أيضاً معارضتان غير ماتقدم: الأولى قوله: بان لي ثم بان ... ذا خدود حمر ينثني مثل بان ... في ثياب خضر والثانية قوله: هل لمرآك ثان ... في ثناه الدري أو لحوباه ثان ... عن هواها العذري

يا مليحاً جلا ... عن محيا جميل همت فيه ولا ... هيمان جميل مل قليلاً إلى ... من إليك يميل عاشق فيك فان ... كاتم للسر لك منه مكان ... في صميم الصدر ومن نظم العربي المذكور لما عرض عليه السلطان رياسة كتابه من قصيدة: أوجه سعدى انحط عنه اللثام ... أم بدر أفق فض عنه الغمام أم أنا في حالي لا عقل لي ... أم حلم قد لاح لي في المنام يا لك مرأى من رأى حسنه ... هيج للقلب غراماً فهام كأنما أقبس نور البها ... من وجه مولانا الإمام الهمام ابن أبي الحسن الأسرى الذي ... قد كان للأملاك مسك الختام ضرغام قد (1) أنجب شبهاً له ... في صدق بأس ومضاء اعتزام حام وسام فأفاعيله ... تنقلها أبناء سام وحام دام له النصر الذي جاءه ... والسيف من طلى أعاديه دام فيا أمير المؤمنين الذي ... له بعروة اليقين اعتصام أبشر بجد مقبل لم يؤل ... إلى انصراف لا ولا لانصرام وعزة لم يفض بنيانها ... إلى انهداد لا ولا لانهدام لله منك ملك جنده ... زهر النجوم (2) وهو بدر التمام ومنها: يطرب من مادحه مثلما ... يطرب قلب الصب سجع الحمام

_ (1) قد: سقطت من ق ص. (2) ق: الدراري.

فيفعل الشعر بأعطافه ... ما ليس تفعل بهن المدام وإن حكى في حسنه يوسفاً ... فمدحه يشبه زهر الكمام ومنها: فداره ليست ببغدادهم ... مع أنها تدعى بدار السلام ومنها: أسأله الإعفاء من كل ما ... أعجز عن حمل له والتزام ومنها: مستشفعاً له بخير الورى ... محمد عليه أزكى السلام ومنها: وكل إنسان وما اختاره ... ورب ذي عذر قد أضحى يلام وآخرها: فالحمد لله على أن غدا ... للشمل بعد الانصداع التئام ولنختم هذه الترجمة بقوله (1) : جز بالبساتين والرياض فما ... أبهج مرئيها (2) وأحلاه واعجب بها للنبات ولتك في ... أسفله ناظراً وأعلاه وقدس الله عند ذاك وقل ... سبحانه لا إله إلا هو سبحان وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين والحمد لله رب العالمين. انتهى المجلد الرابع

_ (1) الأبيات في أزهار الرياض 1: 103. (2) ق: مرآها.

القسم الثاني

القسم الثاني في التعريف بلسان الدين ابن الخطيب، وذكر أنبائه التي يروق سماعها ويتأرج نفحها ويطيب، وما يناسبها من أحوال العلماء الأفراد، والأعلام الذين اقتضى ذكرهم شجون الكلام والاستطراد، وفيه أيضاً من الأبواب ثمانية، موصلة إلى جنات أدبٍ قطوفها دانية، وكل غصن منها رطيب

فراغ

الباب الأول

بسم الله الرحمن الرحيم الباب الأول في أولية لسان الدين وذكر أسلافه، الذين ورث عنهم المجد وارتضع در أخلافه، وما يناسب ذلك مما لا يعدل المنصف إلى خلافه أقول: هو الوزير، الشهير الكبير، لسان الدين الطائر الصيت في المغرب والمشرق المزري عرف الثناء عليه بالعنبر والعبير، المثل المضروب في الكتابة والشعر والطب ومعرفة العلوم على اختلاف أنواعها ومصنفاته تخبر عن ذلك ولا ينبئك مثل خبير، علم الرؤساء الأعلام، الوزير الشهير الذي خدمته السيوف والأقلام، وغني بمشهور ذكره عن مسطور التعريف والإعلام، واعترف له بالفضل أصحاب العقول الراجحة والأحلام. قال سليل السلاطين الأمير العلامة إسماعيل بن يوسف ابن السلطان القائم بأمر الله محمد بن الأحمر نزيل فاس رحمه الله في كتابه المسمى بفرائد الجمان فيمن نظمني وإياه الزمان في حق المذكور ما نصه (1) : ذو الوزارتين، الفقيه الكاتب أبو عبد الله ابن محمد الرئيس الفقيه الكاتب المنتزي ببلده لوشة عبد الله ابن الفقيه الكاتب القائد سعيد بن عبد الله، ابن الفقيه الصالح ولي الله الخطيب سعيد، السلماني اللوشي المعروف بابن الخطيب.

_ (1) هذا نص ما أورده أيضا في كتابه نثير فرائد الجمان: 242؛ وانظر أزهار الرياض 1: 186.

وقال القاضي ابن خلدون المغربي المالكي رحمه الله في تاريخه الكبير (1) ، عندما أجرى ذكر لسان الدين، ما نصه: أصل هذا الرجل من لوشة، على مرحلة من غرناطة في الشمال من البسيط الذي في ساحتها المسمى بالمرج، وعلى وادي شنحيل - ويقال شنيل - المخترق (2) في ذلك البسيط من الجنوب إلى الشمال، كان له بها سلك معدود في وزرائها (3) ، وانتقل أبوه عبد الله إلى غرناطة، واستخدم لملوك بني الأحمر، واستعمل على مخازن الطعام؛ انتهى. وقال غيره (4) : إن بيتهم يعرف قديماً ببني الوزير، وحديثاً ببني الخطيب، وسعيد جده الأعلى أول من تلقب بالخطيب، وكان من أهل العلم والدين والخير، وكذلك سعيد جده الأقرب كان على خلال حميدة من خط وتلاوة وفقه وحساب وأدب، خيراً صدراً، توفي عام ثلاثة وثمانين وستمائة، وأبوه عبد الله كان من أهل العلم بالأدب والطب، وقرأ على أبي الحسن البلوطي وأبي جعفر ابن الزبير وغيرهما وأجازه طائفة من أهل المشرق، وتوفي بطريف عام أحد وأربعين وسبعمائة شهيداً يوم الاثنين السابع من جمادى الأولى من العام المذكور مفقوداً ثابت الجأش (5) ، شكر الله فعله. قلت: وما ذكره هؤلاء أكثره مأخوذ من كلامه عند تعريفه رحمه الله بنفسه آخر الإحاطة، ولنذكر ملخصه إذ صاحب البيت أدرى بالذي فيه، مع ما فيه من الزيادة على ما سبق، وهي تتم للطالب أمله وتوفيه. قال رحمه الله (6) : يقول مؤلف هذا الديوان تغمد الله خطله في ساعات (7)

_ (1) تاريخ ابن خلدون 7: 332. (2) ابن خلدون: المنحرف. (3) ابن خلدون: كان له بها سلف معدودون في وزارتها. (4) انظر أزهار الرياض 1: 186. (5) ق: معقود الجأش. (6) الإحاطة: الورقة 398. (7) الإحاطة: ساعة.

أضاعها، وشهوة من شهوات اللسان أطاعها، وأوقات للاشتغال بما لا يعنيه استبدل بها اللهو لما باعها: أما بعد حمد الله الذي يغفر الخطية، ويحث من النفس اللجوج المطية، فتحرك ركائبها البطية، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد مسير السبل الخير الوطية (1) ، والرضى عن آله وصحبه منتهى الفضل ومناخ الطية (2) ، فإنني لما فرغت من تأليف هذا الكتاب الذي حمل عليه فضل النشاط، مع الالتزام لمراعاة السياسة (3) السلطانية والارتباط، والتفت إليه فراقني منه صوان درر، ومطلع غرر، قد تخلدت مآثرهم مع ذهاب أعيانهم، وانتشرت مفاخرهم بعد انطواء زمانهم، نافستهم في اقتحام تلك الأبواب، ولباس تلك الأثواب (4) ، وقنعت باجتماع الشمل بهم ولو في الكتاب، وحرصت على أن أنال منهم قرباً، وأخذت أعقابهم أدباً وحباً (5) ، وكما قيل: ساقي القوم آخرهم شرباً، فأجريت نفسي مجراهم في التعريف، وحذوت بها حذوهم في بابي النسب والتصريف بقصد التشريف (6) ، والله سبحانه لا يعدمني وإياهم واقفاً يترحم، وركاب الاستغفار بمنكبه يزحم، عندما ارتفعت (7) وظائف الأعمال، وانقطعت من التكسبات حبال الآمال، ولم يبق إلا رحمة الله التي تنتاش النفوس وتخلصها وتعينها بميسم السعادة وتخصصها، جعلنا الله ممن حسن ذكره، ووقف على التماس ما لديه فكره، بمنه. محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن علي بن أحمد السلماني، قرطبي الأصل، ثم طليطليه، ثم لوشيه، ثم غرناطيه (8) ، يكنى أبا عبد الله،

_ (1) الإحاطة: الباهرة الوطية. (2) الإحاطة: المطية. (3) الإحاطة: الآداب. (4) ولباس ... الأثواب: سقطت من ق. (5) الإحاطة: وأخذت من أعقابهم أدبا. (6) الإحاطة: بقصد التعريف. (7) الإحاطة: عند كتب. (8) ثم لوشيه، ثم غرناطيه: سقطت من الإحاطة.

ويلقب من الألقاب المشرقية بلسان الدين. أوليتي: يعرف بيتنا في القديم بوزير (1) ، ثم حديثاً بلوشة ببني الخطيب، انتقلوا مع أعلام الجالية القرطبية كيحيى بن يحيى الليثي وأمثاله عند وقعة الربض الشهيرة، إلى طليطلة، ثم تسربوا (2) محومين على وطنهم قبل استيلاء الطاغية عليه، فاستقر منهم بالموسطة الأندلسية جملة من النبهاء تضمن منهم ذكر خلق، كعبد الرحمن قاضي كورة باغه، وسعيد المستوطن بلوشة الخطيب بها، المقرون اسمه بالتسويد عند أهلها، جارياً مجرى التسمية بالمركب في تاريخ الغافقي وغيره، وسكن عقبهم بها، وسكن بعضهم منتقرير مملكين إياها مختطين جبل التحصن والمنعة فنسبوا إليها. وكان سعيد هذا من أهل العلم والخير والصلاح والدين والفضل وزكاء الطعمة (3) ، أوقفني الوزير (4) أبو الحكم ابن محمد المنتقريري - وهو بقية هذا البيت وإخباريه - على جدار برج ببعض ربى أملاكنا بلوشة تطؤه الطريق (5) المارة من غرناطة إلى إشبيلية، وقال: كان جدك يذيع بهذا المكان فصولاً من العلم، ويجهر بتلاوة القرآن، فيستوقف الرفاق المدلجة الحنين إلى نغمته، والخشوع إلى صدقه (6) ، فتعرس رحالها لصق جداره، وتريح ظهرها موهناً إلى أن يأتي على ورده. وتوفي وقد أصيب بأهله وحرمه عندما تغلب العدو على بلده عنوة في خبر طويل. وقفت على مكتوبات من المتوكل على الله محمد بن يوسف بن هود أمير المسلمين بالأندلس في غرض إعانته والشفاعة إلى الملكة زوج سلطان قشتالة بما يدل على نباهته قديماً

_ (1) الإحاطة: ببني وزير. (2) الإحاطة: تحرفوا. (3) الإحاطة: النعمة. (4) الإحاطة: الشيخ المسن الوزير. (5) الإحاطة: في وسط الطريق المارة. (6) الإحاطة: لحنين نغمته ولخشوع صدقه.

ويفيد إثارة عبرة، واستقالة عثرة. وتخلف ولده عبد الله جارياً مجراه في التجلد والتمعش من حر النشب، والتزيي بالانقباض، والتحلي بالنزاهة، إلى أن توفي وتخلف ولده سعيداً جدنا الأقرب، وكان صدراً خيراً مستولياً على خلال حميدة، من خط وتلاوة وفقه وحساب وأدب، نافس جيرته بني الطنجالي الهاشميين، وتحول إلى غر ناطة عندما شعر بعملهم على الثورة، واستطلاعهم على النزوة التي خضدت الشوكة، واستأصلت منهم الشأفة، وصاهر بها الأعيان من بني أضحى بن عبد اللطيف الهمداني أشراف جند حمص الداخلين إلى الجزيرة في طليعة (1) بلج بن بشر القشيري، ولحقه من جراء منافسيه لما جاهروا السلطان بالخلعان اعتقال أعتبه السلطان بعده، وأحظاه على تفئته، وولاه الأعمال النبيهة والخطط الرفيعة. حدثني من أثق به قال: عزم السلطان على أن يقعد جدك أستاذاً لولده، فأنفت من ذلك أم الولد إشفاقاً عليه من فظاظة كانت فيه، ثم صاهر القواد من بني الجعدالة على أم أبي، ومتت إلى زوج السلطان ببنوة الخؤولة (2) ، فنبه القدر، وانفسحت الخطوة، وانثال على البيت الرؤساء والقرابة، وكان - على قوة شكيمته وصلابة مكسره - مؤثراً للخمول، محباً في الخير، حدثني أبي عن أمه قالت: قلما تهنأنا نحن وأبوك (3) طعاماً حافلاً لإيثاره به من كان يكمن بمسجد جواره من أهل الحاجة وأحلاف الضرورة، يهجم علينا منهم بكل وارد، ويجعل يده مع يده (4) ، ويشركه في أكيلته (5) ، ملتذاً بموقعها من فؤاده. وتوفي في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وستمائة، صهرته الشمس مستسقياً في بعض المحول،

_ (1) في ص ق: طلعة، وأثبتناه رواية الإحاطة، والمشهور: طالعة. (2) الإحاطة: ومتت على أم السلطان ببني الأخوة. (3) الإحاطة: مع أبيك. (4) مع يده: سقطت من ق والإحاطة. (5) الإحاطة: ويشاركه في أكلته.

وقد استغرق في ضراعته، فدلت الحتف على نفسه. وتخلف والدي نابتاً في الترف نبت العليق يكنفه رعي أم تجر ذيل نعمة وتحنو منه على واحد تحذر عليه النسيم إذا سرى، ففاته لترفه حظ كبير من الاجتهاد؛ وعلى ذلك فقرأ على الخطيب أبي الحسن البلوطي (1) والمقرئ أبي عبد الله ابن مسمغور (2) وأبي جعفر ابن الزبير (3) خاتمة الجلة، وكان يفضله. وانتقل إلى لوشة بلد سلفه مخصوصاً بلقب الوزارة إلى أن قصدها السلطان أبو الوليد متخطياً إلى الحضرة هاوياً إلى الملك البيضة، فعضد أمره، وأدخله بلده، لدواع يطول استقصاؤها، ولما تم له الأمر صحب ركابه إلى دار ملكه مستأثراً بشقص (4) عريض من دنياه، وكان من رجال الكمال، طلق الوجه، مع الظرف، وتضمن كتاب التاج المحلى والإحاطة رائقاً من شعره، وفقد في الكائنة العظمى بطريف يوم الاثنين سابع جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، ثابت الجأش، غير جزوع ولا هيابة. حدثني الخطيب بالمسجد الجامع من غرناطة الفقيه أبو عبد الله ابن اللوشي قال: كبا بأخيك الطرف، وقد غشي العدو، وجنحت إلى إردافه، فانحدر إليه والدك، وصرفني، وقال: أنا أولى به، فكان آخر العهد بهما؛ انتهى. ومما رثي به والد لسان الدين وأخوه ما ذكره في الإحاطة في ترجمة أبي محمد عبد الله الأزدي إذ قال ما نصه (5) : ومما كتب إلي فيما أصابني بطريف: خطب ألم فأذهب الأخ والأبا رغماً لأنف شاء ذلك أو أبى قدر جرى في الخلق لا يجد امرؤ عما به جرت المقادر مهربا إما جزعت له فعذر بين قضت الدواهي أن تحل له الحبا

_ (1) الإحاطة: الملوكي. (2) ق ص: سمعون. (3) وقع بدله في الإحاطة: وأبي إسحاق ابن زروال. (4) الشقص: الحصة والنصيب. (5) ترجم لعبد الله الأزدي في الإحاطة الورقة: 218؛ ولكن الشعر لم يرد في هذه النسخة.

لا كان يومهما الكريه فكم وكم ... فيه المجلي والمصلي قد كبا يوم لوى ليانه لم يبق لل ... إسلام حد مهند إلا نبا وتجمعت فيه الضلال فقابلت ... فيه الهدى فتفرقت أيدي سبا آهاً لعز المحتدين صرامة ... لأذل عز المهتدين وأذهبا دهم المصاب فعم إلا أنه ... فيما يخصك ما أمر وأصعبا يا ابن الخطيب خطاب مكترث لما ... قد ألزم البث الألد وأوجبا قاسمتك الشجو المقاسمة التي ... صارت بخالص ما محضتك مذهبا لم لا وأنت لدي سابق حلبة ... تزهى بمن في السابقين تأدبا لا عاد يوم نال منك ولا أتت ... سنة به ما الليل أبدى كوكبا يهني الشهيدين الشهادة إنها ... سبب يزيد من الإله تقربا وردا على دار النعيم وحورها ... كلفاً ببرهما يزدن ترحبا فاستغن بالرحمن عمن قد ثوى ... من حزب خير من ارتضى ومن اجتبى فأجبته بقولي: أهلاً بمقدمك السني ومرحبا ... فلقد حباني الله منك بما حبا وافيت والدنيا علي كأنها ... سم الخياط وطرف صبري قد كبا والدهر قد كشف القناع ولم يدع ... لي عدة للروع إلا أذهبا صرف العنان إلي غير مدافع ... عني، وأثبت دون نصرتي الشبا (1) خطب تأوبني يضيق لهوله ... رحب الفضا وتهي لموقعه الربى لو كان بالورق الصوادح في الدجى (2) ... ما بي لعاق الورق عن أن تندبا فأنرت من ظلماء همي ما دجا ... وقدحت من زند اصطباري ما خبا

_ (1) اضطرب ترتيب هذه الأبيات الأربعة في ق. (2) الدجى: سقطت من ق ص.

فكأنني لعب الهجير بمهجتي ... وبعثت لي من نفحها نفس الصبا (1) لا كان يومك يا طريف فطالما ... أطلعت للآمال برقاً خلبا ورميت دين الله منك بفادح ... عم البسيط مشرقاً ومغربا وخصصتني بالزرء والثكل الذي ... أوهى القوى مني وهد المنكبا لا حسن للدنيا لدي ولا أرى ... للعيش بعد أبي وصنوي مأربا لولا التعلل بالرحيل وأننا ... ننضي من الأعمار فيها مركبا فإذا ركضنا للشبيبة أدهماً ... حال المشيب به فأصبح أشهبا والملتقى كثب وفي ورد الردى ... نهل الورى من شاء ذلك أو أبى لجريت طوع الحزن دون نهاية ... وذهبت من خلع التصبر مذهبا والصبر أولى ما استكان له الفتى ... رغماً، وحق العبد أن يتأدبا (2) وإذا اعتمدت الله يوماً مفزعاً ... لم تلف منه سوى إليه المهربا [واقعة طريف] وواقعة طريف هذه استشهد فيها جماعة من الأكابر وغيرهم، وكان سببها أن سلطان فاس أمير المسلمين أبا الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني أجاز البحر إلى جزيرة الأندلس برسم الجهاد ونصرة أهلها على عدوهم، حسبما جرت بذلك عادة سلفه وغيرهم من ملوك العدوة، وشمر عن ساعد الاجتهاد، وجر من الجيوش الإسلامية نحو ستين ألفاً، وجاء إليه أهل الأندلس بقصد الإمداد، وسلطانهم ابن الأحمر ومن معه من الأجناد، فقضى الله الذي لا مرد لما قدره، أن صارت تلك الجموع مكسرة، ورجع السلطان أبو الحسن مفلولاً، وأضحى حسام الهزيمة عليه وعلى من معه مسلولاً، ونجا برأس طمرة

_ (1) ق: وبعثت لي نفس الصبابة والصبا. (2) ق: يتأوبا.

ولجام (1) ، ولا تسل كيف، وقتل جمع من أهل الإسلام، ولمة وافرة من الأعلام، وأمضى فيهم حكمه السيف، وأسر ابن السلطان وحريمه وخدمه، ونهبت (2) ذخائره، واستولت على الجميع أيدي الكفر والحيف، واشرأب العدو الكافر لأخذ ما بقي من الجزيرة ذات الظل الوريف، وثبتت قدمه إذ ذاك في بلد طريف، وبالجملة فهذه الواقعة من الدواهي المعضلة الداء، والأرزاء التي تضعضع لها ركن الدين بالمغرب، وقرت بذلك عيون الأعداء، ولولا خشية الخروج عن المقصود لأوردت قصتها الطويلة، وسردت منها ما يحق لسامعه أن يكثر بكاءه وعويله، وقد ألم بها الولي قاضي القضاة ابن خلدون المغربي في كتاب " العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر " (3) فليراجعه من أراده في المجلد الثامن من هذا التاريخ الجامع، فإنه ذكر حين ساق هذه الكائنة ما يخرس الألسن ويصم المسامع، ولله الأمر من قبل ومن بعد. [واقعة الربض] وقول لسان الدين رحمه الله في أولية سلفه إنهم انتقلوا مع أعلام الجالية القرطبية - إلى آخره، أشار بذلك إلى واقعة الربض الشهيرة التي ذكرها ابن حيان في تاريخه الكبير المسمى بالمقتبس في تاريخ الأندلس وقص أمرها غير واحد كابن الفرضي وابن خلدون، وملخصها أن أهل ربض قرطبة ثاروا على الأمير الحكم الأموي، وفيهم علماء أكابر مثل يحيى بن يحيى الليثي صاحب إمامنا مالك رضي الله عنه وغيره، فكانت النصرة للحكم، فلما ظفر وقتل من

_ (1) من قول حسان بن ثابت: ترك الأحبة أن يقالت دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام (2) ق: وأخذت، وفي ص بياض. (3) انظر تاريخ ابن خلدون 7: 261.

شاء أجلى من بقي إلى البلاد، وبعضهم إلى جزيرة إقريطش ببحر الإسكندرية، وفي قصتهم طول، وليس هذا محلها. [والد لسان الدين] وقال لسان الدين رحمه الله أيضاً في حق والده ما حاصله (1) : عبد الله بن سعيد ابن عبد الله بن سعيد بن أحمد بن علي السلماني أبو محمد، غرناطي الولادة والاستيطان، لوشي الأصل، طليطليه قرطبيه. وقال في الإكليل: إن طال الكلام، وجمحت الأقلام، كنت كما قيل: مادح نفسه يقرئك السلام، وإن أجحمت، فما سديت في الثناء ولا ألحمت، وأضعت الحقوق، وخفت ومعاذ الله العقوق، وهذا ولو أني زجرت طير البيان من أوكاره، وجئت بعون الإحسان وأبكاره، لما قضيت حقه بعد، ولا قلت إلا بالتي علمت سعد (2) ، فقد كان رحمه الله ذمر عزم، ورجل رخاء وأزم، تروق أنوار خلاله الباهرة، وتضيء مجالس الملوك من صورتيه الباطنة والظاهرة، ذكاء يتوقد، وطلاقة يحسد نورها الفرقد، وكانت له في الأدب فريضة، وفي النادرة العذبة منادح (3) عريضة، تكلمت يوماً بين يديه في مسائل من الطب وأنشدته أبياتاً من شعري ورقاعاً من إنشائي فتهلل، وما برح أن ارتجل (4) : الطب والشعر والكتابه ... سماتنا في بني النجابه هن ثلاث مبلغات ... مراتباً بعضها الحجابه

_ (1) ترجمة والده في الإحاطة: الورقة 200. (2) عجز بيت للحطيئة، وصدره: وتعذلني افناء سعد عليهم ... (3) في ص ق: منادم، والتصويب عن الإحاطة. (4) وردت هذه المقطعات في الإحاطة: الورقة 203 وما بعدها.

ووقع لي يوماً بخطه على ظهر أبيات بعثتها إليه أعرض عليه نمطها: وردت كما صدر (1) النسيم بسحرة ... عن روضة جاد الغمام رباها وكأنما هاروت أودع سحره ... فيها وآثرها به وحباها مصقولة الألفاظ يبهر حسنها ... فبمثلها افتخر البليغ وباهى فقررت عيناً عند رؤية حسنها ... إني أبوك، وكنت أنت أباها ومن نظمه قوله: وقالوا: قد دنا فاصبر ستشفى ... فترياق الهوى بعد الديار فقلت: هبوا بأن الحق هذا ... بقلبي يمموا فبم اصطباري وقال: عليك بالصمت فكم ناطق ... كلامه أدى إلى كلمه إن لسان المرء أهدى إلى ... غرته والله من خصمه يرى صغير الجرم مستضعفاً ... وجرمه أكبر من جرمه وقال: أنا بالدهر يا بني خبير ... فإذا شئت علمه فتعالا كم مليك قد ارتعى منه روضاً ... لم يدافع عنه الردى ما ارتعى لا كل شيء تراه يفنى، ويبقى ... ربنا الله ذو الجلال تعالى مولده بغرناطة في جمادى الأولى عام اثنين وسبعين وستمائة، وفقد يوم الوقيعة الكبرى بظاهر طريف، يوم الاثنين سابع جمادى الأولى عام واحد وأربعين وسبعمائة، ورثيته بقصيدة أولها (2) :

_ (1) الإحاطة: كما ورد. (2) راجع الإحاطة: الورقة 203.

سهام المنايا لا تطيش ولا تخطي ... وللدهر كف تسترد الذي تعطي وإنا وإن كنا على ثبج الدنا ... فلا بد يوماً أن نحل على الشط تساوى على ورد الردى كل وارد ... فلم يغن رب السيف عن ربة القرط وسيان ذل الفقر أو عزة الغنى ... ومن أسرع السير الحثيث ومن يبطي وهي طويلة. قال: ورثاه شيخنا أبو زكريا ابن هذيل بقصيدة يقول فيها: إذا أنا لم أرث الصديق فما عذري ... إذا قلت أبياتاً حساناً من الشعر ولو كان شعري لم يكن غير ندبة ... وأجريت دمعي لليراع عن الحبر لما كنت أقضي حق صحبته التي ... توخيتها عوناً على نوب الدهر رماني عبد الله يوم وداعه ... بداهية دهياء قاصمة الظهر قطعت رجائي حين صح حديثه ... فإن يوف لي دمعي فقد (1) خانني صبري وهل مؤنس كابن الخطيب لوحشتي ... أبث له همي وأودعه سري ومنها: تولى وأخبار الجلالة بعده ... مؤرجة الأنباء طيبة النشر رضينا بترك الصبر من بعد بعده ... على قدر ما في الصبر من عظم الأجر أتى بفتيت المسك فوق جبينه ... نجيعاً يفوق المسك في موقف الحشر لقد لقي الكفار منها بعزمة ... لها لقيته الحور بالبر والبشر تجلت عروساً جنة الخلد في الوغى ... تقول لأهل الفوز: لا يغلكم مهري فكان من القوم الذين تبادروا ... إلى العالم الأعلى مع الرفقة الغر تعالوا بنا نسقي الأباطح والربى ... بقطر دموع غالبات على القطر

_ (1) الإحاطة: فإن لم يوف الدمع قد.

ألا لا تلم عيني لسكب دموعها ... فما سكبت إلا على الماجد الحر ومنها: أإخواننا جدوا فكم (1) جد غيركم ... وسيروا على خف من الحوب والوزر على سفر انتم لدار تأخرت ... وما الفوز في الأخرى سوى خفة الظهر وما العيش إلا يقظة مثل نومة ... وما العمر إلا كالخيال الذي يسري على الحق أنتم قادمون فشمروا ... فليس لمخذول هنالك من عذر وهي طويلة، تجاوز الله عنا وعنهم أجمعين؛ انتهى ما لخصته من كلام لسان الدين رحمه الله. [ترجمة أبي بكر بن عاصم] قلت: على منوال كلامه في تحلية أبيه النبيه نسج الوزير الكاتب الشهير القاضي أبو يحيى ابن عاصم القيسي الأندلسي رحمه الله في وصف أبيه القاضي أبي بكر ابن عاصم (2) صاحب التحفة في علم القضاء، وهو محمد بن محمد بن محمد بن عاصم الأندلسي الغرناطي، قاضي الجماعة، الرئيس أبو بكر، ونص المحتاج إليه في هذا المحل من كلام ولده قوله رحمه الله: إن بسطت القول، أو عددت الطول، وأحكمت الأوصاف، وتوخيت الإنصاف، أنفدت الطروس، وكنت كما يقول الناس في المثل من مدح العروس، وإن أضربت عن ذلك صفحاً فلبئسما صنعت، ولشر ما أمسكت المعروف ومنعت، ولكم من حقوق الأبوة

_ (1) ص ق: جدواكم. (2) كان من أكابر فقهاء غرناطة؛ تولى قضاءها سنة 888؛ وله مؤلفات عديدة، منها شرحه على تحفة والده في الأحكام، وكتابه جنة الرضى، وكتاب الروض الأريض (انظر ترجمته في أزهار الرياض 1: 145) وسيورد المقري نقولا كثيرة عنه.

أضعت، ومن ثدي للمعقة رضعت (1) ، ومن شيطان لغمصة الحق أطعت، ولم أرد إلا الإصلاح ما استطعت، وإن توسطت واقتصرت، وأوجزت واختصرت، فلا الحق نصرت، ولا أفنان البلاغة هصرت، ولا سبيل الرشد أبصرت، ولا عن هوى الحسدة أقصرت، هذا ولو أني أجهدت ألسنة البلاغة فجهدت، وأيقظت عيون الإجادة فسهدت، واستعرت مواقف عكاظ على ما عهدت، لما قررت من الفضل إلا ما به الأعداء قد شهدت، ولا استقصيت من المجد إلا ما أوصت به الفئة الشانئة لخلفها الأبتر وعهدت، فقد كان - رحمه الله - علم الكمال، ورجل الحقيقة، وقاراً لا يخف راسيه، ولا يعرى كاسيه، وسكوناً لا يطرق جانبه، ولا يرهب غالبه، وحلماً لا تزل حصاته، ولا تهمل وصاته، وانقباضاً لا يتعدى رسمه، ولا يتجاوز حكمه، ونزاهة لا ترخص قيمتها، ولا تلين عزيمتها، وديانة لا تحسر أذيالها، ولا يشف سربالها، وإدراكاً لا يفل نصله، ولا يدرك خصله، وذهناً لا يخبو نوره، ولا ينبو مطروره، وفهماً لا يخفى فلقه، ولا يهزم فيلقه، ولا يلحق بحره، ولا يعطل نحره، وتحصيلاً لا يفلت قنيصه، ولا يسام حريصه، بل لا يحل عقاله، ولا يصدأ صقاله، وطلباً لا تتحد فنونه، ولا تتعين عيونه، بل لا تحصر معارفه، ولا تقصر مصارفه، يقوم أتم قيام على النحو على طريقة متأخري النحاة، جمعاً بين القياس والسماع، وتوجيه الأقوال البصرية، واستحضار الشواهد الشعرية، واستظهار (2) اللغات والأعربة، واستبصار في مذاهب المعربة، محلياً أجياد تلك الأعاريب، من علمي البديع والبيان بجواهر أسلاك، ومجلياً في آفاق تلك الأساليب، من فوائد هذين الفنين زواهر أفلاك، إلى ما يتعلق بذلك من قافية للعروض وميزان، وما للشعر من بحور وأوزان، تضلع بالقراءات أكمل اضطلاع، مع التحقيق والاطلاع،

_ (1) ولكم ... رضعت: سقطت من ص. (2) ق: واستظهارا.

فيقنع ابن الباذش في إقناعه، ويشرح لابن شريح ما أشكل في أوضاعه، ويقصر عن رتبته الداني، ويحوز صدر المنصة من حرز الأماني، ويشارك في المنطق وأصول الفقه والعدد والفرائض والأحكام مشاركة حسنة، ويتقدم في الأدب نظماً ونثراً وكتباً وشعراً، إلى براعة الخط، وإحكام الرسم، وإتقان بعض الصنائع العملية، كتفسير الكتب، وتنزيل الذهب، وغيرهما. نشأ بالحضرة العلية لا يغيب عن حلقات المشيخة، ولا يريم عن مظان الاستفادة، ولا يفتر عن المطالعة والتقييد، ولا يسأم من المناظرة والتحصيل، مع المحافظة التي لا تنخرم ولا تنكسر، والمفاوضة في الأدب ونظم القريض والفكاهة التي لا تقدح في وقار، انتهى ملخصاً. وقد أطال في تعريفه بأوراق عدة، ثم قال: مولده في الربع الثالث من يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى من عام ستين وسبعمائة كما نقلته من خط ابنه، ثم قال: وله مسائل متعددة في فنون شتى ضمنها كل سديد من البحث وصحيح النظر، وأما كتبه فالدر النفيس، والياقوت الثمين، والروض الأنف، والزهر النضير، نصاعة لفظ، وأصالة غرض، وسهولة تركيب، ومتانة أسلوب، انتهى. ثم ذكر مشيخته وأطال، ثم سرد تآليفه: الأرجوزة المسماة ب " تحفة الحكام "، والأرجوزة المسماة ب " مهيع الوصول في علم الأصول " أصول الفقه، والأرجوزة الصغرى المسماة ب " مرتقى الوصول للأصول " كذلك، والأرجوزة المسماة ب " نيل المنى في اختصار الموافقات "، والقصيدة المسماة ب " إيضاح المعاني في القراءات الثماني "، والقصيدة المسماة ب " الأمل المرقوب في قراءة يعقوب "، والقصيدة المسماة ب " كنز المفاوض في علم الفرائض "، والأرجوزة المسماة ب " الموجز في النحو "، حاذى بها رجز ابن مالك في غرض البسط له والمحاذاة لقصده، والكتاب المسمى ب " الحدائق " في أغراض شتى من الآداب والحكايات. توفي بين العصر والمغرب يوم الخميس حادي عشر شوال عام تسعة وعشرين

وثمانمائة؛ انتهى كلام الوزير ابن عاصم، وإنما ذكرته لأن أهل الأندلس يقولون في حقه: إنه ابن الخطيب الثاني، ولولا خوف الإطالة لذكرت بعض إنشائه ونظمه، فإنه في الذروة العليا، وقد ذكرت جملة من ذلك في أزهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض. ولنرجع إلى الترجمة المقصودة، فنقول: والسلماني نسبة إلى سلمان - بإسكان اللام على الصحيح - قال ابن الأثير: والمحدثون يفتحون اللام، وسلمان: حي من مراد من عرب اليمن القحطانيين، دخل الأندلس منهم جماعة من الشام وسلف لسان الدين رحمه الله تعالى ينتسبون إليهم كما سبق في كلامه، وهو مشهور إلى الآن بالمغرب بابن الخطيب السلماني، ولذلك خاطبه شيخه شيخ الكتاب الرئيس أبو الحسن ابن الجياب حين حل مالقة بقوله (1) : أيا كتابي إذا ما جئت مالقة ... دار المكارم من مثنى ووحدان فلا تسلم على ربع لذي سلم ... بها وسلم على ربع لسلمان فأجابه لسان الدين رحم الله تعالى الجميع بقوله: يا ليت شعري هل يقضى تألفنا ... ويثني الشوق عن غاياته الثاني أو هل يحن على نفسي معذبها ... أو هل يرق لقلبي قلبي الثاني [عبد العزيز الفشتالي ونونيته] وعلى ذكر نسبة ابن الخطيب لسلمان فقد تذكرت هنا بيتاً أنشدنيه لنفسه صاحبنا الوزير الشهير الكبير البليغ صاحب القلم الأعلى سيدي أبو فارس عبد العزيز الفشتالي (2) - صب الله تعالى عليه شآبيب رحماه - من قصيدة نونية مدح

_ (1) انظر أزهار الرياض 1: 313. (2) عبد العزيز بن محمد القشتالي كان كاتب أسرار الدولة المنصورية، ترجم له المؤلف في كتابه روضة الآس: 112 - 163.

بها سيد الوجود، صلى الله عليه وسلم، وتخلص إلى مدح مولانا السلطان المنصور بالله أبي العباس أحمد الحسني أمير المؤمنين صاحب المغرب رحمه الله تعالى، وهو: أولئك فخري إن فخرت على الورى ... ونافس بيتي في الولا بيت سلمان وأراد - كما أخبرني - بيت سلمان القبيلة التي منها لسان الملة والدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى، أشار إلى ولاء الكتابة للخلافة، كما كان لسان الدين السلماني رحمه الله تعالى كذلك، وفيه مع ذلك تورية بسلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه. وقد رأيت أن أسرد هنا هذه القصيدة الفريدة، لبلاغتها التي بذت شعراء " اليتيمة " و " الخريدة "، ولأن شجون الحديث الذي جر إليها، شوقني إلى معاهدي المغربية التي أكثر البكاء عليها، بحضرة المنصور بالله الإمام، سقى الله تعالى عهادها صوب الغمام، حيث الشباب غض يانع، والمؤمل لم يحجبه مانع، والسلطان عارف بالحقوق، والزمان وهو أبو الورى لم يشب بره بالعقوق، والليالي مسالمة غير رامية من البين بنبال، والغربة الجالية للكربة لم تخطر ببال، ورؤساء الدولة الحسنية السنية ساعون فيما يوافق الغرض ويلائم، والأيام ثغورها بواسم، وأوقاتها أعياد ومواسم، وأفراح وولائم، فلله فيها عيش ما نسيناه، وعز طالما اقتبسنا نور الهدى من طورسيناه: مضى ما مضى من حلو عيش ومره ... كأن لم يكن إلا كأضغاث أحلام وهذا نص القصيدة (1) : هم سلبوني الصبر والصبر من شاني ... وهم حرموا من لذة الغمض أجفاني وهم أخفروا في مهجتي ذمم الهوى ... فلم يثنهم عن سفكها حبي الجاني

_ (1) انظر هذه القصيدة في روضة الآس: 120.

لئن أترعوا من قهوة البين أكؤسي ... فشوقهم أضحى سميري وندماني وإن غادرتني بالعراء حمولهم ... لقى إن قلبي جاهد إثر أظعاني قف العيس واسأل ربعهم أية مضوا ... أللجزع ساروا مدلجين أم البان وهل باكروا بالسفح من جانب اللوى ... ملاعب آرام هناك وغزلان وأين استقلوا: هل بهضب تهامة ... أناخوا المطايا أم على كثبان نعمان وهل سال في بطن المسيل تشوقاً ... نفوس ترامت للحمى قبل جثمان وإذ زجروها بالعشي فهل ثنى ... أزمتها الحادي إلى شعب بوان وهل عرسوا في دير عبدون أم سروا ... يؤم بهم رهبانهم دير نجران سروا والدجى صبغ المطارف فانثنى ... بأحداجهم شتى صفات وألوان وأدلج في الأسحار بيض قبابهم ... فلحن نجوماً في معارج كثبان لك الله من ركب يرى الأرض خطوة ... إذا زمها بدناً نواعم أبدان أرحها مطايا قد تمشى بها الهوى ... تمشي الحميا في مفاصل نشوان ويمم بها الوادي المقدس بالحمى ... به الماء صداً والكلا نبت سعدان وأهد حلول الحجر منه تحية ... تفاوح عرفاً ذاكي الرند والبان لقد نفحت من شيح يثرب نفحة ... فهاجت مع الأسحار شوقي وأشجاني وفتت منها الشرق في الغرب مسكة ... سحبت بها في أرض دارين أرداني وأذكرني نجداً وطيب عراره ... نسيم الصبا من نحو طيبة حياني أحن إلى تلك المعاهد، إنها ... معاهد راحاتي وروحي وريحاني وأهفو مع الأشواق للوطن الذي ... به صح لي أنسي الهني وسلواني وأصبو إلى أعلام مكة شائقاً (1) ... إذا لاح برق من شمام وثهلان أهيل الحمى ديني على الدهر زورة ... أحث بها شوقاً لكم عزمي الواني متى يشتفي جفني القريح بلحظة ... تزج بها في نوركم عين إنساني

_ (1) روشة الآس: شيقا.

ومن لي بأن يدنو لقاكم تعطفاً ... ودهري عني دائماً عطفه ثاني سقى عهدهم (1) بالخيف عهد تمده ... سوافح دمع من شؤوني هتان وأنعم في شط العقيق أراكة ... بأفيائها ظل المنى والهوى داني وحيا ربوعاً بين مروة والصفا ... تحية مشتاق بها الدهر حيران ربوعاً بها تتلو الملائكة العلا ... أفانين وحي بين ذكر وقرآن وأول أرض باكرت عرصاتها ... وطرزت البطحا سحائب إيمان وعرس فيها للنبوة موكب ... هو البحر طام (2) فوق هضب وغيطان وأدى بها الروح الأمين رسالة ... أفادت بها البشرى مدائح عنوان هنالك فض ختمها (3) أشرف الورى ... وفخر نزار من معد بن عدنان محمد خير العالمين بأسرها ... وسيد أهل الأرض مِ الإنس والجان ومن بشرت في بعثه قبل كونه ... نوامس كهان وأخبار رهبان وحكمة (4) هذا الكون لولاه ما سمت ... سماء ولا غاضت طوافح طوفان ولا زخرفت من جنة الخلد أربع ... تسبح فيها أدم حور وولدان (5) ولا طلعت شمس الهدى غب دجية ... تجهم من ديجورها ليل كفران ولا أحدقت بالمذنبين شفاعة ... يذود بها عنهم زباني نيران له معجزات أخرست كل جاحد ... وسلت على المرتاب صارم برهان له انشق قرص البدر شقين وارتوى ... بماء همى من كفه كل ظمآن وأنطقت الأصنام نطقاً تبرأت ... إلى الله فيه من زخارف ميان دعا سرحة عجما فلبت وأقبلت ... تجر ذيول الزهر ما بين أفنان

_ (1) روضة الآس: عهدكم. (2) روضة الآس: سال. (3) ق ص: ختمه. (4) روضة الآس: وعلة. (5) روضة الآس: تسبح فيها الحور مع جمع ولدان.

وضاءت قصور الشام من نوره الذي ... على كل أفق نازح القطر أو داني وقد بهج الأنوا بدعوته التي ... كست أوجه الغبراء بهجة نيسان وإن كتاب الله اعظم آية ... بها افتضح المرتاب (1) وابتأس الشاني وعدى على شأو البليغ بيانه ... فهيهات منه سجع قس وسحبان نبي الهدى من أطلع الحق أنجماً ... محا نورها أسداف إفك وبهتان لعزتها ذل الأكاسرة الألى ... هم سلبوا تيجانها آل ساسان وأحرز للدين الحنيفي بالظبى ... تراث الملوك الصيد من عهد (2) يونان ونقع من سمر القنا السم قيصراً (3) ... فجرعه منه مجاجة ثعبان وأضحت ربوع الكفر والشك (4) بلقعاً ... يناغي الصدى فيهن هاتف شيطان وأصبحت السمحا ترف نضارة ... ووجه الهدى بادي الصباحة للراني (5) أيا خير أهل الأرض بيتاً ومحتداً ... وأكرم كل الخلق: عجم وعربان فمن للقوافي أن تحيط بوصفكم ... ولو ساجلت سبقاً مدائح حسان إليك بعثناها أماني أجدبت ... لتسقى بمزن من أياديك هتان أجرني إذا أبدى الحساب جرائمي ... وأثقلت الأوزار كفة ميزاني فأنت الذي لولا وسائل عزه ... لما فتحت أبواب عفو وغفران عليك سلام الله ما هبت الصبا ... وماست على كثبانها خلد قضبان وحمل في جيب الجنوب تحية ... يفوح بمسراها شذا كل توقان إلى العمرين صاحبيك كليهما ... وتلوهما في الفضل صهرك عثمان وحيا علياً عرفها وأريجها ... ووالى على سبطيك أوفر رضوان

_ (1) روضة الآس: الميان. (2) روضة الآس: ولد. (3) روضة الآس: سم قيصر. (4) روضة الآس: والشرك. (5) الراني: الناظر.

إليك رسول الله صممت عزمة ... إذا أزمعت فالشحط والقرب سيان وخاطبت مني القلب وهو مقلب ... على جمرة الأشواق فيك فلباني فيا ليت شعري هل أزم قلائصي ... إليك بدراً أو أقلقل كيراني (1) وأطوي أديم الأرض نحوك راحلاً ... نواجي المهارى في صحاصح قيعان يرنحها فرط الحنين إلى الحمى ... إذا غرد الحادي بهن وغناني وهل تمحون عني خطايا اقترفتها ... خطاً لي في تلك البقاع وأوطان وماذا عسى يثني عناني وإن لي ... بآلك جاهاً صهوة العز أمطاني إذا ند عن زوارك البأس (2) والعنا ... فجود ابنك المنصور أحمد أغناني عمادي الذي أوطا السماكين أخمصاً ... وأوفى على السبع الطباق فأدناني متوج أملاك الزمان وإن سطا ... أحل سيوفاً (3) في معاقد تيجان وقاري أسود الغاب بالصيد مثلها ... إذا اضطرب الخطي من فوق جدران (4) هزبر إذا زار البلاد زئيره ... تضاءل في أخياسها أسد خفان وإن أطلعت غيم القتام جيوشه ... وأرزم (5) في مركومه رعد نيران صببن على أرض العداة صواعقاً ... أسلن عليهم بحر خسف ورجفان كتائب لو يعلون رضوى لصدعت ... صفاه الجياد الجرد تعدو بعقبان عديد الحصى من كل أروع معلم ... وكل كمي بالرديني طعان إذا جن ليل الحرب عنهم طلى العدا ... هدتهم إلى أوداجها شهب خرصان من اللاء جرعن العدا غصص الردى ... وعفرن في وجه (6) الثرى وجه بستان وفتحن أقطار البلاد فأصبحت ... تؤدي الخراج الجزل أملاك سودان

_ (1) ق ص: كيزاني؛ والكيران: جمع كور يعني رحاله. (2) ق ص: اليأس. (3) روضة الآس: السيوف. (4) ق ص: خدران. (5) ق ص: وأزرم. (6) روضة الآس: عفر.

إمام البرايا من علي نجاره ... ومن عترة سادوا الورى، آل زيدان دعائم إيمان وأركان سؤدد ... ذوو همم قد عرست فوق كيوان هم العلويين الذين وجوههم ... بدور إذا ما أحلكت شهب أزمان وهم آل بيت شيد الله سمكه ... على هضبة العلياء ثابت أركان وفيهم فشا الذكر الحكيم وصرحت ... بفضلهم آيات ذكر (1) وفرقان فروع ابن عم المصطفى ووصيه ... فناهيك من فخرين: قربى وقربان ودوحة مجد معشب الروض بالعلا ... يجود بأمواه الرسالة ريان بمجدهم الأعلى الصريح تشرفت ... معد على العرباء عاد وقحطان أولئك فخري إن فخرت على الورى ... ونافس بيتي في الولا بيت سلمان إذا اقتسم المداح فضل فخارهم ... فقسمي بالمنصور ظاهر رجحان إمام له في جبهة الدهر ميسم ... ومن عزه في مفرق الملك تاجان سما فوق هامات النجوم بهمة ... يحوم بها فوق السموات نسران وأطلع في أفق المعالي خلافة ... عليها وشاح من علاه وسمطان إذا ما احتبى فوق الأسرة وارتدى ... على كبرياء الملك نخوة السلطان توسمت لقمان الحجى وهو ناطق ... وشاهدت كسرى العدل في صدر إيوان وإن هزه حر الثناء تدفقت ... أنامله عرفاً تدفق خلجان أيا ناظر الإسلام شم بارق المنى ... وباكر لروض في ذرا المجد فينان قضى الله في علياك أن تملك الدنا ... وتفتحها ما بين سوس وسودان وأنك تطوي الأرض غير مدافع ... فمن أرض سودان إلى أرض بغدان وتملؤها عدلاً يرف لواؤه ... على الهرمين أو على رأس غمدان فكم هنأت أرض العراق بك العلا ... ووافت بك البشرى لأطراف عمان فلو شارفت شرق البلاد سيوفكم ... أتاك استلاباً تاج كسرى وخاقان

_ (1) روضة الآس: آي الكتاب.

ولو نشر الأملاك دهرك أصبحت ... عيالاً على علياك أبناء مروان وشايعك السفاح يقتاد طائعاً ... برايته السوداء أهل خراسان فما المجد إلا ما رفعت سماكه ... على عمدي سمر الطوال ومران وهاتيك أبكار القوافي جلبتها (1) ... تغار لهن الحور في دار رضوان أتتك أمير المؤمنين كأنها ... لطائم مسك أو خمائل بستان (2) تعاظمن حسناً أن يقال شبيهها ... فرائد در أو قلائد عقيان فلا زلت للدنيا تحوط جهاتها ... وللدين تحميه بملك سليمان ولا زلت بالنصر العزيز مؤزراً ... تقاد لك الأملاك في زي عبدان [نونية أبي الفتح التونسي] انتهت القصيدة في تغزلها شرح الحال، وإعراب عما في ضمير الغربة والارتحال، ولنعززها بأختها في البحر والروي، قصيدة القاضي الشهير الذكر، الأديب الذي سلبت النهى كواعب شعره إذ أبرزها من خدود الفكر، الشيخ الإمام سيدي أبو الفتح محمد بن عبد السلام، المغربي التونسي نزيل دمشق الشام، صب الله على ضريحه سجال الرحمة والإنعام، فإنها نفث مصدور غريب، وبث معذور أريب، فارق مثلي أوطانه وما سلاها، وقرأ آيات الشجو وتلاها، وتمنى أن يجود له الدهر برؤية مجتلاها، وهي قوله رحمه الله وأنشأها بدمشق عام واحد وخمسين وتسعمائة: سلوا البارق النجدي عن سحب أجفاني ... وعما بقلبي من لواعج نيران ولا تسألوا غير الصبا عن صبابتي ... وشدة أشواقي إليكم وأشجاني فما لي سواها من رسول إليكم ... سريع السرى في سيره ليس بالواني

_ (1) روضة الآس: جلوتها. (2) بعد هذا البيت في روضة الآس: ومنها ختاما.

فيا طال بالأسحار ما قد تكلفت ... بإنعاش محزون وإيقاظ وسنان وتنفيس كرب عن كئيب متيم ... يحن إلى أهل ويصبو لأوطان فلله ما أذكى شذا نسمة الصبا ... صباحاً إذا مرت على الرند والبان وسارت مسير الشمس وهناً فأصبحت ... من الشرق نحو الغرب تجري بحسبان وقد وقفت بالشام وقفة حامل ... نوافج مسك من ظباء خراسان لترتاض في تلك الرياض هنيئة ... وتزداد من أزهارها طيب أردان وما غربت حتى تضاعفت نشرها ... بواسطتي روح هناك وريحان فكم نحوكم حملتها من رسالة ... مدونة في شرح حالي ووجداني وناشدتها بالله إلا تفضلت ... بتبليغ أحبابي السلام وجيراني تحية مشتاق إلى ذلك الحمى ... وسكانه والنازحين بأظعان سقى الله هاتيك الديار وأهلها ... سحائب تحكي صوب مدمعي القاني وحيا ربوع الحي من خير بلدة ... تخيرها قدماً رآها بإنسان لها الفخر والفضل المبين بما حوت ... من الأنس والحسن المنوط بإحسان لقد حل منها آل حفص ملوكها ... مراتب تسمو فوق هامة كيوان وسادوا بها كل الملوك وشيدوا ... بها من مباني العز أفخر بنيان وكان لهم فيها بهاء وبهجة ... وحسن نظام لا يعاب بنقصان وكان لهم فيها عساكر جمة ... تصول بأسياف وتسطو بمران جيوش وفرسان يضيق بها الفضا ... ويحجم عنها الفرس من آل ساسان وكان لأهليها المفاخر والعلا ... وكان بها حصنا أمان وإيمان وكان على الدنيا جمال بحسنها ... وحسن بنيها من ملوك وأعيان وكانت لطلاب المعارف قبلة ... لما في حماها من أئمة عرفان وكان لأهل العلم فيها وجاهة ... وجاه وعز مجده ليس بالفاني وكان بواديها المقدس فتية ... تقدس باريها بذكر وقرآن

ومن أدباء النظم والنثر معشر ... تفوق بناديها بلاغة سحبان وكانت على الأعداء في حومة الوغى ... تطول بأبطال، وتسطو بشجعان وما برحت فيها محاسن جمة ... وفي كل نوع أهل حذق وإتقان إلى أن رمتها الحادثات بأسهم ... وسلت عليها سيف بغي وعدوان فما لبثت تلك المحاسن أن عفت ... وأقفر ربع الأنس من بعد سكان وشتت ذاك الشمل من بعد جمعه ... كما انتثرت يوماً قلائد عقيان فأعظم برزء خص خير مدينة ... وخير أناس بين عجم وعربان لعمري لقد كادت عليها قلوبنا ... تضرم من خطب عراها بنيران وقد عمنا غم بعظم مصابها ... وإن خصني منه المضر بجثماني وما بقيت فيما علمناه بلدة ... من الشرق إلا ألبست ثوب أحزان فصبراً أخي صبراً على المحنة التي ... رمتك بها الأقدار ما بين إخوان فما الدهر إلا هكذا فاصطبر له: ... رزية مال أو تفرق خلان أأحبابنا إن فرق الدهر بيننا ... وطال مغيبي عنكم منذ أزمان فإني على حفظ الوداد وحقكم ... مقيم، وما هجر الأحبة من شاني ووالله والله العظيم ألية ... على صدقها قامت شواهد برهان لقد زاد وجدي واشتياقي إليكم ... وبرح بي طول البعاد وأضناني فلا تحسبوا أني تسليت بعدكم ... بشيء من الدنيا وزخرفها الفاني ولا أنني يوماً تناسيت عهدكم ... بحال، ولا أن التكاثر ألهاني ولا راقني روض، ولا هش مسمعي ... لنغمة أطيار ورنة عيدان ولا حل في فكري سواكم بخلوة ... ولا جلوة ما بين حور وولدان ولا اختلجت يوماً ضمائر مهجتي ... لغيركم في سر سري وإعلاني ولو لم أسل النفس بالقرب واللقا ... لأدرج جسمي في مقاطع أكفاني

فما أنا في عودي إليكم بآيس ... فما اليأس إلا من علامة كفران عليكم سلام الله في كل ساعة ... تحية صب لا يدين بسلوان مدى الدهر ما ناحت مطوقة وما ... تعاقب بين الخافقين الجديدان [نونية ابن الخطيب] ولصاحب الترجمة لسان الدين ابن الخطيب قصيدة طنانة بهذا الوزن والقافية، مدح بها السلطان أبا سالم المريني حين فتح تلمسان، وقد رأيت إيرادها في هذا الباب، لما اشتمل عليه آخرها من شرح أمر الاغتراب، الذي حير الألباب، وللمناسبة أسباب، لا تخفى على من له فكر مصيب، وكل غريب للغريب نسيب، وهي (1) : أطاع لساني في مديحك إحساني ... وقد لهجت نفسي بفتح تلمسان فأطلعتها تفتر عن شنب المنى ... وتسفر عن وجه من السعد حياني (2) كما ابتسم النوار عن أدمع الحيا ... وجف بخد الورد عارض نيسان كما صفقت ريح الشمال شمولها ... فبان ارتياح السكر في غصن البان تهنيك بالفتح الذي معجزاته ... خوارق لم تذخر سواك لإنسان خففت إليها والجفون ثقيلة ... كما خف شثن الكف من أسد خفان وقدت إلى الأعداء فيها مبادراً ... ليوث رجال في مناكب عقبان تمد بنود النصر منهم ظلالها ... على كل مطعام العشيات مطعان جحاجحة (3) غر الوجوه كأنما ... عمائمهم غيها معاقد تيجان أمدك فيها الله بالملإ العلا ... فجيشك، مهما حقق الأمر، جيشان

_ (1) مطلعها وبعض أسطر من الرسالة التالية في أزهار الرياض 1: 286. (2) ق ص: حنان. (3) الجحاجحة: السادة.

لقد جُليت منك البلاد لخاطب ... لقد جنيت منك الغصون إلى جاني لقد كست الإسلام بيعتك الرضى ... وكانت على أهليه بيعة رضوان ولله من ملك سعيد ونصبة ... قضى المشتري فيها بعزلة كيوان وسجل حكم العدل بين بيوتها ... وقوفاً مع المشهور من رأي يونان فلم تخش سهم القوس صفحة بدرها ... ولم تشك فيها الشمس من بخس ميزان ولم يعترض مبتزها قطع قاطع ... ولا نازعت نوبهرها كف عدوان (1) تولى اختيار الله حسن اختيارها ... فلم يحتج الفرغان فيها لفرغان ولا صرفت فيها دقائق نسبة ... ولو خفقت فيها طوالع بلدان وجوه القضايا في كمالك شأنها ... وجوب إذا خصت سواك بإمكان ومن قاس منك الجود بالبحر والحيا ... فقد قاس تمويهاً قياس سفسطاني وطاعتك العظمى بشارة رحمة ... وعصيانك المحذور نزغة شيطان وحبك عنوان السعادة والرضى ... ويعرف مقدار الكتاب بعنوان ودين الهدى جسم وذاتك روحه ... وكم وصلة ما بين روح وجثمان تضن بك الدنيا ويحرسك العلا ... كأنك منها بين لحظ وأجفان بنيت على أساس أسلافك العلا ... فلا هدم المبنى ولا عدم الباني وصاحت بك العليا فلم تك غافلاً ... ونادت بك الدنيا فلم تك بالواني ولم تك في خوض البحار بهائب ... ولم تك في نيل الفخار بكسلان لقد هز منك العزم لما انتضيته ... ذوائب رضوى أو مناكب ثهلان ولله عينا من رآها محلة ... هي الحشر لا تحصى بعد وحسبان وتنور عزم فار في إثر دعوة ... يعم الأقاصي والأداني بطوفان عجائب أقطار، ومألف شارد ... وأفلاذ آفاق، وموعد ركبان إذا ما سرحت اللحظ في عرصاتها ... تبلد منك الذهن في العالم الثاني جنى حان والنصر العزيز اهتصاره ... إذا انتظمت بالقلب منها جناحان

_ (1) المبتز: الكوكب الذي له حظوظ كثيرة؛ والنوبهر: تاسع البروج.

فمن سحب لاحت بها شهب القنا ... ومن كثب بيض بدت فوق كثبان مضارب في البطحاء بيض قبابها ... كما قلبت للعين أزهار سوسان وما إن رأى الراءون في الدهر قبلها ... قرارة عز في مدينة كتان تفوت التفات الطرف حال اقتبالها ... كأنك قد سخرت جن سليمان فقد أطرقت من خوفها كل بيعة ... وطأطأ من إجلالها كل إيوان وقد ذعرت خولان بين بيوتها ... غداة بدت منها البيوت بخولان فلو رميت مصر بها وصعيدها ... لأضحت خلاء بلقعاً بعد عمران ولو يممت سيف بن ذي يزن ... لما تقرر ذاك السيف في غمد غمدان تراع بها الأوثان في أرض رومة ... إذا خيمت شرقاً على طرق أوثان وتجفل إجفال النعامى ببرقة ... ليوث الشرى ما بين ترك وعربان وعرضاً كيوم العرض أذهل هوله ... عياني، وأعياني تعدد أعيان وجيشاً كقطع الليل للخيل تحته ... إذا صهلت مفتنة رجع ألحان فيومض من بيض الظبى ببوارق ... ويقذف من سمر الرماح بشهبان ويمطر من ودق السهام بحاصب ... سحائبه من كل عوجاء مرنان وجرداً إذا ما ضمرت يوم غاية ... تعجبت من ريح تقاد بأرسان تسابق ظلمان الفلاة بمثلها ... وتذعر غزلان الرمال بغزلان ودون مهب العزم منك قواضب ... أبى النصر يوماً أن تلم بأجفان نظرت إليها والنجيع لباسها ... فقلت: سيوف أم شقائق نعمان تفتح ورداً خدها حين جردت ... ولا ينكر الأقوام خجلة عريان كأن الوغى نادت بها لوليمة ... قد احتفلت أوضاعها منذ زمان فإن طعمت بالنصر كان وضوءها ... نجيعاً ووافاها الغبار بأشنان لقد خلصت لله منك سجية ... جزاك على الإحسان منك بإحسان فسيفك للفتح المبين مصاحب ... وعزمك والنصر المؤزر إلفان فرح واغد للرحمن تحت كلاءة ... وسرحان في غاب العدا كل سرحان

ودم والمنى تدني إليك قطافها ... ميسر أوطار ممهد أوطان وكن واثقاً بالله مستنصراً به ... فسلطانه يعلو على كل سلطان كفاك العدا كاف لملكك كافل ... فضدك نضو ميت بين أكفان رضى الوالد المولى أبيك عرفته ... وقد أنكر المعروف من بعد عرفان فكم دعوة أولاك عند انتقاله ... إلى العالم الباقي من العالم الفاني فعرفت في السراء نعمة منعم ... وألحفت في الضراء رحمة رحمان عجبت لمن يبغي الفخار بدعوة ... مجردة من غير تحقيق برهان وسنة إبراهيم في الفخر قد أتت ... بكل صحيح عن علي وعثمان ومن مثل إبراهيم في ثبت موقف ... إذا ما التقى في موقف الحرب صفان إذا هم لم يلفت بلحظة هائب ... وإن من لم ينفث بلفظة منان فصاحة قس في سماحة حاتم ... وإقدام عمرو تحت حكمة لقمان شمائل ميمون النقيبة أروع ... له قصبات السبق في كل ميدان محبته فرض على كل مسلم ... وطاعته في الله عقدة إيمان هنيئاً أمير المسلمين بنعمة ... حبيت بها من مطلق الجود منان لزينت أجياد المنابر بالتي ... أتاح لها الرحمن في آل زيان قلائد فتح هن لكن قدرها ... ترفع أن يدعى قلائد عقيان أمولاي، حبي في علاك وسيلتي ... ولطفك بي دأباً بمدحك أغراني أياديك لا أنسى على بعد المدى ... نعوذ بك اللهم من شر نسيان فلا جحد ما خولتني من سجيتي ... ولا كفر نعماك العميمة من شاني ومهما تعجلت الحقوق لأهلها ... فإنك مولاي الحقيق وسلطاني وركني الذي لما نبا بي منزلي ... أجاب ندائي بالقبول وأواني وعالج أيامي وكانت مريضة ... بحكمة من لم ينتظر يوم بحران فأمنني الدهر الذي قد أخافني ... وجدد لي السعد الذي كان أبلاني

وخولني الفضل الذي هو أهله ... وشيكاً وأعطاني فأفعم أعطاني (1) تخونني صرف الحوادث فانثنى ... يقبل أرداني، ومن بعد أرداني وأزعجني من منشئي ومبوئي ... ومعهد أحبابي ومألف جيراني بلادي التي فيها عقدت تمائمي ... وجم (2) بها وفري وجل بها شاني تحدثني عنها الشمال فتنثني ... وقد عرفت مني شمائل نشوان وآمل أن لا أستفيق من الكرى ... إذا الحلم (3) أوطاني بها ترب أوطاني تلون إخواني علي وقد جنت ... علي خطوب جمة ذات ألوان وما كنت أدري قبل أن يتنكروا ... بأن خواني كان مجمع خواني وكانت، وقد حم القضاء، صنائعي ... علي بما لا أرتضي شر أعواني فلولاك بعد الله يا ملك العلا ... وقد فت ما ألفيت من يتلافاني تداركت مني بالشفاعة منعماً ... بريئاً رماه الدهر في موقف الجاني فإن عرف الأقوام حقك وفقوا ... وإن جهلوا باءوا بصفقة خسران وإن خلطوا عرفاً بنكر وقصروا ... وزنت بقسطاس قويم وميزان وحرمة هذا اللحد يأبى كمالها ... هضيمة رد أو حطيطة نقصان وقد نمت عن أمري ونبهت همة ... تحدق من علو إلى صرح هامان إذا دانت الله النفوس وأملت ... إقالة ذنب أو إنالة غفران فمولاك يا مولاي قبلة وجهتي ... وعهدة إسراري وحجة إعلاني وقفت على مثواه نفسي قائماً ... بترديد ذكر أو تلاوة قرآن ولو كنت أدري فوقها من وسيلة ... إلى ملكك الأرضى لشمرت أرداني وأبلغت نفسي جهدها غير أنني ... طلابي ما بعد النهاية أعياني قرأت كتاب الحمد فيك لعاصم ... فصح أدائي واقتدائي وإتقاني

_ (1) الأعطان: جمع عطن، يعني الساحة، وأفعم: ملأ. (2) جم: كثر وطال. (3) ص: الحكم.

فدونكها من بحر فكري لؤلؤاً ... يفصل من حسن النظام بمرجان وكان رسول الله بالشعر يعتني ... وكم حجة في شعر كعب وحسان ووالله ما وفيت قدرك حقه ... ولكنه وسعي ومبلغ إمكاني [رسالة لسان الدين إلى أبي سالم] وكتب لسان الدين رحمه الله قبل هذه القصيدة نثرا ًمن إنشائه يخاطب به السلطان أبا سالم المذكور، وذلك أنه ورد على لسان الدين وهو بشالة سلا كتاب السلطان المذكور بفتح تلمسان، وكان وروده يوم الخميس سابع عشر شعبان عام واحد وستين وسبعمائة، ونص ما كتب به لسان الدين: مولاي فتاح الأقطار والأمصار، فائدة الأزمان والأعصار، أثير هبات الله الآمنة من الاعتصار، قدوة أولي الأيدي والأبصار، ناصر الحق عند قعود الأنصار، مستصرخ الملك الغريب من وراء البحار، مصداق دعاء الأب (1) المولى في الأصائل والأسحار، أبقاكم الله سبحانه لا تقف إيالتكم عند حد، ولا تحصى فتوحات الله تعالى عليكم بعد، ولا تفيق أعداؤكم من كد، ميسراً على مقامكم ما عسر على كل أب كريم وجد، عبدكم الذي خلص إبريز عبوديته لملك ملككم المنصور، المعترف لأدنى رحمة من رحماتكم بالعجز عن شكرها والقصور، الداعي إلى الله سبحانه أن يقصر عليكم سعادة العصور، ويذلل بعز طاعتكم أنف الأسد الهصور، ويبقي الملك في عقبكم وعقب عقبكم إلى يوم ينفخ فيه الصور، فلان من الضريح المقدس بشالة، وهو الذي تعددت على المسلمين حقوقه، وسطع نوره وتلألأ شروقه، وبلغ مجده السماء لما سبقت فروعه ووشجت عروقه، وعظم ببيوتكم فخره فما فوق البسيطة فخر يفوقه، حيث الجلال قد رست هضابه، والملك قد كسيت بأستار الكعبة الشريفة قبابه، والبيت العتيق قد ألحفت الملاحف الإمامية أثوابه، والقرآن العزيز ترتل أحزابه.

_ (1) في الأصول: الأدب؛ والمعنى أنه صدق فيه دعاء أبيه أبي الحسن.

والعمل الصالح يرتفع إلى الله ثوابه، والمستجير يخفي بالهيبة سؤاله فيجهر بنعرة العز جوابه، وقد تفيأ من أوراق الذكر الحكيم حديقة، وخميلة أنيقة، وحط بجودي الجود نفساً في طوفان العز غريقة، والتحف رفرف الهيبة التي لا تهتدي النفس فيها إلا بهداية الله تعالى طريقة، واعتز بعزة الله وقد توسط جيش الحرمة المرينية حقيقة، إذ جعل المولى المقدس المرحوم أبا الحسن مقدمة وأباه وجده سيقة، يرى بركم بهذا اللحد الكريم قد طنب عليه من الرضى فسطاطاً، وأعلق به يد العناية المرينية اهتماماً واغتباطاً، وحرر له أحكام الحرمة نصاً جلياً واستنباطاً، وضمن له حسن العقبى التزاماً واشتراطاً، وقد عقد البصر بطريقة رحمتكم المنتظرة المرتقبة، ومد اليد إلى لطائف شفاعتكم التي تتكفل بعتق المال كما تكفلت بعتق الرقبة، وشرع في المراح بميدان نعمتكم بعد اقتحام هذه العقبة، لما شنفت الأذن البشرى التي لم يبق طائر إلا سجع بها وصدح، ولا شهاب دجنة إلا اقتبس من نورها واقتدح، ولا صدر إلا انشرح، ولا غصن عطف إلا مرح، بشرى الفتح القريب، وخبر النصر الصحيح الحسن الغريب، فتح تلمسان الذي قلد المنابر عقود الابتهاج، ووهب الإسلام منيحة النصر غنية عن الانتهاج، وألحف الخلق ظلاً ممدوداً، وفتح باب الحج وكان مسدوداً، وأقر عيون أولياء الله الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً، وأضرع بسيف الحق جباهاً أبية وخدوداً، وملككم حق أبيكم الذي أهان عليه الأموال، وخاض من دونه الأهوال، وأخلص فيه الضراعة والسؤال، من غير كد يغمز عطف المسرة، ولا جهد يكدر صفو النعم الثرة، ولا حصر ينفض به المنجنيق ذؤابته، ويظهر بتكرار الركوع إنابته. فالحمد لله الذي أقال العثار، ونظم بدعوتكم الانتثار، وجعل ملككم يجدد الآثار، ويأخذ الثار، والعبد يهنئ مولاه، بما أنعم الله تعالى به عليه وأولاه، فإذا أجال العبيد قداح السرور فللعبد المعلى والرقيب، وإذا استهموا حظوظ الجذل فلي القسم الوافر والنصيب، وإذا اقتسموا فريضة شكر الله فلي الحظ

والتعصيب، لتضاعف أسباب العبودية قبلي، وترادف النعم التي عجز عنها قولي وعملي، وتقاصر في ابتغاء مكافأتها وجدي وإن تطاول أملي، فمقامكم المقام الذي نفس الكربة، وآنس الغربة، ورعى الوسيلة والقربة، وأنعش الأرماق، وفك الوثاق، وأدر الأرزاق، وأخذ على الدهر بالاستقالة العهد والميثاق. وإن لم يباشر العبد اليد العالية بهذا الهناء، ويمثل بين يدي الخلافة العظيمة السنا والسناء، ويمد بسبب اليد إلى تلك السماء، فقد باشر به اليد التي يحن مولاي لتذكر تقبيلها، ويكمل فروض المجد بتوفية حقوقها الأبوية وتكميلها، ووقفت بين يدي ملك الملوك الذي أجال عليها القداح، ووصل في طلب وصالها بالمساء الصباح، وكان فتحه إياها أبا عذرة الافتتاح، وقلت: يهنيك يا مولاي رد ضالتك المنشودة، وجبر لقطعتك المعرفة المشهودة، ورد أمتك المودودة، فقد استحقها وارثك الأرضى، وسيفك الأمضى، وقاضي دينك، وقرة عينك، مستنقذ دارك من يد غاصبها، وراد رتبتك إلى مناصبها، وعامر المثوى الكريم، وساتر الأهل والحريم. مولاي: هذه تلمسان قد طاعت، وأخبار الفتح على ولدك الحبيب إليك قد شاعت، والأمم إلى هنائه قد تداعت، وعدوك وعدوه قد شردته المخافة، وانضاف إلى عرب الصحراء فخفضته الإضافة، وعن قريب تتحكم فيه يد احتكامه، وتسلمه السلامة إلى حمامه، فلتطب يا مولاي نفسك، وليستبشر رمسك، فقد نمت بركتك وزكا غرسك، نسأل الله أن يورد على ضريحك من أنباء نصره ما تفتح له أبواب السماء قبولا، ويترادف إليك مدداً موصولاً، وعدداً آخرته خير لك من الأولى، ويعرفه بركة رضاك ظعناً وحلولا، ويضفي عليك منه ستراً مسدولا. ولم يقنع العبد بخدمة النثر، حتى أجهد القريحة التي ركضها الدهر فأنضاها، واستشفها الحادث الجلل فتقضاها، فلفق من خدمة المنظوم ما يتغمد حلمكم تقصيره، ويكون إغضاؤكم إذا لقي معرة العتب وليه ونصيره، وإحالة مولاي

على الله في نفسي جبرها، ووسيلة عرفها مجده فما أنكرها، وحرمة بضريح مولاي والده شكرها، ويطلع العبد منه على كمال أمله، ونجح عمله، وتسويغ مقترحه وتتميم جذله: أطاع لساني في مديحك إحساني ... إلى آخر القصيدة التي تقدمت. [نونية الفقيه عمر الزجال] وحيث اقتضت المناسبة جلب هذه النونيات فلنضف إليها قصيدة أديب الأندلس الفقيه عمر صاحب الأزجال، إذ هو من فرسان هذا المجال، وقد وطأ لها بنثر، وجعل الجميع مقامة ساسانية، سماها " تسريح النصال إلى مقاتل الفصال " ونصها (1) : يا عماد السالكين، ومحط (2) المستفيدين والمتبركين، وثمال الضعفاء والمساكين المتروكين، في طريقك يتنافس المتنافس، وعلى أعطافك تزهى العباءات وتروق الدلافس (3) ، وبكتابك تحيا جوامد الأفهام، وبمذبتك تشرد ذباب الأوهام، وفي زنبيلك يسد التالد والطارف، وبعصاك يهش على بدائع المعارف، الله الله في سالك، ضاقت عليه المسالك، وشاد، رمي بإبعاد، أدركته متاعب الحرفة، وأقيم من صف أهل الصفة (4) ، فلا يجد نشاطا، على ما يتعاطى، ولا يلقى اغتباطا، إن حل زاوية أو نزل رباطا، أقصي عن أهل القرب والتخصيص، وابتلي بمثل حالة برصيص (5) ، فأحيل عليك، وتوقفت إقالته على

_ (1) قارن بأزهار الرياض 1: 117. (2) الأزهار: ومحط رحال. (3) الدلافس: جمع دلفاس، وقد مر من قبل " دفاس " - وكلاهما صحيح - وهو نوع من الثياب. (4) أهل الصفة: قوم من فقراء المهاجرين كانوا يأوون إلى صفة المسجد في عهد الرسول لأنه لا مأوى لهم غيرها. (5) برصيص أو برصيصا: من عباد بني إسرائيل ثم فتنه الشيطان.

توبة بين يديك، فكاتبك استدعاء، واستوهب منك هداية ودعاء، ليسير على ما سويت، ويتحمل عنك أشتات ما رويت، فيلقى الأكفاء الظرفاء عزيزاً، ويباهي بك كل من خاطبك مستجيزاً، فاصرف إلي محيا الرضى، وعد من إيناسك للعهد الذي مضى، ولا تلقني معرضاً ولا معرضا، وأصخ لي سمعك كما قدر الله تعالى وقضى: تعال نجددها طريقة ساسان (1) ... نعض عليها ما توالى الجديدان ونصرف إليها من مثار عزائم ... ونحلف عليها من مؤكد أيمان ونعقد على حكم الوفاء هواءنا ... لنأمن من أقول زور وبهتان ونقسم على أن لا نصدق واشياً ... يروح ويغدو بين أثم وعدوان يطوف حوالينا ليفسد بيننا ... بمنطق إنسان وخدعة شيطان على أننا من عالم كلما بدا ... تعوذ منه عالم الإنس والجان وحاشاك أن تلفى عن الصلح معرضاً ... إلى الصلح آلت حرب عبس وذبيان وإني أهمتني شؤون كثيرة ... وصلحك أولى ما أقدم من شاني فأنت إمامي إن كلفت بمذهب ... وأنت دليلي إن صدعت ببرهان سأرعاك في أهل العباءات كلما ... رأيتك في أهل الطيالس ترعاني ويا لابسي تلك العباءات إنها ... لباس إمام في الطريقة دهقان تفرقت الألوان منها إشارة ... بأنك تأتي من حلاك بألوان ويا بأبي الفصال شيخ طريقة ... خلوب لألباب لعوب بأذهان إذا جاء في الثوب المحبر خلته ... زنيبيرة قد مد منها جناحان فما تأمن الأبدان آفة لسعها ... وإن أقبلت في سابغات وأبدان سأدعوك في حالات كيدي وكديتي ... بشيخي ساسان وعمي هامان

_ (1) طريقة ساسان: أي طريقة أهل الكدية.

فإن كان في الأنساب منا تباين ... فما تنكر الآداب أنا نسيبان ألا فادع لي في جنح ليلك دعوة ... لتنجح آمالي ويرجح ميزاني لك الطائر الميمون في كل وجهة ... سريت إليها غير نكس ولا واني فكم من فقير بائس قد عرفته ... فرفت عليه نعمة ذات أفنان وكم من رفيع الجاه واليت أنسه ... فعاش قرير العين مرتفع الشان فلو كنت للفتح بن خاقان صاحباً ... لما خانه المقدور في ليلة الخان (1) ولو كنت للصابي صديقاً ملاطفاً ... لما قبلت فيه مقالة بهتان (2) ولو كنت من عبد الحميد مقرباً ... لما هزم السفاح أشياع مروان ولو كنت قد أرسلتها دعوة على ... أبي مسلم ما حاز أرض خراسان ولو كنت في يوم الغبيط مراسلاً ... لبسطام لم تهزم به آل شيبان (3) ولو كنت في حرب الأمين لطاهر ... لما هام في يوم اللقاء ابن ماهان (4) ولو كنت في مغزى أبي يوسف لما ... رماه بغدر عبده في تلمسان (5) ولو أن كسرى يزدجرد عرفته ... لما لاح مقتولاً على يد طحان (6) ولو أن لذريقاً وطئت بساطه ... لما أثرت فيه مكيدة اليان (7) وفيما مضى في فاس أوضح شاهد ... غني لدينا عن بيان وتبيان ولما اعتنى منك السعيد بكاتب ... رأى ما ابتغى من عز ملك وسلطان فلا تنسني من أهل ودك إنني ... أخاف الليالي أن تطول فتنساني

_ (1) الفتح بن خاقان صاحب القلائد والمطمح وجد مقتولا بخان في مدينة مراكش. (2) أبو إسحاق الصابي سجنه عضد الدولة. (3) يوم الغبيط بين تميم وشيبان أسر فيه بسطام بن قيس. (4) علي بن عيسى بن ماهان قائد جيش الأمين. (5) يوسف بن يعقوب المريني غزا تلمسان وحاصرها وقتله في أثناء ذلك عبده سعادة. (6) آخر ملوك الفرس، هرب من وجه العرب إلى بلخ فقتله هناك طحان. (7) اليان هو يليان الذي كاد للذريق وحرض العرب وساعدهم على دخول الأندلس.

ولا خير إن تجعل كفاء قصيدتي ... كفاء ابن دراج على مدح خيران (1) فجد بدنانير ولا تكن التي ... ألم بها الكندي في شعب بوان (2) فجودك فينا الغيث في رمل عالج ... وفضلك فينا الخبز في دار عثمان (3) وما زلت من قبل السؤال مقابلاً ... مرادي بإحساب وقصدي بإحسان ولا تنس أياماً تقضت كريمة ... بزاوية المحروق أو دار همدان (4) وتأليفنا فيها لقبض إتاوة ... وإغرام مسنون وقسمة حلوان وقد جلس الطرقون (5) بالبعد مطرقاً ... يقول نصيبي أو أبوح بكتمان عريفي يلحاني إذا ما أتيته ... ولم أنصرف عنكم بواجب ألحان وقد جمعت تلك الطريقة عندنا ... أئمة حساب وأعلام كهان إذا استنزلوا الأرواح باسم تبادرت ... طوائف ميمون وأشياع برقان (6) وإن بخروا عند الحلول تأرجت ... مباخرهم عن زعفران ولوبان (7) وإن فتحوا الدارات (8) في رد آبق ... ثنت عزمه أوهام خوف وخذلان فيحسب أن الأرض حيث ارتمت به ... ركائبه سرعان رجل وركبان وقد عاشرتنا أسرة كيموية ... أقامت لدينا في مكان وإمكان فلله من أعيان قوم تألفوا ... على عقد سحر أو على قلب أعيان

_ (1) مدح ابن دراج خيران الصقلبي صاحب المرية بقصيدته " لك الخير قد أوفى بعهدك خيران " (ديوانه: 86) والظاهر أنه لم يجزل جائزته عليها. (2) أي يريد دنانير حقيقية لا التي تحدث عنها المتنبي حين وصف أشعة الشمس بين الشجر في شعب بوان وشبهها بالدنانير. (3) يشير إلى قول الشاعر (النفح 3: 580) : الماء في دار عثمان له ثمن ... والخبز شيء له شان من الشان (4) زاوية المحروق ودار همدان موضعان بفاس. (5) الطرقون: كلمة مغربية معناها من بيده قبض ضرائب اللهو والأعراس وما أشبه. (6) ميمون وبرقان من الجن. (7) اللوبان عند المغاربة ما يعرف عند المشارقة باسم " اللبان ". (8) الدارات: حلقات يعقدها شيوخ المشعوذين لكشف السر عند حدوث سرقة أو إباق أو نحو ذلك.

ونحن على ما يغفر الله إنما ... نروح ونغدو من رباط إلى خان (1) مع الصبح نضفيها عباءة صفة ... وبالليل نلويها زنانير رهبان أتذكر في سفح العقاب مبيتكم ... ثمانين شخصاً من إناث وذكران لديكم من الألوان ما لم يجئ به ... طهور ابن ذنون ولا عرس بوران (2) وكم شائق منكم إلى عقد تكة ... وكم هائم فيكم على حل هميان (3) فأطفأت قنديل المكان تعمداً ... وأومأت فانقضوا كأمثال عقبان وناديت في القوم الركوب فأسرعوا ... فريق لنسوان، وقوم لذكران فأقسم بالأيمان لولا تعففي ... عن السوء لانحلت عقيدة إيماني فعد للذي كنا عليه فإن لي ... على الغير إن صاحبته حقد غيران فمن يوم إذ صيرت ودي جانباً ... وأعرضت عني ما تناطح عنزان ولا روت الكتاب بعد نفارنا ... محاورةً من ثعلبان لسرحان وما هو قصدي منك إلا إجازة ... تخولني التفضيل ما بين خلاني وإنك إن سخرت لي وأجزتني ... لنعم ولي صان ودي وجازاني ولم لا ترويني وأنت أجل من ... سقاني من قبل الرحيق فرواني ألا فأجزني يا إمام بكل ما ... رويت لمدغليس أو لابن قزمان ولا تنس للدباغ نظماً عرفته ... فإنكما في ذلك النظم سيان ومزدوجات ينسبون نظامها ... إلى ابن شجاع (4) في مديح ابن بطان وألمم بشيء من خرافات عنتر ... وألمع ببعض من حكايات سوسان

_ (1) الأزهار: حان - بالحاء المهملة -. (2) الإعذار الذنوني الذي قام به المأمون بن ذي النون، في الأندلس، وعرس بوران بنت الحسن بن سهل التي تزوجها المأمون العباسي، في المشرق، كلاهما مضرب المثل في البذخ والإسراف. (3) حذف المقري في أزهار الرياض هذا البيت واثنين معه لأن الشاعر أقذع فيها. (4) ق ص: سجاع.

وإن كنت طالعت اليتيمة واسني ... بلامية في الفحش من نظم واساني (1) أجزني بكشف الدك (2) أرضى وسيلة ... وخير جليس في بساط ودكان وناولني المصباح فهو لغربتي ... ميسر أغراضي ورائد سلواني وألحق به شمس المعارف (3) إنني ... أسائل عن إسناده كل إنسان وقد كنت قبل اليوم عرفتني به ... ولكنني أنسيته بعد عرفان ولا بد يا أستاذ من أن تجيزني ... ببدء ابن سبعين (4) وفصل ابن رضوان وكتب ابن أحلى كيف كانت فإنها ... لوزن دقيق القوم أكرم ميزان ولا تنس ديوان الصبابة (5) والصفا ... لإخوان صدق في الصفا خير إخوان وزهر رياض في صفوف أضاحك ... وجبذ كساء في مكايد نسوان كذاك فناولني كتاب حبائب ... وزدني تعريفاً بها وببرجان (6) ولي أمل في أن أروى رسالة ... مضمنة أخبار حي بن يقظان وحبس علي الكوز والكاس والعصا ... فإنك مثر من عصي وكيزان وصير لي الدلفاس أرفع لبسة ... فقد جل قدري عن حرير وكتان وقد رق طبعي واعترتني خشية ... تكاد بها روحي تفارق جثماني وخل مفاتيح الطريقة في يدي ... وسوغ لهم حكمي مزيدي ونقصاني فإني لم أخدمك إلا بنية ... وإني لم أتبعك إلا بإحسان

_ (1) الواساني أبو القاسم الحسين بن الحسين وله قصيدة لامية مقذعة في اليتيمة 1: 351 يهجو بها المنشا ابن إبراهيم القزاز. (2) اسم كتاب لابن شهيد الشاعر؛ وفي الفهرست (312) كتاب الخفة والدك وهو من كتب الشعبذة والطلسمات. (3) شمس المعارف للبوني (- 622) . (4) يريد بدء العارف لابن سبعين. (5) اسم كتاب لابن حجلة التلمساني. (6) هكذا في الأصل، وفي الفهرست لابن النديم (314) كتاب " بردان وحباحب " لأبي حسان، وهما كتابان صغير وكبير، من الكتب المؤلفة في الباه.

فكن لي بالأسرار أفصح معلن ... فإني قد أخلصت سري وإعلاني وليس قصدي - علم الله - بجلب هذه القصيدة ما فيها من المجون، بل ما فيها من التلميحات التي يرغب في مثلها أهل الأدب والحديث شجون، على أن أمثال هؤلاء الأعلام، لا يقصدون بمثل هذا الكلام، إلا مجرد الإحماض، فينبغي أن ينظر كلامهم الواقف عليه بعين الإغضاء عن النقض والإغماض، ولا يبادر بالاعتراض، من لم يعلم بالأصول برهان القطع والافتراض، والله سبحانه المسؤول في التجاوز عن الزلات، والنجاة من الأمور المضلات، فعفوه سبحانه وراء جميع ذلك، والله تعالى المطلع على أسرار الضمائر، والخبير بما هنالك، لا رب غيره، ولا خير إلا خيره. [نونية ابن زمرك] وحيث ذكرنا هذه القصائد النونية التي اتفق فيها البحر والروي، وجرت من البلاغة على النهج السوي، فلا بأس أن نعززها بقصيدة الرئيس الوزير أبي عبد الله ابن زمرك - سامحه الله تعالى - وهي قصيدة ميلادية أنشدها سلطان الأندلس عام خمسة وستين وسبعمائة، ونجعلها مكفرة لما مر في قصيدة الفقيه عمر من المجون، ومبلغة للناظرين في هذا التأليف ما يرجون، والحديث شجون، وهي قوله (1) : لعل الصبا إن صافحت روض نعمان ... تؤدي أمان القلب عن ظبية البان وماذا عن الأرواح وهي طليقة ... لو احتملت أنفاسها حاجة العاني وما حال من يستودع الريح سره ... ويطلبها، وهي النموم، بكتمان وكالطيف أستقريه في سنة الكرى ... وهل تنقع الأحلام غلة ظمآن

_ (1) انظر القصيدة في أزهار الرياض 2: 42.

أسائل عن نجد ومرمى صبابتي ... ملاعب غزلان الصريم بنعمان وأبدي إذا ريح الشمال تنفست ... شمائل مرتاح المعاطف نشوان عرفت بهذا الحب لم أدر سلوة ... وإني لمسلوب الفؤاد لسلوان فيا صاحبي نجواي والحب غاية ... فمن سابق جلى مداه ومن واني وراءكما ما اللوم يثني مقادتي ... فإني عن شأن الملامة في شان وإني وإن كنت الأبي قياده ... ليأمرني حب الحسان وينهاني وما زلت أرعى العهد فيمن يضيعه ... وأذكر إلفي ما حييت وينساني فلا تنكرا ما سامني مضض الهوى ... فمن قبل ما أودى بقيس وغيلان لي الله إما أومض البرق في الدجى ... أقلب تحت الليل مقلة وسنان وإن سل من غمد الغمام حسامه ... برى كبدي الشوق الملم وأضناني تراءى بأعلام الثنية باسماً ... فأذكرني العهد القديم وأبكاني أسامر نجم الأفق حتى كأننا ... وقد سدل الليل الرواق حليفان ومما أناجي الأفق أعديه بالجوى ... فأرعى له سرح النجوم ويرعاني ويرسل صوب القطر من فيض أدمعي ... ويقدح زند البرق من نار أشجاني وضاعف وجدي رسم دار عهدتها ... مطالع شهب أو مراتع غزلان على حين شرب الوصل غير مصرد ... وصفو الليالي لم يكدر بهجران لئن أنكرت عيني الطلول فإنها ... تمت إلى قلبي بذكر وعرفان ولم أر مثل الدمع في عرصاتها ... سقى تربها حين استهل وأظماني ومما شجاني أن سرى الركب موهناً ... تقاد به هوج الرياح بأرسان غوارب في بحر السراب تخالها ... وقد سبحت فيه مواخر غربان على كل نضو مثله فكأنما ... رمى منهما صدر المفازة سهمان ومن زاجر كوماء مخطفة الحشا ... توسد منها فوق عوجاء مرنان نشاوى غرام يستميل رؤوسهم ... من النوم والشوق المبرح سكران أجابوا نداء البين طوع غرامهم ... وقد تبلغ الأوطار فرقة أوطان

يؤمون من قبر الشفيع مثابة ... تطلع منها جنة ذات أفنان إذا نزلوا من طيبة بجواره ... فأكرم مولى ضم أكرم ضيفان بحيث علا الإيمان وامتد ظله ... وزان حلى التوحيد تعطيل أوثان مطالع آيات، مثابة رحمة ... معاهد أملاك، مظاهر إيمان هنالك تصفو للقبول موارد ... يسقون منها فضل عفو وغفران هناك تؤدى للسلام أمانة ... يحييهم عنها بروح وريحان يناجون عن قرب شفيعهم الذي ... يؤمله القاصي من الخلق والداني لئن بلغوا دوني وخلفت إنه ... قضاء جرى من مالك الأرض ديان وكم عزمة مليت نفسي صدقها ... وقد عرفت مني مواعد ليان إلى الله نشكوها نفوساً أبية ... تحيد عن الباقي وتغتر بالفاني ألا ليت شعري هل تساعدني المنى ... فأترك أهلي في رضاه وجيراني وأقضي لبانات الفؤاد بأن أرى ... أعفر خدي في ثراه وأجفاني إليك رسول الله دعوة نازح ... خفوق الحشا رهن المطامع هيمان غريب بأقصى الغرب قيد خطوه ... شباب تقضى في مراح وخسران يجد اشتياقاً للعقيق وبانه ... ويصبو إليها ما استجد الجديدان وإن أومض البرق الحجازي موهناً ... يردد في الظلماء أنة لهفان فيا مولي الرحمى، ويا مذهب العمى ... ويا منجي الغرقى، ويا منقذ العاني بسطت يد المحتاج يا خير راحم ... وذنبي ألجاني إلى موقف الجاني وسيلتي العظمى شفاعتك التي ... يلوذ بها موسى وعيسى بن عمران فأنت حبيب الله خاتم رسله ... وأكرم مخصوص بزلفى ورضوان وحسبك أن سماك أسماه العلا ... وذاك كمال لا يشاب بنقصان وأنت لهذا الكون علة كونه ... ولولاك ما امتاز الوجود بأكوان ولولاك للأفلاك لم تجل نيراً ... ولا قلدت لباتهن بشهبان خلاصة صفو المجد من آل هاشم ... ونكتة سر الفخر من آل عدنان

وسيد هذا الخلق من نسل آدم ... وأكرم مبعوث إلى الإنس والجان وكم آية أطلعت في أفق الهدى ... يبين صباح الرشد منها ليقظان وما الشمس يجلوها النهار لمبصر ... بأجلى ظهوراً أو بأوضح برهان وأكرم بآيات تحديتنا بها ... ولا مثل آيات لمحكم فرقان وماذا عسى يثني البليغ وقد أتى ... ثناؤك في وحي كريم (1) وقرآن فصلى عليك الله ما انسكب الحيا ... وما سجعت ورقاء في غصن البان وأيد مولانا ابن نصر فإنه ... لأشرف من ينمى لملك وسلطان أقام كما يرضيك مولدك الذي ... به سفر الإسلام عن وجه جذلان سمي رسول الله ناصر دينه ... معظمه في حال سر وإعلان ووارث سر المجد من آل خزرج ... وأكرم من تنمي قبائل قحطان ومرسلها ملء الفضاء كتائباً ... تدين لها غلب الملوك بإذعان حدائق خضر والدروع غدائر ... وما أنبتت إلا ذوابل مران تجاوب فيها الصاهلات وترتمي ... جوانبها بالأسد من فوق عقبان فمن كل خوار العنان قد ارتمى ... به كل مطعام العشيات مطعان وموردها ظمأى الكعوب ذوابلاً ... ومصدرها من كل أملد ريان ولله منها والربوع مواحل ... غمام ندى كفت بها المحل كفان إذا أخلف الناس الغمام وأمحلوا ... فإن نداه والغمام لسيان إمام أعاد الملك بعد ذهابه ... إعادة لا نابي الحسام ولا واني فغادر أطلال الضلال دوارساً ... وجدد للإسلام أرفع بنيان وشيدها، والمجد يشهد، دولة ... محافلها تزهى بيمن وإيمان وراق من الثغر الغريب ابتسامه ... وهز له الإسلام أعطاف مزدان لك الخير ما أسنى شمائلك التي ... يقصر عن إدراكها كل إنسان

_ (1) الأزهار: قديم.

ذكاء إياس في سماحة حاتم ... وإقدام عمرو في بلاغة سحبان أمولاي ما أسنى مناقبك التي ... هي الشهب لا تحصى بعد وحسبان فلا زلت يا غوث البلاد وأهلها ... مبلغ أوطار ممهد أوطان ولابن زمرك المذكور ترجمة نأتي بها في هذا التأليف إن شاء الله تعالى في محلها، وهو من تلامذة لسان الدين، ومن عداد خدامه، فحين نبا به الزمان، وتعوض الخوف بعد الأمان، كان أحد الساعين في قتله كما سنذكره، وصرح بذمه وهجوه بعد أن كان ممن يشكره، وهكذا عادة بني الدنيا يدورون معها حيث دارت، ويسيرون حيث سارت، ويشربون من الكأس التي أدارت، وقد تولى المذكور الوزارة عوضاً عن ابن الخطيب، وصدح طير عزه على فنن من الإقبال رطيب، ثم آل الأمر به إلى القتل، كما سعى في قتل لسان الدين، وكان الجزاء له من جنس عمله، والمرء يدان بما كان به يدين، وعفو الله سبحانه مرجو للجميع في الآخرة، وهو سبحانه وتعالى المسؤول أن ينيلنا وإياهم المراتب الفاخرة، فإنه لا يتعاظمه ذنب، وليس للكل غيره من رب. رجع إلى ما كنا بسبيله - وأما لوشة التي ينسب إليها لسان الدين فقد تقدم من كلام ابن خلدون أنها على مرحلة من حضرة غرناطة في الشمال من البسيط الذي في ساحتها المسمى بالمرج، وقد أجرى ذكرها لسان الدين في الإحاطة وقال: إنها بنت الحضرة، يعني غرناطة، وقال ذلك في ترجمة ابن مرج الكحل، ولنذكر الترجمة بكمالها تتميماً للغرض فنقول: [ترجمة ابن مرج الكحل] قال رحمه الله ما نصه (1) : محمد بن إدريس بن علي بن إبراهيم بن القاسم، من

_ (1) ترجمة ابن مرج الكحل منقولة نصا عن الإحاطة 2: 252.

أهل جزيرة شقر، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن مرج الكحل. حاله: كان شاعراً مفلقاً غزلاً بارع التوليد رقيق الغزل، وقال الأستاذ أبو جعفر: شاعر مطبوع حسن الكتابة ذاكر للأدب متصرف فيه، قال ابن عبد الملك: وكانت بينه وبين طائفة من أدباء عصره مخاطبات ظهرت فيها إجادته، وكان مبتذل اللباس، على هيئة أهل البادية، ويقال: إنه كان أمياً. من أخذ عنه: روى عنه أبو جعفر ابن عثمان الوارد، وأبو الربيع ابن سالم، وأبو عبد الله ابن الأبار، وابن عسكر، وابن أبي البقاء، وأبو محمد ابن عبد الرحمن ابن برطله، وأبو الحسن الرعيني. شعره ودخوله غرناطة: قال في عشية بنهر الغنداق من خارج بلدنا لوشة بنت الحضرة، والمحسوب من دخلها أنه دخل إلبيرة - وقد قيل: إن نهر الغنداق من أحواز برجة، وهذا الخلاف داع لذكره (1) -: عرج بمنعرج الكثيب الأعفر ... بين الفرات وبين شط الكوثر ولتغتبقها قهوة ذهبية ... من راحتي أحوى المراشف أحور وعشية كم كنت أرقب وقتها ... سمحت بها الأيام بعد تعذر فلنا بهذا ما لنا في روضة ... تهدي لناشقها شميم العنبر والدهر من ندم يسفه رأيه ... فيما مضى فيه بغير تكدر والورق تشدو والأراكة تنثني ... والشمس ترفل في قميص أصفر والروض بين مفضض ومذهب ... والزهر بين مدرهم ومدنر والنهر مرقوم الأباطح والربى ... بمصندل من زهره ومعصفر وكأنه وكأن خضرة شطه ... سيف يسل على بساط أخضر وكأنما ذاك الحباب فرنده ... مهما طفا في صفحة كالجوهر

_ (1) انظر هذه القصيدة أيضا في أزهار الرياض 2: 315.

وكأنه، وجهاته محفوفة ... بالآس والنعمان، خد معذر نهر يهيم بحسنه من لم يهم ... ويجيد فيه الشعر من لم يشعر ما اصفر وجه الشمس عند غروبها ... إلا لفرقة حسن ذاك المنظر ولا خفاء ببراعة هذا الشعر (1) ، وقال منها: أرأت جفونك مثله من منظر ... ظل وشمس مثل خد معذر وجداول كأرقم حصباؤها ... كبطونها وحبابها كالأظهر وهذا تتميم عجيب لما يسبق إليه، ثم قال منها: وقرارة كالعشر بين خميلة ... سالت مذانبها بها كالأسطر فكأنها مشكولة بمصندل ... من يانع الأزهار أو بمعصفر أمل بلغناه بهضب حديقة ... قد طرزته يد الغمام الممطر فكأنه والزهر تاج فوقه ... ملك تجلى في بساط أخضر راق النواظر منه رائق منظر ... يصف النضارة عن جنان الكوثر كم قاد خاطر خاطر مستوفز ... وكم استفز جماله من مبصر لو لاح لي فيما تقادم لم أقل ... عرج بمنعرج الكثيب الأعفر قال أبو الحسن الرعيني: وأنشدني لنفسه (2) : وعشية كانت قنيصة فتية ... ألفوا من الأدب الصريح شيوخا فكأنما العنقاء قد نصبوا لها ... من الانحناء إلى الوقوع فخوخا شملتهم آدابهم فتجاذبوا ... سر السرور محدثاً ومصيخا والورق تقرأ سورة الطرب التي ... ينسيك منها ناسخ منسوخا

_ (1) الإحاطة: النظم. (2) لا يزال النقل عن الإحاطة مستمرا، وانظر أيضا برنامج الرعيني.

والنهر قد صفحت به نارنجة ... فتيممت من كان فيه منيخا فتخالهم خلل السماء كواكباً ... قد قارنت بسعودها المريخا خرق العوائد في السرور نهارهم ... فجعلت أبياتي لها تاريخا ومن أبياته في البديهة قوله: وعندي من مراشفها حديث ... يخبر أن ريقتها مدام وفي أجفانها السكرى دليل ... وما ذقنا ولا زعم الهمام تعالى الله ما أجرى دموعي ... إذا عنت لمقلتي الخيام وأشجاني إذا لاحت بروق ... وأطربني إذا غنت حمام ومن قصيدة: عذيري من الآمال خابت قصودها ... ونالت جزيل الحظ منها الأخابث وقالوا: ذكرنا بالغنى، فأجبتهم ... خمولاً وما ذكر مع البخل ماكث يهون علينا أن يبيد أثاثنا ... وتبقى علينا المكرمات الأثائث وما ضر أصلاً طيباً عدم الغنى ... إذا لم يغيره من الدهر حادث وله يتشوق إلى عمرو بن أبي (1) غياث: أيا عمرو متى تقضي الليالي ... بلقياكم وهن قصصن ريشي أبت نفسي هوى إلا شريشاً ... ويا بعد الجزيرة من شريش وله من قصيدة: طفل المساء وللنسيم تضوع ... والأنس يجمع شملنا ويجمع والزهر يضحك من بكاء غمامة ... ريعت لشيم سيوف برق تلمع

_ (1) أبي: سقطت من ق.

والنهر من طرب يصفق موجه ... والغصن يرقص والحمامة تسجع فانعم أبا عمران واله بروضة ... حسن المصيف بها وطاب المربع يا شادن البان الذي دون النقا ... حيث التقى وادي الحمى والأجرع الشمس يغرب نورها ولربما ... كسفت ونورك كل حين يسطع إن غاب نور الشمس لسنا نتقي ... بسناك ليل تفرق يتطلع أفلت فناب سناك عن إشراقها ... وجلا من الظلماء ما يتوقع فأمنت يا موسى الغروب ولم أقل ... " فوددت يا موسى لو أنك يوشع " (1) وقال: ألا بشروا بالصبح من كان باكياً ... أضر به الليل الطويل مع البكا ففي الصبح للصب المتيم راحة ... إذا الليل أجرى دمعه وإذا شكا ولا عجب أن يمسك الصبح عبرتي ... فلم يزل الكافور للدم ممسكاً ومن بديع مقطوعاته قوله: مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك أنت لا تدركه متبعاً ... فإذا وليت عنه تبعك وقال: دخلتم فأفسدتم قلوباً بملكها ... فأنتم على ما جاء في سورة النمل (2) وبالجود والإحسان لم تتخلقوا ... فأنتم على ما جاء في سورة النحل (3)

_ (1) من قول الرصافي البلنسي؛ وسيورده المقري: سقطت ولم تملك يمينك ردها ... فودتت يا موسى لو أنك يوشع (2) إشارة إلى الآية الكريمة " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ". (3) إشارة إلى الآية الكريمة " أينما يوجهه لا يأت بخير ".

وقال أبو بكر محمد بن محمد بن جهور: رأيت لابن مرج الكحل مرجاً أحمر قد أجهد نفسه في خدمته، فلم ينجب، فقلت: يا مرج كحل ومن هذي المروج له ... ما كان أحوج هذا المرج للكحل ما حمرة الأرض من طيب ومن كرم ... فلا تكن طمعاً في رزقها العجل فإن من شأنها إخلاف آملها ... فما تفارقها كيفية الخجل فقال مجيباً: يا قائلاً إذ رأى مرجي وحمرته ... ما كان أحوج هذا المرج للكحل هو احمرار دماء الروم سيلها ... بالبيض من مر من آبائي الأول أحببته أن حكى من قد فتنت به ... في حمرة الخد أو إخلافه أملي وفاته: توفي ببلده يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول عام أربعة وثلاثين وستمائة، ودفن في اليوم بعده. انتهى ما في الإحاطة في شأن ابن مرج الكحل. وكتب أبو الحسن علي بن لسان الدين على أول ترجمته ما نصه: شاعر جليل القدر، من مشايخ شعراء الأندلس، من أهل بلنسية، وسكن جزيرة شقر. وكتب على قوله والنهر مرقوم الأباطح ما صورته: لم يصف أحد النهر بأرق ديباجة ولا أظرف من هذا الإمام، رحمة الله عليه، انتهى كلام ابن لسان الدين. [رائية شمس الدين الكوفي] قلت: وما رأيت رائية تقرب من التي لابن مرج الكحل السابقة التي أولها

" عرج بمنعرج الكثيب الأعفر " إلا رائية شمس الدين الكوفي الواعظ، وهي قوله: روح الزمان هو الربيع فبكر ... وانهض إلى اللذات غير منكر هذا الربيع يبيع من لذاته ... أصناف ما تهوى، فأين المشتري فافرح به فلفرحة بقدومه ... رفل الشقائق في القباء الأحمر والكون مبتهج وخفاق الصبا ... يحيي القلوب بنشره المتعطر والغيم يبكي، والأقاحي باسم ... لبكائه كتبسم المستبشر والسرو إن عبث النسيم فهز أع ... طاف الغصون يميس ميس موقر وكأنما القداح فستق فضة ... يهدي إليك أريج مسك أذفر وكأنما المنثور في أثوابه ... ألوان ياقوت أنيق المنظر وترى البهار كعاشق متخوف ... متشوق باد بوجه أصفر وكأنما النارنج في أوراقه ال ... قنديل، والأوراق شبه مسحر وكأنما الخشخاش قوم جاءهم ... خبر يسرهم بطيب المخبر فثنوا ملابسهم لفرط سرورهم ... كي يخلعوا فرحاً بقول المخبر فتعلقت أذيالها بأكفهم ... وتعلقت أزياقها بالمنحر والطل من فوق الرياض كأنه ... درر نثرن على بساط أخضر وترى الربى بالنور بين متوج ... ومدملج، ومخلخل، ومسور ورياضها بالزهر بين مقرطق ... ومطوق، وممنطق، ومزنر والورد بين مضعف، ومشنف ... ومكتف، وملطف لم يهصر والزهر بين مفضض، ومذهب ... ومرصع، ومدرهم، ومدنر والنثر بين مطيب، وممسك ... ومعطر، ومصندل، ومعنبر والورق بين مرجع وموجع ... ومفجع ومسجع في منبر ومغرد، ومردد، ومعدد ... ومبدد في الخد ماء المحجر

ولكن قصيدة ابن مرج الكحل أعذب مذاقاً، وكل منهما لم يقصر، رحمهما الله تعالى، فلقد أجادا فيما قالاه إلى الغاية، وليس الخبر كالعيان. [عود إلى ابن مرج الكحل] ومن نظم ابن مرج الكحل قوله (1) : الشمس يغرب نورها، ولربما ... كسفت ونورك كل حين يسطع أفلت فناب سناك عن إشراقها ... وجلا من الظلماء ما يتوقع فأمنت يا موسى الغروب ولم أقل ... فوددت يا موسى لو أنك يوشع ولمح بهذه الأبيات إلى قول الرصافي الأندلسي البلنسي يخاطب من اسمه موسى بقصيدة أولها (2) : ما مثل موضعك ابن رزق موضع ... زهر يرف وجدول يتدفع ومنها: وعشية لبست ثياب شحوبها ... والجو بالغيم الرقيق مقنع بلغت بنا أمد السرور تألفاً ... والليل نحو فراقنا يتطلع فابلل بها ريق الغبوق فقد أتى ... من دون قرص الشمس ما يتوقع سقطت ولم يملك نديمك ردها ... فوددت يا موسى لو أنك يوشع قلت: ومن نثر ابن مرج الكحل المذكور ما كتبه إلى أديب الأندلس أبي بحر صفوان بن إدريس مراجعاً له بعد نظم، ونص الجميع:

_ (1) مرت الأبيات ص: 54. (2) ديوان الرصافي: 104.

يا من تبوأ في العلياء منزلة ... جداه قد أسساها أي تأسيس لم يتركا في العلا حظاً لملتمس ... سيان هذا وهذاك ابن إدريس وافى كتابكم فارتد لي جذلي ... واعتضت من فرط أشواقي بتأنيس وللنوى لوعة تطفو فيطفئها ... مسك المداد وكافور القراطيس حرس الله سناءك وسناك، وأظفر يمناك بمناك، ودي الأسلم كما تعلم، وعهدي الأقدم، لم تزل له قدم، وأنا دام عزكم إن أتفق معكم انتساباً فلم أتفق في شأو الأدب باعاً، ولا قاربتكم طباعاً وانطباعاً، بل بذلك الاتفاق تشرفت وسموت إلى ذروة العلا واستشرفت، وأقررت بذلك الفضل واعترفت، وكرعت في مناهله واغترفت، ولقد وافى كتابكم فقلت لقد نثر الدر من فيه، وبلغ نفسي مما كانت تنويه من التنويه: حديث لو أن الميت نودي ببعضه ... لأصبح حياً بعدما ضمه القبر ولولا ما طالعني وجه من رضاكم وسيم، وسقاني مزن اهتبالكم ما أروى به وأسيم، وحياني منكم روض ونسيم، لما ساعدني الفكر بقسيم، لا زلتم في ظل من العيش وارف، مرتدين رداء المعارف، والسلام؛ انتهى. [رسالة صفوان إلى ابن مرج الكحل] وكانت مخاطبة صفوان له التي أجاب عنها بما نصه: يا قاطع البيد يطويها وينشرها ... إلى الجزيرة ينضي بدن العيس الثم بها عن أخي حب وذي كلف ... يد العلا والقوافي وابن إدريس وأبلغها إليه تحية كالمسك صدراً وورداً، وكالماء الزلال عذوبة وبرداً، يسري بها إلى دار ابن نسيم، ويسفر منها بجزيرة شقر وجه وسيم، وهي وإن

كانت تذيب المسك خجلاً، وتستفز بصوتها وجلاً، فما هي إلا خائفة تترقب، وسافرة تكاد تتنقب، تمشي على استحياء، وتعثر من التقصير في ذيل إعياء، هذا لأنها جلبت إلى هجر تمراً، وإلى شبام وبيت رأس خمراً، ولكن على المجد أن يبدي في قبول عذرها ويعيد، لعلمه أنه يتيمم من لم يجد إلا الصعيد، فله الفضل أن لا يلفحها بنار النقد، ولا يعرضها على ما هنالك من الحل والعقد، والله يبقي ذكره في مقلة الأدب حوراً، وفي قلب الحسود خوراً، ويديمه والقوافي طوع قريحته، والأغراض الجميلة ملء تعريضته وتصريحته، وزهر البيان تطلع في سماء جنانه، وزهر التبيان يونع في أنداء جنانه، وعذراً إليه فإني كتبت والحامل يمسك زمامه، ويلتفت في البيداء أمامه؛ والسلام. [خطبة نكاح من إنشاء صفوان] ومن إنشاء صفوان خطبة نكاح نصها: الحمد لله الذي تطول بالإحسان من غير جزاء ولا ثواب، وألبس المخلوقات من فواضله سوابغ المطارف وكواسي الأثواب، وجاءوا على أقدام الرجاء إلى محال نوافله فوجدوها مفتحة لهم الأبواب، وسألوه كفاية المؤنة فكان الفعل بدل القول والإسعاف بدل الجواب، خلق البرية من غير افتقار ولا اضطرار، ونقلهم من الطفولية إلى غيرها نقل البدر من التمام إلى السرار، وشرف هذه الطبقة الإنسانية فرزقها الإدراكات العقلية، والإبانات اللسانية، فضرب سرادق اعتنائه عليها، وأنشأها من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، ومع صنعه الرفيق بهم اللطيف، وتنويهه الحاف بأرجائهم المطيف، رزقهم أحسن الصور الحيوانية وأجملها، وأتاح لهم أتم أقسام الاعتناء وأكملها، وبعث إليهم الرسل صلوات الله عليهم صنعاً منه جميلاً، ورباً للصنيعة لديهم وتكميلاً، فبشروا وأنذروا، وأمنوا وحذروا، وباينوا بين الحرام والحلال، مباينة إدراك البصير بين الكدر والزلال، ودلوا على السمت الأهدى

ونصبوا أعلام التوفيق والهدى، ولم يدعوا شيئاً سدى، بل توازنت بهم مقادير الأقوال والأعمال، وكانت إشاراتهم ثمال الهدايا وأي ثمال، فآب كل متسحب إلى الارتباط، وشد كل موفق على الاعتلاق بحالهم يد الاغتباط، فصلوات الله الزاكية عليهم، ونوافح رحمته النامية تغدو وتروح إليهم، وأتم الصلاة والسلام، على علم أولئك الأعلام، الداعي على بصيرة إلى دار السلام، السراج المنير، المبشر النذير، محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تؤول بهم إلى فسيح رضوانه ورحبه، بعثه الله رحمة للعالمين عامة، وأرسله نعمة للناس موفورة تامة، فأخذ بحجز (1) مصدقيه عن التهافت في مداحض الأقدام، والتتابع في مزلات الجرأة على العصيان والإقدام، فأقام الحجة، وأوضح المحجة، ودل على المقامات التي تمحض الأولياء، وأفصح عن الكرامات التي تنقذ الأتقياء، وقال وأهلاً به من قائل: " تناكحوا فإني مكاثر بكم الأنبياء " حرصاً منه صلوات الله عليه على الزيادة في أهل الإسلام والنماء، ودفعاً في صدر الباطل بواضح الحق الصادع غيهب الظلماء، وحض على ذات الدين الحصان، وأغرى بالاعتصام والإحصان، ونصب أعلام النكاح مشيدة المباني، وجاء بها سنة عذبة المجاني، وقال: " من تزوج فقد كمل نصف دينه فليتق الله في النصف الثاني "، وأمر بالنكاح الذي توافقت فيه الطبيعة والشريعة، ولبته النفوس وهي سريعة، وأخصبت به ربوة التناسل فهي مروضة مريعة، وسدت به عن اتباع الهوى وارتكاب المحارم الذريعة، وحفظت به الأنسال والأنساب، وفاض به نهر لالتئام المنساب، إذ لا سبيل لأن يستغني بذاته، من كان أسير هواه ومأمور لذاته، وإنما الانفراد والاستغناء، لمن له الكمال والغنى، ولا يجوز أن يتعاقب عليه الإنى، لا إله إلا هو له السناء والسنا. وإن فلاناً لما ارتقت همته إلى إتباع الصالحات وسمت، ووسمته النجابة من أعلامها اللائحة بما وسمت، رأى أن الاعتصام بالنكاح أولى ما حمى به

_ (1) ق ص: يحجز، والأصوب ما أثبتناه.

دينه ووقاه، وأهم ما رفع إليه اعتناءه ورقاه، فخطب إلى فلان ابنته فلانة خطبة تضافر فيها اليمن والقبول، ونفحت بها شمال من الجد المصمم وقبول، وارتقى بها إلى اللوح المحفوظ والديوان المكنون عمل مقبول، فتلقى فلان خطبته بالإجابة، لما توسم فيه من مخايل النجابة، حرصاً على المساعدة والعون، واغتباطاً بمياسرة أهل الرشد والصون، وانعقد النكاح بينهما على بركة الله التي يتضاعف بها العدد القليل ويتزيد، ويمنه الذي ينتهض به من اعتمده ويتأيد، وحسن توفيقه الذي يرتبط به من أخلص ضميره ويتقيد، على أن أصدقها كذا، تزوجها بكلمة الله التي علت الكلمات وبهرتها، وعلى سنة نبيه التي أحيت الحنيفية وأظهرتها، وأنقت الملة من أرجاس الجاهلية وطهرتها، وهداية مهديه التي غلبت الأباطل وقهرتها، ولتكون عنده بأمانة الله التي هي جنة واعتصام، وعهدته للزوجات على أزواجهن التي ليس لعروتها انفصام، وعلى إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وتسلسل في ميدان التناصف وأرسان، والله تعالى يمهد لهما مهاد نعمته الوثير، ويخلف منها الطيب الكثير، ويرزقهما التوفيق الباعث لطول المرافقة المثير، بمنه ونعمته. [من رسالة عتاب لصفوان] وله رحمه الله من رسالة عتاب: أدام الله سبحانه مدة الأخ الذي أستديم إخاءه، وإن واجهتني زعازعه أرتقب رخاءه، وتجاوزت عن يومه لأمسه، وأغضيت عن ظلامه لشمسه، إناء واعتناء، وإنذاراً وإعذاراً، ورحم الله من اعتمد على الأفهام، وعصى أوامر الأوهام، ورأى الخليفة في المعقول، لا في المختلق المنقول. وبعد فإنه وصل كلامك بل ملامك، وكتابك بل عتابك، ورسالتك بل بسالتك، أسمعتني بألفاظك العذاب سوء العذاب، وأريتني لمعان

الحسام من فقرك الوسام. وقال صفوان رحمه الله: اجتمعت مع ابن مرج الكحل يوماً، فاشتكى إلي ما يجد لفراقي، وأطال عتب الزمان في إشآمه وإعراقي، فقلت: إذا تفرقنا والنفوس مجتمعة، فما يضر أن الجسوم للرحيل مزمعة ثم قلت له: أنت من العين والفؤاد ... دنوت أو كنت ذا بعاد فقال وهو من بارع الإجازة: وأنت في القلب في السويدا ... وأنت في العين في السواد وإذ جرى ذكر صفوان فلا حرج أن نترجمه، فنقول: [ترجمة صفوان] قال في " الإحاطة " ما ملخصه (1) : صفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس، التجيبي المرسي أبو بحر، كان أديباً حسيباً ممتعاً من الظرف ريان من الأدب، حافظاً سريع البديهة ترف النشأة، على تصاون وعفاف، جميلاً سرياً، ممن تساوى حظه في النظم والنثر على تباين الناس في ذلك. روى عن أبيه وخاله وابن عم أبيه القاضي أبي القاسم ابن إدريس، وأبي بكر ابن مغاور، وأبي رجال ابن غلبون، وأبي العباس ابن مضا، سمع عليه صحيح مسلم، وأبي القاسم ابن حبيش، وابن حوط الله، وأبي الوليد ابن رشد، وأجاز له ابن بشكوال. وروى عنه أبو إسحاق اليابري، وأبو الربيع [ابن البني وأبو عبد الله ابن أبي البقاء وأبو عمر] (2) ابن سالم، وابن عيشون، وله تواليف أدبية،

_ (1) ترجمته في الإحاطة، الورقة: 168. (2) ما بين معقفين زيادة من الإحاطة.

منها " زاد المسافر "، وكتاب " الرحلة "، وكتاب " العجالة "، سفران يتضمنان من نظمه ونثره أدباً لا كفاء له، وانفرد من تأبين الحسين وبكاء أهل البيت بما ظهرت عليه بركته في حكايات كثيرة. ثم سرد لسان الدين جملة من نظمه إلى أن قال: وقال في غرض الرصافي من وصف بلده وذكر إخوانه يساجله في الغرض والروي عقب رسالة سماها " طراد الجياد في الميدان وتنازع اللدات والأخدان في تقديم مرسية على غيرها من البلدان " (1) : لعل رسول البرق يغتنم الأجرا ... فينثر عني ماء عبرته تثرا معاملة أربي بها غير مذنب ... فأقضيه دمع العين عن نقطة بحرا ليسقي من تدمير قطراً محبباً ... يقر بعين القطر أن تشرب القطرا ويرضعه (2) ذوب اللجين، وإنما ... توفيه عيني من مدامعها تبرا وما ذاك تقصيراً بها غير أنه ... سجية ماء البحر أن يذوي الزهرا خليلي قوما فاحبسا طرق الصبا ... مخافة أن يحمي بزفرتي الحرى فإن الصبا ريح علي كريمة ... بآية ما تسري من الجنة الصغرى خليلي أعني أرض مرسية المنى ... ولولا توخي الصدق سميتها الكبرى محلي بل جوي الذي عبقت به ... نواسم آدابي معطرة نشرا ووكري الذي منه درجت فليتني ... فجعت بريش العزم كي ألزم الوكرا وما روضة الخضراء قد مثلت بها ... مجرتها نهراً وأنجمها زهرا بأبهج منها والخليج مجرة ... وقد فضحت أزهار ساحتها الزهرا وقد أسكرت أعطاف أغصانها الصبا (3) ... وما كنت أعتد (4) الصبا قبلها خمرا

_ (1) الإحاطة، الورقة: 172. (2) في ص ق: ويقرضه، والتصويب عن الإحاطة. (3) الإحاطة: وقد أسكرت ريح الصبابة عاشقا. (4) ق ص: أعددت.

هنالك بين الغصن والقطر والصبا ... وزهر الربى ولدت آدابي الغرا إذا نظم الغصن الحيا قال خاطري ... تعلم نظام النثر من ههنا شعرا وإن نثرت ريح الصبا زهر الربى ... تعلمت حل الشعر أسبكه نثرا فوائد أسحار هناك اقتبستها ... ولم أر روضاً غيره يقرئ السحرا كأن هزيز الريح يمدح روضها ... فتملأ فاه من أزاهرها درا أيا زنقات (1) الحسن هل فيك نظرة ... من الجرف الأعلى إلى السكة الغرا (2) فأنظر من هذي لتلك كأنما ... أغير إذ غازلتها أختها الأخرى هي الكاعب الحسناء تمم حسنها ... وقدت لها أوراقها حللاً خضرا إذا خطبت أعطت دراهم زهرها ... وما عادة الحسناء أن تنقد المهرا وقامت بعرس الأنس قينة أيكها ... أغاريدها (3) تسترقص الغصن النضرا فقل في خليج يلبس الحوت درعه ... ولكنه لا يستطيع بها نصرا إذا ما بدا فيها الهلال رأيته ... كصفحة سيف وسمها قبعة صفرا وإن لاح فيها البدر شبهت متنه ... بشط لجين ضم من ذهب عشرا وفي جرفي روض هناك تجافيا ... بنهر، يود الأفق لو زاره فجرا كأنهما خلا صفاء تعاتبا ... وقد بكيا من رقة ذلك نهرا وكم لي بأبيات الحديد (4) عشية ... من الأنس ما فيه سوى أنه مرا عشايا كأن الدهر غض (5) بحسنها ... فأجلت بساط البرق (6) أفراسها الشقرا عليهن أجري خيل دمعي بوجنتي ... إذا ركبت حمرا ميادينها الصفرا (7)

_ (1) الزنقات: من متنزهات مرسية، وفي ص ق: رنقات، وفي الإحاطة: رائعات. (2) الإحاطة: الخضرا. (3) الإحاطة: أيكة، أغادرها. (4) الإحاطة: بذا الباب الجديد. (5) ق ص: عشيات كان الدهر غضا. (6) الإحاطة: الأنس. (7) لم يرد هذا البيت في الإحاطة.

أعهدي بالغرس المنعم دوحه ... سقتك دموعي، إنها مزنة، شكرا فكم فيك من يوم أغر محجل ... تقضت أمانيه فخلدتها ذكرا على مذنب كالبحر (1) من فرط حسنه ... تود الثريا أن يكون لها نحرا سقت أدمعي والقطر أيهما انبرى ... نقا الرملة البيضاء فالنهر فالجسرا وإخوان صدق لو قضيت حقوقهم ... لما فارقت عيني وجوههم الزهرا ولو كنت أقضي حق نفسي - ولم أكن - ... لما بت أستحلي فراقهم المرا وما اخترت هذا البعد إلا ضرورة ... وهل تستجيز العين أن تفقد الشفرا قضى الله أن تنأى بي الدار عنهم ... أراد بذاك الله أن أعتب الدهرا ووالله لو نلت المنى ما حمدتها ... وما عادة المشغوف أن يحمد الهجرا أيأنس باللذات قلبي ودونهم ... مرام يجد الكرب في طيها (2) شهرا ويصحب هادي (3) الليل راء حروفه ... وصاداً ونوناً قد تقوس واصفرا فديتهم ضنوا وبانوا بكتبهم ... فلا خبراً منهم لقيت ولا خبرا ولولا علا هماتهم لعتبتهم ... ولكن عراب الخيل لا تحمل الزجرا ضربت غبار البيد في مهرق السرى ... بحيث جعلت الليل في ضربه حبرا وحققت ذاك الضرب جمعاً وعدة ... وطرحاً وتجميلاً فأخرج لي صفرا كأن زماني حاسب متعسف ... يطارحني كسراً وما يحسن الجبرا فكم عارف بي وهو يحسن رتبتي ... فيمدحني سراً ويشتمني (4) جهرا لذلك ما أعطيت نفسي حقها ... وقلت لسرب الشعر لا ترم الفكرا فما برحت فكري عذارى قصائدي ... ومن خلق العذراء أن تألف الخدرا ولست وإن طاشت سهامي بآيس ... فإن مع العسر الذي يتقى يسرا

_ (1) الإحاطة: كالخز. (2) الإحاطة: من دونها. (3) الإحاطة: هذا. (4) الإحاطة: فيشتمني سرا ويحمدني.

وقال يراجع أبا الربيع ابن سالم عن أبيات مثلها (1) : سقى مضرب الخيمات من علمي نجد ... أسح غمامي أدمعي والحيا الرغد وقد كان في دمعي كفاء، وإنما ... يجففها ما بالضلوع من الوقد فإن فترت نار الضلوع هنيهة ... فسوف ترى تفجيره للحيا العد وإن ضن صوب المزن يوماً فأدمعي ... تنوب كما ناب الجميع عن الفرد وإن هطلا يوماً بساحتها معاً ... فأرواهما ما صاب من منتهى الود أرى زفرتي تذكى ودمعي ينهمي ... نقيضين قاما بالصلاء وبالورد فهل بالذي أبصرتم أو سمعتم ... غمام بلا أفق وبرق بلا رعد لي الله كم أهذي بنجد وأهلها ... وما لي بها إلا التوهم من عهد وما بي إلى نجد نزوع ولا هوى ... خلا أنهم شنوا القوافي على نجد وجاءوا بدعوى حسن الشعر زورها ... فصارت لهم في مصحف الحب كالحمد شغلنا بأبناء الزمان عن الهوى ... وللدرع وقت ليس يحسن للبرد إلى الله أشكو ريب دهر يغص بي ... نوائبه قد ألجمت ألسن العد لقد صرفت حكم الفؤاد إلى الهوى ... كما فوضت أمر الجفون إلى السهد أما تتوقى ويحها أن أصيبها ... بدعوة مظلوم على جورها يعدي أما راعها أن زحزحت عن أكارم ... فراقهم دل القلوب على حدي أعاتبها فيهم فتزداد قسوة ... أجدك هل عاينت للحجر الصلد أما علمت أن القساوة نافرت ... طباع بني الآداب إلا من الرد إذا وعدت يوماً بتأليف شملنا ... فألمم بعرقوب وما سن من وعد وإن عاهدت أن لا تؤلف بيننا ... تذكرت آثار السموأل في العهد خليلي أعني النظم والنثر أرسلا ... جيادكما في حلبة الشكر والحمد قفا ساعداني إنه حق صاحب ... بريء جمام الكتم من كدر الحقد

_ (1) لم ترد هذه القصيدة في النسخة التي اعتمدناها من الإحاطة.

بآية ما قيدتما ألسن الورى ... بذكري فيا ويح الكناني والكندي فأين بياني أو فأين فصاحتي ... إذا لم أعد ذكر الأكارم أو أبدي فيا خاطري وف الثناء حقوقه ... وصغه كما قالوا سوار على زند ولا تلزمني بالتكاسل حجة ... تشبهها نار الحياء على خدي ثكلت القوافي وهي أبناء خاطري ... وغيبها الإقحام عني في لحد لئن لم أصغ زهر النجوم قلادة ... وآت ببدر التم واسطة العقد إلى أن يقول السامعون لرفقتي ... نعم طار ذاك السقط عن ذلك الزند أحيي برياها جناب ابن سالم ... فيقرع فيه الباب في زمن الورد وهي طويلة. ومن مقطوعاته قوله (1) : يا قمراً مطلعه أضلعي ... له سواد القلب فيها غسق وربما استوقد نار الهوى ... فناب فيها لونها عن شفق ملكتني في دولة من صباً ... وصدتني في شرك من حدق عندي من حبك ما لو سرت ... في البحر منه شعلة لاحترق وقال: قد كان لي قلب فلما فارقوا ... سوى جناحاً للغرام وطارا وجرت سحائب للدموع فأوقدت ... بين الجوانح لوعة وأوارا ومن العجائب أن فيض مدامعي ... ماء، ويثمر في ضلوعي نارا وشعره الرمل والقطر كثرة، فلنختمه بقوله: قالوا وقد طال بي مدى خطئي ... ولم أزل في تجرمي ساهي:

_ (1) الإحاطة، الورقة: 175 وفيها أيضا القطعتان التاليتان والرسالة التي تتلوهما.

أعددت شيئاً ترجو النجاة به ... فقلت: أعددت رحمة الله وكتب يهنئ قاضي الجماعة أبا القاسم ابن بقي برسالة منها: لأن محله (1) دام عمره، وامتثل (2) نهيه الشرعي وأمره، أعلى رتبة وأكرم محلاً، من أن يتحلى بخطة هي به تتحلى، كيف يهنأ بالقعود لسماع دعاوى الباطل، والمعاناة لإنصاف الممطول من الماطل، والتعب في المعادلة، بين ذوي المجادلة، أما لو علم المتشوفون إلى خطة الأحكام، المستشرفون (3) إلى ما لها من التبسط والاحتكام، ما يجب لها من اللوازم، والشروط الجوازم، كبسط الكنف، ورفع الجنف، والمساواة بين العدو ذي الذنب، والصاحب بالجنب، وتقديم ابن السبيل، على ذي الرحم والقبيل، وإيثار الغريب، على القريب، والتوسع في الأخلاق، حتى لمن ليس له من خلاق، إلى غير ذلك مما علم قاضي الجماعة أحصاه، واستعمل خلقه الفاضل أدناه وأقصاه، لجعلوا خمولهم مأمولهم، وأضربوا عن ظهورهم، فنبذوه وراء ظهورهم، اللهم إلا من أوتي بسطة في العلم، ورسا طوداً في ساحة الحلم، وتساوى ميزانه في الحب والسلم، وكان كمولانا (4) في المماثلة بين أجناس الناس، فقصاراه أن يتقلد الأحكام للأجر، لا للتعنيف والزجر، ويتولاها للثواب، لا للغلظة في رد الجواب، ويأخذها لحسن الجزاء، لا لقبيح الاستهزاء، ويلتزمها لجزيل الذخر، لا للإزراء والسخر، فإذا كان كذلك، وسلك المتولي هذه المسالك، وكان مثل قاضي الجماعة ولا مثل له، ونفع الحق به علله ونقع غلله، فيومئذ تهنى به خطة القضاء، وتعرف ما لله تعالى عليها من اليد البيضاء. ورحل إلى مراكش في جهاز بنت بلغت التزويج، وقصد دار الإمارة مادحاً،

_ (1) الإحاطة: قدره. (2) الإحاطة: وامتد. (3) الإحاطة: المشتاقون. (4) الإحاطة: كقاضي الجماعة.

فما تيسر له شيء من أمله، ففكر في خيبة قصده، وقال: لو كنت أملت الله سبحانه ومدحت نبيه، صلى الله عليه وسلم، وآل بيته الطاهرين لبلغت أملي، بمحمود عملي، ثم استغفر الله تعالى من اعتماده في توجهه الأول، وعلم أنه ليس على غير الثاني معول، فلم يك إلا أن صرف نحو هذا المقصد همته، وأمضى فيه عزمته، وإذا به قد وجه إليه فأدخل إلى الخليفة فسأله عن مقصده، فأخبره مفصحأ به، فأنفذه وزاده عليه وأخبره أن ذلك لرؤيا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في النوم يأمر بقضاء حاجته، فانفصل موفى الأغراض، واستمر في مدح أهل البيت عليهم السلام، حتى اشتهر بذلك. وتوفي سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وسنة دون الأربعين، وصلى عليه أبوه، فإنه كان بمكان من الفضل والدين، رحم الله تعالى الجميع؛ انتهى كلام ابن الخطيب في حق المذكور ملخصاً. ولا بأس أن نزيد عليه ما حضر، فنقول: قال ابن سعيد وغيره: ولد صفوان سنة ستين وخمسمائة، أو في التي بعدها، قال: وديوان شعره مشهور بالمغرب؛ انتهى. ومن نظمه قوله: أومض ببرق الأضلع ... واسكب غمام الأدمع واحزن طويلاً واجزع ... فهو مكان الجزع وانثر دماء المقلتين ... تألماً على الحسين وابك بدمع دون عين ... إن قل فيض الأدمع وهذا من قصيدة عارض بها الحريري في قوله: خل ادكار الأربع ... وله أيضاً مطلع قصيدة فيه:

يا عين سحي ولا تشحي ... ولو بدمع بحذف عين وقال ابن الأبار: توفي صفوان بمرسية ليلة الاثنين السادس عشر من شوال سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وثكله أبوه، وصلى عليه، وهو دون الأربعين إذ مولده سنة إحدى وستين وخمسمائة، وكان من جلة الكتاب البلغاء، ومهرة الأدباء الشعراء، ناقداً فصيحاً، مدركاً جليل القدر، متقدماً في النظم والنثر، ممن جمع ذلك، وله رسائل بديعة، وقصائد جليلة، وخصوصاً في مراثي الحسين رضي الله تعالى عنه. [رثاء ناهض الوادي آشي للحسين] وقد تذكرت هنا قول ناهض بن محمد الأندلسي الوادي آشي في رثاء الحسين رضي الله تعالى عنه: أمرنة سجعت بعود أراك ... قولي مولهة: علام بكاك أجفاك إلفك أم بليت بفرقة ... أم لاح برق بالحمى فشجاك لو كان حقاً ما ادعيت من الجوى ... يوماً لما طرق الجفون كراك أو كان روعك الفراق إذاً لما ... ضنت بماء جفونها عيناك ولما ألفت الروض يأرج عرفه ... وجعلت بين فروعه مغناك ولما اتخذت من الغصون منصة ... ولما بدت مخضوبة كفاك ولما ارتديت الريش برداً معلماً ... ونظمت من قزح سلوك طلاك لو كنت مثلي ما أفقت من البكا ... لا تحسبي شكواي من شكواك إيه حمامة خبريني، إنني ... أبكي الحسين، وأنت ما أبكاك أبكي قتيل الطف فرع نبينا ... أكرم بفرع للنبوة زاكي ويل لقوم غادروه مضرجاً ... بدمائه نضواً صريع شكاك

متعفراً قد مزقت أشلاؤه ... فرياً بكل مهند فتاك أيزيد لو راعيت حرمة جده ... لم تقتنص ليث العرين الشاكي أو كنت تصغي إذ نقرت بثغره ... قرعت صماخك أنة المسواك أتروم ويك شفاعة من جده ... هيهات! لا، ومدبر الأفلاك ولسوف تنبذ في جهنم خالداً ... ما الله شاء ولات حين فكاك وتوفي ناهض المذكور بوادي آش سنة 615. رجع إلى أخبار صفوان بن إدريس - رحمه الله تعالى - فنقول: ومن شعر صفوان قوله: قلنا وقد شام الحسام مخوفاً ... رشأ بعادية الضراغم عابث هل سيفه من طرفه أم طرفه ... من سيفه أم ذاك طرف ثالث وقوله: غيري يروع بسيفه ... رشأ تشاجع ساخرا إن كف عني طرفه ... فالسيف أضعف ناصرا وقال صفوان المذكور رحمه الله تعالى: حييت بعض أصحابنا بزهرة سوسن، فقال: فقلت مجيزاً: نضراء تفضح يانع الزهر ... عجباً لها لم تذوها يده ... من طول ما مكثت على الصدر

وقال أيضاً: ماشيت الوزير الكاتب أبا محمد ابن حامد يوماً، فاتفق أن قال لأمر تذكره: بين الكثيب ومنبت السدر ... ريم غدا مثواه في صدري فقلت أجيزه: لوشاحه قلم بلا ألم ... ولقرطه خفق بلا ذعر لو كنت قد أنصفت مقلته ... برأت هاروتاً من السحر أو كنت أقضي حق مرشفه ... أعرضت لا ورعاً عن الخمر وناولته يوماً وردة مغلقة، فقال: ومحمرة تختال في ثوب سندس ... كوجنة محبوب أطل عذاره فقلت أجيزه: كتطريف كف قد أحاطت بنانها ... بقلب محب ليس يخبو أواره وقال: رآني الوزير أبو إسحاق وأنا أقيد أشعاراً من ظهر دفتر فقال: ماذا الذي يكتب الوزير ... قلت: بدائع ما لها نظير ... فقال: در ولكنه نظيم ... من خير أسلاكه السطور فقلت: من أظهر الكتب أقتنيها ... وخل ما تحتوي البحور بتلك تزهو النحور، لكن ... بهذه تزدهي الصدور

ولكن الإنصاف واجب، هو قال المعنى الأخير نثراً وأنا سبكته نظماً. وقال: جلسنا بعض العشايا بالولجة خارج مرسية، والنسيم يهب على النهر، فقال أبو محمد ابن حامد: هب النسيم وماء النهر يطرد ... فقلت على جهة المداعبة، لا الإجازة: ونار شوقي في الأحشاء تتقد ... فقال أبو محمد: ما الذي يجمع بين هذا العجز وذاك الصدر فقلت: أنا أجمع بينهما، ثم قلت: فصاغ من ماءه درعاً مفضضة ... وزاد قلبي وقداً للذي يجد وإنما شب أحشائي لحاجته ... إذ ليس دون لهيب يصنع الزرد وخطرنا بلقنت على ثمرة تهزها الريح فقال أبو محمد: وسرحة كاللواء تهفو ... بعطفها هبة الرياح فقلت: كأن أعطافها سقتها ... كف النعامى كؤوس راح فقال: إذا انتحاها النسيم هزت ... أعطافها هزة السماح فقلت: كأن أغصانها كرام ... تقابل الضيف بارتياح

ولصفوان رحمه الله: تحية الله وطيب السلام ... على رسول الله خير الأنام على الذي فتح باب الهدى ... وقال للناس: ادخلوا بسلام بدر الهدى، غيم الندى والسدى ... وما عسى أن يتناهى الكلام تحية تهزأ أنفاسها ... بالمسك، لا أرضى بمسك الختام تخصه مني ولا تنثني ... عن أهله الصيد السراة الكرام وقدرهم أرفع لكنني ... لم ألف أعلى لفظة من كرام وقال: يقولون لي لما ركبت بطالتي ... ركوب فتى جم الغواية معتدي أعندك شيء ترتجي أن تناله ... فقلت: نعم عندي شفاعة أحمد صلى الله عليه وسلم، وشرف وكرم، ومجد وعظم، وبارك وأنعم، ووالى وكمل وأتم.

الباب الثاني

الباب الثاني في نشأته وترقيه ووزارته وسعادته، ومساعدة الدهر له، ثم قلبه له ظهر المجن على عادته في مصافاته ومنافاته، وارتباكه في شباكه، وما لقي من إحن الحاسد، ذي المذهب الفاسد، ومحن الكائد المستأسد وآفاته، وذكر قصوره وأمواله، وغير ذلك من أحواله في تقلباته، عندما قابله الزمان بأهواله في بدئه وإعادته إلى وفاته أقول: كان مولد الوزير لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله كما في الإحاطة في الخامس والعشرين من شهر رجب عام ثلاثة عشر وسبعمائة، وقال الرئيس الأمير الوليد ابن الأحمر رحمه الله: نشأ لسان الدين ابن الخطيب (1) على حالة حسنة سالكاً سبيل (2) أسلافه، فقرأ القرآن على المكتب الصالح أبي عبد الله ابن عبد المولى العواد تكتباً ثم حفظاً ثم تجويداً، ثم قرأ القرآن أيضاً على أستاذ الجماعة أبي الحسن القيجاطي، وقرأ عليه العربية وهو أول من انتفع به، وقرأ على الخطيب أبي القاسم ابن جزي، ولازم قراءة العربية والفقه والتفسير على الشيخ الإمام أبي عبد الله ابن الفخار البيري شيخ النحويين لعهده، وقرأ على قاضي الجماعة أبي عبد الله ابن بكر، وتأدب بالرئيس أبي الحسن ابن الجياب، وروى عن كثير من الأعيان، وسرد ابن الأحمر المذكور هنا جملة أعلام من مشايخ لسان الدين سيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى، ثم قال: وأخذ الطب والتعاليم وصناعة التعديل عن الإمام أبي زكريا يحيى بن هذيل ولازمه؛ انتهى.

_ (1) انظر أزهار الرياض 1: 187. (2) الأزهار: سنن.

وقال بعضهم في حق لسان الدين: هو الوزير العلامة المتحلي بأجمل الشمائل وأفضل المناقب، المتميز في الأندلس بأرفع المراقي وأعلى المراتب، علم الأعلام، ورئيس أرباب السيوف والأقلام، جامع أشتات الفضائل، والمربي بحسن سياسته وعظيم رياسته على الأواخر والأوائل، حائز رتبة رياسة (1) السيف والقلم، والقائم بتدبير الملك على أرسخ قدم، صاحب القلم الأعلى، الوارد من البراعة المنهل الأحلى، صاحب الأحاديث التي لا تمل على كثرة ما تتلى، والمحاسن التي صورها على منصة التنويه تجلى؛ انتهى. وقال لسان الدين في " الإحاطة " بعد ذكر سلفه رحمهم الله تعالى، ما ملخصه (2) : وخلفني يعني أباه عبد الله عالي الدرجة، شهير الخطة، مشمولاً بالقبول، مكنوفاً بالعناية، فقلدني السلطان سره، ولما يستكمل الشباب ويجتمع السن (3) ، معززة بالقيادة ورسوم الوزارة، واستعملني في السفارة إلى الملوك، واستنابني بدار ملكه ورمى إلى يدي بخاتمه وسيفه، وائتمنني على صوان حضرته (4) ، وبيت ماله، وسجوف حرمه، ومعقل امتناعه، ولما هلك السلطان ضاعف ولده حظوتي، وأعلى مجلسي، وقصر المشورة على نصحي، إلى أ، كانت عليه الكائنة، فاقتدى في أخوه المتغلب على الأمر به، فسجل الاختصاص، وعقد القلادة، ثم حمله أهل الشحناء من أهل أعوان ثورته على القبض علي، فكان ذلك، وتقبض علي، ونكث ما أبرم من أماني، واعتقلت بحال ترفيه، وبعد أن كسبت المنازل والدور، واستكثر من الحرس، وختم على الأعلاق، وأبرد إلى ما ناء (5) ، واستؤصلت نعمة لم تكن بالأندلس من ذوات النظائر ولا ربات

_ (1) رياسة: سقطت من ق. (2) الإحاطة: الورقة: 400. (3) الإحاطة: ولما يجتمع الشباب ويستكمل السن. (4) الإحاطة: خزانته وذخيرته. (5) الإحاطة: وبادر وأبرد إلى ما نأى.

الأمثال، في تبحر الغلة، وفراهة الحيوان، وغبطة العقار، ونظافة الآلات، ورفعة الثياب، واستجادة العدة، ووفور الكتب إلى الآنية والفرش والماعون والزجاج والطيب والذخيرة والمضارب والأبنية، واكتسحت السائمة وثيران الحرث وظهر الحمولة وقوام الفلاحة والخيل، فأخذ ذلك البيع، وتناهبتها الأسواق، وصاحبها البخس، ورزأتها الخونة، وشمل الخاصة والأقارب الطلب، واستخلصت القرى، وأعملت الحيل، وطوقت الذنوب، وأمد الله تعالى بالعون، وأنزل السكينة، وانصرف اللسان إلى ذكر الله تعالى، وتعلقت الآمال به وطبقت نكبة مصحفية مطلوبها الذات وسببها المال حسبما قلت عند إقالة العثرة والخلاص من الهفوة: تخلصت منها نكبة مصحفية ... لفقداني المنصور من آل عامر ووصلت الشفاعة في مكتتبة بخط ملك المغرب، وجعل خلاصي شرطاً في العقدة ومسالمة الدولة، فانتقلت صحبة سلطاني المكفور الحق إلى المغرب، وبالغ ملكه في بري منزلاً رحباً (1) ، وعيشاً خفضاً، وإقطاعاً جماً، وجراية ما وراءها مرمى، وجعلني بمجلسه صدراً، ثم أسعف قصدي في تهيؤ الخلوة في مدينة سلا منوه الصكوك، مهنأ القرار، متفقداً باللها والخلع، مخول العقار، موفور الحاشية، مخلى بيني وبين إصلاح معادي، إلى أ، رد الله تعالى على السلطان أمير المسلمين أبي عبد الله ابن أمير المسلمين أبي الحجاج ملكه، وصير إليه حقه (2) ، فطالبني بوعد ضربته، وعمل في القدوم عليه بولده أحكمته، ولم يوسعني عذراً، ولا فسح في الترك مجالاً، فقدمت عليه بولده، وقد ساءه بإمساكه رهينة ضده، ونغص مسرة الفتح بعده، على كل حال من التقشف

_ (1) الإحاطة: خصبا. (2) الإحاطة: وهيأ إليه حقه وصرف إليه كرسيه.

والزهد فيما بيده، وعزف عن الطمع في ملكه وزهد في رفده، حسبما قلت من بعض المقطوعات: قالوا لخدمته دعاك محمد ... فأنفتها وزهدت في التنويه فأحببته أنا والمهيمن كاره ... في خدمة المولى محب فيه عاهدت الله تعالى على ذلك، وشرحت صدري للوفاء به، وجنحت إلى الانفصال لبيت الله الحرام نشيدة أملي، ومرمى نيتي وعملي، فعلق بي، وخرج لي عن الضرورة، وأراني أن موازرته أبر القرب، وراكنني إلى عهد بخطه فسح لعامين أمد الثواء، واقتدى بشعيب صلوات الله عليه في طلب الزيادة على تلك النسبة، وأشهد من حضر من العلية، ثم رمى إلي بعد ذلك بمقاليد رأيه، وحكم عقلي في اختيارات عقله، وغطى من جفائي بحلمه، وحثا في وجوه شهواته تراب زجري، ووقف القبول على وعظي، وصرف هواي في التحول فانياً وقصدي، واعترف بقبول نصحي، فاستعنت الله تعالى، وعاملت وجهه فيه، من غير تلبس بجراية، ولا تشبث بولاية، مقتصراً على الكفاية، حذراً من النقد، خامل المركب، معتمداً على المنسأة، مستمشياً (1) بخلق النعل، راضياً بغير النبيه من الثوب، مشفقاً من موافقة الغرور، هاجراً للزخرف، صادعاً بالحق في أسواق الباطل، كافاً عن السخال براثن السباع. ثم صرفت الفكرة إلى بناء الزاوية والمدرسة والتربة بكر الحسنات بهذه الخطة، بل بالجزيرة، فيما سلف من المدة، فتأتى بمنة الله تعالى من صلاح السلطان وعفاف الحاشية والأمن ورم الثغور وتثمير الجباية وإنصاف الحمات والمقاتلة ومقارعة الملوك المجاورة في إيثار المصلحة الدينية والصدع فوق المنابر ضماناً من السلطان بترياق سم الثورة وإصلاح بواطن الخاصة والعامة ما الله تعالى المجازي عليه، والمعوض

_ (1) ق ص: مستمتعا.

من سهر خلعته على أعطافه، وخطر اقتحمته من أجله، لا للثريد الأعفر، ولا للجرد تمرح في الأرسان، ولا للبدر تثقل للأكتاد، فهو الذي لا يضيع عمل من عمل ذكر أو أنثى سبحانه وتعالى. ومع ذلك فلم أعدم الاستهداف (1) للشرور، والاستغراض للمحذور، والنظر الشزر المنبعث من خرز العيون، شيمة من ابتلاه الله تعالى بسياسة الدهماء، ورعاية سخطة أرزاق السماء، وقتلة الأنبياء، وعبدة الأهواء، ممن لا يجعل لله تعالى إرادة نافذة، ولا مشيئة سابقة، ولا يقبل معذرة، ولا يجمل في الطلب، ولا يتلبس مع الله في الأدب، ربنا لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، والحال إلى هذا العهد - وهو منتصف عام خمسة وستين وسبعمائة (2) - على ما ذكرته، أداله الله بحال السلامة، وبفيأة العافية، والتمتع بالعبادة، وربك يخلق ما يشاء ويختار: وعلي أن أسعى ولي ... س علي إدراك النجاح ولله سبحانه فينا علم غيب (3) نحن صائرون إليه، ألحفنا الله لباس التقوى، وختم لنا بالسعادة، وجعلنا في الآخرة من الفائزين، نفثت عن بث، وتأوهت عن حمى، ليظهر بعد المنقلب قصدي، ويدل مكتتبي على عقدي، انتهى، وجله بلفظه. وكان - رحمه الله تعالى - عارفاً بأحوال الملوك، سريع الجواب، حاضر الذهن، حاد النادرة. ومن حكاياته في حضور الجواب ما حكاه عن نفسه قال (4) : حضرت يوماً بين يدي السلطان أبي عنان في بعض وفاداتي عليه لغرض الرسالة، وجرى ذكر بعض أعدائه، فقلت ما أعتقده في إطراء ذلك العدو، وما عرفته

_ (1) الإحاطة: ومع ذلك فقد هيف إلى أديانها من الاستهداف ... إلخ. (2) الإحاطة: وهو عام أحد وسبعين وسبعمائة. (3) الإحاطة: سر عجيب. (4) أزهار الرياض 1: 287.

من فضله، فأنكر علي بعض الحاضرين ممن لا يحطب إلا في حبل السلطان، فصرفت وجهي وقلت: أيدكم الله، تحقير عدو السلطان بين يديه ليس من السياسة في شيء، بل غير ذلك أحق وأولى، فإن كان السلطان غالب عدوه كان قد غلب غير حقير، وهو الأولى بفخره، وجلال قدره، وإن غلبه العدو لم يغير حقير، فيكون أشد للحسرة، وآكد للفضيحة، فوافق - رحمه الله تعالى - على ذلك واستحسنه، وشكر عليه، وخجل المعترض، انتهى. وكان - رحمه الله تعالى - مبتلى بداء الأرق، لا ينام من الليل إلا النزر اليسير جداً، وقد قال في كتابه " الوصول لحفظ الصحة في الفصول ": العجب مني - مع تأليفي لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله في الطب، وعملي ذلك - لا أقدر على مداواة داء الأرق الذي بي، أو كما قال، ولذا يقال له " ذو العمرين " لأن الناس ينامون في الليل وهو ساهر فيه، ومؤلفاته ما كان يصنف غالبها إلا بالليل، وقد سمعت بالمغرب بعض الرؤساء يقول: لسان الدين ذو الوزارتين، وذو العمرين، وذو الميتين، وذو القبرين، انتهى. وسيأتي ما يعلم منه معنى الأخيرين. [التعريف بالسلطان أبي الحجاج] وقد عرف - رحمه الله تعالى - بالسلطان أبي الحجاج في " الإحاطة " فقال ما حاصله (1) : يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر، الأنصاري الخزرجي، أمير المسلمين بالأندلس، أبو الحجاج، تولى الملك بعد أخيه بوادي السقائين من ظاهر الخضراء ضحوة يوم الأربعاء ثالث عشر ذي الحجة عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، وسنه خمسة عشر يوماً وثمانية أشهر، أمه أم ولد، وكان له ثلاثة أولاد كبيرهم محمد أمير المسلمين من بعده، وتلوه

_ (1) الإحاطة، الورقة: 367 وانظر اللمحة البدرية: 89.

أخوه إسماعيل محجوره، وثالثهم قيس شقيق إسماعيل، وذكر لسان الدين أنه وزر له بعد شيخه ابن الجياب، وتولى كتابة سره مضافة إلى الوزارة في أخريات شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة، انتهى. وقد علم أنه وزر بعده لابنه محمد كما تقدم ويأتي، وأما إسماعيل بن أبي الحجاج فهو الذي تغلب على الأمر، وانتهز الفرصة في ملك أخيه محمد كما تقدم، وفيه وفي أخيه قيس حين قتلا يقول لسان الدين: بإسماعيل ثم أخيه قيس ... البيتين. وقد ذكر أيضاً - رحمه الله تعالى - حكاية وفاة السلطان أبي الحجاج ما محصله أنه هجم عليه رجل من عداد الممرورين، وهو في الركعة الأخيرة من صلاة عيد الفطر عام خمسة وخمسين وسبعمائة، فطعنه بخنجر، وقبض عليه، واستفهم فتكلم بكلام مخلط، واحتمل إلى منزله على فوت لم يستقر به إلا وقد قضى، وأخرج قاتله إلى الناس فقتل لحينه، وأحرق بالنار، ودفن عشية اليوم المذكور في مقبرة قصره، ضجيع والده، وولي أمره ولده محمد، ورثيته في غرض ناء عن الجزالة مختار ولده: العمر نوم، والمنى أحلام ... ماذا عسى أن يستمر مقام وإذا تحققنا لشيء بدأة ... فله بما تقضي العقول تمام والنفس تجمح في مدى آمالها ... ركضاً، وتأبى ذلك الأيام من لم يصب في نفسه فمصابه ... بحبيبه، نفذت بذا الأحكام بعد الشبيبة كبرة، ووراءها ... هرم، ومن بعد الحياة حمام ولحكمة ما أشرقت شهب الدجى ... وتعاقب الإصباح والإظلام دنياك يا هذا محلة نقلة ... ومناخ ركب ما لديه مقام هذا أمير المسلمين ومن به ... وجد السماح وأعدم الإعدام

سر الأمانة والخلافة يوسف ... غيث الملوك وليثها الضرغام قصدته عادية الزمان فأقصدت ... والعز سام، والخميس لهام فجعت به الدنيا وكدر شربها ... وشكا العراق مصابه والشام أسفاً على الخلق الجميل كأنما ... بدر الدجنة قد جلاه تمام أسفاً على العمر الجديد كأنه ... زهو الحديقة زهره بسام أسفاً على الخلق الرضي كأنه ... زهر الرياض هما عليه غمام أسفاً على الوجه الذي مهما بدا ... طاشت لنور جماله الأفهام يا ناصر الثغر الغريب وأهله ... والأرض ترجف والسماء قتام يا صاحب الصدقات في جنح الدجى ... والناس في فرش النعيم نيام يا حافظ الحرم الذي بظلاله ... ستر الأرامل واكتسى الأيتام مولاي هل لك للقصور زيارة ... بعد انتزاح الدار أو إلمام مولاي هل لك للعبيد تذكر ... حاشاك أن ينسى لديك ذمام يا واحد الآحاد والعلم الذي ... خفقت بعزة نصره الأعلام وافاك أمر الله حين تكاملت ... فيك النهى والجود والإقدام ورحلت عنا الركب خير خليفة ... أثنى عليك الله والإسلام نعم الطريق سلكت كان رفيقه ... والزاد فيه تهجد وصيام وكسفت يا شمس المحاسن ضحوة ... فاليوم ليل، والضياء ظلام وسقاك عيد الفطر كأس شهادة ... فيها من الأجل الوحي مدام وختمت عمرك بالصلاة فحبذا ... عمل كريم سعيه وختام مولاي كم هذا الرقاد إلى متى ... بين الصفائح والتراب تنام أعد التحية واحتسبها قربة ... إن كان يمكنك الغداة كلام تبكي عليك مصانع شيدتها ... بيض كما تبكي الهديل حمام تبكي عليك مساجد عمرتها ... فالناس فيها سجد وقيام

تبكي عليك خلائق أمنتها ... بالسلم وهي كأنها أنعام عاملت وجه الله فيما رمته ... منها فلم يبعد عليك مرام لو كنت تفدى أو تجار من الردى ... بذلت نفوس من لدنك كرام لو كنت تمنع بالصوارم والقنا ... ما كان ركنك بالغلاب يرام لكنه أمر الإله، وما لنا ... إلا رضى بالحكم واستسلام والله قد كتب الفناء على الورى ... وقضاؤه جفت به الأقلام نم في جوار الله مسروراً بما ... قدمت يوم تزلزل الأقدام واعلم بأن سليل ملكك قد غدا ... في مستقر علاك وهو إمام سر تكنف منه من خلفته ... ظل ظليل فهو ليس يضام كنت الحسام وصرت في غمد الثرى ... ولنصر ملكك سل منه حسام خلفت أمة أحمد لمحمد ... فقضت بسعد الأمة الأحكام فهو الخليفة للورى في عهده ... ترعى العهود وتوصل الأرحام أبقى رسومك كلها محفوظة ... لم ينتثر منها عليك نظام العدل والشيم الكريمة والتقى ... والدار والألقاب والخدام حسبي بأن أغشى ضريحك لائماً ... وأقول والدمع السفوح سجام يا مدفن التقوى ويا مثوى الهدى ... مني عليك تحية وسلام أخفيت من حزني عليك، وفي الحشا ... نار لها بين الضلوع ضرام ولو أنني أديت حقك لم يكن ... لي بعد فقدك في الجود مقام وإذا الفتى أدى الذي في وسعه ... وأتى بجهد، ما عليه ملام قال لسان الدين: وكتبت في بعض معاهده: غبت فلا عين ولا مخبر ... ولا انتظار منك مرقوب يا يوسف أنت لنا يوسف ... وكلنا في الحزن يعقوب

انتهى، ورحم الله تعالى الجميع بمنه وقد قدمنا ما كتبه لسان الدين على لسان سلطانه إلى السلطان أبي عنان في شأن قتل السلطان أبي الحجاج في الباب الثامن من القسم الأول. [الغني ولسان الدين يلجآن للمغرب] وقال لسان الدين في كتابه " اللمحة البدرية في الدولة النصرية " في ذكر ما يتعلق بخلع سلطانه وقيام أخيه عليه وفي خلال ذلك، ما نصه (1) : كان السلطان أبو عبد الله عند تصير الأمر إليه قد ألزم أخاه إسماعيل قصراً من قصور أبيه بجوار داره (2) مرفهاً عليه، متممة وظائفه له، وأسكن معه أمه وأخواته منها، وقد استأثرت يوم وفاة والده بمال جم من خزائنه الكائنة في بيتها فوجدت السبيل إلى السعي لولدها فجعلت تواصل زيارة ابنتها التي عقد لها الوالد مع ابن عمه الرئيس أبي عبد الله ابن الرئيس أبي الوليد ابن الرئيس أبي عبد الله المبايع له بأندرش ابن الرئيس أبي سعيد جدهم الذي تجمعهم جرثومته، وشمر الصهر المذكور عن ساعد عزمه وجده وهو ما هو من الإقدام، ومداخلة ذؤبان الرجال، واستعان بمن آسفته الدولة، وهفت (3) به الأطماع، فتألف منهم زهاء مائة قصدوا جهة من جهات القلعة متسنمين شفاً صعب المرتقى، واتخذوا آلة تدرك ذروته لقعود بنية كانت به عن التمام، وكبسوا حرسياً بأعلاه بما اقتضى صماته، فاستووا به، ونزلوا إلى القلعة سحور الليلة الثامنة والعشرين من شهر رمضان عام ستين وسبعمائة، فاستظهروا بالمشاعل والصراخ، وعالجوا دار الحاجب رضوان، ففضوا أغلاقها ودخلوها فقتلوه بين أهله وولده، وانتهبوا ما اشتملت عليه داره، وأسرعت طائفة مع الرئيس [الصهر] فاستخرجت الأمير المعتقل إسماعيل، وأركبته وقرعت

_ (1) اللمحة البدرية: 108. (2) ق: بجواره. (3) ص: وهتفت.

الطبول، ونودي بدعوته، وقد كان أخوه السلطان متحولاً بولده إلى سكنى الجنة المنسوبة للعريف لصق داره، وهي المثل المضروب في الظل الممدود، والماء المسكوب، والنسيم البليل، يفصل بينها وبين معقل الملك السور المنيع والخندق المصنوع، فما راعه إلا النداء والعجيج وأصوات الطبول، وهب إلى الدخول إلى القلعة فألفاها قد أخذت دونه شعابها كلها ونقابها، وقذفته الحراب، ورشقته السهام، فرجع أدراجه، وسدده الله تعالى في محل الحيرة، ودس له عرق الفحول من قومه، فامتطى صهوة فرس كان مرتبطاً عنده، وصار لوجهه فأعيا المتبع، وصبح مدينة وادي آش، ولم يشعر حافظ قصبتها إلا به وقد تولج عليها، فالتف به أهلها وأعطوه صفقتهم بالذب عنه، فكان أملك بها، وتجهزت الحشود إلى منازلته، وقد جدد أخوه المتغلب على ملكه عقد السلم مع طاغية قشتالة باحتياجه إلى سلم المسلمين لجراء فتنة بينه وبين البرجلونيين من أمته، واغتبط به أهل المدينة، فذبوا عنه، ورضوا بهلاك نعمتهم دونه، واستمرت الحال إلى عيد النحر من عام التاريخ، ووصله رسول صاحب المغرب مستنزلاً عنها ومستدعياً إلى حضرته، لما عجز عن إمساكها، وراسل ملك الروم فلم يجد عنده من معول، فانصرف يوم ثاني عيد النحر المذكور، وتبعه الجمع الوافر من أهل المدينة خيلاً ورجلاً إلى مربلة من ساحل إجازته، وكان وصوله إلى مدينة فاس مصحوباً من البر والكرامة بما لا مزيد عليه في السادس من شهر محرم فاتح عام أحد وستين وسبعمائة، وركب السلطان للقائه، ونزل إليه عندما سلم عليه، وبالغ في الحفاية به، وكنت قد ألحقت به مفلتاً من شرك النكبة التي استأصلت المال، وأوهمت سوء الحال، بشفاعة السلطان أبي سالم قدس الله روحه، فقمت بين يديه في الحفل الشهود يومئذ وأنشدته (1) :

_ (1) وردت هذه القصيدة أيضا في أزهار الرياض 1: 196.

سلا هل لديها من مخبرة ذكر ... وهل أعشب الوادي ونم به الزهر وهل باكر الوسمي داراً على اللوى ... عفت آيها إلا التوهم والذكر بلادي التي عاطيت مشمولة الهوى ... بأكنافها والعيش فينان مخضر وجوي الذي ربى جناحي وكره ... فها أنا ذا ما لي جناح ولا وكر نبت بي لا عن جفوة وملالة ... ولا نسخ الوصل الهنيء بها هجر ولكنها الدنيا قليل متاعها ... ولذاتها دأباً تزور وتزور فمن لي بقرب العهد منها ودوننا ... مدى طال حتى يومه عندنا (1) شهر ولله عينا من رآنا وللأسى ... ضرام له في كل جانحة جمر وقد بددت در الدموع يد النوى ... وللشوق أشجان يضيق لها الصدر بكينا على النهر الشروب عشية ... فعاد أجاجاً بعدنا ذلك النهر أقول لأظعاني وقد غالها السرى ... وآنسها الحادي وأوحشها الزجر رويدك بعد العسر يسر أن أبشري ... بإنجاز وعد الله، قد ذهب العسر ولله فينا سر غيب، وربما ... أتى النفع من حال أريد بها الضر وإن تخن الأيام لم تخن النهى ... وإن يخذل الأقوام لم يخذل الصبر وإن عركت مني الخطوب مجرباً ... نقاباً تساوى عنده الحلو والمر فقد عجمت عوداً صليباً على الردى ... وعزماً (2) كما تمضي المهندة البتر إذا أنت بالبيضاء قررت منزلي ... فلا اللحم حل ما حييت ولا الظهر زجرنا بإبراهيم برء همومنا ... فلما رأينا وجهه صدق الزجر بمنتجب من آل يعقوب كلما ... دجا الخطب لم يكذب لعزمته فجر تناقلت الركبان طيب حديثه ... فلما رأته صدق الخبر الخبر ندى لو حواه البحر لذ مذاقه ... ولم يتعقب مده أبداً جزر

_ (1) ق: حتى عندنا يومه. (2) ق: وغرسا.

وبأس غدا يرتاع من خوفه الردى ... وترفل في أثوابه الفتكة البكر أطاعته حتى العصم (1) في قنن الربى ... وهشت إلى تأميله الأنجم الزهر قصدناك يا خير الملوك على النوى ... لتنصفنا مما جنى عبدك الدهر كففنا بك الأيام عن غلوائها ... وقد رابنا منها التعسف والكبر وعدنا بذاك المجد فانصرم الردى ... ولذنا بذاك العزم فانهزم الذعر ولما أتينا البحر يرهب موجه ... ذكرنا نداك الغمر فاحتقر البحر خلافتك العظمى ومن لم يدن بها ... فإيمانه لغو وعرفانه نكر ووصفك يهدي المدح قصد صوابه ... إذا ضل في أوصاف من دونك الشعر دعتك قلوب المؤمنين وأخلصت ... وقد طاب منها السر لله والجهر ومدت إلى الله الأكف ضراعة ... فقال لهن الله: قد قضي الأمر وألبسها النعمى ببيعتك التي ... لها الطائر الميمون والمحتد الحر فأصبح ثغر الثغر يبسم ضاحكاً ... وقد كان مما نابه ليس يفتر وأمنت بالسلم البلاد وأهلها ... فلا ظبة تعرى ولا روعة تعرو وقد كان مولانا أبوك مصرحاً ... بأنك في أبنائه الولد البر وكنت حقيقاً بالخلافة بعده ... على الفور، لكن كل شيء له قدر وأوحشت من دار الخلافة هالة ... أقامت زماناً لا يلوح بها البدر فرد عليك الله حقك إذ قضى ... بأن تشمل النعمى وينسدل الستر وقاد إليك الملك رفقاً بخلقه ... وقد عدموا ركن الإمامة واضطروا وزادك بالتمحيص عزاً ورفعة ... وأجراُ، ولولا السبك ما عرف التبر وأنت الذي تدعى إذا دهم الردى ... وأنت الذي ترجى إذا أخلف القطر وأنت إذا جار الزمان محكم ... لك النقض والإبرام والنهي والأمر وهذا ابن نصر قد أتى وجناحه ... مهيض، ومن علياك يلتمس الجبر

_ (1) ق ص: القصم، وهو خطأ واضح.

غريب يرجي منك ما أنت أهله ... فإن كنت تبغي الفجر قد جاءك الفجر ففز يا أمير المؤمنين ببيعة ... موثقة قد حل عروتها الغدر ومثلك من يرعى الدخيل ومن دعا ... بيا لمرين جاءه العز والنصر وخذ يا إمام الحق بالحق ثأره ... ففي ضمن ما تأتي به العز والأجر وأنت لها يا ناصر الحق فلتقم ... بحق فما زيد يرجى ولا عمرو فإن قيل مال، مالك الدثر وافر ... وإن قيل جيش، عندك العسكر المجر يكف بك العادي، ويحيا بك الهدى ... ويبني بك الإسلام ما هدم الكفر أعده إلى أوطانه عنك راضياً ... وطوقه نعماك التي ما لها حصر وعاجل قلوب الناس فيه بجبرها ... فقد صدهم عنه التغلب والقهر وهم يرقبون الفعل منك وصفقة ... تحاولها يمناك ما بعدها خسر مرامك سهل لا يؤودك كلفة ... سوى عرض ما إن له في العلا خطر وما العمر إلا زينة مستعارة ... ترد، ولكن الثناء هو العمر ومن باع ما يفنى بباق مخلد ... فقد أنجح المسعى وقد ربح التجر ومن دون ما تبغيه يا ملك الهدى (1) ... جياد المذاكي والمحجلة الغر وراد وشقر واضحات شياتها ... فأجسامها تبر وأرجلها در وشهب إذا ما ضمرت يوم غارة ... مطهمة غارت بها الأنجم الزهر وأسد رجال من مرين مخيفة ... عمائمها بيض وآسالها سمر عليها من الماذي كل مفاضة ... تدافع في أعطافها اللجج الخضر هم القوم إن هبوا لكشف ملمة ... فلا الملتقى صعب ولا المرتقى وعر إذا سئلوا أعطوا، وإن نوزعوا سطوا ... وإن واعدوا وفوا، وإن عاهدوا بروا وإن مدحوا اهتزوا ارتياحاً كأنهم ... نشاوى تمشت في معاطفهم خمر وإن سمعوا العوراء فروا بأنفس ... حرام على هاماتها في الوغى الفر

_ (1) اللمحة: العلى.

وتبسم ما بين الوشيج ثغورهم ... وما بين قضب الدوح يبتسم الزهر أمولاي غاضت فكرتي، وتبلدت ... طباعي، فلا طبع يعين ولا فكر ولولا حنان منك داركتني به ... وأحييتني لم تبق عين ولا أثر فأوجدت مني فائتاً أي فائت ... وأنشرت ميتاُ ضم أشلاءه قبر (1) بدأت بفضل لم أكن لعظيمه ... بأهل، فجل اللطف وانفرج الصدر (2) وطوقتني النعمى المضاعفة التي ... يقل عليها مني الحمد والشكر وأنت بتتميم الصنائع كافل ... إلى أن يعود الجاه والعز والوفر جزاك الذي أسنى مقامك عصمة ... يفك بها عان وينعش مضطر إذا نحن أثنينا عليك بمدحة ... فهيهات يحصى الرمل أو يحصر القطر ولكننا نأتي بما نستطيعه ... ومن بذل المجهود حق له العذر فلا تسأل عن امتعاض وانتفاض، وسداد انحناء في التأثر لنا وأغراض، والله غالب على أمره. وفي صبيحة يوم السبت السابع عشر من شهر شوال عام اثنين وستين وسبعمائة كان انصرافه إلى الأندلس وقد ألح صاحب قشتالة قي طلبه، وترجح الرأي على قصده، فقعد السلطان بقبة العرض من جنة المصارة، وبرز الناس وقد أسمعهم (3) البريح، واستحضرت البنود والطبول والآلة، وألبس خلعة الملك، وقيدت له مراكبه فاستقل، وقد التف عليه كل من جلا عن الأندلس من لدن الكائنة في جملة كثيفة، ورأى من رقة (4) الناس وإجهاشهم وعلو أصواتهم بالدعاء ما قدم به العهد، إذ كان مظنة ذلك سكوناٌ وعفافاً وقرباُ قد ظلله الله برواق الرحمة، وعطف عليه وشائج المحبة، إلى كونه مظلوم العقد، منتزع الحق، فتبعته

_ (1) اللمحة: القبر. (2) اللمحة: الحصر. (3) اللمحة: أخذهم. (4) اللمحة: وتلا من رنة.

الخواطر، وحميت عليه الأنفس، وانصرف لوجهته، وهو الآن برندة مستقل بها وبجهاتها [ومتعلل بألقاب] ومقتنع برسم وقد قام له برسم الوزارة الشيخ القائد أبو الحسن علي بن يوسف ابن كماشة الحضرمي، وبكتابته الفقيه أبو عبد الله ابن زمرك (1) ، وقد استفاض عنه من الحزم والتدرب والتيقظ للأمور والمعرفة بوجوه المصالح ما لا ينكر، كان الله لنا وله بفضله؛ انتهى كلام لسان الدين ابن الخطيب في " اللمحة البدرية ". [رسالة للسان الدين عن الغني إلى المنصور بن قلاوون] وقد علمت أنه بعد هذا التاريخ عاد سلطانه إلى حضرة غرناطة، واستبد بملك الأندلس، وعاد لسان الدين إليه حسبما أحسن سياق ذلك لسان الدين رحمه الله تعالى من إنشائه على لسان سلطانه الغني بالله، وخاطب به ملك الحرمين ومصر والشام السلطان المنصور بن أحمد بن الناصر بن قلاوون، وقد ذكرنا منه ما يتعلق بالأندلس في الباب الثاني من القسم الأول (2) ، وقال بعد ذلك فيما يتعلق بالخلع المذكور ما نصه: ولما صير الله إلينا تراثهم الهني، وأمرهم السني، وبناءهم العادي، وملكهم الجهادي، أجرانا - وله الطول - على سننهم، ورفع أعلامنا في هضابهم المشرفة وقننهم، وحملنا فيهم خير حمل، ونظم بنا لهم أي شمل، وألبس أيامنا سلماً فسح الدارة، وأحكم الإدارة، وهنأ الأمارة، ومكن العمارة، وأمن في البحر والبر السيارة والعبارة، لولا ما طرقهم فينا من تمحيص أجلى عن تخصيص، وتمحض تبره بعد تخليص ومرام عويص، نبثكم بثه، ونوالي لديكم حثه، ونجمع منبثه، فإن في الحوادث ذكراً، ومعروف الدهر لا يؤمن أن يعود تكراً، وشر الوجود

_ (1) اللمحة: وبكتابته الفقيه أبو الحسن علي بن عبد الله بن الحسن الجذامي المالقي وأبو عبد الله ابن مرزك. (2) انظر النفح 1: 321 - 326.

معاقب بخيره، والسعيد من اتعظ بغيره، والحزم أفضل ما إليه ينتسب، وعقل التجربة بالمرانة يكتسب، وهو أن بعضاً مما ينسب إلينا بوشائج الأعراق، لا بمكارم الأخلاق، ويمت إلينا بالقرابة البعيدة، لا بالنصبة السعيدة، ممن كفلناه يتيماً، وصناه ذميماً شتيماً، وبوأناه مبوأ كريماً، بعد أن نشأ حرفوشاً دميماً، وملعوناًً لئيماً، ونوهناه من خموله بالولاية، ونسخنا حكم تسحبه بآية العناية، داخل أخاً لنا كنا ألزمناه الاقتصار على قصره، ولم نجعل أداة تدل على حصره، وسامحناه في كثير من أمره، ولم نرتب بزيده ولا عمره، واغتررنا برماد علا على جمره، فاستدعى له من الصعاليك شيعته كل درب بفك الأغلاق، وتسرب أنفاق النفاق، وخارق للإجماع والإصفاق، وخبير بمكان الخراب ومذاهب الفساق، وتسور بهم القلعة من ثلم شرع في سده، بعد هده، ولم تكمل الأقدار المميزة في ليلة آثرنا مبيتنا ببعض البساتين خارج قصورنا، واستنبنا من يضطلع بأمورنا، فاستتم الحيلة التي شرعها، واقتحم القلعة وافترعها، وجدل حرس النوبة وصرعها، وكبس محل النائب عنا وجد له، ولم ينشب أن جدله، واستخرج الأخ البائس فنصبه، وشد به تاج الولاية وعصبه، وابتز أمرنا وغضبه. وتوهم الناس أن الحادثة على ذاتنا قد تمت، والدائرة بنا قد ألمت ولقد همت، فخذل الناصر، وانقطعت الأواصر، وأقدم المتقاصر، واقتحمت الأبهاء والمقاصر، وتفرقت الأجزاء وتحللت العناصر، وفقد من عين الأعيان النور الباصر، فأعطوه طاعة معروفة، وأصبحت الوجوه إليه مصروفة، وركضنا وسرعان الخيل تقفو أثر منجاتنا والظلام يخفيها، وتكفي علينا السماء والله يكفيها، إلى أن خلصنا إلى مدينة وادي آش خلوص القمر من السرار، لا نملك إلا نفساً مسلمة لحكم الأقدار، ملقية لله مقادة الاختيار، مسلوبة بموجب الاستقرار، وناصحنا أهل تلك المدينة فعملوا على الحصار، واستبصروا في الدفاع عنا أتم الاستبصار، ورضوا لبيوتهم المصحرة، وبساتينهم المستبحرة

بفساد الحديد وعياث النار، ولم يرضوا لجارهم بالإخفار (1) ، ولا لنفوسهم بالعار، إلى أن كان الخروج عن الوطن بعد خطوب تسبح فيها الأقلام سبحاً طويلاً، وتوسعها الشجون شرحاً وتأويلاً، وتلقي القصص منها على الآذان قولاً ثقيلاً، وجزنا البحر وضلوع موجه إشفاقاً علينا تخفق، وأكف رياحه حسرة تصفق، ونزلنا من جانب سلطان بني مرين على المثوى الذي رحب بنا ذرعه، ودل على كرم الأصول فرعه، والكريم الذي وهب فأجزل، ونزل لنا على الصهوة وتنزل، وخير وحكم، ورد على الدهر الذي تهكم، واستعبر وتبسم، وآلى وأقسم، وبسمل وقدم، واستركب لنا واستخدم. ولما بدا لمن وراءنا سيئات ما كسبوا، وحققوا ما حسبوا، وطفا الغثاء ورسبوا، ولم ينشب الشقي الخزي أن قتل البائس الذي موه بزيفه، وطوقه بسيفه، ودل ركب المخافة على خيفه، إذ آمن المضعوف من كيده، وجعل ضرغامه بازياً لصيده، واستقل على أريكته، استقلال الظليم على تريكته، حاسر الهامة، متنفقاً بالشجاعة والشهامة، مستظهراً بأول الجهالة والجهامة، وساءت في محاولة عدو الدين سيرته، ولما حصص الحق انكشفت سريرته، وارتابت لجبنه المستور جيرته، وفغر عليه طاغية الروم فمه فالتقمه، ومد عليه الصليب ذراعه فراعه، وشد الكفر عليه يده، فما عضده الله ولا أيده، وتخرمت ثغور الإسلام بعد انتظامها، وشكت إليه باهتضامها، وغصت بأشلاء عباد الله وعظامها، ظهور أوضامها، ووكلت السنة والجماعة، وانقطعت من النجح الطماعة، واشتدت المجاعة، وطلعت شمس دعوتنا من المغرب فقامت عليها الساعة، وأجزنا البحر تكاد جهتاه تتقاربان تيسيراً، ورياحه لا تعرف في غير وجهتنا مسيراً، وكأن ماءه ذوب لقي إكسيراً، ونهضنا يتقدمنا الرعب ويتقد منا الدعاء، وتجأحىء بنا الإشارة يحفزنا الاستدعاء.

_ (1) ق ص: بالإخبار؛ ولعلها " بالإختار ".

وأقصر الطغايا عن البلاد بعد أن ترك ثغورها مهتومة، والإخافة عليها محتومة، وطوابعها مفضوضة وكانت بنا مختومة، وأخذ الخائن الصيحة فاختبل، وظهر تهوره الذي عليه الجبل، فجمع أوباشه السفلى وأوشابه، وبهرجه الذي غش به المحض وشابه، وعمد إلى الذخيرة التي صانتها الأغلاق الحريزة، والمعاقل العزيزة، فملأ بها المناطق، واستوعب الصامت والناطق، والوشح والقراطق، واحتمل عدد الحرب والزينة، وخرج ليلاً عن المدينة، وانقضت آراؤه الفائلة، ونعامته الشائلة، ودولة بغيه الزائلة، أن يقصد طاغية الروم بقضه وقضيضه، وأوجه وحضيضه، وطويلة وعريضة، من غير عهد اقتضى وثيقته، ولا أمر عرف حقيقته، إلا ما أمل اشتراطه من تبديل الكلمة، واستئصال الأمة المسلمة، فلم يكن إلا أن تحصل في قبضته، ودنا من مضجع ربضته، واستشار نصحاءه في أمره، وحكم الحيلة في جناية غدره، وشهره ببلده، وتولى قتله بيده، ألحق به جميع من أمده في غيه، وظاهره على سوء سعيه، وبعث إلينا برؤوسهم فنصبت بمسور غدرها، وقلدت لبة تلك البنية بشذرها، وأصبحت عبرة للمعتبرين، وآية للمستبصرين، وأحق الله الحق بكلماته وقطع دابر الكافرين. وعدنا إلى أريكة ملكنا كما رجع القمر إلى بيته، بعد كيته وكيته، أو العقد إلى جيده، بعد انتثار فريده، أو الطير إلى وكره، مفلتاً من غول الشرك ومكره، ينظر الناس إلينا بعيون لم ترو مذ غبنا من محيا رحمة، ولا باتت للسياسة ذمة، ولا ركنت لدين ولا همة، فطوينا بساط العتاب طي الكتاب، وعاجلنا سطور المؤاخذة بالاضطراب، وآنسنا نفوس أولي الاقتراب بالاقتراب، وسهلنا النفوس إلينا، واستغفرنا الله لنفسنا ولمن جنى علينا، فلا تسألوا عما أثار ذلك من استدراك ندم، ورسوخ قدم، واستمتاع بوجود بعد عدم، فسبحان الذي يمحص ليثيب، ويأمر بالدعاء ليجيب، وينبه من الغفلة ويهيب، ويجتبي إليه من يشاء ويهدي

إليه من ينيب. ورأينا أن نطالع علومكم الشريفة بهذا الواقع تسبيباً للمفاتحة المعتمدة، وتمهيداً للموالاة المجددة، فأخبار الأقطار مما تنفقه الملوك على أسمارها، وترقم ببدائعه هالات أقمارها، وتستفيد منه حسن السير، ولا أمان من الغير، وتستعين على الدهر بالتجارب، وتستدل بالشاهد على الغائب، وبلادكم ينبوع الخير وأهله، ورواق الإسلام الذي يأوي قريبه وبعيده إلى ظله، ومطلع نور الرسالة، وأفق الرحمة المنثالة، منه تقدم علينا الكواكب تضرب آباط أفلاكها، وتتخلل مداريها المذهبة غدائر أحلاكها، وتستعلي البدور، ثم يعوها إلى المغرب الحدور، وتطلع الشمس متجردة من كمائم ليلها، متهادية في دركات ميلها، ثم تسحب إلى الغروب فضل ذيلها، ومن تلقائكم ورد العلم والعمل، وأرعي الهمل. فنحن نستوهب من مظان الإجابة لديكم دعاء يقوم لنا مقام المدد، ويعدل منه بالمال والعدد، ففي دعاء المؤمن بظهر الغيب ما فيه مما ورد، وإياه سبحانه نسأل أن يدفع عنا وعنكم دواعي الفتن، وغوائل المحن، ويحملنا على سنن السنن، ويلبسنا من تقواه أوقى الجنن، وهو سبحانه يصل لأبوتكم ما تستقل لدى قاضي القضاة رسومه، فتكتب حقوقه وتكتب خصومه، ولا تكلفه الأيام ولا تسومه، بفضل الله وعزته، وكره ومنته، والسلام الكريم الطيب المبارك بدءاً من عود، وجوداً إثر جود، ورحمة الله تعالى وبركاته؛ انتهى. وللسان الدين ابن الخطيب رحمه الله عن سلطانه المذكور كتاب آخر في هذه الكائنة إلى كبير الموحدين أبي محمد عبد الله بن تفراجين (1) ، ولعلنا نذكره إن

_ (1) كتبه ابن خلدون " تافراكين " وتحت الكاف نقطة إشارة إلى أنها في النطق كالجيم المصرية.

شاء الله تعالى في الباب الخامس من هذا القسم، عند تعرضنا لبعض نثر لسان الدين رحمه الله تعالى. [نقل عن ابن خلدون في خلع الغني] وقد ساق هذه القضية قاضي القضاة الشهير الكبير ولي الدين عبد الرحمن ابن خلدون الحضرمي رحمه الله تعالى في تاريخه الكبير في ترجمة السلطان الشهير أبي سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني صاحب المغرب مما نصه (1) : الخبر عن خلع ابن الأحمر صاحب غرناطة ومقتل رضوان ومقدمه على السلطان: لما هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة ونصب ابنه محمد للأمر واستبد عليه رضوان مولى أبيه، وكان قد رشح ابنه الأصغر إسماعيل بما ألقى عليه وعلى أمه من محبته، فلما عدلوا بالأمر عنه حجبوه ببعض قصورهم، وكان له صهر من ابن عمه محمد بن إسماعيل ابن الرئيس أبي سعيد، فكان يدعوه سراً إلى القيام بأمره، حتى أمكنته فرصة في الدولة بخروج السلطان إلى بعض منتزهاته في رياضه، فصعد سور الحمراء ليلة سبع وعشرين لرمضان من سنة ستين في أوشاب جمعهم من الطغام لثورته، وعمد إلى دار الحاجب رضوان، فاقتحم عليه الدار وقتله بين حرمه وبناته وقربوا إلى إسماعيل فرسه وركب، فأدخلوه القصر وأعلنوا بيعته، وقرعوا طبولهم بسور الحمراء، وفر السلطان من مكانه بمنتزهه، فلحق بوادي آش، وغدا الخاصة والعامة على إسماعيل فبايعوه، واستبد عليه هذا الرئيس ابن عمه فخلعه لأشهر من بيعته، واستقل بسلطان الأندلس. ولما لحق السلطان أبو عبد الله محمد بوادي آش بعد مقتل حاجبه رضوان، واتصل الخبر بالمولى السلطان أبي سالم، امتعض لمهلك رضوان وخلع السلطان رعياً لما سلف له في جوارهم، وأزعج لحينه أبا القاسم الشريف

_ (1) تاريخ ابن خلدون 7: 306 وأزهار الرياض 1: 202.

من أهل مجلسه لاستقدامه، فوصل إلى الأندلس، وعقد مع أهل الدولة على إجازة المخلوع من وادي آش إلى المغرب، وأطلق من اعتقالهم الوزير الكاتب أبا عبد الله ابن الخطيب كانوا اعتقلوه لأول أمرهم لما كان رديفاً للحاجب رضوان وركناً لدولة المخلوع، فأوصى المولى أبو سالم إليهم بإطلاقه، فأطلقوه، ولحق مع الرسول أبي القاسم الشريف بسلطانه المخلوع بوادي آش للإجازة إلى المغرب، وأجاز لذي العقدة من سنته، وقدم على السلطان بفاس، وأجل قدومه، وركب للقائه، ودخل به إلى مجلس ملكه، وقد احتفل ترتيبه، وغص بالمشيخة والعلية، ووقف وزيره ابن الخطيب فأنشد السلطان قصيدته الرائية يستصرخه لسلطانه، ويستحثه لمظاهرته على أمره، واستعطف واسترحم بما أبكى الناس شفقة له ورحمة، ثم سرد ابن خلدون القصيدة، وقد تقدمت. ثم قال بعد ما صورته (1) : ثم انفض المجلس وانصرف ابن الأحمر إلى نزله، وقد فرشت له القصور، وقربت الجياد بالمراكب الذهبية، وبعث إليه بالكسا الفاخرة، ورتبت الجرايات له ولمواليه من المعلوجي بطانته من الصنائع، وحفظ عليه رسم سلطانه في الراكب والراجل، ولم يفقد من ألقاب ملكه إلا الآلة أدباً مع السلطان، واستقر في جملته إلى أن كان من لحاقه بالأندلس، وارتجاع ملكه سنة ثلاث وستين ما نحن نذكره؛ انتهى المقصود جلبه من كلام ابن خلدون في هذه الواقعة، وفيه بعض مخالفة لكلام لسان الدين السابق في اللمحة البدرية، إذ قال فيها: إن الثورة عليهم كانت ليلة ثمان وعشرين من رمضان، وابن خلدون جعلها ليلة سبع وعشرين منه، والخطب سهل، وقال في اللمحة إن انصرف السلطان من وادي آش كان ثاني يوم النحر، وقال ابن خلدون في ذي القعدة، ولعله غلط من الكتاب حيث جعل مكان الحجة القعدة. ورائية إن الخطيب التي ذكرها هي من حر كلامه وغرر شعره، على

_ (1) تاريخ ابن خلدون: 309 وأزهار الرياض: 203.

أنه كله غرر، إذ جمع فيها المطلوب في ذلك الوقت بأبدع لفظ وأحسن عبارة في ذلك المحفل العظيم، ولم نزل نسمع في المذاكرات بالمغرب لما انتهى فيها إلى قوله فقد أنجح المسعى وقد ربح التجر قال له بعض من حضر ولعله أراد الغض منه: أحسنت يا وزير فيما قلت، وفي وصف الحال والسلطان، غير أنه بقي عليك شيء، هو ذكر قرابة السلطان موالينا بني مرين وهم من هم، ولا ينبغي السكوت عنهم فارتجل ابن الخطيب حينئذ قوله ومن دون ما تبغيه - إلى آخره حتى تخلص لمدح بني مرين أقارب السلطان بما لا مرمى وراءه، ثم قال بعد ذلك معتذراً أمولاي غاضت فكرتي - إلى آخره " وهذا أن صح أبلغ مما وقع لأبي تمام في سينيته حيث قال لا تنكروا ضربي له - البيتين لأن أبا تمام ارتجل بيتين فقط، ولسان الدين ارتجل تسعة عشر بيتاً، مع ما هو عليه من الخروج عن الوطن وذهاب الجاه والمال، فأين الحال من الحال وقد كرر ابن خلدون رحمه الله تعالى في تاريخه قضية اعتقال لسان الدين وخلع سلطانه في موضع آخر، ولذكره إن سبق بعضه لاشتماله على منشأ الوزير لسان الدين، وجملة من أحواله إلى قريب من مهلكه، فنقول (1) : قال رحمه الله تعالى بعد ذكره عبد الله والد لسان الدين وأنه انتقل من لوشة إلى غرناطة، واستخدم لملوك بني الأحمر، واستعمل على مخازن الطعام، ما محصله: ونشأ ابن محمد هذا، يعني لسان الدين ابن الخطيب، بغرناطة، وقرأ وتأدب على مشيختها، واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل، وأخذ عنه العلوم الفلسفية، وبرز في الطب، وانتحل الأدب وأخذ عن أشياخه، وامتلأ من حول اللسان نظمه ونثره (2) ، مع انتقاء الجيد منه، ونبغ (3) في الشعر الترسيل بحيث لا يجارى فيهما،

_ (1) انظر تاريخ ابن خلدون 7: 332 - 336 وأزهار الرياض 1: 204. (2) ابن خلدون: وامتلأ حوض السلطان من نظمه ... إلخ. (3) ابن خلدون: وبلغ.

وامتدح السلطان أبا الحجاج من ملوك بني الأحمر لعصره، وملأ الدنيا بمدائحه، وانتشرت في الآفاق، فرقاه السلطان إلى خدمته، وأثبته في ديوان الكتاب ببابه مرؤوساً بأبي الحسن ابن الجياب شيخ العدوتين في النظم والنثر وسائر العلوم الأدبية، وكاتب السلطان بغرناطة من لدن أيام محمد المخلوع من سفله عندما قتل وزيره محمد بن الحكيم المستبد عليه (1) ، فاستبد ابن الخطيب برياسة الكتاب ببابه مثناة بالوزارة ولقبه بها، فاستقل بذلك، وصدرت عنه غرائب من الترسيل في مكاتبات جيرانهم من ملوك العدوة، ثم داخله السلطان في تولية العمال على يده بالمشارطات فجمع له بها أموالاً وبلغ به في المخالصة إلى حيث لم يبلغ بأحد ممن قبله، وسفر عنه إلى السلطان أبي عنان ملك بني مرين بالعدوة معزياً بأبيه السلطان أبي الحسن فجلى في أغراض سفارته، ثم هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة، عدا عليه بعض الزعانف في سجوده للصلاة، وطعنه فأشواه، وفاظ لوقته، وتعاورت سيوف المالي المعلوجي هذا القاتل، فمزقوه أشلاء، وبويع ابن محمد لوقته، وقام بأمره مولاهم رضوان الراسخ القدم في قادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من ملوكهم، واستبد بالدولة، وأفرد ابن الخطيب بوزارته كما كان لأبيه، وجعل ابن الخطيب رديفاً لرضوان في أمره، ومشاركاً في استبداده معه، فجرت الدولة على أحسن حال وأقوم طريقة، ثم بعثوا الوزير ابن الخطيب سفيراً إلى السلطان أبي عنان مستمدين منه الطاغية على عاداتهم مع سلفه فلما قدم على السلطان ومثل بين يديه تقدم الوفد الذين معه من وزراء الأندلس وفقهائها واستأذنه في إنشاد شعر قدمه بين يدي نجواه، فأذن له، وأنشد وهو قائم: خليفة الله ساعد القدر ... علاك ما لاح في الدجى قمر

_ (1) سقطت هنا جملة تفيد أن ابن الجياب توفي بالطاعون الجارف سنة 749 فولى السلطان أبو الحجاج ابن الخطيب رياسة الكتاب ... إلخ.

ودافعت عنك كف قدرته ... ما ليس يسطيع دفعه البشر وجهك في النائبات بدر دجى ... لنا وفي المحل كفك المطر والناس طراً بأرض أندلس ... لولاك ما أوطنوا ولا عمروا وجملة الأمر أنه وطن ... في غير علياك ما له وطر ومن به مذ وصلت حبلهم ... ما جحدوا نعمة ولا كفروا وقد أهمتهم بأنفسهم ... فوجهوني إليك وانتظروا فاهتز السلطان لهذه الأبيات، وأذن له في الجلوس، وقال له قبل أن يجلس: ما ترجع إليهم إلا بجميع طلباتهم، ثم أثقل كاهلهم بالإحسان، وردهم بجميع ما طلبوه، وقال شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف - وكان معه في ذلك الوفد - لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا، ومكثت دولتهم هذه بالأندلس خمس سنين، ثم ثار بهم محمد الرئيس ابن عم السلطان، شركه في جده الرئيس أبي سعيد، وتحين خروج السلطان إلى منتزهه خارج الحمراء، وتسور دار الملك المعروفة بالحمراء، وكبس رضوان في بيته فقتله، ونصب للملك إسماعيل ابن السلطان أبي الحجاج بما كان صهره على شقيقه، وكان معتقلاً بالحمراء، فأخرجه وبايع له، وقام بأمره مستنداً عليه، وأحس السلطان محمد بقرع الطبول وهو بالبستان، فركب ناجياً إلى وادي آش وضبطها، وبعث بالخبر إلى السلطان أبي سالم إثر ما استولى على ملك آبائه بالمغرب، وقد كان مثواه أيام أخيه أبي عنان عندهم بالأندلس، واعتقل الرئيس القائم بالدولة هذا الوزير ابن الخطيب وضيق عليه في محبسه، وكانت بينه وبين الخطيب ابن مرزوق مودة استحكمت أيام مقامه بالأندلس، وكان غالباً على هوى السلطان أبي سالم، فزين له استدعاء هذا السلطان المخلوع من وادي آش يعده زبوناً على أهل الأندلس، ويكف به عادية القرابة المرشحين هنالك متى طمحوا إلى ملك المغرب، فقبل ذلك منه، وخاطب أهل الأندلس في تسهيل طريقه من وادي

آش إليه، وبعث من أهل مجلسه الشريف أبا القاسم التلمساني، وحمله مع ذلك الشفاعة في ابن الخطيب وحل معتقله فأطلق، وصحبه الشريف أبا القاسم إلى وادي آش، وسار في ركاب سلطانه، وقدموا على السلطان أبي سالم (1) ، فاهتز لقدوم ابن الأحمر، وركب في الموكب لتلقيه، وأجلسه إزاء كرسيه، وأنشد ابن الخطيب قصيدته يستصرخ السلطان لنصره، فوعده، وكان يوماً مشهوداً، ثم أكرم مثواه وأرغد نزله، ووفر أرزاق القادمين مع ركابه، وأرغد عيش ابن الخطيب في الجراية والإقطاع، ثم استيأس واستأذن السلطان في التجوال بجهات مراكش الوقوف على أعمال الملك بها فأذن له، وكتب إلى العمال بإتحافه فتباروا في ذلك، وحصل منه على حظ، وعندما مر بسلا إثر قفوله من سفره دخل مقبرة الملوك بشالة، ووقف على قبر السلطان أبي الحسن، وأنشد قصيدة على روي الراء يرثيه ويستجير به في استرجاع ضياعه بغرناطة، مطلعها: إن بان منزله وشطت داره ... قامت مقام عيانه أخباره قسم زمانك عبرة أو عبرة ... هذي ثراه وهذه آثاره فكتب السلطان أبو سالم في ذلك إلى أهل الأندلس بالشفاعة فشفعوه، واستقر هو بسلا منتبذاً عن سلطانه طول مقامه بالعدوة، ثم عاد السلطان محمد المخلوع إلى ملكه بالأندلس سنة ثلاث وستين وسبعمائة، وبعث عن مخلفه بفاس من الأهل والولد، والقائم بالدولة يومئذ الوزير عمر بن عبد الله بن علي، فاستقدم ابن الخطيب من سلا وبعثهم لنظره، فسر السلطان لقدومه ورده إلى منزلته كما كان مع رضوان كافله، وكان عثمان بن يحيى بن عمر شيخ الغزاة وابن أشياخهم قد لحق بالطاغية ملك النصارى في ركاب أبيه عندما أحس بالشر

_ (1) فزين له ... أبي سالم: سقطت كلها سهوا من ص.

من الرئيس صاحب غرناطة، وأجاز يحيى من هناك إلى العدوة، وأقام عثمان بدار الحرب، فصحب السلطان في مثوى اغترابه هناك، وتقلب في مذاهب خدمته، وانحرفوا عن الطاغية عندما يئسوا من الفتح على يده، فتحولوا عنه إلى ثغور بلادهم، وخاطبوا الوزير عمر بن عبد الله في أن يمكنهم من بعض الثغور الغربية (1) التي لطاعتهم (2) بالأندلس يرتقبون منها الفتح، وخاطبني السلطان المخلوع من ذلك، وكانت بيني وبين عمر بن عبد الله ذمة مرعية، وخاصة متأكدة، فوفيت للسلطان بذلك من عمر بن عبد الله، وحملته أن يرد عليه مدينة رندة إذ هي من تراث سلفه، فقبل إشارتي في ذلك، وتسوغها السلطان المخلوع ونزل بها، وعثمان بن يحيى في جملته، وهو المقدم في بطانته، ثم غزوا منها مالقة، فكانت ركاباُ للفتح، وملكها السلطان (3) ، واستولى بعدها على دار ملكه بغرناطة، وعثمان بن يحيى متقدم القدم في الدولة عريق في المخالصة، وله على السلطان دالة واستبداد على هواه، فلما وصل ابن الخطيب بأهل السلطان وولده، وأعاده إلى مكانه في الدولة من علو يده وقبول إشارته، أدركته الغيرة من عثمان، ونكر على السلطان الاستكفاء به، وأراه التخوف من هؤلاء الأعياص (4) على ملكه، فحذره السلطان، وأخذ في التدبير عليه، حتى نكبه أباه وأخوته في رمضان سنة أربع وستين وسبعمائة، وأودعهم المطبق، ثم غربهم في ذلك، وخلا لابن الخطيب الجو وغلب على هوى السلطان ودفع إليه تدبير الدولة وخلط بينه بندمائه وأهل خلوته، وانفرد ابن الخطيب بالحل والعقد، وانصرفت إليه النجوم وعلقت به الآمال، وغشي بابه الخاصة والكافة وعصت به بطانة السلطان وحاشيته، فتفننوا في السعايات فيه، وقد هم السلطان

_ (1) ابن خلدون: القريبة. (2) ابن خلدون: أطاعتهم؛ الأزهار: لطاغيتهم. (3) فكانت ... السلطان: سقطت من ق. (4) كذا في ابن خلدون، وفي ق ص: الأعايض، حيثما وقعت.

عن قبولها، ونمي الخبر بذلك إلى ابن الخطيب، فشمر عن ساعده في التفويض، واستخدم للسلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن ملك العدوة يوم إذ في القبض على ابن عمه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي ابن السلطان أبي سعيد ابن السلطان بن يعقوب ابن عبد الحق، كانوا قد نصبوه شيخاُ على الغزاة بالأندلس لما أجاز من العدوة بعد ما جاس خلالها لطلب الملك، وأضرم بها نار الفتنة في كل ناحية، وأحسن دفاعه الوزير عمر بن عبد الله القائم حينئذ بدولة بني مريب، فاضطر إلى الإجازة إلى الأندلس، فأجاز هو ووزيره مسعود ابن ماساي، ونزلوا على السلطان المخلوع أعوام سبعة وستين وسبعمائة، فأكرم نزله، وتوفي علي بن بدر الدين شيخ الغزاة فقدم عبد الرحمن مكانه، وكان السلطان عبد العزيز قد استبد بملكه بعد مقتل الوزير عمر بن عبد الله، فغص بما فعله السلطان المخلوع من ذلك، وتوقع انتقاض أمره منهم، ووقف على مخاطبات من عبد الرحمن يسر بها في بني مرين، فجزع في ذلك، وداخله ابن الخطيب في اعتقال ابن أبي يفلوسن وابن ماساي وإراحة نفسه من شغبهم على أن يكون له المكان من دولته متى نزع إليه، فأجابه إلى ذلك، وكتب إليه العهد بخطه على يد سفيره إلى الأندلس، وكاتبه أبي يحيى ابن أبي مدين، وأغرى ابن الخطيب سلطانه بالقبض على ابن أبي يفلوسن وابن ماساي، فتقبض عليهما واعتقلهما (1) ، وفي خلال ذلك استحكمت نفرة ابن الخطيب لما بلغه عن البطانة من القدح فيه والسعاية، وربما تخيل أن السلطان مال إلى قبولها، وأنهم قد أحفظوه عليه، فأجمع التحول عن الأندلس إلى المغرب، واستأذن السلطان في تفقد الثغور، وسار إليها في لمة من فرسانه، وكان معه ابنه علي الذي كان خالصة للسلطان، وذهب لطيته، فلما حاذى جبل الفتح فرضة المجاز إلى العدوة مال إليه، وسرح إذنه بين يديه، فخرج قائد الجبل لتلقيه، وقد كان السلطان عبد العزيز

_ (1) وأغرى ... واعتقلهما: سقطت من ابن خلدون، وفيها تكرار لما سبق.

أوعز إليه بذلك، وجهز له الأسطول من حينه فأجاز إلى سبتة، وتلقاه ولاتها بأنواع التكرمة وامتثال المراسم، ثم سار لقصد السلطان، فقدم عليه سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بمقامه من تلمسان، فاهتزت له الدولة، وأركب السلطان خاصته لتلقيه، وأحله من مجلسه بمحل الأمن والغبطة، ومن دولته بمكان التنويه والعزة، وأخرج لوقته كاتبه أبا يحيى ابن أبي مدين سفيراً إلى صاحب الأندلس في طلب أهله وولده، فجاء بهم على أكمل حالات الأمن والتكرمة، ثم أكثر المنافسون (1) له في شأنه، وأغروا سلطانه بتتبع عثراته، وإبداء ما كان كامناً في نفسه من سقطاته، وإحصاء معايبه، وشاع على ألسنة أعدائه كلمات منسوبة إلى الزندقة أحصوها عليه ونسبوها، ورفعت إلى قاضي الحضرة أبي حسن ابن الحسن فاسترعاها، وسجل عليه بالزندقة، وراجع صاحب الأندلس رأيه فيه، وبعث القاضي ابن الحسن إلى السلطان عبد العزيز في الانتقام منه بتلك السجلات، وإمضاء حكم الله فيه، فصم عن ذلك وأنف لذمته أن تخفر لجواره أن يرد وقال لهم: هلا انتقمتم منه وهو عندكم وأنتم عالمون بما كان عليه، وأما أنا فلا يخلص إليه بذلك أحد ما كان في جواري. ثم وفر الجراية والإقطاع له ولبنيه ولمن جاء من أهل الأندلس في جملته، فلما هلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين وسبعمائة ورجع بنو مرين إلى المغرب وتركوا تلمسان سار هو في ركاب الوزير أبي بكر ابن غازي القائم بالدولة، فنزل بفاس، واستكثر من شراء الضياع وتأنق في بناء المساكن واغتراس الجنان، وحفظ عليه القائم بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفى، واتصلت حاله على ذلك إلى أن كان ما نذكره، انتهى.

_ (1) ابن خلدون: لغط المنافسون؛ ق: المتنافسون.

[رواية ابن خلدون عن نهاية لسان الدين] وقال ابن خلدون في تاريخه ما صورته (1) : كان محمد بن الأحمر المخلوع قد رجع من رندة إلى ملكه بغرناطة في جمادى من سنة ثلاث وستين، وقتل له الطاغية عدوه الرئيس المنتزي على ملكهم حين هرب من غرناطة إليه وفاء بعهد المخلوع، واستوى على كرسيه، واستقل بملكه، ولحق به كاتبه وكاتب أبيه محمد بن الخطيب، فاستخلصه، وعقد له على وزارته، وفوض إليه في القيام بملكه، فاستولى عليه، وملك هواه، وكانت عينه ممتدة إلى المغرب وسكناه، إلى أن نزلت به آفة في رياسته فكان لذلك يقدم السوابق والوسائل عند ملوكه، وكان لأبناء السلطان أبي الحسن كلهم غيرة من ولد عمهم السلطان أبي علي، ويخشونهم على أمرهم، ولما لحق الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن بالأندلس اصطفاه ابن الخطيب، واستخلصه لنجواه، ورفع في الدولة رتبته، وحمل السلطان على أن عقد له على الغزاة المجاهدين من زناتة مكان بني عمه من الأعياص، فكانت له آثار في الاضطلاع بها، ولما استبد السلطان عبد العزيز بأمره واستقل بملكه، وكان ابن الخطيب (2) ساعياُ في مرضاته عند سلطانه، فدس إليه باعتقال عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره مسعود بن ماساي، وأدار ابن الخطيب في ذلك مكره، وحمل السلطان عليهما إلى أن سطا بهما ابن الأحمر، واعتقلهما سائر أيام السلطان عبد العزيز، وتغير الجو بين ابن الأحمر ووزيره ابن الخطيب وأظلم وتنكر له، فنزع له إلى عبد العزيز سلطان المغرب سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة لما قدم من الوسائل ومهد من السوابق، فقبله السلطان وأحله من مجلسه محل الاصطفاء والقرب، وخاطب ابن الأحمر في أهله وولده فبعثهم إليه، واستقر في جملة السلطان، ثم تأكدت العداوة بينه

_ (1) تاريخ ابن خلدون 7: 337 وأزهار الرياض 1: 224. (2) واستخلصه ... الخطيب: سقطت من ص سهوا.

وبين ابن الأحمر، فرغب السلطان عبد العزيز في ملك الأندلس وحمله عليه، وتواعدوا لذلك عند رجوعه من تلمسان إلى المغرب، ونمي ذلك إلى ابن الأحمر، فبعث إلى السلطان عبد العزيز بهدية لم يسمع بمثلها انتقى فيها من متاع الأندلس وماعونها وبغالها الفارهة ومعلوجي السبي وجواريه، وأوفد بها رسله يطلب إسلام وزيره ابن الخطيب إليه، فأبى السلطان من ذلك ونكره. ولما هلك السلطان واستبد الوزير ابن غازي بالأمر تحيز إليه ابن الخطيب وداخله، وخاطبه ابن الأحمر بمثل ما خاطب به السلطان عبد العزيز، فلج واستنكف عن ذلك، وأقبح الرد وانصرف، رسوله إليه وقد رهب سطوته، فأطلق ابن الأحمر لحينه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وأركبه الأسطول، وقذف به إلى ساحل بطوية ومعه الوزير مسعود بن ماساي، ونهض - يعني ابن الأحمر - إلى جبل الفتح، فنازله بعساكره، ونزل عبد الرحمن ببطوية. ثم ذكر ابن خلدون كلاماُ كثيراً تركته لطوله، وملخصه (1) أن الوزير أبا بكر ابن غازي الذي كان تحيز إليه ابن الخطيب ولى ابن عمه محمد عثمان مدينة سبتة خوفاُ عليها من ابن الأحمر، ونهض هو - أعني الوزير - إلى منازلة عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ببطوية إذ كانوا قد بايعوه، فامتنع عليه، وقاتله أياماً ثم رجع إلى تازا، ثم إلى فاس، واستولى عبد الرحمن على تازا، وبينما الوزير أبو بكر بفاس يدبر الرأي إذ وصله الخبر أن ابن عمه محمد بن عثمان بايع السلطان أحمد بن أبي سالم، وهو المعروف بذي الدولتين، وهذه هي دولته الأولى، وذلك أن ابن عم الوزير وهو محمد بن عثمان لما تولى سبتة كان ابن الأحمر قد طاول حصار جبل الفتح، وأخذ بمخنقه وتكررت المراسلة بينه وبين محمد بن عثمان والعتاب، فاستعتب له، وقبح ما جاء به ابن عمه الوزير أبو بكر ابن غازي من الاستغلاظ له في شأن ابن الخطيب وغيره، فوجد ابن

_ (1) تاريخ ابن خلدون 7: 338 - 341 وأزهار الرياض 1: 226.

الأحمر في ذلك السبيل إلى غرضه، وداخله في البيعة لابن السلطان أبي سالم من الأبناء الذين كانوا بطنجة تحت الحوطة والرقبة، وأن يقيمه للمسلمين سلطاناً ولا يتركهم فوضى وهملاً تحت ولاية الصبي الذي لم يبلغ ولا تصح ولايته شرعاً، وهو السعيد ابن أبي فارس الذي بايعه الوزير أبو بكر ابن غازي بتلمسان حين مات أبوه واستبد عليه، واختص ابن الأحمر أحمد بن أبي سالم من بين أولئك الأبناء لما سبق بينه وبين أبيه أبي سالم من الموات، وكان ابن الأحمر اشترط على محمد بن عثمان وحزبه شروطاً: منها أن ينزلوا له عن جبل الفتح الذي هو محاصر له، وأن يبعثوا إليه جميع أبناء الملوك من بني مرين ليكونوا تحت حوطته، وأن يبعثوا إليه بالوزير ابن الخطيب متى قدروا عليه، فانعقد أمرهم على ذلك، وتقبل محمد بن عثمان شروطه، وركب من سبتة إلى طنجة، واستدعى أبا العباس أحمد من مكان اعتقاله فبايعه، وحمل الناس على طاعته، واستقدم أهل سبتة على البيعة وكتابتها فقدموا وبايعوا، وخاطب أهل جبل الفتح فبايعوا، وأفرج ابن الأحمر عنهم، وبعث إليه محمد بن عثمان عن سلطانه بالنزول له عن جبل الفتح، وخاطب أهله بالرجوع إلى طاعته، فارتحل ابن الأحمر من مالقة إليه، ودخله، ومحا دولة بني مرين مما وراء البحر، وأهدى للسلطان أبي العباس وأمده بعسكر من غزاة الأندلس، وحمل إليه مالاُ للإعانة على أمره. ولما وصل الخبر بهذا كله إلى الوزير أبي بكر ابن غازي قامت عليه القيامة، وكان ابن عمه محمد بن عثمان كتب إليه يموه بأن هذا عن أمره، فتبرأ من ذلك، ولاطف ابن عمه أن ينقض ذلك الأمر، فاعتل له بانعقاد البيعة لأبي العباس، وبينما الوزير أبو بكر ينتظر إجابة ابن عمه إلى ما رامه منه بلغه الخبر بأنه أشخص الأبناء المعتقلين كلهم إلى الأندلس، وحصلوا تحت كفالة ابن الأحمر، فوجم وأعرض عن ابن عمه، ونهض إلى تازا لمحاصرة عبد الرحمن ابن أبي يفلوسن، فاهتبل في غيبته ابن عمه محمد بن عثمان ملك المغرب ووصله مدد السلطان ابن الأحمر من رجال الأندلس الناشبة نحو ستمائة، وعسكر آخر من

الغزاة، وبعث ابن الأحمر رسالة إلى الأمير عبد الرحمن باتصال اليد مع ابن عمه ومظاهرته واجتماعهما على ملك فاس، وعقد بينهما الاتفاق على أن يختص عبد الرحمن بملك سلفه، فتراضيا. وزحف محمد بن عثمان وسلطانه إلى فاس، وبلغ الخبر إلى الوزير أبي بكر بمكانه من تازا، فانفض معسكره، ورجع إلى فاس، ونزل بكدية العرائس وانتهى السلطان أبو العباس احمد إلى زرهون، فصمد إليه الوزير بعساكره، فاختل مصافه، ورجع على عقبه مفلولاُ، وانتهب عسكره، ودخل البلد الجديد، وجأجأ بالعرب أولاد حسين فعسكروا بالزيتون ظاهر فارس، فنهض إليهم الأمير عبد الرحمن من تازا بمن كان معه من العرب الأجلاف، وشردهم إلى الصحراء، وشارف السلطان أبو العباس أحمد بجموعه من العرب وزناتة، وبعثوا إلى ولي دولتهم ونزمار ابن عريف بمكانه من قصره الذي اختطه بملوية، فجاءهم، وأطلعوه على كامن أسرارهم، فأشار عليهم بالاجتماع والاتفاق، فاجتمعوا بوادي النجا، وتحالفوا ثم ارتحلوا إلى كدية العرائس في ذي القعدة من سنة خمس وسبعين وبرز إليهم الوزير بعساكره، فانهزمت جموعه، وأحيط به، وخلص إلى البلد الجديد بعد غص الريق، واضطرب معسكر السلطان أبي البعباس بكدية العرائس ونزل الأمير عبد الرحمن بإزاءه، وضربوا على البلد الجديد سياجاً بالبناء للحصار، وأنزلوا بها أنواع القتال والإرهاب، ووصلهم مدد السلطان ابن الأحمر، فأحكموا الحصار، وتحكموا في ضياع الوزير ابن الخطيب بفاس، فهدموها وعاثوا فيها، ولما كان فاتح سنة ست وسبعين داخل محمد بن عثمان ابن عمه الوزير أبا بكر في النزول عن البلد الجديد والبيعة للسلطان، لكون الحصار قد اشتد به ويئس وأعجزه المال، فأجاب واشترط عليهم الأمير عبد الرحمن التجافي لهم عن أعمال مراكش بدل سجلماسة، فعقدوا له على كره، وطووا على المكر، وخرج الوزير أبو بكر إلى السلطان وبايعه، واقتضى عهده بالأمان وتخلية سبيله من الوزارة، ودخل السلطان أبو العباس إلى البلد

الجديد سابع المحرم، وارتحل الأمير عبد الرحمن يومئذ إلى مراكش، وستولى عليها، انتهى. [رواية ابن الأحمر] وقال حفيد السلطان ابن الأحمر في تاريخه ما صورته: لما لحق الرئيس أبو عبد الله ابن الخطيب بالمغرب عام اثنين وسبعين وسبعمائة، وكان من وفاة مجيره والمحامي عنه السلطان عبد العزيز ما ألمعنا بذكره، شد الوزير أبو بكر ابن غازي يده على ابن الخطيب بانياً على أشد الأشياء ألا يسلمه لمولانا جدنا مع توقع البغضاء، واقتدى هذا الوزير بالسلطان عبد العزيز في إعراضه عن العقود الموجهة من الأندلس بالمقذع من موبقات ابن الخطيب، ولج في الغلواء، وسجل موجبات الوفاء، والبواعث من مولانا جدنا تتزايد، والأساطيل تتجهز، والآراء بالقصد الخطير ينتقى منها الصواب ويتخير، حتى خيم مولانا جدنا بظاهر جبل الفتح، وكان إذ ذاك راجعاً إلى إيالة المغرب، فأناخ عليه كلكل الجيش، وأهمهم ثقل الوطأة ولم يبال مولانا جدنا بما أرسلت آناء الليل وأطراف النهار من شآبيب الأنفاط، والجوار من باب الشطائين قريب، والخالصة من الثقات مستريب، والنجاة من تلك الأهوال من الأمر الغريب، ولم يبق بغرناطة من له خلوص، ولا من تترامى به همة إلا وأعمل السير الحثيث ولحق بمولانا جدنا لحاق المحب بالحبيب، حتى أهل العلم، والرجاحة والحلم، ولا كالسيد الإمام الأستاذ أبي سعيد قطب الجملة، وعميد الملة، وهو الذي بلغنا نظمه في هذه الوجهة، وعندما ألقى عصا التسيار في الجهة القريبة من أولي العداوة، ومن ذلك قصيدته المشهورة التي أولها: يا جبل الفتح استملت نفوسنا ... فلا قلب إلا نحو مغناك قد سبق فأرسلت إذ جئناك فينا صواعقاً ... تخال بها جو السماء قد انطبق

وقوله في إجابة السفهاء من الهاتفين بالسور موطئاً معجباً رحمة الله تعالى عليه: وذموا وما يعنون إلا مذمماً ... وأنت بحمد الله تدعى محمداً وقول حامل اللواء الآتي ذكره في تضاعيف الأسماء: أما مرامك في عراض البيد ... فمبلغ ما شئت من مقصود والهجر إن ألقته ألسنة العدا ... يأباه فضل مقامك المحمود سحقاً لهم سفهاء كل قبيلة ... شذت مقالتهم عن المعهود قد ضلت الأحلام منهم رشدها ... هذا، ومنك الحلم غير بعيد مع عزمة لو شئت هدت كل ما ... قد أحكموا من معلم ومشيد إلى أن قال الخبر عن اجتماع الأميرين أبي العباس وأبي زيد متصاحبين وترافقين على استخلاص مدينة فاس من يد الوزير أبي بكر ابن غازي بن الكاس: وكتب الرئيس أبو عبد الله ابن زمرك في مخلص هذه الكائنة حث الوزير محمد ابن عثمان السير في وسط عام خمسة وسبعين وسبعمائة، وتلاقى بسلطانه أبي العباس مع الأمير أبي زيد عبد الرحمن، واستقلا بالطائلة، وحصلا من التضييق على السعيد الطفل الصغير وعلى وزيره أبي بكر ابن غازي في متسع الخطة ورحيب ذرع الخلافة، وتصالحا عن رضى وتسليم منهما ومن أشياعهما على تسليم السعيد إلى اللحاق بمن كان في طنجة من الأمراء، واتصل السلطان عبد الرحمن بمراكش، فكان ملكها وجابي أموالها، وتملك السلطان أبو العباس مدينة فاس وما والى البلاد الساحلة وسواها مما يحتوي عليه ملك المدينة البيضاء براً وبحراً. وعبر كاتب الدولة عن المدينة وعن الطفل متملكها بقوله: وإلى هذا فقد ارتفع الالتباس، واطرد القياس، وغير خفي عن ذي عقل سليم، وذي تفويض للحق وتسليم، أن دار الملك المريني كمامة بلا زهر، ورياض بلا نهر، إن لم يعتقد كرسيها، من يزين جيدها ويجيد حليها، وآن أوان البشرى لمن يمتعض

للدين، والآن قلادة التقوى منوطة بقلم أعلام الملوك المهتدين، ثم ذكر ما يطول من فصول، وربما اشتملت على فضول، وملخصه مثل ما ذكر ابن خلدون. [تتمة الخبر عن نهاية لسان الدين نقلاً عن ابن خلدون] ثم ساق قاضي القضاة ابن خلدون - بعد ما تقدم جلبه من تاريخه - الكلام على محنة لسان الدين ووفاته مقتولاً رحمه الله تعالى فقال ما صورته (1) : ولما استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد دار ملكه فاتح ست وسبعين استقل بسلطانه، والوزير محمد بن عثمان مستبد عليه، وسليمان بن داود بن أعراب كبير بني عسكر رديفه، وقد كان الشرط وقع بينه وبين السلطان ابن الأحمر - عندما بويع بطنجة - على نكبة الوزير ابن الخطيب وإسلامه إليه، لما نمي إليه عنه أنه كان يغري السلطان عبد العزيز بملك الأندلس، فلما زحف السلطان أبو العباس من طنجة ولقيه أبو بكر ابن غازي بساحة البلد الجديد، فهزمه السلطان ولازمه بالحصار، أوى معه ابن الخطيب إلى البلد الجديد خوفاً على نفسه، فلما استولى السلطان على البلد أقام أياماً، ثم أغراه سليمان بن داود بالقبض على ابن الخطيب، فقبضوا عليه، وأودعوه السجن، وطيروا بالخبر إلى السلطان ابن الأحمر، وكان سليمان بن داود شديد العداوة لابن الخطيب، لما كان سليمان قد بايعه السلطان ابن الأحمر على مشيخة الغزاة بالأندلس متى أعاده الله تعالى إلى ملكه، فلما استقر إليه سلطانه أجاز إليه سليمان سفيراً عن الوزير عمر بن عبد الله ومقتضياً عهده من السلطان، فصده الوزير ابن الخطيب عن ذلك، محتجاً بأن تلك الرياسة إنما هي لأعياص الملك من بني عبد الحق، لأنهم يعسوب زناتة، فرجع سليمان، وأثار حقد ذلك لابن الخطيب، ثم جاوز الأندلس لمحل إمارته من جبل الفتح فكانت تقع بينه وبين ابن الخطيب مكاتبات

_ (1) تاريخ ابن خلدون 7: 341 وأزهار الرياض 1: 229.

ينفث كل واحد منهما لصاحبه بما يحفظه مما كمن في صدورهما، وحين بلغ خبر القبض على ابن الخطيب إلى السلطان ابن الأحمر بعث كتابه ووزيره بعد ابن الخطيب، وهو أبو عبد الله ابن زمرك، فقدم على السلطان أبي العباس، وأحضر ابن الخطيب بالمشور (1) في مجلس الخاصة، وعرض عليه بعض كلمات وقعت له في كتابه في المحبة، فعظم النكير فيها، فوبخ ونكل وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك الملأ، ثم تل إلى محبسه، واشتوروا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجلة عليه، وأفتى بعض الفقهاء فيه، ودس سليمان بن داود لبعض الأوغاد من حاشيته بقتله، فطرقوا السجن ليلاً، ومعهم زعانفة جاؤوا في لفيف الخدم مع سفراء السلطان ابن الأحمر وقتلوه خنقاً في محبسه، وأخرج شلوه من الغد، فدفن بمقبرة باب المحروق، ثم أصبح من الغد على سافة (2) قبره طريحاً، وقد جمعت له أعواد، وأضرمت عليه نار، فاحترق شعره، واسود بشره، فأعيد إلى حفرته، وكان في ذلك انتهاء محنته، وعجب الناس من هذه الشنعاء التي جاء بها سليمان، واعتدوها من هناته، وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته، والله الفعال لما يريد. وكان - عفا الله تعالى عنه - أيام امتحانه بالسجن يتوقع مصيبة الموت فتجهش هواتفه بالشعر يبكي نفسه، ومما قال في ذلك رحمه الله تعالى: بعدنا وإن جاورتنا البيوت ... وجئنا بوعظ ونحن صموت وأنفاسنا سكنت دفعة ... كجهر الصلاة تلاه القنوت وكنا عظاماً فصرنا عظاماً ... وكنا نقوت فما نحن قوت وكنا شموس سماء العلا ... غربن فناحت علينا السموت فكم جدلت ذا الحسام الظبى ... وذو البخت كم جدلته البخوت

_ (1) تصحفت الكلمة في ق ص؛ والمشور: القصر لأنه موضع الشورى. (2) ق وابن خلدون والأزهار: شافة.

وكم سيق للقبر في خرقة ... فتى ملئت من كساه التخوت فقل للعدا ذهب ابن الخطيب ... وفات، ومن ذا الذي لا يفوت ومن كان يفرح منهم له ... فقل: يفرح اليوم من لا يموت انتهى كلام ابن خلدون في ديوان العبر. [عن ابن حجر] وقال الحافظ ابن حجر في " أنباء الغمر " بعد أن ذكر ما قدمناه على سبيل الاختصار، ما نصه: واشتهر أنه - يعني لسان الدين - نظم حين قدم للقتل الأبيات المشهورة التي يقول فيها: وقل للعداة مضى ابن الخطيب ... وفات فسبحان من لا يفوت فمن كان يشمت منكم به ... فقل: يشمت اليوم من لا يموت والصحيح في ذلك ما ذكره صديقه شيخنا ولي الدين ابن خلدون أنه نظم الأبيات المذكورة وهو في السجن، لما كان يستشعر من التشديد؛ انتهى. ثم حكى ابن حجر عن بعض الأعيان أن ابن الأحمر وجهه إلى ملك الإفرنج في رسالة، فلما أراد الرجوع أخرج له رسالة لابن الخطيب تشتمل على نظم ونثر، فلما قرأها قال له: مثل هذا كان ينبغي أن لا يقتل، ثم بكى حتى بل ثيابه؛ انتهى كلام الحافظ، وبعضه بالمعنى. فانظر - سددك الله تعالى - بكاء العدو الكافر على هذا العلامة، وقتل إخوانه في الإسلام له على حظ نفساني، ولا حول ولا قوة إلا باله العلي العظيم، لا رب غيره. [تخميس لأبيات لسان الدين] قلت: ورأيت بحضرة فاس - حاطها الله تعالى - تخميساً لهذه الأبيات بديعاً

منسوباً إلى بعض بني الصباغ، وزاد في الأصل بعض أبيات على ما ذكره ابن خلدون من هذه القطعة، والمزيد يشبه نفس لسان الدين ابن الخطيب، فلعل ابن خلدون اختصر منها، أو لم يقف على الزائد، ولنثبت جملته تتميماً للمقصود، فنقول: قال رحمه الله تعالى (1) : أيا جاهلاً غره ما يفوت ... وألهاه حال قليل الثبوت تأمل لمن بعض أنس يقوت (2) ... بعدنا وإن جاورتنا البيوت وجئنا بوعظ ونحن صموت ... لقد نلت من دهرنا رفعة ... تقضت كبرق مضى سرعة فهيهات نرجو لها رجعة ... وأصواتنا سكنت دفعة كجهر الصلاة تلاه القنوت ... بدا لي من العز وجه شباب ... يؤمل سيبي وبأسي يهاب فسرعان مزق ذلك الإهاب ... ومدت وقد أنكرتنا الثياب علينا نسائجها العنكبوت ... فآهاً لعز تقضى مناما ... منحنا به الجاه قوماً (3) كراما وكنا نسوس أموراً عظاما ... وكنا عظاماً فصرنا عظاما وكنا نقوت فها نحن قوت ...

_ (1) هذا التخميس في أزهار الرياض 1: 231. (2) الأزهار: يصوت. (3) الأزهار: دوما.

وكنا لدى الملك حلي الطلى ... فآهاً عليه زماناً خلا نعوض من جدة بالبلى ... وكنا شموس سماء العلا غربنا فناحت علينا السموت ... تعودت بالرغم صرف الليالي ... وحملت نفسي فوق احتمالي وأيقنت أني سوف يأتي ارتحالي ... ومن كان منتظراً للزوال فكيف يؤمل منه الثبوت ... هو الموت يا ما له من نبا ... يحوز الحجاب إلى من أبى ويألف أخذ سني الحبا ... فكم أسلمت ذا الحسام الظبى وذا البخت كم جدلته البخوت ... هو الموت أفصح عن عجمة ... وأيقظ بالوعظ من خفقة وسلى عن الحزن ذا حرقة ... وكم سيق للقبر من خرقة فتى ملئت من كساه التخوت ... تقضى زماني بعيش خصيب ... وعندي لذنبي انكسار المنيب وها الموت قد صبت منه نصيبي ... فقل للعدا ذهب ابن الخطيب وفات ومن ذا الذي لا يفوت ... مضى ابن الخطيب كمن قبله ... ومن بعده يقتفي (1) سبله وهذا الردى ناثر شمله ... فمن كان يفرح منهم له فقل: يفرح اليوم من لا يموت ...

_ (1) ق: يبتغي.

هو الموت عم فما للعدا ... يسرون بي حين ذقت الردى ومن فاته اليوم يأتي غدا ... سيبلى الجديد إذا ما المدى تتابع آحاده والسبوت ... أخي توخ طريق النجاة ... وقدم لنفسك قبل الممات وشمر بجد لما هو آت ... ولا تغترر بسراب الحياة فإنك عما قريب تموت ... وقد ذكرني قوله رحمه الله تعالى " فمن كان يفرح منهم له - إلى آخره " قول بعض العلماء الشاميين: يا ضاحكاً بمن استقل غباره ... سيثور عن قدميك ذاك العثير لا فارس بجنودها منعت حمى ... كسرى، ولا للروم خلد قيصر جدد مضت عاد عليه وجرهم ... وتلاه كهلان وعقب حمير وسطا بغسان الملوك وكندة ... فلها دماء عنده لا تثأر لعبت بهم فكأنهم لم يخلقوا ... ونسوا بها فكأنهم لم يذكروا [فصل في الاعتبار لابن دحية] وما أحسن قول أبي الخطاب ابن دحية الحافظ بعد كلام ما صورته (1) : وأخذت من طريق خوزستان إلى طريق حلوان، وقاسيت من الغربة أصناف الألوان، ومررت على مدائن كسرى أنوشروان، وزرت بها قبر صاحب النبي، صلى الله عليه وسلم، الزاهد العابد المعمر سلمان، وأعملت بها السير والإغذاذ، إلى مدينة بغذاذ، فنظرت إليها معالم وربوعاً، وأقمت بها مرة عاماً ومرة أسبوعاً وأسبوعا، وأنا ابدي في ندائهم وأعيد، والترب قد علا على منازلهم والصعيد، وأسأل عن الخلفاء الماضين وأنشد، ولسان الحال يجاوبني وينشد:

_ (1) انظر كتاب النبراس: 168.

يا سائل الدار عن أناس ... ليس لهم نحوها معاد مرت كما مرت الليالي ... أين جديس وأين عاد بل أين البشر آدم الذي خلقه بيده الكبير المتعال أين الأنبياء من ولده والأرسال، أهل النبوة والرسالة، والوحي من الله ذو الجلالة أين سيدهم محمد الذي فضله عليهم ذو العزة والجلال، وجعله شفيعهم مع أمته والناس في شدائد الأهوال أين القرون الماضية والأجيال أين التبابعة والأقيال أين ملوك همدان أين أولو الأبلق الفرد أو غمدان أين أولو التيجان والأكاليل أين الصيد والبهاليل بل أين النمارذة وأكبرهم نمروذ إبراهيم الخليل أين الفراعنة ومن هو بالسحر عليم، الذين منهم فرعون موسى الكليم أين ملك الهدنانية (1) هدد بن بدد الكردي، الذي لم يكن غدره بمفيد له ولا مجدي وقد أخبر الحق جل جلاله عنه أنه كان يأخذ كل سفينة غصباً، وزعم المؤرخون أنه كان أيضاً يملأ القلوب رعباً، ويسوم أصحابه قتلاً وصلباً، مع الطمع في المال، وعدم النظر في عقبى المال، أين الفرس وملوكهم، وعدلها وعدولها أين دارا بن بهمان أين إسكندر بن فلبس اليوناني الذي غلبه وملك بلاده في ذلك الزمان، وأطاعه جميع ملوك الأقاليم، وقدر به الله امتحان الخلق ذلك تقدير العزيز العليم أين كسرى وقيصر غلبهما من الموت الأسد القسور، بعد أن أخرجهما من بلادهما أمير المؤمنين أبو حفص عمر، لما ظهرت الملة الحنيفية كما ظهرت (2) الشمس وبدا القمر، أين أولاد جفنة وملوك غسان أين مماديح زياد وحسان أين هرم بن سنان أين الملاعب بالسنان أين أولاد مضر بن نزار بن معد بن عدنان أين بنو عبد المدان أين أرباب العواصم أين قيس بن عاصم أين العرب العرباء الأمة الفاضلة، والجماعة المناضلة أين أولو الباس والحفاظ، وذوو الحمية والإحفاظ حيث الوفاء والعهد،

_ (1) في ابن الأثير والتنبيه وابن حوقل: الهذبانية. (2) ق ص: ظهر.

والحباء والرفد، إلى علو الهمم، والوفاء بالذمم، والعطاء الجزل، والضيف والنزل، وهبة الافال والبزل، وإنها لا تدين عزاً ولا تقاد، ولا ترام أنفة ولا تفاد، أين قريش المغرورين في الجاهلية بالحي اللقاح، والشعب الرقاح أين الماضون من ملك بني أمية ذوو الألسن الذلق، والأوجه الطلق والحمية أين خلفاء بني العباس بن عبد المطلب، الذي شرفهم بالأصالة وليس إليهم بالمنجلب ذوو الشرف الشامخ، والفخر الباذخ، والخلافة السنية الرضية، والمملكة العامة المرضية، بلغتنا والله وفاتهم، ولم يبقى إلا ذكرهم وصفاتهم، قبض ملك الموت أرواحهم قبضاً، ولم يترك لهم حراكاً ولا نبضاً، ومزق الدود لحومهم قدداً، ووجدوا ما عملوا حاضرا ًولا يظلم ربك أحداً، إلا ما كان من أجساد الأنبياء عليهم أفضل التسليم، فإن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وقد تكلمت على هذا الحديث وأثبت أنه من الصحيح لا القسيم، وخرجت طرقه في كتابي " العلم المشهور " (1) بعون من العزيز الرحيم، فما أبعد المرء عن رشده وما أقصاه، كم وعظه الدهر وكم وصاه، يخلط الحقيقة بالمحال، والعاطل بالحال، ولا توبة حتى يشيب الغراب، ويألف الدم التراب، فيا لهفي لبعد الدار، وانقضاض الجدار، وأنت هامة ليل أو نهار، وقاعد من عمرك على شفا جرف هار، تقرأ العلم وتدعيه، ولا تفهمه ولا تعيه، فهو عليك لا لك، فأولى لك ثم أولى لك، أما آن لليل الغي أن تنجلي أحلاكه، ولنظم البغي أن تنتثر أسلاكه، وأن يستفظع الجاني جناه، ويأسف على ما اقترفه وجناه، وأن يلبس عهاده بتاً (2) ، ويطلق الدنيا بتاً، ويفر منها فرار الأسد، ويتيقن أنه بد من مفارقة الروح الجسد، نبهنا الله تعالى من سنات غفلاتنا، وحسن ما ساء من صنائعنا الذميمة وسلاتنا، وجعل التقوى أحصن عددنا وأوثق آلاتنا، اللهم إليك المآب، وبيدك المتاب، قد واقعنا الخطايا،

_ (1) هو العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور. (2) ق ص: ربتا.

وركبنا الأجرام رواحل ومطايا، فتب عينا أجمعين، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين الطائعين، وصلى الله على سيد ولد آدم محمد شفيعنا يوم القيامة، وصاحب الحوض المورود والمقام المحمود والكرامة، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه أهل الرضوان المنتخبين، وسلام الله عليه وعليهم إلى يوم الدين؛ انتهى وهو آخر كتابه " النبراس في تاريخ بني العباس " وذكرته بطوله لمناسبته. قلت: وقد سلكت هذا المنحى نظماً في خطبة هذا الكتاب كما مر، وللسان الدين رحمه الله تعالى كلام قريب من هذا سيأتي في نثره إن شاء الله تعالى. وأقول: إني قد تذكرت هنا قول القائل (1) : نطوي سبوتاً وآحاداً وننشرها ... ونحن في الطي بين السبت والأحد فعد ما شئت من سبت ومن أحد ... لا بد أن يخل المطوي في العدد وقول الآخر: ألم تر أن الدهر يوم وليلة ... يكران من سبت عليك إلى سبت فقل لجديد العيش لا بد من بلى ... وقل لاجتماع الشمل لا بد من شت [نبذة عن أعداء لسان الدين] واعلم أن لسان الدين لما كانت الأيام له مسالمة، لم يقدر أحد أن يواجهه بما يدنس معاليه أو يطمس معالمه، فلما قلبت الأيام له ظهر مجنها، وعاملته بمنعها بعد منحها ومنها، أكثر أعداؤه في شأنه الكلام، ونسبوه إلى الزندقة والانحلال من ربقة الإسلام، بتنقص النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، والقول بالحلول والاتحاد، والانخراط في سلك أهل الإلحاد، وسلوك مذاهب الفلاسفة في الاعتقاد، وغير ذلك مما أثاره الحقد والعداوة والانتقاد، مقالات نسبوها

_ (1) أزهار الرياض 1: 234.

إليه خارجة عن السنن السوي، وكلمات كدروا بها منهل علمه الروي، ولا يدين بها ويفوه إلا الضال الغوي، والظن أن مقامه رحمه الله تعالى من لبسها بري، وجنابه سامحه الله تعالى عن لبسها عري، وكان الذي تولى كبر محنته وقتله، تلميذه أبو عبد الله ابن زمرك الذي لم يزل مضمراً لختله، فلقد وقفت على خط ابن لسان الدين على أنه تسبب في قتل لسان الدين أبيه، وسيأتي الإلماع والإلمام (1) بابن زمرك المذكور في تلامذة لسان الدين، مع أنه - أعني لسان الدين - حلاه في الإحاطة أحسن الحلى، وصدقه فيما انتحله من أوصاف العلا، وقد سبق في كلام ولي الدين ابن خلدون أنه قدم على السلطان أبي العباس أحمد المريني في شأن الوزير ابن الخطيب، وأخرج إلى مجلس الخاصة، وامتحن والمجالس بالأعيان غاصة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومن أعداءه الذين باينوه بعد أن كانوا يسعون في مرضاته سعي العبيد، القاضي أبو الحسن ابن الحسن (2) النباهي، فكم قبل يده، ثم جاهره بعد انتقال الحال، وجد في أمره مع ابن زمرك حتى قتل لسان الدين، وانقضت دولته فسبحان من لا يتحول ملكه ولا يبيد. وقد سبق فيما جلبناه من كلام ابن خلدون أم القاضي ابن الحسن قدم على السلطان عبد العزيز في شأن لسان الدين والانتقام منه بسبب تلك السجلات وإمضاء حكم الله فيه بمقتضاها، فأبى السلطان من ذلك، وقال: هلا فعلتم أنتم ذلك حين كان عندكم وامتنع لذمته أن يخفره، فلما أراد الله بنفوذ الأمر، وعدم نفع زيد وعمرو، توفي السلطان عبد العزيز، واختلت الأحوال، واضطربت بالغرب نيران الأهوال، فقدم في شأنه الوزير الكاتب ابن زمرك خادمه الذي رباه وصنيعته، فكان ما كان مما سبق به الإلمام (3) .

_ (1) ق ص: إلا مع الإلمام، وهو يحرف. (2) ق ص: الحسين، وهو خطأ. (3) ق ص: بالإلمام.

وقد ذكرنا في الباب الأول قول لسان الدين رحمه الله تعالى في قصيدته النونية: تلون إخواني علي وقد جنت ... علي خطوب جمة ذات ألوان وما كنت أدري قبل أن يتنكروا ... بأن خواني كان مجمع خواني وكانت وقد حم القضاء صنائعي ... علي بما لا أرتضي شر أعوان ولقد صدق رحمه الله تعالى، على أنه قال هذه القصيدة في النكبة الأولى التي انتقل فيها مع سلطانه إلى المغرب، كما مر مفصلاً، وكأنه عبر عن هذه المحنة الأخيرة التي ذهبت فيها نفسه على يد صنائعه الكاتب ابن زمرك والقاضي ابن الحسن، سامح الله الجميع. ويرحم الله أبا إسحاق التلمساني صاحب الرجز في الفرائض حيث يقول: الغدر في الناس شيمة سلفت ... قد طال بين الورى تصرفها ما كل من قد سرت له نعم ... منك يرى قدرها ويعرفها بل ربما أعقب الجزاء بها ... مضرة عز عنك مصرفها أما ترى الشمس كيف تعطف بالنو ... ر على البدر وهو يكسفها وقال لسان الدين، بعد ذكره أن ملك النصارى دون جانجه بن دون الفنش استنصر على أبيه بالسلطان المجاهد أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني ولاذ به، ورهن عنده تاجه ذخيرة النصارى، ولقيه بصخرة عباد من أحواز رندة، فسلم عليه ويقال: إن أمير المسلمين لما فرغ من ذلك طلب بلسان زناتة الماء ليغسل يده به من قبلة الفنش أو مصافحته، ما نصه (1) : والشيء بالشيء يذكر، فأثبت حكاية اتفقت لي بسبب ذلك، أستدعي بها الدعاء ممن يحسن عنده موقعها، وهي أن اليهودي الحكيم ابن زرزار على عهد ملك النصارى حفيد هذا الفنش

_ (1) ورد هذا النص في أعمال الأعلام: 333.

المذكور وصل إلينا بغرناطة في بعض حوائجه، ودخل إلي بدار سكناي مجاور القصر السلطاني بحمراء غرناطة، وعندي القاضي اليوم بغرناطة وغيره من أهل الدولة، وبيده كتاب من سلطان المغرب محمد بن أبي عبد الرحمن ابن السلطان الكبير المولى أبي الحسن، وكان محمد هذا قد فر إلى صاحب قشتالة، واستدعي من قبله إلى الملك، فسهل له ذلك، واشترط عليه ما شاء، وربما وصله خطابه بما لم يقنعه في إطراءه، فقال لي: مولاي السلطان دن بطره يسلم عليك، ويقول لك: انظر مخاطبة هذا الشخص، وكان بالأمس كلباً من كلاب بابه، حتى ترى خسارة الكرامة فيه، فأخذت الكتاب من يده وقرأته، وقلت له: أبلغه عني أن هذا الكلام ما جرك إليه إلا خلو بابك من الشيوخ الذين يعرفونك بالكلاب وبالأسود، وبمن تغسل الأيدي منهم إذا قبلوها، فتعلم من الكلب الذي تغسل اليد منه ومن لا، وإن جد هذا الولد هو الذي قبل جدك يده واستدعى الماء لغسل يده منه بمحضر النصارى والمسلمين، ونسبة الجد إلى الجد كنسبة الحفيد إلى الحفيد، وكونه لجأ إلى بلادك ليس بعار عليه، وأنت معرض إلى اللجإ إليه فيكافئك بأضعاف ما عاملته به. فقام أبو الحسن المستقضي يبكي ويقبل يدي، ويصفني بولي الله، وكذلك من حضرني، وتوجه إلى المغرب رسولاً، فقص على بني مرين خبر ما شاهده مني وسمعه، وبالحضرة اليوم ممن تلقى منه ذلك كثير، جعل الله تعالى ذلك خالصاً لوجهه؛ انتهى. وقد أثنى لسان الدين في الإحاطة على القاضي ابن الحسن المذكور كما سيأتي، وقال في ترجمة السلطان ابن الأحمر ما نصه: ثم قدم للقضاء الفقيه الحسيب أبا الحسن، وهو عين الأعيان بمالقة، المخصوص برسم التجلة والقيام بالعقد والحل، فسدد وقارب، وحمل الكل، وأحسن مصاحبة الخطبة والخطة، وأكرم المشيخة مع النزاهة، ولم يقف في حسن التأتي على غاية، فاتفق على رجاحته، ولم يقف في النصح عند غاية، انتهى. وحين أظلم الجو بينه وبين لسان الدين ذكره في " الكتيبة الكامنة " بما يباين ما سبق، ولقبه بالجعسوس

ولم يقنعه ذلك حتى ألف فيه " خلع الرسن في وصف القاضي أبو الحسن ". [كتاب من النباهي إلى لسان الدين] وقد وقفت بفاس المحروسة على كتاب مطول كتبه للسان الدين بعد تحوله عن الأندلس، ونص ما تعلق به الغرض هنا (1) : فشرعتم في الشراء، وتشييد البناء، وتركتم الاستعداد لهاذم اللذات، هيهات هيهات تبنون ما لا تسكنون، وتدخرون ما لا تأكلون، وتؤملون ما لا تدركون {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} (النساء: 78) فأين المهرب مما هو كائن، ونحن إنما نتقلب في قدرة الطالب، شرقتم أو غربتم، الأيام تتقاضى الدين، وتنادي بالنفس الفرارة إلى أين إلى أين، ونترك الكلام مع الناقد في ما ارتكبه من تزكية نفسه، وعد ما جلبه من مناقبه، ما عدا ما هدد به من حديد لسانه، خشية اندراجه في نمط من قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه " ولا غيبة في من ألقى جلباب الحياء عن وجهه، ونرحمه (2) على ما أبداه أو أهداه من العيوب التي نسبها لأخيه، واستراح على قوله بها فيه، ونذكره على طريقة نصيحة الدين بالحديث الثابت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: " أتدرون من المفلس قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ".ويعلم الله أن معنى هذا الحديث الثابت

_ (1) راجع هذا الكتاب في أزهار الرياض 1: 212. (2) ق ص: وزحمه.

عن النذير الصادق، هو الذي حملني على نصحكم، ومراجعتكم في كثير من الأمور: منها الإشارة عليكم بإذهاب عين ما كتبتم به في التاريخ وأمثاله، فإنكم نفعتم فيما وقعتم فيه من الغيبة المحرمة أحياء وأموات بغير شيء حصل بيدكم وضررتم نفسكم بما رتبتم لهم من المطالبات بنص الكتاب والسنة قبلكم، والرضى بهذه الصفقة الخاسرة أمر بعيد من الدين والعقل. وقد قلت لكم غير مرة عن أطراسكم المسودة بما دعوتم إليه من البدعة والتلاعب بالشريعة إن حقها التخريق والتحريق، وإن من أطراها لكم فقد خدع نفسه وخدعكم، والله الشهيد بأني نصحتكم وما غششتكم، وليس هذا القول وإن كان ثقيلاً عليكم بمخالف كل المخالفة لما ذنبتم به من تقدم المواجهة بالملاطفة والمعاملة بالمكارمة، فليست المداراة بقادحة في الدين، بل هي محمودة في بعض الأحوال، مستحسنة على ما بينه العلماء، إذا هي مقاربة في الكلام أو مجاملة بأسباب الدنيا لصلاحها أو صلاح الدين، وإنما المذموم المداهنة، وهي بذل الدين لمجرد الدنيا، والمصانعة به لتحصيلها، ومن خالط للضرورة مثلكم، وزايله بأخلاقه ونصحه مخاطبة ومكاتبة، واستدل له بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على صحة مقالته، فقد سلم والحمد لله من مداهنته، وقام لله تعالى بما يجب عليه في حقكم من التحذير والإنكار مع الإشفاق والوجل. وأكثرتم في كتابكم من المن بما ذكرتم أنكم صنعتم، وعلى تقدير الموافقة لكم ليتكم ما فعلتم، فسلمنا من المعرة وسلمتم، وجل القائل سبحانه {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى، والله غني حليم} (البقرة: 263) وقلما شاركتم أنتم في شيء إلا بأغراض حاصلة في يدكم، ولأغراض دنيوية خاصة بكم، فالملام إذاً في الحقيقة إنما هو متوجه إليكم، والتعلل بأخبار قطركم وأهلكم، فتناقض منكم وإن كنتم فيه بغدركم:

أتبكي على ليلى وأنت تركتها ... فكنت كآت غيه وهو طائع وما كل ما منتك نفسك مخلياً ... تلاقي، ولا كل له أنت تابع فلا تبكين في إثر شيء ندامة ... إذا نزعته من يديك النوازع وعلى أن تأسفكم لما وقعتم فيه من الغدر لسلطانكم، والخروج لا للضرورة غالبة على أوطانكم، من الواجب بكل اعتبار عليكم، سيما وقد مددتم إلى التمتع بغيرها عينيكم، ولو لم يكن بهذه الجزيرة الفريدة من الفضيلة إلا ما خصت به من بركة الرباط ورحمة الجهاد لكفاها فخراً على ما يجاورها من سائر البلاد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم في ما سواه " وقال عليه الصلاة والسلام " الروحة يروحها العبد في سبيل الله والغدوة خير من الدنيا وما فيها " وعلى كل تقدير فإذا لم يكن يا أخي فراركم من الأندلس إلى الله وحد بالتوبة المكملة، والاستغفار من الانقطاع في أحد المواطن المكرمة المعظمة بالإجماع، وهي طيبة أو مكة أو بيت المقدس، فقد خسرتم صفقة رحلتكم، وتبين أن لغير وجه الله العظيم كانت نية هجرتكم، اللهم إلا إن كنتم قد لاحظتم مسألة الرجل الذي قتل مائة نفس، وسأل أعلم أهل الأرض فأشار إليه بعد إزماع التوبة بمفارقة المواطن التي ارتكب فيها الذنوب، واكتسب بها العيوب، فأمر آخر، مع أن كلام العلماء في هذا الحديث معروف. ويقال لكم من الجواب الخاص بكم: فعليكم إذاً بترك القيل والقال، وكسر حربة الجدال والقتال، وقصر ما بقي من مدة العمر على الاشتغال بصالح الأعمال. ووقعت في مكتوبكم كلمات أوردها النقد في قالب الاستهزاء والازدراء، والجهالة بمقادير الأشياء، ومنها " ريح صرصر " وهو لغة القرآن، و " قاع قرقر " وهو لفظ سيد العرب والعجم محمد صلى الله عليه وسلم، ثبت في الصحيح في باب التغلظ فيمن لا يؤدي زكاة ماله. قيل: يا رسول الله، والبقر والغنم قال، ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان

يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئاً، تنطحه بقرونها، وتطأه بأظلافها، الحديث الشهير. قال صاحب المعلم: بطح لها بقاع قرقر: أي ألقي على وجهه، والقاع: المستوي من الأرض، والقرقر: كذلك، هذا ما حضر من الجواب، وبقي في مكتوبكم حشو كثير من كلام إقذاع وفحش بعيد من الحشمة والحياء ورأيت من الصواب الإعراض عن ذكره، وصون اليد عن الاستعمال فيه، والظاهر أنه إنما صدر منكم وأنتم بحال مرض، فلا حرج فيه عليكم، أنسأ الله تعالى أجلكم، ومكن أمنكم، وسكن وجلكم، ومنه جل اسمه نسأل لي ولكم حسن الخاتمة، والفوز بالسعادة الدائمة، والسلام الأتم يعتمدكم، والرحمات والبركات من كاتبه علي بن عبد الله بن الحسن وفقه الله، وذلك بتاريخ أخريات جمادى الأولى من عام ثلاثة وسبعين وسبعمائة. وقيد رحمه الله تعالى في مدرج طي هذا الكتاب ما نصه: يا أخي - أصلحني الله وإياكم - بقي من الحديث شيء الصواب الخروج عنه لكم، إذ هذا أوانه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة فيه ما فيه، وليكون البناء بعد أن كان على أصل صحيح بحول الله، وحاصله أنكم عددتم ما شاركتكم فيه بحسب الأوقات، وقطعتم بنسبة الأمور كلها إلى أنفسكم، وأنها إنما صدرت عن أمركم وبإذنكم، من غير مشارك في شيء منها لكم، ثم مننتم بها المن القبيح المبطل لعمل برككم على تقدير التسليم في فعله لكم، ورميتم غيركم بالتقصير في حاله كله، طريقة من يبصر القذى في عين أخيه ويدع الجذع في عينه، وأقصى ما تسنى للمحب أيام كونكم بالأندلس تقلد كل فتى قضاء الجماعة، وما كان إلا أن وليتها بقضاء الله وقدره، فقد تبين لكل ذي عقل سليم أنه لا موجد إلا الله، وأنه إذا كان كذلك كان الخير والشر والطاعة والمعصية حاصلاً بإيجاده سبحانه وتعالى وتخليقه وتكوينه من غير عاضد له على تحصيل مراده ولا معين، ولكنه جلت قدرته وعد فاعل الخير بالثواب فضلاً منه، وأوعد فاعل الشر بالعقاب عدلاً منه، وكأني بكم تضحكون من تقرير هذه المقدمة، وما أحوجكم إلى

تأملها بعين اليقين، فكابدت أيام تلك الولاية النكدة من النكاية باستحقاركم للقضايا الشرعية، وتهاونكم بالأمور الدينية، ما يعظكم الله به الأجر، وذلك في جملة مسائل: منها مسألة ابن الزبير المقتول على الزندقة بعد تقضي موجباته على كره منكم، ومنها مسألة ابن أبي العيش المثقف في السجن على آراءه المضلة التي كان منها دخوله على زوجته إثر تطليقه إياها بالثلاث، وزعمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره مشافهة بالاستمتاع بها، فحملت أحد ناسكم تناول إخراجه من الثقاف من غير مبالاة بأحد، ومنها أن أحد الفتيان المتعلقين بكم توجهت عليه المطالبة بدم قتيل، وسيق المدعى عليه بالذبح بغير سكين، فما وسعني بمقتضى الدين إلا حبسه على ما أحمته السنة، فأنفتم لذلك، وسجنتم الطالب ولي الدم، ولا يجمل بي ولا بكم ذكره، والمسألة الأخرى أنتم توليتم كبرها حتى جرى فيها القدر بما جرى به من الانفصال، والحمد لله على كل حال، وأما الرمي بكذا وكذا مما لا علم لنا بسببه، ولا عذر لكم من الحق في التكلم به، فشيء قلما يقع مثله من البهيان ممن كان يرجو لقاء ربه، وكلامكم في المدح والهجو، هو عندي من قبيل اللغو، الذي نمر به كراماُ والحمد لله، فكثروا أو قللوا من أي نوع شئتم، أنتم وما ترضونه لنفسكم، وما فهت لكم بما فهت من الكلام، إلا على جهة الإعلام، لا على جهة الانفعال، لما صدر أو يصدر عنكم من الأقوال والأفعال، فمذهبي غير مذهبكم، وعندي غير ما ليس عندكم. وكذلك رأيتكم تكثرون في مخاطباتكم من لفظ الرقية في معرض الإنكار لوجود نفعها، والرمي بالمنقصة والحمق لمستعملها، ولو كنتم فد نظرتم في شيء من كتب السنة أو سير الأمة المسلمة نظر مصدق لما وسعكم إنكار ما أنكرتم، وكتبه بخط يدكم، فهو قادح كبير في عقيدة دينكم، فقد ثبت بالإجماع في سورة الفلق أنها خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه المراد بها هو وآحاد

أمته، وفي أمهات الإسلام الخمس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى رقاه جبريل، فقال: بسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، ومن شر كل ذي عين. وفي الصحيح أيضاً أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في سفر، فمروا بحي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فلم يضيفوهم، فقالوا: هل فيكم راق فإن سيد الحي لديغ، أو مصاب، فقال رجل من القوم: نعم، فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب، فبرئ الرجل، فأعطى قطيعاً من غنم - الحديث الشهير -. قال أهل العلم: فيه دليل على جواز أخذ الأجرة على الرقية والطب وتعليم القرآن، وهو قول مالك وأحمد والشافعي وأبي ثور وجماعة من السلف، وفيه جواز المقارضة، وإن كان ضد ذلك أحسن، وفي هذا القدر كفاية. وما رقيت قط أحداُ على الوجه الذي ذكرتم، ولا استرقيت والحمد لله، وما حملني على تبيين ما بينته الآن لكم في المسألة إلا إرادة الخير التام لجهتكم، والطمع في إصلاح باطنكم وظاهركم، فإني أخاف عليكم من الإفصاح بالطعن في الشريعة، ورمي علمائها بالمنقصة إلى عادتكم وعادة المستخف ابن هذيل شيخكم منكر علم الجزئيات، القائل بعدم قدرة الرب جل اسمه على جميع الممكنات. وأنتم قد انتقلتم إلى جوار أناس أعلام قلما تجوز عليهم - حفظهم الله - المغالطات، فتأسركم شهادة العدول التي لا مدفع لكم فيها، وتقع الفضيحة، والدين النصيحة، أعاذنا الله من درك الشقاء، وشماتة الأعداء، وجهد البلاء. وكذلك أحذركم من الوقوع بما لا ينبغي في الجناب الرفيع، جناب سيد المرسلين، وقائد الغر المحجلين، صلوات الله وسلمه عليه، فإنه نقل عنكم في هذا الباب أشياء منكرة، يكبر في النفوس التكلم بها، أنتم تعلمونها، وهي التي زرعت في القلوب ما زرعت من بغضكم وإيثار بعدكم، مع استشعار الشفقة والوجل من وجه أخر عليكم، ولولا أنكم سافرتم قبل تقلص ظل السلطنة عنكم لكانت الأمة المسلمة امتعاضاً لدينها ودنياها، قد برزت بهذه الجهات

لطلب الحق منكم، فليس يعلم أنه صدر عن مثلكم من خدام الدول ما صدر عنكم من العيث في الأبشار والأموال، وهتك الأعراض، وإفشاء الأسرار، وكشف الأستار، واستعمال المكر، والحيل والغدر، في غالب الأحوال للشريف والمشروف، والخديم والمخدوم، ولو لم يكن في الوجود من الدلائل على صحة ما رضيتم به لنفسكم من الاتسام بسوء العهد والتجاوز المحض وكفران النعم والركون إلى ما تحصل من الحطام الزائل إلا عملكم مع سلطانكم مولاكم وابن مولاكم أيده الله بنصره وما ثبت من مقالاتكم السيئة فيه وفي الكثير من أهل قطره لطفاكم وصمة لا يغسل دنسها البحر، ولا ينسى عارها الدهر، فإنكم تركتموه أولاً بالمغرب عند تلون الزمان، وذهبتم للكدية والأخذ بمقتضى المقامة الساسانية إلى أن استدعاه الملك، وتخلصت له بعد الجهد الأندلس، فسقطتم عليه سقوط الذباب على الحلواء، وضربتم وجوه رجاله بعضاً ببعض، حتى خلا لكم الجو، وتمكن الأمر والنهي، فهمزتم ولمزتم، وجمعتم من المال ما جمعتم، ثم وريتم بتفقد ثغر الجزيرة الخضراء، مكراً منكم، فلما بلغتم أرض الجبل انحرفتم عن الجادة، وهربتم بأثقالكم الهروب الذي أنكره عليكم كل من بلغه حديثكم أو يبلغه إلى آخر الدهر في العدوتين من مؤمن وكافر وبر وفاجر، فكيف يستقيم لكم بعد المعرفة بتصرفاتكم حازم، أويثق بكم في قول أو فعل صالح أو طالح ولو كان قد بقي لكم من العقل ما تتفكرون به في الكيفية التي ختمتم بها عملكم في الأندلس من الزيادة في المغرم وغير ذلك مما لكم وزره ووزر من عمل به بعدكم إلى يوم القيامة حسب ما ثبت في الصحيح لحملكم على مواصلة الحزن، وملازمة الأسف والندم على ما أوقعتم فيه نفسكم الأمارة من التورط والتنشب في أشطان الآمال ودسائس الشيطان، ونعوذ بالله من شرور الأنفس وسيئات الأعمال. وأما قولكم عن فلان إنه كان حشرة في قلوب اللوز وإن فلانا كان برغوثاً في تراب الخمول فكلام سفساف، يقال لكم من الجواب عليه: وأنتم يا هذا أين كنتم منذ خمسين سنة مثلاً خلق الله الخلق لا استظهاراً بهم

ولا استكثاراً، وأنشأهم كما قدر أحوالاً وأطوارا، واستخلفهم في الأرض بعد أمة أمماً وبعد عصر أعصاراً، وكلفهم شرائعه وأحكامه ولم يتركهم هملاً، وأمرهم ونهاهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وبكل اعتبار فلا نعلم في نمط الطلبة تدريجاً كان أسمج من تدريجكم، ونبدأ من كذا فإنه كان كذا وأكثر أهل زمانه تحملاً وتقللاً بالنسبة إلى منصبه كان الشيخ أبو الحسن ابن الجياب، ولكنه حين علم رحمه الله تعالى من نشأتكم وحالتكم ما علم نبذ مصاهرتكم وصرف عليكم صداقكم، وكذلك فعلت بنت جزي زوج الرهيصي معكم، حسبما هو مشهور في بلدكم، وذكرتم أنكم ما زلتم من أهل الغنى حيث نقرتم بذكر العرض - وهو بفتح العين والراء، حطام الدنيا على ما حكى أبو عبيد، وقال أبو زيد: هو، بسكون الراء، المال الذي لا ذهب فيه ولا فضة - وأي مال خالص يعلم لكم أو لأبيكم بعد الخروج من الثقاف على ما كان قد تبقى عنده من مجبى قرية مترايل (1) ثم من العدد الذي برز قبلكم أيام كانت أشغال الطعام بيدكم على ما شهد به الجمهور من أصحابكم، وأما الفلاحة التي أشرتم إليها فلا حق لكم فيها إذ هي في الحقيقة لبيت مال المسلمين، مع ما بيدكم على ما تقرر في الفقهيات، والمعدوم شرعاً كالمعدوم حساً، ولو قبل من أهل المعرفة بكم بعض ما لديهم من سقطاتكم في القال والقيل، ولم يصرف إلى دفع معرتها عنكم وجه التأويل، لكانت مسألتكم ثانية لمسألة أبو الخير، بل أبي الشر، الحادثة أيام خلافة الحكم، المسطورة في نوازل أبي الإصبع ابن سهل، فاعلموا ذلك، ولا تهملوا إشارتي عليكم قديماً وحديثاً بلزوم الصلوات، وحضور الجماعات، وفعل الخيرات، والعمل على التخلص من التبعات {إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} (لقمان: 33) .

_ (1) ق ص: منزايل.

" وقلم في كتابكم: " أين الخطط المتوارثة عن الآباء والأجداد وقد أذهب الله عنا ببركة الملة المحمدية عيبة الجاهلية في التفاخر بالأباء، ولكني أقول لكم على جهة المقابلة لكلامكم: إن كانت الإشارة إلى المجيب بهذا فمن المعلوم المتحقق عند أفاضل الناس أنه من حيث الأصالة أحد أماثل قطره، قال القاضي أبو عبد الله ابن عسكر (1) وقد ذكر في كتابه من سلفي فلان بن فلان، ما نصه: وبيته بيت قضاء وعلم وجلالة لم يزالوا يرثون ذلك كابراً عن كابر، استقضى جده المنصور ابن أبي عامر، وقال غيره وغيره، وبيدي من عهود الخلفاء وصكوك الأمراء المكتتبة بخطوط أيديهم من لدن فتح جزيرة الأندلس وإلى هذا العهد القريب ما تقوم به الحجة القاطعة للسان الحاسد والجاحد، والمنة لله وحده. وإن كانت الإشارة للغير من الأصحاب في الوقت حفظهم الله فكل واحد منهم إذا نظر إليه بعين الحق وجد أقرب منكم نسباً للخطط المعتبرة، وأولى بميراثها بالفرض والتعصيب أو مساوياً على فرض المسامحة لكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، حرام دمه وماله وعرضه ". ونرجع إلى طريقة أخرى فنقول: من كان يا فلان من قومكم في عمود نسبكم نبيهاً مشهوراً، أو كاتباً قبلكم معروفاً، أو شاعراً مطبوعاً، أو رجلاً نبيها ُ مذكوراً ولو كان يا لوشي وكان، لكان من الواجب الرجوع إلى التناصف والتواصل والتواضع، وترك التحاسد والتباغض والتقاطع: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ". وكذلك العجب كل العجب، من تسميتكم الخربات التي شرعتم في بنائها بدار السلامة، وهيهات هيهات، المعروف من الدنيا أنها دار بلاء وجلاء وعناء وفناء، ولو لم يكن من الموعظة الواقعة بتلك الدار في الوقت إلا موت سعيدكم عند دخولها، لأغناكم عن العلم اليقين بمآلها. وأظهرتم سروراً كثيراً بما قلتم إنكم نلتم، حيث أنتم، من الشهوات التي

_ (1) هو محمد بن علي بن هارون الغساني (- 636) ، والإشارة إلى كتاب له عن تاريخ مالقة.

ذكرتم أن منها الإكثار من الأكل والخرق والقعود بإزاء جارية الماء على نطع الجلد، والإمساك أولى بالجواب على هذا الفصل، فلا خفاء بما فيه من الخسة والخبائث والخبث، وبالجملة فسرور العاقل إنما ينبغي أن يكون بما يجمل تقدمه من زاد التقوى بالدار الباقية، فما العيش - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلا عيش الآخرة، فقدموا إن قبلتم وصاة الحديد أو البغيض بعضاً عسى أن يكون لكم، ولا تخلفوا كلاُ يكون عليكم، هذا الذي قلته لكم، وإن كان لدى من يقف عليه من نمطه الكثير، فهو باعتبار المكان وما مر من الزمان في حيز اليسير، وهو في نفسه قول حق وصدق، ومستند أكثره كتاب الله وسنة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى سائر أنبيائه. فاحمدوا الله العلي العظيم على تذكيركم به إذ هو جار مجرى النصيحة الصريحة، يسرني الله وإياكم لليسرى، وجعلنا ممن ذكر فانتفع بالذكرى، والسلام. انتهى كلام القاضي ابن الحسن النباهي في كتابه الذي خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى. [ظهير من إنشاء لسان الدين بتولية النباهي خطة القضاء] وأين هذا الكلام الذي صدر من ابن الحسن في حقه من إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى في تولي ابن الحسن المذكور القضاء، وهو: هذا ظهير كريم أنتج مطلوب الاختيار قياسه، ودل على ما يرضي الله عز وجل التماسه، وأطلع نور العناية الذي يجلو الظلام نبراسه، واعتمد بمثابة العدل من عرف بافتراع هضبتها ناسه، وألقى بيد المعتمد به زمام الاعتقاد الجميل تروق أنوعه وأجناسه، وشيد مبنى العز الرفيع، في قبة الحسب المنيع، وكيف لا والله بانيه، والمجد أساسه، أمر به وأمضى العمل بمقتضاه وحسبه أمير المسلمين عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر - أيد الله أوامره، وخلد مفاخره - لقاضي حضرته العلية، وخطيب حمرائه السنية، المخصوص لديه بترفيع المزية

المصروف إليه خطاب القضاة بإيالته النصرية، قاضي الجماع، ومصرف الأحكام الشرعية المطاعة، الشيخ الكذا أبي الحسن ابن الشيخ كذا أبي محمد ابن الحسن - وصل الله سعادته، وحرس مجادته، وسنى بفضله إرادته - عصب منه جبين المجد بتاج الولاية، وأجال قداح الاختيار حتى بلغ الغاية وتجاوز النهاية، ما ألقى منه بيمين عرابة الراية، وأحله منه محل الفظ من المعنى والإعجاز من الآية، وحشر إلى مدعاة ترفيعه وجوه البر وأعيان العناية، وأنطق بتبجيله، ألسن أهل جيله، بين الإفصاح والكناية، ولما كان له الحسب الأصيل الذي شهدت به ورقات الدواوين، والأصالة التي قامت عليها صحاح البراهين، والآباء الذين اعتد بمضاء قضائهم الدين وطبق مفاصل الحكم بسيوفهم الحق المبين، وازدان بمجالسة وزرائهم السلاطين، فمن فارس حكم أو حكيم تدبير، وقاض في الأمور الشرعية ووزير، أو جامع بينهما جمع سلامة لا جمع تكسير، تعدد ذلك واطرد، ووجد مشرع المجد عذباً فورد، وقصرت النظراء عن مداه فانفرد، وفرى الفري في يد الشرع فأشبه السيف البرد، وجاء في أعقابهم محيياً لما درس، بما حقق ودرس، جانياً لما بذر السلف المبارك واغترس، طاهر النشأة وقورها، محمود السجية مشكورها، متحلياً بالسكينة، حالاً من لدن الكون، فخطبته الخطط العلية، واغتبطت به المجابة الأولية، واستعملته دولته التي ترتاد أهل الفضائل للرتب، واستظهرت على المناصب بأبناء التقى والحسب، والفضل والمجد والأدب، ممن يجمع بين الطارف والتالد والإرث والمكتسب، فكان معدوداً من عدول قضاتها، وصدور نبهائها، وأعيان وزرائها، وأولي آرائها، فلما زان الله تعالى خلافته بالتمحيص المتحلى من التخصيص، وخلص ملكه الأصيل كالذهب الإبريز بعد التخليص، كان ممن

صحب ركابه الطالب للحق بسيف الحق، وسلك في مظاهرته أوضح الطرق، وجادل من حاده بأمضى من الحداد الذلق، واشتهر خبر وفائه في الغرب والشرق، وصلى به صلاة السفر والحضر، والأمن والحذر، وخطب به في الأماكن التي بعد بذكر الله عهدها، وخاطب عنه - أيده الله تعالى - المخاطبات التي حمد قصدها، حتى استقل ملكه فوق سريره، وابتهج منه الإسلام بأميره وابن أميره، ونزل الستر على العباد والبلاد ببركة إيالته ويمن تدبيره، وكان الجليس المقرب المحل، والحظي المشاور في العقد والحل، والرسول المؤتمن على الأسرار، والأمين على الوظائف الكبار، مزين المجلس السلطاني بالوقار، ومتحف الملك بغريب الأخبار، وخطيب منبره العالي في الجمعات، وقارئ الحديث لديه في المجتمعات. " ثم رأى آيه الله تعالى أن يشرك رعيته في نفعه، ويصرف عوامل الحظوة على مزيد رفعه، ويجلسه مجلس الشارع صلوات الله عليه لإيضاح شرعه، وأصله الوثيق وشرعه، وقدمه أعلى الله تعالى قدمه، وشكر آلاءه ونعمه، قاضياً في الأمور الشرعية، وفاصلاً في القضايا الدينية، بحضرة غرناطة العلية، تقديم الاختيار والانتقاء، وأبقى له فخر السلف على الخلف والله سبحانه يمتعه بطول البقاء، فليتول ذلك عادلاً في الحكم، مهتدياً بنور العلم، مسوياً بين الخصوم حتى في لحظه والتفاته، متصفاً من الحلم بأفضل صفاته، مهيباً في الدين، رؤوفاً بالمؤمنين، جزلاً في الأحكام، مجتهداً في الفصل بأمضى حسام، مراقباً لله عز وجل، في النقد والإبرام. وأوصاه بالمشورة التي تقدح زناد التوفيق، والتثبت حتى ينتج قياس التحقيق، باراً بمشيخة أهل التوثيق، عادلاُ إلى سعة الأقوال عند المضيق، سائراً من مشورة المذهب على أهدى طريق، وصية أصدرها له مصدر الذكرى التي تنفع، ويعلي الله بها الدرجات ويرفع، وإلا فهو عن الوصاة غني، وقصده قصد سني، والله عز وجل ولي إعانته، والحارس من التبعات أكناف ديانته

والكفيل بحفظه من الشبهات وصيانته. وأمر آيه الله تعالى أن ينظر في الأحباس على اختلافها، والأوقاف على شتى أصنافها، واليتامى التي انسدلت كفالة القضاة على إضعافها، فيذود عنها طوارق الخلل، ويجري أمورها بما يتكفل لها بالأمل، وليعلم أن الله عز وجل يراه، وأن فلتات الحكم تعاوده المراجعة في أخراه، فيدرع جنة تقواه، وسبحان من يقول " إن الهدى هدى الله ". " فعلى من يقف عليه أن يعرف أمر هذا الإجلال، صائنا منصبه من الإخلال، مبادراً أمره الواجب بالامتثال، بحول الله. وكتب في الثالث من شهر الله المحرم، فاتح عام أربعة وستين وسبعمائة، عرف الله سبحانه فيه هذا المقام العلي عوارف النصر المبين والفتح القريب بمنه وكرمه فهو المستعان لا رب غيره "، انتهى. [ظهير من إنشاءه بتولية ابن زمرك كتابة السر] ونظير هذا ما أنشأه لسان الدين على لسان سلطانه للكاتب أبي عبد الله ابن زمرك حين تولى كتابة السر، ونصه: هذا ظهير كريم نصب المعتمد به للأمانة الكبرى ببابه فرفعه، وأفرد له متلو العز وجمعه، وأوتره وشفعه، وقربه في بساط الملك تقريباً فتح له باب السعادة وشرعه، وأعطاه لواء القلم الأعلى فوجب على من دون رتبته من أولي صنعته أن يتبعه، ورعى له وسيلة السابقة عند استخلاص الملك لما ابتزه الله من يد الغاصب وانتزعه، وحسبك من زمام (1) لا يحتاج إلى شيء معه، أمر به أمير المسلمين محمد نب كذا الكذا فلان، وصل الله سعادته، وحرس مجادته، أطلع الله تعالى له وجهة العناية أبهى من الصبح الوسيم، وأقطعه جناب الإنعام الجسيم، وأنشقه آراج الحظوة عاطرة النسيم، ونقله من كرسي التدريس والتعليم، إلى

_ (1) ق ص: ذمام.

مرقى التنويه والتكريم، والرتبة التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وجعل أقلامه جياداً لإجالة أمره العلي، وخطابه السني، في ميدان الأقاليم، ووضع في يده أمانة القلم الأعلى، جارياً من الطريقة المثلى، على المنهج القويم، واختصه بمزية الشفوف على كتاب بابه والتقديم، لما كان ناهض الفكر في طلبة حضرته زمن البداية، ولم تزل تظهر عليه بأولي التمييز مخايل هذه العناية، فإن حضر في حلق العلم جلى في حلبة الحفاظ إلى الغاية، وإن نظم أو نثر أتى بالقصائد المصقولة، والمخاطبات المنقولة، فاشتهر في بلده وغير بلده، وصارت أزمة العناية طوع يده، بما أوجب له المزية في يوم وغده. وحين رد الله عليه ملكه الذي جبر به جناح الإسلام، وزين وجوه الليالي والأيام، وأدال الضياء من الظلام، كان ممن وسمه الوفاء وشهره، وعجب الملك عود خلوصه وخبره، فحمد أثره، وشكر ظاهره ومضمره، واستصحب على ركابه الذي صحب اليمن سفره، وأخلصت الحقيقة نفره، وكفل الله ورده وصدره، ميمون النقيبة، حسن الضريبة، صادقاً في الأحوال المريبة، ناطقاً عن مقامه بالمخاطبات العجيبة، واصلاً إلى المعاني البعيدة العبارة القريبة، مبرزاً في الخدم الغريبة، حتى استقام العماد، ونطق بصدق الطاعة الحي والجماد، ودخلت في دين الله أفواج العباد والبلاد، لله الحمد على نعمه الثرة العهاد، وآلائه المتوالية الترداد، رعى له أيد الله هذه الوسائل وهو أحق من يرعاها، وشكر له الخدم المشكور مسعاها، فنص (1) عليه الرتبة الشماء التي خطبها بوفائه، وألبسه أثواب اعتناءه، وفسح له مجال آلائه، وقدمه، أعلى الله قدمه، كاتب السر، وأمين النهي والأمر، تقديم الاختيار بعد الاختبار، والاغتباط بخدمته الحسنة الآثار، وتيمن باستخدامه قبل الحلول بدار الملك والاستقرار، وغير ذلك من موجبات الإكبار.

_ (1) ق ص: فقص.

فليتول ذلك عارفاً بمقداره، متقفياً لآثاره، مستعيناً بالكتم لأسراره، والاضطلاع بما يحمد من أمانته وعفافه ووقاره، معطياً هذا الرسم حقه من الرياسة، عارفاً بأنه أكبر أركان السياسة، حتى يتأكد الاغتباط بتقريبه وإدانته، وتتوفر أسباب الزيادة في إعلائه، وهو إن شاء الله غني عن الوصاة فهماً ثاقباً يقتدى بضيائه، وهو يعمل في ذلك أقصى العمل، المتكفل ببلوغ الأمل. وعلى من يقف عليه من حملة الأقلام، والكتاب الأعلام، وغيرهم من الكافة والخدام، أن يعرفوا قدر هذه العناية الواضحة الأحكام، والتقديم الراسخ الأقدام ويوجب ما أوجب من البر والإكرام، والإجلال والإعظام، بحول الله، وكتب في كذا، انتهى. فانظر صانني الله وإياك من الأغيار، وكفانا شر من كفر الصنيعة التي هي على النقص عنوان ومعيار، إلى حال الوزير لسان الدين ابن الخطيب مع هذين الرجلين، القاضي ابن الحسن والوزير ابن زمرك الذين تسببا في هلاكه حتى صار أثراً بعد عين، مع تنويهه بهما في هذا الإنشاء وغيره، وتفيئهما - كما هو معلوم - ظلال خيره، فقابلاه بالغدر، وأظهرا عند الإمكان حقد القلب وغل الصدر، وسددا لقتله سهاماً وقسياً، وصيرا سبيل الوفاء نسياً منسياً، ولا حول ولا قوة إلا بالله. [ظهير ثالث بإضافة الخطابة إلى القضاء للنباهي] ومن إنشاء لسان الدين في حق القاضي ابن الحسن أيضاً - حين أضيفت إليه الخطابة إلى القضاء - على لسان سلطانه: هذا ظهير كريم أعلى رتبة الاحتفاء اختياراً واختباراً، وأظهر معاني الكرامة والتخصيص انتقاء واصطفاء وإيثار، ورفع لواء الجلالة على من اشتمل عليه حقيقة واعتباراً، ورقى في درجات العز من طاولها على بهر أنوار، وديناً

كرم في الصالحات آثاراً، وزكا في الأصالة نجاراً، وخلوصاً إلى هذا المقام العلي السعيد الذي راق إظهاراً وإضماراً، أمر به وأمضاه، وأنفذ حكمه ومقتضاه، أمير المسلمين عبد الله محمد، إلى آخره، للشيخ الكذا القاضي العدل الأرضى قاضي الجماعة، وخطيب الحضرة العلية، المخصوص لدى المقام العلي بالحظوة السنية، والمكانة الحفية، الموقر الفاضل، الحافل الكامل، المبرور أبي الحسن ابن الشيخ الفقيه الوزير الأجل، الأعز الماجد الأسنى المرفع الأحفل، الأصلح المبارك الأكمل، الموقر المبرور المرحوم أبي محمد ابن الحسن، - وصل الله عزته، ووالى رفعته ومبرته، ووهب له من صلة العناية الرانية أمله وبغيته، - لما أصبح في صدور القضاة العلماء مشاراً إلى جلاله، مستنداً إلى معرفته المخصوصة بكماله، مطرزاً على الإفادة العلمية والأدبية بمحاسنه البديعة وخصاله، محفوفاً مقعد الحكم النبوي ببركة عدالته وفضل خلاله، وحل في هذه الحضرة العلية المحل الذي لا يرقاه إلا عين الأعيان، ولا يثوي مهاده إلا مثله من أبناء المجد الثابت الأركان، ومؤملي العلم الواضح، والمبرزين بالمآثر العلية في الحسن والإحسان، وتصر لقضاة الجماعة فصدرت عنه الأحكام الراجحة الميزان، والأنظار الحسنة الأثر والعيان، والمقاصد التي وفت بالغاية التي لا تستطاع في هذا الميدان - فكم من قضية جلا بمعارفه مشكلها، ونازلة مبهمة فتح بإدراكه مقفلها، ومسألة عرف نكرتها وقرر مهملها، حتى قرت بعدالته وجزالته العيون، وصدقت فيه الآمال الناجحة والظنون، وكان في تصديره لهذه الولاية العظمى من الخير والخيرة ما عسى أن يكون، كان أحق بالتشفيع لولايته الأولى، وأجدر بمضاعفة النعم التي لا تزال تترادف على قدره الأعلى، فلذلك أصدر له أيده الله هذا الظهير الكريم مشيداً بالترفيع والتنويه، ومؤكداً للاحتفاء الوجيه، وقدمه، أعلى الله قدمه، وشكر نعمه، خطيباً بالجامع الأعظم من حضرته، مضافاُ ذلك إلى ولايته ورفيع منزلته، مرافقاً لمن في الجامع الأعظم - عمره الله بذكره - من علية الخطباء، وكبار العلماء، وخيار النبهاء الصلحاء، فليتداول ذلك في جماعته

مظهراً في الخطة أثر بركاته وحسناته، عاملاُ على ما يقربه عند الله من مرضاته، ويظفره بجزيل مثوباته، بحول الله وقوته؛ انتهى. فهذا ثناء لسان الدين المرحوم على القاضي ابن الحسن، وإشادته بذكره، وبإشارته وتدبيره ولي قضاء القضاة وخطابة الجامع الأعظم بغرناطة، وهذان المنصبان لم يكن في الأندلس في ذلك الزمان من المناصب الدينية أجل منهما. ولما حصل لسان الدين رحمه الله تعالى ما حصل من النفرة في الأندلس، وإعمال الحيلة في الانفصال عنها، لعلمه أن سعايات ابن زمرك وابن الحسن ومن يعضدهما تمكنت فيه عند سلطانه، خلص منها على الوجه الذي قدمناه، وشمر القاضي ابن الحسن عن ساعد أذيته، والتسجيل عليه بما يوجب الزندقة، كما سبق جميعه مفصلاُ، فحين إذ أطلق لسان الدين عنان قلمه في سب المذكور وثلبه، وأورد في كتابه الكتيبة الكامنة في أبناء المائة الثامنة من مثالبه ما أنسى ما سطره صاحب القلائد في ابن باجة المعروف بابن الصائغ - حسبما نقلنا ذلك، أعني كلام الفتح، في غير هذا الموضع - ولم يقتنع بذلك حتى ألف الكتاب الذي سماه خلع الرسن، كما ألمعنا به فيما سبق، والله سبحانه يتجاوز عن الجميع بمنه وكرمه. [نماذج من براعة لسان الدين في القدح] واعلم أن لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى الغاية في المدح والقدح، فتارة على طريق الترسل، وطوراً على غيرها، وقد أقذع وبالغ رحمه الله تعالى في هجو أعدائه بما لا تحتمله الجبال، وهو أشد من وقع النبال، ومنه ما وصف به الوزير، الذي كان استوزره السلطان إسماعيل بن الأحمر الثائر على سلطان ابن الخطيب، حسبما سبق الإلمام بذلك، والوزير هو إبراهيم بن أبي الفتح الأصلع الغوي، إذ قال في المذكور وفي ابن عمه محمد بن إبراهيم بن أبي الفتح العقرب

الردي، بعد كلام، ما صورته: وما ظنك برجل مجهول الجد، موصوم الأبوة إلى أن قال: تنور خبز، وبركة مرقة، وثعبان حلواء وفاكهة، مغي في شح النفس، متهالك في مسترذل الطبع [ ... ] (1) ، عليه العذيوط (2) الغبي ابن عمه بسذاجة، زعموا، مع كونه قبيح الشكل، بشيع الطلعة، إلى أن قال: وفي العشر الأول من رمضان عام واحد وستين وسبعمائة تقبض على الوزير المشؤوم، وابن عمه الغوي الغشوم، وولد الغوي مرسل الظفيرة أبعد الناس في مهوى الاغترار يختال في السرق والحلية (3) ، سم من سم القوارير، وابتلاء من الله لذوي الغيرة، يروح نشوان العشيات، يرقص بين يديه ومن خلفه عدد من الأخلاف (4) ، يعاقرون النبيذ في السكك الغاصة، وولد العقرب الردي بضده قماءة وتقطباً، تنهوا عنهما العيون، ويبكي منهما الخز، كأنهما صمتاً عند المحاورة وإظلاماً عند اللألاء، من أذلاء بني النضير، ومهتضمي خيبر، فثقفا ملياً، وبودر بهما إلى ساحل المنكب. قال المخبر: فما رأيت منكوبين أقبح شكلاُ، ولا أفقد صبراُ، من ذينك التيسين الحبقين، صلع الرؤوس، ضخام الكروش، مبهوري الأنفاس، متلجلجي الألسنة، قد ربت بمحل السيف من عنق كل جبار منهما شحمة أترجية كأنها سنام الحوار، لا يثيرون دمعاً، ولا يستنزلون رحمة، ولا يمهدون عذراً، ولا يتزودون من كتاب الله آية، قد طبع الله على قلوبهم، وأخذهم ببغيهم، وعجل لهم سوء سعيهم. وللحين أركبوهم وجراءهم - يعني أولادهم - في جفن غزوي (5) تحف بهم المساعير من الرجال، واقتفى بهم أثر قرقورة تحمل حاجاً إلى الإسكندرية تورية بالقصد، فلما لججوا قذف بهم في لجة بعد استخلاص

_ (1) بياض بمقدار كلمة في ص. (2) العذيوط: الذي يسلح حين ينزل أثناء المباشرة. (3) ق: في السرق والحرير والحلية؛ والسرق هو الحرير. (4) الأخلاف: جمع خلف وهو الرديء الذي لا خير عنده. (5) أي سفينة حربية.

ما ضبثوا به (1) ، وتلكأ الأصلع الغوي فأثبت بجراحة أشعر بها هديه، واختلط العقرب الردي فنال من جناب الله سخطاً وضيقاً، تعالى الله عن نكيره، فكان فرعون هذا الزمان جبروتاً وعتواُ وميتة، عجل الله لهم العذاب، وأغرقهم في اليم. فانظر كيف كان عاقبة الظالمين، فسبحان من لا تضيع الحقوق مع عدله، ولا تنفسخ الآماد مع منازعة رداء كبريائه، مرغم الأنوف، وقاطع دابر الكافرين، وفي ذلك أقول مستريحاً وإن لم يكن - علم الله تعالى - شاني، ولا تكرر في ديواني: وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ... ولكن من يبصر جفونك يعشق (2) ومن أمثالهم " من استغضب فلم يغضب فهو حمار " والله سبحانه يقول ومن أصدق من الله قيلا " وجزاء سيئة سيئة مثلها " والعفو أقرب للتقوى والقرب والبعد بيده سبحانه. وصدرت هذه الكلمة لحين تعرف إجلائهم في الجفن إلى الإسكندرية، وبعد ذلك صح هلاكهم: كن من صروف الردى على حذر ... لا يقبل الدهر عذر معتذر ولا تعول فيه على دعة ... فأنت في قلعة وفي سفر فكل ري يفضي إلى ظمإ ... وكل آمن يدعو إلى غرر كم شامخ الأنف ينثني فرحاً ... بال عليه زمانه وخري قل للوزير البليد قد ركضت ... في ربعك اليوم غارة الغير يا ابن أبي الفتح نسبة عكست ... فلا بفتح أتت ولا ظفر وزارة لم يجد مقلدها ... عن شؤمه في الوجود من وزر في طالع النحس حزت رتبتها ... وكل شيء في قبضة القدر

_ (1) ضبثوا به: قبض عليهم بسببه. (2) البيت للمتنبي من قصيدته " لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ".

أي اختبار لم تأل نصبته ... في جسد للنحوس أو نظر بات له المشتري على غير ... وأحرقت فيه قرصة القمر يا طللاً ما عليه من عمل ... يا شجراً ما لديه من ثمر يا مفرط الجهل والغباوة لا ... يحسب إلا من جملة البقر يا دائم الحقد والفظاظة لا ... يفرق بين ظالم وبري يا كمد اللون ينطفي كمداً ... من حسد يستطير بالشرر يا عدل سرج يا دن مقتعد ... ملآن من ريبة ومن قذر يا واصلاً للجشاء ناشئة اللي ... ل ورب الضراط في السحر من غير لب ولا مراقبة ... لله في مورد ولا صدر يا خاملاً جاهه الفروج يرى ... صهر أولي الجاه فخر مفتخر كانوا نبيطاً في الأصل أو حبشاً ... ما عنده عبرة بمعتبر يا ناقص الدين والمروءة والعق ... ل ومجري اللسان بالهذر يا ولد السحق غير مكتم ... حديثه، يا ابن فاسد الدبر يا بغل طاحونة يدور بها ... مجتهد السير مغمض البصر في أشهر عشرة طحنتهم ... فيها رحى الشؤم والبوار در والله ما كنت يا مشوم ولا ... أنت سوى عرة من العرر ومن أبو الفتح في الكلاب وهل ... لجاه في الأنام من خطر قد ستر الدهر منك عورته ... وكان لليوم غير مستتر حانوت بز يمشي على فرش ... وثور عرس يختال في حبر لا منة تتقى لمعترك ... ولا لسان يبين عن خبر ولا يد تنتمي إلى كرم ... ولا صفاء يريح من كدر عهدي بذلك الجبين قد ملئت ... غضونه الغبر بالدم الهدر

عهدي بذلك القفا الغليظ وقد ... مد لوقع المهند الذكر أهدتك للبحر كف منتقم ... ألقتك للحوت كف مقتدر يا يتم أولادك الصغار ويا ... حيرتهم بعد ذاك في الكبر يا ثكل تلك الصماء أمهم ... وظاعن الموت غير منتظر والله لا نال من تخلفه ... من أمل بعدها ولا وطر والله يا مسخفان لا انتقلت ... رجلك منها إلا إلى سقر ألحفك (1) الله بالهوان ولا ... رعاك فيمن تركت من عرر ما عوقب الليل بالصباح وما ... تقدم البرق عارض المطر انتهى، وقال مورياً بدم الأخوين، في شأن سلطان تلك الدولة الذي أضحى أثراً بعد عين (2) : بإسماعيل ثم أخيه قيس ... تأذن ليل همي بانبلاج دم الأخوين داوى جرح قلبي ... وعالجني، وحسبك من علاج وهذه تورية بديعة، لأن الأطباء يقولون: إن في خاصية دم الأخوين النفع من الجراح. وقال رحمه الله تعالى: قلت في رأس الغادر بالدولة حين عرض علي: في غير حفظ الله من هامة ... هام بها الشيطان في كل واد ما تركت حمداً ولا رحمة ... في فم إنسان ولا في فؤاد وقال أيضاً في تلك الدولة بعد كلام، ما نصه: " وانتدب قاضيهم الشيخ المتراخي الدبر والفك، المنحل العصب والعقدة،

_ (1) ق ص: ألحقك. (2) أزهار الرياض 1: 274.

المعرق في العمومية، المشهور بقبول الرشوة، أبو فلان ابن فلان، الغريب السم والولاية، ومفتيهم معدن الرياء والهوادة، والبعد عن التخصص والحشمة، والمثل في العماه، والطرف في التهالك على الحطام، فلان البناء، المسخر في بناء الحفيرة، المستخدم في دار ابنه أجيراً، مختضباً بالطين، مضايقاً في رمق العيشة، وحسبك به دليلاً على الحياء وفضل البنوة، فلفقوا من خيوط العناكب شبهات تقلدوا بها حل العقد الموثق، ديدنهم في معارضة صلب الملة بالآراء الخبيثة، يتحكم الوقاح منهم في الحكم الذي نزل به شديد القوى على الذي لا ينطق عن الهوى، بحسب شهوته، تحكمه في غزل أمه إيثاراً للعاجل، بالوعيد، ففسخوا النكاح، وحللوا محرم البضع للدائل، وقد تأذن الله بفسخه، وأجرى دمه نقداً قبل دفع فقده، سبحانه حكم الحكام، وقاهر الظلام، وباء مشيخة السوء بلعنة الله وسوء الأحدوثة، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً "؛ انتهى. ومن كلامه في " نفاضة الجراب "، وقد ذكر وزير المغرب محمد بن علي مسعود ما ملخصه: " وانه مجنون، أحول العين، وحش النظرة، يظن به الغضب في حال الرضى، يهيج به المرار فيكمن زماناً خلف كلة مرقده، يدخل إليه وعاء الحاجتين خوفاً من إصحاره إلى فضاء منزله، وتوحشه من أهله وولده، إلى أن تضعف (1) سورة المرة فيخف أمره، قد باين زوجه مع انسحاب رواق الشبيبة، وتوفر داعية الغبطة، لحلف جره الوسواس السوداوي، نستدفع بالله سر بلائه، فاستعان مستوزره منه برأي الفضل بن سهل ويحيى بن خالد وأمثالهما، تدارك الله رمق الإسلام بلطفه "؛ انتهى. [في عتاب ابن أبي رمانة] ولما دخل لسان الدين رحمه الله تعالى مدينة مكناسة الزيتون تأخر قاضيها الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي رمانة عن لقائه يوم وصوله،

_ (1) ق: تعصف، وهو غير مناسب للمعنى.

فكتب إليه بما نصه: جفا ابن أبي رمانة وجه مقدمي ... ونكب عني معرضاً وتحاماني وحجب عني حبه غير جاهل ... بأني ضيف (1) والمبرة من شأني ولكن رآني مغربياً محققاً ... وأن طعامي لم يكن حب رمان زيارة القاضي أصلحه الله لمثلي ممن لا يخافه ولا يرجوه، تجب من وجوه: أولها كوني ضيفاً، ممن لا يعد على الاختبار زيفاً، ولا تجر مؤانسته حيفاً، فضلاً عن أن تشرع رمحاً أو تسل سيفاً؛ وثانيها أني أمت إليه من الطلب بنسب، بين موروث ومكتسب، وقاعدة الفضل قد قررها الحق وأصلها، والرحم كما علم تدعو لمن وصلها؛ وثالثها المبدأ في هذا الغرض، ولكن الواو لا ترتب إلا بالعض، وهو اقتفاء سنن المولى أيده الله في تأنيسي، ووصفه إياي بمقربي وجليسي؛ ورابعها - وهو عدة كيسي، وهزبر خيسي، وقافية تجنيسي، ومقام تلويني وتلبيسي - مودة رئيس هذا الصنف العلمس ورئيسي، فليت شعري ما الذي عارض هذه الأصول الأربعة، ورجح مذاهبها المتبعة، إلا أن يكون عمل أهل المدينة ينافيها، فهذا بحسب (2) النفس ويكفيها، وإن تعذر لقاء أو استدعاء، وعدم طعام أو وعاء، ولم يقع نكاح ولا استرعاء، فلم يتعذر عذر يقتضيه الكرم، والمنصب المحترم، فالجلة إلى التماس الحمد ذات استباق، والعرف بين الله والناس باق، والغيرة على لسان مثله مفروضة، والأعمال معروضة، والله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة، وإن كان لدى القاضي في ذلك عذراً فليفده، وأولى الأعذار به أنه لم يقصده، والسلام "؛ انتهى. ويعني بالمولى السلطان أبا سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني، وبرئيس

_ (1) ص: ضعيف. (2) ص ق: يحسب.

هذا الصنف العلامة الخطيب أبا عبد الله ابن مرزوق، رحم الله الجميع. [رسالته إلى ابن مرزوق ينصحه برفض الدنيا] ومن كلام لسان الدين - رحمه الله تعالى - رسالة في أحوال خدمة الدولة ومصائرهم، وتنبيههم على النظر في عواقب الرياسة بعيون بصائرهم، عبر فيها عن ذوق ووجدان، وليس الخبر كالعيان، وخاطب بها الإمام الخطيب عين الأعيان، سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق، وكأنه - أعني لسان الدين - أشار ببعض فصولها إلى نفسه، ونطق بالغيب في نكبته التي قادته إلى رمسه، وكان ذلك منه عندما أراد التخلي عن خدمة (1) الملوك، والتحلي بزينة أهل التصوف والسلوك، فلم يرد الله أن تكون مهجته نائية عن ساحة الظلمة خارجة، وأراد سامحه الله وغفر له عمراً وأراد الله خارجة، وصورة ما قال رحمه الله تعالى: " وأحسست منه - يعني ابن مرزوق - في بعض كتبه الواردة إلي إلى الدنيا وحنيناً لما بلاه من غرورها، فحملني الطور الذي ارتكبته في هذه الأيام - بتوفيق الله - على أن أخاطبه بهذه الرسالة، وحقها أن يجعلها خدمة الملوك ممن ينسب إلى نبل، ويلم بمعرفة، مصحفاً يدرسه، وشعاراً يلتزمه، وهي: سيدي الذي يده البيضاء لم تذهب بشهرتها المكافأة، ولم تختلف في مدحها الأفعال ولا تغايرت الصفات، ولا تزال تعترف بها العظام الرفات، أطلقك الله من أسر كل الكون كما أطلقك من أسلا بعضه، وزهدك في سمائه الفانية وفي أرضه، وحقر الحظ في عين بصيرتك بما يحملك على رفضه، اتصل بي الخبر السار من تركك لشانك، وإجناء الله تعالى إياك ثمرة إحسانك، وانجياب ظلام الشدة الحالك، عن أفق حالك، فكبرت، وفي الفرج من بعد الشدة اعتبرت، لا بسوى ذلك من رضى مخلوق يؤمر فيأتمر، ويدعوه القضاء فيبتدر، إنما هو فيء، وظل ليس له من الأمر شيء، ونسأله جل وعلا أن يجعلها آخر عهدك بالدنيا

_ (1) ص ق: مذمة.

وبنيها، وأول معارج نفسك التي تقربها من الحق وتدنيها، وكأني والله أحس بثقل هذه الدعوة على سمعك، ومضادتها ولا حول ولا قوة إلا بالله لطبعك، وأنا أنافرك إلى العقل الذي هو قسطاس الله تعالى في عالم الإنسان، والآلة لبث العدل والإحسان، والملك الذي يبين عنه ترجمان اللسان، فأقول: " ليت شعري ما الذي غبط سيدي في الدنيا، وأن بلغ من زبرجها الرتبة العليا، ونفرض المثال بحال إقبالها، ووصل حبالها، وخشوع جبالها، وضراعة سبالها، ألتوقع المكروه صباحاً ومساء، وارتقاب الحوالة التي تديل من النعيم البأساء، ولزوم المنافسة التي تعادي الأشراف والرؤساء ألترتب العتب التقصير في الكتب، وضغينة جار الجنب، وولوع الصديق بإحصاء الذنب ألنسبة وقائع الدولة إليك وأنت بري، وتطويقك الموبقات وأنت منها عري ألاستهدافك للمضار التي تنتجها غيرة الفروج، والأحقاد التي تضبطها (1) ركبة السروج، وسرحة المروج، ونجوم السماء ذات البروج ألتقليدك التقصير فيما ضاقت عنه طاقتك، وصحت إليه فاقتك، من حاجة لا يقتضي قضاءها الوجود، ولا يكفيها الركوع للملك والسجود ألقطع الزمان بين سلطان يعبد، وسهام للغيم تكبد، وعجاجة شر تلبد، وأقبوحة تخلد وتؤبد ألوزير يصانع ويدارى، وذي حجة صحيحة يجادل في مرضاة السلطان ويمارى، وعورة لا توارى ألمباكرة كل قرن حاسد، وعدو مستأسد، وسوق للإنصاف والشفقة كاسد، وحال فاسد ألوفود تتزاحم بسدتك مكلفة لك غير ما في طوقك، فإن لم يقع الإسعاف قلبت عليك السماء من فوقك ألجلساء بابك، لا يقطعون زمان رجوعك وغيابك، إلا بقبيح اغتيابك، فالتصرفات تمقت، والقواطع توقت، والألاقي تبث، والسعايات تحث، والمساجد يشتكى في حلقها البث، يعتقدون أن السلطان في يدك بمنزلة الحمار المدبور، واليتيم المحجور، والأسير المأمور، ليس له شهوة ولا غضب، ولا أمل في الملك

_ (1) لعلها تضطبنها.

ولا أرب، ولا موجدة لأحد كامنة، وللشر ضامنة، وليس في نفسه عن رأي نفرة، ولا بإزاء ما لا يقبله نزوة ولا طفرة، إنما هو جارحة لصيدك، وعان في قيدك، وآلة لتصرف كيدك، وأنك علة حيفه، ومسلط سيفه: " الشرار يسملون عيون الناس باسمك، ثم يمزقون بالغيبة مزق جسمك، قد تنخلهم الوجود أخبث ما فيه، واختارهم السفيه فالسفيه إذ الخير يستره الله تعالى عن الدول ويخفيه، ويقنعه بالقليل فيكفيه، فهم يمتاحون بك ويولونك الملامة، ويفتحون عليك القول ويسدون طرق السلامة، وليس لك في أثناء هذه إلا ما لا يعوزك مع ارتفاعه، ولا يفوتك مع انقشاعه، وذهاب صداعه، من غذاء يشبع، وثوب يقنع، وفراش ينيم، وخديم يقعد ويقيم، وما الفائدة في فرش تحتها جمر الغضا، ومال من ورائه سوء القضا، وجاء يحلق عليه سيف منتضى وإذا بلغت النفس إلى الالتذاذ بما لا تملك، واللجاج حول المسقط الذي تعلم أنها فيه تهلك، فكيف تنسب إلى نبل، أو تسير من السعادة في سبل وإن وجدت في القعود بمجلس التحية، بعض الأريحية، فليت شعري أي شيء زادها، أو معنى أفادها إلا مباكرة وجه الحاسد، وذي القلب الفاسد، وموجهة العدو المستأسد، أو شعرت ببعض الإيناس، في الركوب بين الناس، ما التذت إلا بحلم كاذب، أو جذبها غير الغرور جاذب، إنما راكبت من يحدق إلى الحلية والبزة، ويستطيل مدة العزة، ويرتاب إذا حدثت بخبرك، ويتتبع بالنقد والتجسس مواقع نظرك، ويمنعك من مسايرة أنيسك، ويحتال على فراغ كيسك، ويضمر الشر لك ولرئيسك، وأي راحة لمن لا يباشر قصده، ويمشي إذا شاء وحده ولو صح في هذه الحال لله تعالى حظ وهبه زهيداً، وعين الرشد عملاً حميداً، لساغ الصاب، وخفت الأوصاب، وسهل المصاب، لكن الوقت أشغل، والفكر أوغل، والزمن قد عمرته الحصص الوهمية، واستنفدت منه الكمية، أما ليله ففكر أو نوم، وعتب بجراء الضرائر ولوم، وأما يومه فتدبير

وقبيل ودبير، وأمور يعيا بها ثبير، وبلاء مبير، ولغط لا يدخل فيه حكم كبير، وأنا بمثل ذلك خبير؛ ووالله يا سيدي ومن فلق الحب، وأخرج الأب، وذرأ من مشى ومن دب، وسمى نفسه الرب، لو تعلق المال الذي يجره هذا القدح، ويوري سقيطه هذا القدح، بأذيال الكواكب، وزاحمت البدر بدره بالمناكب، لما ورثه عقب، ولا خلص به محتقب، ولا فاز به سافر ولا منتقب، والشاهد الدول، والمشائيم الأول: فأين الرباع المقتناة وأين الديار المبتناة وأين الحوائط المغترسات وأين الذخائر المختلسات وأين الودائع المؤملة وأين الأمانات المحملة تأذن الله بتتبيرها، وإدناء نار التبار من دنانيرها، فقلما تلقى أعقابهم إلا أعراء الظهور، مترمقين لجرايات الشهور، متعللين بالهباء المنثور، يطردون من الأبواب التي حجب عنها آباؤهم، وعرف منها إباؤهم، وشم من مقاصيرها عنبرهم وكبائهم، ولم تسامحهم الأيام إلا في إرث محرر، أو حلال مقرر، وربما محقه الحرام، وتعذر منه المرام. " هذه - أعزك الله - حال قبولها مع الترفيه، ومالها المرغوب فيه، وعلى فرض أن يستوفي العمر في العز مستوفيه، وأما ضده من عدو يتحكم وينتقم، وحوت بغي يبتلع ويلتقم، ومطبق يحجب الهواء، ويطيل في التراب الثواء، وثعبان قيد يعض الساق، وشؤبوب عذاب يمزق الأبشار الرقاق، وغيلة يهديها الواقب الغاسق، ويجرعها العدو الفاسق، فصرف السوق، وسلعته المعتادة الطروق، مع الأفول والشروق. فهل في شيء من هذا مغتبط لنفس حرة، أو ما يساوي جرعة حال مرة واحسرتا للأحلام ضلت، وللأقدام زلت، ويا لها مصيبة جلت. " ولسيدي أن يقول: حكمت باستثقال الموعظة واستجفائها، ومراودة الدنيا بين خلانها وأكفائها، وتناسي عدم وفائها، فأقول: الطبيب بالعلل أدرى، والشفيق بسوء الظن مغرى، وكيف لا وأنا أقف على السحاءات بخط يد سيدي

من مطارح الاعتقال، ومثاقف النوب الثاقل، وخلوات الاستعداد، للقاء الخطوب الشداد، ونوشى الأسنة الحداد، وحيث يجمل بمثله أن لا في غير الخضوع لله تعالى بناناً، ولا يثني لمخلوق عناناً، وأتعرف أنها قد ملأت الجو والدو، وقصدت الجماد والبو، تقتحم أكف أولي الشمات، وحفظة المذمات، وأعوان النوب الملمات، زيادة في الشقاء، وقصداً برياً من الاختيار والانتقاء، مشتملة من التجاوز على أغرب من العنقاء، ومن النفاق على أشهر من البلقاء، فهذا يوصف بالإمامة، وهذا يجعل من أهل الكرامة، وهذا يكلف الدعاء وليس منت أهله، وهذا يطلب منه لقاء الصالحين وليسوا من شكله، إلى ما أحفظني والله من البحث عن السموم، وكتب النجوم، المذموم من العلوم، هلاكان من ينظر في ذلك قد قوطع بتاتاً، وأعتقد أن الله قد جعل لزمان الخير والشر ميقاتاً، وأنا لا نملك موتاً ولا نشوراً ولا حياتاً، وأنا اللوح قد حصر الأشياء محواً وإثباتاً، فكيف نرجو لما منع منالاً أو نستطيع مما قدر إفلاتاً أفيدونا ما يرجع العقيدة المتقررة فنتحول إليه، وبينوا لنا الحق نعول عليه. " الله لله يا سيدي في النفس المرشحة، والسلف الشهير الخير، والعمر المشرف على الرحلة بعد حث السير، ودع الدنيا لبنيها فما أوكس حظوظهم، وأخس لحوظهم، وأقل متاعهم، وأعجل إسراعهم، وأكثر عناءهم، وأقصر آناءهم: ما ثم إلا ما رأي ... ت، وربما تعيي السلامه والناس إما جائر ... أو حائر يشكو ظلامه وإذا أردت العز لا ... ترزأ بني الدنيا قلامه والله ما احتقب الحري ... ص سوى الذنوب أو الملامه هل ثم شك في المعا ... د الحق أو يوم القيامه قولوا لنا ما عندكم ... أهل الخطابة والإمامه

" وإن رميت بأحجاري، وأوجرت المر من أشجاري، فوالله ما تلبست اليوم منها بشيء قديم ولا حديث، ولا استأثرت بطيب فضلاً عن خبيث، وما أنا إلا عابر سبيل، وهاجر مرعى وبيل، ومرتقب وعداً قدر فيه الإنجاز، وعاكف على حقيقة لا تعرف المجاز، قد فررت من الدنيا كما يفر من الأسد، وحاولت المقاطعة حتى بين روحي والجسد، وغسل الله قلبي - ولله الحمد - من الطمع والحسد، فلم أبق عادة إلا قطعتها، ولا جنة للصبر إلا أدرعتها، أما اللباس فالصوف، وأما الزهد فيما بأيدي الخلق فمعروف، وأما المال الغبيط فعلى الصدقة مصروف، ووالله لو علمت أن حالي هذه تتصل، وعراها لا تنفصل، وأن ترتيبي هذا يدوم، ولا يحيرني الوعد المحتوم، والوقت المعلوم، لمت أسفا، وحسبي الله وكفى. " ومع هذا يا سيدي فالموعظة تتلقى من لسان الوجود، والحكمة ضالة المؤمن يطلبها ببذل المجهود، ويأخذها من غير اعتبار بمحلها المذموم ولا المحمود. ولقد أعملت نظري فيما يكافئ عني بعض يدك، أو تنهي في الفضل إلى أمدك، فلم أر لك الدنيا كفاء هذا لو كنت صاحب دنيا، وألفيت بذل النفس قليلاً لك من غير شرط ولا ثنيا، فلما ألهمني الله لمخاطبتك بهذه النصيحة المفرغة في قالب الجفاء، لمن لا يثبت عين الصفاء، ولا يشيم بارقة الوفاء، ولا يعرف قاذورة الدنيا معرفة مثلي من المتدنسين بها المنهمكين، وينظر عوارها القادح بعين اليقين، ويعلم أنها المومسة التي حسنها زور، وعاشقها مغرور، وسرورها شرور، تبين لي أنني قد كافيت صنيعتك المتقدمة، وخرجت عن عهدتك الملتزمة، وأمحضت لك النصح الذي يعز بعز الله ذاتك، ويطيب حياتك، ويحيي مواتك، ويريح جوارحك من الوصب، وقلبك من النصب، ويحقر الدنيا وأهلها في عينك إذا اعتبرت، ويلاشي عظائمها لديك إذا اختبرت. " كل من تقع عينك عليه فهو حقير قليل، وفقير ذليل، لا يفضلك

بشيء إلا باقتفاء رشد أو ترك غي، أثوابه النبيهة يجردها الغاسل، وعروة عزه يفصلها الفاصل، وما له الحاضر الحاصل، يعيث فيه الحسام الفاصل، والله ما تعين للسلف، ولا مصير المجموع إلا إلى التلف، ولا صح من الهياط والمياط، والصياح والعياط، وجمع القيراط إلى القيراط، والاستظهار بالوزعة والأشراط، والخبط والخباط، والاستكثار والاغتباط، والغلو والاشتطاط، وبناء الصرح وعمل الساباط، ورفع العمد وإدارة الفسطاط، إلا أمل يذهب القوة، وينسي الآمال المرجوة، ثم نفس يصعد، وسكرات تتردد، وحسرات لفراق الدنيا تتجدد، ولسان يثقل، وعين تبصر الفراق وتمقل {قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون} (ص: 67) ثم القبر وما بعده، والله منجز وعيده ووعده، فالإضراب والإضراب، والتراب التراب. " وإن اعتذر سيدي بقلة الجلد، فهو ابن مرزوق لا ابن رزاق، وبيده من التسبب ما يتكفل بإمساك أرماق، أين النسخ الذي يتبلغ الإنسان بأجرته، في كن حجرته لا بل السؤال الذي لا عار عند الحاجة بمعرته. السؤال والله أقوم طريقاً، وأكرم رفيقاً، من يد تمتد إلى حرام، لا يقوم بمرام، ولا يؤمن من ضرام، أحرقت فيه الحلل، وقلبت الأديان والملل، وضربت الأبشار، ونحرت العشار، ولم يصل منه على يدي واسطة السوء المعشار، ثم طلب عند الشدة ففضح، وبان شؤمه ووضح، اللهم طهر منها أيدينا وقلوبنا، وبلغنا من الانصراف إليك مطلوبنا وعرفنا بمن لا يعرف غيرك، ولا يسترفد إلا خيرك، يا الله. " وحقيق على الفضلاء إن جنح سيدي منها إلى إشارة، أو أعمل في اجتلابها إضبارة، أو لبس منها شارة، أو تشوف لخدمة إمارة، أن لا يحسنوا ظنونهم بعدها بابن ناس، ولا يغتروا بسمة ولا خلق ولا لباس، فما عدا عما بدا تقضى العمر في سجن وقيد، وعمرو وزيد، وضر وكيد، وطراد صيد، وسعد وسعيد، وعبد وعبيد، فمتى تظهر الأفكار، ويقر القرار، وتلازم

الأذكار، وتشام الأنوار، وتستجلى الأسرار ثم يقع الشهود الذي يذهب معه الإخبار، ثم يحق الوصول الذي إليه من كل ما سواه الفرار، وعليه المدار. " وحق الحق الذي ما سواه فباطل، والفيض الرحماني الذي ربابه الأبد هاطل، ما شابت مخاطبتي لك شائبة تريب، ولقد محضت لك ما يمحضه الحبيب للحبيب، فتحمل جفائي الذي حملت عليه، ولا تظن بي غيره، وأن لم تعذرني مكاشفة سيادتك بهذا النث، في الأسلوب الرث، فالحق اقدم، وبناؤه لا يهدم، وشأني معروف في موجهة الجبابرة على حين يدي إلى رفدهم ممدودة، ونفسي في النفوس المتهافتة عليهم معدودة، وشبابي فاحم، وعلى الشهوات مزاحم، فكيف لي اليوم مع الشيب، ونصح الجيب، واستكشاف العيب إنما أنا اليوم على كل من عرفني كل ثقيل، وسيف العدل في كفي صقيل، أعذل أهل الهوى، وليست النفوس في القبول سوا، ولا لكل مرض دوا، وقد شفيت صدري، وإن جهلت قدري، فاحملني - حملك الله تعالى - على الجادة الواضحة، وسحب عليك ستر الأبوة الصالحة، والسلام ". انتهت الرسالة البديعة في بابها، الآتية من الموعظة بلبابها، ذات النصيحة الصريحة التي يتعين على كل عاقل خصوصاً من يريد خدمة الملوك التمسك بأسبابها. [تعليقات ابن مرزوق وابن لسان الدين على الرسالة] قلت: وقد رأيت بخط الأمام العلامة الخطيب ابن مرزوق على هامش قول لسان الدين أول الكلام " وأحسست منه في بعض كتبه إلى آخره " ما صورته: توهم ما لا يقع، بل لما تجلت عني سحب النكبة والامتحان جزمت بالرحلة، وعزمت على النقلة، ونفرت عن خدمة السلطان، وملازمة الأوطان، قال ابن

مرزوق: والعجب كل العجب أن جميع ما خاطبني به - أبقاه الله تعالى - تحلى به اجمع، وابتلي بما منه حذر، فكأنه خاطب نفسه وأنذرها بما وقع له، فلله تعالى يحسن له الخاتمة والخلاص؛ انتهى. وكتب تحت كلام ابن مرزوق هذا بخطه ابن لسان الدين علي، ما نصه: صدق والله سيدي أبو عبد الله ابن مرزوق، كان الله تعالى له، قاله ولده ابن المؤلف؛ انتهى. قلت: وهذا الذي قاله ابن مرزوق كان في حياة ابن الخطيب، ولذلك دعا له بالبقاء، وبحسن الخاتمة والخلاص، وقد أسفر الغيب عن محنته، ثم قتله على الوجه الذي وصفه في الرسالة، إذ قال: وأما ضده من عدو يتحكم وينتقم، وحوت بغي يبتلع ويلتقم، ومطبق يحجب الهواء، ويطيل في التراب الثواء، وثعبان قيد يعض الساق، وشؤبوب عذاب يمزق الأبشار الرقاق، وغيلة يهديها الواقب الغاسق، ويجرعها العدو الفاسق، فصرف السوق، وسلعته المعتادة الطروق، مع الأفول والشروق. فإنه رحمه الله تعالى حصل له ما ذكر، ثم اغتاله ليلاً وخنقه في محبسه عدوه الفاسق سليمان بن داود، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، فلله تعالى يثيبه بهذه الشهادة. [مرثية المنجنيقي] وقد تذكرت هنا مرثية ابن صابر (1) المنجنيقي، وهي: هل لمن يرتجي البقاء خلود ... وسوى الله كل شيء يبيد والذي كان من تراب وإن عا ... ش طويلاً إلى التراب يعود فمصير الأنام طراً لما صا ... ر إليه آباؤهم والجدود أين حوا أم أين آدم إذ فا ... تهما الملك والثوا والخلود

_ (1) ص: ابن صاعد.

أين هابيل أين قابيل إذ هـ ... ذا لهذا معاند وحسود أين نوح ومن نجا معه بال ... فلك والعالمون طراً فقيد أسلمته الأيام كالطفل للمو ... ت ولم يغن عمره الممدود أين عاد بل أين جنة عاد ... إرم، أين صالح وثمود أين إبراهيم الذي شاد بيت ال ... له فهو المعظم المقصود أين إسحاق أين يعقوب أم أي ... ن بنوه وعدهم والعديد حسدوا يوسف أخاهم فكادو ... هـ ومات الحساد والمحسود وسليمان في النبوة والمل ... ك قضى مثلما قضى داود ذهبا بعدما أطاع لذا الخل ... ق وهذا له ألين الحديد وابن عمران بعد آياته التس ... ع وشق الخضم فهو صعيد والمسيح ابن مريم وهو روح ال ... له كادت تقضي عليه اليهود وقضى سيد النبيين والها ... دي إلى الحق أحمد المحمود وبنوه وآله الطاهرون ال ... زهر صلى عليهم المعبود ونجوم السماء منتثرات ... بعد حين وللهواء ركود ولنار الدنيا التي توقد الصخ ... ر خمود وللمياه جمود وكذا للثرى غداة يقوم ال ... ناس منها تزلزل وهمود هذه الأمهات نار وترب ... وهواء رطب وماء برود سوف تفنى كما فنينا فلا يب ... قى من الخلق والد ووليد لا الشقي الغوي من نوب الأيا ... م ينجو ولا السعيد الرشيد ومتى سلت المنايا سيوفاً ... فالموالي حصيدها والعبيد [العبرة من مراث أخرى] وأما قصيدة ابن عبدون الأندلسي التي رثى بها بني الأفطس وذكر فيها

كثيراً من الملوك الذين أبادهم الدهر وطحنهم برحاه وصيرهم أثراً بعد عين ففيها ما يوقظ النوام، وأولها: الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور وبالجملة فالأمر كما قال ابن الهبارية: الموت لا يبقي ... أحد لا والداً ولا ولد مات لبيد ولبد ... وخلد الفرد الصمد {كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} ، اللهم اختم لنا بالحسنى، وردنا إليك رداً جميلاً. وتذكرت هنا أيضاً مرثية على روي مرثية المنجنيقي السابقة منها: أين أهل الديار من قوم نوح ... ثم عاد من بعدهم وثمود بينما هم على الأسرة والأن ... ماط أفضت إلى التراب الخدود ثم لم ينقض الحديث ولكن ... بعد ذا الوعد كله والوعيد وأطباء بعدهم لحقوهم ... ضل عنهم سعوطهم واللدود وصحيح أضحى يعود مريضاً ... وهو أدنى للموت ممن يعود وما أحكم قول السلطان أبي علي ابن السلطان أبي سعيد المريني يخاطب أخاه السلطان أبا الحسن وقد حصره بسجلماسة حتى أخذه قسراً: فلا يغرنك الدهر الخئون فكم ... أباد من كان قبلي يا أبا الحسن الدهر مذ كان لا يبقي على صفة ... لا بد من فرح فيه ومن حزن أين الملوك التي كانت تهابهم ... أسد العرين ثووا في اللحد والكفن بعد الأسرة والتيجان قد محيت ... رسومها وعفت عن كل ذي حسن فاعمل لأخرى وكن بالله مؤتمراً ... واستعن بالله في سر وفي علن

واختر لنفسك أمراً أنت آمره ... كأنني لم أكن يوماً ولم تكن ودخل السلطان أبو الحسن سجلماسة عنوة على أخيه السلطان أبي علي عمر سنة 734، وجاء به في الكبل لفاس، ثم قتله بالفصد والخنق في ربيع الأول من السنة، وكان القبض عليه في محرم، رحمه الله تعالى. ومما وجد مكتوباً على قصر بعض السلاطين: قد كان صاحب هذا القصر مغتبطاً ... في ظل عيش يخاف الناس من باسه فبينما هو مسرور بلذته ... في مجلس اللهو مغبوط بجلاسه إذ جاءه بغتة ما لا مرد له ... فخر ميتاً وزال التاج عن راسه رجع إلى أخبار ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - قلت: وقد زرت قبره مراراً رحمه الله تعالى بفاس المحروسة فوق باب المدينة الذي يقال له باب الشريعة، وهو يسمى الآن باب المحروق، وشاهدت موضع دفنه غير مستو مع الأرض، بل ينزل إليه بانحدار كثير، ويزعم الجل من عوام فاس أن الباب المذكور إنما سمي بباب المحروق لأجل ما وقع من حرق لسان الدين به حين أخرجه بعض أعدائه من حفرته كما مر، وليس كذلك، وإنما سمي باب المحروق في دولة الموحدين، قبل أن يوجد لسان الدين ولا أبوه، بسبب ثائر ثار على الدولة، فأمسك وأحرق في ذلك المحل، والله غالب على أمره. وحصل لي من الخشوع والحزن عند زيارة قبره - رحمه الله تعالى - ما لا مزيد عليه، جعل الله تلك المحن كفارة وطهرة، فإنه كان آية الله علماً وجلالة وحكمة وشهرة. [رسالة في العزاء بأبي جعفر ابن جبير] وقد تذكرت عند كتبي هذا المحل رسالة كتبها بعض أئمة المغرب في عزاء

الوزير الشهير أبي جعفر ابن جبير الأندلسي رحمه الله تعالى إلى بنيه، وهي مما يصلح أن يوصف بمثلها لسان الدين رحمه الله تعالى، وفيها عزاء بمن مضى، ونصها: " " عزاء يا كوكب الهدى، في بدركم الذي تحيفه الردى، وفجع به الفضل والندى، فقل للشهب أن تنكدر على فراقه، وللصبح أن يخبو نور إشراقه، وللريح أن تمزق صداراً، وللأهلة أن لا تعرف إبداراً، ولليل أن يشتمل خميصة الحزن، وللسماء أن تبكيه بأدمع المزن، وللرعد أن ينتحب لوفاته، وللبرق أن يحكي برجفاته أفئدة عفاته، وللثريا أن ينفصم سوارها، وللشمس أن تنكسف أنوارها، وللنثرة أن تنثر كواكبها، وللجوزاء أن تنفض مناكبها، وللنيرات أن ترفض مواكبها، وللرامح أن يبيت أعزلا، وللبدر أن لا يألف منزلا، وللمجرة أن يفيض دمعاً نهرها، وللغميصاء أن يطرد بكاؤها وسهرها، وللروض أن يفارق إمراعه، وللأوراق أن يهتف بما راعه، وللغصون أن تنهصر لهتفه، وتتقصف أسفاً على حتفه. " ولكن هو الحمام يختل ويختر، ولا يحفل بمن يتر، يعدم ما أوجده الكون، ويذيل من أكنفه الصون، وأين بنا عن مكافح لا نقاتله، ورام أرواحنا مقاتله، لا يد به ناصرة، وعزمته قاصرة للقياصرة، ويمنه كاسرة للأكاسرة، لم يبق من رسم لطسم، ولا من إحسان لغسان، ولا من أياد لإياد، ولا من سلطان لقحطان، ولا من نجيب لتجيب، ولا شرف ضخم للخم، لم يكن له عن اليمين إقصار، ومنهم الأنصار، وهم أسماع للنبي وأبصار، وعمد إلى المصابيح من مضر يطفيها، هذا والوحي يتنزل فيها، ولم يصخ في الصديق، إلى التصديق، وأصمى الفاروق براده، وحكم فيه أبا لؤلؤة ومداه، وأمكن صرف الأقدار، من شهيد الدار، ولم يرع من علي بالبسالة، والذبل العسالة، ولا أبقى سبطيه وقد تفقأت عنهما بيضة الرسالة، وأذهب الزبير حواري الرسول، وحنظلة وهو بأيدي الملائكة مغسول، وأفات ابن معاذ ولم

يحفل بفوته، على أنه اهتز العرش لموته، وأودى بحزمة ومقعده من البنوة، مقعد الأبوة، وشفى من عمار صدور الأسل، وأردى مالكاً بشربة من عسل، ولم يعبأ بمضاء عمرو، ولا بحلم معاوية ودهاء عمرو. " فياله من خطب، مود بكل يابس ورطب، يشرب ماء الأعمار، ويجعل الأحداث منازل الأقمار، ويلوك السوقة والأملاك، ولا يبالي أية لاك، لا يقبل شفيعاً، ولا يغادر منحطاً ولا رفيعاً، ها هو اعتمد نور علاً فكسفه، وطود حلم فنفسه، وأعلق المجد في حباله، وأقصد الفضل بنباله، وفجع كنانة، بسهم لم ينثل مثله من كنانة، فيا طارق الأعين لقد بؤت بأنفس الأعلاق، ويا ناعيه لقد نعيت باسق الأخلاق، رويداً أسائلك، عمن لم تضع لديه وسائلك، أين سماحه وطلاقته أين كلفه بالحمد وعلاقته ما الذي ثنى عطفه عن الارتياح أم أين عافيه من ذلك الامتياح أو من يؤلف أمنية كما ألفت السحب أيدي الرياح " فيا هبة الحمد اطوي عرفك فما تنشق، ويا ربة المجد أقصري طرفك فما تعشق، ويا معشر عفاته، كيف حييتم وقد علمتم بوفاته ويا زمر أماله، صفرت أيديكم من إجماله، ويا أخاير أصحابه، أين مواقع سحابه ويا بني ولائه، من يتبوأ مقام علائه ويا منافسي شيمه، من يجود بمثل ديمه ويا منازعي كرمه، من يطيف المعتفين بمثل حرمه ويا حاسدي هممه، من له كحافظه وذممه " " سيدي لقد أضاءت مساعيك وأشرقت، وأغصت الحاسدين طراً وأشرقت، وحسبهم أن لم ينتبهوا إلا إذا نمت، ولا نطقوا إلا حين مت، وليهن ملأك وصحبك، أن أحيتك صنائعك وقد قضيت نحبك، وإن حم فناؤك، فقد أبقى الحياة الخالدة ثناؤك (1) :

_ (1) البيتان من قطعة في الحماسة (شرح المرزوقي: 950) للتيمي في منصور بن زياد، وعند التبريزي أن اسمه عبد الله بن أيوب، من أهل اليمامة.

ردت صنائعه عليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور والناس مأتمهم عليه واحد ... في كل دار أنة وزفير سيدي، أما تجيب صرخة لهفان، أم عداك عن الجواب أنك فان سيدي من لآملك، ببسط أناملك من للمرملات الضرائك، بإرشادك من لأبنائك، بلطف أحبائك انفض شملهم وكان جميعاً، ونادوك لو نادوا منك سميعاً، هذا كبيرهم يدعوك فلا تجيبه، وقد فت الأضلاع وجيبه، يبكي عند تلك الرجام، بأدمع سجام، وقد ألهبت الزفرات حشاه، وألح الدمع بجفنه حتى أعشاه، والأصاغر ما لهم بعدك مفزع، ورضيعهم تسلب به الأنفس رحمة وتنزع، لا يدري ما جزع عليك فيجزع، لشد ما أذابتهم وقدة الأوار، حين عدموا منك كرم النجوى والجوار، أف لدهر رماهم بالأجوار، وتركهم أنجماً مسلوبة الأنوار، لا جرم أن يحزنوا عليك ويكترثوا، فلقد تسلوا عنك ببعض ما ورثوا، وما ورثتهم غير الحزن والبث، وأمل في الحياة كالهباء المنبث، كما تتلى محاسنك فاسمع، طفقت عليك شؤون عيني تدمع، أيا ضريحه، كيف وجدت ريحه لقد ارج بك ذلك المعفر، حتى ما ينافحه، المسك الأذفر، وكما ظفرت بوجوده، فجد كل قبر بجوده، ففيه سماء ثرة وغمام، ونور انضم عليك منك كمام، ولو علمت بمن بين جنبيك راقد، لعلوت حتى تلوح في ذراك الفراقد، ويا دافنيه كيف هلتم عليه الرغام أو لم تنكروا على الشمس أن تغام هيهات لقد سمحتم بإقبار، عف الشمائل طيب الأخبار، وإلحاد، من لا نزاع في فضله ولا إلحاد، أي نفس تخذتم له التراب مستودعاً، فأضحى عرنين المكارم مجدعاً فتى مثل نصل السيف من حيث جئته ... لنائبة نابتك فهو مضارب فتى همه حمد على النأي رابح ... وإن بات عنه ماله وهو عازب

" أما وإن ازدحمت بمهلكه الأوصاب، وفدح الرزء وجل المصاب، حتى لا نألف التأساء، فلقد سر الموت من حيث ساء، فلقد خلفنا بدهر ما فيه غير مصائب، ولا يبالي من أقصد سهمه الصائب، فيا فقيد الندى ما كان أجدرك بالخلود وأخلقك، ويا جواد عمره ما كان أقصر طلقك، ثوى حين استوى وتوارى، إذ ملأ الأفق أنوارا، وكسف حين بلغ الكمال، فكان كالغصن عندما اعتل مال، أو كالشهاب عندما استقام حار: وكذاك عمر كواكب الأسحار (1) ... " هذه اليراعة التحفت بعد الضنى، والصحف تطوى على جهالة وتحنى، وعهدي به إن أمطى راحته اليراع، راع، أو دبج الأوراق، راق، أو استدر طبعه السلسال، سال، وأي روض أراد، راد، ومتى أراغ الإنشاء، أحسن إن شاء، فحق للفؤاد أن يستعر بوقده، وللمدامع أن تسيل دماً على فقده، بيد أنه الموت لا بد أن نرد مشرعه، ونسيغ على شرق به جرعه، فإنا زرع يحصده الذي ازدرعه، وصبراً يا ذوي أرحامه وبنيه، ومن مر في غلواء الوجد فالسلوان يثنيه، وشحاً على أجركم لا يذهب به الجزع ويفنيه، والله يزلف الفقيد من رحمته ويدنيه، ويقطفه زهر رضوانه ويجنيه، وييسر لكم العزاء الأجمل برحمته وينسيه، والسلام ". انتهت. [قطع زهدية] ويرحم الله القائل: كل جمع إلى الشتات يصير ... أي صفو ما شابه تكدير

_ (1) من مرثية أبي الحسن التهامي في ابنه، وصدر البيت: يا كوكبا ما كان أقصر عمره ...

أنت في اللهو والأماني مقيم ... والمنايا في كل وقت تسير والذي غره بلوغ الأماني ... بسراب وخلب مغرور ويك يا نفس أخلصي إن ربي ... بالذي أخفت الصدور بصير ولا خفاء على ذوي الأحلام، من الأعلام، أن الدنيا أضغاث أحلام (1) : يندم المرء على ما فاته ... من لبانات إذا لم يقضها وتراه فرحاً مستبشراً ... بالتي أمضى كأن لم يمضها إنها عندي كأحلام الكرى ... لقريب بعضها من بعضها وقال أبو منصور أسعد النحوي: يجمع المرء ثم يترك ما يج ... مع من كسبه لغير شكور ليس يحظى إلا بذكر جميل ... أو بعلم من بعده مأثور [شيء من مواعظ ابن الجوزي] وقال الإمام الشهير أبو الفرج ابن الجوزي (2) : يا ساكن الدنيا تأ ... هب واتنظر يوم الفراق وأعد زاداً للرحي ... ل فسوف يحدى بالرفاق وابك الذنوب بأدمع ... تنهل من سحب المآق يا من أضاع زمانه ... أرضيت ما يفنى بباق وكان ابن الجوزي المذكور آية الله في كثرة التأليف والكتابة والوعظ

_ (1) تنسب إلى عمران بن حطان وإلى غيره (انظر شعر الخوارج: 19) . (2) ترجمة ابن الجوزي في وفيات الأعيان 2: 321 وذيل أبي شامة: 21 وهذه النتف التي أوردها المقري مأخوذة من الثاني.

والحفظ، وأقل من كان يحضر مجلسه عشرة آلاف، وربما حضر عنده مائة ألف، وقال في آخر عمره على المنبر: كتبت بإصبعي هاتين ألفي مجلدة، وتاب على يدي مائة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألف يهودي ونصراني، وأسمع رحمه الله تعالى الناس أكثر من أربعين سنة، وحدث بمصنفاته مراراً. وقال الحافظ الذهبي في حقه: الحافظ الكبير، الواعظ المفتن، صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة في العلوم المتعددة، وعظ من صغره، وفاق فيه الأقران ونظم الشعر المليح، وكتب بخطه ما لا يوصف، ورأى من القبول والاحترام ما لا يزيد عليه، وحزر مجلسه غير مرة بمائة ألف، وحضر مجلسه المستضيء مراراً من وراء الستر؛ انتهى. ومن كلامه في بعض مجالسه: واله ما اجتمع لأحد أمله، إلا وسعى في تفريقه أجله، وعقارب المنايا تلسع الناس، وخدران جسم الأمل يمنع الإحساس، وقال في قوله صلى الله عليه وسلم " أعمار أمتي من الستين إلى السبعين " إنما طالت أعمار القدماء لطول البداية، فلما شارف الركب بلد الإقامة قيل: حثوا المطي. وقال في الذين عبدوا العجل: لو أن الله خار لهم ما خار لهم. وقال يوماً وقد طرب أهل المجلس: فهمتم فهمتم. وقال في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، بعد أن ذكر أحاديث تدل على خلافته كقوله صلى الله عليه وسلم " مروا أبا بكر فليصل بالناس " وغيره، ما صورته: فهذه أحاديث تجري مجرى النص، فهمها الخصوص، غير أن الرافضة في إخفائها كاللصوص، فقال السائل: لما قال: " أقيلوني " ما سمعنا مثل جواب علي رضي الله عنه " والله لا أقلناك "، فقال: لما غاب علي عن البيعة في الأول، أخلف ما فات بالمدح في المستقبل، ليعلم السامع والرائي أن بيعة أبي بكر وإن كانت من ورائي، فهي رائي، ومثل ذلك الصدر لا يرائي. وقال في قول فرعون {أليس لي ملك مصر} (الزحف: 51) يفتخر

بما أجراه، ما أجراه. وتواجد رجل في مجلسه فقال: عجباً! كلنا في إنشاد الضالة سوا، فلم وجدت وحدك ألم الجوى وأنشد: قد كتمت الحب حتى شفني ... وإذا ما كتم الداء قتل بين عينيك علالات الكرى ... فدع النوم لربات الحجل ونظر يوماً إلى أقوام يبكون في مجلسه ويتواجدون فأنشد (1) : ولو لم يهجني الظاعنون لهاجني ... حمائم ورق في الديار وقوع تداعين فاستبكين من كان ذا هوى ... نوائح لم تقطر لهن دموع وكيف أطيق العاذلين وذكرهم ... يؤرقني والعاذلون هجوع وقام رجل وتواجد فأنشد: وما زال يشكو الشوق حتى كأنما ... تنفس من أحشائه وتكلما ويبكي فأبكي رحمة لبكائه ... إذا ما بكى دمعاً بكيت له دما وأعجبه يوماً كلامه فأنشد: تزدحم الألفاظ والمعاني ... على فؤادي وعلى لساني تجري لي الأفكار في ميدان ... أزاحم النجم على مكان ووعظ المستضيء يوماً فقال: يا أمير المؤمنين، إن تكلمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك، فأنا أقدم خوفي عليك، على خوفي منك، لمحبتي لدوام أيامك، إن قول القائل " اتق الله " خير من قول القائل: أنتم أهل بيت مغفور لكم، وقال الحسن البصري: لأن تصحب أقواماً يخوفونك حتى تبلغ المأمن

_ (1) الأبيات لذي الرمة، ديوانه: 352.

خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى تبلغ المخاوف. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إذا بلغني عن عامل ظالم أنه قد ظلم الرعية ولم أغيره فأنا الظالم. يا أمير المؤمنين، كان يوسف عليه السلام لا يشبع في زمان القحط، لئلا ينسى الجياع، وكان عمر رضي الله عنه يصر بطنه عام الرمادة فيقول: قرقري إن شئت ولا تقرقري، فوالله لا شبعت والمسلمون جياع. فتصدق الخليفة المستضيء بصدقات كثيرة، وأطلق من في السجن. وقال رحمه الله تعالى لبعض الولاة: اذكر عدل الله فيك، وعند العقوبة قدرة الله عليك، وإياك أن تشفي غيظك بسقم دينك. وقال: الطاعة تبسط اللسان، والمعاصي تذل الإنسان. وقال له قائل: ما نمت البارحة من شوقي إلى المجلس، فقال: نعم، لأنك تريد أن تتفرج، وإنما لا ينبغي أن لا تنام الليل لأجل ما سمعت فيه. وقيل له: إن فلاناً أوصى عند الموت، فقال: طين سطوحه في كانون. وقال له قائل: أسبح أم أستغفر فقال: الثياب الوسخة أحوج إلى الصابون من البخور. وسأله سائل: ما الذي وقر في قلب أبي بكر رضي الله عنه فقال: قوله ليلة المعراج " إن كان قال فلقد صدق " فله السبق. ولما قال له بعضهم " سيف علي نزل من السماء فسعفة أبي بكر أين " أجابه بقوله: إن سعفة هزت يوم الردة فأثمرت سبياً جاء منه مثل ابن الحنفية لأمضى من سيوف الهند، ثم قال: يا عجباً للروافض، إذا مات لهم ميت تركوا معه سعفة، من أين ذا المصطلح وسئل عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم " من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى أبي بكر " فقال: الميت يقسم ماله ويكفن، وأبو بكر أخرج ماله كله وتخلل بالعباء. وقال في قوله تعالى {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً} (الأعراف: 43) .

قال علي: إني والله لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم، ثم قال أبو الفرج: إذا اصطلح أهل الحرب فما بال النظارة وقال: قال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سلم على عائشة، ولم يوجهها بالخطاب احتراماً لزوجها، وواجه مريم لأنها لم يكن لها زوج، فمن يحترمها جبريل كيف يجوز في حقها الأباطيل قال أبو شامة: وكان ابن الجوزي رحمه الله تعالى مبتلى بالكلام في مثل هذه الأشياء، لكثرة الروافض ببغداد وتعنتهم بالسؤالات فيها، فكان بصيراً بالخروج منها لحسن إشارته. وانقطع القراء يوماً عن مجلسه فأنشد: وما الحلي إلا زينة لنقيصة ... يتمم من حسن إذا الحسن قصرا وأما إذا كان الجمال موفراً ... كحسنك لم يحتج إلى أن يزوروا وقيل له: لم تعلل موسى عليه السلام بسوف تراني فأنشد: إن لم يكن وصل لديك لنا ... يشفي الصبابة فليكن وعد ولما ذكر بلالاً - رضي الله عنه - لما منع الطواف بالبيت كان يقف من بعيد وينظر إليه ويبكي أنشد: أمر على منازلهم وإني ... بمن أضحى بها صب مشوق وأومي بالتحية من بعيد ... كما يومي بإصبعه الغريق ومن شعر أبي الفرج رحمه الله تعالى: لعبت ومثلك لا يلعب ... وقد ذهب الأطيب الأطيب قد كنت في ظلمات الشباب ... فلما أضاء انجلى الغيهب ألا أين أقرانك الراحلون ... لقد لاح إذ ذهبوا المذهب

ولنقتصر على هذا المقدار، ونرجع إلى أحوال لسان الدين رحمه الله تعالى وارتحاله، والاعتبار بحاله، فنقول: ومما يناسب أن نذكره في هذا المحل ونثبته فيه ما حكاه العالم العلامة بلدينا سيدي أبو الفضل ابن الإمام التلمساني رحمه الله تعالى عن جدي الإمام قاضي القضاة سيدي أبي عبد الله المقري التلمساني رحمه الله تعالى، وهو أحد أشياخ لسان الدين كما يأتي إن شاء الله ذلك في محله، قال: كنت مع ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب في جامع إلبيرة من الأندلس إذ مر بنا الاعتبار، في تلك الآثار، فأنشد ابن الخطيب ارتجالاً (1) : أقمنا برهة ثم ارتحلنا ... كذلك الدهر حال بعد حال وكل بداية فإلى انتهاء ... وكل إقامة فإلى ارتحال ومن سام الزمان دوام حال ... فقد وقف الرجاء على المحال انتهى. وحكى لسان الدين في الإحاطة عن نفسه أنه خطط هذه الأبيات في مرحلة نزلها رحمه الله تعالى حسبما يأتي ذلك في شعره. وما أحسن قوله رحمه الله تعالى: لبسنا فلم نبل الزمان وأبلانا ... يتابع أخرانا على الغي أولانا ونغتر بالآمال والعمر ينقضي ... فما كان بالرجعى إلى الله أولانا وماذا عسى أن ينظر الدهر من عسا ... فما انقاد للزجر الحثيث ولا لانا جزينا صنيع الله شر جزائه ... فلم نرع ما من سابق الفضل أولانا فيا رب عاملنا بما أنت أهله ... من العفو واجبر صدعنا أنت مولانا

_ (1) انظر أزهار الرياض 1: 271.

وقد حكى غير واحد أنه رحمه الله تعالى ريء بعد موته في المنام، فقال له الرائي: ما فعل الله بك فقال: غفر لي ببيتين قلتهما، وهما (1) : يا مصطفى من قبل نشأة آدم ... والكون لم تفتح له أغلاق أيروم مخلوق ثناءك بعدما ... أثنى على أخلاقك الخلاق وقد كرر رحمه الله تعالى هذا المعنى في قصيدة في حقه صلى الله عليه وسلم، وشرف وكرم، ومجد وعظم، وبارك وأنعم، وهو قوله: مدحتك آيات الكتاب فما عسى ... يثني على علياك نظم مديحي وإذا كتاب الله أثنى مفصحاً ... كان القصور قصار كل فصيح وستأتي هذه القصيدة في نظمه إن شاء الله تعالى. وقد رأيت بالغرب تخميساً للبيتين الأولين منسوباً للأديب الشهير الذكر بالمغرب أبي عبد الله مجمد بن جابر الغساني المكناسي رحمه الله تعالى، ولا بأس أن نورده هنا، وهو قوله رحمه الله تعالى: يا سائلاً لضريح خير العالم ... ينهي إليه مقام صب هائم بالله نادي وقل مقالة عالم ... يا مصطفى من قبل نشأة آدم والكون لم تفتح له أغلاق ... بثناك قد شهدت ملائكة السما ... والله قد صلى عليك وسلما يا مجتبى ومعظماً ومكرماً ... أيروم مخلوق ثناءك بعدما أثنى على أخلاقك الخلاق ...

_ (1) أزهار الرياض 1: 319 وفيه التخميس التالي أيضا.

وما أحسن قول لسان الدين - رحمه الله تعالى - بعدما عرف بنفسه وسلفه: وكأني بالحي ممن ذكر قد التحق بالميت، وبالقبر قد استبدل من البيت. وقال رحمه الله تعالى بعد إيراد جملة من نظمه ما صورته: وقلت والبقاء لله وحده، وبه يختم الهذر (1) : عد عن كيت وكيت ... ما عليها غير ميت كيف ترج حالة البق ... يا لمصباح وزيت وسيأتي ذلك، ولقد صدق رحمه الله تعالى، ورقى درجته في الجنة. [تحقيق في نسبة بيتين] وأما البيتان الشائعان على ألسنة أهل المشرق والمغرب وأنهما قيلا في لسان الدين رحمه الله تعالى، وبعضهم ينسبهما له نفسه، فالصحيح خلاف ذلك كما سيأتي، وهما: قف كي ترى مغرب شمس الضحى ... بين صلاة العصر والمغرب واسترحم الله قتيلاً بها ... كان إمام العصر في المغرب وشرح بعضهم البيتين فقال: إن قوله " قتيلاُ بها " من باب الاستخدام: أي قتيلاً بشمس الضحى التي هي المتغزل فيها. وقد رأيت وأنا بالمغرب بخط الشيخ الأغصاوي أنهما لم يعن بهما قائلهما لسان الدين ابن الخطيب، وإنما هما مقولان في غيره، ونسبهما، ونسيت الآن ذلك لطول العهد، والله أعلم. ويدل على ذلك أنه - رحمه الله تعالى - لم يقتل بين صلاة العصر والمغرب

_ (1) أزهار الرياض 1: 313.

وإنما قتل في جوف الليل كما علم في محله. على أنه يمكن بتكلف تأويل ذلك بأنه قامت لقائلها قرينة على أنه بصدد الموت في ذلك الوقت، وهذا لو ثبت أنهما قيلا فيه، وقد علمت أن الأغصاوي نفى ذلك، فالله أعلم بحقيقة الأمر. في ذلك. ثم رأيت في كتاب إسماعيل بن الأحمر في ترجمة بعض العلماء ما نصه: فمن قوله يرثي الأمراء بالمغرب، وقد حل رمسه بين صلاة العصر والمغرب: قف كي ترى مغرب شمس العلا ... بين صلاة العصر والمغرب واسترحم الله دفيناً به ... كان مليك العصر في المغرب وهذا مما يبعد أنهما في لسان الدين من وجوه لا تخفى على المتأمل: منهما قوله كان مليك العصر فإن لسان الدين لم يكن كذلك، وقد تقدم أنفاُ كان إمام العصر في المغرب وهو أحسن؛ لما فيه من التورية البديعة، والله أعلم. [ثلاث قصائد لابن زمرك] رجع إلى أخبار لسان الدين ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - وقد عرض عدوه الرئيس ابن زمرك في بعض قصائده التي مدح بها سلطانه الغني بالله أبا عبد الله بن نصر بما تسنى له من الظفر لابن الخطيب، ومن حماه منه، وهو الوزير بن الكاس، على يد من عينه لملك المغرب، وأعانه بجنده وعضده - كما تقدم - وهو السلطان أحمد المريني، فقال من قصيدة عيدية: يهني زمانك أعياد مجددة ... من الفتوح من الأيام تغشاه غضبت للدين والدنيا بحقهما ... يا حبذا غضب في الله أرضاه فوقت للغرب سهماً راشه قدر ... وسدد الله للأعداء مرماه

" سهم أصاب وراميه بذي سلم " ... لقد رمى الغرب الأقصى فأصماه (1) من كان بندك يا مولاي يقدمه ... فليس يخلفه فتح ترجاه من كان جندك جند الله ينصره ... أناله الله ما يرجو وسناه ملكته غربه خلدت من ملك ... للغرب والشرق منه ما تمناه وسام أعدائك الأشقين ما كسبوا ... ومن تردى رداء الغدر أرداه قل للذي رمدت جهلاً بصيرته ... فلم تر الشمس، شمس الهدي، عيناه غطى الهوى عقله حتى إذا ظهرت ... له المراشد أعشاه وأعماه هل عنده وذنوب الغدر توبقه ... أن الذي قد كساه العز أعراه لو كان يشكر ما أوليت من نعم ... ما زلت ملجأه الأحمى ومنجاه سل السعود وخل البيض مغمدة ... فالسيف مهما مضى فالسعد أقصاه وأشرع من البرق نصلاً راع مصلته ... وارفع من الصبح بنداً راق مجلاه فالعدوتان وما قد ضم ملكهما ... أنصار ملكك، صان الله علياه لا أوحش الله قطراُ أنت مالكه ... وآنس الله بالألطاف مغناه لا أظلم الله أفقاً أنت نيره ... لا أهمل الله سرحاُ أنت ترعاه وأهنأ بشهر صيام جاء زائره ... مستنزل من إله العرش رحماه أهل بالسعد فانهلت به منن ... وأوسع الصنع إجمالأ ووفاه أما ترى بركات الأرض شاملة ... وأنعم الله قد عمت براياه وعادك العيد تستحلى موارده ... ويزجل الأجر والرحمى مصلاه جهزت جيش دعاء فيه ترفعه ... لذي المعارج والإخلاص رقاه أفضت فيه من النعماء أجزلها ... وأشرف البر بالإحسان زكاه واليت للخلق ما أوليت من نعم ... والى لك الله ما أولى ووالاه

_ (1) ضمنه من قول الشريف الرضي: سهم أصاب وراميه بذي سلم ... من بالعراق لقد أبعدت مرماك

وأول هذه القصيدة: هذي العوالم لفظ أنت معناه ... كل يقول إذا استنطقه الله بحر الوجود وفلك الكون جارية ... وباسمك الله مجراه ومرساه من نور وجهك ضاء الكون أجمعه ... حتى تشيد بالأفلاك مبناه عرش وفرش وأملاك مسخرة ... وكلها ساجد لله مولاه سبحان من أوجد الأشياء من عدم ... وأوسع الكون قبل الكون نعماه من ينسب النور للأفلاك قلت له: ... من أين أطلعت الأنوار لولاه مولاي مولاي بحر الجود أغرقني ... والخلق أجمع في ذا البحر قد تاهوا فالفلك تجري كما الأفلاك جارية ... بحر السماء وبحر الأرض أشباه وكلهم نعم للخلق شاملة ... تبارك الله لا تحصى عطاياه يا فاتق الرتق من هذا الوجود كما ... في سابق العلم قد خطت قضاياه كن لي كما كنت لي إذ كنت لا عمل ... أرجو، ولا ذنب قد أذنبت أخشاه وأنت في حضرات القدس تنقلني ... حتى استقر بهذا الكون مثواه ما أقبح العبد أن ينسى وتذكره ... وأنت باللطف والإحسان ترعاه غفرانك الله من جهل بليت به ... فمن أفاد وجودي كيف أنساه مني علي حجاب لست أرفعه ... إلا بتوفيق هدي منك ترضاه فعد علي بما عودت من كرم ... فأنت أكرم من أملت رحماه ثم الصلاة صلاة الله دائمة ... على الذي باسمه في الذكر سماه المجتبى وزناد النور ما قدحت ... ولا ذكا من نسيم الروض مسراه والمصطفى وكمام الكون ما فتقت ... عن زهر زهر يروق العين مرآه ولا تفجر نهر للنهار على ... در الدراري فغطاه وأخفاه يا فاتح الرسل أو يا ختمها شرفاً ... والله قدس في الحالين معناه

لم أدخر غير حب فيك ارفعه ... وسيلة لكريم يوم ألقاه صلى عليك إله أنت صفوته ... ما طيبت بلذيذ الذكر أفواه وعم بالروح والريحان صحبته ... وجادهم من نمير العفو أصفاه وخص أنصاره الأعلين صفوته ... وأسكنوا من جوار الله أعلاه أنصار ملته أعلام بيعته ... مناقب شرفت أنثى بها الله وأيد الله من أحيا جهادهم ... وواصل الفخر أخراه بأولاه المنتقى من صميم الفخر جوهره ... ما بين نصر وأنصار تهاداه العلم والحلم والإفضال شيمته ... والبأس والجود بعض من سجاياه وهي طويلة، ولنقتصر منها على ما ذكر. وقد صرح ابن زمرك المذكور في قصيدة أخرى مدح بها سلطانه الغني بالله، وهنأه بفتح المغرب على يد السلطان أحمد، وذكر فيها ظفره بالوزير ابن الكاس، وهو - أعني ابن الكاس - كان القائم بنصرة لسان الدين، والمانع له، والمجير له منهم حين طلبوه منه، فلما لم يخفر ذمته تمكنت - كما سبق - أسباب العداوة، وجر ذلك أن أغرى السلطان أحمد على تملك فاس، واشترطوا عليه كما مر القبض على لسان الدين وإرساله إليهم، وقد نقلت أنا هذه القصيدة من تأليف لحفيد السلطان الغني بالله ونص محل الحاجة منه: ومن ذلك أيضاً قوله - يعني ابن زمرك - هناء لمولانا الجد رحمه الله تعالى بالفتح المغربي للسلطان أبي العباس ابن السلطان أبي سالم المريني (1) : هي نفحة هبت من الأنصار ... أهدتك فتح ممالك الأمصار في بشرها وبشارة الدنيا بها ... مستمتع الأسماع والأبصار هبت على قطر الجهاد فروضت ... أرجاءه بالنفحة المطار

_ (1) القصيدة في أزهار الرياض 2: 28 - 34.

وسرت وأمر الله طي برودها ... يهدي البرية صنع لطف الباري مرت بأدواح المنابر فانبرت ... خطباؤها مفتنة الأطيار حنت معارجها إلى أعشارها ... لما سمن بها حنين عشار لو أنصفتك لكللت أدواحها ... تلك البشائر يانع الأزهار فتح الفتوح أتاك من حلل الرضى ... بعجائب الأزمان والأعصار فتح الفتوح جنيت من أفنانه ... ما شئت من نصر ومن أنصار كم آية لك في السعود جلية ... خلدت منها عبرة استبصار كم حكمة لك في النفوس خفية ... خفيت مداركها عن الأفكار كم من أمير أم بابك فانثنى ... يدعى الخليفة دعوة الإكبار أعطيت أحمد راية منصورة ... بركاتها تسري من الأمصار أركبته في المنشآت كأنما ... جهزته في وجهة لمزار من كل خافقة الشراع مصفق ... منها الجناح تطير كل مطار ألقت بأيدي الريح فضل عنانها ... فتكاد تصدق لمحة الأبصار مثل الجياد تدافعت وتسابقت ... من طافح الأمواج في مضمار لله منها في المجاز سوابح ... وقفت عليك الفخر وهي جواري لما قصدت بها مراسي سبتة ... عطفت على الأسوار عطف سوار لما رأت من صبح عزمك غرة ... محفوفة بأشعة الأنوار ورأت جبيناً دونه شمس الضحى ... لبتك بالإجلال والإكبار فأفضت بها من نداك مواهباً ... حسنت مواقعها على التكرار وأريت أهل الغرب عزم مغرب ... قد ساعدته غرائب الأقدار وخطبت من فاس الجديد عقيلة ... لبتك طوع تسرع وبدار ما صدقوا متن الحديث بفتحها ... حتى رأوه في متون شفار وتسمعوا الأخبار باستفتاحها ... والخبر قد أغنى عن الأخبار قولوا لقرد في الوزارة غره ... حلم مننت به على مقدار

أسكنته من فاس جنة ملكها ... متنعماً منها بدار قرار حتى إذا كفر الصنيعة وازدرا ... بحقوقها ألحقته بالنار جرعت نجل الكاس كأساً مرة ... دست إليه الحتف في الإسكار كفر الذي أوليته من نعمة ... لا تأنس النعماء بالكفار فطرحته طرح النواة فلم يفز ... من عز مغربه بغير فرار لم يتفق لخليفة مثل الذي ... أعطى الإله خليفة الأنصار لم أدر والأيام ذات عجائب ... تردادها يحلو على التذكار ألواء صبح في فنية مشرق ... أم راية في جحفل جرار وشهاب أفق أم سنان لامع ... ينقض نجماً في سماء غبار ومناقب المولى الإمام محمد ... قد أشرقت أم هن زهر دراري فاق الملوك بهمة علوية ... من دونها نجم السماء الساري لو صافح الكف الخصيب بكفه ... فخرت بنهر للمجرة جاري والشهب تطمع في مطالع أفقها ... لو أحرزت منه منيع جوار سل بالمشارق صبحها عن وجهه ... يفتر منه عن جبين نهار سل بالغمائم صوبها عن كفه ... تنبيك عن بحر بها زخار سل بالبروق صفاحها عن عزمه ... تخبرك عن أمضى شباً وغرار قد أحرز الشيم الخطيرة عندما ... أمطى العزائم صهوة الأخطار إن يلق ذو الإجرام صفحة صفحه ... فسح القبول له خطا الأعمال يا من إذا هبت نواسم حمده ... أزرت بعرف الروضة المعطار يا من إذا افترت مباسم بشره ... وهب النفوس وعاف في الإقتار يا من إذا طلعت شموس سعوده ... تعشي أشعتها قوى الأبصار قسماً بوجهك في الضياء وإنه ... شمس تمد الشمس بالأنوار قسماً بعزمك في المضاء فإنه ... سيف تجرده يد الأقدار

لسماح كفك كلما استوهبته ... يزري بغيمة الديمة المدرار لله حضرتك العلية لم تزل ... يلقي الغريب بها عصا التسيار كم من طريد نازح قذفت به ... أيدي النوى في القفر رهن سفار بلغته ما شاء من آماله ... فسلا عن الأوطان بالأوطار صيرت بالإحسان دارك داره ... متعت بالحسنى وعقبى الدار والخلق تعلم أنك الغوث الذي ... يضفي عليها وافي الأستار كم دعوة لك في المحول مجابة ... أغرت جفون المزن باستعبار جادت مجاري الدمع من قطر الندى ... فرعى الربيع لها حقوق الجار فأعاد وجه الأرض طلقاً مشرقاً ... متضاحكاً بمباسم النوار يا من مآثره وفضل جهاده ... تحدى القطار بها إلى الأقطار حطت البلاد ومن حوت ثغورها ... وكفى لسعدك حامياً لذمار فلرب بكر للفتوح خطبتها ... بالمشرفية والقنا الخطار وعقيلة للكفر لما رعتها ... أخرست من ناقوسها المهذار أذهبت من صفح الوجود كيانها ... ومحوتها إلا من التذكار عمروا بها جنات عدن زخرفت ... ثم انثنوا عنها ديار بوار صبحت منها روضة مطلولة ... فأعدتها للحين موقد نار واسود وجه الكفر من خزي متى ... ما احمر وجه الأبيض البتار ولرب روض للقنا متأود ... ناب الصهيل به عن الأطيار مهما حكت زهر الأسنة زهره ... حكت السيوف معاطف الأنهار متوقد لهب الحديد بجوه ... تصلى به الأعداء لفح أوار فبكل ملتفت صقال مشهر ... قداح زند للحفيظة واري في كف أروع فوق نهد سابح ... متموج الأعطاف في الإحضار من كل منخفر بلمحة بارق ... حمل السلاح به على طيار من أشهب كالصبح يطلع غرة ... في مستهل العسكر الجرار

أو أدهم كالليل إلا أنه ... لم يرض بالجوزاء حلي عذار أو أحمر كالجمر يذكي شعلة ... وقد ارتمى من بأسه بشرار أو أشقر حلى الجمال أديمه ... وكساه من زهو جلال نضار أو أشعل راق العيون كأنه ... غلس يخالط سدفة بنهار شهب وشقر في الطراد كأنها ... روض تفتح عن شقيق بهار عودتها أن ليس تقرب منهلاً ... حتى يخالط بالدم الموار يا أيها الملك الذي أيامه ... غرر تلوح بأوجه الأعصار يهني لواءك أن جدك زاحف ... بلواء خير الخلق للكفار لا غرو أن فقت الملوك سيادة ... إذ كان جدك سيد الأنصار السابقون الأولون إلى الهدى ... والمصطفون لخدمة المختار متهللون إذا النزيل عراهم ... سفروا له عن أوجه الأقمار من كل وضاح الجبين إذا احتبى ... تلقاه معصوباً بتاج فخار قد لاث صبحاً فوق بدر بعدما ... لبس المكارم وارتدى بوقار فاسأل ببدر عن مواقف بأسهم ... فهم تلافوا أمره ببدار لهم العوالي عن معالي فخرها ... نقل الرواة عوالي الأخبار وإذا كتاب الله يتلو حمدهم ... أودى القصور بمنة الأشعار يا ابن الذين إذا تذوكر فخرهم ... فخروا بطيب أرومة ونجار حقاً لقد أوضحت من آثارهم ... لما أخذت لدينهم بالثار أصبحت وارث مجدهم وفخارهم ... ومشرف الأعصار والأمصار يا صادراً في الفتح عن ورد المنى ... رد ناجح الإيراد والأصدار واهنأ بفتح جاء يشتمل الرضى ... جذلان يرفل في حل استبشار وإليكها ملء العيون وسامة ... حيتك بالأبكار من أفكاري تجري حداة العيس طيب حديثها ... يتعللون به على الأكوار إن مسهم لفح الهجير أبلهم ... منه نسيم ثنائك المعطار

وتميل من أصغى لها فكأنني ... عاطيته منها كؤوس عقار قذفت بحور الفكر منها جوهراً ... لما وصفت أنامل ببحار لا زلت للإسلام ستراً كلما ... أم الحجيج البيت ذا الأستار وبقيت يا بدر الهدى تجري بما ... شاءت علاك سوابق الأقدار انتهت. ولابن زمرك السابق قصيدة أخرى قالها بعد موت لسان الدين ابن الخطيب وخلع السلطان أبي العباس أحمد ابن أبي سالم الذي قتل ابن الخطيب في دولته، وكان سلطان الأندلس موئلاً للسلطان أحمد المذكور، ولذلك امتعض لرده لملكه، فقال ابن زمرك وزير صاحب الأندلس بعد ابن الخطيب هذه القصيدة يمدح بها سلطانه أثناء وجهته لتجديد الدولة الأحمدية المذكورة صدر عام تسعة وثمانين وسبعمائة (1) : هب النسيم على الرياض مع السحر ... فاستيقظت في الدوح أجفان الزهر ورمى القضيب دراهماً من نوره ... فاعتاض من طل الغمام بها درر نثر الأزاهر بعدما نظم الندى ... يا حسن ما نظم النسيم وما نثر قم هاتها والجو أزهر باسم ... شمساً تحل من الزجاجة في قمر إن شجها بالماء كف مديرها ... ترميه من شهب الحباب بها شرر نارية نورية من ضوئها ... يقد (2) السراج لنا إذا الليل اعتكر لم يبق منها الدهر إلا صبغة ... قد أرعشت في الكأس من ضعف الكبر من عهد كسرى لم يفض ختامها ... إذ كان يدخر كنزها فيما دخر كانت مذاب التبر فيما قد مضى ... فأحالها ذوب اللجين لمن نظر جدد بها عرس الصبوح فإنها ... بكر تحييها الكرام مع البكر

_ (1) انظر أزهار الرياض 2: 35 - 38. (2) ق ص: يقدح، واقرأ: قدح.

وابلل بها رمق الأصيل عشية ... والشمس من وعد الغروب على خطر محمرة مصفرة قد أظهرت ... خجل المريب يشوبه وجل الحذر من كف شفاف تجسد نوره ... من جوهر لألاه بهجته بهر تهوى البدور كماله وتود أن ... لو أوتيت منه المحاسن والغرر قد خط نون عذاره في خده ... قلمان من آس هناك ومن شعر والى عليك بها الكؤوس، وربما ... يسقيك من كأس الفتور إذا فتر سكر الندامى من يديه ولحظه ... متعاقب مها سقى وإذا نظر حيث الهدير مع الهديل تناغيا ... فالطير تنشد (1) في الغصون بلا وتر والقضب مالت للعناق كأنها ... وفد الأحبة قادمين من السفر متلاعبات في الحلي ينوب في ... وجناتهن حسناً عن خفر والنرجس المطلول يرنو نحوها ... بلواحظ دمع الندى منها انهمر والنهر مصقول الحسام متى يرد ... درع الغدير مصفقاً فيه صدر يجري على الحصباء وهي جواهر ... متكسراً من فوقها مهما عثر هل هذه أم روضة البشرى التي ... فيها لأرباب البصائر معتبر لم أدر من شغف بها وبهذه ... من منهما فتن القلوب ومن سحر جاءت بها الأجفان ملء ضلوعها ... ملء الخواطر والمسامع والبصر ومسافر في البحر ملء عنانه ... وافى مع الفتح المبين على قدر قادته نحوك بالخطام كأنه ... جمل يساق إلى القياد وقد نفر وأراه دين الله عزة أهله ... بك يا أعف القادرين إذا قدر يا فخر أندلس وعصمة أهلها ... للناس سر في اختصاصك قد ظهر كم معضل من دائها عالجته ... فشفيت منه البدار والبدر ماذا عسى يصف البليغ خليفة ... والله ما أيامه إلا غرر

_ (1) الأزهار: تشدو.

ورثت هذا الفخر يا ملك الهدى ... من كل من آوى النبي ومن نصر من شاء يعرف فخرهم وكمالهم ... فليتل وحي الله فيهم والسير أبناؤهم أبناء نصر بعدهم ... بسيوفهم دين الإله قد انتصر مولاي سعدك والصباح تشابها ... وكلاهما في الخافقين قد اشتهر هذا وزير الغرب عبد آبق ... لم يلف غيرك في الشدائد من وزر كفر الذي أوليته من نعمة ... والله قد حتم العذاب لمن كفر إن لم يتم بالسيف مات بغيظه ... وصلي سعيراً للتأسف والفكر ركب الفرار مطية ينجو بها ... فجرت به حتى استقر على سقر وكذا أبوه وكان منه حمامه ... قد حم وهو من الحياة على غرر بلغته والله أكبر شاهد ... ما شاء من وطن يعز ومن وطر حتى إذا جحد الذي أوليته ... لم تبق منه الحادثات ولم تذر في حاله والله أعظم عبرة ... لله عبد في القضاء قد اعتبر فاصبر تنل أمثالها في مثله ... إن العواقب في الأمور لمن صبر رد حيث شئت مسوغاً ورد المنى ... فلله حسبك في الورود وفي الصدر لا زلت محروساً بعين كلاءة ... ما دام عين الشمس تعشي من نظر ومنها وقد أضاف إليه من التغزل طوع بداره، وحجة اقتداره، فقال: والعود في كف نديم بسر ما ... تلقي لنا الأنامل منه قد جهر غنى عليه الطير وهو بدوحه ... والآن غنى فوقه ظبي أغر عود ثوى حجر القضيب، رعى له ... أيام كانا في الرياض مع الشجر لا سيما لما رأى من ثغره ... زهراً، وأين الزهر من تلك الدرر ويظن أن عذاره من آسه ... ويظن تفاح الخدود من الثمر يسبي القلوب بلفظه وبلحظه ... وافتنتي بين التكلم والنظر قد قيدته لأنسنا أوتاره ... كالظبي قيد في الكناس إذا نفر

لم يبل قلبي قبل سماع غنائه ... بمعذر سلب العقول وما اعتذر جس القلوب بجسه أوتاره ... حتى كأن قلوبنا بين الوتر نمت لنا ألحانه بجميع ما ... قد أودعت فيه القلوب من الفكر يا صامتاً والعود تحت بنانه ... يغنيك نطق الخبر فيه عن الخبر أغنى غناؤك من مدامك، يا ترى ... هل من لحاظك أم بنانك ذا السكر باحت أناملك اللدان بكل ما ... كان المتيم في هواه قد ستر ومقاتل ما سل غير لحاظه ... والرمح هز من القوام إذا خطر دانت له منا القلوب بطاعة ... والسيف يملك ربه مهما قهر وسنلم إن شاء الله تعالى بترجمة ابن زمرك هذا في باب التلامذة، ونشير هناك إلى كثير من أحواله، وكيفية قتله مع أولاده وخدمه بمرأى ومسمع من أهله، فكان الجزاء من جنس العمل، وخاب منه الأمل، إذ لسان الدين قتل غيلة بليل غاسق، على يد مختلس في السجن فاسق، وأما ابن زمرك فقتل بالسيف جهاراً، وتناوشته سيوف مخدومه بين بناته إبداء للتشفي وإظهاراً، وقتل معه من وجد من خدمه وأبناه، وأبعده الدهر وطالما أدناه. وهكذا الحال في خدام الدول وذوي الملك، أنهم أقرب شيء من الهلك، ويرحم الله من قال: إياك وخدمة الملوك فإنهم يستقلون في العقاب ضرب الرقاب، ويستكثرون في الثواب رد الجواب؛ انتهى. رجع إلى ما كنا فيه من أحوال لسان الدين ابن الخطيب: وكان رحمه الله تعالى قبيل موته لما توفي السلطان أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن المريني بتلمسان وتغلب على الأمر الوزير أبو بكر ابن غازي بن الكاس مبايعاً لابن صغير السن أولاد السلطان عبد العزيز - ألف كتابه المسمى بأعمال الأعلام بمن بويع من ملوك الإسلام قبل الاحتلام ومراده بذلك تثبيت دولة الوزير الذي أبى أن يخفر عهده وذمته، وامتنع منه أهل الأندلس، فأكثروا

القالة في الوزير بسبب مبايعته للصبي، وبنوا ظاهر الأمر على أن ذلك لا يجوز بالشرع، وأبدأوا وأعادوا في ذلك، واسروا ما كان من أمرهم حسواً في ارتغاء. ومن جملة كلام لسان الدين ابن الخطيب في ذلك الكتاب قوله: فمتى نبس أهل الأندلس بإنكار بيعة صبي صغير، أو نيابة صاحب أو وزير، فقد عموا وصموا، وخطروا بربع الإنصاف فأعرضوا وما ألموا، وبما نسوه لغيرهم ذموا؛ انتهى. وكان رحمه الله تعالى ألف للسلطان عبد العزيز حين انحيازه إليه المباخر الطيبية في المفاخر الخطيبية: يذكر فيه نباهة سلفه، وما لهم من المجد، وقصده الرد على أهل الأندلس المجاهرين له بالعداوة، القادحين في فخر سلفه. ثم ألف للسلطان المذكور كتاب " خلع الرسم في التعريف بأحوال ابن الحسن " لكونه تولى كبر الحط منه، والسعي في هلاكه كما مر، وقال في حق هذا الكتاب: إنه لا شيء فوقه في الظرف والاستطراف، يسلس الثكالى، ونستغفر الله تعالى؛ انتهى. ومع هذا كله لما أنشبت المنية أظفارها لم تنفعه مما كتب تميمة، ونال ما أمل فيه أهل السعاية والنميمة، وسجلوا عليه المقالات الذميمة، وقد صار الجميع إلى حكم عدل قادر يحيي من العظم رميمه، ونصف المظلوم من الظالم، ويجازي الجاهل والعالم، ويساوي بين المأمور والآمر، والشريف والمشروف، والعزيز والحقير والمنكر والمعروف، وعفوه سبحانه مؤمل بعد، وهو لا يخلف الوعد، ومن سبقت له العناية، لم تضره الجناية. وقد كان لسان الدين البن الخطيب - رحمه الله تعالى - محباً في العفو حتى إنه كان إذا جرى لديه ذكر عقوبة الملوك لأتباعهم تشمئز نفسه من ذلك ويقول ما معناه: ما ضرهم لو عفوا! ورأيت له - رحمه الله تعالى - في بعض مؤلفاته وقد أجرى ذكر استعطاف ذي الوزارتين أبي بكر ابن عمار للسلطان المعتمد بن عباد حين قبض عليه بقوله:

سجاياك إن عافيت أندى وأسمح ... وعذرك إن عاقبت أولى وأوضح وإن كان بين الخطتين مزية ... فأنت من الأدنى إلى الله أجنح وماذا عسى الأعداء أن يتزيدوا ... سوى أن ذنبي ثابت ومصحح وإن رجائي أن عندك غير ما ... يخوض عدوي اليوم فيه ويمرح أقلني بما بينك وبيني من رضى ... له نحو روح الله باب مفتح ولا تلتفت قول الوشاة وزورهم ... فكل إناء بالذي فيه يرشح وقالوا: سيجزيه فلان بذنبه ... فقلت: وقد يعفو فلان ويصفح ألا إن بطشاً للمؤيد يرتمي ... ولكن حلماً للمؤيد يرجح وبين ضلوعي من هواة تميمة ... ستشفع لو أن الحمام يجلح سلام عليه كيف دار به الهوى ... إلي فيدنو أو علي فينزح ويهنيه إن رمت السلو فإنني ... أموت ولي شوق إليه مبرح ما نصه: ولابن عمار كلمات شهيرة تعالج بمراهمها جراح القلوب، وتعفي على هضبات الذنوب، لولا ما فرغ عنه من القدر المكتوب والأجل المحسوب؛ إلى أن قال: وما كان أجمل بالمعتمد أن يبقي على جان من عبيده، قد مكنه الله من عنقه، لا يؤمل الحصول على أمره، ولا يحذر تعصب قبيله، ولا يزيده العفو عنه إلا ترفعاً وعزة وجلالة وهمة وذكراً جميلاً وأجراً جزيلاً، فلا شيء أمحى للسيئة من الحسنة، ولا أقتل للشر من الخير، ورحم الله الشاعر إذ يقول: وطعنتهم بالمكرمات وباللها ... في حيث لو طعن القنا لتكسرا وقد تذكرت هنا قول الأديب أبي عبد الله محمد بن أحمد التجاني رحمه الله تعالى ورضي عنه: أتعجب إن حطت يد الدهر فاضلاً ... عن الرتبة العليا فأصبح تحتها

أما هذه الأشجار تحمل أكلها ... وتسقط منه كل ما طاب وانتهى [نكبة أبي جعفر ابن عطية] وحكى غير واحد من مؤرخي الأندلس أن الكاتب الشهير الوزير أبا جعفر ابن عطية القضاعي (1) لما تغير له عبد المؤمن وتذاكر مع بعض من أهل العلم أبيات ابن عمار السابقة، قال: ما كان المعتمد إلا قاسي القلب حيث لم تعطفه هذه الأبيات إلى العفو، ووقع لابن عطية المذكور مثل قضية ابن عمار، واستعطف فما نفع ذلك وقتل رحمه الله تعالى، ولنلم بذلك فنقول: كان أبو جعفر هذا من أهل مراكش، وأصله القديم من طرطوشة، ثم بعد من دانية، وهو ممن كتب عن علي بن يوسف بن تاشفين أمير لمتونة، وعن ابنيه تاشفين وإسحاق، ثم استخلصه لنفسه سالب ملكهم عبد المؤمن بن علي، وأسند إليه وزارته، فنهض بأعبائها، وتحبب إلى الناس بإجمال السعي والإحسان فعمت صنائعه، وفشا معروفه، وكان محمود السيرة، مبخت المحاولات، ناجح المساعي، سعيد المآخذ، ميسر المآرب، وكانت وزارته زيناً للوقت، وكمالاً للدولة، وفي أيام توجهه للأندلس وجد حساده السبيل إلى التدبير عليه والسعي به، حتى أوغروا صدر الخليفة عبد المؤمن عليه، فاستوزر عبد السلام بن محمد الكومي، وانبرى لمطالبة ابن عطية، وجد في التماس عوراته، وتشنيع سقطاته، وطرحت بمجلس السلطان أبياتاً منها: قل للإمام أطال الله مدته ... قولاً تبين لذي لب حقائقه إن الزراجين (2) قوم قد وترتهم ... وطالب الثأر لم تؤمن بوائقه

_ (1) انظر الخبر عن أبي جعفر ابن عطية في المعجب: 267 والإحاطة 1: 132 (ط. السلفية) وقد نقل المقري ما جاء في المصدر الثاني، حتى آخر رسالة ابن عطية؛ وإعتاب الكتاب: 225. (2) الزراجين: لقب أطلقه الموحدون على الملثمين تشبيها لهم بطائر أسود البطن أبيض الريش يقال له الزرجان (نظم الجمان: 85) .

وللوزير إلى آرائهم ميل ... لذاك ما كثرت فيهم علائقه فبادر الحزم في إطفاء نارهم ... فربما عاق عن أمر عوائقه هم العدو ومن والاهم كهم ... فاحذر عدوك واحذر من يصادقه الله يعلم أني ناصح لكم ... والحق أبلج لا تخفى طرائقه قالوا: ولما وقف عبد المؤمن على هذه الأبيات البليغة في معناها وغر صدره على وزير أبي جعفر، وأسر له في نفسه تغيراً، فكان من أقوى أسباب نكبته. وقيل: أفضى له بسر فأفشاه، وانتهى ذلك كله إلى أبي جعفر وهو بالأندلس فقلق وعجل الانصراف إلى مراكش، فحجب عند قدومه، ثم قيد إلى المسجد في اليوم بعده حاسر العمامة، واستحضر الناس على طبقاتهم، وقرروا على ما يعلمون من أمره، وما صار إليه منهم، فأجاب كل بما اقتضاه هواه، وأمر بسجنه، ولف معه أخوه أبو عقيل عطية، وتوجه في إثر ذلك عبد المؤمن إلى زيارة تربة المهدي محمد بن تومرت، فاستصحبهما منكوبين بحال ثقاف. وصدرت عن أبي جعفر في هذه الحركة من لطائف الأدب نظماً ونثراً في سبيل التوسل بتربة إمامهم المهدي عجائب لم تجد شيئاً مع نفوذ قدر الله تعالى فيه. ولما انصرف من وجهته أعادهما معه قافلاً إلى مراكش، فلما حاذى تاقمرت أنفذ الأمر بقتلهما بالشعراء المتصلة بالحصن على مقربة من الملاحة هنالك، فمضيا لسبيلهما، رحمهما الله تعالى. ومما خاطب به الخليفة عبد المؤمن مستعطفاً له من رسالة تغالى فيه فغالته المنية، ولم ينل الأمنية، وهذه سنة الله تعالى فيمن لم يحترم جناب الألوهية، ولم يحرس لسانه من الوقوع فيما يخدش في وجه فضل الأنبياء على غيرهم وعصمتهم، قوله سامحه الله: " تالله لو أحاطت بي كل خطيئة، ولم تنفك نفسي عن الخيرات بطيئة، حتى سخرت بمن في الوجود، وأنفت لآدم من السجود، وقلت: إن الله تعالى

لم يوح، في الفلك لنوح، وبريت لقدار ثمود نبلاً، وأبرمت لحطب نار الخليل حبلاً، وحططت عن يونس شجرة اليقطين، وأوقدت مع هامان على الطين، وقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها، وافتريت على العذراء البتول فقذفتها، وكتبت صحيفة القطيعة بدار الندوة، وظاهرت الأحزاب بالقصوى من العدوة، وذممت كل قرشي، وأكرمت لأجل وحشي كل حبشي، وقلت: إن بيعة السقيفة، لا توجب إمامة خليفة، وشحذت شفرة غلام المغيرة بن شعبة، واعتقلت من حصار الدار وقتل اشمطها بشعبة، وقلت: تقاتلوا رغبة في الأبيض والأصفر، وسفكوا الدماء على الثريد الأعفر، وغادرت الوجه من الهامة خضيباً، وناولت من قرع سن الحسين قضيباً، ثم أتيت حضرة المعلوم لائذاً، وبقبر الإمام المهدي عائذاً، لقد آن لمقالتي أن تسمع، وتغفر لي هذه الخطيئات أجمع، مع أني مقترف، وبالذنب معترف. فعفواً أمير المؤمنين فمن لنا ... برد قلوب هدها الخفقان " وكتب مع ابن له صغير آخرة: عطفاً علينا أمير المؤمنين، فقد ... بان العزاء لفرط البث والحزن قد أغرقتنا ذنوب كلها لجج ... وعطفة منكم أنجى من السفن وصادفتنا سهام كلها غرض ... ورحمة منكم أوقى من الجنن هيهات للخطب أن تسطو حوادثه ... بمن أجارته رحماكم من المحن من جاء عندكم يسعى على ثقة ... بنصره لم يخف بطشاً من الزمن فالثوب يطهر عند الغسل من درن ... والطرف ينهض بعد الركض في سنن أنتم بذلتم حياة الخلق كلهم ... من دون من عليهم لا ولا ثمن ونحن من بغض من أحيت مكارمكم ... كلتا الحياتين من نفس ومن بدن وصبية كفراخ الورق من صغر ... لم يألفوا النوح في فرع ولا فنن

قد أوجدتهم أياد منهم سابقة ... والكل لولاك لم يوجد ولم يكن فوقع عبد المؤمن على هذه القصيدة {الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} (يونس: 91) . ومما كتب به من السجن: أنوح على نفسي أم أنتظر الصفحا ... فقد آن أن تنسى الذنوب وان تمحى فها أنا في ليل من السخط حائر ... ولا أهتدي حتى أرى للرضى صبحا وامتحن عبد المؤمن الشعراء بهجو ابن عطية، فلما أسمعوه ما قالوا، أعرض عنهم، وقال: ذهب ابن عطية وذهب الأدب معه. وكان لأبي جعفر أخ اسمه عطية قتل معه، ولعطية هذا ابن أديب كاتب، وهو أبو طالب عقيل بن عطية، ومن نظمه في رجل تعشق قينة كانت ورثت من مولاها مالاً فكانت تنفق عليه منه، فلما فرغ المال ملها: لا تلحه أن مل من حبها ... فلم يكن ذلك من ود لما رآها قد صفا مالها ... قال: صفا الوجد مع الوجد وكان أبو جعفر ابن عطية من أبلغ أهل زمانه، وقد حكي أنه مر مع الخليفة عبد المؤمن ببعض طرق مراكش، فأطلت من شباك جارية بارعة الجمال فقال عبد المؤمن: قدت فؤادي من الشباك إذ نظرت ... فقال الوزير ابن عطية مجيزاً له: حوراء ترنو إلى العشاق بالمقل ... فقال عبد المؤمن: كأنما لحظها في قلب عاشقها ...

فقال ابن عطية: سيف المؤيد عبد المؤمن بن علي ... ولا خفاء أن هذه طبقة عالية. ومن فصول رسالته التي كتب بها عن أبي حفص، وهي التي أورثته الرتبة العلية السنية، والوزارة الموحدية المؤمنية، قوله (1) : كتابنا هذا من وادي ماسة بعد ما تجدد من أمر الله الكريم، ونصر الله تعالى المعهود المعلوم {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} (آل عمران: 126) فتح بهر الأنوار إشراقاً، وأحدق بنفوس المؤمنين إحداقاً، ونبه للأماني النائمة جفوناً وإحداقا، واستغرق غاية الشكر استغراقاً، فلا تطيق الألسن لكنه وصفه إدراكاً ولا لحاقاً، جمع أشتات الطلب والأرب، وتقلب في النعم أكرم منقلب، وملأ دلاء الأمل إلى عقد الكرب: فتح تفتح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض في أثوابها القشب وتقدمت بشارتنا به جملة، حين لم تعط الحال بشرحه مهلة، كان أولئك الضالون المرتدون قد بطروا عدواناً وظلماً، واقتطعوا الكفر معنى واسماً، وأملى لهم الله تعالى ليزدادوا إثماً، وكان مقدمهم الشقي قد استمال النفوس بخزعبلاته، واستهوى القلوب بمهولاته، ونصب له الشيطان من حبالاته، فأتته المخاطبات من بعد وكثب، ونسلت إليه الرسل من كل حدب، واعتقدته الخواطر أعجب عجب، وكان الذي قادهم إلى ذلك، وأوردهم تلك المهالك، وصول من كان بتلك السواحل ممن ارتسم برسم الانقطاع عن الناس فيما سلف عن الأعوام، واشتغل على زعمه بالقيام والصيام، آناء الليالي والأيام، لبسوا الناموس أثواباً، وتدرعوا الرياء جلباباً، فلم يفتح الله تعالى لهم للتوفيق باباً.

_ (1) انظرها أيضا في إعتاب الكتاب: 227.

ومنها في ذكر صاحبهم الماسي (1) المدعي للهداية: فصرع بحمد الله تعالى لحينه، وبادرت إليه بوادر منونه، وأتته وافدات الخطيئات عن يساره ويمينه، وقد كان يدعي أنه بشر بأن المنية في هذه الأعوام لا تصيبه، والنوائب لا تنوبه، ويقول في سواه قولاً كثيراً، ويختلق على الله تعالى إفكاً وزوراً، فلما رأوا هيئة اضطجاعه، وما خطته الأسنة في أعضائه وأضلاعه، ونفذ فيه من أمر الله تعالى ما لم يقدروا على استرجاعه، هزم من كان لهم من الأحزاب، وتساقطوا على وجوههم تساقط الذباب، وأعطوا عن بكرة أبيهم صفحات الرقاب، ولم تقطر كلومهم إلا على الأعقاب، فامتلأت تلك الجهات بأجسادهم، وآذنت الآجال بانقراض آمادهم، وأخذهم الله تعالى بكفرهم وفسادهم، فلم يعاين منهم إلا من خر صريعاً، وسقى الأرض نجيعاً، ولقي من أمر الهنديات فظيعاً، ودعت الضرورة باقيهم إلى الترامي في الوادي؛ فمن كان يؤمل الفرار ويرتجيه، ويسبح طامعاً في الخروج إلى ما ينجيه، اختطفته الأسنة اختطافاً، وأذاقته موتاً ذعافاً، ومن لج في الترامي على لججه، ورام البقاء في ثبجه، قضى عليه شرقه، وألوى بذقنه غرقه، ودخل الموحدون إلى البقية الكائنة فيه يتناولون قتالهم طعناً وضرباً، ويلقونهم بأمر الله تعالى هولاً عظيماً وكرباً، حتى انبسطت مراقات الدماء، على صفحات الماء، وحكت حمرتها على رزقته حمرة الشفق على زرقة السماء، وجرت العبرة للمعتبر، في جري ذلك الدم جري الأبحر ". وبالجملة فالرجل كان نسيج وحده رحمه الله تعالى وسامحه، وقضية لسان الدين تشبه قضيته، وكلاهما قد ذاق من الذل بعد العز غصته، وبدل الدهر نصيبه من الوزارة وحصته، بعد أن اقتعد ذروة ومنصته، رحم الله تعالى الجميع، إنه مجيب سميع.

_ (1) هذا الثائر هو محمد بن عبد الله بن هود، تلقب بالهادي، وظهر في رباط ماسة بمنطقة السوس، وكثر أتباعه، حتى قضى عليه أبو حفص عمر إينتي سنة 541.

في ذكر مشايخه الجلة، هداة الناس ونجوم الملة، وما يتعلق بذلك من الأخبار

الباب الثالث في ذكر مشايخه الجلة، هداة الناس ونجوم الملة، وما يتعلق بذلك من الأخبار الشافية من العلة، ومواعظ المنجية من الأهواء المضلة، والمناسبات الواضحة البراهين والأدلة أقول: لا خفاء أن الشيخ لسان الدين رحمه الله تعالى أخذ عن جماعة من أهل العدوة والأندلس عدة فنون، وحدث عنهم بما يصدق الأقوال ويحقق الظنون. 1 - فمن أشياخه رحمه الله تعالى الفقيد الجليل الشريف النبيه الشهير، رئيس العلوم اللسانية بالأندلس، قاضي الجماعة أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسني السبتي (1) ، رحمه الله تعالى؛ كان هذا الشريف آية الله الباهرة في العربية والبيان والأدب، ويكفيه فضلاً أنه شرح الخزرجية (2) ، وافترع هضاب مشكلاتها بفهمه، من غير أن يسبقه أحد إلى استخراج كنوزها، وإيضاح رموزها، وشرح مقصورة أديب المغرب الإمام أبي الحسن حازم بن محمد القرطاجني الأندلسي الذي مدح بها أمير المؤمنين المنتصر بالله أبا عبد الله محمد الحفصي، وسمى هذا الشرح ب " رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة "، وهذا

_ (1) ترجمة الشريف السبتي (الشهير بالغرناطي) في الإحاطة 2: 129 ومقدمة رفع الحجب المستورة، والديباج: 290 والمرقبة العليا: 171. (2) الخزرجية قصيدة للخزرجي في العروض، وشرح الشريف عليها يسمى " رياضة الأبي في شرح قصيدة الخزرجي ".

الشرح في مجلدين كبيرين، وفيه من الفوائد ما لا مزيد عليه، رأيته بالمغرب، واستفدت منه كثيراً. ومن فوائد الشريف المذكور أنه قال فيما جاء من الحديث في صفة وضوء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، " فأقبل بهما وأدبر " إن أحسن الوجوه في تأويله أن يكون قدم الإقبال تفاؤلاً، ثم فسر بعد ذلك على معنى أدبر وأقبل، قال: والعرب تقدم بكلامها ألفاظاً على ألفاظ أخرى، وتلتزمه في بعض المواضع، كقولهم: قام وقعد ولا تقول: قعد وقام، وكذلك أكل وشرب، ودخل وخرج، وعلى هذا النمط كلام العرب، فتكون هذه المسألة من هذا، قال: ويؤيد ما قلناه - وهو موضع النكتة - تفسيره لأقبل وأدبر في باقي الحديث على معنى أدبر ثم أقبل، ولو كان اللفظ على ظاهره لم يحتج إلى تفسير؛ انتهى. وحدث رحمه الله تعالى عن جده لأمه قال: كنت بالمشرق، فدخلت على بعض القرائين، فألفيت الطلب يعربون عليه قول امرئ القيس (1) : كأن أبانا في أفانين ودقه ... كبير أناس في بجاد مزمل (2) فأنشد ولا أدري هل هي له أو لغيره: إذا ما الليالي جاورتك بساقط ... وقدرك مرفوع فعنه ترحل ألم تر ما لاقاه في جنب جاره ... كبير أناس في بجاد مزمل وكان بعض الناس ينشد في هذا المقصد قول الآخر: عليك بأرباب الصدور، فمن غدا ... مضافاً لأرباب الصدور تصدراً

_ (1) ديوان أمرئ القيس: 25. (2) شبه الجبل " أبانا " بالرجل الكبير المزمل في بجاد؛ والبجاد: كساء مخطط، وقيل في مزمل إنها مخفوضة على الجوار وحقها الرفع ولذلك قال في البيت التالي " ألم تر ما لاقاه في جنب جاره ".

وإياك أن ترضى بصحبة ساقط ... فتنحط قدراً من علاك وتحقرا فرفع أبو من ثم خفض مزمل ... يبين قولي مغرياً ومحذراً وهذا معنى قول الشاعر: إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي وما أحسن قول أبي بحر صفوان بن إدريس المرسي رحمه الله تعالى: إنا إلى الله من أناس ... قد خلعوا لبسة الوقار جاورتهم فانخفضت هوناً ... يا رب خفض على الجوار ومن نظم الشريف رحمه الله تعالى: وأحور زان خديه عذار ... سبى الألباب منظره العجاب أقول لهم وقد عابوا غرامي ... به إذا لاح للدمع انسكاب أبعد كتاب عارضه يرجى ... خلاص لي وقد سبق الكتاب ومن الغريب في توارد الخواطر ما وجد بخط الأديب أبي القاسم ابن جزي الكلي رحمهما الله تعالى - وسيأتيان - ما معناه: قلت هذه القطعة: ومعسول اللمى عادت عذاباً ... على قلبي ثناياه العذاب وقد كتب العذار بوجنتيه ... كتاباً حظ قارئه اكتئاب وقالوا لو سلوت فقلت خيراً ... وأنى لي وقد سبق الكتاب ثم عرضتها على شيخنا القاضي أبي القاسم الشريف بعد نظمها بمدة يسيرة فقال لي: قد نظمت هذا المعنى بالعروض والقافية في هذه الأيام اليسيرة، وأنشدني: وأحور زان خديه عذار ... الأبيات السابقة.

وهذا يقع كثيراً، ومنه ما وقع لابن الرقام حيث قال: من شعر عمي قوله: جل في البلاد تنل عزاً وتكرمة ... في أي أرض فكن تبلغ مناك بها جل الفوائد بالأسفار مكتسب ... والله قد قال " فامشوا في مناكبها " فقال له الفقيه ابن حذلم: مثل هذا وقع لأبي حيان إذ قال: يا نفس ما لك تهوين الإقامة في ... أرض تعذر كل من مناك بها أما تلوت وعجز المرء منقصة ... في محكم الوحي " فامشوا في مناكبها " فحصل العجب من هذا الاتفاق الغريب. ونقلت ممن نقل من خط الفقيه محمد بن علي بن الصباغ العقيلي ما صورته: كان الشريف الغرناطي - رحمه الله تعالى - آية زمانه، وأزمة البيان طوع بنانه، له شرح المقصورة القرطاجية أغرب ما تتحلى به الآذان، وأبدع ما ينشرح له الجنان، إلى العقل الذي لا يدرك، والفضل الذي حمد منه المسلك. حدثني بنادرة جرت بينه وبين مولاي الوالد من أثق به من طلبة الأندلس وأعلامها قال: دخل والدك يوماً لأداء الشهادة عنده، فوجد بين يديه جماعة من الغزاة يؤدون شهادة، فسمع القاضي منهم، وقال لهم: هل من يعرفكم فقالوا: نعم، يعرفنا علي الصباغ، فقال القاضي: أتعرفهم يا أبا الحسن فقال له: نعم يا سيدي، معرفة محمد بن يزيد، فما أنكر عليه شيئاً بل قال لهم: عرف الفقيه أبو الحسن ما عنده، فانظروا من يعرف معه رسم حالكم، فانصرفوا راضين، ولم يرتهن والدي في شيء من حالهم، ولا كشف القاضي لهم ستر القضية. قال محمد بن علي بن الصباغ: أما قول والدي " معرفة محمد بن يزيد " فإشارة إلى قول الشاعر (1) :

_ (1) انظر نور القبس: 331 حيث يقال إن البيتين لعبد الصمد بن المعذل في هجاء المبرد، وقيل بل هما للمبرد نفسه، أراد أن يثبت لنفسه نسبا.

أسائل عن ثمالة كل حي ... فكلهم يقول وما ثماله فقلت: محمد بن يزيد منهم ... فقالوا: الآن زدت بهم جهالة فتفطن القاضي رحمه الله تعالى لجودة ذكائه إلى أنه لم يرتهن في شيء من معرفتهم، ممتنعاً من إظهار ذلك بلفظه الصريح، فكنى واكتفى بذكاء القاضي الصحيح، رحمهما الله تعالى؛ انتهى. ومن فوائد الشريف ما حكاه عنه تلميذه الإمام النظار أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى، ونصه: قال لي الشيخ القاضي الكبير أبو القاسم الحسني يوماً وقد جرى ذكر حتى التي للابتداء، وأن معناها التي يقع بعدها الكلام سواء كان ذلك متعلقاً بما قبلها لم يتم دونه أو لا، بل لا يكون الأمر إلا كذلك، قال: وقد حدثني بعض الأصحاب أنه سمع رجلاً يصلي أشفاع رمضان، فقرأ من سورة الكهف إلى قوله تعالى " ثم أتبع سبباً " فوقف هنالك، وركع وسجد، قال: فظننت أنه نسي ما بعد ثم ركع وسجد حتى يتذكر بعد ذلك ويعيد أول الكلام، فلما قام من السجود ابتدأ القراءة بقوله " حتى إذا بلغ " فلما أتم الصلاة قلت له في ذلك، فقال: أليست حتى الابتدائية قال القاضي الشريف المذكور: فيجب أن يفهم أن الاصطلاح في حتى وفي غيرها من حروف الابتداء ما ذكر؛ انتهى. وقال الشاطبي: أنشدني أبو محمد ابن حذلم لنفسه: شأن المحبين في أشجانهم عجب ... وحالتي بينهم في الحب أعجبها قد كنت أبعث من ريح الصبا رسلاً ... تأتي فتطفئ أشواقي فتذهبها والآن أرسل دمعي إثرها ديماً ... فتلتظي نار وجدي حين أسكبها فاعجب لنار اشتياق في الحشا وقفت ... ألريح (1) تذهبها والماء يلهبها

_ (1) ق: النار.

ثم قال الشاطبي ما نصه: أخذ هذا المعنى فتممه، من قطعة أنشدناها شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف رحمه الله تعالى عليه؛ أذكر الآن آخر بيت منها وهو: يا من رأى النار إن تطفأ مخالفة ... فبالرياح، وإن توقد فبالماء وأخذ عن الشريف المذكور رحمه الله تعالى جماعة غير لسان الدين، من أشهرهم العلامة النظار أبو إسحاق الشاطبي، والوزير الكاتب أبو عبد الله ابن زمرك. قال حفيد السلطان الغني بالله بن الأحمر رحمه الله تعالى في حق ابن زمرك: إنه كان يتردد الأعوام العديدة إلى قاضي الجماعة أبي القاسم الشريف، فأحسن الإصغاء، وبذ الأئمة البلغاء، بما أوجب أن رثاه عند الوقوف على قبره بالقصيدة الفريدة التي أولها: أغرى سراة الحي بالإطراق ... وقال في موضع آخر (1) : ومما بذ به - يعني ابن زمرك - سبقاً وتبريزاً، وعرضه على نقدة البيان فرأت منه كل مذهبة خلصت إبريزاً، مرثيته للقاضي المعظم الشريف أبي القاسم الحسني من شيوخه، وهي: أغرى سراة الحي بالإطراق ... نبأ أصم مسامع الآفاق أمسى به ليل الحوادث داجياً ... والصبح أصبح كاسف الإشراق فجع الجميع بواحد جمعت له ... شتى العلا ومكارم الأخلاق هبوا لحكمكم الرصين فإنه ... صرف القضاء فماله من واق نقش الزمان بصرفه في صفحة ... كل اجتماع مؤذن بفراق ماذا ترجي من زمانك بعدما ... علق الفناء بأنفس الأعلاق

_ (1) يعني في كتابه الذي ألفه في ابن زمرك، انظر أزهار الرياض 2: 160 حيث تجد هذه المرثية.

من تحسد السبع الطباق علاءه ... عالوا عليه من الثرى بطباق إن المنايا للبرايا غاية ... سبق الكرام لخصها بسباق لما حسبنا أن تحول أبؤساً ... كشفت عوان حروبها عن ساق ما كان إلا البدر طال سراره ... حتى رمته يد الردى بمحاق أنف المقام مع الفناء نزاهة ... فنوى الرحيل إلى مقام باق عدم الموافق في مرافقة (1) الدنا ... فنضى (2) الركاب إلى الرفيق الباقي أسفاً على ذاك الجلال تقلصت ... أفياؤه وعهدن خير رواق يا آمري بالصبر، عيل تصبري ... دعني عدتك لواعج الأشواق وذر اليراع تشي بدمع مدادها ... وشي القريض يروق في الأوراق واحسرتا للعلم أقفز ربعه ... والعدل جرد أجمل الأطواق ركدت رياح المعلوات لفقدها ... كسدت به الآداب بعد نفاق كم من غوامض قد صدعت بفهمها ... خفيت مداركها على الحذاق كم قاعد في البيد بعد (3) قعوده ... قعدت به الآمال دون لحاق لمن الركائب بعد بعدك تنتضى ... ما بين شام ترتمي وعراق تفلي الفلا بمناسم مفلولة ... تسم الحصى بنجيعها الرقراق كانت إذا اشتكت الوجى وتوقفت ... يهفو نسيم ثنائك الخفاق فإذا تنسمت الثناء أمامها ... مدت لها الأعناق في الإعناق يا مزجي البدن القلاص خوافقاً ... رفقاً بها فالسعي في إخفاق مات الذي ورث العلا عن معشر ... ورثوا تراث المجد باستحقاق رفعت لهم رايات كل جلالة ... فتميزوا في حلبة السباق

_ (1) ص: عدم المرافق في موافقة؛ ق: موافقة. (2) الأزهار: فثنى. (3) الأزهار: فوق.

علم الهداة وقطب أعلام النهى (1) ... حرم العفاة المجتنى الأرزاق رقت سجاياه وراقت مجتلى ... كالشمس في بعد وفي إشراق كالزهر في لألائه، والبدر في ... عليائه، الزهر في الإبراق مهما مدحت سواه قيد وصفه ... وصفاته حمد على الإطلاق يا وارثاً نسب النبوة جامعاً ... في العلم والأخلاق والأعراق يا ابن الرسول وإنها لوسيلة ... يرقى بها أوج المصاعد راقي ورد الكتاب بفضلكم وكمالكم ... فكفى ثناء الواحد الخلاق مولاي إني في علاك مقصر ... قد ضاق عن حصر النجوم نطاقي ومن الذي يحصي مناقب مجدكم (2) ... عد الحصى والرمل غير مطاق يهني قبوراً زرتها فلقد ثوت ... منا مصون جوانح وحداق خط الردى منها سطوراً نصها: ... لا بد أنك للفناء ملاق ولحقت ترجمة الكتاب وصدره ... وفوائد المكتوب في الإلحاق كم من سراة في القبور كأنهم ... في بطنها در ثوى بحقاق قل للسحاب اسحب ذيولك نحوه ... والعب بصارم برقك الخفاق أودى الذي غيث العباد بكفه ... يزري بواكف غيثك الغيداق إن كان صوبك بالمياه فدرها ... در يروض ماحل الإملاق بشر كثير نقد نعوا لما نعي ... قاضي القضاة وغاب في الأطباق ألبستهم ثوب الكرامة ضافياً ... وأرحت من كد ومن إرهاق يتفيأون ظلال جاهك كلما ... لفحت سموم الخطب بالإحراق عدموا المرافق في فراقك وانطوى ... عنهم بساط الرفق والإرفاق رفعوا سريرك خافضين رؤوسهم ... ما منهم إلا حليف سياق (3)

_ (1) الأزهار: أعلام الورى. (2) الأزهار: فضلكم. (3) السياق: نزع الروح.

لكن مصيرك للنعيم مخلداً ... كان الذي أبقى على الأرماق ومن العجائب أن يسرى بحر الندى ... طود الهدى يسري على الأعناق إن يحملوك على الكواهل طالما ... قد كنت محمولاً على الأحداق (1) أو يرفعوك على العواتق طالما ... رفعت ظهر منابر وعتاق ولئن رحلت إلى الجنان فإننا ... نصلى بنار الوجد والأشواق لو كنت تشهد حزن من خلفته ... لثنى (2) عنانك كثرة الإشفاق إن جن ليل جن من فرط الأسى ... وسوى كلامك ما له من راق فابعث خيالك في الكرى يبعث به ... ميت السرور لثاكل مشتاق أغليت يا رزء التصبر مثلما ... أرخصت در الدمع في الآماق إن يخلف الأرض الغمام فإنني ... أسقي الضريح بدمعي المهراق وكانت وفاة الشريف المذكور سنة إحدى وستين وسبعمائة. قال ابن الخطيب القسمطيني (3) في وفياته: وفي هذه السنة - يعني سنة 761 - توفي شيخنا قاضي الجماعة بغرناطة حرسها الله تعالى أبو القاسم محمد بن أحمد الشريف الحسني، وكتب لي بالإجازة العامة بعد التمتع بمجلسه، وله شعر مدون سماه " جهد المقل " (4) وله الشرح على الخزرجية في العروض، وأقدم عليها بعد أن عجز الناس عن فكها، وكان إماماً في الحديث والفقه والنحو، وهو على

_ (1) سقط هذا العجز وصدر البيت التالي من ق. (2) ص ق: أثنى. (3) نسبة إلى قسمطينة أو قسنطينة (بالنون) من مدن الجزائر؛ وابن الخطيب القسمطيني هو الإمام العلامة المسند المؤرخ أبو العباس أحمد بن حسن الشهير بابن الخطيب ويعرف أيضا بابن منقذ (توفي سنة 810) ومن مؤلفاته: كتاب أنس الفقير في ترجمة الشيخ أبي مدين وأصحابه وطبقته (ط. الرباط 1965) والوفيات التي جعلها خاتمة على شرحه لقصيدة ابن فرح في مصطلح الحديث. (راجع فهرست الفهارس 2: 323 ونيل الابتهاج: 57 قال: ذكره الونشريسي في وفياته) . (4) قال لسان الدين في الإحاطة عند الحديث عن شعر الشريف " واقتنيت منه جزءا خصني به سماه جهد المقل ... ".

الجملة ممن يحصل الفخر بلقاءه، ولم يكن أحد بعده مثله بالأندلس؛ انتهى. وقال في الإحاطة إن مولد الشريف كان سنة سبع وتسعين وستمائة، وأن وفاته سنة ستين وسبعمائة، وفي وفاته مخالفة لما تقدم، والله أعلم. وما أحسن قول الشريف أبي القاسم المترجم به: حدائق أنبتت فيها الغوادي ... دروب النور رائقة البهاء فما يبدو بها النعمان إلا ... نسبناه إلى ماء السماء [ابنا الشريف] وكان للشريف أبي القاسم المذكور ابنان نجيبان: أحدهما قاضي الجماعة أبو المعالي، والآخر أبو العباس أحمد (1) ، قال الراعي في كتابه " الفتح المنير في بعض ما يحتاج إليه الفقير " ما نصه: حكاية تتعلق بالانقطاع، نسأل الله تعالى العافية: وقع للسيد الشريف قاضي الجماعة بغرناطة أبي المعالي ابن السيد الشريف أبي القاسم الحسني شارح الخزرجية ومقصورة حازم نفع الله تعالى بسلفهم الكريم، وكانت أم السيد أبي المعالي حسينية (2) فكان شريفاً من الجهتين، أنه كان قد ترك كبار الوظائف والرياسات، وتجرد للعبادة، ولبس المرقعة، وسلك طريق القوم. وكان من الدين (3) والعلم والتعظيم في قلوب (4) أهل الدنيا وأهل الآخرة على جانب عظيم، يشار إله بالأصابع، وكان شيخي وأستاذي أبو العباس أحمد قاضياً بشرقي الأندلس فكان أخوه أبو المعالي المذكور لا يأكل في بيت شقيقه شيئاً لأجل

_ (1) ترجمة أبي العباس أحمد ابن الشريف السبتي في نيل الابتهاج: 58 وقد عرج في الترجمة على ذكر أخيه أبي المعالي؛ وقد أورد لسان الدين لأبي العباس منهما ترجمة في الكتيبة الكامنة: 301 إلا أنه ذكره بكنيته دون اسمه. (2) ق: حسنية. (3) ق: من أهل الدين. (4) ق: في قلوب الناس.

ذلك، ولعيشه من خدم السلطان، وكان إذا احتاج إلى الطعام وهو في بيت أخيه أعطاني درهماً من عنده أشتري له به ما يأكل، وأقام على هذه الحلة الحسنة سنين كثيرة، ثم إنه دخل يوماً على الفقراء بزاوية المحروق من ظاهر غرناطة، وكان شيخ الفقراء بها في ذلك الوقت الشيخ أبا جعفر أحمد المحدود، فقال لهم: يا سادتي، إنه كان معي قنديل أستضيء به، فقدته في هذه الأيام، وما بقيت أبصر شيئاً، فقال لهم شيخهم المذكور: يا شريف أول رجل يدخل علينا في هذا المجلس يجيبك عن مسألتك، فدخل عليهم رجل من خيارهم من أهل البادية، فسلم وجلس، فقال له الشيخ: إن الشريف سأل الجماعة، فقلت له: أول رجل يدخل علينا يجيبك، فوفقت أنت، فأجبه عن مسألته، فقال له: ما سؤالك يا شريف فقال: إنه كان لي قنديل أستضيء به ففقدته، وما بقيت أبصر شيئاً، فقال له الفقير: هذا لا يصدر إلا عن سوء أدب، أخبرنا بما وقع منك، فقال له الشريف: ما أعلم أنه وقع مني شيء، غير أن المباشر فلاناً طلبه السلطان للمصادرة، فاستخفى منه، فمررت ببابه يوماً، فناداني من شقة الباب: يا سيدي اجعل خاطرك معي لله تعالى، فقلت له: اذكر الذكر الفلاني، قلت: وأنا أظن أنه أمره بذكر اسمه تعالى اللطيف فإنه سريع الإجابة في تفريج الشدائد والكرب، نص عليه البوني في منتخبه، وهو مجرب في ذلك، وقد رواه لي عن بعض مشايخه السيد الشريف أحمد أخوه، فقال له الفقير: هل كان أذن لك في تلقينه قال: لا. قال له الفقير: لا يعود إليك نورك أبداً؛ لأنك قد أسأت الأدب، فكان كما قال، فانقطع وولي بعده قضاء الجماعة، وعزل عن سخط، وخدم الملوك، وأكل طعامهم، وحالته أولاً وآخراً معروفة بغرناطة، نسأل الله تعالى أن لا يجعلنا من المطرودين عن باب رحمته بمنه وكرمه؛ انتهى كلام الراعي رحمه الله تعالى. رجع إلى مشايخ لسان الدين. رحمه الله تعالى ورضي عنه وسامحه، فنقول:

2 - ومن مشايخ لسان الدين الإمام الرحال شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن جابر الوادي آشي (1) ، ولد بتونس، وهو محمد بن الإمام المحدث معين الدين جابر بن محمد بن قاسم بن أحمد القيسي، شيخ ممتع رحال متقن. قال الخطيب ابن مرزوق: وعاشرته كثيراً سفراً وحضراً، وسمعت بقراءته وسمع بقراءتي، وقرأت عليه الكثير، وقيدت من فوائده، وأنشدني الكثير، فأول ما قرأت عليه بالقاهرة بمسجد [ ... ] (2) ، وقرأت عليه بمدينة فاس، وبظاهر قسنطينة، وبمدينة بجاية وبظاهر المهدية، وبمنزلي من تلمسان، وقرأت عليه أحاديث عوالي من تخريج الدمياطي، وفيها الحديث المسلسل بالأولية، وسلسلته عنه من غير رواية الدمياطي بشرطه، ثم قرأت عليه أكثر كتاب " الموطإ " رواية يحيى، وأعجله السفر فاتممته عليه في غير القاهرة، وحدثني به عن جماعة، ومعوله على الشيخين قاضي القضاة أبي العباس ابن الغماز الخزرجي وهو أحمد بن محمد بن حسن والشيخ أبي محمد ابن هارون وهو عبد الله بن محمد القرطبي الطائي الكاتب المعمر الأديب، بحق سماعه لأكثره على الأول وقراءته بأجمعه على الثاني، قال الأول: أخبرنا أبو الربيع ابن سالم بجميع طرقه فيها منها عن ابن مرزوق وأبي عبد الله ابن أبي عبد الله الخولاني عن أبي عمرو عثمان بن أحمد المعافري عن أبي عيسى بسنده، وقال الثاني: أخبرنا أبو القاسم ابن بقي بقرطبة، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الحق عن محمد بن فرج مولى الطلاع عن يونس بتمام سنده. قال شيخنا: وفي هذا السند غريبتان: إحداهما أنه ليس فيه إجازة، والثانية أن شيخه كلهم قرطبيون. قال ابن مرزوق: قلت ولا غرابة في اتصال سماع الموطإ وقراءته، فقد

_ (1) ترجمة ابن جابر الوادي آشي في الديباج المذهب: 311 والتعريف: 18 وانظر النفح 1: 38، 2: 664. (2) بياض في ق ص.

وقع لي قلة التحصيل متصلاً من طرق ولله الحمد، وقد روته عن قرطبي، وهو أبو العباس ابن العشاء. ثم قرأت عليه كتاب " الشفاء " لعياض، وحدثني به عن أبي القاسم (1) عن أبي عبد الله ابن أبي القاسم الأنصاري المالقي نزيل سبتة ويعرف بها بابن حكم وبابن أخت أبي صالح، عن أبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الخزرجي، عن أبي جعفر أحمد بن حكم، عن المؤلف وحدثني به أيضاً عن قاضي الجماعة ابن (2) أبي الربيع ابن سالم عن أبي جعفر ابن حكم. ثم قال ابن مرزوق بعد كلام ما صورته (3) : رويت عنه وأنشدني لأبي محمد ابن هارون: لا تطمعن في نفع آلك إنه ... ضرر وقل النفع عند الآل أقصر رويدك إن ما أعلقته ... بالآل من أهل كمثل الآل ولابن هارون المذكور: أقل زيادة الأحبا ... ب تزدد عندهم قربا فإن المصطفى قد قا ... ل زر غباً تزد حبا ولابن هارون (4) أيضاً: رماني بالنوى زمني ... فشمل الأنس مفترق وليلي كله فكر ... فقلبي منه محترق وللآداب أبناء ... ببحر الفقر قد غرقوا وكل منهم وجل ... بما يلقاه أو فرق

_ (1) بعد هذه اللفظة بياض في ص بقدر كلمتين. (2) هنا بياض بقدر ثلاث كلمات في ص. (3) ما صورته: سقطت من ص. (4) زاد في ق: المذكور.

يغص بريقه منه ... كما في النطق أو شرق وقد صفرت أكفهم ... فلا ورق ولا ورق ولطف الله مرتقب ... به العادات تنخرق قال ابن مرزوق: وشعره الفائق لا يحصر، وهو عندي في مجلد كبير، وولد ابن جابر سنة 67 وسمع بمصر على الجماعة، وكتب بخطه كثيراً، وله معرفة بالحديث والنحو واللغة والشعر، وله نظم حسن، وتوفي بتونس سنة 779، وأخذ القراءات عن ابن الزيات وغيره، وترجمة الحافظ ابن جابر رحمه الله تعالى واسعة مشهورة، وقد ذكرناه في غير هذا الكتاب بما جمعناه. [أشعار لبعض شيوخ لسان الدين] ومما أنشده لسان الدين رحمه الله تعالى لبعض المتصوفة من شيوخه ولم يسمه قوله: هل تعلمون مصارع العشاق ... عند الوداع بلوعة الأشواق والبين يكتب من نجيع دمائهم ... إن الشهيد بكم توى بفراق لو كنت شاهد حالهم يوم النوى ... لرأيت ما يلقون غير مطاق منهم كئيب لا يمل بكاءه ... قد أحرقته مدامع الآماق ومحرق الأحشاء أشعل نارها ... طول الوجيب بقلبه الخفاق وموله لا يستطيع كلامه ... مما يقاسي في الهوى ويلاقي خرس اللسان فما يطيق عبارة ... ألم ألم وما له من راق ما للمحب من المنون وقاية ... إن لم يجد محبوبه بتلاق مولاي عبدك ذاهب بغرامه ... أدرك بفضلك من ذماه الباقي إني إليك بذلي متوسل ... فاعطف بلطف منك أو إشفاق

وهذه الأبيات أوردها رحمه الله تعالى في " الروضة " في العشق، بعد أن حده وتكلم عليه، ثم أورد عدة مقطوعات، ثم ذكر منها هذه الأبيات كما ذكر. وأنشد لسان الدين رحمه الله تعالى لبعض أشياخه، وسماه، وأنسيته أنا الآن: بما بيننا من خلوة معنوية ... أرق من النجوى وأحلى من السلوى قفي ساعة في ساحة الدار وانظري ... إلى عاشق لا يستفيق من البلوى وكم قد سألت الريح شوقاً إليكم ... فما حن مسراها علي ولا ألوى وقوله أيضاً: أنست بوحدتي حتى لو أني ... أتاني الأنس لاستوحشت منه ولم تدع التجارب لي صديقاً ... أميل إليه إلا ملت عنه وقوله رحمه الله تعالى: عليك بالعزلة إن الفتى ... من طاب بالقلة في العزلة لا يرتجي عزلة وال، ولا ... يخشى من الذلة في العزلة 3 - ومن أكابر شيوخ ابن الخطيب رحمه الله تعالى جدي الإمام العلامة قاضي القضاة بحضرة الخلافة فاس المحروسة أبو عبد الله (1) . قال في " الإحاطة " محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن القرشي المقري، يكنى أبا عبد الله، قاضي الجماعة بفاس، تلمساني. أوليته - نقلت من خطه قال: وكان الذي اتخذها من سلفنا قراراً، بعد أن كانت لمن قبله مزاراً، عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي المقري صاحب الشيخ

_ (1) ترجمة المقري الجد في الإحاطة 2: 136 ونيل الابتهاج: 249 وسلوة الأنفاس 3: 271 والتعريف: 59 والمرقبة العليا: 196 (وانظر الحاشية 3 ص 556 من الجزء الأول) .

أبي مدين، الذي دعا له ولذريته بما ظهر فيهم قبوله وتبين، وهو أبي الخامس فأنا محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن، وكان هذا الشيخ عروي (1) الصلاة، حتى إنه ربما امتحن بغير شيء فلم يؤنس منه التفات، ولا استشعر منه شعور، ويقال: إن هذا الحضور مما أدركه من مقامات شيخه أبي مدين؛ انتهى. [هل المقري الجد قرشي] وكتب بعض المغاربة على هامش هذا المحل من الإحاطة ما صورته: القرشي وهم؛ انتهى. فكتب تحته الشيخ الإمام أبو الفضل ابن الإمام التلمساني رحمه الله تعالى على ما نصه: بل صحيح، نطقت به الألسن والمكاتبات والإجازات وأعربت عنه الخلال الكريمة، إلا أن البلدية يا سيدي أبا عبد الله والمنافسة تجعل القرشية في إمام المغرب أبي عبد الله المقري وهماً، والحمد لله؛ انتهى. قلت: وممن صرح بالقرشية في حق الجد المذكور ابن خلدون في تاريخه وابن الأحمر في " نثير الجمان " وفي شرح البردة عند قوله: لعل رحمة ربي حين ينشرها ... والشيخ ابن غازي، والولي الصالح سيدي أحمد رزوق، والشيخ علامة زمانه سيدي أحمد الونشريسي، وغير واحد، وكفى بلسان الدين شاهداً مزكى. وقد ألف عالم الدنيا ابن مرزوق تأليفاً استوفى فيه التعريف بمولاي الجد سماه " النور البدري في التعريف بالفقيه المقري " وهذا بناء منه على مذهبه أنه

_ (1) نسبة إلى عروة، لعله عروة بن الزبير، فقد كان يطيل الصلاة ويكثر من الدعاء حتى كان يقول إني لأسأل الله في صلاتي كل شيء حتى الملح.

- بفتح الميم وسكون القاف - كما صرح بذلك في شرح الألفية عند قوله: ووضعوا لبعض الاجناس علم ... وضبطه غيرهم وهم الأكثرون بفتح الميم وتشديد القاف، وعلى ذلك عول أكثر المتأخرين، وهما لغتان في البلدة التي نسب إليها، وهي مقرة من قرى زاب إفريقية، وانتقل منها جده إلى تلمسان صحبة شيخه ولي الله سيدي أبي مدين رضي الله عنه. رجع إلى تكملة كلام مولاي الجد في حق أوليته: قال رحمه الله تعالى بعد الكلام السابق في حق جده عبد الرحمن، ما صورته: ثم اشتهرت ذريته على ما ذكر من طبقاتهم بالتجارة، فمهدوا طريق الصحراء بحفر الآبار وتأمين التجار، واتخذوا طبلاً للرحيل، وراية تقدم عند المسير، وكان لد يحيى الذين أحدهم أبو بكر خمسة رجال، فعقدوا الشركة بينهم في جميع ما ملكوه أو يملكونه على السواء بينهم والاعتدال، فكان أبو بكر ومحمد وهما أرومتا نسبي من جميع جهات أمي وأبي بتلمسان، وعبد الرحمن وهو شقيقهما الأكبر بسجلماسة، وعبد الواحد وعلي وهما شقيقاهم الصغيران بإيوالاتن فاتخذوه بهذه الأقطار الحوائط (1) والديار، وتزوجوا النساء، واستولدوا الإماء، وكان التلمساني يبعث إلى الصحراوي بما يرسم له من السلع، ويبعث إليه الصحراوي بالجلد والعاج والجوز والتبر، والسجلماسي كلسان الميزان يعرفهما بقدر الخسران والرجحان، ويكاتبهما بأحوال التجار وأخبار البلدان، حتى اتسعت أموالهم، وارتفعت في الضخامة أحوالهم، ولما افتتح التكرور كورة إيوالاتن وأعمالها أصيبت أموالهم فيما أصيب من أموالها، بعد أن جمع من كان بها منهم إلى نفسه الرجال، ونصب دونها ودون مالهم القتال، ثم اتصل بملكهم فأكرم مثواه،

_ (1) الحوائط: جمع حائط وهو مزرعة النخيل.

ومكنه من التجارة بجميع بلاده، وخاطبه بالصديق الأحب، والخلاصة الأقرب، ثم صرار يكاتب من بتلمسان يستقضي منهم مآربه، فيخاطبه بمثل تلك المخاطبة، وعندي من كتبه وكتب ملوك المغرب ما ينبئ عن ذلك، فلما استوثقوا من الملوك، تذللت لهم الأرض للسلوك، فخرجت أموالهم عن الحد، وكادت تفوت الحصر والعد، لأن بلاد الصحراء قبل أن يدخلها أهل مصر (1) كان يجلب إليها من المغرب ما لا بال له من السلع، فتعاوض عنه بما له بال من الثمن - أي مدبر دنيا ضم جنبا أبي حمو وشمل ثوباه، كان يقول: لولا الشناعة لم أزل في بلادي تاجراً من غير تجار الصحراء الذين يذهبون بخبيث السلع، ويأتون بالتبر الذي كل أمر الدنيا له تبع، ومن سواهم يحمل منها الذهب، ويأتي إليها بما يضمحل عن قريب ويذهب، ومنه ما يغير من العوائد، ويجر السفهاء إلى المفاسد - (2) ، ولما درج هؤلاء الأشياخ جعل أبناؤهم ينفقون مما تركوا لهم، ولم يقوموا بأمر التثمير قيامهم، وصادفوا توالي الفتن، ولم يسلموا من جور السلاطين، فلم يزل حالهم في نقصان إلى هذا الزمن، فها أنا ذا لم أدرك من ذلك إلا أثر نعمة اتخذنا فضوله عيشاً، وأصوله حرمة، ومن جملة ذلك خزانة كبيرة من الكتب، وأسباب كثيرة تعين على الطلب، فتفرغت بحول الله عز وجل للقراءة، فاستوعبت أهل البلد لقاء، وأخذت عن بعضهم عرضاً وإلقاء، سواء المقيم القاطن (3) ، والوارد والظاعن؛ انتهى كلامه في أوليته، وقد نقله لسان الدين في الإحاطة. وقال مولاي الجد رحمه الله تعالى: كان مولدي بتلمسان أيام أبي حمو موسى بن عثمان بن يغمراسن بن زيان، وقد وقفت على تاريخ ذلك، ولكني

_ (1) ق: أهل مقرة. (2) هكذا وردت هذه العبارة معترضة في الأصول والإحاطة؛ وأبو حمو المذكور فيها هو موسى بن عثمان بن يغمراسن، والمقري قد ولد في زمانه؛ ويمدحه بأنه كان عارفا بالتدبير، قد ضم جنباه وشمل ثوبه امراءا عارفا بشؤون التجارة، حتى كان يتمنى لو أنه بقي في بلاده تاجرا ... إلخ. (3) ق: والقاطن.

رأيت الصفح عنه لأن أبا الحسن ابن مؤمن سأل أبا طاهر السلفي عن سنه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت أبا الفتح ابن زيان عن سنه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت علي بن محمد اللبان عن سنه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت أبا القاسم حمزة بن يوسف السهمي عن سنه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت أبا بكر محمد بن عدي المنقري عن سنه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت أبا إسماعيل الترمذي عن سنه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت بعض أصحاب الشافعي عن سنه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت الشافعي عن سنه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت مالك بن أنس عن سنه فقال: أقبل على شأنك، ليس من المروءة للرجل أن يخبر بسنه؛ انتهى. قلت: ولما تذاكرت مع مولاي العم الإمام - صب الله تعالى على مضجعه من الرحمة الغمام - هذا المعنى الذي ساقه مولاي الجد رحمه الله تعالى أنشدني لبعضهم (1) : احفظ لسانك لا تبح بثلاثة ... سن ومال ما استطعت ومذهب فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة ... بمكفر وبحاسد (2) ومكذب قال الونشريسي بحق الجد ما نصه: القاضي الشهير الإمام العالم أبو عبد الله محمد بن محمد المقري، التلمساني المولد والمنشأ، الفاسي المسكن، كان رحمه الله تعالى عالماً عاملاً ظريفاً نبيهاً (3) ذكياً نبيلاً فهماً متيقظاً جزلاً محصلاً؛ انتهى. وقد وقفت له بالمغرب على مؤلف عرف فيه بمولاي الجد، وذكر جملة من أحواله، وذلك أن طلبه بعض أهل عصره في تأليف أخبار الجد، فألف فيه ما ذكر.

_ (1) أوردهما ابن الجوزي في صيد الخاطر: 346 قال: وقد أنشدنا محمد بن عبد الباقي البزار. (2) صيد الخاطر: بمموه ومحرف. (3) نبيها: سقطت من ق.

وقال في الإحاطة في ترجمة مولاي الجد بعد ذكره أوليته ما صورته: حاله: هذا الرجل مشار إليه بالعدوة الغربية اجتهاداً ودؤوباً (1) وحفظاً وعناية واطلاعاً ونقلاً ونزاهة، سليم الصدر، قريب الغور، صادق القول، مسلوب التصنع، كثير الهشة، مفرط الخفة، ظاهر السذاجة، ذاهب أقصى مذاهب التخلق، محافظ على العمل، مثابر على الانقطاع، حريص على العبادة، مضايق في العقد والتوجه، يكابد من تحصيل النية بالوجه واليدين مشقة، ثم يغافص الوقت فيها ويوقعها دفعة متبعاً إياها زعقة التكبير برجفة ينبو عنها سمع من لم تؤنسه بها العادة بما هو دليل على حسن المعاملة وإرسال السجية، قديم النعمة متصل الخيرية، مكب على النظر والدرس والقراءة، معلوم الصيانة والعدالة، منصف في المذاكرة، حاسر للذراع عند المباحثة، راحب عن الصدر في وطيس المناقشة، غير مختار للقرن ولا ضان بالفائدة، كثير الالتفات متقلب الحدقة، جهير بالحجة بعيد عن المراء والمباهتة (2) ، قائل بفضل أولي الفضل من الطلبة، يقوم أتم القيام على العربية والفقه والتفسير ويحفظ الحديث ويتهجر بحفظ التاريخ والأخبار والآداب، ويشارك مشاركة فاضلة في الأصلين والجدل والمنطق، ويكتب ويشعر (3) مصيباً غرض الإجادة، ويتكلم في طريقة الصوفية كلام أرباب المقال ويعتني بالتدوين فيها، شرق وحج ولقي جلة واضطبن (4) رحلة مفيدة، ثم عاد إلى بلده فأقرأ به واقطع إلى خدمة العلم، فلما ولي ملك المغرب السلطان محالف الصنع ونشيدة الملك وأثير الله من بين القرابة والاخوة أمير المؤمنين أبو عنان اجتذبه، وخلطه بنفسه واشتمل عليه وولاه قضاء الجماعة بمدينة فاس، فاستقل بذلك أعظم الاستقلال، وأنفذ الحق وألان الكلمة وآثر التسديد وحمل الكل وخفض الجناح،

_ (1) ق: ودينا. (2) ق: والمباهاة. (3) ويشعر: سقطت من ق. (4) اضطبن: احتقب.

فحسنت عنه القالة، وأحبته الخاصة والعامة. حضرت بعض مجالسه للحكم فرأيت من صبره على اللدد وتأنيه للحجج ورفقه بالخصوم (1) ما قضيت منه العجب. دخوله غرناطة - ثم لما أخر عن القضاء استعمل بعد لأي في الرسالة، فوصل الأندلس أوائل جمادى الثانية من عام سبعة وخمسين وسبعمائة، فلما قضى غرض رسالته وأبرم عقد وجهته واحتل مالقه في منصرفه بدا له في نبذ الكلفة واطراح وظيفة الخدمة وحل التقيد إلى ملازمة الإمرة (2) ، فتقاعد وشهر غرضه وبت في الانتقال طمع من كان صحبته (3) ، وأقبل على شأنه، فخلي بينه وبين همه، وترك وما انتحله من الانقطاع إلى ربه، وطار الخبر إلى مرسله، فأنف من تخصيص إيالته بالهجرة والعدول عنها بقصد التخلي والعبادة، وأنكر ما حقه الإنكار من إبطال عمل الرسالة، والانقباض قبل الخروج عن العهدة (4) ، فوغر صدره على صاحب الأمر، ولم يبعد الظنة والمواطأة على النفرة، وتجهزت جملة من الخدام المجلين في مأزق الشبهة المضطلعين بإقامة الحجة، مولين خطة الملام، مخيرين بين سحائب عاد من إسلامه، مظنة إعلاق النقمة، وإيقاع العقوبة، أو الإشادة بسبب إجارته بالقطيعة والمنابذة. وقد كان المترجم به لحق بغرناطة فتذمم بمسجدها، وجأر بالانقطاع إلى الله، وتوعد من يجبره بنكير من يجير ولا يجار عليه سبحانه، فأهم أمره، وشغلت القلوب آبدته، وأمسك الرسل بخلال ما صدرت شفاعة اقتضى له فيها رفع التبعة وتركه إلى تلك الوجهة، ولما تحصل ما تيسر من ذلك انصرف محفوفاً بعالمي (5) القطر قاضي الجماعة أبي القاسم الحسني المذكور قبله والشيخ الخطيب أبي البركات ابن الحاج مسلمين لوروده،

_ (1) ق ص: للخصوم. (2) ق: الآخرة، ولعلها أصوب. (3) ق: صحبه. (4) من إبطال ... العهدة: سقطت من ص. (5) ص ق: يعلمي.

مشلفهين بالشفاعة في غرضه، فانقشعت الغمة وتنفست الكربة، واستصحبا من المخاطبة السلطانية في أمره من إملائي ما يذكر حسبما ثبت في الكتاب المسمى ب " كناسة الدكان بعد انتقال السكان " المجموع بسلا ما صورته: " المقام الذي يحب (1) الشفاعة ويرعى الوسيلة، وينجز العدة ويتمم الفضيلة، ويضفي مجده المنن الجزيلة، ويعيي حمده الممادح العريضة الطويلة، مقام محل والدنا الذي كرم مجده، ووضح سعده، وصح في الله تعالى عقده، وخلص في الأعمال الصالحة قصده، وأعجز الألسنة حمده، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله سبحانه لوسيلة يرعاها، وشفاعة يكرم مسعاها، وأخلاق جميلة تجيب دعوة الطبع الكريم إذا دعاها، معظم سلطانه الكبير وممجد مقامه الشهير، المتشيع لأبوته الرفيعة قولاً باللسان واعتقاداً بالضمير، المعتمد منه بعد الله على الملجإ الأحمى والولي النصير، فلان. سلام كريم، طيب بر عميم، يخص مقامكم الأعلى، وأبوتكم الفضلى، ورحمة الله وبركاته. " أما بعد حمد الله الذي جعل الخلق الحميد دليلاً (2) على عنايته بمن حلاه حلاها، وميز بها النفوس النفيسة التي اختصها بكرامته وتولاها، حمداً يكون كفؤاً للنعم التي أولاها، وأعادها ووالاها، والصلاة على سيدنا محمد عبده ورسوله المترقي من درجات الاختصاص أرفعها وأعلاها، الممتاز من أنوار الهداية بأوضحها وأجلاها، مطلع آيات السعادة يروق مجتلاها، والرضى عن اله وصحبه الذين خبر صدق ضمائرهم لما ابتلاها، وعسل ذكرهم في الأفواه فما أوصافهم على الألسن وأحلاها، والدعاء لمقام أبوتكم حرس الله تعالى علاها، بالسعادة التي يقول الفتح أنا طلاع الثنايا وابن جلاها، والصنائع

_ (1) ص ق: يحسب. (2) ق: دلالة.

التي تخترق المفاوز بركائبها المبشرات فتفلي فلاها، فإنا كتبنا كتب الله تعالى لكم عزة مشيدة البناء، وحشد على أعلام صنائعكم الكرام جيوش الثناء، وقلدكم من قلائد مكارم الأخلاق ما يشهد لذاتكم منه بسابقة الاعتناء من حمراء غرناطة حرسها الله والود باهر السنا ظاهر السناء، مجدد على الآناء، والتشيع رحب الدسيعة والفناء. " وإلى هذا - وصل الله تعالى سعدكم، وحرس مجدكم، فإننا خاطبنا مقامكم الكريم في شأن الشيخ الفقيه الحافظ الصالح أبي عبد الله المقري خار الله تعالى لنا وله، وبلغ الجميع من فضله العميم أمله، جواباً عما صدر عن مثابتكم فيه من الإشارة الممتثلة، والمآرب المعملة، والقضايا غير المهملة، نصادركم بالشفاعة، التي مثلها بأبوابكم لا يرد، وظمآها عن منهل قبولكم لا تحلأ ولا تصد، حسبما سنة الأب الكريم والجد، والقبيل الذي وضح منه في المكارم الرسم والحد، ولم نصدر الخطاب حتى ظهر لنا من أحواله صدق المخيلة، وتبلج صبح الزهادة والفضيلة، وجود النفس الشحيحة، بالعرض الأدنى البخيلة، وظهر تخليه عن هذه الدار، واختلاطه باللفيف والغمار، وإقباله على ما يعني مثله من صلة الأوراد ومداومة الاستغفار. وكنا لما تعرفنا إقامته بمالقة لهذا الغرض الذي شهره، والفضل الذي أبرزه للعيان وأظهره، أمرنا أن يعتنى بأحواله، ويعان على فراغ باله، ويجرى عليه سيب من ديون الأعشار الشرعية وصريح ماله، وقلنا ما أتاك من غير مسألة مستند صحيح لاستدلاله، ففر من مالقة على ما تعرفنا لهذا السبب، وقعد بحضرتنا مستور المنتمى والمنتسب، وسكن بالمدرسة بعض الأماكن المعدة لسكنى المتسمين بالخير والمحترفين ببضاعة الطلب، بحيث لم يتعرف وروده ووصوله إلا ممن لا يؤبه بتعريفه، ولم تتحقق زوائده وأصوله لقلة تصريفه. " ثم تلاحق إرسالكم الجلة فوجبت حينئذ الشفاعة، وعرضت على سوق الحلم والفضل من الاستلطاف والاستعطاف البضاعة، وقررنا ما تحققناه من أمره

وانقباضه عن زيد الخلق وعمره، واستقباله الوجهة التي من ولى وجهه شطرها فقد آثر أثيراً، ومن ابتاعها بمتاع الدنيا فقد نال فضلاً كبيراً وخيراً كثيراً، وسألنا منكم أن تبيحوا له ذلك الغرض الذي رماه بعزمه، وقصر عليه أقصى همه، فما أخلق مقامكم أن يفوز به طالب الدنيا بسهمه، ويحصل منه طالب الآخرة على حظه الباقي وقسه، ويتوسل الزاهد بزهده والعالم بعلمه، ويعول البريء على فضله ويثق المذنب بحمله، فوصل الجواب الكريم بمجرد الأمان وهو أرب من آراب، وفائدة من جراب، ووجه من وجوه إعراب، فرأينا أن المطل بعد جفاء، والإعادة ليس يثقلها خفاء، ولمجدكم بما ضمنا عنه وفاء، وبادرنا الآن إلى العزم عليه في ارتحاله، وأن يكون الانتقال عن رضى منه من صفة حاله، وأن يقتضي له ثمرة المقصد، ويبلغ طية الإسعاف في الطريق الأقصد، إذ كان الأمان لمثله ممن تعلق بجناب الله من مثلكم حاصلاً، والدين المتين بين نفسه وبين المخافة فاصلاً، وطالب كيمياء السعادة بإعانتكم واصلاً، ولما مدت اليد في تسويغ حالة هديكم عليها أبداً يحرض، وعلمكم يصرخ بمزيتها فلا يعرض، فكملوا أبقاكم الله ما لم تسعنا فيه مشاحة الكتاب، وألحقوا بالأصل حديث هذه الإباحة فهو أصح حديث في الباب، ووفوا غرضنا من مجدكم، وخلوا بينه وبين مراده من ترك الأسباب، وقصد غافر الذنب وقابل التوب بإخلاص المتاب، والتشمير ليوم العرض وموقف الحساب، وأظهروا عليه عناية الجناب، الذي تعلق به أعلق الله به يدكم من جناب، ومعاذ الله أن تعود شفاعتنا من لدنكم غير مكملة الآراب. " وقد بعثنا من يتوب عنا في مشافهتكم بها أحمد المناب، ويقتضي خلاصها بالرغبة لا بالغلاب، وهما فلان وفلان، ولولا الأعذار لكان في هذا الغرض أعمال الركاب، يسبق أعلام الكتاب، وأنتم تولون هذا القصد من مكارمكم ما يوفر الثناء الجميل، ويربي على التأميل ويكتب على الود الصريح العقد وثيقة التسجيل، وهو سبحانه يبقيكم لتأييد المجد الأثيل، وإنالة الرفد الجزيل، والسلام

الكريم يخص مقامكم الأعلى، ومثابتكم الفضلى، ورحمة الله تعالى وبركاته، في الحادي والعشرين لجمادى الآخرة من عام سبعة وخمسين وسبعمائة؛ انتهى كلام ابن الخطيب في الإحاطة. وذكر في الريحانة أنه كتب في هذا الغرض ما نصه: " وإلى هذا فإننا وقفنا على كتابكم الكريم في شأن الشيخ الصالح الفقيه الفاضل أبي عبد الله المقري وفقنا الله وإياه لما يزلف لديه، وهدانا إلى ما يقرب إليه، وما بلغكم بتقاعده بمالقة، وما أشرتم به في أمره، فاستوفينا جميع ما قررتم، واستوعبنا ما أجملتم في ذلك وفسرتم، وعلموا يا محل والدنا أمتعنا الله ببقائكم الذي في ضمنه اتصال السعادة، وتعرف النعم المعادة أننا لما انصرف عن بابنا هو ومن رافقه عن انشراح صدور، وتكييف جذل بما تفضلتم به وسرور، تعرفنا أنه تقاعد بمالقة عن صحبه، وأظهر الاشتغال بما عند ربه، وصرف الوجه إلى التخلي مشفقاً من ذنبه، واحتج بأن قصده ليس له سبب، ولا تعين له في الدنيا أرب، وأنه عرض عليكم أن تسمحوا له فيما ذهب إليه، وتقروه عليه، فيعجل البدار، ويمهد تحت إيالتكم القرار، فلما بلغنا هذا الخبر، لم يخلق الله عندنا به مبالاة تعتبر، ولا أعددناه فيما يذكر، فكيف فيما ينكر، وقطعنا أن الأمر فيه هين، وأن مثل هذا الغرض لا تلفت إليه عين، فإن بابكم غني من طبقات أولي الكمال، ملي بتسويغ الآمال، موفور الرجال، معمور بالفقهاء العارفين بأحكام الحرام والحلال، والصلحاء أولي المقامات والأحوال، والأدباء فرسان الروية والارتجال، ولم ينقص بفقدان الحصى أعداد الرمال، ولا يستكثر بالقطرة جيش العارض المنثال، مع ما علم من إعانتكم على مثل هذه الأعمال، واستمساككم بإسعاف غرض من صرف وجهه إلى ذي الجلال، ولو علمنا أن شيئاً يهجس في الخاطر من أمر مقامه، لقابلناه بعلاج سقامه. " ثم لم ينشب أن تلاحق بحضرتنا بارزاً في طور التقلل والتخفيف، خالطاً

نفسه باللفيف، قد صار نكرة بعد العلمية (1) والتعريف، وسكن بعض مواضع المدرسة منقبضاً عن الناس لا يظهر إلا لصلاة يشهد جماعتها، ودعوة للعباد يخاف إضاعتها، ثم تلاحق إرسالكم الجلة، الذين تحق لمثلهم التجلة، فحضروا لدينا وأدوا المخاطبة الكريمة كما ذكر إلينا، وتكلمنا معهم في القضية، وتنخلنا في الوجوه المرضية، فلم نجد وجهاً أخلص من هذا الغرض، ولا علاجاً يتكفل ببرء المرض، من أن كلفناهم الإقامة التي يتبرك بيمن جوارها، ويعمل على إيثارها، بخلاف ما نخاطب مقامكم بهذا الكتاب الذي مضمنه شفاعة يضمن حباؤكم احتسابها، ويرعى انتماءها إلى الخلوص وانتسابها، ويعيدها قد أعلمت الحظوة أثوابها، ونقصدكم ومثلكم من يقصد في المهمة، فأنتم المثل الذائع في عموم الحلم وعلو الهمة، في أن تصدروا له مكتوباً مكمل الفصول، مقرر الأصول، يذهب الوجل، ويرفع الخجل، ويسوغ من مآربه لديكم الأمل، ويخلص النية ويرتب العمل، حتى يظهر ما لنا عند أبوتكم من تكميل المقاصد، جرياً على ما بذلتم من جميل العوائد، وإذا تحصل ذلك كان بفضل الله إيابه، وأناخت بعقوة (2) وعدكم الوفي ركابه، ويصل لمقامكم عزه ومجده وثوابه، وأنتم ممن يرعى أمور المجد حق الرعاية، وسيجرى في معاملة الله تعالى على ما أسس من فضل البداية، وتحقق الظنون فيما لديه من المدافعة عن حوزة الإسلام والحماية، هذا ما عندنا أعجلنا به الإعلام، وأعملنا فيه الأقلام، بعد أن أجهدنا الاختيار وتنخلنا الكلام، وجوابكم بالخير كفيل، ونظركم لنا وللمسلمين جميل، والله تعالى يصل سعدكم، والسلام ". انتهى. قلت: هذه آفة مخالطة الملوك، فإن مولاي الجد المذكور كان نزل عن (3) القضاء وغيره، فلما أراد التخلي إلى لم يتركه السلطان أبو عنان كما رأيت.

_ (1) العلمية: سقطت من ق. (2) ص ق: عقرة؛ والعقوة: الساحة. (3) ق: هاربا من؛ وسقطت من ص.

[شيوخ المقري الجد] وقد ذكر لسان الدين رحمه الله تعالى في الإحاطة شيوخ مولانا الجد، فلنذكرهم من جزء الجد الذي سماه " نظم اللآلي في سلوك الأمالي " (1) ومنه اختصر لسان الدين ما في الإحاطة في ترجمة مشيخته فنقول: قال مولاي الجد رحمه الله تعالى. 1، - 2 - فممن أخذت عنه، واستفدت منه، علماها - يعني تلمسان - الشامخان، وعالماها الراسخان: أبو زيد عبد الرحمن، وأبو موسى عيسى، ابنا محمد بن عبد الله ابن الإمام (2) ، وكانا قد رحلا في شبابهما من بلدهما برشك (3) إلى تونس فأخذوا بها عن ابن جماعة وابن العطار واليفرني (4) وتلك الحلبة، وأدركا المرجاني وطبقته من أعجاز المائة السابعة، ثم وردوا في أول المائة الثامنة تلمسان على أمير المسلمين أبي يعقوب وهو محاصر لها، وفقيه حضرته يومئذ أبو الحسن علي بن يخلف التنسي، وكان قد خرج إليه برسالة من صاحب تلمسان المحصورة فلم يعد، وارتفع شأنه عند أبي يعقوب، حتى إنه شهد جنازته، ولم يشهد جنازة أحد قبله، وقام على قبره، وقال: نعم الصاحب فقدنا اليوم؛ حدثني الحاج الشيخ بعباد تلمسان أبو عبد الله محمد بن محمد بن مرزوق العجيسي أن أبا يعقوب طلع إلى جنازة التنسي في الخيل حوالي روضة الشيخ أبي مدين فقال: كيف تتزكون الخيل تصل إلى ضريح الشيخ هلا عرضتم هنالك - وأشار إلى حيث المعراض الآن - خشبة ففعلنا، فلما قتل أبو يعقوب وخرج المحصوران أنكرا ذلك، فأخبرتهما، فأما أبو زيان - وكان السلطان يومئذ - فنزل وطأطأ رأسه ودخل،

_ (1) ق: اللآل ... الامال. (2) ترجمة ابني الإمام في التعريف: 28 والعبر 7: 100 والديباج: 152 ونيل الابتهاج: 139، 190؛ وفيه نقل عن المقري الجد (انظر ص: 140) . (3) نيل الابتهاج: تلمسان. (4) نيل الابتهاج: والبطرني.

وأما أبو حمو - وكان أميراً - فوثب وخلفها. ولما رجع الملك إلى هذين الرجلين اختصا ابني الأمام، وكان أبو حمو أشد اعتناء بهما، ثم بعده ابنه أبو تاشفين، ثم زادت حظوتهما عند أمير المسلمين أبي الحسن، إلى أن توفي أبو زيد في العشر الأوسط من رمضان عام أحد وأربعين وسبعمائة بعد وقعة طريف بأشهر، فزادت مرتبة أبي موسى عند السلطان، إلى أن كان من أمر السلطان بإفريقيا ما كان في أول عام تسعة وأربعين، وكان أبو موسى قد صدر عنه قبل الوقعة فتوجه صحبة ابنه أمير المسلمين أبي عنان إلى فاس، ثم رده إلى تلمسان، وقد استولى عليها عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان، فكان عنده إلى أن مات الفقيه عقب الطاعون العام. قال لي خطيب الحضرة الفاسية (1) أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن مالك بن عبد الله الرندي: لما أزمع الفقيه ومن أطلق معه على القفول إلى تلمسان بت على تشييعهم، فرأيتني كأنني نظمت هذا البيت في المنام: وعند وداع القوم ودعت سلوتي ... وقلت لها بيني فأنت المودع فانتبهت وهو في في، فحاولت قريحتي بالزيادة عليه فلم يتيسر لي مثله. ولما استحكم ملك أبي تاشفين واستوثق رحل الفقيهان إلى المشرق في حدود العشرين وسبعمائة فلقيا علاء الدين القونوي، وكان بحيث إني لما رحلت فلقيت أبا علي حسين بن حسين ببجاية قال لي: إن قدرت أن لا يفوتك شيء من كلام القونوي حتى تكتب جميعه فافعل، فإنه لا نظير له ولقيا أيضاً جلال الدين القزويني صاحب البيان، وسمعا صحيح البخاري على الحجار، وقد سمعته أنا عليهما، وناظرا تقي الدين بن تميمة، وظهرا عليه، وكان ذلك من أسباب محنته، وكانت له مقالات فيما يذكر (2) وكان شديد الإنكار على الإمام فخر الدين، حدثني

_ (1) ص: الفارسية يعني حضرة أبي عنان فارس. (2) نيل الابتهاج: وكانت للتقي المذكور مقالات شنيعة من حمل حديث النزول على ظاهره ... إلخ.

شيخي العلامة أبو عبد الله الآبلي أن عبد الله بن إبراهيم الزموري أخبره أنه سمع ابن تيمية ينشد لنفسه (1) : محصل في أصول الدين حاصله ... من بعد تحصيله علم بلا دين أصل الضلالة والإفك المبين، فما ... فيه فأكثره وحي الشياطين قال: وكان في يده قضيب، فقال: والله لو رأيته لضربته بهذا القضيب هكذا، ثم رفعه ووضعه. وبحسبك مما طار لهذين الرجلين من الصيت بالمشرق أني لما حللت بيت المقدس وعرف به مكاني من الطلب، وذلك أني قصدت قاضيه شمس الدين بن سالم ليضع لي يده على رسم أستوجب به هنالك حقاً، فلما أطللت عليه عرفه بي بعض من معه، فقام إلي حتى جلست، ثم سألني بعض الطلبة بحضرته فقال لي: إنكم معشر المالكية تبيحون للشامي يمر بالمدينة أن يتعدى ميقاتها إلى الجحفة، وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد أنم عين المواقيت لأهل الآفاق " هن لهن، ولمن مر عليهن من غير أهلهن " وهذا قد مر على ذي الخليفة وليس من أهله فيكون له، فقلت له: إن النبي، صل الله عليه وسلم، قال " من غير أهلهن " أي من غير أهل المواقيت، وهذا سلب كلي، وإنه غير صادق على هذا الفرد، ضرورة صدق نقيضه وهو الإيجاب الجزئي عليه، لأنه من بعض أهل المواقيت قطعاً، فلما لم يتناوله النص رجعنا إلى القياس، ولا شك أنه لا يلزم أحداً أن يحرم قبل ميقاته وهو يمر به لكن من ليس من أهل الجحفة لا يمر بميقاته إذا مر بالمدينة، فوجب عليه الإحرام من ميقاتها، بخلاف أهل الجحفة، فإنها بين أيديهم، وهم يمرون عليها، فوقعت من نفوس أهل البلد بسبب ذلك، فلما عرفت أتاني آت من أهل المغرب فقال لي: تعلم أن مكانك في

_ (1) انظر هذا في نيل الابتهاج: 245 (ترجمة الآبلي) .

نفوس أهل هذا البلد مكين، وقدرك عندهم رفيع، وأنا اعلم انقباضك (1) عن ابني الإمام، فإن سئلت فانتسب لهما، فقد سمعت منهما، وأخذت عنهما، ولا تظهر العدول عنهما إلى غيرهما فتضع من قدرك، فإنما أنت عند هؤلاء الناس خليفتهما، ووارث علمهما وأن لا أحد فوقهما (2) : وليس لما تبني يد الله هادم ... وشهدت مجلساً بين يدي السلطان أبي تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو ذكر فيه أبو زيد ابن الإمام أن ابن القاسم مقلد مقيد النظر بأصول مالك، ونازعه أبو موسى عمران بن موسى المشدالي، وادعى أنه مطلق الاجتهاد، واحتج له بمخالفته لبعض ما يرويه ويبلغه عنه لما ليس من قوله، وأتى من ذلك بنظائر كثيرة قال: فلو تقيد بمذهبه لم يخالفه بغيره، فاستظهر أبو زيد نص لشرف الدين التلمساني مثل فيه الاجتهاد المخصوص باجتهاد ابن القاسم بالنظر إلى مذهب مالك والمزني إلى الشافعي، فقال عمران: هذا مثال، والمثال لا تلزم صحته، فصاح به أبو موسى ابن الإمام وقال لأبي عبد الله ابن أبي عمرو: تكلم، فقال: لا أعرف ما قال هذا الفقيه، الذي أذكره من كلام أهل العم انه لا يلزم من فساد المثال فساد الممثل، فقال أبو موسى للسلطان: هذا كلام أصولي محقق، فقلت لهما وأنا يومئذ حديث السن: ما أنصفتما الرجل، فإن المثل كما تؤخذ على جهة التحقيق كذلك تؤخذ على طريق التقريب، ومن ثم جاء ما قاله هذا الشيخ، أعني ابن أبي عمرو، وكيف لا وهذا سيبويه يقول: وهذا مثال ولا يتكلم به، فإذا صح أن المثال قد يكون تقريباً فلا يلزم صحة المثال ولا فساد الممثل لفساده، فهذان القولان من أصل واحد.

_ (1) كذا وفي نيل الابتهاج: أخذك. (2) نيل الابتهاج: وإن الأمر فوقهما.

وشهدت مجلساً آخر عند هذا السلطان قرأ فيه عن أبي زيد ابن الإمام حديث لقنوا موتاكم لا إله إلا الله في صحيح مسلم، فقال له الأستاذ أبو إسحاق ابن حكم السلوي: هذا الملقن محتضر حقيقة ميت مجازاً، فما وجه ترك محتضريكم إلى موتاكم، والأصل الحقيقة فأجابه أبو زيد بجواب لم يقنعه، وكنت قد قرأت على الأستاذ بعض التنقيح فقلت: زعم القرافي أن المشتق إنما يكون حقيقة في الحال، مجازاً في الاستقبال، مختلفاً في الماضي، إذا كان محكوماً به، أما إذا كان متعلق الحكم كما هنا فهو حقيقة مطلقاً إجماعاً، وعلى هذا التقرير لا مجاز، فلا سؤال، لا يقال: إنه احتج على ذلك بما فيه نظر، لأنا نقول: إنه نقل الإجماع، وهو أحد الأربعة التي لا يطالب مدعيها بالدليل، كما ذكر أيضاً، بل نقول: إنه أساء حيث احتج في موضع الوفاق، كما أساء اللخمي وغيره في الاحتجاج على وجوب الطهارة ونحوها، بل هذا أشنع، لكونه مما علم من الدين بالضرورة، ثم إنا لو سلمنا نفي الإجماع فلنا أن نقول: إن ذلك إشارة إلى ظهور العلامات التي يعقبها الموت عادة، لأن تلقينه قبل ذلك إن لم يدهش فقد يوحش، فهو تنبيه على وقت التلقين، أي لقنو من تحكمون أنه ميت، أو نقول: إنما عدل عن الاحتضار لما فيه من الإبهام، ألا ترى اختلافهم فيه: هل أخذ من حضور الملائكة، أو حضور الأجل، أو حضور الجلاس، ولا شك أن هذه حالة خفية يحتاج في نصبها دليلاً على الحكم إلى وصف ظاهر يضبطها، وهو ما ذكرناه، أو من حضور الموت، وهو أيضاً مما لا يعرف بنفسه، بل بالعلامات، فلما وجب اعتبارها وجب كون تلك التسمية إشارة إليها، والله تعالى أعلم. كما كان أبو زيد يقول فيما جاء من الأحاديث من معنى قول ابن أبي زيد وإذا سلم الإمام فلا يثبت بعد سلامه ولينصرف: إن ذلك بعد أن ينتظر بقدر ما يسلم من خلفه، لئلا يمر بين يدي أحد، وقد ارتفع عنه حكمه، فيكون كالداخل مع المسبوق، جمعاً بين الأدلة، قلت: وهذا ملح الفقيه.

اعترض عند أبي زيد قول ابن الحاجب ولبن الآدمي والمباح طاهر بأنه إنما يقال في الآدمي لبان، فأجاب بالمنع، واحتج بقول النبي، صلى الله عليه وسلم، " اللبن للفحم " وأجيب بأن قول ذلك لتشريكه المباح معه في الحكم؛ لأن اللبان خاص به، وليس موضع تغليب، لأن اللبان ليس بعاقل، ولا حجة على تغليب ما يختص بالعاقل. تكلم أبو زيد يوماً في مجلس تدريسه في الجلوس على الحرير، فاحتج إبراهيم السلوي للمنع بقول أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فمنع أبو زيد أن يكون إنما أراد باللباس الافتراش فحسب، لاحتمال أن يكون إنما أراد التغطية معه أو وحدها، وذكر حديثاً في تغطية الحصير، فقلت: كلا الأمرين يسمى لباساً، قال الله عز وجل {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} (البقرة: 187) وفيه بحث. كان أبو زيد يصحف قول الخونجي في الجمل والمقارنات التي يمكن اجتماعه معها فيقول: " والمفارقات " ولعله في هذا كما قال أبو عمرو ابن العلاء للأصمعي لما قرأ عليه (1) : وغررتني وزعمت أنك لابن بالصيف تامر ... فقال: وغررتني وزعمت أنك لا تني بالضيف تامر ... فقال: أنت في تصحيفك أشعر من الحطيئة، أو كما حكي عمن صلى بالخليفة في رمضان ولم يكن يومئذ يحفظ القرآن، فكان ينظر في المصحف، فصحف آيات: صنعة الله، أصيب بها من أساء، إنما المشركون نحس، وعدها

_ (1) التصحيف: 95.

أباه، تقية الله خير لكم، هذا أن دعوا للرحمن ولداً، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يعنيه. سمعت أبا زيد يقول: إن أبا العباس الغماري التونسي أول من أدخل " معالم " الإمام فخر الدين للمغرب، وبسبب ما قفل به من الفوائد رحل أبو القاسم ابن زيتون. وسمعته يقول: إن ابن الحاجب ألف كتابه الفقهي من ستين ديواناً (1) ، وحفظت من وجادة أنه ذكر عند أبي عبد الله ابن قطرال المراكشي أن ابن الحاجب اختصر " الجواهر " فقال: ذكر هذا لأبي عمرو حين فرغ منه فقال: بل ابن شاس اختصر كتابي، قال ابن قطرال: وهو أعلم بصناعة التأليف من ابن شاس، والإنصاف أنه لا يخرج عنه وعن ابن بشير إلا في الشيء اليسير، فهما أصلاه ومعتمداه، ولا شك أن له زيادات وتصرفات تنبئ عن رسوخ قدمه وبعد مداه. وكان أبو زيد (2) من العلماء الذين يخشون الله، حدثني أمير المؤمنين المتوكل أبو عنان أن والده أمير المسلمين أبا الحسن ندب الناس إلى الإعانة بأموالهم على الجهاد، فقال له أبو زيد: لا يصح لك هذا حتى تكنس بيت المال، وتصلي ركعتين كما فعل علي بن أبي طالب، وسأله أبو الفضل ابن أبي مدين الكاتب ذات يوم عن حاله، وهو قاعد ينتظر خروج السلطان، فقال له: أما الآن فأنا مشرك، فقال: أعيذك من ذلك، فقال: لم أرد الشرك في التوحيد، لكن في التعظيم والمراقبة، وإلا فأي شيء جلوسي ههنا والشيء بالشيء يذكر، قمت ذات يوم على باب السلطان بمراكش فيمن

_ (1) ابن الحاجب: عثمان بن عمر بن يونس جمال الدين المصري (- 646) له مختصر في الفقه المالكي يعرف عادة باسم " فرعي ابن الجاجب " أو المختصر الفقهي ومختصر في أقول الفقه يسمى " أصلي ابن الحاجب " وهو مختصر كتابه منتهى السول (انظر مقدمة ابن خلدون: 1025) . (2) النص في نيل الابتهاج: 140.

ينتظر خروجه، فقام إلى جانبي شيخ من الطلبة، وأنشدني لأبي بكر ابن خطاب (1) رحمه الله تعالى: أبصرت أبواب الملوك تغص بال ... راجين إدراك العلا والجاه مترقبين لها فمهما فتحت ... خروا لأذقان لهم وجباه فأنفت من ذاك الزحام وأشفقت ... نفسي على إنضاء جسمي الواهي ورأيت باب الله ليس عليه من ... متزاحم، فقصدت باب الله وجعلته من دونهم لي عدة ... وأنفت من غيي وطول سفاهي يقول جامع هذا المؤلف: رأيت بخط عالم الدنيا ابن مرزوق على هذا المحل من كلام مولاي الجد مقابل قوله " ورأيت باب الله " ما صورته: قلت ذلك لسعته أو لقلة أهله: إن الكرام كثير في البلاد، وإن ... قلوا، كما غيرهم قل وإن كثروا {قل لا يستوي الخبيث والطيب} - الآية (المائدة: 100) انتهى. رجع إلى كلام مولاي الجد قال رحمه الله تعالى ورضي عنه: وحدثني شيخ من أهل تلمسان أنه كان عند أبي زيد مرة، فذكر القيامة وأهوالها فبكى، فقلت: لا بأس علينا وأنتم أمامنا، فصاح صيحة، واسود وجهه، وكاد يتفجر دماً، فلما سري عنه رفع يديه وطرفه إلى السماء وقال: اللهم لا تفضحنا مع هذا الرجل، وأخباره كثيرة. وأما شقيقه أبو موسى فسمعت عليه كتاب مسلم، واستفدت منه كثيراً،

_ (1) هو عزيز خطاب المرسي كان أول أمره ناسكا زاهدا واستمر على هذه الطريقة حتى امتحن برياسة بلده سنة 636 فخاض في سفك الدماء واجترأ على الأموال من غير وجهها إلى أن قتل في العام نفسه (ترجمته في الذيل والتكملة 5: 144 وصلة الصلة: 165 والتكملة رقم 1952 واختصار القدح: 126 والمغرب 2: 252 وأعمال الأعلام: 315 والحلة السيراء 2: 308) .

فمما سألته عنه قول ابن الحاجب في الاستلحاق " وإذا استلحق مجهول النسب " إلى قوله " أو الشرع بشهرة نسبه " كيف يصح هذا القسم مع فرضه مجهول النسب فقال: يمكن أن يكون مجهول النسب في حال الاستلحاق، ثم يشتهر بعد ذلك، فيبطل الاستلحاق، فكأنه يقول: ألحقه ابتداء ودواماً، ما لم يكذبه أحد، هذه هي إحدى الحالتين، إلا أ، هذا إنما يتصور في الدوام فقط، ومما سألته عنه أن الموثقين يكتبون الصحة والجواز والطوع على ما يوهم القطع، وكثيراً ما ينكشف الأمر بخلافه، ولو كتبوا مثلاً ظاهر الصحة والجواز والطوع لبرئوا من ذلك، فقال لي: لما كان مبنى الشهادة وأصلها العلم لم يجمل ذكر الظن ولا في معناه احتمال، فإذا أمكن العلم بمضمونها لم يجز أن يحمل على غيره، فإذا تعذر كما ها هنا بني باطن أمرها على غاية ما يسعه فيه الإمكان عادة، وأجري ظاهرة على ما ينافس أصلها، صيانة لرونقها، ورعاية لما كان ينبغي أن تكون عليه لولا الضرورة. قلت: ولذلك عقد ابن فتوح وغيره عقود الجوائح على ما يوهم العلم بالتقدير، مع أن ذلك إنما يدرك بما غايته الظن في الحزر والتخمين، وكانا معاً يذهبان إلى الاختيار وترك التقليد. 3 - وممن أخذت عنه أيضاً حافظها ومدرسها ومفتيها أبو موسى عمران ابن موسى بن يوسف المشدالي (1) ، صهر شيخ المدرسين أبي علي ناصر الدين (2) على ابنته، وكان قد فر من حصار بجاية فنزل الجزائر، فبعث فيه أبو تاشفين، وأنزله من التقريب والإحسان بالمحل المكين، فدرس بتلمسان الحديث والفقه والأصلين والنحو والمنطق والجدل والفرائض، وكان كثير الاتساع في الفقه والجدل، مديد الباع فيما سواهما مما ذكر، سألته عن قول ابن الحاجب في

_ (1) ترجمة أبي موسى المشدالي في نيل الابتهاج: 208. (2) هو منصور بن أحمد بن عبد الحق (- 731) (راجع ترجمته في نيل الابتهاج: 377 وعنوان الدراية: 134) .

السهو فإن أخال الإعراض فمبطل عمده فقال: معناه فإن أخال غيره أنه معرض، فحذف المفعول لجوازه، وأقام المصدر مقام المفعولين كما يقوم مقامه ما في معناه من أن وأن، قال الله العظيم {ألم أحسب الناس أن يتركوا} (العنكبوت: 1 - 2) قلت: وأقوى من هذا أن يكون المصدر هو المفعول الثاني، وحذف الثالث اختصاراً لدلالة المعنى عليه: أي فإن أخال الإعراض كائناً، كما قالوا: خلت ذلك، وقد أعربت الآية بالوجهين، وهذا عندي أقرب، ومن هذا الباب ما يكتب به القضاة من قولهم " أعلم باستقلاله فلان " أي أعلم فلان من يقف عليه بأن الرسم مستقل، فحذفوا الأول، وصاغوا ما بعده المصدر. سئل عمران وأنا عنده عما صبغ من الثياب بالدم فكانت حمرته منه، فقال: يغسل، فإن لم يخرج شيء من ذلك في الماء فهو طاهر، لأن المتعلق به على هذا التقدير ليس إلا لون النجاسة، وإذا عسر قلعه بالماء فهو عفو، وإلا وجب غسله إلى أن لا يخرج منه شيء، قلت: في البخاري قال معمر: رأيت الزهري يصلي فيما صبغ بالبول من ثياب اليمن، وتفسيره على ما ذكره عمران. وكان قد صاهر لقاضي الجماعة أبي عبد الله ابن هربة على ابنته فلم تزل عنده إلى أن توفي عنها. 4 - ومنهم مشكاة الأنوار، الذي يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار، الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن حكم السلوي، رحمه الله تعالى. ورد تلمسان بعد العشرين، ثم لم يزل بها إلى أن قتل يوم دخلت على بني عبد الواد، وذلك في الثامن والعشرين من شهر رمضان عام سبعة وثلاثين وسبعمائة. قال لي الشيخ ابن مرزوق: ابتدأ أمر بني عبد الواد بقتلهم لأبي الحسن السعيد، وكان أسمر لأم ولد تسمى العنبر، وختم بقتل أبي الحسن ابن عثمان إياهم، وهو بصفته المذكورة حذوك النعل بالنعل، فسبحان من دقت حكمته في كل شيء.

ولما وقف الرفيقان أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري ومجمد بن عبد الرحمن بن الحكيم الرندي في رحلتهما على قبر السعيد بعباد تلمسان تناول ابن الحكيم فحمة ثم كتب بها على جدار هناك: انظر ففي إليك اليوم معتبر ... إن كنت ممن بعين الفكر قد لحظا بالأمس أدعى سعيداً، والورى خولي ... واليوم يدعى سعيداً من بي اتعظا قال ابن حكم: كان أول اتصالي بالأستاذ أبي عبد الله ابن آجروم أني دخلت عليه وقد حفظت بعض كتاب المفصل فوجدت الطلبة يعرفون بيت يديه هذا البيت (1) : عهدي به الحي الجميع وفيهم ... قبل التفرق ميسر وندام وقد عُمي عليهم خبر " عهدي " فقلت له: قد سدت الحال وهي الجملة بعده مسده، فقال لي بعض الطلبة: وهل يكون هذا في الجملة كما كان في قولك: " ضربي زيداً قائماً " قلت له: نعم، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ". ذكر أبو زيد ابن الإمام يوماً في مجلسه أنه سئل بالمشرق عن هاتين الشرطيتين {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} (الأنفال: 23) فإنهما تستلزمان بحكم الإنتاج لو علم الله فيهم خيراً لتولوا، وهو محال، ثم أراد أن يرى ما عند الحاضرين، فقال ابن حكم: قال ابن الخونجي: والإهمال بإطلاق لفظ لو وإن في المتصلة، فهاتان القضيتان على هذا مهملتان، والمهملة في قوة الجزئية، ولا قياس عن جزئيتين. فلما اجتمعت ببجاية أبي علي حسين بن حسين وأخبرته بهذا، وبما أجاب به الزمخشري وغيره، مما يرجع إلى انتفاء تكرر الوسط، قال لي: الجوابان في المعنى سواء، لأن القياس على

_ (1) البيت للبيد، ديوانه: 288.

الجزئيتين إنما امتنع لانتفاء أمر تكرر الوسط، فأخبرت بذلك شيخنا الآبلي، فقال: إنما يقوم القياس على الوسط، ثم يشترط فيه بعد ذلك أن لا يكون من جزئيتين، ولا سالبتين، إلى ما يشترط، فقلت: ما المانع من كون هذه الشروط تفصيلاً لمجمل ما ينبني عليه من الوسط وغيره، وإلا فلا مانع غير ما قاله ابن حسين، قال الآبلي: وقد أجبت بجواب السلوي، ثم رجعت إلى ما قال الناس لوجوب كون مهملات القرآن كلية لأن الشرطية لا تنتج جزئية، فقلت: هذا فيما يساق منها للحجة، مثل " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا "، أما في مثل هذا فلا. ولما ورد تلمسان الشيخ الأديب أبو الحسن ابن فرحون نزيل طيبة على تربتها السلام سأل ابن الحكم عن معنى هذين البيتين: رأت قمر السماء فأذكرتني ... ليالي وصلها بالرقمتين كلانا ناظر قمراً ولكن ... رأيت بعينها ورأت بعيني ففكر ثم قال: لعل هذا الرجل كان ينظر إليها، وهي تنظر إلى قمر السماء، فهي تنظر إلى القمر حقيقة، وهو لإفراط الاستحسان يرى أنها الحقيقة، فقد رأى بعينها لأنها ناظرة الحقيقة، وأيضاً فهو ينظر إلى قمر مجازاً، وهو لإفراط الاستحسان (1) لها يرى أن قمر السماء هي المجاز، فقد رأت بعينه، لأنها ناظرة المجاز. قلت: ومن ههنا تعلم وجه الفاء في قوله فأذكرتني، لأنه لما صارت رؤيتها رؤيته، وصار القمر حقيقة إياها، وكان قوله رأت قمر السماء فأذكرتني، بمثابة قوله فأذكرتني، فإن بعض من لا يفهم كلام الأستاذ حق الفهم ينشده " فأذكرتني " فالفاء في البيت الأول مبنية على معنى البيت الثاني، لأنها

_ (1) ق: استحسانه.

مبنية عليه، وهذا النحو يسمى الإيذان في علم البيان. ولما اجتمعنا بأبي الوليد ابن هانئ مقدمه علينا من غرناطة سأل ابن حكم عن تكرار من في قوله تعالى " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به " دون ما بعدها، فقال: لولا تكررها أولاً لتوهم التضاد بتوهم اتحاد الزمان، فارتفع بتكرار الموضوع، أما الآخر فقد تكرر الزمان، فارتفع توهم التضاد، فلم يحتج إلى زائد على ذلك، فقلت: فهلا اكتفى بسواء على تكرار الموضوع، لأن التسوية لا تقع إلا بين أمرين، وإنما الجواب عندي أنها تكررت أولاً على الأصل لأنهما صنفان يستدعيهما كل واحد منهما أن تقع عليه، ثم اختصرت ثانياً لفهم المراد من التفصيل بالأول مع أمن اللبس، وقد أجاب الزمخشري بغير هذين فانظره. سألني ابن حكم المذكور عن نسب المجيب في هذا البيت: ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب ... فأجاب ما قتل المحب حرام ففكرت ثم قلت: أراه تميمياً، لإلغائه ما النافية، فاستحسنه مني لصغر سني يومئذ. تذاكرت (1) يوماً مع ابن حكم في تكملة البدر بن محمد بن مالك ل " شرح التسهيل " لأبيه، ففصلت عليه كلام أبيه، ونازعني الأستاذ، فقلت: عهود من الآبا توارثها الأبنا ... فما رأيت بأسرع من أن قال: بنوا مجدها لكن بنوهم لها أبنى ... فبهت من العجب (2) .

_ (1) ص: نظرت؛ ق: وتكلمت. (2) ق: التعجب.

وتوفي الشيخ ابن مالك سنة اثنتين وسبعين وستمائة، وفيها ولد شيخنا عبد المهيمن الحضرمي، فقيل: مات فيها إمام نحو، وولد فيها إمام نحو. سألت ابن حكم عن قول فخر الدين في أول المحصل " وعندي أن شيئاً منها غير مكتسب " (1) بمعنى لا شيء ولا واحد، هل له أصل في العربية أو كما قيل من بقايا عجمته فقال لي: بل له أصل، وقد حكى بان مالك مثله عن العرب، فلم يتفق أن أستوقفه عليه، ثم لم أزل أستكشف عنه كل من أظن أن لديه شيئاً منه (2) ، فلم أجد من عنده أثارة منه، حتى مر بي في باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر الداخل عليها كان من شرح التسهيل قوله فإن تقدم على الاستفهام أحد المفعولين نحو " علمت زيداً أبو من هو " اختير نصبه، لأن الفعل مسلط عليه، فلا مانع، ويجوز رفعه، لأنه والذي بعد الاستفهام شيء واحد في المعنى فكأنه في حيز الاستفهام، والاستفهام مشتمل عليه، وهو نظير قوله: إن أحد إلا يقول ذلك، وأحد هذا لا يقع إلا بعد نفي، ولكن لما كان هنا والضمير المرفوع بالقول شيئاً واحداً في المعنى تنزل منزلة واقع بعد نفي، فعلمت أنه نحى إلى هذا، لأن شيئاً ههنا والضمير المرفوع بمكتسب المنفي في المعنى شيء واحد، فكان شيئاً كأنه وقع بعد غير: أي بعد النفي. سأل ابن فرحون ابن حكم: هل تجد في التنزيل ست فاءات مرتبة ترتيبها في هذا البيت: رأى فحب فرام الوصل فامتنعت فسام صبراً فأعيا نيله فقضى ففكر ثم قال: نعم " فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون - إلى آخره " فمنعت له البناء في " فتنادوا " فقال لابن فرحون: فهل عندك غيره فقال: نعم " فقال لهم رسول الله إلى آخر السورة " فمنع له

_ (1) المحصل: 3؛ القول في التصورات وعندي ... إلىخ. (2) ق ص: عنه.

بناء الآخرة لقراءة الواو، فقلت: امنع ولا تسند فيقال لك: إن المعاني قد تختلف باختلاف الحروف، وإن كان السند لا يسمع الكلام عليه، وأكثر ما وجدت الفاء تنتهي في كلامهم إلى هذا العدد، سواء بهذا الشرط وبدونه، كقول نوح عليه السلام: " فعلى الله توكلت - الآية " وكقول امرئ القيس: غشيت ديار الحي بالبكرات ... البيتين (1) ، لا يقال: فالجب سابع، لأنا نقول: إنه عطف على عاقل المجرد منها، ولعل حكمة الستة أنها أول الأعداد التامة كما قيل في حكمة خلق السموات والأرض فيها، وشأن اللسان عجيب. وقوله في هذا البيت فحب لغة قليلة جرى عليها محبوب كثيراً، حتى استغني به عن محب، فلا تكاد تجده إلا في قول عنترة: ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم ونظيره محسوس من حس والأكثر أحس ولا تكاد تجد محساً، وهذا التوجيه أحسن من قول القرافي في " شرح التنقيح ": إنهم أجروا محسوسات مجرى معلومات لأن الحس أحد طرق العلم. سمعت ابن حكم يقول: بعث بعض أدباء فاس إلى صاحب له: ابعث إلي بشيء ... مدار فاس عليه وليس عندك شيء ... مما أشير إليه فبعث إليه ببطة من مري (2) ، يشير بذلك إلى الرياء.

_ (1) هما قول أمرئ القيس: غشيت ديار الحي بالبكرات ... فعارمة فبرقة العيرات فغول فحليت فأكناف منعج ... إلى عاقل فالجب ذي الأمرات (2) قد شرحنا من قبل لفظة " مري " (ج 3: 92) وأما " البطة " فهي إناء كالقارورة يعمل على شكل بطة.

وحدثت (1) أن قاضيها أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الملجوم حضر وليمة، وكان كثير البلغم، فوضع بين يديه صهره أبو العباس ابن الأشقر غضاراً من اللون المطبوخ بالمري لمناسبته لمزاجه، فخاف أن يكون قد عرض له بالرياء. وكان ابن الأشقر يذكر بالوقوع في الناس، فناوله القاضي غضار المقروض، فاستحسن الحاضرون فطنته. 5 - ومنهم عالم الصلحاء، وصالح العلماء، وجليس التنزيل، وحليف البكاء والعويل، أبو محمد عبد الله بن عبد الواحد بن إبراهيم بن الناصر المجاصي (2) خطيب جامع القصر الجديد، وجامع خطتي التحديث والتجويد، ويسميه أهل مكة البكاء، ولما قدم أبو الحسن علي بن موسى البحيري سأل عنه، فقيل إليه: لو علم بك أتاك، فقال: أنا آتي من سمعت سيدي أبا زيد الهزميري يقول للأول ما رآه ولم يكن يعرفه قبل ذلك: مرحباً بالفتى الخاشع، أسمعنا من قراءتك الحسنة. دخلت عليه بالفقيه أبي عبد الله في أيام العيد، فقدم لنا طعاماُ، فقلت: لو أكلت معنا، فرجونا بذلك ما يرفع من حديث " من أكل مع مغفور له غفر له " فتبسم وقال لي: دخلت على سيدي أبو عبد الله الفاسي بالإسكندرية، فقدم طعاماُ، فسألته عن هذا الحديث، فقال: وقع في نفسي منه شيء، فرأيت النبي، صلى الله عليه وسلم، في المنام، فسألته عنه، فقال لي: لم أقله، وأرجو أن يكون ذلك. وصافحته بمصافحة الشيخ أبا عبد الله الزيان بمصافحته أبا سعيد عثمان بن عطية الصعيدي أبا عباس أحمد الملثم بمصافحته المعمر بمصافحته رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

_ (1) ق: ذكر. (2) ترجمة المجاصي في نيل الابتهاج: 121 ونقل بعض ما قاله المقري الجد فيه.

وسمعته يحدث عن شيخه أبي محمد الدلاصي أنه كان للملك العادل مملوك اسمه محمد، فكان يخصه لدينه وعقله بالنداء باسمه، وإنما كان ينعق بمماليكه يا ساقي، يا طباخ يا مزين، فنادى به ذات يوم: يا فراش، فظن ذلك لموجدة عليه، فلما لم ير أثر ذلك، وتصورت له به خلوة، سأله عن مخالفته لعادته معه، فقال: لا عليك، كنت حينئذ جنباً، فكرهت ذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في تلك الحالة. ومما نقلته من خط المجاصي ثم قرأته عليه فحدثني به قال: حدثني القاضي أبو زكريا يحيى أحمد بن محمد بن يحيى بن أبي بكر ابن عصفور قال: حدثني جدي يحيى المذكور، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن التجيبي المقرئ بتلمسان، حدثنا الحافظ أبو محمد - يعني والله أعلم عبد الحق الإشبيلي - أخبرنا (1) أبو غالب أحمد ابن الحسن المستعمل، أخبرنا أبو الفتوح عبد الغافر بن الحسين بن أبي الحسن ابن خلف الألمعي، أخبرنا (2) أبو نصر أحمد بن إسحاق النيسابوري، أملى علينا أبو عثمان إسماعيل ين عبد الرحمن الصابوني، أخبرنا محمد بن علي بن الحسين العلوي، أخبرنا عبد الله بن إسحاق اللغوي وأنا سألته، أخبرنا إبراهيم بن الهيثم البلدي، أخبرنا عبد الله بن نافع بن عيسى بن يونس عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لي جبريل: ألا أعلمك الكلمات التي قالهن موسى حين انفلق له البحر قلت: بلى، قال قل: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، وأنت المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال ابن مسعود: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم تسلسل الحديث عن ذلك، كل أحد من رجاله يقول: ما تركتهن منذ سمعتهن من فلان، لشيخه، وقد سمعت المجاصي

_ (1) ق: حدثنا، حيث وقعت. (2) أخبرنا أبو الفتح ... أخبرنا: سقطت من ق.

يكررها كثيراً، وما تركتهن منذ سمعتهن منه. وأنشدني المجاصي وقال: أنشدني نجم الدين الواسطي، أنشدني شرف الدين الدمياطي، أنشدني تاج الدين الأرموي مؤلف الحاصل، قال: أنشدني الإمام فخر الدين لنفسه (1) : نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة (3) من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وكم من رجال رأينا ودولة (3) ... فبادوا مسرعين جميعاُ وزالوا وكم من جبال علت شرفاتها ... رجال فماتوا والجبال جبال وتوفي المجاصي في العشر الآخر من شهر ربيع الأول، عام أحد وأربعين وسبعمائة. 6 - ومنهم الشيخ الشريف القاضي الرحلة المعمر أبو علي الحسن بن يوسف ابن يحيى الحسيني السبتي. أدرك أبو الحسين ابن أبي الربيع وأبا القاسم العزفي واختص بابن عبيدة وابن الشاط، ثم رحل إلى المشرق فلقي ابن دقيق العيد وحلبته، ثم قفل فاستوطن تلمسان إلى أن مات بها سنة أربع وخمسين، أو ثلاث وخمسين وسبعمائة، قرأ علينا حديث الرحمة وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا الحسن بن علي بن عيسى ابن الحسن اللخمي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا (4) علي بن المظفر بن القاسم الدمشقي، وهو أول حديث سمعته منه، أجبرنا أبو الفرج محمد بن عبد الرحمن بن أبي العز الواسطي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو العز

_ (1) وردت الأبيات في ترجمة فخر الدين في ابن أبي أصيبعة 2: 28. (3) ابن أبي أصيبعة: وكم قد رأينا من رجال ودولة. (3) ابن أبي أصيبعة: وكم قد رأينا من رجال ودولة. (4) ق: حدثنا، حيثما وقعت.

عبد المغيث بن زهير، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا زاهر بن طاهر بن محمد الشحامي، وهو أول حديث سمعته منه. قال الحسن بن علي: وحدثنا أيضاً عالياً الحسن بن محمد البكري، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا ابن الفتوح محمد بن محمد بن محمد بن الجنيد الصوفي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا زاهر بن طاهر، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي الفضائل عبد الوهاب بن صالح عرف بابن المغرم إمام جامع همذان بها، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو منصور عبد الكريم بن محمد بن حامد المعروف بابن الخيام، وهو أول حديث سمعته عنه، أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك، وهو أول حديث سمعته عنه، حفظاً، أخبرنا أبو الطاهر محمد بن محمد بن مخمش (1) الزيادي، وهو أول حديث سمعته عنه، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن هلال البزاز، وهو أول حديث سمعته عنه، أخبرنا عبد الرحمن بن البشر بن الحكم، وهو أول حديث سمعته عنه، أخبرنا أبو سفيان بن عيينة، وهو أول حديث سمعته عنه، عن عمرو ابن دينار، عن أبي قاموس مولى لعبد الله بن عمرو بن العاص، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ". (ح) وحدثني الشريف أيضاُ كذلك بطريقه عن السلفي بأحاديثه المشهورة فيه، وهذا الحديث أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. قال لي الشريف: قال لي القاضي أبو العباس الرندي: لما قدم أبو العباس ابن الغماز (2) من بلنسية نزل بجاية، فجلس بها في الشهود مع عبد الحق بن ربيع (3) ،

_ (1) ابن مخمش: سقطت من ق، وفي ص: محمش. (2) هو أحمد بن محمد بن الحسن ابن الغماز الأنصاري نزل بجاية وولي قضاءها وإقامة الصلوات بجامعها الأعظم وتوفي بتونس (693) ، انظر الغبريني: 70 - 72. (3) لعبد الحق ترجمة مسهبة في الغبريني 32 - 36.

فجاء عبد الحق يوماً وعليه برنس أبيض، وقد حسنت شارته وكملت هيأته، فلما نظر إليه ابن الغماز أنشده: لبس البرنس الفقيه فباهى ... ورأى أنه المليح فتاها لو زليخا رأته حين تبدى ... لتمنته أن يكون فتاها وبه أن ابن الغماز جلس لارتقاب الهلال بجامع الزيتونة، فنزل الشهود من المئذنة وأخبروا أنهم لم يهلوه، وجاء حفيد له صغير، فأخبره أنه أهله، فردهم معه، فأراهم إياه، فقال: ما أشبه الليلة بالبارحة، وقع لنا مثل هذا مع أبي الربيع ابن سالم، فأنشدنا فيه: توارى هلال الأفق عن أعين الورى ... وأرخى حجاب الغيم دون محياه فلما تصدى لارتقاب شقيقه ... تبدى له دون الأنام فحياه سمعت الشريف يقول: أول زجل عمل في الدنيا: بالله يا طير مدلل ... مر بي وسط القفار إياك تجدد لعاده ... ترمي حجيرة في داري 7 - ومنهم قاضي جماعتها وكاتب خلافتها وخطيب جامعها، أبو عبد الله محمد بن منصور بن علي بن هدية القرشي (1) ، من ولد عقبة بن نافع الفهري، نزلها سلفه قديماً، وخلفه بها إلى الآن، توفي في أواسط سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وشهد جنازته سلطانها يومئذ أبو تاشفين، وولى ابنه أبا علي منصوراً مكانه يومئذ، ولما ثقل لسانه دعا ابنه فقال له: اكتب هذين البيتين فإني نظمتهما على هذه الحالة، فكتب: إلهي مضت للعمر سبعون حجة ... جنيت بها لما جنيت الدواهيا

_ (1) ترجمة ابن هدية في المقبة العليا: 134 وذكر أن وفاته صدر سنة 736.

وعبدك قد أمسى عليل ذنوبه ... فجد لي برحمى منك، نعم الدوا هيا ولما ورد الأديب أبو عبد الله محمد بن محمد المكودي من المغرب رفع عليه قصيدة أولها: سرت والدجى لم يبق إلا يسيرها ... نسيم صبا لم يحيي القلوب مسيرها وفيها الأبيات العجاب التي سارت سير الأمثال، وهي قوله: وفي الكلة الحمراء حمراء لو بدت ... لثكلى لولى ثكلها وثبورها فما يستوي مثوى لها من سوى القنا ... خيام، ومن بيض الصفاح ستورها وما بسوى صدق الغرام أرومها ... ولا بسوى زور الخيال أزورها فأحسن إليه، وكلم السلطان حتى أرسل جرايته عليه، وقد شهدت المكودي وهذه القصيدة تقرأ عليه. 8 - ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن أبي عمرو التميمي (1) . أدرك ابن الزيتون، وأخذ عن أبي الطاهر ابن سرور وحلبته، وعنه أخذت شرح المعالم له، وولي القضاء بتلمسان مرات، فلم تستفزه الدنيا، ولا باع الفقر بالغنى. 9 - ومنهم (2) أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد النور (3) . قاضي الجماعة بعد ابن أبي عمرو، وكانت له رحلة إلى المشرق، لقي بها

_ (1) سقطت هذه الترجمة من ق. (2) ق: ومنهم القاضي. (3) ترجمة ابن عبد النور في التعريف: 46 وجذوة الاقتباس: 190 ونيل الابتهاج: 240 وهو ندرومي أي ينسب إلى ندرومة في الشمال الغربي من تلمسان.

جلالة الدين القزويني وحلبته، وتوفي بتونس في الوباء العام في حدود الخمسين وسبعمائة. 10 - ومنهم الشيخ أبو عبد الله محمد بن الحسين البروني (1) . قدم عليها من الأندلس، فأقام إلى أن مات. سمعته يقول: البقر العدوية كالإبل المهملة في الصحراء، لا يجوز أن تباع بالنظر إليها، لكن بعد أن تمسك ويستولى عليها. 11 - ومنهم أبو عمران موسى المصمودي، الشهير بالبخاري. سمعت البروني يقول: كان الشيخ أبو عمران يدرس صحيح البخاري، ورفيق له يدرس صحيح مسلم، فكانا يعرفان بالبخاري ومسلم، فشهدا عند قاض فطلب المشهود عليه الاعتذار فيهما، فقال له أبو عمران: أتمكنه من الإعذار في الصحيحين فضحك القاضي، وأصلح بين الخصمين. سألته عما ضربه ابن هدية عليه من إباحة الاستياك في رمضان بقشر الجوز فقال لي: نعم، ويبلع ريقه، تأول، رحمه الله تعالى، أن الخصال المذكورة في السواك إنما تجتمع في الجوز، فكان يحمل كل ما روى فيه عليه، وهذا غلط فاحش، لأن العرب لا تكاد تعرفه، ونظر إلى ما في البخاري من قوله بعد أن ذكر جواز السواك للصائم " ولا أن يبتلع ريقه " يعني الصائم في الجملة، فحمله على المستاك بالجوز، وكان رحمه الله تعالى قليل الإصابة في الفتيا، كثير المصيبات عليها. 12 - ومنهم نادرة الأعصار: أبو عبد الله محمد بن يحيى بن علي بن النجار (2) .

_ (1) انظر نيل الابتهاج: 228. (2) ترجمة ابن النجار في التعريف: 47 ونيل الابتهاج: 239 وجذوة الاقتباس: 190 وسماه ابن خلدون " شيخ التعاليم " وذكر أنه كان إماما في علوم النجامة وأحكامها وما يتعلق بها.

قال لي العلامة الآبلي: ما قرأ أحد علي حتى قلت له: لم أبق عندي ما أقول لك غير ابن النجار. سمعت ابن النجار يقول: مر عمل الموقتين على تساوي فضلي ما بين المغرب والعشاء والفجر والشمس، فيؤذنون بالعشاء لذهاب ثماني عشرة درجة، وبالفجر لبقائها، والجاري على مذهب مالك أن الشفق الحمرة، وأن تكون فضلة ما بين العشائين أقصر، لأن الحمرة ثانية الغوارب والطوالع، فتزيد فضلة الفجر بمقار ما بين ابتداء طلوع الحمرة والشمس، فعرضت كلامه هذا على المزاور أبي زيد عبد الرحمن بن سليمان اللجائي، فصوبه. وذكرت يوماً (1) حكاية ابن رشد الاتفاق في الخمر إذا تخللت بنفسها أنها تطهر، واعترضه بما في اعترضه بما في " الإكمال " عن ابن وضاح أنها لا تطهر، فقال لي: لا معتبر بقول ابن وضاح هذا، لأنه يلزم عليه تحريم الخل، لأن العنب لا يصير خلاً حتى يكون خمراً، وفيه بحث. وذكرت يوماً قول ابن الحاجب فيما يحرم من النساء بالقرابة وهي أصول وفصول، وفصول أول أصوله، وأول فصل من كل أصل وإن علا فقال: إن تركب لفظ التسمية (2) العرفية من الطرفين حلت، وإلا حرمت، فتأملته فوجدته كما قال، لأن أقسام هذا الضابط أربعة: التركب من الطرفين كابن العم وابنة العم مقابله كالأب والبنت، التركب من قبل الرجل كابنة الأخ والعم مقابله كابن الأخت (3) والخالة. وأنشدت يوماً عنده على زيادة اللام (4) : باعد أم عمر من أسيرها ... ...

_ (1) قارن بما ورد في نيل الابتهاج: 239. (2) نيل الابتهاج: بقضية النسبة. (3) نيل الابتهاج: الأخ. (4) تمام هذا الرجز: " حراس أبواب على قصورها ".

فقال لي: وما يدريك أنه أراد العمرة الذي أراده المعري بقوله (1) : وعمر هند كأن الله صوره ... عمرو ابن هند يعني الناس تعنيتا وأضاف اللام إليه كما قالوا: أم الحليس، قلت: ولا يندفع هذا بثبوت كون المعنية تكنى أم عمرو؛ لأن ذلك لا يمنع إرادة المعنى الآخر، فتكون: أم عمرو وأم العمر. قال ابن النجار: بعثت بهذه الأبيات من نظمي إلى القاضي أبي عبد الله ابن هدية فأخرج لغزها: إن حروف اسم من كلفت به ... خفت على كل ناطق بفم سائغة سهلة مخارجها ... من أجل هذا تزداد في الكلم صحفه ثم أقلبن مصحفه ... فعل ذكي مهذب فهم واطلبه في الشعر جد مطلبه ... تجده كالصبح لاح في الظلم (2) فإن تأملت بت منه على ... علم، ألا فأنت عنه عمي واللغز " سلمان " وموضعه تأملت بت، وتوفي رحمه الله تعالى بتونس أيام الوباء العام. 13 - ومنهم الأستاذ المقرئ الراوية الرحلة أبو الحسن علي بن أبي بكر ابن سبع بن مزاحم المكناسي. ورد علينا من المشرق، فأقام معنا أعواماً، ثم رحل إلى فاس، فتوفي بها في الوباء العام، جمعت عليه السبع، وقرأت عليه البخاري والشاطبيتين وغير

_ (1) شروح السقط: 1626، وعمر عند: يعني قرط هند، وعمرو بن هند: أحد ملوك الحيرة كان يعرف بالعنف وتعنيت الناس. فقوله في الرجز أم العمر - بإدخال اللام - قد يعني " ذات القرط ". (2) ق: كالعلم.

ذلك، فأما البخاري فحدثني به قراءة منه على أحمد بن الشحنة الحجار سنة ثلاثين وسبعمائة، وكان الحجار قد سمعه على ابن الزبيدي سنة ثلاثين وستمائة، وهذا ما لا يعرف له نظير في الإسلام، وقد قال عبد الغني الحافظ: لا نعرف في الإسلام من وازاه غير عبد الله بن محمد البغوي في قدم السماع، فإنه توفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة، قال ابن خلاد: سمعناه يقول: أخبرنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني سنة خمس وعشرين ومائتين، وسمعه ابن الزبيدي على أبي الوقت بسنده، قال لي ابن مزاحم: هذا طريق كله سماع. وأما الشاطبيتان فحدثني بهما قراءة عليه لجميعها عن بدر الدين ابن جماعة، بقراءتهما عليه عن أبي الفضل هبة الله بن الأزرق، بقراءتهما عليه عن المؤلف كذلك، وحدثني بتسهيل الفوائد عن ابن جماعة عن المؤلف ابن مالك، وغير ذلك. 14 - وممن ورد عليها لا يريد الإقامة بها شيخي وبركتي وقدوتي أبو عبد الله محمد بن حسين القرشي الزبيدي التونسي (1) . حدثني بالصحيحين قراءة لبعضهما ومناولة لجميعها، عن أبي اليمن ابن عساكر لقيه بمكة سنة إحدى وثمانين وستمائة بسنده المشهور، وحدثني أيضاً أن أبا منصور العجمي حدثه بمحضر الشيخين والده حسين وعمه حسن وأثنى عليه ديناً وفضلاً أنه أدخل ببعض بلاد المشرق على المعمر أدخله عليه بعض ولد (2) ولده، فألفاه ملفوفاً في قطن، وسمع له دوياً كدوي النحل، فقيل له: ألقيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورأيته قال: نعم، قلت: ليس في هذا ما يستراب منه إلا الشيخ المعمر، فإنا لا نعرف حاله، فإن صح فحديثنا عنه

_ (1) عرف به ابن خلدون في التعريف: 14 وقال: كان كبير تونس لعهده في العلم والفتيا وانتحال طرق الولاية التي ورثها عن أبيه حسين وعمه حسن الوليين الشهيرين؛ وذكره ابن بطوطة في رحلته: 16 وكانت وفاته سنة 740هـ والزبيدي - بضم الزاي - نسبة إلى قرية بساحل المهدية. (2) ولد: سقطت من ق.

ثلاثي، وقد تركت سنة خمس وأربعين بمصر رجلاً يسمى بعثمان معه تسعون حديثاُ يزعم أنه سمعها من المعمر وقد أخذت عنه، وكتبت منه، فهذا ثنائي، وأمر المعمر غريب، والنفس أميل إلى نفيه. 15 - ومنهم إمام الحديث والعربية، وكتاب الخلافة العثمانية والعلوية (1) ، أبو محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي السبتي (2) . جمع فأوعى، واستوهب أكثر المشاهير وما سعى، فهو المقيم الظاعن، الضارب القاطن، سألني عن الفرق (3) بين علم الجنس واسم الجنس، فقلت له: زعم الخسر وشاهي أنه ليس بالديار المصرية من يعرفه غيره، وأنا أقول: ليس في الدنيا عالم إلا وهو يعلمه غيره (4) ؛ لأنه حكم لفظي أوجب تقديره المحافظة على ضبط القوانين كعدل عمر ونحوه، فاستحسن ذلك. وكان ينكر إضافة الحول إلى الله عز وجل، فلا يجيز أن يقال بحول الله وقوته قال: لأنه لم يرد إطلاقه، والمعنى يقتضي امتناعه؛ لأن الحول كالحيلة أو قريب منها. وتوفي بتونس أيام الوباء العام. 16 - ومنهم الفقيه المحقق الفرضي المدقق أبو عبد الله محمد بن سليمان بن

_ (1) العثمانية: نسبة إلى عثمان بن يعقوب المريني، والعلوية: نسبة إلى علي أبي الحسن المريني. (2) كان والده محمد بن عبد المهيمن الحضرمي أبو عبد الله كبير القدر ولي القضاء بسبتة لقرابته من رؤسائها بني العزفي سنة 683 فقام بالأحكام أجمل قيام، فلما صار بلده إلى بني نصر أواخر سنة 507 صرف إلى غرناطة هو وأقرباؤه فأقام بها مع ابنه الكاتب البارع عب المهيمن، ثم عاد إلى سبتة وتوفي سنة 712 (المرقبة العليا 132 - 133) ثم أصبح عبد المهيمن الابن كاتبا للسلطان أبي الحسن المريني وصاحب علامته وكان يعد إمام المحدثين والنحاة بالمغرب، وعنه أخذ ابن خلدون وغيره (التعريف: 20، 38 ومستودع العلامة: 50 وتاريخ ابن خلدون 7: 247 وجذوة الاقتباس: 279 ونثير الجمان لابن الأحمر والإحاطة: 315) . (3) ق: سألني الفرق. (4) وأنا أقول ... غيره: سقط من ص.

علي السطي (1) قرأت عليه كتاب الحوفي علماً وعملاً، قال لي في قول ابن الحاجب والثمن الثلث والسدس من أربعة وعشرين: هذا لا يصح؛ إذ لا يجتمع الثلث والثمن في فريضة، وقد سبقه إلى هذا الوهم صاحب المقدمات، وسألت عنه ابن النجار فقال لي: إنما أراد المقام لأنه يجتمع مع الثلثين، والإنصاف أنه لا يحسن التعبير بما لا تصح إرادة نفسه عن غيره، فكان الوجه أن يقول: والثلثان أو مقام الثلث، ونحو ذلك، لأن الثلث إنما يدخل هنا تقديراُ لا تحقيقاً كما في الجواهر، وانظر باب المدبر من كتاب الحوفي، فإن فيه موافقة السبعة لعدد لا توافقه فهو من باب الفرض، وعليه ينبغي أن يحمل كلام ابن الحاجب. 17 - 19 - ومنهم الأستاذ أبو عبد الله الرندي، والقاضي أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرزاق الجزولي (2) ، والقاضي أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي يحيى، في كثير من الخلق، فلنضرب عن هذا. 20 - ومن شيوخي (3) الصلحاء الذين لقيت بها خطيبها الشيخ أبو عثمان سعيد بن إبراهيم بن علي الخياط، أدرك أبا إسحاق الطيار، وقد صافحته وأنا صغير، لأنه توفي سنة تسع وعشرين، بمصافحته أباه، بمصافحته الشيخ أبا تميم، بمصافحته أبا مدين، بمصافحته أبا الحسن ابن حرزهم، بمصافحته ابن العربي، بمصافحته الغزالي، بمصافحته أبا المعالي، بمصافحته أبا طالب المكي، بمصافحته أبا محمد الجريري، بمصافحته الجنيد، بمصافحته سرياً، بمصافحته معروفاً، بمصافحته داود الطائي، بمصافحته حبيباً العجمي، بمصافحته الحسن البصري، بمصافحته علي بن أبي طالب، بمصافحته رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) السطي: نسبة إلى قبيلة سطة من بطون أوربة بنواحي فارس وكان أحفظ الناس لمذهب مالك وأفقههم فيه (انظر ترجمته في التعريف: 31، 38 ونيل الابتهاج: 242 وجذوة الاقتباس: 142) . (2) ترجمة الجزولي في نيل الابتهاج: 249 وسلوة الأنفاس 3: 276. (3) ق: المشايخ.

21 - ومنهم خطيبها المصقع أبو عبد الله محمد بن علي بن الجمال، أدرك محمد بن رشيد البغدادي (1) صاحب الزهر والوتريات على حروف المعجم والمذهبة وغيرها، حدثني عنه أنه تاب بين يديه لأول مجلس جلسه بتلمسان سبعون رجلاً. 22، - 23 - ومنهم الشقيقان الحاجان الفاضلان أبو عبد الله محمد، وأبو العباس أحمد (2) ، ابنا ولي الله أبي عبد الله محمد بن محمد بن أبي بكر ابن مرزوق العجيسي. كساني محمد خرقة التصوف بيده، كما كساه إياها الشيخ بلال بن عبد الله الحبشي خادم الشيخ أبي مدين، كما كساه أبو مدين، قال محمد بن مرزوق: وكان مولد بلال سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وخدم أبا مدين نحواً من خمسة عشر عاماً، إلى أن توفي عام تسعين وخمسمائة، ثم عاش بعده أكثر من مائة سنة، ولبس أبو مدين من يد ابن حرزهم، ولبس ابن حرزهم من يد ابن العربي، واتصل اللباس اتصال المصافحة. 24 - ومنهم أبو زيد عبد الرحمن بن يعقوب بن علي الصنهاجي المكتب، حدثنا عن قاضيها أبي زيد عبد الرحمن بن علي الدكالي أنه اختصم عنده رجلان في شاة ادعى أحدهما أنه أودعها الأخر، وادعى الآخر أنها ضاعت منه، فأوجب اليمين على المودع عنده، أنها ضاعت من غير تضييع، فقال: كيف أضيع وقد شغلتني حراستها عن الصلاة حتى خرج وقتها فحكم عليه بالغرم، فقيل له في

_ (1) محمد بن رشيد البغدادي مجد الدين (- 662) يعرف بالوتري لأنه نظم الوتريات وهي قصائد على حروف المعجم تتألف كل واحدة من 21 بيتا في مدح الرسول وأول كل بيت على حرف القافية. بدأ نظمها بغرناطة سنة 652 ثم زاد فيها وعدل منها، وحج سنة 661 وقد نشرت باسم " ديوان معدن الإفاضات في مدح أشرف الكائنات " (بيروت 1310) وعند حاجي خليفة (1999) " ذريعة الوصول إلى زيارة جناب الرسول ". (2) انظر نيل الابتهاج: 251، قال التنبكتي: وأبو العباس ابن مرزوق هو والد الخطيب ابن مرزوق الجد، وأبو عبد الله المذكور عمه.

ذلك، فقال تأولت قول عمر ومن ضيعها لما سواها أضيع. 25 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد الغزموني (1) ، مكتبي الأول، ووسيلتي إلى الله عز وجل، قرأ على الشيخين أبي عبد الله القصري وأبي (2) حريث وحج حجات، وكان عقد بقلبه أنه كلما ملك مائة دينار عيوناً سافر إلى الحج (3) ، وكان بصيراً بتعبير الرؤيا، فمن عجائب شأنه فيه (4) أنه كان في سجن أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق فيمن كان فيه من أهل تلمسان أيام محاصرته لها، فرأى أبو جمعة ابن علي التلالسي (5) الجرائحي منهم كأنه قائم على سانية (6) دائرة وجميع قواديسها يصب في نقير وسطها، فجاء ليشرب، فلما اغترف الماء إذا فيه فرث ودم فأرسله، ثم اغترف فإذا هو كذلك، ثلاثاً أو أكثر، فعدل عنه، فرأى خصة (7) ماء وشرب منها، ثم استيقظ وهو النهار فأخبره، فقال: أن صدقت رؤياك فنحن عما قليل خارجون من هذا المكان، قال: كيف قال: السانية والزمان، والنقير السلطان، وأنت جرائحي تدخل يدك في جوفه فينالها الفرث والدم، وهذا الذي لا تحتاج معه، فلم يكن إلا ضحوة الغد، وإذا النداء عليه، فأخرج فوجد السلطان مطعوناً بخنجر، فأدخل يده فنالها الفرث والدم، فخاط جراحته، ثم خرج، فرأى خصة ماء فغسل يديه وشرب، ثم لم يلبث السلطان أن توفي وسرحوا. وتعداد أهل هذه الصفة يكثر، فلنصفح عنهم، ولنختم فصل (8) من لقيه

_ (1) في نيل الابتهاج (253) القرموني. (2) ق: وابن. (3) وحج ... الحج: سقطت من ق. (4) وردت القصة في نيل الابتهاج: 253. (5) ق: التلائسي. (6) كذا في الأصلين، وفي النيل: ساقية. (7) الخصة: الحوض أو الصهريج (انظر ملحق المعاجم لدوزي) . (8) ق: ولنختم المذكورين في فصل ... إلخ.

بتلمسان بذكر رجلين هما بقيد الحياة أحدهما عالم الدنيا، والآخر نادرتها. 26 - أما العالم فشيخنا ومعلمنا العلامة أبو عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن أحمد العبدري الآبلي، التلمساني (1) ، سمع جده لأمه أبا الحسين ابن غلبون المرسي (2) القاضي بتلمسان، وأخذ عن فقهائها أبي الحسين التنسي وابني الإمام، ورحل في آخر المائة السابعة فدخل مصر والشام والحجاز والعراق، ثم قفل إلى المغرب فأقام بتلمسان مدة، ثم فر أيام أبي حمو موسى بن عثمان إلى المغرب. حدثني أنه لقي أبا العباس أحمد بن إبراهيم الخياط شقيق شيخنا أبي عثمان المتقدم ذكره، فشكا له ما يتوقعه من شر أبي حمو، فقال له: عليك بالجبل، فلم يدر ما قال، حتى تعرض له رجل من غمارة، فعرض عليه الهروب به، قال: فخفت أن يكون أبو حمو قد دسه علي، فتنكرت له، فقال لي: إنما أسير بك على الجبل، فتذكرت قول أبي إسحاق، فوطأته، وكان خلاصي على يده، قال: ولقد وجدت العطش في بعض مسيري به، حتى غلظ لساني واضطربت ركبتاي، فقال لي: أن جلست قتلتك حتى لا أفتضح بك، فكنت أقوي نفسي، فمر على بالي في تلك الحالة استسقاء عمر بالعباس، وتوسله به، فوالله ما قلت شيئاً حتى رفع لي غدير ماء، فأريته إياه، فشربنا ونهضنا. ولما دخل المغرب أدرك أبا العباس ابن البناء، فأخذ عنه، وشافه (3) كثيراً من علمائه، قال لي: قلت لأبي الحسن الصغير: ما قولك في المهدي فقال: عالم سلطان، فقلت له: قد أبنت عن مرادي. ثم سكن جبال الموحدين، ثم رجع إلى فاس، فلما افتتحت تلمسان لقيته بها، فأخذت عنه، فقال لي الآبلي (4) :

_ (1) ترجمة الآبلي في التعريف: 21، 33 والدرر الكامنة 3: 288 ونيل الابتهاج: 244 وجذوة الاقتباس 144، 191 والآبلي - بمد وموحدة مكسورة - نسبة إلى آبلة (Avila) من بلاد الجوف الأندلسي أي إلى الشمال الغربي من مدريد. (2) اسمه محمد بن غلبون. (3) نيل الابتهاج: وسأل. (4) انظر نيل الابتهاج: 245.

كنت يوماً مع القاسم بن محمد الصنهاجي، فوردت عليه طومارة من قبل القاضي أبي الحجاج الطرطوشي فيها: خيرات ما تحويه مبذولة ... ومطلبي تصحيف مقلوبها فقال لي: ما مطلبه فقلت: نارنج. دخل على الآبلي (1) وأنا عنده بتلمسان الشيخ أبو عبد الله الدباغ المالقي المتطبب فأخبرنا أن أديباً استجدى وزيراً بهذا الشطر: ثم حبيب قلما ينصف ... فأخذته فكتبته، ثم قلبته وصحفته، فإذا هو: قصبتا ملف شحمي. ومر الدباغ يوماً علينا بفاس، فدعاه الشيخ، فلباه، فقال: حدثنا بحديث اللظافة، فقال: نعم، حدثني أبو زكريا ابن السراج الكاتب بسلجمانة أن أبا إسحاق التلمساني وصهره مالك بن المرحل، وكان ابن السراج قد لقيهما، اصطحبا في مسير، فآواهما الليل إلى مشجر، فسألا عن طالبه، فدلا، فاستضافاه، فأضافهما، فبسط قطيفة بيضاء، ثم عطف عليهما بخبز ولبن، وقال لهما. استعملا من هذه اللظافة حتى يحضر عشاؤكما، وانصرف، فتحاورا في اسم اللظافة لأي شيء هو منهما حتى ناما، فلم يرع أبا إسحاق إلا مالك يوقظه ويقول: قد وجدت اللظافة، قال: كيف قال: أبعدت في طلبها حتى وقعت بما لم يمر قط على مسمع هذا البدوي فضلاً عن أن يراه، ثم رجعت القهقرى حتى وقعت على قول النابغة: بمخضب رخص كأن بنانه ... عنم يكاد من اللطافة يعقد فسنح لبالي أنه وجد اللطافة، وعليها مكتوب بالخط الرقيق اللين، فجعل

_ (1) قارن بما في نيل الابتهاج: 252.

إحدى النقطتين للطاء فصارت اللطافة اللظافة واللين اللبن وإن كان قد صحف عنم بغنم، وظن أم يعقد جبن، فقد قوي عنده الوهم، فقال أبو إسحاق: ما خرجت عن صوابه، فلما جاء سألاه، فأخبر أنها اللبن، واستشهد بالبيت كما قال مالك. ولا تعجب من مالك فقد ورد فاساً شيخنا أبو عبد الله بن يحيى الباهلي عرف بابن المسفر (1) ، رسولاً عن صاحب بجاية، فزاره الطلبة، فكان فيما حدثهم أنهم كانوا على زمان ناصر الدين يستشكلون كلاماً وقع في تفسير سورة الفاتحة من كتاب فخر الدين، ويستشكله الشيخ معهم، وهذا نصه (2) : ثبت في بعض العلوم العقلية أن المركب مثل البسيط في الجنس، والبسيط مثل المركب في الفصل، وأن الجنس أقوى من الفصل، فرجعوا به إلى الشيخ الآبلي، فتأمله ثم قال: هذا كلام مصحف، وأصله أن المركب قبل البسيط في الحس، والبسيط قبل المركب في العقل، وأن الحس أقوى من العقل، فأخبروا ابن المسفر، فلج، فقال لهم الشيخ: التمسوا النسخ، فوجدوه في بعضها كما قال الشيخ، والله يؤتي فضله من يشاء. قال لي الآبلي: لما نزلت تازت بت مع أبي الحسن ابن بري وأبي عبد الله الترجالي (3) ، فاحتجت إلى النوم، وكرهت قطعهما عن الكلام، فاستكشفتهما عن معنى هذا البيت للمعري: أقول لعبد الله لما سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهاشم فجعلا يفكران فيه، فنمت حتى أصبحا، ولم يجداه، فسألاني عنه، فقلت: معناه أقول لعبد الله لما وهى سقاؤنا، ونحن بوادي عبد شمس: شم لنا برقاً.

_ (1) النص في نيل الابتهاج: 245. (2) انظر تفسير الفخر الرازي. (3) ق: البرجالي.

قلت: وفي جواز مثل هذا نظر. سمعت الآبلي يقول: دخل قطب الدين الشيرازي والدبيران على أفضل الدين الخونجي ببلده، وقد تزيا بزي القونوية، فسأله أحدهما عن مسألة، فأجابه، فتعايا على الفهم، وقرب التقرير، فتعايا، فقال الخونجي متمثلاً: علي نحت المعاني من معادنها ... وما علي لكم أن تفهم البقر فقال له: ضم التاء يا مولانا، فعرفهما، فحملهما إلى بيته. قلت: سمعت الشيخ شمس الدين الأصبهاني بخانقاه قوصون بمصر يقول: إن شيخه القطب توفي عام أحد عشر وسبعمائة، وله سبع وسبعون سنة، وهذا يضعف هذه الحكاية عندي. سمعت الآبلي يقول: إن الخونجي ولي قضاء مصر بعد عز الدين بن عبد السلام، فقدم شاهداً كان عز الدين أخره، فعذله في ذلك، فقال: إن مولانا لم يذكر السبب الذي رفع يده من أجله، وهو الآن غير متمكن من ذكره. سمعت الشيخ الآبلي يحدث عن قطب الدين القسطلاني أنه ظهر في المائة السابعة من المفاسد العظام ثلاث: مذهب بان سبعين، وتملك الططر للعراق، واستعمال الحشيشة. سمعت الآبلي يقول: قال أبو المطرف ابن عميرة: فضل الجمال على الكمال بوجهه ... فالحق لا يخفى على من وسطه وبطرفه سقم وسحر قد أتى ... مستظهراً بهما على ما استنبطه عجباً له برهانه بشروطه ... معه فما مقصوده بالسفسطة قال: فأجابه أبو القاسم ابن الشاط فقال: علم التباين في النفوس وأنها ... منها مغلطة وغير مغلطه فئة رأت وجه الدليل وفرقة ... أصغت إلى الشبهات فهي مورطه فأراد جمعهما معاً في ملكه ... هذي بمنتجة وذي بمغلطه

يعني قولهم في التام: هو ما تحمل فيه البرهان الفصل. وأخبار الآبلي وأسمعتي منه تحتمل كتاباً، فلنقف على هذا القدر منها. 27 - وأما النادرة فأبو عبد الله [محمد] بن أحمد بن شاطر الجمحي المراكشي (1) ، صحب أبا زيد الهزميري كثيراً، وأبا عبد الله ابن تجلات، وأبا العباس ابن البناء وأضرابه من المراكشيين ومن جاورهم، ورزق بصحبة الصالحين حلاوة القبول، فلا تكاد (2) تجد من يستثقله، وربما سئل عن نفسه فيقول: ولي مفسود. قلت له يوماً: كيف أنت فقال: محبوس في الروح؛ وقال: الليل والنهار حرسيان: أحدهما أسود، والآخر أبيض، وقد أخذا بمجامع الخلق يجرانهم إلى يوم القيامة، وإن مردنا إلى الله تعالى. وسمعته يقول: المؤذنون يدعون أولياء الله إلى بيته لعبادته، فلا يصدهم عن دعائهم ظلمة ولا شتاء ولا طين، ويصرفونهم عن الاشتغال بما لم يبين لهم فيخرجونهم ويغلقون الأبواب دونهم. ووجدته ذات يوم في المسجد ذاكراً، فقلت له: كيف أنت فقال: {فهم في روضة يحبرون} (الروم: 15) فهممت بالانصراف، فقال: أين تذهب من روضة من رياض الجنة يقام بها على رأسك بهذا التاج وأشار إلى المنار مملوءاً الله أكبر. مر ابن شاطر يوماً على أبي العباس أحمد بن شعيب الكاتب (3) وهو جالس

_ (1) ترجمة ابن شاطر في نيل الابتهاج: 248 والإحاطة، الورقة: 105 والنقل فيهما عن المقري الجد؛ وتوفي سنة 757هـ. (2) وأضرابه ... تكاد: سقطت من ق. (3) أحمد بن شعيب الجزنائي من أهل فاس، برع في اللسان والأدب والعلوم العقلية ونظمه السلطان أبو سعيد المريني في حلبة الكتاب وأجرى عليه الرزق مع الأطباء وهلك في الطاعون (سنة 750) ؛ نثير فرائد الجمان: 335 ونثير الجمان: 70 ونيل الابتهاج: 68 والتعريف: 48 وجذوة الاقتباس: 47 ودرة الحجال 1: 21.

في جامع الجزيرة، طهره الله تعالى، وقد ذهبت به الكفرة، فصاح به، فلما رفع رأسه إليه قال له: انظر إلى مركب عزرائيل هذا، وأشار إلى نعش هنالك، قد رفع شراعه ونودي عليه الطلوع يا غزي. وأكل يوماً مع أبي القاسم عبد الله بن رضوان الكاتب جلجلاناً، قال له أبو القاسم: إن في هذا الجلجلان لضرباً من طعم اللوز، فقال ابن شاطر: وهل الجلجلان إلا لوزة دقة وسئل عن العلة (1) في نضارة الحداثة، فقال: قرب عهدها بالله، فقيل له: فمم تغير الشيوخ فقال: من بعد العهد من الله، وطول الصحبة مع الشياطين، فقيل له: فبخر أفواههم (2) فقال: من كثرة ما تفل الشياطين فيها. وكان يسمى الصغير: فأر المصطكي، قال لي ابن شاطر: لقيت عمي ميموناً المعروف بدبير لقرب موته وقد اصفر وجهه وتغيرت حالته، فقلت له: ما بالك وكان قد خدم الصالحين ورزق بذلك القبول، فقال: انسدت الزربطانة فطلع، يعني العذرة، يشير إلى الاحتقان للطبيعة. أنشدني ابن شاطر قال: أنشدني أبو العباس ابن البناء لنفسه: قصدت إلى الوجازة في كلامي (3) ... الأبيات. وأخبار ابن شاطر عندي تحتمل كراسة، فلنقنع منها بهذا القدر. فصل: ولما دخلت تلمسان على بني عبد الواد تهيأ لي السفر منها، فرحلت

_ (1) النص في نيل الابتهاج: 248. (2) نيل الابتهاج: قيل ففيم نتن أفواههم (3) تتمة البيت: لعلمي بالصواب في الاختصار ... وقد وردت الأبيات في الإحاطة: 106.

إلى بجاية، فلقيت بها أعلاماً درجوا فأمست بعدهم خلاء بلقعاً. 28 - فمنهم الفقيه أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي، عرف بابن المسفر (1) ، باحثته واستفدت منه، وسألني عن اسم كتاب الجوهري فقلت له: من الناس من يقول الصحاح بالكسر ومنهم من يفتح، فقال: إنما هو بالفتح بمعنى الصحيح، كما ذكره في باب صح، قلت: ويحتمل أن يكون مصدر صح كحنان. وكتب إلى بعض أصحابه بجواب رسالة صدره بهذين البيتين: وصلت صحيفتكم فهزت معطفي ... فكأنما أهدت كؤوس القرقف وكأنها نيل الأمان لخائف ... أو وصل محبوب لصب مدنف 29 - ومنهم قاضيها أبو عبد الله محمد ابن الشيخ أبي يوسف يعقوب الزواوي، فقيه ابن فقيه، كان يقول: من عرف ابن الحاجب اقرأ به المدونة، قال: وأنا أقرأ به المدونة. 30 - ومنهم أبو علي حسين بن حسين إمام المعقولات بعد ناصر الدين. 31 - ومنهم خطيبها أبو العباس أحمد بن عمران، وكان قد ورد تلمسان وأورد بها على قول ابن الحاجب في حد العلم " صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض " الخاصة إلا أن يزاد في الحد " لمن قامت به " لأنها إنما توجب فيه تميزاً لا تمييزاً، وهذا حسن. 32، - 33 - ومنهم الشيخان أبو عزيز وأبو موسى ابن فرحان، وغيرهم من أهل عصرهم.

_ (1) ترجمة ابن المسفر في نيل الابتهاج: 237 والديباج المذهب: 332 وكانت وفاته سنة 743.

34 - ثم رحلت إلى تونس فلقيت بها قاضي الجماعة وفقيهها أبا عبد الله ابن عبد السلام (1) ، فحضرت تدريسه، وأكثرت مباحثته، ولما نزلت بظاهر قسمطينة تلقاني رجل من الطلبة، فسألني عن هذه الآية {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (المائدة: 67) فإن ظاهرها أن الجزاء هو الشرط: أي وإن لم تبلغ فما بلغت، وذلك غير مفيد، فقلت: بل هو مفيد، أي: وإن لم تبلغ في المستقبل لم ينفعك تبليغك في الماضي، لارتباط أول الرسالة بآخرها، كالصلاة ونحوها، بدليل قصة يونس، فعبر بانتفاء ماهية التبليغ عن انتفاء المقصود منه، إذ كان إنما يطلب ولا يعتبر بدونه، كقوله عليه الصلاة والسلام " لا صلاة إلا بطهور "، ثم اجتمعت بابن عبد السلام بجامع بوقير من تونس، فسألته عن ذلك، فلم يزد على أن قال: هذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله " وقد علمتم مل قال الشيخ تقي الدين فيه. قلت: كلام تقي الدين لا يعطي الجواب عن الآية، فتأمله. 35 - 41 - وقاضي المناكح أبا محمد الأجمي، وهو حافظ فقهائها في وقته، والفقيه أبا عبد الله ابن هارون شارح ابن الحاجب في الفقه والأصول، والخطيب أبا عبد الله ابن عبد الستار، وحضرت تدريسه بمدرسة المعرض، والعلامة أبا عبد الله ابن الجياب الكاتب، والفقيه أبا عبد الله ابن سلمة، والشيخ الصالح أبا الحسن المنتصر وارث طريقة الشيخ أبي محمد المرجاني آخر المذكورين بإفريقية، ورأيت الشيخ ابن الشيخ المرجاني، فحدثني أبو موسى ابن الإمام أنه أشبه به من الغراب بالغراب، وسيدي أبا عبد الله الزبيدي المتقدم ذكره، وأوقفني على خطأ في كتاب الصحاح، وذلك أنه زعم أن السالم جلدة ما بين العين والأنف، قال: وفيه يقول ابن عمر في ابنه سالم (2) :

_ (1) ترجمة ابن عبد السلام في نيل الابتهاج: 240 والتعريف: 19 والديباج المذهب: 336 والمرقبة العليا: 161. (2) انظر اللسان (سلم) .

يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين الأنف والعين سالم قال: وهذا أراد عبد الملك حيث كتب إلى الحجاج " أنت مني كسالم " وهذا خطأ فاحش، وكان يلزمه أن يسميها بالعمارة أيضاً، لقوله عليه السلام " عمارة جلدة ما بين عيني وأنفي " وإنما يراد بمثل هذا القرب والتحمد (1) . ولقيت بتونس غير واحد من العلماء والصلحاء يطول ذكرهم، ثم قفلت إلى المغرب يسايرني (2) رجل من أهل قسنطينة يعرف بمنصور الحلبي، فما لقيت رجلاً أكثر أخباراً ولا أظرف نوادر منه، فما حفظته من حديثه أن رجلاً من الأدباء مر برجل من الغرباء، وقد قام بين ستة أطفال، جعل ثلاثة عن يمينه وثلاثة عن شماله، وأخذ ينشد: ما كنت أحسب أن أبقى كذا أبداً ... أعيش والدهر في أطرافه حتف ساس بستة أطفال توسطهم ... شخصي كأحرف ساس وسطها ألف قال: فتقدمت إليه وقلت: فأين تعريقة السين فقال: طالب ورب الكعبة، ثم قال للآخر من جهة يمينه: قم، فقام يجر رجله كأنه مبطول، فقال: هذا تمام تعريقة السين. 41 - 53 - ثم رحلت من تلمسان إلى المغرب، فلقيت بفاس الشيخ الفقيه الحاج أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحيم اليزناسي، والشيخ الفقيه أبا محمد عبد المؤمن الجاناتي، والشيخ الفقيه الصالح أبا زرهون عبد العزيز بن محمد القيرواني، والفقيه أبا الضياء مصباح بن عبد الله اليالصوني، وكان حافظ وقته، والفقيه أبا عبد الله ابن عبد الكريم، وشيخ الشيوخ أبا زيد عبد الرحمن بن عفان الجزولي، والأستاذ أبا العباس المكناسي، وكنت لقيت الأستاذ أبا العباس ابن

_ (1) ق: واللحمة. (2) ق: ولما رحلت منها جعل يسايرني ... إلخ.

حزب الله، والأستاذ أبا عبد الله ابن القصار بتلمسان، ولقيت غير هؤلاء ممن يكثر عددهم، وكنت قد لقيت بتازى الفقيه أبا عبد الله ابن عطية، والأستاذ أبا عبد الله المجاصي، والشيخ أبا الحسين الجيار، وغيرهم (1) . 53 - 67 - ثم بلغت بالرحلة إلى أغمات، ثم وصلت إلى سبتة (2) ، فاستوعبت بلاد المغرب ولقيت بكل بلد من لا بد من لقائه من علمائه وصلحائه، ثم قفلت إلى تلمسان فأقمت بها ما شاء الله تعالى، ثم أعملت الرحلة إلى الحجاز، فلقيت بمصر (3) الأستاذ أثير الدين أبا حيان الغرناطي، فرويت عنه، واستفدت منه وشمس الدين الأصبهاني الآخر، وشمس الدين بن عدلان، وقرأ علي بعض شروحه (4) لكتب المزني، وناولني إياه، وشمس الدين بن اللبان آخر المذكورين بها، والشيخ الصالح أبا محمد المنوفي فقيه المالكية بها، وتاج الدين التبريزي الأصم، وغيرهم ممن يطول ذكرهم. ثم حججت فلقيت بمكة (5) إمام الوقت أبا عبد الله ابن عبد الرحمن التوزري المعروف بخليل، وسألته يوم النحر حين وقف بالمشعر الحرام عن بطن محسر لأحرك فيه على الجمل، فقال لي: تمالأ الناس على ترك هذه السنة، حتى نسي بتركها محلها، والأقرب أنه هذا، وأشار إلى ما يلي الجابية التي على يسار المار من المشعر إلى منى من الطريق من أول ما يحاذيها إلى أن يأخذ صاعداً إلى منى، وما رأيت أعلم بالمناسك منه، والإمام أبا العباس ابن رضي الدين الشافعي، وغير واحد من الزائرين والمجاورين وأهل البلد. وبالمدينة أعجوبة الدنيا أبا محمد عبد الوهاب الجبرتي وغيره.

_ (1) ق: ممن لا يحتمل هذا المختصر تعدادهم ولا يمكن استيفاؤهم. (2) ثم بلغت ... سبتة: سقطت من ق. (3) ق: ثم رحلت منها إلى مصر فلقيت ... إلخ. (4) ص: شرحه. (5) ق: ورحلت منها إلى مكة المشرفة فلقيت ... إلخ.

ثم أخذت على الشام، فلقيت بدمشق شمس الدين بن قيم الجوزية صاحب الفقيه ابن تيمية، وصدر الدين الغماري (1) المالكي، وأبا القاسم ابن محمد اليماني الشافعي، وغيرهم، وببيت المقدس (2) الأستاذ أبا عبد الله ابن مثبت، والقاضي شمس الدين بن سالم، والفقيه المذكر أبا عبد الله ابن عثمان، وغيرهم. ثم رجعت (3) إلى المغرب فدخلت سجلماسة ودرعة، ثم قطعت (4) إلى الأندلس فدخلت الجبل وأصطبونة ومربلة ومالقة وبلش والحامة، وانتهت بي الرحلة إلى غرناطة، وفي علم الله تعالى ما لا أعلم، وهو المسؤول أن يحملنا على الصراط الأقوم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم؛ انتهى كلام جدي رحمه الله تعالى في الجزء الذي ألفه في مشيخته، وقد لخصه لسان الدين في الإحاطة. [ترجمة المقري بقلم ابن خلدون] ولنذكر هنا زيادات لا بأس بها، فنقول: ولما ألم ولي الدين ابن خلدون بذكر مولاي الجد في تاريخه الكبير عند تعريفه بنفسه وصفه بأنه كبير علماء المغرب ونص محل الحاجة من تاريخه (5) : لما رحلت من تونس منتصف شعبان من سنة أربع وثمانين أقمنا في البحر نحواً من أربعين ليلة، ثم وافينا مرسى الإسكندرية يوم الفطر، ولعشر ليال من جلوس الملك الظاهر (6) على التخت واقتعاد كرسي الملك دون أهله بني قلاوون، وكنا على ترقب ذلك لما كان يؤثر بقاصية البلاد

_ (1) ق: العمادي. (2) ق: ثم جئت بيت المقدس فلقيت. (3) ق: قفلت. (4) ق: جئت؛ وعند هذا الموضع بهامش ص: قف على أن الإمام المقري جد المؤلف دخل بلدنا درعة حرسها الله، مما يدل على نسبة إلى بلدة درعة بالمغرب. (5) زاد في ق: أنه قال؛ والنص في التعريف: 246. (6) يعني أبا سعيد برقوق بن أنص (توفي سنة 801) وانظر تاريخ ابن خلدون 5: 467.

من سموه لذلك وتمهيده له، وأقمت بإسكندرية شهراً لتهيئة أسباب الحج، ولم يقدر عامئذ، فانتقلت إلى القاهرة أول ذي القعدة، فرأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، محشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في أوجه (1) ، وتزهو والخوانق (2) المدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه، وقد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء يسقيهم النهل والعلل سيحه، ويجبي إليهم الثمرات والخيرات ثبجه، ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة وأسواقها تزخر بالنعم، وما زلنا نحدث عن هذا البلد، وبعد مداه في العمران، واتساع الأحوال، ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا حاجهم وتاجرهم بالحديث عنه، سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقري فقلت له: كيف هي القاهة فقال: من لم يرها لم يعرف عز الإسلام، وسألت شيخنا أبا العباس ابن إدريس (3) كبير العلماء ببجاية مثل ذلك، فقال: كأنما انطلق أهله من الحساب، يشير إلى كثرة أممه وأمنهم العواقب، وحضرت صاحبنا قاضي العسكر بفاس الفقيه الكاتب أبا القاسم البرجي (4) بمجلس السلطان أبي عنان منصرفه من السفارة عنه إلى ملوك مصر وتأدية رسالته النبوية إلى الضريح الكريم سنة خمس وخمسين، وسأله عن القاهرة فقال: أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار: إن الذي يتخيله الإنسان فإن ما يراه دون الصورة التي تخيلها لاتساع الخيال على كل محسوس إلا القاهرة (1) فإنها أوسع من كل ما يتخيل

_ (1) التعريف: جوه. (2) التعريف: الخوانك. (3) أحمد بن إدريس البجائي (انظر ترجمته في الديباج: 81 ونيل الابتهاج: 50) . (4) أبو القاسم محمد بن يحيى البرجي من أهل برجة بالأندلس كان كاتب السلطان أبي عنان وصاحب الإنشاء والسر في دولته (انظر ترجمته في التعريف: 64 والإحاطة 2: 215 وجذوة الاقتباس 197) . (1) التعريف: جوه.

فيها، فأعجب السلطان والحاضرون بذلك؛ انتهى كلام ابن خلدون، ولا يخلو عن فائدة زائدة. [فوائد عن المقري الجد] ولا بأس أن نورد من فوائد مولاي الجد ما حضرني الآن: فمن ذلك ما حكاه ابن الرزاق عن ابن قطرال قال (1) : سمع يهودي بالحديث المأثور نعم الإدام الخل فأنكر ذلك، حتى كاد يصرح بالقدح، فبلغ ذلك بعض العلماء، فأشار على الملك أن يقطع عن اليهود الخل وأسبابه سنة، قال: فما تمت حتى ظهر فيهم الجذام. ومنها أنه قال: أنشدني الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد قال: أنشدني الشيخ التقي ابن دقيق العيد لنفسه في معنى لطيف حجازي (2) : إذا كنت في نجد وطيب نعيمه ... تذكرت أهلي باللوى فمحسر وإن كنت فيهم زدت (3) شوقاً ولوعة ... إلى ساكني نجد وعيل تصبري فقد طال ما بين الفريقين موقفي ... فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري ومنها ما حاكاه عن عبد الله بن الحق عن ابن قطرال قال (4) : كنت بالمدينة على ساكنها الصلاة والسلام إذ أقبل رافضي بفحمة في يده، فكتب بها على الجدار هناك: من كان يعلم أن الله خالقه ... فلا يحب أبا بكر ولا عمرا

_ (1) قارن بما ورد في نيل الابتهاج: 252. (2) انظر الطالع السعيد: 321 والديوان الملحق: 173 وطبقات السبكي 6: 12. (3) الطالع: ذيت. (4) قارن بما في نيل الابتهاج: 252.

وانصرف، فألقي علي من الفطنة وحسن البديهة ما لم أعهد مثله من نفسي قبل، فجعلت مكان يحب يسب ورجعت إلى مجلسي، فجاء فوجده كما أصلحته، فجعل يلتفت يميناً شمالاً، كأنه يطلب من صنع ذلك، ولم يتهمني، فلما أعياه الأمر انصرف. ومنها أنه قال: حدثت أن الزاهد أبا عمرة ابن غالب المرسي نزيل تلمسان وقد لقيت غير واحد من أصحابه، سأله بعض أن يشهد عقد ابنته، فتعذر عليه، فلم يزل به حتى أجاب بعد جهد، فحضر العقد، وطعم الوليمة، ثم لما حضرت ليلة الزفاف استحضره في ركوبها إلى دار زوجها على عادة أهل تلمسان، فأجابه مسرعاً، فقيل له: أين هذا التيسير من ذاك التعسير فقال: من أكل طعام الناس مشى في خدمتهم، أو كما قال. ومنها أنه قال: حدثت أنه الفقيه أبا عبد الله ابن العواد العدل بتونس التقى يوماً مع القاضي أبي علي ابن قداح، وكان ابن العواد شيخاً، فقال له أبو علي: كبرت يا أبا عبد الله فصرت تمشي كل شبر بدينار، يوري بكثرة الفائدة في مشيه إلى الشهادة، فقال له: كنت إذا كنت في سنك أخرج رزقي من الحجر، يعرض لابن القداح بأنه جيار، وكذلك كان هو وأبوه، رحمهم الله تعالى جميعاً، وهذا من مزاح الأشراف، كما جرى بين معاوية والأحنف، انظر صدر أدب الكتاب. ومنها أنه قال: قال لي الحاج أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الواحد الرباطي: كنا عند الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، ففقد أحدنا نعليه، فقال الشيخ: كنا عند العلم التبريزي فدخل عليه رجل يدعى بشيراً فكلمه ثم خرج فلم يجد نعليه، فرجع إلى العلم وأنشده: دخلت إليك يا أملي بشيراً ... فلما أن خرجت خرجت بشرا أعد يائي التي سقطت من اسمي ... فيائي في الحساب تعد عشرا

وقال رحمه الله تعالى: لما سعى أولاد الشيخ أبي (1) شعيب بالقاضي أبي الحجاج الطرطوشي إلى السلطان وأمر بإشخاصه وكثر إرجاف المتشيعين فيهم من بعده وخرج الأمر على خلاف ما أملوا منه قال في ذلك: حمدت الله في قوم أثاروا ... شروراً فاستحالت لي سرورا وقالوا النار قد شبت فلما ... دنوت لها وجدت النار نورا ومنها (2) : أنه حكى أن الشيخ أبا القاسم ابن محمد اليمني مدرس دمشق ومفتيها حكى له بدمشق أنه قال له شيخ صالح برباط الخليل عليه السلام: نزل بي مغربي فمرض حتى طال علي أمره، فدعوت الله أن يفرج عني وعنه بموت أو صحة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: أطعمه الكسكسون، قال: يقول هذا بالنون، فصنعته له، فكأنما جعلت له فيه الشفاء، وكان أبو القاسم يقول فيه كذلك، ويخالف الناس في حذف النون من هذا الاسم، ويقول: لا أعدل عن لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: قلت: ووجه هذا من الطب أن هذا الطعام مما يعتاده المغاربة ويشتهونه، على كثرة استعمالهم له، فربما نبه منه شهوة أو رده إلى عادة. وقال الجد رحمه الله تعالى: رأيت بجامع الفسطاط من مصر فقيراً عليه قميص إلى جانبه دفاسة قائمة وبين يديه قلنسوة، فذكر لي هنالك (3) أنهما محشوتان بالبرادة، وأن زنة الدفاسة أربعمائة رطل مصرية، وهي ثلاثمائة وخمسون مغربية، وزنة القلنسوة مائتا رطل مصرية، وهي مائة وخمسة وسبعون مغربية (4) ، فعمدت إلى الدفاسة فأخذتها إلى طوقها أنا ورجل آخر، فأملناها بالجهد، ثم أقمناها، ولم نصل بها إلى الأرض، وعدت إلى القلنسوة فأخذتها من إصبع كان

_ (1) ق: ابن. (2) قارن بما في نيل الابتهاج: 252. (3) زاد في ق: رجل. (4) وهي ثلاثمائة ... مغربية: سقطت سهوا من ق.

في رأسها فلم أطق حملها فتركتها، وكان يوم الجمعة، فلما قضيت الصلاة مررنا في جملة من أصحابنا بالفقير، فوجدناه لابساُ تلك الدفاسة في عنقه، واضعاُ تلك القلنسوة على رأسه، فقام إلينا وإلى غيرنا، ومشى بهما كما يمشي أحدنا بثيابه، فجعلنا نتعجب، ويشهد بعضنا بعضاً على ما رأى من ذلك، ولم يكن بالعظيم الخلقة. وقال رحمه الله تعالى: كان الأستاذ ابن الحكم قد بعث إلي بمحرر لأبعث به إلى من يعرضه للبيع، ثم بلغه أن أحمالاُ من المتاع التونسي قد وصلت إلى البلد، فكتب إلي: الحمد لله الذي أمر عند كل مسجد بأخذ الخزينة، وصلواته الطيبة، وبركاته الصيبة، على من ختم به شريعته وأكمل دينه، وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه والذين يتبعونه، وبعد ما تعلق به الإعلام، أن تعوضوا المحرر بإحرام (1) ، لا يخفى على مثلكم جنسه ومجانسه، ومن كلام العرب: كل ثوب ولابسه، وإن أربى على ثمن الأول ثمن الثاني، فلست عن الزيادة والحمد لله بالواني. ومن فوائده أنه قال: كتب (2) في صدر رسالة إلى صاحبنا الشيخ الناسك أبي علي منصور ابن شيخ عصره وفريد دهره ناصر الدين المشدالي الشيخ الخاشع صاحبنا أبو الحسن علي ابن موسى البحيري يذكره شوقه إلى لقائه، لما كان يبلغه عنه، حتى قدر باجتماعهما بوهران أيام قضاء البحيري بها: أوحشتني ولو طلعت على الذي ... لك في فؤادي لم تكن لي موحشا يا محرقاً بالنار قلب محبه ... أنسيت أنك مستكن في الحشا وقال رحمه الله تعالى: أنشدني محمد البلفيقي قال (3) : أنشدني ابن رشيد قال: أنشدني أبو حفص ابن الخيمي المصري لنفسه:

_ (1) الإحرام: في المغرب يطلق على لباس مكون من بردة سوداء وطيلسان من الكتان الأسود (انظر رحلة ابن جبير ص: 134 والتعليقات ص: 28) . (2) ق: ومن فوائده ما كتب. (3) أنشدني ... قال: سقطت من ق.

لو رأى وجه حبيبي عاذلي ... لتفاصلنا على وجه جميل (1) وقال رحمه الله تعالى: قال لي محمد بن داود بن المكتب قال لي بلال الحبشي خادم الشيخ ابن مدين (2) : كان الشيخ كثيراُ ما ينشد هذا البيت: الله قل وذر الوجود وما حوى ... إن كنت مرتاداً بصدق مراد وقال رحمه الله تعالى: دخلت على عبد الرحمن بن عفان الجزولي (3) ، وهو يجود بنفسه، وكنت قد رأيته قبل ذلك معافى، فسألته عن السبب، فأخبرني أنه خرج إلى لقاء السلطان، فسقط عن دابته، فتداعت أركانه، فقلت: ما حملك أن تتكلف مثل هذا في ارتفاع سنك فقال: حب الرياسة آخر ما يخرج من قلوب الصديقين. وقال رحمه الله تعالى: قال لي محمد بن مرزوق: قال لي بعض أصحاب أبي إسحاق الطيار دفين عباد تلمسان: إن أبا إسحاق أقام خمساً وعشرين سنة لا ينام إلا قاعداً، فسألت ابن مرزوق: لم لقب بالطيار فحدثني عن بعض أصحابه أنه نشر ذات يوم ثوبه في الشمس على بعض السطوح، ثم قعد هنالك، فمر به رجل فقال له: طر، فقال: أعن أمرك قال: نعم، فطار حتى وقع على الأرض وما به من باس، فقال الجد رحمه الله تعالى بعد هذا ما نصه: فقلت: إذا ما صار الحق للعبد سمعاً وبصراُ فسمع به وأبصر أصاخ إلى الأحوال، واجتلى المعاني، فيرى من غير مبصر، ويسمع من غبر ناطق، كما قال الشيخ أبو عبد الله الشوذي (4) الحلوي دفين تلمسان:

_ (1) ق: مليح. (2) ترجمة بلال خادم الشيخ أبي مدين في أنس الفقير: 93، وانظر ما تقدم ص: 242. (3) ترجمة عبد الرحمن الجوزلي في نيل الابتهاج: 129 وفيه ما جاء هنا نقلا عن المقري الجد. والسلطان الذي خرج للقائه هو أبو الحسن المريني، وكانت وفاة الجزولي بعد موقعة طريف سنة 741. (4) تنسب إليه الشوذية وكان في أول أمره من فقهاء مرسية ثم التف حوله أمثال عزيز بن خطاب وحازم وأبي المطرف وغيرهم. والشوذية طريقة صوفية تشبه طريقة ابن عربي إلا أنها أكثر إيجابية، وقد تورط أصحابها في السياسة وقالوا بأن العلوم الشرعية غير صحيحة في ذاتها، ولذلك وجدوا مقاومة شديدة، وحمل عليهم ابن خلدون ولسان الدين.

إذا نطق الوجود أصاخ قوم ... بآذان إلى نطق الوجود وذاك النطق ليس به انعجام ... ولكن دق عن فهم البليد فكن فطناُ تنادى من قريب ... ولا تك من ينادى من بعيد وقال رحمه الله تعالى: حدثت بمصر أن الشيخ سيدي عمر بن الفارض ولع بجمل، فكان يستأجره من صاحبه ليتأنس به، فقيل له: لو اشتريته، فقال: المحبوب لا يملك، فسألت: في أي حال كان هذا منه فقيل لي: في ابتداء أمره، فقلت: وجد اعتبار {أفلا ينظرون إلى الإبل} (الغاشية: 17) فوقفت به رؤية المعنى فيه عليه، فأحبه مدلاً، وطلبه مجلاُ. وقال رضي الله عنه: حفظت من خط أبي زيد والد صاحبنا أبي الحسن: قيل للغزالي: ما تقول في الحلاج فقال: وما عسى أن أقول فيمن شرب بكأس الصفاء، على بسط الوفاء، فسكر وعربد، فاستوجب من الله الحد، فكان حده شهادته، ثم قال بعد هذا: قلت عربد الحلاج في الحضرة لما نسي بسكره أوامره، فانتصر الظاهر لنفسه لصحة تعلق اسمه، وسدل الباطن على عذره حجاب الغيرة من إفشاء سره: على سمة الأسماء تجري أمورهم ... وحكمة وصف الذات للحكم أجرت وقال رحمه الله تعالى: سمعت شيخنا ببيت المقدس يقول: تجلى الله بالمسجد الأقصى بالجمال، وعلى المسجد الحرام بالجلال، وعلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالكمال، قلت: فذلك يوقف النواظر، وذاك يملأ الخواطر، وهذا يفتح البصائر. وقال رحمه الله تعالى: أخبرني أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان فارس

نصره الله أن جده أمير المسلمين أبا سعيد سأل كاتبه عبد المهيمن الحضرمي عن تهادي أهل الحب التفاح دون الخوخ، وكلاهما حسن المنظر، طيب المخبر، شديد شبه بأخيه، سديد تشبيه الوجنات به لمتوخيه، فقال: ما عند مولانا فقال: أرى ذلك لاشتمال التفاح على الحب الذي يذكر بالحب والهوى، والخوخ على النوى الذي يذكر اسمه صفرة الجوى. وقال رحمه الله تعالى: قال لي أبو حيان بالقاهرة: قال لي عمر بن الخيمي: تجاذبت أنا ونجم الدين بن إسرائيل هذا البيت: يا بارقاُ بأعالي الرقمتين بدا ... لقد حكيت، ولكن فاتك الشنب فتحاكمنا إلى ابن فارض، فأشار بأن ننظم قصيدة نضمنها البيت، فنظم ونظمت: يا مطلباً ليس لي في غيره أرب ... إليك آلى التقضي وانتهى الطلب فقضى به لي (1) . وقال رحمه الله تعالى: حدثت أن أبا زيد الهزميري بعث إلى أبي عمران التسولي، وكان كثير الصلاة، أنه لم يبق وبينك وبين الله حجاب إلا ركيعات، فرجع إليه ما معناه: إن الاتصال كان منها، فلا كان يوم الانفصال عنها، يعني من رزق من باب فليلزمه. وقال رحمه الله تعالى: كنت بجامع تلمسان، وإلى جانبي رجل ينتمي إلى طريقة العرفان، فجعل سائل يشكو الجوع والألم، فتصدق ذلك الرجل عليه بدرهم، وقال: إياك أن تشكو الرحمن إلى من لا يرحم، فقلت: أمره أن

_ (1) انظر أيضا الغيث المسجم 1: 117 فيما يتصل بهذه المعارضة بين ابن الخيمي ونجم الدين بن إسرائيل، وفي معارضات قصيدة ابن الخيمي انظر 1: 118.

يسأل عزيزاُ بمولاه، ونهاه أن يشكو ذليلاً إلى سواه. وكان الفارابي كثيراً ما يقول: يا رب إليك المشتكى، حتى إنه يوجد أثناء كلامه في غير موضعه، فيعجب به من لا علم عنده بمنزعه. وقال رحمه الله تعالى: حدثت أن الفخر مر ببعض شيوخ الصوفية، فقيل للشيخ: هذا يقيم على الصنائع ألف دليل، فلو قمت عليه، فقال: وعزته لو عرفته ما استدل عليه، فباغ ذلك الإمام، فقال: نحن نعلم من وراء الحجاب، وهم ينظرون من غير حجاب. وقال رحمه الله تعالى: حدثت أن رجلاُ كان يجلس إلى أبي الحسن الحرالي، وكان يشرب الخمر، فسكر ذات يوم، فسقط على زجاجة، فشج وجهه، فاختفى إلى أن برئ، ثم عاد إلى مجالسة الشيخ، فلما رآه أنشد: أجريح كاسات أرقت نجيعها ... طلب الترات يعز منه خلاص لا تسفكن دم الزجاجة بعدها ... إن الجروح كما علمت قصاص ففهمها الشاب، فتاب. وقال رحمه الله تعالى: كثيراُ ما كنت أسمع أبا محمد المجاصي ينشد هذا البيت: هم الرجال وعيب أن يقال لمن ... لم يتصف بمعاني وصفهم رجل ثم يبكي، وكان أهل البلد يسمونه " البكاء " وبعضهم الخاشع. ووجدت بخط مولاي الجد على ظهر كتابه " القواعد " ما نصه: الحمد لله تعالى جده، قرأت صدر الكتاب " زهرة البساتين " للقاسم بن الطيلسان، ثم سمعت ثلاثة أحاديث من أوله، بل حديثاُ وأثراُ وإنشاداُ من في الشيخ الخطيب الصالح أبي عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عياش الأنصاري، ثم تناولت منه جميع الكتاب المذكور، وأجازنيه بحق سماعه لبعضه، وتناوله لجميعه من جده

محمد المذكور، بحق أخذه له عن مؤلفه صهره القاسم المذكور، وذلك بالمسجد الجامع من مالقة المحروسة، قال ذلك وكتبه محمد بن محمد بن أحمد المقري في متم عشرين لشهر ربيع الآخر من عام سبعة وخمسين وسبعمائة. وبخطه رحمه الله تعالى حيث ذكر ما نصه: الحمد لله، مخالف القواعد الشرعية للعوائد العرفية، كإنكار الحشر وفتنة القبر، ونهوهما من الأمر بالمعروف، للركون إلى المشهور المألوف، كالتقليد مع الدليل، الذي ذمه الشرع في محكم التنزيل. وبخطه أيضاً (1) : الحمد لله، قد تتابع صفات العام حتى يصير كأنه أشير به إلى شخص بعينه فيختص، ومن ثم قيل في قوله الله عز وجل {ولا تطع كل حلاف مهين} (القلم: 10) إنه الأخنس بن شريق، وفي قوله تعالى {وبل لكل همزة لمزة} (الهمزة: 1) إنه أمية بن خلف، وفي قوله تعالى {ذرني ومن خلقت وحيداً} (المدثر: 11) إنه الوليد بن مغيرة، انتهى. ووجدت بخطه أيضاً رحمه الله تعالى ما نصه (2) : الحمد لله، قال لي المتوكل على الله أبو عنان أمير المؤمنين فارس بن علي: كان جدنا أبو يوسف يعقوب ابن عبد الحق يقول: الولايات ست: ثلاث وقفتها على اختياري: الحجابة، والقصبة، والشرطة، وثلاث موكولة إليكم: القضاء، والإمامة، والحسبة. ثم قال رحمه الله تعالى: وهذا تدبير حسن. ومن فوائده: حدثني العدل أبو عبد الله محمد بن أبي زرع عن القاضي أبي عبد الله ابن أبي الصبر أنه أمر الوالي بفاس أن يبني فندق الشماعين، وكان قد خرب، فتوقف حتى يأذن السلطان، فقال له: أسلفني ما أبنيه به، فإن أجاز ذلك السلطان، وإلا رددته عليك، ففعل، فلما طولب ذكر ما قاله له القاضي،

_ (1) ق: وقال حيث أشير ما نصه. ص: وبخطه أيضا ... إلخ. (2) ق: وكتب رحمه الله ما نصه.

فغضب السلطان وبعث فيه، فجعل المبعوثون يأتونه واحداً بعد واحد وهو متمهل في وضوئه وإصلاح بذته ومركوبه، ثم جعل يمشي الهوينا، فلقيه ابنه، فقال له: أسرع لقد أكثر السلطان من التوجيه إليك، وهو واجد عليك، فقال له: مسكين أبو يحيى خاف وثبت على حاله، فلما كان في الطريق لقي بعض العلماء فتعرض إليه فقال: قل بخفي لطفك، بلطيف صنعك، بجميل سترك، دخلت في كنفك، تشفعت بنبيك، فحفظه، ثم طلبه فلم يجده، فجعل يقول ذلك، فلما رآه السلطان سكن ما به، ثم سأل عن ذلك برفق، فقال له القاضي: كرهت الخراب بقرب القرويين وبالشماعين الذي هو عين فارس، فسألت الوالي ذلك على أني أغرم إن لم تجز، وقلت له: المرجو من السلطان أن يجعله حبساً، فقال: قد فعلت، ثم بعث إلى الشهود وحبسه على الجامع، وشكر القاضي صنيعه، وصرفه مغبوطاً. وهذا السلطان هو أبو يعقوب يوسف بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني، وتوفي محاصراً لتلمسان في ذي القعدة من عام ستة وسبعمائة، وكان ابتداء حصاره إياها سنة ثمان وتسعين وستمائة، وكان جملة الحصار فيها حدثت ألف شهر (1) ؛ انتهى. ومن فوائد مولاي الجد رحمه الله تعالى ما حكاه تلميذه أبو إسحاق الشاطبي في كتاب " الإنشادات والإفادات " ونصه: إفادة حضرت يوماً مجلساً في المسجد الجامع بغرناطة مقدم الأستاذ القاضي أبي عبد الله المقري، في أواخر ربيع الأول عام سبعة وخمسين وسبعمائة، وقد جمع ذلك المجلس القاضي أبا عبد الله والقاضي أبا القاسم الشريف شيخنا والأستاذ أبا سعيد ابن لب والأستاذ أبا عبد الله البلنسي وذا الوزارتين أبا عبد الله ابن الخطيب وجماعة من الطلبة،

_ (1) انظر خبر هذا الحصار في الاستقصا 3: 79 - 80. قلت: وقوله " ألف شهر " لا يتفق مع الفترة التي عينها.

فكان من جملة ما جرى أن قال القاضي أبا عبد الله المقري: سئلت في مسألة في الأصول لم أجد لأحد فيها نصاً، وهي تخصيص العام المؤكد بمنفصل، فأجبت بالجواز محتجاً بقول الله عز وجل " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن " فهذا عامل مؤكد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " ولم يحل الله من الفواحش إلا مسألة الناسي ". انتهى. ومن (1) الكتاب المذكور ما نصه: إفادة حدثني الشيخ الفقيه القاضي الجليل الشهير الخطير أبو عبد الله محمد بن أحمد المقري رحمه الله تعالى، وأملاه علينا، عن العالم الكبير أبي حيان ابن يوسف بن حيان أنه قال: ورد كتاب من الأستاذ أبي عبد الله ابن مثبت الغرناطي إلى صاحب له يدعى حمزة، وفيه: سئل الشيخ، قال أبو حيان: يعني وجدت على ظهر نسخة من المفصل بخط عتيق سئل ابن الأخضر بمحضر ابن الأبرش: علام انتصب قوله: مقالة أن قد قلت سوف أناله ... فقال: ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي ... فقال: سألتك عن إعراب كلمة، فأجبتني بشطر بيت، فقال ابن الأبرش: قد أجابك لو كنت تفهم، قال أبو حيان: فوقعت عليه للحين: إن هذا الشطر من قول النابغة: أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي تصطك منها المسامع مقالة أن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع يروى مقالة بالرفع، على أنه بدل من أنك لمتني الفاعل، وبالفتح على ذلك إلا أنه بناه لما أضافه إلى مبني.

_ (1) ق: وفي.

ومنه: إفادة حدثني الشيخ الفقيه القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى قال: سئل أبو العباس ابن البناء رحمه الله تعالى، وكان رجلاً صالحاً، في قوله تعالى {قالوا إن هذان لساحران} (طه: 63) لم لم تعمل إن في هذان فقال: لما لم يؤثر في المقول لم يؤثر العامل في المعمول، فقال له: يا سيدي هذا لا ينهض جواباً، فإنه لا يلزم من بطلان قولهم بطلان عمل إن، فقال له: إن هذا الجواب نوارة لا تحتمل أن تحك بين الأكف؛ انتهى. ومنه: إفادة قال لنا الشيخ الأستاذ القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى: إن أهل المنطق وغيره يزعمون أن الأسماء المعدولة لا تكاد توجد في كلام العرب، وهي موجودة في القرآن، وذلك قوله {لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك} (البقرة: 68) فإن زعم زاعم أن ذلك على حذف المبتدأ، ودخلت لا على الجملة، وتقديره لا هي فارض ولا هي بكر، قيل له: إن كان يسوغ لك ذلك في هذا الموضع فلا يسوغ في قوله تعالى {لا شرقية ولا غربية} (النور: 35) فصح أن الاسم المعدول موجود فصيح في كلام العرب. ومنه: إفادة حدثنا الأستاذ أبو عبد الله المقري، قال: سئل عن قوله تعالى {وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون} (الأنبياء: 33) لم عاد ضمير من يعقل إلى ما لا يعقل فقال بعضهم: لما اشترك مع من يعقل في السباحة وهي العوم عومل لذلك معاملته، قال: وهذل لا ينهض جواباً، فإن السباحة لما لا يعقل كالحوت، وإنما لمن يعقل العوم، لا السباحة، وأيضاً فإلحاقه بما العوم له لازم كالحوت أولى من إلحاقه بما هو غير لازم له، قال: وأجاب الأستاذ أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي السبي بأن الشيء المعظم عند العرب تعامله معاملة العاقل، وإن لم يكن عاقلاً، أعظمه عندهم، وأجبت لأنا بأنه لما عوملت في غير هذا الموضع معاملة من يعقل في نحو قوله تعالى {والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} (يوسف: 4) لصدور أفعال العقلاء عنها أجرى عليها هنا ذلك الحكم للأنس به في موضعه.

ومنه: إفادة لقمني الشيخ الفقيه القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى لقمة بيده المباركة (1) ، وقال: لقمني الشيخ أبو عبد الله المسفر قال: لقمني أبو زكريا المحياوي قال: لقمني أبو محمد صالح قال: لقمني الشيخ أبو مدين قال: لقمني أبو الحسن ابن حرزهم قال: لقمني ابن العربي قال: لقمني الغزالي قال: لقمني أبو المعالي قال: لقمني أبو طالب المكي قال: لقمني أبو محمد الجريري قال: لقمني الجنيد قال: لقمني السقطي قال: لقمني معروف الكرخي قال: لقمني داود الطائي قال: لقمني حبيب العجمي قال: لقمني الحسن البصري قال: لقمني علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: لقمني رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وبهذا السند صافحته أيضاً رضي الله تعالى عنه (2) ؛ انتهى. وللمحدثين في هذا السند كلام مشهور، وانتصر بعضهم للسادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم. ومنه: إنشادة أنشدني الشريشي الفقيه أبو عبد الله قال: أنشدني القاضي المقري قال: أنني الرباطي قال: أنشدني ابن دقيق العيد لنفسه من صدر رسالة كتب بها لبعض إخوانه بالحجاز (3) : يهيم قلبي (4) طرباً عندما ... أستلمح البرق الحجازيا ويستميل الوجد قلبي (5) وقد ... أصبح لي ثوب الحجى زيا يا هل أقضي من منى حاجتي ... فأنحر البدن المهاريا وأرتوي من زمزم فهي لي ... ألذ من ريق المها ريا

_ (1) لقمة بيده المباركة: سقطت من ق. (2) انظر سند المصافحة ص: 241. (3) انظر الديوان الملحق: 154 والطالع السعيد: 332 ولها تخريجات أخرى في الديوان (هامش: 153) . (4) الديوان: تهيم نفسي. (5) الديوان: عقلي.

ومنه: إفادة حدثنا القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى قال: رأيت لبعض من ألف على كتاب الكشاف للزمخشري فائدة لم أرها لغيره في قوله تعالى " والراسخون في العلم " إذ الناس يختلفون في هذا الموضع اختلافاً كثيراً، فقال قوم: الراسخون في العلم يعلمون تأويله، والوقوف عند قوله " والراسخون في العلم " وقال قوم: أن الراسخون لا يعلمون تأويله، وإنما يوقف (1) عند قوله " وما يعلم تأويله إلا الله " فقال هذا القائل: أن الآية من باب الجمع والتفريق والتقسيم، من أنواع البيان، وذلك لأن قوله تعالى " هو الذي نزل عليك الكتاب " هو جمع، وقوله " منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " تفريق، وقوله تعالى " فأما الذين في قلوبهم زيغ - إلى قوله تعالى: وابتغاء تأويله " أحد طرفي التقسيم، وقوله تعالى " والراسخون في العلم " الطرف الثاني، وتقديره: وأما الراسخون في العلم فيقولون آمنا به، وجاء قوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله " اعتراضاً بين طرفي التقسيم، قال: وهذا مثل قوله تعالى " وأنا منا المسلمون " فقوله وأنا جمع، وقوله " منا المسلمون ومنا الساقطون " تفريق، وقوله فمن أسلم وأما الساقطون تقسيم، وهو من بديع التفسير، قلت: ومثله أيضاً قوله تعالى " يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه "؛ انتهى. ومنه: إنشادة أنشدنا الشيخ الفقيه القاضي أبو عبد الله المقري في القول بالموجب لبعض العلماء في وديعة: إن قال قد ضاعت فصدق أنها ... ضاعت، ولكن منك يعني لو تعي أو قال قد وقعت فصدق أنها ... وقعت، ولكن منه أحسن موقع ومنه: إنشادة أيضاً من القول بالموجب لبعض الحنابلة:

_ (1) ق: يتوقف.

يحجون بالمال الذي يجمعونه ... حراماً إلى البيت العتيق المحرم ويزعم كل أن تحط ذنوبهم ... تحط ولكن فوقهم في جهنم ومنه: إفادة كتب لي بخطه شيخنا الفقيه القاضي الجليل أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى على ظهر التسهيل لابن مالك الذي كتبته بخطي بعدما كتب لي بخطه روايته فيه عن أبي الحسن ابن مزاحم عن بدر الدين ابن جماعة عن المؤلف فكتب بعد ذلك ما نصه: قال محمد بن محمد المقري: بدر الدين ابن جماعة المذكور يدعى بقاضي القضاة، على ما جرت به عوائد أهل المشرق في تسمية مثله، وأنا أكره هذا الاسم محتجاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم " أن أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى بملك الملوك، لا ملك إلا الله "؛ انتهى ما انتقيته من كتاب الإنشادات والإفادات للشاطبي فيما يتعلق بجدي رحمه الله تعالى. ومن فوائد مولاي الجد رحمه الله، مما لم يذكر فيما سبق أنه حكي أن ابن أمجوط الموله دخل في حلقة أبي عبد الله ابن رشيد بجامع القرويين، وبين رجليه قصبة كأنها فرس، وبيده أخرى كأنها رمح، فانتهره رجل، فضربه برمحه على رأسه، وقال له: اسكت يا ميت، فأبهت الناس لكلامه، فقال له الشيخ: يا فقير أنت في حال ونحن في مقال، وشأن أرباب الأحوال التسليم لأصحاب (1) المقال، فنظر إليه الموله وانصرف، ثم لم ينشب المنتهر أن توفي بعد ذلك بأيام قلائل. [أخبار للمقري عن ابن شاطر] ومنها: قلت لابن شاطر يوماً (2) : كيف حالك فقال: محبوس في الروح،

_ (1) ق: لأرباب. (2) مر هذا، انظر ما تقدم ص: 248.

وصدق لأن الدنيا سجن المؤمن، ولا مخلص له من حبسه إلا بمفارقة نفسه. وقال: سألت ابن شاطر عن معنى قول ابن الفارض: فلم أله باللاهوت عن حكم مظهري (1) ... ولم أنس بالناسوت موضع حكمتي فقال: يقول ما أنا بالحلاج ولا ببلعام، ثم قال مولاي الجد بعد هذا الكلام ما صورته: قلت: وهذا هو الإنسان على الكمال والتمام، ولقد سمعته يقول في الحلاج: نصف إنسان، يشير إلى البيت. وقال أيضاً رحمه الله تعالى: سمع ابن شاطر إنساناً يقول: الجنة رخيصة، فقال: كيف تكون رخيصة والله عز وجل يقول " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " انتهى. ثم قال مولاي الجد بأثر هذا الكلام: قلت: ما الأنفس والأموال في جنب ما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لا سيما وفوق هذه الحسنى زيادة الإكرام بالنظر والرضا. وقال أيضاً: قيل لابن شاطر: صف لنا الدنيا، فقال: " كسراب بقيعة " الآيتين، فبلغ ذلك أبا زيد ابن الإمام، فأنكر عائباً لاستحسان سامعه، تالياً " يحرفون الكلم عن مواضعه " ولقد أصيب المتعسف بأدهى منها وأمر، فإنه أفحم يوماً ببعض أهل النظر فتلا عليه " فبهت الذي كفر " على أن له أن يقول: لم أخرج الآية عن مرادها، فالبهت من انقطاع المعاند، والكفر من جحد الجاحد، ولنا أن نقول: التحريف المذموم هو التحويل للإبطال وليس هذا في قصد الممثل الأول بالمثال؛ انتهى. وهذا كله على مذهب جمهور المالكية في منع الاقتباس، وللكلام على ذلك موضع غير هذا، فليراجع في كتب البيان وغيرها.

_ (1) ق: منطقي.

وقال رحمه الله تعالى: حدثت أن المتوكل على الله أبا عنان رحمه الله تعالى أعطى ابن شاطر ألف دينار ليحج بها، فمر بها على تلمسان، فصار يدفع منها شيئاً فشيئاً للمتفرجين بغدير الوريط شرقي عباد تلمسان العلوي، إلى أن نفذت، فلما ورد السلطان أبو عنان تلمسان لقيه بسوق العطارين من منشر الجلد، فقال له: يا سيدي أبا عبد الله حج مبرور، فقال له: إذا جهلت أصل المال فانظر مصارفه، ويأبى الله إلا أن ينفق الخبيث في مثله، فضحك السلطان وانصرف؛ انتهى. وكان (1) لابن شاطر هذا عجائب، ولم يكن مخلاً بشيء من الحقوق الشرعية، وكان معتقداً عند أهل وقته، وكان السلطان أبو عنان على فقهه يعظمه ويصله ويسلم له، وبات عنده ليلة بقصره، وكان يدخل القصر، ولا تحتجب منه الجواري، وقال له: أتبول في قبة مولانا فقال لها: إن قبة مولانا الخضراء أعظم من هذه، وأنا أفعل تحتها ما هو أفظع من البول، وما انتهرني قط، فذكرت ذلك الجارية للسلطان، فضحك وعلم أنه يريد السماء. وكان يكتب القرآن والعمدة ولا يغلق حرفاً مجوفاً فإذا غلب على ذلك أصلحه، حتى حكي أنه سافر لإصلاح حرف مجوف أغلقه سهواً من نسخة كان باعها، ولم يتذكر ذلك حتى سافر مشتريها، فما رجع حتى جدده. وحكى الشيخ أبو القاسم ابن داود الفخار السلوي أن الشيخ أبا عبد الله الشريف التلمساني صاحب " المفتاح في أصول الفقه " وشارح " الجمل الخونجية " المتوفى عام اثنين وسبعين وسبعمائة دفين المدرسة اليعقوبية من تلمسان المحروسة افتتح شرح العمدة بما نصه: اللهم احمد نفسك عمن أمرته أن يتخذك وكيلاً، حمداً عائداً منك إليك، متحداً بك، دائماً بدوام ملكك، لا منقطعاً ولا مفصولاً،

_ (1) ق: وذكر.

قال: فقال لي أبو عبد الله ابن شاطر: ما هو انفصال عالم الملك فقلت له: بالضرورية الوقتية، فقال لي: ما أجهلك! وأجهل سيدك أبا عبد الله! وأجهل ابن سودكين (1) الذي أخذ من كتابه هذا الحمد! إذ قال لا منقطعاً ولا مفصولاً بعد قوله بدوام ملكك وهو بالضرورية الوقتية، وهي منقطعة، فهلا قال: دائماً بدوام قيوميتك، وعظيم قدرك، ومجدك الأعلى، وسبحات وجهك الأكرم، لا منقطعاً ولا مفصولاً، فبلغ ذلك أبا عبد الله الشريف، فبدله؛ انتهى. وأخبار ابن شاطر كثيرة، وقد مر ذكره في كلام مولاي الجد رحمه الله تعالى، وسيأتي ما ذكره لسان الدين به في الإحاطة. [تتمة الفوائد على المقري] ومن فوائد مولاي الجد رحمه الله تعالى ما قاله إثر قول الرازي في التفسير الحس أقوى من العقل ونصه: هذا على ما حكاه في المحصل من أن المعقولات فرع المحسوسات، قال: ولذلك من فقد حساً فقد فقد علماً كالأكمه والعنين، ومذهب جمهور الفلاسفة أن اليقينيات هي المعقولات لا المحسوسات، انظر المحصل؛ انتهى. ومن فوائده رحمه الله تعالى أن قال: أنشدت يوماً الآبلي قول ابن الرومي: أفنى وأعمى ذا الطبيب بطبه ... وبكحله الأحياء والبصراء فإذا مررت رأيت من عميانه ... أمم على أمواته قراء فاستعادني حتى عجبت منه، مع ما أعرف من عدم ميله إلى الشعر، وانفعاله له، وظننت أنه أعجب مما تضمنه البيت الأول من غريب اللف والنشر المكرر الذي لا أعرف له ثانياً فيه، فقال: أظننت أني استحسنت الشعر فقلت: مثلك

_ (1) إسماعيل بن سودكين (ق: شودكين) النوري (- 640) تلميذ ابن عربي وشارح كتبه.

يستحسن مثل هذا الشعر؛ فقال: إن ما تعرفت منه كون العميان كانوا في ذلك الزمان يقرؤن على المقابر، فإنني كنت أرى ذلك حديث العهد، فاستفدت التاريخ. وقال مولاي الجد رحمه الله تعالى (1) : حدثني الآبلي أن أبا عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن أبي العيش الخزرجي الخطيب بتلمسان كان يقول في خطبته: من يطع الله ورسوله فقد رشد، بالكسر، وكان الطلبة ينكرون عليه ذلك، فلما ورد عليهم الراوية الرحلة أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري سمعه يقول ذلك، فأنكر عليه في جملتهم، وبلغ الخطيب ذلك، فلم يرجع، فلما قفل ابن رشيد من وجهته تلك دخل على الأستاذ أبي الحسن ابن البيع بسبتة، فهنأه بالقدوم، وقال له فيما قال: رشدت - يا ابن رشيد - ورشدت لغتان صحيحتان، حكاهما يعقوب في " الإصلاح " (2) ، ثم قال مولاي الجد (3) : قلت: هذه كرامة للرجلين أو للثلاثة. وقال رحمه الله تعالى (4) : قال طالب لشيخنا الآبلي يوماً: مفهوم اللقب صحيح أما أنا فلا أقول شيئاً، فعرف الطالب ما وقع فيه، فخجل. وهذا الآبلي (5) تقدم في كلام مولاي الجد رحمه الله تعالى أنه عالم الدنيا، وهو تلمساني كما تقدم، قال تلميذه أبو القاسم السلوي الفخار: دخل علي شيخنا الآبلي يوماً، وأنا أعجن طين الفخارة، فقال لي: ما علامة قبول هذه المادة أكمل صورة ترد عليها فقلت: أن تدفع عن نفسها ما هو من غير جنسها من حجر أو زبل أو غيره، فأدركه وجد عظيم، حتى إنه صاح وقام وقعد، وبقي هنية مطرقاً برأسه مفكراً، ثم قال: هكذا هي النفوس البشرية.

_ (1) ق: ومن فوائده رحمه الله، والقصة في نيل الابتهاج: 252. (2) إصلاح المنطق: 213. (3) زاد في ق: قال الآبلي. (4) النص في نيل الابتهاج: 245. (5) ق: ووصف الشيخ الآبلي.

قال: وقال لي يوماً، وقد وجد الصبيان يصوبون بقصب رقاق على الذباب فإذا خرج قتلوه: الغلط الداخل عليه من أي نوع المغلطات هو فقلت له: من إيهام العكس، لما كان كل ذباب مصوتاً ظن أن كل مصوت ذباب، فاستحسن ذلك. قلت: وحدثني مولاي العم الإمام شيخ الإسلام سيدي سعيد بن أحمد المقري رحمه الله تعالى، عن شيخه ابن جلال مفتي حضرتي فاس وتلمسان، أنه كان يحكي أن الغلط من عدم كلية كبرى في الشكل الأول، لأنه ركبه هكذا: هذا مصوت وكل مصوت ذباب، وقد علمت أنها هنا إنما تصدق جزئية لا كلية، وإذا كانت جزئية بطل الإنتاج، لأن ذلك من الضروب العقيمة؛ انتهى. ومن (1) فوائد مولاي الجد رحمه الله تعالى أنه قال (2) : سمعت شيخنا الآبلي يقول: ما في الأمة المحمدية أشعر من ابن الفارض. وقال أيضاً رحمه الله تعالى (3) : سمعت شيخنا الآبلي يقول: إنما أفسد العلم كثرة التواليف، وإنما أذهبه بنيان المدارس، وكان ينتصف له من المؤلفين والبانين وإنه لكما قال، غير أن في شرح ذلك طولاً، وذلك أن التأليف نسخ الرحلة التي هي أصل جمع العلم، فكلن الرجل ينفق فيها المال الكثير (4) ، وقد لا يحصل له من العلم إلا النزر اليسير، لأن عنايته على قدر مشقته في طلبه، ثم صار يشتري أكبر ديوان بأبخس ثمن، فلا يقع منه أكثر من موقع ما عوض عنه، فلم يزل الأمر كذلك حتى نسي الأول بالآخر، وأفضى الأمر إلى ما يسخر منه الساخر؛ وأما البناء فلأنه يجذب الطلبة إلى ما يرتب فيه الجرايات (5) ، فيقبل بها على من

_ (1) قبلها في ق: رجع. (2) انظر نيل الابتهاج: 245. (3) نقل صاحب نيل الابتهاج هذا النص ص: 235 - 246. (4) نيل الابتهاج: مالا كثيراز (5) نيل الابتهاج: لما فيه من مرتب الجرايات.

يعينه أهل الرياسة للأجراء والإقراء منهم أو ممن يرضى لنفسه الدخول في حكمهم، ويصرفونها (1) عن أهل العلم حقيقة الذين لا يدعون إلى ذلك، وإن دعوا لم يجيبوا، وإن أجابوا لم يوفوا لهم بما يطلبون من غيرهم. ثم قال مولاي الجد رحمه الله تعالى: ولقد استباح الناس النقل من المختصرات الغربية أربابها، ونسبوا ظواهر ما فيها إلى أمهاتها، وقد نبه عبد الحق في تعقيب التهذيب على ما يمنع من ذلك لو كان من يسمع - وذيلت كتابه بمثل عدد مسائله أجمع - ثم تركوا الرواية فكثر التصحيف، وانقطعت سلسلة الاتصال، فصارت الفتاوى تنقل من كتب من لا يدري ما زيد فيها مما نقص منها، لعدم تصحيحها، وقلة الكشف عنها. ولقد كان أهل المائة السادسة وصدر السابعة لا يسوغون الفتوى من تبصرة الشيخ أبي الحسن اللخمي لكونه لم يصحح على مؤلفه ولم يؤخذ (2) عنه، وأكثر ما يعتمد اليوم ما كان من هذا النمط. ثم انضاف إلى ذلك عدم الاعتبار بالناقلين، فصار يؤخذ من كتب المسخوطين كما يؤخذ من كتب المرضيين (3) ، بل لا تكاد تجد من يفرق بين الفريقين، ولم يكن هذا فيمن قبلنا، فلقد تركوا كتب البراذعي على نبلها، ولم يستعمل منها، على كره من كثير منهم، غير التهذيب الذي هو المدونة اليوم لشهرة مسائله وموافقته في أكثر ما خالف فيه المدونة لأبي محمد، ثم كل أهل هذه المائة عن حال من قبلهم من حفظ المختصرات وشق الشروح والأصول الكبار، فاقتصروا على حفظ ما قل لفظه، ونزر حظه، وأفنوا أعمارهم في فهم رموزه، وحل لغوزه، ولم يصلوا إلى رد ما فيه إلى أصوله بالتصحيح، فضلاً عن معرفة الضعيف من ذلك والصحيح، بل هو حل مقفل، وفهم أمر مجمل، ومطالعة تقييدات

_ (1) نيل الابتهاج: ويصرفهم. (2) نيل الابتهاج: لكونها لم تصحح ... ولم تؤخذ. (3) نيل الابتهاج: كالأخذ من المرضيين.

زعموا أنها تستنهض النفوس، فبينا نحن نستكبر العدول عن كتب الأئمة إلى كتب الشيوخ، أتيحت لنا تقييدات للجهلة، بل مسودات المسوخ، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فهذه جملة تهديك إلى أصل العلم، وتريك ما غفل الناس عنه؛ انتهى. ولنصلها بخاتمة (1) تشير إلى حال العلماء أيضاً اعلم أن شر العلماء علماء السلاطين، وللعلماء معهم أحوال؛ فكان الصدر الأول يفرون منهم، وهم يطلبونهم، فإذا حضر واحد منهم أفرغوا عليه الدنيا إفراغاً ليقتنصوا بذلك غيره، ثم جاء أهل العصر الثاني، فطمحت أنفسهم إلى دنيا من حصل لهم، ومنعهم القليل، فانتقصوا مما كان لغيرهم بقدر ما نقصوا من منابذتهم، ثم كان فيمن بعدهم من يأتيهم بلا دعوة، وأكثرهم إن دعي أجاب، فانتقصوا بقدر ذلك أيضاً، ثم تطارح جمهور من بعدهم عليهم، فاستغنوا بهم عن دعاء غيرهم، لا على جهة الفضل أو محبة المدحة منهم، فلم يبقوا عليهم من ذلك إلا النزر اليسير، وصرفوهم في أنواع السخر والخدم إلا القليل، وهم ينتظرون صرفهم، والتصريح بالاستغناء عنهم، وعدم الحاجة إليهم، ولا تستعظم هذا، فلعله سبب إعادة الحال جذعة، عجب الله من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل، وهذا كله ليظهر لك سر قول النبي صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه خلفهم "، قيل: اليهود والنصارى قال: فمن وقد قص علينا القرآن والأخبار من أمرهم ما شاهدناه أكثره أو أكثر منه فينا، سمعت العلامة الآبلي يقول (2) : لولا انقطاع الوحي لنزل فينا أكثر مما نزل فيهم، لأنا أتينا أكثر مما أتوا، يشير

_ (1) ق: وذيلت على ذلك بخاتمة. (2) انظر نيل الابتهاج: 246.

إلى افتراق هذه الأمة على أكثر مما افترقت عليه بنو إسرائيل، واشتهار بأسهم بينهم إلى يوم القيامة، حتى ضعفوا بذلك عن عدوهم، وتعدد ملوكهم لاتساع أقطارهم واختلاف أنسابهم وعوائدهم، حتى غلبوا بذلك على الخلافة، فنزعت من أيديهم، وساروا في الملك بسير من قبلهم، مع غلبة الهوى واندراس معالم التقوى، لكنا آخر الأمم، أطلعنا الله من غيرنا على أقل مما ستر منا، وهو المرجو أن يتم نعمته علينا، ولا يرفع ستره الجميل عنا. فمن أشد ذلك إتلافاً لغرضنا تحريف الكلم عن مواضعه الصحيحة أن ذلك لم يكن بتبديل اللفظ، إذ لا يمكن ذلك في المشهورات من كتب العلماء المستعملة، فكيف في الكتب الإلهية، وإنما كان ذلك بالتأويل كما قال ابن عباس وغيره، وأنت تبصر ما اشتملت عليه كتب التفسير من الخلاف، وما حملت الآي والأخبار من التأويلات الضعاف، قيل لمالك: لم اختلف الناس في تفسير القرآن فقال: قالوا بآرائهم فاختلفوا؛ أين هذه من قول الصديق " أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله عز وجل برأيي " كيف وبعض ذلك قد انحرف عن سبيل العدل إلى بعض الميل، وأقرب ما يحمل عليه جمهور اختلافهم أن يكون بعضهم قد علم بقصد إلى تحقيق نزول الآية من سبب أو حكم أو غيرهما، وآخرون لم يعلموا ذلك على التعيين، فلما طال بحثهم وظنوا عجزهم أرادوا تصوير الآية بما يسكن النفوس إلى فهمها في الجملة، ليخرجوا عن حد الإبهام المطلق، فذكروا ما ذكروه على جهة التمثيل، لا على سبيل القطع بالتعيين، بل منه ما لا يعلم أنه أريد لا عموماً ولا خصوصاً، لكنه يجوز أن يكون المراد، فإن لم يكن إياه فهو قريب من معناه، ومنه ما يعلم أنه مراد لكن بحسب الشركة والخصوصية مع جواز أن يكون هو المراد بحسب الخصوصية، ثم اختلط الأمران. والحق أن تفسير القرآن من أصعب الأمور، فالإقدام عليه جراءة، وقد قال الحسن (1)

_ (1) ق: قائل.

لابن سيرين: تعبر الرؤيا كأنك من آل يعقوب! فقال له: تفسر القرآن كأنك شهدت التنزيل! وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يفسر من القرآن إلا آيات معدودة، وكذلك أصحابه والتابعون بعدهم، وتكلم أهل النقل في صحة التفسير المنسوب لابن عباس إليه إلى غير ذلك، ولا رخصة في تعيين الأسباب والناسخ والمنسوخ إلا بنقل صحيح أو برهان صريح، وإنما الرخصة في تفهيم ما تفهمه العرب بطباعها من لغة وإعراب وبلاغة لبيان إعجاز ونحوها؛ انتهى. [ترجمة المقري من نيل الابتهاج] ولنرجع إلى بقية أنباء مولاي الجد رحمه الله، فنقول: قال صاحب نيل الابتهاج بتطريز الديباج ما صورته (1) : محمد بن محمد بن أحمد القرشي التلمساني الشهير بالمقري بفتح الميم، وتشديد القاف المفتوحة كذا ضبطه الشيخ عبد الرحمن الثعالبي في كتابه العلوم الفاخرة وضبطه ابن الأحمر في فهرسته وسيدي أحمد زروق بفتح الميم وسكون القاف الإمام العلامة النظار المحقق القدوة الحجة الجليل الرحلة (2) ، أحد فحول أكابر علماء المذهب المتأخرين الأثبات قاضي الجماعة بفاس، ذكره ابن فرحون في الأصل، يعني الديباج، وأثنى عليه؛ انتهى. وقال الخطيب ابن مرزوق (3) : كان صاحبنا المقري معلوم القدر، مشهور الذكر بالخير، تبعه بعد موته من حسن الثناء وصالح الدعاء، ما يرجى له النفع به يوم اللقاء، وعوارفه معلومة عند الفقهاء، ومشهورة بين الدهماء؛ انتهى.

_ (1) انظر نيل الابتهاج: 250. (2) الرحلة: سقطت من نيل الابتهاج. (3) انظر هذا النقل في نيل الابتهاج أيضا.

وقال أبو العباس الونشريسي في بعض فوائده: ومقرة بفتح الميم بعدها قاف مفتوحة مشددة قرية من قرى بلاد الزاب من أعمال إفريقية، سكنها سلفه، ثم تحولوا إلى تلمسان، وبها ولد الفقيه المذكور، وبها نشأ، وقرأ وأقرأ، إلى أن خرج منها صحبة الركاب المتوكلي العناني أمير المؤمنين فارس عام تسعة وأربعين وسبعمائة إلى مدينة فاس المحروسة، فولاه القضاء، فنهض بأعباءه علماً وعملاً، وحمدت سيرته، ولم تأخذه في الله لومة لائم، إلى أن توفي بها إثر قدومه من بلاد الأندلس في غرض الرسالة لأبي عنان عام تسعة وخمسين وسبعمائة، ثم نقل إلى مسقط رأسه تلمسان. وقال في موضع آخر: إنه توفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى عام تسعة وخمسين وسبعمائة، بمدينة فاس المحروسة، ثم نقل تلمسان محل ولادته ومقر أسلافه، ودفن بها في البستان الملاصق لقبلي داره الكائنة بباب الصرف من البلد المذكور، وهو الآن على ملك بعض ورثة الشيخ أبي يحيى الشريف؛ انتهى. ومن أخبار مولاي الجد رحمه الله تعالى أنه قال (1) : شهدت الوقفة سنة أربع وأربعين وسبعمائة، وكانت جمعة، وقام الخطيب في سابع ذي الحجة في الناس بالمسجد الحرام، وقال: إن جمعة وقفتكم هذه خاتمة مائة جمعة وقف بها من الجمعة التي وقف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع آخر عشر من الهجرة، وشاع ذلك في الناس وذاع وكان علم ذلك مما تواتر عندهم، والله أعلم، وهم يزعمون أن الجمعة تدور على خمس سنين، وهذا مناف لذلك، ولكن كثير منهم ينكر اطراد هذا ويقول: إنها قد تكون على خلاف ذلك، فلا أدري.

_ (1) انظر نيل الابتهاج: 252.

ومنها أنه قال: شهدت شمس الدين بن قيم (1) الجوزية قيم الحنابلة بدمشق، وقد سأله رجل عن قوله عليه الصلاة والسلام " من مات له ثلاثة من الولد كانوا له حجاباً من النار " كيف إن أتى بعد ذلك بكبيرة فقال: موت الولد حجاب، والكبيرة خرق لذلك الحجاب، وإنما يكون الحجاب حجاباً ما لم يخرق فإذا خرق فقد زال عن أن يكون حجاباً، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام " الصوم جنة " ما لم يخرقها، ثم قال: وهذا الرجل أكبر أصحاب تقي الدين ابن تيمية. ومن أخبار مولاي الجد الدالة على صرامته ما حكاه ابن الأزرق عنه (2) : أنه كان يحضر مجلس السلطان أبي عنان لبث العلم، وكان نقيب الشرفاء (3) بفاس إذا دخل مجلس السلطان يقوم له السلطان وجميع من في المجلس إجلالاً له، إلا الشيخ المقري، فإنه كان لا يقوم في جملتهم، فأحس النقيب من ذلك، وشكاه إلى السلطان، فقال له السلطان: هذا رجل وارد علينا نتركه على حاله إلى أن ينصرف، فدخل النقيب في بعض الأيام على عادته، فقام له السلطان على العادة وأهل المجلس، فنظر إلى المقري، وقال له: أيها الفقيه، ما لك لا تقوم كما يفعل السلطان نصره الله وأهل مجلسه إكراماً لجدي ولشرفي ومن أنت حتى لا تقوم لي فنظر إليه المقري وقال له: أما شرفي فمحقق بالعلم الذي أنا أبثه ولا يرتاب فيه أحد، وأما شرفك فمظنون، ومن لنا بصحته منذ أزيد من سبعمائة سنة، ولو علمنا شرفك قطعاً لأقمنا هذا من هنا، وأشار إلى السلطان أبي عنان، وأجلسناك مجلسه، فسكت؛ انتهى.

_ (1) ق: مفتي، وتيل الابتهاج: مقيم. (2) النص في نيل الابتهاج: 254. (3) نيل الابتهاج: مزوار الشرفاء؛ والمزوار لقب يعني المقدم وهو من البربرية " امزوار " فيقال مزوار الأطباء ومزوار الطلبة ... إلخ. (انظر معجم دوزي) .

قال ابن الأزرق: وعلى اعتذاره ذلك بأن الشرف الآن مظنون (1) ، فمن معنى ذلك أيضاً ما يحكى عنه أنه كان يقرأ بين يدي السلطان أبي عنان المذكور صحيح مسلم بحضرة أكابر فقهاء فاس وخاصتهم، فلما وصل إلى أحاديث الأئمة من قريش قال الناس: إن قال الشيخ الأئمة من قريش وأفصح بذلك استوغر قلب السلطان، وإن ورى وقع في محظور، فجعلوا يتوقعون له ذلك، فلما وصل إلى الأحاديث قال بحضرة السلطان: والجمهور أن الأئمة من قريش، ثلاثاً، ويقول بعد كل كلمة: وغيرهم متغلب، ثم نظر إلى السلطان وقال له: لا عليك، فإن القرشي اليوم مظنون، أنت أهل للخلافة، إذ بعض الشروط قد توفرت فيك والحمد لله، فلما انصرف إلى منزله بعث له السلطان بألف دينار؛ انتهى. قال أبو عبد الله ابن الأزرق: قلت: ويلزم أيضاً من اعتذاره أن قيام السلطان لذي الشرف المحقق بالعلم أولى بالمحافظة (2) على تعظيم حرمات الله، وقد روي عن بعض الأمراء أنه تكبر على ذلك، واستخف بمنزلة من عظم به غيره، فسلبه الله ملكه وملك بنيه من بعده؛ انتهى. ومن أجوبة مولاي الجد رحمه اله تعالى قوله (3) : سألني السلطان عمن لزمته يمين على نفي العلم فحلف جهلاً على البت، هل يعيد أم لا فأجبته بإعادتها، وقد كان من حضر من الفقهاء أفتوا بأن لا تعاد، لأنه أتى بأكثر مما أمر به على وجه يتضمنه، فقلت له: اليمين على وجه الشك غموس، قال ابن يونس: والغموس: الحلف على تعمد الكذب، أو على غير يقين، ولا شك أن الغموس محرمة منهي عنها، والنهي يدل على الفساد، ومعناه في العقود عدم ترتب أثره؛ فلا أثر لهذا اليمين، ويجب أن تعاد، وقد يكون من هذا اختلافهم فيمن إذنها

_ (1) نيل الابتهاج: يكون الشرف الآن مظنونا. (2) ق ص ونيل الابتهاج: في المحافظة. (3) ق: ومن أنبائه أيضا قوله؛ والحكاية في نيل الابتهاج: 253.

السكوت، فتكلمت هل يجتزأ بذلك والإجزاء هنا أقرب، لأنه الأصل، والصمات رخصة لغلبة الحياء، فإن قلت: البت أصل، ونفي العلم إنما يعتبر عند تعذره، قلت: ليس رخصة كالصمات. ومنها أنه قال (1) : سألني بعض الفقراء عن السبب في سوء بخت المسلمين في ملوكهم، إذ لم يل أمرهم من يسلك بهم الجادة ويحملهم (2) على الواضحة، بل من يغتر في مصلحة دنياه (3) ، غافلاً عن عاقبة أخراه، فلا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، ولا يراعي عهداً ولا حرمة، فأجبته بأن ذلك لأن الملك ليس في شريعتنا وذلك أنه كان فيمن كان قبلنا شرعاً، قال الله تعالى ممتناً على بني إسرائيل " وجعلكم ملوكاً " ولم يكن ذلك في هذه الأمة، بل جعل لهم خلافة، قال الله تعالى " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض " وقال تعالى " وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً " وقال سليمان " رب اغفر لي وهب لي ملكاً " فجعلهم الله تعالى ملوكاً، ولم يجعل في شرعنا إلا الخلفاء، فكان أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لم يستخلفه نصاً، لكن فهم الناس ذلك فهماً، وأجمعوا على تسميته بذلك، ثم استخلف أبو بكر عمر، فخرج بها عن سبيل الملك الذي يرثه الولد عن الوالد، إلى سبيل الخلافة الذي هو النظر والاختيار، ونص في ذلك على عهده، ثم اتفق أهل الشورى على عثمان، فإخراج عمر لها عن بنيه إلى الشورى دليل على أنها ليست ملكاً، ثم تعين علي بعد ذلك، إذ لم يبق مثله، فبايعه من آثر الحق على الهوى، واصطفى الآخرة على الدنيا، ثم الحسن كذلك، ثم كان معاوية أول من حول الخلافة ملكاً، والخشونة

_ (1) راجع المصدر السابق. (2) نيل الابتهاج: سلك ... وحملهم. (3) نيل الابتهاج: صلاح دنياه.

ليناً، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم، فجعلها ميراثاُ، فلما خرج بها عن وضعها (1) لم يستقم ملك فيها، ألا ترى أن عمر بي عبد العزيز رضي الله عنه كان خليفة لا ملكاً، لأن سليمان رحمه الله تعالى رغب عن بني أمية إيثار لحق المسلمين ولئلا يتقلدهم حياً وميتاً، وكان يعلم اجتماع الناس عليه فلم يسلك طريق الاستقامة بالناس قط إلا خليفة، وأما الملوك فعلى ما ذكرت إلا ما قل، وغالب أفعاله غير مرضية؛ انتهى. وفوائد مولاي الجد وتحفه وطرفه ولطائفه ودقائقه يستدعي استقصاؤها مجلدات (2) ، فلنكتف بما قدمناه: وفي الإشارة ما يغني عن الكلم ... [مؤلفات المقري الجد] وأما تآليفه فكثيرة: منها كتاب " القواعد " (3) اشتمل على ألف قاعدة ومائتي قاعدة، قال العلامة الونشريسي في حقه: إنه كتاب غزير العلم، كثير الفوائد، لم يسبق إلى مثله، بيد أنه يفتقر إلى عالم فتاح؛ انتهى. وقد أشار إليه في مأخذ الأربعة، وهو قليل بهذه الديار المشرقية، ولم أر منه بمصر إلا نسخة عند بعض الأصحاب، وذكر أنها من أوقاف رواق المغاربة بالأزهر المعمور، وأما قول لسان الدين في الإحاطة عند تعرضه لذكر تأليف مولاي الجد ما صورته ألف كتاباً يشمل على أزيد من مائة مسألة فقهية، ضمنها كل أصل من الرأي والمباحثة فهو غير القواعد بلا مرية.

_ (1) نيل الابتهاج: موضعها. (2) ق: وإن تتبعنا أخبار مولاي الجد وفوائده وأقواله وأفعاله خرجنا بالاستطراد عن المراد ... إلخ. (3) قارن بما في نيل الابتهاج: 255.

ومنها كتاب " الطرف والتحف " (1) غاية في الحسن والظرف، قاله الونشريسي وقد وقفت على بعضه فرأيت العجب العجاب. ومنها اختصار المحصل ولم يكمله، وشرحه لجمل الخونجي، كذلك (2) ، ومنها كتاب عمل من طب لمن حب وهو بديع في بابه، مشتمل على أنواع: الأول فيه أحاديث حكمية كأحاديث الشهاب وسراج المهتدين لابن العربي، والنوع الثاني منه الكليات الفقهية على جملة أبواب الفقه في غاية الإفادة، والثالث في قواعد وأصول، والرابع في اصطلاحات وألفاظ، قال الونشريسي: وقد أطلعني الفقيه أبو محمد عبد الله بن عبد الخالق على نسخة من هذا الكتاب، فتلطفت في استنساخها، فلم يسمح به؛ انتهى. قلت: وقد رأيت هذا الكتاب بحضرة فاس عند بعض أولاد ملوك تلمسان وهو فوق ما يوصف، وفيه يقول مولاي الجد رحمه الله تعالى: هذا كتاب بديع في محاسنه ... ضمنته كل شيء خلته حسنا فكل ما فيه إن مر اللبيب به ... ولم يشم عبيراً شام منه سنا فخذه واشدد به كف الضنين وذد، ... حتى تحصله، عن جفنك الوسنا وهذه الأبيات كافية في وصف هذا الكتاب، إذ صاحب البيت أدرى بالذي فيه. [نقول من كتاب المحاضرات للمقري الجد] ومنها كتاب المحاضرات وفيه من الفوائد والحكايات والإرشادات كثير، وقد ملكت منه بالمغرب نسختين، فلنذكر منه بعض الفوائد، فنقول: قال رحمه الله تعالى: قيل لصوفي: لم تقول الله الله ولا تقول لا إله إلا الله فقال:

_ (1) نيل الابتهاج: التحف والطرف. (2) قال التنبكتي فيه أيضا: لم يتم.

نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب، وهذا إن لم يكن في هذه الكلمة لأنها أفضل ما قالته الأنبياء فهو في كثير من التنزيه الذي يطلقه المتكلمون وغيرهم، حتى قال الشاشي عنهم: إنهم يتمندلون بأسماء الله عز وجل، ما عرفه من كيفه، ولا وحده من مثله، ولا عبده من شبهه، المشبه أعشى، والمعطل أعمى، المشبه متلوث بفرث التجسيم والمعطل نجس بدم الجحود، ونصيب المحق لبن خالص وهو التنزيه، انزل من علو التشبيه، ولا تعل قلل أباطيل التعطيل، فالوادي المقدس بين الجبلين. أبو المعالي (1) : من اطمأن إلى موجود انتهى إليه فكره فهو مشبه، ومن سكن إلى النفي المحض فهو معطل، ومن قطع بموجود واعترف بالعجز عن إداراكه فهو موحد: جل رب الأعراض والأجسام ... عن صفات الأعراض والأجسام جل ربي عن كل ما اكتنفته ... لحظات الأفكار والأوهام برئ الله من هشام وممن ... قال في الله مثل قول هشام الدقاق: المريد صاحب وله، لأن المراد بلا شبه، وقيل: مثله الأعلى {ليس كمثله شيء} . الجنيد: أشرف كلمة في التوحيد قول الصديق: الحمد لله الذي لم يجعل للخلق سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته. القشيري (2) : يعني أن العارف عاجز عن معرفته، والمعرفة موجودة فيه. غيره: ما عرف الله سوى الله، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك: كل ما ترتقي إليه بوهم ... من جلال وقدرة وسناء فالذي أبدع البرية أعلى ... منه، سبحان مبدع الأشياء

_ (1) ق: ومنه، بسقوط لفظة " أبو المعالي ". (2) موضع هذه اللفظة في ق، قال.

سأل (1) المريسي الشافعي عن التوحيد بحضرة الرشيد، فقال: أن لا تتوهمه ولا تتهمه، فأبهت بشر. الشبلي (2) : من توهم أنه واصل، فليس له حاصل، ومن رأى أنه قريب فهو بعيد، ومن تواجد فهو فاقد، ومن أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو غافل، ومن سكت عنه فهو جاهل (3) ، ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كشف لها إلا نادته هواتف الحقيقة: الذي تطلب أمامك، وما تبرجت ظواهر المكونات إلا نادتك حقائقها: إنما نحن فتنة فلا تكفر: ما ينتهي نظري منهم إلى رتب ... في الحسن إلا ولاحت فوقها رتب الجريري: ليس العلم التوحيد إلا لسان التوحيد. الحسن (4) : العجز عن درك الإدراك إدراك: تبارك الله وارت غيبه حجب ... فليس يعرف إلا الله ما الله دعا (5) نبي إلى الله عز وجل بحقيقة التوحيد، فلم يستجب له إلا الواحد بعد الواحد، فعجب من ذلك، فأوحى الله عز وجل إليه: تريد أن تستجيب لك العقول قال: نعم، قال: احجبني عنها، قال: كيف أحجبك وأنا أدعو إليك قال: تكلم في الأسباب، وفي أسباب الأسباب، فدعا الخلق من هذا الطريق، فاستجاب له الجم الغفير. ومنه (6) : سمه أعرابي اختلاف المتكلمين بمسجد البصرة في الإنسان وانتزاع كل واحد منهم الحجة على رأيه، فخرج وهو يقول:

_ (1) ق: سئل. (2) ق: ومنه قيل. (3) جاهل: مكررة في ق. (4) ق: ومنه. (5) ق: دعا الخلق. (6) ق: ومنه قيل.

إن كنت أدري فعلي بدنه ... من كثرة التخليط في من أنه (1) ومن عجز عن أقرب الأشياء نسبة منه، فكيف يقدر على أبعد الأمور حقيقة عنه من عرف نفسه عرف ربه. ومنه: دع ما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره. لما احتضر الوليد بن أبان، قال لبنيه: هل تعلمون أحداً هو أعلم بالكلام مني قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم بما عليه أهل الحديث، فإني رأيت الحق معهم، وعن أبي المعالي نحوه. ومنه: هجر أحمد المحاسبي لما صنف في علم الكلام، فقال: إنما قصدت إلى نصر السنة، فقال: ألست تذكر البدعة وشبهة البدعة قلت: من تحقق كلام فخر الدين الرازي وجده في تقرير الشبه أشد منه في الانفصال عنها، وفي هذا ما لا يخفى. ومنه: من آمن بالنظر إلى ظاهر الثعبان كفر بالاستماع إلى خوار العجل، ومن شاهد مجاوزة القدرة الإلهية لمنتهى وسع القوة البشرية لم يكترث بوعيد الدنيا ولم يؤثر الهوى على الهدى والتقوى. ومنه: علي بن الحسين: من عرف الله بالأخبار، دون شواهد الاستبصار والاعتبار، اعتمد على ما تلحقه التهم. ومنه: قيل لطبيب: بم عرفت ربك قال: بالأهليلج، يجفف الحلق، ويلين البطن. وقيل لأديب: بم عرفت ربك قال: بنحلة في أحد طرفيها عسل، وفي الآخر لسع، والعسل مقلوب اللسع. وسأل الدهرية الشافعي عن دليل الصانع، فقال: ورقة الفرصاد تأكلها دودة القز فيخرج منها الإبريسم، والنحل فيكون منها العسل، والظباء فينعقد في نوافجها المسك، والشاء فيكون منها البعر؛ فآمنوا كلهم، وكانوا سبعة عشر.

_ (1) أنه: لغة في أنا، ومنه قول حاتم: " هذا فزدي أنه " (الخزانة 2: 389) .

قيل لإعرابي: بم عرفت ربك قال: البعرة تدل على البعير، والروث يدل على الحمير، وآثار الأقدام تدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وبحار ذات أمواج، أما يدل ذلك على العليم القدير: قد يستدل بظاهر عن باطن ... حيث الدخان يكون موقد نار قيل لإعرابي: بم عرفت الله (1) قال: بنقد عزائم الصدور وسوق الاختيار إلى حبائل المقدور. ومنه: الدقاق: لو كان إبليس بالحق عارفاً، ما كان لنفسه بالإضلال والإغواء واصفاً. ومنه: التوحيد محو آثار البشرية، وتجديد صفات الألوهية. الحق واحد في ذاته لا ينقسم، واحد في صفاته لا يماثل، واحد في أفعاله لا يشارك. لو كان موجوداً عن عدم، ما كان موصوفاً بالقدم. الحياة شرط القدرة، دلت على ذلك الفطرة. لو لم يكن الصانع حياً، لاستحال أن يوجد شيئاً، لو لم يكن باقياً لكان للألوهية منافياً. لو كان الباري جسماً، ما استحق الإلهية اسماً. لو كان الباري جوهراً، لكان للحيز مفتقراً. العرض لا يبقى، والقديم لا يتغير ولا يفنى. لو لم يكن بصفة القدرة موصوفاً، لكان بسمة العجز معروفاً. لو لم يكن عالماً قادراً، لاستحال كونه خالقاً فاطراً. دلت الفطرة والعبرة، أن الحوادث لا تحصل إلا من ذي قدرة. لو لم يكن بالإرادة قاصداً، ما كان العقل بذلك شاهداً. من تنوع إيجاده، دل ذلك على أن الفعل مراده. لو لم يكن بالسمع والبصر موصوفاً، لكان لضديهما مألوفاً. لو جاز سامع لا سمع له، لجاز صانع لا صنع له، لو كان سمعه بأذن، لافتقرت ذاته إلى ركن. من صدرت عنه الشرائع والأحكام، كان موصوفاً بالكلام. ليس في الصفات

_ (1) ق: ربك.

السبع ما لا يتعلق إلا الحياة، ولا ما يؤثر إلا القدرة والإرادة. كما جاز أن يأمر بما لا يريد جاز أن يريد ما لا يحب. لا يسأل عما يفعل. الواحد كاف، وما زاد عليه متكاف. ليس مع الله تعالى موجودات لأن الموجودات كلها كالظل. من نور القدرة له رتبة التبعية، لا رتبة المعية. إن من أشرك بالل ... هـ جهول بالمعاني أحول العقل؛ لهذا ... ظن للواحد ثاني قال جعفر بن محمد: لو كان على شيء لكان محمولاً، ولو كان في شيء لكان محصوراً، ولو كان من شيء لكان محدثاً. قيل لثمامة بن الأشرس: متى كان الله، فقال: ومتى لم يكن فقيل: فلم كفر الكافر فقال: الجواب عليه. قال خادم أبي عثمان: قال لي مولاي: يا محمد، لو قيل لك أين معبودك ما كنت تجيب قال: أقول بحيث لم يزل، قال: فإن قيل لك فأين كان في الأزل فقال: أقول بحيث هو الآن، فنزع قميصه وأعطانيه. قيل لصوفي: أين هو فقال: محقك الله! أيطلب مع العين أين ومنه: سمعت شيخنا يقول: نقصنا صفة كمال له فينا، يعني إذا وجب له كل الكمال وجب لنا كل النقص، وهذا على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وفيه كلام. ومنه: بلغ أحمد أن أبا ثور قال في الحديث " خلق الله آدم على صورته "، إن الضمير لآدم، فهجره، فأتاه أبو ثور، فقال أحمد: أي صورة كانت لآدم يخلقه عليها كيف تصنع بقوله " خلق الله آدم على صورة الرحمن " فاعتذر إليه، وتاب بين يديه. ومنه: أتى يهودي المسجد فقال: أيكم وصي محمد صلى الله عليه وسلم فأشاروا إلى الصديق، فقال: إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي

نبي، قال: سل، قال: فأخبرني عما ليس لله، وعما ليس عند الله، وعما لا يعلمه الله، فقال: هذه مسائل الزنادقة، وهم بقتله، فقال ابن عباس: ما أنصفتموه، إما أن تجيبوه وإما أن تصرفوه إلى من يجيبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي " اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه "، فقال أبو بكر: قم معه إلى علي، فقال له: أما ما لا يعلمه الله فقولكم في عزير أنه ابن الله، والله عز وجل لا يعلم له ولد، فقال في التنزيل " ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " الآية. وأما ما ليس عند الله فالظلم، وأما ما ليس له فالشريك (1) ، فأسلم اليهودي، فقبل أبو بكر رأس علي، وقال له: يا مفرج الكربات، ووردت (2) مثل هذه المسائل عن الصحابة، فالله تعالى أعلم. وقال العتابي لأبي قرة النصراني عند المأمون: ما تقول في المسيح قال: من الله، قال: البعض من الكل على سبيل التجزيء، والولد من الوالد على طريق التناسل، والخل من الخمر على وجه الاستحالة، والخلق من الخالق على جهة الصنعة، فهل من معنى خامس قال: لا، ولكن لو قلت بواحد منها ما كنت تقول قال: الباري لا يتجزأ، ولو جاز عليه ولد لجاز له ثان وثالث وهلم جراً، ولو استحال فسد، والرابع مذهبنا، وهو الحق. ومنه: أول ما تكلم به عيسى في المهد أنه قال " إني عبد الله " وهو حجة على الغالين فيه، يقال لهم: إن صدق فقد كذبتم، وإلا فمن عبدتم، ولمن ادعيتم قال القاضي ابن الطبيب للقسيس لما وجهه عضد الدولة إلى ملك الروم: لم اتحد اللاهوت بالناسوت فقال: أراد أن ينجي الناس من الهلاك، قال:

_ (1) ق: فالشرك. (2) ص: وروي.

فهل درى أن يقتل ويصلب أولاً فإن لم يدر لم يجز أن يكون إلهاً ولا ابناً، وإن درى فالحكمة تمنع من التعرض لمثل ما قلتم إنه جرى. سأل القاضي هذا البطرك عن أهله وولده، فأنكر ذلك النصراني، فقال: تبرئون هذا مما تثبتونه لربكم سوأة لهذا الرأي! فانكسروا. ابن العربي: سمعت الفقراء ببغداد يقولون: إن عيسى عليه السلام كان إذا خلق من الطين كهيئة الطير طار شيئاً ثم سقط ميتاً لأنه كان يخلق ولا يرزق، ولو رزق لم يبق أحد إلا قال " هو الله " إلا من أوتي هداه. سأل ابن شاهين الجنيد عن معنى " مع " فقال: مع الأنبياء بالنظر والكلاءة " إنني معكما " ومع العامة بالعلم والإحاطة " إلا وهو معكم " فقال: مثلك يصلح دليلاً على الله. ومنه: سأل قدري علياً رضي الله عنه عن القدر، فأعرض عنه، فألح عليه، فقال: أخلقك كيف شئت، أو كيف شاء فأمسك، فقال: أترونه يقول كيف شئت إذاً والله أقتله، قال: كيف شاء، قال: أيحييك كيف تشاء أو كيف يشاء قال: كيف يشاء، قال: فيدخلك حيث تشاء أو حيث يشاء قال: حيث يشاء، قال: اذهب فليس لك من الأمر شيء. أبو سليمان: أدخلهم الجنة قبل أن يطيعوه، وأدخلهم النار قبل أن يعصوه، جل حكم الأزل، أن يضاف إلى العلل، سبق قضاؤه فعله " إني جاعل في الأرض خليفة " وأوقفت مشيئته أمره " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ". قال الشاذلي: أهبط آدم إلى الأرض قبل أن يخلقه، لأنه قال " في الأرض " ولم يقل في السماء ولا في الجنة. الأوزاعي: قضى بما نهى، وحال دون ما أمر، واضطر إلى ما حرم: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء

قال الأوزاعي لغيلان: مشيئتك مع مشيئة الله عز وجل أو دونها فلم يجب، فقال هشام بن عبد الملك: فلو اختار واحدة، فقال: إن قال معها فقد زعم أنه شريك، وإن قال وحدها فقد تفرد بالربوبية، قال: لله درك أبا عمرو. من بيان عظمته " رفيع الدرجات " من آثار قدرته " بديع السموات " توقيع أمره " يأمر بالعدل والإحسان " واقع زجره " وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي " تنفيذ حكمه " فعال لما يريد " دستور ملكه " لا يسأل عما يفعل ". إياس بن معاوية: ما خاصمت أحداً بعقلي كله إلا القدرية، قال لقدري: ما الظلم فقال: أخذ ما ليس لك، قلت: فإن الله له كل شيء. الواسطي: ادعى فرعون الربوبية على الكشف، وادعت المعتزلة الربوبية على الستر، تقول ما شئت فعلت. ومنه: ما أقصته السوابق لم تدنه الوسائل، إذا كان القدر حقاً فالحرص باطل، إذا كان الله عز وجل عدلاً في قضاءه فمصيبات الخلق بما كسبت أيديهم: ما عذر معتزلي موسر منعت ... كفاه معتزلياً معسراً صفدا أيزعم القدر المحتوم ثبطه ... إن قال ذاك فقد حل الذي عقدا ومنه: دخل محمد بن واسع على بلال بن فروة فقال: ما تقول في القدر قال: تفكر في جيرانك أهل القبور فإن فيهم شغلاً عن القدر. وكل من أغرق في نعته ... أصبح منسوباً إلى العي المقادير تبطل التقدير، وتنقض التدبير. قال معتزلي لسني: لو أراد ثبوت أحد على الكفر لم يقل " ليخرجكم من الظلمات إلى النور " فقال السني: لو لم يكن الإيمان من

فعله لم يقل {ليخرجكم من الظلمات إلى النور} . قال نقفور طاغية النصارى لأبي الحسن الشلباني (1) : أنت تقول أن الخير والشر من الله وذلك لأن النصارى كلهم على مذهب القرية في الاستطاعة، قال: نعم، قال: كيف يعذب عليه هل كان حقاً أن يخلق فقال: لم يضطره إلى ما خلق مضطر. قيل: نزلت " وما أضلنا إلا المجرمون " في القدرية، لأنهم أضافوا الحول والقوة في الشر إلى البشر فأشركوه في الخلق، أما ترى قوله تعالى: " إن المجرمين في ضلال وسعر " إلى قوله تعالى: " إنا كل شيء خلقناه بقدر ". كنت دهراً أقول بالاستطاعه ... وأرى الجبر ضلة وشناعه ففقدت استطاعتي في هوى ظب ... ي، فسمعاً لمن أنحب وطاعه غيره (2) : ما لا يكون فلا يكون بحيلة ... أبداً، وما هو كائن سيكون غيره (3) : تريد النفس أن تعطى مناها ... ويأبى الله إلا ما يشاء شفاء الصدور، في التسليم للمقدور: إذا لم يكن إلا الأسنة مركب ... فلا رأي للمضطر إلا ارتكابها غيره:

_ (1) كذا في ق ص، ولعل الصواب: " الشباني " - بضم الشين -. (2) ص: ومنه. (3) غيره: سقطت من ق ص.

أي يومي من الموت أفر ... يوم لا يقدر أم يوم قدر إذا كان الداء من السماء، بطل الدواء. قال الحائط للوتد: لم تشقني قال: سل من يدقني. الناس يلحون الطبيب، وإنما ... غلط الطبيب إصابة المقدور (1) قيل لحكيم: أخرج الهم من قلبك، فقال: ليس بإذني دخل. نفسي تنازعني فقلت لها قري ... موت يريحك أو صعود المنبر ما قد قضي سيكون فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدر ولتعلمي أن المقدر كائن ... لا بد منه صبرت أو لم تصبري ومنه: الهارب من المقدور كالمتقلب في كف الطالب. من كان السلطان يطلبه، ضاق عليه مذهبه " وما أنتم بمعجزين " أسلى آية في التنزيل " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم " إلى قوله تعالى " بما آتاكم ". ومنه: أخل رجل بخدمة صاحب الإسكندرية، فتغيب، ثم ظفر به عرفاؤه، فقادوه فانساب منهم، ورمى بنفسه في بئر، وتحت الإسكندرية أسراب يسير فيها القائم من أول البلد إلى آخره، فلم يزل يمشي حتى وجد بئراً صاعدة، فتعلق بها، فإذا هي في دار السلطان، فأخذه فأدبه، فانظر كيف فر من قودة السلطان مكرهاً، وأتاه برجله طائعاً. ذهب القضاء بحيلة العقلاء ... ومنه: قال يزيد بن المهلب لموسى بن نصير (2) : أنت أدهى الناس وأعلمهم،

_ (1) هذا البيت لابن الرومي وقافيته: " الأقدار ". (2) مر هذا في النفح ج 1، ص: 283.

فكيف طرحت نفسك في يد سليمان فقال: إن الهدهد يهتدي للماء في الأرض الفيفاء، وينصب له الصبي الفخ بالدودة أو الحبة فيقع فيه: ولو جرت الأمور على قياس ... لوقي شرها الفطن اللبيب الواسطي: اختيار ما جرى لك في الأزل، خير من معارضة الوقت. ابن معاذ: عجبت من ثلاثة: رجل يريد تناول رزقه بتدبيره، ورجل شغله غدوه، وعالم مفتون يعيب على زاهد مغبوط. ومنه: شكي لبعض الأنبياء امرأة كانت تؤذي أهل زمانها، فأوحى الله إليه: أن فر من قدامها حتى تنقضي أيامها. ومنه: ابن المعتز: كرم الله عز وجل لا ينقض حكمته، ولذلك لا تقع الإجابة في كل دعوة " ولو اتبع الحق أهواءهم ". أريد فلا أعطى، وأعطى ولم أرد ... وقصر علمي أن أنال المغيبا (1) ومنه: كان ابن مجاهد ينشد لبعضهم: أيها المغتدي ليطلب علماً ... كل علم عبد لعلم الكلام تطلب الفقه كي تصحح حكماً ... ثم أغفلت منزل الأحكام ومنه: قال الأحدب البغدادي للقاضي الباقلاني: هل لله عز وجل أن يكلف الخلق ما لا يطيقونه فقال: إن أردتم بالتكليف القول المجرد فقد وجد، " قل كونوا حجارة " " أنبئوني بأسماء هؤلاء " " ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون " وإن أردتم به ما يصح فعله وتركه فالكلام متناقض " وهذا هو الذي نعرفه، لأن التكليف اقتضاء فعل ما فيه مشقة، وما لا يطاق لا يفعل البتة، فقال: سئلت عن كلام مفهوم فطرحته في الاحتمالات، فقال: إني بينت الوجوه المحتملة، فإن اكن معك شيء فهاته،

_ (1) لبشار: (شرح المختار: 118) .

فقال عضد الدولة: قد صدق، وما جمعتكم إلا للفائدة، لا للمهاترة. ثم قال لقاضيه بشر بن حسن المعتزلي: تكلم، فقال: ما لا يطاق على ضربين: أحدهما ما لا يطاق للاشتغال بضده، وهذا سبيل الكافر، لا يطيق الإيمان للاشتغال بالكفر، وأما العاجز فما ورد في الشريعة تكليفه، ولو ورد لكان جائزاً، ولقد أثنى الله عز وجل على من سأله أن لا يكلفه ما لا يطيقه فقال " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " لأن الله له أن يفعل في ملكه ما يريد. ومنه: خرج عمر بن عبد العزيز في سفر ليلاً، فقال له رجل: انظر إلى القمر ما أحسنه، فنظر فقال: قد علمت أنك أردت نزوله بالدبران، ونحن لا نتطير بذلك ولا نعتقده: إذا عقد القضاء عليك أمراً ... فليس يحله إلا القضاء يدبر بالنجوم وليس يدري ... هو رب النجم يفعل ما يشاء [وقال آخر] : ليس للنجم إلى ض ... ر ولا نفع سبيل إنما النجم على الأو ... قات والسمت دليل (1) غيره: من كان يخشى زحلاً ... أو كان يرجو المشتري فإنني منه وإن ... كان أخي الأدنى بري لما وجه عض الدولة القاضي ابن الطيب إلى ملك الروم قال له الوزير (2) :

_ (1) ق: الدليل. (2) أورد القاضي عياض هذا النص في ترجمة الباقلاني في ترتيب المدارك، وهي منقولة في آخر كتاب التمهيد (ط. مصر) ص: 241 - 259 وانظر النص المقصود ص: 250 وما بعدها، والوزير المشار إليه هو أبو القاسم المطهر بن عبد الله.

أخذت الطالع لخروجك فسأله القاضي عن ذلك، ففسره له، فقال: السعد والنحس بيد الله، ليس للكواكب فيه تأثير، وإنما وضعت كتب النجوم ليتمعش بها العامة، ولا حقيقة لها، فاستحضر الوزير ابن الصوفي ودعاه إلى مناظرة القاضي، فقال: لا أقوم على المناظرة، وإنما أقول: إذا كان من النجوم كذا كان كذا، وأما التعليل فمن علم المنطق، والذي يتولى المناظرة عليه أبو سليمان المنطقي (1) ، فأحضر وأمر (2) ، فقال هذا القاضي يقول: إذا ركب عشرة أنفس في ذلك المركب الذي في دجلة فالله تعالى قادر على أن يزيد فيهم آخر في ذلك الوقت، فإن قلت له لا يقدر قطعتم لساني، فأي معنى لمناظرتي فقال القاضي للوزير: ليس كلامنا في القدرة، لكن في تأثير الكواكب، فانتقل هذا إلى ما ترى لعجزه، وأنا إن قلت إن الله تعالى قادر على ذلك فلا أقول إنه يخرق العادة الآن، ولا يجوز عندنا ذلك، فهو فرار من الزحف، فقال المنطقي: المناظرة دربة وأنا لا أعرف مناظرة هؤلاء القوم، وهم لا يعرفون مواضعاتنا، فقال الوزير: قد قبلنا اعتذارك، والحق أبلج. رأس الدين صحة اليقين. من سابق القدر عثر. وإذا خشيت من الأمور مقدراً ... وفررت منه فنحوه تتوجه قيل: لما وقع الوباء بالكوفة فر ابن أبي ليلى على حمار، فسمع منشداً ينشده: لم يسبق الله على حمار ... ولا على ذي منسر طيار أو يأتي الحدف على مقدار ... قد يصبح الله أمام الساري (3) فقال: إذا كان الله أمام الساري فلا مهرب، ورجع.

_ (1) هو محمد بن بهرام السجستاني (حدود 380) صاحب كتاب " صوان الحكمة " وأستاذ التوحيدي، وقد أكثر أبو حيان من ذكر أقواله وأخباره في مؤلفاته. (2) المدارك: وأمر بمكالمة القاضي. (3) عيون الأخبار 1: 144 لبصري هرب من الطاعون.

ومنه: شكا بعض الصالحين إلى الخليفة ضرر الأتراك، فقال: أنتم تعتقدون أن هذا من قضاء الله وقدره، فكيف أرده فقال: إن صاحب القضاء قال: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " فردهم عنهم. القدر والطلب كالعدلين على ظهر الدابة كل واحد منهما معين لصاحبه، فالقدر بالطلب، والطلب بالقدر. قيل لعارف: إن كنت متوكلاً فألق نفسك من هذا الحائط فلن يصيبك إلا ما كتب الله لك، فقال: إنما خلق الله الخلق ليجربه، لا ليجربوه. الجوهري: كف الله النار عن يد موسى لئلا تقول النار: طبعي، واحترق لسانه لئلا يقول الكريم: مكاني، وقال غيره: لو لم يقل لنار إبراهيم " سلاماً " لهلك من برد النار. قيل للجنيد: أنطلب الرزق قال: إن علمتم أين هو فاطلبوه، قيل: فنسأل الله قال: إن خشيتم أن ينساكم فذكروه، قيل: فنلزم البيوت قال: التجربة منك شك، قيل: فما الحيلة قال: ترك الحيلة. يقول: ليكن تصرفك بإذنه، لا بشهوتك، فقد قيل: ترك الطلب يضعف الهمة، ويذل النفس، ويورث سوء الظن. الطرطوشي: القدر والطلب كأعمى ومقعد في قرية، يحمل الأعمى المقعد، ويدل المقعد الأعمى. قال رجل لبشر: إني أريد السفر إلى الشام، وليس عندي زاد، فقال: أخرج لما قصدت إليه، فإنه إن لم يعطك ما ليس لك، لم يمنعك ما لك. الناس في هذا الباب ثلاثة: فرقة عاملت الله عز وجل على مقتدر شمول قدرته للشر والخير، وأعرضوا عن الأسباب، فأدركوا التوكل، وفاتهم الأدب، وهم بعض الصوفية، وقد قيل: اجعل أدبك دقيقاً، وعلمك ملحاً، وهذا

إبليس لم (1) تنفعه كثرة علمه لما دفعته قلة أدبه. وفرقة عاملته على ذلك مع الجريان على عوائد مملكته، والتصرف بإذنه على مقتضى حكمته، وهم الأنبياء وخواص العلماء، فأصابوا الأدب، وما أخطأوا التوكل. والفرقة الثالثة - وهم الجمهور - أقبلوا على الأسباب، ونسوا المسبب، ففاتهم الأمران، فهلكوا. ومنه: جل الواحد المعروف، قبل الحدود والحروف. لقد ظهرت فما تخفى على أحد ... إلا على أكمه لا يعرف القمرا كما بطنت بما أبديت من حجب ... وكيف يبصر من بالعزة استترا سئل النصيبي عن الرؤية بمجلس عضد الدولة (2) ، فأنكرها محتجاً بأن كل شيء يرى بالعين فهو في مقابلتها، فقال له القاضي ابن الطيب: لا يرى بالعين، قال له الملك: فبماذا يرى قال: بالإدراك الذي يحدثه الله في العين وهو البصر، ولو أدرك المرئي بالعين لوجب أن يدرك بكل عين قائمة، وهذا الأجهر عينه قائمة ولا يرى بها شيئاً. ومنه: ابن العربي: للصوفية في إطلاق لفظ العشق على الحق تجاوز عظيم، واعتداء كبير، ولولا إطلاقه للمحبة ما أطلقناها، فكيف أن نتعداها الدقاق: العشق مجاوزة الحد في الحب، ولما كان الحق لا يوصف بالحد لم يوصف بالمحدود، إذ لو جمع محاب الخلق كلهم لشخص واحد لم يبلغ ما يستحقه قدر الحق من الحب. خمسة أبهمت، فلم تعين (3) لعظم أمرها: الاسم الأعظم، وساعة الجمعة، وليلة القدر، والصلاة الوسطى، والكبائر: لأن اجتنابها يكفر غيرها، يعني على أحد الأقوال في المسألة.

_ (1) ق ص: لا. (2) انظر هذا الخبر في أزهار الرياض 3: 82 وترجمة الباقلاني السابقة: 249. (3) فلم تعين: سقطت من ق.

ومنه: قيل في التسعة والتسعين اسماً: إنها تابعة لاسم الله، وهو تمام المائة، فهي عدد درج الجنة، لما في الصحيح من أن درجها مائة، بين كل درجتين مسيرة مائة عام، ولذلك قيل: من أحصاها دخل الجنة، وهذه الأسماء مفضلة على غيرها مما لا يحصى، ألا ترى قوله عليه السلام في الصحيح: بأسمائه الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم ذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعاً منه، فلم يشر في شيء منها إلى خلقه، وذكر الإنسان في ثمانية عشر موضعاً ثلث ذلك العدد فصرح في جميعها بخلقه، قال ابن عطية: وهذا يدل على أنه غير مخلوق. أبو علي ابن أبي اللحم: بت ليلة جمعة بمصر في أيام أبي حريش، وكان يقول بخلق القرآن، وأبي خلف المعافري، وكان يقول: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، أفكر عن أيهما آخذ، فلما نمت أتاني آت فقال لي: قم، فقمت، قال: قل، فقلت: ما أقول فقال: لا والذي رفع السما ... ء بلا عماد للنظر فتزينت بالساطعا ... ت اللامعات وبالقمر والمالئ السبع الطبا ... ق بكل مختلف الصور ما قال خلق في القرآ ... ن بخلقه إلا كفر لكن كلام منزل ... من عند خلاق البشر ثم قال: اكتبها، فأخذت كتاباً من كتبي وكتبتها فيه، فلما أصبحت وجدت ذلك بخطي على كتاب من كتبي، فجلست في البيت إلى الزوال ثم خرجت فسألني إنسان عما رأيت البارحة، فقلت: ما أخبرت أحداً، فقال: قد شاعت رؤياك في الناس. الخواص: انتهيت إلى رجل مصروع، فجعلت أؤذن في أذنه، فناداني الشيطان من جوفه: دعني أقتله، فإنه يقول بخلق القرآن.

عمرو بن دينار: أدركت سبعة من الصحابة يقولون: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، قلت: قال مالك: يستتاب. ومنه (1) : كان عضد الدولة يحب العلم والعلماء، فكان مجلسه يحتوي على عدد منهم أكثرهم الفقهاء والمتكلمون، وكان يعقد لهم مجالس للمناظرة، فقال لقاضيه بشر بن الحسن: إن مجلسنا خال من عاقل من أهل الإثبات ينصر مذهبه، فقال: إنما هم عامة يرون الخير وضده، ويعتقدونهما جميعاً، وإنما أراد ذم القوم، ثم أقبل يمدح المعتزلة، فقال عضد الدولة: محال أن يخلو مذهب طبق الأرض من ناصر فانظر، قال: بلغني أن بالبصرة شيخاً يعرف بأبي الحسن الباهلي، وفي رواية أبي بكر ابن مجاهد، وشاباً بابن الباقلاني، فكتب إليهما، فلما وصل الكتاب قال الشيخ: قوم كفرة - لأن الديلم كانوا روافض - لا يحل لنا أن نطأ بساطهم، فقال الشاب: كذا قال ابن كلاب والمحاسبي ومن في عصره: إن المأمون فاسق لا يحضر مجلسه، حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس، وجرى عليه ما عرف، ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر، وتبين له ما هم عليه بالحجة، وأنت أيضاً أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد. ويقولون بخلق القرآن ونفي الرؤية، وها أنا خارج إن لم تخرج، قال الشيخ: إن شرح الله صدرك لهذا فاخرج، فرد الله به الكرة. حفظ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم المنتقى والمرسل أمثال المنزل، ثم انتقي من ذلك صحة وفصاحة ما يبلغ حجم المصحف أو يربي عليه، فهل وجدت فيه ما يشبه أو ينزع إليه أشهد أنه من عند الله، تنزيل من لدنه. أول إعجاز القرآن الجهل بنوعه من جنس الكلام، فإنه لا يدخل في مضمار الشعر، ولا ينخرط في سلك الخطب، ولا المواعظ والمقامات والكتب، ولا في شيء مما يؤلف التخاطب به، وتعرف فيه طبقات أهل مذهبه، فإن

_ (1) راجع هذا الخبر في أزهار الرياض 3: 79 وترجمة الباقلاني السابقة: 246 وما بعدها.

لم يتبين ما رسمت لك فاعرض كلامك في كل صنف من هذه الأصناف تجد لنفسك مع فحوله حالة القصور أو المماثلة أو الزيادة، ولا تجد لكلامك نسبة إلى القرآن، بل لا تدري ما تقول إن طلب منك البيان، إلا أن تسلب العقل، كمسيلمة وأمثاله ممن ابتلي بالهذيان، وقد تفطن للدلالة كافر غلبت عليه الجهالة، انظر المسيرة. الزمخشري: ما أعجب شأن الضلال، لم يرضوا للنبوة ببشر، وقد رضوا للإلهية بحجر. سأل القاضي أبا بكر (1) ملك الروم - حين وجهه عضد الدولة إليه - عن انشقاق القمر، كيف لم يره جميع الناس فقال: لأنهم كانوا على أهبة ووعد، قال: فما النسبة التي بينكم وبين القمر حتى لم يره غيركم من الروم وغيرهم قال: النسبة التي بينكم وبين المائدة حتى رأيتموها دون اليهود والمجوس، فدعا القسيس، فأقر للقاضي، فقال له القاضي: أتقول إن الكسوف يراه جميع أهل الأرض أم أهل الإقليم الذي في محاذاته قال: لا يراه إلا من في محاذاته، قال: فما تنكر من لا يرى انشقاق القمر إلا في تلك الناحية ممن تأهب لذلك قال: هذا صحيح، إلا أن الشأن في مثله أن لا ينقل آحاداً، لكن تواتراً، بحيث يصل العلم الضروري به إلينا وإلى غيرنا، وانتفاء ذلك يدل على افتعال الخبر، فقال الملك للقاضي: الجواب، فقال: يلزمه في نزول المائدة ما ألزمنا في انشقاق القمر، فبهت الذي كفر. قال ملك الروم للقاضي ابن الطيب في هذه الرسالة: ما تقول في المسيح قال: ولا تقولون إنه ابن الله قال: ما اتخذ الله من ولد، قال: العبد يخلق ويحيي ويبرئ قال: ما فعل المسيح ذلك قط، قال: هذا مشهور في الخلق،

_ (1) انظر المصدرين السابقين.

قال: لا، قال: ما قال أحد من أهل المعرفة إن الأنبياء يفعلون المعجزات، لكن الله تعالى يفعلها على أيديهم تصديقاً لهم، قال: إن ذلك في كتابكم، قال: في كتابنا أن كله بإذن الله تعالى، ولو جاز أن يكون ذلك فعل المسيح لجاز أن يقال إن موسى قلب العصا، وأخرج يده بيضاء، وفلق البحر، قال إن الأنبياء من لدن آدم كانوا يتضرعون للمسيح حتى يفعل ما يطلبون، قال: أفي لسان اليهود عظم لا يقولون معه إن المسيح كان يتضرع لموسى، وكذلك أمة كل نبي، لا فرق بين الموضعين في الدعوى. الجوزي في قوله عليه السلام " يوشك أن ينزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم " إنما كان الإمام منا لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجه " لا نبي بعدي ". كان بالبصرة يهودي يقرر المتكلمين على نبوة موسى، فإذا أقروا جحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال: نحن على ما اتفقنا عليه، إلى أن نتفق على غيره، فسأل أبا الهذيل عن ذلك فقال: إن كان موسى هذا الذي أخبر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأقر بشرفه وأمر باتباعه فأنا أقر بنبوته، وإن كان غيره فأنا لا أعرفه، فتحير اليهودي، ثم سأله عن التوراة، فقال: إن كانت التي نزلت على موسى المذكور فهي حق، وإلا فهي عندي باطل. ومنه: قيل للحسن: الملائكة أفضل من الأنبياء فقال: أين أنت من هذه الآية " ولا أقول إني ملك ". ومنه: وعن عمر وعلي - رضي الله عنهما - أن الحضر لقيهما وعلمهما هذا الدعاء، وذكر فيه خيراً كثيراً لمن قاله في إثر كل صلاة: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ومن لا يتبرم على إلحاح الملحين، أذقني برد عفوك، وحلاوة مغفرتك. ومنه: سمع إياس يهودياً يقول: ما أحمق المسلمين! يزعمون أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون، فقال: أوكل ما تأكله تحدثه قال: لا؛ لأن الله تعالى يجعل أكثره غذاء، قال: فما تنكر أن يجعل

جميع ما يأكل أهل الجنة غذاء الرزية كل الرزية، تضييع أمر المرأة الرندية، وذلك لأنه وردت على تلمسان في العشرة الخامسة من المائة الثامنة امرأة من رندة لا تأكل ولا تشرب ولا تبول ولا تتغوط وتحيض، فلما اشتهر هذا من أمرها أنكره الفقيه أبو موسى ابن الإمام، وتلا " كانا يأكلان الطعام " فأخذ الناس يبثون ثقات نسائهم ودهاتهن إليها، فكشفن عنها بكل وجه يمكنهن، فلم يقفن على غير ما ذكر، وسئلت: هل تشتهين الطعام فقالت: هل تشتهون التبن بين يدي الدواب وسئلت: هل يأتيها شيء فأخبرت أنها صامت ذات يوم فأدركها الجوع والعطش، فنامت فأتاها آت في النوم بطعام وشراب، فأكلت وشربت، فلما أفاقت وجدت نفسها قد استغنت، فهي على تلك الحال، تؤتى في المنام بالطعام والشراب إلى الآن، ولقد جعلها السلطان في موضع بقصره وحفظها بالعدول ومن يكشف عما عسى تجيء أمها به إذا أتت أربعين يوماً، فلم بوقف لها على أمر، بيد أني أردت أن يزاد في عدد العدول، ويجمع إليهم الأطباء، ومن يخوض في المعقولات من علماء الملل المسلمين وغيرهم، ويوكل من نساء الفرق من يبالغ في كشف من يدخل إليها، ولا يترك أحد يخلو بها، وبالجملة يبالغ في ذلك، ويستدام رعيها عليه سنة، لاحتمال أن يغلب عليها طبع فتستغني في فصل دون فصل، ثم يكتب هذا في العقود، ويشاع أمره في العالم، وذلك لأنه يهدم حكم الطبيعة الذي هو أضر الأحكام على الشريعة، ويبين كيفية غذاء أهل الجنة، وأن الحيض ليس من فضلات الغذاء، ويبطل التأثير والتولد، ويوجب أن الاقترانات بالعادات، لا باللزوم، وعند الأسباب، لا بها، إلى غير ذلك، إلا أني لما أشرت انقسم من أشرت عليه بتبليغه إلى من لم يفهم ما قلت، ومن لم يرفع به رأساً، لإيثار الدنيا على الدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد ذكر أن امرأة أخرى كانت معها على تلك الحالة، وحدثني غير واحد

من الثقات ممن أدرك عائشة الجزيرية أنها كانت كذلك، وأن عائشة بنت أبي يحيى اختبرتها أربعين يوماً أيضاَ، وكم من آية أضيعت (1) ، وحجة نسيت. هذا مما لم يعرف مثله قبل المائة الثامنة، وكذلك الوباء العام القريب فروطه، يوشك أن يطول أمره، فينسى ذكره، ويكذب المحدث به إذا انقضى عصره، وكم فيه أيضاً من أدلة، على أصول الملة. ومنه: قال شيخ صالحي الفقهاء في عصرنا بفاس أبو زرهون عبد العزيز ابن محمد القيرواني رحمه الله تعالى: مات فقير عندنا بالمئذنة (2) ، فوجدوا عنده ربطة من دراهم، فوضعوها عند المؤذن، فلما نزل ليلحده سقطت من جيبه في القبر، ولم يشعر حتى واراه، فكشف عنه، فإذا الدراهم قد لصقت ببدنه درهماً إلى درهم كالنجوم، فحاول قلع واحد منها فقامت معه قطعة من لحمه، وتبعها من ذلك المحل ريح منتنة، قال الشيخ: على ذلك وشاهدته ثم ردوا الترب عليه وانصرفوا. قال عبد الله بن إدريس لغيلان الممرور: متى تقوم الساعة قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، غير أنه من مات فقد قامت قيامته، قال: فالمصلوب يعذب عذاب القبر قال: إن حقت عليه الكلمة، وما تدري لعل جسده في عذاب لا تدركه أبصارنا ولا أسماعنا، فإن لله لطفاً لا يدرك، وانظر الحديث " فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم ما أسمع من عذاب القبر ". ومنه: المازري: مسألة التكفير بالمال مشكلة، وقد اضطرب فيها قول مالك وهو إمام الفقهاء، والقاضي أبي بكر وهو إمام المتكلمين. الغزالي: لا يقطع بتفكير الفلاسفة إلا في ثلاث مسائل: قدم العالم، ونفي العلم بالجزئيات، وإنكار المعاد البدني وتوابعه القطعية.

_ (1) ق: أضعفت. (2) ق: عند باب المئذنة؛ ص: عندنا بالبادية.

أصل الفلاسفة اعتقاد المحسوسات معقولات، والمعتزلة اعتقاد المشهورات قطعيات، ومن ثم قيل لهم: مخنثة الفلاسفة. لا يكفي التقليد في عقائد التوحيد، لا فرق بين إنسان ينقاد، وبهيمة تقاد. ومنه: كان أبو هاشم من أفسق الناس، فجلس ذات يوم يعيب الإرجاء وكان في المجلس مرجئ، فأنشد: يعيب القول بالإرجاء حتى ... يرى بعض الرجاء من الجرائر وأعظم من ذوي الإرجاء ذنباً ... وعيدي يصر على الكبائر كان مالك ينشد كثيراً (1) : وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع ابن عقيل: يشبه أن يكون واضع الإرجاء زنديقاً، فإن صلاح العالم في إثبات الوعيد واعتقاد الجزاء، فلما لم يكن هذا المائن جحد الصانع لمخالفة العقل، أسقط فائدة الإثبات، وهي الخشية والمراقبة، وهدم سياسة الشريعة، فهم شر طائفة على الإسلام. سئل مالك عن أشر الطوائف، فقال: الروافض. بينا ابن المعلم شيخ الرافضة في بعض مجالس المناظرة مع أصحابه أقبل ابن الطبيب فقال: جاءكم الشيطان، فسمعه على بعد، فلما جلس إليهم تلا عليهم {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً} (مريم: 83) . مالك: أهل السنة من لا لقب له: لا خارجي، ولا قدري، ولا رافضي. البديع (2) : يقولون لي: ما تحب الوصي ... فقلت: الثرى بفم الكاذب

_ (1) ق: كثيرا ما ينشد. (2) ديوان بديع الزمان: 8 (ط. مصر 1903) .

أحب النبي وآل النبي ... وأختص آل أبي طالب وأعطي الصحابة حق الولاء ... وأجري على السنن الواجب فإن كان نصباً ولاء الجميع ... فإني كما زعموا ناصبي وإن كان رفضاً ولاء الجميع (1) ... فلا برح الرفض من جانبي أحب النبي وأصحابه ... فما المرء إلا مع الصاحب أيرجو الشفاعة من سبهم ... بل المثل السوء للضارب يوقى المكاره قلب الجبان ... وفي الشبهات يد الحاطب أخذ البيت الخامس من قول الشافعي: إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي ومنه: أبو حنيفة: لقيت عطاء فقال لي: ممن أنت فقلت: من أهل الكوفة، فقال: من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً قلت: نعم، قال: فممن أنت منهم قلت: ممن يؤمن بالقدر، ولا يسب السلف، ولا يكفر بالذنب، قال: عرفت، فالزم. ومنه: الإرادة تطلق على المحبة، وعلى قصد أحد الجائزين بالتخصيص، وكل واحد من المعنيين يوجد بدون الآخر، أما الأول فكقوله: تريد النفس أن تعطى مناها ... وهو ظاهر، وأما الثاني فكقصد المتوعد بالإهلاك إلى أمر عبده الذي أمره بأمر (2) لينظر امتثاله، ولدقة الفرق بينهما ضل المعتزلة في أمرهما فقالوا: إن الله عز وجل لا يريد المعاصي، لأنه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، قال عمار بن ياسر يوم صفين:

_ (1) الديوان: ولاء الوصي. (2) ق ص: أمر أن يأمره.

صدق الله وهو للصدق أهل ... وتعالى ربي وكان جليلا رب عجل شهادة لي بقتل ... في الذي قد أحب قتلاً جميلا ومنه: العبدري: قتل الحسين دعا إلى حرب، وأخذ بثأره كذاب ثقيف، ونوه باسمه أعداء ملة جده بنو عبيد ليقتص من قضية بمثلها، فيقرأ الفهم سورة تلك الصورة، ويتهجى اللبيب حروف تلك الحروب، فيعلم أن الكل آلات مستعملات، حسبما اقتضاه العلم القديم. ومنه (1) : أبو العباس الأبياني: ثلاث لو كتبت على ظفر لوسعهن، وفيهن خير الدنيا والآخرة: اتبع لا تبتدع، اتضع لا ترتفع، اتزع لا تتسع. ومنه: كانت سكينة بني إسرائيل في التابوت، فغلبوا عليها، وسكينة هذه الأمة في القلوب، فغلبوا بها، استحفظوا كتابهم فحرفوا من أحكامه ووصفه، وحفظ كتابنا فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ومنه: في الصحيح: كان أبو ذر يقسم قسماً أن " هذان خصمان اختصموا في ربهم " نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة وعتبة وشيبة والوليد، قلت: ففي الآية شهادة من الله تعالى لعلي بالجنة والشهادة، أما الجنة فبنصها، وأما الشهادة فلأنه وصاحبيه استشهدوا (2) ، وخصمهم قتلوا، فهي رادة على الخوارج قطعاً. ومنه: جاز أبو بكر ابن نافع بالكرخ أيام الديلم وقوة الرفض، فقالت له امرأة: سيدي أبا بكر، فقال: لبيك يا عائشة، فقال له: متى كان اسمي عائشة فقال أيقتلونني وتخلصين وفي آخر هذا الكتاب ما صورته: فهذه جملة تراجم، وفيها مقنع لمن أراد المحاضرة، أو تنميق مجالس المناظرة، وكان الفراغ من جمعها في آخر

_ (1) ق: قال. (2) ق ص: فلأن صاحبيه استشهدا.

يوم من شعبان المكرم من عام سبعة وخمسين وسبعمائة؛ انتهى ما تعلق به الغرض من بعض كلام مولاي الجد رحمه الله تعالى في كتابه المحاضرات. ولنرجع إلى سرد ما بقية تواليفه رحمه الله تعالى فنقول: ومنها " شرح لغة قصائد المغربي الخطيب "، و " مقالة في الطلعة (1) المملكة "، وشرح التسهيل، والنظائر، وكتاب المحرك لدعاوى الشر من أبي عنان، وإقامة المريد، ورحلة المتبتل، وحاشية بديعة جداً على مختصر ابن الحاجب الفقهي، فيها أبحاث وتدقيقات لا توجد في غيرها، وقد وقفت عليها بالمغرب، ومن أشهر كتبه في التصوف كتاب الحقائق والرقائق وهو من الحسن بمكان لا يلحق، وقد شرحه الشيخ الصالح شيخ شيوخ (2) شيوخنا سيدي أحمد زروق رضي الله عنه ونفعنا به. [نقول من كتاب الحقائق والرقائق للمقري] وقد سنح لي أن أسرد هنا شيئاً من هذا الكتاب الفذ في بابه فنقول: قال قيه مولاي الجد رحمه الله تعالى: هذا كتاب شفعت فيه الحقائق بالرقائق، ومزجت المعنى الفائق باللفظ الرائق، فهو زبدة التذكير، وخلاصة المعرفة، وصفوة العلم، ونقاوة العمل، فاحتفظ بما يوحيه إليك فهو الدليل، وعلى الله قصد السبيل. حقيقة - عمل قوم على السوابق وقوم على اللواحق والصوفي من لا ماضي له ولا مستقبل، فإن كان زجاجياً فبخ بخ. رقيقة - من لم يجد ألم البعد، لم يجد لذة القرب، فإن اللذة هي التخلص من الألم.

_ (1) ص: الطلقة. (2) شيوخ: سقطت من ق.

حقيقة - لما انطبعت الصور في مرآة الخيال قال العقل: أنا الملك المكوكب، فقالت الرياضة: الزمني وتعرف قدرك، فإذا العقل عقال. رقيقة - من ضحك في نوم الغفلة بكى عند الانتباه، فإن الأضغاث أضداد. حقيقة: أثر الزهد عقل دن سقراط على سراج غوطة أبي نصر، فقيل: فأين اعتبار " أفلا ينظرون " فقال: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون ". رقيقة: طالب الدنيا يخاف الفوت، وصاحبها يترقب الزوال ولو بالموت، فإذا حمي الوطيس، وحج الرئيس، أنشأ الزاهد بينهما ينشد: عزيز النفس لا ولد يموت ... ولا أنس يحاذره يفوت حقيقة - العابد طالب رياسة وحرمة، والزاهد صاحب نفاسة وهمة، والمعنى للعارف يعادي في لله تعالى ويوالي، ويرضي الله ولا يبالي. رقيقة - من سابق سبق ومن رافق ارتفق، ومن لاحق التحق والعجز والكسل مقدمتا الخيبة، و: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... حقيقة - العمل دواء القلب، وإذا كان الدواء لا يصلح إلا إذا كان على حمية البدن، فكذلك العمل لا ينجح إلا بعد صوم النفس، فارق نفسك وتعال. رقيقة - مثل دواعي الخير والشر في الإنسان كمثل الخلط الفاعل والقوة الدافعة في العليل، تغلب القوة فيسكن الخلط فيجد الراحة، وعن قليل يتحرك فيجد الألم. حقيقة - العمل على السلامة مسالمة، وعلى الغنيمة تجارة، وعلى الأمر قرض، فيضاعف له أضعافاً كثيرة. رقيقة - تطهر من أدناس هواك، وتزين بلباس تقواك، وقم لمسجد انقطاعك

على قدم شكواك، وأحرم بتوجيه قلبك إلى قبلة نجواك، تجد الحق عندك وليس بسواك. حقيقة - وجد العارف فجاد بنفسه، فوجد الله عنده، وتواجد المريد فحاكى، ومن لم يبك تباكى. رقيقة - زك نفسك لقلبك، تزك عند ربك، بعها منه رخيصة، فهي على ثمنها لديه حريصة " إن الله اشترى..... ". حقيقة - الزوال وقت المناجاة، فطهر قلبك قبله من الحاجات، وإياك والحظ، فذهاب نقطته أسرع من اللحظ. رقيقة - الزاد لك وهو مكتوب، والزائد عليك وهو مسلوب، فأجمل في طلب المضمون، ولا تلزم نفسك صفقة المغبون. حقيقة - أمر بالتوكل لتقصر الطرف عليه، وأذن في التسبب لتنصرف منه إليه، فذاك مخبر بحقيقة التفرد وهذا مظهر لحكمة التعبد. رقيقة - الملك أبو الدنيا، وهو مع ذلك محبوس فيها، تبهم عليه الأبواب، ويستدعي الحراس والحجاب، فإذا خرج حدقت إليه الألحاظ وأحدقت بجهاته الحفاظ، أي حظ حظ من فقد نعمة " فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ". حقيقة - قال صاحب الزهر الأنيق: علا مات المحبة أربع الإفلاس، والاستئناس، والأنفاس، والوسواس. قلت: الإفلاس التجرد إلا عنه كالخليل، والاستئناس التوحش إلا منه كالكليم، والأنفاس والوسواس صلة الاسم وعائده. رقيقة - ذكر مذكر بمالقة، فقام الخطيب الشيخ الولي أبو عبد الله الساحلي بهذا البيت: ليت شعري أفي زمام رضاكم ... كتب اسمي أم في زمام (1) الهوان

_ (1) ق: ذمام؛ والزمام: الديوان.

وكنت يوماً مع السلطان والجند يعرضون عليه، وكان يسقط ويثب، وأنا أتفكر في البيت، حتى خفت أن أفتضح، فقلت: واهماه من هذا الإبهام! ثم كدت أخلد بقبح العمل إلى الأرض فينشلني (1) حسن الظن بالله عز وجل فأنهض: إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجز بالحازم (2) حقيقة - إذا قابل إبرة القلب مغناطيس الحسن صبا فانجذب، فإذا اتصل عشق فانقطع، فإذا انجد فني فبقي، حاشا الصوفي أن يموت. رقيقة - افتخر الغراب بإقامة قرآن الفجر، حتى تغسل بول الشيطان من أذنك، فطرب الديك فرحاً بالفوز، وندب العصفور ندماً على الفوت. حقيقة - الخلوة بيت الاعتبار، وفي بيته يؤتى الحكم، وباب هذا البيت العلم " وائتوا البيوت من أبوابها ". رقيقة - واقع فقير هناة، ثم دخل خلوته، فبدت له نفسه بوجه مومسة، فقال: ما أنت قالت أم الحياة، فقال: ما أجمل أن تبدل هائك همزة، فقالت: إذن لم تصنع ما شئت، فانتبه لقرع العتاب (3) ، فتاب. حقيقة - القلب إيوان الملك ويسعني، وعز الملك يأنف عن ذل المزاحمة، أنا أغنى الشركاء عن الشرك. رقيقة - لما وضع البسطامي أوزار حوبه، فك طابع الصحيفة عن قلبه، فلم يجد بها غير الطفرى، فصاح بنفسه لك البشرى، انزل طيفور عما تريد، ليس في الدار أبو يزيد. حقيقة - قال شيخنا أبو هادي يوماً لأصحابه: بماذا يرتقي العبد عن مقامه إلى

_ (1) ص: فينشدني. (2) ص: بالقادر. (3) ق: الباب.

مقام أعلى منه قالوا: بفضل الله ورحمته، فقال: إنما أسألكم عن السبب الخاص بهذا الأمر، قالوا: ما عند الشيخ قال: يخلق الله له همة فيرتقي بها إلى رتبة أسمى من رتبته. ومن هذا الكتاب: حقيقة: التفت إلى مواهب الملوك تجدهم إنما يوسعون فيما قد يسترجعون، فأما العلماء وكل من يعطي بحق فإنما يعطون بقصد " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم " واصبر نفسك دونهم فعن قريب تنصرف عنهم. رقيقة - قلت لقلبي: كيف تجدك فقال: أما من أمارتك ففي عناء الجهاد، وأما من لوامتك فعلى جمر الصبر، قلت: فمتى الراحة قال: إذا اطمأنت النفس، فاضمحل الوهم وغاب الحس. حقيقة - قطع السوى طهارة المنيب، ولا يقبل الله صلاة بغير طهور، وكتابه النحيب، والمكاتب عبد ما بقي عليه، وبابه الدخول على الحبيب. نظر رجل إلى امرأة عفيفة فقالت: يا هذا غض بصرك عما ليس لك، تنفتح بصيرتك فترى ما هو لك. رقيقة - لما حنكت الطينة بتمر (1) الجنة، وغذيت بلبانها، فطرت على محبتها - انظروا إلى حب الأنصار التمر - فلم تطق الفطام عنها. وتأبى الطباع على الناقل (2) ... فذاك ما تجد من الحنين إلى التلاق، والأنين على الفراق، والشغف بمدح العابر، وذم الغابر، وفي ذلك (3) :

_ (1) ق ص: بثمر. (2) شطر بيت لأبي الطيب وصدره: يراد من القلب نسيانكم. (3) البيت للمعري من قصيدته: " عللاني فإن بيض الأماني ... ".

كم أردنا ذاك الزمان بمدح ... فشغلنا بذم هذا الزمان وإن لم تعرف عصراً خالياً، ولا خلاً نائياً، لم يمر عليك مما تشتهيه، أطيب مما أنت فيه (1) : كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأول منزل ومنه: حقيقة - قيل: عرض الكليم بطلب القوت في رحلة الهجرة " إني لما أنزلت إلي من خير فقير " فحمل على كاهل " إن أبي يدعوك " وصرح في سفر التأديب " لو شئت لاتخذت عليه أجراً " فحمل على كاهل " هذا فراق بيني وبينك " قلت: لما تمحض الطلب له اكتفى، فلما تعلق حق الغير به وفى، ولذلك قضى أبا المرأتين الأجلين. رقيقة - كان قد خرق السفينة إراءة لكرامة " فاقذفيه في اليم " في مرآة {وكان وراءهم ملك} (الكهف: 79) . وربما صحت الأجسام بالعلل (2) ... وقتل الغلام إشارة إلى اشتمال قتله " فقضى عليه " على رحمة " فنجيناك من الغم " برمز " فخشينا أن يرهقهما " والمحن الصم حبائل المنح، وإقامة الجدار إثارة لفتوة " فسقى لهما " ليخفض له جناح " إني لما أنزلت إلي من خير فقير " فيستظل من حر " لو شئت لاتخذت عليه " في نية " هذا فراق بيني وبينك "

_ (1) البيت لأبي تمام. (2) عجز بيت للمتنبي وصدره: " لعل عتبك محمود عواقبه ".

حقيقة: قيل لمحمد بن حسن الزبيدي التونسي وأنا عنده بها: كيف لم يصبر الكليم وقد ناط الصبر بالمشيئة " ستجدني إن شاء الله صابراً " وقد جاء في الصحيح في قصة سليمان عليه السلام " لو قال إن شاء الله لكان كما قال " والمقام الموسوي أجل " واصطنعتك لنفسي " وطلابه أفضل ما جميع أعمال البر والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر، فقال: كان موسى على علم من علم الله، وهو علم المعاملة، لا يعلمه الخضر، وكان الخضر على علم من علم الله لا يعلمه موسى، فلم يظن أن ما لم يحط به خبراً يأباه حكم الظاهر، وإلا كيف يلتزم الصبر عليه، وقد أمر بصرف الإنكار إليه " ما منعك إذ رأيتهم ضلوا " بل لم يعد مثله من ملاقاة المشاق، فيما كان عليه الخضر من اختراق الآفاق، وركوب الطباق، فما عقله بقوله، فقد صدقه بفعله، وما لم يستطع عليه صبراً، فلم يدخل في التزامه اعتقاداً ولا ذكراً. رقيقة - قال لي عبد الرحمن بن يعقوب المكتب: كان عندنا بالساحل سائح هجيراه: إلهي بسطت لي أملي، وأحصيت علي عملي، وغيبت عني أجلي، ولا أدري إلى أي الدارين يذهب بي، لقد أوقفتني موقف المحزونين ما أبقيتني. حقيقة - تنازع القلب والنفس الخلق، فقسمها بينهما قاضي العقل، فمن باع منهما حظه فلا شفعة لصاحبه عليه. ومنه: حقيقة - الحجب ثلاثة: فحجاب الغيرة منع، وحجاب الحيرة دفع، وحجاب الغفلة قطع " أولئك كالأنعام بل هم أضل " رقيقة - اللحم أيام التشريق مكروه، وكل لذة عند أرباب الدنيا كاللحم عندك أيام الأضحى، فلا ترينك الغفلة عن سرك زيادة النعمة عندك. حقيقة - الفقر إلى الله الاستغناء به عما سواه، وهوية الرضى بالله أن لا يخطر بالبال إلاه.

ومنه: حقيقة - التلون مجون، تارة طرباً وطوراً (1) شجون، والتمكن معرفة، وأين الحال من الصفة رقيقة - قال لي محمد بن عبد الواحد الرباطي: قال لي محمد بن عبد السيد الطرابلسي: دخلت على أبي الحسن الحرالي فقلت له: كيف أصبحت فأنشد: أصبحت ألطف من مر النسيم سرى ... على الرياض يكاد الوهم يؤلمني من كل معنى لطيف أحتسي قدحاً ... وكل ناطقة في الكون تطربني حقيقة - قال الطالب: الوقت سيف، وقال الواصل: بل مقت، فتلا العارف {قل الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} (الأنعام: 91) . رقيقة - لصاحب الوقت يومان: يوم بأرواح يباع ويشترى ... وأخوه ليس يسام فيه بدرهم وفصل الفضل (2) بينهما: وما تفضل الأيام أخرى بذاتها ... ولكن أيام الملاح ملاح ومنه: حقيقة - قال لي الشيخ أبو عبد الله محمد بن مرزوق العجيسي بعباد تلمسان: قال لي أبو عبد الله ابن حيون: إنه وجد على ظهر كتاب بخط عتيق: قال أبو يزيد البساطي: يظهر في آخر الزمان رجل يسمى شعيباً، لا تدرك له نهاية، قالا: وهو أبو مدين، قلت: وقف بظاهره مع الشريعة، وذهب ببطانه مع الحقيقة، فما انقطع لصحة البداية، ولا رجع لعدم الغاية.

_ (1) ق: وتارة. (2) ق: وفصل القضاء.

رقيقة - قمت ببعض الأسحار، على قدم الاستغفار، وقد استشعرت الصبابة، واستدثرت الكآبة، فأملى الجنان على اللسان، بما نفث في روعه روح الإحسان: منكسر القلب بالجنايا ... يدعوك يا مانح العطايا أقعده الذنب عن رفيق ... حثوا لرضوانك المطايا ومنه، إثر حقيقة في شأن الحلاج ما نصه، ثم قلت: ولرب داع للجمال أطعته ... وأبى الجلال علي أن أتقدما فأطعت بالعصيان أمرهما معاً ... وجنحت للتسليم كيما أسلما ومنه: حقيقة - قلت للسر: ما لك تحس من خلف الموانع فقال: خرق شعاعي سور العوائق، ثم انعكس إلي بصور الحقائق، فأصبحت كما قيل: كأن مرآة عين الدهر في يده ... يرى بها غائب الأشيا فلم يغب رقيقة - الليل رداء الرهبة، تهاب الجبان فيه الأبطال، وتتقي الحواس دونه الخيال " إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً " حقيقة - النهار معاش النفس، فهو استعداد " إن لك في النهار سبحاً طويلاً " والليل رياش الأنس، فهو معاد " واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً " فهذا جمع وذلك فرق، والحال أسرع ذهاباً من البرق. ومنه: حقيقة - إن أكبرت النفس حالها، فذكرها أصلها ومآلها، فإنها تصغر عند ذلك، وتستقيم بك على أرض المسالك احثوا التراب في وجوه المداحين " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ".

رقيقة - إنما يتعاظم من يجد الحقارة من نفسه، ويتوهم المهانة عند أبناء جنسه، فذلك تراه مغمزاً للعيون، مهمزاً للظنون؛ من أسر سريرة حسنة كساه الله رداءها. رقيقة - رأيت الملوك لا يشمتون، ولا يدعى لهم إلا بما يتعلق بأغراض الدنيا، وأكثر ذلك مما تحيل عقوده العوائد، فعلمت أن الدنيا ضد الآخرة. حقيقة - من لم يفر خور وذلك الجبن، من خاف أدلج ورجا، من لم يكر تمن وتلك الزمانة " يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً ". رقيقة - سمعت أبا محمد المجاصي يقول: رويت بالسند الصحيح أن عابداً رابط ببعض الثغور مدة فكان كلما طلع الفجر يسمع من ينشد دون أن يرى شيئاً (1) : لولا رجال لهم سرد يصومونا ... وآخرون لهم ورد يقومونا لزلزت أرضكم من تحتكم غضباً ... فإنكم قوم سوء لا تبالونا حقيقة - ما حمد الله حق حمده، إلا من عرفه حق معرفته، وذلك مما لا ينبغي لغيره لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. رقيقة - قلت: أشيم البرق من بين الثنايا ... وأشتم العبير من الثناء فأبدو تارة وأغيب أخرى ... مثار الشوق مثني الحياء حقيقة - تحقق الحامد بكمال الذات فغاب عن حسه في بحار العظمة، وتعلق الشاكر بجمال الفعل فوقف مع نفسه بسوق النعمة، فهذا تاجر " لئن شكرتم لأزيدنكم " وذاك ذاكر " وما بكم من ". ومنه: حقيقة - الصبر مطية المريد، والرضى سجية المراد، فهذا القوم للأمر، وذاك يسعى للأجر.

_ (1) قارن بما في التكملة: 842.

رقيقة - الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والصبر بغير حساب، والرضى بالرضى، وذلك سدرة المنتهى. حقيقة - النفس الأمارة آبدة لا تملك إلا بلطائف الحيل، والمطمئنة ذلول لا تنفلت إلا ممن غفل " وأخاف أن يأكله الذئب ". رقيقة - الدنيا معشوق الطالب، عاشق الهارب، هذا يستخدمها، وذاك يخدمها، يبني الخادم المسجد ليقال، ويعمره المخدوم لينال، فعلى الخادم السعي من غير جدوى: وليس لرحل حطه الله حامل ... وللمخدوم الجدوى بغير سعي: وليس لما تبني يد الله هادم ... إن السعادة أصلها التخصيص حقيقة - الجمال رياش، والحسن صورة، والملاحة روح، فذلك ستره عليك، وهذا سره فيك {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} (الحجر: 29) . رقيقة - أعطي يوسف شطر الحسن، يعني حسن آدم، لأنه إن لم يكن في الإمكان أبدع مما كان فقد خلقه الحق بيده في أحسن تقويم، ثم نفخ فيه من روحه لتتم علة الأمر بسجود التحية والتكريم، فكان كما قال من أنزل عليه الفرقان خلق الله آدم على صورة الرحمن فآدم إذا كمال الحسن، وإلا فهو المراد، لأن الشطر، يقتضي الحصر، والنصف، ينزع عن الوصف، وأعطي محمد صلى الله عليه وسلم كمال الجمال، فما أبصره أحد إلا هابه، وتمام الملاحة فما عرفه شخص إلا أحبه، مع أنباء نوره في الآباء، بأن أبوة المعنى لسيد نجباء الأبناء، كما قال العارف عمر: وإني وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي فيه معنى شاهد بأبوتي

حقيقة - لا يثنينك الخوف عن قرع الباب فتيأس، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يدنينك الرجاء من الفترة فتأمن، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، فإن لم تستطع بعد الحرص أن تعدل، فلا تمل كل الميل مع النفس " إن النفس لأمارة بالسوء ". رقيقة - ارفع قصتك في رقعة الإقبال على كف الرجاء، خافضاً من طرف الحياء، وصوت الإدلال، عاكفاً في زاوية الانكماش من وراء ستر الخوف، يخرج عليك حاجب القدر من باب الكرم بتوقيع " فاستجبنا له ". ومنه: حقيقة - صدق مجاهدة الفاروق أيقظ الوسنان، وطرد الشيطان، وأرضى الرحمن، ففاز بسلامة ما سلكت فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجك؛ وحقق مشاهدة الصديق أسمع من ناجى، فحاز غنيمة لو كشف الغطاء ما ازداد يقيناً. رقيقة - ذهب أبو بكر في السابقين، ولحق عمر بأهل اليقين، فما أدرك الصديق أداء التصلية، حتى استدرك الفاروق قضاء التقفية: ولو كنت في أهل اليمين منعماً ... بكيت على ما فات من زمن الصبا حقيقة - النص سلاح، والنظر مطية، والاتباع جنة، والورع نجاة، والخلاف فتنة، والبدع مهالك، وخير الأمور أوساطها (1) . ومنه: حقيقة - تخير المساعد، واختبر المصاعد، وليكن همك في سفرك منك معرفتك كيف ترجع إليك، فلن يحقق صفة الربوبية، من لم يتحقق نعت العبودية.

_ (1) ص: أواسطها؛ ق: أوسطها.

رقيقة - حدثت أن سيدي أبا الحسن الشاذلي لما أزمع على التحول من طيبة على من بها الصلاة والسلام، أوقف فعله على إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له، فرآه في منامه فقال: توحشنا يا علي فأخذ يعتل، فأذن له، وقال: إذا جئت مصر فاقرأ عز الدين بن عبد السلام مني السلام، قال: فلما التقينا بلغته المألكة (1) سراً، فلم تظهر نفسه لذلك، فلما قام المزمزم قال: صدق المحدث الحديث كما جرى ... وحديث أهل الحب ما لا يفترى فاستغفر الشيخ، ثم كذب نفسه، ثم حط للتسليم رأسه. حقيقية - الوهم شيطان القلب يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وسائر الجهات لمراقبة " قل هو القادر " فمن ثم كان أشد تقلباً من المرجل على النار، فإذا ذكر الله سكن " ألا بذكر الله تطمئن القلوب ". رقيقة - فرق القلب من ذكر الله خوف " وجلت قلوبهم " ثم سكن لذكره ورجاء " وتطمئن قلوبهم " فعاد داء تقشر منه دواء " ثم تلين " فنعق بلائمه: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... ثم هتف بمنادمه: وداوني بالتي كانت هي الداء ... حقيقة - العبودية صفة نفسك، لأنها حال أحد العبيد، والعبودة صفة قلبك، لأنها ملكة واحد العباد، والعبادة قصد وجهك، لأنها نعت الفردوس من العباد.

_ (1) المألكة: الرسالة.

ومنه: حقيقة - إنما تزيد في الدنيا بقدر ما تنقص من الآخرة، فإن تشييد الجدار على قدر (1) انتقاص الجبل. رقيقة - من جر لنفسه جار على قلبه، فلا تجوز شهادته عند ربه، لأن العدل من ترك العدول والميل. حقيقة - لا تقدمن إلا بدليل وإذن، واحذر ما لا ينفع ما استطعت فقد تم، انظر فلا حرج إن جهلت ما لم تكلف علمه، وأخاف عليك سوء العاقبة الهجوم. رقيقة - إذا اهتز العرش بالسحر لدعاء أهل " تتجافى جنوبهم " انبعث من نسيمه ما أغشاهم طيبه الراحة " أمنة منه " وأهب المستغفر من نومه لإدراك فضل " رضي الله عنهم ورضوا عنه ". حقيقة - دع الغريب وما يريب، واركب الجادة، ولا تسلك بنيات الطريق " فترق بكم عن سبيله ". ومنه: حقيقة - سفر المريد تجارة، وسفر الأعراف عمارة، فهذا يرحل للإقامة عند الحقيقة، وذاك يطلب الاستقامة على الطريقة. رقيقة - إياك أيها المصلي لنا، أن تلتفت إلى غيرنا، وأقبل علينا بصدق نيتك، وناجنا بخلوص سريرتك، فقد قمنا بينك وبين قبلتك، وناجيناك بلسان تلاوتك، فإن غبت عنا، فلست منا. حقيقة - الشطح كناية، والكرامة عناية، والاعتراض جناية، فإياك ولك فإن عرفت فاتبع، وإن جهلت فسلم.

_ (1) ق: حسب.

رقيقة - الليل معاد الأنس " إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً " والنهار معاش النفس " إن لك في النهار سبحاً طويلاً " فهذا نشاط رغبة يتسع في مناكبه المجال، وتعتور على مراكبه الأحوال، وذلك حجاب رهبة تهوي إليه الأوجال، وتجتمع فيه هموم الرجال، ألا ترى كيف تهاب الجبان دونه الأبطال، وتتقي الحواس خلفه الخيال كما قال: نهاري نهار الناس حتى إذا دجا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع حقيقة - حجب الطالب أربعة: فحجاب الغيرة قاذع، قيل لبعضهم: أتحب أن تراه فقال: لا، قيل: ولم قال: أجل ذلك عن نظري مثلي، وحجاب التيه قامع، نزل الفقير على ابن عجوز، فبينما هي تصلح له الطعام غشي على الفتى، فسألها الفقير فقالت له: إنه يهوى ابنة عم له بتلك الخيمة، فخطرت، فاشتم غبار ذيلها، فذهب الفقير ليخطبها عليه، فقالت: إذا لم يطق غبار ذيلي فكيف يستطع أن يشاهدني وحجاب الحيرة دافع، ومن ثم حلا لأرباب الغيبة، قال بعضهم: يا دليل الحائرين، زدني تحيراً، ومر على أصحاب الرغبة والرهبة، كما قال: قد تحيرت فيك خذ بيدي ... يا دليلاً لمن تحير فيكا وحجاب الغفلة قاطع، كان بعضهم يقول: إن عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب. ونظر أخر إلى امرأة فوقع عليه سهم فعوره وعليه مكتوب: نظرت بعين العورة فرميناك بسهم الأدب، ولو نظرت بعين الشهوة لرميناك بسهم القطيعة. رقيقة - حدثت أن ابن الفارض دخل على الشيخ عز الدين وقد ذهب به التفكر فيما له عند الله عز وجل، فكاشفه بأن أنشده من قصيدة له:

لك (1) البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج فبدرته البشاشه، وأظن أن قد خلع قماشه. حقيقة - وقفت ذات يوم بالجبانة، واستفهمت اسمي ها عرف منها مكانه، فأملى بعد هنيئة من نظمه، ما وقفت منه على حقيقة مبلغ علمه: كل ميت رأته عيني فإني ... ذلك الميت إن نظرت بقلبي وجميع القبور قبري لولا ... جهل نفسي بما لها عند ربي رقيقة - أهم ما على المسالك مراعاة قلبه، أن يتلف في تقلبه، فذلك فساد حاله، وذهاب رأس ماله، تزوج فقير فلبس ثياب العرس، فطلب قلبه فلم يجده، فصاح: خلقاني، فأعطوه، فأخذها وخرج. حقيقة - حجب المطلوب ثلاثة: فحجاب التيه جمال، كما قال العارف عمر: ته دلالاً فأنت أهل لذاكا ... وتحكم فالحسن قد أعطاكا وحجاب العزة جلال: همت بإتياننا حتى إذا نظرت ... إلى المراة نهاها وجهها الحسن وحجاب الكبرياء كمال، أنشدت لرابعة: أحبك حبين حب الهوى ... وحباً لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذكرك عمن سواكا وأما الذي أنت أهل له ... فأن ترفع الحجب حتى أراكا وما الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

_ (1) ص: ولي.

وهذا معناه ما صح في الصحيح وما بين أهل الجنة وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن. ومنه: حقيقة: الآثار منصة التجلي، فمن لم يزر مهلب " ويتفكرون " زار عمير " يمرون " وبطل رصد الحجاج. رقيقة: من تفكر تذكر، ومن تذكر تبصر، فإن أكمل وقف، وإن قصر انصرف " إنا هديناه السبيل ". حقيقة: الوحدة فهم، والتوحيد علم، والاتحاد حكم، والأثينينية وهم. ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... ومنه: حقيقة - أهم ما على السالك مراعاة قلبه، أن يتلف في تقلبه، فإن ذلك فساد حاله، وذهاب رأس ماله، رؤي فقير ينادي في السوق: ارحموا صوفياً ذهب رأس ماله، فقيل له: وهل للصوفي رأس مال فقال: نعم، كان لي قلب ففقدته. ومنه: حقيقة (1) - تنازع القلب والنفس الخلق، فترافعا إلى العقل، فقسمه بينهما، فانفردت النفس بالهوى، والقلب بالتقوى، فصرفت طرقهما إلى الجهتين، وقطعت الشفعة فيهما بين الفئتين. ومنه، عند ختم الكتاب، ما نصه: حقيقة - لا يودع السر إلا عند أهله، ولا يذيعه إلا من ضاق ذرعاً بحمله،

_ (1) مر هذا آنفا ص: 316.

فإن عدا مودعه الرمز فقد زل، وغن تعدى مذيعه الغمز فقد ضل. رقيقة - الحسن خلق، والجمال خلق، وحسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن، وحيث هو الجمال هو الجميل. حقيقة - تحقق العلماء بالتوحيد فاستشعروا " والله خلقكم وما تعملون " لكنهم اعتبروا خلق السبب والابتلاء به، فتصرفوا بدلالة الإذن في مذهبه، فاستقاموا على طريقة الأدب، ولم يفتهم فضل التوكل، ولم تتسع معارف الزهاد لما عرفوا المشبب بكيفية الانصراف إلى السبب منه، لدقة الفرق بينه وبين الانصراف عنه، فوقفوا مع التوكل للعذر، ولم يستعملوا أدب الجريان مع ابتلاء الأمر، وعكف الغافلون على ظاهر السبب، ففاتهم التوكل والأدب " أولئك كالأنعام بل هم أضل ". رقيقة: الفيت لعبد الحق الإشبيلي بيتاً هو عندي أفضل من قصيدة، وهو: قد يساق المراد وهو بعيد ... ويريد المريد وهو قريب ومن أراد معرفة قدر هذا البيت فليتل " الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ". حقيقة: أشرف أسمائك ما أضافك إليه، وأكرم صفاتك ما دل فيك عليه (1) . لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي ولا تصفني بالهوى عندها ... فعندها تحقيق أنبائي رقيقة: أعزز بمن سوداء قلبي مغرب ... لخياله، وسواد عيني مشرق إن غاب عن سري فعنه لم يغب ... أو عن عياني فهو فيه محقق

_ (1) مر البيت الأول فيما تقدم المجلد 2: 193.

والعين تعجز أن ترى إنسانها ... والقلب بالروح اللطيف مصدق صن عينك عن قلبك لربك، وقلبك عن نفسك لحبك، ونفسك عن طبعك لويلك، وطبعك عن هواك لعدوك، وهواك عمن سواك، وقد كنت من نسل الجنة، وكان بينك وبين البلاء أوقى جنك، لطف الله تعالى بي وبكم في مجاري أحكامه، ويسرنا أجمعين للعمل بموجبات إكرامه، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم لقائه؛ انتهى ما تعلق به الغرض من كتاب الحقائق والرقائق لمولاي الجد الإمام، سقى الله عهده صوب الغمام. وما ذكرته من كلامه غيض من فيض، وقل من كثر، ويكفي من الحلي ما قل وستر العنق. ولنذكر بعض نظمه رحمه الله تعالى، وقد تقدم بعضه أثناء ما سبق من كلامه رضي الله عنه، فراجعه إن شئت. [من شعر المقري الجد] ومن بديع نظمه رحمه الله تعالى ما في الإحاطة ونصه (1) : نقلت من ذلك قوله: هذه لمحة العارض، لتكملة ألفية ابن الفارض، سلب الدهر من فرائدها مائة وسبعة وسبعين، فاستعنت على ردها بحول الله المعين. من فصل الإقبال: رفضت السوى وهو الطهارة عندما ... تلفعت في مرط الهوى وهو زينتي وجئت الحمى وهو المصلى ميمماً ... بوجهة فلبي وجهها وهو قبلتي وقمت وما استفتحت إلا بذكرها ... وأحرمت إحراماً لغير تحلة فديني إن لاحت ركوع، وإن دنت ... سجود، وإن لاهت قيام بحسرة (2)

_ (1) الإحاطة 2: 146. (2) ص: بكسرة؛ ق: بحرة.

على أننا في القرب والبعد واحد ... تؤلفنا بالوصل عين التشتت وكم من هجير خضت ظمآن طاوياً ... إلهيا وديجور طويت برحلة وفيها لقيت الموت أحمر والعدا ... بزرقة أسنان الرماح وحدة وبيني وبين العذل فيها منازل ... تنسيك أيام الفجار ومؤتة ولما اقتسمنا خطتينا فحامل ... فجار بلا أجر وحامل برة خلا مسمعي من ذكرها فاستعدته ... فعاد ختام الأمر أصل القضية وكم لي على حكم الهوى (1) من تجلد ... دليل على أن الهوى من سجيتي يقول سميري والأسى سالم الأسى ... ولا توضع الأوزار إلا لمحنة لو أن مجوساً بت موقد نارها ... لما ظل إلا منهلاً ذا شريعة ولو كنت بحراً لم يكن فيه نضحة ... لعين إذا نار الغرام استحرت فلا ردم من نقب المعاول آمن ... ولا هدم إلا منك شيد بقوة فمم تقول الأسطقسات منك أو ... علام مزاج ركبت أو طبيعة فإن قام لم يثبت له منك قاعد ... وإلا فأنت الدهر صاحب قعدة فما أنت يا هذا الهوى ماء أو هوا ... أم النار أم دساس عرق الأمومة (2) وإني على صبري كما أنا واصف ... وحالي أقوى القائمين بحجة أقل الضنى أن عج من جسمي الضنى ... وما شاكه معشار بعض شكيتي وأيسر شوقي أنني ما ذكرتها ... ولم أنسها إلا احترقت بلوعة وأخفى الجوى قرع الصواعق منك في ... جواي (3) وأخفى الوجد صبر المودة وأسهل ما ألقى من العذل أنني ... أحب أقلي (4) ذكرها وفضيحتي وأوج حظوظي اليوم منها حضيضها ... بالامس، وسل حر الجفون الغزيرة

_ (1) ق: القضا. (2) ق: الأموة. (3) ق: في جوى نجي. (4) ق: أقل.

وأوجز أمري أن دهري كله ... كما شاءت الحسناء يوم الهزيمة أروح وما يلقى التأسف راحتي ... وأغدو وما يعدو التفجع خطتي وكالبيض بيض الدهر والسمر سوده ... مساءتها في طي طيب المسرة وشأن الهوى ما قد عرفت ولا تسل ... وحسبك أن لم يخبر الحب رؤيتي سقام بلا برء، ضلال بلا هدى ... أوام بلا ري، دم لا بقيمة ولا عتب فالأيام ليس لها رضى ... وإن ترض منها الصبر فهو تعنتي ألا أيها اللوام عني قوضوا ... ركاب ملامي فهو أول محنتي ولا تعذلوني في البكاء ولا البكى ... وخلوا سبيلي ما استطعتم ولوعتي فما سلسلت بالدمع عيني إن جنت ... ولكن رأت ذاك الجمال فجنت (1) تجلى وأرجاء الرجاء حوالك ... ورشدي غاو والعمايات عمت فلم يستبن حتى كأني كاسف (2) ... وراجعت إبصاري له وبصيرتي ومن فصل الاتصال: وكم موقف لي في الهوى خضت دونه ... عباب الردى بين الظبى والأسنة فجاوزت في حدي مجاهدتي له ... مشاهدتي لما سمت بي همتي وحل جمالي في الجلال، فلا أرى ... سوى صورة التنزيه في كل صورة وغبت عن الأغيار في تيه حيرتي (3) ... فلم انتبه حتى امتحى اسمي وكنيتي وكاتبت ناسوتي بأمارة الهوى ... وعدت إلى اللاهوت بالمطمئنة وعلم يقيني صار عيناً حقيقة ... ولم يبق دوني حاجب غير هيبتي وبدلت بالتلوين تمكين عزة ... ومن كل أحوالي مقامات رفعة وقد غبت بعد الفرق والجمع موقفي ... مع المحو والإثبات عند تثبتي

_ (1) ق: فحنت. (2) ق: حبي له كل كاشف. (3) الإحاطة: حالتي.

وكم جلت في سم الخياط وضاق بي ... لبسطي وقبضي بسط وجه البسيطة وما اخترت إلا دن سقراط زاهداً ... وفي ملكوت النفس أكبر عبرة وفقري مع الصبر اصطفيت على الغنى ... مع الشكر إذ لم يحظ فيه مثوبتي وأكتم حبي ما كنى عنه أهله ... وأكني إذا هم صرحوا بالخبية وإني في جنسي ومنه لواحد ... كنوع، ففصل النوع علة حصتي تسببت في دعوى التوكل ذاهباً ... إلى أن أجدى حيلتي ترك حيلتي وآخر حرف صار مني أولاً ... مريداً وحرف في مقام العبودة تعرفت يوم الوقف منزل قومها ... فبت بجمع سد خرق التشتت فاصبحت أقضي النفس منها منى الهوى ... وأقضي على قلبي برعي الرعية فبايعتها بالنفس داراً سكنتها ... وبالقلب منه منزلاً فيه حلت فخلص الاستحقاق نفسي من الهوى ... وأوجب الاسترقاق تسليم شفعتي فيا تفس لا ترجع تقطع بيننا ... ويا قلب لا تجزع ظفرت بوحدة ومن فصل الإدلال: تبدت لعيني من جمالك لمحة ... أبادت فؤادي من سناها بلفحة ومرت بسمعي من حديثك ملحة ... تبدت لها فيك القران وقرت ملامي بن، عذري استبن، وجدي استعن ... سماعي أعن، حالي أبن، قائلي اصمت فمن شاهدي سخط، ومن قائلي رضا ... وتلوين أحوالي وتمكين رتبتي مرامي إشارات، مراعي تفكر ... مراقي نهايات، مراسي تثبت وفي موقفي والدار أقوت رسومها ... تقرب أشواقي تبعد (1) حسرتي معاني أمارات، مغاني تذكر ... مباني بدايات، مثاني تلفت وبث غرام، والحبيب بحضرة ... ورد سلام (2) ، والرقيب بغفلة

_ (1) ق: وتبعد. (2) ق: غرامي ... سلامي.

ومطلع بدر في قضيب على نقاً ... فويق محل عاطل دون دجية ومكمن سحر بابلي له بما ... حوت أضلعي فعل القنا السمهرية ومنبت مسك من شقيق ابن منذر ... على سوسن غض بجنة وجنة ووصف اللآلي في اليواقيت كلما ... تعل بصرف الراح في كل سحرة سل السلسبيل العذب عن طعم ريقه ... ونكهته يخبرك عن علم خبرة ورمان كافور علته طوابع ... من الند لم تحمل به بنت مزنة ولطف هواء بين حقف وبانة ... ورقة ماء في قوارير فضة لقد عز عنك الصبر حتى كأنه ... سراقة لحظ منك للمتلفت وأنت وإن لم تبق مني صبابة ... منى النفس لم تقصد سواك بوجهة وكل فصيح منك يسري لمسمعي ... وكل مليح منك يبدو (1) لمقلتي تهون علي النفس فيك، وإنها ... لتكرم أن تغشى سواك بنظرة فإن تنظريني بالرضى تشف علتي ... وإن تظفريني باللقا تطف غلتي وإن تذكريني والحياة بقيدها (2) ... عدلت لأمتي منيتي بمنيتي وإن تذكريني بعدما أسكن الثرى ... تجلت دجاه عند ذاك وولت صليني وإلا جددي الوعد تدركي ... صبابة نفس أيقنت بتفلت (3) فما أم بو هالك بتنوفة ... أقيم لها خلف الحلاب فدرت فلما رأته لا ينازع خلفها ... إذا هي لم ترسل عليه وضنت بكت كلما راحت عليه وإنها ... إذا ذكرته آخر الليل حنت بأكثر مني لوعة غير أنني ... رأيت وقار الصبر أحسن حلية فرحت كما أغدو إذا ما ذكرتها ... أطامن أحشائي على ما أجنت

_ (1) ص ق: يبدي. (2) ص ق: تعيدها. (3) ق: بتعلة.

أهون ما ألقاه إلا من القلى ... هوى ونوى نيل الرضى منك بغيتي أخوض الصلا، أطفي العلا والعلو لا ... أصل السلا، أرعى الخلا بين عبرتي ألا قاتل الله الحمامة غدوة ... لقد أصلت الأحشاء نيران لوعة (1) وقاتل مغناها وموقف شجوها ... على الغصن ماذا هيجت حين غنت فغنت غناء أعجمياً فهيجت ... غرامي من ذكرى عهود تولت فأرسلت الأجفان سحباً وأوقدت ... جواي الذي كانت ضلوعي أكنت نظرت بصحراء البريقين نظرة ... وصلت بها قلبي فصل (2) وصلت فيا لهما قلباً شجياً ونظرة ... حجازية لو جن طرف لجنت وواعجباً للقلب كيف اعترافه ... وكيف بدت أسراره خلف سترة وللعين لما سوئلت كيف أخبرت ... وللنفس لما وطنت كيف ذلت وكنا سلكنا في صعود من الهوى ... يسامي بأعلام العلا كل رتبة (3) إلى مستوى ما فوقه فيه مستوى ... فلما توافينا ثبت وزلت وكنا عقدنا عقدة الوصل بيننا ... على نحر قربان لدى فبر شيبة مؤكدة بالنذر أيام عهده ... فلما تواثقنا شددت وحلت ومن فصل الاحتفال: أزور اعتماراً أرضها بتنسك ... وأقصد حجاً بيتها بتحلة وفي نشأتي الأخرى ظهرت بما علت ... له نشأتي الأولى على كل فطرة ولولا خفاء الرمز من لا ولن ولم ... تجدها لشملي مسلكاً بتشتت ولو لم يجدد عهدنا عقد خلة ... قضيت ولم يقض المنى صدق توبة

_ (1) ما وضعته بين قوسين صغيرين هو تضمين من قصائد تائية مختلفة بعضها لأعراب وبعضها من تائية كثير عزة. (2) ق ص: فضل. (3) ق ص: زينة.

بعثت إلى قلبي بشيراً بما رأت ... على قدم عيناي منه فكفت فلم يعد أن شام البشارة شام ما ... جفا الشام من نور الصفات الكريمة فيا لك من نور لو أن التفاتة ... تعارض منه بالنفوس النفيسة تحدث أنفاس الصبا أن طيها ... بما حملته من حراقة حرقة وتنبئ آصال الربيع عن الربى ... وأشجاره أن قد تجلت فجلت وتخبر أصوات البلابل أنها ... تغنت بترجيعي على كل أيكة فهذا جمالي منك في بعد حسرتي ... فكيف به إن قربتني بخلة تبدى وما زال الحجاب ولا دنا ... وغاب ولم يفقده شاهد حضرتي له كل غير في تجليه مظهر ... ولا غير إلى ما محت كف غيرة تجلي دليل، واحتجاب تنزه ... وإثبات عرفان، ومحو تثبت فما شئت من شيء وآليت أنه ... هو الشيء لم تحمد فجار أليتي وفي كل خلق منه كل عجيبة ... وفي كل خلق منه كل لطيفة وفي كل خاف منه مكمن حكمة ... وفي كل باد منه مظهر جلوة أراه بقلب القلب واللغز كامناً ... وفي الزجر والفال الصحيح الأدلة وفي طي أوفاق الحساب وسر ما ... يتم من الأعداد فابدأ بستة وفي نفثات السحر في العقد التي ... تطوع لها كل الطباع الأبية يصور شكلاً مثل شكل ويعتلي ... عليه بأوهام النفوس الخبيثة وفي كل تصحيف وعضو بذاته ... اختلاج، وفي التقويم مجلى لرؤية وفي خضرة الكمون تزجي شرابه ... مواعيد عرقوب على إثر صفرة وفي شجر قد خوفت قطع أصلها ... فبان بها حمل لأقرب مدة (1) وفي النخل في تلقيحه واعتبر بما ... أتى فيه عن خير البرية واسكت

_ (1) سقط البيت من ق.

وفي الطابع السبي والأحرف (1) التي ... يبين منها النظم كل خفية وفي صنعة الطلسم والكيمياء (2) وال ... كنوز وتغوير المياه المعينة وفي حرز أقسام المؤدب محرز ... وحزب أصيل الشاذلي وبكرة وفي سيمياء الحاتمي ومذهب اب ... ن سبعين إذ يعزى إلى شر بدعة وفي الملل (3) الأولى وفي النحل الألى ... بها أوهموا لما تساموا بسنة وفي كل ما في الكون من عجب وما ... حوى الكون إلا ناطقاً بعجيبة فلا سر إلا وهو فيه سريرة ... ولا جهر إلا وهو فيه كحيلة سل الذكر عن إنصاف أصناف ما انبنى (4) ... عليه الكلام من حروف سليمة وعن وضعها في بعضها وبلوغ ما ... أتت فيه أمضى عدها وتثبت فلا بد من رمز الكنوز لذي الحجى ... ولا ظلم إلا ظلم صاحب حكمة ولولا سلام ساق للأمن خيفتي ... لعاجل مس البرد خوفي لميتي ولو لم تداركني ولكن بعطفها ... درجت رجائي أن نعتني خيبتي ولو لم تؤانسني عنا قبل لم ولم ... قضى العتب مني بغية بعد وحشي ونعم أقامت أمر ملكي بشكرها ... كما هونت بالصبر كل بلية ومن فصل الاعتقال: سرت بفؤادي إذ سرت فيه نظرتي ... وسارت ولم تثن العنان بعطفة وذلك لما أطلع الشمس في الدجى ... محيا ابنة الحيين في خير ليلة يمانية لو أنجدت حين أنجدت ... لما أبصرت عيناك حياً كميت

_ (1) الإحاطة: في الأحرف. (2) ق: والكيميا وفي. (3) الإحاطة: المثل. (4) الإحاطة: ابتنى.

لأصحمة في نصحها قدم بنى ... لكل نجاشي بها حصن ذمة ألمت فحطت رحلها ثم لم يكن ... سوى وقفة التوديع حتى استقلت فلو سمحت لي بالتفات وحل من ... مهاوي الهوى والهون جد تفلتي ولكنها همت بنا فتذكرت ... قضاء قضاة الحسن قدماً فصدت أجلت خيالاً إنني لا أجله ... ولم أنتسب منه لغير تعلة على أنني كلي وبعضي حقيقة ... وباطل أوصافي وحق حقيقي وجنسي وفصلي والعوارض كلها ... ونوعي وشخصي والهواء وصورتي وجسمي ونفسي والحشا وغرامه ... وعقلي وروحانيتي القدسية وفي كل لفظ عنه ميل لمسمعي ... وفي كل معنى منه معنى للوعتي ودهري به عيد ليوم عروبة ... وأمري أمري والورى تحت قبضتي ووقتي سهود في فناء شهدته ... ولا وقت لي إلا مشاهد غيبة أراه معي حساً ووهماً وإنه ... مناط الثريا من مدارك رؤيتي وأسمعه من غير نطق كأنه ... يلقن سمعي ما توسوس مهجتي ملأت بأنوار المحبة باطن ... كأنك نور في سرار سريرتي وجليت بالإجلال أرجاء ظاهري ... كأنك في أفقي كواكب زينة فأنت الذي أعفيه عند تستري ... وأنت الذي أبديه في حين شهرتي فته أحتمل، واقطع وأصل، واعل أستفل ... ومر أمتثل، واملل أمل، وارم أثبت فقلبي إن عاتبته فيك لم أجد ... لعتبي فيه الدهر موقع نكتة ونفسي تنبو عن سواك نفاسة ... فلا تنتمي إليك إلا بمنة تعلقت الآمال منك بفوق ما ... أرى دونه ما لا ينال بحيلة وحامت حواليها وما وافقت (1) حمى ... سحائب يأس أمطرت ماء عبرتي فلو فاتني منك الرضى ولحقتني ... بعفو بكيت الدهر فوت فضيلة

_ (1) ق: وقعت؛ ص: واقعت.

ولو كنت في أهل اليمين منعماً ... بكيت على ما كان من أسبقية وكم من مقام قمت عنك مسائلاً ... أرى كل حي كل حي وميت أتيت بفاراب أبا نصرها فلم ... أجد عنده علماً يبرد غلتي ولم يدر ما قولي ابن سينا سائلاً ... فقل كيف أرجو عنده برء علتي فهل في ابن رشد بعد هذين مرتجى ... وفي ابن طفيل لاحتثاث مطيتي لقد ضاع لولا أن تداركني حمى ... من الله سعي بينهم طول مدتي فقيض لي نهجاً إلى الحق سالكاً ... وأيقظني من نوم جهلي وغفلتي فحصنت أنظار الجنيد جنيدها ... بترك فلي من رغبة ريح رهبة وكسرت عن رجل ابن أدهم أدهماً ... وأنقذته من أسر حب الأسرة وعدت على حلاج سكري بصلبه ... وألقيت بلعام التافتي بهوة فقولي مشكور، ورأيي ناجح ... وفعلي محمود، بكل محلة رضيت بعرفاني فأعليت للعلا ... وأجلسني بعد الرضى فيه جلتي فعشت ولا ضيراً أخاف ولا قلى ... وصرت حبيباً في ديار أحبتي فها أنا ذا أمسي وأصبح بينهم ... مبلغ نفسي منهم ما تمنت ومن نظمه أيضاً ما حكى عنه في الإحاطة إذ قال: وأنشدني قوله في حال قبض، وقيدتها عنه (1) : إليك بسطت الكف أستنزل الفضلا ... ومنك قبضت الطرف أستشعر الذلا وها أنا ذا قد قمت يقدمني الرجا ... ويحجم بي الخوف الذي خامر العقلا أقدم رجلاً إن يضيء برق مطمع ... وتظلم أرجائي فلا أنقل الرجلا ولي عثرات لست آمل إن هوت ... بنفسي أن لا أستقبل وأن أصلى فإن تدركني رحمة أنتعش بها ... وإن تكن الأخرى فأولى بي الأولى

_ (1) الإحاطة 2: 155.

ومن نظمه رحمه الله تعالى (1) : وجد تسعره الضلو ... ع وما تبرده المدامع هم تحركه الصبا ... بة والمهابة لا تطاوع أمل إذا وصل الرجا ... أسبابه فالموت قاطع بالله يا هذا الهوى ... ما أنت بالعشاق صانع وقال رحمه الله تعالى كما في " الإحاطة ": ومما كتبت به لمن بلغني عنه بعض الشيء (2) : نحن، إن تسأل بناس، معشر ... أهل ماء فجرته الهمم عرب من بيضهم أرزاقهم ... ومن السمر الطوال الخيم عرضت أحسابهم أرواحهم ... دون نيل العرض وهي الكرم أورثونا المجد حتى إننا ... نرتضي الموت ولا نزدحم ما لنا في الناس من ذنب سوى ... أننا نلوي إذا ما اقتحموا وقال: مما قلته مذيلاً به قول القاضي أبي بكر ابن العربي: أما والمسجد الأقصى ... وما يتلى به نصا لقد رقصت بنات الشو ... ق بين جوانحي رقصا قولي: فأقلع بي إليه هوى ... جناحاً عزمه قصا أقل القلب واستدعى ... على الجثمان فاستعصى فقمت أجول بينهما ... فلا أدنى ولا أقصى

_ (1) ص: قال: ومما قلته من الشعر، وانظر الإحاطة: 155. (2) انظر هذه القطعة وما يليها في الإحاطة 2: 155 - 156.

قال رحمه الله تعالى: ومما قلته في التورية بشأن راوي المدونة: لا تعجبن لظبي قد دها أسداً ... فقد دها أسداً من قبل سحنون ومن نظم مولاي الجد مما لم يذكره في الإحاطة قوله حسبما ألفي بخطه على ظهر نسخة من تأليفه القواعد: ناديت والقلب بالأشواق محترق ... والنفس من حيرة الإبعاد في دهش يا معطشي من وصال كنت آمله ... هل فيك لي فرج إن صحت واعطشي ومن نظمه ما أسنده الونشريسي إليه: خالف هواك وكن لعقلك طائعاً ... تجد الحقيقة عند طرف الناظر ومنه مما نسبه له المذكور، ورأيت من ينسبهما (1) لغيره: لما رأيناك بعد الشيب يا رجل ... لا تستقيم وأمر النفس تمتثل زدنا يقيناً بما كنا نصدقه ... بعد المشيب يشب الحرص والأمل وفي الإحاطة في ترجمة شعره ما صورته قال: ومما قلته من الشعر، وبه نختم الكلام (2) : أنبت عوداً لنعماء بدأت بها ... فضلاً وألبستها بعد اللحا الورقا فظل مستشعراً مستدثراً أرجاً ... ريان ذا بهجة يستوقف الحدقا فلا تشنه بمكروه الجنى فلكم ... عودته من جميل من لدن خلقا وانف القذى عنه واثر الدهر منبته ... وغذه برجاء واسقه غدقا واحفظه من حادثات الدهر أجمعها ... ما جاء منها على ضوء وما طرقا

_ (1) ق: نسبهما. (2) الإحاطة 2: 156.

انتهى ما قصدته من ترجمة مولاي الجد على ما اقتضاه الوقت، ولو أرسلت عنان القلم في شأنه لضاق هذا الديوان عن ذلك، ويرحم الله شيخ شيوخ شيوخنا عالم المغرب سيدي أبا العباس الونشريسي ثم التلمساني نزيل فاس صاحب المعيار وغيره إذ قال في تأليفه الذي عرف فيه بمولاي الجد لما سأله بعضهم في ذلك، وذكر ما حضره، ما نصه: ولقد استوفى شيخ شيوخنا المحقق النظار أبو عبد الله ابن مرزوق الحفيد ترجمة المقري في كتاب سماه النور البدري في التعريف بالفقيه المقري وقد تقدمت الإشارة إلى أن اسم هذا التأليف مبني على أن المقري بفتح الميم وسكون القاف، وقد علمت ما في ذلك مما مضى. قلت: وقد ملكت بفاس مجلداً ضخماً بخط مؤلفه، وهو أحد علماء مدينة فاس، ألفه برسم مولاي الجد، والثناء عليه، والتنويه بقدره، وذكر محاسنه، ولم يحضرني الآن لكوني تركته مع جملة كتبي بالمغرب، وقد تعلق بحفظي ما قاله في أوله من جملة أبيات: إذا ذكرت مفاخر أهل فاس ... ذكرنا من أتى من تلمسان وقلنا هل رأيتم في قضاة ... شبيهاً للفقيه العدل ثاني إلى أن قال: ونفس العلم إن شانت لشخص ... ما للمقري في العلم شاني [تلامذة المقري الجد] وقد أخذ عنه رحمه الله تعالى جماعة أعلام مشهورون، منهم لسان الدين ابن الخطيب ذو الوزارتين، والوزير أبو عبد الله ابن زمرك، والأستاذ العلامة أبو عبد الله القيجاطي الآية في علم القراءات، والشيخ الفقيه القاضي الرحال

الحاج أبو عبد الله محمد بن سعيد بن عثمان بن سعيد الصنهاجي الزموري الدار المعروف بنقشابو، والولي ابن خلدون صاحب التاريخ، وفي بعض المواضع يعبر عنه بصاحبنا، وفي بعضها بشيخنا، والنظار أبو إسحاق الشاطبي، والعلامة أبو محمد عبد الله ابن جزي، والحافظ ابن علاق، وغيرهم ممن يطول تعداده، ولا كالشيخ الشهير الكبير العارف بالله سيدي محمد بن عباد الرندي (1) شارح حكم ابن عطاء الله فإنه ممن يفتخر مولاي الجد رحمه الله تعالى بكون مثله تلميذاً له، ولا بأس أن نورد ترجمته تبركاً به في هذا الكتاب، واو لم تقتضه المناسبة التي راعيناها في هذا التأليف، فكيف وقد اقتضته فنقول: [ترجمة تلميذه ابن عباد الرندي] قال في حقه صاحبه الشيخ أبو زكريا السراج، ما صورته: شيخنا الفقيه الخطيب البليغ الخاشع الخاشي، الإمام العالم المنصف السالك العارف المحقق الرباني ذو العلوم الباهرة، والمحاسن المتظاهرة، سليل الخطباء، ونتيجة العلماء، أبو عبد الله محمد ابن الشيخ الفقيه الواعظ الخطيب البليغ العلم الحظي الوجيه الحسيب الأصيل أبي إسحاق إبراهيم بن أبي بكر بن عباد، كان حسن السمت، طويل الصمت، كثير الوقار والحياء، جميل اللقاء، حسن الخلق والخلق، عالي الهمة متواضعاً، معظماً عند الخاصة والعامة، نشأ ببلده رندة على أكمل طهارة، وعفاف وصيانة، وحفظ القرآن ابن سبع سنين، ثم تشاغل بعد بطلب العوم النحوية والأدبية والأصولية والفروعية، حتى رأس فيها وفهم معانيها، ثم أخذ في طريق الصوفية والمباحثة على الأسرار الإلهية حتى أشير إليه، وتكلم في علوم الأحوال والمقامات والعلل والآفات وألف فيه تواليف عجيبة وتصانيف

_ (1) ترجمة ابن عباد الرندي في نيل الابتهاج: 287 نقلا عن فهرسة السراج وابن الخطيب القسمطيني مؤلف أنس الفقير (وترجمة ابن عباد فيه ص: 79) .

بديعة غريبة (1) ، وله أجوبة كثيرة في مسائل العلوم نحو مجلدين، ودرس كتباً وحفظها أو جلها كشهاب القضاعي والرسالة ومختصري ابن الحاجب وتسهيل ابن مالك ومقامات الحريري وفصيح ثعلب وغيرها، وقوت القلوب؛ أخذ ببلده رندة عن أبيه القرآن وغيره، وعن خاله الشيخ الفقيه القاضي عبد الله الفريسي العربية وغيرها، وعن الشيخ الفقيه الخطيب أبي الحسن علي بن أبي الحسن الرندي حرف نافع، وعرض عليه الرسالة، وبتلمسان وفاس عن السيد الشريف الإمام العالم العلامة المحقق أبي عبد الله التلمساني الحسني جمل الخونجي تفهماً وغيره، وعن الشيخ الفقيه القاضي العالم أبي عبد المقري كثيراً من المختصر الفرعي لابن الحاجب وفصيح ثعلب وبعض صحيح مسلم كلها تفقهاً، وعن الشيخ الفقيه العالم أبي محمد عبد النور العمراني الموطأ والعربية، وعن الإمام العالم أبي عبد الله الآبلي الإرشاد لأبي المعالي وجميع كتاب ابن الحاجب الأصلي وعقيدة ابن الحاجب تفقهاً، وعن الشيخ الفقيه الحافظ أبي الحسن الصرصري بعض التهذيب تفقهاً، وعن الشيخ الأستاذ المقرىء الصالح أحمد بن عبد الرحمن المجاصي شهر بالمكناسي كثيراً من جمل الزجاج وتسهيل ابن مالك، وعن الشيخ الفقيه الصالح أبي مهدي عيسى المصمودي جميع كتاب ابن الحاجب والحاجبية له أيضاً تفقهاً، وتفقه على الفقيه العالم أبي محمد الوانغيلي في كتاب ابن الحاجب الفقهي وأخذ حرف نافع، وعن الشيخ الفقيه الصالح المدرس بالحلفاويين أبي محمد عبد الله الفشتالي كثيراً من التهذيب، وعن قاضي الجماعة وخطيب الحضرة أبي عبد الله محمد بن أحمد الفشتالي كثيراً من التهذيب تفقهاً، وكذا من غيرهم، ولقي بسلا الشيخ الحاج الصالح السني الزاهد الورع أحمد بن عمر بن محمد بن عاشر، وأقام معه ومع أصحابه سنين عديدة، قال: قصدتهم لوجدان السلامة معهم، ثم رحل لطنجة فلقي بها الشيخ الصوفي أبا مروان عبد الملك، قال: لازمته كثيراً

_ (1) غريبة: سقطت من ق ص ونيل الابتهاج.

وقرأت عليه وسمعت منه، وأنشدني من شعره ومن شعر غيره، وترددت بيني وبينه مسائل في إقامته بسلا، وانتفعت به عظيماً في التصوف وغيره، وأجازني إجازة عامة، مولده برندة عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، وتوفي بعد العصر يوم الجمعة ثالث رجب عام اثنين وتسعين وسبعمائة، وحضر جنازته الأمير فمن بعده، وهمت العامة بكسر نعشه تبركاً به، ولم أر جنازة أحفل ولا أكثر خلقاً منها، ورثاه الناس بقصائد كثيرة؛ انتهى كلام السراج. وقال غيره في حقه: محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مالك بن إبراهيم بن محمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى بن عباد، النفزي نسباً، الرندي بلداً، الشهير بابن عباد، الفقيه الصوفي الزاهد الولي العارف بالله تعالى. وقال في حقه الشيخ ابن الخطيب القسمطيني في كتابه " أنس الفقير وعز الحقير " (1) : هو الخطيب الشهير، الصالح الكبير، وكان والده من الخطباء، الفصحاء النجباء، ولأبي عبد الله هذا عقل وسكون، وزهد بالصلاح مقرون، وكان يحضر معنا مجلس شيخنا الفقيه أبي عمران [موسى] العبدوسي رحمه الله تعالى، وهو من أكابر أصحاب ابن عاشر، ومن خيار تلامذته، وأخذ عنه، وله كلام عجيب في التصوف، وصنف فيه، كما هو الآن يقرأ على الناس مع كتب التذكير، وله في ذلك قلم انفرد به، وسلم له فيه بسببه، ومن تصانيفه شرح كتاب الحكم لابن عطاء الله في سفر، رأيته وعلى ظهر نسخة منه مكتوب: لا يبلغ المرء في أوطانه شرفاً ... حتى يكيل تراب الأرض بالقدم ومن كلامه فيه: الاستئناس بالناس، من علامات الإفلاس، وفتح باب الأنس بالله تعالى الاستيحاش من الناس. ومن كلامه فيه: من لازم الكون وبقي معه وقصر همته عليه ولم تنفتح له طريق الغيوب الملكوتية، ولا خلص بسره إلى

_ (1) انظر هذا المصدر ص: 79.

فضاء مشاهدة الوحدانية، فهو مسجون بمحيطاته، ومحصور في هيكل ذاته. إلى غير ذلك من كلامه، وكان يحضر السماع ليلة المولد عند السلطان، وهو لا يريد ذلك، وما رأيته قط في غير مجلس جالساً مع أحد وإنما حظ من يراه الوقوف معه خاصة، وكنت إذا طلبته بالدعاء احمر وجهه واستحيا كثيراً، ثم يدعو لي، وأكثر تمتعه من الدنيا بالطيب والبخور الكثير، ويتولى أمر خدمته بنفسه، ولم يتزوج ولم يملك أمة، ولباسه في داره مرقعة، فإذا خرج سترها بثوب أخضر أو أبيض، وله تلامذة كلهم أخيار مباركون، وبلغني عن بعضهم أنه تصدق حين تاب على يده بعشرة آلاف دينار ذهباً، وهو الآن إمام جامع القرويين بفاس وخطيبه، وأكثر قراءته في صلاة الجمعة " إذا جاء نصر الله " وأكثر خطبته وعظ، ومثله من يعظ الناس، لأن اتعظ في نفسه، وقد أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام: يا عيسى، عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحي مني، ذكره الغزالي؛ وعهدي به أنه على صفة البدلاء، الصادقين النبلاء، كثر الله مثله في الإسلام؛ انتهى. قلت: وقد زرت قبره مراراً بفاس، ودعوت الله تعالى عنده، وهو عند أهل فاس بمثابة الشافعي عند أهل مصر، ومن منن الله سبحانه علي أني سكنت محله لما توليت الخطابة والإمامة بجامع القرويين من فاس المحروسة مضافين إلى الفتوى، والدار المعلومة للخطيب بالجامع المذكور إلى الآن تعرف بدار الشيخ ابن عباد، وأقمت على ذلك خمس سنين وأشهراً، ثم قوضت الرحال للمشرق، وها أنا إلى الآن فيها، والله ييسر الخير حيث كان. وقال الشيخ سيدي أحمد زروق في شأن الشيخ ابن عباد: إنه ولد برندة، وبها نشأ في عفاف وصون، ثم رحل لفاس وتلمسان فقرأ بهما الفقه والأصول والعربية، ثم عاد فصحب بمدينة سلا أفضل أهل زمانه علماً وعملاً سيدي أحمد

ابن عاشر، فأظهر الله تعالى عليه من بركاته ما لا يخفى على متأمل، ثم نقل بعد وفاة الشيخ فجعل خطيباً بجامع القرويين من مدينة فاس، وبقي بها خمس عشرة سنة خطيباً، فتوفاه الله تعالى بها بعد صلاة العصر من يوم الجمعة رابع رجب سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، ودفن بكدية البراطل من داخل باب الفتوح، وكان رضي الله عنه إذا صمت وسمت، وتجمل وزهد، معظماً عند الكافة، معولاً في حل المشكلات على فتح الفتاح العليم: ومن علمه أن ليس يدعى بعالم ... ومن فقره أن لا يرى يشتكي الفقرا ومن حاله أن غاب شاهد حاله ... فلا يدعي وصلاً ولا يشتكي هجرا كذا رأيت بخط من أثق به في تعريفه مختصراً مع زيادة ما تحققت، وكتبه شاهدة بكماله علماً وعملاً، فهي كافية في تعريفه، وكان الذي طلبه في وضع الشرح على الحكم سيدي أبو زكريا السراج الذي أكثر رسائله له وسيدي أبو الربيع سليمان بن عمر؛ انتهى. وقال في موضع آخر: سيدنا العارف المحقق الخطيب البليغ نسيج وحده، ومقدم من أتى بعده، أبو عبد الله، قرأ بفاس وتلمسان العربية والأصول والفقه ككتاب الإرشاد ومختصر ابن الحاجب الفقهي والأصلي وتسهيل ابن مالك، وتوفي بفاس، وقبره بها مشهور، ومزيته معروفة شرقاً وغرباً، وقد كتب مسائل معروفة أكثرها لسيدي يحيى السراج، وله كتب الشرح مع سيدي سليمان بن عمر الذي قال في حقه: إنه ولي بلا شك، بطلبهما لذلك، ورأيت كتاباً في الإمامة سماه " تحقيق العلامة في أحكام الإمامة " فذكرته لشيخنا القوري رحمه الله تعالى، وكان معتنياً بكتبه معولاً عليها في حاله، فقال: أظنه لوالده سيدي إبراهيم، وقد كان خطيباً بالقصبة إذ كانت عامرة، وله خطب عظيمة الفصاحة، حسنة الموقع؛ انتهى. وقال الشيخ أبو يحيى ابن السكاك: أما شيخي وبركتي أبو عبد الله ابن عباد

رضي الله عنه فإنه شرح الحكم وعقد درر منثورها في نظم بديع، وجمعت من إنشائه مسائل مدارها على الإرشاد إلى البراءة من الحول والقوة، فيها نبذ كأنفاس الأكابر، مع حسن التصرف في طريق الشاذلي، وجودة تنزيله على الصور الجزئية، وبسط التعبير، مع إنهاء البيان إلى أقصى غاياته، والتفنن في تقريب الغامض إلى الأذهان بالأمثلة الوضعية، فقرب بها حقائق الشاذلية تقريباً لم يسبق إليه، كما قرب الإمام ابن رشد مذهب مالك تقريباً لم يسبق إليه، وكان مع ذلك آية في التحقق بالعبودية والبراءة من الحول والقوة وعدم المبالاة بالمدح والذم، بل له مقاصد نفيسة في الإعراض عن الخلق، وعدم المبالاة بهم، وأعظم أخلاقه التي لا يصبر عنها ويضطرب لها غاية الاضطراب أن يحضر حيث ينسى الحق، لا سيما إن كان نسيان الحق بالنسبة إليه، فهو الذي يقلقه، ويضيق صدره على اتساعه ووفور انشراحه عن ذلك، ولقد ذكر بعض من كان من أخص الناس به ومنقطعاً إليه أحوال رجال الرسالة القشيرية والحلية وما منحوا من المواهب، قال: فلما مات الشيخ واستبصرت ما أشاهده منه من أفعال تدل على القطع بصديقيته لاح لي أن لتك الصفات التي يذكر مشخصة فيه، نشاهدها عياناً، ولو لم أر الشيخ لقلت: إنني لم أر كمالاً، وعلى الجملة فهو واحد عصره بالمغرب، ذكر لي عن قطب المعقول بالمغرب والمشرق الآبلي أنه كان يشير إليه في حال قراءته عليه، أعني الشيخ ابن عباد، ويقول: إن هناك علماً جماً لا يوجد عند مشاهير أهل ذلك الوقت، إلا أنه كان لا يتكلم رضي الله عنه، وشهد له المقطوع بولايتهم بالتقدم، وأقروا له بالشيخوخة، وتبركوا به، كسيدي سليمان اليازغي (1) وسيدي محمد المصمودي وسيدي سليمان ابن يوسف ابن عمر الأنفاسي (2) وأمثالهم، وكان شيخه الحجة الورع أحمد ابن عاشر يشيد بذكره، ويقدمه على سائر أصحابه، ويأمرهم بالأخذ عنه، والانتفاع به،

_ (1) ق: البازغي، وهو خطأ. (2) انظر سلوة الأنفاس 3: 156.

والتسليم له، ويقول: بان عباد أمة وحده، ولا شك أنه كذلك كان، أعني غريباً فإن العارف غريب الهمة بعيد القصد، لا يجد مساعداً على قصده. وكان الغالب عليه الحياء من الله تعالى، والتنزل بين يدي عظمته، وتنزيله نفسه منزلة أقل الحشرات، لا يرى لنفسه مزية على مخلوق، لما غلب عليه من هيبة الجلال وعظمة المالك وشهود المنة، نظاراً إلى جميع عباد الله تعالى بعين الرحمة والشفقة والنصيحة العامة، مع توفية المراتب حقها، والوقوف مع الحدود الشرعية واعبارهم من حيث مراد الله تعالى بهم، هذا دأبه مع الطائع والعاصي ما لم يظهر له من أحد مخايل حب التعظيم والمدح والتجبر على المساكين ورؤية الحق إذ هي دعوى لا تليق بالعبد، ومن كانت هذه صفته فقد وصل حد الخذلان، بل هي علامة تقارب القطع على أنه شقي مسلم إلى غضب الله تعالى ومقته، أعاذنا الله تعالى منه. وكان من حال هذا السيد تألف قلوب الأولاد الصغار، فهم يحبونه محبة تفوق محبته لآبائهم وأمهاتهم، فينتظرون خروجه للصلاة وهم عدد كثير، يأتون منكل أوب ومن المكاتب البعيدة، فإذا رأوه ازدحموا على تقبيل يده. وكذا كان ملوك زمانه يزدحمون عليه، ويتذللون بين يديه، فلا يحفل بذلك. وذكر لي بعض تلامذته أن أقواله تشبه (1) أفعاله، لما منحه الله تعالى من فنون الاستقامة، مع ما في كلامه من النور والحلاوة التي استفزت ألباب المشارقة، بحيث صار لهم بحث عريض (2) على تواليفه؛ انتهى كلام ابن السكاك. وله من التواليف: الرسائل الكبرى، والصغرى (3) ، وشرح الحكم، ونظمها في ثمانمائة بيت من الرجز. وحدث الشيخ أبو مسعود الهراس قال: كنت أقرأ في صحن جامع القرويين

_ (1) ق ص: لا تشبه. (2) ق: تحريض. (3) طبع هذان الكتابان أولهما بفاس سنة 1320 والثاني ببيروت سنة 1958.

والمؤذنون يؤذنون بالليل، فإذا أبو عبد الله ابن عباد قد خرج من باب داره، وجاء يطير في الصحن كأنه جالس متربع حتى دخل في البلاط الذي حول الصومعة، ثم مشيت فوجدته يصلي حول المحراب، وسأله السراج عن أبي حامد الغزالي، فقال: هو فوق الفقهاء وأقل من الصوفية. ومما نقل من خطه رحمه الله تعالى ولا يدرى هل هي له أم لا: الحزم قبل العزم فاحزم واعزم ... وإذا استبان لك الصواب فصمم واستعمل الرفق الذي هو مكسب ... ذكر القلوب وجد وأجمل واحلم واحرص وسر واشجع وصل وامنن وصل ... واعدل وأنصف وارع واحفظ وارحم وإذا وعدت فعد بما تقوى على ... إنجازه وإذا اصطنعت فتمم وذكر الشيخ الفقيه الخطيب القاضي الحاج الرحيل أبو سعيد ابن أبي سعيد السلوي أنه رأى في حائط جامع القرويين أبياتاً مكتوبة بفحم بخط الشيخ أبي عبد الله ابن عباد وهي (1) : أيتها النفس إليه اذهبي ... فحبه المشهور من مذهبي مفضض الثغر له نقطة ... من عنبر في خده المذهب أيأسني التوبة من حبه ... طلوعه شمساً من المغرب قال الشيخ أبو سعيد: فاستشكلت هذه الأبيات لما اشتملت عليه من التغزل، وذكر الخال والخد والثغر، ومقام الشيخ ابن عباد يجل عن الاشتغال بمثل هذا، فلقيت يوماً أبا القاسم الصيرفي، فذاكرته بالقصة ووجه الإشكال فيها، فقال لي: مقامك عندي أعلى من أن تستشكل مثل هذا، هذه أوصاف ولي الله القائم بأمر الله المهدي، فشكرته على ذلك؛ انتهى.

_ (1) قد مرت هذه الأبيات ج 4 ص: 14 منسوبة خطأ لابن خروف وهي لابن طلحة الصقلي، وانظر ما يجيء ص: 482.

قلت: رأيت بخط الونشريسي إثر هذه الحكاية ما نصه: قلت في صحة هذه الحكاية عن الشيخ نظر، لما احتوت عليه من تعبير الحسن، وقدر الشيخ وورعه أعلى من هذا، فهذان إشكالان، والله أعلم. وحكى (1) أن الشيخ ابن عباد رحمه الله تعالى لما احتضر جعل رأسه في حجر أبي القاسم هذا، وأخذ في قراءة آية الكرسي إلى قوله " الحي القيوم " ثم يقول: يا الله يا حي يا قيوم، فيلقنه من حضر " لا تأخذه سنة ولا نوم " فيمتنع الشيخ من قراءتها ويقول: يا الله يا حي يا قيوم، فلما قربت وفاته سمع منه هذا البيت وكان آخر ما تكلم به: ما عودوني أحبابي مقاطعة ... بل عودوني إذا قاطعتهم وصلوا ولما توفي الشيخ ابن عباد رضي الله عنه في التاريخ المتقدم حضر جنازته السلطان أمير المسلمين أبو العباس أحمد ابن السلطان أبي سالم وأهل البلدتين يعني فاساً الجديد التي هي مسكن السلطان وخواص أتباعه، وفاساً العتيق التي هي محل الأعلام والخاص والعام من الناس في ذلك القطر، إذ هي إذ ذاك حضرة الخلافة وقبة الإسلام في المغرب ويقدم بعده للإمامة والخطبة بجامع القرويين نائبه أيام مرضه الشيخ الصالح الورع أبو زيد عبد الرحمن الزرهوني حسبما قاله الجاديري رحمه الله تعالى. وحكى الونشريسي رحمه الله تعالى أن الشيخ ابن عباد كلم ابن دريدة الوالي في مظلمة، فلم يقبل، فلما كان يوم الجمعة ونزل السلطان أبو العباس الصلاة بجامع القرويين وراء الشيخ ابن عباد، قال الشيخ في خطبته: من الأمور المستحسنة، أن لا يبقى الوالي سنة؛ انتهى. وللشيخ ابن عباد خطب مدونة بالمغرب مشهورة بأيدي الناس، ويقرؤون

_ (1) ق: ثم.

منها ما يتعلق بالمولد النبوي الشريف بين يدي السلطان تبركاً بها، وكذا يقرؤونها في المجتمعات في المواسم، كأول رجب وشعبان ونصفهما والسابع والعشرين منهما، كرمضان، وقد حضرت بمراكش المحروسة سنة عشر وألف قراءة كراسة الشيخ في المولد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام بين يدي مولانا السلطان المرحوم أحمد المنصور بالله الشريف الحسني رحمه الله تعالى، وقد احتفل لذلك المولد بأمور يستغرب وقوعها، جازاه الله تعالى عن نيته خيراً وقد أشرت إلى ذلك في كتابي الموسوم بروضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس وسردت جملة من القصائد والموشحات في وصف ذلك الصنيع (1) ، ورحمة الله وراء الجميع. رجع إلى مشايخ لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى فنقول: 4 - ومنهم: الشيخ الفقيه القاضي بمكناسة الزيتون أبو محمد عبد الحق ابن سعيد بن محمد (2) ، ذكره في نفاضة الجراب وقال: إنه لقيه بمكناسة الزيتون سنة إحدى وستين وسبعمائة، وكان من أهل المعرفة والحصافة (3) ، قائماً على كتاب أبي عمرو ابن الحاجب في مذهب مالك، وكان ممتازاً به فيما دون تلمسان، قرأه على الشيخين علمي الأفق المغربي أبي موسى وأبي زيد ابني الإمام عالمي تلمسان والمغرب جميعاً قال لسان الدين في النفاضة: وتصدر المذكور لإقراءه الآن، فمل شئت من اضطلاع، ومعرفة واطلاع، وقيد جزءاً نبيلاً على فتوى الإمام القاضي أبي بكر ابن العربي المسماة بالحاكمة، وسماه

_ (1) نقص هذا المصدر من أوله، ولكن ما تبقى من ص 5 - 14 يدل على ما يشير المؤلف إليه. (2) ترجمة عبد الحق بن سعيد في نيل الابتهاج: 164 نقلا عن الروض الهتون عن نفاضة الجراب، وقال كان حيا سنة 761هـ. (3) نيل الابتهاج: والفصاحة.

ب " الخادمة (1) على الرسالة الحاكمة " أجاد فيه وأحسن، وقرأت عليه بعضه وأذن في تحمله؛ انتهى. 5 - ومن أشياخ لسان الدين الذين لقيهم بمكناسة الزيتون الفقيه الفاضل الخير يونس بن عطية الونشريسي، له عناية بفروع الفقه، وولي القضاء بقصر كتامة. 6 - ومنهم الفقيه الفاضل الخير أبو عبد الله محمد ابن أحمد ابن أبي عفيف (2) ، المتصدر لقراءة كتاب الشفاء النبوي، لديه جملة حسنة من أصول الفقه أشف بها على كثير من نظرائه قراءة منه إياها على أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل الصباغ، وشاركه في قراءتها على الإمام أبي عبد الله الآبلي. 7 - ومنهم الفقيه المدرك الأستاذ في فن العربية: أبو علي عمر بن عثمان الونشريسي (3) ، قال لسان الدين: حضرت مذاكرته في مسألة أعوزت (4) عليه، وطال عنها سؤاله، وهي قول الشاعر: الناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً ... ما لم يروا عنده آثار إحسان وصورة السؤال: كيف [صح] وقوع أفعل بين شيئين لا اشتراك بينهما في الوصف؛ إذ أوقع الشاعر " أكيس " بين الناس وبين أن يمدحوا، وهو مؤول بالمصدر وهو المدح، ولا يوصف بذلك؛ انتهى. قلت: الإشكال مشهور، والجواب عنه بضرب من المجاز ظاهر، وقد

_ (1) نيل الابتهاج: الخارجة، وفي التجارية: الجازمة. (2) ترجمة ابن أبي عفيف في نيل الابتهاج: 248 نقلا عن نفاضة الجراب. (3) ترجمة عمر الونشريسي في نيل الابتهاج: 178 نقلا عن نفاضة الجراب وتوفي بفاس سنة 810 (عن الروض الهتون لابن غازي) . (4) ق: رسالة أغورت.

أشار إليه أبو حيان في الارتشاف وجماعة آخرون في قول بعض المؤلفين كصاحب التلخيص أكثر من أن تحصى ولولا السآمة لذكرت ما قيل في ذلك، وخلاصة ما قالوه أن في الكلام تقديراً، والله أعلم. 8 - وممن لقيه لسان الدين بمكناسة الزيتون الفقيه العدل الأخباري الأديب المشارك أبو جعفر أحمد بن محمد بن إبراهيم الأوسي الخباز، من أهل الظرف والانطباع والفضيلة، وهو كاتب عاقد للشروط، ناظم ناثر مشارك في فنون من العلم، مؤلف، وقد ذكرنا في غير هذا المحل ما دار بينه وبين لسان الدين من المحاورة والمراجعة، فليراجع، قال لسان الدين رحمه الله تعالى: ناولني المذكور تأليفه الحسن الذي سماه المنهل المورود في شرح المقصد المحمود شرح فيه وثائق الجزيري فأربى بياناً وإفادة وإجادة، وأذن لي في حمله عنه، وهو في ثلاث مجلدات، وأنشدني كثيراً من شعره. 9 - ومنهم القاضي بها أبو عبد الله ابن أبي رمانة (1) ، قال لسان الدين: لقيته بمكناس، وكان من أهل الحياء والحشمة، وذوي السذاجة والعفة، ثم ذكر ما داعبه به حين تأخر عن لقائه، وقد ذكرنا ذلك في غير هذا الموضع. 10 - وممن لقيه لسان الدين بمكناس الفقيه العدل أبو علي الحسن بن عثمان ابن عطية (2) الونشريسي، قال: وكان فقيهاً عدلاً من أهل الحساب، والقيام على الفرائض، والعناية بفروع الفقه، ومن ذوي السذاجة والفضل، ويقرض الشعر، وله أرجوزة في الفرائض مبسوطة العبارة مستوفية المعنى؛ انتهى. وقال ابن الأحمر في حقه: هو شيخنا الفقيه المفتي المدرس القاضي الفرضي الأديب، الحاج أبو علي ابن الفقيه الصالح أبي سعيد عثمان التجاني المنعوت

_ (1) هو محمد بن علي بن أبي رمانة المكناسي قاضي مكناس (الديباج: 249) وانظر ص: 143. (2) نيل الابتهاج: 89 نقلا عن نفاضة الجراب وعن ابن الأحمر؛ والمقري ينقل عن التنبكي.

بالونشريسي، أجازني عامة، أخذ عن الفقيه المفتي الأديب الخطيب المعمر القاضي المحدث الراوية خاتمة المحدثين بالمغرب أبي البركات ابن الحاج البلفيقي؛ انتهى. ومولده في حدود أربع وعشرين وسبعمائة. وذكر صاحب " المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي إفريقية والأندلس والمغرب " جملة من فتاويه وقال في وثائقه، وقد أجرى ذكره، ما صورته: إن بلدينا الشيخ القاضي العلامة أبا علي الحسن وقعت له قضية مع عدول مكناسة، وذلك أم السلطان أبا عنان فارساً كان أمر بالاقتصار على عشرة من الشهود بمدينة مكناسة وكتب اسم الشيخ أبي علي هذا في العشرة، فشق ذلك على بعض شيوخ العدول المؤخرين لحداثة سن أبي علي، فلما علم تشغيبهم صنع رجزاً ورفعه إلى مقام المتوكل على الله أبي عنان نصه: نبدأ أولاً بحمد الله ... ونستعينه على الدواهي ثم نوالي بالصلاة والسلام ... على نبي (1) دونه كل الأنام وبعد ذا نسأل رب العالمين ... أن يهب النصر أمير المؤمنين خليفة الله أبا عنان ... لا زال في خير وفي أمان ملكه الله من البلاد ... من سوس الأقصى إلى بغداد ويسر الحجاز والجهادا ... وجعل الكل له مهادا يا أيها الخليفة المظفر ... دونك أمري إنه مفسر عبدكم نجل عطية الحسن ... قد قيل لا يشهد إلا إن أسن وهو في أمركم المعهود ... من جملة العشرة الشهود نص عليه أمركم تعيينا ... وسنه قارب أربعينا (2)

_ (1) ق ونيل الابتهاج: على النبي. (2) ق: الأربعينا.

مع الذي ينتسب العبد إليه ... من طلب العلم وبحثه عليه على الفرائض له أرجوزه ... أبرز في نظامها إبريزه ومجلس له على الرساله ... فكيف يرجو حاسد زواله حاشا أمير المؤمنين ذاكا ... وعدله قد بلغ السماكا وعلمه قد طبق الآفاقا ... وحلمه قد جاوز العراقا وجوده مشتهر في كل حي ... قصر عن إدراكه حاتم طي وحكى بعض الحفاظ أنه لما بلغت الأبيات السلطان أمر بإقراره على ذلك، وقد وقفت على رجزه المذكور، وله شرح عليه لم أره، والظاهر أنه ممن تدبج معه لسان الدين، رحم الله الجميع؛ وهو معدود في جملة من لقيه. 11 - ومن مشايخ لسان الدين رحمه الله ذو الكرامات الكثيرة والمقامات الكبيرة، سيدي الحاج أبو العباس أحمد ابن عاشر الصالح (1) المشهور، كان لسان الدين رحمه الله تعالى حريصاً على لقائه بسلا أيام كان بها، وقد لقيه، ولم يتمل منه لشدة نفوره من الناس، خصوصاً أصحاب الرياسة، ولذا قال لسان الدين، لما ذكر أنه لقيه في مفاضة الجراب، ما صورته: يسر الله لقائه على تعذره؛ انتهى. وسنترجم الولي المذكور في نظم لسان الدين حيث وصفه بقوله: بولي الله فابدأ وابتدر ... وقبره الآن بسلا محط رجاء (2) الطالبين، وكعبة قصد الراغبين، تلوح عليه أنوار العناية، وتستمد منه أنواء الهداية، وهو على ساحل البحر المحيط بخارج مدينة سلا المحروسة، وقد زرته ولله الحمد عند توجهي إلى حضرة مراكش

_ (1) ترجمة أحمد بن عاشر في نيل الابتهاج: 48 وأنس الفقير: 7 وكانت وفاته سنة 765. (2) ق: رحال.

سنة ألف وتسعة، والناس يشدون الرحال إليه من أقطار المغرب، نفعنا الله تعالى به، وأعاد علينا من بركاته، بجاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. رجع إلى مشايخ لسان الدين الوزير ابن الخطيب رحمه الله تعالى. 12 - ومنهم الأستاذ المحقق العلامة الكبير النحوي الشهير أبو عبد الله محمد بن علي الفخار البيري، رحمه الله تعالى (1) . كان شيخ النحاة بالأندلس غير مدافع، وأخذ عنه خلق كثيرون كالشاطبي أبي إسحاق صاحب شرح الألفية والوزير ابن زمرك وغيرهما، وقد حكى عنه مسائل غريبة تلميذه الشاطبي، وقال لسان الدين في الإحاطة في ترجمة مشيخته ما صورته: ولازمت قراءة العربية والفقه والتفسير والمعتمد عليه العربية على الشيخ الأستاذ الخطيب أبي عبد الله ابن الفخار البيري، الإمام المجمع على إمامته في فن العربية، المفتوح عليه من الله تعالى فيها حفظاً واطلاعاً واضطلاعاً ونقلاً وتوجيهاً بما لا مطمع فيه لسواه؛ انتهى. ولنورد بعض فوائد ابن الفخار فنقول: ومن فوائد ابن الفخار المذكور التي حكاها عن الشاطبي قوله: حدثني أن بعض الشيوخ كان إذا أتي بإجازة يشهد فيها سأل الطالب المجاز عن لفظ إجازة ما وزنه وما تصريفه ثم قال الشاطبي: ولما حدثنا بذلك سألناه عنها فأملى علينا ما نصه: وزن إجازة في الأصل إفعالة، وأصلها إجوازة فأعلت بنقل حركة الواو إلى الجيم حملاً على الفعل الماضي استثقالاً، فتحركت الواو في الأصل وانفتح ما قبلها في اللفظ، فانقلبت ألفاً، فصارت إجازة بألفين فحذفت الألف الثانية، عند سيبويه لأنها زائدة والزائد أولى بالحذف من الأصلي، وحذفت

_ (1) ترجمة ابن الفخار في الكتيبة الكامنة: 70 والإحاطة (الورقة: 27) إلا أن كنيته فيها " أبو بكر "؛ وبغية الوعاة: 80 وغاية النهاية 2: 200 وكانت وفاته سنة 723.

الأولى عند الأخفش لأنها لا تدل على معنى وهو المد، وقول سيبويه أولى، لأنه قد ثبت عوض التاء من المحذوف في نحو " زنادقة " والتاء الزائدة، وتعويض الزائد من الزائد أولى من تعويض الزائد من الأصلي، للتناسب، ووزنها في اللفظ عند سيبويه إفعلة وعند الأخفش إفال لأن العين عنده محذوفة؛ انتهى. وقال الشاطبي رحمه الله تعالى: لما توفي شيخنا الأستاذ الكبير، العلم الخطير، أبو عبد الله ابن الفخار سألت الله عز وجل أن يرينيه في المنام فيوصيني بوصية أنتفع بها في الحالة التي أنا عليها من طلب العلم، فلما نمت في تلك الليلة رأيت كأني أدخل عليه في داره التي كان يسكن بها، فقلن له: يا سيدي أوصني، فقال لي: لا تعترض على أحد، ثم سألني بعد ذلك مسألة من مسائل العربية كالمؤنس لي، فأجبته عنها، ولا أذكرها الآن؛ انتهى. وقال الشاطبي أيضاً ما صورته: حدثنا الأستاذ الكبير الشهير أبو عبد الله محمد بن الفخار شيخنا - رحمه الله تعالى - قال (1) : حدثني بسبتة بعض المذاكرين أن ابن خميس لما ورد عليها بقصد الإقراء بها اجتمع إليه عيون طلبتها، فألقوا عليه مسائل من غوامض الاشتغال، فحاد عن الجواب عنها بأن قال لهم: أنتم عندي كرجل واحد، يعني أن ما ألقوا عليه من المسائل إنما تلقوها من رجل واحد، وهو ابن أبي الربيع، فكأنه إنما يخاطب رجلاً واحداً ازدراء بهم، فاستقبله أصغر القوم سناُ وعلماً بأن قال له: إن كنت بالمكان الذي تزعم فأجبني عن هذه المسائل من باب معرفة علامات الإعراب التي أذكرها لك، فإن أجبت فيها بالصواب لم تحظ بذلك في نفوسنا لصغرها بالنظر إلى تعاطيك من الإدراك والتحصيل، وإن أخطأت فيها لم يسعك هذا البلد، وهي عشر: الأولى أنتم يا زيدون تغزون، والثانية أنتن يا هندات تغزون، والثالثة أنتم يا زويدن ويا هندات تغزون، والرابعة أنتن يا هندات تخشين، والخامسة

_ (1) قارن بما ورد في أزهار الرياض 2: 297 - 301.

أنت يا هند تخشين، والسادسة أنت يا هند ترمين، والسابعة أنتن يا هندات ترمين، والثامنة أنتن يا هندات تمحون أو تمحين، كيف تقول والتاسعة أنت يا هند تمحين أو تمحون، كيف تقول والعاشرة أنتما تمحوان أو تمحيان، كيف تقول وهل هذه الأفعال كلها مبنية أو معربة أو بعضها مبني وبعضها معرب وهل هي كلها على وزن واحد أو على أوزان مختلفة علينا السؤال وعليك التمييز لنعلم الجواب، فبهت الشيخ، وشغل المحل بأن قال: إنما يسأل عن هذا صغار الولدان، قال له الفتى: فأنت دونهم إن لم تجب، فانزعج الشيخ، وقال: هذا سوء أدب، ونهض منصرفاً، ولم يصبح إلا بمالقة متوجهاً إلى غرناطة حرسها الله تعالى، ولم يزل بها مع الوزير ابن الحكيم إلى أن مات رحمة الله تعالى عليه؛ انتهى. ثم قال الشاطبي: والجواب عن هذه المسائل ما يذكر: أما الجواب عن تغزون الأولى فإنه معرب، ووزنه أصلاً تفعلون، ولفظاً تفعون، وعن الثانية فبني للحاق نون الإناث ووزنه تفعلن، وعن الثالثة على التغليب فعلى رده بالأول يلحق بالأول، وللثاني كالثاني، وأما تخشين من الرابعة فمبني للنون ووزنه تفعلن، وعن الخامسة فمعرب، ووزنه أصلاً تفعلين ولفظاً تفعين، وأما ترمين من السادسة فمعرب، ووزنه أصلاً تفعلين، ولفظاً تفعين، ومن السابعة مبني للنون، ووزنه تفعلن، وأما تمحون وتمحين من الثامنة فهما لغتان، وهما مبنيان للنون، والتاسعة لا يقال إلا تمحين، بالياء خاصة لتتفق اللغتان، ووزنهما تفعين كتخشين، وأما تمحيان من العاشرة فعلى لغة الياء لا إشكال وعلى الواو فيظهر من كلام النحويين أنه لا يجوز إلا بالواو؛ انتهى. وقد أورد هذه الحكاية عالم الدنيا سيدي أبو عبد الله محمد بن مرزوق رحمه الله تعالى في شرحه الواسع العجيب المسمى " تمهيد المسالك إلى شرح ألفية ابن مالك " ونص محل الحاجة منه: وقد حكي أن بعض طلبة سبتة أورد

على أبي عبد الله ابن خميس عشر مسائل من هذا النوع، وهي: أنتم يا زيدون تغزون، وأنتن يا هندات تغزون، وأنتم يا زيدون ويا هندات تغزون، وأنتن يا هندات تخشين، وأنت يا هند تخشين، وأنت يا هند ترمين وأنتن يا هندات ترمين، وأنتن يا هندات تمحون أو تمحين، كيف تقول وأنت يا هند تمحون أو تمحين، كيف تقول وأنتما تمحوان أو تمحيان، على لغة من قال محوت، كيف تقول وهل هذه الأمثلة كلها مبنية أو معربة أو مختلفة وهل وزنها واحد أو مختلف قالوا: ولم يجب بشيء، قلت ولعله استسهل أمرها، فأما المثال الأول فمعرب، وزنه تفعلون كتنظرون، إذ أصله تغزوون، فاستثقلت ضمة الواو التي هي لا فحذفت، ثم حذفت الواو أيضاً لالتقائها ساكنة مع واو الضمير، وكانت أولى بالحذف لأن واو الضمير فاعل، ولغير ذلك مما تقدم بعضه، وأما الثاني فمبني ووزنه تفعلن كتخرجن، وأما الثالث فكالأول إعراباً ووزناً لأن فيه تغليب المذكر على المؤنث، وأما الرابع فمبني ووزنه تفعلن، مثل تفرحن لأنه لما احتيج إلى تسكين آخر الفعل لإسناده إلى نون جماعة النسوة ردت الياء إلى أصلها لأنها إنما قلبت ألفاً لتحريكها، وانفتاح ما قبلها، والآن ذهبت حركتها لاستحقاقها السكون، وأما الخامس فمعرب ووزنه تفعلين كتفرحين، وأصله تخشيين، فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت لالتقائها ساكنة مع ياء الضمير، وترك فتحة الشين دالة على الألف، وأما السادي فمعرب ووزنه تفعلين كتضربين، وأصله ترميين، حذفت كسرة الياء لاستثقالها، ثم حذفت الياء لاجتماعها ساكنة مع ياء الضمير، وأما السابع فمبني ووزنه تفعلن كتضربن، وأما الثامن والتاسع فمضارع محى ورد بالأوزان الثلاثة، فمن قال يمحو قال في المضارع من جماعة النسوة تمحون مثله من غزا بناء ووزناً، ومن قال يمحي قال فيه تمحين كترمين بناء

ووزناً، ومن قال يمحى قال فيه تمحين كتخشين بناء ووزناً، ويقال المضارع للواحدة في اللغة الأولى تمحين كتدعين، إعراباً ووزناً وتصريفاً، وقد تقدم في كلام المنصف، وعلى الثانية كما يقال لها من رمى إعراباً ووزناً وتصريفاً، وعلى الثالثة كما يقال لها من تخشى أيضاً، وقد تقدما، وليس ما وقع في السؤال كما نقل من خط بعض الشارحين أنه يقال فيها تمحون كتفرحن بشيء، وأمر التثنية ظاهر؛ انتهى بحروفه. وما قاله رحمه الله تعالى في الاعتذار عن ابن خميس هو اللائق بمقامه، فإن مكان ابن خميس من العلوم غير منكر، وقد مدحه ابن خطاب بقوله: رقت حواشي طبعك ابن خميس ... فهفا قريضك لي وهاج رسيسي ولمثله يصبو الحليم ويمتري ... ماء الشؤون به وسير العيس لك في البلاغة، والبلاغة بعض ما ... تحويه من أثر، محل رئيس نظم ونثر لا تبارى فيهما ... عززت ذاك وذا بعلم الطوسي يعني أبا حامد الغزالي. [ترجمة ابن خميس] وقال لسان الدين ابن الخطيب في " عائد الصلة " في حق أبي عبد الله محمد ابن خميس التلمساني المذكور ما صورته (1) : كان رحمه الله تعالى نسيج وحده زهداً وانقباضاً وبأواً (2) وهمة، حسن الشيبة، جميل الهيئة، سليم الصدر، قليل التصنع، بعيداً عن الرياء، عاملاً على السياحة والعزلة، عارفاً بالمعارف القديمة،

_ (1) ترجمة ابن خميس (محمد بن عمر بن محمد بن عمر الحجري الرعيني) في أزهار الرياض 2: 301 وبغية الوعاة: 86. (2) أزهار الرياض: وأدبا.

مضطلعاً بتفاريق النحل، قائماً على العربية والأصلين، طبقة الوقت في الشعر، وفحل الأوان في المطول، أقدر الناس على اجتلاب الغريب، ثم ذكر من أحواله جملة، إلى أن قال: وبلغ الوزير أبا عبد الله ابن الحكيم أنه يروم السفر، فشق ذلك عليه، وكلفه تحريك الحديث بحضرته، وجرى ذلك، فقال الشيخ: أنا كالدم بطبعي أتحرك في كل ربيع؛ انتهى. وقال ابن خاتمة في " مزية المرية على غيرها من البلاد الأندلسية ": إنه نظم في الوزير ابن الحكيم القصائد التي حليت بها لبات الآفاق، وتنفست عنها صدور الرفاق، وكان من فحول الشعراء، وأعلام البلغاء [يصرف العويص] ويرتكب مستصعبات القوافي، ويطير في القريض مطار ذي القوادم الباسقة والخوافي، حافظاً لأشعار العرب وأخبارها، وله مشاركة في العقليات، واستشراف على الطلب، وقعد لإقراء العربية بحضرة غرناطة، ومال بأخرة إلى التصوف والتجوال، والتحلي بحسن السمت وعدم الاسترسال، بعد طي بساط ما فرطه له في بلده من الأحوال. وكان صنع اليدين، حدثني بعض من لقيت من الشيوخ أنه صنع قدحاً من الشمع على أبدع ما يكون في شكله ولطافة جوهره وإتقان صنعه، وكتب بدائرة شفته: وما كنت إلا زهرة في حديقة ... تبسم عني ضاحكات الكمائم فقلبت من طور لطور فها أنا ... أقبل أفواه الملوك الأعاظم وأهداه خدمة للوزير أبي عبد الله ابن الحكيم. وأنشدنا شيخا القاضي أبو البركات ابن الحاج، وحكى لنا قال: أنشدني أبو عبد الله ابن خميس، وحكى لي قال: لما وقفت على الجزء الذي ألفه ابن سبعين وسماه " الفقيرية " كتبت على ظهره: الفقر عندي لفظ دق معناه ... من رامه من ذوي الغايات عناه كم من غبي بعيد عن تصوره ... أراد كشف معماه فعماه

وأنشدنا شيخنا الأستاذ أبو عثمان ابن ليون غير مرة قال: سمعت أبا عبد الله ابن خميس ينشد، وكان يحسب أنهما له، ويقال: إنهما لابن الرومي: رب قوم في منازلهم ... عرر بها صاروا غررا ستر الإحسان ما بهم ... سترى لو زال ما سترا ثم قال ابن خاتمة: وقد جمع شعره ودونه صاحبنا القاضي أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم الحضرمي في جزء سماه " الدر النفيس في شعر ابن خميس " وعرف به صدره، وقدم ابن خميس المرية سنة ست وسبعمائة فنزل بها في كنف القائد أبي الحسن ابن كماشة من خدام الوزير ابن الحكيم، فوسع له في الإيثار والمبرة، وبسط له وجه الكرامة طلق الأسرة، وبها قال في مدح الوزير المذكور قصيدته التي أولها: العشي تعيا والنوابغ ... عن شكر أنعمك السوابغ (1) ووجه بها إليه [من المرية] وهي طويلة، ومنها: ودسائع ابن كماشة ... مع كل بازغة وبازغ تأتي بما تهوى النغا ... نغ من شهيات اللغالغ ومنها: ما ذاق طعم بلاغة ... من ليس للحواشي ماضغ ويقال: إن الوزير اقترح عليه أن ينظم قصيدة هائية، فابتدأ منها مطلعها، وهو قوله:

_ (1) العشي: جمع أعشى وهو لقب لعدة شعراء منهم الأعشى الكبير وأعشى همدان وغيرهما، وكذلك النوابغ: جمع نابغة وهو يطلق على عدة شعراء.

لمن المنازل لا يجيب صداها ... محيت معالمها وصم صداها وذلك آخر شهر رمضان من سنة ثمان وسبعمائة، ثم لم يزد على ذلك إلى أن توفي رحمه الله تعالى، فكان آخر ما صدر عنه من الشعر وقد أشار معناه إلى منعاه، وآذن أولاه بحضور أخراه، وكانت وفاته بحضرة غرناطة قتيلاً ضحوة يوم الفطر مستهل شوال سنة ثمان وسبعمائة، وهو ابن نيف وستين سنة، وذلك يوم مقتل مخدومه الوزير ابن الحكيم، أصابه قاتله بحقده على مخدومه، وكان آخر ما سمع منه " أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله " واستفاض من حال القاتل أنه هلك قبل أن يكمل سنة من حين قتله من فالج شديد أصابه، فكان يصيح ويستغيث: ابن خميس يطلبني، ابن خميس يضربني، ابن خميس يقتلني، وما زال الأمر يشتد به حتى قضى نحبه على تلك الحال، نعوذ بالله من الورطات، ومواقعات العثرات؛ انتهى ملخصاً. وحكى غيره أن بعضهم كتب بعد قوله " لمن المنازل لا يجيب صداها " ما نصه: لابن الحكيم، ومن بديع نظم ابن خميس قوله (1) : تراجع من دنياك ما أنت تارك ... وتسألها العتبى وها هي فارك تؤمل بعد الترك رجع ودادها ... وشر وداد ما تود الترائك حلا لك منها ما حلا لك في الصبا ... فأنت على حلوائه متهالك تظاهر بالسلوان عنها نخوة لا زهادة ... وشعر عذاري أسود اللون حالك وهي طويلة طنانة، وفي آخرها يقول: فلا تدعون غيري لدفع ملمة ... إذا ما دهى من حادث الدهر داهك (2)

_ (1) أزهار الرياض: 305. (2) داهك: طاحن كاسر.

فما إن لذاك الصوت غيري سامع ... وما إن لبيت المجد بعدي سامك (1) يغص ويشجى نهشل ومجاشع ... بما أورثتني حمير والسكاسك تفارقني الروح التي لست غيرها ... وطيب ثنائي لاصق بي صانك (2) وماذا عسى ترجو لداتي وأرتجي ... وقد شمطت مني اللحى والأفانك (3) يعود لنا شرخ الشباب الذي مضى ... إذا عاد للدنيا عقيل ومالك ومما اشتهر من نظمه قوله (4) : أرق عيني بارق من أثال ... كأنه في جنح ليلي ذبال أثار شوقاً في ضمير (5) الحشا ... وعبرتي في صحن خدي أسال حكى فؤادي قلقاً واشتعال ... وجفن عيني أرقاً وانهمال جوانح تلفح نيرانها ... وأدمع تنهل مثل الغزال (6) قولوا وشاة الحب ما شئتم ... ما لذة الحب سوى أن يقال عذراً للوامي (7) ولا عذر لي ... فزلة العالم ما إن تقال قم نطرد الهم بمشمولة ... تقصر الليل إذا الليل طال وعاطها صفراء ذمية ... تمنعها الذمة من أن تنال كالمسك ريحاً، واللمى مطعماً ... والتبر لوناً، والهوى في اعتدال عتقها في الدن خمارها ... والبكر لا تعرف غير الحجال لا تثقب المصباح (8) لا واسقني ... على سنا البرق وضوء الهلال

_ (1) سامك: رافع للقواعد معل للبناء. (2) صائك: لاصق. (3) الأفانك: جمع أفنيك وهو مجمع اللحيين؛ وفي ص ق: الأفاتك. (4) قارن بأزهار الرياض. (5) أزهار: من ضميم؛ ق: من. (6) العزالي: الروايا أو القرب. (7) أزهار: أعذر لوامي. (8) أثقب المصباح: جعل ضوءه ساطعا.

فالعيش نوم، والردى يقظة ... والمرء ما بينهما كالخيال خذها على تنغيم مسطارها (1) ... بين خوابيها وبين الدوال في روضة باكر وسميها ... أخمل دارين وأنسى أوال (2) كأن فأر المسك مفتوقة ... فيها إذا هبت صباً أو شمال من كف ساجي الطرف ألحاظه ... مفوقات أبداً للنضال من عاذري والكل لي عاذر ... من حسن الوجه قبيح الفعال من خلبي الوعد كذابه ... لبان لا يعرف غير المطال كأنه الدهر وأي امرئ ... يبقى على الدهر إذا الدهر حال أما تراني آخذاً ناقضاً ... عليه ما سوغني من محال ولم أكن قط له عائباً ... كمثل ما عاتبه قبلي رجال يأبى ثراء المال علمي، وهل ... يجتمع الضدان: علم ومال وتأنف الأرض مقامي بها ... حتى تهاداني ظهور الرحال لولا بنو زيان ما لذ لي ال ... عيش ولا هانت علي الليال هم خوفوا الدهر وهم خففوا ... على بني الدنيا خطاه الثقال لقيت (3) من عامرهم سيداً ... غمر رداء الحمد جم النوال وكعبة للجود منصوبة ... يسعى إليها الناس من كل بال خذها أبا زيان من شاعر ... مستلمح النزعة عذب المقال يلتقط الألفاظ لقط النوى ... وينظم الآلاء نظم اللآل مجارياً مهيار في قوله ... ما كنت لولا طمعي في الخيال وقصيدة مهيار مطلعها (4) :

_ (1) المسطار: الخمرة أول ما تعصر. (2) أوال: الاسم القديم للبحرين. (3) أزهار: ألقيت. (4) انظر ديوان مهيار ج 3 ص: 166.

ما كنت لولا طمعي في الخيال ... أنشد ليلى بين طول الليال ومن نظم ابن خميس قوله (1) : نظرت إليك بمثل عيني جؤذر ... وتبسمت عن مثل سمطبي جوهر عن ناصع كالدر أو كالبرق أو ... كالطلع أو كالأقحوان مؤشر تجري عليه من لماها نطفة ... بل خمرة لكنها لم تعصر لو لم يكن خمراً سلافاً ريقها ... تزري وتلعب بالنهى لم تخطر وكذاك ساجي جفنها لو لم يكن ... فيه مهند لحظها لم يحذر لو عجبت طرفك في حديقة خدها ... وأمنت سطوة صدغها المتنمر لرتعت من ذاك الحمى في جنة ... وكرعت من ذاك اللمى في كوثر طرقتك وهناً والنجوم كأنها ... حصباء در في بساط أخضر والركب بين مصعد ومصوب ... والنوم بين مسكن ومنفر بيضا إذا اعتكرت ذوائب شعرها ... سفرت فأزرت بالصباح المسفر سرحت غلائلها فقلت سبيكة ... من فضة أو دمية من مرمر منحتك ما منعتك يقظاناً فلم ... تخلف مواعدها ولم تتغير وكأنما خافت بغاة وشاتها ... فأتتك من أردافها في عسكر وبجزع ذاك المنحنى أدمانة ... تعطوا (2) فتسطوا بالهزبر القسور وتحية جاءتك في طي الصبا ... أذكى وأعطر من شميم العنبر جرت على واديك فضل ردائها ... فعرفت فيها عرف ذاك الإذخر هاجت بلابل نازح عن إلفه ... متشوق ذاكي الحشا متسعر وإذا نسيت ليالي العهد التي ... سلفت لنا فتذكريها تذكري

_ (1) قارن بأزهار الرياض 2: 314. (2) أدمانة: ظبية ذات لون أسمر؛ تعطو تتناول ورق الشجر فترفع جيدها.

رحنا تغنينا ونرشف ثغرها ... والشمس تنظر مثل عين الأخزر والروض بين مفضض ومعسجد ... والجو بين ممسك ومعصفر وكان السلطان أمير المؤمنين أبو عنان المريني - رحمه الله تعالى - كثير العناية بنظم ابن خميس وروايته، قال رحمه الله تعالى: أنشدنا القاضي خطيب حضرتنا العلية أبو عبد الله محمد بن عبد الرزاق بقصر المصارة يمنه الله قال: أنشدنا بلفظه شيخ الأدباء وفحل الشعراء، أبو عبد الله ابن خميس لنفسه (1) : أنبت ولكن بعد طول عتاب ... وفرط لجاج ضاع فيه شبابي وما زلت والعلياء تعلي غريمتها ... أعلل نفسي دائماً بمتاب وهيهات من بعد الشباب وشرخه ... يلذ طعامي أو يسوغ شرابي خدعت بهذا العيش قبل بلائه ... كما يخدع الصادي بلمع سراب تقول هو الشهد المشور جهالة ... وما هو إلا السم شيب بصاب وما صحب الدنيا كبكر وتغلب ... ولا ككليب ريء فحل ضراب إذا كعت الأبطال عنها تقدموا ... أعاريب غراً في متون عراب وإن ناب خطب أو تفاقم معضل ... تلقاه منهم كل أصيد ناب تراءت لجساس مخيلة فرصة ... تأتت له في جيئة وذهاب فجاء بها شوهاء (2) تنذر قومها ... بتشييد أرجام (3) وهدم قباب وكان رغاء السقب في قوم صالح ... حديثاً فأنساه رغاء سراب فما تسمع الآذان في عرصاتهم ... سوى نوح ثكلى أو نعيب غراب وسل عروة الرحال عن صدق بأسه ... وعن بيته في جعفر بن كلاب وكانت على الأملاك منه وفادة ... إذا آب منها آب غير مآب

_ (1) أزهار الرياض 2: 316. (2) شوهاء: صفة للطعنة. (3) الأرجام: الحجارة فوق القبور.

يجير على الحيين قيس وخندف ... بفضل يسار أو بفصل خطاب زعامة مرجو النوال مؤمل ... وعزمة مسموع الدعاء مجاب فمر يزجيها حواسر ظلعاً ... بما حملوها من منى ورغاب إلى فدك والموت أغرب غاية ... وهذا المنى يأتي بكل عجاب تبرض صفو العيش حتى استشفه ... فداف له البراض قشب حباب (1) فأصبح في تلك المعاطف نهزة ... لنهب ضباع أو لنهس ذئاب وما سهمه عند النضال بأهزع ... ولا سيفه عند الصراع (2) بنابي ولكنها الدنيا تكر على الفتى ... وإن كان منها في أعز نصاب وعادتها أن لا توسط عندها ... فإما سماء أو تخوم تراب فلا ترج من دنياك وداً وإن يكن ... فما هو إلا مثل ظل سحاب وما الحزم كل الحزم إلا اجتنابها ... فأشقى الورى من تصطفي وتحابي أبيت لها، ما دام شخصي، أن ترى ... تمر ببابي أو تطور (3) جنابي فكم عطلت من أربع وملاعب ... وكم فرقت من أسرة وصحاب وكم عفرت من حاسر ومدجج ... وكم أثكلت من معصر وكعاب إليكم بني الدنيا نصيحة مشفق ... عليكم بصير الأمور نقاب (4) طويل مراس الدهر جذل مماحك ... عريض مجال الهم حلس ركاب تأتت له الأهوال أدهم سابقاً ... وغصت به الأيام أشهب كابي ولا تحسبوا أني على الدهر عاتب ... فأعظم ما بي منه أيسر ما بي وما أسفي إلا شباب خلعته ... وشيب أبى إلا نصول خضاب

_ (1) قشب حباب: سم حية؛ والإشارة إلى قصة عروة الرحال الذي أجار لطيمة النعمان وقتله البراض الكناني فجر ذلك إلى حروب الفجار، وهو خبر مشهور في كتب الأيام والأمثال. (2) أزهار: المصاع. (3) تطور: تقترب. (4) النقاب: الخبير الذي يضع الأمور مواضعها أو لديه قوة حدس.

وعمر مضى لم أحل مه بطائل ... سوى ما خلا من لوعة وتصابي ليالي شيطاني على الغي قادر ... وأعذب ما عندي أليم عذاب عكسنا قضايانا على حكم عادنا ... وما عكسها عند النهى بصواب على المصطفى المختار أزكى تحية ... فتلك التي أعتد يوم حسابي فتلك عتادي أو ثناء أصوغه ... كدر سحاب أو كدر سخاب (1) ومن مشهور نظم ابن خميس قوله (2) : عجباً لها أيذوق طعم وصالها ... من ليس يأمل أن يمر ببالها وأنا الفقير إلى تعلة ساعة ... منها، وتمنعني زكاة جمالها كم ذاد عن عيني الكرى متألق ... يبدو ويخفى في خفي مطالها يسمو لها بدر الدجى متضائلاً ... كتضاؤل الحسناء في أسمالها (3) وابن السبيل يجيء يقبس نارها ... ليلاً فتمنحه عقيلة مالها يعتادني في النوم طيف خيالها ... فتصيبني ألحاظها بنبالها كم ليلة جادت به فكأنما ... زفت علي ذكاء وقت زوالها أسرى فعطلها وعطل شهبها ... بأبي شذا المعطار من معطالها وسواد طرته كجنح ظلامها ... وبياض غرته كضوء هلالها دعني أشم بالوهم أدنى لمعة ... من ثغرها واشم مسكة خالها ما راد طرفي في حديقة خدها ... إلا لفتنته بحسن دلالها أنسيب شعري رق مثل نسيمها ... فشمول راحك مثل ريح شمالها وانقل أحاديث الهوى واشرح غري ... ب لغاتها واذكر ثقات رجالها

_ (1) السخاب: القلادة. (2) أزهار الرياض: 319. (3) استعاره من قول أبي تمام: كسيت سبائب لؤمه فتضاءلت ... كتضاؤل الحسناء في الأطمار

وإذا مررت برامة فتوق من ... أطلائها وتمشى في أطلالها وانصب لمغزلها حبالة قانص ... ودع الكرى شركاً لصيد غزالها وأسل جداول بفيض دموعها ... وانضح جوانحها بفضل سجالها أنا من بقية معشر عركتهم ... هذي النوى عرك الرحى بثفالها (1) أكرم بها فئة أريق نجيعها ... بغياً فراق العين حسن مآلها حلت مدامة وصلها وحلت لهم ... فإن انتشوا فبحلوها وحلالها بلغت بهرمس غاية ما نالها ... أحد وناء لها لبعد منالها وعدت على سقراط سورة كأسها ... فهريق ما في الدن من جريانها وسرت إلى فاراب منها نفحة ... قدسية جاءت بنخبة آلها (2) ليصوغ من ألحانه في حانها ... ما سوغ القسيس من أرمالها وتغلغلت في سهرورد فأسهرت ... عيناً يؤرقها طروق خيالها (3) فخبا شهاب الدين لما أشرقت ... وخوى فلم يثبت لنور جلالها ما جن مثل جنونه أحد، ولا ... سمحت يد بيضا بمثل نوالها وبت على الشوذي (4) منها نشوة ... ما لاح منها غير لمعة آلها بطلت حقيقته وحالت حاله ... فيما يعبر عن حقيقة حالها هذي صبابتهم ترق صبابة ... فيروق شاربها صفاء زلالها وهي طويلة. قال السلطان أبو عنان رحمه الله تعالى (5) : أخبرني شيخنا الإمام العالم العلامة

_ (1) من قول زهير في معلقته: " فتعرككم عرك الرحى بثقالها ... ............ البيت " (2) يشير إلى الفارابي الفيلسوف وقدرته في الموسيقى. (3) فيه إشارة إلى السهروردي المتصوف. (4) انظر هامش 4 ص: 260. (5) أزهار الرياض: 322.

وحيد زمانه أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم الآبلي رحمه الله تعالى، قال: لما توجه الشيخ الصالح الشهير أبو إسحاق التنسي من تلمسان إلى بلاد المشرق اجتمع هنالك بقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد، فكان من قوله له: كيف حال الشيخ العالم أبي عبد الله ابن خميس وجعل حيليه بأحسن الأوصاف، ويطنب في ذكر فضله، فبقي الشيخ أبو إسحاق متعجباً، وقال: من يكون هذا الذي حليتموه بهذا الحلي ولا أعرفه ببلده فقال له: هو القائل: عجباً لها أيذوق طعم وصالها ... قال: فقلت له: إن هذا الرجل ليس عندنا بهذه الحالة التي وصفتم، إنما هو عندنا شاعر فقط، فقال له: إنكم لم تنصفوه، وإنه لحقيق بما وصفناه به. قال السلطان: وأخبرنا شيخنا الآبلي المذكور أن قاضي القضاة ابن دقيق العيد كان قد جعل القصيدة المذكورة بخزانة كانت له تعلو موضع جلوسه للمطالعة، وكان يخرجها من تلك الخزانة، ويكثر تأملها والنظر فيها، ولقد تعرفت أنه لما وصلت هذه القصيدة إلى قاضي القضاة تقي الدين المذكور لم يقرأها حتى قام إجلالاً لها؛ انتهى. وكان ابن خميس رحمه الله تعالى - بعد مفارقة بلده تلمسان، سقى الله أرجاءها أنواء نيسان - كثيراً لمشاهدها، ويتأوه من تذكره لمعاهدها، وينشد القصائد الطنانة في ذلك، سالكاً في الحنين إليها المسالك، فمن ذلك قوله (1) : تلمسان لو أن الزمان بها يسخو ... منى النفس لا دار السلام ولا الكرخ وداري بها الأولى التي حيل دونها ... مثار الأسى لو أمكن الحنق اللبخ (2)

_ (1) أزهار الرياض: 323، وهي قصيدة مليئة بالغريب تعمدا ولذا احتاجت ألفاظها إلى شرح، فاضطرتنا إلى الخروج عن خطتنا في الإقلال من الشروح اللفظية. (2) اللبخ: الاحتيال والضرب والقتل.

وعهدي بها والعمر في عنفوانه ... وماء شبابي لا أجين ولا مضخ (1) قرارة تهيام، ومغنى صبابة ... ومعهد أنس لا يلذ به لطخ إذا الدهر مثني العنان منهنه ... ولا ردع يثني من عناني ولا ردخ (2) ليالي لا أصغي إلى عذل عاذل ... كأن وقوع العذل في أذني صمخ (3) معاهد أنس عطلت فكأنها ... ظواهر ألفاظ تعمدها النسخ وأربع آلاف عفا بعض آيها ... كما كان يعرو بعض ألواحنا اللطخ فمن يك سكران من الوجد مرة ... فإني منه طول دهري لملتخ (4) ومن يقتدح زنداً لموقد جذوة ... فزند اشتياقي لا عفار ولا مرخ أأنسى وقوفي لاهياً في عراصها ... ولا شاغل إلا التودع والسبخ (5) وإلا اختيالي ماشياً في سماطها ... رخياً كما يمشي بطرته الرخ (6) وإلا فعدوي مثلما ينفر الطلا ... وليداً، وحجلي مثلما ينهض الفرخ كأني فيها أردشير ابن بابك ... ولا ملك لي إلا الشبيبة والشرخ وإخوان صدق من لاتي كأنهم ... جآذر رمل لا عجاف ولا بزخ (7) وعاة لما يلقى إليهم من الهدى ... وعن كل فحشاء ومنكرة صلخ (8) هم القوم كل القوم سيان في العلا ... شبابهم الفرعان والشيخة السلخ (9) مضوا ومضى ذاك الزمان وأنسه ... ومر الصبا والمال والأهل والبذخ

_ (1) الأجين: المتغير طعمه؛ المطخ: الذي تكاثرت فيه الدعاميص. (2) الردخ: الردع. (3) الصمخ: الضرب في صماخ الأذن. (4) الملتخ: الذي اشتد سكره. (5) السبخ: الفراغ. (6) الرخ: حجر حر الحركة من أحجار الشطرنج. (7) الأبزخ: المقعنسس، أي الذي برز صدره ودخل ظهره. (8) الصلخ: جمع أصلخ وهو التام الصمم. (9) الفرعان: الطويلو الشعر، والسلخ: الصلع.

كأن لم يكن يوماً لأقلامهم بها ... صرير، ولم يسمع لأكعبهم جبخ (1) ولم يك في أرواحها (2) من ثنائهم ... شميم ولا في القضب من لينهم ملخ (3) ولا في مححيا الشمس من هديهم سناً ... ولا في جبين البد من طيبهم ضمخ سعيتم بني عمور في شت شملنا ... فما تجركم ربح ولا عيشنا ربخ (4) دعيتم إلى ما يرتجى من صلاحكم ... فردكم عنه التعجرف والجمخ (5) تعاليتم عجباً فطم عليكم ... عباب له في رأس عليائكم جلخ وأوغلتم في العجب حتى هلكتم ... جماح غواة ما ينهنههم قفخ (6) كفاكم بها سجن طويل وإن يكن ... هلاك لكم فيها فهي لكم فخ فكم فئة منا ظفرتم بنيلها ... بأبشارها من حجم أظفاركم برخ (7) كأنكم من خلفها وأمامها ... أسود غياض وهي ما بينكم أرخ (8) فللسوق منها القيد إن هي أغربت ... وللهام إن لم تعط ما رعت النقخ (9) كأن تحتها من شدة القلق القطا ... ومن فوقها من شدة الحذر الفتخ (10) وأقرب ما تهذي به الهلك والتى ... وأيسر ما تشكو به الذل والفنخ (11) فماذا عسى نرجوه من لم شعثها ... وقد حز منها الفرع واقتلع الشلخ (12)

_ (1) الجبخ: قعقعة الكعاب في الميسر. (2) ق: أدواحها. (3) الملخ: الطراوة. (4) الربخ: الوقوع. (5) الجمخ: العجرفة. (6) الجلخ: اكتساح السيل للوادي؛ والقفخ: الضرب على الرأس. (7) البرخ: قطع اللحم، وشبه أظفارهم بالسيوف. (8) الأرخ: الفتي من البقر. (9) النقخ: الضرب على الهام (10) الفتخ: جمع فتخاء وهي صفة العقاب. (11) الفنخ: فتح الرأس أو ضربه بالعصا. (12) الشلخ: الأصل والعرق.

وما يطمع الراجون من حفظ آيها ... وقد عصفت فيها رياحهم النبخ (1) زعانف أنكاد لئام عناكل ... متى قبضوا كفاً على إثره طخوا (2) ولما استقلوا من مهاوي ضلالهم ... وأوموا إلى أعلام رشدهم زخوا (3) دعاهم أبو يعقوب للشرف الذي ... يذل له رضوى ويعنو له دمخ (4) فلم يستجيبوه فذاقوا وبالهم ... وما لامرئ عن أمر خالقه نخ (5) وما زلت أدعو للخروج عليهم ... وقد يسمع الصم الدعاء إذا أصخوا وأبذل في استئصالهم جهد طاقتي ... وما لظنابيب ابن سابحة قفخ (6) تركت لمينا سبتة كل نجعة ... كما تركت للعز أهضامها شمخ وآليت أن لا أرتوي غير مائها ... ولو حل بي في غيره المن والمذخ (7) وأن لا أحط الدهر إلا بعقرها ... ولو بوأتني دار أمرتها بلخ فكم نقعت من غلة تلكم الأضا ... وكم أبرئت من علة تلكم اللبخ (8) وحسبي منها عدلها واعتدالها ... وأبحرها العظمى وأريافها النفخ وأملاكها الصيد المقاولة الألى ... لعزهم تعنو الطراخمة البلخ (9) كواكب هدي في سماء رياسة ... تضيء فما يدجو ضلال ولا يضخو (10) ثواقب أنوار تري كل غامض ... إذا الناس في طخياء غيهم إلتخوا (11)

_ (1) النبخ: جمع أنبخ وهو الجافي الغليظ. (2) العنكل: الصلب، وفي ق ص: لأم عثاكل؛ وطخ الشيء: ألقاه من يده فابعده. (3) زخ: اندفع في الوهدة. (4) دمخ: اسم جبل. (5) النخ: السير العنيف. (6) الظنوب: عظم الساق؛ القفخ: الكسر أو الشدخ. (7) المذخ: نوع من العسل. (8) الأضاءة: الغدير أو البحيرة؛ اللبخ: نوع من الشجر ينفع ورقه في التداوي. (9) الطراخمة: المتكبرون؛ البلخ: المتعجرفون. (10) طخا الضلال: اشتدت ظلمته. (11) الطخياء: الظلمة الشديدة؛ التخ: حار واضطرب.

وروضات آداب إذا ما تأرجت ... تضاءل في أفياء أفنانها الرمخ (1) مجامر ند في حدائق نرجس ... تنم ولا لفح يصيب ولا دخ (2) وأبحر علم لا حياض رواية ... فيكبر منها النضح أو يعظم النضخ بنوا العزفيين الألى من صدورهم ... وأيديهم تملا القراطيس والطرخ (3) إذا ما فتى منهم تصدى لغاية ... تأخر من ينحو وأقصر من ينخو رياسة أخيار وملك أفاضل ... كرام لهم في كل صالحة رضخ (4) إذا ما بدا منا جفاء تعطفوا ... علينا، وإن حلت بنا شدة رخوا نزورهم حذاً نحافاً فننثني ... وأجمالنا دلح وأبداننا دلخ (5) يربوننا بالعلم والحلم والنهى ... فما خرجنا بز ولا حدنا برخ (6) وما الزهد في أملاك لخم ولا التقى ... ببدع، وللدنيا لزوق بمن يرخو وإلا ففي رب الخورنق غنية ... فما يومه سر ولا صيته رضخ (7) تطلع يوماً والسدير أمامه ... وقد نال منه العجب ما شاء والجفخ (8) وعن له من شيعة الحق قائم ... بحجة صدق لا عبام ولا وشخ (9) فأصبح يجتاب المسوح زهادة ... وقد كان يؤذي بطن أخمصه النخ (10) وفي واحد الدنيا أبي حاتم لنا ... دواء، ولكن ما لأدوائنا نتخ (11)

_ (1) الرمخ: الشجر المجتمع. (2) الدخ: لغة في الدخان. (3) الطرخ: الأحواض، والمفرد طرخة. (4) الرضخ: النوال. (5) الأخذ: الضامر؛ الدلوح: المتثاقل لنقل حمله؛ والدلوخ: السمين. (6) البز: الابتزاز؛ البرخ: القهر. (7) الرضخ: خبر تسمعه ولا تستيقنه. (8) الجفخ: التنفج والتكبر. (9) العبام: الفدم العيي؛ الوشخ: الضعيف. (10) النخ: نوع من البسط. (11) النتخ: الانتزاع.

تخلى عن الدنيا تخلي عارف ... يرى أنها في ثوب نخوته لتخ (1) وأعرض عنها مستهيناً لقدرها ... فلم يثنه عنها اجتذاب ولا مصخ (2) فكان له من قلبها الحب والهوى ... وكان لها من كفه الطرح والطخ (3) وما معض عنها وهي في طلابه ... كمن في يديه من معاناتها نبخ (4) ولا مدرك ما شاء من شهواتها ... كمن حظه منها التمجع والنجخ (5) ولكننا نعمى مراراً عن الهدى ... ونصلج حتى ما لآذاننا صمخ (6) وما لامرئ عما قضى الله مزحل ... ولا لقضاء الله نقض ولا فسخ أبا طالب لم تبق شيمة سؤدد ... يساد بها إلا وأنت بها سنخ لسوغت أبناء الزمان أيادياً ... لدرتها في كل سامعة شخ (7) وأجريتها فيهم عوائد سؤدد ... فما لهم كسب سواها ولا نخ غذتهم غواديها فهي في عروقهم ... دماء، وفي أعماق أعظمهم مخ وعمتهم حزناً وسهلاً. فأصبحوا ... ومرعاهم وزخ ومرعيهم ولخ (8) بني العزفيين ابلغوا ما أردتم ... فما دون ما تبغون وحل ولا زلخ (9) ولا تقعدوا عمن أراد سجالكم ... فما غربكم جف ولا غرفكم وضخ (10) وخلوا وراء كل طالب غاية ... وتيهوا على من رام شأوكم وانخوا (11)

_ (1) اللتخ: كاللطخ أي البقعة في الثوب. (2) المصخ: جذب الشيء وانتزاعه. (3) الطخ: قذف الشيء بعيدا. (4) النبخ: قروح في اليد. (5) التمجع: الاكتفاء بقليل من لبن أو تمر؛ النجخ: الزهد فيها. (6) نصلج: نصاب بالصمم؛ والصمخ: صماخ الأذن. (7) الشخ: صوت الشخب. (8) الوزخ: نوع من الشجر؛ والولخ: الطويل من العشب. (9) الزلخ: المزلق. (10) الغرب: الدلو؛ الجف: الذي تشن؛ الغرف: انتشال الماء؛ وضخ: قليل. (11) سقط هذا البيت من ق.

ولا تذروا الجوزاء تعلو عليكم ... ففي رأسها من وطء أسلافكم شدخ لأفواه أعدائي وأعين حسدي ... إذا جليت خائيتي الغض والفضخ دعوها تهادى في ملاءة حسنها ... ففي نفسها من مدح أملاكها مدخ (1) يمانية زارت يمانين فانثنت ... وقد جد فيها الزهو واستحكم الزمخ (2) وقد بسط في الإحاطة ترجمة ابن خميس المذكور، ومما أنشد له قوله (3) : سل الريح إن لم تسعد السفن أنواء ... فعند صباها من تلمسان أنباء وفي خفقان البرق منها إشارة ... إليك بما تنمي إليها وإيماء تمر الليالي ليلة بعد ليلة ... وللأذن إصغاء وللعين إكلاء (4) وإني لأصبو للصبا كلما سرت ... وللنجم مهما كان للنجم إصباء (5) وأهدي إليها كل يوم تحية ... وفي رد إهداء التحية إهداء وأستجلب النوم الغرار ومضجعي ... قتاد كما شاءت نواها وسلاء (6) لعل خيالاً من لدنها يمر بي ... ففي مره بي من جوى الشوق إبراء وكيف خلوص الطيف منها ودونها ... عيون لها في كل طالعة راء وإني لمشتاق إليها ومنبئ ... ببعض اشتياقي لو تمكن إنباء وكم قائل تفنى غراماً بحبها ... وقد أخلقت منها ملاء وأملاء لعشرة أعوام عليها تجرمت ... إذا ما مضى قيظ بها جاء إهراء (7)

_ (1) المدخ: العظمة. (2) الزمخ: الكبر وشموخ الأنف. (3) أزهار الرياض: 336 وفيها يذكر ما حل ببلده من تلمسان لدى حصار يعقوب بن عبد الحق لها. (4) الإكلاء: ترديد البصر. (5) أزهار: إسراء. (6) السلاء: الشوك. (7) الإهراء: شدة البرد التي تهرأ الأجسام.

يطنب فيها عائثون وخرب ... ويرحل عنها قاطنون وأحياء (1) كأن رماح الناهبين لملكها ... قداح، وأموال المنازل أبداء (2) فلا تبغين فيها مناخاً لراكب ... فقد قلصت منها ظلال وأفياء ومن عجب أن طال سقمي ونزعها ... وقسم إضناء علينا وإطناء (3) وكم أرجفوا غيظاً بها ثم أرجأوا ... فيكذب إرجاف ويصدق إرجاء يرددها عياب الدهر مثلما ... يردد حرف الفاء في النطق فأفاء. فيا منزلاً نال الردى منه ما اشتهى ... ترى هل لعمر الأنس بعدك إنساء وهل للظى الحرب التي فيك تلتظي ... إذا ما انقضت أيام بؤسك إطفاء وهل لي زمان أرتجي به عودة ... إليك ووجه البشر أزهر وضاء ومنها: أحن لها ما أطت النيب حولها ... وما عاقها عن مورد الماء أظماء فما فاتها مني نزاع على النوى ... ولا فاتني منها على القرب إجشاء (4) كذلك جدي (5) في صحابي وأسرتي ... ومن لس بع في أهل ودي إن فاؤوا ولولا جوار ابن الحكيم محمد ... لما فات نفسي من بني الدهر إقماء (6) حماني فلم تنتب محلي نوائب ... بسوء ولم ترزأ فؤادي أرزاء وأكفأ بيتي في كفالة جاهه ... فصاروا عبيداً لي وهم لي أكفاء (7) يؤمون قصدي طاعة ومحبة ... فما عفته عافوا وما شئته شاؤوا

_ (1) أزهار: وتناء؛ وهم المقيمون بالمكان. (2) الأبداء: الأنصباء من الجزور عند المتياسرين. (3) الإطناء: الداء. (4) الإجشاء: تحرك النفس بالشوق. (5) ق: وجدي. (6) الإقماء: الإذلال والتحقير. (7) أكفأ البيت: ستره.

دعاني إلى المجد الذي كنت آملاً ... فلم يك لي عن دعوة المجد إبطاء وبوأني من هضبة العز تلعة ... يناجي السها منها صعود وطأطاء (1) يشيعني منها إذا سرت حافظ ... ويكلؤني منها إذا نمت كلاء (2) ولا مثل نومي في كفالة غيره ... وللذئب إلمام وللصل إيماء بغيضه ليث أو بمرقب خالب ... تبز كساً فيه وتقطع أكساء إذا كان لي من نائب الملك كافل ... ففي حيثما هومت كن وإدماء وإخوان صدق من صنائع جاهه ... يبادرني منهم قيام وإيلاء سراع لما يرجى من الخير عندهم ... ومن كل ما يخشى الشر أبراء إليك أبا عبد الإله صنعتها ... لزومية فيها لوجدي إفشاء مبرأة مما يعيب لزومها ... إذا عاب إكفاء سواها وإيطاء أذعت بها السر الذي كان قبلها ... عليه لأحناء الجوانح إضناء وإن لم يكن كل الذي كنت آملاً ... وأعوز إكلاء فما عاز إكماء (3) ومن يتكلف مفحماً شكر منة ... فما لي إلى ذاك التكلف إلجاء إذا منشد لم يكن عنك ومنشىء ... فلا كان إنشاد ولا كان إنشاء رجع إلى ترجمة ابن الفخار وفوائده: قال الشاطبي: حدثنا الأستاذ الكبير أبو عبد الله ابن الفخار قال: جلس بعض الطلبة إلى بعض الشيوخ المقرئين، فأتى المقرئ بمسألة الزوائد الأربعة في أول الفعل المضارع، وقال: يجمعها قولك نأيت فقال له ذلك الطالب: لو جمعتها بقولك أنيت لكان أملح، ليكون كل حرف تضعيف ما قبله، فالهمزة لواحد وهو المتكلم، والنون لاثنين وهما: الواحد ومعه غيره، والواحد

_ (1) الطأطاء: المنهبط من الأرض. (2) الكلاء: الحافظ. (3) الإكماء: كثرة الكمأة.

المعظم نفسه، والياء لأربعة: للواحد الغائب، وللغائبين، وللغائبين، وللغائبات، والتاء لثمانية: للمخاطب، وللمخاطبين، وللمخاطبين، والمخاطبة، والمخاطبتين، والمخاطبات، وللغائب، وللغائبتين، فاستحسن الشيخ ذلك منه. وحكى الشاطبي أيضاً أن شيخه ابن الفخار أورد عليهم سؤالاً، وهو: كيف يجمع بين مسألة رجل أوقع الصلاة بثوب حرير اختياراً وبين قوله: جرى الدميان بالخبر اليقين ... فلم ينقدح لنا شيء، فقال: الجواب أن الأول ممنوع عند الفقهاء شرعاً، ورد اللام في دم في التثنية ممنوع عند النحاة قياساً، وكلاهما في حكم المعدوم حساً، وإذا كان كذلك كان الأول بمنزلة من صلى بادي العورة اختياراً، فتلزمه الإعادة، وكان الثاني بمنزلة ما باشر فيه عين دم علم التثنية، فتلزمه الفتحة، وإن كان أصلها السكون، قال: وهذه المسألة تشبه مسألة ابن جني في الخصائص، قال (1) : ألقيت يوماً على بعض من كان يعتادني مسألة فقلت له: كيف تجمع بين قوله: لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب وبين قوله اختصم زيد وعمرو فلم ينقدح له فيها شيء، وعاد مستفهماً، فقال له: اجتماعهما أن الواو اقتصر به على بعض ما وضع لنا من الصلاحية الملازمة مطلقاً، والطريق اقتصر به على بعض ما كان يصلح له (2) . قال الشاطبي: وحدثني أيضاً قال: كان لقاضي القضاة علماً وجزالة أبي جعفر ولد يقرأ علي بمالقة، وكان ابناً نبيهاً فهماً ونبلاً، فسأل مني يوماً مسألة

_ (1) الخصائص 3: 319 والبيت لساعدة بن جؤية الهذلي في وصف الرمح. (2) الخصائص: فقلت اجتماعها من حيث وضع كل منهما في غير الموضع الذي بدئ له، وذلك أن الطريق خاص وضع موضع العام.

يذكرها لأقرانه، وكان معجباً بالغرائب، فجرى على لساني أن قلت له: بين على زيد فعل أمر وفاعل، والأصل ابأين على زيد، ثم سهل بالنقل والحذف، على قياس التسهيل، فصار بين كما ترى، فأعجب بالمسألة حتى ناظر فيها ليلة أباه، وكان أنحى نحاة أهل عصره، فأعجب مما يرى من ابنه من النبل والتحصيل، فبلغت المسألة الشيخ الأستاذ أبا بكر (1) ابن الفخار رحمه الله تعالى، فاعتنى بها، وحاول في استخراج وجه من وجوه الاعتراض على عادة المصلحين من طلبة العلم، فوجد في مختصر العين أن الكلمة من ذوات الواو، ولم يذكر صاحب المختصر غير ذلك، ولم يكن رحمه الله تعالى رأى قول أبي الحسن اللحياني في نوادره: إنه مما يتعاقب على لامه الواو والياء فيقال: بأى يبأى بأواً وبأياً، كما يقال شأى يشأى شأواً وشأياً، فلم يقدم شيئاً على أن اجتمع بالقاضي المذكور فقال له: ألم تسمع ما قاله فلان بين على زيد وإنما هو بون على زيد؛ لأنه من ذوات الواو، ونص على ذلك صاحب المختصر، وحمله على أن يرسل إلي ويردني عن ذلك الذي قلته في المسألة، واجتمعت أنا معه، وحدثني بما جرى له مع الأستاذ ابن الفخار، فذكرت له ما حكاه أبو الحسن اللحياني في نوادره، وما قاله ابن جني في سر الصناعة فسر بذلك، وأرسل بعد إلى القاضي ابن الفخار، وذكر له نص اللحياني وقل ابن حني وجمع القاضي بيننا، وعقد في قلوبنا مودة، فكان الأستاذ ابن الفخار يومئذ يقصدني في منزلي وفي المواسم، ويستشيرني في أموره على سبيل التأنيس، رحمة الله عليه، فأواه على فقد الناس أمثاله. وقال الشاطبي أيضاً: أنشدني الفقيه الأستاذ الكبير أبو عبد الله ابن الفخار رحمه الله تعالى، وقال: ألقي في سري بيت لم أسمعه قط في السادس عشر من شهر رجب عام ستة وخمسين وسبعمائة:

_ (1) ها هنا كناه أبا بكر فكأن له كنيتين.

لتكن راجياً كما أنت ترجو ... ولأربى من الذي أنت راجي قال الشاطبي: وقرر لنا الأستاذ ابن الفخار المذكور يوماً توجيه قول أبي الحسن الأخفش في كسرة الذال من نحو يومئذ إنها إعرابية لا بنائية، إذ لم يذكر أحد وجه هذا المذهب من قبل، قال ابن جني: إن الفارسي اعتذر له بما يكاد يكون عذراً، فلما تم التوجيه قلت له وأنا حينئذ صغير السن: هب أن الأمر على ما قاله الأخفش من أن الكسرة إعرابية، فما يصنع ببناء الزمان المضاف إلى إذ في أحد الوجهين والإضافة إلى المفرد المعرب تقتضي الإعراب دون البناء فتعجب من صدور هذا السؤال مني لصغر سني، وأجاب عنه بأنه قد يذهب السبب ويبقى حكمه، كما قال ابن جني في اسم الإشارة في ترجمة سيبويه هذا علم ما الكلم من العربية على أن يكون سيبويه وضعه غير مشير به وتركه مبنياً، وأزال سبب البناء، ونظر ذلك بباب التسوية على ما هو مقرر في موضعه، قال: ونظير ذلك ما قرر من إضافة حيث إلى المفرد مع بقاء البناء فيما ذكره الزمخشري، وذلك قوله: أما ترى حيث سهيل طالعاً ... وقوله أنشدنا ابن الأعرابي لبعض المحدثين: ونحن سعينا بالبلايا لمعقل ... وقد كان منكم حيث لي العمائم وقد كان حقها أن تعرب لزوال سبب البناء، وهو الإضافة إلى جملة، وحصول سبب الإعراب وهو الإضافة إلى المفرد، ولكنه لم يعتبر النادر، وأبقى الحكم الشائع. وقال الشاطبي أيضاً: كان شيخنا ابن الفخار يأمرنا بالوقف على قوله تعالى في سورة البقرة {قالوا الآن} ونبتدئ {جئت بالحق} وكان يفسر لنا معنى ذلك قولهم الآن أي فهمنا وحصل البيان، ثم قيل: جئت بالحق، يعني في كل

مرة، وعلى كل حال، وكان - رحمه الله تعالى - يرى هذا الوجه أولى من تفسير ابن عصفور له من أنه على حذف الصفة، أي: بالحق البين، وكان يحافظ عليه. وقال الشاطبي: أنشدني صاحبنا الفقيه الأجل الأديب البارع أبو محمد ابن حذلم (1) لنفسه أبياتا، أنشدنيها يوم عيد على قبر سيدنا الإمام الأستاذ الكبير الشهير أبي عبد الله ابن الفخار يرثيه بها: أيا جدثاً قد أحرز الشرف المحضا ... بأن صار مثوى السيد العالم الأرضى عجبت لما أحرزته من معارف ... وشتى معال لم تزل تعمر الأرضا طويت عليه وهو عين زمانه ... فيا جفن عين الدهر كم تؤثر الغمضا فحياك من صوب الحيا كل ديمة ... تديم له في الجنة الرفع والخفضا فها نحن في عيد الأسى حول قبره ... وقوفاً لنقضي من عيادته الفرضا كمثل الذي كنا وقوفاً ببابه ... بعيد الأماني زائرين له أيضا ومنا سلام لا يزال يخصه ... يذكره من بعض أشواقنا البعضا [ترجمة ابن حذلم] قلت: وابن حذلم المذكور له باع مديد في العلم والأدب، وهو أبو محمد عبد الله بن عبد الله بن حذلم، ومن نظمه قوله: أبت المعارف أن تنال براحة ... إلا براحة ساعد الجد فإذا ظفرت بها فلست بمدرك ... أرباً بغير مساعدة الجد وقوله رحمه الله:

_ (1) انظر ترجمة ابن حذلم في مستودع العلامة: 74، وكان ابن حذلم كاتب علامة السلطان عبد الرحمن المريني فقيها عارفا بالنوازل.

كم من صديق حال في وده ... ولم أزل أزويه عن محضه حضوره عين على وده ... وغيبه عين على بغضه ولم أكن أجهل هذا ولا ... عجزت أن أجري على قرضه لكن من قد سرني بعضه ... أحب أن أصفح عن بعضه وقوله رحمه الله يوم عيد، وهو مما ألهج به أنا كثيراً: يقولون لي خل عنك الأسى ... ولذ بالسرور فذا يوم عيد فقلت لهم والأسى غالب ... ووجدي يحيى وشوقي يزيد توعدني مالكي بالفراق ... فكيف أسر وعيدي وعيد وقوله رحمه الله: حبيب زارني في الليل سراً ... فأحيا نفس مشتاق إليه وعللني بنشر المسك منه ... وحياني بصفحة وجنتيه وعانقني عناق الود صفحاً ... وفارقني فيا لهفي عليه رجع - وتوفي الأستاذ سيبويه زمانه أبو عبد الله محمد بن علي بن الفخار أستاذ الجماعة بغرناطة ليلة الاثنين ثاني عشر رجب علم أربعة وخمسين وسبعمائة رحمه الله تعالى. رجع إلى مشايخ لسان الدين رحمه الله تعالى. 13 - ومنهم (1) الأستاذ ابن العواد، قال في " الإحاطة " (2) : قرأت كتاب الله عز وجل على المكتب نسيج وحده، في تحمل المنزل حق حمله، تقوى وصلاحاً وخصوصية وإتقاناً ونغمة وعناية وحفظاً وتبحراً في هذا الفن،

_ (1) ق: ومن مشايخه. (2) انظر مخطوطة الإحاطة، الورقة: 411 أول فصل " المشيخة ".

واضطلاعاً بغرائبه، واستيعاباً لسقطات الأعلام، الأستاذ الصالح أبي عبد الله ابن عبد الولي العواد تكتيباً ثم حفظاً ثم تجويداً، على مقرإ أبي عمرو، ثم نقلني إلى أستاذ الجماعة، ومطية الفنون، ومفيد الطلبة، الشيخ الخطيب المتفنن أبي الحسن علي القيجاطي، فقرأت عليه القرآن والعربية، وهو أول من انتفعت به؛ انتهى. 14 - ومن أشياخه رحمه الله الشيخ العلامة أبو عبد الله ابن بيبش، وله رحمه الله تعالى نظم جيد، فمنه قوله ملغزاً في مسطرة الكتابة: ومقصورة خلف الحجاب وسرها ... مضاع، فما يلقاك من دونها ستر لها جثة بيضاء أسبل فوقها ... ذوائب زانتها، وليس لها شعر إذا ألبست مثل الصباح وبرقعت ... رأيت سواد الليل لم يمحه الفجر عقيلة صون لا يفرق شملها ... سوى من أهمته الخطابة والشعر وقوله في ترتيب حروف الصحاح: أساجعة بالواديين تبوئي ... ثماراً جنتها حاليات خواضب دعي ذكر روض زاره سقي شربه ... صباح ضحى طير ظماء عواصب غرام فؤادي قاذف كل ليلة ... متى ما نأى وهناً هداه يراقب وله جواب عن البيتين المشهورين: يا ساكناً قلبي المعنى ... وليس فيه سواك ثاني لأي معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان فقال: نحلتني طائعاً فؤاداً ... فصار إذ حزته مكاني لا غرو إذ كان لي مضافاً ... أني على الكسر فيه باني

وقد ذكرت ذلك في غير هذا الموضع مع زيادة بلفظ لسان الدين، فليراجع في الباب الخامس من هذا الكتاب. 15 - ومن أشياخ (1) لسان الدين رحمه الله تعالى قاضي الجماعة الصدر المتفنن أبو عبد الله ابن بكر (2) ، قال في الإحاطة: وقرأت على قاضي الجماعة أبي عبد الله ابن بكر رحمه الله تعالى؛ انتهى. وقاضي الجماعة عند المغاربة هو بمعنى قاضي القضاة عند المشارقة، فليعلم ذلك. وابن بكر المذكور هو محمد بن يحيى بن محمد بن أحمد بن بكر بن سعيد الأشعري المالقي، من ذرية أبي موسى الأشعري، كان من صدور العلماء، وأعلام الفضلاء، سذاجه ونزاهة ومعرفة وتفنناً، فسيح الدرس، أصيل النظر، واضح المذهب، مؤثراً للإنصاف، عارفاً بالأحكام والقراءة، مبرزاً في الحديث تاريخاً وإسناداً وتعديلاً وجرحاً، حافظاً للأنساب والأسماء والكنى، قائماً على العربية، مشاركاً في الأصول والفروع واللغة والعروض والفرائض والحساب، مخفوض الجناح حسن الخلق عطوفاً على الطلبة، محباً في العلم والعلماء، مطرحاً للتصنع، عديم المبالاة بالملبس بادي الظاهر (3) عزيز النفس نافذ الحكم، تقدم ببلده مالقة، ناظراً في أمور العقد والحل ومصالح الكافة، ثم ولي القضاء بها فأعز الخطة وترك الشوائب (4) ، وأنفذ الحق ملازماً للقراءة والإقراء، محافظاً

_ (1) ق: مشايخ. (2) ترجمة ابن أبي بكر في نيل الابتهاج: 234 نقلا عن الإحاطة، والمرقبة العليا: 141 - 147 ووقع في سرد مشيخة لسان الدين من الإحاطة " ابن أبي بكر " وهو خطأ؛ وقد ترجم ابن الخطيب له أيضا في " عائد الصلة " وعنه ينقل النباهي. وقد أطنب النباهي في الثناء عليه وقال إنه ممن جمع بيد الدراية والرواية، وكان لا يأكل إلا عند حاجته للأكل ولا ينام إلا إذا غلبه النوم ولا يتكلم بغير العلم إلا عن ضرورة وشبهه في قضائه بسحنون بن سعيد. (3) كذا في الأصلين ونيل الابتهاج؛ وربما كانت " باذ ". (4) الشوائب: سقطت من ص ق؛ وفي نيل الابتهاج: وترك الهواذة، وهو أدق وأنسب.

للأوقات، حريصاً على الإفادة، ثم ولي القضاء بغرناطة المحروسة (1) سنة 737، فقام بالوظائف وصدع بالحق وبهرج الشهود فزيف منهم ما يزيد على سبعين، واستهدف بذلك إلى معاداة ومناضلة خاض ثبجها وصادم تياره، غير مبال بالمغبة ولا حافل بالتبعة، فناله لذلك من المشقة والكيد العظيم ما نال مثله، حتى كان لا يمشي إلى الصلاة ليلاً ولا يطمئن على حاله، وجرت له في ذلك حكايات، إلى أن عزم عليه الأمير أن يرد للعدالة بعض من أخره، فلم يجد في قناته مغمزاً ولا في عوده معجماً، وتصدر لبث العلم بالحضرة، يقرئ فنوناً جمة، فنفع وخرج وأقرأ القرآن ودرس الفقه والأصول والعربية والفرائض والحساب، وعقد مجالس الحديث شرحاً وسماعاً على انشراح صدره وحفظ تجمل وخفض جناح، قال القاضي ابن الحسن (2) : إنه كان صاحب عزم ومضاء، وحكم صادع وقضاء أحرق قلوب الحسدة، وأعز الخطة بإزالة الشوائب، وذهب وفضض الحق بمعارفه، ونذف في المشكلات، وثبت في المعضلات، واحتج وبكت، وتفقه ونكت. وحدثنا صاحبنا أبو جعفر الشقوري قال (3) : كنت جالساً بمجلس حكمه، فرفعت رقعة مضمنها أنها محبة في مطلقها، وتبتغي الشفاعة لها في ردها، فتناول الرقعة، ووقع على ظهرها بلا مهلة: الحمد لله، من وقف على ما بالقلوب فليصخ لسماعه إصاخة معيث، وليشفع للمرأة عند زوجها (4) تأسياً بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لبريرة في مغيث (5) ، والله يسلم لنا العقل والدي، ويسلك بنا سبيل المهتدين، والسلام من كاتبه.

_ (1) لعل اللفظة هنا يقابلها لفظة " محرم " في نيل الابتهاج. (2) هذا موافق لما في نيل الابتهاج نصا ولكنه عن المرقبة العليا بالمعنى. (3) انظر المرقبة العليا: 145. (4) المرقبة: مفارقها. (5) بريرة: جارية عائشة، ومغيث زوجها، فلما أعتقت بريرة وهو ما يزال على الرق اختارت مفارقته فجاء إلى النبي يبكي ويسأله أن يشفع له عندها.

قال الشقوري: قال لي بعض الأصحاب: هلا كان هو الشفيع لها، فقلت: الصحيح أن الحاكم لا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه على المنصوص. قرأ ابن بكر المذكور على الأستاذ ابن أبي السداد الباهلي (1) القرآن جمعاً وإفراداً والعربية والحديث، ولازمه وتأدب به، وعلى الشيخ الصالح أبي عبد الله ابن عياش (2) كثيراً من كتب الحديث، وسمع عليه جميع صحيح مسلم إلا دولة واحدة، وأخذ عن الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير والخطيب ابن رشد والولي الصالح أبي الحسين ابن فضيلة والأستاذ أبي عبد الله ابن الكماد (3) ، وأجازه العدل الراوية أبو فارس عبد العزيز ابن الهواري وأبو إسحاق (4) التلمساني؛ ومن أهل الدمياطي، وجماعة من أهل الشام والحجاز، فقد (5) رحمه الله تعالى في المصاف يوم المناجزة بطريف، زعموا أنه وقع عن بغلة ركبها، وأشار عليه بعض المنهزمين بالركوب فلم يقدر، فقال له: انصرف هذا يوم الفرح، إشارة لقوله تعالى " فرحين بما آتاهم من فضله " وذلك ضحى يوم الاثنين 7 جمادى الأولى سنة 741 رحمه الله تعالى. 16 - ومن أشياخ لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى الشيخ أبو إسحاق ابن أبي يحيى الشهير الذكر في المغرب، وقد عرف به في الإحاطة في اسم إبراهيم من ترجمة الغرباء بما نصه: إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي بكر التسولي، من أهل تازى، يكنى أبا سالم، ويعرف بابن أبي يحيى (6) .

_ (1) اسمه عبد الواحد بن أبي السداد. (2) هو محمد بن عياش الخزرجي؛ وفي النيل: أبي عبد الله انب حريث. (3) هو محمد بن أحمد بن داود اللخمي (الديباج: 298) . (4) زاد في ق: ابن. (5) ق: وفاته. (6) ترجمة ابن أبي يحيى في المرقبة العليا: 136 وجذوة الاقتباس: 84 والإحاطة 1: 217 والمقري ينقل عن الإحاطة.

حاله من الكتاب المؤتمن (1) - كان هذا الرجل قيماً على التهذيب ورسالة ابن أبي زيد، حسن الإقراء لهما، وله عليهما تقييدان نبيلان قيدهما أيام قراءته إياهما على أبي الحسن الصغير، حضرت مجالسه بمدرسة عدوة الأندلس من فاس، ولم أر في متصدري بلده أحسن تدريساً منه، كان فصيح اللسان، سهل الألفاظ، موفياً حقوقها، وذلك لمشاركته الحضر فيما بأيديهم من الأدوات، وكان مجلسه وقفاً على التهذيب والرسالة، وكان مع ذلك سمحاً فاضلاً، حسن اللقاء، على خلق بائنة على أخلاق أهل مصره، امتحن بصحبة السلطان، فصار يستعمله في الرسائل، فمر في ذلك حظ كبير من عمره ضائعاً لا في راحة دنيا ولا في نصب آخرة، ثم قال: وهذه سنة الله فيمن خدم الملوك، ملتفتاً إلى ما يعطونه، لا إلى ما يأخذون من عمره، وراحته أن يبوء بالصفقة الخاسرة، لطف الله بمن ابتلي بذلك وخلصنا خلاصاً جميلاً. ومن كتاب " عائد الصلة ": الشيخ الفقيه الحافظ القاضي، من صدور المغرب (2) ، مشاركة في العلم، وتبحراً في الفقه، كان وجيهاً عند الملوك، صحبهم وحضر مجالسهم واستعمل في السفارة، فلقيناه بغرناطة، وأخذنا بها عنه، تام السراوة حسن العهد مليح المجالس أنيق المحاضرة، كريم الطبع صحيح المذهب. تصانيفه - قيد على المدونة بمجلس شيخه أبي الحسن كتاباً مفيداً، وضم أجوبته على المسائل في سفر، وشرح كتاب الرسالة شرحاً عظيم الإفادة. مشيخته - لازم أبا الحسن الصغير، وهو كان قارئ كتب الفقه عليه، وجل انتفاعه في التفقه به، وروى عن أبي زكريا ابن يس (3) ، قرأ عليه كتاب

_ (1) الكتاب " المؤتمن " من تأليف أبي البركات ابن الحاج البلفيقي وسيأتي ذكره في ترجمته ص: 486. (2) في الأصلين: العلم، والتصويب عن الإحاطة. (3) الإحاطة: ابن أبي ياسين.

" الموطأ " إلا كتاب المكاتب وكتاب المدبر فإنه سمعه بقراءة الغير، وعن أبي عبد الله ابن رشد، قرأ عليه الموطأ وشفاء عياض، وعن أبي الحسن ابن عبد الجليل السدراتي، قرأ عليه الأحكام الصغرى لعبد الحق، وأبي الحسن ابن سليمان، قرأ عليه رسالة ابن أبي زيد، وعن غيرهم. وفاته - فلج بأخرة فالتزم منزله بفاس يزوره السلطان ومن دونه، وتوفي بعد عام ثمانية وأربعين وسبعمائة؛ انتهى. وقال ابن الخطيب القسمطيني: إن أبي يحيى المذكور توفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة (1) ؛ انتهى. 17 - ومن أشياخ لسان الدين الطنجالي الهاشمي، وهو محمد بن أحمد (2) . قال في عائد الصلة: كان على سنن سلفه كثرة حياء وسمة صلاح وشدة انقباض وإفراط وقار وحشمة، بذ الكهولة على حداثة سنه في باب الورع والدين والإغراق في الصلاح والخير، وتقدم خطيباً ثم قاضياً ببلده، فأظهر من النزاهة والعدالة ما يناسب منصبه، ففزع الناس إليه من كائنة الوباء العظيم بأموالهم، وقلدوه عهود صدقاتهم، فاستقر في يده المال الصامت والحلى والذخيرة والعدة ما تضيق بيوت أموال الملك عنه وصرف ذلك مصارفه، ووضعه وفق عهوده، فلم يتلبس منه بنقير ولا قطمير، وكان مدركاً أصيل الرأي، قائماً على الفرائض والحساب، ثم تحرج وطلب الإعفاء فأسعف به على حال ضنانة، وفي ذلك يقول قريبه صاحبنا الفقيه القاضي أبو الحسن ابن الحسن يخاطبه (3) :

_ (1) وقال النباهي: في حدود 749. (2) ترجمته في المرقبة العليا: 155. (3) يعني النباهي صاحب المرقبة العليا، وقصيدته ص: 158.

لك الله يا بدر السماحة (1) والبشر ... رفعت بأعلى رتبة راية الفخر ولا سيما لما وليت أمورها ... فرويتها من عذب نائلك الغمر ودارت قضاياها عليك بأسرها ... على حين لا بر يعين ولا بر فقمت بها خير القيام مصمماً ... على الحق تصميم المهندة البتر فسر بك الإسلام يا ابن حمامة ... وأمست بك الأيام باسمة الثغر تعيد عليك الحمد ألسن حالها ... وتتلو لما يرضيك (2) من سور الشكر لذاك أمير المسلمين بعدله ... أقامك تقضي في الزمان على جبر فأحييت رسم العلم بعد مماته ... وغادرت وجه الحكم أسنى من البدر ولكنك استعفيت عنه تورعاً ... وتلك سبيل الصالحين كما تدري فكم من ولي فر عنه لعلمه ... به كأبي الحجاج جدك من ذخر فزاد اتصالاً عزه باجتنابه ... له وسما قدراً على قنة النسر جريت على نهج السلامة في الذي ... تبعت له فابشر بأمنك في الحشر وأرضاك مولاك الإمام بفضله ... وأعفاك إعفاء الكرامة والبر فأنت على الحالين أفضل من قضى ... وأشرف من يعفى إلى آخر الدهر لما حزت من شتى المعالي التي بها ... تحليت عن أسلافك السادة الغر صدور مقامات المعارف كلها ... بحور النوال الجم في اليسر والعسر هم النفر الأعلون من آل هاشم ... وناهيك من مجد أثيل ومن فخر وهي طويلة؛ انتهى. 18 - من أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الشيخ الإمام الخطيب الرئيس سيدي أبو عبد الله ابن مرزوق (3) ، ولنلخص ترجمته من " الإحاطة " وغيرها،

_ (1) المرقبة: السعادة. (2) المرقبة: وتحفظ ما يرضيك. (3) ترجمة ابن مرزوق في التعريف: 49 ونيل الابتهاج: 272 والديباج: 305 وتاريخ ابن خلدون 7: 312 والإحاطة، الورقة: 31؛ والدرر الكامنة 3: 450 (ط. القاهرة) .

فنقول: هو محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق العجيسي التلمساني، يكنى أبا عبد الله، ويلقب من الألقاب المشرقية بشمس الدين. قال أبو الحسن على ابن لسان الدين ابن الخطيب في حقه: سيدي وسند أبي، فخر المغرب، وبركة الدول وعلم الأعلام، ومستخدم السيوف والأقلام، ومولى أهل المغرب على الإطلاق، أبقاه الله تعالى وأمتع بحياته وأعانني على ما يجب في حقه، قاله تربيته وولده علي ابن المؤلف، انتهى، يعني ابن الخطيب. وقال لسان الدين: هذا الرجل من طرق دهره ظرفاً وخصوصية ولطافة، مليح التوسل، حسن اللقاء، مبذول البشر، كثير التودد، نظيف البزة، لطيف التأني، خير البيت، طلق الوجه، خلوب اللسان، طيب الحديث، مقدر الألفاظ، عارف بالأبواب، درب على صحبة الملوك والأشراف، متقاض (1) لإيثار السلاطين والأمراء يسحرهم بخلابة لفظه، ويفتلهم في الذروة والغارب بتنزله، ويهتدي إلى أغراضهم الكمينة بحذقه، ويصطنع غاشيتهم بتلطفه ممزوج الدعابة بالوقار والفكاهة بالنسك والحشمة بالبسط، عظيم المشاركة لأهل وده والتعصب لإخوانه، آلف مألوف كثير الأتباع والعلق، يسخر الرقاع في سبيل الوساطة، مجدي الجاه، غاص المنزل بالطلبة، منقاد للدعوة، بارع الخط أنيقه، عذب التلاوة متسع الرواية، مشارك في فنون من أصول وفروع وتفسير، يكتب ويشعر ويقيد ويؤلف، فلا يعدو السداد في ذلك، فارس منبر غير جزوع ولا هلوع، رحل إلى المشرق في كنف حشمة من جناب والده رحمه الله تعالى فحج وجاور ولقي الجلة، ثم فارقه وقد عرف بالمشرق حقه، وصرف وجهه إلى المغرب، فاشتمل عليه السلطان أبو الحسن أميره اشتمالاً خلطه بنفسه، وجعله مفضى سره وإمام جمعه وخطيب منبره وأمين رسالته، فقدم في غرضها على الأندلس أواخر عام ثمانية وأربعين

_ (1) الإحاطة: متعاط؛ ص: متغاض.

وسبعمائة، ولما حالت بالأمير المذكور الحال استقر بالأندلس مفلتاً من النكبة، في وسط عام اثنين وخمسين وسبعمائة، فاجتذبه سلطانها رحمه الله وأجراه على تلك الوتيرة فقلده الخطبة بمسجده في السادس لصفر عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، وأقعده للإقراء بالمدرسة من حضرته، وفي أخريات عام أربعة وخمسين صرف عنه جفن بره في أسلوب طماح ودالة وسبيل هوى وقحة، فاغتنم الفترة وانتهز الفرصة، وأنفذ في الرحيل العزمة وانصرف عزيز الرحلة مغبوط المنقلب، فاستقر بباب ملك المغرب أمير المؤمنين أبي عنان فارس في محل تجلة وبساط قرب، مشترك الجاه مجدي التوسط ناجع الشفاعة، والله يتولاه ويزيده من فضله. مشيخته - من كتابه المسمى عجالة المستوفز المستجاز في ذكر من استجازني (1) من المشايخ دون من أجاز من أثمة المغرب والشام والحجاز: فممن لقيه بالمدينة المشرفة على ساكنها الصلاة والسلام الإمام العالم العلامة عز الدين أبو محمد الحسن بن علي بن إسماعيل الواسطي، صاحب خطتي الإمامة والخطابة بالمسجد الكريم النبوي، وأفرد جزءاً في مناقبه. والشيخ (2) الإمام جمال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خلف بن عيسى الخزرجي السعدي العبادي، تحمل عن عفيف الدين أبي محمد عبد السلام بن مزروع وأبي اليمن وغيره. والشيخ الإمام خادم الوقت بالمسجد الكريم، ونائب الإمامة والخطابة به، ومنشد الأمداح النبوية هنالك (3) . والشيخ الصالح الثقة المعمر محيي الدين أبو زكريا يحيى بن محمد المغراوي التونسي سمع ابن حامل والتوزري. والشيخ نور الدين أبو الحسن علي بن محمد الحجار الفراش بحرم رسول الله والوقاد به، وكان مقصوداً من كل قطر. والشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد الصنعاني نائب القضاء بالمدينة. والشيخ الإمام

_ (1) الإحاطة: من سمعت عنه. (2) الشيخ: سقطت من ق واستعيض عنها بلفظة " منهم " حيث وقعت في سرد مشيخة أبن مرزوق. (3) إلى هنا وقفت نسخة الإحاطة في تعداد شيوخه، ولا ريب في أن ذلك يدل على الإيجاز المخل في هذه النسخة.

قاضي القضاة بالمدينة شرف الدين بن محرز الإخميمي بن الأسيوطي. والشيخ الصالح عز الدين خالد بن عبد الله الطواشي. والشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الله المعيشي، سمع ابن مزروع البصري وغيره. والشيخ بهاء الدين موسى بن سلامة الشافعي المصري، الخطيب بالمسجد الكريم بها. والشيخ الخطيب أبو طلحة الزبير بن أبي صعصعة الأسواني. والشيخ عفيف الدين المطري، والشيخ الأديب أبو البركات أيمن بن محمد بن محمد إلى أربعة عشر ابن أيمن التونسي المجاور، والشيخ أبو محمد عبد الله بن محمد بن فرحون اليعمري التونسي المجاور. والشيخ أبو فارس عبد العزيز بن عبد الواحد بن أبي ركبون التونسي، وقرأ بها على أبيه القرآن العظيم، قال: وكانت قراءتي عليه بالمدينة عند قبره عليه الصلاة والسلام. وبمكة شرفها الله تعالى الشيخ المعمر الثقة شرف الدين أبو عبد الله عيسى بن عبد الله الحجبي المكي، المتوفى وقد قارب المائة، والشيخ زين الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الطبري المكي. والشيخ الصالح شرف الدين خضر بن عبد الرحمن العجمي، وشيخ شيوخ رباط الأعجام حيدر بن عبد الله المقرئ. والشيخ مقرئ الحرم برهان الدين إبراهيم بن مسعود الأيلي المصري. والشيخ مصلح الدين الحسن بن عبد الله العجمي. والشيخ مصلح الدين الحسن بن عبد الله العجمي. والإمام الصالح أبو الصفاء خليل بن عبد الله القسطلاني التوزري. والشيخ الإمام الصالح أبو محمد عبد الله بن أسعد الشافعي الحجة، انتهت إليه الرياسة العلمية والخطط الشرعية بالحرم. والشيخ فخر الدين عثمان بن أبي بكر النويري المالكي. والشيخ الإمام المدرس بالحرم شهاب الدين أحمد بن الحرازي اليمني. والشيخ قاضي القضاة نجم الدين محمد بن جمال الدين بن عبد الله بن المحب الطبري، والشيخ جلال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن براجين، القشيري التلمساني، وقرأ بها على أبيه وألبسه بها الخرقة، والشيخ الملك شرف الدين عيسى بن محمد بن أبي بكر بن أيوب، والشيخة فاطمة بنت محمد ابن محمد بن أبي بكر بن أيوب، والشيخة فاطمة بني محمد بن محمد بن أبي بكر بن

محمد بن إبراهيم الطبري المكية، والشيخ أبو الربيع سليمان بن يحيى بن سلمان، المراكشي السفاح، والشيخ قاضي القضاة وخطيب الخطباء عز الدين أبو عمر عبد العزيز ابن محمد ابن جماعة الكناني قاضي القضاة بالديار المصرية. وبمصر الشيخ علاء الدين القونوي، والتقي السعدي، وقاضي القضاة القزويني وهو شهير الذكر رفيع القدر، وقاضي القضاة البرهان الحنفي، والشرف أقضى القضاة الإخميمي، والشيخ المحدث المسند البدر محمد بن محمد الفارقي، والقطب الحافظ أبو محمد ابن منير، والشهاب أحمد الجوهري الحلبي، والمعمر الشرف يحيى المقدسي بن المصري، والشيخ محسن القرشي، والشهاب الحنبلي، وفتح الدين محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس اليعمري، والشيخ المسند شمس الدين أبو بكر بن سيد الناس أخوه، والإمام أبو حيان، والحافظ النسابة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن طي ابن حاتم بن شيخ الزبيري المصري، يبلغ شيوخه نحواً من ألفي شيخ، والشيخ الشمس بن عدلان، والشهاب البوشي المالكي، والشيخ المتصوف تاج الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن ثعلب المصري مدرس المالكية، والشمس ابن كتشغري الخطاب الصيرفي، والعماد ابن النجم الدمياطي، والتاج الأشعري، والتقي الثعلبي، والفتح بن عبد القوي، والشمس الورجمي، والتقي الأشموني، والعلامة التقي السبكي، والمعروف ابن بني الشاذلي، وأبو الحسن التميمي، والبرهان الخيمي، والشمس الأسواني، والبرهان الحكري، والشمس ابن جابر الوادي آشي، وأبو محمد عبد الكريم الطوسي، وأبو فارس الزروالي التونسي، وصالح بن عبد العظيم بن يونس، وأبو عبد الله ابن القماح، والتاج التبريزي، والشيخ محمود الأصبهاني، والشرف المغيلي، والبرهان والسفاقسي. ومن النساء الشيخة المسندة ست الفقهاء فاطمة بنت محمد الفيومي البكري، وببلبيس أسد الدين يوسف ابن داود الأيوبي بن أبناء الملوك. ومن الشاميين بالقدس علاء الدين أبو الحسن علي بن أيوب، وخطيب

القدس النور ابن الصائغ المقدسي، ومحمد بن علي بن مثبت الأندلسي، والبرهان الجعبري إمام الخليلي. ومن أهل دمشق البرهان ابن الفركاح، والشمس ابن مسلم قاضي الحنابلة. وبالإسكندرية أحمد المرادي بن العشاب، وأبو القاسم ابن علي بن البراء، والناصر بن المنير. وبطرابلس الخطيب أبو محمد جابر بن عبد الغفار. وبتونس الزبيدي، والقاضي ابن عبد الرفيع، والقاضي ابن عبد السلام، وابن راشد، وأبو موسى هارون، والمحدث أبو عبد الله التلمساني، والحافظ أبو زكريا يحيى بن عصفور التلمساني نزيل تونس، وأبو محمد بن سعد الله بن أبي القاسم بن البراء. وببلاد الجريد الشيخ الخطيب أبو عبد الملك ابن حيون. وبالزاب ابن أبي (1) ، والشيخ أبو محمد بن راشد. وببجاية الإمام النظار المجتهد أبو علي ناصر الدين المشدالي، والحافظ فقيه زمانه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن يللبخت الزواوي، والشيخ الفقيه أبو عبد الله الخطيب المسفر. وبتلمسان الشيخان الإمامان ابنا الإمام، وقاضي القضاة بها أبو عبد الله ابن هدية، والخطيب أبو محمد المجاصي، والشريف أبو علي حسن بن يوسف بن يحيى الحسني، والشيخ أبو عثمان سعيد بن إبراهيم بن علي المعروف بابن إسحاق الخياط (2) وغيرهم (3) . محنته (4) - اقتضى الخوض الواقع بين يدي تأميل الأمير أبي الحسن رحمه الله

_ (1) بعدها بياض في ص. (2) الخياط: سقطت من ص ق. (3) اضطربت نسخة ق كثيرا في تعداد هؤلاء الشيوخ، وكان فيها سقط كثير في ألقابهم. (4) ق: ثم قال لسان الدين: ولما اقتضى ... إلخ؛ قلت ومن هنا يعود النص فيلتقي مع ما في نسخة الإحاطة.

تعالى عودة الأمر إليه وقد ألقاه اليم إلى الساحل بمدينة الجزائر أن قبض عليه بتلمسان أمراؤها المتوثبون علها في هذه الفترة من بني زيان، إرضاء لقبيلهم المتهم بمداخلته، وقد رحل عنهم دسيساً من أميرهم عثمان بن يحيى، فصرف مأخوذاً عليه طريقه، منتهباً رحله، منتهكة حرمته، وأسكن قرارة مطبق عميق القعر مقفل المسلك حريز القفل، ثني اثنين؛ انتهى ملخصاً. ورأيت بخط ابن مرزوق على قوله وقد رحل عنهم دسيساً إلى آخره ما نصه: لم أرحل عنهم إلا بإذنهم، واقتراحهم علي في الإصلاح بينهم، لكنهم غدروا تقية على أنفسهم، قاله ابن مرزوق، انتهى، وكتب تحته ولد ابن الخطيب ما صورته: نعم ما ترى. وعند الله تجتمع الخصوم ... انتهى. رجع إلى كلام لسان الدين في حقه: قال بعد الكلام السابق ما ملخصه: ولأيام قتل ثانيه ذبحاً بمقربة من شفا تلك الركية، وانقطع أثره وأيقن الناس بفوات الأمر فيه، ولزمان من محنته ظهرت عليه بركة سلفه في خبر ينظر بطرفه إلى الكرامة فنجا ولا تسل كيف، وخلصه الله خلاصاً جميلاً، وقدم على الأندلس، والله ينفعه بنيته؛ انتهى. وكتب ابن مرزوق على هذا المحل ما نصه: لم يكن المقتول حين قتل معي، ولا قتل ذبحاً، قاله ابن مرزوق، انتهى. وكتب بعض علماء مصر تحته ما نصه: هذه دعوى، والمؤرخ أعرف، انتهى، فكتب آخر بعد هذا ما نصه: أتخبرني عني انتهى. رجع - ثم قال لسان الدين في ترجمة شعره ما صورته: ركب مع السلطان

بخارج الحمراء أيام ضربت اللوز قبابها البيض وزينت الفحص العريضة، والروض الأريض، فارتجل في ذلك: انظر إلى النوار في أغصانه ... يحكي النجوم إذا تبدت في الحلك حيا أمير المسلمين وقال: قد ... عميت بصيرة من بغيرك مثلك يا يوسفاً حزت الجمال بأسره ... فمحاسن الأيام تومي هيت لك أنت الذي صعدت به أوصافه ... فيقال فيه: ذا مليك أو ملك إلى أن قال: ومن الشعر المنسوب إلى محاسنه ما أنشد عنه وبين يديه ليلة الميلاد المعظم عام ثلاثة وستين وسبعمائة (1) : قل لنسيم السحر ... لله بلغ خبري إن أنت يوماً بالحمى ... جررت فضل المئزر ثم حثثت الخطو من ... فوق الكثيب الأعفر مستقرياً في عشبه ... مخفي وطء المطر تروي عن الضحاك في ال ... روض حديث الزهر مخلق الأذيال بال ... عبير أو بالعنبر وصف لجيران الحمى ... وجدي بهم وسهري وحقهم ما غيرت ... ودي صروف الغير لله عهد فيه ق ... ضيت حميد الأثر أيامه هي التي ... أحسبها من عمري ويا لليل فيه ما ... عيد بغير القصر العمر فينان ووج ... هـ الدهر طلق الغرر والشمل بالأحباب من ... ظوم كنظم الدرر

_ (1) لم ترد هذه القصيدة في الإحاطة.

صفو من العيش بلا ... شائبة من كدر ما بين أهل تقطف ال ... أنس جني الثمر وبين آمال تبي ... ح القرب صافي الغدر يا شجرات الحي ح ... ياك الحيا من شجر إذا أجال الشوق في ... تلك المغاني فكري خرجت من خدي حدي ... ث الدمع فوق الطرر وقلت يا خد آرو من ... دمعي صحاح الجوهري عهدي بحاد الركب كال ... ورقاء عند السحر والعيس تجتاب الفلا ... واليعملات تنبري تخبط بالأخفاف مظ ... لوم البرى (1) وهو بري قد عطفت عن ميد ... والتفتت عن حور قسي سير ما سوى ال ... عزم لها من وتر حتى إذا الأعلام ح ... لت لحفي البشر واستبشر النازح بال ... قرب ونيل الوطر وعين الميقات لل ... سفر نجاح السفر فالناس بين محرم ... بالحج أو معتمر لبيك لبيك إل ... هـ الخلق باري الصور ولاحت الكعبة بي ... ت الله ذات الأثر مقام إبراهيم وال ... مأمن عند الذعر واغتنم القوم طوا ... ف القادم المبتدر وأعقبوا ركعتي ال ... سعي استلام الحجر وعرفوا في عرفا ... ت كل عرف أذفر

_ (1) البرى: التراب.

ثم أفاض الناس سع ... ياً في غد للمشعر فوقفوا وكبروا ... قبل الصباح المسفر وفي منى نالوا المنى ... وأيقنوا بالظفر وبعد رمي الجمرا ... ت كان حلق الشعر أكرم بذلك السفر وال ... له وذاك السفر يا فوزه من موقف ... يا ربحه من متجر حتى إذا كان الودا ... ع وطواف الصدر فأي صبر لم يخن ... أو جلد لم يغدر وأي وجد لم يطر ... وسلوة لم تهجر ما أفجع البيت لقل ... ب الواله المستعبر ثم ثنوا نحو رسو ... ل الله سير الضمر فيعانوا في طيبة ... لألاء نور نير رأوا رسول الله واس ... تشفوا بلثم اجذر نالوا به ما أملوا ... وعرجوا في الأثر على الضجعين أبي ... بكر الرضى وعمر زيارة الهادي الشفي ... ع جنة في المحشر فأحسن الله عزا ... ء قاصد لم يزر ربع ترى مستنزل ال ... آي به والسور وملتقى جبريل بال ... هادي الزكي العنصر وروضة الجنة بي ... ن روضة ومنبر منتخب الله ومخ ... تار الورى من مضر والمنتقى وكون من ... ملابس الخلق عري إذا لم يكن في أفق ... من زحل ومشتري

ذو المعجزات الغر أم ... ثال النجوم الزهر يشهد بالصدق له ... منها انشقاق القمر والضب والظبي إلى ... نطق الحصى والشجر من أطعم الألف بصا ... ع في صحيح الخبر والجيش رواه بما ... ء الراحة المنهمر يا نكتة الكون التي ... فاتت المنال الفكر يا حجة الله على ال ... رائح والمبتكر يا أكرم الرسل على ال ... له وخير البشر يا من له التقدم ال ... حق على التأخر يا من لدى مولده ... المقدس المطهر إيوان كسرى ارتج إذ ... ضاءت قصور قيصر وموقد النار طفي ... شطركأن لم يسعر يا عمدتي يا ملجئي ... يا مفزعي يا وزري يا من له اللواء وال ... حوض وورد الكوثر يا منقذ الغرقى وهم ... رهن العذاب الأكبر إن لم تحقق أملي ... بؤت بسعي المخسر صلى عليك الله يا ... ثمال كل معسر صلى عليك الله يا ... نور الدجى المعتكر يا ويح نفسي كم أرى ... في غفلة من عمري واحسرتي من قلة ال ... زاد وبعد السفر يحجني والله بال ... برهان وعظ المنبر يا حسنها من خطب ... لو حركت من نظري يا حسنها من شجر ... لو أورقت من ثمر

أؤمل الأوبة وال ... أمر بكف القدر أسوف العزم به ... من شهر لشهر من صفر لرجب ... من رجب لصفر ضيعت في الكبرة ما ... أعددته في صغري وليس ما مر من ال ... أيام بالمنتظر وقلما أن حمدت ... سلامة في غرر ولي غريم لا يني ... في طلب المنكسر يا نفس جدي قد بدا ... الصبح ألا فاعتبري واتعظي بمن مضى ... وارتدعي وازدجري ما بعد شيب فود من ... مرتقب فشمري أنت وإن طال المدى ... في قلعة وسفر وليس من عذر يقي ... م حجة المعتذر يا ليت شعري والمنى ... تسرق طيب العمر هل ارتجي من عودة ... أو رجعة أو صدر فأبرد الغلة من ... ذاك الزلال الخصر مقتدياً بمن مضى ... من سلف ومعشر نالوا جوار الله وه ... والفخر للمفتخر أرجو بإبراهيم مو ... لانا بلوغ الوطر فوعده لا يمتري ... في الصدق منه ممتري وهو الإمام المرتضى ... والخير ابن الخير أكرم من نال العلا ... بالمرهفات البتر ممهد الملك وسي ... ف الحق والليث الجري خليفة الله الذي ... فاق بحسن السير وكان منه الخبر في ال ... علياء وفق الخبر

فصدق التصديق من ... مرآه للتصور ومستعين الله في ... ورد له وصدر فاق الملوك الصيد بال ... مجد الرفيع الخطر فأصبحت ألقابهم ... منسية لم تذكر وحاز منه أوحد ... وصف العديد الأكثر برأيه المأمون أو ... عسكره المظفر بسيفه السفاح أو ... بعزمه المقتدر بالعلم المنصور أو ... بالذابل المنتصر يا ابن الإمام الطاهر ال ... بر الزكي السير مدحك قد علم نظ ... م الشعر لم يشعر جهد المقل اليوم من ... مثلي كوسع المكثر فإن يقصر ظاهري ... فلم يقصر مضمري قلت: قول لسان الدين في حق هذه القصيدة إنها من الشعر المنسوب إلى محاسنه فيه تعريض خفيف بأن هذه القصيدة يحتمل أن تكون قيلت على لسانه حسبما جرت بذلك عادة الأكابر والرؤساء أن ينسب إليهم ما ليس من كلامهم في نفس الأمر، وليس الواقع عندي كذلك، لأن باع ابن مرزوق في النظم والنثر مديد، فأنى يقصر عن هذا القصيد ومن يصدر منه على البديهة قوله: انظر إلى النوار في أغصانه ... الأبيات السابقة في اللوز - لا يستغرب منه مثل هذا، ولذا كتب ابن لسان الدين على قول والده من الشعر المنسوب إلى محاسنه ما صورته: حضرت إنشاءها وإنشادها ليلة الميلاد الشريف في التاريخ المذكور، واستحسنها شعراء العدوتين، وهي مما لا ينكر على مدارك سيدي أبي عبد الله ورسوخه في علم

النظم والنثر، قاله علي بن الخطيب؛ انتهى. وكتب بعضهم على قوله في هذه القصيدة: أيامه هي التي ... أعدها من عمري ما نصه: ولت والله، انتهى؛ فكتب ابن مرزوق بعده ما نصه: لكنها بدلت بخير منها والحمد لله، وحسنت الخاتمة ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً؛ انتهى. وكتب ابن لسان الدين على قوله: قلما أن حمدت ... سلامة في غرر ما نصه: كذلك كان، وليت والدي رحمه الله تعالى كذلك؛ انتهى. وكتب على قوله " برأيه المأمون - إلخ ما نصه: لو كان له رأي مأمون (1) ما نزل على قلعة الملك لسكنى القصبة بدخيلة طلب الراحة، فضربت عنقه، وكانت الراحة منه؛ انتهى. وكتب بعض اثر هذا ما صورته: القدر لا يبالغ، الحذر ينفع ما لم يأتك القدر، فإذا أتى قدر، لم ينفع حذر؛ انتهى. ثم قال لسان الدين (2) : ووردت باب السلطان الكبير العالم أبي عنان فبلوت من مشاركته وحميد سعيه ما يليق بمثله، ولما نكبه لم أقصر عن ممكن (3) حيلة في أمره، فلما ملك السلطان أبو عنان وصار الأمر لأخيه المتلاحق من الأندلسي أبي سالم بعد

_ (1) ص ق: الميمون. (2) عاد اللقاء مع نسخة الإحاطة، الورقة: 35. (3) ص: حميد.

الولد المسمى بالسعيد كان ممن دانت له الطاعة، وأناخ راحلة الملك، وحلب ضرع الدولة (1) ، وخطب عروس الموهبة، فأنسب ظفره في متات معقود من لدن الأب، مشدود من لدن القرابة (2) ، فاستحكم عن قرب، واستغلظ عن كثب، فاستولى على أمره وخلقه بنفسه ولم يستأثر عنه ببثه (3) ، ولا انفرد بما سوى بضع أهله، بحيث لا يقطع في شيء إلا [به و] عن رأيه، ولا يمحو ويثبت إلا واقفاً عند حده، فغشيت بابه الوفود وصرفت إليه الوجوه ووقفت عليه الآمال، وخدمته الأشراف وجلبت إلى سدته بضائع العقول والأموال، وهادته الملوك فلا تحدوا الحداة إليه، ولا تحط الرحال لديه، إن حضر أجرى الرسم وأنفذ الأمر والنهي لحظاً أو سراراً أو مكاتبة، وإن غاب ترددت الرقاع واختلفت الرسل، ثم انفرد أخيراً ببيت الخلوة ومنتبذ المناجاة من دونه معصب (4) الوزراء وغايات الحجاب (5) ، فإذا انصرف تبعته الدنيا وسارت بين يديه الوزراء ووقفت ببابه الأمراء، قد وسع الكل لحظه وشملهم بحسب الرتب والأحوال ورعيه، ووسم (6) أفذاذهم تسويده، وعقدت ببنان عليتهم بنانه، لكن رضى الناس الغاية التي لا تدرك، والحسد بين آدم قديم، وقبيل الملك مباين لمثله، فطويت الجوانح على سل، وحنيت الضلوع على بث، وأغضيت الجفون على قذى، إلى أن كان من نكبته الثالثة ما هو معروف، جعلها الله له طهوراً. ولم جرت الحادثة على الدولة بالأندلس وكان لحاق جميعنا بالمغرب جنيت ثمرة ما أسلفته من وده، فوفى الكيل وأشرك في الجاه وأدر الرزق ورفع

_ (1) الإحاطة: وأجاب موسم الدعوة. (2) في ص ق: التقريب. (3) الإحاطة: بشيء. (4) ص ق: مصطف. (5) الإحاطة: الحجابات. (6) الإحاطة: ووسع.

المجلس، بعد التسبب في (1) الخلاص والسعي في الجبر، جبره الله تعالى، وكان له أحوج ما يكون إلى ذلك {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء: 89) انتهى. وكتب ابن لسان الدين على هذا المحل ما صورته: هذا لسان أبي عليه في الغيبة والحضور؛ انتهى. ومما خاطبه به لسان الدين مهنئاً (2) من طريق القدوم على الأبواب المرينية، مفلتاً من البلية بشفاعته، ما نصه: سيدي الذي إليه انقطاعي وانحياشي، وملاذي وملجئي الذي يسر خلاصي وسنى انتياشي، ومنعمي الذي جبر جناحي وأنبت رياشي، ومولى هذا الصنف العلمي ولا أحاشي، كتبه صنيع نعمكم الخالصة الحرة، ومسترق فضلكم الذي تألقت (3) منه في ليل الخطوب الغرة (4) ابن الخطيب لطف الله به من كذا، وقد شد إلى بلاغ النفس عذرها في مباشرة تقبيل اليد التي لها اليد العظمى، والسجية الرحمى، فلكم طوقت من نعمى، وجبال النعم قد أثقلت الظهر، واستغرقت السر والجهر، فبأي لسان أو بأي بنان، ولا أثر بعد عيان، تقابل نعمة تداركت الرمق وقد أشفى، وأبقت الذماء والشروع في استئصالها لا يخفى، فيا لك من فرد هزم ألفا، ووعد نصر لم يعرف خلفا، ونية خلصت تبتغي إلى الله زلفى، لقد صدع بها مولاي غريبة في الزمن، بالغاً حسن صنيعها صنعاء اليمن، مترفعة عن الثمن، وإن لم يقم بها مثله وإلا فمن، فليهن سيدي ما ذاع لمجده (5) بها من فخر، وما قدم يوم تزل الأقدام من ذخر، وما جلب للمقام المولوي الإبراهيمي من طيب ذكر، واستفاضة حمد وشكر،

_ (1) الإحاطة: تسبيب؛ ص: بعد التسبيب للخلاص. (2) مهنئا: سقطت من ص. (3) ق ص: تألفت. (4) ق: غرة. (5) ص ق: من مجده.

لقد ارتهن دعاء الحافي والناعل، والدال على الخير شريك الفاعل، والذي أحيا النفس جدير برد عدتها، وإنجاز عدتها، وأنا قد قويت بجاهكم وإن كنت ضعيفاُ، واستشعرت سعداً جديداً وقدراً منيفاً، وأيقنت أن الله عز وجل كان بي لطيفاً، إذ هيأ لي من رحمة ذلك المقام المولوي على يدكم نصراً عزيزاً، وبوأني من جاهه حرزاً حريزاً، وقد استأسدت أعداء، وأعضل الداء، وأعمل الاعتداء، وعز الفداء، فافرج الضيق، وتيسرت للخير الطريق، وساغ الريق، ونجا الغريق، غريبة لا تمثل إلا في الحلم، ولطيفة فيها اعتبار الأولي العلم، اللهم جاز سيدي في نفسه وولده (1) ، وحاله وبلده، ومعاده بعد طول عمره وانفساح أمده، وكن له نصيراً أحوج ما يكون إلى نصر، واجعل له سعة من كل حصر، واقصر عليه جاه كل قصر، كما جعلت ذاته فوق كل ذات وعصره فوق كل عصر، وليعلم سيدي أن من أراد بي (2) منافسة وحسداً، وزأر علي أسداً، لما استقل على الكرسي جسداً، من غير ذنب تبين، ولا حد تعين، أصابه من خلاصي المقيم المقعد، ووعد النفس بأمل أخلف منه الموعد، لما استنقذني الله برحمته من بين ظفره ونابه، وغطاني بستر جنابه، وكثرني في العيون على قلة، وأعزني بعد نصره على حال ذلة، لم يدع حيلة إلا نصبها أمامي، ليحبط ذلك (3) المقام الكريم ذمامي، ويكدر جمامي، ويستدرك حمامي، وزعم أن بيده على البعد زمامي، ويأبى ذلك رأي (4) يفرق بين الحق وضده، وعدل لا يخرج الشيء عن حده، فنبهت سيدي خوفاً أن تتجه حيلة، أو تفسد وسيلة، وأنا قادم بالأهل والولد ليعمل في رب الصنيعة على شاكلة الحمد الذي هو له أهل، فما بابتدائه جهل، ولا يختلف في عظم ما أسداه غر ولا كهل، ولا ينبه مثله على تتميم، وإجزال فضل عميم، ومؤانسة غريب، وصلة

_ (1) ص: في ولده. (2) ق: أرادني. (3) ص: بذلك. (4) ص: حق.

نصر عزيز وفتح قريب، بحول الله تعالى. وقال (1) لسان الدين بعد ما سبق نقله عنه في حق ابن مرزوق: ولما انقضى أمر سلطانه رحمه الله تعالى متجنى عليه (2) بسببه، محمولاً عليه من أجله، تقبض (3) عليه وأجمع الملأ على قتله، وشد اعتقاله، وطلب بالمال العريض وانتهيت أمواله واعتقلت رباعه، وجنبت مراكبه، واصطفيت أمهات أولاده، وتمادى به الاعتقال والشدة، إلى أن عادته عوائد الله في الخلاص من الشدة، والانتياش من الورطة ظاهرة عليه بركة سلفه، قائمة له حجة الكرامة (4) في أمره. حكى أمير المسلمين سلطاننا أعزه الله قال: عرض لي والدي رحمه الله تعالى في النوم فقال: يا ولدي، اشفع في الفقيه ابن مرزوق، فقبلت يده، واقتضيت حظه، وحكيت داعيته، وعينت للوجهة في ذلك قاضي الحضرة، فكان في ذلك ابتداء الفرج. وحدثني (5) الثقة من خدام السلطان أبي العنان عنه مخبراً عن نفسه لما نفس عنه من نكبته، وأجاره من سخطه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني بذلكن وكفى بها جاهاً وحرمة، قلت: فترك سبيلهن وأتيح له ركوب البحر إلى البلاد المشرقية بأهله وولده، فسار في كنف الستر، وتحت جناح الوقاية، في وسط رجب من عام أربعة وستين وسبعمائة من ساحل باديس، صحب الله وجهته، وختم عصمته؛ انتهى ما لخصته من كلام لسان الدين بلفظه (6) .

_ (1) ق: ثم قال. (2) عليه: سقطت من ق ص. (3) ق ص: فقبض. (4) ق ص: قائمة لهم حجة ... لهم. (5) ق: وذكر. (6) بلفظه: سقطت من ق.

ورأيت على هامش هذا المحل من الإحاطة بخط المذكور ما صورته: أقول وأنا ابن مرزوق المسمى فيه: إني قد وصلت إلى تونس المحروسة من شهر رمضان من سنة خمس وستين، فلقيت بها من المبرة والكرامة والوجاهة فوق ما يعهده أمثالي، ووليت خطابة جامع ملكها، وتدريس أم المدارس فيها، وهي المعروفة بمدرسة الشماعين، كل ذلك تحت رعاية وعناية وملازمة لمجلس ملكها، إلى أن توفي سنة إحدى وسبعين، ثم مع ولده وابن أخيه، إلى أن رحلت في البحر في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين، فحللت بالديار المصرية، ولقيت من ملكها الذي لم أر في الملوك مثله حلماً وفضلاً وحياء وجوداً وتلطفاً ورحماً، فأحسن لي وأجرى علي وعلى أولادي ما قام به الحال، وقلدني دروساً ومدارس، وأهلني للمثول بين يديه، والحال مستمر على ذلك حتى الآن، وذلك من فضل الله ومعهود إحسانه، والمرجو من الله تعالى حسن العاقبة، وكتب في رمضان سنة خمس وسبعين؛ انتهى. وكتب بعده أبو الحسن علي بن لسان الدين رحمهما الله تعالى ما صورته: صدق، وهو فوق كل ذلك كله، فقدره معروف، ولطالما كان ملك المغرب يفتخر به، فصار يفتخر بتقليد الدروس: والدهر لا يبقي على حالة ... انتهى. قال في " الإحاطة " (1) : ولما شرح كتاب الشفاء للقاضي عياض رحمه الله تعالى واستبحر فيه، وأكثر النقل وبذل الجهد، طلب (2) أهل العدوتين نظم

_ (1) انظر الإحاطة، الورقة: 48. (2) ق: طلب منه.

مقطوعات تتضمن الثناء على الكتاب المذكور، وإطراء مؤلفه، فانثال عليه من ذلك الطم والرم، بما تعددت منه الأوراق (1) ، واختلفت في الإجادة وغيرها الأرزاق، إيثاراً لغرضه، ومبادرة من كل الجهات لإسعاف أربه، وطلب مني أن ألم في ذلك بشيء فكتبت (2) له في ذلك: شفاء عياض للصدور شفاء ... فليس بفضل قد حواه خفاء هدية بر لم يكن لمديلها ... سوى الأجر والذكر الجميل وفاء وفى لنبي الله حق وفائه ... وأكرم أوصاف الكرام وفاء وجاء به بحراً يقول بفضله ... على البحر طعم طيب وصفاء وحق رسول الله بعد وفاته ... رعاه، وإغفال الحقوق جفاء (3) هو الذخر يغني في الحياة عتاده ... ويترك منه للبنين رفاء هو الأثر المحمود ليس يناله ... دثور، ولا يخشى عليه عفاء حرصت على الإطناب في نشر (4) فضله ... وتمجيده لو ساعدتني فاء واستزاد من هذا الغرض الذي (5) لم يقنع فيه بالقليل فبعثت إليه من محل انتقالي من سلا حرسها الله تعالى: أأزاهير رياض (6) ... أم شفاء لعياض جدل الباطل للح ... ق بأسياف مواض وجلا الأنوار برها ... ناً بحق وافتراض

_ (1) الإحاطة: من ذلك النظم ما تعددت به ... إلخ. (2) ق: فنظمت. (3) سقط هذا البيت من ص، ووقع هو والذي بعده قبل الثالث في ق؛ وما هنا يشبه ترتيب الإحاطة. (4) ص ق: بحر. (5) ق: ثم لم يكتف في هذا النمط الذي ... إلخ. (6) الإحاطة: هي أزهار الرياض؛ ولم يورد من القصيدة في الإحاطة إلا أربعة أبيات.

وشفى من يشتكي الغ ... لة في زرق الحياض أي بنيان مقال ... آمن خوف انقضاض أي عهد ليس يرمى ... بانتكاث وانتقاض ومعان في سطور ... كأسود في غياض وشفاء لصدور ... من ضنى الجهل مراض حرر القصد فما شي ... ن بنقض واعتراض يا أبا الفضل أدر أن ال ... له عن سعيك راض فاز عبد أقرض الل ... هـ برحجان القراض وجبت غر المزايا ... من طول أو عراض لك يا أصدق راو ... لك يا أعدل قاض لرسول الله وفي ... ت بجد وانتهاض خير خلق الله في حا ... ل وفي آت وماض سدد (1) الله ابن مرزو ... ق إلى تلك المراضي زبدة العرفان معنى ... كل نسك وارتياض فتولى بسط ما أج ... ملت من غير اقباض ساهراً لم يدر في استخ ... لاصه طعم اغتماض إن يكن ديناً على الأ ... يام يا قدحان التقاضي دام في علو ومن عا ... ده يهوي في اخفاض ما وشي الصبح الدياجي ... بسواد في بياض ثم نظمت له أيضاً في الغرض المذكور، والإكثار من هذا النمط في هذا (2) الموضوع ليس على سبيل التبجح بإجادته وغرابته، ولكن على سبيل الإشادة

_ (1) ص ق: سود. (2) ق ص: في غير هذا.

بالشرح المشار إليه، فهو بالغ راية الاستبحار (1) : حييت يا مختط سبت بن نوح ... بكل مزن يغتدي أو يروح وحمل الريحان ريح الصبا ... أمانة فيك إلى كل روح دار أبي الفضل عياض الذي ... أضحت برياه رياضاً تفوح يا ناقل الآثار يعنى بها ... وواصلاً في العلم جري الجموح طرفك في الفضل بعيد المدى ... طرفك للمجد شديد الطموح كفاك (2) إعجازاً كتاب الشفا ... والصبح لا ينكر عند الوضوح لله ما أجزلت فينا به ... من منحة تقصر عنها المنوح روض من العلم هم فوقه ... من صيب الفكر الغمام السفوح فمن بيان الحق زهر ند ... ومن لسان الصدق طير صدوح تأرج العرف وطاب الجنى ... وكيف لا يثمر أو لا يفوح وحلة من طيب خير الورى ... في الجيب والأعطاف منها نضوح ومعلم للدين (3) شيدته ... فهذه الأعلام منها تلوح فقل لهامان كذا أو فلا ... يا من أضل الرشد تبني الصروح في أحسن التقويم أنشأته ... خلقاً جديداً بين جسم وروح فعمر المكتوب لا ينقضي ... إذا تقضى عمر سام ونوح كأنه في الحفل ريح الصبا ... وكل عطف فهو غصن مروح ما عذر مشغوف بخير الورى ... إن هاج منه الذكر أن لا يبوح عجبت من أكباد أهل الهوى ... وقد سطا البعد وطال النزوح إن ذكر المحبوب سالت دماً ... ما هن أكباد ولا جروح

_ (1) الاستبحار: سقطت من ق. (2) ق ص: كذاك. (3) ق: في الدين.

يا سيد الأوضاع يا من له ... بسيد الأرسال فضل الرجوح يا من له الفضل على غيره ... والشمس تخفى عن إشراق يوح (1) يا خير مشروح وفى واكتفى ... من ابن مرزوق بخير الشروح فتح من الله حباه به ... ومن جانب الله تأتي الفتوح ثم قال: وعلى الجملة والتفصيل، فهذا الرجل نسيج وحده شهرة وجلالة وخصالاً وأبوة صالحة تولاه الله وكان له، وانصرف بجماته إلى بلاد المشرق عام أربعة وستين وسبعمائة، تولاه الله تعالى وأسعد منقلبه، ومولده بتلمسان عام أحد عشر وسبعمائة، انتهى كلام لسان الدين. [تراجم أخرى لابن مرزوق] ولنزد في هذه الترجمة على ما ذكره فنقول: قال ابن خلدون: صاحبنا الخطيب أبو عبد الله ابن مرزوق، من أهل تلمسان، كان سلفه نزلاء الشيخ أبي مدين بالعباد، ومتوارثين تربته من لدن جدهم خادمه في حياته،وكان جده الخامس أو السادس أبو بكر ابن مرزوق معروفاً بالولاية فيهم، ونشأ محمد هذا بتلمسان، ومولده فيما أخبرني عام عشرة وسبعمائة، انتهى. وهو مخالف (2) لما ذكره لسان الدين فيما مر عنه (3) . ثم قال ابن خلدون: وارتحل مع والده إلى الشرق سنة ثلاث عشرة، وسمع ببجاية على الشيخ ناصر الدين (4) ، ولما جاور أبوه بالحرمين رجع إلى القاهرة، فأقام وبرع في الطلب والرواية، وكان يجيد الخطين، ورجع سنة ثلاث وثلاثين (5) إلى

_ (1) يوح: الشمس، ولعل الصواب: " والبدر يخفى ". (2) يعني تاريخ مولده. (3) ق: فيما يروى عنه. (4) وسمع ... الدين: لم يرد في التعريف، والنص منقول عنه باختصار. (5) التعريف: سنة خمس وثلاثين.

المغرب، ولقي السلطان محاصراً لتلمسان، وقد شيد بالعباد مسجداً عظيماً وكان عمه محمد بن مرزوق خطيباً به على عادتهم في العباد، وتوفي، فولاه السلطان خطابة ذلك المسجد مكان عمه، وسمعه يخطب على المنبر، ويشيد بذكره ويثني عليه، فحلي بعينيه فقربه، وهو مع ذلك يلازم ابني الإمام، ويأخذ نفسه بلقاء الأفاضل والأكابر والأخذ عنهم، وحضر مع السلطان وقعة طريف، ثم استعمله في الرسالة إلى الأندلس، ثم إلى ملك قشتالة في تقرير الصلح، واستنقاذ ولده المأسور يوم طريف، ورجع بعد وقعة القيروان مع زعماء النصارى، فرجع إلى المغرب. ووفد على السلطان أبي عنان بفاس مع أمه حظية أبي الحسن، ثم رجع إلى تلمسان، وأقام بالعباد، وعلى تلمسان يومئذ أبو سعيد عثمان بن عبد الرحمن وأخوه أبو ثابت، والسلطان أبو الحسن بالجزائر، وقد حشد هناك، فأرسل أبو سعيد ابن مرزوق المذكور إليه سراً في الصلح، فلما اطلع أخوه أبو ثابت على الخبر أنكره على أخيه، فبعثوا من حبس ابن مرزوق، ثم أجازوه البحر إلى الأندلس، فنزل على أبي الحجاج سلطانها بغرناطة، فقربه واستعمله على الخطبة بجامع الحمراء، فلم يزل خطيبه إلى أن استدعاه أبو عنان سنة أربع وخمسين بعد مهلك أبيه واستيلائه على تلمسان وأعمالها، فقدم عليه، ورعى له وسائله ونظمه في أكابر أهل مجلسه، ثم بعثه لتونس على ملكها (1) سنة ثمان وخمسين ليخطب له ابنة السلطان أبي يحيى، فردت الخطبة، واختفت بتونس، ووشي إلى السلطان أبي عنان أنه كان مطلعاً على مكانها فسخطه لذلك وأمر بسجنه، فسجن مدة، ثم أطلقه قبل موته. ولما استولى أبو سالم على السلطنة آثره، وجعل زمام الأمور بيده، فوطئ الناس عقبه، وغشي أشراف الدولة بابه، وصرفوا إليه الوجوه، فلما وثب عمر بن عبد الله بالسلطان آخر عام اثنين وستين حبس ابن مرزوق، ثم أطلقه

_ (1) التعريف: عام ملكها.

بعد أن رام كثير من أهل الدولة على قتله، فمنعه منهم، ثم لحق بتونس سنة أربع وستين، ونزل على السلطان أبي إسحاق وصاحب دولته أبي محمد ابن تافراكين، فأكرموه وولوه الخطابة بجامع الموحدين، وأقام بها إلى أن هلك السلطان أبو يحيى سنة سبعين وولي ابنه خالد، ثم لما قتل السلطان أبو العباس خالداً واستولى على السلطنة، وكان بينه وبين ابن مرزوق شيء لميله مع ابن عمه محمد صاحب بجاية، عزله عن الخطبة، فوجم لها، فأجمع الرحلة إلى المشرق، وسرحه السلطان، فركب السفينة، ونزل بالإسكندرية، ثم ارتحل إلى القاهرة، ولقي أهل العلم وأمراء الدولة، ونفقت بضائعه عندهم، وأوصلوه إلى السلطان الأشرف، فولاه الوظائف العلمية، فلم يزل بها موفر الرتبة، معروف الفضيلة، مرشحاً لقضاء المالكية، ملازماً للتدريس، إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين؛ انتهى ملخصاً. وقال الحافظ ابن حجر: إنه لما وصل تونس أكرم إكراماً عظيماً، وفوضت إليه الخطابة بجامع السلطان وتدريس أكبر المدارس، ثم قدم القاهرة، فأكرمه الأشرف شعبان، ودرس بالشيخونية (1) والصرغتمشية والنجمية، وكان حسن الشكل، جليل القدر، مات في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين؛ ى انتهى. وقال ابن الخطيب القسمطيني: هو شيخنا الفقيه الجليل الخطيب، توفي بالقاهرة ودفن بين ابن القاسم وأشهب، وله طريق واضح في الحديث، ولقي أعلاماً، وسمعنا منه البخاري وغيره في مجالس، ولمجلسه لباقة وجمال، وله شرح جليل على " العمدة " في الحديث؛ انتهى. وكتب بخطه (2) بلدينا أبو عبد الله ابن العباس التلمساني ما نصه: نقلت من خط بعض السادات كتبه للإمام زعيم العلماء الحفيد ابن مرزوق أنه وجد بخط جده

_ (1) ص: بالسيوفية. (2) ص: ووجد بخط.

الخطيب ابن مرزوق لما ثقفه عمر ابن عبد الله على يد الشيخ أبي يعقوب كتب ما نصه: الحمد لله على كل حال، خرج الطبري من منسكه (1) وأبو حفص الملاي في سيرته عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله تعالى عنهم، قالا: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية التي بأعلى مكة، وليس بها يومئذ مقبور، فقال: يبعث الله من ههنا سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، فقال أبو بكر: من هم يا رسول الله قال: هم الغرباء من أمتي الذين يدفنون ههنا، ففي هذا الموضع دفن والدي رحمه الله تعالى، وبعد سماعه لهذا الحديث بسبعة أيام دفن فيه، أفتراه لا يشفع فيمن أقال عثرة ولده أفما يشترى هذا بأموال الأرض أفلا يرعى لي ثمانية وأربعين منبراً في الإسلام شرقاً وغرباً وأندلساً أفلا يرعى لي أنه ليس اليوم يوجد من يسند أحاديث الصحاح سماعاً من باب إسكندرية إلى البرين والأندلس غيري ونحو من مائتين وخمسين (2) شيخاً والله ما أعلمه، لكن حرمني الله تعالى، نبذت الاشتغال به، وآثرت اتباع الهوى والدنيا، فهويت، اللهم غفرانك! أفلا يرعى لي مجاورة نحو اثني عشر عاماً وختم القرآن في داخل الكعبة، والإحياء في محراب النبي صلى الله عليه وسلم، والإقراء بمكة، ولا أعلم من له هذه الوسيلة غيري أفلا يرعى لي الصلاة بمكة وغربتي بينكم (3) ، ومحنتي في بلدي، على محبتكم وخدمتكم، من ذا الذي خدمكم من الناس يخرج على هذا الوجه أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله من ذنوبي، وذنوبي أعظم، وربي أعلم، وربي أرحم، والسلام؛ انتهى.

_ (1) ص: مناسكه. (2) ص: مائة وخمسين. (3) ق: فيكم.

ففي هذا دليل على عظم قدره ومكانته في الدين والدنيا. قلت: ولقد رأيت مصحفه بتلمسان عند أحفاده، وعليه خطه الرائق الذي أعرفه، وهو يقول: قرأت في هذا المصحف تجاه الكعبة المشرفة اثني عشر ألف ختمة؛ انتهى. ومع هذا فقد نسي في المصحف المذكور لفظك إليك من قوله تعالى " ينقلب إليك البصر " حتى كتبه بخطه فوق السطر حفيده العلامة سيدي أبو عبد الله محمد بن مرزوق، رحم الله الجميع. قال (1) الخطيب المذكور رحمه الله تعالى في بعض تعاليقه ما صورته: ومن أشياخ والدي سيدي محمد المرشدي، لقيه في ارتحالنا إلى الشرق، وحين حملني إليه وأنا ابن تسع عشرة سنة نزلنا عنده، ووافقنا صلاة الجمعة، ومن عادته أن لا يتخذ للمسجد إماماً، وحضر يومئذ من أعلام الفقهاء من لا يمكن اجتماع مثلهم في غير ذلك المشهد، قال: فقرب وقت الصلاة، فتشوف ممن حضر من الفقهاء والخطباء إلى التقديم، فإذا الشيخ قد خرج فنظر يميناً وشمالاً وأنا خلف والدي، فوقع بصره علي، فقال لي: يا محمد، تعال، قال: فقمت معه حتى دخلت معه في موضع خلوة، فباحثني في الفروض والشروط والسنن، وقادني إلى المنبر، وقال لي: يا محمد، ارق المنبر، فقلت له: يا سيدي، والله لا أدري ما أقول، فقال لي: ارق، وناولني السيف الذي يتوكأ عليه الخطيب عندهم، وأنا جالس مفكر فيما أقول إذا فرغ المؤذنون، فلما فرغوا ناداني بصوته، وقال لي: يا محمد قم، وقل بسم الله، قال: فقمت، وانطلق لساني بما لا أدري ما هو، إلا أني كنت أنظر إلى الناس ينظرون إلي ويخشعون من موعظتي، فأكملت الخطبة، فلما نزلت قال لي: أحسنت يا محمد،

_ (1) ق: وكتب.

قراك عندنا أن نوليك الخطابة، وأن لا تخطب بخطبة غيرك ما وليت وحييت، ثم سافرنا فحججنا، وأراد والدي الجوار، وأمرني بالرجوع لأونس عمي وقرابتي بتلمسان، وأمرني بالوقوف علي سيدي المرشدي هنالك، فوقفت عليه وسألني عن والدي، فقلت له: يقبل أيديكم، ويسلم عليكم، فقال لي: تقدم يا محمد، واستند إلى هذه النخلة، فإن شعيباً يعني أبا مدين عبد الله عندها ثلاث سنين، ثم دخل خلوته زماناً، ثم خرج فأمرني بالجلوس بين يديه، ثم قال لي: يا محمد، أبوك من أحبابنا وإخواننا، إلا أنك يا محمد، إلا أنك يا محمد، فكانت هذه إشارة إلى ما امتحنت به من مخالطة أهل الدنيا والتخليط، ثم قال لي: يا محمد (1) أنت متشوش من جهة أبيك، تتوهم أنه مريض، ومن بلدك، أما أبوك فبخير وعافية، وهو الآن عن يمين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن يمينه خليل المالكي، وعن يساره أحمد قاضي مكة، وأما بلدك، فبسم الله، فخط دائرة في الأرض، ثم قام فقبض إحدى يديه على الأخرى وجعلهما خلف ظهره يطوف بتلك الدائرة، ويقول: تلمسان، تلمسان، حتى طاف بتلك الدائرة مرات، ثم قال لي: يا محمد، قد قضى الله الحاجة فيها، فقلت له: كيف يا سيدي (2) فقال: ستر الله إن شاء الله على من فيها من الذراري والحريم، ويملكها هذا الذي حصرها، يعني السلطان أبا الحسن، فهو خير لهم، ثم جلس وجلست بين يديه، فقال لي: يا خطيب، فقلت: يا سيدي عبدك ومملوكك، فقال لي: كن خطيباً، أنت الخطيب، وأخبرني بأمور، وقال لي: لا بد أن تخطب بالجامع الغربي، وهو الجامع الأعظم بالإسكندرية، ثم أعطاني شيئاً من كعيكات صغار، زودني بها، وأمرني بالرحيل.

_ (1) فكانت ... محمد: سقطت من ص. (2) ق: يا سيدي كيف.

وأما خبر تلمسان فدخلها المريني كما ذكر، وستر الله من فيها من الذراري والحريم، وكان هذا المرشدي يتصرف في الولاية كتصرف سيدي أبي العباس السبتي، نفعنا الله بهما. وللخطيب ابن مرزوق تآليف: منها شرحه الجليل على العمدة في خمسة أسفار، جمع فيه بيت ابن دقيق العيد والفاكهاني مع زوائد، وشرحه النفيس على الشفاء، ولم يكمل، وشرحه على الأحكام الصغرى لعبد الحق، وشرحه على ابن الحاجب الفرعي، سماه إزالة الحاجب لفروع ابن الحاجب وله غيرها، وديوان خطب بالغرب مشهور كقصيدته التي قالها في نكبته بتلمسان، وأولها: رفعت أموري لباري النسم ... وموجدنا بعد سبق العدم ومن نظمه عند وداعه أهل تونس: أودعكم وأثني ثم أثني ... على ملك تطاول بالجميل وأسأل رغبة منكم لربي ... بتيسير المقاصد والسبيل سلام الله يشملنا جميعاً ... فقد عزم الغريب على الرحيل ومن نظم أبي المكارم منديل ابن آجروم يسلس المذكور عندما سجن بعد قتل السلطان أبي سالم، رحمهم الله أجمعين: يا شمس علم أفلت بعدما ... أضاءت المشرق والمغربا حجبت قسراً عن عيون الورى ... والشمس لا ينكر أن تحجبا وهو بيت علم وولاية وصلاح لعمه وجده وأبيه وجد أبيه، ولولديه محمد وأحمد وحفيده عالم الدنيا البحر أبي عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق، وولد حفيده المعروف بالكفيف، وحفيد حفيده المعروف بالخطيب، وهو آخر المذكورين منهم فيما نعلم.

[ابن مرزوق الكفيف] قلت: كان مرادي أن أعرف بجميعهم، ولكني خشيت الطول (1) ، فلنلم بذكر الحفيد عالم الدنيا، وابنه العلامة المشهور بالكفيف، لأنه أعني الكفيف والد أم جدي أحمد، لأني احمد بن محمد بن أحمد، فوالدة الجد أحمد بنت الكفيف المذكور، وهو أعني الكفيف محمد بن محمد بن أحمد بن الخطيب الرئيس أبي عبد الله بن مرزوق المتقدم الذكر (2) ، وكان الكفيف إماماً عالماً علامة، ووصفه (3) ابن داود البلوي بأنه الشيخ الإمام، علم الأعلام، فخر خطباء الإسلام، سلالة الأولياء، وخلف الأتقياء الأرضياء، المسند الراوية المحدث العلامة المتفنن القدوة الحافل الكامل، وأخذ العلم عن جماعة: منهم عالم الدنيا أبوه، قرأ عيه الصحيحين والموطأ وغير ما كتاب من تآليفه وغيرها، وتفقه عليه وأجازه عموماً وعن عالمي تلمسان أبوي الفضل ابن الإمام والعقباني، وغيرهما واللجائي (4) والثعالبي، والنظار أبي عبد الله محمد بن أبي القاسم المشدالي، وقاضي الجماعة ابن عقاب وحافظ الإسلام ابن حجر العسقلاني، وكل هؤلاء أجازوه، وقرأ عليهم مشافهة، إلا ابن حجر فمكاتبة، ومولده غرة ذي القعدة عام أربعة وعشرين وثمانمائة، نصف ليلة الثلاثاء، ومن شيوخه العلامة ابن العباس التلمساني وغيره. وقال السخاوي: قدم الكفيف مكة سنة إحدى وستين وثمانمائة، وسمعت سنة إحدى وسبعين وثمانمائة أنه في الأحياء؛ انتهى. وأخذ عنه جماعة أئمة كالسنوسي صاحب العقائد الشهيرة وغيرها، والونشريسي صاحب المعيار، والعلامة أبي عبد الله ابن العباس، وحلاه بشيخنا

_ (1) ق: التطويل. (2) ترجمة ابن مرزوق الكفيف في نيل الابتهاج: 354 وعنه ينقل المقري؛ والضوء اللامع 9: 46. (3) ق: وعرف به. (4) هو أحمد بن محمد بن عيسى (نيل الابتهاج: 62) ؛ وفي ق ص: البجائي.

ومفيدنا علم الأعلام وحجة الإسلام آخر حفاظ المغرب، وقال: قرأت عليه الصحيحين وبعض مختصري ابن الحاجب الفرعي والأصلي، وحضرت عله جملة من التهذيب وبعض الخونجي وغيرها، وأخذ عنه بالإجازة عالم فاس ابن غازي حسبما ذكره في كتابه المسمى التعلل برسوم الإسناد بعد انتقال الساكن والناد. وقال بعض الحفاظ: إن وفاته عام أحد وتسعمائة بتلمسان. وزرت قبره مراراً، رحمه الله تعالى؛ ونقل عنه المازوني في نوازله المسماة الدرة المكنونة في نوازل مازونة. [ابن مرزوق الحفيد] وأما والده (1) عالم الدنيا أبو عبد الله محمد بن مرزوق الشهير بالحفيد (2) فهو البحر الإمام المشهور الحجة الحافظ العلامة المحقق الكبير النظار المطلع المصنف المنصف التقي الصالح الناصح الزاهد العابد الورع البركة الخاشع الخاشي النبيه القدوة المجتهد الأبرع الفقيه الأصولي المفسر المحدث الحافظ المسند الراوية الأستاذ المقرئ المجود النحوي اللغوي البياني العروضي الصوفي الأواب الولي الصالح العارف بالله، الآخذ من كل فن بأوفر نصيب، الراعي في كل علم مرعاه الخصيب، حجة الله على خلقه، المفتي الشهير الرحلة الحاج، فارس الكراسي والمنابر، سليل الأكابر، سيد العلماء الأخيار، وإمام الأئمة وآخر الشيوخ ذوي الرسوخ، بدر التمام الجامع بين المعقول والمنقول والحقيقة والشريعة بأجل محصول، وآخر النظار الفحول، شيخ المشايخ، صاحب التحقيقات البديعة والاختراعات الأنيقة، والأبحاث الغريبة، والفوائد الغزيرة، المتفق على علمه وصلاحه

_ (1) ق: أبوه. (2) ترجمة ابن مرزوق الحفيد في نيل الابتهاج: 304؛ والضوء اللامع 7: 50.

وهديه، الذكي الفهامة القدوة الذي لا يسمح الزمان بمثله أبداً، أوحد الأفراد في جميع الفنون الشرعية، ذو المناقب العديدة والأحوال السديدة، شيخ الإسلام وإمام المسلمين وفتي الأنام، الذي له القدم الراسخ في كل مقام (1) ضيق، والرحب الواسع في حل كل مشكل مقفل، صاحب الكرامات والاستقامات، السني السنى الحريص على تحصيل السنة ومجانبة البدعة، السيف المسلول على أهل البدع والأهواء الزائغة، الذي أفاض الله تعالى على خلقه به بركته، ورفع بين البرية محله ودرجته، ووسع على خليقته به نحلته، معدن العلم وشعلة الفهم، وكيمياء السعادة وكنز الإفادة، ابن الشيخ الفقيه العلم أبي العباس أحمد، ابن الإمام العلامة الرئيس الكبير الخطيب الحافظ الرحلة الفقيه المحدث الشهير شمس الدين محمد، ابن الشيخ العالم الصالح الولي المجاور أبي العباس أحمد، ابن الفقيه الولي الصالح الخاشع محمد، ابن الولي الكبير ذي الكرامات والأحوال الصالحة محمد بن أبي بكر ابن مرزوق العجيسي التلمساني: كان رحمه الله تعالى آية الله في تحقيق العلوم، والاطلاع المفرط على النقول، والقيام التام على الفنون بأسرها، أما الفقه فهو فيه مالك، ولأزمة فروعه حائز ومالك، فلو رآه الإمام قال له: تقدم، فلك العهد والولاية فتكلم، فمنك يسمع فقهي وفروعي، ومثلك من راعى ما ينبغي فروعي، أو ابن القاسم لقر به عيناً وقال له: طالما دفعت عن المذهب عيناً وشيناً أو المازري، لعلم أنه بمناظرته حري، أو الحافظ ابن رشد، لقال: هلم يا حافظ الرشد، أو اللخمي لأبصر منه محاسن التبصرة، أو القرطبي لنال منه التذكرة، أو القرافي لاستفاد منه قواعده المقررة، أو ابن الحاجب لاستند إلى بابه في كشف الإشكالات المحررة، إلى ما انضم إلى ذلك من معرفة التفسير ودرره، والاضطلاع بحقائق التأويل وغرره، فلو

_ (1) نيل الابتهاج: مزلق.

رآه مجاهد، لعلم أنه في التحقيق خير جاهد (1) ، أو مقاتل، لقال: مثلك طبق من الفهوم الكلى وأصاب المقاتل، أو الزمخشري لعلم أنه كشاف الخفيات على الحقيقة، وقال لكتابه: تنح لهذا الحبر عن سلوك الطريقة، أو ابن عطية، لركب في الرحلة إلى الاستفادة منه المطية، أو أبو حيان لغرق في نهره، ولم تسل له نقطة من بحره، إلى الإحاطة بالحديث وفنونه، والاطلاع على أسانيده ومتونه، ومعرفة منكره ومعروفه، ونظم أنواعه ورصف صنوفه، إذ إليه الرحلة انتهت في رواياته ودراياته، وعليه المعول في حل مشكلاته، وفتح مقفلاته، وأما الأصول (2) فالعضد ينقطع عن مناظرته ساعده، والسيف يكل عند بحثه حده حتى يترك ما عنده ويساعده، والبرهان لا يهتدي معه لحجة، والمقترح لا يركب في بحره لجة. وأما النحو فلو رآه محمود (3) لتلجلج في قراءة المفصل، واستقل ما عنده من القدر المحصل، أو الرماني لاشتقاق إلى مفاكهته وارتاح، واستجدى من ثمار فوائده وامتاح، أو الزجاج علم أن زجاجه لا يقوم بجواهره، وأنه لا يجري معه في هذا العلم إلا في ظواهره، بل لو رآه الخليل، لقال: هذا هو المقصد الجليل، وأثنى عليه بكل جميل، وقال لفرسان النحو: ما لكم إلى لحوق عربيته من سبيل (4) ، وأما البيان فالمصباح لا يظهر له نور عند هذا الصبح، وصاحب المفتاح لا يهتدي معه إلى الفتح، والقزويني يلقي علومه لإيضاح المعاني، والسعد يرقى بمفهومه في مطالع المثاني، وكم له من مناقب، تنحط عن منالها الثواقب، ومواهب، تجلو بأنوارها الغياهب، وأما زهده (5)

_ (1) نيل الابتهاج: لعلم أنه في علوم القرآن العزيز مجاهد؛ قلت: وفي نص المقري بعض تغيير لما ورد في نيل الابتهاج. (2) ق: الكلام. (3) يعني الزمخشري. (4) ق ص: وقال في شأن النحو والكلام إلى لحوق بيته من سبيل، وهو مضطرب؛ وفي النيل: وقال ... إلى لحوقه من سبيل. (5) ق: ورعه وزهده.

وصلاحه فقد سارت به الركبان، واتفق عليه الثقلان، فمن وصفه بالبحر، فقل له: دون علمه البحر، أو البدر فما يصل خلقه البدر، أو الدر فأنى يشبه منطقه الدر، وبالجملة فالوصف يتقاصر عن صفاته وفضلاء عصره لا يرتقون إلى صفاته، فهو شيخ العلماء في أوانه، وإمام الأئمة في عصره وزمانه، شهد بنشر علومه العاكف والبادي، وارتوى من بحار تحقيقاته الظمآن والصادي: حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكفر هكذا وصفه بعض العلماء، وهو فوق ذلك كله. وقال في حقه بلدينا الشيخ أبو الفرج ابن أبي يحيى الشريف التلمساني رحمه الله تعالى: هو شيخنا الإمام العالم العلم، جامع أشتات العلوم الشرعية والعقلية حفظاً وفهماً وتحقيقاً راسخ القدم، رافع لواء الإمامة بين الأمم، ناصر الدين بلسانه وبنانه وبالقلم، محيي السنة بالفعال والمقال والشيم، قطب الوقت في الحال والمقام والنهج الواضح والسبيل الأمم (1) ، مستمر على الإرشاد والهداية، والتبليغ والإفادة، والرواية والدراية والعناية، ملازم الكتاب والسنة على نهج الأئمة المحفوظين من البدع في زمن لا عاصم فيه من أمر الله إلا من رحم، ذو همة علية ورتبة سنية وأخلاق مرضية وفضل وكرم، إمام الأئمة وعلم (2) الأمة الناطق بالحكم ومنير الظلم، سليل الصالحين، وخلاصة مجد التقى والدين، نتيجة مقدمات المهتدين، حجة الله على العلم والعالم، جامع بين الشريعة والحقيقة، على أصح طريقة، متمسك بالكتاب لا يفارق فريقه، الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد، اتصلت به فأويت منه إلى ربوة ذات قرار ومعين، وقصرت توجهي عليه، ومثلت بين يديه، فأنزلني - أعلى الله قدره - منزلة ولده رعاية للذمم، وحفظاً على الود الموروث من القدم، فأفادني من بحار علمه ما تقصر عنه العبارة

_ (1) نيل الابتهاج: الأقوم. (2) نيل الابتهاج: وعالم.

ويكل دونه القلم، فقرأت عليه جملة من تفسير القرآن ومن الحديث صحيح البخاري بقراءتي وقراءة غيري مراراً وصحيح مسلم كذلك وسنن الترمذي وأبي داود بقراءتي، والموطأ سماعاً وتفقهاً والعمدة، ومن علم الحديث أرجوزته الحديقة وبعض الكبرى وهي الروضة تفقهاً، ومن العربية نصف المقرب تفقهاً وجميع سيبويه كذلك، وألفية ابن مالك، وأوائل شرح الإيضاح لابن أبي ربيع، وبعض المغني لابن هشام، وفي الفقه التهذيب كله تفقهاً، وابن الحاجب الفرعي، وبعض مخنصر الشيخ خليل، والتلقين، وثلثي الجلاب، وجملة من المتيطية، والبيان لابن رشد، وبعض الرسالة، وكل ذلك قراءة تفقه، وتفقهت عليه من كتاب الشافعية في تنبيه الشيرازي ووجيز الغزالي من أوله إلى كتاب الإقرار، ومن كتب الحنفية مختصر القدوري تفقهاً، ومن كتب الحنابلة مختصر الخرقي تفقهاً، ومن أصول الفقه المحصول، ومختصر ابن الحاجب، والتنقيح، وكتاب المفتاح لجدي، وقواعد عز الدين، وكتاب المصالح والمفاسد له، وقواعد القرافي، وجملة من النظائر والأشباه للعلائي، وإرشاد العميدي، ومن أصول الدين المحصل والإرشاد تفقهاً، وفي القراءات قصيدة الشاطبي تفقهاً، وابن بري (1) ، وفي البيان التلخيص والإيضاح والمصباح، وكلها تفقهاً وفي التفقه (2) الإحياء للغزالي سوى الربع الأخير منه، وألبسني خرقة التصوف كما ألبسه أبوه وعمه، وهما ألبسهما أبوهما وجده؛ انتهى ملخصاً (3) . وكتب المذكور تحت هذا ما نصه: صدق السيد بن السيد أبو الفرج المذكور فيما ذكر من القراءة والسماع والتفقه وبر، وقد أجزته في ذلك كله، فهو

_ (1) ق ص: وابن العمدة. (2) نيل الابتهاج: وفي التصوف. (3) ملخصا: سقطت من ق.

حقيق بها مع الإنصاف وصدق النظر، جعلني الله وإياه ممن علم وعمل لآخرته واعتبر، قاله محمد بن مرزوق؛ انتهى. وقال تلميذه الولي أبو زيد سيدي عبد الرحمن الثعالبي (1) : قدم علينا بتونس شيخنا أبو عبد الله ابن مرزوق فأقام بها، فأخذت عنه كثيراً، وسمعت عليه جميع الموطإ بقراءة صاحبنا أبي حفص عمر ابن شيخنا محمد القلشاني (2) ، وختمت عليه أربعينيات النووي، قرأتها عليه في منزله قراءة تفهم، فكان كلما قرأت عليه حديثاً يعلوه خشوع وخضوع، ثم يأخذ في البكاء، فلم أزل أقرأ وهو يبكي إلى أن ختمت الكتاب، وكان من أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وأجمع الناس على فضله من المغرب إلى الديار المصرية، واشتهر ذكره في البلاد، فكان بذكره تطرز المجالس، وجعل الله تعالى حبه في قلوب العامة والخاصة فلا يذكر في مجلس إلا والنفوس مشوقة (3) إلى ما يحكى عنه، وكان في التواضع والإنصاف والاعتراف بالحق في الغاية وفوق النهاية، لا أعلم له نظيراً في ذلك في وقته، ثم ذكر كثيراً جداً من الكتب مما سمعه عليه، وأطال في ذلك. وقال في موضع آخر: هو سيدي الشيخ الإمام الحبر الهمام، حجة أهل الفضل في وقتنا وخاتمتهم، ورحلة النقاد وخلاصتهم، ورئيس المحققين وقادتهم، السيد الكبير، والذهب الإبريز، والعلم الذي نصبه التمييز (4) ، ابن البيت الكبير، والفلك الأثير، ومعدن الفضل الكثير، سيدي أبو عبد الله محمد ابن الإمام الجليل الأوحد الأصيل، جمال الفضلاء، سليل الأولياء، أبي العباس أحمد، ابن العالم الكبير، العلم الشهير تاج المحدثين وقدوة المحققين، أبي عبد الله محمد بن مرزوق.

_ (1) ترجمة الثعالبي في نيل الابتهاج: 148. (2) من أكابر علماء تونس (- 848) ؛ انظر النيل: 180. (3) نيل الابتهاج: متشوقة. (4) ق: نصب على التمييز.

وقال أيضاً في موضع آخر: هو شيخي الإمام العلم الصدر الكبير، المحدث الثقة المحقق بقية المحدثين، وإمام الحفظة الأقدمين والمحدثين، سيد وقته وإمام عصره وورع زمانه وفاضل أقرانه، أعجوبة أوانه وفاروق زمانه، ذو الأخلاق المرضية، والأحوال الصالحة السنية، والأعمال الفاضلة الزكية، أبو عبد الله. وقال في حقه المازوني في أول نوازله: شيخنا الإمام الحافظ بقية النظار والمجتهدين، ذو التواليف العجيبة، والفوائد الغريبة، مستوفي المطالب والحقوق، أبو عبد الله ابن مرزوق. وقال تلميذه الحافظ العلامة أبو عبد الله التنسي عند ذكره: إن إمامنا مالكاً سئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين لا أدري، وجنة العالم لا أدري ما نصه: ولم نر فيمن أدركنا من شيوخنا من تمرن على هذه الخصلة الشريفة ويكثر استعمالها غير شيخنا الإمام العلامة رئيس علماء المغرب على الإطلاق أبي عبد الله بن مرزوق. وقال الشيخ أبو الحسن القلصادي في رحلته: أدركت (1) كثيراً منم العلماء والعباد والزهاد والصلحاء، أولاهم في الذكر والتقديم (2) الشيخ الفقيه الإمام العلامة الكبير الشهير شيخنا وبركتنا أبو عبد الله ابن مرزوق، حل كنف العلم والعلا، وجل قدره في الجلة والفضلا، قطع الليالي ساهراً، وقطف من العلم أزاهراً، فأثمر وأورق، وغرب وشرق، حتى توغل في فنون العلم واستغرق، إلى أن طلع للأبصار هلالاً لأن الغرب مطلعه، وسما في النفوس موضعه وموقعه، فلا ترى أحسن من لقائه، ولا أسهل من إلقائه، لقي الشيوخ الأكابر، وبقي حمده متعرفاً (3) من بطون الكتب والسنة الأقلام وأفواه المحابر،

_ (1) نيل الابتهاج: أدركت بتلمسان. (2) ق: والتقدم. (3) نيل الابتهاج: مغترفا؛ وفي ص: وبقي عمره.

وكان رضي الله عنه من رجال الدنيا والآخرة، وكانت أوقاته كلها معمورة بالطاعات ليلاً ونهاراً من صلاة وقراءة قرآن وتدريس علم وفتيا وتصنيف، وكانت له أوراد معلومة وأوقات مشهورة (1) ، وكانت له بالعلم عناية تكشف بها العماية، ودراية تعضدها الرواية، ونباهة تكسب النزاهة، قرأت عليه رضي الله عنه بعض كتابه في الفرائض وأواخر إيضاح الفارسي وشيئاً من شرح التسهيل وعرضت عليه إعراب القرآن وصحيح البخاري والشاطبيتين وأكثر ابن الحاجب الفرعي والتلقين وتسهيل ابن مالك والألفية والكافية وابن الصلاح في علم الحديث ومنهاج الغزالي وبعض الرسالة وغيرها، ثم توفي يوم الخميس بمصر رابع عشر شعبان عام اثنين وأربعين وثمانمائة وصلي عليه بالجامع الأعظم بعد صلاة الجمعة، وحضر جنازته السلطان فمن دونه، ولم أر مثلها قبل، وأسف الناس لفقده، وآخر بيت سمع منه قبل موته: إن كان سفك دمي أقصى مرادكم ... فما غلت نظرة منكم بسفك دمي انتهى ملخصاً. وفي فهرست ابن غازي في ترجمة شيخه أبي محمد الورياجلي (2) ما صورته: وممن لقي من شيوخ تلمسان المحروسة الإمام العلم العلامة الصدر الأجل الأوحد المحقق النظار الحجة العالم الرباني أبو عبد الله بن مرزوق، وقد حدثني بكثير من مناقبه وصفة إقرائه، وقوة اجتهاده، وتواضعه لطلبة العلم، وشدته على أهل البدع، وما اتفق له مع بعضهم، إلى غيرها من شيمه الكريمة، ومحاسنه العظيمة؛ انتهى. وقال بعضهم في حقه: إنه كان يسير سيرة سلفه في العلم والتخلق والحلم والشفقة وحب المساكين، آية الله في الفهم والذكاء والصدق والعدالة والنزاهة

_ (1) نيل الابتهاج: مشهودة. (2) ص: الورياطي؛ وهو خطأ.

واتباع السنة في الأقوال والأفعال، ومحبة أهلها في جميع الأحوال، مبغضاً لأهل البدع ومحباً سد الذرائع، وله كرامات؛ انتهى. أخذ العلم عن جماعة أجلاء فمنهم (1) العلامة السيد عبد الله الشريف التلمساني، وعالم المغرب القاضي سيدي سعيد العقباني التلمساني، والوالي العابد الصالح أبو إسحاق سيدي إبراهيم المصمودي، وأفرد ترجمته بتأليف، وعن عمه وأبيه، ويروي عن جده بالإجازة وابن عرفة وأبي العباس القصار التونسي (2) ، وبفاس عن النحوي أبي حيان وأبي زيد المكودي، وجماعة غيرهما، وبمصر عن السراج البلقيني، والزين الحافظ العراقي، والشمس الغماري، والسراج ابن الملقن، وصاحب القاموس، والمحب ابن هشام ابن صاحب المغني والنور النويري، والولي ابن خلدون، والقاضي التنسي، وغيرهم. وأخذ عنه جماعة كالثعالبي، والقاضي عمر القلشاني، وابن العباس [والعلامة] نصر الزواوي، والولي سيدي الحسن أبركان، وابنه، وأبي البركات الغماري، وأبي الفضل المشدالي، وقاضي غرناطة أبي العباس ابن أبي يحيى الشريف، وإبراهيم ابن فائد، وأبي العباس الندرومي، وابنه الكفيف، وسيدي علي بن ثابت، والشهاب بن كحيل التجاني، والعلامة أحمد بن يونس القسمطيني، والعلامة يحيى بن يدير (3) ، وأبي الحسن القلصادي، والشيخ عيسى بن سلامة البسكري، وغيرهم، كالحافظ التنسي التلمساني. قلت: وسندي إليه عن عمي الإمام سيدي سعيد المقري، عن الشيخ أبي عبد الله التنسي، عن والده الحافظ أبي عبد الله محمد التنسي المذكور، عن ابن مرزوق المذكور بكل مروياته وتآليفه. وقال السخاوي في حقه: هو أبو عبد الله، يعرف بحفيد ابن مرزوق، وقد

_ (1) ص: وأما شيوخه فمنهم ... إلخ. (2) ق ص: القط والتونسي؛ وأثبت ما في نيل الابتهاج. (3) ق ص: زيد.

يختص بابن مرزوق، وقد تلا لنافع على عثمان الزروالي، وانتفع في الفقه بأبي عبد الله ابن عرفة، وأجازه أبو القاسم محمد بن الخشاب ومحمد بن علي الحفار الأنصاري ومحمد القيجاطي، وحج قديماً سنة تسعين وسبعمائة رفيقاً لابن عرفة، وسمع منن ابن (1) البهاء الدماميني والنور العقيلي بمكة، وفيها قرأ البخاري على ابن صديق، ولازم المحب (2) ابن هشام في العربية، وكذا حج سنة تسع عشرة وثمانمائة، ولقيه الزيني رضوان بمكة، وكذا لقيه ابن حجر؛ انتهى. وأما تواليفه فكثيرة منها شروحه الثلاثة على البردة، وسمي الأكبر إظهار صدق المودة في شرح البردة واستوفى فيه غاية الاستيفاء، وضمنه سبعة فنون في كل بيت، والأوسط، والأصغر المسمى بالاستيعاب لما فيها من البيان والإعراب، ومنها الغاية القراطيسية (3) في شرح الشقراطيسية والمفاتيح المرزوقية في استخراج رموز الخزرجية ورجز في علوم الحديث سماه الروضة ومختصره في رجز سماه الحديقة ورجز في الميقات سماه المقنع الشافي مشتمل على ألف وسبعمائة بيت، ونهاية الأمل في شرح الجمل أي جمل الخونجي، واغتنام الفرصة في محادثة عالم قفصة وهو أجوبة عن مسائل في فنون العلم وردت عليه من علامة قفصة أبي يحيى ابن عقيبة فأجابه عنها، والمعراج إلى استمطار فوائد الأستاذ ابن سراج في كراسة ونصف، أجاب به أبا القاسم ابن سراج الغرناطي عن مسائل نحوية ومنطقية، و " أنوار (4) اليقين في شرح حديث أولياء الله المتقين وهو حديث أول حلية أبي نعيم في شأن البدلاء وغيرهم، والدليل المومي في ترجيح طهارة الكاغد الرومي، والنصح الخالص في الرد على مدعي رتبة الكامل الناقص في سبعة كراريس، رد به على عصريه الإمام أبي

_ (1) ابن: سقطت من نيل الابتهاج. (2) ص ق: المجد. (3) نيل الابتهاج: والمفاتيح القراطيسية. (4) نيل الابتهاج: ونور.

الفضل قاسم العقباني في فتواه في مسألة الفقراء الصوفية لما صوب العقباني صنيعهم وخالفه هو، ومختصر الحاوي في الفتاوي لابن عبد النور، و " الروض البهيج في مسائل الخليج " (1) وأنوار الدراري في مكررات البخاري [وأرجوزة نظم تلخيص ابن البناء] ورجز تلخيص المفتاح، نظمه في حال صغره، ورجز حرز الأماني ورجز جمل الخونجي، ورجز اختصار ألفية ابن مالك، وتأليفه في مناقب شيخه المصمودي، وتفسير سورة الإخلاص على طريقة الحكماء، وهذه كلها تامة. وأما ما لم يكمل من تآليفه فالمتجر الربيح والسعي الرجيح والمرحب الفسيح في شرح الجامع الصحيح، وروضة الأريب في شرح التهذيب، والمنزع النبيل في شرح مختصر خليل، شرح منه كتاب الطهارة في مجلدين، ومن الأقضية إلى آخره في سفرين، وإيضاح السالك على ألفية ابن مالك، إلى اسم الإشارة أو الموصول مجلد كبير في قدر شرح المرادي، وشرح شواهد شراح الألفية إلى باب " كان " مجلد، وله خطب عجيبة. وأما أجوبته وفتاويه على المسائل المنوعة فقد سارت بها الركبان شرقاً وغرباً، بدواً وحضراً، وقد نقل المازوني والونشريسي منها جملة وافرة. ومن تآليفه أيضاً عقيدته المسماة عقيدة أهل التوحيد المخرجة من ظلمة التقليد والآيات الواضحات وفي وجه دلالة المعجزات والدليل الواضح المعلوم في طهارة كاغد الروم، وإسماع الصم في إثبات الشرف من قبل الأم وذكر من تواليفه شرح ابن الحاجب الفرعي، وشرح التسهيل؛ انتهى. ومولده كما ذكر في شرحه على البردة ليلة الاثنين رابع عشري (2) ربيع الأول عام ستة وستين وسبعمائة، قال: حدثتني أمي عائشة بنت الفقيه الصالح

_ (1) زاد في نيل الابتهاج: في أوراق نصف كراس. (2) ص: رابع عشر من.

القاضي أحمد بن الحسن المديوني، وكانت من الصالحات ألفت مجموعاً من أدعيه اختارتها، وكانت لها قوة في تعبير الرؤيا اكتسبتها من كثرة مطالعتها لكتب الفن، إنه أصابني مرض شديد أشرفت منه على الموت، ومن شأنها وأبيها أنهما لا يعيش لهم ولد إلا نادراً، وكانوا أسموني أبا الفضل أول الأمر، فدخل عليها أبوها أحمد المذكور، فلما رأى مرضي وما بلغ بي غضب وقال: ألم أقل لكم لا تسموه أبا الفضل، ما الذي رأيتم له من الفضل حتى تسموه أبا الفضل سموه محمداً، لا أسمع أحداً يناديه بغيره إلا فعلت به وفعلت، يتوعد (1) بالأدب، قالت: فسميناك محمداً، ففرج الله عنك؛ انتهى. ومن فوائده ما حكى في بعض فتاويه قال: حضرت مجلس شيخنا العلامة نخبة الزمان ابن عرفة رحمه الله تعالى أو مجلس حضرته فقرأ " ومن يعش عن ذكر الرحمن " فجرى بيننا مذكرات رائقة، وأبحاث حسنة فائقة، منها أنه قال: قرئ يعشو بالرفع ونقيض بالجزم، ووجهها أبو حيا بكلام ما فهمته، وذكر أن في النسخة خللاً، وذكر بعض ذلك الكلام، فاهتديت إلى تمامه فقلت: يا سيدي، معنى ما ذكره أن جزم نقيض بمن الموصولة لشبهها بالشرطية لما تضمنت من معنى الشرط، وإذا كانوا يعاملون الموصول الذي لا يشبه لفظه لفظ الشرط بذلك فما يشبه لفظ الشرط أولى بتلك المعاملة، فوافق رحمه الله تعالى وفرح كما أن الإنصاف كان طبعه وعند ذلك أنكر علي جماعة من أهل المجلس وطالبوني بإثبات معاملة الموصول معاملة الشرط، فقلت: نصهم على دخول الفاء في خبر الموصول في نحو الذي يأتيني فله درهم من ذلك، فنازعوني في ذلك، وكنت حديث عهد بحفظ التسهيل، فقلت: قال ابن مالك فيما يشبه المسألة: وقد يجزم متسبب عن صلة الذي تشبيهاً بجواب الشرط، وأنشدت من شواهد المسألة قول الشاعر:

_ (1) ق: متوعدا.

كذاك الذي يبغي على الناس ظالماً ... تصبه على رغم عواقب ما صنع فجاء الشاهد موافقاً للحال؛ انتهى بنقل تلميذه المازوني. وقد ذكر الشيخ (1) ابن غازي الحكاية في فهرسته في ترجمة شيخه الأستاذ الصغير، وفيها بعض مخالفة لما تقدم، فلنسقه، قال: حدثني أنه بلغه عن ابن عرفة أنه كان يدرس من صلاة الغداة إلى الزوال، يقرئ فنون، ويبتدئ بالتفسير، وإن الإمام ابن مرزوق أول ما دخل عليه وجده يفسر هذه الآيات " ومن يعش عن ذكر الرحمن " فكان أول ما فاتحه أن قال له: هل يصح كون من هنا موصولة فقال ابن عرفة: كيف وقد جزمت فقال: تشبيهاً له بالشرط، فقال ابن عرفة: إنما يقدم على هذا بنص من إمام أو شاهد من كلام العرب، فقال: إما النص فقول التسهيل كذا، وأما الشاهد فقول: الشاعر: فلا تحفرن بئراً تريد أخاً بها ... فإنك فيها أنت دونه تقع كذاك الذي يبغي على الناس ظالماً ... تصبه على رغم عواقب ما صنع فقال ابن عرفة: فأنت إذاً ابن مرزوق، قال: نعم، فرحب به؛ انتهى. وهو خلاف ما تقدم، والأول أصوب لنقل غير واحد أن جزم الموصولات إنما يكون في الجواب لا في الشرط، والله تعالى أعلم. وفي بعض المجاميع أن ابن عرفة اشتغل بضيافته لما انقضى (2) المجلس. ومن فوائده أنه كان يصرف لفظ أبي هريرة بناء على أن جزء العلم غير علم، وخلفه أهل فاس في ذلك لما بلغهم، وما للأستاذ الصغير والحافظ القوري (3) إلى منع الصرف لوجوه ليس لها موضعها، ومنها قول ابن مالك:

_ (1) الشيخ: سقطت من ق. (2) نيل الابتهاج: انفصل. (3) ص: القدوري؛ ق: النويري.

ولاضطرار كبنات الأوبر ... فإنه مؤذن بأن جزء العلم علم، وقد ألف في المسألة ابن عباس التلمساني تأليفاً سماه الاعتراف في ذكر ما لفظ أبي هريرة من الانصراف؛ انتهى. ومن نظمه رحمه الله تعالى: بلد الجدار ما أمر نواها ... كلف الفؤاد بحبها وهواها يا عاذلي كن عاذري في حبها ... يكفيك منها ماؤها وهواها ويعني ببلد الجدار تلمسان، ولذلك قال في رجز في علم الحديث ما صورته: ومن بها أهل ذكاء وفطن ... في رابع من الأقاليم قطن يكفيك أن الداودي بها دفن ... مع ضجيعه ابن غزلون الفطن قلت: وحدثني عمي الإمام سيدي سعيد المقري رحمه الله تعالى أن العلامة ابن مرزوق لما قدم تونس في بعض الرسائل السلطانية طلب منه أهل تونس أن يقرأ لهم في التفسير بحضرة السلطان، فأجابهم إلى ذلك، وعينوا له محل البدء، فطالع فيه، فلما حضروا قرأ القارئ غير ذلك، وهو قوله تعالى " فمثله كمثل الكلب " وأرادوا بذلك إفحام الشيخ والتعريض به، فوجم هنيهة، ثم تفجر ينابيع العلم إلى أن أجرى ذكر ما في الكلب من الخصال المحمودة، وساقها أحسن مساق، وأنشد عليها الشواهد، وجلب الحكايات، حتى عد من ذلك جملة، ثم قال في آخرها: فهذا ما حضر ما حضر محمود أفعال الكلب وخصاله، غير أن فيه واحدة ذميمة، وهي إنكاره الضيف، ثم افترق المجلس، وأخبرني أنه أطال في ذلك المجلس من الصبح إلى قرب الظهر، وقد طال عهدي بالحكاية، وإنما نقلتها بمعناها من حفظي، وهي من الغرائب، ولولا الإطالة لذكرت ما وقع له مع علماء برصه في الحجاز حسبما ذكره في مناقب شيخه المصمودي، رحم الله الجميع.

رجع إلى ذكر مشايخ لسان الدين، فنقول: 19 - ومن مشايخ لسان الدين الرئيس أبو الحسن علي بن الجياب (1) ، وهو كما في " الإحاطة " علي بن محمد بن سليمان بن علي بن سليمان بن حسن، الأنصاري الغرناطي، أبو الحسن، قال: وهو شيخنا ورئيسنا العلامة البليغ. ومن مشايخه أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي، وخلق، قال: وقد دونت شعره، فمن معشراته قوله في حرف الجيم: جريئاً على الزلات غير مفكر ... جباناً على الطاعات غير معرج جمعت لما يفنى اغتراراً بجمعه ... وضيعت ما يبقى، سجية أهوج جنوناً بدار لا يدوم سرورها ... فدعها سدى، ليست بعشك فادرجي (2) جيادك (3) في شأو الضلال سوابق ... تفوت مدى سن الوجيه وأعوج جهلت سبيل الرشد فاقصد دليله ... تجد دار سعد بابها غير مرتج جناب رسول ساد أولاد آدم ... وقرب في السبع الطباق بمعرج جمال أنار الأرض شرقاً ومغرباً ... فكل سناً من نوره المتبلج (4) جلا صدأ المرتاب أن سبح الحصى ... لديه بنطق ليس بالمتلجلج جعلت امتداحي والصلاة عليه لي ... وسائل تحظيني بما أنا مرتج وقال من الأغراض الصوفية السلطانية: هات اسقني صرفاً بغير مزاج ... راحي هي التي راحتي وعلاجي

_ (1) ترجمة ابن الجياب في الكتيبة الكامنة: 183 ونيل الابتهاج: 193 ونثير فرائد الجمان: 239 (رقم: 6) ودرة الحجال 2: 435 والديباج المذهب: 207 والإحاطة: 330 (وهي موجزة) . (2) ليس بعشك فادرجي: مثل يقال في من يدخل نفسه في ما لا يعنيه. (3) ص ق: جيادي. (4) سقط البيت من ق.

إن صب منها في الزجاج قطرة ... شف الزجاج عن السنا الوهاج وإذا الخليع أصاب منها شربة ... حاجاه بالسر المصون محاجي وإذا المريد أصاب منها جرعة ... ناجاه بالحق المبين مناجي تاهت به في مهمه لا يهتدي ... فيه لتأويب ولا إدلاج يرتاح من طرب بها فكأنما ... غنته بالأرمال والأهزاج هبت عليه نسمة قدسية ... في فيء باب دائم الإرتاج فإذا انثنى يوماً وفيه بقية ... سارت قصداً على المنهاج وإذا تمكن منه سكر معربد ... فليصبرن لمصرع الحلاج قصرت عبارة فيه عن وجدانه ... فغدا يقيض بمنطق لجلاج أعشاه نور للحقيقة باهر ... فتراه يخيط في الظلام الداجي رام الصعود بها إلى مركز أصله ... فرمت به في بحرها المواج فلئن أمد برحمة وسعادة ... فليخلصن من بعد طول هياج وليرجعن بنعمة موفورة ... ما شيب بعذب شرابها بأجاج ولئن تخطاه القبول لما جنى ... فليرجعن نكساً على الأدراج ما أنت إلا درة مكنونة ... قد أودعت في نطفة أمشاج فاجهد على تخليصها من طبعها ... تعرج بها في أرفع المعراج واشدد يديك معاً على حبل التقى ... فإن اعتصمت به فأنت الناجي ولدى العزيز ابسط بساط تذلل ... وإلى الغني امدد يد المحتاج هذا الطريق له مقدمتان صا ... دقتان أنتجتا أصح نتاج فاجمع إلى ترك الهوى حمل الأذى ... واقنع من الإسهاب بالإدماج حرفان قد جمعا الذي قد سطروا ... من بسط أقوال طول حجاج والمشرب الأصفى الذي من ذاقه ... فقد اهتدى منه بنور سراج أن لا ترى إلا الحقيقة وحدها ... والكل مضطر إليها لاجي

هذي بدائع حكمة أنشأتها ... بإشارة المولى أبي الحجاج وسع الأنام بفضله وبعدله ... وبحلمه وبجوده الثجاج من آل نصر نخبة الملك الرضى ... أمن المروع هم وغيث الراجي من آل قيلة ناصري خير الورى ... والخلق بين تخاذل ولجاج ماذا أقول وكل قول قاصر ... في وصف بحر زاخر الأمواج منه لباغي العرف در فاخر ... ولمن يعادي الدين هول فاجي دامت سعودك في مزيد والمنى ... تأتيك أفواجاً على أفواج وقال من المطولات: لمن المطايا في السراب سوابحا ... تفلي الفلاة غوادياً وروائحا عوج كأمثال القسي ضوامر ... يرمين في الآفاق مرمى نازحا وقال يمدح، ويصف مصنعاً سلطانياً (1) : زارت تجر بنخوة (2) أذيالها ... هيفاء تخلط بالنفار دلالها فالشمس من حسد لها مصفرة ... إذ قصرت عن أن تكون مثالها وافتك تمزج لينها بقساوة ... قد أدرجت طي العتاب نوالها كم رمت كتم مزارها لكنه ... صحت دلائل لم تطق إعلاها تركت على الأرجاء عند مسيرها ... أرجاً كأن المسك فت خلالها ما واصلتك محبة وتفضلاً ... لو كان ذاك لواصلن إفضالها لكن توقعت السلو فجددت ... لك لوعة لا تتقي ترحالها فوحبها (3) قسماً يحق بروره ... لتشجمنك في الهوى أهوالها

_ (1) انظر نثير فرائد الجمان: 241. (2) نثير: تجرر نخوة. (3) ق: فوحقها.

حسنت نظم الشعر في أوصافها ... إذ قبحت لك في الهوى أفعالها يا حسن ليلة وصلها، ما ضرها ... لو أتبعت من بعدها أمثالها لما سكرت بريقها وجفونها ... أهملت كأسها لم ترد إعمالها هذا الربيع أتاك ينشر حسنه ... فافسح لنفسك في مداه مجالها واخلع عذارك في البطاله جامحاً ... واقرن بأسحار الهنا آصالها في جنة تجلو محاسنها كما ... تجلو العروس لدى الزفاف جمالها شكرت أيادي للحيا شكر الورى ... شرف الملوك همامها مفضلها وصميمها أصلاً وفرعاً، خيرها ... ذاتاً خلقاً، سمحها بذالها الطاهر الأعلى الأمين المرتضى ... بحر المكارم غيثها سلسالها حاز المعالي كابراً من كابر ... وجرى لغايات الكرام فنالها إن تلقه في يوم بذل هباته ... تلق الغمائم أرسلت هطالها أو تلقه في يوم جرب عداته ... تلق الضراغم فارقت أشبالها ملك إذا ما صال يوماً صولة ... خلت البسيطة زلزلت زلزالها فبسيبه وبسيف نلت المنى ... واستعجلت أعداؤه أجالها الواهب الآلاف قبل سؤالها ... فكفى العفاة سؤالها ومطالها القاتل الآلاف قبل قراعها ... فكفى العداة قراعها ونزالها إن قلت بحر كفه قصرت إذ ... شبهت بالملح الأجاج نوالها ملأ البسيطة عدله وأمانه ... فالوحش لا تعدو على من غالها وسقى البرية فيض كفيه فقد ... عم البلاد سهولها وجبالها جمع العلوم عناية بعيونها (1) ... آدابها وحسابها وجدالها منقولها معقولها، وأصولها ... وفروعها، تفصيلها إجمالها فإذا عفاتك عاينوك تهللوا ... لما رأوا من كفك استهلالها

_ (1) ق ونثير: بفنونها.

وإذا عداتك أبصروا تيقنوا ... أن المنية سلطت رئبالها بددت شملهم ببيض صوارم ... رويت من علق الكماة نصالها وأبحت أرضهم فأصبح أهلها ... خواراً (1) تغادر نهبة أموالها فتحت إمارتك السعيدة للورى ... أبواب بشرى واصلت إقبالها وبنت مصانع رائقات ذكرت ... دار النعيم جنانها وظلالها وأجلها قدراً وأرفعها مدى ... هذا الذي سام النجوم وطالها هو جنة فيها الأمير مخلد ... بلغت إمارته بها آمالها ولأرض أندلس مفاخر أنتم ... أربابها أضفيتم سربالها فحميتم أرجائها، وكفيتم ... أعداءها، وهديتم ضلالها فبآل نصر فاخرت لا غيرهم ... لم تعتمد من قبلهم أقيالها بمحمد ومحمد ومحمد ... قصرت على الخصم الألد نضالها فهم الألى ركبوا لكل عظيمة ... جرداً كسين من النجيع جلالها وهم الألى فتحوا لكل ملمة ... باباً أزاح بفتحه إشكالها متقلدون من السيوف عضابها ... متأبطون من الرماح طوالها الراكبون من الجياد عرابها ... والضاربون من العدا أبطالها أولي عهد المسلمين ونخبة ال ... أملاك صفوة محضها وزلالها إن العباد مع البلاد مقرة ... بفضائل لك مهدت أحوالها فتفك عانيها، وتحمي سربها ... وتفيد حلماً دائماً جهالها وقال يرثي ولده أبا القاسم رحمهما الله تعالى: هو البين حتماً، لا لعل ولا عسى ... فما بال نفسي لم تفض عند أسى وما لفؤادي لم يذب منه حسرة ... فتباً لهذا القبل سرعان ما قسا

_ (1) نثير: جزرا.

وما لجفوني لا تفيض مورداً ... من الدمع يهمي تارة ومورسا وما للساني مفصحاً بخطابه ... وما كان لو أوفى بعهد لينسبا (1) أمن بعد ما أودعت روحي في الثرى ... ووسدت مني فلذة القلب مرسما وبعد فراق ابني أبا القاسم الذي ... كساني ثوب الثكل لا كان ملبسا أؤمل (2) في الدنيا حياة وأرتضي ... مقيلاً لدى أبنائها ومعرسا فآهاً وللمفجوع فيها استراحة ... ولا بد للمصدور أن يتنفسا على عمر أفنيت فيه بضاعتي ... فأسلمني للقبر حيران (3) مفلسا ظللت به في غفلة وجهالة ... إلى أن رمى سهم الفراق فقرطسا إلى الله أشكو برح حزني فإنه ... تلبس منه القلب ما قد تلبسا وهدة خطب نازلتني عشية ... فما أغنت الشكوى ولا نفع الأسا فقد صدعت شملي وأصمت مقاتلي (4) ... وقد هدمت ركني الوثيق المؤسسا ثبت لها وقعاً لشدة وقعها ... فما زلزلت صبري الجميل وقد رسا وأطمع أن يلقى برحمته الرضى ... وأجزع أن يشقى بذنب فينسكا أبا القاسم اسمع شكو والدك الذي ... حسا من كؤوس البين أفظع ما حسا وقفت فؤادي مذ رحلت على الأسى ... فأشهد لا ينفك وقفاً محبسا وقطعت آمالي من الناس كلهم ... فلست أبالي أحسن المرء أم أسا تواريت يا بدري وشمسي وناظري ... فصار وجودي مذ تواريت حندسا وخلفت لي عبئاً من الثكل فادحاً ... فما أتعب الثكلان نفساً وأتعسا أحقاً ثوى ذاك الشاب فلا أرى ... له بعد هذا اليوم حولي مجلسا فيا غصناً نضراً ثوى عندما استوى ... وأوحشني أضعاف ما كان أنسا ويا نعمة لما تبلغتها انقضت ... فأنعم أحوالي صار بها أبؤسا

_ (1) ق: ليقبسا. (2) ق ص: أآمل. (3) ص: خزيان. (4) ق: مفاصل.

لودعته والدمع تهمي سحابه ... كما أسلم السلك الفريد المخمسا وقبلت في ذاك الجبين مودعاً ... لأكرم من نفسي علي وأنفسا وحققت من وجدي به قرب رحلتي ... وماذا عسى أن ينظر الدهر من عسا فيا رحمة للشيب يبكي شبيبة ... قياس لعمري عكسه كان أقيسا فلو أن هذا الموت يقبل فدية ... حبونا أموالاً كراماً وأنفسا ولكنه حكم من الله واجب ... يسلم فيه من بخير الورى ائتسى تغمدك الرحمن بالعفو والرضى ... وكرم مثواك الجديد وقدسا وألف منا الشمل في جنة العلا ... فنشرب تنسيماً ونشرب سندسا وكتب إلى القاضي الشريف وهو بوادي آش: أهزلاً وقد جدت بك اللمة الشمطا ... وأمناً وقد ساورت يا حية رقطا أغرك طول العمر في غير طائل ... وسرك (1) أن الموت في سيره أبطا رويداً فإن الموت أسرع وافد ... على عمرك الفاني ركائبه حطا (2) فإذ ذاك لا تسطيع إدراك ما مضى ... بحال، ولا قيضاً تطيق ولا بسطا (3) تأهب فقد وافى مشيبك منذراً ... وها هو في فوديك أحرفه خطا (4) فوافقت منه كاتب السر واشياً ... له القلم الأعلى يخط به وخطا معمى كتاب فكه احذر فهذه ... سفينة هذا العمر قاربت الشطا وإن طالما خاضت به اللجج التي ... خطبت بها في كل مهلكة خبطا وما زلت في أمواجها متقلباً ... فآونة رفعاً وآونة حطا فقد أوشكت تلقيك في قعر حفرة ... تشد عليك الجانبين بها ضغطا ولست على علم بما أنت بعدها ... ملاق، أرضواناً من الله أم سخطا

_ (1) ص: وغرك. (2) سقط هذا البيت من ق. (3) وقع البيت بعد تاليه. (4) وقع البيت ثالثا في ص.

وأعجب شيء منك دعواك في النهى ... وهذا الهوى المردي على العقل قد غطى قسطت عن الحق المبين جهالة ... وقد خالفتك النفس فادعت القسطا وطاوعت شيطاناً تجيب إذا دعا ... وتقبل إن أغوى، وتأخذ إن أعطى تناءى عن الآخرة، وقد قربت مدى ... تداني من الدنيا، وقد أزمعت شحطا وتمنحها حباً وفرط صبابة ... وما منحت إلا القتادة والخرطا فها أنت تهوى وصلها وهي فارك ... وتأمل قرباً من حماها وقد شطا صراط هدى نكبت عنه عماية ... ودار ردى أوعيت في سحتها سرطا (1) فما لك إلا السيد الشافع الذي ... له فضل جاه كل ما يرتجي يعطى دليل إلى الرحمن، فأنهج سبيله ... فمن حاد عن نهج الدليل فقد أخطا محبته شرط القبول، فمن خلت ... صحيفته منها فقد فقد الشرطا وما قبلت منه لدى الله قربة ... وما زكت الأعمال، بل حبطت حبطا به الحق وضاح، به الإفك زاهق ... به الفوز مرجو، به الذنب قد حطا هو الملجأ الأحمى، هو الموئل الذي ... به في غد يستشفع المذنب الخطا لقد مازجت روحي محبته التي ... بقلبي خطت قبل أن أعرف الخطا إليك ابن خير الخلق بنت بديهة ... تقبل تبجيلاً أناملك السبطا وحيدة هذا العصر وافت وحيدة ... لتبسط من شتى بدائعها بسطا وتتلو آيات التشيع إنها ... لموثقة عهداً ومحكمة ربطا لك الشرف المأثور يا ابن محمد ... وحسبك أن تنمى إلى سبطه سبطا إلى شرفي دين وعلم تظاهرا ... تبارك من أعطى وبورك في المعطى ورهطك أهل البيت، بيت محمد ... فأعظم به بيتاً، وأكرم به رهطا بعثت به عقداً من الدر فاخراً ... وذكر رسول الله درته الوسطى وأهديت منه للسيادة غادة ... نظمت من الدر الثمين بها سمطا

_ (1) هذه قراءة ص؛ وفي ق: شحمها شرطا.

وحاشيتها من كل ما شانها، فإن ... تجعد حوشي تجد لفظها سبطا وفي الطيبين الطاهرين نظمتها ... فساعدها من أجل ذلك حرف الطا عليك سلام الله ما ذر شارق ... وما رددت ورقاء في غصن لغطا قال: لله عصر الشباب عصراً ... فتح للخير كل باب حفظت ما شئت فيه حفظاً ... كنت أراه بلا ذهاب حتى إذا ما الشيب وافى ... ند ولكن بلا إياب لا تعتنوا بعدها بحفظ ... وقيدوا العلم بالكتاب وقال: يا أيها الممسك البخيل ... إلهك المنفق الكفيل أنفق وثق بالإله تربح ... فإن إحسانه جزيل وقدم الأقربين واذكر ... ما روي أبداً بمن تعل وقال: وقائلة لم عراك المشيب ... وما إن بعهد الصبا من قدم فقلت لها لم أشب كبرة ... ولكنه الهم نصف الهرم وقال: أيعتادني كل سقم وأنت طبيب ... وتبعد آمالي وأنت قريب يقيني أن الله جل جلاله ... يقيني فراجي الله ليس يخيب وقال: هي النفس إن أنت سامحتها ... رمت بك أقصى مهاوي الخديعه

وإن أنت جشمتها خطة ... تنافي رضاها تجدها مطيعه فإن شئت فوزاً فناقض هواها ... وإن وصلتك أجزها بالقطيعه ولا تعبأن بميعادها ... فميعادها كسراب بقيعه وقال: من أنت يا مولى الورى مقصوده ... طوبى له قد ساعدنه سعوده فليشهدنك له فؤاد صادق ... وشهوده قامت عليه شهوده وليفنين عن نفسه ورسومه ... طراً، وفي ذلك الفناء وجوده وليحفظنه بارق يرقى به ... في أشرف المعراج ثم يعيده حتى يظل ولا يدري دهشة ... تقريبه المقصود أم تبعيده لكنه ألقى السلاح مسلماً ... فمراده ما أنت منه تريده فلقد تساوى عند إكرامه ... وهوانه ومفيده ومبيده وقال ملغزاً في حجل (1) : حاجيت (2) كل فطن لبيب ... ما اسم لأنثى من بني يعقوب (3) ذات كرامات فزرها قربة ... فزورها أحق بالتقريب تشركها في الاسم أنثى لم تزل ... حافظة لسرها المحجوب وقد جرى في خاتم الوحي الرضى ... لها حديث ليس بالمكذوب وهو إذا ما الفاء (4) منه صحفت ... صبغ الحياء لا الحيا المسكوب فهاكها واضحة أسرارها ... فأمرها أقرب من قريب وقال أيضاً في آب:

_ (1) الكتيبة الكامنة: 189. (2) الكتيبة: خاطبت. (3) اليعقوب: ذكر الحجل. (4) يعني فاء الكلمة وهو حرف الحاء.

حاجيتكم ما اسم علم ... ذو نسبة إلى العجم يخبر بالرجعة وه ... وراجع كما زعم وصف الحبيب هو بالت ... صحيف أو بدء قسم دونكه أوضح من ... نار على رأس علم وقال في كانون: وما اسم لسميين ... ولم يجمعهما جنس فهذا كلما يأتي ... فبالآخر لي أنس وهذا ما له شخص ... وهذا ما له حس وهذا ما له سوم ... وذا قيمته فلس وهذا أصله الأرض ... وهذا أصله الشمس وهذا واحد من سب ... عة تحيا بها النفس فمن محموله الجن ... ومن موضوعه الإنس فقد بان الذي ألغز ... ت ما في أمره لبس وقال في سلم: ما اسم مركب مفيد الوضع ... مستعمل في الوصل لا في القطع ينصب لكن أكثر استعمال من ... يعنى به في الخفض أو في الرفع هو إذا حققته مغيراً (1) ... تراه شملاً لم يزل ذا صدع فالاسم إذا طليته تجده في ... خامسة من الطوال السبع (2) وهو إذا صحفته يعرب عن ... مكسر في غير باب الجمع (3)

_ (1) الكتيبة: وهو إذا صغرته مخففا. (2) إشارة إلى الآية " أو سلما في السماء " (الأنعام: 25) . (3) إذا صحف " سلم " أصبح " يثلم " أي يتكسر.

له أخ أفضل منه لم تزل ... آثاره محمودة في الشرع (1) هما جميعاً من بني النجار والأف ... ضل أصل في حنين الجذع (2) فهاكه قد سطعت أنواره ... لا سيما لكل زاكي الطبع وقال في مائدة: حاجيت كل فطن نظار ... ما اسم لأنثى من بني النجار وفي كتاب الله جاء ذكرها ... فقلما يغفل عنها القاري في خبر المهدي فاطلبها تجد ... إن كنت من مطالعي الأخبار ما هي إلا العيد عيد رحمة ... ونعمة ساطعة الأنوار يشركها في الاسم وصف حسن ... من وصف قضب الروضة المعطار (3) فهاكه كالشمس في وقت الضحى ... قد شف عنها حجب الأستار ثم قال لسان الدين: وأما نثره فمطولات عرفت بما تخللها من الأحوال متونها، وقلت لمكان البديهة والاستعجال عيونها، وقد اقتنصت جزءاً منها سميته تافه من حجم ونقطة من يم وولد بغرناطة في جمادى الأولى عام ثلاثة وسبعين وستمائة، وتوفي ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة، وأنشدت من نظمي في رثائه خامس يوم دفنه على قبره هذه القصيدة: ما لليراع خواضع الأعناق ... طرق النعي فهن في إطراق وكأنما صبغ الشحوب وجوهها ... والسقم من الجزع ومن إشفاق ما للصحائف صوحت روضاتها ... أسفاً وكن نضيرة الأوراق ما للبيان كؤوسه مهجورة ... غفل المدير لها ونام الساقي

_ (1) أخوه هو المنبر. (2) من بني النجار: من صنع النجار. (3) أي أن قضب الروض تميد فهي " مائدة " أي متمايلة.

ما لي عدمت تجلدي وتصبري ... والصبر في الأزمات من أخلاقي خطب أصاب بني البلاغة والحجى ... شب الزفير به عن الأطواق أما وقد أودى أبو الحسن الرضى ... فالفضل أودى على الإطلاق كنز المعارف لا تبيد نقوده ... يوماً ولا تفنى على اللإنفاق من للبدائع أصبحت سمر السرى ... ما بين شام للورى وعراق من لليراع يجيل من خطيها ... سم العدا ومفاتح الأرزاق قضب ذوابل مثمرات بالمنى ... وأراقم ينفثن بالترياق من للرقاع الحمر يجمع حسنها ... خجل الخدود وصبغة الأحداق تغتال أحشاء العدو كأنها ... صفحات دامية الغرار رقاق وتهز أعطاف الولي كأنها ... راح مشعشعة براحة ساقي من للفنون يجيل في ميدانها ... خيل البيان كريمة الأعراق من للحقائق أبهمت أبوابها ... للناس يفتحها على استغلاق من للمساعي الغر تقصد جاهه ... حرماً فينصرها على الإخفاق كم شد من عقد وثيق حكمه ... في الله أو أفتى بحل وثاق رحب الذراع بكل خطب فادح ... أعيت رياضته على الحذاق صعب المقادة في الهوادة والهوى ... سهل على العافين والطراق ركب الطريق إلى الجنان وحورها ... يلقينه بتصافح وعناق فاعجب لأنس في مظنة وحشة ... ومقام وصل في مقام فراق أمطيباً بمحامد العمل الرضى ... ومكفناً بمكارم الأخلاق ما كنت أحسب قبل نعشك أن أرى ... رضوى تسير به على الأعناق ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ... أن اللحود خزائن الأعلاق يا كوكب الهدي الذي من بعده ... ركد الظلام بهذه الآفاق يا واحداً مهما جرى في حلبة ... جلى بغرة سابق السباق

يا ثاوياً بطن الضريح وذكره ... أبدا ًرفيق ركائب ورفاق يا غوث من وصل الصريخ فلم يجد ... في الأرض من وزر ولا من واق ما كنت إلا ديمة منشورة ... من غير إرعاد ولا إبراق ما كنت إلا روضة ممطورة ... ما شئت من ثمر ومن أوراق يا مزمعاً عنا العشي ركابه ... هلا ثويت ولو بقدر فواق رفقاً أبانا جل ما حملتنا ... لا تنس فينا عادة الإشفاق واسمح ولو بمزار لقيا في الكرى ... تبقي بها منا على الإرماق وإذا اللقاء تصرمت أسبابه ... كان الخيال تعلة المشتاق عجباً لنفس ودعتك وأيقنت ... أن ليس بعد نواك يوم تلاقي ما عذرها إن لم تقاسمك الردى ... في فضل كأس قد شربت دهاق إن قصرت أجفاننا عن أن ترى ... تبكي النجيع عليك باستحقاق واستوقفت دهشاً فإن قلوبنا ... نهضت بكل وظيفة الآماق ثق بالوفاء على المدى من فتية ... بك تقتدي في العهد والميثاق سجعت بما طوقتها من منة ... حتى زرت بحمائم الأطواق تبكي فراقك خلوة عمرتها ... بالذكر في طفل وفي إشراق أما الثناء على علاك فذائع ... قد صح بالإجماع والإصفاق والله قد قرن الثناء بأرضه ... بثنائه من فوق سبع طباق جادت ضريحك ديمة هطالة ... تبكي عليه بواكف رقراق وتغمدتك من الإله سعادة ... تسمو بروحك للمحل الراقي صبراً بني الجياب إن فقيدكم ... سيسر مقدمه بما هو لاق وإذا الأسى لفح القلوب أواره ... فالصبر والتسليم أي رواق وأنشد في هذا الغرض الفقيه أبو عبد الله ابن جزي:

ألم تر أن المجد أقوت معالمه ... فأطنابه قد قوضت ودعائمه هوى من سماء المعلوات هلالها ... وخانت جواد المكرمات قوائمه وثلت من الفخر المشيد عروشه ... وفلت من العز المنيع صوارمه وعطل من حلي البلاغة قسها ... وعري من جود الأنامل حاتمه أجل إنه الخطب الذي جل وقعه ... وثلم غرب الدين والعلم هاجمه وإلا فما للنوم طار مطاره ... وما للزيم الحزن قصت قوادمه وما لصباح الأنس أظلم نوره ... وما لمحيا الدهر قطب باسمه وما لدموع العين فضت كأنها ... فواقع زهر والجفون كمائمه قضى الله في قطب الرياسة أن قضى ... فشتت ذاك الشمل من هو ناظمه ومن قارع الأيام سبعين حجة ... ستنبو غراره ويندق قائمه وفي مثلها أعيا النطاسي طبه ... وضل طريق الحزم في الرأي حازمه تساوى جواد في رداه وباخل ... فلا الجود واقيه، ولا البخل عاصمه وما نفعت رب الجياد كرامه ... ولا منعت منه الغني كرائمه وكل تلاق فالفراق أمامه ... وكل طلوع فالغروب ملازمه وكيف مجال العقل في غير منفذ ... إذا كان باني مصنع هو هادمه ليبك علياً مستجير بعدله ... يصاخ لشكواه ويمنع لظالمه ليبك علياً مائح بحر علمه ... يروى بأنواع المعارف هائمه ليبك علياً مظهر فضل نصحه ... يحلأ عن ورد المآثم حائمه ليبك علياً معتف جود كفه ... يواسيه في أمواله ويقاسمه ليبك علياً ليله وهو قائم ... يكابده أو يومه وهو صائمه ليبك علياً فضل كل بلاغة ... يخلده في صفحة الطرس راقمه وشخص ضئيل الجسم يرهب نفثه ... ليوث الشرى في خيسها وضراغمه (1)

_ (1) في هذا البيت كناية عن القلم.

تكفل بالرزق المقدر للورى ... إذا الله أعطى فهو في الناس قاسمه يسدده سهماً وينضوه صارماً ... ويشرعه رمحاً فكل يلائمه إذا سال من شقيه سائل حبره ... بما شاء منه سائل فهو عالمه ليبك عليه اليوم من كان باكياً ... فتلك مغانيه خلت ومعالمه تقلد منه الملك عضب بلاغة ... يقد السلوقي المضاعف صارمه وقلده مثنى الوزارة فاكتفى ... بها ألمعي حازم الرأي عازمه ففي يده وهو الزعيم بحقها ... براعته والمشرفي وخاتمه سخي على العافين سهل قياده ... أبي على العادين صعب شكائمه إذا ضلت الآراء في ليل حادث ... رآها برأي يصدع الخطب ناجمه وقام بأمر الدين والملك حامياً ... فذل معاديه وضل مراغمه وقد كان نيط العلم والحلم والتقى ... به وهو ما نيطت عليه تمائمه ودوخ أعناق الليالي بهمة ... يبيت ونجم الأفق فيها يزاحمه وزاد على بعد المنال تواضعاً ... أبى الله إلا أن تم مكارمه سقيت الغوادي؛ أي علم وحكمة ... ودين متين ذلك القبر كاتمه وما زال يستسقى بدعوتك الحيا ... وها هو يستسقى لقبرك ساجمه بكت فقدك الكتاب إذ كان شملهم ... يؤلفه من دوح فضلك ناعمه وطوقتهم بالبر ثم سقيتهم ... نداك فكنت الروض ناحت حمائمه ويبكيك مني ذاهب الصبر موجع ... توقد في جنبيه للحزن جاحمه فتىً نال منه الدهر إلا وفاءه ... فما وهنت في حفظ عهد عزائمه عليل الذي زرت عليه جيوبه ... قريح الذي شدت عليه حزائمه فقد كنت ألقى الخطب منه بجنة ... تعارض دوني بأسه وتصادمه سأصبر مضطراً وإن عظم الأسى ... أحارب حزني مرة وأسالمه وأهديك إذ عز اللقاء تحية ... وطيب ثناء كالعبير نواسمه

وأنشد الفقيه القاضي أبو جعفر ابن جزي قصيدة أولها: أبثكما والصبر للعهد ناكث ... حديثاً أملته علي الحوادث وأنشد القاضي أبو بكر ابن علي القرشي قصيدة أولها: هي الآمال غايتها نفاد ... وفي الغايات تمتاز الجياد وأنشد الفقيه الكاتب القاضي أبو القاسم ابن الحكم قصيدة أولها: لينع الحجى والحلم من كان ناعيا ... ويرع العلا والعلم من كان راعيا قصائد مطولات يخرج استقصاؤها عن الغرض، فكان هذا التأبين غريباً لم يتقدم به عهده بالحضرة لكونها دار ملك، والتجلة في مثل هذا مقصورة على أولي الأمر؛ انتهى ما لخصته من ترجمته في " الإحاطة ". ولنزد فنقول: ومن ألغازه في الدرهم: ما بغيض إلى الكرام خصوصاً ... وحبيب إلى الأنام عموما فاعجبوا منه كيف يحمي ويحمى ... ويكف العدا ويغني العديما إن تغير شطريه فالأول اسم ... يألف الضرع والغمام السجوما ويكون الثاني كبير أناس ... حطمته حياته تحطيما فإذا ما قلبت أول شطر ... رد منطوق لغزه مفهوما وإذا ما قلبت ثاني شطر ... كان كفاً وليس كفاً رقيماً قلبه بعد حذفك الفاء منه ... هو شيء يحلل التحريما أو صغير مستحس لم يؤدب ... إن تعلمه يقبل التعليما فالتبين ما قلته ولتعين ... وبه فلتقم مقاماً كريما وقال في المسك:

ما طاهر طيب ولكن ... ما أصله من ذوي الطهارة من الظباء الحسان لكن ... إذا تأملته ففاره نص حديث الرسول فيه ... شهادة تقتضي بشاره تصحيفه بعد حذف حرف ... منزلك الآهل العمارة يعني مبنى. وقال في فلك: ما اسم لشيء مرتقي ... في مغرب ومشرق إذا حذفت فاءه ... كان لك الذي بقي وقال أيضاً في الفنار: ما اسم إذا حذفت من ... هـ فاءه المنوعه فإنه ابنة الزنا ... مضافة لأربعه يعني ابنة الزناد، وهي النار. وقال في النوم: ما اسم مسماه به ... يسقط حكم التكليف وإن دخلت البيت بالتص ... حيف حق التعنيف وإن أردت شبهه ... فقلبه بالتصحيف بينه فهو في كتا ... ب الله بادي التعريف وقال في غزال: حاجيتكم ما اسم شيىء ... يروق في الوصف حسنا له محاسن شتى ... منها فرادى ومثنى

(1) ... له بل السعر أثنى مهما تنله بحذف ... أتاك حرفاً لمعنى (2) إن زال أول حرف ... زال الذي منه يعنى أو زال ثانية منه ... فالقتل أدهى وأفنى أو زال ثالثة فه ... ولغو صب معنى أو زال رابعة فال ... جهاد فيه تسنى فأوضح القصد يا من ... قد فاق عقلاً وذهنا وقال في النمل: ما حيوان اسمه ... قد جاء في الذكر الحكيم وهو إذا قلبته ... لمن به أنت عليم وإن تصحف اسمه ... فبعض أوصاف اللئيم وقال في دواة: وما أثنى بها رعي الرعايا ... وإمضاء المنايا والقضايا وتقصدها بنوها من رضاع ... إذا انبعثوا لإبرام القضايا لها اسم إن أزلت النقط منه ... فعذ بالله من شر البلايا وغن أبدلت آخره بهمز ... فقد أبرأت نازلة الشكايا وإن بدلت أوله بنون ... أتيت ببعض أرزاق المطايا فأوضح ما رمزناه بفكر ... سديد القصد مبد للخفايا وقال في سفينة: ما ذات نفع وغناء عظيم ... لها حديث في الزمان قديم

_ (1) بياض في ق ص. (2) تبدل هذا العجز مع العجز التالي في ق.

أوحى بها الله إلى عبده ... فحبذا فعل الرسول الكريم وعابها فيما مضى صالح ... حسبك ما نص الكتاب الحكيم (1) وفي كتاب الله تردادها ... فاقرأ تجد في قضايا الكليم إن أنت صحفت اسمها تلقه ... محل أنس أو بلاء مقيم أو هو فعل لك فيما مضى ... لكن إذا أبرأت داء السقيم فهاكه قد لاح برهانه ... مبيناً لكل فكر سليم وقال أيضاً في المسك: كتبتم كثيراً ولم تكتبوا ... كهذا الذي سلبه واضحه فما اسم جرى ذكره في الكتاب ... فإن شئته فاقرأ الفاتحه ففيها مصحف مقلوبه ... يعبر عن حالة صالحة وليست بغادية فاعلموا ... ولكنها أبداً رائحه ويعني بقوله في الفاتحة قوله أول الأبيات كتبتم فافهم. وقال في صقر: حاجيتكم ما اسم لبعض السباع ... تصحيفه ما لك فيه انتفاع وعكسه إن شئت عكساً له ... يوجد لكن عند دور السماع وإن تصحف بعد قلب له ... فمذهب يعزى لأهل النزاع (2) فبين الإلغاز وارفع لنا ... بنور فكر منك عنه القناع وقال في الحوت: ما حيوان في اسمه ... إن اعتبرته فنون

_ (1) يشير إلى أن الرجل الصالح عاب السفينة التي كانت لغلامين يتيمين كما جاء في سورة الكهف. (2) تصحيف صقر بعد قلبه هو " رفض " أي مذهب الرافضة.

أحرفه ثلاثة ... والكل منها هو نون إن أنت صحفت اسمه ... فما جناه المذنبون (1) أو أبيض أو أسود ... أو صفة النفس الحؤون قلب اسمه مصحفاً ... عليه دارت السنون كانت به فيما مضى ... عبرة قوم يعقلون أودع فيه زمناً ... سر من السر المصون فهاكه كالنار في ال ... زند له فيها كمون وقال في لبن: أفديك ما اسم إذا ما ... صحفته فهو سبع وإن تصحف بعكس ... ففيه للقبط شرع والاسم يعرب عما ... لديه ري وشبع في النحل يلفى ولكن ... لا يتقى فيه لسع فليس للنحل أصل ... ولا لها فيه فرع فهاكه قد تبدى ... لحجبه عنه رفع وقال في القلم: ومأموم به عرف الإمام ... كما باهت بصحبته الكرام له إذ يرتوي طيشان صاد ... ويسكن حين يعروه الأوام ويذري حين يستسقي دموعاً ... يرقن كما يروق الابتسام وله - رحمه الله تعالى - كثير من هذا، ولم أر أحداً أحكم الإلغاز مثلما أحكمه ابن الجياب المذكور، ولولا الإطالة (2) لذكرت منها ما يستدل به على

_ (1) تصحيف حوت هو " حوب " أي الذنب. (2) ق: خشية الإطالة.

صحة الدعوى، وفيما ذكرنا كفاية. ومن نظم الرئيس ابن الجياب المذكور في رثاء عمر بن علي بن عتيق القرشي الهاشمي الغرناطي قوله: قضي الأمر فيا نفس اصبري ... صبر تسليم لحكم القدر وعزاء يا فؤادي إنه ... حكم ملك قاهر مقتدر حكمة أحكمها تدبيره ... نحن منها في سبيل السفر أجل مقدر ليس بمس ... تقدم يوماً ولا مستأخر أحسن الله عزاء كل ذي ... خشية لربه في عمر في إمامنا التقي الخاشع ... الطاهر الذات الزكي النير قرشي هاشمي منتقى ... من صميم الشرف المطهر يشهد الليل عليه أنه ... دائم الذكر طويل السهر في صلاة بعثت وفودها ... زمراً للمصطفى من مضر قائماً وراكعاً وساجداً ... لطلوع فجره المنفجر جمع الرحمن شملنا غداً ... بحبيب الله خير البشر وتلقته وفود رحمة الل ... هـ تأتي بالرضى والبشر قلت: هذا النظم - وإن برد بما فيه من الزحاف - فله من الوعظ وذكر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم خير لحاف. قال لسان الدين: ولما نظم القاضي أبو بكر ابن شبرين ببيت الكتابة ومألف الجملة هذين البيتين: ألا يا محب المصطفى زد صبابة ... وضمخ لسان الذكر منك بطيبه ولا تعبأن بالمبطلين فإنما ... علامة حب الله حب حبيبه وأخذ الأصحاب في تذييل ذلك، قال الشيخ الرئيس أبو الحسن ابن الجياب

رحمه الله تعالى ورضي عنه: فمن يعمر الأوقات طراً بذكره ... فليس نصيب في الهدى كنصيبه ومن كان عنه معرضاً طول ذكره ... فكيف يرجيه شفيع ذنوبه وقال أبو القاسم ابن أبي العافية: أليس الذي جلى دجى الجهل هديه ... بنور أقمنا بعده نهتدي به ومن لم يكن من ذاته شكر منعم ... فمشهده في الناس مثل مغيبه وقال أبو بكر ابن أرقم: نبي هدانا من ضلال وحيرة ... إلى مرقى سامي المحل خصيبه فهل ينكر الملهوف فضل مجيره ... ويغمط شاكي الداء شكر طبيبه فانتهى القوم إلى الخطيب أبي محمد ابن أبي المجدي فقال: ومن قال مغروراً حجابك ذكره ... فذلك مغمور طريد عيوبه وذكر رسول الله فرض مؤكد ... وكل محق قائل بوجوبه وقال يوماً الشيخ أبو الحسن ابن الجياب تجربة للخاطر على العادة: جاهد النفس جاهداً فإذا ما ... فنيت منك فهو عين الوجود وليكن حكمها المسدد فيها ... حكم سعد في قتله لليهود فأجابه أبو محمد ابن أبي المجدي بقوله: أيها العارف المعبر ذوقاً ... عن معان عزيزة في الوجود إن حال الفناء عن كل غير ... كمقام المراد غير المريد كيف لي بالجهاد غير معان ... وعدوي مظاهر بجنود

ولو أني حكمت فيمن ذكرتم ... حكم سعد لكنت جد سعيد فأراها حبابة بي فتوناً ... وأراني في حبها كيزيد سوف أسلو بنصحكم عن هواها ... ولو أبدت فعل المحب الودود ليس شيء شوى إلهك يبقى ... واعتبر صدق ذا بقول لبيد (1) [ترجمة ابن أبي المجد] وابن أبي المجد المذكور هو عبد الله البر بن علي بن سليمان بن محمد بن محمد بن أشعب الرعيني (2) ، من أرجدون من كورة رية، يمنى أبا محمد ويعرف بابن أبي المجد، كان من أعلام الكورة سلفاً وصلاحاً ونية في الصالحين، كثير الإيثار بما تيسر، مليح التخلق، حسن السمت، طيب النفس، حسن الظن، له حظ من الأدب والفقه والقراءات والفرائض، وخوض في التصوف، قطع عمره خطيباً وقاضياً ببلده ووزيراً، قرأ على الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير وابن فضيلة المعافري وابن رشد، وأجازه طائفة كبيرة، توفي ليلة النصف من شعبان عام تسعة وثلاثين وسبعمائة، رحمه الله تعالى. [رجع إلى ابن الجياب] ومن نظم ابن الجياب ما كتب على باب المدرسة العلمية بغرناطة: يا طالب العلم هذا بابه فتح ... فادخل تشاهد سناه لاح شمس ضحى واشكر مجيرك في حل ومرتحل ... إذ قرب الله من مرماك ما نزحا وشرفت حضرة الإسلام مدرسة ... بها سبيل الهدى والعلم قد وضحا

_ (1) يشير إلى قول لبيد " ألا كل شيء ما خلا الله باطل ". (2) ترجمة ابن أبي المجد في الكتيبة الكامنة: 52؛ وفي ص: ابن أبي أشعث.

أعمال يوسف مولانا ونيته ... قد طرزت صحفاً ميزانها رجحا ومنه قوله: أبى الله إلا أن تكون اليد العليا ... لأندلس من غير شرط ولا ثنيا وإن هي عضتها بنوب نوائب ... فصيرت الشهد المشور بها شريا (1) فما عدمت أهل البلاغة والحجى ... يقيمون فيها الرسم للدين والدنيا إذا خطبوا قاموا بكل بليغة ... تجلي القلوب الغلف والأعين العميا وإن شعروا جاءوا بكل غريبة ... تخال النجوم النيرات لها حليا فأسأل في الدنيا من الله ستره ... علينا وفي الأخرى إذا حانت اللقيا وقال أبو الحسن ابن الجياب: أرى الدهر في أطواره متقلباً ... فلا تأمنن الدهر يوماً فتخدعا فما هو إلا مثلما قال قائل: ... " مكر مفر مقبل مدبر معا " وحكي أنه أهدى له الفقيه ابن قطبة رماناً ثم دخل عليه عائداً، فلما رآه قال له: يا فقيه، نعم بالهدنة زمانك، أراد: نعمت الهدية رمانك، وكان هذا قبل موته من مرضه بيسير، وهو مما يدل على ثبوت ذهنه حتى قرب الموت، سامحه الله تعالى. ومن نثر ابن الجياب رحمه الله تعال ما كتبه عن سلطانه إلى بعض سلاطين وقته، وهو السلطان أبو سعيد المريني صاحب فاس، ونصه: المقام لدى الملك المنصور الأعلام، والفضل الثابت الأحكام، والمجد الذي أشرقت به وجوه الأيام، والفخر الذي تتدارس أخباره بين الركن والمقام، والعز الذي تعلو به كلمة الإسلام، مقام محل الأب الواجب الإكبار والإعظام، السلطان الكذا أبقاه

_ (1) الشري: الحنظل.

الله في ملك منيع الذمار، وسعد باهر الأنوار، ومجد رفيع المقدار، وسلطان عزيز الأنصار، كريم المآثر والآثار، كفيل بالإعلاء لدين الله والإظهار؛ معظم مقامه وموقره، ومجل سلطانه ومكبره، المثني على فضله الذي أربى على ظاهره مضمره، الشاكر لمجده الذي كرم أثره، المعتد بأبوته العلية في كل ما يقدمه ويؤخره، ويورده ويصدره، الداعي إلى الله تعالى بطول بقائه في سعد سام مظهره، حام عسكره، فلان: سلام كريم، طيب عميم، يخص مقامكم الأعلى، ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله الذي أولاكم ملكاً منصوراً، وفخراً مشهوراً، وأحيا بدولتكم العلية لمكارم الأخلاق ذكراً منشوراً، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسول الله الذي اختاره بشيراً ونذيراً، وشرح بهدايته صدوراً، وجعل الملأ الأعلى له ظهيراً، والرضى عن آله وصحبه الذين ظاهروه في حياته، وخلفوه في أمته بعد وفاته، فنالوا في الحالين فضلاً مسطوراً، وأحراً موفوراً، والدعاء لمقامكم الأعلى أسماه الله تعالى بنصر لا يزال به الإسلام محبواً محبوراً، وسعد يملأ أرجاء البسيطة نوراً، فكتبته كتب الله لكم عوائد السعادة، وحباكم من آلائه بالحسنى والزيادة، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وليس بفضل الله سبحانه ثم ببركة مقامكم أيد الله تعالى سلطانه إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيراً كما هو أهله، فلا فضل إلا فضله. وأما الذي عند معظم أمركم من الإعظام لمقامكم والإكبار، والثناء المردد المجدد على توالي الأعصار، والشكر الذي تتلى سوره آناء الليل والنهار، والعلم بما لكم من المكارم التي سار ذكرها في الأقطار أشهر من المثل السيار، والاعتداد بسلطانكم العلي في الإعلان والإسرار، والاستناد إلى جنابكم الكريم في الأقوال والأفعال والأخبار، فذلك لا يزال بحمد الله تعالى محفوظاً ملحوظاً بعين الاستبصار، والله ولي العون على ذلك بفضله وطوله. وإلى هذا أيد الله تعالى سلطانكم، ومهد أوطانكم، فقد تقدمت مطالعة

مقامكم أسماه الله أن ملك قشتالة دس من يتحدث في عقد صلح يعود بالهدنة على البلاد، ويرتفع به عنها مكابدته من جهة الأعاد، وقد رنا أولاً أن ذلك ليس على ظاهر الحال فيه، وأنه يبدي به غير ما يخفيه، ولكن جرينا معه في ذلك المضمار قصداً للتشوف (1) على الأخبار، فلما دار الحديث في هذا الحكم، ظهر منه أنه قد جنح للسلم، وكان خديمنا نقروز بحكم الاتفاق قد ورد إشبيلية لبعض أشغاله، فاستحضره وأخذ معه في أمر الصلح وشرح أحواله، وأعاده إلى معظمكم ليستفهم ما عنده، ويعلم مذهبه وقصده، فأعيد إليه بأنه إن أراد المصالحة على صلح والده على هذه الدار النصرية من غير زيادة على شروط تلك القضية، ولا يعرض لاسترجاع معقل من المعاقل التي أخلصت من يد النصرانية، وأن يكون عقده على الجزيرة الخضراء ورندة وغيرهما من البلاد الأندلسية، فلا بد من مطالعة محل والدنا السلطان أمير المسلمين أبي سعيد أيده الله واستطلاع ما يراه، وحينئذ نعمل بحسب نظره الجميل ومقتضاه، وأكد على نقروز في أنه إن انقاد لهذا الأمر فليعقد معه هدنة لأمد من الدهر بقدر ما يتسع لتعريفكم بهذه الحال وإعلامكم، ويستطلع فيها نظر مقامكم، فما هو إلا أن عاد يوم تاريخ هذا بكتاب ملك قشتالة، وقد أجاب إلى الصلح وانقاد إليه، على حسب ما شرط عليه، وأعطى مهادنة مدة شهر فبرير ليعرف فيها مقامكم، ويعلم ما لديه، ووافق ذلك وصول الشيخ الفقيه الأجل أبي عبد الله ابن حبشية أعزه الله من بابكم الكريم أسماه الله، فأخذ معه في هذا القصد، واستفهم عما لديه من مقامكم في ذلك من الإمضاء أو الرد، فذكر أنكم قد أذنتم لمعظمكم في عقد السلم على ما يراه من الأحكام، إذ ظهر فيها المصلحة لأهل الإسلام، فلما عرف مذهبكم الصالح، وقصدكم الناجح، رأى أن يوجه إلى ملك النصارى من يخلص معه حال الصلح، على ما يعود إن شاء الله

_ (1) ق: قصد التشوق.

تعالى على المسلمين بالنجح، وقدم تعريفكم بما دار من الحديث بين يدي جوابه الوافد على مقامكم صحبة الفقيه أبي عبد الله أعزه الله تعالى، ولا يخفى على مقامكم حاجة هذه البلاد في الوقت إلى هدنة يستدرك بها رمقها مما لقيته من جهد الحرب، وما حل بها في هذه السنين من القحط والجدب، فالصلاح بحمد الله في هذه الحال بادي الظهور، وإلى الله عاقبة الأمور. " هذا ما تزيد لدى معظم مقامكم، وما يتزيد بعد فليس إلا المبادرة إلى مطالعتكم وإعلامكم، وما كان إمساك الفقيه أبي عبد الله ابن حبشية في هذه الأيام إلا لانتظار خبر الصلح، حتى يأتيكم به مستوفى الشرح، وها هو قد أخذ في الرجوع إلى بابكم الأسمى، والقدوم إلى حضرتكم العظمى، والله يصل سعودكم ويحرس وجودكم ويبلغكم أملكم ومقصودكم، والسلام. ومن إنشاء ابن الجياب رحمه الله تعالى في العزاء بالسلطان أبي الحسن المريني ما صورته بعد الصدر: " أما بعد حمد الله الواحد القهار، الحي القيوم حياة لا تتقيد (1) بالأعصار، القادر الذي كل شيء في قبضة قدرته محصور بحكم الاضطرار، الغني في ملكوته فلا يلحقه لاحق الافتقار، المريد الذي بإراته تصريف الأقدار، وتقدير الآجال والأعمار، العالم الذي لا تغرب عن علمه خفايا الأسرار، وخبايا الأفكار، مالك الملك وأهله، ومدبر الأمور بحكمته معدله، تذكرة لأولي الألباب وعبرة لأولي الأبصار، خالق الموت والحياة لينقلنا من دار الفناء إلى دار القرار، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله المصطفى المختار، الذي نهتدي بهديه الكريم في الإيراد والإصدار، والأحلاء والإمرار، في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، بسيره الكريمة الآثار، ونتعزى بالمصيبة به عما دهم من المصائب الكبار، ونقدم منه إلى ربنا شفيعاً ماحياً للأوزار، وآخذاً بالحجز عن النار،

_ (1) ق: تنفد.

ونعلم أننا باتباع سبيله نسعد سعادة الأبرار، وبإقامة ملته وحماية شرعته ننال مرضاة الملك الغفار، والرضى عن آله وصحبه، وأوليائه وحزبه، الذين ظاهروه في حياته على إقامة الحق الساطع الأنوار، وخلفوه في أمته قائمين بالعدل حامين للذمار، والدعاء لمحل أبينا والدكم قدس الله روحه، وبرد ضريحه، بالرحمة التي تتعهد روضته التي هي أذكى من الروض المعطار، والرضوان الذي يتبوأ به مبوأ صدق في الملوك المجاهدين الأخيار، ولمقامكم الأعلى بسعادة المقدار، وتمهيد السلطان وبلوغ الأوطار، فإنا كتبناه - كتب الله لكم عوائد النصر، وربط على قلبكم بالصبر - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى عندما تحقق لدينا النبأ الذي فت في الإعضاد، وشب نار الأكباد، والحادث الذي هد أعظم الأطواد، وزلزل الأرض لراسية الأوتاد، والواقع الذي لولا وجودكم لمحا رسم الأجواد، وعطل رسوم الجهاد، وكسا الآفاق ثوب الحداد، والخطب الذي ضاقت له الأرض بما رحبت، وأمرت الدنيا بما عذبت، من وفاة محل أبينا أكبر ملوك المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، والدكم ألحفه الله تعالى برود رضاه، وجعل جنته نزله ومثواه، ونفعه بما أسلف من الأعمال الكريمة، وما خلده من الآثار العظيمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون تسليماً لما قضاه، ورضى بما أنفذه وأمضاه، وعند الله نحتسب منه والداً شفيقاً، حانياً رفيقاً، لم يزل يولي الجميل قوله وفعله، ويصل لنا من أسباب عنايته ما اقتضاه فضله، وما هو أحق به وأهله. " وكنا طول حياته لم نجد أثراً لفقد الوالد، لما أولانا من جميل العوائد، وكرم المقاصد، جزاه الله أحسن جزاءه، وأعاننا على توفية حقه وأدائه، ولمثل هذه المصيبة - ولا مثل لها - تظلم الأرجاء، ويضيق الفضاء، وتبكيه مسومة الجياد، ومعالم الجهاد، والسيوف في الأغماد، وشتى العباد والبلاد، فلا تسألوا كيف هو عندنا موقع هذا الخطب العظيم، والحادث المقعد المقيم، والرزية التي لا رزية مثلها، والحادثة التي أصيبت بها الملة وأهلها، فوجدناه لفقده

يتضاعف مع الآناء، ويتجدد تذكار ما أسلف من أعمال الملوك الفضلاء، ولكنه أمر حتم، وقضاء من الله جزم، وسبيل يسلك عليها الأول والآخر، والآني والغابر، وليس إلا التسليم، لما حكم به الحكيم العليم. ولما انتهى إلينا هذا النبأ الذي ملأ القلب حسرة والعين عبرة، وتوارت شتى الأنباء، وغلب اليأس فيها على الرجاء، وجدنا له ما يوجد لفقد الأب الذي ابتدأ بالإحسان والإجمال، وأولى عوارف القبول والإقبال، ولكنه ما أطفأ نار ذلك الوجد، وجبر كسر ذلك الفقد، إلا ما من الله به علينا وعلى المسلمين من تقلدكم ذلك الملك الذي بكم سمعت معالمه، وقامت مراسمه، وعليكم انعقد الإجماع، وبولايتكم استبشرت الأصقاع، وكيف لا تستبشر بولاية الملك الصالح الخاشع الأواب، صاحب الحرب والمحراب، عدة الإسلام، وعلم الأعلام، من ثبتت فضائله أوضح من محيا النهار، وسارت مكارمه في الآفاق أشهر من المثل السيار. " وقد كان محل أبينا والدكم رضي الله عنه لما علم من فضائلكم الكريمة الآثار، وما قمتم به من حقه الذي وفيتموه توفية الصلحاء الأبرار، ألقى إليكم مقاليد سلطانه، وآثر إليكم أثر قبوله ورضوانه، حتى انفصل عن الدنيا وقد ألبسكم من أثواب رضاه ما تنالون به قرة العين، وعز الدارين، والظفر بكلتا الحسنيين، فتلك المملكة بحمد الله تعالى قد قام بها حامي ذمارها، وابن خيارها، ومطلع أنوارها، الملك الرضي العدل الطاهر، قوام الدياجي وصوام الهواجر، حسنة هذا الزمان، ونخبة ذلك البيت المؤسس على التقوى والرضوان، فالحمد لله على أن جبر بكم صدع الإيمان، وانتضى منكم سيفاً مسلولاً على عبدة الصلبان، وأقر بكم ملك آبائكم الملوك الأعاظم، وتدارك بولايتكم أمر هذا الرزء المتفاقم، فإن فقدنا أعظم مفقود، فقد ظفرنا بأكرم مقصود، وما مات من أبقى منكم سلالة طاهرة تحيي سنن المعالي والمكارم، وتعمل على شاكلة أسلافها الأكارم، فتلك المملكة قد أصبحت بحمد الله ونور سعدكم في أرجائها طالع، وسيف

بأسكم في أعدائها قاطع، وعزمكم الأمضى لأمرها جامع مانع، وقد أوت منكم إلى الملجإ الأحمى، واستمسكت بإيالتكم العظمى، وعرفت أنكم ستبدون فيها من آثار دينكم المتين، وفضلكم المبين، ومعاليكم القاطعة البراهين، ما يملؤها عدلاً وإحساناً، وتبلغ به آمالها مثنى ووحداناً، فهنيئأً لنا ولها أن صارت في ملككم، وأن تشرفت بملككم، وألقت مقاليدها إلى من يحمي حماها، ويدفع عداها، وليهن ذلك المقام الأعلى ما أولاه من العز المكين، وما قلده من الملك الذي هو نظام الدنيا والدين، وأن أعطاه راية الجهاد فتلقاها باليمين، لينصر بها ملة الرسول الصادق الأمين، فله الفخر بذلك على جميع السلاطين، وأما هذه البلاد الأندلسية حماها الله فهي وإن فقدت من السلطان الأعلى أبي سعيد أكرم ظهير، ووقع مصابه منها بمحل كبير، فقد لجأت منكم إلى من يحميها، ويكف بأس أعاديها، ويبتغي مرضاة خالقها فيها، فملككم بحمد الله تعالى مقتبل الشباب، جديد الأثواب، عريق الأنساب، أصيل الأحساب، ومجدكم جار على أعراقه جري الجياد العراب. " وإنا لما ورد علينا هذا النبأ معقباً بهذه البشرى، ووفد علينا ذلك الخبر مردفاً بهذه المسرة الكبرى، علمنا أن الله سبحانه قد رأب ذلك الصدع بهذا الصنع الجميل، وتلافى ذلك الخطب بهذا الخير الجزيل، فأخذنا من مساهمتكم في الأمور النصيب الوافر، ورأينا أن آمالنا منكم قد جلت من محياها السافر، وعينا للوفادة على بابكم لينوب عنا في العزاء والهناء عين الأعيان الفضلاء، ووجه القواد والكرماء. ولنقتصر على هذا المقدار من كلام الرئيس ابن الجياب، رحمه الله تعالى؛ ويظهر لي أن نظمه إلى طبقة من نثره، وعلى كل حال فهو لا يتكلف نظماً ولا نثراً، رحمه الله تعالى ورضي عنه وعامله بمحض فضله. 20 - ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الفقيه الكاتب البارع العلامة

النحوي اللغوي صاحب العلامة بالمغرب الشهير الرئيس أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي (1) قال في " الإحاطة " فيه ما ملخصه: عبد المهيمن بن محمد بن عبد المهيمن بن محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن محمد الحضرمي، أبو محمد، شيخنا الرئيس، صاحب القلم الأعلى بالمغرب. من " الإكليل ": تاج المفرق، وفخر المغرب على المشرق، أطلع منه نوراً أضاءت له الآفاق، وأثر منه بذخيرة حملت أحاديثها الرفاق، ما شئت من مجد سامي المصاعد والمناقب، نشأ بسبتة بلده بين علم يقيده، وفخر يشيده، وطهارة يلتحف مطارفها، ورياسة يتفيأ وارفها، وأبوه رحمه الله تعالى قطب مدارها، ومقام حجها واعتمارها، فسلك الوعوث من المعارف والسهول، وبذ على حداثة سنه الكهول، فلما تحلى من الفوائد العلمية بما تحلى، واشتهر اشتهار الصباح إذا تجلى، تنافست فيه همم الملوك الأخاير، استأثرت به الدول على عادتها في الاستئثار بالذخاير، فاستقلت بالسياسة ذراعه، وأخدم الذوابل والسيوف يراعه، وكان عين الملك التي بها يبصر، ولسانه الذي يسهب به أو يختصر، وقد تقدمت له إلى هذه البلاد الوفادة، وجلت به عليها الإفادة، وكتب عن بعض ملوكها، وانتظم في عقودها الرفيعة وسلوكها، وله في الآداب الراية الخافقة، والعقود المتناسقة، ومشيخته حافلة تزيد عن الإحصاء، وشعره منحط عن محله من العلم والشهرة، وإن كان داخلاُ تحت طور الإجادة، فمن ذلك قوله: تراءى سحيراً والنسيم عليل ... وللنجم طرف بالصباح كليل وللفجر نهر خاضه الليل فاعتلت ... شوى أدهم الظلماء منه خجول بريق بأعلى الرقمتين كأنه ... طلائع شهب في السماء تجول

_ (1) قد مر التعريف بعبد المهيمن الحضرمي وذكر مصادر ترجمته (ص: 240) من هذا الجزء.

فمزق ساجي الليل منها شراره ... وخرق ستر الغيم منه نصول تبسم ثغر الروض عند ابتسامه ... وفاضت عيون للغمام منه همول ومالت غصون البان نشوى كأنها ... يدار عليها من صباه شمول وغنت على تلك الغصون حمائم ... لهن حفيف فوقها وهديل إذا سجعت في لحنها ثم قرقرت ... يطيح خفيف دونها وثقيل سقى الله ربعاً لا تزال تشوقني ... إليه رسوم دونها وطلول وجاد رباه، كلما ذر شارق ... من الوتق هتان أجش هطول وما لي أستسقي الغمام ومدمعي ... سفوح على تلك العراص همول وعاذلة باتت تلوم على السرى ... وتكثر من تعذالها وتطيل تقول إلى كم ذا فراق وغربة ... ونأي على ما خيلت ورحيل ذريني تسعى للتي تكسب العلا ... سناء وتبقي الذكر وهو جميل فإما تريني من ممارسة الهوى ... نحيلاً فحد المسرفي نحيل وفوق أنابيب اليراعة صعدة ... تزين، وفي قد القناة ذبول ولولا السرى لم يجتل البدر كاملاً ... ولا بات منه للسعود نزيل ولولا اغتراب المرء في طلب العلا ... لما كان نحو المجد منه وصول ولولا نوال ابن الحكيم محمد ... لأصبح ربع المجد وهو محيل وزير سما فوق السماك جلالة ... وليس له إلا النجوم قبيل من القوم: أما في الندي فإنهم ... هضاب، وأما في الندى فسيول حووا أشرف العلياء إثرناً ومكسباً ... وطابت فروع منهم وأصول وما جونة هطالة ذات هيدب ... مرتها شمال حرجف وقبول لها زجل من رعدها ولوامع ... من البرق عنها للعيون كلول كما هدرت وسط القلاص وأرسلت ... شقاقها عند الهياج فحول بأجود من كف الوزير محمد ... إذا ما توالت للسنين محول

ولا روضة بالحسن طيبة الشذا ... ينم عليها إذخر وجليل وقد أزكيت للزهر فيها مجامر ... تعطر منها للنسيم ذيول وفي مقل النوار للطل عبرة ... ترددها أجفانها وتجيل بأطيب من أخلاقه الغر كلما ... تفاقم خطب للزمان يهول حيت أبا العبد الإله مناقباً ... تفوت يدي من رمها وتطول فغرناطة مصر أنت خصيبها ... ونائل يمناك الكريمة نيل فداك رجالاً حاولوا درك العلا ... ببخل، وهل نال العلاء بخيل تخيرك المولى وزيراً وناصحاً ... فكان له مما أراد حصول وألقى مقاليد الأمور مفوضاً ... إليك فلم يدم يمينك سول وقام بحفظ الملك منك مؤيد ... نهوض بما أعيا سواك كفيل وساس الرعايا منك أشوس باسل ... مبيد العدا للمعتفين منيل وأبلج وقاد الجبين كأنما ... على وجنتيه للنضار مسيل تهيم بها العلياء كأنها ... بثينته في الحب وهو جميل له عزمات لو أعير مضاءها ... حسام لما نالت ظباه فلول سرى ذكره في الخافقتين فأصبحت ... إليه قلوب العاملين تميل وأعدى قرضي جوده وثناؤه ... فأصبح في أقصى البلاد يجول إليك أبا فخر الوزارة أرقلت ... برحلي هوجاء النجاء ذلول فليت إلى لقياك ناصية الفلا ... بأيدي ركاب سيرهن ذميل تسددني سهماً لكل ثنية ... ضوامر أشباه القسي نحول وقد لفظتني الأرض حتى رمت إلى ... ذراك برحلي هوجل وهجول فقيدت أفراسي به وركائبي ... ولذ مقام لي به وحلول وقد كنت ذا نفس عزوف وهمة ... عليها لأحداث الزمان ذحول وتهوى العلا حظي وتغري بضده ... لذاك اعترته رقة ونحول

وتأبى لي الأيام إلا إدالة ... فصونك لي، إن الزمان مديل فكل خضوع في جنابك عزة ... وكل اعتزاز قد عداك خمول وقال: أبت همتي أن يراني امرؤ ... على الدهر يوماً له ذا حضوع وما ذاك إلا لأني اتقيت ... بعز القناعة ذل الخشوع مولده بسبتة عام ستة وسبعين وسبعمائة، وتوفي في تونس ثاني عشر شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة في الطاعون، وكانت جنازته مشهورة رحمه الله تعالى؛ انتهى. وحكي أن السلطان أبا الحسن المريني سب الشيخ عبد المهين الحضرمي بمجلس كتابه، فأخذ عبد المهين القلم وكسره، وقال: هذا هو الجامع بيني وبينك، ثم إن السلطان أبا الحسن ندم، وأفضل عليه، وخجل مما صدر منه وأحسن إليه. وكان عبد المهين ينطق بالكلام معرباً، ويرتفع نسبه إلى العلاء بن الحضرمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصل سلفه من اليمن، وكان جدهم الأعلى عبدون لحقه الضيم ببلده، فارتحل إلى المغرب، فنزل سبتة. ولعبد المهيمن الحضرمي شيخ أجلاء كابن أبي الربيع النحوي وابن الشاط وابن مسعود وغيرهم. وكان ذا سعد وسؤدد حسن الحظ، رأيت خطه بإجازته لأبي عبد الله ابن مرزوق وغيره. وكان عالي الهمة سرياً، أعطى المنصب حقه، وكان لا يحتمل الضيم واحتقار العلم، وكان سريع الجواب: حكي أن القاضي المليلي وأبا محمد عبد المهيمن الحضرمي المذكور صاحب العلامة للسلطان أبي الحسن حضرا مجلس السلطان، فجرى ذكر الفقيه ابن عبد الله الرزاق، فقال المليلي: جمع من الفنون كذا، حتى وضع يده على أبي محمد عبد المهيمن، وقال

مخاطباً للسلطان: ويكتب لك احسن من ذا، فوضع عبد المهيمن يده على المليلي وقال: نعم يا مولاي، ويقضي لك أحسن من ذا. وقال ابن الخطيب القسمطيني الشهير بابن قنفذ في وفياته ما نصه: وفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة توفي الشيخ الراوية المحدث بابن الكاتب أبو محمد عبد المهيمن ابن محمد بن عبد المهيمن بن محمد بن علي بن محمد الحضرمي، السبتي، ومن أشياخه الأستاذ ابن أبي الربيع وابن الغماز وابن صالح الكناني وغيرهم من الأعلام؛ انتهى. وقال غيره: إن والد عبد المهيمن توفي غرة صفر سنة اثني عشر وسبعمائة، رحمه الله تعالى. وحكي أن الشيخ أبا محمد عبد المهيمن ذكر يوماً بني العزفي فأثنى عليهم، فقال له أحد الحسنيين، وكان بينهم شيء: إنهم كانوا لا يحبون أهل البيت، فكيف حبك أنت لهم يعني لأهل البيت، فقال: أحبهم حب التشرع، لا حب التشييع؛ انتهى. قيل: يعني بالعزفيين أهل الدولة الثانية، وأما أهل الأولى فكانوا من المختصين بمحبة الآل، وهم أحدثوا بالمغرب تعظيم ليلة الميلاد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام. ومن أغرب ما وقع للرئيس عبد المهيمن الحضرمي من التشبيه قوله: لقد راقني مرأى سجلماسة الذي ... يقر له في حسنه كل منصف كأن رؤوس النخل في عرصاتها ... فواتح سورات بآخر مصحف وهذا من التشبيه العقيم الذي لم يسبق إليه فيما أظن. وكان سبب قوله ذلك أن السلطان أمير المسلمين أبا الحسن المريني لما تحرك لقتال أخيه السلطان أبي علي عمر بسجلماسة فظفر بها استمطر أنواء أفكار الكتاب وغيرهم في تشبيه النخل، فقال عبد المهيمن ما مر، فلم يترك مقالاً لقائل. وقد أنشد الحافظ ابن مرزوق الحفيد قال: أنشدني شيخنا ولي الدين الرئيس

أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي لشيخه الرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي السبي رحمه الله تعالى قوله: يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبة ... باب الغني، كذا حكم المقادير وإنما الناس أمثال الفراش، فهم ... يلفون حيث مصابيح الدنانير قلت: ورأيت هذين البيتين في كتاب روح الشحر وروح الشعر للعالم الكاتب ابن الجلاب منسوبين لأبي المتوكل الهيثم بن أحمد السكوني الإشبيلي، قال: أنشدني أبو الحجاج الحافظ، قال: أنشدني الهيثم، فذكر البيتين، وكان تاريخ وفاته قبل أن يخلق عبد المهيمن، فتعين أن البيتين ليسا من نظمه، وإنما تمثل بهما ونسبتهما له وهم لا محالة، والله أعلم. وأما ما اشتهر على الألسنة بالمغرب من أن أبا حيان مدح عبد المهيمن بقوله: ليس في الغرب عالم ... مثل عبد المهيمن نحن في العلم أسوة ... أنا منه وهو مني فقد نسبه ابن غازي إلى أبي حيان كما اشتهر، لكن تاريخ مرور أبي حيان بالمغرب كان قيل ظهور عبد المهيمن بلا خفاء، وهو عندي محمول على أحد أمرين: أن المراد عبد المهيمن جد عبد المهيمن المذكور، أو أن أبا حيان كتب بالبيتين من مصر بعدما ظهر عبد المهيمن وصارت له الرياسة بالمغرب إذ أبو حيان عاش إلى ذلك الزمان بلا ريب، ولذا لما ذكر لسان الدين ابن الخطيب في كتابه الكتيبة الكامنة في أنباء أهل المائة الثامنة الشيخ أبا حيان قال: وهذا الرجل طالت حياته حتى أجاز ولدي. ولعبد المهيمن المذكور أخبار غير ما قدمناه منع منها الاختصار. وقد ألف الخطيب ابن مرزوق باسم ولد (1) ولده فهرسته المشهورة، وحلاه في صدرها أحسن

_ (1) ولد: سقطت من ق.

حلية، وهو أهل لذلك. وقد ذكره مولاي الجد في شيوخه كما تقدم، وقال فيه: إنه إمام الحديث والعربية، وكاتب الدولة العثمانية والعلوية، فليراجع ذلك فيما سبق في ترجمة الجد. وأبو سعيد ابن عبد المهيمن كان عالي الهمة كآبائه، ولما بويع السلطان أبو عنان طلب منه أن يكون مرتسماً في جملة كتاب بابه، فامتنع، وقال: لا أكون تحت حكم غيري، وعنى بذلك أن أباه كان رئيس الكتاب، فكيف يكون هو مرؤوساً بغيره فلم ترض همته رحمه الله تعالى إلا برتبة أبيه أو الترك، وارتحل أبو سعيد محمد المذكور، وكان فقيهاً عالماً، من فاس لسبتة إلى أن توفي بها سنة 787، وكان قليل الكلام، جميل الرواء، حسن الهيئة والبزة والشكل، روى عن والده وعن الحجار وكتب له سنة 724، وروى عن الفقيه أبي الحسن ابن سليمان والرحالة ابن جابر الوادي آشي وابن رشيد وغيرهم. وابن أبي سعيد هذا اسمه عبد المهيمن كجده، وكان صاحب القلم الأعلى، روى عن أبيه وجده وغيرهما، رحم الله الجميع. 21 - ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الإمام العلامة قاضي الجماعة أبو البركات ابن الحاج البلفيقي (1) : نادرة الزمان، وشاعر ذلك الأوان، وهو محمد ابن محمد بن إبراهيم بن محمد ابن الشيخ الولي أبي إسحاق ابن الحاج البلفيقي، وكان أبو البركات أحد رجال الكمال علماً ومجداً وسؤدداً ومكتسباً، وقد عرف به في الإحاطة بترجمة مد فيها النفس، وكتب ابنه على أول الترجمة ما صورته: رحمك الله تعالى يا فقيه الأندلس وحسيبها وصدرها وشيخها، وبرد ضريحك، فلله ما أفدت من نادرة واكتسبت من فائدة؛ انتهى.

_ (1) قد ذكرنا مصادر ترجمة ابن الحاج البلفيقي في المجلد الأول من النفح (ص: 516) .

وحكى في " الإحاطة " (1) أنه لما استسقى وحصلت الإجابة أنشده لسان الدين: ظمئت إلى السقيا والأباطح والربى ... حتى دعونا العام عاماً مجديا والغيث مسدول الحجاب، وإنما ... علم الغمام قدومكم فتأدب ثم ذكر في الإحاطة تأليف أبي البركات وشعره، إلى أن قال حاكياً عن أبي البركات ما صورته: ومما نظمته وقد أكثروا من التعجب لملازمتي البناء وحفر الآبار (2) : في احتفار الأساس والآبار ... وانتقال التراب والجيار وقعودي ما بين رمل وآج ... ر وجص والطوب والأحجار وامتهاني بردي بالطين والما ... ء ورأسي ولحيتي بالغبار نشوة لم تمر قط على قل ... ب خليع وما لها من خمار من غريب البناء أن بنيه ... متعبون يهوون طول النهار يبتغون الوصال من صانعيه ... والبدار إليه كل البدار فإذا حل في ذراهم تراهم ... يشتهون منه بعيد المزار من عذيري من لائم في بنائي ... وهو لي الترجمان عن أخباري ليس يدري معناه من ليس يدري ... أن ما عنده على مقدار أقتدي بالذي يقول بناها ... ذلك الخالق الحكيم الباري وبمن يرفع القواعد من بي ... ت عتيق للحج والزوار وبمن كان ذا جدار وقد كا ... ن أبوه من صالحي الأبرار وبما قد أقامه الخضر المخ ... صوص علماً بباطن الأسرار

_ (1) الإحاطة 2: 103. (2) لم يرد هذا في الإحاطة.

كان تحت الجدار كنز، وما أد ... راك ما كان تحت كنز الجدار وبمن من قضى من آبائي الغ ... ر الألى شيدوا رفيع المنار فالذي قد بنوه نبني له مث ... لاً ونجري له على مضمار قد بنينا من المساجد دهراً ... ثم نبني لجارها خير جار مثلما قد بنيت للمجد أمثا ... ل مبانيهم بكل اعتبار فالمباني لسان حالي ولي في ... ها لعمري ذكر من الأذكار روح أعمالنا المقاصد، لكن ... حيث تخفى تخفى مع الأعذار فعسى من قضى ببنيان هذي ال ... مدار يقضي لنا بعقبى الدار ثم قال في الإحاطة بعد كلام: ومن نظمه في الإنحاء على نفسه، واستبعاد وجود المطالب في جنسه، قال مما نظمته يوم عرفة عام خمسين وسبعمائة وأنا منزو في غار ببعض جبال المرية (1) : زعموا أن في الجبال رجالاً ... صالحين قالوا من الأبدال وادعوا أن كل من ساح فيها ... فسيلقاهم على كل حال فاخترقنا تلك الجبال مراراً ... بنعال طوراً ودون نعال ما رأينا بها خلاف الأفاعي ... وشبا عقرب كمثال النبال وسباع يجرون بالليل عدواً ... لا تسلني عنهم بتلك الليالي ولو أنا كنا لدى العدوة الأخ ... رى رأينا نواجذ الرئبال وإذا أظلم الدجى جاء إبلي ... س إلينا يزور طيف خيال هو كان الأنيس فيها ولولا ... هـ أصيبت عقولنا بالخبال خل عنك المحال يا من تعنى ... ليس يلقى الرجال غير الرجال وجمع شعره وسماه العذب والأجاج من كلام أبي البركات ابن الحاج،

_ (1) الإحاطة: 117.

وسمى أبو القاسم ما استخرجه منه ب " اللؤلؤ والمرجان من بحر أبي البركات ابن الحاج يستخرجان ". ومن نظم الشيخ أبي البركات ابن الحاج قوله رحمه الله تعالى: ألا ليت شعري هل لما أنا أرتجي ... من الله في يوم الجزاء بلاغ وكي لمثلي أن ينال وسيلة ... لها عن سبيل الصالحين مراغ وكم رمت دهري فتح باب عبادة ... يكون بها في الفائزين مساغ فكدت ولم أفعل وكيف وليس لي ... المعينان بها صحة وفراغ لأصبحت من قوم دعاهم إلى الرضى ... منادي الهدى فاستنكروه فراغوا أباغ ترى أخراه من يزدهيه من ... زخارف دنياه باغ ويضرب صفحاً عن حقيقة ما طوت ... فيلهيه زور قد أتته مصاغ إذا ما بدا للرشد نهج بيانه ... يراع بع عن وحشته فيراغ فيا رب برد العفو هب لي إذا غلت ... من الحر في يوم حساب دماغ فمن حرق للنفس فيه لواعج ... ومن خجل للوجد فيه صباغ وعظتك نفسي لو أنبت، وفي الذي ... وعظت به لو ترعوين بلاغ وأنشد القاضي أبو البركات في هذا الروي قول شيخه الأستاذ أبي علي ابن سليمان القرطبي: ألا هل إلى ما أرتضيه بلاغ ... وكيف يرى يوماً إليه فراغ وقد قطعت دوني قواطع جمة ... أراع لها مهما جرت وأراغ وما لي إلا عفو رب وفضله ... ففيه إلى ما أرتجيه بلاغ وكان القاضي أبو البركات من بيت كبير علماً وصلاحاً وزهداً، وجده الإمام الولي العارف سيدي أبو إسحاق ابن الحاج أشهر من نار على علم، وقبره مشهور بمراكش وقد زرته بها، وله كرامات مشهورة.

وحكى في مزية المرية من كراماته جملة؛ قال حفيده الشيخ أبو البركات: دخلت على الشيخ الصالح العابد المجتهد الحاج أبي عبد الله محمد بن علي البكري، المعروف بابن الحاج، في منزله بالمرية عائداً قال: أظنه في مرضه الذي مات فيه، فقال حين سألته عن حاله: ادع لي، فقلت له: يا سيدي، بل أنت تدعو لي، فقال لي: شرح الله صدرك، ونور قلبك بنور معرفته! فمن عرف الله لم يذكر غيره، فقد حكى سيدي أبو جعفر ابن مكنون عن جدك قال: كنت مع سيدي أبي إسحاق ابن الحاج بمراكش فقال لي: هل ترى في المنام شيئاً فقلت: نعم، أرى كأني في المرية أمشي من الدار (1) إلى المسجد، ومن كذا إلى كذا، فأعرض عني وقال: ألا ترى إلا الله قال: ثم مر به في أثناء كلامه ابنه محمد، فقال لي: رأيت هذا والله ما أدري أن لي ابناً حتى يمر بي، ولا أذكره إذا غاب عني، ولا أرى إلا الله؛ انتهى. ومن تآليف أبي البركات رحمه الله تعالى كتاب ذكر فيه أخبار سلفه رضي الله عنهم، وذكر جملة من كرامات جده سيدي أبي إسحاق المذكور، نفعنا الله به. ومن شعر جده المذكور قوله: ألا كرم الله البلاد بخطبة ... هم حسنات الدهر لا نابهم خطب رعايتهم فرض على كل مسلم ... وحبهم حقاً قد أوجده الرب إذا ما سألت الله شيئاً فسل بهم ... فتعظيمهم قرب، وغيبتهم حرب وقوله: شكا فشكا قلبي خبالاً مبرحاً ... على غير علم كان مني بشكواه وما التقت أسرار إلا بجامع ... من النعت سلطان الحقيقة سواه

_ (1) من الدار: سقطت من ق.

فيا فرحة المجهود إن بات سره ... وسر الذي يهواه مأواه مأواه ومن أجله قد كان بالبعد راضياً ... فكيف ترى مغناه والقلب مثواه بدا فبدت أعلام ضدين في الهوى ... هما عجب لولا الدليل وفحواه برؤيته فارقت موتي لبعده ... ومت بها من أجل علمي ببلواه فها أما حي ميت بلقائه ... ولم ينج من لم يسعد الفهم نجواه إذا لم تكن أنت الحبيب بعينه ... رضى وعتاب ضل من قال يهواه وأكذب ما يلفى الفتى وهو صادق ... إذا لم يحقق بالأفاعيل دعواه وقوله رضي الله تعالى عنه: الحب في الله نور يستضاء به ... والهجر في ذاته نور على نور جنب أخا حدث في الدين ذا غير ... إن المغير في نكس وتغيير حاشا الديانة أن تبنى على خبل ... سبحان خالقنا من قول مثبور إن الحقائق لا تبدو لمبتدع ... كذا المعارف لا تهدى لمغرور تالله لو أبصرت عيناه أو ظفرت ... يمناه ما ظل في ظن وتقدير حقق ترى عجب إن كنت ذا أدب ... ولا يغرنك الجهال بالزور إن الطريقة في التنزيل واضحة ... وما تواتر من وحي ومشهور فافهم هديت هدى الرحمن واهد به ... هدى يفيدك يوم النفخ في الصور وقوله صدر رسالة وجه بها إلى ابنه محمد أيام قراءته بإشبيلية: إذا شئت أن تحظى بوصلي وقربتي ... فجنب قريب السوء واصرم حباله وسابق إلى الخيرات واسلك سبيلها ... وحصل علوم الدين واعرف رجاله وكان رحمه الله تعالى كثيراً ما يتمثل ببيتي مهيار الديلمي، وهما: ومن عجب أني أحب إليهم ... وأسأل شوقاً عنهم وهم معي

وتبكيهم عني وهم في سوادها ... ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي وحدث القاضي أبو البركات حفيده عن ابن خميس التلمساني المتقدم الذكر قال: سمعت بعض الأشياخ يقول: كان الشيخ أبو إسحاق البلفيقي الكبير يقول: اجتمع لنا في الله أربعون ألف صاحب. وحكى الشيخ أبو البركات عن الشيخ الصالح الصوفي أبي الأصبغ ابن عزرة قال: هذه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أخذتها عن رابك الشيخ الصالح أبي عبد الله محمد بن علي بن الحاج مشافهة، وقال لي: إنها صلاة أبي إسحاق ابن الحاج جدك، وهي: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد صلاة دائمة مستمرة تدوم بدوامك، وتبقى ببقائك، وتخلد بخلودك ولا غاية لها دون مرضاتك، ولا جزاء لقائها ومصليها غير جنتك والنظر إلى وجهك الكريم. ونقل أبو البركات المذكور عن جده أنه كان يستفتح مجلسه بالمرية بهذا الدعاء: اللهم اجعلنا في عياذ منك منيع، وحصن حصين، وولاية جميلة، حتى تبلغنا آجالنا مستورين محفوظين، مبشرين برضوانك يوم لقائك، قال: وفي وسط الدعاء وآخره: واكفنا عدونا إبليس، وأعداءنا من الجن والإنس بعافيتنا وسلامتنا. وكان الشيخ رضي الله عنه يواصل أربعين يوماً. ومن مآثره أنه بنى ثمانية عشر جباً في مواضع متفرقة ونحو عشرين مسجداً وبنى أكثر سور حصن بلفيق، كل ذلك من ماله. وقال رضي الله عنه في بعض رسائله: الصوفي عبارة عن رجل عدل تقي صالح زاهد، غير منتسب لسبب من الأسباب، ولا مخل بأدب من الآداب، قد عرف شأنه وزمانه، وملكت مكارم الأخلاق عنانه، لا ينتصر لنفسه، ولا يتفكر في غده وأمسه، العلم خليله، والقرآن دليله، والحق حفيظه ووكيله

نظره إلى الخلق بالرحمة، ونظره إلى نفسه بالحذر والتهمة؛ انتهى. وأحوال هذا الشيخ عجيبة، وكراماته شهيرة، وإنما ذكرنا هذا النزر اليسير تبركاً بذكره رضي الله عنه في هذا الكتاب، وتطفلاً على رب الأرباب أن ينفعنا بأمثاله ويحقق لنا النجاة والمتاب، إنه على ذلك قدير. رجع إلى أخبار أبي البركات - ولما وقع بينه وبين ابن صفوان ما يقع بين المتعاصرين رد عليه ابن صفوان، فانتصر لأبي البركات بعض طلبته بتأليف شواظ من نار ونحاس يرسل على من لم يعرف قدره وقدر غيره من الناس وهو قدر رسالة الشيخ أو أطول، وألفي على ظهره بخط الشيخ أبي البركات ما صورته: قد شبع الكلب كما ينبغي ... من حجر صلد ومن مقرع فإن يعد من بعد ذا الذي ... قد كان منه فهو ممن نعي ومن بديع نظم الشيخ أبي البركات رحمه الله تعالى قوله: يلومونني بعد العذار على الهوى ... ومثلي في وجدي له لا يفند يقولون أمسك عنه قد ذهب الصبا ... وكيف أرى الإمساك والخيط أسود وقوله في المجبنات: ومصفرة الخدين مطوية الحشا ... على الجبن المصفر يؤذن بالخوف لها بهجة كالشمس عند طلوعها ... ولكنها في الحين تغرب في الجوف وفي هذين البيتين تورية متعددة. وحدث القاضي أبو البركات أنه لما أراد الانصراف عن سبتة قال هل السيد الشريف أبو العباس رحمه الله تعالى: متى عزمت على الرحيل فأنشد أبو البركات:

أما الرحيل فدون بعد غد ... فمتى تقول الدار تجمعنا فأنشد الشريف رحمه الله تعالى: لا مرحباً بغد ولا أهلاً به ... إن كان تفريق الأحبة في غد وحكي أن السيد أبا العباس الشريف المذكور ساير القاضي أبا البركات في بعض أسفاره زمن الشباب ببر الأندلس أعاده الله تعالى فلما انتهينا إلى قرية ترليانة، وأدركهما النصب، واشتد عليهما حر الهجير، نزلا وأكلا على ظهره تحت شجرة مستظلاً بظلها، ثم التفت إلى السيد أبي العباس وقال: ماذا تقول فدتك النفس في حالي ... يفنى زماني في حل وارتحال وأرتج عليه، فقال لأبي العباس: أجز، فقال بديهاً: كذا النفوس اللواتي العز يصحبها ... لا ترضي بمقام دون آمال دعها تسر في الفيافي والقفار إلى ... أن تبلغ السؤل أو موتاً بتجوال الموت أهون من عيش لدى زمن ... يُعلي اللئيم ويدني الأشرف العالي ولما أوقع الشيخ أبو البركات على زوجه الحرة العربية أم العباس عائشة بنت الوزير المرحوم أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الكتاني ثم المغيلي طلقة كتب نسختها بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وعلى آل محمد، يقول عبد الله الراجي رخمته محمد المدعو بأبي البركات ابن الحاج خار الله له ولطف به: إن الله جلت قدرته لما أنشأ خلقه على طبائع مختلفة وغرائز شتى، ففيهم السخي والبخيل، والشجاع والجبان، والغبي والفطن، والكيس والعاجز، والمسامح والمناقش، والمتكبر والمتواضع، إلى غير ذلك من الصفات المعروفة من الخلق، كانت العشرة لا تستمر بينهم إلا بأحد أمرين: إما بالاشتراك في الصفات أو في

بعضها، وإما بصبر أحدهما على صاحبه إذا عدم الاشتراك، ولما علم الشارع أن بني آدم على هذا الوضع شرع لهم الطلاق ليستريح إليه من عيل صبره على صاحبه، توسعة عليهم، وإحساناً منه إليهم، فلأجل العمل على هذا طلق كاتب هذا عبد الله محمد المذكور زوجه الحرة العربية المصونة عائشة ابنة الشيخ الوزير الحسيب النزيه الأصيل الصالح الفاضل الطاهر المقدس المرحوم أبي عبد الله محمد المغيلي، طلقة واحدة، ملكت بها أمر نفسها دونه، عارفاً قدره قصد بذلك إراحتها من عشرته، طالباً من الله أن يغني كلاً من سعته، مشهداً بذلك على نفسه في صحته وجواز أمره يوم الثلاثاء أول يوم من شهر ربيع الثاني عام أحد وخمسين وسبعمائة؛ انتهى. ومن نوادره رحمه الله تعالى أنه لما استناب بعض قضاة المرية الفقيه أبا جعفر المعروف بالقرعة في القضاء بخارج المرية من عمله فاتفق أن جاء بعض الجنانين بفحص المرية يشتكي من جائحة أو أذاية أصابت جنانه، ففسدت غلته لذلك، فأخذ ذلك الجنان قرعة وأشار إليها مشتكياً، وقال: هذه القرعة تشهد بما أصاب جناني، فقال الشيخ أبو البركات عند ذلك: غريبتان في عام واحد: القرعة تقضي، والقرعة تشهد. وكان له رحمه الله تعالى من هذا النمط كثير. وقال رحمه الله تعالى: نظمت صبيحة يوم السبت السابع والعشرين لرجب عام خمسة وأربعين وسبعمائة، وقد رأيت في النوم كأني أريد إتيان امرأة لا تحل لي، فيأتي رقيب فيحول بيني وبين ذلك المرة بعد المرة، قولي: ألا كرم الله الرقيب فإنه ... كفاني أموراً لا يحل ارتكابها وبالغ في سد الذريعة فاغتدى ... يلاحظني نوماً ليغلق بابها وقال رحمه الله: أنشدني شيخي أبو عبد الله ابن رشيد عند قراءتي عليه

شرحه لقوافي أبي الحسن حازم، وقد باحثته يوماً مناقشة في بعض ألفاظ من الشرح المذكور: تسامح ولا تستوف حقك كله ... وأغض فلم يستوف قط كريم ومن نظم الشيخ أبي البركات قوله: ألا خل دمع العين يهمي بمقلتي ... لفرقة عين الدمع وقف على الدم فللماء فيه رنة شجنية ... كرنة مسلوب الفؤاد متيم وللطير فيه نغمة موصلية ... تذكرني عهد الصبا المتقدم وللحسن أقمار به يوسفية ... ترد إلى دين الهوى كل مسلم وله رحمه الله تعالى: ما كل من شد على رأسه ... عمامة يحظى بسمت الوقار ما قيمة المرء بأثوابه ... السر في السكان لا في الديار وله سامحه الله تعالى: إذا ما كتمت السر عمن أوده ... توهم أن الود غير حقيقي ولم أخف عنه السر من ضنة به ... ولكنني أخشى صديق صديقي وله وقد جلس في حلقة بعض المشايخ واستدبر بعض الفضلاء ولم يره، بسبتة: إن كنت أبصرتك لا أبصرت ... بصيرتي في الحق برهانها لا غرو أني لم أشاهدكم ... فالعين لا تبصر إنسانها ومما يعجبه رحمه الله من قوله، قال في الإحاطة ويحق أن يعجبه: تطالبني نفسي بما ليس لي به ... يدان فأعطيها الأمان فتقبل

عجبت لخصم لج في طلباته ... يصالح عنها بالمحال فيفصل ومما أورد له في الإحاطة وذكر نه لو رحل راحل إلى خراسان لما أتى إلا بهما: رعى الله إخوان الخيانة إنهم ... كفونا مؤونات البقاء على العهد فلو قد وفوا كنا أسارى حقوقهم ... نراوح ما بين النسيئة والنقد وقد تمثل القاضي أبو البركات في مخاطبة له للسان الدين بقول القائل: أيتها النفس إليه اذهبي ... فحبه المشهور من مذهبي أيأسني التوبة من حبه ... طلوعه شمساً من المغرب وحكى غير واحد منهم ابن داود البلوي أن القاضي أبا البركات لما عزم على الرحلة إلى المشرق كتب إليه ابن خاتمة بما صورته: أشمس الغرب حقاً ما سمعنا ... بأنك قد سئمة من الإقامه وأنك قد عزمت على طلوعٍ ... إلى شرق سموت به علامه لقد زلزلت منا كل قلب ... بحق الله لا تقم القيامه قال الحاكي: فحلف أبو البركات أن لا يرحل من إقليم فيه من يقول مثل هذا؛ انتهى. يشير بقوله " لقد زلزلت - إلخ " إلى طلوع الشمس من مغربها. قلت: ولما عزمت على هذه الرحلة كتب إلي بعض أصحابنا المغاربة بالآبيات المذكورة متمثلاً، ولم أرجع عن العزم، والله غالب على أمره. قال الوزير لسان الدين رحمه الله تعالى: وما أحسن قول شيخنا أبي البركات معتذراً عن زرقة عينيه: حزنت عليك العين يا مغنى الهوى ... فالدمع منها بعد بعدك ما رقى

ولذاك ما ظهرت بلون أزرق ... أوما ترى ثوب المآتم أزرقا قال رحمه الله تعالى: وهو من الغريب. وقال بعض الشيوخ: كنت أقرأ على الشيخ أبي البركات التفسير، فنسيت ذات ليلة السفر الذي كنت أقرأ فيه بمنزلي، فاتفق أن حضر الجامع الصحيح للبخاري، فقال الشيخ بعد أن أردت القراءة عليه من أوله: افتح في أثناء الأوراق ولا تعين، وما خرج لك من ترجمة لجهة اليمين فاقرأها، فعلت، فإذا غزوة أحد، فقرأت الحديث الأول من الباب، وهو عن عقبة بن عامر، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط، وأنا شهيد عليكم، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكنني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها، قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الشيخ قوله " صلى على قتلى أحد " لفظ الصلاة يطلق لغة على الدعاء، وشرعاً على الأفعال المخصوصة المعلومة، وإذا دار اللفظ بين الشرعي واللغوي فحمله على الشرعي أولى حتى يدل الدليل على خلافه، فقوله " صلى على قتلى أحد " يحتمل الصلاة الشرعية، ويكون ذلك منسوخاً إذا قد تقرر أنه لا يصلى على شهيد المعترك ولا على من قد صلى عليه، ولمن يعارضه أن يقول: إن قتلى أحد متفرقون في أماكن، فلا تتأتى الصلاة الشرعية عليهم، إذ الصلاة الشرعية إنما تتأتى لو كانوا مجتمعين، والجواب أنهم وإن كانوا متفرقين تجمعهم جهة واحدة، وليس بعد ما بينهم بحيث لا تتأتى معه الصلاة عليهم، هذا، وإن احتمل حمله على الصلاة اللغوية، وقوله " كالمودع للأحياء والأموات " أما وداعه للأحياء فلا إشكال فيه، وأما الأموات فمعنى وداعه لهم وداع الدعاء لهم، لأنه إذا مات فقد حيل بينه وبين

الدعاء لهم، فلا جرم يودعهم بالدعاء لهم قبل أن يحال بينه وبين ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم " إني بين أيديكم " أي أتقدم قبلكم، وقوله صلى الله عليه وسلم " بين أيديكم فرط " أي متقدم، وبين إذا أضيفت إلى الأيدي تستعمل فيما قبل زمانك وفيما بعده، والمعنى هنا في قوله " بين أيديكم " أي أتقدم قبلكم، وقوله صلى الله عليه وسلم " وأنا شهيد عليكم " فيه وجهان، أحدهما: أن يخلق الله في قلبه علماً ضرورياً يميز به بين البر والفاجر، فيشهد بما خلق الله في قلبه من ذلك، إذ لا تكون الشهادة إلا على أمر مشاهد، ومعلوم أنه لم يشاهد ما فعل بعده من أمته فيخلق الله له علماً بذلك، الوجه الثاني: أن يخبره الله تعالى بذلك كما في حديث الحوض: ليذدان عنه أقوام كما يذاد البعير الضال فأقول: ألا هلم، ألا هلم، فيقال: إنهم قد غيروا بعدك، فأقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً، فشهد بما أخبره الله تعالى به، وهو نظير ما روي في تفسير قوله تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً " من أن قوم نوح يقولون: كيف تشهدون علينا وزمانكم متأخر عن زماننا فيقولون: لأن الله تعالى قص علينا أخباركم في كتابه، فقال " إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه - إلى آخره ". وقوله صلى الله عليه وسلم " وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا " نظره صلى الله عليه وسلم إلى الحوض فيه وجهان، أحدهما: أن يكون نظره إليه بقلبه، إذا كان قد أطلعه الله عليه ليلة الإسراء، فصار مرتسماً في قلبه، فيكون نظره إليه بعين قلبه، كما يرتسم في قلب أحدنا شكل بيته وما فيه من المتاع والثياب وغير ذلك؛ الثاني: أن يكون الله تعالى قد كشف له عنه، فيكون نظره إليه بعينه مشاهدة، وقوله صلى الله عليه وسلم " وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا " إن قيل: كيف قال ذلك وقد ارتد عن الإسلام من ارتد من العرب بعده فالجواب أنه إنما خاطب بذلك من لم يشرك من أصحابه ومن بعدهم من التابعين وغيرهم من أمته، ولم يراع رعاع العرب

وجهالهم، إذ لا اعتبار بهم لاحتقارهم. وقوله عليه الصلاة والسلام " ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها " قد وقع ما خشي منه عليه الصلاة والسلام من المنافسة في الدنيا، فكان كما ذكر صلى الله عليه وسلم؛ انتهى. وحدث الشيخ أبو البركات قال: كنت ببجاية بمجلس الإمام ناصر الدين المشدالي أيام قراءتي عليه، وقد أفاض طلبة مجلسه بين يديه: هل الملائكة أفضل أم الأنبياء فقلت: الدليل لأن الملائكة أفضل أن الله أمرهم بالسجود لآدم، قال: فجعل الطلبة ينظر بعضهم إلى بعض، حتى قال لي بعضهم: استند يا سيدنا، كأنه يقول: استند إلى حائط ليزول هوس رأسك، وكانت عبارتهم في ذلك، وكل منهم يقول لي نحو ذلك إزراء، وقال لي الإمام ناصر الدين: أبصر فإنهم يقولون الحق، وكانت لغته أن يقول: أبصر، قال: فقلت: أتقولون إن أمر الله للملائكة بالسجود لآدم أمر ابتلاء واختبار قالوا: نعم، قلت: أفيختبر العبد بتقبيل يد سيده ليرى تواضعه قالوا: لا، فإن ذلك من شأن العبد دون أن يؤمر، بل السيد يختبر تواضعه بأن يأمر بالسجود للعبد، قلت: فكذا الملائكة، لو أمرت بالسجود لأفضل منها لكان بمنزلة أمر العبد بالسجود لسيده، قال: فكأنما ألقمتهم حجراً. قال الشيخ أبو البركات: وهذه كحكاية أبي بكر ابن الطيب مع بعض رؤساء المعتزلة، وذلك أنه اجتمع معه في مجلس الخليفة، فناظره في مسألة رؤية الباري، فقال له رئيسهم: ما الدليل أيها القاضي على جواز رؤية الله تعالى قال: قوله تعالى " لا تدركه الأبصار " فنظر بعض المعتزلة إلى بعض وقالوا: جن القاضي وذلك أن هذه الآية هي معظم ما احتجوا به على مذهبهم، وهو ساكت، ثم قال لهم: أتقولون إن من لسان العرب قولك الحائط لا يبصر قالوا: لا، قال: أتقولون أن من لسان العرب الحجر لا يأكل قولوا: لا، قال: فلا يصح إذاً نفي الصفة إلا عما من شأنه صحة إثباتها له، قالوا: نعم، قال: فكذلك قوله تعالى " لا تدركه الأبصار " لولا جواز إدراك الأبصار له لم يصح نفيه عنه

فأذعنوا لما قال، واستحسنوه. وقال الشيخ أبو البركات: كنت ببجاية، وقدم علينا رجل من فاس برسم الحج يعرف بابن الحداد، فركب الناس في الأخذ عنه والرواية لما يحمله كل صعب وذلول، مع أنه لم تكن منزلته هناك في العلم، فعجبت لذلك، حتى قلت لبعض الطلبة: لقد أخذتموه بكلتا اليدين، ولم أركم مع من هو أعلى قدراً منه كذلك، فقالوا لي: لأنه قدم علينا ونحن لا نعرفه، وهو في زي حسن، بخادم يخدمه، يظن من يراه أن أباه من أعيان أهل بلده، فسألناه أحي أبوه أم لا قال: بل حي، قلنا: أهو من أهل العلم قال: لا، هو دلال في سوق الخدم، فلذلك آثرناه على من هو فوقه في العلم، قال: فقلت لهم: حق له أن ترتفع منزلته ويعلا صيته لتخلقه وفضله. وفوائد أبي البركات كثير. ومن تواليفه المؤتمن على أنباء أبناء الزمن كتاب مفيد جداً. وهو رضي الله عنه من ذرية العباس بن المراد السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحساب إلى يوم الدين. وقال الشيخ أبو البركات: ذكر لي أن الفقيه الكاتب أبا الحسن ابن الجياب يحدث عني، ولا أذكر الآن أني قلت ذلك، ولكنني لما سمعته علمت أنه مما من شأني أن أقوله وهو أني قلت: مثل العالم مثل رجل يصب ماء في قفة، إن واظب على صب الماء بقيت القفة ملأى، وإن ترك صب الماء بقيت القفة لا شيء فيها من الماء، فكذلك العالم: إن واظب على طلب العلم بقي العلم لم ينقص منه شيء، وإن ترك الطلب ذهب علمه؛ انتهى. ونقلت ممن رأى كلام ابن الصباغ في ترجمة أبي البركات ما نصه: لما ورد مدينة فاس في غرض الهناء والعزاء على أمير المسلمين أبي بكر السعيد ابن أمير المؤمنين أبي عنان، وأبصر الدار غاصة بأرباب الدولة الفاسية ولم يعدم منها عدا شخصه، والولد على أريكة أبيه أنشد:

لما تبدلت المجالس أوجهاً ... غير الذين عهدت من جلسائها ورأيتها محفوفة بسوى الألى ... كانوا حماة صدورها وبنائها أنشدت بيتاً سائراً متقدماً ... والعين قد شرقت بجاري مائها أما القباب فهي كقبابهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها وأظن أنه (1) تمثل بالأبيات بسره، وإلا يبعد أن يقولها في ذلك الحفل لما في ذلك من التعرض للهلك، والله سبحانه أعلم. وحكى بعضهم أنه كان جالساً في دهليز بيته مع بعض الأصحاب، فدخلت زوجته من الحمام وهي بغير سراويل لقرب الحمام من البيت، فانكشف ساقها، فدخل خلفها مسرعاً، وغاب ساعة ثم خرج وأنشد: كشفت على ساق لها فرأيته ... متلألئاً كالجواهر البراق لا تعجبوا إن قام منه قيامتي ... إن القيامة يوم كشف الساق وله في خديم اسمه يحيى احتجم محجمة واحدة: أراني يحيى صنعة في قفائه ... مهذبة لما تبادر للباب أرى (2) الخمس فيها لا تفارق ساعة ... فصور بالموسى بها شكل محراب وتوفي الشيخ القاضي أبو البركات المذكور بشوال سنة 771 رحمه الله تعالى. 22 - ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الشيخ الحكيم العلامة التعاليمي، الشاعر البليغ، أعجوبة زمانه في الاطلاع على علوم الأوائل، أبو زكريا يحيى بن هذيل (3) وقد قال في الإحاطة في حقه (4) ما ملخصه: يحيى

_ (1) ق: وأظنه. (2) ص ق: رأى. (3) ترجمة ابن هذيل في الإحاطة، الورقة: 381 ونثير فرائد الجمان: 320 (رقم: 13) والكتيبة الكامنة: 73 (ووردت ترجمته خطأ تحت اسم ابن شقرال) والدرر الكامنة 4: 412. (4) في حقه: سقطت من ق.

ابن أحمد بن هديل التجيبي، أبو زكريا، شيخنا؛ جرى ذكره في التاج المحلى بما نصه: درة بين الناس مغفلة، وخزانة على كل فائدة مقفلة، وهدية من الدهر الضنين لبنيه محتفلة، أبدع من رتب التعاليم وعلمها، وركض في الألواح قلمها، وأتقن من صور الهيئة ومثلها، وأسس قواعد البراهين وأثلها، وأعرف من زوال شكاية، ودفع عن جسم نكاية، إلى غير ذلك من المشاركة في العلوم، والوصول من المجهول إلى المعلوم، والمحاضرة المستفزة للحلوم، والدعابة التي ما خالع العذار فيها بالملوم، فما شئت من نفس عذبة الشيم، وأخلاق كالزهر من بعد الديم، ومحاضرة تتحف المجالس والمحاضر، ومذاكرة يروق النواظر زهرها الناضر، وله أدب ذهب في الإجادة كل مذهب، وارتدى من البلاغة بكل رداء مذهب، والأدب نقطة من حوضه، وزهرة من زهرات روضه، وسيمر له في هذا الديوان ما يبهر العقول، ويحاسن بروائه ورائق بهائه الفرند المصقول، فمن ذلك ما خرجته من ديوانه المسمى بالسليمانيات والعزفيات (1) قوله: ألا استودع الرحمن بدراً مكملاً ... بفاس من الدرب الطويل مطالعه ففي فلك الأزرار يطلع سعده ... وفي أفق الأكباد تلفى مواقعه يصير مرآه منجم مقلتي ... فتصدق في قطع الرجاء قواطعه (2) تجسم من ماء الملاحة (3) خده ... وماء الحيا فيه ترجرج مائعه تلون كالحرباء في خجلاته ... فيحمر قانيه ويبيض ناصعه إذا اهتز غنى حليه فوق نحره ... كغصن النقا غنت عليه سواجعه يؤكد (4) حتف الصب عامل قدره ... وتعطف من واو العذار توابعه

_ (1) ص: بالسليمانية؛ الكتيبة: السليمانيات والعربيات، والقصيدة في الكتيبة: 77. (2) القطع: من اصطلاحات المنجمين بمعنى النقص أو سوء الطالع. (3) الكتيبة: نور الملاحة. (4) في ق ص: يذكر؛ ويؤكد: مناسبة للتلاعب النحوي في البيت.

أعد الورى سيفاً كسيف لحاظه ... فهذا هو الماضي وذاك مضارعه (1) وقال: وصالك هذا أم تحية بارق ... وهجرتك أم ليل السليم لتائق أناديك والأشواق تركض جمرها (2) ... بصفحة خدي من دموع سوابق أبارق ثغر من عذيب رضابه ... قضت مهجتي بين العذيب وبارق ومنها: فلا تتعبن ريح الصبا في رسالة ... ولا تخجل الطيف الذي كان طارقي متى طعمت عيني الكرى بعد بعدكم ... فإني في دعوى الهوى غير صادق وقال: بدا بدر فوقه الليل عسعسا ... وجنة أنس في صباح تنفسا حوى النجم قرطاً والدراري مقلداً ... وأسبل من الذوائب حندسا كأن سنا الإصباح رام يزورنا ... وخاف العيون الرامقات فغلسا أتى يحمل التوراة طبياً مزنراً ... لطيف التثني أشنب الثغر ألعسا وقابل أحبار اليهود بوجهه ... فبارك عليه ربي (3) وقدسا فصير دمعي أعيناً شرب سبطه ... وعمري تيهاً والجوانح مقدساً ومنها: رويت ولوعي عن ضلوعي مسلسلاً ... فأصبحت في علم الغرام مدرسا نفى النوم عني كي أكون مسهداً ... فأصبحت في صيد الخيال مهندسا

_ (1) ق ص: يضارعه. (2) الكتيبة: حمرها. (3) الربي: الحبر من أحبار اليهود (Rabbi) .

غزال من الفردوس تسقيه أدمعي ... ويأوي إلى قلبي مقيلاً ومكنسا طغى ورد خديه بجنات (1) صدغه ... فأضعفه بالآس نبتاً وما أسا وهذا البيت محال على معنى فلاحي، قال أهل الفلاحة: إن الآس إذا اغترس بين شجر الورد أضعفه بالخاصية. وقال رحمه الله تعالى ورضي عنه (2) : نام طفل النبت في حجر النعامى ... لاهتزاز الطل في مهد الخزامى وسما (3) الوسيمي أغصان النقا ... فهوت تلثم أفوا الندامى كحل الفجر لهم جفن الدجى ... وغدا في وجنة الصبح لثاما تحسب البدر محيا ثمل ... قد سقته راحة الصبح مداما حوله الزهر (4) كؤوس قد غدت ... مسكة الليل عليهم ختاما يا عليل الريح رفقاً علني ... أشف بالسقم الذي حزت سقاما أبلغن شوقي عريباً باللوى ... همت في أرض بها حلوا غراما فرشوا فيها من الدر حصى ... ضربوا فيها من المسك خياما كنت أشفي غلة من صدكم ... لو أذنتم لجفوني أن تنام واستفدت الروح من ريح الصبا ... لو أتت تحمل من سلمى سلاما وقال منها أيضاً: نشأت للصب منها زفرة ... تسكب الدمع على الربع سجاما طرب البرق مع القلب بها ... وبها الأنات طارحن الحماما

_ (1) ق ص: لجنان. (2) الكتيبة: 74 والنثير: 322 وقد سبقت أبيات منها في المجلد: 3 ص: 357. (3) الكتيبة والنثير: وسقى؛ والمقابلة بين " سما " و " هوت ". (4) الكتيبة والنثير: الشهب.

طلل لا تشتفي الأذن به ... وهو للعينين قد ألقى كلاما ترك الساكن لي من وصله ... ضمة الجدران لئماً والتزاما نزعات من سليمان بها ... فهم القلب معانيها فهاما شادن يرعى حشاشات الحشا ... حسب حظي منه أن أرعى الذماما وقال (1) : أأرجو أماناً منك واللحظ غادر ... ويثبت عقلي (2) فيك والطرف ساحر ومنها: أعد سليمان أليم عذابه ... لطائر قلبي فهو للبين صائر (3) أشاهد منه الحسن في كل نظرة ... وناظر أفكاري بمغناه (4) ناظر دعت للهوى أنصار سحر جفونه ... فقلبي له عن طيب نفس مهاجر إذا شق عن بدر الدجى أفق زره ... فإني بتمويه العواذل كافر وفي حرم السلوان طابت خواطري ... وقلبي لما في وجنته مجاور وقد ينزع القلب المبلى (5) لسلوة ... كما اهتز من قطر الغمامة طائر يقابل أغراضي بضد مرادها ... ولم يدر أن الضد للضد قاهر ونار اشتياقي صعدت مزن أدمعي ... فمضر سري فوق خدي ظاهر وقد كنت باكي العين والبين غائب ... فقل لي كيف الدمع (6) والبين حاضر

_ (1) الكتيبة: 75. (2) الكتيبة: قلبي. (3) الكتيبة: صابر. (4) الكتيبة: لمعناه. (5) الكتيبة: الشجي. (6) الكتيبة: فقل كيف حال الدمع.

وليس النوى بالطبع مراً، وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر (1) وقال: يا بارقاً قاد الخيال فأومضا ... اقصد بطيفك مدنفاً قد غمضا ذاك الذي قد كنت تعهد نائماً ... بالسهد من بعد الأحبة عوضا لا تحسبني معرضاً عن طيفه ... لكن منامي عن جفوني أعرضا ومنها: عجب الوشاة لمهجتي أن لم تذب ... يوم النوى وتشككت فيما مضى خفيت لهم من سر صبري آية ... ما فهمت إلا سليمان الرضى لله درك ناهجاً سبل الهوى ... فلمثله أمر الهوى قد فوضا أمنت نملاً فوق خدك سارحاً ... وسللت سيفاً من جفونك منتضى وقال في المدح: حريص على جر الذوائب والقنا ... إذا كعت الأبطال والجو عابس ويعتنق الأبطال، لولا سقوطها ... لقلت: لتوديع أتته الفوارس إذا اختطفتهم كفه فسروجهم ... مجال، وهم في راحتيه فرائس وقال يمدح السلطان أبا الوليد ابن نصر عند قدومه من فتح أشكر (2) : بحيث البنود الحمر والأسد الورد ... كتائب سكان السماء لها جند (3) وتحت لواء النصر ملك هو الورى (4) ... تضيق به الدنيا إذا راح أو يغدو

_ (1) أخذه من قول الشاعر: وما اخضر ذاك الخال نبتا وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر (2) يريد السلطان إسماعيل بن فرج، هاجم حصن أشكر سنة 724، وأشكر من عمل بسطة، وفي ق ص: أشكو؛ وانظر الكتيبة: 77 - 79. (3) حذف بعد هذا البيت أبياتا مثبتة في الكتيبة. (4) الكتيبة: الشرع ... الهدى.

تأمنت الأرواح في ظل بنده ... كأن جناح الروح من فوق بند فلو رام إدراك النجوم لنالها ... ولو هم لانقادت له الهند والسند ومنها: بعيني بحر النقع تحت أسنة ... تنمنمه وهناً كما نمنم البرد سماء عجاج والأسنة شهبها ... ووقع القنا رعد إذا وقع الهند وظنوا أن الرعد والصعق في السما ... محاق به من أيده الصعق والرعد عجائب أشكال سما هرمس بها ... مهندسة تأتي الجبال فتنهد ألا إنها الدنيا تريك عجائباً ... وما في القوى منها فلا بد أن (1) يبدو وقال وهو معتقل: تباعد عني منزل وحبيب ... وهاج اشتياقي والمزار قريب وإني على قرب الحبيب مع النوى ... يكاد إذا اشتد الأنين يجيب لقد بعدت عني ديار قريبة ... عجبت لجار الجنب وهو قريب أعاشر أقواماً تقر نفوسهم ... فللهم فيها عند ذاك ضروب إذا شعروا من جارهم بتأوه ... أجابته منهم زفرة ونحيب فلا ذاك يشكوهم هذا تأسفاً ... لكل امرئ مما دهاه نصيب كأني في غاب الليوث مسالم ... يروعني منه الغداة وثوب تحكم فيها الدهر والعقل حاضر ... بكل قياس والأديب أديب ولو مال بالجهال ميلته بنا ... لجاء بعذر: إن ذا لعجيب رفيق بما لا ينثني عن جريمة ... بطوش بمن ما أوبقته ذنوب ويطعمنا منه بوارق خلب ... نقول عساه يرعوي فيؤوب (2)

_ (1) ص: لإبانه. (2) ق: فيتوب.

إذا ما تشبثنا بأذيال برده ... دهتنا إذا جر الخطوب خطوب أدار علينا صولجاناً، ولم يكن ... سوى أنه بالحادثات لعوب ومنها: أيا دهر إني قد سئمت تهدفي ... أجرني فإن السهم منك مصيب إذا خفق البرق الطروق أجابه ... فؤادي ودمع المقلتين سكوب وإن طلع الكف الخضيب بسحرة ... فدمعي بحناء الدماء خضيب تذكرني الأسحار (1) دارا ألفتها ... فيشتد حزني والحمام دروب إذا علقت نفسي بليت وربما ... تكاد تفيض أو تكاد تذوب دعوتك ربي والدعاء ضراعة ... وأنت تناجى بالدعا فتجيب لئن كان عقبى الصبر فوزاً وغبطة ... فإني على الصبر الجميل دروب قال: وبعثت إليه هدية من البادية، فقال يصف منها ديكاً: أيا صديقاً جعلته سندا ... فراح فيما أحبه وغدا طلبت منكم سريدكاً (2) خنثاً ... وجئتم لي مكانه لبدا صير مني مؤرخاً ولكم ... ظللت من علمه من البلدا قلت له: آدم أتعرفه ... قال: حفيدي بعصرنا ولدا نوح وطوفانه رأيتهما ... قال: علونا بفيضه أحدا فقلت: هل لي بجرهم خبر ... فقال: قومي وجيرتي السعدا فقلت: قحطان هل مررت به ... قال: نفثنا ببرده العقدا فقلت: صف لي سبا وساكنها ... فعند هذا تنفس الصعدا

_ (1) ق: الأشجار. (2) السريدك: يصغير سردوك وهو الديك.

فقال: كم لي بدجنهم سحراً ... من صرخة لي وللنوم هدا فقلت: هاروت هل سمعت به ... فقال: ريشي لسهمه نفدا فقلت: كسرى وآل شرعته ... فقال: كنا بجيشه وفدا ولوا وصاروا وها أنا لبد ... فهل رأيتم من فوقهم أحدا ديك إذا ما انثنى لفكرته ... رأى وجوداً طرائقاً قددا يرفل في طيلسانه ولهاً ... قد صير الدهر لونه كمدا إذا دجا الليل غاب هيكله ... كأن حبراً عليه قد جمدا كأنما جلنار لحيته ... برجان جازا من الهواء مدى كأن حصناً علا بهامته ... أعده للقتال فيه عدا يرنو بياقوتتي لواحظه ... كأنما اللحظ منه قد رمدا كأن منجالتي ذوائبه ... قوس سماء من أصله بعدا وعوسج مد من مخالبه ... طغى بها في نقاده وعدا فذاك ديك جلت محاسنه ... له صراخ بين الديوك بدا يطلبني بالذي فعلت به ... فكم فللنا بلبتيه مدا وجهته محنة لآكله ... والله ما كان ذاك منك سدى ولم نزل بعد نستعدي عليه بإقراره بقتله، ونطلبه بالقود عند تصرفه بالعمل، فيوجه الدية لنا في ذلك رسائل. وقال في غرض أبي نواس (1) : طرقنا ديور القوم وهناً وتغليسا ... وقد شرفوا الناسوت إذ عبدوا عيسى وقد رفعوا الإنجيل فوق رؤوسهم ... وقد قدسوا الروح المقدس تقديسا فما استيقظوا إلا لصكة بابهم ... فأدهش رهباناً وروع قسيسا

_ (1) الكتيبة: 79.

وقام بها البطريق يسعى ملبياً ... وقد لين الناقوس رفعاً وتأنيسا فقلنا له أمناً فإنا عصابة ... أتينا لتثليث وإن شئت تسديسا وما قصدنا إلا الكؤوس وإنما ... لحنا له في القول خبثاً وتدليسا ففتحت الأبواب بالرحب منهم ... وعرس طلاب المدامة تعريسا فلما رأى رقي (1) أمامي ومزهري ... دعاني أتأنيساً لحنت وتلبيسا وقام إلى دن بفض ختامه ... فكبس أجرام الغياهب تكبيسا وطاف بها رطب البنان مزنر ... فأبصرت عبداً صير الحر مرؤوسا سلافاً حواها القار لبساً فخلتها ... مثالاً من الياقوت في الحبر مغموسا ومنها: إلى أن سطا بالقوم سلطان نومهم ... ورأس فتيل (2) الشمع نكس تنكيسا وثبت إليه بالعناق فقال لي: ... بحق الهوى هب لي من الضم تنفيسا كتبت بدمع العين صفحة خده ... فطلس حبر الشعر كتبي تطليسا فبئس الذي احتلنا وكدنا عليهم ... وبئس الذي قد أضمروا قبل ذا بيسا فبتنا يرانا الله شر عصابة ... نطيع بعصيان الشريعة إبليسا وقال بديهة في غزالة من النحاس ترمي الماء على بركة: عنت لنا من وحشة ... جاءت لورد الماء ملء عنانها وأظنها إذا حددت آذانها ... ريعت بنا فتوقفت بمكانها حيت بقرني رأسها إذ لم تجد ... يوم اللقاء تحية ببنانها حنت على الندمان من إفلاسهم ... فرمت قضيب لجينها لحنانها (3) لله در غزالة أبدت لنا ... در الحباب تصوغه بلسانها

_ (1) ق ص والكتيبة: زقي؛ ولعله الرق - بالراء المهملة - ليطابق المزهر. (2) ق ص: قبيل السمع؛ والتصويب من الكتيبة. (3) سقط البيت من ق.

لسان الدين: وفلج المذكور، فلزم منزلي لمكان فضله ووجوب حقه، وقد كانت زوجته توفيت، وصحبه عليها وجد، فلما ثقل وقربت وفاته استدعاني وكاد لسانه لا يبين، فأوصاني وقال: إذا مت فادفني حذاء حليلتي ... يخالط عظمي في التراب عظامها ولا تدفنني في البقيع فإنني ... أريد إلى (1) يوم الحساب التزامها ورتب ضريحي كيفما شاءه الهوى ... تكون أمامي أو أكون أمامها لعل إله العرش يجبر صدعتي ... فيعلي مقامي عنده ومقامها ومات رحمه الله تعالى في الخامس والعشرين لذي قعدة لعام ثلاثة وخمسين وسبعمائة ودفن بحذاء زوجته كما عهد رحمه الله تعالى؛ انتهى. ومن نظم ابن هذيل: وظبي زارني والليل طفل ... إلى أن لاح لي منه اكتهال وألغى الشك من وصل فقلنا ... بليل الشك يرتقب الهلال 23 - ومن أشياخ لسان الدين: الشيخ أبو بكر ابن ذي الوزارتين، وهو - أعني أبا بكر - الوزير الكاتب الأديب الفاضل المشارك المتفنن المتبحر في الفنون أبو بكر محمد ابن الشيخ الشهير ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم الرندي (2) ، ومن نظمه قوله (3) : تصبر إذا ما أدركتك ملمة ... فصنع إله العالمين عجيب وما يلحق (4) الإنسان عار بنكبة ... ينكب فيها صاحب وحبيب

_ (1) ق ص: أفي. (2) ترجمة أبي بكر الحكيم في الإحاطة 2: 199 والكتيبة الكامنة: 195. (3) الإحاطة: 206 والكتيبة: 195. (4) الإحاطة والكتيبة: يدرك.

ففي من مضى للمرء ذي العقل أسوة ... وعيش كرام الناس ليس يطيب ويوشك أن تهمي سحائب نعمة ... فيخضب ربع للسرور جديب إلهك يا هذا قريب لمن دعا ... وكل الذي عند القريب قريب قال ابن خاتمة: وأنشدني الوزير أبو بكر مقدمه على المرية غازياً مع الجيش المنصور، قال: أنشدني أبي: ولما رأيت الشيب حل بمفرقي ... نذيراً بترحال الشباب المفارق رجعت إلى نفسي فقلت لها انظري ... إلى ما أرى، هذا ابتداء الحقائق [ترجمة أبي عبد الله ابن الحكيم] وبيتهم بيت كبير، وأخذ عن غير واحد وعن والده، وهو ذو الوزارتين أبو عبد الله محمد (2) بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى، اللخمي، الرندي، الكاتب البليغ الأديب الشهير الذكر بالأندلس، وأصل سلفه من إشبيلية من أعيانها، ثم انتقلوا إلى رندة في دولة بني عباد، ويحيى جد والده هو المعروف بالحكيم (2) لطبه، وقدم ذو الوزارتين على حضرة غرناطة أيام السلطان أبي عبد الله محمد بن محمد بن نصر إثر قفوله من الحج في رحلته التي رافق بها العلامة أبا عبد الله ابن رشيد الفهري، فألحقه السلطان بكتابه، وأقام يكتب له في ديوان الإنشاء إلى أن توفي هذا السلطان وتقلد الملك بعده ولي عهده أبو عبد الله المخلوع فقلده الوزارة والكتابة، وأشرك معه في الوزارة أبا سلطان عبد العزيز بن سلطان الداني، فلما توفي أبو سلطان أفرده السلطان بالوزارة، ولقبه ذا الوزارتين،

_ (2) هذه ترجمة والد أبي بكر ابن الحكيبم عن الإحاطة 2: 279. (2) هذه ترجمة والد أبي بكر ابن الحكيبم عن الإحاطة 2: 279.

وصار صاحب أمره إلى أن توفي بحضرة غرناطة قتيلاً نفعه الله تعالى غدوة يوم الفطر مستهل شوال سنة ثمان وسبعمائة، وذلك لتاريخ خلع سلطانه وخلافة أخيه أمير المسلمين أبي الجيوش مكانه، ومولده برندة سنة ستين وستمائة. وكان رحمه الله تعالى علماً في الفضيلة والسراوة ومكارم الأخلاق، كريم لنفس واسع الإيثار، متين الحرمة عالي الهمة، كاتباً بليغاً أديباً شاعراً، حسن الخط يكتب خطوطاً على أنواع كلها جميلة الانطباع، خطيباً فصيح القلم زاكي الشيم، مؤثراً لأهل العم والأدب براً بأهل الفضل والحسب، نفقت بمدته للفضائل أسواق، وأشرقت بإمداده للأفاضل آفاق. ورحل للمشرق كما سبق، فكانت إجازته البحر من المرية، فقضى فريضة الحج، وأخذ عمن لقي هنالك من الشيوخ، فمشيخته متوافرة، وكان رفيقه كما مر الخطيب أبا عبد الله ابن رشيد الفهري، فتعاونا على هذا الغرض، وقضيا منه كل نفل ومفترض، واشتركا فيمن أخذا عنه من الأعلام، في كل مقام، وكانت له عناية بالرواية وولوع بالأدب، وصبابة باقتناء الكتب، جمع من أمهاتها العتيقة، وأصولها الرائقة الأنيقة، ما لم يجمعه في تلك الأعصر أحد سواه، ولا ظفرت به يداه، أخذ عنه الخطيب الصالح أبو إسحاق ابن أبي العاصي، وتدبج معه رفيقه أبو عبد الله ابن رشيد وغير واحد، وكان ممدحاً، وممن مدحه الرئيس أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي والرئيس أبو الحسن ابن الجياب، وناهيك بهما. ومن بديع مدح ابن الجياب له قصيدة رائقة يهنيه فيها بعيد الفطر منها في أولها (1) : يا قادماً عمت الدنيا بشائره ... أهلا بمقدمك الميمون طائره ومرحباً بك من عيد تحف به ... من السعادة أجناد تظافره

_ (1) الإحاطة 2: 285.

قدمت فالخلق في نعمى وفي جذل ... أبدى بك البشر باديه وحاضره والارض قد لبست أثواب سندسها ... والروض قد بسمت منه أزاهره حاكت يد الغيث في ساحاته حللاً ... لما سقاها دراكاً منه باكره فلاح فيها من الأنوار باهرها ... وفاح فيها من النوار عاطره وقام فيها خطيب الطير مرتجلاً ... والزهر قد رصعت منه منابره موشي ثوب طواه الدهر آونة ... فها هو اليوم للأبصار ناشره فالغصن من نشوة يثني معاطفه ... والطير من طرب تشدو مزاهره وللكمام انشقاق عن أزاهرها ... كما بدت لك من خل ضمائره لله يومك ما أزكى فضائله ... قامت لدين الهدى فيه شعائره فكم سريرة فضل فيك قد خبئت ... وكم جمال بدا للناس ظاهره فافخر بحق على الأيام قاطبة ... فما لفضلك من ند يظاهره فأنت في عصرنا كابن الحكيم إذا ... قيست بفخر أولي العليا مفاخره يلتاح منه بأفق الملك نور هدى ... تضاءل الشمس مهما لاح زاهره مجد صميم على عرش السماك سما ... طالت مبانيه واستعلت مظاهره وزارة الدين والعلم التي رفعت ... أعلامه والندى الفياض زاخره وليس هذا ببدع من مكارمه ... ساوت أوائله فيه أواخره يلقى الأمور بصدر منه منشرح ... بحر وآراؤه العظمى جواهره راعى أمور الرعايا معملاً نظراً ... كمثل علياه معدوماً نظائره والملك سير في تدبيره حكماً ... تنال ما عجزت عنه عساكره سياسة الحلم لا بطش يكدرها ... فهو المهيب وما تخشى بوادره لا يصدر الملك إلا عن إشارته ... فالرشد لا تتعداه مصايره تجري الأمور على أقصى إرادته ... كأنما دهره فيه يشاوره وكم مقام له في كل مكرمة ... أنست موارده فيها مصادره

ففضلها طبق الآفاق أجمعها ... كأنه مثل قد سار سائره فليس يجحده إلا أخو حسد ... يرى الصباح فيعشى منه ناظره لا ملك أكبر من ملك يدبره ... لا ملك أسعد من ملك يوازره يا عز أمر به اشتدت مضاربه ... يا حسن ملك به ازدانت محاضره تثني البلاد وأهلوها بما عرفوا ... ويشهد الدهر آتيه وغابره بشرى لآمله الموصول مأمله ... تعساً لحاضره المقطوع دابره فالعلم أشرقت نور مطالعه ... والجود قد أسبلت سحاً مواطره والناس في بشر، والملك في ظفر ... عال على كل عالي القدر قاهره والأرض قد ملئت أمناً جوانبها ... بيمن من خلصت فيها سرائره وإلى أياديه من مثنى وموحدة ... تساجل البحر إن فاضت زواخره فكل يوم تلقانا عوارفه ... كساه أمواله الطولى دفاتره فمن يؤدي لمن أولاه من نعم ... شكراً ولو أن سحباناً يظاهره يا أيها العيد بادر لثم راحته ... فلثمها خير مأمول تبادره وافخر بأن قد لقيت ابن الحكيم على ... عصر يباريك أو دهر تفاخره ولى الصيام وقد عظمت حرمته ... فأجره لك وافيه ووافره وأقبل العيد فاستقبل به جذلاً ... واهنأ به قادماً عمت بشائره ومن نثر ذي الوزارتين آخر إجازة ما صورته: وها أنا أجري معه على حسن معتقده، إلى ما رآه بمقتضى تودده، وأجيز له ولولديه أقر الله بهما عينه، وجمع بينهما وبينه، رواية جميع ما نقلته وحملته، وحسن اطلاعه يفصل من ذلك ما أجملته، فقد أطلقت لهم الإذن في جميعه، وأبحت لهم الحمل عني ولهم الاختيار في تنويعه، والله سبحانه يخلص أعمالنا لذاته، ويجعلها في ابتغاء مرضاته، قال هذا محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم حامداً لله عز وجل، ومصلياً.

ومن شعر ذي الوزارتين ابن الحكيم قوله (1) : ما أحسن العقل وآثاره ... لو كان لازم الإنسان إيثاره يصون بالعقل الفتى نفسه ... كما يصون الحر أسراره لا سيما إن كان في غربة ... يحتاج أن يعرف مقداره وقوله رحمه الله (2) : إني لأعسر أحياناً فيلحقني ... يسر من الله إن العسر قد زالا يقول خير الورى في سنة ثبتت ... " أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا " وهو من أحسن ما قال رحمه الله. ومن شعر ذي الوزارتين المذكور قوله (3) : فقدت حياتي بالعراق ومن غدا ... بحال نوى عمن يحب فقد فقد ومن أجل بعدي عن ديار ألفتها ... جحيم فؤادي قد تلظى وقد وقد وقد سبقه إلى هذا القائل: أواري أواري بالدموع تجلداً ... وكم رمت إطفاء اللهيب وقد وقد فلا تعذلوا من غاب عنه حبيبه ... فمن فقد المحبوب فقد فقد كذا رواه ابن خاتمة، ورواه غيره هكذا: أواري أواري والدموع تبينه ... وهو الصواب، قال ابن خاتمة: وأنشدني رئيس الكتاب الصدر البليغ

_ (1) الإحاطة: 194. قلت: وورد في المجلد 3: 347 منسوبا لصالح بن شريف الرندي. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

الفاضل أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان النجاري، قال: أنشدني رئيس الكتاب الجليل أبو محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي، قال: أنشدني رئيس الكتاب ذو الوزارتين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم رحمه الله: صح الكتاب وعنه ... واختم على مكنته واحذر عليه من مخا ... لسة الرقيب بجفنه واجعل لسانك سجنه ... كيلا ترى في سجنه قال ابن خاتمة: وفي سند هذه القطعة نوع غريب من التسلسل. وحكى أن ذا الوزارتين المذكور لما اجتمع مع الجليل الفقيه الكاتب ابن أبي مدين أنشده ابن أبي مدين (1) : عشقتكم بالسمع قبل لقاكم ... وسمع الفتى يهوى لعمري كطرفه وحببني ذكر الجليس إليكم ... فلما التقينا كنتم فوق وصفه فأنشد ذو الوزارتين ابن الحكيم: ما زلت أسمع عن عيناك كل سناً ... أبهى من الشمس أو أجلى من القمر حتى رأى بصري فوق الذي سمعت ... أذني فوفق بين السمع والبصر ويعجبني في قريب من هذا المعنى قول الحاج الكاتب أبي إسحاق الحسناوي (2) رحمه الله: سحر البيان بناني صار يعقده ... والنفث في عقده من منطقي الحسن لا أنشد المرء يلقاني ويبصرني ... أنا المعيدي فاسمع بي ولا ترني رجع - وقال لسان الدين في عائد الصلة في حق ذي الوزارتين ابن الحكيم

_ (1) الإحاطة: 294. (2) ص: الخساوي.

ما صورته (1) : كان رحمه الله فريد دهره سماحة وبشاشة ولوذعية وانطباعاً، رقيق الحاشية، نافذ العزمة، مهتزاً للمديح، طلقاً للآمل، كهفاً للغريب، برمكي المائدة مهلبي الحلوى (2) ، ريان من الأدب، مضطلعاً بالرواية، مستكثراً من الفائدة، يقوم على المسائل الفقهية، ويتقدم الناس في باب التحسين والتقبيح، ورفع راية الحديث والتحديث، نفق بضاعة الطلب، وأحيا معالم الأدب، وأكرم العلم والعلماء، ولم تشغله السياسة عن النظر، ولا عاقة تدبير الملك عن المطالعة والسماع، وأفرط في اقتناء الكتب حتى ضاقت تصوره عن خزائنها، وأثرت أنديته من ذخائرها، قام له الدهر على رجل، وأخدمه صدور البيوتات وأعلام الرياسات، وخوطب من البلاد النازحة، وأمل في الآفاق النائبة؛ انتهى المقصود منه. ومن أحسن ما رثي به الوزير ابن الحكيم رحمه الله قول بعضهم: قتلوك ظلماً واعتدوا ... في فعلهم حد الوجوب ورموك أشلاء، وذا ... أمر قضته لك الغيوب إن لم يكن لك سيدي ... قبر فقبرك في القلوب وقال لسان الدين في الإحاطة في حق رحلة ذي الوزارتين ابن الحكيم ما صورته (3) : رحل إلى الحجاز الشريف من بلده على فتاء سنه أول عام ثلاثة وثمانين وستمائة، فحج وزار، وتجول في بلاد المشرق منتجعاً عوالي الرواية في مظانها، ومنقراً عنها عند مسني شيوخها، وقيد الأناشيد الغربية والأبيات المرقصة، وأقام بمكة شرفها الله من شهر رمضان إلى انقضاء المسم، فأخذ بها

_ (1) الإحاطة: 279. (2) كذا في الإحاطة؛ وفي ق ص: الخلوة. (3) الإحاطة: 279.

عن جماعة، وانصرف إلى المدينة المشرفة، ثم قفل مع الركب الشامي إلى دمشق، ثم كر إلى المغرب، لا يمر بمجلس علم أو نعلم إلا روى أو روى، واحتل رندة حرسها الله أواخر عام خمسة وثمانين وستمائة، فأقام بها عيناً في فرابته، وعلماً في أهله، معظماً لديهم، إلى أن أوقع السلطان بالوزراء من بني حبيب الوقيعة البرمكية وورد رندة في أثر ذلك، فتعرض إليه وهنأه بقصيدة طويلة من أوليات شعره أولها (1) : هل إلى رد عشيات الوصال ... سبب أم ذاك من ضرب المجال فلما أنشدها إياه أعجب به وبحسن خطه ونصاعة ظرفه، فأثنى عليه، واستدعاه إلى الوفادة على حضرته، فوفد آخر عام ستة وثمانين، فأثبته في خواص دولته، وأحظاه لديه، إلى أن رقاه إلى كتابة الإنشاء ببابه، واستمرت حاله معظم القدر مخصوصاً بالمزية، إلى أن توفي السلطان ثاني الملوك من بني نصر، وتقلد الملك بعده ولي عهده أبو عبد الله، فزاد في إحظائه وتقريبه، وجمع له بين الكتابة والوزارة، ولقبه بذي الوزارتين، وأعطاه العلامة، وقلده الأمر فبعد الصيت وطاب الذكر، إلى أن كان من أمره ما كان؛ انتهى ملخصاً. وقال في الإحاطة بعد كلام طويل في ترجمته: قال شيخنا الوزير أبو بكر ابن الحكيم ولده: وجدت بخطه رحمه الله تعالى رسالة خاطب بها أخاه الأكبر أبا إسحاق إبراهيم افتتحها بقصيدة أولها (2) : ذكر اللوى شوقاً إلى أقماره ... فقضى أسى أو كاد من تذكاره وعلا زفير حريق نار ضلوعه ... فرمى على وجناته بشراره (3)

_ (1) أورد في الإحاطة: 289 - 291 جملة من أبياتها. (2) الإحاطة: 292. (3) سقط الشطر الثاني من ق.

وقد ذكرناها في غير هذا المحل. وقال مما يكتب على قوس (1) : أنا عدة للدين في يد من غدا ... لله منتصراً على أعدائه أحكي الهلال وأسهمي في رجمها ... لمن اعتدى تحكي رجوم (2) سمائه قد جاء في القرآن أني عدة ... إذ نص خير الخلق محكم آيه وإذا العدو أصابه سهمي فقد ... سبق القضاء بهلكه وفنائه قال لسان الدين (3) : ومن توقيعه ما نقلته من خط ولده،يعني أبا بكر، في كتابه المسمى بالموارد المستعذبة وكان بوادي آش الفقيه الطرائفي (4) ، فكتب إلى خاصة والدي أبي جعفر ابن داود، قصيدة على روي السين، يتشكى فيها من مشرف بلدهم إذ ذاك أبي القاسم ابن حسان منها: فيا صفي أبي العباس كيف ترى ... وأنت أكيس من فيها من أكياس ولوه إن كان ممن ترتضون به ... فقد دنا الفتح للأشراف في فاس ومنها يستطرد ذكر ذي الوزارتين: للشرق فضل فمنه أشرقت شهب ... من نورهم أقبسونا كل مقباس فوقع عليها رحمه الله تعالى: إن أفرطت بابن حسان غوائله ... فالأمر يكوه ثوب الذكر والباس وإن تزل به في جورة قدم ... كان الجزاء له ضرب على الراس

_ (1) الإحاطة: 295. (2) الإحاطة: نجوم. (3) الإحاطة: 295. (4) كذا في ق ص؛ وفي الإحاطة: الطريفي.

فقد أقامني المولى بنعمته ... لبث أحكامه بالعدل في الناس ثم أطال في أمره، إلى أن قال في ترجمه قتله ما صورته (1) : واستولت يد الغوغاء على منازله، شغلهم بها مدبر الفتنة خيفة من أن يعاجلوه قبل تمام أمره، فضاع بها مال لا يكتب، وعروض لا يعلم لها قيمة من الكتب والذخيرة والفرش والآنية والسلاح والمتاع والخرثي، وأخفرت ذمته، وتعدى به عدوه القتل إلى المثلة، وقانا الله مصارع السوء، فطيف بشلوه، وانتهب، فضاع ولم يقبر، وجرت فيه شناعة كبيرة، رحمه الله تعالى؛ انتهى المقصود منه. رجع: 24 - ومن مشايخ لسان الدين الأستاذ أبو الحسن علي القيجاطي (2) . وقال في حقه في الإحاطة ما محصله: علي بن عمر بن إبراهيم بن عبد الله الكناني، القيجاطي، أبو الحسن، أوحد زمانه علماً وتخلقاً وتواضعاً وتفنناً، ورد على غرناطة مستدعى عام اثني عشر وسبعمائة، وقعد بمسجدها الأعظم يقرأ فنوناً من العلم من قراءات وفقه وعربية وأدب، وولي الخطابة، وناب عن بعض القضاة بالحضرة، مشكور المأخذ حسن السيرة عظيم النفع، وقصده الناس وأخذوا عنه، وكان أديباً لوذعياً فكهاً حلواً، وهو أول أستاذ قرأت عليه القرآن والعربية والأدب إثر قراءة المكتب، وله تآليف في فنون وشعر ونثر، فمن شعره قوله (3) : روض المشيب تفتح أزهاره ... حتى استبان ثغامه وبهاره

_ (1) انظر الإحاطة: 301. (2) ترجمة أبي الحسن القيجاطي في الكتيبة: 37 والديباج: 207 ونيل الابتهاج: 292 وبغية الوعاة: 344 والإحاطة، الورقة: 323، وقد أوجز الترجمة في النسخة التي اعتمدت عليها وحذف أشعاره. (3) الكتيبة: 38.

ودجى الشباب قد استبان صباحه ... وظلامه قد لاح في نهاره فاتى حمام لا يعاف وقوعه ... ومضى غراب لا يخاف مطاره والعمر مثل البدر يبدو حسنه ... حيناً ويعقب بعد ذاك سراره ما للإخاء تقلصت أفياؤه ... ما للصفاء تكدرت آثاره والحر يصفح إن أخل خليله ... والبر يسمح إن تجرأ جاره فتراه يدفع إن تمكن جاهه ... وتراه ينفع إن علا مقداره ولأنت تعلم أنني زمن الصبا ... ما زلت زنداً والحياء سواره ولأنت تعلم أنني زمن الصبا ... ما زلت ممن عف فيه إزاره والهجر ما بين الأحبة لم يزل ... ترك الكلام أو السلام مثاره ولكم تجافى عن جفاء خليله ... فطن، وقد ظفرت به أظفاره ولكم أصر على التدابر مدبر ... أفضى إلى ندم به إصراره فأقام كالكسعي بان نهاره ... أو كالفرزدق فارقته نواره أنكرتم من حق معترف لكم ... بالحق ما لا ينبغي إنكاره والشرع قد منع التقاطع نصه ... قطعاً، ونقد وردت به أخباره والسن سن تورع وتبرع ... وتسرع لتشرع تختاره ما يومنا من أمسنا قدك اتئد ... ذهب الشباب فكيف ينفى عاره هلا حظرتم أو حذرتم منه ما ... حق عليكم حظره وحذاره عجباً لمن يجري هواه لغاية ... محدودة إضماره مضماره يأتي ضحاً ما كان يأتيه دجى ... فكأنه ما شاب منه عذاره فيعد ما تفنى به حسناته ... ويعيد ما تبقى به أوزاره فالنفس قد أجرته ملء عنانها ... يشتد في مضمارها إحضاره والمرء من إخوانه في جنة ... بل جنة تجري بها أنهاره واليمن قد مدت إليه يمينه ... واليسر قد شدت عليه يساره

شعر به أشعرت بالنصح الذي ... يهديه من أشعاره إشعاره ولو اختبرتم نقده بمحكة ... لامتاز بهرجه ولاح نضاله هذا هدى فبه اقتده تنل المنى ... أو أنت في هذا وما تختاره وعليكم مني سلام مثلما ... أرجت بروض يانع أزهاره وقال من قصيدة رثائية (1) : حمام حمام فوق أيك الأسى تشدو ... تهيج من الأشجان ما أوجد الوجد وذلك شجو في حناجرنا شجاً ... وذلك هزل في ضمائرنا جد أرى أرجل الأرزاء تشتد نحونا ... وأيديها تسعى إلينا فتمتد ونحن أولو سهو عن الأمر ما لنا ... سوى أمل إيجابنا عنده جحد فإن خطرت للمرء ذكرى بخاطر ... فتسبيحة الساهي إذا سمع الرعد مصاب به قدت قلوب وأنفس ... لدينا إذا في غيره قطعت برد تلين له الصم الصلاب وتنهمي ... عيون ويبكي عنده الحجر الصلد فلا مقلة ترنو، ولا أذن تعي ... ولا رائحة تعطو، ولا قدم تعدو وقد كان يبدو الصبر منا تجلداً ... وهذا مصاب صبرنا فيه ما يبدو مولده عام خمسين وستمائة، وتوفي بغرناطة ضحى السبت في السابع والعشرين لذي الحجة عام ثلاثين وسبعمائة، وحضره السلطان فمن دونه، رحمه الله تعالى؛ وانتهى. 25 - ومنهم العلامة شيخ الشيوخ أبو سعيد فرج بن لب (2) . قال في " الإحاطة " في حقه ما محصله: فرج من قاسم بن أحمد بن لب،

_ (1) الكتيبة: 38. (2) ترجمة فرج بن لب في الكتيبة: 67 ونيل الابتهاج: 211 وبغية الوعاة: 372 والإحاطة، الورقة: 356، وقد غمز منه لسان الدين في الكتيبة بعد أن أثنى عليه في الإحاطة.

قال ابن الصباغ: من شعر ابن لب يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا القلب ثار أثار ادكارا ... لقلبي فأذكى عليه أوارا تروم جفوني لنار الهوى ... خموداً فتهمي دموعاً غزارا فماء جفوني يسح انهمالا ... ونار فؤادي تهيج استعارا أطيل العويل صباحاً مساء ... كئيبا ولست أطيق اصطبارا رقيت مراقي للحب شتى ... فأفنى مراراً وأحيا مرارا أحن اشتياقاً لريح سرت ... وأبدي هياماً لبرق أنارا حنيناً وشوقاً إلى معلم ... حوى شرفاً خالداً لا يجارى به أسكن الله أسمى الورى ... نبياً كريماً وصحباً خيارا هو المصطفى المنتقى المجتبى ... أرى معجزات وآياً كبارا يحق علينا ركوب البحار ... وجوب القفار إليه ابتدارا ومنها: فيا فوز من فاز في طيبة ... بلثم المغاني جداراً جدارا وألصق خداً على تربها ... وأكمل حجاً بها واعتمارا وأهدى السلام لخير الأنام ... على حين وافى عليه مزارا فيا هادي الخلق دار نعيم ... تناهت جمالاً وطابت قرارا لأنت الوسيلة والمرتجى ... ليوم يرى الناس فيه سكارى وما هم سكارى، ولكنهم ... دهتهم دواه فهاموا حيارى ترى المرء للهول من أمه ... ومن أقربيه يطيل الفرارا وكل يخاف على نفسه ... فيكسوه خوف الإله انكسارا فصلى الإله، رسول الهدى، ... عليك، وأبقى هداك منارا وقدس ربي ثرى روضة ... يعم الجهات سناها انتشارا

أعبر شذا المسك منها الثرى ... بل المسك منه شذاه استعارا هنيئاً لمن بهداك اهتدى ... ومغناك وافى، وإياك زارا وقصد رحمه الله تعالى بهذه القصيدة معارضة قصيدة الشبهاب محمود التي نظمها بالحجاز في طريق المدينة الشرفة على ساكنها الصلاة والسلام، وهي طويلة، ومطلعها: وصلنا السرى وهجرنا الديارا ... وجئناك نطوي إليك القفارا وقد تبارى الشعراء في هذا الوزن وهذا الروي، ومنه القصيدة المشهورة: أقول وآنست بالحي نارا ... ولابن لب رحمه الله تعالى الفتاوى المشهورة: وقال في الإحاطة في حقه ما محصله: فرج بن قاسم بن أحمد بن لب التغلبي غرناطي أبو سعيد، من أهل الخير والطهارة والذكاء والديانة وحسن الخلق، رأس بنفسه وبرز بمزية إدراكه وحفظه، فأصبح حامل لواء التحصيل وعليه مدار الشورى وإليه مرجع الفتوى، لقيامه على الفقه وغزارة علمه وحفظه، إلى المعرفة بالعربية واللغة، ومعرفة التوثيق والقيام على القرارات والتبريز في التفسير، والمشاركة في الأصلين والفرائض والأدب، وجودة الحفظ؛ وأقرأ بالمدرسة النصرية في الثامن والعشرين لرحب عام أربعة وخمسين وسبعمائة، معظماً عند الخاصة والعامة، مقروناً اسمه بالتسويد، قعد للتدريس ببلده على وفور الشيوخ، وولي الخطابة بالجامع. قرأ على القيجاطي، والعربية على ابن الفخار، وأخذ عن ابن جابر الوادي آشي، فمن شعره في النسيب (1) : خذوا للهوى من قلبي اليوم ما أبقى ... فما زال قلبي كله للهوى رقا

_ (1) الكتيبة: 68.

دعوا القلب يصلى في لظى الوجد ناره ... فنار الهوى الكبرى وقلبي هو الأشقى سلوا اليوم أهل الوجد ماذا به لقوا ... فكل الذي يلقون بعض الذي ألقى فإن كان عبد يسأل العتق سيداً ... فلا أبتغي من مالكي في الهوى عتقا بدعوى الهوى يدعو أناس وكلهم ... إذا سئلوا طرق الهوى جهلوا الطرقا فطرق الهوى شتى ولكن أهله ... يحوزون في يوم السباق بها السبقا وكم جمعت طرق الهوى بين أهلها ... وكم أظهرت عند السوى بينهم فرقا بسيما الهوى تسمو معارف أهله ... فحيث ترى سيما الهوى فاعرف الصدقا فمن زفرة تزجي سحائب عبرة ... إذا زفرة ترقى فلا عبرة ترقا (1) إذا سكتوا عن وجدهم أعربت به ... بواطن أحوال وما عرفت نطقا وقال في وداع شهر رمضان: أأزمعت يا شهر الصيام رحيلا ... وقاربت يا بدر الزمان أفولا جدك قد جدت بك الآن رحلة ... رويدك أمسك للوداع قليلا نزلت فأزمعت الرحيل كأنما ... نويت رحيلاً إذ نويت نزولا وما ذاك إلا أن أهلك قد مضوا ... تفانوا فأبصرت الديار طلولا تفكرت في الأوقات (2) ناشئة التقى ... أشد به وطأ وأقوم قيلا وهي طويلة. وكان موجوداً عند تأليف الإحاطة رحمه الله تعالى؛ انتهى بالمعنى. وقال الحافظ ابن حجر: إنه صنف كتاباً في الباء الموحدة، وأخذ عن شيخنا بالإجازة قاسم بن علي المالقي، ومات سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة؛ انتهى. وقال تلميذه المنتوري ما نصه: من شيوخي الشيخ الأستاذ الخطيب المقرئ

_ (1) ترقى: تصعد، وترقأ: تسكن وتكف عن البكاء. (2) ق: الأوفاق.

المتفنن المفتي أبو سعيد ابن لب، مولده سنة إحدى وسبعمائة، وتوفي ليلة السبت لسبع عشرة ليلة مضت من ذي الحجة عام اثنين وثمانين؛ انتهى. وهو مخالف لما سبق عن ابن حجر، لكن صاحب البيت أدرى، إذ قال: شيخنا الفقيه الخطيب الأستاذ المقرئ العالم العلم الصدر الأوحد الشهير، كان شيخ الشيوخ وأستاذ الأستاذين بالأندلس، إليه انتهت فيها رياسة الفتوى في العلوم، كان أهل زمانه يقفون عندما يشير إليه، قرأ على أبي علي القيجاطي بالسبع، وتفقه عليه كثيراً في أنواع العلوم، ولازمه إلى أن مات، وأجازه عامة، وعليه اعتمد، وأخذ عن أبي جعفر ابن الزيات، وأبي إسحاق ابن أبي العاصي، وابن جابر الوادي آشي، وقاضي الجماعة أبي بكر، سمع عليه البخاري، وتفقه عليه، وقرأ عليه أكثر عقيدة المقترح تفهماً، وبعض الإرشاد وبعض التهذيب، وعن أبي محمد ابن سلمون، والبركة أبي عبد الله الطنجالي الهاشمي، وأجازه؛ انتهى بمعناه. وبالجملة فهو من أكابر علماء المالكية بالمغرب حتى قال المواق فيه: شيخ الشيوخ أبو سعيد ابن لب، الذي نحن على فتاويه في الحلال والحرام؛ انتهى. وقل من لم يأخذ عنه في الأندلس في وقته، فممن أخذ عنه الشاطبي، وابن علاق، وأبو محمد ابن جزي، والأستاذ ابن زمرك، في خلق كثير من طبقتهم، ثم من الطبقة الثانية أبو يحيى ابن عاصم، وأخوه القاضي (1) أبو بكر ابن عاصم، والشيخ أبو القاسم ابن سراج، والمنتوري، في خلق لا يحصون. وله تواليف، فمنها شرح جمل الزجاجي، وشرح تصريف التسهيل،

_ (1) ق ص: والقاضي.

وكتاب " ينبوع عين الثرة (1) في تفريع مسألة الإمامة بالأجرة "، وله فتاوى مدونة بأيدي الناس، وممن جمعها الشيخ ابن طركاط الأندلسي، وله كتابة في مسألة الأدعية إثر الصلوات على الهيئة المعروفة، وقد رد عليه في هذا التأليف تلميذه أبو يحيى ابن عاصم الشهيد في تأليف نبيل انتصاراً لشيخه أبي إسحاق الشاطبي، رحم الله تعالى الجميع. 26 - ومن أشياخ لسان الدين ابن الخطيب أبو القاسم ابن جزي، ففي " الإحاطة " (2) ما ملخصه: محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي، الكلبي، أبو القاسم، من أهل غرناطة، وذوي الأصالة والنباهة فيها، شيخنا، وأصل سلفه من ولبة من حصن البراجلة، نزل بها أولهم عند الفتح صحبة قريبهم أبي الخطار حسام بن ضرار الكلبي، وعند خلع دولة المرابطين كان لجدهم يحيى رياسة وإفراد بالتدبير، وكان رحمه الله تعالى على طريقة مثلى من العكوف على العلم، والاقتصار على الاقتيات من حر النشب، والاشتغال بالنظر والتقييد والتدوين، فقيهاً حافظاً قائماً على التدريس، مشاركاً في فنون من عربية وفقه وأصول وقراءات وأدب وحديث، حفظة للتفسير، مستوعباً للأقوال، جماعة للكتب، ملوكي الخزانة، حسن المجلس، ممتع المحاضرة، قريب الغور، صحيح الباطن، تقدم خطيباً بالمسجد الأعظم من بلده على حداثة سنه، فاتفق على فضله، وجرى على سنن أصالته، قرأ على الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير العربية والفقه والحديث والقرآن، وعلى ابن الكماد، ولازم الخطيب أبا عبد الله ابن رشيد وطبقتهم كالحضرمي وابن أبي الأحوص وابن برطال وأبي عامر ابن ربيع الأشعري والولي أبي عبد الله

_ (1) نيل الابتهاج: الشره. (2) ترجمة أبي القاسم ابن جزي في الكتيبة: 46 وأزهار الرياض 3: 184 والديباج: 295 ونيل الابتهاج: 235 والمقري ينقل هنا وفي الأزهار عن الإحاطة.

الطنجالي وابن الشاط. وله تواليف منها وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم والأنوار السنية في الكلمات السنية والدعوات والأذكار المخرجة من صحيح الأخبار، والقوانين الفقهية وتلخيص مذهب المالكية والتنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنبلية وكتاب تقريب الوصول إلى علم الأصول وكتاب النور المبين في قواعد عقائد الدين، وكتاب المختصر البارع في قراءة نافع وكتاب أصول القراء الستة غير نافع وكتاب الفوائد العامة في لجن العامة إلى غير ذلك مما قيده في التفسير والقراءات وغير ذلك، وله فهرسة كبيرة اشتملت على جملة كبيرة من علماء المشرق والمغرب. ومن شعره قوله في الأبيات الغينية ذاهباً مذهب المعري وابن المظفر والسلفي وأبي الحجاج ابن الشيخ وأبي الربيع ابن سالم وابن أبي الأحوص وغيرهم من علماء المشرق والمغرب: لكل بني الدنيا مراد ومقصد ... وإن مرادي صحة وفراغ لأبلغ في علم الشريعة مبلغاً ... يكون به لي للجنان بلاغ ففي مثل هذا فلينافس أولو النهى ... وحسبي من دار الغرور بلاغ فما الفوز إلا في نعيم مؤبد ... به العيش رغد والشراب يساغ وقال: أروم امتداح المصطفى فيردني ... قصوري عن إدراك تلك المناقب ومن لي بحصر البحر والبحر زاخر ... ومن لي بإحصاء الحصى والكواكب ولو أن أعضائي غدت ألسناً إذاً ... لما بلغت في المدح بعض مآربي ولو أن كل العالمين تألفوا ... على مدحه لم يبلغوا بعض واجب فأمسكت عنه هيبة وتأدباً ... وعجزاً وإعظاماً لأرفع جانب

ورب سكوت كان فيه بلاغة ... ورب كلام فيه عتب لعاتب وقال: يا رب إن ذنوبي اليوم قد كثرت ... فما أطيق لها حصراً ولا عددا وليس لي بعذاب النار من قبل ... ولا أطيق لها صبراً ولا جلدا فانظر إلهي إلى ضعفي ومسكنتي ... ولا تذيقنني حر الجحيم غدا شطر أول ... شطر ثاني وقال: وكم من صفحة في الشمس تبدو ... فيسلي حسنها قلب الحزين غضضت الطرف عن نظري إليها ... محافظة على عرضي وديني مولده يوم الخميس تاسع ربيع الثاني عام ثلاثة وتسعين وستمائة، وفقد وهو يحرض الناس يوم الكائنة بطريف ضحوة يوم الاثنين تاسع جمادى الأولى عام أحد وأربعين وسبعمائة، وعقبه ظاهر بين القضاء والكتابة؛ انتهى. [شعر لابن لؤلؤة] وأذكرني روي الغين الصعب قول الشيخ أبي عبد الله محمد بن علي بن يوسف السكوني الأندلسي المعروف بابن لؤلؤة رحمه الله تعالى ورضي عنه: أمن بعد ما لاح المشيب بمفرقي ... أميل لزور بالغرور يصاب وأرتاح للذات والشيب منذر ... بما ليس عنه للأنام مراغ ومن لم يمت قبل الممات فإنه ... يراع بهول بعده ويراغ فيا رب وفقني إلى ما يكون لي ... به للذي أرجوك منه بلاغ توفي المذكور بالطاعون سنة 750، وكان خطيباً بحسن قمارش رحمه الله تعالى.

[من نظم ابن جزي] ومن نظم ابن جزي المذكور قوله: أيا من كففت النفس عنه تعففاً ... وفي النفس من شوقي إليه لهيب غرام ألا إنما صبري كصبر، وإنما ... على النفس من تقوى الإله رقيب لجان وهما من التخيير المعلوم في فن البديع. وقول لسان الدين رحمه الله تعالى وله عقب ظاهر بين القضاء والكتابة يريد به بنيه البارع أبو بكر والعلامة أبا عبد الله والقاضي أبا محمد عبد الله. [تراجم أولاد ابن جزي] ولنذكرهم فنقول: أما أبو بكر أحمد (1) فهو الذي ألف أو أبوه الأنوار السنية وهو من أهل الفضل والنزاهة وحسن السمت والهمة واستقامة الطريقة، غرب في الوقار، ومال إلى الانقباض، وله مشاركة حسنة في فنون من فقه وعربية وأدب وخط ورواية وشعر تسمو ببعضه الإجادة إلى غاية بعيدة، وقرأ على والده ولازمه، واستظهر ببعض تآليفه، وتفقه وتأدب به، وقرأ على بعض معاصري أبيه، ثم ارتسم في الكتابة السلطانية لأول دولة السلطان أبي الحجاج ابن نصر، وولي القضاء ببرجة وبأندرش ثم بوادي آش، مشكور السيرة معروف النزاهة ومن شعره: أرى الناس يولون الغني كرامة ... وإن لم يكن أهلاً لرفعة مقدار ويلوون عن وجه الفقير وجوههم ... وإن كان أهلاً أن يلاقى بإكبار بنو الدهر جاءتهم أحاديث جمة ... فما صححوا إلا حديث ابن دينار

_ (1) ترجمة أبي بكر بن جزي في الإحاطة 1: 48 والكتيبة: 138 وأزهار الرياض 3: 187.

ومن بديع نظمه الصادر عنه تصديره أعجاز قصيدة امرئ القيس بن حجر الكندي بقوله (1) : أقول لعزمي أو لصالح أعمالي ... (ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي) أما واعظي شيب سما فوق لمتي ... (سمو حباب الماء حالاً على حال) أنار به ليل الشباب كأنه ... (مصابيح رهبان تشب لقفال) نهاني عن غي وقال منبهاً ... (ألست ترى السمار والناس أحوالي) يقولون غيره لتنعم برهة ... (وهل يعمن من كان في العصر الخالي) أغالط دهري وهو يعلم أنني ... (كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي) ومؤنس نار الشيب يقبح لهوه ... (بآنسة كأنها خط تمثال) أشيخاً وتأتي فعل من كان عمره ... (ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال) وتشغفك الدنيا وما إن شغفتها ... (كما شغف المهنوءة الرجل الطالي) ألا إنها الدنيا إذا ما اعتبرتها ... (ديار لسلمى عافيات بذي خال) فأين الذين استأثروا قبلنا بها ... (لناموا فما إن من حديث ولا صال) ذهلت بها غياً فكيف الخلاص من ... (لعوب تنسيني إذا قمت سربالي) وقد علمت مني مواعد توبتي ... (بأن الفتى يهذي وليس بفعال) ومذ وثقت نفسي بحب محمد ... (هصرت بغصن ذي شماريخ ميال) وأصبح شيطان الغواية خاسئاً ... (عليه قتام شيء الظن والبال) ألا ليت شعري هل تقول عزائمي ... (لخيلي كري كرة بعد إجفال) فأنزل داراً للرسول نزيلها ... (قليل هموم ما يبيت بأوجال) فطوبى لنفس جاورت خير مرسل ... (بيثرب أدنى دارها نظر عالي) ومن ذكره عند القبول تعطرت ... (صباً وشمال في منازل قفال) جوار رسول الله مجد مؤثل ... (وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي)

_ (1) القصيدة في المصادر السابقة جميعا.

ومن ذا الذي يثني عنان الثرى وقد ... (كفاني، ولم أطلب، قليل من المال) ألم تر أن الظبية استشفعت به ... (تميل عليه هولة غير مجفال) وقال لها عودي فقالت له نعم ... (ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي) فعادت إليه والهوى قائل لها ... (وكان عداء الوحش مني على بال) رثى لبعير قال أزمع مالكي ... (لقتلني والمرء ليس بفعال) وثور ذبيح بالرسالة شاهد ... (طويل القرا والروق أخنس ذيال) وحن إليه الجذع حنة عاطش ... (لغيث من الوسمي رائده خال) وأصلين من نخل قد التأما له ... (فما احتسبا من لين مس وتسهال) وقبضة رتب منه ذلت لها الظبى ... (ومسنونة زرق كأنياب أغوال) وأضحى ابن جحش بالعسيب مقاتلاً ... (وليس بذي رمج وليس بنبال) وحسبك من سوط الطفيل إضاءة ... (مصباح زيت في قناديل ذبال) وبذت به العجفاء كل مطهم ... (له حجبات مشرفات على الفال) ويا خسف أرض تحت باغيه إذ علا ... (على هيكل نهد الجزارة جوال) وقد أخمدت نار لفارس طالما ... (أصابت غضاً جزلاً وكفت بأجزال) أبان سبيل الرشد إذ سبل الهدى ... (يقلن لأهل الحلم ضلاً بتضلال) لأحمد خير العالمين التقيتها ... (ورضت فذلت صعبة أي إذلال) وإن رجائي أن ألاقيه غداً ... (ولست بمقلي الخلال ولا قالي) فأدرك آمالي وما كل آمل ... (بمدرك أطراف الخطوب ولا آلي) ولا خفاء ببراعة هذا النظم، وإحكام هذا النسج، وشدة هذه العارضة. [قصيدتان لحازم] قلت: وقد أذكرني هذا التصدير قصيدة الأديب حازم صاحب المقصورة

إذ صدر قصيدة امرئ القيس قفا نبك ولنذكرها هنا، قال رحمه الله تعالى (1) : لعينيك قل إن زرت أفضل مرسل ... (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) وفي طيبة فانزل ولا تغش منزلاً ... (بسقط اللوى بين الدخول فحومل) وزر روضة قد طالما طاب نشرها ... (لما نسجتها من جنوب وشمأل) وأثوابك اخلع محرماً ومصدقاً ... (لدى الستر إلا لبسة المتفضل) لدى كعبة قد فاض دمعي لبعدها ... (على النحر حتى بل دمعي محملي) فيا حادي الآبال سر بي ولا تقل ... (عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل) فقد حلفت نفسي بذلك وأقسمت ... (علي آلت حلفة ولم تحلل) فقلت لها لا شك أني طائع ... (وأنك مهما تأمري القلب يفعل) وكم حملت في أظهر العزم رحلها ... (فيا عجباً من رحلها المتحمل) وعاتبت العجز الذي عاق عزمها ... (فقلت لك الويلات إنك مرجلي) نبي للهدى قد قال للكفر نوره ... (ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي) تلا سوراً ما قولها بمعارض ... (إذا هي نصته ولا بمعطل) لقد نزلت في الأرض ملة هديه ... (نزول اليمان ذي العياب المحمل) أتت مغرباً من مشرق وتعرضت ... (تعرض أثناء الوشاح المفصل) ففازت بلاد الشرق من زينة بها ... (بشق وشق عندنا لم يحول) فصلى عليه الله ما لاح بارق ... (كلمع اليدين في حبي مكلل) نبي غزا الأعداء بين تلائع ... (وبين إكام، بعد ما متأمل) فكم ملك وافاه في زي منجد ... (بمنجرد قيد الأوابد هيكل) وكم من يمان واضح جاءه اكتسى ... (بضاف فويق الأرض ليس بأعزل)

_ (1) ديوان حازم: 89 وأزهار الرياض 3: 178 وتسمى هذه القصيدة " حديقة الأزهار وحقيقة الافتخار في مدح النبي المختار ".

ومن أبطحي نيط منه نجاده ... (بجيد معم في العشيرة مخول) أزالوا ببدر عن بروجهم العدا ... (كما زلت الصفواء بالمتنزل) وفادوا ظباهم ولا بفتك فتى ولا ... (كبير أناس في بجاد مزمل) وفضي جموعاً فدفداً جامعاً بها ... (لنا بطن حقف ذي ركام عقنقل) وأحموا وطيساً في حنين كأنه ... (إذا جاش فيه جميه غلي مرجل) ونادوا بنات النبع بالنصر أثمري ... (ولا تبعدينا من جناك المعلل) وممن له سددت سهمين فاضربي ... (بسهمين في أعشار قلب مقتل) فما أغنت الأبدان درع بها اكتست ... (ترائبها مصقولة كالسجنجل) وأضحت لواليها ومالكها العدا ... (يقولون لا تهلك أسى وتجمل) وقد فر منصاع كما فر خاضب ... (لدى سمرات الحي ناقف حنظل) وكم قال يا ليل الوغى طلت فانبلج ... (بصبح وما الإصباح منك بأمثل) فليت جوادي لم يسر بي إلى الوغى ... (وبات بعيني قائماً غير مرسل) وكم مرتق أوطاس منهم بمسرج ... (متى ما ترق العين فيه تسهل) وقرطه خرصاً كمصباح مسرج ... (أمال السليط بالذبال المفتل) فيرنو لهاد فوق هاديه طرفه ... (بناظرة وحش وجرة مطفل) ويسمع من كافورتين بجانبي ... (أثيث كقنو النخلة المتعثكل) ترفع أن يعزى له شد شادن ... (وأرخاء سرحان وتقريب تتفل) ولكنه يمضي كما مر مزبد ... (يكب على الأذقان دوح الكنهبل) ويغشى العدا كالسهم أو كالشهاب أو ... (كجلمود صخر حط من عل) جياد أعادت رسم رستم دارساً ... (وهل عند رسم دارس من معول) وريعت بها خيل القياصر فاختفت ... (جواحرها في صرة لم تزيل) سبت عرباً من نسوة العرب تستبي ... (إذا ما اسبكرت بين درع ومجول) وكم من سبايا الفرس والصفر أسهرت ... (نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل)

وحزن بدوراً من ليالي شعورها ... (تضل العقاس في مثنى ومرسل) وأبقت بأرض الشام كأنها ... (بأرجائها القصوى أنابيش عنصل) وما جف من حب القلوب بغورها ... (وقيعانها كأنه حب فلفل) لخضراء ما دبت ولا نبتت بها ... (أساريع ظبي أو مساويك إسحل) شدا طيرها في مثمر ذي أرومة ... (وساق كأنبوب السقي المذلل) فشدت بروض ليس يذبل بعدها ... (بكل مغار الفتل شدت بيذبل) وكم هجرت في القيظ تحكي ذوارعاً ... (عذارى دوار في ملاء مذيل) وكم أدلجت والقتر يهفو هزيزه ... (ويلوي بأثواب العنيف المثقل) وخضن سيولاً فضن باليد بعدما ... (أثرن غباراً بالكديد المركل) وكم ركزوا رمحاً بدعص كأنه ... (من السيل والغثاء فلكة مغزل) فلم تبن حصناً خوف حصنهم العدا ... (ولا أطماً إلا مشيداً بجندل) فهدت بعضب بعد صقاله ... (بأمراس كتان إلى صم جندل) وجيش بأقصى الأرض ألقى جرانه ... (وأردف أعجازاً وناء بكلكل) يدك الصفا دكاً ولو مر بعضه ... (وأيسره عالي الستار ويذبل) دعا النصر والتأييد راياته اسحبي ... (على أثرينا ذيل مرط مرحل) لواء منير النصل طاو كأنه ... (منارة ممسى راهب متبتل) كأن دم الأعداء في عذباته ... (عصارة حناء بشيب مرجل) صحاب بروا هام العداة وكم قروا ... (صفيف شواء أو قدير معجل) وكم أكثروا ما طاب من لحم جفرة ... (وشحم كهداب الدمقس المفتل) وكم جبن من غبراء لم يسق نبتها ... (دراكاً ولم ينضج بماء فيغسل) حكى طيب ذكراهم ومر كفاحهم ... (مداك عروس أو صلابة حنظل) لأمداح خير الخلق قلبي قد صبا ... (وليس فؤادي عن هواها بمنسل) فدع من لأيام صلحن له صبا ... (ولا سيما يوم بدارة جلجل)

وأصبح عن أم الحويرث ما سلا ... (وجارتها أم الرباب بمأسل) وكن في مديح المصطفى كمدبج ... (يقلب كفيه بخيط موصل) وأمل به الأخرى ودنياك دع فقد ... (تمتعت من لهو بها غير معجل) وكن كنبيث للفؤاد منابث ... (نصيح على تعذاله غير مؤتل) ينادي إلهي إن ذنبي قد عدا ... (علي بأنواع الهموم ليبتلي) فكن لي مجيراً من شياطين شهوة ... (علي حراص لو يسرون مقتلي) وينشد دنياه إذا ما تدللت ... (أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل) فإن تصلي حبلي بخير وصلته ... (وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي) وأحسن بقطع الحبل منك وبته ... (فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي) أيا سامعي مدح الرسول تنشقوا ... (نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل) وروضة حمد للنبي محمد ... (غذاها نمير الماء غير المحلل) ويا من أبى الإصغاء ما أنت مهتد ... (وما إن أرى عنك الغواية تنجلي) فلو مطفلاً أنشدتها لفظها ارعوت ... (فألهيتها عن ذي تمائم محول) ولو سمعته عصم طود أمالها ... (فأنزل منها العصم من كل منزل) وقد عرف بحازم هذا في أزهار الرياض وذكرت جملة من نظمه ومن بارع ما وقع له قوله (1) : أدر المدامة فالنسيم مؤرج ... والروض مرقوم الرود مدبج والأرض قد لبست برود جمالها ... فكأنما هي كاعب تتبرج والنهر مما ارتاح معطفه إلى ... لقيا النسيم عبابه متموج يمسي الأصيل بعسجدي شعاعه ... أبداً يوشى صفحه ويدبج وتروم أيدي الريح تسلب ما اكتسى ... فتزيده حسناً بما هي تنسج فارتح لشرب كؤوس راح نورها ... بل نارها في مائها تتوهج

_ (1) ديوان حازم: 28 وأزهار الرياض 3: 174.

واسكر بنشوة لحظ من أحببته ... أو كأس خمر من لماه تمزج واسمع إلى نغمات عود تطبي ... قلب الخلي إلى الهوى وتهيج بم وزير يسعدان مثانياً ... ومثالثاً طبقاتها تتدرج من لم يهيج قلبه هذا فما ... للقلب منه محرك ومهيج فأجب فقد نادى بألسن حاله ... للأنس دهر للهموم مفرج طربت جمادات وأفصح أعجم ... فرحاً وأصبح من سرور يهزج أفيفضل الحي الجماد مسرة ... والحي للسراء منه أحوج ما العيش إلا ما نعمت به وما ... عاطاك فيه الكأس ظبي أدعج ممن يروقك منه ردف مردف ... عبل وخصر ذو اختصار مدمج فإذا نظرت لطرة ولغرة ... ولصفحة منه بدت تتأجج أيقنت أن ثلاثهن وما غدا ... من تحتها ينآد أو يتموج ليل على صبح على بدر على ... غصن تحمله كثيب رجرج كأس ومحبوب يظل بلحظه ... قلب الخلي إلى الهوى يستدرج يا صاح ما قلبي بصاح عن هوى ... شيئان بينهما المنى تستنتج وبمهجتي الظبي الذي في أضلعي ... قد حل وهو يشبها ويؤجج ناديت حادي عيسه يوم النوى ... والعيس تحدى والمطايا تحدج قف أيها الحادي أودع مهجة ... قد حازها دون الجوانح هودج لما تواقفنا وفي أحداجها ... قمر منير بالهلال متوج ناديتهم قولوا لبدركم الذي ... بضيائه تسري الركاب وتدلج يحيي العليل بلفظة أو لحظة ... تطفي غليلاً في الحشا يتأجج قالوا نخاف يزيد قلبك لاعجاً ... فأجبتهم خلوا اللواعج تلعج وبكيت واستبكيت حتى ظل من ... عبراتنا بحر ببحر يمرج وبقيت أفتح بعدهم باب المنى ... ما بيننا طوراً، وطوراً يرتج

وأقول يا نفس اصبري فعسى النوى ... بصباح قرب ليلها يتبلج فترقب السراء من دهر شجا ... والدهر من ضد لضد يخرج وترج فرجة كل هم طارق ... فلكل هم في الزمان تفرج وتذكرت هنا جيمية ابن قلاقس، وهي (1) : عرضت لمعترض الصباح الأبلج ... حوراء في طرف الظلام الأدعج فتمزقت شيم الدجى عن غرتي ... شمسين في أفق وكلة هودج ووراء أستار الحمول لواحظ ... غازلن معتدل الوشيج الأعوج من كل مبتسم السنان إذا جرى ... دمع النجيع من الكمي الأهوج ولقد صحبت الليل قلص برده ... لعباب بحر صباحه المتموج وكأن منتثر النجوم لالئ ... نظمت على صرح من الفيروزج وسهرت أرقب من سهيل خافقاً ... متفرداً، وكأنه قلب الشجي واستعبرت مقل السحاب فأضحكت ... منها ثغور مفوف ومدبج ولنعد إلى ذكر أبي بكر ابن جزي فنقول: وله تقييد في الفقه على كتاب والده المسمى بالقوانين الفقهية، ورجز في الفرائض، وإحسانه كثير، وتقدم قاضياً للجماعة بحضرة غرناطة ثامن شوال عام ستين وسبعمائة، ثم صرف عنها، لما توفي الأستاذ الخطيب العالم الشهير أبو سعيد فرج بن لب - رحمه الله تعالى - وكان خطيب الجامع الأعظم بغرناطة، ولي عوضاً عنه أستاذاً وخطيباً عام اثنين وثمانين وسبعمائة، فبقي في الخطابة ثلاثة أعوام، ثم توفي، وأظن وفاته آخر عام خمسة وثمانين وسبعمائة، رحمه الله تعالى.

_ (1) أزهار الرياض 3: 176.

وأما أخوه أبو عبد الله محمد (1) فهو الكاتب المجيد، أعجوبة الزمان، وتوفي بفاس رحمه الله تعالى عام ثمانية وخمسين وسبعمائة، وقيل - وهو الصواب -: إن وفاته آخر شوال من السنة قبلها حسبما ألفيته بخط بعض أكابر الثقات بداره من البيضاء، وهي فاس الجديدة، قرب مغرب يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شوال من عام سبعة وخمسين وسبعمائة، وكان دفنه يوم الأربعاء بعد صلاة العصر وراء الحائط الشرقي الذي بالجامع الأعظم من المدينة البيضاء، وكان مولده في شوال من عام واحد وعشرين وسبعمائة؛ انتهى. قال الأمير ابن الأحمر في نثير الجمان: أدركته ورأيته، وهو من أهل بلدنا غرناطة، وكان أبوه أبو القاسم محمد أحد المفتين بها عالم الأندلس الطائرة فتياه منها إلى طرابلس، وقتل شهيداً بطريف بعد أن أبلى بلاء حسناً، وأبو عبد الله ابنه هذا كتب بالأندلس في حضرة ابن عم أبينا أمير المسلمين أبي الحجاج يوسف، وله فيه أمداح عجيبة، ولم يزل كاتباً في الحضرة الأحمرية النصرية إلى أن امتحنه أمير المسلمين أبو الحجاج؛ انتهى. ويعني ابن الأحمر بهذا الامتحان أنه ضربه بالسياط، من غير ذنب اقترفه بل ظلمه ظلماً مبيناً، هكذا ألفيته في بعض المقيدات. ثم قال ابن الأحمر: فقوض الرحال عن الأندلس، واستقر بالعدوة، فكتب بالحضرة المرينية لأمير المسلمين أبي عنان، إلى أن توفي بها رحمه الله تعالى. وكان رحمه الله تعالى طلع في سماء العلوم بدراً مشرقاً، وسارت براعته مشرقاً ومغرباً، وسما بشعره فوق الفرقدين، كما أربى بنثره على الشعرى والبطين، له باع مديد في التاريخ واللغة والحساب، والنحو والبيان والآداب، بصير بالفروع والأصول والحديث، عارف بالماضي من الشعر والحديث،

_ (1) ترجمة أبي عبد الله ابن جزي في الإحاطة 2: 186 وأزهار الرياض 3: 189 ونثير الفرائد: 292 (رقم: 8) والكتيبة الكمامنة: 223 ونثير الجمان، الورقة: 78.

إن نظم أنساك أبا ذؤيب برقته، ونصيباً بمنصبه ونخوته، وإن كتب أربى على ابن مقلة بخطه، وإن أنشأ رسالة أنساك العماد بحسن مساقها وضبطه، وهو رب هذا الشان، وفارس هذا الميدان، ومع تفننه في الشعر فهو في العلوم قد نبغ، وما بلغ أحد من شعراء عصره منه ما بلغ، بل سلموا التقدم فيه إليه، وألقوا زمام الاعتراف بذلك في يديه، ودخلوا تحت راية الأدب التي حمل، إذ ظهر ساطع براعته ظهور الشمس في الحمل، أنشدني لنفسه يمدح أمير المسلمين أبا الحجاج يوسف ابن أمير المسلمين أبا الوليد إسماعيل عم أبينا ابن جدنا الرئيس الأمير أبي سعيد فرج هذه القصيدة البارعة، وحذف منها الراء المهملة (1) : قسماً بوضاح السنا الوهاج ... من تحت مسدول الذوائب داج وبأبلج بالمسك خطت نونه ... من فوق وسنان اللاحظ ساجي وبحسن خد دبجت صفحاته ... فغدت تحاكي مذهب الديباج وبمبسم كالعقد نظم سلكه ... ولمى حكى الصهباء دون مزاج وبمنطق تصبو القلوب لحسنه ... أنسى المسامع نغمة الأهزاج وبمائس الأعطاف تثنيه الصبا ... فيميس كالخطي يوم هياج ومنعم مثل الكثيب يقله ... مستضعف يشكو من الإدماج وبموعد للوصل أنجز فجأة ... من بعد طول تمنع ولجاج وبأكؤس أطلعن في جنح الدجى ... شمس السلافة في سماء زجاج وحدائق سحب السحاب ذيوله ... فيها وبات لها النسيم يناجي وجداول سلت سيوفاً عندما ... فجئت بجيش للصبا عجاج وبأقحوان قد تضاحك إذ بكت ... عين الغمام بمدمع ثجاج وقدود أغصان يملن كأنها ... تخفي حديثاً بينها وتناجي وحمائم يهتفن شجواً بالضحى ... فهديلهن لذي الصبابة شاجي

_ (1) الأزهار: 191.

إن المعالي والعوالي والندى ... والبأس طوع يدي أبي الحجاج ملك تتوج بالمهابة عندما ... لم يستجز بالدين لبس التاج وأفاض حكم العدل في أيامه ... فالحق أبلج واضح المنهاج هو منقذ العني، ومغني المعتفي ... ومذلل العاتي، وغوث اللاجي ماضي العزيمة، والسيوف كليلة ... طلق المحيا، والخطوب دواجي علم الهدى، والناس في علياء قد ... ضلوا لوقع الحادث المهتاج غيث الندى، والسحب تبخل بالحيا ... والمحل يبدي فاقة المحتاج ليث الوغى، والخيل تزجي بالقنا ... والبيض تنهل في دم الأوداج يتقشع الإظلام إذ يبدو له ... وجه كمثل الكوكب الوهاج من آل قيلة من ذؤابة سعدها ... أعلى بني قحطان دون خلاج حيث العلا ممدودة الأطناب لم ... تخلق معالمها يد الإنهاج والأعوجيات السوابق تمتطى ... فتظلل الآفاق سحب عجاج والبيض والأسل العوامل تقتضي ... مهج الكماة بأبلغ الإزعاج مجد ليوسف جمعت أشتاته ... أعيا سواه بعد طول علاج مولاي هاك عقيلة تزهو على ... أخواتها كالغادة المغناج إنشاء عبد خالص لك حبه ... ومن العبيد مداهن ومداجي آوى إلى أكناف نعماك التي ... ليست إليه صلاتها بخداج سباق ميدان البلاغة والوغى ... لشعاب كل منهما ولاج جانبت أخت الزاي منها عامداً ... فأتت من الإحسان في أفواج فافتح لها باب القبول وأول من ... أهداكها ما يبتغي من حاج ثم قال بان الأحمر: وأنشدني أيضاً لنفسه يمدح أمير المؤمنين المتوكل على الله أبا عنان فارس ملك المغرب (1) :

_ (1) الأزهار: 192.

إن قلبي لعهدة الصبر ناكث ... عن غزال في عقدة السحر نافث أضرم النار في فؤادي وولى ... قائلاً لا تخف فإني عابث ورماني من مقلتيه بسهم ... ثم قال: اصطبر لثان وثالث كم عذول أتى يناظر فيه ... كان تعذاله على الحب باعث ويمين آليتها بالتسلي ... فقضى حسنه بأني حانث جبر الله صدع قلب عميد ... صدعت شمله صروف الحوادث فهو يهفو إلى البروك ويروي ... عن نسيم الصبا ضعاف الآحاد سلبته الأشجان إلا بقايا ... من أماني حبالهن رثائث وبكاء على عهود مواض ... ملأت صدره هموماً حدائث لست وحدي أشكو بليلة وجد ... إن داء الغرام ليس بحادث يا مضيع العهود والله يعفو ... عنك أنى ارتضيت خطة ناكث غرني منك والجمال غرور ... وظبى اللحظ في القلوب عوابث مقل يقتسمن أعشار قلبي ... بالرضى مني، اقتسام الموارث كيف غيرت بانتزاحك حالي ... وتغيرت لي، ولست بحارث (1) فرط حبي وفرط بخلك آلى ... أن عينيك بالفتور نوافث وندى فارس وحسبك رداً ... قول من قال سد باب البواعث ملك البأس والندى، فهو بالسي ... ف وبالسيب عائث أوغائث محرز المجد والثناء، فهذا ... سائر في الورى، وذاك لابث أوطأ الشهب رجله وترقى ... صاعداً في سموه غير ماكث فدرار تسري وما لحقته ... ونجوم خلف القصور لوابث وله المقربات لا بل هي العق ... بان من فوقها الليوث الدلاهث (2)

_ (1) يشير إلى قول الشاعر: " تغير لي في من تغير حارث " انظر المجلد الأول: 26. (2) الدلاهث: جمع دلهاث وهو المقدام.

مطلعات من كل نعل هلالاً ... فلهذا تجلو دجى كل حادث إن ترافقن فالجبال الرواسي ... أو تسابقن فالغيوث الحثائث والمواضي كأنها قد أعيرت ... حدة الذهن منه عند المباحث هي نار محرقات الأعادي ... وهي ماء مطهرات الخبائث فيردن الوغى ذكوراً عطاشاً ... ثم يصدرن ناهلات طوامث من معانيه قد رأينا عياناً ... كل فضل ينصه من يحادث خلق كالنسيم مر سحيراً ... بالأزاهير في البطاح الدمائث في سبيل الإله يقصي ويدني ... ويوالي في ذاته ويناكث شرف الملك منه سام وحام ... ففدته سام وحام ويافث هاكها من بنات فكري بكراً ... ليس يسمو لها من الناس طامث ذات لفظ لا يغتريه اختلال ... ومعان لا تنتحيها المباحث زعماء القريض أبقوا بقايا ... كنت دون الورى لهن الوارث من أراد انتقادها فهي هذي ... عرضه البحث فليكن جد باحث ورأيت بخط ابن الصباغ العقيلي (1) على هامش قوله وندى فارس حسبك رداً ... البيت ما نصه: ما أبدع تخلصه للمدح وأطبعه؛ فإنه أشار إلى قول الشاعر راداً عليه بالتبكيت، ومعقباً له بالتعنيت (2) : قالوا: تركت الشعر قلت: ضرورة ... باب السماحة والملاحة مغلق مات الكرام فلا كريم يرتجى ... منه النوال ولا مليح يعشق وقيل: إن السلطان أبا عنان أطل من برج يشاهد الحرب بين الثور والأسد على ما جرت بع عادة الملوك، فقال ابن جزي المذكور في وصف الحال:

_ (1) انظر الأزهار: 194. (2) الشعر للغزي (ابن خلكان 1: 41 والخريدة 1: 6، قسم الشام) .

لله يوم بدار الملك مر به ... من العجائب ما لم يجر في خلدي لاح الخليفة في برج العلا قمراً ... يشاهد الحرب بين الثور والأسد ومن بارع نظمه رحمه الله تعالى قوله: أبا حسن إن شتت الدهر شملنا ... فليس لود في الفؤاد شتات وإن حلت عن عهد الإخاء فلم يزل ... لقلبي على حفظ العهود ثبات وهبني سرت مني إليك إساءة ... ألم تتقدم قبلها حسنات وقوله وهو بحال مرض: إن يأخذ السقم من جسمي مآخذه ... وأصبح القوم من أمري على خطر فإن قلبي بحمد الله مرتبط ... بالصبر والشكر والتسليم للقدر فالمرء في قبضة الأقدار مصرفه ... للبرء والسقم أو للنفع والضرر وحكي أن الفقيه الرحال أبا إسحاق إبراهيم الحاج النميري بقي في خلوته جميع شهر رمضان المعظم من عام سبعة وخمسين وسبعمائة، فلما خرج في يوم عيد الفطر أنشده صهره أبو عبد الله ابن جزي المذكور لنفسه: ما سرار البدور إلا ثلاث ... فلماذا أرى أسرارك شهرا تعجلته سراراً لعام ... ثم تبقى في سائر العام بدرا وحكي أنه كتب للرئيس صاحب القلم الأعلى والعلامة بفاس أبي القاسم ابن رضوان يطلب منه شراب سكنجبين، وقصد التحيف بقوله: أحسن زان بيتك نجيب تسر به بر مرضي تصحيفه: أحب شراب سكنجبين شربه برء مرضي، قال: فجاوبني ابن رضوان بقوله: إن برك نفيس، تصحيفه مقلوباً: يشفيك ربنا. ومن نظم ابن جزي المذكور قوله:

رعى الله عهداً بالمرية ما أرى ... به أبداً ما عشت في الناس بالناسي وكيف ترى بالله صحبة معشر ... مجاهد بعض منهم وابن عباس وقوله في الزاوية التي أنشأها السلطان أبو عنان: هذا محل الفضل والإيثار ... والرفق بالسكان والزوار دار على الإحسان شيدت والتقى ... فجزاؤها الحسنى وعقبى الدار هي ملجأ للواردين ومورد ... لابن السبيل وكل ركب ساري آثار مولانا الخليفة فارس ... أكرم بها في المجد آثار لا زال منصور اللواء مظفراً ... ماضي العزائم سامي المقدار بنيت على يد عبدهم وخديم با ... بهم العلي محمد بن جدار في عام أربعة وخمسين انقضت ... من بعد سبع مئين في الإعصار ومن نظمه قوله مورياً: وما أنسى الأحبة يوم (1) بانوا ... تخوض مطيهم بحر الدموع وقالوا: اليوم منزلنا الحنايا ... فقلت: نعم، ولكن من ضلوعي وقوله مورياً أيضاً: ورب يهودي أتى متطبباً ... ليأخذ ثارات اليهود من الناس إذا جس نبض المرء أودى بنفسه ... سريعاً، ألم تسمع بفتكة جساس وقوله: من أي أشجاني التي جنت النوى ... أشكو العذاب وهن في تنويع من وصلي الموقوف أو من هجري ال ... موصول أو من نومي المقطوع

_ (1) الأزهار: حين.

أو من حديث تولهي وتولعي ... خبراً صحيحاً ليس بالموضوع يرويه خدي مسنداً عن أدمعي ... عن مقلتي عن قلبي المفجوع وأول هذه (1) القصيدة: ذهبي حشاشة قلبي المصدوع ... بين السلام ووقفة التوديع وقد ضمن شطرها الفقيه عبيد شارح الحلبة (2) ، إذ قال من قصيدة مطلعها: اهمي دموعك ساعة التوديع ... يا مقلتي ممزوجة بفجيع بقوله: يوم استقلت عيسهم وترحلوا ... ذهبت حشاشة قلبي المصدوع وقوله: بخدي وجسمي والفؤاد وأدمعي ... شهود بهم دعوى الغرائم تصحح ومن عجب أن رجع الناي نقلهم ... وكلهم ذو جرحة فيه تقدح فجسمي ضعيف، والفؤاد مخلط ... ودمعي مطروح، وخدي مجرح وقوله: يا محياً كتب الحسن به ... أحرفاً أبدع فيها وبرع ميم ثغر، ثم نون حاجب ... ثم عين هي تتميم البدع أنا لا أطمع في وصلك لي ... وعلى وجهك مكتوب منع ثم قال ابن الأحمر: ومن إنشائه البارع مورياً بالكتب، ورفعها لأمير المؤمنين

_ (1) هذه: سقطت من ص. (2) ق: الحلية.

المتوكل على الله أبي عنان فارس رحمه الله تعالى يهنيه بإبلال ولده ولي عهده الأمير أبي زيان محمد من مرض (1) : ماذا عسى أدب الكتاب يوضح من ... خصال مجدك وهو الزاهر الزاهي وما الفصيح بكليات موعبها ... كاف فيأتي بأنباء وإنباه أبقى الله تعالى مولانا الخليفة ولسعادته القدح المعلى، ولزاهر كماله التاج المحلى، تجلى من حلاه نزهة الناظر، ويسير بعلاه المثل السائر، ويتسق من سناه العقد المنظم، ويتضح بهداه القصد الأمم، ولا زالت مقدمات النصر له مبسوطة، ومعونة السعد بإشارته منوطة، وهدايته متكفلة بإحياء علوم الدين، وإيضاح منهاج العابدين، وإرشاده يتولى تنبيهى الغافلين، ويأتي من شفاء الصدور بالنور المبين، وميقات الخدمة ببابه مطمح الأنفس، وملخص الجود من كفه بغية الملتمس، قد حكم أدب الدين والدنيا بأنك سراج الملوك، لما أتت عوارفك بالمشرع السلسل ومعارفك بنظم السلوك، ووضحت معالم مجدك وضوح أنوار الفجر، وزهت بعدلك المسالك والممالك زهو خريدة القصر، فلك في جمهرة الشرف النسب الوسيط، ومن جمل المآثر الخلاصة والبسيط، وسبل الخيرات لها برعايتك تيسير، ومحاسن الشريعة بتحصيلك تحبير، وأنت حجة العلماء، الذي تقصر عن تقصي مآثره فطن الأذكياء، إن انبهم التفسير ففي يديك ملاك التأويل، أو اعتاص تفريع الفقه فعندك فصل البيان له والتحصيل، ولإن تشعب التاريخ فلديك استيعابه، أو تطاول الأدب ففي إيجاز بيانك اقتضابه، وإن ذكر الكلام ففي انتقائك من برهانه المحصول، أو المنطق ففي موجز آمالك لبابه المنخول، وليس أساس البلاغة إلا ما تأتي به من فصل المقال، ولا جامع

_ (1) ليس من السهل التعريف بكل هذه الكتب التي ورى بها في هذه الرسالة، لأن ذلك يتطلب تطويلا لا تتحمله هذه الحواشي، فليراجعها القارئ في فهرست الكتب حيث نورد كل كتاب مقترنا باسم مؤلفه.

الخير إلا ما حزته من تهذيب الكمال، ولذلك صارت خدمتك غاية المطلوب، وحبك قوت القلوب، ولا غر إن كنت من العلياء درتها المكنونة، فأسلافك الكرام هم جواهرها الثمينة، بحماستهم أصيبت مقاتل الفرسان، وبجود (1) جهودهم تنسى ري الظمآن، وبتسهيل عدلهم وضحت شعب الإيمان، وأنت المنتقى من سمط جمانهم، والواسط في قلائد عقبانهم، عنك تؤثر سيرة الاكتفاء، وعن فروعك السعداء تروي أخبار نجباء الأبناء، فهم لمملكتك العليا بهجة مجالسها، وأنس مجالسها، وقطب سرورها، ومطالع نورها، وولي عهدك درتهم الخطيرة، وذخيرتهم الأثيرة، لا زال كامل سعادته بطول مقامك محكماً، وحرز أمانيه بالجمع بين الصحيحين حبك ورضاك معلماً، وقد وجبت التهنئة بما كان في حيلة برئه من التيسير، وما تهيأ في استقامة قانون صحته من نجح التدبير، ولم يكن إلا بعدت به عنك المسالك، وأعوز نور طرفه تقريب المدارك، وتذكر ما عهده من الإيناس الموطأ جنابه عند فضل مالك، فوري من شوقه سقط الزند، والتهب في جوانحه قبس الوجد، فأمددته من دعائك لصالح بحلية الأولياء، فظفر لما شارف مشارق الأنوار من حضرتك بالشفاء، وقد حاز إكمال الأجر بذلك العارض الوجيز، وكان له كتشبيب الإبريز، وها هو قادم بالطالع السعيد، آيب بالمقصد الأسنى من الفتح والتمهيد، يطلع بين يديك طلوع الشهاب، ويبسم عن مفصل الثناء في الهناء بذلك زهر الآداب، فأعد له تحفة القادم من إحسانك الكامل، واخصصه بالتكملة من إيناسك الشامل، فهو الكوكب الدري المستمد من أنوارك السنية، وفي تهذيب شمائله إيضاح للخلق الكريمة الفارسية، لا زالت تزدان بصحاح مآثرك عيون الأخيار، وتتعطر بنفحة الزهر من ثنائك روضة الأزهار، وتتلى من محامدك الآيات البينات، وتتوالى عليك الألطاف الإلهيات، بمن الله سبحانه وفضله، والسلام الكريم

_ (1) ق: وبحور.

يعتمد المقام العلي، ورحمه الله تعالى وبركاته؛ انتهى. وللمذكور (1) عدة مقطعات يوري فيها أسماء الكتب فمنها قوله: ظبي هو الكامل في حسنه ... وثغره أبهى من العقد جماله المدهش لكنما ... أخلاقه تحكي صبا نجد وقوله أيضاً: لك الله من خل حباني برقعة ... حبتني من آياته بالنوادر رسالة رمز في الجمال نهاية ... ذخيرة نظم أتحفت بالجواهر وقوله: قصتي في الهوى المدونة ال ... كبرى وأخبار عشقي المبسوطه حجتي في الغارم واضحة إذ ... لم تزل مهجتي بوجد منوطه [نماذج من التورية بأسماء الكتب] وتذكرت بالتورية بأسماء الكتب قول الأرجاني: لما تألق بارق من ثغره ... جادت دموعي بالسحاب الممطر فكأن عقد الدر حل قلائد ال ... عقيان منه على صحاح الجوهري وقول لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى: وظبي لأوضاع الجمال مدرس ... عليم بأسرار المحاسن ماهر أرى جيده نص المحلى، وقررت ... ثناياه ما ضمت صحاح الجواهر

_ (1) ق: وله.

وقول ابن خاتمة: ومعطر الأنفاس يبسم دائماً ... عن در ثغر زانه ترتيب من لم يشاهد منه عقد جواهر ... لم يدر ما النتقيح والتهذيب وقوله أيضاً: سفهني عاذلي عليه ... وقال لي وده عليل فقلت معتل أو صحيح ... يودعه عينه الخليل وقوله أيضاً: حاز الجمال بصورة قمرية ... تجلو عليك مشارق الأنوار وحوى الكمال بصورة عمرية ... تتلو عليك مناقب الأبرار وقول الرئيس أبي محمد (1) عبد المهيمن الحضرمي (2) : من اغتدى موطأ أسلافه ... صح له التمهيد في أحواله وقابل استذكاره بالمنتقى ... من رأيه المختار من أعماله وأضحت المسالك الحسنى له ... تدني تقصياً قصى آماله وسار من مشارق الأنوار في ... أدنى المدارك إلى إكماله ولما وقف على هذه القطيعة الفاضل أبو علي حسين بن صالح بن أبي دلامة عارضها وزاد ذكر القبس والمعلم (3) :

_ (1) أبي محمد: سقطت من ق. (2) انظر أزهار الرياض 3: 201. (3) الأزهار: 202 وابن أبي دلامة هذا هو والد يحيى كاتب العلامة للسلطان أبي العباس المريني (مستودع العلامة: 75) .

قل للموطإ للورى أكنافه ... بشراه بالتمهيد في الأحوال وإذا اكتفى بالمنتقى استذكاره ... وفى له المختار في الأعمال ومسالك الحسنى تؤديه إلى ... أقصى التقصي من قصى الآمال ويلوح من قبس الهداية رشده ... من معلم التفصيل والإجمال رجع إلى ابن جزي، ومن نظمه: يا دوحة الأنس من بطحاء واسجة ... هل من سبيل إلى أيامك الأول إذ نجتلي أواجه الإيناس مسفرة ... ونجتني ثمر اللذات والغزل ومن نظمه رحمه الله تعالى عند خروجه إلى بلاد المغرب، وروى بكتابي " تحفة القادم " و " زاد المسافر " فقال: وإني لمن قوم يهون عليهم ... ورود المنايا في سبيل المكارم يطيرون مهما ازور للدهر جانب ... بأجنحة من ماضيات العزائم وما كل نفس تحمل الذل، إنني ... رأيت احتمال الذل من شأن البهائم إذا أنا لم أظفر بزاد مسافر ... لديكم فعند الناس تحفة القادم وزاد المسافر لصفوان، والتحفة لابن الأبار. ومن نظمه قوله: نصب الحبائل للورى بالحسن إذ ... رفع اللثام وذيله مجرور وأماله عني العواذل غيلة ... فهو الممال وقلبي المكسور وقوله أيضاً: تلك الذؤابة ذبت من شوقي لها ... واللحظ يحميها بأي سلاح يا قلب فانج وما إخالك ناجياً ... من فتنة الجعدي والسفاح

وقوله أيضاً: وعاشق صلى ومحرابه ... وجه غزال ظل يهواه قالوا تعبدت فقلت نعم (1) ... تعبداً يفهم معناه وقوله رحمه الله تعالى: أيتها النفس قفي عندما ... ألزمت، فعلاً كان أو قولا فمن يكن يرضى بما ساءه ... أو سره فهو له الأولى لا يترك العبد وما شاءه ... إلا إذا أهمله المولى وقوله أيضاً: لولا ثلاث قد شغفت بحبها ... ما عفت في حوض المنية موردي وهي الراوية للحديث، وكتبه، ... والفقه فيه، وذاك حسب المهتدي وأما أخوهما القاضي أبو محمد عبد الله بن أبي القاسم بن جزي فهو الإمام العالم العلامة المعمر، رئيس العلوم اللسانية، قال في " الإحاطة " (2) : هذا الفاضل قريع بيت نبيه، وسلف شهير، وأبوة خير، وأخوة بلغية وخؤولة، أديب حافظ قائم على فن العربية، مشارك في فنون لسانية، ظرف في الإدراك، جيد النظم، مطوتع القريحة، باطنه نبل وظاهره غفلة، قعد للإقراء ببلده غرناطة معيداً ومستقلاً، ثم تقدم للقضاء بجهات نبيهة على زمن الحداثة، أخذ عن والده

_ (1) ص ق: لهم نعم. (2) ترجمة عبد الله بن جزي في الإحاطة، الورقة: 204 والكتيبة: 96 ونيل الابتهاج: 129.

الأستاذ الشهير الشهيد أبي القاسم أشياء كثيرة، وعن القاضي أبي البركات ابن الحاج، وقاضي الجماعة الشريف السبتي، والأستاذ البياني، والأستاذ الأعرف أبي سعيد ابن لب، والشيخ المقرئ أبي عبد الله ابن بيبش، وأجازه رئيس الكتاب أبو الحسن ابن الجياب، وقاضي الجماعة أبو عبد الله [ابن بكر، وأبو محمد ابن سلمون، والقاضي ابن شبرين، والشيخ أبو حيان، وقاضي الجماعة أبو عبد الله] (1) المقري، وأبو محمد الحضرمي، وجماعة آخرون، وشعره نبيل الأغراض، حسن المقاصد؛ انتهى المقصود منه. وممن أخذ عنه العباس البقني شارح البردة، والقاضي أبو بكر ابن عاصم، وبالإجازة الإمام ابن مرزوق الحفيد، وغيرهم. وقد عرف ابن فرحون في الديباج المذهب بأبيه الشهيد أبي القاسم وأخيه القاضي أبي بكر دونه، وعرف ابن الخطيب في الإحاطة بأبيه وأخويه أبي بكر وأبي عبد الله، وفيما ذكرنا من أمرهم كفاية. ومما نسبه الوادي آشي لأبي محمد عبد الله جزي قوله: يا من أتاني بعده بعدما ... عاملته بالبر واللطف إني تأملت وقد سرني ... بجملة من سورة الكهف وله أيضاً (2) : لقد قطعت قلبي يا خليلي ... بهجر طال منك على العليل لكن ما عجيب منك هذا ... إذ التقطيع من شأن الخليل رجع إلى مشايخ لسان الدين رحمه الله تعالى.

_ (1) أبن بكر ... أبو عبد الله: سقط من ق ص وأكملناه من الإحاطة ونيل الابتهاج. (2) يا من ... وله أيضا: سقط كله من ق.

27 - ومنهم القاضي الأديب جملة الظرف أبو بكر ابن شبرين (1) : وقد استوفى ترجمته في الإحاطة وذكره أيضاً في ترجمة ذي الوزارتين ابن الحكيم بأن قال بعد حكايته قتل ابن الحكيم ما صورته (2) : وممن رثاه شيخنا أبو بكر ابن شبرين رحمه الله تعالى بقوله: سقى الله أشلاء كرمن على البلى ... وما غض من مقدارها حادث البلا ومما شجاني أن أهين مكانها ... وأهمل قدراً ما عهدناه مهملا ألا اصنع بها يا دهر ما أنت صانع ... فما كنت إلا عبدها المتذللا سفكت دماً كان الرقوء نواله ... لقد جئتما شنعاء فاضحة الملا بكفي سبنتى (3) أزرق العين مطرق ... عدا فغدا في غيه متوغلا لنعم قتيل القوم في يوم عيده ... قتيل تبكيه المكارم والعلا ألا إن يوم ابن الحكيم مثكل ... فؤادي، فما ينفك ما عشت مثكلا فقدناه في يوم أغر محجل ... ففي الحشر نلقاه أغر محجلا سمت نحوه الأيام وهو عميدها ... فلم تشكر النعمى ولم تحفظ الولا تعاورت الأسياف منه ممدحاً ... كريماً سما فوق السماكين مزحلا وخانته رجل في الطواف به سعت ... فناء بصدر للعلوم تحملا وجدل (4) لم يحضره في الحي ناصر ... فمن مبلغ الأحياء أن مهلهلا

_ (1) ترجمة ابن شبرين في الإحاطة 2: 176 والمرقبة العليا: 153 والكتيبة: 166. (2) انظر الإحاطة 2: 302. (3) ق ص: سبت؛ السبنتي: النمر، والشطر من قصيدة تنسب للشماخ في رثاء سيدنا عمر (رض) والبيت: وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفي سبنتي أزرق العين مطرق (انظر طبقات ابن سلام: 111) . (4) ص: وجندل؛ والإشارة إلى قول الشاعر: من مبلغ الأحياء أم مهلهلا ... أضحى قتيلا في الفلاة مجندلا

يد الله في ذاك الأديم ممزقاً ... تبارك ما هبت جنوباً وشمألا (1) ومن حزني أن لست أعرف ملحداً ... له فأرى للترب منه مقبلا رويدك يا من قد غدا شامتاً به ... فبالأمس ما كان العماد المؤملا وكنا نغادي أو نراوح بابه ... وقد ظل في أوج العلا متوقلا ذكرناه يوماً فاستهلت جفوننا ... بدمع إذا ما أحل العم أخضلا ومازج منا الحزن طول اعتبارنا ... ولم ندر ماذا منهما كان أطولا وهاج لنا شجواً تذكر مجلس ... له كان يهدي الحي والملأ الألى به كانت الدنيا تؤخر مدبراً ... من الناس حتماً أو تقدم مقبلا لتبك عيون الباكيات على فتى ... كريم إذا ما أسبغ العرف أجزلا على خادم الآثار تتلى صحائحاً ... على حامل القرآن يتلى مفصلا على عضد الملك الذي قد تضوعت ... مكارمه في الأرض مسكاً ومندلا على قاسم الأموال فينا على الذي ... وضعنا لديه كل إصر على علا وأنى لنا من بعده متعلل ... وما كان في حياتنا متعللا ألا يا قصير العمر يا كامل العلا ... يميناً لقد غادرت حزناً مؤثلا يسوء المصلى أن هلكت ولم تقم ... عليك صلاة فيه يشهدنا الملا وذاك لأن الأمر فيه شهادة ... وسنتها محفوظة لن تبدلا فيا أيها الكريم الذي قضى ... سعيداً حميداً فاضلاً ومفضلا لتهنك من رب السماء شهادة ... تلاقي ببشرى وجهك المتهللا رثيتك عن حب في جوانحي ... فما ودع القلب العميد وما قلى (2) ويا رب من أوليته منك نعمة ... وكنت له ذخراً عتيداً وموئلا تناساك حتى ما تمر بباله ... ولم يدكر ذاك الندى والتفضلا

_ (1) من قول الشماخ أيضا: جزى الله خيرا من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق (2) من الآية القرآنية " ما ودعك ربك وما قلى ".

يرابض في مثواك كل عشية ... صفيف شواء أو قديراً معجلا (1) لحى الله من ينسى الأذمة رافضاً ... ويذهل مهما أصبح الأمر مشكلا حنانيك يا بدر الهدى فلشد ما ... تركت بدور الأفق بعدك أفلا وكنت لآمالي حياة هنيئة ... فغادرت مني اليوم قلباً مقتلاً فلا وأبيك الخير ما أنا بالذي ... على البعد ينسى من ذمامك ما خلا فأنت الذي آويتني متغرباً ... وأنت الذي أكرمتني متطفلا فآليت لا ينفك قلبي مكمداً ... عليك ولا ينفك دمعي مسبلاً وكتب ابن لسان الدين على هامش هذه القطعة ما صورته: شكر الله وفاءك يا ابن شربين وقدس لحدك، وأين مثلك في الدنيا حسناً ووفاء وعلماً لا كما فعل ابن زمرك في ابن الخطيب مخدومه، قاله علي بن الخطيب؛ انتهى. 28 - ومن أشياخ لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى الشيخ الأستاذ العلامة العلم الأوحد الصدر المصنف المحدث الأفضل الأصلح الأروع الأتقى الأكمل أبو عثمان سعد ابن الشيخ الصالح التق الفاضل المبرور المرحوم أبي جعفر أحمد بن ليون، التجيبي (2) ، رضي الله عنه تعالى، وهو من أكابر الأئمة الذين أفرغوا جهدهم في الزهد والعلم والنصح، وله تواليف مشهورة، منها اختصار بهجة المجالس لابن عبد البر، واختصار المرتبة العليا لابن راشد لقفصي، وكتاب في الهندسة، وكتاب في الفلاحة، وكتاب كمال الحافظ وجمال اللافظ في الحكم والوصايا والمواعظ، وكان مولعاً باختصار الكتب، وتواليف تذيد عن المائة فيما يذكر، وقد وقفت منها بالمغرب على أكثر من عشرين. ومما (3) حكي عن بعض كبراء المغرب أنه رأى رجلاً طوالاً فقال لمن

_ (1) من قول امرئ القيس " صفيف شواء أو قدير معجل ". (2) ترجمة ابن ليون في التكملة: 86 (باسم سعيد) ونيل الابتهاج: 105 والإحاطة، الورقة: 365. (3) ق: وقد.

حضره: لو رآه ابن ليون لاختصره، إشارة إلى كثرة اختصاره للكتب. ومن تواليفه كتاب نفح السحر في اختصار روح الشحر (1) وروح الشعر لابن الجلاب الفهري، رحمه الله، ومنها كتاب أنداء الديم في الوصايا والمواعظ والحكم وكتاب الأبيات المهذبة في المعاني المقربة وكتاب نصائح الأحباب وصحائح الآداب أورد فيه مائتي قطعة من شعره تتضمن نصائح متنوعة، ولننقح منها نبذة فنقول: منها في التحريض على العلم قوله رحمه الله تعالى: زاحم أولي العلم حتى ... تعتد منهم حقيقه ولا يردك عجز ... عن أخذ أعلى طريقه فإن من جد يعطى ... فيما يحب لحوقه وقوله: شفاء داء العي حسن السؤال ... فاسأل تنل علماً، وقل لا تبال واطلب فالاستحياء والكبر من ... موانع العلم فما إن ينال وقوله: " علمت شيئاً وغابت عنك أشياء " (2) ... فانظر وحقق فما للعلم إحصاء للعلم (3) قسمان: ما تدري، وقولك لا ... أدري، ومن يدعي الإحصاء هذاء وقوله: من لم يكن علمه في صدره نشبت ... يداه عند السؤالات التي ترد العلم ما أنت في الحمام تحضره ... وما سوى ذلك التكليف والكمد

_ (1) ق: دوح الشجر؛ ص: روح السحر. (2) عجز بيت لأبي نواس، وصدره: " فقل لمن يدعي في العلم فلسفة ". (3) ق: العلم.

وقوله: الدرس رأس العلم فاحرص عليه ... فكل ذي علم فقير إليه من ضيع الدرس يرى هاذياً ... عند اعتبار الناس ما في يديه فعزة العالم من حفظه ... كعزة المنفق فيما عليه وقال (1) رحمه الله تعالى في غير ما سبق: ثلاث مهلكات لا محاله ... هوى نفس يقود إلى البطاله وشح لا يزال يطاع دأباً ... وعجب ظاهر في كل حاله وقال: اللهو منقصة بصاحبه ... فاحذر مذلة مؤثر اللهو واللغو نزه عنه سمعك لا ... تجنح له، لا خير في اللغو وقال: لا تمالىء على صديقك وادرأ ... عنه ما اسطعت من أذى واهتضام ما تناسى الذمام قط كريم ... كيف ينسى الكريم رعي الذمام تطعم الكلب مرة فيحامي ... عنك، والكلب في عداد اللئام وقال: احذر مؤاخاة الدنيء فإنها ... عار يشين ويورث التضريرا فالماء يخبث طعمه لنجاسة ... إن خالطته ويسلب التطهيرا وقال:

_ (1) ق: وقوله، وكذلك جرى في كثير من المواضع.

تحفظ من الناس تسلم ولا ... تكن في تقربهم ترغب ولا تترك الحزم في كل ما ... تريد، ولا تبغ ما يصعب وقال: إخوانك اليوم إخوان الضرورة لا ... تثق بهم يا أخي في قول أو فعل لا خير في الأخ إلا أن يكون إذا ... عرتك نائبة يقيك أو يسلي وقال: طلب الإنصاف من قل ... ة إنصاف فساهل لا تناقش وتغافل ... فاللبيب المتغافل قلما يحظى أخو الإن ... صاف في وقت بطائل وقال: من خافه الناس عظموه ... وأظهروا بره وشكره ومن يكن فاضلاً حليماً ... فإنما حظه المضره فامرر وكن صارماً مبيراً ... يهبك من قد تخاف شره وقال: إن تبغ عدلاً فما ترضى لنفسك من ... قول وفعل به أعمل في الورى تسد وكل ما ليس ترضاه لنفسك لا ... تفعله مع أحد تكن أخا رشد وقال: حسبي الله لقد ضلت بنا ... عن سبيل الرشد أهواء النفوس عجباً أن الهوى هون وأن ... نؤثر الهون وإذلال الرؤوس

وقال: من يخف شره يوف الكرامه ... ويوالى الرعاية المستدامه وأخو الفضل والعفاف غريب ... يحمل الذل والجف والملامه وقال: دع من يسيء بك الظنون ولا ... تحفل به إن كنت ذا همه من لم (1) يحسن ظنه أبداً ... بك فاطرحه تكتفي همه وقال: نزه لسانك عن قول تعاب به ... وارغب بسمعك عن قيل وعن قال لا تبغ غير الذي يعنيك واطرح ال ... فضول تحيا قرير العين والبال وقال: كثرة الأصدقاء كثرة غرم ... وعتاب يعيي وإدخال هم فاغن بالبغض قانعاً وتغافل ... عنهم في قبيح فعل وذم وقال: ذل المعاصي ميتة يا لها ... من ميتة لا ينقضي عارها عز التقى هو الحياة التي ... ذو العقل والهمة يختارها وقال: لا تسمع يوماً صديقك قولاً ... فيه غض ممن يحب الصديق إن بر الصديق لا شك منه ... لصديق الصديق أيضاً فريق

_ (1) ص: من لا.

وقال: للجار حق فاعتمد بره ... واحمل أذاه مغضياً ساترا فالله قد وصى به فاغتفر ... زله الباطن والظاهرا وقال: سالم الناس ما استطعت وداري ... أخسر الناس أحمق لا يداري ضرك الناس ضر نفسك يجني ... لا يقوم الدخان إلا لنار وقال: النصح عند الناس ذنب فدع ... نصح الذي تخاف أن يهجرك الناس أعداء لنصاحهم ... فاترك هديت النصح فيمن ترك وقال: تجري الأمور على الذي قد قدرا ... ما حيلة أبداً ترد مقدرا فارض الذي يجري القضاء به ولا ... تضجر فمن عدم الرضى أن تضجرا وقال: أخوك الذي يحميك من الغيب جاهداً ... ويستر ما تأتي من السوء والقبح وينشر ما يرضيك في الناس معلناً ... ويغضي ولا يألو من البر والنصح وقال: لا تصحب الأردى فتردى معه ... وربما قد تقتفي منزعه فالحبل إن يجرر على صخرة ... أبدى بها طريقة مشرعه

وقال: ما فات أو كان لا تندم عليه فما ... يفيد بعد انقضاء الحادث الندم ارجع إلى الصبر تغنم أجره وعسى ... تسلو به فهو مسلاة ومغتنم وقال: السخط عند النائبات زيادة ... في الكرب تنسي ما يكون من الفرج من لم يكن يرضى بما يقضى فيا ... لله ما أشقى وأصعب ما انتهج وقال: إن تبتغ الإخوان ما إن تجد ... أخاً سوى الدينار والدرهم فلا تهنهما وعززهما ... تعش عزيزاً غير مستهضم وقال: من يستهن بصديقه ... يعن العدو على أذاته بر الصديق مهابة ... للمرء تخمل من عدائه فاحفظ صديقك ولتكن ... تبدي المحاسن من صفاته وقال: نعوذ بالله من شر اللسان كما ... نعوذ بالله من شر البريات يجني اللسان على الإنسان ميتته ... كم للسان من آفات وزلات وقال: من لم يكن مقصده مدحة ... فقد أتى بحبوحة العافيه محبة المدحة رق بلا ... عتق، وذل يا له داهيه من لا يبالي الناس مدحاً ولا ... ذماً أصاب العيشة الراضيه

وقال: شر إخوانك من لا ... تهتدي فيه سبيلا يظهر الود ويخفي ... مكره داء دخيلا يتقي منك اتقاء ... وهو يوليك الجميلا وقال: قوام العيش بالتدبير فاجعل ... لعيشك منه في الأيام قسطا وخذ بالصبر نفسك فهو عز ... تلوذ به إذا ما الخطب شطا وقال: العيش ثلث فطنة ... والغير منه تغافل فتغافل إن كنت امرأ ... إيثار عيشك تامل وقال: ينفذ المقدور حتماً لا يرد ... فعلاء الحرص دأباً والكمد أرح النفس تعش في غبطة ... وكل الأمر إلى الله فقد وقال: زر من تحب ثم زره ولا ... تمل واجعله دأباً موضع النظر لولا متابعة الأنفاس ما بقيت ... روح الحياة ولا دامت مدى العمر وقال: لا تترك الحزم في شيء فإن به ... تمام أمرك في الدنيا وفي الدين من ضيع الحزم تصحبه الندامة في ... أيامه ويرى ذل المهاوين

وقال: كن إذا زرت حاضر القلب واحذر ... أن تمل المزور أو أن تطيلا لا تثقل على جليس وخفف ... إن من خف عد شخصاً نبيلا وقال: من خلا عن حاسد قد ... مات في الأحياء ذكره إنما الحاسد كالنا ... ر لعود طاب نشره لا عدمنا حاسداً في ... نعمة ليست تسره وقال: حبيبك من يغار إذا زللتا ... ويغلظ في الكلام متى أسأتا يسر إن اتصفت بكل فضل ... ويحزن إن نقصت أو انتقصتا ومن لا يكترث بك لا يبالي ... أحدت عن الصواب أم اعتدلتا وقال: لن لمن تخشى أذاه ... والقه في باب داره إنما الدنيا مدارا ... ة فمن تخشاه داره وقال: حسد الحاسد رحمه ... لا يرى إلا لنعمه إنما الحاسد يشكو ... حر أكباد وغمه لا عدمنا حاسداً في ... نعمة تكثر همه وقال: تبديل شخص بشخص ... خسران الاثنين جمله

فاشدد يديك على من ... عرفت، وارفع (1) محله فإن قطع خليل ... بعد التواصل زله وقال: أنت بخير ما تركت الظهور ... والقال والقيل وطرق الشرور من خاض بحراً فهو لا بد يب ... تل ومن يجر يصبه العثور سلامة المرء اشتغال بما ... يهمه لنفسه من أمور وقال: أنت حر ما تركت الطمعا ... وعزيز ما تبعت الورعا وكفى بالعز مع حرية ... شرفاً يختاره من قنعا وقال: خل بنيات الطرق ... ووافق الناس تفق من خالف الناس أتى ... أعظم أبواب الحمق فكن مع الناس فتر ... ك جملة الناس خرق وقال: لا تضق صدراً بحاسد ... فهو في نار يكابد من يرى أنك خير ... منه تعروه شدائد إنما الحاسد يشقى ... وهو لا يحظى بعائد (2)

_ (1) ق: واعرف. (2) ق ص: بفائد.

وقال (1) : من يستمع في صديق قول ذي حسد ... لا شك يقصيه فاحذر غيلة الحسد يهابك الناس ما تدني الصديق فإن ... أقصيته زدت للأعداء في العدد وقال: كم من أخ صحبته ... والنفس عنه راغبه خشيت، إن فارقته ... بالهجر، سوء العاقبه وقال: إذا كانت عيوبك عند نقد ... تعد فأنت أجدر بالكمال متى سلمت من النقد البرايا ... وحسبك ما تشاهد في الهلال وقال: إذا انطوت القلوب على فساد ... فإن الصمت ستر أي ستر فلا تنطق وقلبك فيه شيء ... بغير الحق واحذر قول شر وقال: إن كنت لا تنصر الصديق فدع ... سماعك القول فيه واجتنب سماع عرض الصديق منقصة ... لا يرتضيها الكريم ذو الحسب وقال: أنت في الناس تقاس ... بالذي اخترت خليلا فاصحب الأخيار تعلو ... وتنل ذكراً جميلا

_ (1) وقعت القطعة بعد التي تليها في ق.

صحبة الخامل تكسو ... من يواخيه خمولا وقال: اسمح يزنك السماح ... إن السماح رباح لا تلق إلا ببشر ... فالبشر فيه النجاح تقطيبك الوجه جد ... أجل منه المزاح وقال: من كنت تعرفه كن فيه متئداً ... يكفيك من خلقه ما أنت تعرفه لا تبغ من أحد عرفته أبداً ... غير الذي كنت منه قبل تألفه وقال: حاسب حبيبك كالعدو تدم له ... ولك المحبة، فالتناصف روحها من كان يغمض في حقوق صديقه ... نقصت مودته وشيب صريحها وقال: تغافل في الأمور ولا تناقش ... فيقطعك القريب وذو الموده مناقشة الفتى تجني عليه ... وتبدله من الراحات شده وقال: إن شئت تعرف نعمة الله التي ... أولاك فانظر كل من هو دونكا لا تنظر الأعلى فتنسى ما لدي ... ك ومن من الضعفاء يستجدونكا وقال: عجباً أن ترى قبيح سواكا ... وتعادي الذي يرى منك ذاكا

لو تناصفت كنت تنكر ما في ... ك وترضى الوصاة ممن نهاكا وقال: جرب الناس ما استطعت تجدهم ... لا يرى الشخص منهم غير نفسه فالسعيد السعيد من أخذ العف ... وودارى جميع أبناء جنسه وقال: فرط حب الشيء يعمي ويصم ... فليكن حبك قصداً لا يصم نقص عقل أن يغطي حسك الح ... ب أو يلهيك عن أمر مهم وقال: سلم وغض (1) احتسابا ... فذا هو اليوم أسلم النقد نار تخلي ... في القلب جمراً (2) تضرم فاطو اعتراضك واغفل ... عن عيب غيرك تسلم وقال: عدة الكريم عطية ... لا مطل في عدة الكريم المطل تحريض العدا ... ة، وذاك من فعل اللئيم فدع المطال إذا وعد ... ت فإنه عمل ذميم وقال: من تناسى ذنوبه قتلته ... وأبانت عنه الولي الحميما

_ (1) ص: وأغض. (2) ق ص: تحلى، جمر.

ذكرك الذنب نفرة عنه تبقي ... لك إنكار فعله مستديما وقال: عجباً لمادح نفسه لا يهتدي ... لتنقص يبديه فيه مدحها مدح الفتى عند التحدث نفسه ... ذكرى معايبه فيدرى قبحها وقال: من حسنت أخلاقه عاش في ... نعمى وفي عز هنيء وود (1) ومن تسؤ للخلق أخلاقه ... يعش حقيراً في هموم وكد وقال: من كان يحمي ناسه [صار ذا ... عز و] (2) هابته نفوس البشر ومن يكن يخذل أحبابه ... هان، ومن هان فلا (3) يعتبر وقال: قارب وسدد إذا ما كنت في عمل ... إن الزيادة في الأعمال نقصان ما حالف القصد في كل الأمور هوى ... نفس، وكل هوى شؤم وحرمان وقال: بقدر همته يعلو الفتى أبداً ... لا خير في خامل الهمات ممتهن هيهات يعلو فتى خمول همته ... يقوده لابتذال النفس والمهن

_ (1) ص: هنيئا يود. (2) سقط من ق ص، وأكملناه من المطبوع. (3) ص: فما.

وقال: اصحب ذوي الحدة وارغب عن ال ... خبيث فالصحبة ذاك داؤها وانظر إلى قول نبي الهدى ... خيار أمتي أحداؤها قال: ما صديق الإنسان في كل حال ... يا أخي غير درهم يقتنيه لا تعول عن سواه فتغدو ... خائب القصد دون ما تبتغيه وقال: يستفز الهوى للإنسان حتى ... لا يرى غير محنة أو ضلال ويرى الرشد غير الرشد، ويغدو ... يحسب الحق من ضروب المحال وقال: لا تبالغ في الشر مهما استطعتا ... وتغافل واحلم إذا ما قدرتا فانقلاب الأمور أسرع شيء ... وتجازى بضعف ما قدرتا (1) وقال: مثل عواقب ما تأتي وما تذر ... واحذر فقد ترتجي أن ينفع الحذر لا تقدمن على أمر بلا نظر ... فإن ذلك فعله كله خطر وانظر وفكر لما ترجو توقعه ... فعمدة العاقل التفكير والنظر وقال: حافظ على نفسك من كل ما ... يشينها من خلل أو زلل

_ (1) هكذا في ص؛ وفي ق: ما فعلنا.

واحرص على تخليصها بالذي ... تنجو به من قول أو من عمل وقال: سكر الولاية ما له صحو ... وكلامها وحراكها زهو يهذي الفتى أيام عزتها ... فإذا تقضت نابه شجو فحذار لا تغررك صولتها ... وزمانها فثبوتها محو وقال: دع الجدال ولا تحفل به أبدا ... فإنه سبب للبغض ما وجدا سلم تعش سالماً من غير متعبة (1) ... قرير عين إذا لم تعترض أحدا وقال: إذا ترى المبتلى اشكر أن نجوت ولا ... تشمت به ولتسل من ربك العافيه وخف من أن تبتلى كما ابتلي فترى ... كما تراه وما تقيك من واقيه وقال: العمر ساعات تقضى فلا ... تقضها في السهو والغفله واعمل لما أنت له صائر ... ما دمت من عمرك في مهله ولا تكن تأوي لدينا وقل ... لا بد لا بد من النقله وقال: كن رفيقاً إذا قدرت حليما ... وتغافل تسلك طريقاً قويما لا تظن الزمان يبقي على من ... سره أو ينيل عزاً سليما

_ (1) ص: متبعة.

إن للدهر صولة وانقلاباً ... ولهذا نعيمه لن يدوما وقال: من لم يكن ينفع في الشده ... فلا تكن معتمداً وده لا تعتمد إلا أخا حرمة ... إن ناب خطب تلفه عده وخل من يهزأ في وده ... ولا ترى في معضل جده وقال: أخوك الذي تلفيه في كل معضل ... يدافع عنك السوء بالمال والعرض ويستر ما تأتي من القبح دائماً ... وينشر ما يرضي وإن سؤته يغضي وقال: لا تنه عما أنت فاعله ... وانظر لما تأتيه من ذنب وابدأ بنفسك فانهها فإذا ... تقفو الصواب فأنت ذو لب وقال: ليس الصديق الذي يلقاك مبتسماً ... ولا الذي في التهاني بالسرور يرى إن الصديق الذي يولي نصيحته ... وإن عرت شدة أغنى بما قدرا وقال: عجباً لمستوف منافع نفسه ... ويرى منافع من سواه تصعب ما ذاك إلا عدم إنصاف ومن ... عدم التناصف كيف يرجو يصحب وقال: من عدم الهمة في راحة ... من أمره يكرم أو يهتضم

وإنما يشقى أخو همة ... فإن الانكاد بقدر الهمم وقال: قلما تنفع المداراة إلا ... عند أهل الحفاظ والأحساب من يداري اللئيم فهو كمن يس ... تعمل الدر في نحور الكلاب وقال: دنياك هذي عرض زائل ... تفتن ذا الغرة والغفله فاعمل لأخراك وقدم لها ... ما دمت من عمرك في مهله وقال: نصيحة الصديق كنز فلا ... ترد ما حييت نصح الصديق وخذ من الأمور ما ينبغي ... ودع من الأمور ما لا يليق وقال: أنت حر ما لم يقيدك حب ... أو تكن في الورى يرى لك ذنب الهوى كله هوان وشغل ... والمعاصي ذل يعانى وكرب وقال: هون عليك الأمورا ... تعش هنيئاً قريرا واعلم بأن الليالي ... تبلي جديداً خطيرا وتستبيح عظيماً ... ولا تجير حقيرا وقال: ألف صديق قليل ... والود منهم جميل

كما عدو كثير ... إذ ضره لا يزول فلا تضيع صديقاً ... فالنفع فيه جليل وقال (1) : دع الحسود تعاتبه لظى حسده ... حتى تراه لقى يموت من كمده ما للحسود سوى الإعراض عنه وأن ... يبقى إلى كربه في يومه وغده وقال: الناس حيث يكون الجاه والمال ... فخل عنك ولا تحفل بما قالوا وعد عمن يقول العلم قصدهم ... أو الصلاح أما تبدو له الحال انظر لماذا هم يسعون جهدهم ... يبن لك الحق ولا يعروه إشكال وقال: توسط في الأمور ولا تجاوز ... إلى الغايات فالغايات غي كلا الطرفين مذموم إذا ما ... نظرت وأخذك المذموم عي وقال: عامل جميع الناس بالحسنى ... إن شئت أن تحظى وأن تهنا ولا تسئ يوماً إلى واحد ... فتجمع الراحة والأمنا وقال: لا تفكر فللأمور مدبر ... وارض ما يفعل المهيمن واصبر أنت عبد وحكم مولاك يجري ... بالذي قد قضى عليك وقدر

_ (1) سقط البيتان من ق.

وقال: إذا رأيت القبيحا ... فقل كلاماً مليحا وأغض واستر وسلم ... وكن حليماً صفوحا تعش هنيئاً وتلقى ... براً وشكراً صريحا وقال: من ينكر الإحسان لا توله ... ما عشت إحساناً فلا خير فيه البذر في السباخ ما إن له ... نفع فذره فهو فعل السفيه وقال: من لم يكن بنفع في وده ... دعه ولا تقم على عهده ود بلا نفع عناء فلا ... تعن بشيء حاد عن حده وقال: در مع الدهر كيفما ... دار إن شئت تصحبه ودع الحذق جانباً ... ليس بالحذق تغلبه وحذار انقلابه ... فكثير تقلبه وقال: من ليس يغني في مغيب عنك لا ... تحفل به فوداده مدخول يثني عليك وأنت معه حاضر ... فإذا تغيب يكون عنك يميل وقال: دع نصح من يعجبه رأيه ... ومن يرى ينجحه سعيه

النصح إرشاد فلا توله ... إلا فتى يحزنه غيه لا يقبل النصح سوى مهتد ... يقوده لرشده هديه وقال: البخت أفضل ما يؤتى الفتى فإذا ... يفوته البخت لا ينفك يتضع يكفيك في البخت تيسير المور وأن ... يكون ما ليس ترضى عنك يندفع وقال: افعل الخير ما استطعت ففعل ال ... خير ذكر لفاعليه وذخر وتواضع تنل علاء وعزاً ... فاتضاع النفوس عز وفخر وقال: صديق المرء درهمه ... به ما دام يعظمه فصنه ما استطعت ولا ... تكن في اللهو تعدمه ففقر المرء ميتته ... لذا تغدو فترحمه وقال: لا تقرب ما اسطعت خل عدو ... فخليل العدو حلف عداوه وتحفظ منه وداره وانظر ... هل ترى من سيماه إلا القساوة وقال: لا تعد ذكر ما مضى فهو أمر ... قد تقضى وقد مضى لسبيله وتكلم فيما تريد من الآ ... تي ودبر للشيء قبل حلوله وقال: قساوة المرء من شقائه فإذا ... يلين ساد بلا أين ولا نصب

لا يرحم الله إلا الراحمين، فمن ... يرحم ينل رحمة في كل منقلب وقال: جئ بالسماح إذا ما جئت في غرض ... ففي العبوس لدى الحاجات تصعيب سماحة المرء تنبي عن فضيلته ... فلا يكن منك مهما اسطعت تقطيب وقال: لا تسامح يوماً دنياً إذا ما ... قال في فاضل كلاماً رديا إن قصد الدني إنزال أهل ال ... فضل حتى يرى عليهم عليا وقال: خذ من القول بعضه فهو أولى ... وتحفظ مما يقول العداة ربما تأخذ الكلام بجد ... وهو هزل قد نمقته عدات فاحترز من غرور الاقوال واعلم ... أن الاقوال بعضها كذبات وقال: نافس الأخيار كيما ... تحرز المجد الأثيلا لا تكن مثل سراب ... ريء لم يشف غليلا إنما أنت حديث ... فلتكن ذكراً جميلا وقال: الصمت عز حاضر ... وسلامة من كل شر فإذا نطقت فلا تك ... ثر واجتنب قول الهذر وحذار مما يتقى ... وحذار من طرق الغرر

وقال: سلامة الإنسان في وحدته ... وأنسه فيها وفي حرفته ما بقي اليوم صديق ولا ... من ترتجي النصرة في صحبته فقر في بيتك تسلم ودع ... من ابتلي بالناس في محنته وقال: مطاوعة النساء إلى الندامه ... وتوقع في المهانة والغرامه فلا تطع الهوى فيهن واعدل ... ففي العدل الترضي والسلامه وقال: كانت مشاورة الإخوان في زمن ... قول المشاور فيهم غير متهم والآن قد يخدع الذي تشاوره ... إشماتاً أو حسداً يلقيك في الندم فاضرع إلى الله فيما أنت تقصده ... يهديك للرشد في الأفعال والكلم وقال: عد عمن يراك تصغر عنه ... وتحفظ من قربه وأبنه إن من لا يراك في الناس خيراً ... منه فالخير في التحفظ منه وقال: رزانة المرء تعلي قدره أبداً ... وطيشه مسقط له وإن شرفا فاربأ بنفسك من طيش تعاب به ... وإن تكن حزت معه (1) العلم والشرفا وقال: الصدق عز فلا تعدل عن الصدق ... واحذر من الكذب المذموم في الخلق

_ (1) ق: منه.

من لازم الصدق هابته الورى وعلا ... فالزمه دأباً تفز بالعز والسبق وقال: ليس التفضل يا أخي أن تحسنا ... لأخ يجازي بالجميل من الثنا إن التفضل أن تجازي من أسا ... لك بالجميل وأنت عنه في غنى وقال: من واصل اللذات لا بد أن ... تعقبه منها الندامات فخذ من اللذات واترك ولا ... تسرف ففي الإسراف آفات وقال: دع معجباً بنفسه ... في غيه ولبسه لا يقبل النصح لها ... من نخوة برأسه فخله لكيده ... وعجبه بنفسه وقال: عتب الصديق دلالة ... منه على صدق المودة فإذا يقول فقصده ال ... تنزيه عما قام عنده فاحلم إذا عتب الصديق ... ولا تخيب فيك قصده وقال: ترتجى (1) في النوائب الإخوان ... هم لدى كل شدة أعوان فإذا لم يشاركوا فسواء ... هم والأعداء كيفما قد كانوا

_ (1) ص: يرتجى.

وقال: انصر أخاك على علاته أبداً ... تهب وتسلك سبيل العز والظفر ولا تدعه إلى الإشمات مطرحاً ... فإن ذلك عين الذل والصغر وقال: من عز كانت له الأيام خادمة ... تريه آماله في كل ما حين ومن يهن أولغت فيه المدى وأرت ... له النوائب في أثوابها الجون وقال: خل المنجم يهذي في غوايته ... واقصد إلى الله رب النجم والفلك لو كان للنجم حكم لم تجد أحداً ... يخالف النجم إلا انهد في درك وقال: حماية المرء لمن يصحب ... تدل أن أصله طيب لا خير فيمن لا يرى ناصراً ... صديقه وهو له ينسب وقال: يا عاتباً من لا له همة ... ألا اتئد إلى متى تعتب هل يسمع الميت أو يبصر ال ... أعمى محال كل ما تطلب وقال: لا يعرف الفضل لأهل الفضل ... إلا أولو الفضل من أهل العقل هيهات يدري الفضل من ليس له ... فضل، ولو كان من أهل النبل

وقال: لا تطلب المرء بما اعتدت من ... أخلاقه والمرء في وهن تنتقل الأخلاق لا شك مع ... تنقل الحالات والسن وقال: لا تعامل ما عشت غيرك إلا بالذي أنت ترتضيه لنفسك ذاك عين الصواب فالزمه فيما تبتغيه من كل أبناء جنسك وقال: باعد الناس يوالوكا واعتزل عنهم يهابوكا فإذا ما تصطفيهم وقعوا فيك وعابوكا وقال: إياك لا تخذل الصديقا وارع له العهد والحقوقا نصرته ما قدرت عز تمهده للعلا طريقا فلا تسامح به عدواً وكن له ناصراً حقيقا وقال: حدث جليسك ما أصغى إليك، فإن تراه يعرض فاقطع عنه وانصرف خفف فقد يضجر الذي تجالسه طول المقام أو التحديث في سرف وقال: جماع الخير في ترك الظهور ... وإظهار التواضع والبرور وفي أضدادها من غير شك ... جميع وجوه أنواع الشرور

وقال: محبة الدرهم طبع البشر ... فاقنع من المرء بما قد حضر وقس على نفسك في بذله ... تقف على تحقيق عين الخبر وقال (1) : لا يلم غير نفسه كل من قد ... عرض النفس أن تهان فذلا ينظر العاقل الأمور فيأبى ... أن يرى منه غير ما هو أولى وقال: أعذر الناس من أتته المضره ... من أخ كان يرتجي منه نصره مثل من (2) غص بالشراب ف ... كان الهلك فيما رجاه يدفع ضره وقال: سلم تعش سالماً مما يقال ... من يعترض يعترض في كل حال نقد الفتى غافلاً عن عيبه ... لا يرتضى عند (3) أرباب الكمال وقال: تواضع المرء ترفيع لرتبته ... وكبره ضعة من غير ترفيع في نخوة الكبر ذل لا اعتزاز له ... وفي التواضع عز غير مدفوع (4) وقال:

_ (1) سقط البيتان من ق. (2) ق ص: كصدر. (3) ق: عنه. (4) ق: مرفوع.

إياك لا تنكر فضيلة كل من ... تدري فضيلته فترمى بالحسد إنكارها يجني عليك تنقصاً ... ويزيده شرفاً يديم لك الكمد وقال: انصر أخاك ما استطعت فإنما ... تعتز بالإخوان ما عزوا من يخذل الإخوان يخذل نفسه ... ويهن وما لهوانه عز وقال: إذا جزاك بسوء من أسأت له ... فذاك عدل وما في العدل من زلل جزاء سيئة بالنص سيئة ... لا حيف في ذاك في قول ولا عمل وقال: نفس وشيطان ودنيا والهوى ... يا رب سلم من شرور الأربعه أنت المخلص من رجاك وإنني ... أرجوك فيما أتقي أن تدفعه وقال: لا تعظم يا أخي نف ... سك إن شئت السلامه من يعظم نفسه يج ... ن امتهاناً وملامه فتواضع تلق عزاً ... واحتفاء وكرامه وقال: دع لذة الدنيا فمن يبتلى ... بحبها ذاق عذاب السموم لذاتها حلم، وأيامها ... لمح، ولكن كم لها من هموم محبة الدنيا هلاك، فمن ... يرومها أهلكه ما يروم

وقال: كل خل يعد ما أنت تخطي ... لا تعول على صفاء وداده إنما الخل من تناسى خطايا ... ك ويبقى له جميل اعتقاده وقال: من عامل الناس بالإنصاف شاركهم ... في مالهم وأحبوه بلا سبب إنصافك الناس عدل لا تزال به ... تعلو إلى أن ترى في أرفع الرتب وقال: قل جميلاً إن تكلمت ولا ... تقل الشر فعقبى الشر شر من يقل خيراً ينل خيراً، ومن ... يقل الشر إذاً يخشى الضرر وقال: إذا التأمت أمورك بعض شيء ... بأرضك فاستقم فيها ولازم فما في غربة الإنسان خير ... وما بالغربة الدنيا تلايم وقال: إلى متى تسرح مرخى العنان ... قل يا أخي حتى متى ذا الحران ارجع إلى الله وخل الهوى ... فما الهوى يا صاح إلا هوان قد انذر الشيب فهل سامع ... أنت فمصغ للذي قد أبان وقال: من يكفر النعمة لا بد أن ... يسلبها من حيث لا يشعر ومن يكن يشكرها معلناً ... دامت له نامية تكثر

وقال: اعذر أخا الفقر في أن ... يضيق ذرعاً بنفسه الفقر موت، ولكن ... من للفقير برمسه إن الفقير لميت ... ما بين أبناء جنسه وقال: كما تدين أنت يا صاحبي ... تدان فاعمل عمل الفاضل أنت كما أنت فخل الذي ... تزين النفس من الباطل وأين أنت ثم أنت أدر ذا ... حسبك فاحذر زلل العاقل وقال: مالك ما أنفقته قربة ... لله، والباقي حساب عليك فقدم المال ترد آمناً ... من بعده وهو ثواب لديك وقال: دع مدح نفسك إن أردت زكاءها ... فبمدح نفسك من مقامك تسقط ما أنت تخفضها يزيد علاؤها ... والعكس، فانظر أيما لك أحوط وقال: ذو النقص يصحب مثله ... فالشكل يألف شكله فاصحب أخا الفضل كيما ... تقفو بفعلك فعله أما ترى المسك دأباً ... يكسب طيباً محله وقال: من عيني المرء يبدو ما يكتمه ... حتى يكون الذي يرعاه يفهمه

ما يضمر المرء يبدو من شمائله ... لناظر فيه يهديه توسمه وقال: إنما الدنيا خيال ... وأمانيها خبال حبها سكر، ولكن ... وصلها ما أن ينال فتنزه عن هواها ... فهوى الدنيا ضلال وقال: قلما يؤذيك من لا يعرفك ... فتحفظ من صديق يألفك لا تثق بالود ممن تصطفي ... كم صديق تصطفيه يتلفك وقال: لا تضجرن بالأمور وارض بما ... يقضي به الله فهو مكتتب ما قدر الله لا مرد له ... فما يفيد العناء والتعب وقال: تنزه عن دنيات الأمور ... وخذ بالحزم في الأمر الخطير فأشراف الأمر لها جمال ... وخطر في البهاء وفي الظهور وفي سفسافها لا شك وهن ... وتمهين يشين مدى الدهور وقال: من يبتلى من أهله بمنغص ... يصبر، فما أحد بغير منغص من أزمنت بالوجه منه قرحة ... يعزم على ضرر يشين مخصص وقال: من كان في عزته داره ... وكرر المشي إلى داره

قبل يدا ًتعجز عن قطعها ... ولن لمن تخشى من أضراره وقال: لا تبتغ النعمة من جائع ... لم يرها قبل لآبائه لا يرشح الإناء ما لم يكن ... ملآن قد أفعم من مائه وقال: مروءة المرء رأس ماله ... وصونه أشرف اعتماله من لم يصن نفسه تردى ... وزال عن رتبة اكتماله وقال: ترك المطامع عزه ... واليأس أهنا وأنزه هيهات يعتز مثر ... أضحى للأطماع نهزه نزاهة النفس عز ... ما ذل من يتنزه وقال: تعظيمك الناس تعظيم لنفسك في ... قلوب الأعداء طراً والأوداء من يعظم الناس يعظم في النفوس بلا ... مؤونة وينل عز الأعزاء وقال: اقنع من الناس بمقدار ما ... يعطون لا تبتغ منهم مزيد حسبك من كل امرئ قدر ما ... يعطيك فالأطماع ما إن تفيد وقال: لن إذا كانت الأمور صعابا ... وتواضع لها تجدها قرابا

دار من شئت تنتفع منه واترك ... صولة الكبر فهي تجني عذابا لا تكن تأخذ الأمور بعنف ... من يعاني الأمور بالعنف خابا وقال: سامح الناس إن أساؤوا إليكا ... وتغافل إذا تجنوا عليكا ما ترى كيف أنت تعصي ومولا ... ك يزيد الإنعام دأباً لديكا وقال: اغتنم ساعة الأنس ... وانس ما كان بالأمس ليس للمرء من الدن ... يا سوى راحة نفس من يكن حلف هموم ... باع دنياه ببخس وقال: حبك الشيء يغطي قبحه ... فتراه حسناً في كل حال لا يرى المحبوب إلا حسناً ... كان قبح فيه مع ذا أو جمال حتم (1) الحب على ذي الحب أن ... لا يرى المحبوب إلا في كمال وقال: يحسب الناقص أن الناس قد ... غفلوا عن حاله في ضعته لا يرى الناقص إلا أنه ... كامل من نعته في صفته غلط المرء يغطي عقله ... أن يرى النقص الذي في جهته (2) وقال:

_ (1) ق: ختم. (2) ق: وجهته.

أيام عمرك هذي ... ساعاتها رأس مالك فاحرص على الخير فيها ... قبل أوان ارتحالك فإنما أنت طيف ... تجتاب سبل المهالك وقال: تجد الناس على النقص ولا ... تجد الكامل إلا من ومن زمن الباطل وافى أهله ... وكذاك الناس أشباه الزمن وقال: قل جميلاً إذا أردت الكلاما ... تجن عزاً مهنأ مستداما إن قول القبيح يورث بغضاً ... وصغاراً عند الورى وملاما وقال: حسن الظن تعش في غبطة ... إن حسن الظن من أوقى الجنن (1) من يظن السوء يجزى مثله ... قلما يجزى قبيح بحسن وقال: إن تبغ إخوان الصفاء فهم ... تحت التراب انتقلوا للقبور إخوانك اليوم كأزمانهم ... مشتبهون في جميع الأمور وقال: ومستقبح من أخ خلة ... وفيه معايب تسترذل كأعمى يخاف على أعور ... عثاراً وعن نفسه يغفل

_ (1) في المطبوعة: أقوى الفطن.

وقال: من يبتغ الود من الناس ... يكن لما قالوه بالناسي أغض عن الناس تنل ودهم ... إنك لا تغنى عن الناس وقال: أعيت مع الناس الحيل ... وبار فيهم العمل في أي وجه أملوا ... يخيب منهم الأمل فآثر العزلة عن ... هم تنج من كل خلل وقال: لا ترج غير الله في شيء تنل ... ما تبتغيه وتكف كل تخوف الله أعظم من رجوت فثق به ... فهو الذي أعطى وأنجى من كفي وقال: توسل إلى الله في كل ما ... تحب بمحبوبه المصطفى تنل ما تحب كما تبتغي ... وحسبك جاهاً به وكفى انتهى ما لخصت واخترت من الكتاب المذكور. وهذه نبذة من كتابه (1) " الأبيات المهذبة في المعاني المقربة " فمن ذلك قوله: اكتم السر واجعل الصدر قبره ... لا تبح ما حييت منه بذره أنت ما لم تبح بسرك حر ... فإذا بحت صرت عبداً بمره من يرد أن يعيش عيشاً هنيئاً ... يتحفظ مما عسى أن يضره

_ (1) ق: كتاب.

وقال: عداوة العاقل مع عسرها ... آمن من صداقة الأحمق يمكن الأحمق من نفسه ... عمداً ومن أحبابه يتقي لا يحفظ الأحمق خلاً ولا ... يرضاه للصحبة إلا شقي وقال: إذا أمعنت في الدنيا اعبتاراً ... رأيت سرورها رهن انتحاب بعاد عن تدان، وافتقار ... عن استغنا، وشيب عن شباب حياة كلها أضغاث حلم ... وعيش ظله مثل السراب وقال: من تره يسرف ماله ... يتلفه في لذة وانهماك فذلك المغبون في رأيه ... يسلك بالنفس سبيل الهلاك وقال: من لا يرى في الناس قاصرة ... عن الكمالات لم يكمل له أدب ومن يكن راضياً عن نفسه أبداً ... فذاك غر عن الآداب محتجب آداب الإنسان تحقيقاً تواضعه ... وجريه دائماً على الذي يجب وقال: يحق الحق حتماً دون شك ... وإن كره المشكك والملد صريح الحق قد يخفى ولكن ... بعيد خفائه لا شك يبدو وقال: كل ما قد فات لا رد له ... فلتكن عن ذاك مصروف الطمع

أيعود الحسن من بعد الصبا ... قلما أدبر شيء فرجع وقال: اغتنم غفلة الزمان وبادر ... لذة العيش ما بقيت سليما أمر هذي الحية أيسر من أن ... تغتدي فيه لائماً أو ملوما وقال: لا تغرنك صولة الجاه يوماً ... أو تظنن أنها تتمادى صولة الجاه لفح نار ولكن ... كل نار لا بد تلفى رمادا وقال: تنح عن الناس مهما استطعت ... ولا تك في الناس راغب من اعتمد الناس يشقى ولا ... يرى غير منتقد عائب وقال: لا تقل يوماً أنا ... فتقاسي محنا من يعظم نفسه ... يلق هونا وعنا شر ما يأتي الفتى ... مدحه لو فطنا وقال: الناس إخوان ذي الدنيا وإن قبحت ... أفعاله، وغدا لا يعرف الدنيا يعظمون أخا الدنيا وإن عثرت ... يوماً به أولغوا فيه السكاكينا وقال: العدل روح بها تحيا البلاد كما ... هلاكها أبداً بالجور ينحتم

الجور شين به التعمير منقطع ... والعدل زين به التمهيد ينتظم يا قاتل الله أهل الجور كم خربت ... بهم بلاد وكم بادت بهم أمم وقال: اليأس أسلى وأغنى ... من نيل ما يتمنى يسلو أخو اليأس حتى ... يهنا ولا يعنى لليأس برد فمن لم ... يذقه لم يتهنا وقال: إذا عظمت نفس امرئ صار قدره ... حقيراً، وحيث احتل فالذل صاحبه يسود ويعلو ذو التواضع دائماً ... ويحظى كما يرضى وتقضى مآربه وقال: ود من يصطفيك للنفع زور ... والجميل الذي يريك غرور إنما الود ود من ليس يخشى ... فيك ممن يلوم أو من يضير وقال: اشكر لمن والاك معروفا ... تكن بفضل النفس معروفا شكر أخي المنة عدل فكن ... بالعدل مهما اسطعت موصوفا من يكفر الإحسان لا بد أن ... يلفى عن الإحسان مصروفا وقال: حسب الإنسان ماله ... وهو في الدنيا كماله يضجر الفقر أخا الح ... لم وإن طال احتماله عزة المرء غناه ... وبه تحسن حاله

وقال: لا تصاحب أبداً من ... عقله غير متين إن نقص العقل داء ... يتقى مثل الجنون صحبة الأحمق عار ... لاحق في كل حين وقال (1) : وافق الناس إن أردت السلامه ... إن روح الوفاق روح كرامه من يوافق يعش هنيئاً قريراً ... آمناً من أذية وملامه فتوق الخلاف واحذر أذاه ... فركوب الخلاف عمداً ندامه وقال: ظلمات الخطوب مهما ادلهمت ... يجلها كالصباح فجر انفراج أرح النفس لا تبت حلف هم ... كم هموم فيها السرور يفاجي وقال: من لم يكن يقصد أن يحمدا ... يعش هنيئاً وينل أسعدا من يبتغي المدحة لا بد أن ... يلحقه الذل وأن يجهدا عيش الفتى في ترك تقييده ... وموته البحت إذا قيدا وقال: قل لأهل الحاجات مهما ابتغوها ... حسبكم ما أتى من التنبيه إن تريدوا الحاجات من غير بطء ... فاطلبوها عند الحسان الوجوه

_ (1) سقطت هذه القطعة من ق.

وقال: خذ الأمور برفق واتئد أبداً ... إياك من عجل يدعو إلى وصب الرفق أحسن ما تؤتى الأمور به ... يصيب ذو الرفق أو ينجو من العطب من يصحب الرفق يستكمل مطالبه ... كما يشاء بلا أين ولاتعب وقال: من يبتغي السؤدد لا بد أن ... يرهقه الجهد فلا يضجر يصعب إدراك المعالي فمن ... يرم لحاق بعضها يصبر لا يحصل السؤدد هيناً ولا ... يظفر بالبغية إلا جري وقال: عاش في الناس من درى قدر نفسه ... ثم دارى جميع أبناء جنسه علم الإنسان قدره نبل عقل ... وذكاء يبين عن فضل حدسه وقال: عظم الناس تنل تعظيمهم ... واجتنب تحقيرهم فهو الردى من ير الناس بتحقير يكن ... عندهم مؤذى حقيراً أبدا لا يغرنك إهمال امرئ ... ربما يؤذي الذباب الأسدا وقال: حب الرياسة يا له من داء ... كم فيه من محن وطول عناء طلب الرياسة فت أعضاد الورى ... وأذاق طعم الذل للكبراء إن الرياسة دون مرتبة التقى ... فإذا اتقيت علوت كل علاء

وقال: لا تركنن إلى بشر ... إن شئت تأمن كل شر ذهب الذين إذا ركن ... ت لهم أمنت من الضرر لم يبق إلا شامت ... أو من يضر إذا قدر وقال: خل رأي الجهال ما اسطعت واتبع ... رأي أهل الحلوم والتجريب لا تحد عن مشورة في مهم ... فهي مما تنمي حياة القلوب رأي أهل الصلاح نور يجلي ... ظلمة الكرب في ليالي الخطوب وقال: لا يرتضي بالدون إلا امرؤ ... مقصر ذو همة خامله الموت خير من حياة الفتى ... مهتضماً ذا رتبة سافله روح حياة المرء من عزه ... من ذل مات الميتة العاجله وقال: استغن عمن تشاء ... فالله يغنيك عنه من أمل الناس يشقى ... وليس يقنع منه فإن ظفرت بحر ... فاحفظ عليه وصنه وقال: خذ من صديقك قدر ما يعطيكا ... لا تبغ أزيد واحذر أن يجفوكا من يبغ مقدار الذي يحتاجه ... من أخيه يبق مخيباً متروكا شأن الألى رزقوا الحجى أن يقنعوا ... فابغ القناعة إنها تغنيكا

وقال: هن إذا عز أخوكا ... واخش أن يقرض فيكا إن من عاند أقوى ... منه قد ضل سلوكا نقص عقل أن تعادي ... بشراً لا يتقيكا وقال: تنزه ما حييت عن القبيح ... وخالف من يرى رد النصيح وخذ بالحزم مهما اسطعت واحذر ... من أن يلقيك حزمك في فضوح فلا تعدل عن الحق التفاتاً ... لغير الحق من بعد الوضوح وقال: لا تخف في الحق لوما ... صدقه ينجيك حتما ينجلي الحق ويبدو ... نوره لا يتعمى شأن ذي الحق اهتداء ... وأخو الباطل أعمى وقال: عامل بجد جميع الناس تحظ به ... وجنب الهزل إن الهزل يرديكا الجد أحسن ما تبديه من خلق ... والجد أشرف ما في الناس يعليكا من لازم الجد هابته النفوس ومن ... يهزل يكن أبداً في الناس مهتوكا وقال: كفاك الله شر من اصطفيتا ... وضر من اعتمدت ومن عرفتا جميع الناس موتى عنك إلا ... معارفك الذين لهم ركنتا تحفظ من قريب أو صديق ... وكن في الغير دهرك كيف شئتا

وقال: من كان يرغب عن أحبابه ويرى ... تقريب أعدائه لا شك يهتضم يدنى العدو فلا تدنو مودته ... هيهات كل معاد قربه ندم فاحفظ صديقك واحذر أن تعاديه ... إن الصديق إذا عاديته يصم وقال: جامل عدوك كي يلين حقده ... فكيف بعض البعض من إيذائكما واحفظ صديقك ما استطعت فإنه ... أدرى بطرق الضر من أعدائكا وقال: إذا ظفرت بمن أنحى عليك فخذ ... بالحلم فيه ودع ما منه قد فرطا إن المسيء إذا جازيته أبداً ... بفعله زدته في غيه شططا العفو أحسن ما يجزى المسيء به ... يهينه أو يريه أنه سقطا وقال: قاتل عدوك بالفضائل إنها ... أعدى عليه من السهام النفذ كسب الفضائل عدة تعليك في ... رتب بها سبل السعادة تحتذي فاحرص على نيل الفضائل جاهداً ... إن الفضيلة صعبة في المأخذ وقال: وعد الكريم وفاء ... تجنيه كيف تشاء ما حال قط كريم ... ولا ثناه التواء فأنجز الوعد مهما ... وعدت فهو الزكاء

وقال: ليس الغنى عن كثرة الغرض ... إن الغنى في النفس إن ترض رأس الغنى ترك المطامع عن ... زهد بلا ميل ولا غرض فازهد تعش أغنى البرية في ... عز بلا هم ولا مضض وقال: زمن الفضائل قد مضى لسبيله ... ولوى بطيب العيش وشك رحيله ركدت رياح الجد بعد هبوبها ... وعلا فريق الهزل بعد خموله هيهات ما زمن الكرام وما هم ... ذهبوا وجد الدهر في تحويله وقال: مروءة المرء ثوبه ... والعري في الناس عيبه بثوبه المرء يعلو ... قدراً ويحفظ قربه من لم يصن ثوبه لم ... يصن وإن لاح شيبه وقال: لا تصخ ما بقيت حياً لقول ... ليس يجني عليك إلا المضره واطرح ما أتاك منه وجنب ... من يرى بالفضول واتق ضره وقال: ثقيل تراه النفس في العين كالقذى ... وكالجبل الراسي على الصدر والقلب تثير غموم المرء رؤية وجهه ... وتشكو جفاه الأرض شكوى ذوي الكرب وقال: أما ترى الأشجار مصفرة ... أوراقها كالشمس عند المغيب

ما هي إلا صفرة آذنت ... بأنها ترحل عما قريب وقال: كل ما تحب وتشتهي ... ودع الطبيب وما يرى حفظ الغذاء مشقة ... ليست ترد مقدرا كم عد من متحفظ ... كم صح ممن قصرا كل التحفظ زائد ... لا بد مما قدرا وقال: من كان يأكل ما اشتهى ... ويرى مخالفة الطبيب سيرى مضرة ما أتى ... بطراً ويندم عن قريب إن التحفظ في الأمو ... ر لشيمة الفطن اللبيب من لم يكن متحفظاً ... يخطي ويبعد أن يصيب وقال: وللحمام حاءات إذا ما ... ظفرت بها عثرت على النعيم فحناء وحكاك مجيد ... وقل حجر يمر على الأديم وحوض مفعم ماء لذيذاً ... وحجام على النهج القويم وللحلق الحديدة حين تنمى ... وأطيبها حديث أخ كريم وقال في الغزل، وهي آخر كتابه المذكور: الله أكبر جلت فتنة البشر ... بنور غرتك المغني عن البصر شمس تطلع في أفق الجمال لها ... نور تألق في داج من الشعر ووردة الخد في أبراد سوسنها ... شقائق زانها التغليف بالدرر

ومسكة الخال فوق الخد شاهدة ... بأن إبداعها إحكام مقتدر وهذه نبذة من كتابه " أنداء الديم في المواعظ والوصايا والحكم " وكل ما فيه كالذي قبله من نظمه رحمه الله تعالى، فمن ذلك قوله رحمه الله: العلم نور وهدى ... فكن بجد طالبه واحرص عليه واعتمد ... فيه الأمور الواجبه من لازم العلم علا ... على الأنام قاطبه وقال: خالف النفس عند قصد هواها ... تبق ما عشت سالماً من أذاها فاتباع الهوى هوان ولكن ... هان للنفس وكي تنال مناها وقال: من يخالف في شيء الناس يرجع ... هدفاً للسهام من كل راشق كن مع الناس كيف كانوا، ووافق ... إن من لا يوافق الناس مائق وقال: أرح النفس تنتفع بحياتك ... واغنم العيش قبل يوم وفاتك واطرح عيب من سواك، وسالم ... جملة الناس يغفلوا عن أذاتك واعتبر بالذين بادوا، وبادر ... ما يدانيك من سبيل نجاتك وقال: سالم الناس ما استطعت، وجامل ... من يعاديك إن أردت السلامه وتنزه عن القبيح وجنب ... من يرى بالفضول واحذر كلامه

وقال: صديقي أنت ما أبقى بخير ... وموتي وغير محتاج إليكا فإن أحتج إليك فأنت مني ... بريء لا صداقة لي عليكا وقال: من أنت عنه غني ... كن فيه مثل اعتقاده فإن يكن منه ود ... فجازه بوداده وإن يكن منه بعد ... فخله لبعاده وقال: عليك بنفسك لا تشتغل ... بشيء سواها وخل الفضول تعش رائح القلب في غبطة ... فلا من يضر ولا من يقول وقال: اترك الفكر في الأمور ودعها ... فكما قدرت تكون الأمور كل فكر وكل رأي وحزم ... غير مجد إذا جرى المقدور وقال: هون عليك خطوب الدهر إن لها ... نهاية والتناهي عنده الفرج واصبر فإن لحسن الصبر عاقبة ... بصبحها ظلمة المكروب تنبلج وقال: احذر البخل إنه شر خلق ... يتحلى به وشر طريقه من يجد غير مسرف فهو في النا ... س موقى تثني عليه الخليقه

وقال: الذل في طلب الإفادة عزة ... فاحرص على نيل الإفادة ترشد إن التعزز في الذي تحتاجه ... كبر، وكبر المرء أقبح مقصد وقال: دع من عرفت ولا تشدد عليه يداً ... وداره وتحفظ منه ما بقيا أما ترى البلد الذي نشأت به ... محقراً كلما أصبحت معتليا وغيره من بلاد الله قاطبة ... يعليك، لا سيما إن كنت متقيا وقال: ينبغي للذي تحلى بعقل ... أن يرى كالبازي مدة عمره بين أيدي الملوك أو في فلاة ... خيفة من شرور أبناء دهره وقال: العزل يضحك ذله ... من تيه سلطان الولايه فإذا وليت فسر على ... نهج الدماثة والرعايه واقصد مداراة الورى ... واحذر كيود ذوي السعايه وقال: لا تقبل الحكم على بلدة ... نشأت فيها، إنه يحقد رياسة المرء على الأهل وال ... جيران والخلان لا تحمد وقال: هي الدنيا إذا فكرت فيها ... رأيت نعيمها سماً نقيعا

فلا تحفل بها واحذر أذاها ... فإن لسمها قتلاً ذريعا ولا تأسف على ما فات منها ... وبادر في حياتك أن تطيعا وقال: كن وحيداً ما عشت تحيا بخير ... سالماً من شرور كل البريه إن من لا يخالط الناس يبقى ... دهره لا تعروه منهم أذيه وقال: لا تبح ما حييت يوماً بسر ... لصديق ولا لغير صديق إن سراً يجاوز الصدر فاش ... يدريه العدا ومن في الطريق وقال: لا تصاحب ما عشت إلا الكبارا ... تنم ذكراً وتعتلي مقدارا إن من ماشى في طريق حقيراً ... يكتسي منه مهنة واحتقارا فتحفظ من أن تؤاخي دنياً ... فهو يعديك ذلة وصغارا وقال: محدثات الأمور أردى الشرور ... فتحفظ من محدثات الأمور إنما المحدثات غي فدعها ... واجتهد أن ترى مع الجمهور كل من يتبع الحوادث يشقى ... ويرى نفسه بغير نظير وقال: من تفضلت عليه ... أنت لا شك أميره ومن احتجت إليه ... أنت بالرغم أسيره ومن استغنيت عنه ... أنت في الدنيا نظيره

وقال: لم يبق من يطمع في وده ... كلا ولا من ترتضى صحبته الناس أشباه ذئاب فهل ... يعلم ذئب حسنت عشرته من يبتغي اليوم صديقاً كما ... يرضى فقد زلت به بغيته وقال: فاعل الخير موقى كل ما ... يتقي من ضر أو من فتنة ليس يخشى فاعل الخير أذى ... إن فعل الخير أوقى جنة وقال: تحفظ من صديقك في أمور ... فربتما يضر بك الصديق من اعتمد الصديق ولم يبال ... يصبه الضر وهو به خليق وقال: لا تركنن لمخلوق وكن أبداً ... ممن توكل في الدنيا على الله ولا تمل لسواه ما حييت فمن ... يرجو سوى الله هاو حبله واهي وقال: طلب الغاية اتباع غوايه ... فاعتمد في الأمور ترك النهايه من يكن راضياً بما يتسنى ... عاش عيش الملوك دون أذايه وقال: لا تعتمد أبداً على مخلوق أن ... تبغ النجاح (1) وتقصد الرشدا

_ (1) ق: النجاة.

من يرج غير الله يحرم رشده ... ويذل وهو مخيب قصدا وقال: سفر المرء قطعة من عذابه ... فيه تخليق جسمه وثيابه إنما العيش للفتى بين أهل ... هـ وخلانه وفي أحبابه من يرده بخير الله يكفى (1) ... كرب تجواله وذل اغترابه وقال: سلم ولا تعترض يوماً على أحد ... إن شئت تسلم من حقد وأضرار من يعترض يعترض لا شك وهو حر ... بذاك فالشر مقدار بمقدار وقال: إن الصديق لعون ... في كل ما تبتغيه فلا تسئ لصديق ... واحذر وقوعك فيه فالمرء قيل كثير ... بنفسه وأخيه وقال: افعل الخير ما استطعت تنل ما ... تبتغيه من الثناء الجميل فاعل الخير آمن ليس يخشى ... صرف دهر ولا حلول جليل وقال (2) : بحق الحق حتماً دون شك ... وإن كره المشكك والملد

_ (1) هذه رواية ص؛ وفي ق: يكفيه. (2) سقط البيتان من ق، لأنهما وردا ص: 578.

صريح الحق قد يخفى، ولكن ... بعيد خفائه لا شك يبدو وقال: إن شئت عزاً دائماً ... فاسلك سبيل من اقتنع إن القناعة عزة ... والذل عاقبة الطمع المرء إن قنع اعتلى ... قدراً وإن طمع اتضع وقال: استعن في الأمور بالكتمان ... وتحفظ من شر كل لسان كل ما لا يدرى من أمرك فضل ... ليس فيه شيء من الخسران وقال: من مال عنك بشبر ... مل أنت عنه بميل فالله يغنيك عنه ... فمنه كل جميل فليس في الود خير ... مع ترك حسن القبول وقال: لا تقطعن صديقاً ... وإن يضق بك صدرا واحرص عليه وزده ... إن يجف براً وشكرا فإن قطع صديق ... لا شك يعقب ضرا وقال: خل التأنق في اللباس وسر على ... نهج الأفاضل في اختصار الملبس إن التأنق في اللباس يكثر ال ... حساد والأعداء للمتلبس فالبس كمثل الناس لا تخرج عن ال ... معتاد في شيء فتخطي أو تسي

وقال: لا تحقرن عدواً ... ولو يكون كذره واحذره ما اسطعت واجهد ... أن لا تحرك شره إن البعوضة تؤذي ال ... ملوك فوق الأسره وقال: ما أهنأ الإنسان في عيشه ... ما بين أهليه وفي منزله الذل في الغربة يا كربها ... وكرب من قوض عن معقله وفي اقتلوا أو اخرجوا شاهد ... ساوى خروج المرء مع مقتله وقال: المال يستر عيب النرء فاقتنه ... واحفظه تبق موقى مدة الزمن من ضيع المال أبدى عيبه وجنى ... تمهينه أبداً من كل ممتهن وقال: سريرة المرء تبديها شمائله ... حتى يرى الناس ما يخفيه إعلانا فاجعل سريرتك التقوى ترى أملاً ... في كل ما أنت تبغيه وبرهانا وقال: ما تمت الدنيا لشخص ولا ... أمل ذا فيها سوى من فتن عادتها الفتك بمن رامها ... وكل من أعرض عنها أمن فلا تغرنك بلذاتها ... فإن من غر بها قد غبن وقال: لا يكن عندك الخديم نديماً ... إن قدر الخديم دون النديم

من ينادم خديمه يتأذى ... ويصير الخديم غير خديم إنما يصلح الخديم ابتعاد ... واشتغال بشأنه المعلوم وقال: تثبت في الأمور ولا تبادر ... لشيء دون ما نظر وفكر قبيح أن تبادر ثم تخطي ... وترجع للتثبت دون عذر وقال: كن في زمانك كيف يرضى أهله ... لاتعد طورهم ولا تتبدل فإذا ترى الحمقى تحامق معهم ... وإذا ترى العقلاء فلتتعقل من لم يكن أبداً كأهل زمانه ... يشقى، ولا يحظى بنيل مؤمل وقال: الفاضل اليوم غريب بلا ... عون على شيء من الحق إن غاب لم يحضر وإن قال لم ... يسمع يؤبه بما يلقي ما أضيع الفاضل يا ويحه ... كأنه ليس من الخلق وقال وهو آخر أنداء الديم: العز عاقبة التقى ... والذل عاقبة الرياسه فإذا اتقيت علوت في ... أهل المجادة والنفاسه وإذا رأست نزلت في ... طرق التخلق والسياسه فلتختر التقوى ولا ... ترأس فتخطيك الكياسه وكان تاريخ فراغه من كتاب أنداء الديم نصف شعبان عام واحد وثلاثين وسبعمائة. ولنذكر يعض أناشيده التي كان ينشدها أهل مجلسه ببلد قصبة المرية أعادها

الله تعالى، فمما أنشده رحمه الله تعالى لأبي العباس أحمد بن العريف صاحب " محاسن المجالس " (1) : من لم يشاور عالماً بأصوله ... فيقينه في المشكلات ظنون من أنكر الأشياء دون تيقن ... وتثبت فمعاند مفتون الكل تذكار لمن هو عالم ... وصوابها بمحالها معجون والفكر غواص عليها مخرج ... والحق فيها لؤلؤ مكنون وأنشد رحمه الله تعالى من وجادة: أعوذ بالله من أناس ... تشيخوا قبل أن يشيخوا احدودبوا وانحنوا رياء ... فاحذرهم إنهم فخوخ وأنشد لنفسه رحمه الله تعالى: أقلل العشرة تغبط ... إن من أكثر ينحط وعليك الصدق واحذر ... أن ترى في القول تشتط والزم الصمت إذا ما ... خفت أن تلحى فتغلط فعلى الفاضل يلفى ... كل مفضول مسلط وأنشد لنفسه أيضاً: جنة العالم لا أد ... ري إذا ما احتاج حنه فإذا ما ترك الجن ... ة بانت فيه جنه فالزم الجنة تسلم ... إنما الجنة جنه وأنشد للحلاج رحمه الله تعالى (2) :

_ (1) لم ترد في محاسن المجالس (ط. باريس 1933) . (2) ديوان الحلاج: 62.

يا بدر يا شمس يا نهار ... أنت لنا جنة ونار تجنب الإثم فيك إثم ... وخشية العار فيك عار يخلع فيك العذار قوم ... فكيف من لا له عذار وأنشد مما ينسب للحلاج أيضاً: سقمي في الحب عافيتي ... ووجودي في الهوى عدمي وعذاب ترتضون به ... في فمي أحلى من النعم ما لضر في محبتكم ... عندنا والله من ألم وأنشد لسيدي أبي العباس ابن العريف في محاسن المجالس وهي أحسن ما قيل في طول الليل (1) : لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النجوم كنت مخلا إن العاشقين عن قصر اللي ... ل وعن طوله من الفكر شغلا وأنشد رحمه الله تعالى مما أنشده بعض الوعاظ الغرباء: عانقت لام صدغها صاد لثمي ... فأرتها المرآة في الخد لصا فاسترابت لما رأت ثم قالت ... أكتاباً أرى ولم أر شخصا قلت بالكشط ينمحي، قالت اكشط ... بالثنايا وتابع الكشط مصا ثم لما ذهبت أكشط قالت ... كان لصاً فصار والله فصا قلت إن الفصوص تطبع باللث ... م على خد كل من كان رخصا وأنشد لابن خفاجة:

_ (1) انظر محاسن المجالس: 89 وليست الأبيات لابن العريف.

وأغر كاد لطافة وطلاقة ... ينساب ماء بيننا مسكوبا قد قام في سطر الندامى فاستوى ... فحسبته ألفاً به مكتوبا وأكب يشربها وتشرب ذهنه ... فرأيت منه شارباً مشروبا مشمولة بينا ترى في كفه ... ماء ترى في خده ألهوبا وأنشد لابن عبد ربه صاحب العقد مما نسبه له الفتح في " مطمح الأنفس ومسرح التأنس " (1) : يا لؤلؤاً يسبي العقول أنيقا ... ورشاً بتقطيع القلوب رفيقا ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... دراً يعود من الحياء عقيقا وإذا نظرت إلى محاسن وجهه ... ألفيت وجهك في سناه عريقا يا من تقطع خصره من رقة ... ما بال قلبك لا يكون رقيقا وأنشد لابن عبد ربه أيضاً: ودعتني بزفرة واعتناق ... ثم قالت: متى يكون التلاقي وتصدت فأشرق الصبح منها ... بين تلك الجيوب والأطواق يا سقيم الجفون من غير سقم ... بين عينيك مصرع العشاق إن يوم الفراق أفظع يوم ... ليتني مت قبل يوم الفراق وأنشد له أيضاً: هيج البين دواعي سقمي ... وكسا جسمي ثوب الألم أيها البين أقلني مرة ... فإذا عدت فقد حل دمي يا خلي الذرع نم في غبطة ... إن من فارقته لم ينم ولقد هاج لقلبي سقماً ... حب من لو شاء داوى سقمي

_ (1) أكثر هذه القطع أورده المقري في الأجزاء السابقة، انظر 3: 564.

وأنشد للمصحفي (1) : صفراء تطرق في الزجاج، فإن سرت ... في الجسم دبت مثل صل لادغ عبث الزمان بجسمها فتسترت ... عن عينه برداء نور سابغ خفيت على شرابها فكأنما ... يجدون رياً في إناء فارغ وأنشد لابن شهيد (2) : هب من رقدته منكسراً ... مسبل للكم مرخ للردا يمسح النعسة عن عيني رشاً ... صائد في كل يوم أسدا شربت أعطافه خمر الصبا ... وسقاه الحسن حتى عربدا رشأ بل غادة ممكورة ... عممت صبحاً بليل أسودا أححت (3) من عضتي في نهدها ... ثم عضت حر وجهي (4) عمدا فأنا المجروح من عضتها ... لا شفاني الله منها أبدا وأنشد لصفوان بن إدريس: حمى الهوى قلبه وأوقد ... فهو على أن يموت أو قد وقال عنه العذول سال ... قلده الله ما تقلد وباللوى شادن عليه ... جيد غزال ولحظ فرقد علله ريقه بخمر ... حتى انتشى طرفه فعربد لا تعجبوا لانهزام طرفي ... فجيش أجفانه مؤيد أنا له كالذي تمنى ... عبد، نعم، عبده وأزيد إن بسملت عينه لقتلي ... صلى فؤادي على محمد

_ (1) انظر ج 1: 594، 604. (2) انظر ج 3: 358، 443. (3) في ق ص: أحجمت؛ وآثرنا رواية الذخيرة، وقد صوبناه في موضعه من قبل. (4) ق ص: خدي.

وأنشد لأبي علي إدريس بن اليماني: علقته شادناً صغيراً ... وكنت لا أعشق الصغارا يسفر عن مستنير وجه ... صير جنح الدجى نهارا لم أر من قبل ذاك ماء ... أضرم فيه الحياء نارا وأنشد للرمادي، أو لابن برد القرطبي (1) : لما بدا في لازور ... دي الحرير وقد بهر كبرت من فرط الجما ... ل وقلت: ما هذا بشر فأجابني: لا تنكروا ... ثوب السماء على القمر وأنشده من وجادة: يا ذا الذي عذب محبوبه ... أنخت عيس العز مغنى الهوان لم ينبت الشعر على خده ... بل دب في أصداغه عقربان رفقاً على نفسك لا تفنها ... فجوهر الأنفس در يصان وأنشد من حديقة ابن يربوع: غزا القلوب غزال ... حجت إليه العيون خطت بخديه نون ... وآخر الحسن نون وأنشد من وجادة: أودع فؤادي حرفاً أو دع ... ذاتك تؤذى، أنت في أضلعي وارم سهام اللحظ أو كفها ... أنت بما ترمي مصاب معي موقعها قلبي، وأنت الذي ... مسكنه في ذلك الموضع

_ (1) انظر ما تقدم ج 3 ص: 546.

وأنشد من حديقة ابن يربوع: يخط الشوق شخصك في ضميري ... على بعد التزاور خط زور وتدنيك الأماني من فؤادي ... دنو البرق من لمح البصير فلا تذهب فإنك نور عيني ... إذا ما غبت لم تطرف بنور وأنشد للوزير المصحفي: لعينيك في قلبي على عيون ... وبين ضلوعي للشجون فنون لئن كنت صباً مخلقاً في يد الهوى ... فحبك غض في الفؤاد مصون نصيبي من الدنيا هواك، وإنه ... عذابي، ولكني عليه ضنين وأنشد لصالح بن شريف: أيها العاذل بالله اتئد ... لك قلب في ضلوعي أو كبد هي أجفاني فذرها تنهمي ... هي أحشائي فدعها تتقد لا تظن الحب شيئاً هيناً ... ليس في الحب قياس يطرد أنت خلو وأنا صب شج ... فإذا حدثت عني قل وزد فاترك اليوم ملامي إنه ... يترك الشيء إذا ما لم يفد أنا أسلو عن حبيبي ساعة ... يا عذولي، قل هو الله أحد وأنشد له أيضاً: وافى وقد زانه جمال ... فيه لعشاقه اعتذار ثلاثة ما لها شبيه: ... الوجه والخد والعذار فمن رآه رأى رياضاً ... الورد والآس والبهار وأنشد من " حديقة " ابن يربوع: عليك بإكرام وبر لستة ... من الناس واحذر شرهم وتوقه

طبيب وحجام وشيخ وشاعر ... وصاحب ديوان ومن يتفقه وأنشد لبعض الصوفية: ما ترى عند أحمق ... في أمور توسطا بل تراه في أمره ... مفرطاً أو مفرطا وأنشد لبعض الأدباء (1) : الصبر أولى بوقار الفتى ... من قلق يهتك ستر الوقار من لازم الصبر على حالة ... كان على أيامه بالخيار ولنقتصر من ترجمة ابن ليون على هذا القدر، فقد حصلت الإطالة، بل ونكتفي من مشايخ لسان الدين بمن ذكرنا، ولنورد ما في الإحاطة في ترجمة مشيخته وإن تكرر مع ما تقدم، ونصه: [ثبت عام بشيوخ لسان الدين] المشيخة (2) - قرأت كتاب الله عز وجل على المكتب نسيج وحده في تحمل المنزل حق حمله تقوى وصلاحاً وخصوصية وإتقاناً ونغمة وعناية وحفظاً وتبحراً في هذا الفن واطلاعاً لغرائبه، واستيعاباً لسقطات الأعلام الاستاذ الصالح أبي عبد الله ابن عبد الولي العواد تكتيباً ثم حفظاً ثم تجويداً إلى مقرءات أبي عمرو رحمة الله عليهما، ثم نقلني إلى أستاذ الجماعة ومطية الفنون، ومفيد الطلبة الشيخ الخطيب

_ (1) هما لغانم المالقي، انظر 3: 398، 4: 28. (2) الإحاطة، الورقة: 403.

المتفنن أبي الحسن علي القيجاطي فقرأت عليه القرآن والعربية، وهو أول من انتفعت به، وقرأت على الخطيب الحسيب الصدر أبي القاسم ابن جزي رحمه الله تعالى، ولازمت قراءة العربية والفقه والتفسير، والمعتمد عليه العربية، على الشيخ الأستاذ الخطيب أبي عبد الله ابن الفخار البيري الإمام المجمع على إمامته في فن العربية المفتوح عليه من الله فيها حفظاً واطلاعاً ونقلاً وتوجيهاً بما لا مطمع فيه لسواه، وقرأت على قاضي الجماعة الصدر المتفنن أبي عبد الله ابن بكر رحمه الله، وتأدبت بالشيخ (1) الرئيس صاحب القلم الأعلى الصالح الفاضل أبي الحسن ابن الجياب، ورويت عن الكثير ممن جمعهم الزمان بهذا القطر من أهل الرواية، كالمحدث أبي عبد الله ابن جابر، وأخيه أبي جعفر، والقاضي الشهير (2) الشيخ بقية السلف شيخنا أبي البركات ابن الحاج، والشيخ المحدث الصالح أبي محمد ابن سلمون، وأخيه القاضي أبي القاسم ابن سلمون، وأبي عمرو ابن الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير، وله رواية عالية، والأستاذ اللغوي أبي عبد الله ابن بيبش، والمحدث الكاتب أبي الحسن التلمساني المسن، والحاج أبي القاسم ابن المهني المالقي (3) ، والعدل أبي محمد السعدي (4) ، يحمل عن الإمام ابن دقيق العيد، والقائد الكاتب ابن ذي الوزارتين أبي بكر ابن الحكيم والقاضي المحدث الأديب جملة الظرف أبي بكر ابن شبرين، والشيخ أبي عبد الله ابن عبد الملك، والخطيب أبي جعفر الطنجالي، والقاضي أبي بكر ابن منظور، والراوية أبي عبد الله ابن حزب الله، كلهم من مالقة، والقاضي أبي عبد الله المقري التلمساني، والشريف أبي علي حسن بن يوسف، والخطيب الرئيس أبي عبد الله ابن مرزوق، كلهم من تلمسان، والمحدث الفاضل الحسيب أبي العباس ابن يربوع والرئيس أبي محمد الحضرمي

_ (1) ق: على الشيخ. (2) ق: الشهيد. (3) الإحاطة: والشيخ الحاج أبي القاسم ابن البناني. (4) الإحاطة: والعدل أبي محمد ابن النقري؛ ص: التبعدي، وغير واضحة في ق.

السبتيين، والشيخ المقرئ أبي محمد ابن أيوب المالقي آخر الرواة عن ابن أبي الأحوص، وأبي عثمان ابن ليون من أهل المرية، والقاضي أبي الحجاج المنتشافري من أهل رندة، وطائفة كبيرة (1) من المعاصرين تحملاً وتدبجاً ومن أهل العدوة الغربية والمشرق وإفريقية الكثير بالإجازة، وأخذت الطب والتعاليم والمنطق. وصناعة التعديل عن الإمام أبي زكريا ابن هذيل، ولازمته، هذا على سبيل الإلماع، ولو تفرغت لذكر أفذاذهم (2) لخرج هذا التأليف (3) عما وضع له، انتهى كلامه في " الإحاطة ". وقد ذكرت في هذا الباب زيادة في بعض التراجم على ما في الإحاطة على ما اقتضاه الحال، إذ ذلك لا يخلو من فائدة زائدة، وحكمة بالخير عائدة. ولو لم يكن في هذا الكتاب غير هذا الباب لكان كافياً، لاشتماله على تصوف وحكم وكرامات وآداب ووصايا وإنشادات وغيرها، مما يغني عن خبره العيان، ويشتاق إلى الوقوف عليه ذوو الملكة في البيان، ولو لم يشتمل إلا على المدائح النبوية التي فيه لتمت محاسنه، والله سبحانه وتعالى ينفع به، بجاه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وتابعيه وحزبه. انتهى المجلد الخامس

_ (1) ق: كثيرة. (2) الإحاطة: لذكرهم. (3) الإحاطة: التقييد.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم الباب الرابع في مخاطبات الملوك والأكابرالموجهة إلى حضرته العلية، وثناء غير واحد من أعلام أهل عصره عليه، وصرف القاصدين وجوه التأميل إليه، واجتلائهم أنوار رياسته الجلية، وكتبهم بعض المؤلفات باسمه، ووقوفهم عند إشارته ورسمه، وما يضاهي ذلك في حظه وقسمه، وسعيهم بين يديه اعلم - سلك الله بي وبك الطريق الأقوم الأقوى، وحلى صدور جميعنا بزينة التقوى - أن لسان الدين ذكر في كتبه كالإحاطة ونفاضة الجراب وغيرهما جملة مما خاطبه به الملوك وغيرهم، من تبجيل وتنويه، ولنذكر بعض ذلك من كتبه ومن غيرهما تتميماً للمقصود وتبليغاً لنفوس الناظرين في هذه العجالة ما تؤمله وتنويه. [1 - ظهير من أبي زيان المريني للسان الدين] فمن ذلك ما ذكره في " الإحاطة " من إكرام السلطان أبي زيان المريني ابن الأمير أبي عبد الرحمن ابن السلطان أبي الحسن له، وسرد ما كتب له به من قوله: هذا ظهير إلى قوله: أيده الله ونصره، وسنى له الفتح المبين ويسره

وبعده ما صورته (1) : " للشيخ الفقيه الأجل الأسنى، الأعز الأحظى الأرفع الأمجد الأسمى الأوحد الأنوه الأرقى، والعالم العلم الرئيس الأعرف المتفنن الأبرع المصنف المفيد الصدر الأحفل الأفضل الأكمل أبي عبد الله ابن الشيخ الفقيه الوزير الأجل الأسنى الأعز الأرفع الأمجد الوجيه الأنوه الأحفل الأفضل الحسيب الأصيل الأكمل المبرور المرحوم أبي محمد ابن الخطيب، قابله أيده الله بوجه القبول والإقبال، وأضفى عليه ملابس الإنعام والإفضال، ورعى له خدمة السلف الرفيع الجلال، وما تقرر من مقاصده الحسنة في خدمة أمرنا العال، وأمر في جملة ما نسوغه من الآلاء الوارفة الظلال، الفسيحة المجال، بأن يجدد له حكم ما بيده من الأوامر المتقدم تاريخها المتضمنة تمشية خمسمائة دينار من الفضة العشرية (2) في كل شهر عن مرتب له ولولده الذي لنظره من مجبى مدينة سلا حرسها الله في كل شهر، ومن حيث جرت العادة أن يتمشى له، ورفع الاعتراض ببابها فيما يجلب من الأدم والأقوات على اختلافها من حيوان وسواه، وفيما يستفيده خدامه (3) بخارجها وأحوازها من أعناب وقطن وكتان وفاكهة وخضر وغير ذلك، فلا يطلب في شيء من ذلك بمغرم ولا وظيف (4) ، ولا يتوجه فيه إليه بتكليف، يتصل له حكم جميع ما ذكر في كل عام تجديداً تاماً، واحتراماً عاماً، أعلن بتجديد الحظوة واتصالها، وإتمام النعمة وإكمالها، من تواريخ الأوامر المذكورة إلى الآن، ومن الآن إلى ما يأتي على الدوام، واتصال الأيام، وأن يحمل جانبه فيمن يشركه أو يخدمه محمل الرعي والمحاشاة في السخر مهما عرضت، والوظائف إذا افترضت، حتى يتصل له تالد العناية بالطارف،

_ (1) ورد هذا الظهير في الاستقصا 4: 48. (2) العشرية: لعلها العاشرية وهي ما كان في كل دينار منها عشرة دراهم (انظر " عاشر " في ملحق المعاجم لدوزي) . (3) ق: خدمه. (4) الوظيف أو الوظيفة: الضريبة المقررة.

وتتضاعف أسباب المنن والعوارف، بفضل الله، وتحرر له الأزواج (1) التي يحرثها بتالمغت من كل وجيبة (2) وتحاشى من كل مغرم أو ضريبة، بالتحرير التام بحول الله وعونه، ومن وقف على هذا الظهير الكريم فليعمل بمقتضاه، وليمض ما أمضاه، إن شاء الله، وكتب في العاشر من شهر ربيع الآخر من عام ثلاثة وستين وسبعمائة، وكتب في التاريخ " (3) ؛ انتهى. وقوله " وكتب في التاريخ " هو العلامة السلطانية في ذلك الزمان، يكتب بقلم غليظ، وبعض ملوك المغرب يكتب عند العلامة " صح في التاريخ " [ترجمة أبي زيان المريني] وقد عرف لسان الدين في " الإحاطة " بهذا السلطان بما نصه: محمد بن يعقوب أبي عبد الرحمن بن علي أمير المسلمين بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق أمير المسلمين بالمغرب إلى هذا العهد، يكنى أبا زيان (4) ، وصل الله نصره على عدوه الدين، وأرشده إلى سنن الخلفاء المهتدين. حاله - فاضل سكون منقاد، مشتغل بخاصة نفسه، قليل الكلام، حسن الشكل، درب بركض الخيل، مفوض للوزراء عظيم التأتي لأغراضهم، ووكل الأمور لمن استكفاه منهم، استقدم من أرض النصارى بالأندلس وقد فر

_ (1) الأزواج: هي ما يسمى في المشرق " الأفدنة "، أخذت من زوج البقر للحرث أي (الفدان) . (2) الوجيبة: الضريبة. (3) قال ابن الأحمر عند تعريفه العلامة: " فإذا رأيت الصك المريني وعلامته: كتب في التاريخ المؤرخ به، فهي بخط يد السلطان، وإذا كانت: وكتب في التاريخ، فهي بخط يد صاحب العلامة (مستودع العلامة: 21) . (4) بويع أبو زيان الملقب بالمتوكل 11 صفر سنة 763 وقتل غرقاً في السانية التي بروض الغزلان 22 ذي الحجة سنة 767 وسنه 28 سنة ودفن بجامع قصره (روضة النسرين: 32 وانظر الاستقصا 4: 51) .

إليهم خوفاً على نفسه، فسمح به ملك الروم بعد اشتراط واشتطاط، فكان وصوله إلى مدينة الملك بفاس يوم الاثنين الثاني والعشرين لصفر عام ثلاثة وستين وسبعمائة، ودخوله داره مغرب ليلة الجمعة بطالع الثامن من السرطان وبه السعد الأعظم كوكب المشتري من الكواكب السيارة، وقد كان الوزير قيم الأمر والمثل في الكفاية والاضطلاع بالعظيمة عمر بن عبد الله بن علي الياباني (1) لما ثار بعمه السلطان أبي سالم رحمه الله تعالى وأقام الرسم بأخيه المعتوه المدعو بأبي عمر استدعى هذا المترجم به، وقد نازله الأمير عبد الحليم ابن عمهم، وتوجه عنه رسوله أثناء الحصار لما رأى الأمر لا يستقيم بمن نصبه، فتلطف فيه إلى طاغية النصارى، استعان بالسلطان أبي عبد الله ابن نصر، وقد جمعتهما إيالته، فتم له اللحاق بالمغرب، وانصرف الأمير عبد الحليم إلى سجلماسة فتملكها، وتم الأمر للأمير أبي زيان يقوم به عنه وزيره ومستدعيه المذكور مصنوعاً له في خدمته أعانه الله تعالى وأصلح حاله وأحوال الخلق على يديه، ووفدت عليه من محل الانقطاع بسلا وأنشدته قولي (2) : لمن علم في هضبة الملك خفاق ... أفاقت به من غشية الهرج آفاق تقل رياح النصر منه غمامة ... تمد لها أيد وتخضع أعناق وبيعة شورى أحكم السعد عقدها ... وأعمل إجماع عليها وإصفاق قضى عمر فيها بحق محمد ... فسجل عهد للوفاء وميثاق أحلماً ترى عيناي أم هي فترة ... أعندكما في مشكل الأمر مصداق وفاض (3) لفضل الله في الأرض تبتغى ... ومجتمعات لا تريب وأسواق وسرح تهنيه الكلاءة بالكلا ... وفلح لسقي الغيث قام له ساق

_ (1) راجع أخبار هذا الوزير في العبر 7: 319، 323. (2) انظر القصيدة في الاستقصا 4: 46 - 48. (3) الوفاض: جمع وفضة وهي المكان الذي يمسك الماء؛ وفي ص: رفاض.

وقد كان طيف الحلم لا يعمل الخطا ... وللفتنة العمياء في الأرض إطباق وللغيث إمساك وفي الأرض رجة ... وللدين والدنيا وجوم وإطراق فكل فريق فيه للبغي راية ... وكل طريق فيه للعيث طراق (1) أجل إنه من آل يعقوب وارث ... يحن له البيت العتيق ويشتاق له من جناح الروح ظل مسجف ... ومن رفرف العز الإلهي رستاق (2) أطل على الدنيا وقد عاد ضوءها ... دجى وعلى الأحداق للذعر إحداق فأشرقت الأرجاء من نور ربها ... وساح بها لله لطف وإشفاق فمن ألسن لله بالشكر أعلنت ... وكان لها من قبل همس وإطباق وليس لأمر أبرم الله ناقض ... وليس لمسعى أنجح الله إخفاق محمد قد أحييت دين محمد ... وللخلق أذماء تفيض وأرماق ولو لم تثب غطى على شفق الضحى ... دم لسيوف البغي في الأرض مهراق فأيمن بمشحون من الفلك سابح ... له باختيار الله حط وإيساق (3) أقلك والدأماء (4) تظهر طاعة ... إليك وصفح الماء أزرق رقراق إلى هدف السعد آنبرى منه والدجى ... يضل الحجى سهم من السعد رشاق فخطت لتقويم القوام جداول ... وصحت من التوفيق واليمن أوفاق (5) تبارك من أهداك للخلق رحمة ... ومستبعد أن يهمل الخلق خلاق هو الله يبلوالناس بالخير فتنة ... وبالشر والأيام سم وترياق سمت منك أعناق الورى لخليفة ... له في مجال السعد وخد وإعناق

_ (1) سقط البيت من ق. (2) الرستاق: معربة عن الفارسية بمعنى الناحية أو الكورة. (3) الحط: الرسو في الميناء، والإيساق: مصدر أوسق بمعنى ملأ بالأحمال. (4) الدأماء: البحر. (5) يعني بالجداول: الجداول الفلكية، والأوفاق: جمع وفق وهو المربع الذي يقسم إلى " خانات " ترتيب فيها الأرقام.

وقالوا بنان ما استقل بكفه ... تفيض على العافين أم هي أرزاق وأطنب فيك المادحون وأغرقوا ... فلم يجد إطناب ولم يغن إغراق ألست من القوم الذين أكفهم ... غمام ندى إن أخلف الغيث غيداق ألست من القوم الذين وجوههم ... بدور لها في ظلمة الروع إشراق رياض إذا العافي استظل ظلالها ... ففيها جنى ملئ الأكف وإيراق أبوك ولي العهد لوسالم الردى ... وجدك قد فاق الملوك وإن فاقوا فمن ذا له جد كجدك أو أب ... لآلئ والمجد المؤثل نساق وحسب العلا في آل يعقوب أنهم ... هم الأصل في العلياء والناس ألحاق أسود سروحٍ أوبدور أسرة ... فإن حاربوا راعوا وإن سالموا راقوا يطول لتحصيل الكمال سهادهم ... فهم للمعالي والمكارم عشاق ومنها: لئن نسيت إحسان جدك فرقةٌ ... تزر على أعناقهم منه أطواق أجازت خروج ابن ابنه عن تراثه ... ولم تدر ما ضمت من الذكر أوراق ومن دون ما راموه لله قدرة ... ومن دون ما أموه للفتح أغلاق خذ العفووابذل فيهم العرف ولتسع ... جريرة من أبدى لك الغدر أخلاق فربتما تنبو مهندة الظبى ... وتهفو حلوم القوم والقوم حذاق وما الناس إلا مذنبٌ وابن مذنبٍ ... ولله إرفاد عليهم وإرفاق ولا ترج في كل الأمور سوى الذي ... خزائنه ما ضرها قط إنفاق إذا هوأعطى لم يضر منع مانعٍ ... وإن حشدت طسم وعاد وعملاق عرفت الردى واستأثرت بك للعدا ... تخوم بمختط الصليب وأعماق فيسر لليسرى وأحيا بك الورى ... وللروع إرعاد عليك وإبراق فجاز صنيع الله وازدد بشكره ... مواهب جود غيثها الدهر دفاق وأوف لمن أوفى وكاف الذي كفى ... فأنت كريم طهرت منك أعراق

وتهنيك يا مولى الملوك خلافة ... شجتها تباريح إليك وأشواق فقد بلغت أقصى المنى بك نفسها ... وكم فاز بالوصل المهنإ مشتاق فلا راع منها السرب للدهر رائع ... ولا نال منها جدة السعد إخلاق أمولاي راع الدهر سربي وغالني ... فطرفي مذعورٌ وقلبي خفاق وليس لكسري غيرك اليوم جابر ... ولا ليدي إلا بمجدك أعلاق ولي فيك ودٌ (1) واعتدادٌ غرسته ... فراقت به من يانع الحمد أوراق وقد عيل صبري في ارتقابي خليفةً ... تحل به للضر عني أوهاق (2) وأنت حسام لله والله ناصر ... وأنت أمين الله والله رزاق وأنت الأمان المستجار من الردى ... إذا راع خطبٌ أوتوقع إملاق وأهون ما ترجى لديك شفاعةٌ ... إذا لم يكن عزمٌ حثيث وإرهاق ودونكما من ذائع الحمد مخلصٍ ... له فيك تقييد يروق وإطلاق إذا قال أما كل سمعٍ لقوله ... فمصغ وأما كل أنفٍ فنشاق ودم خافق الأعلام بالنصر كلما ... ذهبت لمسعى لم يكن فيه إخفاق وعدت منه ببر كثير، واحترام شهير. دخوله غرناطة - لحق بها مفلتاً عند القبض على قرابته وبني عمه وتقريبهم إلى مصارعهم، فكان وصوله في رمضان من عام خمسين وسبعمائة، ثم رابه رائب لحق لأجله بصاحب قشتالة، وأقام في جملته إلى حين استدعائه المتقرر آنفا، وهولهذا العهد أمير المسلمين بالمغرب، أعانه الله تعالى على الخير، وأطلق به يده، وألهمه لما يرضى منه بفضله وكرمه؛ انتهت الترجمة. ورأيت على هامش هذا المحل من الإحاطة بخط الخطيب الشهير الإمام

_ (1) ق: أصل. (2) الأوهاق: جمع وهق وهو الأنشوطة.

أبي عبد الله ابن مرزوق التلمساني رحمه الله ما صورته: توفي يعني السلطان أبا زيان مغتالاً عام ستة وستين على يد مظاهره الخائن عمر بن عبد الله ابن علي الوزير، رداه في بئر، وأشاع أنه أفرط في السكر، وألقى نفسه في البئر المعروفة برياض الغزلان، وبايع لعمه عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن، فسلطه الله عليه، وأخذ حقوق الخلائق على يديه، فقتله غيلة بعد أن كان تغلب عليه فأعمل الحيلة في قتله، واستمر ملك عبد العزيز ظاهراً ظافراً قد جمع بين المغرب إلى أقصاه ويين ملك تلمسان وقد شرد أهلها كل مشرد، فعندما أقبلت الدنياعليه، واستقام ملكه، وكاد يلحق ملك أبيه أويزيد مات رحمه الله تعالى، قيل: مطعونا (1) ، وقيل غير ذلك، وذلك في حدود أربع سبعين، وولي ولده، ثم عزل بابن عمه العباس ابن السلطان أبي سالم، وحاز ملك المغرب إلى حين كتب هذا سنة سبع وسبعين وسبعمائة؛ انتهى ما ألفيته بخط سيدي أبي عبد الله ابن مرزوق. ورأيت تحته بخط ابن لسان الدين أبي الحسن علي ما صورته: رحمة الله عليك يا عمر بن عبد الله بن علي، فلقد كنت غسلت ملك المغرب من درن كبير، وقمت على ملك لهو وضعف شهير، وشهرت سيف الحق، على الزواكرة الخرق، فابتهج منبر الدين؛ انتهى. ومراده بهذا الكلام الرد على ابن مرزوق في ذمه للوزير عمر، وقوله " الزواكرة " لفظ يستعمله المغاربة، ومعناه عندهم المتلبس الذي يظهر النسك والعبادة، ويبطن الفسق والفساد، وعند الله تتجمع الخصوم.

_ (1) ق ص: مطعوماً.

[2 - رسالة من أبي سالم إلى لسان الدين] ولنرجع إلى ما كنا بسبيله فنقول: ومما خوطب به ابن الخطيب رحمه الله تعالى، من قبل سلطان المغرب المستعين بالله إبراهيم أبي سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني ما صورته بعد الصلاة (1) : " من عبد الله المستعين بالله إبراهيم أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، أبي الحسن ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي يوسف يعقوب ابن عبد الحق أيد الله وأعز نصره، إلى الشيخ الفقيه الأجل الأسنى الأعز الأحظى الأوجه الأنور الصدر الأحفل المصنف البليغ الأعرف الأكمل أبي عبد الله ابن الشيخ الأجل الأعز الأسنى الوزير الأرفع الأنجد الأصيل الأكمل المرحوم المبرور أبي محمد ابن الخطيب، وصل الله عزته ووالى رفعته، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: " أما بعد حمد الله تعالى والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم المصطفى، والرضى عن آله وصحبه أعلام الإسلام وأئمة الرشد والهدى، وصلة الدعاء لهذا الأمر العلي العزيز المنصور المستعيني بالنصر الأعز والفتح الأسنى، فإذا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم بلوغ الأمل، ونجح القول والعمل من منزلنا الأسعد بضفة وادي ملوية يمنه الله، وصنع الله جميل، ومنه جزيل، والحمد لله، ولكم عندنا المكانة الواضحة الدلائل، والعناية المتكفلة برعي الوسائل، ذلكم لما تميزتم به من التمسك بالجناب العلي، المولوي العلوي، جدد الله تعالى عليه ملابس غفرانه، وسقاه غيوث رحمته وحنانه؛

_ (1) وردت هذه الرسالة في الاستقصا 4: 29 - 30 وأزهار الرياض 1: 282.

وما أهديتم إلينا من التقرب لدينا، بخدمة ثراه الطاهر، والاشتمال بمطارف حرمته السامية المظاهر. " وإلى هذا وصل الله حظوتكم ووالى رفعتكم، فإنه ورد علينا خطابكم الحسن عندنا قصده، المقابل بالإسعاف المستعذب ورده، فوقفنا على ما نصه، واستوفينا ما شرحه وقصه، فآثرنا حسن تلطفكم في التوسل بأكبر الوسائل إلينا، ورعينا أكمل الرعاية حق ذلكم الجناب العزيز علينا، وفي الحين عينا لكمال مطلبكم، وتمام مأربكم، والتوجه بخطابنا في حقكم، والاعتماد بوفقكم، خد يمينا أبا البقاء ابن تاسكورت (1) وأبا زكريا ابن فرقاجة، أنجدهما الله وتولاهما؛ وأمسى تاريخه انفصلا مودعين إلى الغرض المعلوم، بعد التأكيد عليهما فيه، وشرح العمل الذي يوفيه، فكونوا على علم من ذلكم، وابسطوا له جملة آمالكم، وإنا لنرجوثواب الله في جبر أحوالكم، وبرء اعتلالكم، والله سبحانه وتعالى يصل مبرتكم، ويتولى تكرمتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ كتب في الرابع والعشرين لرجب عام واحد وستين وسبعمائة ". [3 - جواب لسان الدين] فراجعه ابن الخطيب بما نصه (2) : مولاي خليفة الله بحق، وكبير ملوك الأرض عن حجة، ومعدن الشفقة والحرمة ببرهان وحكمة، أبقاكم الله تعالى عالي الدرجة في المنعمين، وافر الحظ عند جزاء المحسنين وأراكم ثمرة بر أبيكم في البنين، وصنع لكم في عدوكم الصنع الذي لا يقف عند معتاد، وأذاق العذاب الأليم من أراد في مثابتكم بإلحاد، عبدكم الذي ملكتم رقه،

_ (1) الاستقصا والأزهار: تاشكورت. (2) انظر هذه الرسالة في الاستقصا 4: 30 - 31 والأزهار 1: 284.

وآويتم غربته، وسترتم أهله وولده، وأسنيتم رزقه، وجبرتم قلبه، يقبل موطئ الأخمص الكريم من رجلكم الطاهرة، المستوجبة بفضل الله تعالى لموقف النصر، الفارعة هضبة العز، المعملة الخطوفي مجال السعد، وميسر (1) الحظ ابن الخطيب، من شالة (2) التي تأكد بملككم الرضي أحترامها، وتجدد برعيكم عهدها وأستبشر بملككم دفينها، وأشرق بحسناتكم نورها. " وقد ورد على العبد الجواب المولوي البر الرحيم، المنعم المحسن بما يليق بالملك الأصيل والقدر الرفيع والهمة السامية والعزة القعساء، من رعي الدخيل والنصرة للذمام والاهتزاز لبر الأب الكريم، فثاب الرجاء وأنبعث الأمل وقوي العضد وزار اللطف، فالحمد لله الذي أجرى الخير على يدكم الكريمة، وأعانكم على رعي ذمام الصالحين، المتوسل إليكم أولاً بقبورهم ومتعبداتهم وتراب أجداثهم ثم بقبر مولاي ومولاكم ومولى الخلق أجمعين الذي تسبب (3) في وجودكم، واختصكم بحبه، وغمركم بلطفه وحنانه، وعلمكم آداب الشريعة، وأورثكم ملك الدنيا وهيأتكم دعواته بالاستقامة إلى ملك الآخرة بعد طول المدى وانفساح البقاء، وفي علومكم المقدسة ما تضمنت الحكايات عن العرب من النعرة (4) عن طائر داست أفراخه ناقة في جوار رئيس منهم، وما انتهى إليه الامتعاض لذلك مما أهينت فيه الأنفس وهلكت الأموال وقصارى من امتعض لذلك أن يكون كبعض خدامكم من عرب تامسنا فما الظن بكم وأنتم الكريم ابن الكريم ابن الكريم فيمن لجأ أولاً الى رحماكم بالأهل والولد عن حسنة تبرعتم بها وصدقة حملتكم الحرية

_ (1) ق الاستقصا: ومسير. (2) شالة: تعد اليوم من ضواحي الرباط، وفيها قبور المرينيين. وإليها لجأ لسان الدين عندما نبت به الأندلس. (3) ق: الذي هو سبب. (4) ق: النفرة؛ الاستقصا: النصرة.

على بذلها ثم فيمن حط رحل الاستجارة بضريح أكرم الخلق عليكم دامع العين خافق القلب واهي الفزعة يتغطى بردائه ويستجير بعليائه كأنني تراميت عليهم في الحياة أمام الذعر الذي يذهل العقل ويحجب عن التمييز بقصر داره ومضجع رقاده مامن يوم إلا وأجهر بعد التلاوة: يا ليعقوب يا لمرين (1) نسأل الله تعالى أن لا يقطع عني معروفكم ولا يسلبني عنايتكم ويستعملني ما بقيت في خدمتكم ويتقبل دعائي فيكم. " ولحين وصول الجواب الكريم نهضت إلى القبر المقدس ووضعته بازائه وقلت يا مولاي يا كبير الملوك وخليفة الله وبركة بني مرين صاحب الشهرة والذكر في المشرق والمغرب عبدك المنقطع إليك المترامي بين يدي قبرك المتوسل إلى الله ثم إلى ولدك بك ابن الخطيب وصله من مولاه ولدك ما يليق بمقامه من رعي وجهك والتقرب إلى الله تعالى برعيك والاشتهار في مشرق الدنيا وغربها ببرك وأنتم من أنتم من إذا صنع صنيعه كملها وإذا من منة تممها وإذا أبدى يداً أبرزها طاهرة بيضاء غير معيبة ولاممنونة ولا منتقضة وأنا بعد تحت ذيل حرمتك وظل دخيلك حتى يتم أملي ويخلص قصدي وتحف نعمتك بي ويطمئن إلي مأملك قلبي. " ثم قلت للطلبة: أيها السادة بيني وبينكم تلاوة كتاب الله تعالى منذ أيام ومناسبة النحلة وأخوة التأليف بهذا الرباط المقدس والسكنى بين أظهركم فأمنوا على دعائي بإخلاص من قلوبكم واندفعت في الدعاء والتوسل الذي نرجوأن يتقبله الله تعالى ولا يضيعه وخاطب العبد مولاه شاكراً لنعمته مشيدا ًبصنيعته مسروراً بقبوله وشأنه من التعلق والتطارح شأنه حتى يكمل القصد ويتم الغرض معمور الوقت بخدمة يرفعها ودعاء يردده والله المستعان "؛ انتهى.

_ (1) ص ق: يا آل يعقوب، يا آل مرين؛ ولا خلاف.

[4 - رسالة من لسان الدين إلى أبي سالم] وكان تقدم من لسان الدين كتاب للسلطان المذكور وكان ما سبق من كتاب السلطان جواباً له وذلك بعد رجوع لسان الدين من مراكش واستقراره في مدينة سلا برباط شالة مدفن السلاطين من بني مرين ومنهم السلطان أبوالحسن والد السلطان أبي سالم المذكور ونص الكتاب (1) : " مولاي المرجولإتمام الصنيعة وصلة النعمة وإحراز الفخر أبقاكم الله تعالى تضرب بكم الأمثال في البر والرضى وعلوالهمة ورعي الوسيلة مقبل موطئ قدمكم المنقطع الى تربة المولى والدكم ابن الخطيب من الضريح المقدس بشالة وقد حط رحل الرجاء في القبة المقدسة وتذمم (2) بالتربة الزكية وقعد بإزاء لحد المولى أبيكم ساعة إيابه من الوجهة المباركة وزيارة الربط المقصودة والترب المعظمة وقد عزم ألا يبرح طوعاً من هذا الجوار الكريم والدخيل المرعي حتى يصله من مقامكم ما يناسب هذا التطارح على قبر هذا المولى العزيز على أهل الأرض ثم عليكم والتماس شفاعته في أمر سهل عليكم لا يجر إنفاد مال ولااقتحام خطر إنما هوإعمال لسان وخط بنان وصرف عزم وإحراز فخر وأجر وإطابة ذكر وذلك أن العبد عرفكم يوم وداعكم أنه ينقل عنكم الى المولى المقدس بلسان المقال ما يحضر مما يفتح الله تعالى فيه ثم ينقل عنه لكم بلسان الحال ما يتلقى عنه من الجواب وقال لي صدر دولتكم وخالصتكم وخالصة المولى والدكم سيدي الخطيب يعني ابن مرزوق سنى الله تعالى أمله من سعادة مقامكم وطول عمركم أنت يا فلان والحمد لله ممن لا ينكر عليه الوفاء بهذين الفرضين وصدر عنكم من البشر والقبول والإنعام ما صدر جزاكم الله تعالى جزاء المحسنين.

_ (1) قارن بما ورد في الاستقصا 4: 24 وأزهار الرياض 1: 277. (2) الاستقصا: وتيمم.

" وقد تقدم تعريف مولاي بما كان من قيام العبد بما نقله إلى التربة الزكية عنكم حسبما أداه من حضر ذلك المشهد من خدامكم والعبد الآن يعرض عليكم الجواب وهوأني لما فرغت من مخاطبته بمرأى من الملأ الكبير والجم الغفير أكببت على اللحد الكريم داعياً ومخاطباً وأصغيت بأذني عند قبره وجعل فؤادي يتلقى ما يوحيه إليه لسان حاله فكأني به يقول لي: قل لمولاك يا ولدي وقرة عيني المخصوص برضاي وبري و [من] ستر حريمي ورد ملكي وصان أهلي وأكرم صنائعي ووصل عملي أسلم عليك وأسأل الله تعالى أن يرضى عنك ويقبل عليك الدنيا دار غرور والآخرة خير لمن اتقى: وما الناس إلا هالك وابن هالك (1) ... " ولا تجد إلا ما قدمت من عمل يقتضي العفووالمغفرة أوثناء يجلب الدعاء بالرحمة ومثلك من ذكر فتذكر وعرف فما أنكر وهذا ابن الخطيب قد وقف على قبري وتهمم بي وسبق الناس الى رثائي وأنشدني ومجدني وبكاني ودعا لي وهنأني بمصير أمري إليك وعفر وجهه في تربي وأملني لما انقطعت مني آمال الناس فلو كنت يا ولدي حياً لما وسعني أن أعمل معه إلا مايليق بي وأن أستقل فيه الكثير واحتقر العظيم لكن لما عجزت عن جزائه وكلته إليك وأحلته يا حبيب قلبي عليك وقد أخبرني أنه سليب المال كثير العيال ضعيف الجسم قد ظهر في عدم نشاطه أثر السن وأمل أن ينقطع بجواري ويستتر بدخيلي وخدمتي ويرد عليه حقه بخدمتي ووجهي ووجوه من ضاجعني من سلفي ويعبد الله تعالى تحت حرمتك وحرمتي وقد كنت تشوفت الى استخدامه في الحياة حسبما يعلمه حبيبنا الخالص المحبة وخطيبنا العظيم المزية القديم القربة أبوعبد الله ابن مرزوق فاسأله يذكرك

_ (1) صدر بيت لأبي نواس، وتمامه: " ذو نسب في الهالكين عريق ".

واستخبره يخبرك فأنا اليوم أريد أن يكون هذا الرجل خديمي بعد الممات الى أن نلحق جميعاً برضوان الله تعالى ورحمته التي وسعت كل شيء وله يا ولدي ولد نجيب يخدم ببابك وينوب عنه في ملازمة بيت كتابك وقد استقر بدارك قراره وتعين بأمرك مرتبه ودشاره (1) ، فيكون الشيخ خديم الشيخ والشاب خديم الشاب، هذه رغبتي منك وحاجتي إليك واعلم أن هذا الحديث لابد له أن يذكر ويتحدث به في الدنيا وبين أيدي الملوك والكبار فاعمل مل يبقى لك فخره ويتخلد ذكره وقد أقام مجاوراً ضريحي تالياً كتاب الله تعالى علي منتظراً ما يصله منك ويقرؤه علي من السعي في خلاص ماله والاحتجاج بهذه الوسيلة في جبره وإجراء ما يليق بك من الحرمة والكرامة والنعمة فالله الله يا إبراهيم اعمل ما يسمع عني وعنك فيه ولسان الحال أبلغ من لسان المقال؛ انتهى. " والعبد يا مولاي مقيم تحت حرمته وحرمة سلفه منتظر منكم قضاء حاجته ولتعلموا وتتحققوا أني لوارتكبت الجرائم ورزأت الأموال وسفكت الدماء وأخذت حسائف (2) الملوك الأعزة ممن وراء النهر من الططر وخلف البحر من الروم ووراء الصحراء من الحبشة وأمكنهم الله تعالى مني من غير عهد بعد أن بلغهم تذممي بهذا الدخيل ومقامي بين هذه القبور الكريمة ما وسع أحداً منهم من حيث الحياء والحشمة من الأحياء والأموات وإيجاب الحقوق التي لا يغفلها الكبار للكبار إلا الجود الذي لا يتعقبه البخل والعفوالذي لا تفسده المؤاخذة فضلاً عن سلطان الأندلس أسعده الله تعالى بموالاتكم فهوفاضل وابن ملوك أفاضل وحوله أكياس ما فيهم من يجهل قدركم وقدر سلفكم لاسيما مولاي والدكم الذي أتوسل به إليكم وإليهم فقد كان يتبنى مولاي أبا الحجاج ويشمله بكنفه وصارخه بنفسه وأمده بأمواله

_ (1) الدشار: المزرعة أو الأرض المستأجرة، والجمع دشر. (2) الحسائف: العداوات والضغائن.

ثم صير الله تعالى ملكه إليكم وأنتم من أنتم ذاتاً و؛ وقبيلاً فقد قرت يا مولاي عين العبد بما رأت في هذا الوطن المراكشي من وفور حشودكم وكثرة جنودكم وترادف أموالكم وعددكم زادكم الله تعالى من فضله؛ ولا شك عند عاقل أنكم إن انحلت عروة تأميلكم، وأعرضتم عن ذلك الوطن، استولت عليه يد عدوه. " وقد علم تطارحي بين الملوك الكرام الذين خضعت لهم التيجان، وتعلقي بثوب الملك الصالح والد الملوك الكرام مولاي والدكم، وشهرة حرمة شالة معروفة، وحاش لله أن يضيعها أهل الأندلس، وما توسل إليهم قط بها إلا الآن، وما يجهلون اغتنام هذه الفضيلة الغريبة، وأملي منكم أن يتعين من بين أيديكم خديم بكتاب كريم، يتضمن الشفاعة في رد ما أخذ لي، ويخبر بمثواي متراميا " على قبر والدكم ويقرر ما ألزمكم بسبب هذا الترامي من الضرورة المهمة والوظيفة الكبيرة عليكم وعلى قبيلكم حيث كانوا، وتطلبون منه عادة المكارمة بحل هذه العقدة، ومن المعلوم أني لو طلبت بهذه الوسائل من صلب....ما وسعهم بالنظر العقلي إلا حفظ الوجه مع هذا القبيل وهذا الوطن، فالحياء والحشمة يأبيان العذر عن هذا في كل ملة ونحلة. " وإذا تم هذا الغرض ولا شك في إتمامه بالله تعالى تقع صدقتكم على القبر الكريم بي وتعينوني لخدمة هذا المولى وزيارته وتفقده، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المولد في جواره وبين يديه وهوغريب (1) مناسب لبركم به إلى أن أحج بيت الله بعناية مقامكم، وأعود داعياً مثنياً مستدعياً للشكر والثناء من أهل المشرق والمغرب، وأتعوض من ذمتي بالأندلس ذمة بهذا الرباط المبارك يرثها ذريتي، وقد ساومت في شيء من ذلك منتظراً ثمنه مما يباع بالأندلس بشفاعتكم، ولوظننت أنهم يتوقفون لكم في مثل هذا أو يتوقع فيه وحشة أو جفاء والله ما طلبته، لكنهم أسرى وأفضل، وانقطاعي أيضاً لوالدكم مما لا يسمع مجدكم إلا عمل ما يليق بكم فيه، وها أنا أرتقب جوابكم بما لي عندكم

_ (1) غريب: يعني أنه عمل بديع.

من القبول، ويسعني مجدكم في الطلب وخروج الرسول لاقتضاء هذا الغرض، والله سبحانه يطلع من مولاي على ما يليق به، والسلام. وكتب في الحادي عشر من رجب عام أحد وستين وسبعمائة. وفي مدرج الكتاب بعد نثر هذه القصيدة (1) : مولاي ها أنا في جوار أبيكا ... فابذل من البر المقدر فيكا أسمعه ما يرضيه من تحت الثرى ... والله يسمعك الذي يرضيكا واجعل رضاه إذا نهدت كتيبة ... تهدي إليك النصر أوتهديكا واجبر بجبري قلبه تنل المنى ... وتطالع الفتح المبين وشيكا فهو الذي سن البرور بأمه ... وأبيه فأشرع شرعه لبنيكا وابعث رسولك منذراً ومحذراً ... وبما تؤمل نيله يأتيكا قد هز عزمك كل قطر نازح ... وأخاف مملوكاً به ومليكا فإذا سموت إلى مرام شاسع ... فغصونه ثمر المنى تجنيكا ضمنت رجال الله منك مطالبي ... لما جعلتك في الثواب شريكا فلئن كفيت وجوهها في مقصدي ... شطر ورعيتها بركاتها تكفيكا وإذا قضيت حوائجي وأريتني ... أملاً فربك ما أردت يريكا واشدد على قولي يداً فهو الذي ... أملاً فربك ما أردت يريكا مولاي ما استأثرت عنك بمهجتي ... إني ومهجتي التي تفديكا لكن رأيت جناب شالة مغنماً ... يفضي علي العز في ناديكا وفروض حقك لا تفوت فوقتها ... باق إذا استجزيته يجزيكا ووعدتني وتكرر الوعد الذي ... أبت المكارم أن يكون أفيكا أضفى عليك ال ستر عناية ... من كل محذور الطريق يقيكا

_ (1) أزهار الرياض 1: 281.

ببقائك الدنيا تحاط وأهلها ... فالله جل جلاله يبقيكا فلما وصل الكاتب إلى السلطان أجابه بما مر آنفاً. ورأيت بخط الفقيه الأديب المؤرخ أبي عبد الله محمد بن الحداد الوادي آشي نزيل تلمسان على هامش قول ابن الخطيب في هذه الرسالة: " ولا شك عند عاقل أنكم إن انحلت عروة تأميلكم - إلخ " ما صورته: كذلك وقع آخر الأمر وكان الإستيلاء على مدينة غرناطة آخر ما بقي من بلاد الأندلس للإسلام في محرم عام سبعة وتسعين وثمانمائة، فرحم الله تعالى ابن الخطيب، العاقل اللبيب، وغفر له برحمته؛ انتهى. ومما خاطب به لسان الدين السلطان أبا سالم في الغرض المتقدم قوله: عن باب والدك الرضى لا أبرح ... يأسو الزمان لأجل ذا أويجرح ضربت خيامي في حماه فصبيتي ... تجني الجميم به وبهمي تسرح حتى يراعى وجهه في وجهي ... بعناية تشفي الصدور وتشرح أيسوغ عن مثواه سيري خائباً ... ومنابر الدنيا بذكرك تصدح أنا في حماه وأنت أبصر بالذي ... يرضيه منك فوزن عقلك أرجح في مثلها سيف الحمية ينتضى ... في مثلها زند الحفيظة يقدح وعسى الذي بدأ الجميل يعيده ... وعسى الذي سد المذاهب يفتح [ترجمة أبي سالم المريني] وقد عرف في الإحاطة بالسلطان أبي سالم فقال بعد كلام: أملاك المسلمين، وحماة الدين، وأمراء المغرب الأقصى من بني مرين، غيوث المواهب وليوث العرين، ومعتمد الصريخ وسهام الكافرين، حفظ الله تعالى على الإسلام والمسلمين ظلهم، وزين ببدور الدنيا والدين هالتهم، وأبقى الكلمة فيمن اختاره منهم أو من

أقاربهم، فما عسى أن يطنب اللسان في مدحهم وأين تقع العبارة وماذا (1) يحصر الوصف إلى أن قال: وفاته وفي ليلة العشرين من ذي القعدة (2) من عام اثنين وستين وسبعمائة (3) ثار عليه بدار الملك وبلد الإمارة المعروف بالبلد الجديد من مدينة فاس الخائن الغادر مخلفه عليها عمر بن عبد الله بن علي نسمة السوء، وجملة الشؤم، والمثل البعيد في الجراءة على الله تعالى، وقد اهتبل غيرة انتقاله إلى القصر السلطاني بالبلد القديم متحولاً إليه حذراً من قاطع (4) فلكي كان يحذر منه، استعجله بضعف نفسه، وأعانه على فرض صحة الحكم به، وسد الباب في وجهه، ودعا الناس إلى بيعة أخيه المعتوه، وأصبح حائراً بنفسه، ويروم ارتجاع أمر ذهب من يده، ويطوف بالبلد يلتمس وجهاً إلى نجاح حيلة، فأعياه ذلك، ورشقت من معه السهام، وفرت عنه الأجناد والوجوه، وأسلمه الدهر وتبرأ منه الجد، وعندما جن عليه الليل فر لوجهه، وقد التف عليه الوزراء، فسفهت حلومهم، وفالت آراؤهم، ولوقصدوا به بعض الجبال المنيعة لولوا أوجههم شطر مظنة الخلاص، واتصفوا بإبلاغ الأعذار، ولكنهم نكلوا عنه، ورجعوا أدراجهم وتسللوا راجعين إلى يد غادر الجملة، قد سلبهم الله سبحانه لباس الحياء والرجولية وتأذن الله تعالى لهم بعد بسوء العاقبة، وقصد بعض بيوت البادية وقد فضحه نهار الغد، واقتفى المتبعة أثره حتى وقعوا عليه، فسيق إلى مصرعه، وقتل بظاهر البلد ثاني اليوم الذي غدر به فيه، جعلها الله تعالى له شهادة ونفعه؛ فلقد كان (5) بقية البيت وآخر القوم دماثةً وحياء، وبعداً عن

_ (1) ق: وما. (2) ص: قعدة. (3) قال ابن الأحمر: وقتل رحمه الله تعالى وأنا، أنظر إليه وأتوجع وأبكي يوم الخميس 21 لذي القعدة سنة 762 وله سنة (روضة النسرين: 30) . (4) القاطع والقطع في مصطلح المنجمين ما يدل على نحس وخسارة. (5) انظر ازهار الرياض 1: 270.

الشرور، وركوناً للعافية، وأنشدت على قبره الذي ووريت به جثته بالقلعة ظاهر المدينة قصيدة أديت فيها بعض حقه: بني الدنيا بني لمع السراب ... " لدوا للموت وابنوا للخراب " انتهى المقصود من الترجمة. وكان يصف لسان الدين بمقربي وجليسي، كما سبقت الإشارة إليه من كلام لسان الدين فيما خاطب به ابن أبي رمانة والله يسبل على الجميع رداء عفوه سبحانه. وقد تقدم أنه شفع لابن الخطيب عند أهل الأندلس، ولذلك قال يخاطبهم: سمي خليل الله أحييت مهجتي ... وعجالني منك الصريخ على بعد فإن عشت أبلغ فيك نفسي عذرها ... وإن لم أعش فالله يجزيك من بعدي [ثناء المغاربة والمشارقة على لسان الدين] وقال الرئيس الأمير الأديب أبوالوليد إسماعيل ابن الأحمر في حق ابن الخطيب ما صورته (1) : هو شاعر الدنيا، وعلم المفرد والثنيا، وكاتب الأرض، إلى يوم العرض، لا يدافع مدحه في الكتب، ولا يجنح إلى العتب، آخرمن تقدم في الماضي، وسيف مقوله ليس بالكهام إذ هوالماضي، وإلا فانظر كلام الكتاب الأول من العصبة، كيف كان فيهم بالإفادة صاحب القصبة، للبراعة، باليراعة، وبه أسكت صائلهم، وما حمدت بكرهم وأصائلهم، للجزالة المشربة بالحلاوة، الممكنة من مفاصل الطلاوة، وهونفيس العدوتين ورئيس الدولتين، وبالإطلاع على العلوم العقلية، والإمتاع الفهوم النقلية، لكن

_ (1) هذا نص ما قاله في نثير فرائد الحمان 242 وانظر أزهار الرياض 1: 191.

صل لسانه في الهجاء لسع، ونجاد نطاقه في ذلك اتسع، حتى صدمني، وعلى القول فيه أقدمني، بسبب هجوه في ابن عمي ملك الصقع الأندلسي، سلطان ذلك الوطن في النفر الجنسي، المعظم في الملوك بالقول الجني والإنسي، ثم صفحت عنه صفحة القادر، الوارد من مياه الظفر غير القاذر، لأن مثلي لا يليق به إظهار العورات، ولا يجمل له تتبع العثرات، اتباعاً للشرع في تحريم الغيبة، وضرباً عن الكريهة وإثباتاً لحظوظ النقيبة الرغيبة، فما ضره لواشتغل بذنوبه، وتأسف على ما شربه من ماء اللهو بذنوبه (1) ، وقد قال بعض الناس: من تعرض للأعراض، صار عرضه هدفاً لسهام الأغراض؛ انتهى. ومثل هذا في لسان الدين لا يقدح، وما زالت الأشراف تهجى وتمدح (1) ، وعلى تقدير صدور ما يخدش وجه جنابه الرفيع، فالأولى أن ينشد: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع وممن أثنى على لسان الدين ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - بعض أكابر علماء تلمسان، ولم يحضرني الآن اسمه، في تأليف عرف فيه بالشيخ العلامة سيدي أبي عبد الله الشريف التلمساني وابنيه العالمين أبي يحيى وسيدي عبد الله، فقال بعد كلام في حق الشريف ما نصه: وكان علماء الأندلس أعرف الناس بقدره، وأكثرهم تعظيماً له حتى إن العالم الشهير لسان الدين ابن الخطيب صاحب الأنباء العجيبة، والتآليف البديعة، كلما ألف تأليفاً بعثه إليه، وعرضه عليه، وطلب أن يكتب عليه بخطه، وكان الشيخ الإمام الصدر المفتي أبوسعيد ابن لب شيخ علماء الأندلس وآخرهم كلما أشكلت عليه مسألة كاتبه بها، وطلب منه بيان ما أشكل عليه، مقراً له بالفضل؛ انتهى ما نقلته من الكتاب المذكور.

_ (1) الذنوب: الدلو. (1) الذنوب: الدلو.

رجع: وكتب لسان الدين ابن الخطيب متمثلاً بشيخه الأوحد قاضي الجماعة أبي البركات ابن الحاج البلفيقي رحمهما الله تعالى (1) : أيتها النفس إليه اذهبي ... فحبه المشهور من مذهبي أيأسني التوبة من حبه ... طلوعه شمساً من المغرب ويغلب على ظني أنه خاطبه بذلك عند قدومه، أعني لسان الدين، من المغرب إلى الأندلس، والله تعالى أعلم. وكان قاضي القضاة برهان الدين الباعوني الشامي (2) ، كثير الثناء على لسان الدين رحمه الله تعالى، لأنه تلقى أخباره من قاضي القضاة ابن خلدون حسبما ذكرناه في غير هذا الموضع، ولقد رأيت بخطه على هامش بعض تآليف لسان الدين في الإنشاء ما نصه: هذا بليغ إلى الغاية؛ انتهى. وكتب أثره بعض أكابر علماء المشرق ما نصه: هذا خط العلامة قاضي القضاة برهان الدين الباعوني، وهوشديد الاعتناء والمدح للمصنف ابن الخطيب الأندلسي، معظم له ولإنشائه، وهو خليق بالتعظيم، جدير بمزيد التمجيد والتكريم، وكيف لا وهوشاعر مفلق، وخطيب مصقع، وكاتب مترسل بليغ، لولا ما في إنشائه من الإكثار، الذي لا يكاد يخلومن عثار، والإطناب، الذي يفضي إلى الاجتناب والإسهاب، الذي يقد الإرهاب، ويورث الالتهاب؛ انتهى.

_ (1) قد تقدم القول في البيتين ونسبتهما ج 4: 14؛ 5: 348، 482. (2) هو إبراهيم بن أحمد الباعوني (- 870) الصفدي المولد الدمشقي الدار، كان ينعت بقاضي القضاة مع أنه رفض تولي القضاء، وله ديوان شعر ومؤلفات أخرى (الضوء اللامع 1: 26 والبدر الطالع 1: 8 ونظم العقيان: 13) .

رجع إلى ما كان بصدده:

قلت: وهذا الانتقاد غير مسلم، فإن لسان الدين وإن أطنب وأسهب، فقد سلك من البلاغة أحسن مذهب، ويرحم الله تعالى العلامة البرهان الباعوني المذكور أعلاه، إذ كتب بخطه في آخر بعض تآليف لسان الدين في الإنشاء ما صورته: قال كاتبه إبراهيم بن أحمد الباعوني لطف الله تعالى به: الحمد لله على ما ألهم من البيان وعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم، وقفت على هذا الكتاب من أوله إلى أخره، وعمت من بحر بلاغته في زاخره، وعددته من مناقب مؤلفه ومفاخره، فإنه برز في غاية التبريز، وأتى بما هوأحسن من الذهب الإبريز، لا بل هوأبهى من الجواهر، والنجوم الزواهر، وعجبت من تلك الألفاظ المشبهة لسحر الألحاظ ورقة المعاني، المحكمة المباني؛ انتهى. فأنظر أيدك الله تعالى بعين الإنصاف إلى كلام هذا الفاضل، المنصف الكامل، وقسه مع كلام ذلك المنتقد المتعصب الناقص الحامل، مع أن الكلام الذي تعرض له ذاك بالقدح، هوالذي تصدى له الباعوني بالمدح، وكل إناء بالذي فيه ينضح، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل أهل الفضل، والأمر أجلى من أن، يقام عليه دليل وأوضح. رجع إلى ما كان بصدده: وقال الوزير ابن عاصم عندما أجرى ذكر سلطان ابن الخطيب أمير المسلمين الغني بالله بعد كلام كثير ما صورة محل الحاجة منه: وكان هذا السلطان من نيل الأغراض على أكمل ما يكون عليه مثله ممن نزع غرقاً في قوس الخلافة، حكى لي شيخنا القاضي أبوالعباس الحسني ان كبير ولده الأمير أبا الحجاج طلب من الشيخ ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب أن يطلب من أبيه الغني بالله أن يبادر بإعذاره، إذ كان قد جاوز سن الإثغار، دون إعذار، لمكان ما لحق والده من التمحيص وغير ذلك من الحوادث المهمة، فأسعده الشيخ بذلك، وقال

للغني بالله: يا مولانا إن سيدي يوسف وكلني على طلب إعذاره من مولانا نصره الله على ما يليق بك وبه، فقال له الغني بالله: حسبي الله، وسكت سكتة لطيفة تشعر بفصل الكلام بعضه من بعض، ثم قال: ونعم الوكيل! فعدها الأكياس من مدارك نبله، ومحاسن قوله وفعله؛ انتهى. قلت: هذا من السلطان في حق لسان الدين غاية التبجيل، أعني قوله " ونعم الوكيل " فأين هذا من سماع كلام أعدائه فيه بعد، حتى آل أمره إلى النحس بعد ذلك السعد وسقاه دهره بعد الحلاوة ما مر، ولم يكن قتله إلا بتسبب السلطان المذكور كما مر: ثلاثة ليس لها أمان ... البحر والسلطان والزمان [5 - رسالة ابن خاتمة إلى لسان الدين] وقال لسان الدين رحمه الله تعالى (1) : ولما قضى الله عز وجل بالإدالة، ورجعنا إلى أوطاننا من العدوة واشتهر عني ما اشتهر من انقباض عن الخدمة والتيه على السلطان والدولة، والتكبر على أعلى رتب الخدمة، وتطارحت على السلطان في استنجاز وعد الرحلة، ورغبت في تبرئة الذمة، ونفرت عن الأندلس بالجملة، خاطبني يعني أبا جعفرابن خاتمة بعد صدر بلغ من حسن الإشارة وبراعة الاستهلال الغاية بقوله: وإلى هذا يا سيدي ومحل تعظيمي وإجلالي، أمتع الله تعالى الوجود بطول بقائكم، وضاعف في العز درجات ارتقائكم، فإنه من الأمر الذي لم يغب عن رأي العقول، ولا اختلف فيه أرباب المعقول، أنكم بهذه الجزيرة شمس أفقها، وتاج مفرقها، وواسطة سلكها، وطراز ملكها وقلادة نحرها، وفريدة دهرها، وعقد جيدها المنصوص، وتمام

_ (1) انظر الإحاطة 1: 124 وأزهار الرياض 1: 265.

زينتها على العموم والخصوص، ثم أنتم مدار أفلاكها، وسر سياسة أملاكها وترجمان بيانها ولسان إحسانها وطب مارستانها والذي عليه عقد إدارتها وبه قوام إمارتها فلديه يحل المشكل وإليه يلجأ في الأمر المعضل فلا غروأن تتقيد بكم الأسماع والأبصار وتحدق نحوكم الأذهان والأفكار ويزجر عنكم السانح والبارح ويستنبأ ما تطرف عنه العين وتختلج الجوارح استقراء لمرامكم واستطلاعاً لطالع اعتزامكم واستكشافاً عن مرام سهامكم لاسيما مع إقامتكم على جناح خفوق وظهوركم في ملتمع بروق واضطراب الظنون فيكم مع الغروب والشروق حتى تستقر بكم الديار ويلقي عصاه التسيار ولها العذر في ذلك إذ صدعها بفراقكم لم يندمل وسرورها بلقائكم لم يكتمل ولم يبرأ بعد جناحها المهيض ولا جم ماؤها المغيض ولا تميزت من داجيها لياليها البيض ولا استوى نهارها ولا تألفت أنهارها ولا اشتملت نعماؤها ولانسيت غماؤها بل هي كالناقه والحديث العهد بالمكاره يستشعر نفس العافية ويتمسح منكم باليد الشافية فبحنانكم عليها وعظيم حرمتكم على من لديها لا تشوبوا لها عذب المجاج بالأجاج وتفطموها عما عودت من طيب المزاج فما لدائها وحياة قربكم غير طبكم من علاج. " وإني ليخطر بخاطري محبة فيكم وعناية بما يعنيكم ما نال جانبكم صانه الله تعالى بهذا الوطن من الجفاء ثم أذكر ما نالكم من حسن العهد وكرم الوفاء وأن الوطن إحدى المواطن الأظآر التي يحق لهن جميل الاحتفاء وما يتعلق بكم من حرمة أولياء القرابة وأوداء الصفاء فيغلب على ظني أنكم لحسن العهد أجنح وبحق نفسكم عن حق أوليائكم أسمح وللتي هي أعظم قيمةً من فضائلكم أوهب وأسجح وهب أن الدر لا يحتاج في الإثبات إلى شهادة النحور واللبات والياقوت غني في المكان عن مظاهرة القلائد والتيجان أليس أنه أعلى للعيان وأبعد عن مكابرة البرهان تألقها في تاج الملك أنوشروان فالشمس وإن كانت أم الأنوار وجلاء الأبصار مهما أغما مكانها من الأفق

قيل: " أليل هو أم نهار وكما في علمكم ما فارق ذووالأرحام وأولوالأحلام مواطن استقرارهم وأماكن قرارهم إلا برغمهم واضطرارهم واستبدال دار خير من دارهم ومتى توازن الأندلس بالمغرب أويعوض عنها إلا بمكة أويثرب ما تحت أديمها أشلاء أولياء وعباد وما فوقه مرابط جهاد ومعاقد ألوية في سبيل الله ومضارب أوتاد ثم يبوأ ولده مبوأ أجداده ويجمع له بين طارفه وتلاده أعيذ أنظاركم المسددة من رأيٍ فائل وسعي طويل لم يحل منه بطائل فحسبكم من هذا الإياب السعيد والعود الحميد "؛ وهي طويلة. [6 - من لسان الدين إلى ابن خاتمة] قال لسان الدين رحمه الله تعالى: فأجبته بقولي (1) : لم في الهوى العذري أو لا تلم ... فالعذل لا يدخل أسماعي شأنك تعنيفي وشأني الهوى ... كل امرئ في شأنه ساعي أهلا بتحفة القادم وريحانة المنادم وذكر الهوى المتقادم لا يصغر الله مسراك فما أسراك لقد جبت إلي من همومي ليلاً وجست رجلا وخيلا ووفيت من صاع الوفاء كيلا وظننت بي الأسف على ما فات فأعملت الالتفات، لكيلا (2) ، فأقسم لو أن الأمر اليوم بيدي أوكانت اللمة السوداء من عددي ما أفلت ما أشراكي المنصوبة لأمثالك (3) حول المياه وبين السالك وما علمت هنالك لكنك طرقت حمىً كسعته الغارة العشواء وغيرت

_ (1) الإحاطة 1: 126 والأزهار 1: 267. (2) هذا من الاكتفاء، فهو يشير إلى الآية الكريمة " لكي لا تأسوا على ما فاتكم ... الآية ". (3) نثر بيت الشريف الرضي: لو كانت اللمة السوداء من عددي ... يوم الغميم لما افلت أشراكي

ربعه الأنواء فخمد بعد ارتجاجه وسكت أذين دجاجه وتلاعبت الرياح الهوج فوق فجاجه وطال عهده بالزمن الأول وهل عند رسم دارس من معول وحيا الله ندباً إلى زيارتي ندبك وبآدابه الحكيمة أدبك: فكان وقد أفاد بك الأماني ... كمن أهدى الشفاء إلى العليل وهي شيمة بوركت من شيمة وهبة الله تعالى قبله من لدن المشيمة ومن مثله في صلة رعي وفضل سعي وقول وعي (1) : قسماً بالكواكب ال ... زهر والزهر عاتمه إنما الفضل ملةٌ ... ختمت بابن خاتمه كساني حلة فضله وقد ذهب زمان التجمل وحملني شكره وكتدي واه عن التحمل ونظرني بالعين الكليلة عن العيب فهلا أجاد التأمل واستطلع طلع نثي (2) ووالى في مبرك المعجزة حثي {إنما أشكو بثي} ولوترك القطا ليلاً لناما (3) ... وما حال شمل وتده مفروق وقاعدته فروق وصواع بني أبيه مسروق وقلب قرحه من عضة الدهر دامٍ وجمرة حسرته ذات احتدام هذا وقد صارت الصغرى التي كانت الكبرى لمشيب لم يدع أن هجم لما نجم ثم تهلل عارضه وانسجم: لا تجمعي هجراً علي وغربةً ... فالهجر في تلف الغريب سريع

_ (1) ق ص: ومرعى. (2) النث: ما يذيعه المرء من سر. (3) من أمثالهم؛ وصدره: " ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا " يريد أن وراء إثارة القطا في الليل أمرا رهيبا. انظر فصل المقال: 305 - 306.

نظرت فإذا [الجنب ناب، و] (1) النفس فريسة ظفر وناب والمال أكيلة انتهاب والعمر رهن ذهاب واليد صفر من كل اكتساب وسوق المعاد مترامية والله سريع الحساب: ولونعطى الخيار لما افترقنا ... ولكن لاخيار مع الزمان وهب أن العمر جديد وظل الأمن مديد ورأي الاغتباط بالوطن سديد فما الحجة لنفسي إذا مرت بمطارح جفوتها وملاعب هفوتها ومثاقف قناتها ومظاهر عزاها ومناتها والزمان ولود وزناد الكون غير صلود: وإذا امرؤ لدغته أفعى مرةً ... تركته حين يجر حبلٌ يفرق (2) ثم إن المرغب قد ذهب والدهر قد استرجع ما وهب والعارض قد اشتهب وآراء الاكتساب مرجوحة مرفوضة وأسماؤه على الجوار مخفوضة والنية مع الله على الزهد فيما بأيدي الناس معقودة والتوبة بفضل الله عز وجل منقودة والمعاملة سامرية ودروع الصبر سابرية والاقتصاد قد قرت العين بصحبته والله قد عوض حب الدنيا بمحبته فإذا راجعها مثلي من بعد الفراق وقد رقى لدغتها ألف راق وجمعتني بها الحجرة ما الذي تكون الأجرة جل شاني وإن رضي الوامق وسخط الشاني إني إلى الله تعالى مهاجر وللعرض الأدنى هاجرولأظعان السرى زاجر لنجد إن شاء الله تعالى وحاجر لكن دعاني للهوى إلى هذا المولى المنعم هوى خلعت نعلي الوجود وما خلعته وشوقي أمرني فأطعته وغالب ٌ والله صبري فما استطعته والحال أغلب وعسى أن لا يخيب المطلب فإن يسر رضاه فأمر كمل وراحل احتمل وحادٍ أشجى الناقة والجمل وإن كان خلاف ذلك فالزمان جم العلائق والتسليم

_ (1) انفردت بها ص، ووردت في المصدرين المذكورين. (2) البيت لصالح بن عبد القدوس (تاريخ بغداد 9: 304) .

بمقامي لائق: ما بين غمضة عين وانتباهتها ... يصرف الأمر من حال إلى حال وأما تفضيله هذا الوطن ليمن طيره وعموم خيره وبركة جهاده وعمران رباه ووهاده بأشلاء عباده وزهاده حتى لايفضله إلا أحد الحرمين فحقٌ برئ من المين لكنني للحرمين جنحت وفي جوالشوق إليهما سنحت فقد أفضت إلى طريق قصدي محجته ونصرتني والمنة لله تعالى حجته وقصد سيدي أسنى قصد توخاه الحمد والشكر ومعروف عرف به النكر والآمال من فضل الله بعد تمتار والله تعالى يخلق ما يشاء ويختار ودعاؤه بظهر الغيب مدد وعدة وعدد وبره حالي الظعن والإقامة معتمل معتمد ومجال المعرفة بفضله لا يحصره أمد والسلام؛ انتهى. ومن خط ابن الصباغ ما صورته يكفي ابن خاتمة الغاية التي سلمها له إمام الطريقة وواحدها الفذ على الحقيقة حيث قال: إنما الفضل ملةٌ ... ختمت بابن خاتمه ومن نظمه وقد تخلى عن الكتابة وطلب منه أن يعود فأبى وأنشد: تقضى في الكتابة لي زمانٌ ... كشأن العبد ينتظر الكتابه فمن الله من عتقي بما لا ... يطيق الشكر أن يملا كتابه وقالوا هل تعود فقلت كلا ... وهل حر يعود إلى الكتابه فانظر حسن هذه التورية العجيبة؛ انتهى. [رسالة ابن خاتمة إلى ابن جزي] ولابن خاتمة يخاطب ابن جزي: يا أخي الذي سما وده أن يجازى

وسيدي الذي علا مجده عن أن يوازى وصل الله تعالى لك أسباب الاعتلاء والاعتزاز وكافأ ما لك من الاختصاص بالفضائل والامتياز أما إنه لووسع التخلف عن جواب أخ أعز ولم يجب التكلف عمن قد عجز لغطيت عجزي عن عين تعجيزك ولما تعاطيت المثول بين يدي مناهزك أومجيزك لكنه في حكم الود المكنون المكنوز مما لايحل ولا يجوز فلكم الفضل في الإغضاء عن عاجز دعاه حكم التكلف الى القيام مقام مناجز وإن لم يكن ذلك عند الإنصاف وحميد الأوصاف من السائغ الجائز فعن جهد ما بلغ وليك إلى هذه الأحواز ولم يحصل الحقيقة إلا على المجاز أما ما ذهبتم إليه من تخميس القصيدة التي أعجزت وبلغت من البلاغة الغاية التي عزت مناهضتها وأعوزت فلم أكن لأستهدف ثانية لمضاضة الإعجاز وأسجل على نفسي بالإفلاس والإعواز؛ انتهى. وكتب قبلها قصيدة زائية أجابه بها عن قصيدة زائية التزم فيها ابن جزي ترك الراء لأنه كان ألثغ يبدلها غيناً رحم الله تعالى الجميع. وقال لسان الدين فبترجمة ابن خاتمة المذكور (1) : " إنه الصدر المتفنن المشارك القوي الإدراك السديد النظر الثاقب الذهن الكثير الاجتهاد الموفور الأدوات المعين الطبع الجيد القريحة الذي هوحسنة من حسنات الأندلس أحمد بن علي خاتمة من أهل المرية. [7 - رسالة من ابن خاتمة إلى لسان الدين] إلى أن قال: ومما خاطبني به بعد إلمام الركب السلطاني ببلده وأنا صحبته، ولقائه إياي بما يلقى به مثله من تأنيس وبر، وتودد وتردد: يا من حصلت على الكمال بما رأت ... عيناي منه من الجمال الرائع

_ (1) انرظ الإحاطة 1: 114، 116.

قمر يروق وفي عطافي برده ... ما شئت من كرم ومجد بارع أشكو إليك من الزمان تحاملاً ... في فض شمل لي بقربك جامع هجم البعاد عليه ضناً باللقا ... حتى تقلص مثل برق لامع فلو أنني ذومذهب لشفاعة ... ناديته يا مالكي يا شافعي " شكواي إلى سيدي ومعظمي أقر الله تعالى بسنائه أعين المجد، وأدر بثنائه ألسن الحمد شكوى ظمآن صد عن القراح العذب لأول وروده، والهيمان رد عن استرواح القرب لمعضل صدوده، من زمان هجم علي بإبعاده، على حين إسعاده، ودهمني بفراقه، غب إنارة أفقي به وإشراقه، ثم لم يكفه ما اجترم في ترويع خياله الزاهر، حتى حرم عن تشييع كماله الباهر فقطع عن توفية حقه، ومنع من تأدية مستحقه، لا جرم أنه أنف لشعاع ذكائه، من هذه المطالع النائية (1) عن شريف الإنارة، وبخل بالإمتاع بذكائه، عن هذه المسامع النائية عن لطيف العبارة، فراجع أنظاره، واسترجع معاره، وإلا فعهدي بغروب الشمس إلى الطلوع، وأن البدر يتصرف بين الإقامة والرجوع، فما بال هذا النير الأسعد، غرب ثم لم يطلع من الغد، ما ذاك إلا لعدوى الأيام وعدوانها، وشأنها في تغطية إساءتها وجه إحسانها، وكما قيل: عادت هيف إلى أديانها، أستغفر الله ألا يعد ذلك من المغتفر، في جانب ما أولت من الأثر، التي أزرى العيان فيها بالأثر، وأربى الخبر على الخبر، فقد سرت متشوفات الخواطر، وأقرت مستشرفات النواظر، بما حوت من ذلكم الكمال الباهر، والجمال الناضر، الذي قيد خطا الأبصار، عن التشوف والاستبصار، وأخذ بأزمة القلوب، عن سبيل كل مأمول ومرغوب، وأنى للعين، بالتحول عن كمال الزين أوبالطرف، بالتنقل عن خلال الظرف أوللسمع من مراد، بعد

_ (1) ق: النابية.

ذلكم الإصدار الأدبي والإيراد، أوللقلب من مراد غير تلكم الشيم الرافلة من ملابس الكرم في حلل وأبراد، وهل هوإلا الحسن جمع في نظام، والبدر طالع لتمام، وأنواع الفضل ضمها جنس اتفاق والتئام، فما ترعى العين منه في غير مرعى ًخصيب، ولا تستهدف الأذن بغير سهم في حدق البلاغة مصيب، ولا تستطلع النفس سوى مطلع له في الحسن والإحسان أوفر نصيب، لقد أزرى بناظم حلاه فيما يتعاطاه التقصير، وانفسح مدى علاه بكل باع قصير، وسفه حلم القائل إن الإنسان عالم صغير، شكراً للدهر على يد أسداها بقرب مزاره، وتحفة أهداها بمطلع أنواره، على تغاليه في ادخار نفائسه وبخله بنفائس ادخاره، لا غروأن يضيق عنا نطاق الذكر، ولا يتسع لنا سوار الشكر، فقد عمت هذه الأقطار بما شاءت من تحف بين تحف وكرامة، واجتنت أهلها ثمار الرحلة في ظل الإقامة، وجرى لهم الأمر في ذلك مجرى الكرامة. " ألا وإن مفاتحتي لسيدي ومعظمي حرس الله تعالى مجده، وضاعف سعده مفاتحة من ظفر من الدهر بمطلوبه، وجرى له القدر على وفق مرغوبه، فشرع له إلى أهله باباً، ورفع له من خجله جلباباً، فهويكلف بالاقتحام، ويأنف من الإحجام، غير أن الحصر عن درج قصده يقيده، والبصر يبهرج نقده فيقعده، فهو يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، ويجدد عزماً ثم لا يتحرى، فإن أبطأ خطابي فلواضح الأعذار، ومثلكم من قبل جليات الأقدار، والله سبحانه يصل لكم عوائد الإسعاد والإسعاف، ويحفظ بكم ما للمجد من جوانب وأكناف، إن شاء الله تعالى. وكتب في عاشر ربيع الأول عام ثمانية وأربعين وسبعمائة "؛ انتهى. ومن خاتمة رسالة من إنشاء ابن خاتمة المذكور: فلنصرف عنان البطالة عن الإطالة، ونسلم على السيادة الطاهرة الأصالة، بأطيب تسليم، ختامه مسك ومزاجه من تسنيم.

ومن نظم ابن خاتمة المذكور (1) : هو الدهر لا يبقي على عائذ به ... فمن شاء عيشاً يصطبر لنوائبه فمن لم يصب في نفسه فمصابه ... بفوت أمانيه وفقد حبائبه ومنه قوله: ملاك الأمر تقوى الله، فاجعل ... تقاه عدة لصلاح أمرك وبادر نحو طاعته بعزم ... فما تدري متى يقضى بعمرك [8 - رسالة أخرى من ابن خاتمة إلى لسان الدين] وقال لسان الدين: وكتب إلي يعني ابن خاتمة المذكور عقب انصرافه من غرناطة في بعض قدماته عليها ما نصه (2) : مما قلته بديهة عند الإشراف على جنابكم السعيد ودخوله مع النفر الذين أتحفتهم سيادتكم بالإشراف عليه، والدخول إليه، وتنعيم الأبصار في المحاسن المجموعة لديه، وإن كان يوماً قد غابت شمسه، ولم يتفق أن كمل أنسه، وأنشدته حينئذ بعض من حضر ولعله لم يبلغكم، وإن كان قد بلغكم ففضلكم يحملني في إعادة الحديث: أقول وعين الدمع نصب عيوننا ... ولاح لبستان الوزارة جانب أهذي سماء أم بناء سما به (3) ... كواكب غضت عن سناها الكواكب تناظرت الأشكال منه تقابلاً ... على السعد وسطى عقده والحبائب وقد جرت الأمواه فيه مجرة ... مذانبها شهب لهن ذوائب وأشرف من علياه بهو تحفه ... شماسي زجاج وشيها متناسب

_ (1) القطعتان في الإحاطة: 122 - 123. (2) المصدر لسابق: 123 والكتيبة: 244. (3) الإحاطة: سماؤه.

يطل على ماء به الآس دائراً (1) ... كما افتر ثغر أوكما اخضر شارب هنالك ما شاء العلا من جلالة ... بها يزدهي بستانها والمراتب ولما أحضر الطعام هنالك دعي شيخنا القاضي أبو البركات فاعتذر أنه صائم قد بيته من الليل، فحضرني أن قلت: دعونا الخطيب أبا البركات ... لأكل طعام الوزير الأجل وقد ضمنا في نداه جنان ... به احتفل الحسن حتى كمل فأعرض عنا لعذر الصيام ... وما كل عذر له مستقل فإن الجنان محل الجزاء ... وليس الجنان محل العمل وعندما فرغت من الطعام أنشدت الأبيات شيخنا أبا البركات، فقال لي: لوأنشدتنيها وأنتم بعد لم تفرغوا منه لأكلت معكم، براً بهذه الأبيات، والحوالة في ذلك على الله تعالى؛ انتهى. ومن نظم ابن خاتمة المذكور في فران: رب فران جلا صفحته ... لهب الفرن جلاء العسجد يضرم النار بأحشاء الورى ... مثلما يضرم في المستوقد فكأن الوجه منه خبزة ... فوقها الشعر كقدر أسود [أحمد بن صفوان] وقال لسان الدين رحمه الله تعالى (2) : ولما قدمت مالقة آيباً من السفارة إلى ملك المغرب محفوفا ًبفضل الله تعالى وجميل صنعه، موفى المآرب، مصحباً

_ (1) ق: دائر. (2) انظر ترجمة ابن صفوان في الإحاطة 1: 100 والطتيبة: 216.

بالإعانة، لقيني على عادته مهيناً، يعني أحمد بن صفوان أحد أعلام مالقة وبقية أدبائها وصدور كتابها، وأنشدني معيداً في الود مبدياً، وضمن غرضاً له تعجل قضاءه والحمد لله تعالى: قدمت بما سر النفوس اجتلاؤه ... فهنيت ما عم الجميع هناؤه قدوماً بخير وافر وعناية ... وعز مشيد بالمعالي بناؤه ورفعة قدر لا يداني محلها ... رفيع وإن ضاهى السماك اعتلاؤه بلغت الذي أملته من صلاحهم ... فأدركت مأمولاً عظيماً جزاؤه فيا واحداً أغنت عن الجمع ذاته ... وقام بأعباء الأمور غناؤه تشوقك الملك الذي بك فخره ... وأنت حقيقاً حسنه وبهاؤه فلا زال مزداناً بحليك جوده ... ولا زال موفوراً عليك اصطفاؤه وخصصت من رب العباد بنعمة ... ينيلكها تخصيصه واحتفاؤه وعشت عزيزاً في النفوس محبباً ... يلبي بتبجيل وبر نداؤه وقد جاءني داعي السرور مؤديا ... لحق هناء فرض عين أداؤه ولي بعد هذا مأرب متوقف ... على فضلك الرحب الجناب قضاؤه هززت له عطف البطرني راجياً ... له النجح فاستعصى وخاب رجاؤه ولم يدر أني من علائك منتض ... حساماً كفيلاً بالنجاح انتضاؤه يصمم إن هزته كفي لمعضل ... فيكفي العنا تصميمه ومضاؤه فحقق له دامت سعودك حرمتي ... لديك يرحني مطلة والتواؤه وشارك محباً خالصاً لك حبه ... قديماً كريماً عهده ووفاؤه وصل بجزيل الرعي حبل ذمامه ... يصلك جزيلاً شكره وثناؤه بقيت وصنع الله يدني لك المنى ... ويوليك من مصنوعه ما تشاؤه بحرمة من حقت سيادته على ... بني آدم والخير منه ابتداؤه

وجمعت (1) ديوان شعره أيام مقامي بمقالة عند توجهي صحبة الركاب السلطاني إلى إصراخ الخضراء عام أربعة وأربعين وسبعمائة، وقدمت صدره خطبة، وسميت الجزء " بالدررالفاخرة واللجج الزاخرة ". [9 - إجازة ابن صفوان للسان الدين] وطلبت منه أن يجزيني وولدي عبد الله رواية ذلك عنه، فكتب بخطه الرائق بظهر المجموع ما نصه: الحمد لله مستحق الحمد، أجبت سؤال الفقيه الأجل الأفضل السري الماجد الأوحد الأحفل الأديب البارع الطالع في أفق المعرفة والنباهة، والرفعة المكنية والوجاهة، بأبهى المطالع، المصنف الحافظ العلامة الحائز في فني النظم والنثر، وأسلوبي الكتابة والشعر، رتبة الرياسة والإمامة، محلي جيد العصر بتآليفه الباهرة الرواء، ومجلي محاسن بنيه الرائقة على منصة الإشادة والأنباء أبي عبد الله ابن الخطيب، وصل الله تعالى سعادته، وحرس مجادته، وسنى من الخير الأوفر، والصنع الأبهر، مقصده وإرادته، وبلغه في نجله الأسعد، وابنه الراقي بمحتده الفاضل ومنشئه الأطهر محل الفرقد، أفضل ما يؤمل نحلته إياه من المكرمات وإفادته، وأجزت له ولابنه عبد الله المذكور أبقاهما الله تعالى في عزة سنية الخلال، وعافية ممتدة الأفياء وارفة الظلال، رواية جميع ما تقيد في الأوراق المكتتب على ظهر أول ورقة منها من نظمي ونثري، ما توليت إنشاءه، واعتمدت بالارتجال والرواية اختياره وانتقاءه، أيام عمري، وجميع ما لي من تصنيف وتقييد، ومقطوعة وقصيد، وجميع ما أحمله عن أشياخي رضي الله تعالى عنهم من العلوم، وفنون المنثور والمنظوم، بأي وجه تأدى ذلك إلي، وصح حملي له وثبت إسناده لدي، إجازة تامة في ذلك كله عامة، على سنن الإجازات الشرعي، وشرطها

_ (1) الإحاطة: 105.

المأثور عند أهل الحديث المرعي، والله ينفعني وإياهما بالعلم وحمله، وينظمنا جميعاً في سلك حزبه المفلح وأهله، ويفيض علينا من أنوار بركته وفضله؛ قال ذلك وكتبه بخط يده الفانية العبد الفقير إلى الله الغني به أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صفوان، ختم الله تعالى له بخير، حامداً الله تعالى، ومصلياً ومسلماً على نبيه المصطفى الكريم، وعلى آله الطاهرين ذوي المنصب العظيم، وصحابته البررة أولي الأثرة والتقديم، في سادس ربيع الآخر عام أربعة وأربعين وسبعمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل؛ انتهى. [10 - من العذري إلى لسان الدين] وكتب الفقيه أبوجعفر ابن عبد الملك العذري من أهل سبتة إلى لسان الدين رحمه الله تعالى في بعض الأغراض: إني بمجدك لم أزل مستيقنا ... أن لا يهدم بالتغير ما بنى إذ أنت أعظم ماجد يعزى له ... صفح وأكرم من عفا عمن جنى وكتب أيضًا: إن كان دهري قد أساء وجارا ... فذمام مجدك لا يضيع جارا فلأنت أعظم ملجأ ينجي إذا ... ما الدهر أنجد موعداً وأغارا [11 - رسالة من لسان الدين إلى ابن نفيس] وقال لسان الدين رحمه الله تعالى: خاطبت الشيخ الشريف الفاضل أبا عبد الله ابن نفيس صحبة ثمن مسكن اشتريته منه، وكان قد أهداني فرسًا عتيقاً: جزيت يا ابن رسول الله أفضل ما ... جزى الإله شريف البيت يوم جزى

إن أعجز الشكر مني منة ضعفت ... عن بعض حقك شكر الله ما عجزا سيدي، أبقى الله شرفك تشهد به الطباع، إذا بعدت المعاهد المقدسة والرباع، وتعترف به الأبصار والأسماع، وإن جحدت عارضها الإجماع، بأي لسان أثني أم أي الأفنان أهصر وأجني أم أي المقاصد الكريمة أعني أمطيت جوادك المبارك، وأسكنت دارك، وأوسعت مطلبي اصطبارك، وهضمت حقك وبوأت جوارك، ووصلت للغرباء إيثارك، أشهد أنك الكريم ابن الكريم، لا أقف في تعدادها عند حد (1) إلى خير جد، فإن أعان الدهر على مجازاة، وإن ترفع كرمك عن موازاة، فحاجة نفس قضيت، وأحكام آمال أمضيت، وإن اتصل العجز فعين على القذى أغضيت، ومناصل عزم ما انتضيت، وعلى كل حال فالثناء ذائع والحمد شائع، واللسان والحمد لله طائع، والله مشتر ما أنت بائع (2) ، وقد وجهت لمن يحاول لسيدي ثمن ما اكتسبه مجده، وسفر عنه حمده، والعقيدة بعد التراضي، وكمال التقاضي، وحميد الصبر وسعة التغاضي، وكونه الخصم والقاضي، أنه هبة سوغها إنعامه، وأكلة هناها مطعامه، نسأل الله تعالى أن يعلي ذكره، ويتولى شكره، وينمي ماله، ويرفع قدره، والولد جاره الغريب الذي برز إلى مقارعة الأيام عن خبرة قاصرة، وتجربة غير منجدة على الدهر وناصرة، قد جعلته وديعة في كرم جواره، ووضعته في حجر إيثاره، فإن زاغ فيده العليا في تبصيره، ومؤاخذته بتقصيره، ومن نبه مثله نام، ومن استنام إليه بمهمة أكرم بمن إليه استنام، وإن تشوف (3) سيدي لحال محبه فمطلق للدنيا من عقال، ورافض أثقال، ومؤمل اعتياض بخدمة الله تعالى وانتقال "، انتهى.

_ (1) وهضمت ... عند حد: سقطت من ق. (2) والحمد ... بائع: سقطت من ق. (3) ق: تشوق.

[12 - من لسان الدين إلى ابن رضوان] وقال رحمه الله تعالى: مما خاطبت به صدر الفضلاء الفقيه المعظم أبا القاسم ابن رضوان بما يظهر داعيته من فحواه: مرضت فأيامي لديك مريضة ... وبرؤك مقرون ببرء اعتلالها فلا راع تلك الذات للضر رائع ... ولا وسمت بالسقم غر خلالها " وردت علي من فئتي التي إليها في معرك الدهر أتحيز، وبفضل فضلها في الأقدار المشتركة أتميز، سحاءة سرت وساءت، وبلغت من القصدين ما شاءت، أطلع بها سيدي صنيعة وده من شكواه على كل عابث في السويداء، موجب اقتحام البيداء، مضرم نار الشفقة في فؤاد لم يبق من صبره إلا القليل، ولا من إفصاح لسانه إلا الأنين والأليل، ونوى مدت الغير ضرورة يرضاها الخليل، فلا تسأل عن ضنين تطرقت اليد إلى رأس ماله، أوعابد نوزع متقبل أعماله، أوآمل ضويق في فذلكة آماله، لكنني رجحت دليل المفهوم على دليل المنطوق، وعارضت القواعد الموحشة بالفروق، ورأيت الخط يبهر والحمد لله تعالى ويروق، واللفظ الحسن تومض في حبره للمعنى الأصيل بروق، فقلت: ارتفع الوصب، ورد من صحة المغتصب، وآلة الحس والحركة هي العصب، وإذا أشرق سراج الإدراك دل على سلامة سليطه، والروح خليط البدن والمرء بخليطه، وعلى ذلك فلا يقنع بليد احتياطي إلا الشرح، ففيه يسكن الظمأ البرح، وعذراً عن التكليف فهومحل الاستقصاء والاستفسار، والإطناب والإكثار، وزند القلق في مثلها أورى، والشفيق بسوء الظن مغرى، وسيدي هوالعمدة التي سلمت لي الأيام فيها، وقالت: حسب آمالك ويكفيها، فكيف لا أشفق، ومن أنفق من عينه فأنا من عيني لا أنفق، والله لا يحبط سعيي في سؤال عصمتها ولا يخفق، ويرشد إلى شكره على ما وهب منها ويوفق، والسلام الكريم على سيدي البر الوصول

الذي زكت منه الفروع لما طابت الأصول، وخلص من وده لابن الخطيب المحصول، ورحمة الله تعالى وبركاته ". [13 - جواب ابن رضوان] قال: فراجعني حفظ الله سيادته بما نصه: متى شئت ألفي من علائك كل ما ... ينيل من الآمال خير منالها كبرء اعتلال من دعائك زارني ... وعادات بر لم ترم عن وصالها " أبقى الله ذلك الجلال الأعلى متطولاً بتأكيد البر، متفضلاً بموجبات الحمد والشكر، وردتني سحاءته المشتملة على معهود تشريفه، وفضله الغني عن تعريفه، متحفياً في السؤال، عن شرح الحال، ومعلناً بما تحلى به من كرم الخلال، والشرف العال، والمعظم على ما يسر ذلك الجلال الوزاري الرياسي أجراه الله تعالى على أفضل ما عوده، كما أعلى في كل مكرمة يده، ذلك ببركة دعائه الصالح، وحبه المخيم بين الجوانح، والله سبحانه المحمود على نعمه، ومواهب لطفه وكرمه، وهوسبحانه المسؤول أن يهيىء لسيدي قرار الخاطر، على ما يسره في الباطن والظاهر، بمن الله تعالى وفضله، والسلام الكريم على جلاله الأعلى ورحمة الله وبركاته، كتبه المعظم الشاكر الداعي الذاكر المحب ابن رضوان، وفقه الله تعالى، في ذي الحجة ختام عام واحد وستين وسبعمائة؛ انتهى. [14 - من لسان الدين إلى الجنان] وقال رحمه الله تعالى: وفاتحته - يعني الشيخ الجنان - محركاً قريحته ومستثيراً ما عنده، بقولي:

إن كانت الآداب أضحت جنة ... فلقد غدا جنانها الجنان أقلامه القضب اللدان بدوحها ... والزهر ما رقمته منه بنان وذكر بعد البيتين سجعاً بليغاً. [15 - جواب الجنان] ثم قال: فراجعني الجنان بما نصه: يا خاطب الآداب مهلاً فقد ... ردك عن خطبتها ابن الخطيب هل غيره في الأرض كفء لها ... وشرطها الكفاة قول مصيب أصبح للشرط بها معرساً ... فاستفت في الفسخ فهل من مجيب أيها السيد الذي يتنافس في لقائه ويتغالى، ويصادم بولائه صرف الزمان ويتعالى، وتستنتج نتائج الشرف بمقدمات عرفانه، وتقتنص شوارد العلوم بروايات كلامه فكيف بمداناة عيانه، جلوت علي من بنات فكرك عقائل نواهد، وأقمت بها على معارفك الجمة دلائل وشواهد، واقتنصت بشرك بديهتك من المعاني أوابد شوارد، وفجرت من بلاغتك وبراعتك حياضاً عذبة الموارد، ثم كلفتني من إجراء ظالعي (1) في ميدان ضليعها، مقابلة الشمس المنيرة بسراج عند طلوعها، فأخلدت (2) إخلاد مهيض الجناح، وفررت فرار الأعزل عن شاكي السلاح، وعلمت أني إن أخذت نفسي بالمقابلة، وأدليت دلوقريحتي للمساجلة كنت كمن كاف الأيام مراجعة أمسها، أو طلب ممن علته السماء محاولة لمسها وإن رضيت من القريحة بسجيتها، وأظهرت القدر الذي كنت امتحت من ركيتها، أصبحت مسخرة للراوين والسامعين، ونبت عن أسمى دواوينهم

_ (1) ق ص: طالعي. (2) ق ص: فأخذت.

كما تنبوعن الأشيب عيون العين، ثم إن أمرك يا سيدي لا يحل وثيق مبرمه، ولا يحل نسخ محكمه، فامتثلته امتثال من لم يجد في نفسه حرجاً من قضائك، ورجوت حسن تجاوزك وإغضائك، أبقاك الله تعالى قطباً لفلك المكارم والمآثر، وفصاً لخاتم المحامد والمفاخر، والسلام "؛ انتهى. [ترجمة ابن الجنان] والجنان المذكور (1) مغربي من مكناسة الزيتون، وهوالشيخ الفقيه العدل الأديب الأخباري المشارك، أبوجعفر أحمد بن محمد بن إبراهيم الأوسي، الجنان، من أهل الظرف والانطباع والفضيلة، كاتب عاقل ناظم ناثر مشارك في فنون العلم، له تصنيف حسن في ثلاث مجلدات سماه " المنهل المورود في شرح المقصد المحمود " شرح فيه وثائق أبي القاسم الجزيري المالكي، فأربى على غيره بياناً وإفادة، قال في " نفاضة الجراب ": وناولني إياه، وأذن لي في حملي عنه، وأنشدني كثيراً من شعره، فمن ذلك ما صدر به رسالة يهنىء بها ناقهاً من مرض (2) : البس الصحة برداً قشيباً ... وارشف النعمة ثغراً شنيبا واقطف الآمال زهراً نضيراً ... واعطف الإقبال غصناً رطيبا إن يكن ساءك وعك تقضى ... تجد الأجر عظيماً رحيبا فانتعش في دهرنا ذا سرور ... يصبح الحاسد منه كئيبا [مقطعات وقصائد تكتب على المباني] وقال أيضاً لسان الدين في النفاضة: قرأت بالدور الخشبي في الدار التي

_ (1) انظر ترجمته في نيل الابتهاج: 50. (2) الأبيات في المصدر المذكور.

نزلت بها بمكناسة الزيتون أبياتاً منقشة استحسنتها لسهولتها فأخبرني أنها من نظمه، وهي: انظر إلى منزل متى نظرت ... عيناك يعجبك كل ما فيه ينبىء عن رفعة لمالكه ... وعن ذكاء الحجى لبانيه يناسب الوشي في أسافله ... ما يرقم النقش في أعاليه كأنه روضة مدبجة ... جاد لها وابل بما فيه فأظهرت للعيون زخرفها ... ووافقتها على تجليه فهوعلى بهجة تلوح به ... ورونق للجمال يبديه يشهد للساكنين أن لهم ... من جنة الخلد ما يحاكيه قلت: قد تذكرت هنا، والشيء بالشيء يذكر، ما رأيته مكتوباً على دائرة مجرى الماء بمدرسة تلمسان التي بناها أمير المسلمين ابن تاشفين الزياني، وهي من بدائع الدنيا، وهو: انظر بعينك بهجتي وسنائي ... وبديع إتقاني، وحسن بنائي وبديع شكلي، واعتبر فيما ترى ... من نشأتي بل من تدفق مائي جسم لطيف ذائب سيلانه ... صاف كذوب الفضة البيضاء قد حف بي أزهار وشي نمقت ... فغدت كمثل الروض غب سماء وما أنشده بعض أهل العصر في المغرب بقصد أن يرسم في الأستار المذهبة المحكمة الصنعة التي جعلها السلطان المنصور أبوالعباس الشريف الحسني رحمه الله تعالى لكي يستر بها النواحي الأربع من القبة الكبيرة بالبديع، وتسمى هذه الستور عند أهل المغرب بالحائطي، ففي الجهة الأولى: متع جفونك من بديع لباسي ... وأدر على حسني حميا الكاس

هذي الربى والروض من جرعائها ... مما اغتذى (1) بالعارض البجاس أنى لروض أن يروق بهاؤه ... مثلي وأن يجري على مقياس فالروض تغشاه السوام، وإنما ... تأوي إلى كنفي ظباء كناس وعلى الجهة الثانية: من كل حسنا كالقضيب إذا انثنى ... تزري بغصن البانة المياس ولقد نشرت على السماك ذوائبي ... ونظرت من شزر إلى الكناس وجررت ذيلي بالمجرة عابثاً ... فخراً بمخترعي أبي العباس ما نيط مثلي في القبا ولا ازدهت ... بفتى سواه مراتب وكراسي وعلى الجهة الثالثة: ملك تقاصرت الملوك لعزه ... ورماهم بالذل والإتعاس غيث المواهب بحر كل فضيلة ... ليث الحروب مسعر الأوطاس فرد المحاسن والمفاخر كلها ... قطب الجمال أخوالندى والباس ملك إذا وافى البلاد تأرجت ... منه الوهاد بعاطر الأنفاس وعلى الجهة الرابعة: وإذا تطلع بدره من هالة ... يعشي سناه نواظر الجلاس أيامه غرر تجلت كلها ... أبهى من الأعياد والأعراس لا زال للمجد السني يشيده ... ويقيم مبناه على الآساس ما مال بالغصن النسيم وحببت ... درر الندى في جيده المياس وما أنشدنيه بعض العصريين من المغاربة لصاحبنا المرحوم الفقيه الكاتب

_ (1) في ص: علماً اغتذى؛ ق: على ما اغتدى.

المحقق أبي محمد بن أحمد المسفيوي المراكشي (1) أحد مشاهير الكتاب بباب أمير المؤمنين المنصور بالله أبي العباس الشريف الحسني ملك المغرب، صب الله تعالى على الجميع أمطار الرضوان مما كتب في بعض مباني صاحبنا الوزير العلامة الأجل سيدي عبد العزيز الفشتالي رحمه الله تعالى، وهو: أجل المعلى من قداح سروري ... وأدر كؤوس الأنس دون شرور خلعت على عطف البهاء محاسني ... فكست به الآفاق ثوب حبور وتناسق الوشي المفوف حلتي ... نسق الشذور على نحور الحور شأو القصور قصورها عن رتبة ... لي بالسنا الممدود والمقصور (2) في المبتنى المراكشي وأفقه ... أزرى على الزوراء والخابور أعلى مقامي البارع الأسمى الذي ... قد حاز سبق النظم والمنثور فإذا أقل بنانه أقلامه ... نفثت (3) عقود السحر بين سطور عبد العزيز أخ الجلالة كاتب ... سر الخليفة أحمد المنصور لا زال في يمن وأمن ما شدت ... ورق ورق بالندى ممطور وبعضه كتبته بالمعنى من حفظي لطول العهد، والغاية في هذا الباب ما أنشدنيه لنفسه الوزير أبو فارس عبد العزيز الفشتالي المذكور، وهي جملة من قصائد كتبت في المباني الملوكية، المنصورية بالحضرة المراكشية، حاطها الله تعالى، فمنها ما كتب خارج القبة الخمسينية أي التي فيها خمسون ذراعاً بالعمل، وذلك قوله رحمه الله تعالى على لسان القبة (4) :

_ (1) ترجم له المقري في روضة الآس: 163 وأورد جملة من شعره، وانظر درة الحجال 1: 128 وله قصائد في مناهل الصفا. (2) يريد: بالسنا (مقصوراً) وبالسناء (ممدوداً) . (3) ق: نقشت. (4) وردت القصيدة في روضة الآس: 138 - 139.

سموت فخر البدر دوني وانحطا ... وأصبح قرص الشمس في أذني قرطا وصغت من الإكليل تاجاً لمفرقي ... ونيطت بي الجوزاء في عنقي سمطا ولاحت بأطواقي الثريا كأنها ... نثير جمان قد تتبعته لقطا وعديت عن زهر النجوم لأنني ... جعلت على كيوان رحلي منحطا وأجريت من فيض السماحة والندى ... خليجاً على نهر المجرة قد غطى عقدت عليه الجسر للفخر فارتمت ... إليه وفود البحر تغرف ما أنطى تنضنض ما بين الغروس كأنه ... وقد رقرقت حصباؤه حية رقطا حواليه من دوح الرياض خرائد ... وغيد تجر (1) من خمائلها مرطا إذا أرسلت لدن الفروع وفتحت ... جنى الزهر لاح في ذوائبها وخطا يرنحها مر النسيم إذا سرى ... كما مال نشوان تشرب إسفنطا يشق رياضاً جادها الجود والندى ... سواء لديها الغيث أسكب أم أخطا وسالت بسلسال اللجين حياضه ... بحاراً غدا عرض البسيط لها شطا تطلع منها وسط وسطاه دمية ... هي الشمس لا تخشى كسوفاً ولا غمطا حكت وحباب الماء في جنباتها ... سنا البدر حل من نجوم السما وسطا إذا غازلتها الشمس ألقى شعاعها ... على جسمها الفضي نهراً بها لطا توسمت فيها من صفاء أديمها ... نقوشاً كأن المسك ينقطها نقطا إذا اتسقت بيض القباب قلادة ... فإني لها في الحسن درتها الوسطى تكنفني بيض الدمى فكأنها ... عذارى نضت عنها القلائد والريطا قدود ولكن زانها الحسن عريها ... وأجمل في تنعيمها النحت والخرطا نمت صعداً تيجانها فتكسرت ... قوارير أفلاك السماح بها ضغطا فيا لك شأواً بالسعادة آهلاً (2) ... بأكنافه رحل العلا والهدى حطا

_ (1) ص ق: تجرر، ولا يصلح للوزن. (2) ق ص: شأون ... آهل.

وكعبة مجد شادها العز فانبرت ... تطوف بمغناها أماني الورى شوطا ومسرح غزلان الصريم كناسها ... حنايا قباب لا الكثيب ولا السقطا فلكن به ما طاب لا الأثل والخمطا ... ووسدن فيه الوشي لا السدر والأرطى تراه من المسك الفتيت مدبراً ... إذا مازجته السحب عاد بها خلطا وإن باكرته نسمة سحراً سرى (1) ... إلى كل أنف عرف عنبره قسطا أقرت له الزهراء والخلد وانتقت ... أواوين كسرى الفرس تغبطه غبطا جناب رواق المجد فيه مطنب ... على خير من يعزى لخير الورى سبطا إمام يسير الدهر تحت لوائه ... وترسى سفان للعلا حيثما وطا وفتاح أقطار البلاد بفيلق ... يفلق هامات العدا بالظبى خبطا تطلع من خرصانه الشهب فانثنت ... ذوائب أرض الزنج من ضوئها شمطا كتائب نصر إن جرت لملمة ... جرت قبلها الأقدار تسبقها فرطا إذا ما عقدن راية علوية ... جعلن ضمان الفتح في عقدها شرطا فما للسما تلك الأهلة إنما ... سنابكها أبقت مثالاً بها خطا يطاوع أيدي المعلوات عنانها ... فيعتاض من قبض الزمان بها بسطا يد لأمير المؤمنين بكفها ... زمام يقود الفرس والروم والقبطا أدار جداراً للعلا وسرادقاً ... يحوط جهات الأرض من رعيه حوطا وقوله مما كتب ببهوها بمرمر أسود في أبيض (2) : لله بهو عز منه نظير ... لما زها كالروض وهو نضير رصفت نقوش حلاه رصف قلائد (3) ... قد نضدتها في النحور الحور فكأنها والتبر سال خلالها ... وشي وفضة تربها كافور

_ (1) روضة الآس: نسمة لسرى بها. (2) روضة الآس: 136. (3) ق: قلادة.

وكأن أرض قراره ديباجة ... قد زاد حسن طرازها تشجير وإذ تصعد نده نوءاً ففي ... أنماطه به نور به ممطور شأو القصور قصورها عن وصفه ... سيان فيه خورنقٌ وسدير فإذا أجلت اللحظ في جناباته ... يرتد وهو بحسنه محسور وكأن موج البركتين أمامه ... حركات سجفٍ صافحته دبور صفت بصفتها تماثل فضةٍ ... ملك النفوس بحسنها تصوير فتدير من صفوالزلال معتقاً ... يسري إلى الأرواح منه سرور ما بين آساد يهيج زئيرها ... وأساودٍ يسلي لهن صفير ودحت من الأنهار أرض زجاجةٍ ... وأظلها فلكٌ يضيء منير راقت فمن حصبائها وفواقعٍ ... تطفو (1) عليها اللؤلؤ المنثور يا حسنه من مصنعٍ فبهاؤه ... باهى نجوم الأفق وهي تنور وكأنما زهر الرياض بجنبه ... حيث التفت كواكبٌ وبدور ولدسته الأسمى تخير رصفه ... فخر الورى وإمامها المنصور ملكٌ أناف على الفراقد رتبةً ... وأقله فوق السماك سرير قطب الخلافة تاج مفرق دولة ... رميت بجحفلها اللهام الكور وجرى إلى أقصى العراق لرعيها (2) ... جيشٌ على جسر الفرات عبور نجل النبي ابن الوصي سليل من ... حقن الدماء وعف وهو قدير بحر الندى لكنه متموجٌ ... سيف العلا لكنه مطرور طودٌ يخف لحلمه ووقاره ... ولجيشه يوم النزال ثبير دامت معاليه ودام مجده ... طوقٌ على جيد العلا مزرور وتعاهدته عن الفتوح بشائرٌ ... يغدو عليه بها المسا وبكور

_ (1) ق والروضة: يطلفو. (2) الروضة: لرعيها.

ما دام منزل سعده يرقى به (1) ... نصرٌ يرف لواؤه المنشور ومشت (2) به مرحاً جياد مسرةٍ ... وأدار كأس الأنس فيه سمير وقوله مما كتب بداخل القبة المذكورة (3) : جمال بدائعي سحر العيونا ... ورونق منظري بهر الجفونا وقد حسنت نقوشي واستطارت ... سناً يعشي عيون الناظرينا وأطلع سمكي الأعلى نجوماً ... ثواقب لا تغور الدهر حينا وجوي من دخان الند ألقى ... على أرضي الغياهب والدجونا علوت دوائر الأفلاك سبعاً ... لذاك الدهر ما ألفت سكونا فصغت من الأهلة والحنايا ... أساور الخلاخل والبرينا تكنفني حياضٌ مائحاتٌ ... أمامي والشمال أو اليمينا يقيد حسنها (4) الطرف انفساحاً ... ويجري (5) الفلك فيها والسفينا تدافع نهرها نحوي فلما ... تلاقى البحر في جريٍ دفينا ترى شهب السماء بهن غرقى ... فتحسبها بها الدر المصونا وقد نشر (6) الحباب على سماها ... لآلىء تزدري العقد الثمينا فخرت وحق لي لما اجتباني ... لمجلسه أمير المؤمنينا هو المنصور حائز خصلٍ سبقٍ ... وباني المجد بنياناً مكينا وليث وغى إذا زأر امتعاضاً ... يروع زئيره هنداً وصينا إذا أمت كتائبه الأعادي ... بعثن برعبه جيشاً كمينا

_ (1) الروضة: يرتاده. (2) ق: وجرت. (3) روضة الآس: 135. (4) ص: جنحها. (5) ص: ويكري. (6) ق: نثر.

يدير عنهم من كل حربٍ ... تدقهم رحىً أو منجنونا إمام بالمغارب لاح شمساً ... بها الشرق اكتسى نوراً مبينا بقيت بذي القصور الغرّ بدراً ... تلوح بأفقهن مدى السنينا تحفّ بكم عواكف عند بابي ... ملائكة كرام كاتبونا لك البشرى أمير المؤمنين اد ... خلوها بسلام (1) آمنينا وقوله في بعض المباني المنصورية (2) : معاني الحسن تظهر في المغاني ... ظهور السحر في حدق الحسان مشابه في صفات الحسن أضحت ... تمت بها المغاني للغواني بكل عمود صبحٍ من لجينٍ ... تكون في استقامة خوط بان مفصلة القدود مثلثاتٍ ... مواصلة العناق من التداني تردت سابري الحسن يزري ... بحسن السابري الخسرواني وتعطو الخيزرانة من دماها ... بسالفة القطيع البرهماني لمجدك تنتمي لكن نماها ... إلى صنعاء ما صنع اليدان يدين لك ابن ذي يزنٍ ويعنو ... لها غمدان في أرض اليمان غدت حرماً ولكن حل فيها ... لوفدكم الأمان مع الأماني مبانٍ (3) بالخلافة آهلاتٌ ... بها يتلوالهدى السبع المثاني هي الدنيا وساكنها إمامٌ ... لأهل الأرض من قاصٍ وداني قصورٌ ما لها في الأرض شبهٌ ... وما في المجد للمنصور ثاني وقوله رحمه الله تعالى مما كتب في المصرية (4) المطلة على الرياض المرتفعة

_ (1) الروضة: مع سلامة. (2) روضة الآس: 133. (3) ق: منازل. (4) المصرية: منزل يبنى شبه علية.

على القبة الخضراء من بديع (1) المنصور وكان إنشاؤها في جمادى الأولى من عام خمسة وتسعين وتسعمائة (2) : باكر لدي من السرور كؤوسا ... وأرض النديم أهلةً وشموسا واعرج على (3) غر في المنيف سماؤها ... تلق الفراقد في حماي جلوسا وإذا طلعت بأوجها قمر العلا ... لا ترتضي غير النجوم جليسا شرق القصور بريقها لما اجتلت ... مني على بسط الرياض عروسا واعتضت بالمنصور أحمد ضيغماً ... ورداً تحيز من بديعي خيسا ملكٌ أرى كل الملوك ممالكاً ... لعلاه والدنيا عليه حبيسا دامت وفود السعد وهي عواكفٌ ... تصل المقيل لدي والتعريسا وهناك يا شرف الخلافة دولةٌ ... تلقى برايتها طلائع عيسى وقوله من جملة قصيدة من نمط ما تقدم لم أستحضر أولها (4) : سلبت تماثلها الحجى لما اغتدت ... تزهو بحسن طرازها تذهيبا ولقد تشامخ في العلو سماكها ... فجرى على الفلك المنير جنيبا وسما إلى الشهب الزواهر فاغتدى ال ... إكليل منها تاجها المعصوبا هذا البديع يعز شبه بدائعٍ ... أبدعتهن به فجاء غريبا أضنى الغزالة حسنه حسداً لذا ... أبدى عليها للأصيل شحوبا وانقضت الزهر المنيرة إذ رأت ... زهر الرياض به ينور عجيبا شيدتهن مصانعاً وصنائعاً ... أنجزن وعدك للعلا المرقوبا

_ (1) البديع: أحد المنشآت الثلاث التي بناها المنصور، والاثنتان الأخريان هما: المسرة والمشتهى. (2) روضة الآس: 134. (3) الروضة: إلى. (4) هذا ما قاله أيضاً في الروضة: 135 وزاد هنالك: " ولعلي أجد أولها إن شاء الله فألحقه بها " وانظر القصيدة في مناهل الصفا 2: 281.

وجريت في كل الفخار لغاية ... أدركتها أوما مسست لغوبا فانعم بملكك فيه دام مؤبداً ... تجني به فنن النعيم رطيبا وإليكها عذراء فكر أهديت ... وجعلت مدحك مهرها الموهوبا ونظمت من درر البلاغة عقدها ... ففدا يروق بجيدها ترتيبا ورفعتها لمقامكم تمشي على اس ... تحيا فيزعجها الولا ترغيبا فأتت على شرف لكم فتوقفت ... لما رأت ذاك الجلال مهيبا شفعت إليك بحب جدك أحمد ... لتنيلها منك الرضى المرغوبا دامت بك الدنيايروق جمالها ... وإلى القيامة أمركم مرهوبا وكلاكم الله العظيم كلاءةً ... يرعى بها خلفاً لكم وعقيبا [رسالة من الفشتالي إلى المؤلف] ومحاسن صاحبنا المذكور في النظم والنثر يضيق عنها هذا التأليف، وكنت أثبت منها جملة في غير هذا الموضع. ولما أحس بعزمي على الرحلة إلى الحجاز، واقتضائي من سلطان المغرب في وعده لي بها النجاز، كتب إلي من حضرة مراكش وأنا حينئذ بفاس، ما صورته بعد سطر الافتتاح: يا نسمة عطست بها أنف الصبا ... فتضمخت بعيرها قنن الربى هبي على ساحات أحمد واشرحي ... شوقي إلى لقياه شرحاً مطنبا وصفي له بالمنحنى من أضلعي ... قلباً على جمر الغضا متقلبا بان الأحبة عنه، حي قد توى ... منهم، وآخر قد نأى وتغيبا فعساك تسعد يا زمان بقربهم ... فأقول أهلاً باللقاء ومرحبا " السيادة التي سواها الله من طينة الشرف والحسب، وغرس دوحتها الطيبة بمعدن العلم الزاكي المحتد والنسب، سيادة العالم الذي تمشي تحت علم فتياه

العلماء الأعلام، وتخضع لفصاحته وبلاغته صيارفة النثر والنظام، وحملة الأقلام، كلما خط أوكتب، وإذا استطار بفكره الوقاد سواجع السجع انثالت عليه من كل أوكارها ونسلت من كل حدب، وحكت بانسجامها السيل والقطر في صبب، الفقيه العالم العلم، والمحصل الذي ساجلت العلماء لتدرك في مجال الإدراك شأوه فلم، سيدنا الفقيه الحافظ حامل لواء الفتيا، ومالك المملكة في المنقول والمعقول من غير شرط ولا ثنيا، أبوالعباس سيدي أحمد بن محمد المقري أبقاه الله تعالى للعلم يفتض أبكاره، ويجني من روضه اليانع ثماره، سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، كتبه المحب الشاكر عن ود راسخ العماد، ثابت الأوتاد مزهر الأغوار والأنجاد، ولا جديد إلا الشوق الذي تحن إلى لقياكم ركائبه وترتاح، وتحوم على مورد الأنس بكم حوم ذات الجناح على العذب القراح، جمع الله تعالى الأرواح المؤتلفة على بساط السرور وأسرة الهنا، وأتاح للنفوس من حسن محاضرتكم قطف المشتهى وهوغض الجنى. وقد اتصل بالمحب الودود الرقيم الذي راقت من سواد النقش وبياض الطرس شياته، وأرانا معجز أحمد فبهرت آياته، وخبا سقط الزند لما أشرقت من سماء فكركم آياته، فأطربنا بتغريد طيور همزاته على أغصان ألفاته، وعوذنا بالسبع المثاني بناناً أجادت نثر زهراته على صفحاته، ثم مررنا بتضاعيفه بسوق الرقيق، فرمنا السلوك على منحاها فعمي علينا الطريق، وقلنا: واهاً على سوق ابن نباتة وكساد رقيقها، واستلاب البهجة عن نفيس دررها وأنيقها، لا كسوق نفق فيها سوق الغزل، وعلا كعب الرامح الأعزل، وتضافر على سحر النفوس والألباب هاروت الجد وماروت الهزل، وقد ألقينا السلاح وجنحنا للسلم، وتهيأنا للسباحة فوقفنا بساحل اليم، وسلمنا لمن استوت به سفينة البلاغة على الجودي، فأبنا والحمد لله على السلامة بالفهاهة والعي، وقلنا، ما لنا وللإنشاء فهوفضل الله يؤتيه من يشاء. " وعذراً أيها الشيخ عن البيت الذي عطست به أنف الصبا فقذفت به البديهة

من الفم، وشرقت به صدر قناة القلم، كما شرقت صدر القناة من الدم. " وأما ما تحمل الرسول من كلام ن في صورة ملام، لا بل مدام، أترع به من سلاف المحبة كأس وجام، فلا وربك ما هي إلا نفحة نفحت، لا سموم لفحت ن هززنا بها جذع أدبكم كي يتساقط علينا رطباً جنياً ويهمي ودقه على الربع المحيل من أفكارنا وسمياً وولياً، فجاد وأروى، وأجاد فيما روى، وأحيا من القرائح ميتاً كان حديثاً يروى، وطرساً بين أنامل الأيام ينشر ويطوى، أحيا الله تعالى قلوبنا بمعرفته ونواسم رحمته، وعرج بأرواحنا عند الممات إلى المحل الأخص بالمؤمن من حضرته. وأهدي السلام، المزري بمسك الختام، إلى الفقيهين الأمجدين، الصدرين الأنجدين، الفذين التوأمين، الفاضلين المجيدين، فارسي البراعة واليراعة، ورئيسي الجماعة في هذه الصناعة، رضيعي لبان الأدب وواسطتي عقده، ومجيلي قدحه المعلى وموريي زنده، الممتعين بشميم عراره ورنده، الكارعين بالبحر الفياض من هزله وجده، الآتيين بالجنس والفصل من رسمه وجده، الكاتب البارع أبي الحسن سيدي علي ابن أحمد الشامي، والكاتب البليغ أبي عبد الله سيدي محمد بن علي الوجدي (1) ، وأقرر لهما الود المستحكم المعاقد، الصافي المناهل العذب الموارد، وأني قائم بورد الثناء عليكم ووعليهما لدى المقام العلي، الإمامي الناصري، دام سلطانه، وتمهدت أوطاره وأوطانه. " وننهي إليكم أن الفقيه المحب الأستاذ سيدي محمد بن يوسف (2) طلق اللسان بالشكر، صادح على أيك الثناء عن تلكم السيادة بما واليتموه به من جزيل الإحسان، وقابلتموه به عند الورود والصدر من البشر والكرامة وجميل الامتنان، والسلام التام معاد عليكم، ورحمة الله تعالى وبركاته، وبه وجب الكتب إليكم،

_ (1) ترجمة الوجدي في روضة الآس: 71 وانظر ص (لب) من المقدمة. (2) راجع المجلد الثاني ص: 470.

والله سبحانه يرعاكم، في يوم الخميس موفي عشرين من محرم الحرام فاتح سبعة وعشرين وألف، المحب الودود الشاكر عبد العزيز بن محمد الفشتالي لطف الله تعالى به، وخار له بمنه وكرمه "، انتهى. ومن أراد شيئاً من أخباره فعليه بكتابي الموسوم ب " روضة الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام مراكش وفاس " وقد بلغتني وفاته رحمه الله تعالى؛ وأنا في مصر بعد عام ثلاثين وألف، رحمه الله تعالى؛ فلقد كان أوحد عصره، حتى إن سلطان المغرب كان يقول: إن الفشتالي نفتخر به على ملوك الأرض، ونباري به لسان الدين ابن الخطيب، رحم الله تعالى الجميع. الله تعالى؛ فلقد كان أوحد عصره، حتى إن سلطان المغرب كان يقول: إن الفشتالي نفتخر به على ملوك الأرض، ونباري به لسان الدين ابن الخطيب، رحم الله تعالى الجميع. [تعريف بأبي الحسن الشامي] والشامي الذي أشار إليه هومن أعيان أهل فاس وذوي البيوت بها، وجده قدم من الشام على حضرة فاس، فشهر بنوه بالنسبة إلى الشام وقد بلغني وفاته أيضاً بعد الثلاثين بعد الألف، وقد أجاب عن الأبيات البائية التي خاطبني بها الوزير سيدي عبد العزيز الفشتالي المذكور رحم الله تعالى الجميع بقوله: نمت نوافح عرف أنفاس الصبا ... فنمى بها روض الوداد وأخصبا نثرت جواهر سلكها فتتوج ال ... غصن النضير بدرها وتعصبا ورمت محاجر منحنى ذاك الحمى ... فغدا بها خيف القلوب محصبا وروت أحاديث الغرام صحيحة ... فشفت فؤادا ًمن بعادك موصبا لا غروأن طارت حشاشة لبه ... طرباً فما خلوالغرام كمن صبا لا زلتم والزهر ينشق عرفكم ... والزهر تحسد من كمالك منصبا ولنمسك عنان البنان، ونرجع إلى ما كنا بصدده من شأن لسان الدين ابن الخطيب المريع منه بمزن البلاغة والفصاحة جنان الجنان، فنقول والله سبحانه ولي التوفيق والإمداد، وليس إلا عليه الاعتماد:

[16 - بين ابن الجياب ولسان الدين] وقال ابن الصباغ العقيلي (1) : كان أبوالحسن ابن الجياب رئيس كتاب الأندلس وهم رؤساء غيرهم، واختص به ذوالوزارتين أبوعبد الله ابن الخطيب اختصاصاً تاماً، وأورثه رتبة من بعده، وعهد بها إليه، مشيراً بذلك على من استشاره من أعلام الحجاب عند حضور عمره، وتدرب بذكائه حتى استحق أزمته فأنسى بحسن سياسته شيخه المذكور، ونال التي لا فوقها من الحظوة، وبعد الصيت وسعادة البخت، اتفق له يوماً بعدما عزم النصراني على ورود البلد وضاقت به الصدور، فأنشد ابن الجياب بديهاً بمحضر الكتاب: هذا العدو قد طغى ... وقد تعدى وبغى وقال لابن الخطيب: أجز أبا عبد الله، فأنشده بديهاً: وأظهر السلم وقد ... أسر حسواً في ارتغا فبلغ الرحمن سي ... ف النصر فيه ما ابتغى ورده رد ثمو ... د والفصيل قد رغا حتى يرى وليمة ... لكل مرهوب الثغا فقال ابن الجياب: هكذا وإلا فلا، وعجب الحاضرون من هذه البديهة؛ انتهى. [17 - قصيدتان للبلوي يخاطب بهما لسان الدين] ومما خوطب به لسان الدين قول الفقيه أبي يحيى البلوي المري (2) رحم الله الجميع:

_ (1) أزهار الرياض 1: 192. (2) ص: المريي.

عللوني ولوبوعد محال ... وصلوني ولوبطيف خيال واعلموا أنني أسير هواكم ... لست أنفك دائماً عن عقال فدموعي من بينكم في انسكاب ... وفؤادي من هجركم في اشتعال يا أُهيل الحمى كفاني غرامي ... لا تزيدوا حسبي بما قد جرى لي من مجيري من لحظ ريم ظلوم ... حلل الهجر بعد طيب الوصال ناعس الطرف أسهر الجفن مني ... طال منه الجفا بطول الليالي بابلي اللحاظ أصمى فؤادي ... ورماه من غنجه بنبال وكسا الجسم من هواه نحولاً ... قصده في النوى بذاك انتحالي ما ابتدى في الوصال يوماً بعطف ... مذ روى في الغرام باب اشتغالي ليس لي منه في الهوى من مجير ... غير تاج العلا وقطب الكمال علم الدين عزه وسناه ... ذروة المجد، بدر أفق الجلال هوغيث الندى، وبحر العطايا ... هو شمس الهدى، فريد المعالي إن وشى في الرقاع بالنقش قلنا ... صفحة الطرس حليت باللآلي أودجا الخطب فهوفيه شهاب ... زانه الصبح في ظلام الضلال أو نبا الأمر فهوفيه عضب ... صادق العزم عند ضيق المجال لست تلقى مثاله في زمان ... جل في الدهر يا أخي عن مثال قد نأى بي حبي له عن دياري ... لا لجدوى ولا لنيل نوال لكن اشتقت أن أرى منه وجهاً ... نوره فاضح لنور الهلال وكما همت فيه ألثم كفاً ... جاد لي بالنوال قبل السؤال هاكها ابن الخطيب عذراء جاءت ... تلثم الأرض قبل شسع النعال وتوفي حق الوزارة عمن ... هو ملك لها على كل حال ومن نظمه قوله يخاطبه مهنئاً في إعذاره أولاده بعد نثر نصه: يعتذر عن خدمة الإعذار، ويصل المدح والثناء على بعد الدار، بتاريخ الوسط من شهر

شعبان عام تسعة وأربعين وسبعمائة: لا عذر لي عن خدمة الإعذار ... ولئن نأى وطني وشط مزاري أو عاقني عنه الزمان وصرفه ... تقضي الأماني عادة الاعصار قد كنت أرغب أن أفوز بخدمتي ... وأحط رحلي عند باب الدار بادي المسرة بالصنيع وأهله ... متشمراً فيه بفضل إزاري من شاء أن يلقى الزمان وأهله ... ويرى جلالاً شاع في الأقطار فليأت حي ابن الخطيب ملبياً ... فيفوز بالإعظام والإكبار كم ضم من صيد كرام قدرهم ... يسمو ويعلوفي ذوي (1) الأقدار إن جئت ناديه فنب عني وقل ... نلت المنى بتلطف ووقار يا من له الشرف القديم ومن له ال ... حسب الصميم العد يوم فخار يهنيك ما قد نلت من أمل به ... في الفرقدين النيرين لساري نجلاك قطبا كل مجد باذخ ... أملان مرجوان في الإعسار عبد الإله وصنوه قمر العلا ... فرعان من أصل زكا ونجار ناهيك من قمرين في أفق العلا ... ينميهما نور من الأنوار زاكي الأرومة معرق في مجده ... جم الفضائل طيب الأخبار رقت طبائعه وراق جماله ... فكأنما خلقا من الأزهار وحلت شمائل حسنه فكأنما ... خلعت عليه رقة الأسحار فإذا تكلم قلت طل ساقط ... أو وقع در من نحور جواري أوفت حبر المسك في قرطاسه ... فالروض غب الواكف المدرار تبتسم الأقلام بين بنانه ... فتريك نظم الدر في الأسطار فتخال من تلك البنان كمائماً ... ظلت تفتح ناضر النوار

_ (1) ق: ذرى.

تلقاه فياض الندى متهللاً ... يلقاك بالبشرى والاستبشار بحر البلاغة قسها وإيادها ... سبحانها حبر من الأحبار إن ناظر العلماء فهو إمامهم ... شرف المعارف، واحد النظار أربى على العلماء بالصيت الذي ... قد طار في الآفاق كل مطار ما ضره أن لم يجئ متقدماً ... بالسبق يعرف آخر المضمار إن كان أخره الزمان لحكمة ... ظهرت وما خفيت كضوء نهار الشمس تحجب وهي أعظم نير ... وترى من الآفاق إثر دراري يا ابن الخطيب خطبتها لعلاكم ... بكراً تزف لكم من الأفكار جاءتك من خجل على قدم الحيا ... قد طيبت بثنائك المعطار وأتت تؤدي بعض حق واجب ... عن نازح الأوطان والأوطار مدت يد التطفيل نحوعلاكم ... فتوشحت من حليكم بنضار فابذل لها في النقد صفحك إنها ... تشكو من التقصير في الأشعار لا زلت في دعة وعز دائم ... ومسرة تترى مع الأعمار [ترجمة أبي يحيى البلوي] قال لسان الدين في حق المذكور في الإحاطة هومحمد بن محمد بن عبد الواحد بن محمد البلوي، من أبناء النعم وذوي البيوتات، كثير السكون والحياء، آل به ذلك أخيراً إلى لوثة لم يستفق منها لطف الله به حسن الخط مطبوع الأدب سيال الطبع معينه وناب عن بعض القضاة وهوالآن رهين ماذكر يتمنى أهله موته والله ولي المعافاة. وجرى ذكره في " الإكليل " بما نصه " من أولي الاتصال بأولى الخلال البارعة والخصال خطاً رائقاً ونظماً بمثله (1) لائقاً ودعابة يسترها تجهم،

_ (1) ق: به.

وسكوناً في طيه إدراك وتفهم، عني بالدراية والتقييد، ومال في النظم إلى بعض التوليد، وله أصالة نبتت في السرو عروقها، وتألقت في سماء المجادة بروقها، وتصرف بين النيابة في الأحكام الشرعية، وبين الشهادات العلمية المرعية؛ انتهى. ورأيت بخط أبي الحسن علي بن لسان الدين على هامش هذا المحل من الإحاطة ما صورته: رحمة الله عليه ما أعذب حلاوته، وأعظم مروءته، وأكرم أصالته، وبنوالبلوى ذووحسب، وأهل نعيم، وتربية ملوكية، حياهم الله وبياهم! قال ذلك حبيبهم وأخوهم علي بن الخطيب؛ انتهى. [18 - من ابن مرزوق إلى لسان الدين] وقال لسان الدين رحمه الله تعالى عند ذكر الخطيب الرئيس أبي عبد الله محمد بن مرزوق التلمساني ما صورته: ولما قدمت على مدينة فاس في غرض الرسالة خاطبني بمنزل (1) الشاطبي على مرحلة منها بما نصه: يا قادماً وافى بكل نجاح ... أبشر بما تلقاه من أفراح هذي ذرى ملك الملوك فلذ بها ... تنل المنى وتفز بكل سماح مغنى الإمام أبي عنان يممن ... تظفر ببحر في العلا طفاح من قاس جود أبي عنان في الندى ... بسواه قاس البحر بالضحضاح ملك يفيض على العفاة نواله ... قبل السؤال وقبل بسطة راح فلجود كعب وابن سعدى (2) في الندى ... ذكر محاه عن نداه ماحي ما إن سمعت ولا رأيت بمثله ... من أريحي للندى مرتاح بسط الأمان على الأنام فأصبحوا ... قد ألحفوا منه بظل جناح وهمى على العافين سيب نواله ... حتى حكى سح الغمام الساحي

_ (1) ص: بمنزلة. (2) ابن سعدي: أوس بن حارثة الطائي.

فنواله وجلاله وفعاله ... فاقت وأعيت ألسن المداح وبه الدنا أضحت تروق وأصبحت ... كل المنى تنقاد بعد جماح من كان ذا ترح فرؤية وجهه ... متلافة الأحزان والأتراح فانهض أبا عبد الإله تفز بما ... تبغيه من أمل ونيل نجاح لا زلت ترتشف الأماني راحة ... من راحة المولى بكل صباح فالحمد لله يا سيدي وأخي على نعمه التي لا تحصى، حمداً يؤم به جميعنا المقصد الأسنى فيبلغ الأمد الأقصى، فطالما كان معظم سيدي للأسى في خبال، وللأسف بين اشتغال بال، واشتعال بلبال، ولقدومكم على هذا المقام المولوي في ارتقاب، ولمواعيدكم بذلك في تحقق (1) وقوعه من غير شك ولا ارتياب، فها أنت تجتلي من هذا المقام العلي بتشيعك وجوه المسرات صباحاً، وتتلقى أحاديث مكارمه ومواهبه مسندة صحاحاً، بحول الله تعالى، ولسيدي الفضل في قبول مركوبه الواصل إليه بسرجه ولجامه، فهومن بعض ما لدى المعظم من إحسان مولاه وإنعامه، ولعمري لقد كان وافداً على سيدي في مستقره مع غيره، فالحمد لله الذي يسر في إيصاله، على أفضل أحواله. [19 - جواب لسان الدين] فراجعته بما نصه: راحت تذكرني كؤوس الراح ... والقرب يخفض للجنوح جناحي وسرت تدل على القبول كأنما ... دل النسيم على انبلاج صباح حسناء قد غنت بحسن صفاتها ... عن دملج وقلادة ووشاح أمست تحض على اللياذ بمن جرت ... بسعوده الأقلام في الألواح

_ (1) ص: ولمواعدكم.... محقق.

بخليفة الله المؤيد فارس ... شمس المعالي الأزهر الوضاح ما شئت من شيم ومن همم غدت ... كالزهر أوكالزهر في الأدواح فضل الملوك فليس يدرك شأوه ... أنى يقاس الغمر بالضحضاح أنسى بني عباسهم بلوائه ال ... منصور، أو بحسامه السفاح وغدت مغاني الملك لما حلها ... تزهى ببدر هدى وبحر سماح وحياة من أهداك تحفة قادم ... في العرف منها راحة الأرواح ما زلت أجعل ذكره وثناءه ... روحي وريحاني الأريج وراحي ولقد تمازج حبه بجوارحي ... كتمازج الأجسام بالأرواح ولوأنني أبصرت يوماً في يدي ... أمري لطرت إليه دون جناح فالآن ساعدني الزمان وأيقنت ... من قربه نفسي بفوز قداحي إيه أبا عبد الإله، وإنه ... لنداء ود في علاك صراح أما إذا استنجدتني من بعد ما ... ركدت لما جنت الخطوب رياحي فإليكها مهزولة وأنا امرؤ ... قررت عجزي واطرحت سلاحي " سيدي أبقاك الله لعهد تحفظه، وولي بعين الوفاء تلحظه، وصلتني رقعتك التي أبدعت، وبالحق من مولى الخليقة صدعت، وألفتني وقد سطت بي الأوجال، حتى كادت تتلف الرحال، والحاجة إلى الغذاء قد شمرت كشح البطين، وثانية العجماوين قد توقع فوات وقتها وإن كانت صلاتها صلاة الطين، والفكر قد غاض معينه، وضعف وعلى الله جزاء المولى الذي يعينه، فغرتني بكتيبة بيان أسدها هصور، وعلمها منصور، وألفاظها ليس فيها قصور، ومعانيها عليها الحسن مقصور، واعتراف مثلي بالعجز في المضايق حول ومنة، " وقول لا أدري " للعالم فكيف لغيره جنة، لكنها بشرتني بما يقل لمؤديه بذل النفوس وإن جلت، وأطلعتني من السراء على وجه تحسده الشمس إذا تجلت، بما أعلمتني به من جميل اعتقاد مولانا أمير المؤمنين أيده الله في

عبده، وصدق المخيلة في كرم مجده، وهذا هوالجود المحض، والفضل الذي شكره هوالفرض، وتلك الخلافة المولوية تتصف بصفات من يبدأ بالنوال، من قبل الضراعة والسؤال، من غير اعتبار للأسباب ولا مجازاة للأعمال، نسأل الله تعالى ان يبقي منها على الإسلام أوفى الظلال، ويبلغها من فضله أقصى الآمال، ووصل ما بعثه سيدي صحبتها من الهدية، والتحفة الودية، وقبلتها امتثالاً واستجليت (1) منها عتقاً وجمالاً وسيدي في الوقت أنسب لاتخاذ ذلك الجنس، وأقدر على الاستكثار من إناث البهم والإنس، وأنا ضعيف القدرة، غير مستطيع على ذلك إلا في الندرة، فلوراء سيدي ورأيه سداد، وقصده فضل ووداد، أن ينقل القضية إلى باب العارية من باب الهبة، مع وجود الحقوق المترتبة، لبسط خاطري وجمعه، وعمل في رفع المؤونة على شاكلة حالي معه، وقد استصحبت مركوباً يشق علي هجره، وسيدي في الإسعاف على الله أجره، وهذا أمر عرض، وفرض فرض، وعلى نظره المعول، واعتماد إغضائه هوالمعقول الأول، والسلام على سيدي من معظم قدره، وملتزم بره، ابن الخطيب، في ليلة الأحد السابع وال عشرين لذي قعدة خمس وخمسين وسبعمائة، والسماء قد جادت بمطر سهرت منه الأجفان، وظن أنه الطوفان، واللحاق في غدها بالباب المولوي مؤمل بحول الله " انتهى. [20 - من البرجي إلى لسان الدين] وكتب القاضي أبوالقاسم البرجي (2) للسان الدين في غرض الشفاعة لبعض قرابته قوله (3) :

_ (1) ص ق: واستجلبت. (2) ترجمة البرجي في الإحاطة 2: 215 والكتيبة: 250 ونيل الابتهاج: 172. (3) الكتيبة: 251.

أيا سابقاً في مجال البراعه ... وفارس ميدان أهل اليراعه ومن بدره في سماء المعالي ... يزين بوصف الكمال ارتفاعه بما لك في الفضل من حجة ... ومن إمرة في ذويه مطاعه قضائك في معسر حل دين ... عليه فإرجاؤه قد أضاعه وقد كان يبغي لديكم شفيعاً ... توسط عندكم في شفاعه على أنه في اقتضاء الوداد ... يوفى موازينه أوصواعه وما هوفي سوق تقريظكم ... ونشر حلالكم بمزجى البضاعه " كتبت يا سيدي أدام الله تعالى علاكم، وحرس مجدكم الطاهر وسناكم، وأنا بين خجل مفحم وعجل مقحم، أتذكر تسويقي بلقائكم، حين سمع الدهر بإقترابكم، فأحجم وأفكر في أن إحجامي عند ذلك بإرجائي، عسى أن يكون وفق رجائي، أفاتني المقصود فأرى الحزم في أن أقدم، وموقفها بين يديكم فلان، يطالبني مطالبة الغريم، وأروم مطاله فلا يبرح ولا يريم، والانقياد في زمام طاعته مما توجبه المروة بعدما أوجبه الشارع إذ جعل له حظاً في الأبوة، وقد أعلقته من ذمام علائكم بالحبل المتين، وأنزلته من حماكم بربوة ذات قرار ومعين، فإن أعرتموه من لحظكم الجميل طرف اهتبال، وأقبلتموه من اعتنائكم الجزيل وجه إقبال، فقد عاد دهره بعد النفار مواتياً ونزل على أهل المهلب شاتياً ومجدكم كفيل بتبليغ أمله، وتوسيع جذله، وذلكم يد على معظمكم شكرها، وعلى الله أجرها "؛ انتهى. [ترجمة أبي القاسم البرجي] والبرجي المذكور هومحمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن علي بن إبراهيم، الغساني البرجي، يكنى أبا القاسم، من أهل غرناطة، قال في " الإحاطة ": هوفاضل مجمع على فضله، صالح الأبوة ن طاهر النشأة، بادي الصيانة والعفة

طرف في الخير والحشمة، صدر في الأدب جم المشاركة، ثاقب الفهم، جميل العشرة، ممتع المجالسة حسن الشعر والخط والكتابة، فذ في الانطباع، صناع اليد (1) ، محكم لعمل الكثير من الآلات العلمية، ويجيد تسفير الكتب، رحل إلى العدوة ولقي جلة، وتوسل إلى ملكها مجدد الرسم ومعتام أولي الشهرة وعامر دست الشعر والكتابة، أمير المسلمين أبي عنان، فاشتمل عليه، ونوه به وملأ بالخير يده، فاقتنى جدة وحظوة، وذكراً وشهرة، وانقبض مع استرسال الملك لفضل عقله، حتى تشكى إلي سلطانه بث ذلك عند قدومي عليه، وآثر الراحة، وجهد في التماس الرحلة الحجازية، ونبذ الكل، وقصر الخطوة (2) ، وسلا الحظوة، فأسعفه سلطانه بغرضه، وجعل حبل همه (3) على غاربه، وأصحبه إلى النبي الكريم صلوات الله عليه رسالة من إنشائه وقصيدة من نظمه، وكلاهما يعلن في الخلفاء ببعد شأوه، ورسوخ قدم علمه، وعراقة البلاغة في نسب خصله، ولما هلك وولي ابنه [قدمه] قاضياً بمدينة (4) ملكه وضاعف له التنويه، فأجرى الخطة على سبيل من السداد والنزاهة، ثم لما ولي السلطان أبوسالم عمه أجراه على الرسم المذكور، واستجلى المشكلات بصدقه، وهوالآن بحاله الموصوفة مفخر من مفاخر ذلك الباب السلطاني على تعدد مفاخره. شعره - ثبت في كتاب " نفاضة الجراب " من تأليفنا عند ذكر المدعى الكبير بباب ملك المغرب ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر من أنشد ليلتئذ من الشعراء ما نصه: وتلاه الفقيه الكاتب الحاج القاضي جملة السذاجة (5) وكرم الخلق وطيب النفس وخدن العافية وابن الصلاح والعبادة ونشأة القرآن

_ (1) الإحاطة: اليدين. (2) ص: الخطو. (3) ق والإحاطة: نعمه. (4) قدمه ... بمدينة: سقطتا من ق، ولفظة " قدمه " سقطت من ص. (5) ص: الشذاخة.

المتحيز إلى حزب السلامة المنقبض عن الغمار العزوف عن فضول القول والعمل جامع المحاسن الأشتات (1) من عقل رصين وطلب ممتع وأدب نقاوة ويد صناع أبوالقاسم بن أبي زكريا البرجي، فأنشدت له على الرسم المذكور هذه القصيدة الفريدة (2) : أصغى إلى الوجد لما جد عاتبه ... صب له شغل عمن يعاتبه لم يعط للصبر من بعد الفراق يداً ... فضل من ظل إرشاداً يخاطبه لولا النوى لم يبت حران مكتئباً ... يغالب الوجد كتما ًوهوغالبه يستودع الليل أسرار الغرام وما ... تمليه أشجانه فالدمع كاتبه لله عصر بشرقي الحمى سمحت ... بالوصل أوقاته لوعاد ذاهبه يا جيرة أودعوا إذ ودعوا حرقاً ... يصلى بها من صميم القلب ذائبه يا هل ترى تجمع (3) الأيام ألفتنا ... كعهدنا أويرد القلب سالبه ويا أهيل ودادي، والنوى قذف ... والقرب قد أبهمت دوني مذاهبه هل ناقض العهد بعد البعد حافظه ... وصادع الشمل يوم الشعب شاعبه ويا ربوع الحمى لا زلت ناعمة ... يبكي عهودك مضنى الجسم شاحبه يا من لقلب مع الأهواء منعطف ... في كل أوب له شوق يجاذبه يسمو إلى طلب الباقي بهمته ... والنفس بالميل للفاني تطالبه وفتنة المرء بالمألوف معضلة ... والأنس بالإلف نحوالإلف جاذبه أبكي لعهد الصبا والشيب يضحك بي ... يا للرجال سبت جدي ملاعبه ولن ترى كالهوى، أشجاه سالفه ... ولا كوعد المنى، أحلاه كاذبه وهمة المرء تغليه وترخصه ... من عز نفساً لقد عزت مطالبه

_ (1) الأشتات: ثبتت في ق ص وسقطت من الإحاطة. (2) القصيدة في الإحاطة وبعضها في الكتيبة. (3) الكتيبة: ترجع.

ما هان كسب المعالي أوتناولها ... بل هان في ذاك ما يلقاه طالبه (1) لولا سرى الفلك السامي لما ظهرت ... آثاره ولما لاحت كواكبه في ذمة الله ركب للعلا ركبوا ... ظهر السرى فأجابتهم نجائبه يرمون عرض الفلا بالسير عن عرض ... طي السجل إذا ما جد كاتبه كأنهم في فؤاد الليل سر هوى ... لولا الضرام لما خفت جوانبه شدوا على لهب الرمضاء وطأتهم ... فغاض في لجة الظلماء راسبه وكلفوا الليل من طول السرى شططاً ... فخلفوه وقد شابت ذوائبه حتى إذا أبصروا الأعلام مائلة ... بجانب الحرم المحمي جانبه بحيث يأمن من مولاه خائفه ... من ذنبه وينال القصد راغبه فيها وفي طيبة الغراء لي أمل ... يصاحب القلب منه ما يصاحبه إن أنس (2) لا أنس أياماً بظلهما ... سقى ثراه عميم الغيث ساكبه شوقي إليها وإن شط المزار بها ... شوق المقيم وقد سارت حبائبه إن ردها الدهر يوماً بعدما عبثت ... في الشمل منا يداه لانعاتبه معاهد شرفت بالمصطفى فلها ... من فضله شرف تعلو مراتبه (3) محمد المجتبى الهادي الشفيع إلى ... رب العباد أمين الوحي عاقبه أوفى الورى ذمماً، أسماهم همماً ... أعلاهم كرماً، جلت مناقبه هو المكمل في خلق وفي خلق ... زكت حلاه كما طابت مناسبه عناية قبل بدء الخلق سابقة ... من أجلها كان آتيه وذاهبه جاءت تبشرنا الرسل الكرام به ... كالصبح تبدو تباشيراً كواكبه أخباره سر علم الأولين وسل ... بدير تيماء ما أبداه راهبه تطابق الكون في البشرى بمولده ... وطبق الأرض أعلاماً تجاوبه

_ (1) سقط البيت من ص. (2) ق ص: لا أنس؛ الإحاطة: لم أنس. (3) ص: مراقبه.

فالجن تهتف إعلاناً هواتفه ... والجن تقذف إحراقاً ثواقبه ولم تزل عصمة التأييد تكنفه ... حتى انجلى الحق وانزاحت شوائبه سرى وجنح ظلام الليل منسدل ... والنجم لا يهتدي في الأفق ساربه يسمو لكل سماء منه منفرد ... عن الأنام وجبرائيل صاحبه لمنتهى وقف الروح الأمين به ... وامتاز قرباً فلا خلق يقاربه لقاب قوسين أوأدنى فما علمت ... نفس بمقدار ما أولاه واهبه أراه أسرار ما قد كان أودعه ... في الخلق والأمر باديه وغائبه وآب والبدر في بحر الدجى غرق ... والصبح لما يؤب للشرق آيبه فأشرقت بسناه الأرض واتبعت ... سبل النجاة بما أبدت مذاهبه وأقبل الرشد والتاحت زواهره ... وأدبر الغي فانجابت غياهبه وجاء بالذكر آيات مفصلة ... يهدى بها من صراط الله لاحبه نور من الحكم لا تخبو سواطعه ... بحر من العلم لا تفنى عجائبه له مقام الرضى المحمود شاهده ... في موقف الحشر إذ نابت نوائبه والرسل تحت لواء الحمد يقدمها ... محمد أحمد السامي مراتبه له الشفاعات مقبولاً وسائلها ... إذا دهى الأمر واشتدت مصاعبه والحوض يروي الصدى من عذب مورده ... لا يشتكي غلة الظمآن شاربه محامد المصطفى لا ينتهي أبداً ... تعدادها، هل يعد القطر حاسبه فضل تكفل بالدارين يوسعها ... نعمى ورحمى فلا فضل يناسبه حسبي التوسل منها بالذي سمحت ... به القوافي وجلتها غرائبه حياه من صلوات الله صوب حياً ... تحدى إلى قبره الزاكي نجائبه وخلد الله ملك المستعين به ... مؤيد الأمر منصوراً كتائبه إمام عدل بتقوى الله مشتمل ... في الأمر والنهي يرضيه يراقبه مسدد الحكم، ميمون نقيبته ... مظفر العزم، صدق الرأي صائبه

مشمرٌ للتقى أذيال مجتهدٍ ... جرار أذيال سحب الجود ساحبه قد أوسعت أمل الراجي مكارمه ... وأحبست رغبة العافي رغائبه وفاز بالأمن محبوراً مسالمه ... وباء بالخزي مقهوراً محاربه كم وافدٍ آملٍ معهود نائله ... أثنى وأثنت بما أولى حقائبه ومستجيرٍ بعز من مثابته ... عزت مراميه وانقادت مآربه وجاء الدهر يسترضيه معتذراً ... مستغفراً من وقوع الذنب تائبه لولا الخليفة إبراهيم لانبهمت ... طرق المعالي ونال الملك غاصبه ينميه للعز والعليا أبو حسنٍ ... سمح الخلائق محمودٌ ضرائبه من آل يعقوب حسب الملك مفتخراً ... بباب عزهم السامي تعاقبه أطواد حلمٍ رسا بالأرض محتده ... وزاحمت منكب الجوزا مناكبه تحفها من مرين أبحرٌ زخرت ... أمواجها وغمامٌ ثار صائبه بكل نجمً لدى الهيجاء ملتهبٍ ... ينقض وسط سماء النقع ثاقبه أكفهم في دياجيها مطالعه ... وفي نحور أعيادهم مغاربه يا خير من خلصت لله نيته ... في الملك أوخطب العلياء خاطبه جردت والفتنة الشعواء ملبسةٌ ... سيفاً من العزم لا تنبو مضاربه وخضتها غير هياب ولا كلٍ (1) ... وقلما أدرك المطلوب هائبه صبرت نفساً لعقبى الصبر حامدةً ... والصبر مذ كان محمودٌ عواقبه فليهن دين الهدى إذ كنت ناصره ... أمنٌ يواليه أوخوفٌ يجانبه لا زال ملكك والتأييد يخدمه ... تقضي بخفض مناوبه قواضبه ودمت في نعمٍ تضفوملابسها ... في ظل عز علاً تصفو مشاربه ثم الصلاة على خير البرية ما ... سارت إليه بمشتاقٍ ركائبه

_ (1) ق: وهل.

ومن شعره ما قيده لي بخطه صاحب قلم الإنشاء بالحضرة المرينية الفقيه الرئيس الصدر المتفن أبوزيد ابن خلدون (1) : صحا القلب عما تعلمين فاقلعا ... وعطل من تلك المعاهد أربعا وأصبح لا يلوي على حد منزلٍ ... ولا يتبع الطرف الخلي المودعا وأضحى من السلوان في حرز معقلٍ ... بعيد عن الأيام أن يتضعضعا يرد الجفون النجل عن شرفاته ... وإن لحظت عن كل أجيد أتلعا عزيزٌ على داعي الغرام انقياده ... وكان إذا ناداه للوجد أهطعا أهاب به للشيب أنصح واعظٍ ... أصاخ له قلباً منيباً ومسمعا وساف في أفق التفكير والحجى ... زواهره لاتبرح الدهر طلعا لعمري لقد أنضيت عزمي تطلباً ... وقضيت عمريرقبةً وتطلعا وخضت عباب البحر أخضر مزبداً ... ودست أديم الأرض أغبر أسفعا وقال حسبما قيده المذكور (2) : نهاه النهى بعد طول التجارب ... ولاح له منهج الرشد لاحب وخاطبه دهره ناصحاً ... بألسنة الوعظ من كل جانب فأضحى إلى نصحه واعياً ... وألغى حديث الأماني الكواذب وأصبح لا تستبيه الغواني ... ولا تزدريه حظوظ المناصب ثم قال في الإحاطة ": وإحسانه كثير في النثر والنظم والقصار والمطولات واستعمل في السفارة إلى ملك مصر وملك قشتالة وهوالآن قاضي حضرة الملك

_ (1) الإحاطة: 220. (2) المصدر السابق: 221 والكتيبة: 251 وقد حولت في ق إلى وزن الطويل مثل " ولاح له نهج من الرشد لاحب " أو " وخاطبه دهر له كان ناصحاً " ... الخ.

نسيج وحده في السلامة والتخصص واجتناب فضول القول والعمل كان الله له؛ انتهى. وكتب ابن الصنف بهامش تذكرة المذكور من الإحاطة ما صورته: سيدي وشيخي علامة المغرب اليوم وحائز رتبة العلية من خطابة وقضاء وعلامة وهوأحق بها لخلاله الحميدة أبقاه الله تعالى قال محبه علي بن الخطيب؛ انتهى. وكتب على القصيدة الميلادية المتقدمة ما نصه رويتها عنه وسمعتها من لفظه واجازني إياها بتلمسان؛ انتهى. وكتب على حاشية قصيدته " صحا القلب - إلى آخره " ما صورته: سمعتها من لفظ سيدي وشقيق روحي الإمام العلامة الرائس أبي زيد ابن خلدون بالأندلس أمتع الله به تعالى قال ذلك أخوه علي بن الخطيب؛ انتهى. [21 - مخاطبات ابن زمرك للسان الدين] وقال في الإحاطة وفي ترجمة ابن زمرك ما صورته (1) : وشعره مترامٍ إلى هدف الإجادة خفاجي النزعة كلف بالمعاني البديعة والألفاظ الصقيلة غزير المادة فمن ذلك ماخاطبني به وهي من أول ما نظمه قصيدة مطلعها: " أما وانصداع النور من مطلع الفجر " ... يقول فيها بعد أبيات: لك الله من فذ الجلالة أوحدٍ ... تطاوعه الآمال في النهي والأمر لك القلم الأعلى الذي طال فخره ... على المرهفات البيض والأسل السمر يقلد أجياد الطروس تمائماً ... بصنفي لآل من نظامٍ ومن نثر

_ (1) الإحاطة 2: 184 وانظر القصيدة في الكتيبة: 284 وأزهار الرياض 2: 164.

تهيبك القرطاس فاحمر إذ غدا ... يقل بحوراً من أناملك العشر كأن رياض الطرس خدٌ موردٌ ... يطرزه وشي العذار من الحبر فشارة هذا الملك رائقة الحلى ... بألويةٍ حمرٍ وبالصحف الحمر ومروضةٌ غناء عاهدتها الحيا ... تحوك بها وشي الربيع يد القطر تغني قيان الطير في جنباتها ... فيرقص غصن البان في حللٍ خضر تمد لأكواس العرار أناملً ... من السوسن الغض المختم بالتبر ويحرس خد الورد صارم نهرها ... ويمنع ثغر النور بالذابل النضر يفاخر مرآها السماء محاسناً ... وتزري نجوم الزهر منها على الزهر إذا مسحت كف الصبا جفن نورها ... تنفس ثغر الزهر عن عنبر الشحر بأعطر من ريا ثنائك في السرى ... وأبهر حسناً من شمائلك الغر عجبت له يحكي خلال خميلةٍ ... وتفرق منه الأسد في موقف الذعر إذا أضرمت من بأسها الحرب جاحماً ... تأجج منه العضب في لجة البحر وغن كلح الأبطال في حومة الوغى ... ترقرق ماء البشر في صفحة البدر لك الحسب الوضاح والسؤدد الذي ... يضيق نطاق الوصف فيه عن الحصر تشرف افقٌ أنت بدر كماله ... فغرناطةٌ تختال تيهاً على مصر تكلل تاج الملك منك محاسناً ... وفاخرت الأملاك منك بنو نصر بعزمة مضمون السعادة أوحدٍ ... وغرة وضاح المكارم والنجر طوى الحيف منشور اللواء مؤيداً ... فعز حمى الإسلام بالطي والنشر ومد ظلال الأمن إذ قصر العدا ... فيتلى سناء الملك بالمد والقصر إذا احتفل الإيوان يوم مشورة ... وتضطرب الآراء من كل ذي حجر صدعت بفصل القول غير منازعٍ ... وأطلعت آراء قبسن من الفجر فإن تظفر الخيل المغيرة بالضحى ... فعن رأيك الميمون تظفر بالنصر فلا زلت للعلياء تحمي ذمارها ... وتسحب أذيال الفخار على النسر

وللعلم فخر الدين والفتك بالعدا ... بأوت به يا ابن الخطيب على الفخر فيهنيك عيد الفطر ... ويثني بما أوليت من نعمٍ غر جبرت مهيضاً من جناحي ورشته ... وسهلت لي من جانب الزمن الوعر وبوأتني من ذروة العز معتلى ... وشرفتني من حيث أدري ولا أدري وسوغتني الآمال عذباً مسلسلاً ... وأسميت من ذكري ورفعت من قدري فدهري عيدٌ بالسرور وبالمنى ... وكل ليالي العمر لي ليلة القدر فأصبحت مغبوطاً على خير نعمةٍ ... يقل لأدناها الكثير من الشكر وهي طويلة؛ انتهى. قلت هذا الرئيس ابن زمرك صرح هنا بأنه بجاه لسان الدين ابن الخطيب أدرك من العز ما أدرك ثم أنقلب عليه مع الدهر وكفر نعمته وبها أشرك وحرك من دواعي قتله ما حرك وكم من صديق لك ضرك وعقك بعدما برك وسائك إثر ما سرك ولذا رأيت بخط ابن لسان الدين على هامش قوله في هذه القصيدة " ومد ظلال الأمن - إلخ " ما صورته: هذا مدحه لحاه الله وعلى قوله " وبوأتني من ذروة العز - إلخ " ما مثاله هكذا شهادتك لحقه ثم تحولك عنه وكفر نعمته اغرب أغرب أخزاك الله؛ وانتهى وكتب بهامش أول ترجمته من الإحاطة ما نصه: اتبعه الله خزياً وعامله بما يستحقه فبهذا ترجمه والدي مولاه الذي رفع من قدره فيه ولم يقتله أحد غيره كفانا الله تعالى شر من أحسنا إليه. وكتب أيضا تحت هذا ما مثاله: هذا الوغد ابن زمرك من شياطين الكتاب ابن حداد بالبيازين قتل أباه بيده أوجعه ضرباً فمات من ذلك وهوأخس عباد الله تربية وأحقرهم صورة وأخملهم شكلاً استعمله أبي في الكتابة السلطانية فجنينا أيام تحولنا عن الأندلس منه كل شر وهوكان السبب في قتل أبي مصنف هذا الكتاب الذي رباه وأدبه واستخدمه، حسبما هومعروف

وكفانا الله شر من أحسنا إليه وأساء إلينا؛ انتهى وقد ألممنا بترجمته في هذا الكتاب في باب تلامذة لسان الدين فلتراجع هنالك ومما كتب به ابن زمرك المذكور إلى لسان الدين ابن الخطيب جواباً عن رسالة قوله (1) : حيت صباحاً فأحيت ساكني القصبه ... واسترجعت أنفساً بالشوق مغتصبه قضى البيان لها أن لانظير لها ... فأحرزت من معاني خصله قصبه ناجت طليح سرىً لا يستفيق لها ... هدت جوارحه واستوهنت عصبه فحركته على فتك الكلال به ... وأذهبت بسرور الملتقى نصبه وأذكرت عهد مهديها على شحطٍ ... فعاود القلب من تذكاره وصبه ما كنت أسمح من دهري بجوهره ... لو كان يسمح لي بالقلب من غصبه سل أدمع الصب من أعدى السحاب بها ... وقلبه بجمار الشوق من حصبه فالله يحمد مهديها ويشكره ... فوجهها بعصاب الحسن قد عصبه من كان وارث آداب يشعشعها ... بالفرض إني في إرثي لها عصبه هوالملاذ ملاذ الناس قاطبةً ... سبحان من لغاث الخلق قد نصبه وخاطبه كذلك بقوله (2) : يكلفني مولاي رجع جوابه ... وما لتعاطي المعجزات وما ليا أجيبك للفضل الذي أنت أهله ... وأكتب مما قد أفدت الأماليا فأنت الذي طوقتني كل منةٍ ... وأحسبت آمالي وأكسبت ماليا وأنت الذي أعدى الزمان كماله ... وصيرت أحرار الزمان مواليا فلازلت للفعل الجميل مواصلاً ... ولازلت للشكر الجزيل مواليا

_ (1) الأزهار 2: 166. (2) الكتيبة: 288 والأزهار 2: 167.

وخاطبه كذلك بقوله (1) : طالعتها دون الصباح صباحا ... لما جلت غرور البيات صباحا ولقد رأيت وما رايت كحسنها ... وجهاً أغر ومبسماً وضاحا عذراء أرضعتها البيان لبانه ... وأطال مغدى عندها ومراحا فأتت كما شاءت وشاء نجيبها ... تذكي الحجى وتنعم الأرواحا لا بل كمثل الروض باكره الحيا ... وسقى به زهر الكمام ففاحا وطوت بساط الشوق مني بعدما ... نشرت علي من القبول جناحا وخاطبه كذلك بقوله (2) : ذروني فإني بالعلاء خبير ... اسير فإن النيرات تسير وكم بت أطوي الليل في طلب العلا ... كأني إلى نجم السماء سفير بعزمٍ إذا ما الليل مد رواقه ... يكر على ظلمائه فينير أخو كلفٍ بالمجد لا يستفزه ... مهادٌ إذا جن الظلام وثير إذا ما طوى يوماً على السر كشحه ... فليس له حتى الممات نشور وإني وإن كنت الممنع جاره ... لتسبي فؤادي أعين وثغور وما تعتريني فترة ٌفي مدى العلا ... إلى أن أرى لحظاًعليه فتور وفي السرب من نجدٍ تعلقت ظبيةً ... تصول على ألبابنا وتغير وتمنع ميسور الكلام أخا الهدى ... وتبخل حتى بالخيال يزور أسكان نجدٍ جادها واكف الحي ... هواكم بقلبي منجدٌ ومغير ويا سكني بالأجرع الفرد من منىً ... وأيسر حظ من رضاك كثير ذكرتك فوق البحر والبعد بيننا ... فمدته من فيض الدموع بحور

_ (1) الأزهار 2: 167. (2) الأزهار 2: 167.

وأومض خفاق الذؤابة بارقٌ ... فطارت بقلبي أنهٌ وزفير ويهفو فؤادي كلما هبت الصبا ... أما لفؤادي في هواك نصير ووالله ما أدري أذكرك هزتي ... أم الكأس ما بين الخيام تدور فمن مبلغٌ عني النوى ما يسوءها ... وللبين حكمٌ يتعدى ويجور بأنا غداً أوبعده سوف نلتقي ... ونمسي ومنا زائرٌ ومزور إلى كم أرى أكني ووجدي مصرحٌ ... وأخفي اسم من أهواه وهو شهير أمنجد آمالي، ومغلي كاسدي ... ومصدر جاهي، والحديث كثير أأنسى، ولا أنسى، مجالسك التي ... بها تلتقي نضرةٌ وسرور نزورك في جنح الظلام وننثني ... وبين يدينا من حديثك نور على أنني إن غبت عنك فلم تغب ... لطائف لم يحجب لهن سفور نروح ونغدو كل يوم وعندها ... رواحٌ علينا دائمٌ وبكور فظلك فوقي حيثما كنت وارفٌ ... ومورد آمالي لديك نمير وعذراً فإني إن أطلت فإنما ... قصاراي من بعد البيان قصور وكتب إليه خاتمة رسالة كذلك: وحقك ما استطعمت بعدك غمضةً ... من النوم حتى آذن النجم بالغروب وعارضت مسرى الريح قلت لعلها ... تنم بريا منك عاطرة الهبوب إلى أن بدا وجه الصباح كأنه ... محياك إذا يجلوبغرته الخطوب فقلت لقلبي استشعر الأنس وابتهج ... فإن تبعد الأجسام لم تبعد القلوب وسر في ضمان الله حيث توجهت ... ركابك لا تخشى الحوادث أن تنوب قلت هذه غاية في معناها، ولولا خروجها عن القواعد في ترتيب قافيتها ومبناها، فانظر إلى تحوله عن لسان الدين بعد هذه المدائح، ونسبته إليه بعده القبائح، والإنسان خوان، إلا النادر من الإخوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

[22 - من ابن سلبطور إلى لسان الدين] قال في " الإحاطة " في ترجمة ابن سلبطور ما نصه: ومما خاطبني به: تالله ما أورى زناد القلق ... سوى بريق لاح لي بالأبرق أيقنت بالحين فلولا نفحةٌ ... نجديةٌ منكم تلافت رمقي لكنت أقضي بتلظي زفرةٍ ... وحسرةٍ بين القلوب موقف التفريق فآه من هول النوى وما جنى ... على القلوب موقف التفرق يا حاكي الغصن انثني متوجاً ... بالبدر تحت لمة من غسق الله في نفس معنى أقصدت ... من لاعج الشوق بما لم تطق أتى على أكثرها برح الأسى ... دع ما مضى منها وأدرك ما بقي ولو بإلمام خيالٍ في الكرى ... إن ساعد الجفن رقيب الأرق فرب زورٍ من خيالٍ زائر ... أقر عيني وإن لم يصدق شقيت من برح الأسى لو أن من ... أصبح رقي في يديه معتقي ففي معاناة الليالي عائقٌ ... عن التصابي وفنون العلق وفي ضمان ما يعاني المرء من ... نوائب الدهر مشيب المفرق هذا لعمري مع أني لم أبت ... منها بشكوى روعة أوفرق فقد أخذت من الخطوب غدرها ... بابن الخطيب الأمن مما أتقى فخر الوزارة الذي ما مثله ... بدرٌ علا في مغربٍ أومشرق ومذ أرانيه زماني لم أبل ... من صرفه بمرعدٍ أومبرق لاسيما منذ حططت في حمى ... مقامه (1) الأمنع رحل أينقى أيقنت أني في رجائي لم أخب ... وأن مسعى بغيتي لم يخفق ندبٌ له في كل حسنٍ آيةٌ ... تنساب في الخلق أوفي الخُلُقِ

_ (1) سقطت هذه الكلمة من ص، وفي ق: مسعاه.

في وجه مسحة بشر إن بدت ... تبهرجت أنوار شمس الأفق تعتبر الأبصار في اللألاء ما ... عليه من نور السماح المشرق كالدهر في استينائه وبطشه ... كالسيف في حد الظبى والرونق إن بخل الغيث استهلت يده ... بوابلٍ من غيث جودٍ غدق وإن وشت صفحة طرسٍ انجلى ... ليل دجاها عن سنا مؤتلق بمثلها من حبراتٍ أخجلت ... حواشي الروض خدود المهرق ما راق في الآذان أشنافٌ سوى ... ملتقطات لفظه المفترق تود أجياد الغواني أن يرى ... حليها من در ذاك المنطق فسل به هل آداه الأمر الذي ... حمل في شرخ الشباب المونق إذا رأى الرأي فلا يخطئه ... يمن اختيار للطريق الأوفق إيهٍ أبا عبد الإله هاكها ... عذراء تحثو في وجوه السبق خذها إليك بكر فكرٍ يزدري ... لديك بالأعشى لدى المحلق لازلت مرهوب الجناب مرتجىً ... موصول عز في سعود ترتقي مبلغ الآمال فيما تبتغي ... مؤمن الأغراض مما تتقي [ترجمة ابن سلبطور] وابن سلبطور هو: محمد بن محمد بن أحمد بن سلبطور الهاشمي. قال في الإحاطة ": من أهل المرية يكنى أبا عبد الله من وجوه بلده وأعيانه نشأ نبيه البيت ساجباً بنفسه وبما له ذيل الحظوة متحلياً بخصل من خط وأدب وزيراً متجنداً ظريفاً درباً على ركوب البحر وقيادة الأساطيل ثم انحط في هواه انحطاطاً أضاع مروءته واستهلك عقاره وهد بيته وألجأه أخيراً إلى اللحاق بالعدوة فهلك بها. وجرى ذكره في الإكليل بما نصه مجموع شعر وخط وذكاء عن

درجة الظرفاء غير منحط إلى مجادة أثيلة البيت شهيرة الحي والميت نشأ في حجر الترف والنعمة محفوفاً بالمالية الجمة فلما عقل عن ذاته وترعرع بين لداته أجرى خيول لذاته فلم يدع منها ربعاً إلا أقفره، ولاعقاراً إلاعقره حتى حط بساحلها واستولى بسفر الإنفاق على جميع مراحلها إلا انه خلص بنفس طيبة وسراوة سماؤها صيبة وتمتع ما شاء من وزير وبم وتأنس لم يعط القياد لهم وفي عفوالله سعة وليس مع التوكل عليه ضعة. شعره - من شعر قوله يمدح السلطان وأنشدها إياه بالمضارب من وادي الغيران عند قدومه المرية: أثغرك أم سمطٌ من الدر ينظم ... وريقك أم مسكٌ به الراح تختم ووجهك أم بادٍ من الصبح نيرٌ ... وفرعك أم داج ٍمن الليل مظلم أعلل منك الوجد والليل ملتفي ... وهل ينفع التعليل والخطب مؤلم وأقنع من طيف الخيال بزورةٍ ... لو أن جفوني بالمنام تنعم ثم سرد لسان الدين القصيدة وهي طويلة. ثم قال ومن شعره مذيلاً على البيت الأخير حسبما نسب إليه ببلده: نامت جفونك يا سؤلي ولم أنم ... وما ذاك إلا لفرط الوجد والسقم أشكو إلى الله ما بي من محبتكم ... فهو العليم بما ألقى من الألم إن كان سفك دمي أقصى مرادكم ... فما غلت نظرةٌ منكم بسفك دمي ومما ينسب إليه كذلك: قف بي ونادِ بين تلك الطلول ... أين الألى كانوا عليها نزول أين ليالينا بهم والمنى ... نجنيه غضا ًبالرضى والقبول

لا حملوا بعض الذي حملوا ... يوم تولت بالقباب الحمول إن غبتم يا أهل نجد ففي ... قلبي أنتم وضلوعي حلول (1) ثم قال: ناب في القيادة البحرية عن خاله القائد أبي علي الرنداحي، وولي أسطول المنكب (2) برهة، وتوفي بمراكش عام خمسة وخمسين وسبعمائة، رحمه الله تعالى؛ انتهى. [23 - من ابن راجح إلى لسان الدين] وقال لسان الدين: كتب إلي أبوعبد الله ابن راجح التونسي بما يظهر من أبياته، وهي: أما والذي لي في حلاك من الحمد ... ومالك ملاكي لدي من الرفد لقد أشعرتني النفس أنك معرض ... عن المسرف الآتي لفضلك يستجدي فإن زلة مني بدت لك جهرة ... فصفحاً فما والله أذنبت عن قصد [24 - جواب لسان الدين] فراجعته بقولي: أجلك عن عتب يغض من الود ... وأكرم وجه العذر منك عن الرد ولكنني أهدي إليك نصيحتي ... وإن كنت قد أهديتها ثم لم تجد إذا مقول الإنسان جاوز حده ... تحولت الغراض منه إلى الضد فأصبح منه الجد هزلاً مذمماً ... وأصبح منه الهزل في معرض الجد فما اسطعت قبضاً للعنان فإنه ... أحق السجايا بالعلاء وبالمجد

_ (1) ق: نزول؛ ص: حمول. (2) هذه رواية ص؛ وفي ق: المبكم.

[ترجمة ابن راجح] وقال في " الإحاطة " في حق ابن راجح المذكور ما محصله (1) : محمد بن علي بن الحسن بن راجح، باعترافه " ولا تزر وازرة وزر أخرى " (الزمر:7، الإسراء:15، والأنعام:164) تونسي، أبوعبد الله، يعرف بابن راجح، صاحب رواء وأبهة (2) ، نظيف البزة، فاره المركب، مطفف مكيال الإطراء، جموح في إيجاب الحقوق، مترام إلى أقصى أماد التوغل، سخي السان بالثناء ثرثاره، مرسل لعنانه في كل المحافل، متواضع متودد فكه مطبوع حسن الخلق عذب الفكاهة، مخصوص حيث حل من الملوك والأمراء بالإثرة، وممن دونهم بالمداخلة والصحبة، ينظم الشعر ويحاضر بالأبيات، ويقوم على تاريخ بلده، ويثابر على لقاء أهل المعرفة، والأخذ عن أولي الرواية، قدم الأندلس عام خمسين وسبعمائة مفلتاً من الوقيعة بالسلطان ابي الحسن، فمهد له سلطانها كنف بره، وآواه لإلى سعة رعيه، وتأكدت بيني وبينه صحبة. [25 - من لسان الدين إلى ابن راجح] كتبت إليه أول قدومه بما نصه أحذوحذوأبيات ذكر أن شيخنا أبا محمد الحضرمي خاطبه بها: أمن الغربي نفحة بارح ... سرت منه أرواح الجوى في الجوارح قدحت بها زند الغرام وإنما ... تجافيت في دين السلو لقادح وما هي إلا نسمة حاجرية ... رمى الشوق منها كل قلب بقادح رجحنا من غير شك كأنها ... شمائل أخلاق الشريف ابن راجح

_ (1) ق: حاصله. (2) ق: وبديهة.

فتى هاشم سبقاً إلى كل غاية ... وصبراً، مغار الفتل في كل فادح أصيل العلا جم السيادة، ذكره ... طراز ندار في برود المدائح وفرقان مجد يصدع الشك نوره ... حبا الله منه كل صدر بشارح وفارس ميدان البيان إذا انتضى ... صحائفه أنست مضاء الصفائح رقيق كما راقتك نغمة ساجع ... وجزل كما راعتك صولة جارح إذا ما أحتبى مستحضراً في بلاغة ... وخوض خضيم القول منه بسابح وقد شرعت في مجمع الحفل (1) نحوه ... أسنة حرب للعيون اللوامح فما ضعضعت منه لصولة صادع ... ولا ذهبت منه بحمة ناصح تذكرت قساً قائماً في عكاظه ... وقد غص بالشم الأنوف الجحاجح ليهنك شمس الدين ما حزت من علا ... خواتمه موصولة بالفواتح رعى الله ركباً أطلع الصبح مسفراً ... لمرآك من فوق الربى والبطائح ولله ما أهدته كوماء أوضعت ... برحلك في قفر عن الأندلس نازح أقول لقومي عندما حط كورها ... وساعدها السعدان وسط الأباطح ذروها وأرض الله لا تعرضوا لها ... بمعرض سوء فهي ناقة صالح إذا ما أردنا القول فيه فمن لنا ... بطوع القوافي وانبعاث القرائح بقيت مني نفس وتحفة قادم ... ومورد ظمآن وكعبة مادح ولا زلت تلقى البر والرحب حيثما ... أرحت السرى من كل غاد ورائح [26 - جواب ابن راجح] فأجابني بما نصه: أمن مطلع الأنوار لمحة لامح ... تعاد لمفؤود عن الحي نازح وهل بالمنى من مورد الوصل يرتوي ... غليل عليل للتواصل جانح

_ (1) ق: الخصل.

فيا فيض عين الدمع مالك والحمى ... ورند الحمى والشيح شيح الأشايح مرابع آرامي ومورد ناقتي ... فسقياً لها سقياً لناقة صالح سقى الله ذاك الحي ودقاً فإنه ... حمى لمحات العين عن لمح لامح وأبدى لنا حر الخيام تزف في ... حلى الحسن والحسنى وحلي الملامح ترى حي تلك الحور للحور مهيع ... يدل، وهل حسم لداء التبارح ويا دوحة الريحان هل لي عودة ... لعفر عفار الأندلس بين الأباطح وهل أنت إلا حلة حاتمية ... تغص نواديها بغاد ورائح أقام بها الفخر الخطيب منابراً ... لترتيل آيات الندى والمنائح وشفع بالإنجيل حمد مديحه ... وأوتر بالتوراة شفع المدائح وفرق بالفرقان كل فريقة ... نأت عن رشاد فيه محض النصائح وهل هو إلا للبرية مرشد ... لكل هدى هاد لأرجح راجح فبشرى لسان الدين ساد بك الورى ... وأورى الهدى للرشد أوضح واضح متى قلت لم تترك مقال لقائل (1) ... وإن لم تقل لم يغني مدح لمادح فمن حام بالحي الذي أنت ربه ... وعام ببحر من عطاياك طافح يحق له أن يشفع الحمد بالثنا ... ويغدو بذاك البحر أسبح سابح ويا فوز ملك دمت صدر صدروه ... وبشرى له قد راح أربح رابح (2) بآرائك اللاتي تدل على الهدى ... ويبدي لمن خصصت سبل المناجح ملكت خصال السبق في كل غاية ... وملكت ما ملكت يا ابن الجحاجح مطامح (3) آمال لأشرف همة ... أقل مراميها أجل المطامح فدونكها يا مهدي المدح مدحة ... أجبت بها عن مدح أشرف مادح

_ (1) من قول حسان في مدح ابن عباس: إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا (2) سقط البيت من ص. (3) ق: مطالب.

تهنيك بالعام الذي عم مدحه ... مواهب هاتيك البحار الطوافح فخذها سمي الفخر يا خير مسبل ... على الخلق إغضاء ستور التسامح ودم خاطب العليا بها خير خاطب ... وأتوق تواق واطمح طامح [بقية ترجمة ابن راجح] ثم قال لسان الدين: توفي يوم الخميس ثالث شعبان سنة خمس وستين وسبعمائة، وقد ناهز السبعين، ودفناه بروضتنا بباب إلبيرة، وأعفي شارب الشعر من ثاني (1) مقصه، عفا الله تعالى عنا وعنه؛ انتهى. قلت: رأيت بخط البدر البشتكي في اختصاره لإحاطة لسان الدين وسماه بمركز الإحاطة في هذا المحل ما نصه: قال كاتبه: لو وفق الله تعالى هذا الرجل لم يجب عن مثل تلك الحائية بهذا الهذاء، ولعل ما في كتاب أبي البركات الذي اسمه شعر من لا شعر له أنزل من هذه الطبقة؛ انتهى. ولقد أشار لسان الدين لهذا بقوله السابق: وأعفي شارب الشعر من ثاني مقصه، فلله دره من لوذعي زان خاتم البراعة بفصه، فلكم له من عبارة وجيزة يقضي بها ما لم يستطع غيره أن يعبر عنه بإطنابه، فعلى كل من يروم التعبير، عما في الضمير، أن يتمسك بأطنابه. وقال ابن خاتمة: حدثني الشريف الأديب أبوعبد الله ابن راجح التونسي مقدمه علينا بالمرية قال: سجن القاضي أبوعبد الله ابن عبد السلام شاباً وسيماً لحق تعين عليه، فأنشدته مداعباً: أقاضي المسلمين حكمت حكماً ... غدا (2) وجه الزمان له عبوسا

_ (1) ص: نابي. (2) ق: بدا.

سجنت على الدراهم ذا الجمال ... ولم تسجنه إذ غصب النفوسا فأجابني بأن قال: إنما شكاه لي أرباب الدراهم، دون أرباب النفوس؛ انتهى. رجع إلى ما خوطب به لسان الدين رحمه الله تعالى: [27 - من العشاب إلى لسان الدين] ومما خاطبه به أبوعبد الله العشاب (1) التونسي في بعض الأعياد قوله: بيمن أبي عبد الإله محمد ... تيمّن هذا القطر وانسجم القطر أفاض علينا من جزيل عطائه ... بحوراً تديم المدّ ليس له جزر وآنسنا لمّا عدمنا مغانياً ... إذا ذكرت في القلب ليس لها (2) ذعر هنيئاً بعيد الفطر يا خير ماجد ... كريم به تسموالسيادة والفخر ودمت مدى الأيام في ظل نعمة ... تطيع لك الدّنيا ويعنولك الدهر [28 - من محمد بن محمد بن عبد الملك المراكشي إلى لسان الدين] وقال لسان الدين في ترجمة ابن عبد الملك المراكشي ماصورته: وخاطبني بقوله: وليت ولايةً أحسنت فيها ... ليعلم أنها شرفت بقدرك وكم والٍ أساء فقيل فيه ... دني القدر ليس لها بمدرك وقال أيضاً يخاطبني في المعنى:

_ (1) ق: الفشتالي. (2) ص: من ذكرها.

وليت فقيل أحسن خير وال ... ففاق مدى مداركها بفضله وكم وال أساء فقيل فيه ... دنا فمحا محاسنها بفعله [ترجمة ولد ابن عبد الملك] وفي الإحاطة ما محصلّه أن المذكور محمد بن محمد بن عبد الملك بن سعيد الأنصاري الأوسي، كان شديد الإنقباض، محجوب المحاسن، تنبوالعين عنه جهامة ووحشة ظاهر وغرابة شكل، وفي طي ذلك أدب غضّ، ونفس حرّة، وحديث ممتع، وأبوّة كريمة، أحد لصابرين على الجهد، المستمسكين بأسباب الحشمة، الراضين بالخصاصة، وأبوه قاضي القضاة نسيج وحده الإمام العالم التاريخي المتبحر في الآداب، تقلبت به أيدي الليالي بعد وفاته لتبعة سلطت على نشبه، فاستقر بمالقة مقدوراً عليه، لا يهتدي لمكان فضله إلا من عثر عليه، ومن شعره قوله: من لم يصن في أمل وجهه ... عنك فصن وجهك عن ردّه واعرف له الفضل وعرّف له ... حيث أحل النفس من قصده ثم قال: توفي في ذي القعدة عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة؛ انتهى. [29 - من المكودي إلى لسان الدين] ومما مدح به لسان الدين قول أبي عبد الله محمد المكودي الفاسي رحمه الله تعالى: رحماك بي فلقد خلدت في خلدي ... هوىً أكابد منه حرقة الكبد حللت عقد سلوي عن فؤادي إذ ... حللت منه محل الروح من جسدي مرآك بدري، التذاذ فمي ... ودين حبّك إضماري ومعتقدي

ومن جمالك نور لاح في بصري ... ومن ودادك روح حل في خلدي لا تحسبنّ فؤادي عنك مصطبراً ... فقبل حبك كان الصبر طوع يدي وهاك جسمي قد أوحى النحول به ... فلوطلبت وجوداَ منه لم تجد بما في طرفك من غنج ومن حور ... وما بثغرك من در ومن برد كن بين طرفي وقلبي منصفاً فلقد ... حابيت بعضهما فلعدل ولا تحد فقال لي: قد جعلت القلب لي وطناً ... وقد قضيت على الأجفان بالسهد وكيف تطلب عدلً والهوى حكم ... وحكمه قط لم يعدل على أحد من لي بأغيد لا يرثي لذي شجن ... وليس يعرف ما يلقاه ذو كمد ما كنت من قبل إذعاني لسطوته ... إخال أن الرشا يسطوعلى الأسد إن جاد بالوعد لم تصدق مواعده ... فإن قنعت بزور الوعد لم يعد شكوته علتي منه فقال: ألا ... سر للطبيب فما برء الضنى بيدي فقلت: إن شئت برئي أوشفى ألمي ... فبارتشاف لماك الكوثري جد وإن بخلت فلي مولى يجود على ... ضعفي ويبرئ ما أضنيت من جسدي وخرج بعد هذا إلى مدح لسان الدين فأطال وأطاب، وكيف لا وقد ملأ من إحسانه الوطاب، رحم الله تعالى الجميع. [30 - من اليتيم إلى لسان الدين] وقال لسان الدين: كتبت إلى عبد الله اليتيم (1) أسأل منه ما أثبت في كتاب " التاج " من شعره، فكتبت إلي بهذه الأبيات: أما الغرام فلم أخلل بمذهبه ... فلم حرمت فؤادي نيل مطلبه

_ (1) هو محمد بن علي بن محمد العبدري، وسينقل المقري ترجمته عن التاج فيما يلي، وبعضها مثبت أيضاً في الكتيبة: 59.

يا معرضاً عن فؤاد لم يزل كلفاً ... بحبه، ذا حذار من تجنبه قطعت عنه الذي عودته فغدا ... وحظه من رضاه برق خلبه أيام وصلك مبذول، وبرك بي ... مجدد، قد صفا لي عذب مشربه وسمع ودك عن إفك العواذل في ... شغل وبدر الدجى ناس لمغربه لا أنت تمنعني نيل الرضا كرماً ... ولا فؤادي بوان في تطلبه لله عرفك ما أذكى تنسمه ... لو كنت تمنحني استنشاق طيبه أنت الحبيب الذي لم أتخذ بدلاً ... منه وحاشا لقلبي من تقلبه يا ابن الخطيب الذي قد فقت كل سنا ... أزال عن ناظري إظلام غيهبه محمد الحسن في خلق وفي خلق ... أكملت باسمك معنى الحسن فازه به حضرت (1) أوغبت مالي عن هواك غنى ... لا ينقص البدر حسناً في تغيبه سيان حال التداني والبعاد، وهل ... لمبصر البدر نيل في ترقبه يا من أحسن ظني في رضاه وما ... ينفك يهدي قبيحاً من تغضبه إن كان ذنبي الهوى فالقلب مني لا ... يصغي لسمع ملام من مؤنبه [31 - من لسان الدين إلى اليتيم] فأجبته بهذه الرسالة، وهي ظريفة في معناه: يا سيدي الذي إذا رفعت راية ثنائه تلقيتها باليدين (2) ، وإذا قسمت سهام وداده على ذوي اعتقاده كنت صاحب الفريضة والدين (3) ، دام بقاؤك لطرفة تبديها، وغريبة تردفها بأخرى تليها، وعقيلة بيان تجليها، ونفس أخذ الحزن بكظمها، وكلف الدهر بشت نظمها، تؤنسها وتسليها، لم أزل أشد على بدائعك يد الضنين، وأقتني

_ (1) ص: نأيت. (2) فيه إشارة إلى قول الشماخ: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين (3) الفريضة: الإرث أو الحصة منه.

درر كلامك، ونفثات أقلامك، اقتناء الدر الثمين، والأيام بلقائك تعد ولا تسعد، وفي هذه الأيام انثالت علي سماؤك بعد القحط، وتواترت لدي آلاؤك على شحط، وزارتني من عقائل بيانك كل فاتنة الطرف، عاطرة العرف، رافلة في حلل البيان والظرف، لوضربت بيوتها بالحجاز، لأقرت لها العرب العاربة بالإعجاز، ما شئت من رصف المبنى، ومطاوعة اللفظ لغرض المعنى، وطيب الأسلوب، والتشبث بالقلوب غير أن سيدي أفرط في التنزل وخلط المخاطبة بالتغزل وراجع الالتفاف ورام استدراك مافات ويرحم الله تعالى شاعر المعرة فلقد أجاد في قوله وانكر مناجاة الشوق بعد انصرام حوله (1) : أبعد حول تناجي الشوق ناجيةٌ ... هلاة نحن على عشرٍ من العشر (2) " ولقد تجاوزت في الأمد وأنسيت أخبار صاحبك عبد الصمد فأقسم بألفات القدود وهمزات الجفون السود وحامل الأرواح مع الألواح بالغدووالرواح لولا بعد مزارك ما أمنت غائلة ما تحت إزارك ثم إني حققت الغرض وبحثت عن المشكل الذي عرض فقلت للخواطر (3) انتقال ولكل مقام مقال وتختلف الحوائج باختلاف الأوقات ثم رفع اللبس خبر الثقات ". ومنها - " وتعرفت ما كان من مراجعة سيدي لحرفة التكتيب والتعليم، والحنين إلى العهد القديم، فسررت باستقامة حاله، وفضل ماله، وإن لاحظ

_ (1) من قصيدته التي مطلعها: يا شاهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعواناً على السهر (شروح السقط: 114) . (2) الناحية: الناقة السريعة؛ والعشر: شجر، واراد به هنا المكان الذي ينبت فيه. (3) ق: للخاطر.

اللاحظ ما قال الجاحظ (1) ، فاعتراض لا يرد وقياس لا يطرد حبذا والله عيش التأديب فلا بالضنك ولا بالجديب معاهدة الإحسان ومشاهدة الصور الحسان (2) . يميناً إن المعلمين لسادة المسلمين وإني لأنظر منهم كلما خطرت على المكاتب أمراء فوق المراتب من كل مسيطر الدرة متقطب الأسرة متنمر للوارد تنمر الهرة يغدوإلى مكتبه كالأمير في موكبه حتى إذا أستقل في فرشه (3) ، واستوى على عرشه وترنم بتلاوة قالونه وورشه (4) ، أظهر للخلق احتقار أوأزرى بالجبال وقاراً ورفعت إليه الخصوم ووقف بين يديه الظالم والمظلوم فتقول كسرى في إيوانه والرشيد في أوانه أوالحجاج بين أعوانه فإذا استولى على البدر السرار وتبين للشهر الغرار تحرك إلى الخرج تحرك العود إلى الفرج استغفر الله مما يشق على سيدي سماعه وتشمئز من ذكره طباعه شيم اللسان خلط الإساءة بالإحسان والغفلة من صفات الإنسان فأي عيش كهذا العيش وكيف حال أمير هذا الجيش طاعة معروفة ووجوه إليه مصروفة فإن أشار بالإنصات لتحقق القصات فكأنما طمس على الأفواه ولأم بين الشفاه وإن أمر بالإفصاح وتلاوة الألواح علا الضجيج والعجيج وحف به كما حف بالبيت الحجيج وكم من بين ذلك رشوة تدس وغمزة لا تحس ووعد يستنجز وحاجة تستعجل وتحفز هنأ الله سيدي ما خوله أنساه بطيب أخراه أوله وقد بعثت بدعابتي مع إجلال قدره والثقة وبسعة صدره فليتها بيمينه ويفسح لها في المرتبة بينه وبين خدينه ويفرغ لمراجعتها وقتاً من أوقاته عملاً بمقتضى دينه وفضل يقينه؛ والسلام ".

_ (1) يومئ إلى أن الجاحظ قد ذم معلمي الصبيان، ويداعب ابن اليتيم في عودته إلى عودته إلى هذه الحرفة. (2) ومشاهدة ... الحسان: سقطت من ق. (3) ق: استقبل على فرشه. (4) قالون وورش: مقرئان اختص كل منهما بقراءة من القراءات.

[ترجمة أبي عبد الله اليتيم] ثم قال ومن المداعبة التي وقعت إليها الإشارة ما كتب به إليه صديقه أبوعلي ابن عبد السلام: أبا عبد الإله نداء خل ... وفي جاء يمنحك النصيحة إلى كم تألف الشبان غياً ... وخذلاناً أما تخشى الفضيحة فأجبه بقوله: فديتك صاحب السمة المليحه ... ومن طابت ارومته الصريحة ومن قلبي وضعت له محلاً ... فما عنه يحل بأن أزيحه نأيت فدمع عيني في انسكاب ... واكبادي لفرقتكم قريحة وطرفي لا يتاح له رقادٌ ... وهل نومٌ لأجفانٍ جريحه وزاد تشوقي أبيات شعرٍ ... أتت منكم بألفاظٍ فصيحه (1) ولم تقصد بها جداً ولكن ... قصدت بها مداعبة وقيحه فقلت أتألف الشبان غياً ... وخذلاناً أما تخشى الفضيحة ففيهم حرفتي وقوام عيشي ... وأحوالي بخلطتهم نجيحه وامري فيهم أمرٌ مطاعٌ ... وأوجههم مصابيحٌ صبيحة وتعلم أنني رجلٌ حصور ... وتعرف ذاك معرفةً صحيحة ثم قال لسان الدين - بعد إيراده ما مر - ما صورته ولم اشتهر المشيب بعارضه ولمته وخفر الدهر بعهود صباه وأذمته أقلع استرجع وتألم لما فرط وتوجع وهوالآن من جلة (2) الخطباء طاهر العرض والثوب خالص

_ (1) سقط هذان البيتان من ق. (2) ق: جملة.

من الثوب بادٍ عليه قبول قابل التوبة وتوفي في أخريات صفر سنة خمسين وسبعمائة في الطاعون رحمه الله تعالى وغفر له؛ انتهى. واليتيم المذكور هوأبوعبد الله بن محمد بن علي العبدري المالقي وفي حقه يقول لسان الدين في التاج ما مثاله: هومجموع أدوات حسان من خط ونغمة (1) لسان أخلاقه روض تتضوع نسماته وبشره صبح تتألق قسماته ولاتخفى سماته يقرطس أغراض الدعابة ويصميها ويفوق سهام الفكاهة إلى مراميها فكلما صدرت في عصره هازلة أوأبيات منحطة عن الإجادة نازلة خمس أبياتها وذيلها وصرف معانيها وسيلها وتكها سمر الندمان وأضحوكة الأزمان وهوالآن خطيب المسجد الأعلى بمالقة متحل بوقار وسكينة حال من أهلها بمكانة مكينة لسهولة جانبه واتضاح مقاصده في الخير ومذاهبه واشتغل لأول أمره بالتكتيب وبلغ الغاية في التعليم والترتيب والشباب لم ينصل خضابه ولا سلت للمشيب عضابه ونفسه بالمحاسن كلفة صبة وشأنه كله هوى ومحبة ولذلك ماخاطبه بعض أودائه وكلاهما رمى أخاه بدائه حسبما يأتي خلال هذا المقول وفي أثنائه؛ انتهى. وذكر نحوما تقدم ذكره سامح الله الجميع بفضله [32 - مخاطبة الكرسوطي للسان الدين] وقال لسان الدين في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الكرسوطي الفاسي (2) نزيل مالقة ما صورته: وأنشدني وأنا بمالقة أحاول لوث العمامة وأستعين بالغير على الإحكام لها:

_ (1) ق: من خطط ونعمة. (2) ترجمة الكرسوطي في الإحاطة، الورقة: 50 وفي البيتان.

أمعممّاً قمراً تكامل حسنه ... أربى على الشمس المنيرة في البها لا تلتمس ممّن لديك زيادةً ... فالبدر لا يمتار من نور السها [ترجمة ابي عبد الله الكرسوطي] قال لسان الدين: وهوفقيه محدث متكلم، ألف كتباً منها الغرر في تكميل الطرر، طرر أبي إبراهيم الأعرج، ثم كتاب الدرر في إختصار الطّرر، المذكور، وتقييدان على الرسالة كبير وصغير، ولخص التهذيب لابن بشير، وحذف أسانيد المصنفات الثلاثة، والتزم إسقاط التكرار، واسترك الصحاح الواقعة في الترمذي على البخاري ومسلم، وقيد على مختصر الطليطلي، وشرع في تقييد على قواعد الإمام أبي الفضل عيّاض بن موسى برسم ولدي، ويصدر منه الشعر مصدراً لاتكنفه منه العناية، وكانت له اليد الطولى في عبارة الرؤيا، ومولده بفاس عام تسعين وستمائة، انتهى ملخصاً. [33 - مخاطبة ابن الزبير للسان الدين] وقال في ترجمة أبي عمروبن الزبير ما صورته: ومما خاطبني به عند إيابي من العدوة في غرض الرسالة قوله: نوالي الشكر للرحمن فرضاً ... على نعم كست طولاً وعرضا وكم لله من لطف خفي ... لنا منه الذي قد شا وأمضى بمقدمك السعيد أتت سعود ... ننال بها نعيم الدهر محضا فيا بشرى لأندلس بما قد ... به والاك بارينا وأمضى ويا لله من سفر سعيد ... قد أقرضك المهيمن فيك قرضا ورحت بنية أخلصت فيها ... فأبت بكل ما يبغى ويرضى وثبت لنصرة الإسلام لمّا ... علمت بأن الأمر إليك أفضى

لقد أحييت بالتقوى رسوماً ... كما أرضيت بالتمهيد أرضا وقمت بسنة المختار فينا ... تمهد سنة وتقيم فرضا ورضت من العلوم الصعب حتى ... جنيت ثمارها رطباً وغضاً فرأيك راجح فيما تراه ... وعزمك من مواضي الهند أمضى تدبر أمر مولانا فيلقى ال ... مسيء لديك إشفاقاً وإغضا فأعقبنا شفاء وانبساطاً ... وقد كانت قلوب الناس مرضى ومن أضحى على ظماء وأمسى ... يرد إن شاء من نعماك حوضا أبا عبد الإله إليك أشكو ... زماني حين زاد الفقر عضا ومن نعماك أستجدي لباساً ... تفيض به علي الجاه فيضا بقيت مؤملاً ترجى وتخشى ... ومثلك من إذا جاد أرضى [ترجمة أبي عمرو ابن الزبير] وأبوعمرو المذكور هومحمد بن أحمد بن إبراهيم بن الزبير، أبوه الأستاذ أبوجعفر ابن الزبير، أستاذ الزمان شيخ أبي حيان وغيره، وقال في الإحاطة في حقه: إنه فكه حسن الحديث، ركض طرف الشبيبة في ميدان الراحة منكباً عن سنن أبيه وقومه، مع شفوف وإدراك، وجودة وحفظ، كانا يطمعان والده في نجابته، فلم يعلم قادحاً، شرق فنال حظوة، وجرت عليه خطوب، ثم عاد إلى الأندلس فتطور بها، وهوالأن قد نال منه الكبر يزجي لوقته (1) بمالقة متعللاً برمق من بعض الخدم المخزنية (2) ، إستجاز له والده الطم والرم من أهل المغرب والمشرق، وبضاعته في الشعر مزجاة، ثم قال: مات تاسع المحرم عام خمسة وستين وسبعمائة؛ انتهى.

_ (1) ق: الوقت. (2) المخزنية: نسبة إلى المخزن وهو الدولة.

[ترجمة أبي يحيى الأكحل] وقال في ترجمة أبي يحيى محمد بن أحمد بن محمد بن الأكحل ما صورته: شيخ هيدوري (1) الذقن، خدوع الظاهر، خلوب اللفظ، شديد اللفظ، شديد الهوى إلى الصوفية، والكلف بإطراء أهل الخير، من بيت صون وحشمة، متقدم في معرفة الأمور العلمية، خائض في غمار التصوف، وانتحال في كيمياء السعادة، راكب متن دعوى عريضة في مقام التوحيد، تكذبها أحوالها الراهنة، لمعاصاة خلقه على الرياضة واستيلاء الشره، وغلبة سلطان الشهوة، والمشاحة أيام الولاية، والسباب (2) الشاهد بالشدة، والحلف المتصل بياض اليوم في ثمن الخردلة باليمين التي فيها فساد الأنكحة، والغضب الذي يقلب العين. [34 - مخاطبة الأكحل للسان الدين] خاطبني بين يدي نكبته ولم أظن الشعر مما تلوكه جحفلته (3) ، ولكنه من أهل الكفاية: رجوتك بعد الله يا خير منجد ... واكرم مأمول وأعظم مرفد وأفضل من أملت للحادث الذي ... فقدت به صبري وما ملكت يدي وحاشا وكلا أن يخيب مؤملي ... وقد علقت بابن الخطيب محمد وما أنا إلا عبد نعمته التي ... عهدت بها يمني وإنجاح مقصدي وأشرف من حض الملوك على التقى ... وأبدى لهم رشداُ نصيحة (4) مرشد

_ (1) ق: هيدري؛ ولعلها هدوري من قولهم هدر النبت إذا كثر وطال. (2) ص: والسيد ولعلها محرفة عن " والسب ". (3) الجحفلة للدابة بمنزلة الشفة للإنسان. (4) ق: رشد النصيحة.

وساس الرعايا الآن خير سياسة ... مباركة في كل غيب ومشهد وأعرض عن دنياه زهداً وإنها ... لمظهرة طوعاً له عن تودد وما هو إلا الليث إن أتى ... له خائف أوجاء مغناه مجتدي وبحر علوم دره كلماته ... إذا رددت في الحفل أي تردد صقيل مراء الفكر رب لطائف ... محاسنها تجلى بحسن تعبد بديع عروج النفس للملأ الذي ... تجلت له الأسرار في كل مصعد شفيق رفيق دائم الحلم راحم ... ورأي جميل للجميل معود صفوح عن الجاني على حين قدرة ... مواصل تقوى الله في اليوم والغد أيا سيدي يا عمدتي عند شدتي ... ويا مشربي مهما ظمئت وموردي حنانينك والطف بي وكن لي راحماً ... ورفقاً على شيخ ضعيف منكد رجاك رجاء للذي أنت أهله ... ووافاك يهدي للثناء المجدد وأمك مضطراً لرحماك شاكياً ... بحال كحر الشمس حر توقد وعندي افتقار لا يزال مواصلاً ... لأكرم مولى حاز أجراً وسيد ترفق بأولاد صغار بكائهم ... يزيد لوقع الحادث المتزيد وليس لهم إلا إليك تطلع ... إذا مسهم ضر أليم التعهد أنلهم أيا مولاي نظرة مشفق ... وجد بالرضى وانظر لشمل مبدد وعامل أخا الكرب الشديد برحمة ... وأسعف بغفران الذنوب وأسعد ولا تنظرن إلا لفضلك لا إلى ... جريمة شيخ عن محلك مبعد وإن كنت قد أذنبت إني تائب ... فعود لي الفعل الجميل وجدد (1) بقيت بخير لا يزال وعزة ... وعيش هنيْ كيف شئت وأسعد وسخرك الرحمن للعبد؛ إنه ... لمثن وداع للمحل الممجدد ثم قال: وهوالآن من مسطري الأعمال على تهور واقتحام كبرة (2) ، من

_ (1) سقط البيت من ص. (2) ق: كبيرة.

خط لا غاية وراءه في الركاكة، كما قال المعري (1) : تمشت (2) فوقه حمر المنايا ... ولكن بعدما مسخت نمالا (3) [35 - مخاطبة ابن عياش للسان الدين] وقال في ترجمة أبي عبد الله محمد بن علي بن عياش بن مشرف الأمي: إنه من أهل الأصالة والحسب، ظهرت منه على حداثة السن أبيات، ونسب إليه شعر توسل بهن وتصرف في الإشراف، فحمدت سيرته، وكتب إلي بقوله: وسفرت شموس اليمن والإقبال ... وبدت بدور السعد ذات كمال لقدوم سيدنا الوزير محمد ... أعزز به من سيد مفضال قمر تجلى بين زهر تجتلي ... يهدي لفعل الخير لا الإضلال سر آمناً لا تكترث، فلأنت في ... حفظ الإله الواحد المتعالي براً وبحراً لا تخاف ململة ... وعدو ذاتك خلف ظهرك صالي لا يستقر له قرار بعدكم ... مما يحل به من الأوجال والآن ترجع سالماً ومبشراً ... ببلوغ كل مسرة ومنال وهي طويلة، نمطها متخلف عن الإجادة، وهي من مثله مما يستظرف؛ انتهى. [36 - مخاطبة أبي عبد الله الوادي آشي للسان الدين] وقال في ترجمة أبي عبد الله محمد العراقي الوادي آشي: فاضل

_ (1) شروح السقط: 104. (2) السقط: وديت. (3) البيت في وصف السيف؛ أي أن إفرنده وكأنما دبت فوقه النمل.

الأبوة، بادي الاستقامة، حسن الأخلاق، تولى أعمالاً، كتب إلي وقد أبى عملاً عرض عليه بقوله: أأصمت ألفاً ثم أنطق بالخلف ... وأفقد إلفاً ثم آنس بالجلف وأمسك دهري ثم أفطر علقماً ... ويمحق بدري ثم ألحق بالخسف وعزكم لا كنت بالذل عاملاً ... ولو أن ضعفي ينتهي بي إلى الحتف فإن تعلموني في تصرف عزة ... وعدل وإلا فاحسموا علة الصرف بقيتم وسحب العفومنكم تظلني ... وحظ ثنائي دائماًثاني العطف [37 - مخاطبة أبي محمد الأزدي للسان الدين] وقال في ترجمة أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الأزدي ما صورته: وخاطبني لما وليت خطة الإنشاء وغيرها في أواخر عام تسعة وأربعين وسبعمائة بما نصه: حشاشة نفس أعلنت لمذيبها ... بتذكار أيام الوصال وطيبها ونادته رحمى أحييها نفس مد نف ... تموت إذا لم تحيها بوجيبها فداو بقرب منك لاعج وجدها ... وفيض أماقيها، وطول نحيبها وقد بلغت حداً به صح في الهوى ... وأحكامه ثوب الضنى في نصيبها وهل يتداوى داء نفس تعيسة ... إذا كان يوماً داؤها من طبيبها لعل أوار الوجد تخمد ناره ... فيبرد عنها ما بها من لهيبها إليك حداها الشوق يا بدرها الذي ... يعز عليها منه طول مغيبها سلكت بها سبل الهوى فهي تبتغي ... لقاك وتبغي غفلة من رقيبها اجبها بإبقاء عليها فإنها ... ستفنى إذا ما لم تكن بمجيبها ومل نحوها بالود فهي قد أذعنت ... كما تذعن الأقلام لابن خطيبها وحيد الزمان الماهر الباهر الحلى ... وجهبذ آداب العلا وأديبها إمام معاليها، وبحر علومها ... وبدر دياجيها، وصدر شعوبها

مصرفها كيف اثنت ومعيدها ... ومبدئها حيث انتهت ومصيبها ورافع أعلام البلاغة والذي ... أتى ناثراً أوناظماً بعجيبها وحامل رايات الرياسة رفعة ... قضى المجد تخصيصاً لها بوجوبها من الغر لمن أوجبت لشبابها ... معاليهم الفضل العظيم وشيبها من أبناء أرباب المنابر والألى ... سما فخرهم بين الورى بركوبها خلال ابن عبد الله طود الحجى أبي ... محمد باد حسنها من ضروبها أجاد وأجدى فأسل عن ذكر طيْ ... وحاتمها زهواً به وحبيبها ففي كل ما يبدي محمد عبرة ... محاسنها تنبي بسر عيوبها تجيب القوافي إن دعا ببعيدها ... وتنقاد طوعاً إن دعا بقريبها تخير أخلاق الكرام فلم يكن ... نهى ولهى يرضى بغير رحيبها تقدم في دار الخلافة حاجباً ... لينجدها في سلمها وحروبها وقام لها في ساحة العز كاتباً ... بمحضرها أسرارها ومغيبها فأبدى من أنواع الفضائل أوجها ... تقر لها بالحسن عين لبيبها هنيئاً به يمناً بأسعد ماثل ... لغرناطة قاض بصرف خطوبها فللسعد تأثير يجيْ إذا جرى ... به قدر كالريح عند هبوبها أموقد نار الفكر يقدح زندها ... فيسبي به الألباب سحر نسيبها حداني إليك الحب قدماً ومال بي ... حديث لآمال خلت عن غريبها فقدمتها نظماً قوافي قصرت ... لديك بذاوي فكرتي ورطيبها وكنت كمن وافى لدى الدار بالحصى ... يرفع منها ساهياً عن عيوبها فصلها وخذ بالعفوفيها فلم أصل ... لأبلغ منها فأغتفر من ذنوبها [قطع من شعر الأزدي] وصاحب هذا النظم من أهل بلش، وله اقتدار على النظم والنثر، قال في

الإحاطة ما محصله: ومما وقع له أثناء مقامات وأغراض تشهد باقتداره مهملأً: رعى الله عهداً حوى ما حوى ... لأهل الوداد وأهل الهوى أراهم أموراً حلا وردها ... وأعطاهم السؤال كلاً سوا ولما حلا الوصل صالوا له ... وراموه مأوى وماء روا وأوردهم سر أسرارهم ... ورد إلى كل داء دوا وما أمل طال إلا وهي ... وما آمل صال إلا هوى وقال معجمة: بث بيني يبثني فيض جفني ... شغفي شفني فشبت ببيني فتنتني بغنج ظبي تجنى ... تبتغي نقض نيتي بتجني بزة زينت قضيب تثني ... قضيت بغيتي ففزت بفن خفت تشتيت بنيتي فجفتني ... ثقة تثني فخيب ظني وقال كلمة وكلمة: الهوى شفني وأهمل جفني ... أدمعاً تثني دماً بتثني احور شب حر بثي لما ... نقض العهد بين طول تجني حاكم يتقى ولا ذنب إلا ... شغف لم يخب لمسعاه ظني ماله ينقض العهود فيشجي ... ولها يثني مسهد جفن لم يجز وصله فبت محالاً ... يقتضي حل بغيتي كل فن وقال يرثي ديكاً فقده، ويصف الوجد الذي وجده، ويبكي عدم أذانه، إلى غير ذلك من مستظرف شانه: أودى به الحتف لما جاءه الأجل ... ديكاً فلا عوض منه ولا بدل

قد كان لي أمل في أن يعيش فلم ... يثبت مع الحتف في بقياه لي أمل فقدته فلعمري إنها عظة ... وبالمواعظ تذري دمعها المقل ما كان أبدع مرآه ومنظره ... وصفاً به كل حين يضرب المثل كأن مطرف وشي فوق ملبسه ... عليه من كل حسن باه حلل كأن إكليل كسرى فوق مفرقه ... وتاجه فهوعالي الشكل محتفل موقت لم يكن يعزى له خطأ ... فيما يرتب من ورد ولا خلل كأن زرقال (1) فيما مر علمه ... علم المواقيت مما رتب الأول يرحل الليل، يحيي بالصراخ فما ... يصده كلل عنه ولا ملل رأيته قد وهت منه القوى فهوى ... للأرض فعلأً يريه الشارب الثمل لو يفتدى بديوك الأرض قل له ... ذاك الفداء ولكن فاجأ الأجل قالوا الدواء فلم يغن الدواء ولم ... ينفعه من ذاك ما قالوا وما فعلوا أملت فيه ثواباً أجر محتسب ... إن نلت ذلك صح القول والعمل وأمره السلطان أبوعبد الله سادس الملوك النصريين، وقد نظر إلى شلير وقد تردى بالثلج وتعمم، وكمل ما أراد من بزته وتمم، أن ينظم في وصفه، فقال بديهاً: وشيخ جليل القدر قد طال عمره ... وما عنده علم بطول ولا قصر عليه لباس أبيض باه السنا ... وليس بثوب أحكمته يد البشر فطوراً تراه كله كاسياً به ... وكسوته فيها لأهل النهى عبر وطوراً تراه عارياً ليس يكتسي ... بحر ولا برد من الشمس والقمر وكم مرت الأيام وهوكما ترى ... على حاله لم يشك ضعفاً ولا كبر وذاك شلير شيخ غرناطة التي ... لبهجتها في الأرض ذكر قد اشتهر

_ (1) يريد إبراهيم بن يحيى النقاش المعروف بولد الزرقال وقد وضع صحيفة في الرصد اسمها الزرقلة (او الزرقالة) .

بها ملك سامي المراقي، أطاعه ... كبار ملوك الأرض في حالة الصغر تولاه رب العرش منه بعصمة ... تقيه مدى الأيام من كل ما ضرر وتوفي المذكور في بلده بلش في طاعون خمسين وسبعمائة؛ انتهى. [38 - من لسان الدين إلى ابن رضوان] وقال في " الإحاطة " في ترجمة صاحب القلم الأعلى بالمغرب أبي القاسم بن رضوان النجاري (1) ما صورته: ولما ولي الإنشاء بباب ملك المغرب ظهر لسلطاننا بعض قصور في المراجعات، فكتبت إليه (2) : أبا القاسم (3) لا زلت للفضل قاسماً ... بميزان عدل ينصر الحق من نصر مدادك وهوالمسك طيباً ومنظراً ... وإلا سواد القلب والفود والبصر عهدناه في كل المعارف مطنباً ... فما باله في حرمة الود مختصر أظنك من ليل الوصال انتخبته ... إلينا، وذاك الليل يوصف بالقصر أردنا بك العذر الذي أنت أهله ... ومثلك لا يرمي بعي ولا حصر [39 - جواب ابن رضوان] فراجعني، ولا أدري أهي من نظمه أم نظم غيره:

_ (1) هو صاحب كتاب " الشهب اللامعة في السياسة النافعة " وترجمته في الإحاطة، الورقة: 244 والكتيبة: 254 ونبل الابتهاج 123 والتعريف 41 (وص: 20) وفهرسة السراج (ك: 1242 د: 2643) الورقة: 139، 148 ومستودع العلامة: 52 ونثير الجمان، الورقة: 65 (نسخة دار الكتب) وجذوة الاقتباس: 247 وقد كتبنا عنه دراسة مفصلة (نشرت في كتاب العيد الصادر ببيروت سنة 1967) . (2) الأبيات وجابها في الكتيبة: 256. (3) كناه في الإحاطة بأبي محمد.

حقيق أبا عبد الإله بك الذي ... لمذهبه في البر يتضح الأثر وإن الذي نبهت مني لم يكن ... نؤوماً وحاشا الود أن أغمط الأثر ورب اختصار لم يشن نظم ناظم ... ورب اقتصار لم يعب نثر من نثر وعذرك عني من محاسنك التي ... نظام حلاها في الممادح ما انتثر ومن عرف الوصف المناسب منصفاً ... تأتى له نهج من العذر ما دثر [ترجمة ابن رضوان] وهوعبد الله ابن يوسف بن لرضوان بن يوسف بن رضوان النجاري، من أهل مالقة، صاحب العلامة العلية والقلم الأعلى بالمغرب، قرأ على جماعة منهم بتونس قاضي الجماعة ابن عبد السلام، قال في التاج فيه أيام لم يفهق حوضه، ولا أزهر روضه، ما نصه: أديب أحسن ما شاء، ومتح قليبه فملأ الدلووبل الرشاء، وعانى على حداثته الشعر والإنشاء، وله ببلده بيت معمور بفضل وأمانة، ومجد وديانة، ونشأ هذا الفاضل على أتم العفاف والصون، فما مال إلى فساد بعد الكون، وله خط بارع، وفهم إلى الغوامض مسارع، وقد أثبت من كلامه، ونفثات أقلامه، كل محكم العقود، زار بابنة العنقود، فمن ذلك قوله (1) : لعلكما أن ترعيا لي وسائلا ... فبالله عوجا بالركاب وسائلا ومنها: لقد جار دهري إذ نأى بمطالبي ... وظل بما أبغى من القرب ماطلا عتبت عليه فاغتدى لي عتباً ... وقال: أصخ لي لا تكن قط عاذلا أتعبتني أن قد أفدتك موقفاً ... لدى أعظم الأملاك حلماً ونائلا

_ (1) القصيدة في الإحاطة: 246 - 248.

مليك حباه الله بالخلق الرضى ... وأعلى له في المكرمات المنازلا وهي طويلة. ومن نظم ابن لرضوان المذكور (1) : تبرأت من حولي إليك وأيقنت ... برحماك آمالي أصح يقين فلا أرهب الأيام إذ كنت ملجأ ... وحسبي يقيني باليقين يقيني وكلفه أبوعنان وصف صيد من غدير فقال من أبيات (2) : ولرب يوم في حماك شهدته ... والسرح ناشرة عليك ظلالها حيث الغدير يريك من صفحاته ... درعاً تجيد به الرياح صقالها والمنشآت به تدير حبائلأً ... للصيد في حيل تدير حبالها وتريك إذ يلقي بها اليم الذي ... أخفت جوانحه وغاب خلالها فحسبتها زرداً وأن (3) عوالياً ... تركت به عند الطعان نصالها وقال فيه أيضاً: أبصرت في يوم الغدير عجائباً ... جاءت بآيات العجائب مبصره سمكاً لدى شبك فقل ليل بدت ... فيه الزواهر للنواظر نيره فكأن ذا (4) زرد تضاعف نسجه ... وكأن تلك أسنة متكسره ومما نظمه عن أمر الخلافة المستعينية ليكتب في طرة قبة رياض الغزلان

_ (1) الإحاطة: 250 والكتيبة: 259. (2) الكتيبة: 257. (3) ق ص: لو أن. (4) ق: فكأنه.

من حضرته (1) : هذا محل المنى بالأمن معمور ... من حله فهوبالآمال محبور مأوى النعيم به ما شئت من ترف ... تهوى محاسنه الولدان والحور ويطلع الروض منه مصنعاً عجباً ... يضاحك النور من لألائه النور ويسطع الزهر من أرجائه أرجاً ... ينافح الند نشر منه منشور مغنى السرور سقاه الله ما حملت ... غر الغمام وحلته الأزاهير انظر إلى الروض تنظر كل معجبة ... مما ارتضاه لرأي العين تحبير مر النسيم به يبغي القرى فقرى ... دراهم النور تبديد وتنثير وهامت الشمس في حسن الظلال به ... ففرقت فوقها منه دنانير والدوح ناعمة تهتز من طرب ... همساً، وصوت غناء الطير مجهور كأنما الطير في أفنائها صدحت ... بشكر مالكها، والفضل مشكور والنهر شق بساط الروض تحسبه ... سيفاً ولكنه في السلم مشهور ينساب للجة الخضراء أزرقه ... كالأيم جد انسياباً وهو مذعور هذي المصانع مولانا التي جمعت ... شمل السرور، وأمر السعد مأمور وهذه القبة الغراء ما نظرت ... لشكلها العين إلا عز تنظير ولا يصورها في الفهم ذو فكر ... إلا ومنه لكل الحسن تصوير ولا يرام بحصر وصف ما جمعت ... من المحاسن إلا صد تقصير فيها المقاصير تحميها مهابته ... لله ما جمعت تلك المقاصير كأنها الأفق تبدوالنيرات به ... ويستقيم بها في السعد تسيير وينشأ المزن في أرجائه وله ... من عنبر الشحر إنشاء وتسخير وينهمي القطر منه وهو منسكب ... ماء من الورد يذكو منه تقطير

_ (1) القصيدة في الاستقصا 4: 40.

وتخفق الريح منه وهي ناسمة ... مما أهب به مسك وكافور ويشرق الصبح منه وهو من غرر ... غر تلألأ منهن الأسارير وتطلع الشمس فيه من سنا ملك ... تبسم الدهر منه وهو مسرور لله منه إمام عادل بهرت ... أوصافه فهي للأمداح تحبير غيث السماح وليث البأس فالق به ... محيي الهدى وهوللعادين تتبير قل للمباري وإن لم تلقه أبداً ... ورب فرض محال وهو تقدير فخر الأنام أحل الفخر منزله ... فكل مدح على علياه مقصور إذا أبوسالم مولى الملوك بدا ... بدراً تضيْ بمرآه الدياجير فأي خطب يخاف الدهر آمله ... وأي سؤل له في النيل تعذير بشراك بشراك يا نجل الخلافة ما ... خولت من نيلها والضد مقهور لك الخلود بعز الملك في نعم ... لا يعتري صفوها في الدهر تكدير فانعم هنيئاً بلذات مواصلة ... لا يأتليهن إلمام وتكرير لازلت تلقى المنى في غبطة أبداً ... ما دام لله تهليل وتكبير وقال وكتب به على قلم فضة: إذا شهدت بالنصر خطية القنا ... فملكت أمر الفتح من دون ما شرط كفى شاهداً مني بفضلك ناطقاً ... لساني مهما أفصحت ألسن الخطي وقال وكتب به على سكين: أروح بأمر المستعين وأغتدي ... لإذهاب طغيان اليراع الرواقم ويفل في الأقلام حدي مصلحاً ... كفعل ظبي أسيافه في الأقالم قال: ومما كتب به على قصيدة عيدية: لما رأيت هدايا أعظمها ... هدية الطيب في حسن وتعجيب

ولم أجد في دروب العاطرات شذا ... يحكي ثنائك في نشر وفي طيب أهديت نحوك منه كل ذي أرج ... أنفاسه بين تشريق وتغريب وفي القبول منال السعد فالق به ... تلق الأماني بتأهيل وترحيب وقال في رجل يلقب بالبعير: وذي لقب عنت له عند صحبه ... مآرب لم يسعد عليهن مسعد دعوه بعيراً فاستشاط فقال مه ... أبا أحمد، وارتد عنهم يهدهد فقلت له عد نحوهم لتعود من ... مرامك بالمطلوب توفى وتحمد فقال وقد غص الفضاء بصوته ... وقد هدرت منه الشقاشق تزبد لئن عدت نادوني بعيراً كمثلها ... فقلت له لا تخشى فالعود (1) أحمد وقال (2) : وبخيل لما دعوه لسكنى ... منزل بالجنان ضن بذلك قال لي مخزن بداري فيه ... كل مالي فلست للدار تارك قلت وفقت للصواب فحاذر ... قول خل مرغب في انتقالك لا تعرج على الجنان بسكنى ... ولتكن ساكناً بمخزن مالك (3) وقال رحمه الله تعالى في مركب: يا رب منشأة عجبت لشأنها ... وقد احتوت في البحر أعجب شان سكنت بجنبيها عصابة شدة ... حلت محل الروح في الجثمان فتحركت بإرادة مع أنها ... في جنسها ليست من الحيوان

_ (1) يوري بكلمة " العود " وهو البعير أيضاً. وفي ص: لا تمش. (2) الأبيات في الإحاطة: 254 وكذلك القطعتان التاليتان. والثانية منهما في الكتيبة: 258. (3) يوري بمالك التي تعني المال، ومالك هو خازن النار.

وجرت كما قد شاءه سكانها ... فعلمت أن السر في السكان (1) وقال رحمه الله تعالى: وذي خدع دعوه لاشتغال ... وما عرفوه غثاً من سمين فأظهر زهده وغنى بمال ... وجيش الحرص منه في كمين وأقسم لا فعلت يمين خب ... فيما عجباً لحلاف مهين يغر بيسره ويمين حنث ... ليأكل باليسار وباليمين وهوالآن بحالة الموصوفة؛ انتهى. [40 - مخاطبة أبي بكر بن عبد الله للسان الدين] وقال لسان الدين رحمه الله تعالى: خاطبني أبوبكر عبد الرحمن بن عبد الملك مستدعياً إلى إعذاره ولده بقوله: أريد من سيدي الأعلى تكلفه ... إلى الوصول إلى داري صباح غد يزيدني شرفاً منه ويبصر لي ... صناعة القاطع الحجام في ولدي فأجبته: يا سيدي الأوحد الأسمى ومعتمدي ... وذا الوسيلة من أهلي ومن بلدي دعوت في يوم الاثنين الصحاب ضحى ... وفيه ما ليس في سبت ولا أحد يوم السلام على المولى وخدمته ... فاصفح وإن عثرت رجلي فخذ بيدي والعذر أوضح من نار على علم ... فعد إن غبت عن لوم وعن فند بقيت في ظل عيش لا نفاذ له ... مصاحباً غير محصور إلى أمد

_ (1) التورية في السكان من المثل " الشأن في السكان لا في المكان " والسكان أيضاً " دفة السفينة ".

[ترجمة أبي بكر بن عبد الملك] وأبوبكر المذكور أصله من باغه، ونشأ بلوشة، وهومحسوب من الغرناطيين. وفي " التاج " حقه ما صورته: فارض هاجي، مداهن مداجي، أخبث من نظر من طرف خفي، وأغدر من تلبس بشعار وفي، إلى مكيدة مبثوثة الحبائل، وإغراء يقطع بين الشعوب والقبائل، من شيوخ طريقة العمل، المتقلبين من أحوالها بين الصحو والثمل، المتعللين برسومها حين اختلط المرعي بالهمل، وهوناظم أرجاز، ومستعمل حقيقة ومجاز، نظم مختصر السيرة، في الألفاظ اليسيرة، ونظم رجزاً في الزجر والفال، نبه به تلك الطريقة بعد الإغفال؛ انتهى. قال: ومن شعره: إن الولاية رفعة لكنها ... أبداً إذا حققتها تتنقل فانظر فضائل من مضى من أهلها ... تجد الفضائل كلها لا تعزل توفى بالطاعون بغرناطة عام خمسين وسبعمائة؛ انتهى. [41 - مخاطبة أبي سلطان للسان الدين] وقال في ترجمة أبي سلطان عبد العزيز بن علي الغرناطي بن يشت ما صورته (1) : ومما خاطبني به قوله: أطلت عتب زمان فل من أملي ... وسمته الذم في حل ومرتحل عاتبته ليلين العتب جانبه ... فما تراجع عن مطل ولا بخل

_ (1) ترجمته في الإحاطة، الورقة: 315.

فعدت أمنحه العتبى ليشفق لي ... فقال لي إن سمعي عنك في شغل فالعتب عندي كالعتبى فلست أرى ... أصغي لمدحك إذ لم أصغ للعذل فقلت للنفس كفي عن معاتبةٍ ... لا تنقضي وجوابٍ صيغ من وجل من يتعلق في الدنا بابن الخطيب فقد ... سما عن الذل واستولى على الجذل قالت فمن لي بتقريبي لخدمته ... فقد أجاب قريباً من جوابك لي فقال للناس كفوا عن محادثتي ... فليس ينفعكم حولي ولا حيلي قد أشتغلت عن الدنيا بآخرتي ... وكان ما كان من أيامي الأول وقد رعيت وما أهملت من منح ... فكيف يختلط المرعي بالهمل ولست أرجع للدنيا وزخرفها ... من بعد شيب غدا في الرأس مشتعل ألست تبصر أطماري وبعدي عن ... نيل الحظوظ وإغذاذي إلى أجلي فقلت ذلك قولٌ صح مجمله ... لكن من شأنه التفصيل للجمل ما أنت جالب أمرٍ نستعين به ... على المظالم في حال ومقتبل ولا تحل حراماً أو تحرم ما ... أحل ربك في قولٍ ولاعمل ولا تبع آجل الدنيا بعاجلها ... كما الولاة تبيع اليم بالوشل وأين عنك الرشا إن ظلت تطلبها ... هذا لعمري أمرٌ غير منفعل هل أنت تطلب إلا أن تعود إلى ... كتب المقال الرفيع القدر في الدول فما لأوحد هذا الكون قاطبةً ... وأسمح الخلق من حافٍ ومنتعل لم يلتفت نحوما تبغيه من وطرٍ ... ولم يسد الذي قد بان من خلل إن لم تقع نظرةٌ منه عليك فما ... يصفو لديك الذي أملت من أمل فدونك السيد الأعلى فمطلبكم ... قد نيط منه بفضلٍ غير منفصل قد خبرت بني الدنيا بأجمعهم ... من عالمٍ وحكيم عارفٍ وولي فما رأيت له في الناس من شبهٍ ... قل النظير له عندي فلا تسل وقد قصدتك يا أسمى الورى همماً ... وليس لي عن حمى علياك من حول فما سواك لما أملت من أملٍ ... وليس لي عنك من زيغ ولا ميل

فأنظر لحالتي فقد ترق الحسود لها ... واحسم زمانة ما قد ساء من علل ودم لنا ولدين الله ترفعه ... ما أعقبت بكر الإصباح بالأصل لازلت معاتباً عن كل حادثةٍ ... كما علت ملة الإسلام في الملل انتهى. [ترجمة عبد العزيز أبي سلطان] والمذكور هوعبد العزيز بن علي بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد العزيز بن يشت، من غرناطة، يكنى أبا سلطان قال في " الإحاطة " في حقه: فاضل حيي حسن الصورة بادي الحشمة فاضل البيت سريه كتب في ديوان الأعمال فأتقن وترقى إلى الكتابة السلطانية وسفر في بعض الأغراض الغربية ولازم الشيخ أبا بكر عتيق بن مقدم من مشيخة الصوفية بالحضرة فظهرت عليه آثار ذلك في نظمه ومقاصده فمن نظمه ومقاصده فمن نظمه ما أنشده ليلة الميلاد المعظم: القلب يعشق والمدامع تنطق ... برح الخفاء فكل عضو منطق إن كنت أكتم ما أكن من الجوى ... فشحوب لوني في الغرام مصدق وتذللي عند اللقا وتملقي ... إن المحب إذا دنا يتملق فلكم سرت عن الوجود محبتي ... والدمع يفضح ما يسر المنطق ولكم أموه بالطلول وبالكنى ... وأخوض بحر الكتم وهو الأليق ظهر الحبيب فلست لأبصر غيره ... فبكل مرئي أرى يتحقق ما في الوجود تكثرٌ لمكثرٍ ... إنا لمكثر بالأباطل يعلق فمتى نظرت فأنت موضع نظرتي ... ككل اللسان وكل عنه المنطق فاسلك مقامات الرجال محققاً ... إن المحقق شأوه لا يلحق مزق حجاب الوهم لا تحفل به ... فالوهم يستر ما العقول تحقق

واخلص إذا شئت الوصول ولاتئل (1) ... فالعجز عن طلب المعارف موبق إن التحلي في التخلي فاقتصد ... ذاك الجناب فبابه لا يغلق ولتقتبس نار الكليم ولاتخف ... والغ السوى إن كنت منها تفرق ومتى تجلى فيك سر جماله ... فصعقت خوفاً فالمكلم يصعق دع رتبة (2) التقليد عنك ولاتته ... تلق الذي قيدت وهوالمطلق واقطع حبال علائقٍ وعوائقٍ ... إن العوائق بالمكاره تطرق جرد حسام النفس عن جفن الهوى ... إن العوائد بالتجرد تخرق فإذا فهمت السر منك فلا تبح ... فالسيف من بث الحقائق أصدق بالذوق لا بالعلم يدرك علمنا ... سر بمكنون الكتاب يصدق رفعت له الحجب التي لم ترتفع ... إلا إليه فكل ستر يخرق ورقي مقاماً قصرت عن كهنه ... رتب الوجود وكع عنه السبق وطئ البساط تدللاً وجرى إلى ... أمد تناهى ما إليه مسبق إنسان عين الكون مبلغ سره ... قطب الجمال وغيثه المتدفق سر الوجود ونكتة الدهر الذي ... كل الوجود بجوده يتعلق من جاء بالآيات يسطع نورها ... والذكر فهو عن الهوى لا ينطق يا سيد الأرسال غير مدافعٍ ... وأجلهم سبقاً وإن هم أعنقوا بالفقر جئتك مؤلي لا بالغنى ... فالذل والإذعان عندك ينفق فاجبر كسير جرائرٍ وجرائمِ ... فالقلب من عظم الخطايا يقلق

_ (1) لا تتل: لا تقصر. (2) ق: ريبة.

أرجوك يا غوث الأنام فلا تدع ... باب الرضى دوني يسد ويغلق حاشاك تطرد من أتاك مؤملاً ... فلأنت لي مني أن وأرفق ومحبتي تقتضي بأنك منقذي ... مما أخاف فما بغيرك أعلق يا هل تساعدني الأماني والمنى ... وأحل حيث سنا الرسالة يشرق فعليك يا أسنى الوجود تحيةٌ ... من طيب نفحتها البسيطة تعبق وعلى صحابتك الذين تأنقوا ... رتب الكمال ومثلهم يتأنق وعلى الألى آووك في أوطانهم ... نالوا بذلك رتبةً لا تلحق أعظم بأنصار النبي وحزبه ... وبمن أتى بعباءة يتعلق من مثل سعدٍ أو كقيسٍ نجله ... عرف السيادة من حماهم ينشق أكرم بهم وبمن أتى من سرهم ... عز النظير فمجدهم لا يلحق من مثل نصرٍ أوبنيه ملوكنا ... كل الأنام لعزهم يتملق بمحمدٍ نجل الخليفة يوسفٍ ... عز الهدى فحماه ما إن يطرق مولى الملوك وتاج مفرق عزهم ... وأجل من تحدى إليه الأنيق ملكٌ يرى أن التقدم مغنمٌ ... مهما تعرض موكبٌ أو فيلق تروى أحاديث الوغى عن بأسه ... فالسيف يسند والعوالي تطلق ملك البسالة والمكارم والنهى ... فعداته منه تغص وتفرق ملئت قلوب عداه منه مهابةً ... فمغربٌ من خوفه ومشرق مولاي يا أسمى الملوك ومن غدت ... عين الزمان إلى سناه تحدق لا تقطعوا عني الذي عودتم ... فالعبد من قطع العوائد يشفق لا تحرموني مطلبي فمحبتي ... تقضي لسعيي أنه لا يخفق فانعم بردي في بساطك كاتباً ... وأعد لما قد كنت فهوالأليق فاسلم أمير المسلمين لأمةٍ ... أفواههم ما إن بغيرك تنطق

وأهنأ بها من ليلةٍ نبويةٍ ... جاءت بأكرم من به يتعلق صلى عليه الله ما هبت صباً ... واهتز غصنٌ في الحديقة مورق ثم قال وهوبحالته الموصوفة؛ انتهى. [42 - رسالة من النباهي للسان الدين] ومما خوطب به لسان الدين رحمه الله تعالى ما حكاه في الإحاطة في ترجمة القاضي أبي حسن النباهي إذ قال ما نصه وخاطبني بسبتة وأنا يومئذ بسلا بقوله يا أيتها الآية البالغة وقد طمست الأعلام والغرة الواضحة وقد تنكرت الأيام والبقية الصالحة وقد ذهب الكرام أبقاكم الله تعالى البقاء الجميل وأبلغكم غاية المراد ومنتهى التأميل أبي الله أن يتمكن المقام بالأندلس بعدكم وأن يكون سكون النفس إلا عندكم سرٌ من الكون غريب ومعنى في التشاكل عجيب أختصر لكم الكلام فأقول بعد التحية والسلام تفاقمت الحوداث وتعاظمت الخطوب والكوارث واستأسدت الذئاب الأخابث ونكث الأكثر من ولد سام وحام ويافث فلم يبق إلا كاشح باحث أومكافح عابث وياليت شعري من الثالث فحينئذ وجهت وجهي للفاطر البعث ونجوت بنفسي لكن منجى الحارث وقد عبرت البحر كسير الجناح دامي الجراح وإني لأرجوالله سبحانه بحسن نيتكم أن يكون الفرج قريباً والصنع عجيباً فعمادي أعان الله على القيام بواجبه هوالركن الذي مازلت أميل على جوانبه ولا تزيدني الأيام إلا بصيرة في الإقرار بفضله والاعتداد به وقد وصلني خطاب سيدي الذي جلى الشكوك بنور يقينه ونصح النصح اللائق بعلمه ودينه وكأنه نظر إلى الغيب من وراء حجاب فأشار بما أشار به على سارية عمر بن الخطاب ومن العجب أني علمت بمقتضى إشارته قبل بلوغ إضبارته فلله ما تضمنه مكتوبكم الكريم من الدر وحرره من الكلام

الحر وايم الله لوتجسم لكان ملكاً ولوتنسم لكان مسكاً ولوقبس لكان شهاباً ولولبس لكان شباباً فحل مني علم الله تعالى محل البرء من المريض وأعاد الأنس من التعريض والكلم المزرية بقطع الروض الأريض فقبلته عن راحتكم وتخليت أنه مقيم بساحتكم ثم وردت معينه الأصفى وكلت من بركات مواعظه بالمكيال الأوفى وليست بأول أياديكم وإحالتكم على الله فهوالذي يجازيكم وبالجملة فالأمور بيد الأقدار لا إلى المراد والاختيار: وما كل ما ترجوالنفوس بنافعٍ ... ولا كل ما تخشى النفوس بضرار انتهى. قات أين هذا الكتاب من الذي قدمناه عنه في الباب الثاني حين أظلم بينه وبين لسان الدين الجووعطفه إلى مهاجا ته ثاني وسفر في أمره إلى العدوة واجتهد في ضرره بعد أن كان له به القدوة وقد قابله لسان الدين بما أذهب عن جفنه الوسن وألف فيه كما سبق " خلع الرسن ". [ترجمة النباهي] على أنه عرف به في " الإحاطة " أحسن تعريف وشرفه بحلاه أجمل تشريف إذ قال ما ملخصه (1) : علي بن عبد الله بن محمد بن محمد بن عبد الله ابن الحسن بن محمد بن الحسن الجذامي المالقي أبوالحسن، ويعرف بالنباهي، هذا الفاضل قريع بيت مجادة وجلالة، وبقية تعين وأصالة، عف النشأة، طاهر الثوب، مؤثر للوقار والحشمة، خاطب للشيخوخة، مستعجل للشيبة، ظاهر الحياء، متحرك مع السكون، بعيد الغور، مرهف الجوانب

_ (1) قارن بما كتبه عنه في الكتيبة: 146 بعد أن تغيرة النفوس.

مع الانكماش في والآلة متاظهر بالسذاجة بريء من النوك والغفلة يقظ للمعاريض مهتدٍ إلى الملاحن طرف في الجود (1) ، حافظ مقيد طلعة إخباري قائم على تاريخ بلده شرع في تكميل ما صنف فيه ملازم للتقييد والتطرير (2) ، منقر عن الإجادات والفوائد استفدت منه في هذا الغرض وغيره كثيراً حسن الخط ناظم ناثر نثره يشف على نظمه ذاكر للكثير استظهر محفوظات منها النوادر لقالي وناهيك به محفوظاً مهجوراً ومسكاً غفلاً فما ظنك بسواه نشا ببلده حر الطعمة فاضل الأبوة وقرأ به ثم ولى القضاء بملتماس (3) ثم ببلش وعملها فسيح الخطة مطلق الجراية بعيد المدى في باب النزاهة ماضياً غير هيوب حتى أربى في الزمن القريب على المحتنكين وغبر في وجوه أهل الدربة وجرت أحكامه مستندة إلى الفتيا جارية على المسائل المشهورة ثم نقل منها إلى النظر في أمور الحل والعقد بمالقة مضافة إليه الخطط النبيهة وصدر له منشور من إملائي إلى أن قال في ترجمة نظمه قال نظمت سمح الله تعالى لي قطعتين موطئاً فيهما على البيتين المشهورين إحداهما: بنفسي من غزلان حزوى غزالةٌ ... جمال محياهاعن النسك زاجر تصيد بلحظ الطرف من رام صيدها ... ولو أنه النسر الذي هو طائر معطرة الأنفاس رائقة الحلى ... هواها بقلبي في المهامة سائر " إذا رمت عنها سلوة قال شافعٌ ... من الحب ميعاد السلو المقابر " والأخرى: وقائلةٍ لما رأت شيب لمتي ... لئن ملت عن سلمى فعذرك ظاهرُ

_ (1) ق: المجون. (2) التطرير: التقييد في طرر الكتب. (3) ق: بملتمامو.

زمان التصابي قد مضى لسبيله ... وهل لك بعد الشيب في الحب عاذ فقلت لها كلا وإن تلف الفتى ... فما لهواها عند مثلي آخ " سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود يوم تبلى السرائر " وكتب على مثال النعل الكريم وأهداه لمزمع سفر: فديتك لا يهدى إليك أجل من ... حديث نبي الله خاتم رسله ومن ذلك الباب المثال الذي أتى ... به الأثر المأثور في شأن نعله ومن فضله مهما يكن عند حاملٍ ... له نال ما يهواه ساعة حمله ولا سيما إن كان ذا سفرٍ به ... فقد ظفرت يمناه بالأمن كله فدونك منه أيها المعلم الرضى ... مثالاً كرماً لا نظير لمثله وقال مراجعاً عن أبيات يظهر منها غرضها: إذا كنت بالقصد الصحيح لنا تهوى ... فسلم لنافي حكمنا ودع الشكوى ولا تتبع أهواء نفسك والتفت ... لنا حيث كنا في الرخاء وفي اللأوا (1) وكم من محب في رضانا وحبنا ... محا كل ما يبدو سوانا له محوا رآنا عياناً عين معنى وجوده ... فعاج عن الشكوى وفوض في البلوى وقال تحكم كيف شئت بما ترى ... رضيت بما تقضي وهمت بما تهوى فحل لدينا بالخلوص وبالرضى ... محلٍ اختصاصٍ نال منه المنى صفوا فإن كنت ترجوفي الصبابة والهوى ... لحاقاً بهم فاسلك طريقهم الأضوا ومت في سبيل الحب إن كنت مخلصاً ... لنا في الهوى تحيا حياة أولي التقوى هنالك تؤتى ما تريد وتقتضي ... ديونك منا دون مطلٍ ولا دعوى وتشرب من عين اليقين وتغتذي ... بخمر الصفا الصرف الزلال لكي تروى

_ (1) اللأواء: الشدة.

وقال: لا تلجأن لمخلوقٍ من الناس ... من يافثٍ كان أصلاً أومن الياس وثق بربك لاتيأس تجد عجباَ ... فلا أضر على عبدٍ من اليأس وقال: فديتك لا تصحب لئيماً ولا تكن ... معيناً له إن اللئيم خؤؤن فلا عهد يرعى لا ولا نعمةً يرى ... ولا سر خلٍ عن عداه يصون وقال يخاطب أبا القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان: لك الله قلبي في هواك رهين ... وروحي عني إن رحلت ظعين ملكت بحكم الفضل كلي خالصاً ... وملكك للحر الصريح يزين فهب لي من نطقي بمقدار ما به ... يترجم سرٌ في الفؤاد دفين فقد شملتنا من رضاك ملابسٌ ... وسح لدينا من نداك معين أعنت على الدهر الغشوم ولم تزل ... بدنياك في الأمر المهم تعين وقصر من لم تعلم النفس أنه ... خذولٌ إذا خان الزمان يخون وإني بحمد الله عنه لفي غنىً ... وحسبي صبرٌ عن سواك يصون ابى لي مجدٌ عن كرام ورثته ... وقوفاً ببابٍ للكريم يهين ونفسٌ سئمت فوق السماكين همةٌ ... وما كل نفسٍ بالهوان تدين ولما رأت عيني محياك أقسمت ... بأنك للفعل الجميل ضمين وعاد لها الأنس الذي كان قد مضى ... برية إذ شرخ الشباب خدين بحيث نشئنا لابسين حلى التقى ... وكلٌ بكلٍ عند ذاك ضنين أما وسنا تلك الليالي وطيبها ... ووجد غرامي والحديث شجون وفتيان صدقٍ كالشموس وكالحيا ... حديثهم ما شئت عنه يكون لئن نزحت تلك الديار فوجدنا ... عليها له بين الضلوع أنين

إذ مر حينٌ زاده الشوق جدةً ... وليس بعابٍ للربوع حنين وأنى بمسلاها وللبين لذعةٌ ... اقل أذاها للسليم جنون لقد عبثت أيدي الزمان بجمعنا ... وحان أفتراقٌ لم نخله يحين وبعد التقينا في محل تغرب ... وكل الذي دون الفراق يهون فقابلت بالفضل الذي أنت أهله ... ومالك في حسن الصنيع قرين وغبت وما غابت مكارمك التي ... على شكرها الرب العظيم يعين يميناً لقد أوليتنا منك نعمةً ... تلذ بها عند العيان عيون ويقصر عنها الوصف إذ هيا كلها ... لها وجه حرٍ بالحياء مصون ولما قدمت الآن زاد سرورنا ... ومقدمك الأسى بذاك قمين لأنك أنت الروح منا وكلنا ... جسومٌ فعند البعد كيف نكون ولو كان قدر الحب فيك لقاؤنا ... إليك لكنا باللزوم ندين ولكن قصدنا راحة المجد جهدنا ... فراحته شمل الجميع تصون هنيئاً هنيئاً أيها العلم الرضى ... بما لك في طي القلوب كمين لك الحسن والإحسان والعلم والتقى ... فحبك دنيا للمحب ودين وكم لك في باب الخلافة من يد ... أقرت لها بالصدق منك مرين وقامت عليها للملوك أدلةٌ ... فأنت لديها ما حييت مكين فلا وجه إلا وهوبالبشر مشرقٌ ... ولا نطق إلا عن علاك مبين بقيت لربع الفضل تحمي ذماره ... صحيحاً كما قد صح منك يقين ودونك يا قطب المعالي بنيةً ... من الفكر عن حال المحب تبين أتتك ابن رضوان تمت بودها ... وما لسوى الإغضاء منك ركون فخل انتقاد البحث عن هفواتها ... ومهد لها بالسمح حيث تكون وخذها على علاتها فحديثها ... حديث غريبٍ قد عراه سكون وهوبحاله الموصوفة؛ انتهى باختصار.

[43 - مخاطبات بين لسان الدين وابن الجياب] ولما كتب لسان الدين إلى شيخه الرئيس الكاتب أبي الحسن الجياب قصيدة أولها (1) : أمستخرجا كنز العقيق بآماقي ... أناشدك الرحمن بالرمش الباقي فقد ضعفت عن حمل صبري طاقتي ... عليك وضاقت عن زفيري أطواقي وهي طويلة أجابه عنها بقوله: سقاني فأهلاً بالمدامة (2) والساقي ... سلافاً بها قام السرور على ساق ولا نقل إلا من بدائع حكمةٍ ... ولا كاس إلا من سطورٍ وأوراق فقد أنشأت لي نشوةً بعد نشوةٍ ... تمد بروحانيةٍ ذات أذواق فمن خطها الفاني (3) متاع لناظري ... وسمعي وحظ الروح من خطها الباقي أعادت شبابي بعد سبعين حجةً ... فأثوابه قد جددت بعد إخلاقي ولا خالطن لحمي ولا مازجت دمي ... كفى شرها مولاي فالفضل للواقي وهذا على عهد الشباب فكيف لي ... بها بعد ماءٍ للشبيبة مهراق تبصر فحكما القهوتين تخالفا ... فكم بين إثبات لعقلٍ وإزهاق وشتان بين المدامين فاعتبر ... فكم بين إنجاح لسعي وإخفاق فتلك تهادى بين ظلمٍ وظلمةٍ ... وهذي تهادى بين عدلٍ وإشراق أيا علم الإحسان غير منازعٍ ... شهادة إجماعٍ عليها وإصفاقٍ (4)

_ (1) انظر الكتيبة: 186. (2) الكتيبة: بالسقاية. (3) الكتيبة: الباهي. (4) الكتيبة: وإطباق.

فضائلك الحسنى علي تواترت ... بمنهمرٍ من سحب فكرك غيداق خزائن آداب بعثت بدرها ... إلي ولم تمنن بخشية إنفاق ولا مثل بكرٍ حرة عربية ... زكية أخلاقٍ كريمة أعراق فأقسم ما البيض الحسان تبرجت ... تناجيك سراً بين وحي وإطراق بدورٌ بدت من أفق أطواقها على ... رياض شدت في قطبها ذات أطواق فناظر منها الأقحوان ثغورها ... وقابل منها نرجس سحر (1) أحداق وناسب منها الورد خداً مورداً ... سقاه الشباب النضر بورك من ساق وألبسن من صنعاء وشياً منمنماً ... وحلين من درٍ نفائس أعلاق بأحلى لأفواهٍ وأبهى لأعين ... وأحيى لألباب وأشهى لعشاق رأيت بها شهب السماء تنزلت ... إلي تحييني تحية مشتاق ألا إن هذا السحر لا سحر بابلٍ ... فقد سحرت قلبي المعنى فمن راق لقد أعجزت شكري فضائل ماجدٍ ... أبر بأحباب وأوفى بميثاق تقاضى ديون الشعر مني منبهاً ... رويدك لاتعجل علي يإرهاق فلونشر الصادان من ملحديهم ... لإنصاف هذا الدين لاذا بإملاق (2) فخذ بزمام الرفق شيخاً تقاصرت ... خطاه وعاهده بمعهود إشفاق فلا زلت تحيي للمكارم رسمها ... وقدرك في أهل العلا والنهي راق قال وكتبت إليه في غرض العتاب قصيدة أولها: أدرنا وضوء الأفق قد صدع الفضا ... مدامة عتب بيننا نقلها الرضى فلله عينا من رآنا وللحيا ... حبي بآفاق البشاشة أومضا

_ (1) الكتيبة: حسن. (2) الصادان: الصابي أبو غسحاق والصاحب بن عباد.

نفر إلى عدل الزمان الذي أتى ... ونبرأ من جور الزمان الذي مضى ونأسو كلوم اللفظ باللفظ عاجلاً ... كذا قدح الصهباء داوى وأمرضا فراجعني عنها بهذه القصيدة: ألا حبذا ذاك العتاب الذي مضى ... وإن جره واش بزور تمضمضا أغارت له خيل فما ذعرت حمى ... ولكنها كانت طلائع للرضى تألق منه بارق صاب مزنه ... على معهد الحب الصميم فروضا تلألأ نوراً للصداقة حافظاً ... وإن ظن سيفاً للقطيعة منتدى فإن سود الشيطان منه صحيفة ... أتى ملك الرحمى عليها فبيضى وما حب أحكم الصدق عهده ... ليرمى بوسواس الوشاة فيرفضا أعيذ وداداً زاكي القصد وافياً ... تخلص من أدرانه فتمحضا ونية صدق في رضى الله أخلصت ... سناها بآفاق البسيطة قد أضا من الآفك الساعي ليخفي نورها ... أيخفي شعاع الشمس قد ملأ الفضا وكيف يحل المبطلون بإفكهم ... معاقد حب أحكمتها يد القضا تعرض يبغي هدمها فكأنه ... لتشييد مبناها الوثيق تعرضا وحرض في تنفيره فكأنما ... على البر والتسكين والحب حرضا وأوقد ناراً فهو يصلى جحيمها ... يقلب منها القلب في موقد الغضى أيا واحدي المعدود بالألف وحده ... ويا ولدي البر الزاكي إن ارتضى بعثت من الدار النفيس قلائداً ... على ما ارتضى حكم المحبة واقتضى نتيجة آداب وطبع مهذب ... أطال مداه في البيان وأعرضا ولا مثل بكر باكرتني آنفا ... كزورة خل بعد ما كان أعرضا هي الروضة الغناء أينع زهرها ... تناظر حسناً مذهباً ومفضضا أو الغادة الحسناء راقت فينقضي ... مدى العمر في وصفي لها وهو ما انقضى تطابق منها شعرها وجبنها ... فذا الليل مسوداً وذا الصبح أبيضا

أو الشهب منها زينة وهداية ... ورجم لشيطان إذا هو قيضا أتت بديع الشعر طوراً مصرحاً ... بآياتك الحسنى، وطوراً معرضا ومهدت الأعذار دون جناية ... ولو أنك الجاني لكنك المغمضا لك الله من بر وفي وصاحب ... محضت له صدق الضمير فأمحضا لسانك في شكري مفيض تفضلاً ... فيا حسن ما أهدى وأسدى وأقرضا وقبلك فاضت فيه أنوار خلتي ... فألقى يدي تسليمه لي مفوضا وقصدك مشكور، وعهدك ثابت ... وفضلك منشور، وفعلك مرتضى فهل مع هذا ريبة في مودة ... بحال وإن رابت فما أنا معرضا فثق بولائي إنني لك مخلص ... هوى ثابتاً يبقى فليس له انقضا عليك سلام الله ما هبت الصبا ... وما بارق جنح الدجنة أومضا وقال لسان الدين: من غريب ما خاطبني به قوله (1) : أقسم بالقيسين والنابغتين ... وشاعري طيْ المولدين وبابن حجر وزهير وابنه ... والأعشيين بعد ثم الأعميين ثم بعشاق الثريا والرق ... يات وعزة ومي وبثين وبأبي الشيص ودعبل ومن ... كشاعري خزاعة المخضرمين وولد المعتز والرضي وال ... سري ثم حسن وابن الحسين واختم بقس وسبحان وإن ... أوجب حق أن يكونا أولين وحلبتي نثرهم ونظمهم ... في مشرقي أقطارهم والمغربين إن الخطيب ابن الخطيب سابق ... بنثره ونظمه للحلبتين راقتني الصحيفة الحسنا التي ... شاهدت فيها المكرمات رأي العين تجمع من براعة المعنى إلى ... براعة الألفاظ كلتا الحسنيين

_ (1) الكتيبة: 188.

أشهد أنك الذي سبقت في ... طريقي الآداب أقصى الأمدين شعر حوى جزالة ورقة ... تصاغ منه حلة للشعريين رسائل أزهارها منثورة ... سرور قلب ومتاع ناظرين يا أحوذياً يا نسيج وحده ... شهادة تنزهت عن قول مين بقيت في مواهب الله التي ... تقر عينيك وتملأ اليدين انتهى. [44 - من سعيد الغرناطي إلى لسان الدين] وحكى لسان الدين أن سعيد بن محمد الغرناطي الغساني استعار منه كتاباً، فأرسله إليه وعلى ظهره هذه الأبيات: هذا كتاب كله معجم ... أفحمني معناه إفحاما أعجمه منشئه أولاً ... وزاده الناسخ إعجاما أسقط من إجماله جملة ... وزاد في التفصيل أقساما وغير الألفاظ عن وضعها ... وصير الإيجاد إعداماً فليس في إصلاحه حيلة ... ترجى، ولوقوبل أعواما ولم أقف على جواب لسان الدين له عنها، والله تعالى أعلم. وولد سعيد المذكور سنة699. [45 - مخاطبات بين ابن البناء ولسان الدين] ومما خوطب به لسان الدين لما تقلد الكتابة العليا قول أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن البناء الوادي آشي رحمه الله تعالى: هو العلاء جرى باليمين طائره ... فكان منك على الآمال ناصره

ولو جرى بك ممتداً إلى أمد ... لأعجز الشمس ما آبت عساكره لقد حباه منيع العز خالقه ... بفاضل منك لا تحصى مآثره فليزه فخراً فما خلق يعارضه ... ولا علاء مدى الدنيا يفاخره لله أوصافك الحسنى لقد عجزت ... من كل ذي لسن عنها خواطره هيهات ليس عجيباً عجز ذي لسن ... عن وصف بحر رمى بالدار زاخره هل أنت إلا الخطيب ابن الخطيب ومن ... زانت حلى الدين والدنيا مفاخره فإن يقصر عن الوصاف ذو أدب ... فما بدا منك في التقصير عاذره يا ابن الكرام الألى ما شب طفلهم ... إلا وللمجد قد شدت مآزره مهلاً عليك فما العلياء قافية ... ولا العلاء بسجع أنت ناثره ولا المكارم طرساً أنت راقمه ... ولا المناقب طباً أنت ماهره ماذا على سابق يسري إلى سنن ... إن كان من رفقه خل يسايره سر حيث شئت من العلياء متئداً ... فما أمامك سباق تحاذره أنت الإمام لأهل الفخر إن فخروا ... أنت الجواد الذي عزت أوافره ما بعد ما حزته من عزة وعلا ... شأو يطارد فيه المجد كابره نادت بك الدولة النصري محتدها ... نداء مستنجد أزراً يوازره حليتها برداء مرتدياً ... وصبح يمنك فجر السعد سافره فالملك يرفل في أبراده مرحاً ... قد عمت الأرض إشراقاً بشائره فاهنأ بها نعمة ما إن يقوم لها ... من اللسان ببعض الحق شاكره وليهنها أنها نعمة ما إن يقوم مقالدها ... إلى زكي زكت منه عناصره فإنه بدر تم في مطالعها ... قد طبق الأرض بالأنوار نائره وقال لسان الدين: وأهدي إلي قباقب خشب جوز وكتب معها: هاكها ضمراً مطايا حسانا ... نشأت في الرياض قضباً لدانا وثوت بين روضة وغدير ... مرضعات من النمير لبانا

لابسات من الظلال بروداً ... دونها القضب رقة وليانا ثم لما أراد إكرامها الله ... وسنى لها المنى والأمانا قصدت بابك العلي ابتداراً ... ورجت في قبولك الإحسانا قال: فأجبته: قد قبلنا جيادك الدهم لما ... أن بلونا منها العتاق الحسانا أقبلت خلف كل حجر تبيع ... خلعت وصفها عليها عيانا فعنينا برعيها وفسحنا ... في ربوع العلا لها ميدانا وأردنا امتطائها فاتخذنا ... من شراك الأديم فيها عنانا قدمت قبلها كتيبة سحرٍ ... من كتاب سبت به الأذهانا مثلما تجنب الجيوش المذاكي ... عدةً للقاء مهما كانا لم يرق مقلتي ولا راق قلبي ... كعلاها براعةً وبيانا من يكن مهدياً فمثلك يهدي ... لم أجد للثنا عليك لسانا وقال لسان الدين: ومن أبدع ما هز به إلى إقامة سوقه، ورعي حقوقه قوله: يا معدن الفضل مورثاً ومكتسباً ... وكل مجدٍ إلى عليائه انتسبا بباب مجدكم الأسمى أخو أدبٍ ... مستصرخٌ بكم يستنجد الأدبا ذل الزمان له طوراً فبلغه ... من بعض آماله فوق الذي طلبا والآن اركبه من كل نائبةٍ ... صعب الأعنة لا يألوبه نصبا فحملته دواعي حبكم وكفى ... بذاك شافع صدقٍ يبلغ الأربا فهل سرى نسمة من جاهكم فبها ... خليفة الله فينا يمطر الذهبا

[ترجمة ابن البناء] وقال لسان الدين في " الإكليل " في حق المذكور ما صورته: فاضل يروقك وقاره وصقر بعد مطاره قدم من بلده يروم اللحاق بكتاب الإنشاء وتوسل بنظم أنيق ونسيب في نسب الإجادة عريق تعرب براعته عن لسان ذليق وطبع طليق وذكاء بالأثرة خليق وبينما هويلحم في ذلك الغرض ويسدي ويعيد ويبدي وقد كادت وسائله أن تنجح وليل رجائه أن يصبح اغتاله الحمام وخانته الأيام والبقاء لله تعالى والدوام توفي بالطاعون في عام واحد وخمسين وسبعمائة وسنه دون الثلاثين، رحمه الله تعالى؛ انتهى. [46 - رسالة من لسان الدين إلى سلطان تونس] ولما خوطب لسان الدين من سلطان تونس بما لم يحضرني الآن أجاب عنه بما نص " المقام الإمامي الإبراهيمي المولوي المستنصري الحفصي الذي كرم فرعاً وأصلاً وشرف جنساً وفصلاً وتملى في ظلل رعاية المجد من لدن المهد كرماً وخصلاً وصرفت متجردة الأقلام إلى مثابة خلافته المنصورة الأعلام وجوه عبارة الكلام فاتخذ من مقام إبراهيم مصلى مقام مولانا أمير المؤمنين الخليفة الإمام أبي إسحاق ابن مولانا أبي يحيى أبي بكر ابن الخلفاء الراشدين أبقاه الله تعالى تهوي إليه الأفئدة كلما انتشت بذكره وتتنافس الألسنة في إحراز غاية حمده وشكره وتتكفل الأقدار بإنفاذ نهيه وأمره وتغرى عوامل عوامله بحذف زيد عدوه وعمره ويتبرع أسمر الليل وأبيض النهار بإعمال بيضه وسمره ولازال حسامه الماضي يغني يومه في النصر عن شهره والروض يحييه بمباسم زهره ويرفع إليه رقع الحمد ببنان قبضه الناشئة من معصم نهره وولي الدنيا والآخرة يمتعنا بهما بعد الإعانة على مهره يقبل بساطه المعود الاستلام بصفحات الخدود، الرافع

عماده ظل العدوالممدود عبد مقامه المحمود ووارد غمر إنعامه غير المنزور ولا المثمود المثني على نعمه العميمة ومنحه الجسيمه ثناء الروض المجود على العهود ابن الخطيب من باب المولى الموجب حقه المتأكد الفروض الثابت العهود المعتد منه بالود الجامع الرسوم والحدود والفضل المتوارث عن الآباء والجدود يسلم على مثابتها سلام متلوعلى مثلها إن وجد المثل في الثاني ويعوذ كمالها بالسبع المثاني ويدعوالله تعالى لسلطانها بتشييد المباني وتسيير الأماني وينهي إلى علوم تلك الخلافة الفاروقية المقدسة بمنايب التوحيد المستولية من مدارك الآمال إلى الأمد البعيد أن مخاطبتها المولوية تاهت على الملوك فارعة العلا مزعفرة الحلل والحلى ذهبية المجلى تفيد العز المكين والدنيا والدين وترعى في الآباء والبنين على مر السنين " صفراء فاقع لونها تسر الناظرين " (البقرة 69) وقد حملت من مدحها الكريم ما أخفى للملوك من قرة عين ودرة زين جبين الشرف الوضاح ومستوجب الحق على مثله من الخلق بالنسب الصراح والغرر والأوضاح والأرج الفواح فاقتنى درها النفيس ووجد المروع (1) في جانب الخلافة التنفيس وقراه لما قراه التعظيم والتقديس وقال {يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتابٌ كريم} (النمل 29) وإن لم يكن بلقيس أعلى الله تعالى تلك اليد مطوقة الأيادي ومخجلة الغمائم والغوادي وأبقاها عامرة النوادي غالبة الأعادي وجعل سيفها السفاح ورأيها الرشيد وعلمها الهادي ووصل ما ألطف به رعيها من أشتات بر بلغت وموارد فضل سوغت أمدتها سعادة المولى بمدد لم يضر معه البحر الهائل ولا العدوالغائل وأقام أودها عند الشدائد الفلك المائل لا بل الملك الذي له إلى الله الوسائل وحسب الجفن رسالتكم الكريمة لحظاً فصان وأكرم وعوذةً فتعوذ بها وتحرم وتولى الملوك تنفيق عروضها

_ (1) ص: المروح.

بانشراح صدره وعلى قدره فوقعت الموقع الذي لم يقع سواها فاما الخيل فأكرم مثواها وجعلت جنان (1) الصون مأواها ولوكسيت الربيع المزهر حللاً واوردت في نهر المجرة علاً ونهلاً وقلدت النجوم العواتم صحلاً ومسحت أعطافها بمنديل النسيم والحفت بأردية الصباح الوسيم وافترشت لمرابطها الحشايا وأقضمت حبات القلوب بالعشايا لكان بعض ما يجد لحقها الذي لا يجحد فضله ولا يحتجب وما عداها من الرقيق والفتيان رعاة ذلك الفريق تكفله الاستحسان وأطنب الاعتقاد وإن قصر اللسان تولى الله تعالى تلك الخلافة بالشكر الذي يحسب العطاء والحفظ الذي يسبل الغطاء والصنع الذي ييسر من مطا الأمل الامتطاء واما ما يختص بالملوك فقد خصه بقبوله تبركاً بتلك المقاصد التي سددها الدين وعددها الفضل المبين وأنشد الخلافة التي راق من مجدها الجبين: قلدتني بفرائد أخرجتها ... من بحر جودك وهوملتطم الثبج ورعيت نسبتها فإن سبيكة ... مما يلائم لونها قطع السبج والمملوك بهذا الباب النصري أعزه الله تعالى على قدم خدمة وقائم بشكر منة لكم ونعمة وحاضر في جملة الأولياء بدعائه وحبه ومتوسل في دوام بقاء أيامكم ونصر أعلامكم إلى ربه وإن بعد بجسمه فلم يبعد نقلبه والسلام الكريم الطيب البر العميم يخصها دائماً متصلاً ورحمة الله وبركاته " انتهى. [47 - مخاطبة من ابن البربري المالقي إلى لسان الدين] ومما خوطب به لسان الدين قول أبي الحسن علي بن يحيى الفزاري المالقي

_ (1) ص: جنات.

المعروف بابن البربري، وكان ممن يمدح الملوك والكبراء: لبابك أم الآملون ويمموا ... وفي ساحتي رحماك حطوا وخيموا ومن راحتي كفيك جدواك تنهمي ... فتروى عطاش من نداك وتنعم وأنت لما راموه كعبة حجهم ... إذا شاهدوا مرآك لبوا وأحرموا يطوفون سبعاً حول بابك عندما ... يلوح لهم ذاك المقام المعظم فيمناك يمن للرعايا ومنة ... ويسراك يسر للعفاة ومغنم ولقياك بشر للنفوس وجنة ... ترن بها ورق المنى وترنم فيا واحد الأزمان علماً ومنصباً ... ويا من به الدنيا تروق وتبسم ومن وجهه كالبدر يشرق نوره ... ومن جوده كالغيث بل هو أكرم ومن ذكره كالمسك فض ختامه ... وكالشمس نوراً بشره المتوسم لقد حزت فضل السبق غير منازع ... فأنت على أهل السباق مقدم حويت من العلياء كل كريمة ... بها الروض يندى والربى تتبسم وباهيت أقلام الأنام براعة ... فلا قلم إلا يراعك يخدم إذا فاخر الأمجاد يوماً فإنما ... لمجدك في حال الفخار يسلم وإن سكتوا كنت البليغ لديهم ... تعبر عن سر العلا وتترجم ومنها: فيا صاحبي نجواي عوجا برامة ... على ربعه حيث الندى والتكرم وقولا له عبد ببابك يرتجي ... قضاء لبانات لديك تتمم فليس له إلا علاك وسيلة ... ولا شيْ أسمى من علاك وأعظم فجد بالذي يرجوه منك فما له ... كعقد ثمين من ثنائك ينظم بقيت ونجم السعد عندك طالع ... يضيء له بدر وتشرق أنجم توفي المذكور بالطاعون عام خمسين وسبعمائة؛ انتهى.

[48 - مخاطبة من الحرالي إلى لسان الدين] ومما خوطب به قول أبي القاسم اسم بن محمد الحرالي المالقي القاضي بانتقيرة (1) قبل وفاته: عليك قصرت المدح يا خير ماجد ... وأفضل موصوف بكل المحامد ويا كهف ملهوف، وملجأ خائف ... ومورد جود قد كفى كل وارد لقد شهرت بالمجد منك شمائل ... محاسنها أزكى وأعدل شاهد وكل الذي يبدو من الفضل بعض ما ... حبيت به، أعظم بها من محامد إذا أملت منك المكارم ألفيت ... تنادي هلموا فزتم بالمساعد عطاؤكم جزل فمن أمل الغنى ... فمثلكم يبغي فيا سعد قاصد وراثة مجد كابراً بعد كابر ... وأصل زكي الفرع عذب الموارد [ترجمة أبي القاسم الحراني] وتوفي المذكور بالطاعون عام خمسين وسبعمائة، وفي حقه يقول في الإكليل: مشمر في الطلب عن ساق، مثابر على اللحاق بدرجات الحذاق، منتحل للعربية، جاد في إحصاء خلافها، ومعاطاة سلافها، وربما شرست في المذاكرة أخلاقه، إذا بهرجت أعلاقه، ونوزع تمسكه بالحجة واعتلاقه. وقال لسان الدين في ترجمة شعر المذكور: إنه ضعيف مهزول؛ انتهى. [49 - رسالة من المنتشاقري إلى لسان الدين] وما خوطب به قول أبي الحجاج يوسف بن موسى الجذامي المنتشاقري من أهل رندة، ونصه: حباك فؤادي نيل بشرى وأحياكا ... وحيد بآداب نفائس حياكا

_ (1) انتقيرة (Antequera) تبعد عن مالقة حوالي 60 كيلومتراً شمالاً.

بدائع أبداها بديع زمانه ... فطاب بها يا عاطر الروض رياكا أمهديها أودعت قلبي علاقة ... وإن لم يزل مغزى قديماً بعياكا إذا ما أشار العصر نحو فريده ... فإياك يعني بالإشارة إياكا لأتحفني لقياك أسنى مؤملي ... وهل تحفه في الدهر إلا بلقياكا وأعقبت تحافي فرائدك التي ... وجوب ثناها يا لساني أعياكا ووصل هذا النظم بنثر صورته: " خصصتني أيها المخصوص بمآثر أعيا عدها وحصرها، ومكارم طيب أرواح الأزاهر عطرها، وسارت الركبان بثنائها، وشملت الخواطر محبة علائها، بفرائدك الأنيقة، وفوائدك المزرية جمالاً على أزهار الحديقة، ومعارفك التي زكت حقاً وحقيقة، وهدت الضال عن سبيل الأدب مهيعه وطريقه، وسبق تحفتك أعلى التحف عندي وهومأمول لقائك، والتمتع بالتماح سناك الباهر وسنانك، على حين امتدت لذلكم اللقاء أشواقي، وعظم من فوت استنارتي بنور محياك إشفاقي، وتردد لهجي بما يبلغني من معاليك ومعانيك، وما شاده فكرك الوقاد من مبانيك، وما أهلت به بلاغتك من دراسه، وما أضيفت (1) على الزمان من رائق ملابسه، وما جمعت من أشتاته، وأحييت من أمواته، وأيقظت من سناته، وما جاد به الزمان من حسناته، فلترداد هذه المحاسن نم أنبائك، وتصرف الألسنة بثنائك، علقت النفس من هواها بأشد علاقة، وجنحت إلى لقائك جنوح والهة مشتاقة، والحوادث الجارية تصرفها، والعوائق الحادثة كلما عطفت أملها إليه لا تتحفها به ولا تعطفها، إلى أن ساعد الوقت، وأسعد البخت، بلقائكم في هذه السفرة الجهادية، وجاد إسعاف الإسعاد من أمنيتي بأسنى هدية، فلقيتكم لقيا خجل، ولمحت أنواركم لمحة على وجل، ومحبتي في محاسنكم الرائقة، ومعاليكم الفائقة، على

_ (1) ق ص: أضيفت.

ما يعلمه ربنا عز وجل، وتذكرت عند لقائكم المأمول، إنشاء قائل يقول: كنت مساءلة الركبان تخبر عن ... محمد بن الخطيب أطيب الخبر حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري قسم لعمري أقوله وأعتقده، وأعتده وأعتمده، فلقد بهرت منك المحاسن، وفقت من يحاسن، وقصر عن شأوك كل بليغ لسن، وسبقت فطنتك النارية النورية بلاغة كل فطن، وشهد لك الزمان أنك وحيده، ورئيس عصبته الأدبية وفريده، فبورك لك فيما أنلت من الفضائل، وأوتيت من آيات المعارف التي بها نور الغزالة ضائل، ولا زلت ترقى في مراتب المعالي، موقى صروف الأيام والليالي " انتهى. [50 - رسالة لسان الدين إلى المنتشاقري] وهذا الخطاب جواب من المذكور لكلام خاطبه به لسان الدين نصه: حمدت على فرط المشقة رحلة ... أتاحت لعيني اجتلاء محياكا وقد كنت بالتذكار في البعد قانعاً ... وبالريح إن هبت بعاطر رياكا فحلت لي النعمى بما أنعمت به ... علي فحياها الإله وحياكا أيها الصدر الذي بمخاطبته يباهي ويتشرف، والعلم الذي بالإضافة إليه يتعرف، والروض الذي لم يزل على البعد بأزهاره الغضة يتحف، دمت تتزاحم على موارد ثنائك الألسن، ويروي الرواة من أنبائك ما يصح ويحسن، طالما مالت إليك النفوس منا وجنحت، وزجرت الطائر الميمون من رقاعك كلما سنحت، فالآن اتضح البيان، وصدق الأثر العيان، ولقد كنا للمقام بهذه الرحال نرتمض، ويجن الظلام فلا نغتمض، هذا يقلقه إصفار كيسه، وهذا يتوجع لبعد أنيسه، وهذا تروعه الأهوال، وتضجره بتقلباتها الأحوال

فمن أنة لا تنفع، وشكوى إلى الله تعالى ترفع، فلما ورد بقدومك البشير، وأشار إلى ثنية طلوعك المشير، تشوفت النفوس الصدئة إلى جلائها وصقالها، والعقول إلى حل عقالها، والأنفس المفحمة إلى فصل مقالها، ثم إن الدهر راجع التفاته، واستدرك ما فاته، فلم يسمح من لقائك إلا بلمحة، ولا بعث من نسيم روضك بغير نفحة، فما زاد أن هيج الأشواق فالتهبت، وشن غاراتها على الجوانح فانتهبت، وأعل القلوب وأمرضها، ورمى ثغرة الصبر فأصاب غرضها، فإن رأيت أن تنفس عن نفس شد الشوق مخنقها، وكدر مشارب أنسها وأذهب رونقها، وتتحف من آدابك بدرر تقتنى، وروضة طيبة الجنى، فليست ببدع في شيمك، ولا شاذة في باب كرمك، ولولا شاغل لا يبرح، وعوائق أكثرها لا يشرح، لنافست هذه السحاءة في القدوم عليك، والمثول بين يديك، فتشوقي إلى اجتلاء أنوارك شديد، وتشيعي إلى إبلاء الزمان جديد انتهى. [ترجمة أبي الحجاج المنتشاقري] ووصف لسان الدين في " التاج المحلى " أبا الحجاج المذكور بما صورته (1) : حسنة الدهر الكثير العيوب، وتوبة الزمان الجم الذنوب، ماشئت من أدب يتألق، وفضل تتعطر به النسمات وتتخلق، ونفس كريمة الشمائل والضرائب، وقريحة يقذف بحرها بدرر الغرائب، إلى خشية لله تعالى تحول بين القلوب وقرارها، وتثني النفوس على اغترارها، ولسان يبوح بأشواقه، وجفن يسخوبدرر آماقه، وحرص على لقاء كل ذي علم وأدب، ومن يمت إلى أهل الديانة والعبادة بسبب، سبق بقطره الحلبة، وفرع من الأدب الهضبة، ورفع الراية،

_ (1) انظر ترجمة أبي الحجاج المنتشاقري في الكتيبة: 119؛ وهذه النسبة إلى منتشاقر (Monte - Sacro) في مقاطعة أكشونية.

وبلغ في الإحسان الغاية، فطارت قصائده كل المطار، وتغنى بها راكب الفلك وحادي القطار، وتقلد خطة القضاء ببلده، وانتهت إليه رياسة الأحكام بين أهله وولده، فوضحت المذاهب بفضل مذهبه وحسن مقصده، وله شيمة في الوفاء تعلم منها الآس، ومؤانسة عذبة لا تستطيعها الأكواس، وقد أثبت من كلامه ما تتحلى (1) به من مراتب المهارق، ويجعل طيبه فوق المفارق، وكنت أتشوق إلى لقائه، فلقيته بالمحلة من جبل الفتح لقيا لم تبل صدى، ولا شفت كمداً، وتعذر بعد ذلك لقاؤه، فخاطبته بهذه الرقعة: حمدت على فرط المشقة رحلة ... فذكر لسان الدين ما قدمنا إلى آخره. وقد أورد جملة من مطولاته وغيرها ومؤلفاته، ولنخلص بعض ذلك فنقول: ومن شعر أبي الحجاج المذكور يمدح الجهة الكريمة النبوية، مصدراً بالنسيب لبسط الخواطر النفسانية، قوله: لما تناهى الصب في تشويقه ... درر الدموع اعتاضها بعقيقه متلهف وفؤاده متلهب ... كيف البقا بعد احتدام حريقه متموج بحر الدموع بخده ... أنى خلاص يرتجى لغريقه متجرع صاب النوى من هاجر ... ما إن يحن للاعجات مشوقه يسبي الخواطر حسنه بديعه ... يصبي النفوس جماله بأنيقه قيد النواظر إذ يلوح لرامق ... لا تنثني الاحداق عن تحديقه لبدر لمحته كبشر ضيائه ... للمسك نفحته كنشر فتيقه سكرت خواطر لامحيه كأنهم ... شربوا من الصهباء كأس رحيقه عطشوا لثغر لا سبيل لريقه ... إلا كلمحهم للمع بريقه

_ (1) ق: تتجلى.

ما ضر مولى عاشقوه عبيده ... لورق إشفاقاً لحال رقيقه عنه اصطباري ما أنا بمطيعه ... مثل السلو ولا أنا بمطيقه سجع الحمام بشوق ترجيع الهوى ... فأثار شجومشوقه بمشوقه وبكت هديلاً راعها تفريقه ... ويحق أن يبكي أخوت فريقه وبكاء أمثالي أحق لأنني ... لم أقض للمولى أكيد حقوقه وغفلت في زمن الشباب المنقضي ... أقبح بنسخ بروره بعقوقه وبدا المشيب وفيه زجر ذوي النهى ... لو كنت مزدجراً لشيم بروقه حسبي ندامة آسف مما جنى ... يصل النشيج لوزره بشهيقه ويروم ما خرم الهوى زمن الصبا ... ويروم من مولاه رتق فتوقه ويردد الشكوى لديه تذللاً ... عل الرضى يحييه درك لحوقه فيصح من سكر التصابي سكره ... نسخاً لحكم صبوحه وغبوقه لو كنت يممت التقى وصحبته ... وسلكت إيثاراً سواء طريقه لأفدت منه فوائداً وفرائداً ... عرضت تسام لرابح في سوقه له أرباب القلوب فإنهم ... من حزب من نال الرضى وفريقه قاموا وقد نام الأنام فنورهم ... هتك الدجى بضيائه وشروقه وتأنسوا بحبيبهم فلهم به ... بشر لصدق الفضل في تحقيقه قصرت عنهم عندما سبقوا المدى ... ولسابق فضل على مسبوقه لولا رجاء تلمح من نورهم ... يحيي الفؤاد بسيره وطروقه وتأرج يستاف من أرواحهم ... سبب انتعاش الروح طيب خلوقه لفنيت من جرا جرائري التي ... من خوفها قلبي حليف خفوقه ومعي رجاء توسل أعددته ... ذخراً لصدمات الزمان وضيقه حبي ومدحي أحمد الهادي الذي ... فوز الأنام يصع في تصديقه أسمى الورى في منصب وبمنسب ... من هاشم زاكي النجار عريقه الحق أظهره عقيب خفائه ... والدين نظمه لدى تفريقه

ونفى هداه ضلالة من جائر ... مستوثق بيغوثه ويعوقه سبحان مرسله إلينا رحمة ... يهدي ويهدى الفضل من توفيقه والمعجزات بدت بصدق رسوله ... وحقيقة بالمأثرات خليقه كالظبي في تكليمه، والجذع في ... تحنينه، والبدر في تشقيقه والنار إذ خمدت بنور ولادة ... وأجاج ماء قد حلا من ريقه والزاد قل فزاد من بركاته ... فكفى الجيوش بتمره وسويقه ونبوع ماء الكف من آياته ... وسلام أحجار غدت بطريقه والنخل لما أن دعاه مشى له ... ذا سرعة بعذوقه وعروقه والأرض عاينها وقد زويت له ... فقريب ما فيها رأى كسحيقه وكذا ذراع الشاة قد نطقت له ... نطق اللسان فصيحه وذليقه ورمى عداه بكف حصبا فانثنت ... هرباً كمذعور الجنان فروقه وعليه آيات الكتاب تنزلت ... تتلى بعلو جلاله وبسوقه وأذيق من كأس المحية صرفها ... سبحان ساقيه بها ومذيقه حاز السناء وناله بعروجه ... جاز السماء طباقها بخروقه ولكم له من آية من ربه ... وعناية ورعاية بحقوقه يا خيرة الأرسال عند إلهه ... يا محرز العليا على مخلوقه علقت آمالي بجاهك عدة ... والقصد ليس يخيب في تعليقه وعلقت من حبل اعتمادي عمدة ... لتمسكي بقويه ووثيقه ولئن غدوت أخيذ ذنبي إنني ... أرجو بقصدك أن أرى لطليقه وكساد سوقي مذ لجأت لبابكم ... يقضي حصول نفوذه ونفوقه ويحن قلبي وهوفي تغريبه ... لمزاره لرباك في تشريقه وتزيد لوعته متى حث السرى ... حاد حدا بجماله وبنوقه وأرى قشيب العمر أمسى بالياً ... ومرور دهري جد في تمزيقه

وأخاف أن أقضي ولم أقض المنى ... بنفوذ سهم منيتي ومروقه فمتى أحط على اللوى رحلي وقد ... بلغت ركابي للحمى وعقيقه وأمرغ الخدين في ترب غدا ... كالمسك في أرج شذا منشوقه وأعيد إنشائي وإنشادي الثنا ... ببديع نظم قريحتي ورقيقه حتى أميل العاشقين تطرباً ... كالغصن مر صباً على ممشوقه وتحية التسليم أبلغ شافع ... وثنا المديح حديثه وعتيقه ولذي الفخار وذي الحلى ووزيره ... صديقه وأخي الهدى فاروقه مني السلام عليهم كالزهر في ... تأليفها والزهر في تأنيقه وقال (1) : هواكم بقلبي ما لمحكمه نسخ ... ومن أجله جفني بمدمعه يسخو ومن نشأتي ما إن صحت منه نشوتي ... سواء به عصر المشيب (2) أو الشرخ عليه حياتي مذ تمادت وميتتي ... وبعثي إذا بالصور يتفق النفخ ولي خلد أضحى قنيص (3) غرامه ... ولا شرك يدني إليه ولا فخ قتلت سلوي حين أحييت لوعتي ... وما اجتيح بالإقرار في حالتي لطخ وأغدو إلى سعدي بكرخ علاقتي ... وقصدي قصدي ليس سعدي ولا الكرخ وناصح كتمي (4) إذ زكت بيناته (5) ... يجول عليه من دموع الأسى نضخ وأرجو بتحقيقي هواكم بأن أفي ... فعهد ولا نقض، وعقد ولا فسخ وما الحب إلا ما اتسقل ثبوته ... لمبناه رص في الجوانح أو رسخ (6)

_ (1) القصيدة في الكتيبة: 121. (2) ق والكتيبة: الشباب. (3) ق ص: يبيض. (4) الكتيبة: وما صح جسمي. (5) ق ص: أدركت؛ ص: ببنانه. (6) ق: رض ... أو رضخ.

إذا مسلك لم يستقم بطريقه ... سلكت اعتدالاً مثلما يسلك الرخ بدا لضميري من سناكم تلمح ... فبخ لعقل لم يطر عندها بخ على عود ذاك اللمح ما زلت نادباً ... كما تندب الورقاء فارقها الفرخ يدي بأيديكم وقلبي شاغل ... فمن فكرتي نسج ومن أنملي نسخ وقال: إليك تحن النجب والنجباء ... فهم وهي في أشواقهم شركاء تخب بركاب تحب وصولها ... لأرض بها باد سناً وسناء فأنفاسها ما إن تني صعداؤها ... وأنفسهم من فوقها سعداء هم عالجوا إذا عجل السير داءهم ... وأشباه مثلي مدنفون بطاء فعدت ودوني للحبيب ترحلوا ... وما قاعد والراحلون سواء له وعليه حب قلبي وأدمعي ... وقد صح لي حب وسح بكاء بطيبة هل أرضى وتبدو سماؤها ... وإن تك أرضاً فالحبيب سماء شذا نفحها واللمح منها كأنه ... ذكاء عبير والضياء ذكاء فيا حادياً غنى وللركب حادياً ... عناني بعد البعد عنك عناء بسلع فسل عما أقاسي من الهوى ... وسل بقباء إذ يلوح قباء وفي عالج مني بقلبي لا عج ... فهل لي علاج عنده وشفاء وللرقمتين أرقم الشوق لاذع ... ودرياقه أن لويباح لقاء أماكن تمكين وأرض بها الرضى ... وأرجاء فيها للمشوق رجاء وقال (1) : أدب الفتى في أن يرى متيقظاً ... لأوامر من ربه ونواه فإذا تمسك بالهوى يهوي به ... والحبل منه لمن تيقن واه

_ (1) هذه المقطوعة واثنتان تاليتان في الكتيبة: 122.

وقال: يا من بدنياه ظل في لجج ... حقق بأن النجاة في الشاطي تطمع في إرثك الفلاح وقد ... أضعفت ما قبله من أشراط كن حذراً في الذي طمعت به ... من حجب نقص وحجب إسقاط وقال: ترى شعروا أني غبطت نسيمة ... ذكت بتلاقي الروض غب الغمائم كما قابلت زهر الرياض وقبلت ... ثغور أقاحيه بلا لوم لائم وقال: ورد المشيب مبيضاً بوروده ... ما كان في شعر الشبيبة حالكا يا ليته لوكان بيض بالتقى ... ما سودته مآثم من حالكا إن المشيب غدا رداءً للردى ... فإذا علاك أجد في ترحالكا وقال (1) : لوعة الحب في فؤادي تعاصت ... أن تداوي ولوأتى ألف راق كيف يبرا من علة وعليها ... زائد علة النوى والفراق فانسكاب الدموع جار فجار ... والتهاب الضلوع راق فراق ومن غرائب الاتفاق أنه قال: كنت جالساً بين يدي الخطيب أبي القاسم التاكروني صبيحة يوم بمسجد مالفة، فقال لنا في أثناء حديثه: رأيت البارحة في عالم النوم كأن أبا عبد الله الجلياني يأتيني بيتي شعر في يده، وهما:

_ (1) الكتيبة: 122.

كل علم يكون لمرء شغلاً ... بسوى الحق قادح في رشاده فإذا كان فيه لله حظ ... فهو مما يعده لمعاده قال: فلم ينفصل المجلس حتى دخل علينا الفقيه الأديب أبوعبد الله الجلياني، والبيتان معه، فعرضهما على الشيخ، فأخبره أنه صنعهما البارحة، فقال له كل من في المجلس: أخبرنا بهما الشيخ قبل مجيئك، فكان هذا من العجائب. ولأبي الحجاج المكور تواليف، منها كتاب ملاذ المستعين في بعض خصائص سيد المرسلين أربعون حديثاً، وكتاب تخصيص القرب وتحصيل الأرب وقبول الرأي الرشيد في تخميس الوتريات النبوية لابن رشيد وانتشاق النسمات النجدية واتساق النزعات الجدية وغرر الأماني المسفرات في نظم المكفرات، والنفحات الرندية مجموع شعره، وحقائق بركات المنام في مرأى المصطفى خير الأنام والاستشفاء بالعدة والاستشفاع بالعمدة في تخميس البردة وتوجع الراثي في تنوع المراثي واعتلاق السائل بأفضل الوسائل ولمح البهيج ونفح الأريج في ترجيز كلام الشيخ مسائل البيان والتحصيل لتيسير البلوغ لمطالعتها والتوصيل وفهرسة روايته، ورجز ذكر مشايخ أبي عمر الطنجي، وكتاب أرج الأرجاء في مزج الخوف والرجاء، أربعون حديثاً في الرجاء والخوف. وكان رحمه الله تعالى حياً حين ألف لسان الدين الإحاطة رحم الله تعالى الجميع. ورأيت على ظهر أول ورقة من الريحانة بخط الإمام الكبير الشهير الشيخ إبراهيم الباعوني الدمشقي رحمه الله تعالى ما نصه: قال كاتبه إبراهيم بن أحمد الباعوني - غفر الله ذنوبه - وستر عيوبه، وبلغه من فضله مطلوبه - صاحب كتاب الريحانة، آية من آيات الله سبحانه، لوجه أدبه طلاقه، وللسانه ذلاقة

وللقلوب به علاقة، وفي خطه غلاقة، يعرفها ن عرق اصطلاحه بمطالعته، وينفتح له باب فهمها بتكرير مراجعته، فليتأمل الناظر إليه، والمقبل عليه، ما فيه من الجواهر، والنجوم الزواهر، بل الآيات البواهر، وليسبح الله تعالى تعجباً من قدرته جل وعلا، ومواهبه التي عذب ماؤها النمير وحلا، وليقل عند تأمل دره النظيم " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذوالفضل العظيم " الحديد:21؛ انتهى. وقوله رحمه الله تعالى وفي خطه غلاقة ليس المراد به إلا صعوبة الخط المغربي على أهل المشرق حسبما يعلم مما بعده، وإلا فإن خط لسان الدين رحمه الله تعالى محمود عند المغاربة، ولنقتصر من هذا الغرض على ما ذكر، فإن تتبعه يطول؛ إذ هوبحر لا ساحل له. [نقل من الروض الأريض لابن عاصم] وكان لسان الدين رحمه الله تعالى مؤثراً حاجة من أمله، وقصد بابه وأم له، سواء كان من أودائه، أومن أعدائه، وقد ذكر الوزير الرئيس الكاتب أبويحيى ابن عاصم رحمه الله تعالى عنه في ذلك حكاية في أثناء كلام رأيت أن أذكر جملته لما اشتمل عليه من الفائدة، وهوأنه ذكر في ترجمة شموس العصر من ملوك بني نصر من كتابه المسمى بالروض الأريض في اسم السلطان الذي كان ابن الخطيب وزيره، وهوالغني بالله محمد بن يوسف ين إسماعيل بن فرج بن نصر الخزرجي، بعد كلام ما صورته (1) : كان قد جرى عليه التمحيص الذي أزعجه عن وطنه إلى الدار البيضاء بالمغرب من إيالة بني مرين، فأفادته الحنكة والتجربة هذه السيرة التي وقف شيوخنا على حقيقتها، وانتهجوا واضح طريقتها، وبلغتنا بألسنة صدقهم، معبراً عنها في عرف

_ (1) أزهار الرياض 1: 58 - 60.

التخاطب بالعادة، فلم يكن الوزير الكيس والرئيس الجهبذ يجريان من الاستقامة على قانون، ولا يطردان من الصواب على أسلوب، إلا بالمحافظة على ما رسم من القواعد، والمطابقة لما ثبت من العوائد، وكان ذووالنبل من هذه الطبقة وأولوالحذق من أرباب هذه المهن السياسية يتعجبون من صحة اختياره لما رسم، وجودة تمييزه لما قصد، ويرون المفسدة في الخروج عنها ضربة لازب، وأن الاستمرار على مراسمها آكد واجب، فيتحرونها بالالتزام كما تتحرى السنن، ويتوخونها بالإقامة كما تتوخى الفرائض، وسواء تبادر لهم معناها ففهموه، أوخفي عليهم وجه رسمها فجهلوه، حدثني شيخنا القاضي أبوالعباس أحمد بن أبي القاسم الحسني أن الرئيس (1) أبا عبد الله ابن زمرك دخل على الشيخ ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب يستأذنه في جملة مسائل مما يتوقف عادة على إذن الوزير، وكان معظمها فيما يرجع إلى مصلحة الرئيس أبي عبد الله ابن زمرك، قال الشريف: فأمضاها كلها له، ما عدا واحدة منها تضمنت نقض عادة مستمرة، فقال ذوالوزارتين ابن الخطيب: لا، واله يا رئيس أبا عبد الله لا آذن في هذا، لأنا ما استقمنا في هذه الدار إلا بحفظ العوائد. ثم قال صاحب الروض: فلما تأذن الله تعالى للدولة بالاضطراب، واستحكم الوهن بتمكن الأسباب، عدل عن تلك القواعد الراسخة، واستخف بتلك القوانين الثابتة، فنشأ من المفاسد ما أعوز رفعه، وتعدد وتره وشفعه، واستحكم ضرره حتى لم يمكن دفعه، وتعذر فيه الدواء الذي يرجى نفعه، وكان قد صحبه من الجد ما نسى آماله، وأنجح بإذن الله تعالى أقواله وأعماله، فكان يجري الأمر على رسم من السياسة واضح، ونظر من الآراء السديدة راجح، ثم يحفه من الجد سياج لا يفارقه إلى تمام الغاية المطلوبة من حصوله، وتمكن مقتضى الإرادة السلطانية من فروعه وأصوله؛ انتهى كلام ابن عاصم.

_ (1) ص: الرائس، حيثما وقعت.

وإذ جرى ذكره فلا بأس أن نلمع بشيء من أحواله، لأن أهل الأندلس كانوا يسمونه ابن الخطيب الثاني، فنقول: [ترجمة أبي يحيى ابن عاصم] هوالإمام العلامة الوزير الرئيس الكاتب الجليل البليغ الخطيب الجامع الكامل الشاغر المفلق الناثر الحجة، خاتمة رؤساء الأندلس بالاستحقاق، ومالك خدم البراعة بالاسترقاق، أبويحيى محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عاصم، القيسي الأندلسي الغرناطي، قاضي الجماعة بها - كان - رحمه الله تعالى - من أكابر فقهائها وعلمائها ورؤسائها، أخذ عن الغمام المحقق أبي الحسن ابن سمعت، والإمام القاضي أبي القاسم ابن سراج، والشيخ الراوية أبي عبد الله المنتوري، والإمام أبي عبد الله البياني، وغيرهم، ومن تآليفه شرح تحفة والده، وذكر فيه أنه ولي القضاء سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة، ومنها كتاب جنة الرضى في التسليم لما قدر الله تعالى وقضى، وكتاب الروض الأيض في تراجم ذوي السيوف والأقلام والقريض كأنه ذيل به إحاطة لسان الدين ابن الخطيب، وله غير ذلك، وقد أطلت الكلام في ترجمته من كتابي " أزهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل للنفس به ارتياح وللعقل ارتياض " (1) . ووصفه ابن فرج السبي بأنه الأستاذ العلم الصدر المفتي القاضي رئيس الكتاب، ومعدن السماحة، ومنبع الآداب؛ انتهى. [نموذج من نثر ابن عاصم] وقد تقدم بعض كلامه فيما مر، ومن بديع نثره الذي يسلك به نهج ابن

_ (1) انظر ص: 145 وما بعدها من الجزء الأول من أزهار الرياض.

الخطيب رحمه الله تعالى قوله من كلام جلبت جملته في أزهار الرياض، واقتصرا هنا على قوله بعد الحمدلة الطويلة ما صورته (1) : أما بعد فإن الله على كل شيء قدير، وإنه بعباده لخبير بصير، وهولمن أهل نيته، وأخلص طويته، نعم المولى ونعم المصير، بيده الرفع والخفض، والبسط والقبض، والرشد والغي، والنشر والطي، والمنح والمنع، والضر والنفع، والبطء والعجل، والرزق والأجل، والمسرة والسماءة، والإسحان والإساءة، والإدراك والفوت، والحياة والموت، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون، وهوالفاعل على الحقيقة وتعالى الله عما يقول الآفكون، وهوالكفيل بأن يظهر دينه على الدين كله ولوكره المشركون، وإن في أحوال الوقت الداهية لذكرى لمن كان له قلب أوألقى السمع وهوشهيد، وعبرة لمن يفهم قوله تعالى " إن الله يفعل ما يشاء " الحج: 18 و " إن الله يحكم ما يريد " المائدة:1 بينما الدسوت عامرة، والولاة آمرة، والفئة مجموعة، والدعوة مسموعة، والإمرة مطاعة، والأجوبة سمعاً وطاعة، وإذا بالنعمة قد كفرت، والذمة قد خفرت. إلى أن قال: والسعيد من اتعظ بغيره، ولا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً جعلنا الله تعالى ممن قضى عمره بخيره، وبينما الفرقة حاصلة، والقطيعة فاصلة، والمضرة واصلة، وأحبل في انبتات والوطن في شتات، والخلاف يمنع رعي متات، والقلوب شتى من قوم أشتات، والطاغية يتمطى لقصم الوطن وقضمه، ويلحظه لحظ الخائف على هضمه، والآخذ بكظمه، ويتوقع الحسرة أن يأذن الله يجمع شمله ونظمه، على رغم الشيطان ورغمه، وإذا بالقلوب قد ائتلفت، والمتنافرة قد اجتمعت عدما اختلفت، والأفئدة بالألفة قد اقتربت إلى الله تعالى وازدلفت، والمتضرعة إلى الله تعالى قد ابتهلت، في إصلاح الحالة التي سلفت، فألقت الحرب أوزارها، وأدنت الفرقة النافرة مزارها، وجلت الألفة الدينية

_ (1) أزهار الرياض 1: 160.

أنوارها، وأوضحت العصمة الشرعية آثرها، ورفعت الوحشة الناشبة أظفارها أعذارها، وأرضت الخلافة الفلانية أنصارها، وغضت الفئة المتعرضة أبصارها، وأصلح الله تعالى أسرارها، فجمعت الأوطان بالطاعة، والتزمت نصيحة الدين بأقصى الاستطاعة، وتسابقت إلى لزوم السنة والجماعة، وألقت إلى الإمامة الفلانية يد التسليم والضراعة، فتقبلت فيأتهم، وأحمدت جيأتهم، وأسعدت آمالهم، وارتضيت أعمالهم، وكملت كطالبهم، وتممت مآربهم، وقضيت حاجاتهم، واستمعت مناجاتهم، وألسنتهم بالدعاء قد انطلقت، ووجهتهم في الخلوص قد صدقت، وقلوبهم على جمع الكلمة قد اتفقت، وأكفهم بهذه الإمامة الفلاينة قد اعتقلت، وكانت الإدالة في الوقت على عدوالدين قد ظهرت وبرقت، إلى أن قال: وكفت القدرة القاهرة، والعزة الباهرة، من عدوان الطاغية غوائل، بإعزاز دين الله الموعود بظهوره على الدين كله فواتح وأوائل، ومعلوم بالضرورة أن الله تعالى لطيف بعباده حسبما شهد بذلك برهان الوجود،: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " دليل على ما سوغ من الكرم والجود؛ انتهى المقصود منه، وهوكلام بليغ، ومن أراد جملته فعليه بأزهار الرياض. [من نظم ابن عاصم] ومن نظم ابن عاصم المذكور قوله مخاطباً شيخه قاضي الجماعة أبا القاسم ابن سراج، وقد طلب الاجتماع به زمن فتنة، فظن أنه يستخبره عن سر من أسرار السلطان، فأعده معتذراً، ولم يصدق الظن: فديتك لا تسأل عن السر كاتباً ... فتلقاه في حال من الرشد عاطل وتضطره إما لحالة خائن ... أمانته أوخائض في الأباطل فلا فرق عندي بين قاض وكاتب ... وشى ذا بسر أو قضى ذا بباطل

[قصيدة لابن الأزرق في مدحه] ومن بديع ما نظم في مدح الرئيس ابن عاصم المذكور قول العلامة ابن الأزرق رحمه الله تعالى: خضعت لمعطفه الغصون الميس ... ورنا فهام بملتيه النرجس ذو مبسم زهر الربى في كسبه ... متنافس عن طيبه متنفس ومورد من ورده أو ناره ... يتنعم القلب العميد وييأس فالورد فيه من دموعي يرتوي ... والنار فيه من ضلوعي تقبس كملت محاسنه فقد ناضر ... ولواحظ نجل وثغر ألعس صعب التعطف بالغرام حبيبته ... فالحب يحبى والتعطف يحبس غرس التشوق ثم أغرى بي ... فالوجد يغرى والتشوق يغرس ما كنت أشقى لوحللت بجنة ... من وصله تحيا لديها الأنفس ألحاظه ورضابه وعذاره ... حور بها أو كوثر أوسندس وليال أنس قد أمنت بهن من ... واش ينم ومن رقيب يحرس أطلعت شمس الراح فيها فاهتدى ... عاش إلينا في الدجى ومغلس صفراء كالعقيان في الألوان لل ... ندمان كالشهبان منها اكؤس صبت شقيقاً فاستحالت مرجساً ... في مزجها فمورد ومورس وحبابها يغني بأسنى جوهر ... أنفى لغم المعدمين وأنفس يجلى لها للغم منها حندساً ... قمر عليه من الذؤابة حندس حتى إذا عمشت مراة البدر من ... صبح بدا تلقاه إذ يتنفس ناديته وسنا الصباح محصحص ... ينجاب عنه من الظلام معسعس يا مطلع الأنوار زهراً يجتنى ... ومشعشع الصهباء ناراً تلمس بك مجلس الأمس اطمأن بابن عا ... صم اطمأن من الرياسة مجلس بدر بأنوار الهدى متطلع ... غيث بأشتات الندى متبجس

حامى فلم نرتع لخطب يعتري ... ووفى فلم نحفل بدهر يبخس شيم مهذبة، وعلم راسخ ... ومكارم هتن، ومجد أقعس لو كان شخصاً ذكره لبدا على ... أعطافه من كل حمد ملبس ذاكم أبويحيى به تحمى العلا ... وبه خلال الفخر طراً تحرس بيت على عمد الفخار مطنب ... مجد على متن السماك مؤسس خيم وعرس في حماه فكم حوى ... فيه المراد مخيم ومعرس إنا لنغدو هيماً فينيلنا ... رياً ويوحشنا النوى فيؤنس حتى أقمنا والأماني منهضا ... ت وابتسمنا والزمان معبس لم ندر قبل يراعه وبنانه ... أن الذوابل بالغمائم تبجس هن اليراع بها يؤمن خائف ... ويحاط مذعور، ويغني مفلس مهما انبرت فهي السهام يرى لها ... وقع لأغراض البيان مقرطس يشفى بمأمله الشكي المعتري ... يحيا بمأمنه الحمام المؤيس فتقص حين تشق منها ألسن ... وتسير حين تقط منها أرؤس من كل وشاء بأسرار النهى ... درب بإظهار السرائر يهجس قد جمع الأضداد في حركاته ... فلذا اطراد فخاره لا يعكس عطشان ذو ري، يبيس مثمر ... غضبان ذو صفح، فصيح أخرس لله من تلك البراع جواذب ... للسحر منك كأنها المغنطيس رضنا شماس القول في أوصافها ... فهي التي راضت لنا ما يشمس وإليكها حللاً تشابه نسجها ... مثلي يفصلها ومثلك يلبس واهنأ بعيد باسم متهلل ... وافاك يجهر بالسرور ويهمس واحبس لواء الفخر موقوفاً فإن ... الحمد موقوف عليك محبس قلت: وعندي الآن شك في صاحب هذه القصيدة، هل هوقاضي الجماعة بغرناطة محمد بن الأزرق أوابن الأزرق الثاني القائل فيما يكتب على السيف:

إن عمت الأفق من نقع الوغى سحب ... فشيم بها بارقاً من لمع إيماضي وإن نوت حركات النصر أرضص عداً ... فليس لفتح إلا فعلي الماضي والله سبحانه أعلم. [رسالة ابن عاصم إلى ابن طركاط] ومن إنشاء الرئيس ابن عاصم المذكور ما كتب به يخاطب الكاتب أبا القاسم ابن طركاط، وهو " القضاء - حفظ الله تعالى كمالك، وأنجح آمالك - إذا لم يحطه العدل من كلا جانبيه سبيل معوج، ومذهب لا يوافق عليه مناظر ولا ينصره محتج، كما أنه إذا حاطه العدل حادة لنجاة، وسبب في حصول رحمة الله تعالى المرتجاة، وسوق لنفاق بضاعة العبد المزجاة، وأجمل العدل ما تحلى به في نفسه الحكم، وجرى على مقتضى ما شهدت به الآراء المشهورة والحكم، حتى يكون عن البغي رادعاً، وبالقسط صادعاً، ولأنف الأنفة من الإذعان للحق جادعاً، وأنت أجلك الله تعالى على سعة إطلاعك، وشدة ساعد قيامك بالطريقة واضطلاعك، ممن لا ينبه على ما ينبغي، ولا يرد على طلبته من الإنصاف المبتغي، فلك في الطريقة القاضوية التبريز، وأنت إذا كان غيرك الشبه الذهب الإبريز، ولعلمية عدلك التوشية بالنزاهة والتطريز، وليتني كنت لمظهرك الحكمي حاضراً، ولإعلام القضاة بآرائك المرتضاة محاضراً، والوازع قد تمرس بالخصوم، وجعل المتصدي للإذن في محل المخصوم، وأنت حفظك الله تعالى قد قمت من غلط الحجاب بالمقام المعصوم، ومثلت من سعة المنزل في الفضل والطول كالشهر المصوم، والباب قد سد، وداعي الشفاعة قد رد، والميقات للإذن قد حد، ومطلب الأجرة المتعارفة قد بلغ الأشد، حتى إذا قضي الواجب، وأذن في دخول الخصمين الحاجب، وكبح السابقين إلى الحد الذي

لا يعدونه، وحفز (1) إيماؤه من تعداه أووقف دونه، وقد حصل باللحظ واللفظ التساوي، وأنتج المطالب الأربعة هذا اللازم المساوي، ومجلسك قد رجح وقاره برضوى، ومجتلاك قد فضح نوره البدر الأضوا، وقد امتزت عن سواك نم القضاة بمراسم لا تليق بجملتهم معارفها، وتخصصت عنهم بملابس تعج عجيجاً من جذامهم مطارفها (2) ، بحيث تحد لخلع النعلين حداً لا يتجاوز طواه، وتسد في بعض الأوقات الباب سداً لا ترقع بالمحاجر كواه (3) ، وتفصل بين الخصمين أحياناً بالنية (4) دون الكلام ولكل امرئ ما نواه. وهذه أعانك الله تعالى مكملات من العدل في الحكم وقف عياض دون تحقيق مناطها، وأعيت ابن رشد فلم يهتد بيانه ولا تحصيله لاستنباطها، فما بال النازحة (5) عنك حساً ومعنى، النازلة من تقاضي دينك بمنزلة الممطول المعنى، المعتقلة من ملكة رقك بحيث أقصاها لاعج الشوق، المعذبة من الصبابة فيك بما شب عمره عن الطوق، تتنفس الصعداء مما تشهده منك من مبتدعات الجور، وتردد البكاء على ضياع ما استعار الحسن لصفاتها من النجد والغور، وتقضي العجب مما تسمع من عدلك الذي لم تجتل لمحة من نوره، ومن حلمك الذي أشقاها (6) فلم تحضر لدكة طوره، وتستصوب أنظار النحاة في منع التهيئة والقطع في العامل، وتستجلب العروضيين في المديد والبسيط دون الطويل والكامل، فهلا راجعت فيها النظر، وأنجزت لها الوعد المنتظر، وكففت من

_ (1) ص: وأحفز؛ ق: وأحقر. (2) إشارة إلى قول الشاعرة: شكا الخز من روح وأنكر ريحه ... وعجت عجيجاً من جذام المطارف (3) من قول الشاعر: " ورقعن الكوى بالمحاجز " وأصله قول المثقب العبدي " وثقبن الوصاوص للعبون ". (4) ق ص: بالبينة. (5) أخذ يتحدث هنا - بضمير المؤنث - عن رسالة لم يحفل القاضي يرد جوابها. (6) ص: أشقاها المجد.

عيونها دموعاً مستهلة، واجتليت من جبينها الوضاح ما أخجل بدوراً مشرقة وأهلة، ولم تحوجها إلى أن ينطق قرينها (1) الروحاني بالشعر على لسانها ولسانك، ولم تضطرها في هذه المعاملة إلى ما لا ترتضيه من كفر إحسانك، والعذر أظهر، والبرهان أبهر، وخلافك في العالم أشهر، وأنت إن لم يكن ما يعصم الله تعالى منه لمقتضى الطبيعة أقهر. وقد أدرجت لك في طي هذا ما يصل إلى يدك، وتلهج به في يومك وغدك، منتظرة منك إطفاء الجوى بالجواب، ومحوما سبق من الخطأ بالخطاب، إن شاء الله تعالى، والله تعالى يصل سعادته، ويحفظ مجادته، ومعاد السلام من الشاكر الذاكر ابن عاصم وفقه الله تعالى في أوائل ذي الحجة عام خمسة وأربعين وثمانمائة انتهى، وهومما لم أذكره في أزهار الرياض ". [ظهير بتقديم ابن عاصم للنظر في أمور الفقهاء] ولنذكر هنا الظهير الذي جلبته فيها (2) بتقديم المذكور لنظر في أمور الفقهاء وغيرهم، ونصه: هذا ظهير كريم إليه انتهت الظهائر شرفاً علياً، وبه تقررت المآثر برهاناً جلياً، وراقت المفاخر قلائد وحلياً، وتميزت الأكابر الذين افتخرت بهم الأقلام والمحابر، اختصاصاً مولوياً. فهووإن تكاثرت المرسومات وتعددت، وتوالت المنشورات وتجددت، أكبر (3) مرسوم تمم في الاعتقاد نظراً خطيراً، وأحكم في التفويض أمراً كبيراً، وأبرم في الاستخلاص عزماً أبياً. اعتمد بمسطوره العزيز، واختص (4) بمنشوره الذي تلقاه اليمن بالتعزيز، من لم يزل

_ (1) قرينها: سقطت من ق. (2) فيها: يعني في أزهار الرياض؛ انظر ج: 1 ص: 172. (3) ق: أكرم. (4) ق: واختبر.

بالتعظيم حقيقاً، وبالإكبار خليقاً، وبالإجلال حرياً. فهوشهير لم يزل في الشهرة سابقاً، هاد لم يزل بالهدى ناطقاً، بليغ لم يزل بالبلاغة درياً، عظيم لم يزل في النفوس معظماً، علم لم يزل في الأعلام مقدماً، كريم لم يزل في الكرام سنياً. اشتملت منه محافل الملك على العقد الثمين، وحلت به المشورة في الكنف المحوط والحرم الأمين، فكان في مشكاة الأمور هادياً، وفي ميدان المراشد جرياً. فإلى مقاماته تبلغ مقامات الإخلاص، وإلى مرتبته تنتهي مراتب الاختصاص، فيمن حاز خصلاً، وزين حفلاً، وشرف ندياً. واستكمل همماً، واستحمل قلماً، واستخدم مشرفياً. فلله ما أعلى قدر هذا الشرف، الجامع بين المتلد والمطرف (1) ، السابق في الفضل أمداً قصياً. الحال من الاصطفاء مظهراً، الفارع من العلاء منبراً، الصاعد من العز كرسياً. حاز الفضل إرثاً وتعصيباً، واستوفى الكمال حقاً ونصيباً، ثناء أرجه كالروض لولم يكن الروض ذابلاً وهدياً. نوره كالبدر لولم يكن البدر آفلاً، ومجد علوه كالسها لولم يكن السها خفياً. فما أشرف الملك الذي اصطفاه، وكمل له حق التقريب ووفاه، وأحله قرارة التمكين، ومن اختصاصه بالمكان المكين، فسبق في ميدان التفويض وشأى (2) ، ورأى من الأنظار الحميدة ما رأى، صاعداً بالحق إماماً علماً، موضحاً من الدين نهجاً أمماً، هادياً من الواجب صراطاً سوياً. بانياً لمجد صرحاً مشيداً، مشهراً للعدل قولاً مؤيداً، مبرماً للخير سبباً قوياً. فالله تعالى يصل لمقام هذا الملك الذي طلع في سمائه بدراً دونه البدور، وصدراً تلوذ به الصدور، سعداً لا تمطله الأيام في تقاضيه، ونصراً يمضي به نصل الجهاد فلا يزال ماضيه، على الفتح مبنياً. ويوالي له عزاً يذود عن حرم الدين ويمنحه تأييداً (3) يصبح في أعناق الكفر حديث سيفه قطعياً.

_ (1) ق: والطارف. (2) الأزهار: وسما؛ ق: وشاء. (3) هكذا في الأزهار؛ وفي ص: وخيفة وتأييداً، واللفظتان على الرفع في ق.

أمر به مرسوماً عزيزاً لا تبلغ المرسومات إلى مداه، ولا يبدي بآثار الاختصاص مثل ما أبداه عبد الله أمير المسلمين محمد الغالب بالله أيد الله تعالى مقامه، ونصر أعلامه، وشكر إنعامه، ويسر مرامه، لإمام الأئمة وعلم الأعلام، وعماد ذوي العقول والأحلام، وبركة حملة السيوف والأقلام، وقدوة رجال الدين وعلماء الإسلام، الشيخ الفقيه أبي يحيى ابن كبير العلماء، شهير العظماء، حجة الأكابر والأعيان، مصباح البلاغة والبيان، قاضي القضاة وإمامهم، أوحد الجلة وطود شمامهم، الشيخ الفقيه أبي بكر ابن عاصم أبقاه الله تعالى، ومناطق الشكر به فصيحة اللسا، ومواهب الملك به معهودة الإحسان، وقلائد الأيادي منه متقلدة بجيد كل إنسان، فقد تقرر والمفاخر لا تنسب إلا لبنيها، والفضائل لا تعتبر إلا بمن يشيد أركانها ويبنيها، والكمال لا يصفي شربه، إلا لمن يؤمن سربه، أن هذا العلم الكبير، الذي لا يفي بوصفه التعبير، لم بآثاره يقتدى، وبأنظاره يهتدي، وبإشارته يستشهد، وبإدارته يسترشد، إذ لا أمد علو (1) إلا وقد تخطاه، ولا مركب فضل إلا وقد تمطاه، ولا شراقة هدى إلا وقد جلاها، ولا لبة فخر إلا وقد حلاها، والنعمة إلا وقد أسداها، ولا حرمة إلا وقد أبداها، لما له في دار الملك من الخصوصية العظمى، والمانة التي تسوغ النعمى، والرتب التي تسموالعيون إلى مرتقاها، وتستقبها النفوس بالتعظيم وتتلقاها، حيث سر الملك مكتوم، وقرطاسه مختوم، وأمره محتوم، والأقلام قد روضت الطروس وهي ذاوية، وقسمت الأرزاق وهي طاوية، شقت ألسنتها فنطقت، وقطت (2) أرجلها فسبقت، ويبست أثمرت إنعاماً، ونكست فأظهرت قواماً، وخطت فأعطت، وكتبت فوهبت، ومشقت فرفقت، وأبرمت فأنعمت، فكم يسرت الجبر،

_ (1) ص: على (علا) . (2) ق: وقطعت.

وعفرت الهزبر، وشنفت المسامع، وكيفت المطامع، وأقلت فيما ارتفع من المواضع، وأحلت لما امتنع من المراضع، فهي تنجز النعم، وتحجز النقم، وتبث المذاهب، وتحث المواهب، وتروض المراد، وتنهض المراد، وتحرس الأكناف، وتغرس الأشراف، مصيخة لنداء هذا العماد الأعلى، طامحة لمكانه الذي سما واستعلى، فيما يلي عليها من البيان الذي يقر له بالتفضيل، الملك الضليل، ويشهد له بالإحسان، لسان حسان، يحكم له ببري القوس (1) ، حبيب بن أوس، ويهيم بما من الأساليب عنده، شاعر كندة، ويستمطر سحبه الثرة، فصيح المعرة، إلى منثور تزيل الفقر فقره، وتدر الرزق درره، لوأنهي إلى قس إباد لشكر في الصنيعة أياديه، واستمطر سحبه وغواديه، أوبلغ إلى سحبان لسحره، وما فارقه عشية ولا سحره، ولورآه الصابي لأبدى إليه من صبوته ما أبدى، أوسمعه ابن عباد لكان له عبداً، أبوبلغ بديع الزمان لهجر بدائعه، واستنزر بضائعه، أوأتحف به البستي لا تخذه بستاناً، أوعرض على عبد الحميد لأحمد من صوبه هتاناً، فأعظم به ومن عال لا ترقى ثنيته، ولا تحاز مزيته، ولا يرجم أفقه، ولا يكتم حقه، ولا ينام له عن اكتساب الحمد ناظر، ولا ينقاس به في الفضل مناظر، وهل تقاس الأجادل بالبغاث، أوالحقائق بالأضغاث ألا وإن بيته هوالبيت الذي طلع في افقه كل كوكب وقاد، ممن وشج به للعلوم اتقاء واتقاد، وترامى به للمدارك ذكاء وانتقاد، فاعظم بهم أعلاماً وصدوراً، وأهلة وبدوراً، خلدت ذكرهم الدواوين المسطرة، وسرت في محامدهم الأنفاس المعطرة، إلى أن نشأ في سمائهم هذا الأوحد، الذي شهرة فضله لا تجحد، فكان قمرهم الأزهر، ونيرهم الأظهر، ووسيطة عقدهم الأنفس، ونتيجة مجدهم الأقعس، فأبعد في المناقب آماده، ورفع الفخر وأقام عماده، وبنى على تلك الأساس المشيدة، وجرى لإدراك تلك الغايات البعيدة،

_ (1) ق: ببرء النفوس.

فسبق وجلى، وشنف بذكره المسامع وحلى، ورفع المشكل ببيانه، وحرر الملتبس ببرهانه، إلى أن أحله قضاء الجماعة ذروة أفقه الأصعد (1) ، وبوأه عزيز ذلك المقعد، فشرف الخطة، وأخذ على الأيدي المشتطة، لا يراقب إلا ربه، ولا يضمر إلا العدل وحبه، والمجلس السلطاني أسماه الله تعالى يختصه بنفسه، ويفرغ عليه من حلل الاصطفاء ولبسه، ويستمطر فزائده، ويجرب بأنظاره حقوق الملك وعوائده، فكان بين يديه حكماً مقسطاً، ومقسماً لحظوظ الإنعام مقسطاً، إلى أن خصه بالكتابة المولوية، ورأى له ذلك حق الأولوية، إذ كان والده المقدس نعم الله تعالى ثراه، ومنحه السعادة في أخراه، مشرف ذلك الديوان، ومعلي ذلك الإيوان، يحبر رقاع الملك فتروق، وتلوح كالشمس عند الشروق، فحل ابنه هذا (2) الكبير شرفاً، الشهير سلفاً، مرتبته التي سمت، وافترت به عن السعد وابتسمت، فسحبت به لشرف مطارف، وأحرزت به من الفخر التالد والطارف، فهواليوم في وجهها غرة، وفي عينها قرة، ولله هوفي ملاحظة الحقائق ورعيها، وسمع الحجج ووعيها، فلقد فضل بذلك أهل الاختصاص، وسبقهم في تبيين ما يشكل منها وما يعتاص، إذ المشكلة معه جلية الأغراض، والآراء لديه آمنة من مأخذ الاعتراض، فكم رتبة عمرها بذويها، فأكسبها تشريفاً وتنويهاً، وعلى ذلك فأعلام قضاة الوطن، ومن عبر منهم وقطن، مع أقدارهم السامية، ومعاليهم التي هي للزهر مسامية، إنما رقتهم وساطته التي أحسنت، وزينت بهم المجالس وحسنت، فيه (3) أمضوا أحكامهم، وأعلموا في الأباطيل احتكامهم، وكتبوا الرسوم، وكتبوا الخصوم، وحلوا دست القضاء، وسلوا سيف المضاء، وفي زمانه تخرجوا،

_ (1) ق: الأسعد. (2) ص: ذلك. (3) كذا في ص ق؛ وفي الأزهار: فبه.

وفي بستانه تأرجحوا، ومن خلفه اكتسبوا، وإلى طرقه انتسبوا، وعلى موارده حاموا، وحول فوائده قاموا، ويتعريفه عرفوا، وبتشريفه شرفوا، وبصفاته ملفوا، ويعرفاته وقفوا، فأمنوا مع انسكاب سحب إفادته من الجذب، وقاموا بذلك الفرض بسبب ذلك الندب، وهل العلماء وإن عمت فوائدهم، وانتظمن بجياد الأذهان فرائدهم، إلا من أنواره مستمدون، فبه اجتنيت من أفنان المنابر ثمراتهم، وتأرجت في روضات المعارف زهراتهم، وبه عمروا الحلق، وائتلق من أنوارهم ما أئتلق، إذ كل من اصطناعه محسوب، وإلى بركته منسوب، فهويدرهم الأهدى، وغيثهم الأجدى، وعقدهم المقتنى، وروضهم المجتنى، وبدر منازلهم، وصدر محافلهم. وعلى ما أعلى المقام المولوي من مكانه، وقضى به من استمكانه، واعتمد من إبرامه، وأبرم من اعتماده، ومهد من إكرامه، وكرم من مهاده، واختص من علاه، وأعلى من اختصاصه، واستخلص من حلاه،، وحلا من استخلاصه، ووفى من تكرمه، وكرم من يراعته، وشقق من كتابته، وأنطق من خطابته، وسجل من أنظاره، وعجل من اختياره، فذكا ذكره، وسطا سطره، وأمعن معناه، وأغنى مغناه، أشار أيده الله تعالى باستئناف خصوصيته وتجديدها، وإثبات مقاماته وتحديدها، لتعرف تلك الحدود فلا تتخطى، وتكبر تلك المراتب فلا تستعطى، فأصدر له شكر الله تعالى إصداره، وعمر من مناقبه البديع فراق طيه ونشره، وغدا وفرائد المآثر لديه موجدة مكونه (1) ، وأصبح للمفاخر مالكاً لما أتى به مدونه، وخصه فيه بالنظر المطلق الشروط، الملازم للتفويض ملازمة

_ (1) ق: مكنونه؛ ص: مكمونه.

الشرط للمشروط، المستكمل الفروع والأصول، المستوفي الأجناس والفصول، في الأمور التي تختص بأعلام القضاة الأكابر، وكتاب القضاة ذوي الأقلام والمحابر، وشيوخ العلم وخطباء المنابر، وسائر أرباب الأقلام القاكن منهم والعابر، بالحضرة العلية، وجميع البلاد النصرية، تولى الله تعالى جميع ذلك بمعهود ستره، ووصل لديه ما تعود من شفع اللطف ووتره، يحوط مراتبهم التي قطفت من روضاتها ثمرات الحكم وجنيت، ويراعي أمورهم التي أقيمت على العوائد وبنيت، وحقوقهم التي حفظت لهم في المجالس السلطانية ورعيت، ويحل كل واحد منهم في منزلته التي تليق، ومرتبته التي هوبها خليق، على ما يقتضي ما يعلم من أدواتهم، ويخبر من تباين ذواتهم، ويرشح كل واحد إلى ما استحه، ويؤتي كل ذي حق حقه، اعتماداً على أغراضه التي عدلت، وصدحت على أفنانها من الأفواه طيور الشكر وهدلت، واستناداً في ذلك إلى آرائه، وتفويضاً له في هذا الشأن بين خلصاء الملك وظهرائه، وذلك على مقتضى ما كان عليه أعلام الرياسة الذين سبقوا، وانتهضوا بهممهم واستبقوا، كالشيخ الرئيس الصالح أبي الحسن ابن الجياب، والشيخ ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب، رحمهما الله تعالى. فليقم أبقاه الله تعالى بهذه الأعمال التي سمت واعتزت، ومالت بها أعطاف العدل واهتزت، وسار بها الخبر حثيث السرى، وصار بها الحق مشدود العرى، وعلى جميع القضاة الامضايء، والعلماء الأرضياء، والخطباء الأولياء، والمقرئين الأزكياء، وحملة الأقلام الأحظياء، أن يعتمدوا هذا الولي العماد في كل ما يرجع إلى عوائدهم، ويختص في دار الملك من مرتباتهم وفوائدهم، وما يتعلق بولاياتهم وأمنياتهم، ويليق بمقاصدهم ونياتهم، فهوالذي يسوغهم المشارب، ويبلغهم المآرب، ويستقبل العلي بالعلي، والعاطل بالحلي، والمشكل بالجلي، والمفرق بالتاج، والمقدمة بالإنتاج، وعلى ذلك فهذا المنشور الكريم قد أقرهم على ولاياتهم وأبقاهم، ولقاهم من حفظ المراتب ما رقاهم، فليجروا

رجع إلى أخبار لسان الدين فنقول:

على ماهم بسبيله، وليهتدوا بمرشد هذا الاتناء ودليله، وكتب في صفر عام سبعة وخمسين وثمانمائة؛ انتهى. قلت: وإنما أتيت به لوجوه: أحدها ما يتعلق بلسان الدين إذ وقعت الإشارة إلى مرتبته في آخره، والثاني ما اشتمل عليه من الإنشاء الغريب، والثالث معرفة حال الرئيس أبي يحيى ابن عاصم وتمكنه من الرياسة، لأنا بنينا هذا الكتاب على ذكر ما يناسبه من أنباء أهل المغرب، لكون أهل هذه البلاد المشرقية ليس لهم بها عناية، والرابع أن بعض أكابر شيوخنا ممن ألف في طبقات الملكية لما عرف بأبي يحيى ذكره في نحوأسطر عشرة، وقال: هذا الذي حضرني من التعريف به، والخامس أن ابن عاصم المذكور كما قاله الوادي آشي وغيره كان يدعي في الأندلس بابن الخطيب الثاني، ويعنون بذلك البلاغة والبراعة والرياسة والسياسة. رجع إلى أخبار لسان الدين فنقول: وأما كتب التأليف باسم لسان الدين رحمه الله تعالى، فقد قال في الإحاطة لما أجرى ذكر ذلك ما صورته: وأما ما رفع إلي من الموضوعات العلمية، والوسائل الأدبية، والرسائل الإخوانية، لما أقامني الملك صنماً يعتمد، وخيالاً إليه يستند، صادرة عن الأعلام، وحملة الأقلام، ورؤساء النثار والنظام، فجم يضيق عنه الإحصاء، ويعجز عن ضم نشره الاستقصاء، وربما تضمن هذا الكتاب كتاب الإحاطة منه كثيراً، ومنظوماً أثيراً، ودراً نثيراً، جرى في أثناء الأسماء، وانتمى إلى الإجادة اكرم الانتماء، غفر الله تعالى لي ولقائله، فما كان أولاني وإياه بستر زوره، وإغراء الإضراب بغروره، فأهون بما لا ينفع، وإن ارتفع الكلم الطيب لا يرفع، اللهم تجاوز عنا بفضلك وكرمك؛ انتهى. وقد تقدم في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الكرسوطي الفاسي نزيل مالقة وصاحب العديدة أنه ألف تقييداً على قواعد الإمام القاضي

أبي الفضل عياض رحمه الله تعالى برسم ولد لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى، وكذلك غير واحد من أهل عصره، قصدوه بالنظم والنثر، وهي سنة الله سبحانه وتعالى في عباده، إذ السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق فيها، والله سبحانه وتعالى ولي المكافأة، لا رب غيره، ولا مأمول سواه (1) ؛ انتهى.

_ (1) ص: ولا ... سواه: سقطت من ص؛ وإلى هنا انتهت نسخة ص، وفي آخرها " انتهى الجزء الثالث من نفح الطيب تاريخ الإمام العالم العلامة أحمد المقري الماكلي ".

في إيراد جملة من نثره الذي عبق أريج البلاغة من نفحاته، ونظمه الذي تألق

الباب الخامس في إيراد جملة من نثره الذي عبق أريج البلاغة من نفحاته، ونظمه الذي تألق نور البراعة من لمحاته وصفحاته، وما يتصل به من أزجاله وموشحاته، ومناسبات رائقة فيفنون الأدب ومصطلحاته اعلم - سلك الله تعالى بي وبك أوضح محجه، وجعلنا ممن انتحى صوب الصواب ونهجه - أن هذا الباب، هوالمقصود بتأليف هذا الكتاب، وغيره كالتبغ له، وها أنا أذكر ما حضرني الآن من بنات أفكار لسان الدين التي هي بالمحاسن متقنعة، ولبدائع منتعلة، فأقول: أما نثره فهوالبحر الزخار، بل الدر الذي به الافتخار، وناهيك أن كتبه الآن في المغرب قبلة أرباب الإنشاء التي إليها يصلون، وسوق دررهم النفسيسة التي يزينون بها صدور طروسهم ويحلون، وخصوصاً كتابه ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب، فإنه، وإن تعددت مجلداته، على فن الإنشاء والكتابة مقصور، وقد اشتمل على السلطايات وغيرها ومخاطباته لأهل المشرق والمغرب على لسان ملوك الأندلس الذين علم بلاغتهم منصور، وقد تركت نسختي منه في المغرب، ولوحضرتني لكفتني عن هذه الفوائد التي أتعبت خاطري في جمعها من مقيداتي التي صبتها معي، وهي قليلة. وقد مر في هذا الكتاب جملة من نثره ونظمه، والذي نجلبه هنا زيادة على ما سبق. وقال رحمه الله تعالى في " الإحاطة " عند ترجمة نثره ما صورته: وأما النثر

فبحر زاخر، ومدى طوله مستاخر، وإنك لميفخر عليك كفاخر، وقد مر منه في تضاعيف هذا الديوان كثير، ونحن نجلب منه ما يشير إليه مشير؛ انتهى. 1 - فمن ذلك قوله في غرض التحميد مما افتتح به الكتاب في التاريخ المتضمن دولة بني نصر (1) : الحمد لله الذي جعل الأزمنة كالأفلاك، ودول الأملاك كأنجم الأحلاك، تطلعها من المشارق نيرة، وتلعب بها مستقيمة أومتحيرة، ثم تذهب بها غائرة متغيرة، السائق (2) عجل، وطبع الوجود مرتجل، والحي من الموت وجل، والدهر لا معتذر ولا خجل، بينما ترى الدست عظيم الزحام، والموكب شديد الالتحام، والوزعة تشير، والأبواب يقرعها البشير، والسرور قد شمل الأهل والعشير، والأطراف تلثمها الأشراف، والطاعة يشهرها الاعتراف، والأموال يحوطها العدل أويبيحها الإسراف، والرايات تعقد، والاعطيات تنقد، إذ رأيت الأبواب مهجورة، والدسوت لا مؤملة ولا مزورة، والحركات قد سكنت، وأيدي الإدالة قد تمكنت، فكأنما لم يسمر سامر، ولا نهي ناه، ولا أمر آمر، ما أشبه الليلة بالبارحة، والغادية بالرائحة {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح} (الكهف:45) . 2 - ومن نثره قوله في استدعاء إمداد وحض على الجهاد: " أيها الناس رحمكم اله تعالى، إخوانكم المسلمون بالأندلس قد دهم العدوقصمه الله تعالى ساحتهم، ورام الكفر خذله الله تعالى استباحتهم، وزحفت أحزاب الطواغيت إليهم، ومد الصليب ذراعيه عليهم، وأيديكم بعزة الله تعالى أقوى، وأنتم المؤمنون أهل البر والتقوى، وهودينكم فانصروه، وجواركم الغريب فلا تحفزوه، وسبيل الرشد قد وضح فلتبصروه، الجهاد الجهاد فقد تعين،

_ (1) يريد كتاب اللمحة البدرية، انظر مقدمته ص: 9. (2) اللمحة: السابق.

الجار الجار فقد قرر الشرع حقه وبين، الله الله في الإسلام، الله الله في أمة محمد عليه الصلاة والسلام، الله الله في المساجد المعمورة بذكر الله، الله اله في وطن الجهاد في سبيل الله، قد استغاث بكم الدين فأغيثوه، قد تأكد عهد الله وحاشاكم أن تنكثوه، أعينوا إخوانكم بما أمكن من الإعانة أعانكم الله تعالى عند الشدائد، جددوا عوائد الخير يصل الله تعالى لكم جميل العوائد، صلوا رحم الكلمة، واسوا أنفسكم وأموالكم تلك الطوائف المسلمة، كتاب الله بين أيديكم، وألسنة الآيات تناديكم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمة فيكم، والله سبحانه يقول له " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم " الصف: 10. ومما صح عنه قوله من اغبرت قدماه في سبيل الل حرمهما الله على النار لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، أدركوا رمق الدين قبل أ، يفوت، بادروا عليل الإسلام قبل أن يموت، احفظوا وجوهكم مع الله تعالى يوم يسألكم عن عباده، جاهدوا في الله بالألسن والأقوال حق جهاده: ماذا يكون جوابكم لنبيكم ... وطريق هذا العذر غير ممهد إن قال لم فرطتم في أمتي ... وتركتموهم للعدوالمعتدي تالله لو أن العقوبة لم تخف ... لكفى الحيا من وجه ذاك السيد اللهم اعطف علينا قلوب العباد، اللهم بث لنا الحمية في البلاد، اللهم دافع عن الحريم والضعيف والأولاد، اللهم انصرنا على أعدائك، بأحبابك وأوليائك، يا خير الناصرين، اللهم أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. انتهى. 3 - ومن ذلك قوله في صداق أمره السلطان بإنشائه لكبير الشرفاء بفاس في فصل منه تضمن ذكر أوليتهم واستيطانهم لتلك المدينة ما صورته. فضرب بفاس - عمرها الله تعالى - حلته، وأورث منها بالبقعة الزكية

الرفيعة وجلته، فتبوأوا من ذلك الغور، المعشب الروض الأرج النور، هالة سعد، وأفق برق ورعد، ودست وعيد ووعد، يتناقلون رتب الشرف الصريح كابراً عن كابر، ويروي مسلسل المجد عن بيتهم الرفيع الجد كل حريص على عوالي المعالي مثابر: فالكف عن صلة، والأذن عن حسن ... والعين عن قرة، والقلب عن جابر حيث الأنوف الشم والوجوه الغر، والعزة القعساء والنسب الحر، والفواطم في صدف الصون من لدن الكون كأنهن الدر، آل رسول الله ونعم الآل، والموارد الصادقة إذا كذب الآل، ون إذا لم يصل عليهم في الصلاة حبطت منها الأعمال، طلبة الراكب، ونشدة الطالب، وسراة لؤي بن غالب، وملتقى نور الله تعالى ما بين فاطمة الزهراء وعلي بن أبي طالب. انتهى، وهوطويل لم يحضرني منه الآن سوى ما ذكرته. 4 - ومن ذلك قوله رحمه الله تعالى: كتبت إلى بعض السادة الفضلاء، وقد بلغني مرضه أيام كان الانزعاج عن الأندلس إلى الإيالة المرينية (1) : وردت علي فئتي التي إليها في معركة الدهر أتحيز، وبفصل فضلها في الأقدار المشتركة اتميز، سحاءة سرت وساءت، وبلغت من القصدين (2) ما شاءت، أطلع بها سيدي صنيعة وده من شكواه على كل عابث في السويداء، موجب اقتحام البيداء، مضرم نار الشفقة في فؤاد لم يبق من صبره إلا القليل، ولا من إفصاح لسانه إلا الأنين والأليل، ونوى مدت لغير ضرورة يرضاها الخليل، فلا تسأل عن ضنين تطرقت اليد إلى رأس ماله، أوعابد نوزع في تقبل أعماله، أوآمل ضويق في فذلكة آماله، لكني رجحت دليل المفهوم على دليل المنطوق، وعارضت القواعد الموحشة بالفروق، ورأيت الخط يبهر والحمد لله تعالى ويروق،

_ (1) مر في الباب الرابع ص: 43 أن هذا النص من رسالة خاطب بها أبا القاسم ابن رضوان. (2) ق: القصد.

واللفظ الحسن تومض في حبره للمعنى الأصيل بروق، فقلت: ارتفع الوصب، ورد من الصحة المغتصب، وآلة الحس والحركة هي العصب، وإذا أشرق سراج الإدراك دل على سلامة سليطه، والروح خليط البدن والمرء بخليطه، وعلى ذلك فبليد احتياطي لا يقنعه إلا الشرح، فيه يسكن الظمأ البرح، وعذراً عن التكليف فهومحل الاستقصاء والاستفسار، والإطناب والإكثار، وزند الفلق في مثلها أورى، والشفيق بسوء الظن مغري، والسلام. 5 - ومن نثر لسان الدين ما ذكره في " الإحاطة " في ترجمة أبي عبد الله الشديد وهومحمد بن قاسم بن أحمد بن إبراهيم الأنصاري الجياني الأصل ثم المالقي إذ قال ما صورته (1) : " جملة جمال (2) من خط حسن واضطلاع بحمل كتاب الله، بلبل دوح السبع المثاني، ومائطة عروس أبي الفرج ابن الجوزي، وآية صقعه ونسيج وحده في حسن الصوت وطيب النغمة، اقتحم لذلك دسوت الملوك، وجر أذيال الشهرة (3) ، عذب الفكاهة، ظريف المجالسة، قادراً على المحاكاة، متسوراً حمى الوقار، ملبياً داعي الانبساط، قلد شهادة الديوان بمالقة فكان مغار حيل الأمانة، شامخ مارن النزاهة، لوحاً للألقاب، وعززت ولايته ببعض الألقاب النبيهة، وهوالآن الناظر في أمور الحسبة ببلده، ولذلك خاطبته برقعة أداعبه بها وأشير إلى أضداده بما نصه: يا أيها المحتسب الجزل ... ومن لديه الجد والهزل يهنيك والشكر لمولى الورى ... ولاية ليس لها عزل كتبت أيها المحتسب، المنتمي إلى النزاهة المنتسب، أهنيك ببلوغ تمنيك، وأحذرك

_ (1) الإحاطة، الورقة: 12. (2) الإحاطة: مجموع خلال. (3) الإحاطة: الصحبة.

من طمع نفس بالغرور تمنيك، فكأنني بك وقد طافت بركابك الباعة، ولزم أمرك السمع والطاعة، وارتفعت في مصانعتك الطماعة، وأخذت أهل الريب بغتة كما تقوم الساعة، ونهضت تقعد وتقيم، وسطوتك الريح العقيم، وين يديك القسطاس المستقيم، ولا بد من شرك ينصب، وجماعة على ذي جاه تعصب (1) ، ودالة يمت بها الجناب الأخصب، فإن غضضت طرفك، أمنت على الولاية صرفك، وإن ملأت ظرفك (2) ، رحلت عنها حرفك، وإن كففت فيها كفك، حفك العز فيمن حفك، فكن لقالي المجبنة قالياً، ولحوت السلة سالياً، وأبد لدقيق الحواري زهد حواري، وازهد فيما بأيدي الناس من العواري، وسر في اجتناب الحلواء، على السبيل السواء، وارفض في الشواء، دواعي الأهواء (3) ، وكن على الهراس (4) وصاحب ثريد الراس شديد المراس، وثب على طبيخ الأعراس ليثاً مرهوب الافتراس، وأدب أطفال الفسوق في السوق، لا سيما من كان قبل البلوغ والبسوق، وصمم على استخراج الحقوق، والناس أصناف فمنهم خسيس يطمع منك في ألة، ومستعد عليك بوكزة أوركلة، وحاسد في مطية تركب وعطية تسكب، فاخفض للحاسد جناحك، وسدد إلى حربه رماحك، واشبع الخسيس منهم مرقة فإنه حنق، ودس له فيها عظماً لعله يختنق، واحفر لشريرهم حفرة عميقة، فإنه العدوحقيقة، حتى إذا حصل، وعلمت أن وقت الانتصار قد اتصل، فأوقع وأوجع ولا ترجع، وأولياءه من الشياطين (5) فافجع، والحق أقوى، وأن تعفوأقرب لتقوى، سددك اله تعالى إلى غرض التوفيق، وأعلقك

_ (1) الإحاطة: تتصعب. (2) ملأ ظرفه: كناية عن قبول الهدية والرشا. (3) الإحاطة: وارفض في الشوا دواعي الهوى. (4) الهراس: صانع الهريسة. (5) الإحاطة: من حزب الشيطان.

من الحق بالسبب الوثيق، وجعل قدومك مقروناً برخص اللحم والزيت والدقيق؛ انتهى. 6 - ومما كتب به لسان الدين إلى علي بن بدر الدين الطوسي بن موسى ابن رحوبن عبد الله بن عبد الحق من مدينة سلا ما نصه: يا جملة الفضل والوفاء ... ما بمعاليك من خفاء عندي بالود فيك عقد ... حفه الدهر باكتفاء ما كنت أقضي حلاك حقاً ... لو جئت مدحاً بكل فاء فأول وجه القبول عذري ... وحسبك (1) الشك في صفاء سيدي الذي هوفصل جنسه، ومزية يومه على أمسه، فإن افتخر الدين من أبيك بدره افتخر منك بشمسه، رحلت على المنشا والقرارة، ومحل الصبوة والفرارة، فلم تتعلق نفسي بذخيرة، ولا عهد جيرة خيرة (2) ، كتعلقها بتلك الذات التي لطفت لطافة الراح، واشتملت بالمجد الصراح، شفقة أن تصيبها معرة والله تعالى يقيها، ويحفظها ويبقيها، إذ الفضائل في الأزمان الرذلة غوائل، والضد عن ضده منحرف بالطبع ومائل، فلما تعرفت خلاص سيدي من ذلك الوطن، وإلقاءه وراء الفرضة (3) بالعطن، لم تبق لي تعلة، ولا أحرضتني له علة، ولا أوتي جمعي من قلة، فكتبت أهنئ نفسي الثانية بعد هناء نفسي الأولى، وأعترف للزمان باليد الطولى، فالحمد لله الذي جمع الشمل بعد شتاته، وأحيا الأنس بعد مماته، سبحانه لا مبدل لكلماته، وإياه أسأل أن يجعل العصمة حظ سيدي ونصيبه، فلا يستطيع حادث أن يصيبه، وأنا أخرج له عن بث كمين، ونصح أنا به قمين،

_ (1) ق: وجنب. (2) خيرة: سقطت من ق. (3) ق: العرصة.

بعد أن أسبر غوره، وأخبر طوره، وأرصد دوره، فإن كان له في التشريق أمل، وفي ركب الحجاز ناقة وجمل، والرأي فيه قد نجحت منه نية وعمل، فقد غني عن عرف البقرات، بأزكى الثمرات، وأطفأ هذه الجمرات، برمي الجمرات، وتأنس بوصل السرى ووصال السراة، وأنا به إن رضيتني أرضى مرافق، ولواء عزي به خافق، وإن كان على السكون بناؤه، وانصرف إلى الإقامة اعتناؤه، فأمر له ما بعده، والله يحفظ من الغير سعده، والحق أن تحذف الأبهة وتختصر، ويحفظ اللسان ويغض البصر، وينخرط في الغمار، ويخلي عن المضمار، ويجعل من المحظور مداخلة من لا خلاق له، ممن لا يقبل الله تعالى قوله ولا عمله، فلا يكتم سراً، ولا يتطوق من الرجولة زراً، ويرفض زمام السلامة (1) ، وترك العلامة على النجاة علامة، وأما حالي فكما علمتم ملازم كن، ومهبط تجربة وسن، أزجي الأيام، وأروم بعد التفرق الالتئام، خالي اليد، مليء القلب والخلد، بفضل الواحد الصمد، عامل على الرحلة الحجازية التي أختارها لكم ولنفسي، واصل في التماس الإعانة عليها يومي بأمسي، أوجب ما قررته لكم ما أنتم أعلم به من ود قررته الأيام والشهور، والخلوص المشهور، وما أطلت في شيء عند قدومي على هذا الباب الكريم إطالتي فيما يختص بكم من موالاته، وبذل مجهود القول والعمل في مرضاته، وأما ذكركم في هذه الأوضاع فهومما يقر عين المجادة، والوظيفة التي ينافس فيها أولوالسادة، والله يصل بقاءكم، وييسر لقاءكم، والسلام " انتهى. 7 - ومن نثر لسان الدين ما أثبته في الإحاطة في ترجمة ابن خلدون صاحب التاريخ الذي تكرر نقلنا منه في هذا التأليف: ولنذكر الترجمة بجملتها فنقول: قال رحمه الله تعالى في " الإحاطة " ما نصه: " عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن

_ (1) ق: الصحبة زمان السلامة.

إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي، من ذرية عثمان أخي كريب المذكور في نبهاء ثوار الأندلس، وينسب سلفهم إلى وائل بن حجر، وحاله عند القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفة، انتقل سلفه من مدينة إشبيلية عن نباهة وتعين وشهرة عند الحادثة بها أوقبل ذلك، فاستقر بتونس منهم ثاني المحمدين محمد بن الحسن، وتناسلوا على حشمة وسراوة ورسوم حسنة، وتصرف جد المترجم به في القيادة. وأما المترجم به فهورجل فاضل، حسن الخلق، جم الفضائل، باهر الخصل، رفيع القدر، ظاهر الحياء، أصيل المجد، وقور المجلس، خاصي الزي، عالي الهمة، عزوف عن الضيم، صعب المقادة، قوي الجأش، طامح لقنن الرياسة، خاطب للحظ، متقدم في فنون عقلية ونقلية، متعدد المزايا، سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التصور، بارع الخط، مغري بالتجلة، جواد حسن العشرة، مبذول المشاركة، مقيم لرسم التعيين، عاكف على رعي خلال الأصالة، مفخر من مفاخر التخوم المغربية. قرأ القرآن ببلده على المكتب ابن برال، والعربية على المقرئ الزواوي وغيره، وتأدب بأبيه، وأخذ عن المحدث أبي عبد الله ابن جابر الوادي آشي، وحضر مجلس القاضي أبي عبد الله ابن عبد السلام، وروى عن الحافظ أبي عبد الله السطي، والرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي، ولازم العالم الشهير أبا عبد الله الآبلي وانتفع به، انصرف من إفريقية منشئه بعد أ، تعلق بالخدمة السلطانية على الحداثة، وإقامته لرسم العلامة بحكم الاستنابة، عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، وعرف فضله، وخطبه السلطان منفق سوق العلم والأدب أبوعنان فارس بن علي بن عثمان، واستحضره (1) بمجلس المذاكرة فعرف حقه وأوجب فضله، واستعمله على الكتابة أوائل عام ستة وخمسين، ثم عظم عليه حمل الخاصة من طلبة الحضرة لبعده عن حسن التأتي، وشفوفه بثقوب الفهم وجودة الإدراك، فأغروا به

_ (1) ق: واستقدمته واستحضره.

السلطان إغراء عضده ما جبل عليه عهدئذ من إغفال التحفظ مما يريب ليده، فأصابته شدة تخلصه منها أجله (1) ، كانت مغربة في جفاء ذلك الملك وهناة جواره، وإحدى العوازل لأولي الهوى في القول بفضله وعدم الخشوع وإهمال التوسل وإبادة المكسوب في سبيل النفقة والإرضاخ على زمن المحنة وجار المنزل الخشن، إلى أ، أفضى الأمر إلى السعيد ولده، فأعتبه قيم الملك لحينه، وأعاده إلى رسمه، ودالت الدولة إلى السلطان أبي سالم، وكان له به الاتصال قبل تسوغ المحنة بما أكد حظوته، فقلده ديوان الإنشاء مطلق الجرايات محرر السهام نبيه الرتبة، إلى آخر أيامه. ولما ألقت الدولة مقادها بعده إلى الوزير عمر بن عبد الله مدبر الأمر، وله إليه وسيلة وفي حيله شركة وعنده حق، رابه تقصيره عما ارتمى إليه أمله، فساء ما بينهما بما آل انفصاله عن الباب المريني، وورد على الأندلس في أول ربيع الأول عام أربعة وستين وسبعمائة، واهتز له السلطان، وأركب خاصته لتقليه، وأكرم وفادته، وخلع عليه وأجلسه بمجلسه، ولم يدخر عنه براً ومؤاكلة ومطايبة وفكاهة. 8 - وخاطبني لما حل بظاهر الحضرة مخاطبة لم تحضرني الآن، فأجبته عنها بقولي (2) : حللت حلول الغيث في البلد المحل ... على الطائر الميمون والرحب والسهل يميناً بمن تعنو الوجوه لوجهه ... من الشيخ والطفل المهدإ والكهل لقد نشأت عندي للقياك غبطة ... تنسي اغتباطي بالشبيبة والأهل أقسمت بمن حجت قريش لبيته، وقبر صرفت أزمة الأحياء لميته، ونور ضربت الأمثال بمشكاته وزيته، لوخيرت أيها الحبيب الذي زيارته الأمنية السنية، والعارفة

_ (1) ق: الأجل. (2) أوردها ابن خلدون في التعريف: 82.

الوارفة، واللطيفة المطيفة، بين رجع الشباب يقطر ماء ويرف نماء، ويغاز عيون الكواكب فضلاً عن الكواعب إشارة وإيماء، بحيث لا الوخط يلم بسياج لكته، أويقدح ذبالة في ظلمته، أويقوم حواريه في ملته، من الأحابش وامته، وزمانه روح وراح، ومغدى في النعيم ومراح، وقصف صراح، ورقى وجراح، وانتحاب واقتراح، وصدور ما بها إلا انشراح، ومسرات تردفها أفراح، وبين قدومك خليع الرسن، ممتعاً والحمد لله باليقظة والوسن، محكماً في نسك الجنيد أوفتك الحسن، ممتعاً بظرف المعارف، مالئاً أكف الصيارف، ماحياً بأنوار البراهين شبه الزخارف، لما اخترت الشباب وإن راقني (1) زمنه، وأعياني ثمنه، وأجرت سحائب دمعي دمنه، فالحمد لله الذي رقى جنون اغترابي، وملكني أزمة آرابي، وغبطني بمائي وترابي، ومألف أترابي، وقد أغصني بلذيذ شرابي، ووقع على سطوره المعتبرة إضرابي، وعجلت هذه مغبطة بمناخ المطية، ومنتهى الطية، وملتقى السعود غير البطية، وتهني الآمال الوثيرة الوطية، فما شئت من نفوس عاطشة إلى ربك، متجملة بزيك، عاقلة خطى مهريك، ومولى مكارمه نشيدة أمثالك، ومظان مثالك، وسيصدق الخبر ما هنالك، ويسع فضل مجدك في التخلف عن الإصحار (2) ، لا بل اللقاء من وراء البحار، والسلام. 9 - ولما استقر بالحضرة جرت بيني وبينه مكاتبات أقطعها الظرف جانبه، وأوضح الأدب مذاهبه، فمن ذلك ما خاطبته به وقد تسري جارية رومية اسمها هند صبيحة الابتناء بها: أوصيك بالشيخ أبي بكره ... لا تأمنن في حالة مكره واجتنب الشك إذا جئته ... جنبك الرحمن ما تكره

_ (1) ق والتعريف: شاقني. (2) الإصحار: الخروج لتلقيه خارج البلد.

سيدي لا زلت تتصف بالوالج، بين الخلاخل والدمالج، وتركض فوقها ركض الهمالج، أخبرني كيف كانت الحال، وهل حطت بالقاع من خير البقاع الرحال، واحكم بمرود المراودة الاكتحال، وارتفع بالسقيا الإمحال، وصح الانتحال، وحصحص الحق وذهب المحال، وقد طولعت بكل بشرى وبشر، وزفت هند منك إلى بشر، فلله من عشية، تمتعت من الربيع بفرش موشية، وأبدلت منها أي آساد حشية، وقد أقبل ظبي الكناس، من الديماس، ومطوق الحمام، من الحمام، وقد حسنت الوجه الجميل التطرية، وأزيلت عن الفرع الأثيث الأبرية، وصقلت الخدود فكأنها الأمرية (1) ، وسلط الدلك على الجلود، وأغريت النورة بالشعر المولود، وعادت الأعضاء يزلق عنها اللمس، ولا تنالها البنان (2) الخمس، والسحنة يجول في صفحتها الفضية ماء النعيم، والمسواك يلبي من ثنية التنعيم، والقلب يرمي من الكف الرقيم (3) بالمقعد المقيم، وينظر إلى نجوم الوشوم فيقول: إني سقيم، وقد تفتح ورد الخفر، وحكم لزنجي الضفيرة بالظفر، واتصف أمير الحسن بالصدود المغتفر، ورش بماء الطيب، ثم أعلق بباله دخان العود الرطيب، وأقبلت الغادة، يهديها اليمن وتزفها السعادة، فهي تمشي على استحيا، وقد ذاع طيب الريا وراق حسن المحيا، حتى إذا نزع الخف، وقبلت الأكف، وصخب المزمار وتجاوب الدف، وذاع الأرج، وارتفع الحرج، وتجوز اللوى والمنعرج، ونزل على بشر بزيارة هند الفرج، اهتزت الأرض وربت، وعوصيت الطباع البشرية فأبت، ولله در القائل (4) : ومرت فقالت: متى نلتقي ... فهش اشتياقاً إليها الخبيث وكاد يمزق سرباله ... فقلت: إليك يساق الحديث

_ (1) لعل الأبرية جمع برى بمعنى التراب؛ والأمرية: المرايا جمع مرآة. (2) البنان: سقطت من ق. (3) الرقيم: المزين. (4) ينسب البيتان لبشار (فصل المقال: 46) وفي الثاني منهما المثل " إليك يساق الحديث ".

فلما انسدل جنح الظلام، وانتصفت من غريم العشاء الأخيرة فريضة السلام، وخاطب خيوط المنام عيون الأنام، تأتى دنوالجلسة، ومسارقة الخلسة، ثم عضة النهد، وقبلة الفم والخد، وإرسال اليد من النجد إلى الوهد، وكانت الإمالة القليلة قبل المد، ثم الإفاضة فيما يغبط ويرغب، ثم الإماطة لما يشوش ويشغب، ثم إعمال المسير، إلى السرير (1) : وصرنا إلى الحسنى، ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال وهذا بعد منازعة للأطواق يسيرة، يراها الغيد من حسن السيرة، ثم شرع في التكة، ونرع الشكة (2) ، وتهيئة الأرض العزاز (3) عمل السكة، ثم كان الوحي والاستعجال، وحمي الوطيس والمجال، وعلا الجزء الخفيف، وتضافرت الخصور الهيف، وتشاطر الطبع العفيف، وتواتر التقبيل، وكان الأخذ الوبيل، وامتاز الانوك من النبيل، ومنها جاشر وعلى الله قصد السبيل، فيا لها من نعم متداركة، ونفوس في سبيل القحة متهالكة، ونفس يقطع حروف الحلق، وسبحان الذي يزيد في الخلق، وعظمت الممانعة، وكثرت باليد المصانعة، وطال التراوغ والتزاور، وشكي التحاور، وهناكل تختلف الأحوال، وتعظم الأهوال، وتخسر أوتربح الأموال، فمن عصاً تنقلب ثعباناً مبيناً، ونونة (4) تصير تنيناً، وبطل لم يهمله المعترك الهائل، والوهم الزائل، ولا حال بينه وبين قرنه الحائل، فتعدى فتكة السليك إلى فتكة البراض، وتقلد مذهب الأزارقة من الخوارج في الاعتراض (5) ، ثم شق الصف، وقد خضبت الكف، بعد أن كان يصيب البوسى

_ (1) البيت لأمرئ القيس، ديوانه: 32. (2) ونزع الشكة: سقطت من ق. (3) العزاز: الصلبة. (4) النونة: السمكة؛ وفي العبارات كنايات تنطوي على الغمز والسخرية. (5) الاعتراض: عدم المبالاة بالقتل في حال الخروج أو الإقدام على القتل الجماعي.

بطعنته، ويبوء بمقت الله ولعنته: طعنت ابن عبد الله طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها (1) وهناك هدأ القتال، وسكن الخبال، ووقع المتوقع فاستراح البا، وتشوف إلى مذهب الثنوية من لم يكن للتوحيد بمبال، وكثر السؤال عن المبال، بما بال، وجعل الجريح يقول وقد نظر إلى دمه، يسيل على قدمه: إني له عن دمي المسفوك معتذر ... أقول حملته في سفكه تعبا (2) ومن سنان (3) عاد عناناً، وشجاع صار جباناً، كلما شابته شائبة ريبه، أدخل يده في جيبه، فانجحرت الحية، وماتت الغريزة الحية، وهناك يزيغ البصر، ويخذل المنتصر، ويسلم الأشر، ويغلب الحصر، ويجف اللعاب، ويظهر العاب (4) ، ويخفق الفؤاد، ويكبوالجواد، ويسيل العرق، ويشتد الكرب والأرق، وينشأ في محل الأمن الفرق، ويدرك فرعون الغرق، ويقوي اللجاج ويعظم الخرق، فلا تزيد الحال إلا شدة، ولا تعرف تلك الحائجة المؤمنة إلا ردة: إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول (5) ما يجني عليه اجتهاده فكم مغرى بطول البث، وهومن الخبث، يؤمل الكرة، ليزيل المعرة، ويستنصر الخيال، ويعمل باليد الاحتيال: إنك لا تشكو إلى مصمت ... فاصبر على الحمل الثقيل أو مت (6)

_ (1) البيت لقيس بن الخطيم، ديوانه: 7. (2) ق: التعبا. (3) عطف على قوله فيما سبق: " فمن عصا تنقلب ... الخ ". (4) ق: اللغاب؛ والعاب: العيب. (5) ق: فأكثر. (6) المصمت: الذي يهتم إذا شكوت إليه؛ وهذا من الأمثال، (انظر اللسان - الصمت -) .

ومعتذر بمرض أصابه، جرعه أوصابه، ووجع طرقه، جلب أرقه، وخطيب أرتج عليه أحياناً، فقال: سيحدث الله بعد عسر يسراً وبعد عي بياناً؛ اللهم إنا تعوذ بك من فضائح الفروج إذا استغفلت أقفالها، ولم تتسم بالنجيع أغفالها، ومن معرات الأقذار، والنكول عن الأبكار، ومن النزول عن البطون والسرر، والجوارح الحسنة الغرر، قبل ثقب الدرر، ولا تجعلنا ممن يستحيي من البكر بالغداة، وتعلم منه كلال الأداة، وهو مجال فضحت فيه رجال، وفراش شكيت فيه أوجال، وأعملت رواية وارتجال، فمن قائل: أرفعه طوراً على إصبعي ... ورأسه مضطرب أسفله كالحنش المقتول يلقى على ... عود لكي يطرح في مزبله وقائل: عدمت من أيري قوى حسه ... يا حسرة المرء على نفسه تراه قد مال على أصله ... كحائط خر على أسه وقائل: أيحسدني إبليس داءين أصبحا ... برجلي وراسي دملاً وزكاما فليتهما كانا به وأزيده ... رخاوة أير لا يطيق قياما إذا نهضت للنيك أزباب معشر ... توسد إحدى خصيتيه وناما وقائل: أقول لأيري وهو يرقب فتكة ... به: خبت من أير وعالتك (1) داهية إذا لم يكن للأير بخت تعذرت ... عليه وجوه النيك من كل ناحية وقائل: تعقف فوق الخصيتين كأنه ... رشاء إلى جنب الركية ملتف

_ (1) ق: ونالتك.

كفرخ ابن ذي يومين يرفع رأسه ... إلى أبويه ثم يدركه الضعف وقائل: تكرش أيري بعدما كان املسا ... وكان غنياً من قواه فأفلسا وصار جوابي للمها إن مررن بي ... مضى الوصل إلا منية تبعث الأسر وقائل: بنفسي من حييته فاستخف بي ... ولم يخطر الهجران يوماً على بالي وقابلني بالغور والنجد بعدما ... حططت به رحلي وجردت سربالي وما أرتجي من موسر فوق تكة ... عرضت له شيئاً من الحشف البالي هموم لا تزال تبكى، وعلل الدهر تشكى، وأحاديث تقص وتحكى، فإن كنت أعزك الله سبحانه من النمط الأول، ولم تقل: وهل عند رسم دارس من معول (1) ... فقد جنيت الثمر، واستطبت السمر، فاستدع الأبواق من أقصى المدينة، واخرج على قومك في ثياب الزينة (2) واستبشر بالوفود، وعرف المسمع عازفة الجود، وتبجح بصلابة العود، وإنجاز الوعود، واجن رمان النهود، من أغصان القدود، واقطف ببنان اللثم أقاح الثغور وورد الخدود، وإن كانت الأخرى فأخف الكمد، وارض الثمد، وانتظر الأمد، وأكذب التوسم، واستعمل التبسم، واستكتم النسوة، وأفض فيهن الرشوة، وتقلد المغالطة وارتكب، وجئ على قميصه بدم كذب، واستنجد الرحمن، واستعن على أمرك بالكتمان:

_ (1) صدر هذا البيت " وإن شفائي عبرة مهراقة " وهو من معلقة امرئ القيس. (2) يشير إلى زهوه كأنه قارون.

لا تظهرن لعاذل أوعاذر ... حاليك في الضراء والسراء (1) فلرحمة المتفجعين حرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء وانتشق الأرج، وارتقب الفرج، فكم غمام طما " ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " الأنفال:17 واملك بعدها عنان نفسك حتى تمكنك الفرصة، وترفع إليك القصة، ولا تشره إلى عمل لا تفيء منه بتمام، وخذ عن إمام، ولله در الحارث بن هشام (2) : الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا مهري بأشقر مزبد وعلمت أني أقاتل دونهم ... أقتل، ولم يضرر عدوي مشهدي ففررت منهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد واللبانات تلين وتجمح، والمآرب تدنو وتنزح، وتحرن ثم تسمح، وكم من شجاع خام (3) ، ويقظ نام، ودليل أخطأ الطريق، وأضل الفريق، والله عز وجل يجعلها خلة موصولة، وشملاً اكنافه بالخير مشمولة، وبنية أركانها لركائب اليمن مأمولة، حتى تكثر خدم سيدي وجواريه، وأسرته وسراريه، وتصفوعليه نعم باريه، ما طورد قنيص، واقتحم عيص، وأدرك مرام عويص، وأعطي زاهد وحرم حريص؛ والسلام. [بقية ترجمة ابن خلدون عن الإحاطة] تواليفه - شرح البردة شرحاً بديعاً دل به على انفساح ذرعه، وتفنن إدراكه

_ (1) ق: السراء والضراء. (2) قالها حين فر عن أصحابه يوم بدر وعيره حسان بالفرار بقوله: إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام وانظر حماسة البحتري: 40. (3) خام: حاد وجبن.

وغزارة حفظه، ولخص كثيراً من كتب ابن رشد، وعلق للسلطان أيام نظره في العقليات تقييداً مفيداً في المنطق، ولخص محصل الإمام فخر الدين الرازي، وبه داعبته أول لقيه، فقلت له: لي عليك مطالبة فإنك لخصت محصلي، وألف كتاباً في الحساب، وشرع في هذه الأيام في شرح الرجز الصادر عني في أصول الفقه بشيء لا غاية فوقه في الكمال. وأما نثره وسلطانياته السجعية فخلج بلاغة، ورياض فنون، ومعادن إبداع، يفرغ عنها يراعه الجريء، شبيهة البداءات بالخواتم، في نداوة الحروف، وقرب العهد بجرية المداد، ونفوذ أمر القريحة، واسترسال الطبع. وأما نظمه فنهض لهذا العهد قدماً في ميدان الشعر، ونقده باعتبار أساليبه فانثال عليه جوه، وهان عليه صعبه، فأتى منه بكل غريبة. خاطب السلطان ملك المغرب ليلة الميلاد الكريم عام اثنين وستين وسبعمائة بقصيدة طويلة أولها (1) : أسرفن في هجري وفي تعذيبي ... وأطلن موقف عبرتي ونحيبي وأبين يوم البين وقفة ساعة ... لوداع مشغوف الفؤاد كئيب لله عهد الظاعنين وغادروا ... قلبي رهين صبابة ووجيب غربت ركائبهم ودمعي سافح ... فشرقت بعدهم بماء غروبي (2) يا ناقعاً بالعتب غلة شوقهم ... رحماك في عذلي وفي تأنيبي يستعذب الصب الملام وإنني ... ماء الملام لدي غير شريب (3) ما هاجني طرب ولا اعتاد الجوى ... لولا تذكر منزل وحبيب أهفو إلى الأطلال كانت مطلعاً ... للبدر منهم أوكناس ربيب

_ (1) القصيدة في التعريف: 70. (2) الغروب: الشؤون، أي مجاري الدموع. (3) الشريب: العذب؛ وفي التعريف: شروب.

عبثت بها أيدي البلى وترددت ... في عطفهها للدهر آي خطوب تبلى معاهدها وإن عهودها ... ليجدها وصفي وحسن نسيبي وإذا الديار تعرضت لمتيم ... هزته ذكراها إلى التشبيب إيه على الصبر الجميل فإنه ... ألوى بدين فؤادي المنهوب لم أنسها والدهر يثني صرفه ... ويغض طرفي حاسد ورقيب والدار مونقة محاسنها بما ... لبست من الأيام كل قشيب يا سائق الأظعان تعتسف الفلا ... وتواصل الإساد بالتأويب (1) متهافتاً عن رحل كل مذلل ... نشوان من أين ومس لغوب تتجاذب النفحات فضل ردائه ... في ملتقاها من صباً وجنوب إن هام من ظمإ الصبابة صحبه ... نهلوا بمورد دمعه المسكوب أو تعترض مسراهم سدف الدجى ... صدعوا الدجى بغرامه المشبوب في كل شعب منية من دونها ... هجر الأماني أولقاء شعوب هلا عطفت صدورهن إلى التي ... فيها لبانة أعين وقلوب فتؤم من أكناف يثرب مأمناً ... تتلو من الآثار كل غريب سر غريب لم يحجبه الثرى ... ما كان سر الله بالمحجوب ومنها بعد تعديد معجزاته صلى الله عليه وسلم: يا سيد الرسل الكرام ضراعة ... تقضي مني نفسي وتذهب حوبي (2) عاقت ذنوبي عن جنابك والمنى ... فيها تعللني بكل كذوب لا كالألى صرفوا العزائم للتقى ... فاستأثروا منها بخير نصيب

_ (1) الإسآد: سير الليل، والتأويب: سير النهار. (2) الحوب: الإثم.

لم يخلصوا لله حتى فرقوا ... في الله بين مضاجع وجنوب هب لي شفاعتك التي أرجو بها ... صفحاً جميلاً عن قبيح ذنوبي إن النجاة وإن أتيحت لامرئ ... فبفضل جاهك ليس بالتسبيب إني دعوتك واثقاً بإجابتي ... يا خير مدعووخير مجيب قصرت في مدحي فإن يك طيباً ... فبما فذكرك من أريج الطيب ماذا عسى يبغي المطيل وقد حوى ... في مدحك القرآن كل مطيب يا هل تبلغني الليالي زورة ... تدني إلي الفوز بالمرغوب أمحو خطيئاتي بإخلاصي بها ... وأحط أوزاري وإصر ذنوبي في فتية هجروا المنى وتعودوا ... إنضاء كل نجيبة ونجيب يطوي صحائف ليلهم فوق الفلا ... ما شئت من خبب ومن تقريب إن رنم الحادي بذكرك رددوا ... أنفاس مشتاق إليك طروب أو غرد الركب الخلي بطيبة ... حنوا لمغناها حنين النيب ورثوا اعتساف البيد عن آبائهم ... إرث الخلافة في بني يعقوب الطاعنون الخيل وهي عوابس ... يغشى مثار النقع كل سبيب (1) والواهبون المقربات صوافناً ... من كل خوار العنان (2) لعوب والمانعون الجار حتى عرضهم ... في منتدى الأعداء غير معيب تخشى بوادرهم ويرجى حلمهم ... والعز شيمة مرتجى ومهيب ومنها: سائل به طامي العباب وقد سرى ... تزجى بريح العزم ذات هبوب تهديه شهب أسنة وعزائم ... يصد عن ليل الحادث المرهوب

_ (1) خوار العنان: لين العطف. (2) السبيب: شعر عرف الفرس.

حتى انجلت ظلم الضلال بسعيه ... وسطا الهدى بفريقها المغلوب (1) يا ابن الألى شادوا الخلافة بالتقى ... واستأثروك بتاجها المعصوب جمعوا بحفظ الدين آي مناقب ... كرموا بها في مشهد ومغيب لله مجدك طارفاً أو تالداً ... فلقد شهدنا منه كل عجيب كم رهبة أورغبة لك والعلا ... تقتاد بالترغيب والترهيب لا زلت مسروراً بأشرف دولة ... يبدو الهدى من أفقها المرقوب تحيي المعالي غادياً اورائحاً ... وجديد سعدك ضامن المطلوب وقال من قصيدة خاطبه بها عند وصول هدية ملك السودان إليه وفيها الزرافة (2) : قدحت يد الأشواق من زندي ... وهفت بقلبي زفرة الوجد ونبذت سلواني على ثقة ... بالقرب فاستبدلت بالبعد ولرب وصل كنت آمله ... فاغتصب منه مؤلم الصد لا عهد عند الصبر أطلبه ... إن الغرام أضاع من عهدي يلحى العذول فما أعنفه ... وأقول ضل فأبتغي رشدي وأعارض النفحات أسألها ... برد الجوى فتزيد في الوقد يهدي الغرام إلى مسالكها ... لتعللي بضعيف ما تهدي يا سائق الوجناء معتسفاً ... طي الفلاة لطية الوجد أرح الركاب ففي الصبا نبأ ... يغني عن المستنة الجرد وسل الربوع برامة خبراً ... عن ساكني نجد وعن نجد ما لي تلام على الهوى خلقي ... وهي التي تأبى سوى الحمد لأبيت إلا الرشد مذ وضحت ... بالمستعين معالم الرشد نعم الخليفة في هدى وتقىً ... وبناء عز شامخ الطود

_ (1) ق: المطلوب. (2) التعريف: 74، وانظر الاستقصا 4: 35.

نجل السراة الغر شأنهم ... كسب العلا بمواهب الوجد ومنها: لله مني إذ تأوبني ... ذكره وهوبشاهق فرد شهم يفل بواتراً قضباً ... وجموع أقيال أولي أيد أوريت زند العزم في طلبي ... وقضيت حق المجد من صدي ووردت عن ظمإ مناهله ... فرويت من عز ومن رفد هي جنة المأوى لمن كفلت ... آماله بمطالب المجد لو لم أعل بورد كوثرها ... ما قلت هذي جنة الخلد من مبلغ قومي ودونهم ... قذف النوى وتنوفة البعد أني أنفت على رجائهم ... وملكت عز جميعهم وحدي ومنها (1) : ورقيمة الأعطاف حالية ... موشية بوشائع البرد وحشية الأنساب ما أنست ... في موحش البيداء بالقرد تسمو بجيد بالغ صعداً ... شرف الصروح بغير ما جهد طالت رؤوس الشامخات به ... ولربما قصرت عن الوهد قطعت إليك تنائفاً وصلت ... إسآدها بالنص والوخد تخدي على استصعابها ذللاً ... وتبيت طوع القن والقد بسعودك اللائي ضمن لنا ... طول الحياة بعيشة رغد جاءتك في وفد الأحابش لا ... يرجون غيرك مكرم الوفد وافوك أنضاءً تقلبهم ... أيدي السرى بالغور والنجد كالطيف يستقري مضاجعه ... أو كالحسام يسل من غمد

_ (1) ومنها: سقطت من ق.

يثنون بالحسنى التي سبقت ... من غير إنكار ولا جحد ويرون لحظك من وفادتهم ... فخراً على الأتراك والهند يا مستعيناً جل في شرف ... عن رتبة المنصور والمهدي جازاك ربك عن خليقته ... خير الجزاء فنعم ما تسدي وبقيت للدنيا وساكنها ... في عزة أبداً وفي سعد وقال يخاطب عمر بن عبد الله مدير ملك المغرب: يا سيد الفضلاء دعوة مشفق ... نادى لشكوى البث خير سميع ما لي وللإقصاء بعد تعلة ... بالقرب كنت لها أجل شفيع وأرى الليالي رنقت لي صافياً ... منها فأصبح في الأجاج شروعي ولقد خلصت إليك بالقرب التي ... ليس الزمان لشملها بصدوع ووثقت منك بأي وعد صادق ... أني المصون وأنت غير مضيع وسما بنفسي للخليفة طاعة ... دون الأنام هواك قبل نزوع حتى انتحاني الكاشحون بسعيهم ... فصددتهم عني وكنت منيعي رعمت أنوفهم بنجح وسائلي ... وتقطعت أنفاسهم بصنيعي وبغوا بما نقموا علي خلائقي ... حسداً فراموني بكل شنيع لا تطمعنهم ببذل في التي ... قد صنتها عنهم بفضل قنوعي أني أضام وفي يدي القلم الذي ... ما كان طيعه لهم بمطيع ولي الخصائص ليس تأبى رتبة ... حسبي بعلمي ذاك من تفريعي قسماً بمجدك وهوخير ألية ... أعتدها لفؤادي المصدوع إني لتصطحب الهموم بمضجعي ... فتحول ما بيني وبين هجوعي عطفاً علي بوحدتي عن معشر ... نفث الإباء صدودهم في روعي أغدو إذا باكرتهم متجلداً ... وأروح أعثر في فضول دموعي حيران أوجس عند نفسي خيفة ... فتسر في الأوهام كل مروع

أطوي على الزفرات قلباً آده ... جمل الهموم تجول بين ضلوعي ولقد أقول لصرف دهر رابني ... بحوادث جاءت على تنويع مهلاً عليك فليس خطبك ضائري ... فلقد لبست له اجن دروع إني ظفرت بعصمة من أوحد ... بذ الجميع بفضله المجموع وقال يخاطب بعض الوزراء في حال وحشة (1) : هنيئاً بصوم لا عداه قبول ... وبشرى بعيد أنت فيه منيل وهنيتها من عزة وسعادة ... تتابع أعوام بها وفصول سقى الله دهراً أنت إنسان عينه ... ولا مس ربعاً في حماك محول فعصرك ما بين الليالي مواسم ... لها غرر وضاحة وحجول وجانبك المأمول للجود مشرع ... يحوم عليه عالم وجهول عساك وإن ضن الزمان منولي ... فرسم الأماني من سواك محيل أجرني وليس الدهر لي بمسالم ... إذا لم يكن في ذراك مقيل وأوليتني (2) الحسنى بما أنا آمل ... فمثلك يولي راجياً وينيل ووالله ما رمت الترحل عن قلى ... ولا سخط للعيش فهو جزيل ولا رغبة عن هذه الدار إنها ... لظل على هذا الأنام ظليل ولكن نأى بالشعب عني حبائب ... دعاهن (3) خطب للفراق طويل يهيج بهن الوجد أني نازح ... وأن فؤادي حيث هن حلول عزيز عليهن الذي قد لقيته ... وأن اغترابي في البلاد يطول توارت بأنبائي البقاع كأنني ... تخطفت أو غالت ركابي غول

_ (1) هو الوزير عمر بن عبد الله، ويستجير بصديقه ورديفه مسعود بن رحو بن ماساي، والقصيدة في التعريف: 77. (2) التعريف: وأولني. (3) التعريف: شجاهن.

ذكرتك يا معنى الأحبة والهوى ... فطارت بقلبي أنه وعويل وحييت عن شوق رباك كأنما ... يمثل لي نؤي بها وطلول أأحبابنا والعهد بيني وبينكم ... كريم، وما عهد الكريم يحول إذا أنا لم ترض الحمول مدامعي ... فلا قربتني للقاء حمول إلام مقامي حيث لم ترد العلا ... مرادي ولم تعط القياد ذلول أجاذب فضل العمر يوماً وليلة ... وساء صباح بينها وأصيل ويذهب فيما بين يأس ومطمع ... زمان بنيل المعلوات بخيل تعللني منه أمان خوادع ... ويؤيسني ليان منه مطول أما لليال لا ترد خطوبها ... ففي كبدي من وقعهن فلول يروعني من صرفها كل حادث ... تكاد له صم الجبال تزول أداري على رغم العدا لا لريبة ... يصانع واش خوفها وعذول وأغدو بأشجاني عليلاً كأنما ... تجود بنفسي زفرة وغليل وإني وإن أصبحت في دار غربة ... تحيل الليالي سلوتي وتزيل وصدتني الأيام عن خير منزل ... عهدت به أن لا يضام نزيل لأعلم أن الخير والشر ينتهي ... مداه وان الله سوف يديل وأني عزيز بابن ماساي مكثر ... وإن هان أنصار وبان خليل وقال يمدح (1) : هل غير بابك للغريب مؤمل ... أو عن جنابك للأماني معدل هي همة بعثت إليك على النوى ... عزماً كما شحذ الحسام الصقيل متبوأ الدنيا ومنتجع المنى ... والغيث حيث العارض المتهلل حيث القصور الزاهرات منيفة ... تعنى بها زهر النجوم وتحفل

_ (1) قالها يمدح أبا العباس سلطان تونس عندما قدم إليه نسخة من كتابه " العبر " انظر التعريف: 233.

حيث الخيام البيض يرفع لعلا ... والمكرمات طرافها المتهدل حيث الحمى للعز دون مجاله (1) ... ظل أفاءته الوشيج الذبل حيث الكرام ينوب عن نار القرى ... عرف الكباء بحيهم والمندل حيث الجياد أملهن بنو الوغى ... مما أطالوا في المغار وأوغلوا حيث الوجوه الغر قنعها الحيا ... والبشر فوق جبينها يتهل حيث الملوك الصيد والنفر الألى ... عز الجوار لديهم والمنزل وأنشد السلطان ابن عبد الله ابن الحجاج لأول قدومه ليلة الميلاد الكريم عام أربعة وستين وسبعمائة هذه القصيدة (2) : حي المعاهد كانت قبل تحييني ... بواكف الدمع يرويها ويظميني إن الألى نزحت داري ودارهم ... تحملوا القلب في آثارهم دوني وقفت أنشد صبراً ضاع بعدهم ... فيهم وأسأل رسماً لا يناجيني أمثل الربع من شوق وألثمه ... وكيف والفكر يدنيه ويقصيني وينهب الوجد مني كل لؤلؤة ... ما زال جفني عليها غير مأمون شقت جفوني مغاني الربع بعدهم ... فالدمع وقف على أطلاله الجون قد كان للقلب عن داعي الهوى شغل ... لو أن قلبي إلى السلوان يدعوني أحبابنا هل لعهد الوصل مدكر ... منكم وهل نسمة منكم تحييني ما لي وللطيف لا يعتاد زائره ... وللنسيم عليلاً لا يداويني يا أهل نجد وما نجد وساكنها ... حسناً سوى جنة الفردوس والعين أعندكم أنني ما مر ذكركم ... إلا انثنيت كأن الراح تثنيني أصبو إلى البرق من أنحاء أرضكم ... شوقاً، ولولاكم ما كان يصبيني

_ (1) التعريف: في ساحاته. (2) التعريف: 85.

يا نازحاً والمنى تدنيه من خلدي ... حتى لأحسبه قرباً يناجيني أسلي هواك فؤادي عن سواك وما ... سواك يوماً بحال عنك يسليني ترى الليالي أنستك ادكاري يا ... من لم يكن ذكره الأيام تنسيني ومنها: أبعد مر الثلاثين التي ذهبت ... أولى الشباب بإحساني وتحسيني أضعت فيها نفيساً ما وردت به ... إلا سراب غرور لا يرويني واحسرتي من أمان كلها خدع ... تريش غيي ومر الدهر يبريني ومنها في وصف المشور (1) المبني لهذا العهد: يا مصنعاً شيدت منه السعود حمى ... لا يطرق الدهر مبناه بتوهين صرح يحار لديه الطرف مفتتناً ... فيما يروقك من شكل وتكوين بعداً لإيوان كسرى إن مشورك ال ... سامي لأعظم من تلك الأواوين ودع دمشق ومغناها فقصرك ذا ... " أشهى إلى القلب من أبواب جيرون " ومنها في التعريض بالوزير الذي كان انصرافه بسببه: من مبلغ عني الصحب الألى جهلوا ... ودي وضاع حماهم إذ أضاعوني أني أويت من العليا إلى حرم ... كادت مغانيه بالبشرى تحييني وأنني ظاعناً لم ألق بعدهم ... دهراً أشاكي ولا خصماً يشاكيني لا كالتي أخفرت عهدي ليالي إذ ... أقلب الطرف بين الخوف والهون سقياً ورعياً لأيامي التي ظفرت ... يداي منها بحظ غير مغبون أرتاد منها ملياً لا يماطلني ... وعداً وأرجو كريماً لا يعنيني

_ (1) المشور: المكان الذي يجلس فيه السلطان للحكم.

ومنها: وهاك منها قواف طيها حكم ... مثل الأزاهر في طي الرياحين تلوح إن جليت دراً، وإن تليت ... تثني عليك بأنفاس البساتين عانيت منها بجهدي كل شاردة ... لولا سعودك ما كانت تواتيني يمانع الفكر عنها ما تقسمه ... من كل حزن بطي الصدر مكنون لكن بسعدك ذلت لي شواردها ... فرضت منها بتحبير وتزيين بقيت دهرك في أمن وفي دعة ... ودام ملكك في نصر وتمكين وهوالآن بحالته الموصوفة من الوجاهة والحظوة قد استعمل في السفارة إلى ملك قشتالة فراقه وعرف حقه. مولده بونس في شهر رمضان عام اثنين وثلاثين وسبعمائة؛ انتهى كلام لسان الدين في حق ابن خلدون. [تعليق للمقري والباعوني] قلت: هذا كلام لسان الدين في حق المذكور في مبادئ أمره وأواسطه، فكيف لورأى تاريخه الكبير الذي نقلنا منه في مواضع وسماه ديوان العبر وكتاب المبتدأ والخير في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ورأيته بفاس وعليه خطه في ثماني مجلدات كبار جداً، وقد عرف في آخره بنفسه، وأطال، وذكر أنه لما كان بالأندلس وحظي عند السلطان أبي عبد الله شم من وزيره ابن الخطيب رائحة الانقباض، فقوض الرحال ولم يرض من الإقامة بحال، ولعب بكرته صوالجة الأقدار، حتى حل بالقاهرة المعزينة واتخذها خير دار، وتولى بها قضاء القضاة وحصلت له أمور، رحمه الله تعالى.

وكان - أعني الولي ابن خلدون - كثير الثناء على لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى. ولقد رأيت بخط العالم الشهير الشيخ إبراهيم الباعوني الشامي فيما يتعلق بابن خلدون ما نص محل الحاجة منه: تقلبت به الأحوال حتى قدم إلى الديار المصرية، وولي بها قضاء قضاة المالكية، في الدولة الشريفة الظاهرية، وصحبته - رحمه الله تعالى - في سنة 803 عند قدومه إلى الشام صحبة الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق في فتنة تمرلنك عليه من الله تعالى ما يستحقه، وأكرمه تمرلنك غاية الإكرام، وأعاده إلى الديار المصرية، وكنت أكثر الاجتماع به بالقاهرة المحروسة للمودة الحاصلة بيني وبينه، وكان يكثر من ذكر لسان الدين ابن الخطيب، ويورد من نظمه ونثره ما يشنف به الأسماع، وينعقد على استحسانه الإجماع، وتتقاصر عن إدراكه الأطماع، فرحمة الله تعالى عليهما، وأزكى تحياته تهدى إليهما. ولقد كان ابن خلدون هذا من عجائب الزمان، وله من النظم والنثر ما يزري بعقود الجمان، مع الهمة العلية، والتبحر في العلوم النقلية والعقلية، وكانت وفاته بالقاهرة المعزية807، سقى الله تعالى عهده، ووطأ في الفردوس مهده. قاله وكتبه الفقير إلى الله تعالى إبراهيم بن أحمد الباعوني الشافعي، غفر الله تعالى له زلله، وأصلح خلله؛ انتهى. 10 - ومن نثر لسان الدين ما ذكره في الإحاطة في ترجمة يحيى بن إبراهيم بن يحيىالبرغواطي من بني الترجمان، ولنذكر الترجمة بجملتها لاشتمالها على ما ذكر وغيره في حق المذكور بعد قوله إنه من بني الترجمان ما صورته: " عزف عنهم وانقطع إلى لقاء الصالحين، وصحبة الفقراء المتجردين، وكان نسيج وحده في طلاقة اللسان، حافظاً لكل غريبة من غرائب الصوفية، يتكلم في مشكلاتهم، حفظ " منازل السائرين " للهروي، وتائية ابن الفارض؛ مليح الملبس، مترفع عن الكدية، حسن الحيدث، صاحب شهرة، ومع ذلك

فمغضوض منه، محمول عليه، لما جبل عليه من رفض الاصطلاح، واطراح التغافل، مولع بالنقد، والمخالفة في كل ما يطرق سمعه، مرشحاً ذلك بالجدل المبرم، ذاهباً أقصى مذاهب القحة، كثير الفلتات، نالته بسبب هذه البلية محن، ووسم بالرهق في دينه مع صحة العقل، وهوالآن عامر الرباط المنسوب إلى اللجام على رسم الشياخة، عديم التابع، مهجور الفناء، قيد الكثير من الأجزاء منها في نسبة الذنب إلى الذاكر جزء نبيل غريب المأخذ، ومنها فيما أشكل من كتاب أبي محمد ابن الشيخ، وصنف كتاباً كبير الحجم في الاعتقادات جلب فيه كثيراً من الحكايات، رأيت عليه بخط شيخنا أبي عبد الله المقري ما يدل على استحسانه. ومن البرسام الذي يجري على لسانه، بين الجد والقحة والجهالة والمجانة، قوله لبعض خدام باب السلطان وقد ضويق في شيء أضجره منقولاً من خطه - بعد رد كثير منه للإعراب - ما نصه: الله نور السموات من غير نار ولا غيرها، والسلطان ظل له وسراجه في الأرض، ولكل منهما فراش مما يليق به ويتهافت عليه، فهوتعالى محرق فراشه بذاته، مغرقهم بصفاته وسراجه، وظله هوالسلطان محرق فراشه بناره، مغرقهم بزيته ونواله، ففراش الله تعالى ينقسم إلى حافين ومسبحين ومستغفرين وأمناء وشاخصين، وفراش السلطان ينقسمون إلى أقسام لا يشذ أحدهم عنها، وهم وزعة ابن وزغة، وكلب ابن كلب، وكلب مطلقاً، وعار ابن عار، وملعون ابن ملعون، وقط، فأما الوزغة فهوالمغرق في زيت نواله المشغول بذلك عما يليق بصاحب النعمة من النصح وبذل الجهد، والكلب ابن الكلب هوالكيس المتحرز في تهافته من إحراق وإغراق يعطي بعض الحق ويأخذ بعضه، وأما الكلب مطلقاً فهوالمواجه وهوالمشرد للسفهاء عن الباب المعظم القليل النعمة، وأما العار ابن العار فهوالمتعاطي في تهافته ما فوق الطوق، ولهذا امتاز هذا الاسم بالرياسة عند العامة إذا مر بهم جلف أومتعاظم يقولون: هذا العار ابن العار، يحسب نفسه رئيساً، وذلك لقرب المناسبة؛ فهوموضوع لبعض الرياسة، كما ا، الكلب ابن الكلب لبعض الكياسة، وأما الملعون

ابن الملعون فهوالمغالط المعاند المشارك لربه المنعم عليه في كبريائه وسلطانه، وأما القط فهوالفقير مثلي المستغني عنه لكونه لا تختص به رتبة، فتارة في حجر الملك، وتارة في السنداس (1) ، وتارة في أعلى الرتب، وتارة محسن، وتارة مسيء، تغفر سيئاته الكثيرة بأدنى حسنة، إذ هومن الطواقين، متطير بقتله وإهانته، تياه في بعض الأحايين بعزة يجدها من حرمة أبقاها له الشارع، وكل ذلك لا يخفى. وأما الفراش المحرق فهوعند الدول نوعان: تارة يكون ظاهراً وحصته مسح المصباح وتصفية زيته وإصلاح فتيله وستر دخانه ومسايسة ما يكون من المطلوب منه، ووجود هذا شديد الملازمة ظاهراً، وأما المحرق الباطن فهوالمشار إليه في دولته بالصلاح والزهد والورع فيعظمه الخلق ويترك لما هوبسبيله، فيكون وسيلة بينهم وبين ربهم وخليفته الذي هومصباحهم، فإذا أراد الله تعالى إهلاك المروءة وإطفاء مصباحها تولى ذلك أهل البطالة والجهالة، وكان الأمر كما رأيتم، والكل فراش متهافت، وكل يعمل على شاكلته ". 11 - قال الوزير لسان الدين: وطلب مني الكتب عليه بمثل ذلك، فكتبت ببعض أوراقه إثارة لضجره، واستدعاء لفكاهة انزعاجه، ما نصه: وقفت ن الكتاب المنسوب لصاحبنا أبي زكريا البرغواطي على برسام محموم، واختلاط مذموم، وانتساب زنج في روم، وكان حقه أن يتهيب طريقاً لم يسلكها، ويتجنب عقيلة لم يملكها، إذ المذكور لم يتلق شيئاً من علم الأصول، ولا نظر في الإعراب في فصل من الفصول، إنما هي قحة وخلاف، وتهاون بالمعارف واستخفاف، وغير أنه يحفظ في طريق القوم كل نادرة، وفيه رجولية ظاهرة، وعنده طلاقة لسان، وكفاية قلما تتأتى لإنسان، فإلى الله تضرع أن يعرفنا مقادير الأشياء، ويجعلنا بمعزل عن الأغبياء، وقد قلت مرتجلاً من أول نظرة، واجتزاء بقليل من كثرة:

_ (1) السنداس: بيت الراحة.

كل جار لغاية مرجوه ... فهوعندي لم يعد حق الفتوه وأراك اقتحمت ليلاً بهيماً ... مولجاً منك ناقة في كوه لا اتباعاً ولا اختراعاً أتتنا ... إذ نظرنا عروسك المجلوه كل ما قلته فقد قاله النا ... س مقالاً آياته متلوه لم تزد غير أن أبحت حمى الإع ... راب في كل لفظة مقروه نسأل الله فكرة تلزم العق ... ل إلى حشمة تحوط المروه وعزيز علي أن كنت يحيى ... ثم لم تأخذ الكتاب بقوه 12 - ومن بديع نثر لسان الدين رحمه الله تعالى ما كتبه لسلطان تلمسان إثر قصيدة سينية حازت قصب السبق، ولنثبت الكل ها فنقول: قال الإمام الحافظ عبد الله التنسي نزيل تلمسان رحمه الله تعالى، عندما جرى ذكر أمير المسلمين السلطان أبي حموموسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يغمراسن بن زيان رحمه الله تعالى، ما صورته: وكان الفقيه ذوالوزارتين أبوعبد الله ابن الخطيب كثيراً ما يوجه إليه بالامداح، ومن أحسن ما وجه له قصيدة سينية فائقة، وذلك عندما أحس بتغير سلطانه عليه، فجعلها مقدمة بين يدي نجواه، لتمهد له مثواه، وتحصل له المستقر، إذا ألجأه الأمر إلى المفر، فلم تساعده الأيام، كمما هوشأنها في أكثر الأعلام، وهي هذه (1) : أطلعن في سدف الفروع شموساً ... ضحك الظلام لها وكان عبوسا وعطفن قضباً للقدود نواعماً ... بوئن أدواح النعيم غروسا وعدين عن جهر السلام مخافة ال ... واشي فجئن بلفظه مهموسا وسفرن من دهش الوداع وقوم ... هن إلى الترحل قد أناخوا العيسا وخلسن من خلل الحجال إشارة ... فتركن كل حجالها مخلوسا لم أنسها من وحشة والحي قد ... زجر الحمول وآثر التغليسا

_ (1) أزهار الرياض 1: 250 وبغية الرواد 2: 287.

لا الملتقى من بعدها كشب ولا ... عوج الركائب تسأم التخييسا (1) فوقفت وقفة هائم برحاؤه ... وقفت عليه وحبست تحبيسا ودعوت عيني عاتباً وعيونها ... بعصا النوى قد بجست تبجيسا نافست يا عيني در دموعهم ... فعرضت دراً للدموع نفيسا ما للحمى بعد الأحبة موحشاً ... ولكم تراءى آهلاً مأنوسا ولسربه حول الخميلة نافراً ... عمن يحس به وكان أنيسا ولظله المورود غمر قلبيه ... لا يقتضي ورداً ولا تعريسا حييته فأجابني رجع الصدى ... لا فرق بينهما إذا ما قيسا ما إن يزيد على الإعادة صوته ... حرفاً فيشفي بالمزيد نسيسا (2) نضب المعين وقلص الظل الذي ... ظلنا عكوفاً عنده وجلوسا نتواعد الرجعى ونغتنم اللقا ... وندير من شكوى الغرام كؤوسا فإذا سألت فلا تسائل مخبراً ... وإذا سمعت فلا تحس حسيسا عهدي به والدهر يتحف بالمنى ... وقد اقتضت نعماه أن لا بوسا والعيش غض الريع والدنيا قد اج ... تليت بمغناه علي عروسا أترى يعيد الدهر عهداً للصبا ... درست مغاني الأنس فيه دروسا أوطان أوطار تعوض أفقها ... من رونق البشر البهي عبوسا هيهات لا تغني لعل ولا عسى ... في مثلها إلا لآية عيسى والدهر في دست القضاء مدرس ... فإذا قضى يستأنف التدريسا تفتن في جمل الورى أبحاثه ... لا سيما في باب نعم وبيسا وسجية الإنسان ليس بناصل ... من صبغها حتى يرى مرموسا يغتر مهما ساعدت آماله ... فإذا عراه الخطب كان يؤوسا

_ (1) ق ص: التجنيسا، والتصويب عن الأزهار والبغية؛ التخييس: تذليل الدابة. (2) النسيس: غاية الجهد؛ قلت ولعل الصواب " رسيسا ".

فلو أن نفساً مكنت من رشدها ... يوماً وقدسها الهدى تقديسا لم تستفز رسوخها النعمى ولا ... هلعت إذا كشرت (1) إليها البوسى قل للزمان إليك عن متذمم ... بضمان عز لم يكن ليخيسا (2) فإذا استحر جلاده فأنا الذي اس ... تغشيت من سرد اليقين لبوسا وإذا طغى فرعونه فأنا الذي ... من ضره وأذاه عذت بموسى أنا ذا مثواه (3) من يحمي الحمى ... ليثاً ويعلم بالزئير الخيسا بحمى أبي حمو حططت ركائبي ... لما اختبرت الليث والعريسا أسد الهياج إذا خطا قدماً سطا ... فتخلف الأسد الهزبر فريسا بدر الهدى يأبى الضلال ضياؤه ... أبداً فيجلو الظلمة الحنديسا جبل الوقار رسا وأشرف واعتلى ... وسما فطأطأت الجبال رؤوسا غيث النوال إذا الغمام حلوبة ... مثلت بأيدي الحالبين بسوسا (4) تلقاه يوم الأنس روضاً ناعماً ... وتراه بأساً في الهياج بئيسا كم غمرة جلى وكم خطب كفى ... إن أوطأ الجرد العتاق وطيسا كم حكمة أبدى وكم قصد هدى ... للسالكين أبان منه دريسا أعلى بني زيان والفذ الذي ... لبس الكمال فزين الملبوسا جمع الندى والبأس والشيم العلا ... والسؤود المتواتر القدموسا والحلم ليس يباين الخلق الرضى ... والعلم ليس يعارض الناموسا والسعد يغني حكمه عن نصبة ... تستخبر التربيع والتسديسا كم راض صعباً لا يراض معاصياً ... كم خاض بحراً لا يخاض ضروسا

_ (1) ق: كثرت. (2) خاس: خفر العهد. (3) البسوس: التي تتطلب إبساساً أي تسكيناً كي تدر. (4) التدريس: الطريق.

بلغ الذي لا فوقها متمهلاً ... وعلا السها واستسفل البرجيسا (1) يا خير من خفقت عليه سحابة ... لنصر تمطره أجش بجيسا (2) وأجل من حملته صهوة سابح ... إن كر ضعضع كره الكردوسا قسماً بمن رفع السماء بغير ما ... عمد ورفع فوقها إدريسا ودحا البسيطة فوق لج مزبد ... ما إن يزال على القرار حبيسا حتى يهيب بأهله الوعد الذي ... حشر الرئيس إليه والمرؤوسا ما أنت إلا ذخر دهرك دمت في ال ... صون الحريز ممتعاً محروسا لوساومته الأرض فيك بما حوت ... لرآك مستاماً بها مبخوسا حلف (3) البرور بها ألية صادق ... ويمين من عقد اليمين غموسا من قاس ذاتك بالذوات فإنه ... جهل الوزان واخطأ التقييسا لا تستوي الأعيان فضل مزية ... وطبيعة فطر الإله وسوسا (4) لعناية التخصيص سر غامض ... من قبل ذرء الخلق خص نفوسا من أنكر الفضل الذي أوتيته ... جحد العيان وأنكر المحسوسا من دان بالإخلاص فيك فعقده ... لا يقبل التمويه والتلبيسا والمنتمى العلوي عيصك لم تكن ... لترى دخيلاً في بنيه دسيسا بيت البتول ومنبت الشرف الذي ... تحمي الملائك دوحه المغروسا أما سياستك التي أحكمتها ... ورميت بالتقصير أسطاليسا فلو أن كسرى الفرس أبصر بعضها ... ما كان يطمع أن يعدي سوسا (5) لوسار عدلك في السنين لما اشتكت ... بخساً، ولم يك بعضهن كبيسا

_ (1) البرجيس: المشتري. (2) البجيس: المتدفق بغزارة. (3) ق والبغية: كلف. (4) السوس: الخليقة والسجية. (5) يعدي سوسا: يتجاوز السوس، منطقة تستر؛ وفي الأزهار: يعد سؤوساً أي ذا سياسة.

ولوالجواري الخنس انتسبت إلى ... أقدام عزمك ما خنسن خنوسا (1) قدت الصعاب فكل صعب سامح ... لك بالقياد وكان قبل شموسا تلقى الليوث ولقتام غمامة ... قدح الصفيح وميضها المقبوسا وكأنها تحت الدروع أراقم ... ينظرن من خلل المغافر شوسا ما لابن مامة في القديم وحاتم ... ضرب الزمان بجودهم ناقوسا من جاء منهم مثل جودك كلما ... حسبوا المكارم كسوة أو كيسا أنت الذي افتك السفين وأهله ... إذ أوسعت سبل الخلاص طموسا أنت الذي أمددت ثغر الله بالص ... دمات تبلس كرة إبليسا وأعنت أندلساً بكل سبيكة ... موسومة لا تعرف التدليسا وشحينة البر في سبل الرضى ... والبر قارب قاعها القاموسا إن لم تجر بها الخميس فطالما ... جهزت فيها للنوال خميسا وملأت أيديها وقد كادت على ... حكم القضاء تشافه التفليسا صدقت للآمال صنعة جابر ... وكفيتها التشميع والتشميسا (2) والحل والتقطير والتصعيد وال ... تخمير والتصويل والتكليسا (3) فسبكت من آمالها مالاً، ومن ... أوراقها ورقاً، وكن طروسا بهتوا فلما استخبروا لم ينكروا ... وزناً ولا لوناً ولا ملموسا وتدير من قبل السطور سبائكاً ... منها ومن طبع الحروف فلوسا ونحوت نحوالفضل تعضد منه بال ... مسموع ما ألفيت منه مقيسا وجبرت بعد الكسر قومك جاهداً ... تغني العديم وتطلق المحبوسا

_ (1) هذا البيت والذي بعده سقطا من ق. (2) ذكر جابر بن حيان وأردف ذلك بذكر بعض المصطلحات الكيميائية؛ فالتشميع: تليين الشمع، والتشميس: تعريض المواد للمشي (3) الحل: التحليل الكيمائي؛ والتقطير والتصعيد متشابهان. والتصويل: جعل الرواسب طافية وهو تال للتكليس.

ونشرت راية عزهم من بعد ما ... دال الزمان فسامها تنكيسا أحكمت حيلة برئهم بلطافة ... قد اعجزت في الطب جالينوسا وفللت من حد الزمان وإنه ... أوحى وأمضى من غرار الموسى وشحذت حداً كان قبل مثلماً ... ونعشت جداً كان قبل تعيسا لم ترج إلا الله جل جلاله ... في شدة تكفي وجرح يوسى قدمت صبحاً فاستضأت بنوره ... ووجدت عند الشدة التنفيسا ما أنت إلا فالح متيقن ... بالنجح تعمر ممرعاً ويبيسا ومتاجر جعل الأريكة صهوة ... عربية والمتكا القربوسا ما إن تبايع أو تشاري واثقاً ... بالربح إلا المالك القدوسا والعزم يفترع النجوم بناؤه ... مهما أقام على التقى تأسيسا ومقام صبرك واتكالك مذكر ... بحديثه الشبلي أو طاووسا ومن ارتضاه الله وفق سعيه ... فرأى العظيم من الحظوظ (1) خسيسا ما ازددت بالتمحيص إلا جدة ... ونضوت من خلع الزمان لبيسا ولطالما طرق الخسوف أهلة ... ولطالما اعترض الكسوف شموسا ثم انجلت قسماتها عن مشرق ... للسعد ليس بحاذر تتعيسا خذها إليك على النوى سينية ... ترضى الطباق وتشكر التجنيسا إن طوولت (2) بالدر من حول الطلى ... يوماً تشكت حظها الموكوسا لولاك ما أصغت لخطبة خاطب ... ولعنست في بيتها تعنيسا قصدت سليمان الزمان وقاربت ... في الخطو تحسب نفسها بلقيسا لي فيك ود لم أكن من بعد ما ... أعطيت صفقة عهده لأخيسا كم لي بصحة عقده من شاهد ... لا يحذر التجريح والتدليسا

_ (1) البغية: الأمور. (2) البغية: طوقت.

يقفوالشهادة باليمين، وإنه ... لمؤمن من أن يعد فسيسا (1) لا يستقر قرار أفكاري إلى ... أن أستقر لدى علاك جليسا وأرى تجاهك مستقيم السير لل ... قصد الذي أعملته معكوسا هي دين أيامي فإن سمحت به ... لم يبق من شيء عليه يوسى لا زال صنع الله مجنوناً إلى ... مثواك يهدي البشر والتأنيسا متتابعاً كتتابع الأيام لا ... يذر التعاقب جمعة وخميسا فلو أنصفتك إيالة الملك التي ... رضت الزمان لها وكان شريسا قرنت بذكرك والدعاء لك الذي ... تختاره التسبيح والتقديسا القلب أنت لها رئيس حياتها ... لم تعتبر مهما صلحت رئيسا ثم قال الحافظ التنسي رحمه الله تعالى بعد سرد هذه القصيدة ما معناه: إن لسان الدين ابن الخطيب حذا في هذه القصيدة السينية حذوأبي تمام في قصيدته التي أولها (2) : أفشيت ربعهم أراك دريسا ... تقري ضيوفك لوعة ورسيسا واحتلس كثيراً نم ألفاظها ومعانيها؛ انتهى. ووصل لسان الدين هذه القصيدة بنثر بديع نصه: " هذه القصيدة - أبقى الله تعالى المثابة المولوية الموسوية ممتعة بالشمل المجموع، والثناء المسموع، والملك المنصور الجموع - نفثة من باح بسر هواه (3) ، ولبى دعوة الشوق بلبه وقد ظفر بمن يهدي خبر جواه، إلى محل هواه، ويختلس بعث تحيته، إلى مثير أريحيته، وهي بالنسبة إلى ما يعتقد

_ (1) الفسيس: الضعيف؛ وفي ق ص: قسيسا. (2) ديوانه 2: 262. (3) البغية: بسر حبه.

من ذلك الكمال، الشاذ عن الآمال، عنوان من كتاب، وذوارق من أوقار ذات أقتاب، وإلا فمن يقوم بحق المثابة لسانه، أويكافئ إحسانها إحسانه، أويستقل بوصفها يراعه، أوتنهض بأيسر وظيفتها ذراعه ولا مكابرة بعد الاعتراف، والبحر لا ينفد بالاغتراف، لا سيما وذاتكم اليوم، والله تعالى يبقيها، ومن المكاره يقيها، وفي معارج القرب من حضرة القدس يرقيها، ياقوتة اختارها واعتبرها، ثم ابتلاها بالتمحيص واختبرها، وسبيكة أخلصها مسجرها، فخلصها بتسجيره من الشوب، وأبرزها من لباب الذوب (1) ، وقصرت عن هذه الأثمان، وسر بصدق دعواه البهرمان (2) ، ليفاضل بين الجهام والصيب و " ليميز الله الخبيث من الطيب " الأنفال:37 فأراكم أن لا جدوى للعديد ولا للعدة، وعرفكم بنفسه في حال الشدة، ثم فسح لكم بعد ذلك في المدة، لتعرفوه إذا دال الرخاء، وهبت بعد تلك الزعازع الريح الرخاء، وملأكم من التجارب، وأوردكم من ألطافه أعذب المشارب، ونقلكم بين إمرار الزمان وإحلائه، ولم يسلبكم إلا حقيراً عند أوليائه، وأعادكم المعاد المطهر، وألبسكم من أثواب اختصاصه المعلم المشهر، فأنتم اليوم بعين العناية، بالإفصاح والكتاية، قد وقف الدهر بين يديكم موقف الاعتراف بالجناية، فإن كان الملك اليوم علماً يدرس، وقوانين في قوة الحفظ تغرس، وبضاعة برصد التجارب تحرس، فأنتم مالك دار هجرته المحسوبة، وأصمعي شعوبه المنسوبة، إلى ما حزتم من أشتات الكمال، المربية على الآمال، فالبيت علوي المنتسب، والملك بين الموروث والمكتسب، والجود يعترف به الوجود، والدين يشهد به الركوع والسجود، والبأس تعرفه التهائم والنجود، والخلق يحسده الروض المجود، والشعر يغترف من عذب نمير، ويصدق ما قال: بدئ بأمير وختم بأمير، وإن مملوككم حوم

_ (1) ق: أخلصها وشحرها فخلصتها الشحيرة من الشوب وأبرزتها من الباب الذوب؛ وكذلك هي في أصول الأزهار؛ وفي البغية: خلصها وشجرها فخلصتها السحيرة من الشوب ... الخ. (2) البغية: يصدق دعوته البرهان؛ والبهرمان: العصفر.

من بابكم على العذب البرود، فعاقه الدهر عن الورود، واستقبل أفقه ليحقق الرسد، ولكنه أخطأ القصد، ومن أخطأ الغرض أعاد، ورجا من الزمان الإسعاد، فربما خبئ نصيب، أوكان مع الخواطئ سهم مصيب (1) ، وكان يؤمل صحبة ركاب الحجاز، فانتقلت الحقيقة منه إلى المجاز، وقطعت القواطع التي لم ينلها الحساب، ومنعت الموانع التي خلص منها إلى الفتنة الانتساب، ومن طلب الأيام أن تجري على اقتراحه، وجب العمل على اطراحه، فإنما هي البحر الزاخر، الذي لا يدرك منه الآخر، والرياح متغايرة، والسفينة الحائرة، فتارة يتعذر من المرسى الصرف، وتارة تقطع المسافة البعيدة قبل أن يرتد الطرف، هذا إن سالمها عطبها، وأعفي من الوقود حطبها، ولقد علم الله جل جلاله أن لقاء ذلك المقام الكريم عند المملوك تمام المطلوب، ممن يجبر كسر القلوب، فإنه مما انعقد على كماله الإجماع، وصح في عوالي معاليه السماع، وارتفعت في وجود مثاله الأطماع، أخلاقاً هذبها الكرم الوضاح، وسجية كلف بها الكمال الفضاح، وحرصاً على الذكر الجميل وما يتنافس فيه إلا من سمت هممه، وكرمت ذممه، وألفت الخلد رممه، إذ الوجود سراب، وما فوق التراب تراب، ولا يبقى إلا عمل راق، أوذكر بالجميل يسطر في أوراق، حسبما قلت من قصيدة كتبتها على ظهر مكتوب موضوع أشار به من كانت له طاعة، فوفت بمقترحه استطاعة: يمضي الزمان وكل فان ذاهب ... إلا جميل الذكر فهو الباقي لم يبق من إيوان كسرى بعد ذا ... ك الحفل إلا الذكر في الأوراق هل كان للسفاح والمنصور وال ... مهدي من ذكر على الإطلاق أو للرشيد وللأمين وصنوه ... لولا شباة يراعة الوراق رجع التراب إلى التراب بما اقتضت ... في كل خلق حكمة الخلاق

_ (1) أصله من المثل " مع الخواطي سهم صائب ".

إلا الثناء الخالد العطر الشذا ... يهدي حديث مكارم الاخلاق والرغبة من مقامكم الرفيع الجناب، أن يمكنها من حسن المناب، فتحظى بحلول ساحته، ثم بلثم راحته، ثم بالإصغاء، ولا مزيد للابتغاء، إلى أن ترتفع الوساطة وتغني عن التركيب البساطة، وينسى الأثر بالعين، ويحسن الدهر قضاء الدين، ونسأل الذي أغرى بها القريحة، ولم يجعل الباعث إلا المحبة الصريحة، أن يبقي تلك المثابة زيناً للزمان، وذخراً مكنوفاً باليمن والأمان، مظللاً برحمة الرحمن، بفضله وكرمه؛ انتهى. 13 - ومما كتب به لسان الدين رحمه الله تعالى إلى الشيخ الرئيس الخطيب شيخه أبي عبد الله مرزوق رحمه الله تعالى حين كانت أزمة أمر المغرب بيده أيام السلطان أبي سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني رحم الله تعالى الجميع، ما صورته: سيدي بل ما لكي بل شافعي، ومنتشلي (1) من الهفوة ورافعي، وعاصمي عند تجويد حروف الصنائع ونافعي، الذي بجاهه أجزلت المنازل قراي، وفضلت أولاي والمنة لله تعالى أخراي، وأصبحت وقول الحسن (2) هجيراي: علقت بحبل من حبال محمد ... أمنت به من طارق الحدثان تغطيت من دهري بظل جناحه ... فعيني أرى دهري وليس يراني فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت ... وأين مكاني ما عرفن نكاني وصلت مكناسة حرسها الله تعالى حداني حدونداك، سحائب لولا الخصال المبرة قلت: يداك (3) ، وكان الوطن لاغتباطه بجواري، أوما رآه من انتياب زواري،

_ (1) ق: ومنشلي. (2) يعني أبا نواس، والأبيات في ديوانه: 97. (3) ق: قبلت يداك؛ فاقتضى التصويب، والمبرة: الزائدة على خصال السحائب هنا.

أوغر إلى بهت يقطع الطريق، وأطلع يده على التفريق، وأشرق القوافل مع كثرة الماء بالريق، فلم يسع إلا المقام أياماً قعوداً في البر وقياماً، واختياراً لضروب الأنس واعتياماً، ورأيت بلدة معارفها أعلام، وهواؤها برد وسلام، ومحاسنها تعمل فيها ألسنة وأقلام، فحيا الله تعالى سيدي فلكم من فضل أفاد، وأنس أحياه وقد باد، وحفظ منه على الأيام الذخر والعتاد، كما ملكه زمام الكمال فاقتاد، وأنا أتطارح عليه في صلات تفقده، وموالاة يده، بأن يسهمني في فرض مخاطبته مهما خاطب معتبراً بهذه الجهات، ويصحبني من مناصحته بكؤوس مسرة يعمل فيها هاك وهات، فالعز بعزه معقود، والسعد بوجوده موجود، ومنهل السرور بسروره مورود، والله عز وجل يبقيه بقاء الدهر، ويجعل حبه وظيفة السر وحمده وظيفة الجهر ويحفظ على الأيام من زمنه زمن الزهر، ويصل لنا تحت إيالته العام بالعام والشهر بالشهر، آمين آمين انتهى. 14 - ومما خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى صاحب الأشغال بالمغرب أبا عبد الله ابن أبي القاسم بن أبي مدين يهينه بتقلد النممصب من رسالة قوله: تعود الأماني بعد انصراف ... ويعتدل الشيء بعد انحراف فإن كان دهرك يوماً جنى ... فقد جاء ذا خجل واعتراف طلع البشير أبقاك الله تعالى بقبول الخلافة المرينية، والإمامة السنية، خصها الله تعالى ببلوغ الأمنية، على تلك الذات التي طابت أرومتها وزكت، وتأوهت العلياء لتذكر عهدها وبكت، وكاد السرور ينقطع لولا أنها تركت منك الوارث الذي تركت، فلولا العذر الذي تأكدت ضرورته، والمانع الذي ربما تقررت لديكم صورته، لكنت أول مشافه بالهناء، ومصارف لهذا الاعتناء، الوثيق البناء، بنقود الحمد لله والثناء، وهي طويلة. 15 - ومما خاطب به رحمه الله تعالى قاضي الجماعة وقد نالته مشقة

جرها غلط الخدام السوء واشتراك الأسماء، أعتبه عندها السلطان وخلع عليه وأشاد بقدرة بما نصه: تعرفت أمراً ساءني ثم سرني ... وفي صحة الأيام لا بد من مرض تعمدك المحبوب بالذات بعدما ... جرى ضده، والله يكفيه بالعرض في مثلها سيدي يحمد الاختصار، وتقصر الأنصار، وتصرف (1) الأبصار، إذ لم يتعين ظالم، ولم يتبين يقظ ولا حالم، وإنما هي هدية أجر، وحقيقة وصل أعقبت مجاز هجر، وجرح جبار، وأمر ليس به اعتبار، ووقيعة لم يكن فيها إلا غبار، وعثرة القدم لا تنكر، والله سبحانه يحمد في كل حالة ويشكر، وإذا كان اعتقاد الخلافة لم يشبه شائب، وحسن الولاية لم يعبه عائب، والرعي دائب، والجاني تائب، فما هوإلا الدهر الحسود، لمن يسود، خمش بيد ثم سترها، ورمى عن قوس ما أصلحها - والحمد لله - ولا أوترها، إنما باء بشينه، وجنى من مزيد العناية محنة عينه، ولا اعتراض على قدر، أعقب بحظ معتذر، وورد نغص بكدر، ثم أنس بإكرام (2) صدر، وحسبنا أن نحمد الدفاع من الله تعالى والذب، ولا نقول مع الكظم إلا ما يرضي الرب، وإذا سابق أولياء سيدي في مضمار، وحماية ذمار، واستباق إلى بر وابتدار، بجهد اقتدار، فأنا ولا فخر متناول القصبة، وصاحب الدين من بين العصبة (3) ، لما بلوت من بر أوجبه الحسب، والفضل الموروث والمكتسب، ونصح وضح منه المذهب، وتنفيق راق منه الرداء المذهب، هذا مجمل وبيانه إلى وقت الحاجة مؤخر، ونبذة شره لتعجيلها يراع مسخر، والله سبحانه يعلم ما أنطوي عليه لسيدي من إيجاب الحق، والسير على أوضح الطرق، والسلام؛ انتهى.

_ (1) ق: وتطرف. (2) ق: بأكرم. (3) العصبة: الأقرباء من جهة الأب.

16 - وقال رحمه الله تعالى: خاطبت بعض الفضلاء بقولي مما يظهر من الجملة غرضة: تعرضت قرب الدار ممن احبه ... فكنت أجد السير لولا ضروره لأتلو من آي المحامد سورة ... وأبصر من شخص المحاسن صوره كنت أبقاك الله تعالى لاغتباطي بولائك، وسروري بلقائك، أود أن أطوي إليك هذه المرحلة، وأجدد العهد بلقياك المؤملة، فمنع مانع، وما ندري في الآتي ما الله صانع، وعلى كل حال فشأني قد وضح منه سبيل مسلوك، وعلمه مالك ومملوك، واعتقادي أكثر مما تسعه العبارة، والألفاظ المستعارة، وموصلها ينوب عني في شكر تلك الذات المستكملة شروط الوزارة، المتصفة بالعفاف والطهارة، والسلام. 17 - وقال سامحه اله تعالى يخاطب السلطان أبا عبد الله ابن نصر جبره اله تعالى عند وصول ولده من الأندلس: الدهر فسحة من أن يرى ... بالحزن والكمد المضاعف يقطع وإذا قطعت زمانه في كربة ... ضيعت في الأوهام ما لا يرجع فاقنع بما أعطاك ربك واغتنم ... منه السرور وخل ما لا ينفع مولاي الذي له المنن، والخلق الجميل والخلق الحسن، والمجد الذي وضح منه السنن، كتبه عبدك مهنئاً بنعم الله تعالى التي أفاضها عليك، وجلبها إليك، من اجتماع شملك، بنجلك، وقضاء دينك، من قرة عينك، إلى ما تقدم من إفلاتك، وسلامة ذاتك، وتمزق أعدائك، وانفرادك بأودائك، والزمن ساعة في القصر، لا بل كلمح البصر، وكأني بالبساط قد طوي، والتراب على الكل قد سوي، فلا تبقى غبطة ولا حسرة، ولا كربة ولا يسرة، وإذا نظرت

ما كنت فيه تجدك لا تنال منه إلا أكلة وفراشاً، وكناً ورياشاً، مع توقع الوقائع وارتقاب الفجائع، ودعاء المظلوم وصداع الجائع، فقد حصل ما كان عليه التعب، وأمن الرهب، ووضح الأجر المذهب، والقدرة باقية، والأدعية راقية (1) ، وما تدري ما تحكم به الأقدار، ويتمخض عنه الليل والنهار، وأنت اليوم على زمانك بالخيار، فإن اعتبرت الحال واجتنبت المحال، لم يخف عليك أنك اليوم خير منك أمس، من غير شك ولا لبس، وكان من أملي التوجه إلى رؤية ولدكم ولكن عارضتني موانع، ولا ندري في الآتي ما الله تعالى صانع، فاستنبت هذه في تقبيل قدمه، والهناء بمقدمه، والسلام. 18 - وقال رحمه الله تعالى: قلت أخاطب محمد بن نوار، وقد أعرس ببنت مزوار الدار السلطانية، وهومعروف بالوسامة وحسن الصورة: إن كنت في العرس ذا قصور ... فلا حضور ولا دخاله (2) ينوب نظمي مناب تيس ... والنثر عن قفة النخالة هناكم الله سبحانه دعاء وخبراً، وألبسكم من السرور حبراً، وعوذكم بالخمس، حتى من عين الشمس، فعمري لقد حصلت النسبة، ورضيت هذه المعيشة الحسبة، ومن يكن المزوار ذواقه (3) ، كيف لا يشق البدر أطواقه، وينشر القبول عليه رواقه، وأنتم أيضاً بركان جمال، وبقية رأس مال، ويمين في الانطباع وشمال، بمنزلكم اليوم بدر وهلال، ولعقد التوفيق بفضل الله تعالى استقلال، فأنا أهنيكم بتسني أمانيكم، والسلام. 19 - وقال رحمه اله تعالى مخاطباً عميد مراكش المتميز بالرأي والسياسة

_ (1) كذا في ق، ولعلها أن نقرأ " واقية ". (2) الدخالة: الهدية. (3) لست مظمئناً إلى أن اللفظة صحيحة.

والهمة وإفاضة العدل وكف اليد والتجافي عن مال الجباية عامر بن محمد بن علي الهنتاني (1) : تقول لي الأظعان والشوق في الحشا ... له الحكم يمضي بين ناه وآمر إذا جبل التوحيد أصبحت فارعاً ... فخيم قرار العين في دار عامر وزر تربة المعلوم إن مزارها ... هو الحج يفضي نحوه كل ضامر ستلقى بمثوى عامر بن محمد ... ثغور الأماني من ثنايا البشائر ولله ما تبلوه من سعد وجهه ... ولله ما تلقاه من يمن طائر وتستعمل الأمثال في الدهر منكما ... بخير مزور أو بأغبط زائر لم يكن همي أبقاك الله تعالى مع فراغ البال، وإسعاف الآمال، ومساعدة الأيام واليال، إذ الشمل جميع، والزمان كله ربيع، والدهر مطيع سميع، إلا زيارتك في جبلك الذي يعصم من الطوفان، ويواصل أمنه بين النوم والأجفان، وأن أرى الأفق الذي طلعت منه الهداية، وكانت إليه العودة ومنه البداية، فلما حم الواقع، وعجز عن خرق الدولة الأندلسية الراقع، وأصبحت ديار الأندلس وهي البلاقع، وحسنت من استدعائك إياي المواقع، وقوي العزم وإن لم يكن ضعيفاً، وعرضت على نفسي السفر بسببك فألفيته خفيفاً، والتمست الإذن حتى لا نرى في قبلة السداد تحريفاً، واستقبلتك بصدر مشروح، وزند للعزم مقدوح، والله سبحانه يحقق السول، ويسهل بمثوى الأماثل المثول، ويهيئ من قبل هنتاتة القبول، بفضله. 20 - وللسان الدين ابن الخطيب مقامة عظيمة بديعة وصف بها الأندلس

_ (1) كان أبو ثابت عامر بن محمد الهنتاني كبير جبل درن والبلاد المراكشية، وقد وفد على أبي زيان ابن أبي عبد الرحمن فأكرمه سنة 763، فلما عاد غلى بلده كان كأنه حاكم مستقل فيها، وكان ذلك فاتحة انتفاضات كثيرة إلى أن هلك عامر على يد السلطان عبد العزيز، كما يذكره المقري في ما يلي (ص: 219) وهذه القصيدة والرسالة في الاستقصا 4: 17 ومشاهدات لسان الدين: 120.

والعدوة، وأتى فيها من دلائل براعته بالعجب العجاب، وقد تركتها مع كتبي بالمغرب، ولم يحضرني منها الآن إلا قوله في وصف مدينة سبتة ما صورته: " قلت: فمدينة سبتة، قال (1) : عروس المجلى، وثنية الصباح الأجلى، تبرجت تبرج العقلية، ونظرت وجهها من البحر في المرآة الصقيلة، واختص ميزان حسناتها بالأعمال الثقيلة، وإذا قامت بيض أسوارها، وكان جبل بنيونش (2) شمامة أزهارها، والمنارة مناة أنوارها (3) ، كيف لا ترغب النفوس في جوارها، وتهيم (4) الخواطر بين أنجادها وأغوارها إلى المينا الفلكية، والمراقي (5) الفلكية، والركية الزكية، غير المنزورة ولا البكية، ذات الوقود الجزل، المعد للأزل، والقصور المقصورة على الجد والهزل، والوجوه الزهر السحن، المضنون بها عن المحن، دار الناشبة، والحامية المضرمة للحرب المناشبة، والأسطول المرهوب، المحذور الألهوب، والسلاح المكتوب المحسوب، والأثر المعروف المنسوب، كرسي الأمراء والأشراف، والوسيطة، لخامس أقاليم (6) البسيطة، فلا حظ لها في الانحراف، بصرة علوم اللسان، وصنعاء الحلل الحسان، وثمرة امتثال قوله تعالى " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " النحل:90 الأمينة على الاختزان، القويمة المكيال والميزان، محشر أنواع الحيتان، ومحط قوافل العصير والحرير والكتان، وكفاها السكنى ببنيونش في فصول الأزمان، ووجود المساكن النبيهة بأرخص الأثمان، والمدفن المرحوم، غير المزحوم، وخزانة كتب العلوم، والآثار المنبئة عن أصالة الحلوم، إلا أنها فاغرة أفواه الجنوب، لغيث المصبوب (7) ، عرضة للرياح ذات

_ (1) انظر هذا النص في مشاهدات لسان الدين: 101. (2) بنيونش (Baliunech) : قرية إلى الغرب من سبتة. (3) المشاهدات: شوارها. (4) المشاهدات: وتخيم. (5) المشاهدات: والمراسي. (6) ق: الأقاليم. (7) ق: المصوب.

الهبوب، عديمة الحرث فقيرة من الحبوب، ثغر تنبوفيه المضاجع بالجنوب، وناهيك بحسنة تعد من الذنوب، فأحوال أهلها رقيقة، وتلكفهم ظاهر مهما ظهرت وليمة أوعقيقة، واقتصادهم لا تلتبس منه طريقة، وأنساب نفقاتهم في تقدير الأرزاق عريقة، فهم يمصون البلالة مص المحاجم، ويجعلون الخبز في الوائم بعدد الجماجم، وفتنتهم ببلدهم فتنة الواجم بالبشير الهاجم، وراعي الجديب بالمطر الساجم، فلا يفضون على مدينتهم مدينة، الشك عندي في مكة والمدينة " انتهى. وقد سلك في هذه المقامة وصف بلدان المغرب بالسجع والتفقيه، ووفاها من المدح وضده اكمل توفية، وعكس هذه الطريقة في نفاضة الجراب فوصف فيها الأماكن بكلام مرسل جزلغير مسجع، مع كونه أقطع من السيف إذا بان عنه القراب. 21 - فمن ذلك قوله حين أجرى ذكر مدينة مكناسة الزيتون: وأطلت مدينة مكناسة في مظهر النجد، رافلة في حلل الدوح، مبتسمة عن شنب المياه العذبة، سافرة عن اجمل المراد، قد احكم وضعها الذي أخرج المرعى، قيد النص وفذلكة الحسن، فنزلها بها منزلاً لا تستطيع العين أن تخلفه حسناً ووضعاً من بلد دارت به المداشر (1) المغلة، والتفت بسوره الزياتين المفيدة، وراق بخارجه للسلطان المستخلص الذي يسموإليه الطرف، ورحب ساحة والتفاف شجرة ونباهة بنية وإشراف ربوة، ومثلت بإزائها الزاوية القدمى المعدة للوارد (2) ، ذات البركة النامية، والمئذنة السامية، والمرافق المتيسرة، يصاقبها الخان البديع المنصب الحصين الغلق الخاص بالسابلة والجوابة في الألرض يبتغون من فضل الله

_ (1) المداشر: القرى أو المزارع. (2) ف: للوارد.

تعالى، تقابلها غرباً الزاوية الحديثة المربية برونق الشبيبة ومزية الجدة والانفساح وتفنن الاحتفال، إلى أن قال: وبداخلها مدارس ثلاث لبث العم، كلفت بها الملوك الجلة الهمم، وأخذها التنجيد، فجاءت فائقة الحسن، ماشئت من أبواب نحاسية، وبرك فياضة تقذف فيها صافي الماء أعناق أسدية، وفيها جزائن الكتب والجراية الدارة على العلماء والمتعلمين، وتفضل هذه المدينة كثيراً من لداتها بصحة الهواء وتبحر أصناف الفواكه وتعمير الخزائن ومداومة البر لجوار ترابها سليماً من الفساد معافىً من العفن، إذ تقام ساحات منازلها غالباً على أطباق الآلاف من الأقوات تتناقلها المواريث ويصحبها التعمير وتتجافى عنها الأرض، ومحاسن هذه البلدة المباركة جمة، قال ابن عبون من أهلها ولله دره: إن تفتخر فاس بما في طيها ... وبأنها في زيها حسناء يكفيك من مكناسة أرجاؤها ... والأطيبان: هواؤها والماء ويسامتها شرقاً جبل زرهون، المنبجس العيون، الظاهر البركة، المتزاحم العمران، الكثير الزياتين والأشجار، قد جلله سكراً ورزقاً حسناً، فهوعنصر الخير، ومادة المجبى، وفي المدينة دور نبيهة، وبنى أصيلة، والله سبحانه ول من اشتملت عليه بقدرته، وفيها أقول: بالحسن من مكناسة الزيتون ... قد صح عذر الناظر المفتون فضل الهواء وصحة الماء الذي ... يجري بها وسلامة المخزون سحت عليها كل عين ثرة ... للمزن هامية الغمام هتون فاحمر خد الورد بين أباطح ... وافتر ثغر الزهر بين غصون ولقد كفاها شاهداً مهما ادعت ... قصب السباق القرب من زرهون جبل تضاحكت البروق بجوه ... فبكت عذاب عيونه بعيون

وكأنما هو بربري فاقد (1) ... في لوحه والتين والزيتون حييت من بلد خصيب أرضه ... مثوى أمان أو مناخ أمون وضفت عليك من الإله عناية ... تكسوك ثوبي أمنة وسكون 22 - وقد وصفها في مقامة البلدان على منوال السجع فقال: مكناسة مدينة أصيلة، وشعب للمحاسن وفصيلة، فضلها الله تعالى ورعاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، فجانبها مريع، وخيرها سريع، ووضعها له في فقه الفضائل تفريع، اعتدل فيها الزمان، وانسدل الأمان، وفاقت الفواكه فواكهها ولا سيما الرمان، وحفظ أقواتها الاختزان، ولطفت فيها الأواني والكيزان، ودنا من الحضرة جوارها، فكثر قادها من الوزراء وزوارها، وبها المدارس والفقهاء، ولقصبتها الأبهة والمقاصير والأبهاء. [تعليق للمقري] ويعني بالحضرة مدينة فاس المحروسة لأنها إذ ذاك كرسي الخلافة، ومكناسة مقر الوزارة، وأهل المغرب يعبرون عن المدينة التي فيها كرسي الخلافة بالحضرة. قلت: دخلت مكناسة هذه مراراً عديدة، وقد أبلى الدهر محاسنها التي كانت في زمان لسان الدين (2) ابن الخطيب جديدة، واستولى عليها الخراب، وتكدر منها بالفتن الشراب، وعاث في ظاهرها الأعراب، وفي باطنها سماسرة الفتنة العائقة عن كثر من الآراب، حتى صار أهلها حزبين، لبس كثير من أهلها ثياب البعد عنهاوالبين، والله تعالى يجبر حالها، ويعقب بالخصب إمحالها، ويرحم الله تعالى ابن جابر إذ قال: لا تنكرن الحسن من مكناسة ... فالحسن لم يبرح بها معروفا ولئن محت أيدي الزمان رسومها ... فلربما أبقت هناك حروفا

_ (1) كذا في ق، ولعلها " ناقد ". (2) انظر مشاهدات لسان الدين: 109.

على أن ضواحيها كانت في زمان لسان الدين مأوى للمحاربين واللصوص، ومثوى للأعراب الذين أعضل داؤهم بأقطار المغرب على العموم والخصوص، ولذلك يقول لسان الدين رحمه الله تعالى: مكناسة حشرت بها زمر العدا ... فمدى بريد فيه ألف مريد من واصل للجوع لا لرياضة ... أو لابس للصوف غير مريد فإذا سلكت طريقها متصوفاً ... فانو السلوك بها على التجريد وما أشار إليه رحمه الله تعالى فيما سبق من ذكر الزاوية القدمى والجديدة أشار به إلى زاويتين بناهما السلطان أبوالحسن المريني الكثير الآثار بالمغرب الأقصى والأوسط والأندلس، وكان بنى الزاوية القدمى في زمان أبيه السلطان أبي سعيد والجديدة حين تولى الخلافة، وله في هذه المدينة غير الزاويتين المذكورتين عدة آثار كثيرة جميلة من القناطر والسقايات وغيرها، ومن اجل مآثره بها المدرسة الجديدة، وكان قدم للنظر على بنائها قاضيه على المدينة المذكورة، ولما أخبر السلطان بتمام بنائها جاء إليها من فاس ليراها، فقعد على كرسي من كراسي الوضوء حول صهريجها، وجيء بالرسوم المتضمنة للتنفيذات الازمة فيها، فغرقها في الصهريج قبل أن يطالع ما فيها، وأنشد: لا بأس بالغالي إذا قيل حسن ... ليس لما قرت به العين ثمن وهذا السلطان أبوالحسن اشهر ملوك بني مرين، وأبعدهم صيتاً، وكان قد ملك رحمه الله تعالى المغرب بأسره وبعض الأندلس، وامتد ملكه إلى طرابلس الغرب، ثم حصلت له الهزيمة الشنعاء قرب القيروان حين قاتل أعراب إفريقية، فغدره بنوعبد الواد الذين أخذ من يدهم ملك تلمسان، وانتهزوا الفرصة فيه، وهربوا إلى الأعراب عند المصافة، فاختل مصافه، وهزم أقبح هزيمة، ورجع إلى تونس مغلوباً، وركب البحر في أساطيله، وكانت نحوالستمائة من السفن، فقضى الله تعالى أ، غرقت جميعاً، ونجا على لوح، وهلك من كان معه من أعلام المغرب

وهم نحو أربعمائة عالم (1) ، منهم السطي شارح الحوفي، وابن الصباغ الذي أملى في مجلس درسه بمكناسة على حديث " يا أبا عمير ما فعل النغير (2) " أربعمائة فائدة. قال الأستاذ أبوعبد الله ابن غازي رحمه الله تعالى: حدثني بعض أعيان الأصحاب أنه بلغه أن الفقيه ابن الصباغ المذكور سمع بمنصورة تلمسان المحروسة ينشد كالمعاتب لنفسه (3) : يا قلب كيف وقعت في أشراكهم ... ولقد عهدتك تحذر الأشراكا أرضىً بذل في هوى وصبابة ... هذا لعمر الله قد (4) أشقاكا ومات رحمه الله تعالى غريقاً في أسطول السلطان أبي الحسن المريني على ساحل تدلس (5) هو والفقيه السطي والأستاذ الزواوي وغير واحد في نكبة السلطان أبي الحسن المعروفة. ومن نظم ابن الصباغ المذكور في العلاقات المعتبرة في المجاز وفي المرجحات له قوله رحمه الله تعالى: يا سائلاً حصر العلاقات التي ... وضع المجاز بها يسوغ ويجمل خذها مرتبة وكل مقابل ... حكم المقابل فيه حقاً يحمل عن ذكر ملزوم يعوض لازم ... وكذا بعلته بعاض معلل وعن المعمم يستعاض مخصص ... وكذاك عن جزء ينوب المكمل وعن المحل ينوب ما قد حله ... والحذف للتخفيف مما يسهل وعن المضاف إليه ناب مضافه ... والضد عن أضداده مستعمل

_ (1) عرف ابن خلدون في كتاب التعريف ببعض من كان في صحبة أبي الحسن من العلماء، وانظر كلامه عن ابن الصباغ ص: 45. (2) النغير: تصغير نغر وهو طائر صغير أحمر المنقار. (3) ورد البيتان دون نسبة في مشارق أنوار القلوب: 60. (4) مشارق: أبداً تعالى الله ما. (5) تدلس: مدسنة على ساحل الجزائر.

والشبه في صفة تبين وصورة ... ومن المقيد مطلق قد يبدل والشيء يسمى باسم ما قد كانه ... وكذاك يسمى بالبديل المبدل وضع المجاور في مكانة جاره ... وبهذه حكم التعاكس يكمل واجعل مكان آلته وجيء ... بمنكر قصد العموم فيحصل ومعرف عن مطلق وبه انتهت ... ولجلها حكم التداخل يشمل وبكثرة وبلاغة ولزومه ... لحقيقة رجحانه يتحصل انتهى كلام شيخ شيوخ شيوخنا الإمام أبي عبد اله محمد بن غازي رحمه الله تعالى. وقد حكى ابن غازي المذكور عن شيخه القوري عن شيخه ابن جابر أن ابن الصباغ المذكور اعترض على القاضي ابن عبد السلام التونسي، قال: لما لقي ابن الصباغ بتونس اعترض عليه ابن الصباغ أربع عشرة مسألة لم ينفصل عن واحدة منا، بل اقر بالخطإ فيها، إذ ليس ينبغي اتصاف بالكمال، إلا لربي الكبير المتعال؛ انتهى. وذكر الشيخ أبوعبد الله الأبي رحمه الله تعالى في شرح مسلم عند تكلمه على أحاديث العين ما معناه أن رجلاً كان بتلك الديار معروفاً بإصابة العين، فسأل منه بعض الموتورين للسلطان أبي الحسن أن يصيب أساطيله بالعين، وكانت كثيرة نحوالستمائة، فنظر إليها الرجل العائن، فكان غرقها بقدرة الله الذي يفعل ما يشاء، ونجا السلطان برأسه، وجرت عليه محن، واستولى ولده السلطان أبوعنان فارس على ملكه، وكان خلفه بتلمسان، ولم يزل في اضطراب حتى ذهب إلى سجلماسة، ومنها خلص إلى جبل هنتاتة قرب مراكش، فذهب إلى حربه ابنه السلطان أبوعنان فارس بجيوشه، وأناخ على الجبل بكلكله، ولم تحفز أهل هنتاتة جواره لديهم، ولا كبيراهم عامر بن محمد وأخوه، وصبروا على الحصار وخراب الديار، وحرق الأماكن، حتى مات هناك رحمه الله تعالى ونقل بعد إلى شالة سلا مدفن أسلافه، ومن أراد الوقوف على أخباره فعليه بكتاب الخطيب

ابن مرزوق الذي ألفه فيه وسماه المسند الصحيح الحسن من أحاديث السلطان أبي الحسن ". ولما ذهب لسان الدين ابن الخطيب إلى عامر بن محمد بجبله المشهور زار محل وفاة السلطان المذكور، وقد ألم بذكر ذلك في نفاضة الجراب، إذ قال: وشاهدت بجبل هنتاتة محل وفاة السلطان المقدس أمير المسلمين أبي الحسن رحمه الله تعالى، حيث أصابه طارق الأجل، الذي فصل الخطة، وأصمت الدعوة، ورفع المنازعة، وعاينته مرفعاً عن الابتذال بالسكنى مفترشاً بالحصباء، مقصوداً بالابتهال والدعاء، فلم أبرح يوم زيارة محل وفاته أن قلت (1) : يا حسنها من أربع وديار ... أضحت لباغي الأمن دار قرار وجبال عز لا تذل أنوفها ... إلا لعز الواحد القهار ومقر توحيد وأس خلافة ... آثارها تنبي عن الأخبار ما كنت أحسب أن أنهار الندى ... تجري بها في جملة الأنهار ما كنت أحسب أن أنوار الحجى ... تلتاح في قنن وفي أحجار محت جوانبها البرود، وإن تكن ... شبت بها الأعداء جذوة نار هدت بناها في سبيل وفائها ... فكأنها صرعى بغير عقار لما توعدها على المجد العدا ... رضيت بعيث النار لا بالعار عمرت بجلة عامر واعزها ... عبد العزيز بمرهف بتار فرسا رهان أحرزا قصب الندى ... والبأس في طلق وفي مضمار ورثا عن الندب الكبير أبيهما ... محض الوفاء ورفعة المقدار وكذا الفروع تطول وهي شبيهة ... بالأصل في ورق وفي أثمار أزرت وجوه الصيد من هنتاتة ... في جوها بمطالع الأقمار لله أي قبيلة تركت لها ال ... نظراء دعوى الفخر يوم فخار

_ (1) القصيدة في المشاهدات: 128 وأزهار الرياض 1: 294.

نصرت أمير المسلمين وملكه ... قد أسلمته عزائم الأنصار وارت (1) علياً عندما ذهب الردى ... والروع بالأسماع والأبصار وتخاذل الجيش اللهام واصبح ال ... أبطال بين تقاعد وفرار كفرت صنائعه فيمم دارها ... مستظهراً منها بعز جوار وأقام بين ظهورها لا يتقي ... وقع الردى وقد ارتمى بشرار فكأنها الأنصار لما أنست (2) ... فيما تقدم غربة المختار أما غدا لحظاً وهم أجفانه ... نابت شفارهم عن الأشفار حتى دعاه الله بين بيوتهم ... فأجاب ممتثلاً لأمر الباري لو كان يمنع من قضاء الله ما ... خلصت إليه نوافذ الأقدار قد كان يأمل أن يكافئ بعض ما ... أولوه لولا قاطع الأعمار ما كان يقنعه لوامتد المدى ... إلا القيام بحقها من دار فيعيد ذاك الماء ذائب فضة ... ويعيد ذاك الترب ذوب نضار حتى تفوز على النوى أوطانها ... من ملكه بجلائل الأوطار حتى يلوح على وجوه وجوههم ... أثر العناية (3) ساطع الأنوار ويسوغ الأمل القصي كرامها ... من غير ما ثنيا ولا استعصار ما كان يرضى الشمس أو بدر الدجى ... عن درهم فيهم ولا دينار أو أن يتوج أو يقلد هامها ... ونحورها بأهلة ودراري حق على المولى ابنه إيثار ما ... بذلوه من نصر ومن إيثار فلمثلها ذخر الجزاء، ومصله ... من لا يضيع صنائع الأحرار وهو الذي يقضي الديون ويره ... يرضيه في علن وفي إسرار حتى تحج محلة رفعوا بها ... علم الوفاء لأعين النظار

_ (1) المشاهدات: آوت؛ ق: وأوت ... بعدما. (2) ق: أن سبت. (3) المشاهدات: الرعاية.

ولنرجع إلى ما كنا فيه من نثر لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى

فيصير منها البيت بيتاً ثانياً ... للطائفين إليه أي بدار تغني قلوب القوم عن هدي به ... ودموعهم تكفي لرمي جمار حييت من دار تكفل سعيها ال ... محمود بالزلفى وعقبى الدار وضفت عليك من الإله عناية ... ما كر ليل فيك إثر نهار ويعني بالمولى ابنه السلطان أبا سالم ابن السلطان أبي الحسن. ومن العجائب أن الرئيس عامر بن محمد الذي جرى في هذه الأبيات ذكره كان يؤمل بإيوائه للسلطان أبي الحسن ونصرته له وعدم إخفار ذمته فيه أن ينال من أولاده الملوك بذلك عزاً مستطيلاً ورياسة زائدة على ما كان فيه، فقضى الله تعالى أن كان حتفه على يد السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن، إذ نازله بجنوده، وحاصره بمعتقله، حتى استولى عليه وقتله، حسبما استوفى ذلك الشيخ الرئيس قاضي القضاة أبوزيد عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي المغربي نزيل مصر في تاريخه الكبير الذي سماه ب كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر فمن شاء فليراجعه ثمة. وكان الرئيس أبوثابت عامر بن محمد الهنتاتي المذكور خرج على السلطان عبد العزيز بالسلطان المعتمد على الله أبي الفضل محمد ابن أخي السلطان عبد العزيز المذكور، فكان من قتله ما ذكر، والله غالب على أمره. ولنرجع إلى ما كنا فيه من نثر لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى عنه، فنقول: 23 - ومن كلام لسان الدين رحمه الله تعالى في كتابه أعمال الأعلام ما صورته: " وفي غرضي إذا من الله تعالى بانفراج الضيقة الوقتية، ومعاودة الأزمان الهنية، والنصبة النقية، أن نصنف في التايخ كتاباً مبنياً على التطويل، مستوعباً

للكثير والقليل، نسميه بضاعة المهولين في أساطير الأولين، يكون هذا الكتاب بالنسبة إليه الحصاة من الرمال، والقطرة نم الغيث المنثال، بإعانة ذي القدرة والجلال؛ انتهى. 24 - ومن كلامه رحمه الله تعالى: فما استبعد المرام، من قصد الكرام، وما فقد الإيناس، من أمل الناس؛ انتهى. وقد سلك لسان الدين رحمه الله تعالى ف كثير من كتبه ك الكتيبة الكامنة والتاج المحلي والإكليل الزاهر وغيرها تحلية الأعلام من حملة السيوف والأقلام، بالكلام السمجع الآخذ بحظه من الإتقان على طريقة صاحب القلائد والمطمح أبي نصر الفتح بن عبيد الله المدعوبابن خاقان بليغ الأندلس غير مدافع وعلى نهج مباريه ابن بسام صاحب " الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة " وهو كتاب نيبغي أن يراجع، وقد رأيت أن آتي بشيء من كلام لسان الدين فيما ذكر، ونلم بعد تحليته بالتعريف بحال من حلاه من الأعلام، بحسب ما من به ويسيره لي الملك العلام، سبحانه وتعالى، فنقول: 25 - قال لسان الدين رحمه الله تعالى في بعض في وصف بعض من عرف به ما نصه: أني نفس صافية من الكدر، وصدر طيب الورد والصدر، ودوحة عهد تندى أرواقها، ومشكاة فضل يستطلع إشراقها، تمسك برضاع الكأس، يرى ذلك من حسن عهده، وقسم لحظاته بين آس الرياض وورده، فلما حوم حمامه للوقوع، وكاد يقوض رحله عن الربوع، وشعر بحبائل المنية تعتلقه، وسرعان خيل الأجل تزهقه، أقلع عن فنه، وأمر بسفك دنه، ولجأ إلى الله تعالى بأوبته، وضرع إلى الله تعالى في قبول توبته وغفران حوبته، فكان ذلك عنوان الرضى، وعلامة عفوالله تعالى عما مضى، دخلت عليه في مرضه، وأشرت باستعمال الدواء المسمى بلحية التيس عند الأطباء، فاستعمله، فوجد بعض خفة.

26 - وقال في آخر: كثيف الحاشية، معدود في جنس السائمة والماشية، تليت على العمال به سورة الغاشية، تولى الأشغال السلطانية فذعرت الجباة لولايته، وقامت قيامتهم لطلوع آيته، وقنطوا كل القنوط، وقالوا: جاءت الدابة تكلمنا وهي إحدى الشروط، من رجل صائم الحشوة، بعيد من المصانعة والرشوة، يتجنب الناس، ويقول عند المخاطبة: لا مساس، وعلى مسافة نجه، وتجهم وجهه، فكان خالطاً إساءته بإحسانه، مشتغلاً بشانه، غاضاً من عنان لسانه، عهدي به في الأعمال يقدر فيها ويدبر، ويرجح ويعبر، ويحبط وينبر، وهومع ذلك يكبر، ويحسن من الأزمنة ويقبح، وهويسبح، ولما شرع في البحث والتنقير، والمحاسبة على القطمير والنقير، أتاه قاطع الأجل، فحن ركابه فأقضى العجل، وصدرت عنه أبيات خضم فيها وقضم، وحصل تحت القدر المشترك مع من نظم. 27 - وقال في آخر: كودن حلبة الآداب، وسنور عبد الله بيع بقيراط لما شاب (1) ، هام بوادي الشعر مع من هام، واستمطر منها الجهام، فجاء بأبيات أوهى من بيت العنكبوت نسجاً، ومقاصد لا تبين قصداً ولا نهجاً، وله بيت معمور بقضاة أكابر، فرسان أقلام ومحابر، وعمال قادوا الدهر بأزمة أزمتهم، وفرعوا الزهر بهمتهم، وتكاثرت عليه رحمه الله الإحن، وتعاورته المحن، وتصرف آخر عمره في بعض الأعمال المخزنية فتعلل بنزر القوت، إلى الأجل الموقوت. 28 - وقال في آخر: معدود في وقته من أدبائه، ومحسوب في أعيان بلده وحسبانه، كان رحمه الله تعالى من أهل العدالة والخير، سائراً على منهج الاستقامة

_ (1) يشير إلى قول بعضهم: كسنور عبد الله بيع بدرهم ... صغيراً فلما شب بيع بقيراط انظر الحيوان 5: 315 وتعليق الجاحظ على البيت، والحاشية رقم: 4.

أحسن السير، وله أدب لا يقصر عن السداد، وإن لم يكن بطلاً فمن يكثر السواد، قد أثبت له ما عثرت عليه، مما ينسب الناس إليه. 29 - وقال في آخر: معتر غير قانع، ومنجع كل شهم وخانع، نشأ بلده مالقة أبرع من أورد اليراعة في نقس، وهز غصنها في روضة طرس، إلا ما كان سخافة عقله، وقعوده تحت المثل اخبر تقلة، لا يرتبط إلى رتبة، ولا ينتمي إلى عصبة، ولا يتلبس بسمت، ولا يستقيم من أمت (1) ، أخبرني من عني بخبره، وذكر عبره، من صباه إلى كبره، أنه رشح في بعض الدول، وعرض لاكتساب الخيل والخول، وخلعت عليه كسوة فاخرة، وشارة بزهر الرياض ساخرة، فانقاد طوع حومانه، ونبذ صفقة زمانه، وحمله فرط النهم، على ا، ابتاع في حجره طعاماً كثير الدسم، وأقبل وأذياله منه تقطر، كما اختلفت باللبن الأشطر، فطرد ونبذ، وطرح بعدما جبذ، لقيته بمالقة وقد قلب له زمانه عينيه، وسقط في يديه، فانتابني بأمداحه، وتعاورني بأجاجه وقراحه. 30 - وقال في آخر: أديب نار فكره تتوقد، وأري لا يعترض كلامه ولا ينقد، أما الهزل فهوطريقته المثلى، ركض في ميدانها وجلى، وطلع في أفقها وتجلى، فأصبح علم أعلامها، وعابر أحلامها، إن أخذ بها في وصف الكاس، وذكر الورد والآس، والم بالربيع وفصله، والحبيب ووصله؛ والروض وطيبه، والغمام وتقطيبه، شق الجيوب طرباً، وعلى النفوس شرباً وضرباً، وإن ابتغى لاعتلال العشية، في فرش الربيع الموشية، ثم تعداها إلى وصف الصبوح، وأجهز على الزق المجروح، وأشار إلى نغمات الورق، يرفلن في الحلل الزرق، وقد اشتعلت في عنبر الليل نار البرق، وطلعت بنود الصباح في

_ (1) الأست: الاعوجاج.

شرفات الشرق، سلب الحليم وقاره، وذكر الخليع وعقاره، وحرك الأشواق بعد سكونا، وأخرجها من وكونها، بلسان يتزاحم على موارد الخيال، ويتدفق من حافاته الأدب السيال، وبيان يقيم أود المعاني، ويشيد مصانع اللفظ محكمة المباني، ويكسوحلل الإحسان جسوم المثالث والمثاني، إلى ناردة لمثلها يشار، ومحاضرة يجنى بها الشهد ويشار، وقد أثبت من شعره المعرب وإن كان لا يتعاطاه إلا قليلاً، ولا يجاور إلا تعليلاً، أبياتاً لا تخلوعن مسحة جمال على صفحاتها، وهبة طيب ينم في نفحاتها. 31 - وقال أيضاً في آخر: ظريف السجية، كثير الأريحية، ارتحل من لورقة فتحها الله تعالى، واتخذ المرة داراً، وألف بها استقراراً، إلى أ، دعاه بها داعية، وقام فيها ناعيه. 32 - وقال في وصف آخر: شيخ أخلاقه لينة - ونفسه - كما قيل في نفس المؤمن - هينة، ينظم الشعر عذباً مساقه، محكما اتساقه، على فاقة، وحال ما لها من إفاقة، أنشد المقام الكيرم بظاهر بلده قصيدة استغرب منه منزعها، واستعذب من مثله مشرعها. 33 - وقال في آخر: من أئمة أهل الزمام، خليق برعي المتات والذمام، ذوخط كما تفتح زهر الكمام، وأخلاق أعذب من ماء الغمام، كان ببلده رحمه الله تعالى بدار إشرافه محاسباً، ودرة في لجة الإغفال راسباً، صحيح العمل، يلبس الطروس من براعته حسن الحلل، وله شعر لا باس به، ولا خفاء بفضل مذهبه. 34 - وقال في آخر: خير من استبق إلى داعي الفلاح استباقاً، وانتمى إلى القوم الذين هم في الآخرة أطول أعناقاً، وإن كانوا في الدنيا أضيق أرزاقاً، مردد أذكار، ومسبح أسحار، وعامر مئذنة ومنار، كان ببلده مؤذناً بجامعها

ومؤقتاً بأم صوامعها، ومعتبراً فيمن كان بها بمن السدنة، ومن مثله قوله: فكأنما قرب بدنة، وله لسان مخيف، وشعر سخيف، توشح بحليته، وجعله وسيلة كديته. 35 - وقال في آخر: عظيم الهيئة حسن اللقاء، أغرب في حسن المداراة من النقاء، استمر عمره للحكم، وصبر على حجج الصم والبكم، وأفرط في هشته وهزته، وتنزل عن نخوة القضاء وعزته، وله سلف في القضاء عالي المراقب، مزاحم للنجم الثاقب، وقد أثبت من شعره ما تيسر إثباته، ونجح بوض هذا المجموع نباته. 36 - وقال في آخر: قاض توارث كل جلالة، عن كلالة، وجمع في العلم الحسب، بين الموروث والمكتسب، أشرق يجيد معم في العشيرة مخول، وألقت عليه مقاليدها من منقول ومتأول، إلى نزاهة لا تغرها البيضاء ولا الصفراء، وحلم لا تستهويه السعاية ولا يستفزه الإغراء، ووقار يستخف الجبال الراسية، ونظر ينظر الظلم الغاشية، تولى قضاء الحضرة فأنفذ الأحكام وأمضاها، وشام سيوف الجزالة وانتضاها، ولبس أثواب النزاهة والانقباض فما نضاها، وسلك الطريق التي اختارها وارتضاها، فاجتمعت الأهوال المفترقة علي، وصرف الثناء أعنة الألسن إليه، ثم كر إلى بلده، واستقر خطيباً بقرارة أهله وولده. 37 - وقال في آخر: منتم إلى معرفة، متصف من الذكاء بأحسن صفة، أقرأ ببلده علم اللسان، وما حاد عن الإحسان، وعانى الشعر فنظم قوافيه، وما تكلف فيه، وعلى غزارة مادته، ووضوح جادته، فشعره قليل البشاشة، ذاهب الحشاشة، وذوالإكثار، كمثل العثار، وله سلف يخوض في الحقائق، وينتحل بعض الكلام الرائق. 38 - وقال في آخر: منتم لدين وعفة، وإلى نفس بالعرض الأدنى

مستخفة، ممن نزع إلى سلوك ورياضة، ويفيض في طريق القوم بعض إفاضة. 39 - وقال في آخر: ممن يتشوق إلى المعارف والمقالات، ويرتاح إلى الحقائق والمحالات، ويشتمل على نفس رقيقة، ويسير من تعليم القرآن على خير طريقة، ويعاني من الشعر ما يشهد بنبله، ويستظرف من مثله. 40 - وقال في آخر: مشمر في الطلب عن ساق، مثابر على اللحاق بدرجات الحذاق، منتحل للعربية جاد في إحصاء خلافها، ومعاطاة سلافها، وربما شرست في المذاكرة أخلاقه، إذا بهرجت أعلاقه، ونوزع تمسكه بالحجة واعتلاقه، ورحل إلى المغرب فاستجدى بالشعر سلطانه، ثم راجع أوطانه. 41 - وقال في آخر: منتم إلى زهد، باذل في التماس الخير الحهد، نظمه لا يخلومن حلاوة، ومعانيه في طريقه عليها بعض طلاوة. 42 - وقال في آخر: كاتب سجلات لا يساجل في صحة فصولها، وتوقيع فروعها على أصولها، وكلما طلب بالنظم القريحة، وأعمل الفكرة الصريحة، مع إقلاقه، وعدم استعماله، أجابت ولبت، وتنسمت رياحها وهبت. 43 - وقال رحمه الله تعالى وسامحه في بعض العدول الصوفية الأخيار، الذين وحدوا الله وفنوا عن سائر الأغيار: خير عدل، وممن له وقار وفضل، متسم بخير، معرض عن غير، مستمل بصفات مرضية، ملم بالنظم في الطريقة الصوفية. ولسان الدين رحمه الله تعالى ركض في هذا الميدان لا يجاري فيه، وثبوت فضل لا يستند إلى دليل جاحده ونافيه. 44 - وقال رحمه الله تعالى في كتابه التاج المحلي في مساجلة القدح:

المعلى في ترجمة محمد بن عبد اللهبن محمد بن لب الأمي المربي (1) ، ما صورته لج معرفة لا يغيض، وصاحب فنون يأخذ فيها ويفيض، نشأ ببلده مشمراً عن ساعد اجتهاده، وسائراً في قنن العلم ووهاده، حتى أينع روضه، وفهق حوضه، ثم أخذ في راحة ذاته، وشام بارق لذاته، ثم سار في البطالة سير الجموح، وواصل الغبوق بالصبوح، حتى قضى وطره، وسئم بطره، وركب الفلك، وخاض اللجج الحلك، واستقر بمصر على النعمة العريضة، على شك في قضاء حجة الفريضة، وهواليوم بمدرستها الصالحية نبيه المكانة، معدود في أهل العلم والديانة؛ انتهى. وقال في " الإحاطة " في حق المذكور ما نصه: من خط شيخنا أبي البركات في الكتاب " المؤتمن على أنباء أبناء الزمن ": كان سهلاً سلس القياد، لذيذ العشرة، دمث الأخلاق، ميالاً إلى الدعة، نفوراً عن النصب، يركن إلى فضل نباهة وذكاء يحاسب بهما عند التحصيل والدراسة والدؤوب على الطلب؛ من رجل يجري من الألحان على مضمار لطيف، ولم يكن له صوت رخيم يساوق (2) انطباعه في التلحين، فجبر ذلك بالأوتار، وحاول من ذلك بيده مع أصحابهما لاذ به الظرفاء منهم، واستعمل بدار الأشراف بالمرية، فاحكم تلك الطريقة في أقرب زمان، وجاء زمامه يروق نم ذلك العمل من شأنه، ثم نهضت به همته إلى أرفع من ذلك، فسار إلى غرناطة، فقرأ بها العربية وغيرها، وانخرط في سلك نبهاء الطلبة لأدنى مدة، ثم رحل إلى بلاد المشرق في حدود العشرين وسبعمائة فلم يتجاوز القاهرة لموافقة هوائها علة كان يشكوها، وأخذ في إقراء العربية بها، وعرف بها إلى أن صار يدعى بأبي عبد الله النحوي. قال شيخنا المذكور: ورأى في صغره فارة أنثى فقال: هذه قرينة، فلقب بذلك، وصار هذا اللقب أغلب

_ (1) انظر ترجمته في الكتيبة: 88 وبغية الوعاة: 60 والدرر 4: 103 (ط. القاهرة) . (2) ق: يصادق.

عليه من اسمه ومعرفته. ثم قال لسان الدين في حق المذكور ما ملخصه: إنه قرأ بالحضرة على الخطيب أبي علي القيجاطي وطبقته، وأخذ بالقاهرة عن الأستاذ أبي حيان، وانتفع بجاهه، نقل إلينا الحاج الحافظ أبوجعفر ابن غصن من شعره حسبما قيده عنه بمصر (1) : بعد المزار ولوعة الأشواق ... حكما بفيض مدامع الآماق وخفوق نجدي النسيم إذا سرى ... أذكى لهيب فؤادي الخفاق أمعللي أن التواصل في غد ... من ذا الذي لغد فديتك باقي إن الليالي سبق إن أقبلت ... وإذا تولت لم تنل بلحاق عج بالمطي على الحمى، سقي الحمى ... صوب الغمام الواكف الرقراق فيه لذي القلب السليم ودادة ... قلب سليم ما له من واق قلب غداة فراقهم فارقته ... لا كان في الأيام يوم فراق يا سارياً واليل ساج عاكف ... يفري الفلا بنجائب ونياق عرج على مثوى النبي محمد ... خير البرية ذي المقام الراق ورسول رب العالمين ومن له ... حفظ العهود وصحة الميثاق الظاهر الآيات قام دليلها ... والطاهر الأخلاق والأعراق بدر الهدى وهو الذي آياته ... وجبينه كالشمس في الإشراق الشافع المقبول من عم الورى ... بالجود والإرفاد والإرفاق الصادق المأمون أكرم مرسل ... سارت رسالته إلى الآفاق أعلى الكرام ندىً وأبسطهم يداً ... قبضت عنان المجد باستحقاق وأشد خلق الله إقداماً إذا ... جمي الوطيس وشمرت عن ساق أمضاهم والخيل تعثر في الوغى ... وتجول سبحاً في الدم المهراق

_ (1) القصيدة في الكتيبة: 88 - 90.

من صير الأديان ديناً واحداً ... من بعد إشراك مضى ونفاق وأحلنا من حرمة الإسلام في ... ظل ظليل زارف الأوراق لو أن لبدر المنير كماله ... ما ناله كسف ونكس محاق لو أن للبحرين جود يمينه ... أمن السفين غوائل الإيساق لو أن للآساد شدة بأسه ... لثنت عن الإنجاد والإعراق لو أن للآباء رحمة قلبه ... ذابت نفوسهم من الإشفاق ذو العلم والحلم الخفي المنجلي ... والجاه والشرف القديم الباقي آياته شهب وغر بنانه ... سحب النوال تدر بالأرزاق ماجت فتوح الأرض وهو غياثها ... وربت ربى الإيمان وهو الساقي ذو رأفة بالمؤمنين ورحمة ... وهدىً وتأديب بحسن سياق وخصال مجد أفردت بالخصل في ... مرمى الفخار وغاية السباق ذو المعجزات الغر والآي التي ... كم آية فقدت وهن بواقي ثنت المعارض حائراً لما حكت ... فلق الصباح وكان ذا إفلاق يقظ الفؤاد سرى وقد هجع الورى ... لمقام صدق فوق ظهر براق وسما وأملاك السماء تحفه ... حتى تجاوزهن سبع طباق ومنها: يا ذا الذي اتصل الرجاء بحبله ... وانبت من هذا الورى بطلاق حبي إليك وسيلتي وذخيرتي ... إني من الأعمال ذو إملاق وإليك أعملت الرواحل ضمراً ... تختال بين الوخد والإعناق نجباً إذا نشدت حلى تلك العلا ... تطوي الفلا ممتدة الأعناق يحدو بهن من النجيب مردد ... وتقودهن أزمة الأشواق غرض إليه فوقتنا أسهماً ... وهي القسي برين كالأفواق فأنختها بفنائك الرحب الذي ... وسع الورى بالنائل الدفاق

وقرى مؤملك الشفاعة في غد ... وكفى بها هبة من الرزاق وعليك يا خير الأنام تحية ... تحيي النفوس بنشرها الفتاق تتأرج الأرجاء من نفحاتها ... أرج الندي بمدحك المصداق ومنها: قسماً بطيب تراب طيبة؛ إنه ... مسك الأنوف وإثمد الاحداق وبشأن مسجدها الذي يرجى به ... لمعامل الرحمن أي نفاق لأجود فيه بأدمع أسلاكها ... منظومة بترائب وتراق أغدو بتقبيل على حصبائه ... وعلى كراثم جدره بعناق ومنها: وعليك ذا النورين تسليم له ... نور يلوح بصفحة المهراق كفؤ النبي وكفؤ أعلى جنة ... حيزت له بشهادة وصداق وكفاه ما في الفتح جاء ومصحف ... في الفتح يحمده وفي الإطباق وعلى أبي السبطين من سبق الألى ... سبقوا إلى الإسلام يوم سباق الطاهر الطهر ابن عم المصطفى ... شرف على التخصيص والإطلاق مبدي القضايا من وراء حجابها ... ومفتح الأكمام عن أعلاق يغزو العداة بغلظة فيهدهم ... بصوارم تفري الفقار رقاق راياته لا شيء من عقبانها ... بمطا يوم وغىً ولا بمطاق وعلى كرام ستة عشرت بهم ... عند النظام لآلئ النساق ما بين أروع ماجد نيرانه ... جنح الظلام تشب للطراق وأخي حروب صده رشق القنا ... عما قدود مثلهن رقاق ما غردت شجواً مطوقة وما ... شقت كمام الروض عن أطواق وعلى القرابة والصحابة كلهم ... والتابعين لهم ليوم تلاق

وذكر في الإحاطة غير هذه. 45 - وقال لسان الدين في التاج في ترجمة محمد بن عبد الرحيم الوادي آشي (1) ما صورته: ناظم أبيات، وموضح غرر وشيات، وصاحب توقيعات وقيعات، وإشارات ذوات شارات، وكان شاعراً مكثاراً، وجواداً لا يخاف عثاراً، دخل على أمير بلده المخلوع عن ملكه، بعد انتثار سلكه، وخروج الحضرة عن ملكه، واستقراره آش مروع البال، متعلااً بالآمال، وقد بلغه دخول طبرنش (2) في طاعته، فأنشده من ساعته: خذها إليك طبرنشا ... شفع بها وادي الأشا والأم تأتي بنتها ... والله يفعل ما يشا ومن نوادره العذبة، كا متبه غليه يطلب منه الحسبة: أنلني أيا خير البرية خطة ... ترفعني قدراً وتكسبني عزا فأغتر في أهلي كما اعتز بيدق ... على سفرة الشطرنج لما انثنى فرزا فوقع له بما ثبت في ترجمته؛ انتهى. 46 - وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي عبد الله بن العطار المزني ما صورته: ممن نبغ ونجب، وحق له البر بذاته ووجب، تحلى بوقار، وشعشع للأدب كأس عقار، إلا أنه احرم في اقتباس، وأصيب للأجل بنبال، انتهى. 47 - وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي عبد الله بن محمد بن علي بن محمد ابن علي بن يحيى بن خاتمة الأنصاري المزني (3) ، ما صورته: ممن ثكلته البراعة، وفقدته البراعة، تأدب بأخيه وتهذب، وأراه في النظم المذهب، وكساه من التفهم والتعليم الرداء المذهب، فاقتفى واقتدى، وراح في الحلبة واغتدى، حتى

_ (1) ترجمته في الدرر 4: 133 (ط. القاهرة) . (2) طبرنش (Tabernas) شرقي المرية. (3) ترجمته في الدرر 4: 201.

نبل وشا، ولوأمهله الدهر لبلغ المدى، وأما خطه فقيد الأبصار، وطرفة من طرف الأمصار، واعتبط يانع الشبيبة، مخضر الكتيبة، مات عام خمسين وسبعمائة. وأورد له في " الإحاطة " قوله: ومض البرق فثار القلق ... ومضى النوم وحل الأرق مذ تذكرت لأيام خلت ... ضمنا فيها الحمى والأبرق وعشيات تقضت باللوى ... في محيا الدهر منها رونق إذ شبابي والتصابي جمعا ... ورياض الأنس غض مورق شت يوم البين شملي ليت ما ... خلق البين لقلب يعشق آه من يوم قضى لي فرقة ... شاب مني يوم حلت مفرق وقوله (1) : الرفع نعتكم لا خانكم أمل ... والخفض شيمة مثلي والهوى دول هل منكم لي عف بعد بعدكم ... إذ ليس لي منكم يا سادتي بدل قلت: البيت الثاني غاية في معناه، وأما الأول فسافل وإن أسس على الرفع مبناه، والله اعلم. 48 - وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي عبد الله محمد بن محمد بن إبراهيم ابن عيسى بن داود الحميري المالقي (2) ما صورته: علم من أعلام هذا الفن، ومشعشع راح هذا الدن، مجموع أدوات، وفارس براعة ودواة، ظريف المنزع، أنيق المرأى والمسمع، اختص بالرياسة فأدار فلك إمارتها، واتسم

_ (1) البيتان في الدرر الكامنة. (2) انظر أيضاً ترجمته في الكتيبة: 158 والدرر 4: 271 (ط. القاهرة) .

باسم كتابتها ووزاراتها، ناهضاً بالأعباء، صاعداً في درج التقريب والاجتباء، مصانعاً دهره في راح وراحة، آوياً إلى فضل وسماحة، وخضب ساحة، كلما فرغ من شأن خدمته، وانصرف عن رب نعمته، عقد شرباً، وأطفأ من الاهتمام بغير الأيام حرباً، وعكف على صوت يستعيده، وظرف يبديه ويعيده، فلما تقلبت بالرياسة الحال، وقوضت منها الرحال، استقر بالمغرب غريباً، يقلب طرفاً مستريباً، ويلحظ الدنيا تبعة عليه وتثريباً، وإن كان لم يعدم من أمرائه حظوة وتقريباً، وما يبوح بشجنه، ويرتاح إلى عهود وطنه، ومما أعرب به، عن براعة أدبه، قوله (1) : يا نازحين ولم أفارق منهم ... شوقاً تأجج في الضلوع (2) ضرامه غيبتم عن ناظري وشخصكم ... حيث استقر من الضلوع مقامه رمت النوى شملي فشتت نظمه (3) ... والبين رام لا تطيش سهامه وقد اعتدى فينا وجد مبالغاً ... وجرت بمحكم جوره أحكامه أترى الزمان مؤخراً في مدتي ... حتى أراه قد انقضت أيامه تحملها يا نسيم نجدية النفحات، وجدية اللفحات، تؤدي عني إلى الأحبة نفحها سلاماً وتورد عليهم لفحها برداً وسلاماً، ولا تقل كيف تحملني ناراً، وترسل على الأحبة مني إعصاراً، كلا إذا أهديتهم تحية إيناسي، وآنسوا من جانب هبوبك نار ضرام أنفاسي، وارتاحوا إلى هبوبك، واهتزوا في كف مسرى جنوبك، وتعللوا بك تعليلاً، وأوسعوا آثار مهبك تقبيلاً، أرسلها عليهم بليلاً، وخاطبهم بلطافة تلطفك تعلياً، ألم تروني كيف جئتكم بما حملني عليلاً:

_ (1) الكتيبة: 161؛ والبيتان الأولان في الدرر: 272. (2) الكتيبة: في الفؤاد. (3) ق: شمله.

كذاك تركته (1) ملقىً بأرض ... له فيها التعلل بالرياح إذا هبت إليه صبا إليها ... وإن جاءته من كل النواحي تساعده الجمائم حين يبكي ... فما ينفك موصول النواح (2) يخاطبهن مهما طرن شوقاً ... أما فيكن واهبة الجناح ولولا تعلله بالأماني، وتحدث نفسه بزمان التداني، لكان قد قضى نحبه، ولم أبلغكم إلا نعيه أوندبه، لكنه يتعلل من الآمال بالوعد الممطول، ويتطارح باقتراحاته على الزمن المجهول، ويحدث نفسه وقد قنعت من بروق الآمال بالخلب، ووثقت بمواعيد الدهر القلب، يناجيها بوحي ضميره، وإيماء تصويره: كيف أجدك يوم الالتقاء بالأحباب، والتخلص من ربقة الاغتراب، أبائنه الحضور أم بادية الاضطراب، كأني بك وقد استفزك وله السرور، فصرفك عن مشاهدة الحضور، وعاتك غشاوة الاستعبار للاستبشار، عن اجتلاء محيا ذلك النهار: يوم يداوي زماناتي من أزماني ... أزال تنغيص أحياني فأحياني جعلت لله نذراً صومه أبداً ... أفي به وأوفي شرط إيماني إذا ارتفعنا وزال البعد وانقطعت ... أشطان دهر قد التفت بأشطاني أعده خير أعياد الزمان إذا ... أوطاني السعد فيه ترب أوطاني أرأيت كيف ارتياحي إلى التذكار، وانقيادي إلى معللات توهمات الافكار كأن البعد باستغراقها قد طويت شقته، وذهبت عني مشقته، وكأني بالتخيل بين تلك الخمائل أتنسم صباها، وأتسم رباها، وأجتني أزهارها، وأجتلي أنوارها، وأجول في خمائلها، وأتنعم ببكرها وأصائلها، وأطوف بمعالمها، وأنتشق

_ (1) الكتيبة: غريب بعدكم. (2) الكتيبة: التياح.

أزهار كمائمها، وأصيخ بأذن الشوق إلى سجع حمائمها، وقد داخلتني الأفراح ونالت مني نشوة الارتياح، ودنا السرور لوهم ذهاب الأتراح، فلما أفقت من غمرات سكري، ووثبت من هفوات فكري، وجدت مرارة ما شابه لي في استغراق دهري، وكأني من حينئذ علجت وقفة الفراق، وابتدأت منازعة الأشواق، وكأنما أغمضني النوم، وسمح لي بتلك الفكرة الحلم: ذكر الديار فهاجه تذكاره ... وسرت به من حينه أفكاره فاتل منها حيث كان حلوله ... بالوهم منها واستقر قراره ما أقرب الآمال من غفواته ... لو أنها قضيت بها أوطاره فإذا جئتها أيها القادم والأصيل قد خلع برداً مورساً، والربيع قد مد على القيعان منها سندساً، فاتخها - فديتك - معرساً، واجرر ذيولك فيها متبختراً، وبث فيها من طيب نفحاتك عنبراً، وافتق عليها من نوافج أنفاسك مسكاً أذفراً، واعطف معاطف بأنها، وأرقص قضب ريحانها، وصافح صفحات نهرها، ونافح نفحات زهرها، هذه كلها إمارات، وعن أسرار مقاصدي عبارات، هنالك تنتعش بها صبابات، تعالج صابات، تتعلل بإقبالك، وتعكف على لثم أذيالك، وتبدولك في صفة الفاني امتهالك، لاطفها بلطافة اعتلالك، وترفق بها ترفق أمثالك، فإذا مالت بهم إلى هواك الأشواق، ولووا إليك الأرؤس والأعناق، وسألوك عن اضطرابي في الآفاق، وتقلبي بين الإشآم والإعراق، فقل لهم: عرض له في أسفاره، ما يعرض للبدر في سراره، من سرار السرار، ولحاق المحاق، وقد تركته وهويسامر الفرقدين، ويساير النيرين، وينشد إذا راعه البين: وقد نكون وما يخشى تفرقنا ... فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا لم يفارق وعثاء الأسفار، ولا ألقى من يدع عصا التسيار، يتهاداه الغور والنجد

ويتداوله الإرقال والوخد، وقد لفحته الرمضاء، وسئمه الإنضاء، فالجهات تلفظه، والآكام تبهظه، يحمل همومه الرواسم، وتحياته البواسم: لا يستقر بأرض حين يبلغها ... ولا له غير حدو العيس إيناس ثم إذا استوفوا سؤالك عن حالي، وتقلبي بين حلي وترحالي، وبلغت القلوب منهم الحناجر، وملأت الدموع المحاجر، وابتلت ذيولك بمائها، لا بل تضرجت بدمائها، فحيهم عني تحية منفصل، ووداع مرتحل، ثم اعطف عليك ركابك، ومهد لهم جنابك، وقل لهم إذا سألني عن المنازل بعد سكانها، والربوع بعد ظعن أظعانها، بماذا أجيبه وبماذا يسكن وجيبه، فسيقولون لك هي البلاقع المقفرات، والمعارف التي أصبحت نكرات: صم صداها وعفا رسمها ... واستعجمت عن منطق السائل قل لهم: كيف الروض وآسه وعم تتأرجح أنفاسه عهدي به والحمام يردد به أسجاعه، والذباب يغني هـ هزجاً فيحك بذراعه ذراعه، وغصونه تعتنق، وأحشاء جداوله تصطفق، وأسحاره تنتسم، وآصاله تتوسم، كما كانت بقية نضرته، وكما عهدته أنيقة خضرته، وكيف التفاته عن أزرق نهره، وتأنقه في تكليل إكليله بيانع زهره، وهل رق نسيم أصائله، وصفت موارد جداوله وكيف انفساح ساحاته، والتفات دوحاته وهل تمتد كما كانت مع العشي فينانة سرحاته، وعهدي بها المديدة الظلال، المزعفرة السربال وهل تحدق الآن به عيون نرجسه، ويمد بساط سندسه وأنى منه مجالس لداتي، ومعاهد غدواتي وروحاتي، إذ أباري في المجون لمن أباري، وأسابق إلى اللذات كل من اجاري، فسيقولون لك: ذوت أفنانه، وانقصفت أغصانه، وتكدرت غدرانه، وتغير روحه وريحانه، وأقفرت معالمه، وأخرست حمائمه، واستحالت حلل خمائله، وتغيرت وجوه بكره وأصائله، فإن صلصل حنين رعد فعن قلبي

لفراقه خفق، وإن تلألأ برق فعن حر حشاي ائتلق، وإن سحت السحب فمساعدة لجفني، وإن طال بكاؤها فغني، حياها الله تعالى منازل، لم تزل بمنظوم الشمل أواهل، وحين انتثرت نثرت أزهارها أسفاً، ولم تثن الريح من أغصانها معطفاً، أعاد الله تعالى الشمل فيها إلى محكم نظامه، وجعل الدهر الذي فرقه يتأنق في إحكامه، وهوسبحانه يجبر الصدع، ويعجل الجمع، إنه بالإجابة جدير، وعلى ما يشاء قدير. إنه بني كيف حال من استودعتهم أمانتك، وألزمتهم صونك وصيانتك، وألبستهم نسبك، ومهدت لهم حسبك، الله في حفظهم فهواللائق لفعالك، المناسب لشرف خلالك، أرع لهم الاغتراب لديك، والانقطاع إليك، فهم أمانة الله تعالى في يديك، وهوسبحانه يحفظك بحفظهم، ويوالي بلحظك أساب حظهم، وإن ذهبتم إلى معرفة الأحوال، فنعم الله تعالى ممتدة الظلاك، وخيراته وارفة السربال، لولا الشوق الملازم، والوجد الذي سكن الحيازم. 49 - وقال في الإكليل في ترجمة أبي بكر محمد بن محمد بن عبد الله ابن مقاتل المالقي (1) ، ما نصه: نابغة مالقية، وخلف وبقية، ومغربي الوطن أخلاقه مشرقيه، أزمع الرحيل إلى المشرق، مع اخضرار العود وسواد المفرق، فلما توسطت السفينة اللجج، وقارعت الثبج، هال عليها البحر فسقاها كأس الحمام، وأولدها قبل التمام، وكان فيمن اشتملت عليه أعوادها، وانضم على نوره سوادها، من جملة الطلبة والأدباء، وأبناء السراة الحسباء، أصبح كل منهم مطيعاً، لداعي الردى وسميعاً، وأحيوا فرادى وماتوا جميعاً، فاجروا الدموع حزناً، وأرسلوا العبرات عليهم مزناً، وكأن البحر لما كمس سبيل خلاصهم وسدها، وأهال هضبة سفينتهم وهدها، غار على نفوسهم النفيسة فاستردها، والفقيه أبوبكر مع إكثاره، وانقياد نظامه ونثاره، لم أظفر من أدبه

_ (1) ترمته في الدرر 4: 313 (ط. القاهرة) .

إلا بالقليل التافه، بعد وداعه وانصرافه، فمن ذلك قوله وقد أبصر فتىً عائراً: ومهفهف هافي المعاطف أحور ... فضحت أشعة نوره الأقمارا زلت له قدم فأصبح عاثراً ... بين الأنام لعاً لذاك عثارا لو كنت أعلم ما يكون فرشت في ... ذاك المكان الحد والأشفارا وقال: أيا لبني الرفاء تنضي ظاؤهم ... جفون ظباهم فالفؤاد كليم لقد قطع الأحشاء منهم مهفهف ... له التبر خد واللجين أديم يسدد إذ يرمي قسي حواجب ... وأسهمها من مقلتيه تسوم وتسقمني عيناه وهي سقيمة ... ومن عجب سقم جناه سقيم ويذبل جسمي في هواه صبابة ... وفي وصله للعاشقين نعيم كان غرقه في أخريات عام تسعة وثلاثين وسبعمائة؛ انتهى. 50 - وقال في الإكليل في ترجمة أبي عبد الله محمد بن محمد الشديد المالقي ما نصه: شاعر مجيد حوك الكلام، ولا يقصر فيه عن درجة الأعلام، رحل إلى الحجاز لأول أمره فطال بالبلاد المشرقية ثواؤه، وعميت أنباؤه، وعلى هذا العهد وقفت له على قصيدة بخطه غرضها نبيل، ومرعاها غير وبيل، تدل على نفس ونفس، وإضاءة قبس، وهي: لنا في كل مكرمة مقام ... ومن فوق النجوم لنا مقام ومنها: روينا من مياه المجد لما ... وردناها وقد كثر الزحام فنحن هم، وقل لي من سوانا ... لنا التقديم قدماً والكلام لنا الأيدي الطوال بكل صوب ... يهز به لدى الروع الحسام ونحن اللابسون لكل درع ... يصيب السمر منهن انثلام

بأندلس لنا أيام حرب ... مواقفهن في الدنيا عظام ثوى منها قلوب الروم خوف ... يخوف منه في المهد الغلام حمينا جانب الدين احتساباً ... فها هو لا يهان ولا يضام وتحت الراية الحمراء منا ... كتائب لا تطاق ولا ترام بنو نصر وما أدراك ما هم ... أسود الحرب والقوم الكرام لهم في حربهم فتكات عمرو ... فلأعمار عندهم انصرام يقول عداتهم مهما ألموا ... أتونا ما من الموت اعتصام إذا شرعوا الأسنة يوم حرب ... فحقق أن ذاك هو الحمام كأن رماحهم فيها نجوم ... إذا ما أشبه الليل القتام أناس تخلف الأيام ميتاً ... بحي منهم فلهم دوام رأينا من أبي الحجاج شخصاً ... على تلك الصفات له قيام موقى العرض محمود السجايا ... كريم الكف مقدام همام يجول بذهنه في كل شيء ... فيدركه وإن عز المرام قويم الرأي في نوب الليالي ... إذا ما الرأي فارقه القوام له في كل معضلة مضاء ... مضاء الكف ساعدها الحسام رؤوف قادر يغضي ويعفو ... وإن عظم اجتناء واجترام تطوف ببيت سؤده القوافي ... كما قد طاف بالبيت الأنام وتسجد في مقام علاه شكراً ... ونعم الركن ذلك والمقام أفارسها إذا ما الحرب أخنت ... على أبطالها ودنا الحمام وممطرها إذا ما السحب كفت ... وكف أخي الندى أبداً غمام لك الذكر الجميل بكل قطر ... لك الشرف الأصيل المستدام لقد جبنا البلاد فحيث سرنا ... رأينا أن ملكك لا يرام فضلت ملوكها شرقاً وغرباً ... وبت لملكها يقظاً وناموا فأنت لكل معلوة مدار ... وأنت لكل مكرمة إمام

جعلت بلاد أندلس إذا ما ... ذكرت تغار مصر والشآم مكان أنت فيه مكان عز ... وأوطان حللت بها كرام وهبتك من بنات الفكر بكراً ... لها من حسن لقياك ابتسام فنزه طرف مجدك في حلاها ... فلمجد الأصيل بها اهتمام 51 - وقال في الإكليل في ترجمة الشريف محمد بن الحسن العمراني من أهل فاس (1) ما صورته: كريم الانتماء، متظلل بأغصان الشجرة الشماء، من رجل سليم الضمير، ذي باطن أصفى من الماء النمير، له في الشعر طبع يشهد بعروبية أصوله، ومضاء نصوله. وذكر في " الإحاطة " أن الشريف المذكور توفي في حدود ثمانية وثلاثين وسبعمائة. 52 - وقال في " الإكليل " في ترجمة محمد بن أحمد بن إبراهيم المرادي العشاب، وهوقرطبي الأصل تونسي المولد والمنشأ، ما صورته: جواد لا يتعاطى طلقه، وصبح فضل لا يماثل فلقه، كانت لأبيه رحمه الله تعالى من الدول الحفصية منزلة لطيفة المحل، ومفاوضة في العقد والحل، ولم يزل تسموبه قدم النجابة، من العمل إلى الحجابة، ونشأ ابنه هذا مقضي الديون، مفدى بالأنفس والعيون، والدهر ذوألوان، ومارق حرب عوان، والأيام كات تتلقف وأحوال لا تتوقف، فألوى بهم الدهر وأنحى، وأغام جوهم بعقب ما أصحى، وفشملهم الاعتقال، وتعاورتهم النوب الثقال، واستقرت بالمشرق ركابه، وحطت به أقتابه، فحج واعتمر، واستوطن تلك المعاهد وعمر، وعكف على كتاب الله تعالى فجود الحروف، وقرأ المعروف، وقيد وأسند، وتكرر إلى دور الحديث وتردد، وقدم على هذا الوطن قدوم النسيم البليل، على كبد العليل، ولما استقر به قراره، واشتمل على جفنه غراره، بادرت إلى مؤانسته، وثابرت على مجالسته، فاجتليت لسر شخصاً، وطالعت ديوان الوفاء مستقصى،

_ (1) ترجمته في الدرر 4: 46 (ط. القاهرة) .

وشعره ليس بحائد عن الإحسان، ولا غفل عن النكت الحسان؛ انتهى. 53 - وقال في الإكليل في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عمر بن علي ابن إبراهيم المليكشي (1) ما صورته: كاتب الخلافة، ومشعشع الأدب الذي يزري بالسلافة، كان بطل مجال، ورب روية وارتجال، قدم على هذه البالد وقد نبا به وطنه، وضاق ببعض الحوادث عطنه، فتلوم تلوم النسيم بين الخمائل، وحل منها محل الطيف من الوشاح الجائل، ولبث مدة إقامته تحت جراية واسعة، وميرة (2) يانعة، ثم آثر قطره، فولى وجهه شطره، واستقبله دهره بالإنابة، وقلده خطة الكتابة، فاستقامت حاله، وحطت رحاله، وله شعر أنيق، وتصوف وتحقيق، ورحلة إلى الحجاز سعيها في الخير وثيق، ونسبها في الصالحات عريق، ومن شعره قوله: رضىً نلت ما ترضين من كل ما يهوى ... فلا توقفيني موقف الذل والشكوى وصفحاً عن الجاني المسيء لنفسه ... كفاه الذي يلقاه من شدة البلوى بما بيننا من خلوة معنوية ... أرق من النجوى وأحلى نم السلوى قفي أتشكى لوعة البين ساعة ... ولا يك هذا آخر العهد بالنجوى قفي ساعة في عرصة الدار وانظري ... إلى عاشق ما يستفيق من البلوى وكم قد سألت الريح شوقاً إليكم ... فما حن مسراها علي ولا ألوى فيا ريح حتى أنت ممن يغار بي ... ويا نجد حتى أنت تهوى الذي أهوى خلقت ولي قلب جليد على النوى ... ولكن على فقد الأحبة لا يقوى وحدث بعض من عني بأخباره، أيام مقامه بمالقة واستقراره، انه لقي بباب الملعب من أبوابها من ظبيات الإنس، وقينة من قينات هذا الجنس، فخطب وصالها، واتقى بفؤاده نصالها، حتى همت بالانقياد، وانعطفت الغصن

_ (1) ترجمته في نيل الابتهاج: 237 ورحلة البلوي (الورقة: 22) والدرر 4: 226 (ط. القاهرة) . (2) ق: ومبرة.

المياد، فأبقى على نفسه وأمسك، وأنف من خلع العذار بعدما تنسك، وقال: لم أنس وقفتنا بباب الملعب ... بين الرجا واليأس من متجنب وعدت فكنت مراقباً لحديثها ... يا ذل وقفة خائف مترقب وتدللت فذللت بعد تعزز ... يأتي الغرام ك أمر معجب بدوية أبدى الجمال بوجهها ... ما شئت من خد شريق مذهب تدنو وتبعد نفرة وتجنياً ... فتكاد تحسبها مهاة الربرب ورنت بلحظ فاتن لك فاتر ... أنضى وأمضى من حسام المضرب وأرتك بابل سحرها بجفونها ... فست، وحق لمثلها أن تستبي وتضاحكت فحكت بنير ثغرها ... لمعان نور ضياء برق خلب بمنظم في عقد سمطي جوهر ... عن شبه نور الأقحوان الأشنب وتمايلت كالغصن أخضله الندى ... ريان من ماء الشبيبة مخصب تثنيه أرواح الصبابة والصبا ... فتراه بين مشرق ومغرب أبت الروادف أن تميل بميله ... فرست وجال كأنه في لولب متتوجاً بهلال وجه لاح في ... خلل السحاب لحاجب ومحجب يا من رأى فيها محباً مغرماً ... لم ينقلب إلا بقلب قلب ما زال مذ ولى يحاول حيلة ... تدنيه من نيل المنى والمطلب فأجال نار الفكر حتى أوقدت ... في القلب نار تشوق وتلهب فتلاقت الأرواح قبل جسومها ... وكذا البسيط يكون قبل مركب وقال: أرى لك يا قلبي بقلبي محبة ... بعثت بها سري إليك رسولا فقابله بالبشرى، وأقبل عشية ... فقد هب مسكي النسيم عليلا ولا تعتذر بالقطر أوبلل الندى ... فأحسن ما يأتي النسيم بليلا

توفي عام أربعين وسبعمائة بتونس، رحمه الله تعالى؛ انتهى. 54 - وقال في الإكليل في ترجمة أبي عبد الله محمد بن علي بن عمر العبدري التونسي الشاطبي الأصل (1) ، ما نصه: غذي نعمة هامية، وقريع رتبة سامية، صرفت إلى سلفه الوجوه، ولم يبق من إفريقية إلا من يخافه ويرجوه، وبلغ هومدة ذلك الشرف، الغاية من الترف، ثم قلب الدهر هـ ظهر المجن، واشتد به الخمار عند فراغ الدن، ولحق صاحبنا هذا بالمشرق بعد خطوب مبيرة، وشدة كبيرة، فامتزج بسكانه وقطانه، ونال من اللذات به ما لم ينله في أوطانه، واكتسب الشمائل العذاب، وكان كابن الجهم بعث إلى الرصافة ليرق فذاب، ثم حوم على وطنه تحويم الطائر، وألم بهذه البلاد إلمام الخيال الزائر، فاغتنمت صفقة وده لحين وروده، وخطبت موالاته على انقباضه وشروده، فحصلت منه على درة تقتنى، وحديقة طيبة الجنى، أنشدني في أصحاب له بمصر قاموا ببره: لكل أناس مذهب وسجية ... ومذهب أولاد النظام المكارم إذا كنت فيهم ثاوياً كنت سيداً ... وإن غبت عنهم لم تنلك المظالم أولئك صحبي لا عدمت حياتهم، ... ولا عدموا السعد الذي هو دائم أغني بذكراهم وطيب حديثهم ... كما غردت فوق الغصون الحمائم وقال: أحبتنا بمصر لو رأيتم ... بكائي عند أطراف النهار أكنتم تشفقون لفرط وجدي ... وما ألقاه من بعد الديار 55 - وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي القاسم محمد بن أبي زكريا يحيى ابن أبي طالب عبد الله بن محمد بن أحمد العزفي السبتي (2) ما صورته: فرع تأود من الرياسة في دوحة، وتردد بين غدوة في المجد وروحة، نشأ والرياسة العزفية

_ (1) ترجمته في الدرر 4: 198 (ط. القاهرة) . (2) الدرر: 52.

تعله وتنهله، والدهر ييسر أمله الأقصى ويسهله، حتى اتسقت أسباب سعده، وانتهت إليه رياسة سلفه من بعده، فألقت إليه رحالها وحطت، ومتعته بقربها بعدما شطت، ثم كلح هـ الدهر بعدما تبسم، وعاد زعزعاً نسيمه الذي كان يتنسم، وعاق هلاله عن تمه، ما كان من تغلب ابن عمه، واستقر بهذه البلاد نازح الدار، بحكم الأقدار، وإن كان نبيه المكانة والمقدار، وجرت عليه جرارية واسعة، ورعاية متتابعة، وله أدب كالروض باكرته الغمائم، والزهر تفتحت عنه الكمائم، رفع منه راية خافقة، وأقام له سوقاً نافقة، وعلى تدفق أنهاره، وكثرة نظمه وشاتهاره، فلم أظفر منه إلا باليسير التافه، بد انصرافه؛ انتهى. 56 - وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المكودي الفاسي ما نصه: شاعر لا يتقاصى ميدانه، ومرعى بيان رف غضاه وأينع سعدانه، يدعوالكلام فيهطع لداعيه، ويسعى في اجتلاب المعاني فتنجح مساعيه، غير انه أفرط في الانهماك، وهوى إلى السمكة من أوج السماك، قدم على هذه البلاد مفلتاً من رهق تلمسان حين الحصار، صفر اليمين واليسار من اليسار، فل هوى أنحى على طريفه وتلاده، وأخرجه من بالده، ولما جد به البين، وحل هذه البلدة بحال تقتحمها العين، والسيف بهزته لا بحسن بزته، دعوناه إلى ملس أعاره البدر هالته، وخلع عليه الأصيل غلالته، وروض تفتح كمامه، وهمى عليه غمامه، وكاس أنس تدور، فتتلقى نجومها البدور، فلما ذهبت المؤانسة بخجله، وتذكر هواه ويوم نواه حتى خفنا حلول أجله، جذبنا للمؤانسة زمامه، واستسقينا منه غمامه، فامتع واحسب، ونظر ونسب، وتكلم في المسائل، وحاضر بطرف الأبيات وعيون الرسائل، حتى نشر الصباح رايته، وأطلع النهار آيته، فمما نسبه إلى نفسه وأنشدناه قوله: غرامي جل عن القياس ... وقد سقيتينيه بكل كاس ولا أنسى هواك ولو جفاني ... عليك أقاربي طراً وناسي

ولا أدري لنفسي من كمال ... سوى أني لعهدك غير ناسي وقال: بعثت بخمر فيه ماء وإنما ... بعثت بماء فيه رائحة الخمر فقل عليه الشكر إذ قل سكرنا ... فنحن بلا سكر، وأنت بلا شكر 57 - وقال لسان الدين رحمه الله تعالى في ترجمة أبي عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن بيبش العبدري الغرناطي (1) ما صورته: معلم مدرب، مسهل مقرب، له في صنعة العربية باع مديد، وفي هدفها سهم سديد، ومشاركة في الأدب لا يفارقها تسديد، خاصي المنازع مختصرها، مرتب الأحوال مقررها، تميز أول وقته بالتجارة في الكتب فسلطت منه عليها أرضة آكلة، وسهم أصاب من رميتها الشاكلة، أثرى بسببها وأترب، وأغنى جهة وأفقر أخرى، وانتقل لهذا العهد الأخير إلى سكنى مسقط رأسه، ومنبت غرسه، وجرت عليه جراية من أحباسها، ووقع قبول من ناسها، وبها تلاحق به الحمام، فكان من ترابها البداية وإليها التمام، وله شعر لم يقصر فيه عن المدى، وأدب توشح بالإجادة وارتدى، أنشدني بسبتة تاسع جمادى الأولى عام اثنين وخمسين وسبعمائة يجيب عن بيتي ابن العفيف التلمساني: يا ساكناً قلبي المعنى ... وليس فيه سواك ثاني لأي معنىً كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان فقال: نحلتني طائعاً فؤاداً ... فصار إذ حزته مكاني لا غروإذ كان لي مضافاً ... أني على الكسر فيه باني وقال يخاطب الشريف أبا العباس وأهدى أقلاماً:

_ (1) انظر أيضاً ترجمته في الكتيبة: 90 وبغية الوعاة: 100 والدرر 4: 358 (ط. القاهرة) وراجع ما تقدم في النفح 5: 384.

أناملك الغر التي سيب جودها ... يفيض كفيض المزن بالصيب القطر أتتني منها تحفة مثل حدها ... إذا انتضيت كانت كمرهفة السمر هي الصفر لكن تعلم البيض أنها ... محكمة فيها على النفع والضر مهذبة الأوصال ممشوقة كما ... تصوغ سهام الرمي من خالص (1) التبر فقبلتها عشراً ومثلت أنني ... ظفرت بلثم في أناملك العشر وقال في ترتيب حروف الصحاح: أساجعة بالواديين تبوئي ... ثماراً جنتها حاليات خواضب دعي ذكر روض زاره سقي شربه ... صباح ضحى طير ظماء عواصب غرام فؤادي قاذف كل ليلة ... متى ما نأى وهناً هواه يراقب مولده في حدود ثمانين وستمائة، وتوفي بغرناطة في رجب عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة؛ انتهى. قلت: رأيت بخط الجلال السيوطي على هامش جوابه عن بيتي ابن العفيف التلمساني ما صورته: قلت: في هذا البيت تصريح بأن المضاف إلى الياء مبني على الكسر، وهورأي مرجوح عند النحاة، ذهب إليه الجرجاني، والصحيح أنه معرب، على أن ذاك لا يحتاج إلى جواب كما يظهر بالتأمل، قاله عبد الرحمن السيوطي؛ انتهى، ويعني بذلك أن الساكنين إنما يكسر أحدهما، لا محلهما، والله سبحانه أعلم. 58 - وقال لسان الدين في الإكليل في ترجمة أبي عبد الله محمد بن هانئ اللخمي السبتي، وأصله من إشبيلية، ما صورته: علم تشير إليه الأكف، ويعمل (2) إلى لقائه الحافر والخف، رفع للعربية ببلده راية لا تتأخر، ومرج

_ (1) الكتيبة: أو خالص. (2) الإحاطة: وينتقل.

منها لجة تزخر، فانفسح مجال درسه، وأثمرت أنواع غرسه، فركض ما شاء ومرح، ودون وشرح، إلى شمائل يملك الظرف زمامها، ودعابة راشت الحلاوة سهامها، ولما أخذ المسلمون في منازلة الجبل وحصاره، وأصابوا الكفر منه بجارحة إبصاره، ورموا بالثكل فيه نازح أمصاره، كان ممن انتدب وتطوع، ومسع النداء فأهطع، فلازمه إلى أن نفذ لأهله القوت، وبلغ من فسحة الأجل الموقوت، فأقام الصلاة بمحرابه، وحياه وقد غير محياه طول اغترابه، وبادره الطاغية قبل أن يستقر نصل الإسام في قرابه، أويعلق أصل الدين في ترابه، وانتدب إلى الحصار ربه وتدرع، ودعاه أجله فلبى وأسرع، ولما هدر عليه الفنيق، وركع إلى قبلة المنجنيق، أصيب بحجر دوم عليه كالجارح المحلق، وانقض إليه انقضاض البارق المتألق، فاقتنصه واختطفه، وعمد إلى زهره فاقتطفه، فمضى إلى الله تعالى طوع نيته، وصحبته غرابة المنازع حتى في أمنيته؛ انتهى. وقد جود ترجمته في " الإحاطة " (1) وقال: إنه ألف كتباً منها شرح تسهيل الفوائد لابن مالك، مبدع تنافس الناس فيه، وكتاب الغرة الطالعة في شعراء المائة السابعة، وكتاب إنشاد الضوال وإرشاد السؤال في لحن العامة، وهومفيد، وكتاب " قوت المقيم " (2) ودون ترسيل أبي المطرف ابن عميرة وضمه في سفرين، وله جزء في الفرائض، وحدثني شيخنا الشريف القاضي أبوالقاسم قال: خاطبت ابن هانئ بقصيدة من نظمي أولها: هات الحديث عن الركب الذي شخصا ... فأجابني بقصيدة على رويها، أولها: لولا مشيب بفودي للفؤاد عصى ... أنضيت في مهمه التشبيب لي قلصا

_ (1) ترجمته في الورقة: 60 وقد نقل فيها ما قاله في الإكليل. (2) وكتاب.... المقيم: سقط هذا من الإحاطة.

واستوقفت عبراتي وهي جارية ... وكفاء توهم ربعاً للحبيب قصا مسائلاً عن لياليه التي انتهزت ... أيدي الأماني بها ما شئته فرصا وكنت جاريت فيه من جرى طلقاً ... من الإجادة لم يجمع ولا نكصا أصاب شاكلة المرمى حين رمى ... من الشوارد ما لولاه ما اقتنصا ومن أعد مكان النبل نبل حجىً ... لم يرض إلا بأبكار النهى قنصا ثم انثنى ثانياً عطف النسيب إلى ... مدح به قد غلا ما كان قد رخصا فظلت أرفل فيها لبسة شرفت ... ذاتاً ومنتسباً أعزز بها قمصا يقول فيها وقد خولت منحتها ... وجرع الكاشح المغرى بها عصصا هذي عقائل وافت منك ذا شرف ... لولا أياديه بيع الحمد مرتخصا فقلت هلا عكست القول منك له ... ولم يكن قابلاً في مدحه الرخصا وقلت ذي بكر فكر من أخي شرف ... يردي ويرضي بها الحساد والخلصا لها حلىً حسنيات على حلل ... حسنية تستبي من حل أو شخصا خولتها وقد اعتزت ملابسها ... بالبخت ينقاد للإنسان ما عوصا خذها أبا قاسم مني نتيجة ذي ... ود إذا شئت ودا للورى خلصا جاءت تجاوب عما قد بعثت به ... إن كنت تأخذ من در النحور حصى وهي طويلة: ومما ينسب إليه: ما للنوى مدت لغير ضرورة ... ولقبل ما عهدي بها مقصوره إن الخليل وإن دعته ضرورة ... لم يرض ذاك فكيف دون ضروره وقال مضمناً للثاني: لا تلمني عاذلي (1) حين ترى ... وجه من أهوى فلومي مستحيل

_ (1) الإحاطة: خلني يا عاذلي.

لو رأى وجه حبيبي عاذلي ... لتفارقنا على وجه جميل وأجاب الشريف المذكور عن قصيدة مهموزة بقوله: يا أوحد الأدباء أويا أوحد ال ... فضلاء أو يا أوحد الشرفاء من ذا تراه منك إذا التوت ... طرق الحجاج بأن يجيب ندائي أدب أرق من الهواء وإن تشا ... فمن الهوا والماء والصهباء وألذ من ظلم الحبيب وظلمه ... بالظاء مفتوحاً وضم الظاء ما السحر إلا ما تصوغ بنانه ... ولسانه من حلية الإنشاء وهي طويلة يقول فيها بعد جملة أبيات: لله نفثة سحر ما قد شدت لي ... من نفث سحرك في مشاد ثناء عارضت صفواناً بها فأريت (1) ما ... يستعظم الراوي لها والراثي لو راء لؤلؤك المنظم لم يفز ... من نظم لؤلؤه بغير عناء بوأتني منها أجل مبوإ ... فلأخمصي مستوطئ الجوزاء وسما بها اسمي سائراً فأنا بما ... أسديت ذو الأسماء في الأسماء وأشدت ذكري في البلاد فلي بها ... طول الثناء وإن أطلت ثوائي ولقومي الفخر المشيد بنيته ... يا حسن تشييد وحسن بناء فليهن هانيهم (2) يد بيضاء ما ... إن مثلها لك من يد بيضاء حليت أبياتاً له لخمية ... تجلى على مضرية غراء فليشمخوا أنفاً بما أوليتهم ... يا محرز الآلاء بالإيلاء ووصلها بنثر نصه: هذا بني - وصل اله سبحانه لك ولي بك علوالمقدار،

_ (1) ق: فأرتك. (2) ق: فلتهنها بهم.

وأجرى وفق إرادتك وإرادتي لك جاريات الأقدار - ما سنح به الذهن الكليل، واللسان الفليل، في مراجعة قصيدتك الغراء، الجالبة السراء، الآخذة بمجامع القلوب، الموفية بجوامع المطلوب، الحسنة المهيع والأسلوب، الكتحلية بالحلى السنية، العريقة المنتسب في العلا الحسنية، الجالية لصدإ القلوب ران عليها الكسل، وخانها المسعدان السؤل والأمل، فمتى حامت المعاني حولها، ولوأقامت حولها، شكت ويلها وعولها، وحرمت من فريضة الفضيلة عولها، وعهدي بها والزمان زمان، وأحكامها الماضية أماني مقضية وأمان، تتوارد ألافها، ويجمع إجماعها وخلافها، ويساعدها من الألفاظ كل سهل ممتنع، مفترق مجتمع، مستأنس غريب، بعيد الغور قريب، فاضح الحلى، واضح العلا، وضاح الغرة والجبين، رافع عمود الصبح المبين، أيد من الفصاحة بأياد، فلم يحفل بصاحبي طيئ وإياد، وكسي (1) نصاعة البلاغة، فلم يعبأ بهمام وابن المراغة، شفاء المحزون، وعلم سر المحزون، ما بين منثوره والموزون، والآن لا ملهج ولا مبهج، ولا مرشد ولا منهج، عكست القضايا فلم تنتج، فتبلد القلب الذكي، ولم يرشح القلم الزكي، وعم الإفحام وغم الإحجام، وتمكن الإكداء والجبال، وكورت الشمس وسيرت الجبال، وعلت سآمة، وغلبت ندامة، وارتفعت ملامة، وقامت لنوعي الأدرب قيامة، حتى إذا ورد ذلك المهرق، وفرع غصنه المورق، وتغنى به الحمام الأورق، وأحاط بعداد عداته الغصص والشرق، وأمن من ذلك الغصب والسرق، وأقبل الامن وذهب لإقباله الفرق، نفخ في صور أهل المنظوم والمنثور، وبعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، وتراءت للأدب صور، وعمرت ببلاغة كور، وهممت لليراعة درر، ونظمت البراعة درر، وعندها تبين أنك واحد حلبة البيان، والسابق في ذلك الميدان يوم البرهان، فكان لك القدم، وأقر لك مع التأخر السابق الأقدم، فوحق نصاعة ألفاظ أجدتها حين أورتها، وأسلتها

_ (1) ق: ونسي.

حين أرسلتها، وأزنتها حين وزنتها، وبراعة معان سلكتها حين ملكتها، وأرويتها حين رويتها أو رويتها (1) ، وأصلتها حين فصلتها أووصلتها، ونظام جعلته بجسد البيان قلباً، ولمعصمه قلباً، وهصرت حدائقه غلباً، وارتكبت رويه صعباً (2) ، ونثار أتبعته له خديماً، وصيرته لمدير كأسه نديماً، ولحفظه ذمامه المدامي أومدامه الذمامي مديماً، لقد فتنتني حين أتتني، وسبتني حين اطبتني، فذهبت خفتها بوقاري، ولم يرعها بعد شيب عذاري، بل دعت للتصابي فقلت مرحبا، وحلت لفتنتها الحبا، ولم أحفل بشيب، وألفيت ما رد تصابي نصيب (3) ، وإن كنا فرسان رهان، وسابقي حلبة ميدان، غير أن الجلدة بيضاء، والمرجوالإغضاء بل الإرضاء، بني كيف رأيت لبيان هذا الطوع، والخروج فيه من نوع إلى نوع أين صفوان بن إدريس، ومحل دعواه بين رحلة وتعريس كم بين ثغاء بقر الفلاة وبين اليث ذي الفريس كما أني أعلم قطعاً علماً، وأحكم مضاء وأمضي حكماً، أنه لونظر إلى قصيدتك الرائقة، وفريدتك الحالية الفائقة، المعارضة بها قصيدته، المنتسخة بها فريدته، لذهب عرضاً وطولاً، ثم اعتقد لك اليد الطولى، وأقر فارتفع النزاع، وذهبت له تلك العلاقات والأطماع، ونسي كلمته اللؤلؤية، ورجع عن دعواه الأدبية، واستغفر ربه من تلك الألية. بني وهذا من ذلك الجري في تلك المسالك، والتبسط في تلك المآخذ والمتارك، أينزع غيري هذا المنزع أم المرء بنفسه وابنه مولع حيا الله الأدب وبنيه، وأعاد علينا من أيامه وسنيه، ما أعلى منازعه، وأكبى منازعه، وأجل مآخذه، وأجهل تاركه وأعلم آخذه، وأرق طباعه، وأحق أشياعه وأتباعه، وأبعد طريقه، وأسعد فريقه، وأقوم نهجه، وأوثق نسجه، وأسمج ألفاظه، وافصح عكاظه، وأصدق معانيه وألفاظه، وأحمد نظامه ونثاره،

_ (1) حين.... رويتها: سقطت من ق. (2) أشار إلى صعوبة القافية، وإن كانت همزية، وهي غير صعبة. (3) يشير إلى قول نصيب (الأغاني 16: 109: ولولا أن يقال صبا نصيب ... لقلت بنفسي النشء الصغار

وأغنى شعاره ودثاره، فعائبه مطرود، وعاتبه مصفود، وجاهله محصود، وعالمه محسود، غير أن الإحسان فيه قليل، ولطريق الإصابة فيه علم ودليل، من ظفر بهما وصل، وعلى الغاية القصوى منه حصل، ومن نكب عن الطريق (1) ، لم يعد من ذلك الفريق، فليهنك أيها الابن الذكي، البر الذكي، الحبيب الحفي، الصفي الوفي، أنك حامل رايته، وواصل غايته، ليس أولوه وآخروه لذلك بمنكرين، ولا تجد اكثرهم شاكرين، ولولا أن يطول الكتاب، وينحرف الشعراء والكتاب، فاضت ينابيع هذا الفضل فيضاً، وخرجت إلى نوع آخر من البلاغة أيضاً، قرت عيون أودائك، وملئت غيظاً صدور أعدائك، ورقيت درج الآمال، ووقيت عين الكمال، وحفظ منصبك العالي، بفضل ربك الكبير المتعالي، والسلام الأتم الأنم الأكمل الأعم، يخصك به من طال في مدحه إرقالك وإغذاذك، وراد روض حمدك وابلك وطلك ورذاذك، وغدت مصالح سعيه في سعي مصالحك، وسينفعك بحول الله وقوته وفضله ومنته معاذك، ووسمت نفسك بتلميذه فسمت نفسه بأنه أستاذك، ابن هانئ، ورحمة الله تعالى وبركاته. ً صدور أعدائك، ورقيت درج الآمال، ووقيت عين الكمال، وحفظ منصبك العالي، بفضل ربك الكبير المتعالي، والسلام الأتم الأنم الأكمل الأعم، يخصك به من طال في مدحه إرقالك وإغذاذك، وراد روض حمدك وابلك وطلك ورذاذك، وغدت مصالح سعيه في سعي مصالحك، وسينفعك بحول الله وقوته وفضله ومنته معاذك، ووسمت نفسك بتلميذه فسمت نفسه بأنه أستاذك، ابن هانئ، ورحمة الله تعالى وبركاته. وكانت وفاته شهادة في أواخر ذي القعدة عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، ورثاه شيخنا أبوالقاسم الحسني بقصيدة أثبتت في اسمه منها: سقى الله بالخضراء أشلاء سؤود ... تضمنهن الترب صوب الغمائم ورثاه شيخنا أبوبكر ابن شبرين فقال: قد كان ما قال البريد ... فاصبر فحزنك لا يفيد أودى ابن هانئ الرضى ... فاعتادني للثكل عيد بحر العلوم وصدرها ... وعميدها إذ لا عميد

_ (1) ق: طريق.

قد كان زيناً للوجو ... د ففيه قد فجع الوجود العلم والتحقيق والت ... وفيق والحسب التليد تندى خلائقه فقل ... فيها هي الروض المجود مغض عن الإخوان لا ... جهم اللقاء ولا كنود أودى شهيداً باذلاً ... مجهوده، ونعم الشهيد لم أنسه حين المعا ... رف باسمه فينا تشيد وله صبوب في طلا ... ب العلم يتلوه صعود لله وقت كان ين ... ظمنا كما نظم الفريد أيام نغدو أو نرو ... ح وسعينا السعي الحميد وإذا المشيخة جثم ... هضبات حلم لا تميد ومرادنا جم النبا ... ت وعيشنا خضر برود لهفي على الإخوان وال ... أتراب كلهم فقيد لو جئت أوطاني لأن ... كرني التهائم النجود ولراع نفسي شيب من ... غادرته وهو الوليد ولطفت ما بين اللحو ... د وقد تكاثرت اللحود سرعان ما عاث الحما ... م ونحن أيقاظ هجود كم رمت إعمال المسي ... ر فقيدت عزمي قيود والآن أخلفت العو ... د، واخلقت تلك البرود ما لفتى ما يبتغي ... فالله يفعل ما يريد أعلى القديم الملك يا ... ويلاه يعترض العبيد يا بين قد طال أمدي ... أبرق وأرعد يا يزيد (1)

_ (1) أخذه من قول الكميت: أرعد وأبرق يا يزي ... د فما وعيدك لي بضائر

ولكل شيء غاية ... ولربما لان الحديد إيه أبا عبد الإل ... هـ ودوننا مرمى بعيد أين الرسائل منك تأ ... تينا كما نسق العقود أين الرسوم الصالحا ... ت تصرمت أين العهود (1) أنعم مساء لا تخطي ... ك البشائر والسعود واقدم على دار الرضى ... حيث الإقامة والخلود والق الأحبة حيث دا ... ر الملك والقصر المشيد حتى الشهادة لم تفت ... ك فنجمك النجم السعيد لا تبعدن وعداً لو أن ... البدء في الدنيا يعود فلئن بليت فإن ذك ... رك في الدنا غض جديد تالله لا تنساك أن ... دية العلا ما اخضر عود وإذا تسومح في الحقو ... ق فحقك الحق الأكيد جادت صداك غمامة ... يرمي بها ذاك الصعيد وتعهدتك من المهي ... من رحمة أبداً وجود وقوله أول هذه الرسالة عارضت صفوان بها، إلى آخره يعني بذلك همزية صفوان بن إدريس المشهورة بين أدباء المغرب، ولنذكرها إفادة للغرض، وهي: جاد الربى من بانة الجرعاء ... نوءان من دمعي وغيم سماء فالدمع يقضي عندها حق الهوى ... والغيم حق البانة الغناء خلت الصدور من القلوب كما خلت ... تلك المقاصر من مهاً وظباء ولقد أقول لصاحبي وإنما ... ذخر الصديق لآكد الأشياء يا صاحبي ولا أقل إذا أنا ... ناديت من أن تصغيا لندائي

_ (1) ق: العقود.

عوجا نجاري الغيث في سقي الحمى ... حتى يرى كيف انسكاب الماء ونسن في سقي المنازل سنة ... نمضي بها حكماً على الظرفاء يا منزلاً نشطت إليه عبرتي ... حتى تبسم زهره لبكائي ما كنت قبل مزار ربعك عالماً ... أن المدامع أصدق الأنواء يا ليت شعري، والزمان تنقل ... والدهر ناسخ شدة برخاء هل نلتقي في روضة موشية ... خفاقة الأغصان والأفياء وننال فيها من تألفنا ولو ... ما فيه سخنة أعين الرقباء في حيث أتلعت الغصون سوالفاً ... قد قلدت بلآلئ الأنداء وبدت ثغور الياسمين فقبلت ... عني عذار الآسة الميساء والورد في شط الخليج كأنه ... رمد ألم بمقلة زرقاء وكأن غض الزهر في خضر الربى ... زهر النجوم تلوح بالخضراء وكأنما جاء النسيم مبشراً ... للروض يخبره بطول بقاء فكساه خلعة طيبه ورمى له ... بدراهم الأزهار رمي سخاء وكأنما احتققر الصنيع فبادرت ... للعذر عنه نغمة الورقاء والغصن يرقص في حلى أوراقه ... كالخود في موشية خضراء وافتر ثغر الأقحوان بما رأى ... طرباً وقهقه منه جري الماء أفديه من أنس تصرم فانقضى ... فكأنه قد كان في الإغفاء لم يبق منه غير ذكرى أو منىً ... وكلاهما سبب لطول عناء أو رقعة من صاحب هي تحفة ... إن الرقاع لتحفة النبهاء كبطاقة الوشقي إذ حيا بها ... إن الكتاب تحية الخلطاء ما كنت ادري قبل فض ختامها ... أن البطائق أكؤس الصهباء حتى ثنيت معاطفي طرباً بها ... وجررت أذيالي من الخيلاء فجعلت ذاك الطرس كأس مدامة ... وجعلت مهديه من الندماء وعجبت من خل يعاطي خله ... كأساً وراء البحر والبيداء

رجع:

ورأيت رونق خطها في حسنها ... كالوشي نمق معصم الحسناء فوحقها من تسع آيات لقد ... جاءت بتأييدي على أعدائي فكأنني موسى بها، وكأنها ... تفسير ما في سورة الإسراء لو جاء فكر ابن الحسين بمثلها ... صحت نبوته لدى الشعراء سوداء إذ أبصرتها لكنها ... كم تحتها لك من يد بيضاء ولقد رأيت وقد تأوبني الكرى ... في حيث شابت لمة الظلماء أن السماء أتى إلي رسولها ... بهدية ضاءت بها أرجائي بالفرقدين وبالثريا أدرجا ... في الطي من كافورة بيضاء فكفى بذاك الطرس من كافورة ... وبنظم شعرك من نجوم سماء قسماً بها وبنظمها وبنثرها ... لقد انتحتني ملء عين رجائي وعلمت أنك أنت في إبداعها ... لفظاً وخطاً معجز النبلاء لا ما تعاطت بابل من سحرها ... لا ما ادعاه الوشي من صنعاء ولقد رميت لها القياد وإنها ... لقضية أعيت على البلغاء وطلبت من فكري الجواب فعقني ... وكبا بكف الذهن زند ذكائي فلذا تركت عروضها ورويها ... وهجرت فيها سنة الأدباء ويعثتها ألفية همزية ... خدعاً لفكر جامع إيبائي علمت بقدرك في المعارف فانبرت ... من خجلة تمشي على استحياء انتهت القصيدة، ومن خط ناظمها صفوان نقلتها. رجع: 59 - وقال لسان الدين رحمه الله تعالى في ترجمة أبي محمد عبد الله بن إبراهيم بن عبد اله الأزدي في التاج ما صورته: طويل القوادم والخوافي، كلف على كبر سنه بعقائل القوافي، شاب في الأدب وشب، ونشق ريح البيان لما هب، فحاول رقيقه وجزله، وأجاد جده وأحكم هزله، فإن مدح

صدح، وإن وصف، أنصف، وإن عصف، قصف، وإن أنشأ ودون، وتقلب في أفانين البلاغة وتلون، أفسد ما شاء الله وكون، فهوشيخ الطريقة الأدبية وفتاها، وخطيب حفلها كلما أتاها، لا يتوقف عليه من أغراضها غرض، ولا يضيع لديه منها مفترض، ولم تزل بروقه تتألق، ومعانيه بأذيال الإحسان تتعلق، حتى برز في إبطال الكلام وفرسانه، وذعرت القلوب بسطوة لسانه، وألقت إليه الصناعة زمانها، ووقفت عليه أحكامها، وعبر البحر منتجعاً بشعره، ومنفقاً في سوق الكساد من سعره، فأبرق وأرعد، وحذر وأوعد، وبلغ جهد إمكانه، في التعريف بمكانه، فما حرك ولا هز، وذل في طلب الرفد وقد عز، وما برح أن رجع إلى وطنه الذي اعتاده، رجوع الحديث إلى قتادة، وقد أثبت من نزعاته، وبعض مختراعاته، ما يدل على سعة باعه، ونهضة ذراعه، فمن النسيب قوله: ما للمحب دواء يذهب الألما ... عنه سوى لمم فيه ارتشاف لمى ولا يرد عليه نوم مقلته ... إلا الدنوإلى من شفه سقما يا حاكماً والهوى فينا يؤيده ... هواك في بما ترضاه قد حكما ثم سردها. وقال في المديح: إليك جد بي التسيار تأميلا ... فلي على فضلك المأمول تعويلا الحمد لله حمداً لا كفاء له ... بسعد أيامك المأمول قد نيلا يا راغباً مرتجاه دفع معضلة ... فصبره بصروف الدهر قد عيلا ألمم بحضرة ملك كل مفتخر ... بالملك يويه بالتعظيم ترسيلا فرع من الدوحة النصرية اجتمعت ... فيه الفضائل تتميماً وتكميلا لديه مما لدى الصديق تسمية ... وميسم وكفاه ذاك تفضيلا وهي طويلة؛ انتهى.

60 - وقال لسان الدين في " الإكليل " في ترجمة أبي الحسن علي بن إبراهيم ابن علي بن خطاب السكاك من أهل غرناطة، ما صورته: متسور على بيوت القريض، في الطويل من الكلام والعريض، ممن أطاعته براعة الخط، وسلمت لأقلامه رماح الخط، عانى كتابة الشروط لأول أمره، ثم ألظت به محنته على توفر خصاله، ونبل خلاله، وهوالآن من كتاب ديوان الحساب، يتعلل من الأمور المخزنية ببعض الألقاب؛ انتهى. 61 - وقال في " التاج " في ترجمة أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الحق ابن الصباغ العقيلي الغرناطي (1) ما صورته: اللسن العارف، الناقد لجواهر المعاني كما يفعل بالسكة الصيارف، والأديب المجيد، الذي تحلى به للعصر النحروالجيد، إن أجال جياد براعته فضح فرسان المهارق، وأخجل بين بياض طرسه وسواد نقسه الطرر تحت المفارق، وإن جلا أبكار أفكاره، وأثار طير البيان من أوكاره، سلب الرحيق المقدم فضل إسكاره، إلى نفس لا يفارقها ظرف، وهمة لا يرتد إليها طرف، وإبانة لا يفل لها غرب ولا حرف، وله أدب غض، زهره على مجتنيه منقض، كتبت إليه أستنجز وعده في الإتحاف برائقه والإمتاع بزهر حدائقه، قولي: عندي لموعدك افتقار محرج ... وعهودك افتقرت إلى إنجازها والله يعلم فيك صدق مودتي ... وحقيقة الأشياء غير مجازها فأجابني بقوله: يا مهدي الدر الثمين منظماً ... كلماً حلال السحر في إيجازها أدركت حلبات الأوائل وانياً ... ورددت أولاها على أعجازها

_ (1) انظر ترجمته أيضاً في الكتيبة: 228.

أحرزت في المضماء خصل سباقها ... ولأنت أسبقهم إلى إحرازها حليت بالسمطين مني عاطلاً ... وبعثت من فكري فتاة مفازها فلأنجزن مواعدي مستعطفاً ... فاسمح، وبالإغضاء منك فجازها وقال في " الإحاطة " في حق المذكور: إنه من أهل الفضل والسراوة والرجولة والجزالة، فذ في الكفاية، ظاهر السذاجة والسلامة، مصعب لأضداده، شديد العصبية لأولي وداده، يشتمل على خلال من خط بارع وكتابة حسنة وشعر جيد ومشاركة في فقه وأدب ووثيقة ومحاضرة ممتعة، ناب عن بعض القضاة وكتب الشروط، وارتسم في ديوان الجند، وكتب عن شيخ الغزاة أبي زكريا يحيى بن عمر على عهده، ثم انصرف إلى العدوة سابع عشر جمادى الأولى من عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، فارتسم في الكتابة السلطانية منوهاً به مستعملاً في خدم مجدية بان غناؤه فيها وظفرت كفايته؛ انتهى. وقد وصفه بصاحبنا، ثم قال: ومن شعر المذكور قوله: ليت شعري، والهوى أمل ... وأماني الصب لا تقف هل لذاك الوصل مرتجع ... أو لهذا الهجر منصرف وقال: وظبي سبى بالطرف والعطف والجيد (1) ... وما حاز من غنج ولين ومن غيد أشرت إليه بالدنو مداعباً ... فقال: أيدنو الظبي من غابة الأسد وقال في مبدإ قصيدة مطولة: حديث المغاني شجون (2) ... وأوجه أيام التباعد جون

_ (1) الكتيبة: زها بالطرف ... والطلا. (2) ق: شؤون.

لحا الله أيام الفراق فكم شجت ... وغادرت الجذلان وهو حزين وحيا دياراً في ربي أغرناطة ... وإني بذاك القرب منك ضنين لأرخصت فيها نم شبابي ما غلا ... وعزمي على مال العفاف أمين خليلي لا أمر بأربعها قفا ... فعندي إلى تلك الربوع حنين ألم ترياني كلما ذر شارق ... تضاعف عندي عبرة وانين إذا لم يساعدني أخ منكما فلا ... حدت لخؤون بعد ذاك أمون أليس عجيباً في البرية من له ... إلى عهد إخوان الزمان ركون فلا تثقن من ذي وفاء بعهده ... فقد أجن السلسال وهومعين لقلبي عذر في فراق ضلوعه ... وللدمع في ترك الشؤون شؤون ومن ترك الحزم المعين فإنه ... لعان بأيدي الحادثات رهين رعى الله أيامي الوثيق ذمامها ... فإن مكاني في الوفاء مكين ولم أر مثل الدهر أما عدوه ... فحب (1) ، وأما خله فخؤون ولولا أبو عمرو وجود بنانه ... لما كان في هذا الزمان معين وقال: زار الخيال ويالها من لذة ... لكن لذات الخيال منام ما زلت ألثم مبسماً منظومه ... در ومورده الشهي مدام وأضم غصن البان من أعطافه ... وأشم مسكاً فض عنه ختام مولده عام ستة وسبعمائة، وتوفي بفاس، وقد تخلفه السلطان كاتب ولده عند توجهه لإفريقية في العشرين من رمضان عام ثمانية وخمسين وسبعمائة، رحمه الله تعالى.

_ (1) ق: فخب.

رجع:

وقد وهم لسان الدين في شهر وفاة المذكور، وإنما الصواب أنه توفي يوم الأحد ثامن شوال، فاعلم ذلك، والله سبحانه أعلم. رجع: 62 - وقال في " التاج المحلي في مساجلة القدح المعلى " وفي الإكليل الزاهر فيمن فضل عند نظم التاج من الجواهر، وغيرهما مما ثبت في حلى رؤساء الكتاب، وحاملي ألوية الآداب، في ترجمة شيخه ابن الجياب (1) ، ما نصه: صدر الصدور الجلة، وعلم أعلام هذه الملة، وشيخ الكتابة وبانيها، وهاصر أفنان البدائع وجانيها، اعتمدته الرياسة فناء بها على حبل ذراعه، واستعانت به السياسة فدارت أفلاكها على قطب من شباة يراعه، فتفيأ للعناية ظلاً ظلليلاً، وتعاقبت الدول (2) فلم تر به بديلاً، من ندب على علوة متواضع، وحبر لثدي المعارف راضع، لا تمر مذاكرة (3) في فن إلا وله فيه التبريز، ولا تعرض جواهر الكلام على محكات الأفهام إلا وكلامه الإبريز، حتى أصبح الدهر راوياً لإحسانه وناطقاً بلسانه، وغرب ذكره وشرق، وأشأم وأعرق، وتجاوز البحر الأخضر والخليج الأزرق، إلى نفس هذبت الآداب شمائلها، وجادت الرياضة خمائلها، ومراقبة لربه، واستنشاق لروح الله من مهبه، ودين لا يعجم عوده، ولا تخلف وعوده، وكل ما ظهر علينا معشر بينه من شارة تجلى بها العين، أوإشارة كما سبك اللجين، فهي إليه منسوبة، وفي حسناته محسوبة، فإنما هي أنفس راضها بآدابه، وأعلقها بأهدابه، وهذب طباعها، كالشمس تلقي على النجوم شعاعها، والصور الجميلة، تترك في الأجسام الصقيلة انطباعها، وما عسى أن أقول

_ (1) انظر المجلد 5: 434. (2) الكتيبة: دول العدل. (3) الكتيبة: لا يمر الكلام.

في إمام الأئمة، ونور الدياجي المدلهمة، والمثل السائر في بعد الصيت، وعلو الهمة، وقد أثبت من عيون قصائده، وأدبه الذي علق الإحسان في مصايده، كل وثيق المعنى، كريم المجنى جامع بين حصافة اللفظ ولطافة المعنى؛ انتهى. والمذكور له ترجمة في هذا الكتاب في باب مشيخة لسان الدين فلنتراجع. 63 - وقال في الإكليل في حق عمر بن علي بن غفرون الكلبي من أهل منتفريد (1) ما صورته: شيخ خدم، قام له الدهر فيها على قدم، وصاحب تعريض، ودهاء عريض، وفائز من الدول النصرية بأياد بيض، أصله من حصن منتفريد، خدم به الدولة النصرية عند انتزاء أهله، وكان ممن استنزلهم من حزنه إلى سهله، وحكم الأمر الغالبي في يافعه وكهله، فكسب حظوة أرضته، ووسيلة أرهفته وأمضته، حتى عظم جاهه وماله، وبسقت آماله، ثم دالت الدول، وتنكرت أيامه الأول، وتغلب من يجانسه، وشقي بمن كان ينافسه، فجف عوده، والتاثت سعوده، وهلك والخمول يظله، والدهر يقوته من صبابة حرث كان يستغله، وله شعر لم يتقنه النظر، ولا وضحت منه الغرر، توفي في ذي الحجة عام أربعة وأربعين وسبعمائة؛ انتهى. 64 - وقال في الإكليل في حق قاسم بن محمد بن الجد الفهري المري ما صورته: هومن أئمة أهل الزمام، خليق برعي الذمام، ذوحظ كما تفتح زهر الكمام، وأخلاق أعذب من ماء الغمام، كان ببلده حاسباً، ودراً في لجة الإغفال راسباً، صحيح العمل، يلبس الطروس من براعته أسنى الحلل، قال يمدح السلطان: أرى أوجه الأيام قد أشرقت بشرا ... فقل لي رعاك الله ما هذه البشرى وما بال أنفاس الخزامى تعطرت ... فأرجت الأرجاء من نفحها عطرا

_ (1) ق: منقرير؛ ومنتفريد (Montefrio) تقع شمال مدينة لوشة واسمها القديم (Mons Frihidus) .

ونقبت الشمس المنيرة وجهها ... قصوراً عن الوجه الذي أخجل البدرا وهي طويلة، توفي المذكور عام خمسين وسبعمائة بالطاعون. 65 - وقال في " الإكليل " في حق أبي عثمان سعيد الغساني ما صورته: هوممن يتشوق إلى المعرفة والمقالات، ويتسق إلى الحقائق والمحالات، ويشتمل على نفس رقيقة، ويسير من تعليم القرآن على خير طريقة، ويعاني من الشعر ما يشهد بنبله، ويستظرف من مثله؛ انتهى. 66 - وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي الحجاج يوسف بن علي الطرطوشي (1) ما صورته: روض أدب لا تعرف الذواء أزهاره، ومجموع فضل لا تخفى آثاره، كان في فنون الأدب مطلق الأعنة، وفي معاركه ماضي الظبى والأسنة، فإن هزل، وإلى تلك الطريقة اعتزل، أبرم من الغزل ما غزل، وبزل من دنان راحه ما بزل، وإن صرف إلى المغرب غرب لسانه، وأعاره لمحة من إحسانه، أطاعه عاصيه، واستجمعت لديه أقاصيه، ورد على الحضرة الأندلسية والدنيا شابة، وريح القبول هابة، فاجتلى محاسن أوطانها، وكتب عن سلطانها، ثم كر إلى أوطانه وعطف، وأسرع اللحاق كالبارق إذا خطف، وتوفي عن سن علية، وبرود من العمر غالية. 67 - وقال في ترجمة أبي عبد الله محمد بن أحمد بن المتأهل العذري من أهل وادي آش ما صورته (2) : رجل غليظ الحاشية، معدود في جنس السائمة والماشية، تليت على العمال به سورة الغاشية، ولي الأشغال السلطانية فذعرت الجباة لولايته، وأيقنوا بقيام قيامتهم لطلوع آيته، وقنطوا كل القنوط، وقالوا: جاءت الدابة تكلمنا وهي إحدى الشروط، من رجل صائم الحشوة، بعيد عن المصانعة والرشوة، يتجنب الناس، ويقول عند المخالطة لهم: لا مساس، عهدي

_ (1) ترجمته في الدرر 5: 242 وفيه: مات بعد 740. (2) قد مرت هذه الفقرة (رقم: 26) .

رجع:

به في الأعمال يحبط ويتبر، وهويهلل ويكبر، ويحسن ويقبح، وهويسبح، وقال يخاطب بعض أمراء الدولة: عمادي، ملاذي، موئلي، ومؤملي ... ألا انعم بما ترضاه للمتأهل وحقق بنيل القصد منك رجاءه ... على نحو ما يرضيك يا ذا التفضل فأنت الذي في العلم يعرف قدره ... بخير زمان فيه لا زلت تعتلي فهنيت يا معنى الكمال برتبة ... تقر لكم بالسبق في كل محفل توفي عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة؛ انتهى. وتذكرت بقوله ويحسن ويقبح، وهويسبح قول الآخر: قد بلينا بأمير ... ظلم الناس وسبح فهو كالجزار فيهم ... يذكر الله ويذبح رجع: 68 - وقال لسان الدين في ترجمة أبي عبد الله ابن باق (1) من " التاج " ما صورته: مدير أكؤس البيان المعتق، ولعوب بأطراف الكلام المشقق، انتحل لأول أمره الهزل من أصنافه، فأبرز در معانيه من أصدافه، وجنى ثمرة الإبداع لحين قطافه، ثم تجاوزه إلى المغرب وتخطاه، فأدار كأسه المترع وعاطاه، فأصبح لفنيه جامعاً، وفي فلكيه شهاباً لا معاً، وله ذكاء يطير شرره، وإدراك تتبلج غرره، وذهن يكشف الغوامض، ويسبق البارق الوامض، وعلى ذلاقة لسانه، وانفساح أمد إحسانه، فشديد الصبابة بشعره، مغل لسعره؛ انتهى. والمذكور هومحمد بن إبراهيم بن علي باق الأموي، مرسي الأصل، غرناطي النشأة، مالقي الاستيطان. وقال في عائد الصلة: كان رحمه الله تعالى كاتباً أدبياً ذكياً لوذعياً يجيد

_ (1) ترجمته في الدرر 3: 376 (ط. القاهرة) .

الخط ويرسل النادرة، ويقدم على العمل، ويشارك في الفريضة، وبذ السباق في الأدب الهزلي المستعمل بالأندلس، غبر زمانه من عمره محارفاً للفاقة يعالج بالأدب الكذبة، ثم استقام له الميسم، وأمكنه البخت من امتطاء غاربه، فأنشبت الحظوة وفيه أناملها بين كاتب وشاهد وحاسب ومدير تجر، فأثرى ونما ماله، وعظمت حاله، عهد عندما شارف الرحيل تناهز الألف من العين، لتصرف في وجوه من البر، فتوهم أنها كانت زكاة أمسك بها؛ انتهى. وقال أيضاً: اخبرني الكاتب أبوعبد الله ابن سلمة أنه خاطبه بشعر أجابه عنه بقوله في رويه: أحرز الخصل من بني سلمه ... كاتب تخدم الظبى قلمه يحمل الطرس من أنامله ... أثر الحسن كلما رقمه وتمد البيان فكرته ... مرسلاً حيث يممت ديمه خصني متحفاً بخمس إذا ... بسم الروض فقن مبتسمه قلت أهدى زهر الربى خضلاً ... فإذا كل زهرة كلمه أقسم الحسن لا يفارقها ... فأبر انتقاؤها قسمه خط أسطارها ونمقها ... فأتت كالعقود منتظمه كاسياً من حلاه لي حللاً ... رسمها من بديع ما رسمه طالباً عند عاطش نهلاً ... ولديه الغيوث منسجمه يبتغي الشعر من أخي بله ... أخرس العي والقصور فمه أيها الفاضل الذي حفظت ... ألسن المدح والثنا شيمه لا تكلف أخاك مقترحاً ... نشر عار لديه قد كتمه وابق في عزة وفي دعة ... ضافي العيش وارداً شبمه ما ثنى الغصن عطفه طرباً ... وشدا الطير فوقه نغمه ورأيت على هامش هذه القصيدة بخط أبي الحسن علي بن لسان الدين ما صورته:

نعم ما خاطب به شيخنا وبركة أهل الأندلس وصدر صدورهم أبا عبد اله ابن سلمة، ومن لفظه سمعتها بالقاهرة، وإنها لمن النظم العالي المتسق نسق الدر في العقود، رحمه الله تعالى، قاله ابن المؤلف؛ انتهى. وقرأ ابن باق المذكور على الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير والخطيب أبي عثمان ابن عيسى، وتوفي بمالقة في اليوم الثامن والعشرين لمحرم فاتح عام اثنين وخمسين وسبعمائة، وأوصى بعد أن يحفر قبره بين شيخيه الخطيبين أبي عبد الله الطنجالي وأبي عثمان ابن عيسى أن يدفن به، وأن يكتب على قبره هذه الأبيات: ترحم على قبر ابن باق وحيه ... فمن حق ميت الحي تسليم حيه وقل آمن الرحمن روعة خائف ... لتفريطه في الواجبات وغيه قد اختار هذا القبر في الأرض راجياً ... من الله تخفيفاً بقدر وليه فقد يشفع الار الكريم لجاره ... ويشمل بالمعروف أهل نديه وإني بفضل الله أوثق واثق ... وحسبي وإن أذنبت حب نبيه انتهى. 69 - وقال لسان الدين في ترجمة أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن سالم ابن فضيلة المعافري المري (1) بالنتومن الإكليل ما نصه: شيخ أخلاقه لينة، ونفسه كما قيل هينة، ينظم الشعر سهلاً مساقه، محكماً اتساقه، على فاقة، ما لها من إفاقة، أنشد المقام السلطاني بظاهر بلده قوله: سرت ريح نجد من ربى أرض بابل ... فهاجت إلى مسرى سراها بلابلي وذكرني عرف النسيم الذي سرى ... معاهد أحباب سراة أفاضل فأصبحت مشغوفاً بذكر منازل ... ألفت، فواشوقي لتلك المنازل فيا ريح هبي بالبطاح وبالربى ... ومري على أغصان زهر الخمائل وسيري بجسمي للتي الروح عندها ... فروحي لديها من أجل الوسائل

_ (1) ترجمته في الدرر 3: 367 (ط. القاهرة) .

رجع:

وقولي لها عني معناك بالنوى ... له شوق معمود وعبرة ثاكل فيا بأبي هيفاء كالغصن تنثني ... تقد بقد كاد ينقد مائل وهي طويلة. ومن شعر المذكور قوله من قصيدة: بهرت كشمس في غلالة عسجد ... وكبدر تم في قضيب زبرجد ثم انثنت كالغصن هزته الصبا ... طرباً فتزري بالغصون الميد حوراء بارعة الجمال غريرة ... تزهى فتزري بالقضيب الأملد إن أدبرت لم تبق عقل مدبر ... أو أقبلت قتلت ولكن لا تدي قال القاضي أبوالبركات ابن الحاج: وابتلي المذكور باختصار كتب الناس، فمن ذلك مختصره المسمى الدرر الموسومة في اشتقاق الحروف المرسومة وكتاب حكايات يسمى دوحة الجنان وراحة الجنان وغير ذلك. قال أبوالبركات: وسألته عن مولده، فقال: لي اليوم ستون سنة، وقال ذلك ليلة الخميس السابع والعشرين لذي قعدة عام أربعين وسبعمائة، وتوفي آخر رمضان من عام تسعة وأربعين، رحمه الله تعالى؛ انتهى. رجع: 70 - قال لسان الدين في الإكليل في ترجمة الكاتب صاحب العلامة أبي العباس أحمد بن علي الملياني المراكشي ما نصه: الصارم الفاتك، والكاتب الباتك، أي اضطراب في وقار، وتجهم تحته أنس العقار! اتخذه ملك المغرب صاحب علامته، وتوجه تاج كرامته، وكان يطالب جملة من أشياخ مراكش بثار عمه، ويطوقهم دمه بزعمه، ويقصر على الاستنصار منهم بنات همه، إذ سعوا فيه حتى اعتقل، ثم جدوا في أمره حتى قتل، فترصد كتاباً إلى مراكش

يتضمن أمراً جزماً، ويشمل من أمور الملك عزماً، جعل فيه الأمر بضرب رقابهم، وسبي أسبابهم، ولما أكد على حامله في العجل، وضايقه في تقدير الأجل، تأنى حتى علم أنه قد وصل، وأن غرضه قد حصل، فر إلى تلمسان وهي بحال حصارها، فاتصل بأنصارها، حالاً بين أنوفها وأبصارها، وتعجب من فراره، وسوء اغتراره، ورجمت الظنون في آثاره، ثم وصلت الأخبار بتمام الحيلة، واستيلاء القتل على أعلام تلك القبيلة، فتركها شنيعة على الأيام، وعاراً في الأقاليم على حملة الأقلام، وأقام بتلمسان إلى أن حل مخنق حصرها، وأزيل هميان الضيقة عن خصرها، فلحق بالأندلس ولم يعدم براً، ورعياً مستمراً، حتى أتاه حمامه، وانصرمت أيامه؛ انتهى. والمذكور ترجمه في " الإحاطة " (1) بقوله: صاحب العلامة بالمغرب، الكاتب الشهير البعيد الشأوفي اقتضاء الترة، المثل المضروب في الهمة، وقوة الصريمة، ونفاذ العزيمة. حاله - كان نبيه البيت، شهير الأصالة، رفيع المكانة، على سجية غريبة من الوقار والانقباض والصمت، آخذاً بحظ من الطب (2) ، حسن الخط، مليح الكتابة، قارضاً للشعر، تذهب نفسه فيه كل مذهب. وصمته - فتك فتكة شهيرة أساءت الظن بجملة الأقلام على ممر الدهر، وانتقل إلى الأندلس بعد مشقة. شعره - من شعره الذي يدل على بأوه، وانفساح خطاه في النفاسة وبعد شأوه، قوله: العز ما ضربت عليه قبابي ... والفضل ما اشتملت عليه ثيابي

_ (1) انظر ج 1: 149، والإعلام بمن حل مراكش 1: 373. (2) ق: الطلب؛ وأثبتنا ما في الإحاطة.

رجع إلى نثر ابن الخطيب رحمه الله تعالى:

والزهر ما أهداه غصن براعتي ... والمسك ما أبداه نقس كتابي فالمجد يمنع أن يزاحم موردي ... والعزم يأبى أن يضام جنابي فإذا بلوت صنيعة جازيتها ... بجميل شكري أوجزيل ثوابي وإذا عقدت مودة أجريتها ... مجرى طعامي من دمي وشرابي وإذا طلبت من الفراقد والسها ... ثأراً فأوشك أن أنال طلابي وفاته - توفي بغرناطة يوم السبت تاسع ربيع الآخر عام خمسة عشر وسبعمائة ودفن بجبانة باب إلبيرة، تجاوز الله تعالى عنه؛ انتهى. رجع إلى نثر ابن الخطيب رحمه الله تعالى: 71 - فمن ذلك قوله في الروضة في ترجمة ضخام الغصون من شجرة السر المصون ما صورته: وهي أفاءت الظل الظليل، وزانت المرأى الجميل، وتكلفت لمحاسن الشجرة الشماء بالتكفيل، وتتعدد إلى غصون المحبوبات، وأقسام موضوعاتها المكتوبات، وغصن المحبين، أصنافهم المرتبين، وغصن علامات المحبة، وشواهد النفوس الصبة، وغصن الأخبار المنقولة، عن ذوي النفوس المصقولة، وعند تعين هذه الأغصان المقسومة، كمل شكل الشجرة المرسومة، والسرحة الموصوفة الموسومة، ففاءت الظلال، وكرمت الخلال، فحيي من تفرد وتوحد، واستظل من استهدى واسترشد، ووقف الهائم فخطب وأنشد (1) : يا سرحة الحي يا مطول ... شرح الذي بيننا يطول عندي مقال فهل مقام ... تصغين فيه لما أقول ولي ديون عليك حلت ... لو أنه ينفع الحلول

_ (1) أورد منها بيتين في النفح 3: 506 ونسبهما لابن براق.

ماض من العيش كان فيه ... منزلنا ظلك الظليل زال وماذا عليه ماذا ... يا سرح لو لم يكن يزول حيا عن المذنب المعنى ... منبتك القطر والقبول وقال رحمه الله تعالى: فصول في المعرفة تغازل بها عيون الإشارة، إذا قصرت عن تمام المعنى ألسن العبارة، ولله در القائل: وإذا العقول تقاصرت عن مدرك ... لم تتكل إلا على أذواقها المعرفة اختراق المراتب الحسية، والنفوس الجنسية، والعقول القدسية، والبروز إلى فضاء الأزل، إذا فني من لم يكن وبقي من لم يزل، مع عمران المراتب، ورؤية الجائز في الواجب: ومن عجب أني أحن إليهم ... وأسأل شوقاً عنهم وهم معي وتبكيهم عيني وهم في سوادها ... ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي المعرفة مقام يأتلف من جمع مفروق، وأفول وشروق، وسل عروق، ورد مسروق، حتى يذهب الكيف والأين، ويتعين العين، فيجمع العدد ويجمل، وينحى السوى ومع ذلك لا يهمل: للعدا منك نصيب ... ولك السهم المصيب إنما يومك يوما ... ن: خصيب وعصيب المعرفة مقام سامي المنعرج، عاطر الأرج، ينقل من السعة إلى الحرج، ومن الشدة إلى الفرج: طريقك لا تخفى به إن تتبعت ... خطاك ولا يخفى مبيتك فيه متاعك منشور على كل خيمة ... ورؤياك أمن من ترفع تيه

المعرفة عين إن لم تبصر أجزاءها، أحسن الله عزاءها، وحقيقة إن لم يجعل الفراق إزاءها، كانت الغيرة (1) جزاءها، فهي دائرة مركزها يجمع؛ ومحيطها في التفريق يطمع، يستقل الملك أجمع، ويرى من يرى ويسمع من يسمع: بعد المحيط من المحدد واحد ... والكل في حق الوجود سواء والحق يعرف ذاته من ذاته ... صح الهوى فتلاشت الأهواء المعرفة صعود ونزول، ووقوف ووصول، فلا الوصول عن البداية يقطع، ولا البداية عن النهاية تمنع: نم له الأمر أجمع ... كل ما شاء يصنع حصل القصد واستق ... ر فلم يبق مطمع العارف في البداية يشكر الراكع والساجد، ثم يعذر الواجد المتواجد، ثم يرجع المنكر الجاحد، فإذا انتهى ورد العدد إلى الواحد، قال لسان حاله: من رأى لي نشيدة ... أو على عينها أثر فله الحكم قل له ... ذهب العين والأثر إلى أن قال: قال الرئيس: العارف هش بش بسام، فيجل الصغير من تواضعه مثلما يجل الكبير، ويبسط من الخامل مثلما يبسط من النبيه، ثم علل فقال: وكيف لا يهش وهوفرحان بالحق، وبكل شيء فإنه يرى فيه الحق، إني لأجد ريح يوسف (2) : لمعت نارهم وقد عسعس اللي ... ل وضج الحادي وحار الدليل فتأملتها وقلت لصحبي ... هذه النار نار ليلى فميلوا

_ (1) ق: العزة. (2) انظر مشارق أنوار القلوب: 72 وهما من قصيدة للسهروردي.

العارف شجاع، وكيف لا وهوبمعزل عن هيبة الموت، وجواد، وكيف لا وهولمعزل عن صحبة الباخل، وصفاح، وكيف لا ونفسه أكبر من أن تحرجها زلة بشر، ونساء للأحقاد، وكيف لا وذكره مشغول بالحق، وقالوا: من عرف الله تعالى صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف المخلوقين، وأنس بالله رب العالمين. الشبلي: ليس لعارف علاقة، ولا لمحب شكوى، ولا لعبد دعوى، من عرف الله سبحانه انقطع، بل خرس وانقمع، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك؛ انتهى. 72 - قال رحمه الله تعالى في بعض تراجم الروضة: الفرع الصاعد إلى الهواء، على خط الاستواء، من رأس العمود القائم، إلى منتهى الوجود الدائم، ويشتمل على قشر لطيف، وجرم شريف، وأفنان ذوات قنوان وغير قنوان، وطلع نضيد، وجنىً سعيد، فالقشر الحدود والرسوم، وخواص العارف الذي هوبالمعروف بها والموسوم، والفنون التي يقوم عليها والعلوم، والجرم ظاهر الخلق المقسوم، وعلاجه كما تعالج الجسوم، وباطنه المجاهدات التي عليها يقوم، وقلبه الرياضة والغصون المقامات فيها المقام المعلوم، ومادتها السلوك الذي تدريج غذائه تبلغ الأفنان والورقات ما تروم، والزهرات اللوائح والطوالع والبواده التي لها الهجوم، والواردات التي تدوم أولا تدوم، ثم الجنى وهوالولاية التي كان الغارس عليها يحوم؛ انتهى. ثم فصل الكل رحمه الله تعالى فليراجعه من أراده. 73 - ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى ما كتبه على لسان سلطانه للأمير يلبغا الخاصكي (1) ، وهو: إلى الأمير المؤتمن على أمر سلطان المسلمين،

_ (1) كان مدبر الدولة أيام المنصور محمد والأشرف شعبان، قتله غلمانه لعسفه وظلمه سنة 768.

المقلد بتدبيره السديد قلادة الدين، المثني على رسوم بره لمقامه لسان الحرم الأمين، الآوي من مرضاة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى الربوة ذات القرار والمعين، المستعين من اله تعالى على ما تحمله وأمله بالقوي المعين، سيف الدعوة، ركن الدولة، قوام الملة، مؤمل الأمة، تاج الخواص، أسد الجيوش، كافي الكفاة، زين الأمراء، علم الكبراء، عين الأعيان، حسنة الزمان، الأجل المرفع الأسنى الكبير الأشهر الأسمى الحافل الفاضل الكامل المعظم الموقر الأمير الأوحد يبلغا الخاصكي، وصل الله له سعادة تشرق غرتها، وصنائع تسح فلا تشح درتها، وأبقى تلك المثابة قلادة الله تعالى وهو درتها. " سلام كريم، طيب بر عميم، يخص إمارتكم التي جعل الله تعالى الفضل على سعادتها أمارة، واليسر لها شارة، فيساعد الفلك الدوار مهما أعملت إدارة، وتمتثل الرسوم كلما أشارت إشارة. " أما بعد حمد الله تعالى الذي هويعلمه في كل مكان، من قاص ودان، وإليه توجه الموجوه وإن اختلفت السير وتباعدت البلادان، ومنه يلتمس الإحسان، وبذكره ينشرح الصدر ويطمئن القلب ويمرح اللسان، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله العظيم الشان، ونبيه الصادق البيان الواضح البرهان، والرضى عن آل وأصحابه وأحزابه أحلاس الخيل، ورهبان الليل، وأسود الميدان، والدعا لإمارتكم السعيدة بالعز الرائق الخبر والعيان، والتوفيق الوثيق البنيان، فإنا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم حظاً من فضله وافراً، وصنعاً عن محيا السرور سافراً، وفي جوالإعلام بالنعم الجسام مسافراً - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى دار ملك الأندلس دافع الله سبحانه عن حوزتها كيد العداة، وأتحف نصلها ببواكر النصر المهداة، ولا رائد إلا الشوق إلى التعارف بتلك الأبواب الشريفة التي أنتم عنوان كتابها المرقوم، وبيت قصيدها المنظوم، والتماس بركتها الثابتة الرسوم، وتقرير المثول في سبيل زيارتها بالأرواح عند تعذره بالجسوم، وإلى هذا فإننا كانت بين سلفنا تقبل الله تعالى جهادهم، وقدس

نفوسهم، وأمن معادهم، وبين تلك الأبواب كما عرفتم من عدلها وإفضالها، مراسلة ينم عرف الخلوص من خلالها، وتسطع أنوار السعادة من آفاق كمالها، وتلتمح من أسطار طروسها محاسن تلك المعاهد الزاكية المشاهد، وتعرب عن فضل المذاهب وكرم المقاصد، اشتقنا إلى أننجددها بحسن منابكم، ونواصلها بمواصلة جنابكم، ونغتنم في عودها الحميد مكانكم، ونؤمل لها زمانكم، فخاطبنا الأبواب الشريفة في هذا الغرض نخاطبة خجلة من التقصير، وجلة من الناقد البصير، ونؤمل الوصول في خفارة يدكم التي لها الأيادي البيض، والموارد التي لا تغيض، ومثلكم من لا تخيب المقاصد في شمائله، ولا تضحى المآمل في ظل خمائله، فقد اشتهر من حميد سيركم ما طبق الآفاق، وصحب الرفاق، واستلزم الإصفاق، وهذه البلاد مباركة، ما أسلف أحد فيها مشاركة، إلا وجدها في نفسه ودينه وماله وعياله، والله سبحانه أكرم من وفى لامرئ بمكياله، والله عز وجل يجمع القلوب على طاعته، وينفع بوسيلة النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعول على شفاعته، ويبقي تلك الأبواب ملجأ للإسلام والمسلمين، وظلاً لله تعالى على العالمين، وإقامة لشعائر الحرم الأمين، ويتولى إعانة إمارتكم على وظائف الدين، ويجعلكم ممن أنعم الله تعالى عليه من المجاهدين، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله تعالى وبركاته؛ انتهى. 74 - ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى قوله في قضية امتناع بعض الموثقين من أكل طعامه بمدينة سلا، وقد صدر به كتابه المسمى ب مثلى الكريقة في ذم الوثيقة وهذا نصه: أما بعد حمد الله الذي قرر الحكم وأحكمه، وبين الحلال من الحرام بما أوضحه من الأحكام وعلمه، ونوع جنس المعاش وقسمه، وماز كل نوع منه ووسمه، فأثبته متفاوتاً في درجات التفضيل ورسمه، والصلاة والسلام على مولانا محمد رسوله الذي فضله على الأنبياء وقربه وطهر من دنس الشبهات شيمه، فما استعمله في غير طاعته ولا استخدمه، ولا أعمل في سوى

البر والهدى بنانه ولا قدمه، والرضى عن آل وأصحابه الذين رعوا ذممه، واستمطروا ديمه، وتواصوا من أجله بالبر وتواصلوا بالمرحمة، فهذا كتاب مثل الطريقة في ذم الوثيقة دعا إلى جمعه قلة الإنصاف من المداهن والمعاصر، والمباهت في مدرك النور الباصر، ورضى مظنة النيل منهم بالباع القاصر، والمناضلة عن الحمى الذي لم يؤيده الحق بالولي ولا بالناصر، ولوضعه حكاية، ولنفثته شكاية، إذ معرفة الأشياء بعللها مما يتشوق إليه، ويحرص عليه، وهوأني لما قدمت على مدينة فاس حرسها الله تعالى، مستخلصاً بشفاعة الخلافة، ذات الإناقة، مستدعى برسالة الإيالة، ذات الجلالة، فانسحب والمنة لله الستر، وانفسح الفتر، وشفع من النعم الوتر، واقتدى المرؤوس بالرئيس، وتنافس الأعلام في التأنيس، واتصل الاحتفاء والاستدعاء، وانتخب الموعى والوعاء، وأخذ أعقاب الطيبات الوضوء والطيب والدعاء، تعرفت فيمن جمعته الأخونة، والمداعي المتعينة، برجل من نبهاء موثقيها غرني بمخيلة البشاشة التي يستفز بها الغريب، ويستخلص هوى من لم يعمل التجريب، فأنست بمكانه، واستظهرت على ما يعرض من مكتتب بدكانه، وشأني في الاغتباط بمن عرفت شأني، فلست للمقة بشأني، واسترسالي، حتى لمن أسا لي، طوع عناني: أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... ضميري ويتلوه يدي ولساني ولم يك إلا أن حللت بمدينة سلا حرسها الله تعالى مقصود المحل وإن رغم الدهر الذي رمى فأقصد، معتمداً بفتوحات الله تعالى وإن أرتج الباب بزعمه وأوصد، مصحباً بمدد عنايته وإن كمن وأرصد، لا يمر فاضل إلا عرج على مثواي، وأتى من البر فوق هواي، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، وتعرفت عن صاحبي الفاسي أنه قدم علينا من سخر عملية فلا لها الدسر المنهوبة، وتخللها المسبعة المرهوبة، واغتذى الأطعمة التي مرقتها الدموع، ومطبختها الحمى المروع، واستقر بالمدينة بعد أن لان وضرع، وجدل وصرع، نافق البلقلة كاسد الورع

ونزل بمثوى خمول، ومحط مجهول، وكنف ممقوت، وجوار لا يبخل بغيبة ولا يسمح بقوت، فبادرت استدعاءه بفاضل من الطلبة ممن يتلقى به الوارد، ويقتاد الشارد، وقد أغرب بقراءة الاحتفاء والاحتفال، وأجنب الإغفاء والإغفال، وجهزت السرايا إلى التماس نعم الله تعالى فحلت الأنفال، فلما عرض عليه الدعوة تعجرف ونفر، ولما مسح عطفه بالاستنزال نزا وطفر، حتى بهت الرسول كما بهت الذي كفر، وآب يحمل عذراً بارداً، واحتجاجاً شارداً، فأقطعته جانب شماسه، وخليت بينه وبين وسواسه، ومن الغد قصدني فاعتذر، وأكثر الهذر، ولم ينبت الله النبات الحسن شيئاً مما بذر، وكان جوابي إياه ما نصه: أبيتم دعوتي إما لبأو ... وتأبى لومه مثلي الطريقه وبالمختار للناس اقتداء ... وقد حضر الوليمة والعقيقه وغير غريبة أن رق حر ... على من حاله مثلي رقيقه وإما زاجر الورع اقتضاها ... ويأبى ذاك دكان الوثيقه وغشيان المنازل لاختيار ... يطالب بالجليلة والدقيقه شكرت مخيلة كانت مجازاً ... لكم وحصلت بعد على الحقيقة وذاع خبرها فقلبت عنها الجنوب، وكلف بها الطالب والمطلوب، وهش إلى المراجعة عنها أحد الموثقين بسلا ممن يحوم حول حمى الإدراك، ويروم درجة الاختصاص ببعض الفنون والاشتراك، وله في الأدب مساس، وجلب الباس، بما نصه: رسولك لم يبن لي عن طريقه ... تقرب من حديقتك الأنيقه فلا بأولدي ولا إباء ... ولكن ساء في الغرض الطريقه وهب أني أسأت فكم صديق ... تدلل واعتدى فجفا صديقه

فلا عجب فديت لرفق حر ... يسكن عند خجلته رفيقه وإني فيك معتقد، ولكن ... أرى الأيام حاقدة حنيقه على ذي الود فيمن ود حتى ... يفارقه وإن أضحى رفيقه فراجعته بما نصه لما أسفلته من جزاء مصاعه، وكلت له بصاعه: من استغضب من هذي الخليقه ... بمغضبة بإنكار خليقه ولم يغضب فتيس أو حمار ... مجازاً لا، لعمري، بل حقيقه بعثت بمرسل لك مع عتيقي ... فلم تطع الرسول ولا عتيقه وطوقت السفير الذنب لما ... عجلت به ولم تبلعه ريقه إمام جماعة وقريع تقوى ... ومبلغ حجة، وحفيظ سيقه (1) فبؤت بها علآ الأيام داءً ... عضالاً لا تفيق عليه فيقه وقد عارضت عذرك باعتراف ... فزدت مذمة تسم الطريقه وهل بعد اعتراف من نزاع ... وهل بعد افتضال من وثيقه ومن جهل الحقوق أطاع نفساً ... ببحر الجهل راسبة غريقه ومنجى نيقة أمر بعيد ... إذا نصب المهندس منجنيقه فأمسك حينئذ وأقصر، وروى الأمر يطول فاختصر، إلا أنه نمي لي عنه قوله: إن دكان الوثيقة إن نافى الورع فبغير بلده، وأذهلته لذة لدده، عما هوبصدده، فارتهنت له أن أنصر الدعوى بما يسلمه المنصف المساهل، وينكره الأرعن الجاهل، وتشد به المنازل والمناهل، والمعالم والمجاهل، مستنداً إلى الحكم الشرعي، والسنن المرعي، والمشاهدة والحس، وشهادة الجن والإنس.

_ (1) السيقة: لعلها صورة اشتقاقية من السوق أو السياق بمعنى المهر الذي يساق لى المرأة في صداقتها؛ ومما يقرب هذا المعنى أن الرجل الذي وجهت إليه الأبيات من كتاب الوثائق.

ولو ترك القطا ليلاً لناما ... والله يجعله موقظاً من السنات، وازعاً عن كثير من الهنات، وينفع فيه بالنية فإنما الأعمال بالنيات، وها أنا أبتدئ وعلى الله الإعانة، وبحوله وقوته الإفصاح والإبانة. قلت: ينحصر الكلام فيه في سبعة أبواب، الباب الأول: في جواز الإجازة فيها عند العلماء، الباب الثاني: في الشركة المستعملة بين أربابها، الباب الثالث: في محلها من الورع إن سوغها الفقه، الباب الرابع: في منزلتها من الصنائع والمهن، الباب الخامس: في أحوال منحليها من حيث العلم غالباً، الباب السادس: في أحوالهم من جهة استقامة الرزق وانحرافه، الباب السابع: في رد بعض ما يحتج به فيها. انتهت الخطبة المقتطعة من تأليف لسان الدين رحمه الله تعالى. وهذا التأليف في نحوكراسة، وقال في آخره ما صورته: فإن قيل: ترك الأجر، وقبول العوض في هذا الأمر يدعوإلى تعطيله، فيفقد الناس منفعة هذه الطريقة وغناءها، قلت: الإنصاف فيها اليوم أن لوكان متوليها يرتزق من بيت المال وأموال المصالح والأوقاف التي تسع ذلك، وحال الجماهير في فقدانها والاضطرار إليها ورفع أمورهم بها إلى السلطان، ورغبتهم في نصب من يتولى ذلك حالهم في فقدان أئمة الصلاة في الماسجد الراتبة في جريانه من بيت المال بعلة التزامهم وارتباطهم فقد، حسبما نقل الإجماع فيه القاضي أبوبكر ابن العربي رحمه الله تعالى ومنع الارتزاق من غيره إجماعاً، وقد كان بالمدن المعتبرة من بلاد الأندلس - جبرها الله تعالى - ناس من أولي التعفف والتعين، كبني الجد بإشبيلية وبني الخليل وغيرهم بغيرها، يتعيشون من فضول أملاكهم، ووجائب رباعهم، ويقعدون بدورهم عاكفين على بر، منتابين لرواية وفتيا، يقصدهم الناس في الشهادة فيجاملونهم، ويبركون على صفقاتهم، ويهدونهم إلى سبيل الحق فيها من غير اجر ولا كلفة، إلا الحفظ على المناصب، وما يجريه السلطان من الحرمة

والتفقد (1) في الضرورة، وما يهديهم الناس من الإطراء والتجلة، والله سبحانه ينيلهم من الأجر والمثوبة، وبلغني اليوم ا، حالها بمدينة سجلماسة ينظر إلى هذا الحال من طرف خفي، ولم يفسد بها كل الفساد، وكذلك لم نزل نتعرف أن الأمر في شأنها بمدينة تونس أقرب، وبعض الشر أهون من بعض، ولوبقيت بحالها لوجب تقرير فضلها وتقريظ منتحلها، فالصدق أنجى، والحق عند الله أحجى، والله عز وجل يستعملنا فيما يرضيه، ويلطف بنا فيما يجريه علينا من أحكامه وما يقضيه، ويجعلنا ممن ختم له بالحسنى، ويقربنا إلى ما هوأقرب من رحمته وأدنى، وصلوات الله على سيدنا محمد وآل وصحبه؛ انتهى. وكتب على ظهر الورقة الأولى من هذا التأليف شيخ شيوخ شيوخنا الغمام الكبير المؤلف الشهير سيدي أحمد الونشريسي رحمه الله تعالى ما صورته: الحمد لله، جامع هذا الكلام المقيد هذا بأول ورقة منه كد نفسه في شيء لا يعني الأفاضل، ولا يعود عليه في القيامة ولا ف يالدنيا بطائل، وأفنى طائفة من نفيس عمره في التماس مساوئ طائفة بهم تستباح الغروج، وتملك مشيدات الدور والبروج، وجعلهم أضوكة لذوي الفتك والمجانة، وانتزع جلبات الصدق والديانة، سامحه الله تعالى وغفر له، قال ذلك وخطه بيمنى يديه عبيد ربه أحمد بن يحيى بن محمد بن علي الونشريسي خار الله سبحانه له؛ انتهى ما ألفتيته. وقد كان لسان الدين رحمه الله تعالى كثيراً ما يعرض ويصرح بهجوبعض أهل سلا أوكلهم حتى قال: أهل سلا صاحت بهم صائحه ... غادية في دورهم رائحه يكفيهم من عوز أنهم ... ريحانهم ليست له رائحه والله المرجوللعفوعن الزلات. 75 - ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى خطبة كتابه في المحبة الذي ما

_ (1) ق: والنفقة.

ألف في فنه أجمع منه، ولنوردها فإن فيها دلالة على فضله وعظم قدر الكتاب وهي: اللهم طيب بريحان ذكرك أنفاس أنفسنا الناشقة، وعلل بجريال حبك جوانح أرواحنا العاشقة، وسدد إلى أهداف معرفتك نبال نبلنا الراشقة، واستخدم في تدوين حمدك شبا أقلامنا الماشقة، ودل على حضرة قدسك خطرات خواطرنا الذائقة، وأبن لنا سبل السعادة التي جعلت فيها الكما الأخير لهذه الأنفس الناطقة، وأصرفنا عند سلوكها عن القواطع العائقة، حتى نأمن مخاوف أجبالها الشاهقة، وأحزابها المنافقة، وأوهامها الطارئة الطارقة، برازخها القاسية الغاسقة، فلا تسرق بضائعنا العوائد السارية السارقة، ولا تحجينا عنك العوارض الجسيمة اللاحقة، ولا الأنوار المغلظة البارقة، ولا العقول المفارقة، يا من له الحكمة البالغة والعناية السابقة، وصل على عبدك ورسولك محمد درة عقود أحبابك المتناسقة، وجالب بضائع توحيدك النافقة، المؤيد بالبراهين الساطعة والمعجزات الخارقة، ما أطلعت أفلاك الأدواح زهر أزهارها الرائقة، وحدت قطار السحائب حداة رعودها السائقة، وجمعت ريح الصبا بين قدود أغصانها المتعانقة. أما بعد فإنه لما ورد على هذه البلاد الأندلسية المحروسة بحدود سيوف الله حدودها، الصادقة بنصر الله للفئة القليلة على الفئة الكثيرة وعودها - وصل الله تعالى عوائد صنعه الجميل لديها، وأبقاها دار إيمان إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها - " ديوان الصبابة (1) " وهوالموضوع الذي اشتمل من أبطال العشاق على الكثير، واستوعب من أقوالهم الحديثة والقديمة كل نظيم ونثير، وأسدى في غزل غزله وألحم، ودل على مصارع شهدائهم من وقف وترحم، فصدق الخبر المخبر، وطمت اللجة التي لا تعبر، وتأرج من مسراه المسك والعنبر، وقالت العشاق عند طلوع قمره: الله اكبر: مررت بالعشاق قد كبروا ... وكان بالقرب صبي كريم

_ (1) كتاب من تأليف شهاب الدين أحمد بن أبي حجلة

فقلت: ما بالهم قال لي: ... ألقي للحب كتاب كريم ولا غروأن أقام بهذه الآفاق، أسواق الأشواق، وزاحم الزفرات في مسالك الأطواق، وأسأل جواهر المدامع من بين أطباق تلك الحقاق (1) ، وفتك نسيمها الضعيف العهد والميثاق بالنفوس الرقاق: جنى النسيم علينا ... وما تبينت عذره إذ صير الخلق نجداً ... والأرض أبناء عذره فوقع للحجة المصرية التسليم (2) ، وقالت ألسنة الأقلام معربة عن ألسنة الأقاليم: سلمت لمصر في الهوى من بلد ... يهديه هواؤه لدى استنشاقه من ينكر دعواي فقل عني له ... تكفي امرأة العزيز من عشاقه فغمر المحافل والمجالس، واستجلس الراكب واستركب الجالس، يدعوالأدب إلى مأدبته فلا يتوقف، ويلقي عصا سحره المصري فتتلقف، ما شئت من ترتيب غريب، وتطريب وبنان أريب، يشير إلى الشعر فتنقاد إليه عيونه، ويصيح بالأدب الشريد فتلبيه فنونه، وأنهى خبره للعلوم المقدسة، ومدارك العز الموطدة المؤسسة، سما به الجد صعداً إلى المجلس السلطاني مقر الكمال، ومطمح الأبصار والآمال، حيث رفارف العز قد انسدلت، وموازين القسط قد عدلت، وفصول الفضل قد اعتدلت، وورق أوراق المحامد قد هدلت، مجلس السلطان المجاهد، الفاتح الماهد، المتحلي في ريعان العمر الجديد، والملك السعيد، بحلى القانت الزاهد، شمس أفق الملة، وفخر الخلفاء الجلة، بدر هالات السروج المجاهدة، أسد الأبطال البارزة إلى حومة الهياج الناهدة، معشي الأبصار المشاهدة، مظهر رضى الله تعالى عن هذه الأمة الغريبة عن الأنصار والأقطار، من وراء أمواج (3)

_ (1) ق: الأطباق. (2) كذا قال، ولكن ابن أبي حجلة مغربي المولد، استوطن القاهرة. (3) أمواج: سقطت من ق.

البحر الزخار، باختياره لها واعتيامه، وملبسها برود اليمن والأمان ببركة أيامه، ومن أطلع الله تعالى أنوار الجمال من أفق جبينه، وأنشأ أمطار السماح من غمام يمينه، وأجرى في الأرض المثل السائر بحلمه وبسالته ودينه، أمين الله تعالى على عهدة الإسلام بعذا القطر وابن أمينه وابن أمينه، فخر الأقطار والأمصار، ومطمح الأيدي وملمح الأبصار، وسلالة سعد بن عبادة سيد الأنصار، ومن لونطق الدين الحنيفي لحياه وفداه، أوتمثل الكمال صورة ما تعداه، مولانا السلطان الإمام العالم العامل المجاهد أمير المسلمين أبوعبد الله ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد مبتسماً عن شنب نصره، والفتح المبين مذخوراً لعصره، كما قصر آداب الدين والدنيا على مقاصير قصره، وسوغه من أشتات مواهب الكمال ما تعجز الألسن عن حصره، ولا زالت أفنان الأقلام تتحف الأقاليم بجني فنون هصره، فخصته عين استحسانه أبقاه الله تعالى بلحظة لحظ، وما يلقاها إلا ذوحظ، وصدرت إلي منه الإشارة الكريمة بالإملاء في فنه، والمنادمة على بنت دنه، وحسب الشحم من ذي ورم والله سبحانه يجعلني عند ظنه، ومتى قورتن المثري بالمترب، أووزن المشرق بالمغرب شتان بين من تجلى الشمس منه فوق منصتها، وبين من يشره أفقه الغربي لابتلاع قرصتها، لكني امتثلت، ورشت ونثلت، ومكرهاً لا بطلاً مثلت، وكيف يتفرغ للتأليف، ويتبرع للوفاء بهذا التكليف، من حمل الدنيا في سن الكهولة على كاهله، وركض طرف الهوى بين معارفه ومجاهله، واشترى السهر بالنوم، واستنفد سواد الليل وبياض اليوم، في بعث يجهز، وفرصة تنهز، وثغر للدين يسد، وأزر للملك يشد، وقصة ترفع، ووساطة تنفع، وعدل يحرص على بذله، وهوى يجهد في عذله، وكريم قوم ينصف من نذله، ودين تزاح الشوائب عن سبله، وسياسة تشهد للسلطان بنبله وإصابة نبله، ما بين سيف وقلم، وراحة وألم، وحرب وسلم، ونشر علم أوعلم، وجيش يعرض، وعطاء

يفرض، وقرض حسن لله تعالى يقرض، في وطن توافر العدوعلى حصره، ودار به دور السوار على خصره، وملك قصر الصبر والتوكل على قصره، وعدد نسبته من العدد العظيم الطاقة، الشديد الإضاقة، نسبة الشعرة من جلد الناقة، وبالله نستدفع المكروه، وإليه نمد الأيدي ونصرف الوجوه، وسألت منه - أيده الله تعالى - القنوع بما يسره الوقت، مما لا يناله المقت، والذهاب بهذا الغرض لما يليق بالترب والسن، ويؤمن من اعتراض الإنس والجن، وما كنت ممن آثر على الجد والهزل، واعتاض من الغزل الرقيق الغزل بشيمة الجزل، ولا آنف نم ذكر الهوى بعد أن خضت غماره، واجتنيت ثماره، وأقمتن مناسكه ورميت جماره، وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة، فالهوى أول تميمة قلدتني الداية، والترب التي عرفتها في البداية، وأنا الذي عن عروته نبت، وبعثت إلى الرصافة لأرق فدبت، إلى أن تبين الرشد من الغي، وصار النشر إلى الطي، وتصايح ولدان الحي، كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم كما من علي: جزى الله عني زاجر الشيب خير ما ... جزى ناصحاً فازت يداي بخيره ألفت طريق الحب حتى إذا انتهى ... تعوضت حب الله عن حب غيره حال السواد بحال الفؤاد، وصوح المرعى فانقطعت الرواد، ونهاني ازورار خيال الزوراء، واتفات عاذل الشيب عن المقلة الحوراء، وكيف الأمان، وقد طلع منه النذير العريان، يدل على الخبر بخبره، وينذر بهاذم اللذات على أثره، ولله در القائل: دعتني عيناك نحوالصبا ... دعاء يردد في كل ساعه فلولا، وحقك عذر المشيب ... لقلت لعينيك: سمعاً وطاعه ولولا أن طيف هذا الكتاب الوارد طرق مضجعي وقد كاد يبدوالحاجب، ويضيع من الفرض الواجب، ويعجب من نوم الغفلة العاجب، لجريت معه في

ميدانه، وعقدت بناني ببنانه، وتركت شاني وإن رغم الشاني لشانه، وقلت معتذراً عن التهويم في بعض أحيانه: أهلاً بطيفك زائراً أو عائداً ... تفديك نفسي غائباً أوشاهدا يا من على طيف الخيال أحالني ... أتظن جفني مثل جفنك راقدا ما نمت، لكن الخيال يلم بي ... فيجله طرفي فيطرق ساجدا ومن العصمة أن لا تجد، هلا قبل المشيب، ومع الزمن القشيب، وقبل أن تمخض القربة، وتبنى الخانقاه والتربة، وتؤنس باله الغربة، وعلى ذلك فقد أثر، وباء قلبي المعثر، اللهم لا أكثر: وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق موهناً لمعانه يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرا متمنع أركانه فبدا لينظر كيف لاح، فلم يطق ... نظراً إليه ورددت أشجانه فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه وجعلت الإملاء على حمل مؤازرته أيده الله تعالى علاوة، وبعد الفراغ من ألوان ذلك الخوان حلاوة، وقلت أخاطب مؤلف كتاب الصبابة بما يعتمده جانب إنصافه، ويغطي على نقص إن وقع فيه كمال أوصافه: يا من أدار من الصبابة بيننا ... قدحاً ينم المسك من رياه وأتى بريحان الحديث فكلما ... سمح النديم براحه حياه أنا لأهيم بذكر من قتل الهوى ... لكن أهيم بذكر من أحياه وعن لي أن أذهب بهذا الحب المذهب المتأدي إلى البقاء، الموصل إلى ذروة السعادة في معارج الارتقاء، الذي غايته نعيم لا نيقضي أمده، ولا ينفذ مدده، ولا يفصل وصله، ولا يفارق الفرع أصله، حب الله المبلغ إلى قربه، المستدعي لرضاه

وحبه، المؤثر بالنظر إلى وجهه، ويا لها نم غاية، الملقي رحل المتصف به بعد قطع بحار الفناء على ساحل الولاية. وكنت وقفت من الكتب المؤلفة في المحبة على جملة منها كتاب يشهده العوام ويستخفه الهوام، ورسالة ابن واصل رسالة مهذارة، تطفومن دارة إلى دارة، في مطاردة هر وفارة، وكتاب ابن الدباغ القيرواني (1) كتاب مفرقع، ووجه المقصود منه متبرقع، وكتاب ابن خلصون وهوأعدلها لولا بداوة تسم الخرطوم، وناسب الجمل المخطوم، فكنت بما ذكر لا أقنع، وأقول ما أصنع، فالله يعطي ويمنع: قلت للساخر الذي ... رفع الأنف واعتلى أنت لم تأمن الهوى ... لا تعير فتبتلى شعر: وعذلت أهل العشق حتى ذقنه ... فعجبت كيف يموت من لا يعشق (2) ومن المنقول: لا تظهر الشماتة بأخيك، فيعافيه الله ويبتليك. بلاني الحب فيك بما بلاني ... فشأني أن تفيض غروب شاني أجل بلاني بالغرض الذي هومن القلوب سر أسرارها، ومن أفنان الأذهان بمنزلة أزهارها، ومن الموجودات وأطوارها قطب مدارها؛ ليكون كتابي هذا المقدم على المأزق المهلك، المتشبع بما لا يملك، وأن يقنع الاتصاف، فعسى أن يشفع الإنصاف، والاقتراف، يدرؤه الاعتراف، أنا عند المنكسرة قلوبهم، ولا تجود يد، إلا بما تجد، وكل ينفق مما آتاه الله: وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس (3)

_ (1) لعله يشير إلى كتاب " مشارق أنوار القلوب " لأبي زيد عبد الرحمن بن محمد الأنصاري المعروف بابن الدباغ (- 696) . وقد نشره الأستاذ هـ. ريتر (دار صادر: 1959) . (2) البيت للمتنبي من قصيدته التي مطلعها " رق على أرق ومثلي يأرق ". (3) البيت لجرير، ديوانه: 250.

وعسى الذي أنطق شوقاً، أن ينطق ذوقاً، والذي حرك سفلاً أن يحرك فوقاً، والذي يسره مقالاً، أن يكفيه حالاً. فأول الغيث طل ثم ينسكب ... الحرب أول ما تكون لجاجة ... وإن الحرب أولها الكلام (1) ... نحمد الله سبحانه على الكلف بهذه الطريقة {وما يلقاها إلا ذوحظ عظيم} (فصلت: 35) وللأرض نصيب من كأس الكريم (2) : أليس قليلاً نظرة إن نظرتها ... إليك وكلا ليس منك قليل فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي (3) وعلى ذلك فذهبت في تربيته أغرب المذاهب، وقرعت في التماس الإعانة باب الجواد الواهب، وأطلعت فصوله في ليل طلوع نجوم الغياهب، وعرضت كتائب العزيمة عرضاً، وأقرضت الله قرضاً، وجعلته شجرة وأرضاً، فالشجرة المحبة مناسبة وتشبيها، وإشارة لما ورد في الكتب المنزلة ونبيهاً، والأرض النفوس التي تغرس فيها، والأغصان أقسامها التي تستوفيها، والأوراق حكاياتها التي تحكيها، وأزهارها أشعارها التي تحييها، والوصول إلى الله تعالى ثمرتها التي ندخرها بفضل الله ونقتنيها، شجرة لعمر الله يانعة، وعلى الزعازع متمانعة، ظلها ظليل، والطرف عن مداها كليل، والفائز بجناها قليل، رست في التخوم، وسمت

_ (1) صدره: فإن النار بالعودين تذكي؛ يرد في رسالة لنصر بن سيار يستنجد بها الخليفة الأموي عند ظهور المسودة. (2) عكس قول الشاعر: وللأرض من كأس الكرام نصيب، وكذلك ثبت النص في ق. (3) البيت للشريف، ديوانه 1: 658 وديوان الصبابة: 49.

إلى النجوم، وتنزهت عن أعراض الجسوم، والرياح الحسوم، وسقيت بالعلوم، وغذيت بالفهوم، وحملت بالزهر المكتوم، ووفيت ثمرتها بالغرض المروم، فاز من استأثر بجناها، وتعنلاى من عني بلفظها دون معناها، فمن استصبح بدهنها استضاء بسناها، ما أبعدها وما أدناها، عيناً ملأت الأكف بغناها، كم بين أوراقها من قلب مقلب، وفي هوائها من هوى مغلب، وكم فوق أفنانها من صادح، وكمم في التماس سقيطها من كادح، وكم دونها من خطب فادح، ولأربابها من هاج ومادح، تنوعت أسماؤها، ولم تتنوع أرضها ولا سماؤها، فسميت نخلة تهز وتجنى، وزيتونة مباركة يستصبح بزيتها الأسنى، وسدرة إليها ينتهي المعنى، أصلها للوجود أصل، وليس لها كالشجر جنس ولا فصل، وتربتها روح ونفس عقل، وشرفها يعضده بديهة ونقل، يحط بفنائها، ويصعد السالكون حول بنائها، تخترق السبع الطباق ببراقها، وتمحى ظلم الحس بنور إشراقها، فسبحان الذي جعلها قطب الأفلاك، ومدافن الأضواء والاحلاك، ومغرد طيور الأملاك، وسبب انتظام هذه الأسلاك، لم يحل فيها طريد بعيد، ولا اتصف بصفاتها إلا سعيد، ولا اعتلق بأوجها هاوفي حضيض، ولا بمحض برهانها متخبط في شرك نقيض، ولا تعرض لشيم بوارقها متسم بسمة بغيض، الحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ومنه نستزيد الاستغراق في بحارها، والاستنشاق لنواسم أسحارها، والاستدلال بذرى أفنانها عليه، والوصول بسبب ذلك إليه، إنه ولي ذلك سبحانه، فطاب لعمري المنبت والنابت، وسما الفرع الباسق ورسا الأصل الثابت، وفاءت الأفنان، وزخرفت الجنان، وتعددت الأوراق والزهرات والأغصان، ولم أترك فنناً إلا جمعت بينه وبين مناسبه، ولا فرعاً إلا ضممته إلى ما يليق به، واستكثرت من الشعر لكونه من الشجرة بمنزلة النسيم الذي يحرك عذبات أفنانها، ويؤدي إلى الأنوف روائح بستانها، وهوالمزمار الذي ينفخ الشوق في يراعته، والعزيمة التي تنطق مجنون الوجد من ساعته، وسعة ألسن العشاق، وترجمان ضمير الأشواق

ومجتلى صور المعاني الرقاق، ومكامن قنائص الأذواق، به عبر الواجدون عن وجدهم، ومشى المحبون إلى قصدهم، وهورسول الاستلطاف، ومنزل الألطاف، اشتمل على الوزن المطرب، والجمال المعجب المغرب، وكان للأوطان مركباً، ولانفعال النفوس سبباً، فلا شيء أنسب منه للحديث في المحبة، ولا أقرب للنفوس الصبة، واجتلبت الكثير من الحكايات وهي نوافل فروض الحقائق، ووسائل مجالس الرقائق، ومراوح النفوس من كد الأفكار، وإحماض مسارح الأخبار، وحظ جارحة السمع من منح الاعتبار، وبعض الجواذب لنفوس المحبين، والبواعث لهمم السالكين، وحجتها واضحة بقوله تعالى: " وكلا نقص عليك " هود:120 في القرآن المبين، ونقلت شواهد من الحديث والخبر تجري صحاحها مجرى الزكاة من الأموال، والخواطر من الأحوال، ويجري ما سواها من غير الصحيح مجرى الأمثال، ليكون هذا الكتاب لعموم خيره، مسرحاً للفاره وغيره، ويجد كل ميداناً لسيره، وملتقطاً لطيره، ومحكاً لغيره، فمن فاق كلف بأصوله، ومن قصر قنع بفصوله، ومن وصل حمد الله تعالى على وصوله، وسميته روضة التعريف بالحب الشريف ويحتوي على أرض زكية، وشجرات فلكية، وثمرات ملكية، وعيون غير بكية. والحب حياة النفوس الموات، وعلة امتزاج المركبات، وسبب ازدواج الحيوان والنبات، وسر قوله عز وجل {أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به الناس كمن مثله في الظلمات} (الأنعام:122) ليس كالحب الذي دون المدونون، ولعبت بكرة أقباسه صوالج الجنون، وقاد الهوى أهله بحبل الهون، وساقت فيه المنى لمنون، حين نظرت النفوس من سفلى الجنبتين، ورضيت الأثر عن العين، وباعت الحق بالمين، ولم تحصل إلا على خفي حنين، وارحمنا لعشاق الصور، وسباق ملاعب الهوى والهور، لقد كلفوا بالزخارف الحائنة الحائلة، والمحاسن الزائفة الزائلة، وسلع الجبانة، وبضائع الإهانة، أزمان التمتع بهم قصيرة، والأنكاد عليهم مغيرة، فتراهم ما بين طعين بعامل

قد، ومضرج بدم خد، وأسير ثغر قد أعوز فداؤه، وسقيم طرف قد أعضل داؤه، وما شئت من لل يسهر، ونداء به يجهر، وجيوب تشق، وبصائر تخطف أبصارها إذا لمع البرق، ونواسم تحمل التحيات، وخلع أيك تتلقى بخلع الأريحيات، وربما اشتد الختل، وأصابت النبل فكان الخبل، قلوب اشتغلت عن الله فشغلها الله بغيره، وهب الحب الجسماني لا تبعث عليه شهوة بهيمية، ولا تدعوإليه قوة وهمية، أليست الداعية مرتفعة، والباعثة منقطعة، وصورة الحسن دائرة، وأجزاؤه المتناظمة متناثرة أليس الجراب العنصري عائداً إلى أصله أليس الجنس مفارقاً لفصله ولله در علي رضي الله تعالى عنه، وقد نظر إلى قدح الماء وقد أراد أن يشرب، وعن الاعتبار أعرب، فقال: كم فيك من خد أسيل، وطرف كحيل! فأواه مكررة مرددة، ووالهفاه معادة مجددة، على قلب أصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها، ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً، وحسبنا مرارة الفراق ذلاً، وفقد النقد قلا، والغفلة عن الله شقاء محتوماً، والكآبة على الفائت شوماً: صدني عن حلاوة التشييع ... اتقائي مرارة التودريع لم يقم أنس ذا بوحشة هذا ... فرأيت الصواب ترك الجميع وإن كانت الشهوة فأخسس بها داعية، وإلى الفضيحة ساعية، حسبك من حمار يعلن بنداء المحبة نهاقه، ويقذفه على السباق اهتياجه إلى السفاد واشتياقه، أسير خبال، وصريع مبال، أولى له ثم أولى لوتأمل محاسن الجسوم، ما أكذب رائدها المطري، وأخبث زخرفها المغري، وأقصر مدة استمتاعها، وأكثر المساعي تحت قناعها: على وجه مي مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب العار لوكان باديا (1) ما ثم إلا أنفاس تركد وتخبث، وعلل تنشأ وتحدث، وزخارف حسن تعاهد ثم

_ (1) ينسب لذي الرمة (ديوانه: 675) وقيل بل وضع على لسانه.

تنكث، وتركيب يطلبه التحليل بدينه، ويأخذ أثره بعد عينه، وأنس يفقد، واجتماع كأن لم يعقد، وفراق إن لم يكن فكأن قد: ومن سره أن لا يرى ما يسوءه ... فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقدا منغص العيش لا يأوي إلى دعة ... من كان ذا بلد أو كان ذا ولد والساكن النفس من لم ترض همته ... سكنى مكان ولم يسكن إلى أحد وقلت وقد مات سكن عزيز علي أيام التغرب بسلا عظم جزعي عليه: يا قلب كم هذا الجوى والخفوت ... ذماءك استبق لئلا يفوت فقال لا حول ولا قول لي ... قد كان ما كان فحسبي السكوت فارقني الرشد وفارقته ... لما تعشقت بشيء يموت والزمان لا يعتبر، وحاصله خبر، والحازم من نظر في العواقب، نظر المراقب، وعرف الإضاعة، ولم يجعل الحلم بضاعة، إنما الحب الحقيق حب يصعدك ويرقيك، ويخلدك ويبقيك، ويطعمك ويسقيك، ويخلصك إلى فئة السعادة مما يشقيك، ويجعل لك الكون روضاً، ومشرب الحق حوضاً، ويجنيك زهر المنى، ويغنيك عن أهل الفقر والغنى، ويخضع التيجان لنعلك، ويجعل الكون متصرف فعلك، ليس إلا الحب، ثم الوصل والقرب، ثم الشهود، ثم البقاء بعدما اضمحل الوجود، فشفيت الآلام، وسقط الملام، وذهبت الأضغاث والاحلام، واختصر الكلام، ومحيت الرسوم وخفيت الأعلام، ولمن الملك اليوم والسلام، فالحذر الحذر، أن يعجل النفس سيرها، ويفارق القفص طيرها، وهي بالعرض الفاني متثبطة، وبنائي الثقيل مرتبطة، وبصحبة الفاني مغتبطة {أن تقول نفس

يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين. أوتقول لوأن الله هداني لكنت من المتقين. أوتقول حين ترى العذاب لوأن لي كرة فأكون من المحسنين} (الزمر: 56 - 58) وفي ذلك قلت: أعشاق غير الواحد الأحد الباقي ... جنونكم والله أعيا على الراقي جننتم بما يفنى وتبقى مضاضة ... تعذب بين البين مهجة مشتاق وتربط بالأجسام نفساً حياتها ... مباينة الأجسام بالجوهر الراقي فلا هي فازت بالذي علقت به ... ولا رأس مال كان ينفعها باقي فراق وقسر وانقطاع وظلمة ... قني ابعد من نيل السعادة يا واقي كأني بها من بعد ما كشف الغطا ... صريعة أحزان لديغة أشواق تقلب كفيها بخيط موصل ... رشيقة قد دون سبعة أطباق فلا تطعموها السم في الشهد ضلة ... فذلك سم لا يداوى بدرياق بما اكتسبت تسعى إلى مستقرها ... فإما بوفر محسب أو بإملاق وليس لها بعد التفرق حيلة ... سوى ندم يذري مدامع آماق ولو كان مرمى الحزن منها إلى مدى ... لهان الأسى ما بين وخد وإعناق فجدوا فإن الأمر جد، وشمروا ... بفضل ارتياض أوبإصلاح أخلاق ولا تطلقوا في الحس ثني عنانها ... وشيموا بها للحق لمحة إشراق ودسوا لها المعنى وريداً وأيقظوا ... بصيرتها من بعد نوم وإغراق ومهما أفاقت فافتحوا لاعتبارها ... مصاريع أبواب وأقفال أغلاق وعاقبة الفاني اشرحوا وتلطفوا ... بأخلاقها المرضى تلطف إشفاق فإن سكرت واستشرفت عند سكرها ... لماهية المسقى ومعرفة الساقي أطيلوا على روض الجمال خطورها ... إلى أن يقوم الوجد فيها على ساق وخلوا لهيب الشوق يطوي بها الفلا ... إلى الوجد في مسرى رموز وأذواق فما هو إلا أن تحط رحالها ... بمثوى التجلي والشهود بإطلاق

وتفنى إذا ما شاهدت عن شهودها ... وقد فني الفاني وقد بقي الباقي هنالك تلقى العيش تصفو ظلاله ... وتنعم من عين الحياة برقراق وما قسم الأرزاق إلا عجيبة ... فلا تطرد السؤال يا خير رزاق وقد أخذ الكلام في هذا الافتتاح حده، وبلغ النهر مده، فلآخذ أثر هذا الذي سردت، في تقرير ما أردت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب؛ فنقول: ينقسم هذا الموضوع إلى أرض، وشجر غض، وكل منها ميسور جدة، وفن على حدة، ما شئت من مرأى ومستمع، فمن شاء أفرد ومن شاء جمع، فلنبدأ بالأرض والفلاحة، والتكسير والمساحة، وتعيين حدود تلك الساحة، ثم نأتي بالشجرة التي نؤمل جناها، وننظر إناها، ونجعل الزاد المبلغ معناها، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هوخير مما يجمعون. برنامج هذا الكتاب الذي يحصر الأجناس والفصول، ويرد الفروع إلى الأصول، ويسر الباحث عن مسائله بسبب الوصول، بحول الله وقوته: خطبة الأعراس، وتوطئة الغراس، وتنحصر في جملتين: الجملة الأولى: في صفة الأرض وأجزائها، وجعل الاختيار بإزائها، وفيها رتب: الرتبة الأولى - رتبة الأطباق المفروضة، والاعتبارات المعروضة، وفيه مقدمة وأطباق: المقدمة في تعيين الأرض المذكورة. الطبق الأول: طيق القلب. الطبق الثاني: طبق الروح. الطبق الثالث: طبق النفس. الطبق الرابع: طبق العقل. الرتبة الثانية - رتبة العروق الباطنة، والشعب الكامنة، وفيها فصول:

الفصل الأول: في العروق المعدنية. الفصل الثاني: في المقررات العينية. الفصل الثالث: في المدبرات البدنية. الفصل الرابع: في البحوث البرهانية. الجملة الثانية: في صفة الفلاحة والعمل، المتكفل فيها بنيل الأمل، وفيها اختيارات: الاختيار الأول: فيما يصلح للاعتمار من هذه الأرض، وفيه فصول: الفصل الأول: في أرض النفس المطمئنة. الفصل الثاني: في أرض النفس الأمارة. الفصل الثالث: في أرض النفس اللوامة. الاختيار الثاني: في محركات العزيمة، لاعتمار هذه الأرض الكريمة، وفيه فصول: الفصل الأول: في الجذب وما يتصل بذلك. الفصل الثاني: في الوعظ المثمر لليقظة. الفصل الثالث: في ذم الكسل. الاختيار الثالث: يشتمل على جلب الماء ليسقي هذه الأرض من عين العلم في جدولي العقل المحرر والنقل المقرر، وفيه مقدمة في فضل العلم وتعدد أجناسه، وفصول: الفصل الأول: في جدول العقل. الفصل الثاني: في جدول النقل. الفصل الثالث: في مقدار الماء المجلوب، للفلح المطلوب. الفصل الرابع: في غبار التكوين، وسبب التلوين.

الاختيار الرابع: في الحرث، وإخراج لبن هذه الفلاحة من بين الدم والفرث، وفيه أقسام: أولها: القليب الأول. ثانيها: القليب الثاني الذي عليه المعول. ثالثها: في سكة الازدراع والتعمير، وهومظنة التثمير. الاختيار الخامس: في تنظيف المعتمرة من الأرض الخبيثة، والجدر المعترضة والشعب المذمومة، وفيه فصول: الفصل الأول: في إزالة شكوك تسبق إلى المعتقد غالباً. الفصل الثاني: في قلع الشجر التي تضر بهذه الأرض وتعاديها بالطبع. الاختيار السادس: في أمور ضرورية تلزم لهذه الفلاحة، وفيه فصول: الفصل الأول: في أمراض يشرع في علاجها، مما يرجع لطبع الأرض ومزاجها. الفصل الثاني: في اختيار أنواعها وأجزائها. الفصل الثالث: في أقوال تليق بأفحاص الفلاح وإصحاره، عند ملاحظة عجائب الكون وآثاره. الفصل الرابع: في الوقت المختار لغراسة الأسباب، في الحب اللباب، وتنحصر في مقدمة علمية، وجرثومة جرمية: المقدمة العلمية في ترتيب المحبة والمعرفة، الجرثومة الجرمية تنقسم إلى بيان يعطي الصورة، ويشرح الضرورة، وإلى بطن وظهر، وسر وجهر، وباسط، وبرزخ واسط، فالباطن الشرع والنقل، وينقسم إلى أصول: الأصل الأول: الكلام في النبوة من حيث النقل. الأصل الثاني: في الإيمان والاعتبار العامي. الأصل الثالث: فيما يتبع ذلك من اليقظة والتوبة في حق غير المحتاج إلى ذلك.

الأصل الرابع: في تقرير العناية والتوفيق في حق غير المحتاج إلى ذلك. الأصل الخامس: في الموعظة والسماع من حيث تهذيب الجميع، والظاهر الطبع والعقل، وينقسم إلى أصول: الأصل الأول: جزء الفلسفة العلمي والعملي. الأصل الثاني: سلامة الفطرة في حق المستغني عن ذلك. الأصل الثالث: في معرفة الجمال والكمال. الأصل الرابع: في الاعتبار الخاصي. الأصل الخامس: السلوك بالفكر. الأصل السادس: في التشبيه بالمبدأ الأول، باسط الذكر الباسط، والبرزخ الواسط، الصاعد من التخوم، إلى النجوم، وهومن أخص الأشياء بباطن الشجرة، وأصولها المعتبرة، ويشتمل على مقدمة وثلاثة أصول: الأصل الأول: الأدعية والذكار، وله عشر شعب. الأصل الثاني: أصل الأسماء، وهي أصول الأرض والسماء، وله تسع وتسعون شعبة. الأصل الثالث: أصل السيمياء، وهوالذي عفن بعضه وبقي الانتفاع ببعضه. العمود المشتمل على القشر والعود، والجنى الموعود، ينقسم قسمين: قشر وخشب، ودر مخشلب، والقشر ظاهر يكسر ويخذو، وباطن ينمي ويغذو، فظاهره الذي يكسر ويخذويتضمن الكلام في المحبة وأقسامها من حيث اللسان، لا من حيث نوع الإنسان، وباطنه الذي ينمي، ويغذويتضمن الثناء على المحبة طبعاً وعقلاً، وشرعاً ونقلاً. الخشب الذي يتخذ منه النشب ينقسم إلى أقسام: القسم الأول: في الحدود والمعرفات، والأسماء الدالة عليها والصفات. القسم الثاني: معقول معناها، المتجلي فيه نور سناها.

القسم الثالث: ارتباطها بالمقامات، واختصاصها فيها بالكرامات. القسم الرابع: تبيين ضروريتها، وإيضاح مزيتها. الفرع الصاعد في الهواء، على خط الاستواء، من رأس العمود القائم، إلى منتهى الوجود الدائم، ويشتمل على قشر لطيف، وجرم شريف. القشر: الحدود للمعرفة والرسوم، وخواص العارف الذي هوالمعروف بها والموسوم، وينقسم إلى فصول: الفصل الأول: في حدود المعرفة ورسومها وما قيل فيها. الفصل الثاني: في أوصاف العارف. الفصل الثالث: في تفضيل العارف. الفصل الرابع: في علوم العارف. والجرم الشريف، من الفرع المنيف، ينقسم إلى ظاهر، وباطن، وقلب. فالظاهر ينقسم إلى أقسام: الكلام في الأخلاق ومنشئها وطباعها بحسب القوى النفسانية وإفراطها وتفريطها واعتدالها وعلاجها، وفيه المجاهدات. والباطن يتضمن الكلام في أ، النظر إلى وجه الله تعالى هوالسعادة الكبرى بكل نظر واعتبار. والقلب قلب الغصن يتضمن الرياضة والسلوك على المقامات كلها، ويتفرع منه عشرة غصون. الغصن الأول: غصن فروع البدايات. الغصن الثاني: غصن فروع الأبواب. الغصن الثالث: غصن فروع المعاملات. الغصن الرابع: غصن فروع الأخلاق. الغصن الخامس: غصن فروع الأصول. الغصن السادس: غصن فروع الأدوية.

الغصن السابع: غصن فروع الأحوال. الغصن الثامن: غصن فروع الولايات. الغصن التاسع: غصن فروع الحقائق. الغصن العاشر: غصن فروع النهايات، ولكل فروع أوراق، ويلحق به صورة السلوك بالذكر حتى يتأتى الوصول، وعلى المقصود الحصول، والكلام على زهرات الطوالع واللوائح والبواده والواردات، ونختم بالجنى، المقترن بنيل المنى، وهي الولاية. تفرع ضخام الغصون، من شجرة السر المصون، وهي: غصن المحبوبات وأقسامها، وتنقسم إلى أربعة أفنان: الفن الأول: فن الرب المحبوب. الفن الثاني: فن العبد المحبوب. الفن الثالث: فن الدنيا المحبوبة. الفن الرابع: فن الآخرة المحبوبة. غصن المحبين، وأصنافهم المرتبين، ينقسم إلى مقدمة بيان، وستة أفنان: الفن الأول: في رأي الفلاسفة الأقدمين. الفن الثاني: في رأي أهل الأنوار والإشراقيين. الفن الثالث: في رأي الحكماء الإسلاميين. الفن الرابع: في رأي المكلمين بزعمهم المتممين. الفن الخامس: في أهل الوحدة المطلقة من المتوغلين. الفن السادس: في الصوفية سادة المسلمين. غصن علامات المحبة، وشواهد النفوس الصبة، وينقسم إلى ثلاثة أفنان: الفن الأول: فيما يرجع إلى حقوق المحبوب. الفن الثاني: فيما يرجع إلى باطن المحب.

الفن الثالث: فيما يرجع إلى ظاهره. غصن اختيار المحبين في ميدان جهادهم، وتباين أحوال أفرادهم، وهوثلاثة أفنان: الفن الأول: فن المجاهد الصريح. الفن الثاني: فن المنبت الجريح. الفن الثالث: فن الصريع الطريح. جوائح الشجرة، ومضار فلاحتها المعتبرة، وينقسم إلى جوائح من نسبتها، بالنظر إلى مائها وتربتها، وإلى ما هوراجع إلى الخواطر - وهي على عدد الرياح - وإلى ما سببه غفلة الفلاح، عذر الطائر الصادح، على فرض القادح، ووجود الهاجب والمادح. صورة الشجرة ذات الحسن الباهر، والجنى والأزاهر، وآثارها للحسن الظاهر، بفضل المريد القاهر، لا إله إلا هوسبحانه له الحمد؛ انتهت الخطبة التي تدل على ما وراءها. وقال رحمه الله تعالى في آخر هذا الكتاب ما نصه: ونختم الكلام في هذه الشجرة والاستدلال على شرف هذه الفلاحة الضمنية بهذه الأبيات: فلاحتنا لها القدح المعلى ... وسرحتنا الضمنية للنجاح ألست ترى منادي الخمس نادى ... بمختلف الجهات أو النواحي يردد في الأضان لكل واع ... على الآذان حي على الفلاح وهذا طائر على الشجرة صادح، ولاحق كادح، ومعتذر إن قدح قادح، وتعارض هاج وما دح. قال المؤلف: ولا بد لنا من دري صادح على هذه الأفنان، وشاد يهيج أشجان الجنان، ويثير شجوالرأفة والحنان، ويبين مجال الضرورة لذوي الاتصاف، بكرم الأوصاف، والناظرين إلى الهنات بعيون الإنصاف، فيرحم من قد كان شره النقد، ويعذر من تشوف لاستضعاف هذا القصد

والأعذار التي تقرر عنا هذا الطائر عديدة، ومبدئه في الصدق معيدة، وقريبة من الحق لا بعيدة، فمنها أن هذا الفرض اليوم بأكثر الأرض، ميدان عدم فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله من يجيل (1) كما يحب جواداً، ونفير لا يجيبه إلا من يكثر سواداً، قد طمست الأعلام، وسقط الحمد والملام، وما لجرح بميت إيلام، فمدلول هذا الفن بهذه التخوم عنقاء مغرب، وإكسير يحدث عنه غير واصل ولا مجرب، إنما يرجع فيه إلى كتب مقفلة، وأغراض مغفلة، وما عسى أ، يعول المسكين مثلي على قاصر إدراكه، مع اقتسام باله واشتراكه قصر العلم والعمل، فاختلط المرعي والهمل، وأخفق المسعى وخاب الأمل، ومنها شواغل الدنيا التي اختطفت من المكاتب، وموهت بالمراتب، ولقبت بالوزير والكاتب، وأقامت العبد الذي لا يملك شيئاً مقام العاتب، ومن كان بهذه المثابة وإن عد يقظاً حازماً، ونحريراً خالماً، فإنما هوغريق، وتائه لا يبدوله طريق، ولا ينساغ له ريق، ولا يطفأ ببرد اليقين منه حريق، ولا يربع عليه من قصاد الله تعالى فريق، ونستغفر الله، فالذي ألهم لهذه العيوب، يتكفل بإصلاح القلوب، ومكاشفة الغيوب، وإن كانت النفوس للحق جاحدة، فما أمري إلا واحدة: لا تعجبن لطالب نال العلا ... كهلاً وأخفق في الزمان الأول فالخمر تحكم في العقول مسنة ... وتداس أول عصرها بالأرجل ومنها الاشتغال بالهذر، عن اعلم والنظر، منذ أزمان عديدة، ومدد مديدة، فلم يبق مما حصل، وإليه مما في الزمان الديم توصل، إلا رسم بلقع، وسمل (2) ما له مرقع، ومنها أنني لم أنتدب إلى هذا الوظيف الذي قل من يتعاطاه، ويثير قطاه، ويقتعد مطاه، من تلقاء نفس جاهلة ببعد مداه، ومطل جداه، ومطالبة مدعيه بما كسبت منه يداه، فلا يتجاوز طوره ولا يتعداه، وإن طالب الحق من شرط وصوله، سلب فصوله، وحالة موته، وانقطاع حسنه فضلاً عن صوته،

_ (1) ق: بخيل. (2) ق: شمل.

لكني خضت على عدم السباحة غمراً، وامتثلت مع سقوط الاستطاعة أمراً، وجئت بما في وسعي اقياداً وامتثالاً، ومثلت مثالاً، فضرورتي بفضل الله تعالى مشروحة، والدعوى عن كتفي مطروحة، وعلى ذلك فقد علم الذي يعلم الأسرار، ويقرب الأبرار، ويقيل العثار، ويقبل الأعذار، أن مدة الاشتغال به لم تجاوز شهرين اثنين، بين كتب وكتم، وابتداء وختم، مع ما يتخلل الزمان من حمل لورمي به رضوى لتدعدع، أوأنزل على ثبير لخشع من خشية الله تعالى وتصدع: مداراة عدوقد تكالب على الإسلام، وسياسة سواد صم عن الملام، وتعدى حدود النهي والأحلام، وارتقاب هجوم جيش الآجال وراية الشيب من الأعلام، وقد أنذر بالفجر انقشاع الظلام، وكاد يصعد الخطيب فينقطع الكلام، جعلت لنقله حصة من جنح الظلام الغاسق، والليل الواسق، وعاطيت حمياه نديم الغارق (1) ، وتعرضت لاقتناص خياله الطارق، وسرقته من أيدي الشواغل والليل معين السارق، ولم يعمل فيه عبد القيس (2) نظراً معاداً، ولا أنجز من تصحيحه علم الله تعالى ميعاداً، إنما هوكراس يفرغ من تسويده رجراج الحبر، مختلط الترب بالتبر، فيدفع ملوم الماسخ، إلى يد الناسخ، وكلفة المتثاقل، إلى كف الناقل، وتقذف صحيفته من الزبرة إلى لاصاقل، إذ كان الآمر - أيده الله تعالى ونفعه - حريصاً على تعجيل المعارضة، ومتحرياً سبيل الشرع في هذه المصارفة والمقارضة، والجفن المشرق يعلن بالتبريح، وينتظر مساعدة الريح، فمن وقف عليه من فاضل أنار الله بصيرته، وجبل على الإنصاف سيرته، أومن كان من أهل الله الذي يعلم أن ما سوى الله تعالى ظل وفيء، ويتحقق معنى قوله " ليس لك من الأمر شيء "، فقد أوجب الإنصاف أن يمحواقترافي باعترافي، ويغطي أوصافي بإنصافي، والرحماء يرحمهم الرحمن، وقد عذر القنبرة سليمان، ومع

_ (1) كذا، ولعل صوابه " العاتق " أي الخمر القديمة أو الشراب الجيد. (2) حقه أن يقول عبد قيس، لإشارته إلى قول الشاعر: أعد نظراً يا عبد قيس فإنما ... أضاءت لك النار الحمار المقيدا

الاستسلام الأمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولا بأس أن يعرض بتلك لاأخونة الخصيبة المثوى والمروج، والحمل والفروج، وفي السماء البروج، وفي الأرض الفروج، والأعرج يستندر منه العروج، ونمد الأيدي المستعملة في التقصير، إلى الولي النصير والناقد البصير. اللهم استر بسترك فضائحنا المخلفة، وقبائحنا المجمعة المؤلفة، فهوكله تحويم حول حماك، ودندنة يا كريم بباب رحماك، وزند أنت قدحته، وتألق بارق أنت ألحته، فصل السبب يا واصل الأسباب، واجعلنا ممن تذكر فنفعته الذكرى وما يتذكر إلا أولوالألباب، اللهم دل نفوسنا الحائرة على عين الخبر، واجذبها إلى المؤثر بزمام الأثر، اللهم اجبر الضالة المثقلة الظهر، وارفع عنها ملكة القهر، وحيطة الدهر، والسفر من بلد السر إلى بلد الجهر، اللهم أعلق بعروة الحق أيدينا الخابطة، وأظفر بعدوالهوى عزائمنا المرابطة، اللهم أوصل سببنا بسببك، واحملنا إليك بك، لا إله إلا أنت، وصل على عبدك ونبيك محمد خاتم النبيين والمرسلين وآل والصحابة أجمعين انتهى. وقال - رحمه الله تعالى - آخر بعض تراجم هذا الكتاب ما صورته: خاتمة تشتمل على إشارات، وتختال من الحق في شارات، قال بعض من يطأ بمطية السلوك، حمى الملوك، وينقض زوايا الغيوب، عن المطلوب، ببصر بصائر القلوب: شهدت أصناف المحبين والعشاق، على اختلاف البلاد وتباين الآفاق، لا أدري أقال كشفاً وشهوداً أووجوداً أويقظة أوهجوداً، وقد ركضوا مطايا الأشواق، وضربوا آباطها بعصي المشارب والأذواق، وتزودوا أزواد الحقائق، وودعوا أحباب العوائد والعلائق، وتساهلوا في المحبوب اعتراض العوائق، وتفاضلوا في اختيار الجواد واقتحام المضايق، والطرق إلى اله تعالى عدد أنفاس الخلائق، فمن خابط عشواء، ومسقط أهواء، يقول: يا ليت أني أوقد النارا ... فإن من يهواك قد حارا (1)

_ (1) حور في قول عدي بن زيد: يا لبيني أوقدي النارا ... إن من تهوين قد حارا

فيجيبه الصدى: ومن طلب الوصول لدار ليلى ... بغير طريقها وقع الضلال ومثبت بحيث لا يبدوعلم، ولا يقتص خف ولا قدم، في مفازة وجود من حلها عدم، وهويصيح: بأبي وأمي والذي ملكت يدي ... أفدي الذي يهدي الطريق اللاحبا ثم يقول: ولقد سريت إليك لكن حين لم ... يكن الدليل أجل قصد السالك ومن طاونفذ زاده، وفرغ مزاده، قد استسلم، وعجز أن يتلكم، ولسان حاله ينشد: إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ... ندمت على التفريط في زمن البذر وراكض يقطع الدو، ويعرف بالجو، يثبت الأعلام الخافية، ويقصد الموارد الصافية والظلال الضافية، حاديه أمله، ودليله علمه والراحلة عمله، ينشد بأعلى صوته: قرب اللقاء فكيف لا ترتاح ... للقاء سكان الحمى الأرواح وفرانق يركض البريد، ويصحب التفريد، بلغ الطية، وأناخ المطية، قبل وصول الرفقة البطية: سرى سلخ شهر في فواق حلوبة ... فلله ما أنأى سراه وما أدنى {لوطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولمئلئت منهم رعباً} (الكهف: 18) . وقلت: نهضوا وقد جن الدجى وتخالفت ... سبل الردى فمسددون وضلل

سلني عن المنبت حين تقطعت ... أسبابه تيهاً ولا من يسأل قوم سطت بهم السباع، وفرقة ... عطشوا، وأين من الظلماء المنهال لفح الهجير وجوههم بسعيره ... فتهافتوا ببلالة وتعللوا وجماعة ركبوا المفاوز دائماً ... عثروا على أثر فشط المنزل وركائب جعلوا الدليل أمامهم ... وسروا ففازوا بالذي قد أملوا والليل متلفة، ومدرجة الهوى ... لا يستقل بها المطي الذلل والواصلون هم القليل وكيف تقحموا ... خطر النوى وعلى الشدائد عولوا طارت بهم أشواقهم فعقولهم ... معقولة عن شأنها لا تعقل عذراً لكم يا أهل عذرة شأنكم ... سلمت فيه لكم فقولوا وافعلوا حتى إذا خرجوا إلى قضاء القدر المشترك، وأفلت من أفلت من الشرك، وسلم من قتيل المعترك، وأشرفوا بركاب الآمال، على ثنية الجمال، زعقوا بإزاء الباب، ونادوا من وراء الحجاب: كل كنى عن شوقه بلغاته ... ولربما أبكى الفصيح الأعجم وأوصلوا رقاع شكواهم، بسر هواهم، وبرزوا صفاً، واستظهروا بشفعائهم التي ظنوا أنها لا تخفى {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر:3) وقد تعينت الأوصاف وتميزت، وانتبذت الأصناف وتحيزت، والعشاق نجت وسلمت، مذ علمت، منهم الصفوة والمجان، والحرافيش والبهلوان، ممن يعول على ذراعه، وملء كمته وصواعه، وطول باعه، وصلابة طباعه، وسلاطة لسانه، وامتزاج إساءته بإحسانه، شأنه البحث عن المحبوب، مع الشروق والغروب، والتوصل إلى وصله المطلوب، بالحركة الرشيقة واللفظ الخلوب، ومن اتسم بإذاعة الأسرار، وصحبة الشرار

واللسان المهذار، حسب من الأغيار، ونمهم بذاة، ليس لهم إلا المنادمة أدة، تعذر عليهم تميز المحبوب فغلظوا، وعكفوا على تنزيهه فأفرطوا: ربما ضر عاشق معشوقا ... ومن البر ما يكون عقوقا وغلبت على سجيتهم السلامة، ولم تنلهم لعدم الموصل والمعرف الملامة، وليس لقبول عليهم علامة؛ ومنهم من شعاره الحشمة، ولزيمه العاف والعصمة، أولوالحياء والوقار، والكتم للأسرار، ومخالطة الأبراب، والتوسل إلى المحبوب بالافتقار، وصفاء الضمائر من الأكدار، لا تختلجهم الشواغل، ولا يطرق شرابهم الواغل (1) ، أغنتهم الشواهد عن الدعوى، وأصمتهم الرضى عن الشكوى، وتقسمت معاملاتهم الآداب، وصح منهم إلى مراتب المراقبة الانتداب، والناقد بصير، وكلام النيات قصير؛ ونمهم المغلوب الحال، المحمول من فوق الرحال، رقص وشطح، وسكر فافتضح، فهوبلخ الرفقة، وملوع الحرقة، دعني وعبدي بلخ، فإنه يضحكني سبع مرات في اليوم؛ ومنهم من لم يأخذه نعت، ولا تعين له فوق ولا تحت، ولا حمد ولا مقت، ولا حين ولا وقت، لونطق لقال: أنا المعدوم الموجود، والشاهد المشهود {ألا بعد لمدين كما بعدت ثمود} (هود:95) . قضى وصلها لي، وابتلاكم بحبها ... وهل يأخذ الإنسان غير نصيبه ولم يكن إلا أن خرجت الرقاع، وفضلت البقاع {ووفيت كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون} (آل عمران: 25) . فكان في رقعة طائفة: أعود بالله من الشيطان الرجيم {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً، أومن وراء حجاب، أويرسل رسولاً

_ (1) الواغل: المتطفل على الشراب، يكنى به عن الدخيل في فريق أهل الحياء من السالكين.

فيوحي بإذنه ما يشاء} (الشورى: 51) قلدتم العقل وله طور، ورأيتم الحركات لا يتناهى لها دور، وعالم الجزئيات لا يسبر له غور، وحور المعاد في بعض الفروض لا يكون له كور (1) ، ويا شر ما أصبحتم في المعاد الأول تعتقدونه، أن جعلتم التصرف في عالم الملك لمن دونه، قفوا مكانكم، ولوموا أنفسكم ودعوا شأنكم (2) . وكان في أخرى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً " الحديد:13 أساطين الحكمة المشرقية، وفراش الأنوار الحقيقية، دعونا من استكثار الأنوار، واحتشاد الأطوار، الحق نور إرشاد لا يطيق حسن ذاته، إلا من ركب ظهر شتاته، فارفعوا الكلف، واذكروا مجرى من تقدم وسلف. وكان في أخرى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " قل الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " الأنعام: 91 لم تتركوا البراهين على أصلها، ولا ناسبتم جنس هذه الموضوعات بفصلها، وأثرتم شغباً طويلاً، وأوسعتم المتشابه تأويلاً، ولم تعتمدوا من العقل دليلاً، ولا وقفتم في مجازات العقول قليلاً، وهولتم باصطلاح غيركم تهويلاً، وادعيتم الشهود ولم يجعل اله تعالى في الاحتجاج به إلا لأنبياء سبيلاً، وبنيتم الحقائق على قياس ونظر، من غير عين للعقل والنقل ولا أثر: رب خل أدار فيّ اعتقاداً ... لم أكن قبله عرفت بفنه حكمت نفسه على علم غيبي ... جعل الله باطني عند ظنه وعسى أن تكونوا ممن أخطأ في اجتهاده فأثيب، واستغفر فسمع " لا

_ (1) الحور: النقصان، والكور: التمام. (2) ق: ولوموا مكانكم والزموا شانكم.

تثريب "، فثمرتكم صحيحة، والمقاصد من التبعة مريحة، إذا كانت صريحة، ولولا الافتيات، لوضحت في ميدان السبق لكم الشيات، لكن شأنكم الهذيان، وقلبت منكم بضعفائكم من المتأخرين الأعيان، كابن قسي وابن برجان (1) ، فتبرأوا من أتباعكم المطيفة، وأحزابكم المخيفة، وأخلصوا فعل الأنصار يوم قتال بني حنيفة، وحبذا الحكم المقتدي، ومن يهد الله فهوالمهتدي، واكبحوا الألسن عن طلاقتها وذلاقتها، ولا تكلفوا العقول فوق طاقتها، فلا بد من توقيف وتسليم، وفوق كل ذي علم عليم، وإذا محيتم فاثبتوا، أونطق إنسان فاسكتوا، ولا ترضوا أن تكتبوا مع الذين كبتوا، ولكم الحظ السني، والوصل الهني. وكان في أخرى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق " الأنبياء:16 ذهب بوجودكم العدم، وابتلع حدوثكم القدم، ورضيتم بالإشراف، في الاستشراف، والتوغل لزيم الانحراف، ومن جعل الحس وهماً، فقد كابر العيان ظلماً، والعقل الذي غلطكم هوآلة حكمكم، وأداة علمكم، والعوالم أوثق من أنتكون تمويه راقش، والوجود المطلق أبسط من أن تصير أبا براقش (2) ، ثم ما لكم والتبجح والتشبع (3) ، والتعقب والتتبع، ولم يغن العراك، ووقع في ثمرتكم الاشتراك، فالفيلسوف يتحد بالعلة القريبة من الخلق، ثم يتلاشى في ذات الحق، والحكيم يجوز إلى عين الحق رتبة الفناء المطلق، والمتشرع قد

_ (1) ابن قسي: ثار في أعقاب دولة المرابطين وتسمى تلك الثورة " ثورة المريدين " وكان شيخاً من مشايخ الصوفية وهو صاحب كتاب خلع النعلين، وقد انتشرت طريقته بشلب وكثر خوض أتباعه في الكتب التصوفية وموضوعات الغلاة من الباطنية؛ وأبو الحكم ابن برجان أيضاً من المتصوفة، وقد غربه علي بن يوسف اللمتوني وتوفي بمراكش سنة 537 (انظر أعمال الأعلام: 248 - 252) . (2) أبو براقش: رمز للتلون، وهو اسم طائر يتنفس فيتغير لونه. (3) التشبع: أن يدعي المرء ما لا يحسن.

عضده ونصره، كنت سمعه وبصره، وإن كان معظم القول الهذر، ففيكم بعد نظر. وكان في أخرى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين " العنكبوت: 69 أنتم الأحباب، ولكم يفتح من الجنان (1) الأبواب، ركبتم ظهور الأعمال، وركب غيركم ظهور الآمال، وفزتم بسحب الأذيال، ومن دونكم يحوك عناكب الخيال، فبدايتكم الأساس الوثيق، الذي يبنى عليه التحقيق، ونهايتكم إليها ينتهي الطريق، وبها يحط فريق الله تعالى ونعم الفريق، أولكم المقرب المدرب، وأوسطكم الفرد المعرب، وآخركم الولي المقرب، حضرتم بذكر محبوبكم حتى غبتم، فهينئاً لكم طبتم، حواس مسدودة، وخيوط أفكار كلها ممدودة، ومشاهد مشهودة، ومغلطات تتجاوز حراسها، وقواطع معترضة بحل مراسها، إلى أن لا توجد تقية، ولا تبقى بقية، عند تجلي المعالم الخفية، لواشتمل العلم على عملكم، لكان الكل من هملكم، بحيث تتعين المراتب وتتميز، وتتقرر المشارب وتتحيز، لا يعترض قاطع إلا وقد علم شأنه، وتعين وقته ومكانه، ولا تمثل غاية إلا ودرجها محدودة، ومراحلها معدودة، ومشاهدها قبل دخول الطريق مشهودة، فهناك تطوى المراحل، ويلوح في اللمحة القريبة الساحل، ويأمن طول الطريق الواصل. وكان في رقعة المحبين الذين قربوا قبل هذا اليوم وأدخلوا من بعد ما تخيروا للاصطفاء وانتخلوا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض،

_ (1) ق: الجناب.

والله سميع عليم " آل عمران:33، 34 أنتم الأحباب، ولباب الألباب، وبوساطتكم اتصلت بين النفوس وبين الحق الأسباب، لولاكم لم يفتح الباب، فلا يصل إلا من أوصلتم، ولا يحجب إلا من قطعتم وفصلتم، أنتم الرعاة والخلق الهمل، وأنتم الدعاة لمن يريد نيل الأمل، مهدت لكم سرر القرب تمهيداً، وبعثتم إلى الناس ليوحدوا الله توحيداً " ولتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً " البقرة: 143 فطوبى لمن أصاخ منكم إلى ندا، واستضاء بنور هدى، صلوات الله عليكم أبداً، أنتم أولوالألوية المعقودة، والعساكر المحشورة المحشودة، ورؤساء أهل المحبة، وأدلاء مبتغي الوسيلة والقربة، ومسالككم قد بينتها الصحف المنزلة، والملائكة المرسلة، ودخلت على العذارى خدورها، وعمت السماء وبدورها، وأغنت عن تقرير نحلها المكاتب المائجة بالصبيان، والسنن المعقودة لها حلق التبيان، والقواعد المفترضة على الأعيان، والخزائن المرصوصة بعلوم الأديان " اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً " المائدة:3 وقيل لأتباعهم من الجمهور، وأقطاب فلكهم المشهور: على قدر أتباعكم، مناقل أبواعكم، وبحسب اقتدائكم، يكون سماع ندائكم، والمهاد لمن وثره " ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره " الزلزلة:7 وتأخيركم في التوقيع هوالتقديم، و " ساقي القوم آخرهم شربا " مثل قديم؛ قال المخبر: فرأيت وجوههم قد تهللت، ونواسم المسرات نحوهم قد أقبلت؛ ومن سواهم من خالص وزائف، بين راج وخائف. وسمعت أن طائفة استدعيت بحث حفي وأدخلت من باب خفي، قيل لهم: هم أصحاب الخبر المكتوم، وأرباب المقام غير المعلوم، جعلنا الله تعالى منهم برحمته: ولولا الحب ما قطعوا الفيافي ... ولولا الحب ما قطعوا البحارا فدعهم والذي ركبوا إليه ... وبحثاً عن خلاصك واختبارا

فلا تشغل بحب ديار ليلى ... ولكن حب من سكن الديارا (1) وقال قبل هذه الخاتمة بعد كلام كثير ما نصه: وقد أتينا على ما شرطنا من تقرير ما أمكن من هذه الآراء، وهم ما بين سابق للخيرات ومقتصد وظالم لنفسه، ومع ذلك مخبون، وعلى آثار الحبيب مكبون، ما كل طريق توصل، ولا كل تجارة على الربح تحصل، ومن العشاق مهجور ومطرود، وموصل وموعود، ومغبوط ومحسود، ومحروم ومجدود، ومرحوم ومردود: يا غايتي، ولكل شيء غاية، ... والحب فيه تأخر وتقدم قل لي بأي وسيلة يحظى بما ... يرجوه غيري من رضاك وأحرم ورقة: ولكل دائرة مفروضة، وهالة حول قمر الحق معروضة، تعود الخطوط من محيطها المسدد، إلى مركزها المحدد: فالفيلسوف يروم التشبث بالعلة الأولى، ويعني بها ذات الحق، أوأن يتحد بالثانية، وهي مرآة وجه الحق؛ والإشراقي يروم التجوهر بنور الأنوار المعبر عنه بالحق، والاتصال به إما بواسطة من الحق أوبغير واسطة من الحق؛ والحكيم أن يؤديه فكره إلى الحق، ثم يفنى في الحق، ثم يبقى بالحق، والمتشرع أن يجن في جنة الحق، ويحصل على جوار الحق، وينظر إلى جوار الحق؛ وصاحب الوحدة المطلقة أن يكون المتفرق عين الحق، فسبحان الحق، المعبود بالحق، الموجد الجمع في الفرق، لا إله إلا هو. وزيد في هذا المحض الذي كثر في قربه الدعداع (2) ، وطال على الرؤوس منه الصداع، ما تفرد له المقالة المختصرة، والعناية الميسرة، بحول من لا حول ولا قوة إلا به. انتهى. وقال رحمه الله تعالى في عد ما عدد من فرق الاعتزال ما نصه:

_ (1) حور قول الشاعر: وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا (2) الدعداع: العدو فيه بطء والتواء.

الحب حركهم لكل جدال ... والحب أقحمهم على الأهوال والحب قاطع بينهم وأضلهم ... عن نيل ما راموه كل ضلال والحب أنشأ فيهم عصبية ... بالقيل أضرم نارها والقال وإنما استكثرنا من ذكرهم عبرة لمن تأمل حركات هذا الفراش المختلف الآراء عن ذبال الحق، يبتغون إليه الوسيلة، قوم بالطاعة، وقوم بالمعصية، وما منهم إلا مدع في المحبة متهالك، حريص على السعادة بزعمه " وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة " الغاشية:2 ممن قصد الحق فأخطأه، وأراد الصواب فضل عنه، واشتهر بالحكمة بعد في الملة الإسلامية جماعة بالمشرق والأندلس، فمن المشارقة: أبوالفرج (1) ، ويعقوب الكندي، وحنين بن إسحاق، وثابت بن قرة، فكان عندهم مباشرتها من حيث الترجمة والمزاولة، إلى أ، قال: ومن أهل الأندلس: محمد بن مسعدة السرقسطي، وأحمد بن طاهر الطرطوشي، ويحيى بن عمران القرطبي، وطفيل بن عاصم، وكليب بن همام البياسي، والحسن بن حرب الداني، وابن مسرة، ومسلمة المجريطي، وأبوبكر ابن الصائغ، وأوبكر ابن طفيل، وأبوالوليد ابن رشد (2) ، وكل هؤلاء المتقدمين والمتأخرين محب عاشق مستهلك، قال الشاعر: وعلي أن أسعى ولي ... س علي إدراك النجاح حيارى يميد بهم شجوهم ... كأنهم ارتضعوا الخندريسا

_ (1) أبو الفرج هو عبد الله بن الطيب وسنترجم له بعد صفحات. (2) قد جمع لسان الدين هنا عدداً من المشتغلين بالحكمة من الأندلسيين وإذا استثنينا آخر خمسة ذكرهم وجدنا البقية ممن لم يعرفوا معرفة واضحة.

إذا لم يكن عون من الله للفتى ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد (1) " ولوشاء شربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " هود:118 " فريقاً هدى، وفريقاً حق عليهم الضلالة " الأعراف:30 " قل سيروا الحجة البالغة، فلوشاء لهداكم أجمعين " الأنعام:149 والخلق قد مدوا أبصارهم وآمالهم، وتحركوا طوعاً وكرهاً يعشون إلى نور الله تعالى، فمن أعمى أصم لا يسمع ولا يبصر، وأعمى فقط يجتزئ عن العيان بالمخبر، وأحول يبصر الشيء شيئين، والواحد اثنين، كما قال الشاعر: أحوى الجفون له رقيب أحول ... الشيء في إدراكه شيئان فيلوح في عيني منه واحد ... ويلوح في عينيه منه اثنان يا ليته ترك الذي أنا مبصر ... وهو المخير في الحبيب الثاني وضعيف لا يبصر من بعيد، وأجهر لا يبصر من قريب، وأعشى تكثر في عينيه الأشعة، وربما تندر، وزرقاء اليمامة: سبحان من قسم الحظو ... ظ فلا عتاب ولا ملامه (2) أعشى وأعمى، ثم ذو ... بصر، وزرقاء اليمامه لولا استقامة من هدا ... هـ لما تبينت العلامه ومجاور الغرر المخي ... ف له البشارة بالسالمة أقام سبحانه الحجة، وفرق بين الأمر والإرادة، وأعطى الكفاية من القدرة {فمنهم مهتد، وكثير منهم فاسقون} (الحديد:26) اقتصرنا من هذا البحر

_ (1) البيت لأبي فراس الحمداني، ديوانه: 83 وفيه: " وإذا كان غير الله لمرة عدة ". (2) قد أورد المقري هذه القصيدة في المجلد الأول: 7 وانظر مقدمة المحقق: 14.

على نقطة، ومن هذا الودق على فطرة: ومن يسد طريق العارض الهطل (1) ... عد الحصى والقطر ليس يرام ... وذكرنا الرسل والأنبياء والأتباع ذكراً من غير تبويب ولا تعيين، لشياع آرائهم، والعلم بمقاصد مللهم، وأغراض دعواتهم، من توحيد الله تعالى وتنزيه وصفاته وأسمائه، وكيف يحشر الناس ليوم لا ريب فيه " ولتجزى كل نفس بما كسبت " الجاثية:22 وتعليم طرق النجاة، وإيضاح سبيل الله تعالى، والتحذير من الغفلة عمن إليه الرجعى، وله الآخرة والأولى، والتخويف من كل ما يقطع عنه، والترغيب فيما يوصل إليه وشأن الرياضة والتدريج في أحوالها حتى تنتقل من الظواهر إلى البواطن، وتسري في الخلف من السلف، والندب إلى الاقتصار على الضرورة والقناعة بالبلاغ، وتبين الرسم فيها، والتعيين لحدودها، قد تضمنت ذلك كله آيات الله الاتي تكفل بحفظها، وسنة رسوله التي قيض مناخل الصدق لتصحيح نقلها، فالمكاتب - والمنة لله تعالى - مائجة، والمدارس حافلة، فما لنا والإطالة في الموجود الذائع، والمشهور الشائع: والشمس تكبر عن حلي وعن حلل ... فهي الدراري في التقليد بالدرر ... ما أغنى الشمس عن مدح المادح، تحصيل الحاصل عناء {هوالذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولوكره المشركونؤ (التوبة:33) . فلنذكر بعض أرباب الآراء من قريب وبعيد، وخلق جديد، على صورة

_ (1) للمتنبي، وصدره: وما ثناك كلام الناس عن كرم.

المثال المفروض وليكون كعرض الحبوب الذي تجزئ منه الفنة عن الجفنة، والقربة عن القرية (1) ، ونقتصر على اليسير لإقامة الترتيب، وإحكام التبويب، وليرى الواقف عليه أننا قد نفضنا الزوايا، ورشفنا الروايا، وامتككنا العظام (2) ، واستقصينا النظام، حرصاً على نشيدة الحق أن تعقل، وعلى الطباع أ، تنقل، وعلى المراثي الصدئة أن تصقل، وعلى صورة النجاة أن تمقل، ونسأل الله تعالى هذاية توصل إليه، لا إله إلا هوالرحمن الرحيم؛ انتهى. وقال رحمه الله تعالى فيما قبل هذا الكلام بكلام ما صورته: غصن المحبين، وأصنافهم المرتبين، ويتمل على مقدمة بيان، وستة أفنان. فالمقدمة ... فنقول: أصناف المحبين والعشاق كثير، وهباء نثير، وجراد أثارها مثير، بحيث يشق إحصاؤهم، ولا يتأتى استقصاؤهم: فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى: ... قتيلك، قالت: أيهم فهم كثر (1) ثم مد النفس بما لا يقتضي المقام الاختصاري ذكره في هذا الموضع. وقال رحمه الله تعالى ف يبعض تراجم الروضة، وهي الخاتمة التي تنبه النفوس الصقبة، على حكم المحبة " ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة " الأنفال:42 بعد كلام ما صورته: فقر في معنى هذه الخاتمة فيها حكم تنثال، وتجري مجرى الأمثال: المحبة بحر بعيد الشط، وخط والفناء منتهى الخط " إنا عرضنا الأمانة - إلخ " الاحزاب:72. المحبة مهوى بعيد، ومجال وعد ووعيد، مرجل يغلي، ثم خيال يولي، وليس له حد عليه يعول. المحبة ظهر لا يركبه، من يرى الموت فيتنكبه، ولا يعلوه، من يأتي

_ (1) يريد أن بائع الحبوب يعرض منها نموذجاً مثل ملء حفنة أو قربة. (2) امتك العظم: امتص ما في داخله. (1) يريد أن بائع الحبوب يعرض منها نموذجاً مثل ملء حفنة أو قربة.

إلى وادي الفناء فيسلوه " إن الله مبتليكم بنهر " البقرة: 149 كم قمصت المحبة من ظهر، وكم سر صيرت إلى جهر، أولها العار المشهور، وآخرها الطي المنشور، ثم الموت ثم النشور {وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب} (الزمر: 69) . المحبة أنس يستدرج، ثم شوق يلجم ويسرج، ثم فناء يزعج، عن الوجود ويخرج: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... المحبة كاس، كم جردت من كاس، وآس، من شمه لم يجد من آس: متى أرتجي يوماً شفائي من الضنى ... إذا كان من يجني علي طبيبي تزاحم أنفاس المحبين على خطرات الصبا، تزاحم الهباء على مطارح شعاع الدبا، فلولا بلهيلها لالتهبت، وتعليل عليها لتلك الأرماق لذهبت: عليلة في حواشي مرطها بلل ... يهدى لكل عليل منه إبلال المحبة رقة، ثم فكرة مسترقة، ثم ذوق، يطير به شوق، ثم وجل لا يبقى معه طوق، ثم لا تحت ولا فوق: أينما كنت لا أخلف رحلاً ... من رآني فقد رآني ورحلي الهوى هوان، وحمام له ألوان، دمع ساجم، ووجد هاجم، وهيام لا يبرح، ثم وراءه ما لا يشرح: قال: بمن جن وهل في الورى ... ما يبعث الخبل سوى حبه من اقتحم بحر الهوى، هوى. لا تدخل في بحر الهوى حتى تشاور صبرك، وتجاور قبرك، فإن كنت منا أوفرح بسلام. الهوى طريق، ولسلوكه فريق. الزاد مكتوم، ووفاء معلوم.

وللميادين أبطال لها خلقوا ... وللداووين حساب وكتاب الحب حج ثان، لا يثني نفس المريد عنه ثان، طريقه التجريد، وزاده الذكر، وطوافه المعرفة، وإفاضته الفناء " فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم، وإن كنتم من قبله لمن الضالين. " البقرة:1987. الغرام، صعب المرام، والدخول فيه حرام، ما لم يكن فيه شروط كرام. من عرف ما أخذ، هان عليه ما ترك " وربك يخلق ما يشاء ويختار " القصص:68 ظهر الهوى طريقاً سهلاً، فكثر التائهون جهلاً: إذا لم يكن عون من الله للفتى ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد (1) والعكس: قد يخبأ المحبوب في مكروهها ... من يخبا المكروه في المحبوب (2) وقال الشيخ (3) : هو الحب بالحشا ما الهوى سهل ... فما اختاره مضني به وله عقل وعش خالياً فالحب راحته عناً ... وأوله سقم وآخره قتل نصحتك علماً بالهوى والذي أرى ... مخالفتي، فاختر لنفسك ما يحلو فمن لم يمت في حبه لم يعش به ... ودون اجتناء النحل ما جنت النحل طريق القوم مبنية على الموت، وإليه الإشارة بقوله " موتوا قبل أن تموتوا ". بيدي لا بيد عمرو، وقال بعضهم: رأيت رب العزة فقلت: يا رب بم أصل إليك قال: فارق نفسك وتعال:

_ (1) انظر ما تقدم ص: 310. (2) البيت للسان الدين بنفسه من بائية طويلة ستأتي عند ذكر شعره. (3) هو ابن الفارض، انظر ديوانه: 134 وديوان الصبابة: 25.

رفض السوى فرض على العين ... لا تخلصن الحق بالمين والأين والكيف سوى ظاهر ... فاستغن عن كيف وعن أين الخشب، الذي يتخذ منه النشب، ينقسم إلى أقسام، وأجزاء جسام: القسم الأول: في الحدود والمعرفات، والأسماء الواقعة والصفات (1) . وللسان الدين رحمه الله تعالى في المواعظ اليد الطولى؛ قال في الروضة في الفصل الثاني في محركات العزيمة - وهي اليقظة - ما نصه: قلت: والمحركات المشتركات في باعث اليقظة كثيرة: منها الوعظ السائق بمقود الشارد عن الله تعالى إلى مربط التوبة، ومحرك العزيمة يردد أذانه على نوام أهل الكهف، وقد ضرب نوم الغفلة على آذانهم، حتى يحول بينهم وبين أذانهم، ويركبهم ظهر الرياضة التي تلحقهم بالمجذوبين من إخوانهم، ولما كان حب الدنيا هوالمانع عن الشروع في إطلاق العمل، والقاطع به بعده لم يجد أساة خبل الهوى وجنون الكسل أنجع من رقي العذل والتأنيب، وتقبيح المحبوب، سيما إذا انزعجت نبال نبله عن حنيات ضلوع الصدق، وقال بعضهم: الكلام إذا خرج من القلب دخل القلب: أوقد النار من رسالة ليلى ... واحذر السيل بعدها من دموعي ولا تعدل الوعظ البليغ باللسان الفصيح، والقلب القريح، فإذا رأيت الأرض قد اهتزت وربت، وهضاب القلوب القاسية قد تقلبت، فشمر للغراس والزراع عن الذراع، واغتنم السراع والإسراع: إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإن لكل عاصفة سكونا حفر لها ماء يريها بدأة ... واضمن لها حوضاً وإن لم تحفر واربأ بنفسك عن تسامح بائع ... واغنم إذا سامتك شهوة مشتري قالوا: الوعظ يضرب وجه النفس عن الثبط في بساط اللذات، وينقل

_ (1) الخشب ... والصفات: هذه العبارة مقحمة هنا وقد وردت ص: 294.

خطواتها عن الخطوفي ملعب الخطيئات، ويمثل لها الصبر عياناً، ويبين العواقب المحجوبة بياناً، وينشئ سحاب الحزن في أجواف أجزائها، ويذكرها بمآلها وانتهائها، ويعرض عليها مصارع فنائها، وخراب بنائها، وفراق حبائبها وأبنائها، عند نزول هاذم اللذات بفنائها، فترجع إلى الله تعالى بحكم الاضطرار أفكارها، وتخشع من خيفة الله تعالى وجلاله أبصارها. والوعظ يكون بلسانين، ويوجد فنين: لسان حال، ولسان مقال، وربما كان لسان الحال أبلغ، وهويسمع من القبور الموحشة، والقصور الخالية، والعظام البالية، وفيه حكايات وأخبار، ولسان المقال كقوله سبحانه وتعالى " وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، وتبين لكم كيف فعلنا بهم، وضربنا لكم الأمثال " إبراهيم " 45 وهوسبيل الله تعالى التي بعث بها النبيين، وضمن فصولها الكتاب المبين، والسوط الذي يحمل على الأوبة، ويسوق ذود المتطهرين إلى غدير التوبة، ونحن نجعله هيمنة بين يدي الفراسة، لتزكيه النفوس إن صدق حكم الفراسة، فمن ذلك ما صدر عني على لسان واعظ: الحمد لله الولي الحميد، المبدئ المعيد، البعيد في قربه من العبيد، القريب في بعده فهوأقرب من حبل الوريد، كحيي ربوع العارفين بتحيات حياة التوحيد، ومغني نفوس الزاهدين بكنوز احتقار الافتقار إلى العرض الزهيد، ومخلص خواطر المحققين من سجون دجون التقييد، إلى فسح التجريد، نحمده وله الحمد المنتظمة درره في سلوك الدوام وسموط التأبيد، حمد من نزه أحكام وحدانيته، وأعلام فردانيته، عن مرابط التقليد، ومخابط الطبع البليد، ونشكره شكر من افتتح بشكره أبواب المزيد، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هوشهادة نتخطى بها معالم الخلق إلى حضرة الحق على كبد التفريد، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله قلادة الجيد المجيد، وهلال العيد، وفذلكة الحساب وبيت القصيد، المقصود بمنشور الإدلال

وإقطاع الكمال، بين مقام المراد ومقام المريد، الذي جعله السبب الأوصل في نجاة الناجي، وسعادة السعيد، وخاطب الخلائق على لسانه الصادق بحجتي الوعد والوعيد، فكان مما أوحى به إليه، وأنزل الملك به عليه، من الذكر الحميد، ليأخذ بالحجز والأطواق من العذاب الشديد " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " ق:16. إلى قوله حديد، صلى الله عليه وعلى آل صلاة تقوم ببعض حقه الأكيد، وتسري إلى تربته الزكية من ظهور المواجد الجائية على البريد (1) : قعدت لتذكير ولوكنت منصفاً ... لذكرت نفسي فهي أحوج للذكرى إذا لم يكن مني لنفسي واعظ ... فيا ليت شعري كيف أفعل في الأخرى آه! أي وعظ بعد وعظ الله تعالى يا أحبابنا يسمع وفي ماذا وقد تبين الرشد من الغي يطمع يا من يعطي ويمنع، إذا لم تقم الصنيعة فماذا نصنع اجمعنا بقلوبنا با من يفرق ويجمع، ولين حديدها بنار خشيتك فقد استعاذ نبيك صلى الله عليه وسلم من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، اعلموا - رحمكم الله - أن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها من الأقوال والأحوال، ومن الجماد والحيوان، وما أملاه الملوان (2) ، فغن الحق نور لا يضره أن يصدر من الخامل، ولا يقصر بمحموله احتقار الحامل، وأنتم تدرون أنكم في أطوار سفر لا تستقر لها دون الغاية رحلة، ولا تتأتى معها إقامة ولا مهلة، من الأصلاب إلى الأرحام، إلى الوجود، إلى القبور، إلى النشور، إلى إحدى داري البقاء، أفي الله شك فلو أبصرتم مسافراً في البرية يبني ويفرش، ويمهد ويعرش، ألم تكونوا تضحكون من جهله، وتعجبون من ركاكة عقله

_ (1) يريد مواجد المشتاقين إلى زيارة قبره عليه السلام. (2) الملوان: الليل والنهار.

ووالله ما أموالكم ولا أولادكم وشواغلكم عن الله التي فيها اجتهاد إلا بقاء سفر في قفر، أوإعراس في ليلة نفر، كأنكم بها مطرحة تعبر فيها المواشي، وتنبوالعيون عن خبرها المتلاشي " إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم " الأنفال:28. ما بعد المقيل إلا الرحيل ولا بعد الرحيل إلا المنزل الكريم أوالمنزل الوبيل، وإنكم تستقبلون أهوالاً سكرات الموت بواكر حسابها، وعتب أبوابها، فلوكشف الغطاء عن ذرة منها لذهلت العقول وطاشت الألباب، وما كل حقيقة يشرحها الكلام " يا أيها الناس إن وعد الله حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور " فاطر:5. أفلا أعددتم لهذه الورطة حيلة، وأظهرتم للاهتمام بها مخيلة أتعويلاً على عفوه مع المقاطعة وهوالقائل في مقام التهديد " إن عذابي لشديد " إبراهيم " 7 أأمناً من مكره مع المنابذة " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " الأعراف:99 أطمعاً في رحمته مع المخالفة وهويقول " فسأكتبها للذين يتقون " الاعراف " 156 أمشاقة ومعاندة " ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب " الحشر:4 أشكاً في الله فتعالوا نعيد الحساب، ونقرر العقد ونتصف بدعوة الحق أوغيرها، من اليوم تفقد عقد العقائد عند التساهل بالوعيد، فالعامي يدمي الإصبع الوجعة، والعارف يضمد لها مبدأ العصب: هكذا هكذا يكون التعامي ... هكذا هكذا يكون الغرور " يا حسرة على العباد، ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون " يس:30 وما عدا عما بدا ورسولكم الحريص عليكم الرؤوف الرحيم يقول لكم الكيس من نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني فعلام بعد هذا المعول وماذا يتأول اتقوا الله سبحانه في نفوسكم وانصحوها، واغتنموا فرص الحياة واربحوها " أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، وإن كنت لمن الساخرين "

الزمر:56 وتنادي أخرى " هل إلى مرد من سبيل " الشورى: 44 وتستغيث أخرى " يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل " الأعراف:53 وتقول أخرى " رب ارجعون " المؤمنون:99 فرحم الله من نظر لنفسه، قبل غروب شمسه، وقدم لغده من أمسه، وعلم أ، الحياة تجر إلى الموت، والغفلة تقود إلى الفوت، والصحة مركب الألم، والشبيبة سفينة تقطع إلى ساحل الهرم. وإن شاء قال بعد الخطبة: إخواني، ما هذا التواني، والكلف بالوجود الفاني عن الدائم الباقي والدهر يقطع الأماني، وهاذم اللذات قد شرع في نقض المباني ألا معتبر في عالم هذه المعاني ألا مرتحل عن مغابن هذه المغاني ألا أذن تصغي إلي سميعة ... أحدثها بالصدق ما صنع الموت مددت لكم صورتي فأواه حسرة ... على ما بدا منكم فلم يسمع الصوت هوالقدر الآتي على كل أمة ... فتوبوا سراعاً قبل أن يقع الفوت يا كلفاً بما لا يدوم، يا مفتوناً (1) بغرور الوجود المعدوم، يا صريع جدار الأجل المهدوم، يا مشتغلاً ببنيان الطرق قد ظهر المناخ وقرب القدوم، يا غريقاً في بحار الأمل ما عساك تعوم، يا معلل الطعام والشراب ولمع السراب، لا بد أن تهجر المشروب وتترك المطعوم. دخل سارق الأجل بيت عمرك فسلب النشاط وأنت تنظر، وطوى البساط وأنت تكرب، واقتلع جواهر الجوارح وقد وقع بك النهب، ولم يبق إلا أن يجعل الوسادة على أنفك ويقعد: لو خفف الوجد عني ... دعوت طالب ثاري {كلا إنها كلمة هوقائلها} (المؤمنون: 100) كيف التراخي والفوت مع الأنفاس ينتظر كيف الأمان وهاجم الموت لا يبقي ولا يذر كيف الركون إلى الطمع الفاضح وقد صح الخبر من فكر في كرب الخمار تنغصت عنده

_ (1) ق: مغبوناً.

لذة النبيذ، من أحس بلغط الحريق فوق جداره لم يصغ بصوته لنغمة العود، من تيقن بذل العزلة هان عليه ترك الولاية: ما قام خيرك يا زمان بشره ... أولى لنا ما قل منك وما كفى أوحى الله سبحانه إلى موسى صوات الله وسلامه عليه أن ضع يدك على متن ثور، فبعدد ما حاذته من شعره تعيش سنين، قال: يا رب وما بعد ذلك قال: تموت، قال يا رب فالآن: رأى الأمر يفضي إلى آخر ... فصير آخره أولا إذا شعرت نفسك بالميل إلى شيء فاعرض عليها غصة فراقه " ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة " الانفال:42 فالمفروح به هوالمحزون عليه، أين الأحباب مروا، فيا ليت شعري أين استقروا؛ استكانوا والله واضطروا، واستغاثوا بأوليائهم فروا، وليتهم إذ لم ينفعوا ما ضروا، فالمنازل من بعدهم خالية خاوية، والعروش ذابلة ذاوية، والعظام من بعد التفاضل متشابهة متساوية، والمساكن تندب في أطلالها الذئاب العاوية: صحت بالربع فلم يستجيبوا ... ليت شعري أين يمضي الغريب وبجنب الدار قبر جديد ... منه يستسقي المكان الجديب غاض قلبي فيه عند التماحي ... قلت هذا القبر فيه الحبيب لا تسل عن رجعتي كيف كانت ... إن يوم البين يوم عصيب باقتراب الموت عللت نفسي ... بعد إلفي كل آت قريب أين المعمر الخالد أين الولد أين الوالد أين الطارف أين التالد أين المجادل أين المجالد " هل تحس منهم من أحد أوتسمع لهم ركزاً " مريم:98 ودوه علاهن الثرى، وصحائف تفض، وأعمال على الله تعرض. بحث الزهاد

والعباد، والعارفون والأوتاد، والأنبياء الذي يهدي بهم العباد، عن سبب الشقاء الذي لا سعادة بعده، فلم يجدوا إلا البعد عن الله تعالى، وسببه حب الدنيا لن تجتمع أمتي على ضلالة: هجرت حبائبي من أجل (1) ليلى ... فما لي بعد ليلى من حبيب وماذا أرتجي من وصل ليلى ... ستجزي بالقطيعة عن قريب وقالوا: ما أورد النفس الموارد وفتح عليها باب الحتف إلا الأمل، كلما قومتها مثاقف الحدود فتح لها أركان الرخص، كلما عقدت صوم العزيمة أهداها طرف الغرور في أطباق: حتى، وإذا، ولكن، وربما، فأفرط القلب في تقبيلها حتى أفطر: ما أوبق الأنفس إلا الأمل ... وهو غرور ما عليه عمل يفرض منه الشخص وهماً ما له ... حال ولا ماض ولا مستقبل ما فوق وجه الأرض نفس حية ... إلا قد انقض عليها الأجل لو أنهم من غيرها قد كونوا ... لامتلأ السهل بهم والجبل ما ثم إلا لقم قد هيئت ... للموت، وهوالآكل المستعجل والوعد حق والورى في غفلة ... قد خودعوا بعاجل وضللوا أين الذين شيدوا واغترسوا ... ومهدوا وافترشوا وظللوا أين ذوو الراحات زادت حسرة ... إذ جنبوا إلى الثرى وانتقلوا لم تدفع الأحباب عنهم غير أن ... بكوا على فراقهم وأعولوا الله في نفسك أولى من له ... ذخرت نصحاً وعتاباً يقبل لا تتركنها في عمى وحيرة ... عن هول ما بين يديها تغفل حقر لها الفاني وحاول زهدها ... وشوقها إلى الذي تستقبل وفد إلى الله بها مضطرة ... حتى ترى السير عليها يسهل

_ (1) ق: بعد.

هو الفناء والبقاء بعده ... والله عن حكمته لا يسأل يا قرة العين ويا حسرتها ... يوم يوفى الناس ما قد عملوا يا طرداء المخالفة، إنكم مدركون فاستبقوا باب التوبة، فإن رب تلك الدار يجير ولا يجار عليه، فإذا أمنتم فاذكروا الله كما هداكم، يا طفيلية الهمة، دسوا أنفسكم بزمر التائبين وقد دعوا إلى دعوة الحبيب، فإن لم يكن أكل فلا أقل من طيب الوليمة، قال بعض العارفين: إذا عقد التائبون الصلح مع الله تعالى انتشرت رعايا الطاعة في عمالة الأعمال " وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب " الزمر:69. معاني هذا المجلس والله نسيم سحر، إذا استنشقه مخمور الغفلة أفاق، سعوط هذا الوعظ ينغص إن شاء الله زكمة البطالة، إن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، إكسير هذا الكتاب يقلب بحكمة جابر القلوب المنكسرة عين من كان له قلب " إنما يستجيب الذين يسمعون، والموتى يبعثهم الله " الأنعام:36 إلهي دلنا من حيرة يضل فيها - إلا إن هديت - الدليل، وأجرنا من غمرة وكيف إلا بإعانتك السبيل نفوس صدئ على مر الأزمان منها الصقيل، ونبا بجنوبها عن الحق المقيل، وآذان أنهضها القول الثقيل، وعثرات لا يقيلها إلا أنت يا مقيل العثار يا مقيل، أنت حسبنا ونعم الوكيل؛ انتهى. ومن مواعظ لسان الدين رحمه الله سبحانه ما أورده في الروضة إثر ما سبق، إذ قال: إخواني صمت الآذان والنداء جهير، وكذب العيان والمشار إليه شهير، أين الملك وأين الظهير أين الخاصة أين الجماهير أين القبيل والعشير أين كسرى بن أردشير صدق والله الناعي وكذب البشير، وغش المستشار واتهم المشير، وسئل عن أكل فأشار إلى التراب المشير: خذ من حياتك للمما الآتي ... وبدار ما دام الزمان مواتي لا تغترر فهوالسراب بقيعة ... قد خودع الماضي به والآتي

يا من يؤمل واعظاً ومذكراً ... يوماً ليوقظه من الغفلات هلا اعتبرت ويا لها من عبرة ... بمدافن الآباء والأمات قف بالبقيع وناد في عرصاته ... فلكم بها من جيرة ولدات درجوا ولست بخالد من بعدهم ... متميز عنهم بوصف حياة والله ما استهللت حياً صارخاً ... إلا وأنت تعد في الأموات لا فوت عن درك الحمام لهارب ... والناس صرعى معرك الآفات كيف الحياة لدارج متكلف ... سنة الكرى بمدارج الحيات أسفاً علينا معشر الأموات لا ... ننفك عن شغل بهاك وهات ويغرنا لمع السراب فتغتذي ... في غفلة عن هاذم اللذات والله ما نصح أمرءاً من غشه ... والحق ليس بخافت المشكاة يا من إذا وراح، وألف المراح، يا من شرب الراح، ممزوجة بالعذب القراح، وقعد لعيان صروف الزمان مقعد الأفراح، كأنك والله باختلاف الرياح، وسماع الصياح، وهجوم غارة الاجتياح، فأديل الخفوت من الارتياح، ونسيت أصوات الغناء برنات الرياح، وعوضت عرر النوب القباح، من غرر الوجوه الصباح، وتناولت الجسوم الناعمة أيدي الأطراح، وتنوسيت العهود الكريمة بمر المساء عليها والصباح، وأصبحت كماة النطاح، من تحت البطاح، وخملت المهندة والرماح، ذليلة من بعد الجماح: ولو كان هول الموت لا شيء بعده ... لهان علينا الأمر واحتقر الهول ولكنه حشر ونشر وجنة ... ونار، وما لا يستقل به القول يا مشتغلاً بداره ورم جداره، عن إسراعه إلى النجاة وبداره، يا من صاح بإنذاره شيب عذاره، يا من طرف (1) عين اعتذاره بأقذاره، يا من قطعه بعد مزاره وثقل أوزاره، يا معتلفاً (2) ينتظر هجوم جزاره، يا مختلساً للأمانة

_ (1) ق: صرف. (2) ق: معتلقاً.

يرتقب مفتش ما تحت إزاره، يا من أمعن في خمر الهوى خف من إسكاره، يا من خالف مولى رقه توق من إنكاره، يا كلفاً بعارية ترد، يا مفتوناً بأنفاس تعد، يا معولاً على الإقامة والرحال تشد، كأني بك وقد أوثق الشد، وألصق بالوسادة الخد، والرجل تقبض والأخرى تمد، واللسان يقول {يا ليتنا نرد} (الأنعام: 27) : إنا إلى الله وإنا له ... ما أشغل الإنسان عن شانه يرتاح للأثواب يزهى بها ... والخيط مغزول لأكفانه ويخزن الفلس لوارثه ... مستنفداً مبلغ أكوانه قوض عن الفاني رحال امرئ ... مد إليه عين عرانه ما ثم إلا موقف زاهد ... قد وكل العدل بميزانه مفرط يشقى بتفريطه ... ومحسن يجزى بحسانه يا هذا خفي عليك مرض اعتقادك فالتبس الشحم بالورم، جهلت قيم (1) المعادن فبعت الشبه بالذهب، فسد حس (2) ذوقك فتفكهت بحنظله، أين حرصك من أجلك أين قولك من عملك يدركك الحياء من الطفل فتتحامى حمى الفاحشة في البيت بسببه، ثم تواقعها بعين خالق العين، ومقدر الكيف والأين، تالله ما فعل فعلك بمعبوده، من قطع بوجوده " ما يكون من نجوى ثلاثة - إلى عليم " المجادلة:7 تعود عليك مساعي الجوارح التي سخرها لك بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، فتبخل منها في سبيله بفلس، وأحد الأمرين لازم: إما التكذيب، وإما الحماقة، وجمعك بين الحالتين عجيب، يرزقك السنين العديدة من غير حق وجب لك، وتسيء الظن به في يوم؛ توجب الحق، وتعتذر بالغفلة، فما بال التمادي تعترف بالذنب فما

_ (1) ق: فيه، ولعلها " قيمة ". (2) ق: حسن.

الحجة في الإصرار والبلد الطيب يخرج نياته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً " الأعراف " 58 يا مدعي النسيان ماذا فعلت بعد التذكير يا معتذراً بالغفلة أين ثمرة التنبيه يا من قطع بالرحيل أين الزاد يا ذبابة الحرص كم ذا تلجج في ورطة الشهد يا نائماً ملء عينيه حذار الأجل قد أنذر، يا ثمل الاغترار قرب خمار الندم، تدعي الحذق بالصنائع وتجهل هذا القدر، تبذل النصح لغيرك وتغش نفسك هذا الغش، اندمل جرح توبتك على عظم، قام بناء عزمتك على رمل، نبتت خضراء دعوتك على دمن، عقدت كفك من الحق على قبضة ماء " أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء " فاطر:8 إذا غام جوهذا المجلس، وابتدأ رش غمام الدموع، قالت النفس الأمارة: حوالينا لا علينا، فدالت رياح الغفلة، وسحاب الصيف هفاف، كلما شد طفل العزيمة على درة التوبة صانعته ظئر الشهوة عن ذلك بعصفور، إذا ضيق الخوف فسحة المهل سرق الأمل حدود الجار، قال بعض الفضلاء: كانوا إذ فقدوا قلوبهم، تفقدوا مطلوبهم، ولوصدق الواعظ الأثر، اللهم لا أكثر: طبيب يداوي الناس وهوعليل ... والخطب جليل، والمتفكن قليل، فهل إلى الخلاص سبيل اللهم انظر إلينا بعين رحمتك التي وسعت الأشياء، وشملت الأموات والأحياء، يا دليل الحائرين دلنا، يا عزيز ارحم ذلنا، يا ولي من لا ولي له كن لنا كلنا، إن أعرضت عنا فمن لنا نحن المذنبون وأنت غفار الذنوب، فقلب قلوبنا با مقلب القلوب، واستر عيوبنا يا ستار العيوب، يا أمل الطالب ويا غاية المطلوب؛ انتهى. ومن كلام لسان الدين رحمه الله تعالى في المواعظ ما خاطب به بعض من استدعى منه الموعظة، ونصه:

إذا لم أنح يوماً على نفسي التي ... بجرائها أحببت كل حبيب وقد صح عندي أن عادية الردى ... تدب لها والله كل دبيب فمنذا الذي يبكي عليها بأدمعي ... إذا كنت موصوفاً برأي لبيب كم قد نظررت إلى حبيب تغار من إرسال طرفك بكتاب الهوى إلى إنسانه، وقد ذبلت بالسقم نرجسة لحظه، وذوت وردة خده، واصفرت لمغيب الفراق شمس حسنه، وهويجود بنفسه التي كان يبخل منها بالنفس، يخاطب بلسان حاله مترجماً: وليت الفجل يهضم نفسه، وأنت على أثر مسحبه إلى دست الحكم " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " الأحقاف:9. ومنها: تالله لولم يكن المخبر صادقاً لنشب بحلق العيش بعده شوكة الشك: ولو أنا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شيء فالحازم من بتر الآمال طوعاً، وقال: بيدي لا بيد عمرو {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} (فاطر: 5) . وقال أمير الوعاظ رحمه الله تعالى: وبضدها تتبين الأشياء (1) ... يا مقتولاً ما له طالب ثار، بريد الموت مطلق الأعنة في طلبك، وما يحميك حصن، ثوب حياتك منسوج من طاقات أنفاسك، والأنفاس تستلب ذرات ذاتك، وحركات الزمان قوية في النسج الضعيف، فيا سرعة التمزق، يا رابطاً مناه بخيط الأمل، إنه ضعيف القتل، صياد التلف قد بث الصقور، وأرسل العقبان، ونصب الاشراك، وقطع المواد، فكيف السلامة تهيأ

_ (1) عجز بيت للمتنبي، وصدره: " ونذيمهم وبهم عرفنا فضله ".

لسرعة الموت وأشد منها قلب القلب، ليت شعري لما يؤول الأمر فوالله لا أدري أيغلبني الهوى ... إذا جد جد البين أم أنا غالبه فإن أستطع أغلب وإن يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه مركب الحياة يجري في بحر البدن برخاء الأنفاس، ولا بد من عاصف قاصف بفلكه ويغرق الركاب: فاقضوا مآربكم عجالاً إنما ... أعماركم سفر من الأسفار (1) وقال: كأنك بحرب التلف قد قامت على ساق، وانهزمت جنود الأمل، وإذا بملك الموت قد بارز الروح يجذبها بخطاطيف الشدائد من قنان العروق، وقد شد كتاف الذبيح، وحار البصر لشدة الهول، وملائكة الرحمة عن اليمين قد فتحوا أبواب الجنة، وملائكة العذاب عن اليسار قد فتحوا أبواب النار، وجميع المخلوقات تستوكف الخبر، والكون كله قد فاء على صيحة: سعد فلان، أوشقي فلان، فهنالك تنجلي أبصار الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري، ويحك! تهيأ لتلك الساعة، حصل زاداً قبل الفوت: تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار مثل لعينيك سرعة الموت، وما قد عزمت أن تفعل حينئذ في وقت الأسر فافعله في وقت الإطلاق، وقال أبوالعتاهية (2) : خانك الطرف اتئد (3) ... أيها القلب الجموح فدواعي الخير والشر ... دنو ونزوح كيف إصلاح قلوب ... إنما هن قروح

_ (1) البيت لأبي الحسن التهامي، من قصيدته " حكم المنية في البرية جاري "، ديوانه: 28. (2) ديوان أبي العتاهية: 97. (3) الديوان: الطموح.

أحسن الله بنا ... أن الخطايا لا تفوح فإذا المشهور منا ... بين ثوبيه فضوح كم رأينا من عزيز ... طويت عنه الكشوح صاح منه برحيل ... طائر الدهر الصدوح موت بعض الناس في الأر ... ض على بعض فتوح سيصير المرء يوماً ... جسداً ما فيه روح بين عيني كل حي ... علم الموت يلوح كلنا في غفلة وال ... دهر يغدو ويروح لبني الدنيا من الدن ... يا غبوق وصبوح رحن في الوشي وأصبح ... ن عليهن المسوح كل نطاح من الده ... ر له يوماً نطوح نح على نفسك يا مس ... كين إن كنت تنوح لتنوحن ولوعم ... رت ما عمر نوح وقال في المعنى (1) : لمن طلل أسائله ... معطلة مناهله غداة رأيته تنعى ... أعاليه أسافله وكنت أراه مأهولاً ... ولكن باد أهله وكل الاعتساف الده ... ر معرضة مقاتله وما متملك (2) إلا ... وريب الدهر شامله فيصرع من يصارعه ... وينضل من يناضله ينازل من يهم به ... وأحياناً يخاتله

_ (1) ديوانه: 327. (2) الديوان: وما من مسلك.

وأحياناً يؤخره ... وتارات يعاجله كفاك به إذا نزلت ... على قوم كلاكله وكم قد عز من ملك ... تحف به قبائله (1) ويثني عطفه مرحاً ... وتعجبه شمائله فلما أن أتاه الحق ... ولى عنه باطله فخفض (2) عينه للمو ... ت واسترخت مفاصله فما لبث السياق به ... إلى أن جاء غاسله فجهزه إلى جدث ... سيكثر فيه خاذله ويصبح شاحط المثوى ... مفجعة ثواكله مخمشة نوادبه ... مسلبة حلائله وكم قد طال من أمل ... فلم يدركه آمله رأيت الحق لا يخفى ... ولا تخفى شواكله لا فانظر لنفسك أيل ... زاد أنت حامله لمنزل وحدة بين ال ... مقابر أنت نازله قصير السمك قد رضمت (3) ... عليك به جنادله بعيد تجاوز الجيرا ... ن ضيقة مداخله أأيتها المقابر في ... ك من كنا ننازله ومن كنا نتاجره ... ومن كنا نعامله ومن كنا نعاشره ... ومن كنا نداخله ومن كنا نشاربه ... ومن كنا نؤاكله

_ (1) الديوان: قنابله. (2) الديوان: فغمض. (3) الديوان: رصت.

ومن كنا نفاخره ... ومن كنا نطاوله ومن كنا نراقبه ... ومن كنا نزايله ومن كنا نكارمه ... ومن كنا نجامله ومن كنا له إلفاً ... قليلاً ما نزايله (1) ومن كنا له بالأم ... س إخواناً نواصله (2) فحل محلة من حل ... ها صرمت حبائله ألا أن المنية من ... هل والخلق ناهله أواخر من ترى تفنى ... كما فنيت أوائله لعمرك ما استوى في الأ ... رض عالمه وجاهله ليعلم كل ذي عمل ... بأن الله سائله فأسرع فائزاً بالخي ... ر قائله وفاعله ثم قال لسان الدين رحمه الله تعالى، بعد ما سبق، ما صورته: وهذا الغرض بحر، ويكفي من خزائنه عرض، ومن بيت ماله قرض، إن شاء الله تعالى. ثم قال: تنبيه يشتمل على سؤالين: أحدهما أن يقال: الوعظ غير مناسب للمحبة، إذا لا يحصل إلا بعد الفراغ واليقظة، الثاني: أن يقال: عظمتم الحسرة لفراق عالم الحس، وأطلتم في قشور، فنجيب عن الأول: إنا لم نجلب الوعظ إلا بين يدي تأميل حضور المحبة، فكأنه يجري مجرى الأسباب، فإن الغرض به وجهة النفس من جوالسرور، واللعب بالزور، إلى جوالحزن والارتماض، ومن هنالك تأخذ بخطامها أيدي الاضطرار، فتحصل اليقظة ثم التوبة، ومنها يستقيم الطريق في منازل السائرين إلى الحق:

_ (1) ق: نزاوله، والتصويب عن الديوان. (2) الديوان: ومن كنا بلا مين أحابيناً..

والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع (1) وعند ذلك يطوى بساط الزجر والوعظ (2) ، ويمد بساط الاعتبار والحب، إن شاء الله تعالى، فإنها كالثكلى بطبعها لما فارقته من عنصر نور الله تعالى والعوالم الروحانية التي هي الشعار والدثار، والأمل والدار، والحياة والجمال، والوجود والكمال، وإن كانت لا تشعر بالسبب، ولا تستحضر ذكر العلة، فإذا ذكر الفراق أنت، أوتنوشدت الآثار حنت، ويطرقها الحزن عند الألحان الشجية، وتحس بعض الأحيان بالمواجد العشقية: وقالوا أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى والدكادك (3) فقلت لهم: إن الأسى يبعث الأسى ... دعوني فهذا كله قبر مالك وعن الثاني: إن كثيراً من النفوس لا تشعر بوجود عالم الحس، فضلاً عن النظر فيه، وإن شعرت بذلك عد منها نبلاً، ومن كان بهذه المثابة لا سبيل لندائه إلا من باب القشور " أولئك ينادون من مكان بعيد " فصلت:44 إلى أن يتأتى النداء من باب الله تعالى بفضل الله تعالى، فالنفوس الشخصية غير متساوية، وهي بهوى الهوى هاوية، فالقريب منها يجذب بالأنامل، والبعيد بالجزل الكوامل، وعلى قدر المحمول تكون قوة الحامل: يضع الهناء مواضع النقب (4) ... يكفي اللبيب إشارة مكتومة ... وسواه يدعى بالنداء العالي وسواهما بالزجر من قبل العصا ... ثم العصا هي رابع الأحوال

_ (1) لأبي ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين 1: 11. (2) والوعظ: سقطت من ق. (3) البيتان لمتمم بن نويرة في رثاء أخيه مالك. (4) من أمثالهم؛ وهو شطر بيت لدريد بن الصمة، وصدره: " متبذلاً تبدو محاسنه ".

وقال رحمه الله تعالى في فصل ذم الكسل، ما صورته: ونحن نجلب بعض الأمثال في ذمه، مما يسهل حفظه، ويجب لحظه، فمن ذلك: الكسل مزلقة الربح، ومسخرة الصبح. إذا رقدت النفس في فراش الكسل استغرقها نوم الغفلة " لوكنا نسمع أونعقل ما كنا في أصحاب السعير " الملك:10. الندامة في الكسل كالسم في العسل، الكسل آفة الصنائع، وأرضة في البضائع. العجز والكسل، يفتحان الخمول ولا تسل. الفلاح إذا مل الحركة، عدم البركة: ظهران لا يبلغان المرء إن ركبا ... باب السعادة: ظهر العجز، والكسل وفي اغتنام الأيام: من أضاع الفرصة، تجرع الغصة. إن كان لك من الزمان شيء فالحال، وما سواه فمحال. تارك أمره إلى غد، لا يفلح للأبد. الإنسان ابن ساعته، فليحطها من إضاعته. التسويف سم الأعمال، وعدوالكمال. لم يحرم المبادر، إلا في النادر. ما درجت أفراخ ذل إلا من وكر طماعة، ولا بسقت فروع ندم إلا من جرثومة إضاعة. العزم سوق، والتاجر الجسور مرزوق. من وثق بعهد الزمان، علقت يداه بحبل الحرمان. الريح في ضمن الجسارة، والمضيع أولى بالخسارة. ومن أمثالهم - في نظر الإنسان لنفسه، قبل غروب شمسه - قولهم: اعلم أن كل حكيم صانع إذا فكر في أمره ونظر في العواقب علم أنه لا بد يوماً أن يخرب دكانه الذي هومحل بضاعته، وتنحل أنقاضه، وتكل أدواته، وتضعف قوته، وتذهب أيام شبابه، فمن بادر واجتهد قبل خراب الدكان، واستغنى عن السعي، فإنه لا يحتاج بعد ذلك إلى دكان آخر، ولا إلى أدوات مجددة، فليتجر بما اقتناه ويشتغل بالانتفاع والالتذاذ بما كسبت يداه، وهذه حالة النفس بعد خراب الجسد، فبادر واجتهد واحرص واستعجل، وتزود قبل

خراب دكانك وهدم بنيته، فإن خير الزاد التقوى، قال حسان (1) : إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... وأبصرت بعد اليوم من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله ... ولم تترصد مثل ما كان أرصدا قال أبوالفرج ابن الطيب البغدادي (2) في اغتنام الوقت في كتابه في السياسة والآراء الفاضلة: يجب أن تعيد وتمثل، فإن الفكر مضطرب متشوش بكثرة نوازع النفس واختلاف قواها، والعمى في بعض الأوقات، فإذا سنح لنفس وقت فاضل بصفاء جوهرها، وأبرمت قانوناً أوصورة متوسطة فاضلة، يجب أ، يقيد بذلك وقت سعد ربما لا يعاود أويعاود؛ انتهى. 76 - ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى ما كتب به على لسان سلطانه إلى شيخ الموحدين بتونس ابن تافراجين، يخبره بالتمحيص الجاري عليه، ونصه: من أمير المسلمين أيده الله ونصره، وأعلى أمره وأظهره، إلى ولينا في الله تعالى الذي له القدم الرفيع المناصب، والمجد السامي الذوائب، والسياسة التي أخبارها سمر الركبان وحد الركائب، الشيخ الجليل الكبير، الشهير الخطير، الهمام الأمضى، الرفيع الأعلى، الأمجد الأوحد، الأسعد الأصعد، الأوفى الظاهر الطاهر الفاضل الباسل الأرضى الأنقى المعظم الموقر المبرور، علم الأعلام، سلالة أكابر أصحاب الإمام، معيد دولة التوحيد إلى الانتظام، أبي محمد عبد الله ابن الشيخ الجليل الكبير الشهير الماجد الخطير الرفيع الأسعد

_ (1) كذا والمشهور أن هذين البيتين من قصيدة الأعشى التي نظمها في مدح الرسول وحالت قريش بينه وبين الوفادة عليه، ومطلعها " ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ". (2) أبو الفرج عبد الله بن الطيب عراقي فيلسوف اعتنى بشرح القديمة في المنطق والحكمة من تأليف أرسطو طاليس وكتب جالينوس الطبية (قيل توفي سنة 435) ومن تلامذته ابن بطلان (القفطي: 223، وابن أبي أصيبعة 1: 239) .

الأمجد الحسيب الأصيل الأرضي الأفضل الأكمل المعظم المقدس (1) المرحوم أبي العباس تافراجين، وصل الله تعالى له عزة تناسب شهرة فضله؛ وسعادة تتكفل له في الدارين برفعة محله: سلام كريم يخص مجادتكم الفاضلة، ورتبتكم الحافلة، ورحمة الله تعالى وبركاته. أما بعد حمد الذي يمحص ليثيب، ويأمر بالساتقالة ليجيب، ويعقب ليل الشدة يصبح الفرج القريب، ويجني من شجر التوكل عليه، والتسليم إليه، ثمر الصنع العجيب، ويظهر العبر مهما كسر ثم جبر لكل ذي قلب منيب، والصلاة على يدنا ومولانا محمد رسوله الذي نلجأ إلى ظل شفاعته في اليوم العصيب، ونستظهر بجاههعلى جهاد عبدة الصليب، ونستكثر عدد بركاته في هذا الثغر الغريب، ونصول منه على العدوبالحبيب، والرضى عن آل وصحبه نجوم الهداية من بعد الأمنة من الأفول والمغيب، فإنا كتبناه إليكم - كتب الله لكم عزة متصلة، وعصمة بالأمان من نوب الزمان متكلفة - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى، ولا زائد بفضل الله تعالى الذي لطف وجبر، وأظهر في الإقالة وحسن الإدالة العبر، ممن كتب الله تعالى له العقبى لما صبر، إلا الخبر الذي كسا الأعطاف الحبر، والصنع الذي صدق خبره الخبر، والحمد لله تعالى كثيراً كما هوأهله فلا فضل إلا فضله، ولمكانتكم عندنا المحل الذي قررت شهرة فضلكم قواعده، وأعلت مصاعده، وأثبت التواتر شواهده، إذ لا نزال نتحف بسيركم اليت في التدبيرات تقتفى، وعلم يسترشد به إذا العلم اختفى، والسبيل عفا، وإن تلك الدولة بكم استقام أودها، وقامت والحمد لله عمدها، وإنكم رعيتم في البنين حقوق آبائها، وحفظتم عليها ميراث عليائها، ولولم تتصل بنا أنباؤكم الحميدة، وآراؤكم السديدة، بما يفيد العلم بفضل ذاتكم، ويغري قوى الاستحسان بصفاتكم، لغبطنا بمخاطبتكم

_ (1) ق: القدوة.

ومفاتحتكم، ما نجده من الميل لكم طبعاً وجبلة، من غير أن نعتبر سبباً أوعلة، فالتعارف بين الأرواح لا ينكر، والحديث الكريم يؤيد من ذلك ما ينقل ويذكر (1) . وبحسب ذلك نطلعكم على غري ما جرى به في ملكنا القدر، وحيث بلغ الورد وكيف كان الصدر، وربما اتصلت بكم الحادثة التي أكفأها على دار ملكنا من لم يعرف غير نعمتها غاذياً، ولا برح في جوانب إحسانها رائحاً وغادياً، يتيم حجرها الكافل، ورضيع درها الحافل، الشقي الخاسر، الخائن الغادر، محمد بن إسماعيل بن محمد المستجير بنسبنا من لؤم غدره، الخفية عنا حيل مكره لخمول قدره، إذ دعاه محتوم الحين ليهلك إلى أن يهلك، وسولت له نفسه الأمارة بالسوء أن يملك أخانا الخاسر ثم يملك، وسبحان الذي يقول: يا نوح إنه ليس من أهلك " هود:46، وكيف تم له ما أبرمه من تسور الأسوار، واقتحام البوار، وتملك الدار، والاستيلاء على قطب المدار، وأننا كنفتنا عصمة الله تعالى بمتحولنا الذي كان به ليلتئذ محل ثوائنا، وكفت القدرة الإلهية أكف أعدائنا، وخلصنا غلاباً بحال انفراد إلا من عناية [الله] ونعم الرفيق، وصدق اللجإ إلى رحمة الله تعالى التي ساحتها عن مثلنا لا تضيق، مهما (2) تنكر الزمان أوتفرق الفريق، وشرذمة الغدر تأخذ علينا كل فج عميق، حتى أوينا من مدينة وادي آش إلى الجبل العاصم، والحجة المرغمة أنف المخاصم، ثم أجزنا البحر بعد معاناة خطوب، وتجهم من الدهر وقطوب، وبلا الله هذا الوطن بمن لا يرجوله وقاراً، ولا يألوشعائره المعظمة احتقاراً، فأضرمه ناراً، وجلل وجوه وجوهه خزياً وعاراً، حتى هتك الباطل حماه، وغير اسمه ومسماه، وبدد حاميته المتخيرة وشذبها، وسخم دواوينه التي محصها الترتيب والتجريب وهذبها، وأهلك نفوسها وأموالها، وأساء لولا

_ (1) يشير إلى الحديث " الأرواح مجندة ما تعارف منها ائتلف ... الخ ". (2) ق: فمهما.

تدارك الله تعالى أحوالها. ولما تأذن جل جلاله في إقالة العثار، ودرك الثار، وأنشأت نواسم رضاه إدامة الاستغفار، ورأينا قلادة الإسلام قد آن انتثارها، والملة الحنيفية كادت تذهب آثارها، ومسائل الخلاف يتعدد مثارها، وجعلت الملتان نحونا تشير، والملك يأمل أن يوافيه بقدومنا البشير، تحركنا حركة خفيفة تشعر أنها حركة الفتح، ونهضنا نبتدر ما كتب الله تعالى من المنح، وقد امتعض لنا الكون بما حمل، واستخدم الفلك نفسه بمشيئته تعالى واكتمل، وكاد يقرب لقرى ضيفنا الثور والحمل، وظاهرنا محل أخينا السلطان الكبير الرفيع المعظم المقدس أبي سالم الذي كان وطنه مأوى الجنوح، ومهب النصر الممنوح - رحمة الله تعالى عليه - مظاهرة مثله من الملوك الأعاظم، وختم الجميل بالجميل والأعمال بالخواتم، وأنف حتى عدوالدين لنعمتنا المكفورة، وحقوقنا المحجوبة المستورة، فأصبح بعد العدوحبيباً، وعاد بعد الإباية منيباً، وسخر أساطيله تحضيضاً على الغجازة وترغيباً، واستقبلنا البلاد وبحر البشر يزخر موجه، وملك الإسلام قد خر على الحضيض أوجه، والروم مستولية على الثغور، وقد ساءت ظنون المؤمنين بالعقبى ولله عاقبة الأمور، والخبيث الغادر الذي كان يموه بالإقدام قد ظهر كذب دعواه، وهان مثواه، وتورط في أشراك المندمة تورط مثله ممن اتبع هواه، وجحد نعمة مولاه، فلولا أن الله، عز وجل، تدارك جزيرة الأندلس بركابنا، وعاجل أوارها بانسكابنا، لكانت القاضية، ولم تر لها من بعد تلك الريح العقيم من باقية، لكنا والفضل لله تعالى رفعنا عنها وطأة العدو وقد ناء بكلكل، وابتززناه منها أي مشرب ومأكل، واعتززنا عليه بالله تعالى الذي يعز ويذل، ويهدي ويضل، فلم نسامحه في شرط يجر غضاضة، ولا يخلف في القلوب مضاضة، وخصنا بحر الهول، وبرئنا إلى الله تعالى ربنا عن القوة والحول، وظهرت للمسلمين ثمرة سريرتنا، وما بذلنا في مصانعة

العدوعن الإجهاز عليهم من حسن سيرتنا، فقويت فينا أطماعهم، وانعقد على التحرم بنا إجماعهم. وقصدنا مالقة بعد أن انثالت الجهة الغربية، وأذعنت المعاقل الأبية، فيسر الله تعالى فتحها، وهيأ منحها، ثم توالت البيعات، وصرخت بمآذن البلاد الدعاة، واضطرب أمر الخائن وقد دلفت المخاوف إليه، وحسب كل صيحة عليه، فاقتضت نعامته الشائلة، ودولة بغيه الزائلة، وآراؤه الفائلة، أن ضم ما أمكنه من ذخيرة مكنونة، وآلة للملك مصونة، واستركب أوباشه الذين استباح الحق دماءهم، وعرف الخلق اعتزاءهم للغدر وانتماءهم، وقصد سلطان قشنتالة من غير عهد ولا وثيقة، ولا مثلى طريقة، ولا شيمة بالرعي خليقة، لكن الله عز وجل، حمله على قدمه، لإراقة دمه، وزين الوجود بعدمه، فلحين قدومه عليه راجياً أن يستفزه بعرض، أويحيل صحة عقده المبرم إلى مرض، ومؤملاً هووشيعته الغادرة كرة على الإسلام مجهزة، ونصرة لمواعيد الشيطان منجزة، تقبض عليه وعلى شيعته، وصم عن سماع خديعته، وأفحش بهم المثلة، وأساء بحسن رأيه فيهم القتلة، فأراح الله تعالى بإبادتهم نفوس العباد، وأحيا بهلاكهم أرماق البلاد. وحثثنا السير إلى دار ملكنا فدخلناها في اليوم الأغر المحجل، وحصلنا منها على الفتح الإلهي المعجل، وعدنا إلى الأريكة التي بنا عنها التمحيص فما حسبنا إلا سراراً أعقبه الكمال، ومرضاً عاجله الإبلال، فثابت للدين الآمال، ونجحت الأعمال، وبذلنا في الناس من العفوما غفر الذنوب، وجبر القلوب، وأشعنا العفوفي القريب والقصي، وألبسنا المريب ثوب البري، وتألفنا الشارد، وأعذبنا الموارد، وأجرينا العوائد، وأسنينا الفوائد، إلا ما كان من شرذمة عظمت جرائرهم، وخبثت في معاملة الله تعالى سرائرهم، وعرف شومهم، وصدق من يلومهم، فأقصيناهم وشردناهم، وأجليناهم

عن هذا الوطن الجهادي وأبعدناهم. ولما تعرف سلطان قشتالة باستقلالنا، واستقرارنا بحضرة الملك واحتلالنا، بادر يعرف بما كان من عمله فيمن لحق له من طائفة الغدر، وإخوان الخديعة والمكر، وبعث إلينا برؤوسهم، ما بين رئيسهم الشقي ومرؤوسهم، وقد طفا على جداول السيوف حبابها، وراق بحناء الدماء خضابها، وبرز الناس إلى مشاهدتها معتبرين، وفي قدرة الله تعالى مستبصرين، ولدفاع النفس بعضهم ببعض شاكرين، وأحق الله تعالى الحق بكلماته وقطع دابر الكافرين، فأمرنا بنصب تلك الرؤوس بمسور الغدر الذي فرعته، وجعلناها علماً على عاتق العمل السيئ الذي اخترعته، وشرعنا في معالجة العلم، وأفضنا على العباد والبلاد حكم السلم، فاجتمع الشمل كأحسن أحواله، وسكن هذا الوطن بعد زلزاله، وأفاق من أهواله. ولعلمنا بفضلكم الذي قضاياه شائعة، ومقدماته ذائعة، أخبرناكم به على اختصار، واجتزاء واقتصار، ليسر دينكم المتين بتماسك هذا الثغر الاقصى بعد استرساله، وإشرافه على سوء مآله، وكنا نخاطب محل أخينا السلطان الجليل المعظم الأسعد الأوحد الخليفة أمير المؤمنين أبي إسحاق ابن الخليفة أمير المؤمنين المعظم المقدس أبي يحيى ابن أبي بكر ابن الأئمة المهتدين والخلفاء الراشدين - وصل الله تعالى أسباب سعده وحرس أكناف مجده - لولا أننا تعرفنا كونه في هذه المدة مقيماً بغير تلك الحضرة التونسية، فاجتزأنا بمخاطبة جهتكم السنية، وبين سلفنا وسلفكم من الود الراسخ البنيان، والكريم الأثر والعيان، ما يدعوإلى أ، يكون سبب المخالطة موصولاً، وآخره الود خيراً من الأولى، لكن الطريق جم العوائق، والبحر مفروق (1) البوائق، وقبول العذر بشواغل

_ (1) ق: معروف.

القطر بالفضل لائق، ومزادنا أن يتصل الود، ويتجدد العهد، والله عز وجل يتولى أمور المسلمين بمتوارد إحسانه، ويجمع قلوبهم حيث كانوا على طاعة الله تعالى ورضوانه، وهوسبحانه يطيل سعادتكم، ويحرس مجادتكم، وينجح إدارتكم، ويسني إرادتكم، والسلام الكريم يخصكم، ورحمة الله تعالى وبركاته. 77 - ومن نثره رحمه اله تعالى ما أنشأه عن سلطانه الغني بالله، وذلك قوله: يا أيها الناس، ضاعف الله تعالى بمزيد النعم سروركم؛ وتكفل بلطفه الخفي في مثل هذا القطر الغريب أموركم؛ أبشركم بما كتب به سلطانكم السعيد إليكم، المترادفة بيمنه وسعادته نعم الله تعالى عليكم، أمتع الله تعالى الإسلام ببقائه، وأيده على أعدائه، ونصره في أرضه بملائكة سمائه، وأن الله تعالى فتح له الفتح المبين، وأعز بحركة جهاده الدين، وبيض وجوه المؤمنين، وأظفره باطريرة البلد الذي فجع المسلمين بأسرهم فجيعة تثير الحمية، وتحرك الأنفس الأبية، فانتقم اله تعالى منهم على يده، وبلغه من استئصالهم غاية مقصده، فصدق من الله تعالى لأوليائه وعلى أعدائه الوعد والوعيد، وحكم بإبادتهم المبدئ المعيد " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة؛ إن أخذه أليم شديد " هود:102 وتحصل من سبيه بعدما رويت السيوف من دمائهم آلاف عديدة، لم يسمع بمثلها في المدد المديدة، والعهود البعيدة، ولم يصب من إخوانكم المسلمين عدد يذكر، ولا رجل يعتبر، فتح هني، وصنع سني، ولطف خفي، ووعد وفي، فاستبشروا بفضل اله تعالى ونعمته، وقفوا عند الافتقار والانقطاع لرحمته، وقابلوا نعمه بالشكر يزدكم، واستبصروا في الدفاع عن دينكم ينصركم ويؤيدكم، واغتبطوا بهذه الدولة المباركة التي لم تعدموا من الله تعالى معها عيشاً خصيباً، ولا رأياً مصيباً، ولا نصراً عزيزاً ولا فتحاً قريباً، وتضرعوا في بقائها، ونصر لوائها، إلى من لم يزل سميعاً لدعاء مجيباً، والله عز وجل

يجعل البشائر الفاشية فيكم عادة، ولا يعدمكم ولا أولي الأمر منكم توفيقاً وسعادة، والسلام الكريم يخصكم، ورحمة الله تعالى وبركاته من مبلغ ذلك فلان انتهى. 78 - ومن نثر لسان الدين - رحمه الله تعالى - ما أنشأه عن سلطانه الغني بالله تعالى - حين وصله ابنه الذي كان بفاس - يخاطب سلطان فاس، ما نصه: المقام الذي تقلد نافلة الفضل شفعاً، وجود سورة الكمال إفراداً وجمعاً، واستولى وجمع ببره المنح، والتهنئة والفتح، فأحرز أصلاً وفرعاً، واستحق الشكر عقلاً وشرعاً، وأغرى أيدي جوده، بالقصد الذي هوحظ وليه من وجوده، فأثار من جيش إلقاء نقعاً، ووسط به جمعاً، مقام محل أخينا الذي أقلام مقاصده دربة بحسن التوقيع، وعيون فضله مذكاة لإحكام الصنيع، وعذبات فخره تهفوبذروة العلم المنيع، ومكارمه تتفنن فيها مذاهب التنويع، أبقاه الله تعالى وألسن فضله ناطقة، وأقيسة سعده صادقة، وألويته بالنصر العزيز خافقة، وبضائع مكارمه في أسواق البر نافقة، وعصائب التوفيق لركائب أغراضه موافقة؛ السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا: سلام كريم، طيب بر عميم، يخص مقامكم الأعلى، وطريقتكم المثلى، وأخوتكم الفضلى، ورحمة الله تعالى وبركاته، مجل قدركم، وملتزم بركم، وموجب حمدكم وشكركم، فلان. أما بعد حمد الله تعالى الذي الشكر على المكرمات وقفاً، ونهج منه بإزائها سبيلاً لا تلتبس ولا تخفى، وعقد بينه وبين المزيد سبباً وحلفاً، وجعل المودة في ذاته مما يقرب إليه زلفى، مربح تجارة من قصد وجهه بعمله حتى يرى الشيء ضعفاً، وناصر هذه الجزيرة من أوليائه الكرام السيرة بمن يوسعها فضلاً وعطفاً، ومدني ثمار الآمال فتتمتع بها اجتناء وقطفاً، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي العربي الكريم، الرؤوف الرحيم

الذي مد من الرحمة على الأمة سجفا، وملأ قلوبها تعاطفاً وتعارفاً ولطفاً، القائل من أيقن بالخلف جاد بالعطية ووعد من عامل الله تعالى بربح المقاصد السنية، وعداً لا يجد خلفاً، والرضى عن آل وأصحابه الذين كانوا من بعده للإسلام كهفاً، وعلى أهله في الهواجر ظلاً ملتفاً، غيوث الندى كلما شاموا سماحاً وليوث العدى كلما شهدوا زحفاً، والدعاء لمقام أخوتكم الأسعد بالنصر الذيي يكف من عدوان الكفر كفاً، والمجد الذي لا يغادر كتابه من المفاخر التي ترك الأول للآخر حرفاً، وإلى هذا - أيدكم الله بنصر من عنده، وحكم لملككم الأسمى باتصال سعده، وأنجز في ظهوره على من عاند أمره سابق وعده - فإننا نقرر لدى مقامكم وإن كان الغني بأصالة عقله، عن اجتلاء الشاهد ونقله، وجلاء البيان وصقله، أن الهدايا وإن لم تحل العين منها كما حلت، أوتناولها الاتنزار فما نبهت في لحظ الاعتبار ولا جلت، أوكانت زيفاً كلما أغري بها الاختبار قلت، لا بد أ، تترك في النفوس ميلاً، وأن تستدعي من حسن الجزاء كيلاً، وأن تنال من جانب التراحم والتعاطف نيلاً، وأي دليل أوضح محجة، وأبين حجة، من قوله صلى الله عليه وسلم تهادوا وتحابوا من غير تبيين مقدار، ولا إعمال اعتبار، ولا تفرقة بين لجين ولا نضار. فكيف إذا كانت الهدية فلذة الكبد التي لا يلذ العيش بعد فراقها، ولا تضيء ظلم الجوانح إلا بطلوع شمسها وإشراقها، وجمع الشمل الذي هوأقصى آمال النفوس الآلفة، والبواطن المصاحبة للحنين المحالفة، لا سيما إذا اقتعدت محل الهناء، بالفتح الرائق السناء، وحفت بها من خلفها وأمامها صنائع البر وقومة الاعتناء، فهنالك تفخر ألسن الثناء، وتتطابق أعلام الشكر السامية البناء. وإننا ورد علينا كتبكم الذي سطره البر وأملاه، وكنفه اللحظ وتولاه، ووشحه البيان وحلاه، مهنئاً بما منح الله جل لجاله من رد الحق، وتعيين الجمع ورفع الفرق، وتطويق الأمان وأمان الطوق، وإسعاد السعد

وبلوغ القصد، وقطع دابر من جحد نعمة الأب والجد، وسل سيف البغي دامي الحد، والحمد لله تعالى حمداً يلهمه ويتيحه، ونسأله إمداداً يسوغه ويبيحه، على أن أحسن العقبى وأعقب الحسنى، وأرى النعم بين فرادى ومثنى، وجمع الشمل الذي قد تبدد، وجدد رسم السعادة لهذا القطر فتجدد، واخذ الظالم فلم يجد من محيص، وجمع لنا الأجر والفخر بين تخصيص وتمحيص، وقلد برؤوس الفجرة الغدرة الفرضة التي فرعوها، وأطفأ بمراق دمائهم نار الضلالة التي شرعوها، وكتب لقبيلكم الفضل الذي يحمد ويشكر، والحق الذي لا يجحد ولا ينكر، فلقد أوى لما تبرأت الخلصان، وتحفى عندما تنكر الزمان، وسبب الإدالة وطاوع الأصالة والجلالة، حتى فرج الله تعالى الكرب، وآنس الغربة، وأقال العثرة وتقبل القربة، له الحمد على آلائه، وصلة نعمائه، ملء أرضه وسمائه. ووصل صحبته الولد مكنوفاً بجناح الطف، ممهداً له ببركتكم مهاد العطف، فبرزنا إلى تلقية تنويهاً لهديتكم وإشادة، وإبداء في بركم وإعادة، وأركبنا الجيش الذي آثرنا لحين استقلالنا عرضه، وقررنا بموجب الاستحقاق فرضه، فبرز إلى الفضاء الأفيح حسن الترتيب، سافراً عن المرأى العجيب، ولولا الحنان الذي تجده النفوس للأبناء وتستشعره، والشوق إلى اللقاء الذي لا يجحده منصف ولا ينكره، لما شق علينا طول مقامه في حجركم، ولا ثواؤه لصق أريكة أمركم، فجواركم محل لاستفادة رسوم الإمارة، وتعلم السياسة والإدارة، حتى يرد علينا يقدم كتيبة جهادكم، ويقود إلينا طليعة نصركم إيانا وغمدادكم، فنحن الآن نشكر مقاصدكم التي اقتضى الكمال سياقها، وزين المجد آفاقها، وقدرها فأحكم طباقها، ونقرر لديكم أن حظنا من ودادكم، ومحلنا من جميل اعتقادكم، حظ بان رجحانه وفضله، ولم يتأت بين من سلف من السلف مثله، من الصحبة في المنزل الخشن وهي الوسيلة، وفي رعيها

تظهر الفضيلة، والاشتراك في لازم الوصول إلى الحق، وضم أشتات الخلق، والمودة الواضحة الطرق، إلى ما بين السلف، من الود الى من بدره من الكلف، المذخورة أذمته للخلف، فإذا كانت المعاملة جارية على حسبه، وشعبها راجعة إلى مذهبه، جنى الإسلام ثمرة حافلة، واستكفى الدين إيالة كافلة، فالله، عز وجل، يمهد البلاد بيمن تدبيركم، ويجري على مهيع السداد جميع أموركم، ويجعلكم ممن زين الجهاد عواتق أعماله، وكان رضى الله تعالى عنه أقصى آماله، حتى تربي مآثركم على مآثر أسلافكم الذين عرف هذا الوطن الجهادي إمدادهم، وشكر جهادهم، وقبل الله تعالى فيه أموالهم وأولادهم، وحسن من أجله معادهم. وقد حضر بين يدينا رسولكم الذي وجهتم الولد - أسعده الله تعالى - لنظره، وتخيرتموه لصحبة سفره، فلان، وهومن الأمانة والفضل، والرجاحة والعقل، بحيث طابق اختياركم، واستحق إيثاركم، فأطنب في تقرير ما لديكم من عناية بهذه الأوطان عنيت الرفد، وضربت الوعد، وأخلصت في سبيل الله تعالى القصد، وغير ذلك مما يؤكد المودة المستقرة الأركان، المؤسسة على التقوى والرضوان، فأجبناه بأضعاف ذلك مما لدينا لكم، وقابلنا بالثناء الجميل قولكم وعملكم، والله تعالى يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام الكريم يخصكم، ورحمة الله تعالى وبركاته. 79 - ومن ذلك ما كتبه - رحمة الله تعالى - على لسان الأمير سعد ابن سلطانه الغني بالله تعالى إليه وهو: مولاي ومولى كبيري ومولى المسلمين، ورحمتي المتكفلة بالسعد الرائق الجبين، يقبل قدمكم التي جعل الله تعالى العز في تقبيلها، والسعد في أتباع سبيلها، عبدكم الصغير في سنه، الكبير في خدمتكم وخدمة كبيره في حياتكم بفضل الله تعالى ومنه، الهاش لتمريغ وجهه في كتابكم حسن الذراع، المنبئة طباعه

عن العبودية الكامنة بالبدار إلى ذلك والإسراع، عبدكم وولدكم سعد، كتبه من بابكم، المحوط بعز أمركم، المتحف إن شاء الله تعالى بأنباء نصركم، وقد وصل إلى عبدكم تشريفكم السابغ الحل، وتنويهكم المبلغ غايات الأمل، وخط يدكم الكريمة وغمامة رحمتكم الهامية الديمة، فيا له نم عز أثبت لي الفخر في أبناء الملوك، وسار بي من الترشيح لرتب حظوتكم على المنهج المسلموك، قرر من عافية مولاي وسعادته، واقتران السعود حيث حل بوفادته، ما تكفل ببلوغ الآمال، وتمم لسان الحال في شكر الله تعالى لسان المقال، والله تعالى يديم أيام مولاي حتى يقوم بحق شكر النعم لسانه، وتؤدي بعده جوارحه من الدفاع بين يدي سلطانه ما يسر به سلطانه، وبعث جوابه منقولاً ليد حامله من يده ليهنئ تقبيل اليد الكريمة بحال تأكيد، ويقرر ما لعبده إلى وجهه الكريم من شوق شديد، ويعرف شمول نعمة الله تعالى ونعمته لمن ببابه من خدم وحرم وعبيد، ويمد يد الرغبة لمولاه في صلة الإنعام بتشريفه، وإعلامه بتزايدات حركته وتعريفه، ففي ضمن ذلك كل عز مشيد، وخير جديد، وينهي تحية أهل منزل مولاي على اختلافهم بحسب منازلهم من نعمة لحظه، التي يأخذ منها كل بحظه، والسلام الكريم ورحمة الله تعالى وبركاته. 80 - وقال رحمه الله تعالى: ومن نثري ما خاطبت به السلطان على لسان ولده من مالقة، وقد وصلت به إليه من المغرب: مولاي الذي رضى الله تعالى مقرون برضاه، والنجح مسبب عن نيته ودعاه، وطاعته مرتبطة بطاعة الله، أبقى الله تعالى علي بكم ظل رحماه، وغمام نعماه، وزادني من مواهبه هداية في توفية حقه الكبير فإن الهدى هدى الله: يقبل مواطئ أقدامكم التي ثراها شرف الخدود وفخر الجباه، ويقرر من عبوديته ما يسجل الحق مقتضاه، ويسلم على مثابة رحمتكم السلام الذي يحبه الله تعالى ويرضاه، ولدكم وعبدكم يوسف، من منزل تأييدكم

بظاهر مالقة، حرسها الله، والوجود ألسن بالعز بالله ناطقة، والأعلام والشجر ألوية بالسعد خافقة، وأواع التوفيق متوافقة، وصنائع اللطيف الخبير مصاحبة مرافقة. وقد وصل يا مولاي لعبدكم المفتخر بالعبودية لكم ما بعث به علي مقامكم، وجادت به سحائب إنعامكم، ولمن تحت حجبة ستركم المسدول، وفي ظل اهتمامكم الموصول، ولمن ارتسم بخدمة أبوابكم الشريفة من الخدام، وأولي المراقبة والالتزام، ما يضيق عنه بيان العبارة، ويفتضح فيه لسان القول والإشارة، من عنايات سنية، ونعم باطنة وجلية، وملاحظة مولوية، ومقاصد ملكية، فما شئت من قباب مذهبة، وملابس منتخبة، وأسرة مرتبة، ومحاسن لا مستورة ولا محجبة، واللواء الذي نشرتم على عبدكم ظله الظليل، ومددتم عليه جناح العز الجليل، جعله الله تعالى أسعد لواء في خدمتكم، ومد علي وعليه لواء حرمتكم، حتى يكون لجهادي بين يديكم شاهداً، وبالنصر العزيز والفتح المبين عليكم عائداً، ولطائفة الخلوص لأمركم قائداً، ولأولياء بابكم هادياً ولأعدائكم كائداً. واتفق يا مولاي أن كان عبدكم قد ركب مغتنماً برد اليوم، ومؤثراً للرياضة في عقب النوم، والتف عليه الخدام، والأولياء الكرام، فلما عدنا تعرضت لنا تلك العنايات المجلوة الصور، المتلوة السور، وقد حشر الناس، وحضرت منهم الأجناس، فعلا الدعا، وانتشر الثنا، وراقت الأبصار تلك الهمة العليا، فنسأل الله تعالى يا مولاي أن يكافئ مقامكم بالعز الذي لا يتبدل، والنصر الذي يستأنف ويستقبل، والسعد الذي محكمه لا يتأول، والعبد ومن له على حال اشتياق للورود على أبوابكم الرفيعة المقدار، وارتياح لقرب المزار: وأبرح ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الديار من الديار

والعمل على تيسير الحركة متصل، والدهر لأوامر السعد محتفل، بفضل الله تعالى، والسلام على مقام مولاي مقام الشفقة والرحمة، والمنة والنعمة، ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى. 81 - ومن إنشاء لسان الدين في تولية الأمير يوسف المذكور مشيخة الغزاة على لسان السلطان والده ما نصه: هذا ظهير كريم فاتح بنشر الألوية والبنود وقود العساكر والجنود، وأجال في ميدان الوجود، جياد الباس والجود، وأضفى ستر الحماية والوقاية بالتهائم والنجود، على الطائفتين والعاكفين والركع السجود، عقد للمعتمد به عقد التشريف، والقدر المنيف، زاكي الشهود، وأوجب المنافسة بين مجالس السروج ومضاجع المهود، وبشر السيوف في الغمود، وأنشأ ريح النصر آمنة من الخمود، أمضى أحكامه، وأنهد العز أمامه، وفتح من وهر السرور والحبور كمامه، أمير المسلمين عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد ابن فرج بن نصر - أيد الله تعالى أمره وخلد ذكره - لكبير ولده، وسابق أمده، وريحانة خلده، وياقوتة الملك على يده، الأمير الكبير الطاهر الظاهر الأعلى، واسطة السلك، وهلال سماء الملك، ومصباح الظلم الحلك، ومظنة العناية الأزلية من مدير الفلك ومجري الفلك، عنوان سعده، وحسام نصره وعضده، وسمي جده، وسلالة فضله ومجده، السعيد المظفر الهمام الأعلى الأمضى، العالم العامل الأرضي، المجاهد المؤمل المعظم أبي الحجاج يوسف، ألبسه الله تعالى من رضاه عنه حللاً لا تخلق جدتها الأيام، ولا تبلغ كنهها الإفهام، وبلغه في خدمته المبالغ التي يسر بها الإسلام، وتسبح في بحار صنائعها الأقلام، وحرس معاليها الباهرة بعينه التي لا تنام، وكنفه بركنه الذي لا يضام، فهوالفرع الذي جرى بخصله على أصله، وارتسم نصره في نصله، واشتمل حده على فصله، وشهدت ألسن خلاله، برفعة

جلاله، وظهرت دلائل سعادته، في بدء كل أمر وإعادته، لما صرف وجهه إلى ترشيحه، لافتراع هضاب المجد البعيد المدى وتوشيحه، بالصبر والحلم والباس والندى، وأرهف منه سيفاً من سيوف الله تعالى لضرب هام العدا، وأطلعه فس سماء الملك بدر هدى، لمن راح وغدا، وأخذه بالآداب التي تقيم من النفوس أوداً، وتبذر في اليوم فتجني غدا، ورقاه في رتب المعالي طوراً فطوراً، ترقي النبات ورقاً ونوراً، ليجده بحول الله تعالى يداً باطشة بأعدائه، ولساناً مجيباً عند ندائه، وطرازاً على حلة علائه، وغماماً من غمائم آلائه، وكوكباً وهاجاً بسمائه، وعقد له لواء الجهاد على الكتيبة الأندلسية من جنده، قبل أن ينتقل عن مهده، وظلله بجناح رايته، وهوعلى كتد دابته، واستركب جيش الإسلام ترحيباً بوفادته، وتنويهاً بمجادته، وأثبت في غرض الإمارة النصرية سهم سعادته، رأى (1) أن يزيده من عنايته ضروباً وأجناساً، ويتبع أثره ناساً فناساً، قد اختلفوا لساناً ولباساً، واتفقوا ابتغاء لمرضاة الله والتماساً، ممن كرم انتماؤه، وزينت بالحسب العد سماؤه، وعرف غناؤه، وتأسس على المجادة بناؤه، حتى لا يدع من العناية فناً إلا وجلبة إليه، ولا مقادة فخر إلا جعلها في يديه، ولا حلة عز إلا أضفى ملابسها عليه. و [لما] كان جيش الإسلام في هذه البلاد الأندلسية - أمن الله سبحانه خلالها، وسكن زلزالها، وصدق في رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء آمالها - كلف همته، ومرعى ذمته، وميدان اجتهاده، ومعلق أمل جهاده، ومعرج إرادته، إلى تحصيل سعادته، وسبيل خلاله، إلى بلوغ كماله، فلم يدع له علة إلا أزاحها، ولا طلبة إلا أجال قداحها، ولا عزيمة إلا أورى اقتداحها، ولا رغبة إلا فسح ساحها، آخذاً مدونته بالتهذيب، ومصافه بالترتيب، وآماله بالتقريب، محسناً في تلقي الغريب،

_ (1) هذا جواب " لما " في السطر الأول أعلاه.

وتأنيس المريب، مستنجزاً له وبه وعد النصر العزيز والفتح القريب، ورفع عنه لهذا العهد نظر من حكم الإعراض في حماته، واستشعر عروق الحسائف لتشذيب كماته، واشتغل عن حسن الوساطة لهم بمصلحة ذاته، وجلب جباته، وتثمير ماله وتوفير أقواته، ذاهباً أقصى مذاهب التعمير بأمد حياته، فانفرج الضيق، وخلص إلى حسن نظره الطريق، وساغ الريق، ورضي الفريق، رأى - والله الكفيل لنجح رأيه، وشكر سعيه، وصلة حفظه ورعيه - أن يجهد لهم اختياره، ويحسن لديهم آثاره، ويستنيب فيما بينه وبين سيوف جهاده، وأبطال جلاده، وحماة أحوازه، وآلات اعتزازه، من يجري مجرى نفسه النفيسة في كل مبنى، ويكون له لفظ الولاية وله - أيده الله تعالى - المعنى، فقدمه على الجماعة الأولى كبرى الكتائب، ومقادة الجنائب، وأجمة الأبطال، ومزنة الودق الهطال، المشتملة من الغزاة على مشيخة آل يعقوب نسباء الملوك الكرام، وأعلام الإسلام، وسائر قبائل بني مرين، ليوث العرن، وغيرهم من أصناف القبائل، وأولي الوسائل، ليحوط جماعتهم، ويعرف بتفقده إطاعتهم، ويستخلص لله تعالى ولأبيه - أيده الله تعالى - طاعتهم، ويشرف بإمارته مواكبهم، ويزين بهلاله الناهض إلى الإبدار على فلك سعادة الأقدار كواكبهم، تقديماً أشرق له وجه الدين الحنيف وتهلل، وأحس باقتراب ما أمل، فللخيل اختيال ومراح، وللأسل السمر اهتزاز وارتياح، وللصدور انشراح، وللآمال مغدى في فضل الله تعالى ورواح. فليتول ذلك - أسعده الله تعالى - تولي مثله ممن أسرة الملك أسرته، وأسوة الني صلوات الله تعالى عليه أسوته، والملك الكريم أصل لفرعه، والنسب العربي منجد لطيب طبعه، آخذاً أشرافهم بترفيع المجالس بنسبة أقدارهم، مغرياً حسن اللقاء بإيثارهم، شاكراً غناءهم، مستدعياً ثناءهم، مستدراً لأرزاقهم، موجباً المزية بحسب استحقاقهم، شافعاً في رغباتهم المؤملة، ووسائلهم المتحملة، مسهلاً الإذن لوفودهم المتلاحقة، منفقاً لضائعهم النافقة

مؤنساً لغرمائهم، مستجلياً أحوال أهليهم وآبائهم، مميزاً بين إغفالهم ونبهائهم. وعلى جماعتهم - رعى الله تعالى جهادهم، ووفر أعدادهم - أن يطيعوه في طاعة الله تعالى وطاعة أبيه، ويكونوا يداً واحدة على دفاع أعداء الله تعالى وأعاديه، ويشدوا في مواقف الكريهة أزره، ويمتثلوا نهيه وأمره، حتى يعظم الانتفاع، ويشهر الدفاع، ويخلص المصال له تعالى والمصاع، فلووجد - أيده الله تعالى - غاية في تشريفهم لبلغها، أوموهبة لسوغها، لكن ما بعد ولده العزيز عليه مذهب، ولا وراء مباشرتهم بنفسه معزب، والله تعالى منجح الأعمال، ومبلغ الآمال، والكفيل بسعادة المآل. فمن وقف على هذا الظهير الكريم فليعلم مقدار ما تضمنه من أمر مطاع، وفخر مستند إلى إجماع، ووجوب أتباع، وليكن خير مرعي لخير راع بحول الله تعالى. وأقطعه - أيده الله تعالى - ليكون بعض المواد لأزواد سفره، وسماط نفره، في جملة ما أولاه من نعمه، وسوغه من موارد كرمه، جميع القرية المنسوبة إلى عرب عنان، وهي المحلة الأثيرة، والمنزلة الشهيرة، تنطلق عليها أيدي خدامه ورجاله، جارية مجرى صريح ماله، محررة من كل وظيفة لاستغلاله، إن شاء الله تعالى، فهوالمستعان سبحانه، وكتب في كذا انتهى. 82 - وكتب لسان الدين - رحمه الله تعالى - في شأن تقليد الأمير سعد أخي المذكور الأصغر منه سناً ما صورته: هذا ظهير جعل الله تعالى له الملائكة ظهيراً، وعقد منه في سبيل الله تعالى لواء منصوراً، وأعطى المعتمد به باليمن كتاباً منشوراً " وما كان عطاء ربك محظوراً " الإسراء:20 وأطلع صبح العناية المبصرة الآية يبهر سفوراً، ويسطع نوراً، وأقر عيوناً للمسلمين وشرح صدوراً، ووعد الأهلة أ، تصير بإمداد شمس الهدى إياها بدوراً، وبشر الإسلام بالنصر المنتظر، والفتح الرائق الغرر

مواسط وثغوراً، وأبتع حماة الدين لواء الإمارة السعيدة النصرية فأسعد بها آمراً وأكرم بها مأموراً، أمر به، وأمضى العمل بمقتضاه وحسبه، أمير المسلمين عبد الله محمد ابن أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الوليد ابن فرج بن نصر، أعلى الله تعالى رايته وسدد رأيه، وشكر عن الإسلام والمسلمين سعيه، لقرة عينه، ومقتضى حقه من العدو ودينه، وغصن دوحه، وآية لوحه، ودرة قلادته، ودري أفلاك مجادته، وسيف نصره، وهلال قصره، وزينة عصره، ومتقبل هديه ورشده، ومظنة إشراق سعده، وإنجاز وعده، ولده الأسعد، وسليل ملكه المؤيد، الأمير الأجل الأعز الأسنى الأطهر الأظهر الأعلى، لابس أثواب رضاه ونعمته، ومنحة الله لنصره وخدمته، ومظهر عزة وبعد همته، التقي الرضي العالم العامل الماجد حامي الحمى تحت ظل طاعته، وكافي الإسلام الذي يأمن من إضاعته، المحرز مزايا الأعمار الطويلة حظ الشهر في يومه وحظ اليوم في ساعته، الموقر المهيب المؤمل المعظم أبي النصر سعد عرفه الله تعالى ببركة سعد بن عبادة جده، خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعظم بمجده، ووزيره في حله وعقده، وأجناه ثمرة النصر الذي كناه به ووصل سببه بسببه فما النصر إلا من عنده، وأنتج له الفتح المبين من مقدمتي نصره وسعده، لما صرف وجه عنايته إليه في هذه البلاد الأندلسية التي خلص لله انفرادها وانقطاعها، وتمحض - لأن تكون كلمة الله هي العليا - قراعها، وصدق مصالها في سبيله جل وعلا ومصاعها، إلى ما يمهد أرجاءها، ويحقق رجاءها، من سلم يعقد، ولا يعدم الحزم معه ولا يفقد، وعطاء ينقد، ورأي لا يتعقب ولا ينقد، وحرب تضمر له الجياد، ومرمى فكره الذي عنه لا يبرح، فديوانه ديوان أمانيه الذي تسهب فيه وتشرح، أسهمه من سياسته أوفى الحظوظ

وأسناها، وقصر عليه لفظ العناية ومعناها، ووقف عليه موحدها ومثناها، فأزاح علله، وأحيا أمله، وأنشأ جذله، ورفع عنه من لم يبذل الجد له، ولا أخلص لله فيه عمله. واختار لقيادة مقانبه المنصورة، وإمارة غزواته المبروروة، أقرب الناس إلى نفسه نسباً، وأوصلهم به سبباً، وأحقهم بالرتب المنيفة والمظاهر الشريفة، ذاتاً وأباً، وحداً وشباً، وأمره على أشرافه، ودل له الأنفال على أعرافه، وصرف إليه آماله، واستعمل في أسنته يمينه وفي أعنته شماله، وعقد عليه ألويته الخافقة لعزة نصره، ورأى الظهور على أعداء الله تعالى جنى فهيأه لهصره، وأدار هالة قتام إجهاد عن قرب بالولادة على بدره، ونبه نفوس المسلمين على جلاله قدره، وقدمه على الكتيبة الثانية من عسكر الغزاة المشتملة على الأشياخ من أولاد يعقوب كبار بني مرين، وسائر قبائلهم المكرمين، وغيرهم من القبائل المحترمين، ينوب عن أمره في عرض مسائلهم، وقرى وافدهم، وإجراء عوائدهم، تقديماً تهلل له الإسلام واستبشر، وتيقن الظفر فاستبصر، لما علم بمن استنصر، فليخلصوا له في طاعته الكبرى الطاعة، وليعلقوا ببنان نداه بنان الطماعة، ويؤملوا على يديه نجح الوسيلة إلى مقامه والشفاعة، ويعلموا أن اختصاصهم به هوالعنوان على رفع محالهم لديه، وعزة شأنهم عليه، فلووجد هضبة أعلى لفرعها لهم وعلاها، أوعزة أعز لجلاها، أوقبلة أزكى لصرف وجوههم وولاها، حتى تجنى ثمرة هذا القصد، وتعود بالسعد حركة هذا الرصد، وتعلوذؤابة هذا المجد، وتشهد بنصر الدين على يده ألسنة الغور والنجد، بفضل الله سبحانه. وعليه - أسعد الله الدولة باستعماله مكافحاً بأعلامها، وزيناً لأيامها، وسيفاً في طاعة إمامها - أن يقدم منهم في مجلسه أهل التقديم، ويقابل كرامهم بالتكريم، ويستدعي آراء مشايخهم في المشكلات في أمور الحرب، ويغضي جفون عزائمهم في موقف الصبر والضرب، ويتفقدهم بإحسانه عند الغناء، ويقابل حميد سعيهم

بالثناء، على هذا يعتمد وبحسبه يعمل، وهوالواجب الذي لا يهمل، وقصده بالإعظام والإجلال، والانقياد الذي يعود بالآمال، وينجح الأعمال، بحول الله تعالى متقبل، وكتب في كذا انتهى. 83 - ومما اشتمل على نظم لسان الدين ونثره ما كتب به من سلا إلى سلطانه الغني بالله تعالى، وقد بلغه ما كان من صنع الله سبحانه له وعودته إلى سلطانه: هنيئاً بما خولت من رفعة الشأن ... وإن كره الباغي وإن رغم الشاني وأن خصك الرحمن جل جلاله ... بمعجزة منسوبة لسليمان أغار على كرسيه بعض جنه ... فألقت له الدنيا مقالد إذعان فلما رآها فتنة خر ساجداً ... وقال إلهي امنن علي بغفران وهب لي ملكاً بعدها ليس ينبغي ... تقلده بعدي لإنس ولا جان فآتاه لما أن أجاب دعاءه ... من العز ما لم يؤت يوماً لإنسان وإن كان هذا الأمر في الدهر مفرداً ... فأنت له لما اقتديت به الثاني فقابل صنيع الله بالشكر واستعن ... به وأجز إحسان الإله بإحسان وحق الذي سماك باسم محمد ... لو أن الصبا قد عاد منه بريعان لما بلغ النعمى عليك سروره ... ألية واف لا ألية خوان فإني أنا العبد الصريح انتسابه ... كما أنت مولاي العزيز وسلطاني إذا كنت في يعز وملك وغبطة ... فقد نلت أوطاري وراجعت أوطاني مولاي الذي شأنه عجب، والإيمان بعناية الله تعالى به قد وجب، وعزه أظهره من برداء العزة احتجت، إذا كانت الغاية لا تدرك، فأولى أن تسلم وتترك، ومنة الله تعالى عليك ليست مما يشرح، قد عقل العقل فما يبرح، وقيد اللسان فما يرتعي في مجال العبارة ولا يسرح، اللهم ألهمنا على هذه النعمة شكراً

ترضاه، وإمداداً من لدنك نتقاضاه، يا الله يا الله. سعود أنارت بعد أفول شهابها، وحياة كرت بعد ذهابها، وأحباب اجتمعت بعد فراقها، وأوطان دنت بعد بعد شامها من عراقها، وأعداء أذهب الله تعالى رسم بغيهم ومحاه، وبغاة أدار عليهم الدهر رحاه، وعباد أعطوا من كشف الغم ما سألوه، ونازحون لوسئلوا في إتاحة القرب بما في أرقامهم لبذلوه، وسبحان الذي يقول " ولوأنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أواخرجوا من دياركم ما فعلوه " النساء:66 فليهن الإسلام بياض وجهه بعد اسوداده، وتغلب إيالة من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر على بلاده، وعودة الملك المظلوم إلى معتاده، واستواء الحق الثاني جنبه فوق مهاده، ورد الإرث المغضوب إلى مستحقه عن آبائه وأجداده. والحمد له الذي غسل عن وجه الأمة الحنيفية العار، وأنقذ عهدتها وقد ملكها الذعار، فرد المعار، وأعيد الشعار، نحمدك اللهم حمداً يليق بقدسك، لا بل لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. والعبد يا مولاي قد بهرت عقله آلاء الله تعالى قبلك، فالفكر جائل واللسان ساكت، والعقل ذاهل والطرف باهت، فغن أقام رسماً للمخاطبة فقلم مرح وركض، وطرس هز جناح الارتياح ونفض، ليس هذا المارم مما يرام، ولا هذه العناية التي تحار فيها الإفهام، مما تصمي غرضه السهام، فنسأل الله تعالى أن يجعل مولاي من الشاكرين، وبأحكام تقلبات الأيام من المعتبرين، حتى لا يغره السراب الخادع، والدهر المرغم للأنوف الجادع، ولا يرى في الوجود غير الله من صانع، ولا معط ولا مانع، ويمتعه بالعز الجديد، وويوقفه للنظر السديد، ويلهمه للشكر فهومفتاح المزيد، والسلام انتهى. 84 - ومما خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى أبا عبد الله ابن عمر التونسي قوله: سيدي الذي عهده لا ينسى وذكره يصبح في ترديده بالجميل ويمسى

أبقاكم الله تعالى تجلون من السعادة شمسا، وتصرفون في طاعته لساناً فرداً وبناناً خمساً: وصلني كتابكم الأشعث الأغبر، ومقتضبكم الذي أضغاثه لا تعبر، شاهدة بعدم الاعتناء أوضاعه، معدوماً إمتاعه، قصيراً في التعريف بالحال المتشوف إليها باعه، مضمناً الإحالة على خلي من معناها، غير ملتبس بموحدها ولا مثناها، سألته كما يسأل المريض عما عند الطبيب، ويحرص الحبيب على تعرف أحوال الحبيب، فذكر أنه لم يتحمل غير تلك السحاءة المغنية في الاختصار، المجحفة بحظي الأسماع والأبصار، فهمت بالعتب، على البخيل بالكتب، ثم عذرت سيدي بما يعتري مثله من شواغل تطرق، وخواطر تومض وتبرق، وإذا كان آمناً سربه، مهنا شربه، فهوالأمل، ويقنع هذا المجمل، وإن كان التفسير هوالأكمل، وما ثم ما يعمل، ووده في كل حال وده، والله سبحانه بالتوفيق يمده، والسلام. وكانت للسان الدين رحمه الله تعالى مخاطبات كثيرة لسلطان الدولة وأعيانها، دلت على قوة عارضته في البلاغة، وقد أبلغنا بجملة منها في هذا الكتاب في مواضع ولم نكثر منها طلباً لاختصار أوالتوسط بحسب ما اقتضاه الباعث في الحال، والله سبحانه وتعالى يبلغ الآمال، ويزكي الأعمال. 85 - ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى ما كتبه عن السلطان أبي الحجاج يوسف بن نصر إلى سيد العالمين صلى الله عليه وسلم إثر نظم، ونص الكل هو: إذا فاتني ظل الحمى ونعيمه ... فحسب فؤادي أن يهب نسيمه ويقنعني أني به متكنف ... فزمزمه دمعي، وجسمي حطيمه يعود فؤادي ذكر من سكن الغضا ... فيقعده فوق الغضا ويقيمه ولم أر شيئاً كالنسيم إذا سرى ... شفى سقم القلب المشوق سقيمه نعلل بالتذكار نفساً مشوقة ... ندير عليها كأسه ونديمه

وما شفني بالغور قد مرنح ... ولا شافني من وحش وجرة ريمه ولا سهرت عيني لبرق ثنية ... من الثغر يبدوموهناً فأشيمه براني شوق للنبي محمد ... يوم فؤادي برحه ما يسومه ألا يا رسول الله ناداك ضارع ... على النأي محفوظ الوداد سليمه مشوق إذا ما الليل مد رواقه ... تهم به تحت الظلام همومه إذا ما حديث عنك جاءت به الصبا ... شجاه من الشوق الحثيث قديمه أيجهر بالنجوى وأنت سميعها ... ويشرح ما يخفي وأنت عليمه وتعوزه السقيا، وأنت غياثه ... وتتلفه الشكوى، وأنت رحيمه بنورك نور الله قد أشرق الهدى ... فأقماره وضاحة ونجومه لك انهل فضل الله بالأرض ساكباً ... فأنواؤه ملتفة وغيومه ومن فوق أطباق السماء بك اقتدى ... خليل الذي أوطاكها وكليمه لك الخلق الأرضي الذي جل ذكره ... ومجدك في الذكر العظيم عظيمه يجل مدى علياك عن مدح مادح ... فموسر در القول فيك عديمه ولي يا رسول الله فيك وراثة ... ومجدك لا ينسى الذمام كريمه وعندي إلى أنصار دينك نسبة ... هي الفخر لا يخشى انتقالاً مقيمه وكان بودي أن أزور مبوأ ... بك افتخرت أطلاله ورسومه وقد يجهد الإناسن طرف اعتزامه ... ويعوزه من بعد ذاك مرومه وعذري في تسويف عزمي ظاهر ... إذا ضاق عذر العزم عمن يلومه عدتني بأقصى الغرب عن تربك العدا ... جلالقة الثغر الغريب ورومه أجاهد منهم في سبيلك أمة ... هي البحر يعيي أمرها من يرومه فلولا اعتناء منك يا ملجأ الورى ... لريع حماه واستبيح حريمه فلا تقطع الحبل الذي قد وصلته ... فمجدك موفور النوال عميمه

وأنت لنا الغيث الذي نستدره ... وأنت لنا الظل الذي نستديمه ولما نأت داري وأعوز مطمعي ... وأقلقني شوق يشب جحيمه بعثت بها جهد المقل معولاً ... على مجدك الأعلى الذي جل خيمه وكلت بها همي وصدق قريحتي ... فساعدني هاء الروي وميمه فلا تنسني يا خير من وطئ الثرى ... فمثلك لا ينسى لديه خديمه عليك صلاة الله ما ذر شارق ... وما راق من وجه الصباح وسيمه إلى رسول الحق إلى كافة الخلق، وغمام الرحمة الصادق البرق، الحائز في ميدان اصطفاء الرحمن قصب السبق، خاتم الأنبياء، وإمام ملائكة السماء، ومن وجبت له النبوة وآدم بين الطين والماء، شفيع أرباب الذنوب، وطبيب أدواء القلوب، والوسيلة إلى علام الغيوب، نبي الهدى الذي طهر قلبه، وغفر ذنبه، وختم به الرسالة ربه، وجرى في النفوس مجرى الأنفاس حبه، الشفيع المشفع يوم العرض، المحمود في ملإ السماء والأرض، صاحب اللواء المنشور يوم النشور، والمؤتمن على سر الكتاب المسطور، ومخرج الناس من الظلمات إلى النور، المؤيد بكفاية الله وعصمته، الموفور حظه من عنايته ونعمته، الظل الخفاق على أمته، من لوحازت الشمس بعض كماله ما عدمت إشراقاً، أوكان للآباء رحمة قلبه ذابت نفوسهم إشفاقاً، فائدة الكون ومعناه، وسر الوجود الذي يبهر الوجود سناه، وصفي حضرة القدس الذي لا ينام قلبه إذا نامت عيناه، البشير الذي سبقت له البشرى، ورأى من آيات ربه الكبرى، ونزل فيه {بحان الذي أسرى} (الإسراء:1) من الأنوار من عنصر نوره مستمدة والآثار تخلق وآثاره مستجدة، من طوي بساط الوحي لفقده، وسد دون حده، الذي انتقل في الغرر الكريمة نوره، وأضاءت لميلاده مصانع الشام وقصوره، وطفقت الملائكة تجيئه وفودها وتزوره، وأخبرت الكتب

المنزلة على الأنبياء بأسمائه وصفاته، وأخذ عهد الإيمان به على من اتصلت بمبعثه منهم أيام حياته، المفزع الأمنع الفزع الأكبر، والسند المعتمد عليه في أهوال المحشر، ذوالمعجزات التي أثبتتها المشاهدة والحس، وأقر بها الجن والإنس، من جماد يتكلم، وجذع لفراقه يتألم، وقمر له ينشق، وحجر يشهد أن ما جاء به هوالحق، وشمس بدعائه عن مسيرها تحبس، وماء من بين أصابعه يتبجس، وغمام باستسقائه يصوب، وطوي بصق في أجاجها فأصبح ماؤها وهوالعذب المشروب، المخصوص بمناقب الكمال وكمال المناقب، المسمى بالحاشر العاقب، ذوالمجد البعيد المرامي والمراقب، أكرم من رفعت إليه وسيلة المعترف المغترب، ونجحت لديه قربة البعيد المقترب، سيد الرسل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، الذي فاز بطاعته المحسنون، واستنقذ بشفاعته المذنبون، وسعد باتباعه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، صلى الله عليه وسلم ما لمع برق، وهمع ودق، وطلعت شمس، ونسخ اليوم أمس: من عتيق شفاعته، وعبد طاعته، المعتصم بسببه، المؤمن بالله ثم به، المستشفي بذمره كلما تألم، المفتتح بالصلاة عليه كلما تكلم، الذي إن ذكر تمثل طلوعه بين أصحابه وآله، وإن هب النسيم العاطر وجد فيه طيب خلاله، وإن سمع الأذان تذكر صوت بلاله، وإن ذكر القرآن استشعر تردد جبريل بين معاهده وخلاله، لاثم تربه، ومؤمل قربه، ورهين طاعته وحبه، المتوسل به إلى رضى ربه، يوسف بن إسماعيل بن نصر: كتبه إليك يا رسول الله والدمع ماح، وخيل الوجد ذات جماح، عن شوق يزداد كلما نقص الصبر، وانكسار لا يتاح له إلا بدنومزارك الجبر، وكيف لا يعيي مشوقك الأمر، وتوطأ على كبده الجمر، وقد مطلت الأيام بالقدوم على تربك المقدسة اللحد، ووعدت الآمال ودانت بإخلاف الوعد، وانصرفت الرفاق والعين بنور ضريحك ما اكتحلت، والركائب إليك

ما رحلت، والعزائم قالت وما فعلت، والنواظر في تلك المشاهد الكريمة لم تسرح، وطيور الآمال عن وكور العجز لم تبرح، فيا لها من معاهد فاز من حياها، ومشاهد ما أعطر رياها، بلاد نيطت بها عليك التمائم، وأشرقت بنورك منها النجود والتهائم (1) ، ونزل في حجراتها عليك الملك، وانجلى بضياء فرقانك فيها الحلك، مدارس الآيات والسور، ومطالع المعجزات السافرة الغرر، حيث قضيت الفروض وحتمت، وافتتحت سورة الرحمن وختمت، وابتدئت الملة الحنيفية وتممت، ونسخت الآيات وأحكمت: أما والذي بعثك بالحق هادياً، وأطلعك للخلق نوراً بادياً، لا يطفئ غلتي إلا شربك، ولا يسكن لوعتي إلا قربك، فما أسعد من أفاض من حرم الله إلى حرمك، وأصبح بعد أداء ما فرضت عن الله ضيف كرمك، وعفر الخد في معاهدك ومعاهد أسرتك، وتردد ما بين داري بعثتك وهجرتك، وإني لما عاقتني عن زيارك العوائق، وإن كان شغلي عنك بك، وعدتني الأعداء فيك عن وصل سببي بسببك، وأصبحت بين بحر تتلاطم أمواجه، وعدوتتكاثف أفواجه، ويحجب الشمس عند الظهيرة عجاجه - في طائفة من المؤمنين بك وطنوا على الصبر نفوسهم، وجعلوا التوكل على الله وعليك لبوسهم، ورفعوا إلى مصارختك رؤوسهم، واستعذبوا في مرضاة الله تعالى ومرضاتك بوشهم، يطيرون من هيعة إلى أخرى، ويلتفتون والمخاوف عن يمنى ويسرى، ويقارعون وهم الفئة القليلة جموعاً كجموع قيصر وكسرى، لا يبلغون من عدوهوالذر عند انتشاره، عشر معشاره، قد باعوا من الله تعالى الحياة الدنيا، لأن تكون كلمة اله تعالى هي العليا، فيا له من سرب مروع، وصريخ إلا منك ممنوع، ودعاء إلى الله وإليك مرفوع، وصبية حمر

_ (1) نثر فيه قول الأعرابي: بلاد بها نيطت علي تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها

الحواصل، تخفق فوق أوكارها أجنحة المناصل، والصليب قد تمطى فمد ذراعيه، ورفعت الأطماع بضبعيه، وقد حجبت بالقتام السماء، وتلاطمت أمواج الحديد، والبأس الشديد، فالتقى الماء، ولم يبق إلا الذماء، وعلى ذلك فما ضعفت البصائر ولا ساءت الظنون، وما وعد به الشهداء تعتقده القلوب حتى تكاد تشاهده العيون، إلى أن نلقاك غذاً إن شاء الله تعالى وقد أبلينا العذر، وأرغمنا الكفر، وأعملنا في سبيل الله تعالى سبيلك البيض والسمر - استنبت (1) رقعتي هذه لتطير إليك من شوقي بجناح خافق، وتسعد من نيتي التي تصحبها برفيق موافق، فتؤدي عن عبدك وتبلغ، وتعفر الخد في تربك وتمرغ، وتطيب بريا معاهدك الطاهرة وبيوتك، وتقف وقوف الخضوع والخشوع تجاه تابوتك، وتقول بلسان التملق، عند التشبث بأسبابك والتعلق، منكسرة الطرف، حذراً بهرجها من عدم الصرف: يا غياث الامة، وغمام الرحمة، ارحم غربتي وانقطاعي، وتغمد بطولك قصر باعي، وقوعلى هيبتك خور طباعي، فكم جزت من لج مهول، وجبت من حزون وسهول، وقابل بالقبول نيابتي، وعجل بالرضى إجابتي، ومعلوم من كمال تلك الشيم، وسجايا تيك الديم، أن لا يخيب قصد من حط بفنائها، ولا يظمأ وارد أكب على إنائها. اللهم يا من جعلته أول الأنبياء بالمعنى، وآخرهم بالصورة، وأعطيته لواء الحمد يسير آدم فمن دونه تحت ظلاله المنشورة، وملكت أمته ما زوي له من زوايا البسيطة المعمورة، وجعلتني من أمته المجبولة على حبه المفطورة، وشوقتني إلى معاهده المبرورة، ومشاهده المزروة، ووكلت لساني بالصلاة عليه، وقلبي بالحنين إليه، ورغبتني بالتماس ما لديه، فلا تقطع منه أسبابي، ولا تحرمني من حبه ثوابي، وتداركني بشفاعته يوم أخذ كتابي. هذه يا رسول الله وسيلة من بعدت داره، وشط مزاره، ولم يجعل بيده

_ (1) استنبت: جواب " لما " التي وقعت قبل سطور عديدة.

اختياره. فإن لم تكن (1) للقبول أهلاً فأنت للإغضاء والسماح أهل، وإن كانت ألفاظها وعرة فجنابك للقاصدين سهل، وإن كان الحب يتوارث كما أخبرت، والعروق تدس حسبما إليه أشرت، فلي بانتسابي إلى سعد عميد أنصارك مزية، ووسيلة أثيرة حفية، فإن لم يكن لي عمل ترتضيه فلي نية، فلا تنسني ومن بهذه الجزيرة المفتتحة بسيف كلمتك، على أيدي خيار أمتك، فإنما نحن بها وديعة تحت بعض أقفالك، نعوذ بوجه ربك من إغفالك، ونستنشق من ريح عنايتك نفحة، ونرتقب من محيا قبولك لمحة، ندافع بها عدواً طغى وبغى، وبلغ نم مضايقتنا ما ابتغى، فمواقف التمحيص قد أعيت من كتب وورخ، والبحر قد أصمت من استصرخ، والطاغية في العدوان مستبصر، والعدومحلق والولي مقصر، وبجاهك ندفع ما لا نطيق، وبعنايتك نعالج سقيم الدين فيفيق، فلا تفردنا ولا تهملنا، وناد ربك فينا " ربنا ولا تحملنا " البقرة:286، وطوائف أمتك حيث كانوا عناية منك تكفيهم، وربك يقول لك وقوله الحق " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " الانفال:33 والصلاة والسلام عليك يا خير من طاف وسعى، وأجاب داعياً إذا دعا، وصلى اله على جميع أحزابك وآلك، صلاة تليق بجلالك، وتحق لكمالك، وعلى ضجيعيك وصديقيك، وحبيبيك ورفيقيك، خليفتك في أمتك، وفاروقك المستخلف بعده على جلتك، وصهرك ذي النورين المخصوص برك ونحلتك، وابن عمك سيفك المسلول على حلتك، بدر سمائك ووالد أهلتك، والسلام الكريم عليك وعليهم كثيراً أثيراً ورحمة الله تعالى وبركاته، وكتب بحضرة جزيرة الأندلس غرناطة، صانها الله تعالى ووقاها، ودفع عنها ببركتك كيد عداها انتهت الرسالة. 86 - وكتب أيضاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان مخدومه

_ (1) الضمير يعود إلى " وسيلة " ويعني بها الرسالة.

السلطان الغني بالله محمد ابن السلطان أبي الحجاج - رحم الله تعالى الجميع - ما صورته: دعاك بأقصى المغربين غريب ... وأنت على بعد المزار قريب مدل بأسباب الرجاء وطرفه ... غضيض على حكم الحياء مريب يكلف قرص البدر حمل تحية ... إذا ما هوى والشمس حين تغيب لترجع من تلك المعالم غدوة ... وقد ذاع من رد التحية طيب ويستودع الريح الشمال شمائلاً ... من الحب لم يعلم بهن رقيب ويطلب في جيب الجيوب جوابها ... إذا ما أطلت والصباح جنيب ويستفهم الكف الخضيب ودمعه ... غراماً بحناء النجيع خضيب ويتبع آثار المطي مشيعاً ... وقد زمزم الحادي وحن نجيب إذا أثر الأخفاف لاحت محارباً ... يخر عليها راكعاً وينيب ويلقي ركاب الحج وهي قوافل ... طلاح وقد لبى النداء لبيب فلا قول إلا أنة وتوجع ... ولا حول إلا زفرة ونحيب غليل ولكن من قبولك منهل ... عليل ولكن من رضاك طبيب ألا ليت شعري والأماني ضلة ... وقد تخطئ الآمال ثم تصيب أينجد نجد بعد شحط مزاره ... ويكثب بعد البعد منه كثيب وتقضى ديوني بعدما مطل المدى ... وينفذ بيعي والمبيع معيب وهل أقتضي دهري فيسمح طائعاً ... وأدعو بحظي مسمعاً فيجيب ويا ليت شعري هل لحومي مورد ... لديك وهل لي في رضاك نصيب ولكنك المولى الجواد وجاره ... على أي حال كان ليس يخيب وكيف يضيق الذرع يوماً بقاصد ... وذاك الجناب المستجار رحيب وما هاجني إلا تألق بارق ... يلوح بفود الليل منه مشيب

ذكرت به ركب الحجاز وجيرة ... أهاب بها نحو الحبيب مهيب فبت وجفني من لآلئ دمعه ... غني وصبري للشجون سليب ترنحني الذكرى ويهفو بي الجوى ... كما مال غصن في الرياض رطيب وأحضر تعليلاً لشوقي بالمنى ... ويطرق وجد غالب فأغيب مرامي، لو أعطى الأماني، زورة ... يبث غرام عندها ووجيب فقول حبيب إذا يقول تشوقاً ... عسى وطن يدنو إلي حبيب تعجبت من سيفي وقد جاور الغضا ... بقلبي فلم يسكبه منه مذيب وأعجب أن لا يورق الرمح في يدي ... ومن فوقه غيث المشوق سكيب فيا سرح ذاك الحي لو أخلف الحيا ... لأغناك من صوب الدموع صبيب ويا هاجر الجو الجديب تلبثاً ... فعهدي رطب الجانبين خصيب ويا قادح الزند الشحاح ترفقاً ... عليك فشوقي الخارجي شبيب أيا خاتم الرسل المكين مكانه ... حديث الغريب الدار فيك غريب فؤادي على جمر البعاد مقلب ... يماح عليه للدموع قليب فوالله ما يزداد إلا تلهباً ... أأبصرت ماءً ثار عنه لهيب فليلته ليل السليم ويومها ... إذا شد للشوق العصاب عصيب هواي هدى فيك اهتديت بنوره ... ومنتسبي للصحب منك نسيب وحسبي على أني لصحبك منتم ... وللخزرجيين الكرام نسيب عدت عن مغانيك المشوقة للعدا ... عقارب لا يخفى لهن دبيب حراً على إطفاء نور قدحته ... فمستلب من دونه وسليب فكم من شهيد في رضاك مجدل ... يظلله نسر ويندب ذيب تمر الرياح الغفل فوق كلومهم ... فتعبق من أنفاسها وتطيب بنصرك عنك الشغل من غير منة ... وهل يتساوى مشهد ومغيب

فإن صح منك الحظ طاوعت المنى ... ويبعد مرمى السهم وهو مصيب ولولاك لم يعجم من الروم عودها ... فعود الصليب الأعجمي صليب وقد كانت الأحوال، لولا مراغب ... ضمنت ووعد بالظهور، تريب فما شئت من نصر عزيز وأنعم ... أثاب بهن المؤمنين مثيب منابر عز أذن الفتح فوقها ... وأفصح للعضب الطرير خطيب نقود إلى هيجائها كل صائل ... كما ريع مكحول اللحاظ ربيب ونجتاب من سرد اليقين مدارعاً ... يكفتها من يجتني ويثيب إذا اضطربت الخطي حول غديرها ... يروقك منها لجة وقضيب فعذراً وإغضاء ولا تنس صارخاً ... بعزك يرجوأن يجيب مجيب وجاهك بعد الله نرجو، وإنه ... لحظ مليء بالوفاء رغيب عليك صلاة الله ما طيب الفضا ... عليك مطيل بالثناء مطيب وما اهتز قد للغصون مرنح ... وما افتر ثغر للبروق شنيب إلى حجة اله تعالى المؤيدة ببراهين أنواره، وفائدة الكون ونكتة أدواره، وصفوة نوع البشر ومنتهى أطواره، إلى المجتبى وموجود الوجود لم يغن بمطلق الوجود عديمه، المصطفى نم ذرية آدم قبل أن يكسوالعظام أديمه، المحتوم في القدم، وظلمات العدم، عند صدق القدم، تفضيله وتقديمه، إلى وديعة النور المنتقل في الجباه الكريمة والغرر، ودرة الأنبياء التي لها الفضل على الدرر، وغمام الرحمة الهامية الدرر، إلى مختار الله تعالى المخصوص باجتبائه، وحبيبه الذي له المزية على أحبائه، وذرية أنبياء الله تعالى آبائه، إلى الذي شرح صدره وغسله، ثم بعثه واسطة بينه وبين العباد وأرسله، وأتم عليه إنعامه الذي أجزله، وأنزل عليه من الهدى والنور ما أنزله، إلى بشرى المسيح والذبيح، ومن لهم التجر الربيح، المنصور بالرعب والريح، المخصوص

بالنسب الصريح، إلى الذي جعله في المحول غماماً، وللأنبياء إماماً، وشق صدره لتلقي روح أمره غلاماً، وأعلم به في التوراة والإنجيل إعلاماً، وعلم المؤمنين صلاة عليه وسلاماً، إلى الشفيع الذي لا ترد في العصاة شفاعته، والوجيه الذي قرنت بطاعة الله تعالى طاعته، والرؤوف الرحيم الذي خلصت إلى الله تعالى في أهل الجرائم ضراعته، صاحب الآيات التي لا يسع ردها، والمعجزات التي أربى على الألف عدها، فمن قمر شق، وجذع حن له وحق، وبنان يتفجر بالماء، فيقوم بري الظماء، وطعام يشبع الجمع الكثير يسيره، وغمام يظلل به مقامه ومسيره، خطيب المقام المحمود إذا كان العرض، وأول من تنشق عنه الأرض، ووسيلة الله تعالى التي لولاها ما أقرض القرض، ولا عرف النفل والفرض، محمد بن عبد اله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف المحمود الخلال من ذي الجلال، الشاهد بصدقه صحف الأنبياء وكتب الإرسال، وآياته التي أثلجت القلوب ببرد اليقين السلسال، صلى الله عليه وسلم ما ذر شارق، وأومض بارق، وفرق بين اليوم الشامس والليل الدامس فارق، صلاة تتأرج على شذا الزهر، وتتبلج عن سنا الكواكب الزهر، وتتردد بين السر والجهر، وتستغرق ساعات اليوم وأيام الشهر، وتدوم بدوام الدهر: من عبد هداه، ومستقري مواقع نداه، ومزاحم أبناء أنصاره في منتداه، وبعض سهامه المفوقة إلى نحور عداه، مؤمل العتق من النار بشفاعته، ومحرز طاعة الجبار بطاعته، الآمن باتصال رعيه من إهمال الله تعالى وإضاعته، متخذ الصلاة عليه وسائل نجاة، وذخائر في الشدائد مرتجاة، متاجر بضائعها غير مزجاة، الذي ملأ بحبه جوانح صدره، وجعل فكره هالة لبدره، وأوجب حقه على قدر العبد لا على قدره، محمد بن يوسف بن نصر الأنصاري الخزرجي، نسيب سعد بن عبادة من أصحابه، وبوارق سحابه، وسيوف نصرته، وأقطاب دار هجرته، ظلله الله تعالى يوم الفزع الأكبر من رضاك عنه بظلال الأمان، كما أنار قلبه من هدايتك بأنوار الهدى والإيمان، وجعله

من أهل السياحة في فضاء حبك والهيمان: كتبه إليك يا رسول الله - واليراع تقتضي الهيبة صفرة ونه، والمداد يكاد أن يحول سواد جونه، وورقة الكتاب يخفق ؤادها حرصاً على حفظ اسمك الكريم وصونه، والدمع يقطر به الحروف وتفصل الأسطر، وتوهم المثول، بمثواك المقدس لا يمر بالخاطر سواه ولا يخطر، عن قلب بالبعد عنك قريح، وجفن بالبكاء جريح، وتأوه عن تبريح، كلما هب من أرضك نسيم ريح، وانكسار ليس له إلا جبرك، واغتراب لا يؤنس فيه إلا قربك، وإن يقض فقبرك، وكيف لا يسلم في مثلها الأسى، ويوحش الصباح والمسا، ويرجف جبل الصبر بعدما رسا، لولا لعل وعسى، فقد سارت الركبان إليك ولم يقض مسير، وحومت الأسراب عليك والجناح كسير، وعدت الآمال فاخلفت، وحلفت العزائم فلم تف بما حلفت، ولم تحصل النفس من تلك المعاهد ذات الشرف الأثيل، إلا على التمثيل، ولا من المعالم المتمسة التنوير، إلا على التصوير، مهبط وحي الله تعالى ومتنزل أسمائه، ومتردد ملائكة سمائه، ومدافن أوليائه، وملاحد أصحاب خيرة أنبيائه، رزقني الله تعالى الرضى بقضائه، والصبر على جاحم البعد ورمضائه - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى دار ملك الإسلام بالأندلس قاصية سيلك، ومسحبة رجلك يا رسول الله وخيلك، وأنأى مطارح دعوتك ومساحب ذيلك، حيث مصاف الجهاد في سبيل الله وسبيلك قد ظللها القتام، وشهبان الأسنة أطلعها منه الإعتام، وأسواق بيع النفوس من الله تعالى قد تعدد بها الأيامى والأيتام، حيث الجراح قد تحلت بعسجد نجيعها النحور، والشهداء نتحف بها الحور، والأمم الغريبة قد قطعها عن المدد البحور، حيث المباسم المفترة، تجلوها المصارع البرة، فتحييها بالعراء ثغور الأزاهر، وتندبها صوادح الأدواح برنات تلك المزاهر، وتحلي السحاب أشلاءها المعطلة من ظلها بالجواهر، وحيث الإسلام من عدوه المكايد بمنزلة

قطرة من عارض غمام، وحصاة من ثبير أوشمام، وقد سدت الطريق، وأسلم الفراق الفريق، وأغص الريق، ويئس من الساحل الغريق، إلا أن الإسلام بهذه الجهة المتمسكة بحبل الله تعالى وحبلك، المهتدية بأدلة سبلك، سالم والحمد لله تعالى من الانصداع، محروس بفضل الله تعالى من الابتداع، مقدود من جديد الملة، معدوم فيه وجود الطوائف المضلة، إلا ما يخص الكفر من هذه العلة، والاستظهار على جمع الكثرة من جموعه بجمع القلة. ولهذه الأيام يا رسول الله أقام الله تعالى أوده براً بوجهك الوجيه ورعياً، وإنجازاً لوعدك وهوالذي لا يخلف وعداً ولا يخيب سعياً، وفتح لنا فتوحاً أشعرتنا برضاه عن وطننا الغريب، وبشرتنا منه تعالى بغفر التقصير ورفع التثريب، ونصرنا وله المنة على عبدة الصليب، وجعل لألفنا الرديني ولامنا السردي حكم التغليب، وإذا كانت الموالي التي طوقت الأعناق مننها، وقررت العوائد الحسان سيرها وسننها، تبادر إلها نوابها الصرحاء وخدامها النصحاء بالبشائر، والمسرات التي تشاع في العشائر، وتجلولديها نتائج أيديها، وغايات مباديها، وتتاحفها وتهاديها، بمجاني جناتها وأزاهر غواديها، وتطرف محاضرها بطرف بواديها، فبابك يا رسول الله أولى بذلك وأحق، ولك الحق الحق، والحر منا عبدك المسترق، حسبما سجله الرق، وفي رضاك من كل من يلتمس رضاه المطمع، ومثواك المجمع، وملوك الإسلام في الحقيقة عبيد سدتك المؤملة، وخول مثابتك المحسنة بالحسنات المجملة، وشهب تعشوإلى بدورك المكملة، وبعض سيوفك المقلدة في سبيل الله تعالى المحملة، وحرسة مهادك، وسلاج جهادك، وبروق عهادك. وإن مكفول احترامك الذي لا يخفر، وربي إنعامك الذي لا يكفر، وملتحف جاهك الذي يمحى ذنبه بشفاعتك إن شاء الله تعالى ويغفر، يطالع روضة الجنة المفتحة أبوابها بمثواك، ويفاتح صوان القدس الذي أجنك وحواك

وينثر بضائع الصلاة عليك بين يدي الضريح الذي طواك، ويعرض جنى ما غرست وبذرت، ومصداق ما بشرت به لما بشرت وأنذرت، وما انتهى إليه طلق جهادك، ومصب عهادك، لتقر عين نصحك التي أنام العيون الساهرة هجوعها، وأشبع البطون، ورواها ظمؤها في الله تعالى وجوعها، وإن كانت الأمور بمرأى من عين عنايتك، وغيبها متعرف بين إفصاحك وكنايتك، ومجمله يا رسول الله صلى الله عليك، وبلغ وسيلتي إليك، هوا، الله سبحانه لما عرفني لطفه الخفي في التمحيص، المقتضي عدم المحيص، ثم في التخصيص، المغني بعيانه عن التنصيص، وفق ببركاتك السارية رحماتها في القلوب، ووسائل محبتك العائدة بنيل المطلوب، إلى استفادة عظة واعتبار، واغتنام إقبال بعد إدبار، ومزيد استبصار، واستعانة بالله تعالى وانتصار، فسكن هبوب الكفر بعد إعصار، وحل مخنق الإسلام بعد حصار، وجرت على سنن السنة بحسب الاستطاعة والمنة السيرة، وجبرت بجاهك القلوب الكسيرة، وسهلت المآرب العسيرة، ورفع بيد العزة الضيم، وكشف بنور البصيرة الغيم، وظهر القليل على الكثير، وباء الكفر بخطة التعثير، واستوى الدين الحنيف على المهاد الوثير، فاهتبلنا يا رسول الله غرة العدو وانتهزناها، وشمنا صوارم عزة الغدووهززناها، وأزحنا علل الجيوش وجهزناها. فكان مما ساعد عليه القدر، والخطب المبتدر، والورد الذي حسن بعده الصدر، أننا عاجلنا مدينة برغه (1) ، وقد جرعت الأختين مالقة ورندة، من مدائن دينك، ومزابن ميادينك، أكواس الفراق، وأذكرت مثل من بالعراق، وسدت طرق التزاور عن الطراق، وأسألت المسيل بالنجيع المراق، في مراصد المراد والمراق، ومنعت المراسلة مع هدير الحمام، لا بل مع طيف المنام عند الإلمام، فيسر اله تعالى اقتحامها، وألحمت بيض الشفار

_ (1) برغه (Burgo) بين مالقة ورندة.

في زرق الكفار إلحامها، وأزال السيوف من بين تلك الحروف إقحامها، فانطلق المسرى، واستبشرت القواعد الحسرى، وعدمت بطريقها المخيف مصارع الصرعى ومثاقف الأسرى، والحمد لله على فتحه الأسنى، ومنحه الأسرى، ولا إله إلا هومنفل قيصر وكسرى، وفاتح مغلفاتهما المنيعة قسراً؛ واستولى الإسلام منها على قرار جنات، وأم بنات، وقاعدة حصون، وشجرة غصون، طهرت مساجدها المغتصبة المكرهة، وفجع بحفظها الفيل الافيل وأربرهة، وانطلقت بذكر الله الألسنة المدرهة، وفاز بسبق ميدانها جيادك الفرهة، هذا وطاغية الروم على توفر جموعه، وهول مرئيه ومسموعه، قريب جواره، بحيث يتصل خواره، وقد حرك إليها الحنين حواره. " ثم نازل المسلمون بعدها شجا الإسلام الذي أعيا النطاسي علاجه، وكرك (1) هذا القطر الذي لا تطاول أعلامه ولا تصاول أعلاجه، وركاب الغارات التي تطوي المراحل إلى مكايدة المسلمين طي البرود، وحجر الحيات التي لا تخلع على اختلاف الفصول جلود الزرود، ومنغص الورود في العذب المورود، ومقض المضاجع، وحلم الهاجع، ومجهز الخطب الفاجئ الفاجع، ومستدرك فاتكة الراجع، قبل هبوب الطائر الساجع، حصن آشر (2) حماه الله تعالى دعاء لا خبراً، كما جعله للمتفكرين في قدرته معتبراً، فأحاطوا به إحاطة القلادة بالجيد، وأذلوا عزته بعزة ذي العرش المجيد، وحفت به الرايت يسمها وسمك، ويلوح في صفحاتها اسم الله تعالى واسمك، فلا ترى إلا نفوساً تتزاحم على مورد الشهادة أسرابها، وليوثاً يصدق في الله تعالى ضرابها، وأرسل الله عليها رجزاً إسرائيلياً من جراد السهام، تش آياته عن الإفهام،

_ (1) شبهه بحصن الكرك، وكان ذا شأن ومنعة في الحروب الصليبية. (2) حصن آشر (Iznajar) في الجنوب الشرقي لحصن روطة (Rute) على ضفة رافد من روافد شنيل؛ وقد صحف في ق فكتب " أشب ".

وسدد إلى الجبل النفوس القابلة للإلهام، من بعد الاستغلاق والاستبهام، وقد عبثت جوارح صخوره في قنائص الهام، وأعيا صعبه على الجيش اللهام، فأخذ مسائغه النقض والنقب، ورغا فوق أهله السقب (1) ، ونصبت المعارج والمراقي، وقرعت المناكب والتراقي، واغتنم الصادقون مع الله تعالى الحظ الباقي، وقال الشيهد السابق: يا فوز استباقي، ودخل البلد فألحم السيف، واستلبت البحت والزيف، ثم استخلصت القصبة فعلت أعلامك في أبراجها المشيدة، وظفر ناشد دينك منها بالنشيدة (2) ، وشكر الله تعالى في قصدها مساعي النصائح الرشيدة، وعمل ما يرضيك يا رسول الله في سد ثلمها، وصون مستلمها، ومداواة ألمها، حرصاً على الاقتداء في مثلها بأعمالك، والاهتداء بمشكاة كمالك، ورتب فيها الحماة تشجي العدو، وتصل في مرضاة الله تعالى، ومرضاتك برواحها الغدو. ثم كان الغزوإلى مدينة إطريرة (3) بنت حاضرة الكفر إشبيلية التي أظلتها بالجناح الساتر، وأنامتها في ضمان الأمان للحسام الباتر، وقد وتر الإسلام من هذه المومسة البائسة بوتر الواتر، وأحفظ منها بأذى الوقاح المهاتر، لما جرته على أسرة من عمل الخاتل الخاتر، حسب المنقول لا بل المتواتر، فطوى إليها المسلمون المدى النازح، ولم تشك المطي الروازح، وصدق الجد جدها المازح، وخففت فوق أوكارها أجنحة الأعلام، وغشيتها أفواج الملائكة الموسومة وظلال الغمام، وصابت من السهام ودق الرهام، وكاد يكفي السهام على الأرض ارتجاج أجوائها بكلمة الإسلام، وقد صم خاطب عروس الشهادة

_ (1) السقب: ولد الناقة وفي العبارة إشارة إلى ما حل بقوم عندما عقروا الناقة، فيقال في المثل لتصوير الهلاك " رغا فوقهم السقب ". (2) النشيدة: الضالة التي تنشد أي تطلب. (3) إطريرة (Utrera) إلى الجنوب الشرقي في إشبيلة على بعد 39 كيلومتراً، وقد ضبطت بكسر الهمزة وسكون الطاء.

عن الملام، وسمح بالعزيز المصون مبايع الملك العلام، وتكلم لسان الحديد الصامت وصمت إلا بذكر الله لسان الكلام، ووفت الأوتار بالأوتار، ووصل بالخطي ذرع الأبيض البتار، وسلطت النار على أربابها، وأذن الله تعالى في تبار تلك الأمة وتبابها، فنزلوا على حكم السيف آلافاً، بعد أن أتلفوا بالسلاح إتلافاً، واستوعب المقاتلة كتافاً، وقرنوا في الجدل أكتافاً أكتافاً، وحملت العقائل والخرائد، والولدان والولائد، إركاباً من فوق الظهور وإردافاً، وأقلت منها أأفلاك الحمول بدوراً تضيء من ليالي المحاق أسدافاً، وامتلأت الأيدي من المواهب والغنائم، بما لا يصوره حلم النائم، وتركت العوافي تتداعى إلى تلك الولائم، وتفنن من مطاعمها في الملائم، وشنت الغارات على حمص فجلت خارجها مغاراً، وكست كبار الروم بها صغاراً، وأجحرت أبطالها إجحاراً، واستاقت من النعم ما لا يقبل الحصر استبحاراً. ولم يكن إلا أن عدل القسم، واستقل بالقفول العزيز الرسم، ووضح من التوفيق الوسم، فكانت الحركة إلى قاعدة جيان قيعة الظل الأبرد، ونسيجة المنوال المفرد، وكناس الغيد الخرد، وكرسي الإمارة، وبحر العمارة، ومهوى هوى الغيث الهتون، وحزب التين والزيتون، حيث خندق الجنة تدنولأهل النار مجانيه، وتشرق بشواطئ الأنهار إشراق الأزهار زهر مبانيه، والقلعة التي تختمت بنان شرفاتها بخواتيم النجوم، وهمت من دون سحابها البيض سحائب الغيث السجوم، والعقيلة التي أبدى الإسلام يوم طلاقها، وهجوم فراقها، سمة الوجوم لذلك الهجوم، فرمتها البلاد المسلمة بأفلاذ أكبادها الوادعة، وأجابت منادي دعوتك الصادقة الصادعة، وحبتها بالفادحة الفادعة، فغصت الربى والوهاد بالتكبير والتهليل، وتجاوبت الخيل بالصهيل، وانهالت الجموع المجاهدة في الله تعالى انهيال الكثيب المهيل، وفهمت نفوس العباد المجاهدة في الله تعالى حق الجهاد معاني التيسير من ربها والتسهيل، وسفرت الرايات عن المرأى الجميل، وأربت المحلات المسلمة على التأميل، ولما صبحتها

النواصي المقبلة الغرر والأعلام المكتتبة الطرر، برز حاميتها مصحرين (1) ، وللحوزة المستباحة منتصرين، فكاثرهم من سرعان الأبطال رجل الدبا (2) ، ونبت الوهاد والربى، فأقحموهم من وراء السور، وأسرعت أقلام الرماح في بسط عددهم المكسور، وتركت صرعاهم ولائم للنسور، ثم اقتحموا ربض المدينة الأعظم ففرعوه، وجدلوا من دافع عن أسواره وصرعوه، وأكواس الحتوف جرعوه، ولم يتصل أولى الناس بأخراهم، ويحمد بمخيم النصر العزيز سراهم، حتى خذل (3) الكافر الصبر وأسلم الجلد، ونزل على المسلمين النصر فدخل البلد، وطاح في السيل الجارف الوالد منه والولد، وأتهم المطرف والمتلد، فكان هولاً بعيد الشناعة، وبعثاً كقيام الساعة، أعجل المجانيق عن الركوع والسجود، والسلالم عن مطاولة النجود، والأيدي عن ردم الخنادق والأغوار، والأكبش عن مناطحة الأسوار، والنفوط عن إصعاق الفجار، وعمد الحديد، ومعاول البأس الشديد، عن نقب الأبراج ونقض الأحجار، فهيلت الكثبان، وأبيد الشيب والشبان، وكسرت الصلبان، وفجع بهدم الكنائس الرهبان، وأهبطت النواقيس من مراقيها العالية وصروحها المتعالية، وخلعت ألسنتها الكاذبة، ونقل ما استطاعته الأيدي المجاذبة، وعجزت عن الأسلاب (4) ذوات الظهور، وجلل الإسلام شعار العز والظهور، بما خلت عن مثله سوالف الدهور والأعوام والشهور، وأعرست الشهداء ومن النفوس المبيعة من الله تعالى نحل الصدقات والمهور، ومن بعد ذلك هدم السور، ومحيت عن محيطه المحكم السطور، وكاد يسير ذلك الجبل الذي اقتعدته ويدك ذلك الطور، ومن بعد ما خرب الوجار، عقرت الأشجار، وعفر المنار، وسلطت على بنات

_ (1) مصحرين: بارزين. (2) الرجل: الجماعة، والدبا: الجراد. (3) في ق: جذل، وصوبناه. (4) ق: الأشلاء.

التراب والماء والنار، وارتحل عنها المسلمون وقد عمتها المصائب، وأصمى لبتها السهم الصائب، وجللتها القشاعم العصائب، فالذئاب في الليل البهيم تعسل، والضباع من الحدب البعيد تنسل، وقد ضاقت الجدل عن المخانق، وبيع العرض الثمين بالدائق، وسبكت أسورة الأسوار، وسويت الهضاب بالأغوار، واكتسحت الاحواز القاصية سرايا الغوار، وحجبت بالدخان مطالع الأنوار، وتخلفت قاعتها عبرة للمعتبرين وعظة للناظرين، وآية للمستبصرين، ونادى لسان الحمية، يا لثارات الإسكندرية، فأسمع آذان المقيمين والمسافرين، وأحق الله الحق بكلماته وقطع دابر الكافرين. ثم كانت الحركة إلى أختها الكبرى، ولدتها الحزينة عليها العبرى، مدينة أبدة (1) ذات العمران المستبحر، والربض الخرق المصحر، والمباني الشم الأنوف، وعقائل المصانع الجمة الحلي والشنوف، والغاب الأنوف، بلدة التجر، والعسكر المجر، وأفق الضلال الفاجر الكذب على الله تعالى الكاذب الفجر، فخذل الله تعالى حاميتها التي يعيي الحسبان عدها، وسجر بحورها التي لا يرام مدها، وحقت عليها كلمة الله تعالى التي لا يستطاع ردها، فدخلت لأول وهلة، واستوعب جمها والمنة لله تعالى في نهلة، ولم يكف السيف من عليها ولا مهلة، فلا تناولها العفا والتخريب، واستباحها الفتح القريب، وأسند عن عواليها حديث النصر الحسن الغريب، وأقعدت أبراجها من بعد القيام والانتصاب، وأضرعت مسيفها (2) لهول المصاب، انصرف عنها المسلمون بالفتح الذي عظم صيته، والعز الذي سما طرفه واشرأب ليته، والعزم الذي حمد مسراه ومبينه، والحمد لله ناظم الأمر وقد راب شتيته، وجابر الكسر وقد أفات الجبر مفتيه.

_ (1) أبدة (Ubeda) - بتشديد الباء - إلى الشمال الشرقي من جيان. (2) المسايف: جمع مسيف، ويعني بها لسان الدين في الأرجح، المدماك (أي السطر من البناء) .

ثم كان الغزوإلى أم البلاد، ومثوى الطارف والتلاد، قرطبة، وما قرطبة المدينة التي على عمل أهلها في القديم بهذا الإقليم كان اعمل، والكرسي الذي بعصاه رعي الهمل، والمصر الذي له في خطة المعمور الناقة والجمل، والأفق الذي لشمس الخلافة العبشمية (1) الحمل، فخيم الإسلام بعقوتها (2) المستباحة، وأجاز نهرها المعيي على السباحة، وعم دوحها الأشب بواراً، وأدار المحلات بسورها سواراً، وأخذ بمخنقها حصاراً، وأعمل النصر بشجر يصلها (3) اجتناءً ما شاء واهتصاراً، وجدل من أبطالها من لم يرض انحجاراً، فأعمل إلى المسلمين إصحاراً، حتى فرغ بعض جهاتها غلاباً جهاراً، ورفعت الأعلام إعلاماً بعز الإسلام وإظهاراً، فلولا استهلال الغوادي، وأن أتى الوادي، فأفضت إلى فتح الفتوح تلك المبادي، ولقضى تفثه (4) العاكف والبادي، فاقتضى الرأي ولذنب الزمان في اغتصاب الكفر إياها متاب، تعمل ببشراه بفضل الله تعالى أقتاد وأقتاب، ولكل أجل كتاب أن يراض صعبها حتى يعود ذلولاً، وتعفى معاهدها الآهلة فتترك طلولاً، فإذا فجع الله تعالى بمارج النار طوائفها المارجة، وأباد بخارجها الطائرة والدارجة، خطب السيف منها أم خارجة (5) ، فعند ذلك أطلقنا بها ألسنة النار ومفارق الهضاب بالهشيم قد شابت، والغلات المستغلات قد دعا بها القصل فما ارتابت، وكأن صحيفة نهرها لما

_ (1) العبشمية: نسبة إلى عبد شمس. (2) العقوة: الساحة. وفي ق: بعقرتها. (3) ق: فأعمل النصر ... نصها؛ والمراد أن النصر حطم رماحها. (4) التفث في الحج: الحلق والتقصير وقص الأظفار ونحر البدن وغير ذلك مما يفعله الحاج إذا حل من إحرامه، والمراد أنه استوفى حجه، فكنى به لسان الدين عن بلوغ غاية الأرب. (5) أم خارجة: كانت سريعة الخطبة ولذلك قيل في المثل " أسرع من نكاح أم خارجة " وقد شبه قرطبة بها لتداول الغلبة عليها دهراً بعد دهر، وألمح ابن شهيد إلى هذا حين تغزل بقرطبة فقال: زنت بالرجال على سنها ... فيا حبذا هي من زانية

أضرمت النار في (1) ظهرها ذابت، وحيته فرت أمام الحريق فانسابت، وتخلفت لغمائم الدخان عمائم تلويها برؤوس الجبال أيدي الرياح، وتنشرها بعد الركود أيدي الاجتياح، وأغريت بأقطارها الشاسعة، وجهاتها الواسعة، جنود الجوع، وتوعدت بالرجوع، فسلب لتوقع الهجوم منزور الهجوع، فأعلامها خاشعة خاضعة، وولدانها لثدي البؤس راضعة، والله سبحانه يوقد بخبر فتحها القريب ركاب البشرى، وينشر رحمته قبلنا نشراً. ثم تنوعت يا رسول اله لهذا العهد أحوال العدوتنوعاً يوهم إفاقته من الغمرة، وكادت فتنته تؤذن بخمود الجمرة، وتوقع الواقع، وحذر ذلك السم الناقع، وخيف الخرق الذي يحار فيه الراقع، فتعرفنا عوائد الله سبحانه ببركة هدايتك، وموصول عنايتك، فأنزل النصر والسكينة، ومكن العقائد المكينة، فثابت العزائم وهبت، واطردت عوائد الإقدام واستتبت، وما راع العدوإلا خيل الله تعالى تجوس خلاله، وشم الحق توجب ظلاله، وهداك الذي هديت يدحض ضلاله، ونازلنا حصني قنبيل والحائر (2) ، وهما معقلان متجاوران يتناجى منهما الساكن سراراً، وقد اتخذا بين النجوم قراراً، وفصل بينهما حسام النهر يروق غراراً، والتف معصمه في حلة العصب وقد جعل الجسر سواراً، وفخذل الصليب بذلك الثغر من تولاه، وارتفعت أعلام الإسلام بأعلاه، وتبرجت عروس الفتح المبين بمجلاه، والحمد لله تعالى على ما أولاه. ثم تحركنا على تفثة (3) تعدي ثغر المواسطة على عدوة المساور في المضاجع، ومصحبه بالفاجئ الفاجع، فنازلنا حصن روطة الآخذ بالكظم، المعترض بالشجا اعتراض العظم، وقد شحنه العدومدداً بئيساً، ولم يأل اختياره رأياً ولا تلبيساً، فأعيا داؤه، واستقلت بالمدافعة أعداؤه، ولما أتلع إليه جيد المنجنيق،

_ (1) ق: حافي، ولعلها: حامي. (2) ق: والحوائر. (3) على نفثة: على أثر.

وقد برك عليه بروك الفنيق، وشد عصام العزم الوثيق، لجأ أهله إلى التماس العهود والمواثيق، وقد غصوا بالريق، وكاد يذهب بأبصارهم لمعان البريق، فسكناه من حامية المجاهدين بمن يحمي ذماره، ويقرر اعتماره، واستولى أهل الثغور إلى هذا الحد على معاقل كانت مستغفلة ففتحوها؛ وشرعوا أرشية الرماح إلى قلب قلوبها فمتحوها. ولم تكد الجيوش المجاهدة تنفض عن الأعراف متراكم الغبار، وترخي عن آباط خيلها شد حزم المغار، حتى عاودت النفوس شوقها، واستتبعت ذوقها، وخطبت التي لا فوقها، وذهبت بها الآمال إلى الغاية القاصية، والمدارك المتصاعبة على الأفكار المتعاصية، فقصدنا الجزيرة الخضراء باب هذا الوطن الذي منه طرق وادعه، ومطلع الحق الذي صدع الباطل صادعه، وثنيه الفتح التي برق منا لامعه، ومشرف الهجوم الذي لم تكن لتعثر على غيره مطامعه، وفرضة المجاز التي لا تنكر، ومجمع البحرين في بعض ما يذكر، حيث يتقارب الشطان، ويتوازى الخطان، وكاد أن تلتقي حلقتنا البطان، وقد كان الكفر قدر قدر هذه الفرضة التي طرق منها حماه، ورماه الفتح الأول بما رماه، وعلم أن لا تتصل أيدي المسلمين بإخوانهم إلا من تلقائها، وأنه لا يعدم المكروه مع بقائها، فأجلب عليها برجله وخيله، وسد أفق البحر بأساطيله، ومراكب أباطيله، بقطع ليله، وتداعى المسلمون بالعدوتين إلى استنقاذها من لهواته، أوإمساكها من دون مهواته، فعجز الحول، ووقع بملكه إياها القول، واحتازها قهراً، وقد صابرت الضيق ما يناهز ثلاثين شهراً، وأطرق الإسلام بعدها إطراق الواجم، واسودت الوجوه لخبرها الهاجم، وبكتها حتى دموع الغيث الساجم، وانقطع المدد إلا من رحمة من ينفس الكروب، ويغري بالإدالة الشروق والغروب، ولما شكنا بشبا الله تعالى نحرها، وأغصصنا بجيوش الماء وجيوش الأرض تكاثر نجم السماء برها وبحرها، ونازلناها نذيقها شديد النزال، ونحجها بصدق الوعيد في سبيل الاعتزال، رأينا بأواً لا يظاهر إلا بالله تعالى ولا يطال

وممنعة يتحاماها الأبطال، وجناباً روضه الغيث الهطال، أسواقها فهي التي أخذت النجد والغور، واستعدت بجدال الجلاد عن البلاد فارتكبت الدور (1) ، تحوز بحراً من العمارة ثانياً، وتشكك أن يكون الإنس لها بانياً، وأما أبراجها فصفوف وصفوف، تزين صفحات المسايف منها أنوف، وآذان لها من دوامغ الصخر شنوف، وأما خندقها فصخر مجلوب، وسور مقلوب، فصدقها المسلمون القتال بحسب محلها من نفوسهم، واقتران اغتصابها ببوسهم، وأفول شموسهم، فرشقوها من النبال بظلالة تحجب الشمس فلا يشرق سناها، وعرجوا في المراقي البعيدة يفرعون مبناها، ونفوسها أنقاباً، وحصونها عقباً، ودخلوا مدينة إلبنة (2) بنتها غلاباً، وأحسبوا السيوف استلالاً والأيدي اكتساباً (3) ، واستوعب القتل مقاتليها السابغة الجنن، البالغة المتن، فأخذهم الهول المتفاقم، وجدلوا كأنهم الأراقم، لم تفلت منهم عين تطرف، ولا لسان يلبي من يستطلع الخبر أويستشرف. ثم سمت الهمم الإيمانية إلى المدينة الكبرى فداروا سواراً على سورها، وتجاسروا على اقتحام أودية الفناء من فوق جسورها، وأدانوا إليها بالضروب من حيل الحروب، بروجاً مشيدة، ومجانيق توثق حبالها منها نشيدة، وخفقت بنصر الله تعالى عذبات الأعلام، وأهدت الملائكة مدد السلام، فخذل الله تعالى كفارها، وأكهم (4) شفارها، وقلم بيد قدرته أظفارها، فالتمسوا الأمان للخروج، ونزلوا على مراقي العروج، إلى الأباطح والمروج، من سمائها ذات البروج، فكان بروزهم إلى العراء من الأرض، تذكرة بيوم العرض، وقد

_ (1) أي أنها وقعت في قضية دور (وهو من مصطلح المنطق) بسبب ما استعدت به من جدال المجالدة؛ ولا ريب أن التلاعب بمصطلح أهل المناظرة هنا واضح. (2) في ق: البنية؛ والمقصود أن هذه المدينة " إلبنة " هي بنت الجزيرة الخضراء اي هي من توابعها. (3) يقابل هنا بين الاحتساب - وهو ما كان لوجه الله تعالى - وبين الاكتساب. (4) أكهم: أكل عن الضرب.

جلل المقاتلة الصغار، وتعلق بالأمان النساء والصغار، وبودرت المدينة بالتطهير، ونطقت المآن العالية بالأذان الشهير، والذكر الجهير، وطرحت كفارها التماثيل عن المسجد الكبير، وأزرى بألسنة النواقيس لسان التهليل والتكبير، وأنزلت عن الصروح أجرامها يعيي الهندام (1) مرامها، وألفي منبر الإسلام بها مجفواً فأنست غربته، وأعيد إليه قربه وقربته، وتلا واعظ الجمع المشهود، قول منجز الوعود ومورق العود " وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب، وكذلك أخذ ربك إذا اخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد، إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة، ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود " هود:102 فكان الدمع يغرق الآماق، والوجد يستأصل الأرماق، وارتفعت الرغبات، وعلت السيات، وجيء بأسرى المسلمين يرسفون في القيود الثقال، وينسلون من أحداب الاعتقال، ففكت عن سوقهم اساود الحديد، وعن أعناقهم فلكات الباس الشديد، وظلوا بجناح اللطف العريض المديد، وترتبت في المقاعد الحامية، وأزهرت بذكر الله تعالى المآذن السامية، وعادت المدينة لأحسن أحوالها، وسكنت من بعد أهوالها، وعادت الجالية إلى أموالها، ورجع إلى القطر شبابه، ورد على دار الإسلام بابه، واتصلت بأهل لا إله إلا الله أسبابه، فهي اليوم في بلاد الإسلام قلادة النحر، وحاضرة البر والبحر، أبقى الله تعالى عليها وعلى ما وراءها من بيوت أمتك، ودائع الله تعالى في ذمتك، بكلمة دينك الصالحة الباقية، وسدل عليه أستار عصمته الواقية؛ وعدنا والصلاة عليك شعار البروز والقفول، وهجيراً الشروق والأفول، والجهاد يا رسول الله الشأن المعتمد، ما امتد بالأجل الأمد، والسمتان الفرد الصمد. ولهذا العهد يا رسول الله صلى الله عليك، وبلغ وسيلتي إليك، بلغ من هذا

_ (1) الهندام: الآلات.

القطر المرتدي بجاهك الذي لا يذل من ادرعه، ولا يضل من اهتدى بالسبيل الذي شرعه، إلى أن لاطفنا ملك الروم بأربعة من البلاد كان الكفر قد اغتصبها، ورفع التماثيل ببيوت الله تعالى ونصبها، فانجاب عنها بنورك الحلك، ودار بإدالتها إلى دعوتك الفلك، وعاد إلى مكاتبها القرآن الذي نزل به على قلبك الملك، فوجبت مطالعة مقرك النبوي بأحوال هذه الأمة المكفولة في حجرك، المفضلة بإدارة تجرك، المهتدية بأنوار فجرك، وهل هوإلا ثمرات سعيك، ونتائج رعيك، وبركة حبك، ورضاك الكفيل برضى ربك، وغمام رعدك، وإنجاز وعدك، وشعاع من نور سعدك، وبذر يجنى ريعه من بعدك، ونصر رايتك، وبرهان آيتك، وأثر حمايتك ورعايتك. واستنبت هذه الرسالة مائحة بحر الندى الممنوح، ومفاتحة باب الهدى بفتح الفتوح، وفارعة المظاهر والصروح، وملقية الرجل بمنتزل الملائكة والروح، لمد إلى قبولك يد استمناح، وتطير إليك من الشوق الحثيث بجناح، ثم تقف موقف الانكسار، وإن كان تجرها آمناً من الخسار، وتقدم بأنس القربة، وتحجم بوحشة الغربة، وتتأخر بالهيبة، وتجهش لطول الغيبة، وتقول: ارحم بعد داري، وضعف اقتداري، وانتزاح أوطاني، وخلوأعطاني، وقلة زادي، وغراق مزادي، وتقبل وسيلة اعتراقي، وتغمد هفوة افتراقي، وعجل بالرضى انصراف متحملي لانصرافي، فكم جبت من بحر زاخر، وقفر بالركاب ساخر، وحاش لله تعالى أن يخيب قاصدك، أوتتخطاني مقاصدك، أوتطردني موائدك، أوتضيق عني عوائدك، ثم تمد مقتيضة مزيد رحمتك، مستدعية دعاء من حضر من أمتك، وأصحبتها يا رسول الله عرضاً من النواقيس التي كانت بهذه البلاد المفتتحة تعيق الإقامة والأذان، وتسمع الأسماع الضالة والآذان، مما قبل الحركة، وسالم المعركة، ومكن من نقله الأيدي المشتركة، واستحق بالقدوم عليك والإسلام بين يديك، السابقة في الأزل البركة، وما سواها فكانت جبالاً عجز عن نقلها الهندام، فنسخ وجودها الإعدام، وهي يا

رسول الله جنى من جنانك، ورطب من أفنانك، وأثر ظهر علينا من مسحة حنانك. هذه هي الحال والانتحال، والعائق أن تشد إليك الرحال، ويعمل الترحال، إلى أن نلقاك في عرصات القيامة شفيعاً، ونحل بجاهك إن شاء الله تعالى محلاً رفيعاً، ونقدم في زمرة الشهداء الدامية، كلومهم من أجلك، الناهلة غللهم في سجلك، ونبتهل إلى الله تعالى الذي أطلعك في سماء الهداية سراجاً، وأعلى لك في السبع الطباق معراجاً، وأم الأنبياء منك بالنبي الخاتم، وقفى على آثار نجومها المشرقة بقمرك العاتم، أن لا يقطع عن هذه الأمة الغريبة أسبابك، ولا يسد في وجوهها أبوابك، ويوقفها لاتباع هداك، ويثبت في أقدامها على جهاد عداك، وكيف تعدم ترفيها، أوتخشى بخساً وأنت موفيها، أويعذبها الله تعالى وأنت فيها وصلاة الله وسلامه تحط بفنانك رحال طيبها، وتهدر في ناديك شقاشق خطيبها، ما أذكر الصباح الطلق هذاك، والغمام السكب نداك، وما حن مشتاق إلى لثم ضريحك، وبليت نسمات الأسحار عما استرقت من ريحك، وكتب في كذا. انتهت الرسالة، وفيها ما لا خفاء به من براعة لسان الدين، رحمه الله تعالى وقدس روحه الطاهرة، آمين. 87 - ومما علق بحفظي من نثره رحمه الله تعالى أثناء رسالة في العزاء خاطب بها ملك المغرب قوله بعد كلام: أين مروان بن الحكم ودهاؤه، وعبد الملك بن مروان وبهاؤه، والوليد وبناؤه، وسليمان وغذاؤه، وعمر بن عبد العزيز وثناؤه، ويزيد ونساؤه، وهشام وخيلاؤه، والوليد وندماؤه، والجعدي وآراؤه، أم أين السفاح وحسامه، والمنصور واعتزامه، والمهدي وإعظامه، والهادي وإقدامه، والرشيد وأيامهم، والأمين وندامه، والمأمون وكلامه، والمعتصم وإسراجه، وإلجامه انتهى.

وقد تقدم كلام أبي الخطاب ابن دحية في هذا المعنى بطوله في الباب الثاني من هذا القسم، فليراجع ثمة (1) . [للمقري محاكياً لسان الدين] قلت: وقد تقدم في الخطبة نظمي لمثل هذا، وقد كنت نسجت على منوال لسان الدين وأنا بالمغرب نثراً لم يحضرني منه الآن غير قولي: أين الإسكندر ويونانه، وشداد وبنيانه، والنمرود وعدوانه، وفرعون وهامانه، وقارون وطغيانه، وكسرى أنوشروان وإيوانه، وقيصر وبطارقته وأعوانه، وسيف ابن ذي يزن وغندانه، والمنذر ونعمانه إلى أن قلت: وأين أبوبكر رضي الله تعالى عنه وثباته، وعمر رضي الله تعالى عنه ووثباته، وعثمان رضي الله تعالى عنه ورهباته، أم أين علي رضي الله تعالى عنه وشجاعته وعلمه، وأين معاوية رضي الله تعالى عنه وحمله، واين يزيد وظلمه ثم ذكرت ما تقدم للسان الدين، وقلت بعده: وأين الواثق وغناؤه، والمتوكل ومواليه وأولياؤه وأبناؤه، والمنتصر وآماله، والمعتز وجماله، والمستعين وعماله، والمهتدي وأعماله، والمعتضد وذكاؤه وإحاطته بالأخبار واشتماله، والمقتدر ونساؤه وإهماله إلى أن قلت: وأين بنوعبيد وضلالهم، وبنوبويه وجلالهم، وبنوسلجوق ونظامهم، وينوسامان وإعظامهم، وبنوأيوب وصلاحهم، والجراكسة ومبانيهم وسلاحهم ثم قلت في ملوك المغرب: وأين عبد الرحمن الداخل وأمراؤه، والناصر وزهراؤه، والحكم ووزراؤه، والمؤيد وظهراؤه، أم أين المنصور بن أبي عامر وغزواته ومواليه، والمظفر وأدواته ومعاليه، أم أين بنوحمود

_ (1) انظر المجلد 5: 115.

رجع لنثر لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى:

وعلاهم، وأوصافهم وحلاهم، وينوجهور وحومهم، وبنوباديس وعزمهم، وأين معتضد بني عباد، ومعتمدهم الذي سنا كرمه للمعتفين باد، وبنوذي النون ومزيتهم، وبنوصمادح ومريتهم، وبنوالأفطس وبنوهود، وما كان لهم من المكارم في الحفل المشهود، وأين لمتونه، وصبرهم الذي ركبوا متونه، أم أين الموحدون وناصرهم ومنصورهم، ومصانعهم وقصورهم، أم أين بنوالأحمر وغرناطتهم، وإوالتهم عن حوزة الدين أدناس المعتدين وإماطتهم، وجعلهم الأمور لمثل ابن الحكيم ولسان الدين وإناطتهم، أم أين بنومرين وفارسهم، ومغانيهم ومدارسهم، وأين بنوزيان ومنازلهم الشاهقة، وأشجار عزهم الباسقة، وأين الحفصيون، ومستنصرهم الذي قضى للمعالي الديون، وأبوفارس، الذي شنفت بأخباره آذان الطروس والفهارس طحنت والله تعالى الجميع رحى المنون، وتأيمت الأزواج ويتم البنون، وطالت الأيام والسنون، وبقيت القصور العالية خالية، والرسوم المتكاثرة دائرة، والسلوك المنظومة متناثرة، وعن قريب يقف الكل بين يدي رب الأرباب، في يوم تذهل فيه الألباب، وتنقطع إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسباب، ويقتص لمظلوم من الظالم، وتنبهم للنجاة الطرق والمعالم، وتبلى السرائر لدى من هوبها عالم، " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لوأن بينها وبينه أمداً بعيداً " آل عمران:30 يوم يحكم الله تعالى في الخلق، بالحق، حسبما سبق في علمه إذا جعلهم قريباً وبعيداً، وشقياً وسعيداً، اللهم اجعلنا في ذلك اليوم الصعب ممن فاز بالنجاة، وحاز شفاعة نبيك ومصطفاك ذي الحرمة والجاه، صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم؛ انتهى. رجع لنثر لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى: 88 - ومن كلام لسان الدين رحمه الله تعالى ما خاطب به سلطان المغرب

أبا زيان لما تم له الأمر، وهومشتمل على نظم ونثر، ونصه: يا ابن الخلائف يا سميّ محمد ... يا من علاه ليس يحصر حاصر أبشر فأنت مجدد الملك الذي ... لولاك أصبح وهو رسم دائر من ذا يعاند منك وارثه الذي ... بسعوده فلك المشيئة دائر ألقت إليك يد الخلافة أمرها ... إذ كنت أنت لها الولي الناصر هذا وبينك لصريخ وبينها ... حرب مضرسة وبحر زاخر من كان هذا الصنع أول أمره ... حسنت له العقبى وعز الآخر مولاي عندي في علاك محبة ... والله يعلم ما تكن ضمائر قلبي يحدثني بأنك جابر ... كسري، وحظي منك حظ وافر بثرى جدودك قد حططت مثلما ... يلقي لملكك سيف أمرك عامر فهو الولي لدى الذي اقتحم الردى ... وقضى العزيمة وهوسيف باتر وولي جدك في الشدائد عندما ... خذلت علاه قبائل وعشائر فاستهد منه النصح واعلم أنه ... في كل معضلة طبيب ماهر إن كنت قد عجلت بعض مدائحي ... فهي الرياض، وللرياض بواكر مولانا، وعمدة ديننا ودنيانا، الذي سخر الله تعالى البر والبحر يأمره، وحكم فوق السموات السبع بعز نصره، وأغنى سعده عن سل السلاح وشهره، وفتق عن الصنع الجميل كمامة تسليمه وصبره، وقيض له في علم غيبه وزيراً مذخوراً لشد أزره، وقود الملك إليه على حال حصره، الخليفة الإمام، الذي استبشر به الإسلام، وخففت بعزه الأعلام، ولاح بدر محياه فاقتض الظلام، المقتدي بالنبي الكريم سميه في المراشد التي تألق منها الصبح، والمقاصد التي لازمها النجح، والتمحيص الذي نبع منه المنح، حتى

في الهجرة التي جاءه بعدها الفتح، أبوزيان ابن مولانا السلطان ولي العهد ترشيحاً ومآلاً، ومؤمل الإسلام تقلداً لمذهب الصريح وانتحالاً، وأمير المسلمين لوأوسعه القدر إمهالاً، ووسطى عقد البنين خلائق متعددة وخلالاً، المتحف بالشهادة ولما يعرف بدره هلالاً، المعوض بما عند الله تعالى سعادة ألبسته سربالاً، وأبلغته نم رضوان الله تعالى آمالاً، أبي عبد الرحمن ابن مولانا أمير المسلمين عظيم الخلفاء، وعنصر الصبر والوفاء، وستر الله تعالى المسدول على الضعفاء، والمجاهد في سبيل الله تعالى بنفسه وماله، المنيف على مراكز النجوم يهممه وآماله، المقدس أبي الحسن ابن موالينا الخلفاء الطاهرين والأئمة المرضيين، من قبيل بني مرين، وصفوة اله تعالى في هذا المغرب الأقصى نم أوليائه المؤمنين، وزينة الدنيا وعمدة الدين، هنأه الله تعالى ما أورثه من سرير الملك الأصيل، وخوله من سعادة الدنيا والدين على الإجمال والتفصيل، وتوجه من تاج العزة القعساء عند اشتباه السبيل، وعوضه من قبيل الملائكة عند تشتت القبيل، وجعل قدمه الراسخة، وآياته الناسخة، وربوته السامية الباذخة، وغرة نصره الشادخة (1) ، وأوزعه شكر آلائه، في الخلاص من ملكة أعدائه، وخطر البحر وعدوان مائه، وغول السفر، وارتكاب الغرر، وثبات أقدام أوليائه الذين ما بدلوا تبديلاً، ولا ارتضوا لقبلة طاعته بعد أن ولوا وجوههم شطرها تحويلاً، بل صبروا صبراً جميلاً، وباعوا نفوسهم تتميماً لعقدة إيمانهم وتكميلاً. يسلم على مقامكم الذي وسم السعد مشرق جبينه، وذخرت قبل الطاعة ليمينه، وأقسم الدهر بمظاهرة أمره السيعد قبر - والشكر لله تعالى - في يمينه، عبدكم الذي اعتلق منكم بالوسيلة الكبرى، وقر بملككم عيناً وشرح صدراً، وبذل الجهد وإن قل قدرة وقدراً، والتمس لكم الدعاء علناً وسراً، ابن الخطيب الذي حط رحل اقتصاده بتراب الملوك الكرام جدودكم، محاريب

_ (1) شدخت الغرة: سالت فملأت الوجه دون أن تصل العينين.

بركم وأسباب وجودكم، وآبائكم الذين في مظاهرتهم ورعيهم يظهر للناس نخايل هداكم وتدر سحائب جودكم، ملتحفاً منذ سنتين بأصونة قبورهم وثيابها، مستظلاً بأفنيتها المعظمة وقبابها، ممرغاً خذه بترابها، مواصلاً الصراخ با لمرين ويا ليعقوب متطارحاً على أبوابها، فلم يتح الله تعالى له نعرة ترعى الضيف وتحمي الدخيل، أوحمية تدفع الضيم وتشفي الغليل، إلا على يدكم يا أيها الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وبطل الميدان في موقف الهول العظيم، المذخور لنصر المظلوم وإنصاف الغريم، وإجالة أقلام الفتح بفتح الأقاليم. كتبه مهنئاً بما سنى الله تعالى لملككم من الصنع الذي خرق حجاب العادة، وأرى إعجاز السعادة، معجلاً ذلك بين يدي المبادرة إلى لثم بساطكم الذي شرف وجوهها بلثمه الوجوه، وتخشاه الاملاك الجبابرة وترجوه، وأداء الواجب من القيام بمنظوم ثنائه في الحفل المشهود، وإبلاغ لسان الحمد وسع المجهود، وإلقاء ما عند العبد من خلوص وجنوح، وحب واضح أي وضوح، فولي دعوتكم الشيخ أبوثابت أعزه الله تعالى يقرره، ويبين مجمله ويفسره، والعبد واثق بفضل الله تعالى على يديكم، وملتمس النصر لديكم، وقاطع أن طلبته بكم تتسنى، وأنكم سبب عاقبته الحسنى، ما بالظهور على الوطن الذي تجرأ به المنقلب (1) على ملككم، ومد اليد إلى نثر سلككم، ونقص إرثكم المسلم المحرر، وزلزل وطنكم المؤسس على الطاعة المقرر، وأضرم النار في بسائطكم وجبالكم، وأطلق يد الفتنة على بيوت أموالكم متكثراً عليكم بالقلة، متعززاً بالذلة، جانياً على داركم بما لا تبيحه الملة، أوبالشفاعة الجازمة إن لم يتأذن الله تعالى في الانتصاف، والله يجعل الظهور بكم من الأوصاف، ويعينكم على جبر الكسير، وتيسير الأمر العسير، ويهنيكم منيحة الملك الكبير، ويبقي كلمته في عقبكم بعد تملؤ التعمير، والسلام.

_ (1) ق: المتغلب.

89 - وله رحمه الله تعالى في مخاطبة السلطان أبي زيان المذكور: المولى الذي طوق المنن، وأحيا السنن، وانبت الله تعالى حبه في القلوب النبات الحسن، ناظم كلمة الدين بعد انتشارها، ومقيل عثارها، والأخذ بثارها، والمخلد لآثارها، السلطان أبوزيان ... إلخ - أبقاكم الله تعالى عالي القدم، منصور العلم، ظاهراً على الأمم، مقصود الحمى كالركن الملتزم، عبد مقامكم الذي آويتموه غريباً، وانستموه دركاً وتثريباً، ولا عدم حظوة ووشفقة ونعمة وتقريباً، ابن الخطيب عن ثناء يعطر الآفاق، ويرقم الأوراق، ويخلق الجيوب والأطواق، وحب بهر نوراً وراق، وجاس اشتهاره الشام والعراق، ويطالع العبد محل مولاه الذي خلف ببابه قلبه وولده، وصبره وجلده، وصير وطنه داره الحقيقية وبلده، أنه لما قدم على محل أخيه، المعتد بما أودع الله تعالى من الخلال الشريفة فيه، مولاي ابن مولاي أبي عبد الله - كفل الله تعالى جميل رعيه وكرم عهده، وحكم بإعلاء جده ومضاء حده - رعى الوسيلة، وصدق المخيلة، وجلا عند اجتلاء مخاطبتكم أسارير الفضيلة، فلم يدع حقاً إلا صرفه، ولا نكرة إلا عرفه، ولا نعمة إلا سكبها، ولا مزية إلا أوجبها، ولا رتبة إلا أعلاها، ولا نعمة إلا أولاها، وما ذاك يا مولاي وإن تعددت الرسائل والأذمة، وادكرت القرب بعد أمة، إلا بوصاتكم التي لا تهمل، وحرمتكم التي لا تجهل، وعطف مقامكم الذي اشتهر، واعتنائكم بعبدكم الذي راق وبهر، فالعبد الرفيع المقدار، والأمل في مقامكم غير منقطع السبب، والأهل والولد تحت كنف مقامكم الأصيل الحسب، حتى يمن الله تعالى بحج بيته وزيارة رسوله على يديكم، ويكون قضاء هذا الوطر منسوباً إليكم، وبعد هذا يستقر القرار، حيث يختار من يخلق ما يشاء ويختار، بحول الله تعالى.

والعبد يذكر مولاه بما بشره بين يدي وداعه، وبمرأى وزيره السعيد واستماعه، من انجلاء الحركة عن عزه وظهوره، ونجاح أحواله واستقامة أموره، ويهنيه بصدق الوعد، وأمطار الرعد، وظهور السعد، وهي وسيلة إذا عدت الوسائل، وروعيت الذمم الجلائل، ومثل مولاي من رعى وأبقى، وسلك التي هي أبر وأتقى، وما قصر عنه القلم من حق مولاي فالرسول أعزه الله تعالى يتممه، وما قصر عنه الرسول فالله تعالى يعلمه، وهوجل وعلا يديم أيام مولاي ويبقي مجده، ويصل سعده، والسلام انتهى. 90 - ومما خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى شيخ الدولة يحيى بن رحو (1) قوله: سيدي الذي له المزية العظمى، والمحل الأسمى، شيخ قبيل بني مرين، وقطب مدار الأحرار على الإجمال والتعيين، والمتميز بالدهاء والرجاحة، والمعرفة الفسيحة الساحة، ولاصدقة المباحة، وشروط الصوفية من ترك الأذى ووجود الراحة، أسلم على ذاتكم الطاهرة التي بخلت الأزمان والله أن تأتي بنظيرها، وتنافست الدول في تكبيرها، وسارت المواكب الملوكية بمسيرها، وأثنت الألسن بفضلها وخيرها، وأقرر لديها أني أعددت من معرفتها بالأندلس كنزاً لم أنفق منه إلى اليوم وزناً، إعداداً له وخزناً، إذا لا يخرج العتاد الكبير إلا عن حاجة وفاقة، ولا ترد اليد إلى الذخيرة إلا في إضاقة وعجز طاقة، وما كانت الوصلة بمثلها ليهملها مثلي جهلاً يقيمتها العالية، وإزراء بجهتها الكافلة الكافية، لكن نابت عن يدها أيد، وكفى عن ابتذالها ما كف الله تعالى من عمرووزيد، والآن أقرر أني قد كادت حاجتي إلى ذلك العتاد أن تتمحض، وزبدته أن المحض، إذ حظي من رعي ذلك القبيل الذي قصرت عليه رياسته، والوزير

_ (1) هو يحيى بن عمر بن رحو، ولاه يوسف بن إسماعيل رياسة الجند المغربي بعد أبي ثابت عامر بن عثمان (سنة 741) ، وهذه هي وظيفة شيخ الغزاة بالأندلس، وقد بقي يحيى في هذه الوظيفة حتى سنة 764 حين قبض عليه السلطان النصري وسجنه واستلبه جاهه (اللمحة البدرية: 118) .

الذي من رأيه تستمد سياسته، وإذا وفد خاصة هذه المدينة مهنين، وبشكر إيالته الكريمة مثنين، فخيمته ظل ظليل، ومساركته معتمدي في الكثير فكيف ولا غرض لي إلا في القليل، وعندي أن رعيه لمثلي لا يفتقر إلى وسيلة تجلب، ولا ذمام يحسب، فمثله من قدر قدر الهناء، وشد أعلام الحمد ولاثناء، سامية البناء، وعرف أن الدنيا على الله تعالى أحقر الأشياء، وقد رفعت أمري كله بعد الله تعالى إلى رأيك، وغنيت عن سعيي لنفسي بجميل سعيك، والسلام. 91 - ومما خاطب به لسان الدين شيخه سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق التلمساني رضي الله تعالى عنه شافعاً: يا سيدي أبقاكم الله تعالى محط الآمال وقبلة الوجوه، وبلغ سيادتكم ما تؤمله من فضل الله تعالى وترجوه، وكلأ بعين حفظه ذاتكم الفاخرة، وجعل عز الدنيا متصلاً لكم بعز الآخرة، بعد تقبيل يدكم التي يدها لا تزال تشكر، وحسنتها عند الله تعالى تذكر، أنهي إلى مقامكم أن الشيخ الكذا أبا فلان - مع كونه مستحق التجلة هجرة إلى أبوابكم الكريمة قدمت، ووسائل من أصالة وحشمة كرمت، وفضل ووقار، وتنويه لولاية أن كانت ذات احتقار، وسن اقتضى الفضل بره، وأدب شكر الاختبار عليه وسره - له معرفة سلفكم الأرضي وسيلة مرعية، وفي الاعتراف بنعمتكم مقامات مرضية، وتوجه إلى بابكم، والتمسك بأسبابكم، والمؤمل من سيدي ستره بجناح رعيه في حال الكبرة، ولحظه بطرف المبرة، غما في استعمال يليق بذوي الاحتشام، أوسكون تحت رعي واهتمام، وإعانة على عمل رسم مصله، على الله تعالى الذي يجزي المحسنين بفضله، ومنه نسأل أن يديم أيام المجلس العلي محروساً من النوائب، مبلغ الآمال والمآرب، والمملوك قد قرر شأنه في إسعاف المقاصد المأمولة من الشفاعة إليكم، والتحسب في هذه الأبواب عليكم، وتقليب القلوب بيد الله تعالى الذي يعطي

ويمنع، ويملك الأمر أجمع، والسلام. 92 - وكتب إليه أيضاً في الشفاعة بما نصه: سيدي الأعظم، وملاذي الأعصم، وعروة عزي الوثقى التي لا تفصم، أبقاك الله تعالى آثارك آية للعز تأمر الدهر فيأتمر، ويلبي بفنائك الطائف والمعتمر، بأي لسان أثني على فواضلك وهي أمهات المنن، وطرف الشام واليمن، ومقامات بديع الزمن، والتحف المرتفعة عن الثمن فحسبي دعاء أردده وأواليه، وأرتقب مطلوب الإجابة من مقدمه وتاليه، وإن تشوف المنعم للحال الموقوف خيره بمشيئة الله تعالى على جميل سعيه، الموسد على وطاء لطفه المغشى بغطاء رعيه، قلب خافق، وقلب مؤمن يجول به وسواس منافق، وقد تجاوز موسى مجمع البحرين، وأصبح سري بابه سري العين، ولقد كانت مراحل الرمل قصيرة قبل أن يكسبها زجلي ثقل الحركة، ويخلط خاصتي في وظائفها المشتركة، وليت أمري برز إلى طرف، وأفضى إلى منصرف، وربما ظفر آيس بما يرجوه، وبرز المحبوب من المكروه، والله تعالى لا يفضح جاه الكتاب الذي أحيا وأنشر، وحياً وبشر، وأعطى صحيفته باليمين وقد جمعت مثابتكم المحشر، وموصل كتابي، ينوب في تقبيل اليد العليا منابي. وليعلم سيدي أن هذا القطر على شهرته، وتألق مشتريه وزهرته، إذا انتحل كرامه، وعهد الفضل لم يبق إلا انصرامه، فهولبابه المتخير، وزلاله الذي لا يتغير، أصالة معروفة، وهمة إلى الإيثار مصروفة، ونبلاً على السن والكبرة، ورجولية خليقة بصلة الحرمة والمبرة، والوسيلة لا تطرح، والمعنى الذي لا يفسر لوضوحه ولا يشرح، وهوانتماؤه إلى جناب سيدي حديثاً وقديماً، واعترافه بنعمه مديراً لها ومديماً، والله تعالى يوفي إيثار سيدي حظه، ويجدد لديه رعيه ولحظه، حتى يعود علم إقباله، معلماً برد اهتباله، مسروراً

ببلوغ آماله، فلعمري إن محل ولايته لكفي، وإن عهد أمانته لوفي، وإن عامل جده لظاهر وخفي، وما يفعله سيدي من رعيه، وإنجاح سعيه، محسوب من مناقبه، ومعدود في فضل مذاهبه، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته " انتهى. وقد تكررت في كتابنا هذا مخاطبات لسان الدين رحمه الله تعالى للخطيب ابن مرزوق المذكور نظماص ونثراً؛ إذ كان - أعني ابن مرزوق - رئيس الدولة، ومعتمد الجلة، وسبق منا التعريف ببعض أحواله في باب مشايخ لسان الدين مما جرته المناسبة، فليرجع إليه من أراده، والله تعالى يجعل الجميع من أهل السعادة. 93 - ومما اشتمل على نثر لسان الدين ونظمه ما خاطب به الرئيس أبا زيد ابن خلدون لما ارتحل من بحر المرية واستقر ببلد بسكرة عند رئيسها أبي العابس ابن مزنى، صحبة رسالة خطبها أخوه أبوزكريا، وقد تقلد كتابة صاحب تلمسان، ووصل الكتاب عنه من إنشائه، وهذه صورة ما كتبه لسان الدين رحمه الله تعالى (1) : بنفسي وما نفسي علي بهينة ... فينزلني عنها المكاس بأثمان (2) حبيب نأى عني وصمم لا يني ... وراش سهام البين عمداً فأصماني وقد كان هم الشيب، لا كان، كافياً ... فقد آدني لما ترحل همان شرعت له من دمع عيني مورداً ... فكدر شربي بالفراق وأظمأني وأرعيته من حسن عهدي جميمه ... فأجذب آمالي وأوحش أزماني حلفت على ما عنده لي من رضىً ... قياساً بما عندي فأحنث أيماني وإني على ما نالني منه من قلىً ... لأشتاق من لقياه نغبة ظمآن

_ (1) وردت هذه الرسالة في التعريف: 104. (2) المكاس: المشاحة في الثمن.

سألت جنوني فيه تقريب عرشه ... فقست بجن الشوق جن سليمان إذا ما دعا داع من القوم باسمه ... وثبت وما استثبت شيمة هيمان وتالله ما أصغيت فيه لعاذل ... تحاميته حتى ارعوى وتحاماني ولا استشعرت نفيس برحمة عابد ... تظلل يوماً مثله عبد رحمن ولا شعرت من قبله بتشوق ... تخلل منها بين روح وجثمان أما الشوق فحدث عن البحر ولا حرج، وأما الصبر فسل به أية درج، بعد أن تجاوز اللوى والمنعرج، لكن الشدة تعشق الفرج، والمؤمن ينشق من روح الله تعالى الأرج، وأني بالصبر، على إبر الدبر، لا بل الضرب الهبر (1) ، ومطاولة اليوم والشهر، حتى حكم اقهر وهل لعين أن تسلو سلوالمقصر، عن إنسانها المبصر، أوتذهل ذهول الزاهد، عن سرها الراثي والمشاهد وفي الجسد بضعة يصلح إذا صلحت، فكيف حاله إن رحلت عنه ونزحت، وإذا كان الفراق هوالحمام الأول، فعلام المعول أعيت مراوضة الفراق، على الراق، وكادت لوعة الاشتياق، أن تفضي إلى السياق: تركتموني بعد تشييعكم ... أوسع أمر الصبر عصيانا أقرع سني ندماً تارةً ... وأستميح الدمع أحيانا وربما تعللت بغشيان المعاهد الخالية، ووجددت رسوم الأسى بمباكرة الرسوم البالية، أسأل نون النوى عن أهليه، وميم الموقد المهجور عن مصطليه، وثاء الأثافي المثلثة عن منازل الموحدين، وأحار بين تلك الأطلال حيرة الملحدين، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، كلفت لعمر الله يسأل عن جفوني المؤرقة، ونائم عن همومي المتجمعة المتفرقة، ظعن عن ملال، لا متبرماً مني بشر خلال، وكدر الوصل بعد صفائه، وضرج النصل بعد عهد وفائه:

_ (1) الهبر: الذي يهبر أي يقطع.

أقل اشتياقاً أيها القلب ربما ... رأيتك تصفي الود من ليس جازياً (1) فها أنا أبكي عليه بدم أسأله، وأنهل فيه أسى له (2) ، وأعلل بذكراه قلباً (3) صدعه، وأودعه من الوجد ما أودعه، لما خدعه، ثم قلاه وودعه، وأنشق رياه أنف ارتياح قد جدعه، وأستعدي به على ظلم ابتدعه: خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي (4) فلولا عسى الرجاء ولعله، لا بل شفاعة المحل الذي حله، لمزجت الحنين بالعتب (5) ، وبثثت كتائبه كمناء في شعاب الكتب، تهز من الألفات رماحاً خزر الأسنة، وتوتر من النونات أمثال القسي المرنة، وتقود من بياض الطرس وسواد النفس بلقاً تردي (6) في الأعنة، ولكنه أوى إلى الحرم الأمين، وتفيأ ظلال الجوار المؤمن من معرة العوار عن الشمال واليمين، حرم الخلال المزنية، والظلال اليزنية، والهمم السنية، والشيم التي لا ترضى بالدون ولا بالدنية، حيث الرفد الممنوح، والطير الميامن يزجر لها السنوح، والمثوى الذي إليه - مهما تقارع الكرام على الضيفان، حول جوابي الجفان - الميل والجنوح: نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً، ومن فلق الصباح عمودا (7) ومن حل بتلك المثابة فقد اطمأن جنبه، وتغمد بالعفوذنبه، ولله در القائل حيث يقول:

_ (1) البيت للمتنبي بعد فراقه لسيف الدولة وحلوله عند كافور. (2) التعريف: وأندب في ربع الفراق، آسى له. (3) التعريف: وأشكو إليه حول قلب. (4) البيت لجميل بثينة، ديوانه: 176. (5) التعريف: لنشرت ألوية العتب. (6) تردي: وتمشي الرديان، وهو نوع من المشي دون العدو. (7) البيت لأبي تمام (ديوانه: 81 ط. بيروت) .

فوحقه لقد انتدبت لوصفه ... بالبخل لولا أن حمصاً داره بلد متى أذكره تهتج لوعتي ... وإذا قدحت الزند طار شراره اللهم غفراً، ولا كفراً، وأين قرارة النخيل، من مثوى الأقلف البخيل، ومكذبة المخيل وأين ثانية هجر، من متبوإ من ألحد وفجر من أنطر غيثاً منشؤه ... في الأرض وليس بمخلفها فبنان بني مزنى مزن ... تنهل بلطف مصرفها مزن مذ حل ببسكرة ... يوماً نطقت بمصحفها (1) شكرت حتى بعبارتها ... وبمعناها وبأحرفها ضحكت بأبي العباس من ال ... أيام ثنايا زخرفها وتنكرت الدنيا حتى ... عرفت منه بمعرفها بل نقول: يا محل الولد {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد} (البلد:2،3) لقد حل بينك عرى الجلد، وخلق الشوق بعدك يا ابن خلدون في الصميم من الخلد، فحيا الله تعالى زمناً شفيت برقى قربك (2) زمانته، واجتليت في صدف مجدك جمانته، ويا من لمشوق من طول خلتك لبانته (3) ، وأهلاً أظلت أشتات معارفك بانته، فحمائمه بعدك تندب، فيساعدها الجندب، ونواسمه ترق فتتغاشى، وعشياته تتخافت وتتلاشى، ومزنه باك، ودوحه في مأتم ذي اشتباك، كأن لم تكن قمر هالات قبابه، ولم يك أنسك شارع بابه، إلى صفوة الظرف ولبابه، ولم يسبح إنسان عينك في ماء شبابه، فلهفي عليك من درة اختلستها يد النوى، ومطل بردها الدهر ولوى، ونعق الغراب ببينها في ربوع الجوى، ونطق بالزجر فما نطق عن

_ (1) مصحف بسكرة: بشكره أو تشكره. (2) التعريف: في قربك. (3) التعريف: وقضيت في مرعى خلتك لبانته.

الهوى، وبأي شيء نعتاض منك أيتها الرياض، بعد أن طمى نهرك (1) الفياض، وفهقت الحياض ولا كان الشانئ المشنوء، والجرب المهنوء، من قطع ليل أغار على الصبح فاحتمل، وشارك في الذم الناقة والجمل، واستأثر جنحه ببدر النادي لما كمل، نشر الشراع فراع، وأعمل (2) الإسراع، كأنما هوتمساح النيل ضايق الأحباب في البرهة، واختطف لهم من الشط نزهة العين وعين النزهة، ولجج بها والعيون تنظر، والغمر عن الأتباع يحظر، فلم يقدر إلا على الأسف، والتماح الأثر المنشف، والرجوع بملء العيبة من الخيبة، ووقر الجسرة (3) من الحسرة، وإنما نشكوإلى الله البث والحزن، ونستمطر من عبارتنا المزن، وبسيف الرجاء نصول، إذا شرعت للياس النصول: ما أقدر الله أن يدني على شحط ... من داره الحزن ممن داره صول (4) فإن كان كلم الفراق رغيباً (5) ، لما نويت مغيباً، وجللت الوقت الهنئ تشغيباً، فلعل الملتقى يكون قريباً، وحديثه يروى صحيحاً غريباً. إيه ثقة (6) النفس كيف حال تلك الشمائل، المزهرة الخمائل والشيم، الهامية الديم، هل يمر ببالها من راعت بالبعد باله، وأخمدت بعاص البين ذباله، أوترثي لشؤون شأنها سكب لا يفتر، وشوق يبت حبال الصبر ويبتر، وضنى تقصر عن حلله الفاقعة صنعاء وتستر، والأمر أعظم والله يستر، وما الذي يضيرك صين من لفح السموم نضيرك، بعد أ، أضرمت وأشعلت،

_ (1) نهرك: سقطت من ق. (2) التعريف: وواصل. (3) الجسرة: الناقة؛ والوقر: الحمل. (4) البيت لحندج بن حندج المري، (حماسة المرزوقي: 1831) . (5) الجرح الرغيب: الواسع. (6) التعريف: إيه سيدي.

وأوقدت وجعلت، وفعلت فعلتك التي فعلت، أن تترفق بذماء، أوترد بنغبة ماء، أماق ظماء، وتتعاهد المعاهد بتحية يشم منها شذا أنفاسك، أوتنظر إلينا على البعد بمقلة حوراء من بياض قرطاسك وسواد أنفاسك، فربما قنعت الأنفس المحبة بخيال زور، وتعللت بنوال منزور، ورضيت لما لم تصد العنقاء بزرزور: يا من ترحل والنسيم لأجله ... تشتاق إن هبت شذا رياها تحيي النفوس إذا بعثت تحية ... فغذا عزمت اقرأ {ومن أحياها} (1) ولئن أحييت بها فيما سلف نفوساً تفديك - والله تعالى إلى الخير يهديك - فنحن نقول معشر مريديك: ثن ولا تجعلها بيضة الديك (2) ، وعذراً فإني لم أجتر على خطابك بالفقر الفقيرة، وأدللت لدى حجراتك برفع العقيرة، لا عن نشاط يعثت مرموسه، ولا غتباط بالأدب تغري بسياسته سوسه، وانبساط أوحى إلي على الفترة ناموسه، وإنما هواتفاق جرته نفثة المصدور، وهناء الجرب المجدور، وخارق لا مخارق (3) ، فثم قياس فارق، أولحن غنى به بعد الممات (4) مفارق، والذي سببه (5) ، وسوغ (6) منه المكروه وحببه، ما اقتضاه الصنويحيى - مد الله تعالى حياته، وحرس من الحوادث ذاته - من خطاب ارتشف به لهذه القريحة بلالتها، بعد أن رضي علالتها، ورشح إلى الصهر الحضرمي سلالتها، فلم يسع إلا إسعافه، بما اعافه، فأمليت مجيباً، ما لا

_ (1) إشارة إلى الآية الكريمة: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً (المائدة: 32) . (2) من قول بشار: قد زرتنا مرة في العمر واحدة ... ثني ولا تجعليها بيضة الديك (3) التعريف: وإن تعلل به مخارق. (4) التعريف: بعد البعد. (5) التعريف: والذي هيأ هذا القدر وسببه. (6) التعريف: وسهل.

يعد في يوم البرهان نجيباً، وأسمعت وجيباً، لما ساجلت بهذه الترهات سحراً عجيباً، حتى إذا ألف القلم العريان سبحه، وجمح برذون الغرارة فلم أطق كبحه، لم أفق من غمرة غلوه، وموقف متلوه، إلا وقد تحيز إلى فئتك معتزاً بل معتراً، واستقبلها ضاحكاً مفتراً، وهش لها براً، وإن كان لونه من الوجل (1) مصفراً، وليس بأول من هجر، في التماس الوصل ممن هجر، أوبعث التمر إلى هجر، وأي نسب بيني اليوم وبين زخرف الكلام، وإجالة جياد الأقلام، في محاورة الأعلام بعد أن حال الجريض، دون القريض (2) ، وشغل المريض، عن التعريض، واستولى (3) الكسل، ونصلت الشعرات البيض كأنها الأسل، تروع برقط الحيات، سرب الحياة، وتطرق بذوات الغرر والشيات (4) ، عند البيات، والشيب الموت العاجل، وإذا ابيض زرع صبحته المناجل، والمعتبر الآجل، وإذا اشتغل الشيخ بغير معاده، حكم في الظاهر بإبعاده، وأسره في ملكة عاده، فأغض أبقاك الله واسمح، لمن قصر عن المطمح، وبالعين الكليلة فالمح، واغتنم لباس ثوب الثواب، واشف بعض الجوى بالجواب، تولاك الله تعالى فيما استضفت وملكت، ولا بعدت ولا هلكت، وكان لك أية سلكت، ووسمك من السعادة بأوضح السمات، وأتاح لقاءك من قبل الممات، والسلام الكريم يعتمد جلال ولدي، وساكن خلدي بل أخي وإن عتبته (5) وسيدي، ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى. قلت: هذه الرسالة الرافلة في حلل البلاغة لم أر مثلها ولم أقف عليه، فرحم الله تعالى لسان الدين ووجه سحائب الرحمة إليه، فلقد كان آية الله في النظم

_ (1) التعريف: الخجل. (2) هذا مثل؛ والجريض: ما يعترض في الحلق من غصص، أي حال العائق دون قول الشعر، ويتصل بقصة عبيد بن الأبرص ويوم البؤس عند النعمان. (3) التعريف: وغلب حتى. (4) ذوات الغرر والشيات هي الخيل. (5) التعريف: وإن اتقيت عتبه.

والنثر وجميع العلوم على اختلافها. 94 - وكما خاطب الولي ابن خلدون خاطب أخاه أبا زكريا يحيي حسبما قال في بعض كتبه: ومما خاطبت به الفقيه أبا زكريا ابن خلدون، لما ولي الكتابة عن السلطان أبي حموسلطان تلمسان نم بني زيان واقترن بذلك نصر وصنع غبطته به وأشدت به قصد تنفيقه وإنهاضه لديه: نخص الحبيب الذي هوفي الاستظهار به أخ وفي الشفقة عليه ولد، والولي الذي ما بعد قرب مثله أمل ولا على بعده جلد، والفاضل الذي لا يخالف في فضله ساكن ولا بلد، أبقاه الله تعالى وفاز فوزه وعصمته لها نم التوفيق الله سبحانه عمد، ومورد سعادته المسوغ لعادته لا غور ولا ثمد، ومدى إمداده من خزائن إلهام الله تعالى وسداده ليس له أمد، وحمى فرح قلبه بمواهب من ربه أن يطرقه كمد. تحية محله، من صميم قلبه بمحله، المنشئ رواق الشفقة، مرفوعاً بعمد المحبة والمقة، فوق ظعنه وحله، مؤثره ومجله، المعتني بدق أمره وجله، ابن الخطيب، من الحضرة الجهادية غرناطة، صان الله تعالى خلالها، ووقى هجير هجر الغيوم ظلالها، وعمر بأسود الله تعالى أغيالها، كما أغرى بمن كفر بالله تعالى صيالها، ولا زائد إلا منن من الله تعالى تصوب، وقوة يسترد بها المغضوب، ويخفض الصليب المنصوب، والحمد لله تعالى الذي بحمده ينال المطلوب، وبذكره تطمئن القلوب، ومودتكم المودة التي غذتها ثدي الخلوص بلبانها، وأحلتها حلائل المحافظة بين أعينها وأجفانها، ومهدت موات أخواتها الكبرى أساس بنيانها، واستحقت ميراثها مع استصحاب حال الحياة إن شاء الله تعالى واتصال زمانها، واقتضاء عهود الأيام بيمنها وأمانها، ولله در القائل: فإن لم يكنها أوتكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها (1)

_ (1) البيت لأبي الأسود الدؤلي (ديوانه في نفائس المخطوطات 2: 37) وكان له غلام يتاجر إلى الأهواز ويشرب الخمر.

وصل الله تعالى ذلك من أجله وفي ذاته، وجعله وسيلة إلى مرضاته، وقربة تنفع عند اعتبار ما روعي من سنن الجبار ومفترضاته. وقد وصل كتابكم الذي فاتح بالريحان والروح، وحل من مرسوم الولاء محل البسملة من اللوح، وأذن لنوافح الثناء بالبوح، يشهد عدله بأن البيان يا آل خلدون سكن من مثواكم دار خلود، وقدح زنداً غير صلود، واستأثر من محابركم السيالة، وقضب أقلامكم الميادة الميالة، بأب منجب وأم ولود، يقفو شانيه غير المشنو، وفصيله غير الجرب ولا المهنو، من الخطاب السلطاني سفينة منوح (1) ، إن لم نقل سفينة نوح، ما شئت من آل أزواج، وزمر من الفضل وأفواج، وأمواج كرم تطفوفوق أمواج، وفنون بشائر، وإهطاع قبائل وعشائر، وضرب للمسرات أعيا الشائر، فلله هومن قلم راعى نسب القنا فوصل الرحم، وانجد الوشيج والملتحم، وساق بعصاه من البيان الذود المزدحم، وأخاف من شذ عن الطاعة مع الاستطاعة فقال " لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم " هود:43 ولولم يوجب الحق برقه ورعده، ووعيده ووعده، لأوجبه يمنه وسعده، فلقد ظهرت مخايل نجحه، علاوة على نصحه، ووضحت محاسن صبحه، في وحشة الموقف الصعب وقبحه، وصل الله تعالى له عوائد منحه، وجعله إقليداً كلما استقبل باب أمل وكله الله تعالى بفتحه. أما ماقرره ولاؤكم من حب زكا على حبة القلب حبه، وأنبته النبات الحسن ربه، وساعده من الغمام سكبه، ومن النسيم اللدن مهبه، فرسم ثبت عند الولي نظيره، ومن غبر معارض يضيره، وربما أربى بتذييل مزيد، وشهادة ثابت ويزيد (2) ، ولم لا يكون ذلك، وللقلب على القلب شاهد وكونها

_ (1) المنوح: العطايا. (2) ثابت ويزيد: من أعلام التابعين الثقات كأن تقول: ثابت البناني ويزيد بن الأسود؛ ثم يلمح إلى قول جميل: إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي ... من الوجد ثابت ويزيد

أجناداً مجندة لا يحتاج تقريره إلى ماهد وجهد جاهد، ومودة الأخوة سبيلها لاحب، ودليلها للدعوة الصادقة مصاحب، إلى ما سبق من فضل ولقاء، ونظافة سقاء، واعتقاد، لا يراع سربه بذئب انتقاد، واجتلاء شهاب وقاد، لا يحوج إلى إيقاد، إنما عاق عن مواصلة ذلك نوىً شط منها الشطن، وتشذيب لم يتعين معه الوطن، فلما تعين، وكاد الصبح أن يتبين، عاد الوميض ديجوراً، والثماد بحراً مسجوراً، إلى أن أعلق الله تعالى منكم اليد بالسبب الوثيق، وأحلكم منجى نيق (1) ، لا يخاف من منجنيق، وجعل يراعكم لسعادة موسى (2) معجزة تأتي على الخبر بالعيان، فتخر لثعبانها سحرة البيان: أيحيى سقى حيث لحت الحيا ... فنعم الشعاب ونعم الوكون وحياً يراعك من آية ... فقد حرك القوم بعد السكون دعوت لخدمة موسى عصاه ... فجاءت تلقف ما يأفكون فأذعن من يدعي السحر رغماً ... وأسلم من أجلها المشركون وساعدك السعد فيما أردت ... فكان كما ينبغي أن يكون " فأنتم أولى الأصدقاء بصلة السبب، ورعي الوسائل والقرب، أبقاكم الله تعالى وأيدي الغبطة بكم عالية، وأحوال تلكم الجهات بدرككم المهمات حالية، وديم المسرات من إنعامكم المبرات على معهود المبرات متوالية. وأما ما تشوفتم إليه من حال وليكم فأمل متقلص الظل، وارتقاب لهجوم جيش الأجل المطل، ومقام على مساورة الصل، وعمل يكذب الدعوى، وطمأنينة تنتظر الغارة الشعوا، ويد بالمذخور تفتح، وأخرى تجهد وتمنح، ومرض يزور فيثقل، وضعف عن الواجب يعقل، إلا أن اللطائف تستروح،

_ (1) النيق: الطويل من الجبال. (2) موسى: هو السلطان أبو حمو.

والقلب من باب الرجاء لا يبرح، وربما ظفر البائس، ولم تطرد المقايس، تداركنا الله تعالى بعفوه، وأوردنا من منهل الرضى والقبول على صفوه، وأذن لهذا الخرق في رفوه. " وأما ما طلبتم من انتساخ ديوان، وإعمال بنان في الإتحاف ببيان، فتلك عهود لدي مهجورة، ومعاهد لا متعهدة ولا مزورة، شغل عن ذلك حوض يعلو لجبه، وحرص يقضى من لغط المانح عجبه، وهول جهاد تساوى جمادياه ورجبه، فلولا التماس أجر، وتعلل بربح تجر، لقلت: أهلاً بذات النحيين (1) ، فلئن شكت، وبذلت المصون بسبب ما أمسكت، فلقد ضحكت في الباطن ضعف ما بكت، ونستغفر الله تعالى من سوء انتحال، وإيثار المزاح بكل حال، وما الذي ينتظر مثلي ممن عرف المآخذ والمتارك، وجرب لما بلا المبارك، وخبر مساءة الدنيا الفارك هذا أيها الحبيب ما وسعه الوقت الضيق، وقد ذهب الشباب الريق، ليسمح فيه معهود كمالك، جعل الله تعالى مطاوعة آمالك، مطاوعة يمينك لشمالك، ووطأ لك موطأ العز بباب كل مالك، وقرن النجح بأعمالك، وحفظك في نفسك واهلك ومالك، والسلام انتهى. 95 - ومن مخاطبات لسان الدين لصاحب العلامة أبي القاسم ابن رضوان: قد كنت أجهد في التماس صنيعة ... نفساً شهاب ذكائها وقاد وأقول لو كان المخاطب غيركم ... عند الشدائد تذهب الأحقاد سيدي، أبقاكم الله تعالى علم فضل وإنصاف، ومجموع كمال أوصاف: كلام النية قصير، والله تعالى بحسنات الأقوال والأفعال بصير، وإليه هذا الخباط كل رجعي منا ومصير، وليس لنا إلا هومولى ونصير، وهذا الرجل سيدي الخطيب

_ (1) يكني عن كثرة الشغل لقولهم في المثل: " اشغل من ذات النحيين " والنحي: ظرف السمن.

أبوعبد الله ابن مرزوق - جبره الله تعالى - بالأمس كنا نقف ببابه، ونتمسك بأسبابه، ونتوسل إلى الدنيا به، فإن كنا قد عرفنا خيراً وجبت المشاركة، أوكفافاً تعينت المتاركة، أوشراً اهتبلت غرة الهدى الأنفس المباركة، واتصفت بصفة من يعصي فيسمح، ويسأل فيمنح، ويعود إلى قبيح بالفعل الجميل، ويحسب يد التأميل، ومع هذا فلم ندر إلا خيراً كرم منه المورد والمصرف، ومن عرف حجة على من لا يعرف، وأنتم في الوقت سراج علم لا يخبوسناه، ومجموع تخلق عرفنا منه ما عرفناه، وهذه هي الشهرة التي تغتنم إذا سفرت، والهنة التي تحبر عليها النفس إذا نفرت، حتى لا تجد بعون الله تعالى عارضاً يعوقها عن الخير، وسبيل الكمال الأخير، والأجر في استيفاء كتاب الشفاعة، وتحري المقاصد النفاعة، وتنفيق البضاعة، قد ضمنه نم وعد بقيام الساعة، والجزاء على الطاعة وغير الطاعة، وهذه المشاركة تسجيل لفضلكم قبلي، وهي في الحقيقة لي، فكيف والله تعالى يرى عملكم وعملي، والمتروك حقير، والوجود إلى رحمة من رحمات الله تعالى فقير، والسلام انتهى. 96 - ومن كلام لسان الدين رحمه الله تعالى قوله في مخاطبة شيخ العرب مبارك بن إبراهيم رحمه الله تعالى (1) : " ساحات دارك للضياف مبارك ... وبضوء نار قراك يهدي السالك ونوالك المبذول قد شمل الورى ... طراً، وفضلك ليس فيه مشارك قل للذي قال للوجود قد انطوى ... والبأس ليس له حسام فاتك والجود ليس له غمام هاطل ... والمجد ليس له همام باتك (2) جمع الشجاعة والرجاحة والندى ... والبأس والرأي الأصيل مبارك

_ (1) وردت هذه الرسالة في الاستقصا 4: 13 - 15. (2) الباتك: القاطع.

للدين والدنيا وللشيم العلا ... والجود إن شح الغمام السافك عند الهياج ربيعة بن مكدم ... في الفضل والتقوى الفضيل ومالك (1) ورث الجلالة عن أبيه وجده ... فكأنهم ما غاب منهم هالك فجياده للآملين مراكب ... وخيامه لقاصدين أرائك فغذا المعالي أصبحت مملوكة ... أعناقها بالحق فهو المالك يا فارس العرب الذي من بيته ... حرم لها حج به ومناسك يا من يبشر باسمه قصاده ... فلهم إليه مسارب ومسالك أنت الذي استأثرت فيك بغبطتي ... وسواك فيه مآخذ ومتارك لا زلت نوراً يهتدي بضيائه ... من جنه للروع ليل حالك ويخص مجدك من سلامي عاطر ... كالمسك صاك به الغوالي صائك (2) الحمد لله تعالى الذي جعل بيتك شهيراً، وجعلك للعرب أميراً، وجعل اسمك فالاً، ووجهك جمالاً، وقربك جاهاً ومآلاً، وآل رسول اله صلى الله عليه وسلم لك آلاً، أسلم عليك يا أمير العرب وابن أمرائها، وقطب سيادتها وكبرائها، وأهنيك ما منحك الله تعالى من شهرة تبقى، ومكرمة لا يضل المتصف بها ولا يشقى، إذ جعل خيمتك في هذا المغرب على اتساعه، واختلاف أشياعه، مأمناً للخائف، على قياس (3) المذاهب والطوائف، وصرف الألسنة إلى مدحك والقلوب إلى حبك، وما ذلك إلا لسريرة لك عند ربك، ولقد كنت أيام تجمعني وإياك المجالس السلطانية على معرفتك متهالكاً، وطوع الأمل سالكاً، لما يلوح لي على وجهك من سيما المجد والحياء، والشيم الدالة على العلياء، وزكاء الأصول وكرم الآباء، وكان والدي - رحمه الله تعالى - قد عين للقاء

_ (1) الفضيل بن عياض ومالك بن دينار (وقد يكون: مالك بن أنس) . (2) الغوالي: الطيوب، مفردها غالية؛ صاك: خلط ومزج. (3) الاستقصا: على كثرة.

خال السلطان قريبكم لما توجه في الرسالة إلى الأندلس في تأنيسه عن مخدومه، ومنوهاً حيث حل بقدومه، واتصلت بعد ذلك المهاداة والمعرفة، والوسائل المختلفة، فعظم لأجل هذه الوسائل شوقي إلى التشرف بزيارة ذلك الجناب الذي حلوله شرف وفخر، ومعرفته كنز وذخر، فلما ظهر الآن لمحل الأخ الكذا القائد فلان اللحاق بك، والتعلق بسببك، رأيت أنه قد اتصل بهذا الغرض المؤمل بعضي والله تعالى ييسر في البعض، عند تقرير الأمن وهدنة الأرض، وهذا الفاضل بركة حيث حل لكونه من بيت أصالة وجهاد، وماجداً وابن أمجاد، ومثلك لا يوصى بحسن جواره، ولا ينبه على إيثاره، وقبيلك في الحديث - من العرب - والقديم، وهوالذي أوجب لها مزية التقديم، لم يفتخر قط بذهب يجمع، ولا ذخر يرفع، ولاقصر يبنى، ولا غرس يجنى، إنما فخرها عدويغلب، وثناء يجلب، وجزور ينحر، وحديث يذكر، وجود على الفاقة، وسماحة بحسب الطاقة، فلقد ذهب الذهب، وفني النشب، وتمزقت الأثواب، وهلكت الخيل العراب، وكل الذي فوق التراب تراب، وبقيت المحاسن تروى وتنقل، والأعراض تجلى وتصقل، ولله در الشاعر إذ يقول: وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثاً حسناً لمن وعى (1) هذه مقدمة إن يسر الله تعالى بعدها لقاء الأمير، فيجلي اللسان عماً في الضمير: ومدحي على الأملاك مدح، وإنما ... رأيتك منها فامتدحت على وسمي وما كنت بالمهدي لغيرك مدحتي ... ولو أنه قد حل في مفرق النجم "

_ (1) من مقصورة ابن دريد (ص: 115) .

97 - ومن ذلك ما خاطب به شيخه الخطيب سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق وهو: " راش زماني وبرى نبله ... فكنت لي من وقعها جنه ولو قهرت الموت أمنتني ... منه وأدخلتني الجنه فكيف لا أنشرها منة ... قد عرفتها لاإنس والجنه " بماذا أخاطب به تلك الجلالة، فيتيسر الخطاب وتحصل الدلالة، أبسيدي ويشركني فيه، من قال لا إله إلا الله بفيه أوبروح حياتي، ومقدم ماهية ذاتي، وذخري الكبير الكثير، لا بل فلكي الأثير، وهوتضييق على الولد والأهل، وتعدي المراتب المحدودة من الجهل، فلم يبق إلا الإشارة الخارجة عن وظائف اللسان، وهي بعض دلالات الإنسان، أفدت الإكسير، وجبرت الكسير، ورويت يا أبا العلا (1) التيسير، وغمرت بالكرم وأمن حمام الحرم الظعن والمسير، فمن رام شكر بعض (2) أياديك فلقد شد حقائب الرحال، إلى نيل المحال، والحق أن نكل جزاك، لمن جعل إلى المجد اعتزاك، ونولي شكرك وثناك، إلى من عمر بما يرضيه من الرفق بالخلق وإقامة الحق إناك، وندعومنك بالبقاء إلى الروض المجود، وغمام الجود، وإمام الركع السجود، لا بل لنور الله تعالى المشرق على التهائم والنجود، ورحمته المبثوثة أثناء هذا الوجود. وليعلم سيدي أن النفس طماعة جماعة، وسراب آمالها بحاره لماعة، فلا تفيق من كد، ولا تقف عند حد، سيما إذا لم يهذبها السلوك والتجريد، ولم يسر منها في عالم الغيب البريد، ولا تجلت لها السعادة التي يجذب بها المراد ويشمر لها المريد، إلى أن يتأتى عما دون الحق المحيد، ويصح التوحيد،

_ (1) ق: يا ابن العلاء. (2) بعض: سقطت من ق.

وقد مثلت الآن خصماً، توسع ظهر استظهاري بالتسليم قصماً، وتقول: المال عديلي عند القيمة، وطبيبي في الأحوال السقيمة، وهونتيجة كدي عند الأقيسة القيمة، ومن استخلصني على شرفي يقتعدها على رأي البراهمة النور الاصفهندي والنور القاهر، فخلاص المال طوع يديه، وهوكما قال الله تعالى أهون عليه، فألاطفها، حتى تلين معاطفها، وأخادعها، حتى تلوي أخادعها، وأقول: قد وقع الوعد، وأشرق السعد، ولان الجعد، وسكن الرعد، ولله تعالى الأمر من قبل ومن بعد، فتجيبني: العمر المنام، وأيام الجاه والقدرة قد يحق لها الاغتنام، وهم العاقل إلى وقته الحاضر مصروف، وإذا لم يغير حائطه مثل معروف، وفي الوقت زبون يرجى به استخلاص الحقوق، ويستبعد وقوع العقوق، فإن رأى مولاي أن يشفع المنة، ويقرع باباً ثانياً من أبواب الجنة، قبل ا، يشغل شاغل، أويكدر الأكل والشرب وارش أو واغل (1) ، أويثوب للمتعدي نظر في اللجاج، أويدس له ما يحمله على الاحتجاج، - وأومتسع مناطها، فسيح استنباطها، كثير هاطها ومياطها - فهوتمام صنيعته التي لم ينسج على منوالها الأحرار، ولا اهتدت إلى حسنتها الأبرار، ولا عرف بدر مجدها السرار، فإليه كان الفرار، ولله تعالى ثم له خلص الاضطرار، ويستقر تحت دخيله القرار، وتطمئن الدار، فإن ما ابتدأ به من عز ضرب على الأيدي العادية منه حكم الحكام، وفارع الهضاب والآكام، على ملإ ومجمع، وبمرأى من الخلق ومسمع، يقتضي اطراد قياس العزة القعساء، وسعادة الإصباح والغماس، وظهور درجات الرجال على النساء، فهوجاه حارت فيه الأوهام وهذه أذياله، ومن ركب حقيقة أمرها هان عليه خياله، والمال ماله، والعيال عياله، والوجود سريع زياله، والجزاء عند الله تعالى مكياله،

_ (1) الوارش: المتطفل على الآكلين؛ والواغل: المتطفل على الشاربين؛ وفي ق: واش.

وعروض المغضوب باقية الأعيان (1) ، مستقلة الشجر قائمة البنيان، تمنع عن شرائها قاعدة الأديان وغيرها من مكيل وموزون، بين مأكول ومخزون، والكتب ملقاة بالقاع، مطرحة بأخبث البقاع، فإن تأتي الجبر، وإلا فالصبر، على أن وعد عمادي لا يفارق الإنجاز، ومكرمته التي طوقها قد بلغت الشام والحجاز، وحقيقة التزامه تباين المجاز، وآية مجده تستصحب الإعجاز، ولله در إبراهيم بن المهدي يخاطب المأمون، لما أكذب في العفوعنه الظنون: وهبت مالي ولم تبخل علي به ... وقبل ذلك ما إن قد وهبت دمي (1) وقد كانت هذه المنقبة غريبة فغزرتها بأختها الكبرى، وفريدة فجئت بأخرى، وشفعت وترا، أبقاك الله تعالى لتخليد المناقب، وإعلاء المراتب، وجعل أخمص نعلك تاجاً للنجم الثاقب، وتكفل لك في النفس والولد بحسن العواقب: آمين آمين لا أرضى بواحدة ... حتى أضيف إليها ألف آميناً (3) وأما تنبيه سيدي على إنشاء رزق، وتقرير رفد ورفق، فلا أنبه حاتماً وكعباً، أن يملأ قعباً، لمن خاض بحراً أوركب صعباً، هذا أمر كفانيه الكافي، وداء كوخز (4) الأشافي، أذهبه الشافي، والسلام " انتهى. 98 - ومن إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى على لسان السلطان قوله: " هذا ظهير كريم، مضمنه استجلاء لأمور الرعية واستطلاع، ورعاية

_ (1) يشير لسان الدين هنا إلى ما أخذ منه بالأندلس، من عروض ومكيلات وموزونات وكتب ... إلخ؛ ويقول إن أعيان العروض (من شجر ومبان) لا تزال شاهدة. (1) يشير لسان الدين هنا إلى ما أخذ منه بالأندلس، من عروض ومكيلات وموزونات وكتب ... إلخ؛ ويقول إن أعيان العروض (من شجر ومبان) لا تزال شاهدة. (3) انظر المجلد 1: 175. (4) ق: لوخز؛ والأشافي: جمع إشفى وهو المخرز.

كرمت منها أجناس وأنواع، وعدل بهر منه شعاع، ووصايا يجب لها إهطاع، أصدرناه للفقيه فلان لما تقرر لدينا دينه وعدله وفضله، رأينا أنه أحق من نقلده الهم الأكيد، ونرمي به من أغراض البر الغرض البعيد، ونستكشف به أحوال الرعايا التي لا يغيب عنا شيء من أحوالها، ولا يتطرق إليها طارق من أهوالها، وينهي إلينا الحوادث التي تنشأ إنهاء يتكفل بحياطة أبشارها وأموالها. وأمرنا أن يتوجه إلى جهة كذا حاطها الله تعالى فيجمع الناس فيمساجدهم، وينديهم من مشاهدهم، ويبدأ بتقرير غرضنا في صلاح أحوالهم، وإحساب أموالهم (1) ، ومكابدتنا المشقة في مداراة عدوهم الذي نعلم من أحواله ما غاب عنهم دفعه الله تعالى بقدرته، ووقى نفوسهم وحريمهم من معرته، ولما رأينا من انبتات الأسباب التي تؤمل، وعجز الحيل التي كانت تعمل؛ ويستدعي إنجادهم بالدعاء، وإخلاصهم فيه إلى رب السماء، ويسأل عن سيرة القواد، وولاة الأحكام بالبلاد، فمن نالته نظلمة فليرفعها إليه، ويقصها عليه، ليبلغها إلينا، ويوفدها مقررة الموجبات لدينا، ويختبر ما افترض صدقة للجبل، وما فضل عن كريم ذلك العمل، ليعين إلى بناء الحصن بجبل فاره يسر الله تعالى لهم في إتمامه، وجعل صدقتهم تلك مسكة ختامه، وغيره مما افترض إعانة للمسافرين، وإنجاداً لجهاد الكافرين، فيعلم مقداره، ويتولى اختباره (2) ، حتى لا يجعل منه شيء على ضعيف، ولا يعدل به لمشروف عن شريف، ولا تقع فيه مضايقة ذي الجاه، ولا مخادعة غير المراقب لله، ومتى تحقق أن غنياً قصر به عن حقه، أوضعيفاً كلف منه فوق طوقه، فيجير (3) الفقير من الغني،

_ (1) ق: آمالهم. (2) ق: اختياره. (3) ق: فيجير.

ويجري من العدل على السنن السوي، ويعلم الناس أن هذه المعونة (1) وإن كانت بالنسبة إلى محل ضرورتها يسيرة، وأن الله تعالى يضاعفها لهم أضعافاً كثيرة، فليست مما يلزم، ولا من المعاون التي بتكررها يجزم؛ وينظر في عهود التوفيق فيصرفها في مصارفها المتبينة، وطرقها الواضحة البينة. ويتفقد المساجد تفقداً يكسوعاريها، ويتمم منها المآرب تتميماً يرضي باريها، ويندب الناس إلى تعليم القرآن لصبيانهم، فذلك أصل أديانهم، ويحذرهم المغيب على كل شيء من أعشارهم، فالزكاة أخب الصلاة وهما من قواعد الإسلام، وقد اخترنا لهم بأقصى الجد والاعتزام، ورفعنا عنهم رسم التعريف نظراً إليهم بعين الاهتمام، وقدمنا الثقات لهذه الأحكام، وجعلنا الخرص (2) شرعياً في هذا العام، وفيما بعده إن شاء الله تعالى من الأعوام. ومن أهم ما أسندناه إليه، وعولنا فيه عليه، البحث بتلك الأحواز عن أهل البدع والأهواء، والسائرين من السبيل على غير السواء، ومن ينبز بفساد العقد، وتحريف القصد، والتلبس بالصوفية وهوفي الباطن من أهل الفساد، والذاهبين إلى الإباحة وتأويل المعاد، والمؤلفين بين النساء والرجال، والمتبعين لمذاهب الضلال، فمهما عثر على مطوق بالتهمة، منبز بشيء من ذلك من هذه الأمة، فليشد ثقافه شداً، ويسد عنه سبيل الخلاص سداً، ويسترعي في شأنه الموجبات، ويستوعب الشهادات، حتى ينظر في حسم دائه، ويعاجل المرض بدوائه، فليتول ما ذكرنا نائباً بأحسن المناب، ويقصد وجه الله تعالى راجياً منه جزيل الثواب، ويعمل عمل من لا يخاف في الله لومة لاثم ليجد ذلك في موقف الحساب. وعلى من يقف عليه من القواد والأشياخ والحكام أن يكونوا معه يداً واحدة

_ (1) المعونة: الضريبة، والجمع معاون. (2) الخرص: تخمين الكرم والنخيل خاصة؛ وفي ق: الحرص.

على ما حررنا في هذه الفصول، من العمل المقبول، والعدل المبذول، ومن قصر عن غاية من غاياته، أوخالف مقتضى من مقتضياته، فعقابه عقاب من عصى أمر الله وأمرنا فلا يلم إلا نفسه التي غرته، وإلى مصرع النكير جرته، والله تعالى المستعان انتهى. ومن ذلك ما خاطب به تربة السلطان الكبير أبي الحسن المريني لما قصدها عقب ما شرع في جواره وتوسل إلى أغراضه إلى وبده رحم الله تعالى الجميع: السلام عليك ثم السلام، أيها المولى الهمام الذي عرف فضله الإسلام، وأوجبت حقه العلماء الأعلام، وخفقت بعز نصره الأعلام، وتنافست في إنفاذ أمره ونهيه السيوف والأقلام. السلام عليك أيها المولى الذي قسم زمانه بين حكم فصل، وإمضاء نصل، وإحراز خصل، وعبادة قامت من اليقين على أصل. السلام عليك يا مقرر الصدقات الجارية، ومشبع البطون الجائعة وكاسي الظهور العارية، وقادح زناد العزائم الوارية، ومكتب الكتائب الغازية في سبيل الله تعالى والسرايا السارية. السلام عليك يا حجة الصبر والتسليم، وملتقى أمر الله تعالى بالخلق المرضي والقلب السليم، ومفوض الأمر في الشدائد إلى السميع العليم، ومعمل البنان الطاهر في اكتتاب الذكر الحكيم. كرم الله تعالى تربتك وقدسها، وطيب روحك الزكية وآنسها، فلقد كنت للدهر جمالاً، وللإسلام ثمالاً، وللمستجير مجيراً، وللمظلوم ولياً ونصيراً؛ لقد كنت للمحارب صدراً، وفي المواكب بدراً، وللمواهب بحراً، وعلى العباد والبلاد ظلاً ظليلاً وستراً؛ لقد فرعت أعلام عزك الثنايا، وأجزلت همتك لملوك الأرض الهدايا. كأنك لم تعرض الجنود، ولم تنشر البنود، ولم تبسط العدل المحدود، ولم توجد الجود، ولم تزين الركع السجود، فتوسدت الثرى، وأطلت الكرى، وش ربت الكأس التي يشربها الورى، وأصبحت ضارع الخد، كليل الحد

سالكاً سنن الأب والجد، لم تجد بعد انصرام أجلك، إلا صالح عملك، ولا أصبحت لقبرك، إلا رابح تجرك، وما أسلفت من رضاك وصبرك، فنسأل الله تعالى أن يؤنس اغترابك، ويجود بسحاب الرحمة ترابك، وينفعك بصدق اليقين، ويجعلك من الأئمة المتقين، ويعلي درجتك في عليين، ويجعلك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين. وليهنك أن صير الله تعالى ملكك من بعدك، إلى نير سعدك، وبارق رعدك، ومنجز وعدك، أرضى ولدك، وريحانة خلدك، وشقة نفسك، والسرحة المباركة من غرسك، ونور شمسك، وموصل عملك البر إلى رمسك، فقد ظهر عليه أثر دعواتك، في خلواتك وأعقاب صلواتك، فكلمتك والمنة لله تعالى باقية، وحسنتك إلى محل القبول راقية، يرعى بك الوسيلة، ويتمم مقاصدك الجميلة، أعانه الله تعالى ببركة رضاك على ما قلده، وعمر بتقواه يومه وغده، وأبعد في السعد أمده، وأطلق بالخير يده، وجعل الملائكة أنصاره والأقدار عدده. وإنني أيها المولى الكريم، البر الرحيم، لما اشتراني، وراشني وبراني، وتعبدني بإحسانه، واستعمل في استخلاصي خط بنانه، ووصية لسانه، لم أجد مكافأة إلا التقرب إليك وإليه برثائك، وإغراء لساني بتخليد عليائك، وتعفير الوجنة في حرمك، والإشادة بعد الممات بمجدك وكرمك، ففتحت الباب في هذا الغرض، إلى القيام بحقك المفترض، الذي لولاه لاتصلت الغفلة عن ادائه وتمادت، فما يبست الألسن ولا كادت، متحيزاً بالسبق، إلى أداء هذا الحق، بادئاً بزيارة قبرك الذي هورحلة الغرب ما نويته من رحلة الشرق، وما أعرضت عنه فاقطعه أثر مواقع الاستحسان، وقد جمع بين الشكر والتنويه والإحسان، والله سبحانه يجعله عملاً مقبولاً، ويبلغ فيه من القبول مأمولاً، ويتغمد من ضاجعته من سلفك الكرام بالمغفرة الصيبة، والتحيات الطيبة، فنعم الملوك الكبار

والخلفاء الأبرار، والأئمة الأخيار، الذين كرمت منهم السير وحسنت الأخبار، وسعد بعزماتهم الجهادية المؤمنون وشقي الكفار، وصلوات الله تعالى عوداً وبدءاً على الرسول الذي اصطفاه واختاره فهوالمصطفى المختار، وعلى آل وأصحابه الذين هم السادة الأبرار، وسلم تسليماً انتهى. 100 - وقال لسان الدين رحمه الله تعالى: ومما خاطبت به الوزير المتغلب على الملك بالمغرب ما نصه: لا ترج إلا الله في شدة ... وثق به فهو الذي أيدك حاشاك أن ترجو إلا الذي ... في ظلمة الحشاء قد أوجدك فاشكره بالرحمة في خلقه ... ووجهك ابسط بالرضى أو يدك والله لا تهمل ألطافه ... قلادة الحق الذي قلدك ما أسعد الملك الذي سسته ... يا عمر العدل، وما أسعدك نخص الوزير الذي بهر سعده، وحمد في المضاء قصده، وعول على الشيم التي اقتضاها مجده، وأورثه إياها أبووجده، الوزير عمر الكذا ابن الشيخ الكذا، أبقاه الله تعالى ثابت القدم، خافق العلم، شهيراً حديث سعده في الأمم، مثلاً خبر بسالته وجلالته في العرب والعجم. تحية معظم مجده الكبير، المستند إلى عهده الوثيق وحسبه الشهير، المسرور بما سناه الله تعالى له من نجح التدبير، والنصر العديم النظير، وإنجاده إياه عند إسلام النصير، وفراق القبيل والعشير، ابن الخطيب، واليد ممدودة إلى الله تعالى في صلة سعد الوزير - أبقاه الله تعالى - ودوام عصمته، واللسان يطنب ويسهب في شكر نعمته، والأمل متعلق بأسبابه الكريمة وأذمته، وقد كان شيعه مع الشفقة التي أذابت الفؤاد، وألزمت الأرق والسهاد، على علم بأن عناية الله تعالى عليه عاكفة، وديم آلائه لديه واكفة، فإن الذي أقدره وأيده

ونصره، وأنفذت مشيئته ما دبره، كفيل بإمداده، وملي بإسعاده، ومرجولإصلاح دنياه ومعاده، وفي أثناء هذه الأراجيف استولى على معظم وزاراته الجزع، وتعاورته الأفكار تأخذ وتدع، فإني كما يعلم الوزير أعزه الله تعالى منقطع الأسباب، مستوحش من الجهة الأندلسية على بعد الجناب، ومستعدى علي بكوني من المعدودين فيمن له من الخلصان والأحباب، فشرعت في نظر احصل منه على زوال اللبس، وأمان النفس، في أثنائه، وتمهيد أساس بنائه، ورد البشير بما سناه الله تعالى لسيدي وجابر وكسري، ومنصفي بفضل الله تعالى من دهري، من الصنع الذي ظهر، وراق نوره وبهر، فأمنت وإن لم أكن ممن جنى، وحفتني المسرات بين فرادى وثنى، وانشرح بفضل الله تعالى صدري، وزارتني النعم والتهاني من حيث أدري ولا أدري، ووجهت الولد الذي شملته نعمة الوزير وإحسانه، وسبق إليه امتنانه، نائباً عني في تقبيل يده وشكر يده، والوقوف ببابه، والتمسك بأسبابه، آثرته بذلك لأمور: منها المزاولة فيما كان يلزمني من إخوته الأصاغر، وتدريبه على خدمة الجلال الباهر، وإفرادي له بالبركة، ولعائق ضعف عن الحركة، وبعد ذلك أشرع بضل الله تعالى في العمل على تجديد العهد بباب الوزارة العلية، عارضاً من ثنائها ما يكون وفق الأمنية، ورب عمل أغنى عنه فضل نية، والسلاك كريم على سيدي ورحمة الله تعالى وبركاته. 101 - قال: وكتبت إليه أيضاً على أثر الفتح الذي تكيف له: " سيدي الذي أسر بسعادته، وظهور عناية الله تعالى به في إبدائه وإعادته، وأعلم كرم مجادته، وأعترف بسيادته، الوزير الميمون الطائر، الجاري حديث سعده ومضائه مجرى المثل السائر، أبقاه الله تعالى عزيز الأنصار، جارية بيمن نقيبته حركة الفلك الدوار، معصوماً من المكاره بعصمة الواحد القهار؛

معظم سيادته الرفيعة الجانب، وموقر وزارته الشهيرة المناسب، الداعي إلى الله تعالى بطول بقائه في عز واضح المذاهب، وصنع واكف السحائب، ابن الخطيب، عن الذي يعلم سيدي من لسان طلق بالثناء، ويدممدودة إلى الله تعالى بالدعاء، والتماس لما يعد من جزيل النعماء، والفتح الذي تفتح له أبواب السماء، وقد اتصل ما سناه الله تعالى له من النصر والظهور، والصنع البادي السفور، لما التقى الجمعان، وتهوديت اكواس الطعان، وتبين الشجاع من الجبان، وظهر من كرات سيدي وبسالته ما تحدث به ألسنة الركبان، حتى كانت الطائلة لحزبه، وظهرت عليه عناية ربه، فقلت: الحمد لله الذي جعل سعد عمادي متصل الآيات، واضح الغرر والشيات. وقد كنت بعثت أهنئه بما قدم من صنع جميل، وبلوغ تأميل، فقلت: اللهم أفد علينا التهاني تترى، واجعل الكبرى من نعمتك السالفة بنعمتك الرادفة الخالفة هي الصغرى، واجمع له بين نعم الدنيا والأخرى، والناس - أبقى الله تعالى سيدي - لهم مع الاستناد إليك جهات، وأمور مشتبهات، إلا المحب المتشيع فجهتك هي التي آنست الغربة، وفرجت الكربة، ووعدت بالخير، وضمنت عاقبة الضير، وأنا أرتقب ورود التعريف المولوي على عبيده بهذه المدينة واصل إن شاء الله تعالى لمباشرة الهناء، وقرة العين بمشاهدة الآلاء؛ والله عز وجل يديم سعادة سيدي ويطيل بقاءه، ويرادف قبلة وآلاءه، بفضله انتهى. 102 - وقال: ومما خاطبت به المذكور وأنا ساكن بسلا: أيا عمر العدل الذي مطل المدى ... يوعد الهدى حتى وفيت بدينه ويا صارم الملك الذي يستعده ... لدفع عداه أولمجلس زينه هنت عينك اليقظى من الله عصمة ... كفت وجه دين الله موقع شينه وهل أنت إلا الملك والدين والدنا ... ولا يلبس الحق المبين بمينه إذا نال منك العين ضر فإنما ... أصيب به الإسلام في عين عينه

الوزير الذي هوللدين الوزر الواقي، والعلم السامي المراقب والمراقي، والحلي المقلد فوق الترائب والتراقي، والكنز المؤمل والذخر الباقي، حجب الله تعالى العيون عن عين كمالك، وصير الفلك الدوار مطية آمالك، وجعل اتفاق اليمن مقروناً بيمينك، وانتظام الشمل معقوداً بشمالك. " اعلم أن مطلق لسان الثناء على مجدك، والمستضيء على البعد بنور سعدك، ومعقود الرجاء بعروة وعدك، لا يزال في كل ساعة يسحب الفلك فيه ذيلها، ويعاقب يومها وليلها، مصغي الأذن إلى نبإ يهدي عنك لله تعالى دفاعاً، أويمد في ميدان سعدك باعاً، وأنت اليوم النصير على الدهر الظلوم، وآسي الكلوم، وذوالمقام المعلوم، فتعرفت أن بعض ما يتلاعب به بين أيدي السادة الخدام، وتتفكه به المثاقفة والأفدام (1) ، من كرة مرسلة الشهاب، أونارنجة ظهر عليها من اسمها صبغة الالتهاب، حومت حول عينك لا كدر صفاؤها، ولا هدم فوق مهاد الدعة والأمن إغفاؤها، فرعت حول حماها، ورامت أن تصيب فخيب الله تعالى مرماها: نرى السوء مما نتقي فنها به ... وما لا نرى مما يقي الله أكثر (2) " فقلت: مكروه أخطأ سهمه، وتنبيه من الله تعالى لمن نبل عقله وفهمه، ودفاع قام دليله، وسعد أشرق جليله، وأيام أعربت عن إقبالها، وعصمة غطت بسربالها، وجوارح جعل الله تعالى الملائكة تحرسها، فلا تغتالها الحوادث ولا تفترسها، والفطن يشعر بالشيء وإن جهل أسبابه، والصوفي يسمع من الكون جوابه، فبادرت أهنئه تهنئة من يرى تلك الجوارح الكريمة أعز عليه من جوارحه، ويرسل طير الشكر له تعالى في مساقط اللطف الخفي ومسارحه،

_ (1) المثاقفة: أهل الثقافة أي الذين يصارعون الحيوانات المتوحشة؛ والأفدام: الحمقى. (2) مر هذا البيت وقصته بين الأمير عبد الرحمن ووزيره الزجالي في المجلد 3 ص: 539، 613.

وسألته سبحانه أن يجعلك عن النوائب حجراً (1) لا يقرب، وربعك ربعاً لا يخرب، ما سبح الحوت ودب العقرب، ثم إنني شفعت الهناء ووترته، وأظهرت السرور فما سترته، بما سناه لتدبيرك من مسالمة تكذب الإرجاف، وتغني عن الإيجاف، وتخصب للإبل العجاف، وتريح من كيد، وتفرغ إلى مجادلة عمرووزيد، وكأني بسعدك قد سدل الأمان، وعدل الزمان، وأصلح الفاسد، ونفق الكاسد، وقهر الروع المستاسد، وسر الحبيب وساء الحاسد، والسلام انتهى. 103 - ومن إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى ما خاطب به الرئيس عامر ابن محمد بن علي الهنتاني معزياً له عن أخيه عبد العزيز: أبا ثابت كن في الشدائد ثابتاً ... أعيذك أن يلفى حسودك شامتا عزاؤك عن عبد العزيز هو الذي ... يليق بعز منك أعجز ناعتا فدوحتك الغناء طالت ذوائباً ... وسرحتك الشماء طابت منابتا لقد هد أركان الوجود مصابه ... وأنطق منه الشجو من كان صامتا فمن نفس حر أوثق الحزن كظمها ... ومن نفس بالوجد أصبح خافتا هو الموت للإنسان فصل لحده ... وكيف ترجي أن تصاحب مائتا وللصبر أولى أن يكون رجوعنا ... إذا لم نكن بالحزن نرجع فائتا اتصل بي أيها الهمام، وبدر المجد الذي لا يفارقه التمام، ما جنته على عليائك الأيام، واقتنصه محلق الردى بعد أن طال الحيام، وما استأثر به الجمام، فلم يغن الدفاع ولا نفع الذمام، من وفاة صنوك الكريم الصفات، وهلاك وسطى الأسلاك، وبدر الأحلاك، ومجير الأملاك، وذهاب السمح الوهاب، وأنا لديغ صل الفراق، الذي لا يفيق بألف راق، وجريح سهم

_ (1) الحجر: الممنوع المحمي.

البين، ومجاري العيون الجارية بدمع العين، لفقد أنيس سهل علي مضض النكبة، ونحى ليث الخطب عن فريستي بعد صدق الوثبة، وآنسني في الاغتراب، وصحبني إلى منقطع التراب، وكفل أصاغري خير الكفالة، وعاملني من حسن العشرة بما سجل عقد الوكالة، انتزعه الدهر من يدي حيث لا أهل ولا وطن، والاغتراب قد ألقى بعطن، وذات اليد يعلم حالها من يعلم ما ظهر وما بطن، ورأيت من تطارح الأصاغر على شلوالغريب، النازح عن النسيب والقريب، ما حملني على أ، جعلت البيت له ضريحاً، ومدفناً صريحاً، لاخدع من يرى أنه لم يزل مقيماً لديه، وأن ظل شفقته منسحب عليه، فأعيا مصابي عند ذلك القرح، وأعظم الظمأ البرح، ونكأ القرح القرح، إذ كان ركناً قد بنته لي يد معرفتك، ومتصفاً في البر بي والرعي لصاغيتي بكريم صفتك، فوالهفا عليه من حسام، وعز سام، وأياد جسام، وشهرة بين بني حام وسام، أي جمال خلق، ووجه للقاصد طلق، وشيم تطمح للمعالي بحق، وأي عضد لك يا سيدي الأعلى لا يهن إذا سطا، ولا يقهقر إذا خطا، يوجب لك على تحليه بالشيبة، ما توجبه البنوة من الهيبة، ويرد ضيفك آمناً من الخيبة، ويسد ثغرك عند الغيبة، ذهبت إلى الجزع فرأيت مصابه أكبر، ودعوت بالصبر فولى وأدبر، واستنجدت الدمع فنضب، واستصرخت الرجاء فأنكر ما روى واقتضب، وبأي حزن يلقى عبد العزيز وقد جل فقده، اويطفأ لاعجه وقد عظم وقده، اللهم لوبكى بندى أياديه، أوبغمائم غواديه، أوبعباب واديه، وهي الأيام أي شامخ لم تهده، أوجديد لم تبله وإن طالت المدة فرقت بين التيجان والمفارق، والخدود والنمارق، والطلى والعقود، والكأس وابنة العنقود، فما التعلل بالفان، وإنما هي إغفاءة أجفان، والتشبث بالحبائل، وغنما هوظل زائل والصبر على المصائب، ووقوع سهمها الصائب، أولى ما اعتمد طلاباً، ورجع إليه طوعاً أوغلاباً، فأنا يا سيدي أقيم رسم التعزية، وإن بؤت بمضاعف المرزية، ولا عتب على القدر، في الورد من الأمر والصدر، ولولا أن هذا الواقع مما لا

يجدي فيه الخلصان، ولا يغني فيه اليراع ولا الخرصان، لأبلى جهده من أقرضتموه معروفاً، وكان بالتشيع إلى تلك الهضبة معروفاً، لكنها سوق لا ينفق فيها إلا سلعة التسليم، للحكيم العليم، وطي الجوانح على المضض الأليم، ولعمري لقد خلدت لهذا الفقيد وإن طمس الحمام محاسنه الوضاحة، لما كبس منه الساحة، صحفاً منشرة، وثغوراً بالحمد موشرة، يفخر بها بنوه، ويستكثر بها مكتسبوالحمد ومقتنوه، وأنتم عماد البازة، وعلم المفازة، وقطب المدار، وعامر الدار، وأسد الأجمة، وبطل الكتيبة الملجمة، وكافل البيت، والستر على الحي والميت، ومثلك لا يهدي إلى نهج لاحب، ولا ترشده نار الحباحب، ولا ينبه على سنن نبي كريم أوصاحب، قدرك أعلى، وفضلك أجلى، وأنت صدر الزمان بلا مدافع، وخير معل لأعلام أفضل ورافع، وأنا وإن أخرت فرض بيعتك لما خصتني من المصاب، ونالني من الأوصاب، ونزل بي من جور الزمان الغصاب، ممن يقبل عذره الكرم، ويسعه الحرم المحترم، والله سبحانه الكفيل لسيدي وعمادي بقاء يكفل به الأبناء وأبناء الأبناء، ويعلي لقومه رتب العز سامية البناء، حتى لا يوحش مكان فقيد مع وجوده، ولا يحس بعض زمان مع جوده، ويقر عينه في ولده وولد ولده، ويجعل أيدي مناويه تحت يده، ولاسلام. 104 - وخاطبه لسان الدين أيضاً بما نصه: سيدي الذي هورجل المغرب كله، والمجمع على طهارة بيته وزكاء أصله، علم أهل المجد والدين، وبقية كبار الموحدين. بعد السلام الذي يجب لتلك اجلالة الراسخة القواعد، السامية المصاعد، والدعاء له أن يفتح لك في مضيقات هذه الأحوال مسالك التوفيق، ويمسكك من عصمته بالسبب الوثيق، أعرفك أن جبلك اليوم وقد عظم الرجفان، وفاض التنور وطغى الطوفان، تؤمل النفوس الغرقى جودي جوده، وتغتبط غاية

الاغتباط بوجوده. ووالله لولا العلائق التي يجب لها الالتزام، ما وقع على غير قصدك الاعتزام، والله تعالى يمدك بإعانته على تحمل القصاد، ويبقي محلك رفيع العماد كثير الرماد، ويجعل أبا يحيى خلفاً منك بعد عمر النهاية البعيد الآماد، ويبقي كلمة التوحيد فيكم إلى يوم التناد. وحامله القائد الكذا معروف النباهة والجهاد، ومحله لا ينكر في الفؤاد، لما اشتبهت السبل، والتبس القول والعمل، لم يجد أنجى من الركون إلى جنابك، والتمسك بأسبابك، والانتظام في جملة خواصك وأحبابك، حتى ينبلج الصبح، ويظهر النجح، ويعظم المنح، ويكون بعد هجرته الفتح، ومثلكم من قصد وأمل، وأنضي إليه المطي وأعمل، وأما الذي عندي من القيام بحق تلك الذات الشريفة، والقول بمناقبها المنيفة، فهوشيء لا تفي به العبارة، ولا تؤديه الألفاظ المستعارة، والله تعالى المسؤول في صلة عوسيدي ودوام سعده، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى. 105 - وقال لسان الدين رحمه الله تعالى: ومما خاطبت به شيخ الدولة - وقد استقل من رمض - ما نصه: لا أعدم الله دار الملك منك سناً ... يجلي به الحالكان الظلم والظلم وأنشدتك الليالي وهي صادقة ... " المجد عوفي إذ عوفيت والكرم " (1) من علم - أعلى الله تعالى قدرك - أن المجد جواد حلاك شياته، لا بل الملك بدر أنت آياته، لا بل الإسلام جسم أنت حياته، دعا منك بالبقاء لمجد يروق بك جبينه، وملك تنيره وتزينه، ولدين تعامل الله تعالى بإعزازه وتدينه، فلقد ألمت نفوس المؤمنين لآلامك، ووجم الإسلام لتوقع إسلامك، وخفقت الأعلام لتأخر إطرافك بمصالح الملك وإعلامك، فإنما أنامل الدين والدنيا متشبثة بأذيال أيامك، ورحال الأمل مخيمة بين حلالك وخيامك،

_ (1) صدر بيت للمتنبي، وعجزه " وزال عنك إلى أعدائك الألم ".

فإذا قابلت الأشراف نعم الله تعالى بشكر، ورمت الغفلة عن ذلك بنكر، فاشكره جل وعلا بملء لسانك وجنانك، واجر في ميدان حمده مطلقاً من عنانك، على ما طوقك من استرقاق حر، وإفاضة أياد غر، واقتناء عسجد من الحمد ودر، وإتاحة نفع ودفع ضر، وإدالة حلومن مر، وكن على ثقة من مدافعة الله تعالى عن حماك، وعز تبلغ ذوائبه السماك، ورزق يجره فأل منتماك، ودونك مجلس الإمامة فقد تدبيره بزمامك، وحظوة الخلافة فاستحقها بوسائلك القديمة وذمامك، ومحاسن الدولة فاجلها على منصة إمامك، ورسوم البر فأغر بها عين اهتمامك، وذروة المنبر فأمض بها ظبة حسامك، وأجن الآملين زهر الأيادي البيض من كمائم أكمامك، فيا عز دولة بك - يا جملة الكمال - قد استظهرت، وأذلت المعاند وقهرت، وبإعمال آرائك اشتهرت، فراقت فضائلها وبهرت: جوالة كما شق الجوجارح، ولطافة كما طارح نم التأليف مطارح، وفكر في الغيب سارح، ودين لغوامض الحلم والعدل شارح، ومكارم محت آثار الكرماء ونسخت، وحلت عقود أخبار الأجواد في الأعصار وفسخت، فلم تدع لفضل الفضل ذكراً، وتركت معروف يحيى بن خالد نكراً، لا بل لم يبق لكعب، من علوكعب، وأنست دعوة حاتم، بأي ماح وخاتم، قصاره شيء حوار، ومنع حوار، وعقر ناب، عند اقشعرار جناب، وأين يقع من كبر قدر ترفع عن الكبر، وجود خضب الأيدي بحناء التبر، وعز استخدم الأسل الطوال بيراع أقل من الشيبر، وحقن الدماء المراقة بإراقة نجيع الحبر، وفك العقال، ورفع النوب الثقال، وراع الذرة والمثقال، وعثر الزمان فأقال، ووجد لسان الصدق فقال. أقسم ببارئ النسم، وهوأبر القسم، ما فازت بمثلك الدول، ولا ظفرت بمثلك الملوك الأواخر والأول، ولوتقدمت لم يضرب إلا بك المثل، ولم يقع إلا على سنتك وكتابك والإجماع المنعقد على آدابك العمل، والمملوك لما شام مالكه برق العافية، وتدرع بالألطاف الخافية، كتب مبشراً بالهناء، ومذيعاً

ما يجب من الحمد والثناء، وشاكراً ما له بوجوده من الاعتناء، فقد بادر ركن الدين بالبناء، وأبقى الستر والمنة على الآباء والأبناء، فنسأل الله تعالى أن يمتع منك بأثير الملوك، ووسطى السلوك، وسلالة أرباب المقامات والسلوك، ويبقيك وحصة الصحة وافرة، وغرة العزة القعساء سافرة، وغادة عادة السعادة غير نافرة، وكتيبة الأمل في مقامك السعيد غانمة ظافرة، ما زحفت للصباح شهب المواكب، وتفتحت بشط نهر المجرة أزهار الكواكب، والسلام انتهى. 106 - ومن ذلك ما خاطب به سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق، جواباً عن كتابه، وقد استقر خطيب السلطان بتونس: ولما أن نأت منكم ديار ... وحال البعد بينكم وبيني بعثت لكم سواداً في بياض ... لأنظركم بشيء مثل عيني بم أفاتحك يا سيدي، وأجل عددي كيف أهدي سلاماً، فلا أحذر ملاماً أوأنتخب لك كلاماً، فلا أجد لتبعة التقصير في حقك الكبير إيلاماً إن قلت: تحية كسرى في الثناء وتبع، فكلمة في مرتع العجمة تربع، ولها المصيف فيه والمربع، والجميم والمنبع، فتروى متى شاءت وتشبع، وإن قلت: إذا العارض خطر، ومهما همى أو قطر، سلام الله يا مطر (1) ، فهوفي الشريعة بطر، وركبة خطر، ولا يرعى به وطن ولا يقضي به وطر، وإنما العرق الأوشج، ولا يستوي البان والبنفسج، والغوسج والعرفج: سلام وتسليم وروح ورحمة ... عليك وممدود من الظل سجسج (2)

_ (1) من قول الشاعر: سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السلام (2) البيت لابن الرومي من قصيدته في رثاء يحيى بن عمر العلوي ومطلعها: أمامك فانظر أي نهجيك تنهج ... طريقان شتى مستقيم وأعوج والسجسج: البرود.

وما كان فضلك ليمنعني الكفران أن أشكره، ولا لينسيني الشيطان أن أذكره، فاتخذ في البحر سبباً (1) ، أوأسلك غير الوفاء مذهباً، تأبى ذلك - والمنة لله تعالى - طباع، لها في مجال الرعي باع، وتحقيق وإشباع، وسوائم من الإنصاف، ترعى في رياض الاعتراف، فلا يطرقها ارتياع، ولا تخيفها سباع، وكيف نجحد تلك الحقوق وهي شمس ظهيرة، وأذان عقيرة (2) جهيرة، فوق مئذنة شهيرة، آدت الاكتاد لها ديون تستغرق الذمم، وتسترق حتى الذمم، فإن قضيت في الحياة فهي الخطة التي نرتضيها، ولا نقنع من عامل الدهر المساعد إلا أن ينفذ مراسمها ويمضيها، وإن قطع الأجل فالغني الحميد - من خزائنه التي لا تبيد - يقضيها، ويرضي من يقتضيها. وحيا الله تعالى أيها العلم السامي الجلال، زمناً بمعرفتك المبرة على الآمال، بر وأتحف، وإن أساء بفراقك وأجحف، وأعرى بعدما ألحف، وأظفر بالتيمة المذخورة للشدائد والمزاين (3) ، ثم أوحش منها أصونة هذه الخزاين، فآب حنين الأمل بخفيه، وأصبح المغرب غريباً يقلب كفيه، ونستغفر الله تعالى من هذه الغفلات، ونستهديه دليلاً في مثل هذه الفلوات، وأي ذنب في الفراق للزمن، أولغراب الدمن، أوللرواحل المدلجة ما بين الشام إلى اليمن، وما منها إلاعبد مقهور، وفي رمة القدر مبهور، عقد والحمد لله مشهور، وحجة لها على النفس اللوامة ظهور، جعلنا الله تعالى ممن ذكر المسبب في الأسباب، وتذكر " وما يذكر إلا أولوالألباب " البقرة:269، آل عمران:7 قبل غلق الرهن وسد الباب، وبالجملة فالفراق ذاتي، ووعده مأتي، فإن لم يكن فكأن قد، ما أقرب اليوم من الغد، والمرء في الوجود غريب، وكل آت قريب، وما من مقام إلا لزيال، من غير احتيال، والأعمار مراحل والأيام أميال:

_ (1) ناظر إلى الآية القرآنية: " وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر ... ". (2) العقيرة: الصوت. (3) المزاين: يريد أن الدرة تتخذ لأمور الزينة.

نصيبك في حياتك من حبيب ... نصيبك في منامك من خيال (1) جعل الله تعالى الأدب مع الحق شانا، وأبعد عنا الفراق الذي شاننا، وإني لأسر لسيدي بأن رعى اله تعالى صالح سلفه، وتداركه بالتلافي في تلفه، وخلص سعادته من كلفه، وأحله من الأمن في كنفه، وعلى قدرها تصاب العلياء، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء. " هذا والخير والشر في هذه الدار، المؤسسة على الأكدار، ظلان مضمحلان، فقد ارتفع، ما ضر أونفع، وفارق المكان، فكأنه ما كان، ومن كلمات الملوك، البعيدة عن السلوك، إلا أن يشاء ملك الملوك (2) : خذ من زمانك ما تيسر ... وارتك بجهدك ما تعسر ولرب مجمل حالة ... ترضى به ما لم يفسر والدهر ليس بدائم ... لا بد أن سيسوء إن سر واكتم حديثك جاهداً ... شمت المحدث أوتحسر والناس آنية الزجا ... ج إذا عثرت به تكسر لا تعدم التقوى فمن ... عدم التفقى في الناس أعسر وإذا امرؤ خسر الإل ... هـ فليس خلق منه أخسر وإن لله تعالى في رعيك لسراً، ولطفاً مستمراً مستقراً، إذ ألقاك اليم إلى الساحل، فأخذ بيدك من ورطة الواحل، وحرك منك عزيمة الراحل، إلى الملك الحلاحل، فأدلك من إبراهيمك سمياً، وعرفك بعد الولي وسمياً، ونقلك من عناية إلى عناية، وهوالذي يقول وقوله الحق {ما ننسخ من آية - الآية} (البقرة: 106) .

_ (1) من قصيدة المتنبي في رثاء أم سيف الدولة. (2) الأبيات في مشاهدات لسان الدين: 115.

" وقد وصل كتاب سيدي يحمد - والحمد لله - العواقب، ويصف المراقي التي حلها والمراقب، وينشر المفاخر الحفصية والمناقب، ويذكر ما هيأه الله تعالى لديها من إقبال، ورخاء بال، خصيصي اشتمال، ونشوة آمال، وأنه اغتبط وارتبط، وألقى العصا بعدما خبط، ومثل تلك الخلافة العلية من تزن الذوات المخصوصة من الله تعالى بتشريف الأدوات بميزان تمييزها، وتفرق بين شبه المعادن وإبريزها، و " شبه الشيء " مثل معروف (1) ، ولقد أخطأ من قال: الناس ظروف، إنما هم شجرات ريع في بقعة ماحلة، وإبل مائة لا تجد فيها راحلة (2) ، وما هوإلا اتفاق، ونجح للمسلك وإخفاق، وقلما كذب إجماع وإصفاق، والجليس الصالح لرب سياسة أمل مطلوب، وحظ إليه مجلوب، وإن سئل أطرف، وعمر الوقت ببضاعة أشرف، وسرق الطباع، ومد في الحسنات الباع، وسلى في الخطوب، وأضحك في اليوم القطوب، وهدى إلى أقوم الطرق، وأعان على نوائب الحق، وزرع له المودة في قلوب الخلق، زاد الله تعالى سيدي لديها قرباً أثيراً، وجعل فيه للجميع خيراً كثيراً، بفضله وكرمه. ولعلمي بأنه - أبقاه الله تعالى - يقبل نصحي، ولا يرتاب في صدق صبحي، أغبطه بمثواه، وانشده ما حضر من البديهة في مسارة هداه ونجواه: بمقام إبراهيم عذ واصرف به ... فكراً تؤرق عن بواعث تنبري فجواره حرم وأنت حمامة ... ورقاء والأغصان هود المنبر فلقد أمنت من الزمان وريبه ... وهو المروع للمسيء وللبري " وإن تشوف سيدي فلعمر وليه لوكان المطوب دنيا لوجب وقوع الاجتزاء،

_ (1) من قول المتنبي: وشبه الشيء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطغام (2) من حديث للرسول (ص) : " الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة ".

ولاغتبط بما تحصل في هذه الجزور، المبيعة في حانوت الزور، من السهام الوافرة الأجزاء، فالسلطان - رعاه الله تعالى - يوجب ما فوق مزية التعليم، والولد - هداهم الله تعالى - قد أخذوا بحظ قل أن ينالوه بغير هذا الإقليم، والخاصة والعامة تعامل بحسب ما بلته من نصح سليم، وترك لما بالأيدي وتسليم، وتدبير عاد على عدوها بالعذاب الأليم، إلا من أبدى السلامة وهومن إبطان الحسد بحال السليم، ولا ينكر ذلك في الحديث ولا في القديم، ولكن النفس منصرفة عن هذا الغرض، نافضة يدها من العرض، قد فوتت الحاصل، ووصلت في الله تعالى القاطع وقطعت الواصل، وصدقت لما نصح الفود الناصل، وتأهبت للقاء الحمام الواصل، وقلت: انظر خضاب الشباب قد نصلا ... وزائر الأنس بعده انفصلا ومطلبي والذي كلفت به ... حاولت تحصيله فما حصلا لا أمل مسعف ولا عمل ... ونحن في ذا والموت قد وصلا والوقت إلى الإمداد منكم بالدعاء في الأصائل والأسحار، إلى مقيل العثار، شديد الافتقار، والله عز وجل يصل لسيدي رعي جوانبه، ويتولى تيسير آماله من فضله العميم ومآرب، وأقرأ عليه من التحيات، المحملة من فوق رحال الأريحيات، أزكاها، ما أوجع البرق الغمائم فأبكاها، وحسد الروض جمال النجوم الزواهر فقاسها بمباسم الأزهار وحكاها، واضطبن (1) هرم الليل عند الميل عصا الجوزاء وتوكاها، ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى. 107 - ومما خاطب به لسان الدين - رحمه الله تعالى - ابن مرزوق المذكور قوله:

_ (1) اضطبن العصا: وضعها تحت ضبنه ليتوكأ عليها، والضبن: ما بين اخاصرة ورأس الورك.

سيدي، وعمادي، كشف قناع النصيحة من وظائف صديق، أوخديم لصيق، وأنا بكلتا الجهتين حقيق، ويتلجلج في صدري كلام أنا إلى نفثه ذواحتياج، ولوفي سبيل هياج، وخرق سياج، وخوض دياج، وقد أصبحت سعادتي عن أصل سعادتك فرعاً، فوجب النصح طبعاً وشرعاً، فليعلم سيدي أن الجاه ورطة، والاستغراق في تيار الدول غلطة، وبمقدار العلو - إلا أن يقي الله تعالى - تكون السقطة، وأنه - والله تعالى يعصمه من الحوادث، ويقيه من الخطوب الكوارث - وإن تبعه الجم فهومفرد، وبسهام الحسدة مقصد، وأن الذي يقبل يده، يضمر حسده، وما من يوم إلا والعلل تستشري، والحيل تريش وتبري، وسموم المكايد تسري، والعين الساهرة تطرق العين النائمة من حيث تدري ولا تدري، وهذا الباب الكريم مخصوص بالزيادة والبركة، وخصوصاً في مثل هذه الحركة، فثم ظواهر تخالف السرائر، وحيل تصيب في الجوالطائر، وما عسى أن يتحفظ المحسود، وقد عوت الكلاب وزأرت الأسود، وإن ظن سيدي أن الخطة الدينية تذب عن نفسها، أوتنفع مع غير جنسها، فذلك قياس غير صحيح، وهبوب الريح، وإنما هي درجة فوق الوزارة والحجابة، ودهر يدعى فيبادر بالإجابة، وجاه يجر على القبيل الأذيال، ويفيد العز والمال، وبحر هال، وصدور تحمل الجبال، وإن قطع بالأمان، من جهة السلطان، لم يؤمن أن يقع فيه، والله سبحانه يقيه، ويمتع به ويبقيه، ما البشر بصدده، والحي يجري إلى أمده، فيستظهر الغير بقبيل، ويجري من التغلب على سبيل، ويبقى سيدي - والله تعالى يعصمه - طائراً بلا جناح، ومحارباً دون سلاح، ينادي من مكان يثق بوده في طلل، ويقرع سن النادم والأمر جلل، ومثله بين غير صنفه - ممن لا يتصف بظرف، ولا يلتفت إلى الإنسانية بطرف، ولا يعبد الله تعالى ولوعلى حرف - محمول عليه من حيث الصنفية، معتمد بالعداوة الخفية، وإن ظن غير هذا فهومخدوع مسحور، ومفتون مغرور، وبالفكر في الخلاص تفاضلت النفوس، واستدفع البوس، وله وجوه كلها متعذر

الحصول، دونه بيض النصول، إلا ما كان من الغرض الذي بان فيه بعد الجد الفتور، وعدل عنه وقد أخذ الدستور، وتيسرت الأمور، وتقررت الإيمان والنذور، فإنه عرض قريب وسفر قاصد (1) ، ومسعى لا ينفق فيه سيدي من ماتله درهم واحد، ووطن لحركته راصد، لا يمنع عليه أهله، ولا يستصعب سهله، وأميره جبره الله تعالى يتطارح في تعيينكم لاقتضائه، وإحكام آرائه، وتأمين خائفه، واستقدام أصنافه وطوائفه، وتتحركون حركة العز والتنويه، والقدر النبيه، لا يعوزكم ممن وراءكم مطلب، ولا يلفى عن مخالفتكم مذهب، ولا يكدر لكم مشرب. وتمر أيام وشهور، وتظهر بطون للدهر وظهور، وتفتح أبواب، وتسبب أسباب، من رجوع يتأتى بعد السكون والفتور، وقد سكنت الخواطر وتنوعت الأمور، أومقام تمهد به البلاد، ويعمل في ترتيب الصلة الحسنة الاجتهاد، وتستغرق في هذا الغرض الآماد، ويتأتى أن حدث وتراكم حادث الاستقلال والاستبداد، تتهنأ فيه الأعمار، ويكون لمن ينتقل به على الشرق والغرب الخيار، أوالتحكم في ذخيرة سما منها المقدار، وذهل عند مشاهدتها الاعتبار، وخزانة الكتب بجملتها وفيها الأمهات الكبار، قد تجافت عنها الحاجة وعدم إليها الاضطرار، والربع الذي يسوغ بالشرع والعقار، فهذا كله حاصل، وثم ضامن لا يتهم وكافل، وعهود صبغها غير ناصل. وبالجملة فالوطن لأغراض الملك جامع، ولمقاصده من المقام أوالانتقال مطيع وسامع، وإن توقع إثارة فتنة، أوارتكاب إحنة، فالأمر أقرب، وحاله المتيسر أغرب، وهذه الحجة في تلمسان غير معتبرة، وأجوبتها مقررة، وقدوم رسول الطاغية وإعانته تحصل في الغالب، على هذه المطالب، وبالجملة فالدنيا

_ (1) من الآية الكريمة (التوبة: 42) " لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ".

قد اختلت، والأقدام قد زلت، والأموال قد قلت، وشبيبة الدهر ولت، وذلك القطر على علاته أحكم لمن يروم الجاه وامنع، وأجدى بكل اعتبار وأنفع، وقد حضرت لاستخلاصكم إياه الآلة التي لا تتأتى في كل زمان، وتهيأ إمكان أي إمكان، واقتضيت أيمان، وعرضت سلع تقل لها أثمان، وارتهنت الوفاء، ومروءات وأديان، وتحقق بذلك القطر الفساد الذي اشتهر به مأموره وأموره وأميره، والمنكر الذي يجب على كل مسلم تغييره، فإن شئت شرعاً فالحكم ظاهر، أوطبعاً فالطبع حاضر، وما ثم عاذل بل عاذر، والمؤونة التي تلزم أقل من أن تكون ثمن بعض الحصون، فضلاً عن الشجرة ذات الغصون، وما يستهلك في هذا الغرض شيء له خطر، ولا يستنقذ من الصحيفة سطر، واليد محكمة بكل أوشطر. وما يخص المملوك من هذا الأمر إلا استنقاذ نشب، واستخلاص مؤمل بين موروث ومكتسب، وبعيد أ، لا ينعر له في زمن من الأزمان، فلا بد في كل وقت من أعيان، ومروءات وإحسان وأديان، والله سبحانه كل يوم هوفي شان، وأما خدمة دوله فهي علي حرام، لا ينجح لي فيها أن أعتمدها مرام، وكأني بالمشرق لاحق، ولأنفاسه الذكية ناشق، فما هي إلا أطماع، سرابها لماع، فإذا انقطعت، انفسحت الدنيا واتسعت، ومعاش في غمار، أوعكوف في كسر دار، لمداومة استقالة واستغفار، والله ما توهم أن من بتلك البلاد يستنسر بغاثه عليكم، أويحتقر ما لديكم، فقد ظهر الكائن، وتطابق المخبر والمعاين، فسبحان من يقوي الضعيف ويهين المخيف، ويجري يد المشروف والشريف، والهمم بيد الله تعالى ينجدها ويخذلها، والأرض في قبضته يرعاها ويهملها. هذا بث لا يسع إفشاؤه، وسر إن لم يطوسقط به على السرحان شاؤه (1) ،

_ (1) أصل المثل " سقط العشاء به على سرحان "، ولعل القراءة الصحيحة: " عشاؤه ".

وفيه ما ينكره الآمر، وتتعلق به الظنون وتعمل الخواطر، فتدبروه واعتبروه، وبعقلكم فاسبروه، ثم غطوه بالإحراق واستروه، والله تعالى يرشدكم للتي هي أسد، ويحملكم على ما فيه لكم العز السرمد، والفخر الذي لا ينفذ والسلام " (1) انتهى. 108 - وقال رحمه الله تعالى: ومما صدر عني ما أجبت به عن كتاب بعث به إلي الفقيه الكاتب عن سلطان تلمسان أبي عبد الله محمد بن يوسف القيسي الثغري: " حيا تلمسان الحيا فربوعها ... صدف يجود بدره المكنون ما شئت من فضل عميم إن سقى ... أروى ومن ليس بالمنون (2) أو شئت من دين إذا قدح الهدى ... أورى ودنيا لم تكن بالدون ورد النسيم لها بنشر حديقة ... قد أزهرت أفنانها بفنون وإذا حبيبة أم يحيى أنجبت ... فلها الشفوف على عيون العين ما هذا النشر، والصف والحشر، واللف والنشر، والفجر والليالي العشر، شذاً كما تنفست دارين، وسطور رقم حللها التزيين، وبيان قام على إبداعه البرهان المبين، ونقس، وشي به طرس، فجاء كأنه عيون العين، لا بل ما هذه الكتائب الكتيبة التي أطلعت علينا الأعنة، وأشرعت إلينا الأسنة، وراعت الإنس والجنة، فأقسم بالرحمن، لوأنها رفعت شعار الأمان، وحييت بتحية الإيمان، لراعت السرب، وعاقت الذود أن يرد الشرب، أظنها مدد الجهاد قدم، وشارد استعمل في سبيل الله واستخدم، والمتأخر على ما فاته ندم، والعزم وجد بعدما عدم، نستغفر الله، إنما هي رقاع الرفاع (3) ،

_ (1) ورى لسان الدين في هذه الرسالة عن أمور وحاطها بالغموض ولذا طلب أن تحرق الرسالة. (2) المن: الفضل؛ والممنون: المقطوع. (3) ق: رقاقع رقاع؛ والرفاع: رفع الحب بعد الحصاد.

وصلات صلاة ليس فيها سبق ولا إرباع (1) ، وبقاع لها بطل الطباع الكريمة انتفاع، وألحان بيان يعضدها إيقاع، ودر منسوق، ورطب لنخلها بسوق، ولله در القائل: الملك سوق (2) ، ومن نصير الشخ على كتيبة تعقبها كتيبة، واقتضاء وجبيبة نم ذي غلة غير نجيبة، بينا هويكابد من مراجعة الحي من حضر موت الموت، ولا يكاد يرجع الصوت، إذ صبحته قيس وهي التي شذت عن القياس، وأجحمت عن مبارزتها أسود الأخياس (3) ، فلولا امتثال أمر، وصبر على جمر، لأعاد ما حكي في مبارزة الوصي عن عمرو (4) ، فتحرج من الخطل، وبين عذر المكره عن مناجزة البطل، ألم يدر قائد رعيلها، وزائر غيلها، أني أمت بذمة من غميده لا تخفر، وأن ذنب إضافتي له لا يغفر، وحقه الحق الذي لا يجحد ولا يكفر: لما رأت راية القيسي زاحفة ... إلي ريعت وقالت لي وما العمل قلت الوغى ليس من رأيي ولا عملي ... لا ناقة لي في هذا ولا حمل قد كان ذاك ورنات الصهيل ضحى ... تهز عطفي كأني شارب ثمل والآن قد صوح المرعى وقوضت ال ... خيمات والركب بعد اللبث محتمل قالت ألست شهاب الدين تضرمها ... حاشا العلا أن يقال: استنوق الجمل وإن أحسن من هذا وذا وزر ... بمثله في الدواهي يبلغ الأمل هو الحمى لأبي حمواستجره ففي ... هـ الأمن منسدل والفضل مكتمل والله لوأهمل الراعي النقاد به ... ما خاف من أسد خفان به همل (5)

_ (1) الإرباع: الإسراع. وفي ق: إرقاع. (2) هو من المثل: " الملك يحمل إليها ما نفق فيها ". (3) ق: الأجناس. (4) الوصي: علي بن أبي طالب، ومبارزته لعمرو بن العاص - فيما روي - تدل على أن عمراً لم يكن من أرباب المبارزة وإنما من أهل الحيلة والدهاء. (5) النقاد: الغنم؛ وخفان: اسم موضع.

تكون من قوم موسى إن قضوا عدلوا ... وإن تقاعد دهر جائر حملوا هم الجبال الرواسي كلما حلموا ... هم البحار الطوامي كلما حملوا فقلت: كان لك الرحمن بعدي ما ... سواه معتمد والرأي معتمل فها أنا تحت ظل منه يلحفني ... والشمل مني بستر العز يشتمل فقل لقيس لقد خاب القياس فلا ... تذكروا المصاع وتحت الليل فاحتملوا دامت له ديم النعمى مساجلة ... بمناه، تنهمل اليمنى فتنهمل وآمنت شمس علياه الأفول إلى ... طي الوجود فلا شمس ولا حمل ولوخوى - والعوذ بالله - نجم هذا المتات، ولم يتصف السيب - وحاشاه - بالاتصال ولا بالانبتات (1) ، فمرعى العدل مكفول، وسبب الرفق موصول، وإن اشتجرت نصول، والهرم تأبى الأبطال التنزل إلى نزاله، والناسك التائب يدين ضرب الغارات باعتزاله، إلا من أعرق في مذهب الخارجي الأخرق، نافع بن الأزرق، وحسبي، وقد ساء كسبي، أن أترك الخطر لراكبه وأخلي الطريق لمن يبني المنار به، ونسير بسير أمثالي من الضعفاء، ونكف فهوزمان الانكفاء، ونسلم مخطولة هذا الفن إلى الأكفاء، ونقول: بالبنين والرفاء، فقد ذهب المذهب، وتبين المذهب، وشاخ البازي الأشهب، وعتاد العمر ينهب، ومرهب الفوت من فوق الفود يرهب، اللهم ألهم هذه الأنفس رشدها، وأذكرها السكرات وما بعدها. إيه أخي والفضل رصفك ونعتك، والزيف يبهرجه بحتك، وسهام اليراعة انفرد بها بريك ونحتك، وصلتني رسالتك البرة، بل غمامتك الثرة، وحيتني ثغور فضلك المفترة، فعظمت بورودها المسرة، جددت العهد بمحبوب لقائك، وأنهلت ظامي الاستطلاع في سقائك، واقتضت تجديد الدعاء ببقائك، إلا أنها ربما ذهلت عند وداعك، وأبهر عقلها نور إبداعك،

_ (1) ق: ولو جرى ... المتاب.... بالانتياب.

فلم تلقن الوصية، وسلكت المسالك القصية، وأبعدت من التطوف، وجاءت تبتغي من أسرار التصوف، ومتى تقرن هيبة السبع الشداد، بحانوت الحداد، أوتنظر أحكام الاعتكاف، بدكان الإسكاف، أويتعلم طبع المثقال، بحانوت البقال والظن الغالب - وقد تلتبس المطالب - أنكم أمرتموها، لما أصدرتموها، بإعمال التشوف، فطردت حكم الإبدال، غائبة عما يلزم من الجدال، وسمت الشين صاداً، وعينت لزرع الوصية حصاداً، والله تعالى يجعل المحب عند ظن من نظر بمرآته، أووصفه ببعض صفاته، وهي تزلق عن صفاته، فالتصوف أشرف، وظلاله أورف، من أن يناله كلف بباطل، ومغرور بسراب ماطل، لا برباب هاطل، ومفتون بحال حال أوعاطل، ومن قال ولم يتصف بمقاله، فعقله لم يرم عن عقاله، وجبال أثقاله، مانعة له عن انتقاله. وعلى ذلك، وبعد تقرير هذه المسالك، فقد عمرت يدها كيلا تعود بها صفراً بعد إعمال السفر، أوترى أنها قد طولبت بذنب الغلط المغتفر، وأصبحت المراجعة بمجلس وعظ فتحت به باب الحرج، إلى إنكار الإمام أبي الفرج (1) ، وفن الوعظ لما سأل الأخ هوالصديق المسعد، والمبرق قبل غمام رحته والمرعد، ولله در القائل: لست به وولم تبعد، والاعتراض بعد ملازم، لكن الإسعاف لقصده لازم، وعامله عند الاعتلال بالعذر جازم، وإغضاؤه ملتمس، وفضله لا يخبومنه قبس، وعذراً أيها الفاضل، وبعد الاعتذار، عن القلم المهذار، وإغفال الحذار، اقرأ عليهم من طيب السلام، ما يخجل أزهار الكمام عقب الغمام، ورحمة الله تعالى من ممليه على الكاتب، ولعلها تفتأ من عتب لالعاتب، ابن الخطيب: فإني كتبته والليل دامس، وبحر

_ (1) يعني أبا الفرج ابن الجوزي لشهرته في الوعظ.

الظلام طامس، وعادة الكسل طبع خامس، والنافخ بشكوى البرد هامس، والذبال المنادم خافت، لا يهتدي إليه الفراش المتهافت، يقوم ويقعد، ويفيق ثم يرعد، ويزفر ثم يخمد، وربما صار ورقة آس، أومبضع أس، وربما أشبه العاشق في البوح بما يخفيه، وظهوره من فيه، فتميله الآمال وتلويه، وتميته النواسم الهفافة بعدما تحييه، والمطر، قد تعذر معه الوطر، وساقه الخطر، وفعل في البيوت المتداعية ما لا يفعل الترك والططر، والنشاط، قد طوي منه البساط، والجوارح بالكلال تعتذر، ووظائف الغد تنتظر، والفكر في الأمور السلطانية جائل، وهي بحر هائل، ومثلي مقنوع منه باليسير، ومعذور في قصر الباع وضعف المسير، والسلام انتهى. وهي من البلاغة في الذروة. 109 - ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى قوله: ومما صدر عني في السياسة: حدث من امتاز باعتبار الأخبار، وحاز درجة الاشتهار، بنقل حوادث الليل والنهار، وولج بين الكمائم والأزهار، وتلطف لخجل الورد من تبسم البهار، قال: سهر الرشيد ليله، وقد مال في هجر النبيذ ميله، وجهد ندماؤه في جلب راحته، وإلمام النوم بساحته، فشحت عهادهم، ولم يغن اجتهادهم، فقال: اذهبوا إلى طرق سماها ورسمها، وأمهات قسمها، فمن عثرتم عليه من طارق ليل، أوغثاء سيل، أوساحب ذيل، فبلغوه، والامنة سوغوه، واسدعوه، ولا تدعوه، فطاروا عجالى، وتفرقوا ركباناً ورجالاً، فلم يكن إلا ارتداد طرف، أوفواق حرف (1) ، وأتوا بالغنيمة التي اكتسحوها، والبضاعة التي ربحوها، يتوسطهم الأشعث الأغبر، واللج الذي لا يعبر: شيخ طويل القامة، ظاهر الاستقامة، سبلته مشمطة،

_ (1) الفواق: فترة ما بين الحلبتين؛ والحرف: الناقة.

وعلى أنفه من القبع (1) مطة، وعليه ثوب مرقوع، لطير الحرق عليه وقوع، يهينم بذكر مسموع، وينبئ عن وقت مجموع، فلما مثل سلم، وما نبس بعدها ولا تكلم، فأشار إليه الملك فقعد، بعد أ، انشمر وابتعد، وجلس، فما استرق النظر ولا اختلس، إنما حركة فكره، معقودة بزمام ذكره، ولحظات اعتباره، في تفاصيل أخباره، فابتدره الرشيد سائلاً، وانحرف إليه مائلاً، وقال: ممن الرجل فقال: فارسي الأصل، أعجمي الجنس عربي الفصل، قال: بلدك واهلك وولدك قال: أما الولد فولد الديوان، وأما البلد فمدينة الإيوان، قال: النحلة، وما أعملت إليه الرحلة قال: أما الرحلة فالاعتبار، وأما النحلة فالأمر الكبار، قال: فنك، الذي اشتمل عليه دنك فقال: الحكمة فني الذي جعلته أثيراً، واضجعت فيه فراشاً وثيراً، وسبحان الذي يقول " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً " البقرة:269، وما سوى ذلك فتبع، ولي فيه مصطاف ومرتبع، قال: فتعاضد جذل الرشيد وتوفر، كأنما أغشى وجهه قطعة من الصبح إذا أسفر، وقال: وما رأيت كالليلة أجمع لأمل شارد، وأنعم بمؤانسة وارد، يا هذا إني سائلك، ولن تخيب بعد وسائلك، فاخبرني ما عندك في هذا الأمر الذي بلينا بحمل أعبائه، ومنينا بمراوضة إبائه، فقال: هذا الأمر قلادة ثقيلة، ومن خطة العجز مستقيلة، ومفتقرة لسعة الذرع، وربط السياسة المدنية بالشرع، يفسده الحكم في غير محله، ويكون ذريعة إلى حله، ويصلحه مقابلة الشكل بشكله، ومن لم يكن سبعاً آكلاً تداعت سباع إلى أكله. فقال الملك: أجملت ففصل، وبريت فنصل، وكلت فأوصل، وانثر الحب لمن يحوصل، واقسم السياسة فنوناً، واجعل لكل لقب قانوناً، وابدأ بالرعية، وشروطها المرعية.

_ (1) القبع: الصياح أو الإعياء والانبهار.

فقال: رعيتك ودائع الله تعالى قبلك، ومرآة العدل الذي عليه جبلك، ولا تصل إلى ضبطها إلا بإعانة الله تعالى التي وهب لك، وأفضل ما استدعيت به عونه فيهم، وكفايته التي تكفيهم، تقويم نفسك عند قصر تقويمهم، ورضاك بالسهر لتنويمهم، وحراسة كهلهم ورضيعهم، والترفع عن تضييعهم، وأخذ كل طبقة بما عليها وما لها، أخذاً يحوط مالها، ويحفظ عليها كمالها، ويقصر عن غير الواجبات آمالها، حتى تستشعر عليتها رأفتك وحنانك، وتعرف أوساطها في النصب امتنانك، وتحذر سفلتها سنانك، وحظر على كل طبقة منها أن تتعدى طورها، أوتخالف دورها، أوتجاوز بأمر طاعتك فورها، وسد فيها سبل الذريعة، وأقصر جميعها عن خدمة الملك بموجب الشريعة، وامنع أغنياءها من البطر والبطالة، والنظر في شبهات الدين بالتمشدق والإطالة، وليقل فيما شجر بين الناس كلامها، ويرفض منا تنبر به أعلامها، فإن ذلك يسقط الحقوق، ويرتب العقوق، وامنعهم من فحش الحرص والشره، وتعاهدهم بالمواعظ التي تجلوالبصائر من المره، واحملهم من الاجتهاد في العمارة على أحسن المذاهب، وانههم عن التحاسد على المواهب، ورضهم على الإنفاق بقدر الحال، والتعزي عن الفائت فرده من المحال، وحذر البخل على أهل اليسار، والسخاء على أولي الإعسار، وخذهم من الشريعة بالواضح الظاهر، وامنعهم من تأويلها منع القاهر، ولا تطلق لهم التجمع على نم أنكروا أمره في نواديهم، وكف عنهم أكف تعديهم، ولا تبح لهم تغيير ما كرهوه بأيديهم، ولتكن غايتهم، فيما توجهت إليه إبايتهم، ونكصت عن الموافقة عليه رايتهم، إنهاءه إلى من وكلته بمصالحهم من ثقاتك، المحافظين على أوقاتك، وقدم منهم من أمنت عليهم مكره، وحمدت على الإنصاف شكره، ومن كثر حياؤه من التأنيب، وقابل الهفوة باستتابة المنيب، ومن لا يتخطى عندك محله الذي حله، فربما عمد إلى المبرم فحله، وحسن النية لهم

بجهد الاستطاعة، واغتفر المكاره في جنب حسن الطاعة، وإن ثار جرادهم، واختلف في طاعتك مرادهم، فتحصن لثورتهم، واثبت لفورتهم، فإذا سألوا وسلوا، وتفرقوا وانسلوا، فاحتقر كثرتهم، ولا تقل عثرتهم، واجعلهم لما بين أيديهم وما خلفهم نكالاً، ولا تترك لهم على حلمك اتكالاً. ثم قال: والوزير الصالح أفضل عددك، وأوصل مددك، فهوالذي يصونك عن الابتذال، ومباشرة الأنذال، ويثب لك على الفرصة، وينوب في تجرع الغصة، واستجلاء القصة، ويستحضر ما نسيته من أمورك، ويغلب فيه الرأي بموافقة مأمورك، ولا يسعه ما تمكنك المسامحة فيه، حتى يستوفيه، واحذر مصادمة تياره، والتجوز في اختياره، وقدم استخارة الله تعالى في إيثاره، وأرسل عيون الملاحظة على آثاره، وليكن معروفاً بالإخلاص لدولتك، معقود الرضى والغضب برضاك وصولتك، زاهداً عما في يديك، مؤثراً لكل ما يزلف لديك، بعيد الهمة، راعياً للأذمة، كامل الآلة، محيطاً بالإيالة، رحيب الصدر، رفيع القدر، معروف البيت، نبيه الحي والميت، مؤثراً لعدل والإصلاح، درياً بحمل السلاح، ذا خبرة بدخل المملكة وخرجها، وظهرها وسرجها، صحيح العقد، متحرزاً من النقد، جاداً عند لهوك، متيقظاً في حال سهوك، يلين عند غضبك، ويصل الإسهاب بمقتضبك، قلقاً من شكره دونك وحمده، ناسباً لك الإصابة بعمده، وإن أعيا عليك وجود اكثر هذه الخلال، وسبق إلى نقضها شيء من الاختلال، فاطلب منه سكون النفس وهدوئها، وأ، لا يرى منك رتبة إلا رأى قدره دونها، وتقوى الله تعالى تفضل شرف الانتساب، وهي للفضائل فذلكة الحساب، وساوفي حفظ غيبه بين قربه ونأيه، واجعل حظه من نعمتك موازياً لحظك من حسن رأيه، واجتنب منهم من يرى في نفسه إلى الملك سبيلاً، أويقود من عيصه للاستظهار عليك قبيلاً، أومن كاثر ماله، أومن تقدم لعدوك استعماله، أومن سمت لسواك آماله، أومن يعظم عليه إعراض وجهك، ويهمه نادر نجهك

أومن يداخل غير احبابك، أومن ينافس أحداً ببابك. وأما الجند فاصرف التقديم منهم للمقاتلة، والمكايدة والمخاتلة، واستوف عليهم شرائط الخدمة، وخذهم بالثبات للصدمة، ووف ما أوجبت لهم من الجراية والنعمة، وتعاهدهم عند الغناء بالعلفة والطعمة، ولا تكرم منهم إلا من أكرمه غناؤه، وطاب في الذب عن ظنك ثناؤه، وول عليهم النبهاء من خيارهم، واجتهد في صرفهم عن الافتتان بأهليهم وديارهم، ولا توطئهم الدعة مهاداً، وقدمهم على حصصك وبعوثك مهما أردت جهاداً، ولا تلين لهم في الإغماض عن حسن طاعتك قياداً، وعودهم حسن المواساة بأنفسهم اعتياداً، ولا تسمح لأحد منهم في إغفال شيء من سلاح استظهاره، أوعدة اشتهاره، وليكن ما فضل من شبعهم وريهم، مصروفاً إلى سلاحهم وزيهم، والتزيد في مراكبهم وغلمانهم، من غير اعتبار لأثمانهم، وامنعهم من المستغلات والمتاجر، وما تكسب به غير المشاجر، وليكن من الغوار اكتسابهم، وعلى المغانم حسابهم، كالجوارح التي تفسد باعتيادها، أن تطعم من غير اصطيادها. واعلم أنها لا تبذل نفوسها من عالم الإنسان، إلا لمن يملك قلوبها بالإحسان وفضل اللسان، ويملك حركاتها بالتقويم، ورتبها بالميزان القويم، ومن تثق بإشفاقه على أولادها، ويشتري رضى الله تعالى بصبره على طاعته وجلادها، فإذا استشعرت لها هذه الخلال تقدمتك إلى مواقف التلف، مطيعة دواعي الكلف، واثقة منك بحسن الخلف، واستبق إلى تمييزهم استباقاً، وطبقهم طباقاً، أعلاها من تأملت منه في المحاربة عنك أخطاراً، وأبعدهم في مرضاتك مطاراً، وأضبطهم لما تحت يده من رجالك حزماً ووقاراً، واستهانة بالعظائم واحتقاراً، وأحسنهم لمن تقلده أمرك من الرعية جواراً، إذا أجدت اختباراً، وأشدهم على مماطلة من مارسه من الخوارج عليك اصطبارً، ومن بلا في الذي عن لك إحلاء وإمراراً، ولحقه الضر في معارض الدفاع

عنك مراراً، وبعده من كانت محبته لك أزيد من نجدته، وموقع رأيه أنفع من موقع صعدته، وبعدهما من حسن انقياده لأمرائك، وإحماده لآرائك، ومن جعل نفسه من الأمر حيث جعله، وكان صبره على ما عراه اكثر من اعتداده بما فعله، واحذر منهم من كان عند نفسه أكبر من موقعه في الانتفاع، ولم يستحي من التزيد بأضعاف ما بذله من الدفاع، وشكا البخس فيما تعذر عليه من فوائدك، وقاس بين عوائد عدوك وعوائدك، وتوعد بانتقاله عنك وارتحاله، وأظهر الكراهية لحاله. وأما العمال فإنهم ينبئون عن مذهبك، وحالهم في الغالب شديدة الشبه بك، فعرفهم في أمانتك السعادة، وألزمهم في رعيتك العادة، وأنزلهم من كرامتك بحسب منازلهم في الاتصاف، بالعدل والإنصاف، وأحلهم من الحفاية، بنسبة مراتبهم من الامانة والكفاية، وقفهم عند تقليد الأرجاء، مواقف الخوف والرجاء، وقرر في نفوسهم أن أعظم ما به إليك تقربوا، وفيه تدربوا، وفي سبيله أعجموا وأعربوا، إقامة حق ودحض باطل، حتى لا يشكوغريم مطل ماطل، وهوآثر لديك من كل رباب هاطل، وكفهم من الرزق الموافق، عن التصدي لدنئ المرافق، واصطنع منهم من تيسرت كلفته، وقويت للرعايا ألفته، ومن زاد على تأميله صبره، وأربى على خبره خبره، وكانت رغبته في حسن الذكر، تشف على بنات الفكحر، واجتنب منهم من يغلب عليه التخرق في الإنفاق، وعدم الإشفاق، والتنافس في الاكتساب، وسهل عليه سوء الحساب، وكانت ريعته المصانعة بالنفاية، دون التقصي والكفاية، ومن كان منشؤه خاملاً، ولأعباء الدناءة حاملاً، وابغ من يكون الاعتذار في أعماله، أوضح من الاعتذار في أقواله، ولا يفتننك ممن قلدته اجتلاب الحظ المقناع، والتنفق بالسعي المسمع، ومخالفة السنن المرعية، واتباعه رضاك بسخط الرعية، فإنه قد غشك، من حيث بلك ورشك، وجعل من يمينك

في شمالك، حاضر مالك، ولا تضمن عاملاً مال عمله، وحل بينه فيه وبين أمله، فإنك تميت رسومك بمحياه، وتخرجه من خدمتك فيه إلا أن تملكه إياه، ولا تجمع له بين الأعمال فيسقط استظهارك ببلد على بلد، والاحتجاج على والد بولد، واحرص على أ، يكون في الولاية غريباً، ومنتقله منك قريباً، ورهينة لا يزال معها مريباً، ولا تقبل مصالحته على شيء أختانه، ولوبرغيبة فتانه، فتقبل المصانعة في أمانتك، وتكون مشاركاً له في خيانتك، ولا تطل مدة العمل، وتعاهد كشف الأمور ممن يرعى الهمل، ويبلغ الأمل. وأما الولد فأحسن آدابهم، واجعل الخير دابهم، وخف عليهم من إشفاقك وحنانك، اكثر من غلظة جنانك، واكتم عنهم ميلك، وأفض فيهم جودك ونيلك، ولا تستغرق بالكلف بهم يومك ولا ليلك، وأثبهم على حسن الجواب، وسبق لهم خوف الجزاء على رجاء الثواب، وعلمهم الصبر على الضرائر، والمهلة عند استخفاف الجرائر، وخذهم بحسن السرائر، وحبب إليهم مراس الأمور الصعبة المراس، وحسن الاصطناع والاحتراس، والاستكثار من أولي المراتب والعلوم، والسياسات والحلوم، والمقام المعلوم، وكره إليهم مجالسة الملهين، ومصاحبة الساهين، وجاهد أهواءهم عن عقولهم، وحذر الكذب على مقولهم، ورشحهم إذا آنست منهم راشداً أوهدياً، وأرضعهم من الموازرة والمشاورة ثدياً، لتمرنهم على الاعتياد، وتحملهم على الازدياد، ورضهم رياضة الجياد، واحذر عليهم الشهوات فهي داؤهم، وأعداؤك في الحقيقة وأعداؤهم، وتدارك الخلق الذميمة كلما نجمت، واقدعها إذا هجمت، قبل أن يظهر تضعيفها، ويقوى ضعيفها، فإن أعجزتك في الصغر الحيل، عظم الميل: إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ... ولن تلين إذا قومتها الخشب وإذا قدروا على التدبير، وتشوفوا للمحل الكبير، إياك أن توطنهم في

مكانك، جهد إمكانك، وفرقهم في بلدانك، تفريق عبدانك، واستعملهم في بعوث جهادك، والنيابة عنك في سبيل اجتهادك، فإن حضرتك تشغلهم بالتحاسد، والتباري والتفاسد، وانظر إليهم بأعين الثقات فإن عين الثقة، تبصر ما لا تبصر عين المحبة والمقة. وأما الخدم فإنهم بمنزلة الجوارح التي تفرق بها وتجمع، وتبصر وتسمع، فرضهم بالصدق والأمانة، وصنهم صون الجمانة، وخذهم بحسن الانقياد إلى ما آثرته، والتقليل مما استكثرته، واحذر منهم من قويت شهواته، وضاقت عن هواه لهواته، فغن الشهوات تنازعك في اتسرقاقه، وتشاركك في استحقاقه، وخيرهم من ذلك منه بلطف الحيلة، وآداب للفساد محيلة، وأشرب قلوبهم أن الحق في كل ما حاولته واستنزلته، وأن الباطل في كل ما جانبته واعتزلته، وأ، من تصفح منهم أمورك فقد أذنب، وباين الأدب وتجنب، وأعط من أكددته، واضقت منه ملكه وشددته، روحة يشتغل فيها بما يعينه، على حسب صعوبة ما يعانيه، تغبطهم فيها بمسارحهم، وتجم كليلة جوارحهم، ولتكن عطاياك فيهم بالمقدار الذي لا يبطر أعلامهم، ولا يؤسف الأصاغر فيفسد أحلامهم، ولا ترم محسنهم بالغاية من إحسانك، واترك لمزيدهم فضلة من رفدك ولسانك، وحذر عليهم مخالفتك ولوفي صلاحك، بحد سلاحك، وامنعهم من التواثب والتشاجر، ولا تحمد لهم شيم التقاطع والتهاجر، واستخلص منهم لسرك من قلت في الإفشاء ذنوبه، وكان أصبر على ما ينوبه، ولودائعك من كانت رغبته في وظيفة لسانك، اكثر من رغبته في إحسانك، وضبطه لما تقلد من وديعتك، أحب إليه من حسن صنيعتك، وللسفارة عنك من حلا الصدق في فمه، وآثره ولوباختطار دمه، واستوفى لك وعليك فهم ما تحمله، وعني بلفظه حتى لا يهمله، ولمن تودعه أعداء دولتك من كان مقصور الأمل، قليل القول صادق العمل، ومن كانت

قسوته زائدة على رحمته، وعظمه في مرضاتك آثر من شحمته، ورأيه في الحذر سديد، وتحرزه من الحيل شديد؛ ولخدمتك في ليلك ونهارك من لانت طباعه، وامتد في حسن السجية باعه، وأمن كيده وغدره، وسلم من الحقد صدره، ورأى المطامع فما طمع، واستثقل إعادة ما سمع، وكان بريئاً من الملال، والبشر عليه أغلب الخلال، ولا تؤنسهم منك بقبيح فعل ولا قول، ولا تؤيسهم من طول، ومكن في نفوسهم أن أقوى شفعائهم، وأقرب إلى الإجابة من دعائهم، إصابة الغرض فيما به وكلوا، وعليه شكلوا، فإنك لاتعدم بهم انتفاعاً، ولا يعدمون لديك ارتفاعاً. وأما الحرم فهن مغارس الولد، ورياحين الخلد، وراحة القلب الذي أجهدته الأفكار، والنفس التي تقسمها الإحماد إلى المساعي والإفكار، فاطلب منهن من غلب عليهن من حسن الشيم، المترفعة عن القيم، ما لا يسوءك في خلدك، أن يكون في ولدك، واحذر أن تجعل لفكر بشر دون بصر إليهن سبيلاً، وانصب دون ذلك عذاباً وبيلاً، وأعهن من النساء العجز من بانت في الديانة والأمانة سبله، وقويت غيرته ونبله، وخذهن بسلامة النيات، والشيم السنيات، وحسن الاسترسال، والخلق السلسال، وحذر عليهن التغامز والتغاير، والتنافس والتخاير، وآس بينهن في الأغراض، والتصامم عن الإعراض، والمحاباة بالأعراض، وأقلل من مخالطتهن هوأبقى لهمتك، وأسبل لحرمتك، ولتكن عشرتك لهن عند الكلال والملال، وضيق الاحتمال، بكثرة الأعمال، وعند الغضب والنوم، والفراغ من نصب اليوم، واجعل مبيتك بينهن تنم بركاتك، وتستتر حركاتك، وافصل من ولدت منهن إلى مسكن تختبر به استقلالها، وتعتبر بالتفرد خلالها، ولا تطلق لحرمة شفاعة ولا تدبيراً، ولا تنط بها من الأمر صغيراً ولا كبيراً، واحذر أن يظهر على خدمهن في خروجهن عن القصور، وبروزهن من اجمة الأسد الهصور، زي بارع، ولا طيب للأنوف مسارع، واخصص بذلك من طعن في السن، ويئس من الإنس

والجن، ومن توفر النزوع إلى الخيرات قبله، وقصر عن جمال الصورة ورسم بالبله. ثم لما بلغ إلى هذا الحد حمي وطيس اسحنفاره، وختم حزبه باستغفاره، ثم صمت ملياً، واستعاد كلاماً أولياً. ثم قال: واعلم يا أمير المؤمنين - سدد الله تعالى سهمك لأغراض خلافته وعصمك من الزمان وآفته - أنك في مجلس الفصل، ومباشرة الفرع من ملكك والأصل، في طائفة من عز الله تعالى تذب عنك حماتها، وتدافع عن حوزتك كماتها، فاحذر أن يعدل بك غضبك عن عدل تزري منه بضاعة، أويهجم بك رضال على إضاعة، ولتكن قدرتك وقفاً على الاتصاف، بالعدل والإنصاف، واحكم بالسوية، واجنح بتدبيرك إلى حسن الروية، وخف أن تقعد بك أناتك عن حزم تعين، أوتستفزك العجلة في أمر لم يتبين، وأطع الحجة ما توجهت إليك، ولا تحفل بها إذا كانت عليك، فانقيادك إليها أحسن من ظفرك، والحق أجدى من نفرك، ولا تردن النصيحة في وجه، ولا تقابل عليها بنجه، فتمنعها إذا استدعيتها، وتحجب عنك إن استوعيتها، ولا تستدعها من غير أهلها، فيشغبك أولوالأغراض بجهلها، واحرص على أن لا ينقضي مجلس جلسته، أوزمن اختلسته، إلا وقد أحرزت زائدة، أووثقت منه في معادك بفائدة. ولا يزهدنك في المال كثرته، فتقل في نفسك أثرته، وقس الشاهد بالغائب، واذكر وقوع ما لا يحتسب من النوائب، فالمال المصون، أمنع الحصون، ومن قل ماله، قصرت آماله، وتهاون بيمينه شماله، والملك إذا فقد خزينه، اخنى على أهل الجدة التي تزينه، وعاد على رعيته بالإجحاف، وعلى جبايته بالإلحاف، وساء معتاد عيشه، وصغر في عيون جيشه، ومنوا عليه بنصره، وأنفوا من الاقتصار على قصره، وفي المال قوة سماوية تصرف الناس لصاحبه، وتربط آمال أهل السلاح به، والمال نعمة الله تعالى فلا تجعله ذريعة إلى خلافه، فتجمع

بالشهوات بين إتلافك وإتلافه، واستأنس بحسن جوارها، واصرف في حقوق الله تعالى بعض أطوارها، فإن فضل المال عن الأجل فأجل، ولم يضر ما خلف منه بين يدي الله عز وجل، وما ينفق في سبيل الشريعة، وسد الذريعة، مأمول خلفه، وما سواه فمتعين تلفه. واستخلص لنواديك الغاصة، ومجالسك العامة والخاصة، من يليق بولوج عتبها، والعروج لرتبها، أما العامية فمن عظم عند الناس قدره، وانشرح بالعلم صدره، أوظهر يساره، وكان لله تعالى إخباته وانكساره، ومن كان للفتيا منتصباً، وبتاج المشورة معتصباً، وأما الخاصية فمن رقت طباعه، وامتد فيما يليق بتلك المجالس باعه، ومن تبحر في سير الحكماء، وأخلاق الكرماء، ومن له فضل سافر، وطبع للدينة منافر، ولديه من كل ما تستتر به الملوك عن العوام حظ وافر، وصف ألبابهم بمحصول خيرك، وسكن قلوبهم بيمن طيرك، وأغنهم ما قدرت عن غيرك. واعلم بأن مواقع العلماء من ملكك مواقع المشاعل المتألقة، والمصابيح المتعلقة، وعلى قدر تعاهدها تبذل من الضياء، وتجلوبنورها صور الأشياء، وفرغها ما يزين مدتك، ويحسن من بعد البلاء جدتك، وبعناية الأواخر ذكرت الأول، وإذا محيت المفاخر خربت الدول. واعلم أن بقاء الذكر مشروط بعمارة البلدان، وتخليد الآثار الباقية في القاصي والدان، فاحرص على ما يوضح في الدهر سبلك، ويحرز المزية على من قبلك، وأن خير الملوك من ينطق بالحجة وهوقادر على القهر، ويبذل الإنصاف في السر والجهر، مع التمكن من المال والظهر، ويسار الرعية جمال للملك وشرف، وفاقتهم من ذلك طرف، فغلب أليق الحالين بمحلك، وأولاهما بظعنك وحلك. واعلم أن كرامة الجور دائرة، وكرامة العدل متكاثرة، والغلبة بالخير

سيادة، وبالشر هوادة، واعلم أن حسن القيام بالشريعة يحسم عنك نكاية الخوارج، ويسموبك إلى المعارج، فإنها تقصد أنواع الخدع، وتوري بتغيير البدع، وأطلق على عدوك أيدي الأقوياء من الأكفاء، وألسنة اللفيف من الضعفاء، واستشعر عند نكثه شعار الوفاء. ولتكن ثقتك بالله تعالى أكثر من ثقتك بقوة تجدها، وكتيبة تنجدها، فإن الإخلاص يمنحك قوى لا تكتسب، ويمهد لك مع الأوقات نصراً لا يحتسب. والتمس أبداً سلم من سالمك بنفيس ما في يدك، وفضل حاصل يومك على منتظر غدك، فإن أبى وضحت محجتك، وقامت عليه للناس بذلك حجتك، فللنوفوس على الباغين ميل، ولها من جانبه نيل، واستهد في كل يوم سيرة من يناويك، واجتهد أن لا يوازيك في خير ولا يساويك، وأكذب بالخير ما يشيعه من مساويك، ولا تقبل من الإطراء إلا ما كان فيك فضل عن غطالته، وجد يزري على بطالته، ولا تلق المذنب بحميتك وسبك، واذكر عند حركة الغضب ذنوبك إلى ربك، ولا تنس أن رب المذنب أجلسك مجلس الفصل، وجعل في قبضتك رياش النصل. وتشاغل في هدنة الأيام بالاستعداد، واعلم ا، التراخي منذر بالاشتداد، ولا تهمل عرض ديوانك، واختبار أعوانك، وتحصين معاقلك وقلاعك. وعم إيالتك بحسن اطلاعك، ولا تشغل زمن الهدنة بلذاتك، فتجني في الشدة على ذاتك، ولا تطلق في دولتك ألسنة الكهانة والإرجاف، ومطاردة الآمال العجاف، فإنه يبعث سوء القول، ويفتح باب العول، وخذ على المدرسين والمتعلمين، والعلماء والمتكلمين، حمل الأحداث على الشكوك الخالجة والمزلات الوالجة، فإنه يفسد طباعهم، ويغري سباعهم، ويمد في مخالفة الملة باعهم، وسد سبيل الشفاعات فإنها تفسد عليك حسن الاختيار، ونفوس الخيار، وابذل في الأسرى من حسن ملكتك ما يرضي من ملكك رقابها، وقلدك وعقابها، وتلق بدء نهارك بذكر الله تعالى في ترفعك وابتذالك، واختم اليوم بمثل ذلك.

واعلم أنك مع كثرة حجابك، وكثافة حجابك، بمنزلة الظاهر للعيون، المطالب بالديون، لشدة البحث عن أمورك، وتعرف السر الخفي بين أمرك ومأمورك، فاعمل في سرك ما لا تستقبح أن يكون ظاهراً، ولا تأنف أن تكون به مجاهراً، وأحكم بريك في الله ونحتك، وخف من فوقك يخف من تحتك، واعلم أن عدوك من أتباعك من تناسيت حسن قرضه، أوزادت مؤونته على نصيبه منك وفرضه، فاصمت الحج، وتوق اللجج، واسترب بالأمل، ولا يحملنك انتظام الأمور على الاستهانة بالعمل، ولا تحقرن صغير الفساد، فيأخذ في الاستئساد، واحبس الألسنة عن التخالي باغتيابك، والتشبث بأذيال ثيابك، فغن سوء الطاعة ينتقل من الأعين الباصرة، إلى الألسن القاصرة، ثم إلى الأيدي المتناصرة، ولا تثق بنفسك في قتال عدوناواك، حتى تظفر بعدوغضبك وهواك، وليكن خوفك من سوء تدبيرك، اكثر من عدوك الساعي في تتبيرك (1) ، وإذا استنزلت ناجماً (2) ، أومنت ثائراً هاجماً، فلا تقلده البلد الذي فيه نجم، وهمى عارضه فيه وانسجم، يعظم عليك القدح في اختيارك، والغض نم إيثارك، واحترز من كيده في حورك ومأمك (3) ، فإنك أكبر همه وليس بأكبر همك، وجمل المملكة بتأمين الفلوات، وتسهيل الأقوات، وتجديد ما يتعامل من الصرف في البياعات، وإجراء العوائد مع الأيام والساعات، ولا تبخس عيار قيم البضاعات، ولتكن يدك عن أموال الناس محجورة، وفي احترامها إلا عن الثلاثة مأجورة: مال من عدا طوره طور أهله، وتخارق في الملابس والزينة، وفضول المدينة، يروم معارضتك بجهله؛ ومن باطن أعداك، وأمن اعتدال؛ ومن أساء جوار رعيتك بإخساره، وبذل الأذاية فيهم بيمينه ويساره.

_ (1) التتبير: الهلاك. (2) الناجم: الثائر. (3) الحور: العودة؛ والمأم: القصد.

وأضر ما منيت به التعادي بين عبدانك، أوفي بلد من بلدانك، فسد فيه الباب، واسأل عن الأسباب، وانقلهم بوساطة أولي الألباب، إلى حالة الأحباب، ولا تطوق الأعلام أطواق المنون، بهواجس الظنون، فهوامر لا يقف عند حد، ولا ينتهي إلى عد، واجعل ولدك في احتراسك، حتى لا يطمع في افتراسك. ثم لما رأى الليل، قد كاد ينتصف، وعموده يريد أن ينقصف، ومجال الوصايا أكثر مما يصف؛ قال: يا أمير المؤمنين، بحر السياسة زاخر، وعمر المتمتع يناديك مستاخر، فإن أذنت في فن من فنون الأنس يجذب بالمقاد، إلى راحة الرقاد، ويعتق النفس بقدرة ذي الجلال، من ملكة الكلال. فقال: أما وقد استحسنا ما سردت، فشانك وما أردت. فاستدعى عوداً فأصلحه حتى حمده، وأبعد في اختباره أمده، ثم حرك بمه، وأطال الجس ثمه، ثم تغنى بصوت يستدعي الإنصات، ويصدع الحصاة، ويستفز الحليم عن وقاره، ويستوقف الطير ورزق بنيه في منقاره، وقال: صاح ما أعطر القبول بنمه ... أتراها أطالت اللبث ثمه هي دار الهوى منى النفس فيها ... أبد الدهر والأماني جمه إن يكن ما تأرج الجو منها ... واستفاد الشذا وإلا فممه من لطرفي بنظرة ولأنفي ... في رباها وفي ثراها بشمه ذكر العهد فانتفضت كأني ... طرقتني من الملائك لمه وطن قد نضيت فيه شباباً ... لم تدنس منه البرود مذمه بنت عنه والنفس من أجل من قد ... خلفته خلاله مغتمه كان حلماً فويح من أمل الده ... ر وأعماه جهله وأصمه تأمل العيش بعد أن خلق الجس ... م وبنيانه عسير المرمه وغدت وفرة الشبيبة بالشي ... ب على رغم أنفها معتمه

فلقد فاز سالك جعل الل ... هـ إلى الله قصده ومأمه من يبت من غرور دنيا بهم ... يلدغ القلب أكثر الله همه ثم أحال اللحن إلى لون التنويم، فأخذ كل في النعاس والتهويم، وأطال الجس في الثقيل، عاكفاً عكوف الضاحي في المقيل، فخاط عيون القوم، بخيوط النوم، وعمر بهم المراقد، كأنما أدار عليهم الفراقد، ثم انصرف، فما علم به أحد ولا عرف، ولما أفاق الرشيد جد في طلبه، فلم يعلم بمنقلبه، فأسف للفراق، وأمر بتخليد حكمه في بطون الأوراق، فهي إلى اليوم تتلى وتنقل، وتجلى القلوب بها وتصقل، والحمد لله رب العالمين انتهى. قال فبالإحاطة بعد إيراد نبذة ما صورته: فهذا ما حضر من المنثور وحظه من الإجادة ضعيف، وغرضه كما شاء الله تعالى سخيف، لكن الله سبحانه بعبداه لطيف؛ انتهى. 110 - ومما علق بحفظي من نثره قوله في تحليته لبعض أهل زمانه: هو إمام الفئة، وعين أعيان هذه المائة. 111 - وقوله في وصف فاس (1) : نعم العرين، لأسود بني مرين، ذات المشاد التي منها مطرح الجنة ومسجد الصابرين: بلد أعارته الحمامة طوقها ... وكساه ريش جناحه الطاووس (2) فكأنما الأنهار فيه مدامة ... وكأن ساحات الديار كؤوس جمعت ما ولد سام وحام، وكثر الالتئام والالتحام، واشتد الزحام، إلى

_ (1) انظر مشاهدات لسان الدين: 110 - 111 والمقري ينقل من حفظه فلذلك اختلف ما أورده عن النص الأصلي في عدة مواضع، لا حاجة للإشارة إليها. (2) مر البيتان والقول في نسبتهما في المجلد 1: 169.

أن قال: يلقى الرجل أبا مثواه فلا يدعوه لبيته، ولا يطعمه من يقله وزيته؛ لا يطرق الضيف حماهم، ولا يعرف اسمهم ولا مسماهم {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم} (ص: 24) . 112 - وقوله في وصف مراكش المحروسة ذات المقاصر والقصور، ومأوى الليث الهصور، ومسكن الناصر والمنصور، إلى أن قال: ومنارها في الفلاة، بمنزلة والي الولاة. ثم بعد كلام: إلا ان خرابها هائل، وزحامها حرب وائل، وعقاربها كثيرة الدبيب، منغصة لمضاجعة الحبيب؛ انتهى ما كتبته من حفظي لطول العهد. 113 - وقال رحمه الله تعالى في وصف مدينة بسطة (1) من كلام لم يحضرني جميعه الآن: محل خصيب، ومنزل رحيب، وكفاها مسجد الجنة دليلاً على البركة وباب المسك دليلاً على الطيب، ولها من اسمها نصيب، إذ هي بحر الطعام وينبوع العيون المتعددة بتعدد أيام العام؛ انتهى. [في ذكر بسطة] ولما أجرى ذكر بسطة الإمام أبوالحسن القلصادي (2) في رحلته قال: سقى الله تعالى أرجاءها المشرقة، وأغصانها المورقة، شآبيب الإحسان، ومهدها بالهدنة والأمان، دار تخجل منها الدور، وتتقاصر عنها القصور، وتقر لها بالقصور، مع ما حوته من المحاسن والفضائل، من صحة أجسام أهلها وما طبعوا

_ (1) المشاهدات: 31. (2) أبو الحسين القلصادي علي بن محمد بن محمد بن علي القرشي البسطي نزيل غرناطة، آخر من له التواليف الكثيرة من أئمة الأندلس (إذ توفي سنة 891) . وقد ترجم له المقري في الراحلين إلى المشرق (ج 2: 692) .

رجع:

عليه من كرم الشمائل، وحسبك فيها من عدم الحرج، أن داخلها باب الفرج؛ ثم قال: ولله در القائل: دار مشى الإتقان في تنجيدها ... حتى تناسب روضها وبناؤها مرقوقة الجنبات ذات قرارة ... يمتد قدام العيون فضاؤها ما زال يضحك دائماً نوارها ... في وجه ساحته ويلعب ماؤها ولبعض أصحابنا فيها وهوالأديب الكاتب أبوعبد الله ابن الأزرق: في بسطة حيث الأباطح مشرقه ... أضحت جفوني بالمحاسن مغلقه وله أيضاً في تورية: قل لمن رام النوى عن وطن ... قولةً ليس بها من حرج فرج الهم بسكنى بسطة ... إن في بسطة باب الفرج رجع: 114 - ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى ما خاطب به السلطان على لسان جدته، وهو: " إلى قرة أعيننا وأعين المؤمنين، وفلذة كبدنا الذي نصل للقائه الحنين بالحنين، وعزنا الذي حللنا من كنفه بالحرم الأمين، وسترنا الذي خلفنا برضاه من أفقده الدهر من كرم البنين، ووارثنا المستأثر بعدنا بطول السنين، أمير المسلمين الأسعد المؤيد الموفق الطاهر البر الرحيم الأرضى الكافل الفاضل حفيدنا محمد ابن ولدنا الرضى وواحدنا الكريم الحفي السلطان الكبير الجليل السعيد الطاهر الظاهر المقدس، جعل الله تعالى من عصمته لزيماً يرافقه، وأجرى القدر بما يوافقه، وحفظ عليه الكمال الذي تناسب فيه خلقه وخلائقه، والبر الذي حسنت فيه طرقه وطرائقه.

من المستظلة بظلال رضاه وبره، المبتهلة إلى الله تعالى في عز نصره، وسعادة أمره، الداعية إلى الله تعالى أن يسترها في الحياة وما بعدها بستره، وما يفضل عمرها من عمره، جدته التائقة إليه، كتبته من كنفه العزيز بحمرائه العلية عن الخير الدائم بدوامه، واليسر الملازم ببركة أيامه، ولا زائد بضل الله تعالى إلا الشوق إليه، وتحويم الكبد الخافقة خفوق رايته عليه، وتجهيز مواكب الدعاء المقبول من خلفه ومن بين يديه. " وقد وصل كتابه العزيز الوفادة والوصول، الكريم الجمل والفصول، مطلع وجه السرور والجذل، ومهدي قصي الأمل، ومجدد العهد بحديثه الذي في ضمنه شفاء الغلل، وبرء العلل، مهدياً تحفة عافيته وهي الهدية التي جلت عن المكافأة، وترفعت عن المجازاة، إنما يجازي عليها من يصل بفضله عادتها، ويوالي بعد الإبداء إعادتها. ووصفتم يا ولدي ما عرفتم من نعم الله تعالى التي انثالت عليكم سحابها، وعنايته التي يلقى ركابكم تسهالها وترحابها، واستبشار الجهات بقدومكم الميمون، واجتلاء وجهكم الذي فيه للإسلام قرة العيون، وكيف لا يكون ذلك وأنتم ذخرهم العزيز، وحرزهم الحريز، والندرة التي خلصها من معادن سلفكم الذهب الإبريز، في أيامكم والحمد لله نامت أجفانهم، وتكيف أمانهم، نسأل الله تعالى أن يديم لنا ولهم نعمة بقائكم، ويعلي الدين بعلوكم في معارج العز، وارتقائكم، فقابلنا ما قرره سلطانكم بالحمد والثناء، والشكر المتصل على الآناء، ومحضتكم من خالص الدعاء، ما يتكفل لكم بالحسنى وما وعد الله تعالى من نيل الرجاء، وتمهيد الأرجاء، وأصدرت هذا الجواب لكم مصدر الهناء، بنعم الله تعالى المغدقة والآلاء، ونسأل من فضلكم وبركم صلة التعريف بمثل هذه الأخبار السارة والأنباء، وإتحافنا بمثلها مع الصباح والماساء، وإن كان مجدكم غنياً عن الشبه لمثل هذه الأشياء، أدام الله تعالى لكم أسباب البقاء، وكان لكم في كل حال، من إقامة وارتحال، بعزة وجهه وقدرته " انتهى.

ويرحم الله تعالى لسان الدين ابن الخطيب، فإنه يعبر في كل مقام بما يليق، فتارة في أدراج البراعة، وطوراً يهتك عنان اليراعة. [شعر لسان الدين] وأما شعر لسان الدين رحمه الله تعالى فهومن النهاية في الحسن، وقد قدمنا في هذا الكتاب منه نبذة في أثناء نثره وكلامه الذي جلبناه، وفي مواضع غيرهما، جملة مفيدة من شعره رحمه الله تعالى. مطولات عن الإحاطة وقال رحمه الله تعالى في " الإحاطة " ما نصه: الشعر - ولنثبت جملة من مطولاته، ونتله بشيء من مقطوعاته، ونقدم من المطولات أمداح رسول الله صلى الله عليه وسلم تبركاً بها، فمن ذلك قولي (1) : هل كنت تعلم في هبوب الريح ... نفساً يؤجج لاعج التبريح أهدتك من شيح الحجاز تحية ... فاحت لها عرض الفجاج الفيح بالله قل لي كيف نيران الهوى ... ما بين ريح في الفلاة وسيح وخضيبة المنقار تحسب أنها ... نهلت بمورد دمعي المسفوح باحت بما تخفي وناحت في الدجى ... فرأيت في الآماق دعوة نوح نطقت، بما يخفيه قلبي، أدمعي ... ولطالما صمتت عن التصريح عجباً لأجفان حملن شهادة ... عن خافت بين الضلوع جريح ولقلما كتبت رواة مدامعي ... في صفحتيها حلية التجريح جاد الحمى بعدي وأجراع الحمى ... جود تكل به متون الريح هن المنازل، ما فؤادي بعدها ... سالٍ، ولا وجدي بها بمريح حسبي ولوعاً أن أزور بفكرتي ... زوارها والجسم رهن نزوح (2)

_ (1) الإحاطة الورقة: 413. (2) الإحاطة: رهن ضريح.

فأبث فيها من حديث صبابتي ... وأحث فيها من جناح جنوحي ودجنة كادت تضل بها السرى ... لولا وميضاً بارق وصفيح رعشت كواكب جوها فكأنها ... ورق تقلبها بنان شحيح صابرت منها لجة مهما ارتمت ... وطمت رميت عبابها بسبوح حتى إذا الكف الخضيب بأفقها ... مسحت بوجه للصباح صبيح شمت المنى وحمدت إدلاج السرى ... وزجرت للآمال كل سنيح فكأنما ليلي نسيب قصيدتي ... والصبح فيه تخلصي لمديح لما حططت لخير من وطئ الثرى ... بعنان كل مولد وصريح رحمى إله العرش بين عباده ... وأمينه الأرضي على ما يوحي والآية الكبرى التي أنوارها ... ضاءت أشعتها بصفحة يوح (1) رب المقام الصدق والآي التي ... راقت بها أوراق كل صحيح كهف الأنام إذا تفاقم معضل ... مثلوا بساحة بابه المفتوح يردون منه على مثابة راحم ... جم الهبات عن الذنوب صفوح لهفي على عمر مضى انضيته ... في ملعب للترهات فسيح يا زاجر الوجناء يعتسف الفلا ... والليل يعثر في فضول مسوح يصل السرى سبقاً إلى خير الورى ... والركب بين موسد وطريح لي في حمى ذاك الضريح لبانة ... إن أصبحت لبنى أنا ابن ذريح وبمهبط الروح الأمين أمانة ... اليمن فيها والأمان لروحي يا صفوة الله المكين مكانه ... يا خير مؤتمن وخير نصيح أقرضت فيك الله صدق محبتي ... أيكون تجري فيك غير ربيح حاشا وكلا أن تخيب وسائلي ... أو أن أرى مسعاي غير نجيح إن عاق عنك قبيح ما كسبت يدي ... يوماً فوجه العفوغير قبيح

_ (1) يوح: اسم الشمس.

واخجلتي من حلبة الفكر التي ... أغريتها بغرامي المشروح قصرت خطاها بعدما ضمرتها ... من كل موفور الجمام جموح مدحتك آيات الكتاب فما عسى ... يثني على علياك نظم مديحي وإذا كتاب الله أثنى مفصحاً (1) ... كان القصور قصار كل فصيح صلى عليك الله ما هبت صباً ... فهفت بغصن في الرياض مروح واستأثر الرحمن جل جلاله ... عن خلقه بخفي سر الروح وأنشدت السلطان ملك المغرب ليلة الميلاد الأعظم من عام ثلاثة وستين وسبعمائة هذه القصيدة: تألق نجدياً فأذكرني نجداً ... وهاج بي الشوق المبرح والوجدا وميض رأى برد الغمامة مغفلاً ... فمد يداً بالتبر أعلمت البردا تبسم في بحرية (2) قد تجهمت ... فما بذلت وصلاً ولا ضربت وعدا وراود منها فاركاً قد تنعمت ... فأهوى لها نصلاً وهددها رعدا وأغرى بها كف الغلاب فأصبحت ... ذلولاً ولم تسطع لإمرته ردا فحلتها الحمراء من شفق الضحى ... نضاها وحل المزن من جيدها عقدا لك الله من برق كأن وميضه ... يد الساهر المقرور قد قدحت زندا تعلم من سكانه شيم الندى ... فغادر أجراع الحمى روضة تندى وتوج من نوارها قنن الربى ... وختم من أزهارها القضب الملدا لسرعان ما كانت مناسف للصبا ... فقد ضحكت زهراً وقد خجلت وردا بلاد عهدنا في قرارتها الصبا ... يقل لذاك العهد أن يألف العهدا إذا ما النسيم اعتل في عرصاتها ... تناول فيها البان والشيح والرندا

_ (1) الإحاطة: مفهماً. (2) البحرية: صفة للسحابة.

فكم في مجاني وردها من علاقة ... إذا ما استثيرت أرضها أنبتت وجدا إذا استشعرتها النفس عاهدت الجوى ... إذا التمحتها العين عاقدت السهدا ومن عاشق حر إذا ما استماله ... حديث الهوى العذري صيره عبدا ومن ذابل يحكي المحبين رقة ... فيثني إذا ما هب عرف الصبا قدا سقى اله نجداً ما نضحت بذكرها ... على كبدي إلا وجدت لها بردا وآنس قلبي فهوللعهد حافظ ... وقل على الأيام من يحفظ العهدا صبور وإن لم يبق إلا ذبالة ... إذا استقبلت مسرى الصبا اشتعلت وقدا صبور إذا الشوق استجاد كتيبة ... تجوس خلال الصبر كان لها بندا وقد كنت جلداً قبل أن يذهب النوى ... ذمائي وأن يستأصل العظم والجلدا أأجحد حق الحب والدمع شاهد ... وقد وقع التسجيل من بعد ما أدى تناثر إثر الحمول فريده ... فلله عينا من رأى الجوهر الفردا جرى يققاً في ملعب الخد أشهباً ... وأجهده ركض الأسى فجرى وردا ومرتحل أجريت دمعي خلفه ... ليرجعه فاستن في إثره قصدا وقلت لقلبي طر (1) إليه برقعتي ... فكان حماماً في المسير بها هدى سرقت صواع العزم يوم فراقه ... فلج ولم يرقب سواعاً ولا ودا وكحلت عيني من غبار طريقه ... فأعقبها دمعاً وأورثها سهدا لي الله كم أهذي بنجد وحاجر ... وأكني بدعد في غرامي أو سعدى وما هو إلا الشوق ثار كمينه ... فأذهل نفساً لم تبن عنده قصدا وما بي إلا أن سرى الركب موهناً ... وأعمل في رمل الحمى النص والوخدا وجاشت جنود الصبر والبين والأسى ... لدي فكان الصبر أضعفها جندا ورمت نهوضاً واعتزمت مودعاً ... فصدني المقدور عن وجهتي صدا رقيق بدت لمشترين عيوبه ... ولم تلتفت دعواه فاستوجب الردا

_ (1) ق: صر.

تخلف مني ركب طيبة عانياً ... أما آن للعاني المعنى بأن يُفدى مخلف سرب قد أصيب جناحه (1) ... وطرن فلم يسطع مراحاً ولا مغدى نشدتك يا ركب الحجاز، تضائلت ... لك الأرض مهما استعرض السهب وامتدا وجم لك المرعى وأذعنت الصوى ... ولم تفتقد ظلاً ظليلاً ولا وردا إذا أنت شافهت الديار بطيبة ... وجئت بها القبر المقدس واللحدا وآنست نوراً من جناب محمد ... يجلي القلوب الغلف والأعين الرمدا فنب عن بعيد الدار في ذلك الحمى ... وأذر به دمعاً وعفر به خدا وقل يا رسول الله عبد تقاصرت ... خطاه وأضحى من أحبته فردا ولم يستطع من بعد ما بعد المدى ... سوى لوعة تعتاد أو مدحة تهدى تداركه يا غوث العباد برحمة ... فجودك ما أجدى وكفك ما أندى أجار بك الله العباد من الردى ... وبوأهم ظلاً من الأمن ممتدا حمى دينك الدنيا وأقطعك الرضى ... وتوجك العليا وألبسك الحمدا وطهر منك القلب لما استخضه ... فجلله نوراً وأوسعه رشدا دعاه فما ولى، هداه فما غوى ... سقاه فما يظما، جلاه فما يصدا تقدمت مختاراً، تأخرت مبعثاً ... فقد شملت علياؤك القبل والبعدا وعلة هذا الكون أنت، وكل ما ... أعاد فأنت القصد فيه وما أبدا وهل هوإلا مظهر أنت سره ... ليمتاز في الخلق المكب من الاهدى ففي عالم الأسرار ذاتك تجتلي ... ملامح نور لاح للطور فانهدا وفي عالم الحس اغتديت مبوأ ... لتشفي من استشفى وتهدي من استهدى فما كنت لولا أن ثبت هداية ... من الله مثل الخلق رسماً ولا حدا فماذا عسى يثني عليك مقصر ... ولم يأل فيك الذكر مدحاً ولا حمدا بماذا عسى يجزيك هاو على شفاً ... من النار قد أوردته بعدها الخلدا عليك صلاة الله يا كاشف العمى ... ومذهب ليل الروع وهو قد اربدا

_ (1) ق: جنانه.

إلى كم أراني في البطالة كانعاً ... وعمري قد ولى، ووزري قد عدا تقضى زماني في لعل وفي عسى ... فلا عزمة تمضي ولا لوعة تهدا حسام جبان كلما شيم نصله ... تراجع بعد العزم والتزم الغمدا ألا ليت شعري هل أراني ناهداً ... أقود القلاص البدن والضامر النهدا رضيع لبان الصدق فوق شملة ... مضمرة وسدت من كورها مهدا فتهدى بأشواقي السراة إذا سرت ... وتحدى بأشعاري الركاب إذا تحدى إلى أن أحط الرحل في تربك الذي ... تضوع نداً ما رأينا له ندا وأطفئ في تلك الموارد غلتي ... واحسب قرباً مهجة شكت البعدا لمولدك اهنز الوجود فأشرقت ... قصور ببصرى ضاءت الهضب والوهدا ومن رعبه الأوثان خرت مهابة ... ومن هوله إيوان كسرى قد انهدا وغاض له الوادي وصبح عزه ... بيوتاً لنار الفرس أعدمها الوقدا رعى الله منها ليلة أطلع الهدى ... على الأرض من آفاقها القمر السعدا وأقرض ملكاً قام فينا بحقها ... لقد أحرز الفخر الموثل والمجدا وحيا على شط الخليج محلة ... يحالف من ينتابها العيشة الرغدا وجاد الغمام العد فيها خلائفاً ... مآثرهم لا تعرف الحصر والعدا علياً وعثماناً ويعقوب، لا عدا ... رضى الله ذاك النجل والأب والجدا حموا وهم في حومة البأس والندى ... فكانوا الغيوث المستهلة والأسدا ولله ما قد خلفوا من خليفة ... حوى الإرث عنهم والوصية والعهدا إذا ما أراد الصعب أغرى بنيله ... صدور العوالي والمطهمة الجردا وكم معتد أردى وكم تائه هدى ... وكم حكمة أخفى، وكم نعمة أبدى أبا سالم دين الإله بك اعتلى ... أبا سالم ظل الإله بك امتدا فدم من دفاع الله تحت وقاية ... كفاك بها أن تسحب الحلق السردا ودونكها مني نتيجة فكرة ... إذا استرشحت للنظم كانت صفاً صلدا ولو تركت مني الليالي صبابة ... لأجهدتها ركضاً وأرهقتها شدا

ولكنه جهد المقل بلغته ... وقد أوضح الأعذار من بلغ الجهدا وقلت أخاطب السلطان الملك الكبير العالم أبا عنان على أثر انصرافه من بابه رحمه الله تعالى: أبدى لداعي الفوز وجه منيب ... وأفاق من عذل ومن تأنيب كلف الجنان إذا جرى ذكر الحمى ... والبان حن له حنين النيب والنفس لا تنفك تكلف بالهوى ... والشيب يلحظها بعين رقيب رحل الصبا فطرحت في أعقابه ... ما كان من غزل ومن تشبيب أترى التغزل بعد أن ظعن الصبا ... شأني الغداة أوالنسيب نسيبي أنى لمثلي بالهوى من بعد ما ... للوخط في الفودين أي دبيب لبس البياض وحل ذروة منبر ... مني ووالى الوعظ فعل خطيب قد كان يسترني ظلام شبيبتي ... والآن يفضحني صباح مشيبي وإذا الجديدان استجدا أبليا ... من لبسة الأعمار كل قشيب سلني عن الدهر الخؤون وأهله ... تسل المهلب عن حروب شبيب متقلب الحالات فاخبر تقله ... مهما أعدت يداً إلى تقليب فكل الأمور إذا اعترتك لربها ... ما ضاق لطف الرب عن مربوب قد يخبأ المحبوب في مكروهها ... من يخبأ المكروه في المحبوب واصبر على مضض الليالي إنها ... لحوامل سيلدن كل عجيب واقتنع بحظ لم تنله بحيلة ... ما كل رام سهمه بمصيب يقع الحريص على الردى ولكم غدا ... ترك التسبب أنفع التسبيب من رام نيل الشيء قبل أوانه ... رام انتقال يلملم وعسيب فإذا جعلت الصبر مفزع معضل ... عاجلت علته بطب طبيب وإذا استعنت على الزمان بفارس (1) ... لبى نداءك منه خير مجيب

_ (1) فارس هو السلطان أبو عنان.

بخليفة الله الذي في كفه ... غيث يروض ساح كل جديب المنتقى من طينة المجد الذي ... ما كان يوماً صرفه بمشوب يرمي الصعاب بصعبه فيقودها ... ذللاً على حسب الهوى المرغوب ويرى الحقائق من وراء حجابها ... لا فرق بين شهادة ومغيب من آل عبد الحق حيث توشحت ... شعب العلا وربت بأي كثيب أسد الشرى سرج الورى فمقامهم ... لله بين محارب وحروب إما دعا الداعي وثوب صارخاً ... ثابوا واموا حومة التثويب شهب ثواقب في سماء عجاجة ... مأثورها قد صح بالتجريب ما شئت في آفاقها من رامح ... يبدو وكف بالنجيع خضيب عجبت سيوفهم لشدة بأسهم ... فتبسمت والجو في تقطيب نظموا بلبات العلا واستوسقوا ... كالرمح أنبوباً إلى أنبوب تروي العوالي والمعالي عنهم ... أثر الندى المولود والمكسوب من كل موثوق به إسناده ... بالقطع أو بالوضع غير معيب فأبو عنان عن علي نصه ... للنقل عن عثمان عن يعقوب جاءوا كما اتسق الحساب أصالة ... وغدا فذالك (1) ذلك المكتوب متجسداً من جوهر النور الذي ... لم ترم يوماً شمسه بغروب متألقاً من مطلع الحق الذي ... هو نور أبصار وسر قلوب قل للزمان وقد تبسم ضاحكاً ... من بعد طول تجهم وقطوب هي دعوة الحق التي أوضاعها ... جمعت من الآثار كل غريب هي دعوة العدل الذي شمل الورى ... فالشاة لا تخشى اعتداء الذيب لو أن كسرى الفرس أدرك فارساً ... ألقى إليه بتاجه المعصوب لما حللت بأرضه مستملياً ... ما شئت من بر ومن ترحيب

_ (1) فذالك: جمع فذلكة وهي محصل الحساب.

شمل الرضى فكأن كل أقاحة ... تومي بثغر للسلام شنيب وأتيت في بحر القرى أم القرى ... حتى حططت بمرفأ التقريب فرأيت أمن الله في ظل التقى ... والعدل تحت سرادق مضروب ورأيت سيف الله مطرور الشبا (1) ... يمضي القضاء بحده المرهوب وشهدت نور الحق ليس بآفل ... والدين والدنيا على ترتيب ووردت بحر العلم يقذف موجه ... للناس من درر الهدى بضروب لله من شيم كأزهار الربى ... غب انثيال العارض المسكوب وجمال مرأى في رداء مهابة ... كالسيف مصقول الفرند مهيب يا جنة فارقت من غرفاتها ... دار القرار بما اقتضته ذنوبي أسفي على ما ضاع من حظي بها ... لا تنقضي ترحاته ونحيبي إن أشرقت شمس شرقت بعبرتي ... وتفيض في وقت الغروب غروبي حتى لقد علمت ساجعة الضحى ... شجوي وجانحة الأصيل شحوبي وشهادة الإخلاص توجب رجعتي ... لنعيمها من غير مس لغوب يا ناصر الدين الحنيف وأهله ... أنضاء مسغبة وفل خطوب حقق ظنون بنيه فيك فإنهم ... يتعللون بوعدك المرقوب ضاقت مذاهب نصرهم فتعلقوا ... بجناب عز من علاك رحيب ودجا ظلام الكفر في آفاقهم ... أوليس صبحك منهم بقريب فانظر بعين العز من ثغر غدا ... حذر العدا يرنوبطرف مريب نادتك أندلس ومجدك ضامن ... أن لا يخيب لديك ذو مطلوب غصب العدو بلادها وحسامك ال ... ماضي الشبا مسترجع المغصوب أرض السوابح في المجاز حقيقة ... من كل قعدة محرب وجنيب يتأود الأسل المثقف فوقها ... وتجيب صاهلة رغاء نجيب

_ (1) المطرور: المشحوذ؛ الشبا: الحد.

والنصر يضحك كل مبسم غرة ... واليمن معقود بكل سبيب والروم فارم بكل نجم ثاقب ... يذكي بأربعها شواظ لهيب بذوابل السلب التي تركت بني ... زيان بين مجدل وسليب وأضف إلى لام الوغى ألف القنا ... تظهر لديك علامة التغليب إن كنت تعجم بالعزائم عودها ... عود الصليب اليوم غير صليب ولك الكتاب كالخمائل أطلعت ... زهر الأسنة فوق كل قضيب فمرنح العطفين لا من نشوة ... ومورد الخدين غير مريب يبدو سداد الرأي في راياتها ... وأمورها تجري على تجريب وترى الطيور عصائباً من فوقها ... لحلول يوم في الضلال عصيب هذبتها بالعرض يذكر يومه ... عرض الورى للموعد المكتوب وهي الكتائب إن تنوسي عرضها ... كانت مدونة بلا تهذيب (1) حتى إذا فرض الجلاد جداله ... ورأيت ريح النصر ذات هبوب قدمت سالبة العدو وبعدها ... أخرى بعز النصر ذات وجوب (2) وإذا توسط وصل سيفك عندها ... جزأي قياسك فزت بالمطلوب وتبرأ الشيطان لما أن علا ... حزب الهدى من حزبه المغلوب الأرض إرث والمطامع جمة ... كل يهش إلى التماس نصيب وخلائف التقوى هم وراثها ... فإليكها بالحظ والتعصيب لكأنني بك قد تركت ربوعها ... قفراً بكر الغزووالتعقيب (3) وأقمت فيها مأتماً لكنه ... عرس لنسر بالفلاة وذيب وتركت مفلتها بقلب واجب ... رهباً وخد بالأسى مندوب تبكي نوادبها وينقلن الخطا ... من شلو طاغية لشلو سليب

_ (1) يومي إلى المدونة في الفقه المالكي، وتهذيب المدونة للبرادعي. (2) في هذا البيت وما بعده إشارات إلى المصطلح المنطقي. (3) التعقيب: العودة ثانية، وهو من قولهم " قدح معقب " أي يعاد إلى الخريطة مرة بعد مرة.

جعل الإله البيت منك مثابة ... للعاكفين وأنت خير مثيب فإذا ذكرت كأن هبات الصبا ... فضت بمدرجها لطيمة (1) طيب لولا ارتباط الكون بالمعنى الذي ... قصر الحجى عن سره المحجوب قلنا لعالمك الذي شرفته ... حسد البسيط مزية التركيب ولأجل قطرك شمسها ونجومها ... عدلت من التشريق للتغريب تبدو بمطلع أفقها فضية ... وتغيب عندك وهي في تذهيب مولاي أشواقي إليك تهزني ... والنار تفضح عرف عود الطيب بحلى علاك أطلتها وأطبتها ... ولكم مطيل وهوغير مطيب طالبت أفكاري بفرض بديهها ... فوفت بشرط الفور والترتيب متنبئ أنا في حلى تلك العلى ... لكن شعري فيك شعر حبيب والطبع فحل، والقريحة حرة ... فاقبله بين نجيبة ونجيب هابت مقامك فاطبيت (2) صعابها ... حتى غدت ذللاً على التدريب لكنني سهلتها وأدلتها ... من كل حشي بكل ربيب (3) إن كنت قد قاربت في تعديلها ... لا بد في التعديل من تقريب (4) عذري لتقصيري وعجزي ناسخ ... ويجل منك العفوعن تثريب من لم يدن لله فيك بقربة ... هو من جناب الله غير قريب ولما احتفل السلطان لإعذار ولده نظمت هذه القصيدة مساعدة لمن نظم من الأصحاب، وتشتمل على أوصاف من ذكر الحلبة التي أرسلها، والطلبة التي

_ (1) اللطيمة: وعاء الطيب أو قافلة تحمل طيوباً. (2) اطبيت: استملت. (3) الوحشي: اللفظ الوحشي؛ والربيب: المربب المألوف في البيت يعني به القول؛ ولعل فيع غشارة بعيدة إلى وحشي قاتل حمزة وإلى الربيب مثل عمر بن أبي سلمة الذي كان ربيب النبي (ص) . (4) التعديل والتقريب من مصطلحات الحساب والفلك.

نصبها في الهواء للفرسان يرسلون العصي إليها، والثيران التي أرسل عليها الأكلب الرومية تمسكها في صورة القرط من آذانا، وهي آخر النظم في الأغراض السلطانية، قصر الله تعالى ألسنتنا على ذكره، وشغلها به عن غيره: شحطت وفود الليل بان به الوخط ... وعسكره الزنجي هم به القبط أتاه وليد الصبح من بعد كبرة ... أيولد أجنا (1) ناحل الجسم مشمط كأن النجوم الزهر أعشار سورة ... ومن خطرات الرجم أثناءها مط وقد وردت نهر المجرة سحرة ... غوائص فيه مثلما تفعل البط وقد جعلت تفلي بأنملها الفلا ... ويرسل منها في غدائره مشط يجف عباب الليل عنها جواهراً ... فيكثر فيها النهب للحين واللقط فسارت خيالاً مثلها، غير أنه ... من البث والشكوى يبين له لغط سرت سلخ شهر في تلفت مقلة ... على قتب الاحلام تسمو وتنحط لي الله من نفس شعاع ومهجة ... إذا قدحت لم يخب من زندها سقط ونقطة قلب أصبحت منشأ الهوى ... وعن نقطة مفروضة ينشأ الخط (2) فأقسم لولا زاجر الشيب والنهى ... ونفس لغير الله ما خضعت قط لريع لها الأحراس مني بطارق ... مفارقه شمط وأسيافه شمط تناقله كوماء سامية الذرا ... ويقذفه شهم من النيق منحط ولولا النهى لم تستهن سبل الهدى ... وكاد وزان الحق يدركه الغمط ولولا عوادي الشيب لم يبرح الهوى ... يهيجه نوء على الرمل مختط ولولا أمير المسلمين محمد ... لهالت بحار الروع واحتجب الشط ينوب عن الإصباح إن مطل الدجى ... ويضمن سقي السرح إن عظم القحط

_ (1) الأجنأ - وهو مهموز الآخر - الأحدب. (2) قد مر بنا استخدام لسان الدين لمعارفه في الشعر، وهو هنا يظهر شيئاً من معرفته الهندسية.

تقر له الأملاك بالشيم العلا ... إذا بذل المعروف أونصب القسط أرادوه فارتدوا، وجاروه فانثنوا ... وساموه في مرقى الجلالة فانحطوا تبر على المداح غر خلاله ... وما رسموا فوق الطروس وما خطوا تعلم منه الدهر حاليه في الورى: ... فآونة يسخو، وآونة يسطو ويجمع بين القبض والبسط كفه ... بحكمة من في كفه القبض والبسط خلائق قد طابت مذاقاً ونفحةً ... كما مزجت بالبارد العذب إسفنط (1) أسبط الإمام الغالبي محمد ... ويا فخر ملك كنت أنت له سبط وقتك أواقي الله من كل غائل ... فأي سلاح ما المجن وما اللمط (2) لقد زلزلت منك العزائم دولة ... أناخت على الإسلام تجني وتشتط إيالة غدر ضيع الله ركنها ... ونادى بأهليها التبار فلم يبطوا على قدر جلى بك الله بؤسها ... ولا يكمل البحران أوينضج الخلط وكانوا نعيم الجنتين تفيأوا ... ولما يقع منها النزول ولا الهبط (3) فقد عوضوا بالأثل والخمط بعدها ... وهيهات أين الأثل منها أو الخمط فمن طائح فوق العراء مجدل ... ومن راسف في القيد أزهقه الضغط واتحف منك الله أمة أحمد ... أماناً كما يضفوعلى الغادة المرط أنمت على مهد الأمان عيونها ... فيسمع من بعد السهاد لها غط وصم صدى الدنيا فلما رحمتها ... تزاحم مرتاد عليها ومختط وأحكمت عقد السلم لم تأل بعده ... وجاء فصح العقد واستوثق الربط وأيقن مرتاب، وأصحب نافر ... وأذعن معتاصٌ، وأقصر مشتط

_ (1) الإسفنط: اسم للخمر. (2) اللمط: الدرق اللمطية، منسوبة إلى لمطة من قبائل المغرب. (3) استوحى في هذا البيت والذي يليه الآية الكريمة " لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان ... الآية ". (سبأ: 15) .

ولله مبناك الذي معجزاته ... سمت أن توافيها الشفاه أو الخط وأنست غريب الدار مسقط رأسه ... ومن دون فرخيه القتادة والخرط تناسبت الأوضاع فيك وأحكمت ... على قدر حتى الأرائك والبسط فجاء على وفق العلا رائق الحلى ... كما سمط المنظوم أونظم السمط ولله إعذار دعوت له الورى ... فهبوا لداعيه المهيب وإن شطوا تقودهم الزلفى، ويدعوهم الرضى ... ويحدوهم الخصب المضاعف والغبط وأغريت بالبهم العلاج تحفياً ... فلم يذخر الشيء الغريب ولا السمط (1) أتت صورةً معلولة عن مزاجها ... وأصل اختلاف الصورة المزج والخلط قضيت بها دين الزمان، ولم يزل ... أكد كذوب الوعد يلوي ويشتط وأرسلت يوم السبق كل طمرة ... كما قذف الملمومة النار والنفط رنت عن كحيل كالغزال إذا رنا ... وأوفت بهادٍ كالظليم إذا يعطو وقامت على منحوتة من زبرجد ... تخط على الصم الصلاب إذا تخطو وكل عتيق من تماثل رومة ... تأنق في استخطاطه القس والقمط وطاعنة نحر السكاك أعانها ... على الكون عرق واشج ولحى سبط تلقف حيات العصي إذا هوت ... فثعبانها لا يستقيم له سرط أزرت بها بحر الهواء سفينة ... على الجولا الجودي كان لها حط وطاردت مقدام الصوار بجارح ... يصاب به منه الصماخ أو الإبط متين الشوا في رأسه سمهرية ... مقصرة عنهن ما نيبت الخط وقد كان ذا تاج فلما تعلقا ... بسامعتيه زانه منهما قرط وجيء بشبل الملك ينجد عزمه ... عليه الحفاظ الجعد والخلق السبط سمحت به لم ترع فرط ضنانة ... وفي مثلها من سنة يترك الفرط فأقدم مختاراً، وحكم عاذراً ... ولم يشتمل مسك عليه ولا ضبط

_ (1) السمط: الخفيف الجسم.

ولو غير ذات الله رامته نصنصت ... قناً كالأفاعي الرقط أودونها الرقط وأسد نزال من ذؤابة خزرج ... بها ليل لا روم القديم ولا قبط جلادهم مثنى إذا اشتجر الوغى ... كأن رعاء بالعضاه لها خبط كتائب أمثال الكتاب تتالياً ... فمن بيضها شكل، ومن سمرها نقط دليلهم القرآن، يا حبذا الهدى ... ورهطهم الأنصار، يا حبذا الرهط وبيض كأمثال البروق غمامها ... إذا وشحت سحب القتام دم عبط ولكنه حكم يطاع وسنة ... وأعمال بر لا يليق بها الحبط وربت نقص للكمال مآله ... ولا غرو فالأقلام يُصلحها القط فهنيته صنعاً ودمت مملكاً ... عزيزاً تشيد المعلوات وتختط ودون الذي يهدي ثناؤك في الورى ... من الطيب ما تهدي الالوة والقسط (1) رضيت ومن لم يرض بالله حاكماً ... ضلالاً فلله الرضى وله السخط حياتك للإسلام شرط حياته ... ولا يوجد المشروط إن عدم الشرط هذا كاف في المطولات لنجلب منها عرضاً يدل على حبوبها، ونتحف منها أنفس الظرفاء بمطلوبها، منقولة من الكتاب المسمى " بأبيات الأبيات " ومن الكتاب المسمى " بالصيب والجهام ". فمن التورية على طريقة المشارقة قولي (2) : مضجعي فيك عن قتادة يروي ... وروى عن أبي الزناد فؤادي وكذا النوم شاعر فيك أمسى ... من دموعي يهيم في كل وادي ومن هذا الباب أيضاً:

_ (1) الألوة: العودة يتبخر به؛ والقسط: عود هندي أيضاً يدخل في البخور والطيب. (2) راجعت أكثر المقطعات على نسخة الإحاطة ولكنها لم ترد على الترتيب الذي جاءت فيه في النفح؛ ولست أرى حاجة إلى شرحها في الحواشي؛ وانظر أيضاً أزهار الرياض 1: 304 - 313 فقد ورد أكثرها هنالك؛ وكذلك نثير فرائد الجمان: 248 - 256.

ولما رأت عزمي حثيثاً على السرى ... وقد رابها صبري على موقف البين أنت بصحاح الجوهري دموعها ... فعارضت من دمعي بمختصر العين وفي هذا المعنى: كتبت بدمع عيني صفح خدي ... وقد منع الكرى هجر الخليل وراب الحاضرين، فقلت: هذا ... كتاب العين ينسب للخليل ومن الأغراض الظريفة فيها: تعجلت وخط الشيب في زمن الصبا ... لخوضي غمار الهم في طلب المجد فمهما رأيتم شيبة فوق مفرقي ... فلا تنكروها إنها شيبة الحمد ومن التورية بالنجوم، والكاتب بيته بيت شرفه: بأوت على زمني همة ... فأعتبني الزمن العاتب وشرفني الله في موطني ... وفي بيته بشرف الكاتب وأبدع منها قولي لمن يدعى بشمس الدين: قل لشمس الدين وقيت الردى ... لم يدع سقمك عندي جلدا رمدت عينك هذا عجب ... أو عين الشمس تشكو الرمدا وقلت في غرض التورية بما يظهر من الأبيات: أفل الألى كانوا نجو ... ماً للورى فالكون مظلم وتناكر الناس الحدي ... ث الحق وافتقد المعلم أنا كاتب السلطان ما ... طالعت قط كتاب مسلم إلا سخاماً قادحاً ... في الدين والله المسلم

وفي معنى الدعابة مع بعض الطلبة: قال لي عندما أتى بجدال ... وشكوك على أصول الدين ولساني يبدل الدال تاءً ... عاجز في الأمور عن تبيين التمس مخرجاً يوافق قولي ... قلت: أحسنت يا حلال التين وفي التورية: اذمم ذوي التطفيل مهما أتى ... وإن تكن أجملتهم فاعنه يمشي على رجليه مع انه ... من جنس من يمشي على بطنه وقلت: أفقد جفني لذيذ الوسن ... من لم أزل فيه خليع الرسن عذاره المسكي في خده ... أنبته الله النبات الحسن وقلت في رثاء من اسمه حسن: أشكو إلى الله من بثي ومن شجني ... لم أجن من محنتي شيئاً سوى محن أصابت الحسن العين التي رشقت ... وعادة العين لا تصمي سوى الحسن وفي الشيب: تفر عن الشيب الغواني تعززاً ... كما يعتريها إن رأت سام أبرصا بدا وضحاً في جدة العمر شانياً ... فمن سام شيخاً فهوقد سام أبرصا وقلت في السها من النجوم الجوفية: قالوا: السها بادي النحول كأنه ... متستر تبدو مخايل خوفه أتراه يشكو قلت: هذا ممكن ... والله يعلم داره من جوفه

وقلت: عابوا وقالوا: بساقه شعر ... لقد عداه الكمال من ساق قلت: انظروا ورد روض وجنته ... وكل ورد مشوك الساق وقلت في التضمين: رفعت قصة اشتياقي ليحيى ... فزوى الوجه رافضاً للفتوه رمى بالكتاب ضعف اهتبال ... قلت يحيى خذ الكتاب بقوه وقلت: وذي حيل يعيي التقية أمره ... مكايده في لجة اليل تسبح يدب شبول الليث، والليث ساهر ... ويسرق ناب الكلب، والكلب ينبح وقلت: لما رأوا كلفي به ودروا ... مقدار ما لي فيه من حب قالوا الفتى حلو فقلت لهم ... طلعت حلاوته على قلبي وقلت، ولهما حكاية: وذي زوجة تشكوفقلت له: اسقها ... دواءً من الحب الملين لبطن فقال: أبت شرب الدواء بطبعها ... فقلت: اسقها إن عافت الشرب بالقرن وقلت: لعنوا برياً من خبائث ظنهم ... فالله يلعن أهل سوق العنبر والله لا أوطأت ساقي سوقهم ... أبد الزمان فتلك سوق العن بري ومن الفكاهات:

ولما دعاني داعي الهوى ... واخلف ما كنت أملته ولم يبق غير البكا حيلة ... بكيت بمقدار ما نلته وقلت: وقد رفع للسلطان باكورة بنفسج: قدم البنفسج وهونعم الوارد ... قد نم منه إلي طيب زائد فسألته: ما باله فأجابني ... والحق لا يبغى عليه شاهد أقبلت أطلب من بنان محمد ... صلة فعاد علي منه عائد وقلت من التشبيه: سهرنا وفي سير النجوم اعتبارنا ... إلى أن ضفا لليل من فوقنا ريط فخلنا شهاب الرجم إبرة خائط ... مسوحاً وما يبقى من الذنب الخيط وقلت أودع صديقاً أنست به: فلاحة مثلي ممقوتة ... وإن أعجب البدء منها وراق زرعت اللقاء وعالجته ... فلم أستفد منه إلا الفراق ومن تضمين المثل: لا تهج بالذكر في كبدي ... نار وجد شق محتمله ويقول الناس في مثل ... لا تحرك من دنا أجله ومن المدح: عجباً لراحتك الملثة بالندى ... أن لا تكون على الغمام غماما يهمي ووجهك نوره متألق ... والقطر إن سحب السحاب أغاما ومن أبيات المدح:

يا ناصر الدين لما قل ناصره ... ومطلع الجود في الدنيا وقد أفلا لولا التشهد والترداد منك له ... لم يسمع يوماً من لسانك لا ومن أوصاف صنيع سلطاني: ماذا أحدث في صنيع خلافة ... هشت إليه الشهب في آفاقها فكأنما الجوزاء حين تعرضت ... شدت لتخدم فيه عقد نطاقها ومن قصيدة في وصف فرس: فبوأته من مهجتي متبوأ ... خفياً على سر الفؤاد المكتم ويا عجباً مني وفرط تشيعي ... أهيم بوجدي فيه وهوابن ملجم ومن الحماسة في التورية بالمنطق: حتى إذا فرض الجلاد جداله ... ورأيت ريح النصر ذات هبوب قدمت سالبة العدو وبعدها ... أخرى بعز النصر ذات وجوب وإذا توسط حد سيفك عندها ... جزأي قياس فزت بالمطلوب وفي خاتمة قصيدة: ما ضرني إن لم أجئ متقدماً ... السبق يعرف آخر المضمار ولئن غدا ربع البلاغة بلقعاً ... فلرب كنز في أساس جدار ومن المدح: إن أبهم الخطب جلى في دجنته ... رأياً يفرق بين الرأي والرشد وإن عتا الدهر أبدى من أسرته ... وكفه هدي حيران وري صد

وإن نظرت إلى لألاء غرته ... يوم الهياج رأيت الشمس في الأسد ومن الأوصاف في قصيدة: كم ليال بت في ظلمائها ... أمتطي من نار شوقي فرشا وكأن النجم شرب ثمل ... واصل الثملة حتى ارتعشا ومن النورية بالكفتين من الحيل العددية: لا عدل في الملك إلا وهو قد نصبه ... وصير الخلق في ميزانه عصبه والكفتان ترى من كفه درتا ... أن تخرج العدد المجهول للطلبه وفي رجل يحتال على الولاية (1) : حلفت لهم بأنك ذو يسار ... وذو ثقة وبر في اليمين ليستندوا إليك بحفظ مال ... فتأكل باليسار وباليمين وقلت، ولهما حكاية تظهر من الأبيات: قلت لما استقل مولاي زرعي ... ورأى غلة الطعام قليله دمنتي لانتجاعي الحرث كلت ... فهي اليوم دمنة وكليله ومما صدرت به كتاباً لأحد الفضلاء: يا من تقلد للعلاء سلوكا ... والفضل صير نهجه مسلوكا كاتبتني متفضلاً فملكتني ... لا زلت منك مكاتباً مملوكا وقلت في غرض يظهر منه:

_ (1) يتفق لسان الدين وابن رضوان في هذه التورية، انظر ما تقدم ص: 112.

جلس المولى لتسليم الورى ... ولفصل البرد في الجو احتكام فإذا ما سألوا عن يومنا ... قلت: هذا اليوم برد وسلام وقلت من التورية: يا مالكي بخلال ... تهدي إلى القلب حيره أضرمت قلبي ناراً ... يا مالك بن نويره وقلت في التورية: أضاف إلى الجفون السود شعراً ... كجنح الليل أوصبغ المداد فقلت أمير هذا الحسن تزكو ال ... أجور له بتكثير السواد وقلت أيضاً: بأبي بدر غزاني ... مستبيحاً شرح صدري فأنا اليوم شهيد ال ... حب من غزوة بدر وقلت، ولهما (1) حكاية: أبا ليلة بالخصب لم تأل شهرة ... كما اشتهرت في فضلها ليلة القدر فآمن قلب اللوز من علة (2) النوى ... وأصبح فيها التين منشرح الصدر ومن النزعات المشرقية في التورية: يا قائدي نحوالغرام بمقلة ... نفقت حلاوتها بكل فؤادي ماذا جنيت علي من مضض الهوى ... الله ينصف منك يا قوادي

_ (1) ق: ولها. (2) ق: من غمة.

ومن هذا النمط المشرقي: وقالت حلقت الكس مني بنورة ... فقلت لها استنصرت من ليس ينصر ألا فابلغي عني فديتك واصدقي ... محلق ذاك الكس أني مقصر ومنها: قال لي والدموع تنهل سحاً (1) ... في عراض من الخدود محول بك ما بي فقلت مولاي عافا ... ك المعافي من عبرتي ونحولي أنا جفني القريح يروي عن الأع ... مش، والجفن منك عن مكحول ومن أبيات التورية أوما داخلته: في مصر قلبي من خزائن يوسف ... حب وعير مدامعي تمتاره حليت شعري باسمه فكأنه ... في كل قطر حله ديناره ومن المدح أيضاً ولا أستحضر لقبه: رأيت بكفك اعتباراً ... بأساً وندى ما إن يبارى فقلت وقد عجبت منها ... يا بحر متى تدعو نوارا وقلت مما يجري مجرى الحكم: إن الهوى لشكاية معروفة ... صبر التصبر من أجل علاجها والنفس إن ألفت مرارة طعمه ... ضمنت بذاك له صلاح مزاجها ومن الغرائب في الأوصاف: كأنما الروض ملك ... باهى به جلساه

_ (1) ق: سحباً.

يرضى النديم فمهما ... سقى الرياض كساه وفي غرض النسيب: أصبح الخد منك جنة عدن ... مجتلى أعين وشم أنوف ظللته من الجفون سيوف ... جنة الخلد تحت ظل السيوف وقلت في النسيب: أرسلت طرفي في حلاك بنظرة ... هي كانت السبب الغريب لما بي وأراك بالعبرات قد عاقبتها ... ليس الرسول بموضع لعقاب ومن تحسين القبيح: وأحول يعدي القلب سهم جفونه ... فتضحي صحيحات القلوب به مرضى رأى الحسن أن اللحظ منه مهند ... فحرفه كيما يكون له أمضى ومن النزعات الحسنة: من لي بذكرى كلما أوجزتها ... تمحو سلوي واشتياقي تثبت وسحاب دمع كلما أمطرته ... غير القتاد بمضجعي لا ينبت ومن النسيب: جاء العذار بظل غير ممدود ... فمنتهى الحسن منه غير محدود ناديت قلبي إذ لاحت طلائعه ... يا صبر أيوب هذا درع داود وفي نقيضه: ما ضر مني أن أخلفت موعودي ... وروض خدك أضحى ذاوي العود وقال قوس عذار فوق صفحته ... سفينة الحسن قد حطت على الجودي

ومن التضمين: يا من بأكناف فؤادي ربع (1) ... قد ضاق بي عن حبك المتسع ما فيك لي جدوى ولا أرعوي ... شح مطاع وهوى متبع ومن الأغراض المخترعة: أنكر ت لما أطل عارضه ... فقال لي حين رابه نظري ألم تقل لي بأنني قمر ... فانظر إلى وبر أرنب القمر ومن التضمين: يا كوكب الحسن يا معناه يا قمره ... يا روضه المتناهي الريع يا ثمره أمرتني بسلو عنك ممتنع ... مأمور حسنك لما يقض ما أمره وقلت: لما رضيت بفرقتي وبعادي ... وصرمت آمالي وخنت ودادي لاعنت أم الصبر فيك وبعده ... ورثت للأشجان كنز فؤادي فالصبر مني أجنبي بعدها ... ولواعج الأشجان من أولادي ومن الأغراض المشرقية: سار بي للأمير يشكواعتراضي ... يوسف والشهود أبناء جنسه قال لي ما تقول قلت مجيباً ... لم نخف من نكاله أو لحبسه حصحص الحق يا خوند فدعني ... أنا راودت يوسفاً عن نفسه ومن الأوصاف:

_ (1) ق: رقع.

بتنا نطارح هم القحط ليلتنا ... وأيد الهم والسهد البراغيثا وكان يحمد ما كنا نكابده ... من المشقة لو أن البرا غيثا وفي قريب من المعنى: وقالوا بدت منكم على الجسم حمرة ... فقلت براغيث لكم رقطونا عدت نحونا ليلاً ومن بعدنا اغتدت ... كما رقصت في القلوبزر قطونا ومن التضمين: قال جوادي عندما ... همزت همزاً أعجزه إلى متى تهمزني ... " ويل لكل همزة " وفي رثاء السلطان أبي الحجاج رحمه الله تعالى: غبت فلا عين ولا مخبر ... ولا انتظار منك مرقوب يا يوسف أنت لنا يوسف ... وكلنا في الحزن يعقوب وقلت، ولهما حكاية: طال حزني لنشاط ذاهب ... كنت أسقى دائماً من حانه وشباب كان يندى نضرة (1) ... نزل الثلج على ريحانه وقلت، وقد اعجبني نشاط ولدي: سرق الدهر شبابي من يدي ... ففؤادي مشعر بالكمد وحمدت الأمر إذ أبصرته ... باع ما أفقدني من ولدي

_ (1) ق: وشباب كان يندى من يدي.

وقلت، ولهما حكاية: قلت للشيب لا يربك جفائي ... في اختصاري لك البرور ومقتك أنت بالعتب با مشيبي أولى ... جئتني غفلة وفي غير وقتك ومما خططته في رملة نزلتها: أقمنا برهة ثم ارتحلنا ... كذاك الدهر حال بعد حال وكل بداية فإلى انتهاء ... وكل إقامة فإلى ارتحال ومن سام الزمان دوام أمر ... فقد وقف الرجاء على المحال وقلت أيام مقامي بسلا: أيا أهل هذا القطر ساعده القطر ... بليت فدلوني لمن يرفع الأمر تشاغلت بالدنيا ونمت مفرطاً ... وفي شغلي أو نومتني سرق العمر وقلت، والبقاء لله وحده، وبه نختم الهذر: عد عن كيت وكيت ... ما عليها غير ميت كيف ترجو حالة البق ... يا لمصباح وزيت انتهى ما نقلته من " الإحاطة " من ترجمة نظمه، وبعض ما ذكر هنا قد تقدم، وكررته لكونه بلفظه في الإحاطة، وقد ذكرت أثناء الأبواب غير هذا الباب من نظم لسان الدين - رحمه الله تعالى - كثيراً، ولنعزز ذلك هنا بذكر ما لم يتقدم ذكره، إذ نظمه بحر لا ساحل له، ولذا كتب ابنه أبوالحسن على هذا المحل من الإحاطة ما صورته: ولوالدي أيضاً المترجم به - رحمه الله تعالى - في سكين الأضاحي لسلطانه أبي الحجاج يوسف بن نصر فيما يكتب بالسكين المضحية:

لي الفخر إن أبصرتني أوسمعت بي ... على كل مصقول الغرارين مرهف كفاني فخراً أن تراني قائماً ... بسنة إبراهيم في كف يوسف ومقطوعاته كثيرة لم يتضمن هذا الديوان منها إلا القليل بسبب الاختصار، ومن أراد الوقوف على جملتها فعليه بكتاب الصيب والجهام في شعره، رحمه الله تعالى، قال ذلك ولده علي، لطف الله تعالى به آمين؛ انتهى. فمن ذلك قوله رحمه الله تعالى (1) : عسى خطرة بالركب يا حادي العيس ... على الهضبة الشماء من قصر باديس (2) لنظفر من ذاك الزلال بعلة ... وننعم في تلك الظلال بتعريس حبست بها ركبي فواقاً، وإنما ... عقدت على قلبي بها عقد تحبيس (3) لقد رسخت آي الجوى في جوانحي ... كما رسخ الإنجيل في قلب قسيس بميدان جفني للسهاد كتيبة ... تغير على سرح الكرى في كراديس وما بي إلا نفحة حاجزية ... سرت والدجى ما بين وهن وتغليس ألا نفس يا ريح من جانب الحمى ... تنفس من نار الجوى بعض تنفيس ويا قلب لا تلق السلاح فربما ... تعذر في الدهر اطراد المقاييس وقد تعتب الأيام بعد عتابها ... وقد يعقب الله النعيم من البوس ولا تخش لج الدمع يا خطرة الكرى ... إلى الجفن بل قيسي على صرح بلقيس تقول سليمى ما لجسمك شاحباً ... مقالة تأنيب يشاب بتأنيس وقد كنت تعطوكلما هبت الصبا ... بريان في ماء الشبيبة مغموس ومن رابح الأيام يا ابنة عامر ... بجوب الفلا راحت يداه بتفليس

_ (1) الإحاطة: 421 وأزهار الرياض 1: 234. (2) قصر باديس: فرضة بالمغرب تقابل مالقة من الديار الأندلسية. (3) التحبيس: الوقف الدائم.

فلا تحسبي والصدق خير سجية ... ظهور النوى إلا بطون النواميس (1) وقفراء أما ركبها فمضلل ... ومربعها من آنس غير مأنوس سحبنا بها من هضبة لقرارة ... ضلالاً وملنا من كناس إلى خيس إذا ما نهضنا عن مقيل غزالة ... نزلنا فعرسنا بساحة عريس (2) أدرنا بها كأساً دهاقاً من السرى ... أملنا بها عند الصباح من الروس وحانة خمار هدانا لقصدها ... شميم الحميا واصطكاك النواقيس تطلع ربانيها من جداره ... يهينم في جنح الظلام بتقديس بكرنا وقلنا إذ نزلنا بساحه ... عن الصافنات الجرد والضمر العيس أيا عابد الناسوت إنا عصابة ... أتينا لتثليث بلى ولتسديس وما قصدنا إلا المقام بحانة ... وكم ألبس الحق المبين بتلبيس فأنزلنا قوراء في جنباتها (3) ... محاريب شتى لاختلاف النواميس بدرنا بها طين الختام بسجدة ... أردنا بها تجديد حسرة إبليس ودار العذارى بالمدام كأنها ... قطيع تهادى (4) في رياش الطواويس وصارفنا فيها نضاراً بمثله ... كأنا ملأنا الكاس ليلاً من الكيس وقمنا نشاوى عندما متع الضحى ... كما نهضت غلب الأسود من الخيس فقال لبئس المسلمون ضيوفنا ... أما وأبيك الحبر ما نحن بالبيس وهل في بني مثواك إلا مبرز ... بحلبة شورى أوبحلقه تدريس إذا هز عسال اليراعة فاتكاً ... أسال نجيع الحبر فوق القراطيس يقلب تحت النقع مقلة ضاحك ... إذا التفت الأبطال عن مقل شوس

_ (1) لعل صوابها: " النواويس ". (2) العريس: عرين الأسد. (3) ق: فوراً على جنباتها، والتصويب عن أزهار الرياض والإحاطة. (4) الأزهار: قطا تتهادى؛ وسقط البيت من الإحاطة.

سبينا عقار الروم في عقر دارها (1) ... بحلية تمويه وخدعة تدليس لئن أنكرت شكلي ففضلي واضح ... وهل جائز في العقل إنكار محسوس رسبت بأقصى الغرب ذخر مضنة ... وكم درة علياء في قاع قاموس وأغريت سوسي بالعذيب وبارق ... على وطن داني الجوار من السوس ومن أبدع ما صدر (2) عن لسان الدين رحمه الله تعالى لاميته المشهورة التي خاطب بها السلطان حين عاد من المغرب إلى الأندلس، وأعاد الله تعالى عليه ملكه الذي كان خلع منه، ويقال: إن السلطان أمر بكتب هذه القصيدة على قصوره بالحمراء إعجاباً بها، وإنها إلى الآن لم تزل مكتوبة بتلك القصور التي استولى عليها العدوالكافر، أعادها الله تعالى للإسلام، وأول هذه القصيدة: الحق يعلو والأباطل تسفل ... والله عن أحكامه لا يسأل قال لسان الدين رحمه الله تعالى: نظمتها للسلطان - أسعده الله تعالى - وأنا بمدينة سلا، لما انفصل طالباً حقه بالأندلس، كان صنع الله تعالى براعة استهلالها، ووجهت بها إليه إلى رندة قبل الفتح، ثم لما قدمت أنشدتها بعد الفتح وفاء بنذري وسميتها " المنح الغريب في الفتح القريب " ومنها: وإذا استحالت حالة وتبدلت ... فالله عز وجل لا يتبدل واليسر بعد العسر موعود به ... والصبر بالفرج القريب موكل والمستعد لما يؤمل ظافر ... وكفاك شاهد قيدوا " وتوكلوا " (3) أمحمد والحمد منك سجية ... بحليها دون الورى تتجمل أما سعودك فهي دون منازع ... عقد بأحكام القضاء مسجل

_ (1) الإحاطة والأزهار: خانها. (2) انظر أزهار الرياض 1: 262. (3) يشير إلى الحديث " اعلقها وتوكل ".

ولك السجايا الغر والشيم التي ... بغريبها يتمثل المتمثل ولك الوقار إذا تزلزلت الربى ... وهفت من الروع الهضاب المثل عوذ كمالك ما استطعت فإنه ... قد تنقص الأشياء مما تكمل تاب الزمان إليك مما قد جنى ... والله يأمر بالمتاب ويقبل إن كان ماض من زمانك قد مضى ... بإساءة قد سرك المستقبل (1) هذا بذاك فشفع الجاني الذي ... أرضاك فيما قد جناه الاول والله قد ولاك أمر عباده ... لما ارتضى بك قيماً لا تعزل وإذا تغمدك الإله بنصره ... وقضى لك الحسنى فمن ذا يخذل ومنها: وظعنت عن أوطان ملكك راكباً ... متن العباب فأي صبر يجمل والبحر قد حنيت عليك ضلوعه ... والريح تقطع للزفير وترسل ولك الجواري المنشآت قد اغتدت ... تختال في برد الشباب وترفل جوفاء يحملها ومن حملت به ... من يعلم الأنثى وماذا تحمل ومنها: صبحتهم غرر الجياد كأنما ... سد الثنية عارض متهلل من كل منجرد أغر محجل ... يرمي الجلاد به أغر محجل زجل الجناح إذا أجد لغاية (2) ... وإذا تغنى للصهيل فبلبل جيد كما التفت الظليم وفوقه ... أذن ممشقة وطرف أكحل فكأنما هوصورة في هيكل ... من لطفه وكأنما هو هيكل

_ (1) سقط هذا البيت من ق. (2) الأزهار: لغارة.

ومنها: وخليج هند راق حسن صفائه ... حتى يكاد يعوم فيه الصيقل غرقت بصفحته النمال وأوشكت ... تبغي النجاة فأوثقتها الأرجل فالصرح منه ممرد، والصفح من ... هـ مورد، والشط منه مهدل (1) وبكل أزرق إن شكت ألحاظه ... مره العيون فبالعجاجة تكحل متأود أعطافه في نشوة ... مما يعل من الدماء وينهل عجباً له أن النجيع بطرفه ... رمد، ولا يخفى عليه مقتل ومنها: لله موقفك الذي وثباته ... وثباته مثل به يتمثل والخيل خط، والمجال صحيفة ... والسمر تنقط، والصوارم تشكل والبيض قد كسرت حروف جفونها ... وعوامل الأسل المثقف تعمل لله قومك عند مشتجر القنا ... إذ ثوب الداعي المهيب وأقبلوا قوم إذا لفح الهجير وجوههم ... حجبوا برايات الجهاد وظللوا وهي طويلة لم يحضرني الآن منها سوى ما كتبته. ومن نظمه رحمه الله تعالى قوله (2) : يا إمام الهدى وأي إمام ... أوضح الحق بعد إخفاء رسمه أنت عبد الحليم، حلمك نرجو ... فالمسمى له نصيب من اسمه وقال يخاطب عبد الواحد بن زكريا بن أحمد اللحياني أبا مالك ابن سلطان إفريقية مودعاً (3) :

_ (1) الأزهار: مصندل. (2) أزهار الرياض 1: 261. (3) المصدر نفسه.

أبا مالك أنت نجل الملوك ... غيوث الندى وليوث النزال ومثلك يرتاح للمكرمات ... وما لك بين الورى من مثال عزيز بأنفسنا أن نرى ... ركابك مؤذنة بارتحال وقد خبرت منك خلقاً كريماً ... أناف على درجات الكمال وفازت لديك بساعات أنس ... كما زار في الليل طيف الخيال ولولا تعللنا أننا ... نزورك فوق بساط الجلال ونبلغ فيك الذي نبتغي ... وذاك على الله سهل المنال لما فترت أنفس من أسى ... ولا برحت أدمع في انهمال تلقتك حيث حللت (1) السعود ... وكان لك الله في كل حال وتوفي أبومالك المخاطب بهذا في بلاد الجريد سنة750. ومن نظم ابن الخطيب قوله لما أشرف على الحضرة المراكشية حاطها الله تعالى (2) : ماذا أحدث عن بحر سبحت به ... من البحار فلا إثم ولا حرج دحاه مبتدع الأشياء مستوياً ... ما إن به درك كلا ولا درج حتى إذا ما المنار الفرد لاح لنا ... صحت ابشري يا مطايا جاءك الفرج قربت من عامر داراً ومنزلةً ... والشاهد العدل هذا الطيب والأرج وقال رحمه الله تعالى (3) : كأنا بتامسنا نجوس خلالها ... وممدودها في سيرنا ليس يقصر مراكب في البحر المحيط تخبطت ... ولا جهة تدري ولا البر تبصر

_ (1) الأزهار: احتللت. (2) أزهار الرياض: 265. (3) المصدر نفسه.

وقال سامحه الله تعالى، وهومكتوب بالمدرسة التي بناها السلطان أبوالحجاج ابن نصر رحمه الله تعالى (1) : ألا هكذا تبنى المدارس للعلم ... وتبقى عهود المجد ثابتة الرسم ويقصد وجه الله بالعمل الرضى ... وتجنى ثمار العز من شجر العزم تفاخر مني حضرة الملك كلما ... تقدم خصم في الفخار إلى خصم فأجدى إذا ضن الغمام من الحيا ... وأهدى إذا جن الظلام من النجم فيا ظاعناً للعلم يطلب رحلة ... كفيت اعتراض البيد أو لجج اليم ببابي حط الرحل لا تنو وجهة ... فقد فزت في حال الإقامة بالغنم فكم من شهاب في سمائي ثاقب ... ومن هالة دارت على قمر تم يفيضون من نور مبين إلى هدىً ... ومن حكمة تجلوالقلوب إلى حكم جزى الله عيني يوسفاً خير ما جزى ... ملوك بني نصر عن الدين والعلم وقال رحمه الله تعالى (2) : مررت يوماً مع شيخنا أبي البركات ابن الحاج ببعض مسالك غرناطة حرسها الله تعالى فأنشدني من نظمه: غرناطة ما مثلها حضره ... الماء والبهجة والخضره واستجارني رحمه الله تعالى، فقلت: سكانها قد أسكنوا جنة ... فهم يلقون بها نضره وقال في تورية طبية (3) : إني وإن كنت ذا اعتلال ... رث القوى بين الهزال

_ (1) أزهار الرياض: 1: 272. (2) المصدر نفسه. (3) أزهار الرياض 1: 274.

في عارض التيس لي شفاء ... فكيف في عارض الغزال وقال رحمه الله تعالى يخاطب شيخه سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق موطئاً على بيت المشارقة في العذار (1) : أما والذي تبلى لديه السرائر ... لما كنت أرضى الخسف لولا الضرائر غدوت لضيم ابن الربيب فريسة ... أما ثار من قومي لنصري ثائر إذا التمست كفي لديه جرايتي ... كأني جان أوبقته الجرائر وما كان ظني أن أنال جراية ... يحكم من جرائها في جائر متى جاد بالدينار أخضر زائفاً ... ودارته دارت عليها الدوائر وقد أخرج التعنيت كيس مرارتي ... ورقت لبلواي النفوس الأخاير (2) تذكرت بيتاً في العذار لبعضهم ... له مثل بالحسن في الأرض ثائر وما اخضر ذاك الخد نبتاً، وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر وجاه ابن مرزوق لدي ذخيرة ... وللشدة العظمى تعد الذخائر ولو كان يدري ما دهاني لساءه ... وأنكر ما صارت إليه المصائر وقال رحمه الله تعالى يخاطب أحد الشرفاء (3) : أعيا اللقاء علي إلا لمحة ... في جملة لا تقبل التفصيلا فجعلت بابك عن يمينك نائباً ... أهديه عند زيارتي تقبيلا فإذا وجدتك نلت ما أملته ... أو لم أجدك فقد شفيت غليلا ولما دخل رحمه الله تعالى مدينة أنفا (4) ، ومر منها على دار عظيمة تنسب إلى والي

_ (1) المصدر نفسه. (2) اضطربت هذه اللفظة في ق، وأثبتنا ما في أزهار الرياض. (3) أزهار الرياض 1: 275. (4) أنفاً: هي الدار البيضاء الحديثة في المغرب.

جبايتها عبومن بني الترجمان قارون قومه وغني صنفه، قال (1) : قد مررنا بدار عبو الوالي ... وهي ثكلى تشكوصروف الليالي أقصدت بها الحوادث لما ... رشقته بصائبات نبال كان بالأمس والياً مستطيلاً ... وهو اليوم ما له من وال وقال في الشيخ ابن بطان الصنهاجي (2) : لله درك يا ابن بطان فما ... لشهير جودك في البسيطة جاحد إن كان في الدنيا كريم واحد ... يزن الجميع فأنت ذاك الواحد أجريت فضلك جعفراً يحيا به ... ما كان من مجد فذكرك خالد فالقوم منك تجمعوا في مفرد ... ولد كما شاء العلاء ووالد وهي الليالي لا تزال صروفها ... يشقى بموقعها الكريم الماجد وبمستعين الله يصلح منك ما ... قد كان أفسده الزمان الفاسد وقال رحمه الله تعالى وقد انتابه البرغوث (3) : زحفت (4) إلي ركائب البرغوث ... نم الظلام يركبها المحثوث بالحبة السوداء قابل مقدمي ... لله أي قرىً، أعد، خبيث كسحت بهن ذباب سرح تجلدي ... ليلاً فحبل الصبر جد رثيث إن صابرت نفسي أذاه تعبدت ... أو صحت منه أنفت من تحنيث جيشان من ليل وبرغوث فهل ... جيش الصباح لصرختي بمغيث

_ (1) أزهار الرياض 1: 288. (2) المصدر نفسه. (3) أزهار ص: 289. (4) ق: رجعت.

وقال يخاطب الوالي محمد بن حسون بن أبي العلاء، وصدر بها رسالة (1) : لم يبق لي جود الولاية حاجة ... في الأمن أو في الجاه أو في المال بعد اللقاء أولو الفضائل بغيتي ... ورأيت هذا القصد شرط كمال أجملته وتشوفت لبيانه ... همم فكنت مفسر الإجمال وخصصت بالإلقاء غيرك غيرة ... وجعلت ذكرك شاهد الأعمال للبست يا ابن أبي العلا قشب الملا ... وتركت أهل الأرض في أسمال إن دون الفضلاء فضلاً معلماً ... فلقد أتيت عليه بالإكمال تثني عليك رعية آمالها ... في أن تفوز يداك بالآمال أرعيتها هملاً فلم يطرق لها ... بمنيع سورك طارق الإهمال من كنت واليه تولته العلا ... ومن أطرحت فما له من والي وقال في عثمان بن يحيى بن عمر بن روح (2) : أسمي ذي النورين رجهك في الوغى ... شمس الضحى حلت بليث عرين إن تفتخر بمرين أرض العدوة ال ... قصوى فإنك أنت فخر مرين وقال رحمه الله تعالى عند وقوفه على مراكش واعتباره بما صار إليه أمرها (3) : بلد قد غزاه صرف الليالي ... وأباح المصون منه مبيح فالذي خر من بناه قتيل ... والذي خر منه بعض جريح وكأن الذي يزور طبيب ... قد تأتى له بها التشريح أعجمت منه أربع ورسوم ... كان قدماً بها اللسان الفصيح

_ (1) أزهار: 289. (2) المصدر نفسه. (3) أزهار: 290.

كم معان غابت بتلك المغاني ... وجمال أخفاه ذاك الضريح وملوك تعبدوا الدهر لما ... أصبح الدهر وهوعبد صريح دوخوا نازح البسيطة حتى ... قال ما شاء ذابل وصفيح حين شبت لهم من البأس نار ... ثم هبت لهم من النصر ريح أثر يندب المؤثر لما ... طال بعد الدنومنه النزوح ساكن الدار روحها، كيف يبقى ... جسد بعدما تولى الروح وقال رحمه الله تعالى يخاطب أحمد بن يوسف حفيد الولي الصالح سيدي أبي محمد صالح النائم في ظل صيته رحمه الله تعالى (1) : يا حفيد الولي يا وارث الفخ ... ر الذي نال في مقام وحال لك يا أحمد بن يوسف جبنا ... كل قطر يعيي أكف الرحال وقال في " نفاضة الجراب ": لما خرجت من آسفي (2) سرت إلى منزل ينسب إلى أبي خدو، وفيه رجل من بني المنسوب إليه اسمه يعقوب، فألطف وأجزل، وآنس في الليل، وطلبني بتذكرة تثبت عندي معرفته فكتبت له (3) : نزلنا على يعقوب نجل أبي خدو ... فعرفنا الفضل لاذي ما له حد وقابلنا بالبشر واحتفل القرى ... فلم يبق لحم لم ننله ولا زبد يحق علينا أن نقوم بحقه ... ويلقاه منا البر والشكر والحمد وقال: أألقي إلى الأيام فضل مقادتي ... فتجنبني ما بين كد وإرهاق

_ (1) أزهار: 298. (2) آسفي: بالمغرب على ساحل الاطلنطلي؛ والسين منها مفتوحة أو ساكنة. (3) المصدر نفسه.

وأتلف بين الخلق والرزق فكرتي ... ولست بخلاق ولست برزاق إذا كنت بالإثراء لي في تملق ... رضيت بعز النفس في عز إملاق وقال: لك الملك ملك الحسن فاقض بنا الذي ... تشاء فما يعصى لأمرك واجبه إذا ما كسرت اللحظ من تحت حاجب ... تحكم في الألباب كسرى وحاجبه وقال: سألنا ربيع العام للعام رحمة ... فضن ولم يسمح بذرة إنعام فقلنا وقد رد الوجوه ولم يبل ... قليل الحيا قبحت والله من عام وقال: تخونه صرف الزمان وهل ترى ... بقاء لحي أودواماً على أمر هو الدهر ذووجهين يوم وليلة ... ومن كان ذا وجهين يعتب في غدر وقال رحمه الله تعالى في شجر الجوز: انظر إلى ينعي وحسن بسوقي ... يهفو النسيم بقدي الممشوق يجلو اللواحظ منظري حسناً كما ... يجلو ثغور الغانيات عروقي وقال رحمه الله تعالى في ساق: كيف آمنتما على الشرب ظبياً ... لحظه في القلوب غير أمين راح يسقي فصب في الكاس نزراً ... ثقة منه بالذي في العيون وقال يخاطب السلطان (1) :

_ (1) أزهار: 298.

أنت للمسلمين خير عماد ... وملاذ وأي حرز حريز لو رأى ما شرعت للخلق فيه ... عمر الفاضل ابن عبد العزيز لجزى ملكك المبارك خيراً ... وقضى بالشفوف والتبريز فاشكر الله ما استطعت بفعل ... وبقول مطول أو وجيز كل ملك يرى بصحبة أهل ال ... علم قد باء بالمحل العزيز فإذا ما ظفرت منهم بإكسي ... ر ملأت البلاد من إبريز والبرايا تبيد والملك يفنى ... أين كسرى الملوك مع أبرويز وقال رحمه الله تعالى: ما لي أهذب نفسي في مطامعها ... والنفس تأنف تهذيبي وتهذي بي إذا استعنت على دهري بتجرية ... تأبى المقادير تجريبي وتجري بي وقال: من لا نصيب لصحبه في خيره ... وإذا سعى لم يقض حاجة غيره فاقصد أباه متى أردت وقل له ... الله يلهمه العزاء بأيره وقال رحمه الله تعالى: أمستخرجاً كنز العقيق بآماقي ... أناشدك الرحمن في الرمق الباقي فقد ضعفت عن حمل صبري طاقتي ... عليك وضاقت عن زفيري أطواقي وقال رحمه الله تعالى: إذا لم أشاهد منك قبل منيتي ... نهاية آمالي وغاية غاياتي فحسن عزائي حيل بيني وبينه ... وقرة عيني لم تحل بمرآتي شهودك أمني من عداة خواطري ... وقربك حرزي من توقع آفات

فإن لم يكن وصل فهبها إشارة ... فيا حسن شاراتي بها من إشارات وقال رحمه الله تعالى يخاطب الدنيا: دنيا خدعت الذي سفرت له ... عن صفحة لم يحل بها كرم سرقت حظ الإله من يده ... فهان ما كان منه يحترم هذا الذي نال منك ليس له ... منقطع دائم ومنصرم وهبه نال الذي أراد أما ... بين يديه المشيب والهرم ولما أورد رحمه الله تعالى قول القائل (1) في وصف الدنيا: كلما أنبت الزمان قناة ... ركب المرء في القناة سنانا وكأنا لم نرض فيها بري ... ب الدهر حتى أعانه من أعانا قال أثره ما نصه: والحق ما قلته من أبيات تناسب ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله: والله إن لم يداركها وقد وحلت ... بلمحة أوبلطف من لدنه خفي ولم يجد بتلافيها على عجل ... ما أمرها صائر إلا إلى التلف فحب الدنيا رأس كل بلية، ولولاه لم تزل النفس صافية عالية عن سجيتها الأولية. ومن نظمه رحمه الله تعالى قوله: إن رأى الحق فيك منه بقيه ... فاتق البعد فيه حق التقيه وإذا لم يكن لذاتك رسم ... قائم تلك حالة حقيه وقوله رحمه الله تعالى:

_ (1) هو المتنبي، من قصيدة مطلعها " صحب الناس قبلنا ذا الزمانا ".

فسامح إذا ما لم تفدك عبارة ... وإن أشكلت يوماً فخذها كما هيا وتلخيص ما دندنت بالقول حوله ... إذا قمت بالباقي فما زلت باقيا وقال رحمه الله تعالى (1) : ففي عالم الأسرار ذاتك تجتلي ... ملامح نور لاح للطور فانهدا وفي عالم الحس اغتديت مبوأ ... لتشفي من استشفى وتهدي من استهدى فما كنت لولا أن أتيت هداية ... من الله مثل الخلق رسماً ولا حدا وهذه الأبيات في مدح النبي صلى الله عليه وسلم. وقال رحمه الله تعالى: حمامة البان ما هذا البكاء على ... مر الليالي وماذا البث والحزن لا منزل بنت عنه أنت تندبه ... ولا حبيب ولا خل ولا سكن لو كنت تنفث عن شوق منيت به ... إذاً لصار رماداً تحتك الغصن وقال رحمه الله تعالى مضمناً: أمط عنك مهما اسطعت كل إرادة ... وإلا فمغنى القوم عنك بعيد تكون مريداً ثم فيك إرادة ... إذا لم ترد شيئاً فأنت مريد وقال رحمه الله تعالى: تعلقته من دوحة الجود والباس ... قضيباً لعوباً بالرجاء وبالياس ضروباً بضرب لليراعة والقنا ... طروباً بحمل المشرفية والكأس يذكرنيه الصبح عند انصداعه ... جمال رواء في تأرج أنفاس ويبدو لعيني شعره وجبينه ... إذا ما سفحت الحبر في صفح قرطاس

_ (1) انظر ص: 453.

وقال رحمه الله تعالى: أحب لحبها جملي ورحلي ... وعزمي والقتادة والطريقا ومن أخشاه من سبع ولص ... فكيف فريقها سلموا فريقا! وكيف أخص باسم الحب إن لم ... أحب لأجلها إلا صديقا وقال رحمه الله تعالى وقلت من قصيدة: أنا نسخة الأكوان أدمج خطها ... فسر ذوي التحقيق في طي أوراقي فمن عالم الأشباح ليلي وظلمتي ... ومن عالم الأرواح نوري وإشراقي وقال رحمه الله تعالى: مولاي مولاي إن أرضاك بذل دمي ... فقد أتيت به أسعى على قدمي وإن تعاظم ذنب قد جنته يدي ... وطال قرعي عليه السن من ندم فهبه لي واغتفر ما كان من خطإ ... وزلة وارع لي حبي على القدم وقال رحمه الله تعالى من قصيدته العينية السلوية التي وجهها إلى سلا أيام خلف بها أهله وولده: بولي الله فابدأ وابتدر ... واحد الآحاد في باب الورع [ترجمة الولي ابن عاشر] قلت: هذا الولي هوالعارف بالله تعالى سيدي الحاج أحمد بن عاشر أحد الصلحاء أصحاب الكرامات المشهورة بالمغرب، وقد زرت قبره بسلا عام تسعة وألف، وهوأحمد بن عمر بن محمد بن عاشر (1) ، الأندلسي، نزيل سلا، الولي الزاهد المشهور بالمناقب والأحوال.

_ (1) انظر ترجمة ابن عاشر في نيل الابتهاج: 43 والمقري ينقل عنه؛ وأنس الفقير: 90.

قال ابن عرفة: ما أدركت مبرزاً في زماننا هذا إلا الشيخ أبا الحسن المنتصر وأحمد بن عاشر بسلا؛ انتهى. وقال بلدينا أبوعبد الله ابن صعد التلمساني في كتابه " النجم الثاقب فيما لأولياء الله تعالى من المناقب ": كان أحد الأولياء الأبدال، معدوداً في كبار العلماء، مشهوراً بإجابة الدعاء، معروفاً بالكرامات، مقدماً في صدور الزهاد، منقطعاً عن الدنيا وأهلها، ولوكانوا من صالحي العباد، ملازماً للقبور في الخلاء المتصل ببحر مدينة سلا، منفرداً عن الخلق، لا يفكر في أمر الرزق، وله أخبار جليلة، وكرامات عجيبة مشهورة، ممن جمع له العلم والعمل، وألقي عليه القبول من الخلق، شديد الهيبة، عظيم الوقار، كثير الخشية، طويل التفكر والاعتبار، قصده أمير المؤمنين أبوعنان، وارتحل إليه عام سبعة وخمسين وسبعمائة، فوقف ببابه طويلاً، فلم يأذن له، وانصرف وقد امتلأ قلبه من حبه وإجلاله، ثم عاود الوقوف ببابه مراراً فما وصل إليه، فبعث له بعض أولاده بكتاب كتبه إليه يستعطفه لزيارته وورؤيته، فأجابه بما قطع رجاءه منه، وأيس من لقائه، واشتد حزنه، وقال: هذا ولي من أولياء الله تعالى حجبه الله عنا؛ انتهى. ولما أجرى ذكره لسان الدين في " نفاضة الجراب " قال ما ملخصه: ولقيت من أولياء الله تعالى بسلا الولي الزاهد الكبير المنقطع القرين، فراراً عن زهرة الدنيا، وعزوفاً عنها، وإغفاء في الورع، وشهرة بالكشف، وإجابة الدعوة وظهور الكرامة، أبا العباس ابن عاشر، يسر الله تعالى لقاءه على تعذره لصعوبة تأتيه، وكثرة هيبته، قاعداً بين القبور في الخلاء، رث الهيئة، مطرق اللحظ، كثير الصمت، مفرط الانقباض والعزلة، قد فر من أهل الدنيا وتطارحهم، فهوشديد الاشمئزاز من قاصده، مجرمز للوثبة من طارقه، نفع الله تعالى به. وقال ابن الخطيب القسمطيني الشهير بابن قنفذ: لقيته بسلا سنة 763، وهوعلى أتم حال في الورع، والفرار من الامراء، والتمسك بالسنة، وهوالشيخ

الفقيه الولي، توفي في سنة خمس وستين وسبعمائة؛ انتهى. وممن انتفع به ونال بركته الولي العارف بالله سيدي أبوعبد الله ابن عباد شارح الحكم، وقد ترجمناه في هذا الكتاب. وقال ابن عباد المذكور في رسائله: وقد كنت قدماً خرجت في يوم مولده صلى الله عليه وسلم صائماً إلى ساحل البحر، فوجدت هناك سيدي الحاج ابن عاشر رحمه الله تعالى وجماعة من أصحابه معهم طعام يأكلونه، فأرادوا مني الأكل، فقلت: إني صائم، فنظر إلي سيدي الحاج نظرة منكرة، وقال لي: هذا يوم فرح وسرور يستقبح في مثله الصوم كالعيد، فتأملت قوله فوجدته حقاً، وكأنه أيقظني من النوم؛ انتهى. وقال ابن قنفذ السابق في رحلته ما صورته: وكان ابن عاشر رحمه الله تعالى فريداً في الورع، ميسراً عليه في ذاك أتم تيسير، محفوظاً من كل ما فيه شبهة، كثير النفور من الناس، وخصوصاً أصحاب الولاية في الأعمال، وخرجت على يده تلامذة نجباء أخيار، وطريقه أنه جعل " إحياء علوم الدين " بين عينيه، واتبع ما فيه بجد واجتهاد، وصدق وانقياد، وكان الحجة في ذلك الطريق، وأول اجتماعي به نفر مني، فحبسته بيدي وهززته، فتبسم ووقف معي، وسألني عن نسبي، ودعا لي، وطلبته بما يطمعني، فاعتذر لي بالإقلال، ثم قال: أمهل، فدخل وأخرج لي حبات تين يا بسة في يده اليمنى، وغطاها باليد اليسرى، ودفعها إلي، وضحك معي، وعجب الحاضرون من ليانته وانشراحه معي، لأنه لا ينبسط إلى أحد، وحصل لي بذلك فخر لا يدري قدره إلا من حاول بعضه معه، وقصدني كثير من الخواص فسألني عن مجلسي معه وما وقع من جوابه وسؤاله، وقد حاول ملك المغرب لما ارتحل إليه في عام سبعة وخمسين وسبعمائة على لقائه فلم يقدر عليه بوجه، وحجبه الله تعالى حتى تبعه يوم جمعة من الجامع الأعظم على قدمه، والناس ينظرونه، وهولم يره، فرجع، ولم يكن قوته إلا من نسخ العمدة في الحديث، وكيف يبيعها، ولمن يبيعها، ولا يأخذ إلا قيمتها

ولم تزل حالته وبركته في زيادة إلى أن توفي سنة 765، وسأله بعض الأخيار بمحضري عن الفرق بين مكاشفة المسلم ومكاشفة النصراني، لوجود ذلك من بعضهم، فقال: المسلم الذي له هذه الدرجة يبرئ من العاهة، والنصراني لا يبرئ، ثم قال: وهل يبرئ الفقيه من العاهة فقال له: نعم، ثم نظر يميناً وشمالاً، ليجد صاحب عاهة فيأتي بالعيان، فلم يجد أحداً، وكأنه اغتاظ لهذا السؤال، ثم أخرج يده وقال: يأتي لمن يقعد عن الحركة، فيحبسه بيده، ويقيمه وقد ذهب ألمه بعد أن جثا إلى الأرض في الصفة، ثم قال: وسئل بعضهم عن هذا، وكان السائل نصرانياً في زي المسلم، فقال له: الفرق بينهما سقوط الزنار من وسطك، قال: فسقط، وفضحه الله تعالى، وأسلم بسبب ذلك؛ انتهى كلام ابن قنفذ القسمطيني، رحمه الله تعالى. وترجمة ولي الله تعالى سيدي الحاج ابن عاشر - نفعنا الله تعالى ببركاته - متسعة جداً، وكراماته ومناقبه لا نبلغ لها حداً، ولا نطيق لها عداً، وإنما ألمعنا بذكره قصداً للتبرك به، والله ولي التوفيق، وهوالهادي إلى سواء الطريق. رجع إلى نظم لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى، فنقول: ومن مداعباته رحمه الله تعالى قوله: ومولع بالكتب يبتاعها ... بأرخص السوم وأغلاه في نصف الاستذكار أعطيته ... مختصر العين فأرضاه ويعني بمختصر العين الزبيدي فافهم، وقال رحمه الله تعالى من قصيدة: ووالله ما اعتل الأصيل، وإنما ... تعلم من شجوي فبان اعتلاله وهذا غاية في المنالغة وحسن التعليل.

وقال رحمه الله تعالى (1) : وقفت على قبر المعتمد بالله في مدينة أغمات في حركة راحة أعملتها إلى الجهات المراكشية، باعثها لقاء الصالحين ومشاهدة الآثار، عام واحد وستين وسبعمائة، وهوبمقبرة أغمات في نشز من الأرض، وقد حفت به سدرة، وإلى جنبه قبر " اعتماد " حظية مولاه رميك، وعليهما هيئة التغرب ومعاناة الخمول من بعد الملك، فلا تملك العين دمعها عند رؤيتهما، فأنشدت في الحال: قد زرت قبرك عن طوع بأغمات ... رأيت ذلك من أولى المهمات لم لا أزورك يا أندى الملوك يداً ... ويا سراج الليلالي المدلهمات وأنت من لو تخطى الدهر مصرعه ... إلى حياتي لجادت فيه أبياتي أناف قبرك في هضب يميزه ... فتنتحيه حفيات التحيات كرمت حياً وميتاً واشتهرت علا ... فأنت سلطان أحياء وأموات ما ريء مثلك في ماض ومعتقدي ... أن لا يرى الدهر في حال ولا آت وقد تقدم هذا في القسم الأول في الباب السابع منه، وكررته هنا، والله الموفق. وقال رحمه اله تعالى مورياً حين أكل مشرف الدار القابض، أي أكل ماله (2) : مشرف دار الملك ما باله ... منتفخ الجوف شكا نافضا (3) فقيل لي ليس به علة ... لكنه قد أكل القابضا (4)

_ (1) أزهار الرياض 1: 297، وانظر الأبيات في الجزء 4: 98. (2) أزهار: 300. (3) النافض: الحمى. (4) القابض - في المصطلح الأندلسي - المال المقبوض.

وقال (1) : يا نفس لا تصغي إلى سلوة ... كم أخلف الموعد عرقوب وأنت يا قلبي وصاك إب ... راهيم بالحزن ويعقوب وقال في السعيد أبي بكر ابن السلطان أبي عنان: أمير كأن قمير الدجى ... أفاض الضياء على صفحتيه تملأ قلبي من حبه ... غداة نظرت بعيني إليه فلا بسط الدهر كف الردى ... لذاك الشخيص وذاك الوجيه وقال يخاطب الخطيب ابن مرزوق: تعلم طيفوري خلال سميه ... وإن كان منسوباً إلى غير بسطام (2) وجاء فقير الوقت لابس خرقة ... فليس براض غير صحبة صوام فديتك لا تردده عنك مخيباً ... ودرسه يا مولاي قصة بلعام (3) وقال: مما كتبت به إلى ابن مرزوق المذكور، وقد وصل ولده إلى سلا ومنع ابن الخطيب عن لقائه عذر مرض، وكان نزوله بزاوية النساك: صدني عن لقاء نجلك عذر ... يمنع الجسم عن تمام العباده واختصرت القرى لأن حط رحلاً ... في محل الغنى ودار الزهاده ولو أني احتفلت لم يعن الده ... ر ولا نلت بعض بعض أراده وعلى كل حالة فقصوري ... عادة إذ قبولك العذر عاده

_ (1) هذه المقطوعة والعشر التالية لها في أزهار الرياض 300 - 304. (2) الطيفور: طبق عليه طعام أو مائدة صغيرة، وفي الإسبانية (Ataifor) ، وانظر الحاشية: 2 من ج 4: 510، وطيفور اسم أبي يزيد البسطامي. (3) بلعام اسمه مشتق من البلع فهو يوري بذلك.

لا عدمت الرضى من الله والحس ... نى كما نص وحيه والزياده وقال يخاطبه من ضريح السلطان أبي الحسن بشالة لاستنهاض عزيمته في قضاء غرضه: برئت لله من حولي ومن حيلي ... إن نام عني وليي فهوخير ولي أصبحت مالي من عطف أؤمله ... من غيره في مهمات ولا بدل ما كنت أحسب أن أرمى بقاصية ... للهجر أقطع فيها جانب الأمل من بعد ما خلصت نحوي الشفاعة ما ... بين العلا (1) والدجى والبيض والأسل إن كنت لست بأهل للذي طمحت ... إليه نفسي وأهوى نحوه أملي فكيف يلغى ولا ترعى وسيلته ... دخيل قبر أمير المسلمين علي من بعد ما اشتهرت حالي به وسرت ... بها الركائب في سهل وفي جبل والرسل تترى ولا تخفى نتائجها ... عند التأمل من قول ولا عمل ولا لليلي من صبح أطالعه ... كأن همي قد مد الدجنة لي لو أنني بابن مرزوق عقدت يدي ... وكان محتكماً في خيرة الدول لكان كربي قد أفضى إلى فرج ... وكان حزني قد أوفى على جذلي ألمحت بالعتب لم أحذر مواقعه ... أنا الغريق فما خوفي من البلل ولست أجحد ما خولت من نعم ... لكنها النفس لا تنفك عن أمل ولست أيأس من وعد وعدت به ... " وإنما خلق الإنسان من عجل " وقال رحمه الله تعالى يخاطب السلطان أبا الحجاج: أمولاي إن الشعر ديوان حكمة ... يفيد الغنى والعز والجاه من كانا وقد وجد المختار في الحفل منصتاً ... له وحبا كعباً عليه وحسانا

_ (1) الأزهار: الفلا.

وفيما رواه الناقلون وأثبتوا ... بذلك ديواناً صحيحاً فديوانا بأن أبا بكر خليفته الرضى ... وفاروقه الأدنى إليه وعثمانا وأن علياً قدس الله جمعهم ... وكرمنا بالقرب منهم وحيانا لهم في ضروب القول إذ هم فحوله ... خطاب وشعر يستقران تبيانا وفاض على أهل القريض نوالهم ... فروض روض القول سحاً وتهتانا وأنت أحق الناس أن تفعل الذي ... به فعل المختار ديناً وإيماناً فما زلت تهدي في البرية هديه ... وتقضي بما يرضيه سراً وإعلاناً وإن قيل قدر المرء ما هو محسن ... فصنعة نظم القول أرفعه شانا وقال مورياً: بنفسي حبيب في ثناياه " بارق " ... ولكنها للواردين عذاب إذا كان لي منه عن الوصل " حاجر " ... فدمعي " عقيق " بالجفون مذاب وقال: عذبت قلبي بالهوى فقيامه ... في نار هجرك دائماً وقعوده ولقد عهدت القلب وهو موحد ... فعلام يقضى في العذاب خلوده وقال في التجنيس: دعوتك للود الذي جنباته ... تداعت مبانيها وهمت بأن تهي وقلت لعهد الوصل والقرب بعدما ... تناءى وهل أسلوحياتي وأنت هي ومن شام من جوالشبيبة بارقاً ... ولم تنهه عنه النهى كيف ينتهي وقال: ناديت دمعي إذ جد الرحيل بهم ... والقلب من فرق التوديع قد وجبا سقطت يا دمع من عيني غداة نأى ... عني الحبيب ولم تقض الذي وجبا

وقال: شلير لعمري أساء الجوار ... وسد علي رحيب الفضا هو الشيخ أبرد شيء يرى ... إذا ليس البرنس الأبيضا وقال: قلت أخاطب بعض من أدل عليه وما أولاني بذلك: إذا قمت قل بعقيب الكرى ... إلهي أنت إله الورى تباركت أنشأتهم من تراب ... وأنشأتني بينهم من خرا قلت: ولا خفاء ببشاعة هذا، فحذفه أولى من إثباته. وقال يداعب بعض أصحابه: شيخ رباط إن أتى شادن ... خلوته عند انسدال الظلام أدلى وقد أبصره دلوه ... وقال يا بشراي هذا غلام وقال في غرض يظهر: لم أجد فيه لين بث لقلبي ... وقبولاً لحجتي واعتذاري ثقل الله ظهره بعيال ... سود الله وجهه بعذار وقال من قصيدة: أخذت وأمواج الردى متلاطمه ... بضبعي يا نجل الوصي وفاطمه وقال: ووجه غرست الورد فيه بنظرة ... فيا ليت كفي متعت بجنى غرسي كأن سواد الخال في وجناته ... علامة مولانا على أحمر الطرس وبينهما في باطن الأمر نسبة ... لذلك أمضيت الغرام على نفسي

وقال يشير إلى بعض طبقات الغناء: ضرط الفقيه فقلت ذاك غريبة ... ما كان ذلك منه بالمعلوم فدنا إلي وقال قد أصرفتكم ... من ضرطتي بغريبة المزموم وفي آخر سنة أربع وسبعين وجه إلى السلطان أبي حمو سلطان تلمسان أبياتاً لزومية في غرض الهناء، وهي: وقفت الغرام على ثناك لساني ... رعياً لما أوليت من إحسان فكأنما شكري لما أوليته ... شكر الرياض لعارض النيسان أنا شيعة لك حيث كنت، قضية ... لم يختلف في حكمها نفسان ولقد تشاجرت الرماح فكنت في ... ميدان نهرك فارس الفرسان ورويت غر مآثر أسندتها ... لعلاك بين صحائح وحسان ولأنت أولى بالتشيع شيمة ... لم تتفق لسواك من إنسان الشمس أنت قد انفردت وهل يرى ... بين الورى في مطلع شمسان جبرت بجبرك كل نفس حرة ... وشدا بشكر (1) الله كل لسان وبدت سعودك مستقيماً سيرها ... وعلت ففر أمامها النحسان فاستقبل السعد المعاود سافراً ... عن أي وجه للرضى حسان وابغ المزيد بشكر ربك ولتثق ... بمضاعف الإنعام والإحسان فالشكر يقتاد المزيد ركائباً ... تنتاب بابك منه في أرسان ثم السلام عليك يزري عرفه ... طيباً بعرف العود والبلسان وقال (2) :

_ (1) ق: بذكر. (2) أزهار: 304.

بحق ما بيننا يا ساكني القصبة ... ردوا علي حياتي فهي مغتصبه ماذا جنيتم على قلبي ببينكم ... وانتم الأهل والأحباب والعصبه قلت: ولعل ابن زمرك قال أبياته التي على هذا الروي المذكورة في غير هذا الموضع من هذا الكتاب جواباً لهذه حين كان ابن زمرك من جملة أتباع لسان الدين رحم الله تعالى الجميع. وقال لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى (1) : حين ساروا عني وقد خنقتني ... عبرات قد أعربت عن ولوعي صحت من ينصر الغريب فلما ... لم أجد ناصراً بلعت دموعي وقال: قال لي والدموع تنهل سحباً ... في عراص (2) من الخدود محول بك ما بي فقلت مولاي عافا ... ك المعافي من عرتي ونحولي أنا جفني القريح يروي عن الأع ... مش والجفن منك عن مكحول وقال: أشكو لمبسمه الحريق وقد حمى ... عني لماه المشتهى ورحيقه يا ريقه حيرتني ومطلتني ... ما أنت إلا بارد يا ريقه وقال فيمن ركب البحر وماد (3) : ركب السفينة واستقل بأفقها ... فكأنما ركب الهلال الفرقد

_ (1) أزهار: 305 وكذلك القطعة التالية والتي بعدها. (2) ق والأزهار: عراض. (3) أزهار: 306 والقطعة التي تليها أيضاً.

وشكوا إليه بميده فأجبتهم ... لا غرو إن ماد القضيب الأملد وقال عندما خرج السلطان ابن الأحمر من فاس متوجهاً إلى الأندلس لطلب حقه: ولما حثثت السير والله حاكم ... لملكك في الدنيا بعز وفي الأخرى حكى فرس الشطرنج طرفك لا يرى ... ينقل من بيضاء إلا إلى حمرا ويعني بالبيضاء فأساً الجديدة، وبالحمراء حمراء غرناطة. وتذكرت هنا أن بعض علماء الأندلس، وأظنه أبا عبد الله ابن جزي، لما رمدت عين بعض أهل فاس سأله عنها، فقال: يا سيدي عيني قد ... أودى قذاها بالأنس فانظر إليها ترها ... دار مليك الأندلس يعني حمراء، فأجابه بقوله: وقيت مما تشتكي ... من القذى والوصب ما رمدت عيناك بل ... عين العلا والأدب فلتحمدن أن لم تكن ... دار مليك المغرب يعني بيضاء، وهذا من غريب ما يحاضر به. رجع - وقال لسان الدين رحمه الله تعالى (1) : أجاد يراع الحسن خط عذاره ... وأودعه السر المصون الذي يدري ولم يفتقر فيه لختم وطابع ... فمبسمه أغناه عن طابع السر

_ (1) هذه القطعة والقطع العشر التالية في أزهار الرياض 307 - 310.

وقال في غرناطة: أحييك يا معنى الكمال (1) بواجب ... وأقطع في أوصافك الغر أوقاتي تقسم منك الترب قومي وجيرتي ... ففي الظهر أحيائي وفي البطن أمواتي وقال في غرض ينحو نحو المشارقة: رموا بالسلو حليف الغرام ... وأدمعه كالحيا الهاطل أعوذ بعزك يا سيدي ... لذلي من دعوة الباطل وقال: يا ليل طلت ولم تجد بتبسم ... وأريتني خلق العبوس النادم هلا رحمت تغربي وتفرقي ... لله ما أقساك يا ابن الخادم وقال في مروحة سلطانية: كأني قوس الشمس عند طلوعها ... وقد قدمت من قبلها نسمة الفجر وإلا كما هبت بمحتدم الوغى ... بنصر ولكن من بنود بني نصر وقال يخاطب شيخه ابن الجياب: بين السهام وبين كتبك نسبة ... فبها يصاب من العدو المقتل وإذا أردت لها زيادة نسبة ... هذي وهذي في الكنانة تجعل وقال يتغزل، وفيه معنى غريب: إن اللحاظ هي السيوف حقيقة ... ومن استراب فحجتي تكفيه لم يدع غمد السيف جفناً باطلاً ... إلا لشبه اللحظ يغمد فيه

_ (1) أزهار: أحبك يا مغني الكمال.

قيل: وأحسن منه قول غيره: إن العيون النجل أمضى موقعاً ... من كل هندي وكل يماني فضل العيون على السيوف بأنها ... قتلت ولم تخرج من الأجفان وأصل ما قال لسان الدين قول الأول: بين السيوف (1) وعينيه مناسبة ... من أجلها قيل للأغماد أجفان وقال لسان الدين رحمه الله تعالى في الساعة، وتسميها المغاربة المنجانة: تأمل الرمل في المنجان منقطعاً ... يجري وقدره عمراً منك منتهبا والله لوكان وادي الرمل (2) ينجده ... ما طال كامله إلا وقد ذهبا وقال: أقول لعاذلي لما نهاني ... وقد وجد المقالة إذ جفاني علمت بأنه مر التجني ... وفاتك أنه حلو اللسان وقال في غرض صوفي: لا تنكروا إن كنت قد أحببتكم ... أو أنني استولى علي هواكم طوعاً وكرهاً ما ترون فإنني ... طفت الوجود فما وجدت سواكم وقال يمدح، وفيه تورية: وإن نظرت إلى لألاء غرته ... يوم الهياج رأيت الشمس في الأسد وقال مما يكتب على طاق الماء بباب القبة (3) :

_ (1) ق: اللحاظ. (2) ق: الأرض. (3) هذه القطعة والقطع الثلاث بعدها في الأزهار 312 - 313.

أنا طاق تزهو بي الأيام ... تعبت في بدائعي الأفهام وتبديت للنواظر محرا ... باً كأن الإناء في إمام واقف للصلاة حتى إذا ما ... جئت للشرب حان مني سلام وقال في ذلك أيضاً: يا صانعي لله ما أحكمته ... فلأنت بين العالمين رئيس أحكمت تاجي يوم صغت رقوشه ... فصبت إليه مفارق ورؤوس وأقمت في محرابه فكأنه ... مجلى إناء فيه عروس وقال في المشيب (1) : أنى لمثلي بالهوى من بعد ما ... للوخط في الفودين أي دبيب لبس البياض وحل ذروة منبر ... مني ووالى الوعظ، فعل خطيب وقال رحمه الله تعالى: والله ما جان على ماله ... أو جاهه من ذب عن عرضه والناس في خير وفي ضده ... هم شهداء الله في أرضه وقال (2) : إلهي بالبيت المقدس والمسعى ... وجمع إذا ما الخلق قد نزلوا جمعا وبالموقف المشهود يا رب في منى ... إذا ما أسال الناس من خوفك الدمعا وبالمصطفى والصحب عجل إقالتي ... وأنجح دعائي فيك يا خير من يدعى صدعت وأنت المستغاث جنابه ... أقل عثرتي يا موئلي واجبر الصدعا

_ (1) البيتان من بائيته التي تقدمت ص: 455. (2) أزهار الرياض 1: 271.

وقال رحمه الله تعالى في بنيونش سبتة (1) : بنيونش (2) أسنى الأماكن رقعة ... وأجل أرض الله طرأ شانا هي جنة الدنيا التي من حلها ... نال الرضى والروح والريحانا قالوا القرود بها فقلت فضيلة ... حيوانها قد قارب الإنسانا (3) وفي بنيونش هذه يقول أبوعبد الله ابن مجبر (4) : بنيونش جنة ولكن ... طريقها يقطع النياطا وجنة الخلد لا يراها ... إلا فتىً يقطع الصراطا وقال ابن الخطيب رحمه الله تعالى (5) : إن الهوى لشكاية معروفة ... صبر التصبر من أجل علاجها والنفس إن ألفت مرارة طعمه ... يوماً ضمنت لها صلاح مزاجها وقال رحمه الله تعالى (6) : ولما رأت عزمي حثيثاً على السرى ... وقد رابها صبري على موقف البين أتت بصحاح الجوهري دموعها ... فقابلت من دمعي بمختصر العين وقال رحمه الله تعالى: تذكرت عهداً كان أحلى من الكرى ... وأقصر من إلمام طيف خياله

_ (1) أزهار الرياض 1: 34. (2) الأزهار: بليونش، وهي لغة في بنيونش. (3) ذكر في الاستبصار: 138 أن على قرية بليونش جبلاص عظيماً فيه القردة. (4) وردا في أزهار الرياض (34) منسوبين للقاضي عياض. (5) مر البيتان في ما تقدم ص: 471. (6) مر البيتان في ما تقدم ص: 464.

فيا ليت شعري من أتاح لي المنى ... وعذب بالي هل أمر بباله وقال رحمه الله تعالى: عيني جنت فعلام تحرق أضلعي ... أبما جنى جار يعذب جار يا قلب لا تدهشك نيران الهوى ... فكنار إبراهيم تلك النار فاصبر على ما حملوا تنل المنى ... بالسبك أدرك نقشه الدينار وقال رحمه الله تعالى: وما كان إلا أن جنى الطرف نظرة ... غدا القلب رهناً في عقوبة ذنبه وما العدل أن يأتي امرؤ بجزيرة ... فيؤخذ في أوزارها جار جنبه وقال رحمه الله تعالى: برى جسدي فيكم غرام ولوعة ... إذا سكن الليل البهيم تثور فلولا أنيني ما اهتدى نحو مضجعي ... خيالكم بالليل حين يزور ولو شئت في طي الكتاب لزرتكم ... ولم تدر عني أحرف وسطور وقال رحمه الله تعالى: بلد تحف به الرياض كأنه ... وجه جميل والرياض عذاره وكأنما واديه معصم غادة ... ومن الجسور المحكمات سواره وقال رحمه الله تعالى يخاطب السلطان أبا حموصاحب تلمسان ويشكره على ما كان أعان به أهل الأندلس (1) : لقد زار الجزيرة منك بحر ... يمد فليس تعرف منه جزرا

_ (1) هذه القطعة والتي تليها في أزهار الرياض: 261.

أعدت لها بعهدك عهد موسى ... سميك فهي تتلومنه ذكرا أقمت جدارها وافدت كنزاً ... ولو شئت اتخذت عليه أجرا وقال أيضاً: وقالوا الجزيرة قد صوحت ... فقلت غمام الندى تنتظر إذا وكفت كف موسى بها ... غماماً يعود الجناب الخضر وقال رحمه الله تعالى عقب الإياب من الرحلة المراكشية (1) : أفادت وجهتي بنداك مالاً ... قضى ديني وأصلح بعض حالي ومتعت الخواطر بانشراح ... وأطرفت النواظر باكتحال وأبت خفيف ظهر، والمطايا ... بجاهك تشتكي ثقل الرحال وشاني للمعالم غير شان ... وحالي بالمكارم جد حال فحب علاك إيماني وعقدي ... وشكر نداك ديني وانتحالي كما قد صح لله انقطاعي ... بتأميلي جنابك وارتحالي وما يبقى سوى فعل جميل ... وحال الدهر لا تبقى بحال وكل بداية فإلى انتهاء ... وكل إقامة فإلى ارتحال ومن سام الزمان دوام أمر ... فقد وقف الرجاء على المحال وقال رحمه الله تعالى في الضراعة إلى ربه، والاعتراف بذنبه (2) : مولاي إن أذنبت ينكر أن يرى ... منك الكمال ومني النقصان والعفو عن سبب الذنوب مسبب ... لولا الجناية لم يكن غفران

_ (1) أزهار: 271. (2) أزهار: 211.

وقال رحمه الله تعالى (1) : سلام على تلك المرابع إنها ... معاهد ألا في وعهد صحابي ويا آسة المغنى انعمي فلطالما ... سكبت على مثواك ماء شبابي وقال سامحه الله تعالى: أموطني الذي أزعجت عنه ... ولم أرزأ به مالاً ولا دم لئن أزعجت عنك بغير قصد ... فقبلي فارق الفردوس آدم ومن ميلادياته رحمه الله تعالى قوله (2) : ما على القلب بعدكم من جناح ... أن يرى طائراً بغير جناح وعلى الشوق أن يشب إذا هـ ... ب بأنفاسكم نسيم الصباح جيرة الحي، والحديث شجون ... والليالي تلين بعد الجماح أترون السلو خامر قلبي ... بعدكم لا وفالق الإصباح ولو أني أعي اقتراحي على ال ... أيام ما كان بعدكم باقتراحي ضايقتني فيكم صروف الليالي ... واستدارت علي دور الوشاح وسقتني كأس الفراق دهاقاً ... في اغتباق مواصل واصطباح واستباحت من جدتي وفتائي ... حرماً لم أخله بالمستباح ومنها: يا ترى والنفوس أسرى أمان (3) ... ما لها من وثاقها من سراح هل يباح الورود بعد ذياد ... أو يتاح اللقاء بعد انتزاح

_ (1) أزهار: 6. (2) أزهار: 237 والإحاطة: 315. (3) الإحاطة: الأماني.

وإذا أعوز الجسوم التلاقي ... ناب عنه تعارف الأرواح وهي طويلة لم يحضرني منها الآن سوى ما ذكرته. وقد حذا حذوها الفقيه الكاتب أبوزكريا يحيى بن خلدون أخو قاضي القضاة ولي الدين بن خلدون صاحب التاريخ، فقال في مولد عام ثمانية وسبعين وسبعمائة، واستطرد لمدح السلطان أبي حموموسى صاحب تلماسن الذي تقدم ذكره قريباً (1) : ما على الصب في الهوى من جناح ... أن يرى حلف عبرة وافتضاح وإذا ما المحب عيل اصطباراً ... كيف يصغي إلى نصيحة لاح يا رعى اله بالمحصب ربعاً ... آذنت عهده النوى بانتزاح كم أدرنا كأس الهوى فيه مزحاً ... رب جد من الجوى في المزاح هل إلى رسمه المحيل سبيل ... يا حداة المطي تلك الطلاح نسأل الدار بالخليط ونسقي ... ذلك الربع بالدموع السفاح أي شجو عاينت بعد نواها ... من أسى لازم وصبر مزاح أهل ودي إن رابكم برح وجدي ... من صبا بارق وبرق لياح فاسألوا البرق عن خفوق فؤادي ... والصبا عن سقام جسمي المتاح يا أهيل الحمى نداء مشوق ... ما له عن هوى الدمى من براح طالما استعذب المدامع ورداً ... في هواكم عن كل عذب قراح عاده بالطلول للشوق عيد ... من حمام بدوحهن صداح من لقلب من الجوى في ضرام ... ولجفن من البكا في جراح ولصب يهيجه الذكر شوقاً ... فهو سكراً يرتاد من غير راح وليال قضيت للهو فيها ... وطراً والشباب ضافي الجناح

_ (1) أزهار: 239.

راكباً في الهوى ذلول تصاب ... ساحباً في الغرام ذيل مراح ونجوم المنى تنير إلى أن ... روع الشيب سربها بالصباح أي مسرى حمدت لم أخل منه ... بسوى حسرة وطول افتضاح واخساري يوم القيامة إن لم ... يغفر الله زلتي واجتراحي لم أقدم وسيلة فيه إلا ... حب خير الورى الشفيع الماحي سيد العالمين ديناً واخرى ... أشرف الخلق في العلا والسماح سيد الكون من سماء وأرض ... سره بين غاية وافتتاح زهرة الغيب مظهر الوحي معنى ال ... نور كنه المشكاة والمصباح آية المكرمات قطب المعالي ... مصطفى الله من قريس البطاح أول الأنبياء تخصيص زلفى ... آخر المرسلين بعث نجاح صفوة الخلق أرفع الرسل قدراً ... وسراج الهدى وشمس الفلاح من لميلاده بمكة ضاءت ... من قرى قيصر جميع الضواحي وخبت نار فارس وتداعت ... من مشيد الإيوان كل النواحي من رقى في السماء سبعاً طباقاً ... ورأى آي ربه في اتضاح ودنا منه قاب قوسين قرباً ... ظافراً في العلا بكل اقتراح من هدى الخلق بين حمر وسود ... وجلا ليل غيهم بالصباح من يجير الورى غداً يوم يجزى ... كل عاص وطائع باجتراح من إلى حوضه وظل لواه ... يلجأ الناس بين ظام وضاحي أحمد المجتبى حبيباً، وأنى ... فوق عز الحبيب مرمى طماح في أناجيله المسيح تلاه ... باسمه، والكيلم في الألواح ولكم حجة وبرهان صدق ... في سماع أتى بها والتماح إن في النجم والنبات لآياً ... بهرت والجماد والأرواح معجزات فتن المدارك وصفاً ... وحساباً كالزهر أو كالصباح

يا رواة القريض والشعر عجزاً ... ما عسى تدركون بالأمداح إنما حسبنا الصلاة عليه ... وهي للفوز آية استفتاح يا إلهي بحق أحمد عفواً ... عن ذنوب جنيتهن قباح وأدم دولة الخليفة موسى ... ذي المعالي المبينة الأوضاح مفخر الملك مستفر المزايا ... مظهر اللطف ذوالتقى والصلاح ناصر الحق خاذل الجور عدلاً ... ملجأ الخائفين بحر السماح يتلقى الندى بوجه حيي ... ويلاقي العدا ببأس صفاح وله المكرمات إرثاً ولبساً ... حاز حمداً بها معلى القداح من علا باذخ وفخر صميم ... وكمال بحت ومجد صراح وأحاديث في المعالي حسان ... رويت عنه في العوالي الصحاح عاقد صفقة العلا كل حين ... فائز فيه سعيه بالرباح للندى والهدى يروح ويغدو ... أي مغدى إلى العلا ومراح ملك تشرق الأسرة منه ... في سماء السرير نور صباح وإذا ما علا بعالي العوالي ... صهوة الجرد فهو ليث الكفاح لبس الدهر منه حلة حسن ... وثنى للسرور عطف مراح وعلى عاتق الخلافة منه ... طرز فخر سبى النهى بالتماح ورث الملك شامخاً عن سراة ... شيدوا ركنه بأيدي الصفاح من بني القاسم الذين تحلوا ... بالمعالي واستأثروا بالفلاح فرعوا هضبة الخلافة مجداً ... رفعوا سقفه على الأرماح نشروا راية المفاخر حمداً ... خافق النور بالربى والبطاح يا إماماً بذ الملوك جلالاً ... وجمالاً فديت بالأرواح أنت شمس الكمال دمت عليها ... في اغتباق من المنى واصطباح وبنوك الأعلون أنجم سعد ... زاهرات بنورك الوضاح وأبو تاشفين بدر منير ... زانه الله بالخلال الصباح

أكمل العالمين خلقاً وخلقاً ... أشرف الناس في الندى والكفاح وبكم زينت سماء المعالي ... واهتدى الناس في الدجى والصباح وكان السلطان أبوحموالممدوح بهذه القصيدة يحتفل لليلة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية الاحتفال، كما كان ملوك المغرب والأندلس في ذلك العصر وما قبله. ومن احتفاله له ما حكاه شيخ شيوخ شيوخنا الحافظ سيدي أبوعبد الله التنسي ثم التلمساني في كتابه راح الأرواح فيما قاله المولى أبوحمومن الشعر وقيل فيه من الأمداح وما يوافق ذلك على حسب الاقتراح ونصه: أنه كان يقيم ليلة الميلاد النبوي - على صاحبه الصلاة والسلام - بمشورة من تلمسان المحروسة مدعاة حفيلة يحشر فيها الناس خاصة وعامة، فما شئت من نمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، وبسط موشاة، ووسائد بالذهب مغشاة، وشمع كالأسطوانات، وموائد كالهالات، ومباخر منصوبة كالقباب، يخالها المبصر تبراً مذاب، ويفاض على الجميع أنواع الأطعمة، كأنها أزهار الربيع المنمنمة، تشتهيها الأنفس وتستلذها النواظر، ويخالط حسن رياها الأرواح ويخامر، رتب الناس فيها على مراتبهم ترتيب احتفال، وقد علت الجميع أبهة الوقار والإجلال، وبعقب ذلك يحتفل المسمعون بأمداح المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومكفرات (1) ترغب في الإقلاع عن الآثام، يخرجون فيها من فن إلى فن ومن أسلوب إلى أسلوب، ويأتون من ذلك بما تطرب له النفوس وترتاح إلى سماعه القلوب، وبالقرب من السلطان رضوان الله تعالى عليه خزانة المنجانة قد زخرفت كأنها حلة يمانية، لها أبواب موجفة (2) على عدد ساعات الليل

_ (1) المكفرات: أشعار تقال في التزهيد فتكفر ما كان من عبث، وهي تشبه " المحصات ". (2) الأزهار: مرتجة.

الزمانية، فمهما مضت ساعة وقع النقر بقدر حسابها، وفتح عند ذلك باب من أبوابها، وبرزت منه جارية صورت في احسن صورة، في يدها اليمنى رقعة مشتملة على نظم فيه تلك الساعة باسمها مسطورة، فتضعها بين يدي السلطان بلطافة، ويسراها على فمها كالمؤدية بالمبايعة حق الخلافة، هكذا حالهم إلى انبلاج عمود الصباح، ونداء المنادي حي على الفلاح؛ انتهى. وقال التنسي المذكور في كتابه المسمى بنظم الدر والعقيان في شرف بني زيان وذكر ملوكهم الأعيان ما نصه: وكان السلطان أبو حمو يقوم بحق ليلة مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويحتفل لها بما هوفوق سائر المواسم، يقيم مدعاة (1) يحشر لها لأشراف والسوقة، فما شئت من نمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، وشمع كالأسطوانات، وأعيان الحضرة على مراتبهم تطوف عليهم ولدان قد لبسوا أقبية الخز الملون وبأيديهم مباخر ومرشات ينال كل منها بحظه، وخزانة ذات تماثيل لجين محكمة الصنعة، بأعلاها أيكة تحمل طائراً فرخاه تحت جناحيه، ويختله فيهما أرقم خارج من كوة بجذر الأيكة صاعدا (2) ، وبصدرها أبواب مرتجة بعدد ساعات الليل الزمانية، يصاقب طرفيها بابان كبيران، وفوق جميعها دوين رأس الخزانة قمر أكمل يسير على خط الاستواء سير نظيره في الفلك، ويسامت أول كل ساعة بابها المرتج، فينتقض من البابين الكبيرين عقابان، بفي كل واحد منهما صنجة صفر يلقيها إلى طست من الصفر بوسطه ثقب يفضي بها إلى داخل الخزانة فيرن، وينهش الأرقم أحد الفرخين، فيصفر له أبوه، فهناك يفتح باب الساعة الذاهبة، وتبرز منه جارية محتزمة كاظرف ما أنت راء، بيمناها إضبارة فيها اسم ساعتها منظوماً، ويسراها موضوعة على فيها كالميابعة بالخلافة، والمسمع قائم ينشد

_ (1) المدعاة: الدعوة. (2) الأزهار: صعداً.

أمداح سيد المرسلين وخاتم النبيين ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يؤتى آخر الليل بموائد كالهالات دوراً، والرياض نوراً، وقد اشتملت من أنواع محاسن المطاعم (1) على ألوان تشتهيها الأنفس وتستحسنها الأعين، وتلذ بسماع أسمائها الآذان، وبشرة مبصرها للقرب منها والتناول وإن كان ليس بغرثان، والسلطان لم يفارق مجلسه الذي أبتدأ جلوسه فيه، وكل ذلك بمرأى منه ومسمع حتى يصلي هنالك صلاة الصبح. على هذا الأسلوب تمضي ليلة المصطفى صلى الله عليه وسلم في جميع أيام دولته، أعلى الله تعالى مقامه في عليين، وشكر له في ذلك صنيعه الجميل آمين. وما من ليلة مولد مرت في أيامه إلا ونظم فيها قصيداً في مديح مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، أول ما يبتدئ المسمع في ذلك الحفل العظيم بإنشاده، ثم يتلوه من رفع إلى مقامه العلي في تلك الليلة نظماً؛ انتهى وهوأتم مسافاً مما في " راح الأرواح ". ولا باس أن نلم ببعض المقطوعات التي أنشأها الكاتب أبوزكريا يحيى ابن خلدون المذكور على لسان جارية المنجانة في مخاطبة السلطان أبي حمومعلمة بما مر من ليل، ففي مضي ساعين قوله (2) : أخليفة الرحمن والملك الذي ... تعنو لعز علاه أملاك البشر لله مجلسك الذي يحكي علاً ... بك مالكي أفق السماء لمن نظر أوما ترى فيه النجوم زواهراً ... وجه الخليفة بينهن هو القمر والليل منه ساعتان قد انقضت ... تثني عليك ثنا الرياض على المطر لا زال هذا الملك منصوراً بكم ... وبلغت مما ترتجي أسنى الوطر وقوله في مضي ثلاث ساعات:

_ (1) الأزهار: الطعام. (2) وردت هذه المطعات في بغية الرواد 2: 219 - 222 وأزهار الرياض 1: 246 - 247.

أمولاي يا ابن الملوك الألى ... لهم في المعالي سني الرتب تولت ثلاث من الليل أبقت ... لك الفخر في عجمها والعرب فدم حجة الله في أرضه ... تنال شئته من أرب وقوله في مضي ست ساعات: يا ماجداً وهوفرد ... تخاله في عساكر (1) ست من الليل ولت ... ما إن لها من نظائر دامت لياليك حتى ... إلى المعاد نواضر وقوله في مضي ثماني ساعات: يا أكرم الخلق ذاتاً ... وأشرف الناس أسره مرت ثمان وأبقت ... في القلب مني حسره فيهن كان شبابي ... أخا نعيم ونضره ولى بها الدهر عني ... ترى لها بعد كره فالله يبقيك مولى ... يطيل في السعد عمره وقوله في مضي عشر ساعات: يا مالك الخير والخيل التي حكمت ... له بعز على الأيام مقتبل هذا الصباح وقد لاحت بشائره ... والليل ودعنا توديع مرتحل لله عشر من الساعات باهرة ... مضين لا عن قلىً منا ولا ملل كذا تمر ليالي العمر راحلة ... عنا ونحن من الآمال في شغل نمسي ونصبح في لهو نسر به ... جهلاً وذلك يدنينا من الأجل

_ (1) البغية: يا واحداً في علاه ... من نابه في عساكر

والعمر يمضي ولا ندري فوا أسفاً ... عليه إذ مر في الآثام والزلل يا ليت شعري غداً كيف الخلاص به ... ولم نقدم له شيئاً من العمل يا رب عفوك عما قد جنته يدي ... فليس لي بجزاء الذنب من قبل يا رب وانصر أمير المسلمين أبا ... حمو الرضى وانله غاية الأمل وأبق في العز والتمكين مدته ... واعل دولته الغرا على (1) الدول انتهى المجلد السادس

_ (1) البغية: الغراء في.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم الباب الخامس (تتمة) رجع إلى نظم لسان الدين رحمه الله تعالى، فنقول: وأمّا موشّحاته وأزجاله فكثيرة، وقد انتهت إليه رياسة هذا الفن، كما صرح بذلك قاضي القضاة ابن خلدون في مقدمة تاريخه الكبير، ولنذكر بعض كلامه، إذ لا يخلو من فائدة زائدة، قال رحمه الله تعالى ما ملخصه (1) : وأما أهل الأندلس فلمّ كثر الشعر في قطرهم، وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخّرون منهم فنّاً منه سمّوه بالموشح، ينظمونه أسماطاً أسماطاً وأغصاناً أغصاناً، يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة، ويسمون المتعدد منها بيتاً واحداً، ويلتزمون عدد قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتالياً فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما ينتهي عندهم إلى سبعة أبيات، ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب، وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد، وتجاوزوا (2) في ذلك إلى الغاية، واستظرفه الناس وحمده (3) الخاصّة والكافة لسهولة تناوله وقرب طريقه، وكان المخترع

_ (1) انظر مقدمة ابن خلدون: 1327 وأصل هذا النص نفسه ورد في " المقتطف من أزاهر الطرف " لابن سعيد، وراجع أزهار الرياض 2: 208. (2) المقدمة: وتجاروا. (3) المقدمة والأزهار: جملة.

لها بجزيرة الأندلس مقدّم بن معافى القبري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، وأخذ عنه ذلك ابن عبد ربّه صاحب العقد، ولم يذكر لهما مع المتأخرين ذكر، وكسدت موشّحاتهما، فكان أول من برع في هذا الشأن بعدهما عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المريّة، وقد ذكر الأعلم البطليوسي أنّه سمع أبا بكر ابن زهر يقول: كل الوشّاحين عيال على عبادة القزاز فيما اتفق له من قوله: بدر تمّ شمس ضحى ... غصن نقا مسك شم ما أتمّ ما أوضحا ... ما أورقا ما أنمّ لا جرم من لما ... قد عشقا قد حرم وزعموا أنّه لم يسبق عبادة وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمان ملوك الطوائف، وجاء مصلّياً خلفه منهم ابن أرفع رأسه شاعر المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة، قالوا: وقد أحسن في ابتدائه في الموشحة التي طارت له حيث يقول: العود قد ترنم بأبدع تلحين ... وشقّت المذانب رياض البساتين وفي انتهائه حيث يقول: تخطر ولم تسلم عساك المأمون ... مروّع الكتائب يحيى بن ذي النون ثمّ جاءت الحلبة التي كانت في مدة الملثّمين فظهرت لهم البدائع، وفرسان حلبتهم (1) : الأعمى التطيلي، ثمّ يحيى بن بقي، وللتطيلي من الموشحات المذهبة قوله (2) :

_ (1) المقتطف: فرنسا رهان حلبتهم. (2) ديوان الأعمى: 272.

كيف السّبيل إلى صبري ... وفي المعال أشجان والركب وسط الفلا بالخرّد ... النواعم قد بانوا وذكر غير واحد من المشايخ أن أهل (1) هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الوشّاحين اجتمعوا في مجلس بإشبيلية، وكان كل واحد منهم قد صنع موشحة وتأنّق فيها، فتقدم الأعمى التطيلي للإنشاد، فلمّا افتتح موشحته المشهورة بقوله: ضاحك عن جمان ... سافر عن بدر ضاق عنه الزمان ... وحواه صدري خرّق ابن بقي موشحته وتبعه الباقون (2) . وذكر الأعلم البطليوسي (3) أنّه سمع ابن زهر يقول: ما حسدت قط وشاحاً على قول إلاّ ابن بقي حين وقع له (4) : أما ترى أحمد ... في مجده العالي لا يلحق أطلعه المغرب ... فأرنا مثله يا مشرق وكان في عصرهما من الوشّاحين المطبوعين أبو بكر الأبيض، وكان في عصرهم أيضاً الحكيم أبو بكر ابن باجة صاحب التلاحين المعروفة. ومن الحكايات المشهورة أنّه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت (5) صاحب سرقسطة فألقى عليه بعض موشّحته:

_ (1) المقتطف: وسمعت غير واحد من الأشياخ ... الخ. (2) راجع هذه القصة في المجلد 3: 404. (3) المقتطف: وسمعت الأعلم البطليوسي يقول ... الخ. (4) انظر هذه الموشحة في ديوان التطيلي: 270 - 272 وهي دار الطراز: 63 منسوبة لابن بقي. (5) المقتطف: أنه لما ألقى على بعض قينات ابن تيلفويت ... الخ.

جرّر الذيل أيّما جرّ ... [وصل السكر منك بالسكر] (1) فطر الممدوح لذلك، وختمها بقوله: عقد الله راية النصر ... لأمير العلا أبي بكر فلمّا طرق ذلك التلحين سمع ابن تيفلويت صاح: واطرباه! وشقّ ثيابه، وقال: ما أحسن ما بدأت وما ختمت، وحلف الأيمان المغلظة أن لا يمشي ابن باجة لداره إلا على الذهب فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهباً في نعله ومشى عليه. ثم قال ابن خلدون بعد كلام: واشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبي الفضل بن شرف إلى أن قال: وابن هردوس (2) الذي له: يا لَيلَةَ الوَصلِ وَالسُعودِ ... بِاللَهِ عودي وابن مؤهل (3) الذي له: ما العيد في حلة وطاق ... وشم طيب وإنما العيد في التلاقي ... مع الحبيب وأبو إسحاق الزويلي (4) .

_ (1) زيادة من المقطتف. (2) ترجم له في المغرب (2: 210) وسماه أحمد بن هردوس بتقديم الواو على الدال؛ وكنيته أبو الحكم؛ وفي التحفة (54) أنه إبراهيم بن علي بن هردوس؛ وقال إنه من أهل حصن مرشانة من عمل المرية وتوفي بمراكش سنة 572؛ وسماه في التكملة أيضاً إبراهيم (ص: 154) وأورد له صاحب المغرب موشحة (2: 215) هي التي أورد هنا مطلعها؛ وأغلب الظن أن الصواب في نسبه " هردوس " بتقديم الدال وهي لفظة بربرية ترمز إلى الفحولة. والأرجح أن اسمه " أحمد " لقوله يخاطب أحمد بن عبد الملك بن سعيد " يا سميي " (انظر النفح 4: 201) . (3) ذكره في المغرب 2: 390 باسم " ابن موهد " وأورد له موشحة وقال إنه شاطبي سكن مرسية ومدح ابن مردنيش. (4) في المقدمة والأزهار: الدويني، وما أثبتناه هو ما ورد في المقتطف.

قال أبو سعيد: سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول: إنه دخل على ابن زهر وقد أسن وعليه زي البادية إذ كان يسكن بحصن سبتة فلم يعرفه فجلس حيث انتهى به المجلس (1) ، وجرّت المحاضرة أن أنشد لنفسه موشحة وقع فيها: كحل الدجى يجري ... من مقلة الفجر على الصباح ومعصم النهر ... في حلل خضر من البطاح فتحرك ابن زهر، وقال: أنت تقول هذا قال: اختبر، قال: ومن تكون فأخبره، فقال: ارتفع، فوالله ما عرفتك. قال ابن سعيد: وسابق الحلبة التي أدركت هو أبو بكر ابن زهر، وقد شرّقت موشّحاته وغرّبت، قال: وسمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول: قيل لابن زهر: لو قيل لك: ما أبدع ما وقع لك في التوشيح فقال: كنت أقول: ما للمولّه ... من سكره لا يفيق يا له سكران [من غير خمر ... ما للكثيب المشوق يندب الأوطان] هل تستعاد ... أيامنا بالخليج وليالينا إذ يستفاد ... من النسيم الأريج مسك دارينا وإذ يكاد ... حسن المكان البهيج أن يحيينا نهر أظلّه ... دوح عليه أنيق مؤنق فينان والماء يجري ... وعائم وغريق من جنى الريحان واشتهر بعده ابن حيون؛ إلى أن قال: وبعد هؤلاء ابن حزمون بمرسية، ذكر ابن ارائس أن يحيى الخزرجي دخل عليه في مجلسه، فأنشده موشّحة لنفسه، فقال له ابن حزمون: ما الموشّح بموشح حتى يكون عارياً من التكليف، فقال: على مثل ماذا فقال:

_ (1) المقتطف: فجلس حيث وجد.

على مثل قولي: يا هاجري ... هل إلى الوصال منك سبيل أو هل يرى ... عن هواك سال قلب العليل وأبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة، قال ابن سعيد: كان والدي يعجب بقوله: إن سيل الصباح في الشرق ... عاد بحراً في أجمع الأفق فتداعت نوادب الورق ... أتراها خافت من الغرق فبكت سحرةً على الورق ... واشتهر بإشبيلية لذلك العهد أبو الحسن ابن الفضل، قال ابن سعيد عن والده: سمعت سهل بن مالك يقول له: يا ابن الفضل، لك على الوشّاحين الفضل، بقولك: واحسرتي لزمان مضى ... عشيّة بان الهوى وانقضى وأفردت بالرغم لا بالرضى ... وبت على جمرات الغضا أعانق بالفكر تلك الطلول ... وألثم بالوهم تلك الرسوم قال: وسمعت أبا بكر ابن الصابوني ينشد الأستاذ أبا الحسن الدبّاج موشّحاته غير ما مرّة فما سمعته يقول " لله درّك " إلا في قوله: قسماً بالهوى لذي حجر ... ما لليل المشوق من فجر خمد الصبح ليس يطرد ... ما لليلي فيما أظن غد ... صحّ يا ليل أنك الأبد ... أو تفضّت قوادم النسر ... فنجوم السماء لا تسري

ومن موشّحات ابن الصابوني قوله: ما حال صبٍّ ذي ضنىً واكتئاب ... أمرضه يا ويلتاه الطبيب عامله محبوبه باجتناب ... ثم اقتدى فيه الكرى بالحبيب جفا جفوني النوم لكنّني ... لم أبكه إلاّ لفقد الخيال وذو الوصال اليوم قد غرّني ... منه كما شاء وشاء الوصال فلست باللائم من صدّني ... بصورة الحق ولا بالمحال واشتهر بير العدوة ابن خلف الجزائري صاحب الموشّحة المشهورة: يد الإصباح قد قدحت ... زناد الأنوار من مجامر الزهر وابن خزر البجائي، وله من موشحة: ثغر الزمان موافق ... حيّاك منه بابتسام ومن محاسن الموشّحات موشحة ابن سهل شاعر إشبيلية وسبتة من بعدها (1) : هل درى ظبي الحمى أن قد حمى ... قلب صبٍّ حلّه عن مكنس فهو في حر وخفق مثلما ... لعبت ريح الصبا بالقبس وقد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله ابن الخطيب شاعر الأندلس والمغرب لعصره فقال: جادك الغيث إذا الغيث همى ... يا زمان الوصل بالأندلس لم يكن وصلك إلا حلما ... في الكرى أو خلسة المختلس

_ (1) انظر ديوان ابن سهل: 283 وهي الموشحة التي شرحها الأفراني في كتاب سماه " المسلك السهل في شرح توشيح ابن سهل ". يقول الأفراني: وقد وقفت على أزيد من اثنتي عشرة موشحة مما عورض به توشيح ابن سهل.

إذ يقود الدهر أشتات المنى ... ينقل الخطو على ما يرسم زمراً بين فرادى وثنا ... مثلما يدعو الوفود المواسم والحيا قد جلّل الروض سنا ... فثغور الزهر منه تبسم وروى النعمان عن ماء السما ... كيف يروي مالك عن أنس فكساه الحسن ثوباً معلما ... يزدهي منه بأبهى ملبس في ليال كتمت سرّ الهوى ... بالدجى لولا شموس الغرر مال نجم الكأس فيها وهوى ... مستقيم السير سعد الأثر وطر ما فيه من عيب سوى ... أنّه مّر كلمح البصر حين لّذ الأنس شيئا أو كما ... هجم الصبح هجوم الحرس غارت الشهب بنا أو ربما ... أثرت فينا عيون النرجس أي شيءٍ لامرىء قد خلصا ... فيكون الروض قد مكّن فيه تنهب الأزهار منه الفرصا ... أمنت من مكره ما تتقيه فإذا الماء تناجى والحصى ... وخلا كّل خليل بأخيه تبصر الورد غيوراً برما ... يكتسي من غيظه ما يكتسي وترى الآس لبيباً فهما ... يسرق السّمع بأذني فرس يا أهيل الحيّ من وادي الغضا ... وبقلبي سكن أنتم به ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا ... لا أبالي شرقه من غربه فأعيدوا عهد أنس قد مضى ... تعتقوا عانيكم من كربه واتقوا الله وأحيوا مغرما ... يتلاشى نفساً في نفس حبس القلب عليكم كرما ... أفترضون عفاء الحبس

وبقلبي منكم مقترب ... بأحاديث المنى وهو بعيد قمر أطلع منه المغرب ... شقوة المغرى به وهو سعيد قد تساوى محسن أو مذنب ... في هواه بين وعد ووعيد ساحر المقلة معسول اللمى ... جال في النفس مجال النفس سدّد السهم وسمىّ ورمى ... ففؤادي نهبة المفترس إن يكن جار وخاب الأمل ... وفؤاد الصبّ بالشوق يذوب فهو للنفس حبيب أول ... ليس في الحبّ لمحبوب ذنوب أمره معتمل ممتثل ... في ضلوع قد براها وقلوب حكّم اللّحظ بها فاحتكما ... لم يراقب في ضعاف الأنفس منصف المظلوم ممّن ظلما ... ومجازي البّر منها والمسي ما لقلبي كلمّا هبت صبا ... عاده عيد من الشوق جديد كان في اللوح له مكتتبا ... قوله: " إن عذابي لشديد " جلب الهمّ له والوصبا ... فهو للأشجان في جهد جهيد لاعج في أضلعي قد أضرما ... فهي نار في هشيم اليبس لم يدع في مهجتي إلا ذما ... كبقاء الصبح بعد الغلس سلّمي يا نفس في حكم القضا ... واعمري الوقت برجعى ومتاب دعك من ذكرى زمان قد مضى ... بين عتبى قد تقضّت وعتاب واصرفي القول إلى المولى الرضى ... ملهم التوفيق في أمّ الكتاب الكريم المنتهى والمنتمى ... أسد السرج وبدر المجلس ينزل النصر عليه مثلما ... ينزل الوحي بروح القدس

إلى هذا الحد انتهى ابن خلدون من موشحة لسان الدين، ولا أدري لِمَ لَمْ يكملها، وتمامها قوله: مصطفى الله سمىّ المصطفى ... الغني بالله عن كلّ أحد من إذا ما عقد العهد وفى ... وإذا مافتح الخطب عقد من بني قيس بن سعدٍ وكفى ... حيث بيت النصر مرفوع العمد حيث بيت النصر محمي الحمى ... وجنى الفضل زكي المغرس والهوى ظل ظليل خيّما ... والندى هبّ إلى المغترس هاكها يا سبط أنصار العلا ... والذي إن عثر الدهر أقال غادة ألبسها الحسن ملا ... تبهر العين جلاء وصقال عارضت لفظا ومعنى وحلى ... قول من أنطقه الحبّ فقال: " هل درى ظبي الحمى أن قد حمى ... قلب صبّ حلّه عن مكنس " " فهو في خفقٍ وحرٍ مثلما ... لعبت ريح الصّبا بالقبس " ثمّ قال ابن خلدون: وأما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموشحات، ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء الملك المصري التي اشتهرت شرقاً وغرباً، وأولها: [يا] حبيبي ارفع حجاب النور ... عن العذار تنظر المسك على كافور ... في جلّنار كللي ياسحب تيجان الربى ... بالحلي واجعلي سوارها منعطف ... الجداول ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق

كلامه وتصريع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقتهم بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيه إعراباً (1) ، واستحدثوا فناً سموه بالزجل، والتزموا النظم فيه على مناجيهم إلى هذا العهد فجاءوا فيه بالغرائب واتسع فيه للبلاغة مجال، بحسب لغتهم المستعجمة، وأوّل من أبدع في هذه الطريقه الزجلية أبو بكر ابن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس (2) ، لكن لم تظهر حلاها، ولا انسبكت معانيها، واشتهرت رشاقتها، إلا في زمانه، وكان لعهد الملثّمين، وهو إمام الزجالين على الإطلاق، قال ابن سعيد: رأيت أزجاله مرويّة ببغداد أكثر ممّا رأيتها بحواضر المغرب، قال: وسمعت أبا الحسن ابن جحدر الإشبيلي (3) إمام الزجالين في عصرنا يقول: ما وقع لأحد من أئمّة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة، وقد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه، فجلسوا تحت عريش، وأمامهم تمثال أسد من رخام يصب الماء على صفائح من الحجر، فقال: وعريش قد قام على دكان ... بحال رواق وأسد قد ابتلع ثعبان ... من غلظ ساق وفتح فمو بحال إنسان ... به الفواق وانطلق من ثم على الصّفاح ... والقي الصياح

_ (1) يؤخذ من هذا أن ابن خلدون يرى أسبقية الموشح على الزجل، وهو أمر يخالف طبيعة الأشياء، لأن الزجل في أصله أغنية شعبية، وإنما يعني ابن خلدون أن الزجل أحرز " مكانة أدبية " بعد شيوع الموشح. (2) ظهر من الزجالين ابن نمارة وابن راشد قبل ابن قزمان ولكنه خالف طريقة القدامى - كما يسميهم - واختار العودة بالزجل إلى سهول الأغنية الشعبية ورقتها. (3) هو علي بن جحدر (المغرب 1: 263 واختصار القدح: 172) قال ابن سعيد: أكثر اشتهاره بانطباع في الزجل، وجالسته كثيراً بإشبيلية، وطال عمره حتى جاوز التسعين ومات سنة 638.

وكان ابن قزمان مع أنه قرطبي الدار كثيراً مايتردد إلى إشبيلية، وينتاب نهرها. إلى أن قال ابن خلدون: وجاءت بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس (1) ، وقعت له العجائب في هذه الطريقة، فمن قوله في زجله المشهور: ورذاذ دق ينزل ... وشعاع الشمس يضرب فترى الواحد يفضض ... وترى الآخر يذهّب والنبات يشرب ويسكر ... والغصون ترقص وتطرب وتريد تجي إلينا ... ثمّ تستحي وترجع ومن محاسن أزجاله قوله: لاح الضّيا والنجوم سكارى ... ثم قال: وظهر بعد هؤلاء في إشبيلية ابن جحدر الذى فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل المشهورالذي أوّله: من يعاند التوحيد بالسيف يمحق ... أنا برى ممّن يعاند الحق قال ابن سعيد: لقيته ولقيت تلميذه البعبع (2) صاحب الزجل المشهور الذي أوله: ليتني إن ريت حبيبي ... أقتل أدنو بالرسيلا لشن أخذ عنق الغزيّل ... وسرق فم الحجيلا

_ (1) اسمه أحمد بن الحاج، وكان في دولة بني عبد المؤمن، وهو شيخ الزجالين بعد ابن قزمان (المغرب 2: 214) وقد أورد له ابن سعيد (2: 220) زجلين وله في العاطل الحالي أزجال (18 - 25) وأخرى منقولة عن سفينة ابن مباركشاه (العاطل 204 - 214) وانظر النفح 3: 385. (2) ق: اليعيع.

ثم جاء من بعدهم أبو الحسن سهل بن مالك إمام الآداب، ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله ابن الخطيب إمام النظم والنثر في الملة الإسلامية غير مدافع، فمن محاسنه في هذه الطريقة: امزج الأكواس واملالي نجدّد ... ما خلق المال إلاّ أن يبدد ومن قوله على طريقتة الصوفية وينحو منحى الششتري منهم: بين طلوع وبين نزول ... اختلطت الغزول ومضى من لَمْ يكن ... وبقي من لم يزول ومن محاسنه أيضاً قوله في ذلك المعنى: البعد عنك يا ابني أعظم مصايبي ... وحين حصل لي قربك سيّبت أقاربي انتهى المقصود جلبه من كلام ابن خلدون، وقد أطال رحمه الله تعالى في هذا المقصد، ولم أرد إيراد جميع كلامه لطوله وعدم تعلّق الغرض به، وفيما ذكرته منه كفاية لتعلّقه بأمر لسان الدين رحمه الله تعالى، وشهادته له أنّه شاعر الإسلام غير مدافع، وأنّه انتهت إليه رياسة الصناعة الزجلية والتوشيحية. [ترجمة ابن باجة من القلائد] وأبو بكر بن باجّة الذي أشار إليه ابن خلدون: هو أبو بكر ابن الصائغ التجيبي السّرقسطي، الذي قال في حقّه لسان الدين في الإحاطة: إنّه آخر فلاسفة الإسلام بجزيرة الأندلس، وكان بينه وبين الفتح بن خاقان صاحب القلائد معاداة فلذلك هجاه في القلائد، وجعله آخر ترجمة فيها إذ قال ما نصّه (1) : الأديب أبو بكر ابن الصائغ، هو رمد عين (2) الدين، وكمد نفوس

_ (1) القلائد: 300 - 306. (2) القلائد: جفن.

المهتدين، اشتهر سخفاً وجنوناً، وهجر مفروضاً ومسنوناً، فما يتشرّع، ولا يأخذ في غير الأضاليل ولا يشرع، ناهيك من رجل ما تطهّر من جنابة، ولا أظهر مخيلة إنابة، ولا استنجى من حدث، ولا أشجى فؤاده بتوارٍ في جدث، ولا أقر بباريه ومصوّره، ولا قرّ عن تباريه في ميدان تهوّره، الإساءة إليه أجدى من الإحسان، والبهيمة عنده أهدى من الإنسان، نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم العليم، ونبذه وراء ظهره ثاني عطفه، وأراد إبطال ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واقتصر على الهيئة، وأنكر أن تكون له إلى الله تعالى فيئة، وحكم للكواكب بالتدبير، واجترم على الله اللطيف الخبير، واجترأ عند سماع النهي والإيعاد، واستهزأ بقوله تعالى {إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} (القصص: 85) فهو يعتقد أن الزمان دور، وأن الإنسان نبات أو نور، حمامه تمامه، واختطافه قطافه، قد محي الإيمان من قلبه فما له فيه رسم، ونسي الرحمن لسانه فما يمرّ له عليه اسم، وانتمت نفسه إلى الضلال وانتسبت، ونفت {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} (غافر: 17) ، فقصر عمره على طرب ولهو، واستشعر كلّ كبر وزهو، وأقام سوق المويسقى، وهام بحادي القطار وسقا، فهو يعكف على سماع التلاحين، ويقف عليه كل حين، ويعلن بذلك الاعتقاد، ولا يؤمن بشيء قادنا إلى الله تعالى في أسلس مقاد، مع منشإ وخيم، ولؤم أصل وخيم (1) ، وصورة شوّهها الله تعالى وقبحها، وطلعة إذا أبصرها الكلب نبحها، وقذارة يؤذي البلاد نفسها، ووضارة يحكي الحداد دنسها، وفند لا يعمر إلا كنفه، ولدد لا يقوّم إلا الصّعاد جنفه، وله نظم أجاد فيه بعض إجادة، وشارف الإحسان أو كاده،

_ (1) الخيم: الطبيعة والأصل.

فمن ذلك ما قاله في عبد حبشي كان يهواه، فاشتمل عليه أسرٌ سعّر حشاه (1) ، ونقله إلى حيث لم يعلم مثواه، فقال: يا شائقي حيث لا أسطيع أدركه ... ولا أقول غداً أغدو فألقاه أمّا النهار فليلي ضمّ شملته ... على الصّباح فأولاه كأخراه أغرّ نفسي بآمالٍ مزورّة ... منها لقاؤك والأيّام تأباه وله فيه لمّا بلغه موته، وتحقّق عنده فوته: ألا يا رزق والأقدار تجري ... بما شاءت نشا أو لا نشاء هل أنت مطارحي شجوي فتدري ... وأدري كيف يحتمل القضاء يقولون الأمور تكون دوراً ... وهذا فقده فمتى اللّقاء وله في الأمير أبي بكر ابن إبراهيم قدس الله تعالى تربته، وآنس غربته، مدائح انتظمت بلبّات الأوان، ونظمت على كل شتيت من الإحسان، فمن ذلك قوله: توضّح في الدجى طرف ضرير ... سناً بلوى الصريمة يستطير فيا بأبي ولم أبذل يسيراً ... وإن لم يكفهم ذاك الكثير بريق لا تقل هو ثغر سلمى ... فتأثم، إنّه حوب وزور فكيف وما أطلّ الليلُ منه ... ولا عبقت بساحته الخمور تراءى بالسدير فزاد قلبي ... من البرحاء ما شاء السدير فلولا أنّ يوم الحشر يقضي ... عليّ بحكم مولى لا يجور دعوت على المشقّر أن يجازي ... بما تجزى به الدار الغرور

_ (1) القلائد: جواه.

ومنها: لقد وسع الزمان عليه عدوى ... وضرّ بشبله الليث الهصور وقلّبنا الزمان فلا بطون ... تضمنت الوفاء ولا ظهور سوى ذكرٍ أطارحه فلولا ال ... أمير لقد عفا لولا الأمير همام جوده يصف السّواري ... وسطوته يعيّرها الهجير وقلنا نحن كيف وراحتاه ... بحور يلتظي فيها سعير فهل فيما سمعت به خصام ... يكون الخصم فيه هو العذير وكان الأمير أبو بكر يعتقد له هذه الماتّة ويراها، ويجود أبداً ثراها، فلمّا ولي الثغر والشرق لم يغفله من رعي، ولم يكله (1) إلى شفاعة وسعي، وحمله على ما كان يعتقده فيه من المقت، واستعمله على ما كان يقتضيه خلق الوقت، من إقامة الوعد (2) ، وتسويغه كل نعيم رغد، وتغليب حجّة داحضة، وإنهاض عثرة غير ناهضة، فتقلد وزارته ودولته تزهى منه بأندى من الوسميّ المبتكر، وأهدى من النجم في الليل المعتكر، وألويته تميس زهواً ميس الفتاة، ورعيته تبتهج بملكه ابتهاج حيي بابن الموماة (3) ، ومذاهبه يبسطها الفضل وينشرها، وكتائبه لا يكاد العدو يعسرها، فجاش إليه وانبرى، وراش في تنكيلهم وبرى، وأقطعهم ما شاء من مقابحته، وأسمعهم ما يصم بين ختمه ومفاتحته، فوغرت

_ (1) القلائد: لم يغفلها ... ولم يكلها؛ والضمير عائد على " الماتة ". (2) القلائد: من إقامة كل وغد. ق: من إقامة وعد. (3) كذا؛ وفي القلائد: ابتهاج جابر بعهد البوباة، وفي النصين خطأ في اسم العلم، أما البوباة والموماة فيدلان على شيء واحد هو الأرض المتسعة؛ وأرى أن الإشارة إلىمن اسمه " جرير " وهو المشهور باسم " المتلمس " إذ يقول في ذكر البوباة: لن تسلكي سبل البوباة منجدة ... ما عاش عمرو وما عمرت قابوس والبوباة هنا ثنية في طريق نجد.

صدورهم السليمة، واعتلت صحة ضمائرهم بنفوسهم الأليمة، ولم يزل يأخذ في الإضرار بهم ولا يدع، ويعلن به ويصدع، حتى تفرق ذلك الجمع، وألقاه بين بصر السباب والسمع، وأفرد الدولة من ولاتها، وجرّدها من حماتها، فاستعجل العدو بذلك واستشرى، وزأر منه على سرقسطة ليث شرى، ولما رأى الشر قد ثار قتامه، وبدا من ليله إعتامه، ارتحل واحتمل، وقال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، وأقام ببلنسية يشفي نفسه، ويستوفي أنسه، ونجوم سعدها كل يوم غائرة، والعدو يتربص بها أسوأ دائرة، ويروم منازلتها ثم يدع الاقتحام، ويريد التقدم إليها فيؤثر الإحجام، تهيباً لذلك الملك السريّ، والليث الجريّ، وفي خلال هذه المحاولة، وأثناء تلك المطاولة، عاجل الأمير أبا بكر حمامُه، واستسرّ فيها تمامه (1) ، وأجنّة الثرى، وحاز منه بدر دجنّة وليث شرى، فعطلت الدنيا من علاء وجود، وأطلّت عليها بفقده حوادث أجدبت تهائمها والنجود، وفيه يقول يرثيه بما يسيل الفؤاد نجيعاً، ويبيت به الأسى لسامعه ضجيعاً: أيّها الملك قد لعمري نعى المج ... د نواعيك يوم قمن فنحنا كم تقارعت والخطوب إلى أن ... غادرتك الخطوب في الترب رهنا غير أنّي إذا ذكرتك والده ... ر إخال اليقين في ذاك ظنّا وسألنا متى اللّقاء فقيل ال ... حشر قلنا: صبراً إليه وحزنا وكثيراً ما يغير هذا الرجل على معاني الشعراء، وينبذ الاحتشام من ذلك بالعراء، ويأخذها من أربابها أخذ غاصب، ويعوضهم منها كل هم ناصب، فهذا ممّا أطال به كمد أبي العلاء وغمه، فإنّه أخذه من قوله يرثي أمه (2) :

_ (1) يريد أنه كان بدراً كاملاً فاصابه السرار. (2) شروح السقط: 1460، 1468.

فيا ركب المنون ألا رسولٌ ... يبلّغ روحها أرج السلام سألت متى اللّقاء فقيل حتى ... يقوم الهامدون من الرّجام ولما فاتت سرقسطة من يد الإسلام، وباتت نفوس المسلمين فرقاً منهم في يد الاستسلام، ارتاب بقبح أفعاله، وبرىء من احتذائه بتلك الآراء وانتعاله، وأخافه ذنبه، ونبا عن مضجع الأمن جنبه، فكرّ إلى الغرب ليتوارى في نواحيه، ولا يتراءى لعين لائمه ولاحيه، فلمّا وصل شاطبة حضرة الأمير إبراهيم بن يوسف بن تاشفين وجد باب نفاذه وهو مبهم، وعاقه عنه مدلول (1) عليه ملهم، فاعتقله اعتقالاً شفى الدين من آلامه، وشهد له بعقيدة إسلامه، وفي ذلك يقول، وهو معقول، ويصرح بمذهبه الفاسد، وغرضه المستاسد: خفض عليك فما الزمان وريبه ... شيء يدوم ولا الحياة تدوم واذهب بنفس لم تضع لتحلها ... حيث احتللت بها وأنت عليم يا صاحبي لفظاً ومعنى خلته ... من قبل حتى بيّن التقسيم دع عنك من معنى الإخاء ثقيله ... وانبذ بذاك العبء وهو ذميم واسمح وطارحني الحديث فإنّه ... ليل كأحداث الزمان بهيم خذني على أثر الزمان فقد مضى ... بؤس على أبنائه ونعيم فعسى أرى ذاك النعيم وربّه ... مرح ورب البؤس وهو سقيم هيهات ساوت بينهم أجداثهم ... وتشابه المحسود والمحروم ولمّا خلص من تلك الحبالة ونجا، وأنار من سلامته ما كان دجا، احتال في إخفاء ماله، واستيفاء آماله، فأظهر الوفاء للأمير أبي بكر بالرثاء له والتأبين، وتداهيه في ذلك واضح مستبين، فإنّه وصل بهذه النزعة من الحماية إلى حرم،

_ (1) القلائد: شيحان مدلول.

وحصل في ذمة ذلك الكرم، واشتمل بالرّعي، وأمن من كلّ سعي، فاقتنى قياناً، ولقنهن أعاريض من القريض وركّب عليها ألحاناً أشجى من النّوح، ولطف بها إلى إشادة الإعلان باللوعة والبوح، فسلك بها أبدع مسلك، وأطلعها نيرات ما لها غير القلوب من فلك، فمن ذلك قوله: إنّ غراباً جرى ببينهم ... جاوبه بالثنيّة الصّرد طاروا فها أنت بعدهم جسد ... قد فارق الروح ذلك الجسد واكتتموا صبحةً بينهم ... فبئس والله ما الذي اعتمدوا وكقوله: سلام وإلمام ووسميّ مزنة ... على الجدث النائي الذي لا أزوره أحقاً أبو كبر تقضّى فلا يُرى ... ترد جماهير الوفود ستوره لئن أنست تلك القبور بلحده ... لقد أوحشت أنصاره وقصوره ومن قلّة عقله ونزارته، أنّه في مدة وزارته، سفر بين الأمير أبي بكر رحمه الله تعالى وبين عماد الدولة بن هود رحمه الله تعالى بعد سعايات عليه أسلفها، وذخائر كانت له على يديه أتلفها، فوافاه أوغر ما كان عليه صدراً، وأصغر ما كان لديه قدراً، فآل به ذلك الانتقال، إلى الاعتقال، فأقام فيه شهوراً يغازله اعلحمام بمقلة شوهاء، وتنازله الأوهام بفطرته الورهاء، وفي ذلك يقول: لعلّك يا يزيرد علمت حالي ... فتعلم أيّ خطب قد لقيت وإنّي إن بقيت بمثل ما بي ... فمن عجب الليالي أن بقيت يقول الشامتون شقاء بختٍ ... لعمر الشامتين لقد شقيت أعندهم الأمان من اللّيالي ... وسالمهم بها الزمان المقيت وما يدرون أنّهم سيسقوا ... على كره بكأس قد سقيتُ

وعزم عماد الدولة يوماً على قتله، وألزم المرقبين به التحيّل على ختله، فنمي إليه الأمر الوعر، وارتمى به في لجج اليأس الذعر، فقال: أقول لنفسي حين قابلها الردى ... فراغت فراراً منه يسرى إلى يمنى قري تحمدي بعض الذي تكرهينه ... فقد طالما اعتدت الفرار إلى الأهنا ثم قضى له قدر قضى بإنظاره، وما أمضى من إباحته ما كان رهين انتظاره، ويمهل الفاجر حكمةً من الله تعالى وعلماً و {إنّما نملي لهم ليزدادوا إثماً} (آل عمران: 178) ؛ انتهى نص القلائد. [ثناء الفتح على ابن باجة] وأين هذا من تحليته له في بعض كتبه بقوله فيه ما صورته: نور فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع، تتوّجت بعصره الأعصار، وتأرّجت من طيب ذكره الأمصار، وقام أوان المعارف واعتدل، ومال للأفهام فنناً وتهدّل، وعطّل بالبرهان التقليد، وحقّق بعد عدمه الاختراع والتوليد، إذا قدح زند فهمه أورى بشرر للجهل محرق، وإن طما بحر خاطره فهو لكل شيء مغرق، مع نزاهة النفس وصونها، وبعد الفساد من كونها، والتحقيق، الذي هو للإيمان شقيق، والجد، الذي يخلق العمر وهو مستجد، وله أدب يودّ عطارد أن يلتحفه، ومذهب يتمنى المشتري أن يعرفه، ونظم تعشقه اللبّات والنحور، وتدّعيه مع نفاسة جوهرها البحور، وقد أثبت منه ما تهوى الأعين النّجل أن يكون إثمدها، ويزيل من النفوس حزنها وكمدها، فمن ذلك قوله يتغزل: أسكّان نعمان الأراك تيقّنوا ... بأنّكم في ربع قلبي سكّان

ودوموا على حفظ الوداد فطالما ... بلينا بأقوام إذا استحفظوا خانوا سلوا الليل عنّي إذ تناءت دياركم ... هل اكتحلت لي فيه بالنوم أجفان وهل جرّدت أسياف برق سمائكم ... فكانت لها إلا جفوني أجفان وله: أتأذن لي آتي العقيق اليمانيا ... أسائله ما للمعالي وما ليا وهل داركم بالحزن قفراء إنّني ... تركت الهوى يقتاد فضل زماميا فيا مكرع الوادي أما فيك شربة ... لقد سال فيك الماء أزرق صافيا ويا شجرات الجزع هل فيك وقفة ... وقد فاء فيك الظلّ أخضر ضافيا وأورد له في " المطمح " أنّه استأذن على المستعين بالله، فوجده محجوباً، فقال: من مبلغ خير إمام نشا ... ذا عزة وسامياً قدرا قول امرىء لو قاله للصفا ... أنبت فيه ورقاً خضرا عبدك بالباب له خجلة ... لو أنّها بالنرجس احمرّا وحكى غير واحد أنّه مات له سكن كان يهواه، فبات مع بعض أصحابه عند ضريحه ومثواه، وكان قد عرف وقت كسوف البدر بصناعة التعديل، فزوّر في نفسه بيتين في خطاب القمر أتقنهما ولحنهما، حتى إذا كان قبيل وقت الكسوف بقليل تغنى فيهما بذلك الصوت المشجي، واللحن يسوق الشوق ويزجي، وهما: شقيقك غيّب في لحده ... وتشرق يا بدر من بعده فهلاّ كسفت فكان الكسوف ... حداداً لبست على فقده فكسف القمر في الحال، وعدّت هذه من نوادره التي جيد الأخبار بفرائدها حال، سامحه الله تعالى.

[ابن الحداد الوادي آشي] ثم رأيت في " الإحاطة " (1) نسبة ذلك لغيره ونصه: محمد بن أحمد بن الحداد، الوادي آشي، يكنى أبا عبد الله. حاله - شاعر مفلق، وأديب شهير، مشار إليه في التعاليم، منقطع القرين منها في الموسيقى، مضطلع بفك المعمّى، سكن المرية، واشتهر بمدح رؤسائها من بني صمادح، وقال ابن بسّام: كان أبو عبد الله هذا شمس ظهيرة، وبحر خبر وسيرة، وديوان تعاليم مشهورة، وضح في طريق المعارف وضوح الصبح المتهلّل، وضرب فيها بقدح ابن مقبل (2) ، إلى جلالة مقطع، وأصالة منزع، ترى العلم ينم على أشعاره، ويبين في منازعه وآثاره. تأليفه - ديوان شعره كبير معروف، وله في العروض تصنيف مشهور مزج فيه بين الألحان المويسيقية والآراء الخليلية. بعض أخباره - حدّث بعض المؤرخين ممّا يدل على ظرفه أنّه فقد سكناً عزيزاً عليه، وأحوجت الحاجة إلى تكلف سلوة، فلمّا حضر الندماء، وكان قد رصد الخسوف القمري، فلمّا حقق أنّه ابتدأ أخذ العود وغنى " شقيقك غيّب - إلى آخره " وجعل يرددها ويخاطب البدر، فلم يتم ذلك إلا واعترضه الخسوف، وعظم من الحاضرين التعجب. ثم قال لسان الدين في ترجمة شعره: وقال (3) : أقبلن في الحبرات يقصرن الخطا ... ويرين في حلل الوراشين القطا (4) سرب الجوى لا الجوّ عوّد حسنه ... أن يرتعي حبّ القلوب ويلقطا

_ (1) الإحاطة 2: 250. (2) ينسب إلى الشاعر ابن مقبل لأنه أجاد وصفه (ديوانه: 28 - 29) . (3) لم ترد هذه القصيدة في الإحاطة؛ وهي في الذخيرة 2/1: 219. (4) الوراشين: جمع ورشان وهو من الطيور المغردة.

مالت معاطفهنّ من سكر الصبّا ... ميلاً يخيف قدودها أن تسقطا وبمسقط العلمين أوضح معلم ... لمهفهف سكن الحشا والمسقطا ما أخجل البدر المنير إذا مشى ... يختال والغصن (1) النضير إذا خطا ومنها في المدح: يا وافدي شرق البلاد وغربها ... أكرمتما خيل الوفادة فاربطا ورأيتما ملك البرية فاهنآ (2) ... ووردتما أرض المريّة فاخططا يدمي (3) نحور الدارعين إذا ارتأى ... ويذل عزّ العالمين إذا سطا انتهى المقصود منه، وأورد له في الإحاطة قصيدة ثانية أولها: حديثك ما أحلى، فزيدي وحدثي ... وهي طويلة. وكتب عليها ابن المؤلف ما صورته: سمعتها من لفظ شيخي أبي جعفر ابن خاتمة بالمرية في سنة خمس وستين وسبعمائة، قاله علي بن الخطيب؛ انتهى. رجع إلى أخبار ابن الصائغ، ومن نظمه قوله: ضربوا القباب على أقاحي روضةٍ ... خطر النسيم بها ففاح عبيرا وتركت قلبي سار بين حمولهم ... دامي الكلوم يسوق تلك العيرا هلاّ سألت أميرهم هل عندهم ... عانٍ يفكّ ولو سألت غيورا لا والذي جعل الغصون معاطفاً ... لهم وصاغ الأقحوان ثغورا ما مرّ بي ريح الصبّا من بعدهم ... إلا شهقت له فعاد سعيرا

_ (1) الذخيرة: والخوط، ق: والخود. (2) الذخيرة: قاطباً. (3) الذخيرة: يرمي.

وتوفّي ابن الصائغ في شهر رمضان سنة 523، وقيل: سنة خمس وعشرين، مسموماً في باذنجان بمدينة فاس، وهو تُجيبي بضم التاء وفتحها، وباجّة: بالباء الموحدة، وبعد الألف جيم مشددة، ثم هاء ساكنة، وهي القصة بلغة الفرنج، وسرقسطة بفتح السين والراء وضم القاف وسكون السين الثانية وبعدها طاء مهملة مدينة كبيرة بالأندلس، استولى عليها العدو سنة 512. وقال الأمير ركن الدين بيبرس في تأليفه " زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة " (1) إن ابن الصائغ كان عالماً فاضلاً، له تصانيف في الرياضات والمنطق، وإنّه وزر لأبي بكر الصحراوي صاحب سرقسطة، ووزر أيضاً ليحيى بن يوسف ابن تاشفين عشرين سنة بالمغرب، وإن سيرته كانت حسنة، فصلحت به الأحوال، ونجحت على يديه الآمال، فحسده الأطباء والكتّاب وغيرهم، وكادوه، فقتلوه مسموماً؛ انتهى. وأنشد له بعضهم: هم رحلوا يوم الخميس عشيّةً ... فودّعتهم لمّا استقلّوا وودعوا ولما تولّوا ولّت النفس معهم ... فقلت: ارجعي قالت: إلى أين أرجع إلى جسد ما فيه لحمٌ ولا دمٌ ... وما هو إلا أعظمٌ تتقعقع وعينين قد أعماهما كثرة البكا ... وأذن عصت عذّالها ليس تسمع وقد ذكر بعضهم في تعزيز بيتي الحريري: أنّه لابن الصائغ الأندلسي، وليس هو بهذا فيما أعلم: انقدّ مهوى أزره فانثنى ... مه يا عذولي في الذي انقدّ مه مندمة قتل المعنّى فلا ... ترسل سهام اللحظ تأمن دمَه

_ (1) هو تاريخ كبير مرتب على حسب السنين انتهى فيه إلى سنة 724؛ وتوفي ركن الدين بيبرس المنصوري الدواداري سنة 725.

[ترجمة الفتح عن الإحاطة] رجع إلى ابن باجّة - وقد ذكر لسان الدين في الإحاطة سبب العداوة بينه وبين الفتح في ترجمة الفتح ولنذكرها بنصّه فنقول (1) : قال رحمه الله تعالى: الفتح بن محمد بن عبيد الله، الكاتب، من قرية تعرف بقلعة الواد (2) من قرى يحصب، يكنى أبا نصر، ويعرف بابن خاقان. حاله - كان آية من آيات البلاغة لا يشق غباره، ولا يدرك شأوه، عذب الألفاظ ناصعها، أصيل المعاني وثيقها، لعوباً بأطراف الكلام، معجزاً في باب الحلي والصفات، إلا أنّه كان محارفاً مقدوراً عليه، لا يمل من المعاقرة والقصف، حتى هان قدره، وابتذلت نفسه وساء ذكره، ولم يدع بلداً من بلاد الأندلس إلا ودخله مسترفداً أميره واغلاً في عليته، قال الأستاذ في الصلة: وكان معاصراً للكاتب أبي عبد الله ابن أبي الخصال، إلاّ أن بطالته أخلدت به عن مرتبته. وقال ابن عبد الملك (3) : قصد يوماً إلى مجلس قضاء أبي الفضل عياض مخمراً، فتنسم بعض حاضري المجلس رائحة الخمر، فأعلم القاضي بذلك، فاستثبت (4) وحدّه حدّاً تامّاً، وبعث إليه بعد أن أقام عليه الحد بثمانية دنانير وعمامة، فقال الفتح حينئذ لبعض من أصحابه: عزمت على إسقاط القاضي أبي الفضل من كتابي الموسوم ب " قلائد العقيان "، قال: فقلت: لا تفعل، وهي نصيحة، فقال: وكيف ذلك فقلت له: قصتك معه من الجائز أن تُنسى، وأنت تريد أن تتركها مؤرخة، إذ كل من ينظر في كتابك يجدك قد ذكرت

_ (1) الإحاطة، الورقة: 353. (2) الإحاطة: بصخرة الولد، وبهامش إحدى نسخ الذيل والتكملة: من قرية شرقي قلعة يحصب تعرف بشجرة الولد. ق: بقرية الواد. (3) قلت انظر الذيل والتكملة 5: 530. (4) الذيل: فاستثبت في استنكاهه؛ وفي الإحاطة: فاستتابه.

فيه من هو مثله ودونه في العلم والصيت، فيسأل عن ذلك، فيقال له، فيتوارث العلم عن الأكابر الأصاغر، قال: فتبين ذلك، وعلم صحته وأقر اسمه. وحدثني بعض الشيوخ أن سبب حقده على ابن باجة أبي بكر آخر فلاسفة الإسلام بجزيرة الأندلس ما كان من إزرائه به وتكذيبه إيّاه في مجلس إقرائه، إذ جعل يكثر ذكر ما وصله به أمراء الأندلس ووصف حلياً، وكان يبدو من أنفه فضله خضراء اللون - زعموا - فقال له: فمن تلك الجواهر إذن الزمردة التي على شاربك فثلبه في كتابه بما هو معروف، وعلى ذلك فأبو نصر نسيج وحده، غفر الله تعالى له. مشيخته - روي عن أبوي بكر: ابن سليمان بن القصيرة وابن عيسى ابن اللبانة، وأبي جعفر ابن سعدون الكاتب، وأبي الحسن ابن سراج، وأبي خالد ابن بشتغير، وأبي الطيب ابن زرقون، وأبي عبد الله ابن خلصة الكاتب، وأبي عبد الرحمن ابن طاهر، وأبي عامر ابن سرور، وأبي محمد ابن عبدون، وأبي الوليد ابن حجاج، وابن دريد الكاتب. تواليفه - ومصنفاته شهيرة: منها قلائد العقيان ومطمح الأنفس والمطمح أيضاً، وترسيله مدوّن، وشعره وسط، وكتابته فائقة. شعره - من شعره قوله، وثبت في قلائده، يخاطب أبا يحيى ابن الحاج (1) : أكعبة علياء وهضبة سؤدد ... وروضة مجد بالمفاخر تمطر هنيئاً لملك زار أفقك نوره ... وفي صفحتيه من مضائك أسطر وإنّي لخفّاق الجناحين كلّما ... سرى لك ذكر أو نسيم معطّر وقد كان واش هاجنا لتهاجرٍ ... فبتُّ وأحشائي جوىً تتفطّر

_ (1) انظر أيضاً القلائد: 180 والمطرب: 189.

فهل لك في ودٍّ ذوى لك ظاهراً ... وباطنه يندى صفاء ويقطر ولست بعلقٍ بيع بخساً وإنّني ... لأرفع أعلاق الزمان وأخطر فروجع عنه بما ثبت أيضاً في قلائده ممّا أوّله: ثنيت أبا نصر عناني، وربما ... ثنت عزمة السهم المصمم أسطر نثره - ونثره شهير، ونثبت له من غير المتعارف من السلطانيات ظهيراً كتبه عن بعض الأمراء لصاحب الشُّرَط، ولا خفاء بإدلاله وبراعته: كتاب تأكيد اعتناء، وتقليد ذي منة وغناء، أمر بإنفاذه فلان، أيّده الله تعالى، لفلان ابنفلان، صانه الله تعالى، ليتقدم لولاية المدينة الفلانية وجهاتها، ويضرح (1) ما تكاثف من العدوان في جنباتها، تنويهاً أحظاه بعلائه، وكساه رائق ملائه، لما علمه من سنائه، وتوسّمه من غنائه، ورجاه من حسن منابه، وتحققه من طهارة ساحته وجنابه، وتيقن - أيده الله تعالى - أنّه مستحق لما ولاه، مستقل (2) بما تولاه، لا يعتريه الكسل (3) ، ولا تثنيه عن المضاء الصوارم والأسل، ولم يكل الأمر منه إلى وكل، ولا ناطه بمناط عجز ولا فشل، وأمره أن يراقب الله تعالى في أوامره ونواهيه، وليعلم أنّه زاجره عن الجور وناهيه، وسائله عمّا حكم به وقضاه، وأنفذه وأمضاه {يوم لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً والأمر يومئذ لله} (الإنفطار: 19) فليتقدم إلى ذلك بحزم لا يخمد توقّده، وعزم لا ينفد تفقّده، ونفس مع الخير ذاهبة، وعلى متن البر والتقوى راكبة، ويقدّم للاحتراس من عرف اجتهاده، وعلم أرقه في البحث وسهاده، وحمدت أعماله، وأمن تفريطه وإهماله، ويضم إليهم من يحذو حذوهم، ويقفو شأوهم،

_ (1) يضرح: يزيل ويغسل؛ وفي ق: ويصوح. (2) مستقل: حامل للعبء؛ وفي الإحاطة: مشتغل. (3) الإحاطة: الكلل.

ممّن لا يستراب بمناحيه، ولا يصاب خلل في ناحية من نواحيه، وأن يذكي العيون على الجناة، وينفي عنها لذيذ السّنات، ويفحص عن مكامنهم، حتى يغص بالريق (1) نفس آمنهم، فلا يستقر بهم موضع، ولا يفر منهم خب ولا موضع، فإذا ظفر منهم بمن ظفر بحث عن باطنه، وبث السؤال في مواضع تصرفه ومواطنه، فإن لاحت شبهة أبداها الكشف والاستبراء، وتعدّاها البغي والافتراء، نكّله بالعقوبة أشدّ نكال، وأوضح له منها ما كان ذا إشكال، بعد أن يبلغ إناه، ويقف في طرفه مداه، وحدّ له أن لا يكشف بشرة إلا في حد يتعين، وإن جاءه فاسق أن يتبين، وأن لا يطمع في صاحب مال موفور، وأن لا يسمع من مكشوف في مستور، وأن يسلك السّنن المحمود، وينزه عقوبته من الإفراط وعفوه من تعطيل الحدود، وإذا انتهت إليه قصّة مشكلة أخّرها إلى غده، فهو على العقاب أقدر منه على رده، فقد يتبين في وقت ما لا يتبين في وقت، والمعاجلة (2) بالعقوبة من المقت، وأن يتغمد هفوات، ذوي (3) الهيئات، وأن يستشعر الإشفاق، ويخلع التكبر فإنّه ملابس أهل النفاق، وليحسن لعباد الله تعالى اعتقاده، ولا يرفض زمام العدلل ولا مقاده، وأن يعاقب المجرم قدر زلته، ولا يعتز عند ذلّته، وليعلم أن الشيطان أغواه، وزيّن له مثواه، فليشفق من عثاره، وسوء آثاره، وليشكر الله تعالى على ما وهبه من العافية، وألبسه من ملابسها الضافية، ويذكره جلّ وعلا في جميع أحواله، ويفكر في الحشر وأهواله، يوتذكر وعداً ينجز فيه ووعيداً " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً " آل عمران: 30 والأمير أيده الله تعالى ولي له ما عدل وأقسط، وبرىء منه إن جاء وقسط، فمن قرأه فليقف عند حدّه ورسمه، وليعرف له حق

_ (1) الإحاطة: ينهض بالروع. (2) الإحاطة: والعجل. (3) الإحاطة: أولي.

قطع الشرّ وحسمه، ومن وافقه من شريف أو مشروف، وخالفه في نهي عن منكر أو أمر بمعروف، فقد تعرض من العقاب لما يذيقه وبال خبله، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، وكتب في كذا. وفاته - بمراكش ليلة الأحد لثمان بقين من محرم من عام تسعة (1) وعشرين وخمسمائة، ألفي قتيلاً ببيت من بيوت فندق أحد فنادقها، وقد ذُبح وعُبث به، وما شُعر به إلا بعد ثلاث ليال من قتله؛ انتهى نص الإحاطة. [ترجمة الفتح عن المغرب] وقال في المغرب ما ملخصه (2) : فخر أدباء إشبيلية بل الأندلس: أبو نصر الفتح بن محمد بن عبيد الله القيسي الإشبيلي، صاحب القلائد والمطمح، ذكره الحجاري في المسهب، الدهر من رواة قلائده، وحملة فرائده، طلع من الأفق الإشبيلي شمساً طبّق الآفاق ضياؤها، وعمّ الشرق والغرب سناها وسناؤها، وكان في الأدب أرفع الأعلام، وحسنة الأيام، وله كتاب قلائد العقيان ومن وقف عليه لا يحتاج في التنبيه على قدره إلى زيادة بيان، وهو وأبو الحسن ابن بسّام الشنتمري مؤلف الذخيرة فارساً هذا الأوان، وكلاهما قسٌّ وسحبان، والتفضيل بينهما عسير، إلا أن ابن بسام أكثر تقييداً، وعلماً مفيداً، وإطناباً في الأخبار، وإمتاعاً للأسماع والأبصار، والفتح أقدر على البلاغة من غير تكلف، وكلامه أكثر تعلّقاً وتعشقاً بالأنفس، ولولا ما اتسم به ممّا عرف من أجله بابن خاقان، لكان أحد كتّاب الحضرة المرابطية بل مجليها المستولي على الرهان، وإنّما أخلّ به ما ذكرناه، مع كونه اشتهر بذم

_ (1) الإحاطة: سبعة. (2) ترجمته في المغرب 1: 254 وبين ما أورده المقري وما جاء في المغرب اختلاف كبير، هذا مع أن المقري يصرح بأنه يلخص.

أولي الأحساب، والتمرين بالطعن على الأدباء والكتّاب، وقد رماه الله تعالى بما رمى به إمام علماء الأندلس أبا بكر ابن باجّة، فوجد في فندق بحضرة مراكش قد ذبحه عبد أسود خلا معه بما اشتهر عنه، وتركه مقتولاً وفي دبره وتد، والله سبحانه يتغمده برحمته. ومن شعره قوله من أبيات في المدح: إلى أين ترقى قد علوت على البدر ... وقد نلت غايات السيادة والقدر وجدت إلى أن ليس يذكر حاتم ... وأغنيت أهل الجدب عن سبل القطر وكم رام أهل اللوم باللوم وقفة ... وبحرك مد لا يؤول إلى جزر ولو لم يكن فيك السماح جبلّةً ... لأثّر ذاك اللوم فيك مع الدهر وذكره ابن الإمام في سمط الجمان وأنشد له: لله ظبيٌ من جنابك زارني ... يختال زهواً في ملاء مراح ولي التماسك في هواه كأنّه ... مروان خاف كتائب السفّاح فخلعت صبري بالعرا ونبذته ... وركبت وجدي في عنان جماح أهدي لي الورد المضعف خده ... فقطفته باللحظ دون جناح وأردت صبراً عن هواه فلم أطق ... وأريت جدّاً في خلال مزاح وتركت قلبي للصبابة طائراً ... تهفو به الأشواق دون جناح وذكره ابن دحية في المطرب ونعته بابن خاقان، قال: والشيخ أبو الحجاج البياسي ينكر هذا، وقيل: إنّما قيل له ابن خاقان لما تقدم ذكره في كلام الحجاري، وقال ابن دحية: إنّه قتل ذبحاً بمسكنه في فندق ببيت من حضرة مراكش صدر سنة تسع وعشرين وخمسمائة، أشار بقتله علي بن يوسف بن تاشفين.

وقال أبو الحسن ابن سعيد: رأيت فضلاء الأندلس ينتقدون على الفتح أول افتتاحه في خطبة قلائده " الحمد لله الذي راض لنا البيان حتى انقاد في أعنَّتنا، وشاد مثواه في أجنّتنا " لكون ما تضمنته الفقرة الأولى أصوب ممّا تضمنته الفقرة الثانية، والصواب ضد ذلك؛ انتهى. وقال ابن الأبار في " معجم أصحاب الصدفي " (1) : إنّه لم يكن مرضياً، وحذفه أولى من إثباته؛ انتهى. ولذا لم يذكره في التكملة. وقال ابن خاتمة: إنّه لم يُعرف من المعارف بغير الكتابة والشعر والآداب. وما حكاه في الإحاطة من تاريخ وفاته مخالف لما حكاه ابن الأبار أنّه ليلة عيد الفطر من سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، قال: وقرأت ذلك بخط من يوثق به. وحكى ابن خلكان (2) قولاً آخر أنّه توفّي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، قيل: وهو خطأ، على أنّه حكى القول الآخر أيضاً. ودفن بباب الدباغين، رحمه الله تعالى. وقد قيل: إن قتله كان بإشارة أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين أخي إبراهيم الذي ألف برسمه قلائد العقيان. وقد ذكر ابن خلكان أن المطمح ثلاث نسخ: صغرى، ووسطى، وكبرى، والذي قاله ابن الخطيب وابن خاتمة وغير واحد من المغاربة أنّه نسختان فقط: صغرى، وكبرى، ولعلّه الصواب، إذ صاحب البيت أدرى بالذي فيه. ومن تأليف الفتح راية المحاسن وغاية المحاسن ومجموع في ترسيله، وتأليف صغير في ترجمة ابن السيّد البطليوسي نحو الثلاثة كراريس على منهاج القلائد (3) .

_ (1) انظر المعجم: 300 (رقم: 285) . (2) وفيات الأعيان 3: 194. (3) هذا التأليف نقله المقري في أزهار الرياض 3: 103 - 149؛ وذكر ابن عبد الملك له مؤلفاً اسمه " حديقة المآثر " ولم أجده مذكوراً عند غيره.

[رسائل للفتح] 1 - ومن بديع إنشاء الفتح المذكور سامحه الله تعالى قوله: أطال الله تعالى بقاء الوزير الأجلّ، عتادي الأسرى، وزنادي الأورى، وأيامه أعياد، وللسعد في زمانه انقياد، أمّا أنا - أدام الله تعالى عزّه - فجوّي عاتم، وأعيادي مآتم، وصبحي عشاء، وما لي إلاّ من الخطوب انتشاء، أبيت بين فؤاد خافق وطرف مسهّد، نائي المحلّة من مزار العوّد، حين لا أرى الروض المنوّر، ولا أحس سهيلاً إذا لاح ثم تهوّر (1) ، وقد بعدت دار إليّ حبيبة، ودنت مني حوادث بأدناها تؤذي الشبيبة، وأي عيش لمن لزم المفاوز لا يريمها، حتى ألفه ريمها، قد رمته النوائب فما اتّقى، وارتقت له الجوائح في وعور المرتقى، يواصل النوى ولا يهجر سيراً، ولا يزجر في الإراحة طيراً، قد هام بالوطن، هيام ابن طالب بالحوض والعطن، وحنّ إلى تلك البقاع، حنينه إلى أثلاث القاع (2) ، ولا سبيل أن يشعب صدر بينه شاعب، أو تكلّمه أحجار للدار وملاعب، وليس له إلى أين يجنح، ولا يرى أمله يسنح، قد طوى البلاد وبسطها، وتطرّف الأرض وتوسطها، ولم يلف مقيلاً، ولا وجد مقيلاً، إلى الله أشكو ما أقاسي وأقاصي، وبيده الأقدام والنواصي، ولقاؤه موعد كلّ موعد، وكل معمر سيدركه يوماً حمام الموعد، وأنفذته وقد صدرت عن فلانة بعد أهوال لقيتها، وأنكال سقيتها، وسفر لقيت منه نصباً، وكدر أعقبني وصباً، وإلى متى يعتزلني السعد ولله الأمر من قبل ومن بعد؛ انتهى.

_ (1) ق: تنور، وصوابه " تغور ". (2) يشير إلى يحيى بن طالب الحنفي حين اغترب عن وطنه اليمامة إلى العراق وافتقر، وهو يقول في الحنين إلى أثلاث القاع: أيا أثلاث القاع من بطن توضح ... حنيني إلى أفيائكن طويل وقد شرح ياقوت قصته في معجم البلدان (قرقري) .

2 - وكتب رحمه الله تعالى من رسالة: سيدي لا عدمت ارتفاقاً، ولا حرمت تكيفاً من السعد واتفاقاً، أنا الآن مشتغل البال، لا أفرّق بين الإعراض والإقبال، وعند تفرغي أوجّه لك ما حضر، ومثلك أرجأ الأمر وأنظر، وفي علم الله تعالى لو أمكنني لحملتك على كاهل، وأوردتك منه أعذب المناهل، وأبحت لك السعد ثغراً ترتشفه، وخلعته برداً عليك تلتحفه، لكن الزمان لا يجد، وصروفه لا تنجد، وعلى أي حال فلا بد أن تجد قراك، وتحمد سراك، إن شاء الله تعالى. 3 - وكتب إلى أبي بكر بن علي (1) عند ولايته إشبيلية: أطال الله تعالى بقاء الأمير الأجلّ أبي بكر للأرض يتملكها، ويستدير بسعده فلكها؛ استبشر الملك وحق له الاستبشار، وأومأ إليه السعد في ذلك وأشار، بما اتّفق له من توليتك، وخفق عليه من ألويتك، فلقد حبي منك بمكلك أمضى من السهم المسدّد: طويل نجاد السيف رحب المقلّد ... يقدم حيث يتأخّر الذابل، ويكرم إذا بخل الوابل، ويحمي الحمى كربيعة ابن مكدّم، ويسقي الظبي نجيعاً كلون العندم، فهنيئاً للأندلس لقد استردت عهد خلفائها، واستمدّت تلك الإمامة بعد عفائها، حتى كأن لم تمر أعاصرها، ولم يمت حكمها ولا ناصرها، اللذان عمرا الرصافة والزّهرا، ونكحا عقائل الروم وما بذلا إلا المشرفية مهرا، والله تعالى أسأله انتصار أيامك، وبه أرجو انتشار أعلامك، حتى يكون عصرك أعجب من عصرهم، ونصرك أعزّ من

_ (1) أبو بكر بن علي بن يوسف بن تاشفين أكبر أبناء علي وكان يعرف ببكور (تصغير تحبب) ، نشأ في إشبيلية، وكان مؤدبه أبو مروان ابن زهر، وقد ولي أمر المدينة سنة 518 وعزل عنها سنة 522.

نصرهم، والسلام؛ انتهى. 4 - وقال بعضهم: من أحسن ما رأيت له قوله: معاليك أشهر رسوماً، وأعطر نسيماً، من أن يغرب شهاب مسعاها، أو يجدب لرائد مرعاها، فإن نبهتك فإنّما نبهت عمراً (1) ، وإن استنرتك فإنّما أستنير قمراً، والأمير أيّده الله تعالى أجل من أعتصم في ملكه، وأنتظم في سلكه، فإنّه حسام بيد الملك، طلاقته فرنده، وشهامته حدّه، وقضيب، في دوحة الشرف رطيب، بشره زهره، وبره ثمره، وقد توسّمت نارك لعلّي أفوز منها بقبس، أو تكون كنار موسى بالواد المقدس، وعسى الأمل أن تعلو بكم قداحه، ويشف من أفقكم مصباحه، فجرّد - أيدك الله تعالى - صارم عزم لا تفلّ غروبه، واطلع كوكب سعد لا يخاف غروبه؛ انتهى. ولنذكر بعض كلامه في المطمح لغرابته في هذه البلاد المشرقية بخلاف القلائد فإنّها موجودة بأيدي الناس فيه. [نماذج من تراجم المطمح] 1 - قال رحمه الله تعالى في ترجمة أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي (2) : إمام اللغة والإعراب، وكعبة الآداب، أوضح منها كل إبهام، وفضح دون الجهل بها محل الأوهام، وكان أحد ذوي الإعجاز، وأسعد أهل الاختصار والإيجاز، نجم والأندلس في إقبالها، والأنفس أول تهممها بالعلم واهتبالها، فنفقت له عندهم البضاعة، واتفقت على تفضيله الجماعة، وأشاد الحكم بذكره، فأورى بذلك زناد فكره، وله اختصار العين للخليل، وهو معدوم

_ (1) أخذه من قول بشار في مدح عمر بن العلاء: إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمراً ثم نم (2) المطمح: 53 - 55.

النظير والمثيل، ولحن العامة وطبقات النحويين وكتاب الواضح وسواها من كل تأليف مخجل لمن أتى بعده فاضح، وله شعر مصنوع ومطبوع، كأنّما يتفجر من خاطره ينبوع، وقد أثبت له منه ما يقترح، ولا يطرح، فمن ذلك قوله: كيف بالدّين القديم ... لك من أم تميم ولقد كان شفاءً ... من جوى القلب السقيم يشرق الحسن عليها ... في دجى الليل البهيم وكتب مراجعاً: أغرقتني في بحور فكر ... فكدت منها أموت لما (1) كلّفتني غامضاً عويصاً ... أرجم فيه الظنون رجما ما زلت أسرو السجوف عنه ... كأنّني كاشف لظلما أقرب من ليله، وأنأى ... مستبصراً تارة وأعمى حتى بدا مشرق المحيّا ... لمّا اعتلى طالعاً وتمّا لله من منطق وجيز ... قد جلّ قدراً وجلَّ فهما أخلصت لله فيه قولاً ... سلّمت لله فيه حكما إذ قلت قول امرىء حكيمٍ ... مراقب للإله علما الله ربّي وليُّ نفسي ... في كل بوسٍ وكلّ نعمى وكتب إلى أبي مسلم ابن فهد وكان كثير التكبر، عظيم التجبر، متغيراً (2) لسانه، مقفراً من المعالم جنانه:

_ (1) المطمح: غما. (2) المطمح: متعثراً.

أبا مسلم، إنّ الفتى بفؤاده ... ومقوله لا بالمراكب واللّبس وليس رواء المرء يغني قلامة ... إذا كان مقصوراً على قصر النفس وليس يفيد الحلم والعلم والحجى ... أبا مسلم طول القعود على الكرسي واستدعاه الحكم المستنصر بالله أمير المؤمنين فعجل إليه وأسرع، فأمرع من آماله ما أمرع، فلمّا طالت نواه، واستطالت عليه لوعته وجواه، وحنّ إلى مستكنّه بإشبيلية ومثواه، استأذنه في اللحوق بها فلوّمه ولواه، فكتب إلى من كان يألفه ويهواه: ويحك يا سلم لا تراعي ... لا بد للبين من مساع لا تحسبيني صبرت إلاّ ... كصبر ميت على النزاع ما خلق الله من عذابٍ ... أشدّ من وقفة الوداع ما بينها والحمام فرقٌ ... إلا المناحات في النواعي إن يفترق شملنا وشيكاً ... من بعد ما كان في اجتماع فكل شمل إلى افتراق ... وكل شعب إلى انصداع وكلّ قربٍ إلى بعادٍ ... وكل وصل إلى انقطاع 2 - وقال - سامحه الله تعالى - بعد ترجمة السلطان بالمرية المعتصم بن صمادح ما نصّه: ابنه عز الدولة أبو مروان عبد الله (1) ، فتى الراح المعاقر لدنانها، المهتصر لأغصان الفتوة وأفنانها، المهجّر لفلاة الظّباء والآرام، المشهّر في باب الصّبابة والغرام، نشأ في حجر أبيه نديم قهوة، ومديم صبوة، وخديم شهوة، لا يريم كاساً، ولا يروم إلا اقتضاء وانتكاساً، ما شهد قتلاً ولا قتالاً، ولا تقلد صارماً إلا مختالاً، قد أمن منه جنانُ الجبان، وعدّت له غصون البان، ومازال مرتضعاً لأخلاف البطالة، مقتطعاً ما شاء من إطالة، متوغلاً

_ (1) لم ترد هذه الترجمة في المطمح المطبوع.

في شعاب الفتّاك، متغلغلاً في طريق الانتهاك، إلى أن وجهه أبوه إلى أمير المسلمين سفيراً عندما بدت له وجوه الفتنة تسفر، ومعاهد الهدنة تقفر، مع أكامل أصحبهم نقصانه، وذوي أديان جعلهم خلصانه، يسمعون بوادر بذاذته، وينظرون مناكر لذاذته، فآلت سفرته إلى الاعتقال، وقصرت نخوته ما بين قيد وعقال، فجاء كالمهر لا يعرف لجاماً، وصار حبيس قوم لا يألونه استعجاماً، وحين شالت نعامته، وسالت عليه ظلامته، كتب إلى أبيه: أبعد السنا والمعالي خمول ... وبعد ركوب المذاكي كبول ومن بعد ما كنت حرّاً عزيزاً ... أنا اليوم عبد أسير ذليل حللت رسولاً بغرناطة ... فحلّ بها فيّ خطبٌ جليل وثقّفت إذ جئتها مرسلاً ... وقبلي كان يعزّ الرسول فقدت المرية أكرم بها ... فما للوصول إليها سبيل فراجعه أبوه بقطعة منها: عزيزٌ عليّ ونوحي دليل ... على ما أقاسي ودمعي يسيل وقطّعت البيض أغمادها ... وشقّت بنودٌ وناحت طبول لئن كنت يعقوب في حزنه ... ويوسف أنت فصبرٌ جميل ولم يزل يتحيّل في تخلّصه، وأخذه من يد مقتنصه، فسرق وحراسه منه بمكان السلك من النحر، وطرق به على ثبج البحر، فوافى المريّة، وقد أخذ البحث عليه آفاق البرية، فهنىء المعتصم بخلاصه، وبقي مستقرّاً بعراصه، إلى أن أخلوها، ومضوا لطلبة ما نووها، فنجا أخوه إلى حيث ذكرنا من بلاد الناصر، ولجأ هو إلى أحد المرابطين لأذمّة كانت بينهما وأواصر، وأقام معه سمير لهوه، وأمير سهوه، إلى أن انقرض أمده، وطواه سروره لا كمده، فلم ير إلا

خالعاً لعذاره، طالعاً في ثنيّات اغتراره، غير مكترث باتّضاعه، ولا منحرف عن ارتشاف الغيّ وارتضاعه، وبدا منه في هذه الحال ندى كاثر به السحاب، وظاهر بسببه الصّحاب، وتخدّم الأوطار، وتقدم لذوي الرتب فيها والأخطار، [تقدماً] حسّن من ذكره، وأولع الألسن بشكره، فارتفع عنه الكدح، وشفع له في الذم ذلك المدح، وكان نظمه بديع الوصف، رفيع الرّصف، وقد أثبت له ما يشهد بإجادته وإحسانه، شهادة الروض بجود نيسانه. أخبرني ابن القطان أنّه ساير الأمير يحيى بن أبي بكر إلى طليطلة في جيوش فاضت سيلاً، وخاضت المطايا قتامها ليلاً، وكان ملكاً لم يعقد على مثله لواء، ولم يحتوٍ على شبهه حواء (1) ، جمال محياً، وكمال عليا، وحسن شيم، وبعد همم، أغنى العفاة، وأحيا الرفات، وألغى الأجواد، وأنسى كعب ابن مامة وابن أبي دواد، فلمّا شارف طليطلة وكشفها، واشتفّ بلالتها وارتشفها، وضرب بكنفها مضاربه، وأجال بساحتها زنجه وأعاربه، سقط أحد ألويته عن يد حامله، وانكسر عند عامله، فطائفة تفاءلت، وطائفة تطيرت، وفرقة ابتهجت، وأخرى تغيرت، فقال: لم ينكسر عود اللّواء لطيرةٍ ... يُخشى عليك بها وأن تتأوّلا لكن تحقّق أنّه يندقّ في ... نحر العدا ولدى الوغى فتعجّلا وأخبرني أخوه رفيع الدولة أن ابن اللبانة كتب إليه والخلع قد نضا لبوسه، وقصر بوسه، وكدر صفاءه، وغدر وفاءه، وطوى ميدان جوده، وأذوى أفنان وجوده، قوله (2) : يا ذا الذي هزّ أمداحي بحليته ... وعزّه أن يهزّ المجد والكرما

_ (1) الحواء: مضرب الأعراب. (2) مر البيتان وجوابهما في النفح ج 3: 396.

واديك لا زرع فيه اليوم تبذله ... فخذ عليه لأيام المنى سلما فدعته دواعي الندى، وأولعته بالجدا في ذلك المدى، فتحيل في برّ طبعه، وكتب معه: المجد يخجل من نقديك في زمن ... ثناه عن واجب البرّ الذي علما فدونك النزر من مصف مودّته ... حتى يوفّيك أيام المنى سلما 3 - ابنه الثاني: رفيع الدولة أبو يحيى ابن المعتصم: من بيت (1) إماره، وإلى السعد طوافه (2) بها واعتماره، عمرت أنديته، ونشرت به رايات العزّ وألويته، إلى أن خوى كوكبهم، وهوى مرقبهم، فتفرقوا أيادي سبا، وفرقوا من وقع الأسنّة والظّبي، وفارقوا أرضاً كأرض غسّان، ووافقوا أياماً كيوم أهل اليمامة مع حسّان، بعدما خامرت النفوس مكارمهم مخامرة الرحيق، وأمّهم الناس من كل مكان سحيق، وانتجعوا انتجاع الأنواء، واستطعموا في المحل واللأواء، وصالوا بالدهر وسطوا، وبين النهي والأمر فيه خطوا، ورفيع الدولة هذا فجر ذاك الصباح، وضوء ذلك المصباح، وغصن تلك الدوّحة، ونسيم تلك النفخة، لم يمتهن والدهر قد بذله، ولا ترك الانتصار والأمر قد خذله، فالتحف بالصّون وارتدى، وراح على الانقباض واغتدى، فما تلقاه إلا سالكاً جددا، ولا تراه إلا لابساً سوددا، وله أدب كالروض المجود إذا أزهر، ونظم كزهرالتهائم والنجود بل كالصبح إذا أسفر واشتهر، أوقفه على النسيب، وصرفه إلى المحبوبة والحبيب، فمن ذلك قوله (3) :

_ (1) المطمح: ثنية. (2) المطمح: حجه. (3) انظر أيضاً بعض هذه المقطعات في الحلة 1: 83 - 84.

ما لي وللبدر لم يسمح بزورته ... لعلّه ترك الإجمال أو هجرا إن كان ذاك لذنب ما شعرت به ... فأكرم الناس من يعفو إذا قدرا وله أيضاً: يا عابد الرحمن كم ليلة ... أرّقتني وجداً ولم تشعر إذ كنت كالغصن ثنته الصّبا ... وصحن ذاك الخدّ لم يشعر وله أيضاً: وأهيف لا يلوي على عتب عاتب ... ويقضي علينا بالظنون الكواذب يحكم فينا أمره فنطيعه ... ونحسب منه الحكم ضربة لازب وله أيضاً رحمه تعالى: وعلقته حلو الشمائل ماجناً ... خنث الكلام مرنّح الأعطاف ما زلت أنصفه وأوجب حقه ... لكنّه يأبى من الإنصاف وله أيضاً: حبيبٌ متى ينأى عن العين شخصه ... يكاد فؤادي أن يطير من البين ويسكن ما بين الضلوع إذا بدا ... كأنّ على قلبي تمائم من عين وله أيضاً: أفدّي أبا عمرو وإن كان جانياً ... عليّ ذنوباً لا تعدّد بالعتب (1) فما كان ذاك الود إلا كبارقٍ ... أضاء لعيني ثمّ أظلم للقلب (2)

_ (1) المطمح: بالبهت. (2) المطمح: في الوقت.

وله وقد بلغه موتي، وتحقق عنده فوتي (1) : مثنى الوزارة قد أودى فما فعلت ... تلك المحابر والأقلام والطرس ما كنت أحسب يوماً قبل ميتته ... أن البلاغة والآداب تختلس واستأذن ليلة على أحد الأمراء وأنا عنده في أسنى موضع، وأبهى مطلع، وجوانب حفده بين يديّ محتلة، وسحائب رفده عليّ منهلّة، وكان أجمل من مقل، وأكمل مَنْ مِنَ المهد إلى سرير الملك قد نقل، وكتب إليّ يهنيني بقدوم من سفر: قدمت أبا نصر على حال وحشة ... فجاءت بك الآمال واتصل الأنس وقرت بك العينان واتصل المنى ... وفازت على يأس ببغيتها النفس فأهلاً وسهلاً بالوزارة كلها ... ومن رأيه في كل مظلمة شمس 4 - وقال في المطمح في ترجمة الوزير أبي الوليد ابن حزم (2) : واحد دونه الجمع، وهو للجلالة بصر وسمع، روضة علاه رائقة السنا، ودوحة بهاه طيّبة الجنى، لم يتّزر بغير الصّون، ولم يشتهر بفسادٍ بعد الكون، مع نفس برئت من الكبر، وخلصت خلوص التبر، مع عفاف التحف به بروداً، وما ارتشف به ثغراً بروداً، فعفّت مواطنه، وما استرابت ظواهره ولا بواطنه، وأمّا شعره ففي قالب الإحسان أفرغ، وعلى وجه الاستحسان يلقى ويبلغ، وكتب إليه ابن زهر: أأبا الوليد وأنت سيد مذحج ... هلاّ فككت أسير قبضة وعده وحياة من أمد الحياة بوصله ... وذهابها حتماً بأيسر صدّه

_ (1) لم ترد في المطمح. (2) المطمح: 31 - 34.

لأقاتلنّك إن قطعت بمرهف ... من جفنه وبصعدة من قدّه فراجعه أبو الوليد: لبيّك يا أسد البرية كلّها ... من صادق عبث المطال بوعده يمضي بأمرك ساء أو سر القضا ... ويفلّ حدّ النائبات بحده إيه ووافقت الصبا في معرض ... ذهب المشيب بهزله وبجده 5 - وقال في المطمح في ترجمة أبو بكر الغساني، ما صورته (1) : صليب العود، مهيب الوعود، لو دعي له الأسد الورد لأجاب، ولو رمي بذكره الليل البهيم لانجاب، ولو قعدت بين يديه الأطواد لتحرك سكونها، ولو عصته الطيور ما آوتها وكونها، مع وقار تخاله يذبلا، وفخار يفضح بلبلا، وشيم لو كانت بالروض ما ذوى، أو تقاسمت في الخلق ما رمد أحد بعدما شوى، وسجايا تنجلي عنها الظلماء، كأن مزاجها عسل وماء؛ انتهى. وهذا الغساني هو صاحب تفسير القرآن وقد عرّف به في الإحاطة فليراجع ثمة. 6 - وقال أيضاً في المطمح ما صورته: أبو عامر ابن عقال (2) . كان له ببني قاسم تعلق، وفي سماء دولتهم تألّق، فلمّا خوت نجومهم، وعفت رسومهم، انحط عن ذلك الخصوص، وسقط سقوط الطائر المقصوص، وتصرف بين وجود وعدم، وتحرف قاعداً حيناً وحيناً على قدم، وفي خلال حاله، وأثناء انتحاله، لم يدع حظّه (3) من الحبيب، ولا ثنى لحظه

_ (1) لم ترد هذه الترجمة في المطمح المطبوع. (2) المطمح: 86 - 87 وكتبه فيه " ابن عقال " وقد مر في غير موطن من هذا الكتاب " ابن عيال " ويتصحف كثيراً " ابن غتال " ... الخ. (3) المطمح: حظاً.

عن الغزال الربيب، ولم يزل يطير ويقع، والدهر يخرق حاله ويرقع (1) ، إلى أن أرقاه الأمير إبراهيم بن يوسف بن تاشفين رحمه الله تعالى أعلى ربوة (2) ، وأراه (3) أبهى حظوة، فأدرك عنده رتبة أعلام التحبير والإنشا، وترك الدهر فلق الحشا، وتسنم منزلة لا يتسنمها إلاّ من تطهر من درنه، وجمح إحسانه في ميدان حرنه، والحظوظ أقسام لا تسام، والدنيا إنارة وإعتام (4) : ولو لم يعل إلا ذو محلٍّ ... تعالى الجيش وانحطّ القتام (5) وقد أثبت عنه بعض ما انتقيته، والذي أخذته مباين لما أبقيته، فمن ذلك قوله: يا ويح أجسام الأنا ... م لما تطيق من الأذى خلقت لتقوى بالغذا ... ء وسقمها ذاك الغذا وتنال أيام السلا ... مة بالحياة تلذذا فإذا انقضى زمن الصِّبا ... ورمى المشيب فأنفذا وجد السقام إلى المفا ... صل والجوانح منفذا ويقول مهما يعطَ شي ... ئاً ناولوني غير ذا وحذا في هذه القصيدة حذو الصابي في قوله (6) : وجع المفاصل وهو أي ... سر ما لقيت من الأذى ردّ الذي استحسنته ... والناس من حظّي كذا والعمر مثل الكاس ير ... سب في أواخرها القذى

_ (1) المطمح: يخفض ... ويرفع. (2) المطمح: إلى أسمى ذروة. (3) المطمح: ورداه. (4) زاد في المطمح: وصفاه يتلوه قتام. (5) البيت للمتنبي (شرح الواحدي: 162) . (6) اليتيمة 2: 300.

وله يعتذر عن زيارة اعتمدها، ومواصلة اعتقدها، فعاقّته عنها حوادث لوته، وعدته عن ذلك وثنته: بينما كنت راجياً للقائه ... والتشفّي بالبشر من تلقائه وترقبت من سماء نزاعي ... قمر الأنس طالعاً من سمائه إذ دهاني اعتراض خطبٍ ثناني ... عن غمامٍ يشفي الغليل بمائه فتدلّهت وانزويت حياء ... منه والعذر واضح لسنائه وله فصل كتب به عن الأمير إبراهيم يصف إجازة أمير المسلمين البحر سنة خمس عشرة وخمسمائة: وفي الساعة الثانية من يوم الجمعة كان جوازه - أيده الله تعالى - من مرسى جزيرة طريف على بحر ساكن قد ذل بعد استصعابه، وسهل بعد أن رأى الشامخ من هضابه، وصار حيّه ميتاً، وهذره صمتاً، وجباله لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وضعف تعاطيه، وعقد السلم بين موجه وشاطيه، فعبر آمناً من لهواته، متملّكاً لصهواته، على جواد يقطع الجوّ سبحاً، ويكاد يسبق البرق لمحاً، لم يحمل لجاماً ولا سرجاً، ولا عهد غير اللجّة الخضراء مرجاً، عنانه في رجله، وهدب العين يحكي بعض شكله، فلله هو من جواد، له جسم وليس له فؤاد، يخرق الهواء ولا يرهبه، ويركض الماء ولا يشربه. 7 - وقال في ترجمة الفقيه أبي مروان عبد الملك بن زيادة الله الطبني (1) ، ما نصّه: من ثنيّة شرف وحسب، ومن أهل حديث وأدب، إمام في اللغة متقدم، فارع لرتب الشعر متسنّم، له رواية بالأندلس ورحلة إلى المشرق، ثم عاد

_ (1) المطمح: 50.

وقد توّج بالمعارف المفرق، وأقام بقرطبة علماً من أعلامها، ومتسنماً لترفعها وإعظامها، تؤثره الدول، وتصطفيه أملاكها الأول، مازال فيها مقيماً، ولا برح عن طريق أمانيها مستقيماً، إلى أن اغتيل في إحدى اللّيالي بقضية يطول شرحها فأصبح مقتولاً في فراشه، مذهولاً كل أحد من انبساط الضرب إليه على انكماشه، وقد أثبت من محاسنه ما يعجب السامع، وتصغي إليه المسامع، فمن ذلك قوله: وضاعف ما بالقلب يوم رحيلهم ... على ما به منهم حنين الأباعر وأصبر عن أحباب قلب ترحّلوا ... ألا إنّ قلبي سائر غير صابر ولمّا رجع إلى قرطبة وجلس ليرى ما احتقبه من العلوم، اجتمع إليه في المجلس خلق عظيم، فلمّا رأى تلك الكثرة، وما له عندهم من الأثرة، قال: إنّي إذا حضرتني ألف محبرة ... يكتبن حدّثني طوراً وأخبرني نادت بمفخري الأقلام معلنة ... هذي المفاخر لا قعبان من لبن وكتب إلى ذي الوزارتين أبي الوليد ابن زيدون: أبا الوليد وما شطّت بنا الدار ... وقلّ منّا ومنك اليوم زوّار (1) وبيننا كل ما تدريه من ذمم ... وللصِّبا ورقٌ خضرٌ وأنوار وكل عتبٍ وإعتابٍ جرى فله ... بدائع حلوة عندي وآثار فاذكر أخاك بخير كلّما لعبت ... به اللّيالي فإنّ الدهر دوّار 8 - وقال في ترجمة صاحب العقد الفقيه العالم أبي عمر أحمد بن عبد ربه (2) :

_ (1) سقط هذا البيت من ق. (2) المطمح: 51 - 53 وبعض مقطعات ابن عبد ربه وردت في الأجزاء السابقة.

عالم ساد بالعلم ورأس، واقتبس به من الحظوة ما اقتبس، وشهر بالأندلس حتى سار إلى المشرق ذكره، واستطار شرر الذكاء فكره، وكانت له عناية بالعلم وثقة، ورواية له متّسقة، وأمّا الأدب فهو - كان - حجّته، وبه غمرت الأفهام لجته، مع صيانة وورع، وديانة ورد ماءها فكرع، وله التأليف المشهور الذي سمّاه ب " العقد "، وحماه عن عثرات النقد، لأنّه أبرزه مثقّف القناة، مرهف الشّباة، تقصر عنه ثواقب الألباب، وتبصر السحر منه في كل باب، وله شعر انتهى منتهاه، وتجاوز سماك الإحسان وسماه. أخبرني ابن حزم أنّه مرّ بقصر من قصور قرطبة لبعض الرؤساء فسمع منه غناء أذهب لبّه، وألهب قلبه، فبينما هو واقف تحت القصر إذ رشّ بماء من أعاليه، فاستدعى رقعة، وكتب إلى صاحب القصر بهذه القطعة: يا من يضنّ بصوت الطائر الغرد ... ما كنت أحسب هذا الضنّ في أحد لو أنّ أسماع أهل الأرض قاطبة ... أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد فلا تضنّ على سمعي ومنّ به ... صوتاً يجول مجال الروح في الجسد أمّا النّبيذ فإنّي لست أشربه ... ولا أجيئك إلاّ كسرتي بيدي وعزم فتى كان يتألّفه، وخامره كلفه، على الرحيل في غده، فأذهبت عزمته قوى جلده، فلمّا أصبح عاقته السماء بالأنواء، وساقته مكرهاً إلى الثّواء، فاستراح أبو عمر من كمده، وانفسح له من التواصل ضائق أمده، فكتب إلى المذكور، العازم على البكور: هلاّ ابتكرت لبين أنت مبتكر ... هيهات يأبى عليك الله والقدر ما زلت أبكي حذار البين ملتهباً ... حتى رثى لي فيك الريح والمطر يا برده من حيا مزنٍ على كبدٍ ... نيرانها بغليل الشوق تستعر آليت أن لا أرى شمساً ولا قمراً ... حتى أراك فأنت الشمس والقمر

ومن شعره الذي صرّح به تصريح الصب، وبرّح فيه وقائع اسم الحب، قوله: الجسم في بلدٍ والروح في بلد ... يا وحشة الروح بل يا غربة الجسد إن تبك عيناك لي يا من كلفت به ... من رحمةٍ فهما سهماك في كبدي ومنه قوله: ودّعتني بزفرة (1) واعتناق ... ثمّ نادت متى يكون التلاقي وبدت لي فأشرق الصبح منها ... بين تلك الجيوب والأطواق يا سقيم الجفون من غير سقم ... بين عينيك مصرع العشاق إنّ يوم الفراق أفظع يومٍ ... ليتني متّ قبل يوم الفراق وله أيضاً: يا ذا الذي خطّ الجمال بخده ... خطّين هاجا لوعةً وبلابلا ما صحّ عندي أنّ لحظك صارمٌ ... حتى لبست بعارضيك حمائلا وأخبرني بعضهم أن الخطيب أبا الوليد ابن عيال (2) حج، فلمّا انصرف، تطلّع إلى لقاء المتنبي واستشرف، ورأى أن لقياه فائدة يكتسبها، وحلّة فخر لا يحتسبها، فصار إليه فوجده في مسجد عمرو بن العاص، ففاوضه قليلاً، ثمّ قال: أنشدني لمليح الأندلس، يعني ابن عبد ربّه، فأنشده: يا لؤلؤاً يسبي العقول أنيقا ... ورشاً بتقطيع القلوب رفيقا ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... درّاً يعود من الحياء عقيقا

_ (1) المطمح: بزورة. (2) كذا هنا وفي بعض أصول المطمح: ابن عقال.

وإذا نظرتَ إلى محاسن وجهه ... أبصرت وجهك في سناه غريقا يا من تقطّع خصره من رقّةٍ ... ما بال قلبك لا يكون رقيقا فلمّا أكمل إنشادها استعادها منه، وقال: يا ابن عبد ربّه، لقد تأتيك العراق حبواً. وله أيضاً: ومعذر نقش الجمال بخطّه ... خدّاً له بدم القلوب مضرّجاً لمّا تيقّن أنّ سيف جفونه ... من نرجس جعل النّجاد بنفسجا وله أيضاً: وساحبة فضل الذيول كأنّها ... قضيبٌ من الريحان فوق كثيب إذا ما بدت من ثغرها قال صاحبي ... أطعني وخذ من وصلها بنصيب وله أيضاً: هيّج الشوق دواعي سقمي ... وكسا الجسم ثياب الألم أيّها البين أقلني مرّة ... فإذا عدت فقد حلّ دمي يا خليّ الذّرع نم في غبطة ... إنّ من فارقته لم ينم ولقد هاج بجسمي سقماً ... حب من لو شاء داوى سقمي وبلغ سنّ عوف بن محلم (1) ، واعترف بذلك اعتراف متألم، عندما وهت شدته، وبليت جدّته، وهو آخر شعر قال، ثم عثر في أذيال الردى وما استقال:

_ (1) هو القائل: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

كلاني لما بي عاذليّ كفاني ... طويت زماني برهةً وطواني بليت وأبليت اللّيالي مكرهاً ... وصرفان للأيام معتوران وما لي لا أبلى لسبعين حجّة ... وعشرٍ أتت من بعدها سنتان فلا تسألاني عن تباريح علّتي ... ودونكما منّي الذي تريان وإنّي بحول الله راجٍ لفضله ... ولي من ضمان الله خير ضمان ولست أبالي من تباريح علّتي ... إذا كان عقلي باقياً ولساني وفي أيام إقلاعه عن صبوته، وارتجاعه عن تلك الغفلة وأوبته، وانشائه عن مجون المجون إلى صفاء توبته، محص أشعاره في الغزل بما ينافيها، ونصل من قوادمها وخوافيها، بأشعار في الزهد على أعاريضها وقوافيها، منها القطعة التي أوّلها: هلاّ ابتكرت لبينٍ أنت مبتكر ... محصها بقوله: يا راقداً ليس يعفو حين يقتدر ... ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظر عاين بقلبك إنّ العين غافلة ... عن الحقيقة واعلم أنّها سقر سوداء تزفر من غيظ إذا سفرت ... للظالمين فلا تبقي ولا تذر لو لم يكن لك غير الموت موعظةً ... لكان فيه عن اللّذات مزدجر أنت المقول له ما قلت مبتدئاً: ... هلاّ ابتكرت لبينٍ أنت مبتكر 9 - وقال في ترجمة أبي القاسم المنيشي، ما صورته (1) : أبو القاسم المنيشي، أحد أبناء (2) حضرة إشبيلية المقلّين، الناهضين بأعباء

_ (1) المطمح: 88 والنص مختلف عما أورده المقري. (2) المطمح: أنساء.

الضرائر المستقلّين، لم يزل يعشو لكل ضوء، وينتجع مصاب كل نوء، فيوماً يخصب ويوماً يجدب، وآونة يفرح وأخرى ينتدب، إلى أن صدقت مخايله، فرمقت بخوته وتحايله، وأتى من العجب، بمنسدل الحجب، ومن الأشر، ما لم يأت من بشر، وما تصرف إلاّ في أنزل الأعمال، ولا تعرّف إلاّ بأخون العمال، لم يفرع ربوة ظهور، ولم يقرع باب رجل مشهور، وله أدب ولسن، ومذهب فيهما يستحسن، لكنّه نكب عن المقطع الجزل، وذهب مذهب الهزل، إلا في النادر فربما جدّ، ثم أخلق منه ما استجدّ، وعاد إلى ديدنه، عودة أبي عباد (1) إلى واواته ومدنه، وأخذ في ذلك الغرض، وليس شرط كتابي بذاءه، ولا أن يقف حذاءه، وقد أثبتّ له ما هو عندي نافق، ولغرض كتابي موافق، فمن ذلك قوله: يا روضةً باتت الأنداء تخدمها ... أتى النسيم وهذا أوّل السّحر إن كان قدك غصناً فالثراء به ... مثل الكمائم قد زرت على الزهر اربأ بخديك عن ورد وعن زهر ... واغن بقرطيك عن شمس وعن قمر يا قاتل الله لحظي كم شقيت به ... من حيث كان نعيم الناس بالنظر وله من رثاء في والدتي رحمة الله عليها: يا ناصحي غير مفتات ولا شجن ... على النصائح والنصاح مفتات لا أستجيب ولو ناديت من كثب ... قد وقذتني تعلاتٌ وعلاّت إن كان رأيك في برّي وتكرمتي ... بحيث قد ظهرت منه علامات لا ترض لي غير شجوٍ لا أفارقه ... فذاك أختاره والناس أشتات ومنها: يا ذا الوزارة من مثنى وواحدة ... لله ما اصطنعت منك الوزارات

_ (1) أبو عباد هو معبد المغني، ومدنه ألحان له تسمى حصون معبد.

لله منك أبا نصرٍ أخو جلدٍ ... إذا ألمّت ملمّات مهمّات أستودع الله نوراً ضمّه كفنٌ ... كما تواري بدور التمّ هالات قضت وليت شبابي كان موضعها ... هيهات؛ لو قضيت تلك اللبّانات مضت ولمّا يقم من دونها أحد ... هلاّ وقد أعذرت فيها المروءات وله يصف زرزوراً: أمنبر ذاك أم قضيب ... يفرعه مصقع خطيب يختال في بردتي شبابٍ ... لم يتوضح بها مشيب كأنّما ضمّخت عليه ... أبراده مسكةٌ وطيب أخرس لكنه فصيح ... أبله لكنّه لبيب جهم على أنّه وسيم ... صعب على أنّه أريب 10 - أبو الحسن البرقي (1) : بلنسي الدار، نفيسيّ المقدار، ما سمعت له بشرف، ولا علمت له بسلف، ولا اطلعت منه على غير سرف، ورد إشبيلية سنة تسع وتسعين وأربعمائة (2) ، واتصل بابن زهر، فناهيك من حظ في أكنافه جال، ومن لحظ فيما أراده أجال، ومن أمل استوفر، وحظ مسك أذفر، ومن وجه جاه له أسفر، سلك به ساحة الرغائب، وتملك بسببه إباحة الحاضر والغائب، وقال فما نبذت مقالته، وأقال فما قيّدت إقالته، وكان حلو المجالسة، مجلوّ المؤانسة، ذا نشب وافر، ومذهب في المساهمة سافر، إلاّ أنّه كان كلفاً بالفتيان، معنّىً بهم في كل الأحيان، ونيّف على السبعين وهو برداء الصبوة مرتد، وبعترتها معتد، مع أدب زهرته ترفُّ، وكأنّه بحر والألباب منه تغترف، وقد أثبتّ له بعض

_ (1) المطمح: 89. (2) المطمح: سنة خمس وسبعين وأربعمائة.

ما وجدت له في الغلمان، وأنشدت له في تلك الأزمان، فمن ذلك قوله رحمه الله تعالى: إن ذكرت العقيق هاجك شوق ... ربّ شوقٍ يهيجه الادّكار يا خليليّ حدّثاني عن الرك ... ب سحيراً أأنجدوا أم أغاروا شغلونا عن الوداع وولوا ... ما عليهم لو ودّعوا ثمّ ساروا أنا أهواهم على كلّ حالٍ ... عدلوا في هواهم أم جاروا وعلق بإشبيلية فتى يعرف بابن المكر، وبات من حبّه طريحاً بين أيدي الوساوس والفكر، لا يمشي إلاّ صبّاً، ولا يفشي إلا غراماً وحبّاً، ومازال يقاسي لوعته، مقاساة يناجي بها صرعته، ويكابد جواه، ويلازم هواه، حتى اكتسى خدّه بالعذار، وانمحت عنه بهجة آذار، فسلا من كلفه، وتصدى ذلك لمواصلته بصلفه، فقال: الآن لمّا صوّحت وجناته ... شوكاً وأضحت سلوة العشاق واستوحشت منه المحاسن واكتست ... أنوار وجهك واهن الأخلاق أمسيت تبذل لي الوصال تصنّعاً ... خلق اللئيم وشيمة المذَّاق هلا وصلت إذ الشمائل قهوة ... وإذ المحيّا روضة الأحداق يا كم أطلت غرام قلب موجع ... كم قد ألبّ إليك بالأشواق ما كنت إلا البدر ليلة تمّه ... حتى قضت لك ليلة بمحاق لاح العذار فقلت وجد نازح ... إنّ ابن داية (1) مؤذن بفراق وله فيه مناقضاً لذلك الغرض، معارضاً للوعة سلوه الذي كان عرض: يلومون في ظبيٍ تزايد حسنه ... بخطّين خطّا لوعتي وغراميا

_ (1) ابن دأية: الغراب.

وقد كنت أهوى خدّه وهو عاطل ... فكيف وقد أضحى لعيني حاليا وله أيضاً في مثله: أجيل الطرف في خدٍّ نضيرٍ ... يردد ناظري نظري إليه إذا رمدت بحمرته جفوني ... شفاها منه إثمد عارضيه 11 - أبو الحسن علي بن جودي (1) : برّز في الفهم، وأحرز منه أوفر سهم، وعانى العلوم بقريحة ذكيّة، وواخى بنفس في المعارف زكية، وله أدب واسع مداه، يانع كالروض بلّله نداهن، ونظمٌ أرقّ من دمع العاني، ولطيف المعاني، وأعبق من نفس الخمائل، في أكفّ الصّبا والشمائل، ونثر كالزهر المطلول، أو السلك المحلول، إلا أنّه سها فأسرف، وزها بما لا يعرف، وتصدى إلى الدين بالافتراء، ولم يراقب الله تعالى في ذلك الاجتراء، واشتهرت عنه في ذلك أقوال سدّد إلى الملّة نصالها، وأبدى بها ضلالها، فعظمت به المحنة، وكمنت له في كل نفس إحنة، ومازال يتدرّج فيها وينتقل، حتى عثر وما كاد يستقل، فمر لا يلوي على تلك النواحي، وفرّ لا ينثني إلى لوائم ولواحي، وما زال يركب الأهواء ويخوضها، ويذلل النفس بها ويروضها، حتى أسمحت ببعض الإسماح، وكفّت عن ذلك الجماح، واستقر عند أبي مالك فآواه، ومهّد له مثواه، وجعله في جملة من اختص من المبطلين، واستخلص من المعطلين، فكثيراً ما يصطفيهم، ولا يدري أيدّخرهم أم يقتنيهم، وقد أثبتُّ له ما يبهر سامعاً، ويظهر برقاً لامعاً، فمن ذلك قوله: أحنّ إلى ريح الشمال فإنّها ... تذكرنا نجداً وما ذكرنا نجدا تمرُّ على ربعٍ أقام به الهوى ... وبدَّل من أهليه جائمةً رُبدا

_ (1) المطمح: 90 وبين النصين اختلاف.

فيا ليت شعري هل تقضّى لبانة ... فأرتشف اللّميا وأعتنق القدّا خليليّ لا والله ما أحمل الهوى ... وإن كنت في غير الهوى رجلاً جلدا وقوله أيضاً: سل الركب عن نجد فإنّ تحيّةً ... لساكن نجد قد تحمّلها الركب وإلا فما بال المطيّ على الوجى ... خفافاً وما للريح مرجعها رطب وقوله أيضاً: إذا ارتحلت غربية فاعرضا لها ... فبالغرب من نهوى له البلد الغربا لقد ساءنا أنّا بعيد وأنّنا ... بأرضين شتّى لا مزاراً ولا قربا يفجّعنا إما بعاد مبرّحٌ ... وإمّا أمورٌ باعثاتُ لنا كربا ظعنّا على حكم اللّيالي وخطبها ... فيا ليت لم ندر اللّيالي ولا الخطبا وكنت أُرجّي الدهر بعد الذي مضى ... دياراً وقرباً والأصادق والصحبا أحقّاً يسيرُ الركب لم ترتحل بنا ... إليك ولم تحد الحداة لنا ركبا وقوله أيضاً: لقد هيّج النيران يا أمّ مالكٍ ... بتدمير ذكرى ساعدتها المدامع عشيّة لا أرجو لقاءك عندها ... ولا أنا أن يدنو مع الليل طامع وقوله أيضاً: حننت إلى البرق اليماني، وإنّما ... نعالج شوقاً ما هنالك هانيا فيا راكباً يطوي البلاد تحمّلن ... تحيتنا إن كنت تلجأ لاقيا ليالينا بالجزع جزع محجّر ... سقى الله يا فيحاء تلك اللياليا وما ضرّ صحبي وقفة بمحجّرٍ ... أحيّي بها تلك الرسوم البواليا

وله أيضاً: خليليّ من نجد فإنّ بنجدهم ... مصيفاً لبيت العامريّ ومربعا ألا رجّعا عنها الحديث فإنّني ... لأغبط من ليلي الحديث المرجّعا عزيز علينا يا ابنة القوم أنّنا ... غريبان شتّى لا نطيق التجمّعا فريق هوى منّا يمانٍ ومشئمٌ ... يحاول يأساً أو يحاول مطمعا كأنّا خلقنا للنوى وكأنّما ... حرام على الأيام أن تتجمّعا ووجدت له في بعض نسخ " المطمح " قوله أيضاً (1) : سقى دارك اللائي ببطن محصّبٍ ... مثاكيل من وفد الغمام المرنّح ألم تعلمي يا فتنة القلب أنّني ... تطارحت من حبي لكم كلّ مطرح إذا نعبت غربان دارٍ وجدتني ... وشوقي مقيمٌ بين ناء ونزّح وله أيضاً: ألا خبر وللبلوى ضروب ... وفيك لكلّ مشتاق حبيب حباك الله بالنعمى فنوناً ... وجرّ لكم مع النعمى خطوب متى تقضي بخسفتك الليالي ... وتعصف فيكم ريح هبوب فإنّكم تجرّون المنايا ... وتعمر من مجانيكم قلوب وقد ذكر في " المطمح " له تخميساً جارياً على ألسنة الناس إلى الآن، وهو: أيا ساكنين بأرض اللوى ... وصالكم لسقامي دوا وعافاكم الله من ذا الجوى ... ملكتم فؤادي فصار الهوى عليّ رقيبٌ رقيبٌ رقيبْ ...

_ (1) وردت هذه القطعة في ق بعد القطعة التي أولها " إذا ارتحلت غربية ... ".

ولمّا تبدّت لهم حالتي ... وما حرّك الهجر من زفرتي بكوا رحمةً لي من ساعتي ... فقلت متى الوصل يا سادتي فقالوا قريبٌ قريبٌ قريبْ ... وهو وإن لم يكن في ذروة البلاغة فقد ذكرته لأنّه مطروق بالمغرب عند أهل التلاحين وغيرهم. ولنذكر بعض نص خطبة المطمح، قال رحمه الله تعالى فيه: أمّا بعد حمد الله الذي أشعرنا إيماناً (1) وإلهاماً، وصير لنا أفهاماً، ويسّر لنا برود آداب، ونشرنا للانبعاث لإثباتها والانتداب، وصلّى الله على سيدنا محمد الذي بعثه رحمة، ونبّأه منة منه ونعمة، وسلّم تسليماً، فإنّه كان بالأندلس أعلام، فتنوا بسحر الكلام، ولقوا منه كل تحيّة وسلام، فشعشعوا البدائع وروّقوها، وقلدوها بمحاسنهم وطوقوها، ثم هووا في مهاوي المنايا، وانطووا بأيدي الرزايا، وبقيت مآثرهم الحسان، غير مثبتة في ديوان، ولا مجملة في تصنيف تجتلي فيه العيون، وتجتني منه زهر الفنون، إلى أن أراد الله تعالى إظهار إعجازها، واتصال صدورها بأعجازها، فحلللت من الوزير أبي العاصي حكم بن الوليد عند من رحّب وأهل، وأعلّ بمكارمه وأنهل، وندبني إلى أن أجمعها في كتاب، وأدركني من التنشط إلى إقبال ما ندب إليه، وكتابة ما حث عليه، فأجبت رغبته، وحليت بالإسعاف لبّته، وذهبت إلى إبدائها، وتخليد عليائها، وأمليت منها في بعض أيام، ثلاثة أقسام، القسم الأول: يشتمل على سرد غرر الوزراء، وتناسق درر الكتّاب والبلغاء. القسم الثاني: يشتمل على محاسن أعلام العلماء، وأعيان القضاة والحكماء. القسم الثالث: يشتمل على ذكر محاسن الأدباء، النوابغ النجباء؛ انتهى.

_ (1) إيماناً: سقطت من ق والمطمح.

وهذه خطبة " المطمح الصغير "، وأما الكبير والأوسط فضمنهما ذكر الملوك والسلاطين حسبما نقلنا بعضه فيما مر من هذا الكتاب، على أنّنا نقلنا بعضاً من الصغير أيضاً، فليعلم ذلك من يقف على هذا الكتاب، ومن له أدنى ممارسة، وليراجع من الترجمة الفرق بين كلامه في الصغير وغيره، وبالجملة فما رأيت ولا سمعت أحلى من عبارة الفتح رحمه الله تعالى في تحلية الناس، ووصف أيام الأنس، وليس الخبر كالعيان، وقد سردنا بعض كلامه في " القلائد " وفي " المطمح ". [قطعة من الموشحات] ولنرجع الآن إلى ما كنا بصدده من أمر التوشيح، فنقول: وتمام موشحة ابن سهل التي عارضها لسان الدين هو قوله: هل درى ظبيُ الحمى أن قد حمى ... قلب صبٍّ حلّه عن مكنس فهو في حرّ وخفقٍ مثلما ... لعبت ريح الصَّبا بالقبس يا بدوراً أطلعت يوم النوى ... غرراً تسلك بي نهج الغرر ما لقلبي في الهوى ذنبٌ سوى ... منكم الحسن ومن عيني النظر أجتني اللذات مكلوم الجوى ... والتذاذي من حبيبي بالفكر كلّما أشكوه وجداً بسما ... كالرُّبى بالعارض المنبجس إذ يقيم القطر فيها مأتما ... وهي من بهجتها في عرس غالب لي غالب بالتؤده ... بأبي أفديه من جاف رقيق ما رأينا مثل ثغر نضّده ... أقحواناً عصرت منه رحيق أخذت عيناه منه العربده ... وفؤادي سكره ما إن يفيق

فاحم الجمّة معول اللمى ... أكحل اللحظ شهيُّ اللعس وجهه يتلو الضحى مبتسما ... وهو من إعراضه في عبس أيها السائل عن ذلّي لديه ... لي جزاء الذنب وهو المذنب أخذت شمس الضحى من وجنتيه ... مشرقاً للصبّ فيه مغرب ذهبت أدمع أجفاني عليه ... وله خدّ بلحظي مذهب يطلع البدر عليه كلّما ... لاحظته مقلتي في الخلس ليت شعري أيّ شيء حرّما ... ذلك الورد على المغترس كلّما أشكو إليه حرقي ... غادرتني مقلتاه دفنا تركت ألحاظه من رمقي ... أثر النمل على صمّ الصفا وأنا أشكره فيما بقي ... لست ألحاه على ما أتلفا فهو عندي عادل إن ظلما ... وعذولي نطقه كالخرس ليس لي في الحبّ حكمٌ بعدما ... حلّ من نفسي محلّ النّفس منه للنّار بأحشائي اضطرام ... يلتظي في كل حين ما يشا وهي في خديه بردٌ وسلام ... وهي ضرٌّ وحريقٌ في الحشا أتّقي منه على حكم الغرام ... أسد الغاب وأهواه رشا قلت لمّا أن تبدّى معلما ... وهو من ألحاظه في حرس أيها الآخذ قلبي مغنما ... اجعل الوصل مكان الخمس وقد عارض هذا الموضح أيضاً بعض متأخري المغاربة فقال: يا عريب الحيّ من حيّ الحمى ... أنتم عيدي وأنتم عرسي لم يحل عنكم ودادي بعدما ... حلتم لا وحياة الأنفس

من عذيري في الذي أحببته ... مالك قلبي شديد البرحا بدر تمّ أرسلت مقلته ... سهم لحظٍ لفؤادي جرحا إن تبدّى أو تثنّى خلته ... غصن بانٍ فوقه شمس ضحى تطلُعُ الشمس عشاء عندما ... تنجلي منه بأبهى ملبس وترى الليل أضا منهزما ... وترى الصبح أضا في الغلس يا حياة النفس صل بعد النوى ... وألهاً مضنىً شديد الشغف قد براه السقم حتى ذا الهوى ... كاد أن يفضي به للتلف آه من ذكر حبيب باللوى ... وزمان بالمنى لم يسعف كنت أرجو الطيف يأتي حلما ... عائداً يا نفس من ذا فايأسي هل يعود الطيف صبّاً مغرما ... ساهراً أجفانه لم تنعس (2) همت في أطلال ليلى وأنا ... ليس في الأطلال لي من أرب ما مرادي رامة والمنحنى ... لا ولا ليلى وسعدى مطلبي إنّما سؤلي وقصدي والمُنى ... سيّد العجم وتاج العرب أحمد المختار طه من سما ... الشريف ابن الشريف الكيّس (2) خاتم الرسل الكريم المنتمى ... طاهر الأصل زكي النفس وقال في مباراة هذه الموشحات السابقة: لا تلمني يا عذولي تأثما ... ما ترى جسمي بسقمٍ قد كسي مثلما شرح غرامي علما ... حيث أشكو وحشة من مؤنس

_ (2) ق: وحظي بالنور لما أن كسي. (2) ق: وحظي بالنور لما أن كسي.

ظبيُ أنسٍ عن فؤادي نفرا ... وفؤادي مكتوٍ من صدّه وعذولي في هوى الحبّ فرى ... بملام مذ نهى عن ودّه أنت أعمى يا عذولي ما ترى ... يانع الورد بدا من خدّه وله ثغر إذا ما ابتسما ... كبروق أومضت في الغلس وثناياه كدرّ نظما ... فضياها في الدّجى كالقبس كم ترى سحراً بجفنيه بدا ... لفؤاد في الهوى أضحى كليم ليس سحر مقلتي هذا سدى ... يا فؤادي إن شفي السحر السقيم خيفةً أوجس قلبي، وغدا ... راحلاً صبري، وها شوقي مقيم يا إله العرش يا رب السما ... يا عليماً بضمير الأنفس قلبي الولهان يشكو ألما ... من جفا ظبي أغنّ أكيس أغيد يسبي البرايا بالمقل ... أدعج الجفن بعينيه حور لو رأته الشمس أضحت في خجل ... وهو للبدر بوجه قد قمر من معاني حسنه رقّ الغزل ... في غزال قد غزاني بالنظر آخذ بالروح مني كلّما ... رمق الصبّ بطرف أنعس يقنص الأسد بلحظ قد رمى ... أسهماً تفتك من غير قسي يا رعى الله زماناً سلفا ... بلويلاتٍ تقضّت بانشراح مثل دينار وها قد صرفا ... في ألذّ العيش مع حب وراح فاعذروا القلب الذي قد شغفا ... بحبيب ما له عنه براح بدر تمّ أهيف حلو اللمى ... ريقه شهد شهيّ اللّعس كسلاف عهدها قد قدما ... تنجلي في كأسها كالعرس

قهوة بكر عجوز عتقت ... زمناً في دنها من قبل نوح هي لمّا في زجاج أشرقت ... شمس راح غربت في كل روح جددت بسطاً وكم قد مزّقت ... قلب صبّ في غبوق وصبوح حلف الخمّار عنها قسماً ... أنها بالمكث كادت تنتسي فاسقني صرفاً ولا تمزج بما ... راحه كم أذهبت من عبس في رياض قد شدا شحروره ... عاطنيها بين أكناف الشجر وانظم الشمل ودع منثوره ... حول ورد وأقاح وزهر وإذا الطلّ بدا شبّوره ... كلّل الأوراق منه بالدرر ما ترى الريحان عبداً خدما ... حيث أضحى واقفاً في المجلس جلس النسرين لكن ربّما ... إستحت منه عيون النرجس فتنزّه في رياضٍ خضر ... وغصون غرّدت فيها هزار وانتشق عرف زهورٍ عطر ... ياسمين زينته الجلّنار وشذا الزهر كمسك أذفر ... واقبل العذر لابن البزددار طامع في رحمة الله وما ... خاب عبد طامع لم ييأس يا إلهي جد علينا كرما ... يا كريماً قبل أخذ الإنفس رجع إلى موشّحات ابن الخطيب: قال لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى: وممّا قلته من الموشّحات التي انفرد باختراعها الأندلسيون وطمس الآن رسمها (1) :

_ (1) الموشحة في أزهار الرياض 1: 314 وهي في مدح السلطان يوسف أبي الحجاج.

ربّ ليلٍ ظفرت بالبدر ... ونجوم السماء لم تدرِ حفظ الله ليلنا ورعى ... أيّ شملٍ من الهوى جمعا ... غفل الدهر والرقيب معا ... ليت نهر النهار لم يجرِ ... حكم الله لي على الفجرِ علِّل النفس يا أخا العرب ... بحديث أحلى من الضّرَب ... في هوى من وصاله أربي ... كلّما مرّ ذكر من تدري ... قلت يا برده على صدري صاح لا تهتمم بأمر غد ... وأجز صرفها يداً بيد ... بين نهرٍ وبلبلٍ غرد ... وغصون تميل من سكر ... أعلنت يا غمام بالشكر يا مرادي ومنتهى أملي ... هاتها عسجدية الحلل ... حلّت الشمس منزل الحمل ... وبرود الربيع في نشر ... والصّبا عنبرية النّشر غرة الصبح هذه وضحت ... وقيان الغصون قد صدحت ... وكأنّ الصّبا إذا نفحت ...

وهفا طيبها عن الحصر ... مدحة في علا بني نصر هم ملوك الورى بلا ثنيا ... مهّدوا الدين زيّنوا الدنيا ... وحمى الله منهم العليا ... بالإمام المرفّع الخطر ... والغمام المبارك القطر إنّما يوسف إمام هدى ... حاز في المعلوات كلّ مدى ... قل لدهرٍ بملكه سعدا ... افتخر جملةً على الدهر ... كافتخار الربيع بالزهر يا عماد العلاء والمجدِ ... أطلع العيد طالع السعدِ ... ووفى الفتح فيه بالوعدِ ... وتجلّت فيه على القصر ... غرر من طلائع النصر فتهنّأ من حسنه البهج ... بحياة النفوس والمهج ... واستمعها ودع مقال شجي ... قسماً بالهوى لذي حجر ... ما لليل المشوق من فجر ومن بديع موشحات لسان الدين رحمه الله تعالى قوله (1) :

_ (1) الموشحة في أزهار الرياض 1: 315 - 316.

كم ليوم الفراق من غصّه ... في فؤاد العميد نرفع الأمر فيه والقصّهْ ... للوليّ الحميد رحل الرّكب يقطع البيدا ... بسفين النّياق كلّ وجناء تتلع الجيدا ... وتبذّ الرفاق حسبت ليلة اللّقا عيدا ... فهي ذات اشتياق صائمات لا تقبل الرّخصه ... قبل فطر وعيد فهي مذ أمّلته مختصه ... بجهاد جهيد ومنه في آخره: يا إمام العلاء والفخر ... ذا السّنا المبهج هاكها لا عدمت في الدهر ... آملاً يرتجي عارضت قول بائع التمر ... بمقال شجي غرّبوك الجمال يا حفصهْ ... شطر ثاني شطر أول ... من مكان بعيد من سجلماسة ومن قصهْ ... وبلاد الجريد (1) وقد ألف - رحمه الله تعالى - في هذا الفن كتابه المسمى " بجيش التوشيح " وأتى فيه بالغرائب، وذيّل عليه صاحبنا وزير القلم بالمغرب العلم الشهير المنفرد في عصره بحيازة قصب السبق في البلاغة سيدي عبد العزيز بن محمد الفشتالي - رحمه الله تعالى - بكتاب سمّاه " مدد الجيش " (2) واستهلّه بقوله: حمداً لمن أمدّ جيش محمد بعترته. وأتى فيه بكثير من موشحات أهل عصرنا من المغاربة،

_ (1) هذه الخرجة قد تقرأ معربة وغير معربة. (2) انظر روضة الآس: 162.

وضمنه من كلام أمير المؤمنين مولانا المنصور أبي العباس أحمد الشريف الحسني - رحمة الله تعالى ورضوانه عليه - ما زاده زيناً، وأخبرني - رحمه الله تعالى - أنّه ذكر فيه لأهل العصر في أمير المؤمنين ولأمير المؤمنين المذكور أزيد من ثلاثمائة موشّح، ولا حرج في إيراد بعضها هنا، فمنها قول أحد الوافدين من أهل مكّة على عتبة السلطان مولانا المنصور (1) ، وهو رجل يقال له أبو الفضل ابن محمد العقاد وقد عارض بها موشّحتي لسان الدين وابن سهل السابقتين (2) : ليت شعري هل أروّي ذا الظما ... من لمى ذاك الثّغير الألعس وترى عيناي ربّات الحمى ... باهيات بقدود ميّس يدخلون السّقم من دار اللوى ... كلم الهجر فؤادي وأسر هدّ من ركن اصطباري والقوى ... مبدلاً أجفان نومي بالسّهر حين عزّ الوصل عن وادي طوى ... هملت أعين دمعي كالمطر فعساكم أن تجودوا كرما ... بلقاكم في سواد الحندس وتداووا قلب صبّ مغرما ... من جراحات العيون النّعّس كلّما جنّ ظلام الغسق ... هزّني الشوق إليكم شغفا واعتراني من جفاكم قلقي ... مذ تذكرت جياداً (3) والصفا وتناهت لوعتي من حرقي ... ثمّ زاد الوجد في التلفا

_ (1) يعني السلطان أحمد المنصور الذهبي ابا العباس ابن محمد الشيخ المهدي السعدي، وهو من أعظم سلاطين السعيديين؛ انتصر على البرتغاليين في موقعة وادي المخازن سنة 986 وفتح السودان، واهتم ببناء المساجد والمستشفيات وشجع العلوم؛ توفي سنة 1012 (راجع مناهل الصفا للفشتالي، والجزء الخامس من الاستقصا والأعلام للشيخ العباس ابن إبراهيم) . (2) وردت الموشحة في روضة الآس: 14. (3) جياد: يعني جبل أجياد بمكة.

فانعموا لي ثم جودوا لي بما ... يُطف (1) نيران الجوى ذي القبس ساعة لي من رضاكم مغنما ... وتداوي جثّتي مع نفسي كنت قبل اليوم في زهوٍ وتيه ... مع أحبابي بسلعٍ ألعب ومعي ظبيٌ بإحدى وجنتيه ... مشرق الشمس وأخرى مغرب فرماني بسهامٍ من يديه ... ضارب البين فقلبي متعب لست أرجو للقاهم سلّما ... غير مدحي للإمام الأرأس أحمد المحمود حقّاً من سما ... الشريف ابن الشريف (2) الكيّس ومنها قول بعض المراكشيين (3) : واخجلتا للصّباح ... والشمس إذ لاح جؤذر ساق يدير الكؤوسا ... تضيء خمراً وتزهر تقادمت في الدنان ... من عهد نوح تروّق في لونها البهرماني (4) ... تدار فينا وتعبق قد أطلقت من عنان ... من عن صبوح يرقّق يسعى بها من ملاح ... من كان باللحظ يسكر بالحسن يصبي الجليسا ... ويستخفّ الموقّر

_ (1) خرج عن الإعراب ضرورة. (2) الروضة: الكريم ابن الكريم. (3) انظر روضة الآس: 29 (4) ق والروضة: البرهماني.

يثير كامن وجد ... في قلب كلّ سقيم يسطو علينا بقدّ ... يزري بغصن قويم أشقى بعشقي وودّي ... في جنّةٍ ونعيم من ذي الوجوه الصّباح ... يا شادناً غنّ واذكر وهات لحناً نفيسا ... نرويه عنك ونأثر في مدح من ساد طفلاً ... هذي البرايا وفاقا من حاز مجداً وفضلاً ... بين الأنام وفاقا في عدله قال قولا ... يسري فيعدو العراقا في أحمد ذي السماح ... في الشرق والغرب يُنصر أحيا الهدى والنفوسا ... وذلّ ملّة قيصر تراه سلماً وحربا ... من رأيه في جنوده (1) يختال لم يبغ عجبا ... من عزّه في بروده يهوى المعالي كسبا ... ويقتنيها بجوده فخار أهل البطاح ... وعزّ من قد تمصّر ثناه يملا الطروسا ... عن صورة المجد عبّر ملك بنى في البديع ... منازلاً كالدراري فيا له من صنيع ... الروض والماء جاري فقل بصوت رفيع ... إذ بان فجر النّهار

_ (1) قافية هذا الغصن دون هاء في الروضة.

أهدى نسيم الصباح ... مسكاً شمسماً وعنبر وجىء بها خندريسا ... من خدّ ساقيه تعصر ومن موشّحات السلطان المنصور المذكور (1) : ريّان من ماء الصّبا ... أهيف وممتلي البرد كالغصن هزته الصّبا ... فوق الرّبى الشهّب قد قلت لمّا أن سبى ... بحسنه يسبي من عينه سلّ ظبى ... وغمدها قلبي أسرني ماضي الشّبا ... أوطف مرنّح القدّ يا فاضح الروض سنا ... بل مخجل البدر وقاطعي ظلماً عنا ... ومن مقرّه صدري إن لم تكن شمس دنا ... فإنّها تجري علّقته من الظّبا ... أسجف يسطو على الأسد قلت له وقد نهد ... وجدّ في حربي وغلب الظبي الأسد ... ففاز بالغلب الشمس برجها الأسد ... فاسع إلى قلبي ولم يحضرني الآن تمامها. ومنها قوله يعارض لسان الدين وابن الصابوني (2) :

_ (1) روضة الآس: 56. (2) روضة الآس: 57.

وليالي الشعور إذ تسري ... ما لنهر النهار من فجر حبّذا الليل طال لي وحدي ... لو تراني جعلته بردي ... فاطميّاً في خلعة الجعدي ... هي ليلى أخت بني بشر ... فأين أنت يا أبا بدر كم سقطنا ألطف من طلّ ... واجتمعنا وما درى ظلّي ... واسترحنا من كاشح نذل ... رب ليل ظفرت بالبدر ... ونجوم السماء لم تدر (1) وبنفسي مهفهف ألمى ... ومطيع وغرّني لمّا ... سألته (2) وقانعي ممّا ... في رباط قسمتني صدري ... لحنين وناظري بدر وهلال في حسنه اكتملا ... هو شمس وأضلعي الحملا ... قام يشدو وينثني في ملا (3) ... قسماً بالهوى لذي حجر ... ما للليل المشوق من فجر (4)

_ (1) هذا القفل للسان الدين. (2) الروضة: يا عفافي، وسقطت اللفظة من ق. (3) الروضة: في علا. (4) هذا القفل لابن الصابوني.

[من مقطعات المنصور] ثم عنّ لنا أن نورد هنا جملةً من مقطوعات مولانا السلطان المنصور ممّا تلقيناه عنه أيام كوننا في إيالته الشريفة؛ فمن ذلك قوله رادّاً على من قال في ابن أبي الحديد (1) : لقد أتى بارداً ثقيلاً ... ولم يرث ذاك من بعيد فهو كما قد علمت شيء ... أشهر ما كان في الحديد ما صورته: لقد أتى صارماً صقيلاً ... ولم يرث ذاك من بعيد شديد بأس متى يعادي ... وشدة البأس في الحديد ومن نظمه قوله (2) : لله تمرٌ طيّبٌ ... وافى على البشرى انطوى يا حسنه مجتمعاً ... يحلو لنا بلا نوى وقوله معميّاً في قمر على طريقة الاكتفاء: معذبي أعجزني نيله ... من لي بمن مسكنه في السما لم أنس إذ قال ألا تكتفي ... قلت بمن بالطرف قلبي رمى وقوله: تبدّى وزند الشوق تقدحه النوى ... فتوقد أنفاسي لظاه وتضرم وهشّ لتوديعي فأعرضت مشفقا ... على كبدٍ حرّى وقلبٍ يقسم

_ (1) قال المقري إنهما لمؤلف " طي الفلك الدائر على المثل السائر " ولكنه لا يتذكر اسمه (الروضة: 47) . (2) أكثر هذه المقطعات وردت في روضة الآس: 36 - 52 وفي مناهل الصفا 2: 207 - 214.

ولولا ثواه بالحشا لأهنتها ... ولكنّها تُعزى إليه فتكرم فاعجب لآساد الشرى كيف أحجمت (1) ... على أنّه ظبي الكناس ويقدم وقال قدس الله تعالى روحه مورياً: إنّ يوماً لناظري قد تبدّى ... فتملّى من حسنه تكحيلا قال جفني لصنوه لا تلاقي ... إنّ بيني وبين لقياك ميلا وقد تبارى خدّام حضرة هذا السلطان في تخميس هذين البيتين، ومن أشهر ذلك قول الأستاذ الحافظ سيدي أحمد الزموري رحمه الله تعالى، وكان يصلي بالسلطان التراويح: ورقيب يردّد اللحظ ردّا ... ليس يرضى سوى ازديادي بعدا ساءه الطرف مذ جنى الخدّ وردا ... إنّ يوماً لناظري قد تبدّى فتملّى من حسنه تكحيلا ... وتصدى من فحشه في استباق ... يمنع اللّحظ من جنىً واعتناق أيأس العين من لحاظ ائتلاق ... قال جفني لصنوه لا تلاقي إنّ بيني وبين لقياك ميلا ... ومن نظم السلطان المذكور، وهو من أوّليات شعره، قوله في وردة مقلوبة بين يدي محبوبه: ووردة شفعت لي عند مرتهني ... راقت وقد سجدت لفاتر الحدق كأنّ خضرتها من فوق حمرتها ... خال على خده من عنبر عبق وقال أيضاً من أوّلياته:

_ (1) الروضة: كيف تحجم.

شادن نمّ عليه عرفه (1) ... ما خلاصي من سهام كامنه أحلال فيه أنّي خائف ... وغزالي بعد خوفي آمنه وقال في وصف رقيب ملازم: رقيبي كأنّ الأرض مرآة شخصه ... فأين تولّى الطرف مني (2) يراه مقيم بوجه الوصل حتى كأنّما ... وصالي هلالٌ والسواد صداه وقال: أيا روضةً ضنّت عليّ بزهرها ... ولم يتلقّ ناظراي سواك (3) أبيحي لنفسي من شذاك بقاءها ... إذا فت طرفي علّ الآنف يراك وقال أيضاً: على جدول غطّت عليه بشعرها ... لئلا يرى الشمس الرقيبة لي طرف فبت أرى في جدول بدر وجهها ... غريقاً ونقطات العبير به كلف وقال: طرقت حماه والأسود خوادر ... به فتولّى بالظُّبى وهو يبعد فعلّمت آساد الشرى كيف تقدم ... وعلّم غزلان النقا كيف تشرد وقال: لما نأى المحبوب رقّ لي الدّجى ... وأتى يعلّلني برعي كواكبه أولى غراب البين ردك يا حشا ... والبين مزنيّ الصباح كواك به

_ (1) الروضة: نفحه. (2) أقرأ بخطف الياء وجعلها حركة كالكسرة على النون. (3) الروضة: سناك.

وقال معميّاً باسم حظيته الشهيرة الحسن والإحسان نسيم: يا هلالاً طلوعه بين جفني ... وغزالاً كناسه بين جنبي إنّ سهماً رميت غادر همّاً ... لو تناهى ما شكّ آخر قلبي ورأيت بخطّه على هذا المحل ما صورته: قولي إنّ سهماً تنصيص، و " غادر همّاً " إسقاط، وهخو إشارة لإسقاط " همّاً " من هذا الاسم، وقولي " لو تناهى " انتقاد، والانتقاد: الإشارة إلى بعض أجزاء الكلمة ليؤخذ جزء الاسم المطلوب، كأن يذكر الوجه أو الصدر أو التاج أو الرأس، ويعني به الحرف الأول من الكلمة، والقلب والجوف والحشا والخصر، ويراد به الوسط، والآخر والمنتهى والختام، ويقصد به آخر الكلمة، فقولي لو تناهى معناه أنّه أخذ لفظة هم غير متناه، فبقيت الميم من همّاً، وقولي ما شك آخر قلبي انتقاد أيضاً، وأردت بآخر قلبي الياء، ويسمى أيضاً التسمية، وهو: أن تذكر الاسم وتريد المسمى، أو تذكر المسمى وتريد الاسم، وقد تم الاسم. واعلم أنهم لم يشترطوا في استخراج الاسم (1) بطريق التعمية حصولها بحركاتها وسكناتها، بل اكتفوا بحصول الكلمة من غير ملاحظة لهيئاتها الخاصة فإذا وقع ذلك فمن المحسنات، ويسمى العمل " التذييلي (2) ". انتهى كلامه على البيتين في اسم نسيم. وقال في اسم " غزال " وقد جمع تعميتين ولغزاً: وأملد مطويّ الحشا زال ردفه ... فلا خصر إلاّ إن تصورته وهما (3) بنصف اسمه يرمي القلوب وعكس ما ... بقي أبداً أذن المحبّ به أصمى

_ (1) الروصة: الكلمة. (2) ق: التذييل. (3) سقطت اللفظتان من ق، وأثبتناهما من الروضة.

وكتب عليه ما صورته: قولي " أملد " أردت به بعمل الترادف غصن، ومطوي الحشا انتقاد، و " زال ردفه " قضيت به غرضين، أزلت به النون بعمل الإسقاط الباقي بعد طيّ الصاد التي بوسطه، وأثبته - أعني زال - في موضعها: أي النون من غصن، والحال أن الصاد محذوفة، وذلك بعمل الانتقاد، وأوضحت ذلك بقولي فلا خصر وإن كنت لا أحتاج إليه، لئلا يكون في البيت شيء خارج عن التعمية؛ انتهى تفسيره، رحمه الله تعالى. ويعني بقوله " بنصف اسمه يرمي القلوب " غز؛ لأنّه نصف غزال، ويعني بقوله " وعكس ما بقي إلى آخره " لفظة " لا " لأنهّا مقلوب ما بقي وهو " ال ". وقال في اسم " سلاف " على منهاج ما تقدم: وأحور وسنان الجفون كأنّما ... سقى لحظه من ريق فيه بقرقف نضا صارماً لا فلّ صارم لحظه ... تزايد فيه منذ سل تلاه في وفسره بقوله: قولي " تلاه في " من طريق التسمية، و " في " من العمل التذييلي وهو أن يأتي بالكلمة بحركاتها وسكناتها، وهي من المحسنات كما سبق. وقال في اسم " آمنة " من التعمية أيضاً: من شقائي قنصته وهو خشفٌ ... في رضاه عن الملوك ابتدلت (1) أملد منه مذ تحلّل خصر ... وتثنّى عن حبه ما عدلت وكتب عليه ما صورته: قولي " أملد " أردت الألف بعمل التشبيه، وخصر منه انتقاد، وأردت بالخصر وسط لفظة " منه " وتحلله: أن ينحل السكون الذي على النون، وقولي و " تثنى " أي الألف من التثنية، لا التثني، فتم الاسم

_ (1) الروضة: لم أقل ف أن قلت فات فهمت.

بحركاته وعدده؛ انتهى تفسيره. وقال وقد لبس منصورية من النوع الذي يقال له قلب حجر، والمنصورية: نوع لبس معروف بالمغرب استخرجه السلطان المذكور وأضافه إلى اسمه: وصفوا اشتياقي للحبيب وسرّهم ... قول الحبيب أنا أنا فيه قلبي له حجر، فقلت مغالطاً ... للعاذل المؤذي أنا فيه قال: وفي هذين البيتين عدة من المحسنات غير التعمية: منها جناس التركيب المسمى بالملفق، وحدّه: بأن يكون كل من الركنين مركباً من كلمتين، وهذا هو الفرق بين الملفق وبين المركب، وقلّ من فرق بينهما، ومنها الانسجام، ومنها الاستخدام. وعهدي بالفقيه علي بن منصور الشيظمي تعرض إلى شرحهما بكراسة. والتعمية في هذين البيتين بالعمل (1) الحسابي وهو كثير، إلاّ أن هذا العمل أحسبني أبا عذرته إذ لم أره لغيري، ومادة التعمية فيه أنا أنافيه، قلبي له حجر فقولي أنا أنافيه معناه أن تضرب أنا في هـ، وقولي في هـ نص في الضرب، ويخرج من هذا مائتان وستون عدد حروف هيماني وحقّك، وقولي قلبي له حجر بعمل القلب يصير رجح فصار المجموع " هيماني وحقّك يرجح "، وفيه التورية، وهيماني وحقك الخارج من هذا الضرب فيه تهكم بالواشي، فهو من المحسنات أيضاً، أعني قوله وحقّك، ويصلح أن تسمى هذه التعمية بالافتنان، لأن الافتنان عندهم: أن يفتن الشاعر فيأتي بفنّين متضادين من فنون الشعر في بيت واحد، وهذا وقع التضاد فيه في كلمة واحدة، فظاهر " أنا أنافيه " يضاد " هيماني " وحقّك يرجح الذي يخرج بطريق الحساب، فافهمه، ويمكن استخراج تعمية أخرى من قولي للعاذل المؤذي " أنا فيه "؛ انتهى.

_ (1) الروضة: بالعد.

والاستخدام الذي أشار إليه هو في قوله أنا فيه أي في هذا الثوب المسمى بقلب حجر، كما دلت عليه الحكاية، وأمّا المعنى الثاني لقوله أنا فيه فظاهر. وقال وقد قطف وردة من روض المسرة في زمن النرجس: وافى بها البستان صنوك وردة ... يقضي بها لمّا مطلت وعودا أهدى البهار مخاجراً وأتى بها ... في وقته كيما تكون خدودا فبعثتها مرتادة بنسيمها ... تثني من الروض النضير قدودا وقال: لي حبيب يأتي بكلّ غريبٍ ... هو عندي منكّر ومعرّف لست أشكو لصيرفيٍّ ونحوي ... أنّه بي نحا وفيّ تصرّف فعله فيّ لازم متعدٍّ ... ومزيد مجرّد ومضعّف وقال: لا وطيف علّم السيف فقد ... في قوامٍ كقنا الخط نهد ووميض لاح لمّا بسمت ... فأرتنا منه درّاً أو برد ما هلال الأفق إلاّ حاسد ... منه حسناً وعلاء وغيد ولذا عاش قليلاً ناحلاً ... كيف لا يفنى نحولاً من حسد وقد ضمّن قوله " ما هلال الأفق " أديب زمانه الشيخ إمام الدين الخليلي الوافد على حضرته من بيت المقدس فقال: قسماً بالبيت والركن الذي ... طاب حجّا واستلاماً للأبد ما هلال الأفق إلا حاسد ... منه حسناً وعلاء وغيد وقد اتفق لإمام الدين هذا أنّه اجتمع بالحضرة المنصورية، هو والعقاد المكي

السابق والشريف المدني، وهو رجل وافد من أهل المدينة انتمى إلى الشرف، فقال إمام الدين: يا أمير المؤمنين، إن المساجد الثلاثة التي تشدّ إليها الرحال شدّ أهلها إليك الرحال: هذا مكيّ، وهذا مدنيّ، وأنا مقدسيّ، ثم أنشد (1) : إنّ أمير المؤمنين أحمد ... بحر الندى وفضله لا يجحد فطيبةٌ ومكةٌ أهلهما ... والمسجد الأقصى بذاك شهدوا رجع إلى نظم المنصرو، وقال: وكيف بقلب في هواه مقلّب ... وأنّى له بين الضلوع مقام فيا شادناً يرعى الحشا أنت بالحشا ... أما لمحلٍّ أنت فيه ذمام وقال يخاطب رئيس كتّابه صاحبنا سيدي عبد العزيز الفشتالي السابق الذكر: يا كاتباً ألفاظه ... تغرس (2) روضاً ذا فنن إنّ جوابي للذي يشكو دناه اردد حزن وقال مورياً بمصانعه الثلاثة: البديع، والمسرة، والمشتهى: بستان حسنك أبدعت زهراته ... ولكم نهيت القلب عنه فما انتهى وقوام غصنك بالمسرة ينثني ... يا حسنه رمانةً للمشتهى ولولا خوف الإطالة المملة لذكرت من محاسن مولانا أمير المؤمنين المنصور - رحمه الله تعالى - بعض ما أؤدي به حقّه، سقى الله تعالى عهاده، وقد بسطت الكلام على السلطان المذكور في كتابي روضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام مراكش وفاس وأطال الكلام على ترجمته صاحبنا

_ (1) الروضة: 14. (2) الروضة: إذا كتب يغرس.

الوزير الكبير الشهيد سيدي عبد العزيز بن محمد الفشتالي في كتابه المسمى بمناهل الصفا في فضائل الشّرفا وعهدي به أكمل منه ثماني مجلدات، وهو مقصور على دولة السلطان المذكور وذويه، وألف كاتب أسراره الرئيس أبو عبد الله محمد بن عيسى فيه كتاباً سمّاه الممدود والمقصور من سنا السلطان المنصور وهذه التسمية وحدها مطربة، رحم الله تعالى الجميع. رجع إلى التوشيح: كتب إليّ بعض أذكياء الأصحاب الأعيان موشّحاً يمدحني به في آخره عارض به موشّح لسان الدين السابق الذي أوله: جادك الغيث إذا الغيث همى ... يا زمان الوصل بالأندلس ونصّه: عطّر الأرجاء لمّا نسما ... شمألٌ للصبح عند الغلس وأتت شمس الضحى تنسخ ما ... يقرأ الليل لنا من عبس طاف بالكأس من الزهر فتى ... مولع بالصدّ عني مذ فتي فتن الألباب لمّا التفتا ... واحتسى منه ببعض الشفة وأنا ما بين حتّى ومتى ... صدّه تيه الهوى عن ألفتي وكؤوس الراح بين النّدما ... أرّجت بالعرف أفق المجلس خمرة صفراء في البلور ما ... أشبه الحان بروض النرجس بادر اللّذة واجمع شملها ... بمدام وغلام مطرب ذي عيون ناعسات كم لها ... من فنون السحر ما يلعب بي وافر الأرداف عانى حملها ... ناحل الخصر، وذا من عجب

كلّما أترع كأساً قال ما ... أنت بالشاري حياة الأنفس فابذل الجهد وكن مغتنما ... لنفيس النفس طيب الأنفس فرص الأيام كن منتهزاً ... مبتداها قبل حذف الخبر ورحاب الأنس لج منتجزاً ... قبل أن تمضي كلمح البصر واجن من زهر الهوى محترزاً ... من جنايات هجوم الكبر لا تخف لوماً ويمم حيثما ... لاحت اللّذات كالمختلس ما مضى أنس ووافى مثلما ... كان ذا الدهر لنا بالحرس للرياض اذهب ترى بلبلها ... لاشتياق الورد مثل الثّكل وخدود الورد قد كللها ... دمع طلٍّ لاشتياق البلبل وقدود البان قد قام لها ... مانع الوصل بحدّ الأسل والربى فاحت تحاكي خدما ... وعليهن ثياب السندس جيبها زرّر بالزهر كما ... زرّ بالفضة ثوب الأطلس وجلا الروض لنا أشجاره ... مائساتٍ في قباء أخضر وترى في جيدها نوّاره ... يتلالا كعقود الجوهر خلع الليل به أطماهره ... فغدا كالصبح باهي المنظر وبقاياه زهت فيه أما ... في شفاه الغيد حسن اللّعس كعذار في محيّا علّما ... فبدا للغير لا الملتمس حبّذا الصبوة أيام الصّبا ... وعيون الشيب في سهو الوسن فإذا أيقظها دهرٌ صبا ... لصروف حد شفريها وسن جرّد الشيب لنا بيض الشّبا ... واقتفى شرخ شبابٍ وطعن

وغدا الإنسان شيخاً هرماً ... واعتراه لاعجٌ من وجس فات إذ مات فيقضي ندما ... واغتنام الوقت شغل الكيّس لا تدع عمرك يمضي هدرا ... أنت إذ ذاك جبانٌ غافل وارق بالجهد من السؤل الذرا ... واجتهد والضرع ضخم حافل إنّما الأيام أمثال الشّرى ... والجريء الشهم ليثٌ باسل ووحوش الإنس تسعى مغنما ... بارداً للأسد المفترس ترك الوهم وخاض الظّلما ... وله العزم أضا كالقبس ليس يحظى بالمنى إلاّ الذي ... كابد الأهوال حتى ظفرا كان للراحة كالمنتبذ ... من وراء الظهر أنّى ظهرا مثلما قد بات ذا طرف قذي ... يقطع الليل جميعاً سهرا في طلاب العلم حتى علما ... أنّه يملا بروح القدس أحمد الناصب فينا علما ... للتقى فاز به من يأتسي حلّ في مصر وإن كان العلا ... قد عفت لما اعتراها في خلل ورياض الفضل لمّا أن علا ... نقع جهل جفّ منهن البلل ازدرت أغصانها حتى خلا ... قاعها من عذب ما يشفي العلل نفرت إذ حلّ فيها كالسما ... وهو بدر بكمال مكتس حوله الطلاب كالشهب سما ... قدرها من نوره المقتبس أيّها الطالب للعلم اتئد ... ليس إلا بابه ينفعكا إن ترم نيل المرجّى فاجتهد ... في اتّباع للذي يرفعكا علم من يعمل إكسير فزد ... منه واترك حاسداً يدفعكا

والزم الأعتاب وانزل بالحمى ... خالع الربقة من قول المسي باعتقاد فاز من قد لثما ... نعله والكبر شأن المبلس (1) مذ خبرت الناس طرّاً نظرا ... لمناط الأمر في هذا الزمان لم أجد إلا مقالاً صدرا ... عن دعاوٍ أخلفت عند العيان غير ما يمليه فانظر لترى ... درر الألفاظ في سمط البيان ببديع النّطق لمّا نظما ... بهت المنطيق مثل الأخرس وأتى يخضع جمع العلما ... نحو ذا المقرد في الملتمس إنّما المجد الرفيع الممتطي ... أرؤس الآساد قسراً مثل ذا يدع المرفوع كالمنهبط ... ثم للنازل يعلي منفذا ناظراً في أمره بالأحوط ... خافض الطرف على حرّ القذى كل من أمّ حماه قد حمى ... بحسام العزم هشّ الملمس فإذا جرّد منه انفصما ... جلمد الصخر بذاك الميس حبّذا المغرب قطراً بالسنا ... فضله يبهر بدر الأفق قطره الشامخ قد أهدى لنا ... سيّداً قد فاق شمس المشرق كلّ من فاتته أسباب المنى ... بعلاه للثريا يرتقي قل لمن يرجو سوى المذكور ما ... ينبت الزهر بأرض البيس لا، ولا النّاس سواء إنّما ... رأي من سوّاهم في هوس لذ بشهمٍ فاز من أمّله ... بنوالٍ فاق سحّ الهامل أثقل السؤدد إذ حمّله ... وقر فضل مستبين شامل وحماه الأمن، من أمّ له ... بلغ القصد، فبشرى الآمل

_ (1) ق: الملبس.

بحره الوافر بالعلم طما ... كامل الأمداد لم يحتبس نال منه الناس حتى عمما ... مشرقاً والغرب للأندلس موشّحات لسان الدين بن الخطيب رجع إلى موشّحات لسان الدين ابن الخطيب، رحمه الله تعالى، فمن المنسوب إلى محاسنه قوله: قد حرّك الجلجل بازي الصباح ... والفجر لاح فيا غراب الليل حثّ الجناح ... وهذا مطلع موشّح بديع له لم يحضرني الآن تمامه؛ لكوني تركته وجملة من كلام لسان الدين في كتبي بالمغرب جبرها الله تعالى عليّ، وهو معارض للموشّح الشهير الذي أوله: بنفسج الليل تذكّى وفاح ... بين البطاح كأنه يسقى بمسك وراح ... وهذا المنحى هو الذي سلكه الجمال ابن نباتة (1) إذ قال مادحاً لجلال الدين الخطيب رحم الله تعالى الجميع: ما سحّ محمرُّ دموعي وساح ... على الملاح إلاّ وفي قلبي المعنى جراح ... بي من بني الأتراك حلو الشّباب ... مرّ السّطا عشقته حين عدمت الصّواب ... من الخطا تشكو حشا الغزلان منه التهاب ... إذا عطا وربما تشكو الغصون اكتئاب ... إذا خطا

_ (1) هو محمد بن محمد بن محمد ابن نباتة الفارقي وله ترجمة مسهبة في الوافي 1: 311 - 331 ولم ترد الموشحة هنالك أو في ديوانه.

ما ماس ذاك الغصن بين الوشاح ... إلاّ وراح قول عذولي كلّه في الرياح ... آهاً لصبٍّ دمعه حيث كان ... دمع أريق هذا أسير في وجوه الحسان ... وذا طليق أرّق جسمي بالضنّى يوم بان ... بدر الفريق فها أنا اليوم له يا فلان ... عبد رقيق يزيد أجفاني ندى وارتياح ... نهي اللّواح مثل جلال الدين يوم السّماح ... حبر له في الخلق ذكر جميل (1) ... لا يفترى ماح على غيظ الغمام البخيل ... محل الثرى ما رأت العين له من مثيل ... ولا ترى يوقد في أوطانه للنّزيل ... نار القرى شرارها في الكيس حمر صحاح ... لها اقتداح لكنّها في القلب عذبٌ قراح ... يا مالك العلم وفيض الندى ... جزت المدى فابقَ وكلّ العالمين الفدا ... دع العدا أنت الذي أصبح غيث الجدا ... صبح الهدى كم يقتفى منك وكم يقتدى ... ويجتدى علم جليّ ونوالٌ صراح ... صفو مباح يروي به راوي الرّجا عن رباح ...

_ (1) ق: جليل.

ومغرمٍ لا يختشي من رقيب ... ولا عذول معلّق القلب بشجوٍ عجيب ... ولا وصول يسكر لكن بصفات الحبيب ... لا بالشّمول لمّا رنا الظبي وماس القضيب ... أضحى يقول كم ينتضي جفنك وعطفك صفاح ... على رماح ما ذي محاسن ذي خزاين سلاح ... ومن الموشّحات الصادرة من المشارقة المعارضة للمغاربة قول عثمان البلطي (1) يمدح القاضي الفاضل: ويلاه من روّاغ ... بجوره يقضي ظبيٌ له إغذاذ ... منه الجفا حظّي ولم أقف على تمامها، وقد بارى بها التوشيح المشهور للمغاربة، وهو: عقارب الأصداغ ... في السوسن الغضّ تسبي تقى من لاذ ... بالنسك والوعظ من قبل أن يعدو ... عليّ لم أحسب أن تخضع الأسد ... لجؤذر الربرب ظبيٌ له خدّ ... مفضّضٌ مذهب وشادن يبدو ... في صدغه عقرب

_ (1) في ق: الملطي والتصويب عن معجم الأدباء (12: 141) وقال نسبة إلى بلط التي تقارب الموصل وذكرها في معجم البلدان بالياء. وعثمان بن عيسى البلطي انتقل إلى دمشق وعلم في الزبداني ولما فتح صلاح الدين مصر انتقل إليها وفيها توفي سنة 599 بعد أن كان يدرس النحو ويقرئ القرآن؛ وقد أورد ياقوت موشحته ص: 147 كما أوردها ابن شاكر في الفوات 2: 67 في ترجمة البلطي.

رقّة زهر الباغ (1) ... في جسمه الفضي وقسوة الأفلاذ ... في قلبه الفظّ مهفهف بدع ... أصبحت مغرّى به قلبي له ربع ... لو كنت في قلبه أصابني صدع ... مذ لجّ في عتبه السّهد والدمع ... حظّي من قربه والعين لا ينساغ ... لها جنى الغمض والدمع ذو إغذاذ ... ناهيك من حظّ ومن أحسن ما للمشارقة من التوشيح قول الشهاب العزازي يعارض أحمد ابن حسن الموصلي (2) : يا ليلة الوصل وكأس العقار ... دون استتار علّمتماني كيف خلع العذار ... اغتنم اللّذّات قبل الذّهاب ... [وجرّ أذيال الصّبا والشّباب] (3) ... واشرب فقد طابت كؤوس الشراب ... على خدود تنبت الجلنار ... ذات احمرار طرّزها الحسن بآس العذار ...

_ (1) الباغ: الحديقة. (2) انظر المنهل الصافي 1: 344 وتوشيع التوشيح: 109. (3) سقط هذا الشطر من ق.

الرّاح لا شكّ حياة النفوس ... فحلّ منها عاطلات الكؤوس ... واستجلها بين الندامى عروس ... تجلى على خطّابها في إزار ... من النّضار حبابها قام مقام النّثار ... أما ترى وجه الهنا قد بدا ... وطائر الأشجار قد غرّدا ... والروض قد وشّاه قطر الندى ... فكمّل اللهو بكأس تدار ... على افترار مباسم النوّار غبّ القطار ... اجن من الوصل ثمار المنى ... وأوصل (1) الكأس بما أمكنا ... مع طيّب الريقة حلو الجنى ... بمقلة أفتك من ذي الفقار ... ذات احورار منصورة الأجفان بالانكسار ... زار وقد حلّ عقود الجفا ... وافترّ عن ثغر الرضى والوفا ... فقلت والوقت لنا قد صفا ... يا ليلة أنعم فيها وزار ... شمس النهار حيّيت من بين الليالي القصار ...

_ (1) المنهل: وواصل.

ويعجبني من موشحات العزازي المذكور قوله (1) : ما على ... من هام وجداً بذوات الحلي مبتلى ... بالحدق السّود وبيض الطّلى باللّوى ... مليّ حسنٍ لديوني لوى كم نوى ... فتلي وكم عذّبني بالنّوى قد هوى ... في حبّه قلبي بحكم الهوى واصطلى ... نار تجنّيه ونار القلى كيف لا ... يذوب من هام بريم الفلا هل ترى ... يجمعنا الدهر ولو في الكرى أم ترى ... عيني محيّا من لجسمي برى بالسّرى ... يا حاديي ركب بليلي سرى علّلا ... قلبي بتذكار اللّقا علّلا وانزلا ... دون الحمى، حيّ الحمى منزلا بي رشا ... دمعي بسرّي في هواه فشا لو يشا ... برّد مني جمرات الحشا ما مشى ... إلاّ انثنى في سكره وانتشى عطّلا ... من الحميّا يا مدير الطّلا ما حلا ... إذا أدار الناظر الأكحلا

_ (1) المنهل الصافي 1: 345.

هل يلام ... من غلب الحب عليه فهام مستهام ... بفاتر اللّحظ رشيق القوام ذي ابتسام ... أحسن نظماً من حباب المدام لو ملا ... من ريقه كأساً لأحيا الملا أو جلا ... وجهاً رأيت القمر المجتلى لو عفا ... قلبك عمّن زلّ أو من هفا أو صفا ... ما كان كالجلمد أو كالصّفا بالوفا ... سل عن فتى عذّبته بالجفا هل خلا ... فؤاده من خطرات الولا أو سلا ... أو خان ذاك الموثق الأوّلا وقوله أيضاً يعارض الموصلي (1) : ما سلّت الأعين الفواتر ... من غمد أجفانها الصفاح إلا أسالت دم المحاجر ... من غير حرب ولا كفاح تالله ما حرّك السواكن ... غير الظّباء الجآذر لمّا استجاشت بكلّ طاعن ... من القدود النواضر وفوّقت أسهم الكنائن ... من كلّ جفنٍ وناظر عربٌ إذا صحن يا لعامر ... بين سرايا من الملاح طلّت علينا من المحاجر ... طلائع تحمل السّلاح

_ (1) المنهل الصافي 1: 347.

أحبب بما تطلع الجيوب ... منها وما تبرز الكلل من أقمر ما لها مغيب ... وأغصنٍ زانها الميل هيهات أن تعدل القلوب ... عنها ولو جارت المقل لمّا توشحن بالغدائر ... سفرن عن أوجه صباح فانهزم الليل وهو عاثر ... بذيله (1) واختفى الصباح وأهيف ناعم الشمائل ... تهزّه نسمة الشّمال فينثني كالقضيب مائل ... كما انثنى شارب ومال له عذار كالنّدّ سائل ... لله كم من دم أسال شقّت على نبته المراثر ... من داخل الأنفس الصحاح تكل في وصفه الخواطر ... وتخرس الألسن الفصاح ظبيٌ إلى الإنس لا يميل ... الشمس والبدر من حلاه الحسن قالوا ولم يقولوا ... مبداه منه ومنتهاه وطرفه الناعس الكحيل ... هيهات من سيفه النّجاه أذلّ بالسحر كلّ ساحر ... فهو له خافض الجناح يجول في باطن الضمائر ... كما يجول القضا المتاح أما ترى الصبح قد تطلّع ... مذ غمضت أعين الغسق والبدر نحو الغروب أسرع ... كهارب ناله فرق والبررق بين السحاب يلمع ... كصارم حين يمتشق وتحسب الأنجم الزواهر ... أسنّة ألقت الرماح فانهزم النّهر وهو سائر ... فدرّعته يد الرياح

_ (1) المنهل: في ذيله.

وموشحة الموصلي التي عارضها العزازي هي قوله (1) : رنا بأجفانه الفواتر ... لمّا انثنى واحد الملاح فسل من طرفه بواتر ... وهزّ من عطفه رماح ناظره جرّد المهنّد ... وغمده منّي الحشا وعامل القدّ فهو أملد ... يطعن للقلب (2) إن مشى والعارض القائم المزرد ... لفتنة الناس قد نشا والحاجب القوس، بالفواتر ... لنبله في الحشا جراح ومشرف الصدغ فهو جائر ... سلطانه للدما أباح فجفنه الفاتك الكناني ... من ثعل (3) راش لي نبال وهو الخافجي قد غزاني ... ووجهه من بني هلال عبسيّ لحظٍ له سباني ... جسم زبيديّ بالدلال والردف يدعى من آل عامر ... وواضح الصّلت من صباح وخصره من هشيم (4) ضامر ... يدور من حوله وشاح فوجهه جنّة وكوثر ... رضابه العذب لي حلا والنار في وجنتيه تسعر ... حيالها خاله (5) اصطلى عجبت من خاله المعنبر ... إذ يعبد النار كيف لا

_ (1) المنهل الصافي 1: 350. (2) المنهل: في القلب. (3) المنهل: من مقل؛ وثعل: قبيلة مشهورة بالرماية. (4) المنهل: هتيم. (5) ق: والخال خيالها.

يحرق بالنار وهو كافر ... وما سقى ريقه القراح كامل حسنٍ معناه وافر ... بسيط وصف كالمسك فاح ما اخضرّ نبت العذار إلاّ ... بآسه سيّج (1) الشقيق وهو كنمل سعى وولّى ... ولم يجد للجنى طريق من ريقة البدر إذ تجلّى ... في هالة العارض الأنيق لمّا تبدّى بالوجه دائر ... وحيّر العقل حين لاح شقّ على خدّه المرائر ... وقطّع الأنفس الصّحاح وربّ يوم أتى وحيّا ... كالشمس والنجم والقمر بالكأس والراح والمحيّا ... ثلاثة تفتن البشر وقال قم يا نديم هيّا ... اقض بنا لذة الوطر فالخمر تجلى على المزاهر ... من اغتباقٍ إلى اصطباح وطافت الراح بالمجامر ... من عنبر الزهر في البطاح وممّا يطربني من الموشحات قول بعضهم (2) : ما بي شمول ... إلاّ شجون مزاجها في الكاس دمع هتون لله ما بذر ... من الدموع صبّ قد استعبر ... من الولوع أودى به جؤذر ... يوم الطّلوع (3)

_ (1) المنهل: يبهج. (2) هذه الموشحة لابن بقي (دار الطراز: 67) . (3) دار الطراز: يوم البقيع.

فهو قتيل ... لا بل طعينبين الرجا والياس له سنون (1) جرحت للحين ... كفّي بكفّي وحيل ما بيني ... وبين إلفي لا شكّ بالبين ... يكون حتفي حال الرحيل ... ولي ديونإن ردّها العباس فهو الأمين أما ترى البدرا ... بدر السّعود قد اكتسى خضرا ... من البرود إذا انثنى نضرا ... من القدود أضحى يقول ... مت يا حزينقد اكتسى بالآس الياسمين قلت وقد شرّد ... النوم عنّي وأيأس العوّد ... السّقم منّي صدّ فلمّا صد ... قرعت سنّي جسمي نحيل ... لا يستبينيطلبه الجلاّس حيث الأنين تجاوز الحدّا ... قلبي اشتياقا وكلف السّهدا ... من لا أطاقا قلت وقد مدّا ... ليلي رواقا ليلي طويل ... ولا معينيا قلب بعض الناس أما تلين

_ (1) دار الراز: منون.

الباب السادس

الباب السادس في مصنفاته في الفنون، ومؤلّفاته المحقّقة للواقف عليها الآمال والظنون، وما كمل منها أو اخترمته دون إتمامه المنون اعلم أن تصانيف لسان الدين التي علمت نحو الستين، وكلّها في غاية البراعة، بحيث إنّه لم يأت أحد من أهل عصره بمثل ما جاء به، بل وكثير من غير أهل عصره رحمه الله تعالى، وقد وقفت بالمغرب على كثير منها، وفيها أقول مضمناً ببعض تغيير: تصانيف الوزير ابن الخطيب ... ألذ من الصّبا الغضّ الرّطيب فأية راحةٍ ونعيم عيشٍ ... توازي كتبه أم أيّ طيب قال رحمه الله تعالى في تعريفه بنفسه آخر " الإحاطة " ما صورته (1) : التواليف: " التاج المحلي في مساجلة القد المعلى، و [" الكتيبة الكامنة في أدباء المائة الثامنة "] (2) ، و " الإكليل الزاهر فيما فضل عند نظم التاج من الجواهر " ثم " النقاية بعد الكفاية " هذا في نحو القلائد والمطمحين لأبي نصر الفتح بن محمد، و " طرفة العصر في دولة بني نصر " في أسفار ثلاثة، و " بستان الدول " موضوع غريب ما سمع بمثله، قلّ أن شذّ عنه فن من الفنون، يشتمل على شجرات

_ (1) الإحاطة، الورقة: 312. (2) سقط ذكر الكتيبة الكامنة من ق، وهو الأصوب لأن المقري سيستدرك من بعد بين الكتب التي لم تذكر قبلا.

عشر: أوّلها شجرة السلطان، ثم شجرة الوزارة، ثم شجرة الكتابة، ثم شجرة القضاء والصلاة، ثم شجرة الشرطة والحسبة، ثم شجرة العمل، ثمّ شجرة الجهاد، وهي فرعان: أسطول، وخيول، ثمّ شجرة ما يضطر باب الملك إليه من الأطباء والمنجّمين والبيازرة والبياطرة والفلاحين والندماء والشطرنجيين والشعراء والمغنين، ثمّ شجرة الرعايا، وتقسيم هذا كلّه غريب يرجع إلى شعب، وأصول، وجراثيم، وعمد، وقشر، ولحاء، وغصون، وأوراق، وزهرات مثمرة، وغير مثمرة، مكتوب على كل جزء من هذه الأجزاء بالصبغ اسم الفن المراد به، وبرنامجه صورة بستان، كمل منه نحو من ثلاثين سفراً، ثم قطّع عنه الحادث على الدولة، وديوان شعري في سفرين سميته الصيّب والجهام والماضي والكهام، والنثر في غرض السلطانيات كثير، والكتاب المسمى باليوسفي في صناعة الطب في سفرين كبيرين، كتاب ممتع، وعائد الصلة وصلت به صلة الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير، في سفرين، وكتاب الإحاطة بما تيسر من تاريخ غرناطة كتاب كبير في أسفار تسعة، هذا متصل بآخرها، وتخليص الذهب في اختيار عيون الكتب الدبيات الثلاثة، وجيش التوشيح في سفرين، ومن بعد الانتقال من الأندلس وما وقع من كياد الدولة نفاضة الجراب في علالة الاغتراب موضوع جليل في أربعة أسفار، وكتاب عمل من طبّ لمن حب ومنزلته في الصناعة الطبية بمنزلة كتاب أبي عمرو ابن الحاجب المختصر في الطريقة الفهقية، لا نظير له، ومن الأراجيز المسمّاة رقم الحلل في نظم الدول والأرجوزة المسمّاة بالحلل المرقومة في اللمع المنظومة ألفية من ألف بيت في أصول الفقه (1) ، والأرجوزة المسماة بالمعلومة معارضة للمقدمة المسماة بالمجهولة في العلاج من الرأس إلى القدم

_ (1) ق: اللغة.

إذا أضيفت إلى رجز الرئيس أبي علي كملت بها الصناعة كمالاً لا يشينه نقص، والأرجوزة المسمّاة ب " المعتمدة في الأغذية المفردة " والأرجوزة " في السياسة المدنية "، إلى ما يشذ عن الوصف كالرجز " في عمل الترياق الفاروقي "، و " الكلام على الطاعون المعاصر "، و " الإشارة "، و " قطع السلوك "، و " مثلى الطريقة في ذم الوثيقة " حتى في المويسقى والبيطرة والبيزرة، هذر كثف به الحجاب، ولعب بالنفس الإيجاب، وضاع الزمان ولا تسل بين الرد والقبول والنفي والإيجاب، ولله در القائل - وهو المؤلف (1) -: والكون أشراك نفوس الورى ... طوبى لنفسٍ حرة فازت إن لم تحز معرفة الله قد ... أورطها الشيء الذي حازت وكلٌّ ميسرٌ لما خلق له، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ انتهى ما له في آخر " الإحاطة " بحروفه. قلت: ولنذكر ما تأخّر تأريخه عن الإحاطة أو أشير إليه فيها مجملاً فنقول: من أشهر تواليفه رحمه الله تعالى كتاب " ريحانة الكتّاب ونجعة المنتاب " في عدة مجلدات، وهو داخل في قوله السابق في الإحاطة: والنثر في غرض السلطانيات كثير؛ وهذا الكتاب قد اشتمل من الإنشاء على كثير في أغراض شتى من مخاطبات الملوك على اختلاف أجناسهم وصدقاتهم وغير ذلك مناحوالهم وأحوال الكبراء ومخاطباتهم حتى ملوك النصارى، وذكر في صدره خطب بعض كتبه، وفي آخره بعض مقاماته وتحليته لأهل عصره، وغير ذلك، وبالجملة فهو كتاب مفرد في بابه. وقال الأمير الشهير العلامة أبو الوليد إسماعيل بن الأحمر رحمه الله تعالى في كتابه " نثير فرائد الجمان فيمن نظمني وإيّاه الزمان " ما صورته (2) : لابن الخطيب

_ (1) وهو المؤلف: زيادة من ق، لم ترد في الإحاطة. (2) نثير فرائد الجمان: 244 وأزهار الرياض: 189.

الأوضاع المصنفات، التي آذان إحسانها هي المقرّطات المشنّفات، منها في التصوف، الذي أكثر أهل الحقائق إليه نظر التشوف روضة التعريف بالحب الشريف؛ انتهى، وسرد غير هذا الكتاب ممّا قدمنا ذكره وغيره. وهذا الكتاب - أعني روضة التعريف - غريب المنزع، وعارض به ديوان الصبابة لابن أبي حجلة صاحب السكردان، وضمنه من التصوف وعبارات أهله العجب العجاب، وتكلم فيه على طريقة أهل الوحدة المطلقة، وبذلك سجل عليه أعداؤه في نكبته الآخرة التي ذهبت فيها نفسه، ونسبوه إلى مذهب الحلول وغيره، ممّا ذكره يطول حسبما ألمعنا بذلك فيما سبق، وقد جعل هذا الكتاب شجرة ذات أفنان وعمود، مشتمل على القشر والعود، وأوراق، وصورة طائر فوقها، ولم أر في فنّه مثله، جازاه الله تعالى عن نيته؛ فإنّه في الحب الشريف الرباني، مبلغ الناظر فيه غاية أمنيته. اللمحة البدرية في الدولة النصرية ومن تواليفه رحمه الله تعالى غير ما سبق اللمحة البدرية في الدولة النصرية وكتاب السحر والشعر ومعيار الأخبار ومفاضلة مالقة وسلا وخطرة الطيف ورحلة الشتاء والصيف وقد ذكرهما في الرحيانة بنصهما، وجعلهما من جملة ما اشتملت عليه، والمسائل الطبية في مجلد، والكتيبة الكامنة في شعراء المائة الثامنة ورسالة تكوّن الجنين والوصول لحفظ الصحة في الفصول وكتاب الوزارة ومقامة السياسة والغيرة على أهل الحيرة وحمل الجمهور على السّنن المشهور والزبدة المخوضة والرد على أهل الإباحة وسد الذريعة في تفضيل الشريعة وتقرير الشبه وتحرير الشبه واستنزال اللطف الموجود في سر الوجود وأبيات الأبيات فيما اختاره رحمه الله تعالى من مطالع ما له من الشعر، وفتات الخوان ولقط الصوان في سفر يتضمن المقطوعات فقط، وكناسة الدكان بعد انتقال السكان، والدرر الفاخرة واللجج الزاخرة جمع فيه نظم ابن صفوان، وأعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام وما يجر ذلك

من شجون الكلام والمباخر الطيبية في المفاخر الخطيبية وخلع الرسن في أمر القاضي ابن الحسن وتدوين شعر شيخه ابن الجياب، وجمع نثر المذكور وسمّاه تافه من جمّ ونقطة من يمّ وشرحه لكتاب نفسه رقم الحلل في نظم الدول؛ فهذا ما حضرني علمه من تواليف لسان الدين رحمه الله تعالى، فأما البيزرة ففي مجلد، وأما البيطرة فكذلك في مجلد جامع لما يرجع إليه من محاسن الخيل وغير ذلك، وأما رجز الأصول فقد شرحه قاضي القضاة ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون صاحب التاريخ المشهور، وأمّا رقم الحلل في نظم الدول فهو في غاية الحلاوة والعذوبة والجزالة، وقد كنت بالمغرب أحفظ أكثره، فنسيته الآن، وابتدأه بقوله: الحمد لله الذي لا ينكره ... من سرحت في الكائنات فكره وعلق بحفظي الآن منه قوله في الوليد بن يزيد: ثمّ الوليد بن يزيد العائث ... قد نقلت من فعله خبائث وفي آخر دولة بني أمية قوله: وصار قصر الملك من أميّه ... أقفر ربعاً من ديار ميّه وفي الأمين: باع العلا بشادن وكاس ... وصحبة الشيخ أبي نواس وفي المعتصم: وهو الذي تألّف الأتراكا ... فنصبوا لقومه الأشراكا ومن أبيات هذا الكتاب قوله:

ويفسد الملك بالاحتجاب ... كذاك بالزّهو وبالإعجاب وما أحسن قوله فيه عند ذكر موت بعض الملوك: وأقفرت من ملكه أوطانه ... سبحان من لا ينقضي سلطانه [معلومات عن كتاب الإحاطة] وأمّا كتاب الإحاطة فهو الطائر الصيت بالمشرق والمغرب، والمشارقة أشد إعجاباً به من المغاربة، وأكثر لهجاً بذكره، مع قلّته في هذه البلاد المشرقية، وقد اعتنى باختصاره الأديب الشهير البدر البشتكي (1) ، وسمّاه مركز الإحاطة في أدباء غررناطة وهو في مجلدين بخطّه، رأيت الأخير منهما بمصر، وقال في آخره ما نصّه: هذا آخر ما أردت إيراده، وفوّفت أبراده، من كل طرفة وتحفة وفائدة أدبية ونادرة تاريخية، في كتاب الإحاطة بتاريخ غرناطة، ولما كان المعول عليه، والباعث الداعي إليه، ذكر أدبائه، ومآثر علمائه، سميته مركز الإحاطة بأدباء غرناطة والحمد لله أولاً وآخراً، وباطناً وظاهراً، علقه لنفسه ثم لمن شاء الله تعالى من بعده الفقير إلى عفو ربّه محمد بن إبراهيم بن محمد البدر البشتكي، لطف الله تعالى به بمنّه وكرمه، مستهل صفر سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل؛ انتهى. وقد جعل كل أربعة أجزاء من الأصل في مجلّد، إذ هو في مجلدين كما سبق، ونسخة الأصل في ثمانية مجلّدات، فنقص من الأصل ثلاثة أرباع أو نحوها. ولمّا وقف سلطان الأندلس من كتاب الإحاطة نسخة على بعض مدارس غرناطة كتب ابن عاصم حجة الوقفية بخطّه، ولنثبتها لما فيها من الفوائد، قال

_ (1) هو محمد بن إبراهيم بن محمد أبو البقاء بدر الدين الأنصاري البشتكي الدمشقي الأصل المتوفي بالقاهرة سنة 830 (انظر الضوء اللامع 6: 277 ومطالع البدور 1: 80) .

الأديب الفقيه أبو عبد الله محمد بن الحداد الشهير بالوادي آشي نزيل تلمسان المحروسة: كان على ظهر النسخة الرائقة الجمال، والفائقة الكمال، من الإحاطة بتاريخ غرناطة المحبّسة على المدرسة اليوسفية، من الحضرة العلية، بخط قاضي الجماعة، ومنفذ الأحكام الشرعية المطاعة، صدر البلغاء، وعلم العلماء، ووحيد الكبراء، وأصيل الحسباء، الوزير الرئيس المعظّم أبي يحيى ابن عاصم - رحمة الله تعالى عليه - ما نصّه: الحمد لله الجاعل الاستدلال بالأثر على المؤثر مما سلمه الأعلام، وشهدت به العقول الراجحة والأحلام، وهو الحجّة المعتمدة حين تتفاضل الألباب وتتقاصر الأفهام، وبه الاستمساك إن طرقت الشكوك أو عرضت الأوهام، وحسبك بما يسلم في هذا المقام العالي من الأدلة، وما يعتمد في هذا المجال المتضايق من البراهين المستقلّة، فحقيق أن يتلقى هذا النوع من الاستدلال فيما دون الفن المشار إليه بالقبول، ويستنبل المهتدي لاستنباطه لما فيه من التبادر للأفهام والتسابق للعقول، وإذا ثبت أن المستدل بهذه الأدلّة سالك على سواء سبيل، ومنتمٍ من صحة النظر إلى أكرم قبيل، فلا خفاء أن كتاب الإحاطة للشيخ الرئيس ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - من أثر هذه الدولة النّصرية أدامها الله تعالى بكل اعتبار، ومآثرها التي هي عبرة لأولي الألباب وذكرى لذوي الأبصار، أما الأول فلأن الأنباء التي أظهرت بهجتها، وأوضحت حجّتها، وشرفت مقصدها، وكرمت مصعدها، إنّما هي مناقب ملوكها الكرام، ومكارم خلفائها الأعلام، أو أخبار من اشتملت عليه دولتهم الشريفة من صدور حملة السيوف والأقلام، وأفذاذ حفظة الدّين والدنيا، والشرف والعليا، والملك والإسلام، أو ما يرجع إلى مفاخر حضرة الملك، وينتظم نظم الجمان في ذلك السلك، من حصانة قلعتها، وأصالة منعتها، وقديم اختطاطها، وكريم جهادها ورباطها، وحسن ترتيبها ووضعها، وما اشتمل عليه من مقاصد الأنس آهل ربعها، وما سوى هذه الأقسام الثلاثة فمن قبيل القليل، وممّا يرجع إلى شرف الحضرة ممّن انتابها

من أهل الفضل الواضح والمجد الأثيل، وأما ثانياً فإن راسم آياتها المتلوة، ومبدع محاسنها المجلوة، وناقل صورتها من الفعل إلى القوّة، إنّما هو حسنة من حسنات هذه الدولة النّصرية الكريمة، ونشأة من نشآت جودها الشامل النعمة الهامل الدّيمة، فما ظهر عليه من كمالات الأوصاف، على الإنصاف، فأخلاف هذه المكارم النصرية أرضعته، وعناياتها الجميلة أسمته فوق الكواكب ورفعته، وإليها ينسب إحسانه إن انتسب، ومن كريم تشريفها اكتسب، والحضرة هي منشؤه الذي عظم فيه قدره، بل أفقه الذي أشرق فيه بدره، والتشريفات السلطانية التي فتقت اللها باللها، وأحلّت من مراقي العز فوق السها، وأمكنت الأيدي من الذخائر والأعلاق، وطوّقت المنن كالقلائد في الأعناق، وقلدت الرياسة والأقلام أقلام، وثنت الوزارة والأعلام أعلام، فبهرت أنواع المحاسن، وورد معين البلاغة غير المطروق (1) ولا الآسن، وبرعت التواليف في الفنون المتعدّدة، وشاترهت التصانيف ومنها هذا التصنيف المشار إليه لما له من الأذمة المتأكّدة، إذ أظهر هذا الاستدلال، وأوضح البيان ما كتمه الإجمال، فلنفصح الآن بما قصد، ولنحقق من أنجم السعادة ما رصد، وذلك أن لمولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، الغالب بالله المؤيد بنصره أبي عبد الله محمد ابن الخلفاء النصريين، أيده الله ونصره، وسنّى له الفتح المبين ويسره، مآثر لم يسبق إليهها، ومكارم لم يجر أحد ممّن وسم بالكرم عليها، لجلالة قدرها، وضخامة أمرها، من ذلك هذا المقصد الذي أثر لها كالكتاب المذكور وسواه، ممّا هو واحد في فنّه وفذ في معناه، عقد في جميعها التحبيس على أهل العلم والطلبة بحضرته العليا هنالك ليشمل به الإمتاع، ويعم به الانتفاع، والله تعالى ينفع بهذا القصد الكريم، ويتولى المثوبة على هذا العقد الجسيم، وهذه النسخة في اثني عشر سفراً متفقة الخط والعمل، اكتتب هذا

_ (1) المطروق: الماء الذي بالت فيه الدواب.

على ظهر الأول منها، وبتاريخ رجب الفرد من عام تسعة وعشرين وثمانمائة، عرف الله تعالى بركته بمنّه؛ انتهى. وكان لسان الدين ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - أرسل في حياته نسخة من الإحاطة إلى مصر، ووقفها على أهل العلم، وجعل مقرها بخانقاه سعيد السعداء، وقد رأيت منها المجلّد الرابع، وهذا نص وقفيته: الحمد لله وحده، وقف الفقير إلى رحمة الله تعالى الشيخ أبو عمرو ابن عبد الله بن الحاج الأندلسي - نفع الله تعالى به - عن موكّله مصنّفه الشيخ الإمام العلامة بركة الأندلس لسان الدين أبي عبد الله محمد ابن الشيخ أبي محمد عبد الله بن الخطيب الأندلسي السّلماني - فسح الله تعالى في مدّته، وفتح لنا وله أبواب رحمته، ومنحنا وإيّاه من رفده وعطيته، وأسكننا وإيّاه أعالي جنّته - جميع هذا الكتاب تاريخ غرناطة، وهو ثمانية أجزاء، هذا رابعها، عن مصنّفه المذكور بمقتضى التفويض الذي أحضره، وهو أنّه فوّض إليه النيابة عنه في جميع أموره المالية كلّها، وشؤونه جميعها، والنظر في أ؛ واله على اختلافها وتباين أجناسها، تفويضاً تاماً على العموم والإطلاق، والشمول والاستغراق، لم يستثن شيئاً ممّا تجوز النيابة فيه إلاّ أسنده إليه، وهو ثابت على سيّدنا ومولانا قاضي القضاة يومئذ بثغر الإسكندرية المحروس أدام الله تعالى أيامه كمال الدين خالصة أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد بن الربعي المالكي ثبوته مؤرخ بثالث ذي الحجّة عام سبعة وستين وسبعمائة، وقفاً شرعيّاً على جميع المسلمين ينتفعون به قراءة ونسخاً ومطالعة، وجعل مقرّه بالخانقاه الصالحية (1) سعيد السعداء، رحم الله تعالى واقفها، وجعل النظر في ذلك للشيخ العلامة شهاب الدين أبي العباس أحمد بن حجلة، حرسه الله تعالى، ثم من بعده لناظر أوقاف الخانقاه المذكورة، فلا يحل لأحد، يؤمن بالله العظيم، ويعلم أنّه صائر إلى ربّه الكريم، أن يبطله ولا شيئاً منه،

_ (1) ق: الصلاحية.

ولا يبدله ولا شيئاً منه، فمن فعل ذلك أو أعان عليه فإنّما إثمه على الذين يبدلونه، إن الله سميع عليم، ومن أعان على إبقائه على حكم الوقف المذكور جعله الله تعالى من الفائزين المطمئنين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأشهد الواقف الوكيل عليه في ذلك في الثاني والعشرين لشهر الله تعالى المحرم عام ثمانية وستين وسبعمائة؛ انتهى. وقد رأيت بظهر أول ورقة من هذه النسخة خطوط جماعة من العلماء، فمن ذلك ما كتبه الحافظ المقريزي المؤرخ، ونصّه: انتقى منه داعياً لمؤلّفه أحمد ابن علي المقريزي في شهر ربيع سنة ثمان وثمانمائة: وما رقمه الحافظ السيوطي ونصّه: الحمد لله وحده، طالعته على طبقات النحاة واللغويين، وكتبه عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي سنة ثمان وستين وثمانمائة؛ انتهى. وبعد هذين ما صورته: انتقى منه داعياً لمؤلّفه محمد بن محمد القوصوني سنة أربع وخمسين وتسعمائة. وبعده ما صورته: أنهاه نظراً وانتقاء علي الحموي الحنفي، لطف الله به. وبخط مولانا العارف الرباني علامة الزمان وبركة الأوان سيدي الشيخ محمد البكري الصديقي ما نصّه: طالعته مبتهجاً برياضه المونقة، وأزهار معانيه المشرقة، مرتقياً في درج كلماته العذاب سماء الاقتباس، مقتنياً من لطائفه درراً وجواهر بل أحاشيها بذلك القياس، كتبه محمد الصديقي غفر الله له؛ انتهى. ورأيت بهامش هذه النسخة كتابة جماعة من أهل المشرق والمغرب كابن دقماق والحافظ ابن حجر وغيرهما من أهل مصر، ومن المغاربة ابن المؤلف أبي الحسن علي ابن الخطيب، والخطيب الكبير سيدي أبي عبد الله ابن مرزوق، والعلامة أبي الفضل ابن الإمام التلمساني، والنحوي الراعي، والشيخ الفهامة الشهير يحيى العجيسي شارح الألفية وصاحب التآليف، وغير هؤلاء ممّن يطول

تعدادهم، رحم الله تعالى جميعهم. وقد أشار ابن الأحمر حفيد الغني بالله تعالى الذي كان ابن الخطيب وزيراً له ثم انفصل عنه حسبما تقدّم إلى ما يتعلّق بكتاب الإحاطة في جملة كلام نصّه: وتلقينا ممّن نثق به أن الكاتب المجيد الأصيل حسباً، البارع أدباً، أبا عبد الله ابن جزي وفد على السلطان أبي عنان صاحب المغرب في حدود عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، فأكرم جنابه، وكمل من تقريبه واصطناعه آرابه، فانتدب إلى ذكر وطنه الأندلسي، وصاح بمن عذله: أيا ويح الشجيّ من الخلي ... وبرع غاية البراعة في التاريخ الذي جمعه، ورفع راية البلاغة لما كلف به ووضعه، فلم يكن شيء من الكلام إلاّ قال الإحسان وأنا معه، استوعب ما شاء، وأبدع في كل ما نقل سواء كان شعراً أو إنشاء، لكن سابق أجله منع من الإمتاع بمجمله ومفصّله، وجاءت الحادثة العظمى من وفاة مولانا والد جدّنا أمير المسلمين أبي الحجاج في غرّة شوّال من عام خمسة وخمسين وسبعمائة فعين لتعريف صاحب المغرب بالكائنة خاص الدولة ورئيس الجملة أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن الخطيب، فوقف من تاريخ ابن جزي على شاطىء نهر فياض، وانتشق من ورقاته أزاهر رياض، وحمله النظر في بدائعه على أن يأخذ في جمع كتابه المسمى بالإحاطة فيما تيسّر من تاريخ غرناطة ووجد لذلك موجباً أغراه بجمعه، وهو أن الشيخ الحجّة الشاعر المفلق أبا إسحاق ابن الحاج وفد على الأندلس بعد جوبه في الآفاق، وترحله إلى ما وراء الشام والعراق، وإعلامه أنّه يذهب في بدأة تاريخ مذهب ابن جزي وغيره، وكان وحيداً في فنون الآداب، والمساجلة لأعلام الكتّاب، وبحكم الاتفاق على أثر وصول ابن الخطيب من الرسالة للسلطان أبي عنان وجد الحاجب الخطير أبا

النعيم رضوان قد استولى على وظيفة الحجابة والرياسة وأقنعه بالاسم من ذلك المسمى، وبأن وقفه دون طموحه إلى عادته من المرقب الأسمى، فأنتج الانتباذ من تلك الرياسة الخطيبية أن ألفى الخطبة على جلالة مقدارها، وتوضّح أنوارها، في مرتقى إجلالها وإكبارها، وأخذ في تأليف الإحاطة مستدعياً تصحيح الموالد والوفيات، والأسماء والمسميات، ومستكثراً من طرف المصنّفات، ليتم قصده من الإطناب، ونقله العيون الرائقة من كلّ كتاب، وألقى جميع مقاصده، والمعظم من تنظيم فرائده، بيد الشيخ العمدة معلم الجملة منا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم أبي عبد الله الشريشي، قدس الله تعالى ضريحه، وهذا الشيخ الذي لم يجاوز سنّ الكهولة في ذلك الوقت هو الذي تولى من المبيضات نقله، وأحكم جنسه وفصله، وانختم على مجلدات ستة. ولما عاد ابن الخطيب إلى الأندلس بعودة جدنا الغني بالله تعالى إلى ملكه عام ثلاثة وستين وسبعمائة تلاحقت الفروع من كتاب الإحاطة بالأصول، وأنجز من التبحر فيه الوعد الممطول، ووضعت بخانقاه سعيد السعداء نسخته المتمّمة من اثني عشر سفراً؛ انتهى كلامه. وقد علمت أن المكتوب في الوقفيّة كما مر ثمانية مجلدات، لا اثنا عشر، فلعل ذلك الاختلاف بسبب الكبر والصغر، والله سبحانه وتعالى أعلم. والكاتب أبو عبد الله ابن جزي الذي أشار إليه قد عرّفنا به فيما سبق فليراجع. [ترجمة ابن الحاج النميري] وأمّا العلامة ابن الحاج، فهو أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم ابن محمد بن إبراهيم بن موسى بن إبراهيم بن عبد العزيز بن إسحاق بن أحمد بن أسد بن قاسم الكاتب القاضي النميري، ويعرف بابن الحاج الغرناطي، قال

في الإحاطة (1) : نشأ على عفاف وطهارة، وبر وصيانة، وبلغ الغاية في جودة الخط، وارتسم في كتّاب الإنشاء عام أربعة وثلاثين وسبعمائة، مع حسن سمت، وجودة أدب وخط، وظهور كفاية، يقيد ولا يفتر (2) ، ويروي الحديث مع الطهارة والنزاهة، مليح الدعابة، طيب الفكاهة، شرق وحج وتطوف وقيد واستكثر ودون رحلة سفره، وناهيك بها طرفة، وقفل لإفريقية، وخدم بعض ملوكها، وكتب ببجاية، ثم خدم سلطان المغرب أبا الحسن، ثم كتب عن صاحب بجاية، ثم تنزه عن الخدمة، وانقطع بتربة الشيخ أبي مدين مؤثر الخمول، ذاهباً مذهب العكوف بباب الله تعالى، حجّة على أهل الحرص والتهافت، ثم جبر على الخدمة عند أبي عنان، ثم أفلت عند موته فلحق بالأندلس، وتلقّيَ ببرّ وتنويه وعناية، وولي القضاء بقرب الحضرة، وهو الآن من صدور القطر وأعيانه، متوسط الاكتهال، روى عن مشيخة بلده واستكثر، وأخذ في رحلته عن ناس شتى، وألف تواليف منها إيقاظ الكرام بأخبار المنام وجزء في بيان الاسم الأعظم كثير الفائدة، ونزهة الحدق في ذكر الفرق وكتاب اللباس والصحبة في جمع طرق المتصوفة المدعي أنّه لم يجمع مثله، وجزء في الفرائض على الطريقة البديعة التي ظهرت بالمشرق، وجزء في الأحكام الشرعية سمّاه بالفصول المقتضبة في الأحكام المنتخبة ورجز في الجدل، ورجز صغير في الحجب والسلاح، ورجز صغير سمّاه بمثالث القوانين في التورية والاستخدام والتضمين، مولده بغرناطة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وامتحن بالأسر مع جماعة بعد قتال عام ثمانية وستين، ثمّ فكّه الله تعالى؛ انتهى ملخصاً. وأخذ عنه جماعة كالقاضي أبي بكر ابن عاصم صاحب التحفة وغيره، وهو من الأدباء المكثرين، وكان عندي بالمغرب مجلد من رحلته التي بخطّه،

_ (1) الإحاطة 1: 193 والمقري ينقل ملخصاً. (2) الإحاطة: وهو في أثناء هذه الحال يقيد ولا يفتر.

وقد أتى فيه بالعجب العجاب، وتمهر في الحديث على طريقة أهل المشرق، لأنّه لقي جماعة من الحفاظ كالذهبي والبرزالي والمزي، وناهيك بالثلاثة، وغيرهم ممّن يطول تعداده، وله النظم الرائق، العذب الجامع بين جزالة المغاربة ورقة المشارقة، كما ستراه، فمن نظمه يمدح الحافظ جمال الدين يوسف بن الزكي عبد الرحمن المزي، وقد أبصره على أسرّة دار الحديث الأشرفية بدمشق: جمال الدين للإقراء يعلو ... أسرّته إذا اصطفّ الرجال فمذ جليت محاسنه بدا لي ... محيّا في أسرّته الجمال ضمن قول المعرّي (1) : أهلّ فبشّر الأهلين منه ... محيّا في أسرّته الجمال وقوله في الحافظ علم الدين أبي القاسم محمد بن يوسف البرزالي: نوى النّوى علم الدين الرضى فأنا ... من بعد فرقته بالشام ذو ألم فلا تلمني على حبي دمشق فقد ... أصبحت فيها زماناً صاحب العلم وقال فيه أيضاً: نوى النوى علم الدين الرضى فذكت ... نار اشتياقي حتى اشتعظموا ألمي فقلت: إنّي من قوم شعارهم ... جود، فلا تنكروا ناري على العلم وقال في الحافظ شمس الدين الذهبي: رحلت نحو دمشق الشام مبتغياً ... رواية عن ذوي الأحلام والأدب ففزت في كتب الآثار حين غدت ... تروى بسلسلة عظمى من الذهب

_ (1) شروح السقط: 1717.

وقال في الحافظ المزي أيضاً: جمال الدين أضحى في دمشق ... إماماً نحوه طال الذميل فلم أعدم بمنزله جميلاً ... فحيث هو الجمال هو الجميل وقال حين بدوره على الأمير الصالح المحدّث الجليل قطب الدين أبي إسحاق إبراهيم ابن الملك المجاهد سيف الدين إسحاق ابن السلطان الملك الرحيم بدر الدين بن لؤلؤ بن عبد الله النوري صاحب الموصل ليروي عنه: إلى قصد قطب الدين وافيت عندما ... أقمت على الترحال في الشرق والغرب وأصبحت كالأفلاك في السير والسّرى ... فها أنا في مصر أدور على القطب وقال في قاضي القضاة العالم الشهير صاحب التفسير عماد الدين الكندي، وهو ممّن أخذ عنه بثغر الإسكندرية: ولمّا اختبرت ذوات الورى ... تعجّبت من حسن ذات العماد فتلك التي لم أكن مبصرا ... مدى عمري مثلها في البلاد وقال في القاضي وجيه الدين يحيى بن محمد الصنهاجي: أضحى وجيه الدين أسبق سابق ... في العلم والعلياء والخلق النبيه عجب الورى من سبقه وتعجبوا ... فأجبتهم لا تنكروا سبق الوجيه ومن بديع نظمه رحمه الله تعالى قوله: قد قارب العشرين ظبي لم يكن ... ليرى الورى عن حبّه سلوانا وبدا الربيع بخدّه فكأنّما ... وافى الربيع ينادم النّعمانا وقوله: وعارض في خدّه نباته ... بحسنه بين الورى يسحرنا أجرى دموعي إذ جرى شوقاً له ... فقلت {هذا عارضٌ ممطرنا}

وقال وقد توفّي أبو يحيى أبو بكر صاحب تونس وولي ابنه أبو حفص عمر بعد قتله لإخوته: وقالوا أبو حفصٍ حوى الملك غاصباً ... وإخوته أولى وقد جاء بالنّكر فقلت لهم كفّوا فما رضي الورى ... سوى عمر من بعد موت أبي بكر وقال: أتوني فعابوا من أحبّ جماله ... وذاك على سمع المحبّ خفيف فما فيه عيب غير أنّ جفونه ... مراضٌ، وأنّ الخصر منه ضعيف وقال (1) : أيا عجباً كيف تهوي الملوك ... محلّي وموطن أهلي وناسي وتحسدني وهي مخدومة ... وما أنا إلاّ خديم بفاس وقال: لي المدح يروى منذ كنت كأنّما ... تصوّرت مدحاً للورى وثناء وما لي هجاء فاعجبنّ لشاعرٍ ... وكاتب سرٍّ لا يقيم هجاء وقال في حقّه القاضي أبو البقاء خالد البلوي (2) : نقلت من خط سيدي ورفيقي وصديقي إمام المسلمين، برهان الدين، أبي إسحاق ابن إبراهيم بن عبد الله بن الحاج وأكثره ممّا كان أنشدنيه قديماً من نظمه في التورية قوله: ومهاةٍ تقول إن هي كلّت ... ودعا للمزاح خلٌّ ممازج

_ (1) انظر أيضاً تاج المفرق، الورقة: 221. (2) عندما عاد البلوي من رحلته ووصل قسنطينة (سنة 740) نزل عند صديقه ابن الحاج تاج المفرق، الورقة: 209) .

وازر الردف إنّ في الأزر مني ... رمل يبرين يا طبيب وعالج وقوله: وروض ممحل جدب المراعي ... سريع القيظ وقداً والتهابا حكى ابن أبي ربيعة لا شجوناً ... ولكن كونه يهوى الرباب وقوله: وظبي طرّ عارضه وأعفى ... عذاراً بعد يزهو باخضرار رأى سقماً بمقلته فوافى ... بآسٍ عاد لكن من عذار وقوله: أتوني بنمامٍ من الروض يانعٍ ... سقته الغوادي كلّ أسجم مدرار فلا غرو إن أصليته نار زفرتي ... وحكم على النمام الإلقاء في النار وقوله: هذه الشمس بالحجاب توارت ... بعد نورٍ لها ورحبٍ وبشر وأتى اللّيل بالنسيم عليلاً ... فهو يمشي من أفقه لابن زهر يعني بذلك الوزير الكبير الشهير الطبيب ابن زهر الإشبيلي الأندلسي، فإنّه كان وحيد دهره في الطب، فجاءت التورية بسبب ذلك محكمة إلى الغاية. وقال أبو إسحاق النميري المذكور: أيا ضوء الصباح ارفق بصبٍ ... تسيل دموعه في الخدّ سيلا وكنت بليلة ليلاء طالت ... فها أنا في الورى مجنون ليلا (1)

_ (1) كتبناها هكذا لتناسب التورية في " ليلاء ".

وقال يخاطب شيخه سيف الدين: لمولاي سيف الدين في الفقه بيننا ... مقام اجتهاد ليس يلحقه الحيف فتقليده فرض على أهل عصرنا ... ولا عجب عندي إذا قلّد السيف وقال: رعى الله معطار النّسيم فإنّه ... رأى من غصون البان ما شاء من عطف وأبدى حديث الغيث وهو مسلسلٌ ... لذاك لعمري ليس يخلو من الضعف وترشحت التورية بكون المحدثين يقولون الحديث المسلسل لا يخلو من الضعف، ولو في التزام التسلسل، مع كون متن الحديث صحيحاً كما قرر في محله. وقال رحمه الله تعالى: نظرت إلى روض الجمال بوجهه ... وسقيّته دمعاً به العين تكلف فصحّ حديث الحسن عن ورد خدّها ... وإن كان أضحى وهو راوٍ مضعف وقال رحمه الله تعالى: بدا عارض المحبوب فاحمرّ خجلةً ... وأهدى لنا ورداً به الحسن ناهض فقلت له لا تنكر الورد ناضراً ... فقد سال في خدّيك من قبل عارض وقال: النوم عن إنسان عيني نافرٌ ... كالوحش ليس يقاربُ الإنسانا والدمع منها فاض طوفاناً فلا ... عجبٌ إذا ما غرّق الأجفانا وقال رحمه الله تعالى:

بكت شجناً ففاض الدمع يحكي ... يتامى الدرّ إذ يهوي تؤاما وسلّت من محاجرها سيوفاً ... فخفت على المحاجر واليتامى وقال القاضي خالد البلوي رحمه الله تعالى: من نظم صاحبنا أبي إسحاق ابن الحاج النميري يخاطب شيخه وشيخنا أيضاً صاحب ديوان الإنساء الإمام جمال الدين إبراهيم ابن الإمام العلامة صاحب ديوان الإنشاء ملك الكلام قس الفصاحة شهاب الدين محمود بن سليمان الحلبي، وقد تقرب إليه في قصد الرواية عنه: إلى ابن شهاب الدين طال تغرّبي ... فلمّا سرت عيسي له وركابي رويت حديث الفضل عنه فصحّ لي ... كما شئت مرويّاً عن ابن شهاب وقوله يخاطب كمال الدين بن جمال الدين المذكور: أشبهت والدك الرضى في فضله ... وأخذته عنه بخير مناب وملكتني فحديث فضلك في الورى ... عن مالكٍ يروى عن ابن شهاب وقال رحمه الله تعالى: لعمرك ما ثغره باسمٌ ... ولكنّه حببٌ لاعب ولو لم يكن ريقه مسكراً ... لما دار من حوله الشارب وقال رحمه الله تعالى ملغزاً في القلم: سألتك ما واشٍ يراد حديثه ... ويهوى الغريب النازح الدار إفصاحه تراه مدى الأيّام أصفر ناحلاً ... كمثل عليلٍ وهو قد لازم الراحه وقال وقد وقف حاجب السلطان على عين ماء ببعض الثغور وشرب منها: تعجبت من ثغر هذي البلاد ... ومولاي من عينها شارب فلله ثغر أرى شارباً ... وعين بدا فوقها حاجب

وقال: وحمراء في الكأس مشمولة ... تحثّ على العود في كلّ بيت فلا غرو أن جاءني سابقاً ... إلى الأنس خلٌّ يحثّ الكميت وقال: بروضتنا الظّمياء طال اكتئابنا ... فلله غيثٌ ميت آمالنا أحيا وأشبه مهياراً فها تلك عينه ... تفيض إذا شام البروق على ظميا وقال: اثنان عزّا فلم يظفر بنيلهما ... وأعوزا من هما في الدهر مطلبه أخ مودته في الله صادقة ... ودرهمٌ من حلالٍ طاب مكسبه وقال مورياً بالقائد نافع على ما اختاره البخاري وجماعة أن أصح الأسانيد مالك عن نافع: عن نافع أسند حديث أحبتي ... يا مالكاً رقّي بحسن صنائع فأجلّ إسنادٍ وخير روايةٍ ... عندي رواية مالكٍ عن نافعِ وقال: إنّي لأعجب من فعالك في الهوى ... لمّا حللت بحسن ذاتك ذاتي ونفيت نومي ثم أثبتّ الأسى ... فجمعت بين النفي والإثبات وقال: ألا معصمٌ للصبّ من وشي معصم ... أطلت إليه نظرة المتوسّم فأبقت به عيني حُلىً من سوادها ... وبعض سوادٍ وسط قلبي المتيّم

وليس خضاباً ما علاه، وإنّما ... جرى فيه بعد الدمع ما عزّ من دمي ولم يعد منّي اللون لون سواده ... خلا أنّني أشقى وقيل له: انعم وقال وقد جاء الشاعر المفلق أبو العباس أحمد بن عبد المنّان بيت الكتاب وفي عينه خضرة: أيا أحمد المرتضى للعلا ... ومن حاز في صنعه كلّ زين تراءيت في العلم روضاً نضيراً ... فلا تنكرن خضرةً حول عين وله فيه: لك الخير عدم السبك أبدل ناظري ... زمردةً مخضرةً من لجينه فلا تنكروا ما راع من ذاك إنني ... لصائغ تبر القول ناقد شينه ولا عجب إن أعوز السبك صائغاً ... فأوجب عدم السبك خضرة عينه وقال فيمن يعرف بالصهّال: ألا ربّ فرسان توافوا فأدركوا ... مع الليل أوتاراً لهم دون إمهال وأجروا بصهّالٍ كميتاً كما ابتغوا ... فلا تنكروا الإجراء منهم بصهّال ولما كتب الرئيس الكاتب الجليل أبو عبد الله العزفي مداعباً: يا عصبةً كل فتى منهم علم ... فرغتم من كتبكم ردّوا القلم أجابه ابن الحاج المذكور بقوله: ألا احتسبوا ما قد أعرتم لفتية ... تركّمكم بالصفح عن فعلهم قاضي ولا تطمعوا في الردّ فالناس كلّهم ... رأوا أنّ مولانا له القلم الماضي وقال الوادي آشي: نقلت من خط الكاتب العلامة الصدر البارع الحاج

القاضي الناظم الناثر الجامع للمحاسن والمفاخر أبي إسحاق إبراهيم بن الحاج النميري ما نصّه: كتب إليّ الفاضل النخبة أبو الفضل ابن رضوان متمثلاً بقول المأمون: ملك الثلاثُ الآنساتُ عناني ... فكتبت إليه في التورية: هنيئاً لك البشرى بهنّ فدم كما ... تريد بنعمى للسعادة جامعه وإن كنت من أهل الصلاح فلا تكن ... بمائل قلب منك عن حبّ رابعه فأجابني بقوله: يا سيدي ذكّرتني بالرابعه ... لعلّها لكلّ خيرٍ جامعه إنّي أخاف أن تكون باقعه ... فتفرك المغازل المطاوعه ولابن الحاج المذكور من قصيدة طويلة: لمن الخيام سطت ببيض صفاح ... وارت سواداً غال كلّ صباح إن مزقت رقعت بنقع كتائب ... أو قوضت عمدت بسمر رماح وله في رثاء الطبيب ابن عمار، واقترح عليه ذلك ابن جزي: ألا أسعدا عيني على السهد والبكا ... فقد واصل السهد المبرح تذكاري وأبدى الردى فتك ابن عباد اذ سطا ... فلا غرو أن أبكي لفقد ابن عمّار وقال ممّا يكتب في الترس: أنا الترس قد أنشأت بالأمر عدّة ... ليوم جهاد مطلع غرّة النصر

فلاقوا بي الأعداء في زحفهم ولا ... تبالوا بقرع الزرق والبيض والسمر ولا تنكروا ستري لمقتل حاملي ... ففي اسمي كما شاهدتم أحرف الستر وله يهني السلطان أبا عنان أمير المؤمنين المريني بالإبلال من المرض: مطالب إلا أنّهنّ مواهب ... قضى الله أن تقضى، فنعم المطالب شفاء أمير المؤمنين وإنّه ... لأكرم من تحدى إليه الركائب وكم قلت غاب البدر والشمس ضلةً ... ورانت على قلبي الهموم النواصب ولم يغبا لكن شكا الضرّ فارس ... وأوحش منه مجلس الملك غائب لك الله يا خير الملوك وخير من ... تحن له حتى العتاق الشوازب وقل لمن وافى بشيراً نفوسنا ... فما هي إلا بعض ما أنت واهب أقول لجرد الخيل قبّاً بطونها ... معقدة منها لحرب سباسب طوالع من تحت العجاج كأنّها ... نعامٌ بكثبان الصّريم خواضب محجّلة غرّاً كأنّ رعالها ... بحارٌ جرت فيها الصّبا والجنائب من الأعوجيّات الصّوافن ترتمي ... إذا رجفت يوم القراع مقانب هنيئاً فقد صحّ الإمام الذي به ... تفلّ السيوف المرهفات القواضب ومستأصل الفلّ المغذ جياده ... لضرب كما ترغو الفحول الضوارب ومن حطّم السمر الطوال كعوبها ... بطعن كما امتاح الركيّة شارب وكرّ على أرض العدا بفوارسٍ ... كأنّهم في الحرب أسد غوالب كأنّ رماح الخطّ أحسابهم، وما ... حوت من نفوس المعتدين مناقب هم ما هم، حدّث عن البحر أو بني ... مرين فنهج القول أبلج لاحب من البيت شادت قيس عيلان فخره ... فطالت معاليه وطابت مناسب وأحيا له ملك الخليفة فارس ... مآثر غالتها اللّيالي الذواهب

كريم فلا الحادي النجائب مخفق ... لديه، ولا المنضي الركائب خائب أرى بذله النعمى ففضّت مكاسب ... أرى بأسه الأنضى ففضّت كتائب أنامله يروي الورى صوب جودها ... فلولا دوام الرأي قلت السحائب وكم خلت برقاً في الدجى نور بشره ... تشيم سناه الناجيات النّجائب فأخجلني أنّي أرى البرق خلّباً ... فلا الصوب هام لا ولا الجود ساكب أعرني أيمر المؤمنين بلاغة ... فإنّي عن عجز لمدحك هائب وأنطق لساني بالبيان معلّماً ... فإنّي في التعليم للجود راغب وكيف ترى لي بعد في الجود رغبة ... وجودك لي فوق الذي أنا طالب وقد شبّت الآمال إذا شبت ثم إذ ... تفقدتها لم يدر ما شبّ شائب بلغت بك الآمال حتى كأنّها ... وقد صدقت ما شئت صدقاً كواذب عجبت وما تولي، وأوليت معجباً ... فلا برحت تنمو لديك العجائب وحسبي دعاء لو سكت كفيته ... كما قيل لكن في الدعاء مذاهب وما أنا إلاّ عبدك المخلص الذي ... يراقب في إخلاصه ما يراقب فخذها تبث العذر لا المدح؛ إنّه ... هو البحر قل هل يجمع البحر حاسب بقيت بقاء الدهر ملكك قاهر ... وسيبك فيّاض، وسيفك غالب وعوفيت من ضرّ وأعطيت أجره ... ولا روّعت إلا عداك النوائب وقال رحمه الله تعالى: ولولا ثلاث جاء جبريل سائلاً ... لخير الورى عنها لآثرت فقداني مقامات إسلام أزيد بفعله ... ثواباً وإيمانٌ أديم وإحساني وقال رحمه الله تعالى: أنشدني السلطان أمير المؤمنين أبو عنان فارس ابن أمير المسلمين أبي الحسن المريني رحمهما الله تعالى لنفسه:

يا ملمّاً بأرض تلك البلاد ... حيّ فاساً وحيّ أهل الوداد إن تناءت بشخصها عن عياني ... فحماها مصوّرٌ في فؤادي [قصائد في مدح تلمسان وفاس] قلت: تذكرت بهذا البحر والروي والغرض قول الفقيه الكاتب العلامة الناظم الناثر أبي عبد الله محمد بن يوسف الثغري كاتب سلطان تلمسان أمير المسلمين أبي حمّو موسى بن يوسف الزياني يمدحه ويذكر تلمسان المحروسة: أيّها الحافظون عهد الوداد ... جدّدوا أنسنا بباب الجياد وصلوها أصلائلاً بليالٍ ... كلآل نظمن في الأجياد في رياضٍ منضدات المجاني ... بين تلك الربى وتلك الوهاد وبروج مشيدات المباني ... باديات السنا كشهب بواد رقّ فيها النسيب مثل نسيبي ... وصفا النهر مثل صفو ودادي وزها الزهر والغصون تثنّت ... وتغنّت عليه ورق شواد وانبرى كل جدول كحسام ... عاري الغمد سندسيّ النّجاد وظلال الغصون تكتب فيه ... أحرفاً سطّرت بغير مداد تذكر الوشم في معاصم خودٍ ... نصبت فوقه ذوات امتداد وكؤوس المنى تدار علينا ... بجنى عفّةٍ ونقل اعتقاد واصفرار الأصيل فيها مدامٌ ... وصفير الطيور نغمة شاد كم غدونا بها لأنس ورحنا ... جادها رائح من المزن غاد رقّت الشمس في عشاياه حتى ... أحدثت منه رقةً في الجماد جدّدت بالغروب شجو غريبٍ ... هاجه الشوق بعد طول البعاد

يا حيا الزمن حيّها من بلادٍ ... غرس الحب غرسها في فؤادي وتعاهد معاهد الأنس منها ... وعهود الصبا بصوب العهاد حيث مغنى الهوى، وملهى الغواني ... ومراد المنى، ونيل المراد ومقرّ العلا، ومرقى الأماني ... ومجرّ القنا، ومجرى الجياد كل حسن على تلمسان وقف ... وخصوصاً على ربى العبّاد وسما تاجها على كل تاجٍ ... ونما وهدها على كلّ ناد يدّعي غيرها الجمال فيقضي ... حسنها أنّ تلك دعوى زياد بشعري فهمت معنى علاها ... من حلاها فهمت في كلّ وادي حضرة زانها الخليفة موسى ... زينة الحلي عاطل الأجياد وحباها بكلّ بذل وعدل ... وحماها من كلّ باغ وعاد ملك جاوز المدى في المعالي ... فالنهايات عنده كالمبادي معقل للهدى منيع النواحي ... مظهر للعلا رفيع العماد قاتل المحل والأعادي ... جميعاً بغرار الظبى وغرّ الأيادي كلّما ضنّت السحائب أغنت ... راحتاه عن السحاب الغوادي كم هباتٍ له وكم صدقاتٍ ... عائدات على العفاة بواد فأيادي خليفة الله موسى ... أبحرٌ عذبة على الورّاد ركّب الجود في بسيط يديه ... فتلافى به تلاف العباد جلّ باريه ملجأ للبرايا ... كالحيا ضامناً حياة البلاد جلّ من خصّه بتلك المزايا ... باهرات من طارف وتلاد شيم حلوة الجنى وسجايا ... شهد المجد أنها كالشّهاد يا إمام الهدى (1) وشمس المعالي ... وغمام الندى وبدر النادي

_ (1) ق: العلا.

لك بين الملوك سرٌّ خفيٌّ ... ليس معناه للعقول بباد فكأنّ البلاد كفك مهما ... كان فيها من ينتمي لعناد قبضت كفّك البنان عليه ... فأتى بالإذعان حلف انقياد بكم تصلح البلاد جميعاً ... إنّ آراءكم صلاح البلاد لم تزل دائماً تحنّ إليكم ... كحنين السقيم للعوّاد لو أعينت بمنطق شكرتكم ... مثل شكر العفاة للأجواد قد أطاعتكم البلاد جميعاً ... طاعةً أرغمت أنوف الأعادي فأريحوا الجياد أتعبتموها ... وأقرّوا السيوف في الأغماد واهنأوا خالدين في عزّ ملك ... قائم السعد دائم الإسعاد وإليكم من مذهبات القوافي ... حكماً سهّلت ليان المقاد كلّ بيت من النظام مشيدٍ ... عطّر الأفق بالثّناء المجاد (1) ذو ابتسام كزهر روض مجودٍ ... وانتظام كسلك درٍّ مجاد ولأبي المكارم منديل ابن الإمام الشهير صاحب المقدمة الآجرومية قصيدة في المنحى وافقت قصيدة الثغري في البحر وبعض المطلع، فلا ندري أيهما نسج على منوال الآخر: إذ هما متعاصران، إلا أن ذاك قالها في تلمسان، وهذا في مدينة فاس؛ وهي: أيها العارفون قدر الصّبوح ... جدّدوا أنسنا بباب الفتوح يعني بباب الفتوح أحد أبواب فاس، كما أن باب الجياد في كلام الثغري أحد أبواب تلمسان. ثم قال ابن آجروم بعد المطلع:

_ (1) ق: المشاد.

جدّدوا ثمّ أنسنا ثمّ جدوا ... يسرح الطرف في مجال فسيح حيث شابت مفارق اللوز نوراً ... وتساقطن كاللجين الصريح وبدا منه كلّ ما احمرّ يحكي ... ششفقاً مزقته أيدي الريح وكأنّ الذي تساقط منه ... نقطٌ لحن من دمٍ مسفوح وإذا ما وصلتم للمصلّى ... فلتحلوا بموضع التسبيح وبطيفورها فطوفوا لكيما ... تبصروا من ذراه كلّ سطوح ولتقيموا هناك لمحة طرف ... لتردّوا به ذماء الروح ثم حطوا رحالكم فوق نهر ... كلّ في وصفه لسان المديح فوق حافاته حدائق خضرٌ ... ليس عنها لعاشق من نزوح وكأن الطيور فيها قيان ... هتفت بين أعجم وفصيح وهي تدعوكم إلى قبة الجو ... ز هلمّوا إلى مكان مليح فيه ما تشتهون من كلّ نور ... مغلق في الكمام أو مفتوح وغصون تهيج رقصاً إذا ما ... سمعت صوت كلّ طير صدوح فأجيبوا دعاءها أيّها السر ... ب وخلوا مقال كل نصيح واجنحوا للمجون فهو جدير ... وخليق من مثلكم بالجنوح واخلعوا ثمّ للتصابي عذاراً ... إنّ خلع العذار غير قبيح وإذا شئتم مكاناً سواه ... هو أجلى من ذلكم في الوضوح فاجمعوا أمركم لنحو خليج ... جاء كالصلّ من قفار فسيح عطرت جانبيه كف الغوادي ... بشذا عرف زهرها الممنوح قل لمهيار إن شممت شذاها ... قول مستخبرٍ أخي تجريح أين هذا الشّذا الذكيّ من القي ... صوم والرند والغضا والشيح حبّذا ذلك المهاد مهاداً ... بين دان من الرّبى ونزوح ثم من ذلك المهاد أفيضوا ... نحو هضب من الهموم مريح

فيه للحسن دوحة وروايا ... وانشراح لذي فؤاد قريح وحجار تدعى حجار طبول ... غير أنّ التطبيل غير صحيح تنثر الشمس ثمّ كلّ غدوّ ... زعفراناً مبلّلاً بنضوح وسوى من هناك يسبي عقولاً ... ويجلّي لحاظ طرف طموح وعيون بها تقرّ عيونٌ ... وكلاها يأسو كلوم الجريح فرشت فوقها طنافس زهرٍ ... ليس كالعهن نسجها والمسوح كلّما مرّ فوقهنّ طليح ... عاد من حسنهن غير طليح فانهضوا أيّها المحبون مثلي ... لنرى ذات حسنها الملموح هكذا يربح الزمان وإلا ... كلّ عيش سواه غير ربيح وما أحسن قول الكاتب الثغري يمدح تلمسان والسلطان المذكور آنفاً: تاهت تلمسانٌ بحسن شبابها ... وبدا طراز الحسن في جلبابها فالبشر يبدو من حباب ثغورها ... متبسّماً أو من ثغور حبابها قد قابلت زهر النجوم بزهرها ... وبروجها ببروجها وقبابها حسنت بحسن مليكها المولى أبي ... حمو الذي يحمي حمى أربابها ملك شمائله كزهر رياضها ... ونداه فاض بها كفيض عبابها أعلى الملوك الصّيد من أعلامها ... وأجلّها من صفوها ولُبابها غارت بغرة وجهه شمس الضحى ... وتنقيت خجلاً بثوب ضبابها والبدر حين بدت أشعّتها له ... حسناً تضاءل نوره وخبا بها لله حضرته التي قد شرّفت ... خدّامها فسموا بخدمة بابها فاللثم في يمناه يبلغها المنى ... والمدح في علياه من أسبابها وللثغري المذكور قصيدة لامية بديعة في مدح السلطان أبي حمو

ووصف بلاد تلمسان، وأجاد فيها إلى الغاية؛ وهي (1) : قم مبصراً (2) زمن الربيع المقبل ... تر ما يسرّ المجتني والمجتلي وانشق نسيم الروض مطلولاً وما ... أهداك من عرفٍ وعرفٍ فاقبل وانظر إلى زهر الرياض كأنّه ... درٌّ (3) على لبّات ربّات الحلي في دولة فاضت يداها بالندى ... وقضت بكل منى لكلّ مؤمل بسطت بأرجاء البسيطة عدلها ... وسطت بكلّ معاندٍ لم يعدل سلطانها المولى أبو حمو الرضى ... ذو المنصب السامي الرفيع المعتلي تاهت تلمسان بدولته على ... كلّ البلاد بحسن منظرها الجلي راقت محاسنها ورقّ نسيمها ... فحلا بها شعري وطاب تغزّلي عرّج بمنعرجات باب جيادها ... وافتح بها باب الرجاء المقفل ولتغد للعبّاد منها غدوة ... تصبح هموم النفس عنك بمعزل وضريح تاج العارفين شعيبها ... زره هناك فحبّذا ذاك الولي فمزاره للدين والدنيا معاً ... تمحى ذنوبك أو كروبك تنجلي وبكهفها الضحّاك قف متنزهاً ... تسرح نفوسك (4) في الجمال الأجمل وتمشّ في جنباتها ورياضها ... واجنح إلى ذاك الجناب المخضل تسليك في دوحاتها وتلاعها ... نغم البلابل واطّراد الجدول وبربوة العشاق سلوة عاشق ... فتنت وألحاظ الغزال الأكحل بنواسمٍ وبواسم من زهرها ... تهديك أنفاساً كعرف المندل فلو امرؤ القيس بن حجر راءها ... قدماً تسلّى عن معاهد مأسل

_ (1) القصيدة في بغية الرواد 1: 13. (2) البغية: نجتل. (3) البغية: درر. (4) البغية: جفونك.

أو حام حول فنائها وظبائها ... ما كان محتفلاً بحومة حومل فاذكر لها كلفي بسقط لوائها ... فهواي عنها الدهر ليس بمنسل كم جاد لي فيها الزمان بمطلبٍ ... جادته أخلاف الغمام المسبل واعمد إلى الصفصيف يوماً ثانياً ... وبه تسلّ وعنه دأباً فاسأل وادٍ تراه من الأزاهر خالياً ... أحسن به عطلاً وغير معطل ينساب كالأيم انسياباً دائماً ... أو كالحسام جلاه كفُّ الصيّقل فزلاله في كلّ قلب قد حلا ... وجماله في كل عين قد جلي واقصد بيوم ثالث فوّارة ... وبعذب منهلها المبارك فانهل تجري على درّ لجيناً سائلاً ... أحلى وأعذب من رحيق سلسل واشرف على الشّرف الذي بإزائها ... لترى تلمسان العلية من عل تاج عليه من المحاسن بهجة ... أحسن بتاج بالبهاء مكلّل وإذا العشية شمسها مالت فمل ... نحو المصلّى ميلة المتمهل وبملعب الخيل الفسيح مجاله ... أجل النواظر في العتاق الحفّل فلحلبة الأشراف كلّ عشية ... لعب بذاك الملعب المتسهل فترى المجلّي والمصلّي خلفه ... وكلاهما في جريه لا يأتلي هذا يكرّ وذا يفرّ فينثني ... عطفاً على الثاني عنان الأول من كل طرف كلّ طرف يستبي ... قيد النواظر فتنة المتأمّل وردٌ كأن أديمه شفق الدّجى ... أو أشهب كشهاب رجم مرسل أو من كميت لا نظير لحسنه ... سام معمٍّ في السوابق مخول أو أحمر قاني الأديم كعسجد ... أو أشقر يزهو بعرف أشعل أو أدهم كاللّيل إلا غرّةً ... كالصبح، بورك من أغر محجّل جمع المحاسن في بديع شياته ... مهما ترقّ العين فيه تسله عقبان خيلٍ فوقها فرسانها ... كالأسد تنقضُّ انقضاض الأجدل فرسان عبد الواد آساد الوغى ... حامو الذمار أولو الفخار الأطول

فإذا دنت شمس الأصيل لغربها ... فإلى تلمسان الأصيلة فادخل من باب ملعبها لباب حديدها ... متنزهاً في كلّ نادٍ أحفل وتأنّ من بعد الدخول هنيهةً ... واعدل إلى قصر الإمام الأعدل فهو المؤمّلُ والديار كنايةٌ ... والسرُّ في السكان لا في المنزل فإذا أمير المؤمنين رأيته ... فالثم ثرى ذاك البساط وقبّل فالمجد لفظ في الحقيقة مجملٌ ... وحلاه تفصيل لذك المجمل بشرى لعبد الواد بالملك الذي ... خلصوا به من كلّ خطب معضل بأعزّهم جاراً، وأمنعهم حمىً ... وأجلّهم مولى، وأعظم موئل بالعادل المستنصر المنصور وال ... مأمون والمهديّ والمتوكّل وكفاهم سعداً أبو حمو الذي ... يحمي حماهم بالحسام الفيصل وبحسن نيّته لهم وبجده ... وبسعده وبسعيه المتقبّل ذو الهمّة العليا التي آثارها ... حلّت به فوق السماك الأعزل بحر الندى الأحلى وفخر المنتدى ... وسنا الدجى الأجلى وزين المحفل ينهل منه لنا الجدا وبه الدجى ... تجلى بمشرق وجهه المتهلّل هنىء به زمن الربيع وقلْ له ... بشرى بأملح من حلاك وأجمل وعلى علاه من صنيعة فضله ... ترداد نافحة السلام الأكمل وكأنّه عارض بهذه القصيدة قطعة في بحرها ورويها في مدح مدينة فاس لبعض العلماء، وأظنّه القاضي المزدغي، وهي: يا فاس حيّا الله أرضك من ثرى ... وسقاك من صوب الغمام المسبل يا جنّة الدنيا التي أربت على ... حمص بمنظرها البهيّ الأجمل غرف على غرف ويجري تحتها ... ماء ألذ من الرحيق السلسل وبساتن من سندس قد زخرفت ... بجداول كالأيم أو كالفيصل وبجامع القروين شرّف ذكره ... أنس بذكراه بهيج تململي

وبصحته زمن المصيف عجائب ... فمع العشيّ الغرب فيه استقبل واشرب بتلك البيلة (1) الحسنا به ... واكرع بها عنّي فديتك وانهل وقد تمثل لسان الدين رحمه الله تعالى في مدينة فاس بقول القائل (2) : بلد أعارته الحمامة طوقها ... وكساه ريش جناحه الطاووس فكأنّما الأنهار فيه مدامة ... وكأن ساحات الديار كؤوس وما أحسن قوله - أعني لسان الدين - في مدح تلمسان (3) : حيّا تلمسان الحيا فربوعها ... صدفٌ يجود بدرّه المكنون ما شئت من فضلٍ عميم إن سقى ... أروى ومنٍّ ليس بالمنون أو شئت من دين إذا قدح الهدى ... أورى ودنيا لم تكن بالدون ورد النسيم لها بنشر حديقة ... قد أزهرت أفنانها بفنون وإذا حبيبة أمّ يحيى أنجبت ... فلها الشفوف على عيون العين يعني بحبيبة أم يحيى عين ماء بتلمسان من أعذب المياه وأخفها، وكانت جارية بالقصور السلطانية، ولم تزل إلى الآن منها بقية آثار ورسوم، والبقاء لله تعالى وحده. وممّن مدح تلمسان الحاج الطبيب أبو عبد الله محمد بن أبي جمعة الشهير بالتلالسي رحمه الله تعالى، إذ قال (4) : سقى الله من صوب الحيا هاطلاً وبلا ... ربوع تلمسان التي قدرها استعلى

_ (1) قد شرحنا البيلة، هامش: 1 مجلد: 1 ص: 206. (2) مر البيتان والقول في نسبتهما، المجلد: 1 ص: 169 وانظر مشاهدات لسان الدين: 111. (3) أزهار الرياض 1: 7. (4) أورد له صاحب بغية الرواد عدداً من القصائد والموشحات في الجزء الثاني؛ وهذه القصيدة في الجزء الأول ص: 17.

ربوع بها كان الشباب مصاحبي ... جررت إلى اللذات في دارها الذيلا فكم نلت فيها من أمانٍ قصيةٍ ... وكم منح الدهر الضنين (1) بها النيلا وكم غازلتني الغيد فيها تلاعباً ... وكم من عذول لا أطيع له قولا وكم ليلة بتنا بصفصيفها الذي ... تسامى على الأنهار إذ عدم المثلا وكدية عشاق لها الحسن ينتهي ... يعود المسنّ الشيخ من حسنها طفلا نعم، وغدير الجوزة السالب الحجى ... نعمت بها طفلاً وهمت بها كهلا ومنه ومن عين أم يحيى شرابنا ... لأنهما في الطيب كالنيل بل أحلى وعبّادها ما القلب ناس ذمامه ... به روضة للخير قد جعلت حلاّ به شيخنا المذكور في الأرض ذكره ... أبو مدين أهلاً به دائماً أهلا لها بهجة تزري على كل بلدة ... بتاج عليها كالعروس إذا تجلى فيا جنّة الدنيا التي راق حسنها ... فحازت على كلّ البلاد به الفضلا ولا عجب أن كنت في الحسن هكذا ... وموسى الإمام المرتضى فيك قد حلاّ ولاحت لدينا فيك منه محاسن ... كأنّ سناها حاجب الشمس إذ جلّى مطاع شجاع في الوغى ذو مهابة ... حسام على الباغين في الأرض قد سلاّ كريم حليم حاتميّ نواله ... سعيد حميد يصدق القول والفعلا له راحة كالغيث ينهل ودقها ... وصارم نصرٍ مرهف الحد لا فلاّ هو الملك الأرقى هو الملك الرضي ... هو الملك الأسنى هو الملك الأعلى ومن هذه الأوصاف فيه تجمّعت ... حقيقاً على كلّ المعالي قد استولى إمام حباه الله ملكاً مؤزراً ... فلا ملك إلاّ لعزّته ذلاّ من الزاب وافانا عزيزاً مظفّراً ... يجر من النصر المنوط به ذيلا

_ (1) البغية: المنيف.

بدت إليك الغرب شدة بأسه ... وإنعامه للمعتفين وما أولى فبادره بالصلح خوف فواته ... وسالمه إذ كان ذاك به أولى فكان بحمد الله صلحاً مهنّأ ... به طابت الدّنيا وجزنا به السبلا له في المعالي رتبة لا ينالها ... سواه وكتب في فضائله تتلى لطاعته كلّ الأنام تبادرت ... فيا سعد من وافى ويا ويح من ولّى أحسّاده موتوا فإنّ قلوبكم ... بدمر الغضا ممّا بها أبداً تصلى لقد جبر الله البلاد بملكه ... به ملئت أمناً، به ملئت عدلا فلا زال هذا الملك فيه مخلداً ... وصارمه الأمضى وخادمه الأعلى وممّا مدحت به تلمسان قول الإمام الصوفي أبي عبد الله محمد بن خميس الذي قدمنا ذكره في هذا الكتاب وبعض ما يتعلّق به، وذكرنا أيضاً فيما مرّ بعض أمداحه لها (1) : تلمسان جادتك السحاب الروائح (2) ... وأرست بواديك الرياح اللواقح وسحّ على ساحات باب جيادها ... ملثّ يصافي تربها ويصافح يطير فؤادي كلّما لاح لامعٌ ... وينهل دمعي كلّما ناح صادح ففي كل شفرٍ من جفوني مائع ... وفي كلّ شطر من فؤادي قادح فما الماء إلا ما تسحّ مدامعي ... ولا النار إلا ما تجنّ الجوانح خليليّ لا طيف لعلوة طارق ... بليل ولا وجه لصبحي لائح نظرت فلا ضوء من الصبح ظاهر ... لعيني ولا نجم إلى الغرب جانح بحقّكما كفّا الملام وسامحا ... فما الخلّ كلّ الخلّ إلاّ المسامح ولا تعذلاني واعذراني فقلّما ... يردّ عناني من عليّة ناصح

_ (1) وردت القصيدة في بغية الرواد 1: 11. (2) البغية: الدوالح.

كتمت هواها ثم برّح بي الأسى ... وكيف أطيق الكتم والدمع فاضح لساقية الروميّ عندي مزيّة ... وإن رغمت تلك الرواسي الرواشح فكم لي عليها من غدوٍّ ورحةٍ ... تساعدني فيها المنى والمنائح فطرف على تلك البساتين سارحٌ ... وطرفٌ إلى تلك الميادين جامح تحار بها الأذهان وهي ثواقب ... وتهفو بها الأحلام وهي بوارح ظباء مغانيها عواطٍ عواطف ... وطير مجانيها شوادٍ صوادح تقتّلهم فيها عيونٌ نواظر ... وتبكيهم منهم عيون نواضح على قرية العبّاد منّي تحيّة ... كما فاح من مسك اللطيمة فائح وجاد ثرى تاج المعارف ديمة ... تغصّ بها تلك الرّبى والأباطح إليك شعيب بن الحسين قلوبنا ... نوازع لكنّ الجسوم نوازح سعيت فما قصّرت عن نيل غاية (1) ... فسعيك مشكور وتجرك رابح نسيت وما أنسى الوريط ووقفة ... أنافح فيها روضة وأفاوح مطلاً على ذاك الغدير وقد بدت ... لإنسان عيني من صفاه صفائح أماؤك أم دمعي عشية صدّقت ... عليّة فينا ما يقول المكاشح لئن كنت ملآناً بدمعي طافحاً ... فإني سكران بحبّك طافح وإن كان مهري في تلاعك سائحاً ... فذاك غزالي في عبابك سابح قراح أتى ينصبّ من رأس شاهق ... بمثل حلاه تستحثّ القرائح أرق من الشوق الذي أنا كاتم ... وأصفى من الدمع الذي أنا سافح أما وهوى من لا أسميّه إنّني ... لعرضي كما ق النصيح لناصح أبعد صيامي واعتكافي وخلوتي ... يقال فلان ضيّق الصدر بائح لبعت رشادي فيه بالغيّ ضلّةً ... وكم صالح مثلي غدا وهو طالح وأيّ مقام ليس لي فيه حاسد ... وأيّ مقالٍ ليس لي فيه مادح

_ (1) البغية: رغبة.

ألا قل لفرسان البلاغة أسرجوا ... فقد جاءكم منّي المكافي المكافح أيخمل ذكري عندهم وهو نابهٌ ... ويغمط شجوي عندهم وهو شائح بدور إذا جنّ الظّلام كوامل ... وأسدٌ إذا لاح الصباح كوالح تركت سوق البزّ لا عن تهاونٍ ... وكيف وظبيٌ سانحٌ فيك بارح وإنّي وقلبي في ولائك طامعٌ ... وناظر وهمي في سماطك طامح أيا أهل ودّي والعشير مؤمّن ... أتقضي ديوني أم غريمي فالح وهل ذلك الظبي النصاحيّ للذي ... يقطّع من قلبي بعينيه ناصح كنيت بها عنه حياءً وحشمةً ... ووجه اعتذاري في القضيّة واضح [تعريف بتلمسان] وتلمسان هذه هي مدينتتنا التي علّقت بها التمائم، وقد نزلها من سلفنا عبد الرحمن بن أبي بكر المقرّي بن علي صاحب السيخ ابن مدين، الذي دعا له ولذريته بما ظهر فيهم قبوله وتبين، وهو الأب الخامس كما سبق في ترجمة أخبارهم، وهي من أحسن مدائن المغرب ماء وهواء، حسبما ق ابن مرزوق: يكفيك منها ماؤها وهواؤها ... وقال الكاتب أبو زكريا يحيى بن خلدون في كتابه بغية الرواد في أخبار بني عبد الواد وأيام أبي حمّو الشامخة الأطواد بعد كلام في شأن البربر، ما صورته (1) : ودار ملكهم وسط بين الصحراء والتل تسمى بلغة البربر تلمسن، كلمة مركبة من تلم ومعناه تجمع، وسن ومعناه اثنان: أي الصحراء والتل فيما ذكره شيخنا العلامة أبو عبد الله الآبلي، رحمه الله تعالى، وكان

_ (1) بغية الرواد 1: 19/9.

حافظاً بلسان القوم، ويقال تلمشان، وهو أيضاً مركّب من " تلم " (1) ومعناه لها، وشان أي لها شأن، وهي مدينة عريقة في التمدن، لذيذة الهواء، عذبة الماء، كريمة المنبت، اقتعدت بسفح جبل، ودوين (2) رأسه بسيط أطول من شرق إلى غرب، عروساً فوق منصّة، والشماريخ مشرفة عليها إشراف التاج على الجبين ويطل منها (3) على فحص أفيح معد للفلاحة تشق ظهوره الأسلحة عن مثل أسنمة المهاري، وتبقر في بطونه عند تدميث الغمائم بطون العذارى (4) ، وبها للملك قصور زاهرات اشتملت على المصانع الفائقة، والصروح الشاهقة، والبساتين الرائقة، ممّا زخرفت عروشه، ونمقت غروسه، ونوسبت أطواله وعروضه، فأزرى بالخورنق، وأخجل الرصافة، وعبث بالسّدير. وتنصبّ إليها من عل أنهار من ماء غير آسن، تتجاذبه أيدي المذانب والأسراب المكفورة (5) خلالها، ثم ترسله بالمساجد والمدارس والسقايات بالقصور وعلية الدور والحمامات، فيفعم الصهاريج، ويفهق الحياض، ويسقي ريعه (6) خارجها مغارس الشجر ومناب الحب، فهي التي شحرت الألباب رواء، وأصبت النّهى جمالاً (7) ، ووجد المادحون فيها المقال فأطالوا وأطابوا، إلى أن قال: فأنا أنشد ساكنها قول ابن خفاجة لاستحقاقها إيّاه عندي (8) : ما جنّة الخلد إلا في منازلكم ... وهذه كنت لو خيّرت أختار

_ (1) البغية: تل. (2) البغية: ودون. (3) البغية: تطل منه. (4) البغية: العدارى. والعذارى: الأراضي التي لم توطأ. (5) المكفورة: المستورة. (6) البغية: بساتينها. (7) جمالاً: سقطت من البغية. (8) ديوان ابن خفاجة: 364.

لا تتّقوا بعدها أن تدخلوا سقراً ... فليس تدخل بعد الجنّة النار وتوسطت قطراً ذا كورٍ عديدة تعمرها أمشاج البربر والعرب، مريعة الجنبات، منجبة للحيوان والنبات، كريمة الفلاحة، زاكية الإصابة، فربما انتهت في الزّوج الواحد منها إلى أربعمائة مد كبير؛ ثم أطال في ذلك ابن خلدون المذكور بما يوقف عليه في الكتاب المذكور. وممّا يُنسب للسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى في وصفها ما صورته: تلمسان مدينة جمعت بين الصحراء والريف، ووضعت في موضع شريف، كأنّها ملك على رأسه تاجه، وحواليه من الدوحات حشمه وأعلاجه، عبّادها يدها وكهفها كفها، وزينتها زيانها، وعينها أعيانها، هواها المقصور بها فريد، وهواؤها الممدود صحيح عتيد، وماؤها برود صريد، حجبتها أيدي القدرة عن الجنوب، فلا نحول فيها ولا شحوب؛ خزانة زرع، ومسرح ضرع، فواكهها عديدة الأنواع، ومتاجرها فريدة الانتفاع، وبرانسها رقاق رفاع، إلاّ أنّها بسبب حب الملوك، مطمعة للملوك، ومن أجل جمعها الصّيد في جوف الفرا، مغلوبة للأمرا، أهلها ليست عندهم الراحة، إلاّ فيما قبضت عليه الراحة، ولا فلاحة، إلا لمن أقام رسم الفلاحة، ليس بها لسع العقارب، إلا فيما بين الأقارب، ولا شطارة، إلا فيمن ارتكب الخطارة؛ انتهى. وقد كنت بالمغرب نويت أن أجمع في شأنها كتاباً ممتعاً أسميّه بأنواء نيسان في أنباء تلمسان وكتبت بعضه، ثم حالت بيني وبين ذلك العزم الأقدار، وارتحلت منها إلى حضرة فاس حيث ملك الأشراف ممتدّ الرّواق، فشغلت بأمور الإمامة والفتوى والخطابة وغيرها، ثم ارتحلت بنية الحجاز، وجعلت إلى الحقيقة المجاز، وها أنا ذا إلى الآن في البلاد المصرية، وفي علم الله تعالى ما لا نعلم، والتسليم لأحكام الأقدار أسلم، والله تعالى يختم لنا بالحسنى بجاه نبيّه ومصطفاه صلى الله عليه وسلّم.

وبها ولدت أنا وأبي وجدي وجد جدي، وقرأت بها ونشأت إلى أن ارتحلت عنها في زمن الشبيبة إلى مدينة فاس سنة تسع وألف، ثم رجعت إليها آخر عام عشرة وألف، ثم عاودت الرجوع إلى فاس سنة ثلاث عشرة وألف، إلى أن ارتحلت عنها للمشرق أواخر رمضان سنة سبع وعشرين وألف، ودخلت مصر برجب من عام ثمانية وعشرين وألف، والشام بشعبان عام سبعة وثلاثين وألف، وأبت منها إلى مصر أواخر شوّال من العام، وشرعت في هذا المؤلف بالقعدة من العام. [ترجمة أبي مدين] وقد تخرّج بتلمسان من العلماء والصلحاء ما لا ينضبط، ويكفيها افتخاراً دفن وليّ الله سيدي أبي مدين بها، وهو شعيب بن الحسين الأندلسي، شيخ المشايخ، وسيد العارفين، وقدوة السالكين، قال الشيخ أبو عبد الله محمّد ابن التلمساني في كتابه النجم الثاقب فيما لأولياء الله تعالى من المناقب: كان (1) الشيخ سيدي أبو مدين فرداً من أفراد الرجال، وصدراً من صدور الأولياء الأبدال، جمع الله له علم الشريعة والحقيقة، وأقامه ركن الوجود هادياً وداعياً للحق، فقصد بالزيارة من جميع الأقطار، واشتهر بشيخ المشايخ، وذكر التادلي وغيره أنّه خرج على يده ألف شيخ من الأولياء أولي الكرامات، وقال أبو الصبر كبير مشايخ وقته: كان أبو مدين زاهداً فاضلاً عارفاً بالله تعالى، خاض بحار الأحوال، ونال أسرار المعارف، خصوصاً مقام التوكّل، لا يشق غباره، ولا تجهل آثاره، قال التادلي: كان مبسوطاً بالعلم، مقبوضاً بالمراقبة، كثير الالتفات بقلبه إلى الله تعالى حتى ختم له بذلك، أخبرني من شهد وفاته أنّه رآه

_ (1) انظر نيل الابتهاج: 107 فأكثر هذه الترجمة منقول عنه.

في آخر الرمق يقول: الله الحق. وكان من أعلام العلماء، وحفّاظ الحديث، خصوصاً جامع الترمذي، وكان يقوم عليه، ورواه عن شيوخه عن أبي ذر، وكان يلازم كتاب الإحياء ويعكف عليه، وترد عليه الفتاوى في مذهب مالك فيجيب عنها في الوقت، وله مجلس وعظ يتكلّم فيه، فتجتمع عليه الناس من كل جهة، وتمر به الطيور وهو يتكلّم فتقف تسمع، وربما مات بعضها، وكثيراً ما يموت بمجلسه أصحاب الحب، تخرّج عليه جماعة كثيرة من العلماء والمحدثين وأرباب الأحوال، وكان شيخه أبو يعزى يثني عليه جميلاً، ويخصّه بين أصحابه بالتعظيم والتبجيل، قرأ بفاس بعد قدومه من الأندلس على الشيخ الحافظ أبي الحسن ابن حرزهم، وعلى الفقيه الحافظ العلامة أبي الحسن ابن غالب. وذكر عنه أنّه قال: كنت في أوّل أمري وقراءتي على الشيوخ إذا سمعت تفسير آية أو معنى حديث قنعت به وانصرفت لموضع خال خارج فاس أتخذه مأوى للعمل بما فتح به عليّ، فإذا خلوت به تأتيني غزالة تأوي إليّ وتؤنسني (1) ، وكنت أمرّ في طريقي بكلاب القرى المتصلة بفاس، فيدورون حولي، ويبصبصون لي، فبينا أنا يوماً بفاس إذا برجل من معارفي بالأندلس سلّم علي، فقلت: وجبت ضيافته، فبعث ثوباً بعشرة دراهم، فطلبت الرجل لأدفعها له، فلم أجده هنالك، فخليتها معي، وخرجت لخلوتي على عادتي، فمررت بقريتي، فتعرض لي الكلاب، ومنعوني الجواز، حتى خرج من القرية من حال بيني وبينهم، ولمّا وصلت لخلوتي جاءتني الغزالة على عادتها، فلمّا شمّتني نفرت عنّي، وأنكرت علي، فقلت: ما أوتي علي إلاّ من أجل هذه الدراهم التي معي، فرميتها، فسكنت الغزالة، وعادت لحالها معي، ولمّا رجعت لفاس جعلت الدراهم معي، ولقيت الأندلسي، فدفعتها إليه، ثم مررت بالقرية في خروجي للخلوة، فدار بي كلابها وبصبصوا على عادتهم، وجاءتني الغزالة فشمتني من

_ (1) انظر أيضاً التادلي: 320.

مفرقي لقدمي، وأنست بي كعادتها، وبقيت كذلك مدّة، وأخبار سيدي أبي يعزى ترد عليّ، وكراماته يتداولها الناس وتنقل إليّ، فملأ قلبي حبّه، فقصدته مع جماعة الفقراء، فلمّا وصلنا إليه أقبل على الجماعة دوني، وإذا حضر الطعام منعني من الأكل معهم، وبقيت كذلك ثلاثة أيام، فأجهدني الجوع، وتحيرت من خواطر ترد عليّ، ثم قلت في نفسي: إذا قام الشيخ من مكانه أمرغ وجهي في المكان، فقام، ومرغت وجهي فقمت وأنا لا أبصر شيئاً، وبقيت طول ليلتي باكياً، فلمّا أصبح دعاني وقرّبني، فقلت له: يا سيدي، قد عميت ولا أبصر شيئاً، فمسح بيده على عيني، فعاد بصري، ثم مسح على صدري، فزالت عني تلك الخواطر، وفقدت ألم الجوع، وشاهدت في الوقت عجائب من بركاته، ثم استأذنته في الانصراف بنية أداء الفريضة، فأذن لي وقال: ستلقى في طريقك الأسد فلا يرعك فإن غلب خوفه عليك فقل له: بحرمة يدنور (1) إلا انصرفت عني، فكان الأمر كما قال. فتوجّه الشيخ أبو مدين للشرق وأنوار الولاية عليه ظاهرة، فأخذ عن العلماء واستفاد من الزهاد والأولياء، وتعرّف في عرفة بالشيخ سيدي عبد القادر الكيلاني، فقرأ عليه في الحرم الشريف كثيراً من الحديث، وألبسه خرقة الصوفية، وأودعه كثيراً من أسراره، وحلاه بملابس أنواره، فكان أبو مدين يفتخر بصحبته، ويعدّه أفضل مشايخه الأكابر. وعن بعض الأولياء قال: رأيت في النوم قائلاً يقول: قل لأبي مدين: بثّ العلم ولا تبالِ، ترتع غداً مع العوالي، فإنّك في مقام آدم أبي الذراري، فقصصتها عليه فقال لي: عزمت على الخروج للجبال والفيافي حتى أبعد عن العمران، ورؤياك هذه تعدل بي عن هاذ العزم، وتأمرني بالجلوس، فقولك ترتع غداً مع العوالي إشارة لحديث حلق الذكر مراتع أهل الجنّة، والعوالي: أصحاب عليين، ومعنى قوله أبي الذراري أن آدم أعطي قوّة على النكاح

_ (1) التشوف: يلنور.

وأمر به، ولم يجعل له قوّة على كون ذريته مطيعين مؤمنين، وكذا نحن أعطانا الله العلم وأمرنا ببثّه وتعليمه، ولا قدرة لنا على كون أتباعنا موفّقين. وكان يقول: كرامات الأولياء نتائج معجزات نبينا صلى الله عليه وسلّم، وطريقتنا هذه أخذناها عن أبي يعزى بسنده عن الجنيد عن سري السقطي عن حبيب العجمي بالسند إلى رب العزة جل جلاله. وعن العارف عبد الرحيم المغربي قال: سمعت سيدي أبا مدين يقول: أوقفني ربي عزّ وجل بين يديه وقال لي: يا شعيب ماذا عن يمينك قلت: يا رب عطاؤك، قال: وعن شمالك قلت: يا رب قضاؤك، فقال: يا شعيب قد ضاعفت لك هذا، وغفرت لك هذا، فطوبى لمن رآك أو رأى من رآك. وعن سيدي أبي العباس المرسي: جلت في ملكوت الله تعالى، فرأيت سيدي أبا مدين متعلّقاً بساق العرش وهو يومئذ أشقر أزرق، فقلت له: وما علومك وما مقامك فقال: علومي أحد وسبعون علماً، وأما مقامي فرابع الخلفاء، ورأس السبعة الأبدال. وسئل رضي الله عنه عمّا خصّه الله تعالى به، فقال: مقامي العبودية، وعلومي الألوهية، وصفاتي مستمدة من الصفات الربانية، ملأت علومه سرّي وجهري، وأضاء بنوره برّي وبحري، فالمقرب من كان به عليماً، ولا يسمو إلاّ من أوتي قلباً سليماً، الذي يسلم ممّا سواه، ولا يكون في الوعاء إلاّ مما جعل فيه مولاه، فقلب العارف يسرح في الملكوت بلا شك " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السّحاب " النمل: 88. وسئل عن الحياء، فقال: أوّله دوام الذكر، وأوسطه الأنس بالمذكور، وأعلاه أن لا ترى شيئاً سواه. واختلف أهل مجلسه: هل الخضر ولي أم نبي فرأى رجل صالح منهم معروف بالولاية النبيّ صلى الله عليه وسلّم تلك الليلة فقال صلى الله عليه وسلّم: الخضر نبي، وأبو مدين ولي.

وذكر التادلي (1) وغيره أن رجلاً جاءه ليعترض عليه، فجلس في الحلقة، فأخذ صاحب الدولة في القراءة، فقال له أبو مدين: أمهل قليلاً، ثم التفت للرجل، وقال له: لم جئت فقال: لأقتبس من نورك، فقال له: ما الذي في كمك قال له: مصحف، فقال له: افتحه واقرأ في أوّل سطر يخرج لك، ففتحه وقرأ أوّل سطر فإذا فيه " الّذين كذّبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها، الذين كذّبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين " الأعراف: 92 فقال له أبو مدين: أما يكفيك هذا فاعترف الرجل وتاب وصلح حاله. وذكر صاحب الروض عن الشيخ الزاهد أبي محمد عبد الرزاق أحد خواص أصحابه قال: مر شيخنا أبو مدين في بعض بلاد المغرب، فرأى أسداً افترس حماراً وهو يأكله، وصاحبه جالس بالبعد على غاية الحاجة والفاقة، فجاء أبو مدين وأخذ بناصية الأسد، وقال لصاحب الحمار: أمسك الأسد واستعمله في الخدمة موضع حمارك، فقال له: يا سيدي أخاف منه، فقال: لا تخف، لا يستطيع أن يؤذيك، فمرّ الرجل يقوده والناس ينظرون إليه، فلمّا كان آخر النهار جاء الرجل ومعه الأسد للشيخ وقال له: يا سيدي هذا الأسد يتبعني حيث ذهبت، وأنا شديد الخوف منه، لا طاقة لي بعشرته، فقال الشيخ للأسد: اذهب ولا تعد، ومتى آذيتم بني آدم سلطتهم عليكم. ومن مشهور كراماته أنّه كان ماشياً يوماً على ساحل، فأسره العدوّ، وجعلوه في سفينة فيها جماعة من أسرى المسلمين، فلمّا استقرّ في السفينة توقفت عن السير، ولم تتحرّك من مكانها، مع قوّة الريح ومساعدتها، وأيقن الروم أنهم لا يقدرون على السير، فقال بعضهم: أنزلوا هذا المسلم فإنّه قسيس، ولعلّه من أصحاب السرائر عند الله تعالى، وأشاروا له بالنزول، فقال: لا أفعل إلاّ إن أطلقتم جميع من في السفينة من الأسارى، فعلموا أن لا بد لهم من ذلك،

_ (1) التشوف: 323.

فأنزلوهم كلّهم، وسارت السفينة في الحال. ومن كراماته أنّه لمّا اختلف طلبة بجاية في حديث إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنّة وأشكل عليهم ظاهره: إذ يموت مؤمنين يستحقان كل الجنّة، فجاءوا إليه وهو يتكلّم على رسالة القشيري، فكاشفهم في الحال بلا سؤال، وقال لهم: المراد أنّه يعطى نصف جنته هو، فيكشف له عن مقعده ليتنعم به وتقر عينه، ثم النصف الآخر يوم القيامة. وكان أولياء وقته يأتونه من البلدان للاستفتاء فيما يعرض لهم من المسائل. وذكر تلميذه الصالح سيدي عبد الخالق التونسي عنه أنّه قال: سمعت برجل يسمى موسى الطيار يطير في الهواء ويمشي على الماء، وكان رجل يأتيني عند صدع الفجر فيسألني عن مسائل لا يفهمها الناس، فوقع ليلة في نفسي أنّه موسى الطيار الذي سمعت به، وطال عليّ الليل في انتظاره، فلمّا طلع الفجر نقر الباب رجل، فإذا هو الذي يسألني، فقلت له: أنت موسى الطيار فقال: نعم، ثم سألني وانصرف، ثم جاءني مع رجل آخر فقال لي: صلّينا الصبح ببغداد، وقدمنا مكة فوجدناهم في صلاة الصبح (1) ، فأعدنا معهم، وجلسنا (2) حتى صلينا الظهر، وأتينا القدس فوجدناهم في الظهر، فقال لي صاحبي هذا: نعيد معهم، فقلت: لا، فقال لي: ولم أعدنا الصبح بمكّة فقلت له: كذلك كان شيخي يفعل، وبه أمرنا، فاختلفنا وأتيناك للجواب، فقال أبو مدين: فقلت لهم: أمّا إعادة الصبح بمكة فلأنّها بها عين اليقين، وببغداد علم اليقين، وعين اليقين أولى من علم اليقين، وصلاتكم الظهر بمكة - وهي أم القرى - فلذلك لا تعاد في غيرها، قال: فقنعا به وانصرفا. وكان استوطن بجاية ويقول: إنّها معينة على طلب الحلال، ولم يزل بها

_ (1) ق: فوجدناهم في الظهر في صلاة الصبح. (2) نيل الابتهاج: فيقينا.

يزداد حلاه على مر الليالي رفعة، ترد عليه الوفود وذوو الحاجات من الآفاق، ويخبر بالوقائع والغيوب، إلى أن وشى به بعض علماء الظاهر عند يعقوب المنصور، وقال له: إنّا نخاف منه على دولتكم، فإن له شبهاً بالإمام المهدي، وأتباعه كثيرون بكل بلد، فوقع في قلبه وأهمّه شأنه، فبعث إليه في القدوم عليه ليختبره، وكتب لصاحب بجاية بالوصيّة به والاعتناء، وأن يحمل خير محمل، فلمّا أخذ في السفر شق على أصحابه وتغيروا وتكلّموا (1) ، فسكتهم وقال لهم: إن منيتي قربت، وبغير هذا المكان قدرت، ولا بد لي منه، وأ، اشيخ كبير ضعيف (2) ، لا قدرة لي على الحركة، فبعث الله تعالى من يحملني إليه برفق، ويسوقني إليه أحسن سوق، وأنا لا أرى السلطان ولا يراني، فطابت نفوسهم، وذهب بوسهم، وعلموا أنه من كراماته، فارتحلوا به على أحسن حال، حتى وطئوا به حوز تلمسان، فبدت له رابطة العباد، فقال لأصحابه: ما أصلحه للرقاد، فمرض مرض موته، فلمّا وصل وادي يسر اشتد به المرض، ونزلوا به هناك، فكان آخر كلامه: الله الحق. وتوفّي رحمه الله تعالى سنة أربع وتسعين وخمسمائة، فحمل إلى العباد، مدفن الأولياء الأوتاد، وسمع أهل تلمسان بجنازته، فكانت من المشاهد العظيمة، والمحافل الكريمة، وفي ذلك اليوم تاب الشيخ أبو علي عمر الحباك، وعاقب الله تعالى السلطان، فمات بعده بسنة أو أقل. ونقل المعتنون بأخباره أن الدعاء عند قبره مستجاب، وجربه جماعة، وقد زرته مئين من المرات، ودعوت الله تعالى عنده بما أرجو قبوله. وقد أطال في ترجمته التادلي في كتابه " التشوّف لرجال التصوّف " (3) وقد

_ (1) وتكلموا: سقطت من نيل الابتهاج. (2) نيل الابتهاج: وقد كبرت وضعفت. (3) انظر هذا الكتاب ص: 316 - 325.

أفردها ابن الخطيب القسمطيني بتأليف سمّاه أنس الفقير. ومن كلامه: من رزق حلاوة المناجاة زال عنه النوم، ومن اشتغل بطلب الدنيا ابتلي فيها بالذل، ومن لم يجد من قلبه زاجراً فهو خراب. وقوله: بفساد العامّة تظهر ولاة الجور، وبفساد الخاصّة تظهر دجاجلة الدين الفتّانون. وقوله: من عرف نفسه لم يغترّ بثناء الناس عليه، ومن خدم الصالحين ارتفع، ومن حرمه الله تعالى احترامهم ابتلاه الله بالمقت من خلقه، وانكسار العاصي خير من صولة المطيع. وقوله: من علامة الإخلاص أن يغيب عنك الخلق في مشاهدة الحق. وسئل عن المحو والشيخ، فقال: المحو من شهدت له ذاتك بالتقديم، وسرك بالاحترام والتعظيم، والشيخ من هداك بأخلاقه، وأيدك بإطراقه، وأنار باطنك بإشراقه، إلى غير ذلك من كلامه النيّر، وهو بحر لا ساحل له. وله نظم كثير مشهور بأيدي الناس، وممّا يُنسب له قوله: بكت السحاب فأضحكت لبكائها ... زهر الرياض وفاضت الأنهار وقد أقبلت شمس النّهار بحلّة ... خضرا، وفي أسرارها أسرار وأتى الربيع بخيله وجنوده ... فتمتعت في حسنه الأبصار والورد نادى بالورود إلى الجنى ... فتسابق الأطيار والأشجار والكأس ترقص والعقار تشعشعت ... والجوّ يضحك والحبيب يزار والعود للغيد الحسان مجاوب ... والطار أخفى صوته المزمار لا تحسبوا الزمر الحرام مرادنا ... مزمارنا التّسبيح والأذكار وشرابنا من لطفه، وغناؤنا ... نعم الحبيب الواحد القهار والعود عادات الجميل، وكأسنا ... كأس الكياسة، والعقار وقار

فتألفوا وتطيبوا واستغنموا ... قبل الممات فدهركم غدّار والله أرحم بالفقير إذا أتى ... من والديه فإنّه غفّار ثمّ الصلاة على الشّفيع المصطفى ... ما رنّمت بلغاتها الأطيار وإنّما ذكرت ترجمة سيدي الشيخ أبي مدين للتبرك به، ولكونه شيخ جدي، فأنا في بركته لقول جدّي: إنّه دعا له ولذريته بما ظهر قبوله، ولأنا ذكرنا في هذا التأليف كثيراً من أنباء أبناء الدنيا، فأردنا كفّارة ذلك بذكر الصالحين، والله الموفّق بمنّه وكرمه، آمين.

الباب السابع

الباب السابع ذكر بعض تلامذته الآخذين عنه المستهدين به على المنهاج، المتلقّين أنواع العلوم منه والمقتبسين أنوار الفهوم من سراجه الوهاج اعلم أن تلامذة لسان الدين رحمه الله تعالى كثيرون، إلاّ أنه لم يرزق السعادة في كثير منهم، بل بارزوه بالعداوة واجتهدوا في إيصال المكروه إليه. 1 - فمن أشهرهم الوزير الكاتب أبو عبد الله ابن زمرك (1) ، وارث مرتبته من بعده، ومقتعد أريكة سعده، وقد ألمع به في الإحاطة وكان إذ ذاك من جملة أتباعه، إذ قال ما محصله: محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف الصريحي يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن زمرك. أصله من شرقي الأندلس، وسكن سلفه ربض (2) البيازين من غرناطة، وبه ولد ونشأ، وهو من مفاخره. حاله - هذا الفاضل صدر من صدور طلبة الأندلس وأفراد نجبائها، مختصر مقبول هش خلوب، عذب الفكاهة حلو المجالسة، حسن التوقيع خفيف الروح

_ (1) ترجمة ابن زمرك في الإحاطة 2: 221 - 240 والكتيبة: 282 ونيل الابتهاج: 282 ونثير فرائد الجمان: 327 والتعريف: 274 وجذوة الاقتباس: 184 والدرر الكامنة 4: 412 وأزهار الرياض 2: 7 - 206، وقد نقل بعض ما أورده ابن الخطيب في الإحاطة، وما جاء عنه في كتاب مستقل لابن الأحمر، وسيكرر في ترجمته هنا، ولهذا أجريت المقارنة بين ما ورد في النفح والأزهار دون أن أشير إلى كل موضع على حدة. (2) ق: روض.

عظيم الانطباع شره المذاكرة، فطن بالمعاريض حاضر الجواب، شعلة من شعل الذكاء تكاد تحتدم جوانبه، كثير الرقة فكه غزل مع حياء وحشمة، جواد بما في يده مشارك لإخوانه، نشأ عفّاً طاهراً، كلفاً بالقراءة عظيم الدّؤوب، ثاقب الذهن، أصيل الحفظ ظاهر النّبل، بعيد مدى الإدراك جيد الفهم، فاشتهر فضله وذاع أرجه وفشا خبره، واضطلع بكثير من الأغراض وشارك في كثير من الفنون، وأصبح متلقف كرة البحث وصارخ الحلقة [وسابق الحلبة] ومظنة الكمال، ثم ترقى في درج المعرفة والاضطلاع وخاض لجة الحفظ، وركض قلم التقييد والتسويد والتعليق، ونصب نفسه للناس متكلماً فوق الكرسي المنصوب، وفوق (1) المحفل المجموع، مستظهراً بالفنون التي بعد فيها شأوه من العربية والبيان [واللغة] وما يقذف به في لج النقل من الأخبار والتفسير، متشوفاً مع ذلك إلى السلوك مصاحباً للصوفية آخذاً نفسه بارتياض ومجاهدة، ثم عانى الأدب فكان أملك به، وأعمل الرحلة في طلب العلم والازدياد، فترقى إلى الكتابة عن ولد السلطان أمير المسلمين بالمغرب أبي سالم إبراهيم ابن أمير المسلمين أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب، ثم عن السلطان، وعرف في بابه بالإجادة. ولمّا جرت الحادثة على السلطان صاحب الأمر بالأندلس، واستقر بالمغرب، أنس له وانقطع إليه، وكر في صحبة ركابه إلى استرجاع حقه، فلطف منه محله وخصه بكتابة سره، وثابت الحال ودالت الدولة وكانت له الطائلة، فأقره على رسمه معروف الانقطاع والصاغية كثير الدالّة، مضطلعاً بالخطة خطّاً وإنشاء ولسناً ونقداً، فحسن منابه واشتهر فضله وظهرت مشاركته وحسنت وساطته، ووسع الناس تخلقه، وأرضى للسلطان حمله، وامتد في ميدان النظم والنثر باعه، فصدر عنه من المنظوم في أمداحه قصائد بعيدة الشأو في مدى الإجادة، وهو بحاله الموصوفة إلى هذا العهد، أعانه الله تعالى وسدده.

_ (1) الإحاطة: وبين.

شيوخه - قرأ العربية على الأستاذ رحلة المغرب في فنها أبي عبد الله ابن الفخار، ثمّ على القاضي الشريف إمام الفنون اللسانية أبي القاسم محمد بن أحمد الحسني، والفقه والعربية على الأستاذ المفتي أبي سعيد ابن لب، واختص بالفقيه الخطيب الصدر المحدث أبي عبد الله ابن مرزوق فأخذ عنه كثيراً من الرواية، ولقي القاضي الحافظ (1) أبا عبد الله المقّري عندما قدم على الأندلس وذاكره، وقرأ الأصول الفقهية على أبي علي منصور الزواوي، ويروي عن جملة منهم القاضي أبو البركات ابن الحاج، والمحدث أبو الحسين ابن التلمساني، والخطيب أبو عبد الله ابن اللوشي، والمقرىء أبو عبد الله ابن بيبش، وقرأ بعض الفنون العقلية بمدينة فاس على الشريف الرحلة الشهير أبي عبد الله العلّوني (2) التلمساني، واختص به اختصاصاً لم يخل فيه من استفادة مران وحنكة في الصنعة. شعره - وشعره مترام إلى هدف الإجادة، خفاجي النزعة، كلف بالمعاني البديعة والألفاظ الصقيلة، غزير المادة، فمن ذلك ما خاطبني به، وهو من أول ما نظمه قصيدة مطلعها: أما وانصداع النور من مطلع الفجر ... وهي طويلة. ومن بدائعه التي عقم عن مثلها قياس قيس، واشتهرت بالإحسان اشتهار الزهد بأويس (3) ، ولم يحل مجاريه ومباريه إلاّ بويح وويس، قوله في إعذار الأمير ولد سلطانه المنوه بمكانه، وهي من الكلام الذي عنيت الإجادة بتذهيبه وتهذيبه، وناسب الحسن بين مديحه ونسيبه:

_ (1) ق: الحافظ القاضي. (2) سقطت هذه اللفظة من الإحاطة. (3) هو أويس القرني من أوائل الزهاد في العصر الأموي.

معاذ الهوى أن أصحب القلب ساليا ... وأن يشغل اللوّام بالعذل باليا دعاني أعط الحبّ فضل مقادتي ... ويقضي عليّ الوجد ما كان قاضيا ودون الذي رام العواذل صبوة ... رمت بي في شعب الغرام المراميا وقلب إذا ما البرق أومض موهناً ... قدحت به زنداً من الشوق واريا خليليّ إني يوم طارقة النّوى ... شقيت بمن لو شاء أنعم باليا والخيف يوم النفر يا أمّ مالك ... تخلّفت قلبي في حبالك عانيا وذي أشرٍ عذب الثنايا مخصّرٍ ... يسقّي به ماء النّعيم الأقاحيا أحوم عليه ما دجا الليل ساهراً ... وأصبح دون (1) الورد ظمآن صاديا يضيء ظلام الليل ما بين أضلعي ... إذا البارق النجديّ وهناً بدا ليا أجيرتنا بالرمل والرمل منزل ... مضى العيش فيه بالشبيبة حاليا ولم أر ربعاً منه أقضى لبانة ... وأشجى حمامات، وأحلى مجانيا سقت ظلّه الغرّ الغوادي ونظّمت ... من القطر في جيد الغصون لآليا أبثّكم أني على النأي حافظ ... ذمام الهوى لو تحفظون ذماميا أناشدكم والحر أوفى بعهده ... ولن يعدم الأحسان والخير جازيا هل الود إلاّ ما تحاماه كاشحٌ ... وأخفق في مسعاه من جاء واشيا تأوّبني واللّيل يذكي عيونه ... ويسحب من ذيل الدّجنّة ضافيا وقد مثلت زهر النجوم بأفقه ... حباباً على نهر المجرّة طافيا خيال على بعد المزار ألمّ بي ... فأذكرني من لم أكن عنه ساليا عجبت له كيف اهتدى نحو مضجعي ... ولم يبق مني السقم والشّوق باقيا رفعت له نار الصبابة فاهتدى ... وخاض لها عرض الدّجنّة ساريا وممّا أجدّ الوجد سربٌ على النّقا ... سوانح يصقلن الطّلى والتراقيا

_ (1) ق: يوم.

نزعن عن الألحاظ كلّ مسدّد ... فغادرن أفلاذ القلوب دواميا ولما تراءى السّرب قلت لصاحبي ... وأيقنت أنّ الحبّ ما عشت دانيا حذارك من سقم الجفون فإنّه ... سيعدي بما يعيي الطلبيب المداويا وإنّ أمير المسلمين محمداً ... ليعدي نداه الساريات الهواميا تضيء النجوم الزاهرات خلاله ... وينفث في روع الزمان المعاليا معال إذا ما النّجم صوّب طالباً ... مبالغها في العزّ حلّق وانيا يسابق علويّ الرياح إلى النّدى ... ويفضح جدوى راحتيه الغواديا ويغضي عن العوراء إغضاء قادر ... ويرجح في الحلم الجبال الرواسيا همام يروع الأسد في حومة الوغى ... كما راعت الأسد الظباء الجوازيا إذا استبق الأملاك يوماً لغاية ... أبيت وذاك المجد إلا التناهيا بهرت فأخفيت الملوك وذكرها ... ولا عجب فالشمس تخفي الدراريا جلوت ظلام الظلم من كلّ معتدٍ ... ولا غرو أن تجلو البدور الدياجيا هديت سبيل الله من ضلّ رشده ... فلا زلت مهدياً إليه وهاديا أفدت وحيّ الملك ممّا أفدته ... وطوّقت أشراف الملوك الأياديا وكان أبو زيّان جيداً معطّلاً ... فزينته حتى اغتدى بك حاليا لك الخير لم تقصد بما قد أفدته ... جزاء ولكن همّة هي ما هيا فما تكبر الأملاك غيرك آمراً ... ولا ترهب الأشراف غيرك ناهيا ولا تشتكي الأيام من داء فتنة ... فقد عرفت منك الطبيب المداويا وأندلساً أوليت ما أنت أهله ... أوردتها ورداً من الأمن صافيا تلافيت هذا الثغر وهو على شفاً ... وأصبحت من داء الحوادث شافيا ومن بعد ما ساءت ظنون بأهلها ... وحاموا على ورد الأماني صواديا

فما يأملون العيش إلاّ تعلّلاً ... ولا يعرفون الأمن إلاّ أمانيا عطفت على الأيام عطفة راحمٍ ... وألبستها ثوب امتنانك ضافيا فآنس من تلقائك الملك رشده ... ونال بك الإسلام ما كان راجيا فرأيٌ كما اشنقّ الصباح، وعزمة ... كما صقل القين الحسام اليماناي وكانت رماح الخطّ خمصاً ذوابلاً ... فأنهلت منها في الدماء صواديا وأوردت صفح السيف أبيض ناصعاً ... فأصدرته في الروع أحمر قانيا لك العزم تستجلي الخطوب بهديه ... ويلفى إذا تنبو الصوارم ماضيا إذا أنت لم تفخر بما أنت أهله ... فما الصبح وضّاح المشارق عاليا ويهنيك دون العيد عيد شرعته ... نبث به في الخافقين التهانيا أقمت به من فطرة الدين سنّة ... وجددت من رسم الهداية عافيا صنيع تولّى الله تشييد فخره ... وكان لما أوليت فيه مجازيا تودّ النجوم الزهر لو مثلت به ... وقضّت من الزلفى إليك الأمانيا ومازال وجه اليوم بالشمس مشرقاً ... سروراً به والليل بالشهب حاليا على مثله فليعقد الفخر تاجه ... ويسمو به فوق النجوم مراقيا به تغمر الأنواء كلّ مفوّه ... ويحدو به من كان بالقفر ساريا ويوسف فيه بالجمال مقنّع ... كأنّ له من كل قلب مناجيا وأقبل ما شاب الحياء مهابةً ... يقلّب وجه البدر أزهر باهيا وأقدم لا هيّابة الحفل واجماً ... ولا قاصراً فيه الخطا متوانيا شمائل فيه من أبيه وجدّه ... ترى العزّ فيها مستكنّاً وباديا فيا علقاً أشجى القلوب لو أنّنا ... فديناك بالأعلاق ما كنت غاليا جريت فأجريت الدموع تعطّفاً ... وأطلعت فيها للسرور نواشيا وكم من وليٍّ دون بابك مخلصٍ ... يفدّيه بالنّفس النفيسة واقيا

وصيدٍ من الحيّين أبناء قيلةٍ ... تكفّ الأعادي أو تبيد الأعاديا بها ليلُ غرٌّ إن أعدّوا لغارة ... أعادوا صباح الحيّ أظلم داجيا فوالله لولا أن توخيت سنّةً ... رضيت بها أن كان ربّك راضيا لكان بها للأعوجيّات جولة ... تشيب من الغلب الشباب النواصيا وتترك أوصال الوشيج مقصدّاً ... وبيض الظّبي حمر المنون دواميا ولمّا قضى من سنّة الله ما قضى ... وقد حسدت منه النجوم المساعيا أفضنا نهنّي منك أكرم منعم ... أبى لعميم الجود إلاّ تواليا فيهني صفاح الهند والبأس والندى ... وسمر العوالي والعتاق المذاكيا ويهني البنود الخافقات فإنّها ... سيعقدها في ذمّة النصر غازيا كأنّي به يشقي الصوارم والظّبي ... ويحطم في اللأم الصلاب العواليا كأني به قد توّج الملك يافعاً ... وجمّع أشتات المكارم ناشيا وقضّى حقوق الفخر في ميعة الصِّبا ... وأحسن من دين الكمال التقاضيا وما هو إلآّ السعد إن رمت مطلعاً ... وسدّدت سهماً كان ربّك راميا فلا زلت يا فخر الخلافة كافلاً ... ولا زلت يا خير الأئمّة كافيا ودمت قرير العين منه بغبطة ... وكان له رب البريّة واقيا نظمت له حرّ الكلام تمائماً ... جعلت مكان الدرّ فيها القوافيا لآلٍ بها تبأى (1) الملوك نفاسةً ... وجلّت لعمري أن تكون لآليا أرى المال يرميه الجديدان بالبلى ... وما إن أرى إلاّ المحامد باقيا وورد على السلطان أبي سالم ملك المغرب رحمة الله تعالى عليه وفد الأحابيش بهدية من ملك السودان، ومن جملتها الحيوان الغريب المسمّى بالزرافة، فأمر من يعاني الشعر من الكتّاب بالنظم في ذلك الغرض، فقال وهي من بدائعه:

_ (1) ق: تبدي.

لولا تألق بارق التذكار ... ما صاب واكف دمعي المدرار لكنّه مهما تعرّض خافقاً ... قدحت يد الأشواق زند أواري وعلى المشوق إذا تذكّر معهداً ... أن يغري الجفان باستعبار أمذكّري غرناطةً حلّت بها ... أيدي السحاب أزرّة النوّار كيف التخلّص للحديث وبيننا (1) ... عرض الفلاة وطافح الزّخّار هذا على أنّ التغرّب مركبي ... وتولّج الفيح الفساح (2) شعاري فلكم أقمت غداة زمّت عيسهم ... أبغي القرار ولات حين قرار وطفقت أستقري المنازل بعدهم ... يمحو البكاء مواقع الآثار إنّا بني الآمال تخدعنا المنى ... فنخادع الآمال بالتسيار نتجشم الأهوال في طلب العلا ... ونروع سرب النوم بالأفكار لا يحرز المجد الخطير سوى امرىءٍ ... يمطي (3) العزائم صهوة الأخطار إمّا يفاخر بالعتاد ففخره ... بالمشرفيّة والقنا الخطّار مستبصر مرمى العواقب واصل ... في حمله (4) الإيراد بالإصدار فأشدّ ما قاد الجهول إلى الردى ... عمه البصائر لا عمى الأبصار ولربّ مربدّ الجوانح مزبد ... سبح الهلال بلجّه الزخّار فتقت كمائم جنحه عن أنجمٍ ... سفرت زواهرهنّ عن أزهار مثلت على شاطي المجرّة نرجساً ... تصطف منه على خليج جاري وكأنّما بدر التمام بجنحه ... وجه الإمام بجحفلٍ جرّار وكأنّما خمس الثريّا راحة ... ذرعت مسير الليل بالأشبار أسرجت من عزمي مصابيحاً بها ... تهدي السراة لها من الأقطار

_ (1) ق: ودوننا. (2) ق: انفساح. (3) ق والإحاطة: يعطي، والصواب ما في الأزهار. (4) ق: جملة.

وارتاع من بازي الصباح غرابه ... لمّا أطلّ فطار كلّ مطار ومنها: وغريبةٍ قطعت إليك على الونى ... بيداً تبيد بها هموم الساري تنسيه طيّته التي قد أمّها ... والركب فيها ميّت الأخبار يقتادها من كلّ مشتمل الدجى ... وكأنّما عيناه جذوة نار تشدو بحمد المستعين حداتها ... يتعلّلون به على الأكوار إن مسّهم لفح الهجير أبلّهم ... منه نسيم ثنائك المعطار خاضوا بها لجج الفلا فتخلّصت ... منها خلوص البدر بعد سرار سلمت بسعدك من غوائل مثلها ... وكفى بسعدك حامياً لذمار وأتتك يا ملك الزمان غريبة ... قيد النواظر نزهة الأبصار موشيّة الأعطاف رائقة الحلى ... رقمت بدائعها يد الأقدار راق العيون أديمها فكأنه ... روض تفتّح عن شقيق بهار ما بين مبيضٍّ وأصفر فاقعٍ ... سال اللجين به خلال نضار يحكي حدائق نرجس في شاهق ... تنساب فيه أراقم الأنهار تحدو (1) قوائم كالجذوع وفوقها ... جبل أشم بنوره متوار وسمت بجيدٍ مثل جذع مائل ... سهل التعطف ليّن خوّار تستشرف الجدران منه ترائباً ... فكأنّما هو قائم بمنار تاهت بكلكلها وأتلع جيدها ... ومشى بها الإعجاب مشي وقار خرجوا لها الجمّ الغفير، وكلهم ... متعجب من لطف صنع الباري كلٌّ يقول لصحبه قوموا انظروا ... كيف الجبال تقاد بالأسيار ألقت ببابك رحلها ولطالما ... ألقى الغريب به عصا التسيار علمت ملوك الأرض أنك فخرها ... فتسابقت لرضاك في مضمار

_ (1) كذا في جميع الأصول، ولعلها " تجذو " يريد: تنصب.

يتبوأون به وإن بعد المدى ... من جاهك الأعلى أعزّ جوار فارفع لواء الفخر غير مدافعٍ ... واسحب ذيول العسكر الجرّار واهنأ بأعياد الفتوح مخوّلاً ... ما شئت من نصر ومن أنصار وإليكها من روض فكري نفحةً ... شفّ الثناء بها على الأزهار في فصل منطقها ورائق رسمها ... مستمتع الأسماع والأبصار وتميل من أصغى لها فكأنّني ... عاطيته منها كؤوس عقار وأنشد السلطان في ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلّم عقب ما فرغ من البنية الشهيرة ببابه رحمه الله تعالى: تأمّل أطلال الهوى فتألّما ... وسيما الجوى والسقم منها تعلّما أخو زفرة هاجت له نار ذكرة ... فأنجد في شعب الغرام وأتهما وسرد لسان الدين هذه القصيدة بطولها، وهي تقارب التسعين بيتاً، ثم ق ما نصه: وأنشد السلطان في وجهه للصيد أعملها، وأطلق أعنّة الجياد في ميادين ذلك الطراد وأرسلها، قوله: حيّاك يا دار الهوى من دار ... نوء السّماك بديمةٍ مدرار وأعاد وجه رباك طلقاً مشرقاً ... متضاحكاً بمباسم النوّار أمذكّري دار الصبابة والهوى ... حيث الشباب يرفُّ غصن (1) نضار عاطيتني عنها الحديث كأنّما ... عاطيتني عنها كؤوس عقار إيه وإن أذكيت نار صبابتي ... وقدحت زند الشوق بالتذكار يا زاجر الأظعان وهي مشوقة ... أشبهتها في زفرة وأوار حنّت إلى نجد وليست دارها ... وصبت إلى هنديّه والغار شاقت به برق الحمى واعتادها ... طيف الكرى بمزارها المزوار (2)

_ (1) الأزهار: حسن. (2) كذا في الإحاطة؛ وفي الأزهار: لكنها شامت بعد برق الحمى ... واعتادها طيف الكرى بمزار

هل تبلغ الحاجات إن حمّلتها ... إنّ الوفاء سجيّة الأحرار عرّ بذكري في الخيام وقل ... إذا جئت العقيق مبلّغ الأوطار عار بقومك يا ابنة الحبين أن ... تلوي الديون وأنت ذات يسار أمنعت ميسور الكلام أخا الهوى ... وبخلت حتى بالخيال الساري وأبان جاري الدمع عذر هيامه ... لكن أضعت له حقوق (1) الجار هذا وقومك ما علمت خلالهم ... أوفى الكرام بذمةٍ وجوار الله في نفس شعاع كلّما ... هبّ النسيم تطير كلّ مطار بالله يا لمياء ما منع الصَّبا ... أن لا تهبّ بعرفك المعطار يا بنت من تشدو الحداة بذكره ... متعلّلين به على الأكوار ما ضرّ نسمة حاجرٍ لو أنها ... أهدت لنا خبراً من الأخبار هل بانُهُ من بعدنا متأوّد ... متجاوبٌ مترنّمُ الأطيار وهل الظباء الآنسات كعهدنا (2) ... يصرعن أسد الغاب وهي ضوار يفتكن من قاماتها ولحاظها ... بالمشرفيّة والقنا الخطّار أشعرت قلبي حبّهنّ صبابةً ... فرمينني من لوعتي بجمار وعلى الكثيب سوانح حمر الحلي ... بيض الوجوه يصدن بالأفكار أدنى الحجيج مزارهنّ ثلاثةً ... بمنى لو أنّ منىً ديار (3) قرار لكنّ يوم النّفر جدن لنا بما ... عوّدننا من جفوةٍ ونفار يا ابن الألى قد أحرزوا خصل (4) العلا ... وسموا بطيب أرومةٍ ونجار وتنوب عن صوب الغمام أكفهم ... وتنوب أوجههم عن الأقمار من آل سعد رافعي علم الهدى ... والمصطفين لنصرة المختار

_ (1) الأزهار: أضعت حقوق ذاك. (2) الأزهار: كعهدها. (3) الإحاطة: بدار. (4) الأزهار: فضل.

أصبحت وارث مجدهم وفخارهم ... ومشرّف الأعصار والأمصار وجهٌ كما حسر الصباح نقابه ... ويد تمدّ أناملاً ببحار جدّدت دون الدين عزمة أروعٍ ... جدّدت منها سنّة الأنصار حطت البلاد ومن حوته ثغورها ... وكفى بسعدك حامياً لذمار لله رحلتك التي نلنا بها ... أجر الجهاد ونزهة الأبصار أوردتنا فيها لجودك مورداً ... مستعذب الإيراد والإصدار وأفضت فينا من نداك مواهباً ... حسنت مواقعها على التكرار أضحكت ثغر الثغر لمّا جئته ... وخصصته بخصائص الإيثار حتى الفلاة تقيم يوم وردتها ... سنن القرى بثلاثة الأثوار (1) وسرت عقاب الجوّ تهديك الذي ... تصطاد من وحش ومن أطيار والأرض تعلم أنك الغوث الذي ... تضفي عليها واقي الأستار همل المسارح لا يراع قيصه ... إلاّ لنبأة فارس مغوار سرحت عنان الريح فيه وربما ... ألقت بساحته عصا التسيار باكرته والأفق قد خلع الدجى ... مسحاً ليلبس حلّة الإسفار وجرى به نهر النهار كمثل ما ... سكب النديم سلافةً من قار عرضت به المستنفرات (2) كأنها ... خيل عراب جلن في مضمار أتبعتها غرر الجياد كواكباً ... تنقض رجماً في سماء غبار والهاديات يؤمّها عبل الشّوى (3) ... متدفّق كتدفّق التيّار

_ (1) في الإحاطة والأزهار: بتلألؤ الأنوار؛ وأرى الأصل فيه ما أثبته لأنه يتحدث عن خروج السلطان للصيد، ورميه ثلاثة ثيران، فكأن فلاة الصيد راعت سنة القرى يتقديمها الثيران له. (2) المستنفرات: الحيوانات التي استنفرت لكي تعدو الجياد وراءها، ويحرز السلطان لذة مطاردتها وصيدها. (3) عبل الشوى: كناية عن الثور، والهاديات: المتقدمات سبقاً.

أزجيتها شقراء رائقة الحلى ... فرميته منها بشعلة نار أثبتّ فيه الرمح ثمّ تركته ... خضب الجوانح بالدم الموّار حامت عليه الذابلات كأنّها ... طير أوت منه إلى أوكار طفقت أرانبه غداة أثرتها ... تبغي الفرار ولات حين فرار هل ينفع الباع الطويل وقد غدت ... يوم الطّراد قصيرة الأعمار من كلّ منحفزٍ بلمحة بارق ... فاتت خطاه مدارك الأبصار وجوارحٍ سبقت إليه طلابها ... فكأنّما طالبنه بالثّار سود وبيض في الطّراد تتابعت ... كالليل طارده بياض نهار ترمي بها وهي الحنايا ضمّراً ... مثل السهام نزعن عن أوتار ظنّت بأن ينجو لها، كلاّ ولو ... أغريته بأرانب الأقمار وبكل فتخاء الجناح إذا ارتمت ... فكأنها نجم السماء السّاري زجل الجناح مصفق كمن الردى ... في مخلبٍ منه وفي منقار أجلى الطريد من الوحوش وإن رمى ... طيراً أتاك به على مقدار وأريتنا الكسب الذي أعداده ... ملأت جمالاً أعين النّظّار بيض وصفر خلت مطرح سرحها ... روضاً تفتّح عن شقيق بهار من كلّ موشيّ الأديم مفوّفٍ ... رقمت بدائعه يد الأقدار خلط البياض بصفرة في لونه ... فترى اللّجين يشوب ذوب نضار أو أشعلٍ راق العيون كأنّه ... غلس يخالط سدفةً بنهار سرحت بمخضرّ الجوانب يانعٍ ... تنساب فيه أراقم الأنهار قد أرضعته الساريات لبانها ... وحللن فيه أزرّة النوّار أخذت سعودك حذرها فلحكمةٍ ... أغرت جفون المزن باستعبار لما أرتك الشمس صفرة حاسدٍ ... لجبينك المتألّق الأنوار نفثت عليك السحب نفث معوّذ ... من عينها المتوقّع الإضرار فارفع لواء الفخر غير مدافع ... واسحب ذيول العسكر الجرّار

واهنأ بمقدمك السعيد مخوّلاً ... ما شئت من عزٍّ ومن أنصار قد جئت دارك محسناً ومؤمّلاً ... متّعت بالحسنى وعقبى الدار وإليكها من روض فكري نفحةً ... شفّ الثناء بها على الأزهار ومن شعره في غير المطولات قوله (1) : لقد زادني وجداً وأغرى بي الجوى ... ذبالٌ بأذيال الظلام قد التفتا تشير وراء الليل منه بنانة ... مخضّبة والليل قد حجب الكفّا تلوح سناناً حين لا تنفح الصّبا ... وتبدي (2) سواراً حين تثني له العطفاي قطعت به ليلاً يطارحني الجوى ... فآونةً يبدو وآونة يخفى إذا قلت لا يبدو أشال لسانه ... وإن قلت لا يخفى الضياء به كفّا إلى أن أفاق الصبح من غمرة الدجى ... وأهدى نسيم الروض من طيبه عرفا لك الله يا مصباح أشبهت مهجتي ... وقد شفّها من لوعة الحبّ ما شفّا وممّا ثبت له صدر رسالة: أزور بقلبي معهد الأنس والهوى ... وأنهب من أيدي النسيم رسائلا ومهما سألت البرق يهفو من الحمى ... يبادره دمعي مجيباً وسائلا فيا ليت شعري والأماني تعلّلٌ ... أيرعى لي الحيّ الكرام الوسائلا وهل جيرتي الأولى كما قد عهدتهم ... يوالون بالإحسان من جاء سائلا ومن أبياته الغراميات: قيادي قد تملّكه الغرام ... ووجدي لا يطاق ولا يرام ودمعي دونه صوب الغوادي ... وشجوي فوق ما يشكو الحمام

_ (1) يصف مصباحاً. (2) الأزهار: وتبدو.

إذا ما الوجد لم يبرح فؤادي ... على الدنيا وساكنها السلام وفي غرض يظهر من الأبيات: ومشتمل بالحسن أحوى مهفهف ... قضى رجع طرفي من محاسنه الوطر فأبصرت أشباه الرياض محاسناً ... وفي خدّه جرح بدا منه لي أثر فقلت لجلاّسي خذوا الحذر إنما ... به وصبٌ من أسهم الغنج والحور ويا وجنةً قد جاورت سيف لحظه ... ومن شأنها تدمى من اللمح بالبصر تخيّل للعينين جرحاً وإنما ... بدا كلفٌ منه على صفحة القمر وممّا يرجع إلى باب الفخر، ولعمري لقد صدق: ألائمةً في الجود والجود شيمة ... جبلت على إيثارها يوم مولدي ذريني فلو أنّي أُخلّد بالغنى ... لكنتُ ضنيناً بالذي ملكت يدي وقال: لقد علم الله أني امرؤ ... أجرّر ذيل العفاف القشيب فكم غمّض الدهر أجفانه ... وفازت قداحي بوصل الحبيب وقيل رقيبك في غفلةٍ ... فقلت أخاف الإله الرقيب وفي مدح كتاب " الشفاء " [وقد] طلبه الفقيه أبو عبد الله ابن مرزوق عندما شرع في شرحه: ومسرى ركاب للصّبا قد ونت به ... نجائب سحب للتراب نزوعها تسلُّ سيوف البرق أيدي حداتها ... فتنهل خوفاً من سطاها دموعها تعرّضن غرباً يبتغين معرّساً ... فقلت لها: مرّاكشٌ وربوعها لتسقي أجداثاً بها وضرائحاً ... عياضٌ إلى يوم المعاد ضجيعها

وأجدر من تبكي عليه يراعةٌ ... بصفحة طرس، والمداد نجيعها فكم من يدٍ في الدين قد سلفت له ... يرضّي رسول الله عنه صنيعها ولا مثل تعريف الشفاء حقوقه ... فقد بان فيه للعقول جميعها بمرآة حسنٍ قد جلتها يدُ النّهى ... فأوصافه يلتاح فيه بديعها نجوم اهتداء، والمداد يجنّها ... وأسرار غيبٍ، واليراع تذيعها لقد حزت فضلاً يا أبا الفضل شاملاً ... فيجزيك عن نصح البرايا شفيعها ولله ممّن قد تصدّى لشرحه ... فلبّاه من غرّ المعاني مطيعها فكم مجملٍ فصّلتَ منه وحكمةٍ ... إذا كتم الإدماج منه تشيعها محاسن والإحسان يبدو خلالها ... كما افترّ عن زهر البطاح ربيعها إذا ما أجلت العين فيها تخالها ... نجوماً بآفاق الطروس طلوعها معانيه كالماء الزلال لذي صدىً ... وألفاظه درٌّ يروّي نصيعها رياضٌ سقاها الفكر صوب ذكائه ... فأخصب للورّاد منها مريعها تفجّر عن عين اليقين زلالها ... فلذ لأرباب الخلوص شروعها ألا يا ابن جار الله يا ابن وليّه ... لأنت إذا عدّ الكرام رفيعها إذا ما أصول المرء طابت أرومة ... فلا عجب أن أشبهتها فروعها بقيت لأعلام الزمان تنيلها ... هدىً، ولأحداث الخطوب تروعها مولده رابع عشر شوال من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة؛ انتهى كلام لسان الدين في الإحاطة في تعليقات ابن لسان الدين على ترجمة ابن مزدك ترجمة تلميذه أبي عبد الله ابن زمرك. قلت: ورأيت بخط أبي الحسن علي بن لسان الدين - رحمهما الله تعالى - على هامش هذه الترجمة من الإحاطة كلاماً في حق ابن زمرك رأيت أن أذكره بجملته الآن، وإن تقدم بعضه في هذا الكتاب: فمن ذلك أنه كتب على حاشية أول الترجمة ما صورته: أتبعه الله تعالى خزياً، وعامله بما يستحقه، فبهذا ترجمه والدي مولاه الذي رفع من قدره فيه، ولم

يقتله أحد غيره، كفانا الله تعالى شر من أحسنّا إليه؛ انتهى. وكتب على قوله نشأ عفّاً طاهراً - إلى آخره ما نصه: هذا الوغد ابن زمرك من شياطين الكتّاب، ابن حداد بالبيازين، قتل أباه بيده، أوجعه ضرباً فمات من ذلك، وهو أخس عباد الله تربية، وأحقرهم صورة وأخملهم شكلاً، استعمله أبي في الكتابة السلطانية، فجنينا أيام تحولنا عن الأندلس منه كل شر، وهو كان السبب في قتل أبي مصنف هذا الكتاب الذي رباه وأدبه واستخدمه، حسبما هو معروف، وكفانا الله تعالى شر من أحسنّا إليه وأساء إلينا؛ انتهى. وكتل على قول والده فترقى إلى الكتابة - إلى آخره ما صورته: على يد سيدي أبي عبد الله ابن مرزوق، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله؛ انتهى. وكتب على قول معاذ الهوى أن أصحب القلب ساليا - إلى آخره ما نصه: هذه القصيدة نظم له مولاي الوالد تغمّده الله تعالى برحمته منها النسيب كله، وهكذا جرت عادته معه في الأمداح السلطانية حضرة الملك (1) ، والله المطلع على ذلك، قاله ابن المصنف علي بن الخطيب؛ انتهى. وكتب على قوله لولا تألّق بارق التذكار - إلى آخره ما صورته: هذا الرجس الشيطان كثيراً ما ينظم في هذا الوزن، ويتبع حمارة هذه الراء، حتى لا يتركها جملة، إذ الرجل ابن حمّار مكاري حداد، فالنفس تميل بالطبع؛ انتهى. وكتب على قوله حيّاك يا دار الهوى من دار - إلى آخره ما صورته: انظر إلى كثرة تحريكه لحمارة هذه الراء، علقت له بها ما لخوليا؛ انتهى. وكتب على قوله وجوارح سبقت إليه طلابها إلى آخره ما صورته: سرق طردية إبراهيم بن خفاجة، فانظرها تجده سرق المعاني والألفاظ، مع أن

_ (1) ق: حضرت لذلك، ولعلها: " حضرت ذلك ".

والدي نظم له أكثرها على حسب عادته معه، قاله علي بن الخطيب؛ انتهى. وكتب على قوله يا مصباح ما نصه: كان يحب صبيّاً اسمه مصباح، وهو الآن مجنون العقل بتونس يحترف بالحياكة؛ انتهى. وكتب على قوله ألائمتي في الجود - إلى آخره ما صورته: كذبت يا نجس، من أين الفخر لك أو لبيتك لست والله من الجود في شيء، نعم سخنة عين الجود؛ انتهى. وكتب على قوله لقد علم الله أني امرؤ - إلى آخره ما معناه: لا والله، فأنت مشهور بكذا، يا قرد، فمن أين العفاف وأنت بالأندلس كذا وكذا إلى أن قال: وأنحسهم بيتاً؛ قاله مولاك الذي ربيت في نعمته ونعمة الله علي بن الخطيب بالقاهرة؛ انتهى. وقد نسبه إلى ما لا يليق، فالله أعلم بحقيقة الأمر. وكتب غيره على قول ابن زمرك أزور بقلبي - الأبيات المتقدمة عند قوله سائلاً في موضعين: هما من السؤال، فحصل على الإيطاء المذموم؛ انتهى. قلت: أما ما ذكره ابن لسان الدين من أن أباه كان ينظم لابن زمرك فذلك والله أعلم كان في ابتداء أمره، وإلا فقد جاء ابن زمرك في آخر أيام لسان الدين وبعد موته بالبدائع التي لا تنكر، كما سنذكره، وأما كونه سعى في قتل لسان الدين مع إحسانه إليه فقد جوزي من جنس عمله، وقتل بمرأى من أهله ومسمع، وأزهقت معه روح ابنيه، حسبما نذكره، وهذا قصاص الدنيا، وعفو الله تعالى في الآخرة منتظر للجميع. ولنذكر ترجمة ابن زمرك من كلام ابن السلطان ابن الأحمر في مجلد ضخم رأيته بالمغرب جمع فيه شعر ابن زمرك وموشحاته، وعرّف به في أوله، إذ ق ما نصه: أما بعد ما يجب من حمد الله تعالى في كل حال، وشكره على ما

أولى ويسر من صلاح الأحوال، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صفوة الأنبياء وسيد الأرسال (1) ، والرضى عمّن له من صحبٍ وأنصار وآل، فإن من المعلوم أن الأدب له بالنفس علاقة تؤديه إلى الاستحسان، وتؤثر من اشتهر به بالملاحظة بلحظ الحظ مع تعاقب الأحيان، ولا خفاء أن أيام مولانا الجد المقدس الغني بالله - تولاّه الله تعالى برضوانه - كانت غرراً في وجوه الأيام، ومواسم تجمع الطّم والرّم من الرؤساء الأعلام، الآخذين بأعنّة الكلام، السابقين في حلبة النثار والنظام، وأن الفقيه الرئيس المدرك، الناظم الناثر أبا عبد الله محمد بن يوسف ابن زمرك، عفا الله تعالى عنه، وحسبك بمن ارتضاه مولانا الجد رحمه الله تعالى لكتابته، وصرّفه في الوجوه المتعددة من رسالته وحجابته، وكان بذلك خليقاً، لما جمع من أدوات الكمال علماً وتحقيقاً، وإدراكاً ونبلاً وفقهاً وأصولاً وفروعاً وأدباً وتحصيلاً، وبياناً وتفسيراً ونظماً وترسيلاً - لما كان قد أخفت الأيام سنا صبحه، وخابت وسائل نصحه، وعادت بعدوانها بعد فوز قدحه، وعثر بين أقدام أقوام لا يعرفون أيّ ذخر فقدوا، ولا أيّ مطلق من تصريفاته الجميلة قيدوا، مستبصرين بالجهل في دياجي غيّهم، معجبين بما ارتكبوه من جياد بغيهم جميعهم يلحظه بمقل دامية، وألفاظ حامية، يصابحونه بأوجهٍ خلت عن الوجاهة سيماها الحسد، وضميرها السخط بما قدره الواحد الصمد: فخرّ على الألاءة لم يوسّد ... كأنّ جبينه سيف صقيل (2) فيا لله من أشلاء هنالك ضائعة، وأعلاق غير مصونة، ووسائل مخفورة، وأذمّة قطعت أرحامها، ولم يرع ذمامها، وعاثت الأيدي الفاتكة حينئذ على بنيه، وارتكبوها شنعاء في أهله وذويه:

_ (1) الأرسال: جمع رسول، وهو غير مألوف. (2) البيت لابن عنمة الضبي في رثاء بسطام بن قيس (الحماسية رقم: 355 من شرح المرزوقي) ؛ والألاءة: الواحدة من شجر الألاء.

هل كان إلاّ حياً تحيا العباد به ... هل كان إلاّ قذىً في عين ذي عور إن قال قولاً ترى الأبصار خاشعةً ... لما يخبّر من وحيٍ ومن أثر يا لهف قلبي لو قد كنت حاضره ... غداة جرّعه أدهى من الصبر لما تركت له شلواً بمضيعة ... ولا تولّى صريع الناب والظّفر وكان ما كان ممّا لست أذكره ... فظنّ خيراً ولا تسأل عن الخبر وإن سأل سائلٌ عن الخبر الذي ألمعنا بذكره، وضمّنّا هذا البيت ذرواً (1) من فظيع أمره، فذلك عندما نسب صاحب الأمر إليه ما راب، وتلّه وابنيه للجبين معفّرين بالتراب، وصدمه في جنح الليل والمصحف بين يديه يتوسل بآياته، ويتشفّع بعظيم بركاته، فأخذته السيوف، وتعاورته الحتوف، وأذهبه سليباً قتيلاً، مصيّراً مصراع منزله كثيباً مهيلاً، وكنا على بعد من هذه الآزفة التي أورثت القلوب شجناً طويلاً، وذكّرتنا بعناية مولانا الجد الغني بالله لجانبه أعظم ذكرى، فأغرينا برثائة خلداً وفكرا، وارتجلنا عند ذكره الآن هذه الأبيات إشارةً مقنعة، وكناية في السلوان مطمعة، وأرضينا بالشفقة أو داءه، وأرغمنا بتأبينه أعداءه، ولما تبلج الصبح لذي عينين، وتلقينا راية الفرج بالراحتين، عطفتنا على أبنائه عواطف الشفقة، وأطلقنا لهم ما عاثت الأيدي عليه صلةً لرحمٍ طالما أضاعها من جهل الأذمّة، وأخفر عهود تخدّمه لمن سلف من الأئمة، وصرفنا للبحث والتفتيش وجوه آمالنا، وجعلنا ضمّ ما نثرته الحوادث من منظوماته من أكيد أعمالنا، وكان تعلّق بمحفوظنا جملة وافرة من كلامه، مشتملة على ما راق وحسن من نثاره ونظامه، فأضفنا ذلك إلى ما وقع عليه اجتهادنا من رقاعه الحائلة المنتهبة بأيدي النوائب، الدائرة المستلبة بتعدي النواصب، فخلص من الجملة قلائد عقيان، وعقود در ومرجان، ترتاح

_ (1) ذرواً طرفاً؛ وفي ق: دراً.

النفوس النفيسة لإنشادها، وتحضر الأبصار والأسماع (1) عند إيرادها، إلى ما يتخللها من تخليد مآثر سلفنا، والإشارة بعظيم ملكنا، فشرعنا في تقييد أوابدها الشاردة، وإحياء رسومها البائدة، كلفاً بالأدب لوضوح فضله، وتأدية لما يجب من رعاية أهله. ولنبدأ بالتعريف بحال هذا الرئيس المنبه عليه، ونظهر ما كنا نضمره من الميل إليه، في كل ما له أو عليه، فنقول: هو الفقيه الكاتب الفذ الأوحد، أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن يوسف الصريحي، ويعرف بابن زمرك. أصله من شرق الأندلس، وسكن سلفه بالبيازين من غرناطة، وبها ولد، فنشأ ضئيلاً كالشهاب يتوقّد، مختصر الجرم والأعين بإطالة فواضله تشهد، ومكتب الفئة القرآنية يؤثره بالجناب الممهد، فاشتغل أول نشأته بطلب العلم والدؤوب على القراءة، وأخذ نفسه بملازمة حلقات التدريس، ولم يبلغ حد وجوب المفترضات إلاّ وهو متحمل الرواية، وملتمس لفوائد الدراية، ومصابح كل يوم أعلام العلوم، ومستمدّ بمصابيح الحدود العلمية والرسوم، فافتتح أبواب الكتب النحوية بالإمام أبي عبد الله ابن الفخار الآية الكبرى في فنّ العربية، وتردد الأعوام العديدة إلى قاضي الجماعة أبي القاسم الشريف فأحسن الإصغاء، وبذ النحاة البلغاء، بما أوجب رثاءه (2) عند الوقوف على ضريحه بالقصيدة الفريدة التي أولها: أغرى سراة الحيّ بالإطراق ... واهتدى في طريق الخطبة ومناهج الصوفية بالخطيب المعظم أبي عبد الله ابن مرزوق الوافد على مولانا الجدّ أبي الحجاج، رضي الله تعالى عنه، في عام ثلاثة

_ (1) الأزهار: وتحسد الأبصار الأسماع؛ ق: وتحصر. (2) ق: أن رثاه.

وخمسين وسبعمائة، وإليه جنح، وإياه قصد عند تغربه إلى المغرب في دولة السلطان أبي سالم، فتوجه بالعمامة التي ارتجل بين يديه فيها: توّجتني بعمامه ... توّجت تاج الكرامه فروض حمدك يزهى ... مني بسجع الحمامه وأخذ علم الأصلين عن الحافظ الناقد أبي علي منصور الزواوي، وبرع في الأدب أثناء الانقطاع وأوّل الطلب لأبي عبد الله ابن الخطيب، ولكن لم يحمد بينهما المآل، واقتدى في العلوم العقلية بالشريف أبي عبد الله التلمساني قدوة الزمان، وحصلت له الإجازة والتحديث بقاضي الجماعة وشيخ الجملة أبي البركات ابن الحاج وبالخطيب البليغ أبي عبد الله اللوشي، وبالخطيب الورع أبي عبد الله ابن بيبش (1) العبدري، رضي الله تعالى عنه وعن جميعهم، وبواجب محافظتنا على عهدهم، إذ نحن وردنا بالإجازة التامة عذب وردهم، وصل سبينا بهم الكثير من شيوخنا مثل الإمام المعظم أبي محمد عبد الله بن جزي، ومعلمنا الثقة المجتهد أبي عبد الله الشريشي، والقاضي الإمام أبي عبد الله محمد بن علي بن علاق، وغيرهم، رحمة الله تعالى عليهم، لذلك صار صدراً في نوادي طلبة الأندلس وأفراد نجبائها، فما شاءه المحاضر يجده في خضله (2) ، ويتلقاه من باهر فضله، فكاهة ومجالسة أنيقة ممتعة ومحادثة أريضة مزهرة، وجواباً مطبقاً للمفصل (3) ، وذهناً سابقاً لإيضاح المشكل، مع انقياد الطبع، وإرسال الدمعة في سبيل الخشوع والرقة، ورشح الجبين عند تلقّي الموعظة، وصون الوجه بجلباب الحياء، ومقابلة الناظر إليه بالاحتشام والمبادرة للاستدعاء، على طهارة وبذل وسع وكرم نفس، لم يعهد أجمعل مشاركة منه لإخوانه، ولا أمتع منه بجاهه، إلى مبالغة في الهشّة

_ (1) ق: بيش. (2) الخضل: اللؤلؤ؛ وفي ق: خصله. (3) هذه رواية ق والأزهار؛ وفي التجارية: شافياً للمعضل.

والمبرّة والإيثار بما منح، وجنوحٍ إلى حبّ الصالحين، وذلك بالانضواء إلى شيخ الفرق الصوفية الولي أبي جعفر ابن الزيات، وأخيه الفاضل الناسك شيخنا أبي مهديّ، قدس الله تعالى مغناه، وسواهما من أهل الاندلس والعدوة، وحمله أشد الحمل على كل ملبّس (1) كأبي زكريا البرغواطي وسواه. ومن تنديراته - زعموا - على أبي الحسن المحروق لميله عنه: ولد الفقر والرباط ولكن ... نفسه للسلوك ذات افتقار وخطب الأدب يافعاً وكهلاً، وحاز علمه إدراكاً ونهلاً، ولما كانت الحادثة على مولانا الجد - رحمه الله تعالى - واجتاز إلى المغرب كما تقرر في غير هذا، كلف به وأنس إليه، لحلاوة منطق ورفع استيحاش ومراوضة خلق، ثمّ كرّ في صحبة ركابه فعلت منزلته ولطف محله. وقفنا على رقعة من رقاعه وهو يبدىء فيها ويعيد، ويقول: خدمته سبعاً وثلاثين سنة: ثلاثاً بالمغرب، وباقيها بالأندلس، أنشدته فيها ستّاً وستين قصيدة في ستة وستين عيداً، وكلّ ما في منازله السعيدة من القصر والرياض والدشار (2) والسبيكة من نظم رائق، ومدح فائق، في القباب والطاقات والطرز وغير ذلك فهو لي، وكنت أواكله وأواكل ابنه مولاي أبا الحجاج، وهما كبيراً ملوك أهل الأرض، وهنأته بكذا وكذا قصيدة، وفوّض لي في عقد الصلح بين الملوك بالعدوتين، وصلح النصارى عقدته تسع مرات، ألخسّة فوّض إليّ ذلك قلنا: صدق في جميع ما ذكره، والعقود بذلك شاهدة له. وخصّه عام ثلاثة وسبعين بكتابة سره، واستعمله بعد أعوام في السفارة بينه وبين ملوك عصره، فحمد منابه، ونمت أحواله ورغد جنابه، وكان هنالك بعض تقوّلات تشين

_ (1) ملبس: مخلط؛ وفي الأزهار وق: متلبس. (2) الدشار: القرية أو الكفر، والجمع دشر ودشائر.

وجه اجتهاده، وتومىء بما احتقبه من سوء مقاصده وماصرفه من قبيح أغراضه، وهاجت الفتنة، فكانت سفارته أعظم أسبابها. وعند الأشدّ من عمره عرضت لأفكاره تقلبات، وأقعدته عن قداح السياسة آفات مختلفات، وأشعرته حدة ذهنه أن يتخبط (1) في أشراك وقعات، فقعد بجامع مالقة ثمّ بمسجد الحمراء ملقياً على الكرسي فنوناً جمة، وعلوماً لم يزل يتلقاها عن أولياء التعظيم والتجلة، فانحاز إلى مادة (2) أمم بمالقة طما منهم البحر، وتراءى لأبصارهم وبصائرهم الفخر، وكان التفسير أغلب عليه لفرط ذكائه، وما كان قيده وحصله أيام قراءته وإقرائه، فما شئت من بيان، وإعجاز قرآن، وآيات توحيد وإخلاص، ومناهج صوفية تؤذن بالخلاص، يوم الأخذ بالنواص، ومراراً عدة سمع ما يلقيه وليّ الأمر، ويا شدة البلوى التي أذاقه مرّها، وأمطاه إلى طيّة الهلاك ظهرها، ويا قرب ما كان الفوت، والحسام الصّلت، من متباعد هذه القرب التي ألغيت (3) . قلنا: لقد جمح جواد القلم فأطلقنا (4) ونحن نشير إلى هذا الرئيس (5) وتبدل طباعه، بعد انقضاء أعوام شاهدة باضطلاعه، وإحراز شيم أدت إلى علوّ مقداره، واستقامة مداره، فآل عمر مولانا جدنا إلى النفاد، ورمت رئيس كتّابه هذا أسهم الحساد، فظهر الخفيّ، وسقط به الليل على سرحان، وقد طالما جرّب الوفيّ والصفيّ. وكان من شأنه الاستخفاف بأولياء الأمر من حجّاب الدولة، والاسترسال في الرد عليهم بالطبع والجبلّة، مع الاستغراق في غمار الفتن أندلساً وغرباً، ومراعاة حظوظ نفسه استيلاء وغصباً، أما الجراءة فانتضى سيوفها،

_ (1) الأزهار: أنه متخبط. (2) ق: مائدة. (3) الأزهار: من تباعد ... ألقيت. (4) يعني أطلقنا له العنان. (5) ق: الرائس؛ حيثما وقعت.

وأما إكفاء السماء على الأرض فقواصم نوّع صنوفها، وأما المجاهرة فوقف بميدان الاعتراض صفوفها، وأما المجاملة فنكّر معروفها، أداه هذا النبأ العظيم إلى سكنى المعتقل بقصبة المرية، وعلى الأثر كان الفرج قريباً، وسطور المؤاخذة قد أوسعها العفو تضريباً، ونالته هذه المحنة عند وفاة مولانا الجد الغني بالله، وكانت وفاته غرة شهر صفر عام ثلاثة وتسعين وسبعمائة، لأسباب يطول شرحها أظهرها شراسة في لسانه، واغترار بمكانه، وتضريب بين خدام السلطان وأعوانه، فكبا لليدين والفم، إلى أن منّ الله تعالى بسراحه، وأعاده إلى الحضرة في أول شهر رمضان المعظم من عام أربعة وتسعين وسبعمائة، فكان ما كان من وفاة مولانا الوالد رحمه الله تعالى، وقيام أخينا محمد مقامه بالأمر، فاستمر الحال أياماً قلائل، وقدم للكتابة الفقيه ابن عاصم لمدة من عام، ثمّ أعاد المذكور إلى خطته وقد دمثت بعض أخلاقه، وخمدت شراسته وحلا بعض مذاقه، فما كان إلاّ كلا وليت وإذا به قد ساء مشهداً وغيباً، وأوسع الضمائر شكاً وريباً، وغلبت الإحنُ عليه، وغلت مراجلها لديه، فصار يتقلب على جمر الغضا، ويتبرّم بالقضا، ويظهر النصح وفي طيّه التشفّي، ويسم نفسه بالصلاح، ويعلن بالخشوع، ويشير بأنّه الناصح الأمين، ويتلو قوله تعالى " ولكن لا تحبّون الناصحين " الأعراف: 79 ورتب على المشتغلين كبيرهم وصغيرهم ذنوباً لم يقترفوها، ونسب إليهم نسباً من التضييع لم يعرفوها، وأنهم احتجنوا الأموال، وأساءوا الأعمال والأقوال، فلم يظفر من ذلك بكبير طائل، ولا حصل على تفاوت أعداده على حاصل، هذا على قلة معرفته بتلك الطريقة الاشتغالية، وعدم اضطلاعه بالأمور الجبائية، فمن نفس يروّع سربها، ويكدر بالامتحان والامتهان شربها، ومن ضارعة خاشعة لله تعالى سلبت، وطولبت بغير ما اكتسبت، وتعدت الأيدي إلى أقوام جلّة سعدوا بشقائه، وامتخنوا وهم المبرّأون من تزويره واعتدائه، وسيسألون يوم لا يغني مال ولا بنون.

وصار يصرف أغراضه، ويظهر أحقاده، بين إفصاح بما كان الإعجام خيراً من إلقائه، وإن عمر المسكين المستضعف لا حاجة في طول بقائه، إلى مجاهرة عهد منه أيام شبيبته نقيضها، وانعكس في شاخته تصريحها المنغص وتعريضها، لا يريح نفسه من جهد، ولا يقف من اللجلجة عند حد، وقد كان ثقل سمعه فساءت إجابته، وطغت أخلاقه فسئم الناس وساطته، وربما استحلف فلم يكن بين اللازمة واللازمة إلاّ الحنث عن قصد وغير قصد، ودعا على نفسه وأبنائه بإنجاز وعد، وأن يقيض الله له ولهم قاتل عمد، فسبحان القاهر فوق عباده، الرحيم بهذا الشخص وبالأموات من شيعته وأولاده، فاستمرّ على ذلك إلى إحدى الليالي، فهلك في جنح الليل في جوف داره على يد مخدومه، تلقّاه - زعموا - عند الدخول عليه، وهو بالمصحف رافع يديه (1) ، فجدلته السيوف، وتناولته الحتوف، فقضي عليه، وعلى من وجد من خدامه وابنيه، كل ذلك بمرأى عين من أهله وبناته، ولم يتقوا الله فيه حقّ تقاته، فكانت أنكى الفجائع، وأفظع الوقائع، وساءت القالة، وعظم المصاب، وكل شيء إلى أجل نافذ وكتاب. انتهى كلام ابن الأحمر في مقدمة كتابه (2) . وقد اطلعت منه على تصاريف أحوال ابن زمرك، وقتله على الوجه الذي يعلم منه أن ثأر لسان الدين ابن الخطيب لديه لا يترك، بل قتلته أفظع من قتلة لسان الدين، لأن هذا قتل بين عياله وأهله، وقتل معه ابناه ومن وجد من خدمه، ولسان الدين رحمه الله تعالى خنق بمفرده، وعند الله تجتمع الخصوم، وهو العفوّ الغفور. وقد فهم من مضمون ما سبق أن قتل ابن زمرك بعد عام خمسة وتسعين وسبعمائة، ولم أقف من أمره على غير ما تقدم.

_ (1) ق: رافعاً به. (2) سمى هذا الكتاب " البقية والمدرك من شعر ابن زمرك ".

ولا بأس أن نلم بشيء من نظمه البارع ممّا كنت انتقيته بالمغرب من تأليف ابن الأحمر المذكور، وأوردت كثيراً منه في أزهار الرياض. فمن ذلك قوله في ذكر غرناطة العلية، وتهنئة سلطانه الغني بالله ببعض المواسم العيدية، ووصف كرائم جياده، وآثار ملكه وجهاده: يا من يحنّ إلى نجد وناديها ... غرناطة قد ثوت نجد بواديها قف بالسبيكة وانظر ما بساحتها ... عقيلة والكثيب الفرد جاليها (1) تقلّدت بوشاح النهر وابتسمت ... أزهارها وهي حليٌ في تراقيها وأعين النرجس المطلول يانعة ... ترقرق الطلّ دمعاً في مآقيها وافترّ ثغر أقاحٍ من أزاهرها ... مقبّلاً خدّ ورد من نواحيها كأنّما الزهر في حافاتها سحراً ... دراهم والنسيم اللّدن يجبيها وانظر إلى الدّوح والأنهار تكنفها ... مثل الندامى سواقيها سواقيها كم حولها من بدورٍ تجتني زهراً ... فتحسب الزهر قد قبّلن أيديها حصباؤها لؤلؤ قد شفّ جوهرها ... والنهر قد سال ذوباً من لآليها نهر المجرّة والزّهر المطيف به ... زهر النجوم إذا ما شئت تشبيها يزيد حسناً على نهر المجرّة قد ... أغناه درّ حباب عن دراريها يدعى المنجّم راثيه وناظره ... مسميّات أبانتها أساميها إن الحجاز مغانيه بأندلس ... ألفاظها طابقت منها معانيها فتلك نجد سقاها كلّ منسجمٍ ... من الغمام يحيّيها فيحييها وبارق وعذيب كل مبتسم ... من الثغور يجلّيها مجلّيها وإن أردت ترى وادي العقيق فرد ... دموع عشاقها حمراً جواريها وللسبيكة تاج فوق مفرقها ... تودّ درّ الدراري لو تحلّيها

_ (1) حين عدد لسان الدين البساتين والمتنزهات في غرناطة قال: " ومدرج نجد السبيكة وجنة العريف " وتقع السبيكة إلى الجنوب الشرقي من الحمراء.

فإنّ حمراءها والله يكلؤها ... ياقوتة فوق ذاك التاج يعليها إنّ البدور لتيجان مكلّلة ... جواهر الشهب في أبهى مجاليها لكنّها حسدت تاج السبيكة إذ ... رأت أزاهره زهراً يجلّيها بروجها لبروج الأفق مخجلة ... فشهبها في جمالٍ لا تضاهيها تلك القصور التي راقت مظاهرها ... تهوي النجوم قصوراً عن معاليها لله لله عينا من رأى سحراً ... تلك المنارة قد رقّت حواشيها والصبح في الشرق قد لاحت بشائره ... والشهب تستنّ سبقاً في مجاريها تهوي إلى الغرب لمّا غالها سحر ... وغمّض الفجر من أجفان واشيها وساجع العود في كف النديم إذا ما استوقفت ساجعات الطير يغريها (1) يبدي أفانين سحرٍ في ترنّمه ... يصبي العقول بها حسناً ويسبيها يجسّه ناعم الأطراف تحسبها ... لآلئاً وهي نورٌ في تلاليها مقاتلٌ بلحاظ قوس حاجبها ... ترمي القلوب بها عمداً فتصميها فباكر الروض والأغصان ماثلة ... يثني النفوس لها شوقاً تثنّيها لم يرقص الدوح بالأكمام من طربٍ ... حتى شدا من قيان الطير شاديها وأسمعتها فنون السحر مبدعة ... ورق الحمام وغنّاها مغنّيها غرناطة آنس الرحمن ساكنها ... باحت بسرّ معانيها أغانيها أعدى نسيمهم لطفاً نفوسهم ... فرقّة الطبع طبعٌ منه يعديها فخلّدَ الله أيام السرور بها ... صفراً عشيّاتها بيضاً لياليها وروّض المحل منها كلّ منبجسٍ ... إذا اشتكت بغليل الجدب يرويها يحكي الخليفة كفّاً كلّما وكفت ... بالجود فوق موات الأرض يحييها تغنى العفاة وقد أمّت مكارمه ... عن السؤال وبالإحسان يغنيها

_ (1) هذه رواية ق والأزهار؛ وفي التجارية: ما استوقف الطير يدنيها ويقريها.

لها بنانٌ فلا غيث يساجلها ... جوداً ولا سحبه يوماً تدانيها فإن تصب سحبه بالماء حين همت ... بعسجد ولجين صاب هاميها يا أيها الغيث أنت الغوث في زمنٍ ... ملوكه تلفت لولا تلافيها إنّ الرعايا جزاك الله صالحةً ... ملكت شرقاً وغرباً من يراعيها إن الخلائق في الأقطار أجمعها ... سوائم أنت في التحقيق راعيها فكل مصلحة للخلق تحكمها ... وكل صالحةٍ في الدين تنويها إذا تيممت أرضاً وهي مجدبة ... فرحمة الله بالسقيا تحييّها يا رحمةً بثّت الرحمى بأندلسٍ ... لولاك زلزلت الدنيا بمن فيها في فضل جودك قد عاشت مشيختها ... في ظل أمنك قد نامت ذراريها في طول عمرك يرجو الله آملها ... بنصر ملكك يدعو الله داعيها عوائد الله قد عوّدت أفضلها ... لتبلغ الخلق ما شاءت أمانيها سلّ السعود وخلّ البيض مغمدةً ... واضرب بها فرية التثليث تفريها لله أيّامك الغرّ التي اطردت ... فيها السعود بما ترضى ويرضيها لله دولتك الغراء إنّ لها ... لكافلاً من إله العرش يكفيها هيهات أن تبلغ الأعداء مأربةً ... في جريها وجنود الله تحميها هذي سيوفك في الأجفان نائمة ... والمشركون سيوف الله تفنيها سريرة لك في الإخلاص قد عرفت ... حسنى عواقبها حتى أعاديها لم يحجب الصبح شهب الأفق عن بصرٍ (1) ... إلاّ وهديك للأبصار يبديها يا ابن الملوك وأبناء الملوك إذا ... تدعو الملوك إلى طوعٍ تلبّيها أبناء نصرٍ ملوك عزّ نصرهم ... وأوسعوا الخلق تنويهاً وترفيها هم المصابيح نور الله موقدها ... تضيء للدين والدنيا مشاكيها هم النجوم وأفق الهدي مطلعها ... فوزاً لمهديّها عزّاً لهاديها

_ (1) الأزهار: لم تحتجب شهب الآفاق عن بصر.

هم البدور، كمالٌ ما يفارقها ... هم الشموس، ظلامٌ لا يواريها قضت قواضبها أن لا انقضاء لها ... وأمضت الحكم في الأعدا مواضيها وخلّدت في صفاح الهند سيرتها ... وأسندت عن عواليها معاليها وأورثتك جهاداً أنت ناصره ... والأجر منك يرضّيها ويحظيها كم موقف ترهب الأعداء موقعه ... والخيل تردي ووقع السّمر يرديها ثارت عجاجته واليوم محتجب ... والنقع يؤثر غيماً من دياجيها وللأسنّة شهبٌ كلما غربت ... في الدارعين تجلّت من عواليها وللسيوف بروق كلما لمعت ... تزجي الدماء وريح النصر يزجيها أطلعت وجهاً تريك الشمس غرته ... تبارك الله ما شمسٌ تساميها من أين للشمس نطقٌ كله حكمٌ ... يفيدها كلّ حين منك مبديها لك الجياد إذا تجري سوابقها ... فللرياح جيادٌ ما تجاريها إذا انبرت يوم سبق في أعنّتها ... ترى البروق طلاحاً لا تباريها من أشهبٍ قد بدا صبحاً تراع له ... شهب السماء فإنّ الصبح يخفيها إلاّ التي في لجامٍ منه قيّدها ... فإنّه سامها عزّاً وتنويها أو أشقرٍ مرّ عن (1) شقر البروق وقد ... أبقى لها شفقاً في الجوّ تنبيهاً أو أحمرٍ جمره في الحرب متّقدٌ ... يعلو لها شرر من بأس مذكيها لون العقيق وقد سال العقيق دماً ... بعطفه من كماةٍ كرّ يدميها أو أدهم ملء (2) صدر الليل تنعله ... أهلّة فوق وجه الأرض يبديها إن حارت الشهب ليلاً في مقلّدة ... فصبح غرّته بالنور يهديها أو أصفر بالعشيّات ارتدى مرحاً ... وعرفه بتمادي الليل ينبيها (3)

_ (1) هكذا في ق؛ وفي التجارية: مرعب، ولا معنى له؛ ق: تنسيها. (2) الأزهار: مثل. (3) ق: ينميها.

مموّه بنضارٍ تاه من عجبٍ ... فليس يعدم تنويهاً ولا تيها وربّ نهر حسام رقّ رائقه ... متى ترده نفوس الكفر يرديها تجري الرؤوس حباباً فوق صفحته ... وما جرى غير أنّ البأس يجريها وذابل من دم الكفّار مشربُهُ ... يجني الفتوح وكفّ النصر تجنيها وكم هلالٍ لقوس كلما نبضت ... ترى النجوم رجوماً في مراميها أئمّة الكفر ما يمّمت ساحتها ... إلاّ وقد زلزلت قسراً صياصيها يا دولة النصر هل من مبلغٍ دولاً ... مضين أنّك تحييها وتنسيها أو مبلغٍ سالف الأنصار مألُكةً ... والله بالخلد في الفردوس يجزيها أنّ الخلافة أعلى الله مظهرها ... أبقت لنا شرفاً والله يبقيها يا ابن الذين لهم في كلّ مكرمةٍ ... مفاخرٌ ولسان الدهر يمليها أنصار خير الورى، مختار هجرته ... جيران روضته، أكرم بأهليها سمّتهم الملّة السّمْحاء تكرمةً ... أنصارها، وبهم عزّت أواليها ففي حنين وفي بدر وفي أحدٍ ... تلفي مفاخرهم مشهورة فيها ولتسأل السّير المرفوع مسندها ... فعن مواقفهم تروى مغازيها مآثرٌ خلّد الرحمن أثرتها ... ينصّها من كتاب الله قاريها ماذا يجيد بليغ أو ينمّقه ... من الكلام ووحي الله تاليها له الجهاد به تسري الرياح إلى ... ممالك الأرض من شتى أقاصيها تحدى الركاب إلى البيت العتيق به ... فمكّة عمرت منه نواديها بشائر تسمع الدنيا وساكنها ... إذا دعا باسمك الأعلى مناديها كفى خلافتك الغراء منقبةً ... أنّ الإله يوالي من يواليها وقد أفاد بنيه الدهر تجربةً ... أنّ السّعود تعادي من يعاديها إذا رميت سهام العزم صائبةً ... فما رميت، بل التوفيق راميها شكراً لمن عظمت منّا مواهبه ... وإن تعدّ فليس العد يحصيها

عمّا قريب ترى الأعياد مقبلة ... من الفتوح ووفد النصر حاديها وتبلغ الغاية القصوى بشائرها ... فقد أظلّت بما ترضى مباديها فاهنأ بما شئت من صنعٍ تسرّ به ... وانو الأمانيّ فالأقدار تدنيها مولاي خذها كما شاءت بلاغتها ... ولو تباع لكان الحسن يشريها أرسلتها حيثما الأرواح مرسلة ... نوادراً تنشر البشرى أماليها جاءت تهنّيك عيد الفطر معجبة ... بحسنها ولسان الصدق يطريها البشر في وجهها، واليمن في يدها ... والسحر في لفظها، والدر في فيها لو رصّع البدر منها تاج مفرقه ... لم يرض درّ الدراري أن تحلّيها فإن تكن بنت فكري وهو أوجدها ... نعماك في حجره كانت تربيها في روض جودك قد طوّقتني منناً ... طوق الحمام فما سجعي موفّيها ولو أعرت لسان الدهر يشكرها ... لكان يقصر عن شكر يوفّيها بقيت للدين والدّنيا إمام هدىً ... مبلّغ النّفس ما ترجو أمانيها والسعد يجري لغايات تؤمّلها ... ما دامت الشّهب تجري في مجاريها وقال رحمه الله تعالى شاكراً لنعمٍ وصلته من المذكور في عاشوراء: مولاي يا ابن السابقين إلى العلا ... والرافعين لواءها المنشورا إن لوحظوا في المعلوات فإنهم ... طلعوا بآفاق العلاء بدورا أو فوخروا في المكرمات فإنهم ... نظموا بأسلاك الفخار شذورا أبناء أنصار النّبيّ وصحبه ... في الذكر أصبح فخرهم مذكورا والمؤثرين، وربّنا أثنى بها ... في الحشر خلّد وصفهم مسطورا (1) فاضت علينا من نداك غمائم ... وتفجّرت من راحتيك بحورا من كفّ شفّاف الضياء تخاله ... لصفاء جوهره تجسّد نورا

_ (1) يشير غلى الاية الكريمة في الأنصار " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ".

نعمٌ منوّعةٌ تعدّد وفرها ... أعجزت عنها شكري الموفورا في موسمٍ للدين قد جدّدته ... وأقمت فينا عيده المشهورا أضعاف ما أهديتنا من منّة ... تُهدي إليك ثوابها عاشورا وعلى الطريق بشائر محمودة ... ألقاك جذلاناً بها مسرورا وقال يصف زهر القرنفل الصعب الاجتناء بجبل الفتح، وقد وقع له السلطان الغني بالله المذكور بذلك، فارتجل قطعاً منها: أتوني بنوّارٍ يروق نضارة ... كخدّ الذي أهوى وطيب تنفّسه وجاءوا به من شاهقٍ متمنّعٍ ... تمنع ذاك الظبي في ظلّ مكنسه رعى الله مني عاشقاً متقنعاً ... بزهرٍ حكى في الحسن خدّ مؤنسه وإن هبّ خفّاق النسيم بنفحةٍ ... حكت عرفه طيباً قضى بتأنسه ومنها: رعى الله زهراً ينتمي لقرنفلٍ ... حكى عرف من أهوى وإشراق خدّه ومنبته في شاهقٍ متمنّعٍ ... كما امتنع المحبوب في تيه صدّه أميل إذا الأغصان مالت بروضةٍ ... أعانق منها القضب شوقاً لقدّه وأهفو لخفّاق النّسيم إذا سرى ... وأهوى أريج الطيب من عرف ندّه ومنها: يقرّ بعيني أن أرى الزهر يانعاً ... وقد نازع المحبوب في الحسن وصفه وما أبصرت عيني كزهر قرنفٍ ... حكى خدّ من يسبي الفؤاد وعرفه تمنّع في أعلى الهضاب لمجتنٍ ... تمنّعه منّي إذا رمت إلفه وفي جبل الفتح اجتنوه تفاؤلاً ... بفتحٍ لباب الوصل يمنح عطفه وما ضرّ ذاك الغصن وهو مرنّح ... إذا ما ثنى نحو المتيّم عطفه

قال ابن الأحمر في الكتاب المذكور فيما مر: ومن القصائد التي يود الصبح سناها، والنسيم اللدن رقة معناها، يهنىء مولانا الجد رضي الله تعالى عنه عند وصول خالصة مقامه، وكبير خدامه، القائد خالد رحمه الله تعالى من تلمسان بالهدية، وتجديد المقاصد الودّيّة، ووافق استئناف (1) راحة من الذات العلية، ومن بعض فروع دوحتها (2) الزكية: أدرها ثلاثاً من لحاظك واحبس ... فقد غال منها السكر أبناء مجلس إذا ما نهاني الشيب عن أكؤس الطلا ... تدير عليّ الخمر منها بأكؤس عذيري من لحظِ ضعيفٍ وقد غدا ... يحكّم منّا في جسومٍ وأنفس وروض شاب ماس غصن قوامه ... وفتح فيه اللحظ أزهار نرجس وما زال ورد الخدّ وهو مضعّف ... يعير أقاح الثغر طيب تنفس وكم جال طرف الطّرف في روض حسنه ... يقيّده فيه العذار بسندس أما وليالي الوصل في روضة الصّبا ... ومألف أحبابي وعهد تأنّسي لئن نسيت تلك العهود أحبتي ... فقلبي عهد العامريّة ما نسي وحاشا لنفسي بعدما افترّ فودها ... من الشيب عن صبحٍ به متنفس وألبسها ثوب الوقار خليفة ... به لبس الإسلام أشرف ملبس وجدّد للفتح المبين مواسماً ... أقام بها الإيمان أفراح معرس وأورثه العلياء كل خليفة ... نماه إلى الأنصار كلّ مقدّس فيا زاجر الأظعان وهي ضوامرٌ ... بغير الفلا والوحش لم تتأنّس إذا جئت من دار الغنيّ بربّه ... مناخ العلا والعزّ فاعقل وعرّس فإن شئت من بحر السماحة فاغترف ... وإن شئت من نور الهداية فاقبس

_ (1) ق: استباق. (2) ق: دوحتنا.

أمولاي إنّ السعد منك لآيةٌ (1) ... أنارت بها الأكوان جذوة مقبس إذا شئت أن ترمي القصيّ من المنى ... تدور لك الأفلاك مرفوعة القسي فترمي بسهم من سعودك صائب ... سديد لأغراض الأماني مقرطس أهنيك بالإبلال ممّن شفاؤه ... شفاؤك فاشكر من تلافى وقدّس ودعني أرد يمناك فهي غمامة ... تبخّل صوب العارض المتبجّس أقبّل منها راحةً إثر راحةٍ ... أتتك بها الركبان من بيت مقدس ومن نسب الفتح المبين ولادة ... إليه بغير الفخر لم يتأسّس فيا أيها المولى الذي بكماله ... خلائف هذا العصر في الفخر تأتسي لآمنت موسى من عوادي سميّه ... ولولاك لم يبرح بخيفة موجس بعثت بميمون النقيبة في اسمه ... خلود لعزّ ثابتٍ متأسّس فجاءك بالمال العريض هديّةً ... بها الدين أثواب المسرّة يكتسي وشفّعها بالصافنات كأنّها ... وقد راق مرآها جآذر مكنس تنص من الإشراف جيد غزالةٍ ... وترنو من الإيجاس عن لحظ أشوس لك الخير موسى مثل موسى، كلاهما ... بغير شعار الودّ لم يتلبّس فلا زلت في ظلّ النّعيم وكلّ من ... يعاديك لا ينفك يشقى بأبؤس عليك سلام مثل حمدك عاطرٌ ... تنفّس وجه الصبح عنه بمعطس وقال في مولد عام سبعة وستين وسبعمائة وألمّ في أخرياتها بوصف المشور الأسنى، الرفيع المبنى: زار الخيال بأيمن الزوراء ... فجلا سناه غياهب الظّلماء وسرى مع النسمات يسحب ذيله ... فأتت تنمّ بعنبر وكباء هذا وما شيء ألذّ من المنى ... إلاّ زيارته مع الإغفاء

_ (1) الأزهار: أمولاي وإلى السعد منك ولاية.

بتنا خيّالين التحفنا بالضنى ... والسقم ما نخشى من الرقباء حتى أفاق الصبح من غمراته ... وتجاذبت أيدي النّسيم ردائي يا سائلي عن سرّ من أحببته ... السر عندي ميّت الأحياء تالله لا أشكو الصبابة والهوى ... لسوى الأحبة أو أموت بدائي يا دين قلبي لست أبرح عانياً ... أرضي بسقمي في الهوى وعنائي أبكي وما غير النجيع مدامع ... أذكي، ولا ضرم سوى أحشائي أهفو إذا تهفو البروق، وأنثني ... لسرى النواسم من رُبى تيماء بالله يا نفس الحمى رفقاً بمن ... أغريته بتنفّس الصّعداء عجباً له يندى على كبدي وقد ... أذكى بقلبي جمرة البرحاء يا ساكني البطحاء أيّ إبانة ... لي عندكم يا ساكني البطحاء أترى النوى يوماً تخيب قداحها ... ويفوز قدحي منكم بلقاء في حيّكم قمرٌ فؤادي أفقه ... تفديه نفسي من قريب نائي لم تنسني الأيام يوم وداعه ... والركب قد أوفى على الزّوراء أبكي ويبسم والمحاسن تجتلي ... فعلقت بين تبسمٍ وبكاء يا نظرة جاذبته (1) أيدي النّوى ... حتى استهلّت أدمعي بدماء من لي بثانيةٍ تنادي بالأسى ... " قدك اتّئد أسرفت في الغلواء " (2) ولربّ ليل بالوصال قطعته ... أجلو دجاه بأوجه الندماء أنسيت فيه القلب عادة حلمه ... وحثثت فيه أكؤس السرّاء وجريت في طلق التصابي جامحاً ... لا أنثني لمقادة النصحاء أطوي شبابي للمشيب مراحلاً ... برواحل الإصباح والإمساء

_ (1) الأزهار: جادت بها. (2) صدر بيت لأبي تمام؛ وتمامه: " كم تعذلون وأنتم سجرائي " ورواية الديوان: أربيت في الغلواء.

يا ليت شعري هل أرى أطوي إلى ... قبر الرسول صحائف البيداء فتطيب في تلك الربوع مدائحي ... ويطول في ذاك المقام ثوائي حيث النبوّة نورها متألّقٌ ... كالشمس تزهي في سناً وسناء حيث الرسالة في ثنيّة قدسها ... رفعت لهدي الخلق خير لواء حيث الضريح ضريح أكرم مرسلٍ ... فخر الوجود وشافع الشفعاء المصطفى والمرتضى والمجتبى ... والمنتقى من عنصر العلياء خير البريّة مجتباها ذخرها ... ظلّ الإله الوارف الأفياء تاج الرسالة ختمها وقوامها ... وعمادها السامي على النّظراء لولاه للأفلاك ما لاحت بها ... شهب تنير دياجي الظّلماء ذو المعجزات الغرّ والآي الألى ... أكبرن عن عدّ وعن إحصاء وكفاك ردّ الشمس بعد مغيبها ... وكفاك ما قد جاء في الإسراء والبدر شقّ له وكم من آيةٍ ... كأنامل جاءت (1) بنبع الماء وبليلة الميلاد كم من رحمةٍ ... نشر الإله بها ومن نعماء قد بشر الرسل الكرام ببعثه ... وتقدّم الكهّان بالأنباء أكرم بها بشرى على قدم سرت ... في الكون كالأرواح في الأعضاء أمسى بها الإسلام يشرق نوره ... والكفر أصبح فاحم الأرجاء هو آية الله التي أنوارها ... تجلو ظلام الشّكّ أيّ جلاء والشمس لا تخفى مزيّة فضلها ... إلاّ على ذي المقلة العمياء يا مصطفى والكون لم تعلق به ... من بعد أيدي الخلق والإنشاء يا مظهر الحقّ الجليّ ومطلع ال ... نور السنيّ السّاطع الأضواء يا ملجأ الخلق المشفّع فيهم ... يا رحمة الأموات والأحياء يا آسي المرضى ومنتجع الرضى ... ومواسي الأيتام والضعفاء

_ (1) الأزهار: جادت.

أشكو إليك وأنت خير مؤمّل ... داء الذنوب وفي يديك دوائي إنّي مددت يدي إليك تضرّعاً ... حاشا وكلاّ أن يخيب رجائي إن كنت لم أخلص إليك فإنّما ... خلصت إليك محبتي وندائي وبسعد مولاي الإمام محمّدٍ ... تعد الأماني أن يتاح لقائي ظلّ الإله على البلاد وأهلها ... فخر الملوك السادة الخلفاء غوث العباد وليث مشتجر القنا ... يوم الطعان وفارج الغمّاء كالدّهر في سطواته وسماحه ... تجري صباه بزعزعٍ ورخاء رقّت شجاياه وراقت مجتلى ... كالنّهر وسط الروضة الغنّاء (1) كالزهر في إبراقه، والبدر في ... إشراقه، والزّهر في لألاء يا ابن الألى إجمالهم وجمالهم ... فلق الصباح وواكف الأنواء أنصار دين الله حزب رسوله ... والسّابقون بحلبة العلياء يا ابن الخلائف من بني نصرٍ ومن ... حاطوا ذمار الملّة السّمحاء من كلّ من تقف الملوك ببابه ... يستمطرون سحائب النعماء قوم إذا قادوا الجيوش إلى الوغى ... فالرعب رائدهم إلى الأعداء والعز مجلوب بكلّ كتيبةٍ ... والنصر معقود بكلّ لواء يا وارثاً عنها مناقبها التي ... تسمو مراقيها على الجوزاء يا فخر أندلس وعصمة أهلها ... يجزيك عنها الله خير جزاء كم خضت طوع صلاحها من مهمه ... لا تهتدي فيه القطا للماء تهدي بها حادي السرى بعزائمٍ ... تهدي نجوم الأفق فضل ضياء فارفع لواء الفخر غير مدافعٍ ... واسحب ذيول العزة القعساء واهنأ بمبناك السعيد فإنّه ... كهف ليوم مشورة وعطاء

_ (1) الأزهار: الفيحاء.

لله منه هالة قد أصبحت ... حرم العفاة ومصرع الأعداء تنتابها طير الرجاء فتجتني ... ثمر المنى من دوحة الآلاء لله منه قبة مرفوعة ... دون السماء تفوت لحظ الرائي راقت بدائع وشيها فكأنها ... وشيُ الربيع بمسقط الأنداء عظّمت ميلاد النبيّ محمّد ... وشفعته باللّيلة الغرّاء أحييت ليلك ساهراً فأفدتنا ... قوت القلوب بذلك الإحياء (1) يا أيها الملك الهمام المجتبى ... فاتت علاك مدارك العقلاء من لي بأن أحصي مناقبك التي ... ضاقت بهنّ مذاهب الفصحاء وإليك مني (2) روضةً مطلولةً ... أرجت أزاهرها بطيب ثناء فافسح لها أكناف صفحك إنها ... بكر أتت تمشي على استحياء قال ابن الأحمر: ومن إعذاريات ابن زمرك المحكمة نسقاً ورصفاً، المتناهية في كل فن حسن تحلية غريبة ووصفاً - حسبما اقتضته ملاحظة النسبة الرفيعة مولانا رحمة الله تعالى عليه واحتفاله المناسب لعز ملكه من تعميم الخلق بالجفلى في دعواهم، واستدعاء أشراف الأمم من أهل المغرب وسواهم، تفنناً في مكارم متعددة أيامها عن أصالة المجد معربة، وإغراء لهمم الملك بما لتتميم الأنس من أوضاع مغرية، ومباهاة بعرض الجيوش والكتائب للعدو الكافر، وتكاثراً من مماليك دولته بالعدد الوافر، ممّا ألجم اللسن الذكي عيّاً، وغادر الإعذار الذنّونّي منسيّاً، كافأ الله سبحانه أبوّته المولوية عنّا وعن آبائنا، وتلقى بالقبول الكفيل بتجديد الرضوان ما يصل له من خالص دعائنا، إنه منعم جواد - قوله في الصنيع المختص من ذلك بمولانا الوالد قدّس الله تعالى روحه، وذلك سنة أربع وستين وسبعمائة:

_ (1) ورى هنا بكتابي " قوت القلوب " و " إحياء علوم الدين ". (2) ق: منها؛ يعني القصيدة.

معاذ الهوى أن أصحب القلب ساليا ... القصيدة، وقد تقدمت بتمامها فراجعها. ثمّ قال: ومن ذلك ما أنشد في الصنيع الثاني المخصوص بعمينا السيدين الأميرين سعد ونصر، رحمة الله تعالى عليهما، وأجاد في وصف الجند والجرد والطلبة وغرائب الأوضاع: أللمحةٍ من بارق متبسّم ... أرسلته دمعاً تضرّج بالدم وللمحةٍ تهفو ببانات اللوى ... يهفو فؤادك عن جوانح مغرم هي عادة عذرية من يوم أن ... خلق الهوى تعتاد كلّ متيّم قد كنت أعذل ذا الهوى من قبل أن ... أدري الهوى، واليوم أعذل لوّمي كم زفرة بين الجوانح ما ارتقت ... حذر الرقيب ومدمع لم يسجم إن كان واشي الدمع قد كتم الهوى ... هيهات واشي السقم لمّا يكتم ولقد أجدّ هواي رسم دارس ... قد كاد يخفي عن خفيّ توهّم وذكرت عهداً في حماه قد انقضى ... فأطلت فيه تردّدي وتلوّمي ولربما أشجى فؤادي عنده ... ورقاء تنفث شجوها بترنّم لا أجدب الله الطلول فطالما ... أشجى الفصيح بها بكاء الأعجم يا زاجر الأظعان يحفزها السرى ... قف بي عليها وقفة المتلوّم لترى دموع العاشقين برسمها ... حمراً كحاشية الرداء المعلم دمنٌ عهدت بها الشبيبة والهوى ... سقياً لها ولعهدها المتقدّم وكتيبة للشوق قد جهّزتها ... أغزو بها السّلوان غزو مصمّم ورفعت فيها القلب بنداً خافقاً ... وأريت للعشاق فضل تهمّمي فأنا الذي شاب الحماسة بالهوى ... لكنّ من أهواه ضايق مقدمي فطعنت من قدّ القوام بأسمر ... ورميت من غنج اللحاظ بأسهم

يا قاتل الله الجفون فإنها ... مهما رمت لم تخط شاكلة الرمي ظلمت قتيل الحبّ ثمّ تبيّنت ... للسّقم فيها فترة المتظلّم يا ظبيةً سنحت بأكناف الحمى ... سقي الحمى صوب الغمام المسجم ما ضرّ إذ أرسلت نظرة فاتك ... أن لو عطفت بنظرة المترحّم فرأيت جسماً قد أصيب فؤاده ... من مقلتيك وأنت لم تتأثّمي ولقد خشيت بأن يقاد بجرحه ... فوهبت لحظك ما أحلّك من دمي كم خضت دونك من غمار مفازة ... لا تهتدي فيها الليوث لمجثم والنجم يسري من دجاه بأدهمٍ ... رحب المقلّد بالثريّا ملجم والبدر في صفح السماء كأنّه ... مرآة هند وسط لجّ ترتمي والزهر زهر والسماء حديقة ... فتقت كمائم جنحها عن أنجم والليل مربدّ الجوانح قد بدا ... فيه الصباح كغرة في أدهم فكأنما فلق الصباح وقد بدا ... مرأى إبن نصر لاح للمتوسم ملك أفاض على البسيطة عدله ... فالشاة لا تخشى اعتداء الضيغم هو منتهى آمال كلّ موفق ... هو مورد الصادي وكنز المعدم لاحت مناقبه كواكب أسعد ... فرأت ملامح نوره عين العمي ولقد تراءى بأسه وسماحه ... فأتى الجلال من الجمال بتوأم مثل الغمام وقد تضاحك برقه ... فأفاد بين تجهّم وتبسّم أنسى سماحة حاتمٍ، وكذاك في ... يوم اللقاء ربيعة بن مكدّم سير تسير النيّرات بهديها ... وتعير عرف الروض طيب تنسم فالبدر دونك في علاً وإنارة ... والبحر دونك في ندى وتكرّم ولك القباب الحمر ترفع للندى ... فترى العمائم تحتها كالأنجم يذكى الكباء بها كأنّ دخانه ... قطع السحاب بجوّها المتغيّم ولك العوالي السمر تشرع للعدى ... فتخرّ صرعى لليدين وللفم

ولك الأيادي البيض قد طوقتها ... صيد الملوك ذوي التلاد الأقدم شيمٌ يقرّ الحاسون بفضلها ... والصبح ليس ضياؤه بمكتّم ورث السماحة عن أبيه وجدّه ... فالأكرم ابن الأكرم ابن الأكرم نقلوا المعالي كابراً عن كابرٍ ... كالرمح مطّرد الكعوب مقوّم وتسنّموا رتب العلاء بحقها ... ما بين جد في الخلافة وابنم يا آل نصر أنتم سرج الهدى ... في كلّ خطبٍ قد تجهّم مظلم الفاتحون لكلّ صعبٍ مقفل ... والفارجون لكلّ خطب مبهم والباسمون إذا الكماة عوابس ... والمقدمون على السواد الأعظم أبناء أنصار النبيّ وحزبه ... وذوي السوابق والجوار الأعصم سل عنهم أحداً وبدراً تلقهم ... أهل الغناء بها وأهل المغنم وبفتح مكة كم لهم في يومه ... بلواء خير الخلق من متقدم أقسمت بالحرم الأمين ومكة ... والركن والبيت العتيق وزمزم لولا مآثرهم وفضل علاهم ... ما كان يعزى الفضل للمتقدم ماذا عسى أثني وقد أثنت على ... عليائهم آي الكتاب المحكم يا وارثاً عنها مآثرها التي ... قد شيّدت للفخر أشرف معلم يا فخر أندلس لقد مدّت إلى ... علياك كف اللائذ المستعصم أمّا سعودك في الوغى فتكفّلت ... بسلامة الإسلام فاخلد واسلم وافيت هذا الثغر وهو على شفاً ... فشفيت معضل دائه المستحكم ورعيته بسياسة دارت على ... مختطه دور السوار بمعصم كم ليلة قد بتّ فيها ساهراً ... تهدي الأمان إلى العيون النوّم يا مظهر الألطاف وهي خفيّة ... ومهبّ ريح النصر للمتنسم لله دولتك التي آثارها ... سير الركاب لمنجد أو متهم ما بعد يومك في المواسم بعدما ... أتبعت عيد الفطر أكرم موسم

وافتك أشراف البلاد ليومه ... من كلّ ندب للعلا متسنم صرفوا إليك ركابهم وتيمّموا ... من بابك المنتاب خير ميمّم وتبوّأوا منه بدار كرامة ... فالكل بين مقرّب ومنعّم ودّت نجوم الأفق لو مثلت به ... لتفوز فيه برتبة المستخدم والروض مختالٌ بحلية سندس ... من كلّ موشيّ الرقوم منمنم ورياحه نسمت بنشر لطيمة ... وأقاحه بسمت بثغر ملثّم (1) وأريتنا فيه عجائب جمّة ... لم تجر في خلد ولم تتوهّم أرسلت سرعان الجياد (2) كأنها ... أسراب طير في التنوفة (3) حوّم من كلّ منحفز بخطفة بارقٍ ... قد كاد يسبق لمحة المتوهم طرفٌ يشك الطّرف في استثباته ... فكأنّه ظنّ بصدر مرجّم ومسافر في الجوّ تحسب أنّه ... يرقى إلى أوج السماء بسلّم رام استراق السمع وهو ممنّع ... فأصيب من قضب العصيّ بأسهم رجمته من شهب النصال حواصب (4) ... لولاى تعرّضه لها لم يرجم ومدارة الأفلاك أعجز كنهها ... إبداع كلّ مهندس ومهندم يمشي الرجال بجوفها وجميعهم ... عن مستوى قدميه لم يتقدّم ومنوّع الحركات قد ركب الهوا ... يمشي على خطّ به متوهّم فإذا هوى من جوّه ثمّ استوى ... أبصرت طيراً حول (5) صورة آدم

_ (1) في أصول أزهار الرياض وفي التجارية: مسلم؛ وصححه محققو الأزهار: " ملثم " وأثبتنا ما في ق، لكونه أقرب إلى الصواب. (2) سرعان الخيل: أوئلها. (3) التنوفة: المفازة. (4) ق: قواضب، ولها وجه، لأنه يتحدث عن الجواد، فالقواضب السيوف، وهي ترجمة أي تتعرض له. (5) الأزهار: حل.

يمشي على فنن الرشاء كأنّه ... فيه مساور ذابل أو أرقم وإليك من صون العقول عقيلة ... وقفت ببابك وقفة المسترحم ترجو قبولك وهو أكبر منحةٍ ... فاسمح به خلّدت من متكرّم طاردت فيها وصف كلّ غريبةً ... فنظمت شارده الذي لم ينظم ودعوت أرباب البيان أريهم ... " كم غادر الشعراء من متردم " (1) ما ذاك إلاّ بعض أنعمك التي ... قد علّمتنا كيف شكر المنعم ثمّ قال: وأنشد من ذلك في الصنيع المخصوص بعمنا الأمير أبي عبد الله - رحمة الله تعالى عليه - وأطنب في وصف دار الملك وغير ذلك من ضخامة آثار مولانا رضي الله تعالى عنه: سل الأفق بالزهر الكواكب حاليا ... فإني قد أودعته شرح حاليا وحمّلت معتلّ النّسيم أمانةً ... قطعت بها عمر الزمان أمانيا فيا من رأى الأرواح وهي ضعيفة ... أحمّلها ما يستخف الرواسيا وساوس كم جدّت وجد بي الهوى ... فعدّ به القلب المقلّب هازيا ومن يطع الألحاظ في شرعة الهوى ... فلا بدّ أن يعصي نصيحاً ولاحيا عدلت بقلبي عن ولاية حكمه ... غداة ارتضى من جائر اللحظ واليا وما الحب إلاّ نظرة تبعث الهوى ... وتعقب ما يعيي الطبيب المداويا فيا عجباً للعين تمشي طليقة ... ويصبح من جرّائها القلب عانيا ألا في سبيل الله نفس نفيسة ... يرخّص منها الحبّ ما كان غاليا ويا ربّ عهدٍ للشباب قضيته ... وأحسنت من دين الوصال التقاضيا خلوت بمن أهواه من غير رقبة ... ولكن عفافي لم أكن عنه خاليا

_ (1) غير قول عنترة المفتتح ب " هل "؛ وعجز البيت: " أم هل عرفت الدار بعد توهم " وهو مطلع معلقته.

ويوم بمستنّ الظباء شهدته ... أجدّ وصالاً بالياً فيه باليا ولم أصح من خمر اللحاظ وقد غدا ... به الجوّ وضّاح الأسرّة صاحيا وجرّد من غمد الغمامة صارماً ... من البرق مصقول الصفيح يمانيا تبسّم فاستبكى جفوني غمرةً (1) ... ملأت بدرّ الدمع منها ردائيا وأذكرني ثغراً ظمئت لورده ... ولا والهوى العذريّ ما كنت ناسيا وراح خفوق القلب مثلي كأنما ... ببرق الحمى من لوعة الحب ما بيا وليلة بات البدر فيها مضاجعي ... وباتت عيون الشهب نحوي روانيا كرعت بها بين العذيب وبارق ... بمورد ثغر بات بالدرّ حاليا رشفت به شهد الرضاب سلافة ... وقبّلت في ماء النعيم الأقاحيا فيا برد ذاك الثغر روّيت غلّتي ... ويا حرّ أنفاسي أذبت فؤاديا وروضة حسن للشباب نضيرة ... هصرت بغصن البان فيها المجانيا وبت أسقّي (2) وردة الخدّ أدمعي ... فأصبح فيها نرجس اللحظ ذاويا ومالت بقلبي مائلات قدودها ... فما للقدود المائلات وما ليا جزى الله ذاك العهد عوداً فطالما ... أعاد على ربعي الظباء الجوازيا وقل لليالٍ في الشباب نعمتها ... وقضّيتها أنساً: سقيت لياليا ويا وادياً رفّت عليّ ظلاله ... ونحن ندير الوصل قدّست (3) واديا رمتني عيون السّرب فيه وإنما ... رمين بقلبي في الغرام المراميا فلولا اعتصامي بالأمير محمّدٍ ... لما كنت من فتك اللواحظ ناجيا فقل للذي يبني على الحسن شعره ... عليه مع الإحسان لا زلت بانيا فكم من شكاة في الهوى قد رفأتها ... ورفّعتها بالمدح إذ جاء تاليا

_ (1) الأزهار: عبرة. (2) الأزهار: وقد بت أسقي. (3) الأزهار: فديت.

وكم ليلة في مدحه قد سهرتها ... أباهي بدرّ النّظم فيه الدراريا ولاح عمود الصبح مثل انتسابه ... رفعت عليه للمديح المبانيا إمام أفاد المكرمات زمانه ... وشاد له فوق النجوم المعاليا وجاوز قدر البدر نوراً ورفعةً ... ولم يرض إلاّ بالكمال مواليا هو الشمس بثت في البسيطة نفعها ... وأنوارها أهدت (1) قريباً وقاصياً هو البحر بالإحسان يزخر موجه ... ولكنه عذبٌ لمن جاء عافيا هو الغيث مهما (2) يمسك الغيث سحبه ... يروّ بسحب الجود من كان صاديا شمائل لو أنّ الرياض بحسنها ... لما صار فيها زهرها الغضّ ذاويا فيا ابن الملوك الصّيد من آل خزرج ... وذا نسب كالصبح عزّ مساميا ألست الذي ترجو العفاة نواله ... فتخجل جدواه السحاب الغواديا ألست الذي تخشى البغاة صياله ... فتوجل (3) علياه الصعاب العواديا وهديك مهما ضلت الشّهب قصدها ... تولته في جنح الدجنّة هاديا وعزمك أمضى من حسامك في الوغى ... وإن كان مصقول الغرارين ماضيا فكم قادح في الدين يكفر ربّه ... قدحت له زند الحفيظة واريا وما راعه إلاّ حسام وعزمة ... يضيئان في ليل الخطوب الدواجيا فلولاك يا شمس الخلافة لم يبن ... سبيل جهاد كان من قبل خافيا ولولاك لم ترفع سماء عجاجة ... تلوح بها بيض النصول دراريا ولولاك لم تنهل غصون من القنا ... وكانت إلى ورد الدماء صواديا فأثمر فيها النصل نصراً مؤزراً ... وأجنى قطاف الفتح غضّاً ودانيا ومهما غدا سفّاح سيفك عارياً ... يغادر وجه الأرض بالدم كاسيا

_ (1) الأزهار: أبدت. (2) ق: يهمي، والتصحيح عن الأزهار. (3) الأزهار: فتنزل، وكلتا اللفظتين غير موضحتين للمعنى المقصود، وسقط البيت من ق.

قضى الله من فوق السموات أنه ... على من أبى الإسلام في الأرض قاضيا فكم معقلٍ للكفر صبّحت أهله ... بجيش أعاد الصبح أظلم داجيا رقيت إليه والسيوف مشيحة ... وقد بلغت فيه النفوس التراقيا ففتّحت مرقاه الممنّع عنوة ... وبات به التوحيد يعلو مناديا وناقوسه بالقسر أمسى معطّلاً ... ومنبره بالذكر أصبح حاليا عجائب لم تخطر ببال وإنّما ... ظفرنا بها عن همّةٍ هي ما هيا فمنك استفاد الدهر كلّ عجيبة ... يباهي بها الأملاك أخرى لياليا وعنك يروّي الناس كلّ غريبةً ... تخطّ على صفح الزمان الأماليا ولله مبناك الجميل فإنّه ... يفوق على حكم السعود المبانيا فكم فيه للأبصار من متنزّه ... تجدّ به نفس الحليم الأمانيا وتهوى النجوم الزّهر لو ثبتت به ... ولم تك في أفق السّماء جواريا ولو مثلت في سابقيه (1) لسابقت ... إلى خدمة ترضيك منها الجواريا به البهو قد حاز البهاء وقد غدا ... به القصر آفاق السماء مباهيا وكم حلّة جلّلته بحليّها ... من الوشي تنسي السابريّ اليمانيا وكم من قسيّ في ذراه ترفّعت ... على عمد بالنور باتت حواليا فتحسبها الأفلاك دارت قسيّها ... تظل عمود الصبح إذ بات (2) باديا سواري قد جاءت بكلّ غريبة ... فطارت بها الأمثال تجري سواريا به المرمر المجلو قد شف نوره ... فيجلو من الظّلماء ما كان داجيا إذا ما أضاءت بالشعاع تخالها ... على عظم الأجرام منها لآليا به البحر دفّاع العباب تخاله ... إذا ما انبرى وفد النّسيم مباريا إذا ما جلت أيدي الصّبا متن صفحه ... أرتنا دروعاً أكسبتنا الأياديا

_ (1) الأزهار: ساحتيه. (2) الأزهار: لاح.

وراقصة في البحر طوع عنانها ... تراجع ألحان القيان الأغانيا (1) إذا ما علت في الجوّ ثمّ تحدرت ... تحلّي بمرفضّ الجمان النواحيا بذوب لجين سال بين جواهر ... غدا مثلها في الحسن أبيض صافيا تشابه جارٍ للعيون بجامد ... فلم أدر أيّاً منهما كان جاريا فإن شئت تشبيهاً له عن حقيقة ... تصيب بها المرمى وبوركت راميا فقل أرقصت منها البحيرة متنها (2) ... كما يرقص المولود من كان لاهيا أرتنا طباع الجود وهي وليدة ... ولم ترض في الإحسان إلاّ تغاليا سقت ثغر زهر الروض عذب برودها ... وقامت لكي تهدي إلى الدهر (3) ساقيا كأن قد رأت نهر المجرّة ناضباً ... فرامت بأن تجري إليه السواقيا وقامت بنات الدوح فيه مواثلاً ... فرادى ويتلو بعضهنّ مثانيا رواضع في حجر الغرام ترعرعت ... وشبّت فشبّت حبّها في فؤاديا بها كل ملتفّ الغدائر مسبل ... تجيل به أيدي النسيم مداريا وأشرف جيد الغصن فيها معطّلاً ... فقلّدت النّوّار منه التراقيا إذا ما تحلّت درّ زهر غروسه ... يبيت لها النّمّام بالطيب واشيا مصارفه النقدين فيها بمثلها ... أجاز بها النقدين منها كما هيا (4) فإن ملأت كفّ النّسيم بمثلها (5) ... دراهم نور ظلّ عنها مكافيا فيملأ حجر الروض حول غصونها ... دنانير شمس تترك الروض حاليا تغرّد في أفنانها الطير كلّما ... تجسّ به أيدي القيان الملاهيا تراجعها سجعاً فتحسب أنها ... بأصواتها تملي عليها الأغانيا

_ (1) الأزهار: الغوانيا؛ ق: المعانيا. (2) الأزهار: نبتها. (3) الأزهار: الزهر. (4) الأزهار: أجاز بها قاضي الجمال التقاضيا. (5) الأزهار: مع الضحى.

فلم ندر روضاً منه أنعم نضرةً ... وأعطر أرجاءً، وأحلى مجانيا ولم نر قصراً منه أعلى مظاهراً ... وأرفع آفاقاً، وأفسح ناديا معاني من نفس الكمال انتقيتها ... وزينت منها بالجمال المغانيا وفاتحت مبناه بعيد شرعته ... تبث به في الخافقين التهانيا ولمّا دعوت الناس نحو صنيعه ... أجابوا لهم من جانب الغور داعيا وأمّوه من أقصى البلاد تقرّباً ... وما زال منك السعد يدني الأقاصيا وأذكرت يوم العرض جوداً ومنعةً ... بموقف عرض كنت فيه المجازيا جزيت به كلاّ على حال سعيه ... فما غرست بمناه أصبح جانيا وأطلعت من جزل الوقود هوادجاً ... تذكّر يوم النفر من كان ساهيا وحين غدا يذكى ببابك للقرى ... فلا غرو أن أجريت فيه المذاكيا وطامحة في الجوّ غير مطالة ... يرد مداها الطرف أحسر عانيا تمدّ لها الجوزاء كفّ مسارعٍ (1) ... ويدنو لها بدر السماء مناجيا ولا عجب أن فاتت الشهب بالعلا ... وأن جاوزت منها المدى المتناهيا فبين يدي مثواك قامت لخدمة ... ومن خدم الأعلى استفاد المعاليا وشاهد ذا أني ببابك واقف ... وقد حسدت زهر النجوم مكانيا وقد أرضعت ثدي الغمائم قبلها ... بحجر رياض كنّ فيه نواشيا فلمّا أبينت عن قرارة أصلها ... أرادت إلى مرقى الغمام تعاليا وعدّت لقاء السحب عيداً وموسماً ... لذاك اغتدت بالزّمر تلهي الغواديا فأضحكت البرق الطروب خلالها ... وباتت لأكواس الدراري معاطيا رأت نفسها طالت فظنّت بأنها ... تفوت على رغم اللحاق المراميا

_ (1) الأزهار: مصافح.

فخفّت إليها الذابلات (1) كأنها ... طيورٌ إلى وكر أطلن تهاويا حكت شبهاً (2) للنحل والنحل حوله ... عصيّ إلى مثواه تهوي عواليا فمن مثبت منها الرميّة مدرك ... ومن طائشٍ في الجوّ حلّق وانيا وحصن منيع في ذراها قد ارتقى ... فأبعد في الجوّ الفضاء المراقيا كأن بروق الجوّ غارت وقد أرت ... بروج قصور شدتهنّ سواميا فأنشأت برجاً صاعداً متنزلاً ... يكون رسولاً بينهنّ مداريا تطوّر حالات أتى في ضروبها ... بأنواع حليٍ تستفزّ الغوانيا فحجل برجليها وشاح بخصرها ... وتاجٌ إلى ما حلّ منها الأعاليا وما هو إلاّ طير سعد بذروة ... غدا زاجراً من أشهب الصبح بازيا أمولاي يا فخر الملوك ومن به ... سيبلغ دين الله ما كان راجيا بنوك على حكم السعادة خمسة ... وذا عددٌ للعين مازال واقيا تبيت لهم كفّ الثريا معيذة ... ويصبح معتلّ النواسم راقيا (3) أسام عليها للسعادة ميسم ... ترى العزّ فيها مستكنّاً وباديا جعلت أبا الحجاج فاتح طرسهم ... وقد عرفت منك الفتوح التواليا وحسبك سعد ثمّ نصرٌ يليهم ... محمد الأرضى، فلا زلت راضيا أقمت به من فطرة الدين سنّةً ... وجددت من رسم الهداية عافيا وجاءوا به ملء العيون وسامةً ... يقبّل وجه الأرض أزهر باهيا فيا عاذراً (4) ما كان أجرأ مثله ... فمثلك لا يدمي الأسود الضواريا وجاءتك من مصر التحايا كرائماً ... فما فتقت أيدي التّجار الغواليا

_ (1) ق: الزائلات. (2) ق: شبحاً. (3) سقط البيت من ق. (4) يريد الذي يقوم بالختان.

ووافتك من أرض الحجاز تميمة ... تتمم صنع الله لا زال باديا وناداك بالتمويل (1) سلطان طيبة ... فيا طيب ما أهدى إليك مناديا وقام وقد وافى ضريح محمد ... لسلطانك الأعلى هنالك داعيا سريرتك الرحمى جزاك بسعيها ... إله يوفّي بالجزاء (2) المساعيا فوالله لولا سنّة نبويّة ... عهدناه مهديّاً إليها وهاديا وعذر من الإعذار قرر حكمه ... من الشرع أخبار رفعن عواليا لراعت بها للحرب (3) أهوال موقف ... تشيب بمبيض النصول العواليا لك الحمد فيه من صنيع تعدّه ... فثالثه في الفخر عزز ثانيا تشدّ له الجوزاء عقد نطاقها ... لتخدم فيه كي تنال المعاليا وهنّيت بالأمداح فيه وقد غدا ... وجودك فيه بالإجادة وافيا ودونك من بحر البيان جواهراً ... كرمن فما يشرين إلاّ غواليا وطاردت فيها وصف كل غريبة ... فأعجزت من يأتي ومن كان ماضيا فيا وارث الأنصار لا عن كلالة ... تراث جلال يستخف الرواسيا بأمداحه جاء الكتاب مفصّلاً ... يرتّله في الذكر من كان تاليا لقد عرف الإسلام ممّا أفدته ... مكارم أنصارية وأياديا عليك سلام الله فاسلم مخلّداً ... تجدّد أعياداً وتبلي أعاديا ثمّ قال: ومن ذلك في الصنيع المختص بالأمراء الجلّة: أخينا المعز لدولتنا أبي الحسن، وأخينا أبي العباس، وابن عمنا أبي عبد الله، وصل الله تعالى سعودهم. ولقد أبدع في تشييده وتأسيسه، وبسط يد الحسن من براعته وتخميسه (4) ، وذلك

_ (1) ق والأزهار: بالتهويل؛ والتمويل: قوله " يا مولاي ". (2) الأزهار: في الجزاء. (3) ق: للجزو. (4) الأزهار: من براعة تخميسه.

إلى (1) عودة مولانا رحمة الله تعالى عليه من سبتة لما عادت إلى ملكه: أرقت لبرقٍ مثل جفني ساهرا ... ينظّم من قطر الغمام جواهرا فيبسم (2) ثغر الروض عنه أزاهرا ... وصبحٍ حكى وجه الخليفة باهرا تجسّم من نور الهدى وتجسدا ... شفاني معتل النّسيم إذا انبرى ... وأسند عن دمعي الحديث الذي جرى وقد فتق الأرجاء مسكاً وعنبرا ... كأنّ الغني بالله في الروض قد سرى فهبّت به الأرواح عاطرة الرّدا ... عذيري من قلب إلى الحسن قد صبا ... تهيّجه الذكرى ويصبو إلى الصّبا ويجري جياد اللهو في ملعب الصّبا ... ولولا ابن نصر ما أفاق وأعتبا رأى وجهه صبح الهداية فاهتدى ... إليك أمير المسلمين شكاية ... جنى الحسن فيها للقلوب جناية وأعظم فيها بالعيون نكاية ... وأطلع في ليل من الشّعر آية محيّا جميلاً بالصباح قد ارتدى ... بهديك تهدى اليّرات وتهتدي ... وأنواؤها جدوى يمينك تجتدي وعدلك للأملاك أوضح مرشد ... بآثاره في مشكل الأمر تقتدي فما بال سلطان الجمال قد اعتدى ... تحكّم منّا في نفوس ضعيفة ... وسل سيوفاً من جفون نحيفة ألم يدر أنّا في ظلال خليفة ... ودولة أمن لا تراع منيفة بها قد رسا دين الهوى وتمهّدا ...

_ (1) الأزهار: وذلك عام. (2) الأزهار: فأضحك.

خذوا بدم المشتاق لحظاً أراقه ... وبرقاً بأعلام الثنيّة شاقه وإن كلفوه فوق ما قد أطاقه ... يبث حديثاً ما ألذ مساقه خليفتنا المولى الإمام محمّدا ... تقلّد حكم العدل ديناً ومذهبا ... وجور الليالي قد أزاح وأذهبا فيا عجباً للشوق أذكى وألهبا ... وسلّ صباحاً صارم البرق مذهبا وقد بات في جفن الغمامة مغمدا ... يذكّرني ثغراً لأسماء أشنبا ... إذا ابتسمت تجلو من الليل غيهبا كعزم أمير المسلمين إذا احتبى ... وأجرى به طرفاً من الصبح أشهبا وأصدر في ذات الإله وأوردا ... فسبحان من أجرى الرياح بنصره ... وعطّر أنفاس الرياض بشكره فبرد الصّبا يطوى على طيب نشره ... ومهما تجلّى وجهه وسط قصره ترى هالةً بدر السماء بها بدا ... إمامٌ أفاد المعلوات زمانه ... فما لحقت زهر النجوم مكانه ومدّ على شرق وغرب أمانه ... ولا عيب فيه غير أنّ بنانه تغرّق مستجديه في أبحر الندى ... هو البحر مدّ العارض المتهلّلا ... هو البدر لكن لا يزال مكمّلا هو الدهر لا يخشى الخطوب ولا ولا ... هو العلم الخفّاق في هضبة العلا هو الصارم المشهور في نصرة الهدى ... أما والذي أعطى الوجود وجوده ... وأوسع من فوق البسيطة جوده لقد أصحب النصر العزيز بنوده ... ومدّ بأملاك السماء جنوده وأنجز للإسلام بالنصر موعدا ...

أمولاي قد أنجحت رأياً وراية ... ولم تبق في سبق المكارم غاية فتهدي سجايا كابن رشد نهاية ... وإن كان هذا السعد منك بداية سيبقى على مرّ الزمان مخلّدا ... سعودك تغني عن قراع الكتائب ... وجودك يزري بالغمام السواكب وإن زاحمتها شهبها بالمناكب ... ووجهك بدر المنتدى والمواكب وقد فسحت في الفخر أبناؤك المدى ... بنوك كأمثال الأنامل عدّة ... أعدّت لما يخشى من الدهر عدّة وزيد بهم برد الخلافة جدّة ... أطال لهم في ظلّ ملكك مدّة إله يطيل العمر منك مؤبّدا ... بدور بأوصاف الكمال استقلّت ... غمام بفيّاض النّوال استهلّت سيوف على الأعداء بالنصر سلّت ... نجوم بآفاق العلاء تجلّت ولاحت كما شاءت سعودك أسعدا ... وإنّ أبا الحجاج سيفك منتضى ... وبدرٌ بآفاق الجمال تعرّضا بنورك يا شمس الخلافة قد أضا ... وراقت على أعطافه حلل الرضى فحلّ محلاًّ من علاك (1) ممهّدا ... مليك له تعنو الملوك جلالة ... يجرّر أذيال الفخار مطالةً وترفق أسد الغاب منه بسالة ... وترضاه أنصار الرسول سلالة فأبناؤه طابوا فروعاً ومحتدا ... أزاهر في روض الخلافة أينعت ... زواهر في أفق العلاء تطلّعت

_ (1) الأزهار: رضاك.

جواهر أغيت في الجمال وأبدعت ... وعن قيمة الأعلاق قدراً ترفعت يسر بها الإسلام غيباً ومشهدا ... بعهد وليّ العهد كرّم عهده ... وأنجز في تخليد ملكك وعده تنظّم منهم تحت شملك عقده ... وأورثهم فخراً أبوه وجدّه فأعلى عليّاً حين أحمد أحمدا ... تحوط بهم ملكاً عزيزاً وملّة ... وتلحظ عين السّعد منهم أهلّة ستبدو على أفق العلا مستقلّةً ... وسحباً بفيّاض العلا مستهلّة تفجّر بحراً للسماحة مزبدا ... ونجلك نصر يقتفي نجل رسمه ... أمير يزين العقل راجح حلمه أتاك بنجل يستضاء بنجمه ... لحب رسول الله سمّاه باسمه وباسمك في هذي الموافقة اقتدى ... أقمت بإعذار الإمارة سنّة ... وطوقت من حلي بفخرك منّة وأسكنتها في ظل برّك جنّة ... وألحفتها برد امتنانك جنّةً وعمّرت منها بالتلاوة مسجدا ... فلله عينا من رآهم تطلّعوا ... غصوناً بروض الجود منك ترعرعوا وفي دوحة العلياء منك تفرّعوا ... ملوك بجلباب الحياء تقنّعوا أضاء بهم من أفق قصرك منتدى ... وقد أشعروا الصبر الجميل نفوسهم ... وأضفوا به (1) فوق الحليّ لبوسهم قد زيّنوا بالبشر فيه شموسهم ... وعاطوا كؤوس الأنس فيه جليسهم وأبدوا على هول المقام تجلّدا ...

_ (1) الأزهار: وقد أفرغوا.

شمائل فيهم من أبيهم وجدّهم ... تفصّل آي الفخر فيها بحمدهم وتنسبها الأنصار قدماً لسعدهم ... تضيء بها نوراً مصابيح سعدهم ولم لا ومن صحب الرسول توقّدا ... فوالله لولا سنّة قد أقمتها ... وسيرة هدي للنّبيّ علمتها وأحكام عدلٍ للجنود رسمتها ... لجالت بها الأبطال تقصد سمتها وتترك أوصال الوشيج مقصّدا ... ويا عاذراً أبدي لنا الشرع عذره ... طرقت حمىً قد عظّم الله قدره وأجريت طيباً يحسد الطيب نشره ... لقد جئت ما تستعظم الصّيد أمره وتفديه إن يقبل خليفتها فدا ... رعى الله منها دعوةً مستجابة ... أفادت نفوس المخلصين إنابةً ولم تلف من دون القبول حجابة ... وعاذرها لم يبد عذراً مهابة فأوجب عن نقص كمالاً تزيّدا ... فنقص كمال (1) المال وفر نصابه ... وما السيف إلاّ بعد مشق ذبابه وما الزّهر إلاّ بعد شقّ إهابه ... بقطع يراع الخطّ حسن كتابه وبالقص يزداد الذبال توقدا ... ولما قضوا عن سنة الشرع واجبا ... ولم نلق من دون الخلافة حاجبا أفضنا نهنّي منك جذلان واهبا ... أفاض علينا أنعماً ومواهبا تعوّد بذل الجود فيما تعوّدا ... هنيئاً هنيئاً قد بلغت مؤمّلا ... وأطلعت نوراً يبهر المتأملا

_ (1) الأزهار: زكاة.

وأحرزت أجر المنعمين مكمّلا ... تبارك من أعطى جزيلاً وأجملا وبلّغ فيك الدين والملك مقصدا ... ألا في سبيل العزّ والفخر موسم ... يظل به ثغر المسرّة يبسم وعرف الرضى من جوّه يتنسّم ... وأرزاق أرباب السعادة تقسم ففي وصفه ذهن الذكيّ تبلّدا ... وجلّلت في هذا الصنيع مصانعا ... تمنى بدور التمّ منها مطالعا وأبديت فيها للجمال بدائعا ... وأجريت للإحسان فيها مشارعا يود بها نهر المجرّة موردا ... وأجريت فيها الخيل وهي سوابق ... وإن طلبت في الروع فهي لواحق نجومٌ وآفاق الطّراد مشارق ... يفوت التماح الطّرف منها بوارق إذا ما تجاري الشهب تستبق المدى ... وتطلع في ليل القتام كواكبا ... وقد وردت نهر النهار مشاربا تقود إلى الأعداء منها كواكبا ... فترسم من فوق التراب محاربا تحور رؤوس الروم فيهنّ سجدّا ... سوابح بالنصر العزيز سوانح ... وهنّ لأبواب الفتوح فواتح تقود إليك النصر والله مانح ... فما زلت باب الخير والله فاتح وما تمّ شيء (1) قد عدا بعد ما بدا ... رياح لها مثنى البروق أعنّة ... ظباء فإن جنّ الظلام فجنّة تقيها من البدر المتمّم جنّة ... وتشرع من زهر النجوم أسنّة فتقذف شهب الرّجم في أثغر العدا ...

_ (1) ق: حق.

فأشهب من نسل الوجيه إذا انتمى ... جرى فشأى شهب الكواكب في السما وخلف منها في المقلّد أنجما ... تردّى جمالاً بالصباح وربما يقول له الإصباح: نفسي لك الفدا ... وأحمر قد أذكى به البأس جمرة ... وقد سلب الياقوت والورد حمرة أدار به ساق من الحرب خمرة ... وأبدى حباباً فوقها الحسن غرّة يزين بها خدّاً أسيلاً مورّدا ... وأشقر مهما شعشع الركض برقه ... أعار جواد البرق في الأفق سبقه بدا شفقاً قد جلّل الحسن أفقه ... ألم تر أنّ الله أبدع خلقه فسال على أعطافه الحسن عسجدا ... وأصفر قد ودّ الأصيل جماله ... وقد قدّ من برد العشيّ جلاله إذا أسرجوا جنح الظلام ذباله ... فغرّته شمس (1) تضيء مجاله وفي ذيله ذيل الظلام قد ارتدى ... وأدهم في مسح الدجى متجرد ... يجيش بها بحر من اللّيل مزبد وغرّته نجم به تتوقّد ... له البدر سرج والنجوم مقلّد وفي فلق الصبح المبين تقيّدا ... وأبيض (2) كالقرطاس لاح صباحه ... على الحسن مغداه وفيه مراحه وللظّبيات الآنسات مراحه ... تراه كنشوانٍ أمالته راحه وتحسبه وسط الجمال معربدا ...

_ (1) ق: نجم. (2) ق: وأشهب.

وذاهبة في الجوّ ملء عنانها ... وقد لفعتها السحب برد عنانها يفوت ارتداد الطّرف لمح عيانها ... وختّمت الجوزاء سبط بنانها وصاغت لها حلي النجوم مقيّدا ... أراها عمود الصبح علو المصاعد ... وأوهمها قرب المدى المتباعد ففاتته سبقاً في مجال الرواعد ... وأتحفت الكفّ الخضيب بساعد فطوقت الزّهر النجوم بها يدا ... وقد قذفتها للعصيّ حواصب ... قد انتشرت في الجوّ منها ذوائب تزاور منها في الفضاء حبائب ... فبينهما من قبل ذاك مناسب لأنهما في الروض قببل تولّتدا ... بنات لأمّ قد حبين لروحها ... دعاها الهوى من بعد كتم لبوحها فأقلامها تهوي لخطّ بلوحها ... فبالأمس كانت بعض أغصان دوحها فعادت إليها اليوم من بعد عوّدا ... ويا ربّ حصن في ذراها قد اعتلى ... أنارت بروج الأفق في مظهر العلا بروج قصور شدتها متطولا ... فأنشأت برجاً صاعداً متنزلا يكون رسولاً بينها مترددا ... وهل هي إلاّ هالةٌ حول بدرها ... يصوغ لها حلياً يليق بنحرها تطوّر أنواعاً تشيد بفخرها ... فحجلٌ برجليها وشاح بخصرها وتاج بأعلى رأسها قد تنضدا (1) ...

_ (1) شبيه بقوله في القصيدة السابقة: فحجل برجليها وشاح بخصرها ... وتاج إلى ما حل منها الأعاليا

أراد استراق السمع وهو ممنّع ... فقام بأذيال الدجى يتلفّع وأصغى لأخبار السما يتسمّع ... فأتبعه منها ذوابل شرّع لتقذفه بالرّعب مثنى وموحدا ... وما هو إلاّ قائمٌ مدّ كفّه ... ليسأل من ربّ السموات لطفه لمولىً تولاه وأحكم رصفه ... وكلّف أرباب البلاغة وصفه وأكرم منه القانت المتهجدا ... ملاقي ركبٍ من وفود النواسم ... مقبّل ثغر للبروق البواسم مختّم كفّ بالنّجوم العواتم ... مبلّغ قصد من حضور المواسم تجدده مهما صنيع تجدّدا ... ومضطرب في الجوّ أثبت قامةً ... تقدم يمشي في الهواء كرامةً تطلّع في غصن الرشاء كمامةً ... وتحسبه تحت الغمام غمامةً يسيل على أعطافها عرق النّدى ... هوى واستوى في حالة وتقلّبا ... كخاطف برق قد تألّق خلّبا وتحسبه قد دار في الأفق كوكبا ... ومهما مشى واستوقف العقل معجبا تقلّب فيه العين لحظاً مرددا ... لقد رام يرقى للسماء بسلّم ... فيمشي على خطّ به متوهم أجل في الذي يبديه فكر توسّم ... ترى طائراً قد حلّ صورة آدمي وجنّاً بمهواة الفضاء تمرّدا ... ومنتسب للخال سمّوه ملجما ... له حكمات حكمها فاه ألجما تخالف جنساً والداه إذا انتمى ... كما جنسه أيضاً تخالف عنهما عجبت له إذ لم يلد وتولّدا ...

ثلاثتها في الذكر جاءت مبينّة ... من اللاء سمّاها لنا الله زينة وأنزل فيها آيةً مستبينة ... وأودع فيها للجهول سكينة وآلاءه فيها على الخلق بدّدا ... كسوه من الوشي اليمانيّ هودجا ... يمدّ على ما فوقه الظلّ سجسجا وكم صورة تجلى به تبهر الحجى ... وجزل وقود ناره تصدع الدجى وقلب حسود غاظ مذكيه موقدا ... وما هي إلاّ مظهر لجهاده ... أرتنا بها الأفراح فضل اجتهاده ملاعبها هزّت قدود صعاده ... وأذكرت الأبطال يوم طراده فما ارتبت فيه اليوم صدّقته غدا ... ألا جدّد الرحمن صنعاً حضرته ... ودوح الأماني في ذراه هصرته بقصر طويل الوصف فيه اختصرته ... يقيّد طرف الطرف مهما نظرته " ومن وجد الإحسان قيداً تقيّدا " (1) ... دعوت له الأشراف من كلّ بلدة ... فجاءوا بآمال لهم مستجدّة وخصّوا بألطاف لديه معدّة ... أيادٍ بفيّاض الندى مستمدّة فكلّهم من فضله قد تزوّدا ... وجاءتك من آل النبيّ عصابةٌ ... لها في مرامي المكرمات إصابة أحبّتك حبّاً ليس فيه استرابة ... ولبّت دواعي الفوز منها إجابة وناداهم التخصيص فابتدروا الندا ... أجازوا إليك البحر والبحر يزخر ... لبحر سماحٍ مدّه ليس يجزر

_ (1) عجز بيت للمتنبي، وصدره " وقيدت نفسي في ذراك محبة " ...

فروّاهم من عذب جودك كوثر ... وواليت من نعماك ما ليس يحصر وعظمتهم ترجو النبيّ محمّدا ... عليه صلاة الله ثمّ سلامه ... به طاب من هذا النظام اختتامه وجاء بحمد الله حلواً كلامه ... يعزّ على أهل البيان رمامه وتمسي له زهر الكواكب حسّدا ... أبثّ به حادي الركاب مشرّقا ... حديث جهاد للنفوس مشوّقا رميت به من بالعراق مفوّقا ... وأرسلت منه بالبديع مطوّقا حماماً على دوح الثناء مغرّدا ... ركضت به خيل البيان إلى مدى ... فأحرزت خصل السبق في حلبة الهدى (1) ونظمت من نظم الدراري مقلّدا ... وطوقت جيد الفخر عقداً منضّدا وقمت به بين السماطين منشدا ... نسقت من الإحسان فيه فرائدا ... وأرسلت في روض المحاسن رائدا وقلدت عطف الملك منه قلائدا ... تعوّدت فيه للقبول عوائدا فلا زلت للفعل الجميل (2) معوّدا ... ولا زلت للصنع الجميل مجدّدا ... ولا زلت للفخر العظيم مخلّدا وعمّرت عمراً لا يزال مجدّدا ... وعمّرت بالأبناء أوحد أوحدا وقرّت بهم عيناك ما سائق حدا ... وقال في عيد: بشرى كما وضح الزمان وأجمل ... يغشى سناها كلّ من يتهلّل

_ (1) ق: المدى. (2) الأزهار: للفضل الجزيل.

أبدى لها وجه النهار طلاقةً ... وافترّ من ثغر الأقاح مقبّل ومنابر الإسلام يا ملك الورى (1) ... بحلاك أو بحليّها تتكلّل تجلو لنا الأكوان منك محاسناً ... تُروى على مرّ الزمان وتنقل فالشمس تأخذ من جبينك نورها ... والبشر منك بوجهها يتهلّل والروض ينفح من ثنائك طيبه ... والورق فيه بالممادح تهدل والبرق سيف من سيوفك منتضى ... والسّحب تهمي من يديك وتهمل يا أيها الملك الذي أوصافه ... درّ على جيد الزمان يفصّل " الله أعطاك التي لا فوقها " (2) ... وحباك بالفضل الذي لا يجهل وجه كما حسر الصباح نقابه ... لضيائه تعشو البدور الكمّل تلقاه في يوم السماحة والوغى ... والبشر في جنباته يتهلّل كفّ أبت أن لا تكفّ عن النّدى ... أبداً فإن ضنّ الحيا تسترسل وشمائل كالروض باكره الحيا ... وسرت بريّاه الصّبا والشّمأل خلق ابن نصر في الجمال كخلقه ... ما بعدها من غاية تستكمل نور على نور بأبهى منظر ... في حسنه لمؤمّل ما يأمل فاق الملوك بسيفه وبسيبه (3) ... فبعدله وبفضله يتمثّل وإذا تطاول للعميد عميدهم ... فله عليه تطاول وتطوّل يا آية الله التي أنوارها ... يهدى بها قصد الرشاد الضّلّل قل للذي التبست معالم رشده ... هيهات قد وضح الطريق الأمثل قد ناصح الإسلام خير خليفة ... وحمى عزيز الملك أغلب مشبل (4) فلقد ظهرت من الكمال بمستوى ... ما بعده لذوي الخلافة مأمل

_ (1) هذه رواية الأزهار؛ وفي ق: بالملك العلي. (2) من رجز وتمامه: وقد أراد المشركون عوقها ... عنك ويأبى الله إلا سوقها (3) ق: بسبقه وبسيفه. (4) ق: مشمل.

وعناية الله اشتملت رداءها ... وعلقت منها عروة لا تفصّل فالجود إلاّ من يديك مقتّرٌ ... والغيث إلاّ من نداك مبخّل والعمر إلاّ تحت ظلك ضائع ... والعيش إلاّ في جنابك ممحل حيث الجهاد قد اعتلت راياته ... حيث المغانم للعفاة تنفّل حيث القباب الحمر ترفع للقرى ... قد عام (1) في أرجائهنّ المندل يا حجّة الله التي برهانها ... عزّ المحقّ به وذلّ المبطل قل للذي ناواك يرقب (2) يومه ... فوراءه ملك يقول ويفعل والله جلّ جلاله إن أمهلت ... أحكامه مستدرجاً لا تهمل يا ناصر الإسلام وهو فريسة ... أسد الفلا (3) من حولها تتسلّل يا فخر أندلس وعصمة أهلها ... لك فيهم النعمى التي لا تجهل لا يهمل الله الذين رعيتهم ... فلأنت أكفى والعناية أكفل لا يبعد النصر العزيز فإنّه ... آوى إليك وأنت نعم الموئل لولا نداك لها لما نفع الندى ... ولجفّ من ورد الصنائع منهل لولاك كان الدين يغمط حقّه ... ولكان دين النصر فيه يمطل لكن جنيت الفتح من شجر القنا ... وجنى الفتوح لمن عداك مؤمّل (4) ولقبل ما استفتحت كلّ ممنّعٍ ... من دونه باب المطامع مقفل ومتى نزلت بمعقل متأشّب ... فالعصم من شعفاته تستنزل وإذا غزوت فإنّ سعدك ضامن ... أن لا تخيب وأنّ قصدك يكمل فمن السعود أمام جيشك موكب ... ومن الملائك دون جندك جحفل

_ (1) الأزهار: قام. (2) ق: يرفع. (3) الأزهار: العدا. ق: العلى. (4) الأزهار: معلل.

وكتيبة أردفتها بكتيبة ... والخيل تمرح في الحديد وترفل من كلّ منحفز كلمعة بارق ... بالبدر يسرج والأهلّة ينعل أوفى بهاد كالظليم وخلفه ... كفلٌ كما ماج الكثيب الأهيل حيّ إذا ملك الكميّ عنانة ... يهوي كما يهوي بجوّ أجدل حملت أسود كريهة يوم الوغى ... ما غابها إلاّ الوشيج الذّبّل لبسوا الدروع غدائراً مصقولة ... والسّمر قضب فوقها تتهدّل من كلّ معتدل القوام مثقّف ... لكنه دون الضريبة يعسل أذكيت فيه شعلة من نصله ... يهدى بها إن ضلّ عنه المقتل ولربّ لمّاع الصقال مشهّر ... ماض، ولكن فعله مستقبل رقّق مضاربه وراق فرنده ... فالحسن فيه مجمل ومفصّل فإذا الحروب تسعرت أجزالها ... ينساب في يمناك منها جدول وإذا دجا ليل القتام رأيته ... وكأنّه فيه ذبالٌ مشعل فاعجب لها من جذوة لا تنطفي ... في أبحر زخرت وهنّ الأنمل هي سنّة أحييتها وفريضة ... أدّيتها قرباتها تتقبّل فإذا الملوك تفاخرت بجدودها (1) ... فلأنت أحفى بالجهاد وأحفل يا ابن الإمام ابن الإما ... م ابن الإمام وقدرها لا يجهل يا ابن الذين جمالهم ونوالهم ... شمس الضحى والعارض المتهلّل آباؤك الأنصار تلك شعارهم ... فلحيّهم آوى النبيّ المرسل فهم الألى نصروا الهدى بعزائم ... مصقولة وبصائر لا تخذل ماذا يحبّر شاعر في مدحهم ... وبفضلهم أثنى الكتاب المنزل مولاي لا أحصي مآثرك التي ... بحديثها تنضى (2) المطيّ الذّلّل

_ (1) الأزهار: بحدودها. (2) الأزهار: تمضي.

وإذا الحقائق ليس يدرك كنهها ... سيّان فيها مكثر ومقلّل فإليك من شوّال غرّة وجهه ... أهداكها يوم أغر محجّل عذراء راق العيد رونق حسنها ... فغدا بنظم حليّها يتجمّل رضعت لبان العلم في حجر النّهى ... فوفت لها منه ضروع حفّل سلك البيان بها سبيل إجادة ... لولا صفاتك كان عنها يعدل جاءت تهني العيد أيمن قادم ... وافى بشهر صيامه يتوسّل وطوى الشهور مراحلاً معدودة ... كيما يرى بفناء جودك ينزل وأتى وقد شفّ النحول هلاله ... ولشوقه للقاء وجهك ينحل عقدت بمرقبه العيون مسرّةً ... فمكبّر لطلوعه ومهلّل فاسلم لألف مثله في غبطة ... ظلّ المنى من فوقه يتهدّل فإذا بقيت لنا فكلّ سعادة ... في الدين والدنيا بها تتكفّل وقال ابن الأحمر: ومن جياد أناشيده المتميزة بالسبقية، وبارقات تهانيه في المواسم العقيقية، قوله يهنئه - رضوان الله تعالى عليه - بطلوع مولانا الوالد قدّس الله تعالى روحه (1) : طلع الهلال وأفقه متهلل ... فمكبّر لطلوعه ومهلّل أوفى على وجه الصباح بغرّة ... فغدا الصباح بنوره (2) يتجمّل شمس الخلافة قد أمدّت نوره ... وبسعدها يرجو التمام ويكمل لله منه هلال سعد طالع ... لضيائه تعشو البدور الكمّل وألحت يا شمس الهداية كوكباً ... يعشي سناه كلّ من يتأمّل والتاج تاج البدر في أفق العلا ... ما زال بالزهر النجوم يكلّل

_ (1) لتشابه القصيدتين تشابه كثير من الأبيات. (2) الأزهار: بنورها.

ولئن حوى كلّ الجمال فإنه ... بالشّهب أبهى ما يكون وأجمل أطلعت يا بدر السماح هلاله ... والملك أفقٌ والخلافة منزل يبدو بهالات السروج وإنّه ... من نور وجهك في العلا يستكمل قلّدت عطف الملك منه صارماً ... بغنائه ومضائه يتمثّل حلّيته بحلى الكمال وجوهر ال ... خلق النفيس وكلّ خلق يجمل يغزو أمامك والسعود أمامه ... وملائك السبع العلا تتنزّل من مبلغ الأنصار منه بشارة ... غرّ البشائر بعدها تسترسل أحيا جهادهم وجدّد فخرهم ... بعد المئين فملكهم يتأثّل فبه إلى الأجر الجزيل توصلوا ... وبهم إلى ربّ السما يتوسّل من مبلغ الأذواء من بمن وهم ... قد توّجوا وتملّكوا وتقيلّوا أنّ الخلافة في بنيهم أطلعت ... قمراً به سعد الخليفة يكمل من مبلغ قحطان آساد الشرى ... ما غابها إلاّ الوشيج الذّبّل أنّ الخلافة وهو شبل ليوثهم ... قد حاط منها الدين ليث مشبل يهني بني الأنصار أنّ إمامهم (1) ... قد بلغته سعوده ما يأمل يهني البنود فإنها ستظلّه ... وجناح جبريل الأمين يظلّل يهني الجياد الصافنات فإنها ... بفتوحه تحت الفوارس تهدل يهني المذاكي والعوالي والظّبى ... فبها إلى نيل المنى يتوصّل (2) يهني المعالي والمفاخر أنّه ... في مرتقى أوج العلا يتوقّل سبقت مقدّمة الفتوح قدومه ... وأتاك وهو الوادع المتمهّل وبدت نجوم السعد قبل طلوعه ... تجلو المطامع قبله وتؤثّل (3)

_ (1) الأزهار: مليكهم. (2) ق: يتوسل. (3) الأزهار: لا تأفل.

وروت أحاديث الفتوح غرائباً ... والنصر يملي والبشائر تنقل ألقت إليك به السعود زمامها ... فالسعد يمضي ما تقول ويفعل فالفتح بين معجّل ومؤجّل ... ينسيك ماضيه الذي يستقبل أوليس في شأن (1) المشير دلالة ... أنّ المقاصد من طلابك تكمل ناداهم داعي الضلال فأقبلوا ... ودعاهم داعي المنون فجدّلوا عصوا الرسول إبايةً وتحكمت ... فيهم سيوفك بعدها فاستمثلوا كانوا جبالاً قد علت هضباتها ... نسفتهم ريح الجلاد (2) فزلزلوا كانوا بحاراً من حديد زاخر ... أذكتهم نار الوغى فتسيّلوا (3) ركبت أرجلها الأداهم كلما ... يتحرّكون إلى قيام تصهل كان الحديد لباسهم وشعارهم ... واليوم لم تلبسه إلاّ الأرجل الله أعطاك التي لا فوقها ... فتحاً به دين الهدى يتأثل جدّدت للأنصار حلي جهادها ... فالدين والدنيا به تتجمّل من يتحف البيت العتيق وزمزماً ... والوفد وفد الله فيه ينزل متسابقين إلى مثابة رحمة ... من كلّ ما حدب إليه تنسل هيماً كأفواج القطا قد ساقها ... ظمأ شديد والمطاف المنهل من كل مرفوع الأكفّ شراعة ... والقلب يخفق والمدامع تهمل حتى إذا روت الحديث مسلسلاً ... بيض الصوارم والرماح العسّل من فتحك الأسنى عن الجيش الذي ... بثباته أهل الوغى تتمثّل أهدتهم السرّاء نصرة دينهم ... واستبشروا بحديثها وتهلّلوا وتناقلوا عنك الحديث مسرّة ... بسماعه واهتزّ ذاك المحفل ودعوا بنصرك وهو أعظم مفخراً ... إنّ الحجيج بنصر ملكك يحفل

_ (1) ق: ثاني. (2) ق: فنفتهم ... الضلال. (3) ق: فتبسلوا.

فاهنأ بملكك واعتمد شكراً به ... لطف الإله وصنعه تتخوّل شرفت منه باسم والدك الرضى ... يحيا به منه الكريم المفضل أبديت من حسن الصنيع عجائباً ... تروى على مرّ الزمان وتنقل خفقت به أعلامك الحمر التي ... بخفوقها النصر العزيز موكل هدرت طبول العزّ تحت ظلالها ... عنوان فتح إثرها يستعجل ودعوت أشراف البلاد وكلّهم ... يثني الجميل وصنع جودك أجمل وردوا ورود الهيم أجهدها الظما ... فصفا لهم من ورد كفّك منهل وأثرت فيه للطراد فوارساً ... مثل الشموس وجوههم تتهلّل من كلّ وضّاح الجبين كأنّه ... نجم وجنح النقع ليل مسبل يرد الطراد على أغرّ محجّل ... في سرجه بطلٌ أغرّ محجّل قد عوّدوا قنص الكماة كأنما ... عقبانها ينقض منها أجدل يستتبعون هوادجاً موشيّةً ... من كلّ بدع فوق ما يتخيّل (1) قد صوّرت منها غرائب جمّة ... تنسي عقول الناظرين وتذهل وتضمنت جزل الوقود حمولها ... والنصر في التحقيق ما هي تحمل والعاديات إذا تلت فرسانها ... آي القتال صفوفها تترتّل لله خيلك؛ إنها لسوابح ... بحر القتام وموجه متهيّل من كل برقٍ بالثريا ملجمٍ ... بالبدر يسرج والأهلّة ينعل أوفى بهادٍ كالظليم وخلفه ... كفل كما ماج الكثيب الأهيل هنّ البوارق غير أنّ جيادها ... عن سبق خيلك يا مؤيد تنكل من أشهب كالصبح يعلو سرجه ... صبح به نجم الضلالة يأفل أو أدهم كالليل قلّد شهبه ... خاض الصباح فأثبتته الأرجل

_ (1) ق: يتحمل.

أو أشقر سال النّضار بعطفه ... وكساه صبغة بهجة لا تنصل أو أحمر كالجمر أضمر بأسه ... بالركض في يوم الحفيظة يشعل كالخمر أترع كأسها لندامها ... وبها حبابة غرّة تتسيّل أو أصفر لبس العشيّ ملاءة ... وبذيله لليل ذيل مسبل أجملت في هذا الصنيع عوائداً ... الجود فيها مجمل ومفصّل أنشأت فيها من نداك غمائماً ... بالفضل تنشأ والسّماحة تهمل فجّرت من كفّيك عشرة أبحر ... تزجي سحاب الجود وهي الأنمل من قاس كفّك بالغمام فإنّه ... جهل القياس ومثلها لا يجهل تسخو الغمام ووجهها متجهم ... والوجه منه مع النّدى يتهلّل والسّحبُ تسمح بالمياه وجوده ... ذهب به أهل الغنى تتموّل من قاس بالشمس المنيرة وجهه ... ألفيته في حكمه لا يعدل (1) من أين للشمس المنيرة منطق ... ببيانه درّ الكلام يفصّل من أين للشمس المنيرة راحة ... تسخو إذا بخل الزمان الممحل من قاس بالبدر المنير كماله ... فالبدر ينقص والخليفة يكمل من أين للبدر المنير شمائل ... تسري بريّاها الصّبا والشّمأل من أين للبدر المنير مناقب ... بجهادها تنضى المطيّ الذّلّل يا من إذا نفحت نواسم حمده ... فالمسك يعبق طيبه والمندل يا من إذا لمحت محاسن وجهه ... تعشو العيون ويبهر المتأمّل يا من إذا تليت مفاخر قومه ... آي الكتاب بذكرها تتنزّل كفل الخلافة منك يا ملك العلا ... والله جلّ جلاله لك أكفل مأمونها وأمينها ورشيدها ... منصورها مهديّها المتوكّل

_ (1) سقط البيت من ق.

حسب الخلافة أن تكون وليّها ... ومجيرها من كلّ من يتحيّل حسب الزمان بأن تكون إمامه ... فله بذلك عزّة لا تهمل حسب الملوك بأن تكون عميدها ... ترجو الندى من راحتيك وتأمل حسب المعالي أن تكون إمامها ... فعليك أطناب المفاخر تسدل يا حجّة الله التي برهانها ... عزّ المحقّ به وذلّ المبطل أنت الإمام ابن الإمام ابن الإما ... م ابن الإمام، وفخرها لا يعدل علّمت حتى لم تدع من جاهل ... أعطيت حتى لم تدع من يسأل وعناية الله اشتملت رداءها ... وعلقت منها عروة لا تفصل ومنها (1) : أخذت قلوب الكافرين مهابة ... فعقولهم من خوفها لا تعقل حسبوا البروق صوارماً مسلولة ... أرواحهم من بأسها تتسلّل وترى النجوم مناصلاً مرهوبة ... فيفر منها الخائف المتنصل يا ابن الألى إجمالهم وجمالهم ... شمس الضحى والعارض المتهلّل مولاي لا أحصي مآثرك التي ... بجهادها يتوصّل المتوسّل أصبحت في ظل امتداحك ساجعاً ... ظلّ (2) المنى من فوقه يتهدّل طوّقته طوق الحمائم أنعماً ... فغدا بشكرك في المحافل يهدل فإليك من صون العقول عقيلة ... أهداكها صنع أغرّ محجّل عذراء راق الصنع رونق حسنها ... فغدا بنظم حليّها يتكلّل خيرتها بين المنى فوجدتها ... أقصى مناها أنها تتقبّل

_ (1) قال في أزهار الرياض (2: 121) بعد هذا البيت: اتصل بهذا البيت جملة من القصيدة المترجمة في العيديات التي أولها " بشرى كما وضح الصباح وأجمل " وحذفناها من هذه اقتصاراً للتكرار. (2) الأزهار: طل.

لا زلت شمساً في سماء خلافة ... وهلالك الأسمى يتمّ ويكمل قال: ومن رقيق منازعه في بعض نزه مولانا رضوان الله عليه بالقصر السلطاني من شنيل قوله: نفسي الفداء لشادن مهما خطر ... فالقلب من سهم الجفون على خطر فضح الغزالة والأقاحة والقنا ... مهما تثنّى أو تبسّم أو نظر عجباً لليل ذوائب من شعره ... والوجه يسفر عن (1) صباح قد سفر عجباً لعقد الثغر منه منظّماً ... والعقد من دمعي عليه قد انتثر ما رمت أن أجني الأقاح بثغره ... إلاّ وقد سلّ السيوف من الحور لم أنسه ليل ارتقاب هلاله ... والقلب من شك الظهور على غرر بتنا نراقبه بأوّل ليلة ... فإذا به قد لاح في نصف الشهر طالعته في روضة كخلاله ... والطيب من هذي وتلك قد اشتهر وكلاهما يبدي محاسن جمّة ... ملء التنسم (2) والمسامع والبصر والكأس تطلع شمسها في خدّه ... فتكاد تعشي بالأشعة والنظر نورية كجبينه، وكلاهما ... يجلو ظلام الليل بالوجه الأغرّ هي نسخة (3) للشيخ فيها نسبة ... ما إن يزالا يرعشان من الكبر أفرغت في جسم الزجاجة روحها ... فرأيت روح الأنس منها قد بهر لا تسق غير الروض فضلة كأسها ... فالغصن في ذيل الأزاهر قد عثر ما هبّ خفّاق النسيم مع السّحر ... إلاّ وقد شاق النفوس وقد سحر ناجى القلوب الخافقات كمثله (4) ... ووشى بما تخفي الكمام من الزهر

_ (1) الأزهار: والوجه منه عن. (2) الأزهار: المشامم. (3) كذا في ق؛ وفي الأزهار: شيمة، وكلتا اللفظتين قاصرة الدلالة. (4) ق: لمثله، والمعنى: أن القلوب خافقات كمثل خفق النسيم المذكور في البيت السابق.

وروى عن الضحاك عن زهر الربى ... ما أسند الزهريّ عنه عن مطر وتحمّلت عنه حديث صحيحه ... رسل النسيم وصدّق الخبر الخبر يا قصر شنيل وربعك آهلٌ ... والروض منك على الجمال قد اقتصر لله بحرك والصّبا قد سرّدت ... منه دروعاً تحت أعلام الشجر والآس حفّ عذاره من حوله ... عن كل من يهوى العذار قد اعتذر (1) قبّل بثغر الزهر كفّ خليفة ... يغنيك صوب الجود منه عن المطر وافرش خدود الورد تحت نعاله ... واجعل بها لون المضاعف عن خفر وانظم غناء الطير فيه مدائحاً ... وانثر من الزهر الدراهم والدرر المنتقى من جوهر الشرف الذي ... في مدحه قد أنزلت آي السور والمجتبى من عنصر النور الذي ... في مطلع الهدي المقدّس قد ظهر ذو سطوة مهما كفى، ذو رحمة ... مهما عفا، ذو عفّة مهما قدر كم سائل للدهر أقسم قائلاً: ... والله ما أيامه إلاّ غرر مولاي سعدك كالمهنّد في الوغى ... لم يبق من رسم الضلال ولم يذر مولاي وجهك والصباح تشابها ... وكلاهما في الخافقين قد اشتهر إنّ الملوك كواكب أخفيتها ... وطلعت وحدك (2) في مظاهرها قمر في كل يوم من زمانك موسمٌ ... في طيّه للخلق أعياد كبر فاستقبل الأيام يندى روضها ... ويرف والنصر العزيز له ثمر قد ذهّبت منها العشايا ضعف ما ... قد فضضت منها المحاسن في السّحر يا ابن الذين إذا تعدّ خلالهم ... نفد الحساب وأعجزت منها القدر إن أوردوا هيم السيوف غدائراً ... مصقولة فلطالما حمدوا الصدر سائل ببدر عنهم بدر الهدى ... فبهم على حزب الضلال قد انتصر

_ (1) ق: اقتدر. (2) الأزهار: وجهك.

واسأل مواقفهم بكلّ مشهّرٍ ... واقر المغازي في الصحيح وفي السير تجد الثناء ببأسهم وبجودهم ... في مصحف الوحي المنزّل مستطر فبمثل هديك فلتنر شمس الضحى ... وبمثل قومك فليفاخر من فخر ماذا أقول وكلّ وصف معجز ... والقول فيك مع الإطالة مختصر تلك المناقب كالثواقب في العلا ... من رامها بالحصر أدركه الحصر إن غاب عبدك عن حماك فإنّه ... بالقلب في تلك المشاهد قد حضر فاذكره إنّ الذكر منك سعادة ... وبها على كلّ الأنام قد افتخر ورضاك عنه غاية ما بعدها ... إلاّ رضى الله الذي ابتدع البشر فاشكر صنيع الله فيك فإنّه ... سبحانه ضمن المزيد لمن شكر وعليك من روح الإله تحيّة ... تهفو إليك مع الأصائل والبكر ثمّ قال: ومن أغراضه الوقتية - استرسالاً مع الطبع البديهي في الشكر عن ضروب من التحف التي يقتضيها التحفّي السلطاني بأولياء خدمته - نبذ متعددة فيما يظهر فيها، فمنها قوله: يا خير من ملك الملوك بجوده ... وبفضله قد أشبه الأملاكا والله ما عرف الزمان وأهله ... أمناً ويمناً دائماً لولاكا وافيت أهلي بالرياض عشيّة ... في روض جاهك تحت ظل ذراكا (1) فوجدته قد طلّه صوب الندى ... بسحائب تنهلّ من يمناكا وسفائن مشحونة ألقى بها ... بحر السماح يجيش من نعماكا رطب من الطلع النضيد كأنها ... قد نظّمت من حسنها أسلاكا من كلّ ما كان النبيّ يحبّها ... وأحبّها الأنصار من أولاكا وبدائع التّحف التي قد أطلعت ... مثل البدور أنارت الأحلاكا

_ (1) الأزهار: رضاكا.

نطفٌ من النور المبين تجسّمت ... حتى حسبنا أنهنّ هداكا يحلو على الأفواه طيب مذاقها ... لولا التجسّد خلتهنّ ثناكا (1) طافت بها النّشأ الصغار كأنّها ... سرب القطا لمّا وردن نداكا نجواهم مهما سمعت كلامهم ... ونداؤهم: مولاي، أو مولاكا بلّغت في الأبناء عبدك سؤله ... لا زلت تبلغ في بنيك مناكا يتدارسون من الدعاء صحائفاً ... كيما يطيل الله في بقياكا فبقيت شمساً في سماء خلافةٍ ... وهم البدور أمدّهنّ سناكا ومنها وقد أهداه نعمة الله أطباقاً من حبّ الملوك (2) : كتب الإله على العباد محبّة ... لك كان فرض كتابها موقوتا وأنا الذي شرّفته من بينهم ... حتى جعلت له المحبّة قوتا ما زلت تتحفه بكلّ ذخيرة ... حتى لقد أتحفته الياقوتا وإلى الملوك قد اعتزى من عزّه ... فغدا له ياقوتها ممقوتا ومنها في مثل ذلك: يا خير من ملك الملوك ... أهديتني حبّ الملوك فكأنّما ياقوتها ... نظمت لنا نظم السلوك إنّ الملوك إذا لجوا ... فغياثهم أن أمّلوك وكذا العفاة إذا شكوا ... فغناهم أن يسألوك فالله يقبل من دعا ... لعلاك من أهل السلوك لا زلت تطلع غرّة ... كالشمس في وقت الدلوك

_ (1) الأزهار: سناكا. (2) ما يعرف في مصر باسم " حب العزيز ".

ومنها، وقد أهداه صيداً ممّا صاده أولاده: يا خير من روث السماح عن الألى ... نصروا الألى وتبوّأوا إيمانا في كلّ يوم منك تحفة منعم ... والى الجيمل وأجزل الإحسانا قد أذكرت دار النعيم عبيده ... وتضمنت من فضله رضوانا تهدي مواليّ (1) الذين تفرّعوا ... عن دوح فخرك في العلا أغصانا لجلالك الأعلى قنيصاً أتعبوا ... في صيده الأرواح والأبدانا فتخصّني منه بأوفر قسمة ... فسحت لعبدك في الرضى ميدانا لله من مولىً كريم بالذي ... تهدي الموالي يتحف العبدانا تدعو بنيّ إلى الغنيّ بربّه ... يا ربّنا أغن الذي أغنانا وعليك من قدس الإله تحيّة ... تهديك منه الرّوح والريحانا ومنها، وقد أهداه أصنافاً من الفواكه: يا من له الوجه الجميل إذا بدا ... فاقت محاسنه البدور كمالا والمنتقى من جوهر الفخر الذي ... فاق الخلائف عزّة وجمالا (2) ما أبصرت عيناي مثل هديّة ... أبدت لنا صنع الإله تعالى فيها من التفاح كلّ عجيبة ... تذكي بريّاها صباً وشمالا تهدي لنا نهد الحبيب وخدّه ... وتري من الورد الجنيّ مثالا وبها من الأترجّ شمس أطلعت ... من كلّ شطر للعيون هلالا ويحفّها ورق يروق كانة ... ورق النّضار وقد أجاد نبالا لون (3) العشية ذهّبت صفحاتها ... رقّت وراقت بهجةً وجمالا

_ (1) الأزهار: مواليك. (2) الأزهار: وجلالا. (3) ق: لولا.

وبها من النّقل الشهيّ مذكّر ... عهداً تولّى ليته يتوالى لله منها خضرة من حضرة ... تغني العفاة وتحسب الآمالا أذكرتني العهد القديم ومعهداً ... كانت شموس الراح فيه تلالا فأردت تجديد العهود وإنّما ... كتب المشيب على عذاري لا لا فأدرت من ذكراك كأس مدامة ... وشربت من حبي لها جريالا فبقيت شمساً في سماء خلافة ... لا يستطيع لها الزمان زوالا ومنها يوم عاشوراء: يا أيها المولى الذي بركاته ... رفعت لواء للنّدى منشورا لك راحة تزجي الغمام بأنمل ... فجرّت منها بالنوال بحورا واليوم موسم قربة وعبادة ... وغداً، ظفرت بأجره، عاشورا راعيت فيه سنّة نبويّة ... تروي الثقات حديثه المشهورا لا زلت عامك كلّه في غبطة ... لقّيت منها نضرة وسرورا ومنها في بعض قطعة: واليت ما أوليت يا بحر النّدى ... ووحقّ جودك ما رأيت كهذه فإذا يهزّ لها اللسان حسامه ... فصفات فخرك قد قضت بنفاذه علّمت فرسان الكلام نظامها ... كتعلّم التلميذ من أستاذه والبحر تمتار السحائب ماءه ... فتجوده من غيثها برذاذه ومنها، وقد أهداه باكوراً: يا وارث الأنصار وهي مزيّة ... بفخارها أثنى الكتاب المنزل أهديتني الباكور وهي بشارة ... ببواكر الفتح الذي يستقبل

وولادة لهلال تمّ طالع ... وجه الزمان بوجهه يتهلّل هو أوّل الأنوار في أفق الهدى (1) ... وترى الأهلّة بعده تسترسل مولاي صدق الفال قد جرّبته ... من لفظ عبدك، والعواقب أجمل ومنها في جفنة: طعامك من دار النعيم بعثته ... فشرّفته من حيث أدري ولا أدري بهضبة نعمى قد سمونا لأوجها (2) ... فصدنا بأعلاها الشهيّ من الطير وقوراء قد درنا بهالة بدرها ... كما دارت الزّهر النجوم على البدر وقد حملت فوق الرؤوس لأنها ... هديّة مولىً حلّ في مفرق الفخر فما شئت من طعمٍ زكيّ مهنّإ ... وما شئت من عرف ذكي ومن نشر فلو أنها قد قدمت لخليفة ... لأعظمها قدراً وبالغ في الشكر وكم لك من نعمى عليّ عميمة ... يقلّ لأدناها الجميل من الذكر فلا زلت يا مولى الملوك مبلّغاً ... أمانيّ ترجوها إلى سالف الدهر ومنها شكراً عن كتاب: مولاي يوم الجمعه ... سعوده مجتمعه فانعم صباحاً واغتنم ... أوقاته المجتمعه وابشر بصنع عاجل ... أعلامه مرتفعه وانتظر الفتح الذي ... يأتيك بالنصر معه وبيضُه وسمره ... إلى العداة مشرعه واللطف مرجوٌ فرد ... بفضل ربي مشرعه

_ (1) ق: الندى. (2) ق: لأجلها.

فاتحتني شرّفتني ... برقعة مرفّعه بل روضة ممطورة ... أزهارها منوّعه حديقة قد جدتها ... بصوب جود مترعه وراية منشورة ... وآية مستبدعه (1) كم حكم لطيفة ... في طيّها مستودعه عقيلة صورتها ... من الجمال مبدعه سقيتني من فضلها ... بفضل كاس مترعه فدم وأملاك الورى ... على علاك مجمعه ومنها شكراً على خلعة: يا بدر تمّ في سماء خلافة ... حفّت نجوم السّعد هالة قصره ألبست عبدك من ثيابك ملبساً ... قد قصّرت عنه مدارك شكره ورضاك عنه خير ما ألبسته ... فلقد أشاد بجاهه وببرّه ألبستني، أركبتني، شرّفتني ... أهديتني ما لا أقوم بحصره نظري لوجهك وهو أجمل نيّرٍ ... يزري على شمس الزمان وبدره أعلى وأعظم منّةً لا سيّما ... وأنا المنعّم في الحضور ببشره لا زلت مولىً للملوك مؤمّلاً ... وحلاك (2) للإسلام مفخر دهره ومنها، وقد خلع - رضوان الله تعالى عليه - على رسول من أرساله: أبحر سماح مدّ عشرة أبحر ... تفيض غمام الجود وهي الأنامل بكفّك غيث للبلاد وأهلها ... يروّض محل الأرض، والعام ما حلُ

_ (1) سقط البيت والذي يليه من ق. (2) الأزهار: وعلاك.

لك الخير إن أصبحت بحر سماحة ... يعم نداه فالمواهب ساحل خلعت على هذا الرسول ملابساً ... بها تتسنّى في علاك المآمل وبلّغته آماله كيف شاءها ... فبلّغت يا مولاي ما أنت آمل ومنها وقد مرض بعض أبنائه رحمة الله تعالى على الجميع، قوله سائلاً عن حاله: أسائل بدر التمّ كيف هلاله ... وأدعو له الرحمن جلّ جلاله وأسأله تعجيل راحته التي ... وسيلتنا فيها النبيّ وآله ستبلغ فيه ما تؤمّل من منّى ... ويرضيك يا بدر الكمال كماله وفي مثله: أقول لبدر التمّ كيف هلالكا ... نعمت صباحاً بالسعود (1) وآلكا وبلّغت في النجل الكريم (2) سعادة ... تقرّ بها عيناً وينعم بالكا وخصصت بالبشرى من الله ربّنا ... كما عمّ أقطار البلاد نوالكا ومن التورية باسم قائد ولاه على جماعة من الجند: يا أيها المولى الذي أيامه ... تهمي بسحب الجود من آلائه أبشر لجيشك بالسعادة كلما ... يغزو ونصر الله تحت لوائه وأنشده في ملبس اتخذه: أمولاي يا ابن السابقين إلى العلا ... ومن نصروا الدين الحنيفيّ أولا غنيت بنور الله عن كلّ زينة ... وألبست من رضوانه أشرف الحلى وقارك زاد الملك عزّاً وهيبةً ... وسوّغه من رحمة الله منهلا

_ (1) الأزهار: بالسرور. (2) الأزهار: السعيد.

ويا شمس هدي في سماء خلافة ... وأبناؤه الزهر المنيرة تجتلى تبارك من أبداك في كلّ مظهر ... جميلاً جليلاً مستعاذاً مؤمّلا فيخجل منك الشمس شمس هداية ... ويحسد منك البدر بدراً مكمّلا إذا أنت ألبست الزمان وآله ... ملابس عزّ ليس يدركها البلى وطوّقت أجياد الملوك أيادياً ... وتوّجتهم بالفخر تاجاً مكلّلا فما شئت فالبس فالمشاهد قائل: ... تبارك ما أبهى وأسنى وأجملا ألا كلّ من صلّى وضحّى ومن دعا ... ومدّ يديه ضارعاً متوسّلا وجودك شرط في حصول قبوله ... وجودك أثرى كفّه فتنفّلا (1) وقال برسم ما يرسم على ثوب في بعض هدايا مولانا رحمه الله تعالى للسلطان أبي العباس: أهدي أبا العبّاس ... ملك الندى والباس ثوب السماء لأنّه ... بدر بدا للنّاس فلق الصباح بوجهه ... عوّذته بالنّاس يكسو إماماً لم يزل ... بحلى المحامد كاسي فيا له من مرتد ... ثوب التّقى لبّاس أذياله من حمده ... مسكيّة الأنفاس وبطرزه مدح زرى ... بالمدح في القرطاس إن كنت في لون السما ... ء بنسبة وقياس فلأنت يا بدر العلا ... شرّفتني بلباس أنا منشدٌ " ما في وقو ... فك ساعةً من باسِ " (2)

_ (1) الأزهار: متنفلا. (2) صدر بيت لأبي تمام، وعجزه " تقضي ذمام الأربع الأدراس ".

لترى رياضاً (1) أطلعت ... زهراً على أجناس أوراقها توريقها ... بقضيبها الميّاس ومن المديح مدامتي ... ومن المحابر كاسي فالله يمتع لابسي ... بالبشر والإيناس وقال في مثل ذلك: إنّ الإمام محمّدا ... أهدى الخليفة أحمدا للباسه ثوباً، وقد ... لبس المحامد وارتدى وعمامة الشفق (2) التي ... من فوقها شمس الهدى يا حسنها إذ أرسلت ... من كفّه غيث النّدى وكأنّ وشي رقومها ... بالبرق طرّز عسجدا وبطرزه لون السما ... ء ووجهه قمر بدا لله منه نيّر ... حلّ المنازل أسعدا مستنصر، أعلى له ... فوق المنازل أسعدا ثمّ قال وأنشده وهو على جواد أدهم: تجلّى لنا المولى الإمام محمّد ... على أدهمٍ قد راق حسن أديمه فأبصرت صبحاً فوق ليل وقد حكى ... مقلّد ذاك الطّرف بعض نجومه وكتب له مع هدية زهر: أمولاي تقبيلي ليمناك شاقني ... ولا ينكر الظمآن شوقاً إلى البحر ولمّا رأيت الدهر ماطلني بها ... وشوّقني من حيث أدري ولا أدري

_ (1) ق: رياشاً. (2) الأزهار: التقوى.

بعثت لك الزّهر الجنيّ لعلّه ... يقبّلها عني ثغور من الزهر وكتب إليه أيضاً متشوّقاً: كتبت ودمعي بلّل الركب قطره ... وأجرى به بين الخيام السواقيا حنيناً لمولىً أتلف المال جوده ... ولكنّه قد خلّد الفخر باقيا وما عشت بعد البين إلاّ لأنّني ... أرجّي بفضل الله منه التلاقيا وأنشده أيضاً وهو بحال تألم: كأني بلطف الله قد عمّ خلقه ... وعافى إمام المسلمين وقد شفى وقاضي القضاء الحتم سجّل ختمه (1) ... وخطّ على رسم الشفاء له " اكتفى " وله في مثل ذلك: لك الخير يا مولاي أبشر بعصمة ... عقدت مع الأيام في حفظها صلحا وعافية في صحّة مستجدّة ... تجدّد للدين السعادة والنّجحا ووجه التهاني مشرق متهلل ... وجوّ الأماني بعدما غام قد أضحى وقد ظهرت للبرء منك علامة ... علامتك العليا (2) تقول لنا " صحّا " وفي مثل ذلك: يا إماماً قد تخذنا ... هـ من الدهر ملاذا خطّ يمناك ينادي ... صحّ هذا صحّ هذا وقال مهنئاً بالشفاء:

_ (1) الأزهار: حكمه. (2) الأزهار: العظمى.

الحمد لله بلغنا المنى ... لمّا رأيناك، وزال العنا وفزت بالأجر وكبت العدا ... وفزت بالعزّ ويطب الثنا فالحمد لله على ما به ... منّ علينا من ظهور السنا وقال أيضاً في نحوه: نعم قرّت العينان وانشرح الصدر ... وقد لاح من وجه الإمام لنا البدر سرينا بليل التيه يكذب فجره ... فلمّا تجلّى فجره صدق الفجر أغرّ المحيّا بالحياء مقنّعٌ ... زهاه الكلام الحرّ والنسب الحرّ إمام الهدى قد خصّه بخلافة ... إله له في خلقه النهي والأمر وقال في مثله، وقد ركب رحمه الله تعالى لمعاهد حضرته: هنيئاً هنيئاً لا نفاد لعدّه ... وبشرى لدين الله إنجاز وعده فقد لاح بدر التم في أفق العلا ... وحلّ كما يرضى منازل سعده وطاف أمير (1) المسلمين محمّد ... بحضرته العليا مبلّغ قصده ولاحت بها الأنوار من بشر وجهه ... وفاح بها النوّار من نشر حمده وأبصرت الأبصار شمس هداية ... وأشرقت الأرجاء من زهر رفده ولوّحت الأعلام فيها بنصره ... كما لوّح الصبح المبين (2) ببنده ستهدي له الأيام كلّ مسرّة ... ويحيي به الرحمن آثار جدّه فسلّ حسام السعد واضرب به العدا (3) ... وخلّ حسام الهند في كنز (4) غمده فسيفك سيف الله مهما سللته ... يقيم حدود الله قائم حدّه

_ (1) الأزهار: إمام. (2) الأزهار: المنير. (3) الأزهار: واضرب بحده. (4) الأزهار: في كنّ.

وقال، وقد عاد رحمه الله تعالى من بعض متوجهاته الجهادية لجبل الشوار: على الطائر الميمون والطالع السّعد ... قدمت مع الصنع الجميل على وعد وقد عدت من جبل الشوار لتجتلي ... عقائل للفتح المبين بلا عدّ وقال ممّا رسم في طيقان (1) الأبواب بالمباني السعيدة التي ابتناها رحمه الله تعالى: أنا تاج كهلال ... أنا كرسيّ جمال ينجلي الإبريق فيه ... كعروس ذي اختيال جود مولانا ابن نصر ... قد حباني بالكمال وفي مثله: من رأى التاج الرفيعا ... قد حوى الشكر البديعا تحسد الأفلاك منه ... قوسه السهل المنيعا دمت ربعاً للتّهاني ... أنظم الشمل الجميعا وفيه: للغني بالله قصر ... للتهاني يصطفيه فيه محراب صلاة ... يقف الإبريق فيه تالياً سورة حسنٍ (2) ... والمعالي تقتفيه وفيه: أي قوس ذي جمال (3) ... سهمه سهم السعادة

_ (1) ق: طبقات. (2) الأزهار: حبي. (3) الأزهار: كمال.

ملك الإبريق فيه ... عوّد الإحسان عاده ذو صلاة من صلاة ... كلّها دأباً معاده وقال في المعنى ممّا كتب به لعمنا الأمير سعد رحمة الله تعالى عليه: انظر لأفق جمال ... به الأباريق تصعد حسن بديع حباه ... به الأمير (1) الممجّد فخر الإمارة سعد ... به الخليفة يسعد وكيف لا وأبوه ... فخر الملوك محمد عليه حلي رضاه ... في كل يوم يجدّد وقال فيه أيضاً: رفعت قوس سمائي ... يزهى بتاج الهلال قد قلدته نقوشي ... در الدراري العوالي ترى الأباريق فيه ... تهديل عذب الزلال قد زان قصري سعد ... بسعده المتوالي فدام يعمر ربعي ... في كلء مولى الموالي وفي الغرض: ما ترى في الرياض أشباهي ... يسحر العقل حسني الزاهي زان روضي أميره سعد ... وهو نجل الغني بالله دام منه بمرتقى عزّ ... آمر بالسعود أو ناهي وقال في غرض الشكر عن مغطى (2) صنهاجي أهداه إياه:

_ (1) ق: الأمين. (2) يستدل من القطعة أن المغطى نوع من الصناديق.

لمن قبّة حمراء مدّ نضارها ... تطابق منها أرضها وسماؤها وما أرضها إلا خزائن رحمة ... وما قد سما من فوق ذاك غطاؤها وقد شبّه الرحمن خلقتنا به ... وحسبك فخراً بان منه اعتلاؤها ومعروشة الأرجاء مفروشة بها ... صنوف من النعماء منها وطاؤها ترى الطير في أجوافها قد تصففت ... على نعم عند الإله كفاؤها ونسبتها صنهاجة غير أنّها ... تقصّر عمّا قد حوى خلفاؤها حبتني بها دون العبيد خلافة ... على الله في يوم الجزاء جزاؤها وفي مثله: ما للعوالم جمعت في قبة ... قد شادها كرم الإمام محمد في صفح صرح بالزجاج مموّه ... وبجود مولاي الإمام ممهّد ما إن رأيت ولا سمعت كطائر (1) ... عن ثوب موشيّ الرياش مجرّد إن لم تكن تلك الطيور تغرّدت ... فلشكر هذا العبد سجع مغرّد صفّت عليها للفواكه كلّ ما ... قد عاهدته بدوحها المتعوّد لو أبصرت صنهاجة أوضاعه ... دانت له أملاكها بتعبد عوّدتني الصنع الجميل تفضّلاً ... لا زلت خير معوّذ ومعوّد وبسورة الأنعام كم من آية ... فيها لقار بالنوال مجوّد وقال تذييلاً لبيتي ابن المعتز (2) : سقتني في ليل شبيه بشعرها ... شبيهة خديها بغير رقيب " فأمسيت في ليلين للشّعر (3) والدجى ... وشمسين من خمر وخدّ (4) حبيب "

_ (1) الأزهار: بطائر. (2) انظر أشعار أولاد الخلفاء: 179. (3) الصولي: فبت لذا الليلين بالشعر. (4) الصولي: وفجرين من راح ووجه.

إلى أن بدا الصبح المبين كأنّه ... محيّا ابن نصر لم يشن بغروب شمائله مهما أديرت كؤوسها ... قلائد أسماع وأنس قلوب وقال مذيلاً على بيت ابن وكيع (1) : هي في أوجه الندامى عقيق ... وهي مثل النضار في الأقداح كابن نصر تراه في الحرب ليثاً ... وهو بدر الندى وغيث السماح ذكره قد ثنى قدود الندامى ... وأعاد الحياة في الأرواح (2) وقال ممّا يرسم للغني بالله: للغني بالله ملك ... برده بالعزّ مذهب دام في رفعة شان ... ما جلا الإصباح غيهب وقال أيضاً: يا ابن نصر لك ملك ... ليس تعدوه الفتوح دمت روحاً للمعالي ... ما سرى في الجسم روح ومن مقطوعاته: وابن نصر له محيّا كصبح ... إن تجلّى جلا لنا (3) كلّ كرب ذو حسامٍ كأنّه لمع برق ... في بنان كأنّها غيث سحب ومن أخرى: وكأنّ النجوم في غسق اللي ... ل جمان يلوح في آبنوس

_ (1) لم يرد في ديوانه المجموع. (2) الأزهار: الأشباح؛ وهي بمعنى الأجسام. (3) الأزهار: جلا دجى.

وكأنّ الصباح في الأفق يجلى ... بحليّ النجوم مثل العروس وكأنّ الرياض تهدي ثناء ... للغنيّ بالله فوق الطروس وقال من قصيدة أولها: أضياء هدي أم ضياء نهار ... وشذا المحامد أم شذا الأزهار قسماً بهديك في الضياء، وإنّه ... شمس تمدّ الشهب بالأنوار (1) ومنها: كم من لطائف للهدى أوضحتها ... خفيت لطائفها (2) على الأفكار كم من جرائم قد غفرت عظيمها ... مستنزلاً من رحمة الغفّار علمت ملوك الأرض أنّك فخرها ... فتسابقت لرضاك في مضمار ومنها يصف الجيش: سالت به تحت العجاج سفينة ... لقحت بريح العز (3) من أنصار أرست بجودي الجود في يوم الندى ... وجرت بيوم الحرب في تيّار ومنها: ألقى بأيدي الريح فضل عنانه ... فيكاد يسبق لمحة الأبصار ومنها: فهي العراب متى انبرت يوم الوغى (4) ... قد أعربت عن لطف صنع الباري

_ (1) بين هذا البيت وسابقه في أزهار الرياض: ومنا بعد كثير. (2) الأزهار: مداركها. (3) الأزهار: العزم. (4) الأزهار: متى أثيرت في الوغى؛ ق: أثيرت يوم.

ومنها: إن خاض في ليل العجاج (1) رأيته ... يجلو دجنّته بوجه نهار ومنها: كم فيهم من قار ضيف طارق ... وضحت شواهد فضله للقار ومنها: يا أيّها الملك الذي أيامه ... غرر تلوح بأوجه الأعصار قد زارك العيد السعيد مبشراً ... فاسمح لألف منهم بمزار لمّا ازدهته عواطف ألطفتها ... عطف الإله عليك عطف سوار فأتى يؤمم منك هدياً صالحاً ... كي يستمدّ النور بعد سرار وأتاك يسحب ذيل سحب أغدقت ... تغري جفون المزن باستعبار جادت بجاري الدمع من قطر الندى ... فرعى الربيع لها حقوق الجار فأعاد وجه الأرض طلقاً مشرقاً ... متضاحكاً بمباسم النوّار لمّا دعاك إلى القيام بسنّة ... حكّمت داعي الجود والإيثار فأفضت فينا من نداك مواهباً ... حسنت مواقعها على التركار فاهنأ بعيد عاد يشتمل الرضى ... جذلان يرفل في حلى استبشار ومنها: لا عذر لي إن كنت فيه مقصّراً ... سدّت صفاتك أوجه الأعذار فإذا نظمت من المناقب درّها ... شرّفتني منها بنظم دراري فلذاك أنظمها قلائد لؤلؤ ... لألاؤها قد شفّ بالأنوار

_ (1) الأزهار: بحر العجاج.

وأنشد على لحده المقدّس رحمه الله تعالى (1) : ضريح أمير المسلمين محمّد ... يخصك ربي بالسلام المردّد وحيّتك (2) من روح الإله تحيّة ... مع الملإ الأعلى تروح وتغتدي وشقّت جيوب الزهر فيك كمائم ... يرف بها الريحان عن خضلٍ ندي وصابت من الرحمى عليك غمائم ... تروّي ثرى هذا الضريح المنجّد وزارتك من حور الجنان أوانس ... نواعم في كلّ النعيم المخلّد وجاءتك بالبشرى ملائكة الرضى ... كما جاء في الذكر الحكيم الممجّد وصافح منك الروض أطيب تربة ... وعاهد منك المزن أكرم معهد رضى الله والصفح الجميل وعفوه ... يوالي على ذاك الصفيح المنضّد ويا صدفاً قد فاز من جوهر العلا ... بكلّ (3) نفيس بالنفاسة مفرد أعندك أنّ العلم والحلم والحجى ... وزهر الحلى قد أدرجت طيّ ملحد وهل أنت إلاّ هالة القمر الذي ... بنور هداه الشهب تهدي وتهتدي ويا عجباً من ذلك الترب كيف لا ... يفيض ببحر للسماحة مزبد لقد ضاقت الأكوان وهي رحيبة ... بما حزت من فخر عظيم وسودد قدمت على الرحمن أكرم مقدم ... وزوّدت من رحماه خير مزوّد أقام بك المولى الإمام محمّد ... مؤمّل فوز بالشّفيع محمّد فجاء كما ترضى وترضى به العلا ... وأنجز للآمال أكرم موعد ومد ظلال العدل في كل وجهة ... وكف أكفّ البغي من كلّ معتد وقام بمفروض الجهاد عن الورى ... وعوّد دين الله خير معوّد قضى بعدما قضّى الخلافة حقّها ... وعامل وجه الله في كلّ مقصد

_ (1) انظر أزهار الرياض 2: 152. (2) الأزهار: وحياك. (3) الأزظهار: حاز ... لكل.

وفتّح بالسيف الممالك عنوةً ... ومدت له أملاكها كفّ مجتد وكسّر تمثال الصليب وأخرست ... نواقيس كانت للضلال بمرصد وطهّر محراباً وجدّد منبراً ... وأعلن ذكر الله في كلّ مسجد ودانت له الأملاك شرقاً ومغرباً ... وكلهم ألقى له الملك باليد وطبّق معمور البسيطة ذكره ... وسارت به الركبان في كل فدفد وسافر عن دار الفناء ليجتلي ... بما قدّم اليوم السعادة في غد وقام بأمر الله حقّ قيامه ... بعزمة لا وانٍ ولا متردّد لئن سار للرحمن خير مودع ... وحلّ من الفردوس أشرف مقعد فقد خلّف المولى الخليفة يوسفاً ... يعيد له غرّ المساعي ويبتدي سبيلك في سبل المكارم يقتفي ... وهديك يا خير الأئمة يقتدي محمد جلّى الخطب من بعد يوسف ... ويوسف جلّ الخطب بعد محمد ولو وجد الناس الفداء مسوّغاً ... فداك ببذل النفس كلّ موحّد ستبكيك أرض كنت غيث بلادها ... وتبكيك حتى الشهب في كلّ مشهد وتبكي عليك السحب ملء جفونها ... بدمع يروّي غلّة المجدب الصّدي وتلبس فيك النيرات ظلامها ... حداداً ويذكي النجم جفن مسهّد وما هي إلا أعين قد تسهدت ... فكحّلها نجم الظلام بإثمد فلا زلت في ظلّ النعيم مخلّداً ... ونجلك يحيا بالبقاء المخلّد وأوردك الرحمن حوض نبيّه ... وأصدر من خلّفت عن خير مورد عليك سلام مثل حمدك عاطرٌ ... يفض ختام المسك عن تربك الندي وصلى على المختار من آل هاشمٍ ... صلاةً بها نرجو الشفاعة في غد وقال يستعطف الوالد السلطان أبا الحجاج (1) :

_ (1) أزهار الرياض: 2: 157.

بما قد حزت من كرم الخلال ... بما أدركت من رتب الجلال بما خوّلت من دين ودنيا ... بما قد حزت من شرف الجمال (1) بما أوليت من صنع جميل ... يطابق لفظه معنى الكمال تغمدني (2) بفضلك، واغتفرها ... ذنوباً في الفعال وفي المقال وقال أيضاً (3) : أتعطش أولادي وأنت غمامة ... تعمّ جميع الخلق بالنفع والسقيا وتظلم أوقاتي ووجهك نير ... تفيض به الأنوار للدين والدنيا وجدّك قد سمّاك ربّك باسمه ... وأورثك الرحمن رتبته العليا وقد كان أعطاني الذي أنا سائل ... وسوّغني من غير شرط ولا ثنيا وشعري في غرّ المصانع خالد ... يحيّيه عني في الممات وفي المحيا وما زلت أهدي المدح مسكاً مفتّقاً ... فتحمله الأرواح عاطرة الريّا وقد أكثر العبد التشكّي وإنّه ... وحقّك يا فخر الملوك قد استحيا وما الجود إلا ميّت، غير أنّه ... إذا نفخت يمناك في روحه يحيا فمن شاء أن يدعو لدين محمد ... فيدعو لمولانا الخليفة بالبقيا وقال أيضاً فيه وقد نزل بالولجة من مرج الحضرة: منزل اليمن والرضى والسعود ... أنجزت فيه صادقات الوعود كلّ يوم نزاهة إن تقضّت ... أنشدتها السعود: بالله عودي جمع المستعين وصف كمال ... بين بأس عمّ الملوك وجود

_ (1) الأزهار: المعالي. (2) ق: تغمدها. (3) الأزهار: ومن ذلك أيضاً يخاطب أخانا السلطان أبا عبد الله رحمه الله تعالى عليه متوسلاً بقديم ذمامه، والخدم المتعددة من نظامه.

فاهن في غبطة وعزة ملك ... أنت والله فخر هذا الوجود وقال أيضاً مشيراً لتوليته العلامة: لك غرّة ودّ الصباح جمالها ... ومحاسن تهوى البدور كمالها وشمائل تحكي الرياض خلالها ... وأنامل ترجو (1) الأنام خلالها للمستعين خلافة نصريّة ... عرفت ملوك العالمين جلالها (2) وأنا الذي قد نال منك معالياً ... تهدي النجوم الزاهرات منالها تهديه ما قد نلته من بعضها ... فالفخر كلّ الفخر فيمن نالها في كلّ يوم منك منّة منعم ... لو طاولت سمك السما (3) ما طالها بلغت آمال العبيد فبلّغت ... فيك العبيد من البقا آمالها وقال أيضاً وكتبها إليه مع خمسة أقلام: أيا مالكاً لم يبد للعين حسنه ... سوى ملك قد حلّ من عالم القدس لك الخير خذها كالأنامل خمسة ... تعوّذ مرآك المكمّل بالخمس فمن أبصرت عيناك مرآه فليقل ... أعوذ بربّ الناس أو آية الكرسي ثم قال ابن الحمر: وقال يخاطب مولانا الوالد رحمة الله تعالى عليه وقد مرّ معه بفحص ريّة، والثلج قد عمّ أنديته، وبسط أرديته، في وجهة توجهها مولانا الجد تغمّده الله تعالى إلى مالقة: يا من به رتب الإمارة (4) تعتلي ... ومعالم الفخر المشيدة تبتني

_ (1) ق: ترجى. (2) الأزهار: جمالها. (3) الأزهار: سمك العلا. (4) الأزهار: المعالي.

ازجر بهذا الثلج فألاً إنّه ... ثلج اليقين بنصر مولانا الغني بسط البياض كرامةً لقدومه ... وافترّ ثغراً عن مسرّة معتني فالأرض جوهرة تلوح لمجتل ... والدوح مزهرة تفوح لمجتني سبحان من أعطى الوجود وجوده ... ليدلّ منه على الجواد المحسن وبدائع الأكوان في إتقانها ... أثر يشير إلى البديع المتقن ثم قال: ومن أوليات نظمه يخاطب شيخه الوزير أبا عبد الله ابن الخطيب مادحاً قوله: أما وانصداع النور من مطلع الفجر ... إلى آخره، وقد تقدمت. ثم قال: وقال يراجع الكاتب أبا زكريا ابن أبي دلامة (1) : على الطائر الميمون والطالع السّعد ... أتتني مع الصنع الجميل على وعد وأحييت يا يحيى بها نفس مغرم ... يجيل جياد الدمع في ملعب السهد نسيت وما أنسى وفائي وخلّتي ... وأقفر ربع القلب إلا من الوجد وما الطلّ في ثغر من الزهر باسمٍ ... بأزكى وأصفى من ثنائي ومن ودي فأصدقتها من بحر فكري جواهراً ... تنظّم من درّ الدراريّ في عقد وكنت أطيل القول إلاّ ضرورة ... دعتني إلى الإيجاز في سورة الحمد وأنشد السلطان أبا العباس المرسي في غراب (2) من إنشائه: أإنسان عين الدهر جفنك قد غدا ... يحفّك منه طائر اليمن والسّعد إذا ما هفا فوق الرؤوس شراعه ... أراك جناحاً مدّ للجزر والمدّ

_ (1) أزهار الرياض 2: 175. (2) الغراب: نوع من السفن.

وأنشد فيه أيضاً: لك الخير شأن الجفن يحرس عينه ... وهذا بعين الله يحرس دائماً تبيت له خمس الثريّا معيذة ... تقلّده زهر النجوم تمائما فيا جفن لا تنفك في الحفظ دائماً ... وإن كنت في لجّ من البحر عائما انتهى ما لخصته من كلام ابن الأحمر في حق ابن زمرك، وذلك جملة من نظمه. [موشحات ابن زمرك] وقد رأيت أن أعزز ذلك ببعض موشحات ابن زمرك المذكور (1) ممّا انتقيته من كلام ابن الأحمر. فمنها قوله متشوّقاً إلى غرناطة ويمدح الغني بالله: بالله يا قامة القضيب ... ومخجل الشمس والقمر من ملك الحسن في القلوب ... وأيّد اللّحظ بالحور من لم يكن طبعه رقيقا ... لم يدر ما لذة الصّبا فربّ حرٍّ غدا رقيقا ... تملكه نفحة الصّبا نشوان لم يشرب الرحيقا ... لكن إلى الحسن قد صبا فعذّب القلب بالوجيب ... ونعّم العين بالنظر وبات والدمع في صبيب ... يقدح من قلبه الشّرر

_ (1) في الأزهار: وقد عن لي أن أذكر جملة من موشحاته لغرابتها، ولأن جل ما وقفت عليه منها ينخرط في سلك المعرب، إذ أكثره من مخلع البسيط.

عجبت من قلبي المعنّى ... يهفو إذا هبّت الرياح لو كان للصبّ ما تمنّى ... لطار شوقاً إلى البطاح (1) وبلبل الدّوح إن تغنّى ... أسهر ليلي إلى الصباح عساك إن زرت يا طبيبي ... بالطّيف في رقدة السّحر أن تجعل النوم من نصيبي ... والعين تحمي من السهر كم شادن قاد لي الحتوفا ... بمربع القلب قد سكن يسل من لحظه سيوفا ... فالقلب بالروع ما سكن خلقت من عادتي ألوفا ... أحنّ للإلف والسّكن غرناطة منزل الحبيب ... وقربها السؤل والوطر تبهر بالمنظر العجيب ... فلا عدا ربعها المطر عروسة تاجها السبيكه ... وزهرها الحلي والحلل لم ترض من عزّها شريكه ... بحسنها يضرب المثل أيّدها الله من مليكه ... تملكها أشرف الدول بدولة المرتجى المهيب ... الملك الطاهر الأغرّ تختال من بردها القشيب ... في حلّة النور والزّهر كرسيّها جنّة العريف ... مرآتها صفحة الغدير وجوهر الطّلّ عن شنوف ... تحكمها صنعة القدير والأنس فيها على صنوف ... فمن هديل ومن هدير

_ (1) الأزهار: بلا جناح.

كم خرق الزهر من جيوب ... وكلّل القضب بالدرر فالغصن كالكاعب اللّعوب ... والطير تشدو بلا وتر ولائم النصر في احتفال ... وفرح دين الهوى (1) جديد سلطانها معمل العوالي ... محمد الظافر السعيد ومخجل البدر في الكمال ... سلطانها المجتبى الفريد أصفح مولىً عن الذنوب ... أكرم عاف إذا قدر وشمس هدي بلا مغيب ... وبحر جود بلا حسر مولاي يا عاقد البنود ... تظلّل الأوجه الصّباح أوحشت يا نخبة الوجود ... غرناطة هالة السّماح سافرت باليمن والسعود ... وعدت بالفتح والنجاح يا ملهم القلب للغيوب ... ومطعم النصر والظفر أسمعك الله عن قريب: ... " على السلامه من السفر " وقال أيضاً (2) من الموشحات الرائقة (3) ، في مثل أغراض هذه السابقة، وأشار إلى محاسن من وصف الدشار: نسيم غرناطة عليل ... لكنّه يبرىء العليل وروضها زهره بليل ... ورشفه ينقع الغليل سقى بنجد ربى المصلّى ... مباكراً روضه الغمام فجفنه كلّما استهلاّ ... تبسّم الزّهر في الكمام والروض بالحسن قد تحلّى (4) ... وجرّد النهر عن حسام

_ (1) الأزهار: الهدى. (2) ق: ثم ذكر. (3) الأزهار: الفائقة. (4) الأزهار: تجلى.

ودوحها ظلّه ظليل ... يحسن في ربعه المقيل والبرق والجو مستطيل ... يلعب بالصارم الصقيل عقيلة تاجها السّبيكه ... تطلّ بالمرقب المنيف كأنّها فوقه مليكه ... كرسيّها جنّة العريف تطبع من عسجد سبيكه ... شموسها كلّما تطيف أبدعك الخالق الجميل ... يا منظراً كلّه جميل قلبي إلى حسنه يميل ... وقبلنا قد صبا جميل وزاد للحسن فيك حسنا ... محمد الحمد والسّماح جدّد للفخر فيك مغنى (1) ... في طالع اليمن والنّجاح تدعى دشاراً وفيك معنى ... يخصّك الفأل بافتتاح فالنصر والسعد لا يزول ... لأنّه ثابت أصيل سعد وأنصاره قبيل ... آباؤه عترة الرسول أبدى به حكمة القدير ... وتوّج الروض بالقباب ودرّع الزهر بالغدير ... وزيّن النهر بالحباب فمن هديل ومن هدير ... ما أولع الحسن بالشباب كبت على روضها القبول ... وطرفها بالسّرى كليل فلم يزل بينها يجول ... حتى تبدّت له حجول للزهر في عطلفها رقوم ... تلوح للعين كالنّجوم وللندى بينها رسوم ... عقد النّدى فوقه نظيم وكلّ وادٍ بها يهيم ... ولم يزل حولها يحوم

_ (1) ق: معنى.

شنيلها مدّ منه نيل ... والشين ألف لمستنيل وعين واد به تسيل ... من فوق خدّ له أسيل كم من ظلال به ترفّ ... تضفو له فوقها ستور ومن زجاج به يشف ... ما بين نور وبين نور ومن شموس بها تصف ... تديرها بينها البدور مزاجها العذب سلسبيل ... يا هل إلى رشفها سبيل وكيف والشيب لي عذول ... وصبغه صغرة الأصيل يا سرحة في الحمى ظليله ... كم نلت في ظلك المنى روّضك الله من خميله ... يجنى بها أطيب الجنى وبرقها صادق المخيله ... ما زال بالغيث محسنا أنجز لي وعدك القبول ... فلم أقل مثل من يقول: يا سرحة الحيّ يا مطول ... شرح الذي بيننا يطول ومن ذلك ما كتب به إلى الغني بالله: أبلغ لغرناطة سلامي ... وصف لها عهدي السليم فلو رعى طيفها ذمامي ... ما بت في ليلة السليم كم بت فيها على اقتراح ... أعلّ من خمرة الرضاب أدير فيها كؤوس راح ... قد زانها (1) الثغر بالحباب أختال كالمهر في الجماح ... نشوان في روضة الشباب

_ (1) الأزهار: قد زانت.

أضاحك الزهر في الكمام ... مباهياً روضه الوسيم وأفضح الغصن في القوام ... إن هبّ من جوّها نسيم بينا أنا والشباب ضاف ... وظلّه فوقنا مديد ومورد الأنس فيه صاف ... وبرده رائق جديد إذ لاح في الفود غير خاف ... صبح به نبّه الوليد أيقظ من كان ذا منام ... لمّا انجلى ليله البهيم وأرسل الدمع كالغمام ... في كلّ وادٍ به أهيم يا جيرة عهدهم كريم ... وفعلهم كلّه جميل لا تعذلوا الصبّ إذ يهيم ... فقبله قد صبا جميل القرب من ربعكم نعيم ... وبعدكم خطبه جليل كم من رياض به وسام ... يزهى بها الرائض (1) المسيم غديرها أزرق الجمام ... ونبتها كلّه جميم (2) أعندكم أنّني بفاس ... أكابد الشوق والحنين أذكر أهلي بها وناسي ... واليوم في الطول كالسنين الله حسبي فكم أقاسي ... من وحشة الصحب والبنين مطارحاً ساجع الحمام ... شوقاً إلى الإلف والحميم والدمع قد لجّ في انسجام ... وقد وهى عقده النظيم

_ (1) الأزهار: الرائد. (2) ق: جسيم.

يا ساكني جنّة العريف ... أسكنتم جنّة الخلود كم ثمّ من منظر شريف ... قد حفّ باليمن والسعود وربّ طود به منيف ... أدواحه الخضر كالبنود والنهر قد سلّ كالحسام ... لراحة الشّرب مستديم والزهر قد راق بابتسام ... مقبّلاً راحة النّديم بلّغ عبيد المقام صحبي ... لا زلتم الدهر في هنا لقاكم بغية المحبّ ... وقربكم غاية المنى فعندكم قد تركت قلبي ... فجدّد الله عهدنا ودارك الشمل بانتظام ... من مرتجى (1) فضله العميم في ظلّ سلطاننا الإمام ... الطاهر الظاهر الحليم (2) مؤمّن العدوتين ممّا ... يخاف من سطوة العدا وفارج الكرب إن ألمّا ... ومذهب الخطب والرّدى قد راق حسناً وفاق حلما ... وما عدا غير ما بدا مولاي يا نخبة الأنام ... وحائز الفخر في القديم كم أرقب البدر في التمام ... شوقاً إلى وجهك الكريم منها موشحة عارض بها موشحة ابن سهل التي أولها ليل الهوى يقظان وهي: نواسم البستان ... تنثر سلك الزّهر والطّل في الأغصان ... ينظمه بالجوهر

_ (1) ق: من يرتجي. (2) ق: الحميم.

وراحة (1) الإصباح ... أضاء منها المشرق تنشرها الأرواح ... فلا تزال تخفق والزهر زهر فاح ... لها عيون ترمق فأيقظ الندمان ... يبصرن ما لم يبصر جواهر الشهبان (2) ... قد عرضت للمشتري قدحت لي زندا ... يا أيّهذا البارق أذكرتني عهدا ... إذ الشباب رائق فالشّوق لا يهدا ... ولا الفؤاد الخافق وكيف بالسّلوان ... والقلب رهن الفكر وسحب الهجران ... تحجب وجه القمر لولا شموس الكاس ... نديرها بين البدور وعرّج الإيناس ... منّا على ربع الصدور لكن لها وسواس ... يغري بربّات الخدور كم والهٍ هيمان ... بصبح وجه مسفر ضياؤه قد بان ... من تحت ليل مقمر يا مطلع الأنوار ... كم فيك من مرأى جميل ونزهة الأبصار ... ما ضرّ لو تشفي الغليل يا روضة الأزهار ... وعرفها يبري العليل

_ (1) الأزهار: وراية. (2) ق: الشبان.

قضيبك الفينان ... يسقى بدمع همر فلاعج الأشجان ... فيض الدموع يمتري (1) هل في الهوى ناصر ... أو هل يجار الهائم لو كان لي زائر ... طيف الخيال الحائم ما بتّ بالساهر ... ودمع عيني ساجم والحب ذو عدوان ... يجهد في ظلم البري وصارم الأجفان ... مؤيّد بالحور رحماك في صبّ ... أذكرته عهد الصّبا بواعث الحب ... قادت إليه الوصبا لم تهف بالقلب ... ريح الصّبا إلاّ صبا بليلة الأردان ... قد ضمّخت بالعنبر يشير غصن البان ... منها بفضل المئزر طيّبها حمد ... فخر الملوك المجتبى من يرجح الطود ... من حلمه إذا احتبى قد جرّد السعد ... منه حساماً مذهبا فالبأس والإحسان ... والغوث للمستنصر تحمله الركبان ... تحيّة للمنبر عصابة الكتّاب ... حقّ لها الفوز العظيم تختال في أثواب ... ألبسها الطول الجسيم فحسبها الإطناب ... في الحمد والشكر العميم

_ (1) ق والأزهار: يجري؛ وامترى افتعل من مرى بمعنى استدر.

خليفة الرحمن ... لا زلت سامي (1) المظهر يا مورد الظمآن ... ورأس مال المعسر خذها على دعوى ... تزري على الروض الوسيم جاءت كما تهوى ... أرقّ من لدن النسيم قد طارحت شكوى ... من قال في الليل البهيم " ليل الهوى يقظان ... والحب ترب السهر " " والصبر لي خوّان ... والنوم من عيني بري " وله في الصبوحيات: ريحانة الفجر قد أطلّت ... خضراء بالزهر تزهر وراية الصبح قد أظلّت ... في مرقب الشرق تنشر فالشهب من غارة الصباح ... ترعد خوفاً وتخفق وأدهم الليل في جماح ... أعنّة البرق يطلق والأفق في ملتقى الرياح ... بأدمع الغيث يشرق والسحب بالجوهر استهلّت ... فالبرق سيف مجوهر صفاحه المذهبات حلّت ... في راحة الجوّ تشهر كم للصّبا ثمّ من مقيل ... بطيبه الزهر يشهد والنهر كالصارم الصّقيل ... في حلية النور يغمد ورب قال به وقيل ... للطير في حين تنشد فألسن الورق قد أملّت ... مدائحاً عنه تشكر ونسمة الصبح قد تجلّت ... في سندس الروض تعثر

_ (1) الأزهار: زاهي.

والكاس في راحة النديم ... يجلو بها غيهب الهموم أقبست النار في القديم ... من قبل أن تخلق الكروم والنهر في ملعب النسيم ... للزهر في عطفه رقوم فلبّة الحلي (1) قد تحلّت ... والطّلّ في الحلي (2) جوهر وبهجة الكون قد تجلّت ... والروض بالحسن يبهر (3) يذكرني وجنة الحبيب ... والآس في صفحة العذار وشارب الشارب العجيب ... بين أقاح وجلّنار يدير من ثغره الشنيب ... سلافة دونها العقار حلّت لأهل الهوى وجلّت ... بالذكر والوهم تسكر كم من نفوس بها تسلّت ... فما لها الدهر منكر يا غصن بان يميل زهوا ... ريّان في روضة الشباب لو كنت تصغي لرفع شكوى ... أطلت من قصة العقاب ومن لمثلي ببث نجوى ... للبدر في رفرف السحاب عزائم الصبر فيك حلّت ... وعقدة الصبر تذخر قد أكثرت منك ما استقلّت ... وليت لو كنت تشعر كم ليلة بتّها وبتّا ... ضدين في السهد والرقاد أسامر النجم فيك حتى ... علّمت أجفانها (4) السّهاد أرقب بدر الدجى، وأنتا ... قد لحت في هالة الفؤاد

_ (1) ق: الشمس. (2) الأزهار: القضب. (3) ق: يزهر. (4) الأزهار: أجفانه.

نفسي ولّيت ما تولّت ... دعها على الشوق تصبر لو سمتها الهجر ما تولّت ... ولم تكن عنك تنفر علّمها الصبر في الحروب ... سلطاننا عاقد البنود معفّر الصيّد للجنوب ... أعزّ من حفّ بالجنود نصرت بالرعب في القلوب ... والبيض لم تبرح الغمود عناية الله فيه حلّت ... بسعده الدين ينصر والخلق في عصره تملّت ... غنائماً ليس تحصر مولاي يا نكتة الزمان ... دار بما ترتضي الفلك جللت باليمن والأمان ... كلّ مليك وما ملك لم يدر وصفي ولا عياني ... أملك أنت أم ملك جنودك الغلب حيث حلّت ... بالفتح والنصر تخفر وعادة الله فيك دلّت ... أنّك بالكفر تظفر يا آية الله في الكمال ... ومخجل البدر في التمام قدمت بالعزّ والجلال ... والدهر في ثغره ابتسام يختال في حلّة الجمال ... والبدر قد عاد في اختتام ريحانة الفجر قد أطلّت ... خضراء بالزهر تزهر وراية الصبح قد أظلّت ... في مرقب الشرق تنشر وقال سامحه الله تعالى: قد طلعت راية الصباح ... وآذن الليل بالرحيل فباكر الروض باصطباح ... واشرب على زهره البليل

فالورق هبّت من السّبات ... لمنبر الدوّح تخطب تسجع مفتنّة اللّغات ... كلّ عن السوق يعرب والغصن بعد الذهاب ياتي ... لأكؤس الطّلّ يشرب وأدمع السّحب في انسياح ... في كلّ روض لها سبيل والجوّ مستبشر النواحي ... يلعب بالصارم الصقيل قم فاغتنم بهجة النفوس ... ما بين نور وبين نور وشفّع الصبح بالشموس ... تديرها بيننا البدور ونبّه الشّرب للكؤوس ... تمزج من ريقة الثغور ما أجمل الراح فوق راح ... صفراء كالشمس في الأصيل تغادر الصدر ذا انشراح ... للأنس في طيّه مقيل ولا تذر خمرة الجفون ... فسكرها في الهوى جنون ولتخش من أسهم العيون ... فإنّها رائد المنون عرضت منها إلى الفتون ... وكلّ خطب لها يهون أهيم بالغادة الرّداح ... والجسم من حبّها عليل لو بت منها على اقتراح ... نقعت من ريقها الغليل أواعد الطّيف للمنام ... ومن لعينيّ بالمنام أسهر في ليلة التمام ... وأنت يا بدر في التمام وألثم الزهر في الكمام ... عليه من ثغرك ابتسام سفرت عن مبسم الأقاح ... وريقك العذب سلسبيل قل لي يا ربّة الوشاح ... هل لي إلى الوصل من سبيل

يا كعبة الحسن زدت حسنا ... وللهوى حولك المطاف وغصن بان إذا تثنّى ... لو حان من زهرك القطاف ألا انعطاف على المعنّى ... فالغصن يزهى بالانعطاف أصبحت تزهو على الملاح ... بذلك المنظر الجميل ووجهك الشمس في اتضاح ... لو أنّها لم تكن تميل ما الزهر إلاّ بنظم درّ ... تحسد في حسنه العقود للملك الظاهر (1) الأغرّ ... أكرم من حفّ بالسعود محمد الحمد وابن نصر ... وباسط العدل في الوجود مساجل السّحب في السماح ... بالغيث من رفده الجليل ومخجل البدر في اللّياح ... بغرّة ما لها مثيل يا مشرب الحبّ في القلوب ... وواهب الصفح للصفاح نصرت بالرعب في الحروب ... والرعب أجدى من السلاح قد لحت من عالم الغيوب ... لم تعدم الفوز والفلاح مراكش نهبة افتتاح ... والصنع في فتحها جليل بشراك بالفتح والنجاح ... والشكر من ذلك القبيل وقال أيضاً رحمه الله تعالى: في كؤوس الثغر من ذاك اللّعس ... راحة الأرواح وتغشّى الروض مسكيّ النفس ... عاطر الأرواح وكسا الأدواح وشياً مذهبا ... يبهر الشمسا

_ (1) ق: الطاهر.

عسجد قد حلّ من فوق الربى ... يبهج النفسا فاتخذ للهو فيه مركبا ... تلحق الأنسا منبر الغصن عليه قد جلس ... ساجع الأدواح حلل السندس خضراً قد لبس ... عطفه المرتاح قم ترى هذا الأصيل شاحبا ... حسنه قد راق ولأذيال الغصون ساحبا ... في حلى الأوراق ونديم قال لي مخاطبا ... قول ذي إشفاق عادة الشمس بغرب تختلس ... هات شمس الراح إن أرانا الجوّ وجهاً قد عبس ... أوقد المصباح ووجوه الشّرب تغني عن شموس ... كلّما تجلى بلحاظ أسكرتنا عن كؤوس ... خمرها أحلى مظهرات من خفايا في النفوس ... سوراً تتلى ما زمان الأنس إلاّ مختلس ... فاغتنم يا صاح وعيون الشّهب تذكي عن حرس ... تخصم النّصّاح ما ترى ثغر الوميض باسما ... يظهر البشرا وثناء الروض هبّ ناسما ... عاطراً نشرا بث من أزهاره دراهما ... قائلاً: بشرى ركب المولى مع الظهر الفرس ... وشفي (1) وارتاح بجنود الله دأباً يحترس ... إن غدا أو راح

_ (1) ق: وسقي.

وجب الشكر علينا والهنا ... بعضنا بعضا فزمان السعد وضّاح السنا ... وجهه الأرضى أثمرت فيه العوالي بالمنى ... ثمراً غضّا يجتني الإسلام منها ما اغترس ... سيفه السفّاح في ضمير النّقع منها قد هجس ... شهب تلتاح يا إماماً بالحسام المنتضى ... نصر الحقّا ثغرك الوضّاح مهما أومضا ... أخجل البرقا وديون السعد منه تقتضى ... توسع الحقّا لك وجه من صباح مقتبس ... بشره وضّاح وجميل الصفح منه ملتمس ... منعم صفّاح هاكها تمزج لطفاً بالنّسيم ... كلّما هبّا قد أتت بالبرّ والصنع الجسيم ... تشكر الربّا أخجلت من قال في الصبح الوسيم ... مغرماً صبّا " غرد الطير فنبّه من نعس " (1) ... يا مدير الراح " وتعرّى الفجر عن ثوب الغلس " ... وانجلى الإصباح وقال أيضاً سامحه الله تعالى: قد أنعم الله بالشفاء ... واستكملت راحة الإمام فلتنطق الطير بالهناء ... وليضحك الزهر في الكمام وجوده بهجة الوجود ... وبرؤه راحة النفوس

_ (1) تضمين من شعر ابن وكيع.

قد لاح في مرقب السعود ... واستبشرت أوجه الشموس فالدوح يومي إلى البنود ... أكمامه غطّت (1) الرؤوس والزّهر في روضة السّماء ... كالزهر قد راق بابتسام والصبح مستشرف اللواء ... والبدر مستقبل التّمام محاسن الكون قد تجلّت ... جمالها العقل يبهر عرائس بالبها تحلّت ... والطلّ في الحلي جوهر وألسن الورق قد أملّت ... مدائحاً عنه تشكر تستوقف الخلق بالغناء ... كأنّها تحسن الكلام تطنب لله في الثّناء ... تقول سلّمت يا سلام كم من ثغور لها ثغور ... تبسم إذ جاءها البشير ومن خدور بها بدور ... يشير منها له المشير تقول إذ حفّها السرور ... تبارك المنعم القدير قد أنعم الله بالبقاء ... في ظلّ مولى به اعتصام قد صادف النّجح في الدواء ... فالداء عنّا له انفصام يهنيك مولاي بل يهنّى ... ببرئك الدين والهدى فالغرب والشرق منك يعنى ... بمذهب الخطب والردى والله لولاك ما تهنّا ... ما فيه من سطوة الردى يا مورد الأنفس الظماء ... قد كان يشتفّها الأوام وقرّة العين بالبهاء ... رددت للأعين التمام

_ (1) الأزهار: إلى السجود ... حطت.

لو أبذل الروح في البشاره ... بذلت بعض الذي ملك فأنت يا نفس مستعاره ... مولاي بالفضل جمّلك لم أدر إذ سطّر العباره ... أملك هو أم ملك لا زلت مولاي في هناء ... مبلّغ القصد والمرام ودمت للملك في اعتلاء ... تسحب أذياله الغمام وقال في مالقة: عليك يا ريّة السلام ... ولا عدا ربعك المطر مذ حلّ في قصرك الإمام ... فقربك السؤل والوطر والدوح في روضك الأنيق ... للشكر قد حطّت الرؤوس (1) والغصن في نهره غريق ... وفي حلاه كما عروس والجو من وجهك الشريق ... تحسده أوجه الشموس وأعين الزهر لا تنام ... تستعذب السّهد والسهر تنفث من تحتها الغمام ... ترقيك من أعين الزهر عروسة أنت يا عقيله ... تجلى على مظهر الكمال مدت لك الكفّ مستقيله ... تمسح أعطافك الشمال والبحر مرآتك الصقيله ... تشف عن ذلك الجمال والحلي زهر له انتظام ... يكلّل القضب بالدرر قد راق من ثغره ابتسام ... والورد في خدّها خفر

_ (1) ورد بدله في الأزهار: كم فيك للمغرم المشوق ... من منظر يبهج النفوس والدوح..................... ... ...................... (البيت) والجو من وجهك ... ................................

إن قيل من بعلها المفدّى ... ومن له وصلها مباح أقول أسنى الملوك رفدا ... مخلد الفخر بالصفاح محمد الحمد حين يهدى ... ثناؤه عاطر الرياح تخبر عن طيبه الكمام ... والخبر يغني عن الخبر فالسعد والرعب والحسام ... والنصر آياته الكبر ذو غرّة تسحر البدورا ... وطلعة تخجل الصّباح كم راية سامها ظهورا ... تظلّل الأوجه الصّباح وكم جهاد جلاه نورا ... أظفر بالفوز والنّجاح الطاهر الظاهر الهمام ... أعزّ من صال وافتخر لسيفه في العدا احتكام ... جرى به سابق القدر يا مرسل الخير في الغوار ... لو تطلب البحر تلحق لك الجواري إذا تجاري ... سوابق الشّهب تسبق تستنّ في لجة البحار ... فالكفر منهن يفرق فالدين وليقصر الكلام ... بسيفك اعتزّ وانتصر كذاك أسلافك الكرام ... هم نصروا سيّد البشر وقال من غير هذا البحر في المحدث (1) بمالقة: قد نظم الشمل أتمّ انتظام ... واغتنم الأحباب قرب الحبيب واستضحك الروض ثغور الغمام (2) ... عن مبسم الزهر البرود الشّنيب

_ (1) المحدث: اسم بناء بمالقة. (2) الأزهار: الكمام.

وعمّم النّور رؤوس الرّبى ... وجلّل النّور صدور البطاح وصافح القضب نسيم الصّبا ... فالزهر يرنو عن عيون وقاح وعاود النهر زمان الصّبا ... فقلّد الزهر (1) مكان الوشاح وأطلع القصر برود التّمام ... في طالع الفتح القريب الغريب خدودها قامت مقام الغمام ... فلا اشتكى (2) من بعدها بالمغيب أصبحت يا ريّة مجلى النفوس ... جمالك العين بها يبهر والبشر يسري في جميع الشموس ... وراية الأنس بها تشهر والدوح للشكر تحطّ الرؤوس ... وأنجم الزهر بها تزهر وراجع النهر غناء الحمام ... وقد شدت تسجع سجع الخطيب بمنبر الغصن الرشيق القوام ... لمّا انثنى يهفو بقدّ رطيب يا حبّذا مبناك فخر القصور ... بروجه طالت بروج السما ما مثله في سالفات العصور ... ولا الذي شاد ابن ماء السّما كم فيه من مرأى بهيج ونور ... في مرتقى الجوّ به قد سما خليفة الله ونعم الإمام ... أتحفك الدهر بصنعٍ عجيب يهنيك شمل قد غدا في التئام ... ممهداً في ظلّ عيش خصيب نواسم الوادي بمسك تفوح ... ونفحة النّدّ به تعبق وبهجة السكّان فيه تلوح ... وجوّه من نورهم يشرق وروضه بالسرّ منه يبوح ... بلابل عن وجده تنطق

_ (1) الأزهار: النهر. (2) الأزهار: لا أشتكي.

لو أنّ من يفهم عنها الكلام ... فهي تهنيك هناء الأديب ونهره قد سلّ منه الحسام ... يلحظه النرجس لحظ المريب فأجمل الأيام عصر الشباب ... وأجمل الأجمل يوم اللّقا يا درّة القصر وشمس القباب ... وهازم الأحزاب في الملتقى بشّرك الربّ بحسن المآب ... متّعك الله بطول البقا ولا يزال القصر قصر السلام ... يختال في برد الشباب القشيب يتلو عليك الدهر في كلّ عام: ... {نصر من الله وفتح قريب} وقال من المخلع في الشفاء: في طالع اليمن والسعود ... قد كملت راحة الإمام فأشرق النور في الوجود ... وابتسم الزهر في الكمام قد طلعت راية النجاح ... وانهزم البؤس والعنا وقال حيّ على الفلاح ... مؤذّن القوم (1) بالمنى فالدهر يأتي بالاقتراح ... مستقبلاً أوجه الهنا تخفق منشورة البرود ... والسعد يقدم من أمام والأنس مستجمع الوفود ... واللطف مستعذب الجمام وأكؤس الطلّ مترعات ... بأنمل السوسن الندي والطير مفتنّة اللغات ... تشدو بأصوات معبد والغصن يذهب ثم يأتي ... بالسندس الغضّ مرتدي

_ (1) الأزهار: الفوز.

والدوح يومي إلى السجود ... شكراً لذي الأنعم الجسام والريح خفّاقة البنود ... تباكر الروض بالغمام مظاهرٌ للجمال تجلى ... قد هزّ أعطافها السرور وباهر الحسن قد تجلّى ... ما بين نور وبين نور قد هنأت بالشفاء مولى ... بعصره تفخر العصور ما بين بأس وبين جود ... قد مهّد الأمن للأنام فالدين ذو أعين رقود ... وكان لا يطعم المنام والكاس في راحة السقاة ... تروح طوراً وتغتدي يهديكها رائق السّمات ... ما بين برق وفرقد والشمس تذهب للبيات ... قد لبست ثوب عسجد والزهر في اليانع المجود ... يقابل الشّرب بابتسام والروض من حلية الغمود ... قد جرّد النهر عن حسام مولاي يا أشرف الملوك ... وعصمة الخلق أجمعين أهديك من جوهر السلوك ... يقذفه بحرك المعين جعلت تنظيمه سلوكي ... وأنت لي المنجد المعين تحيّة الواحد المجيد ... ورحمة الله والسّلام عليك من راحم ودود ... يا مخجل البدر في التمام وقال من الرمل المجزوء: وجه هذا اليوم باسم ... وشذا الأزهار ناسم

هاتها صاح كؤوسا ... جالبات للسرور وارتقب منها شموسا ... طالعات في حبور ما ترى الروض عروسا ... في حلى نورٍ ونور وأتت رسل النواسم ... تجتلي هذي النواسم قد أهلّت بالبشائر ... أضحكت ثغر الأزاهر سنحت في يمن طائر ... ونظمن كالجواهر فانشروها في العشائر ... إنّ هذا الصنع باهر وأشيعوا في العوالم ... الغني بالله سالم أيّ نور يتوقد ... أيّ بدر يتلالا أيّ فخر يتخلّد ... أيّ غيث يتوالى إنّما المولى محمد ... رحمة الله تعالى كفّه بحر المقاسم ... وبها حجّ المباسم خير أملاك الزّمان ... من بني سعد ونصر ما ترى أنّ الشّواني ... في صعيد البرّ تجري قد أطارتها التهاني ... دون بحريّ وبحر مذ رأت بحر النّعائم ... كلّها جارٍ وعائم فهنيئاً بالشفاء ... يا أمير المسلمينا ولنا حقّ الهناء ... وجميع العالمينا إن جهرنا بالدعاء ... ينطق الدهر أمينا دمت محروس المكارم ... بظبي البيض الصوارم

وقال يهني السلطان موسى ابن السلطان أبي عنان، وقد وجه إليه الغني بالله أمه وعياله عند تملّكه المغرب من قبله: قد نظم الشمل أتمّ انتظام ... ولاحت الأقمار بعد المغيب وأضحك الروض ثغور الغمام ... عن مبسم الزهر البرود الشنيب وعاود الغصن زمان الصّبا ... وأشرب الأنس جميع النفوس (1) وعمّم النّور رؤوس الربى ... وجلّل النور وجوه الشموس وأطرب الغصن نسيم الصّبا ... فالدوح للشكر تحطّ الرؤوس واستقبل البدر ليالي التمام ... وصافح الصبح بكفّ خضيب وراجع الأطيار سجع الحمام ... بكلّ ذي لحن بديع غريب نواسم الوادي بمسك تفوح ... ونفحة الندّ به تعبق وبهجة السكان فيه تلوح ... وجوّه من نوره يشرق وعرفه بالطيب منه يفوح ... كأنّه من عنبر يفتق والنهر قد سلّ كمثل الحسام ... حبابه تطفو وطوراً تغيب وثغرها قد راق منه ابتسام ... يهنّىء الحبّ بقرب الحبيب كواكب أبراجهن الخدور ... يلوح عنها كلّ بدر لياح جواهر أصدافهن القصور ... نظمها السعد كنظم الوشاح يا حبّذا والله ركب السرور ... يبشّر المولى بنيل اقتراح ابتهج الكون بموسى الإما ... واختال في برد الشباب القشيب وعاده يخدم مثل الغلام ... شبابه قد عاد بعد المشيب

_ (1) ق: الكؤوس.

أكرم به والله وفد الكريم ... مولى سنا (1) الحرة في مقدمه مرضاتها تحطي بدار النعيم ... وتوجب التوفيق من منعمه بشّر بالنصر وفتح جسيم ... وخيره أجمع في مقدمه لقاؤها المبرور مسك الختام ... بشّرك الله بصنع عجيب وقصرك الميمون قصر السلام ... خطّ يحفظ من سميع مجيب مولاي يهنيك وحقّ الهنا ... قد نظم الشمل كنظم السعود قد فزت بالفخر ونيل المنى ... وأنجز السعد جميع الوعود وقرّت العين وزال العنا ... وكلّما مرّ صنيع يعود فلا يزل ملكك حلف الدوام ... يحوز في التخليد أو في نصيب يتلو عليك الدهر بعد السلام: ... {نصر من الله وفتح قريب} وقال رحمه الله تعالى في وصف غرناطة والطرد وغيرهما: لله ما أجمل روض الشباب ... من قبل أن يفتح زهر المشيب في عهده أدرت كأس الرّضاب ... حبابها الدرّ بثغر الحبيب من كلّ من يخجل بدر التمام ... إذا تبدّى وجهه للعيون ويفضح الغصن بلين القوام ... وأين منه لين قدّ الغصون ولحظه يمضي مضاء الحسام ... ويذهل العقل بسحر الجفون أبصرت منه إذ يحطّ النّقاب ... شمساً ولكن ما لها من مغيب إذا تجلّت بعد طول ارتقاب ... صرفت عنها اللحظ خوف الرقيب

_ (1) ق: ثناء؛ وفي الأزهار: مولاتنا.

من عاذري منه فؤاداً صبا ... للامع البرق وخفق الرياح يطير إن هبّ نسيم الصبّا ... تعيره الريح خفوق الرياح ما أولع الصبّ بعهد الصّبا ... وهل على من قد صبا من جناح فقلبه من شوقه في التهاب ... قد أحرق الأكباد منه الوجيب والجفن منه سحبه في انسكاب ... قد روّض الخدّ بدمع سكيب غرناطة ربع الهوى والمنى ... وقربها السؤل ونيل الوطر وطيبها بالوصل لو أمكنا ... لم أقطع الليل بطول السهر عمّا قريب حقّ فيها الهنا ... بيمن ذي العودة بعد السفر ويحمد الناس نجاح الإياب ... بكل صنع مستجدّ غريب ويكتب الفال على كلّ باب: ... {نصر من الله وفتح قريب} ما لذة الأملاك إلاّ القنص ... لأنّه الفال بصيد العدا كم شارد جرّع فيه لاغصص ... وأورد المحروب ورد الردى وكم بذا الفحص لنا من حصص ... قد جمع البأس بها والندى ومنها بعد أبيات من الوزن والروي: مولاي مولاي، وأنت الذي ... جدّدت للأملاك عهد الجلال والشمس والبدر من العوّذ ... لمّا رأت منك بديع الجمال والروض في نعمته يغتذي ... بطيب ما قد حزته من خلال بشراك بشراك بحسن المآبْ ... تستضحك الروض بثغر شنيب ودمت محروس العلا والجناب ... بعصمة الله السميع المجيب انتهى ما انتقيته من كلام ابن زمرك من كتاب ابن الأحمر، رحمه الله

تعالى. وقد عرفت منه ما تسنى للغني بالله ابن الأحمر من الفتوحات والسعود ونفاذ الأمر على ملوك المغرب، فهو الأحق بقول لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى: ملك إذا عاينت منه جبينه ... فارقته والنور فوق جبيني وإذا لثمت يمينه وخرجت من ... أبوابه لثم الملوك يميني وكان الغني بالله المذكور معتقداً في الصالحين، حتى إنّه كتب وهو بفاس مخلوع إلى ضريح ولي الله سيدي أبي العباس السبتي بمراكش، ومن إنشاء وزيره لسان الدين على لسانه: يا وليّ الإله أنت مطاع ... الأبيات والنثر بعدها، وقد ذكرتهما في الباب الخامس فراجعه (1) ، وكان ذلك بفضل الله تعالى عنوان رجوعه إلى ملكه، ونظم تلك الأماكن في سلكه، حتى حصل له من السعد ما لم يحصل لغيره حسبما يعلم ذلك من كلام لسان الدين وابن زمرك وغيرهما. [ترجمة الولي السبتي] والسبتي المذكور: هو سيدي أبو العباس أحمد بن جعفر السبتي الخزرجي (2) ، الولي الصالح العالم العارف بالله القطب ذو الكرامات الشهيرة، والمناقب الكثيرة، والأحوال الباهرة، والفضائل الظاهرة، والأخلاق الطاهرة،

_ (1) انظر أيضاً أزهار الرياض 1: 273. (2) راجع ترجمة الولي السبتي أنس الفقير: 7 - 9 وتعطير الأنفاس في التعريف بالشيخ أبي العباس لابن الموقت (ط. فاس 1918) ونيل الابتهاج 31 - 37 وعن هذا الأخير ينقل المقري؛ وراجع الأعلام للعباس بن إبراهيم 1: 239 - 338.

نزيل مراكش، وبها توفّي سنة إحدى وستمائة، وولادته بسبتة عام أربعة وعشرين وخمسمائة، ودفن خارج مراكش، وقبره مشهور مقصود بإجابة الدعاء، وقد زرته مراراً كثيرة، فرأيت عليه من ازدحام الناس ما لا يوصف، وهو ترياق مجرب. قال لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى: كان سيدي أبو العباس السبتي - رضي الله تعالى عنه - مقصوداً في حياته، مستغاثاً به في الأزمات، وحاله من أعظم الآيات الخارقة للعادة، ومبنى أمره على انفعال العالم عن الجود، وكونه حكمة في تأثير الوجود (1) ، له في ذلك أخبار ذائعة وأمثال باهرة؛ ولمّا توفّي ظهر هذا الأثر على تربته، وتشبث بلحده، وانسحب على مكانه عادة حياته، ووقع الإجماع على تسليم هذه الدعوى، وتخطى الناس مباشرة قبره بالصدقة إلى بعثها له من أماكنهم على بعد المدى، وانقطاع الأماكن القصى (2) ، تحملهم أجنحة نياتهم فتهوي إليه بمقاصدهم من كل فج عميق، فيجدون الثمرة المعروفة والكرامة المشهورة. وقال ابن الزيات (3) : كان أبو العباس قد أعطي بسطة في اللسان، وقدرةً على الكلام، لا يناظره أحد إلا أفحمه، ولا يسأله إلا أجابه، كأن القرآن والحجج على طرف لسانه حاضرة، يأخذ بمجامع القلوب، ويسحر العامة والخاصة ببيانه، يأتيه المنكرون للإنكار فما ينصرفون إلا مسلّمين منقادين، وشأنه كلّه عجيب، وهو من عجائب الزمانز وحدثني مشايخنا أنهم سمعوه يقول: أنا

_ (1) في الأصل: الوجود، والتصويب عن التنبكي؛ وأورد العباس بن إبراهيم أن ابن رشد أرسل أبا القاسم الخزرجي ليعرف مذهب أبي العابس بمراكش، فلما نقل الخزرجي خبره إلى ابن رشد قال له: " هذا مذهبه أن الوجود ينعل بالجود " وهو مذهب فلان من قدماء الفلاسة. (2) نيل الابتهاج: المكان الأقصى. (3) تنقل المصادر ترجمة السبتي عن التشوف، ولكن ابن الزيات صرح بأنه يفرد ترجمة السبتي إذ لا يكفي في ذكره الاختصار، وجعل ترجمته في آخر كتابه، إلا أنها لم تطبع مع سائر الكتاب، وقد نقل العباس بن إبراهيم ما ذكره ابن الزيات في تلك الترجمة.

القطب. وحدثني أبو الحسن الصنهاجي من خواص خدّامه قال: خرجت معه مرة لصهريج غابة الرمان يوم عرفة، فجلسنا هناك وصلينا، فقال لي: إنّما سمي هذا اليوم يوم عرفة لانتشار الرحمة فيه لمن تعرّف إليه بالطاعات، وقد فاتنا عرفة، فتعال نمثل بهذا المكان ونعمل كما يعملون، لعلّ الله تعالى يتغمدنا برحمته معهم، فعمل (1) مكاناً داثراً بالعين الكعبة، ومحل عنصر الماء الحجر، وموضعاً آخر مقام إبراهيم، فطاف بالعين أسبوعاً وأنا أطوف بطوافه، وكبر على العنصر في كل طواف، وصلى في مثل (2) المقام ركعتين تامتين، وأطال في سجود الثانية، ثم استند إلى الشجرة ثم قال لي: يا علي، اذكر كل حاجة لك من حوائج دنياك تقض، فإن الله تعالى وعد في هذا اليوم من تعرّف له أن يقضي حوائجه، فقلت له: ما أريد إلاّ التوفيق، فقال لي: ما خرجت معك من باب المدينة حتى وفقت، فسألته عن حاله من بدايته إلى نهايته، وبم تنفعل له الأشياء ويستجاب له الدعاء ولم صار يأمر بالصدقة والإيثار من شكا إليه حالاً أو تعذّر عليه مطلب في هذه الدار فقال لي: ما آمر الناس إلا بما ينتفعون به، وإنّي لمّا قرأت القرآن وقعدت بين يدي الشيخ أبي عبد الله الفخار تلميذ القاضي عياض ونظرت في كتب الأحكام وبلغت من السن عشرين سنة وجدت قوله تعالى {إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان} فتدبرته وقلت: أنا مطلوب به، فلم أزل أبحث عنها (3) إلى أن وقفت على أنّها نزلت حين آخى النبي صلى الله عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار، وأنّهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلّم أن يعلمهم حكم المؤاخاة، فأمرهم بالمشاطرة، ففهمت أن العدل المأمور به في الآية هو المشاطرة، ثم نظرت إلى حديث " تفترق أمتي على ثلاثين فرقة - الحديث " وأنّه صلى الله عليه وسلّم

_ (1) ق: فعمد؛ نيل الابتهاج: فجعل. (2) في الأصل: قبل. (3) نيل الابتهاج: فبحثت عن الآية.

قاله صبيحة اليوم الذي آخى فيه ببن المهاجرين والأنصار، وذكر له الأنصار أنّهم شاطروا المهاجرين، فقال لهم ذلك بأثره (1) ، فعلمت أن الذي هو عليه وأصحابه المشاطرة والإيثار، فعقدت مع الله تعالى نيّة أن لا يأتيني شيء إلا شاطرت فيه الفقراء، فعملت (2) عليه عشرين سنة، فأثمر لي الحكم بالخاطر (3) ، فلا أحكم على خاطري بشيء إلا صدق، فلمّا أكملت أربعين سنة راجعت تدبر الآية فوجدت الشطر هو العدل، والإحسان ما زاد عليه، فعقدت مع الله تعالى نيّة لا يأتيني قليل ولا كثير إلا أمسكت ثلثه وصرفت الثلثين لله تعالى، فعملت عليه عشرين سنة، فأثمر لي الحكم في الخلق بالولاية والعزل فأولي من شئت، وأعزل من شئت، ثم نظرت بعد ذلك في أوّل ما فرضه الله تعالى على عباده في مقام الإحسان، فوجدت شكر النعمة، بدليل إخراج الفطرة عن المولود قبل أن يفهم ووجدت أصناف من تصرف إليهم الصدقات (4) الواجبة [سبعة] وسبعة أصناف أخر صرفها فيها للإحسان والزيادة، وذلك أن لنفسك عليك حقّاً، وللزوجة حقّاً، وللرحم حقّاً، ولليتيم حقّاً، وللضعيف حقّاً، وذكر صنفين آخرين، فانتقلت لهذه الدرجة، وعقدت مع الله تعالى عقداً أن كل ما يأتيني أمسك سبعيه حق النفس وحق الزوجة وأصرف الخمسة أسباع لمستحقيها، فأقمت عليه أربعة عشر عاماً، فأثمر لي الحكم في السماء، فمتى قلت يا رب قال لي: لبيك، ثم قال لي: إنّها نهايتي بتمام عمري، وهو أن تنقضي لي ستة أعوام تكملة العشرين عاماً. قال الصنهاجي: فأرخت ذلك اليوم، فلمّا مات وحضرت جنازته تذكرت التاريخ المكتوب، وحققت العدد، فنقصت من ستّة أعوام ثلاثة أيام خاصة،

_ (1) نيل الابتهاج: ذكر ذلك الحديث أثره. (2) نيل الابتهاج: فبقيت. (3) نيل الابتهاج: حكم الخاطر. (4) نيل الابتهاج: أضاف من يعطى الصدقة.

فيحتمل أن تكون من الشهور الناقصة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. وقال أبو بكر ابن مساعد: جاء بعض السلاطين إلى أبي العباس وهو راكب، وقال له: إلى متى تحيرنا ولا تصرح لنا عن الطريق فقال له: هو الإحسان، فقال له: بيّن لي، فقال له: كل ما أردت أن يفعله الله تعالى معك فافعله مع عبيده. وقال له أبو الحسن الخباز (1) : أما ترى ما فيه الناس من القحط والغلاء فقال: إنّما حبس المطر لبخلهم، فلو تصدقوا لمطروا، فقل لأصحابك الفلاحين: تصدقوا بمثل ما أنفقتم تمطروا، فقال له: لا يصدقني أحد، ولكن مرني في خاصة نفسي، فقال له: تصدق بمثل ما أنفقت، فقال له: إن الله تعالى لا يعامل بالدّين، ولكن أستسلف، فاحتال وتصدق بها كما أمره، قال: فخرجت إلى البحيرة التي عمرتها والشمس شديدة الحر، فأيت من المطر، ورأيت جميع ما غرست مشرفاً على الهلاك، فأقمت ساعة فإذا سحابة أمطرت البحيرة حتى رويت، وظننت أن الدنيا كلّها مطرت، فخرجت فإذا المطر لم يتجاوزها؛ انتهى. والحكايات عنه في مثل هذا كثيرة. وقال ابن الخطيب القسمطيني في رحلته (2) : حضرت عند الحاج الصالح الورع الزاهد أبي العباس أحمد بن عاشر بمدينة سلا، وقد سأله أحد الفقراء عن كرامة الأولياء، فقال له: لا تنقطع بالموت الكرامة، انظر إلى السبتي، يشير إلى الشيخ الفقيه العالم المحقق أبي العباس السبتي المدفون بمراكش، وما ظهر عند قبره من البركات في قضاء الحاجات بعقب الصدقات، سمعت يهوديّاً بمراكش يلهج ببركته وينادي باسمه في أمر أصابه لا مع المسلمين، فسألته عن سببه،

_ (1) نيل الابتهاج: الجنان. (2) يعني أنس الفقير، كما تقدم، انظره ص: 8.

فأخبر أنّه وجد بركته في غير موطن، فسألته عمّا بدا له في وقت (1) ، فقال لي: وحق ما أنزل على موسى بن عمران ما أذكر لك إلا ما اتفق لي، سريت ليلة مع قافلة في مفازة، فعجرت دابتي، فما شككت في قتلي وسلب مالي، فجلست وبكيت، وبيني وبين الناس بعد، وقلت: يا سيدي أبا العباس، خاطرك، قال لي: والله ما أتممت الكلام إلاّ وأهل القافلة أصابهم سبب وقفوا به، وضربت دابتي، وخف عرجها، ثم زال، واتصلت بالناس، فقلت له: لم لم تسلم فقال: حتى يريد الله تعالى، وعجبت من كون ذلك من يهودي، وهذه شهادة من عدوّ في الدين. ولقد وقفت على قبره مرات، وسألت الله تعالى في أشياء يسّر لي فيها سؤلي: منها أن أكون ممّن يشتغل بالعلم ويوصف به، وأن ييسر عليّ فهم كتب عينتها، فيسر الله تعالى عليّ ذلك في أقرب مدّة. وكان السبتي آية في أحواله، ما أدرك صحبته إلاّ الخواص من الناس، وكان أصل مذهبه الحض على الصدقة، وكان أمره عجباً في إجابة الدعاء بنزول المطر، واختصاصه بمكان دون آخر، وقال لأصحابه: أنا القطب، وكان تفقّه على أبي عبد الله الفخار، ووقفت على قبره، وله بركات وأنوار. وكان السبتي آية في المناظرة، وأوذي باللسان كثيراً جدّاً فصفح وتجاوز. ورأى (2) عبد الرحمن بن يوسف الحسني النبي صلى الله عليه وسلّم في النوم، فقال له: يا رسول الله، ما تقول في السبتي قال: وكنت سيىء الاعتقاد فيه، فقال لي بعد أن تبسّم: هو من السّبّاق، قال: فقلت بيّن لي يا رسول الله، فقال: هو ممّن يمر على الصراط كالبرق، قال: فخرجت بعد الصبح، فلقيني أبو العباس، فقال لي: ما رأيت وما سمعت والله لا تركتك (3) حتى

_ (1) أنس الفقير: عما رأى له في أقرب وقت. (2) ما يزال النقل مستمراً عن أنس الفقير. (3) ق: لا أتركنك.

تعرفني، فعرفته، فصاح: كلمة الصفا من المصطفى صلى الله عليه وسلّم؛ انتى ببعض اختصار. وقال ابن الزيات: وحدثني أبو العباس الصنهاجي وغيره أن رجلاً يعرف بابن الشكاز (1) ، وكان غنياً فدار عليه الزمان وافتقر، حدّث أنّه وصل لأبي العباس السبتي وعليه ثوب خلق تظهر منه عورته، فشكا إليه حالته، فأخذ بيده إلى أن خرج معه من باب تاغزوت، فجاء إلى مطهرة هنالك، قال: فدخل أبو العباس المطهرة وتجرّد من أثوابه وناداني، وقال لي: خذ هذه الثياب، فأخذتها، وكان بعد العصر، فأردت أن أرى ما يكون من أمره، فصعدت إلى حائط هناك إلى قرب المغرب، فإذا بفتى خرج من الباب على دابة معه رزمة ثياب، فلمّا رأيته نزلت إليه، فقال لي: أين الفقيه أبو العباس فقلت: ها هو في الساقية عريان، فقال لي: أمسك الدابة، فسمعت الفقيه يقول له: أين تلك الثياب فأخذها منه وخرج، فلمّا رآني قال لي: وما لك هنا قلت: يا سيدي خفت عليك، فلم أقدر على الانصراف وأتركك، فقال لي: أفترى الذي فعلت ما فعلت له يتركني ثم سألت الفتى عن سبب وصوله إليه، فذكر له أن إحدى الكرائم أمرته أن يحمل إليه تلك الثياب، وقالت له: لا تدفعها إلا للفقيه، ولا يلبسها إلاّ هو، وهذه قصّة صحيحة مشهورة. وقال ابن الخطيب: وروضته بباب تاغزوت أحد أبواب مراكش غير حافلة البناء، ربما يتبرع متبرع باحتفالها فلا تساعده الأقدار، وزرتها، وربما شاهدت في داخلها أشياخاً من أهل التعفف والتصوّف يسارقون خفية الناظر إلى مساقط رحمات الله تعالى عليها لكثرة زائريها، فيقتحم (2) ذو الحاجة بابها خالعاً نعله مستحضراً نيته ويقعد بإزاء القبر ويخاطبه بحاجته، ويعين بين يدي النجوى صدقة

_ (1) نيل الابتهاج: السكان؛ ق: السكاك، والتصويب عن الأعلام. (2) ق: فيقحم؛ نيل الابتهاج: فيلج.

على قبره، ويدسها في أواني في القبر معدة لذلك، ومن عجز عن النقدين تصدق بالطعام ونحوه، فإذا خف الزائرون آخر النهار عمد القائم إلى التربة إلى ما أودع هناك في تلك الأواني وفرّقه على المحاويج الحافّين بالروضة، ويحصون كل عشية، ويعمهم الرزق المودع فيها، وإن قصر عنهم كملوه في غده. قال ابن الخطيب لسان الدين: وترافع خدام الروضة لقاضي البلد، وتخاصموا في أمر ذاك الرزق المودع هناك، فسألهم القاضي عن خرجه اليوم، فقالوا: يحصل في هذه الأيام في اليوم الواحد ثمانمائة مثقال ذهباً عيناً، وربما وصل في بعض الأيام لألف دينار فما فوقها، فروضة هذا الوليّ ديوان الله تعالى في المغرب لا يحصى دخله ولا تحصر جبايته، فالتبر يسيل، واللجين يفيض، وذو الحاجة كالطير تغدو خماصاً وترجع بطاناً؛ يختص برحمته من يشاششء والله ذو الفضل العظيم. قال: وأنا ممّن جرب المنقول عن القبر، فاطّرد القياس، وتزيفت الشبهة، وتعرفت من بدء زيارته ما تحقّقت من بركته، وشهد على برهان دعوته؛ انتهى. وقال الشيخ أبو الحجاج يوسف التادلي في كتابه " التشوّف إلى رجال التصوّف " (1) : كان أبو العباس جميل الصورة، أبيض اللون، حسن الثياب، فصيح اللسان، مقتدراً على الكلام، حليماً صبوراً، يحسن إلى من يؤذيه، ويحلم على من يسفه عليه، رحيماً عطوفاً محسناً إلى اليتامىة والأرامل، يجلس حيث أمكنه الجلوس من الطرق والسوق، ويحض على الصدقة، ويذكر في فضلها آيات وأحاديث، ويأخذها ويفرقها على المساكين، ويرد أصول الشرع إلى الصدقة، ويفسّرها بها، ويقول: معنى قول المصلي الله أكبر أي: من أن نضن عليه بشيء، فمن رأى شيئاً من متاع الدنيا في نفسه أكبر فلم يحرم ولا كبّر، ومعنى رفع اليدين للتكبير: تخليت من كل شيء لا قليلاً ولا كثيراً،

_ (1) انظر الأعلام 1: 241.

وهكذا يتكلم بنحو هذا في جميع العبادات، ويقول: سرّ الصوم أن تجوع، فإذا جعت تذكرت الجائع، وما يقاسيه من نار الجوع، فتتصدق عليه، فمن صام ولم يعطف على الجائع فكأنّه لم يصم، إلى غير ذلك من كلامه في مثل هذا. وكان إذا أتاه امرؤ يأمره بالصدقة، ويقول له: تصدق، ويتفق لك ما تريده، وأخباره في ذلك كثيرة عجيبة. قال التادلي: وحدثني ولده الفقيه أبو عبد الله عن أبيه أنّه قال: كان ابتداء أمري وأنا صغير أنّي سمعت كلام الناس في التوكل، ففكرت في حقيقته (1) فرأيت أنّه لا يصح إلا بترك شيء، ولم يكن عندي منه [بد] ، فتركت الأسباب، واطّرحت العلائق، ولم تتعلّق نفسي بمخلوق، فخرجت سائحاً متوكّلاً، وسرت نهاري كلّه فأجهدني الجوع والتعب، وقد نشأت في رفاهية [من العيش] (2) ، وما مشيت قط على قدمي، فبلغت قرية فيها مسجد، فتوضأت ودخلت المسجد فصليت المغرب ثم العشاء، وخرج الناس، فقمت لأصلي، فلم أقدر من شدة الجوع والتألّم بالمشي، فصليت ركعتين، وجلست أقرأ القرآن إلى أن مضى جزء من الليل، فإذا قارع يقرع الباب بعنف، فاستجاب له صاحب الدار، فقال له: هل رأيت بقرتي فقال: لا، فقال: إنّها ضلت وقد أكثر عجلها من الحنين فطلبتها فلم نجدها في القرية، فقال أحدهم: لعلّها [دخلت] في المسجد وقت العتمة، ففتحوا باب المسجد ودخلوا فوجدوني، فقال صاحب البقرة: ما أظنّك أكلت الليلة شيئاً، فذهب وجاءني بكسرة خبز وقدح لبن، ثم ذهب ليأتيني بالماء فوجد بقرته في داخل الدار، فخرج لجيرانه وقال لهم: ما زالت البقرة من الدار، وما كان خروجي إلا لهذا الفتى الجائع في المسجد، ثم رغّبني أن أمشي معه لمنزله، فأبيت.

_ (1) ق: دقيقة، والتصويب عن الأعلام. (2) سقطت من ق.

وكان في أول أمره يسكن في الفندق (1) ويعلّم الحساب والنحو ويأخذ الأجرة على ذلك، وينفقها على طلبة العلم الغرباء، ويمشي في الأسواق، ويذكّر الناس، ويضربهم على ترك الصلاة، ويأتي بالطعام على رأسه. وبات ليلة عند الطلبة فارتفعت أصواتهم بالمذاكرة، فإذا بالحرس قد قرعوا باب الفندق فقام إليهم القيّم بخدمته، فقالوا له: ما تعلمون أن من رفع صوته باللّيل يقتل ثم قعد اثنان من الحرس على باب الفندق ليحملونا إذا طلع الفجر للوالي (2) ، فجاء القيّم فأخبرنا فأدركنا خوف عظيم، وأيقنّا بالهلاك، فأخذ أبو العباس في الضحك ولا يبالي، ثمّ خلا بنفسه عند السحر ساعة ثم قال لنا: لا خوف عليكم، قد استوهبتكم من الله تعالى، وهذان الحرسيان الواقفان غداً يقتلان إن شاء الله تعالى، فقيل له: الجزاء عندك على الأفعال من الخير والشر، وهما لا يفعلا ما يوجب قتلهما، بل جزاؤهما يروّعان كما روّعانا، فقال: العلماء ورثة الأنبياء، وترويعكم عظيم لا يقابله منهم إلا القتل، فمازلنا نعارضه في ذلك حتى قال: عقوبتهما أن يضرب كل واحد منهما مائة سوط، ثم اجتاز عبد الله الخرّاز صاحب الوقت بالجامع الأعظم، فوجد حانوته (3) مفتوحاً، ورأى الحرسيين على قرب، فلم يشكّ أنهما حلاّه (4) ، فحملا إلى ربحة القصر قبل طلوع الفجر، فقال لنا أبو العباس: احضروا على ضربهما كما أرادا قتلكم، فتبعناهما، وحضرنا حتى ضرب كل واحد مائة سوط. وكراماته ومناقبه كثيرة لا تحصى. وكان يقول (5) : أصل الخير في الدنيا والآخرة الإحسان، وأصل الشرّ فيهما البخل، قال الله تعالى " فأمّا من أعطى (الليل: 5) وقال عن إبليس " ثمّ

_ (1) زاد التادلي في الأصل: الفندي الذي بأدجير، المعروف بفندق مقبل. (2) الأعلام: لنقتل. (3) ق: تابوته. (4) حلاه: فتحاه؛ وفي الأعلام: فتحاها. (5) انظر الأعلام: 258.

لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم " الأعراف: 17 وقال " ومنهم من عاهد الله " التوبة: 75 وقال " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " الحشر: 9 وقال " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنّة " القلم: 17 وقال " وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم " آل عمران: 133 وقال " ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم " البقرة: 177 وقال " إنّا عرضنا الأمانة على السّموات والأرض - الآية " الأحزاب: 72 فهذه الأمانة هي الرزق، فأعطت السموات ما فيها من الماء وهو المطر، والأرض ما فيها من الماء النازل من الجبال، والجبال ما فيها كذلك، وأنبتت الأرض وأبت إمساكها، فخزن الإنسان جميعها عنده ومنع المساكين إنّه كان ظلوماً جهولاً، وفي الحديث " هم الأقلّون وربّ الكعبة، إلا من قال هكذا وهكذا - الحديث " ولمّا أراد الله تعالى إهلاك فرعون وقومه دعا عليهم موسى بالبخل، فقال " ربنا إنّك آتيت فرعون - إلى قوله: دعوتكما " يونس: 88، 89 وكان رضي الله عنه في آخر عمره كثيراً ما يقرأ هذه الآية " أفرأيت الّذي تولّى - إلى قوله: سوف يرى " النجم: 23 وكان يقول: من قال إن الله تعالى لا يجازي على الصدقات فقد وافق اليهود في الفرية على الله تعالى لأنهم قالوا " يد الله مغلولة، غلّت أيديهم " المائدة: 64 أي لا يجازي على الصدقات، قال الله تعالى " غلّت أيديهم - إلى آخره " أي يجازي على العطاء كيف شاء. وكان يقول في قوله تعالى " والذين يكنزون الذّهب والفضّة - الآية " التوبة: 34 إنّما كويت هذه المواضع لأن الغني يعرض عن المسكين بوجهه، ثم بجنبه، ثمّ بظهره، فعوقبت هذه المواضع بالكيّ بالنار لإعراضه عن الفقير، ومنازعه رحمه الله تعالى في أمثال هذا كثيرة؛ انتهى ملخصاً. وحدث أبو إسحاق إبراهيم بن أبي يعمور (1) أنّه دخل صحبة الشيخ سيدي أبي العباس السبتي إلى الأمير السيد أبي سعيد عثمان يعوده، فقال له: ادع الله

_ (1) أورده في الأعلام: 310 نقلا عن النفح.

تعالى لي أيّها الشيخ، فقال له: ارجع إلى الله تعالى حق الرجوع بحيث تتحقّق أنّه الممرض والمعافي، واخرج عن بعض ما عندك من فضول الدنيا لأبناء الجنس، لتكون ممّهن وقي شح نفسه، فحينئذ يحصل لك ما ترجوه من الدعاء، ثم التفت إلى الحاضرين وقال: في المرض فوائد لا ينبغي أن تجهل: الأولى معرفة قدر العافية، الثانية تمحيص بعض الذنوب، الثالثة توقّع الثواب، الرابعة تنقية الجسم من فضول الأخلاط، الخامسة كثرة ذكر الله تعالى والتضرع إليه، السادسة حدوث الرقة والشفقة، السابعة - وهي العظمى - الصدقة والخروج عن رذيلة البخل؛ انتهى. وحدث الكاتب أبو القاسم ابن رضوان عن أبي بكر ابن منظور عن بعض أعيان مراكش أنّه توفّي وأوصى ابناً له كان من أهل البطالة أن يعمد إلى ألف دينار من متخلّفه، فيدفعها للشيخ سيدي أبي العباس السبتي، ففعل، وقال للشيخ: إن أبي توفّي وأوصاني أن أدفع إليك هذه الألف دينار تضعها حيث شئت، فقال له الشيخ: قد قبلتها وصرفتها إليك، فقال له: يا سيدي، وما تأمرني أن أفعل بها قال: خذها، قال: فانصرفت من عنده وسؤت ظنّاً بقوله، ثم قلت: وأنا أنفق مثل ذلك على عادتي في الوجه الذي يلذ لي، فلأفعلن بها ما أفعل بغيرها، فأخذتها في محفظة، وخرجت ألتمس الزنى، فإذا امرأة عل دابة وغلام يقودها، فأشرت إلى الغلام، فقال لي: نعم، واتبعني إلى بستان لي، فنزلت المرأة، فأدخلتها إلى قبة كانت في البستان، وأخذ الغلام الدابة وصار ناحية، وقال: أغلق الباب، ففعلت، ثم أقبلت إلى القبة فإذا المرأة تبكي بكاء شديداً حتى طال بكاؤها، وبكيت لبكائها، فقلت لها: ما شأنك فقالت: افعل ما دعوتني لأجله، ودع عنك هذا، ونحيبها يزيد، فقلت لها: إن المعنى الذي دعوتك لأجله لا يصلح مع البكاء، بل مع الأنس وانشراح الصدر وزوال الانقباض ورفع الخجل، فقالت: نترك البكاء ونرجع للأنس على ما تحب ويوفى غرضك، فقلت: لا، حتى أعلم سبب بكائك، وألححت عليها، فقالت: أتعرف حاجب الملك الذي سجنه قلت: نعم، قالت: فأنا ابنته

ولم يبق له أحد غيري، وقد سجنه الملك وأخذ أمواله، فما زلت أبيع ما ترك أبي وأنفقه عليه، حتى لم يبق بيدي شيء، فلمّا أعيتني الحيلة فيما أنفقه ألجأت نفسي ووقفت هذا الموقف وأنا بكر ما رأى لي أحد وجهاً قط، فرميت لها بالألف دينار وقلت لها: والله لا قربت منك على هذا الوجه أبداً، فأنفقي الدنانير على والدك إلى أن تنفد، وابعثي لي غلامك أعلمه بمنزلي، ولازمي دارك، واستمري على صيانتك وإلا فضحتك، وتريني واللله لا أزال أبيع أملاكي وأنفقها على والدك حتى أموت أو يفنى كل ما أملكه، ثم خرجت ألتمس الغلام وإذا بجماعة يطلبون البنت، وقالوا: إن الملك رضي عن والدها، ورد عليه ضياعه وأملاكه، ووصله بعشرة آلاف دينار، وقعد يلتمس بنته فلم توجد، فسقط في يد الغلام الذي كان مع الدابة، وظن أن الأمر على ما جرى بيني وبين البنت، فبادرته وقلت له: لا عليك، فتجاهل في خبرها حتى ينصرفوا، ودخلت إلى البنت وقلت لها: إن الملك قد رضي عن والدك، ورد عليه ماله ووصله، فسيري إلى دارك، فركبت دابتها وانصرفت، فدخلت على والدها فقال لها: أين كنت وما الذي أخرجك عن دارك وهمّ بها، فقالت له: أخرج عني كل من في الدار، ففعل، فأخبرته أمرها مع الشاب من أوله إلى آخره، ورمت إليه بالألف دينار، وقالت له: هذا الذي أعطاني لأنفق عليك، فقال أبوها: هذا والله هو الكبريت الأحمر، والله لو كان أبوه كنافاً ما أنفت أن أزوجك منه، فوجّه العبد الذي كان معها إلى الشاب، وقال له: إن سيدي يدعوك، قال: فخفت أن يوضع عنده الأمر على غير وجهه، ثم أقدمت إقدام من علم براءة نفسه، فدخلت عليه، فقام إليّ وعانقني، وقد عرف لي مقامي (1) ، وقال: أما الآن وأنت من أعيان الناس فقد قرّت بك عيني، وقال: والله لو كان أبوك كنافاً ما أنفت لبنتي أن أزوجك منها، فما قام من المجلس حتى وجّه إلى

_ (1) ق: وقد عرفني.

العدول وأشهد على نفسه بأنّه زوّج ابنته فلانة من هذا الشاب، ونقندها عنه الشطر الأول من العشرة آلاف دينار التي وصله بها الملك وأجّل لها عنه الشطر الثاني، وأهدى لها من الحلي كذا وكذا، ومن الثياب كذا وكذا، حتى أتى على أكثر أملاكه حتى أنفقها على ذلك، فحصل من إشارة الشيخ السبتي - رضي الله عنه - في تلك الألف دينار على أضعاف مضاعفة من الأموال، وظفر ببنت حاجب الملك؛ انتهى. أكثر أملاكه حتى أنفقها على ذلك، فحصل من إشارة الشيخ السبتي - رضي الله عنه - في تلك الألف دينار على أضعاف مضاعفة من الأموال، وظفر ببنت حاجب الملك؛ انتهى. رجع إلى ابن زمرك رحمه الله تعالى: قال الشاطبي في الإشارات والإفادات ما صورته: إفادة: أفادني صاحبنا الفقيه الكاتب أبو عبد الله ابن زمرك إثر إيابه إلى وطنه من رحلة العدوة في علم البيان فوائد أذكر منها الآن ثلاثاً: الفقه في اللغة، وهو النظر في مواقع الألفاظ وأين استعملتها العرب، ومن مثل هذا الوجه قرم وعام إذا اشتهى، لكن لا يستعمل قرم إلا مع اللحم، ولا يستعمل عام إلاّ مع اللبن، فتقول: عمت إلى اللن، وكذلك قولهم: أصفر فاقع، وأحمر قان، ولا يقال بالعكس، وهذا كثير. والثانية تحري الألفاظ البعيدة عن طرفي الغرابة والابتذال، فلا يستدل بالحوشي من اللغات، ولا المبتذل في ألسن العامة. والثالثة اجتناب كل صيغة تخرج الذهن عن أصل المعنى أو تشوش عليه؛ إذ المقصود الوصول في بيان المعنى إلى أقصاه، والإتيان بما يحصله سريعاً ويمكنه في الذهن، وتحري كل صيغة تمكن المعنى وتحرض السامع على الاستماع، وأخبرني أن كتّاب المغرب يحافظون في شعرهم وكتابتهم على طريقة العرب، ويذمّون ما عداها من طريقة المولدين، وأنّها خارجة عن الفصاحة، وهذه المعاني الثلاثة لا توجد إلا فيها. وذكر من شرح بديعية الحلي من المغاربة وهو الشيخ النحوي عبيد الثعالبي في شواهد حسن الختام أن منه ختام قصيدة للكاتب البارع أبي عبد الله المعروف

بابن زمرك الأندلسي مدح بها ملك المغرب عبد العزيز حين قدم عليه رسولاً من صاحب الأندلس، وهو قوله: ولو أنشدت بين العذيب وبارق ... لقال رواة الغرب يا حبذا الشرق ولم يظهر لي كل الظهور دلالته لي على حسن الختام، ولا بد، فالله سبحانه أعلم. وقد أطلنا في ترجمة ابن زمرك فلنختم نظامه بموشّحة له زهرية مولدية تضمنت مدح المصطفى صلى الله عليه وسلّم، وهي هذه (1) : لو ترجع الأيام بعد الذهابْ ... لم تقدح الأيام (2) ذكرى حبيب (3) وكلّ من نام بليل الشبابْ ... يوقظه الدهر بصبح المشيب يا راكب العجز ألا نهضة ... قد ضيّق الدهر عليك المجال لا تحسبن أن الصّبا روضة ... تنام فيها تحت فيء الظلال فالعيش نوم والردى يقظة ... والمرء ما بينهما كالخيال (4) والعمر قد مرّ كمرّ السحاب ... والملتقى بالله عمّا قريب وأنت مخدوع بلمع السراب ... تحسبه ماء ولا تستريب والله ما الكون بما قد حوى ... إلاّ ظلال توهم الغافلا وعادة الظلّ إذا ما استوى ... تبصره منتقلاً زائلا إنّا إلى الله عبيد الهوى ... لم نعرف الحقّ ولا الباطلا فكل من يرجو سوى الله خاب ... وإنّما الفوز لعبد منيب يستقبل الرّجعى بصدق المتاب ... ويرقب الله الشهيد القريب

_ (1) أوردها في أزهار الرياض 2: 205. (2) الأزهار: الأشواق. (3) ق: ذكر الحبيب. (4) من قول أبي الحسن التهامي: فالعيش نوم والمنية يقظة ... والمرء بينهما خيال ساري

يا حسرتا مرّ الصّبا وانقضى ... وأقبل الشيب يقص الأثر واخجلتا والرحل قد قوّضا ... وما بقي في الخبر غير الخبر وليتني لو كنت فيما مضى ... أدّخر الزاد لطول السّفر قد حان من ركب التصابي إياب ... ورائد الرشد أطال المغيب يا أكمه القلب بغين الحجاب ... كم ذا أناديك فلا تستجيب " هل يحمل الزاد لدار الكريم " (1) ... والمصطفى الهادي شفيع مطاع فجاهه ذخر الفقير العديم ... وحبّه زادي ونعم المتاع والله سمّاه الرؤوف الرحيم ... فجاره المكفول ما إن يضاع عسى شفيع الناس يوم الحساب ... وملجأ الخلق لرفع الكروب يلحقني منه قبول مجاب ... يشفع لي في موبقات الذنوب يا مصطفى والخلق رهن العدم ... والكون لم يفتق كمام الوجود مزية أعطيتها في القدم ... بها على كلّ نبيّ تسود مولدك المرقوم لمّا نجم ... أنجز للأمّة وعد السّعود ناديت لو يسمح لي بالجواب ... شهر ربيع يا ربيع القلوب أطلعت للهدي بغير احتجاب ... شمساً ولكن ما لها من غروب 2 - ومن تلامذة لسان الدين رحمه الله تعالى، الطبيب العالم ابن المهنا شارح ألفية ابن سينا (2) ، وشرحه عليها من أبدع الشروح، وقد نقل عن لسان الدين

_ (1) من قول الشاعر: هل احتقبت الزاد اكففي ... هل يحمل الزاد لدار الكريم (2) يعني أرجوزة ابن سينا في الطب، وأولها بعد التحميدات: الطب حفظ صحة برء مرش ... من سبب في بدن منذ عرض (انظر قنواتي: مؤلفات ابن سينا: 172 وما بعدها) .

كثيراً، واعتمد عليه في أمور الطب، وقد طال عهدي به الآن، وهو من الكتبالمشهورة بالمغرب، ولم أره بهذه الديار المشرقية. 3 - من تلامذة لسان الدين رحمه الله تعالى: الأديب الكاتب العالم العلامة القاضي أبو بكر ابن جزيّ الكلبي، وأبوه الشيخ أبو القاسم ابن جزي شيخ لسان الدين، وبيت بني جزي بيت كبير مشهور بالمغرب والأندلس، وقد عرّفنا فيما سبق بالشيخ أبي القاسم وابنيه العلامتين الناظمين الناثرين الكاتب أبي عبد الله محمد والقاضي أبي بكر المذكور، فليراجع في الباب الثالث (1) . ورأيت بخط بعض علماء المغرب أن أبا بكر المذكور روى عن لسان الدين ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - جميع تواليفه مع أنّه مقاربه في السن، ولكن الإنصاف في ذلك الزمان غير معدوم، وقد عرّف به لسان الدين في الإحاطة والذي فهمت من عبارته في الإحاطة أنّه إن عبر بصاحبنا فلا يطلقها غالباً إلا على تلامذته، وربما أطلقها على غيرهم كما لا يخفى على من مارس كلامه، رحمه الله تعالى؛ وأتقن تاريخ أهل المغرب والأندلس، رحم الله تعالى الجميع. 4 - ومن تلامذة لسان الدين رحمه الله تعالى: مؤدب أولاد الملوك ومعلمهم القرآن وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبو عبد الله الشريشي، وهو الذي تولى أولاً نقل " الإحاطة " من مبيضتها، كما يبقت الإشارة إليه في كلام حفيط السلطان ابن الأحمر، وأحكم النسخة، فكانت في مجلدات ستة، وكان لسان الدين ألقى إليه بالمبيضات اعتماداً منه عليه، وثقة به، لاشتغال لسان الدين بأمور المملكة. 5 - ومن تلامذة لسان الدين: القاضي الكاتب أبو محمد عطية بن يحيى بن عبد الله بن طلحة بن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب بن عطية المحاربي.

_ (1) انظر ترجمته في ما تقدم 5: 517.

قال في " الإحاطة ": صاحبنا الفقيه الخطيب، كاتب الإنشاء بالباب السلطاني أبو محمد، نسيج وحده في أصالة البيت وعفاف النشأة، مقصود المنزل، نبيه الصهر، معم مخول في الأصالة، بارع الخط، جيّد القريحة، سيّال المداد، نشيط البنان، جلد على العمل، خطيب ناظم ناثر، قرأ بغرناطة، وولي الخطابة بالمسجد الأعظم والقضاء سنتين ببلده في حداثة السن، ثم انتقل إلى غرناطة فجأجأت به الكتابة السلطانية داحضة بالحق، آوته إلى هضبة أمانة مستظهرة ببطل كفاية، فاستقل رئيساً في غرض إعانتي وانتشالي من هفوة الكلفة على جلل الضعف وإلمام المرض. ثم كشفت الخبرة منه عند الحادثة على الدولة، وإزعاجها من الأندلس عن سوأة لا توارى، وعورة لا يرتاب في أشنوعتها ولا يتمارى، فسبحان من علّم النفس فجورها وتقواها، إذ لصق بالدائل الفاسق (1) فكان آلة انتقامه، وجارحة صيده، وأحبولة كيده، فسفك الدماء، وهتك الأستار، ومزق الأسباب، وبدل الأرض غير الأرض، وهو يزقه في أذنه زقوم النصيحة، وينحله لقب الهداية، ويبلغ في شدّ أزره إلى الغاية، عنوان عقل الفتى اختياره، يجري في سبيل دعوته طوالاً، أخرق يسيء السمع فيسيء الإجابة، بدويّاً قحّاً جهوريّاً ذاهلاً عن عواقب الدنيا والآخرة، طرفاً في سوء العهد وقلّة الوفاء، مردوداً في الحافرة، منسلخاً من آية السعادة، تشهد عليه بالجهل يده، ويقيم عليه الحجج شرهه (2) ، وتبوئه هفوات الندم جهالته، ثم أسلم المحروم مصطنعه أحوج ما كان إليه، وتبرأ منه، ولحقته بعده مطالبة مالية لقي لأجلها ضغطاً، وهو الآن بحال خزي، واحتقاب تبعات، واستدعيت شيئاً من نظمه ونثره حال التصنيف ليترجم به، فكتب إليّ ما نصّه: يا سيّداً فاق في مجد وفي شرف ... وفات سبقاً بفضل الذات والسلف

_ (1) يعني السلطان النصري الذي هرب منه لسان الدين إلى المغرب. (2) ق: شره.

وفاضلاً عن سبيل الذمّ منحرفاً ... وعن سبيل المعالي غير منحرف وتحفة الزّمن الآتي به فلقد ... ربا بما حازه منها على التحف ومعدناً لنفيس الدرّ فهو لما ... حواه منه لدى التشبيه كالصدف وبحر علم جميع الناس مغترف ... منه، ونيل المعالي خير مؤتلف وسابقاً بذّ أهل العصر قاطبة ... فالكل في ذاك منهم غير مختلف من ذا يخالف في نار على علم ... أو يجحد الشمس نوراً وهو غير خفي ما أنت إلاّ وحيد العصر في شيم ... وفي ذكاء وفي علم وفي ظرف لله من منتم للمجد منتسب ... بالفضل متّسم، بالعلم متصف لله من حسب عدّ ومن كرم ... قد شاده السلف الأخيار للخلف إيه أيا من به تبأى الوزارة إذ ... كنت الأحقّ بها في الذات والشرف يا صاحب القلم الأعلى الذي جمعت ... فيه المعالي فبعض البعض لم أصف يا من يقصّر وصفي في علاه ومن ... أنسي مديح حبيب في أبي دلف شرّفتني عندما استدعيت من نظمي ... نظماً تدوّنه في أبدع الصحف وربما راق ثغر في تبسّمه ... حتى إذا ناله إلمام مرتشف أجلّ قدرك أن ترضى لمنتجع ... بسوء كيلته حظاً مع الحشف هذا، ولو أنّني فيما أتيت به ... نافحت بالطيب زهر الروضة الأنف لكنت أفضي إلى التقصير من خجل ... إذ لست بالبعض ممّا تستحق أفي فنحسبي العجز عمّا قد أشرت به ... فالعجز حتماً قصارى كلّ معترف لكن أجبت إلى المطلوب ممتثلاً ... وإن غدوت بمرمى القوم كالهدف فانظر إليها بعين الصفح عن زلل ... واجعل تصفّحها من جملة الكلف بقيت للدهر تطويه وتنشره ... تسمو من العزّ باسمٍ غير منصرف ثم ذكر نثراً، وأن مولده بوادي آش آخر عام تسعة وسبعمائة، وتولّى الخطابة والإمامة بها عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة، ثم ولي القضاء بها وبأعمالها عام

ثلاثة وأربعين وسبعمائة، ثم انتقل للحضرة آخر رجب عام ستّة وخمسين وسبعمائة، ومن شعره قوله: ألا أيّها الليل البطيء الكواكب ... متى ينجلي صبح بليل المآرب وحتى متى أرعى النّجوم مراقباً ... فمن طالع منها على إثر غارب (1) أحدّث نفسي أن أرى الركب سائراً ... وذنبي يقصيني بأقصى المغارب فلا فزت من نيل الأماني بطائل ... ولا قمت في حقّ الحبيب بواجب فكم حدّثتني النفس أن أبلغ المنى ... وكم علّلتني بالأماني الكواذب وما قصّرت بي عن زيارة قبره ... معاهد أنس من وصال الكواعب ولا حبّ أوطان نبت بي ربوعها ... ولا ذكر خلّ حلّ فيها وصاحب ولكن ذنوب أثقلتني فها أنا ... من الوجد قد ضاقت عليّ مذاهبي إليك رسول الله شوقي مجدّداً ... فيا ليتني يممت صدر الركائب فأعملت في تلك الأباطح والرّبى ... سراي مجدّاً بين تلك السباسب وقضّيت من لثم البقيع لبانتي ... وجبت الفلا ما بين ماش وراكب وروّيت من ماء بزمزم غلّتي ... فلله ما أشهاه يوماً لشارب حبيبي شفيعي منتهى غايتي التي ... أرجّي ومن يرجوه ليس بخائب محمد المختار والحاشر الذي ... بأحمد حاز المجد من كلّ جانب رؤوف رحيم خصّنا الله باسمه ... وأعظم بماح في الثناء وعاقب رسول كريم رفع الله قدره ... وأعلى له قدراً رفيع الجوانب وشرّفه أصلاً وفرعاً ومحتداً ... يزاحم آفاق السما بالكواكب سراج الهدى ذو الجاه والمجد والعلا ... وخير الورى الهادي الكريم المناسب هو المصطفى المختار من آل هاشم ... وذو الحسب العدّ الرفيع المناصب

_ (1) كأنه نسخ فيه قول ابن خفاجة (ديوانه: 217) : وحتى متى أرعى الكواكب ساهراً ... فمن طالع أخرى الليالي وغارب

هو الأمد الأقصى هو الملجأ الذي ... ينال به مرغوبه كلّ راغب إمام النبيين الكرام، وإنّه ... لكالبدر فيهم بين تلك المواكب (1) بشير نذير مفضل متطوّل ... سراج منير بذّ نور الكواكب شريف منيف باهر الفضل كامل ... نفيس المعالي والحلي والمناقب عظيم المزايا ما له من مماثل ... كريم السجايا ما له من مناسب ملاذ منيع ملجأ عاصم لمن ... يلوذ به من بين آت وذاهب جليل جميل الخلق والخلق ما له ... نظير، ووصف الله حجّة غالب وناهيك من فرع نمته أصوله ... إلى خير مجد من لؤيّ بن غالب أولي الحسب العدّ الرفيع جنابه ... بدور الدياجي أو صدور الكتائب له معجزات ما لها من معارض ... وآيات صدق ما لها من مغالب تحدّى بهن الخلق شرقاً ومغرباً ... وما ذاك عمّن حاد عنها بغائب فدونكها كالأنجم الشّهب عدة ... ونور سناً لا يختفي للمراقب وإحصاؤها مهما تتبعت معوز ... وهل بعد نور الشمس نور لطالب لقد شرّف الله الوجود بمرسلٍ ... له في مقام الرسل أعلى المراتب وشرّف شهراً فيه مولده الذي ... جلا نوره الأسنى دياجي الغياهب فشهر ربيع في السهور مقدّم ... فلا غرو أنّ الفخر ضربة لازب فلله منه ليلة قد تلألأت ... بنور شهاب بيّن الأفق شاهب ليهن أمير المسلمين بها المنى ... وأن نال من مولاه أسنى الرغائب على حين أحياها بذكر حبيبه ... وذكر الكرام الطاهرين الأطايب وألّف شملاً للمحبين فيهم ... فسار على نهج من الرشد لاحب

_ (1) ق: الكواكب.

فسوف يجازى عن كريم صنيعه ... بتخليد سلطان وحسن عواقب وسوف يريه الله في نصر دينه ... غرائب صنع فوق تلك الغرائب فيحمي حمى الإسلام عمّن يرومه ... بسمر العوالي أو بيض القواضب ويعتز دين الله شرقاً ومغرباً ... بما سوف يبقى ذكره في العجائب إلهي ما لي بعد رحماك مطلب ... أراه بعين الرشد أسنى المطالب سوى زورة القبر الشريف وإنّه ... لموهبة فاقت جميع المواهب عليه سلام الله ما لاح كوكب ... وما رافق الأظعان حادي الركائب وقال لسان الدين رحمه الله تعالى: وليس لهذا الرجل انتحال لغير الشعر والكتابة وغير هذا الشعر قران، فقلّ أن ينتهي هذا الشعر في الضعة والاسترذال إلى ما دون هذا النمط، فهو بغير ثان شعراً وشكلاً وبلداً، لطف الله تعالى بنا وبه؛ انتهى باختصار. 6 - ومن تلامذة لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى الكاتب أحمد بن سليمان بن فركون (1) ، ومن نظمه على لسان من يرمى بالداء العضال في فرج (2) عبد ابن زمرك الوزير بعد ابن الخطيب: قالوا كلفت به غلاماً حالكاً ... فأجبتهم في فيه ما يرضي المهج مهما جننت بحسنه وبحبّه ... علّقت فوقي منه حرزاً من سبجْ

_ (1) ترجم له في الإحاطة 1: 228 وأثنى عليه بأنه شعلة من شعل الذكاء والإدراك ومجموع خلال حميدة وأنه طالب نبيل مدرك نجيب بذ أقرانه ... ثم عاد فترجم له في الكتيبة الكامنة: 305 وأنحى عليه بالذم الشديد: " جرو محقور وفي جلدة كلب عقور ... وسفيه يقال عند ذكره: كفاك الله شر من أحسنت إليه " وما ذلك إلا لأن ابن فركون كان من الزمرة التي تغيرة على لسان الدين. (2) قال لسان الدين في الكتيبة الكامنة في ترجمة ابن زمرك: " وبينه وبين معاصريه مداعبات في غلام له غريب (لعلها: غربيب) جعله مرمى غزل ونسيب ... وجمجمت الأقوال في هذا الميدان، فجمعت بين الندس والهدان، والقاصي والدان ... إلخ ".

ورأيت بخط الوادي آشي ما صورته: وجدت بخط لسان عالدين، وخاتمة أعلام البيان المجيدين، ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب رحمه الله تعالى في طرة اسم الكاتب أحمد بن سليمان بن فركون، المختص به، المتأدب بما انفرد به من انتساخ تواليف ابن الخطيب ما نصّه: يسقط هذا الساقط من الديوان؛ انتهى. ولعلّ لسان الدين إنّما أمر بإسقاطه من الإحاطة لما يتّهم به من معنى بيتيه السابقين، ويحتمل أن يكون لغير ذلك (1) ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

_ (1) قلت هذا الترجيح من المقري يؤكد أنه لم يطلع على الكتيبة الكامنة، ولا عرف سبب التغير في نفس لسان الدين على أحد تلامذته.

الباب الثامن

الباب الثامن في ذكر أولاده الرافلين في حلل الجلاله، المقتفين أوصافه الحميدة وخلاله، الوارثين العلم والعمل والرياسة والمجد عن غير كلاله، ووصيته لهم الجامعة لآداب الدين والدنيا، المشتملة على النصائح الكافية والحكم الشافية من كل مرض بلا ثنيا، المنقذة من أنواع الضلاله، وما يقع في ذلك من المناسبات القوية، والأمداح النبوية، التي لها على حسن الختام أظهر دلاله اعلم - وفقني الله تعالى وإياك لمرضاته، وجعلنا ممّن يعتبر بالدهر في معضاته - أن أولاد لسان الدين ثلاثة: عبد الله، ومحمد، وعلي، وكلّهم حدّث عن أبيه وعن ابن الجياب. أما محمد فقد نال حظه من التصوّف، ولم يكن له إلى خدمة الملوك تشوّف، ولم يحضرني الآن نص من أنبائه أكتبه لعدم وجود الكتب التي هي مظّان ذلك، إذ قد تركتها بالمغرب. وقد سبق فيما مرّ (1) من كلام ابن خلدون أن أولاد لسان الدين كانوا من ندماء السلطان وأهل خلوته، وأن عليّاً كان خالصة السلطان، رحم الله تعالى الجميع. وأمّا عبد الله فقد كتب بالعدوتين، لملوك الحضرتين، وتولى القيادة والكتابة بالأندلس أيام كان أبوه مدبر الدولة، وأكثر الناس بها كالخواص

_ (1) فيما مر: سقطت من ق.

حوله، ولا أعلم الآن ما آل إليه أمره بعد وفاة أبيه، وقد ألمّ ببعض التعريف بمبدإ أحواله أبوه لسان الدين في كتاب " الإحاطة في تاريخ غرناطة " فقال في حقّه ما ملخصه (1) : عبد الله بن محمد بن علي بن سعيد بن الخطيب التلمساني، حسن الشكل، جيد الفهم، يغطي منه رماد السكون جمرة حركة، منقبض عن الناس قليل البشاشة، حسن الخط، وسط النظم، كتب عن الأمراء بالمغرب، وأنشدهم واقتضى صكوكهم بالإقطاعات (2) والإحسان، واختال في خلعهم، ثم لما كانت الفتنة كتب عن سلطان وطنه معزز الخطة بالقيادة، قرأ على قاضي الجماعة الخطيب أبي القاسم الحسني، والخطيب أبي سعيد فرج بن لب التغلبي، واستظهر بعض المبادىء في العربية، واستجيز (3) له من أدركه ميلاده من أهل المشرق والمغرب. وشعره مترفع عن الوسط إلى الإجادة، يكلّله عذر الحداثة، فمنه قوله في مولد أربعة وستين وسبعمائة: بحقّ الهوى يا حداة الحمول ... قفوها قليلاً بتلك الطلول معاهد مرّت عليها السحاب ... ببرق خفوق ودمع همول أحنّ إليها حنين العشار ... وأبكي عليها بشجو طويل فيا سعد عرّج عليها الركاب ... ففيها لقلبي شفاء الغليل سقاها من المزن صوب الغمام ... وحيّا بعرف النسيم العليل ولا زال فيها يجرّ الذيول ... فيحيي النفوس بجرّ الذيول لئن حلت يا ربع عن عهدنا ... فعهد الهوى ليس بالمستحيل وممّا شجاني وميض خفوق ... كقلبي غداة النوى والرحيل وميض إذا سلّه المزن وهناً ... يضيء سناه كعضب صقيل

_ (1) انظر الإحاطة، الورقة: 237. (2) الإحاطة: بالاقطاع. (3) الإحاطة: وأجاز.

أطار الفؤاد فؤاد المشوق ... وأغرى السهاد بطرف كليل فبت أطاول ليل التمام ... بوجد جديد وصبر محيل ودمع يساجل دمع الغمام ... وشجو الحمائم عند الهديل فيا ليت شعري وهل من سبيل ... على الوجد يوماً بصبر جميل وهل (1) يسمح الدهر بعد العناد ... بجبر الكسير وعزّ الذليل وهل راجع عهدنا بالحمى ... على رغم دهر ظلوم جهول فيا حسن مأوى عزاء جميل ... ويا طيب مأوى بظلّ ظليل وفي ذمّة الله ركب سروا ... يجدّون والليل مرخى السدول نشاوى بكأسين كأس الهوى ... وكأس من الأمن مثل الشّمول يؤمّون بالعيس أمّ القرى ... وقبرَ النبيِّ الشفيع الرسول ديار بها الوحي وحي السما ... تنزّل، أكرم به من نزول بها أشرق الدين كالشمس نوراً ... وآن من الشرك وقت الأفول فيا حادي العيس يطوي الفلا ... بوخد القلاص ونصّ الذّميل سفائن آل طواها السرى ... وشق الحزون وقطع السهول نشدتك بالبان بان الحمى ... وبالمورد العذب والسلسبيل إذا ما حللت لدى طيبة ... وجئت محلّ الرضى والقبول وقبراً ثوى فيه خير الورى ... وبشرى الكليم وفخر الخليل فأبلغ تحيّة صبّ مشوق ... عدته عوادي الزمان الخذول وقل يا رسول الهدى والشفيع ... إذا ضاق صدر أب عن سليل عليك الصلاة وطيب السلام ... يحيّيك عند الضحى والأصيل نبيّ كريم رؤوف رحيم ... بنص الكتاب وحكم العقول إمام الهدى المجتبي المصطفى ... بأزكى شهيد وأهدى دليل

_ (1) ق: وما.

به أظهر الله دين الهدى ... وعلّم كيف سواء السّبيل وقام بأعباء دين الإله ... أتمّ القيام بفعل وقيل فأكرم بليلة ميلاده ... على كلّ وقت وعصر وجيل لك الله من ليلة فضلها ... يجرّ على النجم فضل الذيول وأيّد بالنصر مولى أقام ... مواسمها فعل برّ وصول أعاد بها الليل مثل النّهار ... بوجه كريم وفعل جميل وأبدى الرضى نحوها والقبول ... وأكرم به من حفيّ كفيل سميّ النبي الكريم الرسول ... وسيف الإله العليّ الجليل محمد المرتجى المستجار ... مبيد العدا ومنيل الجزيل من النفر الغرّ أسد الكفاح ... وأهل السماح عشيّ النزول تراهم لدى السلم أطواد حلم ... ويوم الكريهة آساد غيل مبيد العداة، ومحيي العفاة ... ومأوى الغريب ومدني الدخيل فبأس حكى النار عند احتدام ... وجود حكى السحب عند الهمول فيصلي عداه لدى الحرب ناراً ... ويروي نداه زمان المحول مليك كفيل لمن يرتجيه ... بكلّ مرام بعيد وسول وفرع كريم حميد الخلال ... نماه إلى المجد طيب الأصول فدام لنا ما سرى في الرياض ... نسيم الصّبا ومهبّ القبول وحنّ مشوق لأرض الحجاز ... إذا لاح إيماض برقٍ كليل وقال يمدح السلطان أبا عبد الله محمد بن يوسف بن نصر من مدينة فاس (1) : لمن طلل بالرقمتين محيل ... عفت دمنتيه شمأل وقبول

_ (1) أورد بعضها في نسخة الإحاطة المشار إليها.

يلوح كباقي الوشم غيّره البلى ... وجادت عليه السحب وهي همول فيا سعد مهلاً بالركاب لعلّنا ... نسائل ربعاً فالمحبّ سؤول قف العيس ننظر نظرة تذهب الأسى ... ويشفى بها بين الضلوع غليل وعرّج على الوادي المقدس بالحمى ... فطاب لديه مربع ومقيل فيا حبّذا تلك الديار وحبّذا ... حديث بها للعاشقين طويل دعوت لها سقي الحمى بعدما سرى ... وميض وعرف للنسيم عليل وأرسلت دمعي للغمام مساجلاً ... فسال على الخدين منه مسيل فأصبح ذاك الرّبع من بعد محله ... رياضاً بها الغصن المروح يميل لئن حال رسم الدار عمّا عهدته ... فعهد الهوى في القلب ليس يحول وممّا شجاني بعدما سكن الهوى ... بكاء حمامات لهنّ هديل توسّدن فرع البان، والنجم ماثل ... وقد آن من جيش الظلام رحيل فيا صاحبي دع عنك لومي فإنّه ... كلام على سمع المحبّ ثقيل تقول: اصطباراً عن معاهدك الألى ... وهيهات صبري ما إليه سبيل فلله عينا من رآني وللأسى ... غداة استقلّت بالخليط حمول يطاول ليل التمّ مني مسهّد ... وقد بان عنّي منزل وخليل فيا ليت شعري هل يعودنّ ما مضى ... وهل يسمحنّ الدهر وهو بخيل وهل راجع عهد الحمى سقي الحمى ... وظلّ بعين الدمع فيه ظليل وأيام أنس كم نعمنا بقربها ... وقد غاب عنّا حاسدٌ وعذول حلفت بربّ الراقصات إلى منىً ... لهنّ إلى البيت العتيق ذميل لجود أمير المسلمين محمد ... بكلّ مرام في الزّمان كفيل مليك أتاه الله في الملك عزمةً ... يروع الأعادي بأسها ويهول هو الملك المنصور والبطل الذي ... يهون عليه الخطب وهو جليل

إذا فلّت البيض الرقاق وجدته ... أخا عزمات ما بهنّ فلول يقصر باع المدح دون صفاته ... ويرجع عنها الفكر وهو كليل من النفر البيض الوجوه لدى الوغى ... لهم غرر وضّاحة وحجول هم ما هم والحرب قد شبّ نارها ... وللخيل في جنح العجاج صهيل إذا سئلوا يوم الندى فنوالهم ... تفيض شآبيب له وسيول بهم عزّ دين الله شرقاً ومغرباً ... وأصبح دين الكفر وهو ذليل هم السادة الأنصار والعرب الألى ... حمى الدين حيّ منهم وقبيل لهم يوم بدر والرسول أميرهم ... تصول به أرماحهم وتطول فأصبح أصحاب القليب كأنّهم ... كثيب لوطء المرهفات مهيل وقد أمن الإسلام كيد عدوّه ... وغودر ربع الكفر وهو محيل وعدّوا رواحاً للمدينة والرضى ... لهم منه فوز عاجل وقبول فمن ذا يجاري أو يداني عصابة ... جزاؤهم عند الإله جزيل لكم يا بني نصر من المجد هضبة ... تزول الرواسي وهي ليس تزول فيا سيّد الأملاك والواحد الذي ... إذا عدّ فخر ليس عنه عدول لقد قرع الأعداء منك مؤيد ... له الذعر نصر والحسام دليل فلم يدركوا ما أمّلوا غير ساعة ... كذاك متاع الأخسرين قليل تعاوَين في باب البنود بسحرة ... كلاب عليهم بعد ذاك عويل أبى الله إلا أن يموتوا بغيظهم ... فويل لهم من مكرهم وأليل فأضحوا حديثاً في البلاد ويومهم ... وساء صباح عندهم وأصيل بسعد إمام ينزل العصم سعده ... ويروي نداه والزمان محول وفرع كمال في الخلافة ثابت ... نمته إلى المجد الزكيّ أصول حكى وجهه شمس النهار إذا بدا ... وريّاه عرف الروض وهو بليل أعاد لنا بالعدل أيّامه التي ... عهدنا، فدارت للسرور شمول

فدام لنا ما هبّ عرف من الصّبا ... وأومض برق في الظلام كليل وحنّ مشوق للحجاز إذا بدت ... لعينيه منه شامة وطفيل وأشرق نجم مثل قلبي خافق ... وحان له عند الغروب أفول ولا زالت الأقدار تجري بأمره ... وصنع إله العرش فيه جميل وقال في إعذار ابن السلطان رحمه الله تعالى ورضي عنه: أثرها عزمة تنضي الركابا ... وإن دميت لها العين انسكابا لعلّ الوجد تطفأ منه نار ... أبت إلا زفيراً والتهابا أما بعد الألى ترجو قلوب ... تسارع نحو أرضهم انقلابا فيا أخويّ كفّا عن عتابي ... فلست بسامع أبداً عتابا تذكرت العقيق فسال دمعي ... عقيقاً من تذكره مذايا أقول لنسمة مرّت صباحاً ... يعطّر عرفها القفر اليبابا ألا يا هذه كوني رسولي ... وكوني إن رجعت لي الجوابا نشدتك بلّغي صحبي سلامي ... إذا جئت المعاهد والقبابا يلومني العواذل في اشتياقي ... إذا ما القلب من وجدي تصابى وكم بين الأباطح من مهاة ... تروع بلحظها الأسد الغضابا رمتني ثم قالت وهي تزري ... ولم تحذر بفتكتها العقابا إذا ما الشهب للغرب استمالت ... وفود الليل بالإصباح شابا أوجّه إن رقدت إليك طيفي ... كلمع البرق يخترق السحابا فقلت: لقد بخلت على مشوق ... أبى إلا غراماً (1) واكتئابا وكيف له بنومٍ بعد وجد ... يذيب لهيبه الصمّ الصلابا

_ (1) ق: عراماً.

سينصره من الأنصار ملك ... إذا ناداه مظلوم أجابا كريم الذات من ملإ كرام ... لقد طابت سجاياهم وطابا تواضع رحمة وعلا محلاّ ... وسهّل منه للناس الحجابا فليس يصدّ عن جدواه راج ... وليس يسدّ عن عافيه بابا له عطف على الراجي جميل ... يفلّ من الردى ظفراً ونابا وعدل (1) أمّن الأرجاء حتى ... ترى الغزلان لا تخشى الذئابا أمولاي الذي أحيا المعالي ... وقد بليت وألحفت الترابا مددت على البلاد جناح عدل ... وكفّ الجور تستلب استلابا وتاب الدهر ممّا قد جناه ... فجدت له بعفوك حين تابا وسكّن عزّ دولتك الدواهي ... فكانت رحمة دفعت عذابا ويا لله إعذار سعيد ... دعوت السعد فيه فاستجابا عجبت لمقدم والروع يهفو ... بأفئدة الكماة وما استرابا ومن شبلٍ أطاع أخا سلاح ... وحكّمه اصطباراً واحتسابا وهل عذر لعاذر ليث غاب ... أظنّ فؤاده والعقل غابا فلولا سنّة حكمت وهدي ... أصبت وقد سلكت به الصوابا لحامت عصبة الأنصار عنه ... بأسياف تقدّ بها الرقابا من الصّيد الذين لهم نفوس ... لغير الفخر لا تصل الطّلابا تنير الليل أوجههم إذا ما ... أرادوا السير أو حثّوا الركابا دعوت به الأنام ليوم حشرٍ ... ولم تذخر لهم إلا الثوابا رأوا من زخرف الدنيا مقاماً ... يذكّر بالجنان لمن أنابا وأبهتهم فما عاطوا حديثاً ... ولا عرفوا السؤال ولا الجوابا

_ (1) ق: وعطف.

ولو مكثوا به دهراً طويلاً ... لما ذكروا الطعام ولا الشرابا وطاردت الصّوار بكلّ ضار ... كما أتبعت عفريتاً شهابا ضربت به على الآذان منها ... فلم تسطع حراكاً واضطرابا ومعصوب الجبين بتاج روقٍ ... يروع خواره الأسد الغضابا تعرّف أنّ تحت الأرض ثوراً ... فرام بأن يشقّ له الترابا وكلت به هضيم الكشح أجنى ... حديد الناب تحسبها حرابا تباعد مجمع الشدقين منه ... وسال الموت بينهما لعابا فأثبته كوحي الطرف حتى ... توثق منه جازره غلابا وصاح به الصّوار وقد رآه ... حبيس الكلب قد منع الإيابا " فغض الطرف إنّك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا " (1) وأرسلت الجياد إلى استباق ... كأنّ بوارقاً شقّت سحابا فمن وردٍ أقبّ ومن كميتٍ ... وأشهب يلهب الأرض التهابا وساقية العماد إذا أطلّت ... إلى الأدواح تنساب انسيابا تحوم بها العصيّ فراش ليل ... تروم بسمعه منه اقترابا تجفّ بها خيول القوم منّا ... فترسل نحوها الجرد العرابا عجائب أبدعت علياك فيها ... ومثلك يبدع الأمر العجابا محمد لا عدمت الدهر حمداً ... فقد أحسنت في الملك المنابا وزكّى نفسك الرحمن لمّا ... رآك ملكت للمجد النّصابا تداركت البلاد ومن عليها ... فأمّنت التنائف والشعابا لقد أوليتنا بيض الأيادي ... لقد طوّقتنا المنن الرغابا روت عنك العوالي في المعالي ... حديث الفخر حقّاً لا انتسابا ستفتح من بلاد الشرك أرضاً ... قد اعتقلت عقائلها اغتصابا

_ (1) بيت لجرير بن الخطفي.

وتعمل في العدا بيض المواضي ... إلى أن ينكر السيف القرابا فما كأس من الصهباء صرف ... تعيد الشيخ من طرب شبابا وطاف بها من الرهبان بدر ... يهتّك من دجى الليل الحجابا تجدّ الأنس عوداً بعد بدء ... وربع الهمّ تتركه خرابا بأعذب من ثنائك حين يطوي ... به الركب الأباطح والهضابا أمولاي استمعها بنت فكر ... تخيّرها فأبرزها لبابا وغاص على فرائدها الغوالي ... وشقّ على نفائسها العبابا وهنّاك الإله بكلّ نعمى ... تقود لك الأمانيّ الصعابا ودمت لعزة الإسلام ركناً ... إلى أن يشمل الشيب الغرابا وقال، وقد أنشدها السلطان ليلة الميلاد عام خمسة وستين وسبعمائة: نفس الصّبا أهدى إليّ نسيما ... قد رام ممتنعاً ورام عظيما يا هل يبلّغني السّرى خير الورى ... فأرى معاهد للهوى ورسوما وأسابق الركبان فوق نجيبة ... تفري من البيد العراض أديما وأحطّ رحلي في كريم جواره ... أرجو نعيماً في الجنان مقيما حتى إذا بلغوا الذي قد أمّلوا ... ورأوا مقاماً بالرضى موسوما وتزاحموا في الترب يستلمونه ... أرأيت في الورد الظّماء الهيما قبّلت ذاك الترب من شوقي إلى ... من حلّه وأقمت فيه لزيما وبكيت من دمع المآقي زمزماً ... وتركت جسمي كالحطيم حطيما صلّى عليه الله ما هبّت صباً ... تهدي من الطيب الزكيّ شميما لله مولده الذي أنواره ... صدعت ظلاماً للضلال بهيما شرعت من التأييد سيف هداية ... أردت ظباه فارساً والروما كسر الأكاسر بالعراء ولم يدع ... أن ردّ قيصر قاصراً مهزوما

لله منها ليلة أضحى بها ... شمل الهدى لأولي الهدى منظوما أبداً أمير المسلمين أعدّها ... بدعاً من القصر (1) الكريم جسيما ملك أقام الله منه لخلقه ... مولىً رؤوفاً بالعباد رحيما يحمي ذمار المسلمين من الردى ... ويبيح ربعاً للعدا وحريما بمحمّد قد عاد دين محمّد ... غضّ الرياض وكان قبل هشيما أحيا به الله الخلافة بعدما ... كانت بأطباق التراب رميما من آل سعد الخزرج بن عبادة ... طابوا فروعاً في العلا وأروما تلقاه في يوم الكريهة والوغى ... والخيل عابسة أغرّ وسيما وتخال كفّيه إذا شحّ الحيا ... أفقاً بعامية الغيوث غيوما تأبى خلال العدل والشيم العلا ... من أن يرى في دهره مظلوما كهف العباد وفخرها وثناؤه ... ترك المديح على الطروس رقيما لا زال يلقى العيش طلقاً والعلا ... مرقىً وصرف الحادثات خديما ما اهتز غصن في الحديقة ناعم ... لمّا أحسّ من الشمال شميما مولده بغرناطة، يوم السبت سابع عشر صفر عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة؛ انتهى. [أشعار للسان الدين] وممّا خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى ولده عبد الله المذكور ما في النفاضة من قوله: أنشدت ابني عبد الله وقد وصل لزيارتي من الباب السلطاني حيث جرايته ووظيفته، وانجر حديث ما فقد بغرناطة في شجون الكلام: يا بنيّ عبد الإله احتساباً ... عن أثابٍ ومنزلٍ وعقار

_ (1) ق: القصد.

كيف يأسى على خسارة جزء ... من يرى الكلّ في سبيل الخسار هدف لا تني سهام الليالي ... عن سباق تجاهه وبدار واحد طائش وسهم مصيب ... ليس ينجي منها اشتمال حذار غير ذي الدار صرف الهم فيها ... فمناخ الرحيل ليس بدار انتهى. وقال أيضاً رحمه الله تعالى: ممّا أنشدته ولدي عبد الله، وأمرته بحفظه والتأدب به واللهج بحكمته: إذا ذهبت يمينك لا تضيّع ... يسارك في البكاء ولا المصيبهْ ويسراك اغتنم فالقوس ترمي ... وما تدري أرشقتها قريبهْ وما بغريبة نوب اللّيالي ... ولكنّ النجاة هي الغريبهْ قال: ومن المنظوم في قريب من هذا قولي: أيا أهل هذا القطر ساعده القطر ... دهيت فدلوني لمن يرفع الأمر تشاغلت بالدنيا ونمت مفرّطاً ... وفي شغلي أو نومتي سرق العمر وقال رحمه الله تعالى: وممّا قلته وقد انصرف عني الولد عبد الله إلى مدينة فاس لإقامة رسمه من الخدمة، وأشجاني انصرافه لوقوع قرحة على قرح، والله المستعان: بان يوم الخميس قرّة عيني ... حسبي الله أيّ موقف بين لو جنى موقف النوى حين حيّا ... حان يوم الوداع والله حيني ضايقتني صروف هذي الليالي ... وأطالت همّي وألوت بديني وطن نازح وشمل شتيت ... كيف يبقى معذّب بعد ذين يا إلهي أدرك بلطفك ضعفي ... إنّ ما أشتكيه ليس بهين وقال رحمه الله تعالى: أنشدت يوماً ولدي عبد الله وقد رأيت منه نشاطاً

ومرحاً انتقل مني إليه بعد السن: سرق الدهر شبابي من يدي ... وفؤادي مشعر بالكمد جملة الأمر إذا أبصرته ... باع ما أفقدني من ولدي وقد سبق هذان البيتان عند ذكر بعض نظم لسان الدين رحمه الله تعالى. [علي وتعليقاته على الإحاطة] وأمّا علي بن لسان الدين رحمه الله تعالى فهو شاعر البيت بعد أبيه النبيه، وكان مصاحباً للسلطان أحمد المريني المستنصر بالله ابن السلطان أبي سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني، رحمهم الله تعالى. وحكى بعضهم أنّه حضر معه في بستان، سحّ فيه ماء المذاكرة الهتّان، وقد أبدى الأصيل شواهد الاصفرار، وأزمع النهار لما قدم الليل على الفرار، فقال المستنصر لما لان جانبه، وسالت بين سرحات البستان جداوله ومذانبه: يا فاس إنّي وأيم الله ذو شغف ... في كلّ ربع لهم مغناه يسبيني وقد أنست بقرب منك يا أملي ... ونظرة فيكم بالأنس تحييني فأجابه أبو الحسن علي بن الخطيب، بقوله المصيب: لا أوحش الله ربعاً أنت زائره ... يا بهجة الملك والدنيا مع الدين يا أحمد الحمد، أبقاك الإله لنا ... فخر الملوك وسلطان السلاطين وقد رحل رحمه الله تعالى إلى مصر، ولم يحضرني الآن من أحواله بعد دخوله مصر ما أعوّل عليه، وقد كان وقف بالقاهرة على نسخة الإحاطة التي وجّهها أبوه إلى مصر ووقفها بخانقاه سعيد السعداء كما أشرنا إليه فيما مرّ، فكتب بالحواشي كتابات مفيدة، وقد ذكرنا بعضها فيما أسلفناه من هذا الكتاب

فليراجع: إما تكميل لما أغفله أبوه، وإما إخبار عمّا شاهده هو، أو رواية له عن المترجم به، أو جواب عن أبيه فيما انتقد عليه. [نماذج في تعليقاته من ترجمة ابن جابر] ولنذكر شيئاً منها غير ما تقدم بعد إيراد نص " الإحاطة " فنقول: قال في الإحاطة في حرف الميم في ترجمة شمس الدين الهواري (1) الضرير شارح ألفية ابن مالك وصاحب البديعية الشهيرة بالأعمى والبصير، ما صورته: محمد بن أحمد بن علي الهوّاري، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن جابر، من أهل المرية. حاله - رجل كفيف البصر، مدل على الشعر، عظيم الكفاية والمنة على زمانته، رحل إلى المشرق، وتظاهر برجل من أصحابنا يعرف بأبي جعفر الإلبيري، صارا روحين في جسد، ووقع الشعر منهما بين لحيي أسد، وشمر للعلم وطلبه، فكان وظيفة الكفيف النظم، ووظيفة البصير الكتب، وانقطع الآن خبرهما؛ انتهى. فكتب المذكور على أوّل الترجمة ما صورته: نعم الرجل ورفيقه أبو جعفر أحسن الله تعالى إليهما، فلقد أحسنا الصحبة، في الغربة، وانفردا بالنزاهة والفضل وعلو الهمّة، إلا أن المصنف قصّر فيهما بعض قصور، ومنهما يطلب الإغضاء والصفح، فالرجل مات، وذكر الأموات بالخير مشروع، وهما والله الشرف الباهر بقطرهما علماً وعملاً، أمتع الله تعالى بهما، قاله ولد المؤلف علي بن الخطيب القاهرة؛ انتهى.

_ (1) قد ترجم المقري لابن جابر الضرير ورفيقه أبي جعفر الإلبيري (المجلد 2: 664 - 687) وهاهو يعود إلى الإسهاب في ذكر الرجلين في هذا الجزء.

وكتب على قول أبيه وانقطع الآن خبرهما ما نصّه: هما الآن بإلبيرة من حلب، تحت إنعام ولطف، تحث إليهما الرواحل، وتضرب إليهما آباط النّجب. رجع تكميل ترجمة الشمس ابن جابر من " الإحاطة ": قال لسان الدين بعد ما مضى ما نصّه، وجرى ذكره في الإكليل بما نصّه: محسوب من طلبتها الجلّة، ومعدود فيمن طلع بأفقها من الأهلّة، رحل إلى المشرق وقد أصيب ببصره، واستهان في جنب الاستفادة بمشقّة سفره، على بيان عذره، ووضوح ضره. شعره - وشعره كثير، فمنه قوله: سلوا حسن ذاك الخال في صفحة الخدّ ... متى رقموا بالمسك في ناعم الورد وقولوا لذاك الثغر في ذلك اللّمى ... متى كان شأن الدرّ يوجد في الشهد ومن هزّ غصن القدّ منها لفتنّي ... وأودعه رمانتي ذلك النهد ومن متّع القضب اللّدان بوصفها ... إلى أن أعؤن الحسن من ذلك القد فتاة تفتّ القلب مني بمقلة ... لها رقّة الغزلان في سطوة الأسد تمنيت أن تهدي إليّ نهودها ... فقالت رأيت البدر يهداه أو يهدي فقلت أللرّمّان بدّ من الجنى ... فتاهت وقالت: باللواحظ لا الأيدي فقلت أليس القلب عندك حاصلاً ... فقالت قلوب الناس كلّهم عندي فقلت اجعليني من عبيدك في الهوى ... فقالت كفاني كم لحسني من عبد إذا شئت أن أرضاك عبداً فمت جوىً ... ولا تشتكي واصبر على ألم الصدّ ألم تر أنّ النحل يحمل ضرّها ... لأجل الذي تجنيه من خالص الشهد كذلك بذل النفس سهل لذي النّهى ... لما يكسب الإنسان من شرف الحمد ألست ترى كفّ ابن جانة طالما ... أضاع كريم المال في طلب المجد

وكتب ابن المؤلف على هذه القصيدة ما صورته: عارضة قوية، ونزعة خفاجية، ويكف لا والشيخ أبو عبد الله صدر صدور الأندلس علماً ونظماً ونحواً، زاده الله تعالى من فضله؛ انتهى. رجع إلى الترجمة - قال لسان الدين: وقال، يعني ابن جابر: عرّج على بان العذيب ونادي ... وانشد فديتك أين حلّ فؤادي وإذا مررت على المنازل بالحمى ... فاشرح هنالك لوعتي وسهادي إيه فديتك يا نُسيمة خبري ... كيف الأحبة والحمى والوادي يا سعد، قد بان العذيب وبانه ... فانزل فديتك قد بدا إسعادي خذ في البشارة مهجتي يوماً إذا ... بان العذيب ونور حسن سعاد قد صحّ عيدي يوم أبصر حسنها ... وكذا الهلال علامة الأعياد وممّا نقلته من جزء قيده لي صاحبنا الفقيه الأستاذ أبو علي الزواوي ممّا ادعاه لنفسه: عليّ لكلّ ذي كرم ذمام ... ولي بمدارك المجد اهتمام وأحسن ما لديّ لقاء حرّ ... وصحبة معشر بالمجد هاموا وإنّي حين أنسب من أناس ... على قمم النجوم لهم مقام يميل بهم إلى المجد ارتياح ... كما مالت بشاربها المدام هم لبسوا أديم الليل برداً ... ليسفر عن أديمهم الظلام هم جعلوا متون العيس أرضاً ... فمذ عزموا الرحيل فقد أقاموا فمن كلّ البلاد لنا ارتحال ... وفي كلّ البلاد لنا مقام وحول موارد العلياء منّا ... لنا مع كلّ ذي شرف زحام تصيب سهامنا غرض المعالي ... إذا ضلّت عن الغرض السهام وليس لنا من المجد اقتناع ... ولو أنّ النجوم لنا خيام

ثم سرد لسان الدين القصيدة بتمامها، وذكر بعد ما سبق اثنين وستين بيتاً، ولم نثبتها لطولها، ثم قال بعدها: نجزت وما كادت، ثم قال بعدها أيضاً: وقد وطّأ لإمطاء قروحها، وأعيا لإكثار سروحها، ثم قال بعده: والله ولي النجاة بفضله؛ انتهى. وكتب ابنه على أول القصيدة وهو: عليّ لكلّ ذي كرم ذمام ما نصّه: نزعة معرية، قاله ابن المؤلف رحمه الله تعالى؛ انتهى. وكتب الشيخ ابن مرزوق على قوله نجزت إلى آخره ما صورته: ما أنصف المصنف هذا الفاضل في ترجمته، وقدره شهير، ومكانه من الفضيلة كبير، وعلمه غزير، ولعلّه لم يطلع إلا على ما أودعه. وكتب إثره ابن لسان الدين ما صورته: نعم يا سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق لم ينصف المترجم به المؤلف، ولولا أنّهما بالحياة ما صدر منكم التنبيه، ولو حصلا تحت الصفيح لم تعملوا فيهما قلماً، هكذا شأن الدنيا بقلّة الوفاء شنشنة معروفة، والحقد على الأموات شأن المغاربة، قاله علي ابن المصنف رحمه الله تعالى؛ انتهى. [استطراد بأشعار ابن جابر] ولا خفاء أن لسان الدين لم يستوف حقوق الشمس ابن جابر الهوّاري المذكور مع أن له محاسن جمة. ومن محاسنه رحمه الله تعالى: هناؤكم يا أهل طيبة قد حقّا ... فبالقرب من خير الورى حزتم السبقا فلا يتحرّك ساكن منكم إلى ... سواها وإن جار الزّمان وإن شقا فكم ملك رام الوصول لمثل ما ... وصلتم فلم يقدر ولو ملك الخلقا فبشراكم نلتم عناية ربّكم ... فها أنتم في بحر نعمته غرقى

ترون رسول الله في كلّ ساعة ... ومن يره فهو السعيد به حقّاً متى جئتم لا يغلق الباب دونكم ... وباب ذوي الإحسان لا يقبل الغلقا فيسمع شكواكم ويكشف ضركم ... ولا يمنع الإحسان حراً ولا رقّا بطيبة مثواكم، وأكرم مرسل ... يلاحظكم فالدهر يجري لكم وفقا فكم نعمة لله فيها عليكم ... فشكراً، وشكر الله بالشكر يستبقى أمنتم من الدجّال فيها فحولها ... ملائكة يحمون من دونها الطّرقا كذاك من الطاعون أنتم بمأمن ... فوجه اللّيالي لا يزال بكم طلقا فلا تنظروا إلاّ لوجه حبيبكم ... وإن جاءت الدنيا ومرّت فلا حياة وموتاً تحت رحماه أنتم ... وحشراً فستر الجاه فوقكم ملقى فيا راحلاً عنها لدنيا يريدها ... أتطلب ما يفنى وتترك ما يبقى أتخرج عن حرز النبيّ وحوزه ... إلى غيره تسفيه مثلك قد حقّا لئن سرت تبغي من كريم إعانةً ... فأكرم من خير البرية ما تلقى هو الرزق مقسوم فليس بزائل ... ولو سرت حتى كدت تخترق الأفقا فكم قاعد قد وسع الله رزقه ... ومرتحل قد ضاق بين الورى رزقا فعش في حمى خير الأنام ومت به ... إذا كنت في الدارين تطلب أن ترقى إذا قمت فيما بين قبر ومنبر ... بطيبة فاعرف أين منزلك الأرقى لقد أسعد الرحمن جار محمّد ... ومن جار في ترحاله فهو الأشقى ومن محاسنه رحمه الله تعالى المقصورة الفريدة، وهي قوله (1) : بادر قلبي للهوى وما ارتأى ... لمّا رأى من حسنها ما قد رأى فقرّب الوجد لقلبي حبها ... وكان قلبي قبل هذا قد نأى

_ (1) واضح أن هذه المقصورة من " المعشرات " على حروف المعجم وقد فصلنا بين أجزائها لتتضح للقارئ صورتها.

يا أيها العاذل في حبي لها ... أقصر فلي سمع عن العذل بأى (1) لو أبصر العاذل منها لمحة ... ما فض باب عذله ولا فأى (2) سرّحت طرفي طالباً شأو العلا ... وتابعاً في حبها ما قد شأى (3) إنّي لأرعاها على تتبيعها ... عهدي، ومثل من وفى إذا وأى (4) من منصفي من شادن لم أرجه ... لحاجة من وصله إلا زأى (5) وإن قبضت النفس عن سلواته ... مدّ أديم هجره لي وسأى (6) لأقطعنّ البيد أفري حاذها ... بضامر يفري الحصى إذا جأى (7) حتى أزور ربّة الخدر وقد ... ذاد الكرى عني الوشاة وذأى (8) يا ربّ ليل قد تعاطينا به ... حديث أنس مثل أزهار الربى في روضة تعانقت أغصانها ... إذا واصلت ما بينها ريح الصّبا نادمت فيها من بني الحسن رشاً ... يصبو له من لم يكن قطّ صبا حلو رخيم الدلّ في أعطافه ... لين وفي ألحاظه بيض الظّبى أيام كان العيش غضّاً حسنه ... عذب الجنى ريبّان من ماء الصّبا أي زمان ومحلّ للمنى ... ما ضاق مغناه بنا ولا نبا يا مربعاً ما بين نجد والحمى ... ويا زماناً قد حباني ما حبا

_ (1) بأى يبأى: فخر؛ وفي ق: فلي قلب ... نأى. (2) فأى: شق وخرج. (3) شأى: قد تعني " بعد " أو " أعجب وأطرب ". (4) وأى: وعد؛ وفي: ومثلي من فأى ... الخ. (5) زأى: تكبر، عن ابن الأعرابي. (6) سأى الثوب والأديم: مده حتى انشق. (7) الحاذ: طريقة المتن وهو موضع اللبد من الفرس؛ وجأى: قذف. (8) ذأى: ساق سوقاً شديداً وطرد.

الله يرعاه زماناً لم يحل ... عن بذل ما نأمله ولا أبى فأيّ مغنىً آهل يممته (1) ... لمقصد حلّت لنا فيه الحبا هل ترجع الأيام عيشاً باللوى ... فراقه كان اللهيم الأربى (2) تالله لا أعبا بعيش قد مضى ... ولا زمان قد تعدّى وعتا مذ علقت كفي بالهادي الذي ... ساد الورى طفلاً وكهلاً وفتى كالبحر لا يغيض يوماً ورده ... لوارد إذا أصاف أو شتا متصل البرّ لمن قد أمّه ... لا يكره العودة ممّن قد أتى ولا يناجي نفسه في ضيقة ... أيّ نهار سرّ هذا ومتى إنّ رسول الله مصباح هدىً ... يهدى به من في جدى الليل متا (3) كفّ بني الجور بعدل واضح ... كما تكفّ اليد كفّاً من فتى كم ذي هوى قد راضه بهديه ... فانقاد كالعبد إذا العبد قتا (4) قد خالط الحلم سجايا طبعه ... كمثل ما قد خالط الثوب السنا (5) أقسمت لا زلت أوالي مدحه ... ما اشتدّ بالناس زمان ورتا (6) لولا اشتياقي لديار كرمت ... لبعدها يرثي لنا من قد رثى ومدح من أرجو بأمداحي له ... إصلاح ما قد عاث مني وعثا لم أجعل الشعر لنفسي خلّة ... ولم يخش فكري به ولا غثا (7)

_ (1) ق: أملته. (2) اللهيم: الداهية؛ الأربى: الشديدة. (3) متا في الأرض مثل العطا، أي مشى. (4) قتا العبد: خدم، أو أحسن الخدمة. (5) ستى الثوب يستيه بمعنى سداه يسديه. (6) رتا - من الأضداد: شد وأرخى. (7) غثا: كثر غناؤه.

فما أرى الأيام تبدي منصفاً ... ولو حكيت المسك من حسن النّثا يا ضيعة الألباب في دهر غدا ... فيه فتيت المسك يعلوه الخثى (1) يا ويل أم ليس تزجي ضيمها ... مثلي بما تبديه من منع الحثا (2) هل مارست إلا أخا عزم إذا ... ما قعد الناس عن الخطب جثا (3) تسيل من جهد السرى أعطافه ... كمثل ما سال من الدوح اللثى (4) له اعتصام بالرسول المجتبى ... أجود من أضفى العطايا وحثا من ليس للدنيا محلّ عنده ... ولا ينيل المال إلا بالحثا (5) أنا الفتى لا يطّبيني طمع ... فأبذل الوجه لنيل يرتجى لكن إذا اضطر زمان جائر ... أمّلت من ليس يردّ من رجا لا أسأل النذل ولو أنّي به ... أملك ما حاز النهار والدجى حسبي بنو عبد مناف بهم ... يغنى من استغنى وينجو من نجا أولئك القوم الألى من أمّهم ... أمّن ممن لام يوماً وهجا يلقاك منهم كلّ وجه مشرق ... كأنّه البدر إذا الليل سجا إنّي مذ أمّلتهم لم يثنني ... عن طلب المجد زمان قد شجا إن أنا قد نكّرني دهرٌ عدا ... فطالما عرّفني فضل الحجى يطوي العدا ذكري ومجدي ناشري ... آليت لا زال لهم مني شجا أنا الذي أعملت للمجد السّرى ... لا أسأم الأين ولا أشكو الوجى

_ (1) الخثى: جمع خثي، وهو روث الثور. (2) الحثا: التراب المحثو أو المحثي. (3) جثا: جلس على ركبتيه للخصومة أي لمواجهة الخطب، فهو مستوفز. (4) اللثى: شيء ينضحه ساق الشجرة أبيض خائر. (5) يريد بلء الكفين.

كم سرت في البيداء لا يقلقني ... حرّ الهجير لا ولا برد الضحى أرسلها غرّ الذرا تسري بنا ... كلّ عويص السير صعب المنتحى يطيح مفتوت الحصى من دونها ... كأنّه سهم عن القوس طحا (1) فكم بذلت الجهد في كسب العلا ... وجدت بالنفس لحاني من لحا أرغم أعداي بحزم نافذ ... يعركهم عرك الثفال بالرحى أذود عن عرضي وأحمي حسبي ... بكرم جزل ومجد قد ضحا أقسم بالبيت ومن طاف به ... ومن نحا وجهته فيمن نحا وكلّ من أعمل لله الخطا ... محا بها من الخطايا ما محا ومعشر ثجّوا وعجّوا فلهم ... بمرتقى المروة ذكر ووحى (2) لا زلت أزجيها لإدراك العلا ... حتى ترى من جهدها مثل اللّحا يا عجباً من حاسد لي قد زها ... بعيشه الغض عليّ وانتخى كأنّني لم أعرف العزّ ولا ... صاحبت دهري في سرور ورخا وإنما الدهر له تقلّب ... إن ارتخى شد وإن شد ارتخى إنّ الذي لا ينثني عن جوده ... إن بخل الدهر لنا وإن سخا خير الورى طرّاً من الله به ... أذهب عنّا كلّ غيّ فامتخى (3) شرّفه الله وحلّى جيده ... بجوهر من كل مجد موتخى (4) زينة تواضع على علا ... فما ازدهى بعزة ولا نخا (5) فكم حمى بهديه وكم وقى ... وكم أفاد آملاً وكم نخا

_ (1) طحا: ذهب بعيداً. (2) الوحى: الصوت. (3) يقال امخى من الشيء أي تبرأ منه وتحرج. (4) موتخى: متحرى. (5) نخا: زهي، وقال الأصمعي، يقال: نخي وانتخى ولا يقال نخا.

خلّص من أسر الخطايا جاهه ... فما على قلب امرىء منها طخا (1) خفّف عنّا ثقل ما نحمله ... فلم نبت من ثقله نشكو السّخا (2) إن تحسب الرّسل سماء قد بدت ... فإنّه في أفقها نجم هدى وإن يكن كلّ كريم قد مضى ... طلاًّ فقد أضحى لنا غيث جدا وإن يكونوا أنجماً في فلك ... فإنّه من بينهم بدر بدا واسطة السلك إذا ما نظموا ... وملجأ القوم إذا الخطب عدا كالبحر بل كالبدر جوداً وسنا ... فحبّذا من اجتدى أو اقتدى أحسن أخلاقاً من الروض إذا ... ما اختال في برد الصّبا أو ارتدى وساقط القطر عليه دمعه ... فابتل برد الزهر منه وانتدى تفديه نفسي من شفيع للورى ... وقلّت النفس له مني فدا هو الذي أنعشنا من بعد ما ... قد يبس الغصن وأذواه الصّدى وكنت في ليل الهوى ذا حيرة ... فجاء بالحقّ وأنجى وهدى فكم كسا من ثوب نعمى قد ضفا ... وكم هدى بعلمه وكم إذا من اقتدى بغيره فإنّه ... لم يتّبع سبل الهدى ولا حذا هل هي إلاّ سنّة الحقّ التي ... أرشد من لاذ بها أو احتذى كف اللسان وانبساط الكف بال ... خير وطيب الذكر همّ قد شذا (3)

_ (1) الطخا: قطع السحاب. (2) السخا: ظلع يصيب البعير حين يثب بالحمل الثقيل. (3) شذا: آذى، أي أن هذه الواجبات تقلق من يريد الاحتفاظ بها، وفي التجارية: عرف قد شذا، ويكون شذا بمعنى تطيب.

أحسن ما نال الفتى من كرم ... أن لا يرى من أجله من ائتذى والصمت عمّا لا يفيد قوله ... من كلم يهذي به فيمن هذى لا شيء كالصمت وقاراً للفتى ... يوماً ولا أنجى له من الأذى من عيبه يشغله عن غيره ... بات سليم العرض نفّاح الشذا ومن يعب عيب ومن يحسن إذن ... لان له كلّ عصيّ وخذا (1) ومن تكن دنياه أقصى همّه ... لم يرو من ثدي الحجى ولا اغتذى لا تنفق العمر سوى في حبّ من ... هو الذي في سنن الحقّ جرى يهديك من رشد ومجد واضح ... روضين من علم وذكر قد سرى أجاد هدياً وأفاد نائلاً ... وجاد حتى عمّم الجود الورى ترى بني الحاجات نحو بابه ... قد أعملوا العيس بحزن في البرى لهم إلى رؤيته تشوّق ... تشوق الساري إلى نار القرى ذا يبتغي علماً وهذا نائلاً ... وخائب من قصده ليس يرى كأنّهم إذا رأوا غرّته ... وفد حجيج عاينوا أمّ القرى وجه لديه يحمد السير، كذا ... عند الصباح يحمد القوم (2) السّرى هدا إذا ما أخلف الناس وفى ... نائي المدى في مجده سامي الذرا إذا شددت الكفّ في أمر به ... فليس بالواني ولا الواهي العرى أنهضني بهديه إلى التّقى ... بعد قصور العزم والباع الوزى (3)

_ (1) خذا: لان واسترخى. (2) ق: الساري؛ وقوله " عند الصباح ... " مثل. (3) الوزى: القصير.

هو الشفيع المجتزى بجاهه ... بمثل ذاك الجاه حقّاً يجتزى مذ زرته لم أشك من شحط النوى ... إذ كان لي فيه غنىً ومجتزى وما وجدت غربة ولم يجد ... مس اغتراب من إلى الجود اعتزى متصل البشر غضوب للهدى ... إذا رأى من زاغ عنه أو نزا أصبح من أيّامه في مأمن ... من قد لجا يوماً إليه أو رزى (1) تخذته كهفاً فبتّ آمناً ... جزاه ربّ العرش خير ما جزى أدّبنا بسنّة أفلح من ... نمى إليها النفس يوماً أو عزا يجزي أخا الحسنى على إحسانه ... شكر امرىء راض الأمور وحزا (2) لست أجازي الشرّ بالشرّ، ولا ... أغزو لناوي السوء مثل ما غزا لم تر عين كرسول الله ذا ... حزم، ولا أحلم إن دهر غزا إذا ملمّات الأمور قلقلت ... ألفيته كأنّه طود رسا بخلقه فليقتد المرء فما ... أكرمها من مقتدى ومؤتسى كن حذراً وإن رأيت تمرة ... فمثلها توقد جمرة الأسى لا تيأسن إن تناءى أمل ... وكلّما عثا زمان قد عسا وإن بدا صبح المشيب فاطّرح ... ما كان إذ ليل الشباب قد غسا (3) ولا تظنّ الشيب يرجى طبّه ... بزور صبغ أو مدام يحتسى إذا الفتى قوّس واعتدّ العصا ... لقوسه عن وتر أعيا الأسا فاذكر زمان الشيب في حال الصّبا ... عسى يلين للتقى قلب قسا

_ (1) رزا: إذا قبل البر، وأرزى إلى: لجأ. (2) حزا: عرف وجرب، والحازي: الكاهن. (3) غسا الليل يغسو: أظلم.

ما أقبح اللهو على المرء إذا ... ما اشتعل الرأس مشيباً واكتسى لا تحسب الراحة راحاً قرقفاً ... للشّرب منها قبس ومنتشى إذا أداروها وقد جنّ الدجى ... وشى بهم نيّرها فيمن وشى قد حجبت في دنّها دهراً إلى ... أن برزت كأنّها صبح فشا لم يبق من جوهرها إلاّ سنا ... ينشىء أفراح الفتى إذا انتشى كأنها والكأس قد حفّت بها ... متيّم أصبح مضروم الحشا يديرها مختلف الحسن إذا ... أقبل بدر، وإذا تاه رشا يحكي القطا والظبي والغصن إذا ... ما قد تثنى أو تجنّى أو مشى وإنّما الراحة زهد المرء في ... أعراض دنيا تورث العين غشا والمجد إيقادك نيران القرى ... يعشو لها في الأزمات من عشا والجود أن تعطي قباء للنّدى ... لا لافتخار أو لجاه يختشى خاب امرؤ لم ير أرضاً حلّها ... من اصطفى ربّ السماء وانتصى أرسله الله هدىً ورحمةً ... أوصى ووالى الخير فينا ووصى وخلّص الأنفس من أسر الهوى ... في يوم هول فاز فيه من فصى (1) ذو رأفة تلقاه يوم العرض قد ... مال بنا عن الجحيم ومصى (2) صلّى عليك الله يا من جاهه ... يوم الحساب ملجأ لمن عصى يا من جرى من كفّه الماء ومن ... حنّ له الجذع وسبّح الحصى بك اعتصامي يوم يدنو من دنا ... من رحمة الله ويقصى من قصا

_ (1) فصى الشيء من الشيء: فصله، ولعله يعني هنا: ميز الخير من الشر. (2) مصى: لم أجد له معنى ملائماً للسياق هنا.

هل غير إحسانك يرجو مذنب ... طال به خوف الخطايا وانتصى يا من سما في يوم بدر بدره ... عزّاً ليشقى كلّ من شقّ العصا أحصاهم ربّ السماء عدداً ... وإنّهم أدنى الفريقين حصى يا مجتبىً من خير قوم حسباً ... فيما أتى من زمن وما مضى يا من تدانى قاب قوسين ومن ... قيل له سل تعط قد نلت المضا ومن أتى والناس من ظلمهم ... في ظلمة ليس لها من مرتضى فكان كالصبح جلا جنح الدجى ... فأذهب الإظلام عنّا وانتضى رضيت للإرسال إذ آدم بي ... ن الماء والطين فكنت المرتضى اختارك الله رسولاً هادياً ... أكرم بما اختار لنا وما ارتضى يا أحلم الناس على من قد جنى ... وأعدل الخلق إذا ما قد قضى يا مصغر الألف إذا ما جاد أو ... تجرّد في الهيجاء سيفاً أو نضا يا ناصحاً أحكم تشييد الهدى ... عزماً فلمّ اينتقض ولا انقضى يا مضفياً للناس ظلّ رحمة ... بات العدا منها على جمر الغضا ادفع الشرّ بحسنى فإذا ... به أخو صدق وإن كان سطا وانف لنفس كرهت أعمالها ... كمن يريك قدرها حث الخطا إن يدرك الهوى الفتى في بيته ... ليس كمن سعى إليه وخطا وإن خيراً من صديق سيء ... أن يصحب الإنسان في البيد القطا ولا ترم ما لا تطيق نيله ... فخجلة الخيبة شر ممتطى وبت من الدنيا مبات خائف ... فلليالي عدوات وسطا وخلّها عنك ولا تعبأ بما ... تبوّأ المكثر منها وعطا (1)

_ (1) عطا: تناول.

وجنّب الحرص تعش ذا عزة ... أفلح من إن شده الحرص نطا (1) ولا تجد للنّفس حظّاً واطّرح ... من امتطى الكبر فبئس ما امتطى لا تطرينّ صاحباً بغير ما ... فيه فإطراء الفتى كسر المطا (2) لا يحسن المدح سوى لمن يرى ... مادحه بمدحه قد احتظى خير عباد الله ذو العزّ الذي ... لظلّه يأوي الشريف والشظى (3) كم آمن ببابه وقبل أن ... يلقاه لاقى ما عجا وما عظا (4) أصبح من حرمته في حرم ... يرفل في ظلّ هباتٍ وحظا في منزل سيّان فيه ربّه ... وضيفه فيما اقتنى وما حظا (5) إنّ رسول الله غيث واكف ... إذا لهيب الصيف داج والتظى إذا أعدّ للملمّين القرى ... لم يدّخر عن ضيفه ولا حظا (6) لمّا علمت جوده الجزل وما ... هناك من علم وحلم وبظا (7) يممته فوق طمرٍّ ضامر ... منتظم الأعضاء ملموم الشظا ليس يمس الأرض من سرعته ... كأنّما يخشى بها مسّ اللظى يا موسع الألف بصاع شبعا ... ومن مشى الدّوح إليه وسعى وأخصب الضرع بلمس كفّه ... وبادر المزن له لمّا دعا

_ (1) نطا: بعد أو امتد. (2) المطا: الظهر. (3) الشظى من الناس: الموالي والأتباع. (4) يقال لقي الإنسان ما عجاه وما عظاه وما أورمه: إذا لقي شدة وبلاء. (5) كأنه يعني: أصاب حظاً. (6) حظا: فاضل بين. (7) البظا: اكتناز اللحم، ويريد هنا وفرة العلم.

وسلّم الظبي عليه كرماً ... وكلّم الميت فقام ورعى واستشهد الضب فحيّا معلناً ... بصدقه ومثبتاً لما ادعى إليك أعملت المطايا في الفلا ... تنساب ما بين أراك ولعا مسوّغاً (1) جاهك عليّ في غد ... أكون ممّن قد أجاد ورعا أزكى صلاة وسلام أبداً ... عليك ما ارتاح الظليم وارتعى وسبّح الرعد بحمد من سقى ... صوب الحيا فقال للأرض لعا فاشتملت بالنّور كلّ فدفد ... لم يك للسارح فيه مرتعى وباكر البيداء غيث مسبل ... فأخلف النبت الهشيم ورعى ودق سحاب تحسب البرق به ... أسنّة قد أشرعت يوم وغى واخضرت الدوح ومدت قضبها ... فبينها حسن التئام وصغا (2) وساقطت لها السحاب حملها ... إذ خوّف الرعد تساقط الفغا (3) ترى خرير الماء في قضيبه ... كأنّه ميّت ذود قد رغا فسكّن القيظ لهيب حرّه ... وفرّ لمّا أن رأى الماء طغى غيث حمى الرمضاء عنّا مثلما ... حمى رسول الله جور من بغى ناهٍ عن الفحشاء داع للهدى ... لم ينتطق بباطل ولا لغا هذا إذا استكفيت في أمر به ... أجداك فيما تنتحيه وكفى تهفو به ريح العلا إلى الندى ... كأنّه ناعم غصن قد هفا محيي الهدى والعدل في زمانه ... من بعد ما ألفاهما على شفا

_ (1) ق: مسرعاً. (2) الصغا: الميل. (3) الفغا: البسر الفاسد المغبر، أو ما يخرج من الطعام فيرمى به.

أخفى الهدى قوم فأضحى وهو قد ... أظهره بعدله فما اختفى إن يقض يعدل أو متى يسأل يهب ... وإن يقل يصدق وإن يعد وفى وإن يجد يجزل وإن جاد يعد ... وإن تسىء يحسن وإن تجن عفا بحر طما، بدر سما، عضب حمى ... روض نما، طبٌّ أفاد وشفى لمجتد أو مقتد أو معتد ... أو مجدب (1) أو مشتك خطباً جفا ما لي لا أضفي له المدح وقد ... أضحى به الحقّ علينا قد ضفا أسس خلق الجود فينا فاغتدى ... به لنا ورد المعالي قد صفا الجود يعلي المرء والبخل لقد ... يحط عن رتبته من ارتقى والعز ما أحسنه لكنّه ... إن كان هذا مع علم وتقى والجهل للإنسان عيب قادح ... ولو حوى مالاً ككثبان نقا والعلم في حال الغنى والفقر لا ... يزال يرقى بك كلّ مرتقى ولا ألوم المال فالمال حمىً ... من جاهل يلقاك شرّ ملتقى قد جبل الناس على حب الغنى ... فربّه فيهم مهاب متقى وما لذي الفقر لديهم رتبة ... ولو أفاد وأجاد واتّقى إن الغنى طب لعلاّت الفتى ... والفقر داء لا تداويه الرّقى والحزم أحرى ما به المرء اقتدى ... في أمره وما به النفس وقى من لم يبت مع الليالي حازماً ... لغدرها غادرنه فيها لقى أمضيت طرفي كي يرى طرفي ما ... أخبرته من طيب مجد قد زكا

_ (1) ق: أو مجتز.

فصدّق الحاكي ما أبصرته ... وفاق ما عاينته ما قد حكى فسهّلت رؤيته جهد السرى ... وأشكت الأيام من كان شكا عجبت للأيّام من عزّ بها ... ذلّ، ومن يضحك بها يوماً بكى فكم لها من كرّة على فتى ... جلد إذا ما لهب الحرب ذكا تجتنب الأسد سطاه في الوغى ... فذلّ حتى صار قصواه بكا وكم صريع غادرت ليس له ... من ملجإ يوماً ولا من مشتكى عدت على نفس عديّ وسقت ... منها ابن حجر كأس سمّ كالذكا (1) واستلبت ملك بني ساسان لم ... تترك له على اللّيالي مرتكى (2) لم يأمن المأمون من صولتها ... ولا ابن هند من عواديها خلا وأتبعت جعفراً الفضل وكم ... بات الطلا (3) يسقيهما صرف الطلا وغالت الزبّاء في منعتها ... فأظفرت عمراً بها فما ألا (4) وأنفذت في آل بكر حكمها ... وجرّعت مهلهلاً كأس البلا وكم سبت من سبإ من نعمة ... فمزّقوا في كلّ قفر وفلا وأهلكت عاداً وأفنت جرهماً ... وزوّدت منها تميماً بالصّلى (5) فرعون موسى أولجت في لجة ... فمات قهراً بعد عزّ وعلا وأظفرت بابن زياد مثلما ... أفنت يزيد حسرة لمّا اعتلى وسيف استلّته من غمدانه ... من بعد ما قد خضعت له الطّلى (6)

_ (1) الذكا: الجمرة الملتهبة. (2) المرتكى: المعول. (3) الطلا: الغلام، شبهه بولد الظبية. (4) ألا يألو: قصر. (5) الصلى: الوقود، يشير إلى ما فعله أحد المناذرة ببني تميم حين حرقهم. (6) الطلى: الرقاب.

ثم أعادته فحزّ الجيش عن ... حوزته حزّ النبات المختلى (1) هي الليالي ليس يرعى صرفها ... لا خاملاً فيها ولا من قد سما ولا رسول الله فينا لم يزل ... كهف حمىً (2) ، فهو لنا نعم الحمى لله ما أكرمه من سيد (3) ... ينمى من المجد لأعلى منتمى سليم صدر ذو وفاء لم يجش ... في صدره غش امرىء ولا غمى (4) أوسعنا فضلاً فما خاب امرؤ ... أوى إلى ذاك الجناب وانتمى يا من غدا للخلق كهفاً وحمى ... فأكرم المثوى وآوى وحمى إنّا أتينا من ديار دونها ... موحشة بيداء أو بحر طما وإنّني من قبح ما أسلفته ... ذو كبد رضّت ودمع قد همى فلا تخيّبني ممّا لك من ... شفاعة ترجى وفضل قد نما إنّك من قوم بهم يشفى العنا ... ويدرك الشأو البعيد المرتمى أعرض عن الجاهل مهما قد أسا ... وحسبه من جهله ما قد حوى ولا تلم ذا سفه فإنّه ... إن لمته لم يتّئد ولا ارعوى وإن رأيت من كريم عثرة ... فقل لعاً ولا تعب بما احتوى وإن ترعك من زمان فرقة ... فاصبر لها فالصبر أشفى للجوى لم أشكر البعد على خير حمى ... قد صدّني عن أنسه شحط النوى يا منزلاً ما بين نجد والحمى ... ويا دياراً بين كثبان اللوى

_ (1) المختلى: المقطوع. (2) ق: حياً. (3) ق: من سند. (4) غمى: غطى.

هل لي إلى تلك المعالي عودة ... أو جرعة من ذلك الماء الروّى لا تعجبوا من لعب الدهر بنا ... فأيّ إنسان على حال سوا إن عشت لاقيتهم وإن أمت ... فإنّما الدنيا فناء وتوى إنّ رسول الله مذ أمّلته ... فالدهر قد أضمر نصحي ونوى إي والذي مازال يسري جاهداً ... حتى أتى ميقاته وما ونى فقدّم الغسل وصلى ونضا ... أثوابه مستغفراً ممّا جنى ثمّ نوى ملبياً ثمّ مضى ... حتى رأى ذات السناء والسنى ثم أتى باب بني شيبة قد ... أبصر ما أمّل قدماً مذ دنا فقبّل الركن وطاف وسعى ... ثم مضى مرتحلاً نحو منى ثم أتى الموقف يدعو راغباً ... حتى إذا ما نفر القوم انثنى ثم رمى ثم أفاض وانبرى ... معتمراً قد نال غايات المنى ثم مضى مرتحلاً فيمن مضى ... ميمّماً طيبة لا يشكو العنا يبغي التي شرّفها الله بمن ... شاد به الدين القويم وابتنى فلم يكن ممّن إذا حج جفا ... بل يمّم القبر وزار واعتنى خلق علىً لم يحوها إلا امرؤ ... نهاه عن نبذ العلا رعي النّهى فإن يقل: من حازها قل: الذي ... له تسامى كلّ مجدٍ وانتهى معتصم الراجين إن خطب دنا ... وكهفهم إن راع أمر ودهى المرشد الناصح لله فما ... قصر في نصر الهدى ولا لها من جدّ في إدراك ما رام يجد ... ولم يصب من قد توانى وسها فلا يقصر بك خوف خيبة ... من خيّل الخيبة في البدء وهى واكتسب الحمد بما تبديه من ... فتح اللها بمستدامات اللها

واحرص على المجد ودنياك اطّرح ... فأمرها أمر زهيد المشتهى والمرء من إن فاته لم يكتئب ... وإن ينل لم يفتخر ولا ازدهى من لازم الكبر على الناس اغتدى ... متضع القدر ولو نال السها أنّى تخيب اليوم آمالي ولي ... من كفّه أكرم من صوب الحيا يدني الفتى إلى مدى آماله ... ولو غدا من دونها الأرض اللّيا (1) إن أهزل القوم زمان معور ... أنعشهم حتى يرى لهم حيا (2) وإن أمات الجدب كلّ مخصبٍ ... بدا لنيران القرى منه حيا (3) أرسل سحب هديه جارية ... بالحق حتى حيي الدرّ حيا (4) أوقع في الأنفس من ماء لدى ... ظام إذا ما اشتد بالشمس الحيا لم تعي من فعل جميل كفّه ... ولا له في المكرمات معتيا ما لي لا أبلغ أقصى غاية ... في مدح من بالغ جوداً واغتيا لكلّ شخص غاية يبلغها ... وما له في المعلوات مغتيا (5) تعيا يد السائل من معروفه ... ولم يقصر كرماً ولا اعتيا والآن قد أكملتها في مدحه ... مقصورة يقصر عنها من خلا ضمّنتها من كلّ فنّ درراً ... نظماً فأضحت من نفيسات الحلى حلّيتها جيد معاليه وما ... أملح حليَ المدح في جيد العلا

_ (1) الأرض الليا: التي بعد ماؤها واشتد السير فيها. (2) الحيا: الخصب. (3) لعله شبيه بقولهم: حاييت النار أي أحييتها. (4) الحيا: المطر. (5) مغتيا: موضع غاية أو نهاية.

جعلتها مني وداعاً فاعتجب ... لنظمها الحلو الجنى كيف حلا من قارب الرحلة عن ذاك الحمى ... كيف أجاد النظم يوماً أو درى أرسلتها من خاطر خامره ... وجدٌ جلا عن مقلتي طيب الكرى وكيف لا آسى على بعدي عن ... قوم جرى من جودهم ما قد جرى أنصار دين الله والهادي الذي ... لولا وضوح هديه ضلّ الورى فالقلب بين مشرق ومغرب ... مقسّم اللوعة مجذوب العرى إذا ذكرت الغرب جنّت مهجتي ... وبلّ دمعي من جوى الشوق الثرى وإن ذكرت حبّ من في مشرقِ ... أبطأ بي حبّهم عن السرى وإن يصف من وجه لشخص مورد ... كدرّ من أخرى فلا صفو يرى فإن ترحّلت فقلبي عندكم ... لم يرتحل عن بابكم ولا سرى ولا تزال رسل شوزقي أبدا ... تترى على مجدكم الجزل الندى ولن تمرّ ساعة إلاّ هفا ... بذكركم مفصح نظمي وشدا فليس عندي للنجاة مخلص ... إن لم يكن منكم نوال أو جدا بكم ملاذي وحماكم ملجئي ... ليس سوى ذاك السماح المجتدى وما ذخرنا عدّةً سواكم ... مثلكم من يرتجى ويجتدى لا أوحش الله دياراً أنتم ... فيها ولا أزرى بمرعاها الصّدى ولا نأت داركم ولا خلا ... ربعكم ما راح يوم واغتدى ومن محاسنه أيضاً البديعية المشهورة، وهي المعروفة ببديعية العميان، ولو لم يكن من محاسنه إلا قصيدته التي في التورية بسور القرآن ومدح النبي صلى الله عليه وسلّم لكفى وهي من غرر القصائد، وكثر من الناس ينسبها للقاضي

الشهير عالم المغرب أبي الفضل عياض، وكنت أنا في أوّل الاشتغال ممن يعتقد صحة تلك النسبة، حتى وقفت علىة شرح البديعية الموصوفة لرفيقه أبي جعفر، فإذا هي منسوبة للناظم ابن جابر، وهي: في كلّ فاتحة للقول معتبره ... حق الثناء على المبعوث بالبقره في آل عمران قدماً شاع مبعثه ... رجالهم والنساء استوضحوا خبره من مدّ للناس من نعماه مائدة ... عمّت فليست على النعام مقتصره أعراف نعماه ما حلّ الرجاء بها ... إلاّ وأنفال ذاك الجود مبتدره به توسّل إذ نادى بتوبته ... في البحر يونس والظلماء معتكره هود ويوسف كم خوف به أمنا ... ولن يروّع صوت الرعد من ذكره مضمون دعوة إبراهيم كان، وفي ... بيت الإله وفي الحجر التمس أثره ذو أمّة كدويّ النحل ذكرهم ... في كلّ قطر، فسبحان الذي فطره بكهف رحماه قد لاذ الورى، وبه ... بشرى ابن مريم في الإنجيل مشتهره سماه طه، وخصّ الأنبياء على ... حجّ المكان الذي من أجله عمره قد أفلح الناس بالنور الذي غمروا ... من نور فرقانه لمّا جلا غرره أكابر الشعراء اللّسن قد عجزوا ... كالنمل إذا سمعت آذانهم سوره وحسبه قصص للعنكبوت أتى ... إذ حاك نسجاً بباب الغار قد ستره في الروم قد شاع قدماً أمره وبه ... لقمان وفّق للدرّ الذي نثره كم سجدة في طلى الأحزاب قد سجدت ... سيوفه فأراهم ربّه عبره سباهم فاطر السبع العلا كرماً ... لمن بياسين بين الرسل قد شهره في الحرب قد صفّت الأملاك تنصره ... فصاد جمع الأعادي هازماً زمره لغافر الذنب في تفصيله سور ... قد فصّلت لمعان غير مختصره شوراه أن تهجر الدنيا فزخرفها ... مثل الدخان فيعشي عين من نظره

عزّت شريعته البيضاء حين أتى ... أحقاف بدر وجند الله قد نصره فجاء بعد القتال الفتح متصلاً ... وأصبحت حجرات الدين منتصره بقاف والذاريات الله أقسم في ... أنّ الذي قاله حقّ كما ذكره في الطور أبصر موسى نجم سؤدده ... والأفق قد شقّ إجلالاً له قمره أسرى فنال من الرحمن واقعة ... في القرب ثبت في ربّه بصره أراه أشياء لا يقوى الحديد لها ... وفي مجادلة الكفار قد نصره في الحشر يوم امتحان الخلق يقبل في ... صف من الرّسل كل تابع أثره كفّ يسبّح لله الحصاة بها ... فاقبل إذا جاءك الحق الذي قدره قد أبصرت عنده الدنيا تغابنها ... نالت طلاقاً ولم يصرف لها نظره تحريمه الحبّ للدنيا، ورغبته ... عن زهرة الملك حقّاً عندما نظره في نون قد حقّت الأمداح فيه بما ... أثنى به الله إذ أبدى لنا سيره بجاهه سال نوح في سفينته ... سفن النجاة وموج البحر قد غمره وقالت الجنّ جاء الحق فاتبعوا ... مزملاً تابعاً للحقّ لن يذره مدثّراً شافعاً يوم القيامة هل ... أتى نبيٌّ له هذا العلا ذخره في المرسلات من الكتب انجلى نبأ ... عن بعثه سائر الأخبار قد سطره ألطافه النازعات الضيم في زمن ... يوم به عبس العاصي لما ذعره إذ كوّرت شمس ذاك اليوم وانفطرت ... سماؤه ودعت ويل به الفجره وللسماء انشقاق والبروج خلت ... من طارق الشهب والأفلاك منتثره فسبّح اسم الذي في الخلق شفعه ... وهل أتاك حديث الحوض إذ نهره كالفجر في البلد المحروس غرّته ... والشم من نوره الوضاح مستتره واللّيل مثل الضحى إذ لاح فيه ألم ... نشرح لك القول في أخباره العطره ولو دعا التين والزيتون لابتدرا ... إليه في الحين واقرأ تستبن خبره

في ليلة القدر كم قد حلّ من شرف ... في الفخر لم يكن الإنسان قد قدره كم زلزلت بالجياد العاديات له ... أرض بقارعة التّخويف منتشره له تكاثر آيات قد اشتهرت ... في كلّ عصر فويل للذي كفره ألم تر الشمس تصديقاً له حبست ... على قريش، وجاء الروح إذ أمره أريت أنّ إله العرش كرمه ... بكوثر مرسل في حوضه نهره والكافرون إذا جاء الورى طردوا ... عن حوضه فلقد تبّت يدا الكفره إخلاص أمداحه شغلي، فكم فلق ... للصبح أسمعت فيه الناس مفتخره أزكى صلاتي على الهادي وعترته ... وصحبه؛ وخصوصاً منهم عشره صدّيقهم عمر الفاروق أحزمهم ... عثمان ثمّ عليّ مهلك الكفره سعد سعيد عبيد طلحة وأبو ... عبيدة وابن عوف عاشر العشره وحمزة ثمّ عبّاس وآلهما ... وجعفر وعقيل سادة خيره أولئك الناس آل المصطفى وكفى ... وصحبه المقتدون السادة البرره وفي خديجة والزهرا وما ولدت ... أزكى مديحي سأهدي دائماً درره عن كلّ أزواجه أرضى، وأوثر من ... أضحت براءتها في الذكر منتشره أقسمت لا زلت أهديهم شذا مدحي ... كالروض ينثر من أكمامه زهره [معارضات لقصيدة ابن جابر في تضمين السور] انتهت القصيدة؛ وقد عارض منحاها جماعة فما شقّوا لها غباراً، ومن معارضاتها قول بعضهم: بسم الإله افتتاح الحمد والبقره ... مصلياً بصلاة لم تزل عطره على نبي له الرحمن ممتدح ... في آل عمران أيضاً والنسا ذكره كذا بمائدة الأنعام فضّله ... ووصفه التم في الأعراف قد نشره أنفاله نزلت أيضاً براءة من ... يحبّه وهو مشغول بما أمره

به نجا يونس من حوته ونجا ... هود ويوسف من سجن به عبره أقسم برعد إبراهيم أنّ له ... في حجر نحل ترى الآيات مشتهرة سبحان جاعله كهفاً لأمّته ... ومريم زوجة في جنّة نضره طه به الأنبيا للحج قد وفدوا ... والمؤمنون على النور اقتفوا أثره آيات فرقانه ذلّت لها الشعرا ... وسورة النمل قد قصّت لنا سيره والعنكبوت على غار له نسجت ... والروم ولّت برعب منه منكسره لقمان حكمته من بعض حكمته ... فاسجد لربّ على الأحزاب قد نصره كم في سبا عبرة للقلب قد فطرت ... فلذ بياسين تنجو يا أخا البرره قد صفّت الأنبيا والرسل قاطبة ... خلف النبي بأمر الله مؤتمره إن صاد قلبي الهوى تنزيل منقذه ... وغافر الذنب كم ذنب له غفره كم خلعة فصّلت للطائعين له ... وأمرهم بينهم شورى بلا نكره لم تلههم زينة الدنيا وزخرفها ... كانوا يروها كدخان له قتره إذا جثا الخلق والأحقاف قد شرفت ... فذاك يوم على الكفار قد نصره محمد خصّ بالفتح المبين وقد ... أتاه في الحجرات الوحي بالخبره قاف الوفاق وذر الطور نجم هدى ... وشقّ ربّ السّما للمصطفى قمره من يمتحن صفّنا في يوم جمعتنا ... فليس يلفى به غشّ ولا كدره مطهّر من نفاق ليس بينهم ... تغابن طلّقوا دنياهم القذره وحرموها وفي ملك لها زهدوا ... كزهد صاحب نون حقّقن خبره إن تسألوني عن نوح نبيّ هدى ... والمصطفى سامع الجن الذي جهره مزّمّل اسمه مدّثّر، وله ... يوم القيامة للإنسان ما ضمره للمرسلات نباً في يوم نازعة ... عبوس تكوير شمس فيه منفطره

مطفف الكيل قد بانت خسارته ... في سوم شقّ السّما أبراجها النضره كم طارق سبّح الأعلى بغاشية ... والفجر بلدته بالشمس مستتره والليل قمه ولا تترك صلاة ضحى ... يشرح لك الصدر والخيرات مدّخره بسورة التين اقرأ أنّها نزلت ... في ليلة القدر، والأنوار منتشره ولم يكن مثل خير الرّسل أحمدنا ... منه تزلزلت الكفّار والفجره بعاديات لها قرع بهامته ... أعمى التكاثر من قلب له بصره من كان في عصه همّازة أبداً ... يلقاه قبل قريش قاهر قهره ويل لمانع ماعون تراه غداً ... مباعداً كوثر الهادي الذي أثره الكافرون إذا جا نصر خالقنا ... تبّاً لهم لعنوا هم أمّة كفره أخلص لربّ فلق الناس تنج إذا ... يوم المعاد غدا من شرّة عسره وصلّ ربّ على الهادي وعترته ... وآله وعلى أصحابه العشره وممّن سلك هذا المنهج الشيخ القلقشندي إذ قال: عوّذت حبّي برب الناس والفلق ... المصطفى المجتبى الممدوح بالخلق إخلاص وجدي له والعذر يقلقني ... تبّت يدا عاذل قد جاء بالملق يهدي لأمّته والنصر يعضده ... والكافرون وعذّالي على نسق هذا له كوثر والدين شرعته ... والمصطفى من قريش ديّنٌ وتقي ألم تر الماء قد سحّت أصابعهه ... ويل لكل جهول بالنبي وشقي في كل عصر ترى آياته كثرت ... أضحى تكاثرها في سائر الأفق وعند قارعة فهو الشفيع لنا ... والعاديات من الأجفان في طلق وزلزلت من غرامي كلّ جارحة ... وكلّ بيّنة تحكي لكم علقي يا عالي القدر رفقاً مسّني ضرر ... فالله قد خلق الإنسان من علق

ولو دعا التين والزيتون جاء له ... والشرح عنه (1) طويل غير مختلق يبدو كشمس الضحى والليل طرته ... كالشمس في بلد والفجر في أفق إنّي بغاشية لولاك يا أملي ... أنت الشفيع إلى الأعلى وخير تقي كم طارق منك بالإحسان يطرقني ... مثل البروج أتى في أحسن الطرق وفي انشقاق فؤادي عبرة، وبه ... ويل من الصد، والأجفان في أرق والانفطار به ممّا يكابده ... والشمس قد كورت في القلب ذي الحرق والصب في عبس والنازعات به ... وقد أتى نبأ من دمعه الغدق ومرسلات دم الإنسان جارية ... إلى القيامة من دمعي ومن حرقي وبالمدّثّر إنّي ماسك أبداً ... وبالمزّمّل إن ألجمت بالعرق فالجن والإنس في خير ببعثته ... هذا ونوح به أنجى من الغرق وفي المعارج معراج الرسول علا ... حقاً، وفي حاقة كنز لمخترق والله مرسله في نون بشّره ... والملك خيّره حتى رأى ولقي وجاء بالحلّ والتحريم أمّته ... وبالطّلاق من الدّنيا لمنطلق وفي التغابن تهجّار به ربحوا ... إذ المنافق في خسر وفي نفق يا صاحب الجمعة الغرّاء يا أملي ... في الصف عند امتحاني أنج من زلقي وأنت في الحشر عوني في مجادلتي ... عسى تزيل حديد النار من عنقي وعند واقعة إن كان لي رمق ... فاشفع إلى ربّك الرحمن من رمقي لم أرع يا قمري للنّجم في سهر ... إلا لعلّك من نار الجحيم تقي قلبي الكليم غدا للطّور مرتقياً ... ودرّ دمعي غدا بالذاريات سقي وقاف يعجز عن حمل الغرام بكم ... وليس في حجرات الدمع من رمق إنّا فتحنا قتالاً للعذول ففي ... أحقاف جاثية في الغيظ والحنق دخان زخرف ما العذّال فيه هبا ... شوراي تتركه في أنف محترق

_ (1) ق: مني.

وعزّ من فصّلت في مدحه سور ... نبينا المصطفى الهادي إلى الطرق فغافر الذنب كم أهدى به زمراً ... وكم سقى كفّه صاد بمندفق وليس غيرك في الصافات أقصده ... وأنت ياسين لي من سائر الفرق يا فاطراً قد سبا الأحزاب طلعته ... كم سجدة لك في الأسحار والغسق لقمان يشهد أن الروم تعرفه ... والعنكبوت فقد سدت عن الغلق هذا ولي قصص بالنمل قد كتبت ... هامت بها الشعرا في خدّه اليقق تبارك الله من بالنور كلّله ... قد أفلح الحج لمّا زاره فوقي يا أيّها الأنبيا طه ختامكم ... ويا ابن مريم خذ من مسكه العبق لاذوا بكهف لهم سبحان خالقه ... حتى أتى الأمر بعد الخوف والفرق فالركن والحجر حقّاً قد أضاء له ... وذاك دعوة إبراهيم ذي الخلق والله ربي برعب الرعد ينصره ... مسير شهر بلا سيف ولا درق فيوسف مع هود والخليل إذاً ... ويونس شربوا من كأسه الدهق لتوبتي أرتجي الأنفال منه غداً ... فإنّني رجل أضحيت في قلق أعراف أنعام إنعام له اشتهرت ... وكم لمائدة أسدى لمرتزق كلّ النسا لم تلد مثل الرسول إذاً ... فينا وفي آل عمران ولم تطق أعطيت خاتمة من سورة البقرة ... لم يعطها أحد فيما مضى وبقي فأنت فاتحة الأنبا وخاتمهم ... وكلّهم قد أتوا بالود والملق والقلقشندي محبّ قال سيرته ... في مدح خير الورى الممدوح بالخلق فاقبل هدية عبد أنت مالكه ... وانظر إليه فإنّ العبد في قلق صلى عليك إله العرش ما طلعت ... ورقا على فنن والورق في الورق وهذه القصيدة وإن لم تلحق بلاغة قصيدة ابن جابر فهي ممّا يتبرك به، والأعمال بالنيات. ووقفت على أخرى من هذا النمط هي بالنسبة إلى هذه كنسبة هذه إلى

قصيدة ابن جابر، وهي: بحمد إله العرش أستفتح القولا ... وفي آية الكرسيّ أستمنح الطّولا وفي آل عمران أتى ذكر أحمد ... نساؤهم بالعقد قد أنعموا القولا بأعراف رحماه بأنفال جوده ... شرفنا وفضّلنا وتبنا إلى المولى له يونس نادى وهود ويوسف ... وذاكره في الرعد لا يسمع الهولا ودعوة إبراهيم كان محمد ... وفي الحجر خير الخلق قد فضل الرسلا له أمة كالنحل قد صح فضلهم ... فسبحان من أسرى بأحمدنا ليلا علا فضله والناس في كهف نيله ... ومريم في الأخرى يكون لها بعلا وطه له فضل على الخلق كلّهم ... ولكن جميع الأنبياء علا فضلا ولولاه ما حجّ المقام وكعبة ... فأفلح من قد طاف فيها ومن حلاّ ومن نوره الوهاج كل منوّر ... وفرقانه قد أخمد الكفر والبطلا ترى الشعرا كالنمل حول محمد ... إذا قصص في العنكبوت لهم تتلى علا ديننا روما ولقمان عالم ... بأنّ السيوف أسجدت كلّ من ضلاّ والأحزاب يسبيهم بحكمة فاطر ... وياسين قد صفّت له الملأ الأعلى وصاد جميع الكافرين بزمرة ... له غافر في الحرب قد فصلت فصلا وشوراه في الدنيا بها كل زلفة ... وقد زخرف الكفّار في دينهم جهلا لقد رأوا الدخان حول بيوتهم ... بجاثية الأحقاف قد قتلوا قتلا محمدنا لم يخلق الله مثله ... وفي الحجرات فضله أبداً يتلى وقد أنزل الجبّار قافاً بذكره ... كما تذر الكفّار ريح بها تبلى بطور سما والنجم ما ضوء احمد ... كما قمر بل نور خير الورى أجلى به الله رحمن وفي وقعة ترى ... حديداً به الكفّار يجدلهم جدلا

وقد سمع الغفّار دعوة أحمد ... بحشرٍ، ولكن بامتحان به تبلى صففنا بجمع للأعادي فمنهم ... منافق إنّ الكفر في دركٍ سفلى يرى غبنه في الخبر منهم مطلّق ... ولكنّ من يحرم نعيماً فقد ضلاّ لأحمد ملك لا يوازيه سيّد ... ونون لقد قلنا مقالاً به استعلى بحقّ لقد سالت أباطح مكّة ... بفضل الذي قد كان نوح به استعلى صحيح بأنّ الجن جاءت لأحمد ... ومزّمّل كان الغمام له ظلا لمدّثّر فضل القيامة واضح ... أتاه، وجمع المرسلات حوت سبلا وعمّ بجدواه فلا من منازع ... فحيث تراه لا عبوساً ولا بخلا لقد كوّرت شمس بها انفطر السما ... لويل أتى الكفار وانشقّ واستولى ولكن بروج الجوّ تزهو بأحمد ... وفي طارق الأفلاك فضّله الأعلى وغاشية كالفجر حلّت ببلدة ... بها حرم أمن كشمس جلت ليلا وفاق الضحى حقّاً جبين محمد ... كما بانشراح الصدر قد خصّه المولى فأقسم بالتين الذي عمّ نفعه ... وبالقلم الأعلى لقدر له أعلى ألم يكن الكفّار قد ضل سعيهم ... وقد زلزلوا بالعاديات كما يتلى وقارعة جلّت وألهاهم الهوى ... ووالعصر إنّ الويل يقريهم نزلا ألم تر أنّ الله فضّل أحمداً ... لأمن قريش حيثما سلكوا السبلا أريت بأنّ الكوثر العذب خصّه ... به، وجميع الكفر لن يردوا أصلا لقد نصر الرحمن ربي محمداً ... فأردى أبا لهب ولم يكتسب نيلا فيا أحد إنّي بفضلك عائذ ... إذا غسق الديجور ناديت يا مولى ولم أقف على غير هذه الأبيات من هذه القصيدة، وقد سقط منها كما رأيت سورة الناس، فقلت مكملاً على نمطه: ويا مالكاً للناس إنّي لائذ ... بعفوك فاغفر عمد عبدك والجهلا

ويا رب عاملنا بما أنت أهله ... من الجود والرحمى وإن لم نكن أهلا وصلّ على مسك الختام محمد ... أتمّ صلاة تملأ الحزن والسهلا [خطبة لعياض يورّي فيها بأسماء السور] وتذكرت بهذا الموضع خطبة القاضي أبي الفضل عياض التي ضمّنها سور القرآن على المهيع الماضي آنفاً، وهي: الحمد لله الذي افتتح بالحمد كلامه، وبين في سورة البقرة أحكامه، ومد في آل عمران والنساء مائدة الأنعام ليتم إنعامه، وجعل في الأعراف أنفال توبة يونس وألر كتاب أحكمت آياته بمجاورة يوسف الصدّيق في دار الكرامة، وسبّح الرعد بحمده، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، ليؤمن أهل الحجر أنّه إذا أتى أمر الله سبحانه فلا كهف ولا ملجأ إلاّ إليه ولا يظلمون قلامة، وجعل في حروف كهيعص سرّاً مكنوناً قدمم بسببه طه صلى الله عليه وسلّم على سائر الأنبياء ليظهر إجلاله وإعظامه، وأوضح الأمر حتى حج المؤمنون بنور الفرقان والشعراء صاروا كالنمل ذلاً وصغاراً لعظمته، وظهرت قصص العنكبوت فآمن به الروم، وأيقنوا أنّه كلام الحي القيّوم، نزل به الروح الأمين على زين من وافى القيامة، وأفصح لقمان الحكمة بالأمر بالسجود لرب الأحزاب فسبا فاطر السموات أهل الطاغوت، وأكسبهم ذلاً وخزياً وحسرة وندامة، وأمدّ ياسين صلى الله عليه وسلّم بتأييد الصافّات فصاد الزمر يوم بدره وأوقع بهم ما أوقع صناديهم في القليب مكدوس ومكبوب حين شالت بهم النّعامة، وغفر غافر الذنب وقابل التوب للبدريين رضي الله عنهم ما تقدم وما تأخر حين فصّلت كلمات الله فذل من حقت عليه كلمة العذاب وأيس من السلامة، ذلك بأن أمرهم شورى بينهم وشغلهم زخرف الآخرة عن دخان الدنيا فجثوا أمام الأحقاف لقتال أعداء محمد صلى الله عليه وسلّم يمينه وشماله وخلفه وأمامه، فأعطوا الفتح وبوّئوا حجرات الجنان وحين

تلوا {قاف والقرآن المجيد} وتدبروا جواب قسم الذاريات والطّور لاح لهم نجم الحقيقة وانشق لهم قمر اليقين فنافروا السآمة، ذلك بأنهم أمنهم الرحمن إذا وقعت الواقعة واعترف بالضعف لهم الحديد وهزم المجادلون وأخرجوا من ديارهم لأوّل الحشر يخرّبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين حين نافروا السلامة. أحمده حمد من امتحنته صفوف الجموع في نفق التغابن فطلق الحرمات حين اعتبر الملك وعامه، وقد سمع صريف القلم وكأنه بالحاقة والمعارج يمينه وشماله وخلفه وأمامه، وناح نوح الجن فتزمل وتدثر فرقاً من يوم القيامة، وأنس بمرسلات النبإ فنزع العبوس من تحت كور العمامة، وظهر له بالانفطار التطفيف فانشقت بروح الطارق بتسبيح الملك الأعلى وغشيته الشهامة، فورب الفجر والبلد والشمس والليل والضحى لقد انشرحت صدور المتقين، حين تلوا سورة التين، وعلق الإيمان بقلوبهم فكل على قدر مقامه يبين، ولم يكونوا بمنفكين دهرهم ليله ونهاره وصيامه وقيامه، إذا ذكروا الزلزلة ركبوا العاديات ليطفئوا نور القارعة، ولم يلههم التكاثر حين تلوا سورة العصر والهمزة وتمثلوا بأصحاب الفيل فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، أرأيتهم كيف جعلوا على رؤوسهم من الكور عمامة، فالكوثر مكتوب لهم والكافرون خذلوا وهم نصروا وعدل بهم عن لهب الطامّة، وبسورة الإخلاص قروا وسعدوا وبرب الفلق والناس اتسعاذوا فأعيذوا من كل حزن وهمّ وغمّ وندامة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله شهادة ننال بها منازل الكرامة، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه ما غردت في الأيك حمامة؛ انتهت. وممّن نسبها للقاضي عياض الشيخ أبو عبد الله محمد ابن الشيخ أبي العباس أحمد بن أبي جمعة الوهراني، وفي نفسي من نسبتها له شيء لأن نفس القاضي في البلاغة أعلى من هذه الخطبة، والله تعالى أعلم. وكنت رأيت بتلمسان المحروسة بخط عمّي ومفيدي وليّ الله تعالى العارف

المعروف بشيخ الشيوخ الإمام المفتي الخطيب سيدي سعيد بن أحمد المقّري - صبّ الله عليه سجال الرضوان - خطبةً من هذا النمط نصّها: [خطبة على مثالها لأبي جعفر الطنجالي] الحمد لله الذي افتتح بفاتحة الكتاب سورة البقرة ليصطفي من آل عمران رجالاً ونساء وفضّلهم تفضيلاً، ومدّ مائدة أنعامه ورزقه ليعرف أعراف أنفال كرمه وحقّه على أهل التوبة وجعل ليونس في بطن الحوت سبيلاً، ونجّى هوداً من كربه وحزنه، كما خلّص يوسف من سجنه وجبّه، وسبّح الرعد بحمده ويمنه، واتخذ الله إبراهيم خليلاً، الذي جعل في حجر الحجر من النحل شراباً نوّع باختلاف ألوانه، وأوحى إليه بخفي لطفه سبحانه، واتخذ منه كهفاً قد شيد بنيانه، وأرسل روحه إلى مريم فتمثل لها تمثيلاً، وفضّل طه على جميع الأنبياء فأتى بالحج والكتاب المكنون، حيث دعا إلى الإسلام قد أفلح المؤمنون، إذ جعل نور الفرقان دليلاً، وصدّق محمداً صلى الله عليه وسلّم الذي عجزت الشعراء عن صدق نفثه، وشهدت النمل بصدق بعثه، وبين قصص الأنبياء في مدة مكثه، ونسج العنكبوت عليه في الغار ستراً مسدولاً، وملئت قلوب الروم رعباً من هيبته، وتعلم لقمان الحكمة من حكمته، وهدى أهل السجدة للإيمان بدعوته، وهزم الأحزاب وسباهم وأخذهم أخذاً وبيلاً، فلقبه فاطر السموات والأرض بياسين كما نفذ حكمه في الصافّات، وبين صاد صدقه بإظهار المعجزات، وفرق زمر المشركين وصبر على أقوالهم وهجرهم هجراً جميلاً، فغفر له غافر الذنب ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، وفصلت رقاب المشركين إذ لم يكن أمرهم شورى بينهم وزخرف منار الإسلام وخفي دخان الشرك وخرّت المشركون جاثية كما أنذر أهل الأحقاف فلا يهتدون سبيلاً، وأذل الذين كفروا بشدة القتال وجاء الفتح للمؤمنين والنصر العزيز، وحجر الحجرات الحريز، وبقاف القدرة

قتل الخرّاصون تقتيلاً، كلّم موسى على جبل الطور، فارتقى نجم محمد صلى الله عليه وسلّم فاقتربت بطاعته مبادي السرور، وأوقع الرحمن واقعة الصبح على بساط النور، فتعجب الحديد من قوته، وكثرت المجادلة في أمته، إلى أن أعيد في الحشر بأحسن مقيلاً، امتحنه في صف الأنبياء وصلى بهم إماماً، وفي تلك الجمعة ملئت قلوب المنافقين من التغابن خسراً وإرغاماً، فطلق وحرم تبارك الذي أعطاه الملك وعلّم بالقلم ورتل القرآن ترتيلاً، وعن علم الحاقة كم سأل سائل فسال الإيمان، ودعا به نوح فنجاه الله تعالى من الطوفان، وأتت إليه طائفة الجن يستمعون القرآن فأنزل عليه: يا أيّها المزّمّل قم الليل إلا قليلاً، فكم من مدثر يوم القيامة شفقة على الإنسان إذا أرسل مرسلات الدمع فعم يتساءلون أهل الكتاب، وما تقبل من نازعات المشركين إذا عبس عليهم مالك وتولاّهم بالعذاب، وكوّرت الشمس وانفطرت السماء وكانت الجبال كثيباً مهيلاً، فويل للمطففين إذا انشقت السماء بالغمام، وطويت ذات البروج وطرق طارق الصور بالنفخ للقيام، وعزّ اسم ربّك الأعلى لغاشية الفجر فيومئذ لا بلد ولا شمس ولا ليل طويلاً، فطوبى للمصلين الضحى عند انشراح صدورهم إذا عاينوا التين والزيتون وأشجار الجنّة فسجدوا باقرأ باسم ربّك الذي خلق هذا النّعيم الأكبر لأهل هذه الدار ما أحيوا ليلة القدر وتبتّلوا تبتيلاً، ولم يكن للذين كفروا من أهل الكتاب من أهل الزلزلة من صديق ولا حميم، وتسوقهم كالعاديات إلى سواء الجحيم، وزلزلت بهم قارعة العقاب وقيل لهم: ألهاكم التّكاثر، هذا عصر العقاب الأليم وحشر الهمزة وأصحاب الفيل إلى النار فلا يظلمون فتيلاً، وقالت قريش: ما أمنتم من هول المحشر، أرأيت الذي يكذّب بالدين كيف طرد عن الكوثر، وسيق الكافرون إلى النار وجاء نصر الله والفتح فتبّت يدا أبي لهب إذ لا يجد إلى سورة الإخلاص سبيلاً، فنعوذ بربّ الفلق من شرّ ما خلق، ونعوذ برب الناس ملك النّاس إله النّاس من شرّ الوسواس الخنّاس الذي فسق، ونتوب

إليه، ونتوكّل عليه، وكفى بالله وكيلاً؛ انتهى. وهي من إنشاء الفقيه الجليل الشريف الكامل أبي المجد عبد المنعم ابن الشيخ الفقيه العدل أبي جعفر أحمد بن عبد الله بن عبد المنعم الهاشمي الطنجالي رحمه الله تعالى ونفعنا به وبسلفه (1) الطاهر. [عود إلى نظم ابن جابر] ومن نظم ابن جابر المذكور قوله: جعلوا لأبناء الرسول علامةً ... إنّ العلامة شأن من لم يشهر نور النبوّة في كريم وجوههم ... يغني الشريف عن الطراز الأخضر وفي هذا المعنى يقول شمس الدين (2) الدمشقي: أطراف تيجان أتت من سندس ... خضر بأعلام على الأشراف والأشرف السلطان خصّهم بها ... شرفاً لتفرقهم من الأطراف والأشرف المذكور هو شعبان بن حسن بن الناصر محمد بن المنصور قلاوون الصالحي الألفي، رحمهم الله تعالى. وقال الرحالة ابن بطوطة في رحلته عند ذكر سلطان ماردين ابن الملك الصالح ابن الملك المنصور ما نصّه (3) : وله المكارم الشهيرة، وليس بأرض الشام والعراق

_ (1) ق: وبنسله. (2) ق: شمس الدين الحزين. (3) رحلة ابن بطوطة: 238، وقال ابن بطوطة في الملك المنصور والد الملك الصالح: كان كريماً شهير الصيت ولي الملك بها (اي بماردين) نحو خمسين سنة وأدرك أيام قازان ملك التتر وصاهر السلطان خذابنده ديار خاتون.

ومصر أكرم منه، يقصده الشعراء والفقراء فيجزل عطاياهم جرياً على سنن أبيه، قصده أبو عبد الله محمد بن جابر الأندلسي الهوّاري الكفيف مادحاً فأعطاه عشرين ألف درهم؛ انتهى. ومن شعر ابن جابر رحمه الله تعالى: وفي الخيام ومن لي بالخيام رشاً ... لا أحسب البدر في حسن يقاومه مثل الغزالة إن تاهت وإن طلعت ... فكيف يصرف عنه الصبّ لائمه وقوله رحمه الله تعالى: في القلب من حبّكم بدر أقام به ... فالطرف يبصر نوراً حين يبصره تشابه العقد حسناً فوق لبّته ... والثغر نظماً إذا ما لاح جوهره وقوله: ردف أقام لنا بها فتن الهوى ... وإذا أتت لتقوم قال لها اقعدي أبصرتها ما بين ذاك وبين ذا ... فوقعت منها في المقيم المقعد وقوله: سامح بالوصل على بخله ... وقال لي أنت بوصلي حقيق فقلت ما رأيك في نزهة ... ما بين كاسات وروض أنيق فقال يعني خده واللمى: ... هذا هو الروض وهذا الرحيق فبتّ من دمعي ومن خدّه ... ما بين نعمان وبين العقيق وإذ تذللت على حبّه ... قال: أما تخشى؛ أما تستفيق قدي وخدي خفهما يا فتى ... هذا هو الرمح وهذا شقيق

وقوله: وقفت للوداع زينب لمّا ... رحل الركب والمدامع تسكب مسحت بالبنان دمعي، وحلو ... سكب دمعي على أصابع زينب رجع إلى أولاد لسان الدين رحمه الله تعالى: ومن قصيدة موشّحة لابن زمرك يخاطب بها شيخه ومخدومه الوزير لسان الدين ابن الخطيب قبل أن يظلم الجوّ بينه وبينه، جواباً عن رسالة خاطب بها لسان الدين ابن الخطيب أولاده صدر نظم له لم يحضرني ذلك الآن قوله: ما لي بحمل الهوى يدان ... من بعد ما أعوز التداني أصبحت أشكوه من زمان ... ما بتّ منه على أمان ما بال عينيك تسجمان ... والدمع يرفض كالجمان ناداك والإلف عنك وان ... والبعد من بعده كواني يا شقّة النفس من هوان ... لجّج في أبحر الهوان لم يثنه عن هواك ثان ... يا بغية القلب قد كفاني وقال بعض الحفّاظ في ترجمة أبي الحسن علي بن لسان الدين بعد أن ذكر روايته عن أبيه وابن الجياب وابن مرزوق: إنّه أخذ عن جماعة غيرهم، كالشريف القاضي الفقيه أبي علي الحسن بن يوسف بن يحيى بن أحمد الحسني السبتي نزيل تلمسان، والفقيه الإمام العلامة قاضي الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبي عبد الله محمد المقّري التلمساني القرشي، والشريف العالم أبي القاسم محمد ابن الفقيه العالم المعلم لكتاب الله تعالى أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن محمد بن علي بن موسى بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن الحسن بن إدريس بن الحسن بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وليس إدريس المذكور هنا بملك المغرب وجدّ الأدارسة.

قال: وروي أيضاً عن القاضي ابن شبرين الإشبيلي ثمّ السبتي نزيل غرناطة، والقاضي أبي البركات البلفيقي، والكاتب صاحب القلم الأعلى أبي جعفر ابن صفوان القيسي المالكي، وابن خاتمة، والفقيه الحاج أبي القاسم محمد ابن الفقيه الصالح العالم أبي عمرو يحيى ابن الفقيه الصالح أبي القاسم محمد الغساني الرحبي نزيل فاس، وغيرهم ممّن يطول تعدادهم من الأئمّة الأعلام، نجوم الإسلام؛ انتهى. [خطبة للكفعمي في تضمين أسماء السور] وقد وقفت للكفعمي رحمه الله تعالى في شرح بديعيته على خطبة وقصيدة من هذا النمط. قال رحمه الله تعالى ما نصه: ولنختم الخاتمة بخطبة وجيزة، في فنها عزيزة، وجعلناها في مدح سيد البرية، وتورياتها في السور القرآنية، فكن لسورها قارياً، ولمعارجها راقياً، وعلّ وانهل من شرابها السكري، وفكه نفسك بتسجيعها النميري، وهي هذه: الحمد لله الذي شرّف النبي العربي بالسبع المثاني وخواتيم البقرة من بين الأنام، وفضل آل عمران على الرجال والنساء بما وهب لهم من مائدة النعام، ومنحهم بأعراف الأنفال وكتب لهم براءة من الآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي نجّى يونس وهوداً ويوسف من قومهم برعد الانتقام، وغذى إبراهيم في الحجر بلعاب النحل ذات الإسراء فضاهى كهف مريم عليها السلام، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله الذي هو طه الأنبياء وحج المؤمنين ونور فرقان الملك العلام، فالشعراء والنمل بفضله تخبر، ولقصص العنكبوت الروم تذكر، ولقمان في سجدته يشكر، والأحزاب كأيادي سبا تقهر، وفاطر يس لصافّاته ينصر، وصاد مقلة زمره تنظر الأعلام، فآل حم بقتال فتحه في حجرات قافه قد ظهرت، وذاريات طوره ونجمه وقمره قد عطرت، وبالرحمن واقعة حديده يوم المجادلة قد نصرت، وأبصار معانديه في الحشر يوم الامتحان حسرت

وصفّ جمعته فائز إذ أجساد المنافقين بالتغابن استعرت، وله الطلاق والتحريم ومقام الملك والقلم فناهيك به من مقام، وفي الحاقة أعلى الله له المعارج على نوح المتطهر، وخصّه من بين الإنس والجن بيا أيّها المزّمّل ويا أيّها المدّثّر، وشفّعه في القيامة إذا دموع الإنسان مرسلات كالماء المتفجر، ووجهه عند نبإ النازعات وقد عبس الوجه كالهلال المتنور، ويوم التكوير والانفطار وهلاك المطففين وانشقاق ذات البروج بشفاعته غير متضجر، وقد حرست لمولده السماء بالطارق الأعلى وتمّت غاشية العذاب إلى الفجر لعى المردة اللئام، فهو البلد الأمين وشمس الليل والضحى المخصوص بانشراح الصدر، والمفضل بالتين والزيتون المستخرج من أمشاج العلق الطاهر العلي القدر، شجاع البرية يوم الزلزال إذ عاديات القارعة تدوس أهل التكاثر ومشركي العصر، أهلك الله به الهمزة وأصحاب الفيل إذ مكروا بقريش ولم يتواصوا بالحقّ ولم يتواصوا بالصبر، المخصوص بالدين الحنيفي والكوثر السلسال والمؤيد على أهل الجحد بالنصر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما تبّت يدا معاديه، ونعم بالتوحيد مواليه، وما أفصح فلق الصبح بين الناس وامتد الظلام. [قصيدة على مثالها للكفعمي] ولنشفع هذه الخطبة بقصيدة على سور القرآن، في مدح سيد ولد عدنان، يحسن هنا أن ننضي عن فرائد نفائسها لطلابها، ما أغدف من خمرها وستورها، ونجلّي عن خرائد عرائسها لخطابها، ما أسدف من غررها في خدورها، فانظر إلى سور أبياتها وصور تورياتها، ثم ادعهن يأتينك سعياً، فحفظاً لها ووعياً، وهي هذه: يا من له السبع المثاني تنزل ... وخواتم البقرة عليه تنزل في آل عمران النساء لم تلد ... كنظيره الأجساد ذلك تفعل

مولى له الأنعام والأعراف وال ... أنفال والحكم التي لا تجهل بعلاه توبة يونس قبلت كذا ... هود ويوسف رعدهم يتجلجل وكذاك إبراهيم في حجر له ... والنحل في الإسرا عليه تعوّل يا كهف مريم أنت طه الأنبيا ... والحج ثم المؤمنون الأفضل يا نور يا فرقان يا من مدحه ... نطقت به الشعراء وهو المرسل والنمل في قصص الحديث به دعت ... وعليه نسج العنكبوت يهدّل والروم تتلو إسمه ولكم به ... لقمان حقّاً في المضاجع يسأل وبعزمه الأحزاب جمعهم سبا ... وبه الملائكة الكرام تفضل يس سمّاه الإله بذكره ... وكواكب بسعوده لا تأفل يا ليتني صاد شربت بكأسه ... وعليه في زمر وردت فأنهل كم مؤمن قد فصّلت أعلامه ... من زخرف بجداه يا من يعقل ودخان جاثية على أحقافها ... بقتاله أطفى وفتح أدخل حجرات قاف ذاريات سمائه ... في طورها نجم منير يكمل ودنا له القمر المنير وشقّه ال ... رحمن واقعة له لا تجهل زغف الحديد بحربه أصواتها ... رعد مجادلة لقوم أبسلوا وله لدى الحشر العظيم شفاعة ... في أمّة بالإمتحان تسربلوا عن صفّ جمعته المنافق نائياً ... يوم التغابن من حديد ينعل يا من به شرع الطلاق ومن له ال ... تحريم والملك العظيم الأكمل يا من به ذو النون لاذ بيمنه ... لمّا أصيب بحاقة لا تعدل يا من سأل نوح بطاهر إسمه ... يا من أتته الجنّ يا مزّمّل مدّثّر يوم القيامة شافع ... ومخلّص الإنسان وهو الموئل يا من نزول المرسلات ببعثه (1) ... يا أيّها النّبأ العظيم الأكمل

_ (1) ق: بغيته.

والنازعات نزعن نفس عدوّه ... هذا، وقد عبس الجبين وأذهلوا وهو الشفيع إذا المنيرة كوّرت ... والإنفطار من السماء يعجل ولدى ذوي التطفيف ويل والسما ... في الإنشقاق إذ البروج تبدل والله قد حرس السماء بطارق ... لولادة الأعلى به يتفضل وأزال غاشية العذاب ونوره ... كالفجر إذ أنواره تتهلّل بلد أمين ثم شمس أشرقت ... والشعر ضاهى الليل بل هو أليل شمس الضحى من وجهه ولصدره ... ألانشراح، وقلبه لا يغفل يا من أتى في التين حقّاً ذكره ... فاقرأ ولا يرتاب فيه، واسألوا يا من ليالي القدر بيبّنة له ... وعداه بالزلزال منه تزلزلوا بالعاديات أزال قارعة العدا ... وبقوله ألهاكم ما تجهل ولقد أتى من قبل عصر نبيّنا ... ويل لأهل الفيل منه وقتّلوا هو صاحب الإيلاف والدين الذي ... يسقى غداً من كوثر يتسلسل والكافرون لنصره في جيدهم ... مسد إذا التوحيد عنه تعدل يا خاتماً فلق الصباح كوجهه (1) ... والنّاس منه مكبر ومهلّل أبياتها ميقات موسى عدّة ... والكفعمي بمدحه يتجمّل صلّى عليه الله مع أصحابه (2) ... ما زال طير العندليب يعندل [ترجمة الكفعمي] والكفعمي هو إبراهيم بن علي بن حسن بن محمد بن صالح نسبة إلى كفر عيما (3) قرية من قرى أعمال صفد، كما تقول في النسبة إلى بني عبد الدار:

_ (1) ق: بوجهه. (2) ق: ثم صحابه. (3) في ق والتجارية: عتما، والكفعمي نسبة إلى كفر عيما إحدى قرى جبل عامل، كما ذكره صاحب روضات الجنات (7) نقلاً عن بهاء الدين العاملي، والنسبة الشائعة إليها كفعيماوي. والمترجم إمامي المذهب، وله كتب وأشعار وتصانيف منها: كتاب جنة الأمان الوافية المشتهر باسم المصباح وكتاب البلد الأمين والدرع الحصين وكتاب نهاية الأرب في أمثال العرب وغيرها، وقد توفي سنة 905.

عبدري، وإلى حص كيفا: حصكفي، وشرحه لبديعيته سماه نور حدقة البديع ونور حديقة الربيع " (1) وما رأيت مثله في سعة الحفظ والجمع. ومن نظمه في أسماء الكتب: يا طريق النجاة بحر فلاح ... أنت دفع الهموم والأحزان أنت أنس التوحيد عدّة داع ... ثم روح الإحيا وفلك المعاني نهج حيّ ونثر درّ نبيه ... ورياض الآداب ذكرى البيان فائق رائع مسرة راض ... منتهى السؤل جامع للأماني نزهة عدّة ظرائف لطف ... روضة مبهج جنان الجنان زاهر كامل شهاب وكنز ... مجتنى من ذخيرة الإخوان فصحاح الألفاظ فيه تلقّى ... وشذور العقود والمرجان وهو قوت القلوب نهج جنان ... وكنوز النجاح والبرهان فناسب بين أسماء الكتب، وقصده غير ذلك، وأكثر هذه الكتب التي ورّى بها غير موجودة بأيدي الناس، بل ولا معروفة لديهم، وهذا دليل على سعة اطلاعه. ومن بدائع الكفعمي المذكور رسالة كتب بها إلى قاضي القضاة العالم العلامة أبي العباس ابن الفرفور (2) في شأن أستاذ دار قاضي القضاة المذكور الأمير علاء

_ (1) ذكره حاجي خليفة (1982) وأوله: الحمد لله الذي شيد بنيان صرح البيان. (2) هو شهاب الدين أحمد بن محمود بن عبد الله بن محمود الشهير بابن الفرفور الدمشقي الشافعي (852 - 911) ولي قضاء القضاة الشافعية بدمشق ثم جمع له بينه وبين قضاء مصر سنة 910 فأناب عنه بدمشق وولده ولي الدين (الكواكب السائرة 1: 141) .

الدين، ويخرج من أثنائها قصيدة منها: يقبّل الأرض وينهي (سلام) عبد لكم محب وعلى المقة مكب لو بدا للناظرين عشر معشار شوقه وغرامه لطبّق ذلك ما بين آفاق السموات السبع والأرض لشدة هيامه تراه حقّاً لكم حافياً بالأمن والسرور والسعد والحبور داعياً لا جرم وهذا الثناء المتوالي والدعا للمقام العالي لا شكّ من لازم الفرض ملّكه الله تعالى أزمّة البسط والقبض، وأنجاك ربي من المعاطب في دينك ودنياك وأنقذك من شر كل صغير شدة وكبيرها، وأرضاك، وجعلك أميناً في الأرض، إلى يوم القيامة والنشور والعرض، كما أنت أمن لي من المخاوف وعون في كل شدة وغوث وملجأ وعدة وأنجت آمالي ووفرت بإخدامك لي مالي وأحسنت قرضي ووفرت بإجلالك لي عرضي، وينهي المملوك إلى سيده قاضي القضاة وكافي الكفاة بأن المتولي الأمين ذا الفخر المبين علي ابن المرحوم فخر الدين قوله في أمركم العالي مرضي وفعله مقضي ومدحكم عليه فرض واجب قراه أبداً لسانه ويذكر المناقب وحبّكم له واختياركم إياه دالّ بأنّه أمين حليم شاهده حقّاً يقضي بجعله على خزائن الأرض إنّه حفيظ عليم حديث مدح سواكم ليس من مدائحه، ولا يمرّ أبداً بقلبه وجوارحه وإن مرّ في خاطره لا يحلو قطعاً وحكمكم عليه شرعاً، ومرسومكم يمضي وأمركم يقضي يتيه سروراً به رؤساء أهل الشام، ومن في القبيبات من الأنام، عزّة وعلوّاً لخدمته الشريفة إياك ولأنّه يا قاضي قضاة الدين والأرض لا يريد سواك، فإن يك الخادم المذكور في بعض أفعاله غافلاً أو في مقاله غير كامل وعصاكم في بعض الأمر فعين العفو والستر عن ذنبه لا جرم تغضي، وهو بتوبته إليه يفضي

وسلام الله عليكم ورحمته لديكم كلّما نطق ناطق أو ذرّ في المشارق شارق وما دارت الأفلاك، وسبحت بلغاتها الأملاك، في فسيح الطول ورحب العرض، دوماً ما بين السماء والأرض. وهذه أبيات القصيدة المتولدة من هذه الرسالة: سلام محب لو بدا عشر شوقه ... لطبّق ما بين السّموات والأرض تراه لكم بالأمن والسعد داعياً ... وهذا الدعا لا شك من لازم الفرض وأنجاك في دنياك من كل شدة ... وأرضاك في يوم القيامة والعرض كما أنت لي عون وغوث وعدّة ... ووفرت لي ما لي ووفرت لي عرضي هذا، ويصح أن يقرأ عوناً بالنصب على الحاليّة، وهو الذي رأيته بخطه، أعني الكفعمي، ثم قال: وينهي إلى قاضي القضاة بأنّ ذا ... عليّ بن فخر الدين في أمركم مرضي ومدحكم فرض قراه لسانه ... وحبّكم إيّاه شاهده يقضي حديث سواكم لا يمر بقلبه ... وإن مرّ لا يحلو وحكمكم يمضي يتيه به أهل القبيبات عزّة ... لخدمته إياك يا قاضي الأرض فإن يك في أفعاله أو مقاله ... عصاكم فعين العفو معن ذنبه تغضي سلام عليكم كلّما ذرّ شارق ... وسبّحت الأملاك في الطول والعرض قلت: وهذه طريقة بديعة، وقد تبارى فيها البلغاء، فبعضهم يعمد إلى أحاديث أو آيات وينسج على منواله مثلها، ويفرقها في أبياته أو سجعاته، ويكتبها بلون مخالف للأصل، وقد ذكرت في روضة الورد من أزهار الرياض من كلام ابن عاصم ما لا مزيد وراءه، فليراجعه من أراده، وذكرت في غيره أيضاً نبذة.

رجع إلى نظم ابن جابر - فمن ذلك قوله: ناديت من أسري به ... بحياة من أسري به سل مدمعاً تجري به ... بلواه في تجريبه وقوله: أيّها العاذل في حبي له ... خلّ نفسي في جواها تحترق ما الذي ضرّك منه بعدما ... صار قلبي في هواه تحت رق وله: برد الصباح على برد الصّا سحراً ... ما زال يذكرني أوقات نعمان لهفي لعيش قضينا في معاهدها ... ما بين حسن من الدنيا وإحسان وله رحمه الله تعالى من حسناته المقبولة المضاعفة أيضاً: جعلت ملاك العين والقلب في الهوى ... بناطقة القرطين صامتة القلب تصحّف لي ألحاظها لين قدّها ... وتقلّبه كيما تصيد به قلبي قال بعض علماء المشرق: أجاد والله هذا العالم المغربي المقال، وأراد أ، لفظ لين إذا قلب صار نيلاً، وإذا صحّف صار نبلاً، وهذا زيادة على ما فيه من التحريف؛ انتهى. [من شعر أبي جعفر رفيق ابن جابر] وقريب منه لرفيق المذكور قوله: يفترّ عن برد يثير ببرده ... حرّ الغرام ولا سبيل لرشفه أخذ الرشا من حسنه طرفاً لذا ... نسب الورى ملح الجمال لطرفه

وله: تجرّ فرعيها على إثرها ... رافلةً في حلل الحسن فتطلع البدر لنا في الدجى ... وترسل البدر على الغصن وله: قد نعمنا بجزع نعمان لكن ... عقّنا البعد، والعقوق قبيح قل لأهل الخيام أمّا فؤادي ... فجريح لكنّ ودّي صحيح وقوله: مقدّمات الرقيب كيف غدت ... عند لقاء الحبيب متّصلة تمنعنا الجمع والخلوّ معاً ... وإنّما ذاك حكم منفصله وله يمدح سيد الخلق وخاتم المرسلين، صلى الله عليه وعليهم أجمعين: رحمةً أرسله الله لنا ... وشفيعاً قد غدا فينا غدا وهب المال لمن مال له ... وفدى من ذنبه من وفدا ليس يحصي فضله إلا الذي ... هو أحصى كلّ شيء عددا وله: حسّن النية ما اسطعت ولا ... تتّبع في الناس أسباب الهوى إنّما الأعمال بالنيات، من ... ينو شيئاَ فله ما قد نوى وله: قالت وقد حاولت نيل وصالها ... من غير شيء لا تجوز المسألهْ بالله قل لي أين نحوك يا فتى ... أرأيت موصولاً يجيء بلا صله

وهذا معنى قد تلاعب الشعراء بكرته، وقضية ابن عنين في ذلك مع المعظّم دالة على توقد فكرته، وما ذاك إلاّ أنّه مرض فكتب إلى الملك المعظّم: انظر إليّ بعين مولىً لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي أنا كالذي، أحتاج ما يحتاجه ... فاغنم دعائي والثناء الوافي فعادة المعظّم وأعطاه ألفاً، وقيل: ثلاثمائة، وقال له: هذه الصلة، وأنا العائد. قال بعض المغاربة في هذا: قد تلطف ابن عنين في الصلة والعائد، وأجاد وسبق المعظم إلى فهم مقصوده مطابقة الجوار فأتى بما يستغرب عن سيبويه ونظرائه، فلذلك جعل الشرف ابن عنين ديوانه مملوءاً بمدحه وأطرابه، ونقلته من حفظي وفيه بعض تغيير بيتين. [عود إلى شعر ابن جابر] وقال ابن جابر المذكور: يا دار ليلى لا صمتك يد البلى ... وسقاك درّ الغيث كلّ سحاب أصبو إلى تلك الربوع، وكيف لا ... أصبو وهنّ منازل الأحباب وقال من قصيدة: وأطلب تشويق الأنام بحسنه ... فأذكر من أسمائه كلّ طيّب ومنها: وإنّي لم أمدحه إلا تشوّقاً ... وإن كان مشهوراً بشرقِ ومغرب

وقال: أمر الشباب [......] ... فهفا فقالت: دمعتي أغلى أسر الهوى مهج الأنام لها ... إذ سلّ من أعطافها أسلا وقال: ظعنوا [والقدود] منهم رماح ... طعنوا في الحشا بها فأصابوا جاد دمعي لهم وقد حاد صبري ... حين سارت بالظاعنين الرّكاب وقال: شاه وجه الرقيب إذ شاء وصلي ... قمري، والأنام عنّا نيام زارني بالنّهار في الليل لكن ... ليل فرع يحار فيه الظلام وقال: يا أيّها الجائر في حكمه ... إني فيما قد جرى حائر قدّك من أعدل شيء يرى ... وأنت في أهل الهوى جائر وقال: قد زعم العاذل لي أنّه ... يهدي لي الرّشد بما يصنع ما هو هاد لي ولكنّه ... هاذٍ فسمعي قال لا تسمعوا وقال: شفى فؤادي من شقا هجره ... وبتّ من لقياه في عيد وزارني يحكي غزال النقا ... في الحسن لولا الحلّي في الجيد وقال:

سلب القلب غزال قدّه ... قد حكى البان لنا والسّلما ساحر العين إذا أبصره ... كاتب ألقى لديه القلما وقال: يكفي الأنام بسيفه وبسيبه ... عقد المكاره والمكارم دائما وقال: تجلّت بما يحكي محاسن ثغرها ... وحلّت عقود الصبر مني عقودها ثقيلة أرداف فصعب قيامها ... بما حملت منها وسهل قعودها وقال: أبى حسنها إلا افتنان قلوبنا ... فكم قد أباد الحسن فيها من الناس وقالت تحمل طول هجري إن ترد ... وصال ذوات الحسن قلت على راسي وقال: أرى أناساً، من أراد الرضى ... منهم رجا ما ليس بالممكن سيّان أن يعطوا وأن يمنعوا ... قد ضاع فيهم كرم المحسن وقال: يا جيرة الحيّ حيّا الله واديكم ... فكم سرور به للقلب قد عرضا فلن أنسال حياة أستلذ بها ... إذا أنا لم أنل عن وصلكم غرضا وقال: شبّ حرّ الفؤاد ماء رضاب ... منه قد حار فيه ماء الغمام زان بالحلي جيده قلت: ماذا ... قال: شيء نظمته من كلامي

وقال: صاد قلبي وصدّ عني صدودا ... وانثنى يسحب الذوائب سودا فرأيت الصباح في الليل يبدو ... وشهدت الرّشا يصيد الأسودا وقال: إنّي سئمت من الزمان لطول ما ... قد صدّ عن حسن الوفاء رجاله ومن النوادر في زمانك أن ترى ... خلاّ حمدت وداده وخلاله وقال: إن قابل الغصن بأعطافه ... فقلّ أن تبصر من فرق قلت قد استبعد كلّ الورى ... فقال ذاك البعض من حقّي وقال: صحّ أنّ الصباح من وجنتيها ... وغصون الرياض من معطفيها قاتل الله عاذلي قلّ يومٌ ... ليس يسعى بالعذل فيه إليها وقال: شدّوا محاملهم يوم الرحال وقد ... محا رسوم اصطباري فقد من رحلا هزّوا الغصون على الكثبان حين مضوا ... وأسبلوا فوق أقمار الدجى كللا وقال: خدّ ترى الورد بعضاً من محاسنه ... تبارك الله ما أبهى شمائله لصارم اللحظ قد أرخى حمائل من ... عذاره فحمى عنّا خمائله وقال:

قام حادي الركاب ليلاً فغنّى ... فاستقام السّرى وثار الغرام قيل نام الأنام فاهجع قليلاً ... قلت دون الحبيب لست أنام وقال: ترامى بنا في البيد شوق إلى الحمى ... ترى عنده الأجفان منهلّة الدمع فلمّا رأينا ربع من سكن الحشا ... نزلنا فقبّلنا ثرى ذلك الرّبع وقال: يراودني الواشي على حبّ غيرها ... وإنّ محالاً أن يرى مثل حسنها موفّرة الأرداف، مهضومة الحشا ... يريك التفات الظبي فاتر جفنها وقال: سلّت علينا سيوفاً من لواحظها ... ومن لنا من سيوف اللحظ من واقي أضحت لسفك دم العشاق هادرة ... فما ترى ديةً في قتل عشّاق وقال: في خدّها شبهٌ للخال أو شيةٌ ... بما حوى الحسن من ألطاف أسرار وشيٌ من الحسن لم يحتج لصنع يد ... تبارك الله هذي صنعة الباري وقال: بين الجوانح لو علمت من الجوى ... نار عليها سكب عيني يهمع فدع المدامع في مدى جريانها ... فالدمع بعد فراقهم لا يمنع وقال: قالوا بدارين قد قالوا، وقد وردوا ... ماء العقيق، وبالزوراء قد باتوا

بانوا عن العين لكن بالقلوب ثووا ... وفي البعاد عن الأحباب آفات وقال: مليحة الخدّ به شامة ... كالورد قد نقّط بالغاليهْ قلت لها: ما اسمك قولي لنا ... قالت: فما تعرفني غاليهْ وقال: جارية جارية في مدى ... شبابها من أملح الخلق ما بين فرق الصبح لمّا بدا ... ووجهها للناس من فرق وقال: لصبّه منه امتداد النوى ... فلا يلام الدمع في صبّه في قدّه لين فهلاّ قضى ... بقلبه منه إلى قلبه يريد بالقلب الأول التحويل والنقل: أي فهلاّ قضى بنقل اللين الذي في قدّه إلى قلبه. وقال: يا لابس اللام والأسياف عارية ... قد انعطفت على الأعطاف واللام ويا ضجيع رماح الخطّ يرسلها ... في كلّ هام لها بالحظ في الهام الهام الأول: جمع هامة، والثاني اسم فاعل من همى يهمي. قال رفيقه: لو قال " من الهام " لكان أليق بالمعنى وألطف. وقال: من مال يبغي كسب مال له ... من حرمه إن جاء أو حلّه

فلا تثق يوماً به واحترز ... منه فما يبقي على خلّه وقال يتشوق إلى وطنه بالمرية: لله عيش بالمريّة قد ذهب ... أخباره بالحسن تكتب بالذهب وهبت لنا تلك اللّيالي مدة ... ثم استردّ الدهر منّا ما وهب وقال: أنّ من شوقه فثار الضّرام ... ودرى الناس أنّه مستهام لا تسل ما جرى من الدمع لمّا ... قيل هذي النقا وهذي الخيام وقال: صلاة إله العالمين على الذي ... أقلّ العطايا منه واد من النّعم يجود على الراجي وإن كان مذنباً ... وما قوله للسائلين سوى نعم وقال: قد سبا قلبي غزال فاتن ... سل به كيف اعتدى في سلبه أنا لا أعتب فيما قد جرى ... صفح الله له عن ذنبه وقال: صبرت له فتمادى به ... هواه، فكانت هي الفاصله وأنكر برّي ويا طالما ... أتاني يوماً فألقى صله وقال: وليل نظمنا به شملنا ... كما انتظم البيت بالقافيه وفرقنا الدهر من بعد ذا ... فلست من اليوم ألقى فيه

فئة، ولا يكمل التجنيس فيه إلاّ بتسهيل الهمزة كما قال رفيقه، ولمّا أنشده قال: ومن هذا النوع قول بعض الأندلسيين: وقائل قال ألا صف لنا ... بستاننا هذا ونارنجنا قلت لهم بستانكم جنّة ... ومن جنى النارنج ناراً جنى وقال ابن جابر المذكور: قل بحقّ الهوى سمحت بوصل ... ربة القلب أم نهاك الرقيب رمت نيل الوصال منها فقالت ... لك وصل غداً فقلت: قريب وقال: زيّن الخدّ منه صدغ كنون ... قد بدا تحته عذار كلام قلت هذي محاسن ابن هلال ... فانثنى وهو ضلاحك من كلامي وقال: لها حسن لها عن كلّ شيء ... به قلبي، فما أنا أستفيق على وجناتها نعمان يبدو ... لنا وشفاهها هنّ العقيق وقال: تمرّ في ذكركم، والله، أحياني ... ولو سرى طيفكم ليلاً لأحياني لا يعذب العيش لي بعد العذيب ولا ... نعيم مثل ليالينا بنعمان وقال: مداراة هذا الخلق أوليك بينهم ... صفات هي الأقمار والنظم دارات

وشارات حمد المرء أن لا ترى له ... على الناس ممّا لازم الحلم دارات وقال: أرى كمداً سعيي إلى خاملٍ، ولو ... أراك مدى في فرقد بلغ السها وما الخير يوماً من لئيم بممكن ... وإن كان منه الخبر يوماً فقد سها وقال: أرى حيدي عن كلّ طارىء نعمةٍ ... أراح يدي من أن يقيّدها الذلّ فمن أخذ المعروف من غير أهله ... تروح الليالي وهو في عنقه غلّ وقال: شبا لحظها الماضي وحسن شبابها ... هما حمّلا نفسي من الوجد ما بها كثيب النقا من ردفها، وقضيبه ... لمعطفها، والبدر تحت نقابها وقال: حلّ عقد الصبر مني عقدها ... إذ سبت قلبي بما في قلبها تحسب الدّرّ على لبّتها ... أنجماً قد كلّل البدر بها وقال: شعر كالليل يبدو تحته ... قمر قد حار شعري في صفاته نقل المسواك عن مبسمه ... أنّ ماء الورد يجري من لثاته وقال: من سنّ تلك اللحاظ فاتّبعت ... من سنّة الحبّ كلّ متّبع تقتل عشّاقها بلا سبب ... وذاك في الحبّ غير مبتدع

وقال: وما شجو صال لوعة الهجر قد قضى ... زمان وصال لم تكدّر مشاربه كشجو محبّ لم يذق لذّة الرضى ... ولا بات والغيد الحسان تلاعبه وقال: سرت في رحال العيس منه أهلّةٌ ... فأيسر حال أن أزوّدها قلبي بعيشك قل لي هل دروا كيف علّتي ... وفيض دموعي بعد منصرف الركب وقال: من جنى باللحاظ زهر المعاني ... من جناب الحمى إذا الناس ناموا هو قد نال كلّ ما يتمنى ... وسعت في مراده الأيام وقال: لطائف حسنها بربوع قلبي ... لطائف ألجأتني للغرام تريك تكاسلاً في اللحظ منها ... لتحسبه تنبّه من منام وقال: إذا زرت حيّاً بالعقيق فحيّهم ... وذكّرهم عهدي وحقّ ودادي حرامٌ فراق العيس حتى تحلّني ... بواديه من تلك الوجوه بوادي وقال: من فرط ما في الطرف من فتنة ... قد غلب الحبّ على النّاس قالت نسيت العهد قلت اكففي ... عنّي فما عبدكِ بالنّاسي وقال:

بين نعمان وسلع ملأ ... ليس منهم لمحبّ ألم كلفي منهم ببدر حلّ في ... فلك العياء فاعرف من هم وقال: أراقبها وحين أرى سبيلاً ... أقاربها فتنفر كالغزال وقالت أنت مرتقب لماذا ... فقلت لها: ارتقابي للهلال وله من قصيدة مطوّلة في فضائل الصحابة العشرة وأهل البيت، فمما يختص منها بأبي بكر رضي الله تعالى عنه قوله: فمنهم أبو بكر خليفته الذي ... له الفضل والتقديم في كلّ مشهد وصدّيق هادي الخلق والمؤثر الذي ... لإنفاقه للمال في الله قد هدي وصهر رسول الله، وانته التي ... يبرئها نصّ الكتاب الممجّد وصاحبه في الغار إذ قال لا تخف ... فثالثنا ذو العرش أوثق منجد وسدّ على المختار مخرج حيّةٍ ... هناك برجلٍ منه فازت بأسعد وفيه وفي خير الأنام تسامعوا ... بمكّة صوت الهاتف المتقصد (1) " جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين حلاّ خيمتي أمّ معبد " (2) وعتق بلال حسبه، فهو سيّد ... تأثل في الإسلام، إعتاق سيد

_ (1) يقال إن أهل مكة سمعوا بعد هجرة الرسول ومعه أبو بكر هاتفاً يقول: جزى الله ... إلخ البيت التالي؛ وقد مر الرسول وصاحبه بخيمتي أم معبد عاتكة بنت خالد بن خليف الخزاعية فقالا عندها، ويقال إنها ذبحت لهما شاه وطبختها (انظر إمتاع الأسماع: 43 وعيون الأثر 1: 188 - 189) . (2) واية البيت في عيون الأثر (1: 188) : جزى الله خيراً والجزاء بكفه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد وقد وردت الرواية المثبتة في النفح مع وضع " قالا " موضع " حلا " في ص: 189 من الكتاب المذكور.

وقال رسول الله إنّ أمنّكم ... عليّ أبو بكر وأوفى بموعد (1) فصدّق إذ كذبتم، وأطاع إذ ... عصيتم، ووافاني موافاة مسعد ولو أنّني من أمتي كنت آخذاً ... خليلاً تولّى خلّتي وتودّدي كان أبو بكر، ولكن أخوّة ... في الإسلام مهما تنقص الناس تزدد (2) فلمّا أراد الله قبض نبيّه ... وصار إلى دار النعيم المخلّد تقدم في نيل الخلافة بعده ... بإجماعهم لا بالحسام المهنّد وقد فارقت يومالسقيفة فرقة ... فلمّا رأته الحقّ لم تتردّد وقام عليّ بعد ذاك مبايعاُ ... فأثنى ثناء المخلص المتودّد وأظهر عذراً في تأنّيه صادقاً ... وبايع طوعاً لا لفقدان مسند فآب بحمد منهم غير قاصر ... ومن يتبع الإنصاف والحقّ يحمدِ وما أشبه الصدّيق في الفضل مشبه ... ولا أحصيت أوصافه بتعدّد وممّا يختص بعمر رضي الله تعالى عنه قوله من هذه القصيدة: ويتبعه في فضله عمر الذي ... رمى عن قسيّ الصدق قوس مسدّد وما كلّ من رام السعادة نالها ... ولكنّه من يسعد الله يسعد هو المرء لم يترك له الحق صاحباً ... ولا قعد الشيطان منه بمقعد ولا سلك الشيطان فجّاً قد اغتدى ... له سالكاً من خوفه المتزيّد ومن ظلّه قد كان ينفر هيبةً ... له حيثما أضحى يروح ويغتدي (3)

_ (1) يشير إلى الحديث: " ما من أحد أعظم عندي يداً من أبي بكر واساني بنفسه وماله " رواه الطبراني، وفيه أرطاة أبو حاتم وهو ضعيف (مجمع الزوائد 9: 46) . (2) هو تعبير عن الحديث: " لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر ولكن إخاء ومودة إلى يوم القيامة " رواه الطبراني، وفيه نهشل بن سعيد وهو متروك (المصدر السابق 9: 45) . (3) في الأحاديث: " إن الشيطان لم يلق عمر منذ سلم إلا خر لوجهه " (مجمع الزوائد 9: 70) وهناك أحاديث أخرى في خوف الشيطان منه؛ وفي صحيح مسلم (2: 234) : والذي بنفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك.

وقد جاء عنهم: ما برحنا أعزة ... بإسلامه فانكفّ من كان يعتدي ومن قولهم: إسلامه كان غرة ... وهجرته فتحاً شجا كلّ ملحد وإمرته كانت على الناس رحمة ... فآبوا إلى فتح وعزّ ممهّد ومن فضله رعي النبيّ بغيرة ... له فانثنى عن قصره المتشيد وقد قيل للفاروق: هذا، ومن به ... فأنبأه عن ذا النعيم المؤبّد فأقبل يبكي قائلاً كيف غيرتي ... عليك، ولولا أنت ما كنت أهتدي (1) ورؤيا رسول الله للقدح الذي ... تناول من درّ به غاية الصدي وناوله الفاروق من بعد ما ارتووا ... إلى أن غدا من ظفره الريّ يبتدي (2) فأوّله العلم الذي منه ناله ... وأوّل رؤيا الدلو حسن التأيد فصارت له غرباً فأروى بها الورى ... فكان افتتاح الأرض فتح ممهّد ورؤياه أيضاً في قميص يجرّه ... وللناس قمص بعضها يبلغ الثّدي فأوّل خير الخلق طول قميصه ... بما حاز في إيمانه من تأيّد (4) وتفريقه ما بين حقّ وباطل ... بيوم سقى الكفّار أفظع مورد وسمّي بالفاروق من أجل هذه ... ومازال في نصّ الهدى ذا تجلّد وحسبك أنّ الله وافق رأيه ... لدى يوم بدر إذ رأى قتل من فدي كذا في أذان والحجاب وجعلهم ... مصلّى مقاماً للخليل بمسجد (4)

_ (1) يشير إلى الحديث: " دخلت الجنة فرأيت فيها داراً أو قصراً فقلت: لمن هذا قالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك؛ فبكى عمر وقال: أي رسول الله، أو عليك يغار " (صحيح مسلم 2: 233 وورد فيه الحديث بصورة أخرى وانظر مجمع الزوائد 9: 74) . (2) عن ابن عمر عن النبي (ص) أنه قال: بينا أنا نائم إذ رأيت قدحاً أتيت به فيه لبن فشربت حتى لأرى الري يجري في أظافيري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله قال: العلم. (الرياض النضرة 1: 275) . (4) عن عمر أنه قال: وافقت ربي في ثلاث: مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي اسارى بدر (وانظر تفصيل ذلك في الرياض النضرة 1: 261 وما بعدها وانظر صحيح مسلم 2: 234) . (4) عن عمر أنه قال: وافقت ربي في ثلاث: مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي اسارى بدر (وانظر تفصيل ذلك في الرياض النضرة 1: 261 وما بعدها وانظر صحيح مسلم 2: 234) .

شديد على أهل الهوى رحمة لمن ... عن الحقّ لم يجنح ولم يتحيّد وممّا رووا إن كان في أمةٍ فتى ... يحدّث فالفاروق من ذاك فاعدد (1) وما أبغض الفاروق إلا مفارق ... لدين الهدى ذو مذهب لم يسدّد وممّا يختص بعثمان رضي الله تعالى عنه قوله: وحسبي عثمان بن عفان أنّه ... عليه اعتمادي وهو سؤلي ومقصدي إمام صبور للأذى وهو قادر ... حليم عن الجاني جميل التعوّد هو الجامع القرآ، والقانت الذي ... إذا جنّ ليل ليس يأوي لمرقد ويقطع بالصوم النهار وينثني ... مدى ليله في خشية وتهجّد وقال رسول الله في بئر رومة ... أما مشتر يبغي بها الأجر في غد له الجنّة العليا بذلك فاشترى ... وتجهيز جيش العسرة اذكر وعدّد فقال رسول الله إذ جاءه بما ... قد احتاج من مال وظهرٍ وأعبد هنيئاً لعثمان بن عفّان عفله ... وما ضرّه ما بعد مع هذه اليد (2) وقول ألا أبدي حياء لمن له ... قد استحيت الأملاك أشرف محتد (3) وبلّغ بشرى الهاشميّ بأنّه ... من الجنة العليا بأكرم مقعد ولكن على بلوى، وقال سأرتضي ... وأصبر صبر الطائع المتجلد

_ (1) في صحيح مسلم (2: 234) قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم؛ قال ابن وهب في تفسيره محدثون: ملهمون. وانظر الرياض النضرة 1: 260. (2) من فضائل عثمان أنه جهز جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيراً وأتم الألف بخمسين فرساً (وقيل أكثر من ذلك) وقال فيه الرسول " ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم " - وهو حديث حسن غريب - وأنه اشترى بئر رومة بعشرين ألف درهم (انظر الرياض النضرة 2: 120 - 122) . (3) يشير إلى الحديث الذي ينص على أن الرسول (ص) كان مضطجعاً في بيته كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر ثم عمر وهو على تلك الحال، فلما استأذن عثمان جلس وسوى ثيابه، فلما سئل في ذلك قال: " ألا استحيي من رجل تستحيي منه الملائكة " (صحيح مسلم 2: 234 - 235) .

فأظهر يوم الدار صبر أولي النّهى ... ولو شاء لم تظفر به يد معتد ولم يرض، صوناً للدم، بحربهم ... وكان متى يستنجد القوم ينجد فمات شهيداً صابراً فهو خير من ... على نفسه في غير حقّ قد اعتدي على بنّي المختار أرخى ستوره ... فناهيك من مجد وعزٍّ مجدّد ولم يدع ذا النورين إلا لأنّه ... حوى بيته نورين من نور أحمد وإنّ لعثمان بن عفّان رتبةً ... من المجد تسمو عن سماكٍ وفرقد وممّا يختص بعلي رضي الله تعالى عنه قوله: وإنّ عليّاً كان سيف رسوله ... وصاحبه السامي لمجد مشيّد وصهر النبيّ المجتبى وابن عمّه ... أبو الحسنين المحتوي كلّ سؤدد وزوّجه ربّ السما من سمائه ... وناهيك تزويجاً من العرش قد بدي بخير نساء الجنة الغرّ سؤدداً ... وحسبك هذا سؤدداً لمسوّد فباتا وحلي الزهد خير حلاهما ... وقد آثرا بالزاد من جاء يجتدي فآثرت الجنات من حلل ومن ... حليّ لها رعياً لذاك التزهد وما ضرّ من قد بات والصوف لبسه ... وفي السندس الغالي غداً سوف يغتدي وقال رسول الله إنّي مدينة ... من العلم وهو الباب، والباب فاقصد ومن كنت مولاه عليّ وليّه ... ومولاك فاصدق حبّ مولاك ترشد وإنّك مني خالياً من نوّة ... كهرون من موسى وحسبك فاحمد (1) وقال غداً أعط اللواء محبباً ... إليّ وللرحمن بالنصر مرتدي فباتوا وكلّ يشتهي أن ينالها ... إلى أن بدا وجه الصباح المجوّد فنادى علياً ثم أبرأ عينه ... بنفث كأن لم يمس قبل بأرمد فأعطاه إياها وقال له ادعهم ... ومهما أبوا فانهد إليهم تؤيد

_ (1) اشار في هذا البيت وما سبقه إلى أحاديث في فضائل علي منها: " أنا مدينة العلم وعلي بابها " و " من كنت مولاه فعلي مولاه " ومنها " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ".

فجدّل منهم من جنى عندما دعا ... إلى الحرب دعوى الفاتك المتمرّد وقاتل طول اليوم والباب ترسه ... يجرّ به للقوم في كل مرصد (1) فأعجزهن الباب من بعد عشرة ... فما الظن في ههذا القوي المؤيد وكان من الصبيان أوّل سابق ... إلى الدين لم يسبق بطائع مرشد وجاء رسول الله مرتضياً له ... وكان عن الزهراء بالمتشرّد فمسّح عنه الترب إذ مسّ جلده ... وقد قام منه آلفاً للتفرّد وقال له قول التلطف قم أبا ... تراب كلام المخلص المتودد (2) وفي ابنيه قال المصطفى ذان سيدا ... شبابكم في دار عزّ وسؤدد وأرسله عنه الرسول مبلّغاً ... وخصّ بهذا الأمر تخصيص مفرد وقال هل التبليغ عني ينبغي ... لمن ليس من بيتي فبالقوم فاقتد وقد قال عبد الله للسائل الذي ... أتى سائلاً عنهم سؤال مندّد وأمّا عليّ فالتفت أين بيته ... وبيت رسول الله فاعرفه واشهد بأمرين من حرّ وبرد فلم يجد ... أذى بردها أو حرّها المتوقد وما زال صوّاماً منيباً لربّه ... على الحقّ قوّاماً كثير التّعبّد قنوعاً من الدنيا بما نال، معرضاً ... عن المال، مهما جاءه المال يزهد لقد طلّق الدنيا ثلاثاً، وكلّما ... رآها وقد جاءت يقول لها ابعدي وأقربهم للحق فيها وكلّهم ... أول الحق لكن كان أقرب مهتد ومنها في ذكر السّبطين رضي الله تعالى عنهما:

_ (1) قص في هذه الأبيات إعطاء الراية لعلي ليوم خيبر: " لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه " ثم سأل عن علي فقيل: إنه يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فلما جاء بصق في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع؛ وفي الهجوم على الحصن طرح ترسه وتناول باباً عن حصن فترس به نفسه ... الخ (الرياض النضرة 1: 242 - 247) . (2) في سبب تلقيب علي بأبي تراب انظر صحيح مسلم 2: 238.

وبالحسنين السيدين توسّلي ... بجدهما في الحشر عند تفرّدي هما قرّتا عين الرسول وسيدا ... شباب الورى في جنّة وتخلّد وقال: هما ريحانتاي، أحبّ من ... أحبّهما، فاصدقهما الحبّ تسعد هما اقتسما شبه الرسول تعادلاً ... وماذا عسى يحصيه منهم تعددي فمن صدره شبه الحسين أجله ... وللحسن الأعلى وحسبك فاعدد وللحسن السامي مزايا كقوله ... هو ابني هذا سيد وابن سيد (1) سيصلح رب العالمين به الورى ... على فرقة منهم وعظم تبدد وإن تطلبوا ابناً للنبي فلن تروا ... سواي: مقال منه غير مفنّد بدا سيداً ظهر الرسول قد ارتقى ... فقرّ ولم يعجله وهو بمسجد فقالوا له طال السجود فقال لا ... ولكنما ابني خفت إن قمت يشرد (2) وكان الحسين الصارم الحازم الذي ... متى يقصر الأبطال في الحرب يشدد شبيه رسول الله في البأس والندى ... وخير شهيد ذاق طعم المهنّد لمصرعه تبكي العيون وحقّها ... فلله من جرمٍ وعظم تمرّد فبعداً وسحقاً لليزيد وشمره ... ومن سار مسرى ذلك المقصد الردي ومنها في ذكر حمزة رضي الله تعالى عنه: ومن مثل ليث الله حمزة ذي الندى ... مبيد العدا مأوى الغريب المطرّد فكم حزّ أعناق العداة بسيفه ... وذبّ عن المختار كلّ مشدد فقال رسول الله: هذا أمرته ... ولي أسد ضار لدى كلّ مشهد وقال أبو جهل: أصبت محمداً ... بما ساءه فاهتزّ هزّة سيّد

_ (1) إشارة إلى الحديث: إن ابني هذا سيد وليصلحن الله به بين فئتين من الملسلمين عظيمتين. (مجمع الزوائد 9: 178) . (2) انظر الخبر عن الحسن كيف جاء وهو طفل فصعد على ظهر النبي وهو ساجد. (المصدر السابق ص: 175) .

وأهوى له بالقوس ما بين قومه، ... وقال: وأخرى بالحسام المهنّد وقال له: إنّي على دينه فإن ... أطقت فعرّج عن طريقي واردد فذلّ أبو جهل وأبدى تلطفاً ... ومن ينصر الحقّ المبين يؤيد (1) فعاد وقد نال السعادة واهتدى ... وأضحى لدين الله أكرم مسعد وفي يوم بدر حثّ عند سؤالهم ... لما شهدوا من بأسه المتوقّد لمن كان إعلامٌ بريش نعامة ... يشردنا مثل النعام المشرّد فذاك الذي والله قد فعلت بنا ... أفاعيله في الحرب ما لم نعوّد وفي أحد نال الشهادة بعدما ... أذاق سباعاً للردى شرّ مورد ففاز وأضحى سيد الشّهداء في ... ملائكة الرحمن يسعى ويغتدي وصلّى رسول الله سبعين مرّة ... عليه إلى ثنتين عند التعدّد وقال: مصاب لن نصاب بمثله ... وإن كان لي يوم سأجزي بأزيد وأسمعهم لكن حمزة ما له ... وبشر بالنّار النوائح ما عدي نوائحه.. ... ... ... ... ... ... وقلن يا أعين اسعدي (2) وزاد إلى فضل العمومة أنّه ... أخوه رضاعاً هكذا المجد فاشهد وما زال ذا عرض مصون عن الأذى ... ومال مهان في العطايا مبدد كريم متى ما أوقد النّار للقرى ... " تجد خير نار عندها خير موقد " (3) ومنها في ذكر العباس رضي الله تعالى عنه:

_ (1) يتحدث عن إسلام حمزة بعد أن سمع أن أبا جهل أساء إلى النبي فجاء إلى أبي جهل بفناء الكعبة، وجمع يديه بالقوس وضربه بها فيقال إن أبا جهل قال له: " ما كنت يا أبا عمارة فاحشاً " وعلى أثر هذه الحادثة أعلن إسلامه. (مجمع الزوائد 9: 267) . (2) تتحدث كتب السيرة بإسهاب عن استشهاد حمزة يوم أحد على يد وحشي، وحزن النبي عليه، وصلاته عليه كلما صلى على شهيد من أمته، وقوله " لكن حمزة لا يواكي له.... " وقوله " لن أصاب بمثلك أبداً ". (3) شطر بيت للحطيئة (ديوانه: 51) وصدره: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره.

وقد بلغ العباس في المجد رتبةً ... تقول لبدر التم: قصّرت فابعد ألا إنّه فضل السقاية قد حوى ... فكان لوفد الله أكرم مورد وكان طويل الباع في الباس والندى ... كريماً متى يسترفد القوم يرفد ويوم حنين ليس ينسى ثباته ... ودعوته مستنجداً كلّ منجد وقال رسول الله فيه عليّ ما ... عليه وأيضاً مثله في التزيد ألا إنّ عمّ المرء صنو أبيه كي ... يزيدهم في برّه المتأيد ألا إنّ عمّ المرء صنو أبيه كي ... يزيدهم في برّه المتأيد وبشّره أنّ الخلافة في الورى ... لأولاده من سيد ومسوّد بشيبته استسقوا إذ المحل شامل ... فجاءهم غيث سقى كلّ فدفد انتهى ما وقفت عليه من هذه القصيدة الفريدة، وليس بيدي الآن ديوان شعره حتى أكتبها بكمالها فإنّها مناسبةٌ لهذا الباب الذي جعلناه ختماً للكتاب كما لا يخفى. ومن مقطّعات ابن جابر: شغفت بها حيناً من الدهر لم يكن ... سوى سكب دمعي في محبتها كسبي وما أصل هذا كلّه غير نظرة ... إلى مقلة منها أضعت لها قلبي وقال: قد بان عذري في مليح له ... لحظا رشاً بلحظ من ذعر إنّي على الهجر مطيع له ... ممتثل في السرّ والجهر وقال: هذا الرشا يقنص ليث الشري ... بنظرة منه فلا مخلص لو عارض العاذل يوماً له ... لكان من أول ما يقنص

وقال: ظبية في ثغرها لعسٌ ... يجتنى من رشفه عسل سلك التيه بمقلتها ... مسلكاً قد زانه كسل وقال: رقم الخال خدّها فرأينا ... قمر الأفق فيه نقطة ليل قلت: أين الكثيب والغصن قالت: ... كل ما قد ذكرته تحت ذيلي وقال: إن خفت من فتك المهنّد والقنا ... فإذا رنت وإذا مشت لا تقرب في قلب برقعها محاسن أنزلت ... قمر السماء لنا بقلب العقرب وقال: رأى عذولي حسنها بعدما ... حقّق كوني للهوى جانحا فقال إن كنت محبّاً لها ... فقد حمدنا رأيك الناجحا وقال: ذكر الله بالمريّة عيشاً ... لست عن ذكره الجميل أحول طال عهدي بها وما دمت حيّاً ... لا يزيد الرجاء بل قد يطول وقال: مرّت ليال بالمريّة طالما ... قضّيت من ليل بهنّ مآربا لم أسل عن تلك الديار وإنّما ... جعل القضاء لكلّ نفس غالبا

وقال: لا تعقني عن العقيق فإنّي ... بين أكنافه تركت فؤادي وعلى تربه وقفت دموعي ... ولسكّانه وهبت ودادي وقال: عرف المنزل الذي دار فيه ... زمن الأنس والشباب النضير فشجاه قلب التلاقي فراقاً ... وانثنى عنه ذا فؤاد كسير وقال: جمال هذا الغزال سحر ... يا حبّذا ذلك الجمال هلال خدّيه لم يغيّب ... عني وإن غيّب الهلال غزال أنس يصيد أسداً ... فاعجب لما يصنع الغزال دلاله دلّ كلّ شوق ... عليّ إذ زانه الدلال كماله لا يخاف نقصاً ... دام له الحسن والكمال نباله قد رمت فؤادي ... يا حبّذا تلكم النبال حلال وصلي له حرام ... وحكم قتلي له حلال زلال ذاك الحمى حياتي ... وأين لي ذلك الزلال قتاله لا يطاق لكن ... يعجبني ذلك القتال وقال: بين تلك الخيام أكرم حيّ ... طربت للنّدى عليهم خيام قد أقاموا بين العقيق وسلع ... فحياة النفوس حيث أقاموا وقال: إذا جئت نجداً كرّم الله عهده ... فسلّم على أهل المنازل من نجد

لئن حال بعد الدار بيني وبينهم ... فإنّي لأرعاهم على ذلك البعد وقال: خجلت عندما نظرت إليها ... وانثنت وهي بين تيه ومنع إنّما ورد خدّها زرع طرفي ... حين مروا فكيف أحرم زرعي وقال: لك نفسي إذا بدت لك نجد ... فلقد سرّني الزّمان بنجد فلتلك الخيام عندي عهد ... وأبى الله أن أضيّع عهدي وقال: سل عن القوم إن بدت لك سلع ... ففؤادي عند الذين بسلع لي على تلكم المعاهد دمع ... كاد يغني بها عن اللثّ دمعي وقال: صفحوا عن محبهم وأقالوا ... من عثار النوى ومنّوا بوصل لست أستوجب الوصال ولكن ... أهل تلك الخيام أكرم أهل وقال: مال الزمان بهم عنّي وقد بعدوا ... لم يلهني عنهم أهل ولا مال إنّي لأخشى وما الأيام طوع يدي ... أنّي أموت ولي في القلب آمال وقال: بين وادي النقا وبان المصلّى ... ملأ ألبسوا الوجود جمالا إن يكن قد نوى لي الدهر قرباً ... منهم فهو قد كفاني نوالا

وقال: زرت الديار عن الأحبة سائلاً ... ورجعت إذلالاً بدمع سائل ونزلت في ظلّ الأراكة قائلاً ... والرّبع أخرس عن جواب القائل وقال: لا أوحش الله المنازل منهم ... منهم غدت تلك الديار حسانا فاشكر لدهرك أن أراك بحاجر ... بان الحمى وأراكه قد بانا وقال: لك يا وادي العقيق علينا ... كل ما شئت من ذمام وثيق فمن البرّ أنّني أتبرّى ... من عقوق لمنزل بالعقيق وقال: يا أهل ذي سلمٍ بشرى لمستلم ... ذاك الثرى مقدمٍ في السير لم ينم يؤم داراً بها خير الورى حسباً ... الخاتم الرسل من عرب ومن عجم ولنقتصر من كلام ابن جابر في هذا الموضع على هذا المقدار، وإنّما أطنبت فيه لما تقدم من الاعتراض على لسان الدين في عدم توفيته بحق المذكور وحق رفيقه، مع أنّه أطال فيمن دونهما من أهل عصره، وأيضاً فإن كليهما غريب عندنا بالمغرب، لكونهما ارتحلا قبل أن يشتهرا كل الاشتهار، وكان خبرهما في الشرق أشهر. [من شعر رفيق ابن جابر] وأمّا رفيقه شارح بديعيته فقد ذكرنا في غير هذا الموضع بعض حاله وكلامه، ولنزد هنا ما تيسّر، فنقول: من نظمه:

لمّا عدا في الناس عقرب صدغها ... كفّت أذاه من الورى بالبرقع والصبح تحت خمارها متستر ... عنّا متى شاءت تقول له اطلع وقال: تجنّت فجنّ في الهوى كلّ عاقل ... رآها وأحوال المحبّ جنون وما وعدت إلاّ عدت في مطالها ... كذلك وعد الغانيات يكون وقال: لا تجدوا في الهوى على كلف ... نظيره في الغرام لن تجدوا لهفان ما يشتيك إلى أحد ... ظمآن غير الدموع لا يرد وقال: ربّ ليل قطعته بالجزيره ... فتذكرت أهلنا بالجزيره قصّر الأنس ما تطاول منه ... وكذا أزمن السرور يسيره قال: والجزيرة الأولى المراد بها حمص المحيط بها النهر المسمى بالعاصي، والثانية جزيرة الأندلس. وله أيضاً: وما لي والتزين يوم عيد ... وجيد صبابتي بالدمع حالي وقد أرسلت أشهبها بريداً ... وبعد كميتها ينبي بحالي والمراد بالأشهب الدمع الذي لا يشوبه شيء؛ وبالكميت الدمع المشوب بالدم، قال رحمه الله في شرح البديعية وقد ذكر العقيق بعد كلام ما نصّه: قلت: وكان هذا الوادي المبارك زمن عثمان رضي الله تعالى عنه ذا قصور محتفّة، وحدائق ملتفّة، وبنيان مشيد، ونخل طلعه نضيد، وجنات ترتي أكلها كلّ حين

وسواق تجري به بماء معين، ثم لعبت به أيدي السنين، وغيرت معالمه فصار عبرة للناظرين، فلم يبق من معاهده إلا آثار تشهد بحسنه، ونضرة نعيم تدل على ما سلف من نضارة غصنه؛ وقد خرجنا إلى هذا الوادي أيام مجاورتنا بالمدينة الشريفة، وهو يتدفّق بمائه، ويعارض بجوهر حبابه أنجم سمائه، وقد سالت شعابه، وفاض عبابه، والناس تفرقوا في جهاته، وافترشوا غضّ نباته، والشّيح قد توشّح بالندى، والأنس قد راح به وغدا، والأصيل مذهب الرداء، والبيداء مخضرة الأنداء، وبحافته آثار قصور، ليس لها في الحسن قصور، قد بليت وحسنها جديد، وخربت وربعها بالأنس مشيد؛ انتهى. ومن بديع نظمه قوله: مهلاً فما شيم الوفا منقادة ... لمن ابتغى من نيلها أوطارا رتب المعالي لا تنال بحيلة ... يوماً ولو جهد الفتى أو طارا وقوله رحمه الله تعالى: على وادي العقيق سكبت دمعي ... بلا عين فيبدو كالعقيق فكم غصن وريق منه يحكي ... قوام رشا شهيّ فم وريق وقال: سألتك بالله يا من غدا ... يصرّف بالقلب أفعاله تدارك محبّاً بدرياق وصل ... فإنّ عبادك أفعى له وقال: لا تأمننه على القلو ... ب فمنه أصل غرامها فلحاظه هنّ التي ... رمت الورى بسهامها ومن فوائده رحمه الله تعالى في شرح البديعية ما نصّه: ومن غريب ما في

لدى أن أبا علي حكى في تذكرته عن المفضّل أنها أتت بمعنى هل وأنشد: لدى من شبابٍ يسترى بمشيب ... وكيف شباب المرء بعد ذهاب (1) رجع - وقال رحمه الله تعالى يتشوّق إلى حمراء غرناطة: ذابت على الحمراء حمر مدامعي ... والقلب فيما بين ذلك ذائب طال المدى بي عنهم ولربما ... قد عاد من بعد الإطالة غائب وقال: ما هبّ من نحو السّبيكة بارقٌ ... إلاّ غدا شوشقي لقلبي شابكا والله ما اخترت الفراق لربعها ... لكن قضاء الله أوجب ذلكا وقال: منازل سلمى إن خلت فلطالما ... بها عمرت في القلب مني منازل رسائل شوقي كلّ يوم تزورها ... وما ضيّعت عند الكرام الرسائل (2) وقال: بجور الوداع لنا موقف ... أذاب الفؤاد لأجل الوداع فما أنا أنسى غداة النوى ... وحادي الركائب للبين داعي قال: وجور الوداع موضع بظاهر غرناطة، عادة من سافر أن يودّع هناك. وقال: ناولته وردة فاحمرّ من خجلٍ ... وقال: وجهي يغنيني عن الزّهر

_ (1) ق: ذهيب. (2) ق: الوسائل.

الخدّ ورد، وعيني نرجس، وعلى ... خدّي عذار كريحانٍ على نهر وقال رحمه الله تعالى في التشريع: يا راحلاً يبغي زيارة طيبة ... نلت المنى بزيارة الأخيار حيّ العقيق إذا وصلت وصف لنا ... وادي منىبأطايب الأخبار وإذا وقفت لدى المعرّف داعياً ... زال العناوظفرت بالأوطار وقال: يا أولاً في المرسلين وآخراً ... الله خصّك بالكمال ليرضيك من قبل آدم قد جعلت نبيّه ... قدماً فقدّمك الإله ليعليك أوحى إليك لكي تكون حبيبه ... ويتمّ نعمته عليك ويهديك وقال: صيرتني في هواك اليوم مشتهراً ... لا قيس ليلى ولا غيلان في الأوّل زعمت أنّ غرامي فيك مكتسبٌ ... لا والذي خلق الإنسان من عجل وقال: لا تعاد الناس في أوطانهم ... قلّما يرعى غريب الوطن وإذا ما شئت عيشاً بينهم ... خالق الناس بخلق حسن وقال: نسختي اليوم في المحبّة أصل ... فعليها اعتماد كلّ عميد نقلوا مرسل المدامع منها ... وصحيح الهوى بغير مزيد قد رواها قبلي جميل وقيس ... حين هاما بكلّ لحظ وجيد

ومن فوائده: أنّه لما أنشد في طراز اعلحلة قول سعد الدين محمد بن عربي في ابن مالك: إنّ الإمام جمال الدين فضّله ... إلى آخره قال ما ملخصه: ولما أورده الصفدي في فض الختام قال: هذا في غاية الحسن لو كان الكتاب المذكور يسمى الفوائد وإنّما هو تسهيل الفوائد فذكر المضاف إليه دون المضاف، وهي تورية ناقصة، قلت: ابن مالك له كتابان: أحدهما الفوائد صنعه أولاً ثم صنع تسهيل الفوائد بعده، وكأنّه سهّل فيه كتاب الفوائد، وكنت وقفت على هذا الكتاب المسمّى بالفوائد ببلدنا غرناطة، فلمّا وصلنا إلى هذه البلاد بحثنا عنه فلم نجده، وتمادى الأمر على ذلك إلى سنة 760، فوجدناه في حلب، وهو الآن عندنا، وهو عزيز الوجود، ولذلك خفي على القاضي صلاح الدين؛ انتهى وبعضه بالمعنى. وقال أبو جعفر أحمد المترجم به: كتبت إلى صاحبنا الشيخ بدر الدين خليل الناسخ: مددت النوى وقصرت اللّقا ... أرتضى بهبذا وأ، ت الخليل وتترك أحمد ذا وحشة ... لديك وأنت له ابن جليل وقال: قد كان لي أنسٌ بطيب حديثكم ... والآن صار حديثكم برسول ولقد مددت من النوى مقصوره ... إنّ الخليل يراه غير جميل وله رحمه الله تعالى: ما للنوى مدّت وأنت خليلنا ... ولقبل قد قصرت برغم الكاشح أتبعت في ذا مذهباً لا يرتضى ... أبداً وليس الرأي فيه بصالح

وله: ولمّا رأى الحساد منك التفاتة ... إلى جانب اللهو الذي كان مرفوضا أضافوا إلى علياك كلّ نقيصة ... حقيق لدينا بالإضافة مخفوضا وله: حسنك ما بين الورى شائع ... قد عرّف الآن بلام العذار فجاء منه متبداً للهوى ... خبره الآس مع الجلّنار ولنقتصر على هذا المقدار إلى هنا. رجع إلى أولاد لسان الدين رحمهم الله تعالى: وقد قدمنا أن علي بن لسان الدين كان نديم السلطان وخاصّته، كما ذكرنا في مخاطبته لابن مرزوق في الباب الخامس قوله: فالسلطان يرعاه الله تعالى يوجب ما فوق مزية التعظيم، والولد هداهم الله تعالى قد أخذوا بحظ قلّ أن ينالوه بغير هذا الإقليم، والخاصة والعامة تعامل بحسب ما بلته من نصح سليم وترك لما بالأيدي وتسليم، وتدبير عاد على عدوّها بالعذاب الأليم، إلا من أبدى السلامة وهو من إبطان الحسد بحال السليم؛ انتهى. ولقد صدق رحمه الله تعالى فيما ذكره من النصح وغيره. ومن نصائحه رحمه الله تعالى ما كتب به على لسان السلطان، ونصّه: من عبد الله أمير المسلمين محمد وصل الله تعالى سعده، وبلّغه من فضله العميم قصده، إلى أوليائنا المخصوصين منّا ومن سلفنا بذمام الجوار القريب، والمساكنة التي لا يتطرق إلى حقّها الذي بني استرابة المستريب، المعتمدين إذا عدّت الرعايا، وذكرت المزايا، بمزيد الاعتناء والتقريب، من الأشياخ الجلّة الشرفاء والعلماء، والصّدور الفقهاء، والعدول الأذكياء، والأعيان

الوزراء، والحماة المدافعين عن الأرجاء، والأمناء الثّقات الأتقياء، والكافة الذين نصل إيهم عوائد الاعتناء، ونسير فيهم بإعانة الله تعالى على السبيل السّواء، من أهل حضرتنا غرناطة المرحوسة بفضل الله تعالى وربضها، شرح الله تعالى لقبول الحكمة والموعظة الحسنة صدورهم، وكنف بنتائج الاستقامة سرورهم، وأصلح بعنايته أمورهم، واستعمل فيما يرضيهم أميرهم ومأمورهم: سلام كريم عليكم أجمعين ورحمة الله تعالى وبركاته. أمّا بعد حمد الله الذي إذا رضي عن قوم جعل لهم التوقى لباساً، والذكرى لبناء المتاب أساساً، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله الذي هدانا إلى الفوز العظيم ابتغاء لرحمته والتماساً، والرضى عن آله الذين اختارهم له ناساً، وجعلهم مصابيح من بعده اقتداء واقتباساً، فإنّا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى إعزازكم وحرس أحوازكم؛ وجعل للعمل الصالح اهتزازكم؛ وبقبول النصائح امتيازكم - من مستقرنا بمحروسة الحمراء، حماها الله سبحانه، ولا متعرف بفضل الله تعالى إلا هداية تظهر على الأقوال والأعمال، وعناية تحفّ من اليمين والشمال، وتوكّل على الله يتكفل لنا ببلوغ الآمال، وأنتم أولياؤنا الذين لا ندّخر عنهم نصحاً، ولا نهمل في تدبيرهم ما يثمر نجحاً، وبحسب هذا الاعتقاد لا نغفل عن نصيحة ترشدكم إذا غفلتم، وموعظة نقصّها عليكم إذا اجتمعتم في بيوت الله واختلفتم، وذب عنكم تارة بسلم نعقدها، ومطاولة نسدّدها، وتارة بسيوف في سبيل الله تعالى نحدّدها، وعمارة للشهادة نرددها، ونفوس بوعد الله نعدها، ونرضى بالسهر لتنام أجفانكم، وبالكدّ لتّتّدع صبيانكم وولدانكم، وباقتحام المخاوف ليتّصل أمانكم، ولو استطعنا أن نجعل عليكم وقاية كوقاية الوليد لجعلنا، أو أمكننا أن لا تفضلكم رعية بصلاح دين أو دنيا لفعلنا، هذا شغل زماننا منذ عرفناه، ومرمى همّنا مهما استهدفناه، وقد استرعانا الله تعالى جماعتكم، وملاّنا طاعتكم، وحرّم علينا إضاعتكم

والراعي إذا لم يقصد بسائمته المراعي الطيبة، وينتجع مساقط الغمائم الصيّبة، ويوردها الماء النمير، ويبتغ لها النماء والتثمير، ويصلح خللها، ويداو عللها، قلّ عددها، وعدمت غلّتها وولدها، فندم على ما ضيعه في أمسه، وجنى عليها وعلى نفسه. وألفيناكم في أيامنا هذه الميامن عليكم قد غمرتكم آلاء الله تعالى ونعمه، وملأت أيديكم مواهبه وقسمه، وشغل عدوّكم بفتنة قومه فنمتم للعافية فوق مهاد، وبعد عهدكم بما تقدم من جهد وجهاد، ومخمصة وسهاد، فأشفقنا أن يجركم توالي الرخاء إلى البطر، أو تحملكم العافية على الغفلة عن الله تعالى وهي أخطر الخطر، أو تجهلوا مواقع فضله تعالى وكرمه، أو تستعينوا على معصيته بنعمه، فمن عرف الله تعالى في الرخاء وجده في الشّدّة، ومن استعد في المهل وجد منفعة العدّة، والعاقل من لا يغتر في الحرب أو السلم بطلو المدة، فالدهر مبلي الجدّة، ومستوعب العدّة، والمسلمون إخوانكم اليوم قد شغلوا بأنفسهم عن جبركم، وسلموا لله في نصركم، ونشبت الأيدي ولا حول ولا قوّة إلا بالله بثغركم، وأهمتهم فتن تركت رسوم الجهاد خالية خاوية، ورياض الكتائب الخضر ذابةل ذاوية، فإن لم تشمّروا لما بين أيديكم في هذه البرهة فماذا تنتظرون وإذا لم تستنصروا بالله مولاكم فبمن تستنصرون وإذا لم تستعدّوا في المهل فمتى تستعدون لقد خسر من رضي في الدنيا والآخرة بالدون، فلا تأمنوا مكر الله " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " الأعراف: 99. ومن المنقول عن الملل، والمشهور في الأواخر والأول، أن المعصية إذا فشت في قوم أحاط بهم سوء كسبهم، وأظلم ما بينهم وبين ربهم، وانقطعت عنهم الرحمات، ووقعت فيهم المثلات والنقمات، وشحّت السماء، وغيض الماء، واستولت الأعداء، وانتشر الداء، وجفّت الضّروع، وأخلفت الرضوع.

فوجب علينا أن نستميلكم بالموعظة الحسنة، والذكرى التي توقظ من السّنة، ونقرع آذانكم بقوارع الألسنة، فأفزعوا الشيطان بوعيها، وتقربوا إلى الله تعالى برعيها، الصلاة الصلاة فلا تهملوها، ووظائفها المعروفة فكملوها، فهي الركن الوثيق، والعلم الماثل على جادة الطريق، والخاصة التي يتميز بها هذا الفريق، وبادروا صفوفها الماثلة، وأتبعوا فريضتها النافلة، وأشرعوا إلى تاركها أسنّة الإنكار، واغتنموا بها نواشىء الليل وبوادي الأسحار، والزكاة أختها المنسوبة، ولدتها المكتوبة المحسوبة، فمن منعها فقد بخل على مولاه، باليسير ممّا أولاه، وما أحقّه بذهاب هبة الوهاب وأولاه؛ فاشتروا من الله تعالى كرائم أموالكم بالصّدقات، وأنفقوا في سبيله بربحكم أضعاف النفقات، ووسوا سؤالكم كلّما نصبت الموائد، وأعيدت للترفّه العوائد، وارعوا حق الجوار، وخذوا على أيدي الدّعرة والفجّار، وأخرجوا الشّنآن من الصدور، واجعلوا صلة الأرحام من عزم الأمور، وصونوا عن الاغتياب أفواهكم، ولا تعوّدوا السفاهة شفاهكم، وأقرضوا القرض الحسن إلهكم، وعلموا القرآن صبيانكم، فهو أسّ المبنى، وازرعوه في تراب ترائبهم فعسى أن يجنى، ولا تتركوا النصيحة لمن استنصح، وردوا السلام على من بتحية الإسلام أفصح، وجاهدوا أهواءكم فهي أولى ما جاهدتم، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، وثابروا على حلق العلم والتعلّم، وحفوا بمراقي التكلّم، وتعلّموا من دينكم ما لا يسعكم عند الله تعالى جهله، ويتبين أنّكم أهله، فمن القبيح أن يقوم أحدكم على وقاية برّه وشعيره، ورعاية شاته وبعيره، ولا يقوم على شيء يخلص به قاعدة اعتقاده، ويعدّه منجاة ليوم معاده، والله عزّ وجل يقول ولقوله يرحل المنتجعون " أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً وأنّكم إلينا لا ترجعون " المؤمنون: 115. وائنفوا من الحوادي الشنيعة، والبدع التي تفتّ في عضد الشريعة، فقد شنّ علينا الملبّسة بأهل التصوّف المغار، ونال حملتها بل جملتها بإغماضهم

الصغار، وتؤوّل المعاد والجنّة والنار، وإذا لم يغر الرجل على دينه ودين أبيه فعلى من يغار، فالأنبياء الكرام وورثتهم العلماء، هم أئمة الاقتداء، والكواكب التي عيّنها الحق للاهتداء، فاحذروا معاطب هذا الداء، ودسائس هذه الأعداء. وأهم ما صرفتم إليه الوجوه، واستدفعتم به المكروه، العمل بأمره جل وعلا في الآية المتلوّة، والحكمة السافرة المجلوّة، من ارتباط الخيل وإعداد القوّة، فمن كان ذا سعة في رزقه، فليقم لله بما استطاع من حقّه، وليتخد فرساً يعمر محلّته بصهيله، ويقتنه من أجل الله وفي سبيله، فكم يتحمل من عيال يلتمس مرضاتهن باتخاذ الزينة، والتنافس في ترف المدينة، ومؤونة الارتباط أقل، وعلى الهمّة والدين أدل، إلى ما فيه من حماية الحوزة، وإظهار العزة، ومن لم يحسن الرمي فليتدرب، وباتخاذ السلاح إلى الله فليتقرب، وقبل الرمي تراش السّهام، وعلى العباد الاجتهاد وعلى الله التمام. والسكّة الجارية في حوادث نواديكم، وأثمان العروض التي بأيديكم، من تحيّف حروفها، ونكّر معروفها، أو سامح في قبول زيف، أو مبخوس حيف، فقد اتّبع هواه، وخان نفسه وسواه، قال الله عزّ وجل " أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تبخسوا النّاس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين " الشعراء: 181 ولتعلموا أن نبيّكم صلوات الله عليه إنّما بعثه الله مجاهداً وبالحق قاضياً، وعن الهفوات حليماً متغاضياً، فتمسّكوا بحبله، ولا تعدلوا عن سبله، يروكم الله تعالى من سجله، ويراعكم من أجله، مراعاة الرجل لنجله، فهو الذي يقول " وما كان الله ليعذّبهم وأ، ت فيهم، وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون " الأنفال: 33 وإن كان في وطنكم اليوم سعة، وقد ألحفكم أمن من الله تعالى ودعة، فاحسبوا أنّكم في بلد محصور، وبين لحيي أسد هصور، اكتنفكم

بحر يعبّ عبابه، ودار بكم سور بيد عدوّكم بابه، ولا يدرى متى ينتهي السّلم، وينشعب الكلم، فإن لم تكونوا بناء مرصوصاً، وتستشعروا الصبر عموماً وخصوصاً، أصبح الجناح مقصوصاً، والرأي قد سلبته الحيرة، والمال والحريم قد سلبت فيه الضنانة والغيرة، وإن شاء الله تهبّ ريح الحميّة، ونصرة النفوس على الخيالات الوهمية، فإن العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين، والله متم نوره على رغم الجاحدين وكره الكافرين " وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصّابرين " البقرة: 249. واعتقدوا أن الله تعالى لم يجعل الظهور مقروناً بعدد كثير، ولو مثل جراد مزرعة أثارها مثير، بل بإخلاص لا يبقي لغير الله افتقاراً، ونفوس توسع ما سوى الحق اقتداراً، ووعد يصدق، وبصائر أبصارها إلى مثابة الجزاء تحدق، وهذا الدين ظهر مع الغربة، وشظف التربة، فلم ترعه الأكاسرة وفيولها، والقياصرة وخيولها، دين حنيف، وعلم منيف، من وجوه شطر المسجد الحرام تولى، وآيات على سبعة أحرف تتلى، وزكاة من الصميم تنتقى، ومعارج ترتقى، وحج وجهاد، ومواسم وأعياد، ليس إلا تكبير شهير، وأذان جهير، وقوّة تعد، وثغور تسد، وفيء يقسم، وفخر يرسم، ونصيحة تهدىة، وأمانة تؤدى، وصدقة تخفى وتبدى، وصدور تشرح وتشفى، وخلق على خلق القرآن تحذى وتقفى، قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهذا العقلد قد سجّل، والوعد به قد عجّل " اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي؛ ورضيت لكم الإسلام ديناً " المائدة: 3 ولا ينقطع لهذا الفرع عادة وصله، ما دام شبيهاً بأصله، وإنّما هو حلبٌ لكم زبدته الممخوضة، وخلاصته الممحوضة، والعاقبة للمتقين " ولتعلمنّ نبأة بعد حين " ص: 88. وحضرتكم اليوم قاعدة الدين، وغاب المجاهدين، وقد اخترعت بنا أيامنا هذه وأيام والدنا المقدس الآثار الكبار، والحسنات التي تنوقلت بها الأخبار

وأغفلت إلى زمنكم الحسنة المذخورة، والمنقبة المبرورة، وهي بيمارستان يقيم منكم المرضى المطّرحين، والضعفاء المغتربين منهم والمعترضين في كلّ حين، فأنتم تطرونهم بالأقدام، على مرّ الأيّام، ينظرون إليكم بالعيون الكليلة، ويعربون عن الأحوال الذليلة، وضرورتهم غير خافية، وما أنتم بأولى منهم بالعافية، والمجانين تكثر منهم الوقائع، وتفشو منهم إماتة العهد الذائع، عار تحظه الشرائع، وفي مثله تسدّ الذرائع. وقد فضلتم أهل مصر وبغداد، بالرباط الدائم والجهاد، فلا أقل من المساواة في معنى، والمنافسة في مبنى، يذهب عنكم لؤم الجوار، ويزيل عن وجوهكم سمات العار، ويدل على همتكم، وفضل شيمتكم، أهل الأقطار، وكم نفقة هانت على الرجل في مشروع، وحرص اعتراه على ممنوع، فأسرعوا فالنظر في هذا المهم خير مشروع، ولولا اهتمامنا بمرتزقة ديوانكم، وإعدادنا مال الجباية للمجاهدين من إخوانكم، لسبقناكم إلى هذه الزّلفة، وقمنا في هبذا العمل الصالح بتحمّل الكلفة، ومع ذلك فإذا قدناكم إلى الجنّة ببنائه، وأسهمناكم في فريضة أجره وثنائه، فنحن إن شاء الله تعالى نعيّن له الأوقاف التي تجري عنها المرفقة، وتتصل عليه بها الصدقة، تأصيلاً لفخركم، وإطابة في البلاد لذكركم، فليشاور أحدكم همّته ودينه، ويستخدم يساره في طاعة القصد الكريم ويمينه، ونسأل الله تعالى أن يوفّق كلاًّ لهذا القصد ويعينه، ومن وراء هذه النصائح عزم ينهيها إلى غايتها، ويجبر الكافة على اتباع رأيها ورايتها، فأعملوا الأفكار فيما تضمنته من الفصول، وتلقّوا داعي الله تعالى فيها بالقبول، والدنيا مزرعة الآخرة، وكم معتبر للنفوس الساخرة، بالعظام الناخرة " يا أيّها النّاس إنّ وعد الله حقّ فلا تغرّنّكم الحياة الدّنيا، ولا يغرّنّكم بالله الغرور " فاطر: 5 وأنتم اليوم أحقّ النّاس بقبول الموعظة نفوساً زكية، وفهوماً لا قاصرة ولا بطيّة، وموطن جهاد، ومستسقى غمام

من رحمة الله تعالى وعهاد، وبقايا السلف بالأرض التي فتحوا فيها هذا الوطن، وألقوا فيها العطن، فإلى أين يذهب حسن الظن بأديانكم، وصحّة إيمانكم، وتساوي إسراركم وإعلانكم اللهمّ إنّا قد خرجنا لك فيهم عن العهدة المتحمّلة، وبلّغناهم نصيحتك المكملة، ووعدناهم مع الامتثال رحمتك المؤملة، فيسّرنا وإياهم لليسرى، وعرّفنا لطائفك التي خفي فيها المسرى، ولا تجعلنا ممّن صمّ عن النداء، وأصبح شماتة الأعداء، فما ذلّ من استنصر بجنابك، ولا ضل من استبصر بسنّتك وكتابك، ولا انقطع من توسّل بأسبابك، والله سبحانه يصل لكم عوائد الصنع الجميل، ويحملكم وإيانا من التوفيق على أوضح سبيل، ويصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله تعالى وبركاته. انتهى. ومن ذلك قوله رحمه الله تعالى على لسان السلطان بعد كلام: الله الله في الهمم فقد خمدت ريحها، والله الله في العقائد فقد خفيت مصابيحها، والله الله في الرجولية فقد فلّ حدّها، والله الله في الغيرة فقد تعسّر جدّها، والله الله في الدين فقد طمع الكفر في تحويله، والله الله في الحريم فقد مدّ إلى استرقاقه يد تأميله، والله الله في الملّة التي يريد إطفاء سناها، وقد كمل فضلها وتناهى، والله الله في الحريم، والله الله في الدين الكريم، والله الله في القرآن، والله الله في الجيران، والله الله في الطارف والتالد، والله الله في الوطن الذي توارثه الولد عن الوالد، اليوم تستأسد النفوس المهينة، اليوم يستنصر الصبر والسكينة، اليوم ترعى لهذه المساجد الكرام الّمم، اليوم يسلك سبيل العزم والحزم والشدّة والشّمم (1) ، اليوم يرجع إلى الله المصرّون، اليوم يفيق من نوم الغفلة المغترّون، قبل أن يتفاقم الهول، ويحق القول، ويسد الباب، ويحيق

_ (1) اليوم ... الشمم: سقطت من ق.

العذاب، ويسترق الكفر الرقاب، فالنساء تقي بأنفسهن أولادهن الصغار، والطيور ترفرف لتحمي الأوكار، إذا أحست العيث (1) بأفراخها والإضرار، تمر الأيام عليكم مرّ السحاب، وذهاب اللّيالي لكم ذهاب، فلا خبر يفضي إلى العين، ولا حديث في الله تعالى يسمع بين اثنين، ولا كد إلا لزينة يحلّى بها نحر وجيد، ولا سعي إلا لمتاع لا يغني في الشدائد ولا يفيد، وبالأمس ندبتم إلى التماس رحمى مسخّر السحاب، واستقالة كاشف العذاب، وسؤال مرسل الديمة، ومحيي البشر والبهيمة، وقد أمسكت عليكم رحمة السماء، واغبرّت جوانبكم المخضرة احتياجاً إلى بلالة الماء " وفي السّماء رزقكم وما توعدون " الذاريات: 22 وإليها الأكف تمدون، وأبوابها بالدعاء تقصدون، فلم يصحر منكم عدد معتبر، ولا ظهر للإنابة ولا الصّدقة خبر، وتثوقل عن إعادة الرغبة إلى الولي الحميد، والغني الذي " إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد " إبراهيم: 19 وايم الله لو كان لهواً لارتقبت الساعات، وضاقت المتسعات، وتزاحمت على أنديته الجماعات. أتعززاًعلى الله وهو القوي العزيز أتلبيساً على الله وهو الذي يميز الخبيث من الطيب والشّبه من الإبريز أمعاندة والنواصي في يديه أغروراً بالأمل والرجوع بعد إليه من يبدأ الخلق ثم يعيده من ينزل الرزق ويفيده من يرجع إليه في الملمات من يرجّى في الشدائد والأزمات من يوجد في المحيا والممات أفي الله شك يختلج القلوب أثمّ غير الله يدفع المكروه وييسّر المطلوب تفضلون على اللجإ إليه (2) عوائد الفضل، ونزه الجهل، وطائفة منكم قد برزت إلى استسقاء رحمته تمد إليه الأيدي والرقاب، وتستكشف بالخضوع لعظمته العقاب، وتستعجل إلى مواعيد إجابته الارتقاب، وكأنّكم عن كرمه

_ (1) ق: العياث. (2) ق: الجالية.

قد استغنيتم، أو على الامتناع من الرجوع إليه ينيتم. أما تعلمون كيف كان نبيّكم صلوات الله عليه من التبلّغ (1) باليسير، والاستعداد للرحيل إلى دار الحق والمسير، ومداومة الجوع، وهجر الهجوع، والعمل على الإياب إلى الله تعالى والرجوع: دخلت فاطمة رض الله تعالى عنها وبيدها كسرة شعير فقال: ما هذا يا فاطمة فقالت: يا رسول الله خبزت قرصة وأحببت أن تأكل منها، فقال: يا فاطمة أما إنّه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث. وكان صلى الله عليه وسلّم يستغفر في اليوم سبعين مرّة يلتمس رحماه، ويقوم وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر حتى ورمت قدماه، وكان شأنه الجهاد، ودأبه الجد والاجتهاد، ومواقف صبره تعرفها الرّبى والوهاد، ومقامات رفقه تحوم على مراتبها الزهاد، فإذا لم تقتدوا به فبمن تقتدون وإذا لم تهتدوا به فبمن تهتدون وإذا لم ترضوه باتباعكم فكيف تعتزون إليه وتنتسبون وإذا لم ترغبوا في الاتصاف بصفاته غضباً لله تعالى وجهاداً، وتقللاً من العرض الأدنى وسهاداً، ففيم ترغبون فابتروا حبال الآمال فكل آت قريب، واعتبروا بمثلات من تقدّم من أهل البلاد والقواعد فذهولكم عنها غريب، وتفكروا في منابرها التي يعلو عليها واعظ وخطيب، ومطيل ومطيب، ومساجدها المتعددة الصفوف والجماعة، المعمورة بأنواع الطاعة، وكيف أخذ الله تعالى فيها بذنب المترفين من دونهم، وعاقب الجمهور بما أغضوا عنه عيونهم، وساءت بالغفلة عن الله تعالى عقبى جميعهم، وذهبت النقمات بعاصيهم ومن داهن في أمره من مطيعهم، وأصبحت مساجدهم مناصب للصلبان، واستبدلت مآذنهم بالنواقيس من الأذان، هذا والناس ناس والزمان زمان. فما هذه الغفلة عمن إليه الرجعى وإليه المصير وإلى متى التساهل في حقوقه

_ (1) ق: التبليغ.

وهو السميع البصير وحتى متى مد الأمل في الزمن القصير وإلى متى نسيان اللجإ إلى الولي النصير قد تداعت الصلبان مجلبة (1) عليكم، وتحركت الطواغيت من كل جهة إليكم، أفيخلكم الشيطان وكتاب الله قائم فيكم وألسنة الآيات تناديكم، لم تمتح سطورها، ولا احتجب نورها، وأنتم بقايا من فتحها من عدد قليل، وصابر فيها كل خطب جليل، فوالله لو تمحض الإيمان، ورضي الرحمن، ما ظهر التثليث في هذه الجزيرة على التوحيد، ولا عدم الإسلام فيها عادة التأييد، لكن شمل الداء، وصم النداء، وعميت الأبصار فكيف الاهتداء والباب مفتوح، والفضل ممنوح، فتعالوا نستغفر الله جميعاً فهو الغفور الرحيم، ونستقل مقيل العثار فهو الرؤوف الحليم، ونصرف الوجوه إلى الاعتراف بما قدمت أيدينا فقبول المعاذير من شأن الكريم، سدت الأبواب، وضعفت الأسباب، وانقطعت الآمال إلا منك يا فتّاح يا وهّاب " يا أيّها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم، ويثبّت أقدامكم " محمد: 7 " يا أيّها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفّار وليجدوا فيكم غلظةً والعموا أنّ الله مع المتّقين، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " آل عمران: 139 " يا أيّها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا الله لعلّكم تفلحون " آل عمران: 200 أعدوا الخيل وارتبطوها، وروضوا النفوس على الشهادة وغبطوها، فمن خاف الموت رضي بالدنية، ولا بد على كلّ حال من المنيّة، والحياة مع الذلّ ليست من شيم النفوس السنية، واقتنوا السلاح والعدة، وتعرفوا إلى الله تعالى في الرخاء يعرفكم في الشدّة، واستشعروا القوة بالله تعالى على أعدائه وأعدائكم، واستميتوا من دون أبنائكم، وكونوا كالبناء المرصوص لحملات هذا العدو النازل بفنائكم، وحوطوا بالتعويل على الله تعالى وحده بلادكم، واشتروا من الله جل جلاله أولادكم. ذكروا أن امرأة

_ (1) ق: مجابة؛ التجارية: متراكمة.

احتمل السبع ولدها وشكت إلى بعض الصالحين، فأشار عليها بالصدقة، فتصدقت برغيف، فأطلق السبع ولدها، وسمعت النداء: يا هذه لقمة بلقمة، وإنا لما استودعناه لحافظون. واهجروا الشهوات، واستدركوا البقية من بعد الفوات، وأفضلوا لمساكينكم من الأقوات، واخشعوا لما أنزل الله تعالى من الآيات، وخذوا نفوسكم بالصبر على الأزمات، والمواساة في المهمات، وأيقظوا جفونكم من السّنات، واعلموا أنّكم رضعاء ثدي كلمة التوحيد، وجيران البلد الغريب والدين الوحيد، وحزب التمحيص، ونفر المرام العويص، فتفقدوا معاملاتكم مع الله تعالى، ومهما رأيتم الصدق غالباً، والقلب للمولى الكريم مراقباً، وشهاب اليقين ثاقباً، فثقوا بعناية الله التي لا يعلبكم معها غالب، ولا ينالكم لأجلها عدو مطالب، فإنكم في الستر الكثيف، وكنف (1) الخبير اللّطيف، ومهما رأيتم الخواطر متبدّدة، والظنون في الله مترددة، والجهات التي تخاف وترجى متعددة، والغفلة عن الله ملامسها متجددة، وعادة دواعي الخذلان دائمة، وأسواق الشهوات قائمة، فاعلموا أن الله تعالى منفذ فيكم وعده ووعيده في الأمم الغافلين، وأنّكم قد ظلمتم أنفسكم ولا عدوان إلاّ على الظالمين، والتوبة تردّ الشادر (2) إلى الله تعالى والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وهو القائل " إنّ الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين " هود: 114. وما أقرب صلاح الأحوال مع الله تعالى إذا صحّت العزائم، وتوالت على حزب الشيطان الهزائم، وخملت الدنيا لاغريبة في العيون، وصدقت فيها عند الله الظنون " يا أيّها النّاس إنّ وعد الله حقّ فلا تغرّنّكم الحياة الدنيا ولا يغرّنّكم بالله الغرور " فاطر: 5 وثوبوا سراعاً إلى طهارة الثوب، وإزالة

_ (1) ق: وعظة. (2) ق: السارح.

الشّوب، واقصدوا أبواب غافر الذنب وقابل التوب، واعلموا أن سوء الأدب مع الله تعالى يفتح أبواب الشدائد، ويسد طرق العوائد، فلا تمطلوا بالتوبة أزمانكم، ولا تأمنوا مكر الله فتغشوا إيمانكم، ولا تعلقوا متابكم بالضّرائر، فهو علاّم السرائر، وإنما علينا أن ننصحكم وإن كنّا أولى بالنصيحة، ونعتمدكم بالموعظة الصريحة، الصادرة - علم الله تعالى - عن صدق القريحة، وإن شاركناكم في الغفلة فقد سبقناكم إلى الاسترجاع والاستغفار، وإنّما لكم لدينا نفس مبذولة في جهاد الكفار، وتقدم قبلكم إلى مواقف الصبر التي لا ترضى بالفرار، واجتهاد فيما يعود بالحسنى وعقبى الدار، والاختيار لله ولي الاختيار، ومصرّف الأقدار، وها نحن نسرع في الخروج إلى مدافعة هذا العدو ونفدي بنفوسنا البلاد والعباد، والحريم المستضعف والأولاد، ونصلى من دونهم نار الجلاد، ونستوهب منكم الدعاء لمن وعد بإجابته، فإنّه يقبل من صرف إليه وجه إنابته، اللهم كن لنا في هذا الاهتمام نصيراً، وعلى أعدائك ظهيراً، ومن انتقام عبدة الأوثان كفيلاً، اللهم قوّ من ضعفت حيلته فأنت القوي المعين، وانصر من لا نصير له إلاّ أنت فإيّاك نعبد وإيّاك نستعين، اللهم ثبّت أقدامنا وانصرنا عند تزلزل الأقدام، ولا تسلمنا عند لقاء عدو الإسلام، فقد ألقينا إليك يد الاستسلام، اللهم دافع بملائكتك المسوّمين، اللهم اجعلنا على تيقّظ وتذكر من " قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتّبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم " آل عمران: 173. وقد وردت علينا المخاطبات من إخواننا المسلمين الذين عرفنا في القديم والحديث اجتهادهم، وشكرنا في ذات الله تعالى جهادهم، بني مرين أولي الامتعاض لله تعالى والحميّة، والمخصوصين بين القبائل الكريمة بهذه المزية، بعزمهم على الامتعاض لحقّ الجوار، والمصارخة التي تليق بالأحرار، والنفرة

لانهتاك ذمار نبيّهم المختار، وحركة سلطانهم بتلك الأقطار والأمصار، ومدافعة أحزاب الشيطان وأهل النار، فاسألوا الله تعالى إعانتهم على هذا المقصد الكريم الآثار، والسعي الضمين للعزّ والأجر والفخار، والسلام الكريم يخصّكم أيها الأولياء ورحمة الله وبركاته؛ انتهى. وممّا كتبه ابن لسان الدين رحمه الله تعالى على لسان سلطانه الغني بالله تعالى والنظر إليهم بعين الشفقة ما صورته: هذا كتاب كريم أصدرناه بتوفيق الله تعالى شارحاً للصدور، مصلحاً بإعانة الله تعالى للأمور، ملحفاً العدل (1) والإحسان الخاصة والجمهور، يعلم من يسمعه أو يقف عليه، ومن يقرؤه ويتدبر (2) ما لديه، ما عاهدنا الله تعالى عليه من تأمين النفوس وحقن الدماء، والسير في التجافي عنها على السّنن السّواء، ورفع التناوب عن البعيد منها والقريب، والمساواة (3) في العفو والغفران بين البريء منها والمريب، وحمل من ينظر بعين العداوة في باطن الأمر محمل الحبيب، وترك ما يتوجّه بأمر المطالبات، ورفض التبعات، ممّا لا يعارض حكماً شرعياً، ولا يناقض سنناً في الدين مرعيّاً، فمن كان رهن تبعة أو طريد تهمه، أو منبوزاً (4) في الطاعة بريبة توجب أن نريق دمه (5) ، فقد سحبنا عليه ظلال الأمان وألحفناه أثواب العفو والغفران، ووعدناه من نفسنا مواعد الرفق والإحسان، حكماً عامّاً، وعفواً تامّاً، فاشياً في جميع الطبقات، منسحباً على الأصناف المختلفات، عاملنا في ذلك من يتقبل الأعمال، ولا يضيع السؤال، واستغفرنا عن نفسنا وعمن أخطأ علينا من رعيتنا ممن يدرأ الشرع غلطته،

_ (1) ق: ملحفاً جناح الله للعدل. (2) ق: ويبدي. (3) ق: والمساواة منها. (4) ق: منبزاً. (5) توجب ... دمه: سقطت من ق.

ويقبل الحق فيأته " ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً " النساء: 110 لما رأينا من وجوب اتفاق الأهواء والضمائر، وخلوص القلوب والسرائر، في هذا الوطن الذي أحاط به العدو والبحر، ومسّه بتقدم الفتنة الضر، وصلة لما أجراه الله تعالى على أيدينا، وهيأه بنا في نادينا، فلم يخف ما سكن بنا من نار الفتنة، ورفع من بأس وإحنة، وكشف من ظلمة، وسدل من نعمة، وأصفى من مورد عافية، وأولى من عصمة كافية، بعدما تخربت الثغور، وفسدت الأمور، واهتضم الدين، واشتد على العباد كلب الكافرين المعتدين " ذلك من فضل الله علينا وعلى النّاس " يوسف: 38 فله الحمد دائباً، والشكر واجباً، ومن الله نسأل أن يتمم نعمته علينا كما أتمها على أبوينا من قبل إن ربّك حكيم عليم. ونحن قد شرعنا في تعيين من ينوب عنّا من أهل العلم والعدالة، والدين والجلالة، للتطوّف في البلاد الأندلسية، ومباشرة الأمور بالبلاد النّصرية، ينهون إلينا ما يستطلعونه، ويبلغون من المصالح ما يتعرفونه، ويقيدون ما تحتاج إليه الثغور، وتستوجبه المصلحة الجهادية من الأمور، ونحن نستعين بفضلاء رعيتنا وخيارهم، والمراقبين الله تعالى منهم في إيرادهم وإصدارهم، على إنهاء ما يخفى عنّا من ظلامة تقع، أو حادث يبتدع، ومن اتخذت بجواره خمر فاشية، أو نشأت في جهته للمنكر ناشية، فنحن نقلده العهد، وتطوّقه القلادة، ووراء تنبيهنا على ما خفي من الشكر لمن أهداه، وإحماد سعي من أبلغه وأداه، ما نرجو ثواب الله تعالى عليه، والتقرب به إليه، فمن أهدى لنا شيئاً من ذلك فهو شريك في أجره، ومقاسم في مثوبته يوم ربح تجره، وحسبنا الله ونعم الوكيل انتهى. [وصية لسان الدين لأبنائه] وإذ أجرينا طرف القلم ملء عنانه فيما للسان الدين رحمه الله تعالى من

النصائح والمواعظ والوصايا، وما يرجع بالنفع على الخاصة وجمهور الرعايا، كلّ دون شأوه، وقصر عن أمده مديد خطوه، وقد تقدم في هذا الكتاب من ذلك جملة وافرة، فلتراجع في محالها المتكاثرة، وقد آن أن نسرد في هذا المحل الوصية التي أوصى لسان الدين رحمه الله تعالى بها أولاده، وهي وصية جامعة نافعة، يحصل بها انتعاش، لاشتمالها على ما لا بد منه في المعاد والمعاش، ونصّها (1) : الحمد لله الذي لا يروعه الحمام المرقوب، إذا شيم نجمه المثقوب، ولا يبغته الأجل المكتوب، ولا يفجؤه الفراق المعتوب، ملهم الهدى الذي تطمئن به القلوب، وموضح السبيل المطلوب، وجاعل النصيحة الصريحة في قسم الوجوب، لا سيما للولي المحبوب، والولد المنسوب، القائل في الكتاب المعجز الأسلوب " أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب " البقرة: 133 " ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب " البقرة: 132 والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله أكرم من زرّت على نوره جيوب الغيوب، وأشرف من خلعت عليه حلل المهابة والعصمة فلا تقتحمه العيون ولا تصمه العيوب، والرضى عن آله وأصحابه المثابرين على سبيل الاستقامة بالهوى المغلوب، والأمل المسلوب، والاقتداء الموصل للمرغوب، والعز والأمن من اللغوب. وبعد، فإنّي لما علاني المشيب بقمته، وقادني الكبر في رمّته (2) ، وادكرت الشباب بعد أمته (3) ، أسفت لما أضعت، وندمت بعد الفطام على ما رضعت، وتأكّد وجوب نصحي لمن لزمني رعيه، وتعلّق بعيني (4) سعيه، وأمّلت أن

_ (1) قارن نص هذه الوصية بما ورد في أزهار الرياض 1: 320. (2) ق: برمته، والتصويب عن الأزهار. (3) ق: بهمته. (4) الأزهار: بسعيي.

تتعدى إليّ ثمرة (1) استقامته وأنا رهين فوات، وفي برزخ أموات، ويأمن العثور في الطريق التي اقتضت عثاري، إن سلك - وعسى أن لا يكون ذلك - على آثاري، فقلت أخاطب الثلاثة الولد، وثمرات الخلد، بعد الضراعة إلى الله تعالى في توفيقهم، وإيضاح طريقهم، وجمع تفريقهم، وأن يمن عليّ منهم بحسن الخلف، والتلافي من قبل التلف، وأن يرزق خلفهم التمسك بهدي السلف، فهو ولي ذلك، والهادي إلى خير المسالك: اعلموا هداكم الله تعالى الذي بأنواره تهتدي الضّلاّل، وبرضاه ترفع الأغلال، وبالتماس قربه يحصل الكمال، إذا ذهب المال، وأخلفت الآمال، وتبرأت من يمينها الشمال - أنّي مودعكم وإن سالمني الردى، ومفارقكم وإن طال المدى، وما عدا ممّا بدا، فكيف وأدوات السفر تجمع، ومنادي الرحيل يسمع، ولا أقل للحبيب المودع من وصية محتضر، وعجالة مقتصر، ورتيمة (2) تعقد في خنصر، ونصيحة تكون نشيدة واع مبصر، تتكفّل لكم بحسن العواقب من بعدي، وتوضح لكم من الشفقة والحنّو قصدي، حسبما تضمّن وعد الله من قبل وعدي، فهي أربكم الذي لا يتغير وقفه، ولا ينالكم المكروه ما رفّ عليكم سقفه، وكأنّي بشبابكم قد شاخ، وبراحلكم قد أناخ، وبناشطكم قد كسل، واستبدل الصاب من العسل، ونصول الشيب تروع بأسل، لا بل السام (3) من كل حدب قد نسل، والمعاد اللحد ولا تسل، فبالأمس كنتم فراخ حجر، واليوم أبناء (4) عسكر مجر، وغداً شيوخ مضيعة وهجر، والقبور فاغرة، والنفوس عن المألوفات صاغرة، والدنيا بأهلها ساخرة، والأولى تعقبها

_ (1) الأزهار: ثمرات. (2) الرتيمة: الخيط الذي يشد في افصبع لتستذكر به الحاجة. (3) السام - بتخفيف الميم -: الموت. (4) الأزهار: آباء.

الآخرة، والحازم من لم يتّعظ به في أمر، وقال: بيدي لا بيد عمرو (1) ، فاقتنوها من وصية، ومرام في النصح قصية، وخصّوا بها أولادكم إذا عقلوا، ليجدوا زادها إذا انتقلوا، وحسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هملاً، ولكن ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، ولا رضي الدنيا منزلاً، ولا لطف بمن أصبح عن فئة الخير منعزلاً. ولتلقنوا تلقيناً، وتعلموا علماً يقيناً، أنكم لن تجدوا بعد أن أنفرد بذنبي، ويفترش التراب جنبي، ويسح انسكابي، وتهرول عن المصلّى ركابي، أحرص مني على سعادة إليكم تجلب، أو غاية كمال بسببكم ترتاد وتطلب، حتى لا يكون في الدين والدنيا أورف منكم ظلاً، ولا أشرف محلاً، ولا إبط نهلاً وعلاًّ، وأقل ما يوجب ذلك عليكم أن تصيخوا إلى قولي الآذان، وتستلمحوا صبح نصحي فقد بان، وسأعيد عليكم وصية لقمان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بنيّ لا تشرك بالله إنّ الشّرك لظلم عظيم، يا بنيّ أقم الصّلاة، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك، إنّ ذلك من عزم الأمور، ولا تصعّر خدّك للنّاس، ولا تمش في الأرض مرحاً، إنّ الله لا يحبّ كلّ مختال فخور، واقصد في مشيك، واغضض من صوتك، إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير " لقمان: 13 - 19 وأعيد وصية خليل الله وإسرائيله، حكم ما تضمنه حكم تنزيله " يا بنيّ إنّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون " البقرة: 132 والدين الذي ارتضاه واصطفاه، وأكمله ووفّاه، وقرّره مصطفاه، من قبل أن يتوفّاه، إذا أعمل فيه انتقاد، فهو عمل واعتقاد، وكلاهما مقرر، ومستمد من عقل أو نقل محرر، والعقل متقدم، وبناؤه مع رفض أخيه متهدم، فالله واحد أحد، فرد صمد، ليس له والد ولا ولد،

_ (1) قولة قالتها الزباء حين انتحرت وأيت أن تستسلم لعمرو بن عدي.

تنزه عن الزمان والمكان، وسبق وجوده وجود الأكوان، خالق الخلق وما يعملون، الذي لا يسأل عن شيء وهم يسألون، الحي العليم المدبّر القدير:ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير " (الشورى: 11) أرسل الرسل رحمة لتدعو الناس (1) إلى النجاة من الشقاء، وتوجّه الحجّة في مصيرهم إلى دار البقاء، مؤيدة بالمعجزات التي لا تتصف أنوارها بالاختفاء، ولا يجوز على تواترها دعوى الانتفاء، ثمّ ختم ديوانهم بنبي ملّتنا المرعيّة الهمل (2) ، الشاهدة على الملل، فتلخصت الطاعة، وتعيّنت (3) الإمرة المطاعة، ولم يبق بعده إلا ارتقاب الساعة، ثمّ إن الله تعالى قبضه إذ كان بشراً، وترك دينه يضم من الأمة نشراً، فمن تبعه لحق به، ومن تركه تورّط (4) عنه في منتشبه، وكانت نجاته على قدر سببه، روي عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لم تضلوا بعدي: كتاب الله، وسنّتي، فعضوا عليهما بالنواجذ " (5) . فاعملوا يا بني بوصية من ناصح جاهد، ومشفق شفقة والد، واستشعروا حبه الذي توفّرت دواعيه، وعوا مراشد هديه فيا فوز واعيه، وصلوا السبب بسببه، وآمنوا بكل ما جاء به مجملاً أو مفصّلاً (6) على حسبه، وأوجبوا التجلة لصحبه الذي اختارهم الله تعالى لصحبته، واجعلوا محبتكم إياهم من توابع محبته، واشملوهم بالتوقير، وفضلوا منهم أولي الفضل الشهير، وتبرأوا من العصبية التي لم يدعكم إليها داع، ولا تع التشاجر بينهم أذن واع، فهو عنوان

_ (1) الأزهار: العباد. (2) الأزهار: المرعية للهمل. (3) الأزهار: وتبينت. (4) ق والتجارية: نوط. (5) هو من حديث العرباض بن سارية السلمي الصحابي عن الرسول؛ وعضوا عليهما بالنواجذ أي تمسكوا بهما كما يتمسك العاض بجميع أضراسه، وروي الحديث " فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين عضوا عليها بالنواجذ " (أسد الغابة 3: 399) . (6) أو مفصلاً: سقطت من ق والأزهار.

السداد، وعلامة سلامة الاعتقاد، ثم اسحبوا فضل تعظيمهم على فقهاء الملّة، وأثمتها الجلّة، فهم صقلة نصولهم، وفروع نائشة من أصولهم، وورثتهم وورثة رسولهم. واعلموا أنّني قطعت في البحث زماني، وجعلت النظر شاني، منذ براني الله تعالى وأنشاني، مع نبل يعترف به الشاني، وإدراك يسلّمه العقل الإنساني، فلم أجد خابط ورق، ولا مصيب عرق، ولا نازع خطام، ولا متكلّف فطام، ولا مقتحم بحر طام، إلاّ وغايته التي يقصدها قد نضلتها (1) الشريعة وسبقتها، وفرعت ثنيتها وارتقتها، فعليكم بالتزام جادّتها السابلة، ومصاحبة رفقتها الكاملة (2) ، والاهتداء بأقمارها غير الآفلة، والله تعالى يقول وهو أصدق القائلين " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين " آل عمران: 85 وقد علت شرائعه، وراع الشكوك رائعه، فلا تستنزلكم الدنيا عن الدين، وابذلوا دونه النفوس فعل المهتدين، فلن ينفع متاع بعد الخلود في النار أبد الآبدين، ولا يضر مفقود مع الفوز بالسعادة والله أصدق الواعدين، ومتاع الحياة الدنيا أخس ما ورث الأولاد عن الوالدين، اللهم قد بلّغت فأنت خير الشاهدين. فاحذروا المعاطب التي توجب في الشقاء الخلود، وتستدعي شوه الوجوه ونضج الجلود، واستعيذوا برضى الله من سخطه، واربأوا بنفوسكم عن غمطه، وارفعوا آمالكم عن القنوع بغرور قد خدع أسلافكم، ولا تحمدوا على جيفة العرض الزائل ائتلافكم، واقتنعوا منه بما تيسر، ولا تأسوا على ما فات وتعذر، فإنّما هي دجنة ينسخها الصباح، وصفقة يتعاقبها (3) الخسار والرباح، ودونكم عقيدة الإيمان فشدوا بالنواجذ عليها، وكفكفوا الشبه أن تدنوا إليها.

_ (1) الأزهار وق: فضلتها؛ ونضلتها: سبقتها وبذتها في الرمي. (2) الأزهار: الكافلة. (3) الأزهار: يتعقبها.

واعلموا أن الإخلال بشيء من ذلك خرق لا يرفؤه عمل، وكل ما سوى الراعي همل، وما بعد الرأس في صلاح الجسم الميت (1) أمل، وتمسكوا بكتاب الله تعالى حفظاً وتلاوة، واجعلوا حمله على حمل التكليف علاوة، وتفكروا في آياته ومعانيه، وامتثلوا أوامره ونواهيه، ولا تتأولوه ولا تغلوا فيه، وأشربوا قلوبكم حب من أنزل على قلبه، وأكثروا من بواعث حبه، وصونوا شعائر الله صون المحترم، واحفظوا القواعد التي ينبني عليها الإسلام حتى لا ينخرم. الله الله في الصلاة ذريعة التجلة، وخاصة الملّة، وحاقنة الدم، وغنى المستأجر المستخدم، وأم العبادة، وحافظة اسم المراقبة لعالم الغيب والشهادة، والناهية عن الفحشاء والمنكر وإن (2) عرض الشيطان عرضهما، ووطّأ للنفس الأمّارة سماءهما وأرضهما، والوسيلة إلى بل الجوانح ببرود الذكر، وإيصال تحفة الله إلى مريض الفكر، وضامنة (3) حسن العشرة من الجار، وداعية للمسالمة من الفجار، والواسمة بسمة السلامة، والشاهدة للعبد (4) برفع الملامة، وغاسول الطبع إذا شانه طبع، والخير الذي كل ما سواه له تبع (5) ، فاصبروا النفس على وظائفها بين بدء وإعادة، فالخير عادة، ولا تفضلوا عليها الأشغال البدنية، وتؤثروا على العلية الدنية (6) ، فإن أوقاتها (7) المعينة بالانفلات تنبس (8) ، والفلك بها من أجلكم لا يحبس، وإذا قورنت (9) بالشواغل فلها الجاه الأصيل، والحكم الذي لا يغيره الغدو ولا الأصيل،

_ (1) الميت: سقطت من الأزهار. (2) الأزهار: مهما. (3) الأزهار: وضابطة. (4) الأزهار: للعقد. (5) الأزهار: كل خير له تبع. (6) وتؤثروا ... الدنية: سقطت من ق وأصل الأزهار. (7) ق: فأوقاتها. (8) تنبس: تسرع. (9) الأزهار: قرنت.

والوظائف بعد أدائها لا تفوت، وأين حق من يموت من حق الحي الذي لا يموت، وأحكموا أوضاعها إذا أقمتموها، وأتبعوها النوافل ما أطقتموها، فبالإتقان تفاضلت الأعمال، وبالمراعاة استحقت (1) الكمال، ولا شكر مع الإهمال، ولا ربح مع إضاعة رأس المال (2) ، وذلك أحرى بإقامة الفرض، وأدعى إلى مساعدة البعض البعض. والطهارة التي هي في تحصيلها سبب موصل، وشرط لمشروطها محصل، فاستوفوها، والأعضاء نظفوها، ومياهها بغير أوصافها الحميدة فلا تصفوها، والحجول والغرر فأطيلوها، والنيات في كل ذلك فلا تهملوها، فالبناء بأساسه، والسيف برئاسه. واعلموا أن هذه الوظيفة من صلاة وطهور، وذكر مجهور وغير مجهور، تستغرق الأوقات، وتنازع شتى الخواطر المفترقات، فلا يضبطها إلاّ من ضبط نفسه بعقال، وكان في درج الرجولية ذا انتقال، واشتقاض صدأه بصقال، وإن تراخى قهقر الباع، وسرقته الطباع، وكان لما سواها أضيع فشمل الضياع. والزكاة أختها الحبيبة، ولدتها القريبة، مفتاح السماحة بالعرض الزائل، وشكران المسئول على الضدّ من درجة السائل، وحق الله تعالى في مال من أغناه، لمن أجهده في المعاش وعنّاه، من غير استحقاق ملأ يده وأخلى يد أخيه، ولا علّة إلاّ القدر الذي يخفيه، وما لم ينله حظ الله تعالى فلا خير فيه. فاسمحوا بتفريقها للحاضر لإخراجها، في اختيار عرضها ونتاجها، واستحيوا من الله تعالى أن تبخلوا عليه ببعض ما بذل، وخالفوا الشيطان كلّما عذل، واذكروا خروجكم إلى الوجود لا تملكون، ولا تدرون أين تسلكون، فوهب وأقدر، وأورد بفضله وأصدر، ليرتب بكرمه الوسائل، أو يقيم الحجج والدلائل،

_ (1) الأزهار: استحق. (2) زاد في الأزهار: وثابروا عليها في الجماعات، وبيوت الطاعات، فهو أرفع السلام، وأظهر لشرائع الإسلام وأبر بإقامة ... الخ.

فابتغوا إليه الوسيلة بماله، واغتنموا رضاه ببعض نواله. وصيام رمضان عبادة السر المقربة إلى الله زلفى، الممحوضة لمن يعلم السر وأخفى، مؤكدة بصيام الجوارح عن الآثام، والقيام ببر القيام، والاجتهاد، وإيثار التهجد (1) على المهاد، وإن وسع الاعتكاف فهو من سنته المرعية، ولواحقه الشرعية، فبذلك تحسن الوجوه، وتحصل من الرقة على ما ترجوه، وتذهب قسوة الطباع، ويمتدّ في ميدان الوسائل الباع. والحج - مع الاستطاعة - الركن الواجب، والفرض على العين لا يحجبه الحاجب، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلّم قدره فيما فرض عن ربّه وسنّه، وقال ليس له جزاء عند الله إلاّ الجنّة. ويلحق بذلك الجهاد في سبيل الله تعالى إن كانت لكم قوّة عليه، وغنى لديه، فكونوا ممّن يسمع نفيره ويطيعه، وإن عجزتم فأعينوا من يستطيعه. هذه عمد الإسلام وفروضه، ونقود مهره وعروضه، فحافظوا عليها تعيشوا مبرورين، وعلى من يناويكم ظاهرين، وتلقوا الله لا مبدّلين ولا مغيرين، ولا تضيعوا حقوق الله فتهلكوا مع الخاسرين. واعلموا أن بالعلم تستكمل وظائف هذه الألقاب، وتجلى محاسنها من بعد الانتقاب، فعليكم بالعلم النافع، دليلاً بين يدي السامع، فالعلم مفتاح هذا الباب، والموصل إلى اللّباب، والله عزّ وجلّ يقول " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنّما يتذكّر أولو الألباب " الزمر: 9 والعلم وسيلة النفوس الشريفة، إلى المطالب المنيفة، وشرطه الخشية لله تعالى والخيفة، وخاصة الملأ الأعلى، وصفة الله في كتبه التي تتلى، والسبيل في الآخرة إلى السعادة، وفي الدنيا إلى التجلّة عادة، والذخر الذي قليله ينفع،

_ (1) الأزهار: السهاد.

وكثيره يشفع (1) ، لا يغلبه الغاصب، ولا يسلبه العدوّ المناصب، ولا يبتزّه الدهر إذا مال، ولا يستأثر به البحر إذا هال، من لم ينله فهو ذليل وإن كثرت آماله، وقليل وإن جم ماله، وإن كان وقته قد فات اكتسابكم، وتخطى حسابكم، فالتمسوه لبنيكم، واستدركوا منه ما خرج عن أيديكم، واحملوهم على جمعه ودرسه، واجعلوا طباعهم ثرىً (2) لغرسه، واستسهلوا ما ينالهم من تعب من جرّاه، وسهر يهجر له الجفن كراه، تعقدوا لهم ولاية عزّ لا تعزل، وتحلّوهم مثابة رفعة لا يحطّ فارعها ولا يستنزل، واختاروا من العلوم التي ينفّقها الوقت، ما لا يناله في غيره المقت. وخير العلوم علوم الشريعة، وما نجم بمنابتها المريعة، من علوم لسان لا تستغرق الأعمار فصولها، ولا يضايق ثمرات المعاد حصولها، فإنّما هي آلات لغير، وأسباب إلى خير منها وخير، فمن كان قابلاً لازدياد، وألفى فهمه ذا انقياد، فليخص تجويد القرآن بتقديمه، ثم حفظ الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه، ثم الشروع في أصول الفقه فهو العلم العظيم المنّة، المهدي كنوز الكتاب والسنّة، ثم المسائل المنقولة عن العلماء الجلة، والتدرّب في طرق النظر وتصحيح الأدلّة، وهذه هي الغاية القصوى في الملّة، ومن قصر إدراكه عن هذا المرمى، وتقاعد عن التي هي أسمى، فليرو الحديث بعد تجويد الكتاب وإحكامه، وليقرإ المسائل الفقهية على مذهب إمامه، وإياكم والعلوم القديمة، والفنون المهجورة الذميمة، فأكثرها لا يفيد إلا تشكيكاً، ورأياً ركيكاً، ولا يثمر في العاجلة إلا اقتحام العيون، وتطريق الظنون، وتطويق الاحتقار، وسمة الصّغار، وخمول الأقدار، والخسف من بعد الإبدار، وجادة الشريعة أعرق في الاعتدال، وأوفق (3) من قطع العمر في الجدال، هذا ابن رشد

_ (1) الأزهار: والذخر الذي قليله يشفع وينفع وكثيره يعلي ويرفع. (2) ق: ندى. (3) ق: وأشفق.

ومفتيه، وملتمس الرشد وموليه (1) ، عادت عليه بالسخطة الشنيعة، وهو إمام الشريعة، فلا سبيل إلى اقتحامها، والتورّط في ازدحامها، ولا تخلطوا سامكم بحامها، إلا ما كان من حساب ومساحة، وما يعود بجدوى فلاحة، وعلاج يرجع على النفس والجسم براحة، وما سوى ذلك فمحجور، وضرم مسجور، وممقوت مهجور. وأمروا بالمعروف أمراً رفيقاً، وانهوا عن المنكر نهياً حريّاً بالاعتدال حقيقاً، واغبطوا من كان من سنة الغفلة مفيقاً، واجتنبوا ما تنهون عنه حتى لا تسلكوا منه طريقاً. وأطيعوا أمر من ولاه الله تعالى من أموركم أمراً، ولا تقربوا من الفتنة جمراً، ولا تداخلوا في الخلاف زيداً ولا عمراً. وعليكم بالصدق فهو شعار المؤمنين، وأهم ما أضى عليه الآباء ألسنة البنين، وأكرم منسوب إلى مذهبه، ومن أكثر من شيء عرف به. وإياكم والكذب فهو العورة التي لا توارى، والسوأة التي لا يرتاب في عارها ولا يتمارى، وأقل عقوبات الكذاب، بين يدي ما أعد الله له من العذاب، أن لا يقبل منه صدقة إذا صدق، ولا يعول عليه إن كان بالحق نطق. وعليكم بالأمانة فالخيانة لوم، وفي وجه الديانة كلوم، ومن الشريعة التي لا يعذر بجهلها، أداء الأمانات إلى لأأهلها، وحافظوا على الحشمة والصّيانة، ولا تجزوا من أقرضكم دين الخيانة، ولا توجدوا للغدر قبولاً، ولا تقروا عليه طبعاً مجبولاً " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً " الإسراء: 34 ولا تستأثروا بكنز ولا خزن، ولا تذهبوا لغير مناصحة المسلمين في سهل ولا حزن، ولا تبخسوا الناس أشياءهم في كل أو وزن، والله الله أن تعينوا في سفك الدماء ولو بالإشارة أو بالكلام، أو ما يرجع إلى وظيفة الأقلام، واعلموا أن الإنسان في

_ (1) الأزهار: ومؤتيه.

فسحة ممتدة، وسبل الله تعالى غير منسدة، ما لم ينبذ إلى الله تعالى بأمانه، ويغمس في الحرام بيده أو لسانه، قال الله تعالى في كتابه الذي هدى به سنناً قويماً، وجلى من الجهل والضلال ليلاً بهيماً " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً " النساء: 93 واجتناب الزنا وما تعلّق به من أخلاق من كرمت طباعه، وامتد في سبيل السعادة باعه، لو لم تتلقّ نور الله الذي لم يهد شعاعهه، فالحلال لم تضق عن الشهوات أنواعه، ولا عدم إقناعه، ومن غلبت عليه غرائز جهله، فلينظر هل يحب أن يزنى بأهله، والله قد أعدّ للزاني عذاباً وبيلاً، وقال " ولا تقربوا الزنا إنّه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً " النساء: 22. والخمر أم الكبائر، ومفتاح الجرائم والجرائر، واللهو لم يجعله الله في الحياة شرطا، والمحرم قد أغنى عنه بالحلال الذي سوّغ وأعطى، وقد تركها في الجاهلية أقوام لم يرضوا لعقولهم بالفساد، ولا لنفوسهم بالمضرة في مرضاة الأجساد، والله تعالى قد جعلها رجساً محرماً على العباد، وقرنها بالأنصاب والأزلام في مباينة السّداد. ولا تقربوا الربا فإنّه من مناهي الدين، والله تعالى يقول " وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين " البقرة: 278 وقال: " فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " البقرة: 279 في الكتاب المبين، ولا تأكلوا مال أحد بغير حق يبيحه، وانزعوا الطمع عن ذلك حتى تذهب ريحه، والتمسوا الحلال يسعى فيه أحدكم على قدمه، ولا يكل اختياره إلا للثقة من خدمه، ولا تلجأوا إلى المتشابه إلاّ عند عدمه، فهو في السلوك إلى الله تعالى أصل مشروع، والمحافظ عليه مغبوط، وإياكم والظلم فالظالم ممقوت بكل لسان، مجاهر الله تعالى بصريح العصيان، والظلم ظلمات يوم القيامة كما ورد في الصحاح الحسان. والنميمة فساد وشتات، لا يبقى عليه متات، وفي الحديث " لا يدخل الجنّة قتّات " (1) .

_ (1) القتات: النمام الذي ينقل الحديث أو الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون (النهاية 3: 227) .

واطرحوا الحسد فما ساد حسود، وإياكم والغيبة فباب الخبر معها مسدود، والبخر فما رؤي البخيل وهو مودود. وإياكم وما يعتذر منه فمواقع الخزي لا تستقال عثراتها، ومظنّات الفضائح لا تؤمن غمراتها، وتفقّدوا أنفسكم مع الساعات، وأفشوا السلام في الطرقات والجماعاتن ورقوا على ذوي الزمانات والعاهات، وتاجروا مع الله بالصدقة يربحكم في البضاعات. وعوّلوا عليه وحده في الشدائد، واذكروا ما ورد في ذلك من الآثار، وتعاهدوا أولي الأرحام، والوشائج البادية الالتحام، واحذروا شهادة الزور فإنّها تقطع الظهر، وتفسد السرّ والجهر؛ والرّشا فإنّها تحط الأقدار، وتستدعي المذلّة والصّغار، ولا تسامحوا في لعبة قمر، ولا تشاركوا أهل البطالة في أمر. وصونوا المواعيد من الإخلاف، والأيمان من حنث الأوغاد والأجلاف، وحقوق الله تعالى من الإزراء والاعتساف، ولا تلهجوا بالآمال العجاف، ولا تكلفوا بالكهانة والإرجاف. واجعلوا العمر بين معاش ومعاد، وخصوصية وابتعاد. واعلموا أن الله سبحانه بالمرصاد، وأن الخلق زرع وحصاد، وأقلوا بغير الحالة الباقية الهموم، واحذروا القواطع عن السعادة كما تحذر السموم. واعلموا أن الخير أو الشر في الدنيا محال أن يدوم، وقابلوا بالصبر أذاية المؤذين، ولا تقارضوا مقالات الظالمين، فالله لمن بغي عليه خير الناصرين، ولا تستعظموا حوادث الأيام كلّما نزلت، ولا تضجوا للأمراض إذا أعضلت، فكل منقرض حقير، وكل منقض وإن طال قصير، وانتظروا الفرج، وانتشقوا من جناب الله تعالى الأرج، وأوسعوا بالرجاء الجوانح، [واجنحوا إلى الخوف من الله تعالى فطوبى لعبد إليه جانح] (1) ، وتضرعوا إلى الله تعالى بالدعاء، والجأوا إليه في البأساء والضّرّاء،

_ (1) واجنحوا.... جانح: سقطت من ق وأصل الأزهار.

وقابلوا نعم الله تعالى بالشكر الذي يقيد به الشارد، ويعذب الوارد، وأسهموا منها للمساكين وافضلوا عليهم، وعيّنوا الحظوظ منها لديهم، فمن الآثار " يا عائشة، أحسني جوار نعم الله، فإنّها قلّما زالت عن قوم فعادت إليهم ". ولا تطغوا في النعم فتقصروا عن شكرها، وتلفّكم الجهالة بسكرها، وتتوهموا أن سعيكم جلبها، وجدّكم حلبها، فالله خير الرازقين، والعاقبة للمتّقين، ولا فعل إلا لله إذا نظر بعين اليقين، والله الله لا تنسوا الفضل بينكم، ولا تذهبوا بذهابه زينكم، وليلتزم كل منكم لأخيه، ما يشتد به تواخيه، بما أمكنه من إخلاص وبر، ومراعاة في علانية وسر، وللإنسان مزية لا تجهل، وحق لا يهمل. وأظهروا التعاضد والتناصر، وصلوا التعاهد والتزاور، ترغموا بذلك الأعداء، وتستكثروا الأوداء، ولا تتنافسوا في الحظوظ السخيفة، ولا تتهارشوا تهارش السباع على الجيفة، واعلموا أن المعروف يكدر بالامتنان، وطاعة النساء شرّ ما أفسد بين الإخوان، فإذا أسديتم معروفاً فلا تذكروه، وإذا برز قبيح فاستروه، وإذا أعظم النساء أمراً فاحقروه. والله الله لا تنسوا مقارضة سجلي، وبروا أهل مودّتي من أجلي، ومن رزق منكم مالاً بهذا الوطن القلق المهاد، الذي لا يصلح لغير الجهاد، فلا يستهلكه أجمع في العقار، فيصبح عرضة للمذلّة والاحتقار، وساعياً لنفسه إن تغلب العدوّ على بلده في الافتضاح والافتقار، ومعوقاً عن الانتقال، أمام النّوب الثقال، وإذا كان رزق العبد على المولى، فالإجمال في الطلب أولى، وازهدوا جهدكم في مصاحبة أهل الدنيا فخيرها لا يقوم بشرّها، ونفعها لا يقوم بضرّها، وأعقاب من تقدّم شاهدة، والتواريخ لهذه الدعوى عاضدة، ومن بلي بها منكم فليستظهر بسعة الاحتمال، والتقلل من المال، وليحذر معاداة الرجال، ومزلات الإدلال، وفساد الخيال، ومداخلة العيال، وإفشاء السر، وسكر الاغترار (1) ، وليصن الديانة، ويؤثر الصمت ويلازم الأمانة، ويسر من رضى

_ (1) زاد في التجارية: فإنه دأب الغر، والعبارة ساقطة من ق والأزهار.

الله على أوضح الطرق، ومهما اشتبه عليه أمران قصد أقربهما إلى الحق، وليقف في التماس أسباب الجلال دون اعلكمال غير النقصان، والزعازع تسالم اللّدن اللطيف من الأغصان، وإياكم وطلب الولايات رغبة واستجلاباً، واستظهاراً على الحظوظ (1) وغلاباً، فذلك ضرر بالمروءات والأقدار، داع إلى الفضيحة والعار، ومن امتحن بها منكم اختياراً، أو جبر عليها إكراهاً وإيثاراً، فليتلقّ وظائفها بسعة صدره، ويبذل من الخير فيها ما يشهد أن قدرها دون قدره، فالولايات فتنة ومحنة، وأسر وإحنة، وهي بين إخطاء سعادة، وإخلال بعبادة، وتوقع عزل، وإدالة بإزاء بيع جد من الدنيا بهزل، ومزلّة قدم، واستتباع ندم، ومآل العمر كلّه موت ومعاد، واقتراب من الله وابتعاد، جعلكم الله ممّن نفعه بالتبصير والتنبيه، وممّن لا ينقطع بسببه عمل أبيه. هذه أسعدكم الله وصيتي التي أصدرتها، وتجارتي التي لربحكم أدرتها، فتلقوها بالقبول لنصحها، والاهتداء بضوء صبحها، وبقدر ما أمضيتم من فروعها، واستغشيتم من دروعها، اقتنيتم من المناقب الفاخرة، وحصلتم على سعادة الدنيا والآخرة، وبقدر ما أضعتم لآليها النفيسة القيم، استكثرتم من بواعث الندم. ومهما سئمتم إطالتها، واستغزرتم مقالتها، فاعلموا أن تقوى الله فذلكة الحساب، وضابط هذا الباب، كان الله خليفتي عليكم في كل حال، فالدنيا مناخ ارتحال، وتأميل الإقامة فرض محال، فالموعد للالتقاء، دار البقاء، جعلها الله من وراء خطة النجاة (2) ، ونفّق بضائعها المزجاة، بلطائفه المرتجاة، والسلام عليكم من حبيبكم المودع، والله سبحانه يلأمه حيث شاء من شمل متصدع، والدكم محمد بن عبد الله بن الخطيب، ورحمة الله وبركاته. انتهت الوصية الفريدة في حسنها، الغريبة في فنها، المبلغة نفوس الناظرين

_ (1) التجارية: الخطوب. (2) ق والتجارية: جعل ... خطته النحاة.

فيها فوق ظنّها، ولأجل ذلك كان شيخ سيوخنا المؤلف الكبير الفقيه الإمام قاضي القضاة العلامة سيدي الشيخ عبد الواحد ابن الشيخ الإمام عالم المالكية صاحب التآليف العديدة كالمعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى إفريقية والأندلس والمغرب - وهو في ست مجلدات [ولو لم يكن له غيره] لكان كافياً، وله مصنّفات كثيرة غيره أكثرها في مذهب مالك، ولم يؤلف في المذهب مثلها -[كثيراً ما يدخل منها في خطبه] (1) . [وصية لابن الجنان على لسان ابن هود] رجع إلى ما كنا فيه: أقول: لم تزل عادة الأكابر من العلماء والملوك الوصية لأولادهم وعمالهم باقتفاء النهج الذي يرون فيه السلوك، وقد وقفت للفقيه الكاتب أبي عبد الله محمد ابن الجنّان المرسي الأندلسي رحمه الله تعالى لى وصية ضمن رسالة كتبها عن ابن هود ملك الأندلس إلى أخيه اشمتملت على ما لا بدّ منه، فرأيت أن أذكرها هنا تتميماً للفائدة، ونصها بعد الصدر: من مجاهد الدين، وسيف أمير المؤمنين، عبد الله المتوكّل عليه أمير المسلمين محمد بن يوسف بن هود، أيده الله تعالى بنصره، وأمدّه بتمكينه، وأعانه على ما ينويه من إحياء معالم دينه، إلى صنونا المبارك، وقسيمنا وأخينا المخصوص بتبجيلنا وتكريمنا، وحسامنا المنتضى المرتضى لإمضاء عزمنا وتصميمنا، الأمير الأعلى، الموقّر الأسمى، الميمون النقيبة المحمود السجيّة، الأحب النيّة، الأعز علينا، المتمم بمساعيه الصالحة كل ما نوينا، أدام الله تعالى تظفيره وإسعاده، وأمضى في الحق قواضبه وصعاده، ووالى معونته وإنجاده، وتولى توقيفه

_ (1) قد سقط ما بين معقفين من ق والتجارية، وزدناه حسب المعنى من أزهار الرياض.

وإرشاده، سلام طيب كريم زاك يخصكم ورحمة الله تعالى وبركاته. أمّا بعد - فالحمد لله الذي أوضح للحق سبيلاً، ومد ظل رحمته على الخلق ظليلاً، وجعل العدل بحفظ نظام الإسلام كفيلاً، ونزّل الأحكام على قدر المصالح تنزيلاً، ونصب معالم الهدى علماً لمن اقتدى ودليلاً، وألهم إلىما يرضاه عملاً ومعتقداً وقيلاً، وصلواته الطيبة، وبركاته الصّيّبة، على سيد العالمين، وخاتم النبيين، محمد رسوله الذي فضّله بخلته واصطفاه تفضيلاً، وبعثه بالحنيفية السمحة فبينها تبييناً وفصّلها تفصيلاً، ورتبها كما أمره ربّه إباحة وندباً وتحريماً وتحليلاً، حتى ثبتت سنة الله " فلن تجد لسنّة الله تبديلاً، ولن تجد لسنّة الله تحويلاً " (فاطر: 43) وعلى آله وصحبه الذين فهموا ما جاءهم به عليه الصلاة والسلام نصّاً وتأويلاً، وأبقوا من سيرتهم الفاضلة، وأحكامهم العادلة، أساساً للمتقين جليلاً، ومآثر للمقتفين تسبح الأفهام والأقلام في بحارها سبحاً طويلاً، وأمضوا عزائمهم تنسخ بالحق باطلاً وبالهدى تضليلاً، ورضوان الله تعالى يتوالى على خليفته، وحامل أمانته إلى خليقته، الذي كمل الله تعالى له موجبات الإمامة تكميلاً، وأناله من هدي النبوّة أفضل ما كان للهداة منيلاً، سيدنا ومولانا الإمام المنتصر بالله تعالى أبي جعفر المنصور أمير المؤمنين المتبوّىء من ساحة الشرف والجلالة محلاً شريفاً جليلاً، والمنتخب من بحبوحة بيت الرسالة الذي وجد الوحي عنده معرّساً ومقيلاً، والدعاء له من لدن العزيز القوي بنصر يأتي لإمداده بمدد الملائكة قبيلاً، وفتح يؤتي الإيمان من الظهور بغية وتأميلاً -. فإنّا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم عزماً لا يزال عضبه صقيلاً، وعزّاً يروق بإظهار الحق غرّة وتحجيلاً، ورأياً لقداح السداد والنجاح مجيلاً، وسعداً يوصل إلى الإسعاد برضاه توصيلاً، من حضرتنا بمرسية حرسها الله تعالى، ونحن نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على فضله الذي أناله جسيماً جزيلاً، ونتوكل عليه، توكل من يلجأ في كل أحواله إليه، وكفى بالله وكيلاً، ونستعينه على أمور

المسلمين التي حملنا منها أمانة كبيرة وعبئاً ثقيلاً، ونقف بالضراعة بين يديه، طلباً لما يخلصنا لديه، عساه أن يجعل لرغبتنا قبولاً وتوسيلاً، ونعوذ به من كل عمل لا يكون حاصله إلا مآلاً وبيلاً، وعرضاً من الدنيا قريباً ومتاعاً قليلاً. إنّا - والله المرشد - لنعلم أن هذا الأمر الذي قلدنا الله تعالى منه ما قلّده، وأسنده إلينا من أمور خلقه فيما أسنده، قد ألزمنا من حقوقه الواجبة، وفروضه الراتبة، ما لا يستطاع إلاّ بمعونته أداؤه، ولا يستتبّ إلاّ بتوفيق الله تعالى انتهاؤه وابتداؤه، فهو المشكور عزّ وجهه على نعمته، والمستعان على ما يدني من رضاه ويقرب من رحمته، وأن كل امرىء بشأنه مشغول، وعن خويّصة نفسه مسؤول، ونحن بما استرعانا الله تعالى مشغولون، وعن الكبير والصغير مسؤولون، وعلينا النصيحة لله في عباده وبلاده، والنظر لهم بمنتهى جدّ المجتهد واجتهاده، ولا قوّة إلا بالله عليه توكلنا، وبه إليه توسّلنا، فعيننا تسهر لتنام للرعية عيونهم، وتحركنا يتصل ليحصل لهم سكونهم، وأملنا أن لا نقر فيهم بحول الله تعالى ظلماص ولا هضماً، ولا نخرم لهم في إقامة حقوق الله ما استطعنا نظماً، وأنّى ينصرف عن هذا القصد بعمله ونيته، من يعرف أن الله جل جلاله لا يجوّز ظلم ظالم في بريته، ولعل الله الذي حملنا ما حملنا، واستعملنا بمشيئته فيما استعملنا، أن يهب لنا توفيقه، ويسلك بنا إلى هداه طريقه. ألا وإن من ولّيناه أمراً من أمور المسلمين فهو مطلوب به، وموقوف عليه عند ربه، فلينظر امرؤ في جزئية ما نيط به وكليته، وليراقب فيما لديه عالم خفيته وجليته، ألا وكلكم راعٍ وكلّ راع مسؤول عن رعيته، فمن حفظ الله حفظه الله في نفسه وآله، وقضى له بالسعادة في حاله ومآله، وأنجاه يوم عرضه وسؤاله، والخلق عيال الله فأحبهم إليه أحبهم لعياله. العدل العدل فبه قامت السموات والأرض، وبإقامته أقيمت السنّة والفرض " اعدلوا هو أقرب للتّقوى " المائدة: 8 وأقوى ما تشتد به أركان الدين وتقوى، أما إن الحق في أن لا تتعدى

أساليب الشرع وقوانينه، وأن لا يتجاوز في قضية من القضايا إفصاحه وتبيينه، وأن يجازى بحكمه المسيئون والمحسنون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون. ألا وإنّا قد عثرنا لبعض قوّاد الجهات وحكامها على أمور أنكرنا معرفاتها، واستقبحنا مستوصفاتها، وبرئنا إلى الله ته من متغيراتها ومحرفاتها، وعلمنا أن منهم أقواماً لا يتورّعون عن الأموال والدماء، ولا يحذرون فيما يأتون ويذرون جبّار الأرض والسماء، فأزلنا بحمد الله ذلك ونحوه، وعجلنا ابتغاء رضاه محقه ومحوه، وانبعثنا لنظر جديد، واستئناف لإصلاح أحوال وتسديد، وتغليظ في المحرمات وتشديد، واستقبلنا ما يسوسع الأمور ربطاً وضبطاً، ويفيض على الأمّة بعون الله تعالى عدلاً وقسطاً، وتعين علينا فيما رأيناه إنفاذ الخطاب إلى كل من استكفيناه بالبلاد، ووليناه النظر عنّا في مصالح العباد، بما يكون إن شاء الله تعالى الاعتماد على فصوله، والاستناد إلى محصوله، والاجتهاد بحسب فروعه وأصوله: فأوّل ما نوصيكم به وأنفسنا تقوى الله في كل حال، ومراقبة أوامره ونواهيه عند كل انتحاء وانتحال، والوقوف عند حدود الله التي حدها، وأرصدها بإزاء موجباته وعدها، فإنّه لا يتعداها إلاّ من رام تعفّي رسمها وطمسه " ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه " الطلاق: 1 والمحافظة على ما به تحفظ الشريعة، والملاحظة لما يضم الرعايا من حوزة أولي الحياطة المنيعة، والمثابرة على ما تكف به أكف الاعتداء، والمبادرة إلى الاهتمام بالسلف الصالح والاقتداء، والطريقة المثلى، وآيات الله التي تتلى، وهداياته التي لأبصار البصائر تجلى، وخفض الجناح، والأخذ بالرفق والإنجاح، وتوخي الحق الذي هو أوضح انبلاجاً من فلق الإصباح، والحلم والأناة، والمذاهب المستحسنات، والأمور البيّنات. والله الله في الدماء فإنّها أوّل ما يقضى بين الناس يوم القيامة فيها، ولا سبيل لاستحلالها إلا بعد ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل المسلم

لأخيه، وقد قال مالك الأمر والخلق " ولا تقتلوا النّفس التي حرّم الله إلا بالحقّ " الأنعام: 151 فتثبتوا فيها فأمرها جليل، وتحريمها لا يدخله تحليل، وإياكم أن تجعلوا فيها لأحد من ولاة الجهاد حكماً أو نظراً، أو تكلوا إليهم منها مستكثراً أو مستنزراً، فإنّه إذا استبدّ بالقضاء فيها كل وال ذهبت هدراً، واستباحها الجاهل والجائر أشراً وبطراً، وربما كان فيهم من في طباعه سبعية فيقتل بها الناس قتلاً ذريعاً، ويتسهّل بذلك من جوره صعباً ويرتكب بجهله شنيعاً، ويذهل عن قول الله تعالى " من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً، ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعاً " (المائدة: 32) فأنّى تحل المسامحة في هذا الشان، أو يحكم به كل إنسان في نفوس أهل الإيمان معاذ الله أن يكون هذا ونحن نعرفه، أو ينصرف إليه نظرنا فلا نزيله ولا نصرفه، فسدّوا هذا الباب سدّاً، وصدوا عنه من أمّه صدّاً، وكفوا كل ما كان من الأيدي للدماء ممتدّاً، ومن وجب عليه القتل شرعاً (1) وتعين، واتضح موجب القصاص فيه وتبين، فليس لكم إلا القاعدة الكبرى، تتحرّى فيها الأحكام عليه بمحضر القاضي والشهود كما يجب أن يتحرّى، بعد أن يتثبت في نازلته لديكم ويستجلى ويستبرا، فلا تحل القضية إلا على بصيرة، وحقيقة مستنيرة، فقد يلوح في اليوم ما خفي بالأمس، ويتعذر بعد الإقادة إعادة النفس. وملاك الأمر في انتقاء من يتصرف، وتولية من لا يضيم ولا يتحيف، فتخيروا للأنظار والجهات، من ترتضى سيرته من الولاة، ولا تستعملوا أهل الفظاظة والجهالة، والمصرين على الراحة والبطالة، فإنذهم إذا استرعوا أضاعوا، وإذا دعاهم شيطان الهوى أطاعوا، وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا، وميلوا باختياركم إلى المتّسمين بالصلاح، المرتسمين في ديوان الكفاة النصاح،

_ (1) شرعاً: سقطت من ق.

وأطيلوا مع ذلك التنقير عنهم والتنقيب، ولا تغفلوا عن التعهد بالبحث البعيد منهم والقريب، ومن عثرتم له على منكر من استباحة دم أو مال، وإضاعة للحقوق وإهمال، فخذلوا على يده، وجازوه بفاسد مقصده، وأنزلوه بالمنزل الأقصى، وعاملوه معاملة من أوصيَ بتقوى الله فما استوصى. واصرفوا نظركم إلى القضاة فإن مدار الشريعة إنّما هو على ما يستند إليهم، ويقصر من الأحكام عليهم، فإذا كانوا من أهل العلم والديانة، وذوي النزاهة والصيانة، أمسكهم الورع بزمامه، وبلغ العهد بهم غاية تمامه، وإذا كانوا بضدّ هذا قبلوا الرشوة، وأوطأوا العشوة، وأطالوا النشوة، وأحلّوا من الدماء والفروج محرمها، وطمسوا من السنّة بالميل والمين معلمها، وحكموا بالهوادة والهوى، وطووا من الحق ما انتشر ونشروا من الباطل ما انطوى، فانتقوهم فهم أولى بالانتقاء، وشرّ جاسرهم وجاهلهم أحق بالاتقاء، ولا تقدموهم ولا غيرهم بالشفاعات والوسائل، ولكن قدموهم بتورعهم في القضايا وعلمهم بالمسائل. وممّا نؤكد عليهم فيه أمر الشهود؛ فإن شهادة الزور هي الداء العضال، والظلمة التي يتستر بها الظّلمة والضّلاّل، والحجة الداحضة التي بها يحلّل الحرام ويحرم الحلال، وقد كثر في هذا الزمان أهل الشهادة الفاسدة، ونفقت بهم سوق الأباطيل الكاسدة، فتقدموا إلى القضاة وفقهم الله تعالى أن لا يقبلوا إلاّ مشهوراً بزكاء وعدل، موفوراً حظّه من رجاحة وعقل، ومن كان مغموزاً عليه في أحواله، منبوزاً بالاسترابة في شهادته وأقواله، فلتردّ شهادته على أدراجها، وليبطل ما يكون من حجاجها. وأكدوا عليهم عند تعارض العقود في الترجيح، والنظر في التعديل والتجريح، لتجري أمور المسلمين على مستوى الحقّ المستبين، وتبدو المعدلة مشرقة الغرّة مؤتلفة الجبين. وممّا نأمركم به أن تبحصوا عن العمال، ولا تولّوا منهم إلا الحسن الطريقة المرضيّ الأعمال، ومن لم يكن منهم جارياً على القوانين المرعية، ناصحاً لبيت المال

رفيقاً بالرعية، وكان في أمانته حائداً عن الجادة السوية، قائلاً كما قال قبله ابن اللتبية (1) ، فليعوّض منه غيره، وليرفع عن الجانبين ضيره، فإنّه ما كانت الخيانة قط في شيء إلا أهلكته، ولا وضعت في إنسان طبيعة سوء إلا ملكته. وإنّما هو مال الله تعالى الذي يرزق منه الحماة، وبه تسد الثغور المهمات، فينبغي أن يختار له محتاط في اقتضائه وقبضه، حافظ لدينه ومروءته في كلّه وبعضه، فخذوا في انتقاء هذه الأصناف المسمين، واطلبوا بهذه الأوصاف المصرفين والمولين، واجمعوا من الاجتهاد الحميد والقصد والاعتماد الأثر والعين، وأنصفوا منهم إن تظلّم من أحدهم متظلم، واشفوا شكوى كل متشك وألم كل متألم، واعلموا أن حرمة الأموال بحرمة الدماء لاحقة، وأن إحدى القضيتين للأخرى مساوية ولاحقة، ومن أكبر ما ورد في ذلك وأعظمه، قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " حرمة مال المسلم كحرمة دمه ". وليكن الناس في الحق سواء لا محاباة ولا مفاضلة، ولا مجاوزة في تغليب قوي على ضعيف ولا محاولة، إن هذه أمتكم أمّة واحدة، وإن دلائل الشرع بمراد الله سبحانه وتعالى لشاهدة، ولا يؤخذن أحد بجريرة أحد، ولا يجني ولد على والد ولا والد على ولد، فكتاب الله تعالى أولى بالاتباع وأحرى، لقول الله عزّ وجلّ " ولا تزر وازرة وزر أخرى " (الأنعام: 164) (2) اللهم إلاّ من آوى محدثاً فإنه مأخوذ بما أجرم، ومعلون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فارفعوا - أعاننا الله تعالى وإياكم - للعدل بكل علم مناراً، واتخذوا الرفق بالإمامة شعاراً، فقد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم " إن الرفق لا يكون

_ (1) يسمى عبد الله بن اللتبية ثعلبة الأزدي، قال ابن حجر في افصابة (4: 123) : مذكور في حديث أبي حميد الساعدي في الصحيحين أن النبي (ص) بعث رجلاً على الصدقات يدعي ابن اللتبية وذكره الفيروز ابادي في تحفة الأبيه (ص: 107) باسم عمر بن اللتبية وقيل الأتبية الاول قول ابن دريد والثاني قول ابن الكلبي. (2) وردت الآية أيضاً في سورة الإسراء: 15 وفاطر: 18 والزمر: 7.

في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلاّ شانه " وقد نصّ الكتاب والسنّة على مواضع اللين والاشتداد، ونبها على منازع المقاربة والسّداد، فلا غضب لأمر إلاّ بما غضب له الله عز وجل، ولا رضىً به إلا إذا استقر فيه رضى الله تعالى وحل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم " الذي يجلد فوق ما أمر الله تعالى به يقول له الله عزّ وجل: عبدي، لم جلدت فوق ما أمرتك به فيقول: رب غضبت لغضبك، فيقول: أكان ينبغي لغضبك أن يكون أشد من غضبي ثم يؤتى بالمقصر فيقول: عبدي، لم قصرت عمّا أمرتك به فيقول: ربّ رحمتهن فيقول: أكان ينبغي لرحمتك أن تكون أوسع من رحمتي " قال: فيأمر فيهما بشيء قد ذكره لم يحفظه الراوي، إلا أنّه قال: صيروهما إلى النّار، أعاذنا الله تعالى منها بفضله ورحمته! فليوقف بالقضايا حيث وقف بها الشرع، ويحفظ الأصل من هذه الوصايا والفرع، واحتاطوا في الرعية فإنّه رأس المال، والأمانة التي لا ينبغي أن يكون فيها شيء من الإهمال، ومع توفيقكم لما سطرناه، في هذا الكتاب وشرحناه، من أبواب الخير المسعد في المآب والمآل، فاستوفوا ضروب الصالحات واستقصوها، واعملوا أعمال البر وخصوها، واذكروا آلاء الله وقصوها، " وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها " إبراهيم: 34 واشتدوا في تغيير المنكرات كلّها، واحسموا أدواءها من أصلها، ورغّبوا الناس في الطاعات واندبوهم إليها، ووضحوا لهم أعمالهم وحرّضوهم عليها، وانتهوا في كل سعي ناجح، ورأي راجح، إلى أفضل ما ينتهي إليه المنتصحون، " ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون " آل عمران: 104. وخذوا بعمارة مساجد الله التي هي بيوت الأتقياء، ومحلّ مناجاة ذي العظمة والكبرياء، إنّما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين. ومروهم بأن يعلّموا أولادهم كتاب الله تعالى فإن تعليمه للصغار يطفىء غضب

الرّب، ونعم الشفيع يوم القيامة، والمتوسل فيما يتوج القارىء وأباه تاج الكرامة، وأرشدوا للخير ما استطعتم، واتبعوا سبيله فهو أشرف ما اتبعتم، والله ولي التوفيق والإرشاد، والملجىء بالهداية إلى طريق الفوز والسداد. وهذه أوامرنا إليكم امتثلنا أمر الله تعالى فامتثلوها، وأحضروها في خواطركم مع كل لحظة ومثلوها، وإنّا لما يكون منكم فيها لمستمعون، ولآثاركم فيما يوفيها لمتطلعون، وقد خرجنا لكم عن عهدة لزمتنا في التذكير، ونهجنا لكم منها التقديم والتأخير، والله تعالى يعلم أنّا إنّما قصدنا ما نرجو الخلاص به يوم الحساب، وأردنا رضاه فيما أوردناه من هذا الحظر والإيجاب، لنرعى حقّه سبحانه فيمن استرعانا، ونسعى في صلاح الأمّة عسى الله تعالى أن ينجح فيه مسعانا. اللهم عبدك يضرع إليك، ويخضع بين يديك، في أن تلهمه إلى ما يجمل قصداً ومعتمداً، وتهب له من لدنك رحمة وتهيىء له من أمره رشداً، اللهم منك المعونة على ما وليت، ولك الشكر على ما أوليت، فالمهديّ من هديت، والخير كلّه فيما قضيت. اللهم من أعاننا على مرضاتك فكن له معيناً، وأورده من توفيقك عذباً معيناً، إنّك الولي النصير، العلي الكبير. وإذا وصلكم كتابنا هذا فقصّوه (1) على الناس مفصلاً ومجملاً، وأظهروا مضمونه لهم قولاً وعملاً، واسلكوا بهم من مراشده سنناً مستجملاً، إن شاء الله تعالى، والله سبحانه يديم علاكم، ويصل إادتكم في كل محمد وإبداكم، ويجزل حظوظكم من السعادة وأنصباكم، بمنّه وكرمه لا ربّ سواه. والسّلام الأكرم الأزكى يخصّكم، ورحمة الله تعالى وبركاته. وكتب في الرابع والعشرين لجمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وستمائة؛ انتهى.

_ (1) ق: فنصوه.

[ترجمة ابن الجنان] وهذا ابن الجنان (1) له الباع المديد في النظم والنثر، ومن شعره رحمه الله تعالى في مرضه الذي توفي فيه، وهو آخر كلامه: جهل الطبيب شكايتي، وشكايتي ... أنّ الطبيب هو الذي هو ممرضي فإن ارتضى برئي تدارك فضله ... وإن ارتضى سقمي رضيت بما رضي ما لي اعتراض في الذي يقضي به ... لكن لرحمته جعلت تعرضي ومن نظمه رحمه الله تعالى ملغزاً في بطيخة: وحبلى بأبناء لها قد تمخّضوا ... بأحشائها من بعد ما ولدوها كسوها غداة الطلق برداً معصفراً ... على يقق أزرارها عقدوها ولمّا رأوها قد تكامل حسنها ... وأبدر منها طالع حسدوها فقدّوا قميص البدر بالبرق واجتلوا ... أهلّتها من بعد ما فقدوها ولو أنصفوا ما أنصفوا بدر تمّها ... ولا أعدموا الحسناء إذ وجدوها وقال أيضاً ملغزاً في الميل، وهو المرود: مسترخص السوم غال ... عال له أيّ حظوه ما جاوز الشبر قدراً ... لكنّه ألف خطوه وهذا استخدام ما به باس، لأنّه اكتسى من الحسن خير لباس، وكم لهذا

_ (1) كتب حيثما ورد في ق والتجارية " ابن الجيان " - بالياء - وهو خطأ؛ فقد ذكره ابن عبد الملك في مواضع من الذيل والتكملة (4: 108 و 5: 327 ... ) بالنون؛ ونسخة الجزء الخامس من الذيل والتكملة مضبوطة مصححة. وكذلك ثبت اسمه في المصادر التي ترجمت له (انظر الإحاطة 2: 256 - 264 وعنوان الدراية: 213) . وله في الذيل والتكملة (5: 327) رسالة إلى أبي عبد الله ابن عابد، وفي (4: 108) تعزية في أستاذه سهل بن مالك، والجزء الذي ترجم له فيه ابن عبد الملك لا يزال مفقوداً، وعنه ينقل لسان الدين.

الكاتب من محاسن، ماؤها غير آسن. وقد عرّف لسان الدين في الإحاطة بابن الجنان، وأطال في ترجمته، ونشير إلى بعض ذلك باختصار. وهو محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري من أهل مرسية، أبو عبد الله ابن الجنان. كان محدثاً راوية ضابطاً، كاتباً بليغاً شاعراً بارعاً، رائق الخط، ديناً فاضلاً، خيراً ذكيّاً، استكتبه بعض أمراء الأندلس فكان يتبرم من ذلك ويقلق (1) منه، ثم خلصه الله تعالى منه، وكان من أعاجيب الزمان في إفراط القماءة، حتى يظن رائيه الذي استدبره أنّه طفل ابن ثمانية أعوام أو نحوها، متناسب الخلقة، لطيف الشمائل وقوراً، خرج من بلده حين تمكن العدوّ من قبضته سنة 640، فاستقرّ بأربولة إلى أن دعاه إلى سبتة الرئيس أبو علي ابن خلاص (2) ، فوفد عليه، فأجلّ وفادته، وأجزل إفادته، وحظي عنده حظوة تامّة، ثم توجّه إلى إفريقية، فاستقر ببجاية، وكانت بينه وبين كتّاب عصره مكاتبات ظهرت فيها براعته، وروى ببلده وغيره عن أبي بكر ابن خطاب وأبي الحسن سهل بن مالك وابن قطرال وأبي الربيع ابن سالم وأبي عيسى ابن أبي السداد وأبي علي الشلوبين وغيرهم، وكان له في الزهد ومدح النبي صلى الله عليه وسلّم بدائع، ونظم في المواعظ للمذكرين كثيراً؛ انتهى مختصراً، وإلا فترجمته في الإحاطة متسعة، رحمه الله تعالى. ولمّا كتب له أبو المطرف ابن عميرة برسالته الشهيرة التي أوّلها تحييك الأقلام تحية كسرى، وتقف دون مداك حسرى وهي طويلة، أجابه بما

_ (1) الإحاطة: ويضيق. (2) هو الحسن بن خلاص تولى سبتة سنة 637 ثم ثار فيها في زمن السعيد أبي الحسن ابن المعتضد بالله من خلفاء الموحدين سنة 641 وبايع للأمير أبي زكريا الحفصي صاحب تونس. وكانت وفاته سنة 646 (ابن عذاري 3: 359 ط. تطوان) .

نصّه: ما هذه التحية الكسروية وما هذا الرأي وهذه الروية أتنكيت من الأقلام أو تبكيت من الأعلام أو كلا الأمرين توجّه القصد إليه، وهو الحق مصدقاً لما بين يديه وإلاّ فعهدي بالقلم يتسامى عن عكسه (1) ، ويترامى للغاية البعيدة بنفسه، فمتى لانت أنابيبه للعاجم، ودانت أعاريبه للأعاجم واعجبا لقد استنوق الجمل، واختلف القول والعمل، لأمر ما جدع أنفه قصير (2) ، وارتد على عقبه الأعمى أبو بصير، أمس أستسقي من سحابه فلا يسقيني، وأستشفي بأسمائه فلا يشفيني، واليوم يحلّني محلّ أنوشروان، ويشكو مني شكوى الزيدية من بني مروان (3) ، ويزعم أنّي أبطلت سحره ببئر ذروان (4) ، ويخفي في نفسه ما الله مبديه (5) ، ويستجدي بالأثر (6) ما عند مستجديه، فمن أين جاءت هذه الطريقة المتبعة، والشريعة المبتدعة أيظن أن معمّاه لا ينفك، وأنّه لا ينجلي هذا الشك هل ذلك منه إلا إمحاض التّيه، وإحماض تفتّيه، ونشوة من خمر الهزل، ونخوة من ذي ولاية آمن من العزل تالله لولا محلّه من القسم، وفضله في تعليم النّسم، لأسمعته ما ينقطع به صلفه، وأودعته ما ينصدع به صدفه، وأشرت بطرف المشرفي وحدّه، وأشرت إلى تعاليه عن اللعب بجدّه، ولكن هو القلم الأوّل، فقوله على أحسن الوجوه يتأوّل، ومعدود في تهذيبه، كل ما لسانه يهذي به، وما أنساني إلا الشيطان أياديه أن أذكرها (7) ، وإنّما أقول:

_ (1) أي عن الملق. (2) هذا مثل يرد في قصة الزباء وجذيمة. (3) الزيدية: أتباع زيد بن علي، وقد قتله الأمويون في زمن هشام بن عبد الملك. (4) بئر ذروان: بناحية المدينة، وفي حديث هشام بن عروة أن لبيد بن الأعصم سحر الرسول وخبأ السحر في تلك البئر. (5) إشارة إلى الآية: " وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس ". (6) ق: بالأسد؛ التجارية: بالأشر. (7) من الآية: " وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ".

ليت التحية كانت لي فأشكرها (1) ... ولا عتب إلاّ على الحاء، المبرحة بالبرحاء، فهي التي أقامت قيامتي في الأندية، وقامت عليّ قيام المتعدية، يتظلم وهو عين الظالم، ويلين القول وتحته سم الأراقم، ولعمر اليراعة وما رضعت، والبراعة وما صنعت، ما خامرني هواها (2) ، ولا كلفت بها دون سواها، ولقد عرضت نفسها عليّ مراراً، فأعرضت عنها اوزراراً، ودفعتها عني بكل وجه، تارة بلطف وأخرى بنجه (3) ، وخفت منها السآمة، وقلت: انكحي أسامة، فرضيت مني بأبي جهم (4) وسوء ملكته، وابن أبي سفيان وصعلكته (5) ، وكانت أسرع من أم خارجة للخطبة، وأسمع من سجاح (6) في استنجاح تلك الخطبة. ولقد كنت أخاف من انتقال الطباع في عشرتها، واستثقال الاجتماع من عترتها، وأرى من الغبن والسفاه، أخذها وترك بنات الأفواه والشفاه (7) ، إذ هي أيسر مؤونة، وأكثر معونة، فغلطني فيها أن كانت بمنزل تتوارى صوناً عن الشمس، ومن نسوة خفرات لا ينطقن إلا بالهمس، ووجدتها أطوع من البنان للكف، والعنان للكفّ (8) ، والمعنى للاسم، والمغنى للرسم، والظل للشخص، والمستدل للنص، فما عرفت منها إلاّ خيراً أرضاه، وحسبتها من الحافظات

_ (1) من شعر كثير عزة؛ وتمامه: مكان يا جمل حييت يا رجل. (2) الضمير عائد إلى " الحاء " ولعله يعني قصيدة أو رسالة بنيت على تكرير الحاء في كل كلمة. (3) النجه: الرد القبيح. (4) في ق والتجارية: أبو جهل، وهو خطأ، انظر التعليق التالي. (5) يشير لى قصة فاطمة بنت قيس أخت الضحاك حين خطبها معاوية وأبو جهم: أما معاوية فوصف بأنه صعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فإنه لا يضع عصاه عن عاتقه (اي يضرب النساء) ، وتزوجت فاطمة بعد ذلك أسامة بن زيد. (6) قصة زواج سجاح من مسيلمة مشهورة؛ وقد ضرب بها المثل في الإسماح. (7) بنات الأفواه والشفاه من الحروف مثل الباء والميم ... الخ. (8) الكف: الكبح والمنع.

للغيب بما حفظ هـ، فعجبت لها الآن كيف زلت نعلها، ونشزت فنسرت ما استكتمها بعلها، واضطربت في رأيها اضطراب المختار بين أبي عبيد (1) ، وضربت في الأرض تسعى عليّ بكل مكر وكيد، وزعمت أن الجيم خدعها، وألان أخدعها، وأخبرها أن سيبلغ بخبرها الخابور (2) ، وأحضرها لصاحبها كما أحضر بين يدي قيصر سابور (3) . فقد جاءت إفكاً وزوراً، وكثرت من أمرها منزوراً، وكانت كالقوس أرنّت وقد أصمت القنيص، والمراودة قالت " ما جزاء " وهي التي قدّت القميص (4) ، وربما يظن بها الصدق وظن الغيب ترجيم، ويقال: لقد خفضت الحاء بالجوار لهذا الجيم، وتنتصر لها التي خيمت بين النرجسة والريحانة، وختمت السورة باسم جعلت ثانيه أكرم نبي على الله سبحانه، فإن امتعضت لهذه التكلمة، تلك التي سبقت بكلمتها بشارة الكلمة، فأنا ألوذ بعدلها، وأعوذ بفضلها، وأسألها أن تقضي قضاء مثلها، وتعمل بمقتضى " فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها " النساء: 35. على أن هذه التي قد أبدت مينها، ونسيت الفضل بيني وبينها، إن قال الحكمان: منها كان النشوز، عادت حرورية (5) العجوز، وقالت التحكيم في دين الله تعالى لا يجوز، فعند ذلك يحصحص الحق، ويعلم من الأولى بالحكم والأحق، ويصيبها ما أصاب أروى، من دعوة سعدية حين الدعوى، ويا ويحها أرادت أن تجني عليّ فجنت لي، وأناخت لي مركب السعادة وما ابتغت إلا ختلي، فأتى شرها بالخير، وجاء النفع من طريق ذلك الضير، أتراها علمت

_ (1) المختار بن أبي عبيد الثقفي الثائر للمطالبة بدم الحسين؛ حوالي 65هـ. لم يكن ثابت الرأي مخلص النية. (2) أي سيبلغ خبرها إلى مكان ناء، والخابور من روافد الفرات. (3) يعني سابور ذا الأكتاف ويقال إنه تنكر ودخل بلاد الروم فوقع في يد قيصر. (4) غشارة إلى قصة امرأة العزيز " وروادته التي هو في بيتها عن نفسه " وعندما انفضح الأمر قالت " ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ... الآية ". (5) اي ترفض التحكيم وتقول: لا حكم إلا لله.

بما يثيره اعوجاجها، وينجلي عنه عجاجها، فقد أفادت عظيم الفوائد، ونظيم الفرائد، ونفس الفخر، ونفيس الدر، وهي لا تشكر أن كانت من الأسباب، ولا تذكر إلا يوم الملاحاة والسباب. وإنّما يستوجب الشكر جسيماً، والثناء الذي يتضوع نسيماً، الذي شرف إذ أهدى أشرف السحاءات، وعرف بما كان من انتحاء تلك الحاء المذمومة في الحاءات، فإنّه وإن ألمّ بالفكاهة، بما أملّ من البداهة، وسمّى باسم السابق السّكيت، وكان من أمر مداعبته كيت وكيت، وتلاعب في الصفات تلاعب الصفاح والصّبا بالبانة، والصّبا بالعاشق ذي اللّبانة، فقد أغرب بفنونه، وأغرى القلوب بفتونه، ونفث بخفية الأطراف، وعبث من الكلام المشقّق بالأطراف، وعلم كيف يمحض البيان، ويخلص العقيان، فمن الحق شكره على أياديه البيض، وإن أخذ لفظة من معناه في طرف النقيض. " تالله أيها الإمام الأكبر، والغمام المستمطر، والحبر الذي يشفى سائله، والبحر الذي لا يرى ساحله، ما أنا المراد بهذا المسلك، ومن أين حصل ذلك النور لهذا الحلك، وصح أن يقاس بين الحداد والملك إنّه لتواضع الأعزّة، وما يكون عند الكرام من الهزّة، وتحريض الشيخ للتلميذ، وترخيص في إجازة الوضوء بالنبيذ، لو حضر الذي قضي له بجانب الغربيّ أمر البلاغة، وارتضى ما له في هذه الصناعة، من حسن السبك لحليها والصياغة، وأطاعته فيما أطلعته طاعة القوافي الحسان، واتبعته فيما جمعته لكن بغير إحسان، لأذعن كما أذعنت، وظعن عن محل الإجادة كما ظعنت، وأنّى يضاهى لفرات بالنغبة، ويباهى بالفلوس من أوتي من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة، وأي حظ للكلالة بالنشب، وقد اتصل للورثة عمود النسب، هيهات والله المطلب، وشتان الدر والمخشلب، وقد سيم الغلب، ورجع إلى قياده السلب. " وإن كنّا ممّن تقدّم لشدة الظمإ إلى المنهل، كمن أقدم إلى عين تبوك بعد النهي للعلل والنهل، فقد ظهرت بعد ذلك المعجزة عياناً، وملأ ما هنالك جناناً

وما تعرضنا بإساءة الأدب واللوم، ولكن علمنا أن آخر الشّرب ساقي القوم، وإن أسهبنا فما نلنا رتبة ذلك الإيجاز، وإن أعرقنا فهوانا في الحجاز، فلكم قصيرات الحجال، ولنا قصيرات الخطا في هذا المجال، وإكثارنا في قلّة، وجارنا من الفقر في فقر وذلة، ومن لنا بواحدة يشرق ضياؤها، ويخفي النّجوم خجلها منها وحياؤها إن لم تطل فلأنّها للفروع كالأصل، وفي الجموع كليلة الوصل، فلو سطع نورها الزاهر، ونورها الذي تطيب منه الأنوار الأزاهر، لسجدت النيران ليوسف ذلك الجمال، ووجدت نفحات ريّاها في أعطاف الجنوب والشمال، وأسرعت نحوها النفوس إسراع الحجيج يوم النّفر. وسار خبرها وسرى فصار حديث المقيمين والسّفر، وما ضرّ تلك الساخرة في تجليها، الساحرة بتجنيها، أن كانت بمنزلة ربيبتها بل ربيئتها، هذه التي سبقتني لما سقتني بسيئتها (1) ، ووجدت ريحها لما فصلت من مصر عيرها، وحين وصلت لم يدلني على ساريها إلا عبيرها، وكم رامت أن تستتر عني بليل حبرها في هذه المغاني (2) ، فأغراني بهاؤها (3) وكل مغرم مغرى ببياض صبح الألفاظ والمعاني، وهل كان ينفعها، تلفحها بمرطها وتلفعها إذ نادتها المودة، قد عرفناك يا سودة، فأقبلت على شم نشرها وعرفها، ولثم سطرها وحرفها، وقريتها الثناء الحافل، وقرأتها فزينت بها المحافل، ورمت أمر الجواب، فعزني في الخطاب، لكن رسمت هذه الرقعة التي هي لديكم بعجزي واشية، وإليكم مني على استحياء ماشية، وإن رقّ وجهها فما رقت لها حاشية، فمنوا بقبولها على عللها، وانقعوا بماء سماحتكم حرّ غللها، فإنّها وافدة من استقر قلبه عندكم وثوى، وأقر بأنّه يلقط في هذه الصناعة ما يلقى للمساكين من النوى، بقيتم سيدي للفضل والإغضاء، ودمتم غرة في جبين السمحة البيضاء، واقتضيتم السعادة

_ (1) السيئة: اللبن قبل نزول الدرة. (2) ق: أن يستر عني الليل خبرها في هذه المعاني. (3) ق: بها.

المتصلة مدة الاقتضاء، بيمن الله سبحانه انتهى. ومن نثر ابن الجنان رحمه الله تعالى في شرف المصطفى صلى الله عليه وسلّم: لمحمد خير الأنام، ولبنة التمام، عليه أفضل الصّلاة والسلام، خيرة المفاخر، يتضاءل لعظمتها المفاخر، والمعالي، يتصاغر لعزّتها المعالي، والمكارم، يعجز عن مساجلتها المكارم، والمناقب، لا تضاهي سناها النجوم الثواقب، والمحامد، لا يبلغ مداها الحامد، والمماجد، لا يتعاطى رتبهن المماجد، والمناسب، سمت بجلالهن المناصب، والعناصر، طيّبها الشرف المتناصر، والفضائل، تفجرت في أرجائهن الفواضل، والشمائل، تأرّجت بعرفهن الجنائب والشمائل، فلا مجاري لسيد البشر، الآتي بالنذارات والبشر، فيما حباه الله تعالى به وخصّه، وقصّه علينا من خلقه العظيم ونصّه، عند رسم مدائحه يوجد المعوّل، وفي الثناء عليه يستقصر الكلام المطوّل، هو الآخر في ديوان الرسالة والأوّل، وله في الفضيلة، وقبول الوسيلة، النص الذي لا يؤوّل، نوره صدع الظلم، وظهوره رفع لدين الله تعالى العلم، بدأه الوحي وهو بحراء، وأسرّ إليه سر تقدم الإسراء، حتى إذا نصب له المعراج، وتوقد في منارة السماء ذاك السراج، ناجى الحبيب حبيبه، وجلا عن وجه الجلاء جلابيبه، فتلقى ما تلقى، لما علا وترقى، ثم صدر عن حضرة القدس، وجبين هدايته يبهر سنا الشمس، فشق لمعجزاته القمر، ونهى بأمر ربّه وأمر، وأزال الجهالة، وأزاح الضلالة، وكسر منصوب الأوثان، ونصر من قال واحد أ؛ د على من قال ثالث ثلاثة أوثان، وبنى الملّة على قواعدها الخمس، وأحيا دين إبراهيم وكان رفاتاً بالرمس، فرفلت الحنيفية البيضاء في بردة الجدّة، وبيضت بيضاء غرتها أوجه الأيام المسودّة، وانتشرت الرحمة بنبيها، ومطرت المرحمة من سحب حيها، وافتنت الآيات الباقيات البينات في مساقها واتساقها، وإشراقها في آفاقها وائتلاقها. وشهد الحجر والشجر، والماء من بين البنان يتفجر، والظبية والضب، والجذع المشاق الصب، والشاة والبعير، والليث إذ هدأ أو سمع من الزئير

والحي والجماد، والقصعة والزاد، بأن محمداً رسول الملك الحق، والمبلغ عنه بواسطة الملك إلى الخلق، وصاحب اللواء المعقود، والمقام المحمود، والحوض المورود، والقول المسموع، والذكر المرفوع، والصدر المشروح، والفخر الباهر الوضوح، والأنوار المتناقلة، والآثار المتداولة، والنبوّة التي عهدها تقادم، من قبل خلق آدم، والمزية المعروف قدرها الجليل، المقبول فيها ما دعا به الخليل، والرتبة التي استشرف إليها الكليم، حتى قال له " وكن من الشاكرين " الأعراف: 144 ربّه الكريم، والبشارة التي كان بها يصيح حين يسيح، روح الله تعالى وكلمته عيسى المسيح، والشفاعة التي يرجوها الرسل والأمم، ويقرع بها الباب المرتج المبهم، فما لنبينا المختار، من علوّ المقدار، واصطفاء الجبار، والاختصاص بالأثرة، والاستخلاص للحضرة، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً. " وحسب هذا الوجود من الفضل الرباني والجود الذي لم يزل عظيماً، أن بعث الله تعالى فيه رسولاً رؤوفاً بالمؤمنين رحيماً، عزيزاً على ربّه الكريم كريماً، بسرّه سجدت الملائكة لآدم تعظيماً، وبذكره بنظم سلك المادح لحضرته العلية تنظيماً، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً صلاة تتصل ما دار كأس محبته على أحبّته فكان مزاجه تسنيماً، وسلاماً ينزل دار دارين فيرسل ببضائعها إلى روضة الرضى نسيماً ". ومن خطبه المرتجلة قوله سامحه الله تعالى: " الحمد لله الذي حمده من نعمائه، وشكره على آلائه من آلائه، أحمده حمد عارف بحق سنائه، واقف عند غاية العجز عن إحصاء ثنائه، عاكف على رسم الإقرار بالافتقار إليه والاستغناء به في كل آنائه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتوحّد بعظمته وكبريائه، المتقدس عمّا يقوله الملحدون في أسمائه. وأصلي على سيد ولد آدم ونخبة أنبيائه، محمد المفضل على العالمين باجتبائه

واصطفائه، المنتقى من صميم الصميم وصريح الصريح بجملة (1) آبائه، المرتضى الأمانة والمكانة بإبلاغ أمر الله وأدائه، أرسله الله للناس كافة عموماً لا يتخصص باستثنائه، وفضّله بالآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة على أمثاله من المرسلين ونظرائه، ورقّاه إلى الدرجات العلا وأنهاه إلى سدرة المنتهى ليلة إسرائه، وحباه بالخصائص التي لا يضاهى بها بهاء كمله وكمال بهائه، وردّاه رداء العصمة فكانت عناية الله تكنفه عن يمينه وشماله وأمامه وورائه (2) ، ووفاه من حظوظ البأس والندى ما شهد بمزيته على الليث والغيث في إبائه وانهمائه، صلى الله عليه وعلى آله مصابيح الهدى ونجوم سمائه، صلاة تتصل ما سمح البدر بائتلاق أنواره والقطر باندفاق أنوائه، وسلّم تسليماً ". ومن نثره رحمه الله تعالى رسالة كتب بها من الأندلس إلى سيد الكونين صلى الله عليه وسلّم، وهي: السلام العميم الكريم، والرحمة التي لا تبرح ولا تريم، والبركة التي أوّلها الصلاة وآخرها التسليم، على حضرة الرسالة العامة الدعوة والنبوة، المؤيدة بالعصمة والأيد والقوة، ومثابة البر والتقوى فهي لقلوب الطيبين صفاً ومروة، مقام سيد العالمين طرّاً، وهاديهم عبداً وحرّاً، ومنقذهم من أشراك الهلاك وقد طالما ألفوا العيش ضنكاً والدهر مرّاً، ومقر الأنوار المحمدية، والبركات السرمدية، أمتع الله تعالى الإسلام والمسلمين بحراسة أضوائها، وكلاءة ظلالها العلية وأفيائها، وأقر عين عبدها بلثم ثراها، والانخراط في سلك من يراها. " السلام عليك يا محمد، السلام عليك يا أحمد، السلام عليك يا أبا القاسم، سلام من يمدّ إليك يد الغريق، ويرجو الإنقاذ ببركتك من نكد المضيق، ويتقطع أسفاً ويتنفس صعداً كلّما ازدلف إليك فريق، وعمرت نحوك طريق،

_ (1) ق: مجد. (2) ورداء ... ورائه: سقطت من ق.

ولا يفتر صلاة عليك له لسان ولا يجف ريق. كتبته يا رسول الله وقد رحل المجدون وأقمت، واستقام المستعدون وما استقمت، وبيني وبين لثم ثراك النبوي، ولمح سناك المحمدي، مفاوز لا يفوز بقطعها إلا من طهر دنس ثوبه، بماء توبه، وستر وصم عيبه، بظهر غيبه، فكلّما رمت المتاب رددت، وكلّما يممت الباب صددت، وقد أمرنا الله تعالى بالمجيء إليك، والوفادة عليك، ومن لي بذلك يا رسول الله والآثام تنئي وتبعد، والأيام لا تدني ولا تسعد، وبين جنبي أشواق لا يزال يهزني منها المقيم المقعد، ولئن كنت ممّن خلّفته عيوبه، وأوبقته ذنوبه، ولم يرض للوفادة وهو مدنس، على ذلك المقام وهو المطهر المقدس، فعندي من صدق محبتك، وحبّ صحبتك، والاعتلاق بذمتك، ما يقدمني وإن كنت مبطئاً، ويقربني وإن كنت مخطئاً. " فاشفع لي يا رسول الله في زيارتك فهي أفضل المنى، وتوسل لي إلى مولىً بيّن فضيلتك، وتقبّل وسيلتك، في النقلة من هناك إلى هنا، واقبلني وإن كنت زائفاً، وأقبل عليّ وإن أصبحت إلى الإثم متجانفاً، فأنت عماد أمتك جميعاً وأشتاتاً، وشفيعهم أحياء وأمواتاً. ومن نأت به الدار، وقعدت بعزمه الأقدار، ثم زار خطّه ولفظه، فقد عظم نصيبه من الخير وحظّه، وإن لم أكن سابقاً فعسى أن أكون مصلّياً، وإن لم أعدّ مقبلاً فلعلي أعد مولياً، ووحقك وهو الحق الأكيد، والقسم الذي يبلغ به المقسم ما يريد، ما وخدت إليك ركاب، إلا وللقلب إثرها التهاب، وللدمع بعدها سحّ وانسكاب، ويا ليتني ممّن يزورك معها ولو على الوجننتين، ويحييك بين ركبها ولو على المقلتين، وما الغنى دونك إلا بؤس وإقلال، ولا الدنيا وإن طالت إلا سجون وأغلال، والله تعالى يمن على كتابي بالوصول والقبول، وعلي بلحاقي ببركتك ولو بعد طول. ثم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته عليك يا سيد الخلق، وأقربهم من الحق، ولمولاه بإحراز قصب السّبق، ومن طهّر الله تعالى مثواه وقدّسه، وبناه على

التقوى والرضوان وأسسه، وآتاه من كل فضل نبوي أعلاه وأسناه وأنفسه، وعلى ضجيعيك السابقين لمهاجريك وأنصارك، الفائزين بصحبتك العلية وجوارك، وعلى أهل بيتك المطهرين أوائل وأواخر، الشهيرين مناقب ومفاخر، وصحابتك الذين عزروك ووقروك، وآووك ونصروك، وقدموك على الأنفس والأموال والأهل وآثروك، وأقرئك سلاماً تنال بركته من مضى من أمّتك وغبر، ويخص بفضل الله تعالى وجاهك من كتب وسطر، إن شاء الله تعالى. كتبه عبدك المستمسك بعروتك الوثقى، اللائذ بحرمك الأمنع الأوقى، المتأخر جسماً المتقدم نطقاً، فلان، والسلام عليك يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم تسليماً كثيراً ورحمة الله تعالى وبركاته ". وله من خطبة طويلة: ونشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الصوفة المجتبى، الكريم أمّاً طاهرة وأبا، المختار من الطيبين مباركاً طيبا، المصطفى نبيّاً إذ كان آدم بين الماء والطين متقلّبا، المتقدم بمقام تأخّر عنه مقام الملائكة المقربين، انتخبه الله وانتجبه، وأظهره على غيب عن غيره حجبه، وشرفه في الملإ الأعلى وأعلى رتبه، وخطّ اسمه على العرش سطراً وكتبه، فهو وسيلة النبيين، والمرشّح أوّلاً لإمامة المرسلين، بعثه ربّه لختم الرسالة، ونعته بنعت الشرف والجلالة، وأيده بالحجّة البالغة والدلالة، وجعله نوراً صادعاً لظلام الضلالة، وأثنى في ذكره الحكيم، على خلقه العظيم، فما عسى أن يبلغ بعد ثناء المثنين، بفضله التصريح وإليه الإشارة، وبه سبقت من إبراهيم الدعوة ومن عيسى البشارة، وعليه راقت من صفة الرؤوف الرحيم الحلية والشارة، وهو المخيّر بين الملك والعبودية فاختار العبودية بعد الاستخارة والاستشارة، فبتواضعه حل بمكان عند ذي العرش مكين أسرى به ربه إليه، ووفد أكرم وفادة عليه، وأدناه قاب قوسين لديه، ووضع إمامة الرسالة العظمى في يديه، وقال له " اصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " الحجر: 94 فصدع بأمر الله

صدعاً، وأوتي من المثاني سبعاً، ومن الآيات البينات آلافاً وإن كان أوتي موسى تسعاً. فما مشي الشجر إليه يجر عروقه إلا كرجوع العصا حية تسعى، وما تفجر الحجر بالماء بأعجب من بنانه نبعت بالعذب الفرات نبعا، فارتوى منه خمسمائة وقد كان يكفي آلافاً فكيف المئين، وكم له عليه الصلاة والسلام من معجزة تبهر، وآية هي من أختها أكبر، رجعت له الشمس وانشقّ القمر، وكلّمه الضب وأخبر به الذئب وسلّم عليه الشجر والحجر، وكان للجذع عند فراقه إعلاناً بوجده واشتياقه أنّة وحنين، أعطي من المعجزات ما مثله آمن عليه البشر، وكانت له في الغار آيات بيّنات خفي بها على القوم الأثر، وارتج لمولده إيوان كسرى وخمدت نار فارس وكان ضرمها يتسعر، وأتته أخبار السماء فما عمي في الأرض الخبر، فحدث عن الغيوب وما هو على الغيب بضنين، وجعل له القرآن معجزة تتلى، يبلى الزمان وهي لا تبلى، وتعلو كلماتها على الكلم ولا تعلى، وتجلى آياتها في عين آيات الشمس حين تهجلى، فيتوارى منها بالحجاب حاجب وجبين، بهر إعجاز التنزيل العلي، وظهر به صدق النبي العربي، فكم نادى لسان عزّه في النّديّ، بأهل البديهة من الفصحاء والروي: قل فأتوا بسورة من مثله فلم يكونوا لها مستطيعين. لقد خص نبينا عليه السلام بالآيات الكبر، والدلالات الواضحة الغرر، والمقامات السامية المظهر، والكرامات المخلّدة للمفخر، فهو سيد الملإ النبوي والمعشر، وحامل لوواء الحمد في المحشر، وصاحب المقام المحمود والكوثر، والشفيع المشفّع يوم يقوم الناس لرب العالمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وذريته المباركين، وصحابته الأكرمين، وأزواجه أمهات المؤمنين، صلاةً موصولة تتردد إلى يوم الدين، وتصعد إلى السموات العلا فتكون كتاباً في علّيّين، وسلّم تسليماً. ومن نثره في خطبة قوله: أيّها الناس، رحمكم الله تعالى، أصيخوا

أسماعكم لمواعظ الأيام، واعتبروا بأحاديثها اعتبار أولي النهى والأحلام، وأحضروا لفهم موادّها أوعى القلوب وأصحّ الأفهام، وانظروا آثارها بأعين المستيقظين ولا تنظروا بأعين النّوام، ولا تخدعنكم هذه الدنيا الدنية بتهاويل الأباطيل وأضغاث الأحلام، ولا تنسينكم خدعها المموّهة وخيالاتها الممثلة ما خلا من مقالاتها في الأنام، فهي دار انتياب النوائب، ومصاب المصائب، وحدوث الحوادث وإلمام الآلام؛ دار صفوها أكدار، وسلمها حرب تدار، وأمنها خوف وحذار، ونظمها تفرق وانتشار، واتصالها انقطاع وانصرام، ووجودها فناء وانعدام، وبناؤها تضعضع وانهدام، ينادي كل يوم بناديها منادي الحمام، فلا قرار بهذه الغرّارة (1) ولا مقام، ولا بقاء لساكنيها ولا دوام. فبئست الدار داراً لا تدارى، ولا تقيل لعاثرها عثارا، ولا تقبل لمعتذر اعتذارا، ولا تقي من جورها حليفاً ولا جارا، وليس لها من عهد ولا ذمام، كم فتكت بقوم غافلين عنها نيام، كم نازلت بنوازلها من قباب وخيام، كم بدلت من سلامة بداء ومن صحة بسقام، كم رمت أغراض القلوب بمصميات (2) السّهام، كم جردت في البرايا للمنايا من حسام، كم بددت بأكف النائبات الناهبات من عطايا جسام، كم أبادت طوارق حوادثها من شيخ وكهل وغلام. لا تبقي على أحد، ولا ترثي لوالد ولا ولد، ولا تخلد سروراً في خلد، ولا يمتد فيها لآمل أمد، بينا يقال قد وجد، إذ قيل قد فقد. بعداً لها قد طبعت على نكد وكمد، فالفرح فيها ترح، والحبرة عبرة، والضحك والابتسام، بكاء وأدمع سجام. تفرق الأحبة بعد اجتماعهم، وتسكن الوحشة مؤنس رباعهم، وتبيح بالحمام حمى الأعزّة فلا سبيل إلى امتناعهم، وتستحثّ ركائب الخلائق على اختلاف أنواعهم، إلى مصيرهم إلى الله عزّ وجل وارتجاعهم،

_ (1) ق: القرارة. (2) ق: بمزاياها بمصميات.

فيسيرون طوع الزمام، ويلقون مقادة التذلل والاستسلام، حتى يلجأوا بالرغام، وينزلوا بطون الرجام، ويحلّوا الوهد بعد المقام السام، فلا نناج من خطبها العظيم ولا سليم، يتساوى في حكم المنية الأغر والبهيم، والأعز والمضيم. ولو أنّه ينجو من ذلك مجد صميم، وجدّ كريم، وحظ عظيم، ومضاء وعزيم، ومزية وتقديم، وحديث في الفضل وقديم، وشرف لسمك السّموات مُسام، وعلىً على ساق العرش المجيد ذو ارتسام، لنجا حبيب الملك العلام، وسيّد السادات الأعلام، وصفوة الصفوة الكرام، وخاتم الأنبياء ولبنة التمام، وصباح الهدى ومصباح الظلام، والأبيض المستسقى به غيث الغمام، ثمال الأرامل وعصمة الأيتام، عليه أفضل الصلاة والسلام، لكن مع قدره الجليل وفضله الجلي، أقدم الموت على جانبه العلي، وتقدم ملك الموت لقبض روحه القدسي وتغيب في الثرى جمال ذلك الوجه البهي، وتغيض ماء السّماء والندى، لملك السماحة النبويّة والندى، وأصيب المسلمون وأعظم بها مصيبة بنبيّهم العربي، الهاشمي القرشي، فيا له وللإسلام، من مصاب أسلمنا للحزن أيّ إسلام، وأسال مياه الدموع عن احتراق للضلوع واضطرام، وأرانا أن الأسى في رزية لخير البرية واجب وأن التأسي حرام. وهل يسوغ الصبر الجميل، في فقيد بكنه الملائكة وجبريل، وكثر له في السموات السبع النحيب والعويل انقطع به عن الأرض الوحي الحكيم والتنزيل، وعظمت الرزية به أن يؤدي حقيقتها الوصف (1) والتمثيل، غداة أقفر منه الرّبع المحيل، وأوحش من أنسه السفح والنخيل، وكان من تلك الروح الطاهرة الوداع والرحيل، وقامت البتول تندب أباها بقلب قريح وجفن دام، وتنادت الأمّة مات الرسول ففي كل بيت بكاء وانتحاب ونوح والتزام، وحارت الألباب والعقول فلا صبر هنالك لقد زلّت عن الصبر الأقدام. ولمّا نعيت إليه صلى الله عليه

_ (1) الوصف: سقطت من ق.

وسلّم نفسه، وآن أن تأفل من تلك المطالع شمسه، آذن آمّته بالفراق وأعلمهم، وناشدهم في أخذ القصاص وكلّمهم، مخافة أن يمضي إلى الملك الحق، وعليه تباعة لأحد من الخلق، وحاشاه عليه الصلاة والسلام، من صفات جائر للأمّة ظلاّم، ولكنّه تعريف من نبي الرحمة بما يجب وإعلام، ثم استمر به صلوات الله وسلامه عليه وتمادى، وزاد به السقم المنتاب وتهادى، حتى واراه ملحده، وخلا منه ربعه ومسجده، فعمّ الحزن والاكتئاب، وتوارى النور فأظلم الجناب، وعاد الأصحاب، وكأنّما دموعهم السحاب، فقالت فاطمة وقد رابها من دفن أبيها الكريم ما راب: أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم التراب فكأن كلامها للقلوب المفجعة كلام، وللعيون المفجرة بالدموع انسفاح وانسجام. وفي مثل هذا الشهر شهر ربيع، المشيد بذكر الأشجان المذيع، كانت وفاة هذا النبي الهادي الشفيع، وانتقاله إلى الملإ الأعلى والرفيق الرفيع، هحين ناداه ربّه إلى قربه، فلبى بشوق قلبه تلبية المهطع المطيع، وحنّ إلى حضرة القدس فانتظم حين حل بها ما كان من شمله الصديع، وانتظر من صنع الرب جميل الصنيع، وإنجاز وعد الشفيع في الجميع، إذ أعطي لواء الحمد وقام محمود المقام، ووقف على الحوض ينادي: هلموا إليّ أروكم من العطش والأوام. اللهم اسقنا من حوضه المورود، وشرّفنا بلوائه المعقود، وشفّعه فينا في اليوم المشهود، وارحمنا به إذا صرنا تحت أطباق اللّحود، اللهم اعجعله لنا تعزية من كل مفقود، وأوجد لنا من بركاته أشرف موجود، وجازه عنّا بما أنت أهله من فضل وإحسان وجود، وانفعنا بمحبته ومحبة آله وصحابته الرّكّع السّجود، واجعلنا معهم في الجنّة دار الخلود ودار السلام. واخصصهم عنّا بأكرم تحيّة وأفضل سلام، وصلّ عليهم صلاة تستلم أركان رضوانك أيّ استلام، وتنتظم له كرامات إحسانك أيّ انتظام. فصلوات الله عليه، وأطيب تحياته ورحمته تتوالى لديه، وأجزل بركاته

ما تجدد في ربيع ذكر وفاته، وتمهد كهف القبول لطالبي فضله وعفاته، وتعزى به كل مصاب في مصيباته، وترجّى شفاعته كل محب فيه متبع لهداياته، وتوفرت للمصلين عليه والمسلمين على جنباته، حظوظ من برّ الله تعالى وأقسام " إنّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً " الأحزاب: 56 اللهم صلّ عليه من نبي لم يزل بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، اللهم صلّ عليه من نبي أوجبت حبه وعظّمته تعظيماً، اللهم صلّ عليه من نبي صليت عليه تجلة وتكريماً، وأمرتنا بالصلاة عليه إرشاداً وتعليماً، فلنا بأمرك اقتداء وائتمام، وبحمدك على ما هديتنا افتتاح واختتام، وكلامك يا ربّنا أشرف الكلام، ولوجهك وحده البقاء والدوام " كلّ من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام " الرحمن: 27 " هو الحيّ لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين، والحمد لله ربّ العالمين " غافر: 65 انتهى. وترجمة ابن الجنان واسعة جدّاً، وكلامه في النبويات نظماً ونثراً جليل، رحمه الله تعالى. وقال لسان الدين في الإحاطة بعد أن عرف به وأورد له الرسالة من صورته: ومحاسنه عديدة، وآماده بعيدة، ثم قال: إنّه انتقل إلى بجاية فتوفّي بها في عشر الخمسين وستمائة؛ انتهى. وقال صاحب عنوان الدراية في حق ابن الجنّان المذكور ما ملخصه (1) : الفقيه الخطيب، الكاتب البارع الأديب، أبو عبد الله ابن الجنان، من أهل الرواية والدراية والحفظ والإتقان، وجودة الخط وحسن الضبط، وهو في الكتابة من نظراء الفاضل أبي المطرف ابن عميرة المخزومي، وكثيراً ما كانا يتراسلان بما يعجز عنه الكثير من الفصحاء، ولا يصل إليه إلا القليل من البلغاء، ونثره ونظمه

_ (1) عنوان الدراية: 213.

كلّه حسن، ونظمه غزير، وأدبه كثير، ومن ذلك قصيدته الدالية التي مطلعها: يا حادي الركب قف بالله يا حادي ... وارحم صبابة ذي نأي وإبعاد وله أيضاً: ترك النزاهة عندنا ... أدى إلى وصف النزاهه ما ذاك إلا أنّها ... تدعو الوقور إلى الفكاهه وإذا امرؤ نبذ الوقا ... ر فقد تلبّس بالسفاهه [مخمسات من المدائح النبوية] ومن بديع نظم ابن الجنان رحمه الله تعالى هذا التخميس في مدح سيد الوجود، صلى الله عليه وسلّم، وشرف وكرم (1) : الله زاد محمداً تكريما ... وحباه فضلاً من لدنه عظيما ... واختصّه في المرسلين كريما ... ذا رأفة بالمؤمنين رحيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما جلّت معاني الهاشميّ المرسل ... وتجلّت الأنوار منه لمجتلي ... وسما به قدر الفخار المعتلي ... فاحتلّ في أفق السّماء مقيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

_ (1) وشرف وكرم: سقطت من ق.

حاز المحامد والممادح أحمد ... وزكت مناسبه وطاب المحتد ... وتأثلت علياؤه السؤدد ... مجداً صميماً حادثاً وقديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما شمس الهداية، بدرها الملتاح ... قطب الجلالة، نورها الوضّاح ... غيث السماحة للندى يرتاح ... يروي بكوثره الظماء الهيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما تاج النبوّة، خاتم الأنباء ... صفو الصريح، خلاصة العلياء ... نجل الذبيح، سلالة العلماء ... بشرى المسيح، دعاء إبراهيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما فخر لآدم قد تقادم عصره ... من قبل أن يدريى ويجرى ذكره ... سرّ طواه الطين فهّم نشره ... معنى السجود لآدم تفهيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما لله فضل المصطفى المختار ... ما إن له في المكرمات مجاري ... ولا مبارٍ باختصاص الباري ... بالحقّ قدّم مجده تقديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

أوصاف سيّدنا النبيّ الهادي ... ما نالها أحد من الأمجاد ... فالرسل في هدي وفي إرشاد ... قد سلّموا لنبيّنا تسليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما آياته بهرت سنا وسناء ... وأفادت القمرين منه ضياء ... وعلت بأعلام الظهور لواء ... فهدى به الله الصراط قويما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما دنت النجوم الزّهر يوم ولادته ... ورأت حليمة آيةً لسيادته ... وتحدثت سعد بذكر سعادته ... فتفاءلوا نعم اليتيم يتيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما لمّا ترعرع جاءه الملكان ... بالطست فيها حكمة الرحمن ... فاستخرجا القلب العظيم الشان ... منه وطهّر ثمّ عاد سليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما كرمت مناشي أحمد خير الورى ... وجرى له القلم العليّ بما جرى ... ما كان ذلكم حديثاً يفترى ... لكنّه الحقّ الجليّ رسوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ما زال برهان النبيّ يلوح ... يغدو به الإعجاز ثمّ يروح ... حتى أتاه بعد ذاك الروح ... يوحي له وحي الإله حكيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما شهدت له بمزية التفضيل ... سور وآيات من التّنزيل ... وصلاة خالقه أدلّ دليل ... فافهمه واسمع قوله تعظيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما إنّ الرسول المعتلي المقدار ... لمؤيدٌ من ربّه القهّار ... بالمعجزات جلت عمى الأبصار ... وشفت من ادواء الضلال سقيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما كم شاهد لمحمّد بنبوّته ... في أيد تأييد الإله وقوّته ... فبذاك أعلى الله دعوة حجّته ... فمضت حساماً صارماً وعزيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما البدر شقّ له ليظهر صدقه ... والشمس قد وقفت تعظّم حقّه ... والمزن أرسل إذ توسّل ودقه ... فاخضرّ ما قد كان قبل هشيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

والماء بين بنانه قد سالا ... عذباً معيناً سائغاً سلسالا ... كنداه يمنح رفده من سالا ... وينيل راجيه النوال جسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما بركاته أربت على التعداد ... كم أطعمت من حاضرين وبادي ... من قصعة أو حثية من زاد ... رزقاً كريماً للجيوسش عميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما سجد البعير له سجود تذلل ... وشكا إليه بحرقة وتململ ... والشاة قال ذراعها: لا تأكل ... منّي فإنّي قد ملئت سموما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما والغصن جاء إليه يمشي مسرعا ... والصغر أفصح بالتحيّة مسمعا ... والظبية العجماء فيها شفّعا ... والضبّ كلّم أحمداً تكليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما والجذع حنّ له حنين الوال ... يبدي الذي يخفيه من بلباله ... أفلا يحنّ متيّم بجماله ... يشتاق وجهاً للنبيّ وسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ما بالنا نسلو وحبّ حبيبنا ... يقضي ببثّ غرامنا ونحيبنا ... لو صح في الإخلاص عقد قلوبنا ... لم ننس عهداً للرسول كريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما أين الدموع نفيضها هتّانا ... أين الضلوع نقضّها أشجانا ... حتى نقيم على الأسى برهانا ... لمتمم إرشادنا تتميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما أوليس هادينا إلى سبل الهدى ... أوليس منقذنا من اشراك الردى ... أوليس أكرم من تعمّم وارتدى ... أولم يكن أزكى البريّة خيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ذاك الشفيع مقامه محمود ... ولواؤه بيد العلا معقود ... فإذا توافت للحساب وفود ... قالوا: تقدّم بالأنام زعيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما فيقوم بالباب العليّ ويسجد ... ويقول: يا مولاي آن الموعد ... فيجاب: قل يسمع إليك محمد ... ونريك منّا نضرةً ونعيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

أعظم بعزّ محمّد وبجاهه ... أكرم به متوسلاً لإلهه ... شربت كرام الرّسل فضل مياهه ... فغدت تعظّم حقّه تعظيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا سامعي أخباره ومفاخره ... ومطالعي آثاره ومآثره ... ومؤملي وافي الثواب ووافره ... إن شئتم فوزاً بذاك عظيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما قلت: وكثيراً ما كنت أنشد هذه القصيدة بالمغرب في مجالس التدريس، وأضيف إليها قبلها أخرى لبعض أهل المغرب الذين لهم في منازل الأمداح النبوية مقيل وتعريس، وهي قصيدة ميلادية كأنّما لم ينظمها مؤلفها إلاّ مقدّمة لهذه القصيدة الفريدة، وهي: اسمع حديثاً قد تضمّن شرحه ... روضاً من الإيناس أينع دوحه فيه الشفاء لمن تكاثر برحه ... وافى ربيع قد تعطّر نفحه أذكى من المسك الفتيق نسيما ... شهر حوى بوجود أحمد أسعدا ... بالمصطفى بين الشّهور تفرّدا يا ما أجلّ سنا علاه وأمجدا ... لولادة المختار أحمد قد غدا يزهو به فخراً تراه عظيما ... يا من بأدمع مقلتيه يغتذي ... كم ذا تنادي حسرة: من منقذي وتقول للزفرات: هل من منفذ ... بشرى بشهر فيه مولده الذي سر (1) الزمان علوّه تعظيما ...

_ (1) ق: بز.

يا ليلة رفعت بأحمد حجبها ... لمّا دنا بعد التباعد قربها وتطلعت للسعد فينا شهبها ... ضاءت لها شرق البلاد وغربها وتأنّقت أرجاؤها تنعيما ... أسدى إليك الدهر حسن صنيعه ... وحباك من غضّ الجنى ببديعه وافى هلال محمد بربيعه ... فاعتزّ أمر الله عند طلوعه وغدا به دين الإله قويما ... نظم الزمان بجيد عمرك درّه ... فاشكر مآثره وواصل برّه وافاك بالسرّ المصون فسرّه ... واعرف لهذا الشهر حقّاً قدره فلقد غدا بين الشهور كريما ... يا صاح جاءت بالأماني أسعد ... وأطلّ بالبشرى الكريمة مولد هذا ربيع فيه أنجز موعد ... شهر كريم جاء فيه محمد صلّوا عليه وسلّموا تسليما ... ثم قلت أنا عند ختم درس " الشفا "، موطّئاً لقصيدة ابن الجنان المذكور ولعذب براعتها مرتشفا، ما نصه والأعمال بالنيات: انشق أزاهر عن فنون رياض ... للعلم واكرع من عذاب حياض واسق الرياض بذكره الفيّاض ... واحفظ كلاماً للإمام عياض قد تممت أقسامه تتميما ... لله روض منه أينع دوحه ... يجنى به من الكريم ومنحه فهو الشفاء لمن تكاثر برحه ... مسك الختام به تعطر نفحه فشذاه في الأرجاء صار شميما ...

فاضت علينا من هداه عوارف ... زهر وأنوار وظلّ وارف ونمارق مصفوفة ومطارف ... يا حسن ما أبداه فذّ عارف درّاً بأسلاك الحديث نظيما ... لم لا وبالملك الشّفيع تشرّفا ... خير البريّة ركن أرباب الصفا من أسعد الراجي وقصداً أسعفا ... طه النبيّ الهاشمي المصطفى صلّوا عليه وسلّموا تسليما ... وقد رأيت بعد وصولي إلى هذا الموضع من هذا الكتاب أن أذكر قصدية ابن الجنان المذكور في رويّ تلك القصيدة غير مخمسة مستقلة بنفسها، وهي قوله رحمه تعالى: صلّوا على خير البريّة خيما ... وأجلّ من حاز الفخار صلوا على من شرّفت بوجوده ... أرجاء مكّة زمزماً وحطيما صلوا على أعلى قريش منزلاً ... بذراه خيّمت العلا تخييما صلوا على نور تجلّى صبحه ... فجلا ظلاماً للضلال بهيما صلّوا على هاد أرانا هديه ... نهجاً من الدين الحنيف قويما صلّوا على هذا النبيّ فإنّه ... من لم يزل بالمؤمنين رحيما صلّوا على الزاكي الكريم محمد ... ما مثله في المرسلين كريما ذاك الذي حاز المكارم فاغتدت ... قد نظّمت في سلكه تنظيما من كان أشجع من أسامة في الوغى ... ولدى الندى يحكي الحيا تجسيما طلق المحيّا ذو حياء زانه ... وسط النّديّ وزاده تعظيما حكمت له بالفضل كلّ حكيمة ... في الوحي جاء بها الكتاب حكيما وبدت شواهد صدقه قد قسّمت ... بدر الدّجى لقسيمه تقسيما والشمس قد وقفت له لمّا رأت ... وجهاً وسيماً للنبي وسيما كم آية نطقت تصدّق أحمدا ... حتى الجماد أجابه تكليما

والجذع حنّ حنين صبّ مغرم ... أضحى للوعات الفراق غريما جلّت مناقب خاتم الرّسل الذي ... بالنّور ختّم والهدى تختيما وسمت به فوق السماء مراتب ... بمقام صدق عزّ فيه مقيما فله لواء الحمد غير مدافع ... وله الشفاعة إذ يكون كليما نرجوه في يوم الحساب، وإنّما ... نرجو لموقفه العظيم عظيما ما إن لنا إلاّ وسيلة حبّه ... وتحية تذكو شذاً وشميما ولخير ما أهدى امرؤ لنبيّه ... أرج الصلاة مع السلام جسيما يا أيّها الراجون منه شفاعةً ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما وهذه قصيدة بديعة مخمسة من كلام الشيخ الأستاذ أي العلاء إدريس بن موسى القرطبي (1) في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقف عليها أبو عبد الله ابن الجنان المذكور وقرّظها بما سنذكره بعدها قريباً، وهي: أهلاً بكم يا أهل هذا النادي ... أهل اعتقاد الوعد والميعاد أهدوا الصلاة إلى النبي الهادي ... وصلوا السلام له مع الآياد يندى نسيماً مذكراً تسنيما ... هو أول الشفعاء يوم المحشر ... وسواه بين تقدّم وتأخّر بهت الحضور لهول ذاك المحضر ... والكلّ في الخطب العميم الأكبر قد هيّمت ألبابهم تهييما ... ذاك المقام الأشهر المحمود ... هو للنبيّ محمّد موعود فيه الشفاعة ذخرها موجود ... درك المراد وحوضه المورود فضل الكليم به وإبراهيما ...

_ (1) هو إدريس بن محمد بن محمد بن موسى الأنصاري القرطبي، مال إلى العربية والآداب وأقرأ ذلك بقرطبة إلى أن تملكها الروم فخرج إلى سبتة وأقرأ هنالك؛ وكانت له مشاركة في النظم والنثر مع غلبة الانقباض عليه والصلاح؛ توفي آخر سنة 647 (التكملة: 197) .

عيسى وموسى والخليل مروّع ... من هول مطّلع هنالك يفظع فيقال أحمد قل فإنك تسمع ... فيقوم يحمد ربّه فيشفّع فضلاً من الرب العظيم عظيما ... يا أمّة المختار أنتم أمّه ... والهول قد عمّ البسيطة يمه والأنبياء سواه كلّ همّه ... تخليص مهجته وليس يهمّه من كان في الدنيا عليه كريما ... صلى الإله على الذي صلى عليه ... عشراً بواحدة يزكّيها لديه وأراه في الدارين قرّة ناظريه ... يا قاصدين إلى وصولكم إليه راجين من أرج القبول نسيما ... لولا وصيّة صاحب التنزيل ... أن لا يقال له غلوّ القيل قول الغلاة لصاحب الإنجيل ... لغلوت في التعظيم والتبجيل عظم المكانة يوجب التعظيما ... طوبى لقلب قد تلالا إذ صفا ... بالسرّ منه قد تثبت إذ هفا خطّت به آيات حبّ المصطفى ... فغدا لصاحبه بذلك مصحفا يهدي إلى نهج النّجاة قويما ... فاقت عللا ذكراه إذ راقت حلى ... ملأ النبوّة أمهم حين اعتلى في ليلة الإسراء أعلى معتلى ... كتب الإله له التقدم في العلا وعليهم التفويض والتسليما ... وكذاك يسلم في الشفاعة كلّهم ... ومحلّهم عند الإله محلهم ظلّ النبيّ محمد هو ظلهم ... يمشون تحت لوائه فيدلهم يندى عليهم بهجة ونعيما ...

أوصافه من كل حسن أبهج ... العرف ينفح والسنا يتبلّج فتأرج الأرجاء منه وتبهج ... فاق الزواهر نورها يتوهّج والزهر نفّاح النسيم وسيما ... طلق المحيّا منهل للنائل ... أنحى على الدنيا بزهد كامل هو مثّل الدنيا بظلّ زائل ... لم ترضه حال النّعيم الحائل ما حاول الترفيه والتنعيما ... ما ورّث المختار مال مؤمّل ... إلا جواهر في الكتاب المنزل أشهى لقلب الناظر المتأمّل ... وأقرّ إعجاباً لعين المجتلي من كلّ قيمة مقتضٍ تقويما ... وفّقت يا من لم يخالف نصّه ... حزت الكمال وليس تخشى نقصه نهج الهدى قول النبيّ اقتصّه ... بالوحي شرّفه الإله وخصّه شرفاً على شرف السناء صميما ... سبحان موحٍ لا يحدّ له الكلام ... من قال ذات كلام خلاق الأنام خلقٌ فذلك آثم كلّ الأثام ... ذاك الذي في الدين ليس له ذمام إلا ذمام لا يزال ذميما ... ضلّ الذي يبغي الهدى ممّا سواه ... وهوى به في كلّ مهواة هواه من فارق الفاروق قد تبّت يداه ... حيران لم يهد السبيل إلى هداه لا يعرف التحليل والتحريما ... بالمدح مجد المصطفى يمّمته ... من حلي أوصاف له نظمته لم أبلغ المعشار إذ أحكمته ... بعضاً نسيت وبعضه ألهمته قلّدته جيد الزمان نظيما ...

لو فزت بالإحسان من حسّان ... وسحبت أذيالي على سحبان أو أيدتني لسن كلّ زمان ... من كلّ ذي زعم عظيم الشان ما كنت بالمعشار منه زعيما ... إدريس حفّتك الحقوق حفوفا ... هلاّ خففت إلى الرسول خفوفا وقريت بالعزم الهموم ضيوفا ... وشدوت أن هال الزمان صروفا مهلاً كفاك معلّمي التعليما ... ثقة بفضل الواحد القهّار ... ملك الملوك مصرّف الأعصار جعل النبي مكرم الآثار ... وأمدّه بالنصر والأنصار وأتمّ نعمته له تتميما ... هل أجلون بصري بكحل سناه ... يا سعد من كحلت به عيناه ظفرت يداه، وساعدته مناه ... لله ذاك الأفق ما أسناه كرم المحلّ فيقتضي التكريما ... ونصّ تقريظ ابن الجنان على هذه القصيدة هو قوله: ما زال كلّ حليف ... لله أضحى وليّا وللعلوم خليلاً ... وعن سواها خليّا يصوغ عقيان مدحٍ ... للهاشميّ حليّا ويوجب الحقّ فيه ... إيجابه الأوليّا ويقتفي في رضاه ... نهجاً جليلاً جليّا والكلّ أحظاه حظّ ... فالفوز يلفى مليّا لكنّ إدريس منهم ... حاز المكان العليّا ولا يخفاك أنّه التزم في هذه القطعة ما لا يلزم من اللام قبل الياء، رحمه الله تعالى.

ولا بأس أن نورد هنا ما حضر من التخميسات الموافقة لتخميس ابن الجنان المذكور السابق أولاً في البحر والروي والمنحى الذي لا يضل قاصده، وكيف لا وهو مدح (1) الجناب الرفيع العظيم النبوي. فمن ذلك قول أبي إسحاق إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الإشبيلي، فإن بعضاً ذكر أنّها من قوله لما أظهر الإسلام، وهي لا تقتضي رفع الريبة فيه والاتهام (2) : جعل المهيمن حبّ أحمد شيمةً ... وأتى به في المرسلين كريمةً ... فغدا هواه على القلوب تميمةً ... وغدا هداه لهديهم تتميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما أبدى جبين أبيه شاهد نوره ... سجعت به الكهّان قبل ظهوره ... كالطير غرّد معرباً بصفيره ... عن وجه إصباح يطلّ نسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما أنس الرسالة بعد شدّة نفرةٍ ... منجى البرية وهي في يد غمرةٍ ... محيي النبوّة والهدى عن فترةٍ ... فكأنّما كفل الرشاد يتيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

_ (1) مدح: سقطت من ق. (2) لم أجد هذه المخمسة منسوبة لابن سهل الإسرائيلي إلا في النفح، ولم ترد في ديوانه (ط. صادر 1967) .

الله أوضح فضله فتوضّحا ... والله بيّن حبّه في " والضحى " ... والجذع حنّ له هوىً فترنّحا ... والماء فاض بكفّه تسنيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ريّا الرواية عن علاه زكية ... نجواه ربّانية ملكية ... أوصافه علويّة فلكية ... فإخال شعري عندها تنجيما (1) ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما احتثّ في السبع الطباق براقه ... والأرض واجمة تخاف فراقه ... سبحان من أدنى سراه فساقه ... شخصاً على ملك الملوك كريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما فاشتمّ ريحان القلوب الطيّبا ... ودنا فأسمع يا محمد مرحبا ... إنّي جعلتك جار عرشي الأقربا ... إن كنت قبلك قد جعلت كليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا ليلة يجري الزمان فتسبق ... الحجب فيها والأرائج تفتق ... ما كان مسك الليل قبلك يعبق ...

_ (1) ق: تفخيماً، وما أثبته أنسب.

بشرى محمد استفاد نسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما حتى إذا اقتعد البراق لينزلا ... نادته أسرار السموات العلا ... يا راحلاً ودّعته لا عن قلى ... ما كان عهدك بالغيوب ذميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صعد النجود وسار في الأغوار ... سمك السما طوراً وبطن الغار ... متقسّماً في طاعة الجبّار ... ما أشرف المقسوم ولاتقسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما الشافع المتوسل المتقبّل ... القانت المدّثّر المزّمّل ... وافى وظهر الأرض داج ممحل ... فجلا البهيم به وأروى الهيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما دفعت كرامته الزنوج عن الحرم ... ودعاه جبريل المنزه في الحرم ... وعزت له آيات نون والقلم ... خلقاً به شهد الإله عظيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما طاوٍ يفيض الزاد في أصحابه ... غيث ولكن كان يستصحى به ... طابت ضمائر قلبه وترابه ...

منه بسرّ لم يكن مكتوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا شوقي الحامي إلى ذاك الحمى ... فمتى أقضيه غراماً مغرما ... ومتى أعانقه صعيداً مكرما ... بضمير كلّ موحّد ملثوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ومن ذلك قول بعض الوعاظ، وأظنه من أهل المشرق: جلّ الذي بعث الرسول رحيما ... ليردّ عنّا في المعاد جحيما ... وبه نرجّي جنةً ونعيما ... أضحى على الباري الكريم كريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ما ضلّ عن وحي الإله وما غوى ... حاشا رسول الله ينطق عن هوى ... الصادق الثقة الأمين بما روى ... قد نال من رب السماء علوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما وافى له الروح الأمين مبشّرا ... نادى به يا خير من وطىء الثرى ... أجب المهيمن يا محمد كي ترى ... ملكاً كريماً في السماء عظيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما فأجابه المختار حين دعا به ...

ربّ السموات العلا لخطابه ... ركب البراق وقد أتى لجنابه ... أمسى له الروح الأمين نديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما فمتى أرى الحادي يبشّر باللّقا ... ويضمّه بان المحصّب والنّقا ... وأرى ضريح المصطفى قد أشرقا ... مولى حليماً لن يزال رحيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما وأقول للزوّار قد نلت المنى ... يهنيكم طيب المسرة والهنا ... فاستبشروا من بعد فقرٍ بالغنى ... فالله زادكم به تكريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ثمّ الرضى عن آله الكرماء ... وكذاك عن أصحابه الخلفاء ... فهواهم ديني وعقد ولائي ... قوماً تراهم في المعاد نجوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ومنها قول بعض فضلاء المغاربة رحمه الله تعالى: يا أمة الهادي المبارك أحمد ... يهنيكم نيل الأماني في غد ... بمحمدٍ فزتم ومن كمحمد ... إن شئتم أن تدركوا التتميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلّوا على البدر المنير الزاهر ... صلّوا على المسك الفتيق العاطر ... صلّوا على الغصن البهيّ الناضر ... وتنعّموا بصلاتكم تنعيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من بالنبوّة زيّنا ... صلّوا على من بالكمال تمكّنا ... بمحمّد فزنا بإدراك المنى ... فضلاً منحنا حادثاً وقديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على البدر المنير اللائح ... صلّوا على الهادي الحبيب الناصح ... صلّوا على المسك الفتيق الفائح ... للرشد فهّمَ والهدى تفهيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من مجده قد أسسا ... والماء بين بنانه قد بجّسا ... وأتت إليه سرحةٌ حتى اكتسى ... بفروعها إذ خيمت تخييما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من كان يبصر من قفا ... وعليه سلّمت الجنادل والصّفا ... والذئب قال صدقت أنت المصطفى ... وشكا إليه بازل قد ضيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلّوا على من قد شفى بالريق ... عين الضرير ولدغة الصدّيق ... وأعاد طعم الماء مثل رحيق ... إذ مجّ فيه العنبر المختوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من بالملائك جيّشا ... وغدت تظلله الغمام إذا مشى ... حرست سماء الله لمّا أن نشا ... ليكون سرّ حبيبه مكتوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا عليه كلّ حين تربحوا ... وبهديه مهما اهتديتم تفلحوا ... والأجر يشملكم فجدّوا تنجحوا ... وإذا أردتم أن يكون عظيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا بجمعكمعلى شمس الهدى ... صلّوا على بدر يزين المشهدا ... صلّوا عليه به الرشاد تمهّدا ... والذكر بيّن فضله تفخيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا بإخلاص على خير البشر ... صلّوا على من فاق حسناً واشتهر ... ونمت فضائله وشقّ له القمر ... ولكم دليل في علاه أقيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلّوا على من قد رأى الرحمانا ... بالقلب أو بالعين منه عيانا ... عن قاب أو أدنى مقام كانا ... فخذ الفوائد كي تفاد علوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا عليه كلّكم لا تسأموا ... وتبركوا بصلاته وتنعّموا ... فعليه صلّى الأنبياء وسلّموا ... شرفاً لهم إذ أمّهم تقديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا حاضرين بلغتم كلّ المنى ... عن جمعكم من فضله ذهب العنا ... وإليكم والله قد وجب الهنا ... بمحمدٍ كرّمتم تكريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما قولوا برغم معاندين وحسّد ... كي ترغموا أنفاً لكلّ مفنّد ... صلى الإله على النبيّ محمد ... أبداً وزاد لقدره تعظيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا ربّ يا ذا المنّ والإحسان ... جد بالرضى والعفو والغفران ... للوالدين ومنشد الأوزان ... والسّامعين أنلهم تنعيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلى عليه الله ما اجتمع الملا ... صلى عليه الله ما قطع الفلا ... صلى عليه الله ما انتجع الكلا ... أبداً وما رعت السّوام هشيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ومن ذلك قول الإمام العالم الشهير الأديب مالك بن المرحل المالقي ثم السبتي، وهي من غرر القصائد، وفيها لزوم ما لا يلزم من ترتيبها على حروف المعجم يجعلها بدأ ورويّاً على اصطلاح المغرب: ألف: أجلّ الأنبياء نبيء ... بضيائه شمس النّهار تضيء ... وبه يؤمّل محسن ومسيء ... فضلاً من الله العظيم عظيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما باء: بدا في أفق مكّة كوكبا ... ثمّ اعتلى فجلا سناه الغيهبا ... حتى أنار الدهر منه وأخصبا ... إذ كان فيض الخير منه عميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما تاء: تبيّنت الهدى لمّا أتى ... فنفى الشريك عن القديم وأثبتا ... أحديّةً من حاد عنها قد عتا ... وتلا كلاماً للكريم كريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ثاء: ثوى في الأرض منه حديث ...

في كلّ أفق طيبه مبثوث ... داع بأنواع الهدى مبعوث ... يتلو نجوماً أو يهز نجوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما جيم: جلا بسراجه الوهاج ... ما جنّ من ليل الظّلام الداجي ... وسقى القلوب بمائه الثجّاج ... فأصارها بعد الغموم غميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما حاء: حمى دين الهدى بصفائح ... وسما بشمّ كالجبال أراجح ... من كلّ أزهر هاشمي واضح ... لولا نداه غدا النبات هشيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما خاء: خبت نيران جهل شامخ ... آيات علم للرسالة راسخ ... من مثبت ماح ومنس ناسخ ... قد خص بالذكر الحكيم حكيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما دال: دعا فأجاب كلّ سعيد ... وأتى بوعد صادق ووعيد ... حتى أقرّ الناس بالتوحيد ... وتجنّبوا الإشراك والتجسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ذال: ذباب حسامه مشحوذ ... للناكثين، وعهدهم منبوذ ... أمّا السعيد فبالنبيّ يلوذ ... فيدال من ذلّ الشقاء نعيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما راء: روينا عن ذوي الأخبار ... أنّ الندى والبأس مع إيثار ... بعض صفات المصطفى المختار ... كم قد تقدم بالأنام زعيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما زاي: زعيم بالنزال عزيز ... وبليغ معنى في المقال وجيز ... فلقوله من فعله تعزيز ... ولربما عاد الكلام كلوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما طاء: طويل السيف متسع الخطا ... رحب الذراع ومن يمد لهم سطا ... يردي العدا وإذا ارتدى متخمطا ... يبري عذاباً إذ ألام أليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ظاء: ظهير للعباد حفيظ ... حظ لدى ربّ العباد حظيظ ... حقّ له التأبين والتقريظ ... ميتاً وحيّاً ظاعناً ومقيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

كاف: كريم العنصرين مبارك ... متفرد بالجاه ليس يشارك ... فهو الذي بمقامه يتدارك ... والهول يغدو مقعداً ومقيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما لام: له عقد اللواء الأحفل ... وله الشفاعة في غد إذ تسأل ... وإذا دعا فدعاؤه متقبّل ... حق الرحيم بأن يرى مرحوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ميم: ملائكة الإله تسلّم ... فوجاً عليه إذ بدا وتعظّم ... ويمرّ جبريل بها يتقدّم ... فيضاعف التعظيم والتّكريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما نون: نبيّ جاءنا بتبيان ... وبمعجزات أبرزت لعيان ... وبحسبه أن جاء بالقرآن ... يشفي قلوباً تشتكي وجسوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صاد: صفيّ للإله ومخلص ... ومقرّب ومفضّل ومخصّص ... ذهب سبيك وزنه لا ينقص ... قد طاب خيماً في الورى وأروما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ضاد: ضمين نصحه ممحوض ... ضافي القراءة بالعلوم يفيض ... إن غاض ماء البحر ليس يغيض ... لمّا استمرّ زلاله تسنيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما عين: عزيز ذكره مرفوع ... في الأنبياء وقوله مسموع ... مشروح صدر حبّه مشروع ... من لا يدين بذاك كان ذميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما غين غزا من زغ عنه ومن طغى ... وغدا يشبّ لمن طغى نار الوغى ... حتى أقامت من عصا بعد الصغا ... وتقوم النار العصا تقويما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما فاء: فواتح سوؤة الأعراف ... وبراءة والرعد والأحقاف ... أحظته يالأقسام والأوصاف ... فمتى توفّي حقّه منظوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما قاف: قوافي النّظم عنه تضيق ... أيطيقه الإنسان ليس يطيق ... فالخلق في التقصير عنه خليق ... ولو أنهم ملأوا الفضاء رقوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

سين: سلام كالنفيس تنفّسا ... وقد اجتنى ورداً وصافح نرجسا ... أهدى إليه في الصباح وفي المسا ... بقصائد كادت تكون نسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما شين: شمائله الكريمة تعطش ... من كان من سكر المحبّة يرعش ... لكن أضاع العمر فيما يوحش ... فغدت ندامته عليه نديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما هاء: هو الهادي الذي اقتدح النّهى ... فتفكرت في ملك من رفع السّها ... وقضى بحدّ للأمور ومنتهى ... فأفادها النظر السديد عموما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما واو: وهي ركن التجلد، بل هوى ... لمّا ثوى في الترب من بعد التّوى ... فحوى الضريح الرحب نجماً ما غوى ... أجرى من الدمع السجوم سجوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما لام: لأجلك فاض دمعي جدولا ... فاخضرّ آس آساك إذ يبس الكلا ... يا خير من كلأ المكارم والعلا ... وحمى الحمى ورمى فأعمى الروما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ياء: يحيّيه ويسقيه الحيا ... ربّ العباد مجازياً وموفيا ... ومشرفاً ومسلماً ومصليا ... يا مسلمين ورثتم التسليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ومن ذلك قول الفقيه الكاتب أبي العباس أحمد بن محمد بن العباس المغربي حسبما نقلته من المجلّد الخامس والعشرين من كتاب " منتهى السول في مدح الرسول " (1) للحسن بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن عذرة المغربي الأنصاري رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا بقصده، وهي أيضاً مرتبة على حروف المعجم ما عدا الابتداء وبيوت الانتهاء، غير أن ترتيب حروف المعجم في آخر الأشطار ولم يلتزم صاحبها الابتداء كما فعل مالك بن المرحل، رحمه الله تعالى: الله زاد المصطفى تعظيما ... وقضى له التفضيل والتقديما ... وأناله شرفاً لديه جسيما ... فهو المتمّم فخره تتميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من خصّ بالأنباء ... وأبوه ما بين الثرى والماء ... ثمّ استمرّ النّور في الآباء ... فتوارثوه كريمة وكريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

_ (1) قد ذكرت في المقدمة نقلا عن رحلة العياشي قول هذا الرحالة إن المقري لم يطلع على كتاب " منتهى السول " وهذا هو المؤلف يذكر إطلاعه على الجزء الخامس والعشرين منه؛ وبما أن الكتاب كثير الأجزاء فكلام العياشي يظل يعني أن المقري لم ير الجزء الذي ذكر فيه مدح النعل النبوية.

صلّوا على بدر بدا من يثرب ... فأضاء بالأنوار أقصى المغرب ... وجلا عن الدنيا دياجي الغيهب ... فبدا لنا نهج الرشاد قويما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من بالشرائع قد أتى ... وأباد أحزاب الطغاة وشتّتا ... وأبان أسباب النجاة ووقّتا ... للأمّة التحليل والتحريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من بالغيوب يحدّث ... وبروعه الروح المقدس ينفث ... محبوبنا وشفيعنا إذ نبعث ... في يوم لا يدري الحميم حميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على صبح الهدى المتبلج ... صلّوا على بحر الندى المتموج ... صلّوا على روض الجمال المبهج ... كيما تنالوا الفوز والتنعيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على غيث الأنام السافح ... صلّوا على المسك الذكيّ النافح ... أزرت روائحه بكلّ روائح ... فالأرض طبّقها شذاه نسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلّوا على من عهده لا يفسخ ... صلّوا على من شرعه لا ينسخ ... صلّوا على من حزبه لا يمسخ ... نبأ يُفهّم فضله تفهيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من فخره لا ينفد ... صلّوا على من فضله لا يجحد ... أنّى وكتب الرّسل طرّاً تشهد ... تنبي اليهود بفضله والروما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من قد حمى عنا الأذى ... ومن الغواية والضلالة أنقذا ... صلّوا على من ذكره نعم الغذا ... وبمدحه نروي القلوب الهيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا بإخلاص على خير البشر ... من قبل نشأته المباركة اشتهر ... كم كاهن عنه أبان وكم خبر ... ولكم دليل في علاه أقيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من جلّ مولده وعز ... ضاءت قصور الشام لمّا أن برز ... وتدانت الشّهب الثواقب كالخرز ... أو كاللآلي نظّمت تنظيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلّوا على من يوم مولده سطا ... بجميع آلهة الضلالة والخطا ... وهوى له عرش اللعين وأسقطا ... والفرس هدّم صرحهم تهديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من ليس فظّاً غالظا ... لأخيه في الإرضاع كان محاظظا ... فاعجب لذلك كيف كان ملاحظا ... للعدل فينا مرضعاً وفطيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من شأوه لا يدرك ... صلّوا على من شأوه لا يشرك ... موسى وعيسى والخليل تبركوا ... بلقائه وعنوا له تسليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من خلفه صلى الرسل ... شرف على تمكين عزّته يدل ... فإذن فقل هو سيد لهم ودل ... لا تخش توبيخاً ولا تحشيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من قد سرى نحو السما ... ليلاً وعاد وما برحنا نوّما ... بالروح والجسم المطهّر قد سما ... قله وراغم من أبى ترغيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على من قد رأى الرحمانا ... بالقلب أو بالعين منه عيانا ... من قاب أو أدنى مكان كانا ... فخذ الفوائد واحذر التجسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على من بالمحبّة خصصا ... والقلب منه شقّ حتى خلّصا ... من حظ إبليس اللّعين ومحّصا ... وأعيد ما إن يشتكي تثليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من بالسيادة قد حضي ... وانشقّ إكراماً له البدر المضي ... ولكم دليل كالصباح الأبيض ... فاسمع وكن بالمعجزات عليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من كلّمته ذراع ... وبفضله كفت المئين الصاع ... والجذع حنّ له وما الأجذاع ... بأرقّ منّا أنفساً وفهوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على من مدحه لا يفرغ ... ماذا عسى مدّاحه أن يبلغوا ... فإلهنا يثني عليه ويبلغ ... فاقرأ تجده محكماً تحكيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلّوا على من كان يبصر بالقفا ... وعليه سلّمت الجنادل والصّفا ... والذئب قال صدقت أنت المصطفى ... وشكا إليه بازل قد ضيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على من قد شفى بالريق ... عين الضرير ولدغة الصدّيق ... وأعاد طعم الماء مثل رحيق ... إذ مجّ فيه العنبر المختوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من مجده قد أسسا ... والماء بين بنانه قد بجسا ... وأتت إليه سرحة حتى اكتسى ... بفروعها إذ خيمت تخييما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على من بالملائك جيّشا ... وغدت تظلّله الغمام إذا مشى ... حرست سماء الله لمّا أن نشا ... ليكون سرّ حبيبه مكتوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من قد حباه إلهه ... بالكوثر المروي لنا أمواهه ... في يوم حشر الخلق يظهر جاهه ... إذ يقدم الرّسل الكرام زعيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على من خصّ بالحوض الرّوى ... وكذاك خصّص بالمقام واللوا ... نوحاً وآدم والكليم قد احتوى ... وابن البتول حوى وإبراهيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلى عليه الله ما قطع الفلا ... صلى عليه الله ما اجتمع الملا ... صلى عليه الله ما انتجع الكلا ... أبداً، وما رعت السوام هشيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلى عليه الله ما هطل الحيا ... صلى عليه الله ما التمع الضيا ... فلقد شفى الدنيا من الداء العيا ... ولقد حمى عنّا لظى وجحيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما (1) لله سيدنا النبيّ الأكمل ... لله برق جبينه المتهلل ... لله جود يمينه المتهطّل ... أحيا وأغنى بالنوال عديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

_ (1) قد انتهت المدحة النبوية بحسب الترتيب الهجائي ولا أدري هل هذه البقية منها أو من قصيدة جديدة.

لله منه ذاته وحقيقته ... لله منه خلقه وخليقته ... لله منه شرعه وطريقته ... فلقد جلت بشموسها التغييما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا أمة الهادي النبيّ المصطفى ... بالله لو كنّا نعامل بالوفا ... متنا عليه حسرة وتلهّفا ... حتى نؤدي حقّه المحتوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ما كان أولادنا بطول نحيينا ... ما كان أوجبنا بفرط وجيبنا ... أفنستطيع الصبر عن محبوبنا ... ما الصبر عن لقياه إلاّ لوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما لم لا نفيض على الدوام دموعنا ... لم لا نقضّ من الغرام ضلوعنا ... لم لا نخلي أهلنا وربوعنا ... حتى نعاين من ذراه رسوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما أولم يكن يحنو علينا مشفقا ... أولم يكن متعطفاً مترفقا ... أولم يعالجنا بأنواع الرّقى ... حتى اغتدى منّا العليل سليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

من مثله ما إن يضرّ وينفع ... من مثله يدرا العذاب ويدفع ... من مثله لذوي الكبائر يشفع ... من مثله بالمؤمنين رحيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا ويح نفسي كم أرى ذا صبوة ... ومسامعي عن واعظي في نبوة ... فعسى الرسول يقيلني من كبوة ... فلكم رجاه عاثرٌ فأقيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا رب بالهادي الرفيع المحتد ... اغفر لعبدك أحمد بن محمد ... فلقد توسل إذ رجاك بسيد ... ما ردّ معتلق به محروما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ناشدتكم يا سامعي هذا الثنا ... قولوا متى أشمعتموه تديّنا ... اغفر لقائله المقصر ما جنى ... بمديحه خير الورى المعصوما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما قلت: وإنّي لأسأل الله تعالى بلسان لم أعص به وهو لسان هذا المادح، إذ قال يا رب بالهادي فإنّي أحمد بن محمد بلّغه الله أمله من غفرانه بمنّه وكرمه آمين. رجع - ومن ذلك قول الفقيه الكاتب الأديب أبي العباس أحمد بن القاسم

الإشبيلي الشهير بابن القصير، وطريقه هذه مخالفة للطريق المتقدّمة من بعض الوجوه، رحم الله تعالى الجميع: الله أكرم أحمداً تكريما ... فغدا رسولاً للعباد كريما ... فاشكر غفوراً للذنوب رحيما ... أرضى النبي بقوله تعليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما لله منه هدى نبيّ مرتضى ... بالبعث منه لنا قضى لطف القضا ... ملأت فضائئله المهارق والفضا ... ودجا الوجود فعند مبعثه أضا ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما عجبت لنا منه ملائكة السما ... أن كان بالإسراء ليلاً قد سما ... ورقى البراق به وجبريل لما ... قد سرّه سرّا وجهراً سلما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما أعظم به من مرسل قد بشّرا ... بوجوده البشر السعيد ويسّرا ... لليسر فهو أجلّ مبعوث يرى ... بهداه أمته زهت بين الورى ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما من جاء بالقرآن معجزة له ... أعيا الورى من بعده أو قبله ... الله كرّمه وفضّل فضله ...

وأجلّ منه فرعه وأصله ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما مَن سبّحت صمّ الحصى في كفّه ... والبدر شقّق نصفه عن نصفه ... ليرى به إعجاز من لم يصفه ... حزنا بمعجز ذكره أو وصفه ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما يكفيه أن يتلى اسمه ويكرّر ... مع اسم خالقه إذا ما يذكر ... هذا الذي يمقاله لا يفجر ... أبداً ولا لخلافه يتصوّر ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما العبد أسرف يا نبي الله ... في الذنب ساه عن تقاه لاهي ... فاشفع له من مذنب أوّاه ... يرجو كريماً منك جمّ الجاه ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما أنأى الزّمان وصوله أو سوله ... فاستصحب الأبيات منه رسوله ... فأنل بفضلك للمراد حصوله ... حسبي ثناً وازنت منه فصوله ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ابن القصير أطال فيك نظامه ... ليرى لذاك مسلماً إسلامه ... وترى مطاوع أمره وكلامه ...

لا زال يقريك الإله سلامه ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما وما أحسن قول جمال الدين بن جلال الدين الجوزي رحمه الله تعالى: فضل النّبيين الرسول محمد ... شرفاً يزيد، وزادهم تعظيما درّ يتيمٌ في الفخار، وإنّما ... خير اللآلي ما يكون يتيما ساد النبيين الكرام وكلّهم ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما والله قد صلى عليه كرامة ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما [مسدسات في مدح الرسول] ومن ذلك هذا التسديس البديع الذي هو من نظم الإمام العارف بالله تعالى علاء الدين محمد بن عفيف الدين الايجي الحسني الصفوي الزينبي - رحمه الله تعالى - ممّا رتبه على حروف المعجم والتزم الحرف أول الأشطار الأربعة وآخرها: الله أحمد أحمداً إذ يبرأ ... أوضى وضيء نوره يتلألأ أنواره كلّ العوالم تملأ ... أكوانه لولاه لم تك تنشأ إن كنتم انقدتم له تسليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما بدرٌ بدا من نوره يتطلب ... بحر بحور الجود منه تركب برّ وبرهان جلا يتقلّب ... بالمصطفى ممّن صفا أتقرب بادر بما يجدي لكم تنعيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما تالله مثل محمّد لا يثبت ... تم الكمال المنتهى ونبوّة تاج العلا بالمصطفى يتثبت ... تاهت عقول للذي هو ينعت تحف الصلاة به عليه أديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ثق بالذي يوماً يقوم ويبعث ... ثبة البريّة بالنّبي تغوّث ثبت الشّفاعة للورى يتحدث ... ثرة الطوائف للذي يتشبث ثبت لزام الباب فيه مقيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما جاء النّبيّ عوالماً يتبلج ... جاه له من جاءه يتبهج جاه ينجّي من لظى تتوهّج ... جاءت له الأشجار أرضاً تفرج جاور نبيّ الله نللت نعيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما حقَاً هو الحقّ المبين (1) الأوضح ... حبّ حباه حبّه يترنّح حسناته حثياته (2) تسترجح ... حتى القلوب بحبّه تترجّح حوت العلوم لذاته تكريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما خير البرايا دينه هو ناسخ ... خير له خير الخيور رواسخ خرّ الذي عن دينه هو بازخ (1) ... خال خليّ عن نقائص باذخ خذ باتباع فعاله ترسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما دلّ الأنام على الإله محمّد ... دامت سعادة من بأحمد يسعد دار له مأوى المحامد تحمد ... دان الوجود به ومن هو أحمد داوم على باب له تخييما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ذكر الحبيب أحقّ ما يتأخّذ ... ذخراً ليوم بالنواصي يؤخذ ذاك الشفيع لمن به يتعوّذ ... ذاك الذي بجنابه يستنقذ ذلوا له ولبابه تغنيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

_ (1) ق: الحقيق. (2) ق: حسناته. (1) ق: الحقيق.

رب النبيّ محمد هو يذكر ... رتب الحبيب كتابه متذكّر رائي محيا أحمد هو ينظر ... روح القلوب ولاؤه هو ينصر روّح بذكراه المريح نديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما زين البرايا بالوجود معزّز ... زان العوالم حسنه يتفوّز زن فضله عن كلّهم يتميز ... زد ذكره عن زلة يتحرز زلفى أنله بالمنى تتميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما سبق الأنام بفضله هو أنفس ... ساد الجميع بسؤدد يترأس سبحان من أسرى به يتأنّس ... سرّ الحبيب بسرّه يتقدّس سمع الكلام من الإله كليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما شمس الهدى بدر الدجى يتبشش ... شرف الحبيب من الوجوه يفتش شكراً لمولانا عليه وأبهش ... شوقي إليه وافر أتعطش شغل للبك (1) بالحبيب أديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صفة الكلام لذاته هو أخلص ... صفة الكتاب كماله يتلخص صفة القلوب بحبّه تتخلص ... صفة صبا صبّ وأنّى يخلص صل بالصّلاة جنابه تكليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ضفت الفيوض من الحبيب تفيّض ... ضعفي إليه آملاً يتعوّض (2) ضري وضيري كلّه يتفوّض ... ضلّ الذي في بابه لا ينهض ضمن الحبيب لذاكريه زعيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

_ (1) ق: لسانك. (2) ق: يتفوض.

طوبى لمن بحبيبه يتنشّط ... طابت به أحواله والمنشط طال اشتياقي طيبة أتبسط ... طال الإله علي طولاً يبسط طوبى بمدحته يطيب نسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ظل الهدى بهداه قد يتحفظ (1) ... ظلمات شرك قد جلت تتدلظ (2) ظلي لظلّ وداده يتحفّظ ... ظهري ظهيري حبّه أتحفّظ (3) ظني به يغدو العقاب عديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما علت المعالي بالنّبي وترفع ... عزّ علاه للذي هو يتبع عمّت عطاياه لكل ينفع ... عرش العظيم قد ارتقى يترفع عرج الإله به إليه عليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما غوث الورى ذا المصطفى هو سابغ ... غيث الندى هو في البرايا سائغ غمر النّدى أقصى النهاية بالغ ... غزر الحيا شمس وبدر بازغ غنماً نما بالمؤمنين رحيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما فخر وذخر بالمفاخر يشرف ... فرد وحيد في العوالم أشرف فتح الوجود وكل كون مردف ... فاز الفقير بلطفه يتلطف فاح النسيم من الحبيب جسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما قسم الإله بعمره فيفوّق ... قسمت وجوه الحسن منه فيسبق قمر وشمس نوره متألّق ... قمن بذكراه الدعاء معلق قطب لدائرة الوجود كريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

_ (1) ق: يتيقظ. (2) تتدلظ: تسرع في مرورها. (3) ق: أتحظظ.

كتب الإله ثناءه ما يدرك ... كتب اسمه قرب اسمه يتبرك كلّ الكمال له به يستدرك ... كنه الكمالات التي لا تدرك كيف كفى درّ الثناء يتيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما لمعات نور محمّد هي تخجل ... للشمس والبدر المنير فتخمل لذات ذكر محمّد هي أكمل ... لذوي الحوائج لائذ متكفّل لذ خذ بجد منك تلف حكيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما من مثله في العالمين معظم ... من مثله في العالمين مكرّم من للإله لدى اللّقاء يكلم ... منحاً حباه منه قد يتعلّم منّ الإله لديه صار عميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما نور له في آدم يتبين ... نقلاً إلى آبائه يتعين نأي العوالم إذ أتى متعين ... نار المجوس تخمدت تتهوّن نعماه جمت (1) إذ تعم كريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما وجه به كلّ الوجوه إليه هو ... وجه الوجاه بكله يتوجّهوا (2) ووجاهه وجه المرام فوجّهوا ... وجه إليك نبيّنا فتوجّهوا وجّه إلينا نظرة تكريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما هو مصطفى عند الإله الأوجه ... هاد لنا وبوجهه من أوجه ها إنّه وجهي لهذا أوجه ... هيه هنيئاً وجهه بالأوجه هام الفؤاد بحبّه تتييما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

_ (1) ق: جلت. (2) ق: بوجهه قد أوجهوا.

لا مثل للمختار أعلى من علا ... لاجيه ناج قد نجا كل البلى لاذ الصفيّ به يتوب فأقبلا ... لاقى النبي محمد أن يقبلا لازم محبّاً للحبيب نديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا أكرم الخلق الذي هو ملجئي ... يأتي محمد العفيفي الذي يده يمدّ إليك مرتجياً وفي ... يقن بصفوته الصفي ويكتفي يمناً لذكرك يبتدي تختيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما وله أيضاً رضي الله تعالى عنه قصيدة أخرى على طريقة هذه، وقد نظمها بعدها نفع الله تعالى بنيته، وبلّغه غاية قصده وأمنيته، وهي هذه: أحسن بطلعة أحمد هي أضوأ ... أعلن بلمعته العوالم تملأ أزين به لمّا أتى يتلألأ ... أبين بآيات له فتنبأ الله قدّمه بها تقديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما بدأ الإله بنوره فيعقّب ... بدء الذي بالمصطفى يتقلّب فيه لذي الحاجات إذ يتطلب ... بدء بذكراه به يستوهب بل هو إلى الأرب انتفع تعميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما تلت العلامات التي هي تثبت ... تبّ العدا تبّاً وعنه تتبت تمت له الآيات فيك تبكت ... توراة موسى ناطقاً هي تنعت توقيع حاجات صفوا تسليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ثبت الكمال له ومنه يورث ... ثبت الورى لو لم تكن لا تحدث ثبت بذكرى المصطفى يتحنث ... ثبت الذي بجنابه يتشبث ثبت بذكر قد تراه قديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

جاء العوالم نوره يتبلّج ... جاد العوالم بحره يتموّج جاز السّموات العلا يتعرج ... جاب الجميع بسامه يتفرج جار له جارى له تنعيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما حار العقول لمدحه إذ يمدح ... حيا الحياء بريّه يستروح (1) حي له فضل به يسترجح ... حي له حامى حمى فتروّح حي الحمى الحامي تصير سليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما خلقٌ له كلّ به يتشمّخ ... خلق له بالنقص لا يتلطّخ خلق له أحسن به هو أبذخ ... خلق يحقّ له الثّناء الأرسخ خلقٌ إلهيٌّ بذاك تميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما دار الحبيب أحقّ ما يتعمّد ... دارت بها كل السعادة تسعد دانت أهاليها بما هو يرشد ... دار بحسنى طيبة لا تبعد دارك سكوناً بالسكون مقيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ذكر الحبيب محمد هو ينقذ ... ذكر لما ينسي رسولاً ينفذ ذكر الإله ثناؤه ويلذذ ... ذكراه تنفع سامعاً يتلذذ ذيل النبي خذ اعتصم تعظيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ربّ الورى سبحانه هو أكبر ... ربّ النّبيّ محمّد فيكبر ربّ الرؤوف حبيبه فيدبر ... ربّي اصطفاه من الورى فأكبر ربّ ارتجاء للمنى تدويما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

_ (1) ق: يتروح.

زان العوالم إذ أتاها يبرز ... زاد الإله عروجه فيبرّز زادت معاليه عروجاً ينشز ... زاد لأخرى حبّه يتحرّز زعم الشفاعة ذاكريه زعيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ساد الجميع إذا أتى هو أنفس ... سار السّموات العلا يستأنس سأل الإله وزاد ما يتنافس ... سامي ذراه للمحبّ تؤنس سارع إلى ذاك الذرا تخييما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما شرف لأمّته به يتفايش ... شرق لأشرق شرقه يتفرّش شرقاً وغرباً فيه عقل يدهش ... شوقاً إليه قد إليه أجهش شكراً على النعمى تزيد نعيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صفة له ذات له هو أخلص ... صفة عن الشيء الذي يتنقص صفة له حارت عقول تفحص ... صفة شريعته النقائص تخل صفة له وبربه لتديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ضاع المديح لأحمد يتروّض ... ضاع الذي عن ذكره هو يعرض ضاف حباه كفّه ليفضفض ... ضاف بذكراه المنى يتعرّض ضاعف له الآمال صله مديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما طال العوالم إذ أتى هو يقسط ... طابت مدائحه فطاب المغبط طالت به النعمى وطاب المنشط ... طام له بحر الألى يتنشّط طالب مطالب كلّها تتميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما ظهر النبي وربّ [أحمد يلحظ] ... ظهر لأمّته ظهير ملحظ ظهروا على الأمم افتخار ملحظ ... ظلّ له ظلوا به يتحفّظوا ظلت الظلال إذا ذكرت نديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

عدّ المحاسن للنّبي يستتبع ... عدّ له آياته تتنوّع عدّاه مولاه إليه فيطلع ... عد لذكراه غداة يشفع عد باب من بالمؤمنين رحيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما غزرت له الآيات هنّ نوابغ ... غزر الحيا عزّ الورى هو سائغ غمر الرّدا بحر الندى يترفّغ ... غمر البلاد بذكره يستفرغ غمر بذكراه الفؤاد وسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما فاض الجمال وفاض منه يوسف ... فاز المحبّ بذكره لا يوسف فاضت عليه فيوضه يتزلف ... فاشٍ له الآيات لا يتكلّف فاد له كلّ بهم تقديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما قمر بدا من أفقه هو فائق ... قمر يجاب بذكره ويعلق فمقام كلّ الأنبياء وسائق ... فمقام جود عمّ كلاًّ يرفق قم بابه مستنجحاً ومقيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما كلاًّ به فتح الوجود ويدرك ... كلّ الكمالات احتوى لا يشرك كلَّ اللسان عن البيان ويمسك ... كلىء الذي بجنابه يتمسّك كل مرتجاك إليه ثق تكريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما لمحمّد هو مصطفى ومؤمل ... لمحمّد بن محمد ما يأمل لمحت عليه بروقه يتحمّل ... لمعان نور وداده يستكمل لم لا أصيب من الحبيب شميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما من مثل ذاك المصطفى يتعظم ... من كلّ وجه للكمال ليعظم منّ علينا من إله أعظم ... منه العروج إليه وهو يعظم من كان للربّ العظيم كليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

نور الإله حبيبه يتمكّن ... نادى الإله حبيبه يتمكّن نال نوالاً شرحه لا يمكن ... ناد له طوبى لمن يتمكن نادى الحبيب بذكره تكليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما والله مثل محمد لا يشبه ... والله مولاه العوالم كيف هو وجه الوجود بذاته وبه له ... وجه علا وبوجهه فتوجهوا وجدوا وجاد من النجاة مقيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما هو أكمل من كل وجه أوجه ... هو ذا الحبيب القلب منه أوجه [....] فأولى طيبه وأوجه ... هول من الأرض المكثر أوجه هانا بنار الشوق صرت سقيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما لا ريب لا مثل له والله لا ... لاحت له الآيات عرشاً قد علا لاقى ارتقاء ربّه فتوصلا ... لاج به نال المنى إلى الألا لازم لباب جنابه تقسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا أكرماً كلّ إليه يلتجي ... يأتي محمدك العفيفي الذي يقنا توسّل بالصفي ويحتذي ... يده إليك [يمدّ] فقراً ترتجي يمن افتتاح باسمه تختيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما قلت: وإنّما أثبتّ هاتين القصيدتين في جملة ما سردته، وإن كان فيهما من التكلف ما لا يخفى (1) لأوجه، أحدها: أن صاحبهما من الصالحين يسلم له ويتبرك بكلامه، ومن اعترض على مثله يخشى عليه من تسديد السهام لملامه، الثاني: أنهما مدح للنبي صلى الله عليه وسلّم وعليه من الله أزكى صلاته وأتم سلامه، الثالث: أن المراد جمع ما وقفت عليه في البحر والروي والمعنى،

_ (1) لفظة التكلف هنا قاصرة، إذ هذا النمط من السداسيات خارج على طبيعة اللغة ودلالات اللفظ.

لأن بعضاً من العلماء ذكر لي أنّه لم يطلع في ذلك إلاّ على قصيدة ابن الجنان، فأحببت أن أتعرض لتعريفه بهذا العدد وإعلامه، على أن القصد الأعظم ما هو إلا التلذذ بذكر أمداح المصطفى صلى الله عليه وسلّم، خصوصاً المقتبس فيها قوله تعالى {صلّوا عليه وسلّموا تسليما} . وقد كنت نويت أن أؤلف في ذلك بالخصوص كتاباً أسمّيه روضة التعليم في ذكر الصلاة والتسليم على من خصّه الله تعالى بالإسراء والمعاينة والتكليم والله تعالى المسؤول في التيسير، فلنزد عليه يسير. ومن ذلك هذا التسديس الذي وجدته في كتاب " درر الدرر " (1) للشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد (2) بن أحمد بن أبي بكر العطار الجزائري من جزائر بني مزغنة، وهي المشهورة الآن بالجزائر: أنوار أحمد حسنها يتلألأ ... المصطفى بحلى الكمال يحلأ الشمس تخجل وهو منها أضوأ ... النّور منه مقسّم ومجزأ قد زان ذاك النّور إبراهيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على المسك الفتيق الأطيب ... صلوا على الوِرد المعين الأعذب صلّوا على نور ثوى في يثرب ... صلوا عليه بمشرق وبمغرب ما زال في الرسل الكرام كريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على زهر الكمال النابت ... صلوا على طود البهاء الثابت صلوا على من فاق نعت الناعت ... خير الورى من ناطق أو صامت وأعزّهم نفساً وأطهر خيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

_ (1) سيورده باسم " نظم الدرر " بعد قليل. (2) بعد عبد ... محمد: سقطت من ق.

صلوا على طيب يفوح ويمكث ... صلّوا على من عهده لا ينكث صلوا على من بالهدى يتحدث ... عنه المعارف والحقائق تورث أضحى يعلمنا الهدى تعليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على من نوره يتبلج ... صلّوا على من عرفه يتأرّج للحضرة العلياء ليلاً يعرج ... صلوا على من حاز مجداً يبهج وبها على العرش المجيد مقيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على البدر المنير اللاّثح ... صلوا على صبح الرّشاد الواضح صلوا على المسك الذكي الفاتح ... صلوا على الهادي النبي الناصح الرشد فهّم والهدى تفهيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على من شرعه لا ينسخ ... صلوا على من عهده لا يفسخ صلوا على من بالثناء يضمخ ... علياؤه عليا الكمال تؤرخ نال المفاخر والكمال قديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على الهادي لأعذب مورد ... صلوا على خير الأنام الأوحد صلوا على بدر التّمام الأسعد ... بمحمّد فزنا، ومن كمحمد الله عظّم قدره تعظيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على من بالنّبوّة ينفذ ... صلوا عليه فللسّعادة يجبذ صلوا على من حبّه لا ينبذ ... أبصارنا طرّاً با؛ مد لوّذ في موقف ينسي الحميم حميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على البدر المنير الزاهر ... صلوا على الروض البهي الناضر صلوا على بحر العلوم الزاخر ... صلوا على المسك الفتيق العاطر وتنعّموا بصلاتكم تنعيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على نور يلوح ويبرز ... صلوا على مسك يفوح ويحرز بمحمّد حلل الكمال تطرز ... ولمجده درر السّيادة تفرز قد نظّمت لكماله تنظيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على من بالبهاء يخطط ... صلوا على ورد بمسك يخلط للمصطفى بسط الكرامة تبسط ... وله يواقيت السّناء تقسط وبنوره أضحى الزمان وسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على من بالمهابة يلحظ ... صلوا على من بالنبوّة يلحظ (1) صلوا على من بالهداية يلفظ ... لعصاته نار الجحيم تغيظ ورضاه هبّ لنا وطاب نسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من قدره لا يدرك ... صلوا على من باسمه يتبرك صلوا على من حبّه لا يترك ... صلوا على من للهدى يتحرّك وبه تحلى ظاعناً ومقيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على البدر المنير الأكمل ... صلوا على الروض البهي الأجمل صلوا على الهادي النبيّ الأحفل ... المصطفى الأرقى لأنزه محفل فيه تقدّم وحده تقديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على زهر أنيق باسم ... صلوا على عرف بذكيّ ناسم صلوا عليه فهو بدر مواسم ... من جوده نلنا بخير مقاسم (2) أنواره قد تممت تتميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

_ (1) ق: يحفظ. (2) ق: صلوا على من للمقاسم قاسم.

صلوا على من بالنّبوّة زيّنا ... صلوا على من بالكمال تمكنا صلوا على هاد أبان وبيّنا ... بمحمد فزنا بإدراك المنى للخلق أرسل رحمةً ورحيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على من بالكمال يخصص ... صلوا على من نوره لا ينقص صلوا عليه على الدوام وأخلصوا ... ظلّ ضفا بالأمن لا يتقلص شمل الورى طرّاً وطاب عميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على صبح تبلج بالرضى ... وقضى على ليل الضلالة فانقضى صلوا على من بالنجاة تعرّضا ... صبح تذهّب نوره وتفضضا وعلا وخيّم ضوءه تخييما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على البدر المنير الساطع (1) ... صلوا على الروض الأنيق اليانع صلوا على الصبح المنير اللامع ... صلوا على المسك الفتيق الذائع ووقاه في وهج الهجير مغيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على النّور الأعم السابغ ... صلوا على البدر الأتم البازغ صلوا على المسك الذكيّ البالغ ... صلوا على الورد المعين السائغ للواردين به غدا تتميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على من بالتقرب يوصف ... صلوا على من بالمحبّة يعرف صلوا على من بالعلا يتشرف ... صلوا عليه به الكمال يزخرف المجد فخّم ذكره تفخيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على مسك يطيب لناشق ... صلوا على الروض الأنيق الرائق إشراقه بمغارب ومشارق ... صلوا على البدر الأتم الفائق باد تنسّم حسنه تنسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما

_ (1) ق: الطالع.

صلوا على الدرّ النفيس الأنفس ... صلوا عليه فهو روض الأنفُس صلوا عليه فهو زين المجلس ... ومنى الجليس ونزهة المتأنّس راق النفوس شذاً وطاب شميما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على المختار أفضل من مشى ... صلوا على النور الذي قد أدهشا بمحمد عرف القرنفل قد فشا ... ورد لظمآن إليه تعطّشا يبري الضنى أبداً ويروي الهيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على الهادي النبيّ الأنزه ... بدر التّمام وروضة المتنزه في فضله كلّ الشهادة تنتهي ... أبداً بلثم ثراه فخر الأوجه في حبه أضحى الغرام غريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على نور بطيبة قد ثوى ... فعلا وفاض على البسيطة واحتوى صلوا عليه فليس ينطق عن هوى ... صلوا عليه فهو ينجي من هوى في موقف يذر السّليم سليما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على نور تلألأ واعتلى ... صلوا على صبح مبين يجتلى صلوا على مسك يخالط مندلا ... صلوا على درٍّ تزان به الحلى وبه المعالي خيمت تخييما (1) ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على من نال مجداً عاليا ... وسما وحاز مفاخراً ومعاليا صلوا على نور تبدّى حاليا ... وبمدحه الرحمن زين حاليا وإذا سما المخدوم زان خديما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما وقد توارد في بعض هذا التسديس مع بعض بيوت القصيدة السابقة التي أولها:

_ (1) ق: ختمت تختيماً.

يا أمّة الهادي المبارك أحمد ... حسبما يعرفه المتأمّل، والذي في ظني أن صاحب يا أمة الهادي متأخر عن ابن العطار فهو الذي أخذ منه، والله سبحانه أعلم. وتوارد أيضاً في عدّة أبيات مع تخميس الكاتب أبي العباس ابن جمال الدين المتقدم ذكره وأوّله: الله زاد محمداً تعظيما ... وهما على منوال واحد، غير أن ذلك تخميس وهذا تسديس، وابن جمال الدين أقدم من ابن العطار تاريخاً، فيحتمل أن يكون ألمّ بكلام ابن جمال الدين، أو ذاك من توارد الخاطر. ورأيت في هذا الكتاب تسديساً آخر لم يرتبه على حروف المعجم، وجعل روي الشطرين الأخيرين حرف اللام، فأحببت ذكره هنا زيادة في التبرك بمدح المصطفى عليه أجلّ الصلاة والسلام، وهو: نور النّبي المصطفى المختار ... أربت محاسنه على الأنوار مرآه يخجل بهجة الأقمار ... نور ينجّي من عذاب النّار قد زان ذاك النّور إسماعيلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا صلوا على البدر المنير المشرق ... صلوا عليه بمغرب وبمشرق صلوا على غصن الكمال المورق ... بالمصطفى المختار برق الأبرق يهدي غراماً للنفوس دخيلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا صلوا على من قد تناهى فخره ... صلوا على من قد تعاظم قدره صلوا على من قد تأرج نشره ... صلوا على من قد تناسق دره عقد السّناء لمجده إكليلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلّوا على خير الأنام المرسل ... صلّوا على البدر المعين السلسل صلّوا على أسنى سنا المتوسل ... صلّوا على نور الهدى المسترسل ظلّ علينا لا يزال ظليلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا صلّوا على النّور الأتمّ الأكبر ... صلّوا على من فاق عرف العنبر صلّوا عليه فهو أصدق مخبر ... كم زان ذكر المصطفى من منبر وأراح من داء الضّلال عليلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا صلّوا على النّور الأتمّ الأنور ... صلّوا على من فاق كلّ مبشّر صلّوا عليه هديتم من معشر ... صلّوا على بدر يرى في المحشر حاز الجمال فلا يزال جميلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا صلّوا على النّور البهيّ المغرب ... صلّوا عليه بمشرق وبمغرب صلّوا على الورد الشهي المشرب ... بالفكر يشرب ويح من لم يشرب منه، وينقع بالورود غليلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا صلّوا على من فخره لا ينكر ... صلّوا على من في النجاة يفكّر صلّوا على من بالنبوّة يذكر ... صلّوا على من بالهداية يشكر شكراً على مرّ الزمان حفيلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا صلّوا على من بالسّيادة قد سما ... صلّوا على من في الكمال تقسّما صلّوا على صبح بدا متبسما ... صلّوا على طيب سرى وتنسّما وغدا وراح معطّراً وبليلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا صلّوا على مسك يخالط عنبرا ... صلّوا عليه سرى وفاح وما انبرى صلّوا عليه حوى الكمال الأكبرا ... لبس الجمال مطرزاً ومحبرا وبذاك قد خص الجليل جليلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلّوا على من بالنبوّة توّجا ... صلّوا على صبح بدا وتبلجا صلّوا عليه لقد أضاء وأبهجا ... ومحا برونق نوره ظلم الدجى نور يعود الطرف منه كليلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا صلّوا على نور تبلّج لائحا ... صلّوا على نور تبرّج واضحا صلّوا على مسك تأرّج فائحا ... وبطيبه ملأ الوجود روائحا وبحبّه يستوجب التبجيلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا صلّوا على من نوره ملأ الفضا ... صلّوا عليه لقد أضاء وما انقضى صلّوا على من خصّ حقّاً بالرضى ... لنجاتنا خير الأنام تعرّضا وهدى إلى نيل الرشاد سبيلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا صلّوا على بدر يدوم كماله ... باقٍ على مرّ الزمان جماله صلّوا على من قد تعاظم حاله ... ودنا إلى ورد الرضى ترحاله وإلى الورود به أجدّ رحيلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا صلوا بأجمعكم على شمس الهدى ... صلّوا على بدر يزين المشهدا صلّوا عليه فمن رآه تشهدا ... صلّوا عليه به الرشاد تمهدا أرضى النزيل وبيّن التنزيلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا صلّوا على من قد تأثل (1) مجده ... فسما به غور الحجاز ونجده ما زهره لولاه أو ما ورده ... بالمصطفى المختار يعذب ورده في تربه ما أعذب التقبيلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا صلّوا على محبوبنا مطلوبنا ... صلّوا عليه فهو روض قلوبنا صلّوا عليه فهو عطر جيوبنا ... صلّوا على مطلوبنا محبوبنا لا نرتضي عن حبّه تبديلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

_ (1) ق: تأصل.

صلّوا على خير الأنام الأطهر ... صلّوا على النور الأتم الأزهر صلّوا على الصبح المنير الأشهر ... صلّوا عليه باتصال الأشهر (1) الله فضّلنا به تفضيلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا صلّوا على من قد تناهى في العلا ... صلّوا على من كان أكمل أجملا (2) صلّوا على در تزان به الحلى ... المجد ألبسه الكمال مكمّلا والله كمّل مجده تكميلا ... صلّوا عليه بكرةً وأصيلا وأظن أنّي رأيت بعض هذه القصيدة في كتاب العروسي المغربي، وهو متأخر. [قصائد ومقطعات في مدح الرسول] ومن قصائد هذا الكتاب قصيدة صرح فيها بابن المغربي، وهي: أهدت لنا طيب الروائح يثرب ... فهبوبها عند التنسم يطرب رقت فرقّ من الصبابة والأسى ... قلب بنيران البعاد يعذّب شوقاً إلى اسنى نبيّ حبّه ... يحلو على مرّ الزمان ويعذب المصطفى أعلى البرية منصباً ... قد جل في العلياء ذاك المنصب فزنا به بين الأنام بديمة ... أبداً علينا بالأماني تسكب حاز السيادة والكمال محمد ... فإليه أشتات المحامد تنسب محبوبنا ونبيّنا وشفيعنا ... يدني إلى ورد الرضى ويقرّب بضيائه الملتاح أشرق مشرق ... وبنوره الوضاح أغرب مغرب وبه وردنا الأمن عذباً صافياً ... وبه ترقى في المعالي يشجب

_ (1) ق: من نبي أنور. (2) ق: صلوا عليه فما أتم وأجملا.

صبح الهدى أنواره بنبيّنا ... صبحاً تروق الناظرين وتعجب إن طابت الأنفاس من زهر الرّبى ... ريّاه أذكى في النفوس وأطيب صيّرت أمداح النبيّ المصطفى ... لي مذهباً يا حبّذاك المذهب فعليّ من أمداح أحمد خلعة ... موشيّة ولها طراز مذهب وبمدحه شمس الرضى طلعت على ... أفقي تضيء ونورها لا يغرب أترى يبشرني البشير بقربه ... وأبثّ أشواق الفؤاد وأندب ويقال لي بشراك قد نلت المنى ... يا مغربي إلى متى تتغرب هذا مقرّ الوحي هذا المصطفى ... هذا الذي أنواره لا تحجب رد ورد طيبة واشف من ألم النوى ... قلباً على جمر الأسى يتقلب كم ذا التواني عن زيارة مورد ... عذب المقام به ولذّ المشرب منّا السلام على النّبيّ محمد ... ما أسفرت شمس وأشرق كوكب وقد سمي هذا الكتاب " بنظم الدرر في مدح سيد البشر " والورد العذب المعين في مولد سيّد الخلق أجمعين وليس هو بابن العطار المشرقي (1) الذي كان معاصراً لابن حجّة الحموي، فإن ذلك متأخر عن هذا، وهذا مغربيّ وذاك مشرقي، فلم يتفقا لا في زمان ولا في مكان، سوى اشتراكهما في الشهرة بابن العطار. ووجدت على ظهر أول ورقة من بعد تسميته السابقة ما صورته: ممّا أنشأه الشيخ الفقيه القاضي العدل الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد ابن أبي بكر بن يوسف العطار، ورواية العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن أحمد ابن الأمين الأقشهري، قرأت هذا الكتاب وقصائده على حروف المعجم وقصيدتين غيرها على ناظمها القاضي المذكور قراءة ضبط وتصحيح ورواية مقابلة

_ (1) يعني بابن العطار المشرقي، شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي الدنيسري، وله في المدائح النبوية " عنوان السعادة " (الدرر الكامنة 1: 287) .

بأصله بموضع الحكم في مدينة الجزائر من أقصى إفريقية - حرست - في دول متفرقة، وآخرها يوم الثلاثاء لليلة بقيت من ذي القعدة أواخر عام سبعة وسبعمائة، ونصّ ما كتب على نص قراءتي عليه: صحيح ذلك، وكتبه محمد بن عبد الله ابن محمّد بن محمد بن العطار، والحمد لله رب العالمين؛ انتهى. ورأيت أثر ما تقدم بخط الأقشهري ما صورته: سمع من لفظي جميع " نظم الدرر في نسب سيد البشر " لجامعه، القاضي المذكور أعلاه القاضي شمس الدين محمد ابن المرحوم عبد المنعم الشيبي وولده أبو محمد عبد الدائم وابن أخيه أبو محمد عبد الباقي بن تاج الدين بن حفص (1) بن أبي بكر البوري وغيرهم، نحو سماعي قراءة مني على مؤلفه أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن أبي بكر العطّار سنة سبع وسبعمائة، قاله راسمه الأقشهري؛ انتهى. ومن قصائد هذا الكتاب قوله: أبداً تشوقك أو تروقك يثرب ... فإلى متى يقصيك عنها المغرب هي جنة في النفس يعذب ذكرها ... والقرب منها والتداني أعذب المسك معترف بأنّ نسيمها ... أسمى وأسرى في النفوس وأطيب والعنبر الورديّ دان لطيبها ... منه التعطر والتأرج يطلب جيش الصبابة شنّ غارات الأسى ... من بعدها فالصبر منها ينهب والشوق يثنينا إليها كلّما ... وقف الحمام على الأراكة يخطب حتى النسيم إذا سرى من ربعها ... يثني من الروض الغصون ويطرب حيّا فأحيا المستهام بطيبه ... فنفوسنا بهبوبه تتطيّب يا حبّذا في ربع طيبة وقفة ... بين الركائب والمدامع تسكب

_ (1) ق: أبي حفص.

حتى يرقّ للوعتي وصبابتي ... ودموع عيني كلّ من يتغرب شوقاً لمن زان الوجود، وحبه ... يدني إلى ربّ الرضى ويقرّب ساد الأنام المصطفى بكماله ... فإليه أجناس السيادة تنسب بالنّور زان حلىً علا آياته ... وبحسن ذاك النور أعرب معرب الشمس يغرب نورها وضياؤها ... أبداً ونرو المصطفى لا يغرب الله أرسله إلينا رحمة ... فبجاهه عنّا الرضى لا يحجب بمحمّد فزنا فإدراك المنى ... فالوقت طاب لنا وطاب المشرب خير الورى محبوبنا ونبيّنا ... حزنا به الجاه الذي لا يسلب روض النفوس محمد ونعيمها ... وبه يفضض حليها ويذهّب شرف تقادم قبل آدم عهده ... للنّور أطناب عليه تطنّب منّا عليه مدى الزمان تحية ... يثني عليها المندليّ ويطنب ومنها قوله رحمه الله تعالى: طلعت، وقارنها البهاء، بدور ... أبداً على قطب السعود تدور من نور أحمد يستمدّ ضياؤها ... وبهاؤها، يا حبذاك النّور ويزيد ذاك النّور حسناً فائقاً ... يوم القيامة والنام حضور محبوبنا أسمى البريّة منصباً ... يوم النّشور لواؤه منشور فزنا بخير العالمين محمد ... وجرى بوفق مرادنا المقدور لاحت لنا أنواره فزماننا ... نور، وأنس دائم وسرور بالمصطفى المختار قابلنا الرضى ... بين الأنام فسعينا مشكور الله فضّله على كلّ الورى ... فهو الحبيب، وفضله مشهور القرب خصّصه وعظّم قدره ... فسما ببهجة نوره ناحور خير النبيّين الكرام نبيّنا ... بالنور في العرش اسمه مسطور

يا صاحبيّ نداء صبّ مغرم ... قلبي بحبّ المصطفى معمور عوجا عليّ بوقفة وبعطفة ... إنّي على ألم الفراق صبور إن لم أزر بالجسم قبر المصطفى ... فالقلب من بعد المزار يزور نيران قلبي بالبعاد توقّدت ... ومدامعي خدّي بها ممطور فمن الفراق الحتم نيران لها ... لهب، ومن فيض الدموع بحور فمتى أفوز بوقفة في طيبة ... والقلب مني فارح مسرور ويقال لي إنزل بأكرم منزل ... وابشر فأنت على النوى منصور إن جاد دهري بالوصول لطيبة ... بعد المطال فذنبه مغفور هي جنّة من حلّها نال المنى ... وسما وساد وصافحتح الحور حتى النسيم إذا سرى من نحوها ... يصبو إليه المسك والكافور ومنها قوله رحمه الله تعالى: أمّا النّسيم فقد حيّاك عاطره ... وبارق المنّحنى أحياك ماطره خاطر بروحك في نيل الوصال (1) فكم ... من نازح نال طيب الوصل خاطره زهر الرّبى باسم تندى كمائمه ... رقّ النّسيم بها إذ راق ناظره ما حلّ روض المنى الغض الجنى دنف ... فاستضحكت فيه من عجب أزاهره والنهر أبرز للبدر الأتم حلىً ... والبدر طرز ماء النهر زاهره والغصن تلعب أنفاس الرياح به ... والطلّ قد نثرت منه جواهره والليل قد رقمت بالشّهب حلته ... والبرق يبسم في الظلماء ساهره والنور محض جنىً فوق الندى درر ... وعقدها زيّن الأغصان دائره وملبس الروض قد زانته خضرته ... والليل بالفجر قد شابت غدائره والصبح سلّ على جيش الظلام ظبىً ... وعندما سلّها ولّت عساكره

_ (1) ق: الوصول.

للزهر سرّ وعرف الروض فاضحه ... والمسك إن فضّ لا تخفى سرائره هل زار طيبة ذاك العرف حين سرى ... فتربها أبداً مسك يخامره طابت بطيب رسول الله فهي به ... سمت وراقت بمن فاقت مفاخره به معدّ تسامى للعلا، وبه ... حاز المكارم واعتزت عشائره أسنى النبيّين قدراً نوره أبداً ... يزيد حسناً على الأقمار باهره وأفضل الخلق من عرب ومن عجم ... أربت على الرمل أضعافاً مآثره إن كان للرّسل عقد وهو آخرهم ... نظماً فقد زان عقد الرّسل آخره روض من الحلم غضّ راق منظره ... بحر من العلم عذب فاض زاخره إن جاد صاح بلقياه الزمان فمل ... إلى مقام حبيب أنت زائره وصف له حال صبّ مغرم دنف ... رام الدنوّ فأقصته جرائره واذكر هناك بعيد الدار غرّبه ... غرب فما غائب من أنت ذاكره أهدى الّلام بلا حدّ ولا أمد ... إلى محلّ رسول الله عامره ومنها قوله رحمه الله تعالى: أمنزلنا جادت ثراك السحائب ... وإلا فجادته الدموع السواكب ووشّاك وسميّ الغمام بدرّه ... وحلّى محلاً حلّ فيه الحبائب وحيّا نسيم الريح بالجزع آنساً ... فما عاب ذاك الأنس بالجزع عائب فيا عهدنا بالخيف هل أنت عائد ... ويا أنسنا بالجزع هل أنت آيب وهل راجع عصر الشباب الذي انقضى ... وقد شيبت سود الشعور الشوائب وهيهات أن يقضى لنا برجوعه ... كما كان غصناً مورقاً وهو ذاهب وقد سلب الدهر المفرق أنسنا ... وأودى به والدهر للأنس سالب فما وهب الإيناس إلا مغالطاً ... وأي بخيل للنفائس واهب أطالب أيام العقيق بعودة ... وقد عزّ مطلوبٌ له أنا طالب فيا صاحبي كن مسعدي في صبابتي ... وإلا فما أنت الصديق المصاحب

إذا ما بدا برق الحجاز فأدمعي ... تفيض إلى الورّاد منها المشارب أعاتب أيام البعاد، وقلّما ... يبرّد حرّ الشوق بالعتب عاتب وأبخل بالصبر الجميل، وإنّه ... لينهبه من وارد البين ناهب ولمّا بدت أعلام طيبة قصّرت ... من الشوق ما قد طولته السباسب وقفنا وسلمنا وفاضت دموعنا ... وحنّت إلى ذاك الجناب الركائب نزلنا وقبّلنا من الشوق تربها ... وطابت بذاك الترب منّا الترائب فللعين من تلك المعاهد نزهة ... وللقلب في تلك الرسوم مآرب حوت سيد الرسل الذي جلّ قدره ... له في مقام القرب تقضى المطالب به غالب حاز المفاخر سالفاً ... ولا شرف إلا الذي حاز غالب بهادي الورى طرّاً مناصبه سمت ... وراقت بخير الرسل تلك المناصب محمد الهادي بإشراق نوره ... تمزق من ليل الضلال غياهب ترقّى إلى السبع الطباق وما بدا ... له في ترقّيه من الحجب حاجب وخاطبه في حضرة القدس ربّه ... وأدناه في حال الخطاب المخاطب نبيّ بدت أنواره وتلألأت ... فمنها تضيء النيرات الثواقب لقد أشرقت شمس النهار بنوره ... وبدر الدجى لمّا بدا والكواكب أعلّل قلبي بالوصول لقبره ... وإن غبت ما قلبي وحقّك غائب وإنّي أناديه وإن كنت نازحاً ... نداء غريب غرّبته المغارب إذا كنت لي يا سيد الرسل شافعاً ... فما أنا من نيل السعادة خائب بمدحك يا من جلّ قدراً وحظوة ... وجاهاً وتمكيناً تنال المواهب فيا معشر الأحباب إنّ نبيّنا ... إلى فوزنا داع وساع وخاطب ألا فاذكروه كلّ حين وسلّموا ... عليه، بذاك الذكر تسم المراتب وقوموا على أقدامكم عند ذكره ... فذلك في شرع المحبّة واجب

ومنها قوله رحمه الله تعالى: شمس الهدى وضحت بأشرف مرسل ... ودحت دجى ليل الضلال المسبل من وجه عبد الله كان ظهورها ... للخلق طرّاً في ربيع الأول خلعت على الآفاق أشرف ملبس ... وبدت فأيّ دجنّة لم تنجل فالنيّران المشرقان كلاهما ... للمصطفى اعترفا بعجز مجمل فالشمس لمّا أن بدت أنواره ... أومت إليه بالسّلام الأحفل والبدر قابله بحسن كامل ... فانشقّ للبدر الأتمّ الأكمل ولليلة الإسراء أجمل منظر ... بجمال إسراء الحبيب الأجمل فضلت على الأيام من شرف لما ... حازته من شرف النبيّ الأفضل وبدا بها نور النّبيّ المصطفى ... وبدت لنا نار الكليم المصطلي إذ جاءه الروح الأمين مسلّماً ... ومبشّراً بورود أعذب منهل فسرى إلى أسنى محلّ وارتقى ... والجفن منه بنومه لم يكحل رفعت له حجب الجلال بأسرها ... فرأى جلالاً لم يكن بممثّل حتى انتهى الروح الأمين لحده ... وبحيث يذهل عقل من لم يذهل ناداه لمّا أن ترقّى وحده: ... لك يا محمد ذا التقرب ليس لي ارقا إلى الأفق المبين مشاهداً ... واترك حظوظك بالحضيض الأسفل واسعد بزورة من تعاظم ملكه ... واصعد إلى عرش الحبيب الأول فسما فشاهد حضرة القدس التي ... سبحاتها تغشى حجى المتأمّل وبدا الكمال له ونودي مقبلاً: ... أهلاً وسهلاً بالحبيب المقبل أنت المراد لسرنا ولوحينا ... أقبل إلينا يا محمد تقبل والبس بحضرة قدسنا خلع الرضى ... منّا وجرّ الذيل منها وارفل ولك الوسيلة يا محمد عندنا ... وبها نجيب وسيلة المتوسل فاحكم بما يوحى إليك من الهدى ... وانزل بأنوار الكتاب المنزّل

فيه شفاء للصدور فبرؤها ... بمفصّل منه وغير مفصّل يا نفس هل تشفيك زورة طيبة ... فرسومها برء لكلّ مقبّل ولّى زمانك في التصابي والمنى ... فدعي التصابي والأماني وارحلي يا قلب، روعات الجوى هل تنقضي ... عني ولوعات الجوى هل تنجلي وأزور قبر الهاشمي محمد ... قبل الرحيل وقبل عذل العذّل إنّي وإن بخل الزّمان بقربه ... فبلوعتين وبدمعتي لم أبخل أسقي الثرى تسكابها، فمعينها ... يهمي، ونار صبابتي ما تأتلي لهفي على بعد المزار متى أرى ... يقضي الزمان بقرب ذاك المنزل ومتى أبشّر بالمنى، ويقال لي: ... هذا مقرّ الوحي دونك فانزل وتهبّ تلقائي نواسم طيبة ... إنّي أجود بها إليك وحقّ لي فلقد بليت بلوعة وبدمعة ... وهبوبك الأزكى شفاء المبتلي خيلت قربك برء داء صبابتي ... ضن البعاد به فطال تخيّلي شوقاً إلى خير الأنام بأسرهم ... سؤلي وأسنى مقصدي ومؤملي فبه أنا متوسّل في مقصدي ... أسنى التوسل بالرسول المرسل وبجاهه عند الأنام مآربي ... ووسائلي تقضى وإن لم أسأل وبه الأماني قد حللن بساحتي ... وحوادث الحدثان صرن بمعزل بشراك نفسي فالأماني أعجلت ... نحوي تبشّرني بخير معجّل بمديحه أضحى الزّمان مسالمي ... تندى أسرّة وجهه المتهلّل فبه إلهي قد رجوتك راغباً ... دون الأنام فباب جودك موئلي وإليك ربّي رغبتي وتوسّلي ... وعليك في كلّ الأمور توكّلي وثبت في آخر هذا الكتاب ما صورته: قال محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن يوسف بن العطار نفعه الله تعالى بالعلم: كان الفرغ من إكمال هذا الفصل وإتمامه، حسب نثره ونظامه، ضحوة يوم الجمعة الثاني من

شعبان المكرم سنة ست وتسعين وستمائة، ما عدا أربع قصائد اشتمل عليها، فإنّها تقدمت على إنشائه، أودعتها فيه، والله سبحانه المستعان، وذلك بمدينة الجزائر - جزائر بني مزغنة - من أقصى إفريقية من أرض متيجة، صانها الله تعالى؛ انتهى. وثبت في آخره بخط بعض الأكابر ما نصّه: تأليف الفقيه العالم الأديب البارع أبي عبد الله محمد بن العطار الجزائري؛ انتهى. وهو كتاب نفيس جمع فيه بين حسن النظم والنثر، فالله تعالى يجازي صاحبه أفضل الجزاء، بمنّه وكرمه. ولا بأس أن نورد هنا من كلام أهل الأندلس بعض الأمداح النبوية زيادة على ما ذكر هنا فنقول: قال العارف بالله تعالى ابن العريف في كتاب " مطالع الأنوار ومنابع الأسرار ": وحقّك يا محمّد إنّ قلبي ... يحبك قربة نحو الإله جرت أمواه حبك في فؤادي ... فهام القلب في طيب المياه فصرت أرى الأمور بعين حقّ ... وكنت أرى الأمور بعين ساهي إذ شغف الفؤاد به وداداً ... فهل ينهاه عن ذكراه ناهي يهيم بذكره ويحنّ شوقاً ... حنين المستهام إلى الملاهي يخامره ارتياح منه حتى ... يقول أولو الجهالة: ذاك لاهي وما هو حقّ فضل قد رآه ... فصار يجدّ في طلب الملاهي فسوف ينال في الدنيا سروراً ... وفي الدار الأخيرة كلّ جاه ويعطى ما تمنى من أمان ... كما قد حبّ محبوب الإله وقال أيضاً رحمه الله تعالى: يا عاذلي في طلابي ... دعني من العذل دعني سأعمل العيس شوقاً ... بالعزم دون التأنّي

إلى ضريح رسول ... مصدّق حسن ظني أشدو على كلّ فجّ ... حين الحمام يغني يا أطهر الخلق إنّي ... بذلّتي عبد قنّ فأعتق اليوم رقّي ... وانظر بعطفك منّي فأنت أنت ملاذي ... إيّاك إيّاك أعني إن غبت عن عين جسمي ... ما غبت عن عين ذهني لولاك كنّا أناساً ... أشرّ من كلّ جنّ فإذ بعثت رسولاً ... فخير فضل ومنّ لله خالص شكري ... عساه يصفح عني فإنّني عبد سوء ... قلبت ظهر المجنّ وقال في خاتمة ذلك الكتاب (1) : صلى الإله على النبيّ الهادي ... ما لاذت الأرواح بالأجساد صلّى عليه الله ما اسودّ الدجى ... فكسا محيّا الأفق برد حداد صلّى عليه الله ما انبلج السنا ... فابيضّ وجه الأرض بعد سواد صلّى عليه الله ما همع الحيا ... فسقى البلاد برائح أو غادي صلى عليه الله ما هفت الصّبا ... وشدا على فنن الأراكة شادي صلى عليه الله ما ألف الكرى ... جفن فخامره لذيذ رقاد صلى على المختار أحمد ربّه ... ما استمسكت نار بطيّ زناد صلى على خير الأنام محمدٍ ... من خصّه بالنور والإرشاد صلى الإله على رسول حاشر ... حشر الأنام لديه في الميعاد صلى الإله على رسول عاقب ... في الدهر وهو بفضله كالهادي

_ (1) ق: وقوله رحمه الله تعالى ... الباب.

صلى الإله على رسول خاتم ... ختم النبوّة بالكتاب الهادي صلى الإله على المقفّى ما اقتفى ... بشر نبوّته بغير عناد صلى على ما حي الضلال إلهه ... ما غردت طير على الأعواد صلى الإله على رسول فاتح ... فتح الظلام بنوره الوقّاد صلى الإله على نبيّ راحم ... بالملّة الغرّاء، بعد فساد صلى الإله على نبي طالع ... رحم الإله به من الإبعاد صلى الإله على نبيّ طالع ... بملاحم قصمت فؤاد العادي صلى عليه الله فهو نبيّه ... ناداه بالإرشاد خير مناد صلى عليه الله فهو رسوله ... أعطاه راية عزمة ورشاد صلى عليه الله فهو خليله ... أسدى إليه منه كلّ سداد صلى عليه الله فهو صفيّه ... صفّى سريرته من الأحقاد صلى عليه الله فهو وليّه ... والاه في الإصدار والإيراد صلى عليه الله فهو المصطفى ... من كل حضّار العباد وبادي صلى عليه الله فهو المجتبى ... يجبى إليه الخير دون نفاد صلى عليه الله فهو المنتقى ... نور الزمان وواحد الآحاد صلى عليه من براه مطهّراً ... واختاره طوداً من الأطواد صلى عليه من براه بفضله ... وأعاده حيّاً لغير معاد صلى عليه من أراه جلاله ... وأناله من ذاك كلّ مراد صلى عليه من أحلّ فؤاده ... في ظلّ عرش ثابت الأوتاد صلى عليه من غذاه بنعمة ... فتضاعفت كتضاعف الأعداد صلى عليه من كساه عوارفاً ... واختصه منه بخير أياد وقال الشيخ أبو عبد الله ابن عمران مادحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم

مرتباً على حروف المعجم باصطلاح أهل المغرب، كما تقدم: ألف: أيا خير البريّة هذي ... مدحي، وما أنا في مقالي هاذي باء: بها أظهرت صدق محبتي ... وبذلك الجاه الكريم لياذي تاء: تخذت وسيلة ما حكته ... وجعلته يوم المعاد عياذي ثاء: ثنائي ليس يحصر فضلك ال ... زاهي ولا يحويه باستحواذ جيم: جلالك جلّ طور فخاره ... عن شبه مثل أو لحاق محاذي حاء: حبيت بمعجزات ذكرها ... يولي ذوي الإيمان كلّ لذاذ خاء: خصصت بها بفضل عناية ... منها لجأت إلى أجلّ ملاذ دال: دحضت بحقّها مستقرياً ... إبطال زور مشعوذ ملاّذ ذال: ذراع الشاة أفصح مخبراً ... عمّا يحاذر ضره بنفاذ راء: رميت عصائباً قد ألّبوا ... فعموا ولمّا ينصروا بلواذ زاي: زعيم بالوجاهة أنت إذ ... كلّ بجاهك عاذ كلّ عياذ طاء: طلابهم لديك شفاعة ... فيها بذذت الجمع أيّ بذاذ ظاء: ظماؤهم بحوضك سوّغوا ... ريّاً كأنّ به مذاقة ماذي كاف: كفك بما تلته والضحى ... لجماعة الجارين باستنقاذ لام: لدعوتك المجابة أسبلت ... ثروات هتّان الحيا بهماذ ميم: معين يديك إذ غلب الظّما ... أروى الورى من توأم وفذاذ نون: نجارك أصله متخيّر ... من بطن ذات علا وأطهر حاذي صاد: صعدت ذرا لموقف زلفة ... ترك السعود مقطّع الأفلاذ ضاد: ضويت إلى جلال كافل ... لك بالرضى درّ الجلالة غاذ عين: علا ذكر افتخارك وارتقى ... عن غمز مغتاب وزور الباذي غين: غمام قد علاك مظلّلاً ... يمشي بمشيك دائماً ويحاذي

فاء: فصاحتك البليغة أعجزت ... للقوم من قربى ومن شذّاذ قاف: قواعد صرح كسرى زلزلت ... لولادة أوهت قوى ابن قباذ سين: سبقت بكل فضل يغتدي ... جفن المعالي منه ليس بقاذ شين: شأوت مفاخراً كل الورى ... وتركتهم غرقى بلجّة آذي هاء: هتفت على تنائي شقّتي ... بعلاك هذي، وما نحلتك هذي او: ولو أني استطعت لسابقت ... قلمي خطا قدميّ بالإغذاذ لا: لا أكيّف قدر شوق باعث ... لعزائمي مستنهض شحّاذ ياء: يميناً لو قدرت إذن لما ... أخّرت سعي مبادر حذحاذ دامت عليك صلاة ربك ما همت ... ديم بوبل هاطل ورذاذ رجع إلى الكاتب أبي عبد الله ابن الجنان الأندلسي: قال - تقبل الله تعالى منه - يمدح النبي صلى الله عليه وسلّم: يا من تقدّس عن أن ... يحيط وصف بذاته ومن تعالى جلالاً ... عن مشبه في صفاته ومن قبول ثنائي ... إليه أسنى هباته صلى على من تبدّى ... نور الهدى من سماته ومن علا الفخر لمّا ... نمى إلى معلواته محمد خير هاد ... بحلمه وأناته محمد خير داع ... بالصدق من كلماته محمّد خير مبدٍ ... لنا سنا معجزاته أكرم به من نبيّ ... همت سما مكرماته أعزز به من رسول ... سمت علا درجاته وخصّه الله منه ... بالفضل من تكرماته

لمّا حباه بأوفى ... صلاته في صلاته وقال: يا ربّ بلّغ سلامي ... لأحمد ذي الشّفاعه لخاتم الرّسل أعني ... إمام تلك الجماعه لأبهر الخلق مجداً ... يحكي الصباح نصاعه لمن صفات علاه ... تعجز أهل البراعه لسيّد لسناه ... يزهى السنا واليراعه لمرشد بهداه ... قد فاز عبد أطاعه شمس النبوّة معط ... شمس السماء شعاعه وناظم الحسن نظماً ... قد ضمّ منه شعاعه وسرّ سرك يا من ... أرى العيون اطّلاعه ومن حبا بذكاء ... خلاله وطباعه ومدّ في كلّ فضل ... لصفوة الرسل باعه فزده يا ربّ فخراً ... وزد محبّيه طاعه وقال أيضاً غيره: لقد رفع الإله عن البرايا ... ببعث محمّد محن الصروف أتى والناس في الآفاق نهب ... لسمر الخطّ أو بيض السيوف فأنقذهم، ولولاه لكانوا ... لقىً بين الضلالة والحتوف نبيّ لا يغلّ عليه إلاّ ... سخيف العقل ذو رأي مؤوف كأغمار اليهود أو النصارى ... أو الفلكيّ أو كالفيلسوف فبعض للتجاهل والتعامي ... وبعض للتحيّر والوقوف زعانف لا يهلك لها رواء ... فإنّ الجهل مائحة الظروف

إذا جارى بمختلّ ضعيف ... فإنّ صحاحنا فوق الألوف فبرهان النبوّة مستفيض ... ندلّ به على رغم الأنوف شفوف الرّسل متضح ولكن ... لأحمد الشفوف على الشفوف حروف الخطّ أصل للمعاني ... وللألف التقدّم للحروف وما أحسن قول القائل رحمه الله تعالى: لولا النبيّ محمد ... هلك الورى في سوء (1) حاله أعلى الورى قدراً وأك ... رمهم وأظهرهم دلاله ختم الإله به النب ... وّة والطهارة والرساله واختصّه دون البر ... يّة بالمكانة والجلاله بدر الرسالة والصحا ... بة حول ذاك البدر هاله قذف الحصى في أعين ال ... كفّار فاعتنقوا الجداله وتدرعوا ثوب الكآ ... بة بعد إظهار الجزاله فأصخ إلى أنبائه ... تعلم بأنّ المنتهى له وإذا ابتغيت وسيلة ... ومدحته ومدحت آله فاقطع بأنّك آمنٌ ... يوم القيامة لا محاله وقال أبو القاسم سعد بن محمد رحمه الله تعالى: أطلق لسانك بالصلاة على ال ... نبيّ الأبطحيّ الهاشميّ محمد واجعل شعارك ذاك تنج به غداً ... إنّ النجاة بذكر يوم للغد ولأبي اليمن ابن عساكر رحمه الله تعالى:

_ (1) ق: كل.

يا ربّ صلّ على النبي وآله ... صلواتنا ما دامت الأيام واخصص ختوم سلامنا بجنابه ... كالمسك يعبق فضّ عنه ختام واحرس شريعته وأوضح سبلها ... تبدو بها للسالك الأعلام وأدم كرامته وأعل مناره ... وأنله أعلى ما لديك يرام وارفع له الدرجات في رتب العلا ... فهو الذي للمرشدين إمام وأقمه بين يديك زلفى موقف ... للحمد ما لسواه فيه مقام وأنل شفاعته وأورد حوضه ... من لو أتاه [....] منه أوام يشتاقه ويعوقه علقٌ به ... لزمانه وزمانة وسقام فبه إليه غلّة ما تشتفي ... إلاّ بلقياه، وعزّ مرام وله عليه في الأصائل والضحى ... تهدى إليه تحيّة وسلام وبه إلى تقبيل موطىء نعله ... وجدٌ له بين الضلوع أوام وله أيضاً رحمه الله تعالى: ألا إنّ الصلاة على الرسول ... شفاء للقلوب من الغليل فصلّ عليه؛ إن الله صلّى ... عليه ولا تكونن بالبخيل وصلّ عليه قد صلّت عليه ... ملائكة السماء بجبرئيل ألا إنّ الصلاة عليه نور ... لدى الظلمات في اليوم المهول وتثقيل لميزان خفيف ... وتخفيف من الوزر الثقيل إذا صلّيت صلّى الله عشراً ... بواحدة عليك على الرسول وتحظى بالشفاعة يوم تضحى ... وما لك من مقيل أو منيل فأكثر أو أقل فأنت تجزى ... بذلك من كثير أو قليل فصلّ عليه تجز جزاء ضعف ... وتجز مضاعف الأجر الجزيل وأولى الناس أكثرهم صلاة ... عليه به وأحرى بالقبول

وأنجاهم من الأهوال عبد ... بها لهج بدل (1) قال وقيل فكن لهجاً بذكراه حفيّاً ... بلقياه ومنصبه الجليل وصلّ صلاة مشتاق إليه ... وداو بذكره سقم العليل وصلّ مدة الزمان على رسول ... كريم مصطفى برّ وصول وصلّ على حبيب فاق فضلاً ... مدى شأو الكيم مع الخليل فصلّى الله أفضل من يصلّي ... عليه في الصباح مع الأصيل وآتاه الوسيلة مستجيباً ... وبلّغه نهاية كلّ سول وأزلفه وشفّعه ليأوي ... إليه الناس في ظلّ ظليل وأطّد شرعه وحمى حماه ... وأيّده بواضحة الدليل وشرّفه ولم يبرح شريفاً ... فيجمع جملة المجد الأثيل وزاد محبّه شرفاً وفخراً ... بتفضيل وتنويل جزيل وزاد علاه منه بطول عمر ... قصيّ من مواهبه طويل وأوردنا عليه الحوض وفداً ... لنروى بالرّوى من سلسبيل وله رحمه الله تعالى: أدم الصلاة على النبيّ المصطفى ... تخلص بذاك من الجحيم ونارها وتولّ إقبالاً عليها كلّما ... هتف المؤذن مشعراً بشعارها فالفخر أجمعه له فتلقّه ... من نوبة الأسحار فوق منارها فهذه عدة قصائد في مدحه صلى الله عليه وسلّم، أرجو من الله سبحانه أن تكون مكفرة لما ارتكبته على وجه الفخر والشهرة من الهزل واللّغو، فإن ذلك والله قول لا فعل له، وإنما هو على نهج أهل الأدب كالحافظ شيخ الإسلام ابن حجر

_ (1) كذا بالتسكين، وفي هذه القصائد تسامح أحياناً في اللغة والإعراب لم نشر إليه.

وغير واحد ممّن ألف في الأدب وجمعه. ولا بأس أن نعززها بمقطوعات تكون للتكفير زيادة، وحقّ لمن توسل بسيد الوجود صلى الله عليه وسلّم أن لا تضيع وسائله، وكيف وهو صاحب المقام المحمود والشفاعة والسيادة، فمنها قول ابن الجنان المذكور آنفاً رحمه الله تعالى: إلى أحمد المختار نهدي تحيّة ... تفاوح روض الحزن بلله المزن إذا نافحت مغناه زاد تأرجاً ... وإن لثمت يمناه قابله اليمن أسيّر أشواقي رسولاً بعرفها ... لتسعدها منه العوارف والمن وأرجو لديه الفضل فهو منيله ... وما خاب لي فيه الرجاء ولا الظن عليه اعتمادي حين لا لي حيلة ... إليه استنادي حين ينبو بي الركن به وثقت نفسي الضعيفة بعدما ... أضرّ بها من ضعف قوتها الوهن إليه صلاتي قد بعثت مشفّعاً ... سلاماً به الإحسان ينساق والحسن وقوله رحمه الله تعالى: أيذهب يوم لم أكفّر ذنوبه ... بذكر شفيع في الذنوب مشفّع ولم أقض في حقّ الصلاة فريضةً ... على ذي مقام في الحساب مرفّع أرجّي لديه النفع في صدق حبّه ... ومن يرتج المختار لا شك ينفع وأهدي إلى مثواه مني تحيّة ... إذا قصدت باب الرضى لم تدفّع وقوله رحمه الله تعالى: يا أرحم الخلق يوم الحشر والندم ... ارحم عبيدك يا ذا الطّول والنعم إني توسلت بالمختار ملجأنا ... الطاهر المجتبي من خيرة الأمم إليك من سيئاتي إنها عظمت ... يا واحداً لم يزل فرداً ولم يتم عليه منه صلاة كلما طلعت ... شمس وما خطّ في الأوراق بالقلم

فهو الشفيع الذي أرجو النجاة به ... من الجحيم إذ الكفار كالحمم وقوله أيضاً رحمه الله تعالى: بحبيب القلوب معتمد الخل ... ق أبي القاسم النبيّ الشفيع قد تشفّعت من ذنوبي إلى ذي ال ... عزة الواحد العليّ السميع فاشفع اشفع يا خاتم الرّسل يوم ال ... حشر والمشهد العظيم الفظيع لظلوم لنفسه قد تناهى ... في الخطايا وكلّ فعل شنيع فإذا ما تذكر الذنب فاضت ... مقلتاه واغرورقت بالدموع لا تخيّب رجاءه إنّه من ... ربّه خائف كثير الخشوع وعليك الصلاة بدءاً وعوداً ... ما أضاءت ذكاء عند الطلوع وقوله أيضاً عفا الله تعالى عنه: يا ربّ إنّ شفيعي من ذنوبي في ... يوم القيامة خير الخلق والنسم محمّد خاتم الرّسل المبلّغ لل ... دين الحنيفي والإسلام للأمم عليه مني صلاة كلما سجع ال ... حمام فوق غصون البان والسّلم وبعد ذلك أعداد الجبال ورم ... ل الأرض والطير والحيتان والنّعم كذاك أيضاً سلامي طيّب عطر ... عليه ما قام عبد في دجى الظّلم لله وهو كئيب خائف وجل ... من الذنوب حزين القلب ذو ألم وقول الشيخ الإمام أبي زيد الفازازي رحمه الله تعالى: كملت بنعت محمّد خير الورى ... غرر القصائد كلّها وحجولها واختصّ دون الأنبياء بدعوة ... وسع العباد عمومها وشمولها فاضت على الثّقلين منه أشعّة ... طلعت وما عقب الطلوع أفولها فالإنس تعلم أنّه مقصودها ... والجنّ توقن أنّه مأمولها

كم آية بالصدق كان ظهورها ... كم آية بالسّبق كان نزولها وكفاك هذا الوحي فهو شهادة ... لمحمّد لزم العباد قبولها جمع الإله المكرمات لأمّة ... هذا النبيّ الهاشميّ رسولها وقوله رحمه الله تعالى: أيّ نور كشف الله به ... سدف الباطل عنّا أجمعين ختم الله به أنواره ... عندما أكمل سنّ الأربعين وأتانا بدليل بيّن ... عجزت عنه دواعي المدعين فهو للناس جميعاً مرشد ... وهو بالله تعالى مستعين تركت دعوته وهو الرضى ... سائر الخلق إليها مهطعين فأعد أنباءه فهو منى ... أنفس القائل والمستمعين والذي يهدي إلى شرعته ... فهو مجّاج من العذب المعين والذي يرغب عن سنّته ... فهو من شيعة إبليس اللعين وقوله وهو كما قبله لزومي: أصخ فلخير العالمين مناقب ... تدل على التمكين والشرف الأسرى أتى والورى أسرى فكان غياثهم ... بنور سماء ينقلوه عن الإسرا وعفّى رسوم الكافرين وأهلها ... فلا قيصر من بعد ذاك ولا كسرى تقدّم كلّ العالمين إلى مدىً ... تظلّ به الأوهام ظالعة حسرى وخصّ بتشريف على الناس كلهم ... ومن لم يقل هذا تقوّله قسرا ترقّى إلى السبع الطباق ترقيّاً ... حقيقاً ولم يعبر سفيناً ولا جسرا وبالجسم أسرى الله وهو دلالة ... يمحّلها من لا ييسّر لليسرى فسبحان من أسرى إليه بعبده ... وبورك في الساري وبورك في المسرى وكم عجب أوحى إلى عبده به ... فدونك تجميلاً ولا تطلب الفسرا

وقوله رحمه الله تعالى: هاك عن هذا النبيّ المصطفى ... خبراً يقبله من سمعه سبّحت صمّ الحصى في كفّه ... ثمّ في كفّ الهداة الأربعه وإذا أبدى نبيٌّ عبرةً ... فهو لا ينكر فيمن تبعه أيّ نطق قد روى إعجازه ... عن سماع كلّ من كان معه حجج الرّسل التي قد سلفت ... أصبحت في أحمد مجتمعه فاعتقد صحّتها واعمل بها ... فدعاوى ضدها منقطعه ممكنات العقل لا يجحدها ... غير أهل الطبع والمبتدعه وقوله رحمه الله تعالى: إذا أمّلت من مولاك قرباً ... فجدّد ذكر خير الأنبياء وصلّ عليه أول كلّ قول ... وآخره بصبح والمساء فإنذ محمداً أعلى البرايا ... محلاً في السيادة والعلاء لواء الحمد في يمنى يديه ... وكلّ الناس من دون اللواء فحدث عن دلائله ففيها ... شفاءٌ للنّهى من كلّ داء ولست بناقل للعشر منها ... وهل تفنى الزواخر بالدلاء فقل للسامعين قفوا فهذا ... محال ليس يحصر بانتهاء براهين البسيطة ليس تحصى ... فدونكم براهين السماء وقوله رحمه الله تعالى: أمّا يمين محمّد ... ويساره فهما سماء كلتاهما إن صوّح ال ... مرعى لنا طعم وماء وإذا أضرّ بنا السقا ... م وغيره فهما شفاء

فاعجب لكف في الورى ... فيها عن المزن اكتفاء فاقطع بأنّ محمّداً ... في الخلق ليس له كفاء فإذا أصخت لآية ... فالنور فيها والضياء هذا الصباح الهاشم ... ي بدا فليس به خفاء فالأرض قد فتحت بمب ... عثه وفتّحت السماء سبق القضاء بسبقه ... والله يفعل ما يشاء وقوله رحمه الله تعالى: بركات رسل الله غير خفية ... ومحمد خير البريّة أبرك هذا النبيّ الهاشميّ هو الذي ... هدي الأنام به وبان المسلك كم آية لمحمد كم حجة ... عزّ الوليّ بها وذلّ المشرك دعواته مسموعة مرفوعة ... والحس ليس يصح فيه تشكك لا شيء أعجب من دليل واضح ... يحيا به بعض وبعض يهلك أمسك بحبل محمد خير الورى ... تظفر بقصدك أيها المستمسك وإذا عجبت لغاية في رفعة ... فمحلّ أحمد غاية لا تدرك وقوله رحمه الله تعالى: قبح الإله الملحدين ... فإنهم جحدوا الضروره والمعجزات تواترت ... عن أحمد في كلّ صوره والله أعلى كعبه ... في خلقه وأتمّ نوره كثر الطعام مع الشرا ... ب بكفه عند الضروره وتكنّفته عناية ... من ربه أعلت أموره نادى البريّة فالقلو ... ب إلى إجابته مصوره

وحمى الشريعة بالدلي ... ل فدع معاندها وزوره قل للمشكّك حين يب ... دي في تشككه قصوره بيني وبينكم الكتا ... ب فدونكم فأتوا بسوره وقال رحمه الله تعالى: إذا بهرت للهاشميّ دلالة ... فكم حجج في طيها ودلائل فكم مرة آتى الغنى كفّ سائل ... وكم مرة أعطى المنى فكر سائل له تحت أستار الغيوب شهادة ... معدّلة لم تبق قولاً لقائل يحدث عما كان أو هو كائن ... فقس آخراً من صدقه بالأوائل إذا الصدق لم يعوزك في غدواته ... فلا شكّ في تصديقه بالأصائل وحسبك في الأنباء بالغيب أنّه ... ستسمعها بالنقل من قول قائل وقوله رحمه الله تعالى: يا ذا المعنّى بهذا الذكر تسمعه ... في المدح تأثره في سيد الناس هذا النبيّ، ومن آيات أثرته ... في الطيب والطّول لا تجري بمقياس قد انقضت معجزات الغيب وافية ... صحيحة باستفاضات وإحساس وهاك نوعاً من الإعجاز منتزهاً ... عن نقد منتقد أو صفح قرطاس لا نعدم النقل عن آثار سيدنا ... فإنما نحن فيها بين أعراس تنقّل الأنف في النوّار ينشقه ... من ياسمين إلى ورد إلى آس إنّ القلوب إذا اعتلّت خواطرها ... فذكر أحمد فيها المبرىء الآسي وقوله رحمه الله تعالى: تأدب إذا ذكر المصطفى ... بصمت اللسان وغضّ البصر فإنّ التأدب عند السماع ... يفهّم في النطق أو في النظر

وردّد أحاديثها إنها ... دليل على صدق خير البشر وصلّ عليه مدى ذكره ... فذلك أفضل ما يدّخر ولا تسترب في براهينه ... فتسلك مسلك قوم أخر فكم آية ظهرت للنبيّ ... وكم أثر عنده قد ظهر ومن شكّ في نور برهانه ... لعى أنّ برهانه قد بهر فكبّر على عقله أربعاً ... وقل فوق طورك هذا الخبر وقوله رحمه الله تعالى: اعمل بآثار النب ... يّ فإنها النور المبين واقبل نصيحتها ففي ... ها العزّ والشرف المكين واشدد يمينك بالشري ... عة إنها السبب المتين خير البريّة أحمد ... والحقّ يصحبه اليقين ذو قوّة عند الإل ... هـ مقرّب منه مكين زان النبيّون الورى ... ومحمد لهم مزين هاد إلى طرق النجا ... ة مؤيد فيها أمين والهج بمدح الهاشم ... يّ فإنه الحصن الحصين ولئن فعلت فلن تفو ... تك بعد ذا دنيا ودين وهذا تسديس جعلته للكتاب مسك الختام: وللنّاس أعمال فخير وضدّه ... وما يحسن الأعمال غير الخواتم وإلاّ فالأمداح النبوية بحر لا ساحل له، وفيها النثر والنظام، زاده الله شرفاً وحباه أفضل الصلاة وأزكى السلام. وهذه القصيدة من نظم الفقيه الأجلّ أبي الحجاج يوسف بن موسى المنتشاقري الأندلسي - نفعه الله تعالى بنيته، وبلغه غاية أمنيته - وترتيبها على

حروف المعجم باصطلاح أهل المغرب فيما عدا الروي فإنه على حرف الميم، وكذا آخر الشطر الذي قبله فإنه ميم أيضاً، وهذا نصه بحروفه ما عدا حرف الواو فإني لم أجده وكملته على منواله: حلّ في طيبة رسول كريم ... فعليه الصلاة والتسليم صفوة الخلق خاتم الأنبياء ... مرشد الناء للطريق السوّاء والعماد الملاذ في الأواء ... وشفيع العصاة يوم الجزاء يوم يبدو لديه جاه عظيم ... فعليه الصلاة والتسليم أذهب الغيّ نوره والغياهب ... فأضاءت مشارق ومغارب وغدا الحقّ غالباً للأكاذب ... وبدت منه للأنام عجائب صدق أقواله بها معلوم ... فعليه الصلاة والتسليم لبراهين صدقه معجزات ... حيثما حلّ حلّت البركات وسمت أربع به وجهات ... فبه قد تعرفت عرفات وبه تاه زمزم والحطيم ... فعليه الصلاة والتسليم لم يزل هادياً صدوق الحديث ... ووفيّاً بالعهد غير نكوث ومجيباً لدعوة المستغيث ... وكريماً نداه فوق الغيوث ويداه بالجود جود سجوم ... فعليه الصلاة والتسليم بهج الحق أوضح الابتهاج ... سيد نوره أضاء الدياجي خصه الله ليلة المعراج ... باصطفاء ورفعة ونتاج وبتكليمه له التكريم ... فعليه الصلاة والتسليم

مصطفى مجتبى كريم صفوح ... للنّبيّين جاهه ممنوح فلإكرامه أجير الذبيح ... ونجا آدم وخلّص نوح وكذاك الخليل إبراهيم ... فعليه الصلاة والتسليم كلّ دين بدينه منسوخ ... فسوى ما قضى به مفسوخ لهداه بكلّ قلب رسوخ ... فالورى مادح له ومصيخ كلهم في هوى النبي يهيم ... فعليه الصلاة والتسليم بعثه كان رحمة للعباد ... دلّهم بالهدى طريق الرشاد ونفى كلّ باطل وعناد ... ودعا للإله دعوة هادي فإذا الحق واضح مستقيم ... فعليه الصلاة والتسليم أمّه بالشّكاة ظبيٌ أخيذ ... مستجيراً بجاهه يستعيذ وبه كانت الوحوش تلوذ ... وله خاطب الذراع الحنيذ لا تذقني فإنني مسموم ... فعليه الصلاة والتسليم أشبع الجيش والطعام يسير ... ودعا نخلةً فجاءت تسير وهمى من يديه عذب نمير ... وله البدر شقّ وهو منير معجزات تحار فيها الفهوم ... فعليه الصلاة والتسليم حجب النور في السموات جازا ... فاحتوى الفضل والعلاء وحازا فبه في غد ننال المفازا ... وكفى أمّة الرسول اعتزازا أن تمنى يكون منها كليم ... فعليه الصلاة والتسليم

إنما الحكم منه عدل وقسط ... لم يجر في القضاء والحكم قطّ حبه في بلوغ قصدي شرط ... وبأمداحه ذنوبي تحطّ ويزول العنا وتجلى الهموم ... فعليه الصلاة والتسليم قد حمى ديننا برعي ولحظ ... ونفى روعنا بأمن وحفظ وحبانا بما لدى الربّ يحظي ... هادياً راحماً لنا غير فظّ مثل ما نصّه الكتاب الكريم ... فعليه الصلاة والتسليم نور برهانه جلا كلّ شكر ... وهداه أجرا من كلّ هلك أخير العالمين من غير شكّ ... فلكم رامه العداة بشكّ وهو في كلّ حالة معصوم ... فعليه الصلاة والتسليم ما لخير الأنام منهم عديل ... إنّه مجتبىً نبيّ رسول ما عسى مادح الشفيع يقول ... وبأمداحه أتى التنزيل وثناه خلاله مرسوم ... فعليه الصلاة والتسليم نحن لولا اتّباعه لشقينا ... نور برهانه أرانا يقينا وغدا ما نخاف منه يقينا ... وكؤوساً بحوضه قد سقينا من رحيق مزاجه مختوم ... فعليه الصلاة والتسليم أحمد عند ربه ذو اختصاص ... جاهه كامل بغير انتقاص عدة للمسيء يوم القصاص ... وشفيع لكل جان وعاصي يوم يجفو الحميم فيه الحميم ... فعليه الصلاة والتسليم

بيديه حوائج الكلّ تقضى ... ويجازي الذي أجاز وأمى وينادي الحبيب أنت المرضى ... سوف نعطيك ما تحب وترضى فتحكّم يمضى لك التحكيم ... فعليه الصلاة والتسليم فاق بالمولد السعيد ربيع ... إن فيه بدا الجلال الرفيع من هو الذخر والعماد المنيع ... فملاذ للمذنبين شفيع ورؤوف بالمؤمنين رحيم ... فعليه الصلاة والتسليم أفصح الناس في حديث وأبلغ ... بيّن الوحي للأنام وبلّغ طيب الحل قد أباح وسوّغ ... ولكم نعمة من الله سوّغ فلإحسانه علينا عميم ... فعليه الصلاة والتسليم كان بالحقّ والهدى معروفا ... أجود الناس بالندى موصوفا شرّف الله قدره تشريفا ... هادياً مرشداً رسولاً شريفا مجده في العلاء مجدٌ صميم ... فعليه الصلاة والتسليم وجهه بالبها أضاء وأشرق ... مجده في صميمه الأصل أعرق (1) مسّ في كفه قضيباً فأورق ... باصبع قد أشار للبدر فانشقّ ثمّ قد عاد وهو بدر سليم ... فعليه الصلاة والتسليم جاءه الوحي أنت خير الناس ... بلّغ الأمر لا تخف من باس وخذ العفو للأنام وواس ... واحمهم من مكايد الوسواس

_ (1) هذا البيت واثنان بعده سقطت من ق.

[خاتمة الكتاب]

فعليك البلاغ والتعليم ... فعليه الصلاة والتسليم كان في الله أثبت الناس جاشا ... ليس من غيره يخاف ويخشى فبكفّ من الحصى فلّ جيشا ... وعيون العداة بالترب أعشى فنجا المصطفى وخاب الظلوم ... فعليه الصلاة والتسليم قد سما قدره بغير تناهي ... وعلا جاهه على كلّ جاه آخر بالتّقى عن الشرّ ناهي ... من يطعه ينل ثواب الإله وله عنده النعيم المقيم ... فعليه الصلاة والتسليم عمدة الخلق للمفاخر حاوي ... بحماه يلوذ كلّ وياوي مبلغ المعتفي الذي هو ناوي ... كيف يحصي ثناء أحمد راوي وعليه أثنى الكتاب الحكيم ... فعليه الصلاة والتسليم حسنه كالصباح بل هو أجلى ... وندى كفّه من الشهد أحلى واعتلا قدره من السبع أعلى ... مدحه في الكتاب ما زال يتلى فله الفخر والثناء العظيم ... فعليه الصلاة والتسليم خصّه الله من رسول نبيّ ... في جميع الورى بقدر عليّ وحباه منه بنور بهيّ ... فهدى الخلق للصراط السّويّ وصراط الهدى سويّ قويم ... فعليه الصلاة والتسليم [خاتمة الكتاب] قال مؤلف هذا الكتاب العبد الفقير أحمد بن محمد المقري المالكي، وفقه الله تعالى إلى حسن المتاب، وحباه الدخول في زمرة من رفع عنهم بشفاعة المصطفى

الإصر والعتاب: هذا آخر ما سمح به الخاطر الكليل، من هذا المقصد الجليل، الذي يكون إلى ما وراءه من الطّرف الأدبية خير دليل، ووضعته والقلب حليف شجن وغربة، والفكر أليف حزن وكربة، وأنا أسأل الله تعالى الذي لا يرجى سواه، أن يجعل بناءه ثابتاً بحسن النية حيث البناءس الذي فيه حظ النفس واه، وأن يكون ما جلبته فيه من الهزل بالجد المذكور فيه مكفراً، وأن ينفع به من وجّه إليه وجهته، فإني قد جمعت فيه ما يندر جمعه في غيره وكل الصيد في جوف الفرا. يا من عليه اتكالي ... ومن إليه متابي جد لي بعفوك عنّي ... إذا أخذت كتابي واعلم أن هذا الكتاب معين لصاحب الشعر، ولمن يعاني الإنشاء والنثر من البيان السحر، وفيه من حكايات الأولياء والعلماء، ما نظمت في لبة السطور منه السلوك. وفيه من الوعظ والاعتبار، ما لم ينكره المنصف عند الاختبار، وكفاه أنه لم ير مثله في فنه فيما علمت، ولا أقوله تكية له، ويعلم الله تعالى أني تبرأت من هذا العارض ومنه سلمت، ولو لم يحز من الشرف إلاّ ختمه بهذه الأمداح النبوية الشريفة، ذات الظلال الوريفة، لكان كافياً شافياً، وها أنا أجعل آخره تنبيهاً للّبيب، قول ابن حبيب: يا خير مبعوث له طلعة ... نور الهدى منها أقرّ العيون جئت إلى ناديك أرجو القرى ... من غيث كفّيك المغيث الهتون كن لي شفيعاً فارتكاب الهوى ... أوقعني بين الشّجا والشجون صلّى عليك الله سبحانه ... ما هزّت الريح قدود الغصون وقول النواجي: لقد أفرطت في حسن ابتداء ... ورمت تخلّصي يوم الزحام فبالمختار أرجو عفو ربي ... ليرشدني إلى حسن الختام

وكان الفراغ منه عشية يوم الأحد المسفر صباحها عن السابع والعشرين لرمضان سنة ثمان وثلاثين وألف، بالقاهرة المحروسة، والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وألحقت فيه كثيراً في السنة بعدها؛ فيكون جميعه آخر الحجة تتمة سنة تسع وثلاثين وألف، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم، دائماً أبداً إلى يوم الدين، آمين. وجاء في ختام النسخة " ق ": قال محرر هذه النسخة المباركة العبد الفقير، الضعيف الحقير، الراجي من الله سبحانه العفو والغفران، أحمد بن محمد الحمودي العطار، غفر الله ذنوبه، وستر في الدارين عيوبه، كان الفراغ من كتابه عشية يوم الأربعاء المسفر صباحها عن الرابع والعشرين أو الثالث والعشرين لذي القعدة الحرام من شهور سنة ثلاثين ومائة وألف، حامداً لله مصلياً ومسلماً على رسول اللع صلى الله عليه وسلم طالباً لمؤلفه المغفرة رحمه الله تعالى ورضي عنه وعن جميع العلماء العاملين وعن الأربعة الأئمة المجتهدين وعن مقلديهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا وعن والدينا ومشايخنا، ومن علمنا ومن هدانا ومن أسدى إلينا معروفاً، وعن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، من أهل السنة والجماعات، إنه غفور رحيم، شكور حليم، وقد تمت هذه النسخة الميمونة المباركة المصونة بعون الله وإرادته القادرة ومشيئته الصادرة برسم افتخار السادة الأشراف مولانا وسيدنا السيد محمد عاصم أفندي ابن المرحوم السيد عبد المعطي أفندي الشهير نسبه بالفلاقنسي ... وذلك بمنزلي العامر الكائن بمحلة القيمرية من دمشق الشام (ثم قصيدة قالها الناسخ في تقريظ الكتاب مؤرخاً: قل تم عرف الطيب أنجز به وعدي: 1130) . انتهى المجلد السابع وبه تم الكتاب ويليه المجلد الثامن في الفهارس العامة

§1/1