نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة

المحبي

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم أنزله الله وأسبحه، وأسأله التوفيق وأستمنحه. حامداً له تعالى بأسمائه، على جلائل آلائه ودقائق نعمائه. حمداً تتعطر مجاري الأنفاس بنفحةٍ من نفحاتهِ، وتتدفق بحار الأفكار برشحة من رشحاته. وأصل ذلك ما دمت أنطق بكلام بصلات صلاة وأتم سلام، على من أبدع منشئ الوجود إنشاءه على أحسن فطرة وأجملها، ونظم به عقد الدين بعد نثره فدعا لأتم ملة وأكملها. الذي أوتي جوامع الكلم، ولم ينطق عن الهوى، فاقتفى أثره عصابة ما ضل أحد منهم باتباعه ولا غوى. المبعوث في زمن هتفت فيه مصاقع العرب على منابر البلاغة، وقيدت شوارد المعاني في الأسماع بسلاسل الذهب فلم يبلغ أحد بلاغه. فأبطل سحرها المبين، متمسكاً بحبل الله المتين، وجاءها بالعقد الذي تحل به الزمان العاطل، والحق الذي لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه الباطل. والروض الذي تتفجر عيونُ البلاغة عن أصول معانيه، وتتدفق مياه البراعة عن فصول مبانيه. ونزه أسماعها في حديقة حميت بشوكة الإعجاز فلم تلمس ورودها أيادي إياد ولا أنامل الحجاز. فلله وبالله ذلك المفحم المعجز، الذي أعيى على الواصف المطنب والموجز. لا برحت الصلوات الناميات في كل أوان، تحيي مرقده الشريف ما تعاقب الملوان. ثم أحيي آله الكرام، وأصحابه ذوي الاحترام، بما يناسب رتبتهم السامية، من هذه التحية الزكية النامية، وعيلهم رحمة الله وبركاته. وبعد: فإني من منذ ألقيت الألواح، وميزت بين الصباح والمصباح. جعلتُ الأدب لناظري ملمحا، واتخذته لفكري من بين المعارف مطمحا. وكنتُ أعده لصحائف الشمائل عنواناً، وأرتب لبيت قصيده في بدائع المآثر ديواناً. وأشيم من آفاقه بوارق السحر، وأشم من أردانه روائح الشحر. فأرتشف منه ما هو أشف من الماء في زجاجه، وأشتف ما هو ألذ من الرحيق في مزاجه. وأنا من الابتهاج به كما التقى الغدير بالزهرة، ومن التملي به كما تقابلت الثريا بالزهرة. فطالما وردت منه ما صفى من الأمواه، وبسطت حجري لالتقاط درره من الأفواه. وعكف طرفي في محاريب دفاتره، ورشف يراعي ماء الحياة من ظلمات محابره. هذا وغصن شبابي غض وريق، وتحايا مدامي عض وريق. وأنا أجري في طلق الصبا طلق الصبا، وأذهب في نيل البغية مذهباً مذهباً. فكم ليلة نادمت فيها الأمانين ووفى لي في جنحها بالضمان زماني. فتناولت أحاديث كالأرياق، نظمتها كالعقود تلوح من الأزياق. وذلك في مسقط رأسي ومشتعل ذؤابة نبراسي. خطة السرور والفرح، وحلة القدح والقدح. ومنى الأماني، ومغنى الأغاني. وقبلة القبول، وشملة الشمول. البلدة الفيحاء دمشق، الطيبعة العرف والنشق. لا زال خفاق النسيم يلعب بعذبات واديها، وهطال السحاب يراوح دمنها ويغاديها. وحيى الله أعزاها الذين بهم التقيت ونجوم أفقها الذين بصحبتهم ارتقيت أديبهم يهز له الأدب هيف معاطفه، وأريبهم يمد به الندى بساط عواطفه. يرمون عند هدر الشقاشق في حدق البيان ويصيبون بالكلم الرواشق غرض التبيان. ويتنافسون من السحر في المناظم، وما يتصرفون فيه إلا على ذائقة الأعظم. من بدائع لو عثر عليها سحرة من موسى لتابوا، وروائع لو اطلع عليها المصورون لدلوا عن نهجهم وأنابوا. وما منهم إلا من بطش فيما انتحى بباع بسيط، ولم يزل عن موقف الصواب مقدار فسيط. وكان بقي للشعر خصاصة فاستظهروا على سدها، وأنشوطة استنهضوا هممهم لشدها. صنيعهم صير الزمان من تقصيره في وجل، وأظنه أطلع الورد في خد الربيع إشارة لما عنده من الخجل. فوسقت في بحارهم السفائن، واستخرجت من محاسنهم الدفائن. واجتنيت من ثمرات خواطرهم كل يانع مستطاب، وحشوت صدفة أذني من تلك اللآلئ الرطاب. وملأت السمع منهم كلماً ... يحسد القلب عليه الأذنا لكني لم أقض من رؤيتهم مطمعا، حتى غربواهم وشمس الفضل معاً. فعاينت الوجود دونهم كالنهار بلا شمس، وعاينت الأمر ولا هم كالراحة بلا خمس. وفقدت بهم الوطر الذي شايعته، والأمل الذي على الوفاء والرعى للذمم بايعته. فلم ألبث حتى كرهت الثوى وتحركت عزيمتي لداعي النوى. أنضيت لجهة الروم العزم، وأدخلت على حرف العلة عامل الجزم. فعل أمرئ جد جده، وما رأيه إلا في مفخر يستجده فإن في الانتقال تنويهاً لخامل الأقدار، ولولاه لم يكس البدر حلة الأبدار.

وكذا الدر ضائع الحسن في البح ... ر فإن بان عنه راق جمالا ومياه البحار ملح فمهما ... حملتها السحاب عدن زلالا فدخلت أمهات بلادها دور الخلافة، واستقريت آخراً بقسطنطينيتها، لا زالت مصونة من كل آفة. والدولة إذ ذا بالكلمة الغالبة تنطق، والدنيا تتوشح بتلك الحماية وتنتطق. والأيام مقسطة، والأنام منبسطة. والزمان كله نهار، والمنابت طراً أزهار. وملك الزمان السلطان محمد، ختم الله بتأمينه مذ صافحت آفاقها أسرة جبينه. حدثت عن الحياة الخضرة جنباتها، واستحال زمرداً وزبرجداً نباتها. والأفئدة بطاعته تدين، وقد تهنى بمانه الدنيا والدين. ورأيت أستاذي الشيخ محمد بن لطف الله الذي توجهت بكليتي إليه، وأوقفت أملي مذ أنا يافع عليه. وهو مقصد الواصف والمادح، وملج لسان الناطق والصادح. وقد استوفى من الصدارة تمام العزة، وأوفى شرفه على كل الأعزة. وكان للأدب ممن تلافى ذماه، وروى ببشره ظماه. فأصبحت حسنات الدهر به موفورة، وسيآته بوجوده مغفورة. ونفضت لديه علائق الترحال، ورفرفت عليه آمال الرجال. من كل من اتخذ الأدب مفخراً يرغم به أنوف المفاخرين، والثناء الجميل مدخراً، وهو لسان صدق في الآخرين. فحاسيتهم بحضرته كؤوس مودة أصفى من الماء، وتلقيت منهم كل نادرة تفضح نجم السماء. ثم لما قضى الله موت الأستاذ برد الله حفرته، ونور بنور الغفران غرته. قضاء منه سبق في بريته، وسوى فيله بين آدم وذريته. رأيت الدهر قد عاندني في الديار والأحباب وكساني المشيب قبل أن أعرف مقدار حق الشباب. وقد ولتني الثلاثون أذنابها، وصبت على المصائب ذنابها. وغاب هلال الصبا في مغاربه، وألقيت حبل الصبا على غاربه. بعد ما كان ذرعي عن هموم الأثر خالياً، وحالي ببرد العيش حالياً. فرميت الشام بعزمة المنتاب، وقد رضيت من الغنيمة بالإياب. فحليتها في عصر ذهب رواؤه، وفرغ من المعارف إناؤه. وعضد الأدب هيض، وثمده بعد هنيئة غيض. حتى تقلصت ذيول ظلاله، وبكت عيون المنى على أطلاله. والناس إما ساكت ألفاً، أو ناطق خلفاً. ولزمت كسر البيت، وسكنت سكون الميث. متكفكفاً بما في يدي، ومستدفعاً ليومي وغدي. وأنا في الدنيا الموصوفة بالنضارة، من جملة النظارة. أرمقها يمنة ويسرة، فلا أرى إلا هماً وحسرة. ولا أراني إلا كاسفً معنى، وكأنني لفظ بلا معنى. فرمان فرحي أقصر من التفات الحبيب، وتلفتي للسراء تلفت المريض للطبيب. في أوقات أثقل من الحديث المعاد، وأطول من عمر الانتظار لوقت الميعاد. لا سمير لي أوانه ولا جليس عندي أجانسه. سوى أوراق مزقتها الريح، وفرقت شملها التباريح. التقطتها كل واحدة من بقعة، وجمعتها من كل رق رقعة. أكثر ما فيها أشعار لأهل العصر، الذين ضاق عن الإحاطة بمفاخرهم نطاق الحصر. ممن رأيته فكانت رؤيته لعيني جلا، أو سمعت به فكانت أخباره لمسمعي حلي. وكان كتاب الريحانة للشهاب، الذي أغني عن الشمس والقمر، وأطلع الكلام ألذ من طيب المدام والسمر. وناهيك بمن استخدم الألفاظ حتى قيل: إنها له ملك، ونظمها في أجياد الطروس كأنها جواهر لها كل سطر من سطورها سلك. لم يزل من عهد صبايَ، قبل نوم سيارة شمولي وصباي. أمنية رجائي الحائم، وبغية قلبي الهائم. وشمامتي التي أشتم ومسلاتي متى أهتم. وزمزمة لساني، وعقيلة استحساني. حتى أود لو كانت أعضاي كلها نواظر تبصره، بحيث لا تمل لحظاً، وخواطر تتذكره، على ألا تسأم حفظاً، وألسنة تكرره، بشرط ألا تقنع لفظاً. فخطر لي أن أقدح في تذييله زندي، وآتى في محاكاته بما اجتمع من تلك الأشعار عندي. وقصدي بذلك إشغال الفكر، لا الانضمم إلى من فاز بألى الذكر. وإلا، فمن أنا حتى يقال، أو إذا عثرت عثرة تقال. سما إذا قرنت بمن جاريته في ميدان الكلام، أو ضممت إلى من باريته وأنا لست له باري أقلام. وإني لو تطاولت إلى الفلك، وتناولت عن الملك. واتخذت الدراري عقوداً، وزهر المجرة لفظاً منقوداً. ما بلغت مكانه، ولا أمكنت من أمر البراعة إمكانه. فأقدمت سائلاً من الله أن يجعله سهلاً، وأنا أستغفر لتطلعي لما لست له أهلا. وسدت أعياناً بيضت بهم وجه الطروس، وأحييت لهم أبيات أشعار كادت تشارف الدروس. من كل لفظ أرق من نفحة الزهر الروض للناشق، وأحسن موقعاً من تبسم المعشوق في وجه العاشق.

وأتيت فيهم بفصول تشهد لهم بالتفضيل، وتقضي بأن كل وصف فيهم فضول، بالإجمال والتفصيل. وإني محاسب لقلبي إذا مال، وللساني إذا قال. لا أمدح إلا ممدوحاً، ولا أقدح إلا مقدوحاً. ولا يستفزني رعد كل سحابة، ولا يستخفني طنين كل ذبابة. ورقمت من الكلام المصرع، والإنشاء السلس المرصع. ما استنبطته من ذوات الصدر، وألمعت به كالقمر ليلة البدر. فقراً ابتدعتها وسجعتها، ومعاني آدابٍ اخترعتها وألمعتها. تطرزها الأقلام، وترقم بها أردية الكلام. ولم أودع إلا ما حسن إيداعه، ولطف مساغه وإبداعه. وأقنع من القول بطرفه، وأستجلب منه بدائع طرفه. إذ لا فخر للاقط، تناول كل ساقط. ولا فضل لمتخير، هو في لم شعث ما يأتي به متحير. فكم من بيت إذا أخذ الإذن على الأذن تتجرعه ولا تكاد تسيغه، وكم من معنى إذا حاول ناظمه لم يتأت له كيف يصوغه. وكنت عزمت على ألا أترجم أحداً ممن ترجمه، ثم عدلت؛ لأني رأيت ألسنة النقاد عن زيف بعض تراجمه مترجمة. فإنه وإن نوه بحزب، إلا أنه قصر في الإطراء بشعارهم، وإن أطنب في آخرين؛ إلا أنه لم يذكر عيون أشارهم. على أنه نور الله مزاره، ومحى من صحيفته يوم العرض أوزاره أغفل من القوم حزباً نقايا، وكأنه أومأ إلى قولهم: في الزوايا خبايا. فذكرت من أغفله ذكراً شافياً، وأعدت مما فوته قدراً كافيا. ومن نظر بعين الإنصاف، واتصف من المعدلة بأحسن الأوصاف. علم بأني أتيت بما يرضى في الجملة، ولم يقصر كل التقصير في الحملة. فإن من أحسن قبلي وقبل كلامه، وقل في مثل هذا الغرض ملامه، إنما أحسن والدنيا شابة، وريح القبول هابة. والأيام مساعفة، والأوقات مساعدة. والسعود قائمة، والنحوس نائمة. وأنا قد وجدت في زمان هرمت فيه البلغة، وفترت الدعوة وكسدت السلعة، وبطلت الصنعة. وأعظم شيء في الوجود تمنعاً ... نتاج مرام من عقيم زمان وقد رتبت الكتاب على ثمانية أبواب: الباب الأول: في محاسن شعراء دمشق ونواحيها. الباب الثاني: في نوادر أدباء حلب. الباب الثالث: في نوابغ بلغاء الروم. الباب الرابع: في ظرائف ظرفاء العراق والبحرين. الباب الخامس: في لطائف لطفاء اليمن. الباب السادس: في عجائب نبغاء الحجاز. الباب السابع: في غرائب نبهاء مصر. الباب الثامن: في تحائف أذكياء المغرب. وسميته نفحة الريحانة، ورشحة طلاء الحانة. والله سبحانه موفقي لما أردته، ومسدي فيما أوردته. ولما شارفت فيه التمام، ووقفت في التبييض على طرف الثمام. نظرت فرأيت بقي علي من أشعار أهل الحجاز واليمن حصة يسيرة، كانت علي في التحصيل عسيرة. فحين من الله علي، وله المنة، والمنحة التي لا يشوبها كدر المحنة. بالحج والمجاورة في بيته المحترم، وبسمت لي من أهله ثغور الفضل والكرم. حصلت على ضالتي التي أنشد، ووفقت إلى من يوصل إليها ويرشد. ورأيت ثمة ممن لم أسمع بهم قوماً دعوا الأمل فلباهم، وتصرفوا بالأدب وأهله من منذ عقدت عليهم حباهم. من كل إمام شاب رأس المصابيح وما رأت له عديلاً، وخطيب تقوس ظهر المحاريب وما وجدت له بديلاً. وحكيم يبرأ به الزمان من مرضه، وشاعر يجري حياة النفوس في غرضه. هم نشاط الدهر وشبابه، وخالصة المجد ولبابه. كأن الله قد أوحى إلى البلاغة أن تجري بمرادهم، وعهد إلى البراعة أن تكون ثنى أبرادهم. فهبت لي منهم أنفاس ندية، وتنفست أسحارهم بروائح ندية. فكانت أعطر من نشر الخزامى، وأرق من أنفاس النعامى. فتناولت من أشعارهم ما نمقته وشياً مذهباً بذكرهم، وفتقته مسكاً أذفراً بشكرهم. وراسلوني بكل حسنة تستدعي عشر أمثالها، فقابلتهم كأنني المرآة ألقى كل صورة بمثلها. وأنا ورب الكعبة أ؛ بهم ديناً وجبلة، وأتخذهم حرماً لأماني وقبلة. وأشكرهم شكر الروض للسما، وأثني عليهم من الأرض إلى السما. ولما برزت الإرادة الإلهية بمفارقتي البيت والمقام، وبعدي عن ذلك المحل الذي خيم الرضا فيه وأقام. عزمت على الرحلة إلى القاهرة، لأسبر ذلك الجمع، وأطابق ما بين العيان والسمع. فمنعني حكم القضا، الذي لا يقابل إلا بالرضا. فوجهت وجهي نحو بلادين ونزعت إلى ما تركته من طريفي وتلادي. أستهدي طرف الآثار لأودعها كتاب التحائف، وأخط نونات المنى بأيدي العيس في تلك الصحائف.

الباب الأول في ذكر محاسن شعراء دمشق

فلما ألقيت بدمشق عصا الترحال، وحليت في ساحتها عقدة الرحال. عمدت إلى مجموعي الذي انتحيت، وطلقي الذي إليه تنحيت. فصممت إلى الأصل ما تلقيته، وأثبت ما اخترته من الأشار وانتقيته. وحبب إلي الانعزال عن الناس، فلم أخالطهم في وحشة ولا إيناس. إلى أن ورد إلى دمشق الأستاذ زين العابدين البكري، وللحياة عطفة بشة، وللجذل نعمة هشة. للهضب رجاح احتبائه، وللنور المقدس جوهر حوبائه. فاستخرجني من مطمورة المنزل، وصيرني عن الهم في معزل. وأطلق أملي وكان معقولاً، وأعاد خاطري بعد الصدأ مصقولا. ففتقت في أوقاته مبسماً، واغتنمت للعمر الهني موسما. ورأيت بشراً يطرد وصيلا، وإقبالاً يتعاقب بكرة وأصيلا. وكان أشار إلي بالرحلة معه حين أن هم الرجعة، فتخلفت لعائق خلفني لولوعي، وخلى بين الغرام وضلوعي. ذاك ولوع للمجد لا لنجد، وغرام للعليا لا للأفيا. فلولا النفائس لم يحفل بالأدراج، ولولا الكواكبُ لم تحفظ الأبراج. ولا اتخذ الغمد لولا الحسام، ولولا الأرواح لم تؤلف الأجسام. فبقيت موزع الفكر، مقسم الأناة بين التصور والذكر. على أني وإن تباعدت المدائن، فأنا بولائه وصدق مودته دائن. وإن لم تنظمنا الركاب المسئدة، فقد انتظمت منا على المودة الأفئدة. وهذه علاقة تستجد كلما تتلى، لأنها ليست لغرض يبلى. بل علقته لأخلاقه لا لأعلاقه، وتعلقت بآدابه لا بأهدابه. وصرت أود لو طرت إليه كل مطار، وكنت معه على آمالٍ وأوطار. فبينما أنا أنتظر لقربه طريقاً، وأطلب للوصول إليه فريقاً رفيقاً. إذ قدم الشام المولى الهمام الأعظم عبد الباقي المعروف بعارف، قاضياً بمصر، وهو من إذا كنت أذكره أميل كغصن البانة الناعم النضر، وإذا ما رحت أشكره، أروح كأني قد خلقت من الشكر. وأجد نسيمه إذا تنسمته، كالمسك يفتق بالندى ويعطر، وأجتلي منه كلما توسمته خلقاً كزاهي الروض بل هو أعطر. من ابتسمت به الأيام وكانت عابسة، وأورقت غصون المنى بعد ما كانت يابسة. وأنار به وجه المان، وأخذ الأنام من الدهر توقيع الأمان. فإنه أمده الله بتوفيقه، وسدد سهام رأيه بتفويقه. نفرد بجمع الكمالات فلا يشرك، وتوحد في استيعاب المعلومات فلا يدرك. فمطلب الثناء فيه هين، ومركب الإطراء فيه لين. وإن من النعمة على المثني عيله، أنه لا يحذر أن تنسب نقيصة الكذب إليه. ولا ينتهي إلى محل في ثنائه، إلا وجد له عوناً في أثنائه. ومن سعادة جده، وبلوغه في الحظ نهاية حده، أنه إذا دعا له لم يجد عنه متخلفاً، وبل يرى كل راء وسامع إليه متحلفاً. فلما ترويت من ماء بشره، ونعمت ولله الحمد بتقبيل عشره. أنهضني القيام بذمته، إلى أن أكون في خدمته. فصحبته مصاحباً به المنى والأمل، وخدمته فكساني شرف الشمس في برج الحمل. ولما حللنا القاهرة أنزلني في حماه، وأحلني حيث تدفق سيب رحماه. وتوافق مع الأستاذ - مد الله في جاهه، وجمل النوع الإنساني بحياة أشباهه - على ترويج حظي، وفتحا بنظرهما إلى الأمنية لحظي. وخصاني من برهما الممتدة أطنابه، بما يعجز عنه إسهاب القول وإطنابه. ففتقا لساني بأمداحهما، ووزناني فرجحت سائر مداحهما. وأنا الآن في ظل رعايتهما مصاحب الراحة والدعة وأينما حللت نزلت على الرحب والسعة. فلهذا صفا فكري في هذه الأيام من الشوائب، وأمنت بعون الله وصمة النوائب. وشرعت بأمرهما في نسخ ما سودته أولاً وثانياً، ولم أكن لعنان عزمي ثانياً. وأنا سائل من واهب الآمال، أن يبيض وجهي يوم عرض الأعمال. ومن هنا أشرع فيما عمدت إليه، فأقول مفوضاً أمري إلى الله ومتكلاً عليه: الجزء الأول الباب الأول في ذكر محاسن شعراء دمشق الشام ونواحيها لا زالت طيبة العرار والبشام وهي كما علمت من عهد أن دخلتها العرب، موطن كل أدب، لك فيه الأرب. وقد أنجبت في كل وقتٍ وأوان، بقادةٍ كل كلمةٍ منهم بديوان. حتى أرانا الله بقاياهم، وأطلعنا على خبايا زواياهم. فهم أئمة الفضل المتوجون بتيجان اللطافة والملاحة، وهم مطمح أنظار الأمل، فما غيرهم قيد العيون اللماحة. بهم تفضل أهل البلاد، وتصعد إلى أفق الثريا، وبهم يمس بستان الفكر بعد ظمائه ريًّا.

فلا غرو أن قام بهم شعار الأدب وثبت، وغرس في قلوبهم شجر المحبة فسقي ذلك الغرس بمائها فنبت. وكللت حياض طروسهم الزاهية بجواهر كلامهم وكمالهم، وزينت بعقيان الدر من منطقهم المترجم عن حقائق أحوالهم وأقوالهم. فمنهم: أبو بكر بن منصور العمري قدمت هذا الشيخ رعايةً لاسمه، مع أني أعلم أن له القيام على حد الأدب ورسمه. فهو الذي خاض في لججه أتم الخوض، وتفنن في أقسامه تفنن الأزهار في سرحة الروض. إن نشط لمغازلة الغزلان فموصوف بظرف أبي عبادة، أو انتسب لنسيب قدود الغانيات فأين منه ابن ميادة. وإن انتدب لوصف الحميا والكاس، أنسى ذكر خمريات أبي نواس. وإن رثى عم مراثي أبي تمام، وأملى نياحة الفرخ على الحمام. فهو أعوم في بحور الشعر من ابن قادوس، واصلح إذ جد وهزل من ابن حجاج وابن عبد القدوس. له فكرة في النظم صافية، ما عوقت له قط قافية. فإذا أملى من نظمه قطعةً واختالها من روض الجنان مقتطعة، لم ينته له إسراع، ولم يجف له في يده براع. وليس بتزويق اللسان وصوغه ... ولكنه ما خالط اللحم والدما وقد حلب الدهر أشطره، وملأ كتاب عمره أسطره. وحادث أحداثه، وبذ كهوله وأحداثه. وأخبرني والدي، قال: رأيته ولحيته أنقى من الفضة، وأيام حياته قاربت أن تصير منفضة. ومع أن السنين لاكت قواه، لم يزل مع الركب اليمانين هواه. ومضى زمنٌ وأدباء الشام به يحتفلون، ويحكم بينهم فيما هم مختلفون. وبلغني أنه كان يحضر السوق، وهو من كسب يمينه على جانبٍ من الوثوق عاملاً بالأثر: " لو كنت تاجراً لاتجرت بالطيب إن فاتني ربحه ما فاتني ريحه ". فانظر إلى ما ساقه كساد سوقه، وضيعة حقوقه. على أن له في سوقه الفضلاء أسوة، وكأنه استعار منهم لأشعاره كسوة. هاتان الفقرتان للباخرزي، احتجتهما، ففي هذا المحل أدرجتهما. قال: وهم؛ نصر بن أحمد الخبزرزي، وأبو الفرج الوأواء الدمشقي، والسري الرفاء الموصلي. قلت: وهم الذين إذا تليت آياتهم المنسوقة، كان من تقدمهم من الأدباء عندهم سوقة. أما نصر، فكان يصنع خبز الأرز بالبصرة وتجتمع الأدباء بحانوته. وأما أبو الفرج فقد كان يسعى بالفواكه رائحاً وغادياً، ويتغنى عليها منادياً. وأما السري، فقد كان يطرز الخلق، ويرفأ الخرق ويصف تلك العبرة، ويزعم أنه يسترزق الإبرة. وكيف ما كان فالحرفة لا تخلو من حرفة، والصنعة لا تنجو من صرعة، والبضاعة لا تسلم من إضاعة، والمتاع ليس لأهله به استمتاع. وأخبرت أنه كان سموحاً بما ملك، متخلياً عن الإمساك أيةً سلك. يضم يديه على النقدين، فلا يمسي إلا وهو منها صفر اليدين. وقضى عمره في بلهنيةٍ هنيةٍ، أغصان عيشها ما زالت جنية. لم يغادره بؤس، ولم يكدره يومٌ عبوس. بين رياضٍ مهزات نبتها ريانة، وغياضٍ أساجيع أطيارها مرنانة. وقد وقفت من أشعاره الغضة التحف، ما به ديباجة كتاب اللطائف والبدائع تحف. فأوردت منه ما يهز له الشيخ عطف غلام، ولا يدرى أسحرٌ هو أم كلام. فمنه قوله: لو تم لي في الحب سعدي ... يا حب ما أخلفت وعدي لكن مقادير القضا ... ء كأنها حكمت ببعدي أو حظُّ كلِّ متيمٍ ... من حظه يرمَى بطرد يا غائباً في القلب من ... نيران فقدك أيَّ وقدِ ما كنت أدري قبل بع ... دك أن سهم جفاك يُردي صدِيَت لرؤيتك العيو ... ن علام ترميها بصدِّ يا سيدي إن كان لي ... ذنبٌ فقل أخطأت عبدي ما خنت عهدك في المحب ... ة كيف حتى خنت عهدي كلا ولا أفشيت سرَّ ... هواك والأسرار عندي ولهي بحبِّك لم يزل ... ولهي ووجدي فيك وجدي أرضى بأن أفنَى وتب ... قى أنت يا مولاي بعدي أخفيت حبك في الفؤا ... د فخطه دمعي بخدِّي وعدا على جسمي النحو ... لُ فعاد للأسقام يُعدي محن الهوى جمعت عليَّ ... فلست أحصيها بِعَدِّ فالسُّقم يشهد والدمو ... ع بوحدتي في العشق وحدي يا بدر سل عني السُّها ... إن السُّها أدرى بسهدي

وابعث رسول الطيف يس ... مع ما أعيد له وأبدي آهاً على زمنٍ مضى ... لو كان قولي آه يجدي أيام وصلٍ منك لم ... تقطع ولم توصل بردِّ والشمل يجمعنا على ... حبٍّ يودُّ بصدق ودِّ وأضمُّ منك معاطفاً ... بردت جوى وجدي ببردِ وتميل إذ تهوي إلى ... نحوي وجيدك فوق زندي وتقول عجباً هل يرى ... مثلي وأهل الحسن جندي والشمس والبدر المني ... ر سناه جاريتي وعبدي والغصن يقصف قدُّه ... إن قاس قامته بقدِّي ومنحتني منك الوصا ... ل تبرعاً وهجرت صدي فجعلت وجهك حضرتي ... وحديث راح لماكَ وردي وعلمت لما بان رو ... ضُ الوجه أن الخدِّ وردي وشهدت لما ذقت طع ... م الريق أن الثغر شهدي والفرق يشرق صبحه ... في ليل فرعٍ منه جعد فأطعت فيك صبابتي ... وعصيت لوَّامي وزهدي وقضيت أوطاري وقد ... غفل الرقيب فنلت قصدي والخصر أتهمني بأني ... بتُّ في أكناف نجدِ والردف زاد وقد تكف ... ل منةً منه برفدي أحبب بتلك ليالياً ... قد أشرقت ببدور سعدي فسقا معاهد للصبا ... صوب العهاد بكلِّ عهدِ وسرت بها روح الصَّبا ... سحراً فأوحيت ميت بعدي وقوله من قصيدة مستهلها: إن خلعنا على العذار العذارا ... لم يكن ذاك في المحبة عارا منها: بأبي من جآذر التُّرك ظبياً ... ترك الأُسدَ في هواه أُسارى بابليُّ اللِّحاظ منها ترى النَّا ... س سكارى وما هم بسكارى قمرٌ فوق بانةٍ يتجلى ... لا خسوفاً يخشى ولا إهصارا تخذ الطَّرف منهلاً عند مس ... راه ولكن تبوأ القلب دارا قد علمنا أن القدود غصونٌ ... فلماذا أقلت الأقمارا وعهدنا البدور في الليل تسري ... كيف حتَّى غدت تسير نهارا وعجبنا لوجنةٍ تشبه النا ... ر ضراماً وتنبت الجلَّنارا يا لها وجنةٌ حكت جنة الحس ... ن ومنها الفؤاد آنس نارا ومنها: قدِّم الرَّاح يا نديمي لعلِّي ... أعقر الهم إن شربت العقارا وأجِل كاساتها عليَّ وزمزم ... باسم من صير العقول حيارى قهوةٌ مثل دمعة العين في الكا ... س صفاءً فالليل زاد اعتكارا وأدرها إذا النجوم تجلت ... وشهدنا من زهرها الأنوارا وكأنَّ السماء روضة حسنٍ ... أطلعت في مقامنا أزهارا والثُّريا كأنها في الدُّجى غي ... دٌ تلَّفعن بالشُّعور عذارا وكأن الهلال يحكي وقد لا ... ح من الغرب زورقاً أو سوارا فاسقني من يديك حتَّى ترى الفج ... ر عن الصُّبح قد أماط الإزارا وصل الليل بالنهار فإن ال ... عيش أهناه ما يكون جهارا في رياضٍ حكى بها الزَّهر والور ... د النَّضيران فضَّةً ونُضارا وكأن الأقاح فيها ثغورٌ ... عن غوالي الجُمان تبدي افترارا وحكى النَّهر مَعصماً وسواراً ... يتلوَّى وأرقماً سيَّارا فاترع الكأس لا عدمتك صرفاً ... فعلى الصِّرف نصرف الأعمارا ثم زد ما استطعت حتى تراني ... قد خلعت الوقار والبيقارا واعتقد أنها حرامٌ ووزرٌ ... لا توافق يهودها والنَّصارى واسأل العفو فالكريم رحيمٌ ... قابل التوب يغفر الأوزارا وله في الغزل: سيِّدي مذ غبت عن نظري ... لم أفق من خمرة الكدر

أحسب الصُّبح العشا أبداً ... فنهاري أوَّل السَّحر لم تمل روحي إلى وطنٍ ... لا ولا قلبي إلى وَطَرِ سل نجوم الأفق عن قلقي ... فعسى تنبيك بالخبر لا وعينٍ فيك راقدةٍ ... لم تذق عيني سوى السَّهرِ أيُّها البدر الذي حجبوا ... نوره الوضَّاحَ عن بصري لو ترى حالي بكيت على ... قلبي المسجون في سقَرِ كدت أخفى من ضنَى جسدي ... عن عيون الجنِّ والبشر للشعراء في وصف نحول العشاق مبالغات غالبها محمولٌ على الإغراق، ومن أبلغها قول أبي بكر الخالدي: مهدَّدٌ خانه التفريق في أمله ... أضناه سيِّده ظلماً بمرتحله فرقَّ حتى لو أنَّ الدَّهر قاد له ... حيناً لما أبصرته مقلتا أجله وأعجب منه قول أبي الطيب: ولو قلمٌ ألقيت في شقِّ رأسه ... من السُّقم ما غيَّرت من خطِّ كاتب وغريب قول التمار الواسطي: قد كان لي فيما مضى خاتمٌّ ... واليوم لو شئت تمنطقت به وذبت حتى صرت لو زجَّ بي ... في مقلة النَّائم لم ينتبه وقول المظفر بن كيغلغ: عبدك أمرضته فعده ... أتلفته إن لم تكن ترده ذاب فلو فتَّشت عليه ... كفَّك في الفرش لم تجده وقول أبي الفضل بن العميد: لو أنَّ ما أبقيت من جسدي قذًّى ... في العين لم يمنع من الإغفاء وللعمري: يا من يفوِّق لحظه ... سهماً بسحر الهدب راشَهْ أفديك ما ريمُ الصَّري ... مِ فذاك ينسب للوحاشَهْ يرعى من الأرض الحشي ... ش وأنت مرعاك الحشاشَهْ أجاد في التنظير، وأربى على قول الآخر: يرعى القلوب وترتعي ال ... غزلان بروقه وشيحه والبروقة: شجيرة تخضر إذا رأت السحاب؛ وذلك قولهم: " أشكر من بروقة ". وعلى هذا المعنى حمل قول أبي الطيب: أغِذاءُ ذا الرَّشاءِ الأغنِّ الشِّيحُ بعد قوله: جللاً كما بي فَليكُ التَّبريحُ يقول: ليكن تبريح الهوى عظيماً مثل ما حل بي، أتظنون أن من فعل بي يغتذي الشِّيحَ؛ ما غذاؤه إلا قلوب العشاق! وبه يتناسب شطرا البيت. وله غلام بحنكه طابعٌ تمَّت به محاسنه، وكأنما هاروت ساكنه: غصن بانٍ بدر دجًى ... يتجلَّى من أعالي فلكه قد حمى برد اللَّمى من ثغره ... طابع الحسن الذي في حنكه نصبت ألحاظه لي شركاً ... جلَّ من أوقعني في شركه قوله: قد حمى إلخ يحتمل أن حمايته من جهة أنه كالخاتم، ختم به على برد اللَّمى، ويحتمل أن يكون حماه لكونه كالحفرة في طريق من يريد رشف لماه، فيخاف من الوقوع؛ وهذا تخيُّلٌ حسن. وأحسن منه قولي: وطابعه جبٌّ يُرَى ألف يوسفٍ ... به واقعاً من قبل رشفة ريقه والطابع كالخاتم: في الأصل ما يطبع به، ولم أر إطلاقه على النقرة المعهودة، وإنما اسمها في اللغة: نونَة. قال ابن الأثير في نهايته: وفي حديث عثمان رضي الله عنه، أنه رأى صبيَّاً مليحاً، فقال: دسموا نونته؛ كي لا تصيبه العين. أي سودوها، وهي النقرة التي تكون في الذقن. وقد استعمل صاحبنا الأديب البارع إبراهيم بن محمد السفرجلاني النُّونة، وأجاد في تشبيهها جداً، من أبيات أنشدنيها من لفظه، وبيت النُّونة منها قوله: وإن أشبه التُّفَّاح خدِّيَ حمرةً ... فلي نونةٌ تحكي مناط عروقه والأبيات هي هذه: بروحي ساقٍ قد جلا تحت فرعه ... جبيناً كبدر التِّمِّ عند شروقه سقاني بنجلاويه كأساً من الهوى ... فأسكرني أضعاف سكر رحيقه وقال افترع بِكرَ المعاني تغزُّلاً ... فلي منظرٌ يهديك نحو طريقه فوجهي مثل الرَّوض إذ باكر الحيا ... جَنيَّ أقاحيه وغضَّ شقيقه وإن أشبه التفاح....إلخ. ثم أنشدني المذكور معنًّى اخترعه في تسويدها، وذلك قوله: خافوا من العين ترميه بنظرتها ... فقلت ميلوا إلى تسويد نونته

قالوا نسوِّدها بالطِّيب قلت لهم ... الطِّيب من غيره أحرى بجونته وكنت أظن أن وصف الطابع ليس بالموجود في شعر المتقدمين، حتى رأيته في شعر فخر الدولة أبي المعالي، من شعراء الخريدة، حيث قال في غلام اسمه يوسف: أيا قمراً جار في حسنه ... على عاشقيه ولم ينصفِ سمعنا بيوسف في جبِّه ... ولم نسمع الجبَّ في يوسفِ ثم رأيت الخفاجي ذكر في كتابه شفاء الغليل: جبُّ يوسف مولَّد، معناه نقرة الذقن. وأنشد البيتين. ثم قال: ويقال له خاتم الحسن. وأما النقرة التي تكون في الخدين عند التبسم، فقد استعملها كشاجم في أبياته المشهورة، وهي: هذا الذي سجد القضيب لقدِّه ... صنمٌ لعابد فتنةٍ لاهوت في ناظريه إذا تبسَّم ضاحكاً ... سحرٌ وجوهر خدِّه ياقوت حفر التبسُّم فيهما جُبَّين في ... ذيَّاك هاروتٌّ وذا ماروت وأما اسمها فقد رأيت المقري ذكر في تاريخه ناقلاً عن ابن عليم، أنه قال في شرحه لأدب الكتاب لابن قتيبة: أغربت جاريةٌ لمجاهد العامري، أهداها إلى عباد - قلت: وهي العبادية، وكانت كاتبةً شاعرة - على علماء إشبيلية، بالنُّقرة التي تظهر في أذقان بعض الأحداث، وتعتري بعضهم في الخدين عند الضحك، فأما التي في الذقن فهي النونة، وأما التي في الخدين عند الضحك فهي الفحصة، فما كان في ذلك الوقت في إشبيلية من عرف منهما واحدة. وللعمري في دخان التبغ: مذ أحرقت نار الصَّبابة مهجتي ... وأتى العذول يسلُّ عضب لسانه بادرت بالغليون تمويهاً له ... وسترت عنه دخانها بدخانه ومثله للحرفوشي: لعمرك لم أهو الدُّخان ولم أمل ... إليه لألقى نشأةً وتطرُّبا ولكنني أخفي به عن مجالسي ... دخان فؤادٍ بالغرام تلهَّبا وقريبٌ منه قول الفتح بن النحاس: وأرى التَّولُّع بالدُّخان وشربه ... عوناً لكامن لوعة الأحشاء فأديم ذلك خوف إظهار العدى ... فأشيبه بتنفُّس الصعداء وله في تشبيه الثلج: انظر إلى الروض الأريض وحسنه ... وموائس الأغصان مثل الخرَّدِ والثلج فوق الصُّفر من أوراقه ... شبَّهته تشبيه غير مفنَّدِ ببرادةٍ من فضَّةٍ مبثوثةٍ ... فوق الصَّحائف من نضار العسجدِ ولي في هذا المعنى من مقصورة: والثَّلج كالقطن أجاد ندفه ... قوس السَّحاب فوق حلَّة الرُّبى كأنَّه برادة الأفلاك من ... كثرة دورها بقبَّة السَّما وله في وصف جواد: ربَّ طرفٍ من العتاق كريمٍ ... يسبق البرق حالة الإيماض لو جرى والجنوب في الجوِّ تسري ... علَّم الرِّيح كيف قطع الأراضي أو سرى مع دعاء آصَفَ بالعر ... ش لكان البشير بالأغراض وله مثله: طرفٌّ يفوت الطَّرف في لمحاته ... سبقاً ويهزأ بالظَّليم النَّافر بالبرق يظفر إن أراد لحاقه ... والبرق ليس إذا أراد بظافر وكأنه آلى ولم يك حانثاً ... أن لا يمسَّ الأرض منه بحافر وهذا من قول خلف الأحمر في صفة جواد: وكأنما جهدت قوائمه ... أن لا تمسَّ الأرض أربعة وزاد عليه شمس الدولة بن عبدان في قوله: أبت الحوافر أن يمسَّ بها الثَّرى ... فكأنَّه في جريه ومتعلِّق وهذا الباب مما بالغت فيه الشعراء كل المبالغة، فمن ذلك قول ابن نباتة السعدي: لا تعلق الألحاظ من أعطافه ... إلا إذا كفكفت من غلوائه وقول ابن حمديس الصقلي: يجري فلمع البرق في آثاره ... من كثرة الكبوات غير مفيق ويكاد يخرج سرعةً من ظلِّه ... لو كان يرغب في فراق رفيق وقد جمع ابن حجاج في مرثية فرس له فأوعى، ودعا فرسان البلاغة فأجابته طوعاً، حيث قال: قال له البرق وقالت له الرِّ ... يح جميعاً وهما ما هما أأنت تجري معنا قال لا ... إن شئت أضحكتكما منكما

هذا ارتداد الطَّرف قد فتُّه ... إلى المدى سبقاً فمن أنتما وقلت على أسلوبهم في المقصورة: وفدفدٍ طويته بضامرٍ ... يسابق البرق ويسبق القضا يقبض رامي سهمه عنانه ... خشية أن يصيبه من القفا وأجرى جواد كان للعرب أعوج، الذي يضرب به المثل، وهو فحل كريم، كان لبني هلال بن عامر، وأنه قيل لصاحبه: ما رأيت من شدة عدوه؟ فقال: ضللت في باديةٍ وأنا راكبه، فرأيت سرباً من القطا يقصد الماء، فتبعته وأنا أغض من لجامه، حتى توافينا الماء دفعة واحدة. وهذا أغرب شيءٍ يكون؛ فإن القطا شديدة الطيران، وإذا قصد الماء اشتد طيرانه أكثر من غير الماء. وأغرب من ذلك قوله: كنت أغض من لجامه، ولولا ذلك كان يسبق القطا، وهذه مبالغة عظيمة. وإنما قيل له أعوج؛ لأنه كان صغيراً، وقد جاءتهم غارة فهربوا منها، وطرحوه في خرج، وحملوه لعدم قدرته على متابعتهم لصغره، فاعوج ظهره من ذلك، فقيل له: أعوج. وللعمري، ويخرج منه اسم نعمان: لله ما عاينت من روضةٍ ... غنَّاء قد قرَّت بها عيني حوتان لم يختلفا صورةً ... حفَّا بماءٍ سال من عيني وله في اسم كريم: أهواه حلو الدلال ألمى ... قد لذَّ في عشقه العناء ريقته للرحيق تعزى ... وكم بها للظما دواء وله في اسم ولي الدين: ليالٍ بُعَيْد التنائي دنت ... ولانت ولي عزَّ إصلاحها وعين العدى سكِّرت بالعمى ... وعزَّ ضياها ومفتاحها ونقل له عن باقي، شاعر الروم، ومميزها بين السادة القروم. أنه نظم أبياتاً تغزل فيها بصبي صبيح، كما هو تهوى الأنفس مليٌّ مليح. فلما وعاها الغلام استبدعها، واستحفظها خزانة لبه واستودعها. وبلغ باقي، أنه قال: قبلتها، ولو ظفرت برجل قائلها قبلتها. فقال باقي: إن كان نوى جميلاً لأجلي، فليقبل فمي لأنني به نظمتها، لا برجلي. فنظم العمري هذه المقالة في قوله: قال لمَّا وصفته ببديع ال ... حسن ظبيٌ يجلُّ عن وصف مثلي مكِّن العبد أن يقبِّل رِجلاً ... لك كَيْما يجيز فضلاً بفضل قلت أنصف فدتك روحي فإني ... بفمي قد نظمته لا برِجلي ومن هذا قول بعضهم: شافه كفِّي رَشَأٌ ... بقبلةٍ ما شفت فقلت إذ قبَّلها ... يا ليت كفِّي شفتي وللشاب مظريف: ومقبِّلٍ كفِّي وددت بأنه ... أومى إلى شفتيَّ بالتَّقبيل ولأبي منصور عبد العزيز بن طلحة بن لؤلؤ: سألته قبلةً فبادر بالتَّق ... بيل مستبشراً إلى قدمي فقلت مولاي لو أردت بها ... سرور قلبي جعلتها بفمي فقال كلا للعبد منزلةٌ ... لزومها من حراسة النِّعم إبراهيم بن محمد الأكرمي الصالحي شاعر الزمان، وشمامة الندمان. ومن إليه يصبو القلب ويحن، وبتذكره ينثني غصن البراعة ويرجحن. ففي أوصافه مشمٌّ للروح عبق، ولطف يروق به كأسه المصطبح والمغتبق. فروض وده غضٌّ، وعرضه الطاهر لا ينال منه ولا يغض. ومدامة طبعه لم يهنها عصار، وشفوف فكره لم يحتمل منة قصار. مع ماله من أخلاقٍ أقطعها الروض أنفاسه، وشيمٍ ينافس فيها رغبةً ونفاسة. وأدبٍ دار به رحيق البيان المعتق، وملأ الأكمام بزهر كمامه المفتق. ينشر منه ما هو أزكى من النشر في خلال النواسم، بل أحلى من الريق يترقرق من خلال المباسم. ومضى عليه زمن يستفيد به العيش رغدا، ويستنجز اليوم ما يوعد به غدا. بين روض من خلقه خلق، ونسيم عرفه بشمائله علق. جلاليب نشوته صفاق، وأردية شموله وصباه رقاق. لا ينتعش إلا بغرة رقراق الشباب الغرير، ولا يولع إلا بطرة الظل فوق وجه الغدير. فهنالك بين الغصن والصبا، والقطر وزهر الربى. ولَّد آدابه التي هي عبارة عنها، وأطلع أشعاره التي يستعار الحسن منها. وقد جمع شعره في ديوان سماه مقام إبراهيم، في الشعر النظيم. أكثره روضيات يغض عنها وشي الخميلة، وغزليات يتستر عندها نقش الغانية الجميلة. وخمريات صيغت مداماً فهي للمسامع مشروبة، وحكميات أبياتها أمثالٌ في الدنيا مضروبة.

وها أنا أورد منها ما يفوح نفسه، حتى كأن الحبيب يتنفسه. ويعبق روحه، حتى كأن فوح الزهر فوحه. قال في ديباجته: هذه نبذة من شعرٍ سمح به الخاطر على جموده، وتوقد به الفكر على خموده. وإن كنت في زمنٍ العاقل فيه خليقٌ بالصَّمت وإن أداه إلى المقت. ذهب جلُّ الناس، وأين الزِّعنفة من الرأس. لا يجاز فيه شاعرٌ، ولا يكرم أديبٌ ماهر. غير أن حبَّ الأدب في الطِّباع، وهو داعٍ إلى الاتِّباع. اتِّباعهم في التراكيب والبِنا، لا في الإجادة لعدم الغنا. ذهبت الإفادةُ، فكيف بالإجادة. ولعمري من لا يجيد في عصرنا معذور، وذنبه فيما أتاه مغفور. إذ أُرتِج باب البواعث والَّدواعي، بانقراض أهل الكرم والمساعي. جوائز الأُمرا، إجادة الشُّعرا. ولذلك قلت بغير امْتِرا: قالوا أجاد البحتريُّ ... كما أجاد أبو نواس فأجبت كانوا في أنا ... سٍ هم ولسنا في أُناسِ وإذا نظرت فما أجا ... د سوى المواهب في القياس ومما جردته من ديوانه قوله من مقصورة مطلعها: حيِّي الحيا معهدنا باللِّوى ... حيث هوى النَّفس وغيُّ الصِّبا وجاده كلُّ هَطولٍ سرت ... تحدو به في الأفق ريح الصِّبا ليلته حتى بدا صبحها ... فأقلعت ديمته فانجلى وقد أشاع الخصب في أرضه ... فأصبحت تزهو بزهر الرُّبى ومدَّ فيها حبراً وُشِّيت ... بالنَّبتِ قد كلِّل منها النَّدى وغادر الغدران في ربعها ... تغصُّ بالعذب النَّمير الرَّوا ولا جفا نجداً ولا حاجراً ... كلُّ هزيم الودق هامى الحيا منازلاً واهاً لأيَّامها ... كانت مظنَّات الصِّبا والهوى حيث الأماني طوع آمالنا ... والسَّعد عبدٌ طائعٌ والمنى لله أيامٌ تقضَّت لنا ... بين ذرى الجزع وسفح اللوى ما كان أهنأ عيشها ليته ... دام وليت العمر فيه انقضى مرَّت كنجمٍ قد هوى ساقطاً ... لم يعتلقه الطَّرف حتى اختفى يا هل معيدٌ لي عيشاً بها ... هيهات لا يرجع شيءٌ مضى ليت ليالينا وأيامنا ... كانت لليلات ألالٍ فدا ويلاه من سرعة تفريقنا ... وشَتِّ شمل الحيِّ بعد النَّوى وآه من وقفة تشييعهم ... وقد شرقنا كلُّنا بالبكا وسارت العيس بأحداجهم ... واستودعوا فيها بدور الدُّجى من كلِّ هيفاء إذا ما بدت ... تختال أذرت بغصون النَّقا خافقة القرطين رُعبوبةٍ ... رادِ الوشاحين أناةِ الخُطى رخيمة الدَّلِّ إذا ما بدت ... تسحر باللَّحظ عقول النُّهى ما ظبية البان على حسنها ... إذا تبَّدى جيدها والطُّلا وظبيِ إنسٍ زارني طارقاً ... والبدر لا يبديه إلا الدُّجى بات يعاطي الرَّاح من ثغره ... ممزوجةً بالعسل المجتنى أشتمُّ من ريحان أصداغه ... وأجتني باللَّحظ ورد الحيا وأجتلي غصن قوامٍ له ... أهيَف يحكي بانة المنحنى لهفي على عيش التَّصابي ويا ... آهة قلبي لزمان الصِّبا حيث الشَّباب الرَّوق يُغري بنا ... حفل الظِّبا الغرِّ وسرب المها كانت عروس الدَّهر أيامنا ... طارت بها العنقاء نحو السَّما ومن ربيعياته قوله: انظر إلى فصل الربي ... ع كأنَّه فصل الشَّباب والزَّهر مثل خلائق ال ... أصحاب من زهر الصِّحاب وغصون بانات اللِّوى ... كمعاطف الهيف الرِّطاب والورد أشبه بالخدو ... د من الشِّفاه على الشَّراب أوَ ما ترى حدق الحدا ... ئق كيف تغمز للتَّصابي وأصابع المنثور مس ... رعةً تشير إلى الرِّقاب

وأكفَّ أوراق الغصو ... ن تظلُّ تدعو بالمتاب فاعكف على روضاته ... فالورد دان إلى الذَّهاب متمتِّعاً بنعيمه ... من قبل بينٍ وانتياب فجميع ما فوق التُّرا ... ب من التُّراب إلى التُّراب ومن خمرياته قوله: ونديمٍ نبَّهت ليلاً فهبَّا ... وهو سكراً يميل شرقاً وغربا قال لبيك قلت هات اسقنيها ... فتردَّى وقال طوعاً وحبَّا فسقاني ثلاثةً وتحسَّى ... بعض كأسٍ فردَّها وأكبَّا قلت أفديك من نديمٍ مطيعٍ ... لو رأى طاقةً بها ما تأبَّى ثم بن وسَّدته وعدت إلى الشُّر ... ب وحيداً فما استلذَّيت شربا إن طيب المدام بين النَّدامى ... وسرور النُّدمان فيمن أحبَّا لو رأوا لذَّةً بدون شريبٍ ... لم يُسَمُّوا فيها ندامى وشِربا وله أيضاً: بحياتي يا بدر أو بحياتك ... لا تقل لا يا قبح لا من لغاتك قم بنا نغنم الوصال وروحي ... في سبيل الهوى وفي مرضاتك قم فلا غير كون شكٍّ يقيناً ... من صفاتي بين الورى وصفاتك يا فَدَتك النُّفوس فيما التَّواني ... ما ترى البسط عزَّ في أوقاتك هاتها بكرة النَّهار فطيب الرَّ ... اح قبل الضُّحى وقبل صلاتك ثم هجِّد بنا نقيل قليلاً ... عند غمز الصَّهباء عود قناتك ثم عد للشَّراب تفديك نفسي ... واسقنيها واشرب معي بحياتك إن كلَّ الحياة كأسٌ مدارٌ ... ونديمٌ وشادنٌ من سقاتك فاغتنم فرصة الزَّمان فقد قي ... ل أخو اللَّذَّة الجسور الفاتك لا تؤخِّر يوماً غداة سرورٍ ... لعشيٍّ وفته قبل فواتك إنَّما هذه الحياة كحلمٍ ... طارقٍ تستلذُّه في سباتك وله من قصيدة مطلعها: يا ليت شعري والمنى بعد ... ما حال سكَّانك يا نجد وكيف دعدٌ بعد أيَّامنا ... تبقى لنا دون النِّسا دعد هل أخفرت من عهدنا في الهوى ... بعد النَّوى أم عهدها العهد لا غرو أن قد غيَّرتها النَّوى ... فربَّما غيَّرك البعد لله يا نجد الظِّباء التي ... قيَّدها فيك لنا الودُّ حيث الهوى الرَّيق لنا خادمٌ ... لم يأل جهداً والمنى عبد وربعك الرَّحب لنا جنَّةٌ ... لو أنها دام بها الخلد والنَّبت جمٌّ ترتعيه حمًى ... والماء لا مستكدرٌ رغد في غمرة القصف لريق الصِّبا ... نروح في العيش كما نغدوا حيِّي الحيا ذاك الزمان الذي ... مرَّ به من عيشنا الرَّغد أيَّام أسعى ومها حاجرٍ ... يلفُّني من وصلها برد لا راقبٌ عيناً ولا مفكرٌ ... في الوصل أن يعقبه الصَّدُّ في فتيةٍ مثل نجوم الدُّجى ... كأنهم قد نظموا عقدُ من كل ظبيٍ قضفٌ قدُّه ... لا البان يحكيه ولا الرَّندُ جذلان راوي الرِّدف ظامي الحشا ... يضيع ما بينهما النَّدُّ يزهي على ريم الفلا جيده ... ويزدهي بدر السَّما الخدُّ واهاً له من زمنٍ سالفٍ ... وألف آهٍ لك يا نجد ومنزلٍ أخلق من نسجه ... كرُّ السَّوافي فيه والشَّدُّ عهدي به برداً قشيب السَّدى ... فارتدَّ وهو الرَّيطة الجرد محت يد الأنواء آياته ... إلا بقايا أسطرٍ تبدو أعجم من معربه شكله ... إن حال عقلاً قبله بعد حتَّى اضلاَّ فيه علمي به ... إذ بدِّلت من هضبه الوهد

وقفت عِيسي فيه مستعبراً ... أقول آهاً تَعِسَ البعد إلى هنا بعد ليالٍ خلت ... معدودةٍ قد بلغ الحدُّ هب أن سكانك قد أجفلت ... عنك فأين الغور والنجد لم يبق إلا طللٌ شاخصٌ ... كالوشم محَّى جُلَّه الرَّند وله: هاتها تفديك روحي قهوةً ... أدركت عاداً وأيَّام لُبد واسقني واشرب ولا تذكر لنا ... خبر النَّاس ولا سعر البلد إن للعالم ربًّا إن يشأ ... صلح العالم أو شاء فسد وله: اسقنيها قبل ارتفاع النَّهار ... إنَّ طيب المدام في الإبكارِ هي بكرٌ فاشرب ويومك بكرٌ ... لم تشبه الأنام بالأكدارِ الصَّبوح الصبوحَ في جدِّه الي ... وم فإنَّ الصَّبوح روح العقارِ يا فَدَتك النفوس وهي قليلٌ ... من نديم سهل الطِّباع مدارِ هاتها ضحوة النَّهار شمولاً ... مثل شمس النَّهار وسط النَّهارِ قهوةً مثل مقلة الدِّيك صهبا ... ءَ كنار الكليم ليست بنارِ ذات عصرٍ أدناه عهد أنو ... شروان ليست بمزَّةٍ مُصطارِ لطَّفتها كرُّ السنين فلم تب ... قِ سوى لمحةٍ من الأنوارِ فتراءت كالشَّمس غبَّ سماءٍ ... تجتلى بين حمرةٍ واصفرارِ لست تخشى من لطفها بعد سكرٍ ... من صداعٍ بادٍ ولا من خمارِ في رياضٍ تزهي بباكورِ وردٍ ... وأقاح وسوسنٍ وبهارِ ذات أرضٍ موشيةٍ بربيعٍ ... ذهَّبت وشيها يد الأزهارِ يستفيق المخمور إن مرَّ فيها ... من هواءٍ صافٍ وماءٍ جارِ هذا مأخوذ من قول الوأواء الدمشقي: سقى الله ليلاً إذ زار طيفه ... فأفنيته حتى الصَّباح عناقا بطيب نسيمٍ فيه يستجلب الكرى ... فلو رقد المخمور فيه أفاقا وفي الثاني ما يوهم التناقض: والوأواء أخذه من قول الفتح بن خاقان، في وصف جاريةٍ له، وهو ما نقل ابن حمدون، قال: كان الفتح بن خاقان يأنس بي، فقال لي مرة: شعرت يا أبا عبد الله أني انصرفت البارحة من مجلس أمير المؤمنين، فلما دخلت منزلي استقبلتني فلانة، فلم أتمالك أن قبلتها، فوجدت فيما بين شفتيها هواءً لو رقد المخمور فيه لصحا. ومنه في الغزل قول شرف الدين القابوسي: قابلني ليلة قبَّلته ... ظبيٌّ من الشمس غدا أملحا طيب نسيم بين أسنانه ... لو رقد المخمور فيه صحا تتمة الأبيات: قم بنا يا نديم يفديك مالي ... من تلادٍ وطارفٍ وعقارِ نقطع الدهر كلَّ يومٍ بزقٍّ ... وغزالٍ ساقٍ وكأسٍ مدارِ آن طيب الزَّمان واعتدل الجوُّ ... وصار الضُّحاء كالأسحارِ وأتاك الرَّبيع يضحك عجباً ... وهو من نسج نوره في إزارِ يا نديمي أفديك فيما التَّواني ... ما ترى البسط ابن اللَّيالي القصارِ فاسقنيها واشرب على زهرة الرَّو ... ضِ وسجع القمري وشدو الهزارِ وتغنَّم صفو الزَّمان وروق ال ... عمر من قبل ضيعة الأعمارِ لا تبالي إذا سكرت بوزرٍ ... إن مولاك غافر الأوزارِ وله من قصيدة مطلعها: نقض الجرح وكان اندملا ... وامتلا القلب وقد كان خلا عاده داء الهوى من بعد ما ... راح وقد أفرق عنه وسلا ماله تزعجه زفرته ... كلَّما استاف صباً أو شمألا وإذا شام بروقاً لمعت ... غلب الدَّمع الحيا فانهملا ومتى أبصر بدراً طالعاً ... ظنَّه عنه الذي قد أفلا عاش في أرغد عيش برهةً ... مستريحاً راق حالاً وحلا ليس يدري الهمَّ حتى أن رأى ... ليته لم ير تلك المقلا

فعلت فيه بطرفٍ لو رمى ... حجراً صلداً به لانفعلا كيف لا يجرح قلبي طرفه ... وإذا السَّيف تحرَّى قتلا والذي يصبو لأحداق المها ... لم يمت إلا بها منجدلا لائم الصَّبِّ على الحب الذي ... سيف لحظيه يبيح الأجلا خلِّ عنك اللوم بالله فقد ... سبق السَّيف إليه العذلا ويح قلبي من هوى ذي صلفٍ ... ظالم في حكمه لو عدلا ما له حمَّله ما لم يطق ... أتراه ظنَّ قلبي جبلا قال يستطرد بي ما حاله ... صار للعشَّاق فينا مثلا أيُّها المعرض لا عن زلَّةٍ ... أدلالاً كان ذا أم مللا بأبي الرِّيم الذي من طرفه ... سرق الظَّبي الكحيل الكحلا غصن البان الذي في قدِّه ... سلب الليِّن القنا والأسلا يا خليليَّ بلا أمرٍ سلا ... عن فؤادي بعده ما فعلا أمقيمٌ بعده يصحبه ... أم دعاه للردى فامتثلا وله من أخرى مطلعها: درَّ لها خلف الغمام هاطلاً ... فجادها من رامةٍ منازلا منازلاً كان المنى منادماً ... فيها وصرف الدَّهر عنها غافلا نسبح في غمرته ولم نكن ... نزايل الرَّوضات والخمائلا لا نستفيق من خمار لذَّةٍ ... نتبع أبكار الهوى الأصائلا جنان أنسٍ فارقتها عنوةً ... نفوسنا واجدةً ثواكلا واهاً لها وآهةً لو بقيت ... أو دام ربع اللَّهو منها آهلا ومنها: كان الشباب الرَّوق فيها وبها ... قضَّيت أيَّام الصِّبا الأوائلا حيث الحمى مسرح أسراب المها ... وحيث كنت مرحاً مغازلا كلَّ غزالٍ آنسٍ لحاظه ... للعاشقين لم تزل قواتلا تصمي إذا ما قصدت بأسهمٍ ... نصالها لا تخطئ المقاتلا قضيب بانٍ قضفٌ على نقاً ... فوقها ترقب بدراً كاملا ما بانة الجزع على نظرتها ... إذا ثنى منه قواماً عادلا ومن غزلياته قوله: مهلاً فقد أسرعت في مقتلي ... إن كان لا بد فلا تعجلِ أنجزت إتلافي بلا علَّةٍ ... الله في حمل دمي المثقلِ لم تبق لي فيك سوى مهجةٍ ... بالله في استدراكها أجملِ إن كنت لا بدَّ جوًى قاتلي ... فاستخر الله ولا تفعلِ رفقاً بما أبقيت من مدنفٍ ... ليس له دونك من معقلِ يكاد من رقَّته جسمه ... يسيل من مدمعه المسبلِ ما لك في إتلافه طائلٌ ... فارعَ له عهداً ولا تهملِ كم من قتيلٍ في سبيل الهوى ... مثلي بلا ذنبٍ جنى فابتلي أول مقتول جوًى لم أكن ... قاتله جارَ ولم يعدلِ يا مانعي الصَّبر وطيب الكرى ... عن حالتي بعدك لا تسألِ قد صرت من عشقك حيران لا ... أعلم ماذا بي ولم أجهلِ أغصُّ من دمعي حفاظاً لما ... فارقته من ريقك السلسلِ ومنها: أفديك بالنَّفس وما دونها ... ما قيمة الأرواح أن تقبلِ يا غصناً مال إلى طبعه ... من دلَّ جفنيك على مقتلي ورامياً أعجب من أنَّه ... أصاب في الرَّمي ولم يمهلِ رمى فأصمى مهجتي سهمه ... فكان مثل القدر المرسلِ يا ويح قلبي من هوى ظالمٍ ... يأخذ بالذَّنب ولم يعملِ أستغفر الله إليه وإن ... لم أقل القول ولم أفعلِ يا أعدل الناس على ظلمه ... ويا أحقَّ النَّاس من مُبطلِ وجدت تعذيبك مستعذباً ... فاهجر إذا شئت وإلا صلِ وله: ويومٍ فاخِتيِّ الجوِّ رطبٍ ... يكاد من الغضارة أن يسيلا

نعمت به وندماني أديبٌ ... وقورٌ في تعاطيه الشمولا قطعنا صبحه والظُّهر شرباً ... وجاوزنا العشيَّة والأصيلا لدى روضٍ عميم النَّبت يزهي ... بأزهارٍ نمت عرضاً وطولا يدور به سوار النَّهر طوراً ... كما يتعانق الخلُّ الخليلا وساقينا رخيم الدَّلِّ يسبي ... إذا ما ردَّد الطرف الكحيلا وله من قصيدة، أولها: تألَّق يقدم ركب النعامى ... شروداً أبى سرعةً أن يشاما خفيَّاً كنبض ذراع المريض ... ولمح ثغور الحسان ابتساما كأنَّ السَّما ريطةٌ رحِّلت ... وذهِّب من طرفيها الغماما بدا والدُّجى فحمةٌ كاللَّهيب ... له شررٌ بالدراري ترامى فهيَّج للقلب أشواقه ... ونبه لوعته ثم ناما سرى موهناً فاستطار الفؤاد ... إلى ما تذكَّر منه وهاما تذكَّر أيامه بالغميم ... فحنَّ وما كنَّ إلا مناما أثار له من جواه القديم ... وقلَّده الوجد طوقاً لزاما تحرَّشه فسباه جوًى ... وجرَّده فقضاه غراما ومذ خاله الطرف سقط الزِّناد ... أمال إلى القلب منه الضراما لقد كان في راحةٍ قبله ... فجرَّ إلى عاتقيه حساما وقد كان من قبله داؤه ... دفيناً فهيَّج منه السقاما أيا برق كم ذا تعنِّي الحشا ... أعمداً تروم أذاه على ما إلى مَ تمثل نجداً له ... فيهفو وهيهات نجدٌ إلى ما تقول وأسباب هذا الغرام ... ضروبٌ تحيِّر فيه الأناما أمن كبدي سيفه مصلتٌ ... فيبدي الوجيب إلى أن يشاما لعمرك ما ذاك لكنَّما ... تذكَّر نجداً وأيام راما منازل كان المنى خادماً ... بها والزمان لدينا غلاما فآهاً لأيامها لو تدوم ... وآهاً لحلميَ لو كان داما نشدتك والودُّ يا صاحبي ... يراه الفتى الحرُّ ديناً لزاما أعرني إن كان طرفٌ يعار ... فإنسان عيني بدمعي عاما يرى لي فؤادي وراء الرِّكاب ... أسارَ وإلا لعجزٍ أقاما فمن يوم بتنا على غرَّبٍ ... نشيعهم وأشالوا الخياما أضلَّيته بين بان الكثيب ... وما ثمَّ إلا ظباه قياما خف الله يا ظبيات النَّقا ... أما في دمي تحملين الأثاما رعى الله منكنَّ ظبياً أغر ... أحلَّ بجسمي داءً عقاما أغار عليه اعتناق الصَّبا ... وأحسد رشف لماه البشاما إذا ما بدى في الدُّجى خده ... أحال الدُّجى من ضياه عياما يبيت على غرَّةٍ لاهياً ... إذا بتُّ أجرع فيه الحماما وليلة زار على شحطه ... تحاشى الضِّيا فتوارى الظَّلاما سرى والدُّجى عاكفٌ راجلاً ... حذار المطيَّة تبدي البغاما فوافى على عجلٍ مضجعي ... ومن دونه بطن فلجٍ وراما فبتُّ أعانق منه القضيب ... وأرقب منه الهلال التماما وأشتمُّ من خدِّه وردةً ... وأرشف من شفتيه المداما وودَّع لو كان ذاك الوداع ... وسار فودَّع جفني المناما ومن مشهور شعره خمريته هذه: هاتها هات نصطبح يا نديم ... قد تناهت خطوبنا والهموم ليس ينفي الهموم مثل شمولٍ ... كم حساها فأبرأته سقيم هي شمسٌ والهمُّ ليلٌ وليس الل ... يل والشَّمس في الوجود يدوم علَّنا نقطع الزمان سكارى ... لا نبالي بما جرى يا نديم فلنا أسوةٌ بهذي البرايا ... كيف نخشى البلاء وهو عميم إنما الأمر للإله تعالى ... وهو برٌّ بالعالمين رحيم

خلِّ عنَّا ذكر ابن سيفا ومعنٍ ... إنما يطلب الغريمَ الغريمُ ما لنا والحروب نحن أناسٌ ... ما لنا طاقةٌ بشيءٍ يضيم همُّنا شربنا الطِّلا وهوانا ... من قديمٍ هذا الشَّراب القديمُ اترك النَّاس في يصير ويجري ... ويجيبوا ويقعدوا ويقيموا واسقنيها واشرب ثلاثاً ثلاثاً ... هكذا حكمها وأنت حكيمُ لا تصل بالصَّبوح غير غبوقٍ ... وتجنَّب في شربها من يلوم إنَّ كلَّ الحياة كأسٌ مدارٌ ... ونديمٌ حلوٌ وساقٍ كريمُ وابن سيفا هو الأمير يوسف ذلك الذي بلغ السُّها بجده، وكان أخا السيف في لألائه ومضاء حده. من أسرة طلعوا كأنابيب القنا نسقاً، وفاحوا كأزاهير الرياض عبقاً. فإن غابوا عن العيان تراءوا مشاعل في السرى، وإن ظهروا رأت النواظر بهم الثريا في الثرى. ما منهم إلا جواد شهدت بسبقه ميادينه، وأديبٌ حب الأدب شرعته ودينه. وكانوا ولاة طرابلس الشام وحكامها، وبقائم سيفهم تولوا صيانتها وإحكامها. حتى وقع بين كبيرهم هذا وبين الأمير فخر الدين بن معن، ذاك الغادر الذي قتل الراعي وساق الظعن. فجرت بينهما حروبٌ لم يحصل أحدٌ منهما على وطر، وبقي الأمر بينهما مدة في تناكر مفضٍ إلى خطر. ثم خرج في أثناء ذلك ابن جانبولاذ الذي جاهد في الخلاف وجاهر، وكاشف بالانحراف على السلطنة وكاشر. فانضم إليه ابن معن وحزبه، الذين تدرعوا جلود الحيات، وأقاموا آلات حربهم مقام أنمل التحيات. وكان من أمر الله أن الأمير يوسف جهز عليهم، ووصل بجموعه التي يقدر أن يغل بها جيش المصائب إليهم. وهممه معلقة بالأثير، محلقة على فلك التدبير. غير أن يد القدر فوق التقدير، وما يصنع المرء إذا وقع في البير. فلما تقابل الجيشان تمت على ابن سيفا الهزيمة وانحلت منه تلك العزيمة. وفر من ذلك المكان إلى دمشق، فأقام بها مختفياً أياماً، وهو من وساوس وهمه لم يطعم مناماً. فقصدوه متتبعين زلة قدمه، وطالبين بسيف الاعتداء سفك دمه. فدخل بينهم أهل دمشق وأطفأوا تلك النائرة، وأخمدوا ببرد الصلح تلك الفتنة الثائرة. بمال حملوه إلى القوم، وسلموا به من المحذور واللوم. وانقلب ابن سيفا إلى وطنه، وهو شاكٌّ من ضيق عطنه. وتبدل تبسمه ذاك بالقطوب، ونال القلوب كمد خطبه الذي لا كالخطوب. ومن ثم حالت بدولة بيته الأحوال، ولم تطل أيامهم حتى أذنت شمسها بالزوال. فعلى ما تضمنهم من تلك الأريحية، أزكى السلام من الله تعالى والتحية. وهذه الجملة وقعت في الأثنا فكانت باعثةً على ما هو طلبتي من الثنا. وأرجع إلى ما أنا بصدده أمدني الله بمدده. ومن شعر الأكرمي قوله في خمريته: كم جلونا في ليلة الفطر والأض ... حى على قاسيون بكر الدنان وشربنا في ليلة النصف من شع ... بان صرفاً وفي دجى رمضان ونهار الخميس عصراً وفي الجم ... عة قبل الصلاة بعد الأذان وسقانا ظبيٌ غريرٌ وغنت ... ظبيةٌ تستبيك بالألحان وسبحنا في غمرة اللهو والقص ... ف على طاعة الهوى والأماني ولعمري لقد سئمنا من الغيِّ ... وعفنا من كثرة العصيان لم ندع مدَّة الصِّبا للتصابي ... من طريقٍ مهجورةٍ أو مكان قد أطعنا غيَّ الشَّباب بجهلٍ ... فاعفُ عنَّا يا واسع الغفران ومن مقاطيعه قوله: ربَّ رامٍ عن مثل حاجبه ... بمثل ألحاظه لمغرمهِ سمَّى بغيري مفوِّقاً ودمي ... فرحت وحدي صريع أسهمه وقوله: قلت إذ لام في العذار عذولي ... وهو في الخدِّ للهوى عنوانُ إنَّ ورد الرِّياض أحسن ما ... كان إذ دار حوله الريحانُ وقوله في دولاب الماء: ودولابٍ يئنُّ أنين صبٍّ ... كئيب نازح الأهلين مضنى تذكَّر عهده بالرَّوض غصناً ... ومحنة قطعه فبكى وأنَّا وما يدري أترديدٌ لمعنًى ... شجاه أم حنين جوى المعنَّى وقوله معمياً باسم يوسف: وشادنٍ كالقضيب عطفاً ... أطال في صبِّه عناهُ

يكاد عضب اللحاظ منه ... بغير ريبٍ يفري حشاهُ القاضي إسماعيل بن عبد الحق الحجازي هذا القاضي قضي له بالأدب الوافر، من منذ طلع في مهده طلوع البدر السافر. فعرف رشده قبل أوانه، وهكذا الكتاب يدرى من عنوانه. وأبوه في الصنعة من الفحول السبق، له في الريحانة ذكر أطيب من المسك وأعبق. وهو فاح فوحته، وجاء جيئته، وراح روحته. وحذا في الغراميات حذوه، فلم يبق من نار وجده ولا جذوة. فهو مخمر الطينة بالفضل المحض، مجبول الفطرة على الأدب الغض. مجده فوق الامتداح، وزنده يضيء قبل الاقتداح. ولقد برز كل التبريز، وما كل قاضٍ قاضي تبريز. فجاء بأفانين من غزلياته، تهزأ برونق الصدغ في لباته. وأطرب بألحانه، ولا إطراب الخمر بحانه. وله أغانٍ تكاد بلا مضارب تجاوبها الأوتار، ولم يبق قلبٌ أدرك مغناها إلا وثار. وكانت أريحيات غرامه تستفزه، وصبوبات مدامه تستهزه. فلا يزال هائماً بغزال، ولا يريم من عشق ريم. وشعره الذي تعلق به قلوب الأهوا، يعرب عن حاله إعراب الدمع عن مكتوم سر الهوى. وهو سائرٌ مدون، والجوهر المثمن منه أدون. فدونك ما هو ألطف من العتاب، بين الصحاب، وأوقع من الرواح، ممزوجاً بماء السحاب. فمنه قوله: لو أن بالعذَّال ما بي ... ما عنَّفوني بالتَّصابي كلا ولو ذاقوا الهوى ... مثلي لما ملكوا خطابي ويلاه من بعد المزا ... رِ فإنه شرُّ العقابِ قسماً بخلوات الحبي ... ب وطيب وقفات العتابِ وتذلُّلي يوم النَّوى ... لمنيع ذيَّاك الجنابِ وبوقفتي أشكو هوا ... ي له بألفاظٍ عذابِ أبكي وأسرق أدمعي ... خوف العواذل في ثيابي ما للمحبِّ أشدُّ من ... نار التَّباعد من عذابِ بأبي غزالٌ ليِّن ال ... أعطاف معسول الرُّضابِ ميَّاس غصن قوامه ... يزري ببانات الرَّوابي ريَّان من ماء الصِّبا ... سكران من خمر الشَّبابِ جعل التَّجافي دأبه ... وجعلته وهواه دابي قال العواذل عندما ... أبصرن بالأشواق ما بي قد كنت من أهل الفصا ... حة لا تحول عن الصَّوابِ فأجبتهم والقلب من ... نار الصَّبابة في التهابِ الحبُّ قد أعيى فصي ... ح القول عن ردِّ الجوابِ وتراه إن حضر الحبي ... ب لديه يأخذ في اضطراب وقوله: أجرني من صدودك بعد وعدك ... وخلِّص مهجتي من نار بعدكْ وخصِّصني برقٍّ دون عتقٍ ... لأدعى بين أقوامي بعبدكْ وقصِّر طول ليلات التنائي ... وما لاقيت من أيَّام صدِّكْ ومعصية العذول ومن نهاني ... ضلالاً في الهوى عن حفظ ودِّكْ وأنفاسٍ أصعِّدها إذا ما ... ذكرتك والدَّياجي مثل جعدكْ لأنت لديَّ مجتمع الأماني ... وأكثر ما وددت بقاء ودِّكْ وقد عبث الهوى بغصون قلبي ... كما عبث الدَّلال بغصن قدِّكْ وقوله: ولمَّا حدا الحادون بالبين والنَّوى ... وشبَّ لنار الاشتياق وقودُ ولم يبق لي من منجدٍ غير زفرةٍ ... ودمعٍ وأشواقٍ عليَّ تزيدُ طلبت من القلب اصطباراً فقال لي ... وللشَّوق عندي مبدئٌ ومعيدُ لقد كنت صبًّا والدِّيار قريبةٌ ... فكيف وعهد الدَّار عنك بعيدُ وقوله: وربَّ عتابٍ بيننا جرَّه الهوى ... شهيٍّ بألفاظٍ أرقَّ من السِّحرِ وأحلى من الماء الزُّلال على الظَّما ... وألطف من مرِّ النَّسيم إذا يسري عتابٌ سرقناه على غفلة النَّوى ... وقد طرفت أيدي الهوى أعين الدَّهرِ وقد أخذتنا نشوةٌ من حديثه ... كأنَّا تعاطينا سلافاً من الخمرِ ورحنا بحالٍ ترتضيها نفوسنا ... وها أنا بين الصَّحو ما زلت والسُّكرِ وقوله:

أيا قمراً من وجهه طلعة البدر ... ويا رشأً من لحظه صنعة السِّحرِ حكيت القنا والبيض لحظاً وقامةً ... فمن أجل ذا أرتاح للبيض والسُّمرِ وحقَّك لولا البدر يحكيك طلعةً ... لما طمحت عيني إلى رؤية البدرِ ولو لم يكن للخمر في فيك نسبةٌ ... لما كنت أصبو عند ذكراه للخمرِ ولولاك في قصر المصلَّى وحاجرٍ ... لما شاقني ذكر المصلَّى ولا القصرِ فيا نازحاً عن مقلتي وهو حاضرٌ ... بقلبي لقد أفرطت في الصَّدِّ والهجرِ ويا فاتكاً عيناه قد طلًتا دمي ... وأسلمتا قلبي إلى نوب الدَّهرِ ترفق بدمعٍ طرفه فيك مطلقٌ ... وقلبٍ من الأشواق في أوثق الأسرِ وقوله: قلبي من الأشواق لاهف ... والدَّمع من عينيَّ ذارفْ أبكي ودمعي لم يدع ... أحداً بحالي غير عارفْ ولقد أقول لمن يرا ... ني في طريق الذُّلِّ واقفْ لولا المحبَّة يا رفيقي ... لم يكن قلبي لعاطفْ كلاَّ ولا أبصرتني ... للسقم والبلوى محالفْ أرعى النُّجوم ولي فؤا ... دٌ من دواعي البين خائفْ أصبو إذا علنَّى على ... أعلى غصون الدَّوح هاتفْ ويشوقني برقٌ بدا ... من جانب الأحباب خاطفْ فَوَحَقَّ أغصان القدو ... د ولين هاتيك المعاطفْ وصباح مُبيَصِّ الجبي ... ن وليل مسودِّ السوالفْ ولواحظٍ فتَّاكةٍ ... في جفنها هاروت عاكفْ ومرشفٍ عسَّالةٍ ... يا حبَّذا تلك المراشفْ ورقيق هاتيك الخصو ... ر وتحتها ثقل الرَّوادفْ ومواقف الذُّلِّ التي ... عرَّفني ذلَّ المواقفْ أشكو الغرام وأرتجي ... من متلفي حسن العواطفْ ما حلت عنك وليس يص ... رفني عن الأشواق صارفْ وإذا أسأت فإنَّها ... عندي تعدُّ من اللَّطائفْ فسقى الإله زماننا ... ورعى ليالينا السَّوالفْ أيام كنت لعاذلي ... وللائمي فيها أخالفْ وقوله: ورُبَّت ليلةٍ قد زار فيها ... خيالٌ في الدُّجى منه طروقُ وبات تشوُّقي يدنيه منِّي ... ويبعده من القلب الخفوقُ فلا أروى الحشا منه اعتناقٌ ... ولا بلَّ الجوى لي منه ريقُ وقوله مضمِّناً: أرَّقتني الأشجان والأشواق ... وبسهم النَّوى رماني الفراقُ ونما الشَّوق في فؤادي فضاقت ... فيك عن وصف ما بي الأوراقُ ثم أنشدت داعياً ولدمعي ... فيك من لوعة الفراق انطلاقُ جمع الله شمل كلِّ محبٍّ ... وبدا بي لأنني مشتاقُ وقوله: يا مولعاً بصدودي ... أفنى الجفا مستهامكْ أعرضت عنِّي دلالاً ... لمَّا عرفت مقامكْ ضيَّعتني بالتَّجافي ... لمَّا حفظت ذمامكْ فلو شهدت سهادي ... وهبت جفني منامكْ فعاذلي مذ رآني ... رثى لحالي ولامكْ يكفيك لحظك سيفاً ... فلا تجرِّد حسامكْ طوبى لبدر الدَّياجي ... لو ترتضيه غلامكْ ويا سعادة غصنٍ ... يحكي اعتدالاً قوامكْ جلَّ الذي يا حبيبي ... في ذا المقام أقامكْ إلى متى يا فؤادي ... يذكي هواهم ضرامكْ ويا عذولي إلى كم ... تطيل فيهم ملامكْ قد كلَّ بالعذل قلبي ... وملَّ سمعي مرامكْ وقوله: ولي قلبٌ أليمٌ من ... صدودك دائم الضَّرمِ بودَّي لو أقطِّعه ... فإنَّ وجوده عدمي ولكنَّ قطعي العضو ال ... أليمَ يزيد في ألمي وقوله، يصف ليلة مضت له في روضة أريضة، وساعفته بها آمالٌ من الوصال عريضة:

لله ليلة أنسٍ قد ظفرت بها ... قضَّيتها سهراً أحلى من الوسنِ قد بتُّها وعيون الدَّهر غافلةٌ ... عنِّي ولم أخش فيها حادث الزَّمنِ في روضةٍ رحبة الأكناف عاطرة ال ... أنفاس قد جلِّيت في منظرٍ حسنِ والوُرقُ في دوحها باتت تطارحني ... شجواً لِما عَلِمتْ في الحبِّ من شجني فتارةً فرط أشواقي يرنِّحها ... وتارةً طول مبكاها يرنِّحني وبات ظبيٌ تناجينا لواحظه ... بين الورى هي كانت منشأ الفتنِ تُعزى الشُّمول إلى معنى شمائله ... والَّلاذُ يشبه منه رقَّة البدنِ بتنا كغصنين في روضٍ يرنِّحنا ... ريح الصَّبا فَحَنا غصنٌ على غصنِ وبات عندي شكٌّ في معانقتي ... إياه حتى حسبت اللُّطف صاحبني يا ليلةً منه أرضاني الزَّمان بها ... عنه على أنَّه ما زال يسخطني ومن مقاطيعه قوله: كلَّما حدَّثت قلبي سلوةٌ ... عن هواهم قال لي لا يمكنُ وإذا ذكَّرته أنَّهم ... قد أساءوا قال لا بل أحسنوا وقوله: قد وقفنا بعد التَّفرق يوماً ... في مكانٍ فدَّيته من مكانِ نتشاكى لكنْ بغير كلامٍ ... نتحاكى لكنْ بغير لسانِ يوسف أبي الفتح إمام الأئمة، ومن ألقت إليه مقاليد الحظوة الأزمَّة. فتميز على أترابه وأخدانه، تميُّز سميَّه على إخوانه. وذلك أنه من منذ ناست عذبة ذؤابته، وأومضت للمتفرِّس مخيلة نجابته. تطلَّع في أعلا المصلَّى كأنما ... تطلَّع في محراب داودَ يوسفُ فرقي منبر المسجد الجامع خطيباً، وملأه مسكاً فلم يدر أضمَّ خطيباً، أم ضَمِّخَ طيباً. وأتى بما يقرط الأسماع لؤلؤاً، ويملأ الأفواه طيباً والمحافل تلألؤاً. فطار صيته في الآفاق، ووقع على تفرُّده في أسلوبه الاتفاق. حتى تطلبه السلطان فصيَّره إمامه، وتوجه من التقدمة بتلك العمامة. فقامت الأماني خلفه صفوفاً، واستوعب من المعالي أنواعاً وصنوفاً. وما زال من حين خروجه، يتنقَّل تنقُّل القمر في بروجه. إلى أن صار ثالث القمرين، وفاز برتبة قضاء العسكرين. وكان مع ما أعطيه من الرتبة التي لا تنال إلا بالتمني، والحرمة التي ترمى لنيلها المطايا بالتعَّني. لم يبرح يحن إلى مواطن إيناسه، ويرتاح إلى مراتع غزلان صريمه وكناسه. هذا، وله الفضل الذي تليت سور أوصافه، وجليت صور اتسامه بالتفوُّق واتصافه. والتصانيف التي ما جعلت الأقلام ساجدةً إلا لمّا رأت محاريب قرطاسها، وما سميت خرساء إلا قبل أن ينفث في روعها روائع أنفاسها. وأما الأدب فهو إمامه الذي به يقتدى، وسابقه الذي بذكره يبتدى. وله الشعر الذي اقتبس ألفاظه من ذوات الأطواق، واختلس معانيه من حنين العشاق تكابد الأشواق. يطرب من لم يكن يطرب، ويكاد لفظه من العذوبة يشرب. وها أنا أورد منه ما تتباهى به حروف الرقاع، ويلذ في السمع لذة الغناء من كل شكلٍ حسنٍ على الإيقاع. فمنه قوله من قصيدة أولها: هذا الحمى أين الرَّفيق المنجد ... قد يمَّم الخيف الفريق المنجدُ بانوا فلا داري بجلَّق بعدهم ... داري ولا عيشي لديها أرغدُ وعلى الأكلَّة فتيةٌ لعبت بهم ... راح السُّرى والعيس فيهم تسجدُ يتهافتون على الرِّحال كأنهم ... قضبٌ على كثب النقا تتأوَّدُ واهاً على وادي منًى والهفتي ... لو لهفتي تجدي وآهي تسعدُ كانت عروس الدهر أياماً لنا ... فيه ثلاثٌ ليتها لي عوَّدُ عهدي به مغنى الهوى تستامه ... عينٌ مسهَّدةٌ وقلبٌ مكمدُ ما باله بعد الثلاثة أقفرت ... منه معالمه وأقوى المعهدُ يا هل لليلاتٍ بجمعٍ عودةٌ ... أم هل إلى جمع المعرَّف موعدُ جسمي بأكناف الشآم مخيِّمٌ ... وهواي بالرَّكب اليماني مصعدُ تالله هاتيك الليالي أسأرت ... في مهجتي ناراً تقوم وتقعدُ

وكأنَّ مرمى كلِّ موقع جمرةٍ ... في القلب والأحشاء منِّي موقدُ لله أيامي بجرعاء الحمى ... والدهر مصقول الحواشي أملدُ أيام ظلُّ الدهر غير مقلَّصٍ ... عنِّي وعيشي طاب فيه الموردُ في حيث ريحان الشَّبيبة باسقٌ ... والخيف مغنًى للحسان وموعدُ إذ منتداه مراد كلِّ خريدةٍ ... يصبو إليها الخاشعون العبَّدُ مرَّت كسقط الزَّند أعقب جمرةً ... في القلب يذكيها الغرام ويوقدُ مالي إذا برقٌ تألَّق بالحمى ... أودى بمهجتي المقيم المقعدُ وإذا نسمت رويحةً من طيبةٍ ... جعلت زفيري بالحشا يتوقدُ وإذا نسيم الروض هبَّ تبادرت ... وفق الصبابة أدمعٌ تتردَّدُ ومتى ظفرت من الزمان بناصرٍ ... أخذت تفنِّده عليَّ الحسَّدُ وقوله من أخرى، أولها: سقى أثَلاثٍ بالعذيب نمير ... له من أفاويق الغمام سميرُ سحابٌ تزجيه الرياح وراءه ... نسيمٌ له المسك الفتيق عبيرُ ولا برحت تسدي يد القطر فوقها ... من النور موشيَّ السَّدى وتنيرُ وخلنا دراري الأفق فيه تساقطت ... وآن لها أن النجوم تغورُ عهدنا بها غصن الشَّبيبة باسقاً ... يرفُّ رفيف البان وهو نضيرُ كأنَّ أزاهير الشَّقيق بدوحها ... خدودٌ ونور الأقحوان ثغورُ كأنَّ نديَّ النرجس الغضِّ فوقها ... عيون الغواني مسَّهنَّ فتورُ كأن غصون البان تندى غضارةً ... معاطف غيدٍ حشوهنَّ خمورُ سقتها دموعي بل سقاها على البلى ... ملِثٌّ من الأنواء وهو غزيرُ فآه لها كم لذةٍ تحت ظلِّها ... نعمنا بها حيث الكؤوس تدورُ ولهفي على عيشٍ بجوِّ سُويقةٍ ... تولي وعيش الغانيات قصيرُ وواهاً لأيامٍ بشرقيِّ ضارجٍ ... تقضَّت عشايا تحتها وبكورُ فمرَّت ولم تعقب سوى جمرة الأسى ... يشبُّ لها تحت الضلوع سعيرُ خليليَّ مالي إن تألق بارقٌ ... يكاد فؤادي كالشَّرار يطيرُ وإن خطرت من سفح نجدٍ نسيمةٌ ... فلي أنَّةٌ تحت الدُّجى وزفيرُ وإن ذكرت أيام رامة أنثني ... وفي القلب من فرط الغرام هجيرُ ألا يا نسيم الريح من بطن لعلعٍ ... تحدَّث فقلبي بالغرام أسيرُ ويا برق نجدٍ هات عن أيمن الحمى ... حديثاً ففي بثِّ الغرام سرورُ هل الجيرة الغادون من جنبِ حاجرٍ ... أناخوا لوى الجرعاء وهو مطيرُ وهل أثلاث الجِزع يندى ظلالها ... وأرض الحمى فيْنانُ وهو مطيرُ وهل هاجعات البان نبَّه خوطها ... هبوب نسيمٍ هبَّ وهو عطيرُ وهل درست من بطن فجٍّ مسارحٌ ... ومحَّت جنوبٌ رسمها ودبورُ فما بنت غصنٍ فوق أفنان إلفها ... وإلفي خليطٌ منجدٌ ومغيرُ تراها إذا وُرق العشايا ترنَّمت ... تهيِّج من داء الهوى وتثيرُ تذكِّرني وهناً أفانين سجعها ... ليالي زرودٍ والمحبُّ ذكورُ بأبرح مني أن تقول بثينةٌ ... لقد ضربت لي بالعقيق خدورُ عذيريَ في هذا الهوى من مؤَنِّبٍ ... وهيهات في هذا الغرام عذيرُ يلوم فؤادي في هواه أما درى ... بأن فؤاد العاشقين صبورُ يقول عجيبٌ منك أنت مجرِّبٌ ... فكيف وأني يعتريك غرورُ فقلت له خفِّض عَدَتكَ صبابتي ... فكلُّ معنًّى يهتدي ويثورُ

سأركب من شوس القوافي شِمِلَّةً ... تسير في النعماء حيث تسيرُ أقامت بسفح الصَّالحيَّة برهةً ... وحشو حشاها لوعةٌ وزفيرُ بها من هواء الغوطتين نسيمةٌ ... ومن عذب ماء النَّيربين غديرُ إذا هبطت من ربع جِلِّقَ منزلاً ... وقد نام حادٍ واستقال مثيرُ أمرنا بها طوع القياد توجهت ... ركائبها وهو المراد تزورُ تزور فتًى من آل منجك ماجداً ... على كل من يدعى الأمير أميرُ وقوله من أخرى، مبتدؤها: تذكَّر من أكناف رامة مربعاً ... ومغنًى به غصن الشبيبة أينعا فبات على جمر الغضا يستفزُّه ... غرامٌ فيذري الدمع أربعَ أربعا كئيباً لليلات الغميم متيَّماً ... معنًّى بأيام الحجون مولَّعا يخالف بين الراحتين على الحشا ... ويلوي على القلب الضُّلوع توجُّعا فمن صبواتٍ تستفزُّ فؤاده ... ومن زفراتٍ أضرمت فيه أضلعا ألا في سبيل الحبِّ مهجة عاشقٍ ... تولَّع فيه الحبُّ حتى تولعا وعينٌ أبت بعد الأحبة سَحَّها ... وفاءً بحقِّ الربع أن تتقشَّعا سقى الله من وادي منًى كل ليلةٍ ... هي العمر كانت والشباب المودَّعا ويا جادَ أياماً بها قد تَصرَّمت ... ثلاثاً ومن لي أن أراهنَّ أربعا وحيَّى مقامي بالمقام وأربعاً ... لدى عرفاتٍ يا سقاهنَّ أربُعا فلله ما أبهى بمكَّة مشعراً ... ولله ما أحلى لزمزم مشرعا ألا ورعى دهراً تقضَّى بجلِّقٍ ... ولولا الهوى ما قلت يوماً لها رعى ويا عاقب الله الغرام بمثله ... لكي يعذر العشاق فيمن تولَّعا خليليَّ مالي كلما لاح بارقٌ ... تكاد حصاة القلب أن تتصدَّعا وإن نسمت من قاسيون رويحةٌ ... أجد أدمعاً مني تساجل أدمعا وحتَّى مَ قلبي يستطيع إذا شدا ... حمام اللِّوى بالرَّقمتين ورجَّعا وكم ذا أقاسي سورة البين والأسى ... ولا يرحم العذَّال منِّي توجُّعا ألا هكذا فعل الغرام بأهله ... ومن بات في صنع الهوى ما تصنَّعا عذيرِيَ من هذا الزمان وأهله ... ومن لي بمن يصغي لشكواي مسمعا يخوِّفني منه العدوُّ قطيعةً ... ويظهر لي منه الصديق تفجُّعا ولم يدر أني للقضاء مفوِّضٌ ... وما كان قلبي للقضاء ليجزعا وقوله من أخرى، راجع بها أحمد بن شاهين: حيَّتكِ يا دار الهوى بالأبرقِ ... وطفاء من نوء السِّماك المغدقِ وغدت تفتِّق في نواحيك الصَّبا ... أرجاً يغصُّ رُباكِ مهما يعبقِ وتكفَّلت أيدي الرَّبيع بمطرَفٍ ... لتراك تخلعه وبردٍ مونقِ حتى ترى منك المغاني جنةً ... من سندسٍ تزهي ومن إستبرقِ كم لذَّةٍ في جبهتيك خلسَتُها ... وهناً وعين الدهر لمَّا ترمقِ واهاً لها إن كان فرطُ تأوُّهي ... يجدي على شحط النَّوى وتحرُّقي لله أيامي بجوِّ سويقةٍ ... سلفت بمصطبحٍ ولذَّةِ مغبقِ أيام ريحان الشَّبيبة باسقٌ ... يندي وماء هواي غير مرنَّقِ في حيث ظلُّ اللهو ضافٍ والنَّقا ... مهوًى لجارحةٍ وقلبٍ شيِّقِ إذ منتداه مراد كل خريدةٍ ... بسوى خيالات الهوى لم تعلقِِ رودٌ يرنحها الغرام فتنثني ... سكرى كخوط نقاً تأود مورقِ كم ليلةٍ بتنا بأكناف اللوى ... نلهو بذات الحجل ذات القرطقِ بتنا على الوادي يراودنا الهوى ... طوعاً وغير الطرف لمَّا يفسقِ

وكواكب الجوزاء ترنو حسرةً ... لنظام مجلسنا بطرفٍ محدقِ والبدر في أفق السماء كزورقٍ ... صافي الُّلجين على رداءٍ أزرقِ وكأنما نجم الثُّريا إذ بدا ... كفُّ الخريدة ضمَّ لم يتفرقِ بانت وما بدَلت النَّوى ... ونأت وما حلَّت عقود تفرقي يا ميُّ حتى مَ الدموع تشي بنا ... وإلى مَ في مضناك لم تترفَّقي يا ميُّ أنفقت الغرام على النوى ... إلا هواك ذخرت لما أنفقِ ما آن أن تتذكرين عهودنا ... وليالياً سلفت بجو الأبرقِ ما آن أن ترعى عشيَّات الحمى ... ومواسماً مرت بغوطة جلِّقِ الله يا لمياء في قلب امرئٍ ... لم يألُ ما عنَّ ادِّكارك يخفقِ الله يا هيفاء في ذي عبرةٍ ... طفقت متى في الفكر خلتِ ترقرقِ هذا أما وهواك وهو أليَّتي ... بأعزَّ من قسمٍ وأكرم موثقِ لم تستمل طرفي رعابيب الحمى ... كلا ولا أبصر سواك فأعشقِ ناجزت كل أخي غرامٍ فارعوى ... أهل الهوى عنِّي ولست بمملقِ وكتمت سرَّ هواك وهو ذخيرتي ... عند اللقاء وربما أن نلتقي يا ربع جلِّقَ لا أغِبَّك عارضٌ ... يهمي عليك بكل أسحم مبرقِ وسرت تصافح من مغانيك الصبا ... ملمومةً فيها هواي ومعشقي فيها مسامرتي ومعظم صبوتي ... فيها معاقرتي وفرط تشوُّقي وله يصف وادي التل: أحد متنزهات دمشق، البلدة التي صورت بها الجنان، وأضحى وقفاً على القلب والجنان. وهو وادٍ مربع النبات، ومسرحٌ مخضر الجنبات. زهرةٌ وأختها، وشجرةٌ وبنتها. وجرية ماءٍ ورنة صادح، ونشاط واصفٍ وروحة مادح. إلى رياضٍ كبرود الخمصانة الرود، وحياضٍ كورود الثغر البرود. وكان مضى له به عهدٌ فارقه وهو عليه واجد، مع فتية صدقٍ هم والحظ المرافق شيءٌ واحد. أقمنا بوادي التل نستجلب البسطا ... بحيث دنا منا السرور وما شطَّا وجئنا لروضٍ فتَّقت نسماته ... روائح يبعثن الألوَّة والقسطا وقد ضربت أفنان أغصانه لنا ... ستائر إذ مدت خمائله بسْطا يباري به الورق الهزار كراهبٍ ... يحاكي بعبرانيِّ ألفاظه القبطا ويعطف ما بين الغصون نسيمه ... كما اجتمع الإلفان من بعد ما شطَّا وتملي أحاديث الغرام لحوظُها ... فترويه لكن ربما نسيت شرطا جلسنا على الرَّضراض فيه هنيئةً ... وقد نظمت كالدُّرِّ حصباؤُّه سمطا به من لجين الماء ينساب جدولٌ ... تجعِّده أيدي النسيم إذا انحطَّا حكى مستقيم الخطِّ عند انسيابه ... فنقَّط منه الوجه زهر الرُّبى نقطا سقى الله دهراً مرَّ في ظله لقد ... أصاب بما أولى وإن طال ما أخطا وحيَّ على رغم النَّوى كل ليلةٍ ... تقضَّت به لا بالغوَير وذي الأرطا ليالي لا ريحانة العمر صوَّحت ... ولا وجدت في أرضها الجدب والقحطا صحبت بها مثل الكواكب فتيةً ... أحاديثهم في مسمعي لم تزل قرطا يفضُّون مختوم الصبابة والهوى ... ويرعون حب القلب لا البان والخمطا إذا نثروا من جوهر اللفظ لؤلؤاً ... أودُّ ولو بالسَّمع ألقطه لقطا يديرون من كأس الحديث سلافةً ... وربَّما تحكي الأحاديث إسفنطا ومن نتفه قوله: يا من هواه بقلبي ليس يبرح من ... بين الترائب ترب الشوق والأسفِ أليَّةً بليالينا التي سلفت ... وبالغرام وإن أدَّى إلى تلفي وبالدموع التي أجريتها غدراً ... ومدمعٍ فيك لم يطعم كرى ذرفِ لأنت أنت على ما فيك حبُّك في ... جوانحي كامنٌ كالدرِّ في الصدفِ

فصل

وكتب إلى صدر الشام وعالمها، ومن به قامت دعائم معالمها عبد الرحمن العمادي المفتي: رحمة العلم والفتاوى عليه ... وصلاة الأقلام في الأوراق وقوله: القلب أصدق شاهدٍ ... عدلٍ على صدق المحبه ومن القلوب إلى القلو ... ب مواردٌ للحب عذبه طوبى لمن يسقى بكا ... س رحيقها المختوم شربه فراجعه بقوله: الحبُّ أظهر من إقا ... مة شاهدٍ بين الأحبه ومحبةٌ برهانها ... عينٌ العيان تعدُّ حبَّه وإذا ارتضى المولى بفت ... وى القلب فليستفت قلبه ومن شعره ما قاله عاقداً فيه حديث: أحبب حبيبك هونامَّا فعسى أن يكون بغيضك يومامَّا، وأبغض بغيضك هونامَّا فعسى أن يكون حبيبك يومامَّا: بين المحبة والتباغض برزخٌ ... فيه بقاء الود بين الناسِ بخلاف أقصى الحب أو أقصى الذي ... هو ضدُّه من كل قلبٍ قاسي فمآل كلٍّ منهما ندمٌ على ... تفريطه ندماً بغير قياسِ ومن مقاطيعه قوله: إذا ما أزمع الأحباب ظعناً ... وثار لدى الوداع حنين وجدي فقل لهم بعبرة ذي ولوعٍ ... تمتَّع من شميم عرار نجدِ تتمته: فما بعد العشيَّة من عرار قال أبو هلال في كتاب المعاني: الألوان، يعني من النساء، تعتريها بالعشية صفرةٌ مستحسنة، كما قال: . . . وصف ... راء العشيَّة كالعراره قال الشهاب: أقول: العرار زهر بري أصفر، ومن هنا يفهم معنى قوله: فما بعد العشيَّة من عرار وقوله مضمناً: إن هبَّ ريح التنائي ... بين الرفاق عصوفا فقل حشاشة نفسٍ ... وقل خلقت ألوفا يريد بيت المتنبي: حشاشة نفسٍ ودَّعت يوم ودَّعوا ... فلم أدر أيَّ الظاعنين أشيِّعُ وبيته الآخر: خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصِّبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا وقوله: إن رحَّل القوم عنا ... ركابهم ظاعنينا فقل لهم بانكسارٍ ... يا من يعزُّ علينا تتمته: ..........أن نفارقهم ... وجداننا كل شيءٍ بعدكم عدمُ وقوله: أحببتها هيفاء يزري قدُّها ... بالغصن رنَّحه النسيم وحرَّكا مرت فضاع المسك من أردانها ... فوددْتُ بالأردان أن أتمسَّكا وقوله: يا ويح قلبي من هوى شادنٍ ... يجرحه اللَّحظ بتكراره أدنو فتغدو وردتا خدِّه ... بنفسجاً يزهو بنواره وقوله: أفٍّ لدُنيا لم تزل ... عن وجه ذلٍّ سافره تعميرها مستلزمٌ ... تخريب دار الآخره فصل ذكرت فيه مما في الأصل أربعة من الرجال، وصفهم حليٌ تتغاير فيه ربات الحجال. تحث بهم عزمها القلوص النواجي، وتستفيد منهم سحرها العيون السواجي وإني لا آمن من أن يقال: كرروا على الأسماع، والمكرر مملول بالإجماع. ومن العادات، ترك المعادات. فخبر الحبيب يطيب على الإعادة، وسجع الحمام إذا تردد أطرب بحسب العادة. ومن يمل من الأنفاس ترديداً، ويسأم من رشفات الثغور تعديداً. على أني مقتف أثر الباخرزي في دميته، حيث أعاد ذكر بعض من ذكر الثعالبي في يتيمته. وقال: لولا تكرار الكؤوس، لما استقر الإطراب في النفوس، ولا استقلت صبابة على الرؤوس، والحياة على حسن مساقها وطيب مذاقها، إذا جاوزت النفس الأول معادة، وحبها لكل من الحيوانات عادة، حتى إنها لا تمل إذا كررت عليها، ولا تكره إذا ردت إليها. والشرط إني لا أذكر من شعرهم السامي، وزهرهم الذي نبت في الروض الشامي. إلا ما لم يصل إليه، وما ذكره منه لا أحاشره عليه. والحكمة هي الضالة فأين وجدت أخذت، وحيث ما سمجت نبذت. وما بعثني على ذكرهم، إلا التلذذ بحمدهم وشكرهم. وإني لأحسب إن طالت لعهدهم السنون، أن تتعلق بمحاسنهم خطاطيف الظنون. وعلى كل حال فحقهم علي أوجب، وزيادة إلمامي بنخبهم لا تنكر ولا تحجب. فمنهم: أبو الطيب الغزِّي أوحد البلغاء العظام، وأجل من تفوه بالنثار والنظام.

جاء أمةً وحده في الافتنان، وامتطى جواد البراعة فأجراه طلق العنان. فهو في النباهة آية، لم تفته من مطالبه غاية. فكل خاطرٍ ينفد إلا خاطره، وكل سحابٍ يضن إلا سحابٌ يسح من فكره ماطره. ومكانته في السؤدد عالية، وساعة قربه ليست بالعمر غالية. تحلى بالزهد، وبذل في التخلي الجهد. وشعره حجة متصابٍ وفتنة متناسك، إذا سمعه المشغوف لم يبق فيه إلا رمقٌ بلذاته متماسك. قالت الأصداف: الفخر لألفاظه الغر، فلذلك حشا الدهر في فمها الدر. إذا ابتدأ معنًى أبرزه كهلال العيد، وأوقعه موقع فصل الخطاب وبيت القصيد. وإن استعاره صيره خلقاً جديداً، وجعله كليله في الفكر جديدا. وأقام دعامته إن خفي رسماً، وأعطاه روحاً إذا كان جسماً. وأنا ممن ألهج به ابتهاجاً وزهواً، ولي بمحاسنه شغف المتيم بمن يهوى. تحركني إليها دواعي الوجد، فأولع بها ولوع ابن الدمينة بصبا نجد. وقد جئتك منها بما يملأ المسامع التذاذاً، ويجعل القلوب من الوجد جذاذا. قال في الغزل: رشأٌ تمكَّن من فؤاد التَّائه ... في قفر حُبِّيه وفي بيدائهِ أسدٌ يجول بحلية الحسن التي ... فيها الأسود تكون من أُسرائهِ ملكٌ ترى رمحَ القوم وقوس حا ... جبه وسيفَ اللَّحظ من نظرائهِ قمرٌ تراءى نحو مرآة السَّما ... ءِ وفيه أثَّر بدره بإزائهِ أترى أرى نفسي مفكَّهةً به ... ليلاً يحنُّ إليَّ في ظلمائهِ فلكم تطاول نأيه عنِّي وذق ... تُ به عناً لا ذقت طعم عنائهِ في ليلةٍ تلقى الكئيب مفكراً ... ممَّا به يرعى نجوم سمائهِ لولا غزير الدَّمع أحرقه الحشا ... لولاه أصبح مغرقاً ببكائهِ أمعنِّفي دع عنك تعنيفي فلي ... س يطيعني سمعي على إصغائهِ لم يصغِ للتَّعنيف مسمع والهٍ ... رسخ الهوى والوجد في سودائهِ يا صاحبيَّ سلاه هل من عودةٍ ... بزمان أنسٍ تمَّ لي بلقائهِ أم هل وصالٌ أرتجيه منه أو ... وعدٌ فأبقى في انتظارِ وفائهِ أم هل أسامر طيفه من بعد أن ... قاسيتُ فرطَ نفورِهِ وإبائِهِ فهواه داءٌ ضمن قلبي لا يزو ... لُ وما لقلبي مَخلصٌ من دائهِ فأنا المقيم على المحبَّة والوَلا ... وأنا الذي في الرِّقِّ من خُدَمائهِ وله من قصيدةٍ كلها درر وغرر: أما آن من نجم الشُّجون غروبُ ... وحتَّى متى ريح الفتون تنوبُ تكلِّفني من بعد سلوان صَبوتي ... شَمالٌ تُعنِّي مهجتي وجنوبُ سهرتُ لها نائي المضاجع فانبرى ... لها بين أحناءِ الضُّلوع لهيبُ إذا ركدت ريحٌ وقرَّ نسيمها ... أبى منه إلاَّ أن يعود هبوبُ وفي الصَّدر بدرٌ فيه لم تحظَ أعينٌ ... ولا صوَّرته للنُّفوسِ قلوبُ محيَّاه روضٌ ناضرٌ في نثيرِهِ ... نظائم منها باهرٌ وعجيبُ قناةٌ عليها للشُّموس مطالعٌ ... ومركزها دون الإزارِ كثيبُ بعيدُ مناطِ القُرطِ سحرٌ لحاظُه ... ذَهوبٌ بألبابِ الرِّجال لعوبُ بديع التَّثنِّي للهواء وللهوى ... نسيمٌ يباري لطفه ونسيبُ يجول وِشاحٌ أو تَغصَّ دمالجٌ ... إذا لاح في بردٍ وماس قضيبُ يُرى منه في ريمٍ مهاةٌ وضيغمٌ ... ويعرض في الأخلاء منه مهيبُ يشوب الرِّضا بالصَّدِّ والوصل بالقِلى ... وما هو إلاَّ مسقمٌ وطبيبُ تمنُّعُ إطماعٍ وإطماعُ مانعٍ ... ودرٌّ ودَلٌّ رائقٌ وخلوبُ دعاني إلى الرُّجعى على حين غفلةٍ ... من الحسن والأهواءُ منه تريبُ دعا سائري من كلِّ عضوٍ وكلَّما ... دعا منه داعيهِ أجابَ مجيبُ

لُسِبْتُ من الصُّدغ الجنيِّ بعقربٍ ... له بين ورد الوجنتين دبيبُ لئن عاد لي عيد اللَّواعج غرَّةً ... فإن فؤادي للغرامِ نسيبُ وعنوانُ حالي لو رأى بثَّ بعضهِ ... شُحوبٌ ومن دون الشُّحوبِ وجِيبُ لحا الله قلبي كم تنازعه الرَّدى ... لحاظٌ لها في صفحتيه نُدوبُ يلَذُّ الهوى لا دَرَّ دَرُّ أبي الهوى ... وحسبك منه زفرةٌ ونحيبُ أُدرِّجُ أنفاسي مخافة كاشحٍ ... وأُطرق كيما لا يقال مريبُ أدين بكتمان الهوى فيذيعُهُ ... فؤادٌ وطرفٌ خافقٌ وسكوبُ وقالوا غَوِيٌّ لا يتوب وآثمٌ ... وما علموا حوباً فكيف نتوبُ بحسب التَّوافي من عفافي زاجرٌ ... ومن صونه عمَّا يريب قريبُ أُجلُّك أن أُبدي هواك علالةً ... ولكن لسان العاشقين خطيبُ وله من قصيدة، أولها: نَهْنِه دوالح جفنك المقروح ... وأرحْ طلائح قلبك المجروحِ ودع الهوى طلق العنان لأهله ... وارْبَأْ بنفسك عن رباه الفيحِ فلرُبَّما ضاق الفضاءُ بأهله ... ولربَّما سُدَّت مهافي الرِّيحِ كم ذا تبيتُ مسهَّداً ترعى السُّها ... متململاً من لاعج التبريحِ كم ذا تصُدُّ عن النَّصيح عمايةً ... وترى وليَّ النُّصح غير نصيحِ وممنِّعِ كابن الغزالة دونه ... غابا حمًى من ذبَّلٍ وصفيحِ لم يعتلق مضناه منه بزورةٍ ... تشفي ولا فتكه بمريحِ لو شئت لا شئت المعادَ إلى الهوى ... لرأيتني بالروح غير شحيحِ ورأيت آرام الصَّريمِ سوانحاً ... في مجلسي وصوادراً في سوحِي ورأيتني ضمَّت على متنسِّكٍ ... متعفِّفٍ حين اللقاء كشوحي وله من أخرى، مستهلها: وفتًى يرفُّ بمثل ثوب نضارِ ... وعثاعثٍ ترتجُّ تحت إزارِ أمَّا محيَّاه الوسيم فإنه ... منح القلوب ومطمح الأنظارِ شفعت ذوائبه الدُّجى وجبينه ... بهر الهلال عشيَّة الإفطارِ يرنو بأكحل كالجراز فيا له ... من أسودٍ ذي أبيضٍ بتارِ تبدو له أسد العرين ظواهراً ... فيعيدها أخفى من الأسرارِ صنمٌ تخرُّ له البطارق سجُّداً ... ليجيرهم فيهيلهم في النَّارِ إن قلت بدرٌ رابني بسفوره ... أو قلت ريمٌ راعني بنفارِ لو أنكرت منِّي هواه جوارحي ... فشحوب جسماني به إقراري لم أنسه واللَّيل بحرٌ مزبدٌ ... بنجومه وأديمه من قارِ وإذا به وافى يفوح كأنَّما ... زرَّت غلائله على عطَّارِ صدع الدُّجنَّة فارياً ديجورها ... عن بدر تمٍّ مشرق الأنوارِ وافتَّر يبسم عن ثنايا وامضٍ ... بلآلئٍ نسق النَّظام صغارِ قلت: صغر الأسنان ممدوح، قال ابن النبيه: ولم أرَ قبل مبسمه ... صغير الجوهر المثمنِ واعتذر عن كبرها القائل: يفتَّرُّ عن مثل نظم الدُّرِّ أتقنه ... بحسن تأليفه في النَّظم متقنهُ عابوا كبار ثناياه فقلت لهم ... الدُّرُّ أكبره في العين أثمنهُ تتمة الأبيات: علَّت بخرطومٍ كميتٍ سلسلٍ ... لا مزَّةٍ كلا ولا مصطارِ روح بلا جسمٍ ولكن جوهرٌ ... متصدِّفٌ بالقار والفخَّارِ لو عبَّ ساقيها دجًى في كأسها ... لرأيت بدراً لسَّ شمس نهارِ حمراء تحسبها عقيقة بارقٍ ... إن لم تكنها فهي جذوة نارِ مسكيَّةٌ فكأنها دم شادنٍ ... يحتَّل من كاساتها في قارِ منها في المديح:

وهَّابُ أذوادِ المطافل يكتفي ... بسقوبها بل واهب الأخطارِ ينسي أحاديث المكارم إنه ... ملغي الوعود ومهدر الأعذارِ يطفو السَّخاء على أسرَّته كما ... يطفو الفرنْد على الصقيل العاري ما زال في طلب العلا حتَّى انبرى ... كهلاً فأدرك خمسة الأشبارِ في بردتيه أبو دؤاد لجاره ... ولمن يناويه أبو الأذعارِ مولاي يا كهف الأفاضل والنُّهى ... ويمين بيت الله ذي الأستارِ إنَّي لأُكبر منك هيبة ضيغمٍ ... وأجلُّها مني عن الإكبارِ سأقول فيك الشِّعر يقطر حسنه ... أو يستمدُّ السِّحر من أشعاري يزري بوشيِ الرَّوض نمَّق نوره ... كفُّ النَّسيم وراحة الأمطارِ وله من أخرى، مطلعها: أمؤنِّبي في الحبِّ لا متواني ... ما أنت من ولهي ومن سلواني لا تسقني ماء الملام فإنَّما ... عيناي من ماء الهوى عينانِ وله بجانحتيَّ صون حديثه ... دينٌ وشأني مخبرٌ عن شاني لولا ضرامٌ شبَّ بين جوانحي ... لغرقتُ من غربيَّ بالطُوفانِ رفقاً فلا غير المنية والجوى ... هو أوَّلٌ وهي المحلُّ الثاني ليت الذي فهقت كؤوس جفونه ... أنهى بهنَّ إليك ما سقَّاني إنَّ المذرَّبةَ الظُّبي ولحاظه ... أنَّى اتَّجهتُ من الهوى سيَّانِ لله من أجفان جؤذرِ كلَّةٍ ... يرعى الحشا بدلاً عن الحوذانِ يطفو النَّعيم على غرارة وجهه ... فترفُّ منه شقائق النُّعمانِ متوضِّح القسمات يبرح خالباً ... منِّي جناني جاذباً بعناني وبغيضةٌ سبل الغرام إليَّ ما ... لم يعتسفها ضلَّة الهجرانِ وسبيَّةٍ من خمر عانة مزَّة ... نظم المزاج بها عقود جمانِ قتلت بصوبٍ من صبير غمامةٍ ... لمعت بمثل مصابح الرُّهبانِ ومنها في المديح: فرعٌ تمكَّن من نصابٍ دونه ... أخذُ الكميِّ بمنكبي ثهلانِ يقظٌ بأعقاب الأمور كأنَّما ... يدلي بجاسوسٍ إلى الكتمانِ لا تطَّبيهِ مدامةٌ تجلى على ... عزف القيان ورنَّة العيدانِ عمَّت فضائله وذاع نوالهُ ... كالشَّمس لا تخفى بكلِّ مكانِ منها: واستجلِها عذراء عُلَّ رضابُها ... حمراء تهزأ بالنجيع القاني شُجَّت بذي خصرٍ يبدِّد فوقها ... حبَيَاً يجول كأعين النِّينانِ النينان: جمع نونٍ، وهو الحوت. قيل هو جمعٌ غير معروف. وقد كان سيبويه لحن بشار بن برد، في قوله في صفة السفينة: تلاعب نينان البحور ورُبَّما ... رأيت نفوس القوم من جريها تجري فغيره بشار بتيار البحور وقد قال أبو الطيب يصف خيلاً: فهنَّ مع السيدان في البرِّ عسَّلٌ ... وهنَّ مع النينان في البحر عوَّمُ قلت: وأبو الطيب، له في اللغة النظر الصيِّب، وهو ممن يميز الخبيث من الطيب. ومن نتفه ومقاطيعه قوله: عاطيته حلب العصير ولا سوى ... زهر النُّجوم تجاه زهر المجلسِ انظر إليه كأنَّه متبرمٌ ... مما تغازله عيون النَّرجسِ وكأنَّ صفحة خدِّه ياقوتةٌ ... وكأنَّ عارضه خميلة سندسِ هذا على أسلوب قول ابن هانئ الأندلسي: خالسته نظراً وكان مورَّداً ... فاحمرَّ حتى كاد أن يتلهَّبا انظر إليه كأنَّه متنصِّلٌ ... بجفونه ولقد يكون المذنبا وكأنَّ صفحة خدِّه وعذاره ... تفَّاحةٌ رميت لتقتل عقربا وله: صادفته متبذِّلاً بصحابه ... يوماً فأقصر عنهم في منزلِ وتركته نهب الرِّعاع وإنَّه ... أشهى إليَّ من الرَّحيق السلسلِ وله: لقد علقْتَ يا فؤادي ... بالحسين ذي الوسنْ

فإن ظمئْتَ فارشِفن ... ريق الحسين والحسنْ وله: ناسَقني الوصْل فهنَّيتهُ ... ميقات موسى فات بالصَّدِّ لا بدَّ من بينٍ على غرَّةٍ ... ما أنت إلا زمن الوردِ وله: لنا نفوسٌ إذا هي انصدعت ... بلمح طرفٍ تقوم ساعتها عزَّت فعاشت بفقرها رغداً ... وفي اعتزال الأنام راحتها وله: نضارة أهل الكيفِ ظلٌّ من اكتسى ... به نحو شهرٍ ظلَّ في النَّاس عاريا على وجه ميٍّ مسحةٌ من ملاحةٍ ... تزول ويبقى الخزيُ من بعد باديا وله: أعدَّ لهمِّه أوراق كيفٍ ... تمدُّ من السرور عليه فيئا كألسنة الشموع تضيء لكن ... تذيب نفوسها شيئاً فشيئا أحمد بن شاهين عين الزمان ويمينه، لو حلف ليأتين بمثله حنثت يمينه. فهو شخصٌ كله جود، وما من فضلٍ إلا في ذاته موجود. موارد كرمه سائغة، وملابس نعمه سابغة. مورق عيدان العلا رطبها ... أبلج وجه العرف بسَّامهُ مع شيمةٍ لو أنَّها في الماء ما تغير، وهمةٍ لو أنَّها للنَّجم ما تغور. وأيادٍ روائحٌ غوادي، كنسيم الرياض غبَّ الغوادي. فللمزنِ فيض بنانه، وللروض حسن افتنانه. وله فكرٌ إذا اتقد تلهب منه اللهب، وخلقٌ إذا انتقد تبهرج عنده الذهب. وكان في مبدإه من الجند على طريقة والده، حتى بلغ فنزع بنفسه إلى مجدٍ أغناه مطرفه عن تالده. وحبب إليه أنواع المعارف، فاعتاض عن حمر المضارب بسود المراعف. كما قال: صبوت إلى حبِّ الفضائل بعدما ... تقلَّدت خطِّيًّا وصلت بمخذمِ ومارست من بعد القناة يراعةً ... كأبيض مصقول العوارض لهذمِ وصار مدادي من سواد محاجري ... وقد كان محمرًّا يسيل كعندمِ فجاء من التحائف التي بيضت وجوه القراطيس، وجذبت المحاسن إلى صوبها جذب المغناطيس. بما أطلع قدود المها محفوفةً بالولائد، ولآلي الثغور كأنَّها على العقد قد نظمها للقلائد. إلى نظامٍ مثل السوالف زمَّت بالشعور، وأداءٍ كدرر البحور علِّقت في النحور. وشعره وإنشاؤه إذا رآهما الأديب، قال: ليس للبلاغة إلا ذان، يلجان السمع إلى القلب بلا أذانٍ ولا استئذان. أحاطت ببدائعه حواشي الإجادة، إحاطة الحلل بالقدود، وتوشت رياض روائعه بالملاحة توشية العذار بورد الخدود. فكل ما كتبه أوفاه به لسانه، لا سبيل لأن يجحد حسنه وينكر استحسانه. ومضى عليه زمن وهو في عيشٍ رفيه، والعز ناظر وهو نورٌ فيه. حتى أسن فوقف الدهر في تعهده دون حقوقه، وخرج إلى ما كان يهيؤه له من بره إلى عقوقه. وأخر مطالبه تأخير الغريم، لدين الكريم. وبدله عن النشاط المقيم، بالحظ العقيم. وللزمان حال لا إلى بقا، وصفوٌ لا يبقى على نقا. فسلوة الأيام موعدها الحشر، ولكتابها منتهًى هو النشر. ثم عاجله الحِمام، فسقى تربه هطَّال الغمام. وما جاده الغيثُ عن غُلَّةٍ ... ولكن ليبكي النَّدى بالنَّدى وقيل فيه: قلت لما قضى ابن شاهين نحباً ... وهو مولًى كلٌّ يشير إليهِ رحم الله سيِّداً وعزيزاً ... بكت الأرض والسَّماء عليه فمما اخترته من آثاره، وألمعت به من نظامه ونثاره. رسالة ألمع على الأسلوب البديع، وجرى فيها على أسلوب البديع. كتب بها إلى شيخه الحسن البوريني، يتعهد بها مطالعته، ويسأل مراجعته. عقب مهاجرة وقعت بينهما، واقتضت بينهما: أعز الله الشيخ الذي سكن من الجوارح أشرفها، وسلك من طرق الجفا أوعرها وأسرفها. وبالغ في العقوبة وزاد، واستغرق أوقات الوداد بالبعد والعناد. وارتكب مركباً من الخليقة صعباً، وقطع جميع الطرق إلا طريق الوفا وثباً. واستعار أذناً ليستوعي بها المثالب، وعيناً ينظر بها المصائب. ويداً يبطش بها من كل صاحب ومصاحب، ورجلاً يسعى بها إلى الأباعد دون الأقارب. ووجهاً يتصرف في أسرَّته، كتصرُّف الملك الجائر في رعيته. ويفعل بمحبيه، ما لا يفعل الدَّهر ببنيه. لا تظهر الطلاقة في وجهه إلا ريثما يخلطها بإعراض، ولا ينبسط هنيئةً من الزَّمان إلا وهو وشيك انقباض. يبدو لطفه لمعاً ثم ينقطع، ويحلو ماؤه جرعاً ثم يمتنع.

فلا يدوم له سرور الهنا، إلا بما هو من حمانا يحلُّه، وبما هو من أعراضنا يستحلُّه. فيا ليت شعري، أيُّ مصونٍ من سرِّك أذعته، أو مفروضٍ في الخدمة رفضته، أو واجبٌ في الزِّيادة أهملته. وهل كنت إلا كما قيل: ضيفٌ أهداه بلدٌ شاسع، وأدَّاه أملٌ واسع. وحداه عقلٌ، وإن قلَّ. وهداه رأيٌ، وإن ضلَّ. ثم ما أبعدت صحبةٌ إلا أدنت مهانة، ولا زادت حرقةٌ إلا نقصت صيانة. ولا تضاعفت ذمة، إلا تراجعت منزلة. ولم تزل الغصة بنا حتى صار الوابل رذاذاً، والتشوق المفرط معاذا. وصار حسن ذلك الالتفات ازوراراً، وطويل ذلك السلام اختصاراً. وكان المهلب يقول: عجبت لمن يشتري العبيد بماله، كيف لا يملك الأحرار بمعروفه. وفي الحديث: البشاشة خيرٌ من القرى. وفي المثل: اليوم العبوس، خيرٌ من الوجه العبوس. ومن كلامهم: الحوادث الممضة مكسبةٌ لحظوظٍ جزيلة، منها: ثواب مدخر، وتطهير من ذنب، وتنبيه من غفلة، وتعريفٌ بقدر النعمة. وقد شاهدت فيها خامساً؛ وهو صون ماء الوجه عن الذل والهوان. مولاي يا من له في كلِّ جارحةٍ ... لسان شكرٍ يؤدي بعض ما وجبا ما هذه الكراهة من فتًى خفيف الجسد والروح، ثقيل الرأس بالعقل، غضيض الجفن بالحيا، طلق الوجه، عف اللسان، رحب الصدر، باسط الكف بالجود، طويل الباع بالإحسان، صافي القلب، سليم الفطرة، محني الضلوع على الأسى، مطوي الجوانح بالهوى، قصير الخطى عن الأذى. فما محاسن شيءٍ كله حسن ما فيه لَوٌّ ولا ليتٌّ تنقِّصه ... وإنَّما أدركته حرفة الأدبِ على أنني والحمد لله لم أكن ... مذاداً مع الحرمان منك ولا شربُ ولكنني أبردت صدري بنهلةٍ ... من الفضل غُصَّت دون موردها الشَّربُ وذلك لأني أطلعت التردد إليك، وعولت أمري في طلبي عليك. ووردت من أنهار فضلك كل معين، وكنت لي في طلبي وأملي خير معين. والنعمة لا تجحد، والحسنة لا تكفر. والشمس لا يمكن سترها بحجاب، والبدر لا يخفى ضوؤه وإن كان تحت السحاب. والكذب شيمة المنافقين، ألا لعنة الله على الكاذبين. وأنا ما قلت ذلك إلا رائياً أن لا طيب إلا ما اختلط بترابك، وأن لا سعد إلا ما خيم ببابك. وأن لا ربيع إلا في بقعتك، وأن لا أنس إلا بطلعتك. وأن لا فرح إلا بقربك، وأن لا ترح إلا ببعدك، وأن لا نشاط إلا بحبك، وأن لا علم إلا ما استفيد منك، وأن لا فضل إلا ما أخذ عنك، وأن لا دليل إلا ما جيء به معزوًّا إليك، وأن لا سند إلا ما أخذ من فيك، ومحالٌ عليك. لعلمي بأنك البدر الكامل، والفرد الذي ليس له معادل ولا مماثل. هذا، مع مغالاتي فيك، ومنافستي عليك، ومناظرتي بك، وانتمائي بالفضيلة التامة إليك. وإنشادي مستمسكاً بحبل ودادك، ومتمسكاً بترب مهادك. ومعتقداً أن رضاك ثوابٌ، وغضبك عقاب. ورغبتك إحسان، ورهبتك خسران. وإعراضك جحيم، والتفاتك نعيم. ومثلك لا مثل يضاهيك. إن غضب تجمل، وإن تأذى ولو بوهمٍ تحمل. وإن جاء فاسقٌ بنباءٍ تبصر واستفسر، وإن ثبت لديه شيءٌ ولو دعاء اغتفر واستهتر. فهاتِ قل لي يا من مكانته ... في القلب قد حلَّها بمفرده أي جوابٍ لمن يسأل عن حلمك، واستفسر عن ثمرة علمك. فإن الحلم، ثمرة العلم. وهو دالٌّ عليه، كدلالة النور على الثمر، والهالة على القمر. وقد وجد كماله فيك، وظهرت ثمرته عليك، وتذللت قطوفه دانيةً إليك. وأعود فأقول: بعض هذا الجفا يا مولاي يكفي، وجزءٌ من هذا الإعراض يجزي. وفي قليلٍ من صدودك انتقام كثير، وفي يسيرٍ من هجرك إسرافٌ وتبذير. وفي أدنى ما بلغني عنك كافٍ ومقنع، وفي أقل ما رأيته منك للقلب مؤلم وموجع. وفي المثل: من يسمع يخل، ومن يكثر يمل. وأظن أن الداعي إلى مهاجرتي نميمةٌ جاء بها فاسق، ونبأ افتراه كاشح. ومع ذلك لو ارتكبت جريرةً لما استحقيت من القطيعة المهلكة أعظم مما رأيته وقاسيته، ولو اكتسبت كبيرةً لما استوجبت من العقوبة المنهكة بعض ما عاينته وعانيته. ولو أشركت، والعياذ بالله تعالى، لمحت ذنبي التوبة والاستغفار، ولو كفرت، معاذ الله، لغطت على كفري الندامة والاعتذار.

ولما أحتمل أن يسمى كبيرة، ويدعى ولو على المجاز جريرة. وهب أنني يا مولاي لا أؤاخذك بأغراضك وإعراضك، ولا أعاتبك بإسرافك وإخلاقك، ولا أقابلك بإخلافك وأخلاقك. ولا أواجهك بانقيادك وعدم انتقادك، ولا أعارضك بإعراضك، وعدم اعتراضك. ولا أطالبك بتألبك، وعدم تألمك، ولا أحاسبك بما حرمتنيه من عطفك، ولا أصادرك وإن سؤتني بما تثنيه من عطفك. أفي حكم المروءة أن تبعد من يقاربك، وتطرد من يصاحبك. وتطرح من يهابك ولا يملُّك، وتسمح بقطيعة من يجلُّك ولا يخلُّك. ومن أمثالهم: أهل الحفائظ أهل الحفاظ. والحفائظ تحلل الأحقاد، فأين من سيدي الحفيظة المأمولة لتحلِّل ما عنده وما استقصاه، وتهدم ما شاده الواشي وما بناه. والعين تعرف من عيني محدِّثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها وقد باغتني مقالةٌ من بعضها في القلب جروحٌ. فليت شعري، وهل ليت بنافعة، متى كان جرحاً، حتى صار قرحاً. ومتى قدح الزند حتى اضطرم هذا الوقد. ومتى تكاثف القطر وهمى، حتى اجتمع هذا البحر وطمى ومتى طنَّت الحصا، حتى بلغ مداها عنان السَّما. وبالجملة فقد شاركت الليال، في تقلب الأحوال. ووافقت الأيام، في اصطناعها اللثام. هلاَّ ألهمت أن ترد بعقلٍ وتصدَّر بتميز، " وما ذلك على الله بعزيز ". ولولا أنك أعنتها ونصرتها، وآزرتها وظاهرتها. لردَّت على أعقابها ناكصة، ورجعت على أدبارها خائبة. ولأمنت مكرها، واجتنبت إصرها. ولكنها جمرة ليل، وأثمر ثمارٍ لا سيل. وبناءٌ على شفا، وعلَّةٌ قريبة الشِّفا. وقد ثبت أن العقوبة للمسيء، والحرمان للمجرم، والخذلان للمعتدي، والقصاص للمذنب، والمؤاخذة للجاني. وأنا أبيض وجه العهد، واضح حجة الود، مصاحب التوفيق، بريء الساحة، مجانب الهفوات. ولو أنني علمت أنه أمرٌ بيت بليل، لجازيت الصانع كيلاً بكيل، ولكني سأريه ناجذي وأتجلد، وأري الشامتين أني لريب الدَّهر لا أتضعضع. ولعمرك ما علمت أن صريح الرأي في التحول عنك مطلوب، ولا تحققت أن المجاز في كل تركيب من الألفاظ العرفية متداول مرغوب. لأتبصر أن قول القائل مثلاً: اذهب الأعمى. أن يكون عبارةً عن طرد المخاطب ضمناً، وقد تقرر أن المخاطب يدخل في عموم كلامه لا أن المخاطب يدخل فيما خوطب به. ولو علمت قبل ما عدت بعد. لست أشكو من امتناعك عنِّي ... يا منى النَّفس حيث عزَّ الإيابُ سوء حظِّي أنالني منك هذا ... فعلى الحظِّ لا عليك العتابُ وأحرى بقول القائل: إذا لم تكن حاجاتنا في نفوسهم ... فليس بمغنٍ عنك عقد الرتائمِ حلفت ولم أترك لنفسك ريبةً ... وليس وراء الله للمرء مطلبُ إني لا قابلت إحسانك بكفر، ولا أسأت أدباً فيما صنعته في خدمتك بأن أتبعه بمنّ. ولك عندي اليد البيضاء التي لا أقبضها عن الدعاء لك، والأخرى التي لا أبسطها بالدعاء عليك. وها أنا أشكو إليك، جعلني الله فداك، ما لا يمكن الإيضاح به، ولا الصراحة عنه، ولا التوصل بالاستيفاء، ولا التسلط بالاستحضار عليه، ولا التجمل بالإغضاء، ولا البيان لما فيه، ولا التمحل له. وربما ذكرت البعض منه، وقلت: لعلِّي كنت شائماً سراباً، أو مستمطراً جهاماً، أو رائياً خلَّباً، أو وارداً حيث لا مراد، أو مستعيناً حيث لا معين، أو مستغيثاً حيث لا مغيث، أو مستجيراً حيث لا مجار، أو مستميحاً حيث لا سماح، ولك المثل الأعلى. لا تعجبوا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في النَّدى والباسِ فالله قد ضرب الأقلَّ لنوره ... مثلاً من المشكاة والنِّبراسِ ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته ... ولكنه رمحٌ وثانٍ وثالثُ فهل كنت كالمقتدي بناقضة الغزل، أو كالمستصحب سراةً لملمَّةٍ فإذا عم عزل. أو كراضٍ من الغنيمة بالإياب، ومن المركب بالتعليق، أو كراجع بخفِّي حنين. هذا، وأنا أقول: لن تضر الحوار وطأة أمِّه. بيد أنه يقال، فيما تقدم ومضى من المدد الخوال: فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازماً ... فليقسُ أحياناً على من يرحمُ ومثلي من تهفو به نشوة الصِّبا ... ومثلك من يعفو ومالك من مثلٍ

وإني لينهاني نهاي عن التي ... أشاد بها الواشي ويعقلني عقلي وما أنا بالمهدي إلى السؤدد الخنا ... ولا بالمسيء القول في الحسن الفعل فهات جواباً عنك ترضي به العلى ... إذا سألتني بعد ألسنة الحفلِ فبين الرِّضا والسُّخط ظنِّي واقفٌ ... وقوف الهوى بين القطيعة والوصلِ ولو تيسرت لي مخاطبتك مشافهةً لكان لي معك ذوقٌ من الكلام، لكن لما عزَّت المشافهة، استغنيت بالمكاتبة والمراسلة، قائلاً: لك الحمد أما من نحبُّ فلا نرى ... وننظر من لا نشتهي فلك الحمدُ ولعمري إن ليلي عليك ليل السليم، ونهاري دونك نهار الأليم. وفكري قد صدئَ لعدم مطارحتك، وطرفي قد قذي لندرة مشاهدتك. وقلبي لعزة رضاك واجبٌ مضطرب، وصدري لعلة مؤانستك حرج ضيِّق، وفمي لبعد مصاحبتك واجمٌ ساكت، وصادف حجاي عارضٌ وعين، فغلبني الدمع بسلاسل من عسجد ولجين: أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمرُ لقد صديت مرآة الخيال، وقذي طرفٌ طال ما سهر الليال. وتزلزل محلُّ سيدي من قلبي، أطال له البقاء، ومنحه سوابغ النعم والارتقاء. رفقاً بمنزلك الذي تحتلُّه ... يا من يخرِّب بيته بيديهِ وضاق وسع الفضا، وسكت مصقع الخطبا. وجنَّ صاحي القوم، وبكت مقلةٌ يعزُّ عليها النوم. إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى ... وأذللت دمعاً من خلائقه الكبرُ معلِّلتي بالوعد والموت دونه ... إذا متُّ عطشانا فلا نزل القطرُ أما تتقي الله في واقفٍ أمامك، مستغفرٍ تائب. وأرق ما يعرض على المولى قول القائل: سلي تعلمي إن كنت غير عليمةٍ ... بأن ليس في حبِّي لغيرك مطمعُ فأنَّ لي القلب الذي ليس خالياً ... من الوجد والجفن الذي ليس يهجعُ فوالله ما أنفكُّ أذكر موضعي ... لديك ولا أنفك نحوك أنزعُ وبالجملة: أُعيذها نظراتٍ منك صادقةً ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورمُ وهاك هدية الوقت، وعفو الساعة، وفيض البديهة. ومسارقة القلم، ومسابقة اليد للفم. وجمرات الحدَّة، وثمرات المودَّة. ومهاداة الخاطر للناظر، ومباراة الطَّبع للسَّمع، ومجاذبة الجنان للبيان. وها هو جواد البلاغة علك الشَّكيم، حابس العنان، لم يأخذ طلقه، ولم يستوف مضماره. وهذا هو النهض فما بالك بالركض، وقد آلى لا يعرق عرق التنبيه ما لم يسمع بتصهالهِ، ويرعد بقرع نعاله. ويوصل ممتطيه غايةً لا تدرك، وغارةً بالرياح الهوج لا تنهك. ومع ذلك لو نظمت النثر كالدرر، وأتيت به رائقاً كنسيم السَّحر، وموشياً كألوان الزهر، وما كنت إلا كمهدي التمر إلى هجر، والفصاحة لأهل الوبر. وآخر ما أقول إن ودي موقوفٌ عليك، وحبيس سبيلك، وتحت رهنك. فمتى عاودته، وجدته سائغ المعبر، غضَّ المنظر، جنيَّ المخبر. يندى بشاشةً، ويقطر حسناً، ويفوح عنبراً، ويثمر لطفاً. فإن فعلت ذلك فهو حسن، وإن عدت فالعود أحمد. وإن كان الأمر كما يقال: لا ولا. فالغبن مشترك. والله يتولى السرائر، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وإن راسلتك بما زاد أو نقص فهو منك، وبسببك والسلام. وله من كتاب كتبه، وهو بجبل الشوف، إلى بعض خواصِّه، جواباً عن كتاب كتبه إليه، يطلب بعض طرائف الجبل: وإني أراك تُهدي ولا تستهدي، وتضلُّ في رأيك ولا تستهدي. وكأنك تلوِّح بطرائف هذه الجبال، وليس فيها سوى العُقاب والوبال، عدد ما فيها من الحجارة والرمال. وما ظنِّي إلا أنَّك تسبَّبت إلى استهداء طرائف المقال، وتقنَّعت عن جرِّ الأثقال، بالقيراط من الجواهر والمثقال. وإلا فأنت أعلم بالحال، وما فيها من ضروب المحال، والاختلال، والاعتلال، والاضمحلال، والابتذال. ولقد قرأت في أخبار بعض الأخيار؛ أن بعض الأدبار الأُرباء، كتب إلى بعض الأمراء النُّجباء. يستهديه من طرائف خراسان، ويلوِّح بالإحسان من فضل ذلك الإنسان. فكتب إليه ذلك الأمير العريض الجاه، سقا الله ثراه، ورضي عنه وأرضاه: أما بعد، فقد وصل كتابك، معرِّضاً بطرائف هذه الناحية، وقد بعثت إليك بعدل صابونٍ لتغسل عني طمعك، والسلام.

قلت: وفي هذه الحكاية تسليةٌ للشيخ الذي رضاه قريب الغاية، وتلافيه لا يحتاج لشدة عناية، لوجود الكفاية. لأنه ربما يكتفي في الهدية، ببلغةٍ حامدية أو أحمدية. فيغسل طمعه رطل صابون، ويدفع عطشه وعد الكمون، وهو حرٌّ قانعٌ بالدُّون. وله من رسالة كتب بها إلى أبي العباس أحمد المقري، ذلك الإمام اللوذعي العبقري، يذكر فيها موت ولدٍ له صغير: لا أوحش الله مولانا الأستاذ مما سيعرض على سمعه من عُجَري وبُجَري، ومن حديثي وغريب سمري. وهو أن الله سبحانه وله الحمد، قد جعل رونق معاشي، وريحانة فؤادي من غير تنفيس مهلةٍ ذخر معادي، ومشرد رقادي. وقد مات للحجاج ولد، وكان بيضة البلد. فصعد متن المنبر، وحمد الله وشكر وأكثر. ثم قال ويده على كبده، من حرِّ ما يجدِهِ: الحمد لله الذي يقتل أولادنا ونحمده. ونظر أبو الحارث، وكان مشوه الخلق في المرآة، فقال: الحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه. وها أنا يا سيدي، أحمد الله سبحانه، وقد فقدت جزء نفسي، وفلذَة كبدي، وشطر روحي، ونور عيني. وما أسفي إلا على ما سمَّاه الشيخ باسمه، ووسمه بوسمه. وأرَّخ مولده، وحمد مصدره ومورده. وقد عراني بسببه الذُّهول، وأنا في سنِّ الكهول. ولولا ذاك لما أغفلت خدمة سيِّدي إلى الآن، من رسالةٍ أستجلب بها شرفاً طارفاً، كما استفدت في الفوز بخدمته مفخراً سالفاً. وله من رسالة إلى بعض حواشيه، يعاتبه على نقيصةٍ قذف بها بحر واشيه: اعلم، أصلحك الله، أن خبر السوء ينمو ويربو، ويبلغ متراكماً متضاعفاً، ويصل متواتراً مترادفاً. ثم إنه في السرعة يقطع مسافة سنةٍ في جمعة، وذلك أنَّ الشرَّ أغلب في الطباع، والهوى كما يعلم به القاضي شفيعٌ مطاع. والنَّفس أقرب إلى العقوق، ولإضاعة الحقوق. والعقرب، إلى الشرِّ أميل. والأفعوان، بعيد من مراتب الإحسان. ومن وزن الميزان في غير ميزانه، عوقب بنقصانه، وعدم رجحانه. ولعمري لولا أن الخبر يحتمل سامرين، ويتردَّد بين شفتين. لأوجعت القاضي عتباً، ونهبت أديمه نهباً، وأخذت كلَّ سفينةٍ غصباً. كأنَّ القاضي سمع قولهم: إذا أنت لم تنفع فضُرَّ فإنَّما ... يراد الفتى كيما يُضَرُّ وينفعُ فعمل بمعناه، وتمسك بفحواه، ونسي أُولاه وأُخراه. قال الصاحب لأبي سعد الرُّستمي حين جفاه: فلعلَّ تيماً أن تُلاقي خطَّةً ... فتروم نصراً من بني العوَّامِ القاضي، وإن كان يحتاج إلى ما هو أوضح في العتاب، من هذا الخطاب. تقريباً لفهمه، وتوضيحاً لعلمه. ولكن هو كما قال أبو الطيب: وكلمةٍ في طريقٍ خفتُ أُعربها ... فتهتدي لي ولم أقدر على المحنِ وإنما نهجت على سَنَني في البلاغة، وسبيلي في الخطابة والكتابة. وهو أصلحه الله تعالى على سَنَنِه في الجفا، وقلِّة الوفا، ووقوفه من الصِّدق في الصَّداقة على شفا، وحسبي الله تعالى وكفى. وكان بينه وبين أبي الطَّيِّب الغزِّي مودَّة ومصافاة، ثم أعقبها مقاطعة ومجافاة. فكتب إليه هذه الاعتذارية النابغة، وهي كما تراها تهزأ باعتذارات النَّابغة. ومطلعها: ألمَّت أيادي الخطب سائمة العتب ... على أنها العُتبَى تكون لذي الحبِّ يقول فيها: لأية حال يا ابن خيرِ أرومةٍ ... أُذاذد عن العذب الزُّلال بلا شربِ وأشرب صاب الدَّمع يطفو أجاجُه ... لبُعدك والأعداءُ واردةُ العذبِ منها: فيا ليت شعري والأماني تعلُّلٌ ... وروض المنى ينبيك عن وابلٍ رطبِ متى أردِ الإسعاف في منهل الرِّضا ... وأعتاض عن نزر المودَّة بالسَّكبِ وقد كنت آتي في السَّلام تتابعاً ... فلم صرت أرضى في الزِّيارة بالغَبِّ ولو أنَّني واقعت عمداً جريرةً ... لما كان بدعاً منك داعية السَّبِّ ولكنني والله أعلم لم أكن ... لأقطع أوصال المحبَّة كالإربِ ولم أستثر حرب الفجار ولم أُطع ... مسيلمةً إذ رام آلفة الحجبِ ولم أعتقد أن الخلافة فلتةٌ ... بعهد أبي بكرٍ ولا كان من دأبي ولم أرم فاروق العدالة غيبةً ... وقد طلبت منه النَّجيبة بالكذبِ

ولم أكُ نجواً للخوارج إذ بغوا ... على قتل عثمان بسطوةِ ذي شُطبِ ولم أكُ سلماً لابن ملجم إذ سطا ... لحربِ عليٍّ والهوان لذي الحربِ ولم أكُ في قتل الحسينِ مجرِّداً ... لصِمامتي أو أن يذاد عن الشُّربِ ولم أختلق بِدعاً وحسبك داعياً ... إذا كان عرض المرء منثلم الغربِ وهبْ أنَّني مارستُ ذلك كلَّه ... فحسبي من الإعراض يا أملي حسبي وقد وقفت من هذا النمط على اعتذارية، توسل بها أبو جعفر المري في تربة المهدي، عند عبد المؤمن سلطان الأندلس، بعد أن نكبه، وهي هذه: تالله لو أحاطت بي كلُّ خطيئةٍ، ولم تنفكَّ نفسي عن الخيرات بطيئة. حتى سخرت بمن في الوجود، وأنفت لآدم من السُّجود. وقلت: إنه لم يُوحَ في الفُلك لنوح. وبريت لقدارٍ نبلاً، وبرمت لحطب نار الخليلِ حبلاً. وحططت عن يونس شجرة اليقطين، وأوقدت مع هامان على الطِّين. وقبضت قبضةً من أثر الرَّسول فنبذتها، وافتريت على العذراء البتول فقذفتها. وذممت كلَّ قرشي، وأكرمت لأجل وحشيٍّ كلَّ حبشي. وقلت أن بيعة الثَّقيفة، لا توجب إمامة الخليفة. وشحذت شفرة غلام المغيرة بن شعبة، واعتقلت من حصار الدَّار وقتل أشمطها بشعبة. وغادرت الوجه من الهامة خضيباً، وناولت من قرع سنِّ الحسين قضيباً. ثم أتيت حضرة المعصوم لائذاً، وبقبر الإمام المهديِّ عائذاً. لآن لمقالتي أن تسمع، وتغفر لي هذه الخطيئات أجمع. فعفواً أمير المؤمنين فإنَّنا ... نُقلُّ قلوباً هدَّها الخفقانُ وكتب إلى الأمير محمد بن منجك يسلِّيه وقد احترقت يده وقدمه، بنارٍ اعتلقت بمطبخه ليلة عيد الفطر، وقد أجاد وأحسن كلّ الإحسان: قالوا يد المنجكيِّ ذو الرُّتَبِ ... آلمها النار قلت من عَجَبِ يمينه ديمةٌ ونائلها ... بحرٌ فكيف اختشت من اللَّهبِ تضرُّه النار وهو مطفئها ... والنار ليست تضرُّ بالسُّحبِ وإنَّما قام وهو محتفلٌ ... كعادةٍ منه تنتمي لأبِ تبغي قِرى الضَّيف في إثارتها ... وذاك دأب الكرام في العربِ فقبَّلتْ كفَّه لما له نظرتْ ... من هِمَّةٍ للقِرى مع النَّصبِ أو قد رأت مكرمات راحته ... عمَّت جميع الأنام بالنَّشَبِ فبادَرَتْه لتجتدي نشباً ... منه فساءت مواطن الطَّلبِ وضرَّ أقدامها ولو عقلتْ ... لقَبَّلَتْها بغاية الأدبِ لكن بحمد الإله ما شُغلت ... عن مسِّها لليراع والقُضُبِ انظر إلى وجوده وقد طلبتْ ... من كفِّه قبلةً فلم تخبِ جُودٌ يروح الجمادُ يطلبه ... ما شِيمَ كلاَّ في سالف الحقبِ ومن نتفه قوله: نَصَل الشَّباب وما نصُلتُ عن الهوى ... وبدا المشيب وفيَّ فضلُ تصابي وغدوتُ أعترضُ الدِّيار مُسلِّماً ... يوماً فلم تسمح بردِّ جوابِ فكأنَّها وكأنَّني في رسمها ... أعشى يحدِّق في سطور كتابِ وقوله: إني أبُثُّك حبًّا ... حُبًّا يرى السِّلم حربا ويغصبُ القلبَ غصبا ... وينهب الصبر نهبا يا من كوى ألف قلبٍ ... سامح من النار قلبا وقوله: يا عدوًّا قد ظلمنا ... هُ بتلقيب الحبيبِ وغريب الطَّبع فينا ... وهو في زيِّ قريبِ ما قليلٌ أنت لكن ... منك قد ضلَّ نصيبي وقوله: لاحظته فتغيَّرت ... لحظاته غضباً لحربي فاستلَّ من أجفانه ... سيفاً وأغمده بقلبي يا من رأى في دهره ... قلباً غدا غمداً لعضبِ وقوله: يا شقيق الظَّبيِ لحظاً ... والرَّشا في لفتاتكْ فتَّ غصن البان قدًّا ... والنَّقا في خطراتكْ لست هاروت ولكن ... سحره من حركاتكْ عظَّم الله بصبري ... أجر ماضي لحظاتكْ

أنا والله قتيلٌ ... هالكٌ من نظراتكْ جرحت قلبي وهذا ... شاهدي في وجناتكْ أنا أستبقي حياتي ... لتُقَضَّى في حياتكْ كيف تعصيك حياةٌ ... هي من بعض هباتكْ آه من ضعف غرامي ... وتقوِّي عزماتكْ آه من طول عنائي ... وتداني خطراتكْ وله من قصيدة، مطلعها: ذا ودادي وهل ترى لودادي ... حافظاً في الأنام مثل فؤادي كلَّما رحتُ أستميح حبيباً ... ودَّه جاد لي بضدِّ مرادي فكأنَّ الأنام أضحوا فلاناً ... وفلانٌ هو الذي لي يعادي كلَّما رمت قربه أخذت بي ... شيمةٌ منه تقتضيه بعادي مثل صبري إذا تلقَّى هواهُ ... كان ذا رائحاً وذلك غادي إن تمادى بنا جفاهُ قليلاً ... فانتظر للأساة والعٌوَّادِ عجباً من نواك وهو طريفٌ ... كيف لم يرع حقِّ قرب تلادي أخلفَتْك الشؤون عجزاً فجادت ... بالسَّواري أكبادنا والغوادي ليس عندي من الدُّموع سوى ما ... وهبتْهُ عصارة الأكبادِ كان طول القناة ودُّك عندي ... فانبرى من جفاك عرض النِّجادِ لا تلمني على هواك فإنَّا ... قد أتينا معاً على ميعادِ صادف القلب خالياً فاحتواه ... مطمئِنَّاً وكان بالمرصادِ معنى البيتين ينظر إلى قول الآخر: أتاني هواهُ قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكَّناَ نقل عن أبي بكر الأصبهاني أنه عابه، فقال: كل من صادف مكاناً خالياً تمكَّن فيه، والمستحسن أن يعرفه من دونه. أقول: هذا كلام من لم يذق حلاوة المعاني؛ فإنَّ الشاعر قصد أن غرامه قائمٌ، لم يسبقه غيره، فإنه متمكِّن في قلبه لا يزول، وما قصد معنًى آخر، كما قيل: أتاني هواه والهوى قد أحاط بي ... ليجمل بيت القلب للحبِّ منزلا فصيَّرته وقفاً عليه ولم يجد ... إليه سبيلاً غيره فتحوَّلا تتمة الأبيات الأولى: كان لي منك لحظةٌ أصطفيها ... فغدا لحظها كسيف الأعادي كنت أخشى غِرارها وهي سلمٌ ... كيف إذ جرِّدت من الأغمادِ عملت للوشاة فينا سيوفٌ ... عجباً رحن وهي غير حدادِ لست مستسعداً حبيباً تجنَّى ... لي ذنباً وصدَّ عن إسعادي آه من وصلك البعيد التَّداني ... آه من هجرك الكثير التَّمادي لا ابتلاني الإله بعدك حتى ... يلبس الخدُّ منك ثوب الحدادِ ويرى الورد كالبنفسج لوناً ... منك والأقحوان غير نوادي إذ عرى نرجس العيون ذبولٌ ... وغدا الغصن ليس بالميَّادِ ذاك نوحي عليك وهو زمانٌ ... منصفٌ للهوى من الأضدادِ ومن نتفه قوله: علَّمتني الذُّلَّ حتى صرت آلفه ... وما التذَّلُّلُ خلق الباز والأسدِ يا من أهان فؤادي من محبته ... أعزَّك الله فارحمني ولا تزدِ قد صرت طوع يد الأشواق مكتئباً ... من بعد ما كانت الأشواق طوع يدي وقوله: وأذكرني قدَّ القناة قوامه ... وهزَّني الشَّوق اهتزاز المهنَّدِ وأزعجني حتى ظننت وسادتي ... عليَّ وقد أمست كقطعة جلمدِ ألا إنَّني يا شوق بالله عائذٌ ... ومستشفعٌ من فتنتي بمحمدِ وله من قصيدة، أولها: لحى الله أوقاتي وضاعف من صبري ... على مرِّها مرَّ السَّحاب بالقطرِ تحاربني الأيام حتى كأنَّني ... تطالبني عن كلِّ من مات بالوترِ الوتر: الذَّحل، وهو الثأر. قال يونس: أهل العالية يقولون: الوتر، يعني بالكسر: في العدد، وفي الذحل، بالفتح. عددت أويقاتي ولاحظتُ طيبها ... فأجودها ما مرَّ في الحلم من دهري إذا رحتُ أحصيها لأعلم يسرها ... عدمت حياتي والمصير إلى عسرِ

متى ما اعتبرتَ العمر ما كان صافياً ... تجد رجلاً قد عاش عمراً بلا عمرِ هذا معنًى غريب، وأظنه تناوله من قول الحتاتي، وهو: عمرُ الفتى قالوا زمان الرِّضا ... بصفوة الأحباب في اليسرِ صدَّقت ما قالوه كي يُقبلوا ... فينظروا شيخاً بلا عمرِ وأصله قول الأمير أسامة بن منقذ: قالوا نهاهُ الأربعون عن الصِّبا ... وأخو المشيب يجور ثمَّتَ يهتدي كم حار في ليل الشباب فدلَّه ... صبح المشيب على الطَّريق الأقصدِ وإذا عددت سنيَّ ثم نقصتها ... زمن الهموم فتلك ساعة مولدي قال العماد الأصفهاني: تعجب من مقاصد هذه الكلم، وتعرض لموارد هذه الحكم واقض العجب كل العجب من غرارة هذا الأدب، ولولا أن المداد أفضل ما رقم به صحائف الكتب، لحررت هذه الأبيات بماء الذهب، فهذا أبلغ من قول أبي فراس الحمداني: ما العمر ما طالت به الدُّهور ... العمر ما تمَّ به السُّرور فالفضل للمتقدم في ابتكار المعنى، وللمتأخر في المبالغة. العود أحمد: وها أنا في طيِّ الليالي معدِّدٌ ... كواكبه من حيث لا حاسبٌ يدري كأنِّي في همِّي مدى الليل راكبٌ ... على فلك نائي المدى أبداً يسري أروح مجدًّا مصعداً وعزيمتي ... إلى اللَّوح كي أقرا به سورة اليسرِ وأحفظها من جبهةٍ شمْتُ نورها ... على بعدها قدرُ الكواكب والبدرِ وله: عجبت للشمس إذ حلَّت مؤثِّرةً ... في جبهةٍ لم أخلها قطُّ في البشرِ وإنما الجبهة الغرَّاء منزلةٌ ... مختصَّةٌ في ذرى الأفلاك بالقمرِ ما كنت أحسب أن الشمس تعشقه ... حتى تبيَّنتُ منها حدَّة النَّظرِ وله: انظر لأوراق الربيع وقد بدت ... محمرَّةً في صفرة الأشجارِ وكأنَّها لما تبدَّت بينها ... شفقٌ تبدَّى في سماء نُضارِ وله: قد أُحبُّ الرَّبيع لِلَّهو فيه ... بلطيف الهواء والأزهارِ ثم فصلُ الخريفِ عنديَ أحلى ... لاجتنائي فيه لذيذ الثِّمارِ ومن غزلياته قوله: ومعذِّرٍ خفيت خطوطُ عِذاره ... فبدت لطالب وصله أعذارهُ قد لاح تحت ورودِه ريحانةٌ ... وبدا خفيًّا للعيون غبارهُ يبدو فتقطر بالدِّما أقطارُه ... دلاًّ ويخطو بالخُطى خطَّارهُ رقَّت شمائله ورقَّ كلامُه ... وتعبَّدت أوطارنا أوطارهُ فشككْتُ بين مؤنَّثٍ ومذكَّرٍ ... فيه فأنْبَا باليقين عذارُهُ من هذا، بل أجود منه قول تقيِّ الدين الفارسكوري: توهَّمتُه شمساً وكان يريبني ... نسيم الصَّبا منه ومن طبعها الحَرُّ فلمَّا دجى ليل العِذارِ ولم يغب ... علمتُ وزالت شبهتي أنه البدرُ وله: وما زالت تخبِّرُني المعالي ... سراراً لا أطيق له جهارا فإن أظفرْ به فأنا حَرِيٌّ ... وإلا فالمقدَّر لا يُجارى وحيَّاه غلامٌ بوردةٍ، فقال: انظر إلى وردةٍ حيَّى بها رشأٌ ... نشوان وافى من الغلمان كالحورِ كأنَّها شفتاه حين جاء بها ... مضمومةً إذ بدت أو طرفُ مخمورِ في التشبيه الأول شمةٌ من قول الشريف الرضي: كم وردةٍ تحكي بسبق الورد ... طليعةً تشرَّعت من جندِ قد ضمَّها في الغصن فرط البرد ... ضمَّ فمٍ لقبلةٍ من بُعْدِ ولابن الرومي: وردٌ تفتَّح ثم ارتدَّ مجتمعاً ... كما تجمَّعت الأفواه للقُبَلِ ومن تضامين ابن تميم الفائقة: سبقتْ إليك من الحدائق وردةٌ ... وأتتك قبل أوانها تطفيلا طمعتْ بلثمك إذ رأتك فجمَّعت ... فمها إليك كطالبٍ تقبيلا وأصله قول المتنبي في راكب فرس: ويُغيرني جذب الزِّمام لقلبها ... فمها إليك كطالبٍ تقبيلا وله عاقداً لحكمة تؤثر:

إذا أقبلت دنياك يوماً على امرئٍ ... كسَته ولم يشعر محاسن غيرهِ وإن أدبرتْ سلبتْ محاسن نفسه ... وكُسى شروراً عن ملابس خيرهِ وله: كلُّ الحوائج تنقضي ... فاعجب لفرقِ قضائها فالأُسد تفترس المها ... وتعيثُ في أعضائها والنَّمل عظمٌ واحدٌ ... منها يفي برضائها وله من النوع الذي يسمى بالاكتفاء: إنَّ احتفال المرء بالمرء لا ... أحبُّه إلا مع الاكتفا مبالغات النَّاس مذمومةٌ ... فاسلك سبيل القصد في الاحتفا فيها التزامٌ عجيب، لم ينظم مثله، وهو أن يكون اللفظ المكتفي به بمعنى اللفظ المكتفي منه؛ فإن الاحتفاء والاحتفال بمعنى الاعتناء؛ فيكون على هذا الاكتفاء وعدمه على حدٍّ سواء، إذ لو قطع النظر عن لفظ الاحتفال لأغنى عنه لفظ الاحتفاء، مع تسمية النوع فيهما. وله: أضمُّ على قلبي يديَّ تشوُّقاً ... وألوي حيازيمي عليك تحرُّقاً تساوى حضوري في هواك وغيبتي ... ومن عجبٍ شوقٌ لدى البعد واللِّقا رعى الله قلبي حيث كان فإنَّه ... غدا بحبال الشَّمس منك معلَّقا ومن رباعياته قوله: أبكيك ولو بقدر شوقي أبكي ... أوردت محاجري حياضَ الهُلكِ لو قال لي الغرام ممَّن تشكو ... بأساً وأساً لقلت منكي منكي وله: أيُّ ذنبٍ ليَ قل لي ... غير حظٍّ منك قلِّ أتراني منك أصبح ... تُ برأيِ مستقلِّ لك نفسي أيها ال ... جاني فخذ جهد المقلِّ وله: أيُّها الجاني المدلُّ ... لك نفسي وتقلُّ طال تعذيبك قلبي ... فعذابي لا يحلُّ أنت في حلٍّ فبادر ... بدمٍ ليس يحلُّ وله من قصيدة، مطلعها: عذراً لطيشك إن السنَّ مقتبل ... فليس ينفع في أشواقك العذلُ سبعٌ وعشرون لو مرَّت على جبلٍ ... لراح يختال منها ذلك الجبلُ قضَّيت فيها شباباً لو تطلَّبه ... رضوان في الخلد أعيتْ قصده الحيلُ نظيمةٌ كعقود الدرِّ في نسقٍ ... فلو حوتها عقودٌ زانها العطلُ نشوان أطفح من خمر الشَّباب ولا ... كنشوة الخمر يشكو فعلها الثَّملُ من حيث عندي فكاهاتٌ ألذُّ بها ... راحي الرُّضاب وتفاحي هي القبلُ أعانق الغصن في أكمامه قمرٌ ... وألثم البدر في أعطافه كسلُ لو حلَّت الشَّمس يوماً في محلَّتنا ... لراح يندبها من شجوه الحملُ أو قابل البدر عندي من أسامره ... لمسه دونه التَّشوير والخجل أيام لم أحتمل للصبر عاقبةً ... ولم أقل ليت جفني راح ينهملُ مرَّت فلا صفوُها في العيش ذو رنقٍ ... يوماً ولا ظلُّها في الأمن منتقلُ تلهو السِّنون بها في أمرهنَّ كما ... يلهو بقلب الفتى في يومه الأملُ وله الميمية التي أبانت عن شغف، كاد يفضي به إلى التلف، وغرامٍ رمي منه بكلف الكلف. وسبب ذلك صدُّ حبيبٍ لم يدع فيه للتَّحمل محلاً، وأذهل لبَّه فتركه بمقتضيات الحب مخلاً، وهي هذه: حكَّمتهم في فؤادي حسبما رسموا ... فليتهم حكموا بالعدل إذ حكموا أو ليتنا قد صبرنا مذعنين لهم ... أو ليتهم إذ تولوا أمرنا رحموا جاروا ولو علموا أني لحكمهم ... طوع القياد لما جاروا ولا ظلموا ضنُّوا بصحبتهم عنا ولو علموا ... صدق المحبة منَّا خلتهم ندموا هم عرَّضونا لبلواهم بقربهم ... حتى إذا ما رأوا إقبالنا سئموا كنَّا بنينا لهم في القلب منزلةً ... علياء حتى إذا ما شيِّدت هدموا ظنُّوا بنا غير ما تطوي سرائرنا ... والله يأبى الذي ظنُّوه والكرمُ ما أبعد العيب والنقصان من شرفي ... أنا الثُّريَّا وذانِ الشَّيبُ والهرمُ

رأيتهم لم يمَلُّوا خلَّتين لهم ... وبئْستِ الخلَّتان الغدر والسَّأمُ رحلت عنهم ولي في كلِّ جارحةٍ ... منِّي لسانٌ عليهم يشتكي وفمُ وإن ترحَّلت عن قومٍ وقد قدروا ... أن لا تفارقهم فالرَّاحلون همُ يا نازحين عراهم من تذكُّرنا ... عارٍ فلا مسَّكم من بعد ذا ألمُ جنيتم ثمَّ رحتم عابثين وهل ... في العدل أن يعتب الجاني ويجترمُ كنتم ولا عيب فيكم غير أنَّكم ... قد شاب ماءكم للشاربين دمُ عجبتُ منكم وفي أخلاقكم عجبٌ ... كيف استوى فيكم المخدوم والخدمُ سلبتم النَّفع حتَّى ظنَّ طالبكم ... أنَّ الذي قد تولَّى كبركم صنمُ غدرتم ووفينا في محبَّتكم ... إنَّ الوفاء لدى أهل النُّهى ذممُ قد كنت يوسف إذ بعتم كإخوته ... بالبخس مني فتًى تغلو به القيمُ لا ذنب فيما أحلتم للوشاة وهل ... للخصم ذنبٌ إذا لم ينصف الحكمُ إن كان يجمعنا حبٌّ لفرقتكم ... فليت أنَّا بقدر الحبِّ نقتسمُ هل في القضية ممن لست أنسبهم ... أنِّي على حبِّكم بالصِّدق متَّهمُ إن كان حبُّ الفتى ذنبٌ يعدا له ... إني إذاً أنا بالبغضاء متَّسمُ زعمتم أنَّنا نهوى شمائلكم ... وإنَّما تعشق الأخلاق والشِّيمُ أيُّ الفريقين أوفى عندكم نفرٌ ... هَوَوْا وما كتموا أم معشرٌ كتموا لم تفرقوا ما البزاة الشُّهب عندكم ... وقد أحاطتكم الغربان والرَّخمُ وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلمُ فرَّطتم في عقود الودِّ فاغتنموا ... تفريطكم إنه ما ليس ينتظمُ جمحتم اليوم عن طرق الوفاء فلا ... جذب الأزمَّةِ يثنيكم ولا اللُّجمُ رحتم تغضُّون منِّي دون أسرتكم ... حتى كأنيَ في أجفانكم سقمُ بيني وبينكم بهماء مظلمةٌ ... من غدركم لم تجبْها الأينقُ الرُّسمُ جهلتم قدر معروفي ومعرفتي ... وسوف يبلغ شأوه النَّدمُ أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صممُ أبدو فيخضع من بالسُّوء يذكرني ... كأنَّني فوق أعناق العدى علمُ صفحت عنكم فلا أنِّي قبلت لكم ... عذراً ولكنَّ نفسي دأبها الشَّممُ فادعوا بأبنائكم حتى نباهلكم ... أو لا فإنا لها الإنصاف نحتكمُ أرخصتم سعر شعري في مديحكم ... فراح يهجوكم القرطاس والقلمُ أنام ملء عيوني لا أعاتبكم ... وتسهر السُّمر من أجلي وتختصمُ جنايةٌ أرْشُها وصمٌ لكم أبداً ... وشرُّ ما يكسب الإنسان ما يصمُ من لي بأن تفقهوا أن الأنام بكم ... نصفان مستهزئٌ والنِّصف منتقمُ ما كان أخلقنا منكم بتكرمةٍ ... لو أن فعلكم من فعلنا أممُ هجرتم وهجرنا منصفين وفي ... فعل النُّهى دون أفعال الورى حكمُ ضاق الكِناس عليكم يا ظباءُ بنا ... وليس للأُسد إلا الغاب والأجمُ ما لي وآرامكم حتى أخالطها ... وفي التَّقرب ما تدنو به التُّهمُ فارقتكم لا فؤادي راح مضطرماً ... شوقاً ولا العين في أجفانها ديمُ سلوا تنبِّيكم حالي وما صنعتْ ... من بعد فرقتكم في صدريَ الهممُ وكيف أصبح قلبي في تقلُّبه ... والعين كيف كراها راح يزدَّحمُ يدٌ علينا لواشينا فلا عثرتْ ... ولا سعتْ لتجافينا به القدمُ قد هان في بصري ما كنت أبصره ... كأنَّما يقظتي في وصلكم حلمُ

وكنت أبكي على حظِّي بكم زمناً ... فصرت أعجب من حظِّي وأبتسمُ وصرت أندبكم لا أنَّني أسِفٌ ... لكن لأعلم قومي أنَّكم رِممُ طلبتُ صحبتكم حتى وجدتكم ... إذا احتفلْت بكم سيَّان والعدمُ ورحت والصَّبر لم تثلم جوانبه ... وعدت والقلب مني باردٌ شَبِمُ إني وما ضمَّ قلبي من سلوِّكمُ ... أليةً ليس عندي غيرها قسمُ قد اغتنمتم بعادي عن مجالسكم ... وليس قربكم في النَّاس يغتنمُ وكنت أزعم أن البيت بيتكم ... وأنَّ عرضكم دون الورى حرمُ وأنَّني عبدكم حتى رأيت لكم ... عبداً يسيء بمولاه وينهزمُ ما كان لي أن أُرى في الرِّق مشتركا ... مع عبد سوءٍ به الأحرار تُهتَضَمُ عميتم عن محبيكم فسيء بكم ... وتلك عاقبة القوم الذي عموا سحرت ذا الدُّرَّ حتى صغته كلماً ... لا تحسبوا أنه ما بينكم كلِمُ لو لم تكن رقَّة الألفاظ تخدعكم ... لقلتم إنها المصقولة الخذِمُ فلا رعى الله من لم يرع صحبتنا ... ولا رعى مرتعاً سامت به النَّعمُ وله: ربَّ يومٍ جاء يوحي بأمرٍ ... فيه شيطانه إلى شيطاني من سرارٍ بين اللَّحاظ وروحي ... أتقنت علم سحره العينانِ وأفاضا من الهوى في حديثٍ ... ليس من جنس ما يعي الملكانِ ثم زنداي وشَّحاه وشاحاً ... ما لزنَّاره بذاك يدانِ فاغتدينا من العناق اتِّحاداً ... مثل جسمٍ قد حلَّه روحانِ وله: لمَّا رأيت العيش من ثمر الصِّبا ... وعلمت أنَّ العفو حظُّ الجاني أدركت ما سوَّلتُهُ شبيبتي ... وفعلتُ ما لا ظنَّه شيطاني وله: ولقد صحبتُ العزَّ مذ أنا يافعٌ ... فهو الشَّباب على الشبابِ أتاني ولو اعترى بعد الشباب لسرَّني ... فالعزُّ مكتهلاً شبابٌ ثاني وله: قد أظماني الغرام مما فيَّا ... هيَّا بفضول دمعِ كاسي هيَّا لا تلحظنِّي عروس بختي أنَفاً ... حتى ولو انتقشتُ كلي كيَّا الأمير منجك بن محمد المنجكي هذا الأمير، سقى عهده مفاض الديم، وحيى الرضوان منه تلك الشيم. إن لم يكن ثاني أبي فراس في الشعر وحده، فهو مع ذلك ثاني ابن طيٍّ الذي تجاوز في الكرم حده. فهما إن ابتدآ الأمرين في الوجود، فهو الذي انتهى به الفضل والجود. وأحسن ما في الطاووس الذنب، وفي الخمر معنًى ليس في العنب. هذا، وكل ناطقٍ بلسان، وعارفٍ بحسنٍ واستحسان. مجمعٌ على فضله الذي اقتضى لذكره التخليد، فالعالم عرفه بعلمه، والجاهل قال بالتقليد. وهو منذ لاح هلاله في أوجه، وأبوه بين حزب الإقبال وفوجه. يفدى بالشموس والأقمار، ويمد بالأنفس والأعمار. وإن لم يكن في قبة السما، فهو في بحبوحة القُنَّة الشَّما. يباهي بسؤددٍ اتصلت أصوله اتصال الشآبيب، وتناسبت فروعه تناسب الرماح كعوباً على كعوب، وأنابيب على أنابيب. وعزٍّ له ذروةٌ تفضي إلى روضٍ بالسَّماح يجود، فكم لجباه العفاة لديه من مجال سجودٍ من مجالس جود. حتى قعد مقعد والده، واحتوى من رياشه على طريفه وتالده. هنالك سلك من البذل ما سلك، وسخا والسخيُّ جوده بما ملك. فأعرضت عنه الأيام إعراض النسيم عن الروضة الغنَّاء، وتخلت عنه تخلي العقد عن عنق الحسناء. وإذا الجواد يبيت من ... جور الزمَّان على وسادِ كالعين تفرح غيرها ... وتظلُّ لابسة الحدادِ

وقد أدركته وسبجه بدِّل بعاجه، وسمهريُّ قدِّه رمي باعوجاجه. وكان بينه وبين أبي محبة ومودة، ومجالس اجتماعاتٍ لمذاكرة الأدب معدة. فكنت أجني من مطارحتها بدائع مائسات الأعطاف، وأقطف روائع مستعذبات الجنى والقطاف. ولقد رأيت من فضله ما لم أر قبل ولا بعد، وطالما حصلت منه على أمانيَّ في هذا الشأن من غير وعد. فمن لفظٍ إذا سمعته قلت كأنَّ العرب استخلفته على لسانها، ومعنًى إذا تخيلته قلت: هذا للبراعة إنسان عينها وعين إنسانها. إلى محاضرةٍ إذا تحرَّى في أسلوبها الرَّشيق، تهمُّ ببسط الحجر لالتقاط درها النسيق. وأما حديث لين العريكة، ودماثة السليقة، فلم ير من يشبهه في الخلق والخليقة. بأدبٍ ضافي الذليل مطرز الكم، وشعرٍ يكاد يحيي الجماد وينطق البكم. وها أنا أورد من أشعاره ما تزهو به القراطيس على صفحات الخدود المحشاة بالسوالف، ويغني عن لذة السلاف السلسل تذهَّبت به الليالي السوالف. فمن ذلك قوله من قصيدة، مطلعها: يعدُّ عليَّ أنفاسي ذَنوبا ... إذا ما قلت أفديه حبيبا وأبعد ما يكون الودُّ منه ... إذا ما بات من أملي قريبا حبيبٌ كلَّما يلقاه صبٌّ ... يصير عليه من يهوى رقيبا سقاه الحسن ماء الدلِّ حتى ... من الكافور أنبته قضيبا يعاف منازل العشاق كبراً ... ولو فرشت مسالكها قلوبا فلو حمل النَّسيم إليه مني ... سلاماً راح يمنعه الهبوبا أغار على الجفا منه لغيري ... فليت جفاه لي أضحى نصيبا وأعشق أعين الرُّقباء فيه ... ولو مُلئت عيونهم عيوبا لقد أخذ الهوى بزمام قلبي ... وصيَّر دمع أجفاني صبيبا وما أمَّلتُ في أهلي نصيراً ... فكيف الآن أطلبه غريبا وأقصد أن يعيد رُوا شبابي ... زمانٌ غادر الولدان شيبا وما خفيت عليَّ النَّاس حتى ... أروم اليوم من رخمٍ حليبا إذا ظنَّ الشَّباب خشيت منه ... لفقد مساعدي يلفى مجيبا وهب أنِّي حكيتُ الشاة ضعفاً ... فما لي أحسب السنَّور ذيبا منها في المديح: لئن سعدتْ ولو في النَّوم عيني ... برؤياه لتلك العين طوبى وإن ضنَّ السَّحاب فلا أبالي ... وفيض نداه قد أضحى سكوبا إذا تليت مآثره بأرضٍ ... غدا الفلك المُدار بها طروبا وقوله: نوروز لا كنت قلبي فيك مكروبُ ... الشَّمس طالعةٌ والبدر محجوبُ أرى الحسان وما لي بينهم حسنٌ ... ما كلُّ من نظرتْهُ العين محبوبُ صفر الفؤاد من الأفراح ممتلئٌ ... بالحزن قلبي وفيض الدَّمع مسكوبُ أبغي القيام وسوء الحظِّ يقعدني ... من عاند القدر المحتوم مغلوبُ وقوله: حبيبٌ حماه الملك تحت قبابه ... يكاد يذيب الروح فرط احتجابه تدير على سمعي الأماني حديثهُ ... فتسكر أفكاري بذكر رُضابهِ يعيد تراب الأرض مسكاً وعنبراً ... إذا قبَّلتْ للشُّكر فضل ثيابه يكلِّمني باللَّحظ عن أخذ مهجتي ... فيسبق تسليمي بردِّ جوابهِ وقوله: ما شرَّف الروض في نزاهته ... إلا وستر الغمام ينسحبُ كأنَّه البدر عند رؤيته ... لا شكَّ شمس النَّهار تحتجبُ وقوله: تحجَّب عني الطَّيف حتى كأنَّه ... تخيَّل إنساني عليه رقيبا وقد كان يغشى قبل ما احتبك الهوى ... فظنَّ خيالي للنحول قريبا وقوله: عِدْ وماطل فقد رضيت به ... منك وإن كان بالجفا آيبْ صدق وعود الحسان أجمعها ... فدًى للذَّات وعدك الكاذبْ وقوله: ألا لا تبكِ حادثة افتراقٍ ... ولا تفرح بلذَّات الإيابِ فما الدُّنيا وما ضمَّته إلا ... كخطِّ منَجِّمٍ فوق التُّرابِ وقوله: الموت أطيب ما يجتنى ... إن شطَّت الدارُ وطال الحجابْ

لا يدخل النَّار أسير الهوى ... إذ لا يرى الجنَّة أهلُ العذاب معنى هذا البيت مضطرب، وقد سئلت عنه فأجبت: بأنه معرب من بيت بالتركية لفضولي، ومعناه: أن نار العشق التي يعذَّب بها العاشق في الدنيا هي نار الآخرة عندها جنَّةٌ، فإذا دخلها العاشق، والمفروض من أهل العذاب، يعني في العشق، لا يدخل النار الأُخرويَّة؛ لأنها بالنسبة إليه جنة. وقوله: مهلاً فحبُّك بي أراه عابثاً ... وأظنُّه للرُّوح منِّي وارثا من ذا الذي ألوى بعهدك في الهوى ... حتى انثنيت عن المودَّة ناكثا جرَّبت فيك الحادثات فلم أجد ... مثل الرَّقيب إذا خلونا حادثا يا مشبِهَ الآرامِ ألا أنَّها ... خُلقت لنا عيناه سحراً نافثا قد راح بالقمرين طرفي هازئاً ... لمَّا رأى في بُردتيكَ الثَّالثا أقول: ما تصورت أن الثاء تهون هذا الهوان، ولا تذعن هذا الإذعان، ولا تنقاد للكلِم إلا أن يكون كلمة المعان. فهذا السحر البياني إن لم يكن السحر المبين، وهذا المعجز الباهر، وأنا أول المؤمنين. وله من قصيدة، مستهلها: كبدٌ من سنان لحظك جرحَى ... وعيونٌ تُردِّدُ الدَّمع سَحَّا وحنينٌ إلى الدِّيار ووجدٌ ... يستفزُّ النُّهى وشوقٌ ألَحَّا يا ابن وُدِّي تفديك من كلِّ سوءٍ ... مهجٌ فيك ليس تقبل نصحا قم بنا نشرب المدامة بكراً ... حيث رقَّ الهوى ونسكنُ صَرْحا في رياضٍ كأنَّما هي خَدَّا ... كَ بهاءً وطيب صدغك نَفْحا مطلعاً من ضياء وجهك والفر ... ع ظلاماً يغشى العيون وصبحا سكرَ الكأسُ إذ سكِرْتُ بعيني ... كَ فكان المُدامُ منِّي أصْحى هذا بيتٌ تقلقل مبناه، فلهذا لم يفهم معناه، وسكر الكأس بظهور لازم السُّكر وهو الميل عليه، وإن صح أن المدام بمعنى المديم، فهو المعنى الذي يرجع إليه. وله: زمن الربيع مطِيَّة الأفراح ... ومُعدِّل الأرواح في الأشباحِ زمنٌ به لولا اشتباك فواقعٍ ... طارت حُمَيَّانا من الأقداحِ أخذه من قول ابن المعتز: كادت تطيرُ وقد طِرْنا بها فرحاً ... لولا الشّباكُ التي صيغَت من الحَبَبِ ولأبي الحسن علي بن الحسن الأندلسي: والماءُ يحذر منها أن تطيرَ فقد ... صاغ الحَبابُ عليها صيغة الشَّبَكِ وله: حمائم الدَّوح ما هذي التَّغاريد ... عن باعثٍ هي أم لي منكِ تقليدُ نوْحِي ونوْحك جنْح الليل متَّفقٌ ... والمشْغِلان لنا وردٌ وتوريدُ إن كان يغنيك أصوات الصَّفير فلي ... قلبٌ يعلَّلُه في الحبِّ تفنيدُ تعجَّبت نار قلبي من تجلُّده ... ومن جفوني شكا دمعٌ وتسهيدُ والحزن باقٍ على ما كنت أعهده ... وإن تكرَّر عيدٌ بعده عيدُ جريح بيضِ الظُّبا تُرجى سلامته ... إلا الذي جرَحتْهُ الأعينُ السودُ لي بالظَّعائن نهَّابُ العقول رَشاً ... قوامه بانةٌ والقلب جلمودُ لو مرَّت الريح تَروي عن ئؤابتِه ... لم يبق من عهد عادٍ ثَمَّ ملحودُ لكنَّما منعتْها من مواطنه ... مهابةٌ تتحاماها الصناديدُ من البشانِقةِ الغُرِّ الذين لهم ... لواءٌ حسنٌ على الأقمار معقودُ نحن المسيئون إن جاروا وإن عدلوا ... وما يرون حميداً فهو محمودُ والذُّلُّ أشرف عزٍّ في محبَّتهم ... وشَرْيُ هجرهم أرىٌ وقِنديدٌ لا تصحبَنْ غير حرٍّ إن ظفرت به ... وما سواه إذا جرَّبت تنكيدُ ومن بدائعه قوله: ومذ كشف الفَصَّاد عن زنده رأى ... محاسن ألْهَتْهُ فضَلَّ عن الرُّشدِ فقطَّب من أهوى وأبصر مغضَباً ... وأوقع ظلَّ الجفن منه على الزَّندِ

وأطلعَ نور الأُرجوان وحبَّذا ... من الياسمين الأُرجوان على الوردِ وهذا معنى ترجمه من الفارسية، وقد ظفرتُ في العربية بما يقاربه، وقائله أبو الحسن الجرجاني: يا ليت عيني تحمَّلت ألمَك ... وليت نفسي تقسَّمت سَقَمكْ وليت كفَّ الطبيب إذ فصَدتْ ... عرقك أجرتْ من ناظريَّ دمكْ أعَرْته صبغ وجنتيك كما ... تُعيره إن لثمتَ من لثمك طرفك أمضى من حدِّ مبضعه ... فالحظْ به العِرق واربَحَنْ ألَمَكْ وللأمير: شمس الضُّحى وأهِلَّة الأعيادِ ... لضياء وجهك أحسد الحسَّادِ وإذا شدا بك مطربٌ في مجلسٍ ... رقصتْ لك الأرواح في الأجسادِ جرَّدت من سحر الجفون صوارماً ... فأبت سوى الأكبادِ من أغمادِ مسحَ المنى من زور طيفك راحةٌ ... من بعد ما غسل البكاء رقادي ما كنت أفتقد الشَّباب لو أنَّني ... عُوِّضت عنك بنشأةِ الميعادِ وله: لا تهمل الكأس حين يملأها ... من هو في الحسن واحدٌ فردُ طينته عنبرٌ وخامرها ال ... مسكُ والياسمين والوردُ وله: تَخِذَ الجور والجناية عادهْ ... وانتهاب النُّفوس قبل الولادهْ لا تضعْ سهم مقلتيه فؤادي ... ضمن تلك السِّهام ألف شهادهْ وله: قد زارني وكأنَّه ريحانةٌ ... يهتزُّ من تحت القِباءِ الأخضرِ فظننْت منه ضمن كلِّ سلامةٍ ... من طيبه شمَّامةٌ من عنبرِ ولِكنْزِ مبسمه دنوْتُ فخلته ... ياقوتةً مُلئت بأنفس جوهرِ فهصرته هصر النَّسيم أراكةً ... متلطِّفاً حتى كأن لم يشعرِ متعانقين على فراش صِيانةٍ ... مُتحذِّرين من الصَّباح المسفرِ وله: لم تمل بي عن العفافِ العُقارُ ... أعشق الغِيد والوقار الوقارُ أنظم الشعر ما حييت وإنَّي ... لابنُ بيتٍ تُهدى له الأشعارُ يتحلَّى بيَ الزَّمان تحلِّي ال ... غصن لمَّا يزينه النُّوارُ صقلتني يد التَّجارب حتى ... صحَّ عزمي وطاب من الغِرارُ ومكاني من الفخارِ مكانٌ ... حَسَدتْه الشُّموس والأقمارُ وقوله: إن للَّيل بقايا عنبرٍ ... في قميص الصُّبح منها أثرُ بادرت أيدي الصَّبا تلبسُه ... فبدا عند الرِّياض الخبرُ انظره مع قول البهاء زهير: رعى الله ليلة وصلٍ مضتْ ... وما خالط الصَّفو فيها الكدرْ خلوْنا وما بيننا ثالثٌ ... فأصبح عند النَّسيم الخبرْ وله: ألا هاتِ اسقني كاساً فكاسَا ... وحيِّ بها ثلاثاً بل سداسا فإني في احْتساها لا أعاصي ... رشاً تَخِذَ الحشا منَّي كناسا حبيبٌ كلما ألقاه يُغضي ... فلو أهديته آساً لآسى يريك إذا بدا قمراً منيراً ... وعطفاً إن ثنى عِطفاً وماسا ويبسم ثغره عن أُقحوانٍ ... ويجلو خدُّه ورداً وآسا خلعت عذار نُسكي في هواه ... وما راقبت في حبَّيه ناسا فأحلى الحبِّ ما كان افتضاحاً ... وأشهى الوصل ما كان اختلاسا وله: يا بني العشق ليس نُحسب أحيا ... أو بموتى نعدُّ تحت الأراضي تارةً نألف الحياة وطوراً ... نتغنَّى بذكر طيب الرِّياضِ نحن ما بين صحَّةٍ وسقامٍ ... كجفون الدُّمى الصِّحاح المراضِ وله: ومهفهفٍ لولا عقارب صدغه ... لتناهبت وجناته الألحاظُ طارحته ذكر الهوى وعواذلي ... لا راقدون ولا هم أيقاظُ نبدي الحديث ولا حديث كأنما ... عبراتنا ما بيننا ألفاظُ وله: وزارني طيفه وهناً فأرقَّني ... كبارقٍ بخلال الوَدقِ قد لمعا

فما وحقِّك عن ودٍّ زيارته ... لكن ليزجرَ طرفي والرُّقاد معا وله: رَيحانتي روض المحاسن ما الذي ... بلِّغتماه من العذول اللاغي حتى توارت وردتا خدَّيكما ... عن ناظري ببنفسج الأصداغِ وله، وهو معنًى أبدع فيه كل الإبداع، وأتى به كالبدر خرج من تحت الشعاع: نبَّهته ودواعي الأنس داعيةٌ ... إلى الطِّلا وبشير الصُّبح قد هتفا فقام من نومه وسْنان تحسبه ... بدراً تقطَّع عنه الغيم فانكشفا وقال هات وخذها وانتهز فُرصاً ... فما ترى لزمانٍ ينقضي خلفا وله: يا غزالاً يُقلُّ مسكاً فتيقا ... في فمٍ يُخجل المدام الرَّحيقا قد سقاك الجمال ماء نعيمٍ ... مُنبت منك في الخدود شقيقا لا تذرني تفديك روحي وحيداً ... أشتكي غربةً تسيء الصَّديقا أنا أسعى وفي سلاسل صدغي ... ك فؤادي فارحم أسيراً طليقا جرحتْ مقلتاك قلبي لهذا ... درُّ دمعي قد استحال عقيقا لو ذكرْنا لماك عند حضور الرَّا ... حِ باتت فلم تجد مستفيقا بك أرواحنا تسرُّ وترتا ... حْ فتختارك الرَّفيق الرَّفيقا الصَّبوحَ الصًّبوحَ قبل مشيبِ ال ... حظِّ منَّا أو الغبوق الغبوقا نجتني زهرة الشَّباب ونلهوا ... حيث نلقى الأشواق روضاً أنيقا بين وعد آمالنا ووعيدٍ ... منك نستنظر الكذوب الصَّدوقا وله: أفديه من قمرٍ أطواره شغلت ... قلبي وعقلي بتغريبٍ وتشريقِ من السَّليم وقد أحنى حواجبه ... وطرفه بين تسديدٍ وتفويقِ وله: تلوح لنا بالرُّوم من كلِّ جانبٍ ... وجوهٌ تُعيد الصُّبح والليلُ حالكُ أنظمأ في دارٍ تفيض بحورها ... وتَشْرَقُ فيها بالجمال المسالكُ وله: لا تغتَرِر بشبابك الغضِّ الذي ... أيَّامه قمرٌ يلوح ويأفلُ ودع اتِّباع النَّفس عنك فإنما ... حُبُّ الجمالِ الصَّبرُ عنه أجملُ نَعَم العيون الفاتكاتُ قواتلٌ ... لكنَّ سهام الله منها أقتلُ وله: مولَّهٌ بك لا تجدي وسائله ... ولا من الدَّمع جاريه وسائلهُ عزيز صبرٍ أذلَّ الحبُّ مهجته ... وعنَّفته على الشكوى قبائلهُ عامٌ نأى عنك فيه مكرهاً فعلى ... أسحاره أبداً تبكي أصائلهُ والكاس مذ بنتَ عنها تشتكي ظمأً ... والرَّوض من حزنٍ جفَّت خمائلهُ كلَّفت حملَ نواك اليوم قلب فتًى ... أرقُّ من نسمة الوادي أصائلهُ وله: قد زار من كنت قبل زورته ... أراه لكن بمقلة الأملِ بتنا ضجيعين والعناق له ... ثوبٌ علينا قد زرَّ بالقبلِ ومن رباعياته قوله: ما مرَّ تذكُّر الكرى في بالي ... إلا دفعته راحة البلبالِ أشفقت من الجفون لمساً يؤذي ... أقدام خيالك العزيز الغالي مثله للبابي وفيه زيادة: أردُّ الكرى إذ زار خفيةَ نظرةٍ ... إليه فتدمي رقةً خدَّه القاني وأسهر خوفاً أن يمرَّ خياله ... بعيني فتؤذى أخمصاه بأجفاني وأصله قول الوقشي: إذا ظنَّ وكراً مقلتي طائر الكرى ... رأى هدبها فارتاع خوف الحبائلِ ويقاربه قول الصلاح الصفدي: أيا وحشتا في ليلِ شوقي لنوركم ... ويا فرحتا لو كان في النَّوم يطرقُ وهيهات لو زار الخيال منعته ... مخافة أن تجري دموعي فيغرقُ وللأمير منجك: انظر إلى فحمٍ كأنَّ لهيبه ... لمعُ الأسنَّة في مثار القسطلِ وكأنَّه والنَّار في أحشائهِ ... صدر الحسود ونعمة المتفضِّلِ هذا التشبيه تناوله من قول عبد الجليل المرسي في وصف فرنٍ: ربَّ فرنٍ رأيته يتلظَّى ... وربيعٌ مخالطي وعقيدي

قال صفهُ فقلت صدر حسودٍ ... خالطته مكارم المحسودِ ولابن مجير الأندلسي، وقد حضر مع عدوٍّ له، جاحد لما فعله معه من الخير، وأمامهما زجاجةٌ سوداء فيها خمر، فقال له الحسود المذكور: إن كنت شاعراً فقل في هذه. فقال ارتجالاً: سأشكو إلى النُّدمان أمر زجاجةٍ ... تردَّت بثوبٍ حالك اللون أسحمِ تصبُّ بها شمس المدامة بيننا ... فتغرب في جنحٍ من اللَّيل مظلمِ وتجحد أنوار الحميَّا بلونها ... كقلب حسودٍ جاحدٍ يدَ منعمِ وقد أحسن القاضي التنوخي، في تشبيه النار، حيث قال: فاهتف بنارٍ إلى فحمٍ كأنَّهما ... في العين ظلمٌ وإنصافٌ قد اتَّفقا وللأمير، وهو من بدائعه: لو لم يكن راعها فكرٌ تصوَّرها ... من والهٍ وثنتها مقلة الأملِ ما قابلت نصف بدرٍ بابن ليلته ... وألقت الزُّهرَ فوق الشَّمس من خجلِ قلت: هذان البيتان درَّان أو وردتان. ومن خمرياته التي تصير الزاهد ضجيع دسكرةٍ وحان، وتنوب عن لذَّة السَّماع ومطربات الألحان: أدر المدامة يا نديمي ... حمراء كالخدِّ اللَّطيمِ تسري بأرواح النَّهى ... كالبرءِ في الجسم السَّقيمِ وأقم إذا جنَّ الدُّجى ... متردياً ظلَّ الكرومِ فالجوُّ راق كأنَّما ... صقلته أنفاس النسيمِ وتبدَّدت زهر النجو ... مِ تبدُّدَ العقد النَّظيمِ قم هاتها واستجلِها ... من كفِّ ذي شجوٍ رخيمِ بدرٍ يريك محاسناً ... يسبي بها عقل الحليمِ إن ماسَ يزري بالقنا ... وإذا رنا فبكلِّ ريمِ في روضةٍ نسجت بها ... أيدي الصَّبا حبر الجميمِ الجميم: مجتمع من البهمى، أي النبت. ضحكت بها الأزهار لم ... اأن بكى جفنُ الغيومِ كم ليلةٍ قضَّيتها ... في ظلِّها الصَّافي الأديمِ متذكِّراً عهد الدُّمى ... متناسياً ذكر الرسومِ نشوان من خمر الصِّبا ... جذلان بالأنس المقيمِ حيث الشَّبيبة غضَّةٌ ... والوقت مقتبل النَّعيمِ قلت: وقد اشتهر له في المدامة والنديم، وما يسلي عن لطف الحديث وصفو القديم. مع أنه ما عاقر عقاراً، ولا وهب لمجلس راعٍ وقاراً. هذا ما سمعته من فيه، ولم ينقل عنه، فيما أعلم، شيءٌ ينافيه. ومما يستجاد له قوله: منعتْك رؤية كاشحٍ ... من أن تَمُرَّ مسلِّما إن تخشَ من نظرٍ إليَّ ... شِمِ الهلال تكرُّما فلعلَّ لحظي يلتقي ... وهناً ولحظك في السَّما أصله قول بعضهم: إلى الطَّائر النَّسر انظري كلَّ ليلةٍ ... فإنِّي إليه بالعشيَّة ناظرُ عسى يلتقي طرفي وطرفك عنده ... فنشكو جميعاً ما تجنُّ الضَّمائرُ ولابن المعتز منه: ألست أرى النَّجم الذي هو طالعٌ ... عليكِ فهذا للمحبِّين نافعُ عسى يلتقي في الأفق لحظي ولحظها ... فيجتمعا إذ ليس في الأرضِ جامعُ ولبعض شعراء الخريدة: وأنظر البدر مرتاحاً لرؤيتهِ ... لعلَّ طرف الذي أهواه ينظرهُ ومن صنائعه قوله: عدَّتُ المجد يراعٌ وحسام ... وثمار الشُّكر تجنيها الكرامُ أعذب الأشياء في ممنوعها ... وبإعراض الدُّمى يحلو الغرامٌ من يبت سهران في كسب العلا ... حرِّم الغمض عليه والمنامُ قلت: هذه النبذة لم أر لها مثالاً، كلما قيد كلمتها الخطُّ سيَّرها اللفظ أمثالا: وله: أغار إذا وصفْتُك من لساني ... ومن قلمي عليكَ ومن بناني لئن منعتْك قومي عن حديثي ... فكم باتت تساجلك الأماني وإن حجبوك عن نظري فإنِّي ... أراك بعين فكري من مكاني وإن تكُ نارُ صدِّك لي تلظَّى ... فمنك أشمُّ رائحة الجنانِ

وإن شَرَّقْت أو غرَّبْت عنِّي ... فما لك منزلٌ إلا جناني سقَى الأثلاثِ من يَبرينَ دمعي ... وحيَّا العهد هاتيك المغاني معاهد كم جنيتُ العيش غضًّا ... بها زمناً ولم أعهد بِجاني أروح بها أجرُّ الذَّيل تيهاً ... وأُسقى الرَّاح من راح التَّهاني ليالٍ كلُّها سَحَرٌ ودهرٌ ... فؤادي منه يرتع في أمانِ فغالطني الزَّمان وقال كهلٌ ... وأيَّام الصِّبا في العنفوانِ أقَبل الأربعين أُصيب شيباً ... فما عذر المشيب وقد دهاني طوت أيدي الحوادث بسط لَهوي ... وألوت من مواطنه عِناني وله: نفسٌ تعلَّلُ بالأماني ... لا بالقِيان ولا بالقَناني ومدامعٌ مسفوحةٌ ... بين المعاهد والمغاني وأبيت مضموم اليدي ... نِ على التَّرائب والجَنَانِ أشكو الصَّبابةَ للصَّبا ... بةِ بالمدامع لا اللِّسانِ وأقول إذ هتفت بنا ... وَرقاً شجاها ما شجاني يا وُرْقُ ما هذا النُّوا ... ح فبعض ما عندي كفاني غادرْتُ بين الغوطتي ... نِ بمنزلي السَّامي المكانِ أُمًّا لها كبدٌ عليَّ ... مذابةٌ مما دهاني تستخبرُ الرُّكبان عن ... حالي وتندبُ كلَّ آنِ فعسى الذي أبلى يُعي ... نُ ويلتقي ناءٍ بدانِ وله: قم هاتها فانتهابُ العيش مُغتنمٌ ... من كفِّ مُعتدلٍ في خير إبَّانِ حيث الرياضُ اكتستْ من سندسٍ حُللاً ... وتوِّجتْ بيواقيتٍ وعِقيانِ والمسك في الفلك العُلويِّ إذ رَتَعتْ ... غزالةُ الأفقِ والكافور سيَّانِ وله: وحبيبٍ مكلَّلٍ بعيونِ ... جعلتْ طوقة اللَّيالي يميني يتشكَّى من البضاضةِ حتَّى ... لو جعلنا الفراشَ من ياسمينِ قوله: مكلل بعيون: استعمال لطيف، أول من استعمله بشَّار بن برد، في قوله: ومُكلَّلاتٍ بالعيونِ ... طَرقْننا ورجَعْنَ مُلسا وقيل في معناه: إنَّهن لحسنهن تعلو الأبصار إلى وجوههن ورؤوسهن، كأن لهنَّ إكليلاً من العيون. ومن أبياته الفذَّة قوله: صادفْتُه فتناولتْ لَحَظاتهُ ... عقلي وأعرض نافراً متجنِّبا وقوله: وابتسَمَ الورد فكادت له ... تُمزِّق الرَّاحُ قميص الزُّجاجِ وقوله: بعض الذَّوات هي النَّعيم لمبصرٍ ... والبعض منها في الجفون قُروحُ وقوله: إن كتبي إليه صحف الأماني ... وبها الرُّسْلُ بيننا الأرواحُ وقوله: متوَّجُ الرَّاح بالإبريقِ ذو قُرطٍ ... مثل الهلال له الجوزاءُ زنَّارُ وقوله: طيرٌ أعار الغصن جُنكاً رُكِّبتْ ... أوتاره من فِضَّةِ الأمطارِ وقوله: إذا أمسك المرآةَ ينظرُ وجهه ... فظاهرها بدرٌ وباطنها شمسُ وقوله: ومُدامي ذكر الحبيبِ ونقْلي ... قُبَلُ الظَّنِّ من شفاه المحالِ وقوله: ثقيلُ روحٍ يزورُ في زمنٍ ... لو زار فيه الحبيبُ ما قُبلا وقوله: الجسم يبرأ بالعلاجِ سَقامُه ... وشِفا النُّفوس صداقةُ الخِلاَّنِ وقوله: بعض الحسانِ تراه عند مالكه ... كأنَّه العيد في أيَّامِ كانونِ وقوله: أحببتُ من أجله من كان يشبهُه ... حتى حكيت بجسمي سُقْمَ جَفنيهِ عبد اللطيف المنقاري ماجدٌ استوفى شرف الأرومة، واستعلق مزيَّة النسبة المرومة. فما بات إلا بتكميل النفس وجده وكلفه؛ لأنه أتى الفضل وهو لعمري لا يتكلفه. فهو معروفٌ بأصله وفصله، ومشهورٌ له بنبله وفضله. له المقام الأحظى، والمعارف التي ملأت سمعاً ولحظا. وهو من منذ حلت عنه تمائمه، ونيطت عليه عمائمه. مخطوب الحظوة عند الأنام، حالٌّ من الالتفات في الذروة والسَّنام. تارةً يفيد منًى وتارةً يستفيد ثناً:

تُروى محاسنُ لفظه وكأنَّها ... دُرَرٌ وآراءٌ كمثلِ دَراري ومآثرٌ قد خلِّدت فكأنَّها ... غُررٌ وعزمٌ مثل حدِّ غَرارِ إلى أن فجع به المجد الأثيل، وفقد من الدنيا فقيد المثيل. وله أدبٌ نقده نضّ، ومقطعه غضّ. أخذت كلمه بمجامع القلوب، وملك قلمه الغاية من حسن الأسلوب. وقد أثبت له ما تستهديه بُرداً مُوشَّى، وتستجليه خداً بالقلم الرِّيحانيِّ محشَّى. فمنه قوله، من قصيدةٍ، أولها: بين حَنايا ضلوعي اللَّهبُ ... ومن جفوني اسْتهلَّتِ السُّحُبُ وفي فؤادي غليلُ منتزِحٍ ... يعاف إلا الدِّيار تقْتربُ يا بأبي اليوم شادنٌ غَنِجٌ ... يعبث بالقلب وهو ملتهبُ يسنَحُ لكن بصفحتي رشأٍ ... والقدُّ إن ماد دونه القُضُبُ صُفر وشاحٍ يزينه هيفٌ ... ليس كخودٍ يزينها القلب إن لاح في الحيِّ بدر طلْعته ... فالشمس في الأُفق منه تحتجبُ أشْنبُ لم تحكِ برق مبسمهِ ... يا برق إلا وفاتَكَ الشَّنَبُ يطفو على الثَّغر مي مُقبَّله ... حبابُ ظلْمٍ وحبَّذا الحبَبُ كأنَّه لؤلؤٌ تُبدِّده ... أيدي عذارى أفضى بها اللَّعبُ ما مرَّ في الحلى وهو مُؤتلِقٌ ... إلا ازدهى الحلى ثغره الشَّنبُ يعطو بجيدٍ كقرطه قلقٍ ... والقلب ما جال منه مضطربُ وسانحاتٍ نفثن في عقد ال ... ألبابِ سحراً ودونه العطبُ به اختلسْنَ الفؤاد من كثبٍ ... واقتاد جسمي السًّقامُ والوصبُ تجرح منهنَّ مهجتي مقلٌ ... يفعلن ما ليس تفعل القُضُبُ ظعنَّ والقلب في ركائبهم ... يخفق والجسم للضَّنَى نهبُ من فوق خِلبي وضعتُ صاحَ يدي ... فلم أجده وصدَّه لهبُ لمَّا تيقَّنتُ أن دوحتهم ... ليس لها ما حَييت منقلَبُ أبليتُ صبراً لم يبلِه أحدٌ ... واقتسمتني مآربُ شعبُ منهن لي ذات دُملَجٍ سلبت ... عقلي وعادت تقول ما السَّببُ هذا على أسلوب قول مهيار: قتلتني وانثنت تسأل بي ... أيُّها الناس لمن هذا القتيلُ يصبو جنوناً ويدَّعي سفهاً ... أنِّي له دون ذا الورى طلبُ وليس عندي علمٌ بصبوته ... ولا تعهدتُ أنَّه وصِبُ لو كان فيما يقوله شغفاً ... صدقٌ عراه لعشقِنا النَّصبُ فقلت لو شئت يا منايا لما ... سألت عني وأنت لي أربُ إنَّ نحولِي وعبرتي معاً ... بعد أنيني لشاهدٌ عجبُ أشكوك لو كان منصفٌ حكمٌ ... يقضي غراماً وليس يحتسب لكنني الآن قد رجعت ولا ... يرجع مثلي متيَّمٌ سلبُ يا قلب عجْ من حِمى مكائدِهم ... واترك مقاماً به لك التَّعبُ كم ذا تقاسي مصاب جفوتهم ... وأنت والدَّهر كله حرِبُ وكم تعاني بحبِّها ولهاً ... عهدكم لن تقلَّه كتبُ فخلِّ دعداً وذِكر معهدِها ... وعد عنها وأنت مجتنِبُ وغضَّ طرفاً عن كلِّ غانيةٍ ... واترك غزال الصَّريمِ ينتحبُ إن عنده جاز أن يصارِمني ... فالعيد عندِي بمذهبي يجِبُ ولا تسمَّع للحنِ شاديةٍ ... ولو إلى اللَّحنِ هزَّك الطَّربُ وجِدَّ واترك منًى خدِعت بها ... فالهزل داءٌ دواؤه الهربُ وله من قصيدة أرسلها إلى ديار بكرٍ، يتشوق بها إلى دمشق، ويذكر منتزهاتها. ومطلعها: سقى دار سعدى من دمشق غمامُ ... وحيَّى بقاعَ الغوطتين سلامُ وجاد هضاب الصَّالحيَّةِ صيِبُ ... له في رياض النَّيربين ركامُ منها: ذكرت الحمى والدَّار ذكرى طريدةٍ ... تذاد كظمآنٍ سلاه أوامُ

فنحتُ على تلك الرُّبوعِ تشوقاً ... كما ناح من فقدِ الحميمِ حمامُ أيا صاحبي نجواي يوم ترحَّلوا ... وحزن الفلا ما بيننا وأكامُ نشدْتكما بالودِّ هل جاد بعدنا ... دِمشق بأجفاني القِراح غمامُ وهل عذبات البانِ فيها موائسٌ ... وزهر الرُّبى هل أبرزته كِمامُ وهل أعشب الرَّوض الدِّمشقيُّ غِبَّنا ... وهل هبَّ في الوادي السعيدِ بشامُ وهل ربوة الأنس التي شاع ذكرها ... تجول بها الأنهارُ وهي جِمامُ وهل شرف الأعلى مطلٌّ وقعره ... على المرجةِ الخضراءِ فيه كرامُ وهل ظلُّ ذاك الدَّوحِ ضافٍ وغصنه ... وريقٌ وبدر الحيِّ فيه يقامُ وهل ظبياتٌ في ضميرٍ سوانِحٌ ... وعين المها هل قادهنَّ زمامُ ضمير: مصغر: قرية دمشق. وهل أمويُّ العلمِ والدين جامعٌ ... شعائِره والذِّكر فيه يقامُ وهل قاسيونٌ قلبه متفطِّرٌ ... وفيه الرجال الأربعون صِيامُ ألا ليت شعري هل أعود لِجلِّقٍ ... وهل لي بوادي النيربين مقامُ وهل أرِدنْ ماء الجزيرة راتِعاً ... بمقصفها والحظُّ فيهِ مرامُ سلامٌ على تلك المغانِي وأهلِها ... وإن ريش لي من نأيهنَّ سِهامُ لقد جمعت فيها محاسِن أصبحت ... لدرجي فخارِ الشامِ وهي خِتامُ بلادٌ بها الحصباء درٌّ وتربها ... عبيرٌ وأنفاس الشَّمال مدامُ وغرَّتِها أضحت بجبهة روضِها ... تضيء فخلخال الغدير لِزامُ تنائيت عنها فالفؤاد مشتَّتٌ ... ووعر الفيافي بيننا ورَغامُ لقد كدت أقضي من بعادي تشوُّقاً ... أليها وجسمي قد عراه سَقامُ وله: لهفي على زمنٍ قضَّيته جذِلاً ... مسربلاً ببرودِ العزِّ والنِعمِ مضى كأن لم يكن ذاك الزَّمان أتى ... حتى كأني به في غفلةِ الحلمِ ما أسأرتْ لي لياليه التي سلفت ... بلذَّةِ العيشِ إلا زفرة النَّدمِ محمد بن يوسف الكريمي أقول فيه لا متأثِّماً، ولست من خجلٍ متلثِّماً: إنه أبرع من سبك لفظاً مع معنى، وأرقُّ من أراد أن يشعر فغنى. وهو من رقة العشرة، يكاد يدخل في القشرة. ومن خفة الروح، مع الذرِّ في الهواء يروح. ومضى عليه زمنٌ لا يعرف الصحو، ولا يفرق بين الإثبات والمحو. وهو في قيد الرق، يجمع بين العود والزِق. هذا، وعهده يرف ماءه، ويشفُّ عن النضرة ماؤه. وتتألق غرَّته، وتشرق أسرَّته. والعيش كما يدريه، على ما يطيب يجريه. حتى فلَّ الدهر شبا شبيبته، ومحا من لوح الوجود محاسن جبهته. هناك ألجمه الشَّيب بلجامه، فنكَّب لا يلوي على كاسه وِجامِه. وقد وقفت بخطه على أشعارٍ له ألذَّ من ماء القراح، وأطيب من النسيم حفَّت به لذَّات الروح والراح. فذكرت منها ما ينوب عن الريقين: الروض، والصَّبا، ويغني عن الرائقين: الرِّيق، والصَّهبا. فمن ذلك قوله من قصيدة، مستهلها: في فؤادي من الخدودِ لهيبُ ... جنَّةٌ طاب لي بها التَّعذيبُ صحوتي من هوى الحِسانِ خمارٌ ... وشبابٌ بلا تصابٍ مشيبُ داوني باللِّحاظِ فالحبُّ فينا ... دار بلوى بها السَّقام طبيبُ لفؤادي من لحظةِ السُّخطِ سهمٌ ... هي من قسمةِ الهوى لي نصيبُ كلُّ قلبٍ له الصَّبابة داءٌ ... ألف الدَّاء فالحكيم رقيبُ مِحنة الحبِّ عندنا دار بلوى ... فلها من قلوبِنا أيُّوبُ هكذا حاكم الهوى فلديهِ ... من ذنوبٍ لنا تعدُّ القلوبُ لو بدا للوجودِ يوسفُ حسنٍ ... ضمَّه من قلوبنا يعقوبُ لا تلمني سداً فمدمن خمرِ ال ... حبِّ في ملَّةِ الهوى لا يتوبُ في لِحاظِ الظباءِ آية سحرٍ ... قد تلاها على العقول الحبيبُ

رشأٌ أخجل البدور إذا ما ... شوَّشت خاطر الفؤادِ الجنوبُ ما رأينا من قبلِ وجهك أن قد ... حمل البدر في الزَّمانِ قضيبُ قاتلي في الهوى اللِّحاظُ وهذا ... شاهد الخدِّ من دمي مخضوبُ قد رماني بأسهمِ الجورِ عمداً ... وسوى القلبِ سهمه لا يصيبُ ليت أنَّا لم يخلق الحبُّ فينا ... ليت أو لم يكن فؤادٌ طروبُ يا أخا الوجدِ هل رأيت قتيلاً ... وهو ظلماً بنفسهِ مطلوبُ هذا من قول المتنبي: وأنا الذي اجتلبَ المنيَّةَ طرفهُ ... فمن المطالبُ والقتيل القاتلُ وهو أخذه من قول دعبل: يا ليت شعري كيف يومكما ... يا صاحبيَّ إذا دمِي سفكا لا تأخذا بظلامتي أحداً ... قلبي وطرفي في دمي اشتركا وقد أخذه أبو الحسن الكسروي فحسَّنه، حيث قال من أبيات: أنا القتيلُ وطرفي قاتلي ودمي ... ما بين قلبي ومن علِّقته هدرُ يا لقلبٍ أطعته وعصاني ... فهو إلا إلى الهوى لا يجيبُ خبِّري يا صبا رياض التَّصابي ... فبذِكرِ الهوى فؤادي يطيبُ عرف القلب فيك رائحة الحبِّ ... ويدري بسمِّهِ المسلوبُ ساعدتني على النَّحيبِ حمامٌ ... حيث ما لي سوى صداها مجيبُ أنا والوِرقُ في الطلولِ غريبا ... نِ ويستصحِبُ الغريبَ الغريبُ غير أنِّي بِها رهين فؤادي ... وهي تأتي وحيث شاءت تؤوبُ علِّم القلب منطِقَ الطَّير شجواً ... فله في فنونِهِ تهذيبُ وله من أخرى، مطلعها: فيك أمسَى وفيك بالوجدِ أضحى ... مستهامٌ لا يعرف الدَّهر نُصحا يا غزالاً بوجدِهِ سِقم الصَّب ... رِ من القلب والهوى فيهِ صحَّا أنت بالهجرِ قد أطلت الليالي ... ومنعت الخيال عنِّي شحَّا وإذا زرتَ والزَّمان بخيلٌ ... لم أجِد للدُّجى وحقِّك جنحا أرتجي بالعذارِ ليل وصالٍ ... فأرى تحته لوجهِك صبحا يا قتيلاً بمذهبِ الحبِّ ظلماً ... دمه طلَّ وهو يطلب صلحا شاهِدا قِتلتي فؤادي وطرفي ... وترى في كِلا الشهيدينِ جرحا قاتلي شادِنٌ أعدَّ لقتلي ... بلحاظٍ عضباً بالقدِّ رمحا يا لقلبٍ ما فيه يبرأ جرحٌ ... للتَّصابي إلا أرى فيهِ جرحا ومريضِ اللِّحاظِ ساهمَ قلبي ... سقم طرفيهِ واستزدْت فشحَّا علَّمتني جفونُه الوجدَ لما ... أن تلت للحَشا من السِّحرِ شرحا عارضتني والوجدَ منها عيونٌ ... ما نبا العضبُ لو أعارته صفحا وله يصف يوماً أطربه فيه الفرح، ونال فيه من اللذة ما اقترح. مع فتية مسامرتهم ألذ من الكأس إذا احتبك المجلس، وأوقعوا من المبلغ النقدِ إذا تملكه المفلس: يا ربَّ يومٍ قطعته فرحَا ... في روضِ أنسٍ هزاره صدحَا صفا بهِ العيش لي وجادَ بهِ ... دهرٌ وآمالُ مهجتي منَحا مع فتيةٍ دام لي الفخارُ بهم ... ومعشرٍ صبحُ فضلهم وضحَا من كلِّ ندبٍ شهاب فِكرتِه ... لو قابل البدرَ نوره افتضحَا يومٌ كعهدِ الصِّبا لرقتِهِ ... نالَ بهِ القلب وفقَ ما اقترحَا طالبت دهري بيومنا زمناً ... فالآن دهري بهِ لقد سمحَا أذكرني طيبُ يومِنا زمناً ... كنت بريمِ الصريمِ مفتضحَا أيَّام لا أسمع الملامَ ولا ... أصغي للاحٍ إذا صبوت لحَى رشأٌ غدا يفضح الظِّباء بَهَاً ... بدرُ سناً طلعت الشُّموسِ محَا عجِبت من فعلِ سهمِ مقلته ... أردَى عميدَ الهوى وما جرحَا محجَّب الحسنِ شمسُ وجنتِهِ ... زان بَهَاها الحَيَا لمن لمحَا

حديثُ وجدي هو القديم بهِ ... والحالُ حالي بهِ ومَا برِحَا يا قلب للغيرِ لا تمل أبداً ... فما يداويكَ غير من جرحَا وله من قصيدة، أولها: من لقلبٍ ما بينَ سمرٍ وبيضِ ... من قوامٍ لدنٍ وطرفٍ مريضِ ما لمن صادمَ الهوى من نصيرٍ ... فإليه إذا سطَا تفويضي زارني في الدُّجى فكان كبدرِ التِّ ... مِّ قد لاحَ في الليالي البيضِ شادنٌ لو يقابل الشَّمسَ والبد ... رَ لكانا في رتبةِ المستفيضِ سلبَ العقلَ والفؤادَ وخلاَّ ... ني لهجرانهِ الطويلِ العريضِ فنهاري نهارُ منتظرٍ في ... هِ وليلي لا ذقتَ ليل المريضِ ومن أخرى، أولها: جادَ من بعدِ بعدهِ بالتَّلاقي ... ودنا شائقٌ إلى مشتاقِ رشأٌ طالَ ما أذابَ فؤادي ... بسعيرِ النَّوى وحرِّ الفراقِ لم نزل نحسب الغرامَ مِزاحاً ... فرأينا مصارِعَ العشَّاقِ كنت أشكو الجفا وأخشى صدوداً ... فرأيت البِعادَ مرَّ المذاقِ كلُّ مرٍّ لدى المذاقِ مطاقٌ ... وأرى الصَّبرَ عنك غير مطاقِ من لقلبٍ لم يُلفَى إلا جريحاً ... بسهامِ الجفونِ والأحداقِ يا لهذا الفؤادِ لم ينجُ يوماً ... من وثاقٍ إلا غدا في وثاقِ هكذا من له الصَّبابةُ داءٌ ... ليس يرجو النجاةَ مما يلاقي وله: على مَ تفتِكُ في العشَّاقِ بالمقلِ ... أما تخاف على الهنديِّ من فللِ لقد أبحتَ دمي يا من كلِفتُ بهِ ... فأصبَحتْ كلماتي فيه كالمثلِ يا من إذا ما لسهمِ اللَّحظِ أغرَضَ ... أيقنتُ وِجدانَ قومٍ من بني ثُعَلِ بنو ثعل: قبيلة فيهم رماة، يضرب المثل بجودة رميهم. قال امرؤُ القيس: ربَّ رامٍ من بني ثعَلٍ ... مخرجٍ كفَّيهِ من سترِهْ فهو لا يخطي رميَّته ... ما لم لا عدَّ من نفرِهْ يقال في الدعاء على الإنسان: لا عدَّ من نفره، ويراد به التعجب. شمائلٌ لكَ عاطتني الشَّمولَ فمَا ... برِحت بين سكرانٍ إلى ثملِ آهاً على زمنٍ كان الرَّقيبُ بهِ ... صِفرَ الأكفِّ من التَّعنيفِ والعذَلِ هلاَّ تُعيدُ زماناً كنت طَوعَ يدي ... فيه وصدريَ ملآنٌ من الأملِ وله: لحَى الله فِعلَ الغانياتِ إذا دهتْ ... فؤاداً لأبناء الصَّبابةِ أو عقْلا ولا سلِّطتْ يوماً على قلبِ عاشقٍ ... عيونٌ ترى في ظلم عاشِقها عدلا يُرينك عينَ الودِّ والوجدِ نظرةً ... ويُخرجنَ جِدَّ الوجدِ للقلبِ والهزَلا فحتى إذا شبهت بنارِ جوانحٍ ... وأيقن بالمطروحِ من أرسلَ النَّبْلا غدرنَ فلا يرعين للصَّبِّ ذمَّةً ... وأغضينَ عنه في الهوى الأعينَ النُّجْلا نوافر منها لم تفزْ شِقوةً سوى ... بوعدٍ رأينا في جوانبه المَطْلا وله من قصيدة، مستهلها: تُرجَّى الأماني ل أماني المتيَّمِ ... وترقا دموعٌ غيرُ أدمعِ مغرمِ بذا بيننا يقضي الغرامُ كما بنا ... لحكمِ الهوى في الحبِّ من متظلِّمِ متى لم يصبْ لذَّاتِها طالبٌ أتى ... بقلبٍ سليمٍ أم بطرفٍ مُهوِّمِ بحيثُ أبثُّ الوجدَ ليلةَ لم يكنْ ... لديَّ سوى زهر النُّجوم بمحرَمِ أُعدَّد فيها كوكباً بعد كوكبٍ ... وأرقبُ فيها أنجماً إثر أنجمِ فلم يك غير الطَّرفِ لي من مسامرٍ ... ولم أرَ غير الدَّمعِ لي من مترجِمِ عدِمنا الهوى يُردي العميدَ ولم يصلْ ... بعضبٍ سوى لحظِ الحسانِ وأسهمِ حَوينا قلوباً من دعاها لراحةٍ ... عصَته ولبَّت من دعاها لمؤلمِ

أضلَّت فلم تسكن بصدر مُتيَّمٍ ... إذا لم يلوَّع من وُشاةٍ ولُوَّمِ وريمٍ أبى إلا نِفاراً فمذ رأى ... على الصَّيْدِ صيَّاداً غدا غير مقدِمِ يلاحظني والسِّحر ملءُ جفونِه ... يقود إليه القلبَ قودَ مسلِّمِ يرنِّحهُ سكرُ الدَّلالِ فينثني ... كما عطفتْ غصناً صباً في تنسُّمِ فإن زار وهناً والأماني تَعِلَّةٌ ... ترى البدر وافى فوق غصنٍ منعَّمِ بخدٍ سقاهُ وابل الخزِّ والحيا ... سلافةَ خمرٍ أو عصارةَ عَنْدَمِ ومن غزلياته وغرره قوله، من نبوية مطلعها: نأى والأماني الكاذباتُ به تدنو ... بديعُ جمالٍ من محاسنه الحسنُ هو البدرُ لا تنكر عليه بعادَهُ ... تراه قريباً والبِعادُ له شأنُ أطال عليَّ الهجرَ حتى لطولِه ... تعلَّم منه هجرَ صاحبه الجفنُ وعرَّفني الأحزانَ حتى ألفتُها ... فمن أجله عندي السُّرورُ هو الحزنُ رشاً طلعت شمسُ البَها من جبينِه ... وماسَ بها من قدِّه غصنٌ لدنُ فديتك ما هذا التنائي فلستُ من ... يُطيق بأن تشتاقك العينُ والأذنُ بَعُدتَ ولكن لا عن القلبِ والرَّجا ... إذا لم يَشُبْهُ الياسُ كان له المنُّ أظنُّك تدنو والليالي ضنينةٌ ... بقربِك لكن ربَّما صدق الظَّنُّ فيا مسرفاً في هجره أنت يوسفٌ ... إذا غاب فالدُّنيا ليعقوبِه سِجنُ سقى الله عهدً للشَّبيبةِ ماضياً ... ولا برحَتْ تنْهَلُّ في رَبعِها المُزْنُ وحيِّي ربوعَ اللَّهوِ والوجدِ والصِّبا ... سحابُ رضاً أنواؤها اللُّطفُ واليمنُ معاهدُ وجدٍ باكرتْ روضَها الصَّبا ... فصافحَ إذ مرتْ به الغصنَ الغصنُ قطفتُ بها اللَّذَّاتِ مع كلِّ شادنٍ ... سقامِي بعينيه إذا ما ايرْنوُ له في البَها تُعْزى المحاسنُ كلُّها ... كما لرسولِ اللهِ كلٌّ بها يعنُو ومن مقاطيعه ونتفه، قوله: وكنت أقولُ إنكَ في فؤادي ... لو أنَّ القلبَ بعدك كان عندي سِوى عن ناظرِي ما غبتَ يوماً ... فذكرُكَ غالبَ الأوقاتِ وِردي وقوله: هل ترجعُ أيامي بنادِي الوادي ... تالله فقد عدَدْتُها أعيادي أيامَ يضمُّ شملنا مُنتزهٌ ... بالغوطةِ لا فقدتُ ذاكَ النَّادِي وقوله: ما جاءَ الليلُ أو أضاءَ الفجرُ ... إلا وذكرتُ عيشنا يا بدرُ لهفي لزمانٍ عِيشةٌ راضيةٌ ... قد منَّ بها على يديكَ الدَّهرُ وقوله: ومُعذرٍ صفحاتُ وجنتهِ ... كالشمسِ في حلَكٍ من الدَّمسِ حيَّى فخلتُ الشمسَ قد طلعت ... ليلاً لِما شاهدتُ من أُنْسي فعجبتُ من شمسٍ بدتْ لِدُجًى ... وبقيتُ فيه مُراجعاً نفسي فغدا يقولُ أذاك من عجبٍ ... أعجب لهذا الأمرِ بالعكسِ فانظر لمعجزةِ العِذارِ بدا ... في وجنتي كاللَّيلِ في الشمسِ ومما ينسب إليه قوله: ومَهاةٍ قد راعتِ العودَ حتى ... عاد بعد الجِماحِ وهو ذليلُ خاف من عَرْ أُذنِه إذ عصاها ... فلهذا كما تقولُ يقولُ نحوه للحسن بن يونس: غيداءُ تأمرُ عودَها فيطيعُها ... أبدَّ ويتبعها اتِّباعَ ودودِ فكأنما الصَّوتانِ حين تمازَجا ... ماءُ الغمام وابنةُ العنقودِ ولكشاجم: جاءتْ بعودٍ تناغيهِ فيتبعُها ... فانظر بدائعَ ما تأْتي به الشَّجرُ فما يزالُ عليه أو بهِ طربٌ ... يَهيجُه الأعجمانِ الطَّيرُ والوترُ وليوسف بن عمران الحلبي: يستوقفُ الأطيارَ حسنُ غِنائها ... إن ردَّدتْ ألحانَها ترديدا وتظنُّ صوتَ العودِ صوتَ غنائها ... وغِناءَها أبداً تظنُّ العودا

وقوله مضمِّناً: يا من يدُ الرحمنِ قد خطَّت على ... صفحات خدَّيهِ السَّنيَّةِ لامَا قد تمَّ حسنُكَ بالعِذارِ فمن رأى ... بدراً يكون له الكسوفُ تماما البيت لأبي فرج بم هندو، وقبله: خلعَ العِذارُ على عِذارِك خِلعةً ... خلعت قلوبَ العاشقينَ غراما قد تمَّ، وهو معنًى، كم حام على تضمُّنه مُعَنَّى. وللباخرزي فيما يقاربه: وجهٌ حكى الوصلَ طيباً زانهُ صُدُغٌ ... كأنَّه الهجرُ فوقَ الوصلِ علَّقهُ وقد رأيتُ أعاجيبَ الزَّمانِ وما ... رأيتُ وصلاً يكون الهجرُ رونقهُ أخوه أكمل قرين أخيه ونده، فأحدهما السيف والآخر فرنده. وكانا إذا اجتمعا تقابل البدر والثريا، وتطارح الشمول الرائق والرَّويَّةِ الرَّيَّا فتسابق بهما الكميت في ميدان الدِّنان، فمن رآهما قال ما شاء في طليقي عنان. وإذا أخذا في معاطاةِ الأسمارْ، فما مشابهةُ الأماني في بلهنية الأعمار. ومحمد، إن كان أكبرُ سنًّا، فأكمل أرهف منه مسنًّا. إلا أنه اعتراه طرفٌ من الجنون، فصيَّره ثالث خالد والجنون. وله من جنونه أفانين، عدَّ بها من عقلاء المجانين. وقد وقفتُ من شعره على كلمٍ يوسى به الكلم، ويعد من الظلم قياسها إلى الظلم. فمن ذلك قوله في وصف حديقة زهر، يخترقها من اللجين الذائب نهر. إذا خمشته يد الصَّبا، تتوهمه زرداً مذهبا. وفيه دولابٌ يشجي الصَّبَّ بنحيبه، كأنه محبٌّ وقد رمي بفقد حبيبه: وحديقةٍ ينسابُ بين غصونها ... نهرٌ يُرى كالفضَّةِ البيضاءِ قد ألبَستْه يدُ الجنائبِ والصَّبا ... زرداً كنبتِ الرَّوضةِ الغنَّاءِ دولابُه بحنينهِ كمذكِّرٍ ... عهدَ الصِّبا ومعاهد السَّرَّاءِ أبداً يدورُ على الأحبةِ باكياً ... بمدامعٍ تربو على الأنواءِ ناحَ الحمامُ قِدماً فهو في ... ترجيعهِ موفٍ قديمَ إِخاءِ ومن بدائع قوله: بهَوًى سرتْ من سالفيْ ... ك إلى فؤادي في لهيبِ فأتت بأطيبَ ما يسرُّ ... ذوِي الهوَى في طيِّ طِيبِ إلا رحِمْتَ شبابَ ذي ... قلبٍ عليلٍ بالوجيبِ فحنَوْتَ من كرمٍ علي ... هِ كميلةِ الغصنِ الرَّطيبِ وقوله: ولائمٍ قد لامَني في الطِّلا ... وترْكها والنَّهيِ عن شربها فقلتُ تلحانِيَ جهلاً أمَا ... كفى طلوعُ الشمسِ مِن غربهَا الغرب: دَنُّ الخمر، وبه تمت التورية. وأصله قول أبي القاسم بن طلحة، في مغربي: أيتها النفسُ إليهِ اذهبي ... فحبُّهُ المشهورُ من مذْهبي مُفضَّضُ الثَّغرِ له شامةٌ ... من عنبرٍ في خدِّهِ المُذْهبِ آيَسَنِي التَّوبةَ من عشقِهِ ... طلوعُه شمساً من المغربِ وللشهاب الخفاجي: كمْ قهقَهَ الإبريقُ إذ قيلَ تابْ ... وابتسمَ الكأسُ بثغرِ الحبابْ والرَّاحُ شمسٌ قد تبدَّتْ لهُ ... من مغربِ الدَّنِّ فكيف المتابْ للهِ أيَّامٌ مضتْ سرعَةً ... كهجعةٍ من ذي جوًى واكتئابْ ليلاتُها قمرٌ وأيَّامها ... كأنَّها أعيادُ عصرِ الشَّبابْ واغتبق يوماً بمحلٍّ كان يتخذه مفترش ندوته، ومتوسد صبوته. ومضطجع اطمئنانه، ومدار كأسه ودنانه. وهو في ينع الشباب، ورواء الأحباب. عندما اقترن بالليل نهاره، وامتزج بالبنفسج بهاره. وقد أحضر من آلات أُنسهِ، وأظهر من نوع ذلك وجنسه. ما يروق النَّاظر، ويصقل الخاطر. فكتب يستدعي له صديقاً، كان يتخذه في ذلك العهد رفيقاً: بادِر أُخَيَّ إلى الغبوقِ براحةٍ ... تنفي همومَ الصَّبِّ حين يصبُّها حمراءَ رصَّعها الحبابُ كأنَّها ... شفقُ السَّماءِ تجولُ فيه شُهْبُها

بادر أخي، أطال الله بقاك، وقهر من يعاديك ويشناك. إلى تعاطي راحةٍ حاكى مزاجك مزاجها لطفاً، وزاد عليها بهاءً وأدباً وظرفاً. إذا أخذها الساقي وصب، ذهب عمَّن كان بين الشرب والصب. لا سيما إذا كانت حمراء كاللجين، مرصعةً بجواهر الحبب أو ممزوجةً بين بيْن. فالمأمول من الأخ المبادرة، ليفوز منه أخوه بأحسن مسامرة ومحاورة. وفي ذيل الاستدعاء: يا من رِضاهُ جنَّةٌ كمُلتْ ... والسُّخطُ داءٌ منكرٌ ضَنْكُ زُرْ روضَنا كالغيثِ أكسبَه ... عِطراً فزيْنٌ بالتُّقى النسكُ ماسَ الشَّقيق لنا على قُضُبٍ ... خضرٍ كسِمطٍ زانَه السِّلكُ وكأنَّه والقضْبُ تحمله ... أقداحُ ياقوتٍ به مسكُ ومن غزلياته قوله: بهَوًى جَدَّ بقلبي ... طامعاً في لَفتاتِكْ وفؤادٍ ضلَّ في ... حصرِ قليلٍ من صفاتِكْ وفؤادٍ لم يُمتَّعْ ... حظوةً من خطواتِكْ غافلاً عن ذنبِه إذ ... هو من بعضِ هِباتكْ يا غزالاً خاطرَ القلْ ... بَ برؤْيا خطراتِكْ آهِ ما أعجزنِي عن ... حملِ ماضي عزماتِكْ بالحِمى ترتعُ والأُسْ ... دُ ثَوَتْ في عَرَصاتِكْ كيفَ يرجوكَ فؤادٌ ... والحِمى بعضُ حُماتِكْ بأبي حبَّاتُ مسكٍ ... نُقِّلتْ من وجناتِكْ بل سويداءْ قلوبٍ ... أُحرقتْ في جمراتِك أتُرى يا دهرُ هل في ... لحظةٍ من لَحَظاتِكْ يغفلُ الواشونَ كي أح ... سبُها من حسَناتِكْ ومن رباعياته قوله: حَيَّى وسقى الحَيا الرُّبى والسَّفْحا ... من غاديةٍ تشبه دمعي سَفحا والله وما ذكرتُ عيشي بِهِما ... إلا وضرَبتُ عن سواهُمْ صَفحا وقوله: لا أنْظُر للسَّماءِ فافْهَمْ عُذري ... قد ضاق برؤيا قمرٍ بها صدري في صورةِ من أهوى وفي حاجِبِه ... ما يُغني عن هلالها والبدرِ أهل العربية فرَّقوا بين الرُّؤيا والرُّؤية، فكن مستيقظاً في نظائره؛ فإنها كثيرة في أشعار المتأخرين. ومن بدائعه قوله في مُعَذَّرٍ عنِم الحسنُ روضَ خده النَّضر، وتلاقى في جانبيه موسى مع الخضر: يا حسنَ حمرةِ خدٍّ زادَ بهجتَهُ ... لونُ العِذار الذي حارتْ به الفِكَرُ كأنَّ موسى كليمَ اللهِ أنسَه ... حيناً وجرَّ عليه ذيلهُ الخَضِرُ نقله من قول ابن سعيد، صاحب المرقص والمطرب، في نارَنْجة نصفها أخضر والآخر أحمر: وبنتُ أيكٍ دنا من لثمِها قُزَحٌ ... فصار في خدِّها من لثمِهِ أثَرُ يبدو بعينيك منها منظرٌ عجَبٌ ... زبرجدٌ ونُضارٌ صاغَه المطرُ كأنَّ موسى نبيَّ الله أقْبسَها ... ناراً وجرَّ عليها ذيله الخَضِرُ وقد ألمع ابن سعيد بمأخذه من حيث لم يشعر؛ حيث قال في مكان آخر، من مرقصه: لما رحلت إلى دمشق وأبصرتها، فتنني منظرها، وأكثرت القول فيها، إلى أن وقع لي من قصيدةٍ: في جِلِّقٍ نزلوا حيث النَّعيمُ غدا ... مُطوَّلاً وهو في الآفاقِ مُختصَرُ القُضْبُ راقصةٌ والطَّيرُ صادحةٌ ... والنَّشرُ مرتفعٌ والماءُ منحدرُ وقد تجلَّتْ من اللَّذَّاتِ أوجهُها ... لكنَّها بظلالِ الدَّوحِ تستترُ وكلُّ وادٍ به موسى يفجِّره ... وكلُّ نهرٍ على حافاتِه الخَضِرُ ولابن فضل الله: للشامِ فضلٌ باهرٌ ... بعيشِها الرَّغدِ النَّضِرْ في كلِّ روضٍ يلتقي ... ماءُ الحياة والخَضِرْ ومن رباعياته قوله: إمَّا يَمنٌ أهلُ الهوى أو قيسُ ... ليسوا مثْلي وإن تباهوا ليسوا لو أنصَفني حاكمهُم في بُرَحِي ... ما قيسَ بمن عنه تلاهَوا قيسُ وكتب إليه أخوه ملغِزاً: يا أكملاً يستكملُ الظَّرفا ... يا فاضلاً والفضلُ لا يَخفى

ويا شقيقي من فَخاري به ... ومن غدا لي في الورى طَرفا أكملُ منه إن أصِفه فلي ... أرجَع من أوصافه الوَصفا قل لي عن وصفٍ حُروفٌ له ... أربعةٌ ما نقصتْ حرفَا إذا وصفتَ الشَّحصَ يوماً به ... فعينه في دبرِه تُلفَى ولم يزلْ يصحبُ كُلاَّبةً ... بها يجيد القبضَ لا الصَّرفَا ثانيهِ نصفْ العُشرِ من ثالثٍ ... وكلُّه لم يبلغِ الألفا ينقص عنها بل عن بعضِها ... ولم تكمِّل ناقصاً حلفا موصوفُه نصفانِ فانظرْ له ... نصفاً ولا تنظرْ له نِصفا ثانيهِ مع ثالثهِ فعلُه ... متى يُشاجِر عِرسَه عُنْفا يُظهِر في أفعاله خفَّةً ... وهو لِثقلٍ لم يغبْ طرْفَا كالبومِ شُؤمٌ وهو إلفٌ لنا ... فهل رأيتُم بومةً إلفا أجِبْ وعن ذا الوصفِ أوضحْ لنا ... لا ذقتَ للدَّهرِ إذاً صَرْفا فأجابه ملغزاً أيضاً: جاءتْ فزادتْ روضنا عرْفا ... بل قلَّدتْ آذانَنا شُنْفا وأطفأتْ من كبدِي لوعةً ... ولم تكنْ من غيرها تُطفا وهيَّجتْ شوقي إلى ماجدٍ ... لم أكُ أبغي غيره إلفا أعِني شقيقي من أرى بُعدَه ... للدَّهرِ ذنباً لم يكدْ يُعفى ذو كرمٍ لو شامه حاتمٌ ... عضَّ على أنملهِ لَهفا رَبُّ المعانِي والقوافِي التي ... كالُّرِّ إذ ترصِفه رصفَا كانت كعذبِ الماءِ عند الصَّفَا ... أو كلَمًى أرشِفه رشفا أو كوصالٍ من حبيبٍ وقد ... أكثَر في ميعادِه الخُلفا مُضيِّعٍ أرعاهُ بين الورى ... وشيمةُ الأحبابِ لا تخفَى أبيتُ أُملي من غرامِي له ... كتُبْاً ومن إِعراضِه صُحْفا يُدير من ألحاظِه أكؤساً ... حمَّلها أجفانَه الوَطفا تسقِيه راحاً مُزِجتْ من دِما ... عيني وتسقيني الهوَى صِرفا سائلةً عن ساعدٍ لم يزلْ ... كعطفةِ الأصداغِ مُلتفَّا أو كسِوارٍ ضاق عن عبلةٍ ... أو كهلالٍ كاد أن يخْفَى لكن إذا مدَّت إلى مرقدٍ ... كقامةِ الحبِّ إذ تُلفَى لا زلتَ تعطيها وأمثالَها ... من راحةٍ كالدِّيمةِ الوَطفا وبعدُ ما وصفٌ له أحرفٌ ... أربعةٌ لم تستزد حَرفا أوَّلُه سبعُ لعشرٍ حوى ... ثانيهِ لا زلتَ له حِلفا إن تُسقِط المفردَ يعدْ ... جمعاً وهذا عنكَ لا يخفَى وفعْل أمرٍ تمَّ فعلاً لمن ... نارُ غرامِي فيه لا تُطفا إن تقلبِ الثالثَ مع رابعٍ ... يكنْ لموصوفٍ به وصفَا ثانيهِ مع ثالِثه وصفُه ... إذ اعتراه النَّومُ أو أغفى أَبِنهُ لي لا زلت في عِزَّةٍ ... لم تغضِ عما رمتَه طرفا والدَّهرُ عبدٌ لك أو قائدٌ ... يُجيبُ من عادَيته طِرفا ومن شعره قوله: أُسلِّي فؤادي بادِّكاركَ طامعاً ... بصبري وأين الصَّبرُ من قلبِ عاشقِ وألوِي ضُلوعي كي أُسَكِّن روعةً ... ومالي بقلبٍ ساكنِ الجسم خافقِ أُؤمِّل عذباً من رُضابَك بارداً ... لإخمادِ جمرٍ بين جنبيَّ حارِقِ فأذكرُ من عذبِ اللَّمى مع لمعِهِ ... أحاديثَ جِيران العُذَيْبِ وبارِقِ ففي الصبْح صبرٌ إن أكن غير ناظِرٍ ... إليه دليلاً إن يكن غيرَ طارقِ فويلِي من جسمٍ طريحٍ من الهوى ... وإِنسانِ عينٍ بالمدامعِ شارِقِ محمد بن علي، المعروف بالحريري الحرفوشي هو في المعارف نسيج وحده، والآداب طلاع ثنايا نجده.

عاش حيناً في حانوت ينسج حللاً ويوشيها، ويطرز متون القراطيس بحبر أقلامه ويحشيها. ولديه تنشد ضوالُّ اللغة والإعراب، وتقف الآراء حيرى في محاسنه بين الإعجاب والإغراب. فشدت نحوه المطايا، وأشرقت فضائله كبيض العطايا. وشفت ظروفه حروف مباينه، فنمَّت عن سلافة لطافة معاينه. كما نمَّ الزُّجاج على الصَّهبا، والنسيم عن شذا الربى. ومع أنه شيخ الوقار، له كلماتٌ يعصر منها العقار. فمن جاراه في طرف الرقَّة، بعدت عليه الشُّقَّة. وكانت لديه مقاصد، يلوح منها للمنى مراصد. أيام عيشه بالمرة مؤتلف، والحظُّ غادٍ إليه ومختلف. حتى أغري الدهر بشمله ففرقَّه، وأضري ببرد ائتلافه فمزَّقه. بسبب غرضٍ نقم عليه، وكاد يسوق الحتف إليه. فخرج مع البازي إلى بلاد العجم، وثمَّت طلع كوكب إقباله ونجم. ودعاه الشاه عباس للرئاسة فأجاب، واراه من كمال التقرب الأفق المنجاب. فأقام والأهواء إليه منساقة، إلى أن دعاه داعي الحتف إلى اللَّحد فأجابه وساقه. وقد أوردت له من شعره الذي يباهي الدِّيباج الخسرواني، ما يستعير اللُّطف منه الراح الأرجواني. فمن ذلك قوله معمياً باسم مراد: إذا خيِّرتُ بين الثَّغ ... رِ والصَّهباء من حبِّي أقدِّم ثغر من أهوى ... على ما دار بالقلبِ وقوله: صبَّر الرحمن صبًّا ... ذاق هجران حبيبهْ وحماهُ برد وصلٍ ... منه مطفٍ للهيبهْ فلعمري ليس يدري ال ... هجرَ إلا من رمي بهْ وقوله: أنا والله لا أبالي وإن ذمَّ ... وإن أكثر الجهول السِّبابا أنا كالشمس في الأنام مقامي ... معتلٍ لا ترى عليه حجابا أدبي مفخري وفخري علومي ... لا أراه النِّجار والأسبابا وقوله: ترومُ وُلاة الجوْر نصراً على العدى ... وهيهات يلقى النَّصر غير مصيبِ وكيف يروم النَّصر من كان خلفه ... سهام دعاءٍ عن قسيِّ قلوبِ هذا معنًى تداولته الشعراء، والحسن منه قول ابن نباتة المصري: ألا رُبِّ ذي ظلمٍ كمنْتُ لحربه ... فأوقعه المقدور أيَّ وقوعِ وما كان لي إلا سهام تركُّعٍ ... وداعيةٌ لا تُتَّقى بدروعِ وهيهات أن ينجو الظَّلوم وخلفه ... سهام دعاءٍ من قسيِّ ركوعِ مُريَّشةٌ بالهدب من جفن ساهرٍ ... مُنَصَّلةٌ أطرافها بدموعِ ومن المنشآت المبتدعة: المحارب إذا شيِّع بالدعاء له فقد أنجد بمدد بل أمداد، وحفظ ظهره بجندٍ بل أجناد. وإذا شيِّع بالدعاء عليه، فقد خرج خلفه كمينٌ لا يقوى له فيلقاه، ولا يراه فيتوقَّاه. ولن يغلب عسكرٌ واحدٌ عسكرين من الدعاء والأعداء، ولن يسلم من أعوز ظهره مجنُّ الضُّعفاء، ولن ينصر في الأرض من حورب من السماء. ومن نتفه قوله في إفرنجي: بروحيَ ظبيٌ فاترُ الطَّرف أحورٌ ... رنا فرمى قلبي بسهم من الغنجِ أبت مهجتي الإشراكَ فيه وقد غدا ... يرى شرعة التَّثليثِ واضحة النَّهجِ فيا قوم هل فيكم معينٌ على الأسى ... وهل من طريقٍ من قطيعته تنجي فقد سامني في الحبِّ مالا أطيقه ... وأوقعني من زاخرِ الصَّدِّ في لجِّي وبرَّح بي حتى لقد رقَّ عذَّلي ... وما حال من أضحى بقبضةِ إفرنجي وكتب إلى صديقٍ له تمرض بالحمَّى: أنا مذ قيل لي بأنَّك تشكو ... ضُرَّ حمَّاكَ زاد بي التَّبريحُ أنت روحِي وكيف يُلفى سليماً ... جسدٌ لم تصحَّ فيه الرُّوحُ وله: إن أصبح الوغدُ يعلو فوق منزِلتي ... من غير ما سببٍ يقضي بترجيحِ فالنَّقع يعلو على بيضِ الكماة كما ... علا الدُّخانُ علي النِّيران مع ريحِ أخذه من قول الآخر: إن يقعدُ فوقي لغيرِ نزاهةٍ ... وعلوِّ مرتبةٍ وعزِّ مكانِ فالنَّارُ يعلوها الدُّخانُ وربَّما ... يعلو الغبارُ عمائمَ الفرسانُ وله:

أشكو إلى الله لا أشكو إلى أحدٍ ... ما نابنِي من صديقٍ يدَّعي الرَشَدا صافيته من ضميري وُدَّ ذي مِقتٍ ... فاعتضتُ عنه بمذقٍ باللِّساِن غدا فعدتُ من بعدِه والدَّهرُ ذو عجبٍ ... لا أصطفي في الورى لي صاحباً أبدا وله في الشيخ محمد الجواد الكاظمي: جرَى في حلبةِ العلياءِ شوطاً ... بسعيٍ ما عدا سننَ السوادِ ففاتَ السابقينَ إلى المعالي ... وما هذا بِبدعٍ من جوادي وله في إثبات التَّشوق، وحزن التفرق؛ وفيه التفريع، من أنواع البديع: وما ظبيةٌ قد بانَ عنها وليدها ... فضاقتْ بها الغبراءْ ذرعاً وبيدُها وهامتْ بما لاقته من حرِّ وجدِها ... وراحتْ فلا تدري إلى أينَ عودُها تجوب الفيافي في الهجيرِ فلا ترى ... أنيساً بها يبدو سِوى من يعيدُها بأحزنَ منِّي حين سارَت مطيُّ من ... أحبُّ وروحي في يديهِ وجودُها وله: يقولون في الغليونِ أفرطْتَ رغبةً ... وليسَ بشيءٍ تقتنيهِ وتختارُ فقلتُ لهم ما ذاكَ إلا لأنه ... مضاهيَّ لا تنفكُّ في قلبه النارُ ومن غزلياته قوله: روحي الفداءُ لشادنٍ ... ذي نفرةٍ من زيِّ آنسْ سلبَ الجفونَ رقادها ... وأثارَ في القلبِ الوساوسْ وأعارَ من سقمِ اللِّحاظِ ... لجسمي المضنى الوساوسْ ويلايَ من جورِ القوا ... مِ إذا بدا كالغصنِ مائسْ وإذا رنا فالبيضُ تش ... بهُ فعلَ هاتيكَ النَّواعسْ يا لائماً يرجو سلوَّ ... فتًى له جلبتْ هواجسْ خفِّض عليكَ فإنني ... مُغرًى لثوبِ السقمِ لابسْ أنَّى سلوُّ متيَّمٍ ... من روحِه في الحبِّ آيسْ يجد الملامَ ألذَّ من ... صدِّ الذي بالوصلِ شامسْ لهفي على زمنٍ لنا ... يُهدي المناسبَ والمُجانسْ أيَّام كنت وغصن ودِّ ... ي أخضرٌ والصَّدُّ يابسْ ومناهل اللَّذَّاتِ صا ... فٍ وردها مع كلِّ كانسْ والدَّهر طلقٌ والشَّبي ... بة غضَّةٌ والرَّبع آنسْ والرَّاح دارَ فلا تسلْ ... ما حلَّ في تلك المجالسْ وله بعد ما بعد عن أوطانه، متذكراً عهد منشئهِ وقطانه: فؤادُ المعنَّى بالتَّباعد مودعُ ... بحيِّ الذي يهوى فلوموه أو دعوا ففي قلبهِ من لاعِجِ الوجدِ شاغلٌ ... وليس له في العيشِ بالبعدِ مطمعُ يودُّ بأن يقضي ولم يقضِ ساعةً ... له بالنَّوى لو كان ذلك ينفعُ وما باختيارٍ منه أصبحَ نازِحاً ... وماذا الذي فيما قضى البينُ يصنعُ سأشكو من البينِ المفرق بيننا ... إلى الله علَّ الله للشملِ يجمعُ فجسمي نحيلٌ مذ نأى من أودُّهُ ... وعيني لطولِ البعدِ لم تكُ تهجعُ فلو عادَني العوَّادُ لم يهدهم إلى ... مكاني سوى ما من أنيني يسمعُ ولو عادَ من أهوى لعادتْ به القُوى ... لجسمٍ بأثوابِ الضنى يتلفَّعُ فيا ليتَ شعري هل أراهُ ولو كرًى ... وهل ذلك الماضي من العيشِ يرجِعُ وهل علم الأحبابُ أنِّي مفارقٌ ... حشاشةَ نفسٍ ودَّعت يومَ ودَّعوا وهل هم على العهدِ القديمِ الذي أنا ... عليه مقيمٌ أم لذلك ضيعوا وله: لا بِدعَ أن أضحى الجهولُ يدَّعي ... مكانتي ويدَّعي الترفُّعا فالشمسُ أعلى مفخراً وقد غدا ... من فوقِها كيوانُ أعلى مطلعَا ومن قول ابن رشيق: بحيثُ يهونُ المرءُ يكرمُ ضدُّهُ ... وحيث هبوطُ الشمس يشرقُ كيوانُ وله: رعى الله أوقاتاً بها كنتُ أجهلُ ال ... فراقَ وأياماً بها أُنكِر الجفَا

تقضَّتْ كلمحِ العينِ أو زور طارقٍ ... أتى مسرِعاً أو بارِقٍ في الدُّجى خفا وأبدِلتُ منها فرقةً وتشتتاً ... وبعداً وهجراً دائماً وتأسُّفا فيا ربِّي أنعِم باللقاءِ لمدنفٍ ... وإلا فكنْ بالحتفِ يا ربِّ مسعِفا وله: حباني الوجدَ والحُرقا ... وأودعَ مقلتي الأرقَا وروَّع بالجفا قلباً ... بغيرِ هواهُ ما علقَا رنا بصوارمٍ خذمٍ ... تسمَّت بيننا حدقا حمى أوردَ وجنتِه ... بأسودِ خاله ووقى ولاحَ بواضحٍ أضحى ... لهُ شمس الضُّحى شفقَا له خصرٌ بألحاظِ ال ... ورى ما زال منتطِقا تعارض المتنبي في هذا المعنى مع السري الرفَّاء. فبيت المتنبي قوله: وخصرٍ تثبتُ الأحداقُ فيهِ ... كأنَّ عليه من حَدَقٍ نِطاقَا وبيت السري قوله: أحاطتْ عيونُ العاشقينَ بخصرِه ... فهنَّ له دون النِّطاقِ نِطاقَا وكثيرٌ يظنون أن المتنبي هو المخترع لهذا المعنى، ولا يدرون أنه لعلي بن يحيى، من أبيات تغنَّى بها: وجهٌ كأنَّ البدرَ ليلةَ تِمِّهِ ... منه استعارَ النورَ والإشراقا وأرى عليه حديقةً أضحى لها ... حدقي وأحداقُ الأنامِ نِطاقَا ونقل الشهاب الخفاجي إلى العذار، مضمِّناً مصراع أبي الطيب، وأجاد: عِذارٌ خَطَّ في الوجناتِ خطًّا ... حوى كلَّ الأنامِ به وفاقَا ترى الأبصارَ شاخصةً إليه ... وماءَ الحسنِ في خدَّيهِ راقَا تصوَّرتْ العيونُ به فأمسى ... كأنَّ عليه من حدقٍ نِطاقا تتمة القصيدة: فياللهِ من بدرٍ ... غدا قلبي لهُ أُفقا ألا يا حبَّذا زمنٌ ... حظيتُ به ونِلتُ لِقا زمانٌ لم أجِد فيه ... لشملِ الوصلِ مفتَرَقا أهيمُ بسالفٍ حَلَكٍ ... وأهوى واضِحا يققَا تولَّى مسرعا عنقاً ... ومرَّ كطارِقٍ طرقَا وطبعُ الدَّهرِ لا يبقى ... على حالٍ وإن رفقَا فكن خلواً به فرداً ... وسرْ في الأرضِ منطلِقا وكن جلداً إذا ما الدَّه ... رُ أبدى مشرباً رنْقا وله من قصيدة، أولها: يا ليتَها إذ لم تجُد بوِصالِ ... سمحتْ بوعدٍ أو بطيفِ خيالِ جنحتْ لما رقشَ الوُشاةُ ونمَّقوا ... من أنَّني سالٍ ولستُ بسالِ ومدامِعي لولا زفيري ولم يكدْ ... ينجو الورى من سحِّها المتوالي ونحولُ جسمٍ واحتمالُ مكارهٍ ... وسهادُ جفني وادِّكارُ ليالي فإلى مَ أظمأُ في الورى ومواردِي ... فيه سربٌ أو لموعُ الآلِ ولِم اختياري عن فؤادِي كلَّ من ... ألقى وقلبي عند ذاتِ الخالِ أخذه، ولم يحسن الأخذ من قول الباخرزي: قالت وقد فتَّشتُ عنها كلَّ من ... لاقيتهُ من حاضرٍ أو بادي أنا في فؤادِك فارمِ طرفَكَ نحوهُ ... ترَني فقلتُ لها وأين فؤادِي هيفاءُ رنَّحها الدَّلالُ فأخجلتْ ... هِيفَ الغصونِ بقدِّها الميَّالِ في خدِّها الوردُ الجنِيُّ وثغرُها ... يحوِي لذيذَ الشُّهدِ والجِريالِ حجبتْ محيَّاها الجميلَ ببُرْقُعٍ ... كرقيقِ غَيمٍ فوقَ بدرِ كمالِ ونضتْ من الأجفانِ بيضَ صوارمٍ ... فغزَتْ بهنَّ ولم تنادِ نزالِ وتنزَّه يوماً في روضٍ افترَّت بواسمه، وتعطَّرتْ نواسمه. وتفتَّحت أزهاره، ونطق بلبله وهزاره. فقال يصفه: ومكانِ أُنسٍ قد حوى من لُطفِه ... مِن كلِّ وصفٍ رائقٍ مُستحسنِ فالرِّيحُ تعبثُ في الغصونِ تمايساً ... والطَّير تشدو باختلاف الألسنِ فكأنَّه الفردوسُ أحرَز صفوَه ... أملُ النُّفوسِ ومُستلذُّ الأعينِ وله في الغزل:

مَن لي بهيفاءَ أذكتْ من تباعدها ... في القلبِ ناراً ولم تسمحْ لمُضناهَا واهاً لها من فتاةٍ إن رنتْ فعلتْ ... ما ليس يفعله الهِنديُّ عيناها ومن جيِّده قوله في الخال: قال لي من غدا إمامَ أولِي الفضْ ... لِ ورَبَّ المباحثِ الفلسفيهْ إنَّ عندي بُرهانَ حقٍّ على نفْ ... يِ الهيولى والصُّرةِ الجِسميهْ قلت ما هو فقالَ شامةُ حبِّي ... قد غدتْ وهي نقطةٌ جوهريهْ قلت: هذا جارٍ على رأي المتكلمين في الرد على الحكماء، من أن إثبات النقطة يستلزم نفي الهيولى والصورة، وقد حاول محاولةً عجيبة. ومثل هذا الاستعمال - أعني استعمال ألفاظ أهل الكلام والهندسة والنحو - مما قال فيه ابن سنان الخفاجي: ينبغي أن لا يستعمل في الكلام المنظوم والمنثور. قال: لأن الإنسان إذا خاض في علمٍ، وتكلم في صناعةٍ، وجب عليه أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعة. ثم مثَّل ذلك بقول أبي تمَّام: مَودَّةٌ ذهبٌ أثمارُها شَبَهٌ ... وهِمَّةٌ جوهرٌ معروفها عرَضُ قال ابن الأثير، في المثل السائر: وهذا الذي أنكره هو عين المعروف في هذه الصناعة: إنَّ الذي تكرهون منه ... هو الذي يشتهيه قلبي فقوله: إن الإنسان إلى آخره، مسلَّمٌ إليه، ولكنه شذَّ عنه أن صناعة المنظوم والمنثور مستمدةً من كل علمٍ وطلِّ صناعةٍ؛ لأنها موضوعة على الخوض في كل معنى، وهذا لا ضابط له يضبطه، ولا حاصر يحصره. وقال ابن المعتز، في كتاب البديع: مما يعاب على الشعراء استعمال ألفاظ الحكماء، كالكيمياء، والسَّيمياء، والهَيولَى. ولعله كان معيباً في الصدر الأول، لأنه لو يُؤلف استعماله، وعلى أمثالنا لا يعاب؛ لشيوعه، بعد نقل كتب اليونان إلينا؛ فإن اللفظ قد يعدُّ فصيحاً عند قومٍ دون آخرين. ألا ترى أن أبا هلال قال في كتابه الصناعتين: الوحشيُّ يعاب على القروِي دون البدوي، الذي هو لغته؛ لأنه معروفٌ عندهم. وهذا مما أطلقه أرباب المعاني فاحفظه. يوسف البديعي أديب للبديع من القول منسوب، وواحدٌ بألفٍ من البديع محسوب. أطلع الكتاب باسقاً، ووافى به درًّا متناسقاً. وكان خرج من دمشق وعوده طري، وشرابه سائغ مري. لم تتقشَّع غمامته، ولم تذبل كمامته. وعلى قدر جماله، رزق حظًّا من كماله. فدخل الشهباء وناسها أولئك الناس، يومئذٍ توددٌ وإيناس. فتبسمت له خلائقهم عن شفاه الصباح، وكأنما هي الرياض باح بسرها نفس الصباح. وحسن في أعينهم حسن الحور، ووقع من قلوبهم وقع الوطر. وما برح أمره يروق ويحسن، حتى خطبته القلوب وهتفت به الألسن. فصدح بشعره مترنِّماً في ناديهم، ونال بهم مغانم من أياديهم. وجلب لهم درَّ الكلام، فحلب منهم دَرَّ الكرام. ولما وافاهم ابن الحسام متوشِّحاً بالقضاء، وخليفةً للسيف في المَضاء. وله البسالة التي تقتنص شوارد المعالي وتفترس، في الأريحية التي يحتمي بها الأمل من الخطوب ويحترس. ووزنه بميزان الاختبار، فألفاه حريٍّا بالاعتبار. فنوَّه به، واعتنى بأدبه. وولِيَ الشام فصحبه ملتحفاً بالخطوة، وواقفاً من تقربه بتلك الربوة. ودخل بعدها الروم لخدمته، وتقلب دهراً في خصائص نعمته. وباسمه ألَّف من كتبه ما ألَّف، وجارى في حومة السبق من تقدَّمه فما تخلَّف. وهو في الأدب ممن ملك البيان عناناً. وهصر من فنونه المتنوعة أفناناً. إن نثر فالدُّرُّ المنثور انفصم نظامه، أو نظم فما اللؤلؤ المشهور نسَّقه نظَّامُه. وله في الفوائد الفرائد، ما تنتقيه لأوساط القلائد الخرائد. وقد رأيت جملة من بدائعه فتنزَّهت في حدائق ذات بهجةٍ، ورويت ظمآن سمعي من فوائده، وموارده العذبة اللَّهجة. وها أنا أورد له ما يغازل الجفون الوسن، وتأبى محاسنه إلا أن تذكِّر بيوسف الحسن. فمن ذلك قوله: رويداً هو الوجدُ الذي جلَّ فادحُه ... وقد بعدتْ ممَّن أُحبُّ مطاوحُهْ هوًى تاهتِ الأفكارُ في كنهِ ذاتِه ... ومتنُ غرامٍ عنه يعجزُ شارحُهْ أقيكَ الرَّدى هل أنت بالقربِ منجِدٌ ... أخا دَنَفٍ لاحت عليه لوائحُهْ

مُعنًّى رثتْ أعداؤُه لنحولِهِ ... ورقَّ له ممَّا يقاسيه كاشحُهْ وليس له خِدنٌ يعينُ على الأسى ... يطارِحُه شجوَ الهوى ويطارحُهْ يحاوِل كتمانَ الهوى وجفونُه ال ... قريحةُ تُبدِي ما أكنَّتْ جوانحُهْ خُطوبٌ أصابتْه لو أنَّ ببعضها ... جَنيناً دَرَى في المهدِ شابتْ مسائحُهْ رمتْهُ يدُ الأيَّامِ عمداً بنأيِهم ... وضاقتْ عليه بالتَّجَنِّي فسائحُهْ خليليَّ حُثَّا أينُقَ الرَّكبِ بي ولا ... تقولا من الإدلاجِ كلَّتْ طلائحُهْ وعُوجا على الرَّكبِ الذي قد جهِلتُما ... معالِمهُ تَهديكُماهُ روائحُهْ مَحلٌّ إِليه كلُّ قلوبٍ مشوَّقٌ ... وتستوقِفُ الأحداقَ حسناً أباطحُهْ يظن به من جازَه حلَّ معبداً ... إذا صدحتْ فوق الغصونِ صوادحُهْ سقاهُ وحيَّاهُ الغمامُ بوابلٍ ... تباكِره أوداقهُ وتراوحُهْ به تَرَيَا من لو بدا البدر في الدُّجى ... وأسفرَ في ديجوره فهو فاضحُهْ جميلاً يعيرُ الشمسَ من نورِ وجهِهِ ... وتُسبى به من كلِّ حيٍّ ملائحُهْ جبيناً تهابُ الأُسْدُ سورةَ وجههِ ... ويخشاهُ من في الدِّرعِ تُخشى صفائحُهْ يصدُّ معنَّاهُ نهاراً وربَّما ... يوافيهِ ليلاً طيفُه فيصالحُهْ له مقلَتا ريمٍ وما شامَ غيرهُ ... جَوارحها إلا وذابتْ جوارحُهْ إذا أوعدَ الهجرانَ وفَّى وعيدَهُ ... وإن وعد المشتاقَ فهو يمازحُهْ وإن لامَني فيه عَذولي جهالةٍ ... وقد طلَّ من دمعي على الخدِّ سافحُهْ فلي عنه شغلٌ بامتِداحي مهذَّباً ... تُزيِّنُ أبكارَ المعاني مدائحُهْ وقوله من قصيدة، مطلعها: هل للمتيَّمِ من نصيرِ ... ومضامِ وجدٍ من مجيرِ أو مسعفٍ لطليقِ دم ... عٍ وهو ذو لبٍّ أسيرِ دَنِفٌ يبيتُ وبين أح ... شاهُ له نارُ السَّعيرِ لم يلقَ إلا الشَّوقَ وال ... وجدَ المُبرِّحِ من سميرِ ويرومُ إخفاءَ الهوى ... والحبِّ من بعدِ الظَّهورِ أنَّى وأدمعه جرتْ ... في وجنتَيْه كالنُّهورِ يرعى نجومَ الليلِ شو ... قاً منه للظَّبيِ الغريرِ رَشَأٌ كخطوطٍ في كثي ... بٍ تحتَ بدرٍ مستنيرِ يرنو فتفعل بالعقو ... لِ لِحاظُه فعلَ الخمورِ فتنتْ ملاحةُ وجههِ ال ... وضَّاحِ ربَّات الخدورِ يستوقفُ الأحداقَ إذ ... يبدو بمنظرِه النَّضيرِ مهما نسيتُ فلست أنْ ... سى ما مضى لي بالغويرِ إذ زارَ بعد إطالةِ ال ... هِجرانِ في ليلٍ قصيرِ ووفى بلا وعدٍ وكم ... وعدٌ يشابُ له بزورِ أحْيَى بزورته وقد ... تلِفتْ به روحُ المزورِ وأدار أكؤسه على الَّ ... سكرانِ من لحظِ المديرِ راحٌ يذكِّرنا بها ... عهد الخوَرْنَقِ والسَّديرِ شمسٌ لها إشارقُها ... وقتَ الهجيرِ بلا هجيرِ ضمنتْ وأوفتْ أنَّها ... تنفي الهُمومَ من الصُّدورِ وتعيدُ أوقاتَ السُّرو ... رِ بغير أوقاتِ السُّرورِ فوحقِّ ساحرِ مقلتي ... هِ في العشايا والبُكورِ إلا بمدحِ المصطفى ال ... منعوتِ بالحسبِ الخطيرِ مولًى خزائنُ علمِه ... في صدرِه لا في الصُّدورِ فاقَ الأوائل بالعلا ... والفضلِ في الزمن الأخيرِ إن نمَّقتْ كفَّاه طر ... ساً خيلَ كالرَّوضِ المطيرِ

تعساً لمن جاراه فه ... وَبغيرِ شكٍّ في غرورِ لم يدرِ أنَّ صفاتِه ... في النَّاسِ عزَّتْ عن نظيرِ لو كان ذا عقلٍ لَمَا ... قاسَ الجداولَ بالبحورِ وكان بينه وبين السيد موسى الرَّام حمداني مراجعات، فكتب بعض الظرفاء عن لسانه إلى السيد قصيدةً شهيرة، كالشمس وقت الظهيرة، واقتضى الأمر عدم إخباره بذلك، فراجعه عنها بقوله: يا دَير سمعان ذكَّرتني ... رسومكَ الدُّرَّسُ الدَّريسا أودتْ بسكَّانكَ اللَّيالي ... ولم تدعْ منهم أنيسا فلا أغَبَّتْك غادياتٌ ... ولا عدتْ ربعكَ الدَّريسا والناسُ مثل الرُّسومِ إلا ... إذا جنوا فاخراً نفِيسا فكتب إليه البديعي هذه القصيدة: ليس إلا بالقرب ما بك يوسى ... من جوًى دونه يُذيبُ النُّفوسا قد سقتْك الأيامُ خمرةَ وجدٍ ... وأدارت من البِعادِ كؤوسا بعَّدت عنك من تحبُّ وهذا الدَّ ... هرُ يولي الفتى نعيماً وبوسا أين أوقاتُك التي كنت فيها ... لم تبِتْ من رِضا حبيبٍ يَؤوسا حيث يسقيكَ خَنْدريساً حبيبٌ ... ريقُه العذب يزدري الخَندرِيسا ذو قوامٍ ما ماس في الرَّوضِ إلا ... علَّم الغصنَ قَدُّه أن يميسا طالما زار في الدُّجى وثُريَّ ... اه تحاكي في المغرب الإنكيسا غلساً خوفَ لائمٍ والذي يكْ ... تمُ وصلاً يحاول التغليسا فسقى عهدَه بجِلِّقَ عهد الدَّ ... معِ من مقلتي وربعاً أنيسا بلدةٌ ما ذكرتها قطُّ إلا ... حرَّك الشوقُ من غرامي رسيسا واستهلَّت مدامعي كالغوادِي ... وغدا القلب من جَواه وطيسا منذ فارقتُ أهلها لم يطبْ لي ... صفوُ عيشٍ يحبو نديماً سَؤوسا منها: من أناسٍ ذكوا أصولاً وكانوا ... من أناسٍ نموا وطابوا غُروسا نصروا دين ربِّهم بمواضٍ ... كم أذلَّتْ جحافِلاً وخميسا تقف النَّاسُ هيبةً ووَقاراً ... بحِماهم إذا رأوهمْ جلوسا أذْهب الله عنهم الرِّجسَ والفح ... شاءَ دون الأنامِ والتَّدليسا وبعد أن رأى هذه القصيدة المنحولة، أخذه ما أقامه وأقعده، وملكه ما أزعجه وأكمده. ولم يبقى أحدٌ إلا زاره واشتكى، وزأر وبكى. فكتب إليه معتذراً: ما لموسى الشَّريف أصبحَ يبدي ... بعد ذاك الإقبالِ هجري وصدِّي ما كفى أنه أراد لي الكيْ ... دَ مراراً ولم ينل غير وجدِ زار دار النَّقيب ذي الفضلِ من أو ... صافَه الغرُّ ليس تُحصى بعدِّ ذي المعالي والمكرمات حجازي ... من غدا في الأنامِ من غيرِ نِدِّ سيدٌّ جوده لو اقتسمته النَّا ... سُ طرًّا لم تلق طالبَ رِفدِ الجليل الشَّهيرُ بابن قضيب ال ... بان لا زال للورى بدر َسعدِ واشتكى عنده وذمَّ ولكن ... ذَمُّ مثلي من مثله ليس يجدي شاتماً ملء فيهِ في معرض الهز ... لِ ووالله لم يرم غير جدِّ مُسبلاً دمعهُ كأنَّ حبيباً ... بعد قربٍ رماهُ منه ببعدِ مبدياً من حرارة القهرِ ما لو ... حلَّت الكونَ لم يكن كُنهَ بردِ وبدا مغرماً كأن بشَتمي ... آدميٌّ غدا بصورةِ قردِ والذي أوجبَ التَّخاصم أني ... كنت قدْماً منحته صفوَ وُدِّي ثمَّ كلَّت قريحتي عن مديحٍ ... فاستعارت له حديقة حمدِ ورآها من بعد حولٍ وشهري ... ن بدرجٍ قد كان من قبلُ عندي فبدا منه ما بدا وسقاني ... وتحسَّى من أكؤسِ الذمِّ وِردي وعلى كلِّ حالةٍ سيِّدُ الأح ... كامِ أرجو وما سواه تَعدِّ

ولما دار هذا القول، وهدر القوم هدر الشول. كتب السيد أحمد بن النقيب يداعب البديعي بهذه الأبيات، المخصوصة هنا بالإثبات. وهي قوله: مولايَ يوسفُ إن يقولوا سارِقٌ ... للشِّعر فاحذر أن تضيق وتضجَرا هذا نبيُّ الله يوسفُ قيل قد ... سرق الصُّواعَ وكان قولاً مُفترَى لك من فرائدِكَ الشَّواردِ شاهدٌ ... عدلٌ يردُّ الخصمَ عنك محيَّرا فإذا تناشدها العداةُ وأبصَروا ... من حسنِها ما لم يكنْ متستِّرا ذَهلوا عن الأيدِي ولكن قطَّعوا ... أكبادَهُنَّ تلَهُّفاً وتحسُّرا وللبديعي يودع ابن الحسام، حين فارق الشام، بعد انفصاله عن قضائها، وتوجه إلى مركز عِزَّه، ويعتذر إليه عن تخلُّفه عنه: أُحاشيهِ عن ذِكرى حديث وداعِه ... وأُكبِرُه عن بثِّه وسماعهِ وما كان صبري عند وَشْك النَّوى على ال ... جوى غير صبرِ الموتِ عند نزاعِهِ ونحنُ بأُفقِ الشَّامِ في خدمةِ الذي ... يضيقُ الفضا عن صدرهِ واتِّساعهِ أجَلُّ حماة الدِّنِ وابنُ حسامهِ ... وحامي حِمى أركانِهِ وقطاعِهِ عشِيَّة توديع المآثرِ والعُلى ... وكلُّ فخارٍ للورَى في رِباعِهِ وما سرتُ عن وادي دِمشقَ ولم يسرْ ... وسُؤدُدُه في مُدْنِهِ وضياعِهِ سوى أنَّني لا أرتضِي أن أرى بهِ ... سواهُ على أعيانهِ ورِعاعهِ فأيُّ فؤادٍ بعد يومَ رحيلهِ ... غدا سالماً من وجدِه وانصداعِهِ قيا أيُّها السَّارِي عن الشَّامِ بعدَما ... ثوى عدلُهُ في قاعهِ وبقاعهِ ويا قادماً بل راحلاً عن بلادِنا ... وفي كلِّ أرضٍ نيِّرٌ من شعاعِهِ فلا تنسَ عبداً نازِحاً شاع ذِكرُه ... إلى بابِكَ السَّامي علا بانْقطاعِهِ ومن كانَ للأُسْدِ الضَّواري انتماؤُه ... له غُنْيةُ في دهرِه عن ضياعِهِ وأنت الذي نوَّهتُ من قبلُ باسمِه ... وأبقيْتُ ذِكراً خالداً باصطِناعِهِ وله من قصيدة، يمدح بها النَّجم الحلفاوي، مطلعها: أتى زائراً وهْناً ولم يخشَ عاذِلاً ... ونورُ ذُكاءِ الأُفقِ سار مراحِلا وجادَ بما لو رُمْته من خالهِ ... لكانَ لما أوْلى من الوصلِ باخِلا حبيبٌ لو أنَّ البدرَ أصبحَ حائزاً ... ضِياءَ مُحيَّاهُ لما زال كامِلا رشيقٌ كخطوط الخيزرانِ ما انثنَى ... وما مالَ إلا وانثنَى القلبُ مائِلا يحرِّك بالأعطافِ أجنحةَ الهوى ... إذا حَرَّكَتْ من فوقهِنَّ الغلائِلا فبِتُّ أعاطيهِ سلافَ مُدامةٍ ... ترُدُّ الدَّياجي من سناهُ أصائِلا إذا بزَغتْ من راحتيهِ بدا من السَّ ... رورِ لنا ما كان مِن قبلُ آفِلا إلى أن نضَا ثوبَ الشَّبابِ الدُّجى وقد ... غدتْ زُهرُه إلا قليلاً أوافِلا وذو الرَّعثاتِ الحمرِ هبَّ كأنَّما ... عليه ضِياءٌ شامَ مَناضِلا الرَّعثات: جمع رعثة، ورعثة الدِّيك عثْنونُه. قال الشاعر: من صوتِ ذي رَعَثاتٍ ساكِن الدارِ فكبَّر مولاهُ وهلَّلَ إذ رأى ... هزيعَ الدُّجى الزِّنجيِّ أدْبر راحِلا وقام بجيشٍ من ذويه كأنَّه ... وإياهم كِسرى يحثُّ القبائِلا على قضُبِ العقيانِ يمشي مجلبباً ... جلابيبَ مثل الروضِ ما زالَ حافِلا فسرْنا إلى نادٍ رحيبٍ سماؤهُ ... تريكَ بدوراً مشرقاتٍ كوامِلا إلى منزلٍ للأُنسِ فيهِ منازلٌ ... بهنَّ غدا حسناً يفوقُ المنازِلا حكى دنِفاً أحشاؤُه قد تضرَّمتْ ... بنارِ الأسى لو كان يشكو البلابِلا

به يبذُل الحسنَ المصونَ لمن بهِ ... وفي غيرهِ لو كان ما كانَ باذِلا ترى جدرَه كالعاشقينَ من الجوى ... غداةَ النَّوى تُبدي دموعاً هواطِلا لقد شادَه نجمُ الهِدايةِ واحدُ ال ... أفاضِلُ في الشَّهباءِ طولاً ونائِلا منها في المديح: وكم نمَّقتْ أفكارُه غلسَ الدُّجى ... رياضاً سقاها الفضلُ طلاًّ ووابِلا حدائقُ لم يكسُ الهجيرُ نظيرها ... ذبولاً وقد تلقى الرِياضَ ذوابِلا عرائِسُ تلقاها بضافِي ثيابِها ... فإن لاحَ ما فيهنَّ قلتَ ثواكِلا تُجيبكَ عمَّا رمْتَ وهي صوامتٌ ... ومن ذا رأى خرسا تُجيب المُسائِلا بدائِع فكرٍ للأواخِر وطَّدتْ ... محاسِن ذِكرٍ تستقلُّ الأوائِلا ألمَّ في هذه القطعة بقول السري الرفاء، في وصف الكتب: عندِي إذا ما الرَّوضُ أصبحَ ذابِلا ... تحفٌ أغضُّ من الرياضِ شمائِلا خُرسٌ يحدِّثُ آخرٌ عن أولٍ ... بعجائِبٍ سلفتْ وكنَّ أوائِلا سُقيتْ بأطرافِ اليراعِ ظهورها ... وبطونُها طلاَّ أجمَّ ووابِلا وتُريكَ ما قد فاتَ من دهرٍ مضى ... حتى تراهُ بعينِ فكرِكَ ماثِلا وله في الشيب: يقولُ ليَ الشَّيبُ وقد راعني ... منه سنًا قد أبادَني الوسَنا إلى مَ لا ترعوي ألستَ ترى ... قد لبستْ كلُّ شعرةٍ كفنا وله فيه أيضاً: وسائِلةٍ حالي وقد ودَّع الصِّبا ... ولاحتْ نجومُ الشَّيبِ في الرأسِ تُزهرُ وما حالُ من يغدو ومن فوق رأسِهِ ... مدى عمرِه لا زالتْ البيضُ تشهرُ محمد بن نور الدين الشهير بابن الدرا هو لمشامِّ الأرواح شمامة، وكأنَّه زهرةٌ تفتحت عن كمامة. بزع في أفق دمشق وبها برع. وما أتحققه إلا في بحبوحة الترف ترعرع. فمرة يتشبه بالبدر إذا أقمر، وتارةً يتمثَّل بالغصن إذا أثمر. وهو في لطف الشمائل، بمثابة نور الخمائل. ترقرق عليه ماء القبول، فنظم ما هو أرقُّ من نسيم القبول. وشعره يكاد من كثرة مائه يتقطر، ويكاد القلب من غرامياته يتفطر. ولأجل أنَّه من أشعار الصِّبا، وهي كما قيل التمر باللِّبا. رق رقة دين الفاسق، وشقَّ عليه قلبه العاشق. وأنا من منذ ولعت بالشعر، وساومت منه من سوق الرقيق كلَّ غالي السِّعر. شغِفٌ به وبشعرِه ... شغفَ المحبِّ بمن يحبْ أتفكه بيانع ثمره، وأعدُّه من ليلي ومن سمرِه. وقد أتيتُ منه بما أسأل في وجنة الدهر غرةً ماء الحسن فيها مترقرق، وحسبك من شعرٍ إذا ما غنَّى به النبت الهشيمُ يورق. فمنه قوله في قصيدةٍ، مطلعها: ساقٍ أغنُّ وروضةٌ غنَّاءُ ... ومُدامَ كرخِيَّةٌ صهباءُ يسعى بها طوراً ويجلس تارةً ... فيديرُها من لحظِه الإيماءُ رشأٌ تجاذبتِ المحاسنُ خلقهُ ... حتى لودَّتْ أنَّها أعضاءُ خطَّار قامتِه الرطيبةِ ما انثنَى ... إلا استلذَّتْ فتكةَ الأحشاءْ وشموسُ طلعتِ حسنِه مذ أسفرتُ ... حمدتْ أُفولَ عقولِها العقلاءُ في جنحِ طرَّتهِ وصبحُ جبينِه ... نعمَ الصَّاحُ وحبَّذَ الإمساءُ أفديهِ إن أخذَ الطِّلا منهُ وقد ... دعتِ الكرَى أجفانُه الوطفاءُ يحبوكَ من تحفِ الحديثِ لطائِفاً ... هي عنديَ الأكوابُ والنُّدماءُ منها: حتى إذا أذكى الحياءُ بخدِّهِ ... لهباً بهِ تتلهَّبُ الأحشاءُ واحمرَّ قلبُ عقاربِ الصُّدغينِ وان ... هلَّتْ بلؤلؤِ عقدِها الجوزاءُ فوقفتُ أحيرَ من مناطِق خصرِه ... متوسِّلاً ودعائِي استصحاءُ فانزاحتِ الجوزاءُ نحوَ غروبِها ... وبدا لشمسِ جبينِه لألاءُ ورنا إليَّ ملاطِفاً بعتابِه ... ويزينُه أدبٌ له وحياءُ منها:

فوحقِّ إفحامِي بما أملاهُ لي ... ولأنَّني تعنو ليَ الفصحاءُ لم أعدو ما أسدَتهُ لي حسناتُه ... أنَّى وكلِّي في هواه وفاءُ لا بل عليَّ من العفافِ وصونِه ... وعلوِّ منصبِ حسنِه رقباءُ ما ثمَّ غير تلاثمٍ وتعانقٍ ... ويديَّ مفرشُ جيدِه وغطاءُ وفمي على فه وأشكوهُ الظَّما ... ظمأٌ جناه لقلبيَ الإرواءُ حتى إذا أفضتْ أفاويهُ الصَّبا ... وأتتْ تكلِّلُ ذيلها الأنداءُ وبدا الكرى يسطو على إحساسِه ... ورقى إلى أجفانِه الإغفاءُ عطسَ الصَّباحُ فهبَّ يمسح نعسةً ... لم يشفِها من مقلتيهِ لقاءُ قلت: قال المرزوقي في شرح الفصيح: عطِس: فاجأ من غير إرادة، ومصدره العطس، والعُطاس الاسم، جعل كالأدواء. يقال: أرغم الله معطِسه. وعطِس الصبح والفجر، على التشبيه. قلت: كما في قول ابن الوردي: قلتُ لهُ والدُّجَى مولٍّ ... ونحنُ في الأنسِ والتَّلاقِي قد عطِس الصُّبحُ يا حبيبي ... فلا تشمِّتْهُ بالفراقِ ومثله عطاس الدهر، كما في قول الغزي: كم من بكورٍ إلى فخرٍ ومنقبةٍ ... جعلتَهُ لعطاسِ الدَّهرِ تشميتا وله من أبيات، أولها: عطفتُ على ودِّ الهوَى وولاتِه ... وأخلصتُ أسراري لحفظِ إخائِهِ وما ذاك إلا أن حبانِي بشادنٍ ... يقطِّعُ أكبادَ الجفا بوفائهِ رخيمُ معانِي الدلِّ أدمثُ من رُوا ... نعيمِ خدودِ الغانياتِ ومائهِ سقيمُ حواشِي الطرفِ والخصرِ عزَّ أن ... يلوحَ لرأيِ العينِ بندُ قبائهِ غلامٌ كأنَّ الله ألبسَ خدَّهُ ... لِثامَ ورودٍ مذهباً بحيائهِ وأودعَ جفنيهِ من السِّحرِ صارماً ... تلوحُ المنايا منهُ عندَ انتضائهِ فكم من فؤادٍ في وطيسِ غرامهِ ... جريحٍ بهِ مخضوبةٍ بدمائهِ وللحسنِ بل لله بانة قدِّهِ ... إذا عبثتْ فيها طلا خيلائِهِ يصوِّبها نحوي فيوهمنِي المنَى ... أداءَ سلامٍ خصَّني بأدائِهِ وما هو إلا أن تحقَّقَ أنَّ لي ... بقية روحٍ سلَّها باثْنائهِ إلى اله أشكو أرقمَاً فوقَ جيدهِ ... يجوسُ خلالَ الفكرِ حال اختفائهِ ومهما بدَا من وكرِه وهو يلتَوي ... لوى كلَّ عضوٍ مستهاماً بدائهِ وله من قصيدة في الغزل، مستهلها: إليكَ شقيقي في الصَّبابةِ أندبُ ... أواناً به كنَّا نلذُّ ونطربُ أوانَ امتطينا فوقَ زهوٍ مضمَّراً ... له قصباتُ السَّبقِ أيانَ يلعبُ حملْنا على جيشِ الهمومِ فلم ندعْ ... به منه إلا ما يوارِيه مهربُ ولا رمحَ إلا من قوامٍ مهفهفٍ ... ولا سهمَ إلا ما أراشتْهُ أهدبُ ولا مرهفٌ من غير ساجٍ مدعَّجٍ ... ولا درعَ إلا ثوبُ حسنٍ مذهَّبُ نصِرنا به مذ منَّ بالوصلِ شادنٌ ... صدوقُ الأمانِي في ترجِّيهِ يكذبُ رقيقُ حواشي الحسنِ لولا مهابةٌ ... له كادَ بالألحاظِ حاشاهُ ينهبُ لطلعتِه في كلِّ قلبٍ مشارِقٌ ... وللعقلِ منها حين تشرقُ مغرِبُ خبيرٌ بأحكامِ الهوَى فجميع ما ... ينمِّقهُ الواشي لديهِ مكذَّبُ وإذ كانَ مجبولَ الخلالِ على الوفَا ... خليلكَ فاللاَّحِي عليهِ معذَّبُ وله مضمِّناً بيت المهيار: فتنتُ بهِ والصُّبحُ من فرقِ شعرِه ... بدَا ولشمسِ الرَّاحِ فيها غروبُ فكدتُ لِما شاهدتُ لولا طُلوعُها ... بمشرقِ أفقِ الخدِّ منه أذوبُ ولولا طلوعُ الشمسِ بعد غروبِها ... هوتْ معها الأرواحُ حين تغيبُ وله مضمِّناً: لقد علقتُ ببدرٍ زانهُ حورُ ... في مقلتيهِ بهِ يسطو على المهجِ

وأهلهُ لم تزلْ تغريهِ في تلفي ... وكلَّما زادَ تيهاً زاد بِي وهجِي فليصنعوا كلَّما شاءوا لأنفسِهِم ... همْ أهلُ بدرٍ فلا يخشونَ من حرجِ تذكرت هنا قول أيمن بن محمد السعدي، من موشَّح أودع فيه هذا البيت: لولا هواكَ المرادُ ... ما كنتُ ممنْ يُصادُ ولا شجانِي البعادُ ... يا بدرُ أهلُكَ جادوا غلِطتُ جاروا وزادَا ... لكنَّهم بكَ سادُوا فليفعلوا ما أرادوا ... فإنَّهم أهلُ بدرُ ومن مبدعاته قوله: ليس إلى الكيمياءِ منتسِباً ... من باتَ من حرِّ نارِها موهَجْ حتى استحالتْ أجزاؤها ذهبَاً ... بل من يعيد العقيقَ فيروزجْ قلت: لله درُّه، ما أبدع درَّهُ! وقد أخذ هذا المعنى شيخنا عبد الغني النابلسي، فقال: قولوا لأهلِ الكيميا إن تدَّعوا ... جعلَ اللُّجينِ كما زعمتُمْ عسجدَا بالله هل في وُسعكمْ أن تصبِغوا ... حجر العقيقِ فتجعلوهُ زبرجدَا وللإشبيلي ما يقارب هذا في نار: لابنه الزَّندِ في الكوانين جمرٌ ... كالدَّراري في اللَّيلة الظَّلماءِ خبِّروني عنها ولا تكذبوني ... أسِواها يكونُ للكيمياءِ سبكتْ فحمُها صفائحَ درٍّ ... رصَّعتها بالفضَّة البيضاء وله خمسة أبيات، كالخمسة السيارات، يخرج من أوائلها اسم عثمان، وهي: على كلِّ عضوٍ فيَّ دارت لحاظهُ ... كؤوس غرامٍ قد مُلئن من السِّحرِ ثملْتُ بها وجداً ولم أصح صبوةً ... فها أنا بين الصَّحو حيرانُ والسُّكرِ معاذ الهوى أن يُرتجى من يدِ الهوى ... خلاصي وأن يُقضى بغيرِ الهوى عمري أإن كان لي عن مذهب الحبِّ مذهبٌ ... فلا برحت روحي تعذَّبُ بالهجرِ نعمتُ بهذا العيش والموت دونهُ ... إذا كان يرضيه ولو كنتُ في أسرِ وله من رائية ملئت بنوافث السحر، وغازلت عيون المها بين الرصافة والجسر: أما وظبا الألحاظِ أرْهفها السِّحرُ ... وجال فرنداً في جوانبها الخمرُ فصالت بفتكٍ جاوز الحدَّ حدُّها ... على أنَّها مرضى وأجفانها فترُ وزانةِ قدٍّ ثقَّفتْها يد الصِّبا ... ولم يُثنها إلا من الصَّلف السُّكرُ فجارت على الأحشاء فتكاً وإنها ... لعادلةٌ بل لا يُلمُّ بها وزرُ وعهدٍ بأيدي الوصل كان لنا به ... مبايعةٌ حيَّ مرابعه القطرُ وحقِّ مواثيق الهوى بين أهله ... وعذب إشاراتٍ لهم دونها السِّحرُ لقد وضحتْ للحسن في التُّرك آيةٌ ... على من عداهم مثل ما ابتسم الفجرُ فكم فيهم من كل أحورَ إن رنا ... أصاب فؤاد النُّسك يتبعه الصَّبرُ له حركاتُ الظَّبي يمرح عابثاً ... ويمشي الهوينى ثمَّ يدركهُ النَّفرُ وذي طرَّةٍ من فوق صلتٍ كأنها ... حواشي الدُّجى قد عنَّ من تحتها البدرُ تبدِّدها منه الرُّعونة غافلاً ... ولكن على تبديدها جُمع الشَّرُّ وخصرٍ ولكن لا مسمَّى لكنْهه ... مناطقه حيرى وما تحتها مرُّ يُناجي معانيه الدَّفين من الهوى ... فينهضُ من بعد الممات له نشرُ تعلَّقتهُ من بعد ما اندمل الحشا ... ولم يبق نَهيٌ للغرام ولا أمرُ فيا ويح هذا القلب كم طعن الهوى ... ويعلم أن الحلوَ منه هو المرُّ فياربِّ إما لجَّ في غُلوائه ... فصبِّره للبلوى فقد برَّح الضرُّ وجمعته مع مليحٍ ليلة، يشتهي الفلك في شبهها نيله. والمجلس بتزاحم الرقباء شرق، وكلٌّ منهم من فرط غرامه صبٌّ أرق. فلاحت من المليح إيماءة مفتقد، أعقبتها وجلةٌ من ناظرٍ منتقد. فلم يتمالك الشيخ أن صوب النظر، حتى كاد يفضي به إلى الأمر المنتظر.

فلما استشعر الغلام عطف عطفة مشفق، وأراه في ضمن إغضائه موعد مرفق. مشيراً للكتمان تارةً بانطباق جفنٍ ملئ سحراً، وآونةً بإظهار ثنايا أبانت فوق ياقوت الشفاه درًّا. فقال: قلتُ له والهوى بيننا ... يطوف بالكأس الهنيِّ المري اكفف حسامَ اللَّحظِ عن مهجةٍ ... ذابت لريَّا ريقكَ السُّكري فأغمد الهنديَّ من جفنه ... ورصَّع الياقوت بالجوهرِ وله، ويخرج منه اسم بكري بطريق التعمية: لوى واوَ صدْغٍ خاله الخال عقرباً ... أصاب بها كبدي الصَّديع ولا يدري ولا بدَّ من رشفٍ يبلُّ غصونها ... فما شفَّ قلبي غيرُ منع لمى الثَّغرِ طريقة حله، أن الواو بالحساب الهندي بستة، وترسم هكذا 6وأراد بليها قلبها، فتصير هكذا 2، وهذا رسم الاثنين؛ وله الباء. وأراد بقوله كبدي ولا بد، الكاف والياء؛ ورشفٍ يبل غصونها الراء، وبالتنصيص عليه بقوله: فما شفَّ. وكون العمل في البيت الأول دون الثاني، أو الآخر، أو فيهما، مما يعاب عند أهل هذا الفن. لك الله دعني من حديثك إنَّه ... متى غبت تشقى من سواه المسامعُ وصنْ رونقَ الوجه البديع جماله ... فإن لحْت حاضت في الجفون المدامع المعنى: أنك إذا لحت سالت العيون دماً، لشدة شغفها بك، ففيه استعارة تبعية أو مكنية. شبه المدامع بالنساء، والمرأة إذا اشتدت شهوتها وأفرطت سال حيضها. وأصله قول المتنبي: خفِ الله واستُر ذا الجمال ببرقعٍفإن لحتَ حاضت في الخدود العواتق. والعواتق: هي الشَّوابُّ من النساء. وله: لحاظٌ كأن الله أودع جفنها ... حياةً لأرباب الهوى وهلاكا إذا فوَّقت سهماً يخطُّ دم الحشا ... على نصله أهلاً جعلت فداكا وله: رأت نمل عارضه مقلتي ... تحوم على الثغر من غير نهلِ فسالتْ دماً ثم قالت لنا ... ذَبحْت كراي على بيت نملِ وله: وقد زعموا أن القلوب بحبَّةٍ ... تصاد وقالوا إنها حبَّة الخالِ ولكنَّه قد صاد قلبي بحبِّه ... بلا حبَّةٍ ربُّ الولا صاحب الخالِ وله: ويح قلبي من ظالمٍ لم يبال ... بذَهاب النفوس تحت النِّعالِ ما بدا للعيون إلا رأته ... مرهفاتٍ وأسهماً وعوالي لا ترم وصله فقد قطعت بي ... ضُ سرار الجبين رأس الوصالِ تناوله من قول الأمير المنجكي: ألا دعني وشأني يا ابن ودي ... ومحوي كلَّ شخصٍ من خيالي أيقصد من أسرَّته سيوفٌ ... طبعن لضرب أعناق السُّؤالِ ولي من أبيات: أمواج إحسانٍ أسرَّة وجهه ... لصديقه وسيوف بأسٍ للعدى وله: وكنت أصون الدَّمع عن أن أذيله ... إلى أن دنا يوم التَّرحُّل لا كانا فقلَّدتها يوم الوداع بلؤلؤٍ ... أحالته أنفاس التَّحرُّق مرجانا وله: ألزمت نفسي الصَّوم عن شادنٍ ... كالبدر يستوعبه النَّاظرون آليت لا أفطر إلا على ... وجه هلالٍ ما رأته العيون وله: وحقُّ هوى مصافحةِ المنايا ... أخفُّ عليَّ منه باليدينِ إذا فكَّرتُ فيه لمست رأسي ... كأني موقنٌ بهجوم حيني أصل هذا قول أبي نواس في الأمين بن الرشيد: إنِّي لصبٌّ ولا أقول بمن ... أخاف من لا يخاف من أحدِ إذا تفكَّرت في هواي له ... ألمس رأسي هل طار عن جسدي وهذا النوع من البديع سماه المبرد في الكامل والتبريزي في شرح ديوان أبي تمام الإيماء. وهو إما إيماءٌ إلى تشبيه، كقوله: جاءوا بمذقٍ هل رأيت الذِّئب قط أو إلى غيره. قال الشهاب في كتابه الطراز: وكنت قبل هذا سميته طيف الخيال، وهو أن ترسم في لوح فكرك معنًى صوَّرته يد الخيال، فتصبه في قالب التحقيق، وترمز إليه بجعل روادفه وآثاره محسوسة ادِّعاءً، كما أن ما يلقى إلى المتخيلة في المنام يرى ذلك، ولا يلزم من ابتنائه على الكناية والتشبيه أن يعد منهما، لأمرٍ ما يدريه من له خبرةٌ بالبديع.

وفي كتاب الإشارة لابن عبد السلام، من المجاز تنزيل المتوهم منزلة المحقق، كقوله: تغرب في عينٍ حَمِئَةٍ، أي في حسبان رائيها. ومثله من الشعر قول أبي نواس. وأنشد البيتين. وللمتنبي في منهزم: ولكنَّه ولَّى وللطَّعنِ سورةً ... إذا ذكرتها نفسه لمس الجنبا المنازي: تروع حصاهُ حاليةَ العَذارى ... فتلمس جانبَ العِقدِ النَّظيمِ المنجكي في وصف خط: لو شامَ ذو الخالِ نقط أحرفهِ ... لراح باليدِ لامسَ الخدِّ ولشهاب: للهِ نهرٌ صفا فأبصرَ من ... يقوم في جنبِ شطِّه سمكه يمدُّ كفًّا له ليأخذها ... يظنُّ نسجَ الصَّبا لها شبكه وهو مأخوذ من قول عمر المحَّار: انظر إلى النَّهرِ في تطرُّدِه ... وصفوهِ قد وشَى على السمكِ توهَّم الرِّيح صفوهُ فغدا ... للنَّسجِ فوق الغديرِ كالشبكِ قلت: ثم رأيت الشهاب ذكر بيت أبي نواس في آخر الريحانة، وقال: لقد تلطَّف وأغرب في قوله أمسُّ رأسي؛ لجعله ما يترقبه واقعاً به، حتى فتش عن رأسه، وجسها بيده، ليعلم هل قطعت أم لا. وهذا كقول المنازي. وأنشد البيت. وفيه التعبير عن المقال بالفعال، كقوله: ويشتمُ بالأفعالِ قبل التكلمِ ومثله قول ابن رشيق: قبَّلني محتشِماً شادنٌ ... أحوجُ ما كنت لتقبيلِهِ أومأَ إذ حيَّا بنا رنْجةً ... عرفتُ منها كنهَ تأويلِهِ لما تطيَّرتُ بمعكوسها ... ضمَّت بناناً نحو تقبيلِهِ قال: وهذا لم أر من ذكره، وهو مما استخرجته، وسميته نطق الأفعال. انتهى. ولابن الدَّرَّا مذيِّلاً بيتي الحتاتي، اللذين أعار بهما ساحة الشرفين صفحه، وساق بهما إلى الورد العالي نفحه. ومما قاله: بصبا المرجةِ المبلَّلِ ذيلُه ... علِّلِ القلبَ علَّ يبردُ ويلهْ وادَّكرْ يومنا بيومي حبيبٍ ... سلفا والسُّلاف تركض خيلهْ ونديمٍ رقَّت حواشيه لطفاً ... وبحكم الهوى تحجَّب نيلهْ سمهريِّ القوامِ ما ماسَ تيهاً ... أو دلالاً إلا وأتلفَ ميلهْ ذي محيًّا كالبدرِ في جنحِ ليلٍ ... باختلاسِ العقولِ قد جنَّ ليلهْ جئت من تحتِ ذيلهِ مستجيراً ... والتَّجنِّي عليَّ يسحب ذيلهْ قلت يا من في حلبةِ الحسنِ قد حا ... زَ السَّبق حيث الجمال تركض خيلهْ الأمان الأمان من حربِ إعرا ... ضِكَ عن مغرمٍ تراكم ويلهْ ومن مجنونه المستغرب، قوله: لنا صاحبٌ مغرًى بعونِ ذوي الهوى ... يشاركهم في وجدِهم والتَّولُّهِ إذا عزَّ أن يلقى محبًّا رقى على الشَّ ... واهقِ يستقري دخان التَّأوُّهِ وله في المنزلة المعروفة بالوجه، في طريق الحاج المصري: شكا أهلُ وجهٍ قلَّة الماء بأرضهم ... وأنَّ الحيا شحَّت عليهم سماؤُهُ فقلت لهم قولاً لهم فيه سلوةٌ ... إذا قلَّ ماء الوجهِ قلَّ حياؤُهُ المصراع الأخير مضمنُ من قول القيراطي في هذا المحل: أقول وقد جِئنا إلى الوجهِ جمعنا ... عطاشاً وكلٌّ خاب فيهِ رجاؤُهُ إذا قلَّ ماءُ الوجهِ قلَّ حياؤهُ ... ولا خير في وجهٍ إذا قلَّ ماؤُهُ قلت: ووجه الهجو للوجه، بسبب قلة مائه هو الوجه. وللقطب المكي في مدحه: أقولُ ووادي الوجهِ سال من الحيا ... وقد طابَ فيهِ للحجيجِ مقامُ على ذلك الوجهِ المليحِ تحيَّةٌ ... مباركةٌ من ربِّنا وسلامُ وللقيراطي فيه: أتيتُ إلى الحجازِ فقلتُ لمَّا ... تبدَّى وجههُ لي وارتويتُ وكم في الأرضِ من وجهٍ مليحٍ ... ولكن مثلُ وجهكَ ما رأيتُ وهذا قد ظهرت فيه الوجهة، واندفعت عنه الشبهة. وبهذا تعلم مذهب العرب، وأهل الأدب، في مدح الشيء وذمه، كما فعل الحريري في الدِّينار.

وقد ألف الثعالبي، وابن رشيق في ذلك. قال ابن رشيق: أكثر ما تجري هذه المحامد والمذام على جهة المسامحة، لا من باب المشاححة؛ وإلا فالشيء لا يوافق ضده، فيكون الحسن قبيحاً والقبيح حسناً في حالٍ واحدة لمعنى واحد، لكن لكل شيءٍ كما ذكر الجاحظ مساوٍ ومحاسن، كما فعل عمرو بن الأهتم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استشهده الزبرقان ابن بدر على ما ادعاه من الشرف في قومه. قال عمرو: أجل يا رسول الله، إنه مانع حوزته، مطاعٌ في أدنيه، شديد العارضة. فقال الزبرقان: أما والله لقد علم أكثر مما قال، ولكن حسدني وشرفي. قال عمرو: أما وقد قال ما قال، فوالله ما علمته إلا ضيق العطن، زمر المروءة، لئيم الخال، حديث الغنى. فرأى الكراهة في عين النبي صلى الله عليه وسلم لما اختلف قوله، فقال: يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى ولا قد صدقت في الثانية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحراً، وإنَّ من الشعر لحكمةً ". ولقد أحسن ابن الرومي، حيث قال: في زخرفِ القولِ تزيينٌ لباطلهِ ... والحقُّ قد يعتريهِ بعضُ تغييرِ تقولُ هذا مجاجُ النَّحلِ تمدحهُ ... وأن تعبْ قلتَ ذا قيءُ الزَّنابيرِ مدحاً وذمًّا وما جاوزتَ حدَّهما ... سحرُ البيانِ يُري الظلماءَ في النُّورِ عبد الباقي بن أحمد، المعروف بابن السَّمَّان زهرة النَّاظر المتنشِّق، وزهرة المجتلِي المتعشِّق. مسَحتْ خلالُ قذى العيون؛ فما رأته إلا وهي نقيَّة الجفون. تتستَّر الملاحةُ في غلائله، وتتقطَّر الرَّجاجةُ من شمائله. يَعشقُه من كمالِه غَدُهُ ... ويكثِر الوجدَ نحوه الأمسُ وله طبع كالروض صقلت يد الصَّبا ديباجة وجهه الوسيم، تتلَّقى النُّفوس من قبوله تلقِّي المخمور برد النَّسيم. غرائب حديثه نُزه العقول ونجع الأسماع، يتجاوز بها غاياتٍ لم تختلج في خواطر الأطماع. وشعره يفعل بالألباب فعل بنات الدِّنان، وما السحر سحر مِراض الأجفان، ولكنَّما هو سحر البيان. وذكر مبدأ أمره، ومطلع قصيدة عمره. أنه تعاطى الاشتغال وخط غداره ما بَقَل، ثم خرج إلى مصر وروضه على أول ما ينزه المقل. ثم تتابعت عليه الرحل يميناً وشمالاً، وهو يترقى في المعارف استيلاءً واشتمالاً. ولم يبق بلدةً إلا جنى ثمرها، واستفاد وقائعها وسمرها. ولا رئيس إلا فاز بنعمه، وحصل على غرائب قسمه. حتى وصل إلى مجلس السلطان في خاتمة المطاف، فأقام برهةً في مبراتٍ وألطاف. وقد خطبته الحظوة، وما قصرت له الخطوة. ولحظته السعادة بأبصارها، وتواردت لحفايته بأنصارها. ثم كثر فيه المخلط واللاغي، واشرأبت النفوس إلى ما في طبائعها من التباغي. فأبعد بعد ذلك التقريب، وأوشك أن يجفوه البعيد والقريب. وجربه الدهر بالأقدار، تجربة الياقوت بالنار. ثم أعطي مدرسةً بدار الخلافة، فطاوعه البخت بعدما أراد خلافه. واستقر الأمل لديه، استقرار الطِّرس في يديه. ولما كنت بأدرنة وردها فلقيته برهةً، لا أعدها من عمري إلا نزهة. وكنت من الاغتراب، في نهاية الوحشة والاضطراب. فأنست به بعد التوحش، وأنسيت مورداً أرواني من التعطش. ولما كان مقامه بها كنغبة طائرٍ على وجل، لاهتمامه بالعود إلى مقره على عجل. لم أستتمَّ عناقهُ للقائهِ ... حتى ابتدأت عناقهُ لوداعهِ فكتبت إليه عند الوداع، رقعةً محكمة الإبداع. وهي: إمامك التَّوفيق والرُّشدُ ... وخدنك التَّأييدُ والسعدُ وكلَّما حلَّيت في منزلٍ ... قابلك الإقبالُ والجدُّ مولاي من ذكره أنيسي، في وحشتي وغربتي، وخيال لطفه جليسي، في وحدتي وكربتي. أنت الكرى مؤنساً طرفي وبعضهمُ ... مثل القذى مانعاً طرفي من الوسنِ لا زالت مقاليد السعادة طوع يديك، ومرقاة السيادة مشغوفة بلثم قدميك. والعمر المديد، والطالع السعيد. هذا حشو ثيابك، وذا خادم ركابك. فارحلْ لك البشرى فأيمنِ طالعٍ ... وعلى السلامة والسَّيادة فانزلِ

يشهد الله أنني من منذ شدَّت الركاب، وأزفَ البين بفراق الأحباب. صرت مقسَّماً بين نفسٍ مقيمةٍ بكربها، وروحٍ رهينةٍ في ركابها. على أن النَّفس وإن أقعدها الدهر قسراً، لم تقعد عنك ساعةً فكراً. ولا غبت إلا على عيون الإقبال في إغماضها، وعلى نفوس الآمال في انقباضها. حيث رماني الزمان، بسهام الحرمان. وإنَّ من أعظمِ البلوَى أخا لسَنٍ ... يبيتُ ضيفاً لعجمٍ في الورَى خُرَسِ والى الله أرفع قصتي، وأبتهل إليه في دفع غصَّتي. عسَى اللهُ إنَّ الله ليس بغافلٍ ... ولا بدَّ من يسرٍ إذا ما انتهى العسرُ فاسأله سبحانه أن ييسر نيل المنى، ويزيل عنَّا هذا العنا. ويطفئ نار الجوى، على رغم أنف النوى. لنكفر سيئة أليم الفراق، بحسن نعيم التلاق. إن عادَ شملي بمن أهواهُ مجتمعاً ... لا أعتِبُ الدَّهرَ يوماً بالذي صنعَا ثم قدمت إلى القسطنطينية فأْتَلفت به ائتلاف روح، بجسد بالٍ مطروح. وامتزجت معه امتزاج، راحٍ بماءٍ قراح. ومضت لي معه أوقاتٌ عددتها من حسنات الزمان، وجعلتها تاريخ الأماني والأمان. والأوقات لا تتفاضل بالذات، ولكن أوقات اللَّذَّات لذَّات. أتمتع من لفظه بائتلاف العقود، ومن مغناه بسلاف العنقود. حتى تولاه مولاه بعفوه ورضوانه، وقضى بتفريق شمل أخدانِه وإخوانِه. فأضحى كالظَّن المرجمِ، وخبره كاللفظ المرخَّمِ. وقد فقدت به الوطر في نضرته، والعيش الذي يشفُّ عن نبي الرَّبيع في خضرته. وكان أعارني من فوائده صدراً وافياً، وأهدى إليَّ من فرائده قدراً كافياً. فعدمت من فضل ربيعها وورداً، وبقيت يعدها كالسَّيف فرداً. فمما أخذته عنه من أشعاره التي أخذت بأطراف الحسن، وإذا تليتْ على محزونٍ سرتْ عن فؤاده الحزن، قوله من قصيدة، مستهلها: يشوِّقنَا للدَّارِ ذِكرُ الحبائبِ ... وينطقنا بالحمدِ فيضُ المواهبِ وإنَّا لقومٌ لا نرى الحبَّ سبَّتاً ... إذا ما رأتهُ سبَّتاً آل غالبِ ولا نرهبُ الأقدارَ إلا إذا رمتْ ... سهامَ المنايا من قسيِّ الحواجبِ ولا نعذلُ الأحبابَ في الصَّدِّ والجفا ... ولا نرتجي سلمَ العدوِّ المحاربِ إذا كانَ قلبُ المرءِ ليسَ يطيعُه ... فأجدرُ بالعصيانِ قلبُ الأجانِبِ وليلٍ كقلبِ السَّامريِّ وظلِّهِ ... كوكبُه لا تهتدي للمغاربِ قطعتُ وأصحابي سُكارى من الكَرى ... وقد ضمَّنا والزُّهرَ ثوبُ الغياهبِ على ضامرٍ كالسَّهمِ سيراً ورقةً ... فأبعدُ مطلوبٍ وأقربُ طالبِ أحاول سبقَ الشُّهبِ في كلِّ حالةٍ ... يداوِي بنعماهِ جروحَ النَّوائبِ دفعنا بجدواهُ الخطوبَ وجودِه ... وقد يدفعُ الدِّرياقُ سمَّ العقاربِ همامٌ أتى في مجدِهِ وصفاتِه ... وأفكارِه دونَ الورى بالعجائبِ ومولًى يكادُ البحرُ يشبه جودَه ... ولكنَّه كالشُّهدِ عذبُ المشاربِ به تفخرُ الأيَّامُ والمجدُ والعُلا ... إذا افتخرتْ أمثالُه بالمراتبِ وتخشى نهاياتُ العواقبِ رأيهُ ... إذا خافَ أهلُ الرأيِ سوءَ العواقبِ وعلاَّمةٌ لو كانَ من قبلِ مالكٍ ... لما اختلفتْ أقوالُ أهلِ المذاهبِ بفكرٍ دقيقِ الفكرِ في كلِّ مشكلٍ ... من الأمرِ كالسَّيفِ الرقيقِ المضاربِ بعثتُ إليه بالقوافي كأنَّها ... مقانبُ شكرٍ تهتدي بمقانبِ ولولا صروفُ الدَّهرِ أهديتُ ضِعفها ... مرصَّعةً بالنَّيِّراتِ الثَّواقبِ ولكنَّها جهدُ المقلِّ وحملةُ ال ... جبانِ على ضعفٍ ونارُ الحباحبِ فسامِح وعامِل بالتي أنتَ أهلهُ ... فعفوك عندي من أجلِّ المطالبِ وقوله من أخرى يمتدح بها أخا الوزير الفاضل، وهو بتكريت: بالنَّفسِ يسمحُ من أرادَ نفيسا ... والحبُّ أولُ ما يكونُ رسيسَا

وأطارَ عنِّي النَّومَ طيفٌ طارقٌ ... قطع القِفارَ وجاوزَ القاموسا أفلحْتَ كيفَ وصلتَ لِلْوَنَدِيكِ من ... أقصَى البلادِ وجئتَها جاسوسا أم كيف خلَّفتَ الشَّآمَ وأهلَهُ ... وتركتَ وادِي النيْيرَبِ المأنوسا أرضٌ إذا سرَّحتْ طرفكَ خِلتها ... روضاً يقِلُّ على الغصونِ شموسا أن كانَ غيَّرها الزمانُ فإنَّني ... أمسيتُ منِّي قبلها مأيوسا والحبُّ أمرٌ حارَ فيهِ أٌلُو النُّهى ... وأضَل بقراطاً وجالينوسا كالدَّهرِ يلعبُ ما يشاءُ بأهلِه ... يضعُ الرئيسَ ويرفعُ المرؤوسا لا سامحَ الله النَّوى من كافرٍ ... عبدٍ ولا رحِمَ الرَّحيمُ العيسا ومهامةٍ قفرٍ يضِلُّ بها القطا ... ويرى الدَّليلُ بسهلِها التَّغليسا للجِنِّ في أقدارِها زجلٌ فلا ... تلقى بها إنساً وليس أنيسا العرب إذا وصفت المكان بالبعد جعلته مساكن الجن، كقول الأخطل: ملاعبُ جِنَّانٍ كأنَّ تُرابها ... إذا اطَّرَدَتْ فيها الرِّياحُ مُغَربَلُ وقول ذي الرُّمَّة: للجِنِّ باللَّيلِ في حافاتِها زجلٌ ... كما تجاوَبَ يومَ الرِّيحِ عَيْشومُ وهو نبت، أو شجر. سايرتُ فيهِ النَّيِّراتِ بسابقٍ ... يحكِي المهاةَ ويشبهُ الطَّاووسا كالبرقِ مَرًّا والغَمامِ تأوُّباً ... والمِسكِ نفحاً والنَّقا ملموسا يُلقي الصَّواعقَ من حوافِرِه إذا ... وَطِئَ الجنادلَ حين لاتَ وطيسا نشوانُ كالبرجِ المشَيَّدِ فوقه ... بطلٌ يجرُّ من المهابِ خميسا متقلِّدٍ زُرقَ النِّصالِ كأنَّما ... خُلِقتْ لتردِي الضَّارياتِ نُفوسا نهبتْ من الأعمارِ ما بقيتْ به ... وتجرَّعتْ ماءَ الحِمامِ بَئيسا ترمي بها حَنْيَ الضُّلوعِ قواضِبٌ ... كحواجبِ الغيدِ الخرائدِ شوسا لو خالها الكُسَعِيُّ سحرة ليلةٍ ... ذمَّ الحريصَ وأحمدَ التَّعريسا أو صادمتْ صمَّ الجبالِ تصدَّعتْ ... وبنتْ لكلِّ حديدةٍ ناووسا وتسابقُ الأقدارَ منها أسهمٌ ... تَفرِي الرُّجومَ ويرهب القابوسا من حاذقٍ أو طارقٍ أم حاذمٍ ... أو زاهقٍ لا يقبلُ التَّلبيسا فكأنَّها أقلامُ أفضلِ من مشى ... فوق الثَّرى وحوى الفخارَ رئيسا فَرعُ المعالي خيرُ من بلغَ السُّهى ... مجداً وسامى في العلا إدريسا والفارسُ الكرَّارُ مغوارُ الوغى ... ومعيدُ سعدِ المشركين نُحوسا بالفضلِ أكدَّ ما الأوائلُ أسَّسوا ... وأفادنا التَّأكيدَ والتَّأسيسا ندعو بسطوتِه الزَّمانَ فيرعوي ... فرقاً ونطرد باسمِه إبليسا ونخطُّ أحرفهُ الكريمةَ رقيَةً ... لشفاءِ ما أعيَى أرسطاليسا يردِي الحسامَ بجسمِ من أردى بهَ ... ويردُّ مبتسم الكُماةِ عبوسا قد أنطقَ الإسلامَ صامتُ سيفِه ... بعد السُّكوتِ وأخرسَ الناقوسا يا من ثملتُ على السَّماعِ بحبِّه ... وقرأتُ فيهِ من الغرامِ دُروسا أنا من علمتَ وِدادهُ وجهِلتَهُ ... وسيصحبنَّ لدى عُلاكَ جليسا أغرقته بالجودِ قبل ورودِه ... ثقةً ومثلكَ لا يكون خسيسا لا زلتَ صدراً للصُّدورِ مقدَّماً ... أبداً بحفظِ إلههِ محروسا في عزِّ داودٍ ودولة يوسفٍ ... وعلا سليمانٍ ورفقةِ عيسى وقال يمدح الوزير الفاضل، وهو بتكريت، وكان دخوله إليها لأجل مدحه: أخفُّ النَّوى ما سهَّلتهُ الرَّسائِلُ ... وأحلى الهوى ما كدَّرتهُ العواذلُ ولا ملحَ في عيشٍ إذا لم يكن له ... حبيبٌ يجافي تارةً ويوصِلُ

ولا خيرَ فيمن حوَّلَ البعدُ قلبه ... ولا في ودادٍ غيَّرتهُ العوامِلُ وقفنا على الأطلالِ واللَّيلُ شائبٌ ... وأعناقنا فوق المطايا موائِلُ ولما رآها الدَّمعُ والَّدمعُ حائرٌ ... أناخَ وحيَّا تربها وهو راجِلُ هذا من قول أبي الطيب: ولما رأينا رسمَ من لم يدعْ لنا ... فؤاداً لعرفانِ الرُّسومِ ولا لبَّا نزلنا عن الأكوارِ نمشي كرامةً ... لمن بانَ عنهُ أن نامَّ به رَكبا قال ابن بسَّام في الذَّخيرة: أول من بكى الربعة ووقف واستوقف الملك الضَّليل، حيث يقول: قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ثم جاء أبو الطيب فنزل، وترجَّل، ومشى في آثار الدِّيار، حيث يقول: نزلْنا عن الأكوارِ نمشي كرامةً البيت، وما قبله. ثم جاء أبو العلاء المعري فلم يقنع بهذه الكرامة حتى خشع وسجد، حيث قال: تحيةُ كِسرى في الملوكِ وتُبَّعٍ ... لربعِك لا أرضى تحيةَ أربُعِ وليس بنا حبُّ الدِّيارِ وإنَّما ... لنا بها والسُّكانِ شغلٌ وشاغلُ هذا من قول الآخر: أحبُّ الحِمى من أجلِ من سكنَ الحِمى ... ومن أجل أهليها تحبُّ المنازِلُ وقوله: وما حبُّ الدِّيارِ شغفنَ قلبي ... ولكن حبُّ من سكنَ الدِّيارا خلِقنا وحفظُ الودِّ منا سجيَّةٌ ... وحسنُ الوفا طبعٌ ونعمَ الشَّمائلُ ونفغرُ عوراءَ الحسودِ وإن جنَى ... ونعلم أنَّ الخصمَ ما شاءَ قائِلُ يعيِّرني قومٌ بقومي ومحْتِدِي ... كما عِيبَ بالعضبِ الصَّقيلِ الحمائلُ أجلْ حسدونِي حيثُ فضِّلتُ دونهمْ ... وكم حُسِدتْ في النَّاسِ قبلي الأفاضلُ وما الفخْر بالأجسامِ والمالِ والعُلى ... ولكن بأنواعِ الكمالِ التَّفاضُلُ ومن يكُ أعمى القلبِ يلزم بقولِه ... كما يحذرُ الأعمى العصا إذ يقاتِلُ وما يصنع الإنسانُ يوماً بنورهِ ... إذا عادلتْ فيه النُّجوم الجنادِلُ وفيمَ نضيعُ العمرَ في غيرِ طائلٍ ... إذا ما استوى في النَّاسِ قسٌّ وباقلُ وأصعبُ ما حاولتَ تثقيفُ أعوجٍ ... وأثقلُ شيءٍ جاهلٌ متعاقلُ إذا جاءَ نقَّادُ الرِّجالِ من الوغى ... تميَّز عن أهلِ الكمالِ الأراذلُ عنيتُ الوزير ابن الوزيرِ الذي به ... تذلُّ وتعنو للشَّعوبِ القبائلُ جوادٌ إذا استوهبْتهُ السَّيفَ في الوغى ... وأنت له خصمٌ فإنَّك نائل هذا من قول أبي الطيب المتنبي: كريمٌ متى استوهِبْتَ ما أنت راكبٌ ... وقد لقحَتْ حربٌ فإنَّك نازلُ وأصله خبرٌ عن حاتم الطائي، أنه بارز عامر بن الطفيل، وقد رمح عامراً، فخافه، فقال له: لأُبخِّلَّنكَ. قال: بماذا؟ قال: ادفع إليَّ رمحك أقاتلك به. فرمى إليه برمحه، ورجع مولِّياً. وقال بشار ما ينظر إلى هذا المعنى: لو كانَ لي سيفٌ غداةَ الوغى ... طبتُ بهِ نفساً لأعدائِي وأحسن ما قيل فيه قول البحتري: ماضٍ على عزمِه في الجودِ لو وهب الشَّ ... بابَ يوم لقاءِ البيضِ ما ندِما أبو إسحاق الغزِّي: متيَّمٌ بالذي لو قالَ سائِلهُ ... هبْ لي جميعَ كرَى عينيكَ لم ينمِ إليه مصيرُ الأمجدينِ وإنَّما ... تصبُّ إلى البحرِ المحيطِ الجداولُ وهذا أيضاً من قول أبي الطيب: أرى كلَّ ذي مُلكٍ إليك مصيرُهُ ... كأنَّك بحرٌ والملوكُ جداولُ وهو أخذه من قول ابن المعتز: ملكٌ تواضعتِ الملوكُ لعزِّهِ ... قَسراً وفاضَ على الجداولِ بحرُهُ ويهتزُّ قلبُ الأرضِ خوفاً إذا مشى ... فتحسبُ أنَّ الرُّعب فيه زلازِلُ له نعمٌ تُفتِي المديح وهمَّةٌ ... لها كلُّ قدرٍ شامخٍ متضائِلُ يُيَممهُ الجبَّارُ والكبرُ بُرده ... فتلقاه في أعتابه وهو راجلُ

أتى مُشركي قصرٍ وكانوا جراءةً ... يظنُّون أن الحصنَ للقوم حائلُ وسارَ بجيشٍ آصفيٍّ عرمرمٍ ... هو البدرُ فيهم والنجومُ الجحافلُ فما وجدوا إلا الأمانَ وسيلةً ... إلى عفوِ من تخشى علاه الوسائلُ ولا ملجأ من سيفه غيرُ سيفه ... وكلُّ نصيرٍ غيره فهوَ خاذلُ فجاد عليهمْ بالنُّفوسِ تفضُّلاً ... وعفواً ولم يخط العَطا منه سائلُ وعاد بتأييدٍ وعزٍّ ودولةٍ ... لها فوق فرقِ الفرقدين منازلُ يموج به البحرُ الخضمُّ تفاخراً ... وتحسدُ أعلامَ الجواري الرَّواحلُ أفصَّ ختامِ المُلكِ والخاتمُ الذي ... أتانا بما لم تستطعهُ الأوائلُ فلو كان بدراً لم يلحْ قطُّ كوكبٌ ... ولو كان بحراً لم يحدِّدهُ ساحلُ إليكَ عقوداً يكسفُ الشَّمسَ نورها ... وتخجلُ بدرَ الأفقِ والبدر كاملُ أتتك تجرُّ الذيلَ تيهاً ورفعةً ... بأنك ممدوحٌ وأني قائلُ وهاتيك أبياتٌ لها فتفطَّرت ... وأنت لها بالبرِّ والجودِ واصلُ وهذا معنًى حسن، وقد اختلسه من قول السيد محمد العرضي، وهو الفاتح لهذا الباب: هابَ القريضُ مديحهُ ... فانشقَّ أنصافاً سطورهْ وتبعه البابي، في وصف قصيدة فقال: أوهمتها مدح السِّوى ... فتميزتْ بالغيظِ وهْما تتمة القصيدة: ومثلكَ من لا يظهرُ المدحُ قدرهُ ... ولكنَّ من لم يشكرِ الفضلَ جاهلُ ألم ترَ أنَّ الروضَ يثني على الحيا ... بنشرٍ إذا ما باكرتهُ الحواملُ فكيفَ بمن أحييته، ولسانهُ ... صقيلُ الشَّبا والجود بالحمدِ كافلُ سأوليك مدحاً ينقضي الدهرُ دونه ... تسيرُ به رُكباننا والقوافلُ وأصدحُ بالحمد الذي أنت أهله ... كما صدحتْ فوق الغصون البلابلُ ألا كلُّ مجدٍ غيرُ مجدك عاطلٌ ... وكلُّ مديح لم يكن فيك عاطلُ وله لامية عارض بها امرأ القيس، الذي انتسب إليه حسن السبك، وبشعره ترنمت ورق البلاغة، وذاك أشهر من قفا نبك. ومطلعها: توكل على الرحمن حقَّ التوكُّلِ وهي طويلةٌ جداً، وقد ذكرتها في تاريخي، ولا إفادة في الإعادة. واتفق بيني وبينه مراجعات، أقطعها جانبه الظرف، وتردت كالنسيم بين الروضتين طيبة الشميم والعرف. اكتفيت بذكرها في التاريخ، كما وقع غليه الاختيار؛ لأنها من قسم الخبر، والتاريخ موضوعه الأخبار. وذكرت عنده يوماً بعض الموالي ممن أكاذيبه في قلب الأماني قروح، ووعده كخلَّب برقٍ يلوح. وكنت ممن اغتر بزخارفه، وطمع في عارفةٍ من عوارفه. فنشد ضالةً له في ذمة مطلِه، وأنشد ما قاله في مخيلة وعد مثله: ولا تركننَّ إلى غادةٍ ... ولو خادعتكَ بزورِ المحالِ ففتكُ الظُّبا دون فتكِ الظِّبا ... وعهدُ الغواني كعهد الموالي ولعمري لقد أنصف، في الذي وصف. وحكم حكماً يشهد به العيان، وليس بعد العيان، حاجةٌ إلى البيان. ولما ولي المدرسة المعروفة بزال باشا، وهي آخر ما وليه من المدارس. وهشت له الأماني، وتاهت به التهاني. وظن أنه سالمته الخطوب، وجلت عن وجه رجائه القطوب. ولم يدر أن القدر عليه بالمرصد، ويد المنون تخترمه دون المقصد. نظم قصيدةً مطلعها: ألم ترَ أنَّ الهمَّ زال بزَالا ... وأحسنَ آمالاً لنا ومآلا فلما رأيته لم أشك في استحكام الفال؛ وألقي في روعي الطيرة من لفظة زال. وفارقته عشيَّة يوم أردِّد الفكر، وأجدِّد في ليلتي ذلك الذكر. حتى جفا جنبيَّ الضجعة، وجانب جفنيَّ الرقدة والهجعة. فما انشق الفجر عن حبيب الظلام، حتى أتاني مخبرٌ بأنه يعالج الحمام. فبادرت إليه فوجدته أخذه الشرق، وهو يلفظ آخر الرمق. ونفسه الباقي، قد بلغ التراقي. ثم قضى نحبه، ولقي ربه. فالله يستثمره عائدة الأخرى آجلاً، كما استنجزه فائدة الأولى عاجلاً. وقد قلت أرثيه من قصيدةٍ، مطلعها:

كلُّ حيٍّ على البسيطةِ فانِ ... غيرَ وجهِ المهيمن الرحمن إلى أن قلت فيها: أين روحُ الزمان من كنتُ حي ... ناً وإيَّاه نخلتيْ حلوانِ نخلتا حلوان يضرب بهما المثل في طول الصحبة. وكان المهدي خرج إلى أكناف حلوان متصيداً، فانتهى إلى نخلتي حلوان، فنزل تحتهما وقعد للشرب، فغناه المغنِّي: أيا نخلتيْ حُلوان بالشِّعبِ إنَّما ... أشَذَّ كما عن نخْل جوخَى شقاكُما إذا نحنُ جاوزنا الثنيَّة لم نزَل ... على وجلٍ من سيرِنا أو نراكما فهمَّ بقطعهما، فكتب إليه أبوه المنصور: مه يا بني، واحذر أن تكون ذلك النحس الذي ذكره الشاعر في خطابهما، حيث قال: واعلما إن علِمتُما أنَّ نحساً ... سوفَ يلقاكُما فتفترِقانِ تتمة المرثية: كان فينا كالوردِ في وجناتِ ال ... غيدِ والسِّحرِ في عيونِ الحسانِ عاجلَ الدَّهرُ نيِّر الفضلِ الكس ... فِ وبدرَ الكمالِ بالنُّقصانِ رجع الجوهر النَّفيسُ إلى الأص ... لِ وأضحى مقرُّه في الجنانِ ليتَ شعرِي وليس يُجدي أعن عم ... دٍ رمتْهُ الخطوبُ أم نسيانِ كيف دكَّيتَ أيها الخطبُ رضوى ... ونقلْتَ الهِضاب من ثهلانِ منها: يا صديقي تركْتني لهمومٍ ... ينقضي قبلها زمانُ الزَّمانِ لست أرضى عليك حكم لبيدٍ ... مذهبي في الوفاءِ حكمُ ابن هاني عيلَ صبرِي وإنَّما أتأسَّى ... بعمومِ المصابِ في الأعيانِ أسعدُ الصَّاحبينِ من ماتَ من قب ... لُ وأبقى الصَّديقَ للأحزانِ إنَّما هذه مراحِلُ تطوى ... والبرايا تُساقُ كالرُّكبانِ ومردي بحكم لبيد قوله: إلى الحملِ ثم اسمُ السَّلامِ عليكما ... ومن يبكِ حولاً كاملاً فقد اعتذرْ وبحكم ابن هانئ: سأبكي عليهِ مدةَ العمرِ إنَّني ... رأيتُ لبيداً في الوفاءِ مقصِّرا عبد الحي بن أبي بكر، المعروف بطرَّز الرِّيحان أديب طرزه تطريز الرقاع بوشي تحبيراته، وفنه تحلية جيد الكلام بجواهر تعبيراته. تنتهي إليه محاسن الألفاظ، وترنو معانيه عن غمزات الألحاظ. وله من الشعر، ما يسخر بالسحر. فلو كان لسواه في حيز الإمكان، استحقَّ أن يصلب عليه الملكان. إلى ظرف ريحانه يرف، وطبع هواه يشف. ومحاضرة مع الراح تتفق، ولا تفترق. وتأتلف، ولا تختلف. إلا أنه كان عليه للهوى وثبات، لا يرجى له فيها قرارٌ وثبات. فإذا عارضته رأيت غمرات بواعث طافحة، وجمرات لواعج لافحة. وهموماً على جوانح جوانح، وآلاماً منها في جوارح جوارح. وكنت عاشرته لأستمطر ديمته، وأختبر في هذا المعرض شيمته. وكان عفَّ عن الصبوة ونسك، وكفَّ عن الشَّهوات وأمسك. ولم يبق فيه إلا بقية، تخلَّت على بيضاء نقية. فرأيته مغلوب سورة طباعه، وقد استولت النَّفرة على طرف انطباعه. إلمامه فلتة غبي، وإغبانه فترة نبي. فكنت معه على أحسن فطرة، لم تلحقني في هواه فترة. واختلست منه أوقاتاً كلمة شارق، وخطفة سارق. ونقر العصافير، خوف النواطير. وأنا من منذ فقدته لم أرَ عنه بدلاً، وأعطافي مملوءةٌ به ترنُّماً وجذلاً. وكان في آخره حج ورجع رفيق زهدٍ وإنابة، فلم يلبث حتى دعاه الدَّاعي الذي لا بدَّ له من إجابة. فيا له من حجٍ وعمرة، ختم بطابع النقاء عمره. والحمد لله الذي أحسن له الاختيار، فقبضه إليه قبض الأخيار. وقد أوردت من أشعاره التي هي فروع أماليه، ما يحرِّك الجمادات إذا ما تحرك تاليه. فمن ذلك قوله في الغزل: خلِّياني ولوعتي ونحيبي ... ليسَ إلا صابٍ بدمعٍ صبيبِ وابكِياني فإنَّ من جرحَ اللَّح ... ظُ قتيلٌ وما له من طبيبِ أيُّ صبٍّ سمعتما علِقته ... أعينُ الغيدِ فهو غيرُ سليبِ بأبي معرِضٌ ألوف نفارٍ ... ذو اختلاقٍ نفنُّناً للذُّنوبِ فِعله كلُّه حبائِل فتكٍ ... قد أعدَّت لصيدِ كلِّ القلوبِ

تتحرَّى مقاتلَ الصَّبِ عينا ... هُ برشقِ النِّبالِ في التَّصويبِ ذو وقارٍ أهابه أن أحيِّ ... يهِ إذا ما بدا بلفظِ حبيبي فهو لم أدرِ جاهلٌ خبرَ حالي ... أم يُريني تجاهلاً كمرِيبِ أبداً دأبه ودأبيَ هذا ... كلانا في الحالِ غيرُ مصيبِ ليته لو أقرَّ قلبي على الحبِّ ... بلا ريبةٍ ووجهٍ قطوبِ وإذا شاء بعد ذاكَ تَجنَّى ... لذَّةُ الحبِّ غصَّة التَّعذيبِ ما يبالي من استهلَّ عليه ... من سماءِ الغرامِ غيثَ اللَّغوبِ جابَ كلَّ البلادِ يحسبُ أنَّ ال ... حظَّ شيءٌ يُعطى لكلِّ غريبِ وأنشدني قوله في الغزل: سقتْكَ الغرُّ يا عهدَ الشَّبيبه ... ترنِّح منك أغصاناً عسيبهْ وإلا فالنَّواقعُ من جفونِي ... وإن يكُ لا رواءَ ولا عذوبهْ فكم لي في ظلالِك من مقيلٍ ... حسوتُ به الهوى كأساً وكوبهْ بكلِّ نديِّ جسمٍ كنتُ أظمي النَّ ... واظِر عنه خشيةَ أن تُذيبهْ كأنَّ بكلِّ عضوٍ منه بدراً ... منيراً أو مدبِّجَةً خصيبهْ وكلِّ مرنَّحِ الأعطافِ يخطو ... فيكْتسبُ الصَّبا منه هبوبهْ إذا ما رامَ يبعثُ بي دلالاً ... يقطِّبُ والرِّضا يمحو قطوبهْ فمن لكَ بالسَّلامةِ إن تثنَّى ... وهزَّ قناة عطفيهِ الرَّطيبهْ وأبلجَ مستديرِ الشَّكلِ أبدتْ ... به الأصداغُ أشكالاً عجيبهْ يُريكَ بسيمياءِ الحسنِ روضاً ... حذاراً منه أن تصلى لهيبهْ وفاحمَ طرَّةٍ شكراً لأي ... دي الرُّعونةِ كم بها أمستْ لعوبهْ تبدِّدُها كذوبِ المسكِ طوراً ... على غصنٍ تجسَّد من رطوبهْ وطوراً يظهرُ الشربوشُ منها ... كأطرافِ البنانِ غدتْ خضيبهْ وآونةٍ يُري منها زباناً ... يلوح وكم به كبدٌ سليبهْ فأنَّى يطرقُ السُّلوان قلباً ... حمتْه جيوشُ خضراءِ الكتيبهْ ولا كنواعسٍ أرشقنَ قلبي ... صوائبَ غادرتْه أخا مصيبهْ شهرْنا ظُباً وقلنا ألا صبورٌ ... فكانتْ مهجتي أولى مجيبهْ لحاها الله أيُّ عناً تلقَّتْ ... تقمَّص منه جثماني شُحوبهْ ولم أكُ ألحَها إلا اضطِّراراً ... فلم تكُ بالذي فعلتْ معيبهْ هي الأحداق ما مستْكَ إلا ... وفزْتَ من الشَّهادةِ بالمثوبهْ جرى قلمُ القضاءِ لنا بهذا ... ولا يعدو امرؤٌ أبداً نصيبهْ ومن أهاجيه، التي هي من قسم أفاعيه، قوله في هجاء غلام يباهي بتيهه، ويتلاعب في العالم بتمويهه. فإذا فطن بهوى مغرم، صيَّره هدفاً لكل مغرم. وكان يرافقه، ولا يوافقه. ويقاربه، لكن يواربه. وهو مغضٍ على قذً، مقيمٌ على أذً. حتى بالغ في هجره، فبلغ نهاية هجره. واتفق للشيخ مجلسٌ رآه فيه يلعب بالنرد، فتعرف إليه، فعامله بالإعراض والرد، فقال: أنكرتني ذاتُ السِّوارِ الصَّموتِ ... عجباً ما لعرفتي من ثبوتِ لا بلِ الغانياتُ يعددنَ من أم ... سكَ من وصلهنَّ حيًّا كميتِ ومريدٌ من الغواني وفاءً ... متدلِّن بشعرةِ العنكبوتِ لا رعى اللهُ مهجةً علقتْ ... هنَّ ولا أسعِفتْ بفضلِ القوتِ خفرتْ هندُ ذمَّتي واستعاضتْ ... من صدوحِ الرِّياضِ بالعفريتِ لست أنسى يومي بمجتمعِ اللَّ ... هوِ وفكري فيها يُجيد نعوتي إذ بدتْ في غلالةِ التِّيهِ والعج ... بِ وبُردِ الجلال والجبروتِ تتهادى في السِّربِ حتى إذا ما ... وصلتْ حوزتي أرتنيَ موتي

بتغاضٍ مع التفاتٍ إلى الدُّو ... نِ ومقتٍ ولست بالممقوتِ ويحها لم تحيِّني بين جمعي ... لو تحيِّي قلنا لها حيِّيتِ وتلاهت بالنَّردِ في ذلك المج ... لسِ خوفَ اتِّهامها بالسُّكوتِ ثمَّ ولَّتْ وخلَّفتني أعض ال ... كفَّ مستدركَ القضا بعد فوتِ هندُ قلِّي من التَّجني فلسنا ... من يراضيه فضلةٌ من فتيتِ لستِ لاثنين أو ثلاثٍ فنأسى ... أن تخصِّي بعضاً وبعضاً تفوتي أنتِ وقفٌ على العبادِ ومن يط ... معُ في الوقفِ واجبُ التَّبكيتِ أتظنِّين أنَّ لي بكِ شغلاً ... ليَ قلبي إن شئتِ ذا أو أبيتِ إنَّني عفْتُ بيتَ حسنك مأهو ... لاً فأنى وما به غيرُ بيتِ ليس عندي بعد احتقارِكِ قدري ... لكِ كفؤٌ غير الطَّلاقِ الثَّبوتِ لا أسوفاً على جمالِك إن بدِّ ... لَ قبْحاً ومرَّ طعم الشتيتِ غير أنِّي أسفْتُ أن ضاعَ شعري ... فيكِ لكنْ ما باختياري حبيتِ إذ بلائي بمبتلاكِ دعا الفك ... رَ لأن شادَ فيكِ بعض بيوتِ آهِ من صحبة العبادِ وآهاً ... لزمانٍ يمرُّ في تشتيتِ صدقَ القائلُ السَّلامة في الصَّم ... تِ كذا الحسنُ في لزوم البيتِ طالَ ما قد جررتُ ذيل التَّصابي ... وتناسيتُ غصَّة التفويتِ لا يظنَّنَ عاقلٌ بيَ ميلاً ... لمليحٍ مؤانسٍ أو مقوتِ رفضتْ نفسيَ الهوى خيفةَ الذُّ ... لِ وأن تبتلى برقِّ فليتِ وهجرتُ المُدامَ ممَّا يؤدِّي ... لافتضاح القؤولِ والسِّكِّيتِ واختلاطٍ بغير مرضيِّ عقلٍ ... وانطراحٍ مع قربِ ذي تنكيتِ فإذا ما ادَّكرتُ أيامَ لهوي ... قلت أيامَ صبوتي لا سقيتِ لذَّة الحرِّ في اكتسابِ المعالي ... لاافتراشِ الدُّمى وحسوِ الكميتِ وله في الغزل: قاتِلي أنت لا محالَ فأحسِن ... قِتلة الصَّبِّ سيِّدي بحياتِكْ أنت في الحلِّ من دمي فأثِبني ... عنه تعجيل جنَّتي وجناتِكْ هبكَ أظمأتَ ناظِري فاروِ سمعي ... بكؤوسِ العتابِ من لفظاتِكْ إنَّ حُبِّيكَ قيَّد الفكر حتى ... عزَّ لو رمتُ وصفَ غيرِ صِفاتِكْ أيُّ ذنبٍ جنيتُه يوجِب الهج ... رَ ويُجدي الحِرمان من حسناتِكْ بحياةِ العيونِ جدْ لصريعٍ ... ما رمى قلبَه سِوى لحظاتِكْ لا بغيرِ الحديثِ يا حاليَ اللَّف ... ظِ ومُرِّ المذاقِ في نَفَراتِكُ أن لحظَيْكَ عذَّباني ولكن ... ثغرُكَ الجوهريُّ أعذبُ فاتِكْ ما لجفنيكَ في الخلايقِ تُعزى ... أوَفي الحسنِ وحَّدوا غيرَ ذاتِكْ حُسنُكَ الفرد مثل ما فيكَ عشقِي ... فارْعَ لي نسبتِي لبعضِ سِماتِكْ من تجنِّيكَ ما برحتُ طريحاً ... ومُصابي من جفنِكَ المتهاتِكْ خلِّني يا عذولُ إن بسمعي ... صمماً لا أعِي إلى فشْراتِكْ أنا من جادَ بالسُّلوّ لمن لا ... مَ وبالنَّومِ للعيونِ الفواتِكْ أنا من قالَ للعذولِ مليَّاً ... انجُ عنَّا فما لنا في بناتِكْ يا عيوناً خامرنَ قلبيَ رِفقاً ... لست أصحو ما عشتُ من سكراتِكْ ليَ قلبٌ يروي حديثَ سَقامِي ... وصحيحَ الغرامِ عن كسراتِكْ فإلى كم تلك الأماني الكذو ... بات تعنِّي الأطماعَ في ترَّهاتِكْ كن كما شئتَ إنَّ قلبيَ جلدٌ ... لركوبِ الأخطارِ في مرضاتِكْ حلَّه الحبُّ وهو خلوٌ وتكلي ... فكَ ما لا تطيق نزعُ جِهاتِكْ

ومن غرره البديعة قصيدته الحائية، التي مدح بها آل البيت، وتخلَّص فيها لمدح بعض الأمراء. ومستهلها: مهبَّ الصَّبا حيَّتكَ غرٌّ طوافِحُ ... سوافِر بالفيضِ العميمِ سوافِحُ تتوِّجُ منك الهضْبَ تاجاً كأنَّما ... حبتْهُ بأنواعِ النُّقوشِ القرائحُ فإنَّ الصَّبا فوجٌ لها عند من صبا ... أيادٍ كما شاء الغرامُ وضائحُ تفتِّحُ أقفالَ القلوبِ كأنَّما ... سراها لأسرارِ القلوبِ مفاتحُ وتعبثُ بالأشواقِ تبعثُ ميتها ... فما هي للأرواحِ إلا مراوحُ تقدُّ قميصَ السُّحبِ عن منكبِ الفضا ... سحيراً فتقضي وهيَ نعمَ المصابحُ مؤدِّيةً أسرارَ عرفٍ تعرَّفت ... لأهليه في ذاك الأداءِ مصالحُ قريبةُ عهدٍ من مواطن جيرةٍ ... مواطئهم في الرَّقمتينِ الجوارحُ لذلك أرجو أن تهبَّ ندِيَّةً ... معطَّرةَ الأردانِ مما تصافِحُ على أن واديها المقدَّسَ في غنًى ... عن الطِّيبِ مما طيَّبتهُ الضرائِحُ مشاهِدُ فيها من دمِ الشهداءِ ما ... يطلُّ منهُ نافجَ المسكِ نافِحُ معاهدُ لم يحْفظ بها عهدَ أهلِها ... عصابةُ سوءٍ قد كستْها المفاضِحُ تعدوْا حدود اللهِ في آلِ أحمدٍ ... فآلوا بخزيٍ ليس عنه مسامِحُ ولم يكُ إلا لعنةَ اللهِ كسبُهم ... بصفةِ خسرٍ خابَ فيها المرابِحُ ليحرِز سبَّاقُ السَّعادةِ شأْوها ... ويُمحض للأشقى الشَّقا والفضائِحُ قضاءٌ له حكمُ الإرادةِ واضِعٌ ... به جفَّتِ الأقلامُ والأمرُ واضِحُ ألا عدِّ عمَّا يصدعُ القلبَ ذكرُه ... ويُذكِي تباريحَ الأسَى منه بارِحُ وإنِّي وإن موَّهتُ عنه فإنَّني ... حليفُ جَوًى مما تجنُّ الجوانِحُ ولكن لنا فيمن مضى أسوةُ الهوى ... إذا ما ورَى زندٌ من الوجدِ قادِحُ سقى صيِّبُ الرِّضوانِ أرضاً بنورِها ... تنير على صاحِي السَّماءِ الصَّحاصِحُ مراقِدُ مثوى العلمِ والحلمِ والحيا ... وكلِّ حميدٍ ما اهتدتْهُ المدائِحُ رياضُ الرِّضى مغنى الغنى منتدى النَّدى ... جنانُ الجناحيثُ المنى والمنائِحُ يميناً بهم لولا ممرُّ الصَّبا على ... مضاجِعهم ما طابَ منها المصافِحُ هم السَّادة الطُّهرُ الذينَ بحبِّهمْ ... أدينُ إلهي يومَ يربحُ رابِحُ وهم عمدتِي في كلِّ كربٍ وعدَّتي ... إذا ما غزى صبرِي الزَّمانُ المكافِحُ ولي من سَنا آثارِهم كلَّما دجى ... عليَّ ظلامُ الموبِقاتِ مصابِحُ وحاشا جنابَ الأكرمِين يضيعُ من ... لأعتابِهم قد طوَّحتهُ الطَّوائِحُ وإنِّي لمن والاهمُ لمحاسِنٌ ... وإنِّي لمن عاداهمُ لمقابِحُ ولستُ بمن وافاهمُ المدحَ حقَّه ... وعذري وقد قصَّرتُ فيهِ لواضِحُ وإني لفكرٌ أعْقمتْهُ همومهُ ... وأصمتْهُ أصداءُ الزَّمانِ الفوادِحُ يقومُ مقاماً تخرسُ الفصَحاءُ عنْ ... عُلاهُ فكيفَ الأخرسُ المتفاضِحُ ولكنَّني أرجو المفازَ ولو بأن ... يُشاعَ مجازاً أنَّني الآلَ مادِحُ وحسبِي حُبٌّ للنبيِّ وآلهِ ... ومن قد أحبُّوهُ ولستُ أُكاشِحُ وممَّا اقتضاني حبَّهم حُبُّ ذي علاً ... يطارِحُني ذِكراهمُ وأطارِحُ محبُّ حبيبي موطنٌ لمحبَّتي ... وإنِّي لهُ خلٌّ صدوقٌ مناصِحُ

هو الأروعُ اللَّيثُ الذي حشو ثوبِه ... وقارٌ تغُضُّ الطَّرف عنه الملائِحُ همامٌ يعيدُ الهمَّ رؤيةُ وجهِهِ ... وليلٌ لوحدانيةِ اللهِ راجِحُ أغرُّ يُريك النُّجحَ مهما لحظتَهُ ... أساريرُ منها كوكبُ السَّعدِ لائِحُ إذا سمعتْ أذنٌ بأوصافِ مجدِهِ ... تقولُ غلوٌّ بالِغٌ وتسامِحُ وحتَّى إذا ما عانيتْ منه سبَّحتْ ... وقالت نعم في قدرةِ اللهِ صالِحُ رأيتُ علاهُ فامتلأتُ مهابةً ... ومن يلقَ ليثاً فهو لا غَرْو جامِحُ وقد ظلتُ لمْ أسطِع جواباً وأنَّ لي ... لعضبُ لسانٍ تتَّقيهِ الجوارِحُ كأنَّ مِدادي حينَ أرقمُ مدحَهُ ... غوالِي الغوانِي والرَّويَّ الرَّوائِحُ عجِبتُ لأقلامِي سعتْ في مديحِه ... على رأسِها جرياً بما هو سانِحُ وقد طالَ ما استنْهضْتُها لِمُلمَّةٍ ... فأعيتْ طِلابي وهي ثكلَى بوارِحُ ولا غروَ أن تسعَى لمخدومِها الذي ... جميعُ مساعِيها لديهِ نواجِحُ فديتُكَ يا ابن الأكرمينَ ومن بهِ ... خُزاعةُ لم يرجَع عليها مراجِحُ حنَانيْكَ إذ كانَ الجيوشُ تهابُ من ... لقائِكَ فاغذُر عاجِزاً يتكادَحُ وأيُّ لسانٍ لا يَكَلُّ حديدُهُ ... لدَى ذَرِبٍ ينبو لديهِ الصَّفائحُ على أنَّني للشِّعر كنت محارباً ... ولم ألقَ فيما بيننا من يُصالِحُ وقد كنتُ أبوابَ القريضِ غلقْتُها ... إلى أن أتتْها من يديكَ الفواتِحُ ومن لم يكن في مثلِ مجدِك شاعِراً ... عصَتْهُ القوافِي واعتصتْهُ الفرائِحُ ولستُ بمن يختارُ لُبثاً بغيرِ ما ... مُقامِكَ لولا أفرُخٌ تتصادَحُ تُسائِلُ عنِّي من يروحُ وتغتدي ... سُؤالَ شجِيٍّ دمعُهُ يتسافَحُ وأنت خبيرٌ أنَّ تلك علاقةٌ ... تسُدُّ على الوحشِ الفضا وهو سارِحُ ولو كان لي من فارِه الفحلِ مركبٌ ... أُغادي به مغناكمُ وأُراوِحُ لما قعدتْ بي عن حماكِم عزيمةٌ ... ولا اطَّرحتْني من سِواكَ مطارِحُ ولي نفسُ حرٍّ تأنفُ الذُّلَّ لو أتَى ... لها بقرابِ الأرضِ مما يشاحِحُ تألَّفتَها باللُّطفِ حتَّى تألَّفتْ ... وحنَّت إليكم والدِّيارُ نوازِحُ وحتَّى إذا وافتْك وافتْ مهذَّباً ... يُعيدُ رواءَ الدَّهرِ والدَّهرُ كالِحُ حليماً لدى البأساءِ قُطبَ رحى الوغى ... رزينَ الحجا لا يزدَهيهِ ممازِحُ بصيرٌ بتدبيرِ الخُطوبِ كأنَّما ... ذكاهُ بأعقابِ الأمورِ يصارِحُ له منطقٌ يستنزِنُ العُصمَ في الرِّضا ... وفي الباسِ رُسلٌ للمنايا فواضِحُ فطبْ عمر الثَّاني بسرتِكَ التي ... بها كلُّ محزونٍ من الجورِ فارِحُ إليكَ أتتْ رعبوبَةُ الحسنِ غادةٌ ... لها من بديعِ المكرُماتِ وشائحُ وبلقيسُ حسنٍ في منصَّةِ عرشِها ... بلابلُ أفنانِ الفنونِ صوادِحُ شهودٌ بأنِّي في البلاغةِ واحدٌ ... كانتْ علاً كلٌّ بمعناه طافِحُ عسى هزَّةٌ أريحيَّتكَ التي ... تناشدَها الرُّكبانُ غادٍ وارئِحُ تعلِّم من جاراكَ في حلبةِ العلى ... تلقِّيَ وفدِ الفضلِ أنَّى يُصافِحُ ودُمْ وابقَ واسلمْ غصنَ مجدٍ يهزُّه ... أغاريدُ مُدَّاحِ العُلى والمدائِحُ ومن غزلياته الرقيقة، التي هي الخمر على الحقيقة، قوله من قصيدة، مطلعها:

لحظاتٌ لا تحامِي القَوَدا ... قد تناهبنَّ الحَشا والكبِدا منها: يا لِحاظاً نستلذُّ فتْكها ... لا عدِمنا عضبك المجرَّدا دونكِ الصَّبرَ احطمي جنودَهُ ... واجعلي شملَ السُّلوِّ بددَا وامنعي ورداً ووِرْداً للحَيا ... والحياةِ ما انجنى أو وردا يا مهزَّ الغصنِ من عِطفيهِ ملْ ... واعتدلْ لم تلقَ من قال اعتدى يا مناطَ القُرطِ من نغنُغِهِ ... قد تركتَ الظَّبيَ يجري في الكُدى كيف للظَّبيِ بفرعٍ فاحمٍ ... زانَ بالتَّصفيفِ جيداً أجيَدا مذ غدا المِحرابُ من حاجِبه ... قبلةً خرَّتْ جُفوني سجَّدا هكذا الحُبُّ وعِزُّ شأْنِهِ ... صنعَةَ اللهِ تعالى مُوجِدا مالِكي بالحسنِ والحُسنَى احتكِمْ ... حقَّ أن تُضحِي لمِثلي سَيِّدا إنَّ من كنتَ له مولًى فقدْ ... عاشَ يا مولايَ عيشَ السُّعَدَا صبَّحَ اللهُ بكلِّ الخيرِ منْ ... كان مرآكَ لعينيهِ ابتدَا أنت رُوحي فإذا ما غبتَ عنْ ... ناظِري فارقَ روحِي الجَسدَا وله يودع بعض إخوانه: حيَّاكَ عهدَ الحبيبِ عهدُ ... أوطفُ جفنِ السَّحابِ وِرْدُ بعدَك ما جفَّ من جفوني ... دمعٌ ولم يجْفُهنَّ سُهْدُ كأنَّما كان للَّيالي ... دُيونُ بينٍ وحانَ وعدُ يا ليتَ مذ فرَضتْ بِعاداً ... سَنَّتْ وَداعاً غداة تبدُو أستودِعُ الله من جَفاني ... ضَرورةً وهوَ لي يَوَدُّ سارَ بقلبي حماهُ ربِّي ... ولم يقُل كيف بعدُ تغدُو حداهُ أنَّى انتحَى فلاحٌ ... وقادَهُ للنَّجاحِ رُشدُ وما عليهِ بِذاكَ عتبٌ ... إرادةُ الله لا تُرَدُّ وله في الغزل: ما الذي أوجبَ صدَّكْ ... ولِما أخلفتَ وعدكْ ألِشُغْلٍ دُنيويٍّ ... أم عذابِي كانَ قصدكْ أم دلالٍ أم تجنٍّ ... أم قرينُ السُّوءِ صَدَّكْ وعلى أيَّةٍ حالٍ ... أسعدَ الغُفرانُ جدَّكْ بالذي ولاَّكَ رِقِّي ... سيِّدي لا تنسَ عبدَكْ أنا في قُربٍ وبُعدٍ ... حافظٌ تالله عهدكْ وفؤادِي حيثُما منْ ... تَ وأيمُ الله عِندَك لطفُكَ المعهودُ خَلاَّ ... نِي أسيراً لكَ وحدَكْ هل من الإنصافِ إقصا ... ءُ الذي ينظِمُ قصدَكْ حاشَ ألطافَكَ من أنْ ... تمنعَ الظَّمآنَ وِردَكْ أنا من شادَ كما شا ... ءَ التُّقى والصَّونُ وُدَّكْ كم خلَوْنا والمروءا ... تُ وَشَتْ بُردِي وبُردكْ وعفافُ الذَّيلِ قد طوَّ ... قَ جِيدَ الصَّبِّ زِندَكْ هكذا نحنُ فظُنَّ ال ... خيرَ يا سائلُ جُهدَكْ أنا من يتْبَع غيَّ ال ... حبِّ فاتبعْ أنت رُشدَكْ وله: إليك يا ابن أبي عنِّي نصيحةَ من ... يدُ التَّجاربِ قامتْ عنه بالأودِ إيَّاك صحبةَ غير الجنْسِ ما بشَرٌ ... يقوَى لأنْ يجْمَع الضِّدَّينِ في جسدِ وله: حيِّي وجهاً إذا سفرْ ... أخجلَ الشمسَ والقمرْ ومُحيًّا له الحيا ... وخدوداً لها الخفَرْ وقدوداً إذا انثنتْ ... ظَلتُ أثني على القدرْ ومهاً في جفونِها ... عالِمُ السِّحرِ قد مهرْ يستفزُّ الحِجابِلا ... حاجَةٍ لِسوى النَّظرْ وظِباءً ظِباؤها ... ليس تُبقي ولا تَذَرْ غازلتْني بغزوِها ... ثمَّ ولَّتْ على الأثرْ ودَّعتني وأودَعتْ ... جفنِيَ النَّوحَ والسَّهرْ وتباكتْ وقدْ بكي ... تُ وعند الهوى الخبرْ

ساجياتِ الجُفونِ لا ... تتَّخِذنَ البُكا سُتُرْ لستُ فيكُنَّ لابِساً ... من غرامي على غِررْ ليس مَن دمعُهُ حَياً ... مثلَ من دمعُه حَذَرْ أينَ دمعُ الدَّلالِ من ... عَبرةِ الهمِّ والعِبرْ غيَّرَ الكُحلُ لونَ ذا ... واستحالتْ بذا الغِيَرْ ليسَ من قلبُهُ قسَا ... كالَّذي قلبُه انفطرْ ليس من باتَ هاجِعاً ... مثل من نَومَه هَجَرْ ومن الفرشِ والوَسا ... ئدِ يُسْتثبتُ الخَبَرْ وله: أطالتْ وقالتْ من تصبَّرَ يظفرُ ... فديتُكِ لكن مدَّةُ العمرِ تقصرُ ففي كلِّ قُطرٍ غُربةٌ وتستُّتٌ ... وفي كلِّ عصرٍ حُرقةٌ وتحسُّرُ يخيَّل لي في كلِّ قفراءَ أنَّما ... بها الآلُ أشراكُ الهوانِ فأُقصِرُ أهجِّرُ منها حيثُ تستعِرُ الحصا ... وتصخبُ حِرباءُ الهجيرِ وتزفِرُ وحتَّى إذا شمسُ الأصيلِ تقنَّعتْ ... حِداداً على فقدِ النَّهار أُشمِّرُ فاختَبِطُ الظَّلماءَ أحسبُ أنَّها ... مسافةُ خطٍّ بالخُطى تتقصَّرُ ولو أنَّ لي فيك التِفافَ مودَّةٍ ... لما كنتُ أطوِي في البلادِ وأنشُرُ وله: الأهمَّ الأهمَّ إن كانَ لا بدَّ ... فإنَّ الزَّمانَ فينا قصيرُ لا تُضِعْ فرصةَ الحياةِ فما لل ... عمرِ حيثُ انتهى مداهُ مُعِيرُ وله: ألا قلْ لمن أبدى اعتذاراً وقد أبى ... زِيارتنَا والرَّيبُ في ذلك العُذرِ عليك أمانُ الله ما دمتَ عندَنا ... من القتلِ والتَّشليحِ ثمَّ فلا أدري وله: إذا كان فقرُ المرءِ يُزري كمالَهُ ... فتنفِرُ منه الأصدقاءُ بلا عذرِ فيا ضيعةَ الحُسنى ويا خيبةَ الرَّجا ... ويا موتَ زرْ إنَّ الحياةَ على خُسرِ وله: أسفٌ يردَّدُ بالنفسِ ... ومدامِعٌ لا تُحتبسْ وصبابةٌ من وقدِها ... نارُ الجوانِحِ تُقتبسْ شوقاً إلى من بعدُهمْ ... لم يبقِ لي إلا نفسْ وشتاتُ شملِي عنهمُ ... قد سلَّ روحي واختلسْ صبراً لدهرٍ ما ابتسمْ ... تُ تجلُّداً إلا عبسْ وله، ويخرج منه اسم إبراهيم بطريق التعمية: إنَّ رقيباً صدَّ من نعشقهُ ... عنَّا وآذانا بلا تحاشِي راحَ بِلا عاقبةٍ محمودةٍ ... إذ حال بين الماءِ والعِطاشِ وله: تولَّى زمانِي بالتَّلاعبِ وانقضى ... وحبل شبابي بالمشيبِ تنقَّضا أُراقِبُ لمحاً من سهيلِ مطالبي ... وأرصدُ برقاً من أمانيَّ أومَضَا يخيَّلُ لي أنَّ الدُّجى وجهُ باخِلٍ ... وكفَّ الثُّريَّا للسُّؤالِ تعرَّضا فآنفُ من نيلِ الغِنى بمذلَّةٍ ... وألوي عِنانَ القصدِ عنه مفوِّضا وأعيَ طِلابي من زمانيَ صاحِباً ... يكون لحالي بالوفاءِ منهِّضا فأيْقنتُ أنَّ الخلَّ أفقدُ ثالثٍ ... مع الغولِ والعنقاءِ في قولِ من مضى وقد صحَّ عندي أنَّما الخلُّ خلَّةٌ ... أرومُ لها سدَّ الكفافِ مع الرِضا إذا قطع الإنسانُ أطماعَ نفسِه ... من النَّاس كان اليأسُ أهنا معوِّضا هناك يكونُ المرءُ بالله مقبِلاً ... على شأنِه ما إن يكلُّ له مضا فذاك الَّذي بالعقلِ صحَّ اتِّصافُه ... ومن لا فلا والله بالِغ ما قضى وله: قبل التغزِّلِ مني فيه كان له ... بعض التفاتٍ إلى حالي وقد مُنِعا أمنتُ فيه من الأغيارِ فانتدبتْ ... للمنعِ بنتُ لساني ليت لو قطعَا يا ربِّ حتَّى أنا ساعٍ على تلفي ... ما ذاك إلا لسوءِ الحظِّ قد وُضعا وله: أيُّها الغاصبُ قلبي ... خلِّه منك وديعهْ

لا تكنْ ضامنَ في الغص ... بِ بإتلافِ القطيعهْ وله، وقد أجاد: يا بعيدَ الغورِ من خص ... رٍ عفا لولا المعاطِفْ وبعيدَ القرطِ من مَع ... قِدْ أطرافِ المطارِفْ أعمودُ الصُّبح ما أطْ ... لَعْتَ من طوقِ المناشفْ أم بدا معصمُ كفِّ ال ... برقِ للأبصارِ خاطفْ أم طلا ظبيٍ مراعٍ ... مسرعِ اللَّفتاتِ واجفْ يا قضيباً من لجينِ اللُّ ... طفِ نامٍ في حقائفْ بات يُسْقى صَيِّبَ الدُّ ... لِّ فأضحى وهو وارفْ إن عَرى من حُلَلِ ال ... خَزِّ اكتسى حُللَ اللطائفْ دارَ هِميانكَ هَيْما ... ناً لأخبارِ المراشفْ ولقد طالَ المدى فان ... عَمْ بإرسالِ السَّوالفْ قلت: هذا شعر أبهى من إرسال السوالف، وأشهر من ذكر الليالي السوالف. وله إلى معذرٍ طرزت حاشيتا خديه بالقلم الريحاني، وغرزت صحيفتا وجنتيه بالطراز السبحاني: هذا طرازُ الملكِ يحلو ... وله لواءَ الحسنِ يعلو فنواطقُ الأرواحِ آ ... ياتِ الصَّبابةِ فيه تتلو نسخَ العُذارُ بخطِّهِ ... عذرَ السلوِّ فكيف نسلو عجباً لجمرٍ منه يصْلى ال ... قلبَ دبَّ عليه نملُ ولِعقربٍ من عنبرٍ ... حامتْ على وردٍ يُطِلُّ ولِحُمرةٍ فيها تولَّ ... دَ من حظوظِ الصَّبِّ شكلُ وحِقاقِ ياقوتٍ علي ... هِ من الزُّمرُّدِ صيغَ قُفلُ إنَّ الجمالَ الصَّرفَ مع ... نًى عن تعلُّقه يجلُّ أستغفرُ الله العظي ... مَ توهُّمُ الأفكارِ شغلُ هذي طلاسِمُ قدرةٍ ... لِلُجينِ كنزٍ فيه لَعْلُ بل ظلُّ أهدابٍ شخصْ ... نَ وفي مرائي الحسنِ صقلُ فغدا صفاءُ أديمِها ... لخيالِ ذاك الظِّلِّ يجلو وله في الغزل: ملْ فإنِّي لميلكَ المُستميلِ ... متلَقٍ على مَراحِ القبولِ وعجيبٌ ميلُ الغصونِ إلى نح ... وِ مهبِّ الهوى بغيرِ مميلِ لكنِ الميلُ بانجذابِ هوى النَّفْ ... سِ أبيُّ الزَّوالِ والتَّحويل حبَّذا ميلةٌ خلستْ بها القلْ ... بَ اختلاسَ الشَّمولِ حُرَّ العقولِ معطفٌ عاطِفٌ وجيدٌ مجادٌ ... والتفتٌ يسبِي بطرفٍ كحيلِ وطُلاً واضحٌ ولفظٌ خلوبٌ ... ينفثُ السِّحرَ في خلالِ المقُولِ وبروحي إذا تغاضبتْ والمبْ ... سمُ يفْترُّ عطفٍ ومنعةٌ في نكُولِ هكذا هكذا تبارَك من أوْ ... دَعَ في ذا الجمالِ كلَّ جميلِ وله: بِروحي الذي أشقى العيونَ ارتِقابهُ ... وأخرجَ عن حدِّ التَّعادلِ أحوالي تمثِّلُه الأشواقُ لي فإذا أرى ... مليحاً على بعدٍ تظنَّاه بَلْبالي فاقصِدْهُ قصدَ العِطاش توهَّمتْ ... شراباً فمذ دانته إذ هو بالآلِ فصرت بحالٍ لو أراهُ حقيقةً ... نكِرتُ على عيني وكذَّبتُ آمالي وله بتهنئة بختان: الغصنُ يُحذَمُ باقتِضابِ فواضلٍ ... منه لينمو في الرِّياضِ ويَحمِلا وكذاك أقلامُ الكمالِ لِبريِها ... تعنو لها سمرُ الرِّماحِ تمثُّلا والشَّمعُ لا يزهو ويُزهِرُ نورُها ... حتَّى تَقُصَّ من الذُّبالةِ مُرسَلا تناول هذا من قول محمد بن قاسم الحلبي، من تهنئته بختانٍ، يقول فيها: هو الشَّمعُ إن قُطَّ لا غروَ أن ... أنارتْ به حالكاتُ اللَّيالي وظُفرٌ بتقليمهِ لا يزالُ ... أكفُّ المكارمِ منه حوالِ وتشميرُ ذيلٍ لدى الاستِباقِ ... لنيلِ الأماني وكسْبِ المعالي وما لليراعِ إذا لم يقطَّ ... فضلٌ يُعَدُّ على كلِّ حالِ

ومن بعد بريِ الغصونِ ازدهتْ ... عليها أسِنَّةُ سمرِ العوالي وإن كان سبقه في البعض ابن فضل الله، في ختان النَّاصر: لم يروِّعْ له الختانُ جَناناً ... مذ أصابَ الحديدُ منه حديدا مثلما تنقصُ المصابيحُ بالقطِّ ... فتزدادُ في الضِّياءِ وقودا وكذلك الصنوبري في قوله: أرى طُهراً سيثمِرُ بعدُ عرساً ... كما قد تثمِر الطَّربَ المُدامهْ وما قلمٌ بمغنٍ عنكَ إلا ... إذا ما أُلقِيَتَ عنه القُلامهْ ومن الفصول المطربة في هذا الباب، فصلٌ للقاضي الفاضل: الحمد لله الذي أطلعه بثنيات الكمال، وبلَّغه غايات الجمال، ويسَّره لدرجات الجلال، ونقَّله تنقُّل الهلال، وشذَّبه تشذيب الأغصان، وهذَّبه تهذيب الشُّجعان، وأجرى فيه سُنةً سن لها الحديد، فنقصه للزيادة، واستخلصه للزيادة، ودربه للاصطبار، وأدَّبه للانتصار، وألقى عنه فضلةً في اطراحِها الفضيلة، وقطع عنه علقةً حقُّ مثلها ألا تكون بمثله موصولة. فلم يزل التَّقليمُ منوِّهاً بالأغصان، ومنبِّهاً للثَّمر الوسنان، ومبشِّراً بالنَّماء، وميسِّراً للنَّشوِ والانتشاء. ولطرز الريحان مضمِّناً بيت الأمير المنجكي: عجبتُ من طالِعِ المحبِّ ومن ... سرعةِ إكذابِ بأسهِ الأملا إن زارهُ من يحبُّ عن غلطٍ ... أتاهُ كابوسُ يقظةٍ عجِلا كأنَّه طارقُ المنونِ فلا ... حيلةَ في دفعهِ إذا نزَلا أو الغريمُ الملِحُّ في زمنِ ال ... عُسرِ أو الدَّاءُ صادفَ الأجَلا ثقيلُ روحٍ يزورُ في زمنٍ ... لو زار فيه الحبيبُ ما قُبِلا يقول إيهٍ وقدْ وجمتُ ومَن ... ينطقُ أو من يطيقُ محتمِلا يسألُ ما تشتكي فقلتُ لهُ ... داءٌ عرانِي فقال لا وصَلا فقلتُ آمينَ يا مجيبُ أزِلْ ... ما نشتكيهِ فإن يدمْ قَتَلا يا ليتَ لو أنَّه استُجيبَ لنا ... دعوتنا تلك والمكانُ خَلا لم يحُلْ بل ضاعَ وقتُنا هَدَرَاً ... وملَّ منَّا الحبيبُ وارتحلا وله، متغزِّلاً: أبُنَيَّ لا أُعدِمتُ فضلكْ ... وأدامَ لي مولايَ ظِلَّكْ يا جامِعاً شملَ البَها ... لا فرَّقَ الرَّحمنُ شملكْ أفدِيكَ لم ترَ في الهوى ... مثلِي ولا أبصرتُ مِثلكْ حاشَا طِباعكَ والوفا ... من أن تَمَلَّ وأن أمَلَّكْ وكُفِيتَ نزْغاتِ الوُشا ... ةِ وجلَّ قدرُكْ أن تُزِلَّكْ كم ذي جمالٍ باهرٍ ... لم أرضهُ ليديرَ نعلكْ ومُمَنَّعٍ في الحسنِ لي ... سَ إلى وصالٍ منه مسلكْ أمسَى يعرِّضُ نفسهُ ... ليحلَّ من قلبي محلَّكْ هيهاتَ ما للرُّوحِ من ... بدلٍ ولو أوسعتَ بذلكْ ها أنت روحي ليسَ بُدٌّ ... منكَ دعْ من شاءَ يهلكْ بحياةِ ما بيني وبي ... نكْ لا تُضِعْ يا خِلُّ خِلَّكْ أسفي على زمنٍ يضي ... عُ ولم أُشاكِل فيه شكلكْ عيناكَ قد نصبتْ على ... كنزِ المحاسنِ منكَ مهلكْ فبحقِّها لا ترمِ من ... لحظاتِها لِسواي نبلكْ إنِّي أغارُ إذا بغي ... رِ حشاشتي أغمدَتْ نصلكْ يفديكَ كلِّي لا تملْ ... لمماذِقٍ في الودِّ كُلَّكْ وانظر بعينِ العدلِ تع ... لمْ من هداكَ ومن أضلَّكْ ومن اجتلاكَ لأجلِ لذَّ ... ةِ مشتهاهُ ومن أجلَّكْ قسماً بِمعناك الذي ... منِّي تملَّكَ ما تملَّكْ لولاك لم أكُ قائِلاً ... شعراً قلاهُ القلبُ قبلكْ فكِّر بكاساتِ الخطو ... بِ لعلَّ تطمعُ أن يُعِلَّكْ

إنِّي وأحوالُ الشَّبا ... بِ تحوَّلتْ والدَّلُّ دَلَّكْ لكنَّ ميلي للجما ... لِ طبيعةٌ والطَّبعُ أملكْ ويصوغُ مجهودُ القري ... حةِ ما حِسابُ الشَّوقِ فذلكْ إن رمتَ إرجاعَ الفوا ... ئتِ قال ضيقُ الوقتِ من لكْ فأقولُ للقلبِ اقتنِعْ ... بالطَّلِّ لستَ تطولُ وبلكْ وأبيكَ لو أمليكَ بع ... ضَ أليمِ ما أخفي أُملَّكْ لكنَّني أجزتُ خي ... فةَ أن تقولَ أطلتَ فضلكْ وبسطتُ عذري في هوا ... كَ عساكَ تقبلُه وعلَّكْ وله هذه القصيدة في الغزل، وهي أشهر شعره: نفسٌ أمانيها تعلِّلها ... تُعلِّلها تارةً وتُنهلها ولوعةٌ في الضلُّوعِ أصعبُ ما ... يُذيبُ صلدَ الحجار أسهلها غداةَ بانوا فلا وربِّك ما ... ظننتُني في الرِّكاب أُثقلها رفقاً بها حاديَ المطيِّ ففي ... خلبِ فؤادي تدوسُ أرجلها وفي سبيل الغرام ليَ كبدٌ ... تبيتُ أيدي النَّوى تململها تعلةٌ للمنونِ قائدةٌ ... آخرُها كاذبٌ وأوَّلها أساورُ النَّجمَ أبتغي قصراً ... لليلتي والجوى يُطوِّلها وليتَ ساجي اللِّحاظِ يرحمُ من ... يبيتُ من أجلهِ يدمِّلها الله في ذمَّةٍ أضعتَ وفي ... حشاشةٍ ملَّها معلِّلها أما وجفنيكَ والفتورِ وما ... أورثَ جسمي ضنًى مذبَّلها وأسهمٍ قد أراشها حورٌ ... تقصدُ حبَّ القلوبِ أنصلها لمهجتي في هواك تكبرُ أن ... يصدَّها ما يقولُ عذَّلها إلى ما تقضي وفي الحشا حرقٌ ... لا تستطيعُ الجبالُ تحْملها صبابةٌ إن أردتُ أجملها ... لديكَ ذلُّ الهوى يُفصِّلها أوجمُ تالله مذ أراك فقد ... أعجزُ عن كلمةٍ أحصِّلها ومنطقي فيك عن فصاحتِه ... يعودُ سحبانُ وهو باقلُها وهذه حالةُ الكئيبِ ولوْ ... جحدتَها ما أظنُّ أجهلها تركتَني واستعضْتَ عنِّي من ... أخفُّ ألفاظِه أثاقِلُها أعدَمني الله في الهوى فِئةً ... ثناكَ عن وُصلتي تقوُّلُها هم أشربُوا طبعك القساوةَ هلْ ... تراكَ يوماً لِلُّطفِ تُبدِلُها أما عرفتَ العفافَ من دَنِفٍ ... مداخِلُ السُّوءِ ليس يدخلُها يأنفُ بالطَّبعِ كلَّ فاحشةٍ ... مذاهِبُ الشَّرعِ ليس تَقبلُها غُذي لِبانَ الهوى على صِغرٍ ... فهو لأهلِ الشُّجونِ موئلُها إن راحَ يحكي صبابةً خضعتْ ... لهُ القوافِي ودان مُشكِلُها يعلِّمُ النَّوحَ كلَّ ساجعةٍ ... فهو صدى دَوحِها وبُلبُلُّها ويحَ قلوبِ المتيَّمينَ إذا ... تصرَّمتْ في الهوى حبائلُها أفديكَ يا قاتلِي بلا سببٍ ... قتلةَ مُضناكَ من يحلِّلُها أصبحتُ شيخَ الغرامِ فيك ويا ... رِوايةً أدمُعي تسلسِلُها وفيكَ حلوَ الشبابِ مرَّ ولمْ ... أفُزْ بأمنيةٍ أُؤَمِّلُها وفيكَ لَعمرُ الهوى رِضاكَ فإن ... عزَّ فيها خيبةً أنازِلُها تالله لو شاهدتْ عيونُكَ ما ... ألقاهُ سحَّتْ وجادَ وابِلُها عساكَ تحنو لِمن مطامِعُه ... عليكَ دونَ الورى معوَّلُها وكمْ ليالٍ سهِرْتُهُنَّ ولي ... رامِحُها سامرٌ وأعزلُها ومِفرَشي وسطَ كلِّ مسْبِعةٍ ... قتادُها والوِسادُ قنقَلُها وليسَ إلا هواكَ يؤنِسُني ... بصورةٍ منكَ لي يُمثِّلُها

أما كفا يا ظَلومُ ما فعلتْ ... غَزاةُ جفنيكَ لي وغُزَّلُها ولستُ أشكوكَ بل يَلَذّ لمن ... تولَّهتْ نفسُه تذلُّلُها فأنت عندي ولو هدرتَ دمي ... خَير ولاةِ الورى وأعدَلُها وإن توارتْ شموسُ حُسنِكَ عن ... نواظِري فالفؤادُ عاقِلُها وإن تناءتْ ركائِبي ودنتْ ... رسائِلي فالرِّياحُ تنقُلُها فاسلم ولا تكترثْ بحُرقةِ ذي ... نفسٍ أمانيها تعلِّلُها وله: هو الحبُّ أبحاثُهُ مشكلُهُ ... وكم نظرٍ ضلَّ في مسألَهْ ومن يستدِّلُّ بغيرِ العفافِ ... على طرقِ الحبِّ لن يوصلَهْ وما القلبُ قلبي إن عاقهُ ... معيقٌ عن الحبِّ أو أشغلَهْ ولا العمرُ عمرٌ إذا لم يكنْ ... به الوجدُ آخِرهُ أوَّلَهْ سقى الله ريعانَ صبوِي بما ... يرنِّحُ منه غصونَ الولَهْ وأكثرَ في كلامِ الحسودِ ... وخيَّبهُ في الذي أمَّلَهْ يُعيبُ الصَّبابةَ من لا يرى الصَّ ... بابَة والنُّسكَ غير البلَهْ ولا عيبَ في الحبِّ إلا نحا ... فةُ الطَّبعِ والرِّقَّةُ الحاصلَهْ ومن كانَ عن ذاكَ في معزِلٍ ... فغيرُ ملومٍ إذا أهملَهْ وحسبُ المباشِرِ أمراً من ال ... فضيحةِ فيه بأن يجهلَهْ ألا حدَّدَ الله نَبلَ الزما ... نِ ولله راميهِ ما أنبلَهْ كحيلُ العيونِ مثيرُ الفتونِ ... دليلُ المَنونِ إلى المقتلَه وله: ملكتمْ زمامَ الرُّوحِ ثم قضيتُم ... برحلةِ جسمي فاسمحوا بِخالِكمْ عقلتُمْ عُرَى عقلي وقلتم تجاهُلاً ... كأنَّ به جذباً نعمْ بحبالِكُمْ وله: عَنِّي إليكمْ بني هذا الزَّمانِ فقد ... عاهدتُ قلبي أن لا رامَ وُدُّكُمُ أباحكُم بيتَ ودٍّ كان تصدِيةً ... صلاتُكم عندَه فالآنَ صدَّكُمُ وله، ويخرج منه اسم عمر، وعمرو، بطريق التعمية: بدْر كستْ شمسُ الطُّلا وجهَهُ ... حُسناً وأغفى جفنهُ وابتسمْ فقلتُ نبِّهْ عمراً واعتلِق ... منه نطاقَ الخصرِ عقداً ونَمْ قوله: نبِّه عمراً ونمْ هذا كالمثل. قال ابن مكرم في مختصر الأغاني في ترجمة بشار: كان أبو الوزير مولى عبد القيس من عمال الخرج، وكان عفيفاً بخيلاً، فسأل عمر بن العلاء، وكان جواداً شجاعاً، في رجلٍ، فوهب له مائة ألف درهم. فدخل أبو الوزير على المهدي، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عمر بن العلاء خائن. قال: ومن أين علمت بذلك؟ قال: كلَّمتُه في رجلٍ كان أقصى أملِه ألف درهم، فوهب له مائة ألف درهم. فضحك المهدي، وقال: كلاكما عمل على شاكلته، أما سمعت قول بشارٍ فيه: إذا دَهمتْكَ عِظامُ الأمورِ ... فنبِّه لها عمراً ثمَّ نمْ فتًى لا يبيتُ على دِمنَةٍ ... ولا يشربُ الماءَ ألا بدَمْ وقول أبي العتاهية: إنَّ المطايا تشتكيكَ لأنَّها ... قطعتْ إليكَ سباسِباً ورِمالا فإذا وردنَ بنا وردنَ خفائِفاً ... وإذا صدرنَ بنا صدرنَ ثِقالا أوَليس هو الذي يقول أبو العتاهية فيه: يا ابنَ العلاءِ ويا ابنَ القرْمِ مِرداسِ ... إني لأُطريكَ في أهلي وجُلاَّسي حتى إذا قيلَ ما أعطاكَ من نشبٍ ... أُلفيتُ من عظمِ ما أوليْتَ كالنَّاسي ثم قال: من اجتمعت ألسن النَّاس على مدحه، كان حقيقاً أن يصدِّقَها بفعله. انتهى. وله يمتدح الأستاذ محمد بن زين العابدين البكري، بمصر: بعثتْ له الذِّكرى شجنْ ... فصبا وحنَّ إلى الوطنْ دنِفٌ إذا ابتسمَ الخَلِيُّ ... غشاهُ تعبيسُ الحَزَنْ قلقُ الرَّكائبِ ما استقرَّ ... به النَّوى إلا ظَعَنْ والبينُ أصعبُ ما يرا ... هُ أخو الشَّدائدِ والمِحَنْ

من مبلِغٍ تلكَ المرا ... بِعِ والمراتِعِ والدِّمنْ أشواقِي اللاَّتي زحَمْ ... نَ الرُّوحَ في مثوى البدَنْ في ذِمَّةِ اللهِ الَّذي ... نَ هم فروضِي والسُّنَنْ بي منهمُ الرَّشأُ الغَضي ... ضُ الطَّرفِ نهَّابُ الوسَنْ متناسِقُ الألحاظِ أيًّا ... ما لحظتَ به فَتَنْ مُلَحٌ تعلِّمُ عاشِقي ... هِ به التَّغزُّلَ والفَنَنْ فكأنَّها من روضِ مَدْ ... حِ أبي بكرٍ فنَنْ الضَّاربينَ على الفخا ... رِ سُرادِقاً من كلِّ فَنّْ السَّادةِ البيضِ المآ ... ثِر في العُلا غُرَرِ الزَّمَنْ ومقلِّدي أعناقَ هـ ... ذا الخلقِ أطواقَ المِنَنْ بوراثةٍ نبويَّةٍ ... كُلاًّ أتتهُ على سنَنْ حتَّى استقلَّ بها الإما ... مُ ابنُ الإمام المؤتَمَنْ قطبُ العلومِ محمدٌ ... ذو الخلق والخلقِ الحسَنْ منَّاحُ كلِّ نفيسةٍ ... في الفضلِ ليسَ لها ثمَنْ عن فيضِ وهبٍ جلَّ عن ... كسبِ التَّفهُّم والفِطنْ طلعتْ بأُفقِ فؤادِهِ ... شمسُ الغرامِ فلمْ يرِنْ وغدتْ معرِفهُ تطو ... فُ على العقولِ ببنتِ دَنّ وكذلكَ السِّرُّ المصو ... نُ فويْحَ من فيهِ طعَنْ يا سيِّدي ولئِن قبِل ... تَ تعبُّدي فلأفخَرَنْ عطفاً على قلبِي الكسِي ... رِ بنظرةٍ فلأَجبرَنْ إنِّي أنحتُ مطيَّتي ... بمضيفِ مجدِكَ فاقبلَنْ مولايَ دعوةُ موثَقٍ ... بيدِ القطِعةِ مُرتهَنْ متصبِّرٍ والصَّبرُ أو ... لى ما تداوَى المُمتحَنْ لكِن يعايَر بالجِرا ... حِ مفرِّطٌ ألْقى المِجَنْ ومدِيحِ علياكُمْ بني الصِّ ... دِّيقِ جُنَّةُ ذي الشجَنْ وبحبِّكمْ تُشفَى القلو ... بُ وتنجلي ظُلَمُ الشِّحَنْ هذا هو الفخرُ العليُّ ... وما سِواهُ فممتَهَنْ من جاءَ يفخرُ عندكُمْ ... قولوا لهُ أنتَ ابنُ منْ يا سادةَ النَّاسِ الذي ... نَ من استعانَ بهم يُعَنْ قسماً بكم لولا هوا ... كُمْ في الجوانِحِ قدْ سكَنْ لم ينتجِ الفكرُ العَقي ... مُ من القريحَةِ ما اسْتجَنْ فالفضلُ في إيجادِهِ ... لكُمُ وإن يقبلْ أُهَنْ وشعاريَ التَّقصيرُ ل ... كنِّي قدمتُ بحسنِ ظنْ أبمدحَتي أوفيكمُ ... حقَّ الولا هيهاتَ أنْ لكنَّني أبقى تُمَحَّ ... ضُ زلَّتي فلعلَّ أنْ غوثاهُ يا أهل الحفا ... ظِ العونَ في ضيقِ العطنْ إن لم ألذْ بجنابكمْ ... أخطأتُ والله المَظنْ وإذا سعدتُ بنظرةٍ ... منكمْ كفتني عنْ وعَنْ نهجُ الهدايةِ حبُّكمْ ... من زاغَ عنه قدِ افتتنْ فعليكمُ سُحبُ الرِّضا ... ما ضنَّ مشتاقٌ وأنّ وعلى ضريحٍ ضمَّ جدَّ ... كمُ شآبيبُ المِننْ ما الصبحُ جاءَ بنورهِ ... والليل بالظَّلْماء جنّ وله من قصيدة: عاطياني علالةَ الأشجانِ ... بكؤوسِ الذِّكرى وروضِ الأماني بأبي أنتما عسى ينفَح الشَّو ... قُ رسيساً جنَّتْ مطاوي الجنانِ أوليس العجيبُ والغبنُ عيشُ ال ... مرءِ عيشَ المشيبِ في العنفوانِ ما اعتذارُ الفؤادِ للغيدِ والشَّي ... بُ ينادي عليه بالحرمانِ حقُّ من يركض الجديدانِ فيه ... أن يُرى فيهما طليقَ العنانِ

وله مجيباً لمن عاب عليه كتمان الحب، وأثر الشهوة، وقال بأن كتم الحب من الجبن: ليسَ جُبناً كوني أموِّهُ في الحبِّ ... واُخفي وأستشين البيانا غيرَ أني أُجلُّ مالكَ رقِّي ... أنَّ مثلي يشدو به إعلانا فإذا ما فخرتُ أفخرُ بالصَّب ... رِ وألفى لسرِّهِ صوَّانا وإذا ما شكوتُ فلتكُ شكوا ... يَ إليه عساهُ أن يتدانى فشُجاع الهوى الجسورُ على جرْ ... حِ مُباريه صارماً وسنانا لا الذي إن تشكَّه بادرةُ الط ... رفِ تراهُ يقرعُ الأسنانا أنا من قسَّم الفؤادَ فأعطى ... منه كُلاًّ كما يليقُ مكانا ومراحُ الغزالِ فيه مصونٌ ... عن سواهُ وحقُّه أن يصانا وله لا تتركِ الجدَّ في جمع الكمالِ لأنْ ... بارتْ تجارةُ سوق العقلِ في الزَّمنِ لا بد أن ترغمَ الجُهَّال حاجتهمْ ... إلى كمالكَ أن يرضوكَ في الثَّمنِ وحسْبكَ الله إن لم تلقَ مشترياً ... عن الغبيِّ بعَرفِ العُرفِ أنت غني وله: نفسي لتؤْثرُ أن تفنى بمحنتهمْ ... لأنَّها لسوَى الأحبابِ لم تكنِ المرءُ يُرجى لضرٍّ أو لمنفعةٍ ... وما خُلقتُ لغيرِ الحبِّ والشَّجنِ وله: لا تقطعنَّ مودَّةً فلربَّما ... تحتاجُ من أَقْصيتهُ تُدنيهِ فالسِّلكُ بعد القطعُ يمكنُ وصلهُ ... لكنَّ عقدةَ وصلهِ تزريهِ هذا كثير في الشعر، من قول أبي الفتح المالكي: من لي بردِّ معاشرٍ ... كثروا عليَّ فأكثروا صادقتهمْ وأرى الخرو ... جَ عن الصداقةِ يعسرُ كالخطِّ يسهلُ في الطُّرو ... سِ ومَحوُه يتعذَّرُ وإذا أردتَ كشطْتهُ ... لكنَّ ذاك يؤثِّرُ وقوله أيضاً: ويمكنُ وصلُ الحبلِ من بعدِ قطعهِ ... ولكنَّهُ يبقى به أثرُ الرَّبطِ وللشهاب الخفاجي، من فصل: أنت وإن وصلت بعد القطع حبل المودة، فقد يبقى من أثر ذلك في القلب عقدة. وله: يا واصلينَ حبالاً ... كانت لشدِّ المودَّهْ لا تقطعوها ببعدٍ ... قد غيَّرَ الناسُ عهدهْ فإن تقولوا وصلْنا ... من بعد ذا القطع شَدَّهْ يبقى وحقِّكَ فيها ... من ذلك الوصل عُقدهْ وله: وكم لي في طرازِ العمرِ شطحٌ ... به انقلبَ الزَّمانُ فعاد شحطا ونسخةُ لوعةٍ صحَّتْ بقلبي ... فلم ينظر بها الواشونَ كشطا إبراهيم بن عبد الرحمن السؤالاتي وافر الحظ من البراعة، صائب اللحظ في زخرفة اليراعة. اكتسب الأدب بكده وجده، وانتهى من القوافي والفقه إلى أقصى حده. وكان وبعارضه ريحانةٌ شرقت بماء شبابه، ومزجته وجداً وصبابةً بقلوب أحبابه. وضع عقله في يد الهوى، وتطوح معه في كل مهوى. فأقام حيناً وله إلى التصابي لجاجة، وما حلي يمينه في مواسم العيش إلا زجاجة. وله في غضون ذلك موشحات وشحت كل جمع، وشنفت بجواهر كلماتها كل سمع. ثم تعاورته نوائب جلت فكادت تتجلى، وتوالت عليه مصائب تولت فما أوشكت تتولى. وانقلبت به المحاسنة، إلى المخاشنة. وتبدَّلت المجاملة، إلى المحاملة. فاقلع عن تلك الهنات، ومحا كثيراً من سيِّئاته بحسنات، ولزم الفقه متجِّراً في مسائله، وكان لتحصيل أمانيه من أعظم وسائله. وقد صحبته والأيام أمالت قناته، وأمر المرض المؤلم مِجنَّاته، فاستحالت صفته، وتقلصت شفته. لكنها وإن ذبلت خمائله، فلم تزل غضةً شمائله. وإن تفرَّقت ديمه، فما برحت ملائمة شيمه. فكنت أتمتع من منادمته الحلوة، بلطائف لها في كل قلبٍ خلوة. وأخذت عنه من أشعاره ما يبهر الشمس في الشروق، ويتمشَّى تمشِّي الرَّاح السَّلسل في العروق. وها أنا ذا أورد منه ما يطري ويطرب، ويجعله زاده كل مشرِّقٍ ومغرِّب. فمن ذلك قوله يمدح المولى عارف، المذكور في ديباجة الكتاب: جَذبَتْ محاسنُك القلوبا ... حتى غدوتَ لها الحبيبا

وطلعتَ من أُفقِ العُلا ... بدراً لخُرَّدِهِ خطيبا ونفثتَ روحاً في النُّفو ... سِ فكنتَ لها الطَّبيبا وغدا بقُطرِ نداك روْ ... ضُ الفضلِ مُخْضَلاً خصيبا وكسوتَ من حُللِ الرَّبي ... عِ جِنانه برداً قشيبا فحدائِقُ الآدابِ من ... كَ تنفَّستْ مِسكاً وطيبا وتجاذبتْ فيها نسا ... ئِمُ لطفِك الغصنَ الرَّطيبا وغدا يُناغي فوقه ال ... قمريُّ بلبلها الطَّروبا وأدرتَ من سلسالِها ... ما بيننا كأساً وكوبا وأبحتَ خِلاَّنَ السُّرو ... رِ من العُلا الصَّدرَ الرحيبا يا فاضِلاً أنسى العِما ... دَ بديعه وسما الخصيبا وجلا على الأسماعِ من ... أبكارِه عرُباً كعوبا من للثُّغورِ من الحسا ... نِ عن المحابرِ أن تنوبا وخدودهنَّ تكونُ قِر ... طاساً لراحتِهِ رقيبا وقدودُهنَّ يراعةٌ ... من لمسِ أُنملهِ قريبا ونواظرُ الأحداقِ أن ... فاساً إذا أنشى نسيبا مولايَ يا ربَّ الكما ... لِ ومن غدا الشَّهمَ الأريبا يا عارِفَ الوقتَ الذي ... تَخِذَ الفخارَ له نصيبا أبديتَ بالسِّحرِ الحلا ... لِ من البيانِ لنا العجيبا وتلوتَ من آياتِ فض ... لِكَ ما بهرتَ به اللَّبيبا وأعدتَ للدَّاعي الوجو ... دَ وكنتَ سائِله مجيبا فشموسُه بكَ أشرقتْ ... من بعدِ أن دنتِ الغروبا وبعثتَ من فضحَ الرَّبي ... عَ من البديعِ لنا ضروبا أشهى إلى الظمْآنِ من ... فضفاضِ كوثرِهِ ضُروبا وأرقُّ من مرِّ النَّسي ... مِ على خمائلِه هبوبا فطفقتُ يلثمُ مسمعي ... لِكؤوسِها ثغراً شنيبا وتقولُ في جنَّاتٍ اسْ ... طُرُ طِرسِها عينايَ طوبى لا زلتَ ترقى في الفضا ... ئِلِ والعُلا الشَّرفا الحَسيبا وبقيتَ تهدي للنُّفو ... سِ نفائِساً تجلو الكُروبا ومن غزلياته، قوله: حتَّى مَ تُعرِض عن محِبكْ ... وتصدُّني عن طيبِ قربِكْ إن دامَ هذا الهجرُ أق ... ضِي بالمحبَّةِ إي وربِّكْ يا أيُّها التيَّاه في ... زهوِ الصِّبا رفقاً بصبِّكْ ما كنتُ بالسَّالي هوا ... كَ ولسْتُ بالتَّالي لعتبِكْ تجنِي عليَّ وتجتنِي ... ظُلمي وتأخذُني بذنبِكْ شرَّقْتني بالدَّمعِ مذْ ... غرَّبتْ عني تحتَ حجبِكْ أأبيتُ إلى فُرُشِ الضَّنى ... وتبيتُ ملتهِياً بسربِكْ يا منيةِ القلبِ الأما ... نَ فلستُ من أكفاءِ حربِكْ وقوله: لا تلمنِي أنا الألوفُ وقدْ ... مِتُّ غراماً من فقدِ إِلفٍ رقيبِ هكذا في الرَّقيبِ حالي فقل لي ... كيفَ حالي وقدْ جفاني حبيبي وقوله، وهو مما قاله بديهاً: همُّ المعيشةِ حالَ ما ... بيني وبينَ حبائِبي ولربَّما نهضتْ إلى ... نيلِ العلوِّ مراتِبي فيفوقُني همُّ المعي ... شةِ عن جميعِ مطالبِي فكأنَّني الدُّولابُ أص ... عدُ للهبوطِ بجانبِي لو كلِّفَ السَّيفُ المعا ... شَ نبا بكفِّ الضَّاربِ وله في الغزل: إنَّ الغزالَ الذي في طرفِهِ حوَرٌ ... في مِرشفيهِ سُلافُ الرَّاحِ والحبَبُ حارتْ لرؤيتِهِ الأبصارُ حينَ بدا ... غصنُ الجمالِ حلاهُ اللُّطفُ والأدبُ ما مالَ من هيَفٍ ميَّالُ قامتِه ... إلا عليهِ فؤادُ الصَّبِّ يضطَربُ

دارتْ إليه قلوبُ العالمينَ فما ... قلبٌ لغيرِ هواهُ اليومَ ينقلِبُ وله: تقمَّصَ ثوبَ اللاَّذِ من فوقِ لؤلؤٌ ... ورصَّعَ بالدُّرِّ الجمانَ بديدا وألْبسنِي مِرطَ النُّحولِ مخلَّقاً ... وأعدمني بردَ الشَّبابِ جديدا غزالُ كِناسٍ لو رأتْهُ من السَّما ... كوكِبُها خرَّتْ إليهِ سُجودا وله: رِياضٌ سقتْها سحبُ جدواكَ لا ذوتْ ... ولا برِحتْ بالفضلِ معشِبةً خضرا ولا برِحتْ رسلُ المحامِدِ والثَّنا ... إليكَ مدى الأيَّامِ واردةً تترى وله: تصبَّرْ ففي اللأواءِ قدْ يُحمدُ الصَّبرُ ... ولولا صرفُ الدَّهرِ لم يعرفِ الحرُّ وإنَّ الذي أبلى هوَ العونُ فانتدِبْ ... جميلَ الرِضا يبقى لكَ الذِّكرُ والأجرُ وثقْ بالَّذي أعطى ولا تكُ جازعاً ... فليسَ بحزمٍ أن يروِّعكَ الضُّرُّ فلا نِعمٌ تبقى ولا نِقمٌ ولا ... يدومُ كِلا الحالينِ عسرٌ ولا يسرُ تقلُّبُ هذا الدَّهرِ ليسَ بدائمٍ ... لديهِ معَ الأيامِ حلوٌ ولا مرُّ وله: حتَّى مَ يا ظبيَ النَّقا ... عنِّي تُحجَّبُ في كِناسكْ لا تنأَ عن عيني وته ... جرني قلًى من دونِ ناسكْ أنا عبدُ رقِّكَ أرتجي ... كَ وأختشِي سطواتِ باسِكْ لا تبغِ بالإعراضِ قتْ ... لي واسقِني بحياةِ راسِكْ وله: وحياتهِ وحياتِه ... إنِّي لرؤيتِهِ كَلِفْ صنمٌ لبستُ الغيَّ في ... هِ وقلتُ للرُّشْدِ انصرِفْ حسنٌ وإن كانَ المُس ... يءَ لمن بعشقتِه تلِفْ ما استحسنتْ عيني سِوى ... حسنٍ ولا قلبي ألِفْ وكتب إلى بعض الأعيان، يمدحه: أهديْتني وأجزْتني وبررْتني ... وشملْتني بالبرِّ والألطافِ ولئِنْ بشكرِكَ راحَ لفظِي كاسِياً ... نعماكَ كاسِيةٌ بها أعطافِي لا بِدعَ إنْ أسديتَ معروفاً فذا ... لكَ من عوائِدِ سنَّةِ الأسلافِ ومدح بعض الكبار بقصيدة، فانتقصه، فكتب إليه: مدحْتُكَ لا رغبةً في نداكَ ... وإنْ ملَّكَتْهُ الورَى رِقَّها ولا رهبةً من سَطاكَ الَّذي ... أذاقَ الأعادِيا ما ذاقَهَا ولكنْ لمعنًى تراهُ الكِرامُ ... وذاكَ لأقضي العُلا حقَّها ومما أنشده لنفسه قوله: على مَ الصُّدودُ ولا ذنبَ لي ... وفيمَ التَّجنِّي وصبرِي بَلِي بمن أوْدعَ السِّحرَ في مقلتيْكَ ... وحكَّمَ لحْظيْكَ في مقتلِي دَعِ الصَّدَّ وارفُقْ بمن قلبُه ... على حرِّ نارِ الغَضا ينْقلِي إلى اللهِ أشكو أليمَ الجوَى ... وقلباً بحرِّ الجوَى ممتلِي لحى اللهُ قلبي الظَّلومَ الَّذي ... عن النُّصحِ ما انفكَّ من معزِلِ كليمُ الصَّبابةِ لا ينتهي ... عنِ الوجدِ في الرشأ الأكحلِ رثى ليَ في الحبِّ من لامَني ... ورقَّ الحسودُ وما رقَّ لي يميناً بهِ حبَّهُ ما سلوتُ ... ولا مِلتُ عنهُ إلى عُذَّلي مليحٌ أبى اللهُ إلا هواهُ ... على رُغمِ أنفِ البليدِ الخلِي ومن غرامياته قوله: يا هل ترى لو نظرَ ال ... غادونَ حالِي رحِموا أو علِموا ما صنعوا ... بي من أسايَ ندِموا يا منْ لوجدِي عَمَروا ... والصَّبرَ منِّي هدموا تاللهِ من بعدِكُمُ ... كلُّ وجودٍ عَدَمُ وله مضمناً: واصَلتُ ودَّكَ بالوَفا فقطعْتني ... ورفعتُ ذِكراكَ في الوَرى فوضعْتني وزعمتُ أنَّكَ ذو غنًى فأضعتني ... أبعينِ مُفتقرٍ إليكَ نظرتني وهذا المصراع من مقطوع يروى للمتنبي، ولم يوجد في ديوانه، وبعده: .... ... فأهنتَنِي وقذفْتني من حالِقِ

لستَ الملومَ أنا الملومُ لأنَّني ... أنزلتُ آمالِي بغيرِ الخالِقِ وله: عشِقَ المعشوقُ ظبْياً مثلهُ ... واعتراهُ في هواهُ ولَهُ كانَ معشوقاً فأمسى عاشِقاً ... فقضى الحبُّ عليهِ ولَهُ وله: بي أغيدٌ تشخصُ الأبصارُ حينَ بدَا ... في طلعةٍ جَلَّ من بالحسنِ عدَّلها كأنَّما الحسنُ لمَّا زانَ صورتَهُ ... قدْ قال للحسنِ كنْ وجهاً فكانَ لهَا ورأيت بخطه، وقد نسبه إلى نفسه: في أزرقِ الملبوسِ مرَّ مُعذِّبي ... متمايِلاً كالغُصنِ في خيْلائِهِ ورقى دُخَانُ التَّبْغِ غشَّى وجههُ ... من فيهِ مثلَ الغيْمِ يومَ شِتاتِهِ وكأنَّهُ لمَّا بدا من شرقِهِ ... بدرٌ تبدَّى في أديمِ سمائِهِ سترَ الجمالَ عن العُيونِ مخَافَةً ... أن لا تكونَ النَّاسُ من قُتَلائِهِ مثله لبعضهم: ولمَّا بدَا في أزرَقٍ من قِبائِهِ ... يَتِيهُ لِفرطِ الحُسنِ في خُيَلائِهِ خلعتُ عِذارِي ثمَّ صِحْتُ عواذِلي ... قِفوا وانظُروا بدرَ الدُّجى في سَمائِهِ قلت: وفي لون السماء للأدباء اختيارات، وذلك بحسب حالاتٍ واعتبارات،؛ فبعضهم يصفه بالزُّرقة، كما وقع لهذين الشاعرين، وقد تبعا أبا عثمان الناجم في قوله، وقد رأى جارية وعليها ثوبٌ أزرق: ما تعدَّتْ قَبُولُ حين تحلَّتّ ... شِبهَ زِيٍّ لوجهِها ذِي البَهاءِ لبِستْ أزرقاً فجاءتْ بوجهٍ ... يُشبِهُ البدرَ في أديمِ السَّماءِ وهذا مذهب القدماء، وزرقته عارضةٌ من شعاع الشمس، وهو مائل إلى البياض، كما أن العرق الأبيض إذا جرى فيه الدَّم رُئِيَ لازوردياً، فتولَّدَ من اللونين لونٌ آخر. وبعضهم من أهل الآثار يجعله أخضر؛ لحديث: ما أظلَّتِ الخضراءُ ولا أقلَّتِ الغبراءُ أصدقَ من أبي ذَرٍّ. وبعضهم يجعله لازورديًّا؛ كما قال أبو حفص بن برد، في غلام بدا له في ثوبٍ لازورديٍّ: لمَّا بدَا في لازورْ ... دِيِّ الحريرِ وقد بهَرْ أكبرتُ من فَرطِ الجما ... لِ وقلتُ ما هذا بَشَرْ فأجابني لا تُنْكِرَنْ ... ثوبَ السَّماءِ على القمرْ وبعضهم يجعله بنفسجيًّا، كما قال ابن المعتز في غلام عليه ديباج حرميّ: وبنفسجِيّ اللَّونِ قتْ ... لُ مُحِبِّهِ من رائِه الآن صِرْتَ البدرَ إذ ... أُلبسْتَ لونَ سمائِه أبو بكر العصفوري باهر السمت في النظم والنثر، طائر الصيت في الآفاق بقادمتي النسر. للمعاني الأبكار مخترع، ولبنات الأفكار مفترع. وكان خرج من عشه وهو صغير السن، لكنه إذا قدح زنده بالبراعة يرن. ومن أمثالهم: الديك الفصيح، من البيضة يصيح. فحلَّ بمصر وأفياء الكرم مساقطه، وحبُّ القلوب ملاقطه. وأقام يصدح في سرحة المجد، ويفصح في ناديها بلسان الوجد. وتنصب حبالة الولا، فتقتنصه أشراك العُلى، ولا تضمه إلا أقفاص النُّبلا. وقد أبدى من أشعاره التي تطرب ترنُّماً ولحنا، وإذا تليت في محفلٍ تضم عليها الجوانح وتحنى. ما هو لصدور البزاة ينسب، ومن أرقاب الحمام في البذرقة يحسب. وثمة ألفاظ استعار الروض منها أصناف الملح، وخطوطٌ كأنما فيها لمن يبصر من ريش الطواويس لمح. وله موشحاتٌ إذا أنشدت كأنما أدار الكأس مديرها، وجاوب المثانيَ والمثالث بَمُّها وزئيرها. وأغانٍ لم تتنحنح بأمثالها الحناجر، ولم تتقلب لأشباهها الخناصر والبناصر. وكنت أتمنى لقياه، لأتملى بطلعة محياه. فصادته قبل وصولي إلى مصر خطاطيف المنون، فعرَّس بفِناء الفنا، وخلَّد عرائس الفنون. وهذه قطعة من تحائف خاطره، تستدل منها على غائبه بحاضره. فمنها مقصورته التي بها امتدح الأستاذ محمد البكري. ومطلعها: عيذتْ بك الدُّنيا وعيدَ لكَ الهنا ... واعتدتِ الحِسنى وعُدَّ لك المُنى عجباً لمن نظرَ الهلالَ وما رأى ... أن الهلالَ إذا بدوتَ له بدا

شغفاً بطلعتك التي قسماتُها ... مهما تبدَّتْ تنكسِفْ شمسُ الضُّحى وبغرَّةٍ قمريَّةٍ في طرَّةٍ ... سَبَجيَّةٍ كالبدر في غسقِ الدجى ما البدرُ ما الشَّمسُ المنيرةُ ما الضُّحى ... ما الظبيُ ما الرشأُ الشُّويدنُ ما الطَّلا غسقٌ على شفقٍ على قمرٍ على ... فننٍ على دِعصٍ على قدٍّ علا مثل الغزالةِ في السماءِ وفي الفلا ... فَهُما وأنتَ إذا اعتبرتَ سوا سوا أرأيتَ راتعةَ الفلا أرأيتَ آ ... لِفةَ العَرا أرأيت شاردة المها وبصبح وجهٍ إن تبسَّم ثغرهُ ... يبدو الصباحُ ويحمدُ القوم السُّرى يا قاتلي من غيرِ ما ذنبٍ ألا ... تدنو فتبصرَ ما لقيتُ من النَّوى قلبي تمزَّقَ فيكَ كلَّ ممزَّقٍ ... أسمعتَ ما قالوه في أيدي سبا ألِفَ الضَّنى جسمي فلو فارقْته ... لفنيتُ من أسفٍ على فقدِ الضَّنى وتعوَّدتْ عيني السُّهادَ فلو غفتْ ... لرأت خيالَ السُّهدِ في سنَةِ الكَرى وألِفتُ سمعَ العذلِ حتَّى لو صغتْ ... أذني لغيرِ العذلِ شقَّيْتُ القبا وعلمتُ أنَّ الصَّبرَ مرٌّ طعمهُ ... لكنني عانيتهُ حلوَ الجنى ونعمتُ بالضِّدَّينِ حتى استقطرتْ ... عينايَ ماءَ الدَّمعِ من جمرِ الغضا وسهامُ جفنكَ بعدما ريَّشتها ... بغِشا الكُلى وسقيتها بدمِ الحشا هيهاتَ تحسِنُ نزعها من بعدما ... نبتتْ وأطلعَ غصنها ثمر الهوى ووحقِّ أشواقي لوجهكَ إنَّ لي ... زفراتِ وجدٍ لا أروم لها انقِضا وجوًى تودُّ حشاشتي لو أنَّه ... كان انطفا ويسوؤها مهما انطفا وشفاءُ سقمي في لماكَ وليتهُ ... يشفي غليلي بردُ ذيَّاكَ اللَّمى ويزيدني قربي إليك حرارةً ... كالنُّوقِ في البيداءِ يقتلُها الظَّما يا سلًّم الله المحبة إنها ... نعشتْ فؤاداً سلَّمتهُ إلى الجوى يا قاتلي وأنا الفداءُ لقاتلٍ ... أبداً بغير حديثهِ لا يُشتفى العينُ بعدكَ ما غفتْ والطَّرفُ بع ... دكَ ما سها والدَّمعُ بعدك ما رقا لله جفنٌ تحت وعدِكَ ساهرٌ ... أملاً يشوبُ المرسلاتِ بهل أتى حافظْ على صِدقِ العهودِ فإنه ... مما يدلُّ على المودَّةِ والصَّفا أتشكُّ أن الصدقَ ينفع أهلَه ... أولستَ تعرف غيرَ صحبِ المصطفى ويستحسن له قوله: في الاشتقاقِ وفي التَّدبيجِ قد نظموا ... بيتاً له من بديع الحُسنِ لألاءُ الحُسنُ أحمرُ والتَّحسين أصفر والْ ... إحسانُ أخضر والحسناءُ بيضاءُ وقوله: ليس بِدعاً عتابُ خيرِ البرايا ... إنما يعتِب الحبيبُ الحبيبا بل عجيبٌ تقديمُه العفوَ قبل العَ ... تْبِ حِرصاً عليه أن يسْتريبا أصل هذا ما ذكره أصحاب السِّير، أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ميت مسجًّى، فكشف عن وجهه الشريف، وقبل بين عينيه، وقال: فديتُ من أقسم الله بتراب قدمه، فقال: " لا أقسم بهذا البلد، وأنت حلٌّ بهذا البلد "، فديت من قدم الله له العفو قبل العتب، فقال: " عفى الله عنك لم أذنت لهم ". ومن موشحاته التي أحكم فيها المناسبة والصنعة، قوله: أخمِدْ بريقِكَ ما أذكيتَ من وهَجِ ... فما تركتَ فؤاداً فيك غير شجِ وارحم حشاشةَ صبٍّ فيك قد قُتِلتْ ... ما بينَ معتركِ الأحداقِ والمهجِ وعلِّلِ القلبَ بالتَّمنِّي ... أو فاقتُلِ الصبَّ بالتَّجنِّي

دور

أنا القتيلُ بلا إثمٍ ولا حرجِ ... ولمْ أقلْ جزعاً يا أزمةُ انفرِجي دَوْر قضتْ بإحراقِ روحي فتنةُ النَّظرِ ... وألَّف الحبُّ بين الجفنِ والسهرِ فأثَّرتْ تلك في الأحشاءِ فاشتعلتْ ... ومعظَمُ النار من مُستصغَر الشررِ فخلِّ لومي وخلَّ عَتبي ... فالعينُ عيني والقلبُ قلبي وهل رأيتَ مُحِبًّا بالغرامِ هُجِي ... لا خيرَ في الحبِّ إن أبقى على المُهَجِ دَوْر السحرُ في اللَّحظِ أم هذا هو الحوَر ... والوردُ في الخدِّ أم هذا هو الخَفَرْ لم يكفِ وجنتِك الحمراءَ ما فعلتْ ... حتى غدتْ بدمِ العشَّاقِ تفتخِرُ لكنني مقسِمٌ بِدلِّكْ ... بذُلِّ مِثلي لعزِّ مثلِكْ من كحَّل المُقلةَ السوداءَ بالدَّعَجِ ... وخضَّبَ الوجنةَ الحمراءَ بالضَّرجِ دَوْر أجؤْذُرٌ أنت يا إنسانُ أم ملكُ ... يا مشرِقاً بمُحيَّا وجههِ الفلكُ وصائِدي بخدودٍ نارُها اشتعلتْ ... والخالُ حبَّتُها والعارِضُ الشَّرَكُ الثَّغرُ والشَّعرُ والمحيَّا ... البدرُ واللَّيلُ والثُّرَيَّا فإن ضلِلْتُ بداجِي شَعرِه السَّبَجِ ... أهْدى لعيني الهوى صبحٌ من البَلَجِ دَوْر امْنُنْ عليَّ بوصلٍ منكَ يا سكنِي ... أو جُدْ بوعدِي وكاتبنِي به وَمِنِ ألا ترى رُقعةَ الأستاذ قد وصلتْ ... فقلَّدَتْني أطواقاً من المِنَنِ كأنَّه إذ رأى التِياعِي ... لِكُتْبِهِ وهو ذو اطِّلاعِ أهدى إليَّ سُحَيْراً أطيبَ الأرَجِ ... في كلِّ معنًى لطيفٍ رائقٍ بَهِجِ دَوْر يا واحداً لا أرى في النَّاسِ ثانيَهُ ... وأوحداً لم نجِدْ في الدَّهرِ شانِيَهُ محبَّتي فيكَ لا واللهِ ما ابْتُذِلتْ ... وبيتُ حبِّكَ لم أُخرِبْ مبانيَهُ وإنَّني يا شقيق روحي ... ويا غَبوقِي ويا صَبوحِي أوفى محِبٍّ بما يُرضيكَ مبْتهِجِ ... وخاطِري أين كنَّا غيرُ مُنزعِجِ وهذا الأسلوب تقدَّمه فيه جماعةٌ، وزاد بعضهم التلفيق في كل القطعة بين شعر غيره. وهذا موشحه: أجابَ دمعي وما الدَّاعي سوى طَلَلِ ... وظل يسْفَح بينَ العُذرِ والعَذَلِ يا ساكنِي السفحِ كم عينٌ بكم سفَحتْ ... مِلءَ الزمانِ ومِلءَ السهلِ والجبلِ قلبٌ مُعَنًى ومدمعٌ صَبّ ... يجُرُّ أذيالَه ويسْحبْ يشكو إلى القلبِ ما فيه من العِلَلِ ... والقلبُ يسحبُ أذيالاً من الوَجَلِ فالمصراعان الأولان، والرابع للمتنبي. والثالث لابن النَّبيه. والخامس للشريف الرَّضي. والسادس لابن اللَّبَّانة. والأخيران لابن سناءِ المُلك. دَوْر لِتُهْنَ عينٌ غدتْ بالدمعِ في لُجَجِ ... وكلُّ جفنٍ إلى الإغفاءِ لم يَعُجِ ومهجةٌ فيك للأشجانِ قد صَلُحتْ ... لا خيرَ في الحبِّ إن أبقى على المُهَجِ لم تُبقِ لي في الهوى ملاذَا ... يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا تركتَنِي اصحبُ الدنيا بلا أمَلِ ... فما أقول لشيءٍ ليت ذلك لي الأول للعز الموصلي. والثاني، والرابع لابن الفارض. والثالث لابن النَّبيه. والخامس لابن الخراط. والسادس لابن نباتة. والأخيران للمتنبي. دَوْر ما جال بعدكِ لَحظِي في سنا القمرِ ... فإن ذلك ذنبٌ غيرُ مغتفَرِ لي همَّةٌ لِدَنِيٍّ قَطُّ ما طمحتْ ... لمَّا تواضعَ أقوامٌ على غَرَرِ وأيَّما كنتَ كنتُ عبدَكْ ... فإن قلبي أقامَ عندكْ على بقاءِ دعاوٍ للهوى قِبَلي ... وأنتَ تعلمُ أنِّي بالغرامِ مَلِي الأول لابن زيدون. والثاني، والرابع لأبي العلاء.

دور

والثالث لابن نباتة. والخامس، والسدس للبهاء زهير. والسابع للقرافي. والثامن لابن الجوزي. دَوْر بما بِعطْفيْكَ من تيهٍ ومن صَلَفِ ... تلافَ مُضناكَ قد أشفى على التَّلَفِ فالموتُ إن عضَّتِ الأجفانُ أو فُتِحتْ ... يا أكحلَ الطَّرفِ أو يا أزرق الطَّرفِ لِسائلِ الدَّمعِ صِرتُ ناهِرْ ... وسِرْتَ والقدُّ منكَ خاطِر تدري الطَّعينَ وصدرُ الرُّمحِ لم يَصِلِ ... ما خاب من سأل الحاجاتِ بالأسَلِ الأولان، والرابع لابن الوردي. والثالث لابن نباتة. والاثنان من موشح. والآخران للشريف. ومن مشهور شعر العصفوري قوله، في غلام يلعب بتفاحة: بتفاحةٍ في الخدِّ وكَّل لحظَهُ ... ليحفظَها من ناظِري أن يؤُودَهَا سها فهوتْ من خدِّه فهو دائِماً ... يُردِّدُها في كفِّه ليُعيدها وقد سبقه إلى هذا أبو تمَّام غالب الحجَّام، في قوله: عاينتُه وبخدِّه تفاحةٌ ... قدْ ألبِسَتْ من وجنتيهِ بُرْدَهَا يرمِي بِها في وجهِهِ ويظنُّها ... من خدِّه سقطتْ فيبغِي ردَّهَا وقوله في وصف جدول ماء: لنا جدولٌ صَقَلَتْه الشَّمالُ ... كما صقلَ القَيْنُ صافي الأثَرْ جرى ذهباً في أوانِ الأصِيل ... كما قدْ جَرى فِضَّةً في السَّحَرْ وقوله في فوَّارة ماء: وفوَّارةٍ للماء تحسَبْ أنَّها ... قضيبُ لُجَين فوقه عِقدُ جوهرِ تُقابِلُها شمسُ الأصيلِ فتغْتدِي ... أناظيم شَذْرٍ خيطُه سِلكُ مرمَرِ وتعطفُها ريحُ الشَّمالِ كأنَّها ... قوام رَدَاحٍ في قِباءٍ مُعصفَرِ ومن موشَّحاته قوله: أيها المُمتنع الأوْ ... صافِ عن إدراكِ مُدْرِكْ أفلا يُمكنُ أن تجْ ... علني هِميانَ خَصرِكْ يومَ أحظَى بِتلاقيكْ وبكاساتِي أُساقِيكْ وبأشواقِي أُلاقيكْ مَرتِعي بين تراقِيْ ... كَ ورُمَّاناتِ صدرِكْ أجتَني سوسَنَ صُدغَيْ ... كَ ونوَّارةَ ثغرِكْ فحياتِي يوْمَ ألقاكْ يومَ أستنشِق رَيَّاكْ وتعاطِيني حُمَيَّاكْ وأرى شمسَ محيَّا ... كَ بدَتْ في ليلِ شَعرِكْ فهنا أنظِمُ دُرَّ اللَّ ... ثْمِ في لبَّاتِ نَحْرِكْ أهصرُ العِطفَ وأضْمُمْ وأُفدِّيكَ وألثِمْ آخِذاً بالجيبِ والْكُمْ وأجيلُ الخمسَ من يُمنا ... يَ في جَونةِ عِطرِكْ وأهُزُّ الغُصُنَ المُثْ ... مِرْ من أعطافِ هصرِكْ وله في القهوة: سوداءُ مثلُ المسكِ لا كالنِّقْسِ ... وجامُها الأصفرُ مثلُ الوَرْسِ جالبةٌ للأنسِ بعد الأنسِ ... حلَّتْ حُلول زُحلٍ في الشَّمسِ وله في شريف تعذَّر: طلعَ العذارُ بِخدِّ أهيفَ سيِّدٍ ... أحسِنْ بخضرةِ نبتِهِ ورِياشِهِ فمن الحياءِ تخالُه متلثِّماً ... أبداً بأول طيَّةٍ من شاشِهِ وله في حامل شمعة: وافَى وفي راحتهِ شمعه ... لها على وجنتِه لمعَهْ فخلتُه البدرَ وفي كفِّه ... بهرامُ والمنزِلَةُ الهنعَهْ وله: له لسانٌ مُفرِط كذِبُهْ ... كأنَّه مِقوَلُ صوَّاغْ ووجهُه أقبحُ ما في الورَى ... كأنَّه راحةُ صبَّاغْ راحة صبَّاغ: يضرب مثلاً لما يستقبح، ويشبه به ما لا يستنظف. وله: له كلَّ حينٍ على معتفيهِ ... إذا أمَّهُ نعمةٌ سابِغهْ كأنَّ يداً ملَّكتْهُ الرِّقابا ... يدُ الباهليِّ على النَّابِغهْ وله من قصيدة، مستهلها: أُغاِلُ منه الجَفنَ أكحلَ أوْطفَا ... وأهصِر منه القَدَّ أسمرَ أهيفا وأقطِف منه وردةَ الخدِّ غضَّةً ... وأرشِف منه خمرةَ الثغرِ قرقَفَا ويعجِبني أنِّي أُقبِّل لحظَهُ ... ولم أرَ قبلي من يقبِّل مُرهفَا

أُفدِّيه معسولاً قوتَ قلبي تطفُّلاً ... وألتاذُ بالأقدامِ منه تلطُّفَا بِسورِ عقيقٍ صان لؤلؤَ ثغرِه ... ومدَّ عليهِ بالزَّبرجَدِ رفرفَا أقام عليه حَيَّةَ الشَّعر حارساً ... وزرفْنَهُ بالصُّدغِ كنزاً مكلَّفَا أُعدِّد أشجاني إليه إذا صحا ... وأُسهِر أجفاني عليه إذا غفَا وأُوقظه أن لا يسوءَ مِزاجُه ... فأحسَب أني قد هززتُ مُثقَّفا نظرتٌ إليه نظرةً فتلهَّفتْ ... عليه حشاً لا تستطيعُ تلَهُّفَا فصعَّد ما لو قابل الدمعَ ما طفَا ... وقطَّر ما لو سامتَ الوجدَ لانْطفَا فقِستُ بدُرِّ الدَّمعِ لُؤلؤَ تغرِه ... فلم أدرِ أيًّا كان أصفَى وأصلفَا ولم أرَ بدراً قبلَه ظلَّ كاملاً ... ولا شمسَ حُسنٍ قبله لن تُّكسَّفا وله وهو مما يُستعذَب: سألته في ثغرِه قبلةً ... فقال ما أبردَ هذا السُّؤالْ ما مرَّ غلا وحلا وصلُهُ ... لو كانَ من يسمحُ لي بالوِصالْ عطَّلني من وصلِه بالجفَا ... والحمدُ لله على كلِّ حالْ ابن نباتة المصري: حَلُّوا بعقدِ الحسنِ أجيادهمْ ... وحاوَلوا صبرِيَ حتَّى استحالْ فآهِ من عاطلِ صبرٍ مضَى ... والحمدُ لله على كلِّ حالْ وله في ساقي قهوة: ساقٍ يفوقُ السُّقاةَ كلَّهمُ ... بالأدبِ السَّابريِّ والحِكمهْ يبيتُ يسقيكَ من لطافتهِ ... في جامدِ النُّورِ ذائبَ الظُّلمةْ وله من قصيدة مدح بها ابن الحسام المفتي، وكلها غرر؛ فلذا أثبتُّها برمتها: نِظامُ سلوك القطْر في إبَرِ المُزْنِ ... تخيطُ قميصَ النَّهرِ من ورقِ الغصنِ وقدحُ زنادِ الرَّعدِ في راحةِ الصَّبا ... يؤجِّجُ نارَ البرقِ في فحمةِ الدَّجنِ ورشفُ رُضابِ الطَّلِّ من أكؤسِ الرُّبَى ... يُرنِّحُ عِطفَ الغصنِ لا قرقفُ الدَّنِّ وتزريرُ حبيبِ الشَّمسِ يؤذنُ بالحيا ... لما قامَ غصنُ البانِ منحسِرَ الرُّدنِ وخطُّ عِذارِ النَّهرِ أشكلَ رسمُهُ ... فأعربتِ الورقاءُ عنهُ بلا لَحنِ وتنكيسُ رأس الغصنِ في الرَّوضِ مشعرٌ ... بإصغائهِ مستملياً كلما تعني وتقطيبُ ثغرِ الزَّهرِ يضحكُ بالندى ... كما ضحكتْ تلكَ الطيورُ بلا سنِّي وقد نُصبتْ للنَّوءِ في الجوِّ خيمةٌ ... تكنَّفتِ الأقطارَ من ناصعِ القطنِ وهبْ صباً أحيتْ مواتاُ من الربى ... كأن هبَّ إسرافيلُ ينفخُ في القرنِ إذا سلَّ سيفُ البرقِ من جفنِ مزنةٍ ... أسالَ دموعَ القطرِ من ذلك الجفنِ ودونَ عُقاب الجوِّ إن عنَّ ضوءُهُ ... أطار غرابَ اللَّيلِ عن سحبٍ دكنِ تخالُ عنانَ اللَّوحِ بحراً ملجَّجاً ... على متنه تلكَ السَّحائبُ كالسُّفنِ وللنَّوءِ قوسٌ أوترِ الجوَّ متنهُ ... نبالَ سناً ريشتْ بأجنحةِ المزنِ موشَّى الحنايا دبَّجتهُ شياتهُ ... كما دبَّجَ الطَّاووس قادمهُ المحني كان قد أتى فصلُ الرَّبيع تخالهُ ... أصالةَ معنًى رامهُ رائقُ الذِّهنِ كأن قد تهادى الغصنُ في عذباتهِ ... كما اهتزَّ تحتَ الخزِّ قامةُ ذي حسنِ وإلا كما اهتزَّتْ يراعةُ سيِّدي ... بما أثمرتْ بالمنِّ والأمنِ واليمنِ عمادُ ذوي الفُتيا وعصمةُ أهلها ... وحصنهمُ أكرمْ بذلك من حصنِ له السُّمعةُ الحسناءُ في المدنِ والقرى ... ومعدلةُ القسطاسِ في الإنسِ والجنِّ إذا ظنَّ منه الرفدَ يوماً مؤمِّلٌ ... أبا كرماً أن يبدل الظَّنِّ بالظَّنِّ جزاني جزاهُ الله خيرَ جزائهِ ... وبوَّأهُ قصوى مكارمهِ عنِّي

وعلمني نظمَ الأناشيدِ فضلهُ ... وقد كانَ شعري قبلُ أبردَ من صِنِّ وإنِّي مهما غبتُ عنه لمجهدٌ ... بإمداحِ ما تحوي مناقبهُ ذهني أواصِل ذِكراهُ مساءً وغدوةً ... وشكرُ الَّذي أسدى إليَّ من المنِّ مثابتهُ أمني ومثواهُ كعبتِي ... وفي بابِه حجِّي وعقونُهُ رُكنِي ومن أنا يستدعِيهِ بالكُتبِ مثلُهُ ... أجلْ هذه واللهِ فاتِحةُ اليُمنِ أطعْتُ ولكنِّي اشتغلْتُ وأينَ لي ... ويقبُحُ من مثلِي أطعْتُ ولكنِّي وهل أنا إلا عبدُهُ القِنُّ أقتضِي ... جميع الَّذي يقتضِيهِ في عبدِه القِنِّ وقد جِئتُه من بعدِ لأيٍ مهنِّياً ... به رمضانَ العامِ تهنَئةَ المُثنِي أزُفُّ إلى عليائِه كلَّ غادةٍ ... تجوسُ حِمى الآذانِ منه بلا إذنِ تقيهِ من البأساءِ في الدِّينِ والعُلا ... وفي النَّفسِ والأهلينَ والمالِ والإبنِ دُعاءٌ إذا ظُنَّ القبولُ فإنَّني ... أحقِّقُ أنَّ اللهَ يقبلُهُ منِّي ومن إنشائه ما كتبه لبعض الأدباء بدمشق، جواباً عن كتاب: المحبة وما أدراكْ، والعلاقة وياما هناكْ. إلطافٌ كله ألطاف، وإتحافٌ فضله غير خافْ، وقطافٌ جناها لطافٌ، ونطاف تمرِع المرابع والمصطاف. تطلق من لسان الألكن، وتغلق مقول المصقعْ الألسنْ. وتلين العريكة، وتهين ذي الأريكة الوريكة. وتذهب بذي الطِّباع السَّليمة، إلى طمأنينةٍ خليقة وسلالةٍ شكيمة. والحُبُّ أوَّلُ ما يكونُ لجاجَةً ... فإذا تمكَّنَ صارَ شغلاً شاغِلا شمسٌ لها مطلعان، وسهمٌ له موقعان، وجهةٌ لها قبلتان، وقضيَّةٌ لها نتيجتان، عقدُها لازمٌ من الطَّرفين. والمجد روضه مريع، ودهره ربيع. ورده صاف، أشتى أو صافْ. ليله كلُّه سحرْ، وغسقه جميعه قمرْ. عيشه عيش السلاطينْ، وطيشه طيش الشياطينْ. وأنينه أنين الشَّاكين الباكين، وحنينه حنين المتباكين المساكينْ. ليس لمسكينِ الهوَى راحِمٌ ... ولا لمقتولِ الهوَى من يدِي وهو والملك سوا، لولا النَّوى. وهو والعروش سيَّان، لولا اللَّيانْ. ينقضي دهره في أين وأنَّى، وكيف وعسى، وحتى ومتى، ولو ولولا، وأيَّان وبينا. وبينا تفِي بالوعدِ أهلكُ إنَّ لي ... فؤاداً عَجولاً والوِصالُ على مهلِ وقته هنَا، بتساويف المُنى. ويومه عيدٌ، بأمانِيِّ المواعيد. إن برقتْ بارقة، ظنَّها وارِقة. أو خفقتْ خافقة، خالِها صادِقة. وإن صبَّ صبا، مالَ وصبَا. وإن ساجعٌ عنَّ حنَّ، وإن عنَّى مغنٍ اهتزَّ وارجحَنْ. كمَا انتفضَ العُصفورُ بلَّلهُ القطرُ ويلمِّه، ما أهمِّهْ. ويا عولةَ أبيهِ، ما أكثر تغابيهِ. يرقبُ سهيلا في اللَّيل، ويعثر للويل بالذَّيل. يأخذ الوصال بالمثاقيل، ويعطي درَّ دمعه بالمكيل. وهو إذا جاد باكي العيون، مجنونٌ كالجواد المعيون. مشغوفٌ، كالبعير المأنوف. إن تهدَّد هاد، وإن ردَّ أراد، ومتى قيد انقاد، وأيَّا ما ارتدَّ راد وارتاد. فلا معين فيه إلا به، ولا مفرَّ منه إلا إليه. وكيما تكون تطبُّعاً أو طِباعاً، تكون نظراً أو سماعاً. فالنَّظرية، دارتُها قمريَّة. والسَّماعيَّة، دائِرتها طَماعيَّة. ومن لي بأن ينقلب السَّمعُ نظراً، كما تحوَّل الخُبرُ خبراً. وقد ورد أعزَّك الله كتابك البعيد الوصف، البديع الرصف. ففضضتُ صدفةً وثيقةً عن درٍّ مكنون، وحظيتُ منه أبكارَ عرائس منتقبةً كالجوهر المصون. وشفيت الغليل من ميماتِ ثغوره، وصاداتِ عيونه. وسرَّحتُ طِرفَ طَرفي في رياضه، وأوردتُ عقيلة عقلي في زلال حياضه. وجست خلاله، وتفيأتُ ظلاله، وأكثرت إكرامه وإجلاله. حتى لاحت لي غرَّة الدُّرة، وشمت مخِيلة الخميلة، ولمعت بارقة الشَّارقة. فيا لك من درٍّ يكال ويتَّزن، ومن حسن ألفاظٍ يزان ولا يزن. فحفظ الله من نظَّم سلكه وأحسن تألفه، وأبقى ملكته التي وطَّدت في الآداب ملكه، ورحم من خلفه.

وقد تطَّفل المحب بهذه العجالة على جنابه، فليغضِ عليه طرف حلمه، وليجرِ في التَّرسُّل على سننه ورسمه. السيد أحمد بن علي الصَّفُّوري حسيبٌ طرَّز كمَّ الأحساب، ونسيبٌ باهت بنسبته الأنساب. محلُّه سرُّ المطلوب، وقرارة محبَّته حبَّة القلوب. من سراةٍ أنوفهم شم، ووجوههم غر، وعزَّتهم قعساء، ونسبهم حر. لهم القدر الأغلى، وشرفهم الشَّرف الأعلى. وهو ممن تأثَّل مجده في بحبوحة ذلك الشَّرف، وتبوَّأ من السِّيادة أسنى الغرف. مرتويةً أفياؤه بماء النبوَّة، متأرِّجةً أرجاؤه بعبير الفتوَّة. مع مهارةٍ في العلوم، ومحاضرةٍ مستفزةٍ للحلوم. وأخلاقٍ صقلها الكرم الوضَّاح، وطبيعةٍ شغف بها الكمال الفضَّاح. وله أدبٌ تردَّى بالبراعة وتوشَّح، وشعرٌ استعدَّ للقبول التامِّ وترشَّح. فمنه قوله: أيا ربِّ قد مكَّنتَ في القلوبِ حبَّهُ ... وحكَّمتهُ في الصبِّ بالقولِ والفعلِ وألهمتهُ الإعراضَ عنِّي ولم تدعْ ... لقلبيَ صبراً عنه في الهجرِ والوصلِ فألهمهُ إحساناً إليَّ فليس لي ... سوى لُطفكَ المعهودِ إن لم تكنْ تُسلي وإلا فسوِّ الحبَّ بيني وبينهُ ... فإنَّك يا مولايَ توصفُ بالعدلِ وهذا أسلوب لطيف، وهو نقل أسلوب من الكلام إلى آخر تظرُّفاً، كاستعماله في الغزل ما عهد وروده في الدعاء والمناجاة. كقول صدر الدين بن الوكيل: يا ربِّ جَفني قد جفاهُ هجوعهُ ... والوجدُ يعصي مهجتي ويطيعهُ يا ربِّ قلبي قد تصدَّعَ بالهوى ... فإلى متى هذا البعادُ يروعهُ يا ربِّ بدرُ الحيِّ غابَ عن الحمى ... فمتى أراهُ وفي القبابِ طلوعهُ يا ربِّ في الأظعانِ سارَ فؤادهُ ... يا ليته لو كان سار جميعهُ يا ربِّ لا أدعُ البكا في حبِّهمْ ... من بعدهمْ جهدُ المقلِّ دموعهُ يا ربِّ عذِّبْ في الهوى من ساءني ... بمقالهِ أحلى الهوى ممنوعهُ يا ربِّ هذا بينه وبعادهُ ... فمتى يكونُ إيابهُ ورجوعهُ ومثله استعمال الغزل على طراز الأوامر السُّلطانيَّة، كقول الشاب الظريف: أعزَّ الله أنصارَ العيونِ ... وخلَّدَ مُلكَ هاتيكَ الجفونِ وأسبغَ ظلَّ ذاكَ الشَّعرِ يوماً ... على قدٍّ به هيفُ الغصونِ وللسيد أحمد، كما رأيته بخطه: إذا أنتَ لم تقربْ يناجيكَ خاطري ... وإن تدنُ منِّي فالجوارحُ أعينُ لأنَّكَ مطلوبي على كلِّ حالةٍ ... وإن أكُ مختاراً فرؤياكَ أحسنُ ورأى حكمةً تؤثر عن الإمام محمد بن الحنفية، وهي: ليس بحكيمٍ من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بداً، حتى يجعل الله له فرجاً، ومن الضيق مخرجاً. فنظمها في قوله: إذا أنت لم تقدرْ على تركِ عشرةٍ ... لذي شوكةٍ فانصحْ وعاملهُ بالرِّفقِ ولا تضجرنْ من ضيقِ ما قد لقيتهُ ... عسى فرجٌ يأتيكَ من خالقِ الخلْقِ وكتب إلى صديقٍ له يعتذر عن وعدٍ لم يوفِّه: أيا من فضلهُ والجودُ سارا ... مسيرَ النَّيِّرينِ بلا معارضْ وعدتكَ سيِّدي والوعدُ دينٌ ... ولكن ما سلمتُ من العوارضْ السيد محمد بن علي، المعروف بالقدسي فرعٌ من شجرةٍ طيِّبة المنابت، ثبت أصلها وزاحمت أغصانها الثَّوابت، تسامت بنسبة النُّبوَّة معاليها، واخضرَّت بماء الرسالة أعاليها. فكأنما كُسيت من سندس الجنَّات، فشفَّت عنها مرآة الزَّمان بأحسن الحسنات. وهذا السيد وإن قاربت رحلته من السنين المائة، فذكره مخلَّدٌ في ألسنة الجيل بعد الجيل والفئة بعد الفئة. تتحاسد على رقة طبعه الطِّباع، كما تتحاسد على رباعه المقدَّسة الرِّباع. فروض فضله ممرِع خصيب، وله في الأدب الغضِّ أوفى حظٍّ ونصيب. إلا أنه في آخره غلبت عليه سوداؤه، فبلغ من نفسه ما كان يتوقَّع أن يبلغه أعداؤه. فمن شعره، قوله في هجاء الشمس بن المنقار، لما تعصَّب على الداودي، ومنعه التحديث: منعْتَ ابن داوُدَ الحديثَ بجلِّقٍ ... وما مثلهُ في الشَّامِ والله من قارِ

وتزعُمُ حصرَ العلمِ فيكَ بجلِّقٍ ... فتنقرُ أهلَ العلمِ فيها بمنقارِ سيأتيكَ من ربِّي بلاءٌ وفي غدٍ ... ستلقى بوجهٍ يا ابن منقارَ من قارِ وحكى البوريني أنه صحبه إلى منين، في يوم أديمه مطرزٌ، ونديمه في مجلس أنسه معزز. فحلوا في روضٍ نسام، يضحك عن زهرٍ بسام. أصائله متوافقة مع أسحاره، وشمسه لا ترى إلا من فرج أشجاره. بين ماءٍ يتدفق، وهواءٍ عن المسك يتقتَّق. وبينهم حديثٌ أحلى من الشهد في الفم، وألذُّ من قبل الغيد عند الضَّم. فلما دنا وقت الظِّهيرة، ولفح حرُّ الهجيرة. انفرد السيد في مكان، ليأخذ من القيلولة حظًّا بقدر الإمكان. فخاطبه البوريني: بحقِّكَ خلِّي لا تُضعْ فرصةَ المنى ... وبادرْ إلى هذا الغديرِ المسلسلِ وإن لم تجد زهرَ الرِّياضِ فإنَّنا ... نريكَ زهوراً من كلامٍ مرتَّلِ فنشط من ذلك المقيل، نشاط مالك إلى أخيه عقيل. ثم كتب في وصف المجلس بيتين: على غديرٍ جلسنا في مفاوضةٍ ... ودوحهُ قامَ من سوقٍ على ساقِ فخلتُ أغصانَ ذاك الدَّوحِ باكيةً ... تريدُ تكتُب ما نُملي بأوراقِ فخاطبه البوريني: جلسنا بروضٍ فيه زهرانِ أُسقيا ... بماءِ افتكارٍ والمياهِ الدَّوافقِ فمن زهرٍ يُبديه روضُ كلامنا ... ومن زهرٍ يبديه روضُ الحدائقِ ولما رجعوا من منين، مروا على التل، فأقاموا بها يومهم يروون الأبصار من روضة المبتل، ثم فارقوها، فكتب السيد إلى البوريني يداعبه: أيا روضةَ الآدابِ والفضلِ والحجا ... ومن فاقَ في جمعِ الكمالِ على الكلِّ تُرى هل يعودُ الدَّهرُ يوماً بجمعنا ... فنرقى كما شاءَ الفؤادُ على التَّلِّ فراجعه بقوله: أيا سيِّدَ الساداتِ يا من بنانهُ ... تضيفُ الورى بالجودِ في زمن المحلِ إذا ساعدَ الحظُّ السَّعيدُ فإنَّنا ... نطلُّ على الوادي ونرقى على التَّلِّ وكان بدمشق خطيبٌ يعرف بابن يونس، أعرج أعوج، كما قال الفاضل: قامت العصا بيده مكان رجله، وقلَّت أعواد الأغصان من أجله. وكان متَّهماً في الاعتقاد، لا يزال يرميه سهم الانتقاد. وكان من جهله يتعرَّض للفتيا، ويعدُّ نفسه أثقب القوم رأيا. فكتب يوماً على حكمٍ لقاضٍ: إنه باطل، ومن حلْي الحقيقة عاطل. فأحضره القاضي في مجلسٍ غاص، جمع بين عالمٍ وخاص. ثم أفسد ما قاله، وما أهمله من التِّعزيز ولا أقاله. فكتب بعض القوم فيه رسالة أوسع فيها المقال، وقرَّظ عليها علماء ذلك العصر، ومنهم السيد فقال: وقفت على هذه الرسالة، التي سارت بسيرتها الرُّكبان، وتناقلها أكابر الفضلاء في هذا الزمان. فوجدتها غريبة المثال، معربةً عن قائلها بأن لسان الحال أفصح من لسان المقال. قد تضمَّنت ما انطوى عليه هذا الغمر من القبائح، وما انتشر منه في هذا العمر القصير من الفضائح. فإنه قد مشى على غير الاستقامة، حسًّا ومعنًى، وأنشد قول القائل في ذلك المعنى: من يستقمْ يُحرمْ مناهُ ومن يزغْ ... يختصُّ بالإسعافِ والتَّمكينِ انظرْ إلى الألفِ استقامَ ففاتهُ ... عجمٌ وفازَ به اعوجاج النُّونِ تصدَّر للفتيا مع أنه أجهل من توما الحكيم، وأنصفه حمار ابن حجيج فركبه في الليل البهيم. قد فتح فاه بجهله، وصدَّر فتياه بقوله: الحمد لله سبحانه، والشكر له تعالى شانه. ولم يميز في السَّجعتين بين الفاعل والمفعول، فكأنه اشتغل بباب البدل مع حبه فحصل له هذا الذُّهول. لأنه رأى في كتب النُّحاة المهذَّبة، أن الفاعل على ما أسند إليه فعله، فظنَّه بهذه المرتبة. ولو سئل لأبرز من ضميره هذا الخاطر، وحلف بأبي حمزة أن هذا هو الظَّاهر. لا يستوي معربٌ فينا وذو لحنٍ ... هل تستوي البغلةُ العرجاءُ والفرسُ وطالما عرج على درج المنبر، وجعل أمرده أمامه، ولولا النَّقيَّة لجعله إمامه. وما تلفَّت على المنبر يميناً وشمالاً، إلا ليقتنص ظبياً أو يصيد غزالا. وإذا ترنَّم وأظهر الخشوع، واهتزَّ لغير طربٍ وأجرى الدُّموع.

فلأجل مليح رآه عند المحراب، ولم يستطع أن يشافهه بالخطاب. أو ليخدع بعض الحضَّار، من الأتقياء الأخيار. فأنشدتُه ارتجالاً، وأنفاسي تتصعَّد، ومهجتي بنار الكمد تتوقد: أفاضلَ جلَّقٍ أين العلومُ ... وأين الدِّين مات فلا يقومُ يُجاهركمْ خطيبكمُ بفسقٍ ... ويُفتي فيكمُ توما الحكيمُ وما أراه ارتقى هذه المكانة، إلا بالرشوة والتزوير والخيانة. وما كفاه أخذه التَّدريس بالتدليس، وخوضه في الفتن التي فاق فيها على إبليس. حتى دخل على العلماء من غير باب، وردَّ أقوالهم بغير صواب. تراهُ مُعدًّا للخلافِ كأنَّهُ ... بردٍّ على أهلِ الصَّوابِ موكَّلُ فيا أيها المجتري، والغمر المفتري. أراك قد سوَّل لك زعمك الفاسد، وصوَّر لك فكرك الكاسد. أن الله قبض العلماء ولم يبق منهم أحد، واتخذ الناس رؤساء جهَّالاً في كل بلد. فتضلَّ الناس كما ضللت وتعدَّيت، وتنفق بضاعتك الكاسدة بقولك أفتيت. قولوا لأعرجَ جاهلٍ مُتكبِّرٍ ... قد جاءَ يطلبُ رفعةً وتقدُّما دعْ ما ترومُ فإنَّ حظَّكَ عندنا ... تحت الحضيضِ ولو عرجتَ إلى السَّما كلا، إن أمرك مما يدل على جهلك المركَّب، وعدم فهمك الذي هو من ذاك أعجب. إنك ترى دمشق مشحونةً بالأفاضل، الذين ليس لهم في الدهر من مماثل. وهم مشغولون بالعلوم وتحريرها، وتنقيح المسائل وتقريرها. وأنت تغالط بنفسك، وتدخلها مع غير أبناء جنسك. وتترفَّع على من لا يرتضيك لتقبيل رجله، ولا يراك أهلاً لخدمة نعله. دع الفخر فلست من فرسان هذا الميدان، ولا أنت ممن أحرز قصب السبق يوم الرهان. وما لك شيخٌ في العلوم والتدريس، سوى أبي مرة اللَّعين إبليس. فما زلت تسلك في مسالكه، وتقع في مهاوي مهالكه. حتى أنشد لسان حالك، في قبيح سيرتك وخبث أفعالك: وكنتُ فتًى في جندِ إبليسَ فارتقى ... بي الحالُ حتى صارَ إبليسُ من جندي فلو عشتُ يوماً كنتُ أحسنُ بَعدهُ ... طرائقَ فسقٍ ليس يحسنها بعدي ولما تبيَّن أمرك طردك حضرة المولى وأقصاك، وحجب سمعه عن تُرَّهاتك وما أدناك. فتضاعف له الدُّعاء من سائر الورى، وترادف له الشُّكر من أهل المدائن والقرى. فالله يمدُّ أطناب دولته السَّعيدة، ويديم صولته الشَّديدة. بمحمدٍ وآله، ومن سلك على منواله. حفيده السيد محمد بن علي هو الحفيد السيِّد، صاحب القريض الجيد. له الطلاقة الهادرة، والبداهة الغريبة النَّادرة. أدركته وقد شاخ، لكن جمر عزمه ما باخ. ورماه وهن العظم، بكلال الخاطر عن النَّظم. إلا أن له في مصادمة الشدائد قوَّةً نفسيَّة، هي أحرى بأن تُمدَّها قوَّةٌ قُدسيَّة. فهو في حلِّه وترحاله، وخصبه من الآمال وإمحاله. لا يقرُّ له قرار، ولا ينجلي له سرار. كأنَّ له عزماً لا يرى بدًّا من إمضائه، ودَيناً في ذمَّة الأيام لا ينثني عن اقتضائه. وربَّما نال في بعض الوثبات، ما يجدِّد العزائم والرَّغبات. حتى جاء من العمر على أوفاه، واقتصَّ من مداه الطَّويل واستوفاه. وقد أثبتُّ من شعره ما كسا أعطافه بروداً مُخضرَّة، وصيَّره في الإشراق للشمس ضرَّة. فمن ذلك قوله في قصيدة، مطلعها: يا نسمةً نَسمتْ حبيبي ... وتمسَّكتْ منهُ بطيبِ وغدا يُحرِّكُ لُطفها ... أعطافَ باناتِ الكثيبِ تمشي وتسحبُ ذَيلها ... قبل العيونِ على القلوبِ إن جُزتِ وادي جِلَّقٍ ... وحللْتِ بالرَّوضِ الرَّحيبِ ونظرتِ أقمارَ الحمى ... ومررتِ بالظَّبيِ الرَّبيبِ ورأيتِ من لفتاتهِ ... ما منهُ أشجانُ الكثيبِ وصدفتِ مُتلفَ مهجتي ... يزورُّ باللحظِ الغضوبِ يرمي سهامَ لحاظهِ ... فترى النُدوبَ على النُّدوبِ يرنو فلا يُخطي الحشا ... ويلاهُ من سهمٍ مصيبِ أو جزتِ أرضَ النَّيرب ... ينِ مع الصَّباحِ أو المغيبِ ودخلتِ جامعها الشَّري ... فَ مُقامَ أرباب القلوبِ

ورأيتِ بالشَّرفينِ ما ... يدعو المحبَّ إلى الحبيبِ وسمعتِ بُلبلها ينادِ ... ينا بحيَّ على الطروبِ ونظرتِ وَرقاها تجسُّ ... العودَ بالكف الخضيبِ أو ضعتِ بالمرجِ النَّض ... يرِ قفي القليلَ وعرِّضي بي واقري التَّحيَّة أهلهُ ... عنِّي وبالتَّذكارِ نوبي واستنطقي بالدُّفِّ ثمَّ ... الجُنكِ أنواع الضُّروبِ ثم الثمي الخلخالَ في ... شوقِ الغصونِ مع الكعوبِ فسقى دمشقَ وما حوتْ ... من أنهرٍ مثلُ الضَّريبِ فلبانياس ورقمهِ ... نقشٌ على كفِّ رطيبِ وببَردهِ بردى يزي ... لُ لجينهُ صدأ القلوبِ قنواتها برحيقها ال ... مختومِ فضيِّ الصَّبيبِ ويخور ثوراها فير ... وي الحرثَ من تلك الشُّعوبِ كم وجنةٍ من عقربا ... فيها بدا أخفى دبيبِ ويزيدُ دمعي إن ذكر ... تُ يزيدَ سحًّا بالنُّقوبِ ما جئتِ داعيةَ الهوى ... إلا وداراني رقيبي وإذا ذكرتِ مقاسمَ اللَّ ... ذَّاتِ لا تنسيْ نصيبي يا نفسُ مالي إن ذكر ... تُ سوى دمشقٍ لا تُجيبي أصفَتْك خالص ودِّها ... وحمتكِ من مسِّ اللَّغوبِ ومن مقاطيعه قوله: جذبتُ بمغناطيسِ لحْظيّ خالهُ ... فصارَ لجفني ناظراً وعلاجا ومذْ خفتُ من عينِ المُراقبِ أنبتتْ ... دموعُ زفيري للجفونِ سياجا وله من قصيدة، أولها: أما آنَ أن تُقضى لقلبي وعودهُ ... ويورقُ من غصنِ الأحبَّةِ عودهُ فقد شفَّهُ داءٌ من الصَّدِّ مُتلفٌ ... وليس له غيرُ الضَّنى من يعودهُ وما حال مشتاقٍ تناءتْ ديارهُ ... وأحبابهُ مُضنى الفؤادِ عميدهُ يراقبُ من دورِ النَّسيمِ إرادةً ... فإن جاءهُ يذكي الجوى ويزيدهُ حكى النَّجمَ بين السُّحبِ يبدو ويختفي ... إذا سال أجفاناً وثار وقودهُ ولو كان يسعى للزَّمانِ ممكَّناً ... لسارَ ولكن أثقلتهُ قيودهُ ومن أخرى: سلوا الجُؤْذُرَ الفتَّاك بالمُقلةِ المرضى ... أبا للَّحظِ أم بالقدِّ أحرمني الغمضا فإن كان غيري حبُّه شابه سوى ... فإنِّي امرؤٌ حبِّي له لم يزل محضا أرى حبَّ غيري سنَّةً ومحبَّتي ... يقيناً على هجرانهِ لم تزل فرضا لقد طال بي ليلُ الصَّبابة والمنى ... فهل لي من وصلٍ به مهجتي ترضى وبي ساخطٌ أمَّا هواهُ فمالكٌ ... من المهجةِ المقروحةِ الكُلَّ والبعضا وله من أخرى، مستهلها: سواكَ بقلبيَ لم يحلُلِ ... وغيرُ مديحكَ لم يحلُ لي وغيركَ عند انعقادِ الأمورِ ... إذا اشتدَّتِ الحالُ لم يحللِ قصدتكَ سعياً على ضامرٍ ... حكاني نحولا ولم ينحُلِ يكادُ يسابقُ برقَ السَّما ... ولولا وجودُك لم يعجلِ وجرَّدتُ من خاطري صاحباً ... لشكوى الزَّمانِ وما تمَّ لي أعاطيهِ كأسَ الهوى مُترعاً ... شكاةً فألقاهُ لم يملَ لي وصحبٍ بجلَّقَ خلَّفْتهمْ ... سواهمْ بقلبيَ لم ينزلِ وخضتُ بدمعيَ مذ فارقوا ... وبالصدِّ منزلُ قلبي بلي فقلتُ لجاري عُيوني قفا ... لذكرى حبيبٍ مع المنزلِ وفتَّانةٍ سمتُها وُصلةً ... فأصْمَتْ بناظرها مقلتي بقدٍّ تُرنِّحهُ ذابلاً ... وخدٍّ به الوردُ لم يذبلِ مهاةٌ من الحورِ في ثغرها ... رحيقٌ من الرَّائقِ السَّلسلِ لخَتمِ الجمالِ به شامةٌ ... تهيجُ البلابلَ كالبلبلِ

تحرَّشَ طرفي بألحاظها ... وكان من العشقِ في معزلِ فآبتْ بمُهجتهِ للحمى ... أسيرَ ظبا طرفها الأكحلِ وقدَّت شراكَ دُجى شَعرها ... فصادتْ لطائرِ دمعي ولي وله من أخرى، أولها: من سامعٌ لشكايةِ المظلومِ ... من يومِ أصمتهُ ظباءُ الرُّومِ هذا بلفتته وذا بعيونه ... يرنو وذاك بخَصره المهضومِ من حين صرَمني بصارم لحظهِ ... ورعى فؤادي مثل ظبي صريمِ أُنسيتُ أهوائي وعفتُ لذائذي ... وبه غرامي كان صاحِ غريمي منها: لولا حلاواتُ الوعودِ وصدقُها ... ما سرَّ موسى موعدُ التَّكليمِ والشُّهبُ لا يأتي الكمالُ لبدرِها ... إلا بُعيدَ النقصِ للتَّتميمِ والسُّمرُ لا تُخطى إذا ما ثقِّفتْ ... بيديْ خبيرٍ بالصِّعادِ عليمِ والمرءُ لا عارٌ عليه إذا تحا ... ربتْ الجدودُ وخُطَّةُ التَّعظيمِ محمد الجوخي نبيه نبيل، ما إلى استيفاء صفاته سبيل. له الحيا المنهل، والمحيَّا المستهلّ. والبشرة النَّيِّرة، والأفعال الخيِّرة. وهو مع انتعاشه، وسلامة أسباب معاشه. بعيد الهمِّ في توفير الهمَّة، مستعملٌ للأهمِّ في الأمور المهمَّة. مدُّه بلا جزر، وفضله غير نزر. لم يؤت جمعه من قلَّة، إلا أن شعره دون قُلَّة. فمنه قوله، وكتب به في صدر رسالة لبعض أحبابه: وما شوقُ ظمآنِ الفؤادِ رمتْ به ... صروفُ اللَّيالي في ملمَّعةٍ قفرِ شكى من لظى نارين ضُمَّتْ عليهما ... أضالِعُه نارَ الهجيرِ مع الهجرِ يُروِّي غليلَ الأرضِ من فيضِ دمعه ... وليس له جهدٌ إلى غللِ الصَّدرِ إلى عارضٍ من مزنةٍ عطفتْ به ... نسيمُ صبا الأحباب من حيثُ لا يدري بأبرحَ من شوقي لرؤيتك التي ... أعدُّ لَعمري أنها لذَّةُ العُمرِ ولده أبو اللُّطف ماجد تكوَّن عنصره من معدن اللُّطف، وغازلت عيون أشعاره الجفون الوطف. رَبا مَقضِيَّ الأرب، معانق الحظوة والطرب. تزهو به أربعٌ وأدواح، وتنثر على مراده أنفسٌ وأرواح. إلا أنه احتضر وهو صغير السن فتِيُّه، واهتُصر وهو رطب الغصن طريُّه. وله شعرٌ من ماء الشباب مرتوي، إلا أنه كبا كورةِ الثِّمار، منها فجٌّ، ومنها مستوي. فمنه قوله: بعيشكمُ أهلَ الصَّبابة والصِّبا ... أقلْباً رأيتمْ مثل قلبي مُعذَّبا فلم أرَ لي في محنةِ الحبِّ مُنجداً ... ولم أستطعْ من فيضِ دمعي تحجُّبا وقد صرتُ من حرِّ الفراقِ بحيثُ لو ... يشاهدُ حالي كلُّ واشٍ تعجَّبا فيا ليت من أهواهُ في الليلِ زائري ... فمثلي معنًّى صار في حبِّه هبا سألتُ الذي قد قدَّر البُعدَ بيننا ... سيجمعنا يوماً يكونُ له نبا وقوله: قلبٌ تقلَّبَ في قليبِ محبَّةٍ ... حتى القرارِ ولم يقرَّ وجيبهُ متردِّدٌ بين المنيَّةِ والمنى ... متودد خلاَّ حلا تعذيبهُ لم يبرَ من حُبٍّ برى أعضاءهُ ... إذ عَمَّ غَمَّ هو الصَّبا وصبيبهُ حاكى معينُ العينِ عيناً إذ جرى ... وعقيبَ ذا وادي العقيق يُجيبهُ بل رامَ أن لو ريمُ رامةَ زارهُ ... ضيفاً يزورُ الطَّيفَ يطْفَ لهيبهُ وأصابَ لمَّا أن صبا الأوصابِ صُبَّ ... تْ فوقه ورمى أصابَ مصيبهُ أنفاسهُ نبراسهُ في ليلهِ ... أو هلَّ هجرٌ ما علاه مشيبهُ قد شابَ فوْداهُ وشبَّ فؤادهُ ... مذ طال حين شبا بهِ تشبيبهُ من بعدِ بُعدٍ يصطلي في نارهِ ... لم يسلُ أصلاً لو سلاهُ حبيبهُ وكتب إليه محمد الحادي الصَّيداوي، يطلب منه شدًّا: يا أبا اللُّطفِ إنَّ لُطفكمْ ... ليس يُحصى بكثرةِ العدِّ شُدَّ وسطي بما ترى كرماً ... ولا تُماطل فكثرةُ الشَّدِّ

فسيَّر له ما طلب، وكتب معه: مقصدُ ذا العبد من تفضُّلكمْ ... من غيرِ مَنٍّ قبولُ ذا الشَّدِّ قد سدتَ فضلاً وشدتَ كلَّ علاً ... وقد شدَدتَ القلوبَ بالودِّ تاج الدين بن أحمد المحاسني هو لمفرق الرِّياسة تاج، ولراية السماحة عقيلة نتاج. رحل مراراً إلى القاهرة مهاجراً، واعتمدها في طلب العلم تاجراً. ليجتهد في جمعه وكسبه اجتهاد مغترب، ويملأ من بضائعه ونفائسه وعاءٍ غير سرب. فما رجع حتى خوَّله الله كمال محاسنه ومحاسن كماله، وأمدَّ جمال رونقه ورونق جماله. فأقام له الذِّكر المستطاب، والثَّناء الذي ملأ الوطاب. وهو في الأدب وأنواعه، جامعٌ لإبداعه وإيداعه. وله كلماتٌ تنشئ الزَّخارف، وتتعلَّم منها النَّقد الصَّيارف. وقد أوردت من شعره، ما يغالي في سعره. فمنه ما كتبه في صدر رسالةٍ من مصر إلى ابنه محمد: أبداً إليكَ تشوُّقي يتزايدُ ... ولديكَ من صدقِ المحبَّةِ شاهدُ وأليَّةً إنَّ البعادَ لمتلفي ... إن دامَ ما يُبدي النَّوى وأكابدُ كم ذا أعلِّلُ حرَّ قلبي بالمنى ... فيعيدهُ من طولِ نَأيكَ عائدُ جار الزَّمانُ عليَّ في أحكامهِ ... ولطالما شكتِ الزَّمانَ أساودُ فيه نقد، إذ الأساود جمع أسود، وهو العظيم من الحيَّات، وليست من عظم القدر بمثابة أن يُلتفت إلى شكايتها من الزمان، وكأنه ظنَّ أن الأساود جمع أسد، وليس كذلك. والدهرُ حاولَ أن يصدِّع شملنا ... فامتدَّ منهُ للتَّفرُّقِ ساعدُ يا ليت شعري هل يرقُّ وطالما ... ألفيْته لأُلِي الكمال يعاندُ أشكوكَ للمولى الذي ألطافهُ ... تُزري الخطوبَ إذا أتتْ وتساعدُ وله: يا أحبَّايَ والمحبُّ ذكورٌ ... هل لأيامِ وصلِنا من رجوعِ وترى العينُ منكمُ جمعَ شملٍ ... مثلما كان حالةَ التَّوديعِ وأهدى إلى بعض العلماء سجادة، وكتب معها: مولاي قد أهديتُ سجَّادةً ... هديةٌ من بعضِ إنعامكمْ فلتقبلوها إذ مُرادي بأن ... تنوبَ في تقبيلِ أقدامكمْ مثله للشهاب، وقد أهدى منديلاً: بعثتُ إليك يا أقصى الأماني ... بمنديلٍ فإن يُقبلْ لديكا فليس بضاعةً تُهدى ولكن ... بعثتُ به يُقبِّلُ لي يديكا ولابن نباتة، وقد أهدى سجادة: إنَّ سَجَّادتي الحقيقة قدراً ... لم يفُتها في بابكَ التَّعظيمُ شرُفَتْ إذ سعتْ إليكَ وأمستْ ... وعليها الصَّلاةُ والتَّسليمُ وقال بمصر، يتشوَّق إلى دمشق: منذُ فارقتُ جِلِّقاً ورُباها ... لم يزُر مقلتي لذيذُ كراها وبسكانها الأحبَّةِ عندي ... فرطُ شوقٍ يكادُ لا يتناهى فسقى الله ربعها كُلَّ غيثٍ ... وحمى الله أهلها وحماها ولهذا الرئيس أبناء كأسنان المشط في التساوي، إذا عُدّت محاسن غيرهم فهي بالنِّسبة إليهم مساوي. ذكرت منهم كوكبين لاحا في سمائه، وبلَّغهم الله شهرة الكمال، مُعوَّذين بأسمائه. ولده عبد الرحيم هو من أولاده الكبير، الفائح ثناه بالعنبر والعبير. نشأ في حجره، وشذا بين سحر القول وفجره. فهو شابٌّ تدفَّق شؤبوبُ براعته، وتفتَّق عن زهر الربيع روض يراعته. فأمطر وما استبرق، وأثمر وما استورق. فللَّه، ما أتمَّ شمائله، وأنمَّ بأنوار المحاسن خمائله. بحظٍّ من الكمال وافر، ووجهٍ من الجمال سافر. إلى همَّةٍ أنارت مطلعه، وضمَّت على الشَّغف بالأدب أضلعه. لكنه لم يلمحه الناظر، حتى قصف قصفة الغصن الناضر. وقد رأيت له شعراً في صحف الإحسان وثبت، وبلغني أنه أطلعه ونبت، ووجهه قد همَّ أن ينبت أو نبت. فأثبتُّ منه ما تستحسنه استحسان خطِّ العذار، وتستطيبه استطابة مناجاة محبَّين بعتب واعتذار. فمنه قوله في الغزل: ملَّتِ العذَّالُ عن عذلي وما ... ملّ جفناكِ من الفتك بقلبي لو رآكِ النَّاسُ بالعينِ التي ... أنا رائيك بها ما ازداد كربي

واستراح القلبُ من عذلهمُ ... إنَّ طول العذلِ داءٌ للمحبِّ بل ولو كان بهم مثلُ الذي ... بفؤادي لم يمتْ شخصٌ بنَحبِ ويستحسن له قوله: تطاولتِ الخمرُ اختباراً لِعقْلنا ... فقالتْ لنا إنِّي كجفنيهِ أُسكرُ فبادرها الإنكارُ منَّا لقولها ... على أنَّنا والله بالحقِّ نُنكرُ فرقَّتَ لَنعفو واستحتْ فلأجل ذا ... نرى وجهها يبدو لنا وهو أحمرُ على ذكر استحياء الخمر، تذكرت لطيفة، وهي: أن بعض الظرفاء كان يشرب الخمر سرًّا، وكان والده يمنعه، وما زال أبوه يترصده إلى أن لقيه يوماً، ومعه زجاجة خمر، فقال: ما هذا؟ قال: لبن. قال: اللَّبن أبيض، وهذا أحمر! قال: صدقتَ، لما رآك خجِل واحمرّ، وقبَّح الله من لا يستحي. فخجل، وانصرف، وخلاَّه. وقوله: أسيرُ وقلبِي عندكُم لستُ عالِماً ... بما فيه هاتِيكَ اللَّواحِظُ تَصنعُ وما زِلتُ مشتاقاً لِطيْفِ خيالِكم ... وإِنِّي من الدُّنيا بذلكَ أقنعُ وقوله: قالَ العذولُ دَعِ الذي في حُبِّهِ ... عيناكَ قدْ سمحتْ بدمعٍ هامِعِ فأجبتُه إن كنتَ لستَ بناظِرٍ ... هذا الغزالَ فلستُ منك بسامِعِ وقوله: لي فؤادٌ على المودَّةِ باقِ ... لم يزِغْ عن تذكُّرِ الميثاقِ غيرَ أنَّ البُعادَ جارَ عليه ... فبراهُ ولم يدَعْ منه باقي وجفونٌ جفَتْ لذيذ كراهة ... واسْتفاضتْ بمدمعٍ غيداقِ كلَّما طالَ عهدُها طالَ منها ... مدمعٌ يرتَقي وليسَ براقِ إنَّ درًّا أودعتموهُ بأُذني ... درَّ مذْ بنتُمُ من الآماقِ وهذا معنًى مشهور. وله: يا من نأى متجبِّراً يا جاني ... صيَّرتني متحيِّراً في شانِي هلاَّ وقدْ أبعدْتني وقلَيتَني ... أرسلتَ طيفكَ في الكرَى يلقانِي أمْطرتَ منِّي عَبرةً هي عِبرةٌ ... فضحتَ هوًى متستِّراً بجنانِي هذه الأبيات فيها التوشيح. قال ابن الأثير في المثل السائر: وهو أن يبنيَ الشاعر أبياته على بحرين مختلفين، فإذا وقف من البيت على القافية الأولى كان شعراً مستقيماً، من بحرٍ آخر، على عروض، وصار ما يضاف إلى القافية الأولى للبيت كالوشاح. وكذلك يجري الأمرُ في الفقرتين من الكلام المنثور، فإن كل فقرة منها تصاغ من سجعتين، وهذا لا يكاد يستعمل إلا قليلاً، وليس من الحسن في شيء، واستعماله في الشعر أحسن منه في الكلام المنثور. انتهى. وتسميته له بالتوشيح مخالف لما عليه أصحاب البديعيات؛ فإنهم يسمُّونه التَّشريع، إلا ابن أبي الإصبع؛ فإنه سنَّاه الالتزام، وأراد بذلك مطابقة التَّورية للمسمى. والاصطلاح لا مشاحَّة فيه. ولده محمد الخطيب لوذعيٌّ فضائله لا تتناهى، وبمحاسنه تتجمل الأوقات وتتباهى. إذا قام على منبر المسجد الجامع، تمنَّت الجوارح أن تكون كلُّها مسامع. وهو لكلِّ عينٍ تراه حبيب، ولسان الدَّهر بمحاسنه خطيب. تنشر في كل وادٍ مدائحه، كما تشكر في كلِّ نادٍ منائحه. وتهتزُّ أعواد المنابر باسمهِ ... فهلْ ذَكِّرتْ أيَّامها وهي أغصانُ فضائل الدنيا في ذاته محصورة، وأسباب العليا في جنابه مقصورة. وله آثار أقلامٌ كأنَّها في محاريب رقِّه المنشور، قناديل ليلٍ قيِّدتْ بسلاسل السطور. أدركتُه وسور محاسنه تتلى، وصور فضائله في مرايا المحامد تجلى. ثم أدركه الأجل، فوضِع على الأعواد، ووُدِّع من القلب بالسُّويداء ومنه النَّاظرُ بالسَّواد. فاستوحش الجامع لبعده، وتبدَّلت معالمه من بعده. حتى اشتعلت مصابيحه بنار مصابه، وتقوَّس لفرقة ذاك الصَّدر ظهر محرابه. وقد ذكرت من شعره ما ينفح عن زهر معانيه، وينبعث في حسن الأسلوب عن غرض معانيه. فمن ذلك قوله من نبويَّةٍ، مطلعها: تذكَّر من أسماءَ ربعاً ومعهدا ... فعنَّ له وجدٌ أقامَ وأقعدا وأطْلقَ من عينيهِ سُحبَ مدامِعٍ ... حكتْ فوق خدَّيهِ الجُمانَ المنضَّدا

بعيدٌ عن الأحبابِ دانٍ بقلبهِ ... يهيمُ إذا ما ساجعُ الدَّوحِ غرَّدا متى وعدتْ آمالُه الوصْلَ مرةً ... ألمَّ بِها داعِي المِطالِ ففنَّدَا أمَا وهوًى بينَ الجوارحِ كامنٍ ... به الصَّبُّ مجدودٌ وإن كانَ ذا جدَا لئِنْ زارني طيفُ الأحبَّةِ مرةً ... وأوطأْتُه خدًّا ووسدْتُه يدَا غفرتُ ذُنوبَ الدَّهرِ من بعدِ ما سطَا ... وسالمْتُ صِلَّ الدَّهرِ من بعدِ ما عدَا وعدتُ إلى رُشدِي بمدحِي محمَّداً ... نبيَّ الهُدى والعوْدُ ما زالَ أحمدا وقوله: وتنفُّسِي الصُّعداءَ ليسَ شِكايةً ... ممَّا قضتْهُ سوابِقُ الأفكارِ لكن بقلبِي جُملةٌ تفصيلُها ... صعبٌ لدى العُقلاءِ والأحرارِ فجعلتُ موضِع كلِّ ذلك أنَّةً ... ضمِنتْ مُرادِي من عطاءِ البارِي ومن ملحه موشَّحه الذي عارض به موشح بنت العرندس الشيعي، ومطلعه: أهواهُ مُهفهفاً من الولدانِ ... ساجِي الحدقِ قدْ فرَّ من الجِنانِ من رضوانِ ... تحت الغسَقِ من ريقته سكرتُ لا من راحِي كمْ جدَّدَ لي رحيقُها أفراحِي كمْ أسكرنِي بخمرِها يا صاحِ كمْ أرَّقنِي بطرفِه الوسنانِ ... حتَّى الفلقِ لو عاملَه بعدلِه ذا الجانِ ... أطفَا حُرقي من باهرِ حسنهِ يغارُ القمرُ في روْضِ جمالِهِ يحارُ النَّظرُ قدْ عزَّ لديّ إن بدَا المصطبَرُ ما اهتزَّ يميل ميلةَ الأغصانِ ... للمعتَنِقِ إلاَّ وأتاحَ للمحبِّ العانِي ... كلَّ القلقِ يا ويحَ محِبِّه إذا ما خطرَا كالبدرِ يلوحُ في الدَّياجِي سَحَرا إن أقضِ ولمْ يقضِ لقلبي وطَرَا فالويلُ إذاً لمغرمٍ ولهانِ ... في الحُبِّ شَقِي قدْ حمِّل في العِشقِ من الهِجرانِ ... ما لمْ يطِقِ القدُّ رشيقٌ مثلَ خوطِ البانِ واللَّحظُ كسيفِ الهندِ في الأجفانِ والخالُ شقيقُ المِسكِ في الألْوانِ والخدُّ مورَّدٌ أسيلٌ قانِي ... شِبهُ الشَّفقِ والعارِضُ قدْ سُلسِلَ كالرَّيحانِ ... للوردِ يقِي يا عاذلُ لو أبْصرتَ من أهواهُ ناديتَ تباركَ الذي سوَّاهُ قد أحسنَ خلقهُ وقدْ نمَّاهُ إذْ كمَّله وخصَّ بالنُّقصانِ ... بدرَ الأُفقِ قدْ أفرَغهُ في قالبِ الإحسانِ ... زاكِي الخُلُقِ الصَّبرُ على لُقياهُ مثلُ الصَّبرِ والقلبُ غدا من هجرِهِ في جمْرِ ما ألْطفهُ في وصلِهِ والهجْرِ لم ألقَ له في حسنِهِ من ثانِي ... حُلوِ المَلَقِ ما واصلَ بعدَ بُعدِه أجفانِي ... غيرُ الأرقِ ومطلع الموشح الذي عرضه، هو هذا: ما رنَّحتِ الصَّبا غصونَ البانِ ... بين الورَقِ إلاَّ وشجَا الهوى فؤادي العاني ... نارَ الحُرقِ ما هبَّ صبالنحوك القلبُ صبالاقى وصبا يا بدرَ سماسما على بدرِ سماللناسِ سَبا صِلني فعسىتنالُ منِّي ذَهباعقلي ذهبا والقلبُ منِّي موقدُ النِّيرانِ ... نامي القلقِ والناظرُ قد أسال من أجفاني ... ماءَ الغَدقِ وللمحاسني من قصيدة: أيا مربعاً عهدي به وهو آهلُ ... سقاكَ من الغيثِ المُلثِّ هواطلُ لكَ الله من رَبعٍ تفيَّأتُ ظلَّهُ ... وواصلني فيه الحسانُ العواطلُ ألفتُ به نشوانَ من خمرةِ الصِّبا ... تفوق الصَّبا في اللُّطفِ منه الشمائلُ

إذا ما تثنَّى فهو غصنٌ وإن بدا ... له تسجدُ الأقمارُ وهي كواملُ أغنُّ غضيضَ الطَّرفِ يرنو فأنثَني ... وفي القلبِ من تلكَ اللِّحاظِ ذوابلُ أقام بقلبي منه حبٌّ مبرِّحٌ ... وما القلبُ إلا للغرامِ منازلُ وخضتُ بحارَ العشقِ حيرانَ تائهاً ... وما لبحارِ العشقِ ويلاه ساحلُ وما كنتُ أدري يا ابنةَ القومِ ما الهوى ... وهل يعرفُ الإنسانُ مالا ينازلُ رضيتُ بأن أقضي قتيلَ يدِ الهوى ... إذا كان يُرضي الحبَّ ما أنا فاعلُ رعى الله أياماً تقضَّتْ بحاجرٍ ... إذ العيشُ غضٌّ والحبيبُ مواصلُ زمانٌ به غصنُ الشَّبيبةِ يانعٌ ... يرفُّ وطرفُ الدهرِ وسْنانُ غافلُ وحيَّى على رغمِ الوُشاةِ ليالِياً ... أطعتُ الهوى لمَّا عَصَاني العواذِلُ ليالِيَ لا ريحانةُ العِشقِ صوَّحَتْ ... ولا رنَّقتْ عن واردِيه المناهِلُ أيا برقُ سلْ عن زَفرَتِي ساكِنَ الغضَا ... ويا غيثُ سلْ عن مدمعِي وهو سائِلُ ويا بانةَ الوادِي تشفَّعتُ بالصَّبا ... لديكِ هل الرَّكبُ اليمانيُّ قافِلُ ويا ظبياتِ القاعِ لولاكِ لمْ أبتْ ... وفي القلبِ من هُجرِ الوُشاةِ شواغِلُ ويا نسمةَ الأحبابِ هل فيكِ نفحةٌ ... يحيَّى بها صبٌّ شجتْهُ بلابِلُ تُرى يسمحُ الدَّهرُ الخَؤونُ بأوبةٍ ... وأُمنِيَّتي منْهُ غرورٌ وباطِلُ فمَا كانَ منهُ صادِقاً كان كاذِباً ... وما كانَ منهُ مخْصِباً فهوَ ماحِلُ لحَى اللهُ دهْراً أثقَلَتْني صُروفُه ... يُذيبُ الرَّواسِي بعضُ ما أنا حامِلُ فيا دهْرُ قدْ برَّحْتني وتركْتني ... تراميْنَ بي منكَ الضُّحى والأصائِلُ وأشْمتَّ بالأعداءَ حتَّى تيقَّنوا ... بأنِّي لا عونٌ لديَّ يحاوِلُ وهلْ أختَشِي دهْراً وبدرُ مآرِبي ... بدَا وهْو مذْ يمَّمتُ أحمدَ كامِلُ وله: قسماً بالعفافِ في الحبِّ عمَّا ... يُغضِبُ اللهَ من كِلا الطَّرفينِ لمْ يُغيِّر ما بيننا البُعدُ إلا ... أنَّ طيبَ الرُّقادِ فارقَ عينِي أحمد بن محمد، المعروف بابن المنقار هو من عرف بكرم الشيمة، من منذ تنصَّل من المشيمة. فجاء كما شاءت الظنون، متحقِّقاً بجميع الفنون. وأعاد رسماً من بيته دثر، ونظم شملاً كان قد انتثر. وما استعار مجدا، ولا أضافَ إلى جدِّه جدَّا. ثم دخل الروم، فحظِي من الأمانيِّ بما يروم. متفيِّئاً من النشوة وارفها، وملتحفاً من الصَّبوة مطارفها. فأذهلته لذة لدَدِه، عما كان بصدده. وعبثتْ به السوداء من عيون ظباها، والضُّعفاء من الجفون التي سقيت بماء السِّحر ظُباها. فآل أمره إلى جنون أضرَّ عقله، واقتضى إلى وطنه الأصليِّ نقله. فحلَّه وجيدُه مطوَّق بطوق، وهو محمولٌ على أدهم لا يجهده سوقٌ ولا شوق. وبقيَ على تلك الحالة، وقد غيَّر الدَّهر سمته وأحاله. إلى أن فارق دنياه، وخلص من قيد الحياة. وقرأت بخط البوريني، أنه زاره، وحيَّا بفم الوجد مزاره. وهو في تلك السلسلة، وأحاديث حاله عنه مسلسلة. وهو يظنُّ أن ماء رويَّته جمد، وشرر ذكائه بالكلِّية خمد. فلما لمحه، لم يدع ملحه. قال: فأومأ إلى حالته، وأودعني بيتي الوداعي، ثم خلاَّني أجيب سائل دمعي وأنا الدَّاعي. والبيتان هما: إذا رأيْتَ عارِضاً مُسلسَلاً ... في وجنةٍ كجنَّةٍ يا عاذِلي فاعلمْ يقيناً أنَّنا من أمَّةٍ ... تُقادُ للجَنَّةِ بالسَّلاسِلِ وهذه نبذة من شعره أيام إفاقته، وهو يتَّخِذ شهب السَّماء من رفاقته. فمن ذلك قوله من قصيدة:

أتَى ينْثَنِي كاللُّدنِ بلْ قدُّهُ أسْمى ... غزالٌ بفعلِ الجِفنِ يُلهِيكَ عنْ أسمَا فريدُ جمالٍ جامعُ اللُّطفِ جُؤْذُرٌ ... أمينُ كمالٍ أهْيَفٌ أحْورٌ ألْمَى إذا ما بدَا أو ماسَ تِيهاً وإن رنَا ... ترى البدرَ منهُ والمُثَقَفَ والسَّهمَا له مقلةٌ سيَّافةٌ غِمدُها الحشا ... ونبَّالةٌ قلبي لأسهُمِها مَرمَى تجسَّم من لطفٍ وظرْفٍ أما ترَى ... تَغيُّره لمَّا تخيَّلْتَه وَهْما هذا من قول بعضهم: نظرتُ إليهِ نظرةً فتحيَّرتْ ... بدائِعُ فكرِي في بَديعِ صِفاتِهِ فأوْحى إليه الطَّرفُ أنِّي أُحِبُّهُ ... فأثَّرَ ذاك الوهمُ في وجناتِهِ وأبلغ منه قول النَّظَّام: توهَّمه طرفِي فآلَمَ خَدَّهُ ... فصارَ مكانَ الوهمِ من نَظرِي أثْرُ ومرَّ بفكرِي خاطِراً فجرَحْتُهُ ... ولمْ أرَ خلقاً قطُّ يجرحُه الفِكْرُ ولخالد الكاتب: لوْ لحظَتْهُ العيونُ مُدمِنَةً ... لذابَ من رِقَّةٍ فلم يجدِ وللمنقاري من قصيدة، مطلعها: قلْبي بِنيرانِ المحَبَّةِ مُصطَلِمْ ... خوفَ الفِراقِ لمن به حالِي عُلِمْ منها: يا ويحَهُ من جَوْرِ ظَبْيٍ أهيَفٍ ... سُلطانِ حُسْنٍ منه صبٌّ ما سَلِمْ قد حجَّبَتْهُ من الأسِنَّةِ مُقلةٌ ... غزلَتْ فحاكَتْ للورَى ثوبَ السَّقَمْ جيدُ الغزالةِ منه إلاَّ أنَّها ... لمْ تحكِهِ نوراً إذا هو قد بَسَمْ فيه استخدام، وقد يقع كثيراً في لفظ الغزالة بهذين المعنيين. وانتقد بما قاله الصفدي في شرح لاميَّة العجم: إنه لم يسمع إلا بمعنى الشمس في أول النهار إلى الارتفاع، وأما في مؤنث الغزال فلا يقال غزال، بل ظبية. وقد غلَّطوا الحريري في قوله: فلما ذرَّ قرنُ الغزالة طمر طُمور الغزالة. وقالوا: لم تقل العرب الغزالة إلا للشمس، فإذا أرادوا تأنيث الغزال، قالوا: الظَّبية. وقد ردَّ هذا الدماميني في حاشيته، وأورد له شواهد. واعتمده الشِّهاب الخفاجي في شفاء الغليل، حيث قال: غزالة مؤنث الغزال، واسمٌ للشمس مطلقاً، أو في وقت شروقها. قال التبريزي: سمِّيت بذلك لأنها تطلع في غزالة النهار، أي أوَّله. وقال المعرِّي: سمِّيت بها، لأنها تمدُّ الشُّعاع ما هو كالغزْل، فهي مشدَّدة في الأصل، خُفِّفَتْ. وقال فيه: الرَّدْنُ والغَزْل للغوانِي ... خُلقانِ عُدَّا من الجزالَهْ والشَّمسُ غَزَّالةٌ ولكنْ ... خُفِّفَتْ الزَّايُ في الغزالهْ عبد اللطيف الجابي هذا الأديب تميَّز بنفسه، وتخيَّر من جنسه. فزاحم الكواكب بالمناكب، وقد نسجت دهراً على اسمه العناكب. وظهر كاسياً من مطمورة الخفا، وما كان خلاَّه في القبر إلا الحفا. وعزم لا يتخلَّى ولا يستريح، ولا يسكن إلى راحةٍ بل يقلع كل ريح. فاتحاً عينيه إلى كلِّ مطلب بأقدام هائمٍ مستبق، كأنه صورةٌ ممثَّلةٌ ناظرها الدَّهر غير منطبق. فهو من القوم الذين أنفقوا عمرهم تملُّقاً وتجملاًّ، واصطلحوا على أن سمُّوا تجرُّع السَّمِّ تحمُّلاً. وكان له في النَّظم أوفر نصيب، إلا أنه يخطئ تارةً وتارةً يصيب. وقد رأيت أشعاره في سفينةٍ عامَ في بحرها وهام، وأودعها من خطِّ الملائكة ما لا يفهم إلا بمَلَك الإلهام. فلم يقع اختياري إلا على أبياتٍ تأنَّقتُ في استخراجِها، وهاهي كما نُظِمت اللآلي في أدراجها: ما كانَ يخطُرُ قطُّ في أوْهامي ... أنَّ الأُسُودَ مصائِدُ الآرامِ مما ينبغي أن ينبَّه عليه ما ذكره المبَرِّد في كامله أن الآرام مهموزُ ما بعد الرَّاء واحدُها رِئم، مثل بئر وآبار، فإذا لم تهمز فهي الأعلام، واحدها أرم، وهي العلامات في الطَّريق. قِفْ حيثُ فوَّقَتِ اللِّحاظُ سِهامَها ... وانظُر لِمرمِيٍّ هناكَ ورامِ وسَلِ الأمانَ فكم خَلِيٍّ فارغٍ ... أمسى قتيلَ محبَّةٍ وغَرامِ

للهِ ما بالقلبِ والأحشاءِ منْ ... حُزْنٍ وما بالجسمِ من أسْقامِ ومدامِعٌ تَهْمي فيَحرِقُ لَذْعُها ... خدِّي ومن يقوَى لِلذْعِ هوامِ وبمُهْجَتِي البدرُ الَّذي وجَنَاتُه ... وعِذارُه كالوردِ والنَّمامِ القاتل الآلاف من عشَّاقِهِ ... عمْداً بلا حرج ولا آثامِ إنْ لم يكنْ بمحدَّدٍ ومُثَقَّلٍ ... فبِسحرِ ألفاظٍ وسِحرِ كلامِ باللَّحظِ منه غَنِيتُ عن زَهرٍ وعن ... خمرٍ فمِنه نرْجِسي ومُدامي في خَدِّهِ لامٌ تجُرُّ إلى الهوى ... فالقلبُ مجرورٌ بتلكَ اللاَّمِ ظَبْيٌ من الأتراكِ مُرعاهُ الحَشَا ... والمورِدُ العذبُ العزِيزُ الهَامي عرَفَ المُرادَ من الدُّموعِ فلم يزلْ ... يَرنو لِعاشقِهِ بِطرْفٍ ظامِي محمود المجتهد مجتهد المذهب الكلامِيّ، يقوِّم منه ما اختل، ويصحِّح من تراكيبه التي دخلها الجهل المركَّب ما اعتل. بسانٍ ينقِّي الكُلف، إلا أنه كلِف بتلك الكُلف. وهو في تقييده وضبطه، وحلِّه لتشبُّك الغرض وربطه. في حدٍّ لا يأتي عليه تحديد، ولا يعبِّر عنه لسانٌ حديد. وله حديثٌ يُزري عذوبةً بالرُّضاب، وتحلُّمٌ يستخفُّ راسية الهِضاب. فلذا هو بطيبِ العشرة مذكور، وبألسنة الظُّرفاء محمودٌ ومشكور. والرَّغبات إليه نازعة، وعلى معاشرته متنازعة. تستدعي إيثاره وإدناه، وتملأُ بماء النَّعيم إناه. وهو لا يؤثر الرَّجعة، إلا إذا اسْتَمرَعَ النُّجعة. وإذا حضر ارتمى قبل الاقتداح شرارُه، وفرَى قبلَ الانتضاء غُرارُه. ولا يقرع منادمه على فراقه سنَّ النَّدم، حتى يمتلئَ طرباً من الفرقِ إلى القدم. وقد رأيت له أشعاراً، أكثرها في ذمِّ الزَّمان، وقد رماه في مطالبه بسهام الحرمان. فمنه قوله: ألِفَ الزَّمانُ مساءتِي وبِعادي ... ورمَى بسهمِ البَيْنِ عينَ فُؤادِي فألِفتُ ما ألِفَ الزَّمانُ وما أرَى ... إلا تنغُّصَ عيشتِي وكَسادِي والذُّلُّ في أبوابِ من لا يرْعوِي ... حال الفقير وسُؤْدد الأوْغادِ وقوله معارضاً أبيات الحريري، في المقامة الثامنة والأربعين، وهي: عِشْ بالخِداعِ فأنتَ في ... دهرٍ بَنوهُ كأُسدِ بيشَهْ وأدِرْ قناةَ المَكرِ حتَّى ... تستَدِيرَ رحَى المعيشَهْ وصِدِ النُّسورَ فإن تعذَّ ... رَ صيدُها فاقنع بريشَهْ واجنِ الثِّمارَ فان تَفُتْ ... كَ فَرَضِّ نفسكَ بالحَشيشَهْ وأرِحْ فُؤادكَ إنْ نبَا ... دهرٌ من الفِكَر المُطيشَهْ فتَغايرُ الأحداثِ يُؤ ... ذِنُ باسْتِحالةِ كلِّ عِيشَهْ وأبياته هي هذه: قال الدِّمشقيُّ الذي ... كَرُّ النَّوائبِ حَصَّ ريشَهْ كيفَ الخِداعُ ودهرُنا ... أبناهُ صادوا أُسْدَ بيشَهْ وقناة مكري ى تدو ... رُ فتسْتديرَ رَحى المُعيشَهْ والطَّيرُ في أفقِ السَّما ... ءِ فكيفَ أبلغُ منهُ ريشَهْ ورِياضُ آمالِي جفَاها الْ ... خِصْبُ حتَّى لا حشِيشَهْ ومَعيشتِي ضَنْكاءُ في ... بلَدِي استحالَتْ كلُّ عِيشَهْ وله: ومن البليَّة أن ترَى ما لا يُرى ... وترومَ بذلَ المجدِ من غيرِ المَلِي وتبيعَ مخزونَ العلومِ لجاهلٍ ... وتجودَ بالعلياءِ عند الأرذَلِ وتزين من درِّ الخطابِ فرائِداً ... قد شِنتَها بِخطابِ من لمْ يعقِلِ أُوَّاهُ من نكدِ الزَّمانِ وجَوْرِهِ ... وترفُّع الأنذالِ والمُتسَّفِلِ ومن الرَّزيَّةِ لا ترَى من مُنْصِفٍ ... أوْ مُسْعِفٍ إلا وبالأهوَا مَلِي وَالَهْفَ قلبي من زمانٍ شأنُهُ ... رَمْيُ الأفاضلِ بالعناءِ المُعْضَلِ وتعزُّزِ الوغدِ اللَّئيمِ أخِي الأذَى ... وتذلُّلِ العزِّ الكريمِ المأمَلِ

فاضَ اللِّئامُ وغاضَ كلُّ مُمَنَّعٍ ... وسطَا بِسطوِ البأسِ كلُّ مُجَهَّلِ وتوزَّعتْ نُوَبُ النَّوائبِ وانثنَى ... فيها الكِرامُ بِذِلَّةٍ وتملمُلِ وارتاحَ منها كلُّ خَبٍّ جاحدٍ ... وبها رَقَى العلياء كلُّ مُعلِّلِ محمد بن تقيِّ الدين الزُّهيرِيِّ زهرة الأدب ونزهته، وخلسة الحظِّ ونهزته. ومن تخمَّرت طينته بماء اللَّباقة، فأفرغن جِسماً في قالب اللَّياقة. أدركته وقدُّه من الهرم يرتعش، لكن بمنادمته الرُّوح تنتعش. وسمعتهم يقولون: إنه في ريعان غضارته، كان محسود الغصن الفَيْنان في نضارته. ثم مَحَا سِنُّه محاسِنه، ولكن يعزُّ على ذي لسَنٍ أن يلاسِنه. وعهدت أبي بوَّأهُ الله دار رضوانه، يميِّزه بالفضل عن أخدانه وإخوانه. ويقول: هو تامُّ في آلته، لو أن قلبه متماسكٌ متمالكٌ، كاملٌ في حالته، إلا أن مدد صبرِه متفانٌ متهالك. وقد رأيت له شعراً قذف به بحر طبعه، فذكرت منه ما يدلُّ على فضله دلالة الماء على صفاء نبعه. فمنه قوله: إذا زرتَ الصَّديقَ الشَّهرَ يوماً ... يرى إكرامَ مثواكَ الثَّوابا وإن كرَّرته يوماً فيوماً ... ولم تحُزِ السَّلامَ ولا الخِطابَا فإنَّكَ أُبْتَ للطَّاغي مآباً ... جزاءً لا عطاءَ ولا حِسابَا وقوله: صدِيقُكَ إن تزُرهُ بِصدقِ وُدٍّ ... فقلٍّلْ من زِيارتِكَ الزِّيارهْ فزُرْ غَبًّا إذاً تزدادُ حُبًّا ... وخفِّفْ فالزِّيارة قيل غارَهْ هذا الباب، مما حرَّض فيه أولو الألباب، والحديث المذكور فيه دستور العمل بين الأحباب. وفي عقده جمعٌ كثير، في نظِيم لهم ونثِير. فمن ذلك: إذا شئتَ أنْ تُقْلَى فزُرْ متواتِراً ... وإن شئتَ أن تزدادَ حبًّا فزُرْ غَبَّا ومنه: الزيارة زيادةٌ في الصَّداقة، وقلتها أمانٌ من الملالة، وكثرتها سببٌ للقطيعة، وكلُّ كثير عدوُّ الطَّبيعة، وما أحسنَ ما قال صاحِب الشَّريعة: " زُّرْ غَبًّا تزدد حُبًّا ". ومن هذا الباب قول الآخر: عليكَ بإقلالِ الزِّيارة إنَّها ... إذا كثُرتْ كانتْ إلى الهجرِ مسلَكَا فإني رأيتُ القَطْر يسأَمُ دائِماً ... ويُسأَلُ بالأيدِي إذا هوَ أمسَكَا وقوله: أقلِل زِيارَتك الصَّدي ... قَ تكون كالثَّوبِ استجَدَّهْ إنَّ الصَّديق يُمِلُّهُ ... أن لا يزال يراك عنْدَهْ وقول أبي تمَّام: وطولُ مُقامِ المرءِ في الحيِّ مُخلِقٌ ... لِديباجَتَيْهِ فاغترب تتجدَّدِ فإنِّي رأيتُ الشَّمسَ زِيدتْ محَبَّةً ... على النَّاسِ إذ ليستْ عليهم بسرمَدِ وكان للبهاء السنجاري صاحبٌ، وكان بينهما مودةً أكيدة، واجتماع كثير، ثم جرى في بعض الأيام عتاب، وانقطع ذلك الصاحب عنه، فسيَّر إليه يطلبه؛ لانقطاعه، فكتب إليه بيتي الحريري، اللَّذين في المُقامة الخامسة عشرة: لا تزُرْ من تُحِبُّ في كلِّ شهرٍ ... غيرَ يومٍ ولا تزِدْهُ عليهِ فاجتلاءُ الهِلالِ في الشَّهرِ يومٍ ... ثمَّ لا تنظُرُ العيونُ إليهِ فكتب إليه البهاء من نظمه: إذا حقَّقتَ من خِلٍّ وِدادا ... فزُرهُ ولا تخف منه مَلالا وكُّن كالشَّمسِ تطلُع كلَّ يومٍ ... ولا تكُ في زيارتِهِ هِلالا قلت: هذا قليل، والكثير يدعو في الزِّيارة إلى التَّقليل. وللزُّهيري: ألا رُبَّ من تحنو عليه تلطُّفاً ... ويُعجبكَ القولُ الذي منه صادرُ وإن تختبرْ منه طويَّته إذاً ... وناشدْتها ساءتكَ منه الضَّمائرُ فلا تغتررْ في لينِ قولٍ وتأمننْ ... إذا لم تطب منه لديكَ المخابرُ فما الصِّلُّ إلا ليِّنُ اللَّمسِ ظاهراً ... وباطنُه سمٌّ ومنه التَّحاذرُ ألمَّ في هذه الأبيات بقول عبد الحق الحجازي: ألا رُبَّ من تحنو عليه ولو ترى ... طويَّتهُ ساءتكَ منه الضَّمائرُ

فلا تأمنن خلاًّ ولا تغتررْ به ... إذا لم تطب منه لديكَ المخابرُ وقوله: فما الصِّلُّ إلا من قول بعض البلغاء، الدنيا كالحية ليِّنٌ مسُّها، قاتلٌ سمُّها. ومن فصول الصاحب: مسُّ السيف ليِّن، ولكن حدُّه خشن، ومسُّ الحية ليِّنٌ ونابها أخشن. ومن نوادر ابن الجزَري، قوله من قصيدة: ولئنْ خبرْتَ بني الزَّمانِ وخِسَّةُ ال ... آباءِ تُنتجُ خِسَّة الأبناءِ إيَّاكَ تركنُ منهمُ لمماذقٍ ... يُبدي الوفاءَ ولاتَ حين وفاءِ وتجنَّبنْ من لينِ ملمسِ عطفه ... فالعضبُ يصدأُ متنهُ بالماءِ وللحصري في هذا المعنى: كم من خليلٍ عندي شهدهُ ... حتى بلوتُ المرَّ من أخلاقهِ كالملحِ يُحسبُ سكَّراً في لونهِ ... ومجسِّه ويحولُ عندَ مذاقهِ وللزُّهيري: يا من تلبَّس في الفخارِ بلُبسهِ ... والجهلُ منه مركَّبٌ من لُبسهِ الفضلُ عند المرءِ يكسيه سناً ... وسناؤه يكسيه رونقَ حسنهِ لا تزدري برثيتِ خلقة ثوبهِ ... عند التنفُّسِ في الكلام لنفسهِ من كان من نوعِ الكمالِ مُكمَّلاً ... نال الغنى من فضلهِ مع جنسهِ وله: يا من إليَّ قد وشى ... بنقلِ سوءٍ ولغا مذمَّتي سمعتُها ... من الذي قد بلَّغا في المثل: مبلِّغ السوء كباغيه. وقيل أيضاً: " ما غاظك إلا من بلغك "، " وسبَّك من بلَّغك السَّبَّا " و " المبلِّغ أحد الشَّاتمين ". وراوية الهجاء أحد الهاجين، والسامع للغيبة أحد المغتابين. وله: إنَّما القاضي لمُستثقلٌ ... في اللفظِ يا صاحِ مع المعنى يظهرُ فيه النَّصبُ من جرِّه ... وحظُّه في السم كالمعنى أورد هذين البيتين في شرحه على لامية ابن الوردي، عند قوله: إنَّ للنَّقصِ والاستثقالِ في ... لفظةِ القاضي لَوَعظاً ومثلْ أمين الدين بن هلال الصالحي أحد الشُّهود العدول، لكنه عن الخير من العدول. فهو إن لم يكن في دين الصابي، فقد نزع بسلبه الأعراض منزع المتصابِي. فكم حرٍّ مدحه ثم ثلبه، وكم عرضٍ كساه ثم سلبه. فهو شاعرٌ تنمُّ أفكاره عن أسرار العيوب، وكاتب يرشحُ بمداد قلمه ذنوب الذُّنوب. إلا أنَّ كلِمه وقلمه لم يرميا قطُّ بكلال أو ملال، وإذا كتب أو أنشأ أراك يد ابن هلال، تنقل عن فم ابن هلال. فمن أهاجيه قوله في بعض الأدباء: يخوضُ بعِرضٍ من غدا عارَ دهرِهِ ... ومن هو أدنَى من سجاحٍ وأكذَبُ ومن أقعدتْهُ همَّةُ المجدِ والعُلا ... وطارتْ بهِ للخِزيِ عنقاءُ مُغرِبُ ومن كانَ في عهدِ الحداثةِ ناقةً ... يُقادُ إلى أردَى الأنامِ ويُركبُ وقدْ كانَ قصدِي أن أبيِّنَ وصفهُ ... ولكن إهمالُ القبائِحِ أنسَبُ ومما ينسب إليه من المجون الذي يزري بسلافة الزَّرجون، أنه دخل على الرئيس أبي السُّعود بن الكاتب، فأنشده بديهاً: يا من بهِ رقَّ شِعري ... وجالَ في الفِكرِ وصفُهْ قدْ مزَّقَ الدَّهرُ شاشي ... والقصدُ شاشٌ ألفُّهْ من هذا، وهو أحسن ما سمعت في طلب حلَّةٍ قول الشِّهاب: حالِي يستنجِزُ الأماني ... ويطرُدُ الخُلفَ من وعودِهْ وحلَّتي كلُّها عيونٌ ... ترنُو إلى مجدِهِ وجودِهَ وكان بينه وبين عبد الحق الحجازي عهودٌ موثَّقة، ومودِّة كمائمها عن أذكى من الزَّهر غِبَّ القطر معتَّقة. ثم انقطع أمين الدين، فكتب إليه يستعطفه: طالَتِ الأشواقُ وازدادَ العَنا ... وتمادَى الهجرُ فيما بينَنَا فامنحوا القُربَ محِبًّا مخلِصاً ... فلعلَّ القُربَ يشفي ما بِنا ليسَ في هذا عليكُم كلفةٌ ... إنَّما نطلبُ شيئاً هيِّنَا فراجعه بقوله: أنا في البعدِ وفي القربِ أنا ... ليسَ في الحالينِ لي عنكُم غِنى أفضلُ الأشياءِ عندِي حبُّكم ... وهو في وَسْطِ فؤادِي مكِّنَا

لكنِ الأيَّامَ أشكوها لكُم ... جوْرُها قد أورَثَ الجِسمَ الضَّنى وكان هو أحد الشُّهود بالمحكمة الكبرى، فنظر يوماً إلى قضاتها وشهودها وهو منهم، ثم قال: قالت لنا الكُبرى أمَا ... آنَ لكُم ما توعدونْ قضاتُنا أربعةٌ ... لكنَّهم لا يعلمونْ شهودُنا عِدَّتهمْ ... تسعةُ رهطٍ يُفسِدونْ والكتخُدا والتَّرجُمَا ... نُ في الجَّحيمِ خالِدونْ وله يهجو عنَّه ولي الدين: إذا رأيتَ وليَّ الدِّينِ مفتكِراً ... منكِّساً رأسهُ إنسانُه ساهِي فذاكَ من أجلِ دُنيا لا لآخرةٍ ... خوفاً من الفقرِ لا خوفاً من اللهِ عبد الكريم الطاراني كاتب قسمة، ومن اتخذ المعيشة من الموت قسمه. وما بالك بمن يجوب فناء كلِّ حي، ويتمنى فناء كلِّ حي. فهو طير الشُّوم، والتطير به فرخ التَّطير بالبوم. وله نزعاتٌ في الخُلق والخَلق، هي قذًى في العين، وشجاً في الحلق. ينعجن بطينة الإساءة، وتعمُّ في العالم منه المساءة. فمه ممزوجٌ بصابْ، وقلمه ساطورٌ في يد قصَّاب. فلهذا رُميَ برفضه، ومقِتَ باعتزاله ونقضه. وهو شيخٌ من بقايا أول الزَّمان، يعدُّ فرخاً عنده نثر لقمان. أكل الدَّهر عليه وشرب، لكن وعاه من الآداب غير سرِبْ. وله شعرٌ ليس له في الكثرة منتَهى، إلا أنَّه أبردُ من أمردٍ لا يُشتهى. فممَّا وصلني من مرغوبه، قوله: أشكو إلى اللهِ من زمانٍ ... قدْ ماتَ فيهِ ذوو الصِّلاتِ وكلُّ من كانَ ذا وفاءٍ ... مضَى إلى اللهِ بالوفاةِ وقوله، في تضمين مثل مشهور: هذه الدُّنيا بلاءٌ وعنَا ... وهمومٌ تُسقِمُ الجِسمَ الصَّحيحْ أيُّ شيءٍ يبتغي منها الفَتَى ... وهي دارٌ ما عليها مُسْتريحْ ومثله لبعضهم: كلَّما أشكو صباباتِ الهَوَى ... لم أصادِف غيرَ ذي قلبٍ جريحْ يشتكِي لي مثلَما أشكو لهُ ... يا لعُمرِي ما عليها مُسْتريحْ قلت: طابُ الرَّاحة في الدُّنيا محال، وتلك دعوى دليلها على جميع الورى محال. وقد أعي على الأخباريِّين والنَّقلة، أن يجدوا مستريحاً إلا من لا عقل له. قال رشيد الدين الوطواط، في أمثاله: أنا أقول: من لا عقل له في المستراح موضع النَّجاسة. ونظمه الشِّهاب في قوله: ما يبتَغي من دهرِهِ عاقلٌ ... وما يرجِّي منهُ أهلُ الصَّلاحْ ورزقُ دُنيانا لجهَّالِها ... وجنَّةُ الخُلدِ لبلهٍ مِراحْ من لا لهُ عقلٌ ولا فطنةٌ ... في المثلِ المشهورِ قالوا اسْتراحْ وإنَّما الدُّنيا لهُم منزِلٌ ... من لا لهُ عقلٌ بهِ مسْتراحْ وقوله: وجنَّة الخلد لبلهٍ مِراح إشارة إلى الحديث، " أكثر أهل الجنَّة البُلُهْ " يريد: الأكياس في أمر الآخرة، البله في أمر الدنيا. ويقولون في بقر الجنة: البله؛ لأنَّها لا ترمح ولا تنطح، ولضدِّهِ: بقر سقر. وللطبراني، ويخرج منه اسم عمر بطريق التَّعمية: أفدِي غزالاً بقلبِي ... ما زال يرشُق نبلا وعنه ما مالَ يوماً ... للغيرِ حاشَا وكلاَّ وعزَّ صبرِيَ لمَّا ... بالعينِ مرَّ محلَّى وقعد إلى جانبه غلامٌ، والقمر في ليل التَّمام، فقال له: انظر البدر أمامك. فقال له: أمامِي على أيِّ حالة. فخجل لما قاله. فأنشده بديهاً: وذي قوامٍ رشيقٍ ... دنَا لبدرِ التَّمامِ فقالَ والثَّغرُ منهُ ... حالٍ بحسنِ ابْتِسامِ غدا أمامَكَ بدرٌ ... فقلتَ بدرِي أمامِي وكتب إلى الإمام يوسف الفتحي، وقد وعده بعود: مولايَ كمالَ بهجةِ الأيَّامِ ... قدْ أخجلَ جودُكَ الرَّبابَ الهامِي أنعُمْ لمُحِبِّكَ الكريمِ عجلاً ... بالعودِ تفُزْ بِبَثِّ شكرِي النَّامِي فبعث إليه بحصَّة منه، وراجعه بقوله: يا جوهرةً يتيمةً بالشَّام ... سفَّهَتْ بها مقالةُ النَّظَّامِ

قسمتُكَ في بقيَّةِ العودِ على ... أن ليسَ لكُم في الفضلِ من قسَّامِ وقوله: لا تجزعنَّ إذا نابَتْكَ نائِبةٌ ... فسوفَ تُلقَى قريرَ العينِ جزْلانَا فالبدرُ بعد محاقِ الجِرمِ تبصرُهُ ... قدْ اكْتسى النورَ بالتَّكميل وازدانَا وهو من قول ابن السَّاعاتي: لا تجزعنَّ لأمرٍ سوفَ تُدرِكُهُ ... فليس في كلِّ حينٍ ينجحُ الأملُ والبدرُ في كلِّ شهرٍ لا لمنْقَصَةٍ ... به يصيرُ هِلالاً ثم يكتملُ محمد بن زين العابدين الجوهري هو من جوهرٍ منتقى، وما فوق مرقاته مرتقى. وآباؤه بتجارة الجوهر مشهورون، وبكلِّ ثناءٍ في الألسنة مذكورون. وهو لك يكن يحترف بالصِّناعة، أو يتَّجر بهذه البضاعة. بل كان مستغنياً عن جواهر الأحجار بجواهر الكلام، ومكتفياً عن جامد العسجد والنُّضار بالذَّائب من رشحات الدُّوِيّ والأقلام. وله أشعار نثر في أرض الذَّهب جُمانها، وأطلع من سِلك السُّطور ياقوتَها وبهرمانَها. فمما ينسب من صِحاحِها للجوهري، ويروى من تهذيب مفرداتها عن الأزهري قوله: باكِر رياضَ النَّيربين وماسِها ... وانظُر إلى الأزهارِ في أجناسِها ما بينَ زنْبقَها الأنيق ووردِها ... وبديعِ نرجِسِها الغَضيضَ وآسِهَا وترنُّمِ الأطيارِ فوقَ غُصونِها ... تروِي لطيفَ اللَّحنِ عن عبَّاسِهَا جمعتْ كعانِي اللُّطفِ في ألحانِها ... وبيانِ منطِقها وحُسنِ جِناسِهَا تُغنيكَ عن صوتِ المثَانِي عنْدمَا ... تشدو بِرَوْنقِها على جلاَّسِهَا فترَى الغُصونَ لِما بِها من نشوةٍ ... تهوِي إليكَ من السُّرورِ براسِهَا طافَ الغديرُ بِها فأثمَرَ فرْعُها ... وغدا يُخَبِّرُنا بأصلِ غِراسِهَا وسرَتْ بها ريحُ الصَّبَا فتأرَّجَتْ ... جُلَساؤها بالطِّيبِ من أنفاسِهَا فانهضْ نَدِيمي نصطَبِحُ في ظِلِّها ... ودَعِ المناصِبَ في الزَّمانِ لِناسِهَا وأجِلْ لِحاظَ العينِ في أرجائِها ... واجْلِ القلوبَ الصُّدْيَ من وسواسِهَا واسْتخلِ باللَّذاتِ بين رِياضِها ... واسْتَجْلِ بِكراً أُفرِغَتْ في كاسِهَا عذراءُ واقَعَها المِزاجُ فأنْتَجَتْ ... أطفالَ دُرٍّ لم تُشَنْ بِنِفاسِهَا شمسٌ تُريكَ سَناً إذا ما أُغرِبتْ ... في فيكَ أوْلتكَ القُوَى بِشماسِهَا تَذَرُ الذَّليلَ عَزِيزَ قومٍ في الورَى ... بلطيفِ مَسْراها وشدَّةِ باسِهَا من كفِّ مُعتدِلِ القوامِ إذا مشَى ... بينَ الغُصونِ قضَى على ميَّاسِهَا أو ماسَ في أهلِ البَهَا ضُرِبَتْ له ... أخماسُها بالقهرِ في أسداسِهَا ما جيدُ غِزلانِ الصَّريمِ إذا انْثَنَى ... وإذا رَنَا ما لحظُ ريمِ كِناسِهَا للعينِ فيه تَفَكُّهٌ لكنْ إذا ... بصُرتْ بِه غابتْ جميعُ حواسِهَا قمْ يا حبيبي لا برِحْتَ مُمَتَّعاً ... داوِ القلوبَ من السِّقامِ وآسِهَا واسْمحْ وآنِسْ باللِّقا يا منْيَتِي ... ما زالتِ الأيَّامُ في إينَاسِهَا وقوله: بالَّذي أودَعَ لحظيْ ... كَ حبيبَ القلبِ حَتْفَا وسقَانِي منْهُما ... كأساً سريعَ السُّكرِ صِرفَا وحَبَا خَدَّكَ ورداً ... وحَبَا شكْلَك ظرْفَا جُدْ على صَبٍّ كئِيبٍ ... ذِي أُوارٍ ليسَ يُطفَا ولمحمد الحرفوشي من هذا الأسلوب: بالَّذي أنشاكَ فردَا ... وكسَا خَدَّيكَ وردَا والَّذي أعطاكَ حُسْناً ... فاتَ أهلَ الحُسنِ حَدَّا والَّذي أوْلَى فُؤادِي ... مِنكَ إعراضاً وصَدَّا صِلْ مُعَنًى فيكَ يقضِي اللِّ ... يْلَ تسهيداً ووَجدَا

وهذا على أسلوب أبيات عبد المحسن الصُّوري المشهورة، وهي: بالَّذي ألهَمَ تَعْذِي ... بِي ثناياكَ العِذابَا والَّذي ألبَسَ خَدَّيْ ... كَ مِن الوردِ نِقابَا والَّذي صَيَّرَ حَظِّي ... منكَ هجراً واجتِنابَا يا غَزَالاً صادَ باللَّحْ ... ظِ فُؤادِي فأَصابَا ما الَّذي قالَتْهُ عَيْنَا ... كَ لقلبي فأجابَا محمد بن حسين، المعروف بابن عين الملك، بالقاق لعوبٌ بأطراف الكلام، مُفوِّقٌ لسهام الأقلام. يستفيد من القطا فضل هداية، وهو في اللوم أضلُّ من ابن داية. زيُّه غريب، وكلُّه أسود غربيب. أوحش حالاً من الليل، وأكثر انفراداً من سهيل. طالما جاب السَّباسب أردية، وخاض النَّوائب أودية. متنقِّلاً من بقعة إلى بقعة، وطائراً من رقعة إلى رقعة. حتى حصَّ جناحه الكبر، ووقف من سوء بخته على يقين الخبر. هناك كرّ على وكر عشيرته وحاميته، ومعشَّش قاذفته بهُجرها وراميته. وقد رأيته وشعره شاب، لكن شِعرَه ما شاب، وهو في الشِّعر نصيب الوقت، وحاله حاله في الإقصاء والمقت. ومناظيمه لا تخلو من ألفاظٍ عذاب، إلا أهاجيه فإنها سوط عذاب. وقد بلغني أشياء منها، عارضتْني لكثرة فحشها فأعرضت عنها. وأما غيرها من لوامعه فما أوردته أوردته، وإذا استهجنتُ شيئاً إليه رددته. فإني كفوَّارة الماء، لا أقبل إلا السَّيَّال الرقيق، وغيري كالمنخل، يمسك النُّخالة ويخرج الدقيق. فمن شعره قوله في دولاب ماء: ودولابِ روضٍ قد شجانا أنينُه ... وحرَّك منَّا لوعةً ضِمنَها حبُّ ولكنَّه في بحرِ عشقٍ جهالةٍ ... يدورُ على قلبٍ وليس له قلبُ وقوله، من قصيدة مطلعها: سقى الخُزامَى باللَّوى والأقاحْ ... من عارضٍ أبلجَ سجْلِ النَّواحْ حتَّى تراها وهي مُخضلَّةٌ ... تغصُّ ريَّا بالزُّلالِ القُراحْ معاهدٌ للأنسِ كانت وهلْ ... لي وقفةٌ بين جنوبِ البطاحْ أيَّام في قوسِ الصِّبا مَنزعٌ ... وللملاهي غدوة لا رواحْ والظَّبيةُ الأدماءُ لي منيةٌ ... وحبَّذا مرضى العيون الصحاحْ لم أنس يومَ الطَّلحِ إذ ودَّعتْ ... وأدمتِ القلبَ بغير الجراحْ يا وقفةً لم يُبقِ فيها النَّوى ... إلا ظنوناً ليس فيها نجاحْ يا قلبُ حدْ بي عن طريقِ الهوى ... ففي مناجاةِ المعالي ارتياحْ قالرَّاحُ والراحةُ ذلُّ الفتى ... والعزُّ في شربِ ضريب اللِّقاحْ القاضي إبراهيم الغزَّالي فتى مداعبةٍ ومجون، طبعه بالخلاعة معجون. إذا تكلم ببنت شفة، تعدُّ من غيره سفه. لا يستفزُّه قيلٌ ولا قال، وكل عثرةٍ منه تقال. وله جامعيَّة بنانٍ وبيان، وهو فيها سفينة نوحٍ أو جامع سفيان. إلا أنه كان في شعره متخلِّفاً، وعن أهل طبقته متخلفاً. لأنه ينبو عن السهل القريب، ولا يستعمل إلا المتنافر الغريب. وربما ندرت له أبياتٌ في مرام، فكانت كرميةٍ من غير رام. أستغفر الله، نعم هو في هجائه، مجيدٌ ولو بازدراء حجائه، لعوبٌ حتى بيأسه ورجائه. يطلع هزله جدًّا، ويرهف حديدته حدًّا. فمما استخرجته من حلوه وحامضه، وصرَّحت فيه بأمر واضحه وغامضه. قوله: يا من ملكوا جوانحي مع لبِّي ... ما اعتدتُ شكايةً فحالي يُنبي لا زلتُ مشاهداً بحالي تلفاً ... إن كان سواكمْ ثوى في قلبي ومن أهاجيه، قوله في إسماعيل بن جمال الدين الجُرشي: بالله قلْ لغليظِ الطَّبعِ عنِّيَ ما ... أنكرتَه من فلانٍ كي ترى عجبا فلم تجد غير أنِّي لم أنِكهُ لما ... قد عفتهُ منه قدماً كان ذا سببا ولو أجشِّمه أيْري وأمنحهُ ... إياهُ ما عدَّ لي ذنباً وما رقبا لكنَّني الآن أكوي قرحَ فقحتهِ ... بنارِ أيري وأرقى عنده الرُّتبا أكلِّفُ النَّفس تغييراً لمذهبها ... قبلي كثيرٌ لهذا الأمرِ قد ذهبا

لا سامحَ الله مأبوناً يكلِّفني ... لغيرِ طبعي ويبغي غاسقاً وقبا وله في والد إسماعيل المذكور، وكان مؤذِّناً يؤذي الآذان: إنَّ الجمالَ الجُرشي ... مثلُ المغنِّي القُرشي يَودُّ من يسمعهُ ... لو ابتلي بالطَّرشِ المغني القُرشي معروف بقبح الصوت، وفيه يقول المُهلَّبي: إذا غنَّانيَ القُرشي ... دعوتُ الله بالطَّرشِ وإن أبصرتُ طلعتهُ ... فوالَهفي على العمشِ ولابن العميد فيه: إذا غنَّانيَ القُرشي يوماً ... وعنَّاني برؤيتهِ وضربِهْ وددتُ لو أنَّ أذني مثل عيني ... هناكَ وأنَّ عيني مثلُ قلبهْ الشيء بالشيء يذكر، والمناسبة حقُّها لا ينكر. ذكرت هنا فصلاً قلته في مغنٍّ بارد النغمة: جمعني وفلاناً المغني مجلسٌ فاستقريَّت مكرهاً، وسمعت ورأيت مكرها. فقلت: قبَّحه الله من مغنٍّ سماع صوته غمٌّ، كيف ولفظ غم في نغمه مدغم؟ فإذا أدَّى آذى، وإذا غنى عنَّى. لا مرحباً بمغنٍّ ... طوى المسرَّةَ عنَّا قال النَّدامى جميعاً ... لما تغنَّى تعنَّى يا ليته ما تغنَّى ... يا ليته مات عنَّا فما أحقُّه بقول بعض الكبراء، وقد غنى مغنٍّ فقيل له: كيف ترى؟ ويحسبُ النُّدمانُ في حلقهِ ... دجاجةً يخنقها ثعلبُ وقيل لآخر ما قيل لهذا، فقال: وكأنَّ جُرذانَ المحلَّةِ كلَّها ... في حلقه يقرضنَ خبزاً يابسا غير أني اختبرته اختبار عارفٍ أريب، فرأيته في صنعة الضَّرب ماله ضريب. فضربه أوقع من الضريب والضرب، وإن كان غناه كالضرب على الركب. فبالجملة يستحقُّ على ضربه غناه، ويستوجب ضربه على غناه. فمن ابتليَ به فلا يدعه يفتح فاه، إلا وهو نازلٌ بالصَّفع على قفاه. وللغزَّالي، والبيت الأخير مضمَّن: أضحى التصبُّرُ حبله مقطوعا ... لمَّا رأيتُ معذِّبي ممنوعا وحديث وجدي مُسنداً ومُعنعناً ... أمسى لديه معلَّلاً موضوعا وفقدتُ قلبي عنده وأظنُّه ... لبليَّتي قد ساء فيه صنيعا فغدوتُ أنشدُ واللَّهيبُ بمهجتي ... والبينُ جرَّعني الأسى تجريعا بالله يا أهلَ الهوى وبحقِّه ... لا زال قدرُكم به مرفوعا قولوا لمن سلبَ الفؤادَ مصحَّحاً ... يمنُنْ عليَّ بردِّه مصدوعا وله من الرباعيات: القلبُ إلى سواكمُ ما مالا ... والدَّمعُ لغيرِ بعدكمْ ما سالا إن كان حسودنا أتاكمْ ووشى ... بالله بِلُطفكمْ دعوا ما قالا القاضي عمر الدُّويكي هو في الفلك، منوِّر الحلك. بمرأى يشفُّ أحسن الشُّفوف، حلية لحيته كالقطن المندوف. وقد أُلبست المهابة إهابه، فلو رآه الأسد الوارد في غابه لهابه. وقد كحلتني الأيام بطلعته، فوقفت على صبغته وصفته. ورأيت شخصاً مروَّق الشِّيم، تنفح أخلاقه عن الزَّهر بعد الدِّيَم. وله أشعار نظمها دراريَّ في أسلاك، وأطلع منها كواكب سابحةً في أفلاك. فمنها قوله من قصيدةٍ، مطلعها: جازتْ عليَّ تهزُّ في أردانِ ... هيفاءَ رمحُ قوامها أرداني تُركيَّة الألحاظِ لمَّا أن رنتْ ... نحوي بصارمِ ناعسٍ أصماني غرْثى الوشاحِ ترنَّحتْ أعطافُها ... من ذا الذي عن حُبها ينهاني في خدِّها الورديِّ نارٌ أضرمتْ ... فعجبتُ للجنَّاتِ في النِّيرانِ لما انثنتْ تختالُ في حللِ البَها ... سجدتْ لقامتها غصونُ البانِ جارتْ على ضَعفي بعادلِ قدِّها ... عجباً فهل ضدَّانِ يجتمعانِ لولا جعيدَ الشَّعرِ مع فرقٍ لها ... ما كان لي ليلٌ وصبحٌ ثانِي قسماً بطلعتها ولفتةِ جِيدها ... وبثغرها وبقدِّها الرَّيانِ وبنونِ حاجبها وروضةِ خدِّها ... وبلطفها وبحسنها الفتَّانِ لم أنسَها لما أتتْ بملابسٍ ... قد طرِّزتْ بمحاسنِ الإحسانِ

وافتْ وثوبُ اللَّيلِ أسبل سترهُ ... حتى غدا كالثَّوبِ للعريانِ هذا التشبيه عارٍ من لطف المعنى، وما أحقُّه أن يشبَّه بتشبيه الماء بالماء. فضَممتُها ورشفتُ بردَ الثَّغرِ كي ... أُطفي بذلك حرقةَ الأشجانِ باتتْ تعاطيني كؤوسَ حديثها ... وتُشَنِّفُ الأسماعَ بالألحانِ بتنا على رغمِ الحسودِ بغبطةٍ ... وبفرحةٍ ومسرَّةٍ وأمانِ حتَّى دنا الفجرُ المنيرُ فراعني ... شيبٌ برأسِ اللَّيلِ نحوي دانِ قلت: هذا شعر دعاني إلى إيراده صدق العهد، والعناية بالود الذي هو خلقي من حين لفظني المهد. أبو بكر، المعروف بغصين البان ما لقِّب بالغصين إلا لنضرة نمائه، ورقَّة طبعه الذي يكاد يقطر من كثرة مائه. وهو المعنيُّ بكثرة الموشَّحات، التي يتغنَّى بها في كل حضرة، والمطلع منها ما يستغني به مشاهدة الشكل الحسن عن الماء والخضرة. وليس يحضرني من شعره إلا ما تراه، وتتمايل به طرباً كالغصن يتمايل للصَّبا عند مسراه. فمن ذلك قوله، ويخرج منه اسم داود بطريق التعمية: رنا فأثبتَ سهماً من لواحِظهِ ... في مُهجتي ذو قوامٍ يافعٍ نضرِ وراحَ يسحبُ ذيلَ العجبِ مُلتفتاً ... في تيههِ ومضى والقلبُ في خطرِ وقوله في اسم رمضان: وشادنٍ من بني الأتراكِ مُعتدلٍ ... وافى وفِي وجههِ خالٌ لمن رَمقا له عِذارٌ بنارِ الخدِّ مُمتزِجٌ ... قد هِمتُ فيه ولا عارٌ لمن عشِقا عمر بن محمد، المعروف بابن الصُّغَيِّر خليفة أبي بكر العمري وحليفه، وزميله في التَّعارض بالقريض وأليفه. ومن اغترف من محلِّ غرفه، وهبّ عاطر الأنفاس بعرفه. والنَّسيم يطيب إذا مرَّ بروضٍ أنضر، ومن صحب العطار لا يخلو من أن يتعطَّر. وهو في الشعر مكثر مجيد، ومحلِّي نحرٍ للأدب وجيد. إلا أنه أعربت محاسنه عن ناطقٍ مُعرِب، وطارت بأغلب أشعاره عنقاء مُغرب. فمما بلغني من شعره. قوله معمِّياً باسم خالد: مذْ رقَّ ماءٌ للجمالِ بوجنةٍ ... كالوردِ في الأغصانِ كلَّلهُ النَّدى وتمثَّلتْ أهدابنا فيه فظنُّ ... وهُ والعذارَ ولا عذارَ به بدا وهذا المعنى متداول من قول بعضهم: أعِدْ نظراً فما في الخدِّ نبتٌ ... حماهُ الله من ريبِ المنونِ ولكن رقَّ ماءُ الحسنِ حتَّى ... أراكَ خيالَ أهدابِ الجفونِ وزاد الأمير المنجكي، وأحسن في قوله: لمَّا صفتْ مرآةُ وجهكَ أيقنتْ ... أهوايَ أنِّي عُدتُ فيه خَيالا فحسبتُ أهدابي بخدِّكَ عارضاً ... وظننتُ إنساني بخدِّكَ خَالا وللمترجم، ويخرج منه اسم علوان: فديتُ حبيباً زارني بعد صدِّه ... ومن ريقهَ واللَّحظِِ حيَّى بقرْقَفِ سقاني ثلاثاً يا خليلي وإنَّها ... شفاءٌ لذي سُقمٍ وراحةُ مُدنفِ وله، ويخرج منه اسم سليمان: رأى عاذلي مُنيتي ري في ... إزارٍ فحيَّد عن نَهجها وقد لام في مثلِ عشقي لها ... وما شاهدَ الخالَ في وجهها ومما نسبه البديعي إليه، وأظنُّه مغصوباً عليه، قوله: أفدي الذي دخلَ الحمَّامَ مُتَّزراُ ... بأسودٍ وبليلِ الشَّعرِ مُلتحفا دقُّوا بطاساتهمْ لمَّا رأوهُ بدا ... توهُّماً أنَّ بدرَ التمِّ قد كُسفا وهذا تخيل حسن، أجاد فيه وأحسن. وأصله ما اشتهر في بلاد العجم أن القمر إذا خسف يضربون على النُّحاس، حتى يرتفع الصَّوت زاعمين بذلك أنه يكون سبباً لجلاء الخسوف، وظهور الضوء، هكذا قاله بعض الأدباء. والذي ثبت في أصله ما نقله غير واحدٍ، أن هُلاكو ملك التتار، لما قبض على النصير الطوسي، وأمر بقتله لإخباره ببعض المغيَّبات. فقال له النَّصير: في الليلة الفلانية في الوقت الفلاني يخسف القمر. فقال هُلاكو: احبسوه، إن صدق أطلقناه وأحسنَّا إليه، وإن كذب قتلناه. فحبس إلى الليلة المذكورة، فخسف القمر خسوفاً بالغاً. واتفق أن هُلاكو غلب عليه السُّكر تلك الليلة، فنام، ولم يجسر أحد على إنباهه.

فقيل للنصير ذلك. فقال: إن لم ير القمر بعينيه، وإلا فأصبح مقتولاً لا محالة. وفكر ساعةً، ثم قال للمغل: دقُّوا على الطاسات، وإلا يذهب قمركم إلى يوم القيامة. فشرع كلُّ واحدٍ يدقُّ على طاسته، فعظمت الغوغاء، فانتبه هُلاكو بهذه الحيلة، ورأى القمر قد خسف، فصدقه، وبقي ذلك إلى يومنا. ومن اللطائف أن أديباً من العجم، وقد خفي عني اسمه واستعجم. كان صحبته أميرٌ كبير، في روضٍ يتفتَّق عن عبير. وبه بركة ما، أصفى من ريقة ألمى. يحفُّها طائفةٌ من الغلمان، هذبت باللطف طباعها، وتركت بحكم صورها الجميلة في الأجسام الصقيلة انطباعها. وفيهم فتًى زائد الاشتهار، كالبدر إلا أنه يبقى على ضوء النهار. فحيَّاهما بجامه، ووقف يثير شَجوَها برقَّته وانسجامه. والبركة قد انعكست فيها تلك الصور الظَّواهر، فتخالها نجوماً وهو بينها القمر الزاهر. فخامرت الأديب من خياله سورة، وتخيل أن البدر يهديه نوره. ففطن الأمير للأمر الذي وضح، وحرك الماء بقضيبٍ فانمحى الخيال الذي فضح. فدقَّ ذلك الأديب على طاسٍ حتى روى غلَّة الصدر، فسأله الأمير عن سرِّ ذلك، فقال: هذه عادتنا إذا خسف البدر. وأبدع من ذلك وأطرب، ما حكاه العمري شيخ الأدب. أنه كان بدمشق في بيت قهوة، مُقيماً لرسم حظٍّ ونشوة. وإلى جانبه أديبٌ يأنس الفكر بآدابه، ويتعلق الظَّرف بأهدابه. وبينهما حديثٌ يفاوح زهر الربى، ويطارح نغم حمام الأيك مطرباً. إذا ببدرٍ حسن فارق فلكه، وسقط لا يدري أيَّ مسلكٍ سلكه. حتى إذا دنا منهما وقف واستوقف، واختلس الألباب جذباً إليه وما توقف. فطفقا يسرحان في محاسنه المعابي ويجيلان الألفاظ، وبحكم الهوى يمدان الأيدي ويشيران بالألحاظ. فما رددا وجهاً ولا عطفا، ولا جنيا ورداً بالَّلحظ ولا قطفا. حتى غشيهما شخصٌ مهول المنظر في ذاته، إذا رأى الطَّرف شخصه، أحال الله بينه وبين لذَّاته. فحال بينهما وبين ذلك البدر التمام، وحجبه عنهما كما يحجب البدر الغمام. فقال ذلك النديم: هذا خسوف عسى الله يُؤذن بزواله، ونسأله أن يدفع عنا عقبى مصائبه وأهواله. ثم نظر إلى ذلك الشخص وقد كشف رأسه، فإذا هو أقرع كأنما رأسه طاسه. فقال العمري: الآن تم التخيُّل من كل جهة. ثم أخذ القلم، وكتب على البديهة. حبس البدرُ أقرعٌ عن عيوني ... فغدا الطَّرفُ خاسئاً مطروفا فتناولتُ رأسهُ لِصفاعٍ ... بنعالي، وصنتُ عنه الكُفوفا قال لي اللاَّئمونَ كُفَّ فنا ... ديتُ دعوني وأقصروا التعنيفا عادةُ البدرِ ينجلي ليلةَ ال ... خسفِ بدقِّ النُّحاس دقاًّ عنيفا وتراءيتْ طاسةٌ فجعلتُ الصَّ ... فعَ دقاًّ فكان عذراً لطيفا أحمد بن محمد الصفدي، إمام الدَّرويشيَّة صفد، وإن كانت صدف هذه الدُّرة، فقد طلعت في جهة دمشق منها غرة، وأحسن بها من غرة. وبالتنقل ترتقي ذوات الأصداف إلى الأعناق، ويعلو تراب الأحجار إلى نور الأحداق. وهذا الأديب ممن صحبته دهراً، واختبرت خلائقه سرأ وجهراً. فلم أر مثله رجلاً مأمون الصحبة، ميمون النفس والمحبة. حلمه هضبةٌ لا تستخفُّها الخدع، وعلمه علامةٌ لا تستفزُّها البدع. إن هززته لمكرمة ارجحنَّ، أو ذكَّرته بحسن عهدٍ حنّ. فكنت أتوارد معه على مفاكهة إذا جليت فما الرَّاح والتُّفاح، وإذا ذكرت فما ريحان الأصداغ إذا فاح. وهو من مكثري شعراء العصر ومجيديهم، وإن لم يكن من مكثريهم بالعوائد ومجتديهم. ليس لأحدٍ منهم عشر شعره، إلا أنه منفقٌ منه على قدر سعره. وقد أطلعني على ديوانه المنتخب، الذي ضمنه نخب النخب. فجردت منه ما يعبق عبقة المسك الفتيت، ويفوه عن ثغرٍ ألمى معسول الرُّضاب شتيب. فمنه قوله، في الغزل: راح يثني عِطفه مرحا ... أيُّ صبٍّ من هواه صحا مفردٌ في الحسنِ ليس له ... من شبيهٍ فاق شمسَ ضُحى ينجلي في ليلِ طُرَّته ... منه مسكُ الخال قد نفحا خدَّه وردٌ ومقلتُه ... نرجسٌ يسقي النُّهى قدحَا مهجتي في حبِّه تَلِفتْ ... واصطباري في الهوى نزحا

ما رأينا مثله قمراً ... بالبَها يختال متَّشِحا قام يسقي الراح من يده ... ضاحكاً مستبشراً فرِحا لو له بدرُ السما لمَحا ... في ليالي تِمِّه لمحا كلما أشكو له ترحاً ... في هواه زادني ترحا هذه روحي به ذهبتْ ... صَبوةً والدمعُ قد سفَحَا وعيونِي النومُ حارَبَهَا ... بعد هِجرانٍ وما اصْطلحَا واتَّفق له بعد ما أسنّ، أنه خلع الرَّسن، وأزاح عن جفنه الوسن. فعشق غلاماً يدعى بربَاح هام به هيمان الوليد، وثبت ثبات الحجر الصَّليد. فشاع فيه تولُّهُه، وما أقْصر حبُّه عن تنزُّهُه. وقد علم أن الإذاعة، أول طبقات الإضاعة. ولما ثار عدوه، ولم يصف رواحه وغدوُّه. أقلع عن صبوته، واحتبى من التخلٍّي بحبوته. واتَّخذ الفراغ سميرا، ولم يشف للسَّلوة ضميرا. فما قاله في أيام لهوه، يتشاغل به عن فراغه وسهوه: راق وقتُ نعِمْتَ صباحَا ... فأدِر لي من خمرِ عينيك راحَا عاطِنيها سُلافةً من حديثٍ ... تُطرِب السمعَ في الرِّياض انْشِراحَا وأعِد لي حديثَ كلِّ حديثٍ ... ذاك لا شكَّ يُنعش الأرواحَا صاحِ طابَ الزَّمانُ فاجْنِ جنَى الْور ... دِ من الشَّادِن الأغنٍّ مِزاحَا واترُكِ الشغلَ واشتغلْ بحبيبٍ ... علَّ تلقى من الزَّمان رَباحَا وكتبت إليه أيام ارتباطه، ونشاطه بالصَّبوة واغتباطه. وقد شلني ما شغله، ورأيت الرَّأي في أن أنصاع له: مولاي الأعلى، وسندِي الأغلى. قد رُميت بسهمٍ أنت به مُصاب، وشربتُ بكأسٍ أنت بها متجرِّع صاب. ولم أدرِ كيف فرَّطت، ولا في أي حتفٍ تورَّطت. غير أن المقدور كائن، والحين لا شكَّ حائن. وسبب ذلك لمحة، أعقبت محنةً في محنة. من قمرٍ بزغ من فلك المربَّع، لم يزد على العشر غير أربع. لو نظرَ الوجهَ منه منهزِمٌ ... يتبعُه ألفُ فارسٍ وقفَا شدَّ بند نطاقه، فحلَّ عزائم عشَّاقه. يحسد القلب طرفه إذا لمحه بناظره، ويكاتم سرَّه حتى ليَصونه عن أن يمُرَّ بخاطره. وإذا أهدى السلام لسليمه، ولَّى بلبِّه عن تسليمه. فعندما لمحته، استلمحته. وأنشدت: ولم أنسَ لا أُنسِيتَ وقْفةَ حائرٍ ... نشدْتُ بها ما ضلَّ من شارِد الحبِّ رميتُ بعيني رَميةً سمحتْ به ... فلم أثنِها إلا ومجروحُها قلبِي سجيَّةُ خاطِر، في التعرُّض مخاطِر. ولم أعرف له مكانا، ولا ظننتُ له إمكانا. حتى لقيتُه عندك مائلا، ولبدر أُفقِك مماثلا. فقلت ههنا تسكَب العبرات، وتُنال على ما يُرضي الربَّ المبرَّات. ووعدتَ باجتماع ثانيا، ولم أعهدكَ في أمري وانِيا. فقلت عسى يلاحظ سعد، فيستنجز وعد. ويعدِل زمان، فيُؤخذ أمان. وقد زادت العلَّة، ولم تنفع الغُلَّة. فما بالك تمطِل مع الغنى، وتُحوِج طامع، ومرائي راءٍ، ومُستمَع سامِع. أيحنُّ سيِّدي من فرطة لسان، ومذمَّة إنسان. وهو المشهود بديانته، المحامي على عفَّته وصيانته. وإن تورَّط متورِّط، ورمى بنفسه مفرِّط. فيوشك أن ترميه جهنم بشرارها، وأن ترجمه الملائكة بأحجارها. وأما أنا فلي معك حالٌ ما حال، وطُروق السُّلُوِّ إليه أمرٌ محال. فأنا حافظ ولائك، الشاكر لآلائك. فتجدني حيث تنجدني، وتعهدني على أبَرِّ ما تعتقدني. ومن غزلياته التي جرَّدتها من شعره، قوله من قصيدة، أولها. تذكَّر للأحباب رَبْعاً ومعهدَا ... أسيرُ غرامٍ قد أقام وأقعدَا واطلق سُحْبَ الدمع من مُقلةٍ غدتْ ... قريحةَ جَفنٍ دمعُها تنضَّدَا أيرجو حياةً بعد بُعدِ أحبَّةٍ ... وأنَّى بها والهجرُ أورده الرَّدَى يهيم اشتياقاً للحبيب فلا يرى ... سوى من أطالَ اللَّومَ فيه وفنَّدَا أما رحمةٌ للمستهامِ من الذي ... عَذابي بع عذبٌ وقتْلي تعمَّدَا غزالٌ غزَا قلبي بنُبلِ لِحاظِه ... وأضرم أحشائي بهجرٍ توقَّدَا

نأى والأماني طامعاتٌ لقُربِه ... ولم ألقَ يوماً للأمانيِّ منْجِدَا أطالَ سَقامِي بالفؤادِ صُدودُه ... ومقلتُه ترمي الجريح مدَى المَدَى جميلُ المحيَّا يُخجِل البدرَ وجهُه ... وبالحسنِ ما بين الأنامِ تفرَّدَا يُّحجِّب عني الطيفَ كيمَا يزورني ... وكيف يزور الطَّيفُ شخصاً مُسَهَّدَا رعى اللهُ هاتيكَ اللطافةَ والبَهَا ... وحيَّى محيَّا جيشَ صبرِيَ شرَّدَا رشاً صاد بالأصداغِ قلبَ متيَّمٍ ... وأورده بحرَ الهوان وأجْهَدَا فمن مُسعِدي ممن هواه بمُهْجتي ... ألمَّ وأبْدَى الفتْكَ فيَّ إذ بدَا بديعُ صفاتِ الحسنِ أحورُ طرفُه ... يُرينا إذا ما صال سيفاً مُهنَّدَا بروحيَ أفدِي من أنا اليوم عبدُه ... وأنَّى لروحي أن تكون له الفِدَا وقوله من أخرى، أولها: أمِطِ اللِّثامَ عن الجبينِ المُزهرِ ... واسْفُرْ عن الوجهِ الأغرِّ المُقْمِرِ وامْنحْ عيوني نظرةً أحيَى بها ... فلقد فقدتُ تجلُّدِي وتصبُّرِي عجباً لقلبي كم يُقاسِي ذِلَّةً ... والذلُّ لَذَّ له بغير تضجُّرِ وعلى مَ هذا الجسم يحمل للأذى ... وغدَا نحيلاً لا يُرى بالمنظرِ حسُنتْ شمائلُك الجميلةُ كلُّها ... وبدا لعيني منك ما لم يُنْكَرِ سرقتْ غصونُ البانِ منك تمايلاً ... فلذاكَ قد قُطِعتْ وحُقَّ لِمُفترِي يا فائق الحورِ الحسان بوجهِه ... وجمالِ عُرَّتِه المَصونِ المُبهِرِ قسماً بوجهك وهو شمسٌ أشرقتْ ... وبما بفيكَ من الرُّضابِ المُسكِرِ لا حلْتُ عن مُرِّ الهوى ما دمتَ في ... قَيدِ الحياةِ ولو بُعثْتُ لمحْشرِ وقوله من أخرى، مستهلها: صاد قلبي بلحظهِ قمرُ ... في محيَّاه حارتِ الفكرُ غصنُ بانٍ يزينه مَيسٌ ... ما لِذي الُّلبِّ عنه مصطبرُ إن تثنَّى بلين قامته ... خِلْتَ منَّا القلوبَ تنفطرُ ذو دلالٍ يُريك منطقه اللِّي ... نَ لكنَّ قلبه حجرُ يتهادى بتيهِ مشيتهِ ... رافِلاً بالجمال يستترُ بهجةٌ تُدهشُ المحبَّ عن التِّي ... هِ فيها ويحجبُ البصرُ ظبْيُ إنسٍ لثغره أرجٌ ... طيِّبُ النَّشرِ عرفهُ عَطِرُ فوَّق السهمَ من لواحظه ... لفؤادي فأمرهُ خطرُ لا حياةٌ لعاشقيه ولا ... جبرُ قلبٍ لديه ينتظرُ تنقضي مدَّةُ الحياةِ ولا ... لمحبِّيه ينقضي وطرُ ملكٌ جائرٌ بدولته ... قد سطا من جفونه الحذرُ سمهريُّ القوامِ ذو غَيَدٍ ... أدعجُ اللحظِ زانه الحوَرُ فائقُ الحسنِ لا نظير له ... ورد خدَّيه باهرٌ نضرُ ذو جمالٍ يجلُّ عن شَبَهٍ ... في معانيه يرتع النظرُ كلُّ وقتٍ أذوب فيه جوًى ... آهِ ذاك القضاءُ والقدرُ ليت شعري أراه يُنعشنِي ... بلقاهُ ويحسن السَّمرُ وكتب إليَّ وأنا بالروم، في صدر رسالة قوله: من لصبٍّ أودى به الإحتراقُ ... وبأحشائه أضرَّ الفِراقُ جعلته يدُ الغرامِ أسيراً ... دمعُه من عيونه دفَّاقُ يا لقومي قد صاد قلبي غزالٌ ... من بني التُّركِ بندُه خفَّاقُ سمهريُّ القوامِ فاترُ لحظٍ ... أيُّ قلبٍ إليه ليس يساقُ قام يسطو بمقلةٍ في البرايا ... والبرايا لحسنه عشَّاقُ حبُّه حلَّ في الفؤاد كحبِّي ... لكريمٍ نواله دفَّاقُ سيدٌ ساد بالكمال قديماً ... ليس تُحصى صفاته الأوراقُ عالمٌ فاضلٌ إمامٌ همامٌ ... بحرُ علمٍ جادت له الأخلاقُ

واحدُ الدهرِ في المعالي فريدٌ ... ماجدٌ في مقالهِ مصداقُ إن قلبي ومهجتي وفؤادي ... وجميعي لذاته أشواقُ دام في المجدِ راقياً لمعالٍ ... ما تعالت شمسٌ لها إشراقُ فكتبت إليه جواباً، وصدَّرته بقولي: كيف تُنبي عن شوقيَ الأوراقُ ... وهي مثلي جميعها أشواقُ ضاق عن حصر ما نلاقي نطاقُ ال ... وُسعِ فيمن فراقه لا يطاقُ روضُ فضلٍ ألفاظه زاهراتٌ ... بعثتْ طيبَ عرفها الأخلاقُ فسقى عهدَ ودِّه الخصيبَ رق ... راقُ الغوادي ودمعي الدفَّاقُ حيث كنَّا وللزمانِ انعطافٌ ... وائتلافٌ ما بيننا واعتلاقُ وبدورٍ كواملٍ ليس إلا ... في الخصورِ الرِّقاقِ منها محاقُ أشرقتني بالدمعِ مذ غرَّبتني ... لا لأمرٍ بل شأنها الإشراقُ يا رفيقي ولا أقول رفيقي ... لسِوى من طباعُه الإرفاقُ كن نصيري على البعادِ فحسبي ... منه مالا تقوى له العشَّاقُ فلأنتَ المعينُ إن عنَّ خطبٌ ... وإليك الحديثُ منه يساقُ وابقَ واسلمْ ما حنَّ إلفٌ لإلفٍ ... ودنا نحوَ حبِّه مشتاقُ وكنت وأنا بالروم وردَها، فأنشدته قصيدة مدحت بها الشريف أحمد بن زيد، مطلعها: يجوبُ الأرضَ من طلب الكمالا ... ومن صحب القَنا بلغ السُّؤالا فعارضها بقصيدة في مدح الشريف المذكور، وأنشدنيها، فلم يعلق في خاطري منها إلا قوله، في غزلها: تسربَل من مهابتِه جلالا ... وأشرق وجهُه الباهي جمالا وأصبح رافلاً في لا زوردٍ ... يتيه على محبِّيه دلالا وماس بقامة غصناً رطيباً ... وأرسل من لواحظهِ نبالا رقيقُ الخصر ذو طرفٍ كحيلٍ ... لعمرُ أبيك يأبى الإكتحالا جَنيُّ الورد في خدَّيه أضحى ... وحارسُه النَّجاشي صار خالا ترقرق فيه ماءُ الحسن حتى ... ترى ناسُوتَه ماءً زُلالا وأنشدني قوله: إذا عانقتُ من أهواهُ يوماً ... وكان القصدُ تقبيلاً بفيهِ ملكتُ عنانَ نفسي عن هواها ... وإن تكُ كلَّ وقتٍ تشتهيهِ ولما مات، قلت أرثيه: لهفي على الصَّفديِّ فردُ الدهرِ من ... لعُلاه كفُّ المكرُمات تشيرُ طودُ الفضائلِ دكَّه حكم القضا ... فالأرضُ من أقصى التُّخوم تمورُ فانظر تجد عجباً وقد ساروا به ... جبلاً غدا فوق الرجالِ يسيرُ هذا المعنى مما تداولته الشعراء، ولكن لم يقصدوا ما قصدته من الإشارة لعظم الجثة فإنَّ قصدهم ليس إلا التوصيف بالحلم. فمنهم المتنبي في قوله: ما كنتُ آمل قبل نعشِكَ أن أرى ... رضوَى على أيدي الرجال يسيرُ وابن المعتز في قوله: قد ذهب الناسُ ومات الكمالْ ... وصاح صرفُ الدهر أين الرِّجالْ هذا أبو العباس في نعشه ... قوموا انظروا كيف تسيرُ الجبالْ وأصله قول النابغة الذبياني: يقولون حصنٌ ثم تأبَى نفوسُهم ... فكيف بحصنٍ والجبالٌ جنوحُ وقد أبدع الشهاب في قوله: قيامةٌ قامتْ بموتِ الذي ... بِموتِه ماتَ النَّدى والكمالْ فإن شَككْتُم فانظروا نعشَه ... وشاهدوا كيف تسير الجبالْ زين الدين بن أحمد البُصرَوِي هو لِذات الأدب زين، وبه ينجلي عن القلب كلُّ رَين. وكان صحيبي من منذ سنين، ولا أعدُّه في العِشرة إلا من المحسنين. مثابتُه عندي مثابَة الروض العاطر، ومحلُّه من وُدِّي محلُّ القلب والخاطر. أذكره فأرتاح ارتياحة القضُب المُلْد، وأتذكَّره فأشتاق إلى النعيم وجنَّة الخلد. وهو من لُطف الذات، وشفوف الخِصال المستلذَّات. ممن تتحاسد عليه الأسماع والعيون، ويُشترى يوم وصلِه بنومِ الجفون. وقد فقدتُه أولاً فقْدَ غُربة، ثم غيَّبتْه الغُربة غيبة تُربة.

فانقطعتْ عني بموته إمدادات المواد والمَوات، وهيهات هيهات أن يُتدارك ذلك الفوات. فرحم الله تلك الروح اللطيفة، ولا برحت سحائب الغفران بقبره مُطيفة. فممَّا بلغني من شعره، ما كتبه إلى شيخنا المرحوم إبراهيم الخِياري المدني، وقد أهدى إليه فُسْتقا: لما تركتُ القلبَ عندكُم ... وغدوتُ مشغوفاً بكم صَبَّا وخشِيتُ أن تخفَى مكانتُه ... صيَّرتُ ما يُهْدَى لكم قلبَا فأجابه بقوله: لما علِمتَ القلبَ عندكُم ... أهديتَ لي من لُطفِك القلبَا أكْرِم به من زائرٍ وافَى ... أطْفَا اللَّهيبَ ورنَّح الصَّبَّا ومنزع البصروي ما كتبه جدِّي العلامة القاضي مُحب الدين، إلى الأستاذ محمد البكري، وقد أهداه شيئاً من قلب الفستق: لما تملَّك قلبي حبُّكم فغدا ... مُجرِّداً منه قلباً رقَّ واستَعْرا حرَّرتُه فغدا طوعاً لخدمتِكمْ ... مُحرَّراً خادماً وافاك مُعتذِرَا فعامِلوه بِجَبْرِ حيث جاءكُم ... مجرَّداً بمزيدِ الحبِّ منكسِرَا يقبِّل اليد الشريفة، ويلثم الراحة اللطيفة. ويُنهي إلى الحضرة عظَّم الله شأنها، وصانها عمَّا شانها. أنه أهديَ ما يناسب إهداؤه لأرباب القلوب، ويلائم إرساله لأصحاب الغيوب. فقدَّم العبدُ رجلاً وأخَّر أخرى، في أن يُهديَ لجنابكم الشريف منه قَدْرا. علماً بأنه شيءٌ حقير، لا يوازي مقامكم الخطير، وقد توارى بالحجاب، حيث وافاكم وهو حسير. وما مَثَل من يُهدي مثلَه إلى ذلك الجَناب، إلا كالبحر يُمطِره السَّحاب. ثم إنه تهجَّم بإهداء هذا القدر اليسير، فإن وقع في حيِّز القبول انجبَر القلب الكسير. وكتب البصروي إلى الخياري أيضاً: يا نسيماً من ربوةِ الشام سارِ ... عُجْ على طَيْبَةٍ أجلِّ الديار وتحمَّل منِّي سلامَ مَشوقٍ ... لحبيب المهيمنِ المختارِ ولأصحابِه الكِرامِ أُولِي المجْ ... دِ خصوصاً أمينهِ في الغارِ ولِقوْمٍ قد خيَّموا في ذَراهُ ... قد حباهُم مولاهُم بالجِوارِ سِيَّما الأروَعُ المهذَّب من حا ... زَ كمالاً ما إن له من مُجارِ فرْعُ دَوْحِ العُلى وأصلُ المعالي ... نَجْلُ شيخِ الورى الأجَلَّ الخِيارِي زُرْهُ تُبصِر لديه كلَّ جليلٍ ... من علومٍ ورائقِ الأشعارِ وحديثٍ ألذَّ من نظرةِ المعْ ... شوقِ وافَى في غفْلةِ السُّمَّارِ وسجايَا كَنكْهِ المِسْك والنَّد ... م ووردِ الرياض غِبَّ القِطارِ وكتب إليه أيضاً في صدر كتاب: يُقبِّلُ الأرضَ حَماها الذي ... ألْثَمها أفواهَ أهلِ العُلى عبدٌ إذا كاتبْتَه ثانيا ... يزْداد رِقًّا لكم أَوْ وَلا هكذا نسبهما إليه الخياري في رحلته، وهما للبدر الغزِّي، تمثَّل بهما، وقد راجعه عنهما بقوله: يا أيُّها المولى الذي ربُّه ... خَوَّله من مَنِّه الأفضَلا كاتبْتَ عبداً ذا وفاءٍ لكمْ ... ما اختارَ تحريراً ولا أمَّلا أقرَّ بالرِّقِّ لكم أوَّلاً ... والآن إذْ كاتبْته بالوَلا وأنشدني من لفظه لنفسه، ويخرج منه اسم سليم، بطريق التَّعمية: ولائِمٍ لامَ على ... ترْكِي طِلاً كالعندَمِ فقلتُ حسبِي قهوةٌ ... لي في الثَّنايا والفَمِ وقد تعارض مع بعض المتأخِّرين في هذا العمل، في قوله: إذا عدم السَّاقي الشَّرابَ ولم يجدْ ... شرباً به قلبِي يطيبُ ويطرَبُ فبيت ثناياهُ ومبسَمِهِنَّ لي ... شرابٌ من القَطرِ المُذابِ وأعذَبُ وخاطبته في بعض قدماته من سفر: قُدومُك زينَ الدين يا خيرَ قادِمٍ ... به ابْتهَج النادِي وضاءتْ قِبابُهُ فلا موطِنٌ إلا احْتوتْه مسرَّةٌ ... ولا كَمَدٌ إلا وأُغلِق بابُهُ أحمد بن يحيى الأكرمي الصالحي سيخٌ هرِم، يحدِّث عن سيل العَرِم.

فصل

مناجاته كلُّها سكَّرٌ وأرْي، وفكاهاته ملؤها شبع ورِيّ. وقد عبثت به يد اللأْواء، فصيَّرته طوع مقتضيات الأهواء. فحاله أضيق من فم الحبيب، وأشدُّ غصَّةً من يأس الطبيب. إلا أنه وإن أرهقه الدهر بصرفه، ونبَا به كأنه سهادٌ في طَرفه. فصفحته يُغشي العيون ائتلاقُها، وشيمته ما غير المكارم اعتلاقها. وله شعر جاش به خاطره، فجاء كزهر الرياض فاح عاطره. فمنه قوله: ثنيْتُ عِنانيَ من فتيةٍ ... يرونَ من العارِ علْمي وكُتْبي وكانُوا صِحابِي على زَعْمهمْ ... وكلُّهم قد تهيَّا لحرْبِي فأعرضتُ عنهم لهم قالِيا ... ولم آلُ جُهداً بشتمٍ وسَبِّ وإذْ ذاكَ لو هتفوا بي هَلُمَّ ... لما كنتُ يا صاحِ ممَّن يُلَبِّي وقوله: لأقول لأهيفٍ أضْحى بقلبي ... مُقيماً باختيارٍ وانْقيادِ أيَا حُلوَ اللَّمى واصِل مُحِبًّا ... ولا تقصِد مُحِبَّك بالبعادِ وبرِّدْ غُلَّتي بالوصلِ إني ... أخاف عليك من حَرِّ الفؤادِ وقوله: سقياً لموقفِنا العشيَّةَ بالحِمَى ... نشكو الغرام ولفظُنا الألحاظُ وعواذلي لما تشابَه أمرُنا ... هجَعوا أسًى لكنهم أيْقاظُ فكأنَّنا المعنى المُرادُ لطافةً ... وكأنَّهم في ضِمْنِها ألفاظُ وله من قصيدة، مطلعها: لك لا لغيرِك في البريَّة أعشقُ ... يا مَن به ثوبُ الحشَا يتمزَّقُ يا مخجلَ القمرِ المنيرِ وفاضح الظَّ ... بي الغريرِ لك الجمالُ المشرقُ إني أضعتُ جميعَ عمري رغبةً ... في أن يرى لي من ودادك مَوثقُ يا من به أضحى فؤادي راتعاً ... في روضةٍ بجمالهِ تتنمَّقُ وغدا لساني ناطقاً في حبِّه ... بمدائحٍ تعلو ومدحٌ يشرقُ يا عاذلي في غير حبِّك مطمعٌ ... كلاَّ ولا قلب يميلُ فيعشقُ أُمسي وأصبحُ في هواك بمقلةٍ ... تندى وقلبٍ من جلالك يخفقُ بالله يا فردَ الورى في حسنه ... ارحم فريدَ هواك فهو الأليقُ وتلافَ قبل تلافهِ فلقد غدا ... في نزعِ ثوبِ الإصطبارِ يفتِّقُ واسألْ مضاجعةَ الضَّنى ورفيقه ... أعنى النحول ترى الهوى وتصدِّقُ ومن مقاطيعه قوله: وقالوا الذي تهواه أصبح هاجراً ... وقد كان قدماً واهباً لنوالهِ فقلتُ لهم ماذا يضرُّ لأنني ... شغلتُ به عن هجرِه ووصالهِ قوله: شغلت مضمَّن من قول بعضهم: وقائلةٍ أنفقتَ عمرَك مسرفاً ... على مسرفٍ في تيهه ودلالهِ فقلتُ لها كفِّي عن اللوم إنني ... شُغلتُ به عن هجره ووصالهِ فصل ذكرت فيه طائفةً تتلو تلك، من الشعراء الذين كل منهم لزينة الحياة درَّة سلك. قد جمعني وإياهم الزمان والمكان، وأراهم خلفوا من دخل في خبر كان، على أبدع ما في الإمكان. وهب الله لهم أعماراً بقدر ما يرضيهم، ولا أعدمني التمتُّع بآدابهم على تنائي أراضيهم. وكفانا ما نرجع إليه من تجازي النِّيَّات، إنه العالم بالخفيات، والمطَّلع على ما تتكافى به الطويَّات. عبد الرحمن بن إبراهيم الموصلِي هو في الميدان سابقٌ طلقٌ عنانه، وكأنما حُشِر الصَّواب بين بيانه وبنانه. من ملأٍ رتعوا بأنضر خميلة، وبذلوا ما شاء السَّماح من عارفةٍ جميلة. مكانه في السُّراة ذروة التَّمام، وليديه في الجود آثار الغمام. لا يتبوأ إلا ظلَّ الكرامة الأندَى، ولا يبيتُ إلا حيث المحلَّق والنَّدى. وقد متَّعني الدَّهر برهةً بحضرته، فتقلَّبت معه في بهجة العيش ونضرته. وسمعتُ لفظاً غذاء الرُّوح، وشاهدتُ خلقا فيض الملائكة والروح. إلى تثبُّتٍ يستخِفُّ الجبال الرَّواسي، وانعطافٍ يلين القلوب القواسي. وأنا من ذلك العهد لا أفتر عن تذكُّره بخاطري، وأتمثَّل شخصه في ضميري حتى كأنَّه حاضري. وله أشعارٌ كلَّها نكت للمتملِّي، وملح للذيق المسْتحلي. وفيه نخبٌ للفتَّاك، وسُبحٌ للنُّساك.

يقول ما يشاء فتستحسنه، وتريد الطير تحكيه فلا تحسنه. وقد أثبتُّ له ما يسترقص الجمادات طربا، ويترك في كلِّ قلبٍ مضطرَبا. فمنه قوله: عجزَ الرُّفاةُ عن الحجى ورِقائِه ... وكذا الأُساةُ عن الهوَى ودوائِهِ ثكلتْهم الأعشابُ ويحَ كِبادِهم ... لم يعلموا ما حلَّ في سودائِهِ حلوا المراكِب والغرائِم واتركوا ... كلاًّ يروحُ مزمَّلاً ببلائِهِ أبَنِي الصَّبابة والهوَى من بعدِنا ... إنِّي لكم هيهات من زرقائِهِ ليس الهوَى بسفاهةٍ من كالحٍ ... فدعُوا الغرامَ ومنتدَى عدوائِهِ إنَّ الصِّيانةَ واللَّطافةَ والحيَا ... علمٌ عليه يدلُّ من أسمائِهِ فهي الأمانةُ أنبأتْ عن فضلِ من ... فتقَ العبيرَ وخصَّه بردائِهِ وقوله من أبيات: لئِن كنتُ أسعَى كلَّ حينٍ إليكُمُ ... وتعكسُني الآمالُ عن حبكُم غصبَا فلِي أسوةٌ بالنجمِ للشرقِ سِيرُه ... مدَى الدهرِ والأفلاكُ تنجو به الغربَا هذا من قول الأرَّجاني. أنحوكُمُ ويردُّ وجهِي القهقَرِي ... عنكُم فسيْري مثل سير الكوكبِ فالقصدُ نحو المقصدِ الأقصَى لكُم ... والسيرُ رأى العينِ نحو المغرِبِ وقوله: سلبُوا الغصونَ معاطِفاً وقُدودا ... وتقاسموا وردَ الرياضِ خُدودا طعنُوا القلوبَ بما تلاشى دونه ... طُعْنُ الرماحِ وسدَّدُوا تسديدا فتنُوا الورى بلواحِظٍ وتجاوزوا ... بالفتكِ من نهبِ العقولِ حدودا وتقاسموا أن لا يُراعوا ذِمةً ... لمتيَّمٍ أو يحفظون عهودا تركوا الحُلِيَّ شهامةً واسْتبدلوا ... حُللَ المحاسنِ والبهاءِ ورودَا فغدَوا بها مستعبدين أُلِي النُّهى ... مما يشيقَك طارِفاً وتليدَا نظمُوا الثَّنايا في المباسِمِ لؤلؤاً ... تحت الزُّمرُّدِ والعقيقِ عقودَا تَخِذوا البنفسج في الشَّقيق عوارضاً ... والياسَمين معاصِماً وزُنودَا بدَلوا الخُصورَ من الخناصِر رِقَّةً ... واسْتبدلوا حُقَقَ اللُّجين نُهودَا فهُم الملُوك الصائلون على الورَى ... وهُم الظِّباءُ القائدون أسودَا نظروا إلى الجوْزاءِ دون محَلِّهمْ ... فعدَوا على هامِ السِّماكِ قُعودَا من كلِّ من جعل الدجى فرعاً له ... والبدرَ وجهاً والصباحَ الجِيدَا رَيَّان من ماء النعيمِ إذا بدَا ... خرَّتْ له زُهرُ النجومِ سجودَا كالماء جسما غيرَ أن فؤادَه ... أضحى على أهلِ الهوَى جُلمودَا تزدادُ من فرطِ الحياءِ خدودُه ... عند اسْتماع تأوُّهي توْريدَا لو أبصرَ النُّصاحُ فائقَ وجهِه ... عذَلُوا العَذولَ وحاربوا النَّفنِيدَا أو لو رآه راهبٌ من بيعةٍ ... ألقى الصليبَ ولازم التَّوحيدَا كم ذا تُذكِّرني العقيقَ خدودُه ... والطَّرف حاجِرَ والعِذارُ زَرُودَا وإذا بدَا مُتلفِّتاً من عُجبِه ... بالجِيد أذكرني طُلاه الغِيدَا ما الظَّبيُ أحسنَ لفتَةً من جِيدِه ... عند النِّفارِ وإن أقامَ شهودَا يحْمِي اللَّمى والخدُّ عقربُ صُدغِه ... عن واردٍ أو من يروم وُرودَا قد رقَّ منه الخصْر حتى خِلتُه ... عند اهْتِزاز قوامِه مفْقودَا ما خُلْقُه إلا النَّسيمُ إذا سرَى ... بين الرياضِ وإن طالَ صُدودَا قلت: لولا أن قصدي استجلاب الثناء لهذا الأديب، لضننت بهذه الأبيات خوفاً من أن لا يراعى حقها عند أهل التأديب. ولَوَدَدْتُ لو علِّقت في جبهة الأسد الكاسر، أو ضُمَّت للنيِّرات في الفلك العاشر.

وقد عارض بها الأبيات المشهورة، المنسوبة إلى محمد الشهير بعبد الله، وهي هذه: غصَبُوا الصباحَ فقسَّموه خُدودا ... وتناهبُوا قُضُبَ الأراكِ قدودَا وتظافروا بظفائرٍ أبْدتْ لنا ... ضوءَ النهارِ بليلها معقودَا صاغوا الثغورَ من الأقاحِ وبينها ... ماءُ الحياةِ قد اغْتدى مورودَا ورأَوْا حصى الياقوتِ دون نحورِهم ... فتقلَّدوا شُهْبَ النجوم عُقودَا واسْتودعوا حدَقَ المها أجفانهمْ ... فَسموْا بهنَّ ضَراغِماً وأسودَا لم يكفِهم حدُّ الأسِنَّة والقنَا ... حتى اسْتعاروا أعيُناً ونُهودَا رُوِي مسنداً إلى أبي عمر بن شامل المالقي قال: لقيت يوماً الشيخ الخطير أبا محمد بن علي المالقي، وكان رجلاً مجاب الدعوة فقال لي: أنشدني. فأنشدته الأبيات المنسوبات إلى محمد الشهير بعبد الله، وهي هذه المذكورة. قال: فلما أتممتُها صاح الشيخ، وأُغمَى عليه، وتصبَّب عرقاً، ثم أفاق بعد ساعة، وقال: يا بني، اعذرني، فشيئان يقهراني، ولا أتملَّك عندهما نفسي: النظر إلى الوجه الحسن، والشعر المطبوع. وبيت النهود مما يكثر السؤال عنه، وقد رأيت في شعر ابن عمار الأندلسي بما هو مثله. وهو: كُفَّ هذا النَّهدَ عنِّي ... فبقلبي منه جُرْحُ وهو في صدرِك نهدٌ ... وهو في صدري رُمْحُ وأنا لم أدرك وجهه، ثم رأيت في شعر ابن خلوف ما بيَّنه بعض البيان، في قوله: وقُدودٍ كأنَّهنَّ رِماحٌ ... قد علَتْها أسِنَّةٌ من نهودِ وأنشدني الموصلي لنفسه قوله: هم يحسَبون دموعَ العينِ مذ عطَفوا ... هي الدموعُ التي يوم النَّدى تَرِدُ وإنما هي نصلٌ حلَّ في كبِدي ... من نَبْل جَفنٍ ولم يشعُر به أحَدُ فانْحلَّ ماءً أمْسَى يُقَطِّره ... من اللهيبِ دموعاً ذلك الكبِدُ ومن غزلياته الرقيقة، التي هي السحرُ في الحقيقة، قوله: أما وبياضِ الدرِّ من ذلك الثغرِ ... وما فيه من خمرٍ وناهِيكَ من خمرِ أماناً وما بالطرفِ من كلِّ صارمٍ ... يجول بأجفانٍ مُلِئن من السحرِ يصول به في الناسِ ألطفُ شادِنٍ ... بقلبٍ على العشَّاقِ أقسَى من الصَّخرِ أسال عِذاراً فوق خدٍّ كأنه ... سلاسلُ مسكٍ في صِحافٍ من التِّبرِ وإلا فنملٌ دبَّ فوق شقائقٍ ... مبلَّلُ أطرافِ الأناملِ بالحِبرِ بعيدُ مناطِ القرطِ أشهَى لمُعسرٍ ... إذا ماسَ تِيهاً بالدلالِ من اليُسرِ وأحلَى من الماءِ الزُّلالِ على الظَّما ... وأوقعُ معنًى في النفوسِ من النصرِ يكادُ من القمصانِ لولا وِشاحه ... إذا فكَّتِ الأزارارُ من لطفِه يجرِي فكم ثمَّ دون الجِيدِ منه مآرِبٌ ... من الخَصرِ تدعو العاشقين إلى النَّحرِ فمذ خبَّروني أن كوكبَ خدِّه ... يُقارنه المرِّيخُ أحسستُ بالشَّرِّ ركبتُ هواه بُكرَةَ العمرِ راكِباً ... مطايا شبابي وارتياحي مع الفجرِ فأشفقتُ منه في الظَّهيرة راجِلاً ... يُرِيني نجومَ الأُفقِ في ظُلمةِ الهجرِ متى قلتُ هذا الصُّدغُ أبدَى عقارِباً ... وإن رمتُ أجنِي الوردَ أحماه بالجمرِ أحماه مثل حماه، إلا أنه يقال فيما امتنع وتُنودِر، كما هنا. وإن مِلتُ نحو الثغرِ قالتْ عيونُه ... يَزيدكَ هذا الخمرُ سكراً على سُكرِ قريبُ مرام النَّفس لطفاً وإنه ... لأعلَى منالاً في الأنامِ من البدرِ ترقَّى به شعرِي فعزَّ منالُه ... وأمسَى كعقدِ الدُّرِّ يزهو على الصَّدرِ لئِن جادتِ الأيامُ يوماً بوصلِه ... يميناً فإني قد صفحتُ عن الدهرِ قوله: وإلا فنملٌ إلخ، من قول الوزير المغربي: أوحَى لوجنتِه العِذارُ فما ... أبقَى على ورَعي ولا نُسكِي

وكأن نملاً قد دببنَ بها ... غُمِستْ أكارِعهنَّ في مِسكِ ثم رأيت ما هو عين المأخذ في قول العز البغدادي: كأن عِذارَيهْ اللَّذين تراسَلا ... هلالان من مسكٍ وبينهما بدرُ مُنمْنمَةٌ فوق الخدودِ كأنها ... مشَى فوقها نملٌ بأرجلِه حِبْرُ وقد ضمَّن هذا المصراع بعينه، في أبياته المشهورة، حيث قال: أنَبتُ عِذارٍ أم شائقُ روضةٍ ... مشى فوقها نملٌ بأرجلِه حِبرُ أم العنبرُ المفْتوتُ من فوق وجنةٍ ... أسالتْه نار الخدِّ فانْبهمَ الأمرُ فحيَّى عِذاراً أذهل الصبُّ مذ بَدَا ... وإن ضلَّ فيه العقلُ واختلطَ الفكرُ يتيهُ به لدْنُ القَوامِ مهفْهَفٌ ... له في اختلاسِ العقلِ من حُسنِه عُذْرُ هِلالٌ إذا ما قلت أمسى جَبينه ... صدقْتَ ولكن دون طلعتِه البدرُ تعلَّم منه الظبيُ لفتةَ جِيدِه ... ومن طرفِه الوسْنانِ يُسْتنبَط السحرُ متى صافحتْ سمْعي رقائقُ لفظِه ... ترى كلَّ عضوٍ داخلَهُ السكرُ يُمازج ألفاظَ البلاغة صوتُه ... فيبدو لنا دُرًّا وفي ضِمنه خمرُ وتشكو ارتجاجَ القُرطِ صفحةُ جِيدِه ... كما بات يشكو من غدائرِه الخصرُ يخبِّر عن كأسِ المَنونِ بصَدِّه ... ويقْتلني منه إذا هجَر الهجرُ به غزَلي أضحى وفيه مدائِحي ... ومنِّي لمعنى حسنِه النظمُ والنثرُ وقوله: يكاد من القمصان لولا وشاحه، من قول بعضهم: أخْشى الْتماسَ يديْه من ترَفٍ به ... وأظنُّه لولا الغلائِلَ سالا خالد الكاتب: قد صاد قلبِي وصار يملكهُ ... فكيف أسلُو وكيف أترُكُهُ رطيبُ جسمٍ كالماءِ تحسَبه ... يسلُك في القلبِ منه مسْلَكُهُ يكاد يجري من القميصِ من النِّ ... عمةِ لولا القميصُ يُمسِكُهُ وقوله: فأشفقت منه إلخ، العرب تصف اليوم الشديد بظهور النجم فيه. قال أبو صخر الهُذليّ: إنِّي أرَى والطرف في سَيْرِي ... وَضَحَ النهارِ وعالِيَ النَّجمِ وقد تصرف فيه المتأخِّرون وتظرَّفوا، كابن لؤلؤ في قوله: أمولايَ أشكو إليك الخُمارْ ... وما فعلتْ بي كؤوسُ العُقارْ وجوْرَ السُّقاةِ التي لم تزلْ ... يُريني الكواكب وسْطَ النهارْ ولمجير الدين بن تميم: بأبي أهيَفَ تبدَّى وحَيَّى ... بابتسامٍ عدِمتُ منه اصطبارِي فأراني بوجْهه ومُحيَّا ... هُ نجوماً أُطْلعْنَ وَسْط النهارِ ولقد أبدع وأغرب الشهاب الخفاجي، في قوله من قصيدة نبويَّة: أتى يومَ بدرٍ وهو بدرٌ تَحُفُّه ... نجومُ سماءٍ أطْلعتْها كتائبُهْ فمذ برزوا في النَّقعِ شاهدَتِ العدى ... بهم يومَ بُؤْسٍ لا تغيبُ كواكبُهْ وللمترجم معارضاً أبيات الشاب الظَّريف، في قوله: يا أحكمَ الناسِ أسيافاً وأسْبقهُمْ ... في مهجةِ الصبِّ فتكا دونه الأجَلُ وأنورَ الوجهِ في الدَّيْجورِ من قمرٍ ... تحت الأكاليلِ مسبولٌ ومُنْسدِلُ ما السحرُ ألْعبَ في الألبابِ من حَدَقٍ ... دار الشُّمول به من طُرفِك الكَحِلُ كلا ولا البرقُ للأبصار أخطفُ من ... شقائقِ الخدِّ إن وافَى بك الخجلُ من نظمِ ثغْرك وهو الدرُّ مبتسِمٌ ... خمرٌ يزيدك فيه الشُّهدُ والعسلُ في فترة الحسنِ من لَحْظَيْك هل فتكتْ ... بواترُ الطرفِ أم من قدِّك الأسَلُ ومذْ تمادتْ بنا الآجالُ واختلفتْ ... عقائدُ القوم مَن للحبِّ قد جهلُوا لو يدرِ ما الصحُو مذ بانتْ ركائبكُمْ ... صريعُ جَفنٍ لأرباب الهوى ثَمِلُ أستودعُ الله قلباً سار مرتحِلاً ... بالخُرَّدِ الغيدِ ماذا السهلُ والجبلُ وأبيات الظَّريف هي هذه:

يا أقتلَ الناسِ ألحاظاً وأعذبَهُمْ ... رِيقاً متى كان فيك الصَّابُ والعسَلُ في صحنِ خدِّك وهي الشمس طالعةً ... وردٌ يَزيدك فيه الرَّاحُ والخجلُ إيمانُ حبِّك في قلبي تُجدِّده ... من خدِّك الكُتْبُ أو من لحظِك الرُّسُلُ لو اطَّلعتَ على قلبي وجدْتَ به ... من فعلِ عينيك جرحاً ليس ينْدمِلُ وله: أُسامِر عِشقاً من خلائِقه القتلُ ... وحيداً ولا عهدٌ هناك ولا مطلُ وأُصبِحُ ظمآناً وقد عقَر الظَّما ... فؤادِي ولا وَبْلٌ هناك ولا طَلُّ وكم أخصبتْ سُحبَ الأماني مطامعي ... مَجازاً ويرميها من الوابلِ المَحْلُ ورُبَّ عذولٍ فيه أشقَى مسامعِي ... بعذْلٍ فيالله ما صنَع العذْلُ أقول له والطرفُ يقذف مهجتِي ... دموعاً لها من كل ناحيةٍ هَطْلُ وبي من غرامٍ لو تجسَّم بعضُه ... ومرَّ بأهل الأرضِ لافْتتَن الكُلُّ ترقَّى إلى قلبي بكلِّ دقيقةٍ ... جميعُ هوَى العشَّاق وانْقطع الحبلُ السيد محمد الحصري نسيبٌ تناسب فيه المدح والنسيب، وحسيبٌ ما مثله في كرم الطباع حسيب. له همَّةٌ سابغة المطارف، وسيادةٌ موصولةُ التَّالد بالطَّارف. مُروَّق الأخلاق صافيها، مشمول الشمائل ضافيها. تكاد ترى وجهك في خصاله، ولا تُغبن إذا اشتريت بنوم العيون يوم وصاله. وله أدبٌ يطَّرد اطِّراد الغدير حفَّت به خضر الوشائع، وحديثٌ كأنه جنى النحل ممزوجاً بماء الوقائع. وبيني وبينه وِدٌّ صميم، طيِّب العرف والشَّميم. أستدعي الأمل لِلُقياه ولو في الأحلام، وأما اجتماعاتي معه فأكثرها تحية الرؤية والسلام. وقد وقفت له على شعرٍ قليل، فأثبتُّ منه ما هو لرأسِ المجد إكليل. فمنه قوله من قصيدة عارض بها قصيدة أبي الحسن علي الحصري، التي مطلعها: يا ليلُ الصبُّ متى غَدَهُ ... أقيامُ الساعةِ موعدُهُ ومطلع قصيدته: صبٌّ بالهجرِ تُهدِّدُه ... قد ذاب جوًى من يُنجِدهُ والسُّقم بَراهُ وأنحلَه ... فلِذا ملَّتْهُ عُوَّدُهُ سهرانُ الطرفِ له رقّتْ ... في الليل نجومٌ تُسهدُهُ وغدا يشكو من فرطِ جوًى ... يا ليلُ الصبُّ متى غَدُهُ حتى مَ بزَورٍ تُوعده ... أقيامُ الساعةِ موعدُهُ يهواهُ الصَّبُ فيشغلُه ... أسَفٌ للبيْن يردِّدُهُ قمرٌ في القلبِ منازلُه ... فعجيبٌ منه تباعدُهُ ريحانُ العارضِ فيه حوَى ... خطًّا ياقوتُ مجوِّدُهُ في الحسنِ فريدٌ بل ملكٌ ... فتعالَى الخالقُ موجِدُهُ طِفلٌ لحديث السحرِ غدَا ... عن بابل طرفٍ يُسنِدُهُ رَشأٌ اللَّيثُ بمُقلتِه ... يسطو للغاب يُقيِّدُهُ يرنو للحظِ فيحسبه ... للقتل دعاهُ مهنَّدُهُ بالله أُعيذُك يا أملِي ... من قتلِ شجٍ تتعمَّدُهُ وارْفُقْ بالقلبِ فإنَّ به ... جمراً قد زاد توقُّدُهُ واسمحْ بالغمضِ لعل بأنْ ... في النومِ خيالُك يُسعِدُهُ في قيْدِك قد أمسَى دَنِفاً ... هلاَّ في ذاك تُخلِّدُهُ وله من قصيدة مطلعها: خفقتْ على قلبي بنودُه ... رَشأ يعذِّبني صُدودُهْ ساجِي اللَّواحظِ أغْيَدٌ ... كالبدرِ يسْبي الظَّبيَ جِيدُهْ غصنُ النَّقا لما رآ ... هُ هوَى فكان لذا سجودُهْ إن ماس في حُلَل البهَا ... تزهو لطلعتِه برودُهْ لا غَرْوَ أن فاقَ الملا ... حَ فإنَّها طُرًّا جنودُهْ فاللَّحظُ يُطمع بالوعو ... دِ ولفظُه يبدو وعيدُهْ نصبت حبائِلُ أدمعي ... شركاً له فعسى يُصيدُهْ فاصْطاد روحِي بعد ما ... قد أوثقت قلبِي قيودُهْ

كيف النَّجاةُ وسهمُ نا ... ظرِه بأحشائِي نَفودُهْ يا فاتِكاً بعيونِهِ ... في مُهجتي وأنا شَهيدُهْ رِفقاً بحالِ متيَّمٍ ... للنجمِ ناظرُه رَصودُهْ واسْمح له في غَمْضةٍ ... فلعلَّ لو طيفٌ يُعودُهْ ما ضرَّ لو ناديتَ مَن ... في الحبِّ لا تُنسى عهودُهْ فاللومُ ليس منقِّصاً ... وجداً تحكَّم بل يَزيدُهْ وله من أخرى، مستهلُّها: فؤادٌ من الهِجران فيك مروَّعُ ... وقلبٌ من الأشواقِ والصدِّ موجَعُ ومقلةُ عينٍ كُحِّلت بنجِيعِها ... وفاضت على الخدَّين منهن أدمُعُ فمن لي بِكتمان المحبَّةَ بعدما ... أذاعتْ دموعي سرَّ ما كنتُ أُودِعُ أبيتُ وفي قلبي من الشَّوقِ لاعِجٌ ... وأغْدو وقَدْحُ الشوقِ في الصدرِ يلمَعُ فلا الوجدُ إن بانَ الأحبَّةُ مُقلِعٌ ... ولا الصبرُ إن دام التفرُّقُ ينفَعُ ففتِّشْ خليلي عن فؤادِي أوَّلاً ... أهلْ فيه للوجدِ المبرِّحِ موضِعُ لك اللهُ هل يُرْجَى شفائِي من الهوَى ... وهل بعد هذا للتواصُلِ مَطْمَعُ ومن أخرى مستهلُّها: يا أخا لبدرِ طلعةً وجبينَا ... ونظيرَ الغصون قدًّا ولِينَا مَن لنَا أن تَمُنَّ بالوصلِ يا مَن ... قد جعلتَ الصدودَ في الحبِّ دِينَا قد ضلَلْنا بليلِ فرعِك حتى ... ضاء صبحُ الجبين منه هُدِينَا نحن من مؤمنيِك في الحبِّ صِرنَا ... فأغمِد السيفَ عن قتالِك فِينَا ليس نخشَى حَدَّ الظُّبا من أُسودٍ ... بل ونخشَى من الظِّباء العيونَا وكفانا يا مُنيَةَ القلبِ أنَّا ... من سَقامٍ ومن نحولٍ خَفِينَا لو لقيتُ الحِمامَ ما كان يُدعَى ... بعظيمٍ ممَّا به قد لقِينَا فالأمانَ الأمانَ من طولِ إعرا ... ضِك عمَّن في الحبِّ أمسَى رهينَا والمحالُ المحالُ أنِّي أسْلو ... ك وأُذْني تُصغِي إلى العاذلينَا كيف أسْلو والوجدُ عندي عظيمٌ ... والهوى في الضُّلوعِ أمسَى دَفِينَا عبد الرحمن التاجي الخطيب البعلي أديبٌ سامي القدْر، متوقد كالقمر ليلة البدر. حسن المحاضرة بالأشْيا، وارف الظِّلال والأفْيا. يجري على طرف لسانه، ما ينطق الدهر باستحسانه. وهو أخٌ لك فيه الغرض، جوهر أخلاقه لا يشوبه عرض. وفيه لوْذَعِيّة تُحبِّبه، وبشاشة تزلِفه وتقرِّبه. وبيني وبينه صحبة ألحمتْها الآداب وسدَّتها، ومودَّة ربطتْها موافقة القلبين وشدَّتها. وهو اليوم طلق الشِّعر ثلاثا، ونقض غزله أنْكاثا. وتخلَّص لعلمٍ ينفعه في الحال والمآل، ويجدِّد له في الله كلَّ آنٍ ما تعوَّده من أماني وآمال. وقد أثبتُّ له من أوائل شعره كلَّ بديع الوصف، زارٍ على الجوهر في الشفافية والرَّصف. فمن ذلك قوله من قصيدة، مطلعها: تذكَّرتُ أيام الصبابةِ والصِّبا ... وعيشاً مضَى ما كان أحْلَى وأطْيبَا زماناً به كانت يدُ الدهرِ برهةً ... تُقمِّصني ثوبَ السعادةِ مُذْهَبَا سقى الله ذاك الشَّعبَ غيثَ مَدامِعي ... إذا الغيثُ يوماً عن مَغانيه قطَّبَا مغانٍ بها كان ائْتلافُ مسرَّتي ... وإقبالُ عيشي بالمسرةِ أخْصَبَا منازلُ فيها للبدورِ مطالعٌ ... على أن فيها للسحائِبِ مَسْحَبَا أقمتُ بها بين البشاشةِ والقِرَى ... وإن شئتَ قُل بين الأحبَّة والحِبَا وكم سيق من نُعْمَى إليَّ ونعمةٍ ... وكم قيل لي أهلاً وسهلاً ومرحبَا أبيتُ أجُرُّ الذيلَ تِيهاً ورفعةً ... ولا أرْتضي غير السِّماكيْن مضرِبَا منها: وليلةِ سعدٍ ما سعِدتُ بمثلها ... مدى الدهرِى في تلك المعاطرِ والرُّبَى

أعانِقُ للآمالِ قدًّا مهفْهَفاً ... وألثِمُ ثغراً للأمانيِّ أشنَبَا فذاك زمانٌ كلُّ عيشٍ به رِضًى ... وكلُّ نسيمٍ هبَّ من صَبْوتي صَبَا وكنتُ أرى أن الزمانَ مُساعدي ... فشِمتُ به برقَ الأمانيِّ خُلَّبَا فبَيْنا تراني باسمَ الثغرِ ضاحكا ... إذا بي أعَضُّ الرَّاحتين تلهُّبَا وأنشدني لنفسه قوله من قصيدة، أولها: بأبي أهيفٌ كظبيٍ غريرِ ... صال فينا بسيفِ لحظٍ شهيرِ ألف الصَّدَّ والنِّفارَ ولالا ... ما عهدناه بالألوفِ النَّفورِ أسرتني لحاظُه النُّجلُ عمداً ... يا لَثارَ المتيَّمِ المهجورِ أي ذنبٍ جنيتُ في الحبِّ حتى ... صرتُ في العاشقين دون نصيرِ عاذلي تركُك الملامةَ أحرى ... لو تحرَّيتَ كنت فيه عذيري لو تراه وقد أدار عذاراً ... مثل وشيِ الطِّراز فوق الحريرِ لعلمتَ الغرام إن كنت خِلْواً ... وعذرتَ العميد عُذرَ بصيرِ أو رشفتَ الزُّلال من ريقِ فيهِ ... رُحتَ منه بسكرةِ المخمورِ زار في غفلةِ الرَّقيب فأحيَى ... ميتَ هجرٍ بسعيه المشكورِ أوضح الفرقَ واستكنَّ بفرعٍ ... فأرانا الصَّباح في الدَّيجورِ بات سُكري منه بكأسِ حديثٍ ... طيبُ أنفاسه لها كالعبيرِ ريقُه العذبُ لي مدامٌ ونقلي ... لثمُ خدٍّ بوجهه المستنيرِ ثم وسَّدتُه اليمين وبتنا ... في نعيميْ مسرَّةٍ وحُبورِ ليلةٌ بالعفاف سرَّ بها الده ... رُ فكانت كغرَّةٍ في الدُّهورِ بدرُها رام أن ينِمَّ فأرجع ... ناه منَّا بنفثةِ المصدورِ هذه نفثة مصدور، تصدَّت لتصدية مرايا البدور. ونجومُ السماءِ منظومةُ السِّم ... طِ كنظم الجُمان فوق النحورِ وسهيلٌ يلوح طوراً فطوراً ... يتحامى كخائفٍ مذعورِ والثريَّا قد آذنت بانقضاءِ ال ... ليل تُومي لنا بكفِّ مشيرِ شاهين بن فتح الله إنسان طرف الفضل ومقلة مآقيه، وفارع هضبة البيان وراقي مراقيه. زرَّت على الفضل أطواقه، وما اهتاجت إلا للكمال أشواقه. وهو من لطف الطبع أرقُّ من الصهباء في روق الصِّبا، ومن سلامة الناحية أطوع من قدود القُضب لراحة الصَّبا. وإلى ما حواه من فكاهة يتسلى بها المهموم، ومحادثةٍ يجعلها النديم عوض المشروب والمشموم. وشعرٍ كحلْي الخَود حواشيه تأتلف، ونثر كوَشيِ الروض رقومه تختلف. ولما حللت القاهرة، أتحفتني الأيام بطلعته الزاهرة. فنعتَني بِرَّه عفواً، وسقاني كأس وداده صفواً. فقرَّت برؤيته عيناي، وأغناني بودِّه عن أهلي ومغناي. فأنا وإياه بصدق العشرة نتَّسم، وبقدر الحب وحقِّ هواه نقتسم. وقد أهدى إلي قصيدة أتحفني بها، وهي قوله: خليليَّ ما أحلى الوصالَ بلا هجرِ ... وما منه أشهى للمحبين بالحصرِ نعمتُ به دهراً برَيعان نشأتي ... وذلك من أحظى الحِبَى ليد الدهرِ وبي أغيدٌ حلوُ الشمائلِ وجهُه ... يري البدرَ حسناً وهو في صورة البدرِ أحاديثُه كالشُّهدِ تحلو فكاهةً ... إذا ما احتساها السمعُ أغنتْ عن الخمرِ يُشعشِع فحواها ليَ الكأسُ لذَّةً ... بنكهةٍ أزكى ما يكون من العطرِ كأن نسيمَ الروض بات يعلُّه ... فأهدى لنا من طيبِه طيِّبَ النشرِ فكرِّر بذكر الكأسِ لي دَرّ دَرُّه ... تعلَّة قلبٍ من جوى الحب في جمرِ وإن يحكِ ريحَ الحب لطفاً فعاطني ... وإن لم يسوِّغه الغناءُ على السكرِ فيا بأبِي منه الدلالُ معشَّقاً ... ويا حسنَ ذاك المعطفِ اللَّيِّن الهصرِ

رنا بقوامٍ كالقضيبِ ومُقلةٍ ... يجول بهُدبيها غرارٌ من السحرِ وماس وقد حار الوشاحُ بخصره ... رَشاً لم يُطق حملَ الوشاحِ على الخصرِ إليه تَوالاني هواه فمذْ رأى ... ولوعِي به غطَّى التَّعارفَ بالنُّكرِ وأغفى وقد ولَّى الغرامَ مقاتِلي ... وولَّى ولم يعبأ بلومٍ ولا عذرِ فقلتُ وقد ضاقتْ عليَّ وسائلي ... أراجِعُه الطُّولَى بفكِّ عَنا أسري حنانيك لا تسمع مقالا لكاشحٍ ... بتنميقِه يُغوِي لمن بالجفا يُغري على أنني رُحماك لا أحملُ الجفا ... وقد نفِدت مني الذخائرُ من صبري وجسميَ منهوكٌ ولبِّيَ ذاهلٌ ... وقلبي أسيرٌ آهِ في قبضة الهجرِ وعنِّي نأى زهوُ الشباب وليتَه ... يعود ويثني لي الأعنَّة بالبشرِ وهبْ أنني أثني إلى الودِّ عَزمةً ... فأين زمانُ اليسرِ من زمن العسرِ فيا سائلي أين الزمانُ وطيبُه ... ألا فاسألِ الأيامَ تنبيك بالخُبرِ لقد عوَّضتني الشِّيبَ عنه وإنه ... يقال وقارٌ لو يقال بلا وقرِ فمن بعده لم يصفُ عيشي ولم أمِلْ ... إلى لذةٍ هيهات تهتِف في الفكرِ وجانبتُ أنحاء القريضِ وسوحَه ... بحيث أرى في سوقِه النَّضَّ كالغَرِّ وحتى استماعي للقريضِ سئمتُه ... كأن سيمَ سعرُ الشعرِ في الوزن بالشَّعرِ وأوحشت الآداب عني فخلتُها ... كمعنًى لمغنًى لاح كالآلِ في قفرِ فحرَّك طبعي بعد ما كان جامداً ... على ما امتطاه من كلالٍ ومن فترِ وآنس من طورِ المعالي مُخاطباً ... تجلَّى بأنواع المعاني على فكري مشيراً إلى مولًى سجايا كماله ... تهلُّ سحاباً بالفضلِ والبرِّ ويُدعى بحقٍّ بالأمين وإسمُه ... محمدُ من نسلِ الكرام بلا نُكرِ ألا وهو مولانا المحبِّيّ إنه ... رقيق حواشي الطبع ضخم ذُرى الفخرِ ومن فتيةٍ سادوا وشادوا إلى العلى ... دعائمَ مجدٍ نوَّرت عملَ الفجرِ وهم في سماء السُّؤدد الشامخ الذُّرى ... سراةٌ سرَوْا حدًّا له النجمُ لا يسرِي وإنك يا مولايَ جاوزتَ حدَّهم ... إلى مفخرٍ فوق السَّماكين والنَّسرِ وحزتَ مجالا في المعارفِ واسعاً ... وعلماً غزيراً جلَّ مع سعةِ الصدرِ وتهذيبَ أخلاقٍ وحسبُك نسبةً ... إلى الشرفِ المُدلي إلى المصطفى الطُّهرِ فاًن تبدو شمسُ الأُفق قلتُ بأنَّها ... مُحيَّاك لا أغْلو وأنت بها تُزرِي وشِعرُك أحلى في النفوسِ من المُنَى ... وأفْعَلُ بالألبابِ من قرقَفٍ بِكْرِ وقد نِلتُ يا مولايَ أسْنَى مآثِرٍ ... تجِلُّ عن التَّعداد في الفضل بالحَصرِ فمنها التآليفُ الحِسان التي غدتْ ... بما قد حوتْ كالدُّررِّ في لبَّةِ الدهرِ وناهِيك بالتاريخ فضْلاً فإنه ... حَرِيٌّ بكتبِ التِّبرِ فضلاً عن الحِبرِ لما قد حوَى أبحاثَ علمٍ أنيقةً ... تُميطُ شحوب الشكِّ كاليُسرِ للعسرِ وتقريرَ أفهامٍ بديعٌ بيانُها ... معانِيه أسرارَ البلاغة تسْتقْرِي وتحريرَ منقولٍ وضبطَ وقائِعٍ ... يحقِّق منها ما اسْتُريبَ من الأمرِ كتابٌ لأهل الفضلِ زُخْرُفُ روضةٍ ... يُسيمون منها في معانٍ كما الزَّهرِ

نَهجْتَ به في الفضلِ أبهجَ منهجٍ ... تدوم به حيًّا إلى الحشرِ والنشرِ به ذِكرُ من يسْتوجبُ الذِّكرَ في الورَى ... وإحياءُ موْتى للفضائلِ بالذِكرِ به يُهتدَى للغابرين ومَن مضَى ... كما يعتدِي السَّارون بالأنجُمِ الزُّهرِ كأنَّ مزايا ذكْرِهم في طُروسِه ... متى تُتْلَ جناتٌ جداولُها تجرِي لك الفضلُ فيما صُغْتَ من دُرِّ لفظِه ... نسيقَ معانٍ خِلْنَ ضرباً من السحرِ فجازاك ربُّ العالَمينِ بفضْلِه ... جزاءً يُنيل الأجرَ مع رِفعةِ القَدْرِ وأنت وأيمُ اللهِ مُفردُ عصرِنا ... وحامِي حِمَى الآداب في النظمِ والنثرِ تتيه بك الأيَّامُ قلَّدتَ عُطْلَها ... وقلَّدت منها الجِيدَ من فضلِك الوَفْرِ ومنك جَلاها من سَنا البرقِ شارقٌ ... وصَاكَ بها من عرفِك العنبرُ الشِّحرِي وهاك أيا مولاي منِّي مدائِحاً ... سهِرتُ بها والنجمُ يسبِرُ من فكرِي وما هي إلاَّ الروضُ حيَّاك عَرْفُه ... وقد باكرَتْه نَوْءُ فضلِك بالقَطرِ ومع ذاك لم أقدُرك حقَّك مِدحةً ... ولكنه جُهدُ الأناشيدِ من شعرِي وإن يكُ قد حازَ انْطِباعاً فإنه ... لمكتسِبَنْه من خلائِقك الغُرِّ أُقِرُّ بعجْزِي ليس شعرِي مُكافِياً ... فَصاحَتَك العظمى ولو صِيغ من تِبْرِ على أنه ما اسطعْتُه وأعوذ من ... مَلامةِ تَقصيرِي بعفوِك عن وِزْرِي فكتبت إليه عنها جواباً، لا يزال سمعي يرشف من راح أدبه أكوابا: ألا ليت شعرِي والمُنى لَذَّةُ العمرِ ... متى يرجع الطيرُ القديم إلى الوِكرِ نعم في مِطال الدهرِ لي وعدُ أوْبةٍ ... فمن لي بقلبٍ فيه يقْوى على الصبرِ أهُمُّ بأمرِ الحزمِ لو أستطيعه ... وحكمُ القضا فيما يناقِضه يجْرِي وما حيلةُ الظمآنِ والماءُ دونه ... حِجابٌ من البِيضِ الصَّوارمِ والسُّمْرِ وفي ذِمَّة الأيامِ ما صنَع النَّوى ... بجسمِي وما تُبدِي المدامعُ من أمرِي وعيشٍ كأخلاقِ الكِرام قطعْتُه ... وصَحبِي بسفحِ الصَّالحيَّة والجسرِ يشِفُّ ضُحاه عن طُلاً من مُجرَّدٍ ... نقيٍّ وتفتُّر العشيَّةُ عن ثغرِ وللطَّير تَهْدارٌ بأيكة روضةٍ ... إذا سكَت الشُّحرور جاوَبه القُمرِي به من لُجَين الماءِ ينْساب جدولٌ ... ترقرَقَ في آصالِه ذائبُ التِّبْرِ يهيِّمُنا في جنةِ الخلدِ وصفُه ... ويُملي علينا ما جهلنَا من السِّرِّ ودارتْ بكاساتِ المُدام سُقاتُنا ... كما دارتِ الأفلاكُ بالأنْجُم الزُّهْرِ وما أسْكرتْنا بعد صحوٍ وإنما ... أعادتْ لنا في الحب سكراً على سُكْرِ وأغْيَدَ إمَّا قابلَ البدرَ وجهُه ... أرتْك به مرآتُه صورةَ البدرِ إذا قراُوا والليلِ في وصفِ فرعِهِ ... قرأتُ لهم في معرِض الفرقِ والفجرِ تجمَّع حسنُ الخَلق فيه بأسرِه ... ففرَّقَ ما للعاشقين من الصبرِ بمُنْعطفٍ لولا العيونُ تحُوطه ... لضلَّ به الهمْيانُ عن دَورةِ الخصرِ يكاد وِشاحاه يطيران خِفَّةً ... ولولاهما من رِقَّةٍ كاد أن يجرِي وحُقِّ عقيقٍ من فمٍ شِبْهِ خاتَمٍ ... به ختم اللهُ الشِّفاه على دُرِّ يصولُ بلحظٍ للمنايا مجرَّدٍ ... رهيبِ الشَّبَا يخْتال في طلبِ الشَّرِّ

ترى مَن غدا في السِّحرِ أستاذَ طرفِهِ ... فهاروتُ لم يقدِر على ذلك السِّحرِ يضيقُ وعاءُ الدهرِ عنه جلالةً ... ومن عجبٍ يحويه مع ضِيقِه صدرِي وما احترتُ حتى اخترتُ حبِّيهِ مذهبي ... ومدحُ ابن فتحِ الله فردِ الورَى ذُخرِي فتًى قد حمدتُ العيشَ مذ صحِبته ... وسافهتُ حظِّي من خلائقِهِ الغُرِّ أحيِّي إذا حيَّيتُه الروضُ ناضِرا ... وأشتمُّ عرفَ النشقِ من زهرةِ النهرِ رطيبُ مهزِّ الجودِ مورِقُ عوده ... وأبلجُ وجهِ العرفِ مستوضَحَ البشرِ إذا ما سقَى غصنَ اليراعةِ نِقسُه ... جنينَا ثِمارَ الفضلِ في الورقِ النَّضرِ له الشِّيمُ الشُّمُّ التي لا ينالُها ... فتًى علَّق الأذيالَ بالأنجُمِ الزهرِ تُبارينَ أحداثَ الزمانِ فتنْبرِي ... كما انْتفضَ العصفورُ من صولة الصقرِ فتًى يتسامَى بالتَّواضعِ جاهداً ... ويعجبُ من أهلِ المخيلةِ والكبرِ عليه من المجدِ المؤثَّلِ حُلَّةٌ ... تجرُّ ذيولَ الأريحيَّةِ والفخرِ وفيه خِصالٌ قَّصر الحمدُ دونها ... وأبلغُ شكرٍ يُستفادُ لها شكرِي وإن أيادِيه ثنتْ وجهَ همَّتي ... إلى الخُلقِ الفضفاضِ والنَّائلِ الغمرِ ولي فيه من صدقِ العناية لحظةٌ ... ترينِي ابْتسامَ الحظِّ عن شنَبِ الثَّغرِ فشكراً لدهرٍ جادَ لي بلقائِهِ ... فنوَّه لي من حيث أدرِي ولا أدرِي وسقياً لأرضٍ ألَّفتْنا وحضرةٍ ... بها ضمَّنا كالعقدِ أستاذُنا البكرِي علوْنا على النِّسرين تحت جناحِه ... فنحنُ إلى ما فوقَ أفقيهُما نسرِي وما زالَ يكسُونا شمائِل غضَّةً ... يقعْنَ مقامَ النُّورِ في المنبتِ النضرِ نفدِّيه بالخمسِ الحواسِ وإنَّنا ... لنعقِد أن عدَّتْ عُلاه على العشرِ فحيَّى على رغم الكواكِبِ غرَّةً ... يرينا سناها كيفَ شعشعةُ البدرِ عليها من النُّورِ الإلهي مِسحةٌ ... بها تنْجلي الجُّلى ويُمحى دُجَى الإصرِ أمولاي يا شاهينُ لا زلْت دائماً ... مجدًّا إلى قنصِ المفاخر بالبرِّ فكم لك من صيْداتِ فضلٍ وسؤددٍ ... يُرَى دونها وقعُ المهنَّدةِ البُترِ عرفْتُكَ من بين الأنامِ فلم أكنْ ... لغيرك أطْوِي الصدرَ إلا على نُكرِ بعثْتَ إليَّ الرَّوحَ في لذَّةِ المُنى ... وطيبَ التَّهاني في بُلهْنِيَةِ العمرِ فرائِد آدابٍ نظمْتَ عقودَها ... مُفضَّلة تمتاز في الطِّرس كالشَّذرِ قوافٍ كأنفاسِ الخُزامَى صَقيلةٌ ... بريح النُّعامى تمترِي عَنْبر الشِّحرِ فلا زلت تُهدِي مثلَها من قصائدٍ ... بها الشعرُ يبقى دهرَه نافِق السِّعرِ ودُونكها عذراءَ لا عذرَ عندها ... لمن ليس يصْبو والهوى عنده عُذري تمازَج معناها ورائِقُ لفظِها ... كما مزجوا ماءَ الغمامة والخمرِ فإلاَّ تكُنْه أو يكُنْها فإنه ... وإيَّاها سِيَّانِ في سُرعة السكرِ وسامحْ فخطبُ الدهر منِّي لم يدعْ ... مُعيناً على خطبٍ لقيتُ ولا فكرِي ومثليَ إذ أهداك نظماً يُجيده ... كمُهدي الضِّيا للبدرِ والدُّرِّ للبحرِ فأنا إذا صُغتُ القوافي أريْت من ... يُجاريك فيها صنعةً أنجُمَ الظُهرِ بقِيت على الأيَّامِ خيرَ مؤمَّلٍ ... برأْيك أسْتعدي على نُوَبِ الدهرِ ولي فيك مدحٌ ليس يهرَم نظمُهُ ... ولو صارت الأهرامُ كالعِهْنِ في مصرِ وأنشدني من لفظه لنفسه، من قصيدة، مطلعها:

أما والْتفاتِ الجِيد من مُشبِهِ الدُّمَى ... وثغرٍ حوَى دراً بدِيعا منظَّمَا وأوْطفِ أجفانٍ من السحرِ كُحِّلتْ ... تغادر من قد غازَلْته متيَّمَا تسوق المعَنَّى للصبابةِ والهوَى ... وكم من وَلوعٍ فات فيهنَّ مُغرَمَا حليفَ جوًى طِّوْعَ الغرامِ تقودُه ... دواعي التَّصابي ناحلَ الجسمِ مُسقَمَا مُبلبَل بالٍ في محبةِ أغيدٍ ... بديعِ جمالٍ كلَّ جورٍ تعلَّمَا يطلُّ دمَ العشاق جَوْراً لأجل أن ... يضرِّج منه أبيض الخدِّ بالدمَا رنا كالطُّلا والغصنِ قَدًّا وناظِراً ... يسدِّد سهماً والرُّديْنيِّ قُوِّمَا وحاوَلَ أن يرمِي فؤادِي وما درَى ... بأنَّ فؤادِي لا يُبالي بما رَمَى لأنَّيَ عن طُرْق الهوَى مِلتُ جانِبا ... وجانَبْتُ لهواً للتَّصابي ميمَّمَا وهل بعد ما لاحَ الصباحُ بلمَّتي ... وفي ليلِ غيِّي فجرُ رشدِي تبسَّمَا يروق بأنِّي يزدهِيني تعَشُّقٌ ... ومِلتُ لحبٍ والشبابُ تصرَّمَا فآهاً لأيام الشَّبابِ ولم أزلْ ... على فقدِهِ ذا حُرقةٍ متألِّمَا تبدَّلتُ عن طيب اغتنامِي لصحَّتي ... وعن لذَّتي فيها من السُّقمِ مَغْرمَا وقاسيتُ ممَّا بي ألمَّ من الضَّنى ... ومن فادِحِ الخطبِ الذي جلَّ صِلْدِمَا وأحمَدُ ربِّي حيث أبرأنِي الضَّنى ... وبي من أليمِ الكربِ نجيَّ وسلَّمَا فما ظبيةٌ قد عاقها عن شُويْدنٍ ... لها شرَكٌ من صائدٍ فوقها ارْتمَى وأقبل مسروراً إليها ورام أن ... يشُدَّ وثاقَيْها فأبصَر أرقمَا يحاوله كاللَّيثِ من كلِّ وجهةٍ ... يصاوِله أيَّانَ سار ويَمَّمَا فأُذعِر منه حيث أُرعِد خيفَةً ... وأفْلتها من خَشيةِ الصِّلِّ مُرغَمَا فراحتْ كريحٍ في الفلا نحو سِربِها ... تُزيلُ غبارَ الموتِ عنها وعَنْدمَا أتتْ خِشفَها أحْنتْ عليه بكلِّها ... وقد أرضعتْهُ بعد أن شفًّه الظَّمَا بأفرحَ منِّي يوم بُرْئِي من الضَّنا ... وجئتُ إلى مولاي فيه مسلِّمَا ومُتِّعتُ بعد اليأسِ منه بنظرةٍ ... له ظلْتُ فيها بالسرور منَعَّمَا ولي معه مجالس نمتحن فيها الأفكار، ونزُفُّ عرائس الأدب الأبكار. من محاضرات توصِّل الأنس إلى سواد القلب وصميمه، ومحاورات تُميط الهمَّ عن النفس وقد ألحَّ في تصميمه. وأغلبها تجري في مجلس الأستاذ زين العابدين، منتدى روائع الطرائف، ومنتَمى بدائع الظرائف. ومقصِد الأماني والأطماع، وصيقل النَّواظر والأسماع. حيث شمل الفضل في انتظام، والحسن كلُّه مجتمعٌ جمع نظام. وهو - أبقى الله مهجته، وحرس على الأيام بهجته - يقيد خطى الأبصار بالاقتصار عليه، ويأخذ بأزِمَّة القلوب بالانحياز إليه. ونحن نرى لقاءه فائدةً نكتسبها، ومحبته قربةً عند الله نحتسبها. فنفيض بإقباله فيض الأنهار، ويفوح ثناؤنا في ناديه فوحة الأزهار. فما دار بيننا ذكر التَّصحيف فتعرَّفنا مزاياه، ثم انتهت بنا النَّوبة إلى نوعٍ قريب منه يعرف بالمُعاياة. فقال المترجم شاهين: المتنبي. فقلت له: تريد تبنا هنياً لمن يتب. ثم قلت له: أتينا نتباهى بكلامك. وأردت: أنت يا شاهين كلُّ أمل. فقال الأستاذ وقد أحضر عنب: العنب ثقيلٌ أكلُه. يريد: العشق بلاء كلُّه. فقلت له: العين تقتل إن عَدَت. وأردت: العشق بلاء يعذب. وخاطبته بقولي: أبداً أبث ثناي نديّ أغلا نثر ينفث. وأردت: يبقى زين العابدين أستاذنا. وفيه مع التصحيف القلب، وهذا أصعب من الأول. وذكروا منه: خيل مهلل أدهشتنا. وتصحيفه مع قلبه، يؤدي إلى قولنا: أنت شهِد اللهُ مليح.

والتصحيف كما ذكروا أن تصحِّف كلَّ حرفٍ بما يماثله، والثلاث السِّنات التي في السين والشين تُصحَّف بثلاث حروف مماثلتها، كالباء والتاء والثاء والنون والياء، وتصحَّف الكاف باللام. والأحرف التي لا تصحَّف أربعة، الألف، والميم، والهاء، والواو. وأول من صحَّف علي رضي الله عنه، في قوله: كلُّ عِنَبٍ الكَرْمُ يُعطي ... هِ إلاَّ عنب الذِّئبِ كل عيبٍ الكَرَمُ يُغطِّي ... هِ إلاَّ عيب الذنبِ ذكره ابن هشام في موقد الأذهان، وموقظ الوسنان. ومن التصاحيف الحسنة: نصَحت فخنتني: تصحيف حسن. السمسم سرَقه عليٌّ وحياتِك: الشمس مشرقةٌ على وجَناتك. المحتسب طرح سبايِك: المحب ينتظر حسناتك. ومما وقع منه بديهة، أن المعتمد بن عبَّاد سايرَ ابن عمار وزيره، في بعض أرجاء إشبيليَّة، فلقيتهما امرأة ذات حسن مفرط، فكشفت عن وجهها وتكلَّمت بكلام لا يقتضيه الحياء، وكان ذلك بموضع الجبَّاسين الذين يصنعون الجبس، والجيَّارين الذين يصنعون الجير. فالتفت المعتمد إلى موضع الجيَّارين، وقال: يا ابن عمار، الجيَّارين. ففهم مراده، وقال في الحال: يا مولانا، والجبَّاسين. فلم يفهم الحاضرون المراد، وتحيَّروا. فقال له المعتمد: لا تبعها منهم إلا غالية. وتفسيرها أن ابن عبَّاد صحَّف الحيا زَيْن بقوله: الجيَّارين، إشارة إلى أن تلك المرأة لو كان لها حياء، لازدانت. فقال له: والجبَّاسين. وتصحيفه: والخَنَا شَيْن. أي: وهي وإن كانت جميلة بديعة الحسن، لكن الخَنَا شَيْن. وهذا شاذ لا يُلحق. وذكر في اليتيمة أن قَسْورة بن محمد كان من أولع الناس بالتَّصحيفات، فقال له أبو أحمد بن أبي بكر الكاتب: إن أخرجت مُصحَّفاً أسألك عنه، وصلتك بمائة دينار. فقال له: أرجو أن لا أقصر عن إخراجه. فقال أبو أحمد: في تنور هينم حمد. فوقف حمار قسورة، وتبلد طبعه. فقال له: إن رأى الشيخ أن يمهلني يوماً فعل. فقال أمهلتك سنة. فحال الحول ولم يخرجه. فقال له أبو أحمد: هو اسمك، قسورة بن محمد. فازداد خجله وأسفه. انتهى. فانظر تبلد طبعه العراقي مع توقد ذلك الطبع الأندلسي، فمثل هذا مما يقضي لأهل الأندلس بكمال الفِطنة والتيقُّظ. والمعجز الباهر لهم، ما حكاه بعضهم، أن ملكاً من ملوك طلب من وزيره أن يملِّكه ابنته، وكانت جميلة، فأبى، فحبسه ثم أطلقه بعد مدة، واستدناه إليه، وساءله عن حاله. فقال: أندلسي. يعني: أن ذُلِّيَ بيِّن. فقال له: أندلسي. يعني: أبذل شيء. فقال: أندلسي. يعني: ابذُل بيتي. فقال له الملك: أندلسي. يعني: أنذَلُ شيء. فقال له: أندلسي. يعني: أبذُل بنتي. فقال الملك: أندلسي. يعني: أُبدِل نيَّتي. فقال: أندلسي. يعني: ايدك ينبى. ومثله في سرعة البديهة قول بلنْسي من أهل الأندلس، وقد سئل عن بلده، فقال: أربعة أشهر. يريد: ثلث سنة، وهو تصحيف بَلَنْسِية. انتهى. وأما المعاياة، فقد ذكرت منها قولي: حسبك حسنك عزًّا غَزَّا قلوبنا فلوَيْنا الأعنَّة إلاَّ عَنْه. وقد ذكروا منها ما وقَّع بعض الخلفاء إلى صاحب له، شكا الرعية من ظلمه: غرَّك عزُّك فصار قُصار ذلك ذلَّك فاخش فاحش فعلك فعلَّك تهدا بهذا. ومنه: وقد وفد وصيف وصنَّف رجاله رجَّالة يريد يزيد الحائن الخائن الجائر الحائر فالتَقوا فالتَفُّوا فيالَ قِتالِ قَوْم قَوَّم حربهم حزبهم. ومنه: يا بنيَّ نابني أمرٌ مجدود محذور، عليه علَّته تقرع تُفزع قلبي فلُبِّي والِهٌ وإله أحمدَ أحمدُ. أخوه مصطفى طلع بدره تماما، وانسجم لفظه غَماما. فأضاءت معاليه وأشرقت وأُغِصَّت حاسديه وأُشرقت. ولقد لقيته بمكة جوار الرُّكن والحطيم، وهو مفحم قسٍّ وقيس بن الخطيم. وأنفاسه ثمَّة طيبة النفح، وذكره المعنى من العقيق والسفح. يراح إليه ويُغدى، وهو يتوسَّع ترفها وعيشا رغدا. فكنت له مالكاً، وكان هو لي عقيلاً، أرتاد له معرسا فيهيئ لي مقيلا. وكانت عشرتي معه فرشها المحامد، وخدمها الشاكر والحاسد. شكراً يملأ سامعتي الغوْر والنَّجد، وحمداً يهزُّ عطفي السُّؤدد والمجد. وذكر لي من حديث فراقه لمحلِّه، وتنكبه لشدِّ مطيَّته ورحله. أنه كان في حجر خاله وهو دون التَّمييز، وقدَّر الله له المهاجرة فأصحبه في كنفه الحريز.

ثم رحل في شبابه واغترب، ونقَّب في الحجاز واليمن للتَّحصيل واضطرب. حتى استقرَّ بالحرم المكِّي فامتزج بقطانه، واشتغل بذخائر فضائلهم عن أهله وأوطانه. وله عندهم منزلة به تليق، ومرتبة هو بها خليق. وقد جمع تاريخاً سال فيه من طبعه معينه، وطلعت في قصور طروسِه أبكاره وعينه. وكنت سمعت به ولم أظفر منه بالعيان، فلمَّا رأيته اتَّضح لي في حينه صدق البيان. ورأيت جمعاً يجمع من دبَّ ودرج، حتى يقول من رآه: حدِّث عن البحر ولا حرج. ما شِيت من ترتيب غريب، وتطريب من بنان أريب. إلى جزالة مشربة بحلاوة، وسهولة متدفِّقة بطلاوة. إذا قال لم يترك مقالاً لقائل، ونفسه فيه طويل إلا أنه لا يخلو من طائل. وهو بسبب سعة اطِّلاعه، وشدة قيامه بالطريقة واضطلاعه. لا يقتصر على ما ينبغي، ولا يمنع من الذكر المبتغي. وبالجملة، فشكر الله عليه سعيه، وتولَّى بعض عناية حراسته ورعيه. وكان أوقفني على مجاميع بخطِّه، فاقتطفت منها ما حلا وطاب، وملأت من بدائع ذخائرها النَّفسية الوِطاب. فمما تناولته من شعره، قوله: حدِّثا عن صبابَتي واصْطِبارِي ... وارْوِيا لوعَتي العذارِ وخذا عنِّي الهوى فحديثي ... صحَّ فيه وسُلْسِلتْ أخباري يا رفيقيَّ من زمان التَّصابي ... والتَّصابي مَظِنَّةُ الادِّكارِ علِّلاني بالخَنْدريس لَعَلِّي ... أرشُق القلبَ بارْتشاف العُقارِ واسْقِياني وروِّحاني برَوْحٍ ... كالعقيق المُذابِ وَسْط النُّضارِ من يَدَيْ شادنٍ بنفسي أفْدي ... هِ مليحاً خلعتُ فيه عِذارِي مائِسِ القدِّ أحمرِ الخدِّ أحْوى ... كاملِ الحسنِ أهيَفٍ مِعطارِ إن تبدَّى في ظلمةِ الليل أبْدَى ... من سَناه لنا ضياءَ النَّهارِ وإذا مارَنا بطرفٍ خفِيٍّ ... سلبتْ مُقلتاه منِّي قَرارِي وإذا زارَني على غيرِ وعدٍ ... عبقتْ ريحُه إلى كلِّ دارِ كم أُدارِي العَذولَ والوجدُ قاضٍ ... بافْتِضاحِي في حُبِّه واشْتِهارِي ساحِرِي باللِّحاظِ ماذا عليه ... لو يُوافِي مُضْناه في الأسْحارِ وكتبت إليه وقد توجَّه إلى الطائف، وتخلفت أنا بمكة: ليس عندِي ما أرْتَجِي من زَمانِي ... غيرَ لُقياك يا أجلَّ الأمانِي فعلى كل حالةٍ أنت قصدِي ... ومُنايَ وأنت نورُ عَيانِي ى أرى العمرَ بعد بُعدِك إلا ... حَسَراتٍ قد أرْدفتْ أحزانِي غيرَ أنِّي أعلِّل القلبَ والفكْ ... رَ بذكْرِي ثَناك في كلِّ آنِ لا لأنِّي أنْساك أُكثِر ذكْرا ... كَ ولكن بذاك يجرِي لِسانِي ثم دعاني الشوق إلى ذلك الوادي البهيج، والمتنزَّه الذي يأخذ على البصر بمنظره الرَّهيج. فشمَّرت لقصده عن ساق الهمَّة، وجعلت رؤيته عندي من الأمور المهمَّة. فخرجت من مكة وطرفي من الدمع بالقذى ملآن، إلا أني أذكر مياه ذلك الوادي فلا أبيتُ إلا بغُلَّة ظمآن. وكان عرض لي في الطريق نفرةٌ من لصٍّ طائف، فكدت أن أصير أتْيَهَ من فقيد ثقيف بالطائف. ثم سلَّم الله فحللت بطنَ وَجّ، ونزلت بوادٍ تزوره السَّرَّاء من كل فَجّ. وكان مُناخي بالسَّلامة أجمل مواضعه وأبهاها، وأحبِّها إلى النفوس وأشهاها. لإحلاله محلَّ النور من الإنسان، وإشرافه على فضاء يبعد فيه النَّظر إذا وقف للاستحسان. ما بين غصون مُلتفَّة، ومياهٍ بجدرانه مُحتفَّة. ونادٍ يفوح أرجُه، ووادٍ يلوح منعرجُه. أتيتُه من بعد ما كاد الرَّدى ... يوردني مواردَ النَّدامهْ فالحمدُ لله على رؤيتهِ ... والحمدُ لله على السلامهْ ولقيت به المترجم وقد وطَّأ فيه للرفاهية مضجعاً، ومهَّد للعيش النَّضر مهجعاً. وثمَّة جماعة من الأودَّاء أكسبهم الله محبة كل فؤاد، وزرع لهم المودة في ملأٍ به ألف واد. فانحزت في غمارهم، وتمتعت حيناً بتحف أسمارهم.

وأذكر يوماً مرَّ لي معهم في روض اخضرَّت أشجاره، وتنفَّست عن المسك أسماره. مهزَّة نبته ريَّانة، وصبوات سحبه حنَّانة. ماؤه يبوح صفاؤه بأسراره، وتلوح حصباه في قراره. ونحن ننفض أعطافنا أريحيَّةٍ، ونتهادى رياحينه تحيَّة. وبيننا حديث مستعذب، يهزُّ العطف اهتزاز العذب. فقلت أصفه: لله يومُ الطائفِ البهجِ الذي ... نِلنا به أسنى منًى وأماني مع فتيةٍ غُرِّ الوجوه حديثُهم ... مسترقصٌ لمعاطف الأغصانِ رأتِ انتظامَ كلامهم أزهارُه ... فتناثرتْ في ساحة البستانِ وكذا الدَّراري لم يرُقها نظمها ... فرمتْ بأنفسها إلى الغُدرانِ ولما فارقتهم وجئت إلى مكة على طريق كرى، وهو الذي يقول فيه شاعرهم: عُجْ عن كرى فهو مزيجُ الكرى ... والنفسُ منه نفساً تخرجُ وفي الهَدى ضد الهُدى مساكنٌ ... يوشك من يسلُكه يخرجُ كتبت إلى المترجم: حالي بعد فراق أخي حالُ من فقد الروح، وأضحى منازع الجسم المطروح. وشوقي شوق الظمآن، لماء الغُدران. والساري في الظلام، لتبلُّج البدر التَّمام. وأما حديث سفرتي التي أنكت، وأذكت حرَّ هجيرها فأبكت. فمن حين ودَّعت، أودعت القلب ما أودعت. لم تغلط بي راحةٌ إلا إلى الهَدى، ومنها بان عني الرشد وأخوه الهُدى. فعلوت ذروةً أرتني نجوم السماء مظهرة، وهبطت نجوةً كشفت لي تخوم الأرض مظهرة. فترجَّلت هيبة وذعرا، وسلكت مسلك ما رأيت مثله وعرا. والرُّفقة كلٌّ منهم في واد، وبرؤيتهم قرناء احتاجوا إلى قوَّاد. لكنَّ منهم من تاه وضلَّ، وأدركه الإعياء فسئم الحياة وملَّ. ومنهم من أخذته الحيرة، واستولت عليه من أحلامه في كراه الظَّهيرة. ومنهم، وهم الكثير، مؤتمون موجوعون، زمرتهم: " إن لله وإنا إليه راجعون ". وأما أنا، فلو رأيتني وعصايَ لقوس قدِّي وتر، وقد جئت من كل نهزة للتَّهلكة على قدر. وأيست من السَّلامة، وعدت على نفسي بالملامة. رأيت شيخاً وقف على ثنيَّة الوداع، وسلَّم نفسه للحتف إمَّا بالطمأنينة أو بالخداع. ولم يبق منِّي إلا نفسٌ خافت، وجسم من النصب هافت. فما تخطَّت في التَّخطِّي لي قدم، إلا وأخطأت خطأ كلُّه ندم، وعثرت عثرةً غصَّانةً بدم. حتى لطف الله تعالى بلطفه، وأولاني فريد رأفته وعطفه. فرأيت المحطَّة وأحسبني بها حالما، وما تحقَّقت البقاء، علم الله، حتى وصلتها سالما. فقعدت أنفض غبار الموت، وأتفقد قواي فأرى قد فات فيها الفوت. سوى بقيةٍ لم أعدم بها فضل الأقوات، وأحسب لأجلها من أحياء الأموات. فلم يستقر قرارنا حتى شدُّوا من ذلك المكان، فانْحلَّ من عقد عزمي ما كان في حيِّز الإمكان. ثم رحَّلنا العِيس، على ذلك الرأي التَّعيس. وسرنا إلى أن وصلنا إلى شداد، ونحن نطلب من الله تعالى أن يمدَّنا منه بأمداد. فما نزلْنا حتَّى ركِبنا ... والحالُ باقٍ وفيه شدَّهْ فوقفت ممتثلاً، وأنشدت قولي متمثِّلا: شدُّوا فحلُّوا فؤادِي ... وكثرةُ الشَّدِّ تُرخِي فنزلنا بعد ربع الليل عرفة، ورأى كلٌّ منا صاحبه وعرفه. فوقفنا، وما توقَّفنا. إلى أن هيَّأوا لنا مراحا، وما تقيَّدوا به إلا وهم يبغون سراحا. فجلسنا بعضنا شاكٍ فقد أحبابه، والبعض الآخر شاكٍ من الحجارة وما أصابه. وأنا بينهم ساكتٌ ألفا، وناطقٌ خلفا. كيف وقد خلَّفت ما يورث الهذيان، وتأبى مواقعه أن يحوم حوله النِّسيان. ثمَّ انْكفأنا انْكفاء الحَيا، ولسان الحال يقول: لا سقياً ليومنا ولا رعيا. فما راعنا إلا المُكاري وحزبه ينادون: هيَّا فاركبوا، طلع الفجر. فأبعدوا المدَى، وأزعجوا الصَّدى. فنهضت من مرقدي نهضةً جفلة، وما أحسبني تنبَّهت من غفلة. وركبت الليل البهيم، والشَّوق إلى الرقاد شوق الهيم. وما برحنا في برحٍ وعنا، حتَّى وصلنا مع الشروق إلى مِنى. فقلت لرفيقٍ لي انتخبته، ولمثل هذا الأمر انتجبته: هلمَّ فلنسترح ونرح، ونقيل في هذا المكان المنشرح. فقلت وقال، وأقلت عثرة الدهر وأقال. واطمأنَّ بنا الجلوس حصَّة، وأرحنا بها مضَّة وأزحنا غُصَّة. وأخذنا جانباً من النوم، إلى أن نصَّفنا ذلك اليوم.

ثم ركبنا الطريق، وفي القلب إلى الخريق أشدُّ الحريق. فلم تكن إلا هنيئة وصلنا فيها الحرم الآمن، وبثثنا ما في الضَّمائر من الشوق الكامن. وفارقت رفيقي وأنا على عهده الأمين، وذهب ذات الشِّمال وذهبت ذات اليمين. وآليت لا تحرَّيت كرى ثانيا، ولا ألويت عنان عزمي لثنيته ثانيا. ولو جعلت الجبال دكًّا، وأعطيت أرض الحجاز ملكاً. وأنشدت: إن كرى خصمُ حياتِي فلا ... رأيتهُ أخرَى ولو في كرَى فراحتِي من يومِهِ أصبحتْ ... كواصِلٍ لِما رأتْني كرَى وإن من أقطعِ روعاتِهِ ... لجُّ المكارِي في كِراما كرَى وكتبت إليه من دمشق: أهدي من طيِّب التَّحايا، عدد فضائل سيِّدي السَّامية، ومن التَّحيَّات المقرونة بنشر المزايا، قدر أيادِيه الفائضة النَّامية. وأما تشوُّقي للقائه، وتشوُّفي لتلقِّي الأخبار من تلقائه. فكما قلت: شوقي لتلك اللُّقيا ... شوقُ الرُّبى للسُّقيَا وحقِّ من ميَّزه ... بين الورَى للعليَا مااعْتضتُ عنه بديلاً ... بكلِّ من في الدُّنيَا وقلب سيدي شاهدٌ بودٍّ منِّي مرسل متَّصل، وحديث دعاءٌ مرفوع إلى القبول غير مقطوع ولا منفصل. وغاية المسْئول، ونهاية المأمول، أن ييسِّر الله تعالى حالةً يعود بها الأنس إلى أحسن نضرته، ويعيد لنا تلك الأوقات السعيدة المسعودة بحضرته. إبراهيم بن محمد السَّفرجلانِي أحسن المحاسن العصريَّة، وآدابه أذكى الرياحين الطَّريَّة. نبغ نبغة الغصن النَّضير، فجاء بحمدِ الله عديم النَّظير. فطلاقته لو خلِعت على الدهر ما ريعَ به فؤاد، وغُرَّتُه لو سالت بليل السَّليم ما بقيَ بها سواد. صقل نوره قبل انشقاق الكمائم، وتطوَّق العلياء قبل أن يتطوَّق التَّمائم. ومع ذلك فلا تُلفَى الدَّنِيَّة لديه، ولا تألف الفحشاءُ بُرْدَيه. وهو يهتزُّ لكلِّ لُبانة، كأنه عِطف بانَهَ. ويترنَّح غصناً رطيبا، ويهُبُّ عرفاً عطِراً وطِيبا. وهو حليفي الذي ارتبطت معه على وُدٍّ مُؤثَّل، وأليفي الذي شخصه نأى أو دنا في عيني ممثَّل. ما زلت في حبِّه متَّصل العلائق، وكلانا على المودَّة مُصفَّى الخلائق. وأنا أوصَف لبدائعه، من الزُّجاج لودائعه. وأكْلف ببنات فكرِه، من سَمَر الكرام بذكْرِه. ولي في بقائه أملٌ أرجو من الله أن لا يفيته، وهذا دعاءٌ بظهر الغيب لو سكَتُّ كُفيتُه. وقد تناولت من أشعاره ما يطيب استعذابه، وأثبتُّ منه ما يستدعي القلبَ إليه نِزاعه وانْجذابُه. فمن ذلك قوله: جُؤذُرٌ عن من ظِبا تيْماءِ ... ذو جفونٍ تصيدُ بالإيماءِ ليِّنُ العِطْف كالقضيب ولكن ... قلبه مثل صخرةٍ صمَّاءِ عرَبِيُّ النِّجار إن نسبوه ... نسبوه إلى ابنِ ماءِ السَّماءِ مولعٌ بالجيادِ يختار منها ... ما يُجارِي سِربَ القطا للماءِ عَمُّموه بشملةٍ فاجْتلينا ... منه بدراً يضيء في الظَّلماءِ سَلَّ صمْصامَ لحظِه وتصدَّى ... في طريق الهوى لسفكِ الدماءِ وقوله مضمِّناً: لما غدتْ وجناتُه مرقومةً ... بعِذارِه وازْداد وَجْدُ مُحبِّهِ نادى الشَّقيقُ بها زَبرْجَدَ صُدغِهِ ... يا صاحبي هذا العقيقُ فقِفْ بهِ وكتب إلي، ويخرج منه اسم محمد بطريق التعمية: مولاي هل تحظَى بقربِك مهجةٌ ... أطَلْتَ بنيرانِ البِعاد عذابَها وهل لأُوامِ القلب يوجَد مخْمِدٌ ... فحبَّتَه حَرُّ الفؤاد أذابهَا فأنشدته قولي، ويخرج منه اسم إبراهيم: إذا أعوَز الرِّيُّ المُجِدُّ بهمَّةٍ ... ونازلَه كربٌ مُلِحٌّ وتبْريحُ فذكرُك ماءٌ للسبيلِ ارْتوَى به ... صَداهُ وفيه الرَّاحُ للقلبِ والروحُ وعمله كله فارسيّ، وإليه الإشارة بالرَّيّ البلدة المشهورة في العجم، والماء: آب، والسبيل: راه، وره، كما يقولون للقمر: ماه، ومه. وفيه صنعة باعتبار أن إبراهيم يُكتب بألف وبدونها، فلك الخيار فيه. والراح: مي، وقلبها: يم. وسمع قولي، من أبيات:

إذا فوَّقت سهمَ المنون جفونُه ... لقلبٍ سوى قلبي تمنَّيتُه قلبي فجاءني يوماً وقد نظم هذا المعنى، وتصرف فيه تصرُّفات شتَّى. فمنها ما أنشدنيه، وهو قوله: وراشقٍ لم يطِشْ سهمٌ لمُقلته ... ولم أكنْ عن هواه قطُّ منصرفا فكلما فوَّقت نَبلاً عرضتُ له ... كيلا يكونَ سوى قلبي له هدفا ومنها قوله: ريمٌ تصدَّى للرمايةِ لحظُه ... يُصمي القلوبَ ولا جُناحَ عليهِ فإذا رمتْ سهما إليّ جفونُه ... جاراه قلبي في المسيرِ إليهِ ومنها ما قاله مضمناً: ومُثبِّتٍ سهمَ نجلاوَيهْ في كبدي ... كأنه الرِّيمُ يعطو نحو مرتِعهِ يقول قلبي لسهمٍ قد رماه به ... أهلاً لما لم أكن أهلاً لموقعهِ وأنشدني من لفظه لنفسه: يا لؤلؤاً أصدافهُ الياقوتُ ... قلبي عليك صبابةً مفتوتُ لقد ابتسمتَ فلاح منك لناظري ... سِمطٌ بكل ملاحةٍ منعوتُ أحببْ به سمطاً تناسق درُّه ... فأتى بديعَ النظمِ وهو شتيتُ يستوقفُ الأبصارَ باهرُ حسنهِ ... فالطَّرفُ في لألائه مبهوتُ عجباً له درًّا على ما فيه من ... صِغرٍ له بين الجواهرِ صيتُ عزَّ الوصولُ إليه يا قلبي فمُتْ ... كمداً فحارسُ كنزِه هاروتُ قلت: هذا شعرٌ هاروتُ تلميذ إفادته، وشاعره فتحُ خزائن الجواهر في كفِّ إرادته. وأنشدني قوله: خلِّ الذنوبَ ولا تهمَّ بفعلِها ... فأخو الذنوبِ طويلةٌ حسراتُهُ واجْنح إلى التقوى فطُوبى لامرئٍ ... غلبتْ على آحادِهِ عشراتُهُ وقوله: حاذِر إذا وافيتَ جرعاءَ الحِمى ... ريماً هناك من الصِّبا في شرخِهِ لا يخدعنَّك تحت عطفةِ صُدغِه ... خالٌ فذاك الخالُ حبَّةُ فخِّهِ تصيَّده من قول بعضهم: لا غرْوَ أن صادَ الفُؤاد بنظرةٍ ... ريمُ المهَا فله بذاكَ أشايِرُ في خدِّهِ فخٌّ لعطْفةِ صُدغهِ ... الخالُ حبَّتُه وقلبي الطائِرُ وأنشدني من لفظه لنفسه، ما هو منه في صيَّاد: أفْديهِ صياَّداً تعوَّد في الهوَى ... أخذ القلوب بمكرِه وبكيدِه كم صادَ قلباً طارَ نحو جمالِه ... والخالُ تحت الصدغِ آلةُ صيدِهِ وأنشدني قوله: أرسلَ فوق الجبينِ طرَّتهُ ... وفوَّق اللَّحظ سهمُه النَّافِذْ فيا جريح الفؤادِ زِدْ سهراً ... فليلُه من نهارِه آخِذْ وأنشدني قوله، معمِّياً في اسم حيدر: رأى زيدٌ وعمرٌو وجه من قدْ ... أقام عِذاره في الحبِّ عذرِي فنكَّس رأسهُ زيدٌ حياءاً ... وولَّى وهو يسحب ذيل عمرِو أراد بتنكيس رأس زيد عدده الهندي، وذيل عمرو، هو الراء هنا؛ لأن القافية هنا دالَّة على الفرق بينه وبين عمر، وهم ذكروا أن الواو لا تثبت إلا للفرق. وأنشدني قوله أيضاً: ذكرتُ له يوماً بمجلِس أُنسِه ... أبا الدُّر ياقوتاً وأطنبتُ في الذِّكْرِ فقالَ فذا وصفٌ يقومُ بمبسمِي ... فمبسميَ الياقوتُ وهو أبو الدُّرِّ وقوله منه أيضاً: يقولُ لي جِيدُه الفضِّيُّ حين زهَا ... بمسكِ خالٍ على ذاك البياضِ نقَطْ كَنَوا أبا المسكِ كافوراً لقد غلِطُوا ... أنا أبو المسكِ كافورٌ بغير غلَطْ وأنشدني قوله، وهو معنى أبرزه ولم يسبق إليه، فاستحقَّ به التبريز، وجاء به أنفس من الإبريز: كفُّوا الملام ولا تعيبُوا زهرةً ... في وجْنتيهِ تلوحُ كالتَّطْريزِ فالحسنُ لمَّا خطَّ سطر عِذارِه ... ألقَى عليهِ قُراضةَ الإبريزِ وأنشدني هذه السِّينية السَّنية التي هي أشهى من الأمنيَّة، تفلَّتت من المنيَّة: خلِّ طيَّ الفَلا لحادِي العيسِ ... وانْفِ همِّي بالقهوة الخندريسِ طُفْ بها كي ترَى النواظِرُ فيها ... عسجداً ذاب في لُجيْنِ الكؤوسِ

ولِتُرنِّحْ عِطفي برقَّة لفظٌ ... منه عوِّدتُ لقطَ درٍّ نفيسِ في رياضٍ كأنَّما لبستْ من ... حوْكِ صنعاء أفخرَ الملبوسِ قد تحلَّتْ من طلِّها بعقودٍ ... وتجلَّتْ في حلَّة الطَّاووسِ وزكَا عرفُ طيبِها فحسِبْنا ... نفحةً قد سرتْ من الفردوسِ وتغنَّى مُبهْرمُ الكفِّ فيها ... بغِناءٍ يشوق شجْوَ النفوسِ قد أتيْنا مسلِّمين فردَّتْ ... هِيفُ باناتِها بِخفضِ الرُّؤوسِ قمْ نجدِّد عهودنَا يا ابنَ أُنسِ ... في رُباها فأنت خيرُ أنيسِ فأنا في هواك محزون قلبٍ ... بين شوق مقلَّبٍ ورَسيسِ وامْنح العينَ أن ترَى منك يوماً ... حسْن وجهٍ يُخفي ضياء الشموسِ سطوراً كالمِسكِ فوق طروسٍ ... من شقيقٍ أحببْ بها من طروسِ وأمِطْ لي عن سِين تلك الثَّنايا ... فعساهَا تكون للتَّنفيسِ وأنشدني قوله: حتَّى مَ يا ظبيَ الكِناسِ ... أحنو عليك وأنت قاسِ أغريتَ بي سُقم الجفو ... نِ فملَّ منِّي كلُّ آسِ ونسيتَ عهداً لم أكنْ ... أبداً له وأبيك ناسِ مولايَ لا تمتدَّ في ... هجرِي فقد عزَّ المُواسِي مرْني فأمرك بالَّذي ... تهوَى على عيني وراسِي هذي الرِّياض قد انْجلتْ ... في حلَّتي وردٍ وآسِ فاجْلُ المُدام أبا الحسي ... نِ وحيِّني منها بكاسِ واسْتنطق الوترَ الرَّخي ... مَ عن الفُؤادِ وما يُقاسِي وأنشدني قوله: يا صاحِبي عجْ بالمطيِّ على الحِمى ... فعسَى تلوح لناظِريَّ شموسُهُ فهناك يسْتملِي ابن مقلةَ قصَّةً ... منِّي فيكتُب والخدودُ طُروسُهُ وأريك شوقاً لا يقاسُ بغيرِه ... بتوقُّد الجمراتِ كنت تقيسُهُ بان الخليطُ فلا تسلْ عن حالتِي ... ما حال من قد بان عنه أنيسُهُ ودَّعتُه ورجعتُ عنه كأنَّني ... ذو نشوةٍ كارتْ عليه كؤوسُهُ لم أنسَ إذْ غنَّى له الحادِي ضحًى ... وتراقصتْ تحت الهوادِجِ عِيسُهُ ورمَى ابن عمِّ الظَبي لي بإشارةٍ ... أخذ الفؤاد بها فهاجَ رسيسُهُ لا غرْوَ أن جذب الفؤاد بنظرةٍ ... فرنُوُّ نجلاويهِ مِغناطيسُهُ وأنشدني لنفسه قوله: رشق الفؤاد بأسهمٍ لم تُخطِه ... ريمٌ يشوق الريمَ مهوَى قرطِهِ من ذا عذيرِي في هوَى متلاعبٍ ... قد راحَ يمزُج لي رِضاهُ بسخطِهِ أعطيتُه قلبي وقلتُ يصونهُ ... فأضاعهُ يا ليتني لم أعطِهِ وثناهُ عن محْضِ المودَّة رهطُه ... فعناءُ قلبي في الهوَى من رهطِهِ وقد اشْترطْنا أن ندوم على الوفا ... ما كنتُ أحسبُه يخلُّ بشرطِهِ كيف الخلاصُ ركبتُ بحراً من هوًى ... شوقاً إليه فشطَّ بي عن شطِّهِ علِّقْتُه ريَّان من ماء الصِّبا ... كالروضِ أخضلهُ الغمامُ بنقطِهِ غضَّ الشَّبابِ وهذه وجَناتُهُ ... قد كاد يقطُر ماؤها من فرطِهِ يجلُو عليك صحائِفاً وردِيَّةً ... رقَم الجمالُ بها بدائِع خطِّهِ وتُريك هاتيك المعاطِف بانةً ... تهتزُّ ليناً في مُنمنَمِ مرطِهِ وتُخامِر الألباب منه فكاهةً ... تُلهِي حليفَ الكأسِ عن إسفنْطِهِ لو بتَّ تسْتملِي لطائِفه التي ... ضاهتْ بروْنقِها جواهِر سمطِهِ لدَهِشتُ إعجاباً بلؤلؤ لفظِه ... ومددتُ كفَّك طامِعاً في لقطِهِ قلت: هذا الشعر من الأشعار الباسقة، ما مدَّت الأيدي لالتقاط مثل درره المتناسقة. وأنشدني قوله:

يا زوْرَةً سمحَ الخيا ... لُ بها وبات مُعانِقِي خاضَ الدُّجنَّةَ طارِقاً ... أكرِم به من طارِقِ وأْتَمَّ ساحة عاشِقٍ ... في جُنحِ ليلٍ غاسِقِ وأتَى يجدِّد بالصَّبا ... بةِ عهد صبٍّ وامِقِ فجرتْ لطائِفُ بين مع ... شوقٍ هناك وعاشِقِ وخِلالها قبلٌ تلذُّ ... ورشفُ ريقٍ رائِقِ وسألتُ ذاك الرِّيمَ عن ... سببِ الصُّدود السَّابقِ فانْهلَّ منه ما يُري ... كَ الطَّلَّ فوق شقائِقِ وافْترَّ لي ياقوتُهُ ... عن لؤلؤٍ متناسِقِ وصفَا هنالك موردٌ ... بين العُذيْبِ وبارِقِ وأنشدني قوله: أقول لقلبي وهو عند اضْطِرابِهِ ... وقاتِلهُ لم يمضِ لم تحسِن العِشقَا فقال اضْطِرابي خشيةً من فراقِهِ ... وفيَّ حياةٌ ليس يحسُن أن تبقَى وقوله معمِّياً باسم دلاور: قد أبرزَها من باطِن الإبريقِ ... صهبَا تُحاكِي وجنةَ المعشوقِ ما ضرَّ شُويْدِناً جَلا أكؤسَها ... لو دار بها ممزوجةً بالرِّيقِ وقوله: إن غَضَّ عن تلك العوارِض عاذِلي ... طرْفاً فقد أصبحتُ من عُشَّاقِهَا وتجنُّب الأفعى الزُّمرُّدَ إنَّما ... هو غَيْرةٌ منه على أحداقِهَا من خاصِّيَّة الزمرد أن الحيات إذا نظرتْ إليه سالت أعينها. ومثله ما ذكروه في خواصِّ العقيق، أن التختُّم به يُبطِل السِّحر. وللصَّفِيِّ الحلِّيّ: قِيل أن العقيقَ قد يُبطل السِّحْ ... رِ بتختِيمِه لِسرٍّ حقيقِي وأرى مُقلتيك تنفُثُ سِحْ ... راً وعلى فِيكَ خاتَمٌ من عقيقِ ومن الخواص المذكورة للرِّيق، أنه يقتل العقرب. قال أبو الصَّلت الإشبيليّ: دبَّ العِذارُ بخدِّه ثم انْثنَى ... عن لثْمِ مبسِمه البرُودِ الأشنَبِ لا غَرْوَ أن خَشِيَ الرَّدَى في لثمِهِ ... فالرِّيقُ سَمٌّ قاتلٌ للعقربِ وأنشدني لنفسه قطعتين، ما أظنهما إلا من رياض الجِنان مقتَطَعتيْن. فالأولى هذه: قد نضَى طرفُه الكحيلُ حُسامُه ... فاسْألِ الله يا فؤادِي السلامَهْ فاتِكٌ قد سطَا بألحاظِ ريمٍ ... بلَّغتْهُ من القلوبِ مَرامَهْ ناقصٌ للعهودِ ليس يُراعِي ... ذِمَّةً للَّذي يُراعِي ذِمامَهْ قد تعشَّقتُه ربيعَ جمالٍ ... يملأ العينَ بهجةً ووَسامَهْ شَطَّ عنِّي فليس لي مُذ تناءَى ... مُسعِدٌ في هواه إلا حَمامَهْ ذكَّرتْنِي عصراً رقيقَ الحواشِي ... بالحِمى ظَلْتُ ناهباً أيَّامَهْ ما تذكَّرتُ عيشَةُ الغَضَّ إلا ... هطلَتْ أدمعِي عليه نَدامَهْ يا نسيماً من عنبَرِ الشِّحرِ أهْدَى ... طِيبَ أنفاسِه لنا شمَّامَهْ إن تيَمَّمتَ ساحةَ الحيِّ وَشَّى ... ساحةَ الحيِّ دُرَّ دَرِّ الغمامَهْ حيِّي عنِّي أقاحِ تلك الرَّوابِي ... ثم قبِّل ثُغورَه البسَّامَهْ والْوِ عِطفَ القضيبِ نحو أخيهِ ... ليُطِيل اعْتناقَه والْتزامَهْ واقتطِفْ من حدائق الحسنِ ورداً ... نقَّطتْ فوقه من المسكِ شَامَهْ وارْتشِفْ من خِلال تلك الرَّوابي ... قاطِر الشُّهدِ خالطْتهُ مُدَامَهْ واعْتنِق في مُنَمْنَمِ البُردِ خُوطاً ... رنَّحتْ خمرةُ الشَّبابِ قَوامَهْ ولْتُلاعِب له ذُؤابةَ شَعْرٍ ... قد تدلَّتْ فقبَّلتْ أقْدامَهْ وهذه الثانية: يا وردةً من فوق بانَه ... سِحرُ المحبَّةِ من أبانَهْ أخفيتُه عهدِي وقدْ ... غلْغلْتُ في قلبِي مكانَهْ وكتمتُ أمرَ صَبابتِي ... وسدَلْتُ أسْتارَ الصِّيانَهْ

ما كنتُ أحسبُ أن يكو ... ن الدمعُ يوماً تُرْجُمانَهْ لولا وضوحُ الأمرِ ما ... أغْرَى بنا الواشِي لسانَهْ ولَوَى عِنانكَ عن شَجٍ ... شوقاً إليك لَوَى عِنانَهْ يا ظَبيةَ البانِ التي ... عند القلوبِ لها مكانَهْ كُفِّي الصُّدودَ فلَيْتني ... من طولِ صَدِّي أُرْوَنانَهْ يوم أروَنان، وليلة أروَنانة: من الحَرِّ والغَمّ. وقال القيسي: الأروَنان، الصوت. قد أسْكرتني مُقلتَا ... كِ كن في الأجفانِ حَانَهْ وكرَعْتِ في ماءِ الصِّبا ... ففَضحْتِ لينَ الخَيزرانَهْ أجريْتُ ذكرَك بالحِمى ... وقد اجْتلَى طَرفِي جِنانَهْ فلَوَى القضيبُ مَعاطِفاً ... نظَم النَّدَى فيها جُمانَهْ واحْمرَّ خدُّ شَقيقِها ... وافْترَّ ثَغْرُ الأُقحوانَهْ وأنشدني قوله: أفدِي مليحاً يفوق البدرَ مُستتِرَا ... تحت القناعِ اسْتِتارَ العينِ بالغيْنِ العين: الشمس. والغين: لغة في الغيم. أنْشاه مُبدِعُه كالبدرِ مكتمِلاً ... حُسناً ووَقَّاه شَرَّ العينِ والغينِ العين: النَّظرة، والغين: حجابٌ على القلب. منِعتُ من ثغْره عينِ الحياةِ وكم ... قد رُدَّ قاصدُ هذي العينِ بالغينِ العين: عين الحياة، والغين: العطش. وراعَ قلبِي فمُذ حاولتُ منه وفاً ... أتى بتصْحيف تلك العينِ بالغينِ الحرفان المعلولان. وأنشدني قوله: قال صِفْ فرْعِي الذي قد تدلَّى ... فوق خَدِّي أن كنتَ من واصِفيهِ قلت ماذا أقول في وصفِ رَوْضٍ ... قد تدلَّتْ عَريشَةُ الحُسنِ فيهِ وذكر لي في بعض محاضراته أنه رأى قول بعض الأندلسيِّين: واللهِ لولا أن يُقال تغَيَّرا ... وصِّبا وإن كان التَّصابي أجْدرَا لأعدت تُفَّاحَ الخدودِ بنفسَجاً ... لَثْماً وكافورَ التَّرائِبِ عنبَرا وقول أبي جعفر محمد المختار من شعراء الدُّمية: قلتُ هَبِي منكِ لنا قُبْلةً ... يا مُنيةَ النفسِ وياقوتَهَا فأغْمضْت من عينهِا مُؤْخِراً ... ورصَّعت بالدُّرِّ ياقوتَهَا وقول الأمير منجك: لقد زارني من بعد حَوْلٍ مُودِّعاً ... وطوقُ الدجى قد صار في قبضةِ الفجرِ فأخْجلتُه بالعتبِ حتى رأيتُه ... يُزيح الثُّريَّا بالهلالِ عن البدرِ فنظم هذين البيتين يلمِّح إلى هذه المقاطع: نظرَ البنفسجُ في الشَّقيقِ مؤثِّراً ... فارْتاعَ حتى انْهَلَّ ماءُ جمالِهِ فغدا يرصِّعُ دُرُّه ياقوتَه ... ويُزيح أنجُمَ بدرِه بهلالِهِ وأنشدني من لفظه لنفسه: لا تكن وَيْكَ طامعاً في سلُوِّي ... فالهوى قد نَمَا أشَدَّ نُمُوِّ شَفَّني ذلك الشُّويدِنُ حُبًّا ... ورمانِي بسهم ذاك الرُّنُوِّ قمرٌ في ابْتِدائِه تمَّ حُسناً ... وسمَا في الكمال أيَّ سُمُوِّ وقضيبٌ غضُّ النَّباتِ رطيبٌ ... عُلَّ من خمرةِ الشَّبابِ ورُوِّي حُبُّه خطَّ في فؤادِي سطراً ... أمَدَ الدهرِ ليس بالمَمْحُوِّ يمزُج الصَّدَّ بالوِصالِ دَلالاً ... فتَرى منه قسوةً في صُفُوِّ وهواهُ ما زالَ يُورِي لهيباً ... بين جنبَيّ ماله من خُبُوِّ يا سقى اللهُ عهدَنَا بليالٍ ... قد جنيْنا بها ثِمارُ الدُّنُوِّ جمعتْ شملَنَا بِكأسِ سُلافٍ ... هي أصْفَى من دمعةِ المجفُوِّ كلَّما قلتُ يا ابن وُدِّي خُذْها ... قال لي هاتِ يا عدُوَّ عدُوِّي السيد عبد الباقي بن مُغَيْزِل من الزُّمرة الأولى من أخلاَّئي، ومن به أشرق في إبَّان رونقه وجه اجتلائي. فاستهلَّيت أنا وإياه العيش بدريًّا، وهززت أغصن اللَّذات غصناً طريًّا. في زمانٍ عيون سعوده روانٍ، والآمال فيه دوانٍ، ما بين بكرٍ وعوان.

لم تبعد فيه أرضي عن أرضه، ولم نأل فيه من القيام بنفل الودِّ وفرضه. ولم يتنسم أحدنا أخا، إلا هبَّ الآخر معه رَخا. وهو ممن خلصت ذاته خلوص الذهب عن اللهب، وتميَّزت بما أحرزت من نسبٍ شريف وحسب، ونشب تليدٍ ومكتسب. شمَّر في الطلب عن ساق، وأبدى بدائع ذا حسنٍ واتِّساق. وله براعةٌ تعرب عن لسانٍ ذليق، وذهنٌ متوقِّدٌ يزيِّنه وجهٌ طليق. وفضلٌ يستغني عن المدح، وشعرٌ يعلِّم الحمامة الصَّدح. قد استخرجت له ما هو كالروض المعطار، تضحك ثغور نواره عن بكاء الأمطار. فمنه قوله، وأنشدنيه من لفظه: أوَّاه من ذلك الخِشف الذي سنحَا ... من أكسَبْ المستهام المُبتلى بُرَحا لم أنسَ إذ مرَّ مُختالاً بقُرطَقِهِ ... من دونه ذلك القدِّ الذي رجحَا يزور لحظاً بطرفٍ زانَه حَوَرٌ ... فكم طريحٍ على فرشِ الضَّنى طرحَا وكم دواعِي الهوَى من كلِّ جارحةٍ ... تستخبِر القلبَ عنَّا أيَّةً جَنَحَا وبعث إلي بهذه الأبيات، وكان وافاني يوماً لم يجدني في بيتي: يا ماجِداً حازَ السِّيادة يافِعا ... وغدا بأثوابِ البراعة يرتدِي من مُذكري عهدَ الشَّبيبة والصِّبا ... والعيشَ مع وصل الحسانِ الخرَّدِ كم مرةٍ قد جئتُ نحوَ حِماكُمُ ... كي أن أفوز برؤية الوجهِ النَّدِي فلِسوءِ حظِّي لم تجدكُم مقلتِي ... فرجعتُ من ذاك الحمى صِفرَ اليَدِ فكتبت إليه: مولاي من دون الأنامِ وسيِّدي ... بلَّغتنِي بالسَّعيِ أسنَى سُؤدُدِ قد جئتنِي والبيتُ مني مُقفِرِ ... من سوءِ حظِّي في الزَّمان الأنكَدِ هي عادةُ الأيَّام أرجو صاحِباً ... فيصدُّه قدرٌ عليَّ بمرصَدِ وإذا أبيْتُ فتًى وعِفتُ دُنُوُّه ... ألفيْته نفَسِي يروح ويغْتدِي وأنشدني من لفظه لنفسه: كلما رُمتُ خلاصاً من هوَى ... ظَبْيِ إنسٍ حَبَّةَ القلبِ ملَكْ قال لي حُسنُ هَواه كم له ... من شَجٍ مثلك مُلقًى في الفلَكْ وأنشدني قوله: قلتُ إذا جاءَ صاحبِي ... يشْتكي حُرقةَ النَّوَى كيف شَكواك إننا ... كلُّنا في الهوَى سَوَا وهذا المصراع قد أكثر الناس من تضمينه، وأشهر تضامينه قول بعضهم: قُل لمن جاءَ يشْتكِي ... باهتمامٍ من الهوَى لا تَفُهْ بالذي جرَى ... كلُّنا في الهوَى سَوَا وأنشدني قوله في أرمد: لا تحسَبوا حُمرةً في مُقلتِي رمَداً ... قد مسَّها بل لأمرٍ زاد في سقَمِي فإنها نظرتْ شَزْراً لوجنةِ مَن ... هواه حلَّ فؤادِي فاكْتستْ بدَمِ منه قول يوسف العمراني: لا تنكروا رمَدِي وقد أبصرتُ مَن ... أهْوى ومن هو شمسُ حسنٍ باهرِ فالشمسُ مهما إن أطْلت لنحوِها ... نظراً تؤثِّر ضعفَ طرفِ الناظِرِ ولقد أطلتُ إلى احمِرارِ خدودِه ... نظرِي فعكسُ خيالِها في ناظِرِي وقوله: رمدتْ جفوني عندما فارقتُ مَن ... قد كان كُحلاً في نواظِر عبدِهِ وسرقتُ حمرةَ ناظرِي وسَقامَه ... عند النَّوَى في مُقلتيْهِ وخدِّه وأنشدني قوله: أقول لفتَّاكِ اللَّواحظِ أهْيفٍ ... يصيد لِحبَّات القلوب من الهُدْبِ وصُحْبتُه شخصٌ بَذِيٌّ مُذَمَّمٌ ... يسوء بمَرآه العيون مع القلبِ حبيبيَ ما هذا القرِينُ فقال لي ... ولا بدَّ للصَّيادِ من صُحبةِ الكلبِ وكأنه وقف على ما ذكره المقريزي من أنه ثار بمصر في بعض الأحايين ريحٌ شديدة، سقط منها حجرٌ من بعض عضائِد جامع الحاكم، فقلب الحجر، فوُجد عليه هذه الأبيات، وهو لغزٌ عجيب، رقيق لفظه: إن الذي أسررتُ مكنونَ اسمِهِ ... وكتمتُه كيْما أفوزَ بوصلِهِ مالٌ له جذرٌ تساوَى في الهِجَا ... طرفاه يُضرب بعضه في مثلِهِ فيصير ذاك المالَ إلاَّ أنه ... في النصف منه تُصاب أحرُفُ كُلِّهِ

وإذا نطقتَ بربعه من كلِّ ما ... من بعد أوَّله نطقتَ بكلُّهِ لا نَقْطَ فيه إذا تكامل عَدُّه ... فيصير منقوطاً بجُملةِ شكْلِهِ فحلَّه بقوله: قد كان هذا اللُّغزُ يُصدِي فكرتِي ... لكن بحمدِ الله فزتُ بحلِّهِ تالله نظمُ الذِّكرِ يخرُج منه ما ... عنه أشار مُبيِّناً لمحَلِّهِ مالٌ أتَى من ضربِ سِتٍّ بعضُه ... في سِتَّةٍ وهي المُراد بمثلِهِ فيصير منه النصفُ لكن مذ غدا ... مُتساوِي الطرْفين عاد ككُلِّهِ والنطقُ منه برُبعِهِ أي ثالثٍ ... من بعد أوَّله وثانٍ يُجْلِهِ لا نقْطَ في لفظِ الحروف وإنَّما ... عينُ المسَمَّى أنبأتْ عن شكلِهِ في عِقدِ حالِيَةِ العذارَى إن ترُمْ ... إيضاحَ معنًى شاهدٍ عن أصلِهِ وأنشدته يوماً قولي معمِّياً باسم موفَّق: من وُلاةِ الجمالِ سلطانُ حسنٍ ... حكَّمته القلوبُ فازْداد عُجْبُهْ حدَّ للقلبِ مذ سمَا حدَّ سِرٍّ ... نازِلٍ في حَشاهُ ما راق حِبُّهْ فحلَّه وحلاَّه، فقلت أخاطبه: مولاي يا حلاَّلَ كلِّ مُشكِلٍ ... بفهمِه ورأيهِ السَّدِيدِ أفْديك مذْ حلَّيت ما عمَّيتُهُ ... حلَّيت قلبِي وفمِي وجِيدِي فقال هذا يشبه قول العفيف التِّلمساني: قد قلتُ لمَّا أراد شَدًّا ... بخصْرِهِ يا مهفهَفَ القَدّ حلَّيتَ قلبي وعِقد صبرِي ... وعاطلَ الخَصرِ منك بالشَّدّ وطال ما جال في خلَدي، من أيِّ نوعٍ هذا من أنواع البديع، فقلت له: قد ذكر البدر الدَّماميني، في حاشيته، على شرح لاميَّة العجم: أنه من نوع الاستخدام. وأنشد منه قول ابن نباتة: رشفْتُها في مكان خلوتِها ... وجيِّد الحسنِ ثَمَّ قد جُمعَا حلَّتْ مذاقاً ومشرباً وفَماً ... والجِيدَ والشعرَ والصفاتِ معَا وفيه استعمال كلمةٍ واحدة على ستِّ معان. وقدَّم أن مثل هذا لم ينصُّوا عليه في الاستخدام. انتهى. وكتبت إليه أستدعيه إلى منتزه بالشَّرف الأعلى، في يوم شرف الشمس: سيدي، النفس خضراء والربيع أخضر، وأنا شريف وأنت شريف، فما علينا أن نهجر المألف والمربع، ونجمع بين هذه الفصول الأربع. في زمنٍ تعتدل فيه الطِّباع، وتقف عليه الخواطر والأسماع. فانهض لنكون إلفين، ولك الأعلى من الشرفين. في يومٍ حلَّ به شرفُ الشمس، واعتدلت الحواسُّ الخمس. فهناك أنشدك باللسان، مع موافقة الجوارح والجنان: لِم لا أتيهُ في العُلى ... على جميعِ السَّلفِ والسيدُ الشريفُ قد ... شرَّفني في الشَّرفِ أحمد بن عبد الله العطار، المعروف بابن جدي سمحٌ سهل، لكل ثناءٍ أهل، كأنما بينه وبين القلوب نسب، أو بينه وبين الحياة سبب. بمحاضرة أشهى من ريق المحبوب، ومحاولة أصفى من ريِّق الشُّؤبوب. وعلى الجملة فما هو إلا تحفة قادم، وأطروفة منادم. وعودة صحةٍ لمريض، واصطباح عيش في روضة أريض. وبيني وبينه أخوة أواخيها مشدودة، وأبواب التمويهات عنها مسدودة. ما زلنا في خلسةً للودِّ ونُهزة، وأريحيةٍ للحظِّ وهزَّة. من حين رضعنا للتَّآلف ذلك الدر، وجرينا فيه على حكم عالم الذَّر. والله يصوننا في بقية العمر عن الغير، كما صاننا عن الشَّوائبِ فيما مضى وغبر. فمن أريج عاطره، الذي نفح به روض خاطِره. قوله مضمِّناً: وبَليتِي ساجِي اللِّحاظِ قوامه ... غُصْنٌ على دِعصٍ تُثنِّيه الصَّبا يهتزُّ لِيناً حين يخطُر مائساً ... جذلانِ من مرحِ الشَّبيبة والصِّبا بدرٌ تقمَّص بالملاحةِ والبَها ... فغدا إلى كلِّ القلوبِ مُحبَّبا سلَّتْ لواحِظُه علينا مرْهفاً ... ما كان إلا في القلوبِ مُجرَّبا يخشى على وردِ الخدودِ لِلافحٍ ... فغدا بريْحان العِذارِ مُنقَّبا ساوَمتُه وَصْلا فحدَّق لحظَهُ ... مُتبرِّماً نَحْوي وألوَى مُغضَبا

فكأنَّ صفحة خدِّه وعِذارَه ... تُفَّاحةٌ رُمِيتْ لتقتُلَ عقربا وأنشدني من لفظه لنفسه: ولمَّا رأيتُ الفضلَ في النَّاسِ ضائعاً ... وأكثَرُ منه ضيْعةً فيهمُ الحرُّ بخِلتُ بِشعري حيث لم أرَ في الورى ... فتًى إن رأى شِعراً يحرِّكه الشِّعرُ ورحتُ بنفسٍ لم يُرِق ماءَ وجهِها ... سؤالٌ حَداه العسرُ واقْتادَه اليُسْرُ وأنشدني أيضاً من لفظه لنفسه، قوله من قصيدة طويلة، مطلعها: عتَبِي على الدَّهرِ عَتْبٌ ليس يسمعُه ... إذْ بالهوى والنَّوى قلبي يروِّعهُ بانُوا فأصبحتُ أشكو بعد ما رحَلوا ... لِلبيْن ما بي يدُ التَّفريق تجْمعُهُ شكْوى يكاد لها صُمُّ الصَّفا جَزَعاً ... كما تصدَّع قلبي منه يَصدعُهُ منها: بي من رسِيسِ الهوَى داءٌ يُصانِعُني ... طولَ الزَّمان إلى ما الحب يصنعُهُ وأنثَنِي من لَظى الأشواقِ في حُرَقٍ ... إذا وميضُ الدُّجى يبدو تلَمُّعهُ لم ألقَ يومَ النَّوى إلا حَشاً قَلِقاً ... ومدمعاً بِأتيِّ الدمعِ يشفعُهُ يا صاحِ أين ليالينا التي سلفتْ ... مرَّتْ سِراعاً وطيبُ العيش أسرعُهُ فاعجبْ لنارِ ضُلوعي كلما خمدَتْ ... أشَبَّها من غُروبِ الجفْنِ أدمعُهُ وباتَ يُذكِي ضِرامي صادحٌ غَرِدٌ ... في النَّيربَيْنِ بتَرْنامٍ يُرجِّعُهُ يا وُرقُ مهلاً أذَا التَّرجاُع من فرحٍ ... بارَّوض أم فَقْدِ إلفٍ عزَّ مرجعُهُ وأنشدني من لفظه لنفسه، قوله: أفي كلِّ يومٍ بالنَّوى تتروَّعُ ... ومن حادثاتِ الدَّهرِ يُشجِيك موقِعُ وتشْقى برسمٍ قد ترَسَّمه البِلَى ... وتَسقِي ثَراه كلُّ نَكباءَ زَعْزَعُ وتندبُ أطلالاً تعفَّتْ رسومُها ... وتشكو لرَبْعٍ أعجَمٍ ليس يسمعُ وتُسبِل تَهْتانَ المدامعِ هاطلاً ... على قفرةٍ من دِيمةٍ ليس تُقْلِعُ وتُصبح هيما بين قفرٍ تجوسُه ... وتُمسي وَلهاناً وأنت مروَّعُ وترمِي بطَرفيْكَ الهِضابَ عشِيَّةً ... أفي كلِّ هضْبٍ للأَحبَّة مَطْلَعُ وقائلةٍ فيما الوقوفُ وقد خلا ... من القومِ مُصطافٌ يرُوق ومربَعُ فقلتُ لها أذرِي للدموعَ وهكذا ... أخو الشوقِ من فرطِ الصَّبابةِ يصنعُ وما كنتُ أدري قبل وَشْك رحيلِهمْ ... بأنِّي إذا بانُوا عن الجِزْع أجزَعُ ولا أنَّ أنفاسي يُصعِّدها الجوَى ... إذا لاح برقٌ في الدُّجُنَّةِ يلمَعُ فرُحْتُ ودمعُ العينِ تجري غُروبُه ... على الخَدِّ منِّي والحمائمُ تسجعُ تنوح بِشطِّ الوادِيين ولِي حَشا ... إذا ما انبرَى تَرنامُها يتصدَّعُ فلا كبدِي تهْدا ولا الشوقُ مُقصِرٌ ... ولا لوعتي تخبو ولا العينُ تهجعُ وقد رحَلوا عن أيمُنِ الجِزْع غُدوةً ... فلم يبق في قُربِ التَّزوارُ مطمَعُ وأنشدني أيضاً من لفظه لنفسه قوله: ومُعطَّفِ الأصداغِ يخْتلِس النُّهى ... أبدَى التَّشاغُلَ عن مُحِبٍّ والِهِ يُبدِي تلفُّتَ شادنٍ ويُديرُ لَحْ ... ظَىْ جُؤذُرٍ والبدرُ جزءُ جمالِهِ تِمثالُ شكلِ الحسنِ لا بل إنَّما ... الحسنُ مطبوعٌ على تِمثالِهِ وكنت أنشدته قولي: ولمَّا أدار الشمسَ بدرٌ لأنجُمٍ ... بأُفقِ الهنا بين الهلاليْن في الغَسَقْ عجبْتُ له يُبدِي لنا البدرَ طالعاً ... وما غاب عنَّا بعدُ جِيدِه الشَّفَقْ فنظم هذا المعنى، وأنشدنيه من لفظه: وساقٍ مَيودِ القَدِّ أحْورَ أوْطفٍ ... إذا لم يُمِتْ بالصدِّ يقتلُ بالحَدَقْ يُرينا بأُفقِ الكأسِ شمساً توسَّطتْ ... هلالين يمْحو نورُها أيةَ الغسَقْ

ومذ همَّ يَحسوها ترفَّع جِيدُه ... فبَان لنا صبحٌ وما غَرب الشَّفَقْ وكتبت إليه أستدعيه إلى روض: طلع علينا هذا اليوم في نضارته، يكاد صحوه يمطر من غضارته. فلقينا زهره، ونظمنا نثره. في روضٍ وُشِّيَ بخسْرَوانيّ الدِّيباج، وغُشِّيَ بما يربو على أصناف الجواهر في الابتهاج. فمن نورٍ مُدَرْهمُه بَهِج، وزهرٍ مُدنره رَهِج. يُضاحِك دُرَّه مُرجانه، ويعبق بصائِك المسك أردانهُ. وللنَّسيم فيه اعتلالُ إشفاق، إذا ما رقد المخمور فيه أفاق. والرَّوضُ رطبُ الثَّرى طيِّب المَقِيل، وليس فيه غير رِدفِ الساقي ثقيل. ولم نعدم نَدامَى بألفاظٍ عِذاب، كأنها قَنْد مُذاب. معرفتهم بأغصان القُدود، وتُفَّاح الخدود. لا بالنِّصول الحِداد، والقِسِيِّ الشِّداد. ولديهم من الفُكاهة، ولُطف البداهة. ما إذا جُلِيَ فما الرَّاح والتُّفاح، وما ريحان الأصداغ إذا فاح. وإن شاءوا ألحقوها بحِكَمٍ مَتْلُوَّة، وأخبارٍ في صحف الإحسان مَجْلُوَّة. وعندنا لحنٌ يُثير الشَّجَن، ويبعث من الشوقِ ما أجَنّ. وحبيبٌ قرب من عهد الصِّقال خدُّه، فلم يجفَّ ريحانه ولم يذوِ وردُه. يزلُّ عن خدِّه الذَّرُّ فلا يعلق، ويمشي عليه النملُ فيزلق. وقد تمنَّينا فلم نجدْ غيرَك أُمنِية، ولا مثل آدابِك غَضَّة جنيَّة. وعلمنا أنه ليس للأُنس مع غيبك بهجة، ولا للعيش دون لقاك مُهجة. فبالله إلا ما أنجَحْتَ الأوطار، وفتحتَ بمذاكرتك عن جَونة العطَّار. ولك الثَّناء الذي يتجمَّل به الدهر، ويتفتَّق ريَّاه عن الروضِ فاح فيه أريجُ الزَّهْر. السيد سليمان، المعروف بالحموي الكاتب حرفته الدواة والقلم، ولديه البراعة تُلْقَى أعِنَّةُ السَّلم. وله طبع سبكتْ تِبرهُ الأيام، وصقلتْ حديد ذهنِه من صَدإِ الأوهام. بوجهٍ فيه الفلاح يتوسَّم، كأنه دُرٌّ يوقِده ثغرٌ تبسَّم. وقد أوقفني من شعره على مُلح غضَّةِ الشُّفوف، فجرَّدتْ منها كلَّ بيتٍ كأنَّ الحسنَ عليه موقوف. فمن ذلك قوله في الغزل: قم يا نديمي نُباكِر القَدحا ... أما ترى الصبح زَنْدَه قدَحا والجوُّ صافي الأدِيم من كدَرٍ ... صَفْوَ امرِئ في وِدادِه نصَحا وقام من فوق أيكةٍ غَرِدٌ ... يُذْكرنا بالصَّبُوح إذ صدحَا وقد أهاجتْ لنا الصَّبا شَجَناً ... بنشرِها العنبرِيِّ إذ نفَحَا فحركتْ ساكنَ الفؤاد وما ... أسْأرَه الوجدُ فيه والبُرَحا والدهْر أبْدى الرِّضا وجادَ لنا ... بفرصة والرقيبُ قد نَزَحا فانهَض لنقضِي من الصِّبا وطَراً ... في غَفلةِ اللائمينَ والنُّصَحا وعاطِني قرْقفاً معتَّقةً ... صهباءَ تنفِي الهمومَ والتَّرحَا من كفِّ ظبْيٍ كأنما غفِلتْ ... أعين رِضوانَ عنه مذ سَرَحا أحورُ أحْوَى أغَنُّ ذو هيفٍ ... فداؤُه كلُّ من عليه لَحَى قد أبدعَ اللهُ خلقَه فأتى ... مُتَّزِراً بالجمال مُتَّشِحا رقَّتْ حواشِي طباعِه فحكتْ ... رِقَّةَ ألفاظ من حَوى المُلحَا ومنه ما بعث به اليَّ في غرض له: أنعِم صباحاً سيِّدي ... يا ذا العُلى والسُّؤدُدِ يا ابنَ الموالي الأكرمي ... نَ فداك كلُّ مُسوَّدِ يا ماجداً وطئَ السُّها ... واحتلَّ فَرْق الفَرقَدِ بفضائلٍ ومآثرٍ ... ومفاخرٍ لم تُجحَدِ وشواردٍ كعقُود دُرٍّ ... فُصِلتْ بزَبرجَدِ فاقت برَونقها نِظا ... مَ البحتريِّ وأحمدِ وبديعِ نثرٍ قد حكَى ... ديباجةَ الروضِ النَّدِي تابتْ لهُ حَبُّ القُلو ... بِ عن المدادِ الأسودِ يا أيُّها المولَى الأمي ... نُ ونجلُ أكرمِ أمجدِ أنتَ الذي يُرجَى لد ... فعِ خُطوبِ دهرٍ مُعتدِ العبدُ قدْ عبثتْ بهِ ... أيدِي الزمانِ الأنكدِ

وحوادثٍ ضيَّقْنَ في ... عينيهِ رَحْبَ الفَدْفَدِ والصبرُ ليسَ بممكِنٍ ... والحظُّ ليس بمُسعِدِ مولايَ هل من عطفةٍ ... ممزوجةٍ بتَودُّدِ أو نظرةٍ تُدْنِي الفقي ... رَ من الجَنابِ الأسعدِ تاللهِ لم أقصِد سِوا ... كَ وهل سواكَ بمقصدِ فبِحرمَةِ الآدابِ كُنْ ... من جَوْرِ دهري مُسعِدي لا زلتَ مقصوداً على ... رَغْمِ الحسودِ الأنْكَدِ وأنشدني من لفظه لنفسه، قوله: يا أيُّها الملِكُ الباهي بطلعتهِ ... ومَن لعهدِ وِدادِي في الهوى نبَذا أفسدتَ قلبيَ لمَّا أن نزلْتَ به ... فقال لي هكذا المُلوكَ إذا وهذا فيه الاقتباس مع الاكتفاء. ولبعض المتقدمين عن عصرنا: مليكةَ الحُسنِ جُودِي باللِّقا كرمَا ... لمُغرَمٍ قلبه ذاب فيكِ إِذا أفسدت قلبي فقالتْ تلك عادتُنا ... قد قال سبحانَه إنَّ الملوكَ إِذا وأنشدني من لفظه لنفسه، قوله من قصيدة، مطلعها: قد نبَّهتْنا صَوادِحُ القمْرِي ... لمَّا تراءتْ طلائعُ الفجرِ وفاح من نَسْمة الصَّبا عَبِقٌ ... يفُوق رَيَّاهُ عنْبَر الشِّحرِ والروضُ يخْتال في مُصبَّغَةٍ ... تجُرُّ أذْيالَها على النَّهرِ وسرورُه كالقيانِ إذ خطرتْ ... لِرقصِها في مآزِرٍ خُضرِ هذا مسبوق إليه في قول ابن طاهر الخبَّاز: والسَّروُ فيها كعَذارَى غدتْ ... ترقُص في أردِيةٍ خُضْرِ والطَّلُّ في أعينِ الزُّهورِ حكى ... أدمُعَ صَبٍّ أحسَّ بالشرِّ والجوُّ قد راقَ والمُدامةُ قد ... رقَّتْ كطبعِ النديمِ أو شِعرِي ودارَ من فوقِ وجهِها حَبَبٌ ... يُخجِل مَرآه ناصِعَ الدُّرِّ فانْهضْ فَدَتْك النفوسُ مُبتكِراً ... وهاتِها قبل ضيعة العُمرِ صهباءَ تنفي همومَ ذي تَرَحٍ ... إن برزَتْ كالعروسِ من خِدْرِ طيِّبةَ النَّشرِ في الكؤوسِ وهل ... بعد عَروسٍ يكون من عِطْرِ يُديرها أهيفَ القَوامِ رَشاً ... مُخْتَصَر الخَصرِ بدائعَ السِّحرِ يسْقي قليلَ المُدامِ عن ثقةٍ ... منه بما في الجفونِ من خمرِ وأنشدته يوماً قولي: بُروحِيَ من وجهُه آيةٌ ... تدلُّ على خلقهِ المُنْقَنِ أُحاول في صُدغِه لحظةً ... فتمنعني زحمةُ الأعيُنِ فأنشدني في معارضة بديهاً: كلَّما رمتُ نَظرةً والْتماحاً ... لعِذارٍ على الخدودِ أدارَهْ لم يجِدْ ناظِري إليه طريقاً ... لازدِحام اللواحِظ النَّظَّارَهْ وأنشدني من لفظه لنفسه: لا تحسبُوا أن رَيْحانَ العِذارِ بدَا ... بوجنةٍ صاغَها الرحمنُ وابتَدَعا وإنما طوقُه السَّمُّورُ قابلَها ... فشكلُه في حواشِيها قد انْطَبعَا مثله للشهاب الخفاجي: وظبيٍ من السَّمُّورِ أُلبِس فروةً ... ومال كما هزَّت صباً سُحرةً سَروَا وإلا عيونُ الناسِ من دَهشةٍ به ... تُخايلُ أهْداباً فتحسَبُه فَرْوَا وأنشدني من لفظه لنفسه: نبِّه الصَّحبَ لارتِشافِ سُلافِ ... وأدِرها بين النُّدامى الظِّرافِ وامسحِ الطَّرفَ من فتورِ نُعاسٍ ... بذُيول الصَّبا الرِّقاقِ اللِّطافِ يا فَدَتْكَ النفوسُ دَاوِ بصرفِ الرِّ ... احِ روحاً تعرَّضتْ للتلافِ واسقِنيها من كفِّ ظبيٍ غريرٍ ... لَيِّنِ المُلتوى قليلِ الخلافِ مُخطَفِ الخصرِ يختفي البندُ منه ... بين طيِّ الأعكانِ والأردافِ في رياضٍ حُفَّتْ بِسروٍ نضيرٍ ... كجوارٍ ميَّالةِ الأعطافِ باكَرَتْها غُرُّ السحابِ بصوبٍ ... دائِم السَّحِّ هاطلٍ مِذرافِ

خدمتْ زُهرُها النجومَ فأبدَتْ ... شكْلها في غديرِها الشَّفَّافِ وقرأت له يوماً الديباجة التي عملتها لديوان شعري، ومنها قولي في معرض غزل: كأنَّ خاله بين الحاجبين، هنديٌّ يلعب بسيفين، أو جارح يختطف الجوارح بجناحين. فأعجبه ما قلته وراقه، وألقى عليه أوراقه، وجاءني بعد أيام وقد نظم هذا في مقطوع، وأنشدنيه، وهو: كأنما الخالُ بين الحاجبيْن فتًى ... يرمِي بقوسيْن أو يسطو بسيفينِ أو طائرٍ جارحٍ أهوَى على شَرَفٍ ... ليخطِف القلبَ منِّي بالجناحينِ ونظمت وأنا بالقاهرة قصيدة،، وصفت بها بركة الأزبكية، وتخلَّصت إلى مدح بِركةٍ خطَّها الأستاذ زين العابدين، لا برح المجد ينطق بلسانه، والجود يشكر موارد إحسانه. فلما وصلت إلى دمشق، وقف عليها المترجم، فكتب إليَّ قصيدةً على وزنها ورَوِيِّها، وصدرها بإنشاءٍ من نسج قلمهِ. فأما قصيدتي، فهذه: يا حبَّذا خُضرُ الخما ... ئلِ في رياضِ الأزبكيهْ وخُفوقُ أرديةِ النَّسي ... مِ سرى ببقْعتِها النَّديَّهْ أرضٌ تكنَّفَها الحدا ... ئقُ والرياضُ الأريَضِيهْ وتعطَّرتْ أرجاؤُها ... بالرَّائِحاتِ المَنْدَليَّهْ فوَّاحةٌ بِشذا العَبي ... رِ وعابقاتٌ عنبريَّهْ وترنَّمتْ أطيارُها ... سَحَراً بأصواتٍ شجيَّهْ وإذا تأمَّلتَ القُصو ... رَ بها عرفتَ بها المَزِيَّهْ ومُنحتْ ما تختارُ من ... طُرفِ المُراداتِ البهيَّهْ ومُنِيتَ ما تهواه من ... تلك الوجوه الأصبَحِيَّهْ وتمايلتْ شوقاً لطلْ ... عتك القدودُ السَّمهَرِيَّهْ وقصَرتَ كلَّ هوًى على ... خَصرِ الخُصورِ الخاتِميَّهْ وخلُصتَ من سهمِ العُيو ... ن وأنت يا قلبي الرَّميَّهْ من كلِّ مرهوبِ الشَّبا ... في لحظِه رُسْلُ المَنِيَّهْ وإذا أشارَ ملاطِفاً ... ويلاهُ من تلك البلِيَّهْ يدعو النفوس إلى التَّلا ... فِ وليس يدري ما القضِيَّهْ وعلى تَلَفُّتِ جيدهِ ... كم حار مُرتادُ التَّقِيَّهْ ونَصيبُه في الحسنِ حيْ ... ث الشمسُ غُرَّتُه المُضِيَّهْ فاختَر هنالك مَربَعاً ... تُكفي به كلَّ البليَّهْ وتُقيمُ موفورَ المُنى ... وتحُفُّك المِنَنُ الحَفِيَّهْ في ظلِّ زين العابدي ... ن الشَّهمِ أستاذ البرِيَّهْ مولًى أناخَ المجدُ في ... أعقابِه البيضِ النَّقِيَّهْ وتشرَّفتْ بجنابِه ... شرفُ القرومِ المولويَّهْ فالفضل فضلُ فتًى له الْ ... أنعامُ والحُسنى سجيَّهْ والفخرُ شِنْشِنَةٌ له ... ولقد أراها أخزميَّهْ والحِلمُ وصفٌ قصَّرتْ ... عنه السَّجايا الأحنفِيَّهْ والجُود كلُّ الجودِ في ... شِيَمٍ غذتْه حاتِميَّهْ ضاهى بمقعدِه السُّها ... فغَدتْ منازلَه العليَّهْ وجرى القضاءُ بوَفقِ ما ... يرجوه من حُسنِ الطَّويَّهْ مولاي حيَّى الله وجْ ... هك بالتَّحياتِ الزكيَّهْ ورعاك ما دام الدوا ... مُ بعيشةِ العمرِ الهنيَّهْ أنا من عرفتَ بأنه ... منسوبُ سُدَّتِك السنيَّهْ وإليك لي حقُّ انتما ... ءِ فاجرِ حقَّ المالكيَّهْ وأقِل عِثاري إن سقَطْ ... تُ لضعفِ حالي في الهويَّهْ فأنا الذي خطَّيتُ رَحْ ... لي في حِماك حِمَى الحمِيَّهْ وأرحتُ من تعبِ الحيا ... ةِ هناك جسمي والمطِيَّهْ ما لي براحٌ ما برحْ ... تُ وكان في عمرِي بقيَّهْ

ما الكدُّ في دارِي لا ولا ... أرضِ القِلاع الأعصميَّهْ كلاَّ ولا لي ما حيي ... تُ بجِلَّقٍ والرومِ نِيَّهْ إلا جِوارُكِ مُنيتي ... حيث الهباتُ الأريَحيَّهْ حيث الأخِلاَّءٌ الكِرا ... مُ ذوو الفُكاهاتِ الجنيَّهْ من كل وضَّاحِ الصَّبي ... حةِ وهو بسَّامُ العَشِيَّهْ لا زلتَ تخدمُكَ الأفا ... ضلُ والسَّراةُ اللَّوذعيَّهْ وإليكَها مختارةً ... من جِلَّقِ الشامِ الزَّهيَّهْ غنَّاءَ حاليةَ المُقلَّ ... دِ بالعقودِ الجوهريَّهْ غُذِّيتْ أوانَ شبابِها ... بشَميمِ سفحِ الصَّالحيَّهْ وتروَّحت بالشِّيحِ والْ ... قَيصومِ من تربٍ زكيَّهْ وكسَا معاطِفها الدَّلا ... لُ حُلى الجمالِ السُّندسيَّهْ تُوليكَ من طرَفَ المقو ... لِ نفائِسَ الدُّرِّ السنيَّهْ وتبثُّ مدحَك في الورى ... بصفاتِك الغُرِّ الرضِيَّهْ فاهنأْ بها وبمثلِها ... من خالِص الطُّرَفِ الطَّريَّهْ وبقِيتَ ما بقيَ البقا ... ءُ وأنت ميزانُ البريَّهْ تَحبوكَ في أمرِ المُنى ... ألطافُ مولاك الخفيَّهْ وهذا ما كتبه إليَّ من إنشائه، ويتلوه قصيدته: إن أشرفَ ما نمَّقه قلم، وأتحفَ ما نَمنَمه رقم. وأبهجَ ما تزيَّن به طِرس، وأبدع ما جرى به نِقس. سلامٌ أضوعُ من شميم الكِبا، وألطفُ من نسيم الصَّبا. وأعطرُ من أرَج أزهار الرياض، وأسحر من تغازل الأجفان المِراض. وأثنِيةٌ لا يُحصى عدُّها، وأدعيةٌ لا ينقطع مددُها. أُهدي ذلك إلى جناب من لا أسمِّيه؛ لجلالته، ولا أكنِّيه؛ وقدره المُعتلي عن ذلك يُغنيهِ. حرس الله ذاته العليَّة، وجمَّل الوجود بصفاتِه السَّنيَّة. وبعد، فإن تفضَّل المولى بالسؤال، عن كيفيَّة الحال. فالعبد لله الحمد ذي المِنن الوافية، في بحبوحة الصحة والعافية. غير أن الشوق، شبَّ عمرُه عن الطَّوق. يسَّر الله الاجتماع بكم إنه وَلِيُّ التيسير، " وهو على جمعِهم إذا يشاءُ قدير ". والذي يعرِضه هذا الدَّاعي، أن المولى حين أشرق في فلك مصر بدرُه الكامل، وغاب عن أُفق شامنا الذي هم للمحاسِن شامِل. لم يزل العبدُ لألم البين مكابد القلق والضَّجر، متطلِّعاً لأخباركم السارَّة حتى ظفر منها بأبلغ أثر. وذلك قصيدتكم الرافلة في الحلل البهيَّة، المتضمِّنة لمدح الأستاذ ووصف بركة الأزبكيَّة. التي سجد لبلاغة نظامها من هو أبلغ من الوليد، والفريدة التي كلُّ بيتٍ منها بألف قصيد. لا برحتْ جواهر ألفاظ مولانا قلائد لذوي التَّحقيق، وعرائسُ أبكار أفكارِه محلاَّةً بمدائح آلِ الصِّدِّيق. فعند ذلك توسَّلت إلى الله تعالى بسيِّد الكونين، أنه كما سرَّني برؤية الأثر أن يُقِرَّ الأعين بالعين. وتصدَّيتُ لعرض أشواقي التي خرجت على حدِّ الحَصر، بأن أعارضها بقصيدةٍ أهديها لأوحد العصر. لتكون لأثر الشوق قافية، فأشبهتْها ولكن وزناً وقافية. ومن يقوى لمعارضة البحر الكامل، وأين الثُّريَّا من يدِ المتناول. وهاهي واصلةٌ إليك، وقادمةٌ عليك. وصل الله لك أسباب نتائج الأمل، متلفِّعةً بأسمالِها، تعثر في ذيلها من الخجل. فتلقَّها بالبِشر والقبول، وأنزِلها منك بأحسن منزول. وأسبل عليها من حلل إحسانك سِترا، لأنك من أهل البيت وصاحب البيت أدرى. والقصيدة هي هذه: أسَقيطُ طَلٍّ جال في ... زُهر الرياض السُّندسيَّهْ أم ثغرُ المبا ... سِمِ ذي الثَّنايا اللُّؤلؤيَّهْ أم وحيُ حوراءِ اللَّوا ... حِظ أم عقودٌ جوهريَّهْ أم نسمةٌ شِحرِيَّةٌ ... نفحَتْ فجاءتْ عنبريَّهْ أم روضةٌ غنَّاءُ يا ... نِعةٌ أزاهِرها زهيَّهْ أم ذاك نفثُ السِّحرِ من ... مولاي أرسلَه هدِيَّهْ

أعني الأمينَ أمينَ كنْ ... زِ الفضلِ بسَّامَ العشِيَّهْ حاوِي الفصاحةِ والبلا ... غةِ والصفاتِ الألمعيَّهْ ساد الورى بشمائلٍ ... عنوانُها النفسُ الزَّكيَّهْ فَرعٌ زَكيٌّ أصلُه ... خيرُ الخلائقِ والبريَّهْ يا مجلياً بكر المعا ... ني الغرِّ بالكَلِمِ الجليَّهْ للهِ دَرُّ عقيلةٍ ... ألبَسْتها الحُللَ السنيَّهْ وبعثتَها تروِي أحا ... ديثَ الكرامِ الأريحيَّهْ من ذا يُساجِلكَ النِّظا ... مَ وأنت سحَّاحُ السجيَّهْ أدبٌ كأزهارِ الرُّبى ... سُقيتْ بأخلاقٍ رَوِيَّهْ وشواردٌ سارتْ بها الرُّ ... كبانُ للمدنِ القصيَّهْ غُرَرٌ كأنَّ روِيَّها ... دُرُّ الثُّغورِ الألْعسِيَّهْ كادتْ لرِقَّتِها تسي ... لُ فترتوِي كبِدٌ صدِيَّهْ يا سيِّداً كم راضَ لي ... في النَّظم قافيةً عصِيَّهْ يا أوحدَ العصرِ الذي ... حاز الهِباتِ الحاتميَّهْ أوَمَا كفى بِفراقِ طلْ ... عتِكَ البهيَّهْ لي بليَّهْ حتى نسيتَ عهودَ ودِّ ... ي بعد إخلاصِ الطَّويَّهْ ثم انثنيتَ فهِجتَ لي ... شجَناً بذكْر الأزبكيَّهْ وسلوتَ عن وادي دِمش ... قَ وما حوى والصالحِيَّهْ ذاتِ المنارةِ والجوا ... سِقِ والرِّياضِ الأريَضِيَّهْ والنَّيربين الأفيحَيْ ... نِ بها وغوطَتِها البهيَّهْ والسَّبعةِ الأنهار تجْ ... ري في البِقاع الأقْدسِيَّهْ والوُرْقِ يُبدِي لحنُها ... بالجُنْكِ أصواتاً شجِيَّهْ وعليلِ مسْكِيِّ الصَّبا ... يهْفو بأنفاسٍ نَدِيَّهْ والمرجةِ الخضراءِ إذْ ... فُرِشتْ ببسْطٍ عبقريَّهْ ومسارِحِ الآرامِ في ... أرجائِها وقتَ العشيَّهْ من كلِّ أغيدَ مُشرقٍ ... أبْهى من الشمسِ المُضِيَّهْ يفترُّ عن شنَبٍ أغرَّ ... حوَى صِحاحَ الجوهريَّهْ وجَناتُه الياقوتُ وال ... خِيلانُ أضحتْ عبقريَّهْ ولِحاظُه فعلتْ بنا ... أضعافَ فعلِ المشرَفِيَّهْ عن بابلٍ أخذتْ فنو ... نَ السحرِ فهي البابليَّهْ يرنو فيرمِي أسهُماً ... منها وحاجبُه الحَنِيَّهْ يُصمِي ولا يدري بأنَّ ... فؤادَ مُضناهُ الرَّمِيَّهْ لدنُ المعاطفِ قَدُّه ... قدُّ الرِّماحِ السَّمهريَّهْ نشوانُ من خمرِ الدَّلا ... لِ سُقِيَ بكاساتٍ رَوِيَّهْ فكأنَّه ملِكٌ وأل ... بابُ الأنامِ له رعِيَّهْ هذي محاسِنُ جِلَّقَ ال ... فيحاءِ تَفْديك البريَّهْ أُنموذجاً منها وصفْ ... تُ وانت أدري بالبقية فبأي عذر ملت عن ... رؤيا الشَّهيَّهْ حيَّى الإله جمالَ وَجْ ... هِكِ بالرضا أسنَى يحيَّهْ مولايَ هل من نظرةٍ ... صِدقُ الوِدادِ لها مزِيَّهْ فلواعِجُ الأشواق في الْ ... أحشاءِ جمرتُها ذكِيَّهْ أنا عبدُكَ الخِلُّ الوَفِيُّ ... وليس حالاتي خفِيَّهْ فاسلمْ فديتُكَ حيث كُنْ ... تَ ودُمْ بعيشتِك الرخِيَّهْ وإليكهَا رُعبوبَةً ... تُنبيك عن حُسنِ الطَّوِيَّهْ حموِيَّةً شاميَّةً ... وافتْ بفاكهةٍ جنِيَّهْ

فاسبِلْ عليها من جمي ... لِ السترِ أرديةً نقِيَّهْ لا زلتَ ممدوحَ الصَّفا ... تِ الغُرِّ محمودَ السَّجِيَّهْ ما غرَّدتْ وُرْقُ الحما ... ئِمِ في الرِّياضِ السندسيَّهْ ولما وردت عليَّ وكنت مقيماً ببولاق، وأنا حليف أخلاقٍ أخلاق. وذلك لفقد الأنيس، حتى اليعافيرُ والعِيس. لا أرى ردِيفاً إلا من القافية، ولا أطلبُ صديقاً إلا من العافية. ولا ذقتُ إلا ماءَ عيني مشربا، ولا نِلتُ إلا لحمَ كفِّي مطعَما. وقد عرفتُ شأني وزماني، وخلعتُ من عنقي رِبْقةَ الأماني. لا تزعجني المهمَّة، إلى استعمال الهمَّة، وأنا ناظرٌ إلى نفسي بالذنبِ والتُّهمة. فقد اجترمتُ الخطايا، وركبتُ الأجرامَ رواحِلَ ومطايا. وفارقتُ العيون الصِّحاح، والألفاظَ الفِصاح. والرِّياضَ النَّواسِم، والثغورَ البواسِم. والمواطن التي عرفتُ بافتراع الأحاسنِ ناسَها، وألقيتُ بها أزِمَّةَ الآداب تروق أنواعها وأجناسَها. فكتبت إليه وضرورتي مشروحة، ودعوى التَّحامُل عن كتفي مطروحة. وأستوهب الله رحمةً تجعل عِناني في يد التوفيق، وتصرِف عَياني عن هذه الوحدة إلى الفريق الرَّفيق. وصل كتابك فاتَّفقتِ القلوب على تفضيله، واختلفت الألسنةُ في تمثيله. فمِن مدَّعٍ أنه رُقْيةُ الوصل، وريقة النحل. ومنتحلٍ أنه دُرَّةُ النَّحر، ولؤلؤةُ البحر. وقائلٍ هو السُّكَّرُ المعقود، وسلافُ العنقود. فأمَّا أنا فتركت التشبيه، وقلت ماله مقيل ولا شبيه. بَنَتِ البلاغةُ سماءَ بيانه، وحُشر الحسن بين قلم منشيه وبنانِه. فعين الله على هذه الألفاظ الغر، التي يحسدها على اتساقها الياقوت والدُّر. وقد عرفتني من خبر سلامتك ما رجوت له الدوام، ودعوت له بالحفظ من حوادث الأيام. وكان سرى خيالك فشوَّق، واستطار برقك فأرَّق. فأجفان الإخلاص ناظرةٌ إليك، ويد القبول مسلِّمةٌ عليك. وأما القصيدة التي هي دُرَّة التقاصير، وربيبة تلك المقاصير. فقد وردت مؤكدة لك المحبَّة في القلوب، والرغبة في الودِّ المطلوب. وفطنت بتلك النِّيَّة، وما أظنُّها كانت عن رَوِيَّة. فهي كدعوة السائل، إنَّما تجري لتأكيد الوسائل. كيف ومحلُّها منطَمِسٌ بغبار الأغيار، وحق لمن رأى غُبار بولاق أن يشكو صدأَ الأكدار. ولعل السيِّد نظر إلى بيت العيون والرَّميَّة، فعلم أن النفس من مخالستِها أبِيَّة. فلو قاصراتُ الطرفِ أقبلْنَ كالمهَا ... وقَبَّلْنَ رأسِي ما قبلتُ مَزارَها نعم القلوب بعيون الشام علق، إلى أن يصير إلى ما منه خُلق. فأما وحَدَقِها المراض، وسهامِها التي تتمنَّاها الأغراض. ورُنوِّها ولو لحظةً فإن لها حقَّا، وتلَفُّتِها ولو غلطةً فإنِّي عبدُها رقَّا. إني مذ ودَّعتُ بها حلاوةُ الرِّضا، ودَّعتُ العيشَ المُرتضى، وبتُّ على جمرِ الغضا، وحدِّ السيف المُنتضى. وأنا الآن بحكم الزمان، مستودعٌ دار الهوان. أضحك للبؤس، وأبَشُّ للوجه العبوس. وأتصفَّح وجوهاً لا أرجوها، وأريد أمدحُها والمروءة تهجوها. أكثرهم شيخٌ يتفتَّى، ويبرز في أطوارٍ شتَّى. يأكل ما تأكل الناس، ويخالفهم في المشرب واللِّباس. له وجهٌ لا يشِف، وعينٌ لا ترِف. إذا تكلَّم، كَلَم، وإذا بَشَّ، أدهش وأوحش. كلامه في الرِّضا، مثلُ هزَّات الفضا. خلق الله ذاته عبرةً للنَّوائب. وثمَّ من رُّزِق فلتةً، ورُمِق بغتة. عمر غناه قصير، وهو بطريق اللُّؤمِ بصير. فإذا رأيت رثاثة حاله ونعمته لديه، يوشك أن تدَّعي غضب الله عليها وعليه. وقد مقتُّ به الأيام وتصاريفها، وسئمت الحياة وتكاليفها. ولو جهلت أن الحِذق، لا يزيد الرِّزق. لعذرت نفسي في الرحل أشدُّه، والحبل أمدُّه. ولكني أعلم هذا وأعمل ضدَّه، وأسير سيراً ينكِر المرء فيه جهده. وإلا فمن أخذني بالمطار، في هذه الأقطار. حتى تركني أنازل المحن، وأعتب هذا الزَّمن. وأقول: قد بليت فيه، بأيَّامٍ كأيَّام رمضان وليالٍ كلياليه. تلك كظلِّ الرُّمح، وهذه تهويمة الصُّبح. وكلاهما تارةً بنار الجحيم يلتهِب، وآونةً بفيحِه للحارِّ الغريزي ينتهِب. قد أخلاَّ بالعادة، وجاوزا المألوف بزيادة.

وحشوهما ذباب يبرح ويسنح، وبعدم مبالاة خلطائه لا يهفُّ للبراح ولا يجنح. وبرغوثٌ كنقطة دغل، أو سويداء دخل. يدرك بطعنٍ مؤلم، ويستحلُّ دم كلِّ مسلم. وبعوضٌ يطيل الألم، ولا يفنى حتى يرتوي من شرب دم. وبقٌّ خارجٌ عما يعهد، يلحُّ في الوصول إلى العظم ويجهد. ووراء ذلك ضجيج، ولا ضجيج الحجيج. وزحام يبلَى به الشخص من السَّحر في الطريق، حتى يقول: ما هذه القيامة على الرِّيق. وأمَّا حديث قلَّة الأدب فمن هنا يُؤثر، والأقلُّ منهم تابعٌ للأكثر. وكيف يُرجى منهم حجاب، ومكان الحياء منهم خراب. إلى غير ذلك من قبائح تركتُها حذراً من تلويث الكتاب، وفضائح لا يُلبس عليها ثياب. هذا وأنا أحمد الله الذي لا يحمد على المكروه سواه، ولا يعرف قدر نعمته إلا من عالج بلواه. فلولا العلَّة لم تحمد الصحة، ولولا التَّرحة لم تطلب الفرحة. فأنا فارقتُ الجنة تعلمة آدم أبي، واستبدلتُ نقيضها بطرفٍ نافرٍ وقلبٍ أبي. وخضتُ غمار المهالك والرَّدى، ونظرتُ إلى الآخرة وأنا في الدنيا. وتعوَّضتُ عن تلك الوجوه بهذه الوجوه، واختلفتْ حالي فأنا متناقض معهم في كل ما أرجوه. فما أشبهني بكحلٍ في عين أعمى، ومصباحٍ عند أكمَه، ونغمةِ عودٍ عند أصمّ، وخاتمٍ في أُصبع أشلّ. ودرَّةٍ في رأس قروي، وسُبحةٍ في يد بدوي. وسيفٍ في قبضة جبان، ومصراع تضمين في شعر ابن غزلان، أو أبي الغزلان. وإنِّي إلى مواضع إيناسي، ومراتع غزلان صريمي وكِناسي. أحنُّ من حمامةٍ لفرخْ، وأورى شوقاً من عفار ومرخْ. وأنا مقدم على أدوات التوسُّل، متوسِّل بصاحب الشفاعة في التَّوصُّل. فعسى أرى وقت التَّلفُّت، ولا علِقتْ لي بعدها لحظةٌ بالتلفُّت. وإن نبذوا بعدي الحَصاة، فلا أب لهم إن لم يكنِسوا العَرَصات. فإن عمدوا إلى أن يوقِدوا في أثري النَّار، فليسرعوا إلى أن يثيروا في قفاي الغبار. وضَراعتي إلى السميعِ المُجيب، أن يجعل ذلك أقرب من كلِّ قريب. والسلام. محي الدين السلطي شيخ الصَّنعة ووليدُها، والمتوفِّر له طريفها من الفنون وتليدها. وابن بَجْدَتها في القريض، وأخو جملتها في النفس الطويل العريض، وأبو عذرتها في التَّصريح بالأغراض والتَّعريض. رأس بالاستحقاق الآن، وسهَّل طرق الفنون وألان. وهو شاعر لا يطمح في لحاقه مجاريه، ولا يُحثى التُّراب إلا في وجه مُباريه. وقد ناهز الثمانين، وسما على العرانين. فلو رآه ابن سبعين لما تجاوز حدَّه، أو الثمانين لاستنجد بهمَّة جدِّه. وهو أعصف القوم ريحا، وأكثرهم عن البيان تصريحا. قلبه قليبٌ واسع، وغوره بعيدٌ شاسع. لا يقرطِس غرضاً إلا أصماه، ولا يفوِّق سهماً إلا أصاب مرماه. وقد صحِبته مدةً فتمتَّعت بآدابه، ورأيت التحوُّل في كلِّ فنٍّ من دابه. وتناولت من أشعاره تحفاً بادية الإغراب، وطُرفاً أترابها في اتِّفاق الصنعة تحت التراب. فدونك منها ما لا يحتاج حسنه إلى إثبات، كالدُّرِّ يكفيه من حسنه نحورٌ ولبَّات. فمن ذلك قوله من مقصورة، مستهلَّها: قوامُه واللَّحظُ منه يُفتَنى ... مُمَنَّعٌ بين الرِّماح والظُّبَى من جفنة كسرى استبيح اسمه ... وللنجاشي الحكم في الخال مضى في حرَكاتِ قدِّه يستحسن الضَّ ... مُّ ومن أجفانِهِ الكسر ارتوى وثغرُه قالوا العُذَيْبُ قلتُ من ... ذاكَ يُشامُ البرقُ منه أوْمَضَا منها: من لم يذُقْ حُلوَ الهوى ومُرهُ ... لم يدرِ ما بين الضَّلالِ والهُدَى يا صاحِ أعْنى غيرَ صاحٍ من هوًى ... إن جُزتَ سلعاً منه سلْ عن ذي نَبَا أخَيَّم الأحبابُ أم قد ظعَنوا ... فهاكَ آثارُ المَطِيِّ في طَوَى وكنت طلبت منه شيئاً من أشعاره، لأثبته في كتابي هذا، فوعد وسوَّف. فكتبت إليه: أمولايَ مُحيِي رسومَ الأدبْ ... ومن حاز فيه أجَلَّ الرُّتبْ لكَ اللهُ من مُبدِعٍ في الصنِيعِ ... إذا فاه يَمجبُ منه العجَبْ فشِعرُك تطرب منه المُدامُ ... ونثرُك يرقُص منه الحبَبْ وأنت الحياةُ لجسمِ العُلى ... وللفضلِ رونقُهُ المكتسَبْ

ولولا وجودُك ما شاقنِي ... كلامٌ يروق وذاتٌ تُحَبْ وعدْتَ بإرسال بعضِ القَريضِ ... فأنجِزْ لأبلُغَ منك الأرَبْ فهذا الربيعُ أتى قائلاً ... خذُوا طرَباً في أوانِ الطرَبْ فأرسل إليَّ قطعاً من شعره، وكتب معها: مولاي، وصلت الغادة التي بسماعها عربدت الأفكار، وسكرت مذ شامت أسطرَها ولا سُكر بمُصطار. فيا لها من غرِّيدةٍ غرَّدت فصدحَ من سماعها الحمام، وحمامةٍ ورقاء فعلت بنا كما تفعل الرُّوح بالأجسام. سجدت بين يديها البلغاءُ والفصحا، حتى سكر بخمرها المعنوي من لا يشرب وبها صحَا، فهي الدواء للجهَّال والدَّوا، ومعناها المرويُّ والفخر لمن لها روَى. داوت بكلامها الكُلوم، وسارت في مراتبها منازلُ النجوم. أشرقت في آفاق الأفكار وضاءت، وشرَّقت القاصدين عن الوصول بأدمُعِها ففاضت. برزت من كِنِّ حاصل الكمال جوهرةً فريدة، فشهدت بنو الفجر منها وتنهَّدت بدرِّها أبكار الأفكار فهي بها سعيدة. بانت فيها لبانات الأغراض، ميَّادةً يؤْتَمُّ بجوها وتُلغى الأعراض. بائية اكتسبت بصائرُنا صحة الإيضاح في المعاني، ببديع بيانها السَّامي على من يُعاني. تتجلَّى كأنَّها ذكاء نوراً فتكفُّ عن إدراكها العيون، فهي معلومة الذَّات بالصفات مجهولة الكُنه كما قال الفاضلون. خطفت بأشعَّة أنوارها من ظنَّ السَّراب شرابا، وسلبت وكست فتلك عقولاً وهذه أسبابا. فيالها من فاصلةٍ كبرى، وخافضة عن بعدها لخدمتها وِزرا. هذا وقد قلَّدتُها عنُق دهري فطال، ووطئت ممشاها بالعيون وطأة إدلال. فقال كمالها ارفع رَاسا، وتجلَّى جمالاً فأحيَى أنفاسا. فهي السائدة على سُؤدد السيادة، وكأنها لِمُرسلها حُسنى وزيادة. وقد ضاق وُسع هذا الدَّاعي عن هذا المدى، لكنه لحثالة حاله وقلَّة رأس ماله، قام منشدا: صدوحةُ روضِ اللَّهى والطربْ ... ومَغنى الفِصاح وكِنُّ الأدبْ غريدةُ بيتِ ولاءِ الولِيِّ ... نتيجةُ فخرِ لُغاتِ العربْ عن الرَّاح تُغني بحسوِ العقولِ ... فما الخمرُ وصفاً وبِنتُ العِنبْ بدتْ في خِمارِ اللَّهى تنثنِي ... فعربَدَ منها الحِجى واضطرَبْ ولمَّا اسْتقرَّت براح الخَديم ... أراح مُناه وزيحَ النَّصبْ كأنّ أمينَ الوفا قد وفَا ... يُخاصِم دهراً حليفَ العَتبْ فأبْرز حِلماً وحُكماً له ... فهل يُستطاعُ سِوى ما كتَبْ أجَبنا نجيباً سمَا عصرُه ... بما قال أمراً وما قد طلبْ فهاك رُوَى عاجزٍ عن مدَى ... وَفاك وعن شأوِ أهلِ الحسَبْ وهذا ما بعث به. فمن ذلك قوله من قصيدة: هذا المفرد في الغزل استجدتُه فأفردته، وهو: وجهٌ إذا قابلَ شمس الضُّحى ... والبدرَ ليلاً فات وقتُ الصَّلاهْ وقوله: ومختَضرٍ أرْثَتْه منِّي ضمائرٌ ... على ظنِّها لم تدرِ في أمرِها السَّببْ فكان كما أرويه حقًّا بلا مِرا ... إلى رحمةِ الله الرحيم هو الأدبْ أرثيتُ لفلان، إذا رفقتَ له. ورثى الميِّت بالشعر، وربما قالوا أرثأته بالشعر، ويعد من غلط البصريين. وأما أرثيتُه، فلم أره. ومن ذلك قوله: بي غادةٌ تُملِي الجوَى ... من شرحِ أسوا مِحنتي ناظرتُها من خاطري ... فأنا الذي وهي التِي فيه إيداع لبيت ابن لؤلؤ الذهبي، وهو: فأنا الذي أُملِي الجَوى من خاطِري ... وهي التي تُملي من الأوراقِ ومن ذلك قوله، من قصيدة، مطلعها: إنَّ أصْلدَ الزِّناد في الأيادي ... ما أصْلدتْ قرائحُ الأكبادِ أورتْ زنائدِي فنوناً قصَّرتْ ... عن نعتِها اللَّهى من الأمجادِ من كلِّ معنًى بالبديع شأوُه ... له رَقَى على بيانِ الشادِي معناه في لطافةِ التركيب والْ ... معنَى كلُطفِ الرُّوحِ في الأجسادِ برَعتُ فيها فاليراعُ خادِمي ... والطِّرس ملكِي والرُّوى أجنادي

فصل

سامرتُ فيما فُهْتُ روحي في الدجى ... فآنستنِي مثلَ صوتِ الحادِي لله ما نجبُ اليعاسيبِ انتشَتْ ... من الحُداة في رُوى إنشادِي تَعيفُ بالمفازِ وِردَ الماء من ... مساغِ نظمِي مُرتل التَّحادي تَميلُ في مسْرَى سُراها جُفَّلاً ... تبْغِي الحُداة لا حلى المزادِ منها: يا بُرَحاً زادتْ بنا أنواؤُه ... زَوْد الغديرِ عن رِوَى الصَّوادِي جرَّعتني بعد الأُصيحابِ الأسَى ... فذُقتُ منه وَصْمةَ النِّكادِ هلاَّ رحمت مُّغرَماً صَبًّا رقَتْ ... دموعُه مَرافِي الوِسادِ يسخرُ منه كل خِلوٍ من هوًى ... يُشفق فيه مُغرَم الوِدادِ فالخِلوُ ممنوعُ الرِّضا وضِدُّه ... عن حاله مُنَّعُ السَّدادِ أمَّمْتُ ناساً لقَباً وما هم ... بأهلِ وُدٍّ يقصدون بادِي فعدتُ عودَ نادِمٍ وهكذا ... من أمَّ غيرَ مثلِه في نادِي فلا رجعْتَ يا أخا الوُدِّ كما ... رجعتُ في عوْدِي وفي تَردادِي سئمْتُ مني فالورى أحقُّ من ... يُسأمُ منه أبدَ الآبادِ ومن ذلك قوله، من قصيدة، مستهلُّها: إذا ما دعانِي للهوَى المحكَمِ العُذري ... عِذارُ الذي أهوَى فماذا ترى عُذرِي وهل غيرُ ربِّ الآسِ صُدْغاً ونُكهةً ... لداءِ كُلومٍ في الحشاءِ إلى الحشْرِ عدِمتُ شفا وُردِ المراشِفِ حُلوِهِ ... إذا لم أكنْ أقوَى الخلائقِ للصبرِ وقوله من أخرى: طيفَ الكرى حُيِّيتَ من زائرِ ... منحْتَ بُرْءَ الداءِ من هاجِري ما كان أحلَى سِنَةَ الغمْضِ في ... ليلٍ سَطا في ظُلمِهِ كافرِ ليلٍ كأنَّ الغمضَ فيه سرَى ... ضَلَّ الهُدى فإنْقادَ كالحائِرِ وقوله: إن سُقم الجفون اسْقم جَفنِي ... وولاني من السَّقامِ فُتورا ربِّ فاشْفِ السَّقامَ منهم بكسْرٍ ... فَهَواهُمْ أضَلَّ خْلقاً كثيرا وقوله: دَعْ فؤادِي عليك يذهب حَسْرَهْ ... أوْ فيَكفيه منك في العمرِ نظرهْ ما صَنِيعي وفيك عادَ مآلِي ... عودةً كالسَّرابِ في أرضِ قَفْرهْ فصل عقدتُه لجماعة من العلماء الأجلاَّء، يهتدِي بمصابيح علومهم الأضِلاَّء. ممن فضله واضحٌ مبيَّن، والتبرُّك بذكره فرضٌ متعيَّن. فهم وإن كانت آثارهم العليَّة غنيةً عن الوصف والإطالة، فلقد أتوا بأشياء من الشعر هي في الجملة خيرٌ من البطالة. فمنهم: نجمُ الدِّين الغزِّي النجم الأرضي، وابن البدر المضيء، وجدُّه الرَّضيُّ المرْضِيّ. ثلاثة في نسق، طلعوا فأناروا الغسق. وقدمهم في النَّباهة، أعلى من قدمهم في الوجاهة. فمن يساميهم، وإلى الكواكب مراميهم. وهم في القديم والحديث، أئمة التفسير والحديث. لم يبرحِ المجدُ يسمُو ذاهباً بهِمُ ... حتَّى أزاح الثُّريا وهو ما قنَعَا والنَّجم انعقدت العَشرةُ عليه، وسعتْ وفودُ العناية مسرعةً إليه. فَ " والنَّجمِ إذا هوى، ما ضلَّ صاحبكم وما غوَى " لهو الذي به يقتدِي المقتدِي، وبسمته يهتدي المهتدي. هو النجم يَهدِي جميعَ الورى ... فمن دونه البدرُ والشمسَ دونْ وقد صار في الفضلِ حيثُ انْتهوا ... وحيث انْتحوا فبِهِ يقْتدون إذا ظُلمَةُ الغَيّ ألْوتْ بهم ... أضاء فبالنجمِ هم يهْتدونْ وله دعاءٌ مستجاب؛ وخواطر ليس بينها وبين الله حجاب. فلو حذِّر به المنهمك في غوايته لأمسك، أو خوطِب به المتهالك في عِصيانه أناب وتنسَّك. شغل بالإفادة أيامه ولياليه، ونظم على جِيد الأيام فرائده ولآليه. وتأليفاته كاثرت رمل النَّقا، وأربت على الجواهر في الرَّونق والنَّقا. مع مالَه من كرمٍ يُخجل الأجواد، وسخاءٍ أضحت عوارفه كالأطواق في الأجياد.

لم تُرْو في التَّواريخ كأحاديثه الحِسان، ولم تسطَّر كآثاره في صحائف الأزمان بالحسن والإحسان. وله شعر كقدره ثمين، إلا أنه كالياسمين. فيُكتب لشَرفه، لا لكثرة طُرفِه. فمن ذلك هذه الزَّائيَّة، عارض بها قطب مكَّة الذي عليه المَدار، وقمر أُفقها الذي يأبى غيرَ الإبدار. وقصيدته هي هذه: سبحان من للوجودِ أبرَزْ ... رَشاً بحُكم الهوى تعزَّزْ زادَ على الرِّيمِ في دلالٍ ... وعن جميع المهَا تميَّزْ أحْوى وللظَّرفِ ليس منه ... أحْوى ولا للبَهاءِ أحوَزْ لقد كساهُ الجمالُ ثوباً ... بألطف اللطفِ قد تطرَّزْ رنَا بِطرفٍ جآذِرِيٍّ ... كأنه للوصال ألغَزْ وَعداً ولكن بلا نهارٍ ... يا حبَّذا الوعدُ لو تنجَّزْ بعثتُ باثنينِ من خُضُوعِي ... وثالثٍ بعد ذَيْنِ عَزَّزْ أرجو وِصالاً منه بِعِزٍّ ... من عَزَّ من وصلِه فقد بَزّ فما رثَى لي ولا وفَا لي ... وقد قسَا قلبُه ولزَّزْ وعَفَّ إلا عن قتلِ مثلِي ... فإنَّه عنه ما تحرَّزْ قوله: من عَزَّ بَزَّ. مثل، معناه: من غلب سلب. قال المفضَّل: أول من قال ذلك رجلٌ من طي، يقال له: جابر بن رألان، أحد بني ثُعل. وكان من حديثه أنه خرج ومعه صاحبان له؛ حتى إذا كانوا بظهر الحيرة، وكان للمنذر بن ماء السماء يومٌ يركب فيه، فلا يلْقى أحداً إلا قتله، فلقَى في ذلك اليوم جابراً وصاحبيه، فأخذتهم الخيل بالثوَيَّة، فأُتِيَ بهم المنذر، فقال: اقترعوا، فأيُّكم قرع خلَّيتُ سبيله، وقتلتُ الباقين. فاقترعوا، فقرعهم جابر بن رألان. فخلَّى سبيله، وقتل صاحبيه. فلما رآهما يقادان ليقتلا، قال: من عَزَّ بَزَّ. فأرسلها مثلاً. وقصيدة القطب مطلعها: أقْبل كالغصنِ حين يهْتزّ ... في حُللٍ دون لُطفها الْخزّ وهي مذكورة في الريحانة. وذكر الشهاب معها قصيدةً له عارضها بها، ومطلعها: من علَّم الغصنَ حين يهْتزّ ... ميلَ قُدودٍ تميلُ في الخَزّ وللنَّجم: أخوكَ في الإسلامِ يُجديك في ... علمٍ ورأيٍ منه أو أنْسِ كأن قد احْتجْتَ إلى نفعِه ... وإذ به قد صار في الرَّمْسِ أصْبحتَ أسَّافاً على صاحبٍ ... قد كنتَ تأسَى منه بالأمْسِ ما أحوجَ المرءَ إلى خِلِّه ... وأحوجَ الجنسَ إلى الجنْسِ ويلاه من عصرٍ رأينا به ... على افتقادِ الكُمَّلِ الخمْسِ لسنا نرى ممَّن مضَى واحداً ... ولو بلغْنا مطلَعَ الشمْسِ هذا معنًى موجود في الأثر، وذلك ما أخرجه أبو نعيم في الحلية، عن سليمان بن موسى الأشدق، قال: أخوك في الإسلام إن استشرته في دينك وجدت عنده علما، وإن استشرته في دنياك وجدتَ عنده رأياً، ما لك وله، وإن فارقك فلم تجد منه خلَفَا. وسليمان هذا كان من أكابر السَّلف. قال الزُّهري: إن مكحولاً يأتينا، وسليمان بن موسى - يعني لسماع الحديث - وأيمُ الله إن سليمان لأحفظُ الرجُلين. أخرجه في الحلية أيضاً. ومن هذا ما نقله الشعراوي في طبقاته عن أبي المواهب الشَّاذلي، أنه كان يقول: أهل الخصوصية مزهود فيهم أيام حياتهم، متأسَّف عليهم بعد مماتهم، وهناك يعرف الناس قدرهم، حين لم يجدوا عند غيرهم ما كانوا يجدونه عندهم. وقد قيل في المعنى: ترى الفتى يُنكِر فضلَ الفتى ... ما دامَ حيًّا فإذا ما ذهبْ لَجَّ به الحِرصُ على نُكتةٍ ... يكتُبها عنه بماء الذهبْ ومن مقاطيعه قوله: تواضَعْ تكُنْ كالنجم لاح لناظرٍ ... على صفحاتِ الماءِ وهو رفيعُ ولا تكُ كالدُّخَّانِ يعلو بنفسِه ... إلى طبقاتِ الجوِّ وهو وضيعُ وقوله: لا تكرَهنَّ حسوداً ... يُجديك نشرَ الفضيلهْ كم من حسودٍ مُفيدٍ ... ما لم تَفِدهُ الفضيلهْ ومثله لوالده البدر: الحمدُ للهِ على فضلِهِ ... إذ صيَّرَ الحاسدَ لي يخْدِمُ

يجْهدُ في رَفع مقامِي وفي ... نشرِ علومِي وهْو لا يعلمُ ومثله لابن الوردي: سبحانَ من سخَّر لي حاسِدِي ... يُحْدِث لي في غَيبتي ذِكرَا لا أكرَه الغِيبةَ من حاسدٍ ... يُفيدني الشُّهرةَ والأجْرَا ولأبي حيَّان: عِداتي لهم فضلٌ عليَّ ومِنَّةٌ ... فلا أذْهَب الرحمن عنِّي الأعاديا هم بحثُوا عنْ زَلَّتي فاجتنبْتُها ... وهم نافسُوني فاكْتسبْتُ المعالِيا الشيخ أيُّوب الخَلوَتِي الوليُّ العارف، ذو المعارف والعوارف. أحد الراسخين في العلم الإلهي، والكاشفين عن أسرار الحقائق كما هي. حلَّ من جفن الشكر في سواده، وتبوأ من صدر الإحسان في فؤاده. فمحامده تملأ المجامع والمسامع، ومناقبه تنير المطالع وتبعث المطامع. وعلمه تُقبل أمواج البحر بين يديه، وحلمه يطيش شيخ الجبال أبو قبيس لديه. إلى ما حوى من منظرٍ صبيح، يستنطق الأفواه بالتَّسبيح. وسخاءٍ لو ركِّب في الطبائع لم يوجد شحيح في نوع الإنسان، وزهدٍ لو كان رقيةً للصبابة لم يبق جريحٌ من حدق الحسان. وأما رقَّة طبعه فكلما ذكرت تنزَّهت في بحبوحة النعيم الخواطر، واشتقَّت من أنفاس الهجير بين الروض والنهر بمراوح النسيم العواطر. مع تلطُّفٍ بلغ الغاية في الكمال، وسلامةٍ لم يبق معها فتنةٌ إلا فتنةٍ بجمال. فهو بالهداية محلَّى، وقد رفع الله في العلياء محلا. وله من الأخبار ما يُملي التَّواريخ المخلَّدة، ومن الأشعار ما يملأ الكتب المجلَّدة. فمن شعره قوله من قصيدة، يذكر فيها ليلةً مضت في روض عنبري النَّفح، ويتشوق إليها تشوُّق الشريف لليلة السَّفح. وليلتنَا على قاسون لمَّا ... خرجْنا من منازِلنا ذهابَا وسِرنَا والغزالُ لنا دليلٌ ... ووجه غزالةِ الأفلاكِ غابَا لقصرِ أبي البقَا شرف اعتلاءً ... وطابَ لنا منازِلُه رحابَا حططْنا فيه أحمالاً ثقالاً ... عن الظهرِ الذي قد صارَ قابَا ومن فضلِ المُدام لقد حظِينَا ... بشمَّاسٍ يُديرُ لنا الشَّرابَا بمدرعَةٍ تخال سوادَ عينِي ... لِتمثالٍ لها حاكِي قُنابَا وغنَّى والظَّلامُ لنا رضيعٌ ... وقمْتُ وكان رأسُ الليلِ شابَا ونادَى بالأذانِ فقلتُ أهلاً ... بذاك وكنتُ أول من أجابَا لأنَّ الصُبحَ أشهرَ سيف حربٍ ... وجُنح اللَّيل كان له قِرابَا وله: انْظُر إلى السِّحرِ يجري في لواحِظِه ... وانْظر إلى دعَجٍ في طرفِه السَّاجِي وانْظر إلى شعراتٍ فوق وجنتِهِ ... كأنَّما هنَّ نملٌ دبَّ في عاجِ أحسن منه قول بعضهم: كأن عارِضه والشَّعر عارَضَه ... آثارُ نملٍ بدتْ في صفحة العاجِ توحَّلتْ في لطيمِ المِسكِ أرجُلُها ... فعدْنا راجِعةً من غير مِنهاجِ وله: الهجوُ أقبح ما يكون إذا بدَى ... وإذا اسْتجنَّ ففي الفؤادِ قبيحُ فلِذاك لا يرضاه إلا جاهِلٌ ... إنَّ الجهول بما يقول جَريحُ وله: وليلةٍ بِتُّ فيها لا أرَى غِيَراً ... مع شادِنٍ وجهه قد أخجلَ القمرَا نادمْتُه قال هاتِ الكأسَ قلتُ له ... جلَّ الذي لافتِضاحِي فيك قد سترَا وقمتُ أرشفُ من ريقِ المُدامِ ومن ... مُدامِ ريقٍ وأقْضِي في الهوَى وطَرَا ولفَّنا الشوقُ في ثوبيْ تُقًى وهوًى ... وطال بالوصلِ لي والليلُ قد قصُرَا وله: وليلتنَا بالأمسِ كانتْ عجيبةً ... وفينَا غزالٌ أدْعَجُ الطَّرفِ أحوَرُ سألتُ إلهي أن نعود لمِثلِها ... بعَوْد التَّجلِّي قيل لا يتكرَّرُ وقوله: وقد لامنِي عاذِلي في الحُبِّ قلت له ... حُبِّي شِفائِي كما أنَّ السِّوى مرضِي قد قال قبليَ شخصٌ لست أعرِفهُ ... لكنه قد قضى من شعرِهِ غرضِي لكلِّ شيءٍ إذا فارقْتهُ عِوَضٌ ... وليس لله إن فارقتَ من عِوَضِ

فاصْبِر عليه تنلْ بالصَّبر وصلته ... فالمرِّ فيه حلا والحكمُ فيه قُضِي الحكم لله وهو العدلُ فارْضَ به ... ما يغلِب الدهرَ إلا من بذاك رضِي في الأمثال: في الله عوض من كل فائت. قائله عمر بن عبد العزيز. ورأى أبو جعفر المعدني مكتوباً على جدار: لكلِّ شيءٍ فقدتهُ عِوَضٌ ... وما لِفقدِ الحبيبِ من عِوَضِ فأجازه بقوله: وليس في الدهرِ من شدائِدِه ... أشدُّ من فاقةٍ على مرَضِ وقوله: ما يغلب الدهر ... إلخ، منه. لكلِّ شيءٍ مُدَّةٌ وتنقضِي ... ما غلبَ الأيَّام إلا من رَضِي ومما ينسب إليه: قد لامنِي الخلقُ في عِشقِ الجمالِ ولم ... يدرُو مُرادِيَ فيه آهِ لو عرفُوا وصلتُ منه إلى الإطلاق ثمَّ سرَى ... سِرِّي إلى قيد حسنٍ عنده وقفُوا وله تخميس الأبيات المنسوبة إلى العارف بالله تعالى أحمد الرفاعي: أفوه إذا يشدُوا الأنامَ بشُكرِكُم ... وأكتم سرِّي لا أبوح بسرِّكُمْ أحبَّتنا من طيبِ نشأةِ خمرِكُم ... إذا جنَّ ليلِي هام قلبِي بذِكرِكُمْ أنوح كما ناحَ الحمامُ المطَّوقُ عسَى ولعلَّ الدهرَ يأتي بهم عسَى ... لأشهدهُم عند الصباحِ وفي المسَا فقلبِيَ من فقدِ الأحبَّةِ قد قسَا ... وفوقي سحابٌ يمطِر الهمَّ والأسَى وتحتِي بِحارٌ في الهوَى تتدفَّقُ إذا فاح من نجدٍ بقلبِي عبيرُها ... فلا عجبٌ إن قلتُ إني سميرُهَا وإن خمدتْ نارِي فوجدِي يُثيرُها ... سلُو أمَّ عمرٍو كيف باتَ أسيرُهَا تفكُّ الأسارَى دونه وهو موثَقُ وفي تلفِ الأرواحِ كم لي إباحةٌ ... وفي منزلِ العشَّاقِ كم لي سياحةٌ فيا ويحَ صَبٍّ أثْخنتْهُ جِراحةٌ ... فلا هو مقتولٌ ففي القتلِ راحةٌ ولا هو مأسورٌ يفكُّ فيطْلقُ وشعره كثير، ويكفي من الدلالة ما أبان الطرق، ومن القلادة ما أحاط بالعنق. ومن فصوله القصار، الجارية مجرى الأمثال والحكم، قوله: لا يترك الوسائط، من لم يصر من البسائط. من صدقت سريرته، انفتحت بصيرته. طرق الله لا تحصى للإكثار، وأقربها إليه الذِّلُّ والانكسار. الخول يذهب الحجب، والشهرة تورث العجب. من لم يكمل عقله، لا يمكن نقله. في القرن العاشر، احذر أن تعاشر. في القرن العاشر من القرون، تسيء بالصالحين الظنون. المحبَّة تصحيح النسب، وثمرة المكتسب. الأخ من يعرف حال أخيه، في حياته وبعد ما يواريه. إذا انفسدت أحوال الشَّريعة، فأشراط الساعة سريعة. وله فروع بسقت في دوحة بستانه، وتروَّت بصبيب الأنواء من صوب هتَّانه. أشرق مجدهم إشراق الشمس، وقاموا لذات الفضل مقام الحواس الخمس. فمنهم: محمد الكبير الذي لا يفي بوصفه التَّعبير. قام بعد أبيه خليفة، واتَّخذ الزهد سميره وحليفه. فكأنه لم يمت من خلفه، ولا غاب عن أهله من استخلفه. فهو البقيَّة الصالحة وقد ذهب الكرام، والذَّات الفالحة اللائقة بالإكرام. إلا أنه لم يطل عمره، ولا خلص من الوهن نهيه وأمره. فمات ودفن عند أبيه ومربيه، فلا زالت رحمة الله تحييه وتحبيه. ومن المعلوم أن المورد واحد، وسيان فيه ولدٌ ووالد. وهو معدودٌ من رجال الطريق، ومنخرط في سلك ذلك الفريق. وله فضلٌ ومجد، وأخلاق تحكي صبا نجد. مع تبتُّلٍ وركون، وإنابةٍ إلى الله في حركةٍ وسكون. وبالجملة فمقداره عظيم، ولكنه يقلُّ من النثر والنَّظيم. ولم يحضرني من شعره، إلا قوله: يا صاح إن الشِّعر يُزري بذي ال ... الحسنِ وإن كان بهيّ الجمالْ أما ترى الأنفُسَ من شَعرةٍ ... تعافُ للماءِ الفراتِ الزُّلالْ وهذا معنى تداولته الشعراء، والسابق إليه أبو إسحاق الغزِّي، في قوله: يقولون ماءُ الحسنِ تحتَ عِذاره ... على الحالةِ الأولى وذاك غُرورُ ألسنا نعافُ الشُّربَ من أجلِ شعرةٍ ... إذا وقعتْ في الماءِ وهو نميرُ ثم خلَفه أبو السعود واسطة عقدهم المقتنى، وغصن روضتهم المجتنى.

وعبير ذكرهم المردَّد، ولسان حالهم المجدَّد. يروقك مجتلاه، ومحلُّه يهزأ بالبدر معتلاه. كرم فرعاً وأصلا، وشرف جنساً وفصلا. وله فضلٌ أضحى تاجاً لرأس المناقب، وأدبٌ تتوقَّد به نجوم الليل الثَّواقب. وبيني وبينه موالاة محققة، وعهود موثَّقة، وثناءٌ كمائمه عن أذكى من الزَّهر غِبَّ القطر مفتَّقة. ورأيت له أشعاراً في الذروة من الانطباع ثاوية، لها في كلِّ قلبٍ بلطف موقعها خلوةٌ في زاوية. وقد أثبتُّ منها قصيدةً شطَّر بها سينيَّة ابن الفارض، فناصفها شطر الحسن، كما تناصف حسن الخدِّ بالعارض. وهي هذه: قفْ بالديارِ وحيِّي الأربُعَ الدُّرُسَا ... مخاطِباً لرَسيسِ الشوقِ مُقتبِسَا واسْترجِع القولَ يا ذا الرَّأيِ مُختبِراً ... ونادِها فعساها أن تُجيبَ عسَى وإن أجنَّك ليلٌ من توحُّشِها ... فلا تكنْ آيِساً لا كان من أيِسَا خذْ من زِنادِ الجوَى ناراً مُشعْشعةً ... فاشْعلْ من الشوقِ في ظَلمائِها قبَسَا يا هل درَى النَّفَرُ الغادُون عن كَلِفٍ ... موَلَّهٍ هائمٍ كاسَ الغرامِ حَسَا تَراه مستصْحِبَ الأفكارِ ذا حُرَقٍ ... يبيتُ جُنحَ الليالي يرقُب الغلَسَا فإن بكَى في قِفارٍ خِلتَها لُجَجاً ... ما شامَها ناظِرٌ إلاَّ همَى وجَسَا وإن خبَتْ نارُه هاجَ الغرامُ بهِ ... وإن تنفَّس عادتْ كلُّها يَبَسَا فذو المحاسنِ لا تُحصَى محاسنُه ... إذا رآه عَذولٌ حاسدٌ خَنَسَا ومن أبَيْت فلا فَقْد لوَحشتِهِ ... وبارعُ الأُنسِ أعْدَمْ بهِ أنُسَا قد زارني والدجَى يرْبَدُّ من حَنَقٍ ... وحُسنُ إشراقِه بالشُهْبِ قد حُرِسَا فالزُّهر تَرمُقُه عُجْباً برونَقِهِ ... والزَّهرُ يبْسَم عن وجهِ الدُّجَى عَبَسَا وابْتزَّ قلبيَ قَسراً قلتُ مظْلمَةً ... فحسبِيَ اللهُ ممَّن قد جنَا وقَسَا حيَّرْتني فأنا المُحتارُ وا أسفِي ... يا حاكمَ الحبِّ هذا القلب لمْ حُبِسَا زرعتُ باللَّحظِ ورْداً فوق وَجنتِه ... فأثمرتْ منه لي في ناظِرَيهِ أسَى إن رمتُ أقطفُ منه عِطرَ رائِحةٍ ... حقٍّا لِطرفيَ أن يجنِي الذي غرَسَا وإن أبَى فالأقاحِي منه لي عِوَضٌ ... أوْردْتُه القلبَ حيث الحبُّ فيه رَسَا جعلتُه رأس مالِي مذْ ربحتُ به ... مَن عُوِّض الثَّغرَ عن درٍّ فما بُخِسَا إن صال صِلُّ عِذارَيْه فلا حَرَجٌ ... أن عادَ منه صحيحُ الجسم مُنتكسَا فهذه سُنَّةٌ للعِشقِ واجبةٌ ... أن يَجْنِ لسعاً وأنِّي أجْتنِي لَعَسَا كم باتَ طَوعَ يدِي والوصلُ يجمعُنا ... لم يخْطُر السُّوءُ في قلبِي ولا هَجَسَا وزادنِي عِفَّةً إذْ كان ذا ثِقةٍ ... في بُردتيْه التُّقى لا يعرف الدَّنسَا تلك الليالي التي أعددْتُ من عُمُري ... يا ليْتها بقِيتْ والدهرُ ما نُكِسَا ويا سقَى الله أيَّماً لنا سلَفتْ ... مع الأحِبَّةِ كانت كلُّها عُرسَا لم يحلُ للعينِ شيءٌ بعد فُرْقتهم ... وما صَبَا دونها صَبُّ الجَوَى ونَسَا ولا شمَمْتُ نسيماً أستلِذُّ به ... والقلبُ مذ آنسَ التَّذكار ما أنِسَا يا جنَّةً فارَقَتْها النفسُ مُكرهَةً ... أبْقِي لصَبِّك في نيلِ المنَى نفَسَا وحَقِّ مُوثَقِ عهدٍ لا انْفِكاكَ له ... لولا التَّآسِي بدار الخُلدِ مِتُّ أسَى أحمد بن محمد الهمنداري الحلبي المفتي اتَّخذ الثُّريَّا مصعدا، وورد المجرَّة مقعدا. ثم طلع شنباً فكان في ثغر الشام، وهبَّ نسيماً فحرَّك طرباً أغصان البشام.

واستقرَّ بروضها الزاهر، استقرار الغمض في الجفن الساهر. فقيَّد الأعين بصفاته، كما عقل الأفكار بلحظه والتفاته. وهو نسيج وحده استيلاءً على الفضل واشتمالا، ووحيد نسجه إبداعاً لتحائف المقول واعتماله. يتحلَّى بخلق لو كان للروض ما ذبل في الشتاء نوره، وفكرٍ لا يُدرك غوره. وحلم ما شيب بوهم، وتثبُّتٍ لم يخفَّ له وزن. يصعب إغضابه ويسهل استرضاؤه، ويفيض إقباله ولا يتوقع إغضاؤه. ويقرب الزمن في عطفه، ولا يتراخى المدى إلى لطفه. وهناك أدبٌ بسلسل الرقَّة يتدفَّق، وطبعٍ عن زهر الرياض يتفتَّق. فإذا تفوَّه بسطت الحجور لالتقاط لآليه، وإذا أملى ترك الملأ إملاء أماليه. وهو أحد من حضرتُ عنده، واقْتدحتُ في الاستفادة زنده. وكان هو وأبي عقيدي صحبة، وأليفي مودَّة ومحبَّة. وبينهما لحمةٌ ليست سدَى، واتِّفاق ليس إلا ببرد فضل وندى. وكان أبي يقول فيه: لم أر مثله كثرة إناءة، وتجنُّب بذاءة وإساءة. وتناسب ذاتٍ ونعت، وتوافق سجيَّةٍ وسمت. تروق أنوار خلاله، وأدبه تتنَّفس الرياض في خلاله. وقد أوردتُ له من شعره الرَّقيق، ما هو أعذب من ريق الندى في ثغور الشَّقيق. فمن ذلك قوله من قصيدة مطلعها: دون رشفِ اللِّمى وضَمِّ النُهودِ ... طَعَناتُ المثقَّفِ الأُملودِ واقْتِحام المَنونِ أجدرُ إنْ ... أعقبَ وصلاً بحال كل لَمِيدِ مُهَجُ العاشقين منذ قديمٍ ... خلُصتْ للبلاءِ والتَّنكيدِ من لقلبي بأغْيدٍ قصَم القلْ ... بَ بعَضبٍ من اللِّحاظِ حديدِ ألِفَ النُّفرةَ التي تعقِل العَقْ ... لَ وتُذري الدموعَ فوق الخُدودِ وكتب إلى والدي: حيَّتْك فضلَ اللهِ دِي ... مةُ سُؤدُدٍ نشأتْ بمجدِكْ وعلَتْك أنوارُ السَّعا ... دةِ فاغتنمْ إشراقَ سعْدِكْ وكذا الفضائِلُ والفوا ... ضِلُ والمكارمُ حَشْوُ بُردِكْ أما القريضُ ونسجُه ... فلأنتَ فيه نسيجُ وحْدِكْ بك جِلَّقٌ فخَرتْ كما ... بأبيك قد فَخَرتْ وجَدِّكْ مولايَ فكرِي قاصِرٌ ... عن أن يُحيط بكُنْهِ حَدِّكْ فاعْذُرْ ودُمْ بمَسرَّةٍ ... تبقَى على الدُّنيا كوُدِّكْ فراجعه بقوله: هل زهرُ روضٍ أم زَوا ... هرُ أنجُمٍ أو دُرُّ عِقدِكْ أم روضةٌ قد فاح من ... رَيَّا رُباها عَرْفُ نَدِّكْ أم ذي بدورٌ أشرقتْ ... في حيِّنا من أُفقِ سَعْدِكْ يا مُفردَ العصرِ الذي ... لم تسمحِ الشَّهْبا بنِدِّكْ أنت الذي افْتخرتْ بفضْ ... لِك أهلُها من عصرِ مهْدِكْ ولك المعارفُ والعوا ... رِفُ واللَّطائفُ قَدْحُ زَنْدِكْ أرسلتَ نحويَ غادةً ... ألفاظُها شهِدتْ بشُهْدِكْ حيَّتْ فأحْيتْ مُغْرماً ... قد كان منتظِراً لوعْدِكْ وإليك منِّي روضةً ... بالوُدِّ ذاكِيةً بحمْدِكْ وافتْ على ظمَأٍ بها ... تبغِي الوُرودَ لِعذْبِ وِرْدِكْ فاقْبل بفضلِك عُذرَ من ... يرعَى الوفَا بوَثيقِ عهْدِكْ ودعاه الخطيب المحاسني إلى داره، وقمر سعدِه إذ ذاك في إبدراه. فلما طابق خبر المجلس مخْبَرَه، وأطلق فيه عوده وعنبره. أنشد بديهاً: قد حلَلْنا بمنزلٍ فاق حُسناً ... وبهاءً وحازَ لُطفاً عجيبا ضاعَ مِسكاً وكيف يُنكَر هذا ... منذ ضَمَّ الخطيبَ ضُمِّخَ طِيبا وقد تناول هذا الجِناس من قول بعضهم: مُلِئَ المنبرُ مسكاً ... مذْ به قمتَ خطيبَا أتُرى ضَمَّ خطيباً ... منك أم ضُمِّخَ طِيبَا وأنشدني من لفظه لنفسه معنًى ما زلت أحَمِّق به فكري، وأتمنَّى لو كان لي بكلِّ شعري، وهو هذا: مذ رأى الوردُ على أغصانِه ... خَدَّ من أهواه في الروضِ الأنِيقْ صار مُغمًى فلطِيف الطَّلِّ قدْ ... رُشَّ في وَجنتيه كي يستفيقْ

وقلت أمدحه: يدُ ابنُ أحمدٍ وفضلُ أحمدِ ... تُعلِّم الناس طريق الرَّشَدِ لولاه أصبح الوجودُ عاطلاً ... ولم يَبِنْ في الدهرِ طيبُ المَحْتِدِ مُفتِي دمشقَ الحَبْرُ من صفاتُه ... ألذُّ من وصلِ الحسانِ الخُرَّدِ مَن عنده اللَّذةُ إدراكُ المَنى ... وأنكَرُ الأصواتِ صوتُ مَعْبَدِ لا يعلم الهزلَ ولا يحبُّه ... ولا يميلُ طبعُه إلى الدَّدِ تُسهرِهُ الأفكارُ في مفاخرٍ ... يُبْدعها أو مَكْرُماتٍ يبتَدِي ينظِم منثوراتِها فهي على ... جِيدِ العُلى كاللُّؤلؤِ المُنَضَّدِ مذْ حلَّ في بلدتِنا رِكابُه ... هدِيَ به من لم يكنْ بالمهْتَدِي وأصلحَ الناسَ صلاحُ سِرِّه ... فليس من حدٍّ بها أو قَوَدِ يا جِلَّقَ الشامِ سَقاكِ عارِضٌ ... من فضله يُمْطِر صَوْب العسْجَدِ ما أنتِ إلا في البِقاعِ مثلُه ... في العُلَماءِ أوْحدٌ لأوحَدِ ما شرَّف الدِيارَ غيرُ أهلِها ... أحِلْيَةُ العيونِ غيرُ الإثْمِدِ ما مصرُ إلا حيث حلَّ يوسفٌ ... لا نسَبٌ بين امرِئٍ ومعهَدِ إن صدقَ الظَّنُّ فقُرْبُ رُتبةٍ ... من رُتبةٍ كبلدٍ من بلَدِ أنْجب فينا غُصنَ فضلٍ مُثْمِراً ... بالمعلوات والنَّدى والسُّؤدُدِ تشابَه الغُصنُ وروضُه وقدْ ... يظهر في الوالدِ سِرُّ الولَدِ حكاه في عفَّتِه وفضلِه ... والشِّبْلُ في المخْبرِ مثل الأسدِ لا برِحَا في عِزَّةٍ دائمةٍ ... لا تنْقضي ما بقِيَا للأبدِ فإن في بُقْياهما صَوْنَ العُلى ... عن أن تُمَسَّ بيدٍ لأحَدِ إبراهيم بن منصور الفتَّال شيخ الشيوخ ومعترفهم، وبحر العلماء ومغترفهم. أما العلم فمنه وإليه، ومعوَّل أرباب فنونه عليه. وأما الأدب فله فيه التَّبريز، وإذا كان غيره فيه الشِّيةُ فهو الذهب الإبريز. وله المنطق الذي يسحر العقول، والفكر الذي يصدأ عنه الفِرندُ المصقول. مع حديثٍ لا يُمل، ومنظرٍ يملأ عيني من تأمل. تتنافس في مجلسه دررٌ لوامع وحِلًى جِياد، فلا تعلَّق فيه إلا أقراطٌ بآذان وقلائدٌ بأجياد. وطبعه يعير سحره عيون الحور، ويفضح بعقود آثاره دُرر البجور. تبتسم الفضائل عن آثاره، وتتفتَّح ثغورها بلوامع إيثاره. وقد ألقى الله عليه منه محبَّة، جلبت إليه مسْرَى القبول ومهبَّه. فلا تزال الأعين تحدِّق إلى محيَّاه، والألسن تدعو بانفساح مَحْياه. وراحته مخدومةٌ بالقُبل، وعيشه أنضر من الربيع المقتبل. تودُّ كؤوس الراح في أفراحها، لو تعوَّضت بلحظة أُنسِه عن راحِها. وإذا ذُكر فالقلوب على ثنائه ذات اتِّفاق، وخبرُ فضلِه إذا تُلىَ سَمَر القوادِم وحديث الرِّفاق. وما أنا في ترنُّمي بذكره، وتعطُّري بحمده وشكره. إلا النسيم على الحديقة بريَّاه، والصبح بشَّر بالشمس ضوءُ مُحيَّاه. ولي فيه ما لم يقُلْ شاعرٌ ... وما لم يَسِرْ قمرٌ حيث سارَا وهُنَّ إذا سرنَ من مِقوَلي ... وثَبنَ الجبالَ وخُضنَ البحارا فإنه الذي ضربت بحضرته أطناب عمري، وأنفقت على فائدته أيام دهري. وتروَّيت من المعرفة بروائع كلامه، وملأت سمعي درُّ الأصداف من آثار أقلامه. وكان ينوِّه بي ويشيع أدبي، وبالجملة فكان لي مكان أبي. فأنا من حين فقدته فقدت كهفا آوى إليه، وسنداً أُعوِّل في المآرب عليه. فحُقَّ لفؤادي أن يستعر بوقده، ولدمعي أن يسيل دماً على فقده. وأسأل الله أن يزلفه من رحمته ويدنيه، ويقطفه زهر رضوانه ويجنيه. فمما تناولته من نظمه، قوله في مديح صاحب الشَّفاعة، صلى الله عليه وسلم: كلُّنا سيِّدي إليك نؤوبُ ... ما لنا لا نعي اللِّقا ونتوبُ إنَّ عمرَ الشبابِ ولَّى وأبقى ... ما جناه فيه وذاك الذُّنوبُ فإلى كم هذا التَّواني وقد جا ... ءَ نذيرُ الحِمام وهو المَشيبُ

ما أحسن قول ابن نباتة: جاء النذير العُريان وهو الشَّيب، وابيضَّ بردُه فظهر فيه دنس العيب. وآذن صبحته بالتَّفريق، ونُشرت بين السَّواد صفحته فعلم أنها ورقة طريق. والنَّذير العريان: زُنير، بالنون، بن عمرو الخثعمي. كان ناكحاً لامرأة من بني زُبيد العريان، فأرادت زبيد أن تغزو خثعم، فحرسه أربعة نفر منهم، وطرحوا عليه ثوباً، فصادف غِرَّةً فحاضرهم بعد أن رمى ثيابه، وكان من أجود الناس شدًّا. وقال في ذلك: أنا المنذرُ العُريانُ ينبذُ ثوبَه ... لك الصدقُ لم ينبذ لك الثوبَ كاذبُ ندَّعي الحبَّ فِرْيةً إنما ال ... حبُّ حريٌّ بأن يطاعَ الحبيبُ ليس هذا دأبُ المحبِّين لكن ... قد نحاه مشتَّتٌ محجوبُ إن أعداءَنا توالتْ علينا ... نفسُنا والهوى وعقلٌ مريبُ كيف يرجو الخلاصَ منهم مُعنًّى ... في عَماه مكبَّلٌ مجبوبُ من نرجِّي لدفعِ داءٍ عضالٍ ... غيرَ خيرِ الورى وذاك الطبيبُ سيِّدُ المرسلين خيرُ نبيٍّ ... شافعُ الخلقِ يوم تُتلى العيوبُ مبدأُ الكونِ ختمُ كلِّ نبيٍّ ... قد حباه الحِبا قريبٌ مجيبُ علَّه أن يقول في الحشرِ عنِّي ... إنَّ هذا لجاهِنا منسوبُ وله عندنا ودادٌ قديمٌ ... وعلينا يومَ النِّدا محسوبُ من لهذا الحقيرِ غيرَ نصيرٍ ... أو شفيعٍ دعاؤُه يستجيبُ أنا عونٌ له ويكفيه عوناً ... من سواي ولي فِناءٌ رحيبُ يا نبيَّ الهدى وغوثَ البرايا ... ووحيداً وليس في ذا عجيبُ خصَّك الله بالمراحمِ جمعاً ... من يعي ذاك عاقلٌ ولبيبُ كلُّ فضلٍ مِصباحه أنت حقًّا ... إنَّ هذا في المكرمات غريبُ كلُّ من لم يرَ افتراضَ هواكم ... فهو في النارِ حقُّه التَّعذيبُ وأنشدني من لفظه لنفسه: ما نلتُ شيئاً إذا كنتُ المُقصِّر في ... تحصيلِ أسبابِ توفيقي وإسعادي إلا ضَياعَ نجاتي وهي نافعتي ... يا ربِّ هبْ ليَ يوم الحشرِ إنجادي وله: إن كان ذنبي في الشدائدِ مُوقِعي ... وبه لقد لاقيتُ ما أنا فيهِ فالعفوُ منك يزيلُ ذاكَ تكرُّماً ... كالشمسِ إن أتتِ الدُّجى تجليهِ ولما دُفِن في تربته أنشدتُ: يا تربةً قد غاضَ بحرُ النَّدى ... فيها وبدرُ التِّمِّ عند التَّمامْ ما هيَ إلا حُقَّةٌ أُودِعتْ ... من طيِّبِ العنصرِ مسكَ الختامْ رمضان بن موسى العُطيفي فاضلٌ حظُّه من المعرفة وافر، ووجه أمانيه طلقٌ سافر. ما زال من الحال في أعذبها شرعة، ومن الحظوة في أسوغها جرعة. وكان مرفوع الحجاب، منزوع رداء الإعجاب. وله في الخُلق والخَلق من الرِّضوان رضوان، وفي النَّثر والنظم من المرجان مرجان. وأما عهده فهو بالصِّدق محلَّى، وودُّه يبلي الجديدان ولا يبلى. لا أقول إنه أصفى من الماء فقد يشرق به الإنسان، ولا أضوأ من قمر السماء فقد يدركه النُّقصان. وكنت وصبائي عاطر النَّفحة، لدنُ الغصن ناضر الصَّفحة. حضرت دروسه في العربيَّة، وأخذت عنه أشياء من الفنون الأدبيَّة. ثم وقفت له على بدائع من آثاره بهيَّة الإلماع، فأثبتُّ منها ما هو عبق الأفواه وحَلْيُ الأسماع. فمن ذلك قوله من قطعة، كتب بها لبعض الأدباء، جواباً عن لغز، كتبه إليه في قرنفل: يا من زيَّن سماء الدُّنيا بزهر النُّجوم، وزيَّن الأرض بزهرها المنثور والمنظوم. نحمدُك على ما أبدعت حكمتك في هذه الأعصار، من زاهي الأزهار. ونصلِّي ونسلِّم على نبيِّك المختار، وآله الأخيار، ما اختلف الليل والنهار، عدد تنوُّع البهار. أما بعد: فإن رقيق الكلام، ورشيق النِّظام. مما يسحر الألباب، وينسج ما بين الأحباب. ولا بدع فقد قال سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأتمُّ السلام:

" إنَّ من البيان سحراً، وإنَّ من الشِّعر حكمةً ". هذا، وقد أخذ رائق كلامكم، وفائق نظامكم. بهذا الصبِّ أخذ الأحباب الأرواح، ولعب به ولا كالتعاب الرَّاح. كيف لا، وقد كسيَ حلل البهاء والجمال، وانتظم ولا كانتظام اللآل. رقَّ فاسترقَّ الأحرار، وحليَ فتحلَّى به أهل الشِّعار. وراق معناه، فأشرق مغناه. وحسن مساقه، فحلا مذاقه. وفاح أرج القرنفل من رياضه، وهبَّت نسمات الجنان من غياضه. فلله درُّك ودرُّ ما ألغزت، وما أحسن ما بعَّدت وقرَّبت، فقد أبدعت فأعبدت، وأغربت فأرغبت. لغز كالغزل، في نشر طيِّه حلل. من طوَّل في مدحه فقد قصَّر، وما عسى أن يمدح البحر والجوهر. ولكن نعتذر إليكم من هذه الشَّقشقات التي أوردناها على سبيل البديه، وكلٌّ ينفق مما عنده ويبديه. وحين ملت طرباً من ميل تلك اللامات، قلت هذه الأبيات: أتاني نظامٌ منك يُزري بحسنِه ... قفا نبكِ من ذكرَ حبيبٍ ومنزلِ وأشْممني منه أريجاً كأنه ... نسيمُ الصَّبا جاءت بريَّا القرنفُلِ فيا واحدَ الدنيا وليس مُدافعٌ ... ويا من غدا مدحي له مع تغزُّلي بعثتَ لنا عقداً ثميناً فلو رأى ... جواهره النَّظَّامُ ولَّى بمعزلِ ولو أن رآه امرؤُ القيسِ لم يقُل ... ألا أيُّها الليلُ الطويلُ ألا انْجلِي فمن يكُ نظَّاماً فمثلُك فليكُنْ ... فصاحة ألفاظٍ بمعنًى مكمَّلِ رقيقٌ لطيفٌ رائقٌ متحبِّبٌ ... إلى كلِّ نفسٍ وهو في العينِ كالحِلِي يفوحُ عبير المسكِ من طيِّ نشرِه ... فكيف وقدْ ألْغزتهُ في القرَنْفلِ فلا زِلت تَحبونا بكلِّ فضيلةٍ ... ولا زلتَ تُحيينا بعلمٍ مفضَّلِ ولا زلتَ للدنيا إماماً وسيِّداً ... وعلمكَ يُروى للحديثِ المسلسَلِ وله، جواباً عن سؤالٍ دفع إليه في تحقيق معنى البيتين المشهورين، وهما: عيناه قد شهدَتْ بأنِّي مُخطئٌ ... وأتتْ بخطِّ عِذارِه تذكارَا يا حاكِم الحبِّ اتَّئدْ في قتلتِي ... فالخطُّ زورٌ والشُهودُ سُكارَى تأملت البيتين المشتملين، على خط العِذار وشهادة المقلتين. فلم يظهر لي في الخطأ صواب، وقد بذلت طاقتي فلم يفتح لي الباب. ولم أسمع من الأشياخ الثقاة الأحبار، ولا من الشبان والرواة للأخبار. من نقد هذا النقد، الذي هو أحلى من القند. فتحقَّقت أن مبديه من أولي الألباب، القادرين على الإتيان بكل عجب عجاب. وأن فكرته تتَّقد كالزُّهر في الدجى، فتوضَّح السبل لأهل الحِجا. وأنه المتصرف في الدقائق كيف شاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء: يا من كساهُ الله أردِية العُلى ... وحباه عطرَ ثنائِها المتضوِّعِ وإذا نظرتُ إلى محاسِنِ وجهِه ال ... مسعودِ قلتُ لمقلتِي فيها ارْتعِي وإذا قرينَ الأذنَ شهدُ كلامِهِ ... قلتُ اسمعِي وتمتَّعي وارْعي وعِي وكأنَّما يُوحَى إلى خطراتِهِ ... في مطلعٍ أو مخلصٍ أو مقطَعِ لك في المحاسنِ معجزاتٌ جمَّةٌ ... أبداً لغيرِك في الورَى لم تُجمعِ بحران بحرٌ من البلاغةِ شابه ... شعرُ الوليدِ وحسنُ لفظ الأصمعِي شكراً فكم من فقرةٍ لك كالغِنَى ... وافَى الكريمَ بعيد فقرٍ مدقِعِ وإذا تفتَّق نور شِعركَ ناضِراً ... فالحُسنُ بين مرصَّعٍ ومصرَّعِ أرْجلتَ فرسانَ قلبي ورُضْتَ فر ... سان البديعِ وأنت أفْرسُ مُبدِعِ ونقشْتَ في فَصِّي الزمانِ بدائِعاً ... تُزري بآثارِ الرَّبيعِ المُمْرِعِ وحويْتَ ما تُكْنى به طرًّا فلم ... تترُكْ لغيرك فيه بعضَ المَطْمَعِ غير أن هذا العبد بعد البعد عن المقام، ألمَّ به بعض إلمام. وهو أنَّ خطأ هذا المحب إذ قاد نفسه لحتفِه في هوى هذا الحبيب البعيد المنال، القريب الوَبال، بحُسن الدلال، كما قال من قال، وأحسن في المقال:

علمتُ أن العيونَ السُّودَ قاتلتِي ... وأنَّ عاشِقها لا زال مقْتولا وقد تعشَّقْتها طفلاً على خطَاءٍ ... لِيقضيَ اللهُ أمراً كان مفْعولا فكأن هذا الحبيب طلب هذا المحب لمجلس قاضي الهوى، وديوان أهلِ الجوَى. وادَّعى عليه، وأحضر حجَّته وشاهديه. وقرَّر في دعواه، بحضرة هذا الصَّبِّ الذي يهواه. أنه قد وقع في إقدامه لمحبَّتي على خطأٍ لا صواب، كيف لا وهو لا يذوق الأرْيَ إلا بعد الشَّبع من الصَّاب. ولا يمكنه القرب إلا بعد البعد الطويل، ولا الوصل إلا بعد فراقِه لكلِّ خليل. وهذا خطبٌ جليل، صاحبه إن لم يمت فهو أبداً عليل. يكابد الأشجان في الليل والنهار، وبعد ذلك إمَّا إلى جنَّةٍ وإمَّا إلى نار. وقلَّ محبٌ يحصل على حبيبه إلا بعد هذه الأهوال، وإنفاق الرُّوح فضلاً عن الأموال. فلا يكن العارف كالرافض، لما قال ابن الفارض: هو الحبُّ فاسْلم بالحشَا ما الهوى سهلُ ... فما اخْتاره مُضْنًى به وله عقلُ وعِشْ خالِياً فالحبُّ راحتُه عَناً ... فأوَّله سُقْمٌ وآخرهُ قتْلُ هذا كلام سلطان العشاق، المقطوع بمعرفته المحبَّة على الإطلاق. فعند ذلك نظر القاضي لهذا العاشق ولاطفه خِطابا، وسأل سؤاله فلم يُحرِ جوابا. فكان كما قيل، في حقِّ العاشق الذليل: وكم من حديثٍ قد خبأناه لِلِّقا ... فلما التقيْنا صِرتُ أبكَمَ أخرسَا فلما أراد القاضي الحكم عليه، بما أبدى لديه. قال ربُّ الجمال في الحال، الغيرِ حالّ: وهاك أيها القاضي شاهدين، عدلينْ. مبعدين للرِّيَبِ، مقرِّبين للأرَب. وأبدى من سحر العيون، ما يهتك السِّرَّ المَصون: عيونٌ عن السحرِ المُبين تُبينُ ... لها عند تحريكِ الجفونِ سكونُ إذا أبصرتْ قلباً خلِيًّا عن الهوَى ... تقولُ له كُنْ عاشِقاً فيكونُ ثم قال: حكمتُ بهذه الحجج، التي ليس لك منها فرَج. فعند ذلك قال المحب، وقد اشتعل ناراً: أيها القاضي: " الخط زور والشهود سُكارى " فكان هذا الجرح عين التَّعديل، وتقويةً للدَّليل. إذا ثبت هذا فلا شك ولا ريب أن العاقل لا يرمي بنفسه في هذه المهاوي، وإن رمى فهو قطعاً لا شكَّ هاوِي. وكيف يخاصم من بعضه لبعضه شاهد، وبعضه حجَّةٌ تقطع كلَّ خصمٍ معاند. فهذا خطأٌ لا صواب، عند أولي الألباب. فإن قيل: كيف يصحُّ أن يشهد البعض على البعض؟. قلت: هذا له نظيرٌ بما سيقع يوم العرض. كما أخبر رب العالمين، في كتابه المبين. وهو قوله تعالى: " يوم تشهدُ عليهم ألسِنتُهُمْ وأيديهِم وأرجُلُهُم ". إلى أنه فرَّق ما بين الدَّارين، لعظم أحد الهولين. وهذا لا يخفى على الفطن العارف الحاذِق، الذي هو لطعم المعارف ذائِق. وقد جاء ذلك كثيراً في أشعارهم، وقُرِّر في قصصهم وأخبارهم. كما قال أبو حفص المُطَّوِّعي، من شعراء اليتيمة: أيا منيةَ المشتاقِ فيم تركتَنِي ... كَئيباً بلا عقلٍ قتيلاً بلا عَقْلِ فإن كنتَ أنْكرتَ الذي بي من الهوَى ... أقمْتُ به من أدمُعي شاهدَِيْ عَدْلِ وقال الآخر: وعندي شهودٌ للصَّبابةِ والأسَى ... يُزكُّون دعوايَ إذا جئتُ أدَّعِي سقامِي وتسْهيدِي وشوقِي وأنَّتِي ... ووجدي وأشْجاني وحُزني وأدمُعِي وقال آخر: إن كنتَ تُنكِر حالي في الغرامِ وما ... ألْقى وأنِّيَ في دعوايَ متَّهَمُ فالليلُ والوَيلُ والتَّسهيدُ يشهدُ لي ... والحزنُ والدمعُ والأشواقُ والسَّقمُ فإن قيل: لم اختصَّ البعض بالعينين، ولم يأتِ باليدين والرِّجلين؟ قلنا: خَصَّ العينين؛ لما فيهما من الحسن الزائد، وكثرة الفوائد. لأن أحسن ما في الإنسان وجهه الجامع لجميع المنافع، وأحسن ما فيه العينان من غير منازع. قال: وأحسنُ ما في الوجوهِ العيونُ ... وأشبهُ شيءٍ بها النَّرجِسُ فكانا ألْيَقَ بالمقام، عند الخاصِّ والعام. فإن قلتَ: لم خصَّ الحِجَّة بالعِذار، الشَّبيه بالليل الماحي لضياء النهار؟ والحجة يطلب فيها الانارة والظهور لا الظلام ولا الستور

قلت: لأمرين؛ يظهران كالعين للعين. أحدهما عقلي، والآخر نقلي. أما العقليُّ؛ فإن العِذار يشبه حروف الخطِّ المكتوب، فكأن إتيانه حجَّةً ألْيقَ بالمطلوب. وأما النقلي؛ فإن العِذار خاصُّ بهذه الدار لأنه لا يوجد في الأخرى، فكان بهذه الخصيصة أحرى. كما قال بعض الناس، ناظِماً ما قال أبو نواس: قال الإمامُ أبو نواسٍ وهو في ... شعرِ الخلاعةِ والمجونِ يقلَّدُ يا أمَّةً تهوى العِذارَ تمتَّعوا ... من لذَّةٍ في الخلدِ ليستْ توجدُ وقد طغى القلم، بما يعقب السَّأم. والسلام. القاضي حسين بن محمود العدوي الصَّالحي هو للدهرِ حسنةٌ تكفِّر ما جنى، وللزَّهر خميلةٌ فيها ظلٌّ وجنى. توقَّد في الأدب ذهنه، وشاخ ولم يعرض فكره وهنه. وهو من أصدقاء أبي الذين كان يميِّزهم بالتَّقريب، ويستحسن ما يأتون به من النادر الغريب. وقد لزمته في عهده أدبِّجُ بتقريراته مهارِق الطروس، وأعطَّر بنفحات تحريراته رياض الأدب الرَّيَّانة الغروس. وتناولتُ من أشعاره ما لو كان للروضِ ما ذوتْ أوراقه، أو في البدر ما فارقه إشراقه. فمن ذلك قوله: أرى كلَّ إنسانٍ يرى أنَّ حينهُ ... من الخطبِ خالٍ إن ذاك لمغرورُ وكيف وأصل البنيةِ الماءُ والثَّرى ... وسوفَ إلى تُربِ القبورِ يصيرُ فلا تعْتبنْ خِلاًّ إذا جار أو جفَا ... فأنت وربِّ العالمين كدورُ فإن جنحتْ منك الظُّنونُ لحادثٍ ... فميلُك للتَّوحيد يا صاحِ مبرورُ فإنَّ بقاء العزِّ في وحدةِ الفتَى ... كما أنَّ إكثار التَّردُّدِ محذورُ وما مذهبي أنِّي ملولٌ لرفقتِي ... ولكنَّ مسلوب الكفاءةِ معذورُ لقد أصاب في هذا لبَّ الصَّواب، وإن كان تناوله من قبله ابن الجدِّ الأندلسيّ: وإنِّي لصبٌّ للتَّلاقي وإنَّما ... يصدُّ رِكابي عن معاهدِكَ العسرُ أذوبُ حياءً من زِيارةِ صاحبٍ ... إذا لم يساعدْنِي على برِّه الوفْرُ ولي من قطعة: وإني بحكم الزمان، أستحي من زيارة الإخوان. حذراً من التَّقصير، وعدم ظهور المعاذير. فالعين بصيرة، واليد قصيرة. ويا لهفي على عمر الكرام، يمضي بخيبة المرام. فلا يقدَّر لهم في كلِّ وقتٍ إسداء نعمة، ولا استدفاع نقمة. ولا مكافأة ذي منَّة، ولا مداواة أخي محنة. تتمة الأبيات: أجلْ إنَّ أبناءَ الزمانِ تفاوتتْ ... فمنهم خبيرٌ بالأمورِ ونِحْريرُ وبالجملة التَّحقيق فالأنْسُ موحِشٌ ... وعمَّا سوى الخلاَّقِ شغلك مدحورُ فيا ربِّ جدْ بالعفوِ والصفحِ والرِّضا ... ففعلِيَ مذمومٌ وفعلُكْ مشكورُ وله: وليلٍ أدرْنا فضل قاسون بيننا ... فكادتْ قلوبُ السامعينَ تطيرُ فلو ندرِ إلا الفجرَ صارَ دليلَنا ... إلى سفحِهِ والسفحُ فيه نفيرُ وفينا هداةٌ للطَّريق وقادةٌ ... لهم كلُّ فضلٍ في الورَى وصُدورُ فسِرْنا فلا والله لم ندرِ ما الذي ... قطعناه بعد المشي كيفَ يصيرُ فلمَّا وصلْنا المُسْتغاثَ أغاثَنا ... به الغيثُ حتَّى غوثُنا لمطِيرُ فزرْنا وكلٌّ نالَ ما كان ناوِياً ... وفزْنا بوقتٍ حسنُه لشهيرُ ومنه ركِبنا الجوَّ حتَّى كأنَّنا ... نجومُ سماءٍ والسحابُ ثبيرُ إلى أن هبطْنا قبَّة الفلك التي ... تسمَّى بنصرٍ مذ أعانَ نصيرُ رأيْنا بِها عِقدَ الثُّريَّا معلَّقاً ... وعين الدَّرارِي النَّيِّراتِ تُشيرُ فلن نرَ بُرجاً قبلها حلَّ منزِلاً ... يسيرُ إليه الناسُ وهو يسيرُ وأعجبُ شيءٍ أن تراها مُقيمةً ... وتمشِي كما يمشِي الفتَى وتغورُ وأعجبُ من هذا تراهَا عقيمةً ... تُربِّي بناتَ النَّعشِ وهي سريرُ وعدْنا فحيَّانا حيَا فضل سحبِها ... بريحٍ له وقعُ الغمامِ صريرُ

إلى أن رمتْنا بعد عالِي مكانِنا ... على مُغْرٍ فيها المُقامُ غرورُ وجئْنا حِمانا مطمئِنِّين أنفساً ... على أن مرقى المكرُمات عسيرُ ودخل على شيخنا إبراهيم الخياري المدني، حين قدم الشام زائراً، أثر انقطاعٍ ربَّما أوجب تهاجرا. فقابله معتذراً، وأنشده معنًى مبتكراً. وهو: وما عاقنِي عن لثمِ أذيالِ فضلِكُم ... سوى أنَّ عيني مذْ فارقتُكم رمَدَا فعاتبتُها حتَّى كأنِّي حبيبُها ... فأبدتْ كلاماً كانَ قلبي له غِمدَا وقالتْ لقد كحَّلتُ طرفِي بظرفِهِ ... فأفْتحُها سهواً وأُغمضُها عمدَا فخاطبه الخياري بقوله: أيا فاضِلا أبدَى لنَا في نِظامِهِ ... لطيفَ اعتِذارٍ سكَّنَ الشوقَ والوجدَا وأشفَى بِلُقياه مريضَ بِعادِهِ ... وقدْ كانَ أشفَى للبِعادِ وما أودَى فصان إلهُ العرشِ مُقلتهُ التي ... ترَى كلَّ معنًى دقَّ عن فهمِها جِدَا لئنْ كُحِّلتْ بالظرفِ قد أسكرت بِما ... أدارتْهُ من مقلوبِ أحداقِها شُهْدَا فإن ترَنِي أشتاقُ خمرةَ قرقَفٍ ... فأطلبُها سهْواً وأترُكُها عمدَا عبد القادر بن عبد الهادي العُمري ممَّن سابق في ميدان البراعة حتى أحرز مداها، ودأب في تحصيل المعارف إلى أن وجد على نار فكرته هُداها. فإذا قدح بالظَّنِّ أثقب، وإذا ولَّد بالرجاء أنجب. يعرف النِّقاية فينتقيها، ولا يمرُّ بالنُّفاية التي ينتفيها. ويطالع ما وراء العواقب، بمرايا من التجارب الثَّواقب. فلا تبيت فكرته بهم مرتبطةً، حتى تصبح بحلِّ عقدتها مغتبطة. مع إحاطة بأنواع من الفنون، لا تحوم حولها الأوهام والظُّنون. وتآليفه ألَّفت بين التَّناسق والتَّوافق، وجمعت حسن التَّطابق والتَّوافق. وله من الشعر ما ينيل المطلوب، ويمتزج لطفه مع أجزاء القلوب. وهو أحد أشياخي الذين قلبي بودهم معتلق، ولسان ثنائي بفضلهم منطلق. تروَّيت حيناً بمائه، واستمطرت الوبل من جانب سمائه. وكان أنشدني كثيراً من أشعاره الحسان، أنسيتها منذ زمان، وقبَّح الله النِّسيان. ثمَّ ظفرت له بأشياء اقتطفت أناسيَّ عيونها، وجئت بمحاسن أبكارها وعونها. فمنها قوله من قصيدة: خطرتْ تميسُ كخطوطِ بانٍ مُزهرِ ... لا الشمسُ منها والبدورُ بأنورِ عربيَّةُ الألفاظِ أعربَ لفظُها ... عن سحر موردها وطيبِ المصدرِ هي كاسُ خمرٍ للعقول يديرها ... كفُّ البلاغةِ في خلالِ الأسطرِ وجرَتْ من الأسماع جرْيَ مدامةٍ ... مُزجت برائقِ ريقِ ظبيٍ أحورِ وتكادُ من فرطِ البلاغةِ قد تلتْ ... في سورةِ الإخلاصِ ذكرَ الكوثرِ واللفظُ يُنبئنا وحسنُ مذاقِها ... بالموردِ العذبِ الهنيِّ السُّكَّري عجباً لهاتيكَ الفصاحة إنها ... حوتِ الفصيح من الصِّحاح الجوهري نُظمتْ قوافي للعقولِ تخالُها ... نظمَ اللآلي في نحورِ البكَّرِ فكأننِّي وكأنَّها عند اللِّقا ... خلاَّنِ قد جُمعا بروضٍ مُزهرِ أو زورةٌ منَّ الحبيبُ بها على ... معشُوقه أو لثمُ بدرٍ مُسفرِ وقوله من أخرى، أولها: هذا الغزالُ فإنِّي منه في شُغلِ ... وصارَ وجدي به ضرباً من المثلِ وغازلتنيَ منه العينُ فانبعثتْ ... منِّي معاني صحيحِ الشَّوقِ والغزلِ بدرٌ فما البدرُ إلا من تكوُّنِه ... لكنَّه فاقه بالحليِ والخجلِ فقدُّه خوطُ بانٍ قد أمال به ... لطفُ النَّسيمِ إلى وصلي فلم يملِ وطرفه الغنجُ الوسنانُ أودعَهُ ... داعي الهوى حوراً لكن مع الكحلِ وآسُه فوق ورد الخدِّ تحسَبه ... وشياً من النَّمل أو نوعاً من الرَّملِ والخالُ يدعو إلى رَيحانِ عارضه ... أهلَ الغرامِ على خوفٍ من المُقلِ

وقُرطُه خافقٌ كالقلبِ من قلقٍ ... مقبِّلاً جِيدَه في زيِّ مُشتغلِ يفترُّ عن لُؤلُؤٍ في الثغرِ مُنتظمٍ ... نَظْمَ الدَّراري بأجيادِ الدُّمى العُطلُ وريقُه الخمرُ عندي قد أبان به ... نصًّا فحلَّ مُدامُ الثغرِ كالعسلِ نصُّ كلِّ شيءٍ مُنتهاه، فنصُّ الرِّيق: منتهاه في اللَّطف. وبذلك تتم التَّورية في النَّص. وكاسُنا الثغرُ قد راق المدامُ به ... وعلَّه مَنهلاً منه على عَللِ نجني الحبابَ فلا ندري الجنَى أبدا ... بغير رشفِ رُضابِ الثغرِ والقُبلِ في كلِّ حينٍ أُلاقي من مَضاربه ... سيفاً من اللَّحظِ أو طعناً من الأسلِ ولي بعوثُ هوًى ما زلتُ أُرسلُها ... منِّي إليه ولم تظفرْ على أملِ ولم تنلْ رُسلي إلا مُباعدةً ... من المزارِ وإلا لسعةَ العذلِ يا عمرَك الله لا تسألْ وكُن فطناً ... وعن مصارعِ أربابِ الهوى فَسلِ ابن عمِّه عبد الجليل بن محمد هو كابن عمِّه، مختصٌّ من المدح بأعمِّه. اشتهر من صغره نبلُه، وأصاب الغرض مذ فوَّق نبله. ففيه ما شئت من فضلٍ شروق، وأدبٍ يصفِّق عارضه ويروق. ونفسٍ كريمة الشَّمائل، وفكرةٍ توشَّى بحبرها الخمائل. وله شعر إذا استجليته استحليته، وإذا لمحته استملحته. يفيض فيه فيضاً، وأراه يحسن النثر أيضاً. إلا أنه لم يمهله الدهرُ حتى يبلغ المدى، فاعتُبط وشبابه يانعٌ بسقيط النَّدى. ولم يبلغني من آثاره إلا قدرٌ قليل، والقليل منه على الكثير دليل. فمن ذلك قوله في الخال: خالُ الحبيب بدَا في الخَدِّ مبْتهِجاً ... والقلب من شغفٍ للخالِ قد جنحَا قد عمَّه الحُسن يا من خالهُ حسنٌ ... والعمُّ في خدمةٍ للخالِ ما برِحَا وقوله في العِذار: نسجَ الفضلُ عليه ... حلَّةً تنمو وَقارَا في المحَيَّا حين حلَّتْ ... رقم الحسنُ عِذارَا وقوله، وفيه اقتباس، وتورية، واكتفاء: يا لقومِي من غزالٍ ... خَنِثِ الأعطافِ ألمَى إذ تلى سورةَ حسنٍ ... وجهُه والحسنُ عَمَّا سألُوا عن مُحكَمِ الأو ... صافِ فيه قال عَمَّا وقوله: يا خالِّه لمَّا بدا ... في عرشِ خدٍّ واسْتوَى أوْحَى لصُدْغٍ أيةً ... تدعُو كراماً للهوَى أصله للحاجِرِي: لك خالٌ فوقَ عرْ ... شِ عقيقٍ قد اسْتوَى بَعث الصُّدغَ مُرْسَلاً ... يأمرُ الناسَ بالهوَى ولبعضهم: غدا خالُه ربَّ الجمالِ لأنه ... على عرشِ خدٍّ فوق كُرسيِّه اسْتوَى وأرسل بالألحاظِ رُسْلاً أعِزَّةٍ ... على فترةٍ يدعو الأنامَ إلى الهوَى وله كلمات من فصول، قال فيها: لا تزالُ في رِبقةِ الأماني، مادمت في ساحةِ المباني. البقاءُ مرآةُ التَّجلِّي، والفناءُ منهل التَّخلِّي، والجمعُ منصَّة التَّحلِّي. والرُّكون للغير، قطيعةٌ في السَّير. الزهدُ في الظَّاهر، رغبةٌ في المظاهر. إتقانُ الحواسّ، وظيفة الإفلاس. ورُؤيةُ الإيناس، مَظِنَّةُ الوسواس. وحركة الشوق، عصا السَّوق. وأبوه في الزهد قُدوة، عروةُ متمسِّك منه بعروة. وقد شملني دعاه وهو للقبضة مناهِز، وما بين دُعائه وحظيرةِ القُدس حاجِز. وقد مُلِئتْ صحيفة حسناته، واسْتراح صاحبُ شِماله من كتابه سيِّآتِه. وأسلافهم ما زالوا حِلًى في جِيد الزمن العاطل، إلى أن ينتهوا إلى جدِّهم الفاروق بين الحقِّ والباطل. رضي الله عنه وعن بقيَّة الأصحاب، وأعمل محبَّته ومحبَّتهم في قلوبنا على الاستصحاب. عثمان بن محمود، المعروف بالقطَّان فتى الفضل وكهله، وشيخه الذي يقال فيه هذا أهله. أطلع الله في جبينه غُرَّ السنا، فثنى إليه من البصائر أعنَّة الثنَا. مأمون المغيب والمحضر، ميمون النَّقيبة والمنظر. فهو كالشمس في حالتيها يبدو نورها، فينفع ظهورها. وتحتجب أرجاؤها، فيتوقع ارتجاؤها.

فعلى كلِّ حالٍ هو إنسان، كلُّه إحسان، وكلُّ عضوٍ في مدحه لِسان. به الفتوَّة يسهل صعبها، ويلتثم شعبها. وهو في صدق وفائه، ليس أحدٌ من أكفائه. وقد اتَّحدْت به من منذ عرفت الاتِّحاد، فما رأيته مال عن طريق المودَّة ولا حاد. وله علي حقُّ مشيخةٍ أنا من بحرها أغترف، وبألطافها الدائمة أعترف. وكثيراً ما أرد وِرده، وأقتطف ريحانه وورده. فأنتشق رائحة الجِنان، وأتعشَّق رائِحة الجَنان. بمحاضرةٍ تهزُّ المعاطف اهتزاز الغصون، ورونقِ لفظٍ لم يدع قيمة للدُّرِّ المصون. إذا شاهدتْه العيون تقرّ، وإذا ذوكِرت به نوب الأيَّام تفِرّ. في زمنٍ انفصمت من أعلامه تلك العقود، ولم يبقَ فيه إلا هو آخر العنقود. فإن شئت قلْ: جعله الله خلفاً عن سلف، وإن أردت قلْ: أبقاه الله عوضاً عن تلف. فممَّا أخذتُه عنه من شِعره الذي قاله في عنفوانه، وجاء به كسقيطِ الطَّلِّ على ورد الروض وأقحوانه. قوله من قصيدة: بأبي من مُهجَتِي جرحَا ... وإليه الشوقُ ما برحَا دأبهُ حربِي وسفكُ دمِي ... ليتهُ بالسلمِ لوْ سمحَا غصنُ بانٍ مُثمِرٌ قمراً ... يتهادَى قدُّهُ مرَحَا مذْ تثنَّى غصنُ قامتِهِ ... عندَليبُ الوجدِ قد صدَحَا أي خمرٍ أدارَ ناظِرُه ... ما سقَى عقْلاً فمنه صحَا إن رآنِي باكِياً حزناً ... ظلَّ عُجباً ضاحِكاً فرحَا إن يكنْ حزنِي يُسرُّ به ... فأنا أهوَى به البُرَحَا وعذولِي جاءَ ينصحُني ... قلتُ يا منْ لامنِي ولَحَا ضلَّ عقلِي والفؤادُ معا ... ليس لي وعْيٌ لمن نصحَا جدْ وجدِي عادِمٌ جلَدِي ... غاض صبرِي والهوَى طَفحَا لم يزلْ طرفِي يسِحُّ دماً ... إذ به طيرُ الكرَى ذبِحَا هذا معنى متداول، منه قول الشِّهاب الخفاجي: ولو لم يكنْ ذابِحاً للكرَى ... لما سالَ من مقلتيَّ النَّجيعُ آهِ واشوقاهُ مِتُّ أسًى ... هل دُنُوٌّ للذي نزحَا إن شدتْ ورقاءُ في فنَنٍ ... شدوُها زندَ الجوَى قدَحَا وإذا ما شامَ طرفَ الشَّ ... امِ طرفِي للدِّما سفحَا يا سقى وادي دِمشقَ حياً ... طاب مغتبقاً ومصطبَحَا وكتبت إليه من مصر: سيِّدي الذي له دعائي وثنائي، وإلى نحوه انعطافي وانثنائي. لا عدمت الآمال توجَّهها إليه، وكما أتمَّ الله النعمة به فأتمَّها عليه. أُنهي إليه دعاءً يتباهى به يراع ومِهرق، وثناءً يجعلُ طيبُه فوق سالفٍ ومفرق. متمسِّكاً من الودِّ بحبلٍ وثيق، ومن العهد بما يتعطَّر بها النَّشر الفتيق. ومتذكِّراً عيشاً استجليتُ سناه، واستحليت ثناه. وإنِّي أتلهَّب على طول نواه، وحرِّ جواه. وقد وسمتَ بإقبالك أياميَ الغُفل، وفتحتَ بمذاكرتكَ عن خِزانة قلبي القُفل. إلى أن صرف الدهر بحدثانه، وحكم على ما هو شأنه بعدوانه. وأعاد عليَّ العين أثرا، والخُبرَ خَبَرا. واللقاءَ توهُّما، والمناسمة توسُّما. فتذكُّري لأيَّامك التي لم أنسَ عهدها، تركني لا أنتفع بأيام الناس بعدها. وإنِّي لا أرتاح إلا بذكر فضائلك، ولا أستأنس إلا بكرم شمائلك. أمزج بها الضَّحايا فتتبسَّم، وأستدعي بها صبا القبول فتتنسَّم. ولولا اشْتعالُ النارِ في جذوةِ الغَضَا ... لما كان يدرِي المرءُ ما نفحَةُ النَّدِّ وأما الأشواقُ فإن القلبَ مستقرُّها ومستودعها، ومحلُّها ومجتمعها. وهو عند مولاي فليسأل به خبيرا، وأما الأثنية فإنها على ألسنة الرُّكبان فلينشر بها حبيرَا. وإلى مثلك يتقرب بإخلاص الوِداد، ومن فضلك تُجتنى ثمرة حسن الاعتقاد. فسلامي على هاتيك الشَّمائل، سلامُ النَّدى على ورقِ الخمائل. وتحيَّتي لتلك الحضرة، تحيَّةُ النسيم للماء والخضرة. وأما دِمشقُ فشوقي إليها شوق البلبل إلى الورد، وامرؤ القيس إلى الأبلق الفرِد. وأنا مهدٍ تسليماتي إلى كلِّ يابِس من دوحِها وأخضر، ومتبرِّج من ثمراتها في قِباء رواءٍ أنضر. وأشتاق عهدها والعمرُ ربيعٌ نضر، والرَّوض جرَّ عليه ذيله الخضر:

بسم الله الرحمن الرحيم بقية الباب الأول

وما أنسَ أيَّامهَا والصِّبا ... أرَنُّ يجرُّ ذيولَ الجذَلْ ومسًّ رقيقُ رداءِ النَّسيمِ ... على عاتقِ الرَّوض بعض البلَلْ إذا الدهرُ مَيْتُ النَّوى واللِّحا ... ظُ عنَّا وأحداثُه تُعتقَلْ وذنبِي فيه أميرُ الذُّنوبِ ... ودولتُه فوق تلك الدُّوَلْ وأرجع فأقول: إنَّ حبِّي دِمشقَ إن عدَّ ذَنْباً ... فذنُوبي أجلُّ من طاعاتِي فمدحي لها لا ينقطع إلى أن تنقطع المدائح، وأثْنِيتي عليها لا تمَلُّ ولو ملَّت التغريدَ الحمائمُ الصَّوادِح. وأنا مؤمِّلٌ أوْبةً تَسُرّ، فيمتَّع الناظر بتلك الوجوه الغُرّ، والمناظر الزُّهر. وأُنشِد بلسان المقال، إذا استقامت الحال: إنَّ ذنوبَ الدهرِ معْفورةٌ ... إن كان لُقياك لها عُذرَا والسلام. وهنا وقف الفكر، عن سرد من قصدتُه من العلماء بالذِّكر. وأجنح إلى قول ابن بسَّام: إن شعر العلماء ليس فيه بارقةٌ تُشام. لأنها بَيِّنة التكلُّف، ظاهرةُ النُّبُوّ عن الرِّقَّة والتخلُّف. قلت: وعلَّةُ ذلك اشتغال أفكارهم بما يُعَنِّي، والشعر وإن سَمّوه ترويحَ الخاطر، لكنَّه مما لا يُثمر فائدةً ولا يُغنِي وشتَّان بين من تعاطاه في الشَّهر مرَّة، وبين من أنفقَ في تعاطيه عمرَه. وقد استثنى ابن بسَّام شعر خلَف الأحمر، وقُطْرُبا. أمَّا خلَف فلقوله في صِفة جواد: وكأنَّما جهِدتْ قوائمهُ ... أن لا تَمسَّ الأرضَ أرْبَعُهُ وأمَّا قطرُبا فلقوله: أن كنتَ لستَ معي فالذِكرُ منك معِي ... ترعاكَ عينِي وإن غُيِّبْتَ عن نظرِي فالعينُ تُبصِرُ من تهوَى وتفقِدهُ ... وناظرُ القلبِ لا يخلُو من النَّظرِ وأنا أستثني شيخَنا المهمنداري، المقطوع الشَّقيق، الحقيق بغاية الإطراء عند التَّحقيق. ورأيتُ الشِّهاب قد نفى الاستثناء واسْتند فيه إلى الإذعان، وجعل حُسنَ بعضِ أشعارِهم من قبيل دعوةِ البخيل وحملةِ الجبان. وأنا أقول: إنه عالمٌ، وكثيرٌ من أشعارِه عن الزَّيفِ سالِمٌ. فهو يناقض نفسه بنفسه، إلا أن يتمحَّض لوصفِ الشَّاعريَّة بما تراءى له في حدْسِه. الجزء الثاني بسم الله الرحمن الرحيم بقية الباب الأول في محاسن شعراء دمشق ونواحيها فصل ذكرت فيه مشاهير البيوت التي هي في أفق دمشق كالثوابت واضحة الثبوت فمنهم: بيت حمزة زبدة آل البيت، ونقاوة ذلك العنصر لبرأ من اللوِّ واللَّيت. آل رسول الله ونعم الآل، والموارد الصادقة إذا كذبت الآل. وسراة لؤي بن غالب، وملتقى النور بين الزهراء وعلى بن أبي طالب. وهو بيت شيدت دعائمه، وسمت فيه سعود الفلك ونعائمه. عصابُة فضل أخصب الدهرُ منهمُ ... فأصبح مُخَضرّاً وقد كان مُغْبرَّا تكاد يَدِي تَنْدَي إذا مالمستُه ... وتُنبِتُ في أطْرافها ورقاً خَضْرا لهم المجد السابق، وبهم يضىء الحسب الباسق. ما ولدوا غير نجيب، ولا دعوا إلا كان الدهر أول مجيب. وقد رأيت أبياتاً ذكرها صاحب دمية القصر، لم أر من تتنزل عليه إلاَّ هم بأداة الحصر. وهي: سقى آلَ حمزةَ صَوْبُ الحيا ... فهم في حساب العُلى الحاصِلُ هم الزَّائدون هم الفاضلون ... وغيرُهُم الزائد الفاضلُ لسانِي عن حالهم سائلٌ ... ودمعي على إثْرهم سائلُ إذا كنتُ في ظِلِّهم قائلاً ... فإنّي بفضلهمُ قائلُ فمنهم: السيد محمد بن السيد كمال الدين الشريف الرضي بنقابته وكفايته، والسامي عليه برعاية التفنن وحفايته. فهو البحر الذي لا يدرك شاطئه، والرئيس الذي تقبل بشفاه الأجفان مواطئه. نصب شباك الأفكار فاقتنص ما به كمال نوع الإنسان، ووفر الله له دواعي الحظ فجمع بين عجائب الحسن وغرائب الإحسان. فاستدارت منطقة المجد حول مركز سيادته، واستنارت كواكب المعالي الزاهرات بأضواء سعادته. فكانت له الفردوس حضرة، ونعيم خلدها يرف عليه نضرة. وأناته من رجاح رضوى، وقسماته من البدر أضوا.

وله في علو الهمة محكم الذكر، وفي درك المهمة الفكرة الثابتة والعزمة البكر. فهناك تتوقى الأيام حذرة، وتأتيه الليالي مما لم تجن معتذرة. ولو أن هارُوتَ البيانِ يزورُه ... بلا فتنةٍ للناس علَّمه السحرَا وفضلاء الوقت لا تفارق جمعه، والأمداح من كل فمٍ تقرظ سمعه. ومجلسه إما علم ينيله، أو بحث يجيله. أو شعر يفترعه، أو بكر معنىً يخترعه. وأخصاؤه من الذين يعرفون القول ويتهافتون عليه، يودون أن مسامعهم وأبصارهم لم تصرف إلا إليه. ربيع مَعالٍ بالفضائل مُخْصِبٌ ... لذلك بردُ الآلِ في حَيِّهِ اخْضَرَّا وفي بَحْر أنْسابٍ إذا غاص غائصٌ ... فليس بِرَاءٍ مثلَ جوهرِه دُرَّا وله من شريف الكلام، ما تتشرف به الأقلام. فمن ذلك قوله في الغزل: أملٌ ليس ينْقضى في تمَنِّى ... نظْرةٍ تُسْتعادُ عند الْتِفَاتِكْ ليس أرْضاك مُسْرفاً في تجنِّي ... كَ بحالٍ والحسنُ بعضُ صِفاتِكْ لك في كل مهجةٍ راضَها ال ... حُبُّ هوىً يُسْتطاب في مَرْضاتِكْ بقَوامٍ يُمْلي علىَّ إذا ما ... لَ حديثَ الرِّماحِ في لَفَتاتِكْ ومُحيّاً يُرِى ضئيلَ نُحولِي ... لعذُولي والصبح للسِّتر هاتِكْ وسَنا مَبْسَمٍ إلى الرُّشد يهدى ... هائما ضلَّ في دُجَى مُرْسَلاتِكْ يا بديعاً تحكي الرياض سَجايا ... هُ أقِلْ مُهْجتى شَبا لَحظاتِكْ أنا مَن لايُحِيله فَرْطُ إعْرا ... ضِك عن مَذْهب الوَلَا وحَياتِكْ وعلى مقلتى رقيبٌ من الوجْ ... دِ أرى في لِقاه بهجةَ ذاتِكْ حَسْبُ قلبٍ وناظر يتمنَّا ... كَ بأن لايرَى سوى حسناتِكْ مُلَح تسلِب النُّهَي ومَزَايَا ... أيها يُستطاع واللّحْظُ فاتِكْ ومن مقاطيعه قوله: بين تثنِّيك واعتدالِكْ ... مكائدٌ تقطع المَهالِكْ ودن ألْحاظِك المَواضِي ... مصائدٌ كم بهنَّ هالكْ ومن معمياته قوله، ويخرج منه اسم جمال: وشادِنٍ أسْفَر عن وجهِه ... فأشْرق الكونُ به واستْنارْ وقد رَنا نحوي بألْحاظِه ... وسهُمها فاق فَدار العذارْ وقوله، ويخرج منه اسم خضر: سطَا بلَحْظٍ مُثْخِنٍ في الحَشا ... ظَبْيٌ جيوشُ الحسن أنصارُهْ وكيف لا يُثخن قلبي سَطا ... سَفْك دم العشاق مِعْشارُهْ وقوله، ويخرج منه اسم مهدي: أهْواه كالغصنِ لَيِّناً بَهِجاً ... تلطَّف في سَلْب مهجتي خُدَعُهْ مُعنِّفي فيه لا تكن خشِناً ... مَن ذا بقلبي مكانه أضَعُهْ وقوله، ويخرج منه اسم شعبان: قد أثَّرتْ شمسُ النهار بوجه مَن ... أرْبَى عل قمرِ السماءِ إذا اتَّسَقْ ورقى العِذارُ على صحيفةِ خدِّه ... لمَّا بدا من تحته ذاك الشَّفَقْ وقوله، يخرج منه اسم حسن: دَعِ الجهلَ والْزم ساحة المجدِ واطَّرِحْ ... عُلُوقاً بأسْباب الزمان المماطِلِ فهل يُرْتَجَى دهرٌ يُفوهُ بلا فمٍ ... بخَفْضِ أعاليه ورفْع الأسافلِ وقوله، ويخرج منه اسم علي: بِرُوحي أَنيسٌ نرى طَرْفَه ... مَخائلَ وصلٍ لِسلْبِ النُّهىَ يُقارب خَطْو تلافٍ نأَى ... وبالقلبِ يلهو ولا مُنْتهَى وله فصول قصار، كل فصل منها تقصار. فمنها: حسن السيرة، خيرٌ من كثرة العشيرة. كمال الوجاهة، أن يصون المرء عرضه وجاهه. رونق المقال، أن يطابق مقتضى الحال. كثرة المرا، تحل وثيق العرى. صنائع المعروف، تقى مصارف الصروف. تقارب الخطى، تحفظك من الخطا. متابعة الهوى، تحيدك عن حد الاستوا. من رفق في الطلب، علق بالأرب. من ساهم من دونه، اتهم بالرعونة. من تخلق بالأناة، تمنطق بمناطق النجاة. من فوض أمره لمولاه، أمن مما يحذره ويخشاه. وكان يوماً في روضٍ فينان، اخضرت فيه خمائل وأفنان. وهو منشرح الصدر، وندماؤه حوله كالنجوم أحاطت بالبدر.

وصرف الدهر عنه مصروف، وطرفه دون تطرف ساحته مطروف. يترنح في الخطوة يمينا وشمالا، ويقتطف من الحظ أماني وآمالا. والروض يحييه بمباسم زهره، ويرفع إليه رفع الحمد ببنان قضبه الناشئة عن معصم نهره. وهو يجلو من أبكاره، وعرائس أفكاره. ما هو أمتع من بواكير الرياحين، وأوقع في الأسماع من مطربات التلاحين. فقرئ بحضرته أبياتٌ غنت بها نعم الجارية بين يدي المأمون، وهي: ولقد أخذْتُم من فؤادِي أُنْسَهُ ... لا شَلَّ ربي كفَّ ذاك الْآخذِ وزعمتِ أنِّي ظالمٌ فهجرْتني ... ورميْتِ في قلبي بسهمٍ نافذِ ونعَم هجرْتُكِ فاغْفري وتجاوزي ... هذا مقامُ المستجيرِ العائذِ هذا مقامُ فتىً أضَرَّ به الهوى ... قَرِحِ الجفون بحُسْن وجهك لائذِ فأنشد مضمناً لهذا المصراع قوله: نقَل العَذُول بأنني أفْشَيْتُ ما ... أخْفَى الحِفاظ من الغرام الواقذِ هَبْني اقترفْتُ لما افْترى فاغْفرْهُ لي ... هذا مَقامُ المستجير العائذِ فلم يبق أحدٌ ممن تضمنه المجلس إلا وبدا وبده، وشدا وشده. فمنهم ولده السيد عبد الرحمن، قال مرتجلا: نبَذ العهودَ مُغاضِبي فألمَّ بي ... في صورةِ الإشْفاق طَيْفُ النّابذِ فسألْتُه أن لا يفوه بما جرَى ... فيُحيله عنِّي بقولٍ نافذِ فمَضى ونَمَّ عليَّ فيما قلتُه ... فأتى يهدِّدني بسيفٍ شاحذِ رُحْماك قد صدق الخيالُ وإنما ... هذا مقام المستجير العائذِ ثم تلاه تلوه السيد عبد الكريم، فقال: هَبْ قادني الغرامُ فما الذي ... ألْجاكَ تعْذِيبي بهَجْرٍ واقذِ أضَراعتي أم ما افترتْه عَواذِلي ... عنِّي إليك من الكلام النافذِ رُحْماك بي لا تَرْعَ غيرَ مودَّتي ... وحِفاظَ وُدِّي لا تكنْ بالنَّابذِ فلديْكَ منكَ بكَ اسْتعذْت وإنه ... هذا مقام المستجير العائذِ ثم اقتفى أثره شقيقهما السيد إبراهيم، فقال: نظَرتْ لواحُظه فأقْصدتِ الحشَا ... منِّى بسهمٍ في الحُشاشِة نافذِ مافَوَّقتْ إلا وقلتُ لسهمِها ... هذا مقام المستجير العائذِ وقال الفاضل عبد الغني النابلسي، حفظه الله تعالى: لاحَظْتُ خالاً تحت صفحِة خدِّه ... مُتوارياً خْلف اللَّهيبِ النافذِ فسألْتُه ماذا الَمقامُ فقال لي ... هذا مقام المستجيرِ العائذِ وقال الفاضل عبد القادر بن عبد الهادي: وافَى الحبيبُ بغير وعدٍ زائراً ... يرْنو بطرفٍ بالمَجامع آخذِ أرْبَي بُسكْرِ هوىً وسكرِ مُدامةٍ ... حتى إذا سُدَّتْ عليَّ مَنافذِي ناديْتهُ حسْبي فدَيْتُك زائراً ... هذا مقام المستجير العائذِ وقال العالم الشيخ عبد الحي العكري: أنْزلتُ آمالي بوادٍ مُخْصِبٍ ... وحِمىً مَنِيع نعم كهفُ الَّلائذِ فلذاك ناداني يَقِينى مُعْلِناً ... هذا مقام المستجير العائذِ وقال الأديب زين الدين البصروي: وأغَنَّ فتَّاكِ اللَّواحظِ أدْعجٍ ... يرْمى بنَبْلٍ في القلوبِ نوافذِ نادَتْه أفْلاذِي وقد فتكتْ بها ... هذا مقام المستجير العائذِ وقال البارع عبد الرحمن البعلي: ولقد وقْفتُ على الطُّلولِ عشِيَّة التَّ ... وديع يوم البَيْن وَقْفةَ لائذِ فاسْتْعَبرتْ عيْنايَ لمَّا بان مَن ... أوْهَى بفُرقته جميعَ مآخذِي لام العَذُول وقد رآني وَالِهاً ... فأجبْتُه خفِّضْ عليك مُنابذِي لَوْ راعَك البَيْن المُشِتُّ عذَرْتني ... هذا مقام المستجير العائذِ وقال الألمعي إبراهيم بن محمد السفرجلاني: يا آلَ بَيتِ المصطفى شِعْرِى حَلاَ ... فيكم وطابتْ بالمديح لَذائذِي وافيْتُكم أبْغِي حِماكم منشداً ... هذا مقام المستجير العائذِ وقال الكامل محمد الذهبي:

أخوه السيد حسين

يا مَن إذا جاريْتُه في مَسْلَكٍ ... ألفيْتُه قد سَدَّ طُرْق مَنافذِي أهْوِنْ بمُضْناك الذي حيَّرْتَه ... هذا مقام المستجيرِ العائذِ ثم طلب من الأمير المنجكي تضمينه، فقال: بِسوَى حِماكُم لا تَراني مُقْلةٌ ... يا مَن لهم وُدِّى المؤكد لائذِي فإذا وقفتُ ببابكم مُتذلِّلاً ... هذا مقام المستجير العائذِ واتصل ذلك بالأديب الباهر الطريقة، عبد الرحمن الموصلي، فقال: عاهدْتُه أن لا يميلَ وقد رأى ... نَبْذَ العهودِ فدَيْتهُ من نابِذِ رَدَّ الصباحَ لناظِرَيَّ بهجْرِه ... ليْلاً وسدَّد بالصُّدود منافذِي ناديْتُه واليأسُ أمْسى ضاحكاً ... وأناملُ الآمالِ تحت نواجذِي رِفْقاً بقلبٍ لا يميلُ لغيركمْ ... هذا مقام المستجير العائذِ قلت: والأبيات المتقدمة ذكرها ابن خلكان. وقال: إن المأمون استعاد الصوت من نعم ثلاث مرات، وكان بحضرة اليزيدي، فقال: يا يزيدي، أيكون شيءٌ أحسن مما نحن فيه؟. قلت: نعم، يا أمير المؤمنين. فقال: وما هو؟ قلت: الشكر لمن خولك هذا الإنعام العظيم الجليل. فقال: أحسنت، وصدقت. ووصلني، وأمر بمائة ألف درهم يتصدق بها، فكأني أنظر إلى البدر وقد أخرجت، والمال يفرق. أخوه السيد حسين إذا كان ذاك الرضي فهذا المرتضى، وكلٌ منهما الحسام المجرد والسيف المنتضى. فهما في السيادة ربيبان، يتضاءل لديهما الأقعسان. اشتركا في البراعة اشتراك الشمول، وفاحا فوحة الزهر وهبا هبوب الشمول. فكأن يد القادر الفتاح، شقتهما من شقي التفاح. ينظر الأدب منهما عن مقلتين، ويتردد الأفاضل بينهما تردد النسمات بين روضتين. وهذا وإن عاجله الحمام، فاستسر قبل التمام. إلا أنه أهتصر الأمل لدنا، وتبوأ من قرارة العيش عدنا. وقد ألان له الدهر معطفاً، وأجناه ما شاء من الأماني مقطفا. وناله قبيل موته حالٌ سنية الخلال، وسيادةٌ وريفة الظلال. فلم يقم داعي الهنا بإقباله حتى قام ناعى الأمنية، ولا انتقد دينار عمره على محك الانتقاد حتى عولج بصرف المنية. فروح الله بروحه في الجنان، وعامله بمحض الفضل والامتنان. وقد أثبت من شعره ما استوفى أقسام النضارة، واستكمل فصاحة البداوة وهو من لب الحضارة. فمنه قوله من قصيدته، مستهلها: لك اللهُ هل بَرْقُ الرُّبوع يلوحُ ... وهل بان من ليلِ البِعادِ نُزوحُ وكم يا ترى يْسطُو عليَّ بأدْهَمٍ ... وأشْهبُ طِرْفِ الصُّبح عنه جَمُوحُ أُراقِبُ نَجْماً ضلَّ مَسْلَك غَربِه ... وطَرْفِىَ هامٍ والفؤادُ جريحُ يبيتُ يناجيني الحمَام بسجْعِه ... ويروى حديثَ السُّقْمِ وهْوَ صحيحُ أطارحُه وجْدِى ويشْكو من الجَوىَ ... وكلُّ مَشُوقٍ بالغرام يبوحُ يُنوح ولا يدْرِي البِعادَ وفَرْخُه ... لديْه قريبٌ والزمانُ سَمُوحُ على غُصْنِه المَيَّادِ أصبح شادياً ... ونَشْر الصَّبا يَغْدو له ويروحُ بِرَوْض بكتْه الغادياتُ فأضحكتْ ... ثُغورَ أقاحٍ بالعبِير تفوحُ أَقول له والوجدُ يمطِر مقْلتِي ... وقلبيَ في نارِ الغرام طريحُ ألا يا حَمامَ الأيْك إلْفُك حاضرٌ ... وغصنُك مَيَّادٌ ففِيم تنوحُ ألا يا حمامَ الأيْك تعدُوكَ حالُ مَن ... بأحْشاه من حرِّ البِعادِ قُروحُ مُغادِرُ أفْراخِي صغاراً وليس لي ... جَناحٌ ولم يهبُبْ بفُلْكِيَ رِيحُ فأيْن من النَّائِي عن الإلْفِ حاضرٌ ... وأين من الباكي النَّحُوبِ صَدوحُ فهل يا ترى من مُنْقذٍ أو مساعدٍ ... يخلِّص مِن أيْدي النَّوى ويُريحُ وقوله، من أخرى: مَعاذَ الهوى أن الصَّرِيعَ به يصْحُو ... ليعقِلَ ما يُمْلي على سَمْعِه النُّصْحُ وكيف تُرجَّى منه يوماً إفاقةٌ ... وزَنْدُ الهوى في عقْله دَأْبُهُ القَدْحُ

دعِ القلبَ يشقى في طريقِ ضلالةٍ ... ففي رأْيه أن الوصولَ بها نُجْحُ تؤمِّل آمالاً مدى العمرِ دونها ... كأن مَطايا النائبات به جَمْحُ يُكتِّمُ أسْرارَ الغرامِ فؤادُه ... ويفْضحُه من مُزْنِ مُقْلتِه السَّحُّ لقد ألفِتْ عيْناه أن تنفح الدِّما ... وتلك دِمَا لُبٍّ به أُحْكِم الجرحُ يَعاف الكرَى منه المحاجرَ كارهاً ... نُزولَ جراحٍ جُرْحُها شأْنه الرَّشْحُ له في انْتظارِ الطَّيْف جَفْنٌ مُؤرَّقٌ ... تَعوَّده من شدَّةِ الأرَقِ القَرْحُ ولم يدْرِ أن الطيفَ يحْذَر أن يُرَى ... نزيلَ بيوتٍ دأْبُ أبوابها الفتحُ غدا دهرُه بالهجرِ ليلاً جميُعه ... وحسْبُك دهرٌ بالنَّوى كلُّه جُنْحُ كأن نجوم الأفْق فيه تنصَّرتْ ... فليس لغْير الشَّرْق وِجْهتُها تنْحُو كأن الثُريَّا والنسور تخاصمَتْ ... وظَلاَّ على جِدٍّ يُجانُبه المَزْحُ كأن به الشُّهْبَ الثواقبَ تنْبَرِي ... مَراسِيلَ ذاتِ البيْن يُرْجى بها الصلحُ كأنَّ به خَيْطَ المَجرَّة جدولٌ ... تَوارَدَه الجْيشانِ وازْدحم النَّزْحُ كأن ظلامَ الليلِ في الجوِّ عِثْيَرٌ ... تغَشّى صفوفَ الجيشِ من جَوْنِهِ فتْحُ كأن به العَيُّوقَ مَلْكُ مُبجَّلٌ ... كأن اخْضرارَ الفجر في أُفْقِه صَرْحُ وقوله من أخرى، مستهلها: خَفِّضْ عليك أخا الظِّباءِ الغِيدِ ... وارْحَمْ مدامعَ جَفْنِيَ المَسْهودِ كم ذا أُعلِّل بالأمانِي تارةً ... قلبي وطوْراً بانْتظار وعُودِ ولَكَمْ أبِيتُ بليلةِ المْلسُوعِ في ... أذني سميعٌ في التفات رَصِيدِ ليلة الملسوع، كناية عن السّهر المؤلم. ومن اللطائف: دواء الملسوع الصّياح إلى الصباح. والملسوع اسم مفعول، من لسعته الحيّة أو العقرب. وأول من استعمل هذه الكناية الشّريف الرّضيّ، في قوله: أتبِيتُ رَيَّانَ الجفونِ من الكرىَ ... وأَبِيتَ منك بَلْيلةِ المْلسُوعِ ومن نوادر البيت، أن تبيت مضموم التاء، وهو للمخاطب، وأبيت مفتوح التاء وهو للمتكلم، والخطاب في الأول مستفاد من تاء المضارعة، والتّكلّم في الثاني مستفاد من الهمزة، وأن الأول مرفوع؛ لحلوله محلّ الإسم، والثاني منصوب بأن مضمرة بعد واو المصاحبة. يامُسرِفا في هجَرِه لمتيَّمٍ ... هجَرتْ محاجِرُه لذيذَ هُجودِ أهْوِنْ برغبتك القِلَى والجَهْد في ... تعْذيبِ شِلْوِ فؤادِيَ المفْؤُوِد الشّلو: العضو، وفي الحديث: ائتني بشلوها الايمن. والشّلو: شلو الإنسان، وهو جسده بعد بلاه، وكلاهما هنا محتمل. لم يُبْقِ هَجْرُك فِيَّ قلباً خافقاً ... لسرُورِ وعدٍ أو لحزنِ وَعيدِ وغدوتُ من فِعْل السَّقام كأنني ... أوْهامُ فكْرٍ في خيالِ بليدِ أدْنَيْتَني حتى ملكْتَ حُشاشِتي ... وتركْتَني وَقْفاً على التَّنْكِيدِ وله من أخرى، أولها: عجبتُ لقلبي ما يُكِنّ من الوَجْدِ ... ونارِ جَوًى لاتفْتُر الدهرَ عن وَقْدِ سقى مَعْهدي والرَّبْعَ من أرضِ جِلَّقٍ ... أسَحُّ غمامَىْ أدْمُعِي والحَيَا الرَّغْدِ أُرِيدُ الحَيَا فالدمعَ أحْذَرُ إنَّه ... يُحرِّم منها ماءَها الطَّيِّبَ الوِرْدِ من قول مهيار: بكيْتُ على الوادِي فحرَّمْتُ ماءَه ... وكيف يَحِلُّ الماءُ أكثرُه دَمُ منها: وناعِسِ طرفٍ بات يمزُج راحَه ... برِيقَتِه مَزْجَ الضمائرِ بالوُدِّ يُنادمني والسكرَ يخْفِضُ صوتَه ... كهَيْنمَةٍ بالروضِ مِن نَسْمِة الرَّنْدِ منها: سَقاه غَمامُ الحسنِ صَوْبَ عِهادِه ... فأثْمَر بدراً قد تنوَّر بالوَرْدِ

قلت: هذا شعر تجاوز في اللطف الحد، يحمر له خجلاً ود الربي وورد الخد. ومن أحاسنه التي عطلت الياقوت والدر، ومن يصبو بمحاسنه فقد بان له العذر، قوله: إلى م تَرى ذا العهدِ يُتْلِفُه الغَدْرُ ... وحتَّى م وعدٌ دون إنْجازِه الحَشْرُ أبِيتُ ولي قلبٌ على جَمْرةِ الغضَا ... وأعْباء أحزاني على مُهْجتي وِقْرُ وقد ضلَّ أُنْسُ الأفْقِ مَسْلَك غَرْبِه ... بِحِنْدِسِ ليلٍ ليس يْعُقبه فَجْرُ وباتتْ تُناجيني بشَجْو حمامةٌ ... لها تحت ذيلِ الليلِ في شأْنها هَدْرُ تنُوح علىالغصن الرطيب فينْثِني ... طَرُوبا كمَن مالتْ بأعْطافِه الخَمْرُ أَنَاشِدةٌ تشدو على فَنَنِ الرُّبَى ... مُفارِقةً إلْفاً وقد خانها الصبرُ أراك مُنَدَّاة الجناحِ فخبِّري ... أَدَمْعي الذي نَدَّاه وَهْناً أم القَطْرُ منها في الحماسة: وإنِّي صبورٌ عند كل مُلِمَّةٍ ... يشِيبُ لها فَوْدٌ ويَحْدَوْدَبُ الظهرُ ولا ارْتاع لي قلبٌ لخطْبٍ إذا غدا ... علىَّ له الإبْرامُ والنَّهْىُ والأمرُ فلا خَيْر في قلبٍ أبَتْ أن تُذِيبَه ... خطوبٌ فلولا السَّبْكُ ما عُرِف التِّبْرُ وقد زادني جَوْرُ الزمان تأرُّجاً ... كما زاد نَشْرَ المسك في سَحْقِه الفِهْرُ هذا من قول سعيد بن هاشم الخالدي: تَزِيدُني قسوة الأيَّامِ طِيبَ ثَناً ... كأنَّني المسكُ بين الفِهْرِ والحجَرِ والفهر: الحجر الذي يسحق عليه. وإن لاح لي فوق السِّما كَيْن مَطْلَبٌ ... فلا المُرتَقى صعبٌ عليَّ ولا وَعْرُ ولستُ بِهَيَّابٍ ليوْمِ كريهةٍ ... وقد صافحتْ فيه المُهَنَّدَةُ البُتْرُ فإن خانني دهرِي فما خانني الحِجَا ... وإن خذَلتْني الصَّحْبُ لم يخْذُل الصبرُ ولا أشْتكِي خطباً يُشدِّد وَطْأةً ... عليَّ فلولا العسرُ ما خُلِق اليسرُ منها: ولستُ الذي يُمْضِي الليالي أمانياً ... يضِيع سُدًى في شأْنها الوقتُ والفكرُ ولا أكره الخطْبَ المُلِمَّ فرُبما ... أتى النفعُ من حالٍ تراءَى به الضُّرُّ وللهِ ألْطافٌ يدِقُّ خفاؤها ... فكم خِيفَ أمرٌ كان في ضِمْنه النصرُ وكم عمَّني بالفضل والنِّعَمِ التي ... يقِلُّ عليها منِّيَ الحمدُ والشكرُ إذا رُمْتُ أُحْصى وصْفَها بِبيانها ... فهيْهات يُحْصَى الرَّملُ أو يُحْصر القَطْرُ وله من أخرى، مطلعها: أراني الزمانُ فِعَالاً خسيساَ ... وخطْباً يبدِّل نُعْماه بُوساَ منها: ومُذ أسْكرتْني صُروفُ الزمانِ ... نسِيتُ بها الكأسَ والخَنْدَرِيساَ وألْزمتُ نفسيَ حالَ الخمولِ ... وعِفْتُ المُنى وهجرتُ الجليساَ فقد يمكثُ السيفُ في غِمْدِه ... مَصوناً ويسْتوطنُ اللَّيْثُ خِيساَ ومنها في المديح: بعزْمٍ تراه إذا ما بدا ... بُمعِضلِ أمرٍ يَفُلُّ الخَمِيساَ ولا يَملِك القلبَ منه الرَّدَاحُ ... ولو أشْبه الوجهُ منها الشموساَ ولو تكُ لو لم تَمِسْ ما اهْتدتْ ... غصونُ الرِّياض إِلى أن تميساَ وله من أخرى، مستهلها: خَفِّض عليك أخا الظِّباء الرُّتَّعِ ... أنت الشريكُ بما رميْتَ به معِي أرسلتَ من أجفان لَحْظِكَ أسهُماً ... مذ فُوِّقَتْ لم تُخْطِ قلبَ مُرَّوعِ قد ظلَّ موقعَها الفؤادُ وإِنَّني ... لم ألق غَيْرَك ثَمَّ في ذا الموضعِ كَلِفٌ بحبَّاتِ القلوبِ كأنما ... تبْغِي الوقوفَ على الضَّمير المُودَع يا من غدا يسْطُو عليَّ بهجْرِه ... أوَما رحمتَ نَحيِبَ صَبٍّ مُولَعِ شيْئان تنْصدعُ الجوانحُ منهما ... تغْريدُ ساجعةٍ وأنَّةٌ مُوجَعِ

كم رُمْتُ أخْفى عن سواك صَبابتي ... وبها ينُمُّ علىَّ شاهدُ أدْمُعِي يهفْو لِغَيٍّ فيك قلبي ثم لا ... يُصغى لغِشٍّ الرَّشاد مُقَنَّعِ قل للعَذُول عليك يتْرك غِشَّه ... بالنُّصْح لي فلذاك أُذْنِي لا تَعِي لم تُحْفِ قَطُّ بشاشةٌ لُؤْمَ الفتى ... فالطبعُ يفضح حالَةَ المتطبِّعِ إن المَلامَ وحقِّ وجهك في الهوى ... ما زاد غيرَ توَلُّهي وتوَلُّعِي قد زاد فيك تألُّفِي بتألُّمِي ... وتفكُّري فيه انتهى لتمتُّعِي الأبيات الثلاثة الأول، هي بعينها ثلاثة المهيار: أوْدِعْ فؤادي حُرَقاً أو دَعِ ... ذاتُك تُؤذَى أنتَ في أضْلعِي أمْسِك سهامَ اللحظِ أو فارْمِها ... أنتَ بما ترْمِي مصابٌ مَعِي موقُعها القلبُ وأنت الذي ... مَسْكنُه في ذلك الموضعِ ومن مقطعاته قوله: إذا منَعتْ سُحْبُ العواذلِ وجهَه ... وحجَّب عني نورَه وهْو ساطعُ فمن نارِ أحْشائيِ تصاعد بَرْقُها ... وهاطلُها ما أمْطرتْه المدامعُ وله في الغزل: عجبْتُ لحُسادِي عليك وليْتهم ... دَرَوا أننَّي من نْقضِك العهدَ في ضَنْكِ مضى ظنُّهم في مَيْنِ وعدِك صحةً ... وحقق إنْجازاً عَرِيّاً عن الشِّرْكِ فبَيْن وعيدٍ صادقٍ لا تَحيِدهُ ... ووعدٍ كَذُوبٍ ليس يُؤذن بالشَّكِّ غدَوْتُ ولي حالٌ كما تشْتهي العِدَا ... وسُحْبُ دموعي أنْبتَتْ كَلَأَ الهَتْكِ فللِه مَن أخلصتُ دهرِيَ وُدَّه ... وعذَّبني بالغدْر والهجرِ والفَتْكِ وقوله، في شخص اسمه موسى: يناديك يا موسى فؤادٌ تكثَّرتْ ... عليه وُشاةٌ في هَواكَ خُصومُ وليس عجيباً أن تَوَلَّه في الهوى ... وأنت له بْين الأنام كليمُ وله في غرض: كم ذا تظَلُّ مُؤرَّقَ الأجفانِ ... ما عشْتَ وثَّاباً لنَيْلِ أمانِي فبكلِّ وادٍ أنت رائدُ مطلبٍ ... وبَكلِّ نادٍ أنت ناشدُ شانِ تَرِدُ الخطوبَ لَمِوردٍ هاعَتْ به ... أُسْد الفَلا مذعورةَ الأعْيانِ لا تهتْدي فيه القَطا لورودها ... إلا بورْدِ الضَّيْغمِ الظَّمآنِ وكأنما رِيشُ النواهض حولَه ... وَقْعُ النِّبال عقِيب يوم طِعانِ وترى المَطايا عُوِّضتْ من طائِها ... نُونا لمُقْتَحِمٍ له ومُدانِ فأتْيته والأُسْد تُوجِس خِيفةً ... فيه مفارِقة ثباتَ جَنانِ وحَشَا خطوبٍ قد شققْتُ ضميرهَا ... بيدٍ تدُقُّ عَواِلَي المُرَّانِ وغدوتَ تعْتسفُ الفَلا وتجوبُها ... لمطالبٍ قد زُيِّنتْ وأمانِي وفَرَيْتَ وَفْر ظلامها بصوارمٍ ... وصلتْ عُرَى الإصْباح باللَّمعانِ وركبت متنْ مَهاِمهٍ متوخّياً ... دارَ العُلى فوصلتها بأمانِ وبذلْت شَرْخَ العمرِ وهْو نفِيسُه ... في سُوقِ رَغْبات الهوى النَّفساَني قسماً بأيامِ الشباب وطِيبِها ... وبنظمِ شَمْلٍ شَتَّه الحَدَثانِ وبأنَّةِ القلبِ الصريعِ إذا نأَى ... عنه الأليفُ وأقْفرتْه مَغَانِي لَأشَدُّ ما يْلَقى أمرُؤٌ في دهرِه ... شيئان صدقُ قِلىً وبُعْد مُدانِي وله مضمنا بيت الأرجاني مرتجلا: لستُ أنْسَى ليالياً قد تقضَّتْ ... بوصالٍ وطِيبِ عْيشٍ بمغْنَى كم قضَينا بها لُبانَة أُنْسٍ ... وظفِرْنا بكلِّ ما نتمنَّى حيثُ غُصْنُ الشبابِ رَيَّانُ من ما ... ءِ صِباه في الهوى يتثَّنى قد أتتْ بغتةً وولَّتْ سِراعاً ... كطُروقِ الخيال مُذْ زَار وَهْنَا أترى هل تعود بالتَّدانِي ... ومُحالٌ جَمْعِي بها أو تُثنَّى

السيد عبد الرحمن

غيَر أني أعلِّلُ النفسَ عنها ... بالأماني الكِذابَ وَهْماً ووَهْنَاَ أتمنَّى تلك الليالي المُنِيرا ... تِ وجهدُ المُحبِّ أنْ يتمنَّى وله يخاطب مليحا مرض: يا من تَعالاه السَّقا ... مُ لقد حكيْتَ بذاك جَفْنَكْ إذ صار يا بدَر السَّما ... ءِ مُضاعِفاً ذا الضعفُ حُسْنَكْ لم ينتقِصْ بالسُّقْمِ حُسْ ... نُكَ سيِّدي والّلهِ إنَّكْ يشير إلى قول ابن سناء الملك في مليح شفه السقام: أشْبَهْتَ جسمِي نحولاً ... فهل تعشَّقْتَ حسنَكْ وكان حَفْنُك مُضنيً ... فصرتَ كلك جَفْنَكْ وزادَك السُّقْمُ حسناً ... واللهِ إنَّك إنَّكْ وللسيد محمد ثلاثة أبناء، كثلاثة هقعة الجوزاء، وإن أربوا عليها في السنا والسناء: السيد عبد الرحمن هو في السن يكبرهم، وفي الأخذ بأطراف الشعر يكثرهم. ومكانه منهم الأخطر الأنفس، وصبح الفضل عن ابتهاجه يتنفس وذاته شغلٌ للحب الواجد، وشأن القلوب في محبته القلب الواحد. قطف الكلام لما نور، ورتب محاسن البديع في درر كلماته وطور. وقد فجعت به بنو الآداب في ميعة شبابه، وفقدت منه سيداً ألم بخالصة الأدب ولبابه. فلا عذر للدمع إن لم يساجل عليه المزن، ولا للنفس إن لم تعاشر في مصابه الحزن. وأرجو الله سبحانه، أن يمنحه روحه وروحانه. وكنت صحبته أياماً، نبهت فيها حظوظاً نياما. فما زلت أتروح نسيم لطفه وأنتشقه، واوقول فيه ما يقول المفتون فيمن يعشقه. وكان أتحفني من أشعاره بطرق تروى تنقل، وبمثلها يجلى القلب من صداه ويصقل. وها أنا ذا أورد منها ما نلتزمه، ونترك عنك درر البحور، فإن بها زينة الصدور، وتلك بها زينة النحور. وكل ما أذكر له إما تشبيه زهراً وزهر، أو وصف روض يطل على نهر. وهو ممن أغرى بهذين النوعين، فأتى منهما بجمل متكاثرة، ونظم فيها بدعاً أضحت لها عقود الترائب متناثرة. وذلك إما لميلٍ غريزي في فطرته، أو لأن دمشق متروح فكرته. وحسبك من طبعٍ لو كان للسحب صيرت الزمان فصل الربيع، وفكرةٍ لو كانت للنجوم السيارة جرين سعداً أكبر في التربيع. ويكفيك من متروح تنفتح العين منه على بهجةٍ ونضارة، ومسرحٍ ينجلي القلب منه بجدة وغضارة. فمن ذلك مقامته الربيعية، كتبها للأمير حمزة الدفتري، بدمشق، وقد احتوت على معظم تشبيهات الزهور. وهي: إلى روضةِ الآداب رَيْحانة النَّدِّ ... تَحايا حِفاظٍ حرَّكتْها يدُ الوُدِّ فجأتْ كأنفاسِ الرَّياح تسحَّبتْ ... على رَشَحاتِ الطَّلِّ من وَجْنة الوردِ هذا، وقد عن للخاطر يا سيدي أن يزف إليك بوادره، ويجلي عليك نوادره. إذ لا بد للنفوس أن تمرح، وللنوادر أن تستباح وتستملح. وقد أشعرت أني دفعت إلى المناجاة الفكر الفاتر، عند قلة المحادثة والمناظر. فخطابني في ابتكار النخب، وأغراني بافتراع أبكار الأدب. وقال: ما تقول في دعابة تقلص ذيل الوقار، وتزرى بأكؤس العقار. فقلت: إيه، يا نبيه، ثم لزمت الإصاخة لتلقيه. فسلك بي طريقاً من الواهمة، كأنما أعده لهذه المنادمة. فأفضى إلى روض مندي، كأنما تجلل بالنعيم وتردى. وقدر فرشت ملاءة النور، على ميادنيه، وحرشت أيدي النسيم بين رياحينه. يخترقه نهرٌ كأنما يسيل من درة، أو ترقرق من عبرة. وعليه درةٌ من الفواقع منظوم، وبسماطيه وشيءٌ من الأزاهر مرقوم. فمن نرجس نعته الفتور، ووردٍ كأنما انتزع من أوجه الحور. وأقاحٍ كأنه ثغر الحبيب بلا مر، وقصور من العسجد السبيك مشرفة الذرى. وياسمين كأنه أثل الأبكار، أو صلبان من الفضة صغار. وبنفسج كأنه العوارض الطريرة، أو رصة القرط في سالفه مهمومةٍ غريرة. وشقيقٍ كأنه أقداح العقيق، قد رسب بقرارتها مسكٌ فتيق. وآذريون كأنهن مداهن عسجد، على سواعد زبرجد. قد ضمخت أوساطها بغالية، وسماوتها من ذاك خالية. وسوسان كبياض السوالف، أو جياد الوصائف. وترنجان كأنها وشمٌ على زنود، أو بساط سندسٍ ممدود. ومردقوش كأنما مفروقة آذان خرد، ومجموعة صرحٌ من الزمرد ممرد. وريحان يعده النديم ليوم الفراغ، ويحكيه الحبيب بسلاسل الأصداغ.

وقرنفل كأنما توقد بالجمر، وانعقد من الخمر. على مكاحل خضرٍ معشوقة، وساوعد صفرٍ ممشوقة. وسنبلٍ لازوردي الأديم، عنبري الشميم. تخاله بأكف الولائد، كأنه شنوف علقت إلى مراود. وبادورد، تسمى برائحة العنبر والورد. كأنه هالة البدر في القياس، أوشمسة تفككت من الألماس. والطير جذلان مبتهج، بين فاردٍ ومزدوج. قد صدح ومرح، وغنى بكل مقترح. فمن عندليب قد أخذ من الغرام بنصيب، وحرك نوازع المحب للحبيب. كأنما رقش بحوة اللعس، أو قدٌ طوق من أديم الغلس. ومن شحرور، قد أعلن بالسرور، وترنم خلف الستور. ثم برز لمناغاة كل أوراق صدوح، كأنه راهب في مسوح. وقد صيغت من الأبنوس قوائمه، وصبغت بعصارة المرجان ملاثمه. ومن مطوق قد حن إلى إلفه وتشوق، وترسل بالأغاريد وتتوق. ومن قمريٍ راح يقهقه بترجيعه، ويحكى إبريق المدام عند سفك نجيعه. ومن ساجعةٍ، ذات غصة متراجعة. معشوقة التفويف، معلمة الرمل والخفيف. يندى بمرتحل الرذاذ عاتقها، وفي أحشائها زفرةٌ من الشوق لا تفارقها. ومن ساق حر، كأنما اكتحل بنار الجوانح، وبزر على منصة المناوح لكل مطارح. جَوارٍ على قُضْبِ الأراكِ تناوَحتْ ... وما هي إلا للقلوبِ جوارحُ وإذا بولدان كأنهن شوارد آرام، أو بدور تمام، يتطلعن من فروج الغمام. من كل ذي طرف منهوك النظر، بادي الفتور والحور. بمحياً وسيمٍ يندى بمائة، قد أطلع فيه النعيم آية روائه. وجيدٍ معشوق الغيد، على قوامٍ رهيف التثني والميد. كأنه الغصن يمرح في برده، والصبح ينساخ نوره من طوقه وعقده. قد رفعوا سجوف التكلف، وهصورا بأغصان التألف. وعلى يد كل واحد كأس مدام، وإبريقٌ منزوع الفدام. وهما يتعاقران السلاف على روض وغدير، وسماع بمٍ وزير. حتى مرج الدوح بهم واضطرب، وجرت الأكواب على الخبب. فبينا أنا متعجب من هذه الآثار العبقرية، ومتأمل في هذه المحاسن الربيعية. وإذا بالفكر قد رفع الحجاب منشداً، وإلى وجه الطرب مرشداً. فقال: إليك نزعَةُ آدابٍ يرِفُّ بها ... طيرُ الفصاحِة إيناساً وتطْريبَاً لا تعجَلِ اللَّوْمَ فيها واسْتشِفَّ لها ... معنىً يرِفُّ وينْدَى بَيْننا طِيبَاً وربَّما أفصحتْ من بعد عُجْمتِها ... وعاد تَرْجيعُها مَدْحاً وتشبِيباَ فعادَ سَمْعُك مِئناسَ القريضِ بها ... فليس يأْلُوك إبْداعاً وتهْذيباَ فحيث ما جُلْتَ تلْقَى روضةً أُنُفاً ... منا ومسكاً على الأرْجاءِ مَنْهوبَا ومُتْرَفاً لم يزل بالدَّلِّ مُنْتطِقاً ... بالطَّرْفِ مُتَّشِحاً بالحسن مَعْصوبَا ومن حبيث لا روضةٌ عند العَيانِ ترى ... فيها ولا مُسْمِعا يشْدُو ولا كُوباَ وإنما هو تَمْويهٌ على نَسَقٍ ... تخالُه شارباً للذهنِ مشروبا الشِّعر ضربٌ من التَّصوير قد سلَكتْ ... فيه القرائحُ تدْريجاً وترْتيباَ فالروضُ روضُ السَّجايا طاب منْبَتُها ... والزهرُ زَهْرُ الثَّنا نُهْديه مَرغوباَ والكأسُ كأسُ الوداد المحْضِ مُرتَشَفاً ... والحسنُ حسنُ الوفَا تلقاه محبوباَ والطيرُ طيرُ بيانٍ ظلَّ مُغْترداً ... طُوبَى لمن بات يقْرِى سمعَه طوبَى والسجعُ طِيبُ حديثٍ ظلَّ جوهرُه ... بين الأخلَّاء منْثوراً وموْهوباَ وتلك أوصافُ مَن طابتْ مَكاسِرُه ... ومن غدا جوهراً للفضلِ منْخوباَ أعْنِي به حمزةَ الرَّاقي إلى شَرَفٍ ... يرى به كوكب الجوْزاءِ مَجْنوبا من راح مُنْتدِباً للفضل يجمعُه ... والعُرْفُ يصنَعه بدءا وتسَبيباَ والمَكْرُمات غدَتْ في طبعِه خلُقاً ... ونِحْلَةُ الودِّ دَأْباً منه مَدْؤُوباَ إليك يا مَوْئل الآدابِ غانيةً ... تُهْدِى ثناءً كأنفاس الرُّبَى طِيبَا رَفِّهْ بعَيْشِك سمعَ الوُدِّ منك بها ... وأولها بجميلِ القولِ ترحيباَ

وقوله في تشبيه الياسمين: أو صلبان إلخ، من قول ابن قرناص: انْظُر إلى خَيْمةٍ وقد نُصِبَتْ ... خضراءَ عند الصَّباح مُبيضَّهْ كأنها قُبَّةٌ لِراهبةٍ ... وقد كستْها صُلْبانُ من فِضَّهْ ومن التشابيه في البنفسج قوله: بَنَفْسَجٌ بذَكِىِّ المسك مخْصوصُ ... كخَدِّ أغْيَد بالتخْميشِ مقروصُ وقال آخر: بنفسج كآثار العض، في البدن الغض. وقوله: وشقيق، كأنه أقداح العقيق إلخ، هذا نقل فيه تشبيه الآذريونة من بيت قيل فيها، وهو: وحَوْل آذَرْيُونةٍ فوق أُذْنِه ... ككأِس عقيقٍ في قرارتِه مِسْكُ وضمير حول يرجع إلى المحبوب. والآذريون: نور أصفر، معرب آذركون، أي لون النار، والعرب كانت تجعله خلف أذنها تيمناً. وأصله أن أردشير ابن بابك، كان يوماً بقصره، فرآه فأعجبه، ونزل لأخذه فسقط قصره، فتيمن به. وهو نور خريفي، يمد ويقصر. قاله الشهاب، في شفاء الغليل. وقال غيره: وهو ورد مدور له أوراق حمر، في وسطه سواد، له نتوء وارتفاع، فيشبه بكأس عقيق كالأول، وقد يكون أصفر، وعليه قوله الآخر: وآذريون كأنهن مداهن عسجد، على سواعد زبرجد، إلخ. وهذا حلٌ لأبيات لابن المعتز: سَقْياً لروضاتٍ لنا ... من كلِّ نَوْرٍ حالِيَهْ عيونُ آذَرْيُونِها ... للشَّمس فيها كالِيَهْ مداهِنٌ من ذهبٍ ... فيها بقَايا غالِيَهْ والمداهن جمع مدهن. قال الجوهري: المدهن، بالضم لا غير: قارورة الدهن، وهو أحد ما جاء على مفعل، مما يستعمل من الأدوات، والجمع المداهن. ومعنى كلاءة عيون الآذريون للشمس، أنها تستقبلها وتدور معها حيث دارت. وقوله: سنبل لازوردي الأديم، قد استعمل هذا التشبيه في مقطوع له مشهور، يقول فيه: أصبْح السُّنْبُلُ الجَنِىُّ لديْنا ... فوق سُوقٍ فيها النَّدَى يتردَّدْ كشُنوفٍ لُطْفنَ من لازَوَرْدٍ ... عُلِّقتْ في مَراوِدٍ من زَبَرْجَدْ وله في السنبل أيضاً: وسُنْبُلٍ وافَى على سُوقِه ... غِبَّ الحَيَا في زُرْقةٍ لا تُحَدّ مَكْفوفِة الحافاتِ زَهْراتُه ... مَذْرُوبة الأوراق في كلِّ يَدْ كأنما تَعْقِيف أطرافها ... مَحاجِنٌ صيِغتْ من الَّلازَوَرْدْ وله أيضاً فيه: يا حُسنَه من سُنْبُلٍ ناصعٍ ... يْبدو لنا في قائمٍ أخْضرِ كأنَّه من حَوْلِ زَهْراتِهِ ... زَرَافِنٌ صُفَّتْ من العَنْبَرِ ومن تشابيهه النادرة، قوله في الورد: وأقْبل الوردُ من بُرْعُومه خَجِلاً ... يُبْدِي لنا فوق رَيَّا نَشْره العَبِقِ دراهماً من يواقيتٍ على قُضُبٍ ... تراكمتْ تحت دِينارٍ عل طَبَقِ وقد أحاطتْ لِرقْصِ الدَّسْتبَنْد بها ... من الزَّبَرْجَد حِيتانٌ من الوَرِقِ البُرعُوم، والبُرْعُم، والبُرعُمة والبُرعُومة، بضمهن: زهرة الشجرة قبل أن تنفتح. ورقص الدستبند: معروف للعجم، يأخذ بعضهم بيد بعض، يقال له الفنزج، بفتح الفاء. ولقد أتى بأبدع ما يستعذب ويستغرب. ومنزعه في هذا ما في كتاب ازدهار الأزهار للشقاشقي، حيث أنشد فيه: وقد فتح الوردُ جُنْبُذاً بَهِجاً ... يكاد منه الدينارُ ينْسبِكُ عقِيقُ أوراقِها على ذهبٍ ... يحْمله من زَبَرْجَدٍ سَمَكُ قال: لم أسمع في زر الورد الأخضر، الحاوي للزهر الأحمر، أبدع من هذا التشبيه، بل لم أسمع فيه شيئاً البتة غيره، وهو من بدائع التشبيهات، ورائع التوجيهات، التي يطرب عليها الأديب، ويهتز لها العاقل الأريب. وقد أغار عليه الأمير طاهر، فقال: انْظُر إلى الورد الجَنِيِّ ... كأنه الخَدُّ المُورَّدْ من حوِله وَرَقٌ كحي ... تانٍ خُلِقْنَ من الزَّبَرْجَدْ وما يستبدع ويستظرف، قوله في تشبيه المضعف: ونَرْجِسُ الروضِ قد حَيَّ بمُضْعفِه ... في أصفرٍ فاقعٍ مع أبْيَض يَقَقِ كأنه وهْو في قُضْبٍ مُنعَّمةٍ ... يُلْقى النسيمُ عليها نفسَ مُعتِنقِ

أمْشاطُ دُرٍّ من الإبْريزِ في جُمَمٍ ... جَعْدٍ فما بين مجموع ومُفْترِقِ الجم: جمع جمة، وهي من الإنسان مجتمع شعر ناصيته. وقوله في تشبيه الياسمين: وأطْلع الياسَمينُ الغَضُّ حين بَدا ... دُرَّاً يفُوح بنَشْرٍ منه مُنْفَتِقِ كرَوْبَجاتٍ صغارٍ سال في لُمَعٍ ... من أُفْقِها ذائبُ الياقوتِ في الشَّفَقِ وقوله في الزهر المعروف بالعنبر بوى، ومعناه رائحة العنبر: وذِي قامةٍ في الزَّهْر تْندَى غَضارةً ... بَدَا فَاخِتىَّ اللونِ من عَنْبَرِ الشِّحْرِ له جمٌ زُغْبٌ تفكَّك حولها ... من الزَّهْر إفْرِيزٌ كأجربة العِطْرِ تكوَّن لطفاً فوق زِرِّ زَبَرْجَدٍ ... تكتَّب بالألْماسِ سَطْراً على سطرِ وقوله في الأبيض منه: وذي هالة في الزهر أبْيَضَ ناصعٍ ... تكوَّن للنَّاشِي من العنْبَرِ الوردِ يرُوقُك هُدَّابٌ به راح أشْيَباً ... تدنَّر في زِرٍّ كبارزِة الهنْدِ أحاطتْ به للزهرِ في زِيِّ دارهِ ... ظُروفٌ من الكافورِ مبْتُوتة الزَّنْدِ وقوله في الزهر المعروف بحلقة المحبوب: وزهرٍ كأمْثال الشُّنوفِ لَطافةً ... تَد؟ َاخَلَ من أجزائِه البعضُ في البعضُ لقد أحْكَمت إبْرامها المُزْنُ خِلْقةً ... لدَيْنَا وأعطْته أماناً من النقضِ ونلقت عنه، قال: أنشدني العلامة نسيج وحده المرحوم أبو العباس أحمد المقري المغربي، في كتابه أزهار الرياض في أخبار عياض في جملة ما أورده من شعر ابن زمرك الأندلسي، في كتاب ذكر أنه من تآليف بعض سلاطين تلمسان بني الأحمر، وهو حفيد ابن الأحمر المخلوع، سلطان الأندلس، الذي كتب إليه ابن زمرك المذكور، بعد ابن الخطيب. قال: وهو سفر ضخم، سماه بالبقية والمدرك من شعر ابن زمرك ليس فيه إلا نظمه فقط. فقال: ومن وصفه في زهر القرنفل الصعب الاجتنا بجبل الفتح، وقد وقع له مولانا الغنى بالله بذلك، فارتجل قطعاً. منها: أتَوْني بنُوَّارٍ يرُوق نَضارةً ... كخَدِّ الذي أهْوَى وطِيبِ تنفُّسِهْ وجاَءوا به من شاهِقٍ مُتمنِّعٍ ... تمَنُّعَ ذاك الظَّبْيِ في ظل مَكْنِسهْ رعى اللهُ منه عاشقاً مُتقنِّعاً ... بزَهْرٍ حكى في الحُسْن خدِّ مُؤَنِّسِهْ وإن هبَّ خفَّاقُ النَّسيم بنفْحةٍ ... حكى عَرْفَه طِيباً قَضى بتأنُّسِهْ قال: وكنت من إعمال الفكر في عدة تماثيل، أصف فيها ما تكون من هذا الزهر على حالة تحشر لها النفس بتحريك نازع الاقتدار، ويصرف عنها الخاطر إكباراً لأن أكون فاتح هذا الباب من غير وطئةٍ ثابتةٍ في اسمه ومنتهاه، حتى رأيت في ذكر معزاه ما ترى، فقلت فيه عدة مقاطيع. منها: وجَنِيٍّ من القَرَنْفُل يُبْدِي ... لك عَرْفاً من نَشْرِه بابْتسامِ فوق سُوقٍ كأنها من أبارِ ... يقِ الحُميَّا مَساكِبٌ المُدامِ وسَّدَتْ فوقها السُّقاةُ خدوداً ... دامياتٍ منها مكان الفِدامِ ومنها: قم بنا يا نديمُ فالطيرُ غرَّدْ ... لمُدامٍ كؤُوسُه تتوقدْ فلديْنا قَرَنْفُلٌ قد نَماهُ ... جبلُ الفتْحِ نشْره قد تصعَّدْ بين سُوقٍ عُوجٍ الرِّقاب لِطافٍ ... شَعرات من لِينها تتجعَّدْ ومنها: أهْدَى لنا الروضُ من قَرَنْفُلِهِ ... عبيرَ مسْكٍ لديْه مَفْتوتِ كأنما سُوقُه وما حمَلتْ ... من حسنِ زَهْرٍ بالطِّيب منْعوتِ صَوالجُ من زَبَرْجَدٍ خرَطتْ ... لها الغوادِي كُراتِ ياقوتِ ومنها: أرى زهْرَ القَرَنْفُل قد جَلتْهُ ... قُدودٌ تَرْجَحِنُّ به قيامُ أخاَل لَوَ اُنَّها أعْناقُ طيْرٍ ... نهضْن به لقلتُ هي النَّعامُ توقَّد زَهْرُه جَمْراً لديْنا ... وتلك لها من الجْمرِ الْتِقامُ ومنها في الأبيض منه من أبيات:

ما ترى ناصِعَ القَرَنْفُل وافَى ... بتَحايَا الشَّميمِ بين الزُّهورِ قُضُبٌ من زَبَرْجَدٍ حاملاتٌ ... قِطعاً فُكِّكتْ من الكافورِ هذا ما وجدته منقولاً عنه. ورأيت في أشعار بعض المتأخرين ممن تقدم تشبيه هذا الزهر. فممن استعمله ممن أدركته أبو مفلح البيلوني الحلبي، في مقصورة له، حيث قال: قَرَنْفُل الرَّوضِ شِفاهٌ ضمَّها ... لُعْساً لكي يلثَم ناشقاً دنَا واستعمله قبله الكمال محمد بن أبي اللطف المقدسي، المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وألف في قوله: حكى القَرَنْفُل مُحْمَرّاً على قُضُبٍ ... خُضْرٍ لها صار بالتَّفْضِيل منْعوتَا كفّاً على مِعْصَمٍ نَقْشٌ به خَضْرٌ ... غَدا له كافر العُذَّال مَبْهوتَا أبْدَتْه خَوْدٌ وقد ضَمَّت أنامِلَها ... كأساً تُشعّر لُطْفاً صِيغَ ياقوتَا والذي حاز في تشبيهه قصب السبق، فيما أعلم، الشهاب بن خلوف الأندلسي، أحد المشاهير المجيدين، حيث قال، من قصيدة: وللْقرَنْفُل راحاتٌ مُخضَّبةٌ ... على مَعاصِرَ خُضْرٍ فتْنِة الرَّائي كأنْجُمٍ من عقيقٍ في ذُرَا فلكٍ ... من الزُّجاج أرَتْ أشْطان لَأْلَاءِ وكان السيد المترجم ما أنشأ هذه المقاطيع التي تقدمت اشتهر أمرها، فحذا حذوه في بابها جماعةٌ، من أدباء الشام، ونظموا فيه تشابيه متنوعة. فمنهم الأمير منجك، حيث قال: قَرْنْفُلُنا العطريُّ لوناً كأنه ... رُءُوسُ العذارَى ضُمِّختْ بعبيرِ مداهنُ ياقوت بأعلى زَبَرْجَدٍ ... لقد أُحكمتْ صُنْعاً بأمْرِ قديرِ ومنهم شيخنا المهمنداري المفتى، حيث قال: قَرَنْفُلٌ في الرياضِ هيْئتُه ... تَحْكي وقد مَدَّ للسحابِ يَدَا فَوَّارة من زبَرْجَدٍ فتَقتْ ... ففار منها العقيقُ وانْجَمدَا وقال أيضاً: هذا الْقَرَنْفُل قد بدَا ... في لونِه الْقانِي تَجَمَّدْ فكأن مَرْآهُ الأنِي ... قَ لدَى الرياضِ إذا تَنَهَّدْ قِطَعُ العقيقِ تناثرتْ ... فتخطَّفتْه يدُ الزَّبَرْجَدْ ومنهم شيخنا عبد الغني النابلسي، في قوله: كأن قَرْنْفُلاً في الروضِ يَسْبى ... شذَا رَيَّاه مُنتشِقَ الأنُوفِ سواعِدُ من زَبَرْجَدَ قائماتٌ ... بلا بدَنٍ مُخضَّبُة الكفوفِ وقوله: قم ياندِيمي لداعِي الَّلهْوِ مْنشرِحاً ... فقد ترنَّمتِ الورْقاءُ في الورقِ وانظُرْ إلى حسنِ باقاتِ القَرَنْفُل ما ... بْين الرُّبَى نفَحتْ كالمَنْدَلِ العَبِقِ أطْفَى النسيمُ لهِيباً من مشاعِلها ... في ظُلَّةِ الروضِ حتى جمرُهنَّ بَقِى وقوله: بين الحدائقِ أعْطافُ القَرَنفْلُ في ... زهْرٍ بريحِ الصَّبا الزَّاكِي وتمْثيلِ مثلُ العرائسِ في خُضْرِ الملابسِ قد ... لاثَتْ على وجْهِها حُمْرَ المناديلِ وقوله في الأبيض منه: هيَّا بنا فالطيرُ صاحَ مُغرِّداً ... ما إن يُقاس لدى الورَى بمُغَرِّدِ والروضُ مَدَّ من القَرَنْفُل للنَّدَى ... كاساتِ دُرٍّ في زُنوِدِ زَبَرْجَدِ وقوله في الأبيض المشرب بحمرة: وزهرِ قَرَنْفَلٍ في الروض يحْكي ... قصورَ دمٍ على صفحات ماءِ رأى وجَناتِ من أهْوَى فأغْضَى ... فبان بوجْهِه أثَرُ الحياءِ وقد تطفلت أنا على عادتي، فقلت: وافى القَرَنْفُلُ مُعجباً ... فينا بمنْظرِه الأنِيقْ يُبْدِي زُنُودَ زَبَرْجَدٍ ... حملَت تُروساً من عَقِيقْ هذا ما وصلني من التشبيهات التي نظمت فيه، وإن ظفرت بشيء ألحقته. عوداً على بدء. ومن روضياته قوله: قادني للرُّبَى مَرُوح العِنانِ ... نَفْحُ رَوْحِ النسيمِ في الرَّيْحانِ واهْتزازُ الأوْراقِ في القُضُبِ الهِي ... يفِ أرتنْي في ساحةِ البستانِ

طُرَرَ الغِيدِ قد رقصْنَ بها عنْ ... د اجْتلاء الطّلا على العِيدانِ وقوله: كأنما شجَرات الدَّوْحِ في خُلَعٍ ... تنْدَى فيبلغ أقْصَى الحسن مَبْلُغها أرْواح دُرٍّ تبِيتُ المُزْن في بشرٍ ... من الزُّمُرُّد بالأنْواءِ تُفْرِغُها ماجَتْ بمُدْرَجة الأنفْاس واطَّرَدتْ ... كأنما حولهَا أيدٍ تُدَغْدِغهَا وقوله: والنهر يصْدَا بهاتيك الظِّلال كما ... يصْدَامن الغِمْدِ حدٌ الصارمِ الذَّكَرِ والزهرُ يفْرِش في شطَّيه ما رقمَتْ ... فيها السحائبُ من رَيطٍ ومن حِبَرِ رَبِيعةُ الوَشْىِ لا ينْفكُّ زِبْرِجُها ... يجْلو لنا من حُلاها أحْسنَ الصُّورِ الزبرج بالكسر: الزينة من وشى أو جوهر، أو نحو ذلك. ويقال: الزبرج: الذهب، والزبرج: السحاب الرقيق فيه حمرة. وله: بادِرْ بعيْشك فالنعيمُ مُخَيِّمٌ ... ومُلاءةُ البستانِ في تفْويفِ والطيرُ مْغتِردٌ عليه يشُوقُه ... جِيدٌ بأعْناق الغصون الهِيفِ تُصْغى له أُذْنُ الطَّروبِ فيْنثنى ... والشوقُ مِلْءُ فؤادِيَ المْشغوفِ وله: ومجلسٍ حفَّتِ الغصونُ بنا ... فيه ووجهُ الرياضِ مُبْتهِجُ كأن أوراقَها يرِفُّ بها ... فوق النَّدامَى نسيُمها الأرِجُ خُضْرٌ من الأُرْزِ لا تزال بها ... مناكبُ الرَّاقصات تَخْتلِجُ وله في روض ألقت الأشجار ظلالها عليه، فالشمس من فروجها عيونٌ ناظرةٌ إليه: وبطنٍ من الوادي حَلَلْنا مَسِيلَهُ ... خلالَ غصونٍ عاكفاتٍ على الشَّرْبِ تُنَقِّط منه الشمسُ في مِسْكَة الثَّرى ... مَدَبَّ عِذارِ الظلِّ في وَجْنةِ التُّرْبِ بخيِلانِ كافورِ الشُّعاع كأنما ... أبتْ غير جلْدِ النَّمر يُفرَش بالسُّحْبِ رأيت بخطه عقيب هذا: قلت: وما كنت أحسبني زوحمت في هذا المعنى، ولا سبقت لهذا المغنى، حتى وقع إلى حال مطالعتي لتتمة اليتيمة من قول السيد أبي البركات العلوى، في الأشجار والقمر، ما صورته: ألا صرِّفْ لنا خمراً ... فنفسُ الصَّبِّ مَدْهوشَهْ على أدْواحِ رَيْحانٍ ... بماءِ الطَّلِّ مَرْشوشَهْ كأن الأرضَ من حُسْنٍ ... بجِلْدِ النمرِ مفْروشَهْ فعجبت من مواردتي إياه في اشتراك الخواطر، مع اقتران المناسبة بين الشمس المنيرة والقمر الزاهر. ثم وقع إلىّ ومن أناشيد صاحب الذخيرة للتهامى أيضاً ماصورته في تشبيه الثريا: وللثُّريا ركُودٌ فوق أرْحُلِنا ... كأنها قطعةٌ من فَرْوة النمرِ قلت: وقد نزع في هذا المعنى البديع قول عبد المحسن الصورى، من أناشيد الثعالبي، وهو: فاسْقنِيها مَلْأى فقد فضح الَّلْي ... لَ هلالٌ كأنه فِتْر زَنْدِ والثُّرَيَّا خَفَّاقةٌ بجناحِ الْ ... غَرْبِ تهْوى كأنها رأسُ فَهْدِ وتشبيه وقوع الشعاع قد أكثر فيه الشعراء القول. فمنه قول المعوج الشاعر: كأن شعاعَ الشَّمْسِ في كُلِّ غُدْوة ... على ورَقِ الأشجار أوَّل طالعِ دَنانيرُ في كَفّ الأشَلِّ يضمُّها ... لقبْضٍ تهَوَّتْ في فُروجِ الأصابعِ وهو مأخوذ من قول المتنبي: وألْقَى الشرقُ منها في ثِيابِي ... دنانير تفِرُّ من البَنانِ وأخذه القاضي الفاضل، فقال: والشمسُ من بين الأرائِك قد حكتْ ... سيفاً صَقِيلاً في يَدٍ رَعْشاءِ وللنامي: سماء غصونٍ تحجُب الشمسَ أن تُرَى ... على الأرضِ إلَّا مثلَ نَثْرِ الدراهمِ ومما يضاهي هذا قول الصلاح الصفدي في القمر: كأنما الأغْصانُ في دَوحِها ... يلُوح لي منها سنا البدرِ تِرْسٌ من التِّبْرِ غدا لامعاً ... يقِيسُه أسْوَدُ بالشِّبْرِ وقوله: وكأنَّما الأغصانُ يثْنِيها الصَّبا ... والبدرُ في خَلَلٍ يلُوح ويُحْجَبُ

حسناءُ قد عامَتْ وأرْخَتْ شعرَها ... في لُجَّةٍ والمَوْجُ فيها يلْعَبُ وقوله: كأنما الأغْصانُ لمَّا انْثنَتْ ... أمام بَدْرِ التّمِّ في غَيْهبِهْ بنتُ مَليكٍ خلْف شُبَّاكِها ... تفَرَّجتْ منه على مَوْكِبهْ وللسيد في الغزل: ولما تفاوضْنا الحديثَ عشِيَّةً ... ومالتْ بعِطْفيْه المُدامةُ فاسْتغْفَى وضعتُ له كفِّي فوسَّد نَغْنُغاً ... تناهتْ به مائِيَّةُ الحُسْنِ فاستكْفَى وكنتُ أُراعيه بلحْظِى تسَرُّقاً ... فمَّلكْتُ طَرْفِي منه من بعْدِ ما أغفَى وله: قد لوى جِيدَه حَياءً وحيَّى ... بكؤُوسِ المُدامِ كأْساَ فكأْساَ ففَضضْتُ اليدين عن يانع الزه ... رِ لمعنىّ أجِدْ لي فيه أُنْسَا نُغْنُغٌ في نَصاعةِ الزهرِ مَرْآ ... هُ لعيني وكالحريرِة مَسَّا وله: قُمْ وسَقِّ المُدامَ كُوباً فكُوبَا ... فخطيبُ الرِّياضِ أضْحَى طَرُوبَا والنَّواويرُ في الأكِمَّةِ تُجْليِ ... حَبَباً من لُجيْنِها مقْلوبَا غيرَ أن الرياحَ قد مزَّقتْ عنْ ... د اعْتِناقِ الغصونِ منها الجيُوبَا وله: توسَّمْتُه لما تكامل حسنُه ... وقد رقْرقتْ فيه الشَّبِيبةُ ماءَها فخلْتُ بأن الحَوْلَ حان رَبيعُه ... وأن الرِّياضَ الحَزْنَ أبْدتْ رُواءَها فنفَّسْتُ عن طير الجوى بتأَوُّهي ... وأرْسلتُ عيني بالدموعِ وراءَهاَ وله: نبَّهْتُه سَحَراً والكأسُ فوق يدي ... والعودُ مصْطخِبُ الأوتار يُجْليِه فرفَّع الجيدَ عن كفِّي وقد فتَرتْ ... أطْرافُه وأنا أُدْنِيه من فيهِ كما ترفَّع غصنُ الْيان مُنْتصِباً ... حالاً فحالاً إذا ما رُحْتَ تْثنِيهِ وله: وأهْيفَ مغْنوجِ اللَّواحظِ مُتْرفٍ ... رَهِيفِ التَّثَنِّي ناهَز العشْرَ في السِّنِّ دَعاني إلى باكُورةِ الحسْنِ صَغرُه ... ولم أرَ شيْئاً مثلَ باكورِة الحُسْنِ وله في راقص: وأهْيفَ مهْضومِ الحشَا كاد رقْصُه ... يُحكِّم فينا السِّحْرَ من كلِّ جانبِ يسيلُ به نَقْلُ الخُطَا فترُدُّه ... رَجاجةُ أعْكانٍ له ومَسارِبِ ومما أنشدنيه من لفظه لنفسه هذه الأبيات، أحسن فيها المراجعة كل الإحسان: وجليسٍ مَنَّيْتُه طَرَف الأُنْ ... سِ وذكَّرتُه قديمَ العهودِ قلتُ كيف النَّديمُ قال يُحَيَّى ... ويُفدَّي بأنْفُسٍ وجُدودِ قلتُ كيف المُدامُ قال مع الرَّيْ ... حانِ حيَّ بنَرْجِسٍ وورودِ قلت والنَّقْل قال تقْبِيل خَدٍّ ... من حبيبٍ ورشْفُ ثَغْرٍ بَرُودِ قلتُ والطِّيب قال طَشٌّ من الما ... وَرْدِ يُزْجِي سحابَ نَدٍّ وعُودِ قلت كيف القِيانُ قال إلَيْهنَّ ... انْقيادُ الأوتارِ عند النَّشِيدِ قلت كيف الغِناءُ قال تظرَّفْ ... ت ولم يْعدُ فيه بيتَ القصيدِ أشْتهِى في الغناءِ بَحَّةَ حَلْقٍ ... ناعمِ الصوتِ مُتْعَبٍ مَكْدودِ كأنِينِ المُحبِّ أنْحلَه البَيْ ... نُ فضَاهَى به أنينَ العُودِ ومن تشابيهه النجومية، قوله من قصيدة، مستهلها: لعَيْنيْكَ في الأحشاءِ ما نفَث السحرُ ... وللحبِّ في الألبابِ ما فعَل الخمرُ منها: كأن المُنَى ماءٌ كأنِّىَ ناهلٌ ... كأن الفَيافي البِيدَ ما بيْنَنا جِسْرُ كأن الثَّرى أُفْقٌ كأن مَطِيَّتي ... هلالٌ كأن السَّيْرَ غايُته الحشْرُ كأن نَجاشِيَّ الظلاِم مُتيَّمٌ ... كأنِّى مُلْقًي في ضمائرِه سِرُّ منها: ولم يبْقَ لي إلا تَعِلَّة مُعْدِمٍ ... يجاذِبُها من كلِّ ناحيةٍ ذِكْرُ

ليالٍ بَراها القصْرُ حتى كأنما ... تكنَّفَها من كلِّ ناحيةٍ فجرُ كأن دُجاها في أدِيمِ نهارِها ... عَصِيم مُدادٍ كاد يجْحدُه السِّفْرُ كأن به الجوازءَ عِقْدُ لآلىءٍ ... تطوَّقَه من صَدْرِ زنْجيَّةٍ نَحْرُ كأن الثريَّا في اختلافِ نُجومِها ... بوادرُ آمالٍ يُحاولُها الحرُّ كأن السُّها معْنًى دقيقٌ فيخْتِفي ... ويبْدو جِهاراً إن تراجَعه الفكْرُ توارد في هذا التشبيه من البابي الحلبي، في قوله: كأن السُّهَا معنًى يجولُ بفكْرةٍ ... فآوِنةً يخْفَي وآونةً يبْدُو ابن هانىء: كأن سُهاها عاشقٌ بين عُوَّدٍ ... فآونةً يَبْدو وآونةً يخْفَى ابن خفاجة: كأن السُّها إنسانُ عينٍ غَريقةٍ ... من الدمعِ يبْدو كلما ذرَفَتْ ذَرْفَا حازم: كأن السُّها قد دَقَّ من فَرْطِ شوقِه ... إليْها كما قد دقَّق الكاتبُ النَّقْطَا ابن جاندار: كأن السُّها ذوُ صَبْوةٍ غالَه النَّوى ... فأنْحَله والبَيْنُ للصَّبِّ يُنْحِلُ وله: كأنَ بني نَعْشٍ سَفِينٌ تخالفَتْ ... عواصفُها وَهْناً فشتَّتها البحرُ كأن سُهَيْلاً حين صَوَّب آفِلاً ... فُؤادُ مُحِبٍّ راح يُرْجِفه الهجرُ ابن هانىء: كأن سُهَيْلاً في مَطالع أُفْقِه ... مُفارِقُ إلْفٍ لم يجدْ بعده إلْفَا ابن خفاجة: كأن سُهَيْلاً فارسٌ عايَنَ الوغَي ... ففَرَّ ولم يشْهَد طِراداً ولا زَحْفا حازم: كأن سُهَيْلاً إذْ تناءتْ وأنْجدَتْ ... غدا يائساً منها فأتْهَم وانْحَطَّا وله: كأن به الشِّعْرَي الغُمَيْصَاَء خَلفَه ... شقيقته الخَنْساء يقدُمها صَخْرُ كأن امْتدادَ الأُفْقِ فوق نُجومه ... قَساطِلُ حَرْبٍ زَغْفُ فرسانِها نَضْرُ كأن عمودَ الصبحِ تحت هلاِله ... لتزْكيةٍ من تحت مِنْطقِه خَصْرُ وله معميات في غايات الإتقان. فمنها قوله، في اسم محمد: رُبَّ ظبيٍ مُقَرْطَقٍ قد تبدَّى ... خلْتُ بدراً من فوقِه قد تلالاَ لاح في الثَغْرِ جوهرٌ من ثنايَا ... هُ فأبْدى في الخَدِّ خالاً بِلالاَ وقوله في هانىء: حين بان الخَلِيطُ وازْدادَ وجْدِي ... قلتُ والدمعُ في الخدود يَسيلُ يا رسوِلي إليه رُوحِيَ خُذْها ... مُنْجداً إثْرَهُ بها يا رسولُ وقوله في سليمان: لقد سقاني الحبيبُ كأساً ... لم أرْوِ منها ورُمْتُ أخرَى فقال خُذْ ما بَقِي بكأْسي ... سُؤْرا وأحسِنْ بذاك سُؤْرَا فعندما جاد لي بما في ... أواخِر الكأْسِ مُتُّ سُكْرَا وقوله في رمضان: في يَدِ الارْتهانِ عَيْني تملَّتْ ... بعد عَشْرٍ بطَيْفِ من قد تولَّتْ مُذ أغارتْ وأنْجَدتْ بفؤادِي ... من رهينٍ لحيثما هي حلَّتْ وقوله في صالح: لم أَنْسَه وَسْنانَ يأسِر طرفُه ... عَرَضاً إذا ترك القلوبَ أسارىَ صاد القلوبَ بطَرْفِه وقَوامِه ... من بعد ما قد حلَّ فيه ودارَا وقوله في عبد اللطيف: يالَساقٍ ناشِرٍ لْلأدبِ ... دار مَعْ طَيِّ بِساطِ الأرَبِ لابسٍ من نَشْرِ ما دار به ... ثوبَ عَرْفٍ هزَّني للطَّرَبِ وقوله في علي: غَيْم رفيعٌ لم يكَدْ ... يبْدو لشمسِ الأُفْقِ حاجِبْ فغَدا يُقِلُّ الشمسَ لِي ... نُ قَوامِه من غير حاجِبْ وقوله في سليم: ورْقاءُ قلبيَ قد أضحتْ مُرفْرِفةً ... على قَوامِك يا مَن طرفُه عَجَمِي وإنها هبَطتْ منه على غُصُنٍ ... فغُضَّ طَرْفَك وارْسلْه إلى القدَمِ وهذا في غاية المنعة، فلهذا تعرضت إلى حله، فأقول:

السيد عبد الكريم

أرادها من أنها بعمل التحليل وهي بستة، وبالعجمية شش، فإذا هبطت سارت سينا والغض الألف، وهي يك، ولها اللام بالعدد الحسابي من أبجد، وغض مرادفه كف، وهي بمائة، فإذا هبطت، لها الياء والميم من الغاية. السيد عبد الكريم هو منهم بيت القصيد، وواسطة عقد المجد النضيد. تجسَّم من شرف محض، وكرم لا يحتاج خيره إلى خضٍ ومخض. إلى ما حاز من أشتات الكمال، والمعالي المربية على الآمال. وهو بعد أبيه النقيب، ومحله فوق المعلى والرقيب. فمهما ترقى البدر فقاصرٌ عن مراقيه، والبحر لو عذب لكان بعض سواقيه. وله مع النباهة روح الفضل وجسمه، ومن بشر أساريره ينهض أثر المجد ورسمه. وبيني وبينه ودٌ مورث في الأعقاب، وحب خالد ما دامت الأحقاب. ولي في كل لحظٍ منه أملٌ ينشيه ويعيده، وفي مرأى وجهه نوروز إذا مضى أقبل عيده. وإذا أردت مدحه أرسلت نفسي وما تجود، فلا تنتهي عند وصفٍ من أوصافه إلا وتقول أحسن الموجود. وأنا أرجو الله تعالى في كل ما يشاؤه، وأسأل له ما هو ما يدوم به ممتلئاً رشاؤه. ولقد أوردت له من نفثاته السحرية، ونسماته الشحرية. ما هو أحسن من نور تفتحه الصبا، وأوقع من خلسة الوصل في عهد الصبا. فمن ذلك قوله: لقد دعانا إلى الرُّبي الطَّرَبُ ... فأجبناه حسْبَما يَجِبُ واستبقَنْا والشوقُ يجذِبُنا ... كأن أشْواقَنا لنا نُجُبُ وشَمْلُنا والحظوظُ تُسِعدنا ... مُجتِمعٌ سِلْكُ عِقْدنا الأدبُ فحَلْلنا منها بمُرتَبَعٍ ... وهو للرَّائين مُنْتخبُ وقد حبانا الربيعُ مقْتِبلاً ... بمزاياه والمُنَى نُخَبُ فالروضُ مُخْضلَّةٌ ملابسُه ... تجمَّع الحسنُ فيه والأرَبُ وقد تناغَتْ به بَلابُله ... فمنهمُ فاقِدٌ ومصطحِبُ وموكبُ الزَّهْرِ في حدائقِه ... مُنْتَزه بالعيونِ مُنْتهَبُ تُظِلُّ مَغْناه وهْو مُزدهِرٌ ... قِبابُ نَور كأنها سحُبُ يُنْعشنا العَرْفُ من شَمِيمِهما ... ومثل هذا العبيرِ يُكتسَبُ والْمَرْجُ رَحْبُ الفِناء مُصْطحِبٌ ... عليه ذَيْلُ النسيمِ مُنْسحبُ تخاُله من زَبَرْجَد نَضِرٍ ... بحراً غدا بالنسيمِ يضْطربُ يشوقُنا حسنُه ومنظرُه ... يَسُرُّنا حيث زانَه الخصبُ ولا نْسكابِ المياهِ حسنُ صَدًى ... يرقُص عند اسْتماعِه الحَبَبُ فمُذ نَعِمْنا بذا وذاك وقد ... تكنَّفتْنا بفَيْئها القُضُبُ أخصَب رَبْعُ المنى وطاب به ال ... عيْشُ لنا واسْتفزَّنا الطَّربُ فعاد للوجْدِ مُدْنَفٌ طَرِباً ... وهكذا مُدنَفُ الهوى طَرِبُ ومال وَفْقَ الهوى وحُقَّ له ... ذلك إذْ ليس ما به لَعِبُ وراح يُمْلِي غرامَه ولَهاً ... في غَزْلِ رَقٍّ صَوْغُة عَجَبُ ومن يكن بالغرامِ مُمتَحَناً ... ولا غَرْوَ بالشوقِ قلبُه يَجِبُ يا بأبِي مُتْرَفٌ ألِفْتُ به ال ... وَجْدَ وما غير مِحْنَتِي السَّببُ أطعْتُ فيه الهوى ومَعْدِنُه ... بمِغْنَطِيسِ الجمال مُنْجذِبُ جمالُه فتنةٌ لذِي نُسُكٍ ... مُهذَّبٍ زان حُسْنَه الأدبُ تمازجَ اللطفُ والعفافُ به ... كذا لَمَي الثَّغْر منه والشَّنَبُ بَدْرٌ مُحيَّاه ما به كَلَفٌ ... برَوْنَق الحسنِ راح ينْحجِبُ وقَدُّه السَّمْهَرِيُّ من مَرَحٍ ... ما اهْتزَّ إلَّا ازْدَهتْ به القضُبُ وما بطَرْفٍ رَنَا لوامِقِهِ ... إلا وسهمُ اللِّحاظ مُنْتشِبُ شَهِيُّ لفَظٍ تكاد رقَّتُه ... تسْتِرقُ الَّلبَّ وهْو مُحْتجِبُ

مَنطقُه مُسْكِر لمستمعٍ ... وسُكْرُنا من سماعِه طَرَبُ قد مُنِحتْ بالجمال صورتُه ... وقد مُنِحْتُ الهوى ولا عَتبُ أوْسَعَنِي فيه حبه وَلَهاً ... وليس إلا هواه لي أرَبُ وقد أبي غيرَ مُهجِتي سكَناً ... وهْي له مَرْتَعٌ ومُنْقلَبُ فلا خَلاَ من هواه لي خَلَدٌ ... وذاك بيْني وبينه نسَبُ وقوله: لا وصدق انْتِما المُحبِّ الودودِ ... لغرامٍ سما به للسُّعودِ ونُزولِ الحِمَى وقد طال نَأْيٌ ... باشْتياقٍ نما من المَعْمودِ وارْتِضاعٍ لما جلَتْها أكَفٌّ ... خضَبتْها دِما ابنةِ العنقودِ وارْتشافِ اللَّمَى ولَثْم الخدودِ ... واعْتناقِ الدُّمَى ذواتِ النُّهودِ ما الهوى بي كما يظُنُّ جَهولٌ ... بل غرامى بما عليه شُهودي وقوله: لستُ إلا كَلاًّ على إشْفاقِكْ ... فبرُحْماك جُزْ على أخْلاقِكْ وأعِدْ نظرةَ الحنان ليَهْدَا ... رَوْعُ من لم يزل على مِيثاقِكْ وارْعَ وُدّاً رضِيتُه منه حاشَا ... نَبْذُ وُدٍّ أتى على مِصْداقِكْ إن قلباً حلَلْتَه عَرَضٌ أنْ ... تَ به جوهرٌ على إطْلاقِكْ كيف يرضَى دون التَّمَلِّي بلُقْيَا ... كَ محبٌّ إقالةً من وَثاقِكْ وقوله أيضاً في الغزل: امْنَحِ الطرفَ منك طَلْقَ العِنانِ ... لاجْتلاء الورود في الأغصانِ والثَمنْ باللِّحاظ منه خدوداً ... صِبْغُها من صنائع الرحمنِ واغتنمْ طِيبَ وقْته فلَعَمْرِي ... إنَّه غُرَّةٌ بوجهِ الزمانِ فانتهِزْ فيه فرصَةً لأمانِي ... كَ وحسْبُ الشَّجْيّْ نَيْل الأمانِي حيث وجهُ الزمان طَلْقٌ ورَيْعا ... ن التَّصابِي إقْبالُه مُتدانِي وبحيث المُنى يَسُرُّك منها ... ما تدانتْ قِطافُه للْبَنانِ واصْطحِبْ للنّدام كلَّ مُجيدٍ ... لقِصار الفصولِ ذات المعانِي ألْمَعِيٍّ حُلْوْ الحديث يُجاري ... ك بما تشْتهِيهِ ذي تِبْيانِ واصْطَفِ للغناء كلَّ طَروبٍ ... ناعمِ الصوتِ مُتْقِن الألحانِ يُوسِع السمعَ شَدْوُه طَرباً والْ ... قلبَ شَجواً بأنَّةِ الألحانِ واغْنَ يا صاحِ قبل فَوْتِك واسْتجْ ... لِ عَرُوساً بمُطْرباتِ الأغانِي واحْتسِيها عذراءَ كاساً فكاساَ ... يتلاَلاَ حَبابُها كالجُمانِ يتَهادى بها إليك غَرِيرٌ ... خَنِثُ اللَّحْظِ فاترُ الأجْفانِ لَيِّن العِطْفِ يسْتَبيك إذا ما ... قام يخْتالُ مثلَ خُوطِ الْبانِ يُشْبه النَّوْرَ منه رَوْنَقُ وجهٍ ... وترى الخدَّ منه كالأُرْجُوانِ واجتنِ للْمَشامِّ من يانِع الزَّ ... هرِ صنوفاً من روضِك الفَيْنانِ واطْلقِ العودَ في المَجامِرِ والنُّدْ ... مانَ حَيِّ بماءِ وردِ القِنانِ فلَعَمْري هذا هو العيشُ فاغْنَمْ ... فسِوى اللهِ كلُّ شيءٍ فانِ وكتبت إليه أمدحه بقولي: كتمتُ هواه لو يُفِيد التَّكَتُّمُ ... وكيف ودمعُ العين عنه يُتَرْجِمُ لك اللهُ قلبي كم تُقاسي لَواعِجاً ... لها في الحشَا نارٌ من العشْق تُضْرَمُ بُلِيتُ بقاسٍ لا يزال يُذِيقني ... من الصَّدِّ ما لم يلْقَه قبلُ مغرمُ فسلَّمتُ قلبي طائعاً غيرَ أنني ... أُؤخِّر رجلاً في الهوى وأقدِّمُ وما كنْت أدري أن للعشقِ فتنةً ... وأن اجْتنابَ الشرِّ للحُرِّ أسْلمُ فلما رأى وجْدي عليه تغيَّرتْ ... خلائقُه ثم انْثنى يتحكَّمُ

وصَدَّ وجازاني على الوُدِّ بالقِلَى ... وأعْرض عني وهْو بالحال يعلَمُ وبَدَّل مِيثاقي وأضْحى مُجانباً ... يمُرُّ فيَثْني عِطْفَه لا يسلِّمُ وأَغْدق دمعي وهْو ماءٌ مُمنَّعٌ ... وحَلَّلَ قتْلي وهْو أمرٌ محرَّمُ عفا اللهُ عنه من بخيلٍ بقُرْبِه ... وسامحه من ظالمٍ ليس يرحمُ أُقضِّي به عمري مع اليأسِ والمُنى ... ولي من عَذُولي كلَّ وقتٍ مُهيِّمُ أبِيتُ أُعاني الوجدَ ليلة لم أكُنْ ... بغيْرِ ثَنا فَرْدِ الورى أترنَّمُ عَنيتُ النقيبَ السيد السَّنَد الذي ... غدا مثلَ بسم الله فهْو مُقدَّمُ وحيدٌ له الأفْضال طبعٌ وشِيمةٌ ... وفيه انْتهى جودُ الورى والتَّكرُّمُ إذا كان نُور الشمس لازِمَ جِرْمِها ... فطلعتُه الزهراءُ نُورٌ مجسَّمٌ ونادِيه روضٌ بالفضائل مُزهِرٌ ... لسانِيَ فيه البَلْبُلُ المترنِّمُ تُعطِّر هّبَّاتِ النسيمِ خِلالهُ ... فليْست بعَرْفٍ غيرِها تتنسَّمُ ويفْترُّ عن لأْلاءِ بِشْرٍ كأنه ... مُقبَّلٍ شَادٍ ألْعَسٍ يتبسَّمُ أمولايَ أنت الناسُ يا فوق فَوْقهم ... لأنَّك للطلاب رزقٌ مقسَّمُ هواك بقلبي ليس يبْرَح لحْظَةً ... به أبْتدِي الودَّ الصحيحَ وأخْتِمُ ولي في عُلاك الباهر المجْدِ في الورى ... عقودُ كلامٍ بالثناء تُنظَّمُ قَوافٍ إذا ما أُنشِدتْ بين أسرةٍ ... فقُسٌّ لديْها بالفصاحة أبْكمُ وما هي إلا الزّاهراتُ فلو بدتْ ... لقامتْ مقام الزُّهْرِ والليلُ مظلِمُ تمتَّع بها من مادحٍ ليس يرْتجِي ... من الدهرِ شيئاً غيرَ أنَّك تسلَمُ وحسبُك شُكْرِي ما بقيتُ على المدى ... وقلبي وأعْضائي تصدِّق والفَمُ فكتب إلي مراجعا بقصيدة على رويها، وكنت مريضا، وهي: حسْبُ المُنى حيث الحوادثُ نُوَّمُ ... وحواسدِي وعواذِلي واللُّوَّمُ وافْتنِيَ الحسناءُ في دَاجِي ذَوا ... ئبِها وللأشْواقِ فيَّ مُخيَّمُ عذراءُ وافَتْ وهي تخْترق الضِّيا ... من وجهِها مُذْ لاح فيه تبَسُّمُ فتعطَّرت منها الرُّبوعُ وفاض في ... أنْحائها منها السَّنا يتنَسَّمُ ولَطالَما راقبْتُ من وَلَهِي بها ... طَيْفاً يُلِمُّ بزَوْرة تُتغنَّمُ ومن اغْتذى ضَرْعَ الهوى هل عَيْنُه ... يوماً بتَهْويمِ الكرَى تتنعَّمُ كَلاَّ إِذا الأحْشاء خامَرَها الهوى ... قِدْماً فلاَعِجُه بها متضرِّمُ وافتْ فحُقَّ ليَ الهناءَ بها كما ال ... واشون حُقَّ لهم بذاك توغُّمُ فغدوتُ ذا طَرَبٍ قريرَ العين سِلْ ... كُ الشَّمْلِ بالاحباب لي مُتنظِّمُ لا بِدْعَ أن أزْهُو إذاً وأجُرُّ ذَيْ ... لَ العُجْبِ تِيهاً والهوى أتهكَّمُ وأمِيدَ نَشْواناً بكأسِ حديثها ... وثناءِ ناظِم عِقْدها أترنَّمُ لِم لا أكنْ بثَنائِه مُترنِّماً ... وهو الأمينُ وبالمُنى المتكرِّمُ الأرْيَحِيُّ المَكرُمات ومن حوَى ... حسنَ الحُلا فيها غدا يتوسَّمُ رَبُّ الفصاحةِ والنباهةِ مَن غدا ... وله من الفضل الجسيمِ تجسُّمُ ما اللطفُ في النَّسَمات إِلا من كَرِي ... مِ خِلالِه وبعَرْفها تتنسَّمُ تخِذَ التَّطوُّل بالمكارِم عادةً ... فكأنه كِلفٌ بذاك مُتيَّمُ لا غَرْوُ أن ملأتْ محامدُه المسا ... مِعَ واسْتلذَّ سماعَها المترنِّمُ يافرعَ أبناءِ الكرام ومَن لهم ... في كل مجدٍ رُتبةٌ وتقدُّمُ

بُشْراك ما أُوتِيتَ من أجْرٍ بما ... عاينْتَ من وَصَبٍ عِدَاك يُيِّممُ فتهَنَّ مأجوراً ومسروراً بعا ... فيةٍ أتتْك فلا عدَتْك تعمّمُ وعَدَتْك أسْقامٌ عَنَتْك وللعِدَى ال ... عادِين وافتْ بينهم تتقسَّمُ وبِقيتَ في ظلِّ التَّهانِي سالماً ... والعيشُ مُخَضرّاً لديْك مُخِّيمُ وإِليْكَها قُسِّيَّةً ألفاظُها ... كالدُّرِّ في سِلْكِ الثناء تُنظَّمُ جادت بها منِّي قريحةُ مُوقِنٍ ... بجُمودها إِذ جاء منك مُهيِّمُ فاعذُر وكن بثنائها متمتِّعاً ... حسَب المُنَى حيث الحوادثُ نُوَّمُ فكتبت إليه معتذراً عن مراجعته بقصيدة: لعارض المرض، وما أقول إلا كما قال الديباجي: كلامي في خطابه مماثل لانعكاس الناظر، ورد الفوارة ماء الغمام الماطر: ليس فَمي فيك يبلغ الشكرَا ... من بعد ما قد ملأْتَهُ دُرَّا بعثْتَ لأي بالحياة في كَلِمٍ ... يزيد في العمر لطُفها عُمْرَا من كل لفظٍ في اللفظِ أحسَبُه ... ينفُث هاروتُ منه لي سِحرَا لم تصْطنِع جَبْرَك القلوبَ لمن ... يدعوك إِلاَّ وتقْتني أجْرَا يا من هو الروضُ في خلائقِه ... يَعْبَق من نَسْمةِ النَّدَى نَشْرا شَوْقى لتقْبِيل راحتْيك لقد ... جاوزَ حتى لم يُبْقِ لي صَبْرَا لكنَّ عُذْرى إليك مُتَّضِحٌ ... فاقبَلْ حَماك الإله لي عُذْرَا فبعث إلي بهذه الأبيات: أيُّها المُوسِعُ المنى بِشْرَا ... دُمْتَ تْستنِطق اللَّهَي شُكْرَا ودام ثغرُ الوِاداد يْبَسم من ... بِشْر مُحيَّاك لافِظاً دُرَّاً وحبَّذا منك ذا لآملهِ ... فْهو لَعَمْري ينافِس الشِّحْرَا لقد منحت المُحِبَّ منك بما ... أثْلَج منه الفؤادَ والصدرَا مِن كل لفظٍ في اللطفِ أحْسَبُه ... ينفُث هاروتُ منه لي سِحْرَا فدُمْ لنا روضةً نُسَرُّ بها ... ومِن رُباها نسْتنشِق العِطْرَا وفيك ما دامتْ لنا الُمَنى أَمَمٌ ... إن نْلتُها كان لي بها البُشْرَى وكتب إلي يستدعيني إلى منتزه: أنعم اللهُ للْجناب صَباحَهْ ... وبإسْعادِه أراش جناحَهْ وحَبانَا حَسْبَ المُنى بأمالي ... هـ وآدابِ فضْله المستباحَهْ وأقرَّ العيونَ منَّا بما مِن ... غَضِّ آدابهِ أجاد اقْتراحَهْ يا أمينَ الكمال وابنَ ذوي الفضْ ... لِ وخِدْنَ العُلى ورَبَّ الفصاحَهْ لا عدِمْتُ الوفاءَ منك بأوفى ... صِدْقِ عهد يُجدِي إلىَّ نجاحَهْ فأجِبْ داعياً إلى منزلِ القصْ ... ف صباحاً لكي ننال رَباحَهْ مُسْعِداً حظَّه ببِشْرٍ ولُطفٍ ... بهما الصدرُ راح يلْقَى انْشِراحَهْ وابْقَ سَلْماً خَدِيمُك السَّعْدُ ما أسْ ... عَد خِلُّ إلى خليلٍ صباحَهْ فخطابته مرتجلاً: أسعد اللهُ من تكون صباحَهُ ... فمُحيَّاك للصباحِ صَباحَهْ بأبي أنت وأمي رائِشاً لجناحي ... في زمانٍ عدمْتُ فيه نجاحَهْ كان قِدْماً جوادُ حَظِّي جَمُوحاً ... فلأنْتَ الذي أزَحْتَ جِماحَهْ قد أتْتني أبياتُك الغُرُّ تخْتا ... لُ وقد أُوِتيَتْ جميعَ الملاحَهْ مُبْدَعاتٍ لا يبرحُ الطرفُ عنها ... فهْى قَيْدُ النَّواظر اللَّمَّاحَهْ كلُّ لفظٍ منها كوُسْطَى نِظامٍ ... زَيَّن العقْدُ منه جِيد الفصاحَهْ قد دعتْني إلى اغْتنام عُهودٍ ... أنا منها في غِبْطةٍ وارْتياحَهْ ألْفُ سَمْعٍ وطاعةٍ ولك الأمْ ... رُ الذي ما برحْتُ أرجو نجاحَهْ

وابْقَ واسْلَمْ على المَدى لمُحِبٍّ ... لك يدْعُو غُدُوَّه ورواحَهْ وعزم يوماً على التنزه في حديقة اتخذها مألف نشاطه، ومحل أنسه وانبساطه. فكتب إلى يستدعيني: نتفدَّاك مُسْتماحَ الوِدادِ ... ثابتاً في حِفاظِه كودادِي مُستباح الجَنى وطَلْقَ المُحيَّا ... ذا جَنَانٍ رَحْبٍ وبِشْرٍ بادِى يا كريماً خصالهُ تجْذب الآ ... مال طبعاً لفضلِه المستفادِ إثْمِدٌ للعيون بِشرُ مُحيَّا ... ك فكن مُفْضِلاً بذاك مُهادِي وأجبْ مسعداً بلُقْياك داعٍ ... شَفَّه الشوقُ فهْو بالمِرْصادِ وابْقَ سَلْماً ممتَّعا بأما ... نِيكَ على رَغْم مَعْطِسِ الحُسَّادِ ما تداعَتْ إلى التَّدانِي أمَانٍ ... من مَشوقٍ أشواقُه في ازْديادِ ولما قدمت من الحج كتب إلي، فأهدى لي البدر من بيت شرفه، والعيش في نضرة ترفه: بُشْرَى بمَقْدَمِ خيرٍ منك مسعودِ ... أهْدَى لنا رَوْحَ أُنْسٍ منك معهودِ أعاد أُنْسَ تدانينا وأسْعَدنا ... بعد التَّباعد حيناً في ذُرَا الجُودِ فلْيَهْنِ معشرَ أحْبابٍ وحُقَّ لهم ... بأن يُهَنَّوا ببشرٍ منك مشهودِ كما يحقُّ هَناءٌ للْجَناب بما ... رَوِيت من زَمْزم المُشْفِى لمقْصودِ بُشْراك بشراك ما بُلِّغت من نِعَمٍ ... وما نعِمْتَ به من فضلِ مَعْبودِ مُخَيِّمٌ بمِنًي حيث المُنى أَمَمٌ ... قريرُ عينٍ بموجودٍ وموعودِ ُمتمِّماً بطَوافٍ نُسْكَ حَجِّك مَقْ ... رُوناً بحسْنِ قَبولٍ غيرِ مردودِ مُيَمِّما سيِّدا مَن زاره وجبتْ ... له الشفاعةُ حقّاً غير مَجْحودِ عليه أفضلُ ماصلَّى الأنامُ على ... جنَابِه مِن صلاةٍ عِدْلَ معدودِ تُتْلى بأوْفى سلامٍ والرضا أبداً ... يَنْدَى على آلهِ والصحبِ بالجودِ مُثْنٍ عِنانَك فوراً نحو طَيْبتِه ... عَوْدا لأحمد إذ هُو أحمدُ العودِ فمن تطيَّب من دَارِيِّ تُرْبتِه ... يَشْتَمُّ ما عاش عَرْفَ المسكِ والعودِ واُبْشِر بَحْمدك في الأخرى سُراك غَداً ... فما السُّرَى عند صُبْحٍ غير محمودِ ودُمْ حَلِيفَ مَسَّراتٍ خَدِينَ تُقيً ... في ظلِّ سعدٍ نَدِىِّ العيشِ مَمْدودِ واعْذُر أخاك بما أبْدتْ قريحتُه ... من رَوْح أُنْسِك لا من مثل جَلْمُودِ واعْذُر تأخُّر خَجْلَي دون موعدها ... فما القضاءُ بمنْكورٍ ومجْحُودِ فلا برحْتَ نعبمَ البْالِ مقتنِصاً ... بِيضَ الأمانِي بسَعْدٍ غير مورودِ وردت علينا سنة من سني يوسف لم تدع للأنس وقتاً، ولم تبعث إلا إساءة ومقتا. فأقبل الربيع وولى، ولم ندر أجاء أو لا. وقد طمست آثار المسرات، عند ما قامت نوائب المضرات. فذكرت أوقاتي معه، حيث مآربي به مجتمعة. تشرف بحلاه، وتبتهج بعلاه. وكان وعدني بإرسال بعض قطع، من نظمه المبتدع. فكتبت إليه: رقعتي إلى الحضرة الشريفة صدرت عن ذهنٍ كليل، وحدٍ فليل، وقلقٍ كثير، وتصبر قليل. وخاطر منقبض، وأسًى في الصدر معترض. كيف والأنس تقلص ذيله، وأظلم دون الأمل نهاره وليله. وهيض عضده، وغيض ثمده. فليبك عليه الباكي، وليبث ما يجده من فقده الشاكي. فهذا الورد كما جاء راح، وما تعطر به مجلس راح. فهو لذلك شق جيبه بل قلبه حزنا، واستعبر حتى فقدت دموعه، فاستنجد للبكاء طلاً ومزنا. وغطى رأسه بأكمامه، خجلان من سماجة أيامه. وكان يقال له: اختشى ألم القطع فاحتسى الزعفران، وأما الآن فقد احتساه ليغيب حواسه عن آلام الزمان. بل سمع بالنار تتسعر لاستقطاره، فناشد بأن يجعل بقبض روحه وألا يعذب باستنظاره. وما زال يستجير من جور الدهر الخؤون، إلى أن رق له النسيم وحنت عليه الغصون. فهذا حال الورد وهو زهر، فكيف حال صبٍ يدري مواقع الدهر.

السيد إبراهيم

تذكرك عهوده الماضية، أيام كان بخدمتك في العيشة الراضية. وأنت تغنيه بنضارة لفظك عن الورود المتنوعة، وبفنون حفظك عن الطرف المتجمعة. فأي عيشٍ له بعدها يطيب، ولا روضٍ صباه مخصب ولا غصنه رطيب. فإن رأيت ولك الرأي أن تتلافى في بعض رمق، فلتهدلي الحياة من أشعارك الغضة في طبق. لأستبدل بها من صدأ لهم صقالا، وأفرج بها عن فكرتي ارتباطا واعتقالا. فتعود كهولتي صبا، وتهب ريحي صبا. فعندها أقول للأمل: دع الأيام تكن غضابا، إذا ما اجتنيت من هذه المشافهة رضابا. فمهما مننت، تطولت وأحسنت. فالوقت إساءةٌ أنت إحسانه، وناظر ليس إلا أنت إنسانه. فالله يبقيك ما انهشت بك أساريره، وقامت بك عن ذنوبه معاذيره. فراجعني بقوله: سيدي الأمين، ومؤيدي في كل حين. حرس الله تعالى من الغير حصن جهاتك، ومن الكدر صفو أوقاتك. وتولى حفظ ملكي ذاتك، وصون مضافاتك من كل فاتك. وشرح منك وبك الصدور، وأنعم منك وبك البال وحباك السرور. لا زلت تحيى بروح تلافيك التياحي، وتحبي بريح تلافيك ارتياحي. فلقد وايم الله أوليت من صنيعك منه بما أمليت، فكأنما بلساني نطقت وعما أعربه جناني أعربت. فصديقك في الحال قد واساك، ورفيقك في المجال قد ساواك. غير أنه وجم عن بث أحزانه، من تقلب وقته وانقلاب عيانه. يقول إيهِ وقد وجَمْتُ ومَن ... يَنْطق أو من يُطِيق مُحْتِملاَ كيف وقد تقلص من الوقت ذيل أنسه، وصار من المقت يحسد يومه لأمسه. واعتاض مستامٌ جميل عوائده، بصفقة الخسران من فوائده. فهاك الود زاد فيه برهة وجلا، وعاد سرعةً نادماً خجلاً. فحق له ما به قد وصفته، بل وإن لم يعد لمثلها لكنت أنصفته. هذو وهو زائر مجتاز، فما حال من هو لمواقع دهره الظلوم مجاز. تعرض مجتازا فكان مذكرا ... بعهد اللوى والشيء بالشيء يذكر فياله من مذكر مصيب، قد حبانا من مآثره بأوفى نصيب. حيث ذكر الفطنة السليمة، بسوابق عوائدها الكريمة. فجاءت جريا على العادة، بما استوجب منى الشكر وزيادة. فعند ذلك تنفست نفس المصدور، وهنالك نشطت كما نشط المخمور. وامتثلت الطلب، حيث كان عين الأدب. واستدعيت القريحة الخامدة، واستنطقت الفكرة الجامدة. فأبدت هذا القول، حيث علمت بأن العذر عندكم مقبول: أرْغدُ العيش ما وفَاك زمانُهْ ... وتواخَاك يا أُخَيَّ أمانُهْ وصفا مَشْرب التأنُس واستدْ ... عتْك للقصف والهنا إخْوانُهْ وتدانتْ به الأماني وأزْرت ... بالثُّريَّا في نَسْقِها نُدمانُهْ وتداعَى من المحبِّ حنينٌ ... وتدانَى من الحبيب جَنَانُهْ فغَدْوا والمُنى لهم أمَمٌ يحْ ... سنُ كلٌّ شكراً لمنْ ذا امْتنانُهْ هكذا العمرُ يُستفاد وحقّاً ... يُستجاد احْتسابُه وبيانُهْ با حبا الّله بالأحبَّة مَغْنىً ... فَيَّأَتْ غصنَ روضِه أفْنانُهْ هو للقصْف منزلٌ مستطابٌ ... طال ما ضمَّ شمْلَنا فَيْنانُهْ جاور السفح فاكْتسى عاطرَ النَّ ... فح فأضْحى ذاكِيَ الشَّذى رَيْحانُهْ فرَعَى اللهُ سالفَ العهد منه ... حيث لي بالسعودِ كان اقْترانُهْ وأمانينا تبادرنا مُسْتبقا ... تٍ والعيشُ طَلْقٌ عِنانُهْ وأماليك تُستفاد وآدا ... بُك روضٌ يشُوقنا عُنْوانُهْ حيث كانتْ تَنْدَى أراكةُ حظِّي ... من نَدى لفظِك الشهىِّ وِزانُهْ فسقى الّلهُ بالحيا ذلك السَّ ... فحَ وحيىَّ عهودَه رِضْوانُهْ وحبانا منها بأحمدِ عَوْدٍ ... وأرني بك المُنى إحْسانُهْ السيد إبراهيم صغيرهم الذي هو فذلكة حسابهم، والجامع الكبير لما تشعب من بحر أنسابهم. وله الاطلاع الذي يخفى عنده صيت ابن السمعاني ويعدم ابن العديم، والرواية التي يشفع حديثها قديم الفضل فالحديث يشهد بفضله القديم. وقد طلع من هذا الفلك بدراً تستمد منه البدور، وحل من المجد صدراً تنشرح برؤيته الصدور.

وعنى بالرحلة من عهد ريعانه، فسطع نور فضله بين إشراق الأمل ولمعانه. وهو أينما حل حلا، وحيثما جل جلا. والقلوب على حبة متوافقة، وأخبار فضله مع نسمات القبول مترافقة. وكنت لقيته بالروم أول ما حليتها، فسريت كربتي في تلك الغربة بلقائه وجليتها. ونْسِيتُ ذنبَ الدهر لما رأيتهُ ... ودهرٌ به ألْقاه ليس له ذنْبُ وهو الآن بدمشق مقيم، بين رَوْح وريحان وجنة نعيم. تحيته فيها سلام، وآخر دعواه إجلال واحترام. رغبته إلى التوسع في المعلومات ممتدة، ونفسه باقتناء محامد المعلوات مشتدة. وله في الأدب بسطه وباع، وشعر متحلٍ برونق وانطباع. فما رويته من نظمه الذي أتحفني بإملائه، وجلا عن مرآة فكري صداها باجتلائه. قوله من قصيدة يذكر فيها نسبه ويفتخر: غيري الذي يْستام ربْحَ تَدانِ ... بمذلَّةٍ هي صفْقة الخُسْرانِ ومن الردَى أن أرْتضى بمذلةٍ ... وخلائقي تسمو على كِيوانِ وأُضيعُ حقِّي والشهامة شِيَمةٌ ... متَّتْ إلىَّ من النَّبِي العدنانِ الهاشمِيِّ محمدٍ مَن قد رقَى السَّ ... بْعَ الطِّبَاقَ وخُصَّ بالقرآنِ وبابنِ عمِّ المصطفى نَسبي سماَ ... أعْنى عليًّا سيدَ الشجعانِ وبَفرْعه سِبْطِ النَّبِي مجْدى نمَا ... أعنى حسيناً سيدَ الشبانِ وبزَيْن عُبَّاد الإلهِ وباقرٍ ... وبصادقٍ فخْرى على الأْقرانِ وكذا بإسماعيلَ ثم محمدٍ ... وكذا بإسماعيل وهْو الثانِي وبأحمدٍ ثم الحسينِ وفَرْعِه الس ... امِي نقيبِ دمشقٍ الحَرَّانِي أعْنِى به إسْماعيلَ ثم بفرعِه ... أعنى الحسينَ العارفَ الرَّبانِي ثم الشجاعِ علىَّ من حاز التُّقى ... وبناصرِ الدين الرفيعِ الشانِ ومحمد النَّسَّابِة الشهمِ الذَّكِى ... وبحْمزٍة ذي الفضل والعرفانِ وبذي التُّقى الحسنِ البهىِّ وفَرْعِه ... أعنى عليّاً قدوةَ الأعيانِ وبحافظِ العصرِ الهُمام محمدِ الْ ... مدْعُو بشمسِ الدين ذي الإتقانِ وعلىِ نقيبِ دمشقَ مُسنِد عصرِه ... وبأحمدَ السَّامي بحُسْن بَيانِ وبحمزةٍ ذي الفضل والتأْليف في ... علم الحديثِ وحافظِ القرآنِ ومحمدِ المدعُو كمالَ الدين مَن ... رحلتْ له الطلابُ من بَغْدانِ مفتىِّ دارِ العدل ثم مُحِّققِ الْ ... عصِر الحسينِ وفارس المْيدانِ أعنى محمداً النَّقيِبَ بجلِّقٍ ... ومحمدٍ وهو الكمالُ الثانِي أعنى نقِيبَ دمشقَ جدى مَن سماَ ... بنصيحةٍ لله في الإعْلانِ وبوالدي الحَبْرِ الهمام محمدٍ ... من فاق في تحْقيقِه الجُرْجانِي وهو النقيبُ بجِلِّقٍ أيضاً ولِى ... عِزٌّ بَموْلى عزِّه أسْمانِي مولاي مَن عزَّ الذليلُ ببابِه السَّ ... امِي مُفيضُ الفضلِ والإحسانِ مفتى الأنامِ محمدٌ مَن قد رقَى ... بذُراهُ فخراً مذهبَ النُّعمانِ فردُ الزمانِ وواحدُ العصر الذي ... وافتْ له الفتْوى ولا مِن ثانِ واللهُ حقَّق ما رجوْتُ بفضلِه ... فالعزُّ عزِّى والزمانُ زماني واللهَ أرجو أن يديمَ له البقاَ ... ويقِيه من شرِّ الزمان الجانِي ومحاسن هؤلاء الاخوان، لم يتمتع بمثلها أوان، وأدبهم كنبت الأرض ألوان: فلنصرف عنان الإطاله، ونسلم على السيادة الطاهرة الأصالة. ولى من فصول الكلام، قصيدة في مدح آل رسول الله عليه الصلاة والسلام. وكان سبب إنشائها ذكرى لهؤلاء العصابة وفي ظنى أني قدحت فيها زندالإصابة. فعن لي أن أذكرها هنا لهذا السبب، وأنا متوسل إليهم بفضل النسب. والقصيدة هي هذه: ما ضَرَّه لو كان عَلَّل بالمَنى ... فلقد رضيتُ ولَذَّ لي فيه العَنَا

اليأسُ أقْتل ما يكو لذى الهوى ... فعسى نُداوَى بالمنى ولعلَّنَا بل ما عليه لو سَخَا بخياله ... فيزورَ في بعض الليالي مَوهِنَا زُرْ يا خيالُ ودعْ مراقبةَ العِدى ... فلَك الأمانُ لقد تساويْنا ضَنَى ولقد خفِيتُ عليك فاطلبْ مَضْجعي ... فوسادتي تَهْدِيك أنِّى هاهنَا أوْلَا فمُرْني أن أزور كزَوْرتي ... والدارُ بالجَرْعاء جامعةٌ لنَا قل للذي نزل الغَضَا مُتباعِداً ... عنِّي وكان له فؤادي مسكناَ هذا الغَضا قلبي وسَفْحُ محَاجِري ... يجرى العقِيقُ وذي ضُلوعي مُنْحنَي ولقد عنَيتُ رشاً تخِذْتُ تولُّعي ... فيه إلى صدقِ الوفاء تديُّنَا بدرٌ إذا شبَّهتُ باهرَ حسنِه ... بالبدرِ كان الوجهُ منه أحسنَا نَشْوان من خمرِ الشَّبِيبة والصِّبا ... لحَظاتُه شَرَكُ العقول إذا رَنَا إن مرَّ بالأغصان خَرَّتْ رُكَّعاً ... لقَوامه أو بالقَنا فضَح القنَا ما أبْدع الرحمنُ طلْعةَ وجهِه ... إلا ليُودِعها الجمالَ المُمْكِنَا جسدٌ يسيلُ لطافةً كالماءِ من ... تَرَفٍ أرَقَّ من الحرير وألْيَنَا ستَر الجمالُ خُدودَه بعوارض ... قتَل النفوسَ بها وأحيْىَ الأعيُنَا والشمسُ يمنعها اجْتلاها أن تُرَى ... فإذا اكْتستْ غيماً رقيقاً أمْكنَا نادمْتُه والراحُ يعطِف عِطْفَه ... كالغصنِ يعطِفه النسيمُ إذا انْثنَى متألِّفَيْن على الصَّبابة والهوى ... مُتَسرْبِليْن ردا الأمانةِ والمنَى حيث الزمانُ كما نحبُّ وخُلْقُه ... سهلٌ وليس كأهْلِه مُتلوِّنَا حتى تغيَّر عن حقيقةِ حاله ... وبطبْعِه أعْدَتْه أولاد الزِّنَا وعفتْ رسوم الودِّ وانْقَشع النَّدَى ... فالعيشُ قَفْرُ الرَّبْعِ مُغْبَرُّ الفِنَا والدهرُ قد عمَّتْ مواقعُ خَطْبِه ... من لم يكن يجْنِى الذنوبَ ومَن جَنَى كلٌّ على مِقْدارِه أخْطارُه ... فأحقُّهم بالمجدِ أكثرُهم عَنَا ما ماسَ في بُرْدِ المعالي ناعماً ... إلا الذي لبِس العَجاجَ الأدْكَنَا رُوحِي فِدَا نفَرٍ بصبْرهمُ على ... نُوَب النوائبِ أحْرزوا فضلَ الثَّنَا بلغتْ بهم عَلْياؤُهم رتباً غدا ... منها السناءُ مُفرَّعاً وكذا السَّنَا وإذا دعا داعٍ بياخَيْرَ الورى ... كلٌّ يقول مرادُ ذا الداعِي أنَا وإذا العُلَى علِقتْ بغير حبالِهمْ ... رُمِيتْ وحاشاها بمشْنُوِّ الثنَا لا تقدرُ الفصحاءُ تحصُر فضلَهم ... لو أن ذَرَّ النملِ كانت ألْسُنَا طالُوا السِّماكَ فمن أراد لَحاقَهمُ ... أوْمَتْ مَساعِيه اليه قِفْ هُنَا لم تنتج الزَّهْراءُ إلا أزْهراً ... وشرافة الحسنيْن إلاَّ مُحْسِنَا يا سادتي يا آلَ أحمدَ مدحُكمْ ... فرضاً يَراه مَنُ تسَمَّى مؤمِنَا أنا قد حُسِبتُ عليكمُ في نِسْبةٍ ... شَرُفتْ وتلك أجلُّ فخرٍ يُقْتَنَى لا تمْنعوا عنِّي عِنايةَ فضْلِكمْ ... فأنا الفقيرُ وأنتمُ أهلُ الغِنَى بيت العماد بيت فضل وكرم، دمشق بهم من عهد ذات العماد إِرَم. بمثل رتبتهم يشمخ الغر النتقاعس، وبمثل طلاقتهم يتنبه الحظ المتناعس، وفي ذلك المجد فليتنافس المتنافس. فضلهم على الكرام، فضل الحلال على الحرام. ولهم من المزية على أهل الكمال، مزية الصبا على الجنوب واليمين على الشمال. هم القومُ حازوا صِفاتِ العُلى ... بحسْن الطباعِ ولطفِ الشِّيَمْ

شهاب الدين بن عبد الرحمن

ودُنْياهمُ طلْعةُ المجْتَلِي ... ودهرُهمُ واضحُ المُبْتَسمْ ومن حقِّهم شكرُ آلائهمْ ... ومن حقِّ شانيهمُ أن يُذَمّ شهاب الدين بن عبد الرحمن " والشمس وضحاها. والقمر إذا تلاها "، " والليل إذا يغشاها ". لهو جواد استبق فحاز السق، وانطلق فأبعد الطلق. وشهاب تألق، وشهمٌ قنص وما حلق. تبلغ حتى لم يبق مطمعا، ولاح فأرى الشمس والبدر معا. وهو في عيشٍ موافق وزمن معين، وروضة منىً طلة وماءٍ معين. والجود لا يعطى إلا ببنانه، والدهر لا يسطو إلا بجنانه. إلا أنه تصرفت به في آخره الأعمال، فقبض على فترة من الآمال. وله المآثر الغر، يزينها خطٌ أغلى قيمةً من الدر. فإذا دجا ليل قلمه، وطلعت فيه شهب كلمه. لم يقعد له بها شيطان مقعدا، إلا وجد له شهاباً رصدا. فأسرارها مصونة عن كل خاطف، مطوية بأيدي الصون عن كل قاطف. وقد وقفت من آثاره على قطع، كأنما الحسن منها مقتطع. فأثبت منها ما هو سلوة المتعني، وشهدة المتمعني. ونزهة المتلفظ، وكفاية المتحفظ. فمنها قوله في الغزل: برُوحيَ فتَّانٌ بلحْظيه قاتلٌ ... يُرِينا المنايا الحمرَ بالأعْين النُّجْلِ يميل بقَدٍّ أخْجل الغصنَ والقَنا ... يَجِدُّ على قتل المحبّين بالهَزْلِ عجبتُ لهذا الحبِّ تُرْضي فعالُه ... وإن هو بعد العزِّ بدّل بالذلِّ وقوله في دير مران: أيادَيْر مُرَّانَ سقاكَ غمامُ ... تروح وتَغْدُو غِبَّهُنَّ سلامُ وحيَّاك من دَيْرٍ وحيَّى معاهداً ... بمَغْناك ما ناح الزمانَ حَمامُ وقفتُ على رَسْمٍ به راح دارساً ... وقد فاح من عَرْف الرياض خُزامُ فقلتُ ولي في رَسِيسُ صَبابةٍ ... وفي القلب منِّي لوعةٌ وغرامُ كأن لم يكن بين الحَجُونِ إلى الصَّفا ... أنِيسٌ ولم تُهْرَقْ هناك مُدامُ والبيت مضمن، وأصله: كأن لم يكن بين الحَجُونِ إلى الصَّفا ... أنِيسٌ ولم يسمُرْ بمكَّة سامرُ بلى نحن كنا أهْلَها فأبادَنا ... صُروفُ الليالي والجدودُ العواثِرُ ودير مران معروف بدمشق، بالقرب من الربوة. وقد تداولت ذكره النبغا، وحسبك من وصفه ما حكاه الثعالبي عن الببغا. وهو دير قديم، مترنح ساقٍ ونديم. دير أطل فوق وادٍ نضر، يرضع طفل نوره ثُدِيَّ المطر. إلا أن الدهر عفى صورة رسمه، ومحا محاسن هيئةٍ كانت روحاً لجسمه. وكانت به مقاصير كأنها مقاصير جَنة، فأصبحت الآن وهي ملاعب جِنة. فقد عميت أخبار قطانه، ودثرت آثار أوطانه. من وهى بنائه، وسكن الحوادث بفنائه. وقفتْ عليه السُّحْبُ وَقْفةَ راحمٍ ... فبَكتْ له بعيونِها وقلوبِها وهو أحد الديارات المذكورة في الشعر القديم. قال فيه الخليع: يا دَيْرَ مُرَّانَ لا عُرِّيتُ من سكَنٍ ... قد هجْتَ لي شَجَناً يا ديرَ مُرَّانَا سَقْياً ورَعْيا لمُرَانٍ وساكنِه ... يا حبَّذا قاطنٌ بالديْر مَن كانَا حُثّض المُدامَ فإنَّ الكأسَ مُتْرعةً ... مما يهِيجُ دواعِي الشوقِ أحْيانا وحيت أنساق الكلام إلى الديارات، فلنذكر مشاهيرها على طريق الاختصار؛ فإن لها تعلقاً بما نحن فيه. فمنها: دير القائم الأقصى، على شاطئ الفرات، بطريق الرقة. يقول فيه هاشم بن محمد الخزاعي: بدَيْر القائم الآقْصَى ... غزالٌ شادِنٌ أحْوَى بَرَى حبِّي له جسمي ... ولا يدْرِي بما ألْقَى وأُخفي حبَّه جُهْدِي ... ولا والّلهِ لا يخْفَى ومنها: دير زكا؛ موضعان. قال أبو الفرج: دير زكا بالرها. وقال الخالدي والشابشتي: دير زكا من ناحية البليخ. قال الرشيد: غزال مَرابُعه بالبليخِ ... إلى ديْر زَكَّا فجسرِ الخَربْ ومنها: دير عبدون، وهو بظاهر المطيرة، ببغداد. يقول فيه ابن المعتز:

سقى المَطِيرةَ ذاتَ الظلِّ والشجرِ ... ودَيْر عَبْدون هطَّالٌ من المطرِ وقال ياقوت، في المشترك: دير عبدون موضعان: أحدهما بسر من رأى، إلى جانب المطيرة، من نواحي بغداد، سمي بعبدون أخي صاعد بن مخلد، وزير المعتمد على الله، كان كثير التردد إليه والمقام به. ودير عبدون قرب جزيرة ابن عمر، يليهما دجلة، وقد خرب، وكان من منتزهات الجزيرة. والمطيرة، كسفينة: قرية بنواحي سر من رأى، والصواب المطرية، لأنه بناها مطر بن فزارة الخارجي. ومنها: دير مارت مريم، وهو دير قديم من ديارات، الشام الأولية. يقول فيه ابن هرمز: نعمَ المحلُّ لمن يسْعَى للَذَّتهِ ... دَيرٌ لمريمَ فوق الظهرِ معمورُ ظِلّ ظليلٌ وماء غيرُ ذِي أسَنٍ ... وقاصراتٌ كأمْثال الدُّمَى حُورُ وزاد في " المشترك " ثانياً بنواحي الحيرة، من بناء آل المنذر بين الخورنق والسدير. وثالثاً، قال الشابشتي: دير أتريب بمصر، يقال له دير مارت مريم. ومنها: دير مرجرجس، كان بالمزرفة بينه وبين بغداد أربعة فراسخ، وكان من منتزهات بغداد. وآخر بين بلد وجزيرة ابن عمر، على ثلاثة فراسخ من بلد، على جبل يظهر للرائي من فراسخ عدة. ومنها: دير العذارى، وهو بسر من رأى. يقول فيه جحظة البرمكي: ألا هل إلى دَيْر العَذَارَى ونظْرةٍ ... إلى مَن به قبل المماتِ سبيلُ وقا ياقوت: دير العذارى ثلاثة مواضع؛ أحدها بين أرض الموصل وبين باجرما من أعمال الرقة، وهو دير قديم، كان به نساء مترهبات، وبذلك سمي. ودير العذاراى بقرب سر من رأى. ودير العذارى، موضع بظاهر حلب، فيه أكثر بساتينها. ومنها: دير سمعان؛ أربعة مواضع. وسمعان هو شمعون الصفا، من الحواريين، وله ديرة كثيرة. والذي اشتهر هذه. أحدها في غوطة دمشق، وفيه دفن عمر بن عبد العزيز في الصحيح من الأخبار، ولا يعرف الآن. ودير سمعان، من نواحي أنطاكية، دير كبير كالمدينة. ودير سمعان، قرب المعرة، يقال: فيه قبر عمر بن عبد العزيز. والأول أصح. ودير سمعان، من نواحي حلب، بين جبل بني عليم والجبل الأعلى. ومنها: دير هند؛ موضعان، وهما بالحيرة، يقال لأحدهما دير هند الكبرى. والآخر دير هند الصغرى. فأما هند الكبرى فهي بنت الحارث بن عمرو، آكل المرار، وهي أم عمرو بن هند، بنته بظاهر الحيرة، وترهبت به. وأما هند الصغرى فهي بنت النعمان بن المنذر، المعروفة بالحرقة، صاحبة القصتين مع خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة. ومن شعر المترجم، ما كتبه لبعض أحبابه، في صدر رسالة: سلامٌ على من في الفؤادِ وِدادُه ... وإن غاب عن طَرْفي فما غاب عن قلبي وإنِّي وإن غبتمْ وبِنْتُم عن الحمَى ... فحبِّي لكم يزداد في البعد والقربِ وكتب إلى والدي، في صدر رسالة أرسلها إليه، وهو بالروم، تتضمن عتاباً، وكان عزل عن الفتيا: أمولايَ فضلَ الّلهِ دام لك الفضلُ ... ودمتَ به تزْهو وأنت له أهلُ يبعِّد مني القلب ما عجَّ لَغْوُه ... بجِلِّق حتى مَجَّهُ العقْلُ والنَّقْلُ فلا تغْضَبنْ إن الشِّهابَ لَواثِقٌ ... برُكْن عمادٍ شَادَهُ المجدُ والفضلُ وأنت لأدْرَى بي وداداً وخُلَّةً ... وأنْ لَيْس يلْوِي القلبَ عن حُبِّكمْ عَذْلُ فقلْبِيَ قلبِي مثلُ ما قد عهِدْتَه ... وقلبُك فيما أدَّعِي شاهدٌ عَدْلُ فكتب والدي، رحمه الله تعالى، إليه: ورد علي كتاب، ذلك الجناب. لا زالت شهب الآفاق هدايةً لأصفيائه، ورجوماً لشياطين أعدائه. فاستدعى شكري وحمدي، واستفرغ في الثناء على مرسله عهدي، واستخلص في الصفا ما عندي. فكأنما استمليت معانيه مما عندي، واشتملت على حقائق دقائق قصدي. فرتع ناظري منه في روضٍ أريض، وحظيت من الانتعاش بوروده بما يحظى به المريض، لو لقي بيمينه منشور العمر الطويل العريض، بعد ما حال الجريض، دون القريض. وإني وإن بلغت غاية الاجتهاد، في أداء بعض ما يوجب الخلوص والاتحاد، من نشر طيب الثناء في كل ناد، ورفع لواء الولا على رؤوس الأشهاد.

وربما انعكس ذلك إلى المسامع، لكن على كل خير مانع. فقد تجري الرياح، بما لا تشتهي الملاح. فإن تكُ قد عُزلْتَ فلا عجيبٌ ... ضياءُ الشمس يمْحوهُ الظلامُ ويعز علي أن أنظر إلى ذلك الصدر، وقد جلس فيه غير ذلك البدر. وإني لأستحي لعيني أن أفتحها على الصغير، وقد جلس مجلس الكبير. فإني لذلك ضيق ساحة الصدر، قريب غور الصبر. كثير المباراة، قليل المداراة. فما أسرع الأيام على الكريم فيما يضره، وعلى اللئيم فيما يسره. فترفع كل وغد خسيس، وتخفض كل حرٍ نفيس. وكالبحر يسفل فيه الجواهر اللطيفة، وتطفو فوقه الجيفة. وكالميزان يدفع من الكفة ما يميل إلى الخفة ويخفض ما يفي بالرجحان، ويبعد من النقصان. لولا الحظُوظُ التي في عقلِها بَلَهٌ ... لما علاَ الشمسَ بَهْرامٌ ولا زُحَلُ ولا بدع، فهي علامة، على قيام القيامة. وهذا الخروج، مقدمة يأجوج ومأجوج. يا ضَيْعةَ الأعمارِ في طلبِ العلى ... بالعلمِ والنَّسب الذي بالشِّينِ ولا غرو، فهي للدهر شيمةٌ مألوفة، وسجية في الكرام معروفة. على أن المنصب بصاحبه، والمركب براكبه. فالصغير منه بالكبير كبير، والكبير منه بالصغير صغير. أنت الكبيرُ الذي لا العزْلُ ينْقُصُه ... قدراً ولا المنصب العالي يُشرِّفُهُ ووقفت له على تحريرة كتبها على بيت المتنبي: وكذا الكريمُ إذا أقام ببلدةٍ ... سال النُّضارُ بها وقام الماءُ قال فيها: المفهوم من كلام الواحدي، أنه اختار كون قوله " وقام الماء " معطوفاً على الجزاء، أعني " سال "؛ فيكون داخلا تحت الشرط؛ ليتم التشبيه في خرق العادة في كلا الأمرين، ويظهر وجه الاتصال في البيتين كما قرره. ولا شك أن المعطوف على الجزاء جزاء، فيحتاج حينئذ إلى بيان وجه لزوم الجزاء للشرط وتسببه عنه. والذي يظهر في وجهه، أن معنى " قام الماء " أن الماء جمد تحيراً وخجلا واستعظاما؛ لما رأى عظيم سخائه، وشاهد عميم جوده وعطائه. وقد صرح بتفسير ذلك في البيت الذي بعده حتى صار جلياً، بحيث يصلح أن يكون استئنافياً بيانياً، أعني قوله: جَمد القطار ولو رأتْه كما رأى ... بُهِتتْ فلم تتَبَجَّسِ الأنْواءُ إذ الضمير في قوله: " كما رأى " يعود إلى القطار. والمراد بالقطار، هو الماء المذكور في البيت الذي قبله، كما لا يخفى، وإلا لم تظهر المناسبة والاتصال. هذا ما خطر بالبال. وأما ما استفدناه من تجويز كون الواو للحال، فذلك الوجه الوجيه، تنحسم به مادة الإشكال، والله سبحانه أعلم بحقيقة الحال. ومن عجيب الاتفاق أنه وقع ما هو قريب من هذا الاستشهاد في تفسير بيت عويص، عرض من هذه القصيدة على سبيل الاستطراد، وهو قوله: لا تكثُر الأموات كثرة قِلَّة ... إلا إذا شقِيتْ بك الأحياءُ محصل ما حكاه الواحدي، من كلام ابن جني، في تفسير البيت، أنه على حذف مضاف، تقديره " شقيت بفقدك ". والمعنى، أنه لا تصير الأموات أكثر من الأحياء إلا إذا مت. واستبعد الواحدي أن أحداً يخاطب ممدوحه بمثل هذا. ومحصل ما ذكره الواحدي، في معنى البيت، أنه أراد بالأموات القتلى، وتقدير المضاف المحذوف شقيت بفضلك وقتلك إياهم. والمعنى، إذا غضبت على الأحياء، زادت الأموات بمن ينقصهم قتلك من الأحياء. وفي كل من الوجهين تعسف لا يخفى، ولكن يشهد لقول ابن جني حكاية أبي عمر السلمي، قال: عدت أبا علي الأوراجي ممدوح المتنبي، في علته التي مات فيها بمصر، فأنشدني قوله فيه: " لا تكثر الأموات " إلخ، ثم لم يزل يكرره ويبكي حتى مات. وروى السلمي في حكايته: " فجعت " مكان " شقيت ". ويشهد لقول الواحدي، البيت الذي بعده، فإنه مناسب للمعنى الذي ذكره. ثم يساعد الأول، معاني الأبيات التي قبله، من وصف عموم كرمه وإحسانه للناس، فناسب أنهم يشقون بفقده، ويكادون يموتون من بعده. فليتأمل. وقال الواحدي، في تفسير قوله: " كثرة قلة "، أي: كثرة في الأموات تحصل عن قلة الأحياء. ولا يخفى ما في هذا المعنى من كثرة السماجة، وقلة الجدوى، وتحصيل الحاصل، من غير دليل يدل على أن كثرة الأموات مضافة إلى قلة غيرهم.

أخوه إبراهيم

ولو أريد بالقلة العدم، كما هو شائع واقع في الكلام الفصيح، لكان أقرب، إذ كثرة الأموات في الحقيقة عدمٌ محض، وصح ذلك على كل من قولي ابن جني والواحدي. ولو أريد بالقلة الإقلال، وقلة الجدوى، كما يقال: مات فلان من القلة، أي الفقر، بمعنى أنهم ماتوا من الإقلال حين انقطعت عنهم مكارمه، لأمكن أيضاً. وهذا الوجه إنما يجري على قول ابن جني، ولا بعد في ذلك، إذ الظاهر أن خطاب الممدوح بمثل ذلك لم يكن مستهجنا عند المتقدمين؛ لظهور حقيقة تيقن الموت، ألا ترى إلى قول أبي نواس، في آخر قصيدته التي قالها في تهنئة جعفر البرمكي: سلامٌ على الدنيا إذا ما فُقِدتمُ ... بَنِي بَرْمَكٍ من رائحين وغادِ وقوله: إنما الدنيا حُمَيدٌ ... وأياديه الجسامُ فإذا ولَّى حُمَيدٌ ... فعلى الدنيا السلامُ لا سيما إذا كان الممدوح من الأعيان، ولم يكن بذي سلطان. انتهى. أخوه إبراهيم هذا الجناب الأفضل، والمحل الأمرع الأخضل. مكان القول فيه ذو سعة، والألسنة كلها على مدحه مجتمعة. فمن يتقدم فليقل ما شاء في وصف شمائله، وحق على المدح أن يتباهى بمخائل خمائله. وحسبك من امرئٍ لم تر له ذاماً ولا شانيا، ولا ذاكرا يعلم الله أن له في الفضل ثانيا. فقد جمع إلى كرم أصله، أعظم مزية من باهر فضله. فقضى الحق الواجب عليه، واستدعى حيازة التفضيل بالحجة إليه. فالدر ينثر من يديه وفيه، والخير مجموعٌ لديه وفيه. وهو ريان من كل فن، سمح من غير تبجحٍ ومن. مجلسه يأرج أرج الزهر، وسماحه يفيض فيض النهر. وعينه في اكتساب المحامد ممنوعة السنات، وصحيفة وجهه كلها قربات وحسنات. وهو وحيد الدهر في الأدب وفريده، وألمعيه الذي وفى البلاغة كل ما تريده. ببنان قد قبض على أزمة البيان، ولسان قد امتطى صهوة الإحسان. وله من النظم بدع جلائل، إلا أنها في العدد قلائل. والنجوم أجلها أعلاها، والمعادن أقلها أغلاها. فمن شعره قوله. إن يكن زاد في الحسانِ جمالٌ ... أكَّد الحسن فيهمُ تأكيدَا فلقد أسَّس العذارُ بخدَّي ... مُنْيَتِي رَوْنقاً ولطفا مَزِيدَا وهْو عَمْرِي لا شك أزْهَى وأبهى ... حيْثُما قد أفاد معنىً جديداً وقوله: يا مليحاً قد حاز كلَّ الجمالِ ... وحبِيباَ تفْديه رُوحي ومالِي كلما زدْتُ في هواك غراماً ... قلَّ صبْري وزاد فيك انْتحالِي آهِ من حسنِ مَبْسمٍ لك كالدُّ ... رِّ ولحظٍ يَرْوِي عن الغزَّالِي جُدْ لعبدٍ غدا قتيلَ عيونٍ ... قد رمْته لحاظُها بِنبالِ لك خَصُرٌ قد صار مثلي نحيلاً ... حمَّلته الأرْدافُ ثُقْلَ الجبالِ لك وجْه قد أخجل الشمسَ نوراً ... لك جِيدٌ قد فاق جِيدَ الغزالِ لك قدٌّ كالرمح يهْتزُّ تِيهاً ... قد رماني بأسْمَرٍ عسَّالِ فترفَقْ بعبدِ رِقٍّ عميدٍ ... قد غدا في هواك رَقَّ الخلالِ نحلتْه الأسقامُ شوقاً ووجداً ... فغدا جسمُه من السُّقمِ بالِي كلّ ما مَرَّ شَرْحُه بعضُ حالي ... وهو عندي إن كان يُرْضيك حالِي وقوله من قصيدة، أولها: ما رياضٌ حِيكتْ بأيْدِي الغمامِ ... باكَرَتْها بصَوْب مُزْنٍ هامِي عَلَّها وابلُ الحيَا بعد نَهْلٍ ... فأماطت عن ثَغْرها البَسَّامِ وتحلَّت بنُورِ نَوْرٍ نضيرٍ ... من عَرارٍ ونرجِسٍ وبَشامِ فعليلُ النسيم مِنها إذا هبَّ ... كَفيلٌ بصحةِ الأجسامِ فهْي نوراً كبهجة الشمس حسناً ... وهْيَ لطفاً كالبُرْء للأسقامِ كمُحيَّا الأستاذ مولاي يحيى ... دام يَحْيا على مدى الأيَّامِ وكتب إلى والدي، وهما بدار الخلافة، قوله: إليك أخي نصيحةَ ذي اخْتبارِ ... له حزمٌ وزَنْدٌ فيه وارِي إذا جار الزمانُ وكلُّ دهرٍ ... على أحرارِه في الجَوْر جارِي

وأكْسَبك اغْتراباً وانتزاحاً ... فكُن متغرِّبا في أسْكدارِ ترى فيه ظباءً سانحاتٍ ... بألحاظٍ يَصِدْنَ بها الضَّوارِي وطوراً تلتقي غصناً رطيباً ... علاه حَدِيقة من جُلَّنارِ فقَضِّ العمرَ فيها في سرورٍ ... وصِلْ ليلَ التَّواصُلِ بالنهارِ وخَلِّ الأهْلَ عنك وقلْ سلامٌ ... على الأوطانِ منِّي والديارِ فراجعه بقوله: أتتْك نصيحة من ربِّ فضلٍ ... إمامٍ في الفضائل والفخارِ له في كل علمٍ طِيبُ مَجْنىً ... وفضلٌ زَانه كَرَمُ النِّجارِ ونظمٌ يُعْجِز البلغاءَ لفظاً ... ونثرٌ كاللآلي والدراري يقول وقولُه لا شكَّ صدقٌ ... عليك إذا اغْتربتَ بأسْكدارِ نعم هي جَنَّةٌ حُفَّتْ بحُورٍ ... ووِلدانٍ حَلَتْ شمسَ النهارِ ولكن لم أجدْ فيها خليلاً ... يُعِين أخا الغرامِ على اصْطبارِ يساعدني على كَلَفِي بريمٍ ... يُعذِّب عاشِقيه بالنِّفارِ له لحظٌ يصولُ به دلالاً ... فيفْتِنُ رَبَّ نُسْكٍ ذا وقارِ وقدٌّ إن تثنَّى فهْو غُصنٌ ... يُحرِّك من هوى نائِي الديارِ فمالي والقَرار بها وأنَّى ... يطيبُ ليَ القرارُ بلا قرَارِ قضاءٌ من إلهي ليسَ يجْري ... على قدرِ الإرادة باخْتيارِي وطلب من والدي تأليفه " الرحلة الرومية "، فبعثه إليه، وكتب معه: تبسَّم عن ثغْرِ الأقاحِي لِثامُها ... وغنَّتْ على الأفْنان صُبْحاً حمامُها وغرَّدتِ الأطيارُ من بهجةِ الرُّبَى ... فمالتْ لها الأغضانُ وهْو سلامُها وحيَّتْ بخَدٍّ كالشقيق مُورَّدٍ ... ورقَّةِ خَصْر لان منه قَوامُها فأحْيَتْ عليلاً طال وقتُ انْتظارِه ... ووافتْ فَوافَى بالصباح ابْتسامُها تقلَّدت الزُّهْرَ الدَّرارِي كأن من ... ثنايَ على ربِّ المعالي نظامُها هُمامٌ أطاعتْه يَراعُ بَراعة ... يُراعُ مُعادِيها ويُرْعَى ذِمامُها فحضْرتُه العَلْيا إذا انْحطَّ قدْرها ... غدا فوق فِرْقِ الفَرْقَديْن مَقامُها وهابِنْتُ فكرٍ قد أتتْ نحو بابِكمْ ... بغير يديْكم لم يُفَضَّ خِتامُها وصُحْبتُها منِّي الدعاءُ ورحْلتي ... تُشرَّف بالأنْظار وهْو مَرامُها وها هي قد جاءتْك تشْكو من الظَّما ... بأدْنى ابْتسامٍ منك يُرْوَى أَوامُها فما القلبُ يصفُو إذ تزيد همومُه ... ولا الشمسَ تَبْدو إذ يُحيط غَمامُها فلا زلْتَ تبْقى كلما رنَّحَ الصَّبا ... غصوناً وقد غنَّى عليها حَمامُها مدَى الدهرِ ما أهْدَى لبِيبٌ رسالةً ... لرَوْضة فضلٍ فاح منها بَشَامُها فأجابه بقوله: أروضةُ زهرٍ جاد سَحًّا غَمامُها ... فأهْدَى لنا نَشْرَ العبير خُزامُها أم الرَّاحُ في الأقْداحِ لاحتْ فأسْكرتْ ... فؤادي ولمَّا فُضَّ منها خِتامُها تطوف بها ذاتُ الوشاح خَرِيدةٌ ... يروقُك مَرْآها ويحلو كلامُها مريضةُ أجفانِ اللِّحاظ سليمةٌ ... وما صحةُ الأجْفان إلاَّ سَقامُها مُثقَّلةُ الأرْدافِ خَفَّ وِشاحُها ... مُرنَّحةُ الأعطافِ لَدْنٌ قَوامُها مُضمَّنَةٌ من ذِي وفاءٍ قَصيدةً ... بليغةَ ألفاظٍ بديعٌ نِظامُها أخي فِطْنةٍ رقَّتْ وراقتْ عذوبةً ... فلله منها لُطْفُها وانْسجامُها أطاعتْه أبْكارُ المعاني وعُونُها ... بفضلٍ فأضْحَى في يديْه زِمامُها وذلك فضلُ الّله يُؤتيه مَن يشا ... ويمْنحه نفساً عزيزاً مَرامُها

فضل الله بن شهاب الدين

تُحاول منِّي أن أرُدَّ جوابَها ... وفِكْرتيَ اسْتولى عليها قَتامُها وقد لعبتْ أيْدي المشيب، بمَفْرقِي ... وتوَّجَنِي دُرًّا يسوءُ انْتظامُها رعى الّلهُ أيامَ الشبابِ وعهدَه ... وأوقاتَ أُنْسٍ ليت عمريَ عامُها وحيَّى لُيَيْلاتٍ مضتْ وتصرَّمتْ ... لياليَ أُنْسٍ كان صُبحاً ظلامُها يغازلني فيها أغُّن مهَفْهَفٌ ... لواحظُه وسْطَ الفؤاد سهامُها وبِتُّ يُعاطيني كؤوسَ حديثهِ ... فلله من خمْرٍ حلالٍ حَرامُها وطوراً يُحيِّيني بوردةِ خدِّه ... وآونةً من خمر فيه مُدامُها فرِيقتُه نَفْسُ الشَّمولِ وثغْرُه ... حَبابٌ لها يطْفو ومن فيه جَامُها وقد عِفْتُ أبيات القريضِ ونظْمَه ... وقُوِّض من بين الفؤاد خيامُها ولكن بحمْد الله جادتْ قريحتي ... وما خلتُ يوماً أن تجود جَهامها فدونكَها يا ابن الكرامِ بديعةً ... تؤُمُّ ذَرَى نادِيك يُهْدَى سلامُها ودُمْ وابْق ما أنْشأ بليغٌ قصيدةً ... تضوَّعَ مِسْكاً بالثَّناء خِتامُها فضل الله بن شهاب الدين الفضل التام له منه جله، والحسن للناس بعضه وله كله. والزيادة من فضل الله لا تنتهي، والنعم لديه منها ما يشتهي وقد ولد في طالع عنه الإقبال يترجم، فكاد يقضي له بالسعد من لم يكن ينجم. والحر تكفيه عن تنجيم وتقويم، تسنحة خُلُق وخَلْق له في أحسن تقويم. فاقترن باليمن باستهلاله، حتى كأن نونه خطت من هلاله. فودت الجوزاء لو كانت قلادة تراقيه، والزهرة لو غدت عوض ذؤابته التي تراقيه. ونشأ في نعمة تتملى اقتبالا، وكرامةٍ تسبغ سربالا. ووقاية الله تحفظه، وعيون الألطاف تحفه وتلحظه. حتى جمع أريحية الشباب، ونجابة الكهول، وحل من الفضل المحل السامي والمربع المأهول. وتقدم إلى دقائق العلوم فتغلغل في شعابها، وتميز على نظرائه بحل رموزها وتسهيل صعابها. وهذه دعوةٌ شاهدها من كان مثلي برياً من الريب، ولست أخبر عن الموتى ولا أستشهد الغيب. وقد بلغني من بدائع فكره المتلهب الوقد، وروائع شعره الخالي من التكلف والنقد. ما تتناثر على مذهباته الدرر، وتتكاثر على محاسنه الغرر. فمن ذلك قوله: مُذْ مال خرَّتْ له الأغصانُ ساجدةً ... خُوط به من رحيق الثغرِ إسْكارُ حَطَّ اللِّثام فغاب البدرُ من خَجَلٍ ... وقد بدا في الدُّجَى للصبح إسْفارُ أضحى كجسمى منه الخَصْر ليس يُرَى ... ومَنْطقَتْه من العشاق أبْصارُ وِشاحُه مثلُ قلبي خافقٌ أبداً ... ولَحْظُه الفاتك الفتَّانُ سَحَّارُ كأنَّما شعرُه في خالِ وجْنتِه ... دخانُ قطعةِ نَدٍّ تحتها نارُ قلت هذه القطعة قطعة عمادية، والقول بأنها تماثل نزعة عنادية. ولابن سناء الملك فيما يشبه هذا التشبيه، وإن لم يكن منه: سمراءُ قد أزرتْ بكلِّ أسمرٍ ... بلَوْنها ولِينها وقَدِّهَا أنفاسُها دخانُ نَدِّ خالِها ... وريقُها من ماء وردِ خدِّهَا وأقرب منه قول السيد محمد العرضي: على وجَناتِه خالٌ عليه ... تبدَّتْ شعرةٌ زادتْه لطفَا كقطعةِ عنْبرٍ من فوق نارٍ ... بدَا منها دخانٌ طاب عَرْفَا ومثله للسيد باكير بن النقيب: في خدِّه القانِي المضَرَّجِ شامةٌ ... قد زِيد بالشَّعرات باهرُ شأنِهَا كلهِيبِ جمْرٍ تحت قطعةِ عنبرٍ ... قد أُوقِدتْ فبدا ذَكِيُّ دُخانِهَا وله: ومُدير لنا المُدام بكأسٍ ... مثل عِقْدٍ حَبابُه منْظومُ هو بدرٌ وفي اليمين هلالٌ ... فيه شمسٌ وقد علتْها النجومُ من دنَا دَنَّه يشمُّ عبيراً ... من شَذاه رحيقُه مختومُ حَيِّ يا صاحِ بالفلاح عليها ... واصْطحِبْها تنْفكُّ عنك الهمومُ

ودعِ العمرَ ينْقضي بالتَّصابِي ... وكذاك الوُشاةَ دعْهُم يلومُوا قوله: هو بدر، إلى آخر البيت، قد أحسن فيه، لكن تشبيه الكأس بالهلال محل نظر، والمتعارف تشبيهه بالبدر، كما في قول ابن الفارض: لها البدرُ كأسٌ وهي شمسٌ يُديرُها ... هلاللٌ وكم يبدو إذا مُزِجتْ نَجْمُ إلا أن يكون قصد الزورق، فإنه شبه به الهلال، كما في قول ابن المعتز: وانْظُرْ إليه كزورقٍ من فضةٍ ... قد أثْقلتْه حمولةٌ من عَنْبَرِ فعكس التشبيه. ويمكن أن يقال: إنه شبهه بالهلال، بالنظر إلى هيئته، إذا أمسكه الساقي، كما يفعل الأعاجم في مناولة إناء المشروب؛ وذلك أنهم يقبضون بالإبهام والمسبحة على الإناء من فوق، فينستر نصف الكأس بالأصبعين، ويبقى النصف ظاهراً كهيئة الهلال. انتهى. وله: ذَممْتُ النَّوَى من قبلُ منِّي جهالةً ... ولم أدْرِ أن البَيْنَ أصلُ شفائِي فحِبِّيَ لمَّا حازه البعد حازَني ... سَقامٌ فأخْفانِي عن الرُّقباءِ وصرتُ إذا شاء الزيارةَ زُرْتُه ... ولم ترَني عينٌ لفَرْطِ خَفائِي أخذه من قول كشاجم: ومازال يَبْرِي أعْظُمَ الجسم حبُّها ... وينْقُصها حتى لَطُفْنَ عن النَّقْصِ فقد ذُبْتُ حتى صرتُ إن أنا زرتُها ... أمِنْتُ عليها أن يَرى أهلُها شخصِي وله: أطار الهوى مِن جمر خدَّيْه جَذْوةً ... فأصْلَى بها قلبي الذي ضم أضْلُعِي وصعَّده مِنْ بعد ماقو قد أذاقَهُ ... وقطَّرِهُ من مقلتي دَرَّ أدْمُعِي أحسن منه قول ابن النبيه: تعلّمتُ علمَ الكيمياء بحبِّه ... غزالٌ بجسمي ما بعيْنيه من سُقْمِ فصعَّدتُ أنفاسي وقطَّرتُ أدْمُعي ... فصحَّ من التَّقْطير تصغيرةُ الجسمِ وللشهاب الخفاجي: في بُكائِي راحةٌ من شجَنِي ... بعد يأْسٍ من أمانٍ يُطمعُ فكأن الحزنَ من نار الجوَى ... ذاب حتى اسْتقْطَرتْه الأدْمُعُ وله: أيا شاهراً سيْفاً يُشابه لحْظَه ... يصُول به ضَرْباً وموقعُه القلبُ دعِ السيفَ وانظر نحْو مَنْ رُمْتَ قتْلَه ... فعيْناك كلٌّ منهما صارمٌ عَضْبُ وله: دَائِيَ الحبُّ والأماني طبيبي ... والنَّوى والفِراقُ من عُوَّادِي ودوائي ذكرُ اللِّوَى وسَميري ... ضَيْفُ طيفٍ مُوكَّل بسُهادِي وله: بِي ظَبْيُ إنْسٍ لاح في قُرْطُقٍ ... قد فضح الدُّرَّ سنَا ثغْرِه ما فيه من عيْبٍ سوى أنه ... أشْبَهَ جسمِي بِضنَى خَصْرِه وله: تحجَّب البدرُ من غَيْمِ الصدودِ وفي ... ليلٍ من الهجرِ عن مأسورِ ألْفاظِه ومرَّ يبخلُ حتى بالسلام ترى ... مِنْ خَوْفهِ لَقْط سمعي دُرّ ألْفاظِه وله: كأنَّ مَبْدَأَ نَبْت الشَّاربَيْن وقد ... بدا على شفَةٍ شطَّتْ عن الدَّنِفِ زُبانَيَا عقْرَبَيْ صُدْغَيْه قد حمَتَا ... رحيقَ ريِّقهِ عن رشْفِ مُرْتشِفِ وله: فديْتُك رَابني الإعراضُ عنِّي ... ولم أعرفْ له سببتاً وحقِّكْ سوى أنِّي المقيمُ على وِدادِي ... وأنِّي يا حبيبي عبدُ رِقِّكْ وله: إذا زارني ليلاً مَخافةَ عاذلٍ ... وأسْفر وجْهاً صار صبحاً بغُرَّتِهْ وإن زارني صُبْحاً وأرْخى غدائراً ... على الوجهِ صار الصبحُ ليلاً بطُرَّتِهْ وله: وبدرٍ حكَتْه الشمسُ عند شروقِها ... إذا غرُبتْ في فِيه والليلُ سابلُ إذا ما تثنَّى قَدُّه وَسْطَ روضةٍ ... تخِرُّ له الهِيفُ الغصونُ الموائلُ وله: لمَّا غدا جِيدُك الحالي بعِقْدِك من ... قلائدٍ وعقودٍ عاطلَ الْخالِ دمِي تقلَّده ظلْماً ألسْتَ ترى ... نَقْطاً عليه دمى سَمُّوه بالْخالِ وله: ودَّعَني مَن نواهُ أوْدَعنِي ... شَوْقاً يزيد الفؤادَ نِيرانَا

علي بن إبراهيم

وقال لي والبكاءُ يغلُبه ... ياليت يومَ الفِراق لا كانا ؟ علي بن إبراهيم هو الآن في الحضرة الخضرة، متعين في نظرائه بالمعالي النضرة. فيكاد يشير إليه، من يغمض عينيه. ومن أراد أن يكون السعد من خدمه، فليضع قدمه مكان قدمه. فالإقبال كأنما خلق لأجله، واليمن في مواطئه بخيله ورجله. وهناك جدٌ لو كان بظبة صارمٍ ما نبا غراره، وبشرٌ لو سال بصفحة البدر ما خيف سراره. وأنا إذا جئت أصفه، ولا أقدر أني أنصفه. قلت: أعلى الله مكانه، وشيد في أفق النباهة أركانه. فما زال الأمن يواصل هدوه، والجذل يصاحب رواحه وغدوه. وله السلامة التي يهنأ بها ويحيى، والدنيا التي لم تزل غضة العهد طلقة المحيا. وله عندي وراء ذلك ثناءٌ بريءٌ من الكلف، وامتداحً لو ناله البدر لانجلى عنه الكلف. وهو في الفضل كأبيه وجده، وإذا قيس بهما فقد انتهى لأقصى حده. وأما أدبه فقد حل من البراعة مكاناً عالياً، وهمى ودقه على ربى الإجادة وسماً وولياً. فإذا جال يراعه، ملأ القرطاس بلاغةً وبراعة. وإذا وشى الصحائف من حبائر بديهته وإملائه، فكأنما أفاض عليها من أنواره ولألائه. وقد أثبت له ما يبهج الأدب ويزينه، وإذا وزن به الشعر رجحت موازينه. فمنه قوله، فيما كتبه إلى الأستاذ زين العابدين الصديقي، يستدعيه لدمشق: قد أُلْبِس الروضُ أنواعاً من الحِبَرِ ... وتُوِّج الغصنُ إكْليلاً من الزَّهَرِ ومدَّت الأرضُ وسطَ الروضِ حاشيةً ... من الزُّمُرُّدِ في مُسْتَنْزَهٍ نَضِرِ وقام كلُّ خطيبٍ في الرياضِ شَدَا ... بلحْنِ مَعْبَد وقْعَ النَّايِ والوترِ وفاح نَشْرُ عَبيرٍ في دمشقَ غدا ... يغني بطِيبِ شَذا من عَنْبَرٍ عَطِرِ كأن عطرَ غَوانٍ قد ضَمَخْنَ به ... أتتْ به من نُحورٍ نَسْمةُ السَّحَرِ وراقبتْ فُرْصةَ الإغْفاءِ فانْغَلَستْ ... كالسحرِ بين مقر الجَفْنِ والشَّعَرِ فاستبْضعتْ كلَّ لُطْفٍ مَعْ لَطافتِها ... واستصْبحتْ كلَّ عَرْفٍ طَيِّب الأثرِ فقُمْتُ أنْشَق رَيَّاها وقلتُ لها ... جُودِي عليَّ فإني لاتَ مُصْطَبَرِي وخبِّريني أهذا العَرْفُ منْشأُه ... عن طِيبِ مَخْبرِ أم عن طَيِّب الخبرِ قالت أعندك من هذا النَّباءِ أما ... كفاك رَوْنَقُ هذا العام من خَبَر فالشامُ شامِيَّةٌ والأرضُ نامِيةٌ ... والسحبُ هامِيةٌ بالطَّلِّ والمطرِ من أجلِ أنَّ إمام الوقتِ أعْنِ به ... زَيْنَ الأنامِ وكهْفَ البدوِ والحضَرِ ذاك الهُمامُ الذي بالمجدِ قد بهرَتْ ... آياتُ مَحْتَدِه السامي على الزُّهُرِ وابنُ الإمام الذي ما مثلُه أحدٌ ... إذْ كان في الغارِ ثاني سيِّد البشرِ يرومُ جِلِّقَ قَصْداً أن يشرِّفَها ... بالبشْرِ منه فتُضْحِي نُزهةَ النَّظرِ فقلتُ أهلاً بما أدَّيْتِ مِن نَبَأٍ ... أوْدعْتِ في السمع منه أنْضرَ الدُّرَرِ وصِرتُ ألثَمُ فَاها فرحةً وهوىً ... ومَنْطِقاً وِرْدُهُ أحْلَى من الصَّدَرِ فأنْجِزِ الوعدَ لُطْفاً منك سيِّدَنا ... فالشامُ إن جُزْتَ صِينتْ عن يَدِ الغَيرِ فأعْيُن الزهرِ وَسْطَ الروضِ شاخصةٌ ... لكي اراك فتحْظَى منك بالبَصرِ ومن بدائعه قوله: عزَّ هذا العزيزُ في سُلْطانِهْ ... ومضى والمِطالُ أكبرُ شانِهْ وأرانا من سحْرِ عينيْه هارو ... تَ وماروتَ من شَبا أجْفانِهْ فاسْتمال القلوبَ نحو مُحَيّاً ... كان سَلْبُ القلوبِ من بُرهانِهْ وحَبانا من جُلِّ ما نتمنَّى ... من شَذَا وَرْدِه ومن رَيِحانِهْ وأرانا بَرْقَ الثَّنايا اخْتلاساً ... خَوْفَ واشٍ وحاسدٍ يَريانِهْ ورأيتُ الفِدامَ في فِيه لمَّا ... لاح فِرْقُ اللَّميَ وضوءُ جُمانِهْ

فشهدتُ المُدامَ في الكونِ طُرّاً ... من لَماهُ والسكرَ في لَمَعانِهْ وضروبَ الجمالِ قد جُمِّعتْ في ... هِ وفي شكلهِ وفي ألْوانِهْ قَدُّه كالقضيبِ من فوق رِدْفٍ ... ذِي اهْتزازٍ يمِيسُ في أعكانِهْ تحت وجهٍ كالروضِ أوْدَع فيه ... كلَّ معنىً يرُوق في إبَّانِهْ خدُّه كالشَّقِيقِ في اللونِ والصِّبْ ... غُ كآسِ الرِّياضِ في عُنْفُوانِهْ تحته جِيدُه الذي حَلَّ فيه ... خاله مُخْتَفٍ لجُلِّ مكانِهْ فافْتَتَنَّا بقامةٍ وبجِيدٍ ... وسبَانا زُمُرُّدِي هِمْيانِهْ طَرَّ عقلي بُطرَّةٍ شكْل سِينٍ ... بيديْه قد طرَّها وبَنانِهْ وقوله: وكأنما المصباحُ وَسْطَ حديقةٍ ... مَحْفوفةٍ بالورد والنَّسْرِينِ بدرٌ بدا تحت السحابِ أحاطَهُ ... قُزَحٌ بقوْسٍ مُحْكَمِ التَّنْوينِ أو غادةٌ قد أُلْبِست لبهائِها ... حُلَلَ الجمال بديعةَ التَّلْوينِ أو شادِنٌ قد خُطّ تحت جبِينهِ ... بالطُّرَّةِ الدَّعْجاء شَكْلُ السِّينِ وقوله: باكِر صَبُوحَك مِن فيه مُشَعْشَعةً ... تُضِيء إن رُشِفتْ منه كمِصباحِ بيْضاءَ مثلُ نهارِ الوصلِ رُؤْيتُها ... وحالةَ الوصْلِ تُكْسَى لونَ تُفَّاحِ لأن مَنْبِتَ دُرِّ الثَّغْرِ حَانتُها ... ودَنَّها مِن عقيقِ اللونِ وَضَّاحِ وعاذلٍ قال ما في الرَّاحِ مَعْتَبةٌ ... فاسْتغْن عنها بكاساتٍ وأقْداحِ فقلت يا جاهلاً في الحبِّ معرفتي ... إليك عنِّي فلا أُصْغِي إلى اللاَّحِي لا أشربُ الرَّاحَ إلا من مُقُبَلِ مَن ... تقْبيلُ مَبْسمِه أشْهى من الرَّاحِ وله في العذار: ما كنتُ أحسَب قبْل نَبْت عِذارِه ... أن العِذارَ لِحُسْنه تأكيدُ حتى بدَا في خدِّه مُتجعِّداً ... كفِتَيتِ مِسْكٍ لا يلينُ جديدُ فكأنَّ مُحَمرَّ الخدودِ شقائقٌ ... عن لَثْمِ أفْواهِ الأنامِ تَحيدُ وكأنَّ مُعوَجَّ العِذار بصُدغِه ... شَرَكٌ لحَبَّاتِ القلوبِ يصيدُ وله، في البيت الأخير استخدام: وعاذلٍ قال عَقْربٌ لدَغتْ ... أحْمَدَ نَوْعِ الجمالِ سَيِّدَهُ قلتُ عجيبٌ لها ما رهِبتْ ... عقربَ صُدْغٍ رأت مُمدَّدَهُ قالوا رأتْه وأنت تخبره ... ذاك لِلَسْعِ القلوب أرْصَدَهُ فقلتُ إذْ بَانَ عقربٌ بكمُ ... لما أتتْه رأَتْ تأوُّدَهُ خافَتْ على قلبها يمزِّقُه ... فزَحْزحَتْه وقبَّلتْ يَدَهُ وكتبت إليه أستأذنه في التنزه أياماً بقصره، الذي أحاطت به السراء إحاطة النطاق بخصره: سيدي وسندي، أنقذ الله على يديك الخواطر من همومها، وجلى عنها بحسن توجهك غياهب غمومها. الزمن وما أدراك، لم يبق فيه إدراك. من نكبات لولا طيش وصالها لاتصلت اتصال الشؤبوب، وصدمات لولا تكسر نصالها لكانت كالرمح أنبوباً على أنبوب. ولكن ثم نفوسٌ من الفكر طائشة، لا تحسبها إلا من ناهل الحمام عائشة. فهي تستدعي بعض مألوفاها عن روية، طامعةً في حسوة من الأماني إما قذية أو روية. وذلك لدفع صائل، لا لتوقع طائل. وإلا فكلنا يعرف زمانه، ويعلم أن النهوض فيه زمانة. وقد طلبنا فلم نجد غير قصرك البهي من النوازل مفراً، ولا مثل ساحته للأمن من الغوائل مقراً. إذ هو القصرالذي أقرت له القصور بالقصور، ولبست منه الشعرى العبور ثوب الغيور. فعسى ما عز على العيان من لقياك، نستنشق فيه من مواطئك عرف رياك. فإن أذنت فمثلك منزه عن التغاضي، ومثلنا موله بالتقاضي. ولك الفضل الذي إذا كشر الدهر عن نابه، تكشف الحوادث عنا به. والثناء على سجيتك ثناء الروض المونق، على الغدير المغدق. والسلام على خلقك العاطر، سلام النسيم على الغصن الناضر.

حفيده إسماعيل

وبقِيتَ في يومٍ أغَرَّ مُبشِّرٍ ... بسعادةٍ غَرَّاءَ تطلعُ في غدِ لتُقيمَ كلَّ مُؤَوَّدٍ وتُنِيم كُلَّ ... مُسَهَّدٍ وتضمَّ كلَّ مُبَدَّدِ بيت النابلسي هذا البيت لي فيه نسب، مدلٍ ورب البيت بنشب. وجدي من قبل الأمهات كبيره إسماعيل ذلك الإمام، والفائق في الإضاءة على البدر التمام. شيخ التوفيق، وأحق من يدعى بالبر الشفيق. أحله الله دار القرار، وبوأه منازل الأبرار. ؟؟؟؟ حفيده إسماعيل سميه وليه، سقاه من الرضا وسميه ووليه. غرة وجه الدهر، والقمر نصف الشهر. جرى ففات، واستغرق الصفات. وأربى على الأكفاء وبرز، وأعلم حلة الفضل وطرز. فقصر في حلب اليراعة مجاريه، واستشعر فوت الطلب مباريه. وحاشيته على الدر أقر لها ابن عزمي بانحلال عزمه، واعترف الواني بأنه وانٍ عن لحاقها لعدم حزمه. فإذا أعمل لسانه وفمه، وأخذ دواته وقلمه. تجارى يراعه وطبعه، وحدث عن البحر العباب نبعه. فأبدى خاطره الشمس من الطروس، وأطلع فكره النقا ونفائس الذخائر في سوق العروس. وتحائفه في الأدب جواهر أصداف، وزواهر أسداف. أوردت منها دراً يلفظه البحر، فيزين به من المعلومات الغر والصدر والنحر. فمن ذلك قوله، وكتبه في صدر رسالة لبعض أحبابه: إن طلبتُمْ أُبْدِي لكم شرحَ حالِي ... فهو أمرٌ يَكلُّ عنه مَقالي لا تقولوا مُسافرٌ بل مقيمٌ ... كلُّ يومٍ سرورُه في كمالِ ثم ما قد أصابنَا من رفيقٍ ... وعزيزٍ ومنْبعِ الأفْضالِ فهْو أمرٌ عجزتُ إذ رُمْتُ أُحْصِى ... منه حالاًفكيف بالأحْوالِ غير أني قصدتُ من رَقْم هذا ... فهْمَكم حالنا على الإجْمالِ وكتب أيضاً إلى بعض إخوانه: إذا قيل أيُّ إمامٍ هُمام ... بليغٍ لقد فاق للْفاضِلِ غزيرِ النَّوال عزيزِ المثالِ ... شريفِ الخصال وذِي النائلِ وحَبْرِ الأنامِ وبحرِ الكرامِ ... لخيرٍ يُرام بلا سائلِ كريمِ الأُصول ومُحْيِي القَبُولِ ... وفضلاً يصولُ على الجاهلِ أشار إليك جميعُ الأنامِ ... إشارةَ غَرْقَى إلى الساحلِ أصله ما قاله في كتاب العقد، لابن عبد ربه: أنه وقف بعض الشعراء على عبد الله بن طاهر، فانشده: إذا قيلَ أيُّ فتىً تعلمون ... أهَشَّ إلى الباسِ والنائِلِ وأضربَ للْهامِ يومَ الوغَى ... وأطْعمَ في الزمنِ المَاحلِ أشار إليك جميعُ الأنامِ ... إشارة غَرْقَى إلى الساحلِ ومن شعره قوله: لَوَى وجهَه عنِّي على زَعْمِ أنني ... أُداهنُه من أجْلِ أمرٍ أُحاوِلُهْ فقلتُ له خفِّضْ عليه فإنني ... تكلَّفْتُ هذا الأمرَ ممَّن أُخالِلُهْ وقوله: ولو لم يكنْ علْمِي بأنك فاعلُ ... من الخيرِ أضعافَ الذي أنا قائلُ لما بسطت كفي إليك وسيلةً ... ولا وصلت مني إليك الرسائل وله هذه الرباعية: قد أقسم لي لمَّا اعْترانِي الوَلَهُ ... أن يعطِف لي لكنَّه أوَّلَهُ لا يسمحُ بالوِصال إلا غلَطاً ... في النادرِ والنادرُ لا حكمَ لَهُ ولده عبد الغني الورد الروي، والنهج السوي. خلقه الله للفضل أهلاً، وأشرق به العدى طفلاً وكهلاً. فترشح للعلى، وتوشح بتلك الحلا. وما انفصل عن طله الوبل، وكما تعرفه البراعة من بعد تعرفه من قبل. بحر علم لا يدرك غوره، وفلك فضل على قطب الرجاء دوره. ولم يقنع بالمجاز عن الحقيقة، حتى تبوأ البحبوحة من تلك الحديقة. ولديه من المعلومات ما يشق على القلم حشره، ويتعسر على الكلم نشره. وتآليفه تكاثر السحب المواطر، حشوها فوائد عقلة الأفكار وقيد الخواطر. وله أشعار أغلبها في الزهد، إلا أنهافي الحلاوة بمثابة الشهد. وهو ممن نحوت إلى كعبته، ورميت نشاب البراعة من جعبته. ومضى لي في صحبته حين، لم أنشف به إلا شمامات ورياحين.

أسارع إليه مسارعة موفٍ لا مقرض، وأتعرض إلى خدمته تعرض مقبل لا معرض. فأستجلى أحاسن المحاسن، وتنقاد لي بدائعه ذلل المراسن. وقد انقبض حيناً عن الناس، وعد الوحشة من الإيناس. وانعكف على دواوينه، وكلف بالعلم وأفانينه. ثم نبه جفنه بعض انتباهة، فطار في أفق الشام بين نزاهة ونباهة. وسافر ذكره للركبان زادا، كما أقام فضله للوارد عتادا. وقد ورد القاهرة وأنابها أماطل الشوق وهو غريم، وأطلب فيض الدمع وهو كريم. فتألفت معه في مجلس الأستاذ زين العابدين لا زالت مطارح أعماله سعيدة، ومطامح آماله قريبة والأكدار عنها بعيدة. كما تألف الأرى مع القند، ونيطت الكف إلى الزند. ورويت غلل الشوق من تلك الراح، بما لم يكن في قدره الماء القراح. وكتبت إليه لما دخل القاهرة: أهلاً بمولىً للثناءِ أهلُ ... يَفْدِيه منى القومُ والأهلُ من جَلَّ عن مَثَلٍ ومَن مِثْلُه ... هيهات أن يُلْفَى له مِثْلُ فضلُ البرايا فيه مُسْتجْمِعٌ ... فكلُّه إن تختبرْ فضلُ إن ذكرتْ آياتِه فتيةٌ ... راح فَمُ الدهرِ لها يتْلُو كم طال شوقي وغرامي له ... والدهرُ من عاداته المَطْلُ حتى قضى اللهُ لنا باللِّقا ... فتمَّ لي من قُرْبِه السُّؤْلُ وكان لي في فضلِ عِرْفانِه ... عن كل شغلٍ في الورى شُغْلُ مولاي الذي سار في بروج الفضل مسير الشمس، وقامت فضائله في جسم العالم مقام الحواس الخمس. لازال في السكون والحركة، موافق اليمن والبركة. يفرح به كل فطر ينازله، كأنه البدر والدنيا منازله. ومن شايعه مسعودٌ يومه وغده، وله من العيش أهناه وأرغده. كتبت هذه الخدمة ولي قلبٌ على شوقك يتقلب، وكما عهدته انقلب إلى غيرك ولو يكون له ألف لولب. كيف وأنا شعبةٌ من دوحتك، وغصنٌ من سرحتك. بل نبتٌ سقته أياديك، وزهرٌ تفتح بما أفاضته غواديك. وكنت قبل أن يسود الدهر منشود عذارى، ويكلفني وقد رأى كلالي إلى بسط أعذاري. ومشرب العيش لم يخش غصة لومٍ يشرق بها من مسمع الصب ناهله، ومورد الأنس قد صفا عذبه ولكن تكدر من خوف الوشاة مناهله. وشرف الشام بك شرف الجثمان بالروح، وانتعاشها بأنفاسك انتعاش الغصن بالنسيم المروح. أستغنى بطرفك عن الثلاث المذهبات، وأستكفى بتحائفك التي علقتها بأذن سمعي عن السبع المذهبات. إلى ما تناولته من دقائق حقائق، يحمر لها خجلاً في روض مذهب النعمان الشقائق. وقد ربطت بك جملتي فما أعد سواك وكيف لا، وإني ما أتيت إلا فريضة وآتى جميع الناس إلا تنفلا. ونظمت من مدحك في جيد الدهر قلائد، يقول البحر من أين أخذ مثل هذه الفوائد. وكنت أتمنى أساهمك العمر وأشاطرك، على شرط ألا أتصور ما ينفر خاطرك. فأبى الدهر إلا تشتيتي عنك في البلاد، ولولا هنيئة لقائك لقلت جرعني صاب الفرقة من ساعة الميلاد. لكني أحمد الله تعالى على أن تداركني مدة غيبتك، بحضور معنىً من شخصك يسليني في الجملة عن رؤيتك. ثم أردف ذلك ولو بعد تراخٍ في المدة، باجتماع كان النعمة الغير المترقبة والفرج بعد الشدة. حيث يحمد المغدى والمراح، ولو اقترح على الزمان مطلبٌ كان هو الاقتراح. فأمتعني الله فيه بمقدمك، وأسعدني بأغلى موطئ قدمك. فسقيا لوقتٍ جمع بيننا، ورعيا لدهرٍ أزاح بيننا. ولله بلدٌ موطن منى، وطلاعة أقمار سنا. ومترنح نعيمٍ وحظٍ، ومتمتع قلب ولحظ. وأحسبها الآن نافست بفضل الكمال، وكمال الفضل، وستصدر بالأماني والآمال، موفاة بالثناء الجزل، والقول الفصل. ولها عندي على هذا الجميل ثناء الروض على الغمام، والزهر على الأكمام، والساري على القمر التمام. ولئِن نَسِيتُ جميلَ مصرٍ بعدها ... طولَ الزمان فلا بلغتُ الشَّامَا ثم فارق مصر موفر الآمال، ودخل الحجاز مختوماً له بصالح الأعمال. فالله سبحانه وتعالى يقرن التوفيق بسكونه وحركته، وينهضنا إلى ما عرفناه من يمنه وبركته. وقد اخترت من شعره الرائع التطريز، ونثره الخالص الإبريز. ما يروق كما راقت ناجمة الحباب، ويشوق كما تشوق أحاديث الأحباب. فمن قوله في الغزل:

دَبَّ العِذارُ بخَدِّه فتضرَّجا ... رَشاٌ أبان على الشقِيق بَنَفْسجَا وأمالَه سكرُ الدلالِ فعرْبَدتْ ... لَحظاتُه هيْهات ما أحدٌ نَجَا رَخْصُ البنانِ أغَنُّ أوْطفُ أحْورٌ ... كالبدر أبْهى من رأيتُ وأبْهجَا لم يكْفِه دَعَجُ العيون مَلاحةً ... حتى تشَرْبَشَ بالبَها وتتوَّجَا وتفضَّضتْ وجَناتُه وتذهَّبتْ ... والحسنُ دَمَّج سالِفيْه ودبَّجَا يختالُ كالغصنِ الرَّطِيب بمَعطِفٍ ... لَدْنٍ أرانا السَّمْهَرِيّ مُعوَّجاَ ويظَلُّ يكسِر مُقْلتيْه تدلُّلاً ... أين النجاةُ لعاشقٍ أين النَّجَا ومُعَرْبدِ اللَّحظاتِ حُسْنَه ... فتقيَّدتْ بشُهوده مُقَلُ الرَّجَا صَلْتُ الجبين بَدَا كبدرٍ زاهرٍ ... يا صاحبَيّ قِفا هنا وتفرَّجاَ قد ذاب قلبي في هواه صَبابةً ... وبحُسْنه لكَمِينِ شوقى هَيَّجَا وفنَى اصْطبارِي في الهوى وتجلُّدِى ... والدمُع أمْطر في الجفون وأثْلَجَا يا أيها القمرُ الذي القمرُ الذي ... من صُدْغِه مَن صُدغُه ليلٌ سجَا حتَّى مَ يلْحاني عليك سَفاهةً ... مَن ليس يَدرِى ما الهوى وَتبَهْرجَا جُدْ الوِصال فإنَّ لي بك مَدْخَلاً ... لم يُبْقِ لي عن حُسْنِ وجهك مَخْرَجَا مَن لي بمن فضَح البدورَ مَلاحةً ... وبطَرْفِه فتن الغزالَ الأدْعَجَا فاضتْ مياهُ الحسْن في أعطافِه ... والجسمُ أزْبَد فوق رِدْفٍ مَوَّجَا وقوله: يا قَدَّه ما أرْشقَكْ ... يا خَدَّه ما أشْرقَكْ وأنتَ يا ناظرهَ ... جلَّ الذي قد خلقَكْ تُرسل نحوي أسْهُماً ... هل كان قلبي دَرَقكْ يا أيها العاذلُ في ... هواه ماذا أطْرَقكْ أفْحَشْتَ في لَوْمِك لي ... أكْثرتَ فينا حَنَقَكْ تحُوم حول حُسْنِه ... ما تخْتشِى أن يحرقَكْ بالّله قِفْ يا أمَليِ ... إنَّ فؤادي علِقَكْ ومِلْ أيا مَعطِفَه ... سبحان من قد مَشَقَكْ لكَم أُنادِي الدمعَ يا ... دمعِي أقفْ مُغْرَوْرَقَكْ وأُنْذِرُ القلبَ الهوى ... يا قلبُ هذا سرقَكْ صَبْرِي قضَى وما قضَى ... منك المُنَى مَن عشِقَكْ دعْ عنك ذا الهجرَ وجُدْ ... بحقِّ مَن قد خلقَكْ وقوله: يا قمراً يُزْرِى بشمس الفلَكْ ... كلُّ جمالٍ وبَهاء فلَكْ ملكْتَ قلبي فترفَّقْ به ... ما أنت في حسنِك إلا مَلَكْ الّلهَ اللهَ بنا يا رَشَا ... فإن قلبي في الهوى قد سلَكْ أرسلْتَ لي طَيْفَك تحت الدُّجَى ... يا طَيْفُ حيَّي الّلهُ مَن أرْسلَكْ مَولايَ ما ذنْبي إليك اتَّئِدْ ... في قْتلتي مِقْدار أن أسألَكْ إن كنت لي أضمرتَ غَدْراً بلا ... ذنبٍ وحقِّ الله ما حلَّ لَكُ أعطِفْ علينا وترفَّقْ بنا ... وافعلْ جميلاً بالذي جَّمَلكْ قد ذُبْتَ يا قلبي عليه جَوًى ... وَيْحك يا قلبُ أما قلتُ لَكْ وأنت يا ناظر عَيْني اتَّئِدْ ... إيَّاك أن تهْلِك فيمَن هلَكْ ومن نتفه قوله: وروضٍ بَدا فيه الشقيقُ مقَهْقِهاً ... يُشاكلُه خدُّ الحبيب المُورَّدُ فقل له المعشوقُ يوما وقد سرَتْ ... عليه الصَّبا حتَّى غدا يتَبَغْدَدُ سرقْتَ خُدودِي ثم زَوَّرْتَ شامَتِي ... وما ذاك إلا أن قَلْبَك أسْوَدُ وقوله في بركة ماء: وبركةٍ تذْهَل العقولُ بها ... تَحارُ في بعض وصْفِها الفِكَرُ

كأنها مُقْلةٌ مُحدِّقةٌ ... عَبْرَي من الوجد نالَها السهرُ تبكي وما فارقتْ لها وطناً ... يوماً ولا فات أهْلَها وطَرُ يا حُسْن أُنْبُوبها لِصحّنِه ... والماءُ يعلو به وينُحدرُ كصَوْلَجانٍ من فضةٍ سُبِكتْ ... فواقعُ الماء تحتها أُكَرُ والبيتان الأخيران مضمنان. ووقع لابن ظافر، أنه دخل في أصحاب له يعودون صاحباً لهم، وبين يديه بركةٌ رق ماؤها، وصحت سماؤها. وقد رص تحت دساتير نارنج فضح الحضار، وملأ بالمحاسن عيون النظار، فكأنما رفعت صوالج فضة على كراتٍ من النضار. فأشار الحاضرون إلى وصفها، فقال: أبْدعْتَ يا ابنَ هلال في فَسْقِيَّةٍ ... جاءتْ محاسنُها بما لم يُعْهَدِ عجباً لأمْواهِ الدَّساتيِر التي ... فاضتْ على نارَنْجَها المتوقِّدِ فكأنَّهنَّ صوالجٌ من فضةٍ ... رُفعتْ لضَرْبِ كراةِ خالصِ عَسْجَدِ وله: كتب الجمالُ بطِرْسِ وَجْنتِه لنا ... سطراً به مُحِيَ الجمالُ المشرِقُ فكأنما ذا أمْرُ سلطانِ البَهَا ... وَافَى لَمن يهْوَى ومن هو يعشقُ تَقْرَا العيونُ على القلوبِ رسُومَه ... ياقومَنا خرَج الوِطاقُ تفرَّقُوا وله: وصديقةٍ وافَيْتُها مُتنزِّها ... ورءُوس نَرْجِسِها طوارِقُ حُرَّكُ والأقْحُوانُ يظلُّ يركع بالصبَّا ... فكأنما هو عابدٌ متنسِّكُ فجلستُ بينهما كأني سُخْرةٌ ... هذاك يْغمِز وذا هذا يضحكُ ومن مقطعاته قوله: خاطبتُ مَعْسول الرُّضابِ وقلت هل ... من رَشْفةٍ تشفِى الحشَا بشفائِها فأجابَنِي والثغرُ منه باسمٌ ... ما كلُّ بارِقَةٍ تجودُ بمائِها ومن رباعياته قوله: خُذْ حِذْرَك من عيونه يا قلبُ ... لَمَّا يَرْنُو فإن هذا حَرْبُ والعشقُ على النفوسِ سهلٌ صعبُ ... لا يعرف كيف الحالُ إلا الرَّبُّ وله: لا تحسَبُوا شامةً في خدِّه طُبِعتْ ... هاتيك حَبَّةُ قلبٍ زادَه حُبَّاً فدَبَّ ينْقُلها نملُ العذارِ له ... والنملُ من شأنِه أن ينْقُل الحَبَّا أخذه من قول بعضهم: عوارضُه تسْبى العقولَ بحُسْنِها ... وتنقُل حبَّاتِ القلوب نمِالُها وأنشدني السيد سليمان الحموي، من لفظه لنفسه في هذا المعنى، وقد أحسن: وأَغْيَدٍ أفْرط في تِيهِهِ ... حتى رأينا منه شيئاً عُجابْ فأطْلَع اللهُ له عارِضاً ... أمْطر خدَّيْه ألِيمَ العذابْ كأنْملٍ في التشْبيِه لكنه ... نملٌ بدا ينُقل حبَّ الشبابْ وله: يا قلبُ صَبْراً في هوَى ... من لم تَرُعْه صَبْوُتكْ وأنت يا ناظرَه ... إنْ هي إلَّا فِتْنَتُكْ وله: وذي خَدٍّ تعلَّق فيه قلبي ... فأحرق خدُّه قلبي بنارِ وخافَ على الجمال يفِرُّ منه ... فقيَّده بسِلْسِلة العِذارِ أحسن منه قول ابن سعيد الغرناطي، في الخال: كأن خالاً لاح في خدِّه ... للعين في سِلْسِلةٍ من عِذَارْ أُسَيْوِرٌ يخْدِم في جَنَّةٍ ... قَيَّده مولاه خوفَ الفِرارْ ومن قوله: وخاف على الجمال إلخ، تذكرت قول أحمد بن شاهين، في مناقضته: مذ نبَت العارضُ في خدِّه ... بُدِّلت الحمرةُ بالاصْفرارْ كأنما العارضُ لمَّا بدا ... قد صار للحسنِ جَناحاً فطارْ وبلغه أنه عيب عليه استعمال التكرار في شعره، فقال: أعِيبَ تَكْرارُ لفظِ نظْمى ... والنظمُ من ذاك ما تضّرَّرْ وأطْربُ النَّغْمِة المَثانِي ... وأحسنُ السُّكَّر المُكرَّرْ وله: قد أبحْتُ الخدودَ منه ودادِي ... فَرَمتْني الخدودُ في نارِ يَاسِي وبَقِى ذلك العذارُ حَماه اللَّ ... هُ حتى انتصفتُ من وَسْواسِي

صدق الناسُ ليس للوردِ وُدٌّ ... إنما الوُدُّ كلُّه لْلآسِ نسبته عدم الود بسبب قلة مكثه، ونسبة الود للآس بسبب دوام لبثه. وهذا مستعمل في الأشعار كثيراً، كقول ابن زيدون: لا يكُنْ وُدُّكَ وَرْداً ... إنَّ وُدِّي لك آسُ وله: شبَّهْتُه بالغُصْنِ بين الرُّبَى ... ووجهه بالزَّهْرِ مُنْفضَّا فأصبح الغصنُ له مُطْرِقاً ... والزهرُ من فَرْطِ الحيَا غَضَّا ولو في زهر البلسان: وأشجارِ بَلَسانٍ بها لعب الصَّبا ... فبهْجَتُها بين الحدائِق مُفْرِطَهْ كأن بياض الزَّهر فوق غُصونِها ... كُفوفُ لُجَيْنٍ بالنُّضارِ مُنقَّطهْ وله: لمَّا تكاملَ حسنُه وجمالُه ... وزهَى كغصنٍ بالدَّلالِ رشيقِ نزل العذارُ على الخدود كأنه ... طَلُّ الزَّبَرْجَدِ في رياضِ عَقِيقِ وله: شكا لي نسِيمُ الروضِ ضَعْفاً أجَبْتُه ... وقلبي بأثْقالِ الغرامِ كلِيلُ أعَلَّك غصنٌ عَلنَّي صَدُّ مثْلِه ... إذاً فكِلانَا يا نسيمُ عَلِيلُ وله مضمنا: أدار علينا الكأسَ ظَبْيٌ مُهَفْهَفٌ ... قطعْنا الدُّجى وَصْلاً به نتنعَّمُ وغنَّى عن النَّايِ الرّخِيمِ مُشبِّباً ... فنحن سكوتٌ والهوى يتكلَّمُ مثله للشهاب الخفاجي: لنا مجلسٌ فيه من اللهوِ مُطْربٌ ... وآدَابُنا ما بينه تترنَّمُ ونايٌ يُناجِينا بأسْرارِ ربِّنا ... ونحن سكوتٌ والهوى يتكلمُ وله في أرمد: يا قومِ لا تحسَبوا في عينِه رمداً ... لقَد ألمَّ بنا من قولكمْ ألَمُ ماذا سوى أنه مذ رام يْقُتلني ... رَنَا إلىَّ فأغْضى والسيوفُ دَمُ مثله للصلاح الصفدي: أيْقظْتُه من كَراه بعد ما رمَدت ... عيْناه لا مَسَّها من بعدها ألَمُ قد زُرْتُه وسيوفُ الهند مُغْمدةٌ ... وقد نظرتُ إليه والسيوفُ دَمُ وله، في مليح اسمه عثمان، وفي يده شمعة: بأَبِي مليحٌ لاح يحملُ شمعةٌ ... في كفِّه ليلاً فَراقَ لعيْنِي لمَّا بدا وأضاءَ نورُ جمالِه ... قلت انْظروا عثمانَ ذا النُّورَيْنِ ولابن المعتز في مثله، بيده شمعتان: وافَى إلىَّ بشْمعتْين ووجهُه ... بضِيائِه يزْهُو على القمريْنِ نادَيْتُه ما الإِسمُ يا كلَّ المُنَى ... فأجابَنِي: عثمان ذو النورَيْنِ وكان السيد عبد الرحمن بن النقيب أطلعه على دعابة لبعض الأندلسيِّين، فعمل على أسلوبها مقامةً وهى هذه: وأنا الذي أهْدَى أقلَّ بَهارِهِ ... حُسْناً لأحسنِ روضةٍ مِئْنافِ إن أحْلَى ما تمزَج به كؤوسَ المودَّة، وأعْطَر ما تستْنِشقه مَشامُّ الخواطر المستعِدَّة. خبرٌ له الطَّربُ مُبتدا، وحديث ترويه عن القريحة مُسْنَدا. وذلك حين اسْتُفزَّت هوامِدُ السرور، وتغنَّى في دَوْحة الأنس كلُّ بُلبل وشُحْرور. وتنبَّهتْ ذات الجناِح بسُحْرةٍ ... في الوادييْن فنبَّهتْ أشواقِي وأنا الذي أُمْلِي الهوَى من خاطرِي ... وهي التي تُمْلِى من الأوراقِ حتى خرجت أسوق مطايا الأسى، لأبيع كافورة الصبح وأشترى عنبر المسا. والصبحُ قد أهْدَى لنا كافورَهُ ... لمَّا اسْتردَّ الليلُ منَّا العنْبَرَا قاصداً ادِّراعَ حلل اللهو، إلى حومة الطرب والزهو. ومتحرشاً بأذيال البكور والأصائل، ومعتبراً بقول القائل: باكِرْ إلى اللذاتِ واركبْ لها ... سوابقَ اللهوِ ذوات المراحْ من قبل أن ترْشِفَ شمسُ الضُّحَى ... ريِقَ الغَوَادي من ثُغور الأقاح فبينما أنا كذلك وإذا بشقِيق شفِيق، ورفيقٍ هو بي في سائر الأمور رفيق. فأقبل على إقبال الكرام، وقد لمعت بالبشر صفحات وجهه بعد أن حيا بالسلام. تشربُه الرَّاح وهو يشربُها ... يطربُ من حسنِ وجهِه الطَّربُ

فسألتُه في المُسايرة والمُنادمة وحَثَثْتُه على المسامرة والمكالمة. فأسفر وجهه عن شموس الفرح، ونال ابتهالا وابتهاجاً بنسمات المسرة والمرح. وقال: مرحبا بقولك المسوع، ورأيك الذي اتفقت عليه الجموع. لِدَواعِي الهوى وحكمِ الخلاعَةْ ... ألفْ سمعٍ لا للوقارِ وطاعَهْ فسرنا حتى أتينا منتزها رحب الأكناف، متناسق النعوت والأوصاف. نسيِمُه يعثر في ذَيْلِه ... وزهرُه يضحكُ في كُمِّهِ فوجدناه ذا ظل ظليل، وماءٍ أعذب من السلسبيل. أشجاره ثابتة، وأغصانه نابتة. نَهْرُه مسرعٌ جرى وتمشَّتْ ... في رُباهُ الصَّبا قليلاً قليلاَ تصدح حمائمه وتسرح نسائمه، وتنفح كمائمه. ولي من الوُرْق في أوْراِقها طَرَبٌ ... كأنَّهن على العِيدانِ قَيْناتُ فصعدنا منه إلى قصر مشيد، متزخرف الجوانب بألوان الأطلية وأنواع الشيد. فيه الغرف الرفيعة ذات التزيين، والمقاصير المصنوعة لقاصرات الطرف عين. وإيوان يقول لمن يراه ... على قَدْرِي وفوق الكُلِّ أُشْرِفْ ألم ترَ أن طيرَ العِزِّ أضحى ... يحُوم بساحَتِي وعلىَّ رَفْرَفْ وقد طلت شبابيكه على تلك الأرجاء المونقة، والجداول المتدفقة. وأرضه مفروشة بأفخر الوشى والديباج، وقد أطلقت فيه مباخر الطيب فزاد في الابتهاج. حوَى عجباً لم يحْوِه قطٌّ مجلسٌ ... على أنه في الحسنِ أُعْجوبةُ الدهرِ فجلست أنا وصاحبي على تلك الأريكة الممنوعة، والفرش المرفوعة. نتناشد الأشعار، ونتشبث بأذيال الأفكار. وحديثه السحرُ الحلالُ لَوَ أنَّه ... لم يجْنِ قتلَ المسلمِ المتحرِّز إن طال لمُ يمْلَلْ وإن هي أوْجزَتْ ... وَدَّ المحدَّثُ أنها لم تُوجزِ ولم نزل رافلين في غلائل المسرة، ومتنعمين بلطائف الأنس على أوج هاتيك الأسرة. حتى عدنا وقد شمرت لمغيبها الذيل، واصفر وجهها خوفاً من هجمة عساكر الليل. الشمسُ هاربةٌ للغَرْبِ دارِعةٌ ... بالنَّبْل مصفَرَّةٌ من هَجْمة الغَسَقِ وقد ظهر الهلال في حمرة الشفق، كحاجب الشائب أو زورق الورق. لا تظنَّ الظلام قد أخذ الشَّمْ ... سَ وأعطى النهار هذا الهلالاَ إنما الشرقُ أقْرضَ الغربَ دِينا ... راً فأعْطاه رَهْنَه خَلْخالاَ وبينا أنا راجعٌ مع صاحبي في أخريات الطريق، وإذا برفيقٍ لي وهون على الحقيقة رفيق. فاعترضني وقال لي: أين كنت، ومن أين توجهت. فقلت له: كنت مع صاحبي، الذي هو هذا اليوم مصاحبي. في منتزه، وهو فضاء الأرض، ذات الطول والعرض. وصدَقْتُه في كل ما حاولْتُه ... مما تقدَّم في الكلامِ الأوَّلِ وغيم ذلك الفضا هو الظل الظليل، وغيثه المنهمر هو الأعذب من السلسبيل. وأشجاره هي حبال الأمطار، وحمائمه الصادحة أصوات الرعد في جوانب الأقطار. وكمائمه حب البرد، ونسائمه المعلومة فيما ورد. وما ذلك القصر الموصوف، سوى جبتي هذه وثوبي هذا الصوف. والشبابيك جيوبه، وأطواقه، ولا عجب أن نفحت فيه مباخر الطيب فإنها قراطيسه وأوراقه. وبالقياس على هذا تأويل ما بقي من العبارات السابقة، والإشارات المتلاحقة. وبذلك انتهى الكلام، وتم ما قصدناه من الدعابة والسلام. والدعابة التي أطلعه عليها هي هذه: لابُدّ للنفس أحياناً إذا سئمتْ ... أن تسْتريحَ إلى الآدابِ والمُلَحِ فَخُضْ بها من أحاديث النِّدام إذا ... أعْيَتْ مذاهبُها في كلِّ مُقْتَرَحِ وهاهنا نزعة يختلف إليها النديم، ويعتلق بها الطبع السليم. وذلك أني طفت الجنان، وبلوت الفروع والأغصان. فلم أر مثل نبعة، في خير بقعة. حسنة البزة، يانعة الهزة. دوحها مغنٍ، وطيرها مرن. يُطارحني من بينهن ابنُ أيكَةٍ ... هتوفُ الضُّحى بعد العشيَّةِ مِرْنانُ أُجاذبُه هُدْبَ الغرامِ وفي الحشاَ ... نَزُوعٌ إلى ذكْرِ الأحبَّة حَنَّانُ فأسمعني خطابه، وفرغ لي وطابه. فقلت: ما هذا الفنن، وعلى م هذا الشجن. فقال: أما الفنن فمنصة، وأما الشجن فعن غصة. فتلكأت عنه تلكأ الشاك، وقلت: ومن وشاك.

أحمد بن ولي الدين

فقال لبست ملاءة الربيع، وكتمت الغرام لو أستطيع. فقلت: لأمرٍ ما خطبتك الغيد، وأعارتك حلى الجيد. فقال: بل موهت النحول، وأخفيت عنوان الذبول. وأما ما أحاط بالمقلد فوثاق، وقد تظرف من طبع أغلال الهوى على قوالب الإطباق. فلما نعمت بمطارحته، ونهمت بمفاكهته. سايرته بأرسانه، وقاولته بلسانه. وقلت: إيه، فيما نحن فيه. غصن نضير، ووادٍ عطير. روضة حزن، ونسيمه لدن. وماؤه صاف، ونديمه وصاف. فزدني من ندامك، وأصخ لترنامك. ففي أي الحالتين تفيض، فلا بعدك معبد ولا دونك غريض. فقهقه ورجع، ثم أنشد فأسمع: خُذْ بنا في محاسنِ الأوصافِ ... فهي نَقْلٌ ما بين أيدي الظَّرافِ وانْتخبْ للنِّدامِ كلَّ حديثٍ ... من قِصارِ الفصول ذاني القطاف يتمنَّى الجليسُ عمرَ مُعاذٍ ... لتلِّقى مُعادِه الشفَّافِ واقْتحمْ لُجَّةَ القَرِيضِ بفكْرٍ ... يْنتقى الدُّرَ في حَشَا الأصْدافِ وتنقَّلْ من الدُّعابَةِ للْجِدِّ ... وخَيِّمْ حيث المعاني الِّلطافِ فلما أتى بنقل قريضه، وألمع إلي بتعريضه. ناب إلى أن أمتخض الفكر، وأكشف قناع البكر. فأبْرزْتُها عذراءَ في زِيِّ غادةٍ ... تُزَفُّ على وجِه الدُّعابِة والهزْلِ وما ثَمَّ إلَّا نَبْعةُ الشعرِ نَبْعةٌ ... يَرنِ ُّبها طيرُ الفصاحِة والنَّبْلِ بيت الفرفور بيتٌ فضله موفور، وذنب الزمان بأهله مغفور. وقد خرج منه جماعة أجلاً، فضلهم أبهر من النجوم السيارة وأجلى، فمنهم: أحمد بن ولي الدين الأديب الأريب، واحد الخبرة والتجريب. نظم الشهب في الكتب، ورفع النقب عن أسرار الحقب. وهو من كل المشارب شارب، ومن كل المسارب سارب. فطوراً له طورٌ لجِدّ مُدافعٍ ... ووْقتاً له سَمْتٌ لهزْلٍ مُجانبُ ولله منه جانبٌ لا يُضِيعُه ... ولَّلْهو منه والخلاعِة جانبُ واتفق أن ضرب الدهر على صماخيه بصمام من الصمم، فزاده ثقل تلك الحاسة خفة تنشط الرمم. فما برح يشرب صرف الهنا من أدنانه، ويهصر غصن المنى في أفنانه. حتى أثرت في ذوائبه أفاويف الشيب، ودعاه الداعي الذي لا يعترض إجابته الريب. وهو شاعر لشعره حظٌّ من الحسن، كأنما تغازله الجفون الوسن. أثبت له ما يهيج الطرب، ويحلو في الأفاوه كما يحلو الضرب. فمن ذلك قوله في مراجعة العمادي المفتى، وقد كتب إليه قصيدةً، لم أر منها إلا قوله: مَن لي بظَبْيٍ كُحِّلتْ ... أجفانُه بالسَّقمِ يفترُّ عن ثغرِ بدَا ... عذْبَ الثنايا شَبِمِ أجْرى دموعي في الهوى ... كمُغدِقات الدِّيَمِ وسَلَّ سيفَ لَحْظِه ... وهزَّ قَدَّ لَهْذَمِ واخْتال في ثَوْب الصِّبا ... يْسحب كلَّ مُعْلَمِ مصائبٌ ما جُمِّعتْ ... إلا لقْتل المغرمِ يا قاتلَ اللهُ الهوى ... بدَّل دمعي بالدمِ فكم له في خَلَدِي ... سرائِرٌ لم تُعلَمِ وهذا ما رأيته في جوابه: دُرٌّ سَمتْ في القِيَم ... وسُمِّيت بالكَلِمِ أم روضةٌ دامتْ عليْ ... ها هاطلاتُ الدِّيَمِ فلاح منها نُورُ ثَغْ ... رِ نَوْرِها المبتسِمِ أم غادةٌ قلبي كَلِي ... مُ لَحْظِها المكلَّمِ من بَيْضها وسُمْرِها ... في الطِّرْش قَتْلُ المغرَمِ حيَّتْ فأحْيت بالِّلقا ... قلبا إليها قد ظَمِى لِمْ لا ومُهْديها كري ... مٌ لكرامٍ ينْتمِي ألْفاظُه كالسحرِ إلَّا ... أنها لم تحرُمِ مُهذَّب أخلاقُه ... بحُسْن تلك الشِّيَمِ كنَشْرِ روضٍ قد سرَى ... غِبَّ حَياً مُنسجِمِ وكان بينه وبين أحمد بن شاهين صحبة وردها شرع لا ينسخ، وعهدها عقد لا يفسخ. وكلاهما من أول مرباه، كالغصن يترنح في رباه.

ولده عبد الوهاب

متعاكفان على تعاطف وائتلاف، ومتعارفان على تهارج واختلاف. فعلقا فتى ألحم بينهما بسحره الألفة، وأماط فيما بينهما حجاب الكلفة. وبقيا سنين متلازمين تلازم الدليل بالمدلول، والعلة بالمعلول. ومتصلين أتصال الأرواح بالأشباح، والمساء بالصباح. حتى اكتسى خد الفتى بالعذار، وطلع الشيب في عوارضهما متهماً بالإنذار. هناك تيقظ الفرفوري من سناته، وعدى عما كان فيه هناته. وكتب إلى الشاهيني: ولَّما أن بدا شَيبٌ بفَوْدِى ... خلُصتُ من الصبابِة باحْتيالِ وصرَّفتُ المحبة كيف شاءتْ ... كأن الحبَّ لم يخطُر ببالِي فأحسنُ ما يقال بأن قلبي ... سلَا يسلُو سلُوًّا فهْو سالِي فكتب إليه قصيدة هز بها إلى رعى حقوقه، واستدفاع عقوقه. وموافقته فيما إليه جنح، متيمنا بما إليه طير رشاده سنح. سيما وقد تبين الرشد من الغي، وصار النشر إلى الطي. والقصيدة المذكورة، ومن أحاسن أشعاره المشهورة. إلا أنها طويلةٌ جداً، فاقتصرت من وابلها على الطل، واكتفيت عن أكثرها بالأقل. ومطلعها: أقصيدتي مُورِي بجَهْدك مُورِى ... وتيمَّمي خِدْنَ العُلى الفُرْفُورِي يا ألْفَ مولايَ ولستُ بقائِلٍ ... غيرَ الصوابِ لصاحبي وسميرِي مالي أراك مُفرِّطاً في صُحْبتي ... فكأنني عِقْد بكفِّ صغيرِ خفِّض عليك فلستَ أوَّلَ قاذفٍ ... من جوِّ شاهِقَةٍ لجوْف شَفِيرِ أوَ قد زعمتَ بأنني مُتهالكٌ ... في إثْرِ روض ليس بالمَمْطورِ ما الروضُ فيما قد حويْتَ مُحتَّمٌ ... كّلا ولا للغْيرِ فضلُ خَضِيرِ هيَ دِمْنةُ خضراءُ لم يأنَسْ بها ... رِيم وليس سَرابُها بعَبيرِ أنَّي تقول ولا أَخالُك قائلا ... العَيْرُ عَيْرِى والنَّفِيرُ نفيرِي صدقتْ بناتُ الفكر فيما ألَّفتْ ... إن العَباءةَ عندكم كحَبِيرِ ما للفِراسةِ لم تُصدَّق فيكمُ ... والألْمَعيَّةِ لم تُعَنْ بنَصِيرِ ومنها، وهو محل الشاهد: فوَ حقِّ سَلْوتِيَ التي قد أصبحتْ ... بَرْداً على كبدي لكل عَسِيرِ هذا فؤادي مِلْءُ صدري حُزْنُه ... وافَى بِجَفْن في السُّلُوِّ قريرِ ومَناكِبى أمْسَتْ تلائم مضْجعي ... ثم ارْعَويتُ فما استعنْتُ زفيرِي وغدوتُ أضحك مِلْءَ فِيَّ تعجبُّباً ... حين استمَرَّ على البِعاد مَرِيرِي وتصافحتْ يُمْنايَ باليَسَر التي ... قد كانتا في غِلِّ خيرِ خبيرِ وتبدَّلتْ عيْنَايَ أحسن مَنظراً ... وهي الصحائفُ في دُجًى وبكُورِ لّلِه أنتَ وما صنعتَ فإنما ... أنْقذْتني من هُوَّةٍ وسعيرِ وكذاك ينْجُو ذو الصداقِة في الهوى ... وكذا بذنْبٍ ينْثنِي مغْفورِ ولده عبد الوهاب المفتى بحَقّ، والسامي على رُتبةٍ هو بها أحَقّ. فقيهُ المذهب النُّعْمانِي، ومن توفَّرتْ له في الشهرة الأمانِي فأُشير إليه بالجلال، وأُثْنِىَ عليه بكرم الخلال. لم يزل يصل في الجد الليلة باليوم، ويعتاض في الاشتغال السهر من النوم. وينفق من الزاد، فيخزن في الفؤاد. والعلم كما عرفت بعيد المرام، لا يرى في المنام، ولا يورث عن الآباء والأعمام. حتى بلغ مبلغا يقصر عنه أمل المتطلع، وحل محلاً تنقطع دونه رغبة المتطمع. ونزل من القلوب بمنْزلةٍ هي المُصافة بين الماء والرَّاح، وأوْرد العيونَ الرياضَ وأورد القرائحَ القَراح. فللنَّواظِر فيه مَرْتَع، وللخواطر منه مُتمتَّع. وله الأيادي البيض، والطول الطويل العريض. بارَتْ يداه السُّحْبَ فارْتجعتْ ... عنها ووابلُ وَدْقها وَشَلُ فالرعْد في أحْشائِها قَلِقٌ ... والبرقُ في حافاتها خَجِلُ ثم ولى الإفتاء فأديت أمانةٌ إلى أهلها، وجاءته النعم تترى ولكن على مهلها. فلم يلبث تضمنه ضريحه، وسفت عليه ريحه.

عمر بن محمد

فلا زالت السحائب الحوامل، تضع مشهد قبره كل طلٍ ووابل. وله شعر ليس مثله عليه بمستنكر، فالإتيان به غير مستكثر. فمنه قوله: قد يُلْبِس الشعرَ شوقى تارةً حُلَلاً ... كوشْىِ صَنْعَاء يزهو فوق حَسْناءِ وتارةً ليس شَمْلِي فيه مجتمِعاً ... فيْعتريه فتورٌ عند إلْقائِي وقوله: دَعِ الحبَّ إن الحبَّ للعقلِ سالبُ ... وعِشْ خالياً فالحب فيه النَّوائبُ فلا يصْلُحَنْ إلَّا لمْثلى فإنني ... فتىً دون نَعْليْه السُّها والكواكبُ فمَن كان مثْلي كان بالحبِّ لائقاً ... وإلَّا فصَبٌّ بالصبابِة لاعبُ وقوله: إن غبْتَ عن ناظرِي يا مَن كلِفتُ به ... فما أراك عَقِيبَ الآن في عمرِي لأنّ عيْنيَ تجرى بعد فُرْقِتكمْ ... دماً ويتْبعُه ما طُلَّ من بَصَرِي وقوله في الرباعيات: وللهِ وحقِّ مُحكماَتِ السُّوَر ... ما غبْتَ عن الفؤادِ بل عن بَصَرِي من منذ غَدوْتُ في هواكم دَنِفاً ... أيامُ نَواكَ لم تكنْ من عمري وكتب إلى جدي محب الله: يا مَن أياديِه سحابٌ ممطِرُ ... ولديْه حاتمُ في السَّخا لا يذكَرُ وعليه من سِيمَا الكرام دلالةٌ ... وشواهدٌ تبدُو عليه وتظهرُ طوَّقْتني من راحَتْيك بمِنَّةٍ ... أضْحتْ على طُول الليالي تُنشَرُ لم أقْضِ حقَّ ثَنائها لو أن لي ... في كلِّ جارحةٍ لساناً يشكرُ وله: أنا واللهِ ما الجفاءُ غرامي ... لا ولاه الهجرُ والصدودُ مَرامِي ولئِنْ غبتُ عنكمُ ففؤادِي ... مثلُ ما تْعهدون بل هو نامِي وله: للهِ بدرٌ قد حكى بخدودِه ... وردَ الرُّبى وشقائقَ النُّعمانِ وبِثْغره زهرَ الأقاحِ مُنضَّدٍ ... وبِقدِّه المَيَّاسِ غصنَ الْبانِ وبطِيبِه طِيبَ الرياض ونَشْرَها ... وبِصُدغه لْلآسِ والرَّيْحانِ وإذا محاسنُه بدَتْ لعيونِنا ... تُجْلَى فلا تحتاجُ للبُستانِ هذا فيه سماتٌ من قول جحظة البرمكي: خِلْتُه في المُعصْفَرات القَوانِي ... وردةً في شقائقِ النُّعمانِ أنتِ تُفَّاحتي وفيك مع التُّفَّا ... حِ رُمَّانتانِ في غُصْنِ بَانِ لا أرى في سِواكِ ما فيكِ من طِي ... بٍ ومن بهجةٍ ومن رَيْحانِ وإذا كنتِ لي وفيك الذي في ... كِ فما حاجتي إلى البستانِ بيت القاري من البيوت التي تقلد فخرها جيد الدهر، واكتسب النسيم بعرف ثراها أرج الزهر. مدائحهم كصحائف المحسنين بياضاً ونقا، وذكراهم كعهد الموقنين وفاءً وتقى، فمنهم: عمر بن محمد علم فضل وإنصاف، وشرف نعوت وأوصاف. افتخر به الآباء والبنون، وتجملت بفضائله الشهور والسنون. شهرته من العلم شهرة القمر ليلة بدره، ومحله من الكمال حيث يستمد كل ذي قدرٍ قدره. عمر الله به دار ابن عامر، وجاد نافع نواله فهو لمستنجد عاصم ولمجتديه غارم. وبالجود تحوز المدح الأفاضل، كما أن الرياض تصدح فيها البلابل. تحلت بفضائله للعلوم نحور، وتجلت له منها ولدان وحور. سطور سبح نظمت لآليها من الدر النثير، إذا رأتها الأنام اشتغلت بالتسبيح والتكبير. وله أدب توشعت بصنعة السحب وشائعه، وبلغ كلا الخافقين مشهوره وشائعه. وهو في القريض قليل الكلام، إلا أن كلامه يكتب لتشريف الصحف والأقلام. فمن شعره قوله: لولا ثلاثٌ هُنَّ أقْصى المُرادْ ... ما اخْترتُ أن أبْقى بدتار النَّفادْ نهذيبُ نفْسِي بالعلوم التي ... بها لقد نِلْتُ جميعَ المُرادْ وطاعةٌ أرجو بإخْلاصها ... نُوراً به تُشرقُ أرضُ الفؤادْ كذاك عِرْفانُ الإلهِ الذ ... لأجْلِه كان وجودُ العبادْ فأسألُ الرحمنَ بالمُصطفى ... وآلِه التَّوفيقَ فهْوَ الجَوادْ

حفيده محمد بن علي

هذه الثلاثيات نظم فيها كثير من المتقدمين والمتأخرين. فمنهم ابن صابر القيسي، قال: لولا ثلاثٌ هُنَّ واللهِ منْ ... أكبرِ آمالي من الدنيَا حجٌّ لبيْتِ اللهِ أرجُو به ... أن يقبلَ النِّيَّةَ والسَّعْيَا والعلمُ تحصيلاً ونشْراً إذا ... روَيْتُ أوسعْتُ الورى رأْيَا وأهلُ وُدٍّ أسألُ اللهَ أن ... يُمتْع بالبُقْيا إلى اللُّقْيَا ما كنتُ أخشْىَ الموتَ أنَّى أتى ... بل لم أكنْ ألْتذُّ بالمَحْيا ومثله لأبي حيان: أما إنه لولا ثلاثٌ أُحبُّها ... تمنَّيْتُ أنى لا أُعَدُّ من الأحْيَا فمنها رجائي أو أفوزَ بتوْبةٍ ... تُكفِّر لي ذَنْبا وتُنْجِح لي سَعْيَا ومنهُنَّ صَوْنُ النفسِ عن كل جاهلٍ ... لئيمٍ فلا أمْشِي إلى بابه مَشْيَا ومنهنَّ أخْذِي بالحديث إذا الورَى ... نَسَوْا سُنَّةَ المختارِ واتَّبعوا الرأْيَا أأتْرك نصًّا للرسولِ وأقْتدي ... بشخصٍ لقد بُدِّلتُ بالرَّشَدِ الغَيَّا وكتب مقرظا على نظم: تأمَّلتُ ذا النظمِ البديعِ وما حَوَتْ ... معانِيه من حسنِ الصياغةِ والسَّبْكِ فشاهدتُ رَوْضاً بالفضائلِ مُزهِراً ... وعاينْتُ دُرّاً قد تنظَّم في سِلْكِ حفيده محمد بن علي وهو من بحره خليج، ولروضه عرف وأريج. بأنواره تحاسن الأقمار، وبأمداحه تعطر الأندية والأسمار. فهو شربٌ سائغٌ بلا كدر، وسمرٌ ممتع بلا سهر. وصحةٌ في نعمةٍ عقيب مرض، وفرحة رامٍ أصيب بسهمه غرض. وله شعر كالزلال النمير، إذا صافح الأسماع تبسم له القلب والضمير. فمنه قوله: خِلْتُ العيونَ الرَّامياتِ بأسهمٍ ... يَجْرَحْنَ قلباً بالبِعادِ مُعذَّبَا فاُعْجَبْ لِلَحْظٍ قاتلٍ عُشَّاقَه ... في حالتَيْه إذا مضَى وإذا نَبَا وهذا معنى جيد جداً، وهو ينظر من طرفٍ إلى قول ابن الرومي: نظَرتْ فأقْصدتِ الفؤادَ بسهمِها ... ثم انْثنَتْ عنه فكاد يهِيمُ وَبْلايَ إن نَظرتْ وإن هي أعْرضتْ ... وَقْعُ السهاِم ونَزْعهُنَّ أليمُ وقد لطف الخفاجي، وأجاد كل الإجادة في قوله: سِهامُ جُفونِه أعْرضْنَ عنِّي ... فأسْرعَ فَتْكُها ونَما جَواهَا فيالَكِ أسْهُما تُصْمِى الرَّمايَا ... إذا قصَدتْ إلى شيءٍ سِواهَا حسين بن محمد فرع طاب منه جنىً ومهتصر، فلو طلبت الحياة لوجدته من صباحته يعتصر. خلقه الله نورا مصوراً، وأطلع غصن كماله غضاً منوراً. بوجه يتبعه التهليل والتكبير عند شروقه، وحسن أداء يشر به السمع فتدب نشوة الحميا في عروقه. في كل نادٍ منه روضُ نمَاءِ ... وبكل خدٍّ منه جدولُ ماءِ ووجه المشرق الجمال، يصف ما فيه من أنواع الكمال. وقد عشق الأدب وزهرة حسنه في أول ما انفتقت عنها الكمامة، فما ناهز العشرين إلا وتسامت لوائح فكره من أن تساجلها الغمامة. فهنالك ما تشاء من نوادر مرتصفة، وآثار بأحسن القول متصفة إن خط فنقش العيد، على معاصم الحسان الغيد. وإن لفظ فجوهر العقود، وعصير الخمر من العنقود. إلا أنه لم تلمحه النقل، حتى اختار الملأ الأعلى فانتقل. فقامت النواعي يند بن بدرا في أول كماله خسف، ويبكين غصناً في ابتداء نضرته قصف. فحيَّتْ تُرابا ضَمَّه سُحْبُ رحمةٍ ... ليخْضلَّ روضٌ جسُمه فيه موضعُ فمما اخترته من شعره قوله: أفْديه ظبياً بالشراب مُولَّعاً ... يترشَّف الأقْداحَ وهْو الأكْيسُ فكأنه البدرُ المنير إذا بدَا ... من نُور طْلعته أضاء المجلسُ وقوله مضمنا: بالله سَلْ طَرْفَيِ السهرانَ هل هجَعا ... وما به الوجدُ والتْبريح قد صنَعَا قد حدَّث الناسُ عن مُضنَى الهوى دَنِفاً ... وما أصابُوا ولكن شنَّعوا شَنَعَا يا ابنَ الكراِم ألا تدنْو فتبْصرَ ما ... قد حدَّثوك فما راءٍ كمن سمِعاَ

القاضي محب الدين

هذا البيت مما أكثر تضمينه قديما وحديثا، ولا أدري لمن هو، وفيه عكس التشبيه: إذ ليس السامع أرقى حالا من الرائي، وبه يتم غرض الشاعر الذي استدل لأجله. ومن شعره قوله: زار وَهْنا مُرنَّحَ الأعْطافِ ... بعد أن كان مائلاً للْخلافِ كم على صُدْغِه ورَاٍح لَماهُ ... رُحْتُ سكرانَ سالِفٍ وسُلافِ صَدَّ ظُلما ولم يكن ليَ ذنْبٌ ... غيرُ دمعٍ أذاع ما هو خافِ أيها العاذِل الجَهولُ تأمَّلْ ... في مُحيَّاه ثم قُلْ بخِلافِ ومما رأيته منسوبا إليه، ولا أتحققه: أُنادي إذا نام الهَجِيع تأسُّفاً ... وقلبيَ من بين الضلوعِ كَلِيمُ هنيئاً لطَرْفٍ فيك لا يعرِف الكرَى ... وتَبّاً لقلبٍ ليس فيك يَهِيمُ ومن رباعياته قوله: إن جُزْتَ بحيِّ مُنْيتي حيِّيهِ ... واُخْبِرْهُ من المحبِّ ما يُرْضيهِ إن زار فقد حَيِيتُ في زَوْرِته ... أو صَدَّ فإن مُهْجتِي تَفْدِيهِ بيت المحبي بيت أبي وجدي، ومنبت عرق محتدى ومجدي. ارتضعت دره واغتذيت، وإلى فضله انتسبت واعتزيت. والمجد ما افتخرت به العرب من القدم. وإنِّي من العرب الأقْدمين ... وقد مات من قبْل خَلْقِي الكَرَمْ وفي كرَم العِرْق بالمَنْبِت الطيِّب، عَوْن على أثْمار تروّتْ بالعارض الصيب. فأنا إذا افتخرت هزتني أريحية الطرب، ونافست بآباء تملكني عند ذكرهم حمية العرب. أولئك آبائي فجْئني بمثلِهمْ ... إذا جمعتْنا يا جريرُ المَجامِعُ فأول من سكن منهم الشام، وشام من بارق إقبالها ما شام: القاضي محب الدين فضاهى بغزارة علومه أنهارها، وأخجل بمنثوره ومنظومه أزهارها. بماذا أصفه وأحليه، وأي منقبة من الجلالة أوليه وأطراف القلم بنعوته لا تحيط، حتى ينزح بمناقير العصافير البحر المحيط. إمام أئمة الفنون، المستخرج من بحار البلاغة درها المكنون. فكان بالشام علمها الذي يهتدي به المهتدى، ومقتفاها الذي يقتدي به المقتدى. فتدانت به القلوب المتباعدة، وتلاقت الآمال المتواعدة. فما ولدت أرحام الأرض من حفال الأزهار والنبات، التي أرضعتها الخضراء بدر أخلاف الأمطار وهي في حجر الصبا وحضانة النسمات. ألطف من شمائله التي عطرت أردان الصبا، وأعادت للقلب نشوة الصبا فصبا. ولم يزل يحلى الليالي العواطل، وتدين لسقيه السحب الهواطل. ويبدع في آثاره صدورا وأعجازا، ويطلع رسائله مملوءةً بلاغة وإعجازا. حتى رداه الردى، وعداه الحمام من ذلك المدى. فأنار الله مثواه، وجعل الجنة مأواه. فخلفه ثلاثة فتيان ألف المجد بينهم، فإن قلت أين الحسن فانظر أيهم. فالأوسط من مرض الشعر في عافية، لكنه قعد على طريق القافية. وأما الكبير، وهو: عبد اللطيف فعظيم الأرومة، ورونق المزية المرومة. أنبت خطيها وشيجه، وقوم أغصانها تخريجه. يفترع الهضاب ببعد همة، ويصيب الأغراض بمسدد سهمه. أصيل الرأي والحجزم، مليُّ التدبير والعزم. ضاعف الله لهة نعما يتقبلها، ما زال يوفى على ماضيها مستقبلها. بهمة ترى الدنيا هبات مقسومة، ونقطة من نقط الدائرة موهومة. وفكرٍ يغرف منبحر، وعنده يصغر عمرو بن بحر. فوصفه واسع المجال، ومثله قليلٌ في الرجال. أسس وبنى، وعطف أعنة المدح وثنى. وله أشعار كما اتسقت اللآلي، وسفرت وجوه حسان عن ضوئها المتلالي. أتيت منهال بما تكتب بدائعه على الأحداق، وتتنافس كلمه الأطواق في الأعناق. فمنه قوله من قصيدة مستهلها: هي الدار حيَّ عهدَها مدمعِي الجارِي ... عفَتْ غير سُحْمٍ ماثلاتٍ وأحْجارِ رسومٌ مَحاها كلُّ سافٍ وهاطلٍ ... فهُنَّ كجسمي أو غوامضِ أسرارِي أقمْنا حَيارَي سائرين فلم نجدْ ... مُجِيباً سوى دمعٍ مع البَيْنِ مِدْرارِ ولا عجبٌ لو أصبح الدمعُ حائراً ... كقلبِك في تلك المعاهد يا جارِي معاهدُ لا أدري أمِن طِيبِ تُربْها ... نسيمُ الصبَّاحيَّتْ أم العنْبَرُ الدَّارِي

وقفْنا بها حتى لِطُول وُقوفنا ... تخيَّلتُ أنَّا قد خُلِقْنا من الدَّارِ أذَلْنا مَصُونات الدموع برَبْعها ... ولمَّا نَجِدْ من سَكْبنا الدمعَ من زَارِ خلَتْ بعد ما كانت مَناخاً لراكبٍ ... ومَلعَبَ أتْرابٍ ومَجْمعَ سُمَّارِ ومَرْتعَ غزْلانٍ ترى الصِّيد صَيْدَها ... فقُل في غزالٍ يْصرعُ الأسَدَ الضارِي وعصرِ تَصاب قد فُجعتُ بفَقْدِه ... وماضي شبابٍ رحتُ من حَلْيِه عارِي لِئن قصُرتْ أيامُه فلَشدّ ما ... تولَّت وأبْقت طولَ بَثِّ وتَذْكارِ ألا في أمانِ الله عصرٌ لفَقْدِه ... من العيش والَّلذاتِ قلَّمتُ أظفْارِي وقلتُ لِداعِي الغيِّ نَكِّبْ فطالَما ... لغير رِضَى الرحمن أشْغلتُ أفكارِي وقوله، من قصيدة أخرى، يمتدح بها أستاذه محمد بن محمد بن إلياس، المعروف بابن جوي، مفتي السلطنة: عوَّضتَ معروفاً عن الياَسِ ... يا خادماً باب ابن إلْياِس فاصْغَ لما أشرحُ من حالةٍ ... أسمُو بها ما بين أجناسِي خدمتُ مفتى العصر وهْو الحَيَا ... فلم يدَع بِرِّى وإيناسِي وصرتُ في خدمتِه ناعماً ... في نعمةٍ تُسدَى بلا باِس لا اعرف الهمَّ ولا أشتِكي ... خَطْباُ بَلَى قلبي بوَسْواِس فسَيْبُه سيلٌ إذا رُمتَه ... ومجدُه كالشامخ الراسِي إن كسَر الدهرُ فؤادَ امْرئٍ ... تراه بالجَبْرِ هو الآسِي إن رُمْتَ تدْري بالنَّدَى سَحَّةُ ... فصَوْبُه مَعْ مَرِّ أنفاسِي أما ترى رِقَّةَ مدْحي له ... تُغْنيك عن دَنٍّ وعن طاِس قد أمر الفتحُ بأمرِ عُلًى ... أجبْتُه طوعاً على راسِي قل لبنِي الدنيَا ألا هكذا ... فليصنْعِ الناسُ مع الناِس البيت الأخير مضمن، من ثلاثة أبيات للفتح بن أبي حصينة. ولها قصة، وذلك ما ذكر أنه امتدح نصر بن صالح بحلب، فقال له: تمن. فقال له: أتمنى أن أكون أميراً بحلب. فجعله أميراً، وخوطب بالأمير وقربه نصر، وصار يحضر في مجلسه في جمل الأمراء. ثم وهبه أرضاً بحلب، قبلي حمام الواساني، فعمرها دارا، وزخرفها، وقرنصها، وأتم بناءها، وكمل زخارفها، ونقش على دائر الدرابزين قوله: دارٌ بنيْناها وعشْنا بها ... في نعمةٍ من آلِ مِرْداسِ قومٌ مَحَوْا بُؤْسي ولم يتركوا ... علىَّ للأيام من باِس قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليصْنع الناسُ مع الناسِ فلما انتهى العمل بالدار عمل دعوة وأحضر نصر بن صالح. فما أكل الطعام، ورأى الدار، وحسنها، وحسن بنائها ونقوشها، وقرأ الأبيات؛ فقال: يا أمير المؤنين، كم خسرت على هذه؟ فقال: والله يا مولانا ما للملوك علم، بل هذا الرجل ولى عمارتها. فلما حضر المعمار، قال له: كم لحقكم غرامة على هذا البناء؟ فقال له المعمار: غرمنا عليها ألفي دينار مصرية. فأحضر من ساعته ألفي دينار مصرية، وثوب أطلس، وعمامةً مذهبةً، وحصاناً أبلق، بطوق ذهب، وسرج ذهب، ودفع ذلك إلى الأمير الفتح، وقال له: قُلْ لبني الدنيا ألا هكذا ... فليصْنع الناس مع الناس وقد ضمن هذا البيت القاضي شهاب الدين بن حجر، في مدح البدر الدماميني، فأحسن جدا حيث قال: نسيتُ أن أمدح بدرَ العُلَى ... فلم يدعْ بِرِّى وإيناسِي قُل لبني الدنيا ألا هكذا ... فلْيصنعِ الناسُ مع الناسِ وله يصف منتزها في الروم، بالقرب من أق بابا: حللت بالرُّوم دَوْحا هاج أشْجاني ... حَنَى علىَّ بخيْراتٍ وإحسانِ حوَى مع الأُنْس ما يُسلِى اللبيبَ به ... عن ادِّكارِ شَآمٍ أو خُراسانِ مَجامرُ الزَّهر في أرجائه نفَحْت ... والوُرْق قد صدَحتْ فيه بأفْنانِ

أخوه محب الله

أشجارُه بسَقتْ أغصانُه ات؟ َّسقتْ ... خِيامَ ظِلٍّ ولكن ذاتُ أفْنانِ والسَّرْوُ تخْتال في أزْهَى ملابسها ... كأنها الغِيدُ في قَدٍّ ومَيلانِ ُتمِليها الريحُ إذْ تثَنْى معاَطَفها ... فتنهبُ الُّلبَّ من أحشاءِ وَلْهانِ وقد رأى بَصَرِى من حسنِ رَوْنقِه ... أضْعافَ ما وصَفُوا في شِعب بَوَّانِ فدَام يسْقيه في الأسْحار فَيْضُ نَدَى ... وصَوْبُ غيثٍ غزيرِ الهطْلِ هَتَّانِ ؟ أخوه محب الله هذا أصغرهم الذي أنار الحلك، والسعد الأكبر بين كواكب هذا الفلك. وهو جدي الذي وصل خيره إلي، وفرض الله تعالى حقه على. فأنا القائم بآثاره، وأحمد الله على ما خصني به من إيثاره. صاحب النسب الوضاح، المتقلد تلك المفاخر والأوضاح. بنور وجهه على خيط الظلام بخيطه، ومحاسنٍ مجدٍ بهرن بما كسينه من حبر المديح وريطه. أهله الله لعظيم ما استوفاه، وهيأ له الاستقلال بما استكفاه. فأطلق عنان الاعتنا، وتفنن في غرائب الاقتنا. فلم تضق له ساحة، ولا قصرت له راحة. والمجد يرشفه رضابه، والشرف يرقيه هضابه. في حوزة محوطة، وسعادة بالأماني منوطة. وبه الكفاية في الخطب إذا عم، والملم إذا ألم. إلا أنه لم تطل مدته، ولم تتوسع في متصرفاتها عدته. فقبض في سن الكهولة، واسوحشت لفقده المنازل المأهولة. فالله يحله في فسيح الرضوان ورحبه، ويجعل الرحمات المتواليات من حزبه وصحبه. وله نظم أثير، ودرٌ نثير. أثبت منها ما أحكم نسقاً ورصفا، وتناهى في الحسن تحليةً ووصفا. فمن ذلك وقله: أفْديك يا مَن حاز قلبي ... مُستأثراً بجميعِ لُبِّي قُل لي بحقِّ أبيك مَن ... أغْراك في تَلَفِي وسَلْبِي هل كان من ذنبٍ فإنِّي ... تائبٌ منه لربِّي أو عن دَلالٍ فالذي ... تخْتارُه حظُّ المحبِّ وله: في سبيلِ الغرامِ قلبي مُعَنىَّ ... أثْخنَتْه نُجْلُ العيونِ جِراحَا قيَّدتْه فليس يرجو خَلاصاً ... مِن هواها ولا يرُوم برَاحَا يشْتكى حُرْقة التَّباعُد حتى ... علَّم الوُرْق في الرِّياض النُّواحَا وإذا ما أراد كَتْمَ هَواه ... زادَه دَمْعُ ناظِريْه افْتضاحَا وقوله: تظنُّ العِدى والظَّنُّ مُرْدٍ ومتْلفُ ... بأَنّيَ أخْشَى من عظيمٍ وأفْرَقُ وهيهات بل عفْو وحِلم وعفَّةٌ ... وما كنْت من شيءٍ سوى العارِ أُشفِقُ ويبْغون أن أُعْطِي قِياداً ودونه ... تسيلُ دماءٌ من رجال وتُهْرَقُ وكتب لبعض أحبابه: لو وصفت أشواقي لأعربت عن حصر، ماء البيان في إحصائه حصر، وطول الباع في البراعة عند استقصائه قصر. ولتكلفت ما ليس في الوسع والطاقة، ولاعترفت مع الوجد والغنى في البلاغة بالعدم والفاقة. ولأقررت مع القدرة بالعجز، ولنبا غرب عضبي وإن كان لدن المهز. ولست أشرح وجداً لا يشرح، وحنيناً مبرحاً لا يبرح. ولا أصف دمعا يكف ولا يقف، ولا مقلةً تجافت عن الكرى ولا تجف. ولا أعرب عن شوق بنار الصبابة يتلهب، وقلبٍ على فراش الضنى يتقلب. وكيف لي بعد ما لا يعد، وقد غلب الوجد. وغاض الجلد، وقاض الكمد. وخلب الخلب وسلب، وتغلب الوجد على القلب فغلب. وجفا الجفن الكرى فما كرّ، وخانه الصبر فما ثبت ولا استقرّ. ولو أغرقت في البيان لخضت في غماره، وغرقت في تياره، وعثرت في مضماره وكبوت ونبوت، وضللت وزللت. لكني حين عجزت أوجزت، ولما قصرت اقتصرت. فأضربت عن ضروبه، وأعرضت عن عروضه. واكتفيت عن ذكر كله، بإبداء بعضه. وأشفقت على الكتاب من الاحتراق، إذا درجته على نيران الأشواق، وطويته على لواقح الفراق. محمد بن عبد اللطيف الشهير بالخلوتي هذا الفرع نتيجة ذلك الأصل، فلهذا هو في حدة الذكاء أمضى من النصل. تحقق بالعلم الحديث والقديم، وتصرف في طريقه الواضح القويم. وزهد زهد ابن أدهم، ورغب عن أن يقبض على درهم.

فتنازعته الحظوة بين الأماني والأمان، ولم تدع له أيامه مقترحاً على الزمان. وكان له أخ أكبر منه، إلا أنه في ناحية، ولا أرى ذاك إلا الشمس المنكسفة وهذا الشمس الضاحية. وله في المحاضرة محاسن غلبت على الأقمار التمائم، فهي زهر لها المحاسن بروج وزهرات لها القلوب كمائم. فأين حل فالمحل به أنيس، وهو إذا فارقه عليه حبيس. وله شعر أزهى من الزهر، وأبهى من الحباب على النهر. فمنه قوله: ذا ربعُ دَعْدٍ بالأجارِع فارْبَعِ ... إن كنت مَن يرعى حقوقَ الأرْبُعِ لي مقلةٌ تسقِى الطلولَ ومَسْمَعٌ ... يدعو حمائمَهنَّ قُولِي أسمعِ فأنا المُجيبُ لهنَّ عن شجْنٍ وهُنَّ ... سَجعْن عن طربٍ وفَرْطِ توجُّعِ ما الصادحُ الجَذْلانُ مثل النَّادبِ الْ ... وَلْهانِ ذا دَاعٍ وذلك مُدَّعِ ولقد حبسْتُ على الديار ركائبي ... والركبُ بين مُودِّعٍ ومُودَّعِ وكلاهما يرضى بأن يقْضِى أسىً ... ويكونَ غيرَ مُشيِّع ومُشيَّعِ فلكم جَرعْنا الوجدَ مُرّاً طعُمه ... لما تَزايلْنا غداةَ الأجْرعِ هي وقفةٌ في الدار لا بَلَّتْ صَدَى ... قلبي ولا أرقْيتُ فيها أدْمُعِي ماذا الذي يُجْديك نَدْبُ معاهدٍ ... أسَدتْ بها هُوج الرياح الأرْبَعِ سكانُها نقضوا العهودَ وضيَّعوا ... يا حافظاً للعهد غيرَ مُضيِّعِ فاشْمَخْ بأنْفِكَ عن أُناسٍ خلَّفوا ... ما أوْعدوك وحبلَ وُدِّهمُ دعِ واشكرْ لأغْربةٍ نعَبْن بِبَيْنهِم ... من أسودٍ يدعو الزَّيالَ وأبْقعِ واصدِف عن البرْق اللَّمُوع بأرضهمْ ... وارقُدْ قريرَ الجَفْنِ غيرَ مُروَّعِ من شاقه ريحُ الشَّمالِ فإنني ... لم أُعْطه وجهاً ولم أتطلَّعِ لاساعَد الرحمنُ قلباً ذاكراً ... أيامَ مَن خان العهودَ ولا رُعِى الناسُ بين مُجاهرٍ لك في الأذى ... ومُوارِبٍ تْغلى ضمائُره فَعِ أغفلتَ رأيَهم ورُمْتَ رشادَهم ... أنت الملومُ فذُقْ أذاهم واجْرَعِ قابلتَ جهلَهم بحِلْمٍ واسعٍ ... قل للفَوادحِ عند ذلك توسَّعِي الفَتْكُ عينُ الرأيِ في تدْبيرهم ... لو لم تكنْ لله لم تتورَّعِ خُلِقوا من الشرِّ الصريحِ وصُوِّرا ... شَرَّ الورى سكنوا بشرِّ الموضعِ ما للزمانِ جرى على عاداتِه ... في رِفعةِ الأدْنى وخفضِ الأرْفعِ وبنُوه قد جُبِلوا على أفعالِه ... فالحر بْينهم بحالٍ أشنعِ دهرٌ قضى أن لا يطيبَ لماجدٍ ... قُل للَّيالي ما بدا لكِ فاصْنعِي فاعْرِض عن الدهرِ الخؤونِ وأهلِه ... وافْرَغْ إلى ربِّ البرايا وارْجعِ وقوله من أخرى، كتب بها إلى محمد الكريمي: نراجع إلى الفضلِ أهلَ الكلامْ ... ونأخذُ عن كلِّ حَبْرٍ هُمامْ ونسألُ مِن ساحِة الأكرمين ... ونخضعُ للمجد لا للأنامْ فنتْبع من رفعتْه النفوسُ ... ونترُك من قدَّمتْه اللئامْ فأختارُ طوراً زوايا الخمولِ ... وطوراً أحبُّ الأمورَ العظامْ تراني على كلِّ حالٍ أُرَى ... أسيَر الهوى ومليكَ الغرامْ وما جرعَةُ الحب إلا المَنونُ ... وما لوعةُ الهجرِ إلا الهُيامْ وما راحةُ العشقِ إلا العَنا ... ولا صحةُ الصَّبِّ إلا السَّقامْ ولي حَسرةٌ بعد أخرى لها ... زفيرٌ ولي له انْحسامْ يُذيب الحشا ويُثيِر الشُّجونَ ... بنارٍ غدا وَقْدُها كالضِّرامْ وهل للهوى غيرُ مَن ذاقه ... فَنشكْو له مُرّ سَمْع المَلامْ

السيد أبو الأمداد فضل الله بن محب الله

ولاكلُّ مَن غاص بحرَ الهوى ... حوَى مِن جواهِره باغْتنامْ ولاكلُّ مَن قد سما للعلومِ ... يقرِّر مُشكِلَها عن إمامْ فذاك هو الن؟ َّدْبُ بدرُ العلومِ ... ولم يزل نورُه في التَّمامْ كخِلِّى الكَرِيمىِّ مَن فضلُه ... تلفَّعه يافعاً باهْتمامْ مُهذَّبُ أخلاقِ أهل الوفا ... حفيظٌ لعهدِ التقى والذِّمامْ ؟ السيد أبو الأمداد فضل الله بن محب الله والدي الذي هو سبب حياتي الفانية، تتبعها حياتي الباقية. فإني من صلبه خرجت، وعليه تخرجت. ولا أعد من الفضل، ما كثر لدي أو قل، إلا منه ابتداؤه، وإليه انتهاؤه. وكنت أطوع له من قلمه لكلمه، وأوفق من بنانه لبيانه. ما ملت عن نهجه ولا تنحيت، من حين دبيت إلى حين التحيت. أرجو على يديه حسن التحلي، والاطلاع على أسرار التجلي. حتي أسعد في آخرتي ودنياي، وأفوز بالحسنى في مماتي ومحياي. وكان هو حريصاً على فائدة يلقيها على، وعائدة يجر نفعها إلىّ. حتى خصَّني بتعليم ما تفرد به من صنعة الإنشاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأنا فيما ذكرته واصف نفسي، وأما وصفه فمما لا يقوم باستيفائه يرسى ولا نقسى. إن قلت: فاضل، فقد ساواه في الفضل من سواه، أوقلت: ماجد، فقد شاركه في المجد من عداه، وهو تعداه. وأنا لا أرضى له إلا التوحد، ولا أقبل له إلا التفرد. فإنه من منذ وجد، إلى أن فقد. لم يزل ربيب نعمة، غذى حشمة. والجاه في زمن أبيه، يخشى من أنفته وتأبيه. والأمداد فضل الله، لأبي الأمداد فضل الله. وله عزمة تلين قسوة الدهر الأبي، ويتلى حديثها كما يتلى الحديث عن النبي. إلى بشر يترقرق ماؤه في غرته، وينفتق نور الشرف بين أسرته. وله كلماتٌ كحديث الصديق، أو عتيق الرحيق، يجمع لذة حلو الحديث إلى نشوة المر العتيق. بخطٍ ينطق من غير لسان، ويفصح من غير بيان. وشعرٌ إذا رأيته، رويته. ونثرٌ تحفظه، حين تلحظه. وله تآليف ضربت من الإجادة بسهم، وأقر لها أهل البلاغة من كل شهم. هي لعقد الفضل واسطة النظام، ولمطلع المجد بيت القصيد وحسن الختام. فمن شعره قوله، من قصيدة مطلعها: حديثُ غرامي في هواك صحيحُ ... وقلبي كأقْوال الوُشاة جريحُ وشوقي إلى لُقياك شوقُ حمامةٍ ... لها فوق أفْنان الغصون صُدوحُ فتندُبُ أطْلالا لها ومعاهداً ... وتظهِر أشْجانا لها وتصيحُ فلا مؤنسٌ في الدار لي غير صوتها ... إذا هاج وَجْدي والدموع تسيحُ كلانا غريبٌ يشْتكى الهجرَ والنَّوَى ... فيبكي على إلفٍ له وينُوحُ فقلبي وجَفْني ذا يذوبُ صَبابةً ... حَزِيناً وهذا بالدموع قَرِيحُ ومُهجةِ صَبٍّ مُستَهامٍ مُتيَّمٍ ... بها صار من داء الغرامِ قُروحُ أهِيمُ غراماً حين أذكُر جِلَّقاً ... ودمعي بسفْح القاسِيُونِ سَفوحُ ولو كان طَرْفي في يدَىَّ عِنانُه ... سعيْتُ ولكن مُناى جَمُوحُ وقوله من أخرى، مستهلها: رعى اللهُ أيام الشَّبِيبة من عَصْرِ ... وهزَّ نسيمُ العيش رَيْحانةَ العمرِ وحّيَّ بِقاعاً تُنبت الحسنَ تُرْبُها ... وتُبْدِي لنا الأقمارَ من فلَك الخِدْرِ حَلْلتُ بها والدهرُ أبيضُ مُقِبلٌ ... وعَيْشِى مقيم في خمائله الخُضْرِ تُحيط بَي الغِيدُ الحسانُ أوانِساً ... كما اشْتبكَتْ زُهْر النجوكم على البدرِ هذا نقل منق قول ابن خفاجة في النسيب: غَزاليَّةُ الألْحاظِ رِيميَّةُ الطُّلَى ... مُداميَّةُ الألْمَى حَبابَّيةُ الثغرِ تَرنَّح في موشِيَّةٍ ذهبَّيةٍ ... كم اشتبكتْ زُهْرُ النجومِ على البدْرِ وفي المقامة الحلوانية: وقد أحاطت به أخلاط الزمر، وإحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر. وله من أخرى مستهلها: طيفٌ يُمِّثله الغرامُ بفكْرِه ... ورَجاً يَحارُ بطَيِّه وبنَشْرِهِ منها في الغزل:

وبمُهْجتي نَشْوانُ من خمرِ الصِّبا ... لعبتْ بنا قَهْراً سُلافةُ خمْرِهِ يرْنُو إلىَّ بساحرٍ من طَرْفِهِ ... عنه روَى هاروتُ قصةَ سِحْرِهِ بدرٌ تكامَل في المحاسِن خَلْقُهُ ... لمَّا غدا منه المَحاقُ بخَصْرِهِ هذا معنى أرق من خصر مليح، وفيه مع هذه المقابلة تنشيط وتمليح. وأظنه رأى بيت المطَّوِّعيِّ فاستجاد معناه، وشيد بوصف الكمال مغناه. وبيت المطَّوِّعيِّ: قضيبٌ ولكنْ مَبْسمُ النَّورِ ثغرُه ... وبدرٌ ولكن المَحاقَ بخَصْرِهِ ولقد مر بي أبيات في هذا المعنى لابن مخلد، لعبت بي لَعِبَ الشمول، بحُرِّ العقول. وهي: لعبتْ به نُجْلُ المَحاجِرْ ... لَعِبَ الخناجرِ بالحَناجِرْ بأبي رواقدُ في سُوَيْ ... داءِ القلوبِ وفي النَّواظرْ هُنَّ البدورُ ولا مَحا ... قَ لهُنَّ إلا في الخواطِرْ تتمة الأبيات من القصيدة: قد بات يسْقينا مُدامة ثَغْرِهِ ... وتُضيءُ مجلَسنا لآلئُ دُرِّهِ طَرْفي بجنَّة حسنِه مُتنعِّمٌ ... والقلبُ في نارِ الجحيم بهَجْرِهِ قد لامَني فيه العذولُ جَهالةً ... لم يَدْرِ ما صَحْوُ الهوى من سُكْرِهِ بَحْرُ المحبَّة ليس يبلُغ غَوْرَه ... لم يُلْفِ ساحلَ بَرِّه من بحرِهِ يا قلبُ رِفْقاً كم تُحمِّلني الأسى ... أوَ مَا ترى جَوْرَ الزمانِ بِحُرِّهِ مَهْلا لقد حمَّلتني عِبْئاً لقد ... أعْيَى الجبالَ الشُّمَّ شَمَّةُ نَزْرِهِ وألِفْتُ صَرْفَ الدهر حتى إنه ... سيِاَّنِ عندي عُسْره مع يُسْرِهِ وما أحاسن محاسنه قوله: ومَصُونٍ عليه غَيْرةُ حُسْنٍ ... حجَبْته عن أعْيُن الأوهامِ حبُّه في القلوبِ سِرٌّ خَفِيٌّ ... كخَفاءِ الأرْواحِ في الأجسامِ ملِكٌ لم يدَعْ من الحسنِ شَيَّا ... لِسواهُ بَراه في الأحْلامِ وقوله: ألا يابنَ الأُلَى سادُوا أراك تفوقُهمْ ... وتبلغُ إن شاء الله الإلهُ العُلَى حَتْمَا فأنت هلالٌ والهلالُ نمُوُّه ... دليلٌ له أن يْغتدِى قمراً تِمَّا هذا من قول الآخر: إن الهلالَ إذا رأيتَ نُمُوَّه ... أيْقْنتَ أن سيصيرُ بدراً كاملاَ قلت: عامة أهل الأدب وغيرهم أن نجاح الأمور وسعادتها، ونحوستها وخيبتها، بأوائلها. وفي أمثال العامة: " ليلة العيد من العصر ما تخفى ". " والليلة المضيَّه تبان من عشيَّة ". " واليوم المبارك من أوله يبين ". ويقولن: " لو أراد يسعدني أيش كان يقعدني ". كما قيل: إذا بلغ الفتى عشرين عاماً ... ولكم يفْخَر فليس له افْتخارُ وقال: وإذا الفتى مرَّتْ له في عمرِه ... خمسونُ عاماً للتُّقى لا يجْنحُ عكَفتْ عليه المُخْزِياتُ فما لَهُ ... مُتحوَّلٌ عنها ولا مُتزحْزَحُ وإذا رآى إبْليسُ غُرَّةَ وجهِه ... حَيَّى وقال فَدَيْتُ مَن لا يُفِلحُ والمنجمون على خلافه، فإنهم يقولون: هذا بحسب الطالع، فقد يكون في أول العمر، وقد يكون في أوسطه، وفي آخره. وكذا في الشرع، قد يولد المرء مؤمناً أو كافراً في أول أمره، وفي أوسطه، وآخره، ثم يعرض له خلافه. وما ذهبوا إليه أوهام. انتهى باختصار. ومن كتاب اللآلي قال الشهاب: قلت: الواهم ابن أخت خالته، فإن الأول في وادٍ وهذا في آخر، بعيد عنه بمراحل، لأن الجمهور أرادوا أن الله خلق في كل أحدٍ استعداداً للسعد وغيره، تظهر علاماته عليه في أول أمره. كما قال: في المهدِ ينطِق عن سعادِة جَدِّه ... أثرُ النَّجابِة ساطعُ البُرهانِ وأما برُوزه من القوَّة، فقد يُسرِع وقد يُبْطِى، كما لا يخفى. وله: أنا ما بين زُمْرِة الأقْرانِ ... خَصَّ حَظّي الزمانُ باِلحرْمانِ فالعُلالاتُ لي سحائبُ يبْدُو ... بَرْقُها خُلَّباً مكانَ الأمانِي هذا من قول بعضهم: برقٌ خلَّب، وعلالات للنفس وخدعٌ لها.

قال كعب: فلا يُغرَّنْكَ ما منَّتْ وما وعدتْ ... إن الأمانِيَّ والأحلامَ تضْليلُ وقد استحسنوا قول بعض الحكماء: الأماني أحلام المستيقظ. ونظمه القاضي محمد بن هبة الله الحسيني الأندلسي، فقال: كم ضيَّعتْ منك المُنَى حاصلاً ... كان من الواجبِ أن يُحفْظاَ فإن تعلَّلتَ بأطْماعِها ... فإنَّما تحلُم مُستْيِقظَا ومن النوادر: أحاديثُ نفسٍ كاذباتٌ وما لَها ... فوائدُ إلا أن تسُرَّ الفتى العانِي وأكثرُ ما تُمْليه يظهُر ضِدُّه ... فكلُّ أمانِي القلبِ أحْلامُ يَقْظانِ وأحسن منه: إنما هذه الحياةُ مَنامٌ ... والأمانيُّ حُلمٌ بها المرءُ صَبُّ فلهذا تأْني على العَكْسِ ممَّا ... كرِه الناسُ دائماً وأحَبُّوا وشعره كثير مجموع في ديوان، والطرس يستدل على ما فيه من العنوان. ومن منشآته، التي أعدها من بدائع مقولاته. ما كتبه على لسان فرسٍ إلى مفتٍ بالروم، وجرى فيها على طريقة الوهراني، في رقعته التي كتبها على لسان بغلته، وعلَّقها في عنقها، وسيبها في دار الأمير عز الدين موسك. فأما رقعة أبي، رحمه الله تعالى، فهي: الهمام المقدام في حلبة الرهان، والإمام المصلى به يقتدى المجلى والثاني في ميدان البيان. غرة جبهة دهم الليالي، من شهب أيامه ربيع الفخار والمعالي. جعل الله مجمل سعادته غنياً عن الإفصاح، وجياد أوصافه الحسنة متباريةً في ميدان المداح. بجاه سيدنا محمد الذي علا على البراق، وتشرفت به الآفاق. أنهى إلى عالي حضرته، بعد تقبيل سامي سدته. أنه لا يخفى ما ورد على النبي النبيه، أهدى الله إليه صلاته وسلامه،: " الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ". وإنني تلك الفرس الأصيلة الطرفين، والحجر العريقة الجانبين. فأبى من العتاق المعنقية، وأمي من الصَّافنات الجياد السقلاوية. نشأت بأراضي الشام، وشممت ذلك العرار والبشام. وقد كان شرفني المولى بالرُّكوب، وأملت منه المطلوب. وفزت بالمراد، وسبقت الجياد. وتقدمت الحياشية أمامي، وحملت الغاشية قدامي. ومشيت بالأدب والوقار، ولم يصدر مني عثار ولا نفار. وقد طرق سمعي أن المولى صار فارس الميدان، وسابق يوم الرهان. وامتطي الصدارة صهوة الإقبال، وسحب له جنيب العز والإجلال. وملك زمام الأمور، وشد حزام العزم في مصالح الجمهور. فحصل لي كمال السرور والنشاط، وكدت أن أفك نفسي من الرباط. وأجد في المسير، إلى تهنئة جنابة الخطير. لكن أقعدتني الأيام عن ذلك، ومنعتني عن سلوك هذه المسالك. لما حل بي من مواصلة الصيام، والركوع والسجود عند القيام. وتقدمني في المسير الرفيق، الذي اجتمعت أنا وإياه في طريق. إن العوائقَ عُقْنَ عنك ركائبي ... فلهُنَّ من طربٍ إليك هَدِيلُ وكان بلغني أنه ركض في ميدان حضرتك بعض اللئام، ووضع قديم قوله حيث شاء من الملام. ونسبني إلى البطر والجموح، وسلوك طريقٍ من قلة الأدب مطروح. وأن البحر على تعكر، والورد الصافي تكدر. فوالله ليس لما قيل، أصلٌ أصيل. وكنت أود أن أتوصل إلى بره، وأكرع من فائض بحره. وأورد موارد إحسانه، وأفوز بلطفه وامتنانه. فلا خير في حبٍ لا يحمل أقذاؤه، ولا يشرب على الكدر ماؤه. وقد علم أن البهائم لا تعلم شعر أبي تمام، ولا تعرف شعر أبي الطيب الهمام. ولا تطرب الخيل، إلا بسماع الكيل. والعلاف، لا يعرف مسائل الخلاف. وصاحبي وإن كان هو الأصيل العريق، كلنه مقتر للضيف في العليق. كثير الشعر قليل الشعير، ينشد بلسان التقصير: ومالي صنعةٌ إلا القوافي ... وشعرٌ لا يباع ولا يعار فالشعير أبعد من الشعرى العبور، ولا وصول إليه ولا عبور. فالبطن ضامر لا يشد عليه حزام، والفم خالٍ ليس فيه إلا اللجام. وقد بليت بعد الهزال بالخرس، وأصبحت كما قيل: الجل خيرٌ من الفرس. وغيري ممن ليس له أصل ولا فصل، ولا أدب عنده ولا فضل. يرتع في رياض الإنعام، ويجهل أنه من الأنعام. حمارٌ يسيَّبُ في روضةٍ ... وطِرْفٌ بلا عَلَفٍ يُربَطُ

فإن أنْعَم المولى بحَلِّ وَثاقي من يد الحِرمان، وأحلَّني من ربيع فضلهِ في رَبْوة الإحسان. فأكرُم الخيل أشدُّها حَنِيناً إلى وطنه، وأعتق الإبل أكثرها نزاعا غلى عطنه. فليهتز فرص الاقتدار، ويغتنم التجاوز عن عثرات الأحرار. فالدابة تضرب على النفار، لا على العثار. فليس لي سواه أعول عليه، وأرفع قصتي إليه. وهيْهات أن يُثْنَى إلى غيرِ بابِه ... عِنانُ المطايا أو يُشَدَّ حِزامُ وهذه رقعة الوهرانيّ، وهي من لطائف نزعاته، ومحاسن مخترعاته: المملوكة ريحانة بغلة الوهرانيّ، تقبل الأرض بين يدي الأمير عز الدين، حسام أمير المؤمنين. نجاه الله من حر السعير، وعظم بداره قوافل العير. ورزقه من التِّبن والشَّعير، وسق مائة ألف بعير. واستجاب فيه أدعية الجمّ الغفير، ومن الخيل والبغال والحمير. وتنهى إليه ما تقاسيه من مواصلة الصيام، والتعب في الليل والدوابُّ نيام. قد أشرفت مملوكته على التَّلف، وصاحبها لا يحمل الكلف، ولا يوقن بالخلف، ولا يقول بالعلف. وإنما يحلّ به البلاء العظيم، في وقت حاجتي إلى القضيم. والشَّعير في بيته مثل المسك والعبير، والأطريفل الكبير. أقلُّ في الأمانة من النصارى الأقباط، والعقل في رأس قاضي سنباط. فشعيره أبعد من الشِّعرى العبور، ولا وصول إليه ولا عبور. وقرطه أعزُّ من قرطي مارية، لا يخرجه صدقةً ولا هبةً ولا عارية. والتِّبن، أحبُّ إليه من الابن. والجلبَّان، أعز عنده من دهن البان. والقضيم، بمنزلة الدُّرِّ النَّظيم. والفصَّة، أجلُّ من سبائك الفضَّة. والفول، دونه ألف باب مقفول. وما يهون عليه يعلف الدوابّ، إلا بفنون الآداب، والفقه الُّلباب، والسؤال والجواب، وما عند الله من الثواب. ومن المعلوم أن الدوابَّ لا توصف بالحلوم، ولا تعيش بسماع العلوم. ولا تطرب إلى شعر أبي تمَّام، ولا تعرف الحارث بن همام. ولا سيما البغال، التي تستعمل في جميع الأشغال. مسكبة قصيل، أحب إليها من كتاب التَّحصيل. وقفَّة دريس، أشهى إليها من فقه محمد بن إدريس. ولو أكل البغل كتاب المقامات، لمات. ولم لم يجد كتاب الرَّضاع، لضاع. ولو قيل له: أنت هالك، لم يأكل موطأ مالك. وكذلك الجمل، لا يتغذَّى بشرح أبيات الجمل. ووقوفه في الكلا، أحبُّ إليه من شعر أبي العلا. وليس عنده طيِّب، شعر أبي الطيِّب. وأما الخيل، فلا تطرب إلا إلى استماع الكيل، وإن أكلت كتاب الذيل، ماتت بالنهار قبل الليل، والويل لها ثم الوبل. ولا تستغنى الأكاديش، عن أكل الحشيش، بكل ما في الحماسة من شعر أبي الخريش. وإذا أطعمت الحمار، شعر ابن عمَّار، حلَّ به الدمار. وأصبح منفوخاً كالطبل، على باب الإسطبل. وبعد هذا كله فقد راح صاحبها إلى العلاف، وعرض عليه مسائل الخلاف، وطلب من بيته عشر قفاف، فقام إلى رأسه بالخفاف. فخاطبه بالتقصير، وفسَّر له آية العير، وطلب منه قفَّة شعير، فحمل على عياله ألف بعير. فانصرف الشيخ منكسر القلب، مغتاظاً من الثَّلب، وهو أخسُّ من ابن بنت الكلب. فالتفت إلى المسكينة، وقد سلبه الغيظ ثوب السكينة. وقال لها: إن شئت أن تكدِّي فكدِّي، لاذقت شعيرة ما دمت عندي. فبقت المملوكة حائرة، لا قائمة ولا سائرة. فقال لها العلاف: لا تجزعي من خياله، ولا تلتفتي إلى سباله. ولا تنظري إلى نفقته، ولا يكن عندك أخسّ من عنفقته. هذا الأمير عز الدين، سيف المجاهدين. أندى من الغمام، وأمضى من الحسام، وأبهى من البدر ليلة التمام. لا يرد سائلاً، ولا يخيِّب آملاً. فلما سمعت المملوكة الكلام، جذبت اللجام، ورفست الغلام، وقطعت الزمام، وشققت الزِّحام، حتى طرحت خدها على الأقدام، ورأيك العالي والسلام. وله من رسالة كتبها إلى منصور الطبيب الغزواني، يشكو إليه علة لزمته، وبرداً وقع في ذلك العام، خارجاً عن معتاد الشام. أنا أصبحتُ لا أُطيق حَراكاً ... كيف أصبحت أنت يا منصورُ قد طالت العلَّة، وطابت العزلة. فليس في الحركة، هذا الآن بركة. والانقطاع، أربح متاع، والاجتماع جالب الصُّداع. والاختلاط، محرّك الأخلاط. والوحشة استنئناس، وأجمع للحواس. فهو زمان السكوت، وملازمة البيوت، وأوان القناعة بالقوت، وذلك قوت من لا يموت.

والحر حرٌ، وإن مسه الضر. فوطؤه خفيف، وضالته رغيف. لزوم البيت أروح في زمانٍ ... عدمنا فيه فائدة البروز فلا السلطان يرفع من محلى ... ولست على الرعية بالعزيز ولست بواجدٍ حراً كريماً ... أكون لديه في حرزٍ حريز. وإني لأشكو من تسحب هذا السحاب، وتسلط هذا الرَّباب. وام أر قط والله كالعام، الكثير الإنعام. الذي من تورط فيه غرق، ومن تنشط فيه عام. سحابٌ مجنون، يصم الآذان برعده، وبرقه يغشى العيون. وغمامٌ شديد الإيلام، كأن صوبه صوب ملام، أو عرق حمام. ومطرٌ كأفواه القرب، وصوت رعدٍ يميت الطرب. حتى كأن صوته صوت عذاب، أو سطوة ليوثٍ غضاب. أو أنه مهجور مرتاب، من تصرم أسباب وداد الأحباب. أو كأنه نعرة فيل، أو نفخة إسرافيل. أو شق السماء بشدةٍ فانشقت، " وأذنت لربها وحقت ". ولمع برقٌ خفاق جلاب، مشرق كالشمس إلا أنه شديد الاضطراب، سريع الاحتجاب، لمّاع، دفّاع، يختار دونه لمع السراب، ومنع الشراب. حتى قال قائلنا: ليت بذي الغمام جهام، وليت ذا البرق المتألق خلب وسيفه المسلول الصارم كهام. وليته كان كاذب المخيلة، وليت لقحة نوئه هذا شحيحةٌ بخيلة. ولم أر حال هذا السحاب الغيداق، إلا كحال مولهٍ مشتاق، شديد الأشواق. وكاف الآماق. مشتعل الزفرات، متقاطر العبرات. فسبحان من أرسل مدارا، وجعل القطار في هذه الأقطار بحارا. ألا يرى كيف من الله سبحانه بالوقوف، على السقوف. وبالثبوت، على البيوت. ولم يعلم هل هذا السحاب، أصبح يجود لسقياً رحمةٍ أم سقيا عذاب. وأما الثلوج فإنها شيبت نواصي الجبال، مع شدة الاحتمال، فما الظن بنواصي الرجال، مع تزاحم الأهوال، وتراكم الأثقال. اللهم إنا نستعيذ بك أن تقلب الأعيان، فتجعلها سبب الموتان، في الحيوان، أو أن تعيد الطوفان، في آخر الزمان، وبالله المستعان، وعليه التكلان. وأبق له عبدٌ وهو بالقاهرة، فكتب إلى دمشق، يخبر بإباقته: وأما ياقوت الممقوت، سوَّد الله وجهه، وعامله بالنكال أيما توجه. قد أبق في هذه الأيام، كما هو دأب جنس الخسيس الخبيث فما عليه ملام. واللومُ للحرِّ مقيمٌ رادعٌ ... والعبد لا يردعُه إلا العصَا ولما بلغنا ذهابه من اليم، تباشرنا بزوال الهم. وأنشدنا: إلى حيثُ ألْقَتْ رَحْلَها أمُّ قَشْعَم ولو طلب منا الإجازة أجزناه، والمكاتبة كاتبناه ودبرناه، وعن خدمتنا أبعدناه. ولو أدرناه تطلبناه، وبما يليق عاملناه. وإذا رأيتَ العبدَ يهرُب ثم لم ... يُطْلَب فمولى العبدِ منه هاربُ ولو لم يكن لي في هذه السَّفرة من الربح الذي ليس به خفا، إلا ذهاب هذه الغمة السوداء لكفي. وفي الحديث الشريف: " اطلبوا الخير عند حسان الوجوه "، ومن أمثالهم: " قبح اللكع ومن يرجوه ". وقد كنَّا قديماً نسمع، أن الخادم بمنزلة النَّعل يلبس ويخلع. والعبد لو كانت ذؤابة رأسه ذهبا، لكان رصاصةً رجلاه. ومن أبق عن الخدمة، فقد يعد بعده نعمة، وقربه نقمة. فقد يفر المهر من عليقه، ويطير الفراش إلى حريقه. فما كل شجرة تحلو لذائقها، ولا كل دار ترحب بطارقها. ومن أبق عن مولاها مغاضباً، وجانب إحسانه الذي لم يكن له مجانباً. يجد من مفارقة معاهد الإحسان، ما يجده من مفارقة معاهد الأوطان. ويكون ذنب عقابه فيه، وكم عبدٍ أبق من مواليه. وقد روى مرفوعا عن سيد الأمة: " أيما عبدٍ أبق فقد برئت منه الذمة ". وبالجملة فقد حصل لنا بذهابه غاية المسارّ، و: إذا ذهب الحمارُ بأم عمرٍو ... فلا رجعتْ ولا رجع الحمار وله يصف فتى: حسنه يملأ القلوب والصدور، وليس البدر إلا أن فيه حسنا تلاشت في دقائقه البدور. ريمٌ من الروم، خادم مخدوم. قد كساه الزمان ملابس جماله، ووهبه الأوان محاسن كماله. بديعُ جمالٍ كل ما زاد ناظرِي ... به نَظَراً زادتْ محاسُنه حسناَ جرى فيه ماء النعيم والهيف، وتحكم فيه تيه الحسن والصلف. باهٍ بقده، زاهٍ بوردى خده. ألصق بالقلب، من علائق الحب. كلَّما لاح وجُهه بمكانٍ ... كثُرتْ زحمةُ العيون عليهِ ذو قدٍ مياد ميال، بيدي المَلال والدَّلال.

يتمايل من خمر الصبا، تمايل الغصن إذا أمالته الصبا. ويتصرف مع القلوب، كتصرف السحاب مع الجنوب. فهو ألطف من نسيم الشمال، على أديم الماء الزلال. كأن حديثَه خُلَسُ التَّشاكِي ... مع الأحْباب أو قُبَلُ الوَداعِ قد حل بالشام، فازدهرت به ازدهار الخد بالوشام. وغردت أطيارها، وتمايلت طرباً أشجارها. وتدانت ولا تدانى المحبين، وتعانقت ولا تعانق العاشقين. وأحداق الحدائق باهت في رياض جماله، والأغصان تاهت في لين قده، واعتداله. أسفر فرأيت البدر طالعا من أطواقه، وأقبل بحلة كأنما صبغت من دم عشاقه. فالشمس طالعة من أزراره، والبدر من مشارق أنواره. له مبسم لو تبسم في الليل صير الظلام نهارا، ولو استعار الراح منه الحبب لقال: شغل الحلى أهله أن يعارا شكل ظهر في طريق الحسن بالبياض، وصحح حديثه الحسن أجفان المراض. أوقد ناري، وأمات اصطباري. وكم في الناس من حسَنٍ ولكن ... عليه لِشقْوتي وقع اخْتيارِي فكلف به بعض سكانها، وهام فيه بعض أعيانها. وقد تزايد فيه الغرام، ومن يعشق يلذ له الغرام. وقد هاجت بلابل بلباله، وقصد أن يرفع لحضرته بعض خصاله، في عرض حاله. فاللحظ، يعرب عن اللفظ. فما كانت إلا نظرة، أعقبت حسرة. أتعبت الخاطر، وسرت الناظر. وقد قيل: إن الحسن عليه زكاةٌ كزكاة المال، وليست زكاته عند علماء المحبة إلا عبارةً عن الوصال. ولما دعاه داعي الهوى أخذ يبدي له الالتفات، ويريه الصد تارات. قد جرى بينهما في ميدان الصحبة بدهم الليالي والأيام، طراد خيل اللهو في حلبة المحبة والغرام. وهو قانع منه بالقليل، راضٍ بالنظر إلى وجهه الجميل. ومضت معه أوقاتٌ من مواسم العمر محسوبة، والسُّعود إلى طوالعها منسوبة. حيث الزمان ربيع، والروض مريع. والنسيم عليل، والوقت سحر وأصيل. ألطف من عدة الحبيب، وألذ من غفلة الرقيب. وما تفْضُل الأوقاتُ أخرى لِذاتِها ... ولكنَّ أوقاتَ الحسانِ حِسانُ فقد كانت أطيب من نيل المراد، ولكنها أقصر من ساعات الأعياد. فلو كان دهري عقداً لكانت واسطته، أو كان عمري جيداً لكانت قلادته. فهيهات أن تنسى، وعسى أن تعود عسى، ربما أحسن الزمان وإن كان قد أسا. هذا، فبينما هما على هذا الحال، قد أرغد عيش وأنعم بال. إذ دنت شمس النوى بالطلوع، وفضح التطبع شيمة المطبوع. وحارَبِني فيه رَيْبُ الزمانِ ... كأن الزمانَ له عاشقُ فعلمت من مقدار الفراق ما كنت جهلته، ووجدت من شخصه ما كنت ضللته. وقد أظهر دمعي ما أضمرته، وأبان من وجدي ما أخفيته. عجباً لقلبي يوم رَاعَنِيَ النوى ... ودَنَا التفرُّق كيف لا يتفطَّرُ أكفكف بالأكف الدموع، وأطوى على نار الغضا الضلوع. وقد جزعت ساعة وداعه، حتى خفت على تفطر كبدي بانصداعه. وما خلق الفراق، إلا لتعذيب قلوب العشاق. فتكلم الحب عن لساني، وبرح الشوق بكتماني. لو كنتُ أعلم أن آخرَ عهْدِه ... يومُ الفِراقِ فعلتُ ما لم أفْعَلِ كأن قائل ذلك كان حاضرا معنا، أو كأنه قال ذلك لنا. وقد انثنيت بجسم ناحل، أو بت من صبري على مراحل. ما إن تركتُ وَداعَه عن جَفْوةٍ ... لكن جزِعتُ لبَيْنِه وفِراقِهِ وما خلوت ساعة مذ تفارقنا من نفسٍ تتقيَّد له الأضلع، وذكرٍ تفيض له الأدمع. وتشكي الفراق، وتذكر أيام التَّلاق. وسهَّل التوديعَ يوم النوى ... ما كان قد وعَّرْه الهجْرُ فالنظر إلى عين الشمس أسهل علىّ وأهون على عيني من أن أنظر إلى ذلك الصدر، وقد خلا من ذلك البدر. كفى حزَناً بالهائمِ الصَّبِّ أن يرى ... منازلَ مَن يهوَى مُعطَّلة قَفْرَا ما أعول إلا على العويل لو كان يغنى، ولا أستنصر غير الوجد لو كان يجدي. والله سبحانه يقدر التلاق، ويضمُّ مشتاقاً إلى مشتاق. فكم من حبيبين، فرق بينهما البين. وأليفين، عادا بعد الفراق للوصل حليفين. وقد يجمعُ الله الشّتيتْين بَعْدما ... يظْنان كلَّ الظنِّ أن لا تلاقِيَا وهنا أنهيت الكلام على هذه العصبة، وختمت بهم عصابة أحرزوا في مجال القصبة.

وقد عنَّ لي أن أذكر قصيدة جعلتها لجبهة دمشق إكليلاً، ووصفت بها من محاسنها روضا أريضاً وظلاً ظليلا. فلتكن منوهة بمحل فضائل هذا الجمع، وخاتمةً لأوصافهم التي هي آخر ما يقرع السمع. والقصيدة هي قولي: سقَى دمشقَ موطنَ الأوطارِ ... دمعي وصَوْبُ العارِض الزَّخَّارِ حتى يُرَوِّيا بها كلَّ رُبًى ... تصوَّرت في صُورةِ الأنوارِ يسافرُ الطَّرْف بها إلى مَدى ... يُغنِى بها الخُبْرُ عن الأخبارِ وباكرتْ نَيْرَبَها نُسَيْمةٌ ... عابقةٌ في رَوْضِهِ المِعْطارِ من قبل أن تصْدَى بأنْفاسِ الورى ... بَلِيلةُ الأذْيالِ في الأسْحارِ فنبَّهتْ أطْفالَ نبْتٍ نُوَّماً ... ترضعُ ثَدْي الدِّيمةِ المِعْطارِ وللرِّياض طِيبُ أنفاسٍ بها ... تُهدِى الثناءَ الجَمَّ للأمْطارِ يتلُو خطيبُها بصوتٍ شاكرٍ ... مِدْحتَه في منبرِ الأشجارِ وينثُر الزَّهر فينظم الندى ... يا حسنَ ذاك النظمِ والنَّثارِ لَوَى القضيبَ ثم جِيداً غَنِمَتْ ... تقْبيلَه مباسمُ الأنوارِ والماءُ في خَريرِه مُنهمِكٌ ... والطيرُ عاكطفٌ على التَّهْدارِ إن ردَّه اللحنُ انْثنتْ غصونُها ... تسمعُ منه رَنَّةَ الأوتارِ وربما انْحنتْ لتَقْرا أسطراً ... في النهرِ خَطَّها النسيمُ السَّارِي والنَّورُ قد فتَّح عن أكْمامِه ... وفكَّكَ الوردُ عن الأزْرارِ والرَّبوةُ الغنَّاء حَناها الصَّبا ... فنفَحتْ عن جَوْنِة العطَّارِ أُعِيذ بالسَّبْعِ المَثانِي دَوْحَها ... على احْتواءِ السَّبْعَةِ الأنهارِ ودَبْرُ مُرَّان القديم لا عدَتْ ... سُحْبُ الحَيا ما فيه من آثارِ فيه حديث البَبَّغا وعهدُه ... حَلْىٌ لِجِيدِ سالفِ الأعْصارِ والمَرْجةُ الفيْحاءُ والوادِي الذي ... مَنْظرُه الباهِي جلاَ الأبْصارِ معاهدٌ فيها النَّدامي أغْصُنٌ ... مُثْمرةٌ فواكَه الأسْمارِ من كلِّ وَضَّاح الجبِينِ مُسْفرٍ ... عن طلعةٍ تهْزَأُ بالأقمارِ فالنجمُ سارٍ طالباً لقيته ... لذاك قد لُقِّب بالسَّيَّارِ وشاب حُزْناً طَرفُه وما رأى ... شبيهَهُ في الفلَك الدَّوارِ يعرَق وجهُ الكأس بالحَباب إن ... فَاه وخدُّ الرَّوْضِ بالقُطارِ مُنْتِقبٌ بالورد من خَجْلتِه ... جُوداً ومُرْتَدٍ حُلَى الوقارِ وكلُّ مختارِ المعاني حسنُه ... قَيْدُ النُّهَى وعُقْلُه الأفكارِ تلميذُه هاروتُ يروِى فَنَّه ... عن لفظِه عن طَرْفِه السَّحَّارِ أهدتْ لي السُّقْمَ عيونهُ لذا ... وهبتُها النوَم عن اضْطرارِ خَطَّ الجمالُ فوق طِرْسِ خدِّه ... سطراً برأسِ القلم الغُبارِي أرَى على وَجْنِته دائرةً ... حَرّرها الجمالُ بالبركارِ فالخْالُ في كُرسِيِّها قد استوى ... كمركزٍ لذلك المِدْرارِ قد كاد موجُ رِدْفِه يُغرقُه ... لولا اعْتلاقُ الخَصْر بالزُّنَّارِ وكاد أن يسيل لولا أنه ... جاذبه تشبُّثُ الإزارِ أذكُر عهدَه فمتن تأوُّهِى ... فحمُ الدجى مُحترقٌ بالنارِ وإن تقَلَّقْتُ لماضِي عهدِه ... فإنَّ عُذْري سيدُ الأعذارِ ولي إلى الجامعِ شوقٌ والهٌ ... لا يفترُ الدهرَ عن التَّذْكارِ للهِ أقوامٌ به أعزَّةٌ ... من خُلَّصِ الأخيار والأبرارِ

فصل

في جُنْحِ لَيْلاتِهم أذْكارُهم ... تعرفُها بلابلُ الأسحارِ كم دعوةٍ في المَحْلِ أضحتْ لهمُ ... تفْرِي جفونَ السُّحْبِ باسْتِعْبارِ فارقتُهم لاعن رضًى وإنما ... عِنانُ عزْمِي في يد الأقْدارِ نَشوانُ خمرِ السُّهدِ طَرْفي نومُه ... أغْرقه البكاءُ في تَيَّارِ وما بكائي غيرَ رَشِّ أدمُعٍ ... يُوقِظ من نَوْمتِه اصْطبارِي لعلَّ من لُطْفِ الإله مَدَداً ... يُوصِلني بهم إلى ديارِي فأكْسِبُ الفوزَ بفضْلِ قُرْبِهمْ ... فربَّما يُجَرُّ بالجِوارِ لا زال رَيْحانُ تحيَّاتي لهمْ ... يرِفُّ في روضِ الثَّنا المِعطارِ واللطفُ ما زال يُحيِّي أرضَهمْ ... تحيةَ النسيمِ للأزْهارِ وهذه فصول جعلتها لشعراء خطة الشام من وجوه قطانها، المنيخين في أعطانها، المقيمين بأوطانها. ابتدأت منها بأهل المسجد الأقصى، وانتهيت إلى أهل حماة على الوجه المستقصى. فصل في شعراء القدس التي كانت قبلة القبل، وروضة الشرف التي أنبتت غصون الكرامة مثمرة بالقبل وناهيك بتربة عجنت بماء الوحي، وتوفر لقصدها الوخد والوخى. وأهلها أصحاب الذوات القدسية، والبلاغة القسية. والآراء السديدة، والنفوس الشديدة. عصابةٌ في رءوسِ المجدِ إن ذُكِروا ... يفُوح مسكُ ثَناءِ البدوِ والحَضَرِ ليت المَكارمَ لم تعشَقْ شمائَلهمْ ... فلِلْكمالِ رقيبٌ عائِنُ النَّظَرِ فمن مشاهير بيوتها: بيت العلمي سلسلته لا يستقل بذكرها قلم، ولا يقطع علمٌ من وصفها إلا ويبدو علم. ما منهم إلا من شد مئزره للأمر، وروى ظمأ الآمال بنائله الغمر. عفُّ الإزار، خفيفٌ من الأوزار. ازدادت به قبيله وعشيره، وظهرت فيه مخائل الرشد وتباشيره. وأشهرهم: محمد بن عمر الصوفي إن كان أسرتُه بين الورَى علَما ... فإنه علَم في ذلك العلَمِ ملك التصرف في التصوف، وأبدع التفرع في التعرف. وطريقته في القوم، مبرأة من المحذور واللوم. تحلى في إماطة الشبه بالاتقاء، وترقى في ذروة المعارف حدَّ الارتقاء. وهو على وادئع الأسرار مأمونٌ ثقة، والقلوب كلها على جلالته متَّفقة. ففمه قفل إجابة، ويده مفتاح إجابة. وكلماته تدل على تمكنه في علم الأخيار، وتعرف أن نظره بمرآه الخيال مجلاة من غبار الأغيار. ولم يبلغني من شعره إلا تائية ابن حبيب، ومطلعها: بسم الإله ابْتدائي في مُهمَّاتِي ... فذاك حِصْنيَ في كلِّ المُلِمَّاتِ بيت أبي اللطف ثنيَّة العلم والفتوة، وهضبة الحلم والمروة. ما منهم إلا من حذا برياسة، وتروَّى من نفاسة وكياسة. وأضاء بدراً وشمسا، وأفاض عشراً وخمسا: ألطافُهم لا تزال سابغةً ... سائغةً حُجِبتْ عن الرَّنْقِ تطيبُ آثارُهم لأنَّهُمُ ... من طَيِّب العُودِ طيِّب الوَرقِ وأقربهم عهداً: على بن جار الله أحد أمجادهم، ومتقاد نجادهم. فاتهم فضلا وكرما، وأضحى لزوار المكارم مناخا وحرما. لا يرتجع وفد الآمال عن ساحته، ولا يزول لقب الندى عن راحته. وهو رئيس الحرم ومفتيه، وملتمس الفضل ومؤتيه. وله القدر العلي، والفضل الجلي، وكلماته على صدور الغانيات من الحلي. إلا أنه فسيح مدى الافتنان، ممدود حبال الامتنان. لم يزل في شعاب الفتاك يتوغل، وفي طريق الانتهاك يتغلغل. وطفر آخراً طفرة النظام، فتفرقت آراؤه في أمورٍ أعيت على الانتظام. وكان أمير غزة ابن رضوان ممن كثرت عليه عيونه، وساءت فيه ظنونه. فاحتال عليه، في استدناه إليه. حتى إذا حصل على تلك الأغراض، فتك فيه على غرة فتكة البراض. وذهب كأمس الذَّاهب، والدهر هكذا واهب ناهب. فالله يسهم له مع أهل الثواب، ويلهمه عند السؤال الجواب. وقد أثبت له من أشعاره ما تود الشمس سناه، والنسيم اللَّدن رقة معناه. فمنه قوله، من قصيدة مطلعها:

خليلىَّ هذا الدهرُ دانتْ عجائُبه ... فطَمِّن فؤادا إن نشَبْنَ مخالُبهْ ولا تْعتَبنَهْ إن تأخَّر ذو حِجاً ... فذا الدهرُ لم يُحْرِز سِباقاً مُعاتُبهْ سكِرتُ بهذا الدهرِ لا من عُقارِه ... ولكن لمِا أبْدتْه عندي عجائُبهْ فما مُحرِم الإنسان إلا علومُه ... وما ذائِقُوه السَّمَّ إلا أقاربُهْ وهذا فيه إماء إلى قول ابن العميد: آحِ الرجالَ من الأبَا ... عدِ والأقاربَ لا تُقارِبْ إنَّ الأقاربَ كالعقا ... ربِ بل أضرُّ من العقاربْ وفي المثل: ظلم الأقارب أشد مضضا من وقع السيف وقيل: إنما أخشى سيل تلعتي. والتلعة: مسيل الوادي، من السند إلى بطن الوادي. ومعنى المثل، إنما أخاف شر أقاربي، ويضر به من يخاف أن يؤتى من مأمنه، ومن جهة خاصته وأقربائه. وأما قولهم في مثل آخر: ما أقوم بسيل تلعتك. فمعناه: ما أطيق هجاك وشتمك الذي تشتمني به، ولا أثبت له. ولبعضهم: جانِبْ إذا أرْشدت أهْلَ القُدس من ... أباعدٍ تودّ أو أقاربِ فالقُدسُ طَسْتُ ذهبٍ لكنَّه ... ممتلئٌ يُقال بالعقاربِ وله من قصيدة مستهلها: عِدْ فمُضْناك يُعادْ ... وابْقَ فالفَانِي يُعادْ وتلافَى مُهجةً أتْ ... لَفها منك البِعادْ واُبْقِ أحْشاءَ لها ... منك جُرحِ وضِمادْ أوْ فعوِّضْنيَ طَيْ ... فاً منك قد أعْيَى السُّهَادْ مِحْنتي فيك وهِجْرا ... نُك قَدْحٌ وزِنادْ قاتِلي والقتلُ لي ... في جَدَدِ الحبِّ مُرادْ كلُّ صَبٍّ لايَرَى الْ ... هَتْكَ تعدَّاه الرَّشادْ كدَّر العشقُ لنا ... من صفاءٍ وصِفادْ سَلْوتي عزَّتْ فهل ... شَيْمُ عزيزٍ لا يُرادْ صادَني لَحْظُك يا ... أهْيفُ والأُسْدُ تُصادْ كنتُ قبل العشقِ لا ... يجذِبُ آمالي عِنادْ مُمْتطٍ صهوةَ أفْ ... راحٍ وللدهرِ انقِيادْ لفظَتْني شَفَةُ الدَّ ... هرِ فخافْتني البلادْ وكذا بما يمضُغ الْ ... أبْخَرُ تعْفوه الجِيادْ سامَنِي الدهرُ فآ ... مالِيَ عكسٌ واطِّرادْ يتمنَّى وَصلَ إرْ ... غامي ومثلى لا يُكادْ لا تضِق يا قلبُ فالإع ... سارُ لليُسرى نِجادْ وتروَّ الصبرَ لا يحْ ... سُنُ بالفحل حِدادْ إن تبرَّاني فِناءُ الْ ... خانِ بتْنا في الوِهادْ ليَ من قومي وقوْ ... لي ركنُ عزٍّ واعتمادْ نحن آلَ اللطف أقْ ... وامٌ أساورةٌ شِدادْ حَلْيُنا اليقْظةُ إذْ مَا الْ ... غيرُ خَلَّاهُ الرُّقادْ كلَّ عصرٍ حضرةُ القدْ ... سِ لنا منهما عمادْ شيخُنا الفاروق في قِرْ ... طاسِ إنْشاها المدادْ عُمرُ الليث إذا صَا ... لَ وإن طال جَوادْ هاديءُ الخُلْق إذا ما ... عن طريق الحقِّ حادْ كعبةُ الطائفِ والرَّا ... جي وللعافِين زادْ من نُشورٍ غيثُ نُع ... ماهُ ونادِيه مَعادْ جمرةُ الكونِ ولكن ... ليس يعلوها رَمادْ وأخو المجدِ أبو اللطْ ... فِ سَما الحمدِ المُرادْ مُدرِك الغَاية إن آ ... يسَ في السبقِ الجوادْ وله من أخرى يمتدح بها الأمير حسين، أمير غزة: احْفظ فؤادَك يا مُفدَّى ... نارُ الهوى تمْتار جدّا

هذا سهامُك في الحشا ... حَمْرا شَواكلُها ومَرْدَا إن شئْتها أبدَيْتها ... من مُقلتي دمعاً وسُهدَا نعَم اهْتزازُ قَوامِك ال ... مَعْسولِ لار يختار رَدَّا فاعْمِلْه في حركاتِه ... إن رمتَ أن لا تُبْقِ فردَا أمُعذِّبي بئس الهوى ... إن لم يكن قرباً وبُعدَا فامنَحْ فؤاديَ نظرةً ... إن شئت للتعَّذيب مَدَّا نِعْم الشهادةُ مُنجِداً ... لو سوَّغتْ للوصلِ شُهدَا لو أن فْعلك للزما ... نِ ردَدْتَه كَلأًً ووَرْدَا فلَكمْ أتى بمبرِّحٍ ... منه اصْطبارِي كان سَدَّا ولَكم أبان مَخالباً ... خَلَّيْنَ للأهدابِ نِدَّا يا جاعلاً أحْداقَنا ... قُرطاً ومِنطَقة وغمدَا شخَصت لناظرِك المُكحَّ ... لِ أنفُسٌ صيداً وأُسْدَا في موقفٍ يدَعُ النفو ... سَ ذوائباً والدمعَ جَمْدَا ويقسِّم الأكْباد حسْب الْ ... وَصفِ سَوْسانا ووردَا فكأنَّ سيفَ حسين يُو ... ضِح للورى حَدّاً وحدَّا ويُرى لكلِّ مُنابذٍ ... إفْرِنْدَه بالرَّقْم حَدَّا فكأنما إدريسُ أوْ ... دعَ فيه ما أخْفى وأبْدى بطلٌ يُشير لمْثِله ... نَفْعا وللمُجْدين رِفْدَا السابقُ الشُّمَّ الأُنُو ... فَ أباً وأبْناءً وجَدَّا حامِي قِبابِ المجد ما ... بذلُوا لها شرفاً ومجدَا أمظلِّلَ الأبْطالِ عِقْ ... باناً وكاسِى الفقر وُجْدَا أيْسَرْتَ غُرَّةَ غَزَّةٍ ... ومنحْتَها للفخْرِ عِقْدَا حتَّى سبَتْ بِنظامِها ... عجَما وأتْراكا وهندَا تِيهاً أغَزَّةُ إنما ... أرْباك عِزٌّ ليس يَصْدَا وله من أخرى، أولها: مِن دياجِي البعد هل للقربِ وَمْضُ ... أم بمِضْمارِ التهاني ثَمَّ رَكْضُ لا أُمَنِّي النفس ما لي والمُنى ... عاقَني من أدْهم الأيام رَكْضُ كان تَسْالي مُخِلاَّ بالعَطا ... يومَ لا نَأْيٌ دنا والعيشُ غَضُّ يومَ كان الشَّرْبُ سَمْعا وأنا ... بُلْبُلٌ ثمّ سَما والكلُّ أرضُ صاحِ عاطِيني ولا تسألْ لما ... جَفنُ كأسِي وجفوني لا تُغَضُّ إن تقلْ جُرحُ زماني كاتمٌ ... منهمُ في القلب جُرْحٌ لا يَمَضُّ عَلِق القلبُ بلَحْظٍ إن رنا ... قاتلٌ أو كَفَّ ظنَّ الكفَّ غَمْضُ مَن مُجِيري من هوى مَن لُبْثُه ... في عَرِين القلب زَفْراتٌ ورَبْضُ كنت لا أعرفُ تمْزيق الكرَى ... فأراني كيف عَضْبَ الجَفْن ينْضُو ورأى طُيْغان قلبي فرَنا ... ليُريه شُهُب الطاغِي تقُضُّ فتناسيْتُ بلَمْعٍ بَرْقِه ... مذ بدا لي منه بَسْطٌ ثم قَبْضُ قال لي والصَّحْو ما خامرَه ... واستملَّى قَدّه طولٌ وعرضُ هل تخمَّرتُ بنُور طُرَّتي ... أم جفون الشَّعر دَانَاهُنَّ غَمْضُ قلتُ شَبْي من سعيرٍ مُهْجتي ... أبْرزَتْه زفراتُ القلب ومْضُ أو سِنانٌ طاعنٌ قلبَ الصَّفَا ... أو شهابٌ إذ لحَتْمِ العيشِ فَضُّ ودموعي ماءُ قلبي نارُه ... أخرجتْها من قُرُوحِ الجَفْنِ بَضُّ قال لي والغصنُ يثْنيه الهوى ... قد أتى من سائل الأجْفان عَرْضُ فارْجِعِ الدمعَ لتطْفى نارَه ... حيث لي في منزل الأشواقِ عَرْضُ حِلْيةُ العاشق قربٌ وقِلَى ... أيُّ وجدٍ لفؤادٍ لا يُرَضُّ

حافظ الدين العجمي

قلت: هذا شعر مقداره خطير، إلا أنه فطير. حافظ الدين العجمي فارس مجال، ورب روية وارتجال. تؤخذ الفصاحة عن لفظه، وتستملى فنون البلاغة من حفظه. وله حظٌ من الأدب عظيم، واختصاص بنثير ونظيم. إلا أن شعره أمل الكثرة، وهي كما عرفت متواخيةٌ مع العثرة. وكان نبا به من حداثته وطنه، وضاق ببعض الحوادث عطنه. فطار كل مطار، ولم يعرج على أوطانٍ واوطار. ومع أنه يراقبه من الجلالة حافظ، وهو له في كل شؤونه مطالع ملاحظ. كان كلفاً بالغلمان، معنىً بهم في كل زمان. وعشق بدمشق فتى اتخذه للخدمة، واهم به هيمان ذي الرمة. وتحمل فيه أنواع المشاق، وشهد حتى مصارع العشاق. وشرب بالفتى، ولم يقل السلو متى. وكان قد فضح النهار ليله، وأفعم الهرم في لهاته سيله. فمضغته أفواه التشنيع، وعضته أضراس الندامة على هذا الصنيع. ثم خرج عنه الفتى مجانباً، وخلاه هو وكمده جانباً. واتفق له أنه كان في جمعٍ من الأعيان، ممن يضيق عن وصف تيقظهم نطاق البيان. إذ سقط الفتى سقوط الندى، وحل حلول الأمل في ذلك المنتدى. فلم يتمالك الشيخ أن وقع مغشياً عليه، وفمه على ظاهر قدميه. فاغتنم تلك الفرصة، وأطفا بتقبيلها تلك الغصة. والفتى يظهر امتناعه، والحيا حط عليه قناعه. حتى زايل مكان زلة القدم، هناك قرع الشيخ سن الندم. وشرع يطلب العفو، وينسب ما وقع منه إلى الغفو. ثم لم يقر به القرار، دون أن عزم على الفرار. وخرج إلى الروم حامل أثقال، وهو بريد ترحل وانتقال. وانتهى أمره إلى أن صار قاضياً بصوفيه، وبها انتقل من ظل العافية، إلى ظل الرحمة الوافرة الوافية. وقد أثبت من شعره ماله في إصابة شاكلة الصواب اشتهار، فإنه إن كان حاطب ليل فأنا في انتخاب أحاسنه قاطف نهار. فمن ذلك قوله: رأى ما حلَّ من فَرْط الْتهابِي ... ومن مَيْل الجفون إلى انْتهابِي فمال إلى انْعطاف العِطْف نحوِي ... وأحْيَى القلب من رَشْف الرُّضابِ وقام لنشْر بُرْدِ الوصل يطوِي ... بأيدي اللُّطف أردِيَة العِتابِ غزالٌ كالغزالة قد غَزانِي ... بأجْفانٍ أصابتْ كلَّ صَابِي صَبا قلبي إليه فكلُّ صَبٍّ ... سليمُ الطبع مأسورُ التَّصابِي جرحتُ بنظْرتي خَدَّيْه وَهْما ... فقابلَني بأنْواع العقابِ أرى تعْذيبَه للقلبِ عَذْباً ... لأُسْقَى من مَراشفِه العِذابِ متى حسَر النِّقابَ عن المُحيَّا ... سَبَى العقلا ويسْبِي في النِّقابِ بكأسِ الثغرِ منه عِقْدُ دُرٍّ ... تكلّل مثلَ حَبَّات الحَبابِ إذا أتْبعتُه في المشْيِ طَرْفِي ... فلا أدْري الضلالَ من الصوابِ أدار على صباحِ الجِيد شعراً ... كلَيْلٍ جَلَّ حسنا عن خِضابِ وسَيَّبه على الأرْدافِ يسْعَى ... كأفْعى في الْتِفاتٍ وانْسيابِ قسا قلْباً ولكن لاَن عِطْفاً ... أما هذا مِن العَجَب العُجابِ قضى بالقتْل للعشَّاق قطعاً ... بحُكْمٍ منه قَطْعِيِّ الجوابِ وذلك حين أدْمَوْا منه خَدَّاً ... بنَظْرتهم له خلفَ الحجابِ ولم يُقِمِ الشهادةَ حالَ قتْلٍ ... لكيْ يحتاج فيها للنِّصابِ يُصيب إذا رمى في القلبِ سهماً ... وكم بالْجَفْن منه مِن مُصابِ قد اسْتلَب النُّهَى باللطفِ منِّي ... وبالَغ في فُنون الإسْتلابِ فنارُ القلب منِّي في الْتهابٍ ... وطَرْفي الصَّبُّ منه في انْصبابِ وقوله في الغزل: أيامَن يُحيِّي الحسنَ منه بدورُ ... وقد جذبتْه للخُدورِ بدورُ أراك تجُوز الحيَّ بالقلب خائفاً ... رقيباً ومِن شأن المحبِّ يزورُ أمالَك أن تَثْنِي العِنانَ لحَيِّ من ... يُزار فمحبوبُ القلوبِ مَزُورُ فكن مُصْيغاً سمعاً فإن لسانَه ... يقول لأرْباب المحبَّةِ زُورُوا

مرعي بن يوسف الكرمي

إذا زرتَ أحْياء الأحبَّة زُرْهُم ... وإلاَّ فدَعْواك المحبَّةَ زُورُ وقوله: وأهْيَفٍ زارني والليلُ مُعتكِرٌ ... فأشْرقتْ من سَنا لأْلائِهِ دورُ قالت عقاربُ صُدْغَيْه ندُور على ... لَسْعِ الحشا قلتُ ها كُنَّ الحشَا دُورُوا وهذا في باب التورية مستظرف. ومثلع قول بعضهم: هَويْتُ غصناً لأطْيارِ القلوب على ... قَوامِه في رياض الوجدِ تغْرِيدُ قالتْ لَواحظُه إنا نَسُودُ على ... بِيض الظُّبا قلتُ أنتم أعينٌ سُودُوا وقوله من قصيدة، مطلعها: هو الوجدُ في روضِ القلوب مَنازلُهْ ... يترجمُ عنه أين حَلَّ مُنازِلُهْ وأين خَلِيُّ السرِّ من عارف الهوى ... فَذَا عالمٌ فيه وذلك جاهلُهْ ولولا الهوى ما مال قلبٌ إلى الهوى ... ولا غرّدت من فوق غصنٍ بَلابلُهْ فهل حافظ فيه حديثاً مُعَنْعَناً ... يُسائلني عنه وعنه أسائلُهْ فمالي وللأطلالِ لا طال ظِلُّها ... أُناشدُها عمَّن ترُوح رواحلُهْ ومالي وذِكْرِى للمَشِيبِ سَفاهة ... وقد فعل التَّشْبيبُ ماهو فاعلُهْ ومالِي وللبَيْداءِ أقْطع مَتْنَها ... على ظهرِ يَعْبوبٍ تناءتْ مَراحلُهْ ومالي ورَسْمِ الدارِ والرسمُ قد عفَى ... وماذا عسى يوماً يُجاب مُسائلُهْ ومالي ووصفِ الشيبِ لا بان صَحْبُه ... ولا ظهرتْ في العارِضَيْنِ مَخائلُهْ ولا انْفكَّ طِرْفُ اللهوِ يجرِي على الصَّفا ... بمِضْمار شوقٍ لا تكِلّ جحافلُهْ ولا قصُرتُ يوماً خُطاه ولا انْثنتْ ... قوائمُه في السَّبْق عمَّا تُحاولُهْ ولا زِلْتُ في ليل الشَّبيبةِ والصِّبا ... تُضيءُ علينا بالسرورِ مَشاعلُهْ ولا عُطِّلتْ أوقاتُ صَفْوٍ ولا خلَتْ ... من الأُنْسِ ساحاتُ الهوى ومنازلُهْ وما زال غصنُ العمرِ بالعِزِّ مُورِقاً ... ومَنْشؤُهُ صافِي المَناهلِ آهلُهْ ولا برحت في الدهر مرآةُ عيْشِنا ... صَقِيلةَ وجهٍ لا تراه نوازِلُهْ ولا هجرَتْ ذاتُ السِّوارِ مُتيَّماً ... يقابلُها يوم اللقا وتقابلُهْ ولا صَدَّ خالي العارِضيْن ولا ثَنَى ... ولا مال عنِّي مائلُ القَدِّ مائلُهْ غزالٌ متى ما رُمْتُ أُفْهِمُه الجوَى ... يغازلُني من جَفْنِه وأغازلُهْ منها: عواملُه في القلب قَدٌّ وحاجبٌ ... وجَفْنٌ وكم في الخلْقِ صالَتْ عوامِلُهْ فذلك رُمْحٌ والحواجبُ قَوْسُه ... وذلك سيفٌ قد حَمَتْه حواملُهْ به صِرْتُ أوْهَى من خيالٍ إذا سَرَى ... لذلك جسمى زائدُ السُّقْمِ ناحِلُهْ ورأى بدار الخلافة سربا من الظّباء الغيد، قد اعتلوا النّواعير في أيام العيد. فدارت تلك الأفلاك، بهاتيك النجوم الممثّلة بالأملاك. فقال يصفهم: ما شاهدتْ مُقلتي في غُرْبتي حسَناً ... إلاَّ بُدورا بدارِ الرُّومِ قد سُلِبُوا كأن نَاعورةً دارتْ بهم طَرَباً ... قلبي فهم كيف ماشاءُوا به انْقلبُوا وقال أيضاً: ويومِ عيدٍ كساه الأُنسُ حُلَّتَهُ ... كم من جميلٍ به في صُورةِ المَلَكِ بُدورُ تِمٍّ بأُفْق الحسنِ قد طلَعوا ... فزال ما كان في الأكْوان من حَلَكِ كأنهم في نَواعيرٍ تدُورُ بهم ... نجومُ أُفْقِ السَّما في دَارَةِ الفلَكِ ووقفت على ديوان جمعه لنفسه، وكتب على ظهره من نظمه، قوله: ستفنى الليالي واللآلِي بحالِها ... وما هي إلا النظمُ من حافظ الوُدِّ فإن عشتُ أنْعشْتُ الزمانَ وإن أمُتْ ... فلى شاهدٌ بالنظمِ والنثرِ من بعدِي مرعيّ بن يوسف الكرميّ

فصل في معاتبة

مقدّم في العلوم الشرعية، غير متأخر في العلوم الأدبية المرعية. فهو من الفضل في منتهاه، ومن الأدب في محل سهاه. وله جودة إتقان، وتمسّك بالهدى وإيقان. مع زهد يحول بين القلوب ولذّاتها، وتبتّل لا يرغب في العبادة إلا لذاتها. نقيٌّ مما يصديء مرآة نهاه، فما صبا لظبيٍ ولا اعتلق بمهاة. يهيم في صلاحٍ وسداد، إذا هامت الشعراء في كلّ واد. وهو أوحد من ألّف وصنّف، وأعظم من قرّظ وشنّف. وله أشعار ومنشآت جلا أفقها، وجلّى طرفها وطرقها، وأطلع من تحت غصون الأقلام كالرياض ورقها. فمن شعره قوله: لما رأيتُك مقبلاً متبسِّما ... والحسنُ عمّك والبَها والسُّؤدَدُ والمِسكُ خالُك فاح عطراً نَشْرُه ... والوردُ خدُّك جمرُه يتوقَّدُ قلت ارْتجالا بيتَ شعرٍ مفرداً ... أنت المرادُ وفي المحاسنِ مُفْرَدُ ياواحداً في حُسْنِه وجمالِه ... إنِّي وحقِّك في هواك مُوحِّدُ وقوله: أيامَن حَلا لي ثغرُه ورحيقُه ... رُوَيْدَك إن القلبَ زاد حريقُهُ ويامن تجلَّى بالدَّلالِ ومَلَّنِي ... ومِن لَحْظِه سَيْف يلوح بريقُهُ ويامن حَكاه الغصنُ وهْو وَرِيقُه ... ووردٌ وشُهد وَجْنتاه ورِيقُهُ تُعلِّق آمالي بذاك وتنْثنِي ... وهل ينْثني عمَّن يحبُّ مَشُوقُهُ وصيَّرتَ لي ذنباً ولم أكُ مُذنباً ... وحمَّلتني بالهجرِ مالا أُطِيقُهُ صبرتُ ومُرُّ الصبر فتَّتَ مُهجتي ... وإن كنتَ في شكٍٍّ فسَلْ من يذوقُهُ وقوله: مُذ غاب عن عيني وأعرض عامداً ... مَن كنت أهواه تغيَّر حالِي وأتى العذولُ مُوبِّخاً ومعاتِباً ... مامَن يُقاسِي مثلَ من هو خالِي ومن أمثالهم في هذا الباب: الراكب لا يعرف حال الماشي. والشبعان يفتّ للجوعان فتًّا بطيًّا. من نام لا يشعر بشجو الأرق. وله: برُوحِي مَن لي في لِقاه وَلائمُ ... وكم في هواه لي عذولٌ ولائمُ على وَجْنتيْه ورْدتان وخالُه ... كمسكٍ لطيفِ الوصف والثغرُ باسمُ ذوائبُه ليلٌ وطلعةُ وجهِه ... نهارٌ تبدَّى والثنايا كمائمُ بديعُ التثنِّي مرسِلٌ فوق خدِّه ... عِذاراً هوى العُذْرِى لديه مُلازمُ ومِن عجَبٍ أنِّي حفظتُ وِدادَه ... وذلك عندي في المحبةِ لازمُ وبيْني وبين الوصل منه تَبايُنٌ ... وبيني وبين الفصْل منه تلازُمُ وله: ليت في الدهر لو حظِيتُ بيومٍ ... فيه أخْلو من الهوى والغرامِ خالِيَ القلبِ من تَبارِيحِ وجدٍ ... وصدودٍ وحرقةٍ وهيامِ كي يُراحَ الفؤادُ من طولِ شوقٍ ... قد سَقاه الهوى بكأسِ الحِمامِ ومن منشآته فصل في معاتبةٍ بتصديق الوشاة المولى يعلم أن الواشي لا يخلو من أحد أمرين؛ إمّا أن يكون محبا ودوداً، أو عدوًّا حسودا. فإن كان الأول فيستحيل أن يقصد المحبّ لحبيبه ضررا، ويحمّله من الإثم وزرا. وإن كان الثاني فمعلوم أنه يجتهد في أذيّته بكل طريق، ويحرص أن يغري عليه كلّ عدو وصديق. فصل في معاتبة الصديق لفظ على الألسنة موجود، ومعناه في الحقيقة مفقود. فهو كالكبريت الأحمر، يذكر ولا يبصر. أو كالعنقاء والغول، لفظ يوجد بلا مدلول. وما أحسن قول القائل: صادُ الصديق وكافُ الكِيمِياءِ معاً ... لا يُوجَدان فدَعْ عن نفسِك الطَّمَعَا وقول الآخر: لما رأيتُ بني الزمانِ وما بهم ... خِلٌّ وَفِيٌّ للصداقةِ أصْطفى أيْقنتُ أن المستحيلَ ثلاثةٌ ... الغُول والعنْقاء والخِلّ الوَفِي وسئل بعض الحكماء عن الصديق فقال: اسم لامعنى له. وهذه شيم غالب أبناء هذا الزمان، من الأخلاّء والإخوان. فمثلهم كمثل العرض لا يبقى زمانين، ويستحيل في أسرع من طرفة عين. أو كلمع السّراب، المستحيل فيه الشراب. أو كالخيال الذي يبدو في المنام، وهو في الحقيقة أضغاث أحلام.

فصل في الحث على المواعيد

ومن كان بهذه الصّفة، فلا ينبغي الوثوق به، ولا التأسّف على فقده، ولا التألم على فرقته، ولا الحزن على غيبته. فصل في تهنئه بفتح: بعد تهنئة بتأييد عزائمه، وسفك دماء العدي على ألسنة صوارمه. ظهرت في سماء السّعد مطالعه، وشرفت أقلامٌ سطّرت بها وقائعه. فهو الفتح، الذي قضى على دم العدى بالسّفك ودموعهم بالسّفح، وتلت لديه آيات التهاني: " إذا جاء نصر الله والفتح ". وسيوفه وإن كانت باكية دماً فقواضبها بهذا الفتح ضاحكة، وجنوده منصورة كيف لا! ومن أنصاره الملائكة. فصل في الحثّ على المواعيد مثله من يتبع قوله بفعله، ويأنف من تكرير عطائه بمطله. فإن مرارة المطل تذهب حلاوة الإعطا، وتكرير الطلب يشرب ماء الحيا. والمرجوّ تحقيق رجاء العبد بالإنجاز، وتبليغه ما أمّله وأمّ له إن جاز. فصل في شكوى حال غريب وينهى أن غين الغربة قد أوقعته في هاء الهواء، وكاف الكربة رمته في ألف الأشجان. وأصبح صاد صبره مفقودا، ونون نواله مطرودا. فعسى لحظةٌ منك تخلّصه من غين غوائل الدهر، وتنقذه من قاف القهر. فصل في مخاطبة محدّث سلامٌ يتّصل به سند المحبّة والشوق، ويتسلسل معه حديث الغرام والتوق. وقد صحّت من الضّعف آثاره، وحسنت من طريق المحبّة أخباره. من عنعنت بالسّند العالي أحاديث كماله، من غير إبهام ولا انقطاع ولا إنكار لمسانيد فضله وأفضاله. فصل في مخاطبة منطقيّ سلامٌ تنطبق كلّيّاته وجزؤيّاته على قضايا الأشواق، وتنتهج مقاماته من الأشكال ما يعجز عن وصف خاصّة الرّسم والحدّ من الاشتياق. فصل في مخاطبة نحويّ سلامٌ تبرز ضمائرالشوق من توضيح مسالك معانيه، وتظهر عوامل الغرام من معربات مبانيه. يهديه محبٌّ انتصبت محبته على التمييز، وارتفعت مودّته بماضي عهدكم لأنه يرى أن العهد عزيز. محبٌّ مبتدأ أحواله لايعرب عنه الخبر، وأفعال أشواقه لا يحكيها إلاّ من له خبر. بشير الخليلي أديب بلطف الطبع مذكور، وفضله غير مجحود ولا منكور. له ذهن يكشف الغامض، ويسبق البارق والوامض. ومذهبه ينشره الأدب ويبسطه، وطبعه يمرح به الزَّهر وينشطه. أقرَّ عين الخليل بالعروض، واتخذ نقد القريض في ذمَّته من الفروض. وهو ممن نظمت كلماته نظم اللآل، إلا أنه غرَّته مطامعه في المدائح غرة الآل. يتكثَّر من العدة، ويتقلل من الجدة. فما أخصب له وادٍ ولا نما، فكأنه العروض بحرٌ بلا ما. وأنا لم أقف من شعره إلى على قصيدة لاميَّة، راجع بها الإمام خير الدين الرملي عن قصيدة على وزنها. مطلعها: ما كان مَرْمَى فؤادي حيث هُيِّءَ لِي ... فيه البناءُ بهنْدٍ بعد مُرْتَحَلِي وقصيدته هي قوله: صَوْبٌ من الغيثِ وافَى زائدَ الهَطَلِ ... أحْيَى رُبَي القُدس بعد الجَدْب والمَحَلِ أم شمسُ فضلٍ ترقَّتْ في مطالِعها ... أوْجَ الفَخارِ فحلَّتْ ذِروةَ الحَمَلِ أم بدرُ أُفْقِ المعالي قد تنقَّل في ... برُوجِه وكمالُ البدر في النَّقَلِ لا بل هو الجامعُ العَرْفَ الذي ملكتْ ... أوصافُه الغُرُّ رَحْبَ السهلِ والجبلِ أراد ربُّك في تحْريكِه حِكَماً ... وربَّما صحَّت الأجسامُ بالعِلَلِ فزيَّن المسجدَ الأقْصى بحِلْيته ... وشَوَّه الرَّملةَ الرَّمْلاء بالعَطَلِ فاهتزَّ من طَرَبٍ هذا لزَوْرته ... وارتجَّ من حَرَبٍ هذا لمُرتَحَلِ فكم على الساحل البَحْرِيّ من حَزَنٍ ... وكم عل المسجد القُدسِيّ من جَذَلِ وكيف لا وهو خيرٌ إن أقام على ... أرضٍ تسامتْ وإن يرحَلْ فلا تَسَلِ تجمَّعتْ فيه أوصافُ الكمال كما ... تجمَّعتْ قِسَمُ التَّفْصيل والجُمَلِ أحْيَي الدُّروسَ وقد أحْفَى الدُّروسُ بها ... وجاد وابِلُها الظمآنَ بالنَّهَلِ معالمٌ لو رأى الرَّازِي حقائقَها ... لَبات بالرّيِّ يشْكو أبْرَحَ الغُلَلِ

خير الدين بن أحمد الحنفي

يجوُدِ كفٍّ لو الطائُّي شاهدَه ... لقال لا ناقتي فيها ولا جمليِ ومنطقٍ يترُك الألْبابَ حائرةً ... والكاملَ العقْل مثلَ الشاربِ الثَّمِلِ كم أنْشَدتْ لذوِي الفتوى براعتُه ... أصالةُ الرأيِ صانْتني عن الخَطَلِ قَّلدت جيِدَ أهالي القدسِ عِقْدَ ثَنَا ... من دُرِّ ألفاظِك الخالي عن الخَلَلِ قصيدةً مالها مِثْلٌ يُناظرُها ... سارتْ بلاغتُها في الكونِ كاَلَمَثَلِ لو أنْصفُوا لم يكن موجودُهم بَدَلاً ... عنها وهل ليتيمِ الدُّرِّ من بَدَلِ مِن أعْجب الأمرِ تقْريظي لها هذَراً ... ولو سترتُ عَوارِى كَان أصلحَ ليِ فما نِظاميَ لّمَّا أن يُقاسَ بها ... إلا نظيرُ قياسِ الشمسِ مَعْ زُحَلِ لكنْ رأيتُ انْتظاري مع قُصورِ يدِي ... في سِلْكِ مَدْحِكُم عفْواً من الزَّلَلِ فرُمْتُه فأتَى يسعَى على عَجَلٍ ... فاعجَبْ له من بَسيطٍ جاء في رَمَلِ ولَذَّالي وصفُك الزَّاهِي فأذْهلني ... عن البَداءةِ بالتَّشْبيبِ والغَزَلِ أنا البشيرُ وكلُّ اسمٍ لصاحبِه ... منه نصيبٌ بِنُجْحِ القَصْدِ والأملِ فدُمْ فما زلتَ نُوراً يُستضاءُ به ... إلى الهدى وبعَوْنِ الله لم تزَلِ تحْمِى حِمَى مِلَّةِ الإسلامِ أشْرف مَن ... نال الفَخارَ من الأمْلاكِ والرُّسُلِ صلَّى عليه إلهي دائَماً أبداً ... والآلِ والصحبِ أهلِ العلم والعملِ ما أُنْشدت فاسْتمالتْ عقلَ صاحبِها ... ما كَان مَرْمَى فؤادِي حيثُ هِّيءَ لِي أدباء الرملة خير الدين بن أحمد الحنفي بقية السلف، وخير الخلف. ذاته كاسمه، والفضل كله برسمه. وعلمه كلمة إجماع، ومدحه عطر أفواه وحلى أسماع. فهو في الفقه عالم الشرع، ومحرر الأصل والفرع. وعلم الشهرة المنشور، إلى يوم البعث والنشور. وأما في الفرائض فله السهم والنصيب، وإذا اقتسمت فريضة الشكر فله الحظ والتعصيب. إلى علوم غيرها أخذ جلَّ خيرها، وسار فيها سيرةً اقتدى الجهابذة بسيرها فهو من منذ حلَّ في الكون، مدده التوفيق والعون. رمقته عين العناية، فدلت عليه كلمة الفضل بالصريح والكناية. فسمت هممه، وكرمت ذممه، وانتعشت به من الفضل رممه. وشغله علمٌ يفيده، وفخرٌ يشيده. ورياسةٌ يتفيَّأ وارفها، وطهارةٌ يلتحف مطارفها. إلى وقار ترزن به الأرض، ومقدارٍ له النافلة من الحظوة والفرض. فطار صيته في الأقطار، وتغنَّى به راكب الفلك وحادي القطار. وصرفت الأعنَّة إلى التماس خيره، وطارت القلوب بجناح العزيمة تيمُّناً بطيره. وكلن على اعتنائه بعلوم الشريعة، واختصاصه منها بالمرتبة الرفيعة. يعني بالآداب فيصيرها رونقا متسقا، وينظم لآلى نكاتها في أسلاك الإجادة نسقا ويقول الشعر في المرتبة العالية، ولا يختار من الثناء إلا القيم الغالية. وقد أوقفني صاحبنا إبراهيم بن عبد العزيز الجينيني على ديوان نظمه، فجردت منه أشياء حظها الإصابة ونصيبها، وسهم الانتقاد لا يصيبها. فمن مطوَّلاتها قوله في الغزل: أمِن ذِكْر جارٍ بذات السَّلَمْ ... أرقت دموعا جرَت كالعَنَمْ وأم هاجتِ الرِّيحُ من جانبٍ ... به شادنٌ أهْيَفٌ قد ألَمّ أتحسَب أن الهوى مُخْتفٍ ... ودمُعك منه جرى وانْسَجَمْ عجبتُ لخَصْرٍ له ناحِلٍ ... على حَمْل رِدْفَيْه أنَّى الْتأمْ إذا ما رَنا باهْتزازٍ فقد ... ربَا عنده هَيَجانُ الألمْ فلا عجبٌ إن نأَى مُعرِضا ... لأن الظّبا لم تزلْ فيه لمْ وأُدْعَى فصيحاً لدَى عتْرتي ... وأُدْعَى لديْه بِداءِ البَكَمْ ترفَّق بقلبٍ غدا في يديْكَ ... رقيقاً وفَوِّق بتلك الشِّيَمْ وضاهيْتُ خَصْرا له ناحلاً ... ولازَمَني في هواه السَّقَمْ

فذُبْ يا فؤادي بنارِ الجوَى ... فكم ذا نهيْتُك عن ذا فلَمْ أما آن أن يْنقضي ذا القِلَى ... وما آن منك أوَانُ الكرَمْ وكتب إليه بشير الخليلي، يسأله عن بيتين للمتنبي، بقوله: أيا مَن غدا في البَرايا فريدا ... وفي العلم رُكْنا مَنِيعاً مَشِيدا ومَن صار قُسُّ الذَّكا باقِلاً ... لديْه وأضْحى لَبيدٌ بَليِدَا يقول أبو الطيِّب المُجتَبى ... وأعنى الإمامَ المجيدَ المُجِيدَا طلبْنا رِضاه بتَرْك الذي ... رَضِينا له فتركْنا السجودَا ومنها له آخر بعده ... وجدْناه صعبا لدينا عَنِيدَا كأن نَوالَك بعضُ القضاءِ ... فما نُعْطَ منه نَجِدْه جُدودَا فأوضِح لنا وجه معناهما ... بقيتَ على الدهر صَدْرا مُفيدَا ولا زلتَ تُوضِح للمشكلا ... تِ ما نظَم الناظمون القَصِيدَا فأجابه بقوله: رِضاهُ السجودَ لممدوحِه ... وممدوحُه ليس يرضى السجودَا ومعنى السجودِ الخضوعُ كما ... أتى لغةً مستفيضا وُرودَا فمن حُسْن أخلاق ممدوحِه ... خضوعَ الأنام له لن يُريدَا وعِزُّ مَقام له مقتضٍ ... يكون الخضوعُ وجوبا أكيدَا ولكن أرى تركَه للرِّضا ... به لابذاك صوابا سديدَا وبيتُ النوالِ جديرٌ بأن ... تميل إليه فؤادا وفودَا فمعْنى الجُدود الحُظوظ التي ... تسيءُ بُخوتا ويَعني السُّعودَا فما يُعْطَ ليس بحقٍّ له ... ولكن يراه اعتقاداً جُدودَا وإن القضاءَ لكل الورى ... على مقتَضى تلك فضلاً وجُودَا وقبل العطاءِ بلا مُوجبٍ ... هو الفضلُ إن تَبْغِ منه الورُودَا فشابَهَ نفسَ القضا فعلُه ... وهذا بليغٌ فخُذْه مُفِيدَا وله من قصيدة مدح بها مفتى الروم يحيى بن زكريا: أقَرِيحتي لَمن الخطابُ تنهبَّنِي ... وتثبَّتي في القول لا تتبلَّهِي هو للذي الأكابدُ تُضرَب نحوه ... من كل فَجٍّ تْنتهي إذ تْنتِهي وبه استوى صُلْبُ الشريعة قائما ... في كلِّ إقْليم وصُقْع فْهىَ هِي مهلاً رُويداً رائدَ الروم اتَّئِدْ ... وبِه بِه لك إذْ تراهُ بِه بِه واحملْ ثَنائي إنَّ وَهْني عاقنِي ... عن أن أكون أبا المَضا بتوجُّهِي مع أنني مع ذاك لا أدعُ الذي ... يُرْضِى الإلهَ وفيه عينُ تفكُّهِي فحديثُه المَرْوِىُّ فيه وإن نأَى ... ما أكْتفِي ما أشْتفِي ما أشتهِي قوله: فهي هي، أي عين الشريعة. وهذا الأسلوب، إما يختلف فيه الضمير فيرجع الثاني إلى المذكور سابقا كما هنا، وإما أن يعاد بعينه. قال الشريشي: الأسباط إخوة يوسف عليه السلام، وهم وهم. أي، وهم أنبياء لم يتغيروا عن مراتبهم. ويقال: هو هو أي كما عهدته لم يتغير، انتهى. وقوله: فحديثه إلخ، في هذا البيت أسلوب لطيف، وهو أن تذكر لفظاً بعده ألفاظ يتعلق كل منها به، مع اختلاف المعنى، فالتقدير فيه: ما أكتفى فيه، ما أشتفى فيه، ما أشتهى فيه، وهو من البدائع. والأصل فيه قول الصاحب ابن مطروح: لا أرْعَوِى لا أنْثني لا أنتهِي ... عن حبِّه فْليَهْذِ فيه من هَذَى ومن مقتطعاته قوله في تشبيه الزنبق الذي يوجد في ساحل البحر الشامي، ونواره أبيض، قطعة واحدة ليس متفرقا: وزَنْبَقةٍ قد أشبهتْ كأسَ فضةٍ ... برأسِ قضِيب من زُمُرُّدةٍ عَجَبْ سُداسِيُّ شكلٍ كلُّ زاويةٍ به ... على رأسِها الأعلى هلالٌ من الذهبْ وقوله متغزلاً في الخال: بالخدِّ منه شَقِيقٌ جلَّ واضِعُهُ ... أعْيَى الورى فيه شاماتٌ بحُمْرتِهِ

نجم الدين بن خير الدين

أقولُ هذا ولا عِيٌّ ولا عجَبٌ ... قلبُ الشَّقِيق الذي في وسْط وَجْنِتِه هذا معنى استعمله الشعراء كثيرا، ومن أجوده قول الحاجري: لا تُنكروا الخالَ الذي في خدِّه ... كلُّ الشَّقِيق بُنقطةٍ سوداءِ وقوله في العذار: عندما جَدَّ بالحبيبِ عِذارٌ ... أظهرتْ لَاُمه لفَتْكِ البَرِيَّهْ قالتِ الناسُ عند ذلك فيه ... قمرٌ تلك لاَمُه القمَريَّهْ وله: مُهَفْهفُ القَدِّ مذ كَوانِي ... بحُمْرةِ الخدِّ منه في الحَيّ فقلتُ بي أنت دَاوِنِي قا ... ل آخرُ الطبِّ عندنا الْكَىّ وقوله: مَن شارَك الإنسانَ في اْسِمهِ ... فحقُّه قطعاً عليه وَجَبْ لذاك مَن سُمِّىَ مِن خلقِه ... محمداً فاز بهذا السَّبَبْ ولقد أجاد الأبوصيرىّ، حيث قال: فإنَّ لي ذمَّةً منه بتسْميتي ... محمَّداً وهْو أوْفَى الخلقِ بالذِّمَةِ وسمع قول القائل: مُحِبُّك يرعَى هواك فهلْ ... تعود لَيالٍ بضدِّ الأمَلْ فمنْقُوطها قد بدا نَحْسُه ... ومُهمَلُها فهو سعدٌ حصَلْ فقال منشئاً: من الشهرِ حاذِرْ ثالثا ثم خامساً ... وثالثَ عَشْرٍ ثم سادسَ عَشْرِهِ كذا واحدٌ من بعد عشرين رابعٌ ... يليها وتالِيه تنَلْ مَحْضَ يُسْرِهِ وكتب إلى آل العماد بدمشق، في صدر رسالة: أيا مَن عَجَّ من لَغَبٍ ... فلم تظهرْ له نِيَّهْ نصَحْتُك فاعتمِدْ أبداً ... مُراجعةَ العِماديَّهْ فراجعوه بقولهم: أمولايَ خيرَ الدين يا شيخَ عصرِنا ... ومَن فيه لا زلتَ الزمانَ اعتمادُنَا فأنت عمادُ الدين بالحقِّ قائماً ... فشَاد إلهي مِن دُعاكَ عِمادَنَا فكتب إليهم: يا ربّ خيرُ الدين يدعو ضارعَا ... مُتذلَّلاً لك خاضعاً مُتواضعَا بِصفَا فؤادٍ للعِمادِ وآلِه ... فهمُ الكرام سوابقاً وتوابِعاَ فكتبوا إليه: سألت إلهي خاضعاً متواضعَا ... ولا شكَّ مَن يجدعوه يلْقاه سامعَا بقاءَك خيرَ الدين للناسِ عُمدةً ... ومكثَك يا مولايَ في الأرض نافعاً وفيهم يقول أيضاً: يا مَنْ هُم أعمِدةٌ ... كلُّ عمادٍ وحدَهُ إن نزلتْ نائبةٌ ... بنا قصَدْنا قَصْدَهُ والجينينىّ المذكور، هو ببركاته اعتد، وبأسباب فوائده اشتد. فتقلَّد به من الأدب ما تقلد، وبقي له ما دام ذكره وتخلد. وهو الآن غرة الزمن البهيم، تكلف الألباب بخصاله الحميدة وتهيم. كما قلت فيه: لابن عبد العزيز إبراهيمَا ... خُصَلٌ كم بهِنَّ أبْرَاهِيمَا أدبٌ يُخجِل الرياضَ ولفظٌ ... هِمْتُ فيه وحُقَّ لي أن أهِيمَا وكمالٌ يهْفو له كل فهمٍ ... طبْع منه يطلب التَّفهيمَا رأيُه الصبحُ والصباحُ إذا لا ... ح جَلا بالضِّياءِ ليلاً بَهِيمَا نجم الدين بن خير الدين هو من حين نجم، تهلَّل عارضة وانسجم ولم يرض بالأرض دارا، فاتَّخذ ما فوق فلك الأفلاك مدارا. حتى النجومُ عدَت تقول تعجُّباً ... جاوزْتنا شرفاً فأين تُريدُ فأجابهنَّ أُمِرتُ أن أرْقى العُلى ... ما دام لي في الارتقاء مَزِيدُ حتى تَرَينْي والسماءُ قواعدِي ... والشمسُ أرضٌ لي وأنتِ صَعِيدُ أطلعه الله الطلوع المطهر، وألبسه أثواب النباهة العلم المشهر. فقام على ميعة شبابه مقام أبيه في حوزته، وراز الأمر بتوفيق الله مثل روزته. وبنى مثل ما بنى، ومالوى يداً عن مكرمةٍ ولا ثنى. تلافى أبوه العُلَى بالعُلى ... فبثَّ نَداه ووالَى جَداهْ فلمَّا مضى وقضى نَحْبَه ... تلافى تَلافِى المَعالي أبَاهْ وكان بيني وبينه مودة على الغيب، مأمونة بعون الله من الشائبة والريب. وكنت لا أفكر في مستحسن سواه إلا أعرضت دونه، ولا أرجو لقاء غائبٍ إلا رجوت أن يكونه.

فلما مررت على الرملة عند رحلتي إلى القاهرة، كان أول طالعٍ علىّ من آفاقها الزاهرة. ففاتحته بهذين البيتين: لقد كنتَ في قلبي ولم يحصلِ الِّلقا ... وأنت به أحْلَى من المَبْسمِ العَذْبِ فقرَّتْ بحمدِ الله عيني بنظْرةٍ ... فلم أرَ أحْلَى منك في العينِ والقلبِ وكان في صحبته أمين الدين القدسي وأبو الهدى الرملي، وهما ماهما، جاد صوب فضلهما وهمى. وبينه وبينهما مصافاة تقتضي حقا يوفى، وفرضاً يؤدى، ووصفاً يصفى. فقلت أخاطب أمين الدين: يا أميناً ذاتُه دُرٌّ ثمينُ ... أنت للعلْياء عينٌ ويمينُ إن وُدّاً صادثاً أوْدَعْتنِي ... أنا عنه عُمْرَ دهري لا أَمِينُ حاضراً أحْبُوك أصْناف الثَّنا ... وعلى غَيْبك أني لا أمِين وقلت في أبي الهدى: هَداني النجمُ إلى مِدْحَةِ مَن ... تلفَّع المجدَ وبالفضلِ ارْتدَى وكيف لا يُهْدَى إلى الرشادِ مَن ... دليلُه النجمُ إلى أبي الهُدَى وهو الآن في تلك الخطة رئيس الحقل، وإمام الفرض فيها والنفل. زند مجده قادح، وما فيه طاعنٍ ولا قادح. فالله يجعل نتائج حياته، تابعةً لأحسن مقدماته. وكان صدر بيني وبينه محاورات، بأرق معان وألطف عبارات. تلاحظ بها أقمارُ المنى فتشرق، وتنظر إلى أكناف الحمى فتراها بصيبها تورق. فمما كتبته إليه هذه النونية: رُدُّوا المسرَّة والكرى لجُفوني ... وهو القرارُ لقلبيَ المحزونِ لم أدْرِ قبل هواكمُ أن النوَى ... يُبْدِي من الأشْجان كلَّ دَفِينِ أو أن سلطانَ المحبِة يقتضِي ... أن الأسودَ تبيتُ أسْرَى العينِ أما النفوسُ فلم يدَعْ منها الجوَى ... إلَّا بَقايا زَفْرةٍ وأنينِ لما رآني الطيْفُ رَقَّ ترحُّما ... وبكى على بلُؤلُؤٍ مَكْنوِنِ وسرى وأيْقَن أنه لو زارني ... أُخرى لأخطأني فلا يعْدُونِي آهٍ وهل يشْفِى العليل تأوُّهٌ ... شوقاً لعهدٍ بالوفاء قَمِينِ أيَّامَ يحْدُني الصِّبا ويسُوقني ... قسراً إلى الَّلذاتِ غير غَبِينِ لا أخْتشِى مَسَّ الحوادث آمِنا ... وأخو النُّهى مَن بات غيرَ أمينِ والآن أبْكي إن أُصِبتُ بنعمةٍ ... قبل الزَّوالِ لفطْنتي ويقينِي ولقد سبَرْتُ بني الزمان فلم أجدْ ... خِلّاً إذا أرْضيْتُه يُرضيني فتركْت مَن كنت الضَّنينَ عليه مِن ... فَرْط الهوى وأراه غيرَ ضَنِينِ وغدَوْتُ فيهم كالحُسام مُجرَّداً ... من غِمْدِه فرداً بغَيْر مُعِينِ نَاءٍ عن اللذاتِ إن بَخِل الحَيَا ... أغنيتها عنه بغيْثِ جُفونِي لا أرْتضي شمس النهارِ قرينةً ... وأعاف ظِّلى أن يكون قَرينِي أسْتصغرُ العظماءَ حيث وجدتُهمْ ... وأرى مقاتل والثُّريَّا دُونِي ليس احْتقاري للأنام تهاوُنا ... بهمُ ولا خطر الورى بظنُونِي لكن أعُدُّ من البهائِم مَن خَلَا ... عن فضلِ فردِ العصر نجمِ الدِّينِ مَولى سواه هلالُ شَكٍّ في العلى ... وجَنابُه المحروس شمسُ يقينِ قد كوَّن الرحمنُ جوهرَ ذاتِه ... لُيرِى العبادَ عجائب التَّكْوينِ وأظنُّه من فَرْط طاعتِه أتى ... للكونِ بعد الكاف قبل النونِ بحرٌ بِحارُ الأرض تغرَق في نَدَى ... كَفَّيْه لستَ تُحيطُه بسَفِينِ لا يبلُغ المِكْثارُ عُشْرَ صِفاتِه ... لو حُفَّ بالتأييد من جِبْرِينِ هو نجْل خير الدين شيخ العصر من ... غنِيتْ مآثرُه عن التَّدْوينِ فسقَى ضريحاً ضَمَّه صَوبُ الحيَا ... يهْمِى عليه من الرِّضا بهَتُونِ

أمعلِّمَ الشعراءِ وصفَ ذوى العُلى ... فتراه يهْدِيهم إلى المَضْمونِ أنا مَن عرفتَ وِدادَه وجهلْتَه ... ولوسف تغنَم منه خيرَ خَدِينِ فبقيتَ في حفظِ الإله ممتَّعا ... بالعِزِّ والإسْعاف والتَّمكِينِ فُعلاكَ فخرٌ للزمان وأهلِه ... وبَقاك أكبرُ نعمةٍ للدِّينِ ولذاك لم أنْطِق بمدْحِك داعياً ... إلا أجاب الناسُ بالتَّأْمينِ فكتب إلىّ جوابها رسالةً، وشحها من نفائس أنفاسه نثراً وشعراً، ولم يهد النجم في مطالع البدائع إلا النثرة والشعرى: أهلاً بطيْفٍ من حبيبٍ زارَا ... أهدى حياةً شافهتْ أوْطارَا أفدِيه من طيفٍ ألَمَّ بمضجِعي ... فأثار في أحشاءِ قلبيَ نارَا شوقا إلى خِلٍّ تذكُّرُ عهدِه ... لم يُبْقِ في قلبي الخَفُوقِ قَرارَا أصْبُوا إليه إذا تألَّق بارِقٌ ... وأحِنُّ إن رَكْبٌ إليه سارَا وإذا ترنَّم صادحٌ في أيْكِةً ... من نحْوِه اختطف الفؤادَ وطارَا إن أبهى ما أفصح به اليراع بيد أنه رضيع ثدي المحابر، وأسمى ما خطب به القلم وهو على منابر الدفاتر. سلامٌ أحلى من رحيق الأفواه لدي الصباح، وهيامٌ أجلى عن عقيق الشفاه من الصباح، وأعبق من عبير ورد الخدود والتفاح، وأنشق من عبير شقيقها وقد فاح، وأنسق من المزن في فم الأقاح. وبث أشواق يقف لسان القلم عن إحصائها، وتجف أفواه المحابر عن إرادة استقصائها. إلى من أجمع أهل الفضل على توحده في الدهر، واتفق أهل الحل والعقد على تفرده بالفخر. وظهرت معاليه ظهور الشمس في الإشراق، وعمت أضواء إفادته عموم ضياء البدر في الآفاق. وهيهات تخفى في الظلام مشاعل، أو تستر على الأيام هذه الفضائل. وقد هَّبت الشَّمال بنشرها، وسارت الركبان بذكرها. لا برحت أنوارها مشرقةً على الأنام، وآثارها جلاءً لقلوب الإخوان من غصص الأيام. وقد وردت القصيدة التي هي شرف الزمان، وفخر البراعة والبيان. فلا زالت أيادي مولانا مشكورةً مقبولة، ومَبرَّاته وصلاته واصلةً موصولة. ولا برحت الأسماع تتحلَّى بدره الثمين، آمين آمين، وبالنبيَّ الأمين. فكتب إليه بهذه القصيدة، وهي: أما المَشُوق فلا يُطيق قَرارَا ... وأراه يْقضِى عمرَه تَذْكارَا يُصْيِبِه مُعترِض البُروقِ إذا هفَا ... فيُحِسُّ منها في الحُشاشةِ نارَا وَجْدٌ لقد قصُرتْ مُناه على الظِّبَا ... أتَرُوم منه على الهوى إقْصارَا وأبِيك ما اخْترتُ السُّلُوَّ ولو جَفَا ... مَن كنت أهواه وشَطَّ مَزارَا بأبِي من النَّفَر القواتَلِ جُؤْذُرٌ ... تركَ الأسودَ بناظريْه أَسارَى رَقَم الجمالُ على صحيفِة خدِّه ... سطراً فظنَّتْه الوُشاة عِذارَا يرْنُو بأكحلَ مُرْسِل من لَحْظِه ... لِمَنَّية المُضنَى شَباً بَتَّارَا يا مُهلِك العشاقِ مهلاً في شَجٍ ... تَخِذَ التَّهتُّك في هواك شِعارَا لولاك لم يَهْوَ الحسانَ ولم يكنْ ... ممَّن يَذلُّ لغيرِك اسْتكبارَا لم أنْسَ عهدك والزمانُ بحالِه ... والعيشُ يمنْحُه المُنَى ما اخْتارَا أيامَ نأخذُها كُمَيْتاً سَلْسَلاً ... لا مُرَّةً كلاّ ولا مُصْطارَا في روضةٍ فُرِشتُ بِساطاً أطْلَعتْ ... نُوَّاره عَوْضَ النِّثارِ نِثارَا غَنَّاء نَمْنَمَها الربيعُ فأظهرتْ ... حِكَماً لنا قد أبدعتْ أسرارَا طابتْ فكادتْ أن تُشابِه خُلْق مَن ... ساد الأنام فضائلاً وفَخارَا مولايَ نجمُ الدين أفضلُ ماجدٍ ... قد طاب فَرْعاً حيث طاب نِجارَا شَهْمٌ إذا بَخِل الغمامُ أفاض مِن ... كفَّيْه بحرا بالعَطا زَخَّارَا لو صادفتْ صُمَّ الصخورِ رَذاذةٌ ... منه لأنْبَتها الربيع بَهارَا

أحمد الخالدي الصفدي

طَلْقُ المُحيَّا لو يلُوح شُعاعُه ... في وَجْه حظِّي لحظةً لأنارَا أهْدَى إلىَّ رسالةً في ضِمْنها ... أهْدَى إلىَّ العمرَ والأوَطارَا من كلِّ لفظٍ شائقٍ يبدو به ... معنًى يُدير على العقول عُقارَا لا زلتَ تُوليني وِدادَك مُنْعِما ... وبقيتَ تعلُو في الورى مقدارَا وإليك روض قد تفتَّح زهرُه ... فصدحتُ في عالي ذُراه هَزارَا من كل قافيةٍ غدَتْ من حسنِها ... نَجْما كذاتِك في العلى سَيَّارَا كالرَّاح تلعب بالعقول وإن تَشا ... كالسحرِ في حَدَقِ الحسان تَوَارَى واُعْذُر إذا أخَّرتُ فيك مدائحي ... فلأنتَ ممَّن يقْبل الأعذارَا لولاك ما نَظَّمتُ عِقداً دُرُّه ... ينْحلُّ فيه عَسْجَداً ونُضارَا فالسُّقمُ قد أفْنى رُواءَ قريحتي ... بَغْياً كأن له عليها ثَارَا أنا مَن عرفتَ مَحَلَّه من وُدِّه ... وسيْغتدى لثَرَى نِعالِك جاَرَا واسلمْ لنا ولسُؤْدَدٍ أصبحتَ في ... سامِي حِماه تُزيِّن الأقْطارَا وكتب إلى من تواليد طبعه المطبوع، قوله: أحِبَّايَ إن شَطَّ الحبيبُ عن الحِبِّ ... وفارقَه يحْتاج طِبّاً على طِبِّ فإن غابَ عن عيْني خيالُ أحبَّتِي ... فحبُّهمُ اسْتولَى على حَبَّةِ القلبِ وما عندكم من شِدَّة الشوقِ فهْو في ... فؤاديَ فاسألْ إن شككْتَ عن الركبِ أتاح إلهي قُربَكم ولِقاكمُ ... ليْلتئِمَ الشَّمْلُ المشتَّت بالقُرْبِ فذاك اخْتياري ثم قصْدي وبُغْيتي ... ألا إنَّما الدنيا اجتماعُك بالحِبِّ فلا خيرَ في عيشٍ بغير أفاضلٍ ... ولا خيرَ فيمن مالَه صاحبٌ يُنْبِى فعنديَ طِيبُ العيش صُحبةُ عالِمٍ ... بصحْبتِه يَنْزاح عن خاطري كربِى فيا أخلصَ الإخوانِ قد جاء منكمُ ... رشاقةُ قولٍ رائقٍ رَيِّقٍ يَسْبِى لقد كنتُ في ضِيقٍ وهمٍّ وكرْبةٍ ... فلما أتى المكتوبُ طار به لُبِّى ففَاح لنا من نَشْرِه طِيبُ عَنْبَرٍ ... به انْتعشتْ رُوحي وجسمِي مع القلبِ أدباء صفد وصيدا أحمد الخالدي الصفدي هو من الفضل في ثنية، لا تتعداها إلى غيرها أمنية. معشوق الشيم، فائض فيض الديم. وآباؤه لهم ذكر بالجميل خالد، ومجدٌ تناولوه ولداً عن والد. وهو قد جمع ما فيهم من المناقب، وأربى في توقد ذكائه على النجوم الثواقب. وله تآليف فائقة، وأشعارٌ رائقة. فمما أستحسن من شعره، قوله في تخميس الهمزية: كنتَ نُوراً وكان ثَمّ عَماءُ ... ونبِيّاً وليس طينٌ وماءُ فإذا كان من عُلاك العَلاءُ ... كيف تَرْقَى رُقِيَّك الأنبياءُ يا سماءً ما طاولتْها سماءُ وله من قصيدة طويلة، مطلعها: مَن لي بهَيْفاءَ لا أسْطِيعُ سُلوانَا ... عنها وفي دمعِ عيني عَيْن سُلْوانَا أجَلْ ومن حبِّها قد هْمِتُ ذا قَلَقٍ ... فسَلْ حنيناً وسلْ بدراً وسل آنَا وقد حوتْ رقَّةً منها شهدتُ فلم ... أقدرْ على النفسِ لولا لطُفها جانَا مذا أقبلتْ ناهزتْني في مُداعبةٍ ... فصرتُ منها عليلَ القلب حَيْرانَا حسن الدّرزيّ العيلبونيّ القول في عقيدته مُتشعِّب، والأمر في تبْرئته وعدمِها متصَعِّب. وأنا لا أشكُّ في إيمانه، وأعتقد فيه ما يعتقده أهل زمانه. وأقول إذا وصفت شانه: إن إطلاق الدّرزيّ عليه مما شانه. كيف وتوبة هذا الحزب ردّها الشرع، والحاكم بقبولها مخالف لأمر الله في الأصل والفرع. وقد جمعني وإيّاه القضاء والقدر، في أوقات كنت لاأعرف فيها الغمّ والكدر. فرأيت رجلا ذا لسان فصيح، جارياً من هواه في ميدان لهوٍ فسيح. لايصدّ إذا صمّم، ولا يردّ عما يمّم. وهو يغالي في شعره، ويتشكّى كساد سعره.

محمد بن محي الدين المعروف بالحادي الصيداوي

ويزعم قوم أنه يتنسّك في ملئه فتكا، ويتهتّك في وحدته هتكا. ويحبط في الأعمال ويتبر، وهو يهلّل ويكبّر. ويحسّن ويقبّح، وهو يستغفر ويسبّح. وكنت عزمت على أن لاأطري له ذكرا، وأخلص من أن آتي شيئاً نكراً. ثم عنّ لي الإتيان به، لمكان فضله وأدبه. ولم أقصد بذكر هذه العيوب، التي يعلم حقيقتها علاّم الغيوب. بغض شخصٍ فات، واقتفته يد الآفات. وحاشا الله أن أكون ممّن يصدر ذلك من فيه، ولكن عملاً بما سمعته من الناس فيه. والله يحبوه منه لطفاً خفيًّا، وينيله عفوًا يكون به حفيًّا. فمن شعره، وهو معنى لطيف: حكى دخاناً سَما من فوق وَجْنَةِ من ... قد مَصَّ غلْيونَه إذ هزَّه الطربُ غيمٌ على بدرِ تِمٍّ قد تقطَّع من ... أيْدي النسيمِ فولَّى وهْو ينسحبُ فقلتُ والنارُ في قلبي لها لهبٌ ... لقد حكيْتَ ولكن فاتَك الشَّنَبُ والبيت الثاني، منه قولي: ما كان إعطاؤُه الغلْيونَ عن مَلَلٍ ... منَّا وحاشا بهذا قَطُّ ماعُرِفَا لكن أراد يُرِينا من بدائِعه ... بدرًا تقطَّع عنه الغيمُ فانْكشفَا وكتب إلى عليّ بن بجع البعليّ، وكان أعاره مجموعا، فردّه عليه: أرسلتَ مَجْموعي وقد أمْسكتَ ما ... هو قلبيَ الموْدُوع بين ضلوعِي فبكيتُ من شَوْقِي إليه مَدامعاً ... حمرا وليْست غير صِرْفِ نَجِيعِي فجرتْ على هذي البطاقةِ أحْرُفاً ... مجموعُها يُومِي بِسلْب جميعِي تذكرت بالبيت الأول، ما يروى أن بعض الأدباء استعار من آخر مجموعا، ومطله به، ثم اجتمعا في مجلس بعد تراخ، فقال المستعير: إنّي متشوّق إليك، وقلبي عندك. فقال الآخر: وأنا متشوّق إليك، ومجموعي عندك. محمد بن محي الدين المعروف بالحادي الصّيداويّ هو مع قلة أنداده، واحدٌ في تهيئة مواد القبول وإعداده. فاختلف إليه السعى رائحاً وغاديا، وأطرب بذكره الثناء شاديا وحاديا. إلا أنه ترامى في بحبوحة التصلّف، وتكلّف والعلى لاتنال بالتكلّف. ففوّقت إليه سهامها لواحظ الظنون، وقدماً قيل أرض صيدا تنبت العيون. وهو صاحب فكر حديد، وأدبٍ وافر مديد. فاضلٌ ملء إهابه، عارفٌ بإيجاز الأدب وإسهابه. وله كتاب ألحان الحادي، في المراجع والمبادي. استحسنت من شعره فيه قطعة، رأيتها في مفازة وحدها منقطعة. وهي قولي من قصيدة: إذا أنكرتْ دعوَى المحبِّ شهودُهُ ... فحسبِيَ أنِّي في الغرامِ شهيدُهُ فلله شَوْقٌ لا يقَرُّ قَرارهُ ... من البُعدِ حتى مالَه من يعودُه وقد مَلَّه عُوّادُه وهُو مُدنَفٌ ... حليفُ جَوًى صَبُّ الفؤادِ عَمِيدُهُ رعى اللهُ أياماً تقضَّت بقُربهمْ ... ومَن لي بذاك القُرب مَن ذا يُعِيدُهُ أيا عاذِلي عمَّن نَعيمِيَ وَعْدُهُ ... ونارُ جحيمي بُعدُه ووعيدُهُ ولم يتعطَّف بالوِصال لمُغْرمٍ ... وقد طال منه هَجرُه وصُدودُهُ فهذا مَلامِي مَسْمَعِي لايريدُه ... وهذا غرامي لاأزال أرُودُهُ وإن كادَني دهرِي بجَوْر زَمانِه ... تخلَّصْتُ منه بالذي عَمّ جُودُهُ قولي: وقدماً قيل: أرض صيدا تنبت العيون، إشارة إلى قول ابن الساعاتي، وقد هرب غلام، فأمر أن يمرّ في نرجس صيدا: للهِ صَيْداءُ مِن بلادٍ ... لم تُبْقِ عندي هَمًّا دَفِينَا نَرْجِسُها حِليةُ الفَيافِي ... قد طبَّق السهلَ والحُزونَا وكيف ينْجُو بها هَزِيمٌ ... وأرضُها تُنبتُ العيونَا ومما يهزني إلى الطرب فصلٌ لابن شاهين، في وصف صيدا، قال فيه: وأما صيدا، فإنها بين البلاد أسد البيدا. وما أدري كيف يذمها بعض الناس، وأهلها يعوّذونها من شرّ الوسواس الخنّاس. ولعمري إنها بلدة لولا حرارة مائها وهوائها، وبرودة أوضاعها وأبنائها. لكانت جنّة المأوى، في الدنيا والآخرى. اللهم إنا نسألك الإنصاف، ونعوذ بك من التعصّب والاعتساف.

حسين بن عبد الصمد الحارثي

وكيف يشتم الإنسان بلدةً إذا جلب إليها الماء يكتسب حرارة، وإذا استجلب إليها العذب السائغ ينقلب إلى عفوصة ومرارة. وهي كما قال أبو الحسن الباخرزيّ، في مدح محاسن الرّيّ، ولطف هوائها ومائها: صادفتُ فيها كلَّ شَيْءٍ جائزاً ... أقْصى حدودِ البردِ غيرَ الماءِ وكيف لا يمدح الماء الحار، وهو الذي يجلب المسارّ، ويدفع المضارّ. وينفع في الحمّام، للاغتسال والاستحمام، ويحلّل الأورام، وإن شئت فقل يجلب البرسام، والسلام. شعراء جبل عاملة حسين بن عبد الصمد الحارثيّ هو في الإشراق مستمدّ الشمس، وله مزيّة اليوم على الأمس. نبيه المقدار والمكانة، متحلٍّ بالتصلّف والاستكانة. ركض في ميدان الطلب مطايا الأشواق، وضرب آباطها بعصا المشارب والأذواق. حاديه أمله، ودليله عمله، والراحلة عمله. وهو في الإسآد والإعناق، مهدي تحف القبول لجواهر الأعناق. حطّ رحله ببلاد فارس، فطابت بها منه مجانٍ ومغارس. ووجد مشربا عذبا من الشّاه فورد، وقصّرت النّظراء عن مداه فانفرد. بطبعٍ ألطف من نسيم السّحر، يمسح عن عيون الأكمام ويعانق قدود الشّجر وأدبٍ يجري في ميدانه طلق العنان، ويمضي في معركته ماضي الظّبة والسّنان. ولم يزل يتردّد من بلدةٍ إلى أخرى، وتتعاقب عليه مراتب لم تجد أحقّ منه ولا أحرى. حتى اخترمه الأجل، ومضى لما عند الله عزّ وجلّ. وقد أثبتّ من نظمه ما يزري ائتلافه بلؤلؤ العقود، ومن نثره مايزين نقده النقود. فمن ذلك قوله: فاح نَشْرُ الصَّبا وصاح الديكْ ... وانْثنى البانُ يشتكي التحريكْ قُم بنا نجْتلى مُشَعْشَعةً ... تاه من وجْدِه بها النَّسِّيكْ لو رآها المجوسُ عاكفةً ... وَحَّدُوها وجانبوا التَّشْريكْ إن تَسِرْ نحونا تُسَرَّ وإن ... مِتَّ في السيْر دوننا نُحْييكَ وهو أول من اخترع هذا الوزن والقافية، واقتفى أثره ابنه البهاء، في قوله: يا نَدِيمِي بمُهجتي أفْديكْ ... قُمْ وهاتِ الكؤُوسَ من هاتِيكْ ثم تداول الأدباء هذا الوزن والقافية، ولولا خوف الملل لذكرت من ذلك الجملة الكافية. ومن شعره قوله: ما شمَمْتُ الوردَ إلا ... زادني شوقاً إليكَ وإذا ما مال غصنٌ ... خِلتُه يحنُو عليكَ لستَ تدري مالذي قد ... حلَّ بي من مُقْلَتيْكَ إن يكنْ جسمي تناءَى ... فالحشَا باقٍ لديْكَ كلُّ حسنٍ في البرايا ... هو منسوبٌ إليكَ رُشِق القلبُ بسهمٍ ... قوسُه من حاجبيْكَ إن ذاتي وذَواتي ... يامُنائي في يديكَ آهِ لو أُسْقَى لأُشفَى ... خمرةً من شفتيْكَ ورأى قول الوزير أبي الفضل الدّارِمِيّ: أنْبت ورداً ناضِراً ناظرِي ... في وجْنتِه كالقمرِ الطالعِ فلِمْ منعتُمْ شَفتي لَثْمهُ ... والحقُّ أن الزرعَ للزَّراعِ فكتب: لأنَّ أهلَ الحبِّ في حَيِّنا ... عبيدُنا في شرعنا الواسعِ والعبدُ لا مِلْكَ له عندنا ... فزرعُه للسيد المانعِ وقد أجاب عنه بعض المغاربة بقوله: سلَّمتُ أن الحكمَ ما قلتمُ ... وهو الذي نُصَّ عن الشارعِ فكيف تبْغي شَفَةٌ قَطْفَه ... وغيرُها المدعوُّ بالزارعِ ورده الحافظ أبو عبد الله التنيسي التلمساني: في ذا الذي قد قلتُمُ مَبْحَثٌ ... إذْ فيه إبهامٌ على السَّامعِ سلمتُمُ الحكمَ له مطلقاً ... وغيرُ ذا نُصَّ عن الشارعِ يعني أنه يلزم على قول المحب أن يباح له النظر مطلقاً، والشرع خلافه. وأجاب بعض أئمتنا الحنفية بقوله: لأن أهل الحب في حكمنا البيتين اللذين أجاب بهما المترجم. وهو جواب حسن. ولبعض المعاربة، مخاطبا أبا الفضل المذكور: قل لأبي الفضل الوزير الذي ... باهَى به مَغربنا الشرقُ غرسْتَ ظلماً وأردت الجَنَى ... وما لعِرْقٍ ظالمٍ حَقُّ

قلت قوله: " وما لعرق ظالم حق "، هذا بعض حديث رواه الترمذي، وحسَّنه، في باب إحياء الموات: " من أحيى أرضاً ميتةً فهي له، وليس لعرق ظالمٍ حقٌ ". روى بالإضافة والتنوين. والعرق: البناء، والأشجار، والبئر، والنهر. انتهى. وكتب إلى ولده البهاء، هذا اللغز، وهو أغرب الألغاز وأصعبها: أيها الولد المؤيد بالإعزاز، الموفق في حل المعميات والألغاز. أخبرني عن اسم آخر أوله آخر الحروف، وآخر ثانيه بهذا الاسم معروف. قلباً آخريه يتوافقان، وقلباً أوليه متعانقان. لولا ثالثه لصار الاسم حرفا، ولولا ثانيه لصار الفعل ظرفاً. ولولا رأسه لصارت الرجل من النَّجاسات، ولولا رابعه لما يتحقق رابع القياسات. بعضه قاتل، وبعضه الآخر نصف قاتل. طرفا أوله فعل أمر بحرفين، وطرفا ثانيه ما نهيت عن قوله للأبوين. وإن نقص ربعه من ربعه بقي ربعه، وإن زيد ربعه على ربعه حصل ربعه. صدره علامة قلب العاشق، وثانيه علامة الرقيب المنافق. ولولا ربعه لم تتميز القبلية عن القابلية، ولم تفترق المعاني عن علة الفاعلية. بعضه يمين، والبعض في اليسار كمين. وبطرف آخره يبدئ المقام، وبطرفه الآخر ينتهي الكلام. فأجابه: يا سيدي وأبي وأستاذي، ومن إليه في العلوم استنادي. هذا اسم رباعي الأعضا، ثلاثي الأجزا. اثنا عشري الأصول، عديم الحرف المفصول. من الأسماء معدود، وإلى الأفعال مردود. لولا ثلث أوله لصار السخيف بالكرم موصوفا، ولكان كل فقير بسواد الوجه معروفا. ولولا رابعه لاتحدت الماهية بالوجود، ولم يتميز الحاسد عن المحسود. ولو عدم ثانيه لم يكن جمع الثمر ثمارا، ولصارت قرية بالري حمارا. ولو عدم ربعه لم يكن القلب في الجسد، وتبدَّلت السكينة بالغل والحسد. ولصارت الهرة بعض الأزهار، ولم تتميز الحنطة عن بعض الثمار. أوله بالعراق وآخره بالشام، وبثلثا ربعه يتم الإيمان والإسلام. وبثلث ثالثه يبتدئ السؤال، وبثاني ثانيه ينتهي القيل والقال. وقد شرح السيد محمد المعروف بكبريت ألفاظ السؤال والجواب، وتكفل بهما فأصاب شاكلة الصواب. قال في شرح ألفاظ السؤال: هي في اسم قاسم. قوله: آخر أوله، أول الاسم قاف، وآخره بالنظر إلى بسطه مسمى الفاء، وهو آخر حروف الحلق، كما ترى، وآخر ثانيه وهو الألف كذلك الفاء، وهو موصوف بهذا الوصف، أنه هو هو. قوله: قلبا آخريه، وهما السين والميم، يتوافقان لأن حقيقتهما الياء، وقلبا أوليه وهما الألف واللام من قاف، ولا حرفان متعانقان، لولا ثالثه " وهي مسمى السين لصار الاسم حرف عطف وهي أم، أي بعد حذف السين من الاسم. ولولا ثانيه، وهو الألف لصارت الرجل القدم من النجاسات. ولولا ربعه وهو الميم، لم يتحقق القياس التمثيلي، وهو رابع القياسات. بعضه قاتل، وهو سمّ، وبعضه، وهو: قا نصف قاتل. طرفا أوله، وهما القاف والفاء أمر بحرفين، وطرفا ثانيه الذي هو ألف أف. قوله: وإن نقص ربعه، الذي هو السين من ربعه، الذي هو القاف، بقي ربعه، وهو الميم، لأن الباقي بعد طرح ستين من مائة وأربعون. وإن زيد ربعه عكس القضية. قوله: " صدره علامة قول العاشق "، أي ثاني حروفه، وهو الألف، والمراد منه جوهر لفظه، وهو فعلٌ من الألفة، ولم يزل قلب العاشق يألف قلب المعشوق، وكذا الرقيب المنافق. قوله: لولا ربعه، الذي هو الألف، لم تتميز القبلية من القابلية "، لأن به الفرق في هذين اللفظين، ومثله الفعلية والمفعولية. قوله: بعضه يمين، يعني الميم، لأنه يقال: م الله، في أيمن الله، أو المراد: ما عدا القاف، وهو اسم، وبعضه، وهو السين في لفظ اليسار كامن. قوله: وبطرف آخره، الأول أو الآخر يبتدئ المقام، بل ويختم، وبطرف آخره كذلك ينتهي الكلام، لأن الميم نهاية لفظ الكلام. وزهذا شرح ألفاظ الجواب: قوله: رباعي الأعضاء، أي حروف قاسم أربعة. ثلاثي الأجزاء، أي جملته تنقسم ثلاثة، من غير عكس. اثنا عشري الأصول، لأن كل حرف يشتمل على ثلاثة أحرف. قوله: عديم الحرف المفصول؛ لأنه مركب من حرفين فحرفين. وهو معدود من الأسماء، لأنه اسم وضع لمسمى بعينه، ومردود إلى الأفعال، باعتبار أنه مشتق من القسم.

ولده بهاء الدين

قوله: لولا ثلث أوله، الذي هو القاف، والمراد الفاء " لصار لفظ السخيف " بعد حذف الفاء: سخى، والسخى موصوف بالكرم. قوله: وإذ حذف الفاء من لفظ فقير، بقي قير، وهو أسود الظاهر والباطن. قوله: ولولا رابعه الذي هو الميم لا تحدث الماهية بالموجود، لأن وجود الشيء هيئته، فكأنه قال: لاتحدث الهيئة بالماهية. وفيه تسامح، لأن المراد من الميم مسماها، وهو مفرد، فكيف يطلق على المركب من الميم والألف. ويمكن أن يقال: تعدد المراد في هذا الباب كثير، وهو أدخل في الإلغاز. قوله: ولم يتميز الحاسد عن المحسود، كالأول؛ لأنه لا فرق بين المحسود والحاسد في أصل المعنى. قوله: لو عدم ثانيه الذي هو الألف، من لفظ الثمار، بقي ثمر، فلم يبق الجمع. وقوله: قرية بالري، أي وهي خار، وإذا لم تكن الألف فيه بقي: خر. وهو بالفارسية اسم الحمار. قوله: ولو عدم ربعه، الذي هو السين لم يكن ذلك الربع قلب الجسد، لسقوطه، وتبدلت السكينة، فكانت كينة، من قوله تعالى: " فما استكانوا ". وفي الصحاح: " وبات فلانٌ بكينة سوءٍ بالكسر، أي بحالة سوء ". والاستكانة: الخضوع. قوله: الهرة، المراد منه سنَّور، بعمل الترادف، وإذّا لم تكن فيه السين كان نوراً. قوله: الحنطة، المراد منه: سلت، على التسامح. قوله: أوله بالعراق، يعني القاف، في لفظ العراق، وآخره، وهو الميم في لفظ الشام. قوله: وثلثا ربعه، وهما السين والنون، ومن بسط الرابع وهو السين، يتم به الإيمان، لأنه تم بالنون، والإسلام؛ لأن تمامه بالسين، ولا يلزم أن يكون آخراً. قوله: وثلث ثالثه، الذي هو السين، وهو المراد من بسطه يبتديء السؤال حقيقةً، كما ترى، وبثاني ثانيه، وهو اللام من الألف، ينتهي القيل والقال. ولده بهاء الدين الذي استرق النهى، وأشرق بدراً في فلك الازدها. الهمام الفذ البذ، من تطرب بذكره الأسماع وتلتذ. تحلى من الفوائد العلمية بما تحلى، واشتهر اشتهار الصبح إذا تجلى. وازدانت به الدنيا ازديان العاطل بالحلى، والمشكل بالجلى. والمفرق بالتاج، والمقدمة بالإنتاج. وحصل بينه وبين الفضل في الاتحاد التساوي، فأنتج مطلبه من الشكل الأول هذا اللازم المساوي. وأنا أذكر لك خبره على جليته فاعتمد عليه، ولعلك تلغى مالفقه الشهاب من ذكر حاله ولا تجنح إليه. وذلك أنه كان بالشام تكون خلقته، وبها بان رشده وأحسبه من حين لفته قابلته في خرقته. ثم انتقل به أبوه إلى قزوين وهلاله آخذٌ في تدويره، وذهنه في مبادى ملاحظته للدقائق وتصويره. فاستكمل ثمة فضائل المعجبة، وصير عندها فضائل الأول كالمتحجبة. ولما طنت حصاته في العراق، وتجاوزت فيه المدائح من الغلو إلى الإغراق. استدعاه الشاه فصير رئيس العلماء في تخت ملكه، وحلى جيد ممكلته منه بجوهر عقد كل جهابذته شذراتٌ في سلكه. ثم رغب في الفقر والسياحة، واستهبَّ من مهابِّ القبول رياحه. فطلع طلوع الشارد، يرد البلاد كالطيف الوارد. وهو بقتري المسالك، ويقتفر المهالك، ويعاني الممالك. فحج البيت الحرام، ودخل مصر أم الأهرام. ثم ورد دمشق فنم عليه فضله كما نم ريح الورد على الورد، ومنه ظهر بحلب الشهباء كما ظهر العلم الفرد. فلم يمكنه إلا أن شد للعجم نطاق التسيار، ولما وصلها حط بها رحل الاختيار، فصنف وألف، وأبدع حد الإبداع وما تكلف. وابتسمت به دولة الشاه عباس، وأماطت أقواله فيها حنادس الشبه والالتباس. مع عزم ينفلق دونه الصخر الأصم، وحلم يقصر عنه الطود الأشم. ورأيٍ عليه المعول، وفكرٍ هو المعقول الأول. وهناك ما شئت من رفة الألفاظ، ولطافة معانٍ تتعلم منها السحر غمزاتٌ وألحاظ. وتفنن في العبارات يتحير له اللاحظ، وغرائب آدابٍ تكلُّ في استخراج دقائقها عيون الجاحظ. إذا طلعت أغصان أقلامه في رياض أدبه الجنية الغروس، سجدت لها الأقلام سجدة الشكر في محاريب الطروس. فأقلام إفادته لا تنسب بإعياءٍ قط، وصحائف مجده لم تشن من حسودٍ بنقط. وهو في اللسانين فارسٌ بطل، فالعربي من بعده تعجم والفارسي بطل. وله من عقائل اللسانين كل فاتنة الطرف، استوفت في مدى البلاغة اللطف والظرف. فمن بدائعه قوله:

وأهْيفِ القّدِّ لَدنِ العِطْفِ معتدلٍ ... بالطَّرْف والظَّرْف لا ينفكُّ قَتَّالَا إن جال أهْدى لنا الآجالَ ناظِرُهُ ... أو صال قطَّع بالهِجْران أوْصالَا وإن نظرتُ إلى مرآة وَجْنتِه ... حسبتُ إنسانَ عيني فوقها خَالَا كأن عارِضَه بالمِسك عارَضنِي ... أو ليلَ طُرَّتِه في خَدِّه سالَا أو طاف من نورِ خَدَّيْه على بصَرِى ... فخَطَّ بالليلِ فوق الصبح أشْكالَا وكتب إلى والده وهو بالهراة، في سنة تسع وسبعين وتسعمائة: يا ساكني أرضَ الهَراةِ أما كفَى ... هذا الفِراقُ بلَى وحقِّ المصطَفى عودُوا عليَّ فرَبْعُ صبرِي قد عفَا ... والجَفْن من بعد التَّباعُد ماغفَا وخيالكم في بالِي ... والقلبُ في بَلْبالِ إن أقبلتْ من نحْوِكم ريحُ الصَّبا ... قلنا لها أهلاً وسهلاً مَرحبَا وإليكمُ قْلب المتيَّم قد صَبا ... وفِراقكم للروح منه قد سبَا والقلبُ ليس بخالِي ... من حبِّ ذات الخالِ يا حَّبذَا رَبْعُ الحِمَى من مَرْبَعِ ... فغزالُه شَبَّ الغَضا في أضُلعِي لم أنْسَه يوم الفراقِ مُودِّعي ... بمَدامعٍ تجرى وقلبٍ مُوجَع والصبُّ ليس بِسالِ ... عن ثَغْرِه السَّلْسالِ وله، وهي من غرره: خِّلياني ولَوْعتي وغرامي ... يا خليليَّ واذْهبا بسَلامِ قد دعاه الهوى فلبَّاه قلبي ... فدَعاني ولا تُطِيلا مَلامِي إن مَن ذاقَ نَشْوَة الحبِّ يوماً ... لا يُبالي بكثْرة الُّلوَّامِ خامَرتْ خمرةُ المحَّبة قلبي ... وجرَت في مفاصِلي وعظامِي فعلى العلمِ والوقار صلاةٌ ... وعلى العقل ألفُ ألفِ سلامِ هل سبيلٌ إلى وقوفي بوادي الْ ... جِزْعِ يا صاحبيَّ أو إلْمامِي أيها السائرُ المُلِحُّ إذ ما ... جئتَ نَجْداً فعُجْ بوادي الخُزامِ وتجاوَزْ عن ذِي المَجازِ وعرِّج ... عادِلاً عن يمين ذاك المَقامِ وإذا ما بلغتَ حُزْوَى فبلِّغْ ... جِيرةَ الحَيِّ يا أُخَيَّ سلامِي وانْشُدَنْ قلبيَ المُعَنَّى لديهمْ ... فلقد ضاع بين تلك الخيامِ وإذا ما رَثَوْا لحالِي فسَلْهمْ ... أن يمُنُّوا ولو بطيْفِ مَنامِ يا نُزولاً بذِي الأراكِ إلى كمْ ... تنْقضي في فِراقكمْ أعوامِي ما سرَتْ نَسْمةٌ ولا ناح في الدَّوْ ... حِ حَمامٌ إلا وحان حِمامِي أين أيامنا بشَرْقِّي نَجْدٍ ... يارعاها الإلهُ من أيامِ حيثُ غُصْن الشبابِ غضٌّ ورَوضُ ال ... عَيشِ قد طرَّزتْه أيدِي الغَمامِ وزَماني مُساعدٌ وأيادِي الْ ... لَهْوِ نحو المُنى تجرُّ زِمامِي أيها المُرتقِى ذُرَا المجد فرداً ... والمُرجَّى للْفادحاتِ العِظامِ يا حليفَ النَّدى الذي جُمِّعت في ... هِ مَزايا تفرَّقتْ في الأنامِ نِلْتَ في ذِوْرِة الفَخارِ مَحَلاًّ ... عَسِرَ المُرتقَى عزيزَ المَرامِ نسَبٌ طاهرٌ ومجدٌ أثِيلٌ ... وفَخارٌ عالٍ وفضلٌ سامِي قد قَرَنَّا مَقالكم بمقالٍ ... وشفَعْنا كلامَكم بكَلامِ ونظَمْنا لها مع الدُّرِّ في سِمْ ... طٍ وقُلنا العبيرُ مثلُ الرَّغامِ لم أكُنْ مُقْدِماً على ذا ولكنْ ... كان طَوْعاً لأمْرِكم إقْدامِي عَمْرَك اللهُ يا ندِيمَي أنْشِدْ ... جارَتا كيف تُحسنين مَلامِي وله: أسحرُ بابِلَ في جَفْنْيكِ أم سَقَمِى ... أم السيوفُ لقْتل العُرْب والعجمِ

والخالُ مَركَزُ دَوْرٍ للِعذار بدا ... أم ذاك نَضْحُ عِثارِ الخَطِّ بالقلَمِ أم حَّبةٌ وُضِعَتْ كيمْا تصيدَ بها ... حَبَّ القلوبِ فصادتْ كلَّ مُلتِئمِ أم الفَراشُ هوَى طيرُ الفؤادِ على ... نارٍ بخَدِّك حتى صار كالفحمِ قوله: والخال، البيت، من قول الرَّاميني الإستراباذيّ: هل نضَحتْ أقلامُ خَطِّ العِذارْ ... في مَشْقِها فالخالُ نَضْحُ العِثارْ أم اسْتدارَ الخدُّ لمَّا غَدَتْ ... نُقطُته مَركزَ ذاكَ المَدارْ قوله: أم حبة، هذا كثير، وقد تقدم في ترجمة السَّفرجلانيّ. وقوله: أم الفراش، هذا من قول عون الدين العجمي، وفيه زيادة: لهيبُ الخدِّ حين بدا لعْيني ... هوَى قلبي عليه كالفَراشِ فأحْرقه فصار عليه خالاً ... وها أثُر الدُّخان على الحَواشِي وله يرثى والده، وقد توفي بالمصلى من قرى البحرين، لثمان خلون من شهر ربيع الأول، سنة أربع وثمانين وتسعمائة، عن ست وستين سنة وشهرين وسبعة أيام: قفْ بالطُّلولِ وسَلْها أين سَلْماهَا ... ورَوِّ مِن جُرَع الأجْفان جَرْعاهَا وردِّد الطَّرف في أطرافِ ساحتِها ... وأرِّجِ الوصلَ من أرْواحِ أرْجاهَا فإن يَفُتْك من الأطْلالِ مَخْبرُها ... فلا يفوتَنْكَ مَرْآها ورَيَّاها رُبوعُ فضلٍ يُضاهِي التِّبْرَ تُربتُها ... ودارُ أُنْسٍ يُحاكي الدُّرَّ حَصْباهَا عدا على جِيرةٍ حَلُّوا بسَاحتِها ... صَرْفُ الزمانِ فأبْلاهم وأبْلاهَا بدورُتِمٍّ غمامُ الموتِ جَلَّلها ... شموسُ فضلٍ سحابُ التُّرْبِ غَشَّاهَا فالمجدُ يبكي عليها جازِعاً أسِفاً ... والدِّين يْندُبها والفضلُ ينْعاهَا يا حَبَّذا أزْمُنٌ في ظلِّهم سلَفتْ ... ما كان أقصرَها عُمْراً وأحْلاهَا أوقاتُ أُنْسٍ قضيْناها فما ذُكِرتْ ... إلا وقطَّع قلبَ الصَّبِّ ذِكْراهَا باجِيرةً هجَروا واستوْطنُوا هَجَراً ... واهاً لقلبِ المُعنَّى بعدكم وَاهَا رَعْياً لِلَيْلاتِ وَصْلٍ بالحِمَى سلَفتْ ... سَقْياً لأيَّامنا بالخَيْفِ سُقياهَا لفَقْدكم شُقَّ جَيْبُ المجدِ وانْصدعتْ ... أركانُه وبكم ما كان أقْواهَا وخَرَّ من شامخاتِ العلم أرْفعُها ... وانْهَدَّ من باذِخاتِ الفضلِ أرْساهَا يا ثاوياً بالمُصَلَّى من قُرى هَجَرٍ ... كُسِيتَ من حُلَلِ الرِّضْوان أضْفاهَا أقْمتَ يا بحرُ بالبحريْن فاجتمعتْ ... ثلاثةٌ كُنَّ أمثالاً وأشْباهَا ثلاثةٌ أنت أنْدها وأغزرُها ... جُوداً وأعذبُها طعماً وأضْفاهَا حَويْتَ من دُرَرِ العلْياءِ ما حَوَيا ... لكنَّ دُرَّك أعْلاها وأغْلاهَا يا أعْظُما وَطِئتْ هامَ السُّها شرَفاً ... سَقاكِ من دِيَمِ الوَسْمِىّ أسْماهَا ويا ضريحاً علَا فوق السِّماكِ عُلاً ... عليْك من صلَواتِ الله أزْكاهَا فيك انْطَوى من شموسِ الفضلِ أضْوَءُها ... ومن مَعالمِ دينِ الله أسْناهَا ومِن شوامِخِ أطْوادِ الفتوَّةِ أرْ ... ساها وأرفعُها قدراً وأبْهاهَا فاسْحَبْ على الفَلَكِ الأعْلى ذيولَ عُلاً ... فقد حوَيْتَ من العَلْياءِ عَلْياهَا عليك مِنّا صلاةُ اللهِ ما صدَحتْ ... على غصونِ أرَاكِ الدَّوْحِ وَرْقاهَا ومن مقطعاته قوله: لعينيْك فضلٌ كثيرٌ علىَّ ... وذاك لأنِّيَ يا قاتليِ تعلَّمتُ من سحرِها فعقدتُ ... لسان الرَّقيبِ مع العاذلِ وكتب من قزوين إلى والده، وهو بالهراة: بقَزْويَن جسمِي وروحي ثوَتْ ... بأرضِ الهَراةِ وسُكانِهَا

حسن بن زين الدين الشهيد

فهذا تغرَّب عن أهْلِه ... وتلك أقامتْ بأوْطانِهَا وله: إن هذا الموتَ يكرَهُه ... كلُّ من يمشِي على الغَبْرَا وبعْين العقل لو نظروا ... لرأَوْه الراحةَ الكبرَى اقتفى في هذا أثر ابن الرومي، في مدح الموت، حيث قال: قد قلتُ إذ مدحوا الحياةَ وأسْرفوا ... في الموت ألفُ فضيلةٍ لا تعرَفُ منها أمانُ لِقائِه بلقائِه ... وفِراقُ كلِّ مُعاندٍ لا ينْصِفُ ومن رباعياته، ما كتبه لبعض أحبابه، وهو في المشهد الأقدس الرضوي: يا رِيحُ إذا أتَيْت أرضَ الجمْعِ ... أعنِي طُوساً فقُل لأهلِ الرَّبْع ما حَلَّ برَوْضةٍ بهائِيُّكمُ ... إلَّا وسقَى رياضَها بالدَّمْعِ وكتب إلى بعض أحبابه بالنجف الأشرف: يا رِيحُ إذا أتيتَ أرضَ النَّجَفِ ... فالْثمِ عَنِّي تُرابَها ثم قِفِ واذْكُر خبَرِي لدى عُريب نزلوا ... وادِيَه وقُصَّ قصَّتي وانْصرفِ وله: يا عاذلُ كم تطيلُ في إتْعابي ... دَعْ لَوْمَك وانصرفْ كفانِي ما بِي لا لَوْمَ إذا هِمْتُ من الشوقِ على ... قلبٍ ما ذاق فُرقةَ الأحْبابِ وله: يا بدرَ دُجىً بوَصْلِه أحْيانِي ... إذْ زار وكمْ بهجْره أفْنانِي باللهِ عليك عِّجَلنْ سفْكَ دمى ... لا طاقة لي بليْلِة الهجرانِ حسن بن زين الدين الشهيد ركن محدٍ ركين، مكانه في ذروة الرياسة مكين. رسا في في بحبوحة البسالة ورسسخ، ونسخ خطة الجهل بما خط ونسخ. وهو من قومٍ تنوس ذوائبهم على هام الجبال، وتستمد الشموس من سناهم فلذا ترخى عند المغيب الحبال. تقطع إليهم الوعور فتلفى بشوقهم صعيدا، وتستبعد لغيرهم السماوة ولا يرى السماء بقصدهم بعيدا. وأبوه زين الدين ممن كان له صيتٌ يفلق الصخر، وتقدم فيما بينهم ينفلق عنه فجر الفخر. إلا أن الأيام غالته بطوارقها، ونازلته برواعدها وبوارقها. على جهد في قتله جهيد، حتى ألقى السمع وهو شهيد. فخلفه ابنه حسن، ومن حديث فضله صحيحٌ حسن. فقام مقام الوبل في البلد المحل، وكان أندى من الصبا وأشهى من جنى النحل. يبتدر ويروى، وينقع بزلال أدبه ويروى. ويمتع بأحاسن الأخبار، ويقطع منها جانب الاعتبار. مع فكرةٍ ماؤه يسيح، وطبعٍ بستانه فسيح. وله مؤلفات حسن فيها كل الإحسان، أجلها منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان. وأما شعره فلبنان منبت زهرة الفواح، ونسيمه الطلق راوي حديث نفحته للأرواح. وقد أثبت منها ما يردد محاسنه الدهر ويرويها، وينشر فضائله على كواهل الأدب ويطويها. فمنه قوله: فؤادِي ظاعنٌ إثْرَ النِّياقِ ... وجسمي قاطنٌ أرضَ العراقِ ومن عجَبِ الزمانِ حياةُ شخصٍ ... ترحَّل بعضُه والبعض باقِ وحلَّ السُّقْمُ في بدني وأمْسَى ... له ليلُ النَّوَى ليلَ المَحاقِ وصَبْرِي راحلٌ عمَّا قليلٍ ... لشدة لَوْعتي ولَظَى اشْتياقِي وفَرْطُ الوَجْدِ أصبح بي خليقاً ... ولمَّا يْنوِ في الدنيا فِراقِي وتعبثُ نارُه في الرُّوح حسناً ... فيوشك أن تُبِّلغَها التراقِي وأظْمأني النَّوى واراق دمعي ... ولا أُرْوَى ولا دمعي بِراقِ وقيَّدني على حالٍ شديدٍ ... فما حِرْزُ الرُّقَي منه بِوَاقِ أبَى اللهُ المهيمنُ أن تراني ... عيونُ الخلق محلولَ الوَثاقِ أبِيتُ مَدى الزمانِ لنارِ وَجْدِي ... على جمرٍ يزيد به احْتراقِي وما عيشُ امْرِئٍ في بحرِ غَمٍّ ... يُضاهِي كربُه كَرْبَ السِّياقِ يوَدُّ من الزمان صفاءَ يومٍ ... يلُوذُ بظله مّما يُلاقِي سقتْنِي نائباتُ الدهرِ كأساً ... مَرِيراً من أباريقِ الفِراقِ ولم يخطُرْ ببالِي قبلَ هذا ... لفَرْطِ الجهل أن الدهرَ ساقِ

سبطه زين الدين بن محمد

وفاض الكأسُ بعد البَيْنِ حتى ... لَعَمْرِي قد جرَتْ منه سَواقِ فليس لِداء ما ألْقَى دواءٌ ... يُؤمَّل نفُعه إلَّا التَّلاقِي وقوله: وهو من أبدع ما هزَّ به الشوق، بعصا السوق. يتشوق إلى محله، ويندب بعد ترحله عنه ومرتحله: طولُ اغْترابِي بفَرْط الشوقِ أضْنانِي ... والبَيْنُ في غَمَراتِ الوَجْدِ ألْقانِي يا بارِقاً من نواحِي الحيِّ عارَضنِي ... إليك عنِّي فقد هَيَّجْتَ أشْجانِي فما رأيُتك في الآفاقِ مُعترِضاً ... إلا وذكَّرْتني أهلى وأوْطانِي ولا سمعتُ شَجا الورْقاءِ نائحةً ... في الأيك إلا وشبَّتْ منه نيرانِي كم ليلةٍ من ليالِ البَيْنِ بِتُّ بها ... أرْعَى النجومَ بطَرْفِي وهْي تَرْعانِي كأن أيْدِي خُطوبِ الدهر منذ نأَوْا ... عن ناظرِي كحَّلَتْ بالسُّهْدِ أجْفانِي ويا نسيماً سرَى من حَيِّهم سحراً ... في طَيِّه نَشْرُ ذاك الرَّنْدِ والْبانِ أحْيَيْت مَيْتاً بأرْضِ الشام مُهجَتُه ... وي العراق له تَخْيِيلُ جُثمانِي وكم حييتُ وكم قد مِتُّ من شَجَنٍٍ ... ما ذاك أوَّلُ إحياءٍ ولا الثاني يالائمِي كم بهذا الَّلوْمِ تُزعِجني ... دَعْني فلَوْمُك قد واللهِ أغْرانِي لا يسكُن الوجدُ مادام الشَّبابُ ولا ... تصْفُو المشاربُ ليِ إلَّا بلُبْنانِ في رَبْعِ أُنْسِى الذي حلَّ الشبابُ به ... تَمائِمِي وبه صَحْبي وخِلانِي كم قد عهدتُ بهاتيك المعاهدِ مِن ... إخْوانِ صِدْقٍ لَعَمْري أيُّ إخوانِ وكم نقضَّتْ لنا بالحيِّ آونةٌ ... على الَمسرَّة في كَرْمٍ وبُستانِ لم أدْرِ حالَ النَّوَى حتى علِقْتُ به ... فغَمْرتي من وقُوعِي قبل عِرْفانِ حتَّى مَ دهري على ذَا الْهَوْنِ تُمسكني ... هلا جنَحتَ لتسْريحٍ بإحْسانِ أقسمتُ لولا رجاءُ القرْبِ يُسعِفني ... فكلَّما مُتُّ بالأشواق أحْيانِي لكدتُ أقْضِي بها نحْبِي ولا عجبٌ ... كم أهَلك الوجدُ من شِيبٍ وشُبّانِ يا جِيرةَ الحيِّ قلبي بعدَ بُعدِكمُ ... في حَيْرةٍ بين أوْصاب وأحْزانِ يمضي الزمانُ عليه وهو ملتزِمٌ ... بحبِّكمْ لم يُدنِّسْه بسُلوانِ باقٍ على العهدِ راعٍ للذِّمامِ فما ... يُسوم عهدَكمُ يوماً بنِسيانِ فإن بَراني سَقامِي أو نأَى رَشَدِي ... فلاعِجُ الشوقِ أوْهانِي وألْهانِي وإن بكتْ مقلتي بعد الفِراقِ دَماً ... فمن تذكرِكم يا خيرَ جِيرانِ سبطه زين الدين بن محمد هو السبط، ذو البنان السبط، حازم الرأي في الحل والربط. مجده نسق الحديث مع القديم، وحلاه تسوغ بها المدامة إذا تكررها النديم إلى ذاتٍ كاملةٍ مكملةٍ ونفسٍ بفعل الجميل مجملة. ملازم كنٍ وعُزلة، متعاطٍ سهل العيش وجزله. ثم سمت همته إلى أن طار عن أهله، وخرج يتتبَّع عجائب القطار على مهله. يرتاد غير أرضه أرضا، ليقضى من أمر الرحلة سنة وفرضا. حتى كان البيت الحرام آخر مطافه، انتقل إلى عفو الله وخفى ألطافه. وقد رأيت له شعراً يتجلى في أبراد الإجادة، ويتحلى بالكلمات بالصقيلة المستجادة. فأثبت منها ما ترقص بسماعه معاطف وذوائب، وتمسى قلوب العشاق من نار غرامه، وهي ذوائب. فمن ذلك قوله، يشكو طول نواه، ويندب أوقاته بمحل ثواه: سئمتْ لفَرْط تنُّقلِي البَيْداءُ ... وشكتْ لعِظْم ترحُّلي الأنْضاءُ ما إن أُرى في الدهرِ غير مُوَدِّع ... خِلًّا وتوديعُ الخليل عَناءُ أبْلَى النَّوى جلَدِي وأوْقد في الحشَا ... نِيرانَ وجدٍ مالها إطفاءُ فقدتْ لطُول البَيْن عيني ماءَها ... فبكاؤُها بدل الدموع دماءُ

السيد نور الدين بن أبي الحسن الحسيني

فارقتُ أوطاني وأهلَ مودَّتي ... وحبائباً غِيداً لهنَّ وفاءُ من كلِّ مائسةِ القَوامِ إذا بدتْ ... لجمالِ بهْجتها تغارُ ذُكاءُ ما أسْفرتْ والليلُ مُرْخٍٍ سِتْره ... إلا تهتَّكُ دونها الظلماءُ ترْمِى القلوبَ بأسهُمٍ تُصْمِى وما ... لجِراحهنَّ سوى الوِصالِ دواءُ شمسٌ تَغارُ لها الشموسُ مُضيئةً ... ولها قلوبُ العاشقين سَماءُ هيفاءُ تختلس العقولَ إذا رنَتْ ... فكأنما لَحَظاتُها الصَّهْباءُ ومَعاشرٍ ما شاَنَ صدقَ وفائهمْ ... نقضُ العهودِ ولا الودادَ مِراءُ ما كنتُ أحسبُ قبل يوم فِراقهمْ ... أن سوف يُقْضَى بعد ذاك بقاءُ فسقَى رُبَي وادي دمشق وجادَها ... من هاطِل المزْنِ المُلِثِّ حَياءُ فيها أُهَيْلُ مودَّتي وبتُرْبها ... لجَليلِ وجدي والسَّقامِ شِفاءُ ورعى ليالِينا التي في ظِلِّها ... سلَفتْ ومُقْلةُ دهْرنا عَمْياءُ أترى الزمان يعود لي بإيابها ... ويباح لي بعد البعاد لقاء فإلى متى يا دهْر تصدَعُ بالنَّوَى ... أعْشارَ قلبٍ ما لهُنَّ قواءُ وتسُومني فيك المُقامَ بذلَّةٍ ... ولِهمَّتي عمَّا تسُوم إباءُ فأجابني لولا التَّغرب ما ارتقى ... رتبَ العلا من قبلك الآباءُ فاصبرْ على مُرِّ الخطوب فإنما ... مِن دون كلِّ مسرَّةٍ ضَرَّاءُ واترُكْ تذكُّرَك الشآمَ فإنما ... دون الشآمِ وأهلِها بَيْداءُ وقوله من قصيدة في المدح، مستهلها: شامَ بَرْقاً لاح بالأبْرَقِ وَهْنَا ... فصبَا شوقا إلى الجِزْعِ وحَنَّا وجرى ذكْرُ أُثَيْلاتِ النَّقَا ... فشكا من لاعِجِ الشوقِ وأنَّا دَنِفٌ قد عاقه صَرْفُ الرَّدَى ... وخُطوبُ الدهرِ عمَّا يتمَنَّى شَفَّه الشوقُ إلى بَانِ اللِّوَى ... فغدا مُنْهمِلَ الدمع مُعَنَّى أسلمتْهُ للرَّدَى أيْدِي الأسَى ... عندما أحْسنَ بالأيام ظَنَّا طالما أمَّلَ إلمْاَم الكرَى ... طمَعا في زَوْرِة الطَّيْفِ وأنَّي كلَّما جَنَّ الدجى حَنَّ إلى ... زمنِ الوصلِ فأبْدَى ما أجَنَّا وإذا هبَّ نسيمٌ من رُبَى ... حاجِرٍ أهْدَى له سُقْما وحُزْنَا يا عربيا بالحِمَى لولاكمُ ... ماصَبا قلبي إلى رَبْعٍ ومَغْنَى كان لي صَبرٌ فأوْهاه النَّوى ... بعدَكم يا جِيرةَ الحيِّ وأفْنَى قاتَلَ اللهُ النَّوى كم قرَّحتْ ... كبِداً من ألمِ الشوق وجَفْنَا كدَّرتْ مَورِدَ لَذَّاتي وما ... تركتْ لي من جميل الصبرِ رُكْنَا قطعت أفلاذ قلبي والحشا ... وكستني من جليل السقم وَهْنَا فإلى كم أشْتكي جَوْرَ الهوى ... وأُقاسِي من هوى ليلى ولُبْنَى قد صَحَا قلبيَ من سُكْرِ الهوى ... بعد ما أزْعجه السكرُ وعَنَّى ونَهانِي عن هوى الغِيدِ النُّهىَ ... وحَباني الشَّيبُ إحساناً وحُسْناً وتفرَّغْتُ إلى مَدحِ فتىً ... سُنَّةَ المعروفِ والأفْضالِ سَنَّا السيد نور الدين بن أبي الحسن الحسيني هو نورٌ للمجتلى القابس، وابتسامٌ في الزمان العابس. سما قدره بين فضلاء الأنام، وحلَّ من الأدب بين الذورة والسنام. وصيته في الحجاز أشهر من يوم بدر، وأنور من ليلة القدر. مع نزاهة عن الدنيا، ورفعة نيطت بالثريا، ولهجةٍ ترقرق فيها ماء الحيا، فأحيي وحي. وكرم طبعه مع حسن صمته، دليلٌ للرواة على حسن سمته. فإذا حبا أنى توازن به الغيوث السواكب، وإذا احتبى هيهات أن تشبهه الجبال الرواسب. وله فوائد قد تأنق فيها، وأشعارٌ أصبح جوهره سلك مقتفيها.

وقد أثبت له ما يعجب إحسانه، ولا يجحد حسنه أو ينكر استحسانه. فمنه قوله، من قصيدة طويلة في المدح، مطلعها: لك الفخرُ بالعَلْيا لك السَّعُد راتبُ ... لك العزُّ والإقبال والنصر غالبُ سمَوْتَ على قَبِّ السَّراحِين صائلاً ... فكلَّتْ بكفَّيْك القّنا والقواضبُ وحُزْتَ رِهان السَّبق في حَلْبة العلى ... فأنت لها دون البريَّة صاحبُ وجُلْتَ بحَوْماتِ الوغى جَوْل باسلٍ ... فرُدَّت على أعْقابهن الكتائبُ فلا الدَّارعاتُ المُقتماتِ تكنُّها ... ملابُسها لما تَحِقُّ المضاربُ ولا كثرةُ الأعداء تغنى جموعُها ... إذا لمعتْ منك النجومُ الثواقبُ خُضِ الحَتْفَ لا تخشَ الورى واقْهرِ العدى ... فليس سوى الإقدام في الرأيِ صائبُ وشمِّر ذيولَ الحزْمِ عن ساقِ عزْمِها ... فما ازدحمتْ إلا عليك المراتبُ إذا صدَقت للناظرين دلائلٌ ... فدَعْ عنك ما تُبدِي الظنونُ الكواذبُ بِبيضِ المَواضي يُدرِك المرءُ شأوَهُ ... وبالسُّمْر إن ضاقتْ تهون المصاعبُ لِأسْلافك الغُرِّ الكرام قواعدٌ ... على مثلها تُبنَى العلى والمناصبُ زكَوْتَ وحُزْتَ الفضل مجداً ومحتِدا ... فآباؤُك الصِّيد الكرام الأطايبُ ومن يَزْكُ أصلاً في المعالي سمتْ به ... ذُرَا المجد وانْقادتْ إليه الرَّغائبُ بَنُو عمِّكم لمَّا أضاءتْ مشارقٌ ... بكم أشرقتْ منهم علينا مغاربُ وفيكم لنا بدرٌ من الغرب طالعٌ ... فلا غَرْو أن كانت لديه العجائبُ هو الفخر مَدَّ الله في الأرض ظلَّه ... ولا زال تُجْلَى من سَناه الغياهِبُ إلى حلبَ الشَّهباءِ منِّى بِشارةٌ ... تعطِّرها حتى تفوحَ الجاونبُ إذا ما مضى من بعد عشرٍ ثلاثةٌ ... من الدَّوْر فيها تُستَتمُّ المآربُ لقد حدَّثتْ عنها أولو العلم مثلَما ... جَرى وانْقضت تلك السِّنونَ الجوادِبُ بدا سعدُها لمَّا علىٌّ بد بها ... وياطالما قد أُنحستْ وهْو غاربُ وفَوْزُ عليٍّ بالعلى فوزُها به ... فكلٌ إلى كلٍّ مضافٌ مُناسبُ كأنِّي بسيف الدولة الآن وارداً ... إليها يُلاقي ما جنْته الثَّعَالبُ لقد جادَها صَوْبُ الحيا بعد مَحْلِها ... وشرَّفها مَن أحكمتْه التَّجارِبُ كريمٌ إذا ما أمحلَ الغيْثُ أمطرتْ ... أيَادِيه جُوداً منهع تصفُو المشاربُ أديب أرِيب لو تجسَّم لفظُه ... أصابتْه عِقْداً للنُّحور الكواعبُ فيا أيها المنصورُ بُشْراك رتبة ... بها السعدُ حقا والسرورُ مُواظبُ مدحْتكُمُ والمدحُ فيه تجارةٌ ... بها تُثمِر النُّعمَى وتْغلو المكاسبُ إلى باب عَلْياكم شدَدْت رواحِلِي ... ويا طالما شُدَّت إليه الركائبُ بها الفضلُ منشورٌ بها الجودُ وافرٌ ... بها فتحُ من سُدَّت عليه المَذاهبُ وماذا عسى أن يبُلغ الوصفُ فيكمُ ... إلى غايةٍ هل يْنقُص البحرَ شاربُ فلا زلتمُ في أكْملِ السعدِ والهنا ... مدَى الدهر ما مالتْ وماسَتْ ذوائبُ وله يتغزل: يا مَن مَضَوْا بفؤادي عندما رحلُوا ... من بعد ما في سُوَيْدا القلبِ قد نزلوا جارُوا على مُهْجتي ظلما بلا سببٍ ... فليت شعرِي إلى مَن في الهوى عَدَلوا وأطلقوا عَبْرتي من بعد بُعدهمُ ... والعْينُ أجفانها بالسُّهد قد كحَلُوا يا من تعذَّب من تسْويفهم كبدي ... ما آنَ يوماً لقطْع الحبل أن تصِلوا جادُوا على غيْرنا بالوَصْل مُتَّصِلاً ... وفي الزمان علينا مرَّةً بَخِلُوا

ولده السيد جمال الدين

كيف السبيلُ إلى من في هواه مضَى ... عُمْري وما صدَّني عن ذكرِه شُغُلُ وَاحَيْرتي ضاع ما أولَيْتُ من زمنٍ ... إذْ خاب في وَصْل مَن أهواهمُ الأملُ في أيِّ شَرْعٍ دماءُ العاشقين غدَتْ ... هَدْرَى وليس لها ثارٌ إذا قُتِلُوا يالَلرِّجال من البِيض الرِّشاق أما ... كفاهمُ ما الذي بالناس قد فعلُوا مَن مُنصِفي من غزَالٍ ماله شُغُلٌ ... عنِّي لا عاقثني عن حبِّه عملُ نصبتُ أشْراك صَيْدي في مَراتعِه ... والصَّيد فنِّى ولي في طُرْقه حِيَلُ فصاح بي صائحٌ خَفِّضْ عليك فقد ... صِيدَ الغزالُ الذي تْبغيه يا رجلُ فصرتُ كالوا لِه السَّاهي وفارقني ... عقلي وضاق علىَّ الأرضُ والسُّبُلُ وقْلت بالله قلب لي أين سارِبُه ... مَن صادَه علَّهم في السَّيْر ما عجِلُوا فقال لي كيف تَلْقاهم وقد رحلُوا ... مِن وقتهم واستجدَّتْ سيْرَها الإبلُ ولده السيد جمال الدين هذا السيد كنت أسمع خبره مجملاً، ولا أرى لوصفه على غير الكمال محملا. حتى عاشرت أخاه السيد علياً بمكة ففصل ذلك الإجمال، وعرفني أنه أوتي الغاية من وصف الكمال والجمال. وأوقفني على ماله من النظم الرصين في اللفظ الرصيف، فتناولت منه ما هو أشهى من كأس الحميا طاف بها الساقي الوصيف. وذكر لي أنه بعد ما أقام بالحرم المكي مدة، وأعد للتفرد في طريق المنادمة أحسن عدة. دخل حيدر أباد بقصْد ملكها أبي الحسن، فنشط لملاقاته نشاط الجفن للوسن. وأحله كنفا وسهلا، وأراه جيرةً للمدح أهلا. فبقي في سرابيل إنعامه رافلا، ويبث مدائحه على رؤوس الأشهاد حافلا. ثم طرأت على أبي الحسن طارئة دهياء دهما، وفجأته من تغلب أورنك زيب عليه فاجئة عمياء صما. فتقلب في العجائب العقم، وتخامر في النوائب الدهم. واقتطفت السيد جمال الدين في أثر ذلك المنية، دون أن ينال من مواهبه كل الأمنية. فما وصل إلى قبضة الملمات، حتى حصل في غصة الممات. وقد ذكرت له ما تعجبك طرائقه، ويبعث طربك شائقة ورائقه. فمن ذلك قوله، من قصيدة مدح بها الإمام أحمد بن الحسن، أحد أئمة اليمن: خليلىَّ عُودا فيا حّبذَا المَطْلُ ... إذا كان يُرجَى في عواقبه الوصلُ خليلىّ عودا واسْعِداني فأنتما ... أحقُّ من الأهْلِين بل أنتما الأهلُ فقد طال سَيْرِي واضْمحلَّت جوارحي ... وقد سئمتْ فَرْط السُّرَى العِيسُ والإبْلُ فعادا وقالا صَحَّ ما بك من جَوًى ... وفي بهعض مالا قْيتَه شاهدٌ عَدْلُ ولكنَّ طولَ السير ليس بضائر ... وغايُته كنزُ النَّدَى أحمدُ الشِّبْلُ منها: أبانتْ به الأيامُ كلَّ عجيبةٍ ... يسير بها الركبُ اليَمانِيُّ والقَفْلُ فنيرانُ بأْسٍ في بحارِ مكارمٍ ... ومِن فِعْله وصلٌ وفي قوله فَصلُ أرانا عيَاناً ضِعف أضْعاف سمعِنا ... وعن جوده قد صحَّ بالنظر النقلُ منها: أقول وقد طفتُ البلاد وأهلها ... بلَوْتُهمُ قولا يصدِّقه الفِعْلُ إذا ما جرى ذكرُ البلاد وحسنِها ... فتلك فروعٌ والغِراسُ هي الأصلُ وإن عُدَّ ذُو فضل ومجد مُؤثَّلٍ ... فأحمدُ من دون الأنام له الفضلُ فلا غَرْوَ أن قصَّرتُ طولَ مدائحي ... ففي البعد قَصْرُ الفرضِ جاء به النَّقْلُ إليك صَفِيَّ الدين مني خَريدةً فريدةَ ... حسنٍ لا يُصابُ لها مِثْلُ وأعظمُ ما ترجو القبولَ فإنما ... قبولُ الثَّنا بابٌ يتمُّ به السُّؤْالُ فحقِّقْ رجاها واْحِل عاطلَ جِيدها ... بما أنت يا نَجْل الكرام له أهلُ ومن مقطعاته قوله معميا باسم رجب: قلتُ مذ حلَّ منزلي وصفا لِي ... كأسُ وقْتي من شَوْب واشٍ مُريبِ

أخوه السيد علي

حبَّذا منزلٌ به منتهى السُؤْ ... لِ غدا نازِلاً بغيرِ رقيبِ وقوله باسم هشام: سَقْياً لأيامِ لنا مع جِيرةٍ ... كانت إذا عزَّ النَّصيرُ مَلاذَا مرَّت على عجَلٍ فلا واللهِ ما ... نظَر المتيَّمُ بعدها اسْتْلذاذَا وقوله في اسمٍ سنان: للهِ مجلسُ أُنْسٍ قد قضيتُ به ... يوماً يعادل عندي مدة العمرِ تضاعَف الحسنُ فيه حين لاح لنا ... بدرُ الدجى من زوايا روضِهِ النَّضْرِ وقوله في إسم ابراهيم: ظبيٌ من التُّرْك قاسٍ رُحْتُ أسأله ... وصلاً فقال مُجيباً مُذْ بِهِ بَخِلاَ صُنْ ماءَ وجهك عن ذلِّ السؤال تَجِد ... طريقَ عزٍّ ببحرِ المجد متَّصلاَ أخوه السيد علي لقيته وقدره كاسمه علي، وفضله من الأفق الحجازي واضح جلي. وهو أديبٌ مجاله فسيح، وشاعر بديع الشعر فصيح. يسحر ببيانه العقول، ويبهر الألباب بما يقول. توخى سمت أخيه، فشدت به أواخيه. فلكم تقلد منه درة فكر، فصيرها زينة إطراء وذكر. حتى حكاه طبعا ووصفا، وجاراه إتقانا ورصفا. فلئن كان الأول اختار لأشعاره الشعرى مرطا، فقد صير الثاني الثريا لآثاره قرطا. وقد أثبت لها ما يروق ويشوق، ويغنى العاشق عن النظر في وجه المعشوق. فمن ذلك قوله، من قصيدة، مستهلها: ماستْ كخُوط الْبان قدَّا ... وزهَتْ بجِيد زان عِقدا حسرتْ عن البدر التَّما ... مِ دُجى الِّلثامِ فهِمتُ وَجْدَا وجلتْ لنا من ثَغْرِها ... دُرًّا وياقوتا وشُهْدَا ونضَتْ عن البِلَّوْرِ بُرْ ... داً أكْسب الأحشاءَ بَرْدَا هيفاءُكم من مغرمٍ ... في عشقِها قد مات صَدَّا مشغوفةٌ بالخُلْف لم ... تحفظْ لذِي الميثاقِ عهدَا مَلَّكتها رِقِّي على ... حُكْمِ الغرامِ وصرتُ عبدَا عَذُب العذابُ بحيِّها ... والغَيُّ فيه أراه رُشْدَا كم قد خصَمتُ مُعنِّفا ... في حبها وقهرتُ ضِدَّا وجعلتُ بين مَسامِعي ... ومقالِة العُذَّالِ سَدَّا حتى غدتْ عينُ الرَّقِي ... بِ ليأْسِه يا صاحِ رَمْدَا ما الوردُ يُعجبني وقد ... قبَّلتُ من أسماءَ خَدَّا كلَّا ولا الرُّمان يُشْ ... جِيني وقد ضمَّيْت نَهْدا واهاً لزَنْدٍ منه أوْ ... رَتْ في الحَشا والقلبِ زَنْدَا ولِمِعْصَم بَرَد السِّوا ... رُ عليه لما ازْدَدْتُ وَقْدَا سَلْ لَحْظَها الوَسْنانَ كم ... قد أوْرثَ الأجفان سُهدَا أوَ ما كفاه فلِمْ ترى ... بالسُّقْم جسمَ الصَّبِّ أعْدَى وجَبينُها الفَتَّان كيْ ... ف لمُهجتي الأشجانَ أهْدَى يا نظرةً قادتْ لقلْ ... بِي الوَجدَ ليس لها مَرَدَّا أيحِلُّ في شرعِ الهوى ... أن تهجُرِين الصبَّ عَمْدَا يا غادةً تْستلُّ من ... ألْحاظها عَضْبا فِرِنْدَا عجَبا لطَرْفك وهْو سكْ ... رانٌ يقيمُ علىَّ حَدَّا وقوله: أيا قلبُ بُحْ مُسْتَشْهِراً بهوى دَعْدِ ... وخُضْ جاسِراً لُجَّ الصبابِة والوجدِ ولا تَعْدِلَنْ عن حبها ولَوَانَّها ... صَلَتْك ينِيرانِ الصدودِ أو البُعْدِ عليك بها عَذْاَرءَ مَعْسولةَ الَّلَمى ... مُعقْربةَ الصُّدْغيْن مْمشوقَة القَدِّ مُدَمْلجةَ الساقْين مهْضمومةَ الحَشا ... مُورَّدةَ الخدَّيْن فاحمةَ الجَعْدِ إذا ما غدتْ تخْتال في حُلَلِ البَها ... فيا خَجْلَة السُّمْر المُثقَّفة المُلْدِ عجبتُ لجِسمٍ كالحرير مُنعَّمٍ ... يضُمُّ فُؤاداً قُدَّ من حجَر صَلْدِ

نجيب الدين بن محمد بن مكي

لها اللهُ من رُعْبوبةٍ سفكتْ دمي ... بمُرْهَفِ ماضِي اللَّحْظ قْتلا على عَمْدِ تعشَّقتُها أختَ المَهاةِ خَريدةً ... ثَوَى حبُّها في القلب مُذ كنتُ في المهدِ فعَنِّى إليك اليومَ يا عاذلِي اتَّئِدْ ... أتحسَب أن النصحَ في حبِّها يُجْدِي أتعذُلني في حبِّ دَعْدٍ جهالةً ... وتزعُم يا مغرورُ أنك في رُشْدِ أيقبَل فيها اللومَ سمِعي وقد سرتْ ... محبَّتُها في الجسم بالعكْسِ والطَّرْدِ وأُقْسِم بالمُسْوَدِّ من مِسْك خالِها ... وبالشَّفق المُحمرِّ من صفحةِ الخَدِّ وبالمُقْلة النَّجْلاءِ والمَبْسم الذي ... تسَتَّر بالياقوت والمِرْشَفِ الشُّهْدِ لَوَ أنَّك تشكو ما بقلبي عذَرْتني ... وما لُمْتَ لكن ليس عندك ما عندِي وله من قصيدة، أولها: صَبٌّ لأحلِ ظِباءِ حاجِرْ ... صَبَّ الدموعَ من المَحاجرْ وغدا أسيراً عندما ... ملكَتْ جوارحَه الجآذِرْ حكمتْ عليه الغانيا ... تُ وأمْرُهنَّ على النَّواظرْ أن لا يزالَ مُعذَّبا ... وَلْهانَ طولَ الليلِ ساهرْ من كلِّ هَيْفاءِ القَوا ... مِ تَمِيسُ في حُلَلٍ نواضِرْ دقَّتْ حشاً فتمنْطقتْ ... فوق الغلائلِ بالأساوِرْ خَوْدٌ بِعامِلِ قَدِّها ال ... عَسَّالِ كم كسَرتْ أكاسِرْ عجَباً لمُرهَف لَحْظِها الْ ... وَسْنانِ يفتك وهْو فاترْ عَذْارءُ تعْتذرُ البدُو ... رُ لها إذا رامتْ مُناظرْ ما دَعْدُ ما ذاتُ الوِشا ... حِ وما سعادُ وما تَماضِرْ إن أسْفَرْت عن مَنظرٍ ... زَاهٍ يفوق الشمسَ زاهِرْ يا حبَّذا ذاك المُحَي ... يَا والمُكحلَّةِ السَّواحرْ والمَبْسم العذبِ الشَّهِيِّ ... وما حَواه من الجواهرْ وَاطُولَ شوقي لِلَّتِي ... قد أرسلتْ تلك الضَّفائرْ مَّلكْتُها رِقِّي وسُلْ ... طانُ الغرامِ علىَّ جائرْ وطفِقْتُ بالنْفسِ النَّفي ... سَةِ في محبَّتها أُتاجرْ ومنحتُها رُوحِي على ... أنِّى أكون لها مُسامِرْ فأبت وسوَّفتِ الِّلقا ... ءَ وأعْرضتْ كالظَّبْي نافِرْ واستعجبَتْ منِّي وقا ... لتْ مَهْ برُوحِك لا تُخاطِرْ هيْهاتَ لا تُطمِعْ فؤا ... دَك بالوِصالِ فلستَ قادرْ فرجعتُ أعْثُر في ذُيُو ... لِ مَدامِعي والقلبُ حائرْ وأَيِستُ من قُرْب الحبي ... بِ وصرتُ فيه كقَيْسِ عامِرْ وله مشجِّرا: الحسنُ لفظٌ وأنت معناهُ ... ومنتهى اللطفِ منك مَبْناهُ بفاتِر اللحْظِ منك رِقَّ وصِلْ ... صَبًّا تصُبُّ الدموعَ عيْناهُ رِفْقا فكُثْرُ الصدودِ أنْحَله ... جسماً وفَرْطُ البِعادِ أضْناهُ أنت الذي حُزْتَ كلَّ مَنْقَبةٍ ... في الحسنِ أهلُ الهوى بها تاهُوا هذا مُحيَّاك لاح بَدْرَ دُجًى ... والحقُّ ما الشمسُ غيرَ مَرْآهُ يحِقُّ للقلبِ أن يهيمَ به ... وَجْداً وللمُسْتهامِ يَهْواهُ مَن ذا يلومُ المحبَّ في رَشأٍ ... تفْتَرٌّ عن لُؤْلؤٍ ثَناياهُ خِشْفٌ بِلينِ الكلامِ يسحرني ... كأن هاروتَ ساكنٌ فاَهُ أفْدِيه ظَبياً أغَنَّ قد جُمِعتْ ... كلُّ المَسرَات في مُحَيَّاهُ نَواه والهجرَ أوْهنَا جَلَدِي ... إي والذي لا إله إلَّا هُو نجيب الدين بن محمد بن مكي نجيب دعا الأماني فكان الكمال له أول مجيب، وتفرد على كثرة النظراء وليس ذلك بعجيب من نجيب.

فإن الليالي مع أنها ولود بمثله لم تنجب، والدهر على أنه أبو العجب إلا أنه بأعجب منه لم يعجب. كان مقيما بقرية جُبَع من جبل عاملة، يركض جدواد طبعه في ميدان الفضل ويهز عامله. حتى طوى على طيِّ شقة الأرض، واستأذن من طرف الخضر في ذرع مساحتها من الطول والعرض. فخرج يركض النَّجائب، ويتبع في سيره العجائب. ويحن ويئن، وما له قلبٌ مطمئنّ. وهم سالم المهجة مع مس الضر، معافى الحشاشة مع الفقر المرّ. فلم يفده البعد عن أحبابه، إلا تبييض مسودّ شبابه. فاعتاض عن السواد بالبياض، وبئس والله هذا الاعتياض. ثم رجع إلى ووطنه شاكيا وعثاء السفر، ومنشداً عند خيبة المسعى وتخلف الظفر: نجيبُ أبناء الزمان مَن به ... نَضارةُ الدهر ورَيْعانُ المنَى طوَّف آفاقَ البلاد ليرى ... له نظيراً في الذَّكا فما رأَى فعاد بعد طول عمر نَأْيه ... بصفْقة المغْبون يُبدي المشتكى وأصبحتْ عينُ البلاد بعده ... لبُعده مملوءةً من القَذَى ونظم رحلة تتلاشى عندها الرّحل، وأودعها من أبكار أشعاره ما ليس بالدَّخيل ولا المنتحل. وهو في النظم مقدَّم غير مؤخَّر، وكأنا القلم لإطاعته مسخَّر. وقد أوردت له ما تبتهج به الأزمان، وتتنادم عليه في مجالس أنسها النُّدمان. فمنه قوله: عِزَّة النفس وانقطاع النصيب ... أوجبا ذِلَّتي وهجر الحبيبِ فتعوَّضت عن مَرامي وقصدي ... ببِعادي عنه وقربِ الرَّقيبِ وانْقضى العمر في الأماني وما كنْ ... تُ إلى الله راجعاً من قريبِ هو دائي إذا يشَا ودوائي ... فهْو ما زال عِلَّتي وطبيبي وقوله يمدح السيد مبارك بن مطلب حاكم الحويزة: يا سائلي عن أرَبي ... في سفرِي ومَطْلبي لي مطلبٌ مبارك ... مُباركُ بنُ مطلبِ نجلُ علىِّ المرتضَى ... سِبْطُ النبيِّ العربي الطيِّب بن الطيبِ بْ ... نِ الطيب بن الطيبِ أمانُ كلِّ خائفٍ ... غِياثُ كلِّ مُجدِبِ مُنيلُ كلِّ نعمةٍ ... من فضةٍ وذهبِ في فضلهِ وجودِه ... تسمُع كلَّ العجَبِ الأسدُ الكاسر لا ... يخْشاه فَرْخُ الثعلبِ كما السِّخالُ جملةً ... ترعى وجُرْدُ الأذْؤُبِ والفُرْسُ والتُرْك له ... دانتْ وكلُّ العربِ إذا حَللْتُ أرضَه ... نسيتُ أمي وأبِي وأسرتي وولدي ... بنتاً يكون أو صبي ومن يكنْ حَيْدرةٌ ... أباه والجدُّ النبي فكلَّما تصفُه ... مِن دون أدنى الرُّتَبِ وله من قصيدة، مطلعها: ألا هل لُمضَني هجركم من يعودُه ... فيخضرُّ بعد الهجر بالعَوْد عُودُهُ وهلاَّ وعدتُم إذ بَخِلتم بوصْلِه ... فقد تجبُر القلبَ الكسيرَ وعُودُهُ وَتُحْيَ نفوسٌ صَوَّح الدهُر نَبْتَها ... وتُجنى رياحينُ الِّلقا ووُرودُهُ فقد هجرتْه لذَّةُ النومِ بعدكم ... ومَشْرَب صافي الودِّ عَزَّ وُرودُهُ دنَوْتم فأحيَيْتم قلوباً بوصلكمْ ... وقلبي بِحَرِّ النأْيِ مات وجودُهُ بَخِلتُم على مُضناكمُ وهْو عبدكمْ ... وما حاتمٌ إن عُدَّ يوماً وَجُودُهُ وكتب إلى الحريريّ الحرفوشيّ: سعِدتَ بَلثْم كَفٍّ يا كتابي ... لمولىً عالم عَلَمٍ مُمَجَّدْ فتًى في الفضل ليس له نظيرٌ ... عويصُ المشِكلات له تمهَّدْ بني رَبْعَ العلى بعد انْهدامٍ ... وجدَّد ما وَهَى منه وشيَّدْ له قلمٌ إذا ما جال يوماً ... فما الخَطِّىُّ والعَضْب المهنَّدْ فخُصَّ من السلام مدَى الليالي ... بتسْليم جزيلٍ ليس ينْفَدْ اغتناما للفرصة، وحذراً من فوت ما ليس في تركه مندوحة ولا رخصة. وجَّهت هذه العجالة، معتمداً على الاختصار مضربا عن الإطالة.

إلى من أشرقت شموس فضائله فأزاحت من الجهل ظلم الغياهب، وأنارت بدور فواضله فأخجلت نيَّرات الكواكب. واستولى على مدائن الفضل وحصونه، فظفر من ذخائره وكنوزه بمصونه ومخزونه. بوسيلة إرسال تسليمات يحيى ذكرها ميِّت النفوس، وتتزيَّن بتسطيرها متلحِّظات الطروس. ومن بدائعه قوله: ألا هل يُرى من عِلَّة الصدَّ نافعُ ... سوى الوصلِ أو من غُلَّة الوجد ناقعُ وهل بعد شَتِّ الشَّمْل للجمعِ أوْبةٌ ... فتجمعنا من بعدُ تلك المجامعُ سقى الله أياماً مضتْ في غضونها ... هصَرْنا غصونا ما أقَّلْته يانعُ ولي طمعٌ في القربِ واللهُ قادرٌ ... وماذا عسى تُدْنِى البعيدَ المطامعُ وفي كل حينٍ شارقُ الجَدِّ هابطٌ ... وغاربُ سوءِ الحظِّ في الناس طالعُ ولي من أذَى من أرْتجيِه عظائمٌ ... مدَى الدهر عمَّا أصْطفيه قواطعُ مضى العمرُ لا الدنيا حَظِيتُ بخْيرها ... ولا أنا عمَّا يُسخِط اللهَ راجعُ وللهِ لا للناسِ شكْوايَ كلُّها ... من الدهرِ والأمرِ الذي هو واقعُ تولَّى خِصام الحسنِ قَهْراً بنفسِه ... فليس له منه حُماةٌ تُدافعُ ولا سِيَّما مَن ظَنَّه عن تخُّيلٍ ... نجيِباً فبالبْلوى إليه يُسارعُ فغايةُ مَن يرجوه أوْحَد دهرِه ... به ترْكُهُ في حالِه وهو تابعُ إذا كان ريحُ المسكِ يُنكَر ضائعاً ... بأرضٍ فذاك المسكُ لا شك ضائعُ وقد يُترك المجروحَ في ترْكِ شَمِّهِ ... ففي البْين داءٌ ذلك الداءُ مانعُ وللهِ صَبٌّ في الزمانِ تقدَّمتْ ... مَقالُته في مثل ما أنا والعٌ ألا فاخْشَ ما يُرجَى وجَدُّك هابِطٌ ... ولا تخْشَ ما يُخشَى وجدُّك رافعُ فلا نافعٌ إلَّا مع النَّحْسِ ضائرٌ ... ولا ضائرٌ إلَّا مع السعدِ نافعُ وقوله: يا من يُحاول ما أمَّلتَ بالحِيَلِ ... دَعْ ما تخالُ فهذا أولُ الخَلَلِ واركبْ متُون خيولِ السَّبْقِ واسْرِ بها ... في جُنح ليلِ الهدى من غيرِ ما كسَلِ وجانبِ الجِانبَ الأدْنَى فما ظفِرْت ... بالقُرب منه ذوو الآمالِ بالأمَلِ واقطعْ رَجاك من الدنيا فما صدَقتْ ... في وعدِها أحداً من سالفِ الأزَلِ وصِل حِبالَك بالحبلِ المَتين فما ... يُعِطى ويمنعُ إلا علَّةُ العِلَلِ واسُلكْ سبيلَ رِضاهُ غيرَ مُتَّئدٍ ... فإنه لْلبرايا أوضحُ السُّبُلِ وازْدَدْ على الهجر حُبّاً لا تَمَلّ فما ... في مِلَّةِ الحب آذى من أذَى المَلَلِ وقوله على طريقة المهيار: يميناً بهم صادقا لن يمينَا ... لقد خلَّفونا وساروا يمينَا مقيماً على عْهدهم لا أحولُ ... ولو أنهم أصبحوا ظاعِنينَا مَشُوقا إلى سْمعِ أوصافهمْ ... فأوصافُهم تُطرب السامعينَا عيونٌ تفِيض لتَذْكارهم ... فتحْكِى إذا ما ذكرت العيونَا وقلبي يحِنُّ لأخبارهمْ ... فتْلَقى له حين يُتْلَى حنِينَا وعيشِىَ من بعدِهم لا يطيبُ ... على أيِّ حالٍ عسى أن يكونَا ونَوْحِي ولو عِشْتُ ما عاش نُوحٌ ... يزيد على جملِة النَّائحيِنَا وأعظمُ من بُعْدِهم حسرةً ... شَماتةُ من أصبحوا شامتيناَ وقوله: عزيزٌ علينا أن تهُون نفوسُنا ... لذلك بالصبرِ الجميل أهَنّاهَا وكنَّا نرى أنْ لو أتانا مُفاجِياً ... مُعَزٍّ لها فيها بذلك هنَّاهَا لنَرْعى نفوساً من نفوسٍ زكيَّةٍ ... بأرْواحنا لو تُفْتدَى لفديْناهَا وقوله: لي نفسٌ أشكو إلى الله منها ... هي أصلٌ لكلِّ ما أنا فيهِ

فجميلُ الخِلال لا يرْتضينِي ... وقبيحُ الخلال لا أرْتضيهِ فالبَرايا لذاك أو ذا جميعا ... لي خُصوم من عاقلٍ أو سفيِه ومن مقطعاته قوله: علَّةُ شيْبي قبل إبَّانِه ... هجرُ حبيبي في المقال الفَصيحْ ويجعل العلَّةَ في هجْرِه ... شْيبى وفي ذلك دَوْرٌ صحيحْ هذا الدور دار على الألسنة قديما حديثا، ومن مشهوره قول بعضهم: مسألةُ الدَّوْرِ جَرَتْ ... بيني وبين من أُحِبّ لولا مَشِيِبيَ ما جفا ... لولا جَفاه لم أشِبْ ومثله لأبي العباس خطيب جامع دمشق: مسائلُ دَوْرٍ شيْبُ رأسِي وهجرُها ... وكلٌّ على كلٍّ له سبَب يُنْبِي فأُقْسِم لولا الهجر ما شاب مَفْرِقي ... وتُقسِم لولا الشَّيب ما كرهتْ قُرْبِي وله: واعجباً منَّا ومن حُبِّنا ... للْمال ما ذلك إلا بَوارْ فآخِر الدرهمِ هَمٌّ يُرى ... وآخرُ الدنيا ولا شك نارْ البيت الثاني من الأول: النارُ آخرُ دينارٍ نطقْتَ به ... والهمُّ آخر هذا الدرهم الجارِي والمرءُ ما دام مشْغوفاً بحبِّهما ... معذَّبُ القلب بين الهمِّ والنارِ وله: المرءُ لا يسلمَ من حاسدٍ ... أو شامتٍ في العسر واليُسرِ فهو على الحالْين لا بدَِّ أن ... يْلحقه نوعٌ من الشرِّ وله:؟ وإذا كانت الحياةُ إلى الموْ - تِ فقَصْرُ الآمالِ أوْلى وأحْرَى فالخطايا تزْداد والعيشُ ضَنْكٌ ... فهْو أولَى لا شكَّ أُولى وأُخْرَى وله: كلُّ اُمريءٍ دون أمْرَ يْ ... نِ من الأنام مُقصِّرْ إمَّا اْمرؤٌ متوكِّلٌ ... أو آخَرٌ متهوِّرْ وله: ما صفا الدهرُ لامريءٍ ... قَطُّ يوماً من البشَرْ فإذا مَشْربٌ صفَا ... عانَد الدهرُ في أُخَرْ وله: مالي على هَجْرِك من طاقةٍ ... ولا إلى وَصْلِك من مَقْدرَهْ لكنني ما بين هذا وذا ... فرَّطتُ في دُنيايَ والآخَرهْ وله في السيد خلف بن مطلب، وأجاد في التورية: إذا جرى ذكرُ ذي فضلٍ ومَكرُمةٍ ... ممَّن مضى قلتُ خَلُّوا ذكرَ من سلَفَا الحمدُ لله أهلِ الحمد إنَّ لنا ... عن كلِّ ذي كَرَمٍ ممن مضَى خلَفَا وله في مداد أحمر على ورق أصفر: مَدمعي مثلُ مِدادي والورقْ ... لوْنه لَوْني ولكني أرَقّ طلَّق النومُ جفوني فلذا ... عُوِّضتْ عنه بتزْوِيج الأرَقْ ولبعضهم، وقد أعطى بعض الشعراء جائزة في كاغد أحمر: جائزتي في كاغدٍ أح ... مرَ وارِدٍ عليْكْ أُشْرِبَ بعضَ خجْلتي من ... قِلَّة المُهدَى إليْكْ ويستظرف قول الحسن البورينيّ، وقد كتب يستدعى بعض خلانه بفرصاد لكونه لم يجد حبراً: يا طرائرَ الْبان خُذ منِّي مكاتبةً ... ضَعْها لدى منْزِل الظَّبْيِ الذي سَنَحَا هي الشكايةُ من داءِ الغرام وقد ... كتْبتُها بدمِ القلب الذي جرحَا ولنجيب الدين: جُبْتُ البلاد فما وجدْ ... تُ بها صديقاً صادقَا يا قلبُ فاحذَرْ لا تكن ... منها بِخِلٍّ واثِقَا وله: هو الدهرُ ربُّ الجاهِ فيه أخو الفضلِ ... ولو أنه عارٍ من الدين والعقلِ وربُّ الحِجى والفضلِ والعلمِ والتقى ... إذا ما خَلا منه فذاك أبو جهلِ وقال في رحلته، عند ذكر أمير المؤمنين، كرَّم الله وجهه: وقلتُ فيه بيت شعرٍ وَصْفا ... يحصُل منه أربعون ألْفَا تلْحقها ثلاثةٌ مِئِينا ... كاملةً مضافةً عشرينَا أبياتُ شِعْرٍ عدُّها كما ذُكِرْ ... والبيتُ هذا فتأمَّل واختبرْ عليٌّ رَضِيٌّ بَهِيٌّ وَلِيُّ ... صَفِيٌّ وَفِيٌّ سَخِيٌّ عَلِيُّ يشتمل هذا البيت على أربعين ألفاً وثلاثمائة وعشرين بيتاً.

محمد بن حسن بن علي بن محمد، المعروف بالحر

وبيان ذلك أن البيت ثمانية أجزاء يمكن أن تنطبق كل جزءٍ من أجزائه مع الآخر، فتنتقل كل كلمة ثمانية انتقالات. فالجزآن الأولان على رضي يتصور فيهما صورتان؛ التقديم، والتأخير. ثم خذ الجزء الثالث، فتحدث منه مع الأول ست صور؛ لأنه ثلاثة أحوال؛ تقدمه، وتوسطه، وتأخره، ولهما حالان، فاضرب أحواله في الحالين تكن ستة. ثم خذ الجزء الرابع، وله أربعة أحوال، فاضربها في الستة التي لما قبله، تكن أربعة وعشرين. ثم خذ الخامس، تجد له خمسة أحوال، فاضربها في الصور المتقدمة، وهي أربعة وعشرون، تكن مائة وعشرين. ثم خذ السادس تجد له ستة أحوال، فاضربها في مائة وعشرين تكن سبعمائة وعشرين. ثم خذ السابع، تجد له سبعة أحوال، فاضربها في سبعمائة وعشرين، تكن خمسة آلاف وأربعين. ثم خذ الثامن، تجد له ثمانية أحوال، فاضربها في خمسة آلاف وأربعين، تكن أربعين ألفاً وثلاثمائة وعشرين بيتاً. ومن فوائده فيها، عند ذكر الغيبة، قوله: وجوَّزُوا الغِيبةَ في مواضعِ ... لكنها قليلةُ المواقعِ كرَدْعِ شخصٍ يفعلُ القبائحَا ... أو كان للشَّاهدِ أيضاً جارحاً أو وصْفِه بما به يمتازُ ... بفعلِه كي يحصُل احْترازُ ففي الحديث الفاسقَ اذْكروهُ ... يعرفُه الناس فيحذروهُ وكلُّ ذا مع عدَمِ التَّقَّيةِ ... والخوفِ من ذي الشِّيَمِ الرَّدِيَّةِ ومما يستحسن له قوله: مدَّت حبائلَها عيونُ العِينِ ... فاحفظَ فؤادَك يا نجِيبَ الدينِ في هجْرِها الدنيا تضيعُ ووصْلُها ... فيه إذا وصَلتْ ضَياعُ الدينِ وهو من قول الآخر: يا قلبُ دَعْ عنك الهوى واسترحْ ... فلستَ فيه حامداً أمْرَا أضعتَ دنياك بهجرٍ وإن ... نلْتَ وِصالاً ضاعتِ الأخرىَ ومثله للبابي: طريقَ القضا لا بل طريقَ جهنَّمٍ ... ركبتُ فأضحى حلوُ عيشي به مُرَّاً أمانٍ بها دنيايَ ضاعتْ فلم أنَلْ ... علَى أنني إن نِلْتُها ضاعتِ الأخرَى وله: لك اللهُ من دهرٍ توالتْ صرُوفُه ... علينا فأوْلَى ضدَّ ما نتمنَّاهُ فقرَّبنا ممَّن نَوَدُّ بِعادَه ... وأبْعدنا عمَّن نحبُّ ونهْواهُ وهو من قول المتنبي: أما تعلَط الأيامُ فيَّ بأن أَرى ... بغيضاً تُنائِي أو حبيباً تُقرِّبُ محمد بن حسن بن علي بن محمد، المعروف بالحر أغر، له الكلم الغر، حر، له النظم الحر. إنِّي أرى ألفاظَه الغُرَّا ... عطَّلتِ الياقوتَ والدُّرَّا له الكلامُ الحرُّ وهْو الذي ... ألفاظُه تستعبدُ الحُرَّا وهو أحد هدايا الجبل، وأجل من انعجن باللأدب وانجبل. وله الشعر الذي جمل به الأدب وزانه، وزين مقاطيع الشعر وأوزانه. أطلعه أرق من خصر أهيف يتلفت، وأشهى من مقبل شادنٍ عليه القلوب تتفتت. وقد أثبت له منه ما يطرب بأناشيده المطربة المطرية، ويرقص الأعراف بأغاريده المغربة المغرية. فمن ذلك قوله: لاح وجهٌ من رَبْع ليلى جميلُ ... ورقابُ الرِّكاب والرَّكْبُ مِيلُ بعد ما كاد أن يُلمَّ بنا اليأْ ... سُ فزاد الرجاءُ والتَّأميلُ فظننَّا الحبيبَ لاح وقلنا ... ذلك ما تشتهي القلوبُ فمِيلُوا ذلك السُّؤْلُ والهوى والاماني ... للبرايا والقصدُ والمأمولُ حدِّثونا فذا حديثٌ صحيحٌ ... حسَنٌ مُجْمَلٌ رواه جميلُ كل دَمع فرضٌ على كل عينٍ ... وعلى العِيسِ وخْدُها والذَّمِيلُ ثم مِلْنا إلى ربيعٍ رَبُوعٍ ... نحوها أنفسُ الجمادِ تميل وكأن السُّهادَ للقوم كُحْلٌ ... وكأن الطريق للنَّوْم مِيلُ بِيَ نقْصٌ من الكمال ومنهم ... للمحبِّ التَّتْمِيمُ والتكميلُ كل حيٍّ في ذلك الحيِّ نَشْوا ... نُ هوىً وهْو عاملٌ مَعْمولُ

عمَّهم يا ابنَ عمِّ مِن ألَمِ الحبِّ ... عمومٌ من الهوى وشُمولُ كل شخصٍ منهم بدا قلتُ هذا ... مُستمالٌ في الحب بل يَسْتميلُ كل مَن مات في الهوى أكْسبوه ... شُهرةً ليس يعتريها خُمولُ مَن رآهم في النوم أو يَقْظَةٍ ها ... مَ وأضْحى ودمعُه مَهمولُ جنَّةٌ قد تجمَّعت في هَواها ... شهواتُ النفوس والمأمولُ كم بتلك المَحاملِ اسْتأْسرُوا قلْ ... باً غدا وهْو في الحِمال حَمِيلُ حَملوه وحمَّلوه البَلايا ... في الهوى فهْو حاملٌ محمولُ بُعدوا بالحمُول عنَّا فلم تُبْ ... قِ احْتمالاً للقُرْب تلك الحُمولُ وقوله، وهو من أجود شعره: رأيتُ غريبَ الحسن قد حُفَّ بالقَنا ... فلاحتْ أماراتُ السعادةِ والشُّومِ وكلَّمني غِيدُ الحِمى وحُماتُه ... بقْسمين مظنونٍ لدينا ومعلومِ فيا قوم رفْقاً بالفتى وهو ضيفكُم ... وما ضيفُ أمثالِ الكرام بمحرومِ ويا ابْنةَ عمِّ الحُورِ وابنةِ عمَّةِ الْ ... بدورِ أختَ النورِ بنتَ أخي الرِّيمِ كلامُك كَلْمٌ للفؤادِ ولذةٌ ... فرفقاً بصبٍّ من كلامِكِ مكْلومِ هذه الأبيات تستحق أن تكتب بالنور، على صحائف وجنات الحور. لولا لفظة الشوم في ضربها، فكان الأحرى أن تعزل من دربها. وله: وغانيةٍ شكلِ العروس بوجهها ... يقيم عليه لَحْظُها كلَّ برهانِ يبيِّن خَدَّاها لنا بإشارةٍ ... إلى رابعِ الأشْكال أوضحَ تِبيانِ بسالِفِها معْ حاجِبَيْها بدتْ لنا ... براهينُ أشكال تُشير إلى الثانِي وحاجبُها للحسنِ شكلٌ مُتمِّمٌ ... فياليْته مَقْرونُ حُسْنٍ بإحْسانِ وأنشدني لنفسه، السيد محمد بن حيدر المكي، في مثل هذا التوجيه: تبدَّى نقِيُّ الخدِّ يزْهو بحُمرةٍ ... مُقارنةٍ فيه البياضَ بإتْقانِ فقلتُ انْبساطاً إذ غدا القبْضُ خارجاً ... فلذلك من أشْكالنا كلُّ لَحيانِي وأكثر ما يتداول فيه هذه الأبيات: تعلَّمتُ خطَّ الرملِ لما هجرتمُ ... لعلِّي أرى فيه دليلاً على الوصلِ فأعجبني فيه بياضٌ وحمرةٌ ... رأيتُهما في وَجْنةٍ سلبتْ عقلِي وقالوا طريقٌ قلت يا ربِّ للِّقا ... وقالا اجتماعٌ قلت ياربِّ للشَّملِ وقد صرتُ فيكم مثلَ مجنون عامرٍ ... فلا تعجبوا أنِّي أخطُّ على الرملِ ومن جيد شعره قوله: فضلُ الفتى بالبذْلِ والإحسانِ ... والجُود خيرُ الوصفِ للإنسانِ أوَليس إبراهيمُ لما أصبحتْ ... أموالُه وَقْفاً على الضِّيفانِ حتى إذا أفْنى اللُّهَى أخَذ ابْنَه ... فسخاً به للذَّبْح والقُربانِ ثم ابْتغى النُّمرود إحْراقاً له ... فسخاً بمُهْجته على النِّيرانِ بالمالِ جاد وبابْنِه وبنفسِه ... وبقلبه للواحد الدَّيَّانِ أضْحى خليلَ الله جلَّ جلالُه ... ناهِيك فضلاً خُلَّةُ الرحمنِ صحَّ الحديثُ به فيالَكِ رُتبة ... تعلو بأَخْمَصِها على التِّيجانِ أصل هذا حديث قدسي، رواه أبو الحسن المسعودي في أخبار الزمان. قال: إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام: " إنك لما سلَّمت مالك لضيفان، وولدك للقربان، ونفسك للنيران، وقلبك للرحمن اتخذناك خليلا ". وقوله: قد كنتُ أستْنِشق من مَطْلكمْ ... عَرْفَ شَذَا خيْبَةِ آمالِي فالآن قد بان بتصْريحكمْ ... أنِّى لنِيرانِ الجفا صالِي إنِّي رأيت اليأسَ عِزّاً وفي ... كلِّ رجاءٍ نوعُ إذلالِ رَجاؤكمْ غُلٌّ وها أنتمُ ... أطلقتمُ عنِّيَ أغْلالِي والمالُ ظلٌّ هائلٌ زائلٌ ... لا دَرَّ دَرُّ الجامعِ المالِ

محمد بن علي بن محمود الحشري

في مذهب المجدِ ودِين العُلى ... سِيَّانِ إكْثاري وإقْلالِي وقوله: حجبوا عنِّيَ الحبيبَ وحالُوا ... دونه واستمرَّ ذاك الحجابُ ضربُوا بيْننا بسُورٍ منيعٍ ... مُحكمٍ ما لذلك السورِ بابُ باطنٌ فيه رحمةٌ لكِن الظاَّ ... هرُ لي منه نِقْمةٌ وعذابُ ومن مقطعاته قوله: قد ظننتُ النجاةَ والفوزَ في الحبِّ ... بأن ألْثِم الثَّنايا العِذابَا فبِتَرْكي والاحْتياط وتْعوي ... لِي على الظنِّ ذقتُ هذا العذابَا وقوله مورِّيا بلقبه: قلتُ لما لَجأْتُ في هَجْوِ دهرٍ ... بذَل الجُهدَ في احتفاظِ الجَهُولِ كيف لا أشتكِي صُروفَ زمانٍ ... ترك الحرَّ في زَوايا الخُمولِ قلت: للشعراء المتقدمين أشعارٌ كثيرة، تتعلَّق بأسمائهم وألقابهم، من ذلك قول السراج الوراق: بُنَيَّ اقْتدَى بالكتاب العزيزِ ... فزاد سروراً وزدتُ ابْتهاجَا فما قال لي أُفُّ في عمرِه ... لكوْني أباً ولكوْني سِراجَا والذي أكثر من هذا حد الإكثار الشهاب الخفاجيّ، فمن ذلك قوله: قالوا نراك سقطْتَ من رُتَبٍ ... أترى الزمانَ بمثل ذا غلِطَا قلتُ الشياطينُ اللئامُ عَلَوْاً ... ولذا الشهابُ من العُلى سقطَا وله: يراكمْ بعْين الشوقِ قلبي على النَّوَى ... فيحسدُه طَرْفٌ فتنْهلُّ أدمعِي ويحسد قلبي مَسْمَعِي عند ذكْركمْ ... فتذْكُو حراراتُ الجوى بين أضْلَعِي ومن معمَّياته قوله، في اسم علي: اُفْدِيه وافِىَّ المحاسنِ بارِعاً ... يعْلو عن الإنْشادِ والإنْشاءِ يا مِحْنتي فلقد تعرَّض لَحْظُه ... وعِذارُه من قبلها لشَقائِي وقوله فيه أيضاً: بفؤادي أفْدِي حبيبى وإن عَنَّي ... فؤادي بالوجْدِ والتعذيبِ مِن مُحَيَّاه يلمع النورُ يامَن ... لام هلاَّ شاهدتَ نُورَ الحبيبِ وقوله في اسم خالد: أطْمَعني يومَ الِّلقاء في المُنى ... ثم انْثنى بالصدِّ والاجْتنابْ ولاح في وجْنِته حمرةٌ ... حسِبْتُها ماءً فبانتْ سَرابْ وقوله في اسم عثمان: وظَبْيٍ صال في العشاقِ يسْطُو ... بألْحاظٍ أثارتْ نارَ حربِى أصاب بعيْنه قلبي بسهمٍ ... هنالك بعدَها ودَّعتُ قلبِي وقوله في اسم أحمد: أفْدِيه فرداً مالَه من مُشْبِهِ ... يسْطو علىَّ بحُسْنِه وبعُجْيِهِ داءُ السَّقامِ أضَرَّبي في حبِّه ... هل من مُجرَّدِ رأفَةٍ من قلبِهِ وقوله في اسم عمر: زار الحبيبُ وكان شَطَّ ... على النوَى منه المَزارْ كَرْبٌ مَحتْه يدُ الِّلقا ... كالليل أعْقبَه النهارْ وقوله في اسم عليّ: لا تلُمْنِي إن هِمْتُ وَجْداً بمن ... فاق الورَى في جمالِه والكمالِ جاء فَرْداً في كلِّ وَصْفٍ بديعٍ ... وترقَّى ففاق أَوْجَ المعالِي وقوله في اسم حسن: طال اشْتياقي إلى ظَبْيٍ فُتِنتُ به ... وزاد في حبِّه وَجْدى وبَلْبالِي حبٌّ بلا آخرٍ ضِمْنَ الفؤادِ رَقَى ... وراح ينْهَى عن الإفْراطِ عُذَّالِي وله أحجية في شراريف: يا واحداً في فضَلِه يا من يُلا ... ذُ بظِّله عند اشْتباه الأجْوِبَهْ بيِّنْ لنا أحجيةً قد أشكلتْ ... ما مثل قولي ابْتاع أرْضاً مُخْصِبَهْ وله في بانياس: يا مَن عُلُوُّ الورى لديْهِ ... في درجاتِ العلى هُبوطُ أبِنْ جوابي فَدَتْك نفْسِي ... ما مثلُ قولي بدَا قُنوطُ وله في برغال: أيا مَن عَلَا فوق أوْجِ العُلى ... وفاق الأنامَ بفضلٍ مُبينْ أبِنْ لي جوابي فأنت الإِما ... مُ ما مثلُ قولي طعامٌ ثمينْ محمد بن علي بن محمود الحشريّ شاعر ملء فيه، ومبرز في الفن لا يباري فيه.

فللأقلام قصبات سبقٍ أخذها يوم الفخر لدى الرهان، فلم يعلق غباره بعيون الرَّائين ولم تلحق به خطرات الأذهان. تشيم بارقة السحر من من نفثاته، وتشتم عابقة الشِّحر من تنفُّساته. يملأ الآذان بجواهر كلامه اللوامع، فلذلك تضِيق عند اسْتماع نقده المسامع. بألفاظ أحسن من فتور ألحاظ الغواني، ومعانٍ أوقع من ترجيع أصوات الأغاني. لا تمل شعره الرقيق الخواطر، حتى تمل نسيم السحر الرياض العواطر. إلى أدب كزهر البستان، متروٍ بالصَّبيب الهتَّان. وأنا بشعره مفتون فتنة مسحور، ولي منه كلَّ آنٍ ابتهاج ولدانٍ حور. وقد أثبت له ما يطيل خطي الحظ ويبعث الانشراح، ويمحو الهموم عن القلوب ويثبت الأفراح. فمن ذلك قوله: مَددْت إلى الطبيب يدي فولَّى ... يُروِّح راحتيْهِ من الصَّلاءِ فقلتُ أصابني عينٌ فأهْوَى ... إلىَّ وقال لي أثرُ الهواءِ وقوله: شرِّقْ على حكم النَّوى أو غرِّبِ ... ما أنت أولُ ناشبٍ في مِخْلَبِ في كل يومٍ أنت نَهْبُ محاسنٍ ... أو ذاهبٌ في إثْر برقٍ خُلَّبِ متألِّق في الجوِّ بين مُشرِّقٍ ... غَصَّ الفَضاء به بوين مُغرِّبِ يبكي ويضحك والرياضُ بواسمٌ ... ضَحِكَ المَشيب على العِذار الأشْيب أزَعمتَ أن الذلَّ ضربةُ لازِبٍ ... فنشِبْتَ في مِخْلاب بازٍ أشْهبِ لعبتْ بلُبِّك كيف شاء لها الهوى ... مُقَلٌ متى تجدِ الواظرَ تلعبِ زعمتْ عُثَيْمةُ أن قلبَك قد صَبا ... من لي بقلبٍ مثل قلبك قُلَّبِ قد كنت آمُل أن تموت صَبابتي ... حتى نظرتُ إليكِ يا ابْنَة يَعْرُبِ فطربتُّ ما لم تطْربي ورغبتُ ما ... لم ترغبي ورهِبْتُ ما لم ترْهبي ولقد دَلفْتُ إليهم في فِتْيةٍ ... ركبوا من الأخْطار أصْعبَ مَرْكَبِ جعلوا العيونَ على القلوب طلِيعةً ... ورَمُوا القِفارَ بكل حَرفٍ ذِعْلِبِ ترمي الفِجاجَ وقلبُها متصوِّبٌ ... في البِيد إثْرَ البارِقِ المُتصَوِّبِ هو جاءُ ما نفَضت يداً من سَبْسَبِ ... إلا وقد غمَستْ يداً في سَبْسبِ تسْرى وقلبُ البرق يخفِق غِيرَةً ... منها وعينُ الشمسِ لم تنتقَّب تطفْوُ وترسْب في السَّراب كأنها ... فُلك يشقُّ عباب بحرٍ زَغْرَبِ تفْلِى بنا في البِيد ناصيةَ الفَلا ... حتى دُفِعتُ إلى عقيلة رَبْربِ وافتْك تخلِط نفسَها بلداتها ... والحسنُ يُظهِرها ظهورَ الكوكِب كفريدِةٍ في غَيْهبٍ أو شادنٍ ... في رَبْربٍ أو فارس في موكِب تمْشِى فتعثُر في فُضول ردائِها ... بحياءِ بكرٍ لا بنَشْطِة ثيِّبِ وقوله: أين من أَودعُوا هواهم بقلبي ... وصلَوْا نارَهم على كلِّ هَضْبِ كلما فوَّقُوا إلى الرَّكْبِ سهماً ... طاش عن صاحِبي وحلَّ بجنْبي يشتكي ما اشتكيتُ من لَوْعِة الْبَيْ ... نِ كلانا دَامِى فؤادٍ وقلبِ وقوله: للهِ ما فعلَ المشِي ... بُ على فراقِك في شبابِي أقْذَى عيونَ الغانيا ... تِ وفَتَّ في عَضُد الصِّحابِ ظُلَم كَسَفْنَ مطالبي ... وتَفلْنَ في وجهِ التَّصابي غَبَّرْنَ في وجهِ النَّدِي ... مِ ورنَّقتْ صَفْوَ الشرابِ اللهُ لي من أبْقَعٍ ... صبَغتْ حُلوكتُه ثيابي أقْوَى وأبلغُ في القطِي ... عِة من دعاءٍ مستجابِ وافاك في بُرْدِ الغُرا ... بِ نَعَى الصِّبا نَعْىَ الغُرابِ ألْبستُه ثوبَ الشبا ... بِ فكان أكْذَبَ من سَرَابِ وإذا خضَبْتُ بَياضَه ... ضَحِك المشِيبُ على خِضابِي

وقوله: كل شَمْلٍ وإن تجمَّع يوماً ... سوف يُمْنَى بفُرقةٍِ وشَتاتِ لا ألومُ النَّوى فرُبَّ اجتماعٍ ... كان أدْنَى إلى نَوًى وثباتِ مْثلما زِيدتِ السهامُ عُلوًّاً ... في صُدورِ العِدى بقُرِْبِ الرُّماةِ وقوله: باجْتلاءِ المُدامِ في الأقداحِ ... وبمرآةِ وجهِك الوَضَّاحِ لا تذرْني على مَرارِة عيشِي ... أكْلَ وَاشٍِ ولا فريسةَ لاحِي صاحِ كِلْني إلى المُدامِ ودَعْنِي ... والليالي تجوُل جَوْلَ القِداحِ لا تخَفْ جَوْرَ حادثاتِ الليالي ... نحن في ذِمَّةِ الظُّبا والرِّماحِ طَوْع أيْدِي الخُطوب رَهْن المَنايا ... تتخطَّى بها إلىَّ صِفاحِي قلَّدتنْي من المَشِيب لجِاماً ... كفَّ رأْسِي شكيمُهُ عن جِماحِي صاحِ إن الزَّمانَ أقصرُ عُمْراً ... من بكاءٍ بدِمْنةٍ ونُواحِ رَقَّ عنا مَلاحِفُ الجوِّ فاسمحْ ... برقيقٍ من طَبْعك المُرتاحِ يا مَلِيك المِلاحِ إنْ زماناً ... أنت فيه زمانُ رَوْحٍٍ ورَاحِ طاب وقتُ الزمانِ فاشربْ عَساهُ ... يا صَباحِي يطيبُ وقْتَ الصَّباحِ واسْقِنيها سُقِيتَ في فلَقِ الفَجْ ... رِ على نَغْمِة الطيورِ الفِصاحِ وقوله: خلعتْ ثوبَها على التُّفَّاحِ ... وترامتْ على خُدودِ الملاحِ كلُّ رَيحْانةِ أرقَّ من الرَّا ... ح جَلاَ لِي شقِيقةَ الأرْواحِ وَرْدةً فوق خَدِّه وقُروحاً ... بين جْنَبيَّ دامِياتِ الجراح حَبَّذا مَيْعةُ الشبابِ وعيشٌ ... قد قطْعناه في ظِلال الرِّماحِ زارني زَوْرةَ الخيالِ ووَلَّى ... في كَرَى النومِ مُزعَجاً بالصَّباحِ لستُ أقْوَى على الجفونِ المَواضِي ... وَيْحَ نفسي من المِراضِ الصِّحاحِ سامَح اللهُ من دَمِى وَجْنتيْهِ ... وعفَا عن بَنانِه الوَضَّاحِ لا تُؤاخذْ جفونَه بفؤادي ... يا إلهي كلاهما غيرُ صاحِ وقوله: قُمْ هاتِها وضميرُ الليل منشرحُ ... والبدر في لُجَّة الظَّلْماء مسْتَبِحُ عجِّل بها وحِجابُ الليل مُنسدِلٌ ... من قبْل يبدو لنا في وَكرِه الصُّبُحُ واسْتضحكِ الدهر قد طال العُبوسُ به ... لا يضحك الدهر حتى يضحكَ القَدَحُ فقام والسكرُ يعْطو في مفاصلِه ... يكاد يقطُر في أعطافِه المَرَحُ يطوف والليلُ بالجَوْزاء مُنتطِقٌ ... بها علينا رَشاً بالحسن مُتّشِحُ في أُسرةٍ كنجوم الليل زاهرةً ... لا يستخفُّهمُ في مَحْفَلٍ فرَحُ ورُقْيَةٍ من عَذُول طار طائرُه ... لا الجِدُّ يَثْنيه عن لَوْمِى ولا المَزحُ قاسمْتُه قِسْمةً ضِيزَى مواهبُها ... لِيَ الهَنا وله من دُونِيَ التَّرَحُ وذي دَلالٍ كأنَّ اللهَ صوَّره ... من جوهرِ الحسن إلّا أنه شبَحُ أسُوسُه وهو غضبانٌ وأبْسُطه ... والسكرُ يخْفِض من صَوْتي فينْشرحُ بِتْنا على غِرَّةِ الواشي وغُرَّتِه ... أغْتاظ منه بلا غَيْظٍ ونصطلحُ جعلتُ عَتْبِي إلى تقْبيله سبباً ... والسكرُ يفتح باباً ليس يْنفتحُ حتى إذا صيَّرَتْه الراحُ طَوْعَ يدي ... صدَفتُ عن بعض ما يأْتي به النَّشَحُ فما تبسَّم في وجه الصَّبا قدَحٌ ... حتى تنفَّس من جَيْب الدجى وَضَحُ ودَّعْتُه وجَبِين الصبح مُنزِلقٌ ... وللظلام لسانٌ ليس يجْترحُ ولا يطيبُ الهوى يوماً لُمْغتبِقٍ ... حتى يكون له في اليوم مُصْطَبحُ وقوله:

غادرْتموني للخُطوب درِيئةً ... تغْدو علىَّ صرُوفها وتروحُ ما حركتْ قلبي الرياحُ إليكمُ ... إلا كما يتحرَّك المذبوحُ وقوله: وكنتُ إذا نزعْتُ إلى هَناتٍ ... جريْتُ مع الصِّبا طَلْقَ الرياحِ فقلدني المَشيبُ على عِذارِى ... لجِاماً كَفَّ رأسِي عنِ جِماحِي وقلتْ لعاذلي إِيه فإنِّي ... وهبتُ اليومَ سمعِي للَّواحِي هو القدرُ المُتاحُ على الغواني ... فقلْ ما شئْتَ في القدر المُتاحِ وما حُسْنُ العيون بلا بياضٍ ... وما ليلُ التَّمام بلا صباحِ وما ضيفٌ أتاك بلا احْتشامٍ ... وأنتَ من الرحيلِ على جَناحِ وقوله: أيارِيحَ الصَّبا إن جئت نَجْداً ... فجدِّد بالظِّباء العِين عهداَ فقد أرضَعْتني ثَدْيَ الأماني ... وشِبْتُ وما بلغتُ به أشُدَّا وكم رَفَّتْ علىَّ طُوالَ ليلٍ ... ذوائبُ ذلك الرَّشَأ المُفدَّى وما نَجْدٌ وأين ظباءُ نجدٍ ... سقى الرحمنُ ماءَ الحسن نجْدَا وقوله من قصيدة، يمدح بها النظام ابن معصوم، يقول فيها: وإن في الشَّعَرات البِيض لو علموا ... نُوراً لعيني ونُوَّراً على عُودِي بِيضٌ وسُودٌ إذا ما استجْمَعا حَسُنَا ... حُسْنَ البياض على أحْداقِها السودِ كم للزمانِ ولا أخْشَى بَوائِقَه ... من ضِنَّةٍ ولعْين المُلك من جُودِ عَفُّ الشَّيِبة مَيْمون النَّقِيبة مَنْ ... صورُ الكتيبة مأمونُ المواعيدِ أخلاقُ أحمدَ في تقْوى أبي حسَنٍ ... وحسنُ يوسف في مُلْك ابن داودِ لا يحسُن الشعرُ إلا في مدائحِه ... كالدُّرِّ أحسن ما يبدو على الجِيدِ وقوله: أنتَ يا شُغْلَ المحبِّ الواجدِ ... قِبلُة الداعِي ووجهُ القاصدِ فُتَّ آرامَ الفَلا حسناً فما ... قابلَتْ إلا بطَرْفٍ جامدِ شأنُ قْلبينا إذا صحَّ الهوى ... يا حياتي شأنُ قلبٍ واحدِ كثَّر الواشون فينا قولَهمْ ... ما عليْنا من مَقالِ الحاسدِ لستُ أُصغِي لأراجِيف العِدى ... مَن يُغالي في الَمتاع الكاسدِ وقوله: زارني والبرقُ يرْمِى بالشَّرَرْ ... وعيوني شاخِصاتٌ في القمرْ ذو دَلالٍ كلما مَرَّ حَلَا ... آهِ ما أحْلَى هواه وأمَرّ بينما نحن على وَفْقِ الهوى ... نتَشاكَى سَلَّ قلبي ونَفَرْ وانْثنَي يعدُو وأعْدُو خلفَه ... وهو يرْميني بأطْرافِ النظرْ وَيْكَ يا شامِيُّ لا تطمعْ على ... ضَعْف عيْنَيْه بأحْداقِ الخَزَرْ وقوله من قصيدة: وقد جعلتْ نفسي تحِنُّ إلى الهوى ... حَلَا فيه عيشِي من بُثينة أو مَرَّا وأرسلتُ قلبي نحو تَيْماءَ رائداً ... إلى الخَفِرات البِيض والشُّدن العَفْرِا تعرَّف منها كلَّ لَمْياءَ خاذِلٍ ... هي الرَّيمُ لولا أن في طَرْفِها فَتَرا من الظَّبياتِ الرُّودِ لو أنَّ حسنَها ... يكلِّمها أبدتْ على حسنِها كبِرَا وآخَر إن عرَّفْتُه الشوقَ راعني ... بصَدٍّ كأني قد أبَنْتُ له وَتْرَاً أُناشدُ فيه البدرَ والبدرُ غائرٌ ... وأسألُ عنه الرِّيمَ وهْو به مُغْرَى فما ركِب البَيْداءَ لو لم يكن رَشاً ... ولا صدَع الدَّيْجورَ لو لم يكن بدرَا لِحاظٌ كأن السحرَ فيها علامةٌ ... تُعِّلم هاروتَ الكهانةَ والسحرَا وقَدٌّ هو الغصنُ الرَّطِيب كأنما ... كسَتْه تَلابيبُ الصِّبا ورَقاً خَضْرَا رتَقْتُ على الواشِين فيها مَسامِعاً ... طريقُ الرَّدَى منها إلى كبدي وَعْرَا أعاذِلتي واللومُ لؤمٌ أما تَرَىْ ... كأنَّ بها من كبل لائمةٍ وَقْرَا

بِفِيك الثَّرَى ما أنت والنُّصحُ إنما ... رأيتُ بعيْنيك الخيانةَ والغَدْرَا وما للصَّبا ياوَيْحَ نفِسي من الصَّبا ... تبِيتُ تُناجِي طولَ ليلتها البدرَا تطارحُه والقولُ حقٌّ وباطلٌ ... أحاديثَ لا تُبْقِى لُمستوْدَعٍ سِرَّا وتُلقِى على النَّمَّامِ فَضْلَ ردائها ... فيَعرفُ للأشْواقِ في طَيِّها نَشْرَا يعانقها خوفَ النَّوَى ثم تنْثِني ... تمزِّق من غيْظٍ على قَدِّك الأُزْرَا ألمَّا تَرَىْ باَنَ النَّقا كيف هذه ... تميلُ بِعطْفَيْها حُنُوّاً على الأخرَى وكيف وَشَى غُصنٌ إلى غصُنٍ هوًى ... ومن رَشَأ يُوحِى إلى رَشأ ذِكْرَا هما عذَلاني في الهوى غيرَ أنني ... عذَرْتُ الصَّبا لو تقْبلينَ لها عُذْرَا هبِيها فدتْكِ النفسُ راحت تُسِرُّه ... إليه فقد أبْدَتْه وهْي به سَكْرَى على أنها لو شايَعتْ كُثُبَ النَّقا ... وشِيحَ الخُزامَى إنما حملتْ عِطْرَا وقوله من قصيدة: اُعْفِياني من وَقْفةٍ في الديارِ ... تمْترِى دَرَّةَ الجفونِ الغِزارِ ما انْتفاعِي بنَظْرة تطرِف العَيْ ... نَ بِتلك الطُّلولِ والآثارِ ما ترى البارِقَ الذي صدَع الجوَّ ... سَناه على رسوِم الديارِ خَطِفاتٌ كأنَّهن خيولٌ ... تجرحُ العينَ بالسيوف الهَوارِي أذْكرتْني مَباسِماً وثغوراً ... حالياتٍ تغَصُّ بالأنْوارِ وكؤوساً كأنما حنَّكُوها ... في صَباها برِيقِة الخَمَّارِ خَلعتْ بيننا العِذارَ ووافتْ ... في قميصٍ مُفكَّك الأزْرارٍِ لو رآها العَذُول صُمَّ صَداهُ ... قال لي ولْلَعجوزِ النَّوارِ لا تَغرُوعا بِكْرَ الزمان بقَتْلٍ ... ذَوْبَ الُّلجَيْن غِشُّ النُّضارِ في سَنا الشمسِ ما علمتَ غَناءٌ ... عن ضياءِ النجوم والأقمارِ طال عمرُ الدجى علىَّ وعهدِي ... بالليالي قصيرةَ الأعْمارِ ما احْتسيْتُ المُدامَ إلا وغَصَّتْ ... لَهَواتُ الدجى بضوءِ النهارِ حَّبذا طَلْعةُ الربيع وأهْلاً ... بمَجالِي عرائس الأزهارِ وزمانُ البَهارِ لو عاد فيه ... غشَيانُ الشبابِ عَوْد البَهارِ ومَبِيتي إذا نَبَا بي مَبِيتي ... في ظلال العريشِ والنُّوُّارِ كم تفيَّأْتُها فحَّنتْ علينا ... حَنَّةَ الأمَّهاتِ والأطْيارِ مرحباً بالمَشِيب لولا زمانٌ ... غَضَّ منى وحطًّ من مقدارِي لو وفَى لي الصِّبا ولو عُمْرَ حِينٍ ... يا زماني أخذتُ منك بثَارِي وقوله: حَيَّتْ فأحْيَتْ بالمُدام معاشراً ... حَضرُوا وما ألبابُهمَ بحُضورِ في حّيِّهم صَرْعَى وما شهدوا الوغَى ... نَشْوَى وما مزَجُوا الهوى بخُمورِ وقوله: إيهٍ بذكْر معاهدٍ وأُناسِ ... طابتْ بذكْر حديثهم أنْفاسِي أذْكرتني حيثُ الأحبَّةُ جِيرةٌ ... حالي بهم حالٍ وكأسِيَ كاسِ هلَّا وقفتَ على منازلهم معي ... وبكيْت ناساً يالهم من ناسِ قالت عُثَيْمة والخُطوبُ تنُوشُنى ... والشَّيْب يضحك من بكاءِ الآسي شابتْ شَواتُكَ والزمانُ مُراهِقٌ ... والشيْبُ يا شامِيُّ تاجُ الراسِ وقوله: أما الطُّلولُ فإنها خُرسُ ... تبدُو لعينْيك ثم تْلتبسُ يا مَرْبعاً عبَث البلاءُ به ... عهدي برَبْعِك وهْو مُكْتنَسُ رقَمتْ عليه يدُ الصَّبا صحُفا ... تبدو لقارئها وتنْطمسُ وقف الهوى والدمعُ منطِلقٌ ... في جَوِّه والقلبُ مُنحبِسُ

للطيرِ جَرْسٌ في مَعالِمها ... فكأنما بحُلوقها جَرسُ والوُرْقُ تخطُب في منابرِها ... فوق الغصونِ كأنها حُبُسُ فارْشِفْ حصَاه فإنه شَنَبٌ ... والْثَمِ ثَراه فإنه لَعَسُ كم ليلةٍ قضَّيْتها خُلَساً ... خوفَ العواذِل والهوى خُلَسُ قصُرت عن الشكوى غَياهِبُها ... فكأنَّها من قَصْرها نَفَسُ بْتنا وشَمْلُ الليل مجتمِعٌ ... ويدُ النوَى في شمْلنا تَطِسُ في فتيةٍ رقَّت شمائُلهم ... فكأنها في أُفْقه شَمْسُ بِيضُ الوجوه وجوهُهم سُرُجٌ ... تحت الدجى ومُدامُهم قَبَسُ مالوا إلى الَّلذات من أَمَمٍ ... حتى إذا ضحك الطِّلَا عَبَسُوا والبدرُ يرْفُل في غلائلِه ... بين النجوم وللدُّجَى عُرسُ والماء بين مُصفِّقٍ طرباً ... فيه وآخر مُنْتَشٍ بَجْسُ حتى إذا نطقتْ مَزاهِرُنا ... خرَس العذولُ وما به خَرَسُ غاب الرَّقيبُ ونام حاسدُنا ... فوشَى علينا الطِّيبُ والنَّفَسُ وقوله: ما في التَّصابِي على مَن شاب من باَسِ ... أما ترى جَلْوَة الصَّهْباءِ في الكاسِ الناسُ بالناِس والدنيا بأجمعِها ... في دَرَّةٍ تْعطف الساقِي على الحاسِي يئسْتُ واليأسُ إحْدى الراحتيْن وكم ... جَلَوْتُ منِّى صدَى الأطماع بالْياِس منها: في كل غانيةٍ من أخْتِها بَدَلٌ ... إن لم تكن بنْتَ رأسٍ فابنه الراسِ أودعتُ عقلي إلى الساقيِ فَبدَّدَه ... في كَسْر جَفْنَيْهِ أو في مَيْلِة الكاِس لا أوْحَش اللهُ من غضبانَ أوْحشَني ... ما كان أبْطاهُ عن بِرِّي وإيناسِي سلمتُ يوم النوى منه وأسلمني ... إلى عدُوَّيْن نَمَّامٍ ووَسْواِس ذكَّرْتُه وهْولاَهٍ في محاسنِه ... عهودَ لا ذاكرٍ عهدي ولا ناسِ ودَدْتُ أن بعتُه روحي بلا ثمنٍ ... لو كنت أضربُ أخماساً لأسْداسِ يا وَيْح من أنتِ يالَمْياء بُغْيتُه ... ما كان أغْناه، عن فكرٍ ووَسْواسِ قامتْ تغنِّى بشعرٍ وهْي حاليةٌ ... به ألا حبَّذا المكسُوُّ والكاسِي تقول والسُّكرُ يطْويها وينشرُها ... أيُّ الشَّرابْين أحْلَى في فم الكاسِ يا حبَّذا أنت يالَمْياءُ من سكنٍ ... وحبَّذا ساكنُ البَطْحاء من ناسِ ما إن ذكرتُك إلا زاد بي طَرَبِي ... وطاب ريحُ الصَّبا من طِيب أنْفاسِي ولا ذكرتُ الصَّبا إلا وذكَّرنِي ... لَيالياً أرْضعتْني دَرَّةَ الكاسِ وجيرةً لعبتْ أيدي الزمانِ بهم ... أنكرتُ من بعدهم نفِسي وجُلاَّسِي أيامَ أخْتالُ في ثَوْبَيْ بُلَهْنيةٍ ... ومَيْعةٍ من شبابٍ ناعمٍ عاسِ عارٍ من العار حالٍ بالصِّبا كاِس ... كأنني والصِّبا في بُرْد أخماسِ أنضيْتُ فيه مَطايا الجهل والباسِ ... عريتُ منه وما عَرَّيْتُ أفراسي في صِبْيَةٍ كنجومٍ الليلِ أكياسِ ... كان أيامَهم أيامُ أعْراسِ أسمُو إليهم سمُوَّ النومِ للرَّاسِ ... أدُبُّ فيهم دبيبَ السكرِ في الحاسِي باتوا بمَيْثاءَ صَرْعَى لاحَراك بهم ... وإنما صرعتهم صَدمةُ الكاسِ يا عاذلي أنت أوْلَى بي فخُذ ييدي ... فأنت أوقْعتني فيهم على راسِي ويا حمامَ الِّلوَى هلا بكيْتَ معِي ... على زمانٍ تقضَّى أو على ناسِ وقوله: يا نسيمَ الصَّبا ويا عذْبَ الرَّي ... حانِ هُبِّي على وانتفضِي خبِّرينِي عن الِّلوَى خَبراً ... إنَّ ذكرَ الرياضَ من غَرضِي لأُقَصِّى من اللوى وَطَراً ... ليس يدري الوُشاة كيف قُضِى

مالبرقٍ تِجاه كاظمةٍ ... لم تُضِي في العَقِيقِ أين تُضِي لست أرْضَى بصاحبٍ بدلاً ... فاسْألا من صحبتُ كيف رضِى صدَّقوا ليس عنهم عوضٌ ... وجميعُ الورى لهم عِوَضِي وقوله من قصيدة: أتراك تهفُو للبروق الُّلَّمعِ ... وتظن رَامَة كلَّ دارٍ بَلْقَع لولا تذكُّر من ذكرْتَ برَامةٍ ... ما حَنَّ قلبي لِلِّوَى والأجْرَعِ ريمٌ بأجْويِة العراق تركتْه ... قَلِقَ الوسادِ قريرَ عينِ المَضْجَعِ في السِّرِّ من سعدٍ وسعدٌ هامةٌ ... رَعْناءُ لم تُصدَعْ ولم تتضَعْضعِ منها: قالتْ وقد طار المَشِيبُ بلُبِّها ... أنِشبْتَ في حَلْقِ الغراب الأبْقَعِ وتلفَّتتْ والسحرُ رائدُ طَرْفِها ... نحوَ الديارِ بمُقلةٍ لم تخشَعِ ولكَم بعثْتُ إلى الديارِ بالمتَربَّعِ ... فبكتْ ولولا الدارُ لم تتقشَّعِ أمَّلتُ لو يتلَّوم الحادي وما ... أمَّلْتُ إلا أنْ أقول وتسمعي وقوله: لم أنْسَ لا أنسى خيالاً سرى ... يسترشدُ الشوقَ إلى مَضْجعِي حسِبتُ بدرَ التِّمِّ قد زارني ... فبِتُّ لآ أقْفُو سِوى المطلَعِ أسأل عنه الشوقَ لا يرْعوِى ... وأنشُد البَيْنَ به لو يَعِى آليْتُ والدارُ لها حرمةٌ ... لا أسأل الدارَ وصبري مَعِي كان دمي حَجْراً على حاجِرٍ ... فلِمْ أباحْته مَها الأجْرُعِ عُلالَةً كان وُقوفي بها ... أبْغِي شِفَا القلب من المُوجِعِ وقوله: يالَهْفَ نفسي على شبابٍ ... أفنيتُ في عصرِه جَمِيعِي كان شَفِيعي إلى الغواني ... فمنَ شفيعي إلى شَفِيعِي إن الدَّرارِي على نَواها ... أدْنَى من الغادة الشَّمُوعِ وقوله: لا تجْزعِي يا بَانَة الأجْرَعِ ... حُوشيتِ من همِّي ومن ضَيْلَعِيِ كأن قلبي بين شِقَّىْ عَصَا ... في حبِّ من شَقّوا عصا المَجْمَعِ حلُّوا من القلب بوادي الغَضا ... ونارُهم في مُنْحنَي الأضْلُعِ وقوله: يا عَذُولي وما أظن عذولي ... يطمعُ اليوم في مَلامِي وقَذْعِي هَبْك ثقَّلتَ بالمَلامةِ سَمْعي ... أخْتشِى اليوم أن تُثِّقل طبْعِي وقوله: أجِدَّكَ شايعْتَ الحَنِين المُرجَّعَا ... وغازلْتَ غِزْلانا على الخَيْف رُتَّعَا وطالعْتَ أقماراً على وَجْرَةِ النَّقا ... وقد كنتُ أنْهَى العينَ أن تتطلَّعَا ولم أرَ مثلَ الغِيدِ أعْصَى على الهوى ... ولا مثلَ قلبي للصبابةِ أطْوعَا ومن شِيمَي والصبرُ مِنِّيَ شِيمةٌ ... متى رام أطْلالاً بعيْنٍ تدمَّعَا وقورٌ على يأسِ الهوى ورجائِه ... فما أتحسَّى الهمَّ إلا تجرُّعَا خِليَليّ حالِي كلما هبَّ بارِقٌ ... تكاد حَصاةُ القلب أن تتصدَّعَا طوى الهجرُ أسبابَ الموَّدة بيننا ... فلم يَبْقَ في قَوْسِ التصبُّرِ مِنْزَعَا إلى الله كم أُغْضِى الجفونَ على القَذَى ... وأطْوِى على القلب الضلوعَ توُّجعَا ألا حبَّذا الطَّيْفُ الذي قصر الدجى ... وإن كان لا يلْقاك إلا مُودِّعَا ألَمَّ كحَسْوِ الطيرِ صادَف مَنْهَلاً ... فأزْعجه داعي الصَّباحِ فأسرعَا وناضْلتُه بالَّلْحظ حتى إذا رمَى ... بسطْتُ له حبلَ الهوى فتورَّعَا قَسمتُ صَفَايا الوُدِّ بيني وبْينَه ... سواءً ولكنِّي حفظتُ وضيَّعَا وحزَّتْ نِياطَ القلبِ أسبابُ نِيَّةٍ ... فلله قلبي ما أرَقَّ وأجْزَعَا وقوله: سرى والليلُ مَمْدودُ الرُّواقِ ... وساعى الفجر يحجِل في وَثاقِ

خيالٌ من عُثَيْمة أو لُبَيْنَىَ ... أو الشَّماءِ أخْتِ بني البُراقِ يُطِوِّف في الشَّآم وفي عراقٍ ... ويا بُعْدَ الشآمِ من العراقِ أقول لها وقد خطَرتْ رِياحٌ ... من الزَّوْراءِ في حلل رِقاقِ وقد برَد السِّوارُ على يديْها ... فأحْمَيْتُ القلائدَ بالعِناقِ برد السوار، وبرد الحلى، يكنى به الشاعر عن الصباح. في البديع: قامت وقد بَرَد الحُلِىُّ ... تميِسُ في ثَنْى الوشاِح ابن الزقاق: بَرْدُ الحُلِىِّ تنافرت عَضُدِي وقد ... هبَّ الصباحُ ونامَتِ الجَوْزَاءُ ابن حمديس: وبتُّ أُحمِى بأنفاسِي حصَا دُرَرٍ ... بَبرْدِها في التَّلاقي تعرِف الفَلَقَا وللشريف الرضي، رضى الله عنه، وهو مأخذ المترجم: حتى إذا هبتْ ريا ... حُ الفجرِ تُؤذِن بالفِراقِ برَد السِّوار لها فأحْ ... ميْتُ القلائدَ بالعِناقِ وأحسن أبو الجوائز الواسطي في قوله: كلما نَمَّ للفُضولِ سِوارٌ ... كذَّبْته قلائدٌ وعُقودُ وبرد المضجع، وبرد الفراش، كناية عن الراحة والترفه، وعن زيادة القدرة، بحيث لا يقدر أحدٌ على إزعاجه، ويلزمه الشجاعة وعلو المقام. قال: أبيض بسَّام بَرُودٌ مَضْجَعُهْ وأعْجَلنا النوَى حتى لَكِدْنا ... نُودِّع بعضَنا قبل التلاقِي ولم يكُ غيرَ موقفِنا ونادَى ... مُنادِى الحيِّ حَيَّ على الفِراقِ أثِيِبى فيَّ نَظْرةَ لا ضَنِينٍ ... بنائِله ولا تَرِفِ الخِناقِ يرى شبحاً بلا ظِلٍّ ونفساً ... يُردِّدها التنفُّس في التَّراقِي بناتُ الشوقِ تْفحَص في فؤادي ... وطِفْلُ الدمعِ يْعبَثُ بالمَآقِي وأنت جعْلتني جَزْرَ الأعادِي ... ولو أحبَبْت ما أكلُوا عُراقِي تُلوكنيَ الخُطوب على هُزالِي ... ويحلُو لي لها طعمُ الزُّعاقِ ولو عقَل الزمانُ دَرَى بأنِّي ... على مَن رامَنِي مُرُّ المَذاقِ ولم تتْركْ صُروف الدهرِ منِّي ... ومن عَضْبِي الجُرازِ سوى رَماقِ أما والرَّاقصاتِ على لَآلٍ ... ومَن حُمِلوا على الكُومِ العِتاقِ لقد أضْلَلْتُ في ليلِ التَّصابي ... فؤاداً غيرَ مشْدود الوَثاقِ ألا ياصاحبَيْ نَجْوَاي سيرا ... فقد قعد الهوى بي عن رِفاقِي قِفا عنِّي بأقْرْيَةِ الفِتاقِ ... فَواقاً أو أقلَّ من الفَواقِ سقى اللهُ العراقَ وساكنِيهِ ... وجادَ مراتِعَ الشُّدْنِ الطِّلاقِ إلى أهلِ العراقِ يحِنُّ قلبي ... فواشَوْقي إلى أهلِ العراقِ وقوله: أرأيتَ ما صنعتْ يدُ التَّفْريقِ ... أعلمتَ مَن قتلتْ بسَعْيِ النَّوقِ رحلَ الخَلِيطُ وما قضيْتُ حقوقَهمْ ... بِمُنَى النفوسِ وما قضَيْنَ حُقوقِي عِلُقوا بأذْيالِ الرياِح ووكَّلُوا ... لِلْبَيْن كلَّ مُعرِّجٍ بفريقِ وغدوْتُ أصرفُ ناجِذَيَّ على النَّوَى ... وأغَصُّ من غَيْظ الوُشاة برِبقِي هجروا وما صبَغَ الشبابُ عوارِضِي ... عَجْلان ما عِلقَ المشِيب بزِيقِي فكأنني والشيبُ أقْربُ غايةٍ ... يومَ الفِراق شربْتُ من رَاوُوقِ لا راق بعدهم الخيالُ لناظرِي ... إن حَنَّ قلبي بعدهم لرَحِيقِ لعب الفِراقُ بنا فشرَّدَ من ييد ... رَيْحانتَّي صديقِتي وصديقِي للهِ ليلنُنا وقد عِلقتْ يدي ... منه بعِطْفٍ كالقناةِ رشيقِ عاطَيْتُه حَلب العصيرِ وصَدَّنا ... عن وجهِ حاجِبِنا يدُ التَّعويقِ ما كان أسْرَع ما دحَتْه وإنما ... دُهِش السقاةُ به عن التَّرْويقِ

أيقظْتُه والليلُ ينفُض صِبْغَه ... والسكرُ يخلِط شائقاً بمَشُوقِ والنومُ يعبثُ بالجفونِ وكلَّما ... رقَّ النسيمُ قسَتْ قلوبُ النُّوقِ والبرق يعثُر بالرِّحال وللصَّبا ... وقَفاتُ مُصْغٍ للحديث رَفيقِ باتتْ تحرَّش والقَنا متبرِّمٌ ... بين الغصون وقَدِّه المْمشوقِ فأجابني والسكرُ يُعجِمُ صَوْتَه ... والكأسُ تضحك للثَّنايا الرُّوقِ لولا الرَّقيبُ هَرَقْتُ مَضْمضةَ الكرَى ... وغصَصتُ صافيةَ الدِّنانِ برِيقِي ثم انْثنيْتُ وزَلْفُه بيد الصَّبا ... وشَمِيُمه في جَيْبِيَ المفْتوقِ وقوله: أرِقْت لبارِقٍ في جَوِّ رَاسِي ... جَرِضْتُ لصَوْبِ عارِضه برِيقِي هدَتْه النَّائباتُ وأيُّ ضيفٍ ... هدَتْ يومَ الفِراق إلى فروقِي رفعْتُ لي بجُنْحِ الليل نارِي ... فخاض الليلَ يعسِف في الطريق ودَدْتُ ولو بضَرْبِ الْهامِ أنِّي ... رَعيْتُ له ولو بعضَ الحُقوقِ وقوله: رُبَّ ساقٍ غمَزْتُه فتغابَي ... ثم أوْمى بناظرٍ لا يُطاقُ قال لي والخُمارُ يُرْعِد كَفَّيْ ... هِ ورُوحي على يديْه تُراقُ أنتَ لا شك هالكٌ بجفنوني ... قلتُ زِدْني فإنها دِرْياقُ فانْتضَى الكأسَ من يدَيَّ وأهْوَى ... نحو فِيه بالكأس وهْي دِهاقُ قال لي هاكَها شَراباً طَهُوراً ... خلَّصتْها من حِنْثِها الأرْياقُ وقوله: آهِ يا غُصْنَ النَّقا ما أمْيَلَكْ ... جَلَّ يا غُصنَ النقا من عَدَّلَكْ قد قضى لي بتَباريحِ الجوَى ... مَن قضى بالحبِّ لي والحسنِ لَكْ أكل الحبُّ فؤادي بعدَما ... لَاك منِّي ما تمنَّى وعَلَكْ هلك الشامِيُّ وَجْداً وأسًى ... ما يُبالي يا حياتي لو هلَكْ قلَّ لي فِيك غارماً وجَوًى ... قلَّل اللهُ عَذُولا قَّلَلكْ حكم اللهُ لفَوْدَيَّ على ... نُسْخة الشَّيْب وتسْويد الحَلَكْ أتُراهم قد رأَوا أيَّ دمٍ ... هرَق الواشِي على تلك الفلكْ يا غُرابَ البَيْن لا كنتَ ولا ... كان وَاشٍ دَبَّ فيهم وسلَكْ أخذُوا منَّا وأعْطَوْا ما اشْتَهَوْا ... ما كذا يحكُم فينا من ملَكْ جُرتَ في الحُكْم على أهلِ الهوزى ... لا تخَفْ فالأمرُ لِله ولَكْ ليت شِعْرِي أمَلِيكٌ في الورَى ... أنتَ يا إنسانَ عَيْني أم مَلَكْ حكَم الدهرُ علينا بالنَّوَى ... هكذا تفعلُ أدوارُ الفلَكُ وقوله: سيدي لا مِثْلَ مثُلكْ ... صُوِّر البدرُ بشكلِكْ ما حَكاك البدرُ لكن ... رامَ يحكى شِسْعَ نَعِلكْ إنما الحسْن قميصٌ ... هو قد حِيكَ لأجْلِكْ خُلِق العشقُ لمْثلي ... وحلَا الحسنُ لمثلِكْ وقوله: آهِ من داءيْن بادٍ ودخيلِ ... وخَصِيميْن مَشِيبٍ وعَذُولِ ما على مَن طال ليْلىِ بعدَهم ... لو أعانوني على ليلىِ الطويلِ عاجلَ القلبُ إليهم ناظرِي ... ما أضرَّ الحسنَ بالقلبِ العَجُولِ نادَمتْ منهم بَنانِي ناجِذِي ... واسْتشاط الوجدُ في إثْرِ الخمولِ وبأكْناف المُصَلَّى غادةٌ ... سنَحتْ لي مَسْنَحَ الظبيِ الخَذُولِ عرضتْ شرط المفَدَّى في مَهاً ... يتعثَّرْنَ بأطْرافِ الذيولِ قد عرَفْنا وَقْفة الرَّكْبِ دُجًى ... في سنَا الجَوِّ وأنْفاسِ القَبُولِ إذْ شفيعِي عند لَمْياءَ الصِّبا ... ورسولِي خُلْسةَ الَّلحْظِ الكليلِ

نظَرتْ نحْوى ورَقْراقُ السَّنا ... يخطِف الأبْصارَ عن طَرْفٍ كحيلِ حكم اللهُ لقْلبَيْنا على ... قَلقِ القُرْطِ ووَسْواسِ الحُجولِ زاد شوقي يا حَماماتِ الِّلوَى ... علِّلِينا ببكاءٍ وعويلِ أنا أوْلَى بنُواحٍ وبُكا ... لا بُليِتُنَّ بوجْدِي وغَليلِي ليت شِعْري والأمانيِ ضَلَّةٌ ... هل صَبا نَجْدٍ إلى الغِيد رسولِي يا صَبا نجد ومَن لي لو وعَتْ ... رَجْعَ قوْلي أو أصاختْ لِسئُولِي أنْتِ أدْرَى يا هَناتِي بالجوَى ... خبِّريهم يالكِ الخيرُ وقُولِي لو رأَى وجهَ سُلَيْمَى عاذلِي ... لتفارْقنا على وجهٍ جميلِ بشَّرتْ سلمى عَذُولي بالنَّوَى ... آهِ مَّما أوْدعتْ سَمْعَ العَذُولِ وقوله: يا أخا البدرِ رَوْنقاً وسناءً ... وشقيق المَهَا وتِرْبَ الغزالَهْ ساعَد الخيرُ يومَ بِعْتُك رُوحي ... لا وعينْيك لستُ أبْغِي إقالَهْ يا عليلَ الجفون علَّلْتَ قلبي ... زاد عيْنيك عِلَّةً وذَبالَهْ ما لِعْينِيَّ كلَّما عنَّ ذِكرا ... ك تداعتْ جفونُها الهَطَّالَهْ جُنَّ طَرْفي مذ غاب عنه مُحيَّا ... كَ جُنونِي فلا تسَلْ ما جرَى لَهْ كنتُ قبلَ الهوى ضَنِيناً بقلبي ... خدعَتْني لِحاظُك الخَتَّالَهْ لك قَدُّ القَنا وثغُر الأقاحِي ... وجفونُ المَها وجِيدُ الغزالَهْ مَن تناسَى بالرَّقْمتْين وِدادِي ... فبعْيني غصونُه المَيَّالَهْ رُبَّ ليلٍ قصَرْتُه بغَريِرٍ ... حلَّ من عقد زُلْفه فأطالَهْ مَن عَذِيري في حبِّ طَفْلٍ لَعُوبٍ ... عوَّدُوه سفْكَ الدِّما فحَلالَهْ كلَّما صدَّ عن سوايَ دلالاً ... صَدَّ عنِّي تبرُّماً ومَلَالَهْ لستُ أنْسَى يومَ الفِراق وقد أدْ ... ركَ من شمْلنا النوَى آمالَهْ غصَب البَيْنُ من يدِي كلَّ غُصْنٍ ... سرَق الغصنُ لِينَه واعْتدالَهْ فَرَّ نَشْوانَ من يدِي يتكَفَّى ... ثقَّل الوردُ غُصْنَه فأمالَهْ لم تدعْ لَوْعةُ الجوى من حَشاهُ ... من حَصاةِ الفُؤادِ غيرَ ذُبالَهْ يا لُواةَ الدُّيُون نَفْثةُ مَصْدو ... رٍ أذابتْ أنفاسُه أوْ صالَه إن ذَوْبَ الجفونِ في أَثَرِ الغا ... دِينَ أوْلَى لناظرِي أوْلَى لَهْ فلْيَلُمْني العذولُ ما شاء إنِّي ... لستُ لي في هوى الحسانِ وَلَالَهْ. وقوله: كِلينِي لهّمٍ لا ينامُ ونامِي ... فما الشامُ إن ضاقتْ علىَّ بشامِ وما بي سوى أمٍّ رَءُومٍ وجِيرةٍ ... عِزازٍ علينا يا عُثَيْمُ كِرَامِ وقد كنتُ قبل البَين جَلْداً على النَّوَى ... تطالبني نفسِي بكلِّ مَرامِ لَصُوقاً بأكْباد الحسانِ مُحَبَّباً ... إلى الغِيد يَحْلُو لي لَهُنَّ كلامي يقودُونني قَوْدَ الجَنِيب إلى الهَوى ... فما لي مَنْبوذٌ إلىَّ زِمامي وفي الركْب مَدْلولُ اللِّحاظِ على الحشا ... يُدافِع عن أتْرَابِه ويُحامى لقد كمَنتْ أمُّ المنايا بلَحْظه ... كمُونَ المنايا في شِفارِ حُسامِ يُشايعُه من آل كسرى ضَراغِمٌ ... براثنُهم عند اللقاءِ دَوامي يرُوحون والتِّيجانُ فوق رءُوسِهمْ ... ألا رُبَّ تِيجانٍ زَهَيْنَ بهِاَمِ برزْتُ الهم والحتْفُ منِّى على شَفَا ... أرى الموتَ خلفي تارةً وأمامي أُوارِبُ عن صَحْبي وأعلمُ أنَّني ... لَأوَّلُ مقتولٍ بأوَّلِ رامِ

فناضَلْتُه والرَّكْبُ بين مُفوِّقٍ ... وآخَر مقْرُوحِ الجوانحِ دَامي أصابتْ وكانت لا تُصِيبُ سِهامُه ... وطاشَتْ وكانت لا تَطِيشُ سِهامي كذا الغيدُ يا عَثْماءُ إمَّا مُهاجِرٌ ... وإما خَتُولٌ لا يَفي بذِمامِ وقوله: لمن العِيسُ جُفَّلا كالنعامِ ... يترجَّحْن خِلْفةَ الآرامِ يرْتقصْنَ الخُطى ارْتقاصَ بَناتِ الشَّ ... وقِ تحت الحشَى على الآكامِ ووراءَ السُّجوف كلُّ أَناة الْ ... خَطْوِ حَيُّ الحياءِ مَيْتُ الكلامِ كدُمَى العاجِ في المحاريب أو كالزَّ ... هرِ غِبَّ القِطار في الأكمامِ قد تقنَّعْنَ في الشُّفوف كما قُنِّ ... عَ بدرُ الدجى بذيل الغمامِ ما عهِدْنا الظِّباء ترفُل في الوَشْ ... ىِ ولا الوَحْشَ في البُرَى والخِزامِ قُسِّم الحسْن بين قاصِرة الطَّ ... رفِ وأخرى مقصورةٍ في الخيامِ منها: كلُّ هَيْفاء حيث يُعتقَد الحبُّ ... سريع الخُطَى بطئ القيامِ كلَّما أقْصدتْ فؤادَ كَمِىٍّ ... بسَمتْ لي عن مْثل حبِّ الغَمامِ رفعتْ طَرْفها إلىَّ وقالتْ ... بأبي ما أرقَّ قلبَ الشامي طالعتْ صاحبي ومالتْ إلى السِّرْ ... بِ بطَرْفٍ ولا كطرفَي دَامِي وسَبْتنِي وما أبَحْتُ حِماها ... بَقوامٍ آهاً له من قَوامٍ وعيونٍ أعاذَنا اللهُ منها ... لعبتْ بالعقول لعبَ المُدامِ ورَسِيلٍ يُطيل ناشئةَ الَّلْي ... لِ وناهِيكُما بليْلِ التَّمامِ ورمتْني وللمنَّية أسبا ... بٌ فلله ما أخفَّ سَقامي فلْتطُل لَوْعتي عليك ووَجْدِي ... إن قلبي يصحُّ بالأسقامِ يا نَدِيميَّ بالجَوَاء كِلانا ... لَهناتٍ حسَرتُ عنها لِثامي أعْفياني من هَجْعة تملأُ العيْ ... نَ غُررواً بِطارقٍ في المَنامِ زارني والهوى يُخيِّل للعيْ ... نِ سعادا والليلُ مُرْخَى الزِّمام فوفَى لي بكلِّ ما تشْتهي النفْ ... سُ وولَّى والرَّكْبُ صَرْعَى غرَامِ زارني في ذُرَا الشآمِ ودارِي ... بالمُنقَّى ودارُها بالرِّجامِ طاف والليلُ مطبِق بعُراهُ ... يسْتقيل الكرَى من الإلْمامِ قلتُ للطارِق الذي طرَق الجوَّ ... وشابتْ له فروع الظلام كبُرتْ يا ظَلُومُ همةُ عيْنٍٍ ... طمعتْ أن تراك في الأحلامِ وقوله: رقَّتْ شمائلُه فقلتُ نسيمُ ... وزكَتْ خلائُقه فقلت شَمِيمُ قصَر الكلامَ على المَلامِ وإنما ... لِلَّحْظِ في وجَناتِه تكْليمُ شرِقتْ معاطفُه بأمْواه الصِّبا ... وجرى عليه بَضاضَةٌ ونعيمُ قد كاد تشربُه العيونُ لَطافةً ... لكنَّ سيفَ لِحاظِه مسمومُ وقوله: رشَفتْ صُروف الدهر ماءَ نَضارتي ... عَجْلانَ ما أدْمى الفؤادَ وما رَمَى إن الذي صبَغ الحياءُ بياضَه ... لم يدْرِ كيف غرِقْتُ من خجلٍ دَمَا إن الذي فارقْتمُوه ولم يمُتْ ... يا عَزُّ كلن أعَقَّ منكِ وأظْلما وقوله: يا خليَليَّ دعاني والهوى ... إنني عبدُ الهوى لو تعلمانِ عَرِّجا نقْضي لُباناتِ الهوى ... في ربوعٍ أقْفرتْ منذ زمانِ مَربَعٌ أولع عيني بالبكا ... أمَر العينَ به ثم نَهاني وقُصارَي الخِلِّ وجدٌ وبكا ... فابْكياني قبل أن لا تبكيانِي يا عُريباً مُنْحناهم أضلُعي ... وغَضاهم نارُ شوقي في جَنانِي سوَّدُوا ما بين عينى والفَضا ... ومحَوْا عنها سوادَ الدَّيْدَبانِ

إن قلباً أنتمُ سُكانُه ... ضاع مني بين شِعْب والقَنانِ وقوله من خمرية: هاتِها هاتها سَبِيَّةَ حَوْلٍ ... قد توانتْ ولات حين توانِ كسقِيط الندى على وجَنات ال ... وردِ أو كالدموع في الأجفانِ في يدَىْ شادِنٍ رقيقِ الحواشِي ... فوق خدَّيْه وردةٌ كالدِّهانِ هي في خدِّه سَبِيكُ نُضارٍ ... وبِفِيه عصارةُ العِقْيانِ منها: نسخَتْ سحرَ بابلٍ مُقْلتاه ... فتنبَّي في فَتْرَة الأجفانِ أحسن منه قول التنيسي الأندلسي: لولا تحدِّيه بآيِة سحرِهِ ... ما كنتُ ممتِثلاً شريعةَ أمرِهِ رشأٌ أُصدِّقه وكاذبُ وعدِه ... يُبدي لعاشقه أدلَّة عُذْرِهِ ظهرتْ نُبُوَّةُ حسِنه في فَتْرةٍ ... من جَفْنِه وضلالةٍ من شَعرِهِ في رُبوع كأنهنَّ جِنانٌ ... عطفتْ حُورَها على الوِلْدانِ ورياضٍ كأنهنَّ سماءٌ ... أطْلعتْ أنْجُماً من الأُقْحُوانِ بين وُرْقٍ كأنهن قِيانٌ ... رُكِّبَتْ في حُلوقهنَّ مَثانِي وغصونٍ كأنهنَّ نَشاوَى ... يترقَّصْنَ عن قُدود الغوانِي وأقاحٍ كأنهنَّ ثُغورٌ ... يتبسَّمْنَ في وجوهِ الحسانِ ونسيمُ الصَّبا يصِحُّ ويْعتَلُّ ... على بَرْدِه وحَرِّ جَنانِ كلما غَنَّتِ البلابلُ فيها ... رقَّص الدمعُ بابلكا أجْفانِي عطفَتْني على الرياضِ قُدودٌ ... خلعتْ لِينَها على الأغصانِ يتلقَّانِيَ الأقاحُ بنَشْرٍ ... وغصونُ النَّقا علىَّ حَوانِ منها: أين قلبي لا أين إلَّا طلولاً ... أذْهبتْها الرياحُ منذ زمانِ أذْكرتْني معادهاداً ورُبوعاً ... كاد يَدْمى لذِكْرهنَّ بَنانِي حيث غُصْنِي من الشبابِ رَطِيبٌ ... وعيونُ المَها إلىَّ رَوانِي أطرُد النومَ عن جفونٍ نَشاوَى ... بحديثٍ أرَقَّ من جُثْمانِي وقَوافٍ لو سَاعد الجِدُّ نيِطتْ ... موضعَ الدُّرِّ من رِقاب الغوانِي سائراتٌ بُيوتُهنَّ على الألْ ... سُنِ سَيْرَ الأمثالِ في البُلدانِ قُصُدٌ كالفِرِنْدِ في صفَحات الدَّ ... هرِ أو كالشُّنوفِ في الآذانِ عاصِياتٌ على الطباعِ ذَلُولٌ ... يُتغنَّى بهنَّ في الرُّكْبانِ ساقَطتْ والندَى يَطُلُّ عليْنا ... من عُيونِ المَها حصَا المَرجانِ وقوله: لا يتَّهِمْنِي العاذلون على البُكا ... كم عَبْرةٍ مَوَّهْتُها ببنَانِي يا مَن يفنِّدني على ابْنِة وائلٍ ... عنِّي إليك فغيرُ شانِك شانِي آليْتُ لا فتَق العَذول مَسامِعي ... يوماً ولا خاط الكرَى أجفانِي قالت عُثَيْمة قد كبِرتَ عن الصِّبا ... ما لْلِكبير وصَبْوةِ الشُّبَّانِ ما الشَّيْبُ إلا كالقَذاةِ لناظرِي ... فقليلهُ وكثيرُه سِيَّانِ سَلبتْ أساليبُ الصَّبابة من يدِي ... صَبْرِي واُغْرَتْ ناجِذِي ببنَانِي وقوله: إذا أبْصرتُ شخصَك قلتُ بدرٌ ... يلُوح وأنت إنسانُ العيونِ جرى ماءُ الحياة بِفِيكَ حتى ... أمِنتُ عليك من رَيْب المَنونِ وقوله: هل في القضيَّةِ أن يُشايِعك العِدَى ... في ليلةٍ ناجيتُ فيك سُهاهَا هَبْ أن للشامِيِّ فيها بالسُّهَا ... نَسَباً فأين همُ وبدرُ دُجاهَا ليت التي بعثَتْ إلىَّ خَيالَها ... أذِنتْ لعيني أن تذُوق كَراهَا وقوله: طرقتْ تخطَّي رِقْبةَ الواشِين بي ... وعيونُهم مَطْروفةٌ بكرَاهَا وأنا ومَوَّار اليديْن نلُوذ في ... سُجْفِ الخياِم كأننا طُنْباهَا

حسين بن شههاب الدين بن حسين بن محمد بن يحيى ابن جاندار البقاعي الكركي

قلت: هذا ما وصل من أشعاره إلى، والمنة لمن منحني به علي. وقد قيل: من أحيي قلب صديق، بكلام رقيق، أمن من كل حريق، وسلم في كل مضيق. ولو استزدت لزدت، وما قلت عسيت أو كدت. حسين بن شههاب الدين بن حسين بن محمد بن يحيى ابن جاندار البقاعي الكركي باقعة البقاع، المخجل بغرره وجوه الرقاع. طلعت محاسنه طلوع النجوم الزواهر، وسعدت تلك البقاع بآدابه المعجبة البواهر. وإذا تأمَّلتَ البقاعَ وجدتَها ... تشْقَى كما تشقى الرجالُ وتسعَدُ وهو وحيدٌ في كرم ضرائبه، متفرد بكثرة عجائبه وغرائبه. تستوعب محفوظاته المقروء والمسموع، وتجمع معلوماته ما هو في الحقيقة منتهى الجموع. وله أدب جزل، وجدٌ مقرون إلى هزل. وأما نظمه فبابل منشأ كلامه، وما أنزل على الملكين في ضمن أقلامه. وكان في أخريات أمره، حين لم يبق إلا قذىً في كأس عمره. اشتغل بالطب فأتقن قواعده وأحكم، ولعب بالأرواح والأجسام كما شاء وتحكم. ولكنه طاشت سهام رأيه عن أغراضها، وأصابت فما أخطأت النفوس في تخليصها من آلام أمراضها. فكم عليلٍ دبَّ فيه علاجه ثم درج، فأنشد: أنا القتيلُ بلا إثمٍ ولا حَرج وتلاعبت به الظنون في مهاوى العربة، إلى أن دخل الهند وهو سفير الفقر والكربة. فاستقبله النظام ابن معصوم ببريد كرمه، وأنزله حيث استرد شبابه بعد هرمه إلا أنه لم تظل مدته، حتى أخلقت بحادث الموت جدته. وقد أوردت من محاسنه التي بهر اتقادها، وبعد عن مظان أولى النباهة انتقادها. ما تستهدي منه شمالي الرُّبى آذنت لصحة الأجسام بالتكفل، ونسيم الصبا جاءت بعرف الصندل وريا القرنفل. فمنه قوله، من قصيدة، مستهلها: هو الحب لا يْبقَى على النَّأْيِ بارِحَا ... فصبراً وأنَّي يردعُ الصبرُ جامِحَا حليفَ غرامٍ مُدْنَفٍ فتكتْ به ... جوارحُ ألْحاظٍ تُذيب الجوارحَا وهل يُرْتجىَ بُرْءُ السليم الذي غدتْ ... عليه أماراتُ الهلاكِ روائحَا أراقتْ دمي بالسَّفْح غرَّاءُ ناهدٌ ... على مثلِها أمستْ دموعي سوافِحَا مضتْ غيرَ ما أبْقتْ من الوجدِ والأسَى ... ليالٍ بنا نلْنَا المُنَى والمنائحَا برَغْمِي حلَلْت الدمعَ بين طلولُهم ... فلم أرَ مُرّاً يُرجِع القلبَ فارِحَا خَلاَ مَلْعب أوْدَى بأرجائِه البِلىَ ... تُلاعُبه هُوجُ الرياض روائحَا وعهدِي به بالأمْسِ للعينِ مألَفٌ ... فعُوِّضَ عنهنَّ ابنُ دَايةَ نائحِاَ ابن داية: الغراب، وهو علم جنس ممنوع من الصرف، سمي به لأن أنثاه إذا طارت من بيضها حضنها الذكر فيكون كالداية للأنثى. وكان جَلاءَ الناظريْن من القَذَى ... فأضحى يردُّ الطَّرف بالدمع سافحَا فيا مُمْتطِى كَوْماءَ كالهِقَل جَسْرَةٍ ... عَرَنْدية تطوِى الرُّبَى والأباطِحَا الكوماء: الناقة الطويلة السنام. والهقل: الفتى من النعام. والجسرة: الناقة القوية، ويقال هي: الجرية. والعرندية: الناقة القوية. إذا عاينَتْ عيْناك كُثْبانَ رَامةٍ ... وجازتْ بك الوَجْناءُ تلك الصَّحاصِحَا أنِخَها برَبْعٍ يَنْفح الرِّيحُ رائحاً ... تجاهَك من رَيَّا شَذاه الرَّوائِحَا وبلِّغ رعاك اللهُ من أُهَيْلَه ... سلاما كنَشْر المَنْدَل الرَّطْب نافحَا وقل لهمُ خلَّفتُ بالشامِ مُدْنَفا ... صريعَ اشْتياقٍ نائِىَ الدارِ نازِحَا يئنُّ ويشكُو بانْتحابٍ ولوعةٍ ... نَواكُم إذا أرْخَى الظلامُ المَسائحَا عسى أَوْبةٌ تطفِى لهيب جوانحِي ... إذا كنتَ لي فيما تحملَّتَ ناصِحَا فبِي ظمأٌ لو كان بالتُّرْبِ ما عدَتْ ... على صفحِة الأرض المِياهُ سوائحا ولو أن أنْفاسِي أصاب سعيرُها ... رياحَ الغَضا ما كُنَّ يوماً لواقِحَا فيا قلبُ صبراً إن يكُ الصبرُ نافعا ... فمن حارب الأيامَ لم يُلْفَ رابحا

رُوَيْداً هي الأيامُ لا تَرْجُ سُقْهَما ... فما كان منها غادياً كان رائحَا وما كان منها دانِياً كان نائياً ... وما كان سانحاً كان بارِحَا وقوله من أخرى، أولها: هو الحبُّ لأُقرْب يدوم ولا بُعْدُ ... وقد دقَّ معنًى أن يُحيِط به حَدُّ يحَارُ أُولو الألباب في كُنْهِ ذاتِه ... فمِن جِدِّه هزلٌ ومن هزلهِ جِدُّ لك اللهُ قلبي كم تُجِنُّ لواعِجاً ... يذوب لأدْنَى حَرِّها الحجر الصَّلْدُ نصَحْتُك جُهْدِي لاقبلتَ نصيحتي ... فعدْلُ الهوى جَوْرٌ وحُرُّ الهوى عبدُ لقد عالج الحبَّ المُحِبُّون قبلَنا ... فما نالَهم إلا القطيعةُ والصَّدُّ فإن قال قومٌ إن في العشقِ لَذَّةً ... فما أنْصفوا هذا خلافُ الذي يْبدُو نعيمٌ هو البَلْوَى ورِىٌّ هو الظَّما ... وذاك فَناءُ الجسم يجْلبه الوَجْدُ على أنني جرَّبْتُه وبلَوْتُه ... إذا أنه كالصَّابِ ذِيفَ به الشُّهْدُ وما قلتُ جهلاً بالغرام وإنما ... يُصدِّق قولي من له بالهوى عهدُ وقوله من أخرى، أولها: ما لاح بَرْقٌ برُبَي حاجِرِ ... إلَّا اسْتهلَّ الدمعُ من ناظرِي ولا تذكَّرتُ عهودَ الحِمى ... وإلا وسار القلبُ عن سائرِي أوَّاهُ كم أحمل جَوْرَ الهوى ... ما أشْبهَ الأولَ بالآخرِ يا هل ترى يدْرِي نَؤُومُ الضحى ... بحالِ سَاهٍ في الدجى ساهرِ تهُبُّ إن هبَّتْ يمانَّيةٌ ... أشْواقُه للرَّشأ النافرِ يضربُ في الآفاقِ لا يأْتِلي ... في جَوْبِها كالمثلِ السائرِ طوراً تِهامِيّاً وطوراً له ... شوقٌ إلى من حلَّ في الحائرِ كأنَّ ممَّا رابَه قلبَه ... عُلِّق في قادِمَتَيْ طائرِ أصل هذا المعنى لعروة بن حزام، قال: كأنَّ قَطاةً عُلِّقتْ بجناحِها ... على كبدِي من شِدَّةِ الخفَقانِ وقوله، من أخرى: لك الخيرُ لا زيدٌ يدوم ولا عمرُو ... ولا ماءَ يبْقَى في الدِّنانِ ولا خمرُ فبادِرْ إلى الَّلذَّاتِ غيرَ مُراقبٍ ... فمالك إن قَّصرتَ في نَيْلها عذرُ فإن قيل في الشَّيبِ الوَقارُ لأهِله ... فذاك كلامٌ منه في مَسْمِعي وَقْرُ وقالوا نَذِيرُ الشيبِ جاء كما ترى ... فقلتُ لهم هيهات أن تُغْنِىَ النُّذْرُ لئِن كان رأسِي غيَّر الشيبُ لونَه ... فرِقَّة طبعي لا يغيِّرها الدهرُ يقولون دَعْ عنك الغواني فإنما ... قُصاراك لَحْظُ العين والنَّظر الشَّزْرُ وهل فيك للْغِيد الحسان بقيَّةٌ ... وقد ظهر المكنونُ وارتفع السِّتْرُ وما للغواني وابنِ سبعين حِجَّةً ... وحِلمُ الهوى جهلٌ ومعروفُه نُكْرُ فقلتُ دعوني والهوى ذلك الهوى ... وما العمرُ إلا العامُ واليومُ والشهرُ نشأتُ أُحِبُّ الغِيدَ طفلا ويافِعا ... وكهلا ولو أَوفِى على المائة العُمْرُ وهُنَّ وإن أعرضْنَ عني حَبائِبٌ ... لهُنَّ علىَّ الحكمُ والنَّهْىُ والأمرُ أُحاشِيك بي منهنَّ مَن لو تعرَّضتْ ... لنَوْءِ الثُّريَّا لاسْتهلَّ لها القَطْرُ ترقْرَق ماءُ الحسن في نارِ خدِّها ... فماءٌ ولا ماءٌ وجمرٌ ولا جمرُ فيا بُعْد ما بين الحِسان وبينها ... لهُنَّ جميعاً شَطْرُه ولها الشطرُ بَرَهْرَهَةٌ صِفْرُ الوِشاحِ إذا مشَتْ ... تجاذَب منها الرّدْفُ والعِطْف والخَصْرُ من البِيض لم تْغِمس يداً في لَطِيمةٍ ... وقد ملأ الآفاقَ من طِيبها نَشْرُ

تَخَرُّ لها زُهْر الكواكب سُجَّداً ... وتْعنُو لها الشمسُ المنيرةُ والبدرُ تَخالُ بجَفنيها من النومِ لَوْثةً ... وتحسَبُها سكرَى وليس بها سُكرُ وقالوا إلى هاروتَ يُنسَب سحرُها ... أبى اللهُ بل من لَحْظِها يُؤخَذ السحرُ تخالَف حالي في الغراِم وحالُها ... لها مَحْضُ وُدِّي في الهوى وليَ الهجرُ وقوله من أخرى، أولها: أرَبْعَ الندى لا زال نجْمُك مشرِقَا ... وسَحَّ سحابُ العزِّ فيك وأغْدقَا ولا برِحتْ فيك السُّعودُ سوانِحاً ... لتجمعَ من مكْنونها ما تفرَّقَا سقاك رُضاب الغانيات إذا أبَتْ ... عيونُ الغوادِي فيك أن تَتَرقْرَقَا لتْغدُو رُباك السامياتُ كأنما ... كستْها يدُ الأنْواءِ وَشْياً مُنَّمقا إذا ما ذوَى نبْتُ الرِّياضِ فنَوْرُه ... نَضارتُه تبْقَى إذا الدهرُ أخْلَقَا فكم قد نهَبْنا فيك أوقاتَ لَذَّةٍ ... رَقَمْنا بها في الدهر رَسْما مُحقَّقَا يدير علينا اللهوُ في طَيِّ نَشْرِها ... كؤوسَ الصّبا لا البابِليَّ المُعتَّقَا وقوله من أخرى، أولها: أشمسُ الضحى لا بل مُحَيَّاك أجملُ ... وخُوط النَّقا لا بل قَوامُك أعْدل سفَرْتِ لنا حيثُ النجومُ كأنها ... كواعبُ في سُود المطارِف ترفُلُ وحيث الهزِيعُ الآبَنُوسِيُّ حالِكٌ ... كأن الدجى سِتْرٌ على الأرضِ مُسَبلُ كأن غرابَ البَيْن قُصَّ جناحُه ... فليس له مَنْأَى ولا مُتحوَّلُ كأن رياضاً من أقاحٍ ونَرْجِسٍ ... سقاهُنَّ من نهر المَجرَّةِ جدولُ كأن الثريَّا إذا تَراءتْ لناظرِي ... وِشاحٌ على زَنْد الزَّمان مُفصَّلُ كأن سُهَيْلاً والنجومُ تؤُمُّه ... نوافِرُ وُرْقٍ خِلْنَ قد لاح أجْدَلُ كان السُّهَا ذو صَبْوةٍ غالَه النوى ... فأنْحلَه والبَيْن للصبِّ يُنْحِلُ كأنَّا رأيْنا بالنَّعائمِ إذ بدَتْ ... نعائمَ تجْتابُ الفَلا وهْيَ هُمَّلُ كأن السِّماكَيْن اسْتطارا لغارةٍ ... فهذا له رُمْحٌ وذلك أعْزَلُ فلما بدا مَرْآك شابتْ فروعُه ... وقد كان مُسوَدَّ الغدائرِ ألْيَلُ نزَحْت فلا غصنُ المَسرَّة يانِعٌ ... ولا الماءُ سَلْسال ولا الروضُ مُخضَلُ كأنِّي غَداة البَيْن حاسِي سُلافةٍ ... إذا شُدَّ منه مَفْصِل هاضَ مَفصِلُ تناولها صِرْفا ليحيَى فقرَّبتْ ... إليه الرَّدَى مما يُعلُّ وينْهَلُ إذا رفعوه خَرَّ مُلْقًى كأنه ... نَقاً وكِلا أرجائه يتهيَّلُ يُعاوده طوراً جنونٌ وتارةً ... لِما شربتْ من عقله الراحُ أخْيَلُ وأنْكَى جوًى يْعتادني لَومُ لائمٍ ... وهل يَرْعوِى ذو جِنَّة ليس يعقلُ أأسلُو وبي مالو يُلِمّ بيَذْبُلٍ ... لَدُكَّ لما لاقَى من الوجد يَذْبُلُ يرمون قْتلى بالمَلام تعمُّداً ... وما أكثروا التأْنيبَ إلاَّ ليفعلُوا لك الحكمُ يا دهري بما شئتَ فارْمِني ... أيجزعُ من حَرِّ الضِّرامِ السَّمَنْدَلُ السمندل: طائر هندي. قال بعضهم: هو ناريٌ يعيش في النار كما يعيش طائر الماء في الماء. وقال آخرون: هو طائر إذا هرم دخل نار الأتون أو نارا جاحمة غيرها، فيمكث فيها ساعات فيعود شابا. وإياه عنى البهراني بقوله: وطائرٍ يسبح في جاحمٍ ... كماهرٍ يسبحُ في غَمْرِ قال الجاحظ: وفي السمندل آية غريبة، وصنعة عجيبة، وداعية للتفكر، وسبب للتعجب، وذلك أنه يدخل في أتون النار فلا تحترق له ريشة. لَعاً لِعثاري كيف لا أبلغ المنى ... وأُدرِك شأْواً نَيْلُه لا يُؤمَّلُ

وقد شمِلتْني من أبي الجُود نظرةٌ ... فأشرق نجْمى بعدما كاد يأفُلُ لَعاً: كلمة يدعى بها للعاثر، معناها الارتفاع. قال ابن السيد: هي اسم فعل مبنى على السكون، والتنوين فيه علامة التنكير، كهو في صهٍ ومهٍ. وقد بين القزاز الفعل الذي لعاً اسمه، فقال: يقال لعاك الله أي نعشك الله ورفعك، فلعا اسم لنعش، وتكتب بالألف، لأن لامها منقلبة عن واو. وله من أخرى، أولها: هل طالبٌ بدم القتيلِ ... بين المعاهد والطُّلولِ سلَب الجمالُ فؤادَه ... ونأَى عن الصبرِ الجميلِ عبثتْ به أيدي الهوَى ... فهوَى بوادِيه المَهولِ قسَماً بأجْياد الظِّبا ... وتحيَّةِ الظبْيِ الكحيلِ ما مِلتُ عن نَهْج الغرا ... مِ إلى مُلاحاةِ العَذُولِ وَيْلاه كم أطْوِى الضلو ... عَ أسًى على الداء الدَّخِيلِ ما آن أن تُقضَي لُبا ... ناتِي وأن يُشْفَى غليلِي وبمُهجتِي ظَبْيٌ شما ... ئلُه أرقُّ من الشَّمُولِ فَعْم المُخَلْخَل ساحرُ الَّل ... حظاتِ كالرشأ الخَدُولِ الفعم: الملآن. والمخلخل: موضع الخلخال من الساق، ومثله المسور موضع السوار من الذارع، والمقلد: موضع القلادة من العنق، والمقرَّط: موضع القرط من الأذن. والخدول: الممتلئ الأعضاء الدقيق العظام. يصْطاد أفئدةَ الورى ... بحبائلِ الشَّعْر الرَّسِيلِ قمرٌ يجِلُّ عن المَحا ... قِ ضياؤُه وعن الأُفولِ أرْتاعُ عمد نهوضِه ... جزَعاً على الخَصْرِ النحيلِ أحسن منه قول: ديك الجن: وتمايلتْ فضحكتُ من أرْدافِها ... عجَبا ولكنِّي بكيتُ لخَصْرِهَا ومما يستجاد له قوله، من أبيات: لمن طَلَلٌ عافِى الرُّبوع بذي الضَّالِ ... ذكرتُ به ما مَرَّ من عيشِيَ الخالِي حبستُ به طَرْفي وأرسلتُ مُقلتِي ... وبُدِّلت إرْشادي لديه بإضْلالِي أُسائله والدمعُ ينْهلُّ وَدْقُه ... غراماً فلم ينْجَع بكائي وتَسْآلِي وله من قصيدة، مطلعها: تلك الديارُ وهذه أعْلامُها ... فسَلِ المَدامع أن يجود سِجامُها وأطلُب لها من طَرْفك السُّقْيا إذا ... أبَتِ الثُّريَّا أن يَصُوب غَمامُها واُحْبِسْ بَعْقوتها المَطِىَّ مُسائلا ... في مَ اسْتباح دماءَنا آرامُها فلعل سُعْدَى أن تُساعد باللقا ... وعسى سُلَيمى أن يزورَ سلامُها للهِ مسرحُ لهوِها ومَراحُه ... ومِحُّلها حيث الهوى ومُقامُها إذ كان بالبِيض الأوانِس جِيدُها ... حالٍ وظَلَّك أثْلُها وثُمامُها ومَرادُ طَرْفك كلُّ من فضَح القَنا ... وجَلا الظلامَ جَبِينُها وقَوامُها لو أنها عرَضتْ لِذمِّ كنيسةٍ ... سجدُوا وهانتْ عندهم أصْنامُها أو خاطبَتْ مَيْتاً تقادَم عهدُه ... لأذاقَه طعمَ الحياة كلامُها لَفَّاء هيفاءُ القَوام سِبَحْلَةٌ ... يُصْبِى الحليمَ جلوسُها وقيامُها أثْرَتْ رَوادِفها وأمْلَق خَصرُها ... فتكاملتْ قَصْداً وتمَّ تمامُها كيف التخلُّصُ من هوى فتَّاكةٍ ... يقْتاد آسادَ العَرِين غرامُها رفع الجمالُ حِجابَها لكنها ... كالشمسِ أعْيَى الطالبين مَرامُها يا قلبُ دَعْ ذكرَ الصبابِة للذي ... يحلُو بفِيه زُعافُها وسِمامُها وله من أخرى، مستهلها: ما صاح صاحِي الوُرْق في ألحانِه ... إلا وأذْكره بديعُ بيانِهِ وإذا تنازَعه اللوائمُ في الهوى ... ذكر العَقِيقَ فسحَّ من أجْفانِهِ كَلِفٌ إذا هبَّت به نَجْديَّةٌ ... يذْكو بها ماسَحَّ من أجفانِهِ

عبد اللطيف البهائي البعلي

مُغْرًى بذكْر العامريَّةِ مغرمٌ ... ظامٍ إلى عذبِ العُذَيْبِ وبانِهِ يُخْفى جَوًى لوحلَّ يَذْبُلَ بعضُه ... دُكَّت هِضابُ الشمِّ من أركانِهِ ويرُوم إغْضاء الجفونِ على القذَى ... فَرَقاً فيُعرب شأنُه عن شأنِهِ يا لائمِي في حبِّ أهْيفَ لو بدا ... للبدرِ لم يَعْدُدْه من أقْرانِهِ مُتمنِّع يرْنُو بناظرِ جُؤْذُرٍ ... وَيْلاىَ من وَسْنانِه وسِنانِهِ أأُذاد عن مِضْمارِ حَلْبة حبِّه ... وأنا المُجلِّى وَيْك خيلَ رِهانِهِ أتلومُ من أودَى بمُهْجته الهوى ... لا كان إن يَكُ هَمَّ في سُلْوانِهِ حسْبي بما ألْقاه من ألمِ الجوى ... ما قد ترى والعمرُ في رَيْعانِهِ لو أن بالفَلك المُحيط ذُبالةً ... من حُرْقتي ألْهتْه عن دَوَارنِهِ أو حَلَّ وَجْدي بالكواكب لا نْبَرَى ... بَهْرامُها يشكو إلى كِيوانِهِ أو غَال رَضْوَى بعضُ ما قد غالنِي ... لرأيَته كالعِهْنِ قبل أوانِهِ أو كان يُسعِدني على قَدْرِ الهوى ... دمعي لَعَمَّ الأرضَ من طُوفانِهِ ولقد سلكْتُ الحبَّ لا غِرّاً به ... وعرفتُ كُنْه خَفيِّه وعَيانِهِ وعلمتُ إذ ذُقْت الغرامَ بأنني ... حاسٍ بكأْس جَميلِه وأبانِهِ عبد اللطيف البهائي البعلي فاضلٌ ملء أبراده، جم الفوائد في تحريره وإيراده. أدبه غض، ومذهبه مبيض. ولطف طبعه معتدل بين الإفراط والتفريط، وله نثر ونظم حَلَّيا الأجياد والآذان بالتنظيم والتقريط. هو وإن كان بعليَّ الطينة، فهو دمشقيُّ المدينة. وردها وعنفوانه زاه وشرخه، وفاقها وقد استمجد في البراعة عفاره ومرخه. وبها كان تليين خشونته، وتسهيل صعوبته وحزونته. إلا أنه نازل هماً ممضاً، وتسهيل أسفا للمضاجع مقضاً. وكان مشارا إليه بالنباهة، مرموقاً أن يتنبَّه حظه بعض انتباهة. ثم دخل الروم فأسرع البخت إلى إمداده، وتمنَّت سود الحدق لو كانت عوض مداده. فبقى في ذلك الأفق وهو ملتاح، وكل قلب إلى تودده مرتاح. ثم ترامى في وسع الفضا، فأصبح فيه كرةً لصولجان القضا. وما زال حتى نال من حظه أتمه، واستوفى أجله المحتوم ثمة. فطواه الدهر طي السجل، ومحا آثاره التي تسمو وتجل. ولقد أوردت له من شعره ما يقضي بجودته المتخير، ويبهر حسنه الفكر فيغدو عليه كالواقف المتحير. فمن ذلك قوله من فتحية للسلطان محمد، لما أرسل وزيره الفاضل ففتح إيوار، وزند الدولة إذا ذاك وار، وشخص تلاشيها متوار. ونافذ أمرها لمعصم الامتثال سوار. فحلَّ في ناحيتها بجيشٍ ضاق بهم فضاؤها، وتضعضعت من رحبتهم أعضاؤها. ودارت بينه وبين الكفار للحرب كؤوس، ترامت منهم بسببها نحو الهلك أنفسٌ ورءوس. فحامت المنايا عليهم، وغدت ألسنة البيض تتلمَّظ عليهم. فكأنهم هشيمٌ حصدته ظبا السيوف، وقضت ديون أنفسهم غرماء الحتوف. ثم افتتح القلعة، وسهل تلك الصعوبة والمنعة. وتواردت البشائر بأن الله وهب الظفر، وأحاق سوء العذاب بمن كفر. فعمل البهائي قصيدته هذه وسيرها، وهي قصيدة معمورة ومطلعها: بالفتح زاد الدِّينُ عزّاً واعْتِلاَ ... واللهُ أعْظَمَ مِنَّةً وتفضُّلاَ بالنَّصر أنْجز وعدَه سبحانه ... أعزَّ جندَ المسلمين أُولى الوَلاَ هبَّوا كما هبَّ النسيمُ إذا سرى ... يغْتصُّ عُرْضُ الأرض منهم والفَلاَ في جَحْفلٍ ستروا البسيطةَ كثرةً ... لم تُلْفِ مثلَهم النواظرُ جَحْفلاَ أرْبَوْا على التَّعداد حصراً واعتلَوْا ... من حيث لا أدرِي أواخرَهم ولاَ فكأنَّ وجهَ الأرض حَلْقةُ خاتمٍ ... بهمُ وماءَ البحر قَطْرٌ أُسِبلاَ ثبتُوا ثَباتَ الرَّاسياتِ تصبُّراً ... من يَلْتقيهمْ يَلْقَ منهم أجْبُلاَ شاكي السِّلاحِ بكلِّ أبيضَ مِخْذَمٍ ... ما شِيَم إلا قد أصاب المقْتلاَ

حتى إذا حَمِىَ الوَطِيس لدى الوغى ... لم تْلقَ إلا باسلاً مُستبْسِلاَ أنِفتْ سيوفُهمُ الغُمودَ فلا ترى ... إلا صَقِيلاً في نَجِيعٍ أنْهلاَ سالتْ به البَطْحاءُ حتى لا ترى ... طِرْفاً بغير دمِ الرَِّقاب مُحجَّلاَ من كلِّ عِلْجٍ ذاهلٍ عن نفسِه ... إذ لا يرى مَنْأًى ولا مُتحوَّلاَ مُلِىءَ اللعينُ مخافةً لمَّا رأَى ... في الحربِ شدَّتَهم وزاد تَزَلْزُلاَ فغدا يُنادِى حسرةً وتأسُّفاً ... يا ويْلتاه العمرُ ضاع سَبَهْلَلاَ من بعد ما قد شَبَّ نِيرانَ الوغَى ... بغُرورِه تَعْساً له ما أشْعلاَ عدَّ الهزيمةَ والفِرارَ غنيمةً ... أنِفَ الإقامة خوف أن يُستأصَلاَ أوَ ما يحقُّ له الفرارُ وقد رأى ... مالا يُطيقِ من الغُزاةِ تحمُّلاَ جلَب الغُزاةُ بخيْلهم وبرَجْلهمْ ... جَلْباً عليهم ما أشدَّ وأقْتلاَ فعُلوجُهم جَزْرُ الظُّبا ونساؤُهم ... أسْرَى تِئُّن تذلُّلا وتهوُّلاَ تبكي عليهنَّ البَطارِقُ حسرةً ... كالوُرْقِ في جُنْح الدجى وتمَلْمُلاَ وبقيَّةُ الأسياف منهم شذِّبوا ... أيْدي سَبَا تخِذُوا الهزيمة مَعْقِلاَ ما ضَرَّهم لو سالُموا من قبلُ أو ... أدَّوْا كما شُرِع الخَراجُ تبَذُّلاَ ما كان قيصرُ أو هِرَقْل وتُبَّعٌ ... أو سيفُ ذِي يَزَنٍ وكسرى أوَّلاَ وهلُمَّ جَرًّا مثل أدْنى خادمٍ ... لخليفِة الله المعظَّم ذي العُلَى ملكُ الورى أسَدُ الشَّرَى سامي الذُّرَى ... حامِي حِمَى الدينِ القويم المَوْئِلاَ شمسُ المعالي ابن بَجْدَتها الذي ... قد حلَّ في أوْج السعادة واعْتلَى ملكٌ علا في المجد أعْلَى رُتبةٍ ... أنِفتْ تكون له الثُّريَّا منزِلاَ تعْنُوا ملوكُ الأرِض قاطبةً له ... أبداً وتسعَى خِيفةً وتذَلُّلاَ تخْشى سطاهُ الأُسدُ في آجامِها ... فتذوبُ منه تضاؤُلاً وتغَلْغُلاً قسَما بطَلْعته ألِيَّةَ صَادقٍ ... في حَلْفه بَرِّ اليمينِ إذا ائْتلَى لم تسمحِ الأيامُ قطُّ بمثلِه ... ملِك تعمَّم بالتقى وتسَرْبَلاَ لم يُحْصِ مادحُه جميلَ صفاتِه ... كلاَّ ولو أفْنَى القريضَ تسلسُلَا لم يأْلُ جهداً في الجهاد ولم يزلْ ... يسعَى بإرسالِ الجيوش مُكمَّلَا في نُصْرة الدين المُبين مجاهداً ... بَرّاً وبحراً للعساكر مُرسِلَا عن حَوْمِة الإسلام ذَبَّ عِداتِه ... وأباد عُبّادَ الصليبِ وزَيَّلاَ ما زال يْضرَع في الدعاءِ لربِّه ... سِرّاً وجَهْراً مُجْمِلاً ومفصِّلَا مُتوجِّها بخُلوص قلبٍ صادقٍ ... فيما انْتحاه تضرُّعاً وتبُّتلَا فأتْته بُشْرى التح وهو مُلفَّعٌ ... ثوبَ السعادة بالجلال مُسَرْبَلَا مُسْتيقِناً بحُصوله ومؤمِّلا ... من ربِّه إتْمامَه متوكِّلَا لا زال تأْتيه البشائرُ دائما ... أبداً وتخدمه المفاخرُ والعُلَى وأدامه عَوْنا وغَوْثاً للورى ... وحَباه ربُّ العرشِ عمراً أطْولَا بسَمِيِّه خيرِ الأنام محمدٍ ... والآلِ والصحبِ الكرام ذوِي الولَا مالاح نجمٌ في السماء لناظرٍ ... وأضاء بدرٌ في الدجى وتهلَّلَا وله في المدح: إليك دون الورَى انْتَهى الكرمُ ... ومن أيادِيك تهْطِل النِّعَمُ

حسن بن درويش الكاتب الطرابلسي

لن يبُلغ المدحُ فيك غايَته ... بل دون مَعْناك تنفَدُ الكلِمُ أنت الذي تُرتجَى مكارمُه ... وكم أناسٍ وجودُهم عَدَمُ أنت الذي الدهرُ دون هِمَّتِه ... وفوق هامِ السَّما له قدمُ مَن ذا يُضاهِيك هِمَّةً وعُلا ... وهل تَساوَى الأنوارُ والظُّلَمُ طَوْدُ وَقار بالحِلْم مُشتِملٌ ... بحرُ نَوالٍ بالجود مُلتطِمُ يُخجِل صَوْبَ الغمام نائلُه ... بل دون هَتَّان كفِّه الدِّيَمُ أعْتابُه مَأمَنٌ لداخلِها ... من كلِّ هَوْلٍ كأنها حَرَمُ وله أيضاً: بأيِّ لسانٍ يحصُر العبدُ شكرَ من ... دَمِى من أيادِيه ولحمِى وأعْظُمِى ومَن عشتُ دهَراً تحت أكْنافِ ظِلِّه ... أروح بأفْضالٍ وأغْدُو بأنْعُمِ وفُزْت بعلمٍ منه عَزَّ اكْتسابُه ... وذاك لَعَمْرِي حسرةُ المتعلِّمِ ينزِّهنِي في ظاهرِي وسَرائرِي ... بإرْشادِه عن كل رَيْبٍ ومأْثَمِ ويمنْحني مَحْضَ النصيحِة جاهداً ... يُعلِّمني طُرْقَ العُلى والتَّكرُّمِ ولولاه مَن عبدُ اللطيف ومَن له ... ومن يخدِم الأمْجادَ يشْرُفْ ويكرُمِ وحسبِيَ من شكرِي اعْترافي بفضِله ... وتصديقُ قلبي والجوارِح والفمِ وله أيضاً: مَعاذَ الوَفا أن يُصبح العبدُ خاليَا ... عن الشكرِ للمولى الذي قد وفَا لِيَا وأنْعمَ حتَّى لم يدعْ ليَ مَطلبَا ... وأنْكَى بما أسْدَى إلىَّ الأعاديَا وكلُّ الذي أمَّلْتُه من نَوالِه ... حَظِيتُ به بل فوق ما كنتُ راجِيَا وفرَّغ عن قلبي سوى حُبِّه الذي ... تمكَّن في قلبي وأنْعَم بالِيَا فغايةُ سُؤْلِي في الزمان رِضاؤُه ... فأقْصى المُنى أن كان عنِّي رَاضيَا ولي نفسُ حُرٍّ قد أبتْ غيرَ حُبِّه ... وحاشا لمْثلى أن يُرَى عنه سالِيَا وقلبٌ إذا ما البرقُ أوْمَض مَوْهِنا ... قدحْتُ به زَنداً من الشوق وارِيَا تحكَّم فيه حبُّه واشْتياقُه ... له الحكمُ فْليَقْصِ الذي كان قاضيَا فلله عيشٌ مَرَّ لي بظِلالِه ... أجُرُّ به ذيلَ المآربِ ضافِيَا أرُوح بأفْضالٍ وأغْدُو بأنْعُمٍ ... ويمْنحني وِرْدَ المحبَّة صافيَا وفُزتُ بعلمٍ منه عزَّ اكْتسابُه ... وأصبحتُ من حَلْىِ الفضائل حالِيَا إذا ما دجَى بحثٌ وأظلم مُشكلٌ ... أضاء بنور الفكر منه الدياجِيَا يجول على نُجْبِ الذَّكاءِ بفكْرةٍ ... أَبَتْ في الذي تُبدِيه إلاَّ التَّناهِيَا يُغادر قدماً ذا الذكاء دقيقُها ... ولا عجبٌ فالشمسُ تخفِى الدَّرارِيَا يفُوق على البحر الَخِضمِّ بعلمِه ... ويرْجَح في الحِلم الجبالَ الرَّواسِيَا يُسابق أجْنادَ الرياحِ إلى الندَى ... ويفضحُ جَدْوَى راحتْيه الغوادِيَا نظمتُ له عِقْدَ المديح مُنضَّداً ... جعلتُ مكان الدُّرِّ فيه القوافيَا فلا زال مَلْحوظاً بعينِ عِنايةٍ ... من الله في أَوْج المفاخر راقيَا مدى الدهر مالاحت بُروق لناظر ... ودام على كرِّ الجديدين باقيا حسن بن درويش الكاتب الطرابلسي شاعر مادح، طير فصاحته صادح، وزند براعته قادح. ومنشٍ كاتب يجلو دمىً كواعب، بألباب الرجال لواعب. خطه حسن كاسمه، وله القيام على رسم الأدب ووسمه. فكأن مداده مركب من أجزاء القلوب، ففي كل قلبٍ من خطه شهوة تدعو إلى المطلوب. وكان خرج من بلده حماة وهو كهل، ورحل بطرابلس بين كنف رحب، ومسرحٍ سهل. فاسترجع بها شبابه، واستمطر وبله وربابه. فزهت به أرجاؤها وباهت، وفخرت بها سكانها وتاهت.

فعكف في نديها الخضر، يتقلب في العيش النضر. ويأتي من النظم بما هو أعطر من السحيق، ومن النثر بما هو أبهر من در الحباب على خد الرحيق. وقد أثبت له من شعره قصيدتين لكل منهما من الحسن علامة، فإحداهما كافية كافية والأخرى لامية عليها من النضار لامة. فالأولى قوله، وقد مدح بها الامير منجك مالِكتي تملَّكِي ... النفسُ لم تَملَّكِ وهْيَ لك أطوعُ من ... رَعيَّةٍ للملِكِ إن تأمرِي تُطِعْ وإن ... تدْعِي بهب تُلبِّكِ لِم تسْترين طَلْعةً ... فيها حَلاَ تهتكُّيِ مَهْلَكِ بي يا مَطْلبِي ... دونَك ألفُ مَهْلَكِ فإن بعدْتِ تحْرِقِي ... وإن دنَوْتِ تفْتكيِ وإن صبرتُ لم أُطِقْ ... وإن خضعتُ تزمُكيِ وإن طرقتُ خِفْيةً ... أهلَكُ بين أهلِكِ أين لِطيْر مهجتِي الْ ... خَلاصُ من ذا الشَّرَكِ عيشُ الخَلِيِّ قد صفاَ ... يا قلبُ فاسْلُ واتْرُكِ واقصِد بنا سبيلَ من ... راح خلِيّاً واسْلُكِ ما مَن يبِيتُ شاكراً ... كمن يبيتُ يشْتكيِ فاخْلَعْ على العشاقِ ثوْ ... بَ جسمِك المنْهتِكِ وانتهزِ الفرصةَ قب ... ل فَوْتِها واستدْرِكِ هذا الربيعُ مقبِلٌ ... يصحبُ آلَ بَرْمَكِ يكسُو لأعطافِ الرُّبَى ... غلائلاً لم تُحَكِ وحلَّ في نُحورِها ... عقودَ دُرِّ الحُبُكِ حتى أنما بها ... مجلسُنا في الفَلَكِ والنَّرْجِس اصطضفَّ وما ... أحسنَ صَفَّ الملِكِ زَبَرْجَدٌ في فضةٍ ... في ذهبٍ لم يُسبَكِ يرنُو بلَحْظِ عاشقٍ ... بمَدْمعِ الطَّلِّ بُكِي والوردُ في سَكْرتِه ... على الغُصونِ مُتَّكيِ تُمسك أذيالُ الصَّبا ... بكفِّه المُمَسَّكِ كوَجْنةٍ العَذْراء إن ... قلت لها هَيْتُ لَكِ والنّهر في يد النَّسِي ... م كالقبا المُفرَّكِ من قول القيسراني في وصف غدير: وإذا الصَّبا هبّتْ عليْ ... هِ أتاك في ثَوْبٍ مُفَرَّكْ وللغصُون حولَه ... دلائلُ المُنْهمِكِ ألقتْ شِباكَ الطَّلِّ فاصْ ... طادتْ خيالَ السَّمَكِ والأقْحُوان ضاحِكٌ ... بمَبْسمٍ لم يضحكِ والياسَمِينُ عَرْفه ال ... غَضُّ له عَرْفٌ زَكيِ والطيرُ في مُغرِّدٍ ... ووَالِهٍ مُرتبِكِ في روضةٍ كأنها ... وصف الأميرِ مَنْجَكِ مَن حار في أوصافِه ... كلُّ لبيبٍ وذكيِ بحرٌ وفيه بالثَّنا ... ألسُنُنا كالفُلكِ ترى العيونُ عنده الْ ... بحارَ مثلَ البِرَكِ له أكفٌّ مُسِّكتْ ... سُنَّة غيرِ مُمْسِكِ تفْتك في أموالهِ ... فَتْكَ المَهَا في نسُكِ وفكرُه أهْدَى لنا ... وَشْيَ بلادِ اليَزْبكِ من كلِّ بيت يحْتوِي ... ابْنَةَ كسرؤى الملِكِ مَشَتْ به لاهيةً ... عن عِقْدِها المُفكَّكِ فالدُّرُّ مِلْءُ مسمَعِي ... منه ومِلءُ الحَنَكِ ملكتَ رقِّي سيدي ... أفْدِيك من مُمَلَّكِ أدركتَ كلَّ فائتٍ ... وفُتَّ كلَّ مُدْرَكِ لك المعالِي وعلى الْ ... الفضلِ ضمانُ الدَّرَكِ هذا من قول ابن النبيه: واللهِ لا زلتُمْ ملوكَ الورى ... شرقاً وغرباً وعليَّ الضمانْ وللهرمزي:

ِبنحْسِ أعادِيك دار الفلَكْ ... وما دار يوماً بسعْدٍ فلَكْ وإن هَمَّ دهرٌ بما لا أقول ... فنفْسِي الفِدا وعليَّ الدَّرَك وهذه القصيدة الثانية، وهي في مدح الأمير أيضاً: غُصنٌ أيْنعتْ قطُوفُ دَلالِهْ ... يجْتَنى الحبُّ من رياض جمالِهْ ورَشاً في مَرابضِ الأسْد تحمِي ... هِ وتُدْعَى بعمِّه وبخالِهْ فاتِكٌ يحْذَر الفؤادُ تمنِّي ... هِ ويخْشَى الضميرُ فكرَ وِصالِهْ أوْقف السُّهدَ في طريق رقادِي ... غَيْرةً أن يزورني بخَيالِهْ وترُدُّ العيونَ عنه عيونٌ ... قتلتْ مَن رآه قبل قتالِهْ أعْجز الشمسَ وهي تنصُب في الأرْ ... ض حبَالاً وقوعُ صَيْدِ ظلالِهْ بل على وَصْلِه يُحيل بوعْدٍ ... وأراه مُخادعاً بمِحالِهْ كم كَسانِي بالوعدِ ثوبَ حياةٍ ... وغدا بالِياً بطُول مِطالِهْ واحدُ الحسنِ من قبلُ لكن ... قد ترقَّى مُذ شِمْتُ نقطةَ خالِهْ يريد أنه بالترقي صار عشرة جريا على أن الحسنة بعشر أمثالها. وأفصح السيد محمد العرضي عنها، في قوله: ألِفَ القَدِّ زانَها نُقطةُ الْخا ... لِ فصارتْ وواحدُ الحسنِ عَشْرَهْ وفي شفاء الغليل للشهاب: حسنة بمعنى الشامة والخال، مولدة مشهورة. قال: بِخَدِّه شِمْتُ شامةً حُرِقتْ ... فقلتُ للقلبِ إذْ شكا شجَنَهْ لا تشْتَكِي مِن نارِ مُهْجتي حُرَقاً ... فإنَّ في الخالِ أُسْوةٌ حسنَهْ لِيَ هُزْءٌ إذا تنفَّس بالمِسْ ... كِ وهُزْءٌ إذا رناَ بغَزالِهْ وأرى البدرَ عنده لا يُساوِي ... دِرهماً والهلالَ إحدَى نِعالِهْ هاك من ظُفْرِه هلالاًوإن شِئْ ... تَ نجوماً هات من خَلْخالِهْ واستلمْ من يمينِه الكأسَ شمساً ... مثلهعا من إنائِها في شمالِهْ وتأمَّلْ إذا تبسَّم دُرَّاً ... وحَباباً طفَى على جِرْيالِهْ ملِكٌ كلُّ مُهْجة من رَعايا ... هـ وكلُّ الغرامِ من عمَّالِهْ أنا والناسُ من هواه ومن صُدْ ... غَيْه في سِجْنِه وفي أغْلالِهْ يسترِقُّ القلوب بالحُسن لكن ... مَنْجَكٌ يسترِقها بكمالِهْ هو بحرٌ تموَّج الفضلُ فيه ... وبدا الدُّرُّ من فصيح مَقالِهْ وهْو غَيْثٌ مَن اسْتغاث يديْهِ ... أمْطرتْ بالغِنَى رُبَا آمالِهْ وهْو للمجد دَوْحةٌ حيث أعْنا ... قُ رَجانا مُطوَّقاتُ نَوالِهْ كلُّ أيامنا ربيعٌ بلُقْيا ... هُ ومن لُطْفه نسيمُ اعْتدالِهْ كلُّ روضٍ فمُخصِبٌ بسجايا ... هُ وغصنٍ فمثمِرٌ بِخصالِهْ لبِس الفخرَ فالمكارمُ في أطْ ... واقِه والعَفافُ في أذْيالِهْ كلُّ وقتٍ بجُوده في يديه ... غارةٌ شَنَّها على أمْوالِهْ لم يدعْ درهماً ولا ديناراً ... غيرَ شاكٍ نقُوشه عرض حالِهْ فترى الدهرَ مُسْتجيشاً عليه ... وترى الدهرَ لا يمرُّ ببالِهْ شغلته هِباتُه والمعالِي ... ما رِضاءُ الزمان من أشْغالِهْ شِيَمٌ لم تكنْ لغيرِ أبيهِ ... وأخيه وأقْرباهُ وآلِهْ أشرقتْ شمسُه وغابُوا نجوماً ... ونجومُ الباقين حول هلالِهْ منه أبْقَى الزمان واسِطَة العِقْ ... دِ الذي بَدَّدتْه أيدي اغْتيالِهْ هو دُرٌّ فمَن رآه يتيماً ... عرف الدهرَ ما جنَى بفِعالِهْ يا مُعِيداً زمان آبائه الما ... ضِي بإقْبالِه إلى اسْتقبالِهْ أنت للجودِ والفضائلِ ظلٌّ ... لا أرانا الإلهُ وقتَ زوالِهْ وله في التضمين:

عبد الجليل بن محمد الطرابلسي

قالت لنا قهوةُ العنقودِ حين رأتْ ... لقهوة البُنِّ قدراً في الأنام عَلِي لئِن علانيَ مَن دوني فلا عجبٌ ... لي أُسْوةٌ بانْحطاطِ الشمسِ عن زُحَلِ وقد سبقه ماماي الرومي، إلى هذا التضمين في قوله: قد قالت القهوةُ الحمراءُ وافتخرتْ ... كم قد ملكتُ ملوكَ الأعصُرِ الأٌوَلِ وقهوة القِدْرِ إن قَدْرَاً عليَّ علَتْ ... لي أُسْوةٌ بانْحطاطِ الشمسِ عن زُحَلِ عبد الجليل بن محمد الطرابلسي لقيته بمكة مجاور عزلةٍ وسكون، ومعاهد تبتلٍ إلى الله وركون. وفيه سجايا لطاف، وانجذاب نحو القلوب وانعطاف. وبيني وبينه مصافاة، أكدتها بالقاهرة مراعاة وموافاة. وقد أنشدني أبياتاً من نتائج فكره، لم أر لاستحساني لها بداً من ذكره. وهي: متى خَفَقانُ قلبٍ يسْتكِنُّ ... وقلبُ حبِيبيَ القاسِي يحِنُّ ويُنعم باللّقا كالبدرِ ليلاً ... ويبْسَم عن رِضاً لي منه سِنُّ أقول له ألا يا أيُّها الْ ... غزالُ الأغْيَدُ الرَّشأُ الأغَنُّ لقد أبلَيْتَ بالإعراضِ صَبّاً ... إذا لم تُولِه وُدّاً يُجَنُّ إذا عرف الحبيبُ له وِدادِي ... فلذلك له إحْسانٌ ومَنُّ رجب بن حجازي المعروف بالحريري الحمصي هذا رجب، الذي فيه العجب، شاعر ذيق، إلا أن خلقه ضيق. وعلى قدر ما توسع سعيا، حرم مبرةً ورعيا. لبذاءة في لسانه، ووحشة ذهبت برونق إنسانه. يتلذذ بالعيش الضنك، تلذذ الأجرب بالحك. ولا يرى إلا على جناح طائر، فليس يقر له قرار إلا وله عزيمة سائر. كأنه الخبر الشرود، أو الوحش المطرود. وهو باقعة محاجاة، وبائقة مهاجاة. يتلفت إلى الهجا، تلفت القلوب إلى الرجا. وله في المجون فنون، عد فيها من أهل الأهواء والفتون. وأما غيرها من الأشعار والأزجال، فهو فيها كثير التردي قليل المجال. وقد أثبت له مالاً أراه مخلاً، بل تبوأ للإحسان منزلاً ومحلاً. فمنه قوله، من قصيدة طويلة مستهلها: أبَى القلبُ إلا غراماً ووجداً ... وطَرْفيَ إلا بُكاءً وسُهْدَا فلم يبرحِ الصبَّ تبْريحُه ... ولا الدمعُ راق ولم يُطْفِ وَقْدَا فلولا النَّوَى ما ألِفْتُ البكا ... ولا كان بالسُّقم جسمي تردَّى ولا أُبْتُ أرعَى نجومَ الدجى ... ولا كان عني مَنامِي تَعدَّى فأوَّاه صبري مضَى لم يعدْ ... وأما اشْتياقي فلم يُحْصَ عَدَّا ومالي مُعِين سوى أدمعي ... وقلبٍ لصَدِّ الهوى ما تصدَّى فلو بالكواكب ما بي هوَتْ ... وإلا على يَذْبُلٍ كان هَدَّا تُذكِّرني ساجعاتُ الرياض ... حبيباً ورَبِعا رَبِيعاً ووُدَّا وما كنتُ أنْسى ولكن تزيد ... وُلوعِيَ قُرْباً وصبريَ بُعْدَا رعى الله رَبْعاً نعِمْنا به ... وعهداً ألِفْناه حيَّاه عهدَا فما راقني غيرُه منزِلاً ... ولا طاب عيشا ولا راق وِرْدَا فلله أيامُ ظَبْيِ اللِّوَى ... فما كان أحْلَى جَناها وأجْدَى فيا مُنشدِي دِرْ مُدامَ الهوى ... ودَعْ ذكرَ هندٍ ودع ذكر سُعدَى ومالي وما لِلْغواني فكم ... تناسيتُ منهنَّ صَدْراً ونَهْداً وكرِّر حديثَك عن أغْيَدٍ ... هو الظبيُ والغصنُ لَحْظاً وقَدَّا وكالبدر في سنه والسنا ... له ناظرٌ مرهف جاز حدَّا فما رقَّ لي كالصَّفا قلبُه ... وقد لان عِطْفاً رقيقاً وخَدَّا إذا قام يُقعده رِدْفُه ... فلولاه ما قلتُ حُيِّيتُ نَجْدَا غزالٌ رَبَى في رُبَا جِلَّقٍ ... إذا مارناَ لَحْظُه صاد أُْسَدا سقى اللهُ وادي دمشق الحَيَا ... ولا زال دَهْراً أَقاحاً ووَرْدَا ترى نهرَاً ساكناً صارماً ... وإن هبَّ ريحٌ فقد هبَّ سردَا

فلله مُزْجِي المطايا إذا ... قطعت الفيافي وَجِيفاً ووَخْدَا إذا جئت جِلِّقَ وادي المُنى ... بها فاز من حَلَّ ضيْفاً ووَفْدَا فسلِّم بُعَيد اسْتلام اليمينِ ... على من تسامَى مَقاماً وجْدَا وقوله من أخرى، أولها: هل عند ذاك الحبيبِ ما عندي ... من الهوى والحنين والوُدِّ وهل على العهدِ من وثِقتُ به ... كما عهِدْنا بذلك العهدِ وهل درَى ما أصاب مُغرَمَه ... وما لقِي من وقائعِ البُعْدِ عدِمتُ صبْري والشوقُ لازمني ... لزومَ خالِ المليحِ في الخَدِّ وروضةٍ قد حرستُها زمناً ... يا هل ترى كيف غصنُها بعدِي ونَضْرةُ الورد بعدنا بقيتْ ... أم لا بقاءَ لدولةِ الوردِ بِتْنا ولا ثالثٌ يراقبنا ... غيرَ ابنةِ الشُّهْد وابنةَ الرَّنْدِ كصَعْدةٍ للظلام طاعنةٍ ... سِنانُها كوكبٌ لنا يَهْدِي ومِن نعيمي بحُسن طلعتِه ... ظننتُ أني بجنَّةِ الخُلْدِ ثمِلتُ من دُرِّ لفْظِه وحَلاَ ... لمَسْمعي كالسُّلاف والشُّهْدِ إن قلْتُ مولايَ قال مبتسِماً ... لبَّيْك ماذا تُريد يا عَبْدِي أشكو سهامَ الجفونِ لي قصَدتْ ... وكدتُ أقْضي بقولِ ذا قَصْدِي كأن بالسحرِ خمرةً مُزِجتْ ... سُقِيتُ منها فغبتُ عن رُشْدِي ما كان إلا كبارقٍ ومضَى ... صَفْوِي وجاء النهارُ بالضِّدِّ فراع قلبي الصباحُ صارمُه ... ياليْته كان دام في الغِمْدِ والدهرُ إن راق للأديب فعَن ... سَهْوٍ وجَلْبُ الهموم عن عَمْدِ وقوله من أخرى، مطلعها: لَعمرُك شرحُ أشواقي يطولُ ... وأشْجاني وأفكارِي تجُولُ وعن صبرِي الجميلِ سألتُ قلبي ... فقال وأين يا هذا الجميلُ وها أنا بعده مالي مُقامٌ ... وليس إلى تَلاقينا سبيلُ وبي ظمَأٌ إلى وِرْدِ التَّلاقي ... ومن جَفْني دَماً دَمْعي يسيلُ سُقِي زمنُ التَّداني حيث كُنَّا ... ولا كان الرَّقيبُ ولا العَذُولُ وغصنُ الْبان أجْنِي منه ورداً ... بأحْداقِي وفي عقلي يمِيلُ ويُسكرني بدُرٍّ من عقِيقٍ ... فتخجل من شَمائلهِ الشَّمُولُ رقيقٌ لأن عِطْفا رَقَّ خَصْراً ... وجار عليَّ ناظرهُ الكحِيلُ يذكِّرني البُروق له ابْتسامٌ ... ويُشْجِيني من الوُرْقِ الهَديلُ وشِمْت البرقَ في الظلماء سيفاً ... على ضعف الكرى ماضٍ يصولُ تُرى الأيام تنظِمنا بمصرٍ ... ويَحْظَى في بُثَينته جميلُ تُرَى ما حالُ ذاك البدر بعدي ... أزاهٍ أم كما عنه يقولوا وليلٍ زارني منه خيالٌ ... سُرِرت به وقد رَقَّ المَلولُ فأرْشفني مُداما من أقاحٍ ... وجاد بوردِه الخدُّ الأسِيلُ وقد أنكرتُ فيه بنتَ آسٍ ... فقلتُ الآسُ يَهْواه العليلُ وعهدي فيه كالمرآة صافٍ ... صَقيلٍ كم به فُتِنتْ عقولُ وكالروضِ النَّضير فقال هذا ... سِياجٌ قلتُ كيف لنا دخولُ فقال الوردُ ليس له بقاءٌ ... وعهد الآسِ باقٍ لا يحُولُ فقلت الآس بغيةُ أهل مصرٍ ... وراغِبُه بجِلِّقنا قليلُ رفُقتُ فلم أجدْ للوصلِ أصْلاً ... وبان الروضُ والظلُّ الظليلُ وكان له بمصر رفيق خليع، خطف لصٌ عمامته وشج رأسه، فكتب إليه يسليه: إمامَ الفضل مَن حاز الكرامَهْ ... لرُزْئِك قال طَرْفي للكرَى مَهْ أقام وقوعُك الأحزانَ عندي ... وقد شاهدتُ أهوالَ القيامَهْ

فصل في وصف عمامة

فكيف وأنت لي خلٌّ أنيسٌ ... ومن دون الورى أهْوَى كلامَهْ ليالينا بكُم سبقتْ تُحاكِي ... ليالٍ قد تقضَّت في تِهامَهْ تُدير النظمَ ممزوجاً بنثْرٍ ... فتُسكرنا ولا صِرْف المُدامَهْ يمينُ اللِّصِ لا كانتْ وشَلَّتْ ... وعن قُربٍ يُرَى من غير هامَهْ على خطْف العمامة قد تعدَّى ... ولكن سوف تُدركه النَّدامَهْ ويأكل لحمَه عَضّاً ويبْكي ... إذا ما الصبحُ قد أبدى ابْتسامَهْ على شيءٍ إذا مارام بَيْعاً ... فأعْلَى قيمةً منه القُلامَهْ ويقرَعُ سِنَّه أسَفاً وغَبْناً ... وليس يُفيده قطعُ السُّلامَهْ ويُدْمِي رأسَه قهراً قِصاصاً ... كما أدْماك لَطْماً في الدِّعامَهْ كرَامٍ رامَ أن يَرْمِي ظَلِيماً ... فطاش السهمُ لم يبلُغْ مَرامَهْ وكان غلامُه بالقُرْب منه ... فأرْماه ولم يُصب النَّعامَهْ فلا تأْسفْ على نسجٍ ضعيفٍ ... كبيْت العنكبوت بلا إقامَهْ وحقِّك ليس تنفعُه بشيءٍ ... كما في الصيفِ لم تُجْدِ الغَمامَهْ لقد طالت بحال النَّسْرِ عُمْراً ... وقد شهدتْ هَوازِنَ واليمامَهْ مُخَضْرَمةٌ فلو نطقتْ لقالتْ ... شهدتُ مُهَلْهِلاً وأبا قُدامَهْ كذا الرَّفَّا السَّرِيُّ صحبتُ دهراً ... قدِمتُ عيله بعد أبي دُلاَمَهْ وكان مع الحريريِّ اتحادِي ... ولو لم يَقْضِ ألَّف بي مَقامَهْ فصل في وصف عمامة عمامة ولعت بها أيدي الزمان، ورفعت عنها من التمزيق الأمان. كفؤاد عروة في الرقة، لو أحصيت نفقة رفوها زادت على مال الرقة. ولطول تردادها إلى الرفا لو أفلتت لعرفت مكانه، وما جهلت دكانه، ولأمكنت من قطع المسافة إمكانه. فكأن الأيامَ إذْ أُلْبِستْها ... نُسِجتْ فوق شَخْصِها العنكبوتُ وللحريري معمىً في اسم أحمد: أفْدِي المليحَ الذي أوصافُه كمُلتْ ... كالظَّبْيِ لمَّا رنا والبدرِ حين بدَا في القلب أنزلْتُه لي راق مَبْسمُه ... والغُصن لما تَثَنَّى قدُّه سجَدَا وله في اسم يوسف: ومَليحِ عزيزِ حُسْنٍ بمصرٍ ... قَدَّ قلبي وزاد حزني وأكْمَدْ خَدُّه الشمسُ لاح والصدغُ بالخا ... لِ حَماهُ حُسامُ جَفْنٍ مُجرَّدْ وله في اسم رمضان: وبدرِ كمالٍ لاح في حُلَلِ البَهَا ... تبسَّم عن دُرٍّ نَظِيمٍ وعن شُهْدِ كخاتِم دُرٍّ ثَغْرُه وبلحْظِه ... حمَى حُسنَه والخالُ في صفحة الخدِّ وله في اسم عثمان: قد قلتُ يوماً للرَّشا ... سِرْ بي إلى روضِ الأزاهِرْ فأجاب إن كان الرقي ... بُ هناك طِيبُ العيش نادِرْ وله في اسم مصطفى: يا عاذِلي في أغَرِّ الوجه دعْ عَذَلِي ... لأجْلِه قد ألفتُ الوَجْدَ والحُرَقَا كم دُرتُ مِحْرابَه ظامي الفؤادِ كذا ... دُرْ أنت يا عاذِلي واعْذُر فَتىً عشِقَا وله في حيدر: سقَى ليلةً زار الحبيبُ وعندما ... أقام وعن قلبي المَشُوقِ نَفى هَمَّهْ لثمتُ مكانَ العِقْدِ من غير حاجبٍ ... وقلتُ لقلبي قد كفَاك بها نِعْمَهْ عبد النافع بن عمر الحموي ألمعيٌ مشهود له بقوة إدراكه، وفيه قابلية لاختصاصه ببعض العلوم واشتراكه. بلسان أحد من السيف إذا تجرد من القراب، وفكرٍ إذا أراد البحر أن يحكيه في غوره وقع في الاضطراب. وله أدب كالروض تفتقت نسماته، وشعرٍ كالصبح تألقت قسماته. لكنه نكب عن المطبع الجزل، وذهب مذهب الهجو والهزل. إلا في النادر فربما جد، ثم أخلق منه ما استجد. وكان دخل طرابلس، وبنو سيفا في الوجود، والأمير محمد بينهم كالفضل بين البرامكة في الفضل والجود.

المعروف بابن الأعوج

منيل الأماني بلا منة الحقب، متهلل يضع الهناء موضع النقب. وهو مقصد يتزود ذكره المسافر، ويعمل إلى لقائه الخف والحافر. فحل عنده حلول النوم من الأحداق والمدام من الأقداح، وبقي عنده يتحفه بدر الأثنية ويجلب إليه غرر الأمداح. حتى دهمتهم داهمة ابن جانبولاذ، وتضعضع منهم ركنٌ يحتمى به في الدهر ويلاذ. عندها أقلع إلى أدلب فكأنما دعاه إليه الأجل، ومضى إلى الله تعالى على وجه السرعة والعجل. وقد جئت من شعره بما هو أحلى في الأفواه من الشهد، وأشهى إلى العيون من النوم بعد السهد. فمن ذلك قوله، من قصيدة: أمُعذِّبي رِفْقاً بصَبٍّ مُغْرَمِ ... أضحى كمثل ابن السبيلِ الغارمِ فلقد جعلت الدمعَ وَقْفاً جارياً ... يحْتار منه ذو البكاء الدائمِ فاعجَب لدمعِي سائلاً متصدِّقاً ... واعجَبْ لواقِفة المُقيمِ الهائمِ هل أنت راحمُ ما ترى يا مُتلفِي ... من حالتي أم أنت لستَ براحمِ فلقد جرى ما قد كفى ولقد كفى ... ما قد جرى من مَدْمعِي المتلاطمِ يا رُبَّ ليلٍ طائلٍ ما تحته ... من طائلٍ غير العَناءِ اللازمِ مَدَّتْ به طُنْبُ الظلامِ فلا ترى ... إلاَّ نجوماً في سوادٍ فاحمِ فكأنها عطْشَى فتشرب ما بدَا ... من فجْره شُرْبَ النَّزِيف الحائمِ لو لم يكنْ فَرْعُ الحبيب مُشبَّها ... بسَوادِه لغدَوْتُ أبْلَغ شاتمِ قاسيتُ فيه كلَّ هَوْلٍ هائلٍ ... وركبتُ منه كل مَتْنٍ قاتِمِ حتى بدَا ضوءُ الصباح كأنه ... إشْراقُ وجهِ محمَّدِ بن القاسمِ وقوله، وهو من بدائعه: كأنَّ الدجَى ظَرْفٌ على الصبح مُوكَأٌ ... ولكن لطُول الامْتلا والبِلَى انْفَلقْ فسال فغطَّى أنْجُماً ما تعلَّمتْ ... لقصْر المدى سَبْحاً فأدركها الغَرَقْ قلت: لقد أجاد، وإن كان تناوله من قول ابن تميم: انظُر إلى الصبح البديع وقد بدا ... يغْشَى الظلامَ بمائِه المتدفِّقِ غرقت به زُهْرُ النجوم وإنما ... سلِم الهلالُ لأنه كالزورقِ والضد أقرب خطوراً بالبال عند ذكر ضده. تذكرت هنا قول أبي علي البصير، وفي الثاني نظر: وجُفونُ عينِك قد نَثَرْنَ من البكا ... فوق المَدامعِ لُؤْلُؤاً وعَقِيقا لو لم يكُن إنسانُ عينِك سابِحاً ... في بحرِ مُقْلتِه لمَات غريقَا ولابن العطار في غرق الليل: صبحٌ يلُوح وشخصُ الليل مُنْغمِسٌ ... فيه كما غَرِق الزِّنْجِيُّ في نَهَرِ ومن أهاجي المترجم قوله في قاض بحماة: من شَرِّ بيتٍ شرُّ قاضٍ أتى ... حماته يا قُبْحَ ما استحسنَتْ أبُوه مُحْتالٌ دَنِيٌّ وكم ... في رأْسِه من دَوْحةٍ أغْصَنتْ وأُمُّه مريم لكنها ... وعيشِكم ليس التي أحْصَنتْ الأمير حسن بن محمد المعروف بابن الأعوج حاكم حماة صانها الله وحماها، ولا زالت حوامل المزن تحط أثقالها بحماها. أميرٌ وابن أمير، وروض نضير، أنشأه ماءٌ نمير. تلقى راية المجد بيمين عرابة، وما أتى أمراً قط وفيه غرابة. وجَلا الإمارةَ في رَفيفِ نضارِة ... جلَتِ الدجى في حُلَّةِ الأنْوارِ في حيثُ وَشَّح لبَّه بقِلادةٍ ... منها وحلَّى مِعْصَما بسِوارِ فهو فارس ميدان اليراع والصفاح، وصاحب الرماح الخطية والأقلام الفصاح. فالسيف من جملة خدمه، والقلم يقوم في خدمته على رأسه عوض قدمه. يكتب فيجعل للأقلام حجة قاطعة على السيوف، وينتضي سيفه فيقول القلم مالي بارقة في ميدان هذا الحتوف. وإن جرى أدهم قلمه في حومة البراعة فهو سباق الغايات، وإن غردت حمائم نفثاته على غصون أقلامه قيل جاء من الزمر ما غطى على النايات. وهو جواد مبسوط الكف، ما أعرض يوماً عن مكرمة ولا كف. فجوده يغني عن القطر إذا شم الغمام، ونعمه هي الأطواق والناس الحمام.

وكان عصره كابتسام البرق إذا خفق، والصبح إذا تكشف عن الشفق. لم يتعلق أرج الكرم بغير أثوابه، ولم يتعشق صب الثناء إلا تراب أبوابه. وأهل الأدب يروحون إليه على وجد ويغدون على وجد، ويتنافسون على مدائح أخلاق خلقن من محض المجد. وهو مع شغله بالمنصب، وتشتت فكره بغرض المتعصب. لا يخلو من مطارحات تدل على ندماء مجلسه بإيرادها، ومناظيم يجلو بها عليهم الحور العين في أبرادها. وشعره مثقف المباني، له اتحاد بالمثالث والمثاني. أبرزت منه إلى العيان، ما هو ألذ من عزف القيان. فمنه قوله من قصيدة يشتكي فيها من الزمان: حاديَ العِيسِ سِرْ بغير ارْتيابِ ... ففؤادي قد حَنَّ للاغْترابِ لا أُرِيد الأوطانَ والذلَّ فيها ... واضِعاً طوقَه بأعلى الرِّقابِ ولو أنِّي قضَّيتُ فيها سروراً ... في شبابي لم أكتئِبْ لمُصابِي بل تولَّتْ نَضَارةُ العمرِ منّي ... بين عَيْشٍ ضَنْكٍ وفَرْطِ اكْتئابِ فالفرارَ الفرارَ من دار هُونٍ ... تركَتْني أشكو زمانَ الشبابِ وإذا الضَّيْم ما أقام فأحْبِبْ ... بجيادٍ تمُرُّ مَرَّ السحابِ لم يكن في مُقامِ ذَ اللُّبِّ فضلٌ ... قطَع السيفُ وهْو ضِمْنُ القِرابِ أدرَك المسكُ بالتنقُّل شأْواً ... وهْو في أرضِه دُوَينُ الترابِ فالفتى الشهمُ من إذا شام ضَيْماً ... لا يُبالِي بفُرْقة الأحبابِ منها: كيف مُكْثي ما بين أظْهُر قومٍ ... عهدُهم في ثَباتِه كسَرابِ جارُهم إن غدا عزيزاً عليهمْ ... كان كالشَّاةِ في مَقِيلِ الذئابِ هم إذا صادَرُوا أسودَ شَراءٍ ... وإذا حارَبوا فدون الكلابِ كم أناسٍ من دارِهم أخرجوهمْ ... ليسُومُونهم بسوءِ العذابِ إن فِرْعَوْن ثم نَمْرودَ كانا ... دونهم في اخْتراع سوءِ العذابِ ومَساوِيهمُ التي مِثْلُ هذا ... عَدَدُ الرملِ والحصا والترابِ ربِّ يا من أباد عَاداً وأوْدَى ... بثَمُودٍ ذوِي النفوسِ الصَّعابِ لا تذَرْ منهمُ على الأرضِ شخْصاً ... إنهم جاحدون نَصَّ الكتابِ وانتقِمْ مُسرِعاً وعجِّلْ عليهمْ ... ليس فينا صبرٌ ليوم الحسابِ قوله: " قطع السيف " إلخ. من قول بعضهم: السيف لا يقطع في قرابه، والليث لا يفترس في غابه. وقوله: " أدرك المسك "، من قولهم: المندل الرطب حطب في أوطانه، والمسك دمٌ في سرر غزلانه. وله من قصيدة أخرى، أولها: تبَّدتْ فأضْحى البدرُ في الأُفْق غائباً ... وشامَتْ فوَلَّى الظَبْيُ في البِيدِ هاربَا رَبِيبةُ خِدْرٍ يحرس الحسنُ وجهَها ... بسهمِ لِحاظٍ يجعل يجعل القوسَ حاجِبَا إذا ابْتسمتْ عن صُبْح ثَغْرٍ مُنوَّرٍ ... تُشاهد منها في النهار كواكبَا وإن برزَتْ في أسْود الشَّعْرِ ضحْوةً ... رأيتَ الدجى للصبحِ أضحى مُصاحبَا فما دَوْحةٌ سَقى النَّدَى نَسْجَ بُرْدِها ... وحاكتْ حِبالُ الشمس منه جَلائبَا مُلوَّنةٌ من خَيْط ليلٍ وفجرِه ... مُنوَّعةُ الألْوانِ تُبْدِي العجائبَا إذا سائلُ الغُدران حَنَّ صَداؤُه ... وطائرُها المَيْمون غنَّى مُجاوِبَا بأبْهجَ منها حُلَّةً وطَراوةً ... وأخْصبَ مَرْعىً من حِماها وجانبَا لها لا لِعَزّ حُقَّ وَصْفُ كُثَيِّرٍ ... وتَوْبة في ليْلَى أعادتْه كاذِبَا صدق توبة ليلى مشهور، وأصله ما روي أنه لما شغف بها، واشتهر أمره وأمرها به، قال: ولو أنَّ ليلى الأخْيَلِيَّةَ سلَّمتْ ... عليَّ ودوني جَنْدَلٌ وصفائحُ لسلّمتُ تسلِيمَ البَشاشةِ أوزَقا ... إليها صَدىً من جانب القبر صَائحُ

الباب الثاني في نوادر الأدباء بحلب الشهباء

فيقال: إنها مرت على قبره، وهي راكبة على جمل، ومعها زوجها، فقال لها زوجها: هذا قبر الكذاب، سلمي عليه، حتى ننظر وعده. فقالت له: خلِّه، فقد مات إلى رحمة الله تعالى. فقال لها: لا بد من ذلك. فسلمت عليه، فطار من جانب قبره طائرٌ، فهاج جملها، فوقعت اندقت عنقها، فدفنوها إلى جانبه. أخرجه صاحب " الأغاني " عن المدائني. وله في النسيب: آهِ مَن لي بظَبْيةٍ فَتَّانَهْ ... وهْيَ تلْهو ومُهجتِي وَلْهانَهْ ذاتُ ثَغْرٍ كأنه الُّلؤْلؤُ الرَّ ... طْبُ حكى كفَّها وحاكى بَنانَهْ قولهم: " في اللؤلؤ الرطب " كناية عما فيه من ماء الرونق والبها، ونعمة البشرة وتمام النقا؛ لأن الرطوبة فصل مقدم لذات الماء، فهي تنوب عنه في الذكر، وليس يعني بالرطوبة فيه المعنى الذي هو نقيض اليبوسة. قاله أبو الريحان في كتابه " الجماهر ". وقوله: " حكى كفها وحاكى بنانه ". المراد بمحاكاة كفها في تناسب أصابعه واستوائها، وبمحاكاته لبنانه في حمرتها؛ فيكون قصد تشبيهين: تشبيه أسنانها، وتشبيه شفتيها. هذا ما يظهر من البيت. هي في القَدِّ غصنُ بَانٍ ولكن ... مَن رأى النَّهْد قال ذي رُمَّانَهْ يا عجيباً منها تظُن سُلُوّاً ... من فؤادي وتشْتكي سُلْوانَهْ يا عجيباً أني أُرِيد رِضاها ... وهْيَ في حالةِ الرضا غَضْبانَهْ لستُ أخْشَى بحبِّها من عَذُولٍ ... فدَعُوه فينا يُطِيل لسانَهْ حاصلُ الأمْرِ أن يقول فلان ... طار صِيتاً بحبِّه لفُلانَهْ أنا صَبٌّ بحبِّها مُستهامٌ ... ملَك الحبُّ سِرَّه وعَيانَهْ لستُ أنْسَى لمَّا أتتْ ورَقِيبِي ... عينُه من يد الكرَى مَلآنَهْ تتخطَّى العيونَ شرقاً وغربا ... ضمنَ عينٍ بشَرْقها غَربَانَهْ ضِمْنَ ثوبٍ من التقى مُستعارٍ ... بعفافٍ قد طَيَّبتْ أرْدانَهْ وقضيْنا الوِصَال رَشْفا وضَمّاً ... بقلوبٍ هَيْمانةٍ حَرَّانَهْ وأراد الجُموحَ طِرْفُ التَّصابِي ... فلويْنا عما أراد عِنانَهْ وملكْنا نفوسَنا برِضاها ... وزجَرْنا بعِفَّةٍ شيطانَهْ فدعِ العاذلين ينْقُلْنَ عني ... آه مَن لي بظَبْيةٍ فَتَّانَهْ وكان ليلة ألف مجلس راح، في موسم أفراح. يحسد اتساقه الدر، وتتمنى إشراقه الزهر. فلما محى عنبر الظلام كافور الصباح، نادى مؤذن القصف: حيَّ على الاصطباح. وردت عليه رقعة من أحد أحبائه، الواقفين على سر حقيقة أنبائه. ومكتوب فيها: على الباب المعظَّم عَبْدُ رِقٍّ ... بأنواعِ الحِبا منكم يفُوزُ يجُوز البابَ عن إذنٍ كريمٍ ... وإلاَّ فهْو شيءٌ لا يجوزُ فلما قرأها تهلل كأنما منح بعمر معاد، أو حصل من حبيب مماطل على ميعاد. ثم كتب إليه: يحيط بعلْمكم أنَّا نَشاوَى ... وقد جُلِيتْ لنا بِكْرٌ عجوزُ فإن جوَّزْتمُ ما نحن فيه ... وإلاَّ فهْو شيءٌ لا يجوزُ وحكى بعض ندمائه، قال: دخلت عليه في مرض موته، فصادفت بريداً جاء بتقليد حماة، بعد عزل وقع له، فالتفت، وقال بصوت ضعيف: " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان "، وحان من الحين المكتتب ما حان. فدعوت له بامتداد الأجل، وسليته عن ذلك الاضطراب والوجل. فرأيته قد تجمع، وبكى ملء جفونه وتوجع. وقال: والله ما أبكى إلا من يسوءه الآن بعدي، وهو يتمنى الأوداء بعدي. ثم أنشد: لا يحسَب الإنسانُ بعد ذَهابِه ... مُكْثَ الأسَى في عِشْرةٍ وقَرِينِ في الْحالِ يعْتاضُون عنه بغيرِه ... ويعود ربُّ الحزنِ غيرَ حزينِ العَنْدلِيبُ الوردُ كان أمامَه ... لمَّا مضى غنَّى على النِّسْرِينِ ثم فارقته، ففي تلك الليلة تولاه مولاه، وفارق دنياه. فبكى عليه السيف والقلم، وانفجع فيه العِلْم والعَلَم. الباب الثاني في نوادر الأدباء بحلب الشهباء

مصطفى بن عثمان البابي

وهي البلدة الطيبة الماء والهوا، التي توافقت على حسن بنائها ولطف أبنائها الأهوا. أحياها الله تحية تنحط بالخصب سيولها، وتجر باللطف على سرحة الرياض ذيولها. فيها الترحيب مذخور للمقيم والظاعن، ولا محل فيها يلفى للقادح والطاعن ولها المرأى الذي يسافر فيه الطرف فيأخذ بحظه، ويستولي عليه الفرح حتى يخاف على قلبه ولحظه. فبينا تحسب الأرض نضاراً تكتسي برد الضحى فتحسبها عسجدا، وبينا ترى جناتها أنبتت دراً إذا هي أطلعت زبرجدا. وهناك الحصن الذي عانق السماك، يكاد أهله يقتطفون نرجس الكواكب من فلك الأفلاك. يزُرّ عليه الجوُّ جَيْبَ غمامِه ... ويُلْبِسها من حَلْيهِ الأنْجُمَ الزُّهْرَا وقد أحاط به الخندق إحاطة الهالة بالقمر، والسوار بالمعصم، وحوله الأبنية الشامخة تستنزل بحسن رونقها النسر المحلق والغراب الأعصم. ولأهلها من عهد بني حمدان أمراء الكلام، وأجل من استعملت في مدائحهم الدوي واستخدمت الأقلام. اعتلاق بالأدب وارتباط. وتفوق فيه يدعو إلى حسد واغتباط. ولشعرهم في القوب مكانة، كأنما شيدوا بأهواء القلوب أركانه. فصبوا على قوالب النجوم، وغرائب المنثور المنظوم. وباهوا غرر الضحى والأصائل، بعجائب الأشعار والرسائل. وقد ظهر منهم قريباً جماعةٌ تنازعوا الفضل في غايات مستبق، وكل منهم وإن اختلفت حاله فالقول في فضله متفق. إذا عَنَّ ذِكْراهم فتَمْزيق مَلْبَسٍ ... يُرِيح بَناءَ الفكر من حَلَّة العُرى بمِحْراب صدر القلب مُعتكِف به ... هواهُم تلا من ذكْرهم ما تيسَّرَا فمنهم: مصطفى بن عثمان البابي اصطفيته مفتاح الباب؛ لكونه منسوباً إليه، وجعلت معرفة القشر من اللباب، متميزاً به، ومحالاً عليه. وأحسب أني أتييت بأمرٍ معقول، وإذا أرسلت نفسي في وصفه ووصف بلده فأجدها تقول: البلدةُ الشهباءُ مشحونةٌ ... بلُطْف أشعارٍ وآدابِ ممنوعةٌ بالسُّور لا يُبْتغَى ... دخولُها إلا من البابِ وهو شرفٌ لعصره ومفخر، وبحر يهتاج عبابه ويزخر. تمادى في ميدان الشهباء طلقه، واستوفى الخصلة التي ناسب فيها خُلُقَه خَلْقُه. وأصبح في الفضل وحيدا، ولم تجد عنه النباهة محيدا. وناهيك بمحاسن قلدها، ومناقب أنبتها وخلدها. إذا تليت في المجامع، اهتزت الأعطاف وتشنفت المسامع. وهكذا النسمات إذا هبت في الأسحار، رفت لها أهداب النبات وطنت آذان الأشجار. تروق بها الخمرة في الكاس، وتجلو رويحات السحر إذا صدتها البشر بالأنفاس. إذا وصفت علاه عكفت طيور المعاني على أوكار الفكر، وإذا تليت حلاه تنبهت عيون الرياض من نسمات الآصال والبكر. وشعره ملكه الحسن رقة، فكاد تشربه الأسماع لطفاً ورقة. كلامٌ بلا مُدامٌ بل نِظامٌ ... من المَرْجانِ أو حَبِّ الغَمامِ يروح كأنه رَوْحٌ ورَاحٌ ... ويجْرِي في العُروق وفي العظامِ وقد وافيتك منه بما يغالى في مدحه، ويعلم منه وفور قسمه من الأدب وفوز قدحه. فمنه قوله يتوسل: هوتِ المشاعرُ والمدار ... كُ عن معارجِ كبريائِكْ يا حيُّ يا قيُّوم قد ... بهرالعقولَ سَنا بَهائِكْ أُثنِي عليك بما علمْ ... ت وأين عِلْمي من ثنائِكْ مُتحجِّب في غَيْبك الْ ... أحْمَى منيعٌ في عَلائِكْ فظهرْتَ بالآثار والْ ... أفعالِ بادٍ في جَلائِكْ عجباً خَفاؤُك من ظهو ... رِكَ أم ظهورُك من خفائِكْ ما الكون إلا ظلمةٌ ... قبَسَ الأشعَّة من ضيائِكْ وجميعُ ما في الكون فا ... نٍ مُستمِدٌّ من بقائِكْ بل كلُّ ما فيه فقي ... رٌ مُستمِيحٌ من عطائِكْ ما في العوالمِ ذَرَّةٌ ... في جَنْبِ أرضِك أو سمائِكْ إلاَّ ووِجْهتُها إليْ ... كَ بالافْتقارِ إلى غِنائِكْ إني سألتُك بالذي ... جمَع القلوبَ على وَلائِكْ نورِالوجود خُلاصةِ الْ ... كَوْنَيْن صفوةِ أوليائِكُ

إلاَّ نظرتَ لمُستغِي ... ثٍ عائذٍ بك من بَلاَئِكْ قذفتْ به من شاهقٍ ... أيدي امْتحانِك وابْتلائِكْ ورمتْه من ظُلَم العنَا ... صرِ والطبائعِ في شَبائِكْ وسطَتْ عليه لوازمُ الْ ... إمكانِ صَدّاً عن سنائِكْ فإذا ارْعوَى أو كاد نا ... دتْهُ القيودُ إلى ورائِكْ فالْطُفْ به فيما جرَى ... في طَيِّ عِلْمِك من قضائِكْ وقوله من نبوية، مستهلها: قضَى عجَبا من دهرِه المتعجِّبُ ... يجِدُّ اشْتعالا رأسُه وهْو يلعبُ ألم يأْنِ أن يْقنِى الحياءَ مُؤنِّبُ ... بلى آن أن يْقنِى الحياءَ المؤنِّبُ ومَن لم يدعْ شيْبُ المَفارِق غَيَّه ... فلائمُه باللومِ أحَرْىَ وأنْسَبُ أبِنْ لي على ماذا حصُلتَ من الدُّنَا ... فقد ذُقْتَ منها ما يمُرُّ ويعذُبُ أكان سِوى طَيْفٍ ألَمَّ وعارِضٍ ... جَهام وبَرْقٍ مخلِفِ النَّوْءِ خُلَّبُ متَى أنت العَمْياء غَادٍ فرَائحٌ ... تُصعِّد في بَهْمائِها وتُصوِّبُ تُبارىءُ بالعِصْيان من هو قادرٌ ... عليك وفي آلائه تتقلَّبُ أحُدِّثتَ أن المرءَ في الأرضِ مُعجِزٌ ... لقد كذَبْتك النفسُ والنفسُ تكذِبُ لقد لَزَّك التَّسْويفُ في مارِق على ... شَفا حُفْرةٍ سَرعانَ ما تتصوَّبُ لَعَمْرُ المَنايا إنها لقريبةٌ ... على أنها من ساحةِ الشيبِ أقْرَبُ وإنَّ مِراسَ الموت لا دَرَّ دَرُّه ... وإن كان صَعْبا فالذي بعدُ أصَعْبُ تقلَّص ظلُّ العمر إلا صُبابةٌ ... ألآ فانْتبْها قبل ما أنت تُنْهَبُ وبادِرْ فإن الوقتَ ضاق عن الوَنَى ... وصَمِّمْ فُسكِّيتُ الرِّهانِ المُذبْذَبُ وخذ للقاء للَّهِ ما اسْتطعْتَ أُهْبةً ... فإن لقاءَ اللَّه ما عنه مَهْرَبُ وإن ضِقْتَ ذَرْعاً من تعاظُم ما مضى ... فلا تنْسَ عفوَ الله فالعفُو أرْحَبُ ولُذْ بجَناب الفاتحِ الخاتِم الذي ... به يطمئنُّ الخائفُ المترقِّبُ هو العاقِبُ الماحِي الذي بزَغتْ به ... على الكون شمسٌ نورُها ليس يغرُبُ تحُلُّ له الرُّسْل الكرامُ حِباهُمُ ... وإن ذُكِروا فهْو العُذَيْقِ المُرَجَّبُ إذا الخَطْب أبْدَي ناجِذَيْه فنادِهِ ... تجدْ خيرَ جارٍ في المُلمَّاتِ يُنْدَبُ وإِن لذَعْتك المُوبقاتُ فداوِها ... به فهْو تِرْياق السموم المُجرَّبُ إليكَ رسولَ الله قد جاء ضارعاً ... أخو عَثْرةٍ يرجو الإقالةَ مُذنبُ فبابُك بابُ اللهِ ما عنه مهرَبٌ ... وطالبُه من غير بابِك يُحجَبُ فليس لنا من منحةٍ بتفَضُّلٍ ... من الله إلا عن مَساعِيك تُجلَبُ ولا مَسَّنا من محنةٍ أو يَمسُّنا ... بكسبِ يَدٍ إلا بيُمْنك تذهبُ منها: إذا قمتَ في وَعْد المَقام فإِننا ... على ثقةٍ أن ليس فينا مُخيَّبُ ألم يُرْضِك الرحمنُ في سورة الضحى ... وحاشاك أن ترضَى وفينا معذَّبِ أترضَى مع الجاه الوجيهِ ضياعَنا ... ونحن إلى أعْتاب بابِك نُنسَبُ أترضَى مع العِرْضِ العريضى بأن يُرى ... مَقامُك محوداً ونحن نُعذَّبُ أتخذُل يا حامِي الذِّمار عصابةً ... بهَدْيِك دانتْ ما لها عنك مَذهبُ دعوْتَ فلبَّينَاك سمعاً وطاعةً ... وحاشاك أن ندعوكَ ثم تُخيِّبُ منها: عليك صلاةُ الله تتْرَى مُسلِّما ... مع الآلِ والأصحابِ ما انْهَلَّ صَيِّبُ صلاةٌ تُوازِى قدرَ ذاتِك رفعةً ... بتَبْليغها عنِّي إلى الله أرْغَبُ وقوله من قصيدة في المدح، أولها:

هو الفضلُ حتى لا تُعَدَّ المناقبُ ... بل العزمُ حتى تطلُبُنْك المَطالبُ وما قدَر الإنسان إلا اقْتدارُه ... أجَلْ وعلى قدَرْ الرجال المراتبُ منها: وللمجدِ مثلُ الناس سُقْمٌ وصحةُ ... وفيه كما فيهم صَدُوقٌ وكاذبُ منها: ومن خسِر الرَّاحات يكتسِب العُلَى ... وبعضُ خَساراتِ الرجال مكاسبُ فآب بما يُشجِى العِدى ويسرُّه ... فوائدُ قومٍ عند قوم مصائبُ إليك إمامَ الفضلِ منا توجَّهتْ ... كتائبُ إلَّا أنَّهُنَّ مواكبُ مَعانٍ تُعِير العِينَ سحرَ عيونِها ... وتسخرُ منها بالعقودِ التَّرائبُ قد انْسَدلتْ فوق الطُّروسِ سطورُها ... كما انسدلتْ فوق الصدورِ الذَّوائبُ لها من بَراحِ الشوقِ حادٍ وقائدٌ ... إليك ومن لُقْياك داعٍ وخاطبُ ومن بدائعه قوله: ليت شعري ما الذي سخَّر السَّمْ ... ع لصوت السنطير حتى أصَاخَا ثم ماذا أشار به النَّا ... يُ لرَكْب الأرْواح حتى أناخَا ثم ماذا الذي به اسْتشعر الحِسُّ ... بحَسِّ الأوْتارِ حتى تراخَى ذاك سِرٌّ يذوقه من ترقَّى ... عن ذُرَا عالم الهيولي انْسلاخَا وترقَّى به إلى قاب قَوْ ... سَيْن فألْقَى العصا ورام المُناخَا وقوله من قصيدة، أولها: أشاردٌ ياغزال أم واجدْ ... وعابثٌ في النفوس أو عائدْ أعند عينيْك أنَّ أنفسَنا ... حَبْسٌ على سَيْل نَبْلها الصاردْ بل كثرةُ العاشقين تُوهمه ... بأنَّ ماضي نفوسِهم عائدْ مهلا أبا الحُسْن قد فُجِعت به ... واستبْق منَّا داعٍ له حامدْ نحن بنو نَجْدة الهوى ولنا ... فيه فَخارُ الطَّرِيف والتَّالِدْ وكم لما غارةٌ على ثَغَرٍ ... يصدُر عنها المُفتِّر الباردْ تلك عهودٌ قد كان لا بَعُد ... تْ طَرْفُ الليالي عنَّا بها راقدْ ماسَها الدهرُ عن تفرُّقنا ... بل ظنّنا لالْتئامِنا واحدْ على هذا الالتئام والإتقان، تأمل قولي في الاتحاد عند العناق: يا طِيبَ ليلٍ حيَّى وقد غفَلتْ ... عنا عيونٌ تظَلُّ ترمُقنَا بِتْنا كرُوحيْن في حشَا جسَدٍ ... تحيَّر النوم كيف يطرُقنَا ولعز الدين الضرير ما هو منه: توهَّم واشِينا بليلِ مَزارِه ... فهَمَّ ليسْعى بيننا بالتباعُدِ فعانقْتُه حتى اتحدنا تعانُقاً ... فلما أتانا ما رأى غيرَ واحدِ ولخالد الكاتب: كأنني عانقتُ رَيْحانةً ... تنفستْ في ليلِها البارِدِ فلو ترانا في قميصِ الدُّجى ... حسِبْتَنا في جسدٍ واحدِ ولأحمد بن أبي العصام: ضمَمْتُه ضَمَّ مُفْرِط الضمِّ ... لا كأبٍ مُشفِق ولا أمِّ ولم نزَلْ والظلامُ حارسُنا ... جسميْن مُستودَعيْن في جسمِ ولابن سناء الملك: وليلةَ بِتْنا بعد سُكْرِي وسُكرِهِ ... نَبذْتُ وِسادِي ثم وسَّدتُه يدِي وبتْنا كجسمٍ واحد من عناقنا ... وكالحَرْفِ في لفظِ الكلام المُشدَّدِ واعترض عليه بأن العروضيين يعدون المشدد بحرفين، فلو قال: في الخط، لحصل مطلوبه. ليت درَى القانطون في حلبٍ ... حالي وما حالُ من لهم فاقِدْ يرقُب وفد الشَّآمِ ذا قلَقٍ ... عسى يراهُم بناظرِ الوافِدْ فارقتُ مَثْوايَ في رِضا زمن ... على ذوي الفضل لم يَزلْ واجِدْ خرجتُ منه مع البُزاةِ عسى ... تصفُو الليالي ويصلُح الفاسدْ يشير إلى قوله: أذا أنْكرتْني بلدةٌ أو نكِرْتُها ... خرجتُ مع البازِي عليَّ سوادُ ومن مديحها: الحكَم العَدْلُ من عزائمُه ... قامتْ على الدهر فاكْتفى القاعدْ

وأصبحتْ حَيْرةً حواسدُه ... كأنها العُمْيُ مالها قائدْ هذا أحسن من قول المتنبي: ما بالُ هذي النجوم حائرةً ... كأنها العُمْي مالها قائدْ وهو أخذه من قول العباس بن الأحنف: والنجمُ في كبد السماء كأنه ... أعْمَى تحيَّر ماله من قائدِ رَبُّ القوافي التى لآلئُها ... توَدُّ لوقُلِّدت بها الناهِدْ إذا تأمَّلْتَها وجدتَ فتىً ... شُهْبَ الدياجي بفكرِه صائِدْ وقوله من أخرى، اولها: هو الشوقُ حتى يستوى القربُ والبعدُ ... وصدقُ الوفا حتى كأن القِلَى وُدُّ فلا رقَدتْ عينٌ يؤرِّقها هوىً ... ولا خمَدت نارٌ يسعّرها خَدُّ ألا في سبيل الأعْيُن النُّجْل ما جرى ... بمُنْعرَج الجَرْعاء حيث انْطوى العهدُ عشيَّةَ أدْناني وأقْصاهُم الهوى ... برَغْمِي وأرضاهُم وأسْخطنِي البعدُ تذكّر عيشاً قد طوى نَشْرَه النوى ... وعُفْراً عفَى من سِرْبها الأجْرَعُ الفَرْدُ خليلَىَّ نَجْدٌ تلك أم أنا حالمٌ ... لقد كذَبْتني العينُ ما هذه نجدُ بلى هذه نجدٌ فأين ظِباؤُها ... أأحجبها عِزٌّ أأم اغْتالها فَقْدُ وما صنعتْ من بعدنا تلكمُ الدُّمَى ... وكيف ذوَتْ هاتيكمُ القضُبُ المُلْدُ كَأَنْ قد أضَلَّ البَيْنُ في عَرَصاتِها ... مُنىً أو عليها في فؤاد النوى حِقْدُ لقد خلَدتْ ممَّا دَهاك جَهَنَّمٌ ... بأحْشائنا يا جنَّةً خانها الخُلْدُ خليليَّ ماوُدَّا كُما وُدَّ مخلصٍ ... أما فيكما هَزْلٌ إذا لم يكن جِدُّ أفوق سوادِ الليل تبغي نجومُه ... غشاء فلِم لم تصْحُ أعيُنها الرُّمْدُ كأن تعالى اللهُ ذا البدرِ في السما ... مَلِيك مُطاعٌ والنجومُ له جُنْدُ كأن سماء الليلِ روضٌ مُنمَّقٌ ... خمائلُه مِسْك أزاهِرُه نَدُّ كأن الدجى والبرقَ والزُّهْرَ ناهدٌ ... من الزَّنْج يُزْهيها فيُضحكها العِقْدُ كأن الثُّريَّا كفُّ نَقَّادٍ اسْتوى ... على نَطْع سَبجٍ فوقه نُثرَ العقدُ كأن نجومَ الليلِ من حَيْرةٍ بها ... ركائبُ تسْرِي مالها في السُّرَى قَصْدُ كأن وَمِيضَ البرقِ في حالِك الدجى ... صفاءٌ بقلبٍ قد توطَّنه الحِقْدُ كأن الكرى سِرٌّ كأن الدجى حَشاً ... كأن المُنى طِفْل كأن الرَّجا مَهْدُ كأن السُّهَا معنىً دقيقٌ بفِكْرةٍ ... فآونةً يخْفى وآونة يبْدُو كأن الدجى والفجرُ يفتِق زِيقَه ... مواطنُ غَىٍّ قد أناخ بها الرُّشْدُ كأن الصَّبا رُسْلُ الصباح إلى الرُّبَى ... بسِرٍّ أذاع الشِّيحُ خافِيه والرَّنْدُ كأن طِلابِي المجدَ والدهرُ دونه ... ترقُّب طَيْفٍ حال من دونه السُّهْدُ كأن يَراعى غائصٌ بحرَ ظُلْمةٍ ... فيُلفَظ لي من فِيه جوهرُه الفَرْدُ كأن المعاني السانِحاتِ لخاطرِي ... كواعبُ زارتْ مالزَوْرتها وَعْدُ منها في المديح: حديقةُ فضلٍ لا يُصَوِّح نَبْتُها ... ونهرُ عطاءٍ ما لسائِله رَدُّ ورِقَّةُ أخلاقٍ يَسيرُ بها الصَّبا ... وبأسٌ له ترْمِي فرائسَها الأُسْدُ وقوله من أخرى، أولها: سرى عائدا حيثُ الضَّنى راع عُوَّدِي ... سُرَى البَدْرِ طَيْفٌ بالدُّجُنَّةِ مُرتدِ وما رَقَّ لو لم يَرْعَ حَيْني ولا سرَى ... على البُعد في ثوب الحدادِ لمَرقدِي فأعجبَه شوقي إليه على النَّوى ... كذا كان حيث الشملُ لم يتبدَّدِ وعاتبْتُه والظنُّ أيْأس طامعٍ ... فجاوبَني والقلبُ أطمعُ مجتدِ

ولاطفْتُه حتى استملتُ فؤادَهُ ... فيالك سَعْداً بعضُه لِينُ جَلْمَدِ وبِتُّ كأن الدهرَ ألْقى زِمامَه ... إليَّ وصافاني فأحْرزْتُ مَقْصِدِي وحَكَّمني مِن جِيده وهْو عاطِلٌ ... فحَلاَّه دَمعي بالجُمان المُنضَّدِ إلى أن نعَى بالبَيْن صُبْحٌ كأنه ... غرابُ النوى لكنه غيرُ أسوِد من مديحها: به دَرَّ ضَرْعُ المَكرُماتِ وثُقِّفتْ ... قَنا الفضلِ وانْهلَّتْ غوارِبُ للصَّدِى يُساقِط من فِيه المعاني كأنها ... فرائدُ دُرٍّ في ترائبِ خُرَّدِ ومن كلِّ سطرٍ فوق طِرْس كأنه ... عِذارٌ تدلَّى في عوارِض أمْرَدِ ومن مقطعاته قوله مضمنا: قلتُ لما أن بدَا في خدِّه ... زَرَدُ العارِض نَبْتاً وانْتضَدْ أنَباتٌ لاح في خدَّيك أم ... نسجَ الرِّيحُ على الماء زَرَدْ قلت: أجاد في هذا التضمين، ولطف في نقله. وأصله ما قال صاحب بدائع البدائة: روى عن عبد الجبار بن حمديس الصقلي، قال: صنع عبد الجليل بن وهبون المرسى الشاعر لنا نزهة بوادي إشبيلية، فأقمنا فيه يومنا فلما دنت الشمس للغروب هب نسيمٌ ضعيف غضن وجه الماء، فقلت للجماعة: أجيزوا حاكتِ الريحُ من الماءِ زَرَدْ فأجازه كلٌ منهم بما تيسر له. فقال لي أبو تمام غالب بن رباح الحجام: كيف قلت يا أبا محمد؟ فأعدت القسيم له. فقال: أيُّ دِرْعٍ لقتالٍ لو جمَدْ ثم قال صاحب البدائع، بعد ما سبق: وقد نقله ابن حمديس إلى غير هذا الوصف فقال: نثرَ الجوُّ على التُّرْبِ بَرَدْ ... أيُّ دُرٍّ لنُحورٍ لو جمَدْ فتناقض المعنى بذكر البرد لو جمد، إذ ليس البرد إلا ما جمَّده البرد، اللهم إلا أن يريد بقوله: لو جمد لو دام جمده، فيصبح. ومثل هذا قول المعتمد بن عبَّاد، يصف فوَّارة: ولرُبما سلّت لنا من مائها ... سيفا وكان عن النواظر مُغْمَدَا طبعتْ لُجَيْناً ثم زانت صَفْحَةً ... منه ولو جمَدتْ لكان مُهنَّدَا وقد أخذ المقَّرى هذا المعنى، فقال يصف روضا: لو دام هذا النَّبْتُ كان زَبَرْجَداً ... ولو جَمدتْ أنهارُه كُنَّ بَلُّورَا وهذا المعنى مأخوذ من قول على التُّونسي الإياديّ، من قصيدته الطائية المشهورة: ألُؤْلؤٌ قَطْرُ هذا الجوِّ أو نُقَطُ ... ما كان أحسنَه لو كان يُلْتقَطُ والمعنى كثير للقدماء، قال ابن الرُّومي، من قطعة في العنب الرَّازقي: لو أنه يبْقَى على الدهورِ ... قرَّط آذانَ الحسان الحُورِ عوداً على بدء. ووما يشبه ما حاوله في التَّضمين قول عزِّ الدين الموصلي: كالزَّردِ المنظومِ أصْداغُه ... وخدُّه كالوردِ لمَّا وردْ بالغْتُ في الَّلثْم وقبَّلتُه ... في الخَدّ تقْبيلاً يفُكُّ الزَّرَدْ وللبابي في ذم من تعذَّر: قد كسَا اللهُ صُبحَ خدَّيْه ليلاً ... وطَلى ذلك البياضَ سَوادَا أصبحتْ ماءُ وَجْنتيْه سَراباً ... وغدَت جمرةُ الجمال رَمادَا وله أيضاً: نادى لوَ أن النِّدا يُجدِي ... قِفوا انْظروا ما أصاب خَدِّي قد كان ورداً بغير شوكٍ ... فصار شوكاً بغير وردٍ مثله لذي الوزارتين أبي الحسن بن الحاجّ: أبا جعفرٍ مات فيك الكمالُ ... فأظهر خَدُّك لبْسَ الحدادِ وقد كان يُنبِت وردَ الرياض ... فأصبح ينبتُ شَوْكَ القَتادِ ولعرقلة الكلبيّ: إذا ما الأمْرَدُ المصقول جاءتْ ... عوارضُه فنْقصٌ في ازْديادِ وهل يَستحسنُ الإنسانُ روضاً ... إذا ما حلَّه شوكُ القَتادِ ومن بدائعه قوله من قصيدة، قالها وهو بالرُّوم يتشوَّق إلى الباب: تذكَّر بالْباب ظبياً غَرِيرَا ... وعيشَا رقيقَ الحواشِي نَضِيرَا وعهداً تَرِفُّ أساريرُه ... قطفْنا به العيشَ غضًّا نضيرَا

مَساحِبُ أذْيالِ لهوٍ بها ... لبِسْنا الشبابَ طرِيّاً طَرِيرَا وفي سَفْح تَيْماءَ وادٍ أغَنُّ ... ثَراه تراه يفُتُّ العَبِيرَا نسيماً عليلاً وظلاًّ ظليلاًَ ... وماءً نَميِرا وروضا مَطِيرَا تُعانِق فيه الغصونُ الغصونَ ... ويلْطِم فيه الغديرُ الغديرَا وللوُرْقِ صَدْحٌ بأفْنانِها ... كألْحانِ داود يَتْلو الزّبورَا وأثَّر فَرْطُ اعْتلال النسي ... مِ في حركات الغصونِ فُتورَا للرِّيح بالطيرِ فوق الغصو ... نِ عبَثٌ به يستخِفُّ الوَقُورَا فبيْنا يكاد يمَسُّ الثرى ... بها إذْ يكاد يمَسُّ الأثِيرَا وماءٌ يسِحُّ على وجهِه ... ويسرَح في كل وادٍ مُغِيرَا فلولا تشبُّثُ حَصْبائِه ... به كاد من خِفَّة أن يطيرَا إذا ما اسْتدار خلال الرياضِ ... تخال مَعاصِم ضَمَّت خُصورَا وقوله في الغزل: كأنما أوْقف اللهُ العيونَ على ... رُؤْيا محاسنِه لاصابَها ضَرَرُ فلو بدَا من وَرا المرآةِ لانْحرفتْ ... عن أهلِها حيث دارتْ نحَوهُ الصُّوَرُ وكثيرا ما يسأل عن معنى البيت الثاني، وأحسن ما يوجَّه به، أن قوله من ورا، أي من خلف المرآة، لانحرفت الصور حيث سارت محاسنه، لأن الأبصار وقفٌ على محاسنه، لأن البصار وقفٌ على محاسنه، والمراد من الصور المنحرفة الدّاخلة المرآة. وإنما أفرد المرآة وجمع الصُّور، مع أن في المرآة صورة واحدة، لأن المرآة الواحدة يمكن أن يرسم فيها صورٌ كثيرة، على طريقة البدليَّة، ولا تتعدد المرآة. والصُّور فاعل انحرفت، وفاعل سارت ضميرٌ راجع إلى محاسنه. وله: ولي نفسُ حرٍّ لا مُني تسْترقُّها ... ولا مَطَمعٌ نحو الهَوانِ يُدِيرُهَا متى استكْبرتْ تصْغُرْ وإن هي صُغِّرتْ ... تساوَى لديها عبدُها وأميرُهَا إذا لَمستْها كفُّ عِزٍّ تطامنَتْ ... وإن لَحَظتْها عينُ هُونٍ تُطيرُهَا وله، وهي من غرره: كاد يسعَى للتَّصابِي أوْسعَى ... وَيْحَه ما عفَّ حتى نَزَعَا الصَّبا لاسامح اللهُ الصَّبا ... نبَّهتْ من غَيِّه ماهجَعَا واستثارتْ من أقاصِي لُبِّه ... صَبْوةً كان رَثاها ونَعى قد صَبا طَوْعَ هواه ما صَبا ... ورعَى شُهْبَ الدياجِي ما رعَىَ هُجَنٌ ستَّرها ليلُ الصَّبا ... غَضَّ عنها صُبحَ فوْدٍ طلَعَا وعِثارٍ قد أقلَّتْه النُّهَى ... فإن استأْنفت فيه لا لَعَا زعَموا إن أسكتْتني ضِنَّةٌ ... بالقوافي أن طَبْعي رجَعا وتناسَوْا ذلك النَّظْمَ الذي ... زاد في الرِّقة حتى انْقطعَا والمعاني الَّلاي أنَّى أُنْشِدتْ ... تلْمَس العقدَ الغواني جزَعَا غَرّهم منّي سكوتٌ كلُّه ... كلماتٌ تُسمِع الصُّمَّ الدُّعَا وخُمود تحته جَزْلُ الغَضا ... وسكونٌ تحته الرِّيُّ سعَى في حِرِ امِّ الشِّعر مالي وله ... خَلَّة سُدَّتْ وغَيٌّ أقْلعَا قوله: زاد في الرقة نقله من قول ابن مليك، في الغزل: لَيِّنُ الأعطافِ من خَصْرُه ... رَقَّ حتى كاد أن ينْقطعَا وقوله: تلمس العقد الغواني، من قول المنازيّ: ترُوع حَصاه حالِيَة العذارَى ... فتلْمسُ جانبَ العقْدِ النَّظيمِ وله من قصيدة طويلة مستهلها: حوَّلت عهدَ عيْشِه الأهوالُ ... واستحالتْ من وُدِّها الأحوالُ سَلْ رُسوم الرُّبوع عنها وما يُجْ ... دي سؤالٌ عنه الجواب السؤالُ قد وقفْنا نبكي الطولَ بها حتَّى ... بكتْنَا بدمعها الأطلالُ وعجبنا لرَبْعها كيف أقْوَى ... مُطرقاً واسْتحال ذاك الجمالُ

ساكنٌ في السكون منه اضْطرابٌ ... ساكتٌ في السكوت منه مَقالُ صرَفتْ نَقْده صُروفُ الليالي ... واستخفَّتْ به الخطوبُ الثِّقالُ عَهْدُنا في ذُراه يُستأنَس الأُنْ ... سُ وتُستَرْوَح الصَّبا والشَّمالُ غادرَتْه الأغْيارُ تُستوحَش ال ... وَحْشَةُ فيه وتُوجَل الأوْجَالُ يا أُثَيْلاتِ مَسْرحٍ أقبل الإدْ ... بارُ فيه وأدبر الإقْبالُ باكَرتْكُنَّ عن عيون الغوادِي ... إن عَراكُنَّ من دموعي المَلالُ طالما بات للجمال مَقِيلٌ ... في ذُاركُنَّ والعِثارِ مقالُ وزمانٍ ما طال بالوصلِ حجتى ... قَّصرتْه أيامُ هَجْرٍ طِوالُ أخْلقتْ جِدَّةُ النَّوى ذلك العهْ ... دَ ولبَّى داعي النعيم الخيالُ أي ذنبٍ نُعاتب الدهرَ فيه ... وعتابُ الأيام داءٌ عُضالُ أنا ما بين فُرقةٍ تجمع السُّقْ ... مَ وبُعْدٍ تدنُو به الآجالُ وخُطوبٍ ألِفْتُها يستعيذُ الْ ... خوفُ منها وتَذعَر الأهْوالُ وأمانٍ تُجاذب الدهرّ ذيلَ الْ ... حظِّ والدهرُ جاذبٌ جَدَّالُ هِمَّةٌ أرَّقتْ جفونَ الأماني ... بوُعودٍ للدهر فيها مِطالُ واشْتغالٍ فرَغْتُ فيه عن اللهْ ... وبأمرٍ للحظِّ عنه اشْتغالُ أتمنَّى من الزمانِ وفاءً ... ووفاءُ الزمان أمرٌ مُحالُ وله من أخرى، أولها: أقَبُول تنَّفستْ أم قُبولُ ... أم شَمالٌ دارتْ بنا أم شَمُولُ نشرتْ نَشْرها النَّدِىَّ كأنَّ ال ... أُفْق بُرْدٌ من الكِبَا مَبْلولُ مَهَلاً يسْترِحْ سَنامُك من وَقْ ... رِ الشَّدِّ فالأناةُ أمرٌ جميلُ واسْعِدينا بوَقْفِة نَسْمَةِ الشَّ ... آمِ فقد يرحُم العليلَ العليلُ كيف خَّلْفت دارَ أنْسٍ ومن الأُنْ ... سْ فعَهْدي بالأُنس عهدٌ طويلُ بوُجوه متى تبدَّتْ تبدَّى التَّ ... كبيرُ من حولِهنَّ والتَّهْليلُ التكبير والتهليل للتعجُّب، مما استعمله المولَّدون. قال المتنبيّ: كبَّرتُ حول ديارهمْ لما بدَتْ ... تلك الشموسُ وليس فيه المشرِقُ ووقع في مجلس أبي بكر بن زهر، أن بعض أدباء الأندلس كان عنده، فدخل فاضل من أهل خراسان عليهم، فأكرمه ابن زهر، وأجلَّه. فقال الأندلسيّ: ما تقول في علماء الأندلس وأدبائهم وشعرائهم؟ فقال: كبَّرت. فلم يفهم جوابه، واستبرده. فلما فهم ابن زهر إنكاره، قال: قرأت شعر المتنبي؟ قال: نعم، وحفظته. قال: أما سمعت قوله:...... وأنشد البيت، فعلى البيت، فعلى نفسك فلتكبِّر، ولفهمك اتِّهم وأنكر. فخجل، واعتذر. ومثله استعملوا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الشيوخ بحماة: فمَن رأى ذلك الوِشا ... حَ الصَّائمَ صلَّى على مُحمَّدْ ولبعضهم في وصف خط: خطٌّ كما انْفتحتْ أزاهيرُ الرُّبَي ... مُتنَزَّه الألْبابِ قَيْدُ الأعْيُنِ وبلاغةٌ مِلْءُ العيونِ مَلاحةً ... نال النبيُّ بها صلاةَ الألْسُنِ وقد منعها النَّوويُّ في مثل هذا شرعاً. قال: والوارد في مثله سبحان الله، كذا ذكره في أذكاره. وقال الحليميّ: إنه جائز بلا كراهة. وبَّينوا وجهه في فقههم. وله من قصيدة، أولها: عُوجا على رَسْمِ ذلك الطَّلَلِ ... نَقْضِي حقوقَ الليالِي الأُوَلِ لعلَّ نَثنِى أعطافَه ثانيةً ... وقد ترجَّيْتُ غيرَ مُحتَمِلِ فالدهرُ بأْبَي إبقاءَ مُغتنَمٍ ... فكيف يُرْجَى لرَدِّ مُرتحِلِ لكلِّ ماضٍ من شِبْهِه بدَلٌ ... وما لعهْدِ الشبابِ من بدلِ سقى لُوَيْلاتِنا بذي سَلَمٍ ... كلُّ مُلِثِّ الرَّبابِ مُنْهمِلِ

معاهدٌ طال ما اقتطفتُ بها ... زَهْرَ الهنا من حدائقِ الجذَلِ وأطْلَع السعدُ في مَعالِمها ... بَدْرَ المُنى في غياهِب الأمَلِ حيث قُطوفُ اللَّذَّاتِ دانيةٌ ... ومَوْرِد اللهوِ مُغْدِقُ النَّهَلِ نعثُر فيها بذَيْل لَذَّتِنا ... في هِضاب العِناق والقُبَلِ بكلِّ مُستوْقِف العيون سَناً ... يدعُو فراغَ القلوبِ للشُّغُلِ الشغل فيه أربع لغات: شُغْل، وشُغُل، وشَغْل وشَغَل. أثْقَل أعْطافَه بخفَّته ... لُطْفُ التَّصابِي فخفَّ بالثِّقَلِ وعُطِّلتْ من حَلْىِ النَّبات عِذَا ... راهُ فحلاَه الحسنُ بالعَطَلِ إذا رمتْنا من قَوْسِ حاجبِه ... سهامُ جَفْنيْه مابَنُو ثُعَلِ وارَحْمتا العاشقين قد دهَمَت ... همُ المَنايا في صورة المُقَلِ وقد تفاءلْتُ من مَصارعِهمْ ... أنّ تَلافِى بالأعْيُنِ النُّجْلِ أساً لقد جُرِّع الأسَى وهوًى ... أهْويْتُ من أجلِه على أجَلِي فذا الذي حَجبَتْ محاسنُه ... عنَّا مَساوِى الصدودِ والنّقلِ من كان عنِّي قبلَ النَّوَى صَلِفاً ... أبْعدُ مَسمِعي عن العَذَلِ مازِدتُ عنه بُعداً بفُرقتِه ... لا وَاخَذ اللهُ البَيْنَ من قِبَلِي منها في المدح: أقام للفضل دولةً حسُنتْ ... والوصفُ بالفضل أفضلُ الدُّوَلِ واسْتتَر الظلمُ من عدالتِه ... بين حُصون الظِّباء بالكَحَلِ يا أبيضَ العدلِ ما تركتَ بها ... سوادَ ظُلْمٍ إلا من المُقَلش واعتدلتْ حيث ما اسْتمرَّ بها ... لولا قدودُ الحسانِ ذُو مَيَلِ ما كنتُ ادري من قبل رُؤْيتِه ... كيف انْحصار الأنامِ في رجلِ حتى رأيتُ امْرَأً يقوم له الدَّ ... هْرُ على ساقِه من الوَجَلِ إن ادَّعَى مبصرٌ له شبَها ... فاحكُم على ناظِريْه بالحَوَلِ هذا في استعمالهم كثير، ومن أبلغه قولي في غلام أحول: بنفْسِيَ من أخْلصتُ قلبي لأجْلِه ... فما اخترتُ عنه قَطُّ أن أتحوَّلاَ بديعُ جمالٍ لا يرى طرفُ ناظرٍ ... نظيراً له حُسْنا ولو كان أحْوَلاَ ومن قصائده، ميميّته التي أهداها شنبا لثغر الأدب الباسم، وبعثها روحا في مجارى القبول الناسم: تلك الطُّلولُ طلولُ سَلْمَى ... فافضُض بها للدمعِ خَتْمَا دِمَنٌ غرَستُ بها الهوى ... فجنيْتُه كَمَداً وسُقْمَا وانشُد هنالك مُهْجةً ... بصرِيعة الأحْداق تُسْمَى خلَّفْتُها يوم النوى ... لِسهامها غرَضاً ومَرْمَى وأظنها لم يُبْقِ منْ ... ها حبُّ ذاك الظبِي رَسْمَا صنمٌ كأن اللهَ صوَّ ... رَهُ من الأرْواح جسمَا وكأنما مُزِج الصَّبا ... حتى تكوَّن منه بالْمَا وجَناتُه رقَّتْ فكا ... دتْ من خيالِ الوهمِ تَدْمَى وَصَفتْ معاطُفه فكا ... دبها الغلائلُ أن تنمَّى نفِّسْ عليه يا نِطا ... قُ فقد كدَدْتَ الخَصْر ضَمَّا واخفِفْ مُرورَك يا نسي ... مُ فقد خدَشْتَ الخدَّ لَثْمَا إنِّي غضضْتُ الطَّرفَ خوْ ... فاً أن يُؤثِّر فيه حَتْمَا نَشْوانُ من خمرِ الدَّلا ... لِ مُعشَّقُ الحركاتِ ألْمَى عُوِّضتُ فيه عن هُدا ... يَ وصحَّتي غَيّاً وسُقْمَا إن الذي قسَم الهوى ... جعل القنا لي منه قِسْمَا لا واخَذ اللهُ الدُّمَى ... بدمِي فقد هدرَتْه ظُلْمَا فإلى مَ يا ثَمِلَ الجفو ... نِ وفي مَ تجفْوني ومِمَّا

قد تَاه سلطانُ العيو ... نِ على القلوب وجار حُكْمَا تلك الصِّفاحُ البيضُ ل ... كنْ للْمَنايا السُّودِ تُنْمَى فكأنما راشَتْ لها ... عزَماتُ نجمِ الدين سَهْمَا نجمٌ غدا للحائري ... ن هُدىً وللأعْداء رَجْمَا وله الأيادِي الغُرُّ تُرْ ... جِع أوْجُهَ الحسَّادِ دُهْمَا لو حاربَتْه الشُّهْبُ لَانْ ... قضَّتْ لديْه ترُوم سَلِمْاَ منها: خُذْها إلأيك أبا القوا ... في لا أراها اللهُ يُتْمَا قد أطْلعتْ من كلِّ مَعْن ... نىً في سمَا عَلْياك نَجْمَا أوْهمْتُها مدحَ السِّوَى ... فتميَّزتْ بالغيظِ وَهْمَا ومن مصوناته التي إذا اشتهرت اشتغل الناس بها عن كل منظوم، واحتفلوا بها احتفال بني تغلب بقصيدة عمرو بن كلثوم، هذه الميميّة: عاد فانْقاد للهوى بذِماِم ... بعد ما ودَّع الصِّبا بسلاِم نسْمةٌ من رُبا الغدير استفزَّتْ ... من أقاصي الحشَى دَواعي الغراِم نشأتْ من منابِت الشِّيح والقَيْ ... صوِم تروِى عن رَنْدِه والخُزاِم ذكَّرْته عهداً قديماً وكم نبَّ ... هَ ذكرُ العهودِ جَفْنَ الهُياِم بوجوهٍ تجلّتْ صُوَر الأقْما ... رِ ترْنُو عن أعْيُن الآرامِ كل قَدٍّ يكاد يعقِده اللِّي ... نُ وتَثْنيه خَطْرةُ الأوهامِ وفم طيِّب المُقبَّل والنَّكْه ... هة يُبْدى عن مثل حَبِّ الغَمامِ أبْلَجٌ واضحُ الدليل بأنَّ الْ ... جوهرَ الفردَ قابلُ الانْقسامِ ولذيذُ الحديث يقطُر ظَرْفاً ... بتثنِّي جِيدٍ وهَزِّ قَوامِ لكلا العاشقْين ينفُث سحراً ... شكلُ رُعْبوبةٍ وزِيُّ غلامِ هذا البيت آخذٌ بطرفي الحسن، تتنبَّه له من غيرتها الجفون الوسن. وقد ذكر الباخرزيُّ في مثله بيتا، وهو: لمُذكَّر الخُطواتِ غيرِ مُؤنَّثٍ ... ومُؤنَّثِ الخلَواتِ غيرِ مذكَّرِ ثم قال، في وصفه: " هذا بيت شعر، يستوي بيت تبر، ففيه، قلبٌ يقبله كل قلب ". ومما يقارب هذا قول بعضهم: هو تحت العَجاج ليثُ عَرِينٍ ... وهْو فوق الفِراشِ ظَبْيُ كِناسِ زمن مَرَّ كلُّ عام كيومٍ ... قِصَراً جَرَّ كلَّ يومٍ كعامِ هكذا كلُّ مَغْنمٍ فهو عينُ الْ ... غُرمِ والوجدُ زائدُ الإعدامِ سترى إن أعارَك الدهرُ عيناً ... أن دَرَّ الأيامِ للأيامِ جلَّ بارِي الأمورِ في صُورِ الأضْ ... دادِ أبْدَى اللذاتِ بالآلامِ وجلا العزَّ في ملابِس ذُلٍّ ... وكسَا الذلَّ صورةَ الإعْظامِ وأراك المخْدومَ ناعمَ بالٍ ... وهْو أشْقى الخدام بالخُدّامِ حسبُك القَنع منصباً وكفى المَرْ ... ءَ نعيما مُطارَحات الكرامِ هي أهْنَى مواردِ العيش لكنْ ... كدَّرْتها مَؤُونة الاحْتشامِ من خشوعٍ ولات حين صَلاةٍ ... واحْتراسٍ ولات حين صِدامِ حركاتٍ تجري على غير طبعٍ ... وقعودٍ مُعَّينٍ وقيامِ وأشدُّ البلا على الرأسِ تُلْفَى ... عِمَّةٌ مثل ذِرْوةِ الأهرامِ ولباسٌ يغرى النَّوائبَ بالأكْ ... نافِ ضافي الأذْيال والأكْمامِ صاحِبَيَّ ابْغيا لنا خارجَ الْعا ... لَم داراً فبئْس دارُ الزِّحامِ واصْدُقاني ألسْتُما بين ليلٍ ... ونهارٍ، مالي حليفُ ظلامِ واسْتعيرا لمُقلتي هَجْعَةً عَلَّ ... مَنامي يعودُ لو في منامِ من أُمور تَقْذِى العيونَ وأخرى ... تصْدَع السمعَ مثل وخْزِ السهامِ

مَشْربٌ كلُّه قَذًى سوَّغتْه ... إلفُ هذا النفوِس بالأجسامِ ما أرى موتَ مَن فقدْنا من الإخْ ... وانِ إلا لفَرْط شوقِ الحِمامِ هلكُوا هِمَّةً وأدركنا الَّل ... هُ بحُمْقٍ عشْنا به في جَمامِ مَن أراد العيش الهَنِىَّ فلا يُعْ ... مِلُ فكراً فالعيشُ عيش السَّوامِ وَيْكَ حتى م نحن غَرْقَى بحور الشِّ ... عِر أسْرَى سلاسلِ الأرْقامِ قد عكَفْنا على غَوايتِنا نَضْ ... ربُ منها في غاربٍ وسَنامِ قد غنَيْنا عن الدُّروس بما تُم ... لِى علينا صحائفُ الأيامِ من عِظاتٍ تُتْلى بغير لسان ... وسطورٍ خُطَّت بلا أقلامِ أرْمُسٍ دارِساتِ عهدٍ وأخرى ... طامِساتِ الصُّوَى وأخرى قِدامِ ولوَ أنَّ العيونَ زال غَشاها ... لرأتْ كلَّ أَخْمَصٍ فوق هامِ بل وفي وردةٍ ألف خَدٍّ ... وقضيبٍ يميسُ ألفَ قَوامِ فلَكٌ دائرٌ وما هو إلَّا ... أجَلٌ ساهرٌ لقومٍ نيامِ كم قرون طَحَنَّ أيضاً وكم تطْ ... حنُ أرحاؤُهنَّ بالإعدامِ وقوله: " ولو أن العيون "، إلى آخر البيتين، معنى دقيق، وفي رُباعيّات عمر الخيام بالفارسيّ من نوعه أشياء كثيرة. ولي في ترجمة رباعية من رباعياته: في الاعْتبار بمَن مضى من قبلنا ... عِبَرٌ وتلك هدايةُ المسترشدِ فلكم طوتْ ترْباؤُنا أُمَماً وهل ... مَيْتٌ بغير ثَرائِها لم يُلْحَدِ حتى كأن شَقِيقها دمُ أسرةٍ ... سفَكتْ دماءَهمُ عيونُ الخُرَّدِ وبَنَفْسَجُ الروضِ النَّدِىِّ كأنه ... خِيلانُ وَجناتِ الخدودِ الوُرَّدِ ومن هذا قول المنجكيّ: وإذا تأمَّلت الثَّرى ألْفيْتَه ... غُرَرَ الملوكِ تُداسُ تحت الأرْجُلِ وقول السيد عبد الرحمن بن النقيب: كم ضَمت التّرباءُ خَلْقاً قبلَنا ... من آخِر يقْفو سبيلَ الأوَّلِ حتى كأن أدِيمَها ممَّا حوَتْ ... حبَّاتُ أفئدةِ الملوك العُدَّلِ والمشهور فيه قول أبي العلاء المعرِّيّ، من مرثيَّته الشائعة: رُبَّ لَحْدٍ قد صار لحداً مراراً ... ضاحكٍ من تَزاحُم الأضدادِ صَاحِ هذى قُبورنا تملأ الرُّحْ ... بَ فأين القبور من عَهد عادِ خفِّفِ الوَطْءَ ما أظن أديم الْأ ... رضِ إلَّا من هذه الأجسادِ وقد شاركه فيه مهيار، في قوله: رُوَيداً بأخْفاف المَطِيِّ فإنما ... تُداسُ جِباهٌ في الثَّرَى وخدودُ ومنزع هذا كله قول أبي الطيِّب: ويدفنُ بعضُنا بعضا ويمشي ... أواخرُنا على هامِ الأوالىِ يريد بالأوالى الأوائل، وهو كثير في كلامهم، قال امرؤ القيس: وأمنع عِرْسِي أن يُزَنَّ بها الخالِي أي الخائل. عودا إلى ما نحن فيه. وما أحسن ظنَّه بربه، حيث قال: لا أُبالي إن قبضتُ على ... سُنَنِ الإسلامِ قَطُّ عَنَا رحمةُ الله التي وسِعتْ ... كلَّ شيءٍ لا تضيقُ بنَا وهنا أنهى ترجمته بموشَّح له يذكر فيه عين الذهب، ويندب عيشاً له فيها ذهب: بِأبي وَا بِأبِي وا بِأبي ... جَرْعةٌ من ماء عينِ الذهبِ يارعاهُ الّلهُ من وادٍ وسيمْ ... رَقَّ فيه الماءُ واعْتلَّ النسيمْ تُعرف النَّضرةُ فيه والنعيمْ ... عيشُنا فيه رَخِىُّ الَّلَبَبِ غفلتَ عنه عيونُ النُّوَبِ حيث ما يمَّمْتَ روضٌ وغديرْ ... وإلى جانبه ظَبْيٌ غَرِيرْ وفِراشٌ مُنْقَنُ الوَشْىِ وَثِيرْ ... كمُلَتْ فيه دواعِي الطَّرَبِ يؤْخذ الصيدُ به عن كَثَبِ ونديمٍ شَبَّ في حجرِ الدلالْ ... لو عصَرْتَ الظَّرْف من عِطْفْيه سالْ قمرٌ ينظر عن عيْنَيْ غزالْ ... وإذا ساجْلَته بالأدبِ

السيد موسى الرامحمداني

يملُأ الدلوَ لعَقْدِ الكَرَبِ هذا من قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، حيث يقول: مَن يُساجِلْني يساجِلْ ماجداً ... يملأُ الدلوَ إلى عَقْدِ الكَرَبْ والكرب: الحبل الذي يشدُّ في وسط العراقيّ ثم يثلَّث، ليكون هو الذي يملأ الماء فلا يعفن الحبل الكبير، وهو مثل يضرب لمن يبالغ فيما يلي من الأمر. قم بنا تنشَقْ رُوَيحاتِ السَّحَرْ ... قبل أن تَصْدا بأنْفاس البشَرْ هذه الوُرْق تغنَّت في الشَّجَرْ ... وتناجَتْ في رءُوسِ القُضُبِ أن مَن ضيَّع ذا الوقتَ غَبِي قوله: " قبل أن تصدا " إلخ. من قول ابن الرُّوميّ: وغيرُ عجيب طِيبُ أنفاسِ روضةٍ ... مُنوَّرَةٍ باتتْ تُراحُ وتُمْطَرُ كذلك أنفاسُ الرياضِ بسُحْرةٍ ... تطِيبُ وأنفاسُ الأنام تغَّيرُ دَأْبُنَا شَمُّ ورودٍ وخدودْ ... وعناقٌ من غصونٍ أو قُدودْ والهوى لَفُّ خصُورٍ بزُنودْ ... لذَّةٌ ما شابَها من أشَبِ خلُصتْ من موُبِقات الرِّيَب نفْخُ روحِ الرَّاح في جسم الزُّجاجْ ... إنها تُثْمِر عن فَيْض المِزاجْ أيها السَّاقي فبادِرْ بالعِلاجْ ... رصِّعِ الشمسَ لنا بالشُّهُبِ واسْكُبِ الفضَّة فوق الذَّهَبِ السيد موسى الرَّامحمدانيّ من صفوة آل أبي طالب، وسُراة لؤي بن غالب. تقتبس من مشكاته أنوار الصلاح، وتطلب من جانب طوره أطوار الفلاح. طلع من قريته قبل أن يبلغ أشدَّه، وقد ربط نطاق عزمه وشده. ثم ورد حمى الشَّهباء الأزين، كما ورد موسى ماء مدين. فوجد أمَّةً من الناس على مائها يسيغيون، كما وجد موسى على ماء مدين أمَّةً من الناس يسقون. فشرب من زلاهم حتى ارتوى، وحدَّث عنهم بما سمع وروى. ومن خوارقه أنه خرق بحر القريض في تراجع أمره، وذلك بعد ما تجاوز عدد الميقات من سنى عمره. والشاعر يقول: وماذا يبتغي الشعراءُ منِّى ... وقد جاوزْتُ حدَّ الأربعينَ فأظهر تلك البيضا في صنعة الشعر، وسحر بالبداهة والمعهود أنه يبطل السحر. فكان قلمه كعصا سميِّه ثعبان البيان، يتلقف ما تلقيه سحرة البلاغة بين اللسان والبنان. إذا جاء موسى وألْقَى العصا ... فقد بطَل السحرُ والساحرُ ثم حجب بصره وكفَّ، فأصبح لشرفه محمولا على الأكفّ. وهو في الشعر يوازن شاعر معرَّة النُّعمان، لكنه منزَّه الفطرة عن معرَّة العميان. فمن غرائبه قصيدةٌ، أرسلها إلى دمشق، لأحمد شاهين، ضمن كتاب ولم يذكر اسمه، وأرسله مع من يجهل حدَّه ورسمه. والقصيدة مطلعها قوله: بانُوا فحدِّثْ عن الأحبابِ يا طَلَلُ ومن جملتها: أنَّي توجَّهَتِ الأظغانُ أيْن سَرَوْا ... مَن في الهوادِج مغذا وارَتِ الكِلَلُ عن يَمْنة الحيِّ أم عن يَسْرِه ظعَنوا ... أم شَمْألاً أو جَنُوبا سارت الإبلُ بانُوا وفي العْين منهم منْظرٌ حسَنٌ ... وفي الفؤاد كلُومٌ ليس تنْدمِلُ فلما وصل الكتاب إلى الشّاهينيّ، سألأ ناقله عن مرسله، فلم يزده على أنه رجل من أشراف حلب. فأجابه الشاهينيّ بهذه الأبيات، وأرسلها مع ناقل الكتاب: ومن عجَبٍ دون العجائب عاجِبِ ... كتابٌ أتانا ليس يُعْزَى لكاتبِ كتابٌ كريمٌ حيث أُلْقَىِ بيْننا ... طربْنا وقلنا من أجلِّ مُكاتِبِ وأذْكَرنا لما أتانا مُنكَّراً ... سليمانَ إذ لم نَحْظ منه بصاحبِ وقلنا كريمٌ من كريمٍ وإنني ... لعِرفانِ مُنْشِيه لأطْلَبُ طالبِ على أنه قبلاً سليمانُ لم يكنْ ... ليكتُب إلا واسْمُه غيرُ غائبِ فراجعه بقصيدة طويلة، قال في آخرها: إن ابن شاهينَ لا تُنْسى صَنِيعتُه ... لو أنها نصفُ بيتٍ خُطَّ بالشعرِ أنا الكليمُ عَصاتِي غيرُ خافيةٍ ... إن شِمْتها انْبَجستْ عينٌ من الحجَرِ عينٌ من المجد ترْمى جوانبها ... نَبْلَ القصيد فترمى الأُسْدَ بالذَّعَرِ

ونِسْبتي في قُصَيٍّ نِسْبةٌ وسَطٌ ... أعني بها نِسْبة المبعوثِ من مُضَرِ ولستُ ذاكراً اسماً في مُراسلةٍ ... يُهْدَى بها النَّزْرُ من تَمْرٍ إلى هَجَرِ هَضْماً لنفسِيَ عن قول الفقير كذا ... وهكذا في فُصول الآيِ والسُّوَرِ وصل كتابك فملأ العيون ضياء ونوراً، والقلب فرحة وسروراً. لكن شممت من اختصار نظمه إشارةً خفيَّة، وتوسمَّت في أفانين نثره عبارةً جليّة وتأولت الإشارة: الحرُّ بالقليل يقنع، وتأملت العبارة بما فيه كفاية ومقنع. مترجِّياً وصل حبال الودّ، متمنِّياً قطع أمراس الصَّدّ. على أنا أهل بيت لا نؤثر على الحب مذهبا، ولا نرغب عن قنطار منه بقنطار ذهبا. وإن تواضع لنا الرفيع فبفضله، أو ترفع علينا الوضيع فعلى مهله. وإن رأى المولى إتحاف العبد بما يملأ الفم عذرا، ويحدث لعلي محله ثناءً وذكرا. ويقطع لسان الملام، فذلك إليه والسلام. فراجعه بقصيدة أولها. ما روضةٌ دبَّجَتْها السُّحْبُ في السَّحَرِ ... فدبَّجتْها يدُ الأنْواءِ بالزَّهَرِ ويستجاد منها قوله: وقد عرفتُ اليدَ البيضا له كرماً ... أما العصى فهْي للعاصِي بلا نكُرِ أفْدِي الكليمَ الذي قد قال مُنبسِطا ... هذه عصايَ ولم يضرِب سوى الحجَرِ إن الكليمَ حديدٌ في جَلالتِه ... لا سِيمَّا نَبْلُ رامي الأُسْد بالذَّعَرِ والمُنْتَمِي المعتليِ في أوجِ نِسْبته ... لمُودِع الحِلْمِ حدَّ الصارمِ الذَّكَرِ يسمُو بجّدَّيْن جَدٌّ قد أناف به ... على الحُظوظ وَجدٌّ سيدُ البشرِ وُجوهُنا ونَواصِينا وأعيُننا ... مبذولةٌ لِتُراب المصطفى العطِرِ ثم الوَصِىِّ ونَجْلَيْه معاً وهما ... ريْحانتاه ومن يُنْمَي لذاك حَرِى منها: مِن واصلٍ جاءنا حُرُّ القَريض وما ... من هاجرٍ جاءنا تمْرٌ إلى هَجَرِ وجاءنا الدُّرُّ محمولا على صَدَفٍ ... وجاءنا العطْرُ يُذْكِى نَفْحَة الزَّهَرِ وزارنا الغيثُ وَكَّافا على جَدَدٍ ... وجاءنا البحرُ فيَّاضاً على النَّهَرِ من كل قَافيةٍ غنَّاءَ مُطْرِبَةٍ ... والشُّهْدُ فيما أتاني شِيبَ بالبَصَرِ فرُحْتُ من راحِها المخْتوم مُنتشِياً ... لكن سكِرت بها في وَصْمِة العَكَرِ وشعرُك الكاسُ قد سَرَّتْ أوائلُه ... لكن أواخرُه لم تخْلُ من كَدَرِ لا بل هو الشُّهْدُ لا يصْفُو لعاسِله ... وليس يخْلُو مُجاجُ النحلِ من إبَرِ لا بل هو الجيشُ سرَّتْني طلائعهُ ... وساءني بطْشُه بالبيضِ والسُّمُرِ غادَرْنَ في منزلي أشياءَ من جَدَلٍ ... مُوسَّدٍ بين خَدْشِ النَّابِ والظُّفُرِ هذا وهذا وما في القلب غيرُ هوًى ... قد حلَّ مني محلَّ النُّور من نَظَرِي لكنَّ للشِّعر أطواراً يلُوح بها ... ولحديث شُجونٌ ليس كالغِير مالي وللشِّعر والسِّتُّون قد أخذَتْ ... منِّي مآخذَها من سَطْوة الكِبَرِ ولما وردت هذه القصيدة، خاطبه السيد أحمد بن النقيب، بقوله: سَقَيْتَ زُلالَ الشِّعر هِيماً من الظمَا ... بجِلِّق حتى عن مواردِه كَلُّوا فجازُوك أن زَفُّوا إليك عقِيلةً ... كذلك قد جُوزِى سَمِيُّك من قبلُ وكتب إليه السيد المذكور أيضاً جواب أبيات: لموسى يدٌ بيضاءُ في الشِّعر مالَها ... إذا ذُكِرتْ في مَحْفَلِ القومِ منكِرُ وكنتُ أراه يُبْطِل السحرَ ماله ... بأشْعاره يَسْبِى العقولَ ويسحَرُ تشوَّقْتُه إذْ غاب عنِّيَ بُرْهةً ... وأوْحشني بالهجرِ والهجرُ يعسُرُ فآنَسَنِي منه بعَذْراءَ طَفْلةٍ ... شبِيهة بدرِ التِّمّ بل هي أنْوَرُ فكنتُ كأني حين زارتْ سمِيُّهُ ... وبنْتُ شعيبٍ إذ أتَتْ تتبخْتَرُ

ولو أنني أمْهَرْتُها العمرَ كلَّه ... فما أنا في التَّحقيق إلا مُقصِّرُ وكتب إليه أيضاً، يطلب مراجعته، بقوله: قسماً بمن جعل الفضا ... ئلَ والمعالي حَشْوَ بُرْدِكْ وحَباك منه قريحةً ... كعصا سَمِيِّك في أشُدِّكْ أبطلْتَ سحرَ بني القَرِي ... ضِ بها فكنتَ نسيجَ وَحْدِكْ وتلقَّفتْ ما يصنعو ... نَ فآمنوا رَغْماً بمجدِكْ إن القوافي قد ملكْ ... ت زِمامَها بعُلُوِّ جَدِّكْ واخترتَ كلَّ فريدةٍ ... منها تضيءُ بسِمْطِ عِقْدِكْ وبلغْتَ منه ما ترُو ... مُ فلم يصلْ أحدٌ لِحَدِّكْ فَلأنتَ في شَهْبائنا ... مَلِكَ القريضِ برَغْم ضِدِّكْ فاسلمْ ولا رُميتْ بنو الْ ... آدابِ في حلَبٍ بفَقْدِكْ فراجعه بقصيدة طويلة، منها قوله: فوق الشِّدادِ تشرَّعتْ ... يا ابنَ النَّقيبِ قِبابُ مَجدِكْ وأطاعك الشرفُ الرَّفي ... عُ فأنت فيه نسيجُ وَحْدِكْ أتْعبتَ جَدَّ بني القَرِي ... ضِ فقصَّرُوا عن نَيْل جَدِّكْ وغدوْتَ تَرْفُل في العلى ... تِيهاً وتُرغِم أنْفَ ضِدِّكْ وحكى السيد يحيى الصادقي، أن السيد موسى انتحل شيئاً من شعره، فكتب إليه يداعبه: أقسمتُ بالسحرِ الحلا ... لِ وحُرمةِ الأدب الخطيرِ ومصارعِ العشَّاقِ في ... لَحَظاتِ ذا الظَّبْيِ الغَرِيرِ ومجالسِ الأُنْس التي ... عُقِدتْ على عَقْدِ السرورِ إن كان موسى ذُو الأيا ... دِي البِيض والأدب الغزيرِ لم يُرجِع المغْصوب من ... شِعرِي وما أبْدَى ضميرِي لَأُذيقُه مُرَّ العتا ... بِ لدى الكبيرِ مع الصغيرِ بل والخِصامَ لدَى الهُما ... مِ رئيسِنا صدرِ الصُّدورِ وأصُوغ من دُرِّ القوا ... في عِقْدَ لَوْمٍ مستنيرِ يُنْسِي أُولى الألبابِ ما ... فعل الفَرزْدق مَعْ جريرِ فأجابه بقصيدة طويلة، منها: مالي وللقَنْصِ الصَّري ... حِ وهِمَّتي صقرُ الصُّقورِ وعصايَ طوعُ يدي تلقَّ ... فُ كلَّ سحرٍ مُستطِير إن أُلْقِها انْبجسَتْ عُيو ... نُ المجدِ من صُمِّ الصخورِ وبها على الدُّرِّ الثمي ... نِ أغوصُ في لُجَج البحورِ وليَ اليدُ البيْضاء بيْ ... نَ الجَمْع والجَمِّ الغَفِيرِ أستغفرُ الرحمن من ... دَعْوَى تُدنِّس بالفُجورِ هذى قوافِي الشِّعر حا ... ضرةٌ لدى المولى الكبيرِ نَجْلِ الحُسام المستبدِّ ... برأْيه الليثِ الهَصُورِ مَن شُرِّفت حلبٌ به ... وعلَتْ على هامِ النُّسُورِ إن كان ما زَعمُوه حقّاً ... فهْو أدْرَى بالأُمورِ وله من قصيدة: وفوْقنا الأغصانُ مَعْكوفةً ... تحنُو علينا من جفاءِ الهَجِيرْ كأنها الغِيدُ تعطَّفْنَ من ... بعد زمانٍ هَجرُه كالسعيرْ أو خَيْمةٌ خضراءُ من سُنْدُسٍ ... مَحْبوكةُ الأطرافِ حَبْكَ الحريرْ والروضُ قد هتَّك من حُسْنِه ... سَرائراً أخفيْتُها في الضميرْ مذ غنَّتِ الوُرْقُ على مُلْدِه ... أغْنَتْ عن النَّايِ الرَّخِيم المُثيرْ يا عَنْدَلِيْبَ الروضِ مهلاً فقد ... هيَّجْتَ أشجانَ المُعَنَّى الأسِيْر تشْدُو وصوتُ النَّجْمِ يستوقف الْ ... أملاكَ والأفلاكُ فيها المُدِيرْ والشمسُ من غُرَّتِه أشرقتْ ... والبدرُ من ذاك المُحَيَّا المُنِيرْ ومن مقاطيعه قوله: أشدُّ من الموت الزُّؤامِ مَرارةً ... وأصعبُ من قَيْد الهوانِ وحَبْسِهِ

أبو مفلح محمد بن فتح الله البيلوني

مُعاشرةُ الإنسانِ مَن لا يُطيعه ... وحَشْرُ الفتى مَعْ غيرِ أبناء جنسِهِ ومن لطائفه: أنه ذكر بحضرته فتى إذا جرى في وصف الحسان تصريح، فإنما هو لحسنه البديع تلميح. تعيذه من خجلات الغرام، لما ترمقه عيون الملام. فشغف به على السماع، وأوقف على حبه الأطماع. ومازال به هائماً، وفي بحار عشقه عائما. تأخذه حيرة التذكر، وتملكه لهفة التفكر. فأنشده يوماً بعض الأدباء أبيات أبي العز الضرير، وقصد لومه في حب ذاك الظبي الغرير. وهي: قالوا عشِقتَ وأنت أعْمَى ... ظَبْياً كحِيلَ الطَّرْفِ ألْمَى وحُلاهُ ما عاينْتَها ... فنقُول قد شغَلتْك وَهْماَ من أين أرْسَل للفؤا ... دِ وأنت لم تنظُرْه سَهْمَا وخيالُهُ بك في المنا ... مِ فما أطافَ وما ألَمَّا فأتم جوابها من حفظه: فأجبتُ إنِّي موُسَوِيُّ ... العِشقِ إنْصاتاً وفهماَ أهْوَى بجارحةِ السَّما ... عِ ولا أرى ذاتَ المُسَمَّى أبو مفلح محمد بن فتح الله البيلوني ماجد أفلح رائده، وجلت فوائده وفرائده. صفحته البدر إلا أنه مشرق، وحديثه الروض إلا أنه مورق. وهو بمكان من النباهة مكين، يطلع له من كل ناحية على جيش البلاغة كمين. ومع وقاره الذي به يعرف، يبدو له النكات ما يستملح ويستظرف. وبلغت به السن وهو جوّاب بلاد، ومنفقٌ من رياشه كل طريف وتلاد. فجاءت أيامه في تقلبات تقتضيه، لكنها لم تخل في الحظ من فلتات تسترضيه. تصقل الأصائل ديباجتها، وتشعشع البكر زجاجتها. فكم شغف به المدح المحبَّر، وتشوَّق إليه الثناء المعطَّر. حتى إذا قربت به النوى، وادَّنت به على إلمام من فضل الثَّوا. طلع طلوع النجم في الآفاق، وهبّ هبوب النسيم على أخلاق الرفاق. وحل من الجفون محل الوسن، ونزل من القلوب نزول الفأل الحسن. وقد رأيته بدمشق ووالدي يوسعه رعيا ومبرة يوترنح باغتنام محاضرته جذلا ومسرة. وصبح وجهه يومئذ لم يبق فيه أثر غيهب، وكميت صباه جرى فعاد وهو أشهب. وتناولت بعد من أشعاره المتهدلة الأغصان، أشياء تقرطت بزهرات الحسن والإحسان. فمنها قوله، من قصيدة مستهلها: دُمْتَ يا مَرْبَع الأحبَّة تَنْدَى ... كاسياً بالزهور بُرْداً فبُرْدَا ياله مربَعاً إذا جاده النَّو ... ءُ فساقِى الصَّبوحِ يقطِف وردَا وإذا انْساب في جداولهِ الم ... اءُ حساماً جلَى النسيمُ الفِرِنْدَا جَنَّةٌ والغصونُ في حُلَل الأزْ ... هارِ حُورٌ بها ترنّح قَدَّا وتهادَى مَعاطِفُ الْبانِ سُكْراً ... كتهادِي العناق أخْذاً وردَّا وتُديرُ الصَّبا كؤوسَ شذَا النَّوْ ... رِ على نَغْمة البلابلِ سَرْدَا كيف جُزْتِ الطريقَ يوماً ومن خَو ... فِك دمعي بالسيلِ يسلُك سَدَّا لو رعيتِ العهودَ أحسنتِ لكن ... قلَّما تحفظُ المليحةُ عهدَا وقوله من أخرى، مستهلها: وجهٌ يقابلني لكنه قمرُ ... في الليلِ يطلُع لكن ليلُه شَعَرُ نظرتُه فسَطا في القلب ناظرُه ... ورُبَّ حَتْفٍ به قد أوقع النظرُ لله ما صنعتْ بي وَجْنتاه ومَن ... للنَّار يقرُب لا ينفكُّ يسْتعِرُ ظَبْيٌ سبَى اللبَّ إلا أنه ملَكٌ ... من الملائك لكن طبعُه بشَرُ عُلِّقتُه بدويّاً راق منظرُه ... ورقَّ حتى استعارتْ دَلَّه أُخَرُ للسحر من لفظه معنىً بقوَّتِه ... عن العقول صوابُ الرأيِ مستترُ ما شاقَني قبلَ رُؤْيا وجهِه قمرٌ ... ولم يُشَم بعد رَيَّا نعلِه عَطِرُ جمُّ المحاسن معسولُ الدَّلال له ال ... قَدُّ الذي خَصْرُه لا يُدرِك البصرُ لا عيبَ فيه سوى أن المحاسنَ من ... دون الأنام جميعاً فيه تنْحصرُ عن كأسِه خدَّه سَلْ يا نديمُ لكي ... يُنْبيك أن الحُمَيَّا منه تُعتصَرُ

السيد محمد بن عمر العرضي

وانظرْ محاسنَهُ دَرَّاً كمَبسَمِه ... منه كدمعِك دُرُّ اللفظ ينتثرُ منها: عيْناه في القلب أغصانُ الهوى غُرِساَ ... ورُبَّ غَرْسٍ جَناه الصَّابُ والصَّبِرُ أوْلَيْتُ للشوقِ قلباً ليس يرجع من ... هجرٍ أيرجعُ ماءٌ حيث ينْحدرُ ومن مديحها قوله: يكاد بدرُ الدُّجَى يُنْمَى لطلْعتِه ... لو كان يمشي على وجهِ الثرى القمرُ قضى الإلهُ بأن يُفْدى بحاسدِه ... فما له حسَدٌ باق لو عُمُرُ والدهرُ لو أنه نَاواه لانْقلصَتْ ... ظلالُه ورأينا الناسَ قد حُشِرُوا له عزائمُ زان الحِلمُ سَطْوتَها ... ينْقَدُّ إن شامَها الصَّمْصامَةُ الذَّكَرُ منها: وافَيتُ باكِرَ لا أرجو سواهُ وما ... سواه ليس له نفعٌ ولا ضَرَرُ وجئتُ سَبْسَبَ خَطْبٍ من مَناسِمِه ... بسيْل ذَوْب اصْطباري تملأُ الحُفَرُ وأيْنُقِي حين أحْدُوها بمدْحك لا ... يكاد يلْحقها من سُرعةٍ نَظَرُ كأنها ابْتلعتْ بِيدَ الفَلا وسرتْ ... في السُّحْبِ تقصِد حيث الغيثُ ينْهمرُ فظَهْرهُنَّ حرامٌ إذْ بلَغْنَ إلى ... نادٍ يحِلُّ بمن قد حلَّه الوَطَرُ منها: وهذه مِدَحي في طَيِّ أسطُرها ... عَبِيرُ ذكرِك في الأقْطار يْنتشرُ عذراءُ ترفُل في ثوبِ البلاغ لها ... من القوافي حُجولٌ صاغَها الخَفَرُ ألفاظُها كصخورٍ في متانتِها ... وكلُّ لفظٍ به معناه مُنتقرُ وله من قصيدة، أولها: صَبابةُ لا اصْطبارَ يضمِرها ... ومهجةٌ لا خليلَ يعذُرُهَا ودمعةٌ لا الزَّفيرُ يُنضِبها ... وزفرةٌ لا الدمُوع تُضمرُهَا وعَشْقةٌ قد أبان أولُها ... أن هلاكَ المحبِّ آخرُهَا فكل نارٍ وإن علَتْ خمَدتْ ... سوى التي وَجْنةٌ تُسِّعُرهَا وَيْحَ جريحِ اللِّحاظ عِلَّتُه ... في الطبِّ حيث الطبيبُ خِنْجرُهَا ثباتُ عينُ الحبيبِ ليَلته ... كالنجمِ لكن أبيتُ أسهَرُهَا لولا الكرى قامت مُرنَّحةً ... لم تكُ أيدي الجفونِ تهْصُرُهَا لي زَفْرةٌ لم أزلْ أُصعِّدُها ... ودمعةٌ لم أزلْ أُقطِّرُهَا ما العشقُ إلا كالكِيمياءِ أنا ... دون جميعَ الأنام جابرُهَا تبْسَم إن كُلِّمتْ مَشاكِلُها ... ودُرُّ دمعي غدا يُناظِرُهَا هيفاءُ ما الغصنُ مثلَ قامتِها ... لكنَّ أعْطافَه أشايِرُهَا أعشق من أجْلها الكَثِيبَ إذا ... يضمُّ أمثالَه مَآزِرُهَا وأحسِد البدرَ في محبَّتها ... فغيرُه لا يكاد يْنظُرهَا وألثَمُ المسكَ والعبيدَ عسى ... يكون مما فتَّتْ ظفائرُهَا لله ما في الهوى أُعالجُ من ... لواعِجٍ في الهوى أُصابِرُهَا يا حبَّذَا خُلْسةٌ ظفرتُ بها ... في غَفلةٍ للزمان أشكرُهَا حيث لعْهدٍ غدتْ تمُدُّ يداً ... لم تدْرِ أسرارَها أساورُهَا يسألها خاطرِي الوصالَ ولا ... يُجيب عنه إلَّا خواطرُهَا ليت ليالي الوِصالِ لو رجعتْ ... أوْليت قلبي معي فيذكرُهَا ومن مقاطيعه قوله: لا تُلمْ من شكا الزمانَ وإن لم ... تَشْفِ شكْواه علَّةَ المَجْهودِ إنما يُحوِج الكرامَ لشكْوَى ... شوقُ ما في طباعِهم من جُودِ وهنا أذكر ثلاثة من بلغاء النثر والنظم، نسقهم الشِّهاب في مطالع خباياه نسق النظم. فمنهم: السيد محمد بن عمر العرضي هو من ألقيت إليه في كرم الطبع أعنة السلم، فلولا توقد ذهنه لا خضر في يده القلم.

مكانته من الشهرة حيث يستبين للمبصر النهار، وطبعه يتنفس عن المعاني تنفس الروض عن الأزهار. وله عذب لفظٍ يلفظ الدرر الزواهر، وفي غير هذا العذب لا تتكون الجواهر. نظم فيوزِّع على العقول سحراً، وينثر فيفرق على الأفواه دُرًّا فهو يذيب الشعر والشعر يذيبه، ويدعو القول والسحر يجيبه. إذا خط في الطرس نم ببدائع الآثار، وأطرب حتى كأن قلمه مضرابٌ وسطوره أوتار. فيجيء من أبكار افكاره، بما يستعير الرحيق السلسل من فضل إسكاره. وكان دخل الروم مقدراًَ أن المتاع بأرضه يسترخص، وأن المرء يبلغ مناه في أي وجه يشخص. فلم يحصل على ما يستحقه وفور كماله، فقال يذكر ما لقيه من تخلف آماله: لما ضاقت رقاع بلادي، ونفدت حقيبة زادي. فوقت سهام الاحتيال، وأجلت قداح الفال. فكان معلاها السفر، سفينة النجاة والظفر. طفقت أتوكأ على عصا التسيار، وأقتحم موارد القفار. أفرى فلاةً يبعد دونها مسى النعى، وألطم خدود الأرض بأيدي المطى. فكنت فتى قذفته رقة الحال على بريد النوى، واعتنقته الهمة العاقر وألقحت بعزمه لواقح المنى. أساير عساكر النجوم والأفلاك، وقد ركز الليل رمح السماك. فأنخت راحلتي بمخيم المجد، وقرارة ماء السعد. كعبة الأفاضل إلا أنهم يحجون إليها كل آن، وسوق عكاظهم إلا أنها تنصب فيها مصاقع الروم لا مصاقع عدنان. فلما ألقتني فيها أرجوحة المقادير، فإذا هي فلك العز ومطلع التدبير. إلا أن حالي تقسمت فيها بين الاغتراب والاضطراب والاكتاساب أثلاثا، فما نزلت منها منازل إلا حسبتها علىَّ أجداثا. وسقتني الدردى من أول دنها، وسوء العشرة باكورة فنها. كل هذا وأنا أستلين مس خشونتها، وأسيغها على كدرتها. وأقول: إذا لم تتمَّ الصدور فستتم العواقب. وإن لم ترش القوادم فستريش الخاوفي والجوانب. وكتب إلى حلب لبعض أودائه: وأيم الله لقد طال حديث الفراق واستطال على سلطانه، وقد قرأت كتابه فما سرني خاتمته، بقدر ماساءني عنوانه. وكلما محت أنامل وشك الملتقى من أسطره سطرا، خطت أقلام ممليه عوضه عشرا. وكلما استنهضت عزيمتي أقعدتها كلا كل التَّواني، وحالت بينها وبين مخدارت الأماني. فإلى الهل عز وجل أرفع يد التضرع، وأذرى في ساحة الدعاء دموع التفجع والتوجع. أن ينظم ذات البين، ويجدع بحد الاجدتماع مارن البين. وكتب من تعزية بنقيب أشراف حلب: ما أيقنت أن قسطنطينية هي الجزيرة السودا حتى وقع لدىَّ طير هذا النعى الذي ما زال حامله يلطم خدود الأرض بأيدي المطى. فياله من خبر حينٍ زاد في مرض القلوب، وشقَّ الأكباد قبل الجيوب. وقرأت ما كتبته أقلام التفجع بأفواه الجفون، ونثرت عندها عقد شملي المصون. حيث لم أدخر لسفر هذه الفرقة من زاد، ولا بلَّيت غليلها ببراد. وأيم الله ما ذكرت لطائم أخلاقه الغر، وحلاوة منطقه الحر. وقطفه نور الفضائل، وإهداءه باكورة المسائل. وإحرازه قصب السبق، وثبوت قدمه على جادة الصدق. وإيواءه لي في حواشي وده الخصيب، وإلباسي كل يوم رداءً لفقده القشيب. إلا اتقدت عليه حراً، وتأبطت على الحمام شرا. وأسأل الله تعالى أن يجعل وفاته خاتمة كتاب الرَّزايا، وقافية بيت البلايا. وأن يقلم ظفر مصابه بأنامل الصبر، ويذيقكم عن مرارة صابه حلاوة الأجر. ومن شعره في أيام اغترابه، يشتكى من كثرة اضطرابه: أمَا لأسيرِ الروم فَكٌّ من الأسْرِ ... فقد ملكتْ آرامُها القلبَ بالأسْرِ بها نثرُ شَمْلِي من ثغورٍٍ تنظَّمتْ ... فيالكَ من نَظْمٍ غدا داعيَ النَّثْرِ ولا بِدْعَ في أرضِ الثغُورِ شتَاتُنا ... ومَن لي بَلثْمٍ سَدَّ ذَيَّالك الثَّغرِ يُذكِّرنا رَوْعَ العذارَى بمنْزلٍ ... أجادَ المنازِي وَصْفَه غابرَ الدَّهرِ إذا همستْ في شُكْرِ غيرِك ألْسُنٌ ... فأنت لك الأسفارُ تُعلِن بالشُّكْرِ بقيتَ لك العلياءُ تُعْطِى قِيادَها ... بتلك اليدِ البيضاءِ والبِيضِ والسُّمْرِ وله يتشوق إلى أحبابه، ويحن إلى معاهد صبوته وشبابه: يا بريدَ الأشواق أوْجِفْ لدارٍ ... هي مُصْطاف لَوْعتي وشبابِي

واختبرْ أُسرةً أراهم بكاسِي ... ما تذكَّرتُهم بطافي الحَبابِ هل هواهم بنا كما قد عهدْنا ... أم قضى شخصُه بحُبِّ اغْترابِي فمن اللهِ أسْتعيدُ لِقاهُم ... وله إن جفا الحميمُ احْتسابِي فهْو عَوْنُ النَّائِي الغريبِ إذا ما ... عَضَّه حادثُ الزمان بنَابِ وقال: أحِنُّ إلى شَهْبائنا وقُوَيْقِها ... إذا انْساب منه بالنَّيارِب سَلْسالُ وأظْمأُ حتى أرْتوِي منه بالَّلمَى ... وألْثَم أرْضاً دونها خَفَقَ الْآلُ ولم تسْتِمْلني الرومُ شمسُ مُدامِها ... تُدار بكَفِّ البدرِ والمرءُ مَيَّالُ فماءُ بلادي كان أنْجعَ مشرباً ... ولوأن ماءَ الرومِ صَهْباءُ جِرْيالُ قويق نهر حلب، أكثر الشعراء من وصفه، فمن وصفه الخطيب أبو عبد الله محمد بن حرب، في قوله: لقد طُفْتُ في الآفاقِ شرقاً ومغرِبا ... وقلَّبتُ طَرْفي بينها مُتقلّبا فلم أرَ كالشَّهْباءِ في الأرض منزلاً ... ولا كقُوَيقٍ في المَشارب مَشْربا وللصنوبري فيه: قُوَيقٌ إذا شمَّ ريحَ الشِّتا ... ءِ أظهرَ تيهاً وكِبْراً عجيبَا وناسَب دجْلةَ والنِّيلَ وال ... فُراتَ بهاءً وحسناً وطِيبَا وإن أقبَل الصيفُ أبصرْتَه ... ذليلاً حقيراً حزينا كئيبَا إذا ما الضفادعُ ناديْنَه ... قُوَيْقُ قُوَيْقُ أبَى أن يُجِيبَا وتمْشِي الجرادةُ فيه فلا ... تكادُ قوائمها أن تغيبَا وله فيه: قُوَيْقٌ على الصفراء رُكِّب طبعُه ... رَباه بهذا شُهدُه وحدائقُهْ فإن جَدَّ جِدُّ الصيفِ غادر جسمَه ... ضئيلاً ولكنَّ الشتاءَ يوافقُهْ وله فيه، من قصيدة: هو الماءُ إن يوصَفْ بكُنهِ صفاتِه ... فللْماء إغْضاءٌ لديه وإطْراقُ ففي اللون بَلُّورٌ وفي اللَّمْعِ لُؤْلُؤٌ ... وفي الطِّيبِ قنْديدٌ وفي النَّفع دِرْياقُ إذا عبثتْ أيْدي النسيم بوجْهِه ... وقد لاح وجهٌ منه أبيضُ بَرَّاقُ فطوراً عليه منه دَرَق خفيفةٌ ... وطوراً عليه جَوْشَنٌ منه رَقْراقُ وقد عابه قومٌ وكلهمُ له ... لى ما تعاطَوْه من العيْب عُشَّاقُ وقالوا ألبس الصيفُ يُبْلى لِباسَه ... فقلتُ الفتى في الصيفِ يُقْنعه طَاقُ وما الصبْح إلاّ آيِبٌ ثم غائبٌ ... تُوارِيه آفاقٌ وتُبديه آفاقُ ولا البدرُ إلا زائدٌ ثم ناقِصٌ ... له في تَمام الشهرِ حَبْسٌ وإطلاقُ ولو لم تَطاولْ غَيْبةُ الوردِ لم تَتُقْ ... إليه قلوبٌ تأئقاتٌ وأحداقُ ولو دام في الحبِّ الوصالُ ولم يكنْ ... فِراقٌ ولا هجرٌ لما اشْتاق مشتاقُ وفضْل الغنى لا يسْتبينُ لدَى الغِنَى ... إذا لم يكنْ في ذلك الفضلِ إمْلاقُ قُوَيْقٌ رَسِيلُ الغيثِ بأتي وينْقضي ... ويأتي انْسياقاً تارةً ثم ينْساقُ وللعرضي من مكاتبة: هل من خليلٍ بشَهْبانَا نُخَالِلُهُ ... وهل غزالٌ إذا عُدْنا نُغازِلُهُ عهدْتُها وشموسُ الرَّاحِ جاء بها ... بدرُ التَّمام وغصنُ الْبان حاملُهُ إن ماسَ من وَلَهٍ وَاذُلَّ عاشقِه ... حتى م يفْنَى إذا ما اهْتزَّ عاملُهُ تُرَى إذا ما قرعْنا باب ساحتِه ... يُولِي الجميلَ وإلاَّ خاب آملُهُ وهل نَوَدُّ فتى شطَّتْ منازلُه ... ورَبْعُه قد خلا والبَيْن منازلُهُ ما حِيلتي وطُروق البَيْن أقْلقني ... كأنَّ عيْشا مضى ما زال زائلُهُ طال الفِراقُ فلا وافٍ يُراسِلنا ... على البِعاد ولا آتٍ نُسائلُهُ وله: هم القومُ إن بانُوا عن العينِ أوبانُوا ... بهم رَبْعُ قلبي آهلٌ حيث ما كانُوا

أنقِّلهُم من منزلٍ بعد منزلٍ ... ولولا انْتضاءُ السيفِ أصْداه أجْفانُ فطوْراً جعلتُ العينَ وادِي عقِيقهمْ ... إذا سال منها بالمَدامع طُوفانُ وطوراً لهم قلبي الغَضَا ما تضرَّمت ... بتَذْكار عيشٍ لمْ يدُم ليَ نِيرانُ لئن فات عيني منهمُ اليوم بَهْجةٌ ... فقد ملأتْ دارَ الأحاديث آذانُ وكم من مُحِبٍّ لم يشاهدْحبيبَه ... كما تُعْشَق الجنَّاتُ روضٌ وأفْنانُ أُؤَجِّج في الأحْشاء نارَ القِرَى عسى ... على ضوئِها تعْشُو من الطَّيْفِ ضِيفانُ فرشْتُ له جَفْناً بطائفة الكرَى ... وأين الكرَى هيهات قَوْليَ بُهتانُ فما الطيفُ إلا البدر والنومُ فكرتي ... فها أنا يقظانٌ وها أنا وَسْنانُ أمولايَ يا هذا الصَّلاحي الذي به ... صَلاحُ وِدادٍ قد وهَى عنه ثَهْلانُ لئن ظمئتْ عيين إلى مَنْهَلِ اللِّقا ... فقلبي برَيّاً ذكرِك اليومَ رَيَّانُ ومن غرر قصادءئه في إبداء التشوق، قوله: على أثَلات الوادِيَيْن سلامُ ... وبعضُ تَحايا الزائرين غَرامُ تذكَّرتُ أيامي بها وأحبَّتي ... إذا العيشُ غَضٌّ والزمان غلامُ وإلْمامتي بالحيِّ حيثُ تواجهَتْ ... قصورٌ وأكْنافُ الحمَى وخيامُ أُلامُ على هِجْرانهم وهمُ المنَى ... وكيف يُقيمُ الحرُّ وهْو يُضامُ همُ شرَعوا أنَّ الجفاءَ مُحلَّلٌ ... وهم حكموا أن الوفاءَ حرامُ بقلبيَ رَوْحٌ منهمُ وضَمانةٌ ... وعنديَ بُرْءٌ منهم وسَقامُ وأبْلحَ أمَّا وجهُه حين يُجْتَلي ... فشمسٌ واما كفُّه فغَمامُ جرى طائري منه سَنِيحاً فعلَّني ... بدَرِّ أيادٍ مالهُنَّ فِطامُ شَرَدْتُ عليه غيرَ جاحدِ نعمةٍ ... أُكلَّفُ خَسْفا بعده وأُسامُ وقد يُسلَب الرأيُ الفتى وهْو حازمٌ ... وينْبُو غَرارُ السيفِ وهْو حسامُ فقد وجد الواشون سُوقا ونفَّقوا ... بضائع زودى مالهُنَّ دَوامُ وبعضُ كلام القائلين تزيُّدٌ ... وبعضُ قبول السامعين أَثامُ فأصبح شَمْلُ الأُنْس وهْو مُبدَّدٌ ... لديه وحبلُ القُرْب وهْو زِمامُ يُقَرِّب دوني من شَهِدتُ وغيَّبوا ... ويُوصِل قبلي من سهِرتُ ونامُوا تزاوَر حتى ما يُرجَّى الْتفاتَهً ... وأعْرَض حتتى ما يَرُدُّ سلامُ فلا عَطْفَ إلاَّ لَحْظَةٌ وتنكُّرٌ ... ولا رّدَّ إلا ضَجرةٌ وسَآمُ فإن يكٌ رأيٌ زَلَّ أو قدَرٌ جرى ... بنازِلةٍ فيها عليَّ سلامُ فواللهِ ما فرَّقتُ فيك جنايةً ... أُعابُ بها في جَحْفَلٍ وأُذامُ ولا قَرَّ لي بعد التفرُّق مَضْجَعٌ ... ولا طابَ لي بعد الرَّحيلِ مُقامُ ولا ليَ إلَّا في ولائك مَسْرَحٌ ... ولا ليَ إلَّا في هواك مَسَامُ وإن أكُ قد فارقتُ دارَك طائعاً ... فللدهرِ في شَتِّ الجميع غَرامُ فقَبْلِيَ ما خلَّى عليّاً شقيقُه ... وقرَّ بِه بعد العِراق شآمُ حياءً فإن الصفحَ فيه مَغَبَّةٌ ... ومَعْذرةٌ إن الكرامَ كِرامُ أَلِمْنا وأعْذرْتم فإن تبْلُغِ المَدَى ... من العَتْب نُعْذَر دونكم ونُلامُ وأحسنتُم بَدْءًا فهلَّا أعدتمُ ... ففي العَوْد للفضلِ الجميل تَمامُ

أُجِلُّك أن ألْقاك بالعُذْر صادقاً ... وبعض اعْتذار المُذْنبين خِصامُ أتبْعُد حتى ليس في البُعد مَطْمَعُ ... وتُعْرِض حتى ما تكاد تُرامُ وتنْسى حقوقي عند أوَّل زَلَّةٍ ... وأنت لأهل المَكْرُمات إمامُ ألم ألْقَ فيك الأسْرَ وهْو مُبَرِّحٌ ... وألْتذُّ طعمَ الموت وهْو زُؤَامُ وأخْطو سوادَ الليل وهْو جَحافلٌ ... وأرْعَى نجومَ الأُفْق وهْيَ سِهامُ هو الذنبُ بين العفو والسيفِ فاحْتكمْ ... بما شئتَ لا يعلو بفضْلك ذَامُ ولا تَبْلُني بالبُعد عنك فإنما ... حياتيَ إلَّا في ذَراك حِمامُ إذا ما جَزْيتَ السُّوءَ بالسُّوءِ لم يكنْ ... لفضلِك بين الأكْرمين مَقامُ أعِدْ نظراً في حالتِي تَلْقَ باطنا ... سَلِيماً وسِرِّى ما عليه قَتَامُ فمثلُك لم تْغِلب عوائدُ سُخْطِه ... رِضاه ولم يْبعُد عليه مَرامُ فلا تُنْكرَنْ فيما تسَخَّطتَ ساعةً ... فقد مَرَّ عامٌ في رِضاك وعامُ وإن عَزَّ ما أرْجوه منك فإنني ... لينفعني تسْليمةٌ ولَمامُ فلا تُشِعرَنِّي غِرَّة اليأْسِ إنما ... أمامي وراءٌ والوراءُ أمامُ أترْضى لفضْلِي أن يضيعَ ذِمامُه ... ومثلُك لم يُحْقَر لديه ذِمامُ ومن بدائعه قوله في قسطنطينية: تأوَّب مُخْتبِطاً للكرَمْ ... خيالٌ ألَمَّ شكا من ألَمْ ديارٌ يخِرُّ لديها الخليجُ ... وتنْسَى المحاسنَ فيها إرَمْ تعَدَّى العواصمَ ثم الدُّروبَ ... وكم ضَال في ضَالِها والعَلْم يؤُمُّ الجزيرةَ دارَ العلوم ... ودَسْتَ المُلوك ومَرْعَى الهِمَمْ أُسائِلُه لِمْ قرعْتَ الثغورَ ... وقَرْعُ الثغورِ دليلُ النَّدَمْ وأُنْموذَج من جِنان النعيمِ ... لقد عجَّل الله فيها النِّعَمْ وعلق بها فتى من بني زرقا العمامة، بصير بأسباب التبريح بصر زرقاء اليمامة. عقد على أدق من الوهم الزنار، وألقى قلب هذا الموحد من شغفه بالنار. فملأ من خمرة وجده كؤوسا لم يدن منهاعكر اللوم، ولم يبق قدحٌ في عهده إلا تطفح سوى هلال شهر رمضان. واستمر يعاني ولوعة، ويطوى على يدي الصبابة ضلوعه. إلى أن هلك الغلام، فقرأه بعده على العشق السلام. فمما قاله فيه، من قصيدة: وعصرٍ بقُسطَنْطينيَّةٍ قد قطعتُه ... على وَفْق ما قد كان في النفس والصدرِ يميني بها كراسةٌ أجْتَلى بها ... علوماً لقد زاوَلْتُها غابِرَ الدهرِ أُحرِّر منها في الطُّروسِ بدائعاً ... فأملا صدورَ القوم في الوِرْد والصَّدرِ وطَوْراً أُحَلِّى من زمانيَ عاطلاً ... بِعِقْد نِظامٍ صاغَه صائغُ الفِكْرِ مَعانٍ إذا ما صُرَّ دُرَّ وَعَى لها ... تراه بِصُرَّ راح وهْو بلا دُرّ أُضمِّنها سَلْوى الحزين ورُقْيةَ السَّ ... ليمِ ومأخوذٌ من اللِّحظ بالسِّحْرِ وكفُّ شِمالي للشَّمُول يَنابِعٌ ... إذا احْتشَّها الساقي أذاعتْ له سِرِّى من العبْقرييِّن الذين تحمَّلوا ... نَقَا كَلْكَلِ الزُّنَّارِ فوق وَهَي الخَصْرِ إذا اعْتمَّ زرقاءَ اليمامةِ خِلْتَها ... سماءً بها قد لاح نُورسَنا البدرِ وإن قام بين الشَّرْب خلْتَ قَوامَه ... قَنَا ألفٍ قامت على وسَط السَّطْرِ وإن أَتْرَع الكاساتِ خلْتَ يمينَه ... لُجَيْنا تُحلِّيها مَقامعُ من تِبْرِ وإن نظرتْه العينُ نظرةَ ذي الهوى ... سقاني بكأسِ العين خمراً على خمرِ

وأدْجُو بليلٍ من ذوائبِ شعرِه ... فيا رَبِّ هل في لَثْمتي الثَّغْرَ من فُجْرِ أفكِّر في يوم النوى ليلةَ اللِّقا ... فأذْرِى دماءَ العين من حيث لا أدْرِى فأمْسَحُ في كافورةِ الجيد مُقْلتي ... عسى أنّ بالكافور دمعِيَ لا يجرِي فما زال في ثَوْبِ الخلاعِة ظاهرِي ... وقلبي بذكْرِ الله يفتَرُّ عن دُرِّ إلى أن قذفْتُ الشِّرْك عن صَفْو خاطرِي ... كما تُقذَف الأدْناسُ عن لُجُّةِ البحرِ وقال فيه، بعد ما هلك: ألا قُل لقُسْطْنطينيَّة الرُّوم إنني ... أُعادِي لقُسْطنطين اسْمَك والرَّسْمَا لقد غيَّبْته في الثرى غير واجدٍ ... مُحِبًّا يُفاديه الحُشاشة والجِسْما وقد تركتْني ساهرَ الطَّرْف بعده ... مُشتَّتَ شَمْلِ البالِ أرْتِقب النَّجْمَا سأهجُر فيه خُلة الكأْسِ والهوى ... وأجْتنبُ اللَّذَاتِ أن عُدْن لي خَصْما ولما خلص من هواه، وقفل من الروم إلى أرض مثواه. محض أشعاره إلى التوسل والتشفع، وسمت همته إلى التنصل عن المدح والترفع. فمما قاله في غضون ذلك، من نبوية: ما زلتُ حَسَّاناً له ولبيْته ... ولصَخْرِ ذاك البيتِ كالخنْساءِ أبْكي العقيقَ وساكنِيه وليْتني ... كنتُ المُخضَّب دونهم بدماءِ وله، من مقصورة: ومُذ نشرتْ صفحةُ البيد سُرَى ... رسمَتْ بالمنَسْمِ واواً للنَّوَى وله: قد ألِفْتُ لهموم لمَّا تجافتْ ... عن وِصالي الأفراحُ وازدَدْتُ كُرْبَهْ فديارُ الهمومِ أوطانِيَ الغُرُّ ... ودارُ الأفراح لي دارُ غُرْبَهْ وله: لئن سلَبوني لُؤْلؤاً كنتُ صُنْتُه ... بأصْدافِ فكري لم يثقِّبْه ثاقبُهْ وإن غلبتْني الأغنياء وطيَّشَتْ ... سِهامي وعيشى كان صَفْواً مشارِبُهْ فللهِ قوسٌ لا يَطيشُ سهامُها ... ولله سيفٌ ليس تنْبُو مَضارِبُهْ وله: وجَنَّةٍ كالشقيق مِرآتُها اليومْ ... مَ صفَتْ من قَذاةِ عين الرَّقيبِ خُضِّبتْ من دَم القلوب فما تُبْ ... صَرُ إلاَّ تعلَّقتْ بالقلوبِ وله: الصخرُ رقَّ لحالتي ياذا الفتى ... مذ صرتُ خنساءَ وقلبي قد عَتَا يا أيها الرِّيمُ الذي ألْحاظُه ... سلَّتْ على العُشّاقِ سيفا مُصْلَتَا كم ذا أُعانِي فيك أهْواءً وكمْ ... أصْلَى بنيرانِ الهوى وإلى متَى الله أعلمُ لم أبُحْ بهواكمُ ... لكنما العينانِ فيما نَمَّتَا أتُرَى زماناً مَرَّ حُلْواً بالحمى ... هو عائدٌ والعيشُ غضٌّ ثَمَّتَا ما كان في ظنِّي الفِراقُ وإِنما ... قاضي الغرام عليَّ ذلك أثْبتَا كم ليلةٍ للوصلِ قرَّبتِ الكرَى ... عطَس الصَّباحُ ولم أُجِبْه مُشِّمتَا وعلى الذي نطَق الكتابُ بمدْحِه ... وأتى الخطابُ له بسُورةِ هل أتَى منِّى صلاةٌ أجْتني نُوَّارَها ... من جَنَّةٍ عينايَ فيها نَمَّتَا وله: إنِ يغِب كلُّ صاحبٍ وصديقٍ ... والرَّزايا بساحتيك أنابَتْ فاسْتمِدَّنَّ رَوْحَ رُوحِ نَبيٍّ ... إنَّ رُوح النبيِّ ما قطُّ غَابَتْ وله، في موشم: أفْدِى غزالاً تعرَّى من ملابسِه ... والجسمُ من ترَفٍ أضْحى كفَا لُوذَجْ كأنَّه وطِرازُ الوشمِ دارَ به ... جسمٌ من الدُّرِّ فيه نَقْشُ فَيْرُوزَجْ وله، في صائغ: وشادِنٍ صائغ هام الفؤادُ به ... وحبُّه في سُوَيْدا القلب قد رسَخَا ياليْتني كنتُ مِنْفاخاً على فَمِه ... حتى أُقِّبل فَاهُ كلما نفخَا وله: رَيْحانُ خدِّك ناسخٌ ... ما خَطَّ ياقوتُ الخدُودْ وقَع الغبارُ بها كما ... وقَع الغبارُ على الورُودْ وله في الدخان:

كأن قُضْباننا وأرْؤُسَها ... تُشَبُّ نيرانُها من الوَقْدِ سُمْرُ القَنا بالدِّما مُعَّممةً ... أو أنَّها مثلُ أغْصُنْ الوَرْدِ وله في حامل قنديل: وشادنٍ جاء والقِنْديلُ في يدِه ... ما بْيننا وظلامُ الليلِ مُعتكِرُ كأنه فلَكٌ والماءُ فيه سمَا ... والنارُ شمسٌ به والحاملُ القمرُ وله: وقالوا تركْتَ الشعرَ فيمن تُحِبُّه ... ولم تخْترعْ معنىً قديماً ولا بِكْراَ فقلت تجلَّى بعضُ أنْوارِ حُسْنِه ... على طُوِر أحْشائي فأحْرقتِ الفِكْرَا وله: طويتُ رُقْعة حالي عن شِكايتِها ... وقد سكنتُ زوايا الفَقْرِ والباسِ وقد قطعتُ حِبالى عن رجَا بَشرٍ ... مُعوِّضاً بسهام الموتِ والياسِ حِيناً يجود وأحْياناً تُبخِّلُه ... خلائقٌ أوْحشتْه غِبَّ إيناسِ وقد لَجأْتُ إلى مَوْلًى أرَى ثقتي ... بفضْله نسخَتْ أحكامْ وَسْواسِي هو النَّصِير لعبدٍ لا نَصِيَر له ... ترْميه بالهُون ظُلْما أعُينُ الناسِ وله: أسْتوْدعُ اللهَ بدراً لا أُودِّعُه ... كيْلا يَنمَّ إلى واشِيه أدَمُعُهُ ولو بكى لم يكنْ ذاك البُكا أسَفاً ... إذ لم تدعْ بيَد التَّفريق أضلعُهُ وإنَّما هو يسْقِى سيفَ ناظرِه ... كيْما يُعجِّل للمشتاقِ مَصْرعُهُ أفْدِيه من راحلٍ أتْبعْتُه نفسا ... ومُقْلةً لم تزلْ دوني تُشيِّعُهُ وامتدح بعض الأدباء بقوله: أبداً أناضِلُ فيك أفْراسَ المُنى ... وأصونُ أوقاتي عن التَّفْريقِ وأظنُّ أن الدهرَ ليس بمُوحشِى ... وبأنه ببنِيه خيرُ رَفُوقِ لكنَّ للأيام حكماً جائراً ... أمْضَى شَباً من صارِم مطروقِ يا صَيقْلَ الفكرِ الكليلِ ورَوْنَقْ الْ ... عمرِ القصيرِ وزَوْرةَ المعشوقِ انْتَشْتنى من بعد عَوْمِى في الرَّدَى ... وتقُّلبِي والنارُ دون حريقِيِ أُمْسِى كما يُمسِى السليمُ مُسهَّداً ... لا بالطَّليق أُرَى ولا المْوثُوقِ شَوقى إليك وإن تقارب عهدُنا ... شوقىِ إلى عهدِ الشَّبابِ الرُّوقِ وله أيضاً: روضةٌ كالشباب شوقٌ ورُوقُ ... كم بها للنسيم ذيلٌ رقيقُ ما سقاها السحابُ إلَّا وبَثَّ الشُّ ... كرَ عنها بَنَفْسَجٌ وشَقِيقُ كلَّما انْحَلَّ للسحائب خيْطٌ ... عاد للروض منه نسجٌ أنِيقُ نثرتْ عَسْجَد الأصيلِ عليها ... راحةُ الشمسِ يْعتريها خُفوقُ كم ركَضْنا فيها بخَيل الملاهِي ... يوم ماشَتَّ للفريق فريقُ وخطيبُ الأطْيار قام بسُوق الْ ... أُنْسِ يشْدو وعيشُنا مَرموقُ ورياض الحِياضِ طاب وقد دَبَّ ... عِذارٌ من الظِّلال يَرُوقُ ومن رباعيَّاته: يا بدرَ مَلامةٍ له البدرُ شقيقْ ... القلبُ وحرمِة الهوى منك شقِيقْ عهدي بجَنَى خَدِّك ورداً فلما ... قد عاد بلحْظِي ذلك الوردُ شقِيقْ ومن بدائعه قوله: تلك الثَّنايا وَاشقائي بها ... باتتْ تُريني عند لَثْمِي الطَّرِيقْ تبدَّدتْ من غَيْرةٍ عندها ... سبُحْةُ دُرٍّ نُظِّمتْ من عَقِيقْ من هذا قول العز البغدادي: أشِّبه الثغرَ على خالِه ... تشْبيهَ من لا عنده شَكُّ بسُبْحةٍ من جوهر أُودعتْ ... حُقَّ عقيقٍ خَتْمُه المِسْكُ وله: للهِ يا عصرَ الهوى والصِّبا ... ما كان أهْناكَ وأحْلاكَا إذ فيك ليلَ الخَيْف رَيْحانهٌ ... أشَتمُّها في ظلِّ مَمْساكَا تمسَّك الليلُ بأذْيالنا ... حتى حسبتُ الليلَ لَيْلاكَا

وله في السيد أحمد بن النقيب: من مبلِغٍ عني الشِّهابِي أحمدَا ... نجلَ النقيب الشامخ المتعالِي لا تفخَرنَّ عليك بعدُ بقَّيةً ... من لم تنلْها لستَ بالمِفْضالِ المرءُ يكرَع عن مَناهلِ خالِه ... وشرابُ آلَا كالسَّرابِ الْآلِ للهِ قاضي عصرِك العَدْلِ الذي ... أعطاك خالاً ثم صاحبَ خالِ فبقدْر ما تهْواه من ذِي الخال قد ... أُعْطيت عكسَ هَواك عند الخالِ وله: وحقِّك للا أن جُودَك ماطرٌ ... لما أخْصَبتْ بالبِشْرِ روضةُ آمالِي وإنِّيَ عبدٌ وابنُ عبدٍ لديك في ... عُبوديَّتي قد فُزْت بالنَّسَب العالِي وقد أقبَلَتْ نحوى الصروفُ بجيْشها ... فقابَلها شُجعانُ صبري وإقْلالِي صروفٌ أمانيها المَنايا فلم تُرَعْ ... بصبرِي ولم ترجِعْ بعجْزي وإذْلالِي فأدْرك بألْطافٍ بقيَّةَ مُهجةٍ ... أليفةِ بَلْبالٍ حليفةِ أهوالِ فلى فيك ما يُحيْى ظنُونَ خُطورُها ... على البالِ يُحيى مَيْتَ عِزِّى وإقْبالِي عسى عَطْفةٌ أنِّي أفوزُ بسَعْدِها ... ومِن فوق هام الفخرِ أسحبُ أذْيالِي وله: إن خالَ الحبيب ممَّا شَجانِي ... وعَنانِي به الأسَى والمَلالُ قلتُ إذْ طاب نَكْهةً وسَواداً ... قُمْ أرحْنا بقُبلةٍ يا بِلالُ وله: خُلِقتُ مَلُولا لو يطول بيَ الصِّبا ... تلقَّيتُ شْيْبي ضاحكَ السِّنِّ باسمَا ولو لم أُرَجِّ الموتَ في كل ساعةٍ ... لقضَّيتُ هذا العمرَ ثَكْلانَ واجِما ولولا انْحطاطِي تارةً وترفُّعي ... لما طلبتْ نفْسي العلى والمَكارمَا فمالي صديقٌ ترْتضيه صداقتي ... ولا لي عدوٌّ أتَّقيه المَظالمَا فطوْراً جعلتُ الأصدقاءَ أعادِياً ... وطوراً عدوِّي أرْتضِيه مُسالمَا ولا لي على حالٍ قَرارٌ ولا بَقَا ... وكيف وبي التَّبْديلُ أصبح قائمَا منها: أُشاهد هذا الخلقَ مثلَ سفينةٍ ... وسَفَّانُها المولى تبارَك دائمَا فمن شاء يُنْجيه إلى ساحلِ البَقَا ... ومن شاء يُلْقيه فيصبحُ عائمَا كذا قُرْعةُ الأقدار قد حكَمتْ به ج ... فلا تقترحْ شيئاً فما أنتَ قاسمَا فمُتْ مَوْتةً بالإخْتيار وَجَرِّدَنْ ... ثيابَ السِّوى إن كنت بالله عالمَا وكُن للقَضا كالمَيْتِ في يدِ غاسلٍ ... عساك من الأدْناسِ تظهر سالمَا ولا تَقْفُ قُطَّاع الطريق إلى الهدى ... فتصبحَ في تِيِه الضلالةِ هائمَا وله في أرمد: ذاك الذي طَلَّتْ دمي عينُه ... وراح يُسَّمى أرمدَ الإسْمِ لمَّا رآني لدَمِي ثائراً ... عَصَّبها بالمِطرَفِ المُعْلَمِ قولُوا له يكشفُ عن عيْنه ... فإنَّ فيها نُقَطاً من دمِي وله: وجهُه كعبةُ حُسْنٍ ... ولَماه ماءُ زمزمْ خِلْتُ ذاك الخالَ منه ... حجرَ الأسْود ِيُلْثَمْ ورأيت بخطه: ومما نسجته في حلية من نسج عليه العنكبوت، من حليته الشريفة، وهو مثبوت: اسمعْ حِلْية النبيِّ المُكنَّى ... من لَآلٍ فرائدٍ ذاتِ معنَى أبيضُ اللون أنُفه كان أقْنَى ... ذو جبينٍ طَلْقٍ وأفْرَقُ سِنَّا خافضُ الطَّرْفِ هيبةً وحياءً ... وله حاجبٌ أزَجُّ مُثنَّى وكثيفُ الِّلحَى مُجمَّع شَعْرٍ ... أسودُ العين كاسِرٌ لك جَفْنَا هُدْبُ عيْنيْه مثلُ أقْدام نَسْرٍ ... وله راحةٌ غدتْ وهْي تُثْنَى مثل ما رَقَّ أُنْمُلا رَقَّ قلباً ... مثل ما طال أيْدِياً طال مَنَّا يالَسطرٍ من فوق مُهْرَقِ صَدْرٍ ... من شُعورٍ كالخَزِّ لِيناً وحُسْنَا

فتح الله بن النحاس

إن يسرْ سار جملةً كانْحطاطٍ ... من عُلُوٍّ يجوز رُكْنا فركنَا كاملُ القَدِّ لم يُسايرْه قِرْنٌ ... في مَقامٍ إلَّا وقد طال قِرْناً وإذا رام منطقَ القوْ ... لِ بثَغْرٍ فيُوزن اللفظَ وَزْنَا دائمُ الفكرِ مظهرٌ لسرورٍ ... في مُحيَّاه وهْو يكتمُ حُزْنَا فعليه الصلاةُ كلَّ مساءٍ ... وصباحٍ ما صيِغَ في القول مَعنَى وله في شريف، يدعى بالحسن: في دَعَةِ الله إن ظعْنت وخلَّفْ ... تُ شريفاً يا ليته ظَعَنَا فرَّق بيني وبينه زمنٌ ... لَا يْنتُه وهْو لم يزل خشِنَا لا أبصرتْ مُقلتي محاسنُه ... إن كنتُ أبصرتُ بعده حَسَنَا وله مضمنا بيت الفرزدق، وقد نسخه عن معناه الأول، وجعله في الدخان: وظبي غريرٍ بات عصْراً مؤانسِي ... وليس سِواه من جليسٍ ونُدْمانِ فقد أصبح الغلْيونُ قائد جوهرٍ ... بِثغْرٍ له يحكى عقودَ جُمانِ يقودُ ليَ الرِّيقَ البُرادَ الذي به ... غدتْ تنْطفِي لَوْعاتُ قلبي ونيِرانِي وأُضْرِمه حيناً بنار حُشاشتي ... فللهِ من ضِدَّيْن يعْتلجانِ وبتُّ أفدِّي الزَّادَ بينى يوبينه ... على ضوء نارٍ بيْننا ودُخانِ ومن بدائعه قوله: وَبْلاه من جيدٍ كماءِ الحياهْ ... حَفَّ به زِيقٌُ كشَطِّ الفُراهْ كأنما أطْواقُه حولَه ... فَوَّارةٌ تُمطرُ ماءَ الحياهْ وقوله في القهوة، مضمنا بيت المتنبي في مدح كافور: برُوحِي غزالٌ راح يُتْرِع قهوةً ... براحتِه البيْضاءِ تحكْي الغواليَا فقرَّتْ به عينٌ تُطالع وجْهَه ... وثَغْرُ ثَناياه نُظِمْنَ لَآليَا فأحْبِبْ بها سوداءَ مِسْكيَّةَ الشَّذَا ... ولولا سوادُ المِسْك ما كان غاليَا لقد نظَمْت شَمْلَ المُحبِّ بِحبِهِّ ... وأنْسَتْ بياضَ الماء مَن كان صَادِيَا فجاءتْ بنا إنْسانَ عين زمانِه ... وخلَّتْ بياضاً خلفها ومآقِيَا وقوله: قيل لي كم ولِمْ تُرى تَتمادَى ... في الهوى والطريقُ وَعْرٌ قَصِيُّ قلتُ ظنِّي بالله ظنٌّ جميلٌ ... وبخْير الأنام جَدِّى علىُّ إن لله رحمةً تسَعُ الخَلْ ... قَ جميعا فمَن هو العُرْضِيُّ فتح الله بن النحاس أنا لا أجد عبارة تفي في حقه بالمدح، فأرسلت اليراع وما يأتي به على الفتح. وناهيك بشاعر لم يطن مثل شعره في أذن الزمان، وساحرٍ إذا أشربت كلماته العقول استغنت عن الكؤوس والندمان. سهام أفكاره تفك الزَّرد، وكنانة آرائه تجمع ما شت وشرد. فهو للمعاني الباهرة مخترع، وآت منها بأشياء لم يكن بابها قرع. وباب الفتح لم يغلق، وكم في خزائن الغيب من أشياء لم تخلق. فسارت بأشعاره الصبا والقبول، وصادفت من الناس مواقع القبول. كأنها نفس الرَّيحان المبتل، يمزجه بأنفاس النَّور نسيم الروض المعتل. أسْرَى وأسْيَرُ في الآفاق من قَمرٍ ... ومن نسيمٍ ومن طيْفٍ ومن مَثَلِ وقد اثبت من متخيات قصائده، وأدبه الذي علقت القلوب في مصائده. ما لم يتغن بمثل خبره الحادي والملاح، ولم تزه بأحسن من وصفه قدود الحسان وخدود الملاح. قال البديعي في وصفه، وذكر ابتداء أمره وإيراد لمع من نثره وشعره: نشأ في الشهباء ووجه نسخة البدر في إشراقه، يناجي العاذل عن عذر عشاقه. وهناك ما شئت من منظر عجيب، ومنطق أريب. كأن الجمال ملكه رقه، ولم ير غيره من استحقه. وهو مع تفرده بالحسن، ولوع بالتجني وسوء الظن. بصير بأسباب العتب، يبيت على سلم ويغدو على حرب. كم متيمٍ في حبه رعى النجم فرقاً من الهجر، لو رعاه زهادةً لأدرك ليلة القدر. بخيل بنزر الكلام، يضن حتى برد السلام، لا يطمع الدنف بمرضاته ولو في المنام. وأبناء الغرام يومئذ يفدونه، ويرون كل حسن دونه. ومُذ بدا العارضُ في خدِّه ... بُدِّلت الحمرةُ بالاصْفرارْ

كأنما العارِضُ لمَّا بدا ... قد صار للحسن جناحاً فطارْ ونسخت آية جماله، وكسفت آية هلاله، وحال ذلك البها عن حاله. وصار ضياء محاسنه ظلاماً، وعقيان ملاحته رغاما. لو فكَّر العاشقُ في مُنتهى ... حسنِ الذي يسْبيه لم يسْبِهِ ولما بطل سحر هاروت أحداقه، وفكت الأفئدة من وثاقه. عطف على محبيه يستمد ودادهم، ويستقى عهادهم. وكان شأنه مع الجميع، شأن الفضل بن الربيع. فاندرج في مقولة الكيف، وعلم أن المحاسن سحابة الصيف. وأصبح عبير وحده، وصده من ريع بصده. وجعل زي الزُّهاد شعاره، واتخذ من الشعر صداره. حداداً على وفاة حسنه البهيج، وفوات جماله الأريج. وما زال يرثى أيام أنسه، وينعى ما يتعاطاه من الكيف على نفسسه. حتى ضاق نطاق حضيرته، ومل الإقامة بين عشيرته. فأعطى عنانه ليد البعاد، وامتطى غارب الإتهام والإنجاد. كأنَّ به ضِغنا على كلِّ جانبٍ ... من الأرض أو شوقاً إلى كلِّ جانبِ إلى أن بلغه الله غاية المأمول، ووفقه بأن استوطن مدينة الرسول. وأقام بجوار الشفيع، إلى أن غيبه بقاع البقيع. وفي كثرة أسفاره يقول: أنا التاركُ الأوطانَ والنازحُ الذي ... تتبَّع ركبَ العشقِ في زِيِّ قائفِ وما زلتُ أطوِى نَفْنَفاً بعد نَفْنَفٍ ... كأنِّيَ مخلوقٌ لِطَيِّ النَّفانفِ فلا تعذِلوني إن رأيتم كتابتي ... بكلِّ مكان حلَّه كلُّ طائفِ لعل الذي بايَنْتُ عيشِى لبَيْنِه ... وأفْنيْتُ فيه تالِدِي ثم طارِفِي تكلِّفه الأيامُ أرضاً حَلْلتُها ... ألا إنما الأيامُ طَوْقُ التكالُفِ فيُملي عليه الدهرُ ما قد كتبتُه ... فيعطِف نحوي غصن تلك المعاطِف ومن بدائعه قصيدة ينعى بها نفسه على أكل الأفيون، ويتأسف على ماضي حسنه: مَن يُدخِل الأفيونَ بيت لَهاتِه ... فْلُيْلق بين يديْه نْقدَ حياتِهِ وإذا سمعتم بامرئٍ شرِب الرَّدَى ... عَزُّوه بعد حياته بمماتِهِ لو يا بُثَيْنُ رأيتِ صَبِّك قبل ما ال ... أفيون أنحْلَه وحلَّ بذاتِهِ في مثل عمرِ البدر يرْتَع في ريا ... ضِ الزَّهْوِ مثل الظَّبْيِ في لَفَتاتِهِ من فوق خدِّ الدهر يسحب ذيلَ ثو ... بِ مُناه أنَّى شاء وهْو مُواتِهِ وتراه إن عبَث النسيم بقَدِّه ... يْنقدُّ شَرْوَى الغُصْنِ في حركاتِهِ وإذا مشى تِيهاً على عُشَّاقه ... تتقطَّر الآجالُ من خَطَراتِهِ يرْنُو فيفعلُ ما يشاء كأنما ... ملَكُ المَنَّية صال مِن لَحَظاتِهِ لرأيتِ شخصَ الحسنِ في مِرآتِهِ ... ودفعْتِ بدرَ التِّمِّ عن عَتَباتِهِ وقوله، من أخرى: يا هذه إن أنتِ لم تدرِ الهوى ... تجْحديه ففي الهوى اسْتحْكامُ وأبيكِ كنتُ أحَدَّ منك نواظراً ... وبكل قلبٍ من جَفايَ كِلامُ والسحرُ إلَّا في لساني منطقٌ ... والحسنُ إلا في يدَيَّ خِتامُ لَدْنَ القَوامِ مَصُونةً أعطافُه ... عن أن تَمُدَّ يداً له الأوْهامُ مُتمنِّعا لا الوعد يُدْنِى وَصْلَه ... يوماً ولا لخيالِه إلْمامُ حتى خلقْتِ السقمَ فيه بنظْرةِ ... ولقد يُلاقِى ظُلْمَه الظَّلَّامُ وتنوَّعتْ أدْواؤه فبطرْفهِ ... شكلُ الرقيبِ وفي الصِّماخِ مَلامُ ودخل دمشق فاتخذ الأمير منجك نديم مجلسه، ومطمح أماني ترنحه وتأنسه. فتوافق الليل والسمر، واجتمع الشمس والقمر. على السعد في هذا القرأن، والتنافس من أماجد الأقران. فجالس الفتح به القعقاع، ولم يقل: الفضل للمتقدم. كما قال ابن الرقاع. وله فيه قصائد منها داليته التي أولها: نثر الربيعُ ذخائرَ النُّ ... وَّارِ من جَيْب الغوادِي وكسا الرُّبى حَللا فَو ... اضلُها تُجرُّ على الوِهادِ

وكأن أنْفاس الجِنا ... نِ تنفَّستْ عنها البوادِي والزَّيْزَفُون يُفتُّ غا ... ليةً مُضمَّخةً بجادِى يُلقِى بها للروض في ... وَرَق كأجنحة الجرادِ هاج النفوسَ ولم يفُتْ ... هـ غُير تهْييجِ الجمادِ والورد مخْضوبُ البَنا ... نِ مُضرَّج الوَجنات نادِى نُصِبتْ له سُرُر الزَّبَرْ ... جَدِ والخيامُ بكل وادِي حرسْته شوكةُ حسنِه ... من أن تُمَدَّ له الأيادِي والعَنْدليبُ أمامه ... بفصِيح نَغْمته يُنادِي مَن رام يعبَث بالخدو ... د فدونَها خَرْطُ القتادِ وحَذارِ مخضوبَ البَنا ... ن إذا تمكَّن من فؤادِ فامْسَحْ بأذْيال الصَّبا ... عن مُقْلتيْك صدَى الرقادِ هل هذه بُكَر الرُّبَى ... أم هذه غُرَر الرشادِ وانهضْ لكسْب جديد عُمْ ... رٍ من بُكور مُستفادِ واقَنعْ بظِّلك أو بظلِّ ... الدَّوْحِ عن ظل العبادِ ماراج من طلب المعي ... شةَ بين إخوان الكسادِ لا يُعجبنَّك لِينُ من ... أبصرْتَه سهلَ القيادِ وأبيك مالانتْ لغي ... رِ الطعنِ ألْسنةُ الصِّعادِ لا تشتهي وجَعَ الفوا ... دِ مضى زمان الاتّحادِ نفسِي الفِداءُ لمَنْجَك الْ ... مُسْتعِزِّ بالانْفرادِ لا يُجْتنَني إلا بمجْ ... لس فضلِه ثَمَرُ الودادِ مُتكثِّر بغنى الشَّما ... ئل لا بعاجلةِ النَّفادِ شِيَمُ الجواد هي الغنى ... لاماحَوتْه يدُ الجوادِ الدهر مْغلولُ اليديْ ... ن وذاك مَبْسوط الأيادِي وله في أحمد بن شاهين، البائية التي أخذت من البلاغة أوفر الأنصباء والقسم، وأقسمت البراعة بقوافيها على أن مبدعها محكُّ الأدب ولا غرو فالباء من حروف القسم. ومستهلها: ألَذُّ الهوى ما طال فيه التجنُّبُ ... وأحْلاه ما فيه الأحِبَّاء تَعْتَبُ يقول في مديحها: يُمزِّق شَمْلَ المشكلاتِ لوقْتها ... إذا شِيَم مِن فِيه الحسامُ المُذَرَّبُ توقَّد حتى ليس يْخبو ذكاؤُه ... وكاد وحاشَا فكرُه يتلهَّبُ وبيت ختامها: ولا بَرِح الحسَّادُ صَرْعَى وكلُّهم ... على مثلهم ما في قلبِه يتقلَّبُ واتفق له مع الأدباء مجالس تؤثر، وعليها الأرواح تلقى وتنثر. فمن ذلك مجلس في روض أورقت أشجاره، وتنَّفست عن المسك أسحاره. غبَّ سحاب أقلع بعد هتونه، ودار دولابه يسقيه بجفونه. توسدهم أنهاره معاصم فضية، وتنيمهم أفياؤه تحت ذوائب مرخية. فقال: وروضٍ أنيقٍ ضمَّنا منه مجلسٌ ... على نَوْره جَفنُ الدَّواليبِ ساكبُ خَلا حسنه عن كل وَغْدٍ يَشِينه ... وما صَدَّنا لما أتْيناه حاجبُ طَلعنا بدوراً في سَماه وبيننا ... جُمانُ حديثٍ هُنَّ فيه كواكبُ وبِتْنا وأوراقُ الغصون غطاؤنا ... على فُرُشِ الأنهار والطيرُ نادِبُ فنعم مكاناً مابه قطُّ قاطِنٌ ... وبْيتاً ولكن ماله الدهرَ صاحبُ وهنا أذكر منتخبات من شعره، مرتبة على حروف المعجم. فمنها قوله يخاطب العمادي، مفتى الشام، وقد رمدت عيناه: فِدىً لعيِنك دون الناس عينائي ... وكلُّ عضو فِداه كلُّ أعْضائِي نوَدُّ لو كان مُوْدُوعا بأنفِسنا ... ما تْشتكيه بعْينٍ منك رَمْداءِ نَظَّارةٌ لكتابِ الله قد مُلئتْ ... خوفَ الوشاةِ بإشْفاق وإغْضاءِ وأنتَ لا عن حجابٍ كنت ناظرَنا ... فارْفَع حجابَك وانظُر للأحبَّاءِ وقوله من قصيدة، مستهلها: عطَف الغصنُ الرطيبُ ... وتَلافانا الحبيبُ أيُّ عضوٍ تسْرح الأبْ ... صارُ منه وتؤُوبُ

فاتَّقِ اللهَ وغُضَّ الطَّ ... رفَ عنه لا يذوبُ أبو تمام: قد غَضَضْنا دونك الأبْ ... صارَ خوفاً أن تذُوبَا وله: ما لمسْناه ولكن ... كاد من لَحْظٍ يذوبُ أيها العشَّاقُ مَحْ ... زونُ الهوى منِّي طَرُوبُ كلَّ وقتٍ ليس تْن ... شَقُّ قلوبٌ وجُيوبُ إنما يمْزَج بي في ... لُجَّة العشق لَعوبُ وإذا بدَّ سُرورٌ ... وإذا نَدَّ نحيِبُ والذي يهجر في الحبِّ ... للاحِيه نسيبُ ما على مَن سَرَّه الْ ... وصلُ إذا غِيظ الرَّقيبُ رَنَّةُ القوسِ لِرا ... مِيها وللغير النُّدوبُ منها: وإذا أمكنتِ الفُرْ ... صةُ أجْني وأتوبُ في الهوى صَحَّ اجْتهادِي ... فأنا المُخْطِى المُصيبُ من مديحها: ضاحكُ الوجه وهل في ... طلعةِ القُطْب قُطوبُ جنَّةُ الشمس لها فِي ... هِ شروقٌ وغروبُ أيُّ قلبٍ حلَّ مني ... كلُّ أعْضايَ قلوبُ ومن مختاره: وجهُك صبح المُنى ولى زمنٌ ... آمُل إقْبالَه وأرْتقبُ تُلْقِى المعاني إلىَّ زَهْرتَها ... فأجْتنيها والغيرُ يحْتطبُ وكم بيوتٍ ملأْتُها حِكَماً ... وهُنَّ إن شئتَ خُرَّدٌ عُرُبُ أسُوغ من جَرْعة الزُّلال على ال ... قلبِ وفي قلبِ حاسدي لَهبُ منها: دارُ اغْترابي التي عنِيت بها ... مصرُ ودارِي وحبَّذا حلَبُ دارٌ تُمِيتُ الهمومَ نفْحتُها ... وتغْتذى من عبيرِها الكُثُبُ لاقُرْبُها للكرام مَضْيعةٌ ... ولا حِماها للضَّيمِ مُنْقلَبُ علىّ أن لا تنامَ لَوْعتُها ... بين ضلوعِي همومُها شُعَبُ منها: لا أقْبلُ الضَّيْم كيف أقْبله ... والمجدُ يأْباه فيَّ والحسَبُ والشمسُ صَوْنا لضوءِ طَلْعتها ... خوفَ لَحاقِ الظلام تحْتجِبُ يُظَن صَدْعِى لقَرْع نائِبةٍ ... وإنَّما من أحبّه النُّوَبُ كأنني من زُجاجةِ جسَدٌ ... أحِبَّتي في انْكسارِه السببُ وله في هذه القصيدة، وهي من بدائعه: طَمِّنْ فؤادَك أيُّ حُرٍّ ... لم يُرَع بالخَطْب قلبُهْ ودِع المَلام فداءُ مَن ... عالجْتَ بالتَّطمين طِبُّهْ لا تُكثِرَنْ هلَّا فعْل ... تَ عليه فالفعَّال ربُّهْ المرءُ يصعُب جَهدُه ... ويلين بالمقْدور صَعْبُهْ لا تتَّهمْني فالمُؤا ... خَذُ في الزمان النَّذْلِ نَدْبُهْ وأبيكَ من زمنِ التَّرعْ ... رُعِ لم يزلْ دأْبي ودأْبُهْ ومن العجيبِ لدَى اللِّئا ... مِ عَطاؤُه ولدىَّ سَلْبُهْ يا دهرُ مثلي لا يُقَلْ ... قَلُ عن سَنام المجدِ جَنْبُهْ أنا لا أُبالي إن رمي ... ت وسبَّ عرضِي من أسبُّهْ السيفُ يُرمَى بالفُلو ... لِ إذا فشَا في الصَّلْد ضَرْبُهْ والعينُ يُديمها الذُّبا ... بُ ويُعجِز الآسادَ ذَبُّهْ والتِّبرُ يعلوه التُّرا ... بُ ولا يضرُّ التِّبر تُرْبُهْ وأبيك ما نُكِب اللبي ... بُ وفضلُه باقٍ ولُبُّهْ هم يعرفون بأن نجْ ... مِي تحرِق الطاغين شُهْبُهْ والصبرَ يُرْقيني إذا ... وثَب الزمان وعضَّ كلبُهْ إن مَجَّنى قومٌ فإن ... الموتَ ليس يسُوغ شُرْبُهْ أو قيل قد مَلُّوه فالْسَّ ... مُّ الزّعافُ يُمَلُّ قُرْبُه أما المَلال فإنني ... عُوِّدتُه ممن أُحُّبهْ

وإذا تكلَّف في الودا ... دِ أخو الودادِ فكيف غربُهْ فاطْوِالبساط فالانْبِسا ... طُ قد انْطوى في الناس سِرْبُهْ والشِّعر أخْلَف نَؤْوُه ... وتقشَّعتْ في الجوِّ سُحْبُهْ ما زال تلفحُه سُمو ... مُ البُخْل حتى جَفَّ عُشْبُهْ كم ترْتجِي صَنَماً سوا ... ءٌ فيه مِدْحتُه وثَلْبُهْ مُستْنكَر الأكْتاف جَعْ ... دُ الكفِّ جَعْدُ الوجهِ صُلْبُهْ أأُخَىَّ من يَكُ شاعراً ... فالخالقُ الرزاقُ حَسْبُهْ والراسُ راسُ المالِ إن ... يسلَمْ فليس يِقلُّ كسْبُهْ وكفى فَتى العِرفانِ خِلاَّ ... ناً فضائلُه وكُتْبُهْ فعلى مَ ترغبُ في سَرا ... بٍ من شُخوص الْآلِ سِرْبُهْ يتقلَّبون مع الزما ... نِ كأن حِزْب هواك حزْبُهْ يشْقَى النجيبُ بهم ويُسْ ... لمُه إلى الأعداء صَحْبُهْ وإذا جنَى فكأن سُ ... لطانَ الذنوبِ الدُّهْمِ ذَنْبُهْ فوجوههم طَلَلٌ به ... يومَ الَّلحَى قد طال نَدْبُهْ وأكفُّهم قَفْرٌ أُمِي ... تَ الخِصْبُ فيه وعاش جَدْبُهْ ذهب اللذين يعيش مثْ ... لي بينهم ويموتُ كَرْبُهْ وبَقى الذي تُضْنِى العُيو ... نَ حُلاه والأسماعَ كذْبُهْ من كلِّ محْلولِ الوِكا ... ءِ مُثقَّف البِيضان ثُقْبُهْ من كلِّ مَفِريِّ الأدي ... مِ بِصَعْدِة السِّرْوالِ عْقُبهْ يمشي ويمسح من مَعا ... طِفه وكعبُ الشُّوم كَعْبُهْ طُول بلا طَوْلٍ وأش ... هَى ما يُرَى للعين صَلْبُهْ أأُخَيَّ مثلي ليس تُهْد ... دَى عن مَثار النَّقْع شُهْبُهْ لا بُدَّ من شَرَرٍ يُعمُّ ... الجوَّ والأعدا مَصَبَّهْ فارقُب خُفوقي إن سكنْ ... تُ فعاصفِي يُرْجَى مَهَبُّهْ لا تنظُر الحسَّادُ حا ... لي إنما المنْظورُ غِبُّهْ أوَ مادَرْوا أن الحسَا ... مَ يُفَلُّ ثم يُحَدُّ غَرْبُهْ والبدرُ يُشرِق في المَطا ... لعِ بعدما أخْفاه غَرْبُهْ والروضُ يذبُل ثم يُكْ ... سَى النَّوْرَ والأوراقَ قُضْبُهْ والداءُ إن يوماً يشِفَّ ... فبالتَّداوِي يَشْفِ رَبُّهْ والدهرُ إن يُوْمَن بغَفْ ... لٍ لذَّةً يفْجأْهُ خَطْبُهْ لا يخدَعَنَّك سِلْمُه ... فوراء سِلمِ الدهرِ حَرْبُهْ قلت: لله دره على ما أبدع من المعاني الغرائب، والألفاظ المزرية بدرر النحور والترائب. ويعرف قدر الشاعر الفائق، بتنوع جولانه في الميدان المتضايق. وله يصف بركة ماء: انظُر البركةَ التي تتراءَى ... لِمُحيَّا الرياضِ كالمِرآةِ تَرَ خدّاً مثلَ اللُّجَيْن تحلَّى ... بِعذارٍ من انْعكاسِ النَّباتِ وهذه قطعة من حائيته التي سارت بها الركبان، وطارت شهرتها بخوافي النسور وقوادم العقبان: بات ساجِي الطَّرْفِ والشوقُ يُلِحُّ ... والدجى إن يمْضِ جُنْحٌ يأْتِ جُنْحُ وكأن الشرقَ بابٌ للدُّجى ... ماله خوفَ هجُوم الصبحِ فَتْحُ يقْدَح النجمُ بعيني شرراً ... ولزنْد الشوقِ في الأحْشاءِ قَدْحُ لا تسَلْ عن حال جَفْني والكرى ... لم يكنْ بيني وبين الدَّمْعِ صُلْحُ منها: كلُّ عَيْش ينْقضي مالم يكنْ ... مَعْ ملِيحٍ ما لذاك العيشِ مِلْحُ من مديحها في خصماه: وإذا قيل ابنُ فَرُّوخٍ أتى ... سقطُوا لو أنَّ ذاك القولَ مَزْحُ

بطَلٌ لو شاء تمْزيقَ الدجى ... لأتاه من عمودِ الصبح رُمْحُ كم سطورٍ بالقَنا يكتُبها ... وسطورٍ بلسانِ السيف يَمْحُو كلُّ ما قد قيل في تَرْجِيحِه ... في النَّدَى أو في الوغَى فهْو الأصَحُّ منها: آهِ من جَوْر النَّوى لا سُقِيَتْ ... تُعْطِب الحُرَّ وما للحرِّ جُنْحُ غُرْبةُ الأوطان أوْدتْ كبدي ... واعْتراني ألَمٌ منها وبَرْحُ حَسَّنوا القولَ وقالوا غُربةٌ ... إنما الغُربةُ للأحْرار ذَبْحُ فانتقِذْني واتخذني بُلْبُلا ... صَدْحُه بين يدَيْ عَلْياك مَدْحُ بِقَوافٍ كَسَقِيط الطَّلِّ أو ... أنَّها من وَجَنات الغِيد رَشْحُ ومما علق من مترنماته، وأغلق عليه باب مسلماته. قوله: قد نفدَتْ ذخائرُ الفؤادِ ... فكم أُرَبِّي الدمعَ للسُّهادِ فُؤادُ من يُحبُّ مثلُ دمعِه ... ودمعُه مَظِنَّةُ النَّفادِ إذا هدَى الليلُ فطفلُ مُقْلتي ... يبِيتُ بالنَّزيف غيرَ هادِ ومن بكى من النوى فقد رأَى ... بعيْنه تقطُّع الأكْبادِ تمايَلوا على الجِمال مَيْلةً ... فعلَّمُوها مِشْيةَ التَّهادِي وما سمعتُ بالغصون قبلَهم ... مشتْ بها أكْثِبةُ البوادِى فإن تجْد يَدِي على ترائِبي ... فلا تقُلْ لغَيْبة الفؤادِ وإنما رفعتُها لأنها ... كانت لهم حمائلَ الأجْيادِ حُمْرُ الخدود إن تغِبْ فشكلُها ... بناظريَّ داخلَ السوادِ لأجْل ذا الدمعُ جَرى بِشوْقها ... فنظَّم الياقوت في نِجادِ لا وأبى ومَن يقُل وأبى ... فقد تَلاَ أليَّةَ الأمْجادِ ما عثَر الغَمْضُ بذيل ناظِري ... ولا انْثنتْ لطَيْفهم وِسادِي وهَبْ رَشاشَ مقلتي حبائلاً ... فأين منها زَلَق الرُّقادِ آهٍ آهَ إن تكنْ مِلْءَ فمي ... فإنها مَضْمضةُ الصَّوادِي قد نفَض السمعُ كلامَ غيرهم ... كما نفضْتُ الصبر من مَزادِي أعاذِلي وللهوى غَوايةٌ ... بِعْتُ بها كما ترى رَشادِي ولِعتْ بي وشُعْلتي كمِينةٌ ... بقادحٍ يعبثُ في زِنادِي دعِ الهوى يعبَثْ بي وإن تَشَا ... فعُدَّني من عذَباتِ وادِ ما لحق الَّلومُ غبارَ عاشقٍ ... حَدا به من المَشِيب حادِي أما ترى الأقاحَ حول لِمَّتِي ... حكى ابْتسامَ البرقِ في البوادي بشَّرني طلُوعه بأنَّ لي ... صبحَ وِصالٍ لدُجى بِعادِي ولم أقلْ مَناصِلٌ تجرَّدتْ ... وأُرْكِزت بجانبِ الأغْمادِ كأن شِيبَ الشَعَرات ألْسُنٌ ... على ضَياع رَوْنقِي تُنادِي لبْستُ ما أضاعني فأُسْوتي ... كأُسْوِة الجمرِة في الرَّمادِ ومن رباعياته قوله: لا تُبْدِ لمن تحبُّه ما أُبْدِي ... واصبرْ فعلَّ الصبرَ يوماً يُجدِي إظْهار مَحَّبتي لمن أعشَقُه ... صارتْ سبباً لطُول عُمرِ الصَّدِّ ومن بدائعه قوله: تذكرتُ إذ مَرَّتْ بنا الغِيدُ بُكْرةً ... تلهُّبَ خالٍ في لَظَى خَدِّ أغْيَدِ وردَّدْتُ طَرْفي ساعةً فرأيتُه ... فؤادي الذي قد ضاع في الحبِّ من يَدِي وقوله، مضمنا في الدخان: عكفتُ على شُرْبِ الدُّخان وفي الحشَا ... لهيبُ الجوَى فازْداد جَمْراً على جمرِ فقلتُ أُداوِي نار قلبي بمْثلها ... كما يتداوى شاربُ الخمرِ بالخمرِ وقوله: زُرْ واُجْلِ لَمْسمعي كؤوسَ اللَّفْظِ ... واجعلْ كبدي غْمِداً لسيفِ اللَّحْظِ

بل جُرْ واهجُر ولا تخَفْ مَظْلمِتي ... ما أورَدني البلاءَ إلا حَظِّي وقوله مضمنا: لا يدَّعِى قَمرٌ لوجهِك نِسْبةً ... فأخاف أن يسْوَدَّ وجهُ المُدَّعِى فالشمسُ لو علمتْ بأنك دونها ... هبَطتْ إليك من المَحَلِّ الأرْفَعِ قلت: هذا تضمين يليق أن يكتب بالتبر، فضلا عن الحبر. ومن رباعياته قوله: مولايَ بِقيتَ قد بَراني الأسفُ ... من ينُصِفني منك وهل أنْتصِفُ مَن أسْعده الحظُّ فإني دَنِفٌ ... أشْقاه ولا شقِيتَ حَظٌّ دَنِفُ وقوله: مَن أرَّقني قد اسْتلَذَّ الأرَقا ... ويْلاي ومَن أعشقُه قد عشِقَا من ينُقذني منه ومنَ يُنْقذُه ... أفْنى حُرَقاً فيه ويفْنى حُرَقَا وقوله: يار بِّ لا أقصِد بالشِّعر سواكْ ... والقصدُ يَردُّني إلى باب غِناكْ يا مَن جعلتُ تُرابَه ناصِيتي ... قد صّوَّح نَبْتُها أغِثْني بنَداكْ وقوله: القلبُ لديْك وهْو عندي الغالِي ... لا تتركْه مَطِيَّةَ الإذلالِ تَا للهِ لقد عجبتُ من أحْواالي ... يفنَى زمنِي بضيْعة الآمالِ وقوله: أصبحتُ ولَثْمُ أَخْمَصيْهِ أمليِ ... مع أنَّ له فماً شفاءَ العِلَلِ لكنْ قدمٌ سعتْ به من تَلَفِي ... أعددْتُ لها جَوائزاً من قُبَلِي وقوله: أحسنُ ما يُهْدِيه أمْثالُنا ... من طَيْبةٍ من عند خيرِ الأنامْ بعضُ تُمَيْراتٍ إذا أمْكنتْ ... إهداؤُها ثم الدُّعا والسلامْ ومن محاسنه قوله، ومن قصيدة أولها: طرقَتْ طَروق الطيفِ وَهْنَا ... مَيّالَةُ الأعْطاف حَسْنَا مصْقولُة الخَدِّين مثل السيْ ... ف ألْحاظاً ومَتْنَا أرْختْ وشاحاً فوق دِعْ ... صٍ فوق غصنٍ قد تَثنَّى ومشتْ فشيَّعها عَبِي ... رُ الروضِ منْ هَنَّا وهَنّا في حُلَّةٍ من جِنْس ما ... يكسُو الربيعُ الغصنَ دَكْنَا الدَّلُّ ينبُتُ من مسا ... حِبِ ذيْلها والحسنُ يُجْنَى تَمْشي فُرادَى ثم تمْ ... شِي خلْفَها الأرْدافُ مَثْنَى حَوْراء إن سمَحتْ بكشِْف قِناعها ملَأتْك حُسْنَا وإذا اشْتهتْ رجعت عليْ ... كَ فعاد ذاك الحسنُ حُزْنَا لو خاطبتْ وَثَناً لَحَنَّ ... مع الجمودِ لها وأنَّا طارحْتُها شكوَى النَّوى ... ولثمتُها أعْلى وأدْنَى وعجبْت من وَلَهِي بها ... ولِهْتُ بها وَلهَ المُعنَّى تركتْ يداً وفماً وجِي ... داً وابْتدتْ ذيلاً ورُدْنَا وأقمت أنْصِب نحوها ... طَرْفاً ونحوْ البابِ أُذْنَا أخْشَى يُحِسَّ بنا النَّسي ... مُ فيُخبر الروضَ الأغَنَّا وبُولِّد الوَسْواس لي ... جَرْسُ الحُلِىِّ إذا أرَنَّا فتقول مسكينُ المتَّي ... بالنسيمِ يسِىءُ ظَنَّا طبْ يا فتى نفساً فقد ... نامَتْ عيونُ الحىِّ عنَّا جرس الحلى: صوته، ويقال فيه وسواس قال الشاعر: كم بين وَسْواسِ الحُلِىّ ... وبين وَسْواس الهمومِ والوسوسة: مالا يفهم من الأصوات. وهذا أسلوب متداول، ومنزعه خفق الحلى ورهجه، وذلك يخرج على قوالب من جنة الحلى ونمها وغير ذلك. وقد يغير في الأطراف الفعمة، فيقال: إنها تغص الحلى، وتخرس وساوسها، وتحير الحلى. وأحسن ما سمع فيه قول أبي كامل تميم بن المفرج: وأطْرافاً يَحارُ الحَلْىُ فيها ... فليس يكاد يضطرِبُ اضْطرابَا قال صاحب الدمية: قوله يحار الحلى فيها، لم أسمع به إلا في شعره، وقد أتى ببدع المستعار وبكره. وقد أنهيت الكلام على شعره، وهنا أذكر جانبا من نثره. فمنه قوله يعاتب: غرستُ لكم في المدح ما اخْضَرَّ عودُه ... وألقتْ إليه الزُّهْرُ عِقْداً من الزَهْرِ

السيد أحمد بن محمد المعروف بابن النقيب

وصارتْ عيون المشْفقين قلائداً ... عليه وعينُ الحِقْد تنظُر عن شَذْرِ وقلتُ ستْنَدى بالثِّمارِ أنامِلي ... فما كان إلَّا أن قبضْتُ على جَمْرٍ وعدتُ كما عاد المُسيءُ مُذمَّماً ... أغَصُّ بشكْرى وهْو يُحسَب من وِزْرِى وما ساءَ حظّاً كالذي اجْتلب الهوى ... وأسْلَمه مَحْضُ الوِدادِ إلى الهجْرِ إني لأعجب مني ومن تواضع الشيخ في مناجاته إياي وهو الطود الأشم، واتخاذه أذني صدفا لدرر عباراته وهو البحر الخضم. واقتراحه علىَّ أن أبرز من خباء أبكار الشعر، ربيبة خدر، ونتيجة فكر. تكون معجزة ابن الحسين، ومفحمة الخالديين. تنطوي على مدح ما انتشر عن ألوية فضائل ذاته المعجز ألسن الواصفين وصفها، وتتضمن نشر ما نسم من طيب أذيال فواضل صفاته المعطر مشامَّ الناشقين عرفها. وقيامي له على قدم الحد، أفرى فلوات السعي وأمتطي صهوات الجد. أقتنص الشوارد، وأتناول الفراقد. وأغوص على الغرر، من بنات الفكر. إلا أن تكامل عقدها، وجاءت نسيج وحدها. من مستفزات القلوب، تهادى أناة الخطو بكر عروب. تجر على مهيار الديلمي ذيل دلالها، وتسكر الشريف الموسوي بجريالها. لو رآها المخضرمون، لجاءوا إليها من كل حدب ينسلون. وبعثت بها مع لطم الشكر، إلى جناب إمام العصر. كيف حال الجريض دون القريض، وغاض زلال راحته وهو الغضيض، ولم سدَّ عني باب اعتنائه، ومحا ما كتب من إملائه. حتى استهدفتني ألسنة الشامتين، وأحدقت إلى أعين العدى، وليس عندي منه ما يغض أجفانهم ولا قذى. فياليت شعرى ما الذي أوجب هذا الصد، ولم لم يحسن القبول فليحسن الرد. وليكن بدون قوله ما أصنع بالقصائد دونه وشعره، حتى اسود وجه آمالي ولم يبيض حجره. بعدما خطفتني منه مخالب الظنون، ورجعت أقلب أكفي بصفقة المغبون. أحاسب عن أوزار العباد، وأعاقب بجناية قوم عاد. وعهدي بالشيخ جبلا آوى إليه، وحمى أحوم حوله، وعماداً أعتمد بعد الله عليه. فما بال الجبل لم يأو، والحمى لم يحم والعماد لم يحو. وما باله في مسراته وأنا في ليل الهموم، أتوقع تنفس صبحها، وأبتهل إلى الله تعالى في طلوع شمسها. فعندما حلت أكف الابتهال عرى الدحى، ولاح من تنفس صبح الوصال أشعة شمس المنى. حال بين طرفي وسناه قذاة البين، وأصبحت مصابا بعين. أعوذ بالله من أن يلهى الشيخ عني زخرف المتمشدق، وتستميله أقاويل الدخيل وجنة المتملق. والزخرف عتبة التلاشي، والتمشدق باب الهول. فالأقاويل مطية الكذب، والدخيل قذال يد الرد، والتملق مزراب النفاق. ولي في محبته الجنان الثابت، والقلب الصابر، وللسان الرطب، والفم الشاكر. وله مني الوداد المحض، والقصائد الغر. وله منه أنة المتوجع، ولوعة المصاب، وحرقة المهجور، وخشية المرتاب. وما أراه من اقتفائه أثر الملتبس عليهم الأمر، في كسر زجاجة ودادي من زيد وعمرو. ولا غرو قد يدمى الجبين إكليله، وتهجر الحسام قيونه. وكثيراً ما يضل المدلج دليله، وتخطىء المؤمل ظنونه. السيد أحمد بن محمد المعروف بابن النقيب السيد المولى، من هو بكل ثناء أحق وأولى. حل من الشرف في ذروته، وتحكم من الأدب في بحبوحته وعقوته. وقد تمتعت الرياسة دهرا بعده النضر، وشرفت النقابة له عبقريها الحسان ورفرفها الخضر. فألقت إليه السيادة أفلاذها، واتخذت السعادة طاعته عصمتها وملاذها. فرفه لأهل الأدب هضابا، وأرشفهم إلى ظماء من ماء مكارمه رضابا. فالفضائل ملء حقيبته، والآمال تستنتج بيمن نقيبته. ومآثره بادية الأوضاح، ونعمه سائلة الغرر والأوضاح. ومجلسه بأصناف المعارف حافل، وفمه بحل ما يعي الأفهام كافل. وله القلم الذي يكاد من نداوة بنانه، يبيض وجه الطرس بتسويد النقوش من بجدائع بيانه. فهناك جنان البلاغة لم يطمث أبكارها إنسٌ قبله ولا جان، وأشجار البراعة لم يقطف ثمارها عين ناظر ولا يد جان. من كل لفظٍ مع معناه روح وجسد، إذا سمع الناس تركيبه خلقن له القلوب الحسد. وقد ذكرت من كلامه الشريف، ولفظه العالي المنيف. ما تجعله سيد الكلام، وتقطع عن المغالي في مدحه مادة الملام. كقوله:

حضرةٌ تقلدت أعناق الرجال بقلائد نعمها، وتدبجت رياض الآمال بهواطل سحب كرمها، وطافت أفهام الطلاب بكعبة حقائقها وعلومها، وسعت أفكار بني الآداب ما بين صفا منثورها، ومروة منظومها. لا برحت الأيام باسمة الثغر بمعاليها، والانام حالية النحر بأياديها. وكقوله: هو صدر الدنيا، وركن العليا، وواسطة عقد ورثة الأنبياء، وواحد هذا النوع الإنساني من الأحيا. دعوَى لا يُداخل بنيتها وهم، ونتيجةٌ لا يشين مقدماتها عقم. فإن من كان صدر بني هاشم، وشنب ثغر مجدهم الباسم، وهم وهم في الرفعة والمنعة، كأن أجل موجود، وأعظم من في الوجود. وكقوله: قسما بمن جعل محاسن الدنيا في تلك الذات محصورة، وأسبابا العليا على ملازمة عتباتها مقصورة. إن عقد عبوديتي لا تطاول إليه الأيام بفسخ، وعهد مودتي عهد لا تتوصل إليه الحوادث بنسخ. وكيف يفسخ وصورته في الجنان مجلوة، أم كيف ينسخ وسورته على كل حين باللسان متلوة. ولعمري مهما نسيت فإني لا أنسى أيامي في خدمتها، والتقاطي الدر من مذاكرتها. وما كان بيننا من المصافاة التي أين منها مصافاة الماء مع الراح، وما يجري بيننا من المفاوضة التي هي في الحقيقة مفاوضة الورد والتفاح. وعلى كل حال فلا عوض لنا عنها إلا ما تنقله الركبان من أخبار سلامتها، وما تودعة في صدفة آذاننان من جواهر آثار عدالتها. لا جرم أنه كلما تعطرت مجالسنا بشيءٍ من ذلك، دعونا الله عز وجل هنالك. بأن يزيد باع عدلها امتدادا، وشعاع فضلها سطوعا واشتداد. وأن يبلغها أقصى ما تطمح إليه عينٌ طامحة، أو تجنح نحوه نفسٌ جانحة. هذا والمتوقع من كرمها، كما هو المألوف من شيمها، ألا تخرجنا من ضميرها المنير، وأن تعدنا في جريدة من يلوذ بقماقها الخطير. والله تعالى يبقى لنا تلك الحضرة، سامية الركاب، عالية القباب، في رفعة دونها قاب العقاب. ومن شعره قوله، يخاطب بعض أحبابه: رُوَيْدَك شأنُ الدهر أن يتغيَّرا ... وشِيمتُه إمَّا صفَا أن يُكدَّرَا وعادتُه الشَّنْعاء في الناسِ أنه ... إذا جاء بالبُشْرى تحوَّل مُنذِرَا فلا بُؤْسُه يبَقى وأمَّا نعيُمه ... فكالطَّيْف إذْ تلقْاه في سِنة الكَرَى. فلا تَكُ مسروراً إذا كان مقبِلا ... ولا تكُ محزوناً إذا هو أدْبَرَا فأيُّ دُجَى هَمٍّ دَهاك ولم تجدْ ... صَباحاً له بالبِشْرِ وافاك مُسْفِرَا وقد هُزلتْ أيامُنا فلَوَ اُنَّها ... أتتْتنا بجِدٍّ كان للهزلِ مَصْدرَا منها: وليس يعيبُ البدرَ فُقْدانُ نُورِه ... إذا كان بعد الفَقْد يظهر مُقْمِرَا وما جُعَلِيُّ إن جفَا الوردَ إذْ به ... أضَرَّ بداعٍ أن يُذَمَّ ويُهْجرَا الجعل يتأذى برائحة الورد، وكذا المزكوم، والحسناء إذا ابتليت بذامٍ، فهي كالورد مع الجعل، وصاحب الزكام. ومما يلحق بهذا أن الوزغة تكره رائحة الزعفران، وتهرب منه. وعليه بنى البتار قوله في هجاء الغندلي، وقد وصل إلى بابه، فتحجب عنه: تحجَّب الغُنْدَلِيُّ عنِّي ... فساءَ مِن فعلِه ضميرِي يَنْفر من رُؤْيتي كأني ... مُضَّمخُ الجَيْب بالعبيرِ وله من قصيدة، يخاطب بها أيضاً صديقا له: تزُول الرَّواسِي عن مقَرِّ رسُومِها ... ووُدِّي على الأيام ليس يزولُ ولستُ بمَن يُرضيه من أهل وُدِّه ... خَفِيُّ ودادٍ في الفؤادِ دخيلُ إذا لم يكن في ظاهرِ المرءِ شاهدٌ ... على وُدِّه فالودُّ منه عليلُ أأرْضَى بوُدٍّ في الفؤاد مُغيَّبٍ ... وليس إلى علم الغُيوبِ سبيلُ وأقْبلُ عن هجري اعتذاراً مُزيَّفاً ... تمحَّلْتَه إنَّي إذا لَجُهولُ لَعَمْرُك قد حرَّكتَ مَن كان ساكتاً ... وعلَّمتني بالعَتْب كيف أصُولُ وله من قصيدة: فياليتَ شِعْري هل لعمروٍ مَزِيَّةٌ ... إذا ازْداد واواً وهْو في رُتبة الذُّلِّ وهل شَان بسمِ الله وهْي عزيزةٌ ... تمنُّعها في الخطِّ عن ألفِ الوصلِ

ورُبَّ ازْديادٍ كان للهُلْك داعياً ... كما كان في نبْت الجناح رَدَى النَّمْلِ وما هذه الأيام إلا عجائبٌ ... تشابَه ما تُبْدِي من الجِدِّ والهَزْلِ وقد طمَستْ أفْكارَنا بصُروفِها ... وأشْغَلت الخِلَّ الألُوفَ عن الخِلِّ قوله: وهو في رتبة الذل، يريد تمحضه للمضروبية في أمثلة المحاة، ومن هنا تعلم سر قولهم فيه: الاسم المظلوم، كما لا يخفى. وكان الجاحظ يعني بذلك إلزاقهم به الواو، التي ليست من جنسه، ولا فيه دليل عليها، ولا إشارة إليها. ويشهد له قول الشاعر: أنما البَهْنَسِيّ خطبٌ جليلٌ ... لا خطيبٌ ولا جليلٌ بقَدْرِ زِيدت الياءُ فيه ظُلْما وعُدْوَا ... ناً كواوٍ غدَتْ بآخر عَمْرِو وقوله: ورب ازدياد، من قوله: وإذا استوتْ للنَّمْلِ أجنحةٌ ... حتى يطيرَ فقد دَنا عَطَبُهْ ومن غرره، قوله من قصيدة يرثى بها أخاً له مات، وأرسلها على أبي الوفا العرضي، يعزيه في آخرها عن ولدين له ماتا، ومطلعها: رُزْءٌ ألَمَّ وحسرةٌ تتوالَى ... ومُصيبةٌ قد جَذَّتِ الآمالاَ وجليلُ خَطْبٍ لو تكلَّف حملَه ... ثَهْلانُ ذو الهضَبات هَدَّ وزَالاَ وفِراقُ إِلْف إن أردتُ تصبُّراً ... عنه أردتُ من الزمان مُحالاَ وعيونُ عَيْنٍ ليس تفتُر دائما ... عن سَكْبِ رَقْراق الدموع سِجَالاَ بُعداً لدهرٍ شأنُه أن لا يُرَى ... إلا خَؤُونا غادراً مُغْتالاَ نَغترُّ فيه بالسلامة بُرْهةً ... ونرى المآلَ تمحُّقاً وزوالاَ ويُعيرنا ثوبَ الشَّبيبة ثم لم ... يبْرَح به حتى يُرى أسْمالاَ قُبِّحتَ يا وجهَ الزمان فلا أرى ... لك بعد أن فُقِد الجمال جَمالاَ ذاك الذي قد كان قُرَّةَ ناظرِي ... وقَرارَ قلبي بل وأعظمَ حالاَ قد كنتُ أرجو أن يُؤخَّر يومُه ... عني ويَحْمِل بعديَ الأثْقالاَ ويذوقَ ما قد ذُقْتُه لِفراقِه ... ويُمارسَ الأهوال والأوْجالاَ فتطاولتْ أيدي المنيَّةِ نحوه ... وبقِيتُ فرداً أنْدُب الأطْلالَا كنَّا كغُصْنَيْ دَوْحةٍ قطَع الرَّدى ... منها الأغَضَّ الأرْطبَ المَيَّالاَ أو كاليديْنِ لِذاتِ شخصٍ واحدٍ ... كان اليمينَ لها وكنتُ شِمالاَ أسَفِي عليه شمسُ فضلٍ عُوجِلتْ ... بكُسوفِها وعمادُ مجدٍ مالَا لا كان يوم حم فيه فراقنا ... فلقد أطال الحزن والبلبالا فسقى ضريحاً حَلَّه صَوْبُ الحيَا ... في كل وقتٍ لا يغيبُ وِصالَا منها: هيهات مَن لي بالرِّثاء وفَقْدُه ... لم يُبْقِ فيَّ بقيَّةً ومَجالَا أفْحمتني يارُزْءَه من بعد ما ... كنتُ الفصيحَ المِصْقَعَ القوَّالَا مَن لي بطبعِ اللَّوْذَعِيِّ أبي الوفا ... ذاك الذي بالسحرِ جاء حلالَا مولًى إذا وعظ الأنامَ رأيتَه ... يُلْقى على كل امرئٍ زِلْزالَا بزواجرٍ لو أنه استقْصَى بها ... أهلَ الضلال لمَا رأيتَ ضلالَا مولايَ يا صدرَ الزمانِ ومَن غدا ... لبَنيه غَوْثاً يُرتجَى وثِمالَا ذِي نَفْثةُ المصدورِ قد سرَّحْتُها ... لِحِماك تشْكو بَثَّها إدْلالَا إِنَّ المُصيبةَ ناسبَتْ ما بيننا ... إِذْ حوَّلت بحُلولها الأحْوالَا فثكلتَ مَخدومَيْن كلٌّ منهما ... قد كان في أُفْق السُّعود هلالَا لو أُمْهِلاً مَلَآ العيونَ محاسِناً ... وكذا القلوبَ مَهابةً وكمالَا ولَكان هذا للمعالي ناظراً ... ولكان هذا في طُلاها خَالَا خطفتْهما أيْدي المَنونِ وغادرتْ ... ماءَ العيونِ عليهما هَطَّالَا فأجابه بقصيدة، منها:

لهفِي على بدرٍ تكامَل حسنُه ... قد سار في فلَك الكمال هِلالاَ أعْظِم به رُزْءًا أتاح مصائباً ... فَتّ القلوبَ ومزَّق الأوْصالاَ ما كنْت أعلم قبل حَمْلِ سريرِه ... أن الرِّجال تُسَيِّر الأجْبالاَ وعجبتُ للبحر المُحيط بحُفْرةٍ ... هل غاب حقاً وأوراك خيالاَ يا دافِنِيه مِن الحياءِ تقنَّعوا ... غيَّبْتُم شمسَ الغَداةِ ضلالاَ عهدِي الغمامُ حِجابُها مالي أرى ... أضْحى الحجابُ جنادلاً ورمالاَ وكتب إليه في هذا الشأن: خَطْبٌ يقرِّب دونه الآجالاَ ... ويمزِّق الأحشاء والأوْصالاَ فدعِ الجفونَ تجود إن نضَبتْ سَحا ... ئبُ دمعِها الصافي دماً هَطَّالاَ أفلَتْ ذُكاءُ الفضلِ من فَلك العلى ... ووهَى ثبِيرُ المكرُمات ومَالاَ وذَوَتْ غصونُ رياضها وتصدَّعتْ ... أجْبالُها حتى بَقِينَ رمالاَ فقدت أولى الألباب ذو المجد الذي ... عدموا بفقد حياته الإقبالا فقدُو حليفَ الفضل مَن بكمالهِ ... وحِجاه كنَّا نضرب الأمثالاَ مَن شاءٍ للعَلْياء يَسْعَ فإن من ... كانتْ له بالأمْسِ مِلْكاً زالاَ منها: أعزِزْ عليَّ بأن أرى ربَّ الفَصا ... حةِ والبلاغةِ لا يجيب سُؤالاَ ما كنتُ أعلمُ قبل يومِ وفاتِه ... أن الكواكبَ تسكُن الأرْمالاَ ما كنتُ أحسَب أن أرى من قبْله ... للشمسِ من بعدِ الزَّوالِ زوالاَ منها: صَبْراً على ما نالَنِي في يومِه ... كالصبرِ منه به على ما نالاَ ملأَ القلوبَ من الأسى ولطالَما ... ملأَ العيون مَهابةً وجلالاَ لولا أخوه أبو الفضائل أحمدٌ ... لرأيتَ أنْديةَ العُلَى أطْلالاَ الكاملُ الفَطِنُ الذي عَزَماتُه ... إن صال تلْقاها ظُباً ونِصالاَ منها: ما رام بدرُ التِّمِّ مثلَ كمالِه ... إلا وصيَّره المَحاقُ هِلالاَ مولايَ يا ابن الرَّاشدِين ومَن لهم ... شرفٌ على هامِ السِّماكِ تَعالَى صبراً فإِن الدهرَ مِن عاداتِه ... يُدنِي النوى ويُحوِّل الأحْوالاَ وقد اقتفى أثر الشريف الرضي الموسوي في قصيدته التى رثى بها الصاحب ابن عباد، وأولها: أكذا المَنون تقْنطرُ الأبْطالاَ ... أكذا الزمانُ يُضَعْضِع الأجْبالاَ قال وكان بالقرب من ضريحه عدة أشجار من العناب، فشاهدت يوماً أغصانها المخضرة، تزهو بثمارها المحمرة. فأتبعت الحسرة بالحسرة، ولم أملك سوابق العبرة. وجادت الطبيعة، بأبيات على البديهة. وهي هذه: وقائلةٍ والدمعُ في صَحْن خدِّها ... يَفِيضُ كهَطَّالٍ من السُّحْبِ قد هَمَى أرى شجراً العُنَّاب في البُقْعة التي ... بها جدَثٌ ضمَّ الشريفَ المُعظَّماَ لها خُضْرةُ المُرْتاح حتى كأنه ... على فقْده ما إن أحسَّ تألُّماَ وأغصانُه فيها ثمارٌ كأنها ... بحُمرتها تُبْدي السرورَ تألماَ ولو أنصفتْ كانت لعِظْمِ مُصابِه ... ذوَتْ واكْفهرَّتْ حَسْرةً وتندُّماَ فقلتُ لها ما كان ذاك تهاوُناً ... بما نالَنا من رُزْئِه وتهضُّماَ ولكنها لما وضعْنا بأصلهِ ... غديراً بأنْواع الفضائل مُفْعَماَ بدَتْ خضرةٌ منه ترُوق وحُزْنُه ... كمِينٌ فلا تستْفْظعِيه توهُّماَ وما احمرَّتِ الأثْمارُ إلا لأننا ... سقَيْناه دَمْعا كان أكثرُه دَمَا ولما وقف عليها صلاح الدين الكوراني، قال أبياتا منها: فيا شجرَ العُنَّاب مالك مُثمِرٌ ... سُروراً ولم تجزَعْ على سيِّد الحِمَى على رَمْسِه أوْرَقتَ تهْتزُّ فَرْحةً ... وتُدْلِى إليه كلَّ غصن تَنَمْنَمَا

أهذِي أَماراتُ المسرَّة قد بَدَتْ ... أم الحزنُ قد أبْكاك من دونه دَماَ ومنها على لسان العناب: نعم فَرْحتي أنَّى مُجاورُ سيدٍ ... نمَى حسبَا في عصرِه وتكرُّماَ وحضرتُه روضٌ من الجنَّة التي ... زَهَتْ بضجِيعٍ كان بالعلْم مُغرَمَا أتعْجبُ بي إذا كنتُ في جنبِ روضةٍ ... وحقِّيَ فيها أن أُقيم وألْزَمَا كعادةِ أشْجارِ الرياض فإِنها ... تمكَّن فيها الأصلُ والفرْعُ قد نَمَا وقد قيل في الأمْثال إذ كنتَ سامعاً ... خذِ الجارَ قبل الدارِ إن كنتَ مُسلِماَ أمَا سار من درا الفَناء إلى البَقا ... وأبْقى ثَناءً بالجميل مُعظَّماَ ومَن كان بعد الموت يُذكَر بالعُلَى ... فبالذِّكْر يَحيَى ثانياً حيث يمّماَ فقلتُ له يهْنيك طِيبُ جِوارِه ... وحَيَّاك وَسْمِىُّ الغَمامِ إذا هَمَى لتُسْقِط أثماراً على جَنْبِ قبرِه ... ليلْقُطها مَن زارَه وترحَّمَا فواعجَباً حتى النَّبات زهَتْ به ... فحُقَّ لنا عن فضلِه أن نُترجِمَا وله، يمدح المولى البهائي: كشف الدهرُ عن وُجوه الأمانِي ... ومَحا السَيّئاتِ بالإحسانِ وأرانا شمسَ العدالةِ تبدو ... في بُروجِ الجمال والعِرْفانِ وحَبانا من آل سعدٍ بمولَى ... لا يُدانيهِ سعدُ تفْتازانِي دُرَّةٌ رُكِّبت بتاجِ المعالِي ... غُرَّة أشْرقتْ بوجهِ الزمانِ عالمٌ وهو عالَم يتراءَى ... للْبَرايا في صُورةِ الإنْسانِ وهُمام مُهذَّبٌ قد تحلَّى ... بعقُول الكهولِ في العُنْفُوانِ أخْمَد الظلمَ منه عدلٌ مُنيرٌ ... وكذا النورُ مُخْمِد النِّيرانِ خُذ يمنِي إنَّ البراعَة منه ... فعلتْ ما يكِلُّ عنه اليَمانِي إن شَهْباءَنا به قد أنارتْ ... وعلَتْ رُتْبةً على كِيوانِ وتوالَتْ على بَنيها المَسرَّا ... تُ فهم يسْحَبون ذيلَ التَّهانِي منها: أنت معنىً لك الفضائلُ كاللَّفْ ... ظِ ورُوحٌ والمجدُ كالجُثْمانِ أنت في المَكْرُمات فَضْلٌ ولكنْ ... لابن عبد العزيز في العدل ثانِي ومنها، يعتذر عن هدية أهداها: وهُدِيتَ اليسيرَ فأنْعَم وقابِلْ ... نَزْرَه بالقَبولِ والامْتنانِ فلو أنَّ العَيُّوقَ والشمسَ والبدْ ... رَ مع الفَرْقَديْن في إمْكانِي كنتُ أهديْتها وقدَّمْتُ عُذْراً ... ورأيتُ القُصور معْ ذاك شَانِي ومما يسكر العقول في الاعتذار عن الهدية قول الشاهيني، ومن قصيدة كتبها إلى أبي العباس المقري، وأرسل له معها خمسين قرشا: لو كان لي أمرُ الشبابِ خلْعتُه ... بُرْداً على عِطْفَيْك ذا أرْدانِ لكنْ تعذَّر بَعْثُ أوَّل غايتي ... فبعثْتُ نحوَك غايةَ الإِمْكانِ وللسيد أحمد من اعتذارية عن هدية أيضاً: إلى قصَّر الداعي وأهْدى بلا ... رَوِيَّةٍ مُحْتَقرا نَزْرَا مِنْ عمَل الصِّين قطاعا أتتْ ... لا تستحقُّ الوصْفَ والذِّكْرَا فاعْذُر فقد أهدَى إليك الثَّنَا ... عِقْدا نظيماً يُخجِل البدرَا ومن بدائعه قوله، وهو في غاية الجودة: لِدَواةِ داعِيكم مِدادٌ شابَ من ... جَوْرِ اليَراعِ وقد رثَتْ لمُصابِهِ فأتتْ تُؤمِّل جُودَكم وترُوم مِن ... إحْسانكم تجْديدَ شَرْخِ شبابِهِ وقوله، في صدر رسالة: أيها الفاضلُ الذي خصَّه الل ... هُ من الفضلِ والحِجَى بلُبابِهْ إن شوقي إليكَ ليس بِشَوْقٍ ... يُمْكِن المرءَ شرحُه في كتابِهْ وكتب إلى السيد محمد العرضي، قبل توجهه إلى الروم:

ولده السيد باكير

ما زلتُ محسوداً على أيَّامكمْ ... حتى غدوْتُ ببُعْدكم مَرْحوماَ ومن البليَّةِ قبلَ توْدِيعي لكم ... أصبحتُ رِزْقاً للنَّوى مقْسوماَ فأجابه، وكان محموما: وافَى الكتابُ وكنتُ قبلَ وُرودِه ... مِن خوَفْ ذِكْرِ فِراقكم مَحْمُوماَ هذا ولِي أمرٌ بصَرْفةِ عَزْمِكم ... عنه فكيف إذا غدا محْتوماَ وله: إنَّ شَوْقي يجِلُّ عن أن يُؤدِّي ... بعضَ أوْصافِه لسانُ اليَرَاِع وكان بحلب مفت صدره الدهر بجاه ومال، وعطف إليه الأفئدة وأمال. وبعد انقراض بني البتروني الذي أبكى الدهر نعيهم، وذهب برونق الرياسة أحوذيهم وألمعيهم. وقد طلعوا في سماء الغفران شهبا، وأمست أطلالهم بيد النوى نهبا. وهكذا الدنيا لها التصدير أبنائها جنوح، وموت بعض الناس على بعض فتوح. فأصبح مكان الدر صدفاً، وصير نفسه لسهام الاعتارض هدفا. وكان له كاتب يعرف بابن ندى وهو يده ولسانه، وعليه تدور إساءته وإحسانه. فقدم المفتى يوماً للصلاة على جنازة، فكبر عليها خمساً ظاناً جوازه. وكان ذلك فغي جمع حافل، جمع بين عالٍ وسافل. فقال فيه السيد أحمد: ومُذْ مصطفى صلَّى صلاةَ جنازةٍ ... وكبَّر خمسا سدَّس الناس لَعْنَهُ فقلتُ اعْذرُوه إنَّه قلد النَّدَى ... ومن قبلُ في الفتْيا لقد قلَّد ابْنَة يشير بقوله قلد الندى إلى قول أبي تمام، في قصيدته التي رثى بها إدريس ابن بدر: ولم أنْسَ سَعْيَ الجودِ خلفَ سَرِيرِه ... بأكْسفِ بالٍ يستقيمُ ويظْلَعُ وتكبيرَه خَمْساً عليه مُعالِناً ... وإن كان تكبيرُ المُصلِّين أرْبَعُ وما كنتُ أدرِي يعلمُ اللهُ قبلَها ... بأن النَّدَى في أهلِه يتشيَّعُ ومما يناسب مع هذا، قول بعضهم في موسوس: وباردِ النِّيَّةِ مَغْموسِها ... يُكرِّر الرِّعْدةَ والهِزَّهْ مُكبِّراً سبْعين في مَرَّةٍ ... كأنما صَلَّى على حَمْزَهْ يشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى على عمه حمزة سبعين مرة، فكلما قدم علي ميت صلى عليه، وبه استدل على الصلاة على شهيد المعركة. ولده السيد باكير فرع من تلك الدوحة الباسقة، وعصماء من عقد محتدها التي تنظمت فرائده المتناسقة. أنبت به ندى بيته الثناء في حدائق الأذهان، وأملت معاليه المعاني بأفصح لسان على الأذان. رضع من در العلوم كهلا ووليدا، وحوى من أنواع المفاخر طارفاً وتليدا. يجتلى ناظره روض الحظ ناضرا، ويجتلب رأيه المغربات فيجعل غائبها حاضرا. وله منطق يعلم الأبكم براعة التلفظ، وحديث كقطع الروض قد سقطت فيه مؤنة التحفظ. فهو في كلامه النفيس العالي، كأنما عناه بقوله الميكالي: إن كلامَ ابن أحمد الحسنِى ... آسَى كِلامَ الهمومِ والحزَنِ سحرٌ ولكن حكى الصَّبا سَحَراً ... في لُطْفِه غِبَّ عارِض هَتِنِ وقد جرى في مجلس النجم الحلفاوي ذكر نجابته التي دلت عليه، دلالة النسيم على الحبيب إذا هب بعرف صدغيه. فأثنى علي ثناء الزهر، على جدول النهر. ووصف محتده وصف حسان، لآل غسان. فرآ ليلةً في منامه أنه نظيم بيتين في نعته، ثم انتبه مع نومه فكتبهما من وقته. وهما: يا كيرُ فاق على الأقْران مرتِقياً ... أَوْجَ المعالي فلا خِدْنٌ يُدانيِه والفرعُ إن أثْمرتْ أيدي الكرامِ به ... فالأصلُ من كوثرِ الأفْضال يَسْقِيِه وقد أثبت له ما هو أصفى من ماء المفاصل، وألطف موقعاً من ضمة الحبيب المواصل. فمنه قوله: بك صَرحُ العَلاء سامٍ عِمادُهُ ... وكذاك الكمالُ وارٍ زنادُهْ إن كلَّ الأنام من ناظرِ الد ... هرِ بياضُ وأنت منه سوادُهُ قد غرقنا من فيْض فضلك في أمْ ... واج بحرٍ تتابعتْ أزْبادُهْ وإذا الفكرُ لم يُحِطْ بمعا ... لِيكَ جميعا وخاب فيك اجْتهادُهْ فاعْتذاري ببيْت نَدْبٍ هُمامٍ ... ما كبَا في مَيْدان فضلٍ جوادُهْ

إن في الموجِ للغريق لعُذراً ... واضحاً أن يفوتَه تعْدادُهْ وقوله، من قصيدة أولها: تهلَّل وجه الفَضل والعدلِ بالبِشْرِ ... وأصبح شخصُ المجد مبتسمَ الثغرِ فيالَك من مولىً به الشعرُ يزْدهِي ... إذا ما ازْدهتْ أهلُ المداح بالشعرِ فريدُ لمعاالي لا يرى لك ثانياً ... من الناس إلا من غدا أحْولَ الفكرِ معنى الأول مطروق، وأصله قول أبي تمام: ولم أمدحْك تفْخيماً بِشعرِي ... ولكني مدحتُ بك المديحَا وأبو تمام أخذه من قول حسان، في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: ما إن مدحتُ محمداً بمقالتي ... لكن مدحتُ مقالتي بمحمدِ والبيت الثاني من قول بعضهم: إنَّ من يُشرِك باللَّ ... هِ جَهولٌ بالمعانِي أحْوَلُ الفكر لهذا ... ظن للواحد ثانِي وله من قصيدة: لاح الصَّبا كزُرقة الألْماسِ ... فلْتصطبِحْ ياقوتَ دُرِّ الكاسِ من كفِّ أهيفَ صان وردَ خدودِه ... بسِياج خطٍّ قد بدا كالآسِ كأن مَرآهُ البديعَ صيفحةٌ ... للحُسن جَدْولُها من الأنْفاسِ في روضةٍ قد صاح فيها الديكُ إذْ ... عطَس الصباحُ مشمِّتا لعُطاسِ ضحكتْ بها الأنوارُ لما ان بكى ... جَفنُ الغمام القاتمِ العَبَّاسِ ورقَى بها الشُّحْرورُ أغصاناً غدتْ ... بتموُّج الأرْياح في وَسْواسِ والوردُ تحمَده البلابلُ هُتَّفا ... من فوق غصنِ قَوامِه المَيَّاسِ ويرى البَنفْسَجُ عُجْبَه فيعود من ... حسَدٍ لسطْوتِه ذليلَ الرَّاسِ والطَّلُّ حلَّ بها كدمعِ مُتيَّمٍ ... لِمعاهدِ الأحبابِ ليس بناسِ فتظنُّ ذَا ثغراً ولا عيناً وذا ... خَدّاً لغانيةٍ كظَبْيِ كِناسِ واحْمرَّ خدُّ شقائقٍ مُخْضلَّةٍ ... حُمِيتْ بطَرف النرجِس النَّعَّاسِ حسداً لخدِّ الطِّرس حين غدا له ... خَطُّ القريضِ بمدْح فضلِك كاسِ وله من أخرى في المدح: مولاي قُم نلتقطْ من لُؤلؤِ الحِكَمِ ... دقائقاً حُجِبت عن فِطْنة الفَهِمِ في وصف روضٍ أنيقٍ راق منظرُه ... من الزَّبَرْجَد والياقوت مُنتظِمِ أما ترى نفحةَ النِّسْرِين عابقةً ... والزَّعْفرانَ سقتْه السحبُ بالدِّيَمِ والمِهْرجانَ أتى من جَحْفلٍ لَجِبٍ ... من الرياض فأهدى طيِّب النَّسَمِ تقابلتْ فيه أحْداقٌ لنَرْجِسه ... تحكى فماً مال للتقبيل نحو فَمِ والنهرَ عاوَد بعد الصدِّ مُنعطفاً ... يَبُّلُّ شوقَ نباتِ الغَوْرِ والأكَمِ والوُرْقَ غنَّتْ على الأشجار من طربٍ ... مُجيبةً عَنْدَليبَ الدَّوْحِ في الظُّلَمِ فالْهَجْ بِتَذْكار غِزْلانٍ لواحظُهمْ ... تركْنَ أهلَ الهوى في قبْضة السَّقَمِ وأهْيفٍ من ظِباء الْحُور مُقلتُه ... عن قَوْس حاجبِه أوْدَتْ بكلِّ كَمِي إن يهجُر الشاربُ الريَّانُ مَبسمَه ... فالعذبُ يُهجَر بالإفْراط في الشّبَمِ في صُدْغه طبعتْ أهْدابُ ناظرِنا ... فظنَّه الصبُّ خطَّا غيرَ ملتئِمِ أدار شمسَ المُحيَّا بدرُ راحتِه ... ممزوجةً برُضاب المَبْسَمِ الشَّبِمِ من خمرةٍ عُصِرتْ بالبِشْر من قِدَمٍ ... جاءتْ تخبِّرنا عن سالِف الأُمَمِ في روضةٍ ضحكتْ فيها أزاهرُها ... مُذْ جادَها وابلٌ يهْمِي بمُنْسجِمِ وقام بُلْبُها يتلو محاسنَ مَن ... شهباؤُنا منه في أَمْنٍ من النِّقَمِ صدرُ الموالي فريدُ العصر جَهْبَذُه ... ومَن به الناسُ مغمورون بالنِّعَمِ كهفُ الأنام مَلاذُ الخلق أحمدُ مَن ... فاق الفحُول بفضلٍ غيرِ منكتِمِ

السيد عبد القادر بن قضيب البان

مَن شرَّف البلدةَ الشهباءَ مَقدَمُه ... ففاخرتْ جُلًّ مُدْنِ العُرْب والعجمِ أقام فيها عمادَ الشرع مجتهداً ... حتى روَتْ حسنَها للناس عن إِرَمِ وله من أخرى: هو في الفؤاد وشخصُه ناءٍ عن الْ ... ألحاظْ فهْو مسافرٌ ومُقيم سحَر العقولَ بلَحْظِه فكانما ... في الجَفْنِ دُرُّ كلامك المنظومُ يا أيها المولى الذي أحْيَى رُبو ... عَ الفضل والأفْضال وهْي رَميمُ أعطيتَ دهرَك من خِلالك خُلَّةً ... فغدا كريم الفعلِ وهْو لئيمُ وله، وتعزى لوالده: صدرَ الوجودِ وعينَ هذا العالَمِ ... ومَلاذَ كل أخِي كمالٍ عالِمِ إن لم تكن لذَوِي الفضائل منقِذاً ... من جَوْر دهرٍ في التحكُّم حاكم فبمن نلُوذ من الزمانِ وبابَ من ... نَنْتاب غيْرَك في المُهِمِّ اللازمِ فبِحقِّ مَن أعْطاك أرفعَ رتبةٍ ... أضحى لها هذا الزمانُ كخادمِ وحَباك من سُلطاننا بمواهبٍ ... تركتْ حسودَك في الحضيضِ القاتِمِ فإذا تتوَّج كنت دُرَّة تاجِه ... وإذا تختَّم كنت فصَّ الخاتمِ إلاَّ نظرتَ بعين عطفِك نحوهم ... وتركتَ فيهم كلَّ لَوْمةِ لائمِ ورَعيْتَ في داعِيك نِسْبته إلى ... خيرِ البريَّة من سُلالة هاشمِ فالوقتُ عبدك طَوْعُ أمرك فاحْتكمْ ... فيما تشاءُ فأنت أعدل حاكمِ فإذا تتوج، هذا تضمين، فإن البيت للمتنبي، من قصيدته التي أولها: أنا منك بين فضائلٍ ومكارم ومما يحسن له قواله في التشبيه: ثلاثُ شاماتِه على نَمَطٍ ... في جانب الخدِّ وهْي مصفوفَهْ كأنها أنجُم الذِّراع بدَتْ ... في جانب الشمسِ وهْي مكسوفهْ وقد تناول هذا المعنى صاحبنا عبد الباقي بن السمان، في قوله: وكأن خالَيْه اللَّذَيْن بخدِّه ... والشمسُ في وجَناتِه لم تغرُبِ نَجْمان قد كسَفتهما شمسُ الضحى ... أو نُقطتا حِبْر بطِرْسٍ مُذْهَبِ وأصل هذا المعنى لابن خفاجة الأندلسي، في قوله: غازلْتُه من حبيبٍ وجهُه فلَقٌ ... فما عدا أن بدا في وجهِه شفَقُ فارْتجَّ يعثُر في أذْيال خَجْلتِه ... غصنٌ بعِطْفيه من إسْتَبْرقٍ ورقُ تخالُ خِيلانَه في نُورِ وَجْنتِه ... كواكباً في شُعاعِ الشمس تحْترقُ ؟؟ السيد عبد القادر بن قضيب البان بحر معارف خضم، وطود فضائل أشم. تأزر بالإحسان وارتدى، وراح في تكميل النفس واغتدى. هذا وعهده بالشباب قريب، وحديثه ليس بمنكر ولا غريب. ثم أطال التجول، وأكثر في البلاد التحول. فدخل الحجاز واليمن، وأقام بها مدة بمنزلة فصل الربيع من الزمن. ثم رجع إلى دياره، وألقى بها عصا تسياره. فقعد مقعد السها، وعقل لديه النهى. وتماسك عن الدنيا عفافا، والتف بالمعارف الإلهية التفافا. مع شهرة كشهرة ضوء الصباح والمصباح، وطلعة يستفاد من لألائها نور الفلاح والرباح. وهناك ما شئت من وقارٍ يطيش له ثبير، ومقدار يصغر لديه كل كبير. إلى يدٍ تفرج إذا ضاق الإعدام، وقدمٍ تثبت إذا زلت الأقدام. وله أشعار في الحقيقة تحرك السواكن، وتبعث الأشواق الكوامن. اوردت منها ما إذا وصف رأيت الحسن مجتمعا، وإذا تلي أبصرت كل شيءٍ مستمعا. فمنها قوله: أرى للقلب نحوكُمُ انْجِذابَا ... لأسمعَ من خطابكُمُ خطابَا فكم ليلٍ بقُرْبكمُ تقضَّى ... إلى سَحَرٍ سجوداً واقْترابَا وكم من نشوةٍ وردتْ نهاراً ... فلا خطأ وَعيْتُ ولا صوابَا وكم سَحَّتْ علينا من نَداكمْ ... غُيوثٌ لا تفارقُنا انْسكابَا وكم نفَحاتِ أُنْسٍ أسكرتْنا ... بها حضر الصَّفا والقبضُ غابَا توافقتِ القلوبُ على التَّدانِي ... فلم نشهدْ به منكم حجابَا

ولده السيد محمد حجازي

لقد حاز الوليُّ بكل حالٍ ... من الرحمن فيضاً مُستطابَا تراه بين أهل الأرضِ أضحى ... لِداعي الحبِّ أسرعَهم جوابَا وغيرَ الله ليس له مُرادٌ ... وغيرَ حِماه لا يرجُو انْتسابَا وقوله: سقاني الحبُّ من خمر العَيانِ ... فتُهت بَسكْرتي بين الدِّنانِ وقلتُ لِرُفْقتي رِفقاً بقلبي ... وخاطبتُ الحبيبَ بلا لسانِ شربتُ لحبِّه خمراً سقاها ... لصَحْبي فانْتَشَى منها جَنانِي شطَحْتُ بُشرْبها بين النُّدامىَ ... ورُشْدي ضاع مما قد دَهانِي فأكْرمَني وتوَّجني بتاجٍ ... يقوم بسِرِّه قطبُ الزمانِ وأمَّرني على الأقْطاب حتى ... سرَى أمري بهم في كلِّ شانِ وأطْلعَني على سِرٍّ خَفِيٍّ ... وقال السَّترُ من سرِّ المعانِي فهام أولو النُّهى من بعض سُكْري ... وغابْوا في الشُّهود عن المكانِ مُرِيدي لا تخَفْ واشطَحْ بِسرِّي ... فقد أذِن الحبيبُ بما حَبانِي وقوله: نظرتُ إليك بعينِ الطلبْ ... ومنك إذاً طلبي والسبَبْ رأيتُك في كل شيءٍ بدا ... وليس سِواك لعيني حَجَبْ فأنت هو الظاهرُ المُرتجَى ... وأنت هو الباطنُ المُرتقَبْ وأنت الوجودُ لأهل الشهودِ ... وأنت الذي كلَّ شيءٍ وَهَبْ وعيني بعيْنَيْك قد أبصرتْ ... بعيْنك في كل تلك النِّسَبْ ومن مقاطيعه قوله: ولقد شكوتُك في الضمير إلى الهوى ... وعَتَبْتُ من حَنقٍ عليك تحنُّنَا مَنَّيْت نفسي في هواك فلم أجدْ ... إلا المنيَّةَ عندما هجَم المُنَى وقوله: إذا امتدَّ كفٌّ للزمانِ بحاجةٍ ... فقُوَّتها من عادة الهِمَّة السُّفْلَى ومن يَكُ يستغْنى عن الخلقِ جُملةً ... فيُغْنيهِ ربُّ الخلق من فضلِه الأعْلَى وقوله: إذا أسأْتَ فأحسِنْ ... واستغفرِ اللهَ تنجُو وتُبْ على الفَوْر وارجعْ ... ورحمةَ الله فارجُو ولده السيد محمد حجازي هو في قلادة نسبهم واسطة، وصاحب أيادٍ بجميل النعم باسطة. شهرته النزعة الحجازية، ولبس من حسن الحجى زيه. وله أملٌ يقوم به مع الأيام ويقعد، ويدنو به طوراً وآونةً يبعد. حتى رسخ رسوخ ثهلان، وكلف بالمعالي كما كلف بميَّة غيَّلان. فجمع الله به شمل المكارم في قطره، وأحيى به الأرض الموات إذا ضن سحابها بقطره. إلا أن فيه عجلةً تلزمه الحجة، وشراسةً تضييق عليه المحجة. فإذا تكرد لا يرجى له صفو، وإن سخط لا ينتظر له عفو. وأما القراءة فله منها ما تحصل، ولكن له شعر تدرج به إلى الوصف بالأدب وتوصل. وقد أثبت له ما يروقك رواؤه، ويغينك عن ماء الغدران إرواؤه. فمنه قوله، من قصيدة يمدح بها البهاء، لما كان قاضيا بحلب، أولها: ألا منجِدٌ في أرض نجْد من الوجدِ ... فما عند أهْلِيها سوى لوعةٍ تُجْدِى وقفتُ بها مستأنساً بظِبائها ... كما يأنَسُ الصبُّ المتيَّمُ بالوجدِ أُسائلُ عمَّن حلَّ بالجِزْع والحمَى ... وأنشُد عمنَّ جاز بالأجْرَعِ الفَرْدِ خليليَّ إن الصدرَ ضاق عن الجوَى ... فلا تعْجبا من طَفْرة النارِ بالزَّنْدِ ففي الجسم من سُعْدَي جروحٌ من الأسَى ... وفي القلبِ من أجْفانها كلُّ ما يُعْدِى بثَغْرٍ يزيدُ الوَقْدَ من خمرِة الَّلمَى ... وصُدْغٍ يُثير الوجدَ من جَمْرة الخدِّ تُقرِّب لي بالَّلحْظ ما عَزَّ دَرْكُه ... وتنْفِر عمداً كي تُصاد على عَمْدِ تَلاعَب في عقل الفُحول بطَرْفها ... مُلاعبةَ الأطْفالِ من غِرَّة المَهْد رمتْ مهجتي أهدابُها عن تعمُّدٍ ... نِبالاً فزادتْ من توقُّدِها وَقْدِى

السيد عبد الله بن محمد حجازي

دنَوْتُ إليها وهْي لم تدْرِ ما الهوى ... وما علمتْ ما حلَّ بي من هوى نَجْد فقلتُ أما من رُضابِك رَشْفةٌ ... مُعَّللةٌ أرْوِي بها غُلةَ الوجدِ وهل للتَّداني عِلَّةٌ أستمدُّها ... وأبذُل في إنْجاز وُصْلتِها جُهْدِي فقالتْ أما يكْفيك وعدي تعِلَّةً ... لقْلبِك فاقْنَعْ يا أخا الوُدِّ بالوعدِ ولا تَرْجُ مهما تقصد النفسُ نَيْلَه ... فإن الرَّزايا في مُتابعِة القصْدِ ولا تستِمحْ من كلِّ خِدْنٍ وصاحبٍ ... إخاءً فقد يُفضى الإخاءُ إلى الزهدِ فما كل إنسانٍ تَراه مُهذَّباً ... ولا كلُّ خِلِّ صادق الوعد والعهدِ ولا كلُّ نجمٍ يُهتدَي بضيائِه ... ولا كلُّ ماءٍ طيِّب الطعمِ والوِرْدِ ولا المسكُ في كل المَهاةِ مَحِلُّه ... ولا ريحُ ماءِ الوردِ من عاصرِ الوردِ ولا فضلُ مولانا البهاءِ محمدٍ ... كفضلِ المَوالي السابقين على حَدِّ قلت: هذه العلاقة النجدية، اقتضت أن تسمى القصيدة بالوجدية. وله، من قصيدة أخرى، في مدح البهاء أيضاً، مطلعها: قطبُ السماءِ هو الطريقُ الأقْصدُ ... دارتْ عليه نجومُه والفَرْقَدُ والمُشْترِي والزُّهَرَةُ والزهراءُ في ... أَوْج السُّعودِ هبوطُها والَمصعَدُ والشمسُ ما شرُفتْ على أقْرانها ... إلا بنِسْبته إليها العَسْجَدُ واللهُ لا تحصَى شئونُ كمالِه ... فالويْل ثَمَّ على الذي لا يشهدُ ولقد أتيتُ الدهرَ غيرَ مُغادرٍ ... في حالة منها أقومُ وأقعُدُ فسألتُه مَن في الحمى فأجابني ... مُفتِي الأنام أبو البهاءِ محمدِ قلت: ها هنا فائدة من المستخرجات بالإلهام، وهي أن كثيراً من الشعراء من يبني روى قصيدته على اسم ممدوحه، ولم يذكروا هذا في البديع، فينبغي أن يسمى ب " التمهيد "، ويذكر. ومن مستحسناته، قوله في الخمرة ونشأتها: لا تَرْضَ بالإضرارِ للناسِ ... إن رُمْتَ أن تنجو من الباسِ وانظُر إلى الخمرِ وما أوقعتْ ... في شارِبيها بعد إيناسِ لما رضَوا في دَوْسِها عُوقبوا ... بَضرْبةٍ منها على الرَّاسِ هذا معنى تصرف فيه وبناه على العقاب، وقد استعمله القدماء وأحالوه على جور الشراب. ولكل مشرب، إما عذب أو مستعذب. ومن الثاني قول ابن الأثير من فصل في وصف الخمر: وقد عرف منها سنة الجور في أحكامها، ولولا ذلك لما استثأرت من الرءوس بجناية أقدامها. وهو أخذه من قول القائل: ذكرتْ حقائدَها الكريمةُ إذ غدتْ ... وَهْناً تُداسُ بأرْجل العصَّارِ لا نتْ لهم حتى انتشَوْا فتحكَّمتْ ... فيهم فنادتْ فيهمُ بالتَّارِ وعلى ذكر التار فأعجب لتار الإشبيلي الذي ينطق الأوتار، وهو قوله: والخمر تعلمُ كيف تأخذُ ثأرَها ... إني أملتُ إناءَها فأمالنِي ويعجبني في هذا السياق، قول بعد الأندلسيين الحذاق: لاتعجَبنَّ لطالبٍ نال العُلَى ... كهلاً وأخْفَق في الزمانِ الأوَّلِ كالخمرِ تحكُم في العقُول مُسِنَّةً ... وتُداس أوَّلَ عَصْرها بالأرجُلِ السيد عبد الله بن محمد حجازي السيد الصنديد، الفقيه الشبيه والنديد. الشريف في نفسه فضلا عن أرومته، الحسيب في ذاته علاوة على جرثومته. شرفٌ ليس بمدعي ولا منتحل، وحسب له رونق المشتري ومرتقى زحل. إذا انتسب باهت به الأنساب، وإذا كتب أرى البدائع بيض الوجوه كريمة الأحساب. إلى مكرمات يدرك أقاصيها، ومعلوات يعقد بالفلك نواصيها. ألبس من الفضل أحسن لباس، وخلق من طينةٍ غير طينة الناس. وهو محاسن وفنون، تتغاير عليها آذان وعيون. بحر إذا نطق وطود إذا سكت، وكله من فرقه إلى قدمه تحف ونكت. بفكر يفتح المقفل، وذهن يستدرك المغفل. وآداب رطبةٍ لدى الهصر، ومعارف تأبى على العد والحصر.

ولقد لقيته بالروم سنة سبع وثمانين، وأنا في أيام تلك الغربة راعى سنين. ولي فؤاد إلى المخالطة شيق، وصدر يسع هم الدنيا وهو ضيق. فنزلت منه بحيث ملتقى الصدر الرحب والمحيا الوسيم، وحليت بقلبه حلول المسرة وهببت في روض أخلاقه هبوب النسيم. وكان لي من مجلسه نضرة الريحان، ونفحة الروض وطرب الألحان. أشيم خضرة ترف في زهرة حسن، وأجتلي روضة في ناظر ونجوى في أذن. وهو أناله الله من كرمه أفضل إنالة، لا يقترح على الأيام مطلبٌ إلا قال: أنا له. إلا أن له حبائل تعتلقه، ومطامع لم تزل تعتلقه. فعوادي الأايام عليه ملحة مكبة، وبواعث صفوها مريحة مغبة. وهو من بعد الهمة، ووساوس الشدة المدلهمة. في قسوة سدت عليه طريقاً ومنهجا، وآيسته من أن يلقى مفرجاً ومخرجا. فأبي له التخيل، إلا التصنع والتحيل. فدبر أمراً تحراه، ونسب فيه إلى أنه افتراه. وكان سهوه فيه أكثر من تيقظه، ووقعه أقرب إليه من تحفظه. فخرج متحسباً إلى مصر، وهو زميل همٍ مبرح وإصر. ثم عدل الحقيقة عن المجاز، وتوجه إلى مثابة الحجاز. فحج البيت الحرام وعاد، ودخل بلده وهو من توفر الحظ على ميعاد. فلم يلبث حتى مد عنان النظر، وتدرج إلى حالٍ أفضت به للأمر المنتظر. وسبب ذلك أنه وقع بحلب غلا، نهض به سعر الأشياء وعلا. وكان حاكمهم العرفي سارع إليهم مدده، وتوفرت لعنايتهم أنصاره وعدده. فانجذبت إليه قلوب الخاصة والعامة، وصاروا يحوطونه من سمة النقص بالكلمات التامة. واتفق أن الحجازي دعاه ليلة إليه، فلما مضى عنده لم يستقر حتى حقت المنية عليه. فنسبوه إلى أنه اقتدح في هلكه زنداً ورية، وسقاه الحمام كاساً روية. ولما خرجوا بجنازته ليودعوه القبر، رأوا الحجازي أمامهم فلم يملكهم عن قتله الصبر. وشغلوا عن الرثاء بطلب الثار، ولم يجدوا مثلها فرصةً تخمد هذا العيب المثار. فرمته عن قوسها سهام القضاء الصوائب، وعضت منه إبهام الإبهام بنابها النوائب. فبقي جسده على الأرض مطروحاً، كأن لم يكن في روض المعارف غصناً مرحاً. وبلغت أمانيها من ذهابه الأغراض، ولله تعالى المشيئة فليس لنا اعتراض. فأنا إذا أفكرت في صرعته، وأخذتني لوعة محنته وروعته. ملكتني عبرة تترقرق، أكاد بمائها أشرق. وأرغب إلى الباعث بعد الحمام، مادثر من هوامد الرمام. أن يهبه رحمته وعفوه، ويعوضه عن كدر دنياه النعيم وصفوه. وقد أثبت من أشعاره التي طلعت محاسنها سافرة المحيا، وسرت سرور الحبيب أحْيَي وحَيَّي. ما حشوت حينا من دره الثمين مسمعي، فإذا تلوته بكيت فضائله فيبكي السامع معي. فمنه قوله، من نبوية مستهلها: أهلا بنَشْر من مَهَبِّ زَرُودِ ... أحْيَي فؤادَ العاشق المنْجودِ وروى شذَى خبر العقيقِ ففجَّرتْ ... منه عيونَ الدمع فوق خدودِ ونمَى فنمَّ لنا بأسرار الهوى ... من حيث منزلةُ الظباءِ الغِيدِ تلك المعاهدُ جاءَها صَوْبُ الحيا ... وسرى النسيمُ بظلها المدودِ فيها بواعثُ مُنْيتي ومنيَّتي ... وبوِرْدها ظمأِى وطِيبُ وُرودِى إن تَنْأَ عن عيني بدورُ سمائِها ... فأنا المُقيم على رَسِيس عهودِى كيف الخلاصُ ولي فؤادٌ مُوثَقٌ ... بالحب لا يُصغِي إلى التفنيدِ تأوُّه لولا دموعي لم يكدْ ... ينْجو الورى من جَمْرها المَوقُودِ هذا من قول الآخر: لولا دموعَى لم يكدْ ... ينْجو الورى من نار قلبِي وقول الآخر: لولا الدموعُ وفَيْضُهنَّ لأحرقتْ ... أرضَ الوداعِ حرارةُ الأكبادِ وأشبه به قول رباح: نار يُغذِّيها السحابُ بمائِه ... فلذاك لم تكُ ترتمِي بشَرارِ ولابن عبد ربه، من أبيات ربيعية: والأرضُ في حُلَلٍ قد كاد يحرقُها ... توقُّد النَّوْر لولا ماءُها الجارِي وقد قلبه الحرفوشيّ كما تقدم في قوله: ومدامعي لولا زفيري لم يكدْ ... ينْجُو الورى من سَحِّها المُتَوالِي داء تَعَوَّدَهُ فؤاد متيَّمٍ ... لم يلتحِفْ غيرَ الأسَى ببُرودِ

كلا ولا كحَل الرُّقاد جفونَه ... أيلَدُّ من ألِفَ الهوى بهُجودِ ما أعذب التعذيبَ في طُرْق الهوى ... إن لم تُشَب أسْقامُه بصدودِ نفسِي الفداءُ لذي قَوامٍ ناضرٍ ... جعل الحِدادَ وسيلةَ التهديدِ رَخْصٌ كجسم النُّور مهْضوم الحشَا ... لَدْن كخُوطِ البانةِ الأُمْلودِ لبستْ غدائرُه الدجى وتقلَّدتْ ... لَبَّاتُها من زهْرها بعقودِ عهدي به والليلُ منْفصِم العُرَى ... مُتوسِّد وَفْق المُنى بزُنودِ والقلبُ يَظْمأُ من مَراشِف ثغرِه ... ظمأَ السكارَى بابْنة العنقودِ بعث الشبابُ على ورود رُضابِه ... فأتى الفراقُ وحال دون وُرودِ فجعلتُ زادِي بعده جَرْعَ الأسَى ... وأطلتُ فيه تَهائمي ونُجودِى وغدوْت في شجَنٍ يُقْلقِل أضلُعي ... إن الشجونَ عَلامَة المَعْمودِ ليت الذي منع التَّداني بيننا ... وقضى عليَّ بوَحْشة التعبيدِ بُلْوِى فيُسعفني بتقْريب الخُطا ... ويفْكُّ من أسْر الفِراق قُيودِى فأشِيمُ برقَ الوصل من قِبَل الحمَى ... وأشمُّ رَوْح الأُنْسِ غير بعيدِ وأرى خيامَ أحبَّتي وقبابَها ... كالخَوْد تُجْلَى في عِرَاصِ البِيدِ أرض يفُوح بتُرْبها أرَجُ النَّدى ... والمجدُ في نُوَّارِها المخْضودِ هي مهبِط الوحىِ القديمِ ومَعِقلُ الدِّ ... ين القويمِ وموطنُ التوحيدِ وكتب إلى الأمير منجك قصيدة طويلة، اكتفيت منها بالمقدار الذي كتبته، ومطلعها قوله: سقى جِلِّقاً صَوْبُ السحابُ المزرَّدِ ... وباكَر من أفْيائها كلَّ معهدِ وقَّلد أجْيادَ الرُّبى في عِراصِها ... يدُ الغيث عِقْدَى لُؤْلُؤ وَزَبْرَجِد ولا زال خفَّاقُ النُّعامَى مُنبِّها ... عيونَ الخُزَامى بالخفيف المجسَّدِ وغنَّتْ بها الأطيارُ من كل نَغْمة ... تُهيِّجْن ألْحان النديمِ ومَعْبَدِ لقد هتَفتْ منها بوَجْدِي سواجِعٌ ... تَلَّفع أظْلالَ الغُصون وترْتدِى تُنوح وتُشْجينا فنزْداد عَيْمةً ... سنعلم إن مِتْنا صدى أيّنا صَدِ أشِيم بروقاً بالشَّآمِ مُثيرةً ... عقابِيلَ شوقٍ بالفؤاد المُشرَّدِ وأسْتافُ نَشْراً كلَّما هبَّ ضائعاً ... تُحدِّث أنفاسَ الحبيب المُبعَِّد فيْهتزُّ من رَيَّاه قلبي وينْثني ... ولولا اهْتزاز الغصن لم يتأوَّدِ فَواحُرقتي إن لم أبلَّغْ نعيمَها ... ووافُرقني إن بِتُّ والبَيْن مُقعِدِى ويومٍ بلَأْلاء الكؤوس مفضَّضٍ ... كستْه يدُ الصَّهْباء حُلَّةَ عَسْجَدِ قضيتُ به حقَّ الهوى غير أنني ... متى أدْنُ منه اليوم يْنأَى ويبعُدِ رعى اللهُ أيام الوصالِ فإنها ... ألذُّ من التَّهْويمِ في جَفْن أرْمَدِ تقضَّتْ وضنَّ الدهرُ منها بنَهْلَةٍ ... تبُلُّ غليلَ السَّائق المتزوِّدِ منها: عسى تقذف البَيْداءُ نَضْوِى برحلةٍ ... تُنِّفس عن أسْرِ المَشُوق المُقيَّدِ إلى بقعة زِينتْ بباقعِة الحجَى ... مُنِيل المعالي المَنْجَكِيِّ محمدِ عريقِ بلاد الشام دُرَّةِ تاجها ... غَياثِ بني الآداب مَأْوَى المُطرَّدِ منها: أخا مَنْجَك يا أكملَ الناس فِطْنةً ... وأشرفَهم بْيتاً بغير تردُّدِ صبغتَ العُلى بالمكرُماتِ فلم يَحِلْ ... وينكَر في الأعْراضِ غيرُ التجدُّدِ أمولاىَ يا بدرَ المعالي وشمسَها ... ويا رحلةَ الآمالِ من غير موعدِ لقد ذلِقتْ في وصف مجدِك ألْسُنٌ ... وعَجَّتْ به بالرُّكْبانُ في كلِّ مشْهدِ

وأهدتْ لنا من بحر طبعِك لُؤْلُؤاً ... على الطِّرسِ حتى كاد يُلقَط باليدِ منها: فأسْلْفتُك الإعظامَ والودَّ مُوفِياً ... حقوقَ مَعاليك التي لم تُعدَّدِ وقدَّمتُ من فكرِي إليك أَلُوكةً ... حَبَتْكَ بمْغبوطٍ من المدح سَرْمَدِ تُخبِّر عمَّا في القلوب من الجوَى ... ويأْتِيك بالأخبارِ من لم تُزوِّدِ فأوجِبْ لها حقاً وأنْعِم بمثلها ... وعِضْني بنظمٍ من عقودك يحُمدِ أُروِّى بها من لاعج الشوق والنوى ... غليلَ فوادٍ بالصَّبابة مُكْمَدِ منها: فأنت لْجَفن الدهر سيفٌ وناظرٌ ... ولولاك لم يُبِصرْ ولم يتقلَّدِ ثم أعقبها بقطعة من نثره، وهي: حامل لواء النظم والنثر، حامي بيضته عن الصدع والكسر. محل استواء شمس الكرم، العاصر بمجده عنقود الثريا تحت القدم. واسطة قلادة الفضائل وعقد نظامها، وبيت قصيدة الآداب ورونق كلامها. جناب الأمير ابن الأمير، والعطر ابن العبير. لا برحت ظلال معاليه ممتدة على مفارق الأيام، وظل حساده أقلص من جفون العاشق عن طيب المنام. هذا ولو أوتى الداعي زكن إياس، واستضاء من محاضرة أبي الفرج بنبراس. وملك براعة ابن العميد، وأحرز خطب ابن نباتة وبداهة عبد الحميد. وأعطى بلاغة الصاحب ونوادر أبي القندين، ونال مقامات البديع ومفاوضات الخالديين. وحاز محاورات الأحنف وفصاحة سحبان، وحوى منشآت القاضي الفاضل ومدائح حسان. ورام أن يزخرف كلاما يناسب مقتضى المقام والحال، لفل حد القلم وضاق ذرع المجال. وإن أحجم بقيت في النفس حاجة، وعصف على القلب ربح حسرة فهاجه. فلذلك أقدم على الثانية سجياً، وأبدى لتلك الحضرة هديا. فإن أكرم الأمير مثواها، فنظم من فرائد عوائده فحلاها. وأجاب بما يروى غليل الفؤاد، ويخصب مراد المراد. فذلك من مساعي فطرته المنجكية، ودواعي شيمته البرمكية. فأجابه بهذه الأبيات: أمولايَ من دون الأنام وسيِّدِي ... بمدحِك قد بلَّغْتني كلَّ سُؤْدَدِ بعثتَ بأبياتٍ كأن عُقودَها ... مُنضَّدةٌ من لُؤْلؤٍ وزَبَرْجَدِ أُمتِّع طَرْفي في طروسٍ كأنها ... مبادِى عِذارٍ فوق خَدٍّ مُورَّدِ سطورٌ إذا مارمتُ قتْل حواسدِي ... أُجرِّد منها كلَّ عَضْبٍ مهنِّدِ تكلفِّني ردَّ الجواد وإنني ... أبِيتُ بفكرٍ في الزمان مُشرَّدِ وليس يُجيد الشعرَ منطقُ عاجزٍ ... ضئيل على فُرْش السُّهادِ مُوَسَّدِ يمرُّ به العمرُ الطويل مُضيَّعاً ... على الكُرْهِ منه بين واشٍ وحُسَّدِ فعذراً أخا العلْياءِ فُلَّتْ عزائمي ... وقد كنُت كالسيف الصَّقِيلِ المجرَّدِ فإنك أهلُ الصفحِ والعفوِ والرِّضا ... وإنك من نَسْلِ النبيِّ محمدِ أعَزُّ بني الدنيا وأشرفُ من سَمَا ... إلى الرتبِة العَلْيا بغير تردُّدِ صغيرٌ إذا عُدَّت سِنِىُّ زمانِه ... كبيرٌ به أشياخُنا الغُرُّ تقتدِى تملَّك رقَّ الحمدِ والشكرِ والثَّنا ... بكفٍّ على فعل الجميلِ مُعوَّدِ فلا زال عيناً للزمان وأهلِه ... يجرِّر ذيلَ الفخرِ في كلِّ مَشْهَدِ ومما طارحني به في بعض مطارحاته، أنه لما مر بدمشق قاصداً الحج، شغف بأحد أبناء سراتها، وكان من الأشراف، قال: ثم فارقته وتباكينا يوم التوديع، فكتبت إليه من الطريق مضمناً بيت البحترى: يا آل بيتِ المصطَفى هل رحمةٌ ... لفؤاد مشبوبِ الجوانح نائرِ ضلَّتْ نواظُره الرَّقادَ وما اهتدتْ ... ببَياض دمعٍ من سوادِ ضمائرِ دمعٌ تعلَّق بالشَّؤونِ فساقَه ... زفراتُ بَرْحٍ من جوًى مُتخامِرِ لو تنظرون إلى الشَّتيتِ وسِرْبُه ... يقْفو سُروبَ زواخرٍ وزوافرِ لعذرْتموه وماله من عاذِلٍ ... وعذلْتموه وماله من عاذرِ

واهاً لأيامٍ تقضَّتْ خُلْسةً ... في ظلِّ دَوْحٍ بالسيادةِ ناضرِ دوحٌ عليه من النبيِّ محمدٍ ... وَضَحُ الصباحِ ونفْح روضٍ باكرِ لم أنْسَه يومَ الوَداعِ وطَرْفُه ... يرنُو إلى شَعثِ النجيبِ الضَّامِرِ وفعالُه تُبدِى نفاسةَ عِرْقِهِ ... في فضْل وجهٍ بالسماحةِ زاهرِ حتى إذا جدَّتْ بنا ذُلَلُ النَّوى ... والعينُ تسْفح بالنَّجِيع المائرِ سِرْنَا وعاوَد كالمقيم وربما ... كان المقيمُ عَلاقة للسائرِ ومن بدائعه قوله: ألا لا تسَلْ أيّ شيءٍ جرَى ... ومن قَرْح جَفْنِيَ ماذا جرَى تعلَّمتُ من حبِّه الكيِميَا ... وصرتُ حكيماً به أكْبرا سحَقْت فؤادي وأودعتُه ... بنارِ غرامٍ به أسْعَرَا وصيَّرتُ عيني أنبيقةً ... وقطَّرْتُه ذهباً أحمرا ألا هكذا يا أُخَيَّ الهوى ... كما كلَّ صيدٍ بجوف الفَرَا وقوله: لم يدْرِ من بالوصل مازَ جَفاكِ ... أن الرَّحِيقَ العذبَ مازَج فاكِ قد كنتُ في دِين الغرام موحِّداً ... ومُوحَّداً من دون من يَهواكِ حتى نصبْتِ الهُدْبَ منكِ حُبالة ... للعاشقين وعُقْلةَ النُّسَّاكِ وأريْتنِي ناراً بخدِّك أُضرمتْ ... فوقعتُ في الأشْراكِ والإشْراكِ وقوله: رأسُ الشريف عليه سندسُ أخضرٍ ... عنوانُ ما في الخلدِ بعضُ حُلاهُ سُقِيتْ بماء مكارمٍ أعْراقُه ... فاخْضرَّ من أصلٍ زكا أعْلاهُ من قول الشهاب الخفاجي: يقول على رأس الشريفِ علامةٌ ... ونورُ نبيِّ الله عن ذاك أغْنَاهُ فقلتُ جرى ماءُ المكارمِ والندى ... وقد طاب مَجْراه لذا اخْضَرَّ أعْلاهُ وله في مجدر: يقولون من تهواه جُدِّر وجُهه ... فقلتُ لهم حاشاه من نَصَبٍ يُردِي ولكن أشارُوا بالبَنان لحسنِه ... فأثَّر أطرافُ الأناملِ في الخدِّ قلت: لله دره على ما أبدع: وقوله: جدر بالبناء للمفعول، تقول جدر الرجل، فهو مجدر. وفي الأساس: مجدر ومجدور. وأنكر الحريري في الدرة مجدراً، وعده من الوهم. قال: لأنه داء يصيب الإنسان مرة في عمره، من غير أن يتكرر عليه، فلزم أن يبنى منه المثال على مفعول، ولا وجه لبنائه على مفعل الموضوع للتكثير. ولا وجه لإنكاره، إذ ليس كل فعل للتكرير والتكثير، فقد يجيئ بمعنى فعل كثيراً، مع أن التكثير والتكرير محقق هنا باعتبار أفراد حباته، وهو في غاية الظهور. والأفصح أن يقال جدري، بضم الجيم، واشتقاقه من الجدر وهو آثار الكي على عنق الحمار. وقد أكثر الشعراء من وصف المجدر، ولم أر أحسن من قول أبي سعد الجويني: بدتْ بثَراتُه فوق المُحيَّا ... كما نُثرتْ على الشمس الثُريَّا كأن الخدَّ والبثَرات فيه ... حَبابٌ فوق كأسٍ من حُمَيَّا وأنشدني الحجازي، قوله في وصف مجلس لبعض أحبائه، أطل على غدير فرشت أرضه بحصبائه: حسَدتْ جَمْعنا النجومُ فألْقتْ ... نَفْسَها في مناقِع الغُدْرانِ هذ بيتٌ ماله الحسن موازي، يساوي ألف بيت من جنس بيت المنازي. وما أظن أن أحداً سبقه إلى هذا المعنى، ولا أن فكراً طرق هذا المغنى، غير أن في قطعة لابن حمديس بيتا يقاربه في المبنى، وهو: كأن حُبابا رِيع تحت حَبابِه ... فأقبل يلقى نفسَه في غَدِيرِهِ وأنشدني من لفظه لنفسه، قوله في قصيدة، في مدح الوزير الفاضل: ولرُبَّ يومٍ قد تلفَّعتِ الضحَى ... منه بثوبَيْ قَسْطَلٍ وغَمامِ حسرتْ قِناعَ النَّقْع عنه عُصبةٌ ... غُبْرُ الوجوه مُضيئةُ الأحْلامِ مُتجرِّدين إلى الِّنزالِ كأنما ... يتجرَّدون لواجبِ الإحرامِ لا يأنَسُون بغير أطْرافِ القَنا ... كالأُسْد تألَف مَرْبِض الآجامِ

يْسرى بهم نَجْمان في ليلِ الوغَى ... رأىُ الوزير ورايةُ الإسلامِ وكان أتحفني من أناشيده بطرف بدائع، هي في عهده الدهر من جملة مالي من ودائع. ووقع في داره بالروم حريق، فتلف بعض أسباب رياشه، وذهب جل ما اتخذه من ذخائر معاشه. فقلت أخاطبه: فِدًى لك ما على الدنيا جميعَا ... فعِش في صِحَّةٍ وابْلِ الرُّبوعَا لئن جزِع الأنامُ لَفْقد شيءٍ ... فلستَ لفَقْدك الدنيا جَزُوعَا تعلَّمْنا الأناءَةَ منك حتى ... توطَّنَّا بها الشرفَ الرفيعَا أفاض اللهُ جودَك في البرايا ... وأنبتَ من أياديك الربيعَا وصوَّرك الميهمنُ من كمالٍ ... لنَعْلم صنع خالقِك البديعَا فمُر واحكُم بما تختارُ فينا ... تَجِدْ كُلًّا با تهوَى مطيعَا فلو كلَّفتَ يومَ الأمسِ عَوْداً ... لَخاض الليلَ واخْتار الرجوعا ولو ناديتَ سهماً في هواءٍ ... لعاد القَهْقَري وأتى سريعَا يضُمُّ البُرْدُ منك أخا فَخارٍ ... يبيتُ الليلَ لا يدري الهُجوعَا وإنِّي مَن بجُودك قد ترقَّى ... وحلَّ من العُلى حصناً مَنِيعَا خُلِقتُ على الوفاءِ لكمْ مقيماً ... وأوْفَى الناسِ من حفِظ الصنيعَا وكتبت إليه من دمشق، بعد عودى من الروم إلى حلب، هذه القصيدة: أرى النَّدْبَ مَن صافَي الزمانَ المحاربَا ... وأغْبَى الورى من بات للدهر عاتبَا أتعتَبُ من لا يعقل العَتْبَ والوفا ... ولا هَمَّه شيءٌ فيخشَى العواقبَا وإن ضَنَّ لم يسمَح بمثْقال ذَرَّةٍ ... ولم يُبْقِ موهوبا ولم يُبق واهبَا ولا جَنَّةٌ تُغنِيك إن كان مانعاً ... ولا منزلٌ يُؤْويك إن كان طالبَا أُحاوِل شَكْواه فألْقَى نوائباً ... تُهوِّن عندي منه تلك النوائبَا ولن يسبِق الأقْدارَ من كان سابقاً ... ولن يغلبَ الأيامَ مَن كان غالبَا ومَن صحِب الدنيا ولو عُمْرَ ساعةٍ ... رأَى من صُروف الدهر فيها العجائبَا وقَفْرٍ كيوم الحْشر أو شُقَّة النوَى ... يُضِلُّ القَطا أعْملت فيه النجائبا وليلٍ كقَلْبِ السامِرِيِّ قطعتُه ... إلى أن حكى بالفجر أسود شائبَا وما كنتُ أرْضَى بالنوى غير أنني ... جديرٌ بأن لا أرْتِضى الذلّ صاحبَا فنظَّمتُ من دُرِّ المعاني قلائداً ... جعلتُ قوافيها النجومُ الثواقبَا وَيمَّمتُ أقْصَى الأرضِ في طلبِ العلى ... ولم أصْطحبْ إلا القَنا والقواضِبَا فلاقيْتُ في الأسْفارِ كلَّ غريبةٍ ... ومن يغتربْ يلْقَ الأمورَ الغرائبَا وخلَّفتُ مَن يرجُو من الأهلِ أوْبَتِي ... كما انْتظر القوم العطاشُ السحائبَا وكم قائلٍ لا قرَّب اللهُ داره ... ومن يتمنَّى لو بلغتُ المطالبَا فعُدْتُ على رغم الفريقْين سالماً ... ولم أقْضِ من حّق الفضائل واجبَا وحسْبِي وجودُ ابن الحجازِيِّ نائلاً ... به لم أزلْ ألْقَى المُنَى والمآربَا فتًى قد جهلتُ العُسْرَ منذ عرفُته ... ولَانتْ ليَ الأيامُ عِطْفاً وجانبَا وأصبحَ يْلقاني العدوُّ مُسالماً ... وقد كاد يْلقاني الصديقُ مُحاربَا منها: فِراستُه تُغنيك عن ألفِ شاهدٍ ... تُرِيه من الأشياءِ ما كان غائبَا وَقُورٌ كأن الطيرَ فوق جليسِهِ ... ترى الدهرَ منه خائفَ الدهرِ راهبَا في قولهم: كأنما على رؤوسهم الطير توجيهان: أحدهما: أنهم لا يتحركون فصفتهم صفة من على رؤوسهم طائر يريد أن يصيده، فهو يخاف إن تحرك طيران الطير وذهابه. والآخر، هو أن نبي الله سليمان عليه السلام، كان يجلس هو وأصحابه، ويقول للريح:

أقلينا، وللطير: أظلينا، ويستشعر أصحابه السكون والسكوت؛ فشبهوا بجلساء سليمان الذين لا يتحركون، والطير تظلهم من فوق رؤوسهم. ويقال للرجل الحليم إنه يساكن الطير، أي أن طائره لا ينفر من سكونه. أخافَ سِباعَ الطير من سَوْطِ رأيه ... فكادتْ لفَرْطِ الخوف تُلقِى المخالبَا ولو أدرك المجنونُ أيامَ حُكْمِه ... لأعرَض عن ليلَى وأصبح تائبَا منها: خبيرٌ بتحْقيق العلومِ مُدقِّقٌ ... إذا جال في بَحْثٍ أراك العجائبَا وإن نثَرتْ يُمناه في الطِّرْس لُؤْلُؤاً ... كتبْنَا على تلك الَّلآلي مطالبَا وذيلتها برسالة وهي: أقسم بمن جلت عظمته، وعلمت كلمته. وسخر القلوب للمودة، وصقل بالمحبة الخواطر المستعدة. إنني أشوق إلى لثم يد مولاي من الروض إلى الغمام، ومن الساري إلى تبلج القمر في الظلام. وقد كانت حالتي هذه وأنا جاره، فكيف الآن وقد بعدت عني داره. وليست غيبته عني إلا غيبة الروح، عن الجسد البالي المطروح. ولا العيشة بعد فراقه الجاني، إلا كما قال البديع الهمذاني: عيشة الحوت في البر، والثلج في الحر. وليس الشوق إليه بشوق، وإنما العظم الكسير، والنزع العسير، والسم يسرى ويسير، والنار تشوى وتطير. ولا الصبر عنه بصبر، وإنما هو الصاب والمصاب، والكبد في يد القصاب، والنفس رهينة الأوصاب، والحين الحائن وأين يصاب. وقد كتبت إلى مولاي هذه القصيدة، وأنا لا أحسبها من الإحسان بعيدة. وهذا الكتاب، وقد أنفقت عليهما مدةً من العمر، وصرفت على تحريرهما حينا من الدهر. وكتبتهما وأنا مستغرق في ذكرك، مشغولٌ بحمدك وشكرك. ذاكرٌ عهدك، ومقامي عندك. في أوقاتٍ ألذ من قبل الغيد، وأشهى من اجتلاء الخدود ذات التوريد. حيثما العيش أخذ طلقه، واستوفى من الأماني حقه. وأنت تقرط سمعي بفوائدك، وتملأ صدفة أذني بلآلي فرائدك. من أدبٍ أغزر مادةً من الديم، وأنشط للقلب من بوادر النعم. ولقد يعز علي أن ألفى بعيداَ عنك، متروك الذكر منك. ولكن هو الدهر، وعلاجه الصبر. فصبراً على الأيام في كلِّ حالةٍ ... فكم في ضميرِ الغيب سِرٌّ مُحجَّبُ وربما تخالج في صدري لداعيةٍ اقتضته، ورعونةٍ لأجل التنافس تقاضته. أن يشرفني بمكاتبة، ويؤهلني إلى مخاطبة. جرياً على معروف المعروف، وطمعا في اغتنام كرمه الموصوف. حتى أباهي بكلمه الزمان، وأجعلها حرز الأماني والأمان. وأظنه يفعل ذلك متفضلاً، لا برح لكل إحسان مؤملا. فكتب إلى جوابا. نحن عِفْنا الشهباءَ شوقاً إليكم ... هل لديكم بالشَّامِ شوقاً إليْنَا قد عجزْتُم عن أن تَرَوْنا لديكمْ ... وعجزْنا عن أن نراكم لَديْنَا حفظ اللهُ عهدَ من حفِظ الْ ... عهدَ ووَفَّى به كما وَفَّيْنَا اللهم جامع المحبين، ومعين القوى على ألم النوى وما جعل الله لرجلٍ من قلبين. أسألك بما أودعته في سرائر المخلصين من أسرار المحبة، وأنبت في رياض صدورهم من المودة، هي التي كحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. فارع فرع الشجرة المحببة وأصلها، وأفض عليها فواضلك التي كانوا أحق بها وأهلها. واحفظ اللهم هاتيك الذات الزكية التي رؤيتها أجل الأماني، ونور تلك الصفات التي إذا تليت تلقتها الأسماع كما تتلقى آيات المثاني. هذا وما الصب إلى الحبيب، والمريض إلى الطبيب. بأشوق مني إلى تلقي خبره، واستماع ما يفتخر به الركبان من حسن أثره. وماغرضي من عرض الأشواق، التي ضاقت عنها صدور الأوراق. إلا تأكيدٌ لما يحيط به علمه المحترم وتشنيفٌ لمسامع اليراع بذكر صفاته التي تطرب فيترنم بألطف نغم. ولقد كنت أتوقع زيارته لما قدم البلدة النجرا، فثنى عنان الإعراض وأجرى جواد الانبرا. وما هكذا كنَّا لقد كان بيْنَنا ... معاملةٌ عن غير هذا الجفَا تُنْبي هذا وضمير الأخ أنور من أن يستضئ بمصباح الاعتذار وأعلم بصدق المحبة في حالتي القرب والبعد والإعلان والإسرار. وليس يندمل الجرح منا إلا بمرهم لقائه، ولا يشفى غليله إلا بري روائه. فالرجاء أن يتلافى ما فرط بل أفرط من الإعراض، ويسمح بما نتوقعه منه بلا إغماض.

السيد يحيى الصادقي

هي الغايةُ القُصوى فإن فات نَيْلُها ... فكُلٌّ من الدنيا علىَّ حَرامُ ؟ السيد يحيى الصادقي غرة في جبهة الفخر، ينفلق عنها لألاء الفجر. أساريره على فرحة الحمد مشرفة، وصحيفتاه ما زالا يطلعان ورد المعرفة. أحسن في هذه الحلبة السباق، وكان له في روضة الأدب الاصطباح والاغتباق. ولذاته المحاسن أجمع، وبمثله لم يتمتع منظر ومسمع. إلى ما حواه من مطارحةٍ معسولة، ومعاشرة من وسخ الرياء مغسولة. مرآة طبعه عن أسرار المعاني تشف، وورد رويته عليه طيور القلوب ترف. وله أشعار أسوغ من السلاف وألطف، وأدق من السحر يجول في لحظ شادنٍ أو طف. تعد كلاما وهي تجتلى بين الندام، فيتسلى بها فؤادٌ ما تسليه المدام. وقد أوردت من نادرها الغريب، ما يتحير من كيفية تخيله الفطن الأريب. فمنه قوله: ولم أشْربِ الخمرَ الحرام تعمُّداً ... ولكن دعتْينِه الضرورةُ فاعْلمِ تخيَّل لي في كأسِه عند مَزْجِه ... بكفِّ الذي أهْواه هيئُة أرْقَمِ فخِفْتُ عليه منه لَدْغة ضائرٍ ... فأوهمْتُه وَكْراً وأدخلتُه فمِي وقوله في تشبيه النرجس: انْظُر إلى النَّرْجِس لمَّا بدا ... معتدلَ القامِة كالصَّوْلَجانْ كأنه كفُّ عُقابٍ هوَتْ ... فاختطفتْ تاج أنُوشِرَّوانْ قلت هذا تشبيهُ، ماله شبيه، غير أنه شدد فيه راء شروان، وهو من غلط الخواص. وهذا اللفظ فارسي معرَّب، تكلمت به العرب، وأصله نور شروان، ومعناه الأسد الجديد، وهو وصف لكسرى. قال عدي ابن زيد: أين كسرى كسرى الملوك أنُوشِرْ ... وانَ أم أين قَبلَه سابورُ وقد يعتذر عن تشديده بما قاله في مثله العصام: وللعرب التصرف في ألفاظ العجم، ولهذا يقال: هو أعجمي فالعب به ماشئت. وولاه بعض القضاة نيابة محكمة تعرف بالسيد خان، فكتب إليه: أصبحتُ مع الشمسِ بُبْرجِ المِيزانْ ... إذ أنْزلِني الهمامُ بالسَّيِّد خانْ لكن وعُلاكَ كلُّ مَن ناب يَخُنْ ... والعبد يعافُ كلمةَ السيِّد خانْ وحكى لي شيخنا المهمنداري، مفتى الشام، أن الصادقي حضر مع جماعة من الأدباء، منهم البديعيّ، وعبد القادر الحمويّ، في مجلس السيد أحمد بن النقيب، في ليلة شاتية تكاد نارها تخمد، وأفكار القلوب فيها تجمد. والمجلس قد احتبك، وأرميت لمصائد الأفهام الشَّبك. وبينهم بدر ترمقه المقل، فتجرح منه مواضع القبل. إذا تلهّبت نيران خدّيه تراءت بها جنات النعيم، يدور عليها عقرب صدغه الليلي فكم من سليمٍ منها في ليل السقيم. فجيء بمنقل شُبّ ضرامه، كما شُبّ في كل قلب منهم غرامه. فما حصل حتى بدِّدت ناره عن عثرة، وأصلي منها ذلك الحفل ألف جمرة. فقال الصادقيّ فيه: ضَمَّنا مجلسٌ لتاجِ الموالِي ... عالمِ العصر بِكْرِ هذا الزمانِ غُرةُ الدهر أحمدٌ ذو الأيادِي ... وابنُ خيرِ الأنام من عَدْنانِ بفَريدِ الحسان خَلْقاً وخُلْقاً ... عَنْدلِيبِ الإخوانِ نورِ المكانِ فاشْتَهى كلُّنا زَفافَ عروسِ الْ ... حُسنِ تُجْلَى في لونِها الأُرْجُوانِ فانْثنَى كالقضيبِ تفْديه نفْسِي ... عابثاً بالسِّياطِ والمُجَّانِ فأصاب الكانُونُ سَوْطٌ فطار الْ ... جمرُ من وَقْعِه على الإخوانِ فسألْنا ماذا فقال نِثَارُ الْ ... حبِّ جمرٌ لاَ جَمرةٌ من جُمانِ واعْتراهُ الحيَا فأخْمدها مِن ... غير بُؤْسٍ بساعدٍ وبَنانِ ففرِقْنا عليه منها فنَادَى ... وكذا النورُ مُخْمِد النِّيرانِ وقال أيضاً: لاَمُوا الذي حاز لُطفاً ... وبَهْجةً وجَلالَهْ إذ بدَّد النارَ عمداً ... ليلاً وأبْدى الخَجالَهْ وصاغ في البُسْطِ شُهْباً ... إذْ كان بدراً بِهالَهْ وكفَّل الطَّفْيَ يُمْنا ... هُ تارةً وشِمالَهْ كذلك الشمسُ تُدْنِي ... لكلِّ نَجْمٍ زَوالَهْ

السيد عطاء الله الصادقي

فقلتُ لا تعذِلُوه ... دَعُوه يُوضِحُ حالَهْ بأنه بدرُ تِمٍّ ... حِيناً وحِيناً غَزالَه وقال أيضاً: أفْدِي الذي أبدى سَما حُسْنِه ... لنا شُموساً ثم أقْمارَا فاسْترق القومُ بأبْصارِهمْ ... سَمْعا فعاد السمعُ إبْصارَا فأرسل الشُّهْبَ عليهم من الكا ... نُونِ تَهْتاناً ومِدْرارَا فظنَّه الجاهلُ مِن جهلِه ... بأنه قد بدَّد النارَا وقال أيضاً: أنْشدتُ من أهوَى وقد أخذ الهوَى ... بمَجامِعي واسْتحْوذَ اسْتحواذَا كبدِي سلبْتَ صحيحةً فامْنُنْ على ... رمَقِي بها مَمْنونةً أفْلاذَا فأشار للكانونِ فانْثالتْ على ال ... جُلاَّسِ جمراً وابِلاً ورَذاذَا وبدا يُكَفْكِفُه حَياً ويقول لي ... مَن كان ذا لُبٍّ أيطلبُ هذَا وقال السيد أحمد بن النقيب: قد قلتُ إذ عثَر الذي ألْحاظُه ... فعلتْ بنا فِعْلَ الشَّمُولِ مُشَعْشَعَهْ في مجلس بالنار فانْتثرتْ على ... بُسْطِي فجَلَّله الحياءُ وبَرْقَعَهْ وأكبَّ يدفع عَبْثَها بأكُفِّه ... مُسْتعظِماً ذاك الصَّنِيعَ ومَوْقِعَهْ جَمراتُ حُبِّك لو علمتَ بفعْلِها ... في القلبِ ما اسْتعظمتَ حَرْق الأمْتعَةْ وقال أيضاً: لا تَحسَبُوا النارَ التي ما بيْنَنا ... نُثِرت من الكانُونِ كان شَتاتُهَا بل إنما ذاك الذي ألْحاظُه ... سلبتْ عقولَ أُولى النُّهَى فَتراتُهَا لمَّا رأى عُشَّاقَه تُخْفِى الجوَى ... ولهيبَ نارٍ دَأْبُه زَفراتُهَا وأراد يفْضحها أشار بكفِّه ... لقُلوبها فتناثرتْ جَمراتُهَا وقال البديعيّ: في الدُّجى زار مُنْعِماً مَن أَرانَا ... مَن رآه في حبِّه مظْلومَا عثَرتْ رِجلُه فبدَّدتِ النَّا ... رَ فخِيلَتْ بلا سَماءٍ نُجومَا واكْتستْ وَجْنتاهُ ثوبَ احْمِرارٍ ... فَرَقاً منه أن يكون مَلُومَا قلتُ مولايَ هذه بعضُ نارٍ ... أنتَ أضْرمْتَها بقلبي قديمَا ظهرتْ منه بعد ما قد أكنَّتْ ... هَا ضُلوعي إذا ما أراك رحيمَا فانْثَنى ضاحكاً وقال إذا كا ... نتْ لَظَى الشوقِ ما لها لن تدُومَا وقال عبد القادر الحمويّ: إن الذي أخْجَل شمس الضحى ... في مجلسِ المولى الرفيع العمادْ بدَّد ناراً كان للإْصْطِلا ... فانْبَثَّ كالياقوتِ بين الأيادْ فانْصَاع يَزْوِي الجمرَ في أنْمُلٍ ... كالخَزِّ إن حاولْتَ منها انْعقادْ وقال إذ رامَتْ بتأْجِيجِها ... تحكي سنَا خَدِّي ومنك الفؤادْ نثرْتُها عمداً على بُسْطِ مَن ... أرْوَى ندَاه كلَّ غادٍ وصَادْ السيد عطاء الله الصادقيّ هو للذي قبله نسيب، يتناسب فيه مدح ونسيب. صحيفة مجده للخير قابلة ... ونسخة محتده صحيحةٌ مقابلة. إذا قال صدق، وإذا استمطر غدق. تعاطى المسرة صرفا، واتخذ المجرة مدى والعيُّوق طرفا. وله أدب مشعشع مروَّق، وشعرٌ به جيد الدهر مطوّق. اثبتّ منه ما ينساغ انسياغ الريق، ويهزأ بدرر الثنايا في اللّمعان والبريق. فمنه قوله: أقسمتُ ما لا ح بَرْقٌ من ثَناياكِ ... إلاّ وسَحَّ سَحاباً طَرْفِيَ الباكِي وما تغنَّتْ حَماماتٌ على فَنَنٍ ... إلاَّ وجاوَبها بالنَّوْح مُضْناكِ يا فتنةً قابلتْ بالصَّدِّ وُدَّ فتًى ... ما مال في حبِّها يومًا لإشْراك إن غبْتِ عن ناظِري ما غبتِ عن خَلَدِي ... وحيث كنتِ فإنَّ القلبَ مأْواكِ أبِيتُ فيك أُراعِي النجمَ من قلَقٍ ... ما كنتُ أرْعَى نجومَ الأُفْقِ لَوْلاكِ

وفيك لي قد حلا خَلْعُ الغِدارِ لما ... طربتُ عند سماعي وَصْفَ مَعْناكِ يا شمسَ حُسْنٍ بليلِ الشَّعرِ طالعةٌ ... لطَلْعةُ البدرِ جزءٌ من مُحَيَّاكِ كذاك الريمِ سهمٌ فيك من مُلَحٍ ... وللصَّباحِ نصيبٌ من ثَناياكِ لم ألْتفتْ لسِواكِ غيرَ مَن بهرتْ ... علومُه كلَّ ذِي فضلٍ وإدْراكِ أخي الفضائل مَنَّاحِ المسائلِ وهَّ ... ابِ الجزائِل أمْنِ الخائِف الشاكِي مولًى بأعلَى أعالِي المجد رُتْبتُه ... أضحتْ بأوْجِ المعالي فوق أفْلاكِ به لقد نُسِخَتْ أخبارُ من دَرَجوا ... من الأكارمِ من عُرْبٍ وأتْراكِ إن سادَ كلَّ الورى فضلا فلا عجَبٌ ... فإنه فَرْعُ أصلٍ طاهرٍ زاكِى مِن قادةٍ ورِثُوا العلياءَ كُلِّهمُ ... وأصبحوا للمعالي أيَّ أمْلاكِ مامنهمُ غير نِحْرِيرٍ بمُصْطدَمِ الْ ... أبحاثِ يُلْقِى عليها أيَّ فَتَّاكِ فبدَّد المالَ والأيامُ عابسةٌ ... روَتْ أياديه عن بِشْرٍ وضَحَّاكِ بُعْداً لمَنْ رام يحْكيهمْ بفيْضِ نَدًى ... أيُشْبه الغيثُ إبراهيمَ ذا الزَّاكِي يا مُفْردَ العصرِ في خَلْق وفي خُلُقِ ... وألطفَ الناس في فَهْمٍ وإدراكِ حكاكَ فَيْضُ الحيا إذْ هلَّ منهمِلاً ... لدَى العطاءِ وليس الفضلُ للْحاكِي بصَحْبِها سُفْنُ آمالٍ لديك سرَتْ ... فقال جودُك بسمِ الله مَجْراكِ لا زلْتَ ترْقَى المعالي دائماً أبداً ... على البريَّةِ من إنْسٍ وَأمْلاكِ ومن بدائعه قوله، وقد ولي قضاء الموصل: ومُعَذَّرٍ حُلْوِ اللَّمَى قبَّلْتُه ... نظَراً إلى ذاك الجمالِ الأوَّلِ وطلبتُ منه وَصْلَه فأجابني ... ولَّى زَمان تعطُّفِي وتدّلُّلِي نضَبَتْ مِياهُ الحسنِ من خدِّي وقد ... ذهب الرُّوا من غصنِ قَدّى الأعْدلِ قلتُ الحديقةُ ليست يكمُل حسنُها ... إلاَّ إذا حُفَّتْ بنبْتٍ مُبْقلِ دَعْكَ اتَّبِعْ قولَ ابنَ مُنْقِذ طائعاً ... واعلمْ بأني صرتُ قاضِي الموصلِ مراده بابن منقذ الأمير شرف الدولة أبو الفضل وقوله: كتب العِذَارُ على صحيفةِ خدِّه ... سطراً يحيِّر ناظرَ المتأمِّلِ بالغتُ في اسْتخْراجِه فوجدتُه ... لا أرىَ إلاَّ رأيُ أهلِ الموصلِ ورأى أهل الموصل هو الميل إلى ذوي اللّحى وتنسب إليهم في هذا الباب مبالغات. وفيهم يقول أبو الوليد بن الجنّان الكنانيّ، الشّاطبيّ، نزيل دمشق: للهِ قوم يعشَقون ذوِي اللِّحَى ... لا يسألونَ عن السَّوادِ المُقبِلِ وبمُهْجتي قومٌ وإنِّي منهمُ ... جُبِلوا على حُبِّ الطِّرازِ الأوَّلِ قوله: الطراز الأول، يريد به العذار أوّل ما يبقل، وهو الذي يكنى عنه البلغاء بطراز الله. قال الصاحب بن عبّاد: رأيتُ عليًّا في كمالِ جمالِه ... فشاهدتُ منه الروضَ ثانِيَ مُزْنِهِ ولما تبدَّى لي طِرازُ عِذّارِهِ ... رأيتُ طرازَ الله في ثوبِ حُسنِهِ وللسيد عطاء الله: رأيتُ بخدِّه الوَرْديِّ خالاً ... فتِيتُ المسك منه قد بدا لِي غزالُ الإنسِ ما في ذاك بِدْعٌ ... فإن المسكَ بعضُ دمِ الغزالِ وكتب إلى السيد باكير بن النّقيب، ملغزاً في اسم أحمد: يابنَ مَن أكْسب الفضائلَ في شَهْ ... بائنا والعُلَى سَناءً وسَعْدَا ما اسمُ شيءٍ حروفُه عددُ الأيا ... مِ إن رُمْتَه حسابًا وعَدَّا وهو اسمٌ نَفَى المهيمنُ عنه ... في الكتابِ العزيز أن يُفدَّى صدرُه حاجبٌ لمن كنت مِن خَدَّ ... يْهِ قبل الصدودِ أقطِفُ وَرْدَا

السيد محمد التقوى

ويلِيه شمسٌ فمِيقاتُ مَن في ... حالكاتِ الظلامِ آنَسَ رُشْدَا وله أولُ الهدى كلَّ وقتٍ ... آخِرٌ إن يكُنْ بلفظكَ فَرْدَا ومِن دُونه إذا صحَّفوه ... يسْتميل النفوسَ أنَّى تبدَّى واقْلِب النصفَ منه تنْظُره عن ... كلِّ همامٍ يروِي علاءً ومجدَا فأجِبِ عنه وابْقَ في ظلِّ عيشٍ ... كل مَدْحٍ إلى جَنابِك يُهْدَى السيد محمد التقوى التقوىُّ نسبة علوىّ، وهو طبيبٌ طبُّه نبويّ. وله فكرة في تدبير الأشيا، تكاد ترد ضوء الشمس للأفيا. فحكمته إشراقيّةٌ مفيضة، وبصيرته شفّافة مستريضة. فلو عالج البروق لأزال خفقانها، أو الشمس عند الغروب لأذهب برقانها. أو البدر لما وجد المحاق إليه سبيلا، أو النهار لكان له على خلاصه من الليل قبيلا. فتفرّسه أوضح من النجوم لبطليموس، ورأيه إلى رأى جالينوس كالعاج عند الآبنوس. فما سرى ذهنه في استدفاع مرضٍ يقتضيه، إلا وكانت الصحة ممتثلةً ما يأمر به وطوع ما يرتضيه. فكأن فكرته تمازج من العليل جسماً وروحاً، فيظن من توفيقه الذي أوتيه أنه وحىٌ إليه يوحى. وله من الكلام الذي تخالط أجزاء القلوب رقّته، وتغمض عن أوهام الأفكار دقّته. مالو خوطب به الأخرس تكلّم، أو علّم به الطير فنون العبارات لتعلّم. وقد أوردت له ما يتخذه لمرض الدهر علاجا، ويستضيء به فجر المعارف تعرّضا وانبلاجا. فمنه قوله: سرتْ والليلُ محلولُ الوِشاحِ ... ونَسْرُ الجوِّ مبلولُ الجناحِ وعِقْدُ الزهرِ منتظمُ الدَّرارِي ... كثَغْرِ البِيض يبسَم عن أَقاحِ وزاهِي الروضِ أسْفَر عن زهورٍ ... بها ظَمأٌ إلى ماءِ الصباحِ كأن كواكبَ الظَّلْماءِ رُومٌ ... على دُهْمٍ تهُبُّ إلى الكفاحِ إذا انْعكستْ أشِعتُها تَردَّتْ ... على صفحاتِ غُدرانِ البِطاحِ تُحاول سَتْرَ مَسْراها بوَهْنٍ ... وقد أرِجتْ برَيَّاها النَّواحِي فواعجَبا أتَخْفَى وهو بدرٌ ... وشمسٌ في الحضائرِ والضَّواحِي أما علمتْ عَبِيرَ المسك منها ... ينِمُّ بها إلى واشٍ ولاَحِ مُهَفْهَفَةٌ يَغَارُ البدرُ منها ... ويُخجِل قَدُّها هِيفَ الرماحِ تمازَج حبُّها بدمي وروحِي ... مِزاجَ الرَّاحِ بالماء القَراحِ فأصبح في المَلا طبْعي وخُلْقِي ... دَماً في الطبعِ عنه بلا بَراحِ كأنَّ الله لم يخلُق فؤادي ... لغيرِ الوجدِ بالخُودِ الرَّدَاحِ أحِنُّ إلى هَواها وهْو حَتْفِي ... كما حَنَّ السقيمُ إلى الصلاحِ وأصْبُو والصبابةُ بَرَّحْتنِي ... وأنْحلتِ الجوارحَ بالبَراحِ فلولا الطيرُ يمسِك من خيالي ... لطار من النُّحول مع الرِّياحِ أبُثُّ لَطْرفها شكوَى غرامي ... وهل يشكو الجريحُ إلى السِّلاحِ وأطمع أن يُزايلني هَواها ... وهل حَذَرٌ من المقدورِ ماحِ فلا تأْوِ لكَسْرةِ ناظِريْها ... فكم أوْدَتْ بألْبابٍ صِحاحِ أفِقْ يا قلبُ ليس الحبُّ سهلا ... فكم جِدٍّ تَولَّد من مِزاحِ رُوَيْدَك كم تبِيتُ تَئنُّ وَجداً ... كما أنَّ الطعِينُ من الجراحِ وقائلةٍ أرى نَجْما تبدَّى ... بليلِ عوارضٍ كالصبحِ ضَاحِ أبَعْدَ الشَّيْب تمزَح بالتَّصابي ... وتَمْرح في بُرودِ الإفْتضاحِ فما ماضِى الشَّبِيبة مُسْتَرَدٌّ ... ولا الخُسرانُ يسمحُ بالرَّباحِ فدَعْ حبَّ الغوانِي فهْو غَيٌّ ... وتفْنِيدٌ يَحِيدُ عن الفلاحِ وله من قصيدة يمتدح بها الوزير نصوح، ومستهلها: حّيَّاك سَرْحةَ دارةِ الآرامِ ... وحَباكِ دِيمة مُزْنةٍ وغَمامِ إلى أن قال فيها: ذَاك النصوحُ أبو الوزارة مَن رَقَى ... فَلَكَ العُلى وعلا على بَهْرامِ ومنها:

السيد أسعد بن البتروني

تجْرِى الأمورُ بوَفْق ما يخْتارُه ... ويُطِيعه العاصِي بكلِّ مَرامِ فكأنما الأقْدارُ طَوْعُ يمينِه ... بعد المُهيْمن في قَضا الأحكامِ قُطْبٌ تدور عليه دولةُ أحمدٍ ... ملَك الدُّنَا بالحَلِّ والإبْرامِ هابَتْه أنفاسُ النفوسِ بأسْرِها ... في الناس بعد العالِم العَلَّامِ ولِبأْسِ شِدّته الأسودُ تشرَّدتْ ... وتستَّرتْ في الغابِ والآجامِ منها: يلْقَاك بالبِشرِ الذي مِن نَشْرِه ... ريحُ المنى يسْرِى بطِيب مَشامِ بخَلائِقٍ تكْسو الرياضَ خلائقاً ... فتضِيعُ رَيَّا مَنْدَلٍ وخُزامِ ويُرِيك من رِضْوان عَدْلٍ جَنَّةً ... فيها لحَرْبِ البَغْيِ أيُّ ضِرامٍ منها: يا أيها الطَّوْدُ العظيمُ وصاحبَ الطَّ ... وْلِ الجسيمِ وجَوْشَنَ الإسلامِ أُلْبِسْتَ من حُلَل الصَّدارة خِلْعةً ... قنِع الأُلَى منها بطْيفِ مَنامِ ما دار في فَلك المُديرِ مَدارهُ ... إلا لْخبلِكِ وَدَّ دَوْرَ حِزامِ ما أوْ كبَتْ زُهْر الدجَى بكوَاكبٍ ... إلا لنَصْرِك في ألَدِّ خصامِ إلى أن قال في آخرها: كتبتْ مدائحُك الليالِي أسطُراً ... تبْقَى بقِيتَ على مدى الأيَّامِ وله: قد جدَّد الشوق الجديدَ خيالُكمْ ... بجوارِحي وضمائرِي وسَرائرِي فإذا نظرتُ إلى الوجودِ رأيُتكمْ ... في كلِّ موجودٍ عَيانَ الخاطرِ وله: قد قَّسم الحبُّ جسمي في محبَّتكمْ ... حتى تجَزَّى بحيث الجسمُ ينْقسمُ وما تصوَّرتُ مَوْجوداً ومنعدِماً ... إلا خيالكمُ الموجودُ والعدمُ ما إن نَثرتُ دموعَ القطْرِ من حُرَقٍ ... إلا تحقَّقْتُكم في القَطْرِ ما زعمُوا السيد أسعد بن البتروني ريحانة جاذبتها أيدي الصبا، فلم تزل غضة المهز من عهد الصبا وحضرة عليها للجنان صور، تشف عن كحل في عيون الغيد وحور. صافي الطبع كالزجاج في نقائه، منتظم العشرة كالسلك إذا انتقى جوهره وجيد في انتقائه. وهو في الأدب جامع نوادر وشوارد، يزينها بجمال المشترى وظرف عطارد. تعودت غصب العقول نكاته البديعة، كأن لها عند كل قلبٍ من قلوب الرجال وديعة. وكنت وأنا بالروم نعمت بدنوه، ونسمت على نسمات مودته وحنوه. في عهد أشهى للجفن من لذة هجوعه، وألذ من بشارة الشيخ بعوده لصباه ورجوعه. وهو من أنه جاوز العشرة التي تسميها العرب دقاقة الرقاب، كثير التلفت لجمع شمل اللهو والارتقاب. إلى أن اعترضه آخر أمره مرض، دام إلى أن انطوى عمره، وانقرض. وأحسب أن الله أراد به تكفير سيئاته، وتمحيصه من فرطاتٍ سلبت كثيراً من حسناته. وقد أوردت من شعره ما أحدقت به المحاسن إحداقا، ونبه لزهرات الروض أعيناً وأحداقا. فمنه قوله، من قصيدة كتبها إلى السيد موسى الرامحمداني: قد حلَّ أمرٌ عَجَبُ ... شَيْبٌ بفَوْدِي يلعبُ نجومُه لا تغرُبُ ... فأينَ أين المهربُ أرجو بقاءً معه ... ما أنا إلَّا أشْعَبُ هذ الشبابُ قد مضى ... وبان منِّى الأطْيَبُ هل عيشةٌ تصْفو لمن ... قد غاب عنه المُطرِبُ دهرٌ أرانا عجَباً ... وكلُّ يومٍ رجبُ أندُبُ أياماُ مضتْ ... فيها صَفا لى المشربُ في حلَبٍ بسادةٍ ... قد خدَمتْهم رُتَبُ من كلِّ سمحٍ ماجدٍ ... تخجَل منه السُّحبُ أفْناهُم الموتُ الذي ... لكلِّ بِكْرٍ يخطُبُ وما بها مِن بعدهمْ ... مَن للمعالي يُنسَبُ سوى جَهولٍ سِفْلةٍ ... عن كلِّ فَضْلٍ يُحجَبُ وهْو إذا أمَّلْتَه ... كلبٌ عَقُور كَلِبُ أستغفرُ الله بها ... أستاذُنا المهذَّبُ مُوسى الذي لفضْلِه ... مُدَّ رُواقٌ مُذْهَبُ

حَلَّال كلِّ مُشكِلٍ ... وحاتمٌ إذ يهَبُ وإن جرَى في حكمٍ ... تخالُ فينا يخطبُ وقد حَوى مَعالياً ... تنْحطُّ عنها الشُّهبُ مِن سادةٍ أحْسابُهمْ ... تنْطِق عنها الكتُبُ مولايَ أشكُو غربةً ... طالتْ وعزَّ المطلبُ وتحت أذْيالِ الدجى ... حامِلةٌ لا تُنْجِبُ إلَّا بأولاد الزِّنى ... هذا لَعَمْري العجبُ إليْكَها خَرِيدةً ... مَنالُها يُستصعَبُ جآذرُ الرومِ لها ... تسجدُ أو تنَسَّبُ وَاسْلمْ وَدُم في رفعةٍ ... للسَّعد فيها كوكبُ ما حرَّكتْ مُتيمَّاً ... وَرْقاءُ حين تندُبُ فراجعه يقوله: ما الكونُ إلا عجَبُ ... فمنه لا يُستعجَبُ أعمارُنا تُنتهَبُ ... يوماُ فيوماُ تذهبُ ونحن نلهُو أبداً ... في غَفْلةٍ ونلعبُ أوَّاهُ من يومٍ يجِي ... ءُ شمسُه لا تغرُبُ صائلةٌ فيه المَنَى ... يا صولةً لا تغلَبُ تخْطو على أرْواحِنا ... فأين أين المهربُ تَبّاً لدُنْيانا التي ... لم يصْفُ فيها المشربُ كم سيِّدٍ غرَّتْ به ... وَاراه لحدٌ أحْدبُ للدُّودِ فيه مَرْتَعٌ ... وللهَوامِّ ملعبُ والويلُ يومَ العَرْضِ إن ... لم ينْجُ منه المُذنبُ ومن لَظَى نارٍ بها ... أجسادُنا تْلتهبُ لا عملٌ يُرْجَى ولا ... غوثٌ إليه ينسَبُ إلا الكريمُ ربُّنا ... ومن به نحْتسبُ ثم الشفيعُ مَن إلى ... جَنابِه ننتسبُ محمدٌ خيرُ الورَى ... مقصِدُنا والمطلبُ الحكْمُ لله فَلّا ... يكون ما لا يكتُبُ والخيرُ فيما اخْتارَه ... حَتمْاً علينا يجبُ نَسْأَلُه يَبْقَى لنا ... سيدُنا المهذَّبُ أسعدُ من ساد الورَى ... به وسادَ العربُ جوهرةُ العِقْد الذي ... جوهرُه المنتخَبُ نجلُ الأُلَى تجَّملتْ ... بهم قديماً حلَبُ حِلْماً وعِلماًُ وتُقًى ... وحسبٌ ونسَبُ يخجل من أخْلاقِه ... زَهرٌ سقتْه السُّحبُ ومن جميلِ صُنْعِه ... له المعالي تخطُبُ طَلْقُ المُحيَّا فكلُّه ... مُبجَّل مُحجَّبُ ولُطْفُ أنْفاس الصَّبا ... إلى عُلاه يُنسَبُ ومن إلى المجدِ يُجا ... رِيه فلا يُصوِّبُ زِيد بَناناً كفُّه ... إذْ ضاق عمَّا يهَبُ فسَيْبُ صَوْبِ جُودِه ... يخجل منه الصَّيِّبُ لم يحْلُ خِلٌّ غيرُه ... مُودَّدٌ محبَّبُ قلت: لم أر من وصف الإصبع الزائدة هذا الوصف البديع، وبعضهم جعلها علامة الحرص، حيث قال: انظُر إليه لشدَّةِ الحرصِ ... زِيد بَناناً فزاد في النَّقْصِ ومن هنا تعلم سر قولهم: كم من زيادةٍ فيها نُقْصان فائدهْ ... كاليد تنُقصها الإصبعُ الزَّائدهْ وكان الأستاذ أبو بكر الطبري، يقول: الزيادة تؤدي إلى النقصان، والمثل فيها جارٍ على كل لسان. ولذلك قيل: صبوة العفيف، وسطوة الحليم، وضربة الجبان، وجواب السكيت، ونادرة المجنون، وشجاعة الخصي، وظرف الأعرابي. ومن شعر السيد أسعد، قوله في الشيب: أبَعْد الأربعين خِضابُ شَيْبٍ ... أرُوم به مُواصلةَ الغوانِي وأرجو أن أكونَ به فَتِيّاً ... فهذا من أكاذيب الأمانِي فَوا أسفِي على زمنٍ تقضَّى ... سَماعِي فيه قَهْقهةُ القَنانِي

السيد حسين النبهاني

السيد حسين النبهاني أديب بشرطه، الموجب لخموله وحطه. فما نقص من حظه، زيد في حظه. سروجي المذهب، ذاهب في التلون كل مذهب. لا يهبط بلداً إلا أبدى أعجوبة محجوبة، وبنى دسته على حيلةٍ منصوبة، وجدة مغصوبة. ثم يفارقه مفارقة لبد، ويقول: " لا أقسم بهذا البلد ". وقد رأيته بالروم وجهه أغبر، وهمه من وعائه أكبر. يظهر كل يوم في نمط، وحيثما سقط لقط. وعاشر ممن أعرف فرقةً رفقة، أداه خلل حاله معهم إلى فرقة وحرقة. وتلاعبت به الظنون في ذلك الفريق، تلاعب موج البحر المهتاج بالغريق. وبقي أنقى من الراحة، شاكيا بلسان كمده مغداه ومراحه. وفارقته وهو منغمر في تلك الأوحال، وتبريحه ما برح وحاله ما حال. ثم بلغني أنه انتعش، فكانت نعشته النعشة الأخيرة، وأدركه أجله الذي نفى الحكيم تقديمه وتأخيره. وهو بارع في النظام والنثار، إلا أنه يرمى في شعره بالإكثار. ولكون الكثير مملول الطباع، لم أذكر منه إلا نزراً سهل الانطباع. فمنه قوله، من قصيدة في المدح: العلمُ والحلمُ والمعروفُ والجودُ ... وكلُّ وصفٍ حميدٍ فيك موجودُ حويْتَ ذلك إرْثاً عن أبٍ فأبٍ ... كأنكمْ في رياض المجد عنقودُ يا مَن بِسُؤْدِده أعداؤُه شهدتْ ... وكيف لا وهو مشهورٌ ومشهودُ ففي العَطا تُغرِق الدنيا بأجمعِها ... وفي السَّطا تتوقَّاك الصَّنادِيدُ حاشَاك تحرِم عبداً مات من ظَمأٍ ... ومَنْهلُ الجودِ من كفَّيْك مورودُ لا سِيَّما أن لي حقَّ الجوارِ ولي ... في كلِّ آنٍ بمَدْحي فيك تغْريدُ وما تقادَم عهدِي في الدُّعا لكمُ ... إلاَّ ويعقُبه في الحال تجْريدُ ولم يجاوِرْ كريماً قطُّ ذو أملٍ ... إلاَّ غدا وهْو من نعْماه محسودُ لكنَّ حالِيَ لم يعلمْ بها أحدٌ ... إذْ لا يُحيط بها رَسْمٌ وتحْديدُ وأنشدني نادرة الوقت المولى عارف للنبهاني، يمدحه: أنا في التَّباعُدِ والدُّنُوّ ... أرجو لمولانا العُلُوّ أبداً تراني رافعاً ... كفِّي إلى ربٍّ عَفُوّ أدْعوه في سرٍّ وجَهْ ... رٍ أن يُدِيمك في السُّمُوّ فيما يُسَرُّ به الصدي ... قُ وما يُساء به العدُوّ يا عارفاً هو للمعا ... رفِ بالعِشيِّ وبالغُدُوّ بل للفضائلِ والفَوا ... ضلِ والفُتوَّة والمُرُوّ مَن دَأْبُه بَثُّ المَكا ... رمِ والحفيظة والحُنُوّ مَن سيفُه ثُكْلُ العِدا ... ةِ وسَيْبُه حُورٌ وحُوّ وبذكْرِه طاب المدِي ... حُ أما تراهُ في زُهُوّ مولايَ يا مَن فضلُه ... ما إن رأيتُ له كُفُوّ هذِي العُجالة قد أتتْ ... كَ تعوذُ من طَرْف السُّلُوّ وتَميسُ في حُلَل الفصا ... حةِ بالملاحةِ والدُّنُوّ نطقتْ بما يحْوى الحشَا ... لا بالتقوُّل والغُلُوّ وهيَ التي لو رامَها ... قُسٌّ رمَتْه بالنُّبُوّ اسلَمْ ودُمْ تسمُو على ... شُمِّ الذُّرى أسْمَى السُّمُوّ القاضي ناصر الدين الحلفاوي حليف أدب وأرب، وأليف جذل وطرب. ورونق روض ناضر، وتحفه جواب حاضر. وقد طالت في الفضل باعه، وأشربت حب الأدب طباعه. فذهب في مجاله عرضا وطولا، وأصبح فيه وهو صاحب يد طولى. ترد أربابه عليه، ويرجعون في دعاويهم إليه. فتعرب براعته عن فصل خطاب، وتسفر حكومته عن ثناء مستطاب. وهو خالص من الشوب، طاهر العرض والثوب. نقي الشيبة، ممتزج المباسطة بالهيبة. توفي عن سن عالية، وحالته بالرفاهية حالية. وقد أثبت من شعره ما سهل مساقه، وأحكم في الصنعة اتساقه. فمنه قوله من سلسلة أولها: يا معتدلَ القَدِّ هو لوعْدك إنْجازْ ... أو طيفُ خيال يُلِمُّ نحويَ إنْ جازْ

محمد بن تاج الدين الكوراني

ترنُو بلحاظٍ لهنَّ فعلُ مَواضٍ ... في القلبِ وتسطُو من القَوام بهزَّازْ فالشوقُ غريمي والفكرُ فيه نَديمِي ... والدمعُ حَمِيمِي وفي اصْطباريَ إعْوازْ لم تحْكِ مُحيَّاه فاحْتجبْ بغَمامٍ ... يا بدرُ فحِبِّي مدى الملاحةِ قد حازْ يا عاذلاً هلاَّ تركْتني وغرامِي ... ما كنتُ لأُصغِي إلى نصيحةِ هَمَّازْ يا من ملَك الحسنَ في الأنامِ جميعاً ... ما أسْعد صَبّاً بطِيبِ وصلِك لو فازْ قلبِي بك لاَهٍ وعقْد صَبْرِيَ وَاهٍ ... إذْ وجهك زاهٍ وطرفُ لحظِك غمَّازْ نظمتُ جُمَانَ البديع فيك عقوداً ... يا حُسْنَ نِظامٍ أتَى بأبْدع إبْرازْ قسمتُ وجودِي لمَّا جمعتَ صدوداً ... والبَيْنَ فهل حلَّ ما صنعْتُ وجازْ وقوله محاجياً: يا كاملَ الفضْلِ في المعانٍي ... وللأحاحِي غدا يُعانِي امْنُنْ بردِّ الجواب فضْلاً ... ما مثلُ قولي ألْمَى جَفانِي محمد بن تاج الدين الكوراني أديب لبيب، مليح التشبيه والتشبيب. لحق من الأدب ما لم يلحق، وانفرد بأشياء كأنها لم تخلق. وله المجد الطامح، إلى ما فوق الأعزل والرامح. على انتهاضٍ بين أكفائه، وشهرة في تنبهة وإغفائه. إلا أن عمر سروره قصير، والدهر بتفريق المجتمع بصير. وقد أثبت له ما يقطر من ماء الظرف، وتتمتع به الروح قبل الطرف. فمن ذلك قوله في الغزل: طرقْتُ ديارَ الحيِّ والليلُ حالكٌ ... طُروقَ فتىً لا يخْتشِي الدهرَ من ضُرِّ وخُضتُ بحارَ الموت والموتُ حائمٌ ... كحَوْمة نَسْرِ الأُفْق فيها على وَكْرِ ودُستُ بِساطَ الأُجمِ عمداً وأسْدُها ... توقَّد منها الأعْيُن الحُمْر كالجمرِ إلى أن أتيتُ الحيَّ نحو خِباءِ مَن ... أراشتْ فؤادِي من لواحظِها الفُتْرِِ فلم ألْقَ إلا صَعْدةً سَمْهريَّةٍ ... عليها مُحيَّا منه يبدو سَنا البدرِ عَرضتُ لها عُذْرِي وأظهرتُ ما حوَى ... جوَى مُهجتِي من مُحكماتِ هوى العُذْرِي فرقَّتْ وراقتْ وانْثَنَتْ وتعطَّفتْ ... وحَيَّتْ فأحْيتْ مَيِّت الشوقِ والصبرِ وجادتْ بجيدٍ للتَّداني وأرْشفتْ ... رُضاباً رَحِيقياً ينُوب عن الخمْرِ وبِتْنا وقلبُ البرقِ يخْفِق غَيْرَةً ... علينا وعينُ النجمِ تنظُر عن شَذْرِ البيت الأخير مضمن من رائية ابن خفاجة، وقبله: ودون طُروقِ الحيِّ خَوْضةُ فَتْكةٍ ... مُوَرَّسَةِ السِّرْبالِ داميةِ الظُّفْرِ تطلَّع من فَرْعٍ من النَّقْعِ أسودٍ ... وتُسْفِر عن خَدٍّ من السيفِ مُحْمَرِّ فسِرْتُ وقلبُ البرقِ يخفِق غَيْرةً ... هناك وعينُ النجم تنْظر عن شَذْرِ وله في معذر اصطبح الورد واغتبق بوجنتيه، وقلم الريحان مشقٌ فوق عارضيه: بدَا بدْراً بآياتِ الكمالِ ... مليحٌ قد تفرَّد بالجمالِ تخيَّل ناظِري في وجْنتيهِ ... مِثالاً كالعِذَارِ بلا مِثالِ فقلتُ له وعِقْدُ الصبرِ منِّي ... لدَهْشة ناظِرِيَّ في انْحلالِ عقيدةُ مطلبِي هل ذاك نَبْتٌ ... أَبِنْ لي قال حاشيةُ الخيالِ قلت: هذه الحاشية، عليها خيال الخيالي على " الحاشية ". وأول من عبر بهذه العبارة فيما أعلم ابن النبيه، في قوله: كأن ذاك العِذَارَ حاشيةٌ ... خرَّجها كاتبٌ لنِسْيانِهْ ثم تصرفت فيها الشعراء على حسب خيالاتهم، حتى جاء العسيلي المصري، فقال: صحيفةُ الخدِّ التي ... للحُسْنِ فيها صُوَرُ مُذ حُشِيتْ بعارضٍ ... لم يَبْقَ فيها نَظَرُ ومن هنا انظر قولي، مع قول الكوراني، والعسيلي: في حاشيةِ الكَمالِ من عارِضٍ ... دَوْرٌ وتسَلْسُل ولي فيه نَظَرْ وقول الشهاب الخفاجي:

ولده أبو السعود

أيا قمراً زانتْ طوالِعُ حُسْنِه ... حواشِي عِذارٍ يبْهَر اللُّبَّ والفِكَرْ فما شَانَه دَوْرٌ به وتسَلْسُلٌ ... فكَم في حواشِيها لذِي فكْرةٍ نَظَرْ وقد دار الدور، لقضية التسلسل والدور. فاسمع فيه قول الظريف: لِحاظُك أسيافٌ ذكُورٌ فما لَها ... كما زعمُوا مثلَ الأراملِ تغزِلُ وما بالُ بُرهانِ العِذَارِمُسَلَّما ... ويلْزمُه دَوْرٌ وفيه تسَلْسُلُ وأعجب منه قولي: نظَرِي لصُدْغك بُغْيَتِي ... فعلى مَ تمنعنِي النَّظَرْ والمنْعُ غيرُ مُوَجَّهٍ ... فيه المَقالُ قد اشْتَهَرْ والدَّوْرُ إن صحِب التَّسَلْ ... سُلَ ليس يخْلُو من نَظَرْ فكن في هذا ممن لا يرضى بالحواشي والأطراف، ويقنع من اللآلئ بمعرفة ما في الأصداف. وللكوراني: بدرٌ أدار على النجومِ برَاحةٍ ... شمساً فنَارتْ في كؤوسِ رحيقِهِ شمسٌ إذا طلعَتْ كأن وَمِيضَها ... بَرْقٌ تلالا عند لَمْعِ بريقِهِ يسْقِي وإن عزَّتْ عليه ورامَ أن ... يشْفِي لداءِ مُحِّبه وحريقِهِ فيُديرُها من مُقْلتيْه وتارةً ... من وَجْنتيْه وتارةً من رِيقِهِ ومن مقطعاته قوله: مَليكُ جمالٍ أنْبت العزُّ خدَّه ... نباتاً له كلُّ المحاسنِ تُنسَبُ فكرَّرتُ لَثْمَ الخدِّ منه لطِيبِه ... وكل مكانٍ يُنبتُ العِزَّ طيِّبُ وقوله، مضمناً: ومُعذَّرٍ لَدْنِ القَوامِ ووجهُه ... قمرٌ تقمَّصَ بالعِذارِ الأخْضَرِ فُتِق العِذارُ بخدَّه فكأنما ... فُتِقتْ لكم رِيحُ الجِلادِ بعَنْبَرِ وقوله: عجبتُ لِمَا أبْداه وجهُ مُعذِّبي ... من الحسنِ كالسحرِ الحلال وأسْحَرُ بوجْنتهِ ياقوتُ نارٍ توقَّدتْ ... عليها عِذارٌ كالزُّمُرُّدِ أخضرُ وقوله: ومُعذَّر فَتَك الأنامَ بحُسْنِه ... وسطَا بمُرْهَفِ لَحْظِه المُتنعسِ جعل العِذارَ لشامِه مُتنكِّراً ... كيْلا يُحاط به لقتْلِ الأنْفُسِ وقوله: لمَّا تأمَّل بدرُ التِّمِّ عارضَه ... وقد بدا في مُحيَّا نورِه سَطَعَا بدَا به غَيْرةً خَسْفٌ وشبَّهه ... كأنه في مُحيَّاه قد انْطبعَا وقوله: ومُهَفْهَفٍ كمُلتْ محاسنُ وجهِه ... من فوق غصنِ قَوامِه المُتمايلِ وبدا طِرازُ عِذارِه فكأنَّه ... بَدْءُ الخسُوفِ ببَدْرِ تِمٍّ كاملِ ولده أبو السعود هو في الميلاد سليله، وفي البراعة مقدمه ودليله. طلع طلوع الزهر من الكمامة، فتهادته أبناء عصره تهادي الشمامة. ينشد الأدب من خصاله، كما ينشد الأنس من وصاله. وله شعر أوقع في النفس من رجعة الشباب، وأسوغ من سلافة الكأس طفى عليها الحباب. أثبت منه ما يقع موقع الماء من ذي الغلة، ويفرح فرح الشفاء لصاحب العلة. فمنه قوله، من قصيدة: أجَلْ إنها الآرامُ شِيمتُها الغدْرُ ... فلا هجرُها ذَنْبٌ ولا وَصْلُها عُذْرُ ففُز سالماً من فَرْطةِ الحبِّ واتَّعِظْ ... بحالِي فإن الحبَّ أيْسرُه عسرُ وقد هاجَنِي في الأيْكِ صَدْحُ مُغرِّدٍ ... به حلَّتِ الأشجانُ وارْتحل الصبرُ يُذكِّرني تلكَ الليالي التي مضتْ ... بلَذَّةِ عيْش لم يشُبْ حُلْوَهُ مُرُّ سُقِيتِ ليالِي الوصلَ مُزْنَ غَمامةٍ ... فقد كان عيشِي في ذَراكِ هو العمرُ فكم قد نعِمْنا فيكِ مَعْ كلِّ أغْيَدٍ ... رقيقِ الحواشِي دون مَبْسمِه الزَّهْرُ لقد خَطَّ ياقوتُ الجمالِ بخدِّه ... جداولَ من مِسْكٍ صحيفتُها الدُّرُّ منها: وروضٍ بها جَرَّ الغَمامُ ذُيولَه ... فخرَّ له وَجْداً على رأسِه النهرُ وقد أرْقدَ الأغصانَ تغْريدُ وُرْقِه ... وأضْحك ثغرَ الزَّهرِ لمَّا بكى القَطْرُ

محمد بن أحمد الشيباني

وضاع به نَشْرُ الخُزَامَى فعطَّرتْ ... نسيمَ الصَّبا منه ويا حبَّذا العِطْرُ بدائعُ من حُسْن الربيعِ كأنَّها ... إذا ما بدتْ أوصافُ سيِّدنا الغُرُّ ويستحسن له قوله: كأنما الوجهُ والخالُ الكريمُ به ... مع العِذارِ الذي اسْوَدَّتْ غَدائرُهُ بيتُ العتيقِ الذي في رُكْنِه حَجَرٌ ... قد أُسْبِلتْ من أعالِيه ستائرُهُ أخذه من قول سيف الدين المشد: يامَن عِذارُه وأصْداغُه ... حدائقٌ هِمْتُ بأزْهارِهَا لو لم يكنْ خَدُّك لي كعبةً ... لَما تعلَّقتُ بأسْتارِهَا إلا أنه زاد فيه تشبيه الخال بالحجر. ولقد أجاد يوسف بن عمران، في قوله يصف أرمد: حين خُبِّرتُ أن في الطَّرْفِ منه ... رمَداً زاد في ذُبولِ المَحاجِرْ جئتُ كيْما أزورَ مِن وَجْه بَدْرِي ... كعبةَ الحسنِ تحت سُود السَّتائرْ محمد بن أحمد الشيباني ذو الرأي الأصيل، وواحد النجابة والتحصيل. مساعيه منيفة شريفة، وخلائقه كأنها روضةٌ وريفة. ترف النضرة فيه من كمامه، ويكرع الظمآن من آدابه في غمامه. وأرَى رقيق المدحِ يخدم نَعْتَهُ ... فلَذاك أضْحَى كلُّ نَعْتٍ تَابِعَا وقد أثبت له ما اتخذ النجوم الزهر من فريقه، وجاء ممتزجا بمدام الساقي وريقه. فمنه قوله، من قصيدة أولها: حتى مَ لَيْلِي بالتَّجنِّي ألْيلُ ... وإلى متى إدْبارُ صُبحى مُقبِلُ ما لي أرى هذِي النجومَ تحيَّرتْ ... أَأَضَلَّتِ التَّسْيارَ أم لا تعقل أم أسْكر الفلك الأصيل فأُقْعِدتْ ... عن سيْرِها أم بالبُروق تسَلسَلُ يا قِبْلتي في حاجبَيْك نواظرِي ... آياتُ نُورٍ للصلاةِ تُرَتَّلُ ما كان أحْسَن لو عطفْتِ ولم أقُلْ ... ما كان أقْبَح هَجْرُ مَن هو أجْملُ قلبي الكِمامُ وأنتِ فيه الزَّهْرُ هل ... يُرضِيك بيتُك بالتجنِّي يُشْعَلُ من مديحها: فالدهرُ إن رقَم الأُلى في صفحةِ الْ ... أيامِ فهْو لها حسابٌ مُجْمَلُ يا خيرَ من فاق الأُلى في عصرِه ... أنتَ الأخيرُ وفي الفضائل أوَّلُ بك أن يهنَّى العبدُ فهْو حقيقةٌ ... ولك الهناءُ بها مجازٌ مُرْسَلُ وقوله من أخرى مستهلها: أما والهَوَى لو أوْضحَ العُذْرَ كاتمُهْ ... لأقْصرَ لاحِيه وأحْجَم لائمُهْ ولو خبَّرُوا ظَبْيَ النّفارِ بحالتي ... لآنَس لكنْ مُسْهَر الجَفْن نائمُهْ برُوحِي وأيُّ الرُّوحِ أبقى ليَ الهوَى ... غزالاً حلَتْ لِي في هواه عَلاقِمُهْ رقيقُ الحَواشِي كادَ من لُطْفِ عِطْفِه ... يُمَنْطِقُه من رِقَّة الخَصْرِ خاتمُهْ ترَاءَت لمِرآةِ الخدودِ جفونه ... فظَنّ نباتاً فوق خَدّيْه شائِمُهْ كأن حسابَ الحسنِ كان مُفرَّقاً ... فجمَّعه في طِرْس خدّيْه راقِمُهْ كما جمَّع الأفْضالَ والمجدَ والنَّدَى ... إمامُ الهدى مولَى الزمانِ وعالِمُهْ منها: فيا نَجْمَ أُفْقِ الفضلِ بل شمسَه التي ... أنار بها من غَيْهبِ الجهلِ قاتمُهْ تهنَّ بعِيدِ النحرِ يا خيرَ ماجدٍ ... تهنَّتْ به أعْيادُه ومواسِمُهْ ودونَك غَرَّاءَ القوافِي كأنها ... إذا أُنْشِدتْ رَوْضٌ تغنَّتْ حمائمُهْ بها ما بجسْمِي من هوَى الغِيدِ رِقَّةً ... لذلك نمَّتْ بالذي أنا كاتِمُهْ لك الخيرُ هل مُسْتَكثَرٌ شعرُ شاعرٍ ... أُنِيطتْ على نظمِ القريضِ تمائمُهْ أراني إذا ما قلتُ شعراً تنكَّرتْ ... وُجوهٌ وعابَتْهُ عليَّ أعاجمُهْ لئن جهِلوا نثْراً فإنِّي بَدِيعُه ... أو اسْتحسنوا نَظْما فإنِّي كشَاجِمُهْ

حسين بن مهنا

فدُمْ وابْقَ واسلَمْ لابْن شيْبانَ مَلْجَأً ... تَشِيد من العلْياء ما الدهرُ هادِمُهْ فقد مدَّتِ العَلْيا عليك ظلالَها ... وحيَّتْك من ثغْرِ الربيعِ مَباسِمُهْ حسين بن مهنا أديب فصيح المقال، مرهف طبعه غنيٌ عن الصقال. اقتطف القول جنياً، وتناول كأسه سائغاً هنياً. ولد بحلب، وتقلب في النعم أكرم منقلب. وتكررت منه إلى دمشق الوفادة، فجلا بها عن صبح الإفادة والاستفادة. واكتسب تلك الرقة التي تحسدها رقة الصبا، من امتزاجه بأبنائها امتزاج الماء الزلال بالصهبا. فخطبته الحظوة، وما قصرت له الخطوة. ودرجته الأيام والليالي، إلى أن صار بخطابة سليميتها المقدم وخلفه المصلي والتالي. ثم أقلع إلى مسقط رأسه، ومنبت غراسه. وبها تلاحق به الحمام، فكان من ترابها البداية وإليه التمام. وقد أثبت له ما تتخذ سطوره ريحانا، وترجع ألفاظه ألحانا. فمنه قوله: أنُسيْمةً بالطَّلِّ تنْدَى ... باللهِ إن وافيْتِ نَجْدَا فتجمَّلي للِقا الحبي ... بِ وشمِّري بالجِدِّ بُرْدَا وتحمَّلي في طَيِّه النَّ ... شْرَ النَّدِيّ عدِمتِ نِدَّا وتعهَّدي بَثَّ الهوى ... بل يَمِّمي في السَّيْرِ وَخْدَا وإذا وصلتِ إلى الشآ ... مِ وفاح نادي الروضِ نَدَّا أدِّي أَلُوكةَ مُغرمٍ ... ما خان للأحبابِ عهدَا منها: أوَّاه طِيبُ العيش أيْ ... ن بظلِّكم والصَّفْوُ نَدَّا مرَّت لياليَ فيه مُرُّ ... السُّهْدِ قد ذُقْناه شُهْدَا من يوم فارَق ناظرِي ... ذاك الجمالُ عدِمتُ رُشْدَا وبقِيتُ في قومٍ رأَوا ... كلبَ الغَنِيِّ يفُوق أُسْدَا عقلوا وما عقَلُوا فلِي ... عن حبِّهم مَسْرَى ومغْدَى لذَوي المعالي والمعا ... رفِ والكمالِ أجِدُّ جِدَّا فأحُوز منهم ما ينا ... ل به الفتى شرفا ورُشْدَا لكنَّ أين العَنْدَلي ... بُ رقى من الأفْنان مُلْدَا غنَّى له لما سقَى ... في دَوْرةِ الدُّولاب وجْدَا فشدَا على ورد الريا ... ضِ فأحْرق الأحشاءَ وَقْدَا ورأيتُ ذاتَ الطَّوقِ أبْ ... دتْ مثلما قد كان أبْدَى أترى الزمانَ يُعيد لِي ... في عَوْدِ من أهْواه رِفْدَا يا دهرُ خُذْ رُوحِي إذا ... بشَّرْتَني سَلَفاً ونَقْدَا وقوله: وحقِّ ليالٍ قد مضَيْنَ عفائفاً ... وحُرْمةِ أيامٍ مضتْ بصفَاءِ لأنْتِ بسَوْداوَيْن قلبي وناظِري ... وذكرُك وِرْدِي بُكْرتي ومَسائِي وإنِّي على العهدِ الذي كان بيننا ... مُقِيمٌ على وُدِّي وحُسْنِ وَفائِي وقوله مضمنا: فُتِنتُ بظَبْيٍ أهْيَفِ القَدِّ فاتنٍ ... بعينٍ لها عن قَوْسِ حاجِبه جَذْبُ صبَوْتُ به لما رأيتُ جمالَه ... ومَن ذا يرى هذا الجمالَ ولا يصْبُو وقوله: كأنما الخالُ قُرْبَ الثغر مِن رَشَأٍ ... مُعذَّرٍ راشِقٍ سهماً من المُقَلِ شُحْرورُ وردٍ أراد الوِرْدَ ثم أرى ... صِلاًّ يدور حَواليْه فلم يصِلِ حام فيه على معنى الحرفوشي في قوله: كأنما الخالُ فوق الثغرِ حين بدَا ... وقد غدَا فِتْنةَ الألْباب والمُقَلِ هَزارُ أيْكٍ سعَى من روضةٍ أُنُفٍ ... لمَنْهَلٍ راجياً رَيّاً فلم يصِلِ وله ملغزا في شعير: ما اسمُ شيءٍ من النَّبات إذا ما ... زال حرفٌ منه غدا حيَوانَا رُبْعه معدِناً تراه وشمساً ... وترى فيه جَهْرةً إنسانَا وبتصْحِيف بعضِه فهْو نارٌ ... وتُروِّي من بعْضِه الظمآنَا محمد بن عبد الرحمن درة مغفلة، وخزانة مقفلة. ولولا أني ظفرت باسمه عفوا، ووردت من منهل أدبه الفياض صفوا.

محمد بن الشاه بندر

لبقي محجوباً عن العيان، ونسجت عليه عناكب النسيان. ورأيت فضله كمن في إهابه، وبراعته دثر رسمها به. وهو مطبوع الطبع على النظم، إلا أنه إذا نظم جاء بالمخ والعظم. وولعه بأوابد الكلام، كولعه بشوارد نفثات الأقلام. ولا بد مع الرطب من سلاء النخل، ومع العسل من إبر النحل. فقد أوردت له ما تحمده عليه، وتترك لأجل ممدوحه تفويق سهم الانتقاد إليه. فمنه قوله من كافيّة: خَلِّ العوانِسَ ذاتَ الخَبِّ والرَّتَكِ ... تسْرِي بنا بِبُجور الْآلِ كالفُلُكِ تعْلُو الحزُون فلا فُلَّتْ مَناسِمُها ... ةلا يُغِبَّنَّها وِرْدٌ بمُشتركِ ولا عَداها هَطُولُ المُزْنِ في فَيْفٍ ... ولا أُحِيدتْ من الحوماءِ في شَرَكِ حتى تجُوبَ الفَيافِي والوِهادَ وتسْ ... تِقلَّ في مَرْبَعٍ بالبِرِّ مُحْتبِكِ حيثُ المَلاذُ المُرجَّى المجْتَبى قِدماً ... المُصطَفى مُنقذُ العاصِي من الدَّرَكِ حامِي حِمى الدِّين مَن شَأْواه قد رُفِعتْ ... على العُلَى حيث حُطَّت دُرَّةُ الفلَكِ مَن قد سَما وسَما من فوق كل سَما ... حتى وطِي بشُسُوعٍ ربَّةَ الحُبُكِ محمدٌ أحمدُ المحمودُ خيرُ فتىً ... له فَخارٌ عَلا بالفضل كلَّ ذَكِي وقوله من أخرى: أحسنُ من بَهْجة نَوْحِ الحمامْ ... وسجعِ وَرْقاءَ بمتْن البَشامْ وصَدْحِ قُمْرِيٍّ شَجِيٍّ عَلَى ... خَمِيلةِ الضَّالِ وأثْلِ الخُزامْ ومن صفِيرٍ صاتَه بُلْبُلٌ ... على قضيبٍ مائِدٍ وهْو سامْ وشَدْوِ شُحْرورٍ فصيحِ اللُّحونِ ... مُعْتجمِ اللفظِ دَغِيمِ الكلامْ ودَوْحةٍ قد أنْبتتْ زهرَها ... ترُوق للناظرِ في الانْتظامْ وطَلِّ أنْداءَ بأوْراقِه ... تنْثُره فيه غَوادِي الغَمامْ وأرْقمٍ تنْسِج أيدِي النَّسا ... ئمِ مَوْجا له كفِرِنْدِ الحُسامْ وقَهْوةٍ حَلْبِ عصيرٍ غدَا ... يسعَى بها ساقٍ كبدرِ التَّمامْ ومُطْربٍ قد شَدَّ أطْباقَه ... وحَرَّك العودَ وأبْدى النَّغامْ ومن هوَى حسْناءَ رُعْبُوبةٍ ... قد كُحِّلتْ أجفانُها بالسَّقامْ مليحةٍ تُخْجل غصنَ النَّقا ... وتَسلُب اللُّبَّ بِلِين الكلامْ أحسنُ من هذا وذا كلِّه ... وكلِّ ذي حُسْن به يُسْتَهامْ مَدْحُ النبيِّ المصطفى أحمدٍ ... مَن قد أتى رحمة للْأنامْ محمد بن الشاه بندر هو من حين تحيز، بنعمةٍ بأدواتها تميز. تغاديه النشوة وتراوحه، وتناوحه أنفاس القصف وتفاوحه. فنبغ ونجب، وقضى من حق التحصيل ما وجب. وفتق ثناءً كالمسك صدراً ووردا، وتخلق بخلق كالماء الزلال عذبا وبردا. فوجه أدبه شادخة غرره، وسلك نظمه متسقة درره. وهذه قطعة من شعره، تعلم منها أنه أوتي الإصابة، واستحق أن ينوه به بين هذه العصابة. وهي قوله: ذَرِ الصدَّ إني لستُ أقوى على الصدِّ ... وعُدْ للذي عوَّدْتَني منك من وُدِّ فِطامِيَ عن ثُدْيِ الوَلا مُتمنِّعٌ ... وطِفلُ نُزوعِي لا يُعلَّلأ بالمَهْدِ حَنانَيْك ما هذا التجنِّي فإنني ... لفي نُكرٍ من مَزْج هَزْلِك بالجِدِّ لئن يكُ شَطَّ الوَهْمُ عنِّي لهفْوةٍ ... فعَدِّ وعُدْ وابْشِر فغُفْرانُها عندِي وحقِّك لم أحسَبْك قطُّ مُفارِقي ... ولم يكُ ظنِّي فيك خُلْفَك للوعْدِ فكيف تُنائِي وَيْحَ غيرِك هاشماً ... حَباك بمَحْض الودِّ في القربِ والبعدِ فوا لَهَفي لو كان يُغنى تلُّهفِي ... ووا أسَفِي إذ صرتُ أبْطأَ من فِنْدِ فما هكذا عهْدي بفَقْدِك أُلْفَتِي ... أأحدَثْتُ أمْراً لم يكن منك في عَقْدِ

صالح بن قمر

لقد كنتَ لي حسَبَ اقْتراحِي ومُنْيَتي ... مُفْدّىً إذا اشكو وأنتَ الذي أفْدِي مُجيباً بمطْلوبٍ مُلَبٍّ بدعوةٍ ... مُراع بمَرغوبٍ سريعا إلى رِفْدِي فماذا عسى أنْكرتَ منِّي وما الذي ... أباحَك تعْذِيبي وقتْلي على عَمْدِ أراك وقد خلَّفْتني ذا لَواعِجٍ ... من البَيْن ذا قلبٍ أشَدَّ من الصَّلْد لمن صِرْتَ لا زَلَّت بك النَّعْلُ غادِياً ... حلِيفاً وذا أهلٍ وقد كنتَ لي وَحْدِي فيا ناسياً للوُدِّ إنِّي ذاكرٌ ... ويا ناقضَ المِيثاق إنِّي على العهدِ أبى اللهُ أن أرعَى ذِمامَك جاهداً ... وتُبْخسَني حقِّي وتُكثِر في جَهْدِي فلا كان لي قلبٌ لغيرك جَانِحٌ ... ولا صحِبَتْني مُقلةٌ فيك لا تُنْدِي فقدْتُك إبراهيمٌ فُقْدانَ آدمٍ ... على دَعَةٍ من أمرِه جنةَ الخلدِ أُعلِّل قلْباً لا يحيل تعِلَّةً ... به عنك ذَا تَوْقٍ جزيلٍ وذا وَقْدِ وأُنْشِد بيتاً سالفاً حسبَ لوعتي ... إذا هاج تَهْيامِي وقد فاتني قصْدِي لعلَّ الذي أبْلَى بهجْرك يا فتى ... يردُّك لي يوماً على أحْسَنِ العهدِ أقلِّبُ طَرْفي لا أراك فينْثَني ... بوابِلِ دمعٍ كالجُمان على خَدِّي ودَدْتُك تدرِي ما الذي بِي من الجوَى ... عسى كنتَ تَرْثِي لي من الهمِّ والوجدِ أما تذكُرَنْ ما دار بالوصلِ بيْننا ... أبارِيقَ لَذَّاتٍ ألذَّ من الشُّهْدِ لأيَّةِ حالٍ قد تناسيْتَ خُلَّتِي ... وكيف اسْتجزْتَ الهجرَ والنَّكْثَ للعهدِ سلامِي على اللَّذاتِ بعدك والهوَى ... وحلوِ التَّصابي والتَّشُّوقِ للمُرْدِ فيا ليتَ شعرِي مَن تبدَّلْتَ بي ومَن ... غدا حاسدِي في القرب بالبَيْن تسْتعْدِي فما أمُّ خِشْفٍ راعَها حبلُ صائدٍ ... فأذْهَلها عنه وغابتْ عن الرُّشدِ تَحِنُّ فتسْتهْدِي الأسودِ لِغابِها ... فلا أثراً تلْقَى ولا هادِياً يهْدِي بأفْجعَ منِّي حين فارقتُه ضُحىً ... حليفَ أُوارٍ لا أُعِيدُ ولا أُبْدِي لئن كنتَ أخلفتَ العهودَ وخُنْتَ بالْ ... مَواثيقِ عن جهلٍ ومِلْتَ عن الرشدِ فحبُّك في قلبي وذكرُك في فمِي ... وأنت بعيْني ما حَيِيتَ إلى اللَّحْدِ قوله " أبطأ من فند " مثل. وفند هذا مولى عائشة ابنة سعد بن أبي وقاص، وكان أحد المغنين المحسنين، وكان يجمع بين الرجال والنساء. وله يقول ابن قيس الرقيات: قل لفِنْدٍ يشَيِّع الأظْعانَا ... طال ما سَرَّ عيشَنا وكَفانَا وكانت عائشة أرسلته يأتيها بنار، فوجد قوماً يخرجون إلى مصر، فخرج معهم، فأقام بها سنة، ثم قدم فأخذ ناراً، وجاء يعدو، فعثر وتبدد الجمر، فقال: تعست العجلة. وفيه يقول الشاعر: ما رأيْنا لِغُرابٍ مثَلا ... إذ بعثْناه يجِي بالمِشْمَلَهْ غيرَ فِنْدٍ أرْسلوه قابساً ... فثَوَى حولاً وسبَّ العجَلَهْ المشملة: كساء يجمع المقدحة وآلاتها. وقالبعضهم المشملة، بفتح الميم، وهي مهب الشمال، يعني الجانب الذي بعث نوح عليه السلام إليه الغراب؛ ليأتيه بخبر الأرض أجفَّت أم لا، فاشتغل بجيفة رآها في طريقه، وفيه يقال: " أبطأ من غراب نوح ". صالح بن قمر هلال نجابته يعد بأقمار، وفيه وفي نباهته أحاديث وأسمار. كتب وقيّد بخطه الكثير، ونظم ونثر فجاء بالدر النظيم واللؤلؤ النثير. وقد أوردت له ما تستبدعه، وتحفظه في خزانة النفس وتستودعه. فمنه قوله: يا مقلةَ الحِبِّ مهلاً ... فقد أخذتِ بِثارِكْ وأنتِ يا وجنتيْه ... لا تحْرقيني بنارِكْ فقد كفاني لهيبٌ ... أصابني من شَرارِكْ

صالح بن نصر الله المعروف بابن سلوم

هيهات أنْجُو سليماً ... من بعد خَطِّ عِذارِكْ وخالُك الخال غالٍ ... لوقْعةٍ في نُضارِكْ وثغرُك العذبُ فيه ... لنا غِنىً عن عُقارِكْ وقَدُّك الغُصْنُ لكن ... لا يُجْتنَى من ثمارِكْ أنت الذي ما رأيْنا ... في حُسنِه من مُشارِكْ فارفُق بصَبٍّ عليلٍ ... أفْناه بُعْدُ مَزارِكْ إلى متَى تتْرُكَنِّي ... أرْعَى نجومَ انْتظارِكْ وكم على ليلِ ضَعْفِي ... تسْطُو بجَوْرِ نهارِكْ إن كان يُرضيك قتْلي ... عَمْداً بحُسْن اخْتيارِكْ فذَاك صَبٌّ عمِيدٌ ... في ساحةِ الذلِّ بارِكْ ولم يزلْ في التَّصابِي ... بالصبرِ فيك يُعارِكْ عسى يلُوح صَباح الرِّ ... ضَا له من ديارِكْ وتشمل الصَّبَّ قُرْباً ... من بعد طولِ ازْورارِكْ فجُدْ وسامحْ وواصِلْ ... واعطِفْ وعجِّل ودارِكْ صالح بن نصر الله المعروف بابن سلوم رئيس الأطباء للسلطان محمد ونديمه الذي صح به تركيب الزمان، ووفى له الأمل بالضمان. تقدم في حلبة النبلاء بحلب، ودر له ضرع الأماني فحلب. طالما وفى العيش حقه بمنادمة يهتز لها مرحاً عطف الشباب، وسقى السمع كأس محاورة ترقص السامعين رقص الحباب. حتى تقضقض آبنوسه، وأشرف عناه وبوسه. فأنف الإقامة في حيه وربعه، ودعاه إلى الرحلة حب الرياسة المركوز في طبعه. فرحل إلى دار السلطنة العالية، وحل منها محل العافية من الأبدان العافية البالية. واتفق إثر وصوله وصول خبره للسلطان فاستدناه، وصيره رئيس أطبائه وندمائه فبلغه من وفور الجاه ما يتمناه. وتبدلت نحوسه سعودا، وأنجز له الدهر الضنين وعودا. فأبرز من نفيس صنعته ما لم تتنفس به لهوات ابن النفيس، وشفى عليل صدور الملهوفين ولا بدع ف " الشفاء " للرئيس. وبالجملة فجمل فضائله مما تقصر عن وصفه جمل العبارات، وإذا وقعت لذات الفضل إشارات فلذلك الرئيس تلك الإشارات. وله في الأدب روايةٌ طال بها باعا، ودرايةٌ أبرأ بها من مرض الزمان قلوباً وطباعا. ولم أقف له إلا على بيتين أجد معناهما، ولم تتمتع أذن سامعٍ بغيرهما في معناهما. وهما قوله: سقانيَ مَن أهوَى كلوْنِ خدودِه ... مُداماً تُرِي سرَّ القلوب مُذاعَا ومُذ شبَّب الإبريقُ في كأسِ حانِنا ... أقامتْ دراويشُ الحَباب سَماعَا مصطفى الزيباري هو في هذه لحلبة، كالعقد النفيس في اللبة. وله جامعية فنون تربو على الحصر، وفضائل لا يستطيع جحودها نبهاء العصر. لكنه أتى الدهر وقد هرم ن فلم يترو زهير روضه بمثل ندى هرم. فهو يشتكي زمناً بعيد الإحسان، لا يستجلبه ولا دعوة الغيد الحسان. وينظم الشعر لا فاقة، ما له منها إفاقة. بجدٍ أمضى من النصل، وهزلٍ أحلى من الوصل. وقد ذكرت له ما يستلذ وصفه الوصاف، والقول له أنه غايةٌ في بابه من الإنصاف. فمنه قوله، من قصيدة يمدح بها البهائي: هي الشمسُ إن حيَّى بها الأوطَفُ البَدْرُ ... فخُذْها هنيئاً لا مَلامٌ ولا وِزْرُ دهاقاً دَهاقاً غيرَ عانٍ فإنها ... إذا صافحتْ ذا عُسْرةٍ حَلَّه اليُسْرُ ولا تخْشَ إمْلاقاً فإن حَبابَها ... فرائدُ ياقوت وذائبُها تِبْرُ ولا تعتبرْ قولَ المُعيبين صَحْبَها ... فأَتْرابُها زُهْرٌ وأكوابُها زَهْرُ وقُل لمدير الرَّاح سِرَّاً وجَهْرةً ... ألا فاسْقِنِي خَمْراً وقل لي هي الخمْرُ ومكْسُولةِ الألْحاظ معْسولةِ اللَّمَى ... تَخال بها قَطْر النَّباتِ ولا قَطْرُ لها لَحظاتٌ تسلُب اللُّبَّ والحجَى ... وما فارقتْ جَفْناً وهذا هو السحرُ وجيدُ مَهاةٍ بل غزالٍ كأنه ... عَمُود لُجَيْنٍ فوقه بَزَغَ البدْرُ

مصطفى بن محمد بن نجم الدين الحلفاوي

وليلٍ كبحرٍ خُضْتُ أمواجَ جُنْحِه ... على سابحٍ عن سَيْرِه قصَّر النَّسْرُ أكَفْكِف أذْيالَ البوادِي تعسُّفاً ... ولا يرْعَوِي إن راعَه الضربُ والزَّجْرُ كان أبا الفضلِ البهاءَ محمَّداً ... لنا حيث سِرْنا من صباحتِه فَجْرُ وقوله من أخرى، مطلعها: أأيَّتُهنَّ إذْ تبدو نَوارُ ... صَدُوف أم كَنُود أم نَوارُ بعيشِك هل سمعتَ فما سمعْنا ... بآرامٍ وليس لها نِفارُ برَزْنَ من الخدورِ مُحجَّباتٍ ... ومحمودٌ من البدرِ السِّرارُ طَلعْنَ عليك ثم خَنَسْنَ عُجْباً ... كذلك تفعل الغُرُّ الجِوارُ حَذارِ لواحظاً منهن دُعْجاً ... فمقْتول الهوى منها جُبارُ وبِي منهنَّ أُمْلُودٌ رَدَاحٌ ... نأتْ عنِّي وقد شطَّ المَزارُ لقد غدرت أُخَيَّ وغادرتْني ... وحيداً لا أزور ولا أزارُ وأنشد له السيد عبد الله الحجازي، يهجو قرية أوارين: ولو أن لي في كلِّ وقتٍ وساعةٍ ... بقريَة أوّارينَ ما أتمنَّاهُ لقُلت خليليَّ ارْحلا بي عن التي ... تُكثِّر أوْصابِي فلا بارك اللَهُ مصطفى بن محمد بن نجم الدين الحلفاوي خطيب وابن خطيب، وعبير مستفاد من مسك وطيب. تناول المجد كابراً عن كابر، واستفاده ما بين أسرة ومنابر. وهو من قوم رقوا عن الدرج، وأمن مادحهم من الاعتراض والحرج. لأياديهم فتحت بالثناء أفواه الأعلام ولأقدامهم طأطأت رؤوس المنابر والأقلام. لم تزل النجابة فيهم نسقاً على نسق، وإذا لاحت وجوههم أضاءت بالليل وما وسق. وأنا إذا أمسكت عن ذكرهم لساناً رطيباً، فقد قام اشتهارهم عني في الآفاق خطيباً. وقد نبغ منهم هذا الندب كما شاءت العلى، فجاء متحلياً من الفضائل الغر بأفخر الحلى. وقد عرف فيه الرشد، من حين وضع في اللفافة وشد. إلا أنه اخترمه الأجل وغصنه يانع، وليس له عند التوسع في الملآثر مانع. وقد أنشدني بعض الأدباء له بيتين، جئت بهما في هذا المحل مثبتين. وهما قوله: قالوا سَلاَ قلبُه عن حبِّهم وغدا ... مُفرَّغَ الفكرِ منهم خاليَ البالِ قلتُ اثبِتُوا أن لي قلباً أعيشُ به ... ثم اثْبِتُوا أنه عن حبِّهم سالِي وهذا معنى حسن، وقلت فيه من قطعة: وظننتَ قلبي سالياً ... أتركْتَ لي قلباً فيسْلُو وقلت أيضاً: قال تسَلَّى وقد جفانِي ... ونام عن صَبْوتي وحُبِّي صدقتَ بالقلبِ كنتُ أهوى ... ما حِيلتي إذ أخذتَ قلبِي والأصل فيه قول بشار: عَذِيرِي من العُذَّالِ إذ يعْذِلونني ... سَفَاهاً وما في العاذلين لبيبُ يقولون لو عزَّيْتَ قلبَك لارْعَوَى ... فقلتُ وهل للعاشقين قلوبُ ومثله لابن الوضاح المرسي: يقولون سلِّ القلبَ بعد فِراقِهمْ ... فقلتُ وهل قلبٌ فيسْلو عن الحبِّ وللعرجي ما هو منه ولا يبعد عنه: وزعمتِ أن الدهر يُقْنِعني ... صبْراً عليك وأين لي صبرُ وللبهاء زهير: جعل الرُّقادَ لي يُواصل مَوعِداً ... من أين لي في حبِّه أن أرْقُدَا وللبوريني: يقولون في الصبحِ الدعاءُ مُؤثِّرٌ ... فقلتُ نعم لو كان ليلِي له صبحُ وللشهاب الخفاجي: يقولون لي لم تُبْقِ للصلحِ مَوْضِعاً ... وقد هجرُوا من غير ذَنْبٍ فمَن يُلْحَى صدقْتُم وأنتُم للفؤادِ سلَبتُمُ ... وماليَ قلبٌ غيره يطلُب الصُّلْحَا محمد بن محمد البخشي من أفراد العلم الكبار، الحسان الآثار والأخبار. وكان من سمو القدر، واتساع الصدر، ونببل الهمة، ورعى الذمة. في حدٍ ما وراءه مطمع، ولا يتقرط بمثل خبره مسمع. إلى تقوى باطنه معمور، وقناعة موطنه ببركاته مغمور. وإيثار بما ملك، ووقارٍ يتبعه أنى سلك. توازن به السحب الهواطل إذا حبا، ولا ترضى أن تشبهه الجبال الروازن إذا احبتى.

صحبته بالروم فشاهدت ملكاً في صورة إنسان، مطبوعاً على الخير فما يشاب بشرٍ ولا يشان. فما شرته محباً له محبة الصحابي للسنة، وفارقته فتلهفت عليه تلهف آدم على الجنة. أنسى الأيام وأذكره، وأذك مكارمه فأشكره. وهاجر آخر أمره إلى مكة، فكان بها سحاباً ماطراً، ونسيماُ إذا هب هب عاطراً. فأقبل أكثر أهلها عليه، وسلموا زمام انقيادهم إليه. ووردوا مشرع وفاقه، وانتظموا في سلك رفاقه. ثم لم يلبث أن دعاه الكريم إلى داره، فتولاه عفوه بمنهله ومدراره. وكان أملى علي من أشعاره قطعاً سهلة، ربما حفظتها لجودتها من أول وهلة. فلم أعلقها في دفتر اعتماداً على الحفظ مني، ولم أدر أن الأيام وشواغلها تنفرها عني. ثم وقفت له بمكة على قصيدة فتعلقت بها وجعلتها من المعلقات، وأنا من عهدها شغفٌ بترديدها حرصاً على تذكر تلك العلاقات. والقصيدة هي هذه، قالها في مدح الشريف أحمد، وأخيه الشريف سعد ابني زيد، وهما بدار الخلافة: خليليّ إيهٍ عن حديث صَبا نَجْدٍِ ... وإن حركت داءً قديماً من الوَجْدِ فآهاً على ذاك النَّسِيم تأسُّفاً ... وآهٌ على آهٍ تروِّح أو تُجْدِي عليلةُ أنْفاسٍ تُصِحُّ نفوسَنا ... مُعطَّرةُ الأرْدانِ بالشِّيح والرَّنْدِ وهيهاتَ نجدٌ والعُذَيْب ودونَه ... مَهامهُ تغوى الكدر فيها عن الوِرْدِ ومن كل شمَّاخِ الأهاضبِ خالَط السَّ ... حابَ يرومُ الشمسَ بالصدِّ والرَّدِّ وتسْرِي الصَّبا منه فتُمسِي وبيننا ... من البَوْنِ ما لبين السَّماوةِ والسِّنْدِ هذا في المبالغة وقول ابن عنين رفيقا عنان. وقوله هو: سامحتُ كُتْبَك في القطيعةِ عالِماً ... أن الصحيفةَ لم تجدْ من حاملِ وعذَرتُ طَيْفَك في الوصولِ لانه ... يغْدو فيصبح دوننا بمَراحلِ ولا أقول ما قال ابن بسام: لقد شنع وبشع أبو زيد في الكذب، حيث قال: وشِمْتَ سيوفَك في جِلَّقٍ ... فشامتْ خُراسانُ منها الحيَا وبعد وبدع مهلهل، حيث قال: ولولا الريحُ أسمَعَ من بُحْجرٍ ... صليلُ البَيض تُقرَعُ بالذُّكورِ لأن الصبا قد تتخلف لهبوب غيرها أيلاماً فبيت ابن عنين كذبه ولاضح، وللعذر فاضح. والبيت الذي نحن فيه منشيه موصون بصدق المقال، ومنشده مستريحٌ من حمل الأثقال. سقا اللهُ من نجدٍ هضاباً رياضُها ... تنفَّس عن أزْكى من العَنْبَرِ الوَرْدِ وحيَّى الحَيا حَيّاً نعِمْنا بظلِّه ... بنَعْمان ما بين الشَّبِيية والرِّفدِ نُغازِل غِزْلانا كوانِس في الحشَى ... أوانسَ في ألْحاظها مَقْنِصُ الأُسْدِ تُحاكِي الجَوارِي الكُنَّسَ الزُّهْرَ بَهْجةً ... وتفضُلها في رفعةِ الشأن والسَّعدِ حِجازيَّةُ الألْفاظِ عُذريَّة الهوى ... عراقيَّة الألْحاظ ورديَّة الخدِّ بعيدةُ مَهْوَى القُرْطِ معسولةُ اللَّمَى ... مُرهَّفةُ الأجفانِ عَسَّالةُ القَدِّ تَمِيسُ وقد أرْخَتْ ذوائبَ فَرْعِها ... فتخْطُر بين الْبَانِ والعلَم الفَرْدِ وتعْطُو بجِيدٍ عطَّل الْحَليُ حسنَه ... كأن ظَبْيةٌ تعْطو إل رَيِّقِ المردِ وكم ليلةٍ باتتْ يَداها حمائلِي ... وباتتْ يدي من جِيدها مَطْرَح العِقدِ ندير سُلافاً من حديث حَبابِها ... على حين تَرْشافٍ ألَذَّ من الشُّهْدِ ولمَّا تمطَّى الصبحُ يطلُب علْمنَا ... تكنَّفَنا ليلٌ من الشَّعَرِ الجَعْدِ عفِيفيْن عمَّا لا يليق تكرُّما ... على كا بنا من شدةِ الشوقِ والوَجْدِ وقد كاد يسعى الدهرُ في شَتِّ شَمْلِنا ... ولكن توارَى شفْعُنا عنه بالفَرْدِ فأصبحتُ أشكو بَيْنَها وفِراقَها ... بشَطِّ النوى شكوَى الأسيرِ إلى القِدِّ

إبراهيم بن أبي اليمن البتروني

وإنِّي قد استطْلعتُ دَرْكَ مطالبِي ... وتبْليغَ آمالِي وما نَدَّ عن حَدِّي بطلْعة نَجْلَىْ دَوحةْ المجد غاربِ الْ ... مَعالي سَنامِ الفخر بل غُرَّةِ المجدِ إمامِ المصلَّى والمُحصَّب والصَّفا ... وِراثة جَدٍّ عن نُمَيٍٍّ إلى جدِّ أبي أحمد زيْن الصَّناديد في الوغَى ... بني حسَن الأُسدِ الكواسرةِ الحدِّ بُزاةِ العلى الغُرِّ المَيامنةِ الأُلى ... سما قدرُهم يوم التفاخُر عن نِدِّ غيوثٌ إذا أعطَوْا ليوثٌ إذا سطُوا ... مناقبُهم جلَّتْ عن الحدِّ والعَدِّ فما أفَلتْ شمس لزيْد وقد بدا ... لنا من ضِياها شمسُ أحمدَ أو سعدِ هما نَيّرا أوْج المَعالي وشَرَّفا ... بُروجَ قصورِ الروم في طالع السعدِ ومُذْ رحَلا عن مكةٍ غاب أُنْسُها ... فكانا كنَصْل السيفِ غاب عن الغِمْدِ منها: جَواديْن في شَطِّ المَماجد جَلَّيا ... وحازا رِهانَ السَّبْقِ في حَنَق الضِّدِّ يِراحاتهمْ إن ينبُت الجودفي العطَا ... فتلك بحورٌ تتَّقي الجَزْرَ بالمَدِّ وإن أحْيتِ السحبُ النَّباتَ بمائها ... فكم أحْيَتِ الراحاتُ أنفسَ مُسْتجْدِي رياضٌ لمُرتادٍ حصونٌ للَائذٍ ... رُجومٌ لمُستْعدٍ نجومٌ لمستهدِي شمائلُ تهزُو بالشَّمائلِ لُطْفُها ... وعِطْف شَمُولِ الرَّاحِ هزَّتَه تُبْدِي منها: بنو هاشمٍ إن كنتَ تعرف هاشماً ... وما هاشمٌ إلا الأسِنَّةُ للمجدِ بهم فخَرَتْ عَدْنانُ والعُرْبُ كلُّها ... ودانتْ لهم قَحْطانُ أهلُ القَنا الصُّلْدِ فمِن مجدهم يُستَقْبَس المجدُ كلُّه ... ومن جُودِهم أهلُ المكارمِ تسْتجْدِي هنِيئاً لأبْنا المصطفى الشرفُ الذي ... تسَامَى فلا يُحْصَى بعدٍّ ولا حَدِّ بمِدْحتكم جاء الكتابُ فما عسى ... تقول الورى من بعد حم والحمدِ وعُذْراً بني الزَّهْراءِ إنِّيَ ظامئٌ ... إلى المدحِ والأيامُ تُنْسِي عن الوِرْدِ يوَدُّ لساني لو يُترجِمِ بعضَ ما ... لكم في فؤاد الصَّبِّ من صادقِ الوعدِ وقد نضَبتْ منه القريحةُ نَضْبةً ... على حذَرٍ من حاذرٍ أحْذر الرَّيْدِ كنَفْثةِ مَصدورٍ ولمحةِ عاشق ... تُسارِقه عينُ الرقيب على بُعْدِ فإن أعْطَتِ الأيامُ بعضَ قيادِها ... رأيتُم له من مَدْحِكم أعْظمَ الوِرْدِ إبراهيم بن أبي اليمن البتروني صدر منشرح الصدر، موفية محاسنه على الشمس والبدر. من أسرة نسقوا الفضائل ولا، وسحبوا من المعلوات مطارف وملا. افتر لهم الزمان وابتسم، وارتسم بهم نقش المآثر واتسم. كما تبسم ثغر زهرٍ عن شعاع، وترقرق جعد نهرٍ بظلٍ لماع. وهذا الفاضل محله منهم محل العين الناظرة تصان عما يقذيها، واليد الباطشة تحفظ عما يؤذيها. أوصافه لا تجاريه فيها أقدام الوطر، زنعوته لا تزاحمه عليها مناكب الخطر. فهي مسلمةٌ إليه إذا نوزع من ادعاها، مقرة لديه إذا دوفع من استدعاها. وله مآثر يفارق فرق الفرقدين قعيدها، إذا وطئت أقدامه الأرض ربت واهتز فيها صعيدها. إلا أن الأيام عاندته في منصب قومه، وعوضته هم أمسه مضافاً إلى يومه. وعارضه صادق المقدور، فراح من الدنيا بنفثة المصدور. وقد رأيت له شعراً يدل على قدره الجليل، دلالة النسيم العليل، على الروض البليل. فأثبت منه ما ألفيت، وبالدلالة عليه اكتفيت. فمنه قوله من مكاتبة: على فَرْطِ التشوُّق والبِعادِ ... وإخْلاصِ المحبَّةِ في العبادِ فإني مُوقِرٌ غُرَرَ التَّحايا ... ومُهْديها إلى الشَّهْم الجوادِ خليلي ذِي الخِلال بلا اخْتلالٍ ... وخِذْني ني الفضائِل والودادِ

أحمد بن محمد المعروف بابن المنلا

وصَفْوتِيَ المُصفَّى والمُوفِّى ... حقوقَ مودَّتي في كلِّ نادِ منها: وهل يصْفُو الزمانُ وقد بَراه ... إلهي غادراً من قبلِ عادِ إذا ما فَارقتْ منه سهامٌ ... فلا تُخْطِي قواتلُها فؤادِي فَبي من صَرْفه ما لو تراءَى ... لأوْدَى بالبَرايا والبوادِي ألا قُل لي فَدَيِتُك هل أرى لي ... مُعِيناً في البلوغ إلى المُرادِ رحِيبَ الصدرِ ذا صدقٍ ودينٍ ... لأجعلَه ادِّخارِي واعْتمادِي وقوله من قصيدة: جاءت اليك وقد أرتك قصورها ... عذراء شادت بالثناء قصورها حسناءُ صاغ لها المَديحُ قلائداً ... حلَّت بها بين الحسانِ نحُورَها باهتْ بفخْرك كلَّ مُمتدَحٍ وما ... تاهتْ وصَانتْ عن سواك نظيرَها واستَمْطَتِ الجوزاءَ قدْراً حيث إن ... كنتَ المآلَ لها وكنتَ سميرَها يا ايها الصرر الذي اقتعد العلى ... بمكارم اضحن الكمال سميرها منها: ورجعتَ منصوراً وعُدتَ بنعمةٍ ... قد نلْتَ من رب الورى مَوْفورَها وحَظِيتَ بالأجرِ الجزيل وهذه ... نِعَم فكُن بالمَكْرُمات شَكُورَها ويعجبني قوله في التخلص من قصيدة قالها في الأمير محمد بن سيفا: ولقد شكوتُ له الهوى ليرِقَّ لي ... فنأَى عن المُضْنَى بقلبٍ جَلْمَدِ وأبَى سوى رِقِّي فقلتُ له اتَّئِدْ ... إني رفيقٌ للأمير محمدِ وله في الفتح بن النحاس، وكان يهواه: مُهْلِكَ العشاق مَهْلاً ... فيك لي منك انْتقامُ بشُعَيْرَاتٍ كمِسْكٍ ... هي للحسن خِتامُ وله فيه، من أبيات: بيني وبينك مدةٌ فإذا انقضَتْ ... كنتَ الجديرَ بأن تُعزَّى في الوَرى منها: رِفْقاً بقلبٍ أنت فيه ساكنٌ ... إن الحياةَ إذا قَضى لا تُشْتَرى فارْدُدْ على طَرفي السُّهادَ لعله ... يلْقَى خيالاً منك في سِنةِ الكَرَى واسْألْ عيوناً لا تمَلُّ من البكا ... عن حالتِي يُنبِيك دمعي ما جرَى وله فيه، وقد عشق مليحاً اسمه موسى، فتجنى عليه: كلُّ فِرْعونَ له موسى وذا ... في الهوى مُوساكَ يُولِيك النَّكَدْ فكما أكْمدتَ من يَهْواك بالصَّ ... دِّ مُتْ صَدَّاً وذَقْ طعمَ الكمَدْ أحمد بن محمد المعروف بابن المنلا شارح مغنى اللبيب عالم الشهباء ومصنفها، ومقرط العلياء ومشنفها. بتآليف وشح بيراعة براعتها صدور المهارق، وأتى فيها من معجزات البلاغة بالخوارق. حاز بها في تلك الحلبة غاية الظهور، وفاز بقصب السبق فيما بين ذلك الجمهور. وله عقود كلام لو تجسم لفظها لما رصعت إلا على التيجان، وتنزهت عن أن ترى أفرادها مواضع اللؤلؤ والمرجان. تشتمل من رود القوافي، وخود الغزليات الصوافي. على غرر كقطع الرياض غب القطر، وفقر أحسن من الغنى بعد الفقر. فما يتبين في معاني بلاغته انحلال معاقد، ولا تلين قناة براعته لغمز ناقد. فمن كلامه الدائر بين الرواة، المرتصف دراً أصدافه الأفواه. هذه اقطعة من موشح أطلعها منيرة، وبعث بها الأشجان لنار الوجد المثيرة. وقد عارض به موشح ابن سهل الذي يقول في مطلعه: هل درَى ظبيُ الحِمَى أن قد حَمى ... قلبَ صَبٍّ حلَّه عن مَكْنَسِ وهو من الموشح الموزون، الذي يتسلى به قلب المحزون: رُبَّ رِيمٍ رام قلبي فرمَى ... فيه سهماً جاء عن غير قِسِي من رى ظَبْياً أرانا أسْهُما ... من لحاظٍ كعيونِ النَّرجِسِ يا نديمِي قُم صَفا وقتُ الهنا ... فامْلَ لي الكأسَ وعجِّل بالطِّلَا وأدِرْها خمرةً تُولِي المُنَى ... فزَمان الأُنْسِ بالبشرِ حُلاَ والحَيَا قد ألْبَس الروضَ الثَّنَا ... وعلى الدَّوْحِ من الزَّهْرِ حُلاَ

وحكتْ بالأنْجُم الأرضَ السما ... إذ غدَت بالزُّهْرِ منها تكْتَسِى وحَبا الأغصانَ طَرْزاً مُعْلَما ... حين ماماسَ بأبْهَى مَلبَسِ دور ما ترى يا صاحِ أغصانَ الرُّبى ... مائِلات القَدِّ من خمر السحابْ رنَّحتْها سُحْرةً أيْدِي الصَّبا ... فصَبا القلبُ إليها باكْتئابْ ومن الزَّهْر لها أغْلى قِبَا ... ومن الدَّوْح لها عالِي القِبابْ نَقَّطتْها السُّحبُ دُرّاً مثلما ... كستِ الروضَ بثوْبٍ سُنْدُسِي وشذا عَرْف نسيمٍ هَيْنَما ... وكذا يفعُل ذاكي النَّفَسِ دور ما لِلاحٍ مُذْ لحَى طاب الهوى ... في حبيبٍ وجهُه يحْكِي القمَرْ لَذَّ لِي في حبِّه مُرُّ النوى ... وارْتكابُ الهَوْلِ يوماً إن خطَرْ ما على مَن نجمُه فيه هوَى ... حبن ما صَدَّ دَلالا ونفَرْ أحوريُّ اللحْظِ معسولُ اللَّمَى ... فاحِمُ الشعرِ شهيُّ اللَّعَسِ ثَغْرُه ابدى لنا برقَ الحمى ... وأثِيثُ الشعرِ ثوبَ الغَلَسِ دور يالَه بدراً حَمى عنِّي الكرَى ... قدُّه والطَّرْفُ عَضْبٌ وأسَلْ في دُجَى شعرٍ له بدرٌ سرَى ... وبشمسِ الوجه ليلٌ قد نَزَلْ خَنِثٌ في جَفْنِه أُسْدُ الشَّرَى ... وعلى أعْطافِه لِينٌ ودَلّ ساحرُ المُقْلةِ معشوقُ الدُّمَى ... قمرُ الأُفْق وظَبْيُ المَكْنَسِ ذُو لِحاظٍ كم أراقتْ من دِماً ... وهي تُفْدَى بالجَوارِي الكُنَّسِ ومن بدائعه قوله: نازَع الخدَّ عِذارٌ دائرٌ ... فوق خالٍ مِسْكُه ثَمَّ عبِقْ قائلاً للْخال هذا خادمِي ... ودليل أنه لَوْنِي سرَقْ فانْتَضى الطرفُ له سيفَ القضا ... ثم نادَى كما الذي أبْدَى القلقِ أيها النُّعمانُ في مذهبِكم ... حجةُ الخارجِ بالمِلك أحَقْ وقوله: وأسمرٍ من بني الأتْراكِ ذي غَنَجٍ ... يهُزُّ قدّاً كغُصن الْبان في هَيَفِ كأنه حين يعْلُو سُورَ قلعتِه ... وينْثنى شَرفاً منه على الشَّرَفِ غصنُ الصِّبا مزهِراًقد رنَّحتْه صَبا ... عليه بدرٌ بدا من دَارَةِ الشَّرَف ومن تضامينه العجيبة، قوله في شخص عابه بانحسار شعر رأسه: يَعِيبني أن شعرَ الرأسِ مُنْحسِرٌ ... منه فتىً قد عَرَى من حُلَّة الأدبِ وليس ذلك إلا من ضِراِم هوىً ... سرَى إلى الرأس منه ساطِعُ اللهبِ أقْصِر فدَيْتُك ذا داءٌ بمَبْعَرِه ... والعيبُ في الرأسِ دون العيبِ في الذَّنَبِ وله في شريف يعرف بالمشهدي يدعي الشعر: المَشْهَدِيُّ لِسانُه ... قد فّلَّ كلَّ مُهَنَّدِ إن رام إنْشادَ القَرِي ... ضِ فقُل له يا سيدِي يشير إلى قول القائل في ابن الشجري العلوي: يا سيِّدي والذي يُعِيذك من ... نظْم القريضِ يصْدَا به الفكرُ ما فيك من جَدِّك النبيِّ سوى ... أنك لا ينْبغي لك الشعرُ وفي كتاب الكناية والتعريض للثعالبي: يقولون في فلان فضيلتان من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم: إحداهما أنه أمي، والثانية أنه لا يقول الشعر، وهاتان الخصلتان من فضائل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليستا من غيره بفضيلة. وإذا كان الرجل متشاعراً غير شاعر، قالوا: فلانٌ نبيٌ في الشعر. يعهني أنه لا ينبغي له ذلك، وعلى هذا بنى مخلد الموصلي قوله: يا نَِبَّي الله في الش ... عرِ وعيسى بنَ مريَمْ أنتَ من أشْعرِ خلْ ... قِ الله مالمْ تتكلَّمْ وله: قالوا حبيبُك أمسى لا تكلِّمه ... ولا تميلُ لرُؤْيا وجهِه النَّضِرِ فقلتُ أمرٌ دعاني نحو جَفْوتِه ... والحبُّ للقلبِ لا للِّفظِ والنَّظَرِ وله:

محمد بن حسن الكواكبي

ادَّعَو أن خَصْره في انْتحال ... فلذا بان قَدُّه المَمْشوقُ وأقاموا الدليلَ رِدْفاً ثقيلاً ... قلتُ مهلاً دليلُكمْ مَطْروقُ وممن منشآته قوله من رسالة: يقبل الأرض معترفاً برق العبودية قرباً وبعداً، ومقراً بأن فراق تلك الحضرة الزاكية لم يبق له على مقاومة التصبر جهداً. ارتكب مجاز التصبر ليفوز بحقيقة الاصطبار، واستعار لقلبه جناح الشوق فهو هو يود لو أنه نحوكم قد طار. عجل عليه البين بدنو حينه، وسبك في بودقة خدوده خالص إبريز دمعة عينه. وقطر بتصعيد أنفاسه لجين دموعه، ونفى بتأوهه وأنينه طير هجوعه. بين أيادي من حلاه الله بأشرف المناقب، ورفع رتبته العلية على أعلى المراتب. ونصب له لواء المجد، وخفض له جناح السعد. المجزوم بأنه أوحد العصر والأوان، والمحكوم بقصر الفضل عليه من غير احتياج إلى حجة وبرهان. من فتح لأبناء دهره أبواب التحقيق، وفاق أقرانه بحسن التنقيح والتدقيق. وحل من مشكلات العلوم ما أعجز كل نحرير، وأبرز غواضم الدقائق على أطراف الثمام بأحسن تقرير. فهو المسند إليه في باب العلم، والمشار إليه بأنه إمام الحلم. وله من رسالة أخرى: انفتح له في فضل تصريف الأيام أبواب المزيد، وتسلطت عل أصوله أيدي العلل فعاين العذاب الشديد. فحاله رق له أولو التمييز، ومتى ارتفعت زفراته بعامل التجني من يوسف الملاحة نادى أيها العزيز. تناوب في إهلاكه ماضي طرفه وسمهري قده فقرأت باب تنازع العاملين، وتمادى موصول جفاه فأرسل سحاب الناظرين. وأوقع الفؤاد في عروض الأسقام، وآذن بتقطيع الأوصال بسيوف الغرام. محمد بن حسن الكواكبي عنوان كتاب العلى، يكتب آخراً ويقرأ اولاً. له يفرض الشكر ويحتم، وبه يبدأ الذكر ويختم. فلهذه ختمت به باب أولى الفتوة والبسالة، كما ختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم باب النبوة والرسالة. فإنه من خلص نحلته، القائم بتأييد ملته. ومن تقدمه بالنسبة إليه، كلهم في الفقه عيالٌ عليه. فهم مقدمات لشكل الفضل الأول، وهي النتيجة التي عليها في القياس المعول. فقد يتأخر الهاطل عن الرعد، والنائل عن الوعد. ومراتب الأعداد، تترقى بتأخير رقمها وتزداد. وتجيءُ فَذْلَكةُ الحسابِ أخيرةً ... لتكون جامعةَ العديد الأوْفرِ ولا غرو فالكبير تتقدمه المواكب، والشمس بطلوعها تغيب الكواكب. فهو النير الأعظم، وعصماء عقد النفاسة المنظم. مزاياه تستغرق الألفاظ من النثير والنظيم، والذي قسم الحظوظ بين الناس حباه بالخلق العظيم. وقد متعه الله بحوالسه وأعضائه، وأمته بني الدنيا بإيناسه وإغضائه. فاقتعد الرتبة التي أرته إلى الفلك صاعدا، وصحب الهمة التي صيرته يتناول الكواكب قاعداً. وأنا إذا أردت وصفه الذي بهر، وبدا كالصبح إذا اشتهر. قلت في شأنه الباهر، ومحله الزاهي الزاهر: ليت الكواكبَ تدْنُو لي فأنْظمِهَا ... عقودَ مدحٍ فلا أرضَى له كَلَمِي وله من النظم الذي أبدعه فكره، واكسب صحائف الأيام فخر الأبد ذكره ما يسمو إلى الأسماع سمو حباب الماء، ويعمل في القلوب عمل الأفعال في الأسماء. فمنه قوله مضمناَ بيتي المرسي: حتَّى م في ليلِ الهمو ... مِ زِنادَ فكرِك تقْتدِحْ قلبٌ تحرَّق بالأسَى ... ودموعُ عيْنٍ تنْسفِحْ ارْفُق بنفسِك واعْتصِمْ ... بحِمَى المهيْمِنِ تنْشرحْ اضْرَعْ له إن ضاق عن ... ك خِناقُ حالِك تنْفسِحْ ما أَمَّ ساحةَ جُودِه ... ذُو مِحْنةٍ إلا منحْ أو جاءَه ذو المُعْضِلا ... تِ بمُغْلَق إلا فتَحْ فدعِ السِّوَى وانْهَجْ على النَّ ... هجِ القويمِ المُتَّضِحْ واسمعْ مقالةَ ناصحٍ ... إن كنتَ ممَّن ينْتصِحْ ما تمَّ إلا ما يُري ... د فدَعْ مُرادَك واطَّرِحْ واتْرُكَ وَساوسَك التي ... شغلتْ فؤادَك تسْترَح وله في الغزل:

الباب الثالث في نوابغ بلغاء الروم

وَرْقاءُ من عهد الحبيب تُتَرْجمُ ... لِيَهْنِك إلفٌ بالغُوَيرِ مَخيِّمُ لئِن تندُ بي إلْفاً وما شَطَّ حيُّه ... فإني على شَطِّ المَزارِ مُتيَّمُ وهَبْ سَجْعك اللموزون باللحن معرِبٌ ... فدمعِيَ أوْفَى صامتٍ يتكلمُ لكِ مثلٌ في العَنْدَلِيب وسَجْعِه ... ولي بالفَراشِ الشِّبْه والفَرْقُ يُعْلَمُ وله: يا أيها البدرُ المُنيرُ إذا بدَا ... وإذا رَنَا يا أيُّهذا الرِّيمُ ومعلِّم الغصنِ الرَّطِيب تمايُلاً ... رق النسيمُ لها فصار يَهيمُ كم ذا تُمَوِّه عن صَبابةِ عاشقٍ ... صَبٍّ على طولِ الصدودِ مقيمُ فارْحَمْ ضَنا جسدِي وحسَن تَصَبُّرِي ... وارْعَ الجميلَ فما الجمالُ يدومُ وله في ألكن: فلا تعجبوا من لُكْنةٍ في لسانِه ... فمن حُلْوِ فِيه لا يفارقُه الشُّهدُ وهذا المعنى أصله بالتركية، وكنت عربته قبل أن رأيت تعريبه. وبيتي هو: ما لُكنةٌ فيه تِشينُ وإنما ... تأبَى الحروفُ فِراق شُهْدِ لسانِهِ ثم رأيت في ديوان الشهاب ما زاد عليه، وهو قوله: بالله حدِّث عن تلَجْلُجِ نُطْقِه ... سُكْراً وأتْحِفْني بعذْبِ بَيانِهِ الضِيقِ فِيه ليس يخرُج لفظُه ... أم لا يُريد فِراق عَذْبِ لسانِهِ ومما يستعذب هنا قول ابن تميم: عابُوا التَّلَجْلُجَ في لسانِ مُعذِّبي ... فأجبْتُهم للصَّبِّ فيه بَيانُ إن الذي يُنْشِي الحديثَ لسانُه ... ولسانُه من ريقِه سَكْرانُ ولهذا الأصل الطيب المغرس، فرعٌ لم يزل ولا يزال تتعرف فيه المعالي وتتفرس. وهو أحمد القائم مقام أبيه في رتبته، والمفرع لأفانين البلاغة من سامي هضبته. زاده الله تعالى فضلاً ونبلاً، وضاعف له الثناء بعداً كما ضاعفه قبلاً. وذلك إن كان بقي مزيدٌ بعد التمام، على أنه لم يبق إلا الاستدامة كما قال أبو تمام: نعمةُ اللهِ فيه لا أسألُ اللّ ... هَ إليه نُعْمَى سوى أن تدوما ولو أنِّي سألتُ كنتُ كمن ... يسألُه وهْو قائمٌ أن يقُومَا الجزء الثالث الباب الثالث في نوابغ بلغاء الروم وهذا الباب فيه الغرض المروم؛ فإن دار خلافتها وإن تباين فيها اللسان، ففي أهلها حذق لا يعيقه مزية وجدت في نوع الإنسان. فسبحان من جعل جبالها السبع بمنزلة الأفلاك، مطالع الأضوا ومغارب الأحلاك، ومغرد طيور جملة الأملاك، وسبب انتظام هذه الأسلاك. فسما بها الفرع الباسق، والأصل الثابت، وطاب لعمري فيها المنبت والنابت. كيف وهي حاضرة الدنيا، وواحدة المفردة والثنيا. ومجمع أهل الفضل تنظمهم في سلك، وتنزههم فيما أنالها الله من ملك وملك. وقد أمنت بحمد الله من الصائل، وحمدت فيها البكر والأصائل. ولها الحظوة التامة، والمحاسن الخاصة إلى الخيرات العامة. مع اللطافة المشربة بالغضارة، والطلاقة الممكنة من مفاصل النضارة. فهي قيعة الظل الأبرد، وكناس الغيد الخرد. ومهوى هوى الغيث الهاتن، ومأوى اللفظ الساحر واللحظ الفاتن. وبها المباني الشم الأنوف، والقصور الجمة الحلي والشنوف. رياضها وريقه أريضة، وأهويتها صحيحة مريضة. ومرابعها مراتع النواظر، ومطالع المسرات النواضر. تصبو النسمات إلى مسارحها الرحاب، وتبكي شوقاً إليها جفون السحاب. ولعهدي بها إذا أخذت بدائع زخارفها، ونشرت طرائف مطارفها. وقد ساقت إليها أرواح الجنائب، زقاق خمر السحائب. فسقت مروجها مدام الطل، فنشأ على أزهارها حبابٌ كاللؤلؤ المنحل. هناك رأيت كل شعب يحدث عن شعب بوان، وكل منظر يتجلى عن أشكال من الزهر وألوان. بُسِطت فَوقه بُرودُ ربيعٍ ... عندما زاره وفودُ الشمائلْ خُطَّ فيه كتابُ توحيد ربِّي ... نَقْطُه النَّورُ والمياهُ الجداولْ فتلتْه طيورُه دارساتٍ ... وأعادتْه مُفْصِحات العنادِلْ أغْنَتِ السمعَ عن مِراءِ جدالٍ ... رامياتٍ لنقْل حمْل الدلائلْ

وأنا إذا بسطت فيها القول، وهدرت هدر الشول. فغاية ما أقول: هي العروس المتبرجة، والروضة المتأرجة. فصان الله جمالها وجلالها، ووقى من حر الهجير ببرد النعيم ظلالها. ولا زالت قوافل العوائد الإلهية واصلةً إليها، ودامت دار إيمانٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومع ما أعطاها الله من تحفٍ تحف بها وكرامة، فقد اجتنت أهلها أثمار الرحلة في ظل الإقامة. فكلهم عصابة بارعة، وآراؤهم إلى الغوامض مسارعة. بأنفس كريمة الشمائل والغرائب، وقرائح تقذف بحارها بدرر الغرائب. وحرص على لقاء كل ذي علم، وتخلق بأخلاق كل ذي مروءة وحلم. وقد خرج جماعةٌ من أعيانهم، زانوا الأدب وزينوه بحسن بيانهم. أشعارهم بالألسنة الثلاثة حجة أهل اللسن، وفاضحة المذهبات الثلاث الماء والخضرة والوجه الحسن. لو كنت أوفيهم حقهم الراتب، وأخلص من تبكيت المزدري والمعاتب. لجعلت الطرس من صحيفة الخد، والقلم من ألف القد. ثم كتبت وصفهم بالتبر، فضلاً عن الحبر. ووهبت للناسخ، نفس ودي الراسخ. وقلت فليكن الناقل، ممن لا يقذف صفحته إلا إلى الصاقل. وقد ابتدأت الباب باثنين منهم، رويت حديث الثنا في محلهم عنهم. وعقبتهم باثنين آخرين، رأيتهما بدمشق وقد بزغا كالقمرين. ثم أذكر بعدهم من له شعرٌ عربي اطلعت عليه، ثم من له شعر تركي انتخبت من شعره مفردات عربتها ونسبتها إليه: شيخ محمد بن لطف الله بن زكريا بن بيرام أستاذي وملاذي، وعتادي وعياذي. عين المعالي وإنسانها، وقلب المعارف ولسانها. صحيفة مجده لم يجد نقط شكلها حسود، وأقلام مدحه ليس همها إلا ركوع وسجود. أنديته مصب مزن الفضل، فهي ذات سقيط وندىً مخضل. تبذل الأعمار في لقائه نقدها، وتنتطق الجوزاء في خدمته عقدها. ومن حق هيبته عند ذوي الآداب، أن يعقدوا إذا لمحوه الحواجب بالأهداب. أراد البحر أن يحاكي نداه، فقصر عنه ولم يدرك أدنى مداه. فهو لذلك في اضطراب وأمواجه في التطام، وطفل النبت يغتذي بندى كفه فلا يخشى عليه منها إلا الفطام. فلو استجارت أوراق الخريف، بظل حمى نداه الوريف. لما سلبت برداً زهى للعيون وراق، وظلت شاكرةً فضل الربيع بلسان الأوراق. إليه انتهت الرغائب، وحضر نداه الخضر وهو غائب. وهو الذي دخلت الروم لأجله، وحصلت من لقاه على أعظم الأمل وأجله. وهو إذ ذاك عن رتبة البدر متقاعد، ومع الشمس في الظهور رابعة النهار متواعد. فشاهدت ملكاً في صورة إنسان، يملأ العين بالحسن والكف بالإحسان. وله السعادة مهيأة، وبه الدنيا وأهاليها مهنأة. فوردت بحراً من جوده نميرا، وارتقيت حيث أعد النجم سميرا. وكم مجلسٍ بين يديه، قرأت فيه سورة الأدب لديه. تنطقني فضائله بما أنظم فيه من الغرر، فأغدو كمن قلد البحر من فرائده بعقود الدرر. ثم أفيض عنه فيض النهر، وأنصرف انصراف الصبا عن الزهر. وقد آليت لا توقعت خيراً سوى خيره، ولا أملت الرغبة عن شق القلم لمدحه غيره. وصفوي محميٌّ به عن الشوائب، وجسدي محرم على أنياب النوائب. وكانت لي وراء رأيه مواعيد، كنت منها على نيلٍ قريب غير بعيد. فعاق عنه موته الذي بدل السرور بالترح، وترك الحزن شامتاً بالفرح. فدفن به كنزٌ كان في الزمان لقية، وتم به السرور لكل حي وكانت عندنا منه بقية. فنعته الهمم، وماتت بموته أمم. وما فُجِعت به الدنيا ولكن ... غدتْ بِفراقه الدنيا يتيمهْ فعلى قبره من الرحمة الحافة، عدد أنفاس الخلائق كافة. وقد أوردت له من آثاره التي جلت، وأسفرت عن شمس البلاغة حين تجلت. ماهو في مقلة الأدب حور، وفي قلب الحسود خور. فمن ذلك قوله: يرمِي فيُوقع فتنةَ النَّظَرِ ... وتراه يسألني عن الخبرِ نَزْهٌ خيالُ الفكر يُغضِبه ... فيكاد يمنعني من الفِكَرِ ما شاهدتْ عيْنايَ طلعتَه ... إلا وأغْناها عن القمرِ يُرْجَى من الفِتَن الخلاصُ إذا ... سلمتْ لواحظُه من الحَوَرِ وقوله: أترى الزمانَ يُعيد لي أُنْسِي ... ويردُّ بدرِي حاملاً شمسِي فإذا تكرَّم رحتُ أشكرُه ... وتركتُ يومي عاتباً أمسِي وقوله: صافيْتُكم من عهدِ أن ... كنتمْ فما هذا الجفَا

وبيْننا مودةٌ ... تعلِّم الآسَ الوفَا وقوله: يسْبِي العقولَ بلَحْظه فكأنما ... سُقِيتْ سيوفُ لِحاظِه بسُلافِ سَيْفُّيهُ صاد القلوبَ بنَظْرةٍ ... من بين مثل قوادم الخَطَّافِ السيفي: طائر من الجوارح يشبه الصقر. ومن رباعياته قوله: ناديتُ أحبَّتِي لأجل السَّلْوَى ... والدهرُ رسومَ رَبْعهم قد سَوَّى بالنَّوْحة جُدْتُ في المغاني حتى ... قد ساعدني على بكائِي رَضْوَى ولي فيه مدائح كثيرة، من جملتها قصيدة قلتها في ابتداء ورودي عليه. ومستهلها: دَنا الرَّكْب من حَيٍ تقادَم عهدُه ... وهَيَّج فيه القلبَ وجداً يُجِدُّه دعتْه إلى الشكوَى معالمُ أُنْسِه ... ولكن أسرارَ الغرام تصُدُّهُ بنفسِيَ مِن آرامِه كلّ شادِنٍ ... تملَّك مني حبَّةَ القلبِ وُدُّهُ من الغِيد يرْنُو عن حُسامِ لَواحظٍ ... يقُدُّ قلوبَ الدَّارِعين فِرِنْدُهُ أرُدُّ عيوني عنه خِيفةَ كاشحٍ ... وهل يمنع الصَّادِي عن الماء وِرْدُهُ سقاني وقد حيَّى مُداماً تروَّقتْ ... إذا لم تكُن من كَرْمِه فهْيَ خَدُّهُ سُلافاً تُعير الصبحَ في كَشْفِه لنا ... قِناعَ الدجى منها سَناً يسْتمدُّهُ من مديحها: يرِفُّ به غصنٌ من الحمدِ يانِعٌ ... ويعبَق من نَشر الثَّنا فيه نَدُّهُ ولا تعثُر اللَّحظاتُ في باب مجدِه ... بغير مَنالٍ يقْدَح العزَّ زَنْدُهُ أدَرَّ على الأيام سَيْباً ففجَّرتْ ... ينابِيعَ حتى الصخرُ أعْشَب صَلْدُهُ ومنها هذه القصيدة، قلتها وقد ألبسني فروةً من فراه، وهي بعض ما نالني من قراه: شأنُ المُوَلَّه أن يعيش مُتيَّما ... والحبُّ ما منع القَرارَ المُغرَمَا هو ما علمتَ غرامُ صَبٍ دمعُه ... ما زال يُظهِر سِرَّه المتكتِّمَا لو شاء من أضناه هجيره ... رد الحياة لجسمه منكرما وإذا الصبابةُ خامَرتْ قلبَ امرىءٍ ... وجد الشِّفاءَ من الحبيب تنعُّمَا ولَرُبَّ مُغْبَرِّ الأديمِ قطعتُه ... من فوق مُبْيَضِّ القوائمِ أدْهَمَا لا تستطيع الشمسُ ترسم ظلَّه ... مهما مشَى سبَق القضاءَ المُبرَمَا والليلُ بحر قد تدافَع مَوْجُه ... وترى الكواكبَ فيه تسْرِي عُوَّمَا وكأن وجهَ الأُفْقِ تُنقَدُ فضةً ... والبدرَ تحسَبه عليه دِرْهَمَا وكأنما المَرِّيخُ شعلة قابسٍ ... أو رأسُ نَصْلٍ خضَّبْته يدٌ دَمَا أسْرِي وشخصُك لا يزال مُسامِري ... وأرى التصبُّر عنك مُرّاً عَلْقَمَا يا آفةَ الأرواحِ ما ألْهاك عن ... دَنِفٍ لذكْرِ هواك يهوَى اللُّوَّمَا من مديحها: مولىً إذا ظلمَ الزمانُ فما يُرَى ... إلاَّ إلى عزَماته مُتظلِّمَا جارَى الملوك إلى مقاماتِ العلى ... فتأخَّرُوا عنه وكان مُقدَّمَا لو مَدَّ راحتَه لثَغْرِ مُقَبِّلٍ ... أنِف الثُّريَّا أن تكون له فَمَا أو تنطق الدنيا بِمِدحةِ ماجدٍ ... نطَق الزمانُ بمدْحِه وتكلَّمَا دعَواتُه تجلو الكروبَ وعَزمُه ... لو يلْتقيه الموتُ مات توهُّمَا ولو اسْتجار به النهارُ من الدجى ... لم تبصرِ الأحداقُ شَيّاً مظلِمَا منها: ألْبَسْتني نِعَماً رأيتُ بها الدجى ... صبحاً وكنتُ أرى صباحِي مظلِمَا ما عُذْرُ من شرَّفتَه بفضيلةٍ ... أن لا ينالَ بها السُّهَا والمِرْزَمَا وإليْكها زهراءَ ذاتَ بلاغةٍ ... لو رامَها قُسٌّ لأصبح أبْكَمَا من كل بيتٍ لو تجسَّم لفظُه ... لرأيتَه وَشْياً عليك مُنَمْنَمَا

واسلَمْ لنَشْر فضيلةٍ معلومةٍ ... لوْلاك طال على المَلا أن تُعلَمَا إن العُلَى بدأتْ بذكرِك مثْلَما ... آلتْ بغيرِك في الورى لن تُخْتَمَا ومنها هذه الرائية، مدحته بها في أول فصل الربيع، وأولها: باكِر الحانةَ والكأسُ تُدارُ ... فشبابُ العمر ثوبٌ مستَعارُ هذه الأرضُ اكْتستْ أزهارَها ... ما على من يغْنَمِ اللذاتِ عارُ وكأنَّ الروضَ وَشْيٌ فاخرٌ ... نَقْشُه آسٌ ووردٌ وبَهارُ إن سَرتْ فيه نُسَيمات الصَّبا ... فضَح العنبرَ رَنْدٌ وعَرارُ وكأنَّ المُزْنَ تِبْرٌ كنزُه ... دُرَّةٌ بيضاءُ والماءُ نُضارُ فتَقتْ كفُّ الغوادِي جَيْبَها ... فالذي منها على الروضِ نِثارُ يا رَفِيقَيَّ دعانِي والهوى ... إنما الصَّبْوةُ للصَّبِّ شِعارُ كنتُ أُخفِي محنةً في خَلَدي ... لو يكنْ للقلب في العشقِ اختيارُ من بيِتْ وَلْهانَ في حبِّ الظِّبا ... خانَه القلبُ وعزَّ الاصْطبارُ يعذُب الهجرُ لمن يعرفُه ... وبمَطْل الغِيد يحلُو الانتظارُ إنما نَشْوانُ أحْداقِ المَها ... صَحْوُه من سَكْرةِ العشق خُمارُ يا سَقى موطِنَ لَهْوِي بالحمى ... أدْمُعِي إن شحَّتِ السحبُ الغِزارُ كم ليالٍ فيه قد قضَّيْتُها ... ومن الأيامِ حلوٌ ومِرارُ فانْقَضتْ أسرعَ من سهم القضا ... يا ابنَ وُدِّي ليس للعيشِ قَرارُ وحبِيبٍ بات زَنْدِي طوقَه ... والمُنى ثالثُنا والأنسُ جارُ قد نأَى لكنْ عن العينِ وكم ... نازحِ الدار له القلبُ ديارُ أيُّ نفعٍ في اقترابِ الجسم إن ... بعُد القلبُ وما يُغنِي الجِوارُ هكذا تفعل أحكامُ الهوى ... في بَنِي العشقِ وللدهرِ الخِيارُ ينْقضي العمرُ ومالي مُسْعِفٌ ... ومن الضَّيْم مُصِيخٌ لا يُجارُ هذه حالي وإن طال المدى ... واعْتبارُ الحالِ للمرءِ اختبارُ غيرَ أن الحرصَ غَلاَّبُ النُّهىَ ... والمُنى منها اختيارٌ واضطرارُ لا أذُمُّ الدهرَ حاشَى وله ... أنْعُمُ المولَى عن الذنبِ اعْتذارُ كعبةِ الآمالِ والركنِ الذي ... للمنى فيه اسْتلامٌ واعْتمارُ قد جَلا خَطْبَ الليالي عَزْمُه ... مثْلما يجلُو دُجَى الليلِ النهارُ لو يكُنْ للبحر أدْنَى بِرِّه ... لم يلُحْ للعينِ بَرٌّ وقِفارُ وحِماهُ مُلْتقَى عِيسِ المُنى ... لا سِواه للنَّدى مَأوىً وجارُ روضُ فضلٍِ نجتَني إحسانَه ... وكذا تُجنَى من الروضِ الثِّمارُ أيها الأستاذُ والمولى الذي ... غَرِقتْ في سَيْب كفَّيْه البحارُ لك أُنْهِي نُوَباً من بعضِها ... يذْهَل اللبُّ وذو العقلِ يَحارُ حَلَّ بي الشيْبُ فأفنَى رَوْنقِي ... وكذاك البدرُ يمْحوه السِّرارُ فأغِثْني من كروبٍ في الحَشا ... حُرَقٌ منها وفي الطَّرْفِ انكسارُ وتمتَّع بقوافٍ كَرُبىً ... ضاحَكَ النَّوْرِ عليها الجُلَّنارُ بِدَعٌ قد أُشْرِبتْ ألفاظُها ... رِيقةَ المبْسَم والخمرَ العُقارُ كخُدودِ الغِيد تحمْرُّ حَياً ... وإذا شئْتَ كما اخْضَرَّ العِذارُ أنا حسَّان القوافي فإذا ... فُهْتُ طاب الشعرُ وارْتاح الفَخارُ وإذا غنَّتك أطْيارُ الثنا ... فأنا من بينها وحدِي الهَزارُ ليس لي مالٌ ولكن كَلِمِي ... عَسْجَدٌ تِبْرٌ وإلاّ فنُضارُ

لم أقُلْ طالتْ وإطْنابُ الورَى ... في مَعاليك مدَى الدهرِ اخْتصارُ فابْقَ أعْلَى الناسِ جاهاً ونَدىً ... وإلى مَجدِك بالعِزِّ يُشارُ لك أهْنَى عِيشةٍ تخْتارها ... ولأَعْداك البلايَا والدَّمارُ وقد اكتفيت بما أثبته عن الباقي، ورددت بعد هذه الخمرية القدح إلى الساقي. عبد الباقي بن محمد الشهير بعارف بحرٌ وأنواع المعارف ماؤه، وبدر وأوج السعادة سماؤه. لم ير نظيره في المحاسن النواضر، لأن محاسنه ملأت القلوب والنواظر. له السبق الأشهر، ونطقه الياقوت والجوهر. استولى على العلوم، وألحق المجهول منها بالمعلوم. وأما الأدب وفنونه، فهو الذي تشير إليه عيونه. فالنسب، إلى حفظه انتسب. والأيام والدول، عنده منها خبر الأواخر والأول. وأما الأخبار فهو ينسي التاريخ ومن ورخ، وله استقصاءٌ يعلم به الذي باض وفرخ. وقد وفر الله له غاية الحظ في محاسن الخط، فخطه نتيجة ما أودع الباري من مقدمتي البرى والقط. كلما دور القلم نور المقل، وحلى العقول وحل العقل. وقد اعتنق الأشعار وألفها، كما اعتنقت لام الكتابة ألفها. وجاء منها بفرائد تحسدها سبح الدر من الثنايا المنظمة في العقيق، وتغض من حيائها حدق النور وتحمر خدود الشقيق. وكنت وأنا بالروم اجتمعت به مرات، وشاهدت طلعةً هي موسم أفراح ومسرات. فلما ورد دمشق كانت رؤيتي له ثانية، وفيها تدلت على ثمرات إقباله متداينة. وشديت للقاهرة في خدمته الرحل، وكنت معه بها في زمنٍ كزمن الفطحل. في أوقاتٍ كلها برؤيته نعيم وطلاوة، أتلو بها أوصافه على القلم فيسجد لها سجدة تلاوة. وأنا أعلق من نفسائه كل ذخيرة، وينسيني الليلة الأولى منه بالأخيرة. وتسهر عيْني فيه والحَظُّ نائمٌ ... كأنِّيَ من خوفِ المَكارِه أحرسُهْ ولقد أشتهى أن أحل كل جسم، ليكون لي من رؤية وجهه كل قسم. وإذا رغب إلى الله راغبٌ، في تسهيل ما له من مطالب ورغائب. فإني أرغب في التوسل بطول عمره، وارتقاء أمره. إلى أن يعمل الاسم في الحرف، ويمتنع زيد من الصرف. وحتى يشغل الجسم حيزين، ويحل في مكانين. وقد أخذت من أشعاره التي جاوز الشعرى تراقيها، وكأنما نظم المحاسن عقد في تراقيها. ما لو ضربت بيوتها بالحجاز، لأقرت لها العرب العاربة بالإعجاز. قصائدُ إن تكنْ تُتْلَى على مَلأٍ ... صدورُها علمتْ منها قوافيهَا ينْسى لها الراكبُ العَجْلانُ حاجتَه ... ويصبحُ الحاسدُ الغضْبانُ يرْوِيهَا فمنها قصيدة نبوية، أولها: متى هتفتْ بالجُنْحِ وُرْقُ الحمائمِ ... أنارتْ جوَى قلبٍ من الوجدِ هائمِ سقَى اللهُ ساحاتِ العُذَيْبِ وبارِقٍ ... بكل هَمُولِ الوَدْقِ أوْطفَ ساجمِ إذا بارِقٌ شِمْناه من نحو بارِقٍ ... تأجَّج نارٌ في الحشَا والحيَازِمِ فها أنا مَطْوِيُّ الضلوعِ على الجوى ... إلى لَثْمِ هاتيك الرُّبَى والمَعالمِ ألا أيها الحادِي ترفَّقْ بمُهْجتِي ... وباليَعْمَلات الدَّامِياتِ المَناسِمِ أحِنُّ ادِّكاراً نحوَ مُنْعَرَج اللِّوَى ... وأصْبُو إلى سفْحِ النَّقَا فالأناعمِ فيَسِّرْ إلهي أن أعفِّر جبهتي ... بساحاتِ هاتِيكَ الرُّبَى والمَعالمِ ألم يَأْنِ يا مُعطِي المُنَى أن تحصَّلتْ ... مآرِبُ أصحابِ النفوسِ الأكارمِ وهاج غرامِي نحوَ مكَّة حيثما ... تُشَّدُّ حِزامُ المُرسَلات الرَّواسمِ وذلك أزْكى مَرْبعٍ صار مَنْشَأً ... لفخرِ البرايا خيرِ أولادِ آدمِ ترى طَيْبةً قد صار مأوَى شفيعِنا ... حليفِ النَّدى فخرِ الجدودِ الأكارمِ محمدٍ المبعوثِ بالبِرِّ والتقى ... وبَذْلِ نوالٍ واقْتناءِ مكارمِ طرازِ رُواءِ الفضلِ من نَسْل يَعْرُبٍ ... وإنسانِ عين المجد من آل هاشمِ شفيعِ ذوِي الآثامِ نِيطَتْ بحبِّه ... إزاحةُ آثامٍ وصفحُ جرائمِ

ملائكةُ الرحمنِ أمستْ وأصبحتْ ... تطُوف ذُراها كالطيورِ الحوائمِ وليس يُسامِي النجمُ سُدَّةَ بابِه ... فمن يعْتلي سقفَ السَّما بالسَّلالمِ فمن يكُ يأوِيها فقد صار لائِذاً ... إلى مَعْقِلٍ للمستجيرِين عاصمِ ولن تبلُغَ الأملاكُ في القُرْبِ شَأْوه ... وكيف الخوافِي تسْتَوِي بالقوادمِ وفي ليلةِ الإسراءِ صار مُشرِّفاً ... بأخْمَصِه فوق السُّها والنَّعائمِ وبعثتُه أضحتْ لكلِّ مُلِمَّةٍ ... كأيام ذي قارٍ لجار الأراقِمِ ولولاه لم يُوجَد من الخلقِ واحدٌ ... هو السببُ الأقْصَى لخلقِ العوالمِ بمِيلادِه غارتْ بُحَيرة سَاوةٍ ... وغِيضَت أوَاذِي سَيْحِها المتراكمِ غَدا حِصْنُ من لم يتَّبِعْ لك دَارِساً ... ولم يتَّفق بَانٍ له غيرُ هادمِ مَشاربُهم سَمٌّ ذُعافٌ ومالَهم ... مطاعمُ أشْهَى غير عَضِّ الأباهمِ ألا يا رسولَ اللهِ جُدْ بشفاعةٍ ... عسى اللهُ أن يَمْتاح عفوَ جرائِمي شفَيْتَ نفوساً حيث داويْتَ سُقْمها ... وسلَّلتَ منها مُرْدِيات السَّخائمِ وسَيْبُك يا ذا الجودِ غيرُ مُمنَّعٍ ... لمُسْترفِدِ الجَدْوَى ببابِك قادِمِ تركتَ ذوِي اللسَن المصاقعَ مُفْحِماً ... وإنَّك قد انْطقْتَ عُجْمَ البهائمِ وكم مُفْلِقٍ أعجزتَه مُتحدِّياً ... بمُعجِز قرآنٍ إلى الحشر قائمِ وهبْتَ جَرِيداً في الوغَى لعُكاشةٍ ... تحوَّل نَصْلاً من مَواضِي الصَّوارمِ ووجهُ ابن مِلْحان غدَا إذْ مَسَحْتَه ... مُضيئاً كبَرْقٍ في خلال غمائمِ وشَاءٌ لعبد القيْس في أُذْن سَخْلِها ... إلى اليوم قد أبْقيتَ بادي المياسِمِ لعمري قد أصبحتُ مُغْرىً ببابِكَ الرَّ ... فيع مُعَنّىً مُذْ أُمِيطتْ عمائِمي عليك سلامُ اللهِ ما سطع الضُّحَى ... وأوْمَض برقٌ في خلال غمائمِ كذلك للصحب الكرام وآله ... ذوي عِزَّة قَعْساءَ جَمِّ المكارمِ لهم في النَّوادِي فضلُ حِلْمٍ ومُكْنَةٍ ... وفي حَوْمةِ الهيْجاء عَدْوُ الضَّراغمِ نجومُ هُدىً من يقْتديهم يفُزْ بما ... يرومُ اهْتداءً في ليالٍ فواحِمِ وأنشدني من لفظه هذه القصيدة، مدح بها مفتي السلطنة: أحْيَى رُبوعَ الأجْرَعَيْنِ لِزامَا ... مُزْنٌ سَقاها وابلاً ورِهامَا ومتى يُرى البرقُ اللَّمُوعُ بذي الغَضا ... طار الفؤادُ لها شجىً وغَرامَا وثَوى الربيعُ على ذُراها مُلْقِياً ... برَحِيب ساحتِها العصا فأقامَا والريحُ إذْ هبَّتْ برَيَّا تُرْبِها ... أذْكَتْ من الوجدِ الصريحِ ضِرامَا زَرَّتْ هَتُون السحبِ في حافاتِها الْ ... أزْرارَ ناشرةً بها أعْلامَا لو ضَلَّه السَّارِي هدَاه نَحْوَ سا ... حتِها شَذَا أنْفاسِ نَشْرِ خُزَامَى عهْدي بأيامٍ مَضَيْنَ برَبْعِها ... يا رِيحُ عنِّي بلِّغِيه سلامَا أوقاتُ أُنْسٍ مثل إبْهام القَطا ... قد صِرْنَ من قِصَرِ المدى أحْلامَا وبِمُنْحنَى وادِي الأراكِ حبيبةٌ ... قلبي بشَجْوِ غرامها قد هامَا وبسُرَّةِ البَطْحاء مُرْتَبَعٌ غدا ... أضْنَى فؤادي صَبْوةً وهُيامَا وبما ارْتدتْ بِرداءِ جَوْنِ سُفُورِها ... صارتْ على بشر المَوامِي شَامَا شَغَفِي وتَهْيامِي تجدَّد كلّما ... شدُّوا على العِيسِ الأَمُونِ حِزَامَا للنَّاسِ صيَّرها الإلهُ مَثابةً ... إذ حيثُ عَيَّن قبلةً إعْظامَا

قُصَّادُها تَرْقَى على رُتَبِ العلى ... مهما تجُوب مَهامِهاً وأَكامَا أصْبُو إلى تقْبيل هاتيك الثرى ... لأفُوز أن اسْتافَ ذاك رَغامَا وإذا الحجيجُ توجَّهتْ نحو العُلَى ... أهْفُو إلى تلك الربوعِ غَرامَا إن رُمْتَه نَيْلَ المُنَى مُسترفِداً ... خُذْ ما ترُوم فقد ظفِرتَ مَرامَا فاطلُبْه ممَّن بالفضائل واللُّهَى ... لذَوِي الحِجَى والفضلِ صار إمامَا مُفْتِي الورى ومُبِين أعلام الهدى ... أفْتَى الأنامَ وأوضحَ الأحْكامَا ذو المجد إن أمْعَنْتَه ألْفَيْتَه ... وجدودَه الغُرَّ العظامَ كِرامَا وبرأْيه المورُوثِ أعطَى راعياً ... للدولةِ العُظْمى به اسْتحْكامَا أعْطَى بصائب فكرِه وبجُودِه ... لشَتِيت آمالِ العُفاةِ نِظامَا وأزاح دَيْجورَ الحواديثِ بعد ما ... قد عَمَّ ساحاتِ الديارِ ظلامَا وأراح مُذْ ساس الورَى فلأجْلِ ذا ... أضحت عيونُ الحادثاتِ نِيامَا مَن فاز بِشْراً من أسِرَّة وجهِه ... بَرْقَ البشائرِ والتهَانِي شَامَا ومَنِ اسْتضاءَ بنورِ غُرَّته اجْتلَى ... وجهَ السرورِ وقد أُمِيطَ لِثامَا ولأجْل أن أغْلَى المعالِي قيمةً ... سوقُ المعالِي والمعارف قامَا مَن كان مُنتمياً إلى أعْتابه ... أمسَى وأصبح للأنام إمامَا أنت الذِي أعطيتَ جَدّاً ناعِشاً ... من يستغيثُك نال ما قد رامَا آنافُ كلِّ مُخالفٍ أجْدَعْتها ... بشَبَا البراعةِ إذ سَللْتَ حُسامَا وجوادُ فكرك فاق سَبَّاقَ النُّهَى ... خاض الطِّرادَ وما أثار قَتامَا وسلكتَ في سُبُلِ المكارم مَسْلَكاً ... أعْيَى الوُلاةَ وأتعبَ الحُكَّامَا من يتَّخِذْ مَثْوَى جنابِك قِبْلةً ... للناس أصبح أُسْوةً وإمامَا سَبقتْ لِبابِك لي تَلِيدُ عُبودةٍ ... أنت الأحقُّ بأن تصون ذِمامَا اللهَ أسألُ أن يُحلِّي دَائباً ... بوجودِك الأيامَ والأعوامَا دُمْ في ذُرَا طَوْدِ السعادة والعلى ... تتسَنَّم الهضَباتِ والأعْلامَا وأنشدني رائية خبية الفكر، والخريدة التي صانها الله صيانة البكر، وهي في مدح الوزير مصطفى، أخي الوزير الفاضل. ومطلعهاك دِراكُ المعالي بالمُهنَّدةِ البُتْرِ ... وَنيْلُ الأماني بالمُثقَّفة السُّمْرِ ومَن يهتْصرْ لَدْنَ القنا باعْتقالِها ... جنَى يانعاً من دَوْحةِ النُّجْحِ والنصرِ وهل بعد أن الحتْفَ ضربةُ لازبٍ ... لمن ينْثنِي ذُعْراً عن الزحفِ من عُذْرِ ولو لم يكن بالْهالِع النَّدْلِ سُبَّةٌ ... كفى فيه خُسْراً سوءُ مُنْقلَبِ الكَرِّ وما لم تُرِقْ لم يُورِق النُّجْحَ ناضراً ... نَجِيعُ الأعادي كالمُلِثِّ من القطْرِ ومن يعْتنِقْ هِيفَ القَنا يسْلُ مُعرضاً ... عن الخَفِراتِ البِيض ناحِلةِ الخَصْرِ ويسْتنتج الحَوْماتِ والبأْسِ من يكُن ... أبا عُذْر ما قد خاض من فتْنةٍ بِكْرِ ومَن لم يخُضْ لُجَّ المَعارِك لم يكَدْ ... يفُوز بِعقْد النَّحْرِ من لُؤلؤٍ نَثْرِ فها هو ذا الصدرُ الكريم الذي غدا ... عديمَ المُدانِي غيرَ مُشتَرك النّجْرِ سَمِيُّ النبيِّ المصطفى الناشرُ اللُّهَى ... غزيرُ الندى شمسُ العلي الواسعُ البِرِّ مُعزُّ أساسِ الدين مُحيِي رسُومهِ ... مُذِلُّ رقابِ المعتدين ذوِي الكفرِ وناظمُ شمْل الدين للمال ناشرٌ ... يفوق الورَى في ذلك النظم والنثرِ

تطاوَل للأحْرارِ حيث اسْترقَّهمْ ... بِفَكِّ عُناةٍ منهم عن يَدِ الأسْرِ وصار له خَوْضُ الحروبِ سجِيَّةً ... ولم يكُ يسْطو في المعارِك بالبُتْرِ رحيبٌ ذَاره أصبحت مُنْتدَى اللُّهَى ... وحَضْرتُه العَلْيا غدَتْ منتهى الفخرِ حَرِي للورى أن يُفْرِشوه خُدودَهم ... يعُدُّونه زَهْواً من الشِّيَم الغُرِّ له شاغلٌ بالبِيض عن أبْيَض الدُّمَى ... وبالسُّمْر يسْتغني عن الشُّدُنِ العُفْرِ زَكَا خُلْقُه الَّزاهِي ورتبتُه اعْتلَتْ ... على أنْجُمِ الزَّهْرا بل الأنْجُمِ الزُّهْرِ أزاح بمَاضِي الشَّفْرتيْن صفوفَهم ... كما حَكَّ سْطراً بعد ما حاك من سَطْرِ وما قد أتى من صَيِّب النُّجْح عاجلاً ... مَخِيلةُ أن يزْداد من دِيَمٍ غُرِّ وأنت الوزيرُ ابنُ الوزير أخو الندى ... وصدرُ الصدور الماجِدين ذوي القَدْرِ أحاطتْ أياديك الكرامُ بحيثما ... يَضيقُ بما خَوَّلْتَ منطقةُ الشكرِ رُواقُ المعالي في ذَراكَ مُطنِّبٌ ... بحيث غدَتْ أوتادُه مَرْقَبَ النَّسْرِ بغزْوِك آضَ الشرعُ مُسْتوثِق العُرَى ... وأصبح حبلُ الدِّين مُستحْصِد الشَّزْرِ ومن عَضْبِك البَتَّارِ ما برح العدى ... إذا أوْمَض البرقُ المُلِيحُ على ذُكْرِ تركْتهمُ تحت السَّنابكِ في الوغى ... لَقَى بعد ما كانوا اعْتلَوا صَهْوة الكِبْرِ ولاَذُوا حُصوناً قد ظفِرْتَ بفتْحها ... كما فزِع الطيرُ المَرُوعُ إلى الوَكْرِ ومن يكُ يأوِي من جَنابِك مَلْجأً ... جَلا أوْجُهَ الآمال مُبتسِمَ البِشْرِ أقلْنِي يُثبْك اللهُ ما قد تروُمُه ... وزادَك ما قد حُزْتَ من شرف القدرِ أفاض لك النُّعْمَى وزادك بَسْطةً ... بما مَنَّ من نُجْحٍ عظيمٍ ومن نصرِ وجازَى بما أعليْتَ من كلِماتِه ... فكنتَ مُقيلَ الدِّين والشرعِ من عَثْرِ وإنِّي وأيْمُ اللهِ لم آلُ دَعوةً ... مُدِيمُ الثناءِ المَحْضِ في السرِّ والجهرِ غدوتُ أخا عُرْىً وضُرٍ وفاقةٍ ... طَلِيحاً بأعْباءِ الخَصاصةِ والفقْرِ وأضحى عدوِّي راثياً لي لأنني ... قويُّ الأسَى واهِي التجلُّد والصبرِ وإني لِمَا بي من أسىً مُتجلِّدٌ ... ولكنَّ أحْزاني تنِمُّ عن سِرِّي وإنِّي جديرٌ أن أُرَوَّي برَشْحةٍ ... أفَضْتَ بها من فيْضِ نائِلك الغَمْرِ مُنايَ وسُؤْلِي أن أفوز بحِجَّةٍ ... وأسْرَحَ طَرْفِي بالحَجُونِ إلى الحِجْرِ وفي في سماءِ الصدقِ صادقُ دعوةٍ ... عَلا في الدياجِي مثل مُنْبَلِج الفجرِ أنِلْ وابْق واسلَمْ مُستماحاً ومَفْزَعاً ... لمُسْتنْجِدي الجَدْوَى ومُسترفِدي البِرِّ ودُمْ ساحباً ذيلَ المكارم ساكباً ... سحابَ نوالٍ مُخْجِلٍ نائلَ البحرِ سقى اللهُ مِن دَانِي الهيَادِبِ صَيِّبٍ ... حِماك الذي صارت مُناخاً لذي الفقرِ وكتب إليه إبراهيم السؤالاتي، ملغزاً في ربيع، قوله، وقد أنشدنيه وجوابه من لفظه: نكتةَ الدهرِ لَوْذَعِيَّ الزمانِ ... عارفَ الوقتِ ألْمَعِي الأوانِ بدرَ أُفْقِ الكمال شمسَ المعالي ... رُوحَ جسمِ الجمال والعرفانِ والمُجَلِّي طِرْفَ الفضائل والبَذْ ... لِ سَبُوقاً في حَلْبة الميْدانِ والمحلى جيد الفصاحة بالفك ... ر عقوداً من لؤلؤ وجمان

بيَراعٍ منه تُراعُ المَنايا ... ويُراعَى فيه ربيعُ الأمانِ ما اسمُ شيءٍ طَلْقِ المُحيَّا نضيرٍ ... بشَذاه يُرِيحُ لُبَّ الجَنانِ رُبعه خمسُ ربعه وتراه ... إسمَ شخصٍ وقطعةً من زمانِ شَطْرُه مالكٌ ومقلوبُ باقِي ... هِ يُصيب الإنسانَ في الأحْيانِ واقلبِ الاسمَ بعد طَرْحِك للصد ... رِ تراه عيْباً بدا للعَيانِ وإذا ما قلبْتَ حاشيتيْه ... فعبيرٌ ينِمُّ عن رَيْحانِ وإذا ما حذفتَ ثانيَ هذا ... فهْو رَكْبٌ يسيرُ في القِيعانِ وانْتشِقْ من تصْحيِفه نَشْرَ شيءٍ ... هو طِيبُ الأرْواحِ والأبدانِ نصفُه إن ردَدْتَه فهْو شخصٌ ... طائعٌ والديْه في كلِّ آنِ وفَلاةٌ عريضةٌ وتعالى الل ... هـ ربِّي مُدبِّرُ الإنسانِ وإذا ماحذفتَ ذا فهْو قوتٌ ... وغذاءٌ للجائعِ اللَّهْفانِ وإذا ما صحَّفْتَه فوِعاءٌ ... لِغذاء الرضيعِ يا ذا البَيانِ هاك مولايَ من عُبَيْدك لُغْزاً ... وابْقَ تسْمُو قدراً على كِيوانِ ما سرَتْ نَسْمةُ الرياضِ صَباحاً ... في رُباها بلَيِلَة الأرْدانِ وتغنَّتْ بسَجْعِ حَمْدك وُرْقٌ ... بفَصِيحِ التِّبْيانِ والألْحانِ وهذا جوابه: وردةٌ ذي أم مَبْسَمُ الأُقْحُوانِ ... جاد وَسْمِيّ عارضٍ هَتَّانِ أم ثغورُ المِلاح ألْعَسُ أحْوَى ... أم خدودُ المِلاح حُمْرُ قَوانِي أم جُمانٌ مُنضَّدٌ لوشاحِ الْ ... غِيدِ يُزْهِي مَعاقِدَ التِّيجانِ أم سُلافُ الرُّضابِ عذْباً بَرُوداً ... بِتُّ منها كالْوالِهِ النَّشْوانِ أم كؤوسٌ أدارها أهْيفُ القَدِّ ... هَضِيمُ الحشا خضيبُ البَنانِ زهرةٌ زانَها السحابُ سُحَيْراً ... بدموعٍ غزيرةِ الهمَلانِ تلك روضةٌ غَنَّاءُ فيها من الوُرْ ... قِ بكلِّ الأرْجاءِ سَجْعُ قِيانِ نَفْثةُ السِّحْر أم رُقىً لِمُعنّىً ... فاترِ القلبِ ساهرِ الأجفانِ كنتُ خِلْواً من الغرام فهزَّتْ ... نِي صَباباتُ هذه الألحانِ حيث جاءتْ ألَذَّ من غَفَواتِ الْ ... فجرِ طِيباً لِجَفْنيَ السهرانِ يا كريماً بعثتَ سِلْكَ عقودٍ ... فاضِحاتٍ قلائدَ العِقْيانِ مُلْغِزٌ في اسمِ ما به الرَّبعُ زَاهٍ ... وهْو للدهرِ موسمُ العُنْفُوانِ جئتَ للهِ يا ربيعَ المعالي ... بِمُوشّىً مُحيِّرِ الأذْهانِ يا سَمِيّاً لمن به صِرْنَ بَرْداً ... وسَلاماً لَواعِجُ النِّيرانِ فُقْتَ كلَّ الورى وصار مُقِرّاً ... لك بالفضل كلُّ قاصٍ ودَانِ ما تعنَّتْ حمائمٌ ساجعاتٌ ... بهديلٍ أعالِيَ العِيدانِ أجبت أطال الله بقاك، وأقول كما قال شيخ المعرة، حيث أنشد: واقْتنِعْ بالرَّوِيِّ والوزنِ منِّي ... فهُمومي ثقيلةُ الأوزانِ ومن بدائعه قوله: ترى السَّرْوَ إذْ وافَى السحابُ بثَلْجِه ... وقلبي المُعنَّى بالهوى جِدُّ مَسْجُورِ يشمِّر أذْيالاً كبِلْقِيس حيثما ... تبدَّتْ لها بُسْطُ الرُّبَى كالقواريرِ قلت لو كان للسرو رجل أخرى إلى رجله، لكان تشميره الذيل حتى يسارع بتقبيل الأرض لأجله. ومنه قول ابن زهر الحفيد، في زهر الكتان: أهلاً بزَهر الَّلازَوَرْدِ ومرحبَا ... في روضةِ الكَتَّان تعطِفه الصَّبَا لو كنتُ ذا جهلٍ لخِلْتُك لُجَّةً ... وكشفتُ عن ساقٍ كما فعلتْ سَبَا وأنشدني من لفظه لنفسه: تَوَقَّ الشُّحَّ عن نَشْر الأيادِي ... وأيْدِي الجود فابْسُطْها سَماحَا

أيبْقَى العنكبوتُ بلا جناحٍ ... أعَدَّ الله للرزقِ الجناحَا ولي أنا فيه من المدائح قصائد محررة، وبرودٌ خِطتْها من جَيِّد الثناء وهي بالقوافي مزررة. فمنها قصيدة أهديتها له عند دخولنا القاهرة، مستهلها: على رَسْمِها بالمُدَّعِي من مَآلفِ ... أقامتْ هَزِيماتُ الحيا المتضاعفِ ونسختها اختص بها وحده، فلهذا لم أذكرها. وكان له ولد طاهر النشأة وقورها، مبذول المكارم موفورها. انتقل بمصر إلى عفو الله ورضوانه، وخلى القلوب تعالج لواعج أحزانه. فكتبت إليه أسليه: هو الرَّدَى للمرء بالمرصادِ ... والكونُ كلُّه إلى النَّفادِ وهذه الدنيا التي نعرفُها ... ما هي إلا مَنْشأُ الأنْكادِ أنكرتُها وأنكرتنْي وأنا ... إذْ ذاك ما وُضعتُ في المِهادِ فلو أكُنْ أملكُ روحي في يدي ... أطلقْتُها من ساعة الميلادِ مالي وإيَّاها وكلِّي ألْسُنٌ ... على فَواتِ عُمُرِي تُنادِي ومن يمتْ أحْسَب يلْقَى راحةً ... ولا أقَلّ من أذَى الأضْدادِ ويكتفي مع الورى في خَلطٍ ... مشَّقةً متاعبَ الجهادِ وقد فقدتُ مَن مضَوا ومعهمْ ... راحلتِي من المُنَى وزادِي وفيهمُ مَن لو يُفدَّى مَيْتُهُ ... فدَيْتُه بحَبَّةِ الفؤادِ ومن إذا ذكرتُ عهدَ قُرْبِه ... ودَّعتُ عند ذكرِه رَشادِي ومَن هواه لم يزلْ في خَلَدِي ... مُنَزَّلاً منزلةَ اعْتقادِي ريحانةُ المجدِ التي بِعَرْفها ... تعطَّرتْ مَعاطِسُ الأمجادِ قد نقَد الفضلَ صفاتُه التي ... حَلتْه نَقْد الحُسْنِ للجيادِ وكان في عيْن الزمانِ نُورَها ... قد حلَّ منها داخلَ السَّوادِ ومَن رآه في بُروجِ سَعْدِه ... فقد رأى أهِلَّةَ الأعيادِ مضَى سعيداً والرِّضا زميلُه ... مُصاحبُ الإسْعافِ والإسعادِ فكلُّ بُقْعةٍ به عاطرةٌ ... تنْفح نَشْرَها بكلِّ وادِ فما على من شَمَّ مِسْكاً أذْفَراً ... من تُربِه مُضَمَّخَا بِجَادِي لا زال في جنانِ عَدْنٍ ثاوياً ... يحْبُوه لطفُ المنْعم الجَوادِ وباكرتْ مَضْجَعه من الرِّضا ... غُرٌّ يحثُّها الصَّبا غَوادِ والله يقْضي لمُصابِ فَقْدِه ... بالصبرِ والجزاءِ في المَعادِ ولا يزال عمرُه عُمْرَ الورى ... لا ينْقضي لأبَدِ الآبادِ فهو الذي تُرشِدنا علومُه ... ورأيُه للخير خيرُ هادِ وقلت وأنا برشيد في خدمته أودعه، وكان المرض أقعدني عن رفقته، لمشيئة الله وحكمته: أفارقُ من أوَدُّ به التلاقِي ... وأخْتار الحِمامَ على الفِراقِ وأذكر عهدَ لَيْلاتي المَواضِي ... فأنْدُبها بتَذْكارِ البَواقِي ولو كانتْ دمشقُ ثَنَى عِنانِي ... ولا ألْقاك عِفْتُ بها اعْتلاقِي فأنت إذا بعُدتَ فألْفُ بُعْدٍ ... لآمالي ولا بَرِح اشْتياقِ ولولا الضَّعفُ ما اخترتُ التَّواني ... ولا سلَّمتُ للبلْوَى وَثاقِي فعُذْراً إنني والحظُّ قِدْماً ... تعاهدْنا على عدَم الوِفاقِ إذا ما رُمْتُ أمْراً فيه نُجْحِي ... يُعاكِسه ويجْهَد في شِقاقِي فيا صبْري فديْتُك مِن مُطِيقٍ ... ويا بُؤْسي عدِمتُك من مُطاقِ وأنت أيا مُنَى قصْدِي خبيرٌ ... بما ألْقَى وما أنا بعدُ لاَقِ فلا تُهْمِل لعبْدك رَعْىَ وُدٍ ... ودُمْ طولَ الزمان وأنت باقِي السيد عبد الله، المعروف بابن سعدى روضٌ متهدل الغصون، من شجرة السرو المصون. لم يرق أفصح منه براعة بيان، ولم يشق أنقش منه يراعة بنان.

فكفه توشي الأرض الزخارف، وتجر على وجه الرياض خضر الطارف. وكان شديد العارضة في المعارضات، موفى العهد في المقارضات. إلا أنه على جودة طبعه، وشفوفه في مادة نبعه. زحلي الانتقال، والعثرة عنده لا تقال. ينحرف من حيث يستقيم، ويعتل وشكل مادته عقيم. ولهذا ابتلى في قضاه، بحكمٍ جرى على خلاف رضاه. فجوزي باخترامه، في احترامه. وقوبل باعتباطه، من اغتباطه. فصعب عليه أمر العزلة وأشكل، إلى أن عقل أمانيه المطلقة وتوكل. ثم حصل له إمدادٌ بالرجعة، فأحله فيما شاء من النجعة. وأطلعت صفحته الصحو، ونشر بعد ذلك المحو. ولما استقضى بمكة رأيته بالشام وهو يزدهي بالنسب الأوضح، ويتباهى بنبعةٍ فرعها في السماء ومغرسها سرة الأبطح. وكان بينه وبين أبي حقوق، ما رميت قط بوصمة عقوق. فاحتفل به احتفال الناس بالربيع إذا جَا، وهلال شوال إذا فاجا. ثم جرى بينهما مخاطبات، وطرف مكاتبات. ألذ من إغفاء الفجر، وأشهى من الوصل بعد الهجر. ثم دخل الحجاز، فكان لوعد ارتحاله بها الإنجاز، وهكذا من كان في دار النقلة والمجاز. فرحم الله انقطاعه إلى كرمه، والتجاه إلى رمه. فمما دار بينه وبين أبي، ما كتبه إليه أبي: يا ساكناً بشِغافِي ... وعن عيونِيَ خافِي طوَّلتَ مدةَ هجرِي ... وبعضُه كان كافِي كدَّرتَ بالبُعدِ عيِشي ... من بعد ما كان صافِي لهفِي لطِيب ليالٍ ... مرَّتْ لنا بالتصافِي حيث الشبابُ قَشِيبٌ ... والدهرُ فيه مُوافِي وسالفٌ من زمانٍ ... تُدار فيه سُلافِي من كفِّ رِيمٍ كغُصْنٍ ... يميلُ بالأعْطافِ يزْهُو بورْديِّ خدٍ ... يُزْرِي بوَرْد القِطافِ زمانُ لَهْوِي تقضَّى ... برَوضةٍ مِئْنافِ تُسْقَى من السُّحبِ وَبْلاً ... بعارضٍ وَكَّافِ يا دهرُ رِفْقاً بصَبٍ ... حتى متى ذا التجافِي وعدْتني بالأماني ... فكُن بوعدِك وافِي واسمحْ برؤيةِ مَوْلىً ... سليلِ عبدِ منافِ منها: مولايَ يا بحرَ فضلٍ ... طَامٍ من الجود طافِي وفائزاً بقوافٍ ... أعيتْ لَعَمْرِي ابنَ قافِ أنت الغنِيُّ بمَدْحي ... عن كثرةِ الأوصافِ فلا تظنَّ بأنِّي ... لِسابقِ الوُدِّ جافِي لو كنتُ أعلم أمرِي ... لكنَّ أمْرِيَ خافِي لَكان سَعْيِي إليكمْ ... وفي حِماكم طَوافِي فرَبْعُ غيرِك عندي ... مولايَ كألأعْرافِ إن رُمْتَ تفْصيلَ حالِي ... من الزَّمانِ المُجافِي ما إن تمنَّيتُ شيئاً ... إلا أتى بالخلافِ من جَوْره ضاق صدري ... فسِحْتُ في الأريافِ حتى حَللْتُ بمصرٍ ... من بَعْد قطْع الفيافِي فلم أجِدْ ليَ فيها ... غيرَ الثلاثِ الأثافِي فلا صديقٌ صَدُوقٌ ... ولا حبيبٌ يُوافِي هذا زمانٌ عجيبٌ ... ما فيه خِلٌّ مُصافِي والفضلُ قد صار ذَنْباً ... وللرَّواجِ مُنافِي منها: واعذُرْ بفضلِك فكرِي ... ضاقتْ عليه القوافِي ودُمْ بسَعْدك تسْمُو ... عُلاً على الأسْلافِ فأجابه بقصيدة طويلة، مستهلها: يا خيرَ خِلٍ مُصافِي ... لازال وِرْدُك وافِي أين الزمانُ الذي قد ... كُنَّا به في التَّصافِي ما بيْننا غيرُ وُدٍ ... ما بيْننا من خِلافِ طَوْراً نُرَى من رياض الْ ... علومِ في الاقتطافِ وتارةً من بحار الْ ... قَرِيض في الاغْترافِ كنَّا كمثلِ الثُّرِيَّا ... بصُحبةٍ وائْتلافِ فصيَّرَتْنا بناتِ النَّ ... عْشِ الليالِي الجَوافِي

بيننا نَرُود برَوْضٍ ... يوماً مع الأحْلافِ وطيرُه في وِفاقٍ ... ولَحْنُها في اخْتلافِ إذْ صاح منها غُدافٌ ... تَعْساً لذاك الغُدافِ قد بَان كلٌّ عن الإلْ ... فِ وهْي ذاتُ الإَفِ منها: عسَى ليالٍ تقضَّتْ ... يعُدْنَ بالإسْعافِ آهٍ عليها فآهٍ ... قد أسرعتْ في التَّجافِي مضَتْ سريعاً وولَّتْ ... كمثلِ دُهْمٍ خِفافِ مرَّتْ كخاطفِ بَرْقٍ ... وطِرْنَ كالخُطَّافِ قد كُنَّ شَامَ زَمانِي ... كالشَّامِ في الأرْيافِ دمشقُ أعْنِي ودامتْ ... مُخْضرَّةَ الأكْنافِ شوقي لها كلَّ حينٍ ... يزْداد بالأضْعافِ أصْبُو إلى بَرَداها ... بلَوْعةٍ والْتِهافِ نسيمُها وهْو ذُو عِلَّ ... ةٍ لدائِيَ شافِي أنهارُها لجيوشِ الْ ... همومِ كالأسْيافِ بها حدائقُ فاقتْ ... في أحسنِ الأوْصافِ تلك الحدائقُ تحكي ... صفاتِ خِدْنِي المُصافِي منها: يا مَن له كابْنِ بُرْدٍ ... بُرْدٌ من الفضلِ ضافِي يا ظافراً بقوافٍ ... أعْيَتْ عُوَيْفَ القَوافِي عويف القوافي، هو: عويف بن معاوية بن عقبة الفزاري. من شعراء الدولة الأموية. وإنما قيل له عويف القوافي لبيت قاله، وهو: سأُكذِبُ مَن قد كان يزْعُم أنني ... إذا قلتُ قولاً لا أُجِيد القوافيَا أتْحَفتنا بقرِيضٍ ... أحْسِنْ بذا الإتْحافِ فَائِيَّة ما رأيْنا ... مِثْلاً لها في القوافِي ما من سِنادٍ خَلِيلِي ... بها ومِن إصْرافِ السناد: اسم لكل عيب يحدث للحروف والحركات قبل الروي. والإصراف: اختلاف المجرى، وهو الحركة في الروي، بالفتحة والضمة. وإذا كان بالضمة والكسرة فهو الإقواء. وأما الإكفاء، فهو تقارب حرفي الروي في المخرج، كالنون مع الميم. والإجازة هو بعدهما في المخرج، كالباء واللام. زفَفتَ بِكْراً عَرُوباً ... إليَّ خيرَ زَفافِ بِخَتْمِها بلَغتْني ... مَصونةً في السِّجافِ عتبْتَ في تَرْكِ كُتْبِي ... إليكَ والعَتْبُ شافِي لا تَعْذُلَنِّي فهذا ... حَوْبُ الزمانِ المُجافِي وإن يكنْ ذاك ذَنْبِي ... فاصْفَحْ ومثلُك عافِي ما أجملَ الصفحَ عن ذنْ ... بِ مجرمٍ ذي اعْترافِ واللهِ ربِّي الذي لا ... تخْفَى عليه الخَوافِي حُبِّيكَ في كلِّ حينٍ ... يكون في استحْصافِ رأسٌ كقافٍ وإن كا ... ن بيْننا بُعْدُ قَافِ لا زلْتَ ترْفُل عِزّاً ... وثوبُ قدْرِك ضَافِي عبد اللطيف، المعروف بأنسي أعجوبة الأقطار والأمصار، وشرك العقول وقيد الأبصار. وحسنة هذا النوع الإنسي، وعذر الزمن عن ذنب به أنسي. اشتعلت بأسماره فحمة الليل، وجرى في روض أخباره نهر الصبح مثل السيل. بحسن بيان يسحب ذيله على سحبان، ولطف تعبير يجر مطرفة على جرير وحسان. وأحاديث هي مراوح النفوس من كد الفكر، ومصفاة القلوب إذا أبقت فيها الحوادث أثر العسكر. ومناسبات هي نزهة مسارح الأخبار، وحظ جارحة السمع من منح الاعتبار. أشهى من لذة النشوان، وقطع الرياض، جرى فيها ماء البيان، وسقتها مياه الحياض. وله في الفنون يدٌ تتناول الشمس، وتشبر البسيطة بالبنان الخمس. فلو أدركه الرازي لقيل له دونك إمامك، أو ابن أرفع رأس، لقيل له ارفع رأساً وانظر من أمامك. أو لحقه ابن وحشية لقرب له المتنافر البعيد، أو خالدٌ الغيور لكفاه هم التقطير والتصعيد. فلو وضعت صنجات النجوم من نيران السماء في كفه، لم توازن مناقبه الغر ونسبت إلى طيشٍ وخفة.

له تدبير محتنكٍ مجرب، ورأى ممارس مشرق ومغرب. ونظمه ونثره باللسانين، هذا يقصر عنه من السحاب دره، وذا يصغر عنه من السخاب دره. فذا أصفى قطراً وديمة، وذا أوفى قدراً وقيمة. وكان في آخر أمره تنبه حظه من نومته، وسيم من الإقبال التام بسومته. فولي قضاء الشام، ونال رتبةً يتباهى بها العز والاحتشام. وقد رأيته يوم دخوله، وزحمة الأعين تحول بين التملي ووجهه، فرأيت شيخاً إذا سار البدر في موكب نجومه، قيل قد غنينا عنه بتلهبه. وقد أخلق العمر عمائم ثلاثاً في راسه، وأشعل للرحيل بهذه النعشة ذبالة نبراسه. ولم يبق من كأس عمره إلا جرعة، وبريد المنية سائرٌ إليه في عجلة وسرعة. فما حط أثقاله بهذا الفنا، حتى نزل دار البقا وترك دار الفنا. فالله ينور له الحفيرة والتربة، وهو المسؤول أن يؤنس له الوحشة والغربة. وهذا جانبٌ من نثره الفائق، ونظمه الرائق. أتيت منه بالقليل من الكثير، فإن محاسنه تزيد على نجوم الفلك الأثير. فمن ذلك ما كتبه إلى مفتي الدولة: دروعٌ لِشاكِي الطعنِ هذي الرسائلُ ... يرُدُّ بها عن نفسه ويشاغِلُ هي الزَّرََدُ الضَّافِي عليه ولفظُها ... عليكَ ثناءٌ سابغٌ وفضائلُ أتاك يكادُ الرأسُ يجحَد عُنْقَه ... وتنْقَدُّ تحت الذُّعْر منه المَفاصلُ كيف لا، وأيد الله مولانا، وهو مظهر الجلال والقهر، ومصدر الحماسة والسيادة في أبناء الدهر. ذو الهمة التي همت بالدهر إذ تصرف في الاحرار بصروفه، والعزمة التي عزمت على تسكين دور دوائر حتوفه. الذي تصهر باستبعاده الأحرار من عزمهم غصناً وريقا، وتسنم من سبح الجلالة والجبروت مكاناً وثيقا. متى استنجد تنمر تنمر الليث، أو استغيث تشمر تشمر البطل عند الغيث. يكاد سنا برق سطوته يذهب بالأبصار، وتكاد صواعق دولته تخرب المدائن والأمصار. وإن شيم برق حلمه في خلال جون معارضات عوارضه، فالمستغر بوميضه كمن اغتر في الأحقاف بعارضه. كم أوجف أقدام قربه بالجبان، إلى مساقط الحرب العوان. وكم روى سويد بن البنان، من دماء الغطارفة الشجعان. يتكسَّب القصَبُ الضعيفُ بخطِّه ... شَرفاً على صُمِّ الرماحِ ومَفْخَرَا لقد أطال إلى سمك السماكين باعا، ومد إلى جر مجرة الفرقدين ذراعا. فتغنى بمديحه غير الغريد، وملأت مهابته قلب كل قريب وبعيد. بعث الرعبَ في قلوبِ الأعادِي ... فكأنَّ القتالَ قبلَ التَّلاقِي وتكاد الظُّبَا إذا جاشَ غَيْظاً ... تَنْتضِي نفسَها إلى الأعناقِ كرمٌ خَشَّنَ الجوانبَ منه ... فهْو كالماءِ في الشِّفارِ الرِّقَاقِ ومَعالٍ إذا ادَّعاها سِواهُ ... لزِمتْه جِنايةُ السُّرَّاقِ هو لعمري المقدم الذي لا يجارى في مضمار، ولا يساوى عذار جواد سؤدده بعذار. لقد تقلد بفخره حساماً لا تنبو مضاربه، وتخوذ من عرضه بيضةً يعجز عن قرعها مضاربه. فمن رام وطء حرمه بنقصٍ ملته البقيا، ومن اصطلى بناره أتيح له منها شوبٌ لا يموت فيها ولا يحيى. أعزُّ مُغالبٍ كفّاً وسيْفاً ... ومقدرةً ومَحْمِيةً وآلاَ وأشرفُ فاخرٍ نفساً وقوماً ... وأكرمُ مُنْتمٍ عَمّاً وخالاَ كلا والله، لست صادقاً في قالي، ولا مصيباً تلك الرمية بنبال مقالي. لأني لا أرتضي له من جميل المدح مدحَا، ولا أستطيع لمتن حسن ثنائه شرحَا. إذ المدح وسيلةٌ لأن يعتقد في الناقص الكمال، والثناء ذريعةٌ إلى تخيل الجميل في غير ذي الجمال. فأكون كالأعشى إذا مدح محلقا فغدا بعد خموله إلى شأو العلى محلقا. وهو فقد ملك السيادة مقاداً ذليلا، وأضح له صعب الفخار ذلولا. وجل عن مذهب المديح فقد كاد يكون المديح فيه هجاء، فأكبر بشأنه، وأعظم بمكانه. هو الذي بذ فلا يدرك، وشذ في عصره فلا يشرك. وأي مقال ينبي عن مغنى فضله، وأي إرقالٍ ينتهي إلى مداه وخصله. لو أرخى عنان جواد الثنا، في ميدان المدح والثنا، لوجب من غلو الوصف المندوح، تكفير المادح والممدوح. لكن قد زحم جماح غلوه، واستنزه جلمود علوه. واستقصر مدى جريته، دون التمادي في مريته.

على سرد بعض منتقى أوصافه الفاخرة، ووصف فيض ملتقى بحر علومه الزاخرة. عَلامةُ العلماءِ والبحرُ الذي ... لا ينتهي ولكل لُجٍ ساحلُ يدْرِي بما بِكَ قبلَ تُظهِرُهُ له ... من ذهنِه ويُجيب قبلَ تُسائلُ وتراه معترضاً لنا ومُولِّياً ... أحْداقُنا وتحارُ حين يُقابلُ كلماتُه قُضُب وهنَّ فواصلٌ ... كلُّ الضَّرائبِ تحتهنَّ مَفاصلُ مقطعاته كالسحر الحلال، والسلسبيل السلسال. والمثل السائر، والنادر المنجد والغائر. لا يمكن الاحتذاء على مثالها، ولا تطول أعناق الهمم إلى مثالها. إن شبه فالمعتزيات واجمة، أو أغرب فالمغربات راغمة. ذو الأخلاق الأريحية، والأحكام الشريحية. والشجاعة العنترية، والنصائح البحترية. من هو في الزهد كأويس، وفي الحلم كالأحنف بن قيس. إياس الزكن، عريٌّ عن اللحن واللكن. كان قدما أبوه في العلم والزهد يساوي سميه زكريا، فاقتفى أثره وأربى عليه وله صار وارثاً ووليا. أنهي إليك أيها المولى الباذخ فخاره، الشامخ على النجم مناره. أن هذا بعض ما أدركه أسير امتهانك، وهدف سهام امتحانك. من بعض أوصاف حميد شيمك، التي حويتها بعلي هممك. التي أفحمت كل معارض يجارى، وأوجمت كل معاندٍ يمارى. ورجمت مناويك بشواظٍ من نار، وألجمت كل ذي لسنٍ يقاويك بلجام العي والبوار. فكيف أقوى بعد جرمي بها، وتحقق وهمي فيها، على سل مرهف المقال، والتجاسر في حضرتك على إطلاق عنان المقال. مع علمي بصلود قدحي، ومعرفتي وسم قدحي. وإني إن جعلت نفسي لسهام سطوتك هدفا، أوردتها من وخيم مناهل بطشك تلفا. ثم لا أجد لي من الانتساب إلى معرفة جنابك شافعا، ولا من الانتماء إلى خدمة أعتابك عن أليم عقابك دافعا. وما عسى أن أقول، وعلى أي قرنٍ أصول. وأنت سحبان وائل، وأنا أعيى من باقل. ولقد عُرِفتَ وما عُرِفت حقيقةً ... ولقد جُهِلتَ وما جُهِلت خُمولاَ ما كلُّ من طَلب المعالي نافِذاً ... فيها وما كلُّ الرجال فُحولاَ والرسالة التي تقوم بعدة رسائل، هو ما قال القائل: تأخَّرتُ أستبقي الحياةَ فلم أجدْ ... لنفسِي حياةً مثل أن أتقدَّمَا فلستُ بمُبْتاعِ الحياة بذلَّةٍ ... ولا مُرْتَقٍ من خشْية الموت سُلَّمَا وكنت برهةً طالما اقتدحت زناد فكري، في وصف معاليك فما قدح، واستصدحت عندليب شعري، في وصف مساعيك فما صدح. فأصبحت من زخارف آمالي، وزيف نقود أعمالي، على ركية جفت مذانبها، وروضةٍ اغبرت جوانبها. وصرت الآن كقطاةٍ لم يعلق لها جناح، علق بها من جأشك لا من الأيام جناح. ونصبت لها في حرمك الأشراك، وأعوزها البشام والأراك. والذي حول حمالي، وهيج بلابل بلبالي. هو ما أنا شارحه، وبين يديك الكريمتين طارحه. سمعتُ حديثاً ما سمعتُ بمثلِه ... فأكثرتُ فيه فِكرتي وتعجُّبِي وها أنا أُلْقيه إليك مُفصَّلاً ... فدونك فاسْمعْ ما يسرُّك واطْرَبِ وذلك أنا صادفنا خلسةً من خلس الاتفاق، في مجلس بعض الموالي الرفاق. الذين حضور مجالسهم شرف دهر، واستئناف عمر، ورفعة قدر. والذين هم عيون أعيان أصدقائك، وأجل جلة محبيك وأخلائك. نتنافث فيه رقى الأشعار، ونتساجل من فقرها ما يفعل في العقول فعل الأسحار. ونتفاوض منها في المحكم والمتشابه، والشرط الذي لا يحسن القريض إلا به. مع سادةٍ هم لعمري نجوم الفضل والأدب، وبدور الحسب والنسب. فبينما نحن نجول في تلك الحلبة، ونرتشف من مخض تلك الحلبة. إذ سقط علينا من السما، وفاجأنا من العما، من أسكرته حميا قربك، وأقعس منكبيه كونه من حزبك. فهو لا يرتضي غير حاله حالا، ولا يعد غير قاله قالا. فجعل ينص لنا من مخدرات أبكار أفكاره، ويجلو علينا من قاصرات نظامه ونثاره. ما زعم أنهن كاللؤلؤ والمرجان، لم يطمثهن إنسٌ قبله ولا جان. ولنا القولُ وهو أدْرَى بفحْوا ... هُ وأهدى فيه إلى الإعجازِ ومن الناسِ من يمُرُّ عليه ... شعراءٌ كأنها الخَازِبَازِ فاعتقدنا ما اعتقدنا، ونقدنا ما نقدنا. وأقمنا لبضاعة قريضه سوقا، ونهجنا للأخذ والعطاء فيه طريقا.

فرأينا النقاوة فانتقيناها، واريناه النفاوة التي انتفيناها. فأوتر لذلك قوس غضبه بوتر المثالب، ورمى المملوك من تعنته بكل سهم صائب. وتكشف عن خلق ليس بينه وبين الجميل نسب، ولا له إلى التثبت طريقٌ ولا مذهب. وهو بسيف تعسفه صائل، ولم يعلم قول القائل: إن بِعضاً من القَرِيض هُراءٌ ... ليس شيئاً وبعضُه إحكامُ منه ما تجلِبُ البراعةُ والفضْ ... لُ ومنه ما يجلبُ البِرْسَامُ فلما رأى أني لست ممن تغتاله غوائله، ويصطاد في حبائله. وأني وإن طلبت للشعر عيباً ألفيته، وإن كافحني قرنٌ لقيته. وأنه إنما تخضع الرقاب لمن وجدت فيه فضلا، وتنقل الأقدام إلى من كان للزيارة أهلا. فأضرب عن المجادلة صفحا، وسحب ذيل تناسيه على رسم المساجلة مرحا. ثم لما ودعنا، وغاب شخصه عنا. حملناه على أحسن محمل، ونسبناه إلى ما هو من الجميل أجمل. ولم نعلم أنه ركض علينا في ميدان حضرتك، ووضع قدم قوله حيث شاء من الملام في سدتك. وما لكلام الناس فيما يَرِيبُنِي ... أصولٌ ولا للقائلين أصولُ أُعادَى على ما يُوجِب الحبَّ للفتى ... وأهدأُ والأفكارُ فِيَّ تجُولُ فلم أشعر إلا منذراً إيعاد مولاي علاه لدى الباب، يذكر ما حصل لجنابه من التحمل والاضطراب. فيا لله العجب كيف أصغي للنميمة، وبالغ كل المبالغة في الشتيمة. ولم يلهم أن الروايات تمر وتعذب، والحكايات قد تصدق وتكذب. ولم أرَ في عيوبِ الناسِ عيباً ... كنقْصِ القادرين على التَّمامِ وربما صدق مولانا ما نقل إليه، وما عرض من الافتراء عليه. من أني استهجنت شعره الرائق، واستوجمت نثره الفائق. أو من تقدمه من متقدمي هذه الصناعة، وجالبي هذه البضاعة. من كل من إذا رام اقتناص نوادر بديعية ابتدعها، أو غاص في بحار المعاني على جواهر اختراعية اخترعها. أو قال أبياتا أبرزها غررا، أو نظم فقراً جعلها دررا. وأنا أعيذ سيدي أن ينظر الذنب الخفي، أو يتغافل عن العذر الجلي. تطيعُ الحاسدينَ وأنت امرؤٌ ... جُعِلتُ فِداؤُه وهُم فدائِي أأنطِق فيك هُجْراً بعد عِلْمي ... بأنك خيرُ مَن تحت السماءِ وهَبْني قلتُ هذا الصبحُ ليلٌ ... أيَعْمَى العالَمونُ عن الضِّياءِ وإنما طريق العلم نهجً تستوي فيه الأقدام، ومورد الفضل مشرعٌ تتشارك فيه الأفهام. ولكني أقول: أرى المُتشاعِرين غَرُوا بذَمِّي ... ومَن ذا يحمَد الداءَ العُضالاَ ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍ مريضٍ ... يجدْ مُرّاً به الماءَ الزُّلالاَ فوالذي حرم وطء حرم الأعراض، وعظم أجر غرض أسهم الأغراض. ما يليق بشأنك، ولا يحسن بعلو مكانك. أن تكون خفيف ركاب الغضب والرضا، أو تكون رخيص مهر الحب والقلى. وأن تسارع إلى شنيع العتب، أو تسلف العقوبة قبل ارتكاب الذنب. ولقد عجبت كل العجب حيث لم تدرك الصواب، في تعيين بشاعة الجزاء. وشناعة العقاب. وأنت المشهور بالصواب في أحكامك، والمعروف بإصابة اليقين بسهام أوهامك. وفي حل عقد المشاكل، كما قال القائل: قاضٍ إذا الْتَبس الأمْرانِ عَنَّ له ... رأيٌ يُخلِّص بين الماءِ واللبنِ الفاصلُ الحكمَ عَيَّ الأوَّلون به ... والمُظهِر الحقَّ للسَّاهِي على الذَّهِنِ فلو عرفت وجه سخطك، وتبينت موجب شططك. لتحملت دونك الوزر في ظلمي، ولكنت مقدمتك إلى سبي وذمي. ولأزمعت أن أضع نفسي في الكفة التي وضعتني فيها، وأن أنزلها في المنزلة التي أهلتني لها. لعلمي أن حكومتك لا تنقض، وحجتك لا تدحض. لكن يتواضع الليث لصيد الأنب، وافتراس الثعلب. وإن كان يصطاد الفيل، ويفترس العندبيل. حسبُك اللهُ ما تضلُّ عن الحقِّ ... ولا يَهْتدي إليك أَثامُ لم لَمْ تحْذَرِ العواقبَ في غَيْ ... رِ الدَّنايا وما عليك حَرامُ والعقاب الذي حكم به مولانا على عبده مرضي، وقضاؤه على مملوك رقه مقضي. لكن حيث كان الخوض في شعر الناقل محصورا، والنقد على زيوف محصول ديوانه مقصورا. لو قصرتم السبب على ذلك المسبب، لكان أظهر للإعلال وأنسب.

بشأن الحب أن ذلك العنوان، ليس إلا في شأن ذلك الديوان. وليعلم الخاص والعام، ويتحدث في المحافل عاماً بعد عام. بأن مولانا لم يخط في حكمه ثغرة السداد، ولم يزغ برسمه عن شريعة الرشاد. فلعمري لقد جاءني الداء، من مظنة الدواء. وكنت أعددت مولاي لكل مطلوب جناحا، ولظلمات الخطوب مصباحا. قد كنتَ عُدَّتِيَ التي أرْمي بها ... ويدي إذا اشْتَدَّ الزمانُ وساعِدِي فرُمِيتُ منك بضدِّ ما أمَّلْتُه ... والمرءُ يشْرَق بالزُّلالِ الباردِ أقول ذلك إجلالاً واحتراما، لا اختباراً واستفهاما. فإن الأمور بيد الله، والأرزاق في خزانة الله. قد لَعَمْرِي أقْصرتُ عنك وللوَفْ ... دِ ازْدِحامٌ وللْعطاءِ ازْدحامُ ومن الرُّشدِ لم أزُرْك على القُر ... بِ على البُعدِ يُعرَف الإلْمامُ لي والله يا سيدي قلبٌ لا تقلبه السراء ولا الضراء، وعرضٌ غير ملوم لا يدنسه المراء. طالما نطقت بلسانٍ تشبه خلقته خلقة إنسان، ونمقت بكلمٍ كأن لسانه لسان السنان. لا يعثر جوادهما في مضمار الكلام، وصلت بحسام همة لا ينبو شباه عن ضرب أعناق المرام. لم أوجد بحمد الله تعالى كاسد الشعر، رخيص السعر. نزر الكلام، كسلان الأقلام. غافلاً عما هو من الحقوق متعدٍ أو لازم، جاهلاً بما هو للأنفة محرك أو جازم. وما الحداثةُ من ِحلْمٍ بمانعةٍ ... قد يُوجَد الحلمُ في الشُّبَّانِ والشِّيبِ فليتك يا سيدي ومولاي تقول: إنِّي امرؤٌ لا يعْترِي خُلُقِي ... دَنَسٌ يُكدِّرهُ ولا أفَنُ وكل هذا لا يساوي هذا الملق، ولا يستغرق السجع الملفق. وإن تيقنت أبقاك الله جميع ما نقل عني، أو زعمت أنه صدر مني. فطالما كانت الهفوة عند الكريم سبباً لجميل الرجعي، والنبوة سلماً عند الحليم إلى كريم العتبى. والصلة بعد القطيعة أبقى، والود بعد النفرة أخلص وأصفى. ولطالما انكسرت المودة فانجبرت، وانقلبت الأحوال بعد ما أدبرت. فليس لما صدر تربةٌ تحتمل غراسا، ولا قرارةٌ تسع أساسا. والكذب عائدٌ على من حكاه، والغلط مردود على من رواه. فإنه صيرفي دراهم، لا صيرفي مكارم. وإنما هو تاجر قيل وقال، لا تاجر مقال وأفعال. دعونِيَ والواشِي فها أنا حاضرٌ ... وصوتِيَ مرفوعٌ ووجهيَ بارِزُ والمرء أقصر ما تكون بنانه، إذا طال لسانه. وإنما يتلمظ بحلاوة العرس، من احتمل مهر العرس. أنَفُ الكريمِ من الدَّنِيَّةِ تاركٌ ... في عينِه العددَ الكثيرَ قليلاَ والعارُ مَضَّاضٌ وليس بخائفٍ ... من حَتْفِه مَن خاف مهما قيلاَ ولئن عاد إلى التعريض، والادعاء في إجادة القريض. لم أدع في لساني فضلةً إلا أحضرتها، ولا في قلبي سجعةً إلا نثرتها. ليعلم أن الكريم من أكرم الأحرار، واللئيم من ازدرى بالأخيار. وأن الرياسة، حيث النفاسة. وأني ممن إذا رمى صاد، وإذا قال أجاد. وأن الحر إذا جرح أسا، وإذا خرق رفا. ومن بسط عذر الأيام، فقد بسط عذر الأنام. ومن جهل المتاع، فلينظر المبتاع. جعل الله أوقات مولانا صافيةً من الكدر، خالصةً من الغير. ومساعيه محمودة الأثر، وعلومه زاكية الثمر. إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. أيا عاتباً لا أحمِلُ الدهرَ عَتْبَه ... عليَّ ولا عندي لأنْعُمِه جَحْدُ سأسكتُ إجلالاً لعلمِك إنني ... إذا لم تكن خَصْمِي لِيَ اللُّجَجُ اللُّدُّ ومن شعره النقي، ما كتبه لبعض أحبابه في صدر رسالة: أيها السيدُ الذي أنا عبدُهْ ... والذي أنطَق المدائحَ مجدُهْ لي إلى وجهِك الجميلِ غرامٌ ... في يديْه عَفْوُ اشْتياقي وكَدُّهْ أنا إن زرتَ أو تخلَّفتَ عبدٌ ... بل ولُبِّي صفَا وحقِّك وُدُّهْ يستوي في الوفاءِ قُربي وبعدِي ... وسواءٌ قُربُ الوليِّ وبُعدُهْ سوف أُثْنِي على مودةِ مولىً ... ضاق عنها شكرُ الكلام وحَمدُهْ وقوله في بعض الصدور: حدَّثتُ باليَاسِ منك النفسَ فانصرفتْ ... واليأسُ أحْمدُ مَرجُوعاً من الطمعِ

فكُن على ثقةٍ أنِّي على ثقةٍ ... أن لا أُعلِّل نفسِي اليومَ بالخُدَعِ فما يَضرُّك عندي اليومَ هجرُك لِي ... ولستُ إن سُمْتنِي وصلاً بمُنْتَفِعِ هجرتُ ذِكْرَك عن قلبي وعن أُذُنِي ... وعن لسانِي فقُل ما شئتَ أو فَدَعِ إذا تبَاعدت قلبي عنك مُنصرِفٌ ... فليس يُدْنِيكَ منِّي أن تكون مَعِي ومن ظرفه قوله: أمُعِيرُ قَوْلي أنت سمعَك مَرَّةً ... كَرَماً فأذكرُ إن رأيتُ فُضولاَ والنصحُ قُرْطٌ ربما يُجْدِي الفتى ... في السمعِ محمولُ النَّهِيِّ ثقيلاَ وسواك يفهم إن عنيت بمقولي ... فعلى اسْتماعِك أجعلُ التَّعْويلاَ وإذا نظرتَ وأنت عارفُ عِلّةٍ ... لم تَعْيَ عن أن تعرف المَعْلولاَ وكتب لبعض أخلائه: أكلِّفُ نَسْماتِ البُكورِ تكلُّفاً ... بحَمْل سلامي أو ببَثِّ غرامِي فتدْنَف مما قد تضمَّن من جَوىً ... وتضعُف عن أعْباءِ شرح أُوامِي وتعثُر في الأذْيال من ثِقْلِ حملِها ... ويُزعجِهُا فيه لهيبُ ضِرامِي فرّقتُها من رحمةٍ لي وطِيبُها ... شَذَى مِدْحتي فيكمْ ونَشْرُ سلامِي وكتب إليه مفتي الشام عبد الرحمن العمادي، وهو قاضٍ بطرابلس: مولايَ أُنْسِي الذي طابتْ طَرابُلُسٌ ... به وأصبح فيها الوحشُ في أُنسِ ومن غَدا فضلُه في العصرِ مُشتهرَاً ... كالشمِس في شَفَقٍ والصبح في غَلَسِ أنتَ الذي فَخَر العَصرُ العصورَ بهِ ... وقصَّرتْ كلُّ مصرٍ عن طَرابُلُسِ قد كان لي حَرُّ أشوقٍ فضاعَفَه ... قُربُ الديارِ كشَبِّ النارِ بالقَبَسِ لكن رجَوْنَا لقاءً منك يُطفئِه ... يا رَبِّ فاجعلْ رجانا غيرَ مُنْعكِسِ فاجابه بقوله: هذا كتابُك أم ذِي نفْحةُ القُدُسِ ... يا طيَّبَ اللهُ زاكِي عَرْفِ ذَا النفَسِ فقد حَلا كُلَّما كدَّرْتُه بفَمِي ... كأنه أشْنَبٌ قد جادَ باللَّعَسِ كأنَّما كلُّ سَطْرٍ مُفْعَمٍ أدَباً ... غُصنٌ تُوقِّره الأثمارُ لم يَمِسِ كأنَّهنَّ المَهارِي وِقْرُها دُرَرٌ ... وفي سوى القلبِ والأسْماعِ لم تَطُسِ نظمٌ بديع جِناسُ الإلتفات حَلا ... منه فباللهِ هذا ظَبْيةُ الأنسِ مخائلُ السحر تبدو من دقائِقه ... كاللَّحْظِ أجفانُه مالتْ إلى النَّعَسِ لنا به كلَّ وقتٍ عن سواه غِنىً ... في طلعةِ الشمسِ ما يُغنِي عن القَبَسِ تكسو المَسامعَ أشْنافاً صناعتُه ... وتكْتسِي صُنْعَ صَنْعاءٍ وأنْدلُسِ فبينما نحن نَجْنِي من أزاهرِها ... إذ أشْرقتْ وهْي مثلُ الزُّهْرِ في الغَلَسِ وبينما هي تُجْلَى في طَرَابُلُسٍ ... والشام طَلَّتْ على مصرٍ ونابُلُسِ أذْكَرْتني منه ما لم أنْسَه أبداً ... ولم يزَلْ مُؤنسِي في مجلسِ الأُنُسِ يا مَن تنزَّه عن إحْصا فضائلِه ... هل في حسابِك أُنْسِي للعهدِ نَسِي وإنَّني لَحفِيظٌ للوِدادِ ولو ... أعْياك رسمُ ودادٍ غيرُ مُنْدرِسِ لا زلتَ عُمْدةَ أهلِ الفضلِ في صَعَدٍ ... إلى العُلَى يا عِمادِي غَيرَ مُنْتَكِسِ ما لِي سوى نسماتِ الشِّعرِ أبْعثُها ... تحيةً لدمشق من طَرابُلُسِ شيخ الإسلام زكريا بن بيرام مفتي الديار الرومية، والممالك العثمانية، وأجل من كل من انفتحت عن مآثره الشقائق النعمانية. هو من جوهر الفضل مكون، وكتاب الدهر بمحاسنه معنون. ما طلعت نجوم فتاويه إلا وأشرقت آفاق الدنيا رونقاً وابتهاجا، ولا امتطى صهوات أبحاثه إلا كان له نور الفهم على دهم الإشكال سراجاً وهاجا.

دانت له الليالي فجلى بها ظلمات الحنادس، وتدانت له سماء المعالي فاستقر بها وهو للنيرات الخمس سادس. حتى أصبح الدهر راوياً لخبر إفادته، وناطقاً بلسان إجادته. وقد جمع الفضائل كلها، وحوى المحاسن دقها وجلها. ومع ذلك فهو مطلق الهمة لإسداء الهبات، مفيضٌ للمكارم على الفور والثبات. إذا هطلت سحب إحسانه سقى الجود منه رياض المنى، طلائع إحسانه بشره كما سبق النور غض الجنى. لم يأت من المراتب شيئاً فريا، وكفل الفضائل والفواضل كفالة زكريا. وكان مع تبحره في المنقول والمأثور، جامعاً بين حسن المنظوم ورونق المنثور. وله فيهما ما تقف الفصاحة عنده، وتقفو البلاغة حده. فمن ذلك ما قرظ به طبقات التقي التميمي. هذا كتابٌ فاق في أقْرانِه ... يسْبِي العقولَ بكَشْفِه وبَيانِهِ سِفْرٌ جليلٌ عَبْقَرِيُّ فاخِرٌ ... سحرٌ حلالٌ جاءَ من سَحْبانِهِ أوراقُه أشْجارُ روضٍ زاهرٍ ... قد تُجْتَنى الثَّمراتُ من أفْنانِهِ لله دَرُّ مُؤلِّفٍ فاق الورى ... بفرائدٍ فغدَا فريدَ زمانِهِ فجَزاه ربُّ العالَمين بلُطْفِه ... طبقاتِ عِزٍ في فسيحِ جِنانِه لما تعمقت في لجج هذا البحر الزاخر، صادفت أصداف أصناف الدرر الكامنة النوادر. وألفيته روضةً غناء زاهرةً أزهارها، وروضةً زهراء ناضرةً أنوارها. وجناتٍ شقائقها محمرة، وجنات حدائقها مخضرة. تذكرةً لعارفٍ تقي، وتبصرةً لمستبصرٍ عن الرذائل نقي. جاوز الشعرى بشعره الفائق، وفاق النثرة بنثره الرائق. قد استضاء بجواهره المضية تاج تراجم الأعيان، فصار كأنه مرآةٌ انعكس فيها صور سير الأسلاف وأشراف أفاضل الزمان. اللهم اجمع بيننا وبينهم في غرف عدنٍ وطبقات الجنان. ومما يروى له من الشعر قوله: إذا ما كنتَ مَرْضِيَّ السَّجايَا ... وعاش الناسُ منك على أمانِ فعِشْ في الدهرِ ذا أمْنٍ ويُمْنِ ... ويُوصِلُك الإله إلى الأمانِ وقوله في الغزل: قد قتل العشاقَ من لَحْظهِ ... دماؤُهم سالَتْ على الأوْدِيَهْ يا عجباً من قاتلٍ إنه ... ليس عليه قَوَدٌ أو دِيَهْ ولده شيخ الإسلام يحيى المولى الأعظم، والملاذ الأعصم، والعروة الوثقى التي لا تفصم. واحد الزمان، وثاني النعمان. طلع شمساً في فلك الفتيا فلما قابل أرضه البدر انخسف، ودار كل شهر على لقاه فلما آيس انتحل بل امتحق من الأسف. فشعشعت الآفاق منه غرةٌ في جبين المجد مشرقة، واستقر به في ذلك المركز شخصٌ لم يدخل العلوم من بابٍ واحدٍ، بل دخلها من أبوابٍ متفرقة. فأطاعته الدولة إطاعة المملوك لمالكه، ونفذت كلمته نفاذ كلمة المليك في ممالكه. في رياسةٍ مطارح ظلالها حرم، وكل فعالها جودٌ وكرم. فلم يدع لفضل الفضل ذكراً، وترك معروف يحيى بن خالد نكراً. بل لم يبق لكعبٍ، من علو كعب. وأنسى دعوة حاتم، بأي مادحٍ وخاتم. تتنفس الأسحار عن آثاره، وتتبسم الأماني عن جوده وإيثاره. والدنيا مشرقةٌ بلألاء وجهه المضي، والأيام تغضب إذا غضب وترضى إذا رضي. وقد ضمنت مساعيه أن يشكر، وأن لا تعذب الأفواه حتى يذكر. وله القدر الذي استخدم الأنام، واستعبد الليالي واسترق الأيام. إذا أقبل في كوكبه وجلاله، تسجد الأجفان لتعظيمه وإجلاله. فرأيه سراج الملوك، وذلك من نظمه الذي هو نظم السلوك. وهو في الأدب أوحد من لان له الكلام، فإذا أمسك القرطاس اختصمت أفواه الدوي في تقبيل أقدام الأقلام. يستوقفُ العَلْيا جَلالاً كُلَّما ... سجَد اليَراعُ بكفِّه تبْجيلا لا تسْتنيرُ به المعالي غُرَّةً ... حتى يسيل به النَّدَى تَحْجِيلاَ وكل من كان في عصرهِ، فهو هاصر غصن الأدب من محل هصره. وأكثرهم عليه تخرج، وفي بستانه تأرج، ومن طبعه اكتسب وإلى طريقه انتسب. فرياض أفكاره باسمة الثغور عن شنب المعالي والألفاظ، وغياض أشعاره متفتحة عن ورد الخدود ونرجس الألحاظ. تهز أعطافها ارتياحاً به القوافي، وتحث لها الندمان أكؤسها على الغدران الصوافي. مستظْهِرٌ بعباراتٍ وألْسِنةٍ ... تفَتَّتْ كالرياضِ الغُرِّ ألْوانَا

أهْدَى إلى لُغَةِ الأعْرابِ تُبَّعَهَا ... ورقَّ بالمنطقِ التُّركِيِّ خاقَانَا وقد أوردت له ما يحلي الأدب كما يحلي السوار الزند، ويفوح عرفه كما يفوح عرف العنبر الند. فمنه قوله في الغزل: ورَد النسيمُ بأطْيبِ الأخبارِ ... طاب الوُرودُ وسائرُ الأزْهارِ سكِروا بخمْرِ الشوقِ حتى أظهرُوا ... ما في ضمائِرهم من الأسرارِ في جَمْعِهم لم تَلْقَ إلا ماسِكاً ... قدَحاً من الإبْرِيزِ والبَلاَّرِ والحوضُ فيه مجالسٌ مَلكِيَّةٌ ... والوَرْد كالسُّلطانِ في الأطْوارِ لِعب الشَّمال بهم فحرَّكهم كما ... لعِب الشَّمُول بزُمْرةِ الشُّطَّارِ وقوله: كأنْ بوَرْدِ خدَّيْه عُقارُ ... شرِبْتُها حتى بَدا البَلاَّرُ البلار: لغة في البلور، رأيته في استعمال المولدين، منهم المعتمد بن عباد، على ما ذكره في قلائد العقيان: جاءتْكَ ليلاً في ثيابِ نهارِ ... من نُورِها وغُلالةِ البلارِ والشرب كناية عن التقبيل، أزيلت به الحمرة وبدا البياض. ومن لطيف تخيلاته قوله: بِحُلَّةٍ حمراءَ جاءتْ وقد ... تفُوح بالعنْبَر أذْيالُهَا حِلْيتُها لَعْلٌ وياقوتةٌ ... صِيَغ من العَسْجدِ خَلْخالُهَا وله تخميس على بردة الأبوصيري بقوله: لمَّا رأيتُك تُذْرِي الدمعَ كالعَنَمِ ... غرِقتُ في لُجَجِ الأحْزانِ والتُّهَمِ قُلْ لي وسِرِّ الهوى لا تخْشَ من نَدَمٍ ... أمِن تذكُّر جِيرانٍ بذِي سَلمِ مَزجْتَ دمعاً جرَى من مُقْلةٍ بدَمِ تُمسِي بعَيْنٍ بوَبْلِ الدمعِ ساجِمةٍ ... ونارِ وَجْدٍ بجَوْنِ القلبِ ضَارِمةٍ فهل بَرِيدٌ أتَى من حَيِّ فاطمةٍ ... أم هبَّتِ الرِّيحُ من تِلْقاءِ كاظِمةٍ وأوْمَض البرقُ في الظَّلْماءِ من إضَمِ متى السُّلُوُّ لأهلِ العشقِ عنه متى ... وحَبُّ حُبِّ سُلَيْمَى بالحشَا نَبَتَا إن تُنْكرِ الوجدَ عندي بعد ما ثبتَا ... فما لعيْنَيْك إن قلتَ اكْفُفَا هَمَتَا وما لقلبِك إن قلتَ اسْتفِقْ يَهِمِ تُريد تُخْفي الهوى والدمعُ مُنْسجِمٌ ... وفي حَشاك لَظَى الأشواقِ مُضْطرِمٌ هيْهات كاتمُ سِرِّ العشقِ مُنْعدِمٌ ... أيحسَب الصَّبُّ أن الحبَّ مُنكتِمٌ ما بين مُنْسجِمٍ منه ومُضْطرِمِ ومن إنشائه، ما كتبه على كتاب في الطب، اسمه مغني الشفا: يا له من روضةٍ شحاريرها أقلام المادحين من النحارير، وألحان سواجعها ما سمع لدى التحرير من الصرير. غصونها أورقت ولكنها بصحائف كأنها مملوءةٌ باللطائف أطباق، وأثمرت والعجب أن منابت أثمارها بطون الأوراق. من وقف عليها وتوقف فيما قلته من الوصف العاري عن المرا، فلا شك أنه مبتلىً بداء النوك وليس له دوا. ولما أجلت نظري في ربوة حسنها وبهجتها، ونشقت شذا رياحينها وشممت عرف نفحتها. وعاينت مجالس أنسها وقضيت منها العجب، وحرك مني أوتار سطور طروسٍ بها ما لا يحدثه القانون من الطرب. توجهت بمجامع قلبي إليها، وقلت مؤثراً موجز القول في الثناء عليها: يا روضةً في رُباهَا ... دَوْحٌ غدَا سَجْعُ طَيْرِهْ مَغْنَى الشِّفاءِ ومُغْنٍ ... عنِ الشِّفاءِ وغيرِهْ ومن نوادره، أنه دخل عليه رجلٌ، فوقف وسوى قامته، ثم انحنى، ثم قبض على لحيته، وجعل كأنه ينفض عنها شيئاً من آخرها ثلاث مرات، ثم قال له يعمى: باسم الفقير؟ فقال له: اجلس يا إدريس. ومن هذا القبيل ما يحكى عن الصاحب، أنه سأل رجلاً عن اسمه، فأنشده: وقد تستوي الأسماءُ والناسُ والكُنَى ... كثيراً ولكن ما تساوَى الخلائقُ فقال له الصاحب: اجلس يا أبا القاسم. علي المعروف برضائي سبط المفتي زكريا عليٌّ الرضا في نباهته، وإن شئت فقل في نزاهته. ذو البنان الرطب، والبشر الذي يفرق منه الخطب. فسيح مدى الإغضاء وفضاه، منتقبٌ وجه غضبه برضاه.

انتسخت شمائله من الصبا في المنازه الرحاب، وارتضعت خلاله مع طفل النور أخلاف السحاب. فيكاد من رقته يذوب ذوبان علي بن الجهم، وتتقطر مياه البراعة من أعطافه إذا أخذته حرارة الفهم. وله قوة إلهامية، على افتراع بنات الأفكار، وسليقةٌ غريزية، في اختراع المعاني الأبكار. ومن آثاره الفريدة، مختصر الخريدة. سماه عود الشباب، كله لب اللباب. وكان ممن ولي قضاء القاهرة، فافترت مباسمها عن فضائله الزاهرة. وقد سلك في قضائه بها أجل مسلكٍ جلي، وصدق الحديث المروي: " أقضاكم عليٌّ ". وبها عطل منه جيد القضا، على مقتضى الحكم الذي لا يقابل إلا بالرضا. فعلى أخلاقه الرضية، رضوان الله ورحمته الراضية المرضية. فمن توشيات قلمه، قوله في الاعتذار عن اختصار الخريدة: ولما وجدت بعض نقده أزيف من رائج زماننا، شرعت في تمييز الجياد واكتفيت باقتطاف الجياد من ثمار أغصانها، بل قنعت بالعرف الضائع من بانها. وإني وإن فاتني بعض جواهره فالغائص يعذر بما في يديه، ويشكر الصبا مقبلاً من الحبيب بعض عرف صدغيه. فجاء بحمد الله تعالى غادةً تسحر القلوب بألفاظها القسية، وألحاظها البابلية. تصيد القلوب بألحاظها التي زينها الجمال بالفتور، فمن نظر فيه يشتعل قلبه بالنار وتكتحل عينه بالنور. وإني غير آملٍ من أبناء الزمان تحسينهم، وبقلادة حسن القبول توشيحهم وتزيينهم. فإن من جرب الناس في أمرهم، يعرف أن الناس مشتقون من دهرهم. بل ما نؤمله من كرمهم الفسيح، أن لا يوردوا وجهه بالتصريح بأنه قبيح. إنَّا لفي زمنٍ تَرْكُ القبيحِ به ... من أكْثرِ الناسِ إحسانٌ وإجْمالُ ثم ختم الديباجة بذكر خاله شيخ الإسلام يحيى وجعل المختصر معنوناً باسمه، وأورد هذه الأبيات وأظنها من نظمه، وهي: يا مُصدِرَ الآمالِ بُدْناً بعد ما ... سُقْنَا إليك مع الرَّجَا أنْقاضَها عِشْ في ذَرَى كافي الكُفاةِ مُصاحباً ... نِعَماً بياضُ الصبح هاب بياضَها وخُذِ الجواهرَ من قلائد مِقْوَلِي ... إذْ كان غيري مُهْدِياً أعْراضَها قوله: يعرف أن الناس مشتقون من دهرهم يشير به إلى قول أبي الفرج العلاء الرئيس الواسطي: الناسُ مُشتقُّون من دهرِهمْ ... طَبعاً فمن مَيَّز أو قاسَا يمتحن الدهرَ وأحْوالَه ... مَن شاء أن يمتحنَ الناسَا واتفق لي أن بعض الإخوان وعدني بإرسال هذا المختصر وسوف، وشوق العين لاجتلاء روضه النضر وشوف. فكتب إليه متمثلا: نَوالُك دون حَجْبُ الحجابِ ... ومَن ناداك مفقودُ الجوابِ إذا أمَّلتُ يوماً منك وَعْداً ... كأني أرْتجِي عَوْدَ الشَّبابِ ومن شعر رضائي، قوله مضمناً في الدخان، وقد أبدع: غَلْيونُنا حين همَّت كلُّ نائيةٍ ... به وسامَرنا هَمٌّ وأفْكارُ قد اهتديْنا إلى شُرْب الدُّخانِ به ... كأنه علَمٌ في رأسِه نارُ الغليون: أطلق على سفينة معهودة بين العوام، وعلى هذه الآلة التي يوضع فيها ورق التبغ ويشرب، وكلاهما عير لغوي، وهو في اللغة اسم للقدر. والمصراع للخنساء، من قصيدتها التي رثت بها أخاها صخراً. وأول البيت الذي هو ثانيه: وإن صَخْراً لتأْتَمُّ الهُداةُ بهِ وقد كثر تضمين الشعراء له في مقاصد لهم وأجود ما رأيته من تضامينه قول العز الموصلي، في سامري، اسمه نجم: وسامَرِيٍ أعارَ البدرَ فضلَ سَناً ... سَمَّوه نجْماً وذاك النْجمُ غَرَّارُ تهْتزُّ قامتهُ من تحت عِمَّتِه ... كأنه علَمٌ في رأسهِ نارُ ومما عربته من شعره: جرَّد لي من ناظِريْه مُرْهفاً ... ومثلُه من حاجبَيْهِ عاطِبي حَيَّرني فَدَيْته أأغتدِي ... قُرْبانَ عَيْنيْه أم الحواجبِ محمد بن بستان المفتي خدن الفضل وتربه، ومن أمن من المكروه سربه. يتفتق من المعارف مكنة، لكنه يرتضخ لكنة. فالكلام مشغوف بحلاوة لسانه، والقول وقف على حسنه وإحسانه. وهو من حين أقمر هلاله، راقت ولا ورق البستان المزهر خلاله.

وانهل صيب جوده وقد أربى على انهلال السحاب انهلاله فشتان بينه وبين البستان، أو الصيب الهتان. وهيهات أن يكون من فيضه خاصٌّ كمن فيضه عام، أو من يؤتي أكله كل حينٍ كمن يؤتي أكله كل عام. وقد أطلعه الله منظوراً بعين العناية المتواصلة المدد، ومحفوفاً بنهاية الرعاية على توالي الآنات والمدد. حتى سمت رتبة الفتيا بعالي مقامه، وطرزت حللها الباهية بوشي أرقامه. ثم فارقته ولم تصبر على نواه، فراجعها بعد ما استحلت بسواه. فعاد روض الفضل إلى نمائه، وكوكب السعد إلى سمائه. ولم يزل يكحل الطروس بميل يراعته، ويشفف الآذان بلآلىء براعته. إلى أن ذبل بسموم المرض غض نباته، وقطفت بيد الحين زهرة حياته. فمما يعد من زهرات بستانه، ورشحات أقلام بنانه، قوله في رثاء سليمان زمانه. ألا أيها النَّاعِي كأنَّك لا تَدْرِي ... بما قلتَ من سوءِ المَقالةِ والنَّشرِ سَلَلْتَ سيوفَ الموتِ في الدهرِ بَغْتةً ... وقد بلغَ السيلُ الزُّبَى من جَوى الصدرِ وشَقَّتْ قلوبَ المسلمين جراحةٌ ... بصارمِ سيْفٍ قد مضَى ماضِيَ الأمرِ سهامُ المَنايا من قِسيِّ صُروفِها ... أصابتْ بسهمٍ في ابْتسامٍ من الفجرِ نسيمُ الصَّبا رقَّتْ بأشْجانِ فُرقةٍ ... حمامة ذات السِّدرِ حنَّتْ من الذُّعرِ همامٌ على هامِ المَمالِك تاجُه ... أمينٌ رشيدٌ في الخلافةِ ذو قَدْرِ أأعْنِي جواداً في جوادٍ بذكْرِه ... لقد سارتِ الرُّكبان في البرِّ والبحرِ عزيمتُه في البحر كانت عظيمةً ... وهِمَّتُه فاقتْ على الأنْجُمِ الزُّهْرِ وأيامُه كالشمسِ كانت مضيئةً ... وأعوامُه في الحسنِ أبْهَى من البدرِ وما قيل إجْمالٌ لبعضِ صفاتهِ ... ولا يُمكِن التفصيلُ بالنظمِ والنثرِ فهاتيك أوصافٌ لَعَمْري جليلةٌ ... فدُونَكها أبْهَى من الزَّهْرِ والزُّهْرِ على عكس ما طاف البلادَ بجُنْدِه ... كشمسٍ غَرِيباً غاب في مَغْرِب القبرِ صحائفُ أكْوانٍ تدبَّرتُ حَلَّها ... فصادفْتُها شرحاً لفنٍ من الهجرِ على صفحةِ الخدَّيْن أمليْتُ مَا جَرى ... بأقلامِ أهْدابٍ من البُؤْس والضُّرِّ شيخ الإسلام أسعد بن سعد الدين مناط الملك وملاكه، وقطب السعد الذي دارت عليه أفلاكه. الشمس والقمر السعد، والمقتنص لشوارد المعالي بلا تحمل منةٍ لوغد. تحلى بالرياسة في ميعة شبابه، وألقت السعادة أعنتها في بابه. مرتقياً في رتبها طوراً فطورا، ترقى النبات ورقاً ونورا. يزيد قدره ويوفي، وقد خلص من داء الغرض وعوفي. فما قصرت له في أمرٍ يدان، وعنده انطفا قنديل سعدان. فبوجهه مرآة النهار تصقل، ولديه تربط الأماني وتعقل. وله في الصدارة تثبت الجبال، والاستقلال الذي ينسي الماضي منه الاستقبال. فلولا مهابته إذا أقبل، لانتظمت على أذياله القبل. وكان دخل الشام حاجاً فابتهجت بأضواء سعادته، وقارنت السعد الأكبر في بدء أمره وإعادته. وفي رجعته إليها قابله البريد بمنصب الفتيا، ودعاه الدهر إلى هذا المقام الذي وقفت عنده العليا. فنادته المعالي لبيك وسعديك، واليمن والنجح كما تشاء في يديك. ولم يزل في هذا المركز حائزاً رتب الكمال، وعلى مشرع مجده تحوم طيور الآمال. إلى أن وقعت فتنةٌ بين العسكر، اغبر لها أفق الكون وتعكر. ثم انتهت إلى قتل السلطان عثمان، فانحرف عنه وعن آل بيته الزمان. ولم يطل به العمر حتى طلحة وأنضاه، وأعمده في قراب القبر الذي انتضاه. فلا زالت رحمة الله وبركاته، تحييه ما دامت تقل الفلك حركاته. وقد أوردت من شعره قطعةً خضع لها البيان وسلم، وهي قوله في التوسل بصاحب الشفاعة صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ الله أنت المَقصِدُ ... أنت للرَّاجين نعم المسنِدُ كلُّ مَن ناداك فيما نَابَه ... فاز بالإسْعادِ فيما يقصدُ

قد أتى مستغفِراً مُستشْفِعاً ... عبدُك المسكينُ هذا أسعدُ مستغيثاً شاكياً من نفسهِ ... باكياً مما جَنتْ منه اليَدُ منك فَتْحَ الباب أرجُو ضارعاً ... قارعاً أبوابَ فضلٍ تُرْصَدُ منك يا غيثَ النَّدَى أرجو الهُدَى ... إن في الأحشاءِ ناراً تُوقَدُ مَسَّنِي ضُرٌّ وكربٌ مُزعِجٌ ... في الليالِي بالتَّوالي أسهَدُ طال أيامُ التنَائِي والأسَى ... يا طبيبَ القلب أنت المُنْجِدُ يا حبيبَ القلب باللهِ الذي ... غيرُه سبحانَه لا يُعبَدُ بالذي أعطاك قدراً عالياً ... ما لمخلوقٍ إليه مَصْعَدُ بالذي أعطاك ما لم يعطه ... أحداص من خلقه يا سيد بالذي أعطاك ما لم يُعْطِه ... أحداً من خَلْقِه يا سيِّدُ عِدْ بلُطْف منك كُنْ لي شافعاً ... إن تُلاحِظْنِي فإني أسْعَدُ لا تُخيِّبْني فإني سائلٌ ... سائلُ الدمعِ الذي لا يُطْرَدُ سَلْ مِن الرحمن تَعْجِيلَ الشِّفا ... وانْشِراحَ الصدرِ لي يا أمْجَدُ كلُّ مَن يرجو النَّدَى من بابِكمْ ... فهْو من نَيْلِ الأماني يسعَدُ صَلِّ يا ربِّ على خير الورَى ... بصلاةٍ سَرْمَدٍ لا تنفَدُ وارْضَ عن آلٍ وأصحابٍ همُ الْ ... عابدون الرَّاكعون السُّجَّدُ ابنه أبو سعيد محمد المفتي بعد أبيه وجده، والمولى الذي خضع كل مجدٍ لمجده. ورث المجد خلفاً عن سلف، وزها به مركز السيادة على زهوٍ وصلف. بشيمٍ للنيرات بها تعلق، تستمد منها فضل توقدٍ وتألق. وبلاغةٍ في مرتبة الإعجاز، كأنما استفيد منها الاختصار والإيجاز. فهو قليل القول صادق العمل، مقصور الهمة على إنالة ما يهم من الأمل. له صدر النادي، والصيت الذائع بشرف المنادي. وأيدي الغبطة به عالية، وحال تلك الدولة به حالية. حتى جربه الدهر بخطب من أخطاه سهمه، لكنه ازداد به عقلاً عقله وفهمه. في وقعةٍ تخرب فيها قبيلٌ وعشير، وهلك فيها وزير ومشير. فرقت بين روحٍ وجسد، وخلت بين تشفٍ وحسد. فأصيب في ذخائر كان عبأ خباياه منها، وسلمت ولله الحمد نفسه التي لا عوض عنها. وإذا بقيت النفس فلا التفات إلى الفان، وهي الأيام ليست إلا إغفاة أجفان. فبقي بعدها منزويا، وفي خير الخير كما كان منطويا. ولم يغفل لسانه عن شكر، ولا شاب فيها حالته المعروفة بنكر. حتى طوى الحمام محاسنة الفاخرة، فالله يعوضه عن لذات الدنيا بنعيم الآخرة. وقد ذكرت من آثار قلمه ما يروى لشرف الناظم، والمنسوب يصير عظيماً بالنسبة إلى الأعاظم. فمن ذلك ما كتبه على طومار يشتمل على كرامات أبي الغيث القشاش التونسي: أرى أسْطُراً في ضِمْن تلك الرسالة ... جداولَ من بحر الحقيقةِ سالَتِ ومن مَنْبَعَيْ علمِ اليقينِ وعيْنِه ... أسالتْ مَعِينَ الحقِّ أيَّ إسالةِ وفيها جَلتْ حالات حبٍ كأنها ... طَواوِيسُ جَنَّاتٍ تجلَّتْ وجالَتِ وفي ضِمْنها تنْشِيطُ أهلِ محبَّةٍ ... وتنْبيهُ تعبيرٍ لأهل البِطالةِ أبو الغيثِ نعم الغَوْثُ خيرُ وسيلةٍ ... إلى من به قد كان خَتْمُ الرسالةِ قلت: أبو الغيث هذا آية الله الكبرى في الفنون، والنائل من مقامات القرب والتخصيص ما لا تتخيله الأوهام والظنون. ومن أراد استقصاء أحواله، فعليه بتاريخي فهو موشىً بذكر أفعاله وأقواله. وكتب على فرائض العلاء الطرابلسي، الإمام بجامع دمشق: كتابٌ نفيسٌ للفوائد جامعُ ... مفيدٌ لطلاَّب المسائل نافعُ على حُسْنِ ترتيبٍ تحلَّى مُجمَّلاً ... فقرَّتْ عيونٌ للورى ومَجامعُ بَدا مُعْجِباً إذْ لم تَرَ العينُ مثلَه ... به نورُ آثارِ الفضائل لامعُ لجامِعهِ فخرِ الأئمَّة سُؤْدُدٌ ... لرايات أنوارِ المكارم رافعُ

أفاض عليه الربُّ من سُحْبِ جُودِه ... فبحرُ عَطاهُ الجَمُّ للخَلْقِ واسعُ فسدد من جمعه وأحسن، وأمعن فيما جمع وأتقن. حيث أتى بمختص حسن، في تلخيص مطولات هذا الفن. ولما أجلت نظري في ربوة حسنه وبهجته، وشممت من جانب واديه عرف شميمه ونفحته. وجدته حديقةً أنيقة، مزينةً بأزهار المعاني الدقيقة. وألفيته جامعاً من المسائل ما لا يوجد في المنقول، ومحتوياً من الأبحاث ما تعجز عن فهمه العقول. أبر الله عمله، وحرسه من صوارف الدهر ويسر أمله. محمد بن عبد العزيز بن سعد الدين المعروف ببهائي هو بين أسرة هذا النجر، ليلة القدر إلى مطلع الفجر. شاهده تلق نجح الأمل، وانظر بناديه الشمس في الحمل. أشرق في فلك البها، وحلي ببردة الازدها. فبشره يعيد بشاشة النبت الجديب، ولطفه يمسح به الروض عطفي أديب. مشمول الشمائل طيبها، منهمر المواهب صيبها. أعْدَى الوجودَ بجُودِه ... فأباد سائرَ بُخْلِهِ لا بُخْلَ فيه يُرَى سوى ... أن لا يجُود بمثْلِهِ فعطاؤه يزيد الأعمار في نمائها، ويبقي وجوه الراغبين بمائها. وإذا كانت أنعمه عند أوليائه، يغتبط بها أكثر ما تكون في أفيائه. سرى ذكره في الآفاق، مسير الصبا جاذب ذيلها النسيم الخفاق. فإذا تلقت الأرواح منها نفحات الثنا، تعطفت بها الأعطاف وتثنت الأثنا. وقد جمع الله شتات الأدب باعتنائه، وأعاد فيه رونق الحياة بعد دثوره وفنائه. في زمنٍ لم يبق فيه من إذا شدا مداحه هزته الأريحية، إلا قضب الربيع إذا شدت الأطيار تثنت من أصواتها الشجية. فانكشفت ظلماؤه عن يقق، وازدهت رياضه من الوشي في أفخر شفق. وانثالت إليه الوجوه من أهله، سالكين في صعب المديح وسهله. فما خاب أحدٌ منهم في سراه، ولا صلد له زندٌ وراه. وهو في الشعر التركي مجيد ملء فمه، وأما الشعر العربي فلا أحسبه جرى على قلمه. وقد وقفت له على قطعةٍ بالتركية التقطت منها اللؤلؤ الفرد، ونقلته إلى العربية فها هو كماء الورد يدل على الورد: وقد كُشِف الحجابُ فبَان عنه ... مُحيّاً أكْسَب الشمعَ اضْطِرابَا وأخْجَلها بوجهٍ فاق نُوراً ... فصيَّرت الفِراشَ لها نِقابَا وقد رأيت من منشآته هذه القطعة، كتبها على نسب أدهمي: حمداً لمن جعل الانتساب، إلى بعض الأنساب، من أوكد الأسباب، الناجعة في إنشاء ذخائر الحمد والثنا. وأباح لأقدام المتشبثين بأذيالها، مواطىء العز ومدارج العلى. ونصب لهم سلماً يعرجون فيه، إلى سماء السمو وفلك الارتقا. مَرابِعُ قُدْسٍ نالَها كلُّ أقْدسٍ ... سَمَا مَن سَما مِن نائليها إلى السَّمَا وصلاةً وسلاماً على من به بدئت نسخة الوجود والعطا، كما به ختمت رسائل النبوة والاصطفا. وعلى آله وأصحابه الكرماء النجبا. وبعد، فهذه شجرةٌ طيبةٌ أصلها ثابت وفرعها في السما، تؤتي أكلها كل حينٍ بإذن ربها. وتفوح من كل زهرة منها روائح كأنها نوافح النوافج حسناً وطيباً، ويبدو من محاسنها ما يخاله الإنسان غصناً رطيبا. كأنها اتصلت بأفواه عروقها عين الحياة، إذ انسحبت عليها أذيال نفحات الجنان بتلك الحسنات. يا لها من شجرةٍ زكية تسد عين الشمس بأوراقها، وتعطر أعماق الثرى بطيب أعراقها. ثابتةٍ في تربةٍ طالما ربت غصوناً طاميات، ودوحاً ناميات. من أسفل سافلين، إلى أعلى عليين. وجنة عالية، قطوفها دانية، وثمارها يانعةٌ غير فانية. تورد أخدود خدودها حياءً وخجل، حيث تشرفت بلثم أنامل السيد الأجل. ملك أقاليم الإطلاق على الإطلاق، وارث أسرة مقامات الكمل بالاستحقاق. الذي أتحف الضرتين بطلاق، وقام في مقام الحمد على ساق. فطوبى لمن له نصيبٌ في تلك الشجرة الرفيعة الشان، السامية المكان، المورقة الأغصان. المشرقة الأنوار، المزهرة الأزهار، اليانعة الأثمار. طوبى له ثم طوبى له كالشيخ الأجل، والصاحب الأمجد الأكمل، فلان؛ فإن فيه مما يشهد له ألسنة الأقلام، من أجلة العلماء الأعلام. بصحة هذا النسب الباذخ، والحسب العاطس من أنف شامخ. دلائل تدل على تلألؤ نور السيادة من غرته، وانبلاج صبح السعادة عن مفرق طرته.

قاله المتيقن بصحة هذا النسب الأخطر، حاكماً بها على ما يوجبه الشرع المطهر. حسين بن محمد بن أخي المفتي صدر الصدور، والبدر الذي تستضيء بأنواره البدور. تألق وظلام الخطوب قد امتد، وأسفر وسواد القطوب قد اشتد. فأشرقت به الدولة في ليلها المعتكر، وزهت به برجل أندى من الوسمي المبتكر. ثم استوى رئيس هذه الطائفة، فأضحى ووفود الآمال حول حماه طائفة. وكان كبراء عصره لنبالته يحسدونه، ويودون لو عدوا في دفتر المعتدين ولا يعدونه. فانبعث سوء القول، وفتح باب العول. وكان في قلوب الجند أغراضٌ خالجة، ومفاسد منذ زمانٍ والجة. فوجد في جانب الخيار، وانبرم في الأمر معه في الحركة على الاختيار. فدقوا عطر منشم، وسعوا سعى متذبذبٍ متحشم. في فتنة يتأجج أجيجها، ويبلغ عنان الأفق ضجيجها. فعدم اتفاقا، وحرم مناصرةً وارتفاقا. واستشهد في كربٍ وبلا، مثل سميه بكربلا. فتجرع أعداؤه غصص الحين، ورأوا بمقتله يوم الحسين. وقد أوردت له مقطوعاً يدل على لطف مزاجه، وحسن طبعه الذي يحكي عطارد في قوة امتزاجه. وهو قوله: أيها المُبتلَى عليك بخمرٍ ... إنها للعليل خيرُ علاج ثم لا تشْرَبَنَّ إلاَّ بمَزْجٍ ... أوَّلُ الواجبات أمر المِزاجِ وكتب على إجازة الشيخ مسلم الصمادي، لولده الشيخ إبراهيم: الحمد لله الولي القادر، العالم بما في الضمائر. والصلاة والسلام على رسوله محمد، المبعوث من أكرم القبائل وأشرف العشائر. وعلى آله وأصحابه الجالسين على سرر اليقين، الوارثين معالم الدين كابراً عن كابر. وبعد، فقد وقفت على ما في هذا الرق الفاخر من الإجازة، وعرفت حقيقته ومجازه. فوجدته كالروض الفائق، وآثار الأجلة النعمانية فيه كالشقائق. فيا له من سيدٍ سلم ارتقاؤه على سلم الوصول فبالحري أن يدعى بمسلم، وكان شهرة لواء إرشاده كنارٍ على علم. لقن ولده الذكر وأجازه في التلقين، وجعل كلمةً باقيةً في عقبه يوم الدين. ولله در النجل النبيل، سمي نبي الله الخليل. حيث بسط للسالكين سماط الصمادي، فأضاف كل رائح وغادي. بأنفاسه الأنسية، ونفحاته القدسية. فهو في فنه وحيدٌ فريد، وسمع طبل اشتهاره من بعيد. ولا غرو أن سلك المسلك الأسد، فإن هذا الشبل من ذلك الأسد. جعلنا الله من المقتبسين من أنوارهم، والفائزين بمعالم آثارهم. عبد الرحمن بن الحسام المفتي العلم المختلف إليه، والعلامة المتفق عليه. ازدانت به الأيام ازديان الخد بالعذار، وقامت مواهبه العامة عما جنته الليالي مقام الاعتذار. يحفه لطفٌ من الله تعالى مدارك، فيسمو إلى المعالي سمو المستبد لها من غير مشارك. حتى ترامت الحظوة لديه، كعبيده الواقفين بين يديه. إلى حيث لا يدركه أمل، ولا يبلغه إلا ذو علم وعمل. تبذل النفوس أرواحها في رضائه، فلو غفل قلبٌ عن تمريضها عافته كل أعضائه. وله سداد رأيٍ يعضده القضا، وحسام طبعٍ لا يخونه المضا. فهو ينثر الدر إذا أخذ القلم، ومن يشابه أبه فما ظلم. فحظه جارٍ بلا مثالٍ سابق، ولم يوجد قبله حظٌّ لحظه مطابق. فقد أخذ من الجد بعنانه، وتصرف بالقلم كيفما شاء فكأن آية السحر في بنانه. وقد طال إلى ديار العرب تردده، وبارت بها السحب الهواطل يده. فما زالت تشكر آلاؤه حيث حلت ركائبه من البلاد، وتقيه الأعيان من النوائب، بالأنفس النفيسة لا بمنفوس التلاد. وطالما تسابقت إلى مدحه القرائح، ودلت عليه الأقاويل بالكنايات والصرائح. ثم استقر آخراً بمصر مخضر الأكناف، متوفر الأنواع من أسباب العيش والأصناف. ولم يخل أيام إقامته فيها من مجالس يصرف إليها أعنة الاعتنا، وفي صحبة أودائه حزبٌ كأنهم ما خلقوا إلا للمدح والثنا. ينتشون بغده إذا كروا ما مر لهم في أمسه، ويطالعون آثار الربيع فلا يرونها كآثار خمسه. إلى أن أغمده منتضيه، فالله يعطيه من الكرامة ما يرضيه. فمن شعره قوله، يمدح النجم الحلفاوي، خطيب حلب وعالمها: عليك بنجْمِ الدين فالْزَمْه إنه ... سيَهْدِي إلى جِنْسِ العلوم بلا فَضْلِ بنُورِ اسمِه السَّامي هدَى كلَّ عارفٍ ... إلى أنه شمسُ الهدايةِ والفضلِ قال البديعي: ولما أنشدهما قلت بديهةً مخاطباً النجم بقولي:

كفاك افْتخاراً أيها النجمُ أنَّ ذا الْ ... مآثرِ بدرَ المجدِ شمسَ ضُحَى العدلِ حليفَ العُلَى نَجْلَ الحُسامِ المهذَّبَ الَّ ... ذِي عَزمُه ما زال أمْضَى من النَّصْلِ ومن أشرقتْ شَهْباؤُنا بعلومِه ... وزُحْزِح عنها ظلمةُ الظلم والجهلِ حباك ببَيْتَيْ سُؤددٍ بل بدُرَّتَيْ ... فَخَارٍ على أهلِ المآثرِ والفضلِ فيض الله بن أحمد القاف، قاضي العسكر صدرٌ طاب في ورد وصدر، وصاحب قدر جاء للرياسة على قدر. وروضة فضلٍ تندت أوراقها، وسحابة جود أرعادها صادت وأبراقها. عنده مجمل الأدب ومفصله، ولديه حاصل الكلام ومحصله. بلسانٍ يورد موارد الخيال، فيستخرج اللطائف من نبعه السيال. وهو وإن كان من الروم خرج، فطبعه بالعربية البحتة امتزج. ترنو البلاغة عن أحداقه، وتطغى الفصاحة بين أشداقه. فإذا حاضر فما الدر إذا ارتصف، وإن شعر فما ابن الرومي إذا نعت أو وصف. وله شعر من ندي القول ومخضله، ولا أعده إلا من فيض الله وفضله. فمنه قوله، من قصيدته التي مدح بها السلطان مراد بن سليم، يذكر فيها فتح مدينة تبريز، على يد جيش أرسله السلطان المذكور. ومستهلها: للهِ دَرُّ جيوشِ الروم إذْ ظهروا ... على الرَّوافضِ إذْ صارت بهم عِبَرُ كم أبْدَعوا بِدَعاً سَبّاً ومَظْلمةً ... لهم قلوبٌ يُحاكِي لِينَها الحجرُ فالناسُ تجْأر للرحمنِ من يدِهمْ ... واللهُ يسمع منهم كلماجَأرُوا وعندما اقْترب الجيشُ العَرَمْرَمُ مِن ... تَبْرِيز ثم بدا في ذاتهمْ خَوَرُ فشجَّعوا أنفُساً منهم قد امْتلأتْ ... جُبْناً وقد طاشتِ الأحلامُ والفِكَرُ ظنُّوا بأن الليالي نحوَهم نظرتْ ... فأخْطأَ الظنُّ لمَّا أخطأ النظرُ وأمَّلوا سَحَراً من ليلِ كَرْبهمُ ... فلم يكُن لدُجَى أوْصابِهم سَحَرُ لمَّا رأى بَأْسَنا حُمْرُ الرُّءُوسِ إذا ... فَرُّوا كما فرَّ من أُسْدِ الشَّرَى الحُمُرُ قلوبُهم خشِيَتْ أبصارُهم عَمِيَتْ ... شاهَتْ وجوهُهمُ خوفاً وقد خسِرُوا سَطَوْا بهم فتراهم ذَا يَفِرُّ وذَا ... عانٍ أسيرٌ وذا في التُّرْبِ مُنْعفِرُ والنَّقعُ ليلٌ بَهِيمٌ لا نجومَ به ... تلُوح للعين إلاَّ البِيضُ والسُّمرُ هذا من قول مسلم بن الوليد: في عَسْكرٍ تُشرِق الأرضُ الفضاءُ به ... كالليلِ أنْجُمه القُضْبانُ والأسَلُ وللعباسي، صاحب المعاهد ما هو أحسن منه: يعقِد النَّقْعُ فوقها سُحُباً كالل ... يلِ فيه السيوفُ أضْحتْ نجُومَا فمتى ما رأتْ سوادَ شياطي ... ن بُغاةِ الحروبِ عادتْ رُجومَا وللمتنبي: فكأنما كُسِيَ النهارُ بها دُجَى ... ليلٍ وأطْلعتِ الرماحُ كواكبَا وقد نقله إلى مثال آخر، فقال: نَزُور الأعادِي في سماءِ عَجاجةٍ ... أسنَّتُها في جانبيْها الكواكبُ ولبعضهم: نسَجتْ حوافرُها سماءً فوقها ... جعلت أسَّنتها نجومَ سمائِهَا ولابن المعتز، فيما يضارعه: وعمَّ السماءَ النَّقْعُ حتى كأنه ... دخانٌ وأطرافُ الرماحِ شرارُ عوداً على بدء: فالبِيضُ في يدهم صارتْ صَوالِجةً ... والأرْؤُس الْحُمْرُ فيما بينهم أُكَرُ هذا البيت قد أخذ بأطراف اللطف والانسجام، إذ فيه المقابلة مع ذكر الحمر في تمثيل حال الأعاجم، وهو أحسن عندي من قول الصالحي: كأنما الخيلُ في المَيْدان أرْجلُها ... صَوالِحٌ ورءُوس القومِ كالأُكَرِ مع أنه توارد فيه مع ابن عبد الظاهر، في قوله في بعض رسائله: أصبح الأعداء كأنما جزر أجسادهم جزائر، أحاط بها من الدماء السيل، ورءوسهم أكرٌ تلعب بها صوالجة الأيدي والرجل من الخيل. ومما يناسب ذكره في هذا المحل، وهو الغاية في بابه، قول الشهاب في السلطان مراد بن أحمد، حين غزا العجم: غزا الفُرْسَ في جيشٍ أطلَّ عليهمُ ... بما لم يُشاهَدْ في القرونِ الأوائلِ

فحال عِداهم صاغَةً وصَيارِفاً ... لصَرْفٍ دهاهم بالسيوفِ الشَّواغلِ فأرْؤُسُهم أبدتْ بَواتِقَ في لَظىً ... من الحربِ شُبَّتْ من رِقاقِ العواملِ فصَبَّ عليهم فضَّةً من سيُوفِه ... فرُدَّتْ نُضاراً من نجيعِ القواتلِ كأنما السمعُ مِغْناطيسُ أنفسِهم ... فحيث مالتْ ترى الأرواحَ تُنْتَثرُ ذوَتْ رياضُ أياديهم فلا ثمَرٌ ... يلُوحُ فيها ولا في دَوْحِها ثَمَرُ وللفِرارِ إلى الأقطارِ قد نفَرُوا ... وما لهم معشرٌ فيها ولا نَفَرُ فأصبحوا لا تُرَى إلا مساكنُهم ... وقد خلَتْ ما بها عَيْنٌ ولا أثَرُ وتخْتُ تَبْرِيزَ نادى وهْو مبتهِجٌ ... هذا الزمانُ الذي قد كنتُ أنتظرُ فيا مَلِيكاً له كلُّ الملوك غدتْ ... تدِين طوعاً وتأتي وهْي تعتذرُ سِرْ وامْلك الأرضَ والدنيا فأنت إذاً ... إسْكَنْدرُ العصرِ قد وافَى به الخَضِرُ فيا لَها نعمةٌ آثارُ مَفْخَرِها ... كانتْ لدولتِه الغرَّاءِ تُدَّخَرُ ظِلُّ الإلهِ مُرادُ الله قد شرُفتْ ... به المنابرُ والتِّيجانُ والسُّرُرُ أجَلُّ من وَطِىءَ الغَبْراءَ من ملِكٍ ... بأمْرِه سائرُ الأملاكِ تأْتمرُ بعَزْمِه ظهرَ الفتحُ الذي عجزتْ ... عنه السلاطينُ قد أفْنَتْهمُ العُصُرُ لو فاخرتْه ملوكُ الأرضِ قاطبةً ... ما نالَهم من معانِي فخرِه العُشُرُ هل يسْتوي الشمسُ والمصباحُ جُنْحَ دُجىً ... ويسْتوي الجاريان البحرُ والنَّهَرُ بَدا له في سماء المجد نُورُ هُدىً ... من دونهِ النَّيِّرانِ الشمسُ والقمرُ وأصبح المُلك محروسَ الجَنَابِ وقد ... وافَى به المُسْعدانِ القَدْرُ والقَدَرُ استعمال المثنى على هذا الأسلوب كثير، وأجود ما وقع إلي منه قول الشنتريني، من بلدة غرب الأندلس: يا مَن يُصِيخُ إلى دَاعي السِّفَاهِ وقد ... نادَى به النَّاعِيان الشَّيْبُ والكِبَرُ إن كنتَ لا تسمعُ الذِّكْرَى ففي مَ ثَوَى ... في رأسِك الواعِيان السمعُ والبصرُ ليس الأصَمُّ ولا الأعمى سوى رجلٍ ... لم يهْدِه الهادِيان العَيْنُ والأثَرُ لا الدهرُ يبْقَى ولا الدنيا ولا الفَلكُ الْ ... أعْلَى ولا النَّيِّران الشمسُ والقمرُ ليَرْحلَنَّ عن الدنيا وإن كرِها ... فِراقَها الثَّاويان البدوُ والحضَرُ تتمة القصيدة: عَطفاً على عبدِك المَدَّاح ناظمِها ... فقلبُه من صُروفِ الدهرِ منكسِرُ لا زال مُلكك دَوْرِيَّ السَّعُودِ فما ... يُرَى له آخِرٌ في الدهرِ يُنتظَرُ بدولةٍ تُخلِق الأيامَ جِدَّتُها ... ما أزْهرتْ في الدياجي الأنجُمُ الزُّهُرُ ولهذا الصدر ولد، أجل من دار حبه في خلد. اسمه: عبد الحي، ويعرف بفائضي فائض الطبع متدفقه، متأرج روض الأدب متفتقه. سلك الوعور من المعارف والسهول، وفاق على حداثة سنه الشيوخ والكهول. إلا أنه اخترم في اقتبال، وأصيب للأجل بنبال. وشبابه يقطر ما ويرف نما، ويغازل عيون الكواكب فضلا عن الكواعب إشارةً وإيما. فكان ممن ثكلته النجابة، وتخلفت في الدعاء بطول عمره الإجابة. فلبست عليه الغواني الحداد في الأحداق، وبكت عليه عيون السحب بالصيب المغداق. ولم أقل له على شعر عربي، غير أني عربت له بعض مفردات. فمنها قوله: غَبْغَبُ مَن أهواه في جِيدِه ... تفَّاحةُ التفْريحِ للقلْبِ وقوله: والسَّرْوُ بالثَّلْجِ غدا مُجلَّلاً ... كأنه المغَارة البيضاءُ وقوله: يا صَبا الروضِ أخْبرِي ... أنتِ للأُنْسِ مَحْرَمُ هل بنادٍ رأيتِ من ... عِقْد وُدٍ يُنَظَّمُ

كمال الدين بن أحمد طاشكبرى، قاضي العسكر الكمال وصفه الذي يعزى إليه، وعين الله عليه وحواليه. فهو لم يشب بنقص، ولم يدخل بيت مجده خبن ولا وقص. فغدا الفلك الدوار مطية آماله، واليمن مقروناً بيمينه وانتظام الشمل معقوداً بشماله. وقد بلغ ماؤه عشراً في عشر، وتناسب بينه وبين الفضل لفٌّ ونشر. وهو ممن إذا قال لم يترك مقالاً لقائل، وإذا أنشا أنسى سحبان وائل. وله تشبث بالفنون الأدبية، ونظم ونثر بالتركية والعربية. فمن شعره العربي قوله، من أبيات كتبها لبعض الصدور: عاصفُ الحادثات أفْنانِي ... صَرْصَرُ الدهر بَذَّ أفْنانِي كَمَدِي آدَنِي وأعْياني ... ارحموا سادتي وأعْيانِي وله من رسالة يعتذر فيها عن عرض أسند إليه. إن كنته، وما أنا في حِفْظِ الوفا متضنِّعاً ... ولا أنا للزُّورِ القبيحِ مُنمِّقُ وأنتَ فتدري ما اقْتضتْه جِبلَّتِي ... فما أدَّعي إلاَّ وأنت تصدِّقُ ولكنَّ دهراً قد بُلِينَا بأهله ... أباحوا به ثوبَ النِّفاق ونفَّقُوا والذي يعلم سري وعلانيتي في جميع حالي، لم يصدر عني ذلك الأمر ولا خطر ببالي. وهل يليق بي أن أدنس العرض بمثل ذلك العرض، وأحشر في زمرة الكاذبين يوم العرض. ووُدِّي أنتَ تعلمُه يقيناً ... صحيحاً لا يكدَّر بالجفاءِ فلا تسمعْ لما نقلَ الأعادِي ... وما قد نمَّقوه من افْتراءِ محمد بن عبد الغني، قاضي العسكر نادرة الزمن، ومبدي الخفي من الدقائق والمكتمن. تباهت أولو المعارف من الانتماء إليه، ورفرفت أرباب الشعر بأجنحة الاستفادة عليه. فهو رأس من برع في فنه، وشعشع راح الأدب في دنه وله نزعات تقف الآراء دون تحقيق مناطها، وتعنى الألباب فلم يهتد بيانها لاستنباطها. تتوقد نار فكره، وتبتهج بين شرب المدام وسكره. مع لطف الشيم، الهامية الديم. وحسن الخصال، التي عمرت بها البكر والآصال. وقد تميز بالرياسة ناهضاً بأعبائها، وحظي من السلطنة بتقريبها واجتبائها. ولم يعطل من راحه راحه، ولم يسكن إلا إلى دعة وراحة. وكان يؤثر الأفراح والقصف، ويكثر من النعت للراح والوصف. وله غزليات بالتركية، يستشفى بها الخمار، وتتعاطى عليها الأسمار. وأما شعره العربي فلم أر له إلا هذين البيتين: قيل إن الياقوتَ أصلٌ أصيلٌ ... لجميعِ الجواهرِ الشَّفَّافَهْ فلهذا المُكيِّفات جميعاً ... هي فرعٌ والأصلُ فيه السُّلافَهْ يشير إلى ما قاله التيفاشي في زهر الأفكار، في جواهر الأحجار، ناقلاً عن بلينوس: الياقوت حجر ذهبي، وجميع الأحجار غير الأجساد الذائبة، إنما انعقدت وابتدت لتكون كلها ياقوتا، كما ابتدأت الأجساد الذائبة لتكون كلها ذهبا، فأقعدتها عن الذهبية العوارض. وكذلك الأحجار إنما ابتدأت في خلقتها لتكون ياقوتا، فأقعدتها عن الياقوتية كثرة الرطوبة وقلتها، وقلة اليبس وكثرته، فلم تكن ياقوتا، فصارت حجارة حمراء، وبيضاء، وخضراء، وصفراء، وغير ذلك من الألوان. انتهى. مصطفى بن عزمي، قاضي العسكر الهمام البذ الفرد، الذي اقتنص المعارف اقتناص الأسد الورد. نفث في عقد النهى بلطفه المصقول، وملك بحسن تصرفه لب المعقول والمنقول. مع لطائف تستنطق الجماد، وبدائع لو سمعها رضوى لماد. إلا أن نهضه كان بشأوٍ قصيرٍ بين أقرانه، وذلك دليل مواربة الدهر معه وحرانه. وربما انعطف عليه فرغم معطسه، فيرمى على غرةٍ قلب الصواب فيقرطسه. وهو كما شاءت العلى، يزداد تواضعا كلما علا. وتآليفه ساجل بها صوب الغمامة، وطوق الدهر بها طوق الحمامة. وأنا بآثاره ونظامه ونثاره أضن بأمثالها، من الدهر بمثالها. وإني لأتشوق إلى سماع مزاياه، تشوق الصمة إلى رياه، وأبى الخطاب إلى ثرياه. ولم أقف له من الشعر إلا على قوله: يا نفسُ عُوذِي بالكريمِ وجُودِه ... فهو الذي يُسْدِي إلينا نِعْمتَهْ ويُنزِّل الغيثَ الذي يروِ الرُّبَى ... من بعد ما قَنَطُوا وينْشُر رَحمتَهْ وقوله: للهِ من رشأٍ كتائبُ لَحْظِهِ ... أهْلَ الصَّبابة غادرتْ مَأسُورَا

ولقطْعِه صُلْبَ القلوبِ كرَوْضِها ... قد صار صارمُ لَحْظِه مكسورَا السيد محمد بن محمود النقيب العلامة عقد الخلافة النبوية، وتاج الأسرة المستمدة النور من الأسرة العلوية. وابن أفضل الأنام، والمستنزل بوجهه در الغمام، وخلاصة نور الوحي الملتقى ما بين فاطمة الزهراء وعليٍ الهمام. وإذا لم يكن علويٌّ كالعلامة، في الشرف الذي كفاه على وضع العلامة. فهو للشرف كالغاصب، وربما كان حجةً للنواصب. فأما كرم الطبع فكما تقتضيه الأريحية، وأما لطف الخلق فكأنه منتسخٌ من أخلاق جده عليه السلام والتحية. إلى ما حواه من البيان الفصيح واللفظ الخلوب، وحسن الأداء الذي يستدعي حب القلوب. تتجارى فصاحته وبلاغته كفرسي رهان، فالاستدلال بهما على فضله يغني عن حجةٍ وبرهان. وله من الآثار المتلوة، ما يلوح عليه سيماء النبوة. فمن زهراته الطرية، وفقراته الدربة. قوله في ديباجة رسالة وسمها باسم السلطان مراد، في تفسير آية: " الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً ". اللهم اهدني بسيارة الفكر في سموات الذكر إلى منهج اليقين، واسلب غشاوة الغباوة عن عيني حتى تبصر مدرج المتقين. فيما بليت بدرايته، وسئلت عن روايته. صبيحة يومٍ مجموعٍ له الناس في جامع وجوه الصالحين، به تغنى عن النبراس يستفتحون بعرمرم المسلمين. المحاصرين حصن بغداد، محاصرة الثواقب لبروج السبع الشداد. والجامع جامعٌ لمحاسن العرش المجيد، بجواهر التزيين وزواهر التنجيد. ومراد الله فوقه شمسٌ طالعٌ على خط الاستوا، والأعيان الثابتة على الطبقات ثوابت السما. والمذكر قد خرج على قومه من المحراب على سنة سيدنا زكريا، فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا. إذ تمثل لي روح الملأ الأعلى بشراً سويا، فقام يسألني عن أشياء خفيةٍ حفيا. على سلطانٍ مسارح سبوح، فكره ملكوت السبوح. ومدار صبوح، ذكره مجالس الملائكة والروح. ملكٌ ملك الآفاق لطفاً وقهرا، وسلك مسلك الاتفاق سراً وجهرا. وخضعت لجلالته وجلادته الدهور، ونسمت بنسيم سعادته غرر الشهور كالزهور. عمت بالأيادي يداه قبائل الشاكرين فضلاً وجودا، وهمت بنوادي نداه قوافل الذاكرين قياماً وقعوداً وسجودا. الذي استرق رقاب السلاطين مراداً ومريدا، واستعبد ملوك الماء والطين ولم يذر مريدا. نشر راية السلطنة الطنانة نشر عبير، وفسر حدسه آية الدولة الديانة أحسن تفسير. لم يزل صدره مصدر الكليات، وضميره لوح الماهيات. وما برحت راحته راحة العباد، وساحته قبلة الحاضرين والباد. وما انفكت زجاجة قريحته الوقادة، توقد من شجرة التحقيقات العقيقية؛ وبديهته النقادة، ترتاح إلى التدقيقات المجازية والحقيقية. وما فتىء قبول قبوله روحا يروح نخل الفضائل بروح وريحان، وما خلا بنان رسوله يقطف قطوف الفنون من الأفنان. ينظر إلى ثمره إذا أثمر وينعه، ويشكر فضل أثره ويأمر بجمعه. وكتب إلى إمام السلطان يوسف بن أبي الفتح الشامي، وهو بدمشق: يا مَن علاَ بجمالِه ... وكمالهِ أعْلَى العُلَى مِنِّي إليك تحيَّةً ... حِرْز البقا لذَوِي العُلَى ثم ينهي على رسم أولي النهى، إلى المحل الذي خصه الحسن والبها. أنا كنا مجهزين إليه قبل تاريخه كتاباً مكتوبا بأمداد الصدق والخلة، وخطاباً فيه شفاءٌ عن العلة والغلة. ثم قعدنا ناظرين بم يرجع المرسل، فلم يظهر ممن رحل وقفل، وطلع وأفل، نوع أثرٍ من عين، ونغمة خبرٍ من رباب وعين. فلعل المجهز ضاع في البين، وما ضاع نشره بين اثنتين. وإلا فالحبيب لا محالة وثيق الوفا، سحيقٌ على شفا جرف الجفا. فلو وصل لوصل، وما قطع عروة ما حصل. ودمت يوسف الحقائق، موفياً كيل الدقائق. بين متهم ومنجد، ومشئمٍ ومعرق. وكتب على رقعة رفعت إليه من بعض الفضلاء، على يد واسطة بعض خواص الأفاضل، متضمنة لعتب حصل منه: تحضرون البيت، وتحكون الحكاية كيت وكيت. قضية الهجر فرية الواهمة، والقطيعة من الهجران لا من أهل كاظمة. عند الملاقاة تظهر الأمور، ولدى المصافاة يحصل شفاء الصدور. وكتب على إجازة لبعض الحلبيين: لما تشرفت بمطالعة هذا الطامور، الفائق على هياكل النور وقلائد الحور.

بميامن ما احتواه من ذكر الصالحين الذين تنزل الرحمة عنده وتحصل به الأجور، اللائق كتبه بالمسك والكافور على النحور. بل بسواد أحداق الحور، على صحائف قدود ربات الحجال والقصور. ذكرتهم بالدعاء الصالح، والثناء العطر الفائح. وأثنيت على صاحبه الفائز الفالح، بالمدح العبق الروائح. مستمداً من روحانيتهم العالية، متيمناً بحسن الانتظام في زمرتهم السامية، ومستطراً سحب همته الهامية النامية. فقلت فيه مقرظا: حقَّقتُ أن جمالَ الدين من زُمَرٍ ... حَلُّوا محلَّ سوادِ القلب والبصرِ من أهلِ خِلقة تَجْريدٍ بها ادَّرَعُوا ... والتاجُ بَيْضتُهم تحمِي عن الضَّرَرِ من مَحْتِدٍ عَبْقرِيٍ بَيْضُهم حَدَدٌ ... المُرْتوِي صدرهُم من رَملةِ الصَّدَرِ المنتمِين إلى البازِ المُحقِّق في ... جَوِّ العُلَى الأشهبِ العالي عن النّظرِ طُوبَى لمن إذْ جَلَى مِرآةَ خاطِره ... بخِرْقةٍ منهم تخلُو عن الكَدرِ جمالُ ذي العصرِ في مَحْياه دام وإذْ ... حلَّت شَعُوب جمالُ الكُتْبِ والسِّيَرِ بين الأُلَى فرأوْا عين النظيرِ به ... عين الفريدةِ في عِقْدٍ من الدُّرَرِ فإن له ينبح الحُسَّادُ عن حسَدٍ ... فلا يضُرُّ عُواءُ الكلبِ للقمرِ وله القصيدة الثلجية، وهي مشهورة بالقدس، نظمها لما كان قاضياً بها، وعين لها وقفاً وقراء يقرأونها كل ليلة في المسجد الأقصى. ومستهلها: ما الثلجُ ثَجَّ على ذا الطُّورِ والْحَرَمِ ... نُورٌ تجلَّى به الرحمنُ ذو الكرمِ من عهدِ مُوسى تجلَّى لا نظيرَ له ... لكنَّه شاملٌ للعُرْبِ والعجَمِ من جملتها: من جانبِ الرومِ ضيفٌ قد ألَمَّ بنا ... أنْجَى الخلائقَ من جَدْبٍ ومن ألَمَِ مُنَوَّرُ الوجهِ شيخٌ من محاسنِه ال ... بيْضَا يفيضُ بوجهِ الْبانِ والعَلَمِ تأتي سليمانَ من سُحْبٍ أريكتُه ... فالرِّيح تحملها بالخيْلِ والحَشَمِ تواضُعاً وجهُه في الأرضِ محتَشِمٌ ... فمن تخطَّاه قُلْ يا زَلَّةَ القدمِ محمد بن فضل الله المعروف بعصمتي بحرٌ في البلاغة زاخر، ومولى كله مناقب ومفاخر. يتسامى به دهره ويتعالى، ويتنافس به مادحه ويتغالى. فموضعه من كرم الخيم وفضل العلى، موضع الإكليل من الرأس والعقد من الطلى. وطبعه الروض إذا باح، بسر نوره نفس الصباح. أصلف من ملح في ما، وأشف من زجاجة عن صهبا. وله بنان تحل أقلامه ما عقدته الأوهام بالأسنان، فإذا دعا بيان المقال لباه سحر البيان. فيأتي بورد خدٍ تحت ريحان طرة، وصبح فرق يسفر عن نهار غرة. ولطفه مع المعاشرين، لطف ابن العشرين. تفتر عن ثنائه الثنايا، وتحتوي على حبه الضلوع والحنايا. وأنا لا أحسب أن في طبعه وصمة، وأن لا تجد منه العصمة. وكان الدهر أغري بوهي بنائه، لتلونه تلون الماء في إنائه. فلما رآه كالياقوت لا يتغير إذا ألقي في النار، عطف عليه ورفع له في الحظوة المنار. فاستأنف لذاته وجددها، وأثبت مقاماته وحددها. وتأزر بأثواب العلى وتردى، ولم تجد عنه السعادة محيداً ولا مردا. إلى أن فاجأه الموت، وفات في أجله الفوت. فلا زالت الديمة الوطفا، تحيي قبراً ضم منه كرماً ولطفاً. وهذه شذرات من عقده، جئت بها خالصةً من زيف الشعر الداعي لنقده. فمنها قوله: أهلاً بمن فاق السِّماك مُخَجِّلاً ... شمسَ الضحى في رفعةٍ وسَناءِ فكأنَّ لي فوق الثُّرَيَّا منزلاً ... علِقتْ بسُدَّتِه حِبالُ رَجائِي وكتب إلى أستاذي عزتي: يومكمُ نصفهُ تقَضَّى بنوُر الْ ... عِزِّ والنصفُ منه للقُرَناءِ طالعِ الدرسَ بعد كل عِشاءٍ ... فالليالي تُعَدُّ للإحْياءِ وكتب إلى المفتي أبي سعيد: لا زلتَ في فَلك السعادةِ ساطعاً ... أنت الكفِيُّ بحاجتِي وحَسِيبي أمَّلتُ حُظوةَ نظرةٍ من أجلِها ... أشْغلتُ ساحتَكم ببَسْط كُروبي وكتب لبعض الصدور:

يا سراجَ التقى وبدرَ المعالي ... دُمْ منيراً وهادياً للعبادِ كنتُ من قبلُ ألثَم اليدَ بالإجْ ... لالِ والآن نالَ ذاك مِدادِي وله من قصيدة ربيعية: زمنُ الوردِ بالرَّحِيق الصَّفُوقِ ... طاب حيثُ الصَّبوحُ مثلُ الغَبُوقِ أنتَ بالغَنْجِ والدلالِ أنيسٌ ... وليَ الخمرُ كالصديقِ الصَّدوقِ وسمع قول ابن عبد ربه: نعَق الغرابُ فقلتُ أكذبُ طائرٍ ... إن لم يصدِّقْه رُغاءُ بعيرِ فقال: ورد النسيمُ فقلت أصدقُ قاصِدٍ ... خجلتْ له عينُ النباتِ الأخْضرِ ومما عربه المنجكي من كلامه: لو فوَّق الحظُّ سهماً من كِنانتِه ... وكان من خَلْفِ قَافٍ لم يفُتْ غَرَضُ وعربت أنا من كلامه: وأُريد أن أُبْدِي شكايةَ هجرِه ... فيسُدُّ منه بكأسِ موعدِه فَمِي ومنه: مُقبِّلتي سدَّ السبيلَ شِكايتِي ... على السِّرِّ من خَاتمِ خاتمِ الفمِ ومنه: وأنفقْتُ عمرِي في تعشُّق فَرْعِه ... فلم أتنَشَّق شَمَّةً من عَبِيرِهِ حسين بن رستم المعروف بباشا زاده، نزيل مصر صنديد بطل، ومنطيقٌ غير ذي خطأٍ وخطل. نهجه مستقيم، والدهر بمثله عقيم. بشيم اقتضاها مجده، وأورثه إياها أبوه وجده. ومفخرة يتوشح بردائها، ومأثرة يترشح لابتدائها. إلى أخلاقٍ ألطف من نعمة الوصال، وأرق من نسمة الشمال تهديها البكور والآصال. أقام بالقاهرة زماناً طويلا، وأوسع بها الآمال إنعاماً وتنويلا. بين قوم حروف السؤال لديهم زوائد، فما لأحد في عزهم مرتجى ولا له في مصائبهم فوائد. فازدهت به المواطن والمرابع، وأشار إليه حتى النيل بالأصابع. وله أخبارٌ نشرت أعلام إفادتها في كل نادي، وأشعارٌ لفصاحتها عند قس الإيادي أيادي. فمنها قوله من قصيدة، كتب إلى المفتي سعد الدين، يمدحه بها. ومطلعها: أراك ترُوم المجدَ ثم تُساهِلُ ... وزامِلةُ العمرِ اليسيرِ تُناقِلُ ونفسُك زادت زَمعَها لا تَرُوعها ... وتفضُل عما خلَّفتْك الأوائلُ وقد طفَلتْ شمسُ الحياةِ وبعد ما اخْ ... تفتْ لا تراها تخْتفي فتُقابِلُ وسُلَّتْ سيوفُ الشَّيْب من غِمْدها وقدْ ... تَبرَّتْ لأن تَنْساخ منها الكلاكلُ سنابلُ أيامِ الهوى اصْفَرَّ لونُها ... وأوشك أن حلَّتْ عليها المَناجِلُ وشتَّت نَبْلَ الحادثاتِ قِسيُّها ... وتُخْطىء إلاَّ أن تُصِيب المَقاتلُ فماذا التَّوانِي والتكاسُل غافلاً ... تنامُ وشُدَّت في الحَوالِي حبائلُ وما أنت في دُنياك إلاّ معذَّبٌ ... بِرُوحٍ يعاني غَمّه ويُماثلُ وجسمٍ يُهادَى بين موتٍ وسُقْمِه ... ولا ينْثني عنه الأسَى والنَّوازلُ فأيُّ صفاءٍ لم يشُبْهُ مكدِّرٌ ... وأيُّ وصالٍ لم يعُبه فاصلُ إذا ما عَراك الهمُّ بالعُدْمِ فاعْتبرْ ... بأصدقِ قولٍ لا ترى من يُجادِلُ تباعَدْ عن الدنيا وزايِلْ نعيمَها ... فكلُّ نعيمٍ لا مَحالةَ زائلُ يُنادي جميل الخلق حيّاً وميِّتاً ... ألا كلُّ شيءٍ ما خَلا اللهَ باطلُ تطول رِشاءٌ في الأمانِي وإنَّه ... تُحوِّل فيما لم يكن فيه طائلُ فواللهِ خَلاَّقِ البَرايا وربِّهم ... تُسَنُّ سِنُوها والشهورُ مَناصِلُ وترْنُو لآمالٍ بعُمْرٍ نهارُه ... قصيرٌ وقِيعانُ الأماني أَطاوِلُ رأيت ذوي التِّيجانِ ثُلَّثْ عروشُهم ... وتنظُر في الأركانِ يوماً عَنادِلُ وتغترُّ بالدهرِ الدَّنِّي وجاهِه ... فمَن رام بالجاهِ المُجاهاةَ جاهلُ ولو لم تكن تجلُو السَّرِيرةَ بالتُّقى ... صباحَك لَهْواءٌ ويومَك هازِلُ

فلا تعتمدْ دهراً بُلِيتَ به فما ... ترى الخلق إلاَّ وهْو جاءٍ وراحِلُ ومن حام فيه ساعةً مستمرَّةً ... على ما ارْتضاه فهْو ساهٍ وغافلُ ولا تحتْظِي فيها البرايا فإنَّها الدَّ ... قيقُ وأنَّاتُ الدَّواهِي المَناخلُ منها: أيا نفسُ ما هذا التَّنافسُ في المُنَى ... أما تنظُرين الدهرَ ماذا يُحاوِلُ يُروِّيك من ماءٍ أُجاجٍ مكرَّرٍ ... وأرْيُك منه سَلْسَلٌ وهَلاهِلُ ترُومينَ عيشاً رائغاً ومَعالِياً ... وذلك سَفْسافٌ حوَتْه الحسائلُ وأمْلَتْ لكِ الأيام في العصرِ بُرْهةً ... تمُرُّ بك الموتى وتجرْى المَحاملُ وليلُ سبيلِ البَيْن أسودُ حالكٌ ... وتُصْطاد أنمارٌ به ورآئلُ أتَسْري بدخْياءِ الليالي وأُطْفئتْ ... بتسْريحِ أرْواح الذنوبِ المَشاعلُ بَنيْتَ دياراً قد نَبَتْ بك نَبْوةً ... وتُلْهيك رَوْضاتٌ بها ومَجادِلُ ستثْوِي بقَاعٍ صَفْصفٍ وتحُلُّه ... أَو إلى خيول جُلْنَ فيه المغاسلُ عَمُوا أيها الشَّافون منها جُيودهم ... ودوموا وقُوموا واستقيموا وحاملُوا صَباحةُ فجر الوصلِ أبدتْ طَلاقةً ... ألا أيها الإخوانُ قوموا فناوِلُوا كؤوسَ رحيقٍ فاح كالمسكِ نَشْرُها ... بنَشْوتها تُنْسى الرَّدى وتُجاملُ تُسِيحُ صَمِيمَ القلب ظَمْياءُ كُرْبةً ... إذا أبْطأتْ في الدَّوْرِ تلك الذَّبائلُ تجودُ بأفنانِ الذنوبِ جوارحِي ... وطَرْفي بأقْطارِ النَّداية باخلُ أتاكِ إلهي صاغراً متأسِّفاً ... على ما جَناها وهْو جَدْواك سائلُ مُقِرٌّ بما يكْبُو ويهْفُو وذاكرٌ ... كثيرُ خطِيئاتٍ أقَلَّ وعائلُ أحمد بن زين الدين، المعروف بمنطقي هو وإن كان بدمشق مولده ومرباه، وبمائها وهوائها سقي فترنح غصن رباه. فله من الفارسية أوفر قسم، ومن التركية ما يتخيل أنه وإياه روح وجسم. ولحق بالروم فصار منهم، وإن لم يكن يفوق على أبلغ بلغائهم فلم يقصر عنهم. فرمت له عن قوسها الروم، واتفقت على تفضيله الأعلام والقروم. وعهدي بمن يفرق الرث من السمين، ويعرف فضل الورد على الياسمين. يقول: إنه فطنٌ يتلهب شرار عفاره ومرخه، ومحسن إذا نطق بشعره، استوقف الطير في منقاره وزق فرخه. وأشعاره متنفس خواطر الشعراء، ومن أراد محاكاتها في حسن التأدية نبذ بالعراء. وقد أوردت من شعره العربي قطعةً تشهد له بالإحسان، شهادة الروض الأريض بفضل ماء نيسان. وهي قوله: سقتِ الرياضَ دموعُ عينِي الجاريَهْ ... فبدتْ تراجُعها عيونٌ باكيَهْ وسَرْت لأغصانِ الوُرودِ فأصبحتْ ... أكْمامُها منها قلوباً داميَهْ دمعِي تبدَّل بالشَّرارِ وكيف لا ... وجحيمُ قلبي فيه نارٌ حاميَهْ ماذا عليَّ من الجحيمِ ولم تزلْ ... نارُ المحبَّةِ في وجودِي باقيهْ يا سادةً لمَّا بدا سلطانُهم ... ملَك القلوبَ من الأنام كما هيَهْ تلْوِي غصونُ قُدودهم أيدي الصَّبا ... وقلوبُهم مثلُ الحجارةِ قاسيَهْ لم يبْقَ لي ثمنٌ يُقاوم وَصْلَكُم ... إلا المحبةَ والمحبةُ غاليَهْ الجسمُ ذاب من الجفا والقلبُ رَهْ ... نٌ عندكم والرُّوحُ منِّي عاريَهْ مُنُّوا عليَّ بنظْرةِ فوَحقِّها ... قسَماً بمَن أبْرَى النفوسَ الفانيَهْ لو مَرَّ بي مَيْتاً نسيمُ ديارِكمْ ... سَرَتِ الحياةُ إلى عظامِي الباليَهْ عطاء الله بن نوعي، المعروف بعطائي ضافي ذيل النباهة، صافي ماء البداهة. ما أعافه طبعٌ، ولا جف له نبع. وأنا أتحققه كلما أطاب، ولم يخرج من خزينة رؤيته إلا جواهر شفافةٌ ولآلٍ رطاب.

بمحاورات يحمر لها خدود الشقائق من الخجل، ومحاضرات تكاد تخلص الحياة من يد الأجل. وله كتاب الذيل على الشقائق النعمانية، في علماء الدولة العثمانية. أجاد فيه سجحاً وتقفية، ووفى الحسن أكمل توفية. وكلامه في المقفى والموزون، سلوة المغموم وفرحة المحزون. ولم يبلغني من شعره العربي إلا قوله: ولمَّا توالتْ للزمانِ مصائبٌ ... لكلِّ رَذِيلٍ بالرَّذالةِ مُعْلَمِ ترامتْ بهم أيدي المَنايا عن المُنَى ... إلى حيث ألْقت رَحْلها أم قَشْعَمِ وعربت له بيتاً ذكره في ترجمة شيخ الإسلام زكريا، وقد ولي الإفتاء في سنة إحدى وألف، وهو: في رأسِ كل مائةٍ يجِيءُ مَن ... يُجدِّدُ الدينَ بديعَ الوصفِ ومثلُ ذا مُجدِّدٌ للدِّينِ لا ... يجِيءُ إلا واحداً في الألفِ ولده محمد ابن أبيه، فالأصل نبيهٌ والفرع شبيه. مشى على أثره، وضرب على محكمه في نظمه ونثره. إلا أنه قدح، وأبوه مدح. وتجاوز في الأمد، وشفى الحقد والكمد. وهو وإن أتى بما عليه رونق وحلاوة، إلا أنه من هذا الأمر فالج ابن خلاوة. فالله يعفو عنه وعني، وعن كل من يتكلم بما لا يعني. فمن شعره قوله: يأوِي إلى الحمَّامِ في أوطارِهم ... أهلُ المعالي عند إعْوازِ الخدَمْ حتى إذا ما حمّلوا فوق الرِّضا ... حكمَ القضا في بيْته يُؤتَى الحَكَمْ هذا المثل مما زعمت العرب وضعه على ألسنة البهائم، قالوا: إن الأرنب التقط ثمرةً فاختلسها الثعلب، فأكلها، فانطلقا يختصمان إلى الضب. فقالت الأرنب: يا أبا الحسل. فقال: سميعاً دعوت. قالت: أتيناك لنختصم إليك. قال: عادلاً حكمتما. قالت: فاخرج إلينا. قال: في بيته يؤتى الحكم. هذا محل المقصود منه، وله تتمة طويلة. ومما يناسب منزعه في التضمين قول بعضهم: لنا عالم يُؤْتَى فيأتِي بحُجَّةٍ ... على ذاك من أخبار علمٍ وآياتِ وقلنا له الإسلام يعلُو ولم يكن ... ليُعْلَى فقال العلم يُؤْتَى ولا يأتِي محمد بن داود المعروف برياضي شاعر بارع، متسنم لرتب البراعة فارع. تؤثره أدباؤهم على غيره، ومن أراد منهم نهج البلاغة سار على سيره. اشتهر ذكره، واستطار شرراً فكره. ونهض فنهضت بنهضته همم، وتكا فأسمعت كلماته من به صمم. وله أدب شعشع به البدائع وروقها، وقلدها بمحاسنه النوادر وطوقها. فرياض أدبه لا تعرف أزهارها الذبول، إذا ما هبت نسماتها استخلفت الصبا والقبول. فمما عربته من مفرداته: إذا تذكَّرتُ منه رِيقاً ... ترحَّل الصبرُ والقَرارُ إن عَزَّوِجْدانُه بمصرٍ ... لله في الأرض قُنْدُهارُ ومنها هذه الرباعية: أهْوَى قمراً فاق على الأقْمارِ ... قد قيَّد بالحسن خُطَى الأبْصارِ لا أرغبُ في الحياة إلاَّ طمعاً ... في رُؤيته فهْي مُنَى الأعْمارِ أويس، الشهير بويسى شاعر منشٍ، وناسج موشٍ. لا يسدي إلا ألحم، ولا يناظر إلا أفحم. اشتهر بالإحسان اشتهار الزهر بأويس، ولم يقابل مجاريه ومباريه إلا بويح وويس. أعرب بفنونه، واعترى القلب بفتونه. وآثاره مما تنفع الكبراء على أسمارها، وترقم ببدائعه هالات أقمارها. أوتي في اللسان بسطة، كما منح في اليراع نشطة. فكأن المعاني حاضرةٌ على طرف فمه، والألفاظ مترقبةٌ لأن يجريها على بنانه وقلمه. وقد ترجم السيرة النبوية فأحسن كل الإحسان، وأطاعته فيها الفقرات إطاعة القوافي الحسان. فشكر صنيعه من اتسم بكمال النهى، وأحله هذا الأثر من مراقي العز فوق فرق السها. وله غيره من الآثار في الفنون، بما يحقق تمكنه من الاطلاع للظنون. ومن جيد معانيه المنقولة قوله: شجَرُ الخِلافِ يقول للنَّهرِ ... أنا مُرْتَوٍ بنَوالِكَ الغَمْرِ والنهرُ أيضاً قائلٌ وأنا ... في ظلِّ فَضْلِك دائماً أجْرِي وحللت من أبياته: الباطل باطلٌ لا شبهة تنافيه، لكن ربما ظهر في صورة الحق فشك المفكر فيه. عمر المعروف بنفعي ابن الرومي بعينه في الهجا، فكأن ذاك ما راح وهذا ما جا.

لو قرع إبليس بهجوه لتاب، أو رمي مارد بجذوةٍ منه لذاب. وكله إذا فتشت فيه، وساوس أغراضٍ يمليها فكره على فيه. فمكواته لا تفارق النار، وإذا جهل فعلى أعلى المنار. بفكرٍ يرد السيف مثلماً، والرمح مقلما. ويصير القمر للعمر هادما، ولا يدع الواصف للعسل بقيء الزنانير نادما. ولقد رأيت أهاجيه مرارا، فأعرضت عنها تقطباً وازورارا. لأن نحسها أدى إلى رداه، ومكن من وريده حسام عداه. فكان كالباحث عن حتفه بظلفه، وترك من لا يرد سهام ملامه وتقريعه من خلفه. وهو على بذاءة لسانه، يجيد في التغزل بحسن القول وإحسانه. وكل معنىً مبتكر، لا تحوم حول حماه الفكر. فمنه على ما عربته: أسَرْتَني بلَحْظِ طَرفٍ ساحرِ ... أوْقعتنِي فيه بقَيْدِ الناظرِ باللهِ صُنْ صائلَ الفَرْعِ ولا ... تُخلِّني في هَمِّ قيدٍ آخَرِ عبد الباقي، المعروف بوجدي السيف القاطع، والكاتب المتناسب المقاطع. أي وقارٍ في تلطف، وأنسٍ مع حسن تعطف. إلى خلق كما هبت صبا نجد، وطبعٍ يمتلي به المشغوف وجداً على وجد. وهو في الأدب ممن بعد شأوه، وله شعر يعلم منه مقداره وبأوه. منه ما عربته: ما تراءَى لي ذلك الوجهُ إلاَّ ... قام فيه لَوْنُ الحَيَاءِ نِقابَا عجباً من سَواد مِرْآةِ حَظِّي ... قابلتْ نُورَه فصار حِجابَا نائلي رب فصاحةٍ وبراعة، وفارس دواةٍ ويراعة. نبغ وتفوق، وتصفى كأس أدبه وتروق. وراح في الحلبة واغتدى، واكتسى بأحسن الحلة وارتدى. وما زالت تعله الرياسة وتنهله، والدهر ييسر أمله الأقصى ويسهله. حتى استقامت أسبابه، وتمتعت حيناً برونق أيامه أحبابه. على توفر حظوظٍ شارقة، وإخفاق سحب أمانٍ بارقة. وهو في الأدب ممن استحسن منزعه، واستعذب من مثله مشرعه. وطبعه في الشعر العارض إذا هتن، وما أرى إلا أنه أراد أن يشعر ففتن. فمما عربته من بدائعه قوله: أيها الطالبُ شمسَ الأُفْقِ منْ ... مسكنٍ عزَّتْ به وامْتنعتْ ارْجُ قُرْبَ الوصل إن الشمسَ في ... شَرَكٍ من عارضيْه وقعتْ فهيم شابٌّ شب في حجور الآداب، وتعلق من الشعر الغض بتلك الأهداب. فجاء منه بما تستعير لطفه الشمائل، وبرق به النسيم إذا سرى بين الخمائل. وقد تغرب في عنفوان شبابه، وغاص في بحبوحة التفنن وعبابه. فأرضعته الحنكة بلبانها، وأدبته الدربة في إبانها. فكان أبرع من أورد اليراع في محبرة، وهز غصنها في روضة طرسٍ محبرة. إلا أنه كان لا يقتصر على سمت، ولا يخلو من انحرافٍ وأمت. وقد نزع إلى سلوكٍ ورياضة، واستحسن عن الزخرف بالخشن تبدله واعتياضه. وله ديوان شعر موجود بأيدي الناس، وأكثره غزليات من أدق رقى الوسواس الخناس. فمما عربته منها: عجبتُ من لَحْظِ ظَلومٍ في السَّطَا ... يُعلِّم التظلُّمَ المظْلومَا سليمان، المعروف بمذاقي ظرف الظرف، وقوة الطرف. وزاملة النتف، وأطروفة الطرف. كنه الأخبار حديثاً وقديما، فلهذا اتخذه الكبراء جليساً ونديما. فهو على القدح ريحانة، وفي الكأس سلافة حانة. وكان مولعاً بالصناعة، ولديه منها توسع في البضاعة. فهو قمريٌّ التصوير، شمسي التأثير، ومحله ما بين فلك عطارد والفلك الأثير. وله شعر عذب المساغ حلو المذاق، ورتبته في الأدب رتبة المهرة الحذاق. فمما عربته من كلامه: ما أخْجلَ الحِبَّ عَتْبُ صَدِّ ... جَنَى به الطَّرْفُ وردَ خَدِّ بل أشعلَ الحسنُ فيه جمراً ... قطَّر للرِّيق ماءَ وردِ قلت: هذا معنى لطيف. ولأبي الطيب صالح النقري من شعراء المركز، ما هو منه من أبيات: أنْضجْتُ وردةَ خدِّه بتَنَفُّسِي ... وظلَلتُ أشربُ ماءَها مِن فِيهِ وحليت من شعره: كثيراً ما يغم العاشق فكرٌ يتصور في خياله، والمعشوق في شغلٍ عنه يمنعه أن يمر بباله. وقس على هذا الحال المعارف يتوقع منهم المكروه، وأما الأجانب فالمرء آمنٌ مكائدهم من كل الوجوه. نابي هو الآن في الأحيا، يوازن بمكارمه الصيب إذا حبا وأحيى. آخذٌ بأسباب المحاسن جملةً وتفصيلا، ومستوعبٌ أدوات الفضائل غريزةً وتحصيلا.

الباب الرابع في ظرائف ظرفاء العراق

وأما أدبه فالربيع زاهٍ بفضله، والحبيب منعمٌ بعد هجره بوصله. شق الجيوب من الطرب، وعل النفوس بما هو أحلى من الشهد والضرب. وشعر كل من عاصره بالنسبة إلى شعره المسترق النهى، إن لم يكن أرق من السها، فهو أخفى من منديل الرها. فمما عربته منه: لا أرَى كأسَ الأمال ... دارَ نَحْوِي في أمانِ فهْو قد حقَّقتُ منه ... تابِعٌ دَوْرَ الزمانِ الأمير يونس الموصلي، المعروف بسامي جم الأدب رائقه، سامي النظم فائقه. رأيته وقد أخذ منه الكبر، واعتبرت منه العبر. وهو يروع الليث في آجامه، ويخجل الغمام عنه انسجامه. وكنت عاشرته مدةً قليلة، وحصلت منه على أمانٍ جليلة. تنسكب علي فوائد تجاريبه كالمطر، فأراني بفضل عشرته قضيت من أمر الرحلة الوطر. وكنت مدحته بأبيات، مستهلها: برُوحِي بل بآبائي الكرامِ ... فتى تَفْدِيه أرواحُ الأنامِ أقول فيها: وكم لي فيه من عِقْد امْتداحٍ ... على الأيامِ مُتَّسِق النِّظامِ يرُوقُك حُسْنُه فتراه لُطْفاً ... كما حدَّثْت عن صَفْو المُدامِ قَوافٍ ليس تكسِبُه افْتخاراً ... ولو جاءتْ بمُعجزةِ الكلامِ ففيه تقولُ أَلْسنةُ المعالِي ... سَما يسْمُوا سُمُوّاً فهْو سَامِي وعربت من كلامه: والروحُ منِّي في مَضِيقٍ إن تَجِدْ ... فَرَجاً أبَتْ أن نلْتقِي في المَحْشرِ أحمد المعروف بفصيح حيٌّ موجود، لكنه منقطعٌ عن الوجود. بشهامة نفسٍ لها في ذاتها تفرد، ولطف أدب كأنه في وجنة الزمان تورد. وقد صحبته بالروم وله رواءٌ وبزة، وغصن كماله تتساقط ثمراته بأدنى هزة. ثم عدل إلى توحشٍ وانقطاع، ولله تعالى في خلقه أمرٌ مطاع. وكان أنشدني من أشعاره قطعاً في الغزل، ما زلت أتمتع بها في أوقات الوحدة، ولم أزل. وقد عربت منها هذا المفرد: علمتُ لمَّا فَكَّ عن صدرِه ... كيف تشُقُّ الشمسُ جَيْبَ الصباحْ الباب الرابع في ظرائف ظرفاء العراق والبحرين والعجم أما فضل العراق، فكالشمس حالة الإشراق. وحسبك أنه في جهة مطلعها الذي هو الشرق، وإذا قيس بالغرب فكأنما سوي بين القدم والفرق. وشتان بين ما تجلى الشمس منه فوق منصتها، وبين ما يشره أفقه الغربي لابتلاع قرصتها. وأما أهله فهم ملائكة الأرض، وبهم لاق من المدح المسنون والفرض. وشعراؤه قد هاموا من البلاغة في كل واد، وجلوا غررهم في سواده وأحسن ما لاحت الغرر في السواد. وقد خرج قريباً منهم جماعةٌ أطلعوا ذكاء ذكائهم في أفقه المشرق، وملأوا ببضائع فوائدهم ونصائع فرائدهم حقائب المشئم والمعرق. عبد علي بن ناصر بن رحمة الحويزي أوحد من أبدع وأغرب، وشعر فأبان عن إعجازه وأعرب. ما شئت من استحكام المبنى، وانقياد اللفظ الغر من المعنى. وحسن الأسلوب الذي تشبث بالحشايا، ونصاعة المقترح الذي تبتهج به البكر والعشايا. وشعره تملكه الرقة على الشوادن العفر، ويكسب القدود خفةً فتكاد تسترقص على الظفر. أرقُّ من دمعةٍ شِيعِيَّةٍ ... تبْكي على ابن أبي طالبِ فالهوى أول تميمةٍ قلدته الداية، والصبابة هي التي عرفها من البداية. ودخل بغداد فتخلق ثمة بأخلاقٍ عذاب، وكان كابن الجهم بعث إلى الرصافة ليرق فذاب. ثم التحق بابن افراسياب صاحب البصرة فألقى عنده رحله وحط، والتم في كنفه بعد ما شط. ففك من يد العسرة وثاقه، وأخذ على الدهر باستقالة عهده ميثاقه. فأقام في ظله إلى وقت زواله، ومضى فلم يبق بعده في تلك الناحية من يعتني بأقواله. وقد أوردت من شعره ما يسكر العقول بصهبائه، ويدل على أنه أخذ من بحر القريض أنفس دره وولع الناس بحصبائه. فمنه قوله، من قصيدة يمدح بها الأمير علي بن افراسياب، ويستأذنه في الحج: لمع البرقُ في أكُفِّ السُّقاةِ ... وبدا الصبحُ في سَنا الكاساتِ فالبِدارَ البِداَر حَيَّ على الرَّا ... حِ وهُبُّوا لأكْمل اللذَّاتِ نارُ موسى بدَتْ فأين كليم الذَّ ... اتِ يمْحو بها حجابَ الصِّفاتِ

صاحَ دِيكُ الصباح يا صاحِ بالرَّ ... احِ فَواتِ الأفراحَ قبل الفَواتِ واصطبِحْها اصْطباحَ مَن راح لا يفْ ... رقُ بين الشموسِ والذَّرَّاتِ تَلْقَ فيها العقولَ مُنتقشاتٍ ... كانْتقاشِ الأشخاصِ في المِرآةِ فهي الشَّرْبةُ التي عثَر الخِضْ ... رُ عليها في عينِ ماءِ الحَياةِ وتقصَّى الإسْكندرُ البحثَ عنها ... فعَداها وتاهَ في الظُّلُماتِ سكنتْ من حَضائرِ القُدْسِ حَاناً ... جَلَّ عن أن يُقاسَ بالْحاناتِ نُورُ حقٍ بنفسِه قام ما احْتا ... جَ إلى كُوَّةٍ ولا مِشْكاةِ قَبَسٌ أشْعلتْه أيْدِي التجلِّي ... فأضاءتْ به جميعُ الجهاتِ حُجبَتْ بالزُّجاجِ وهْيَ عِيانٌ ... كاحْتجاب البدورُ بالْهالاتِ يا ندِيمي أجِلْ لي عرائسَ سِرٍ ... بغَواشِي الكؤُوسِ مُحْتجِباتِ هات راحِي ونادِ خُذْها فإنِّي ... لستُ أنْسَى يوم اللِّقا خُذْ وهاتِ فلقد رُدُّ ركنُ نَحْسِيَ لَمَّا ... سعِدتْ بالحبيبِ كلُّ جِهاتِي هي شَهْدُ الشُّهود بل راحةُ الأرْ ... واحِ بل حُسْنُ طَلْعةِ الحسناتِ يا سُقاتي لا تصرفُوا الصِّرْفَ عَنِّي ... فحياتِي في رَشْفِها يا سُقاتِي غيرُ بِدْعٍ ممَّن حَساها إذا ارْتا ... ح وقال: الوجودُ بعضُ هِباتِي قام زينُ العِبادِ مِن شُربها قُطْ ... باً عليه دارَتْ رَحَا البَيِّناتِ فتلاشَى بشُعْلةٍ فَتح العَيْ ... نَيْنِ منها إلى عيونِ الذَّاتِ وخطَتْ بالجُنَيْد خُطْوَة بَحْرٍ ... غَرِقتْ فيه أكْثرُ الكائناتِ ورمتْ بالحُسيْن حتَّى ترقَّى ... بأنا الحقُّ أرْفعَ الدَّرجاتِ أسمعتْنَا من شيخ بِسطامَ مَا أعْ ... ظَمَ ذاتِي بالنَّفْيِ والإثْباتِ وقُصارى خَلْعِ العذار بها نَيْ ... لُ مَقامٍ يُقاوِم المُعجِزاتِ رُبَّ وَفْرٍ منها يُصِيب فتَى الْ ... مجدِ عليِّ العرشِ مِرآةِ السُّراةِ فهو في سِرِّهِ المنَزَّهِ سِرِّي ... ولئِن لم يهِم بحَوْزِ الفَلاةِ حاد عن مذهبِ التقشُّفِ وانْحا ... ز إلى مذهب الحُماةِ الكُماةِ وتردَّى بُرْدَ البَوَاطِن والأصْ ... لُ خُلوصُ الأعمالِ بالنِّيَّاتِ فهْو في السِّرِّ خادمُ الفَقْرِ عافٍ ... وهْو في الجَهْرِ ضَيْغمُ المُلكِ عاتِ وله في مَراتبِ الفضلِ ذِهْنٌ ... هو مفْتاحُ مُقْفَل المُشكِلاتِ كتمْتْه أُولَى الدهورِ وأبدتْ ... هُ على فَتْرةٍ من المَكْرُماتِ فأفادتْ بمجْدِه البَصْرةُ الفيْ ... حاءُ حَلْيَ المعاهِد العاطِلاتِ حَلَّ من حِفْظِ نفسِه للمسا ... كِين سَنام المَراتبِ العالياتِ أسدٌ في ملاحِمِ الحرب غيثٌ ... في النَّدَى خِضْرَمٌ بعلم اللغاتِ كفُّه مُقْلةُ العدوِّ فلا ينْ ... فَكُّ كلٌّ عن شِيمة المرسَلاتِ وكذا خَيْلُه وأفئدةُ الأعْ ... داءِ سِيَّان في وَحَي العادِياتِ وكذا مالُه وأرواحُ مَن عادا ... هُ في كَوْنِهنَّ في النازِعاتِ إن يضِعْ وقتُ مَن سِوايَ فإنِّي ... لي بعَلْياه أشرفُ الأوقاتِ شمِلتْني منه العنايةُ حتَّى ... مسحَتْ هِمَّتي عن النَّيِّراتِ يا إمام الكرامِ يا صادقَ الوَعْ ... دِ إذا لم يَفِ الورَى بالعِداتِ وهُماماً تعوَّد الحلمَ والجُو ... دَ وهاتان أكرمُ العاداتِ

نِلْتُ من جُودِك العَمِيمِ نَوالاً ... وجبَتْ فيه حِجَّتِي وزَكاتِي عرف الناسُ في حِماكَ وُقُوفِي ... فأجِزْني الوقوفَ في عَرَفاتِ ومُرادِي لك الثوابُ وللرِّقِّ ... قضاءُ المَناسِك الواجباتِ طَوْفُ بيت اللهِ الحرامِ وتَقْبِي ... لُ ثَرَى قبرِ سيِّد الكائناتِ لم أُفارِقْ حِمَى العَليِّ لِبيْتٍ ... غيرِ بيتِ العَلِيِّ ذِ الدَّرجاتِ وابْقَ واسلَمْ على الرَّجاءِ مَلِيكاً ... طَوْعُ ما تشْتهي الزمانُ المُواتِي قلت: هذه القصيد مؤلفة من الدرر النضيدة، إذا أنشدت بين العذيب وبارق، تقول رواة الغرب يا حبذا الشرق. ووقفت له على ضادية، بها فخر على كل من نطق بالضاد، وبلطف انسجامها ورونق نضارتها تروي كل صاد. وهي: قام يجْلُوها في الأجْفانِ غَمْضُ ... والنَّدامى نُوَّمٌ بعضٌ وبعضُ والضِّيا يرمِي بها الفَجْر الضِّيا ... ولخيْلِ الصبح في الظُّلُمات رَكْضُ وكأن الليلَ غَيْمٌ مُقْلِعٌ ... لَمَعانُ الكأسِ في جَنْبَيْه وَمْضُ في رياضٍ نسَجتْ فيها الصَّبا ... ولَها في زهْرِها بَسْطٌ وقَبْضُ ضَرَّج الوردُ بها وَجْنتَه ... والأقاحِي ضُحَّكٌ والآسُ غَضُّ وكأنَّ النَّرجِسَ الغَضَّ بها ... أعْيُنُ الغِيدِ وما فيهنَّ غَمْضُ وكأن الْبانَ قَدٌّ مائِسٌ ... كلُّ غصنٍ منه عِرْقٌ فيه نَبْضُ وكأنَّ الأرْضَ ممَّا أنبتتْ ... زَهَراً جَوُّ السما والجوَّ أرْضُ أحسن ما قيل في معناه: وما غرُبتْ نجومُ الأفْقِ لكنْ ... نُقِلْنَ من السماءِ إلى الرِّياضِ مجلسٌ طُلَّ دمُ الكأسِ به ... وله ظِلٌّ له طولٌ وعَرْضُ نظمتْ فيه اللآلِي حَبَباً ... حين عنْها صدَفُ الدَّنِّ يُفَضُّ بي وبالرَّاحِ الذي أجْفَانُه ... تحسِم البِيضِ صحاحاً وهْي فَرْضُ كيف تَرْجُو البِيضُ نحْوي رَسْمَها ... ولها في خِدِّها رَدٌّ ونَقْضُ ما وفَتْ دَيْنِيَ منها وَلَها ... في فُؤادِي أبداً نَشْرٌ ونَقْضُ يا حبيباً قد غدَا مُعْتزِلِي ... ليس لي عن سُنَّةِ العُشَّاقِ رَفْضُ إن يكُن قد شِيبَ دمعي بدَمِي ... حُمْرةً فالوُدُّ في الأحْشاءِ مَحْضُ مُستقِرٌّ نُهِك العظمُ به ... بعد أن ذابَ له لحمٌ ونَحْصُ وبقلبي عقْربُ الصُّدغِ له ... كلَّما هبَّ الصَّبا نَهْشٌ وعَضُّ حمَّلت جسميَ أعْباءَ الهوى ... وهو لا يُمكِنُه بالثوبِ نَهْضُ ومن خمرياته المشهورة: أقَرقفٌ في الزُّجاجِ أم ذَهبُ ... ولُؤْلؤٌ ما عليه أمْ حَبَبُ شمسُ عُلاً فوق دَنِّها شُهُبٌ ... والعَجَبُ الشمسُ فوقها الشُّهُبُ حمراءُ قد عُتِّقتْ فلو نطَقتْ ... حكَتْ لِخَلْق السماءِ ما السبَبُ إن لَهبَّتْها السُّقاةُ في غَسَقٍ ... يُحرِّك الليلَ ذلك اللَّهَبُ وإن حَساها النَّدِيمُ مُصطبِحاً ... ألَمَّ في الجيشِ همّة الطَّرَبِ لم أدْرِ من قبلِ ذَوْبِ عَسْجَدِها ... بأن يُرَى التِّبْرُ أصلُه العِنَبُ للهِ أيامُنا بذِي سَلَمٍ ... سقتْك أيامَ وصلِنا السحُبُ والروضُ بالمُزْنِ يانِعٌ أنِقٌ ... والغصنُ بالرِّيح هَزَّة الطَّرَبُ والنهرُ يحتْاكه الصَّبا زَرَداً ... إذا نضَتْ من بوارِقٍ قُضُبُ فخانَنا الدهرُ بالفرِاقِ وقد ... رَثَّتْ جَلابيبُ وَصْلِنا القُشُبُ عجبتُ للدهرِ في تصرُّفهِ ... وكلُّ أفعالِ دهرِنا عَجَبُ يُعانِدُ الدهرُ كلَّ ذي أدَبٍ ... كأنما نَاكَ أمَّه الأدَبُ

هذان البيتان قديمان، فكأنه ضمنهما. وللخفاجي ما هو أعجب من هذا؛ وهو قوله: لزُناةِ الأنام حَدٌّ ورَجْمٌ ... وبِنَفْيٍ كم غَرَّب الشرعُ زَانِي وزمانِي قد لَجَّ في تغْرِيبي ... أتُرانِي قد نِكْتُ أمَّ الزمانِ التغريب عند أبي حنيفة منسوخ في حق البكر، وعامة أهل العلم على أنه ثابت، على ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، ضرب وغرب. يا عرباً باللِّوَى وكاظِمةٍ ... لي في مَقَاصِير حَيِّكم أرَبُ بأهْيَفٍ كالقضِيبِ إن هتفَتْ ... صَباه سقتْهُ أعْيُني السُّكْبُ كالشمس أنوارُه وغُرَّته ... فماله بالظَّلام ينْتقِبُ تسْفَح من سَفْح مُقْلتِي سُحُبٌ ... إذْ لاح مِن فيهِ بارِق شَنِبُ كأنَّما فيْضُها ووابِلُها ... أعارَه الفَيْضَ راشِدُ النَّدْبُ ومن جيد شعره قوله يمدح الشريف راشداً: إلى مَ انْتظارِي للوصالِ ولا وَصْلُ ... وحتَّى مَ لا تدْنو إليَّ ولا أسْلُو وبين ضُلوعي زَفْرةٌ لو تَبوَّأتْ ... فؤادَك ما أيْقنْتَ أن الهوى سَهْلُ جميلاً بصَبٍ زادَه النَّأْيُ سَلْوةً ... ورِفْقاً بقلبٍ مَسَّه بعدك الخَبْلُ إذا أطْرفتْ منك العيونُ بنَظْرةٍ ... فأيْسَرُ شيءٍ عند عاشقِك القتلُ أمُنْعِمةٌ بالزَّوْرةِ الظبيةُ التي ... بخَلْخَالِها حِلْمٌ وفي قُرْطِها جَهْلُ ومَن كُلَّما جَّردْتها من ثيابِها ... كساها ثياباً غَيْرَك الفاحمُ الجَثْلُ هذا البيت من قصيدة المتنبي الفائية، أولها: لِجِنِّيَّةٍ أم غادةٍ رُفِع السِّجْفُ لم يغير فيه إلا القافية، وهي الوحف. والوحف: الشعر الكثير الملتف. والجثل: الكثير اللين. سقى المُزْنُ أقواماً بوَعْسَاءِ رَامةٍ ... لقد قُطِّعتْ بيني وبينهم السُّبْلُ وحَيَّى زماناً كلما جئتُ طارقاً ... سُلَيْمَى أجابتْني إلى وصْلِها جُمْلُ معناه أن الحسان يطلبن وصله لما يرون من لباقته. وأخرج منه قول الأمير المنجكي: قضَيْتُ حَقَّ الصِّبا وفي كبدِي ... هوىً عليه الحِسانُ في جَدَلِ والذي حاز قصبات السبق في هذا العتبى، في قوله: رأيْنَ الغوانِي الشيبَ لاح بمَفْرِقِي ... فأعْرَضْنَ عنِّي بالخدُودِ النَّواضرِ وكُنَّ إذا أبْصَرْنَنِي أو سَمِعْنَ بي ... سَعَيْن فرقَّعْنَ الكُوَى بالمَحاجِرِ ولقد أبدع الوزير أبو محمد بن عبد الغفور الأندلسي، من رقعة: كنت والشباب نضر الحلى، قبل حلول هذا الشيب الذي علا، كريماً على ذات الطلى، لا تعترض في لمكان القلة بلولا. ولما طار غراب الشباب بان المشيب، ورحت رث الجلباب بعد كل سحتٍ قشيب. سمعتهن حيناً يتبرمن، وحيناً يترنمن، إلا أنهن يجمجمن ولا يترحمن. وبفضل حاستي ولله الحمد ما فهمت الوزن، فلما استقريت لتعرف حروفه السهل والحزن، عثر لهجي في تطلب تلك الضالة بلعل وعسى، بقول الملك الضليل: ألِمَّا على الرَّبْعِ القديمِ بِعَسْعَسَا ولم أزل بعد محدثاً موسوسا، حتى سقط بي اليقين على قوله، وقد ساءني في صدر هذا الرأي: أرَاهُنَّ لا يُحْبِبْنَ مَن قَلَّ مالُه ... ولا مَن رأَيْنَ الشيبَ فيه وقَوَّسَا وإذا قوس ظهر المرء فقد استحال جماله، فإذاً، قاتلهن الله، يحببن القبيح ذا المال، والفقير ذا الجمال. تتمة القصيدة: تَوَدُّ ولا أصْبُو وتُوفِي ولا أفِي ... وأنْأَى ولا تَنْأى وأسْلُو ولا تَسْلُو إذِ الغُصْنُ غَضٌّ والشَبابُ بمائِهِ ... وجِيدُ الرِّضَا من كلِّ نائِبةٍ عُطْلُ ومِن خَشْيةِ النارِ التي فوق وَجْنتِي ... تقاصَر أن يدنُو بعارِضِيَ النَّمْلُ برُوحِيَ مَن ودَّعْتُها ومدامعِي ... كسِقْطِ جُمانٍ جُذَّ من سِمْطِه الحَبْلُ كأن قِلاصَ المالِكيَّةِ نَوَّخَتْ ... على مَدْمعِي فارْفَضَّ مُذْ سارتِ الإبْلُ هذا من قول المتنبي:

كأن العِيسَ كانتْ فوق جَفْنِي ... مُناخاتٍ فلما سِرْنَ سَالاَ والمتنبي أخذه من قول بشار: كأنَّ جُفُونِي كانت العِيسُ فَوْقَها ... فسارتْ وسالتْ بعدهنَّ المَدامِعُ وما ضُربتْ تلك الخيامُ بعالِجٍ ... لقَصْدٍ سوَى أن لا يُصاحِبني العَقْلُ وحَدَبٍ كأنَّ العِيسَ فيه إذا خَطتْ ... تُسابِق ظِلاً أو يُسابِقُها الظِّلُّ سَئِمْنَ بنَا الأنْضاءُ حتى كأنَّنا ... حَيارَى دُجىً أو أرْضَنا معنا قَفْلُ إذا عَرضتْ لي من بلادٍ مذلَّةٌ ... فأيْسَرُ شيءٍ عنديَ الوَخْدُ والرَّحْلُ وليس اعْتِسافُ البِيدِ عن مَرْبَعِ الأذَى ... بذُلٍ ولكنَّ المُقامَ هو الذُّلُّ ولا أنا ممَّن إن جهلتَ خِلالَه ... أقامتْ به القَاماتُ والأعْيُن النُّجْلُ فكلُّ رياضٍ جِئْتُها ليَ مَرتَعٌ ... وكلُّ أُناس أكْرمُوني همُ الأهْلُ ولي باعْتمادِ الأبْلجِ الوَجْهِ رَاشدٍ ... عن الشُّغْلِ في آثارِ هذا الورَى شُغْلُ هُمامٌ رسَتْ للمجدِ في جَنْبِ عَزْمِه ... جِبالٌ جبالُ الأرضِ في جَنْبِها سَهْلُ وليثٌ هَياجٌ ما عَرِينَ جُفونُه ... من الكُحْل إلاَّ والعَجاجُ لها كُحْلُ يقوم مَقامَ الجيشِ إن غابَ جيْشُه ... ويخْلُف حدَّ النصلِ إن غُمِد النَّصْلُ زكَتْ شرَفاً أعْراقُه وفُروعُه ... وطابتْ لنا منه الفضائلُ والفِعْلُ إذا لم يكنْ فعلُ الكريمِ كاصْلِه ... كريماً فما تُغْنِي المَناسبُ والأصلُ من النَّفَرِ الغُرِّ الذين تحالَفُوا ... مدَى الدهرِ لا يأتي ديارَهمُ البُخْلُ كِرامٌ إذا رامُوا فِطامَ وَليدِهمْ ... عن الثَّدْيِ حطُّوا البُخْلَ فانْفَطم النَّجْلُ ليوثٌ إذا صَالُوا غُيوثٌ إذا هَمَوْا ... بُحورٌ إذا جادُوا سيوفٌ إذا سُلُّوا وإن خطَبوا مَجْداً فإن سيوفَهمْ ... مُهورٌ وأطرافُ القَنا لهمُ رْسْلُ إذا قفَلُوا تَنْأَى العُلَى حيثما نأَوْا ... وإن نزَلُوا حلَّ الندَى أينما حَلُّوا هذا معنى متداول، منه قول المتنبي: الحسنُ يرحَلُ كلما رحَلُوا ... معهم وينزلُ حيثما نزَلُوا تَوالتْ على كسْبِ الثناءِ طِباعُهم ... فأعْراضُهم حِرمٌ وأمْوالهم حِلُّ أمَوْلايَ إن يَمْضُوا ففِيك سَما العُلَى ... وقامتْ قَناةُ الدِّين وانْتشر العَقْلُ وإن يكُ قد أفْضَى الزمانُ بسالمٍ ... فإنك رَوْضُ الوَبْلِ إذْ ذهَب الوَبْلُ هذا معنىً تلاعب به المتنبي وكرره، في تفضيل البعض على الكل، فأحسن وأجاد، حيث قال: فإن يكُ سَيَّارُ بن مُكْرَمٍ انْقضَى ... فإنك ماءُ الوردِ إن ذهبَ الوَرْدُ وقال: فإن تكُنْ تَغْلِبُ الغَلْباءُ عُنْصُرَها ... فإنَّ في الخمرِ معنىً ليس في العِنَبِ وقال: فإن تَفُقِ الأنام وَأنت منهمْ ... فإن المسكَ بعضُ دمِ الغزالِ وقال: وما أنا منهمُ بالعَيْشِ فيهمْ ... ولكن مَعْدِنُ الذهبِ الرَّغامُ ولبعضهم منه: وكان أبوك لنَا كالْحَيَا ... فوَلَّى وأبْقاك مثلَ الغَدِيرِ وله أيضاً: ألاَ للهِ قومٌ إن تَولَّوْا ... لهم نَسْلُ يُسَلُّونَ المُصابَا فإنهمُ الْحَيَا وَلَّى وأبْقَى ... لنا رَوْضاً وأنْهاراً عِذابَا إليك ارْتمتْ فِينا قَلوصٌ كأنها ... قِسِيٌّ بأسْفارٍ كأنَّهُمُ نَبْلُ يعني أنحلها السرى، بحيث صارت من الهزال كالقسي. وأول من وصف النوق بهذا الوصف البحتري، في قوله: يتَرقْرَقْنَ كالسَّرابِ فقد خُضْ ... نَ غِماراً من السَّرابِ الجاري

كالقِسِيِّ المُعَطَّفاتِ بل الأسْ ... هُمِ مَبْريَّةً بل الأوْتارِ ثم تداول الشعراء هذا المعنى، وتجاذبوا أطرافه. فمنهم الشريف الموسوي، حيث قال: هُنَّ القِسِيُّ من النُّحُولِ فإن سَمَا ... طلبٌ فهُنَّ من النَّجاءِ الأسْهُمُ وقد أخذه ابن قلاقس، فقال: خُوصٌ كأمْثالِ القِسِيِّ نَواحِلاً ... فإذا سَمَا خَطْبٌ فهُنَّ سِهامُ وقال ابن خفاجة: وقِدْماً بَرَتْ منَّا قِسِيّاً يَدُ السُّرَى ... وفَوَّق منها فوقَها المجدُ أسْهُمَا وهذا منزع عبد علي. وما زَجَر الأنضاء سَوْطي وإنَّما ... إليك بلاَ سَوْقٍ تَسابقتِ الإبْلُ يَمِينُك لا أقْصَى الزمانُ بها حَياً ... وكَهْفُك لا أوْدَى الزمانُ له ظِلُّ وكلُّ لحاظٍ لستَ إنْسانَها قَذَىً ... وكلُّ بلادٍ لستَ صَيِّبَها مَحْلُ وله من أخرى في مدحه أيضاً. أولها: يا دارَها بالشِّعب شِعب الحائلِ ... غادَاكِ مُرْفَضُّ الغَمام الهاطلِ تبدَّلتْ عن كلِّ حالٍ آنِسٍ ... من أهلِها بكلِّ ناءٍ عاطلِ عُجْنَا بها رِكابَنا لكي ترى ... ما فعلتْ أيدِي الزمانِ الماحلِ كأنما كلُّ هوَى قُلوبِنا ... رُكِّبَ في قوائمِ الرَّواحلِ والْتثمتْ جَحْفَلها تُرابُها ... فمُسْعِدي مُلْتثَمُ الجَحافلِ إن مَصَح الدهرُ رُبَا رُبوعِها ... فليس تُمصَح الرُّبَى بهاطِلِ وإن تُمتْ بعدَهم ديارُهم ... فالنَّازلون أنْفس المنازلِ للهِ عيشٌ ذهبتْ نَضْرتُه ... كأنه رَقْدةُ ظِلٍ زائلِ وليلةٌ قضَّيْتُها بعاقل ... سقَى الغمامُ ليْلتي بعاقِلِ إذِ الثُّرَيَّا لِمَمٌ نُجومُها ... كأنها تُرْسُ فَتىً مُنازِلِ والبدرُ في كبدِ السماءِ حائرٌ ... كأنه وعدُ حبيبٍ ماطلِ أحْيَيْتُها مرتشِفاً بَلابِلاً ... تهْرُب عند شُرْبِها بَلابِلِي أرشِفُها حتى إذا ما فرغتْ ... جمعتُ بين القُرط والخلاخِلِ يحتمل أن يكون جمع بينهما في التمتع بالنظر فحسب، وأن يكون جمع بينهما في التمتع بالفعل، كما يقال في الكناية عن الفعل: رفع كراعها، وشال شراعها، وألحق قرطها بخلخالها. ووقع لي في الإحماض: ولقد ضلِلتُ عن الطريق بغادةٍ ... جعلَتْ رَشادِي سُخْرةً لضَلالِي فحنَيْتُها فعلَ المُكِبِّ لِحاجةٍ ... وجمعتُ بين القُرْطِ والخَلْخَالِ وإضلال الطريق، كناية عن ابتغاء ما لم يكتب الله. لِلَّهْوِ ساعةٌ تمُرُّ خُلْسةً ... كأنها تقبيلُ ثَغْرِ راحلِ هذا بعينه بيت المتنبي: لِلَّهْوِ آوِنةٌ تَمُرُّ كأنها ... قُبَلٌ يُزوِّدها حبيبٌ راحلُ وأصله قول البحتري: وزمانُ السرورِ يمْضِي سريعاً ... مثلَ طِيبِ العناقِ عند الفِراقِ ومن مديحها: مُعتنِقُ الحِلْم اعْتناقَ فَتْكِه ... مُجْتنِبَ البُخْل اجْتنابَ الباطلِ إذا ارْتدَى الفَضْفاضَ قال قائلٌ ... مَن نَظَر البُحورَ في الجداولِ لا يلْتقي الحربَ بغير مُهْجةٍ ... جليلةٍ تُدْخَر للجلائلِ وشُذَّبٍ إن صدرتْ رايَتُها ... سلم الصِّغاحِ كلم الأناظل تركُض من غُبارِها بعارِضٍ ... تسْبَح من دِمائِها بوابلِ يا مُظْمِىءَ الخيلِ كأنْ ليس لها ... غيرُ دماءِ الصِّيد من مَناهلِ ومُورِدَ البِيضِ كأنَّ صَوْتَها ... على العِدَى قَعْقَعةُ السَّنادلِ تختطِف الهامَ بها نَواشِداً ... لا قُطِّعتْ سواعدُ الصَّياقلِ كأنَّما حَكْمَتُها على الشَّوَى ... حِكْمة لُقْمانَ على المفاصلِ

هل لكَ في فَخْرِك من مُفاخِرٍ ... هل لك في فَضْلِك من مُفاضِلِ وما عسى فخرُهم ومَعْنُهم ... كمادِرٍ وقُسُّهم كباقلِ قد قصَدوا واللهِ غيرَ قاصدٍ ... وافْتعلُوا واللهِ غيرَ فاعلِ وخاصَمُوا مُهنَّداً ليس له ... للدِّين غيرُ النَّصرِ من حَمائلِ رامُوا اكْتِتامَ نُورِ حَقٍ بَاهرٍ ... وحاوَلُوا قَصْرَ كمالٍ طائلِ وما سمعْنا أو رأيْنا في الدجى ... قد كُتِمتْ شَعْشَعةُ المَشاعِلِ أحَبُّ كلّ مَرْتعٍ مُعْشِبُهُ ... وأيْمَنُ الأكُفِّ كَفُّ باذلِ إذا أرادَ اللهُ كَشْفَ مَنْقَبٍ ... خافٍ رَماه بِعنادِ خاملِ هذا من قول أبي تمام: وإذا أرادَ اللهُ نَشْرَ فضيلةٍ ... طُوِيتْ أتاح لها لسانَ حَسُودِ لولا اشْتعالُ النارِ فيما جاورتْ ... ما كان يُعرَف طِيبَ عَرْفِ العُودِ لولا اشْتعالُ النَّارِ واضْطِرامُها ... ما عُرِف الرِّمْثُ من الصَّنادِلِ فجاءَهم لا سيفُ عَزْمٍ كاهِمٌ ... ولا جَوادُ همَّةٍ بناكلِ تطْعنُهم مُعْتجِلاً على القَنا ... كرَكِّ لامَيْنِ بفَرْقِ نابلِ قد يُدرَك المجد بجهْلِ جاهلٍ ... ويُصْحَبُ الذلُّ بعَقْلِ عاقلِ لا عدِم الناسُ جنَى فضيلةٍ ... منك فأنت مَعْدِنُ الفضائلِ وكتب إلى القاضي تاج الدين المالكي المكي، قوله: وحقِّ من أرْتجِي شَفاعَتَهُ ... يوم تكون السماءُ كالمُهلِ ما سرتُ عنكم ولي حَشاً بسِوَى ... خيالكُم مُذْ نَأيْتُ في شُغُلِ يا تاجَ دِينِ الإخاءِ ما أنا مَنْ ... يُفْضل عنكم ركائبَ الرُّسُلِ لكنني قد جعلتُ مُعتَمدِي ... ما أثْبتتْه لنا يدُ الأزَلِ وخُذْ على البُعدِ ما همَى مطَرٌ ... تحيَّةً من أخيك عبدِ علِي ومن بدائعه ميميته المشهورة، وهي مما يتغنى بها في نغمة الحجاز. ومستهلها: لِمَن العِيسُ عَشِيّاً تترامَى ... تركتْها شُقَق البَيْن سُهامَا كلما بَرْقَعها نَشْرُ الصَّبا ... لبسَتْ من أحمرِ الدَّمعِ لِثامَا وترامَتْ خُضَّعاً أعناقُها ... كلما هَزَّ لها البَرْقُ حُسامَا شَفَّها وَجْدٌ بَراها لِلْحِمَى ... فهْي تَثْنِي لِرُبَى نَجْدٍ زِمامَا وتَلافاها نسيمٌ حامِلاً ... عن قُرى وَجْرةَ أنْفاسَ الخُزامَى يا تُرَى من حملتْ لو وقَفُوا ... ساعةً نَشْرَحُ وجداً وغَرامَا ومن الجهلِ أُراه يَقْظةً ... إنَّني لا أترجَّاه مَنامَا يا بَني عُذْرةَ هل من آخِذٍ ... بدَمِي المَسْفوحِ مَن حَلَّ الخيامَا قمرٌ لولا يُرَى بدرُ الدُّجَى ... ما حوَى البَدْرُ كمالاً وتَمَامَا غادِرٌ لم يَرْعَ مِنِّي نَسَباً ... دون أن يحْفظَ عَهْداً وذِمامَا نَسَبٌ أيْسَرُه أنَّ الهوى ... بين خَدَّيْه لَهِيباً وضِرامَا وبجِسْمِي مِن بَقايا حُبِّه ... شِبْهُ طَرْفَيْه فُتوراً وسَقامَا يا نَدامايَ دَعا خَمْرَكُما ... إن أراق الحِبُّ مِن فِيه مُدامَا وانْثنِي يا قُضُبَ الْبانِ إذا ... رَنَّحتْ خمرُ اللَّمَى ذاك القَوامَا وانْسَ يا رَوْضُ أقاحِيكَ غِنىً ... فلقدْ أبْدَى من الثَّغْرِ ابْتسامَا عاقَب اللهُ بأدْهَى صَمٍَ ... أُذُنِي إن سمِعتْ فيك مَلامَا وعَمَتْ عن أن ترى ذاك الْبَها ... مُقْلتِي إن زَارَها النومُ لِمَامَا

أنا من ينظرُ في شَرْعِ الهوى ... كلَّ شيءٍ ما سوى الحبِّ حَرامَا وقوله من قصيدة يتغنى بها في السيكاه، ولم يحفظ منها إلا قوله: أمَا والهوى لولا العِذارُ المُنَمْنَمُ ... لمَا اهْتاجَ وَجْدِي ساجِعٌ يترنَّمُ ولا اهْتجَعتْ عَيْنايَ من فَيْضِ مَدْمَعِي ... قضَى جَرْيُها أن لا يُفارِقَها الدَّمُ هو الحبُّ ما أحْلَى مُقاساةَ خَطْبِه ... وأعْذَبَه لو كانتِ العَيْنُ تكْتُمُ ومن مقطعاته قوله، وهو أيضاً مما يتغنى به في نغمة الحجاز: لا تطلُعِي في قمرٍ إنَّني ... أخاف أن يغلطَ أهلُ السَّفرِ أو طلعتْ شمسٌ فلا تطلعِي ... أخاف أن تعمَى عيونُ البَشَرِ وأبدع ما له قوله في راقص، إذا تراءت محاسنه للعيان، جمدت له في وجوههن العينان، وإن قابلته العيدان في يد الكواعب، تحركت أوتارها بغير ضوارب، وهو قوله: وراقصٍ كقضِيب الْبانِ قامَتهُ ... تكاد تذْهبُ رُوحِي في تنقُّلِهِ لا تستقِرُّ له في رقْصِهِ قَدَمٌ ... كأنَّما نارُ قلبي تحت أرْجُلِهِ ألم فيه بقول السري الرفاء، في وصف جواد: لا يستقرُّ كأنَّ أرْبَعَهُ ... فُرِشَ الثَّرى من تحتها جَمْرَا ومما يلطف قول السري، في وصف راقص: ترى الحركاتِ بلا سُكونٍ ... فتحسَبُها لخِفَّتِها سُكونَا كسَيْرِ الشمسِ ليس بمُسْتقِرٍ ... وليس بمُمْكِنٍ أن يسْتبينَا ولعبد علي: دَعِ الدنيا ولا ترْكَنْ إليها ... فزُخْرُفها سيذْهبُ عن قليلِز وإن ضحِكتْ بوجْهِك فهْو منها ... كضِحْك السيفِ في وَجْهِ القتيلِ وله: فِتْيةُ الكهفِ نَجَا كَلْبُهمْ ... كيف لا ينْجُو غَداً كلبُ عَلِي علي بن خلف بن عبد المطلب الموسوي الحويزي هو الخلف نعم الخلف، فائقٌ بمعونة الله على السلف. فمن رأى ما في شعره من الصنعة والإغراب، عرف أن خلفاً استخلفه على اللغة والإعراب. فلله من معانٍ يصوغها، ومجاني عباراتٍ يسوغها. ينفق فيها من خاطرٍ واسعٍ وفكرٍ ملي، ويوضح مذاهب البلاغة حتى يحقق أن نهج البلاغة لعلي. وقد أثبت منها ما يشهد له بالإحسان، ولو أنصفه الدهر لرقم به خدود الحسان. فمنه قوله: من قصيدة، أولها: مَكانَك يا وَجْدَ الفؤادِ المُعذَّبِ ... إلى أن يعودَ الحيُّ بالجزِعِ واذْهَبِ وهيْهات أن يُرجَى زوالُ مُلازمٍ ... من الوجدِ ثاوٍ في الضَّمير مُطنِّبِ وهَبْهم نأَوْا أو قارَبوا أو تعطَّفوا ... بوَصْلٍ فما قلبي عليهم بقُلُّبِ وإنَّ غراماً خامَر القلبَ في الصِّبا ... متى ينْتشِق روحَ اللِّقا يتلهَّبِ وقوله: في أَمانٍ من الإله ورَحْبِ ... أيها الظَّاعِنونَ عنِّي بلُبِّي ما كفَى الدهرَ سَعْيُه بنَوى الأحْ ... بابِ انْثنى بتشْتيت صَحْبي لستُ أنْسَى أيَّامَنا بلِوَى الجِزْ ... عِ وعَيْشي منه بوَصْلٍ وقُرْبِ حيثُ وادِي تِهامةَ لِي دا ... رٌ ومحَلٌّ وشِعْبُ رَامَةَ شِعْبي وأخٌ لو بُعدتُ عنه بأصْلِي ... قد دَنَا من حِماه قلبي ولُبِّي لو دَعانِي من البِعادِ لخَطْبٍ ... كنتُ فيما دعا إليه مُلبِّي فعزيزٌ عليه يفْقِد شخصِي ... وعزيزٌ أن لا أراه بسِرْبي صاحبٌ إن شكَوْتُه داءَ خَطْبٍ ... كأن ممَّا أصابه داءُ خَطْبِ وقوله: إن سُرَّ وَاشِينا بفُرْقتِنا ... إذْ ساءَه ما كان في القُربِ ظَنّاً بأن البُعدَ صاحبُه ... ينْجُو من الأشْجانِ والحُبِّ لا سُرَّ وَاشِينا فإنَّك قد ... حُوِّلْتَ من عيْني إلى قلبي وقوله، وهو بأصبهان: طارحُوني صَبابتِي والجوَى ... بمَقالٍ يُشْجِي القلوبَ ويُصْبي هذه أصْبَهان ما تشْتهي الأنْ ... فُسُ فيها وكلُّ نُزهةِ صَبِّ

وإذا ما دَعاكض للْغَيِّ دَاعٍ ... كنتَ فيما دَعاك غيْرَ مُلَبِّ قلتُ قد صح ما تقولون عندي ... يا صِحابي لو كان عنديَ قلْبي وقوله: وذِي هَيَفٍ خاطبْتُه فأجابنِي ... بأطْيبَ من ماءِ الحياةِ وأعْذَبِ يحدِّث حتى لو حكَى الدهرَ كلَّه ... أقولُ له أوْجَزْتَ في القولِ فأطْنِبِ وقوله: يا نسيماً هبَّ من وادِي قُبَا ... خَبِّرينِي كيف حالُ الغُرَبَا كم سألْنا الدهرَ أن يجمعَنا ... مثْلَما كنَّا عليه فأبَى وقوله: أحِنُّ إلى ذاك الزمانِ وإنما ... حَنِيني لِمَن زان الزمانَ بقُرْبِهِ وأهْوَى الحِمَى لا أنَّني عاشقُ الحِمَى ... ولكنَّني مُغْرىً بسُكان شِعْبِهِ فآهاً لوَجْدِي كيف يبْقَى رَسِيسُه ... وآهاً لصَبْرِي كيف يقْضِي بنَحْبِهِ وقوله: إن جئتَ سُكَّان الأرَاكِ ففرِّجِ ... منهم على الظَّبْيِ الأغَنِّ الأدْعَجِ وإذا أتيْتَ رَبَارِباً برُبَى الحِمَى ... فاقْرَ السلامَ رَبيبَ ذاك الهَوْدَجِ واسْتفْتِه كيف اسْتحلَّ دِماءَنا ... فقضَتْ لواحِظُه ولم تتحرَّجِ للهِ وِقْفتُنا وقد صاحُوا النَّوى ... فدَعوْت يا حادِي المَطِيِّ بهم عُجِ كم شمس خِدْرٍ يوم ذاك تبرَّجتْ ... وهي التي للنَّجْمِ لم تتبرَّجِ وَدَّ الهلالُ وما رآها أنَّه ... منها مكانُ سِوارِها والدُّمْلُجِ ومُعذِّل لي بالغرامِ أجبْتُه ... يا عاذِلي أين الخَلِيُّ من الشَّجِي هلاَّ عُزِلتَ وما دخلتَ بضِيقةٍ ... فالآن قُلْ لي كيف وَجْهُ المَخْرَجِ قلت: هذه الأبيات الجيمية كأن كل جيمٍ منها عطفة صدغ مزرد، ونقطتها خالٌ في كرسي خدٍ مورد. وله: يا مَجْمَعَ الأزهارِ والوَرْدِ ... لا كان هذا آخرَ العهدِ حَيَّتْ طُلولَك كلُّ غاديةٍ ... وجَب الثناءُ لها على الرَّنْدِ للهِ ليلتُنا عليك وقد ... مزَج السرورُ الهَزْلَ بالجِدِّ والزَّهرُ يبسَم كلَّما هَملتْ ... عينُ السحابِ بواكِف العَهْدِ ونَسِيمُك المُعْتلُّ صَحَّ به ... جسمِي من الآلام والجَهْدِ أهْلاً به من زائرٍ طَرقتْ ... أنْفاسُه بالعنْبَرِ الوَرْدِ ما زال يحْكينا ويُسِند ما ... يحْكيه عمَّن حَلّ في نَجْدِ لا عن قِلىً فارقتُ زهرَكَ يا ... خيرَ الرِّياضِ ولم يكنْ وُدِّي إن كان حيَّى بالسرورِ فقد ... أبْقَى بقلبي لاعِجَ الوجدِ فكأن أحمره بأصْفرِه ... دمعي غداةَ نأَيْتَ في خَدِّي وله: بشَّرْتَ بالخير يا بَشيرِي ... جئتَ على الوَفْقِ من ضميرِي لو أحدٌ طار من سُرورٍ ... لطِرْتُ من شدَّةِ السرورِ قد قلتُ بدرُ الكمال وافَى ... بعد اخْتفاءٍ عن الظهورِ أجَلْ هو البدرُ في عُلاهُ ... فذاك مِن عادةِ البُدورِ فإن تخفَّى فلا لنقْصٍ ... وإن بدا ليس بالنَّكيرِ فهْو على الحالتيْن يبْغِي ... بِفعْلِه طاعةَ القديرِ سَمحْتَ يا دهرُ بالأمانِي ... أحْسَنْتَ يا أحسنَ الدهورِ وزاره الحشري الشامي فلم يجده ثم زاره هو فلم يجده أيضاً، فأنشد على الفور: ما احْتيالِي على مُعاكسةِ الدهْ ... رِ وما زال دهرُ مثْلِي غَرُورا زُرْتَني يا أخِي وزرتُ فما سَا ... مَح أن ألْقاك زائراً ومَزُورَا فعسَى تعْذُر المحِبَّ كما كنْ ... تَ لديْه بمثلِها مَعْذُورَا ومن مقاطيعه قوله: سحقْنَا عقودَ الدُّرِّ عند عِناقِنا ... وكادتْ عُقودُ الدرِّ أن تَصْدَع الصَّدْرَا

فلم أدْرِ من يشكو أدُرُّ عُقودِها ... أم الصدرُ مما نالَه يشْتكي الدُّرَّا سحق العقود من مخترعات ابن هندو في قوله: ولمَّا أن تعانَقْنا سحَقْنَا ... عقودَ الدُّرِّ من ضِيق العناقِ ومثله ذوب حصا الياقوت في قول أبي الجوائز: واعتنقْنا ضَمّاً يذوب حَصَا الْيَا ... قوتِ منه وتطمئنُّ النُّهودُ وقال فيها الباخرزي: ذوب تتذاوب فيه الأماني، وسحقٌ تتساحق عليه الغواني. ومن بدائعه قوله: أيا أختَ الظِّباءِ وبنتَ بَدرِ السَّ ... ماءِ وضَرَّةَ الشمسِ المُنيرَهْ عشِيرتُك النجومُ فمن يُدانِي ... عُلاكِ وأنتِ في سَعْدِ العَشِيرَهْ ومن عَجَب أسَرْتِ القلبَ قسْراً ... وأنت لحَجْلِك الزَّاهِي أسِيرَهْ وقوله في صفة جواد أغر: ومُطَهَّمٍ كالليلِ حين ركبْتُه ... فكأنَّ بدراً فوق ليلٍ أسْفَعِ جاء الصباحُ يريد مَسْحَ جبِينِه ... في كفِّه فهَفا ومَسَّ بأُصْبُعِ هذا عند التأمل أوضح في التشبيه، من قول ابن نباتة: وكأنَّما لَطم الصباحُ جَبِينَهُ وله: ذُقْنا الفِراقَ ووَصْلَكم ووَداعكُمْ ... فإذا الحلاوةُ بالمرارةِ لا تَفِي حلَف الزمانُ بأن يفِي بوصالِكم ... وثنَى فكان يمينُه أن لا يَفِي يا مَن دَنا وثنَى عِنان وِصالِه ... حُوشِيتَ من زَفَراتِ قلبِي المُدْنَفِ فلئن وجدتُمْ في البحارِ مُلوحةً ... ما ذاك إلا مِن دموعِي الذُّرَّفِ وله: برُوحِي التي لم تُبْقِ منّي بقيَّةً ... فَيعرفَ صوتي إن تكلَّمْتُ عارِفُ نحَلْتُ فلو أنِّي طَرقْتُ ديارَها ... لقالتْ خيالٌ زار أم هو هاتِفُ وله من قصيدة، مطلعها: عسى وجَفَاتِ اليَعْمَلاتِ ألأيانقِ ... تُبلِّغني وادِي العُذَيْب وبارِقِ فيَهدأ قلبٌ خافِقٌ من زِيالِهمْ ... وإن كان في غير الهوى غيرَ خافِقِ لئن راعَنِي ما اسْوَدَّ من يوم بَيْنِهمْ ... فما راعَهم إلاَّ بياضُ مَفارِقِي فهل بِوَمِيض البرقِ عَوْنٌ لناظرٍ ... على البُعد ليلاً عن يَمِين الأبارِقِ وهل بهبُوط الوادِيَيْن مُعرِّسٌ ... وهل بنسِيم الرِّيح رَوْحٌ لناشِقِ نعمْ إنْ تَزُرْ تلك الديارَ تجِدْ بها ... لُبانةَ مُشتاقٍ وحَنَّةَ عاشِقِ بحيث الحصَا كاللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ بَهْجةً ... وطِيبُ ثَراها فاق مِسْكَ العوابِقِ ديارٌ إذا ما الصَّبُّ زار خِباءَها ... رأيتَ عجيباً من مَشُوقٍ وشائقِ ولكنَّها مَحْفوفةٌ بضَراغِمٍ ... أتَوْا من مُرورِ الرِّيح في زِيِّ طارقِ فلو قدَّرُوا أن لا يُرَى النجمُ عندَهم ... رَمَوْا كلَّ نَجْمٍ في السماءِ بخارِقِ ولولا شُروطُ الحبِّ زُرْتَ خيامَهم ... زيارةَ غَازٍ لا زيارةَ وَامِقِ على كلِّ مقْدُودٍ من الليلِ جِسْمُه ... يُعاجِلُ رَجْعَ الطَّرْفِ حين التَّسابُقِ ولا عجَبٌ لو راح للرِّيح لاحِقاً ... إذا كان يُعْزَى للوجِيهِ ولاحِقِ فلو رام ساري البرقِ يسْرِي خيالُه ... لَقال اتَّئِدْ يا برقُ لستَ مُرافِقِي من الَّلاءِ لم تعرف سوى الكَرِّ غارةً ... إذا امْتلأتْ رُحْبُ الفَلا بالفَيَالِقِ يُجشِّمها مَن هَوَّن الموتَ عنده ... طِلابُ المَعالِي واحْتمالُ الحقائقِ تحمَّل أعْباءَ الخُطوب وإنَّها ... تمِيدُ لها صُمُّ الشِّدادِ الشَّواهِقِ وإن احْتمالَ الخَطْب في كلِّ حادثٍ ... طرائقُ آبائي وبعضُ طَرائقِي فما عُذْرُ من عادتْ جَراثِمُ أصْلِه ... إلى كاظِمٍ للغَيْظ من بعد صادقِ

وهذا أبِي الدَّانِي الذي سار ذِكْرُه ... مَسِيرَ ذُكَا في غَرْبِها والمَشارِقِ وله من أخرى، أولها: أسَلِيلةَ القمريْن دَعْوةُ وَامِقٍ ... ماذا ترَيْنَ بمُسْتهامٍ عاشقِ قد كان يطمعُ في وِصالِك يَقْظةً ... والآن يقْنَع بالخَيالِ الطَّارقِ يرضَى بوُدِّ مُنافِقٍ ومُماذِقٍ ... مَن لم يجدْ وصلَ الصديقِ الصادقِ هلاَّ صَدَدْتِ وشعرُ رأسِي أسْودٌ ... أيَّام أرْهُف في ثيابِ مُراهِقِ فترَيْنَ من شَغَفِ الحِسانِ بطَلْعتِي ... ذُلَّ المَشُوقِ بجَنْبِ عِزِّ الشائقثِ أنَسِيتِ لَيْلاتِ العَقِيق مَبِيتَنَا ... والسَّاعِدان حَمائلِي في عاتِقِي وحديثَنا عمَّا تُجِنُّ صُدورُنا ... كاللُّؤْلُؤ المتناظِم المُتناسِقِ في حيثُ رُمَّانُ النُّهودِ لغامِزٍ ... حِلٌّ ومَيَّادُ القُدودِ مُعانقِي وتضُوع من أزْياقِنا عِطْريَّةُ النَّ ... فَحاتِ كالمِسكِ الفَتِيقِ الفائقِ فَيُرَى بنا مِن شَوقِنا وعَفافِنا ... حَجماتُ ذِي نُسْكٍ ونظرةُ فاسقِ منها: غَدْرُ الأنام مُعَنْعَنٌ عن دهرِهمْ ... يُخْفِي العداوةَ في ثيابِ مُنافقِ ولوَ انَّني رمتُ السُّلُوَّ لَخاننِي ... قلبٌ على السُّلْوانِ غيرُ مُوافقِ ومن محاسنه قوله: بعيشِك خَبِّرْني إذا ذُكِر الحِمَى ... أدْمْعِيَ أُجْرِي أم جُفونِي أم الوَدْقُ إذا طلع الرُّكْبانُ منه اعْترضْتُهم ... وأسألُهم بالرِّفْقِ لو عطَف الرَّفْقُ ألا فاصدُقونِي عن عُرَيبٍ تركتُهم ... به هل رَعَوْا عهدِي وإن ساءَني الصِّدْقُ وأنْشَق من تِلْقائِه كلَّ ناسِمٍ ... يُعِلُّ ويشْفي من لطَافتِه النَّشْقُ وفي مَضْحَك البرقِ التِّهاميّ جِيرةٌ ... بكَتْهُم جُفونِي كلَّما ضحك البَرْقُ ويُذْكِي لهيبَ القلبِ وُرْقٌ ترنَّمتْ ... ولو علمتْ ما ب بَكتْ شَجْوَها الوُرْقُ تنُوح ولا تبْكِي وأندُب باكِياً ... أجَلْ بين إعْوالِي ورَنتِها فَرْقُ فيا ليْتني بُدِّلت نُطْقي بصَمْتِها ... وكان لها منِّي الفصاحةُ والنُّطْقُ وله: أُبْدِي السُّلُوَّ لعاذِلي وبوادرُ الْ ... أنفاسِ تخْصِمني بأنِّيَ وَامِقُ وإذا سترْتُ هواكُمُ عن عاشقٍ ... نادى عليَّ الدمعُ هذا عاشقُ وخرج الشاه صفي إلى الصيد، وتخلف هو؛ لألمٍ ألم به، فكتب إليه: أَلَمٌ ألَمَّ فعاقَنِي ... عن خدْمةِ الشاهِ الأجَلِّ وأوَدُّ لو أسعَى على ... عَيْني لخدْمتهِ ومَن لِي فو حقِّه ما إن أصُو ... نُ النفسَ إلاَّ للْمَحلِّ هو بَذْلُها وقتَ الهِيا ... جِ له وذَا جُهْدُ المُقِلِّ وقال، وهو في مازندران: إن حالتِ الأطْوارُ من دونِكمْ ... يا ساكنِي قلبي والثلجُ حَالْ فصَبُّكمْ ما حالَ عن وُدِّه ... والحمدُ للهِ على كلِّ حالْ ومن جيده قوله: وأطْوَلُ سَقْيٍ من هِلالٍ سطَا ... ببَانةٍ تخْطُر أو لَحْظِ رِيمْ أعْرَض إذْ عَرَّضنِي للضَّنا ... كأنما أقْسَم أن لا يَريمْ لو لم يظُنَّ الريح جسمِي لمَا ... مالَ إذا ما صافَحتْه النسيمْ وقوله: سرَتْ نَسْمةٌ برَّدتْ غُلَّتِي ... فَماد لها المُدنَفُ المُغْرَمُ وحَيَّيْتُها بانْتشاقِي لها ... لَوَ انَّ نسيمَ الصَّبا يفهمُ وقوله من قصيدة: دَعْنِي ولا تقُلِ الغرامُ جنونُ ... رَشَدِي بأنِّي في الهوى مفْتونُ قَيْسٌ بأُنْمُلِه يخُطَّ على الثرَى ... وأنا بدَمعي والجنُون فُنونُ إن كنتَ تعجبُ من حديثِ مُرَقِّشٍ ... فاسْمَعْ حديثِي والحديثُ شجونُ

أنا مَن علمت فمُذْ تعرَّضْتُ الهوى ... حكمتْ بلُبِّي أعينٌ وجفونُ للهِ ما فتكَتْ بنا ألْحاظُها ... يوم اللِّوَى تلك الظِّباءُ العِينُ وقوله في الشمعة: قلتُ ليلاً لصاحِبي ما ترَى الشَّم ... عَةَ تبكي مهما نظَرْتَ إليهَا قال هذا البكاءُ ليس عليْنا ... كلُّ دمعٍ يسيلُ منها عليهَا السيد حسين بن كمال الدين الأبزر الحلي هذا السيد في الحلة، متزين من الأدب بأجمل الحلة. أجمع أهل بلدته، على أنه أشعر أهل جلدته، والرائد لا يكذب أهله، وهو أدرى بشعار حلته. فمن شعره قوله؛ مذيلاً لبيت المتنبي، وأجاد: أتى الزمانَ بَنُوه في شَبيبتهِ ... فسرَّهُم وأتيْناه على الهَرَمِ وهم على كلِّ حالٍ أدركوا هَرَماً ... ونحن جئْنَاه بعد الموت والعَدَمِ وبيت المتنبي منزعه قديم. منه قول أبي تمام: نظرتُ في السِّيَر الَّلاتِي مضَتْ فإذا ... وجدتها أكلَتْ باكُورةَ الأُمَمِ ابن السماح: صفَا الدهرُ مِن قبلي ودِرْدِيُّه أتى ... فلم يصْفُ لي مذ جئتُ بعدهمُ عُمْرُ فجاءُوا إلى الدنيا وعصرُهم مضَى ... وجئتُ وعصرِي من تأخُّرِه عَصْرُ أبو جعفر المحدث: لَقِيَ الناسُ قبْلَنا غُرَّةَ الدهْ ... رِ ولم نَلْقَ منه إلا الذُّنابَا المعري: تمتَّع أبكارُ الزمان بأيْدِه ... وجِئْنا بوَهْنٍ بعد ما خَرِفَ الدهرُ فليت الفتى كالبدرِجُدِّد عمرُه ... يعود هلالاً كلما فَنِيَ الشهرُ كأنما الدهرُ ماءٌ كان واردَه ... أهلُ العصور وما أبْقَوْا سوى العَكِرِ وذكر الحافظ الحجاري في المسهب، أنه سأل عمه أبا محمد عبد الله ابن إبراهيم؛ عن أفضل من لقي من الأجواد في عهد ملوك الأندلس. فقال: يا ابن أخي، لم يقدر أن يقضي لي طروقهم في شباب أمرهم، وعنفوان رغبتهم في المكارم، ولكن اجتمعت بهم وأمرهم قد هرم، وساءت بتغيير الأحوال ظنونهم، وملوا الشكر، وضجوا من المروءة، وشغلتهم المحن والفتن فلم يبق فيهم فضلٌ للإفضال، وكانوا كما قال أبو الطيب: أتَى الزمانَ...... إلخ. وإن يكن أتاه على الهرم، فإنا أتيناه وهو في سياق الموت، ومع هذا فإن الوزير أبا بكر بن عبد العزيز كان يحمل نفسه ما لا يحمله الزمان، ويبتسم في موضع القطوب، فيظهر الرضا في حال الغضب، ويجتهد ألا ينصرف عنه أحدٌ غير راضٍ، فإن لم يستطع الفعل عوض عنه القول. قلت له: فالمعتمد بن عباد كيف رأيته؟ فقال: قصدته وهو مع أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، في غزوته للنصارى المشهورة، فرفعت له قصيدةً، منها: يا ليت شعرِي ماذا يرْتضِيه لِمَن ... ناداه يا مَوْئِلي في جَحْفَلِ النادِي فلما انتهيت إلى هذا البيت، قال: أما ما أرتضيه لك فلست أقدر في هذا الوقت عليه، ولكن خذ ما ارتضى لك الزمان. وأمر خادماً له فأعطاني ما أعيش في فائدته إلى الآن، فإني انصرفت به إلى المرية، وكان بها سكناه، والتجارة بها؛ لكونها ميناء لمراكب التجار، من مسلم وكافر، فاتجرت فيها، فكان إبقاء ماء وجهي على يديه. عيسى بن حسن بن شجاع النجفي روح في قالب إنسان مصور، اقتطف القول من غصنه عندما تنور. مرآة ذهنه انطبعت فيها صور المحاسن، وماء رؤيته جرى في حدائق الأدب وهو غير آسن. تتمتع بحسن منظره النظار، وأراه ما تحلى بهذا الشعار، إلا لكثرة ما حلى عليه من الأنظار. وله صمادة فكر، لا تولد غير معنىً بكر. قرائحُ بِكْرٍ ولَّدت بنتَ فِكْرةٍ ... يطيشُ لها رأيٌ ويذكُو بها فكرُ ولو لم تكنْ أنفاسُه عِيسَويَّةً ... لما قلَّدته من قريحتِه بِكْرُ قال ابن معصوم في ترجمته: رحل إلى الهند، ومدح الوالد، وحصل بينهما مراسلات طويلة، ولما حصل من أمله على مراده، وقضى أربه من انتجاع مراده، ثنى عنانه للقصد إلى أوطانه وبلاده، فركب البحر قاصداً وطنه عن يقين، فحال بينهما الموج فكان من المغرقين. ومن شعره قوله يمدح النظام والد ابن معصوم المذكور:

شعراء البحرين

بقلبيَ من عينٍ سِهامٌ ثَواقبُ ... تسدِّدها كحلاءُ والقوسُ حاجبُ لنا حاجبٌ عن كلِّ سهمٍ يردُّه ... وليس لسهمِ الحبِّ واللهِ حاجبُ سقيمةُ أجْفانٍ وكَشْحٍ ومَوْعِدٍ ... أرى السقمَ تبْرِي وهْي فيه تُغالبُ أُغالِبُ أسْقامِي وأسقامَها لها ... ومن غالَب الأسقامَ فالسقْمُ غالبُ إذا برزَتْ فالناسُ فيها ثلاثةٌ ... طعينٌ ومضْروبٌ وسَاهٍ يُراقبُ ولم يُرَ عَسَّالٌ سوى قَدِّ بَانَةٍ ... وليس لها إلاَّ الجفونُ قواضِبُ وإن أسفرتْ ليلاً جلَى الليلَ وجْهُها ... وخَرَّت له خَوْفَ الكُسوفِ الكواكب وإن طلعتْ يوماً فاللشَّمسِ ضَرَّةٌ ... عليها من الجَعْدِ الأًثِيثِ غياهِبُ ومِن عَجَبٍ للشمس والبدْرِ مَغْرِبٌ ... وليلَى لها كلُّ القلوبِ مَغاربُ إذا ما النَّوَى زَمَّتْ رِكابَ أحبَّتي ... فللشوقِ في قلبي تجُول رَكائبُ ولُبِّيَ مَسْلوبٌ وجسمِيَ واهِنٌ ... ودمعيَ مسكوبٌ وقلبيَ وَاجِبُ وما العيشُ إلاَّ والحبِيبُ مُواصِلٌ ... وما الحتْفُ إلاَّ أن تصُدَّ الحَبائبُ لك اللهُ من قلبٍ أصابَك سَهْمُها ... ومن كبدٍ فيها الظِّباءُ لَواعِبُ ومن جسدٍ قد أسْقمتْه يدُ الهوى ... ومَعْ سُقْمِه للحبِّ فيه مَلاعبُ عليه لأنواعِ الخُطوب تَناوُبٌ ... فإن فاتَه خَطْبٌ عَرَتْه نَوائبُ تعوَّدْتُها كالإلْفِ حتى لَوَ انني ... تفقَّدتُها حلَّتْ لديَّ مصائبُ طويتُ على شكوَى الزمانِ ضمائرِي ... وأغضيتُ عنه باسماً وهْو قاطبُ ولو أنني يوماً نبذْتُ أقلَّها ... لضاقتْ بها ذَرْعاً عليَّ المَعائبُ وإنِّي على مُرِّ الزمان لصابرٌ ... وإن ساءني دهرٌ فما أنا عاتبُ ولَلصَّبرُ أحلَى من شماتةِ حاسدٍ ... وقولِ خليلٍ مَلَّ شكواكَ صاحبُ ولم أخْشَ ضَنْكاً من حياةٍ لأنني ... سَروبٌ وإن سُدَّتْ عليَّ المَساربُ مُبشِّرُ آمالِي مُسكِّنُ رَوْعتِي ... بأنِّي إلى البحر الزُّلالِ لَذاهِبُ تطالبني في كلِّ حينٍ يمُرُّ بِي ... مَدِيحَك نفسِي والفؤاد يُجاذبُ لأنك يا نَجْلَ الرسُولِ هوىً لها ... كذا كلُّ نفسٍ في هَواها تُطالبُ منها: لقد طِبْتَ فَرْعاً حيث طبتَ أَرُومةً ... نعم طيِّبٌ حيث الأصولُ أطايبُ فللوردِ ماءُ الوردِ فَرْعٌ يزِينُه ... ولِلَّيث شِبْلُ الليثِ مِثْلٌ يُقاربُ فأنت لها ابنٌ وأنتَ لها أبٌ ... وأنت لها صِنْوٌ وأنت أقاربُ عشِقتَ العُلَى طفلاً ولم يك عاشقاً ... سِواك وشِبْهُ الشيءِ للشيء جاذبُ كذاك عشِقْتَ العلمَ والجودَ والتُّقَى ... وللناس فيما يعشقون مذاهبُ منها في الختام: ولا زلْتَ في روضٍ من العيش ناضرٍ ... إلى دارِك العَلْيا تؤُوب الرغائبُ شعراء البحرين هي من البلاد التي هي معدن السخا، ومطلع المكارم، في الشدة والرخا. أطرافها منازل الأشراف، وأكثر الحلي في الأطراف. فمنهم: السيد عبد الرضي بن عبد الصمد الولي الرضي الشيمة، المرتضى الجرثومة. المتكافىء الشرف، المتعادل الطرف والطرف. مجمع البحرين، بحر العمل وبحر العلم، ومقلد النحرين، نحر الكمال ونحر الحلم. إلى أدبٍ أوقع من حلاوة الرضا، وشعرٍ ما ناله الرضي ولا المرتضى. فمنه قوله: بات يسْقيني من الثَّغْرِ مُدامَا ... ذُو جمالٍ يُخْجِل البدرَ التِّمامَا حَلَّل الوصلَ وقد كان يرى ... وَصْلَ مَن يشْتاقُه شيئاً حَرامَا

ويَرى سَفْك دمِ العشاقِ فَرْضاً ... في هَواه أو يمُوتون غَرامَا زارَني وَهْناً ولا أعرف لِي ... منه مِيعاداً فأدركتُ المَرامَا جاء في حُلَّةٍ من سُنْدُسٍ ... ثمِل الأعْطافِ سُكْراً يتَرامَى فاعْترتْني دَهشةٌ من حسنِه ... حين أرْخَى لي عن الوجهِ اللِّثامَا منها: ليلةٌ كانت كإبْهامِ القَطَا ... أو كرَجْع الطَّرْف قِصْراً وانصِرامَا حيثُ كان العيشُ غضّاً والصِّبا ... مَجْمَعَ اللذَّاتِ والدهرُ غُلامَا يا حَماماً ناح في أيْكَتهِ ... صادِحاً ما كنتَ لي إلاَّ حِمامَا تندُبُ الإلْفَ ولا تَذْرِي دَماً ... ودُموعِي تُشْبِه الغيثَ انْسِجامَا السيد علوي بن إسماعيل من خلص الأسرة العلوية، الضاربين خيامهم في المنازل العلوية. له في هجر ذكرٌ لم يعرف الهجر، وفضائل توضحت مثلما توضح الفجر. أطلعته السيادة من شرقها، فوضعته تاجاً فوق فرقها. وهو في الكمال مخلوق على أحسن فطرة، والبحران عنده لا يتجاوزان قطرة. وقد رأيت له في النسيب ثلاثة عشر بيتاً، تحيي الطرب إذا كان ميتاً. فأثبتها وأنا مستطار فرحاً، وأهز عطفي بحسن انسجامها مرحاً. وهي قوله: بنفسِي أُفَدِّي وقلَّ الفِدا ... غزالاً بوادِي النَّقا أغْيَدَا مَلِيحاً إذا فُضَّ عن وجهِه ... نِقابُ الحيَا خِلْتَ بدراً بَدَا غزالاً ولكنْ إذا ما نَصْب ... شِراكاً لأصطادَه اسْتأْسَدَا سقيمُ اللَّواحظِ مكحولُها ... ولم يعرف المِيلَ والإثْمِدَا رشيقُ القوامِ إذا هَزَّه ... رأيتَ الغصونَ له سُجَّدَا له رِيقَةٌ طعمُها سُكَّرٌ ... يُجَلِّي الصَّدَا ويُرَوِّي الصَّدى ولَحْظٌ كعَضْبٍ ولكنَّه ... يشُقُّ القلوبَ وما جُرِّدَا تفرَّد بالحُسْن دون المَلاَ ... فسبحان مَوْلىً له أفْرَدَا نأَى بعدُ فهْو لغيرِي ولِي ... قريبُ المَزارِ بعيدُ المَدَى رعَى اللهُ أيامَنا الماضيات ... وعيشُ الفُتَاءِ به أرْغَدَا وصَبَّ على تُرْبِ تلك الرُّبوعِ ... مُثْعَنْجِراً مُبْرِقاً مُرْعِدَا إلى حيثُ أخْفَتْ صُروفُ الزمانِ ... وشَمْلُ الوِصالِ بها بُدِّدَا وأضْحَتْ قِفاراً وليس بِهِنَّ ... من ذلك الجَمْعِ إلا الصَّدَى إذا قلتُ أين حبيبي غَدَا ... يُجيب بأيْنَ حبِيبي غَدَا السيد محمد بن عبد الحسين بن إبراهيم بن أبي شبابة جمال هذا البيت وجملة مفاخره، وفذلكة حسابه المنوطة به أحساب أوائله وأواخره. تكونت بالبحرين جوهرة ذاته، وبها كانت أوطانه وأوطار لذاته. ولما حلت بيد الشباب تمائمه، وصدحت في أفنان الفتوة حمائمه. تنقل في البلاد فأحرز الطارف من الكمال والتلاد. كما تنقل الدر من البحر، فعلا على التاج والنحر. ثم أقام آخراً بأصبهان، وبها انتقل من دار العياء والامتهان. فمن شعره قوله، من قصيدة يمدح بها النظام ابن معصوم، وهو بالهند. ومطلعهام: أرى عَلماً ما زال يخفُق بالنَّصْرِ ... به فوق أَوْج المجد تعلُو يدُ الفَخْرِ مضَى العمرُ لا دنيا بلغتُ بها المُنَى ... ولا عملاً أرْجُو به الفوزَ في الحشرِ ولا كَسْبُ علمٍ في القيامةِ شافعٍ ... ولا ظفِرت كفِّي بمُغْنٍ من الوَفْرِ وأصبحتُ بعد الدَّرْسِ في الهند تاجراً ... وإن لم أفُز منها بفائدة التَّجْرِ طوَيتُ دَواوينَ الفضائل والتقى ... وصرتُ إلى طَيِّ الأمانِيِّ والنَّشْرِ وسوّدت بالأوْزارِ بِيضَ صحائفي ... وبيَّضْت سودَ الشِّعر في طلَب الصُّفْرِ وبعتُ نَفِيسَ الدِّين والعمرِ صَفْقةً ... فيا ليت شِعرِي ما الذي بهما أشْرِي

إذا جَنَّني الليلُ البَهِيمُ تفجَّرتْ ... عليَّ عيونُ الهَمِّ فيها إلى الفَجْرِ تفرَّقتِ الأهْواءُ منِّي فبعضُها ... بِشِيرازَ دارِ العلم والبعضُ في الفكْرِ وبالبَصْرة الرَّعْناءِ بعضٌ وبعضُها الْ ... قَوِيُّ ببَيْتِ اللهِ والرُّكْنِ والحِجْرِ فما لي وللهند التي مُذ دخلْتُها ... مَحَتْ رَسْمَ طاعاتِي سيولٌ من الوِزْرِ ولو أن جِبْرائيلَ رام سُكونَها ... لأعْجزه فيها البقاءُ على الطُّهْرِ لئن صِيدَ أصحابُ الحِمَى في شباكِها ... فقد تأخذُ العقلَ المقاديرُ بالقَهْرِ وقد تُذهب العقلَ المطامعُ ثم لا ... يَعُود وقد عادت لَمِيسُ إلى العِتْرِ هذا تلميح إلى المثل المشهور، وهو قولهم: عادت إلى عترها لميس. أي رجعت إلى أصلها. والعتر، بكسر المهملة وسكون المثناة من فوق: الأصل. ولميس: اسم امرأة. يضرب لمن رجع إلى خلق كان قد تركه. وليس هذا المثل بعينه حتى يعترض بأن الأمثال لا تغير. مضَتْ في حروبِ الدهر غايةُ قُوَّتي ... فأصبحتُ ذا ضَعْفٍ عن الكَرِّ والفَرِّ إلى مَ بأرضِ الهنْدِ أُذْهِب لَذَّتبي ... ونَضْرة عَيْشٍِ في محاولة النَّضْرِ وقد قنِعتْ نفسِي بأوْبَةِ غائبٍ ... إلى أهلِه يوماً ولو بَيَدٍ صَفْرِ إذا لم تكنْ في الهندِ أصنافُ نعْمةٍ ... ففي هَجَرٍ أحْظَى بصِنْفٍ من التَّمْرِ على أنَّ لي فيها حُماةً عهِدتُهمْ ... بُناةَ المَعالي بالمُثقَّفة السُّمْرِ إذا ما أصاب الدهرُ أكْنافَ عِزِّهمْ ... رأيتَ لهم غاراتِ تَغْلِبَ في بَكْرِ ولي والدٌ فيها إذا ما رأيتَه ... رأيتَ به الخَنْساءَ تبْكي على صَخْرِ ولكنَّني أُنْسِيتُ في الهند ذكْرَهم ... بإحْسانِ مَن يُسْلِي عن الوالد البَرِّ إذا أذْعَرَتْني في الزَّمانِ صُرُوفُه ... وجدتُ لديه الأمْنَ من ذلك الذُّعْرِ وفي بيته في كلِّ يومٍ وليلةٍ ... أرى العِيدَ مقْروناً إلى ليلةِ القَدْرِ ولا يُدْرِك المُطْرِي نِهايةَ مَدْحِه ... ولو أنَّه قد مُدَّ من عُمُرِ النَّسْرِ وفي كُلِّ مِضْمارٍ لدَى كلِّ غايةٍ ... من الشرفِ الأوْلَى له سابِقٌ يجرِي إذا ما بدتْ في أول الصبحِ نِقْمةٌ ... ترى فَرَجاً قد جاء في آخر العَصْرِ فقُل لي أبَيْتَ اللَّعْنَ إن عَزَّ مَقْطَعٌ ... أأصبِرُ أم أحْتاجُ للأوْجُهِ الغُرِّ إذاً لا علَتْ في المجد أقدامُ هِمَّتي ... وإن كان شعرِي فيك من أنْفَسِ الشعرِ وإنِّي لأرْجو من جَميلِك عَزْمةً ... تُبلِّغني الأوطانَ في آخرِ العُمرِ تُقِرُّ عيوناً بالعراقِ سَخِينَةً ... وتُبرِد أكْباداً أحَرَّ من الجمرِ وتُؤْنس أطفالاً صِغاراً تركْتُهم ... لفُرْقتِهم ما زال دمعيَ كالقَطْرِ وعيشْي بهم قد كان حُلْواً وبعدهم ... وجدتُ لذيذَ العيشِ كالعَلْقَمِ المُرِّ إذا ما رأَوْني مقبِلاً ورأيتُهم ... تقول أيومُ القَرِّ أم ليلةُ النَّفْرِ وما زلتُ مُشتاقاً إليهم وعاجزاً ... كما اشْتاقَ مَقْصوصُ الجناح إلى الوَكْرِ ولكنَّما حسبِي وُجودُك سالماً ... ولو أنني أصبحتُ في بلدٍ قَفْرِ فمَن كان موصولاً بحَبْلِ وَلائِكم ... فليس بمُحْتاجٍ إلى صِلةِ البِرِّ وله من قصيدة، على لسان أهل الحال، وأجاد فيها. ومستهلها: لَعَمْري لقد ضلَّ الدليلُ عن القَصْدِ ... وما لاح لي برقٌ يدلُّ على نَجْدِ فبِتُّ بلَيْلٍ لا ينام ومُهْجةٍ ... تقلَّب في نارٍ من الهمِّ والوجْدِ

وقلتُ عسى أن أهْتدِي لسَبِيلِها ... بنَفْحة طيبٍ من عَرارٍ ومن رَنْدِ فلما أتيْتُ الدَّيْرَ أبصرتُ راهباً ... به ثَمَلٌ من خَمْرةِ الحبِّ والوُدِّ فقلتُ له أين الطريقُ إلى الحِمَى ... وهل خَبرٌ من جِيرةِ العَلَم الفَرْدِ فقال وقد أعْلَى من القلْبِ زَفْرةً ... وفاضتْ سيولُ الدمعِ منه على الخَدِّ لَعلَّك يا مسكينُ ترجُو وِصالَهم ... وهيْهات لو أتلفْتَ نفسَك بالكَدِّ إذا زُمْرةُ العُشَّاقِ في مجلسِ الهوى ... نَشاوَى غَرامٍ من كُهولٍ ومن مُرْدِ ألم تَرَ أنَّا من مُدامةِ شَوْقِهمْ ... سُكارَى ولم نبلُغْ إلى ذلك الحَدِّ فكم ذهبتْ من مُهْجةٍ في طريقِهمْ ... وما وصلتْ إلاَّ إلى غايةِ البُعْدِ فقلتُ أأدْنُو قال مِن مِحْنةٍ ... فقلتُ أأرجُو قال شيئاً من الصَّدِّ هذا البيت فيه المراجعة، وهي كثيرة في كلامهم. ألم تَرَنَا صَرْعَى بدهشةِ حُبِّهمْ ... نُقلِّب فوق التُّرْبِ خَدّاً إلى خَدِّ فكم طامعٍ في حبِّهم مات غُصَّةً ... وقد كان يرضَى بالمُحالِ من الوَعْدِ ولده السيد عبد الله عرف ذلك الطيب، واريجه الذي يذكو ويطيب. تحلى بالأدب من منذ ترعرع، وارتوى منه بكأس مترع. فاستباح جني قطافه، واستماح روي نطافه. وقد وقفت له على أشعارٍ باهت الطراز المعلم ببذرقة التطريز، وجرت جداولها لطالب الأدب بمذاب اللجين والإبريز. فدونك منها ما تستجيده، وتعلم منه أنه محسن القول ومجيده. فمنه قوله، من قصيدة أولها: أغَار في تِيهِه وأنْجَدْ ... فصوَّب الفكرَ بي وصَعَّدْ وجَدَّ في مَطْلَب التَّجنِّي ... فجذَّ حبلَ الوِدادِ بالصَّدّ أتيتُ أشكُو إليه وَجْدِي ... فصدَّ كِبراً وصعَّر الْخَدّ سَما به عُجْبُه فأضْحَى ... يضِنُّ عند السلامِ بالرَّدّ ظَبْيٌ بديعُ الجمالِ أحْوَى ... أغَرُّ حُلْوُ الدَّلالِ أغْيَدْ مُهَفْهَفٌ تخضَع العَوالِي ... إذا تثنَّى ورَنَّحَ الْقَدّ مُجاذِبٌ رِدْفُه لخَصْرٍ ... دَقّ فخِفْنا عليه ينْقَدّ ذُو مَبْسَمٍ بالرُّضابِ حَالٍ ... مِن حولِه اللُّؤْلُؤُ المُنضَّدْ كم بات يرْوِي لنا قديمَ ال ... حديثِ نَقْلاً عن المُبَرِّدْ فنَال منَّا المُدامُ منه ... ما لم تنَلْه مُدامُ صَرْخَدْ بدرُ تَغارُ النجومُ منه ... إذا سَنَا وجهِه تَوقّدْ أحلَّ قتْلَ الأنام عَمْداً ... ولا قِصاصاً يَرى ولا حَدّ منها: ما لاح يوماً لعاشِقيهِ ... إلاَّ وخَرُّوا لديْه سُجَّدْ كلُّ عَمِيدٍ به عَمِيدٌ ... وكل مَوْلىً له مُعَبَّدْ أُطلِق حُبِّي له فأمسَى ... قلبِي به واجِباً تقيَّدْ هوَيْتُه عامِداً لمعنىً ... منه أتى بالجمالِ مُفْرَدْ ولستُ أبْغِي به بدِيلاً ... وإن تجافَى قِلىً وإن صَدّ ما زلتُ شوقاً إليه أصْبُو ... وعهد وُدِّي له يُجدَّدْ كما صَبَا للنَّدى ارْتياحاً ... سيدُنا ابنُ النبيِّ أحمدْ أرْفَعُ من ترفعُ المَعالِي ... طَوراً إلى مجدِه وتُسْنَدْ كم جمعتْ للكرامِ شَمْلاً ... يَدٌ له مَالُها مُبدَّدْ وكم أقالتْ عِثارَ قَيْلٍ ... أطاحَه دهرُه وأقْعَدْ منها: أبا عليٍ فِداك نفسي ... وما حَوَتْه يَدايَ من يَدْ منها: وابْق بقاءَ الدهورِ ما إنْ ... أضاءَ برقٌ ولاح فَرْقَدْ وله من قصيدة أخرى، مستهلها: ما نضتْ ليلةَ المَزارِ الإزارَ ... هندُ إلا لتهتِكَ الأسْتارَا

طرَقتْنا ولاتَ حين طُروقٍ ... حبَّذا زائرٌ إذا النجمُ غارَا رَقَّ بعد الصُّدودِ عَطْفاً لِرقٍ ... ورعَى حُرمةَ العهودِ فزارَا قابلتنا بطَلْعةٍ قد أرتْنا الشَّ ... مسَ ليلاً فأوْهمتْنا النهارَا طَفلةٌ تخلِبُ العقولَ بطَرْفٍ ... وبدَلٍ تستعْبِدُ الأحْرارَا دُميةٌ لو تصوَّرت لِمَجُوسٍ ... تَخِذُوها إلهاً وعافوا النَّارَا ناهدٌ تسلُب النفوسَ بطَرْفٍ ... غَنِجٍ زادَه الفُتورُ احْوِرارَا زاتُ خدٍ جلَى لنا الوردَ غَضّاً ... وشَتِيتٍ جلَى علينا العُقارَا وفمٍ مثل خاتمٍ من عَقِيقٍ ... عمَّر الدُّرَّ في نَواحِيه دَارَا ولِحاظٍ تسْبي العقولَ وخَصْرٍ ... زادَه باسطُ الجمال اخْتصارَا وإذا ما ترَنَّح القَدُّ منها ... قلتُ قد هَزَّ ذابِلاً خَطَّارَا غادةٌ لَذَّ لي بها هَتْكُ سِتْرِي ... في طريق الهوى وخَلْعِي العِذارَا وعجيبٌ ممَّن توغَّل أمْراً ... في الهوى أن يرومَ منه اسْتتارَا أيْسَرُ الهوى وشأنُ دموعِ الصَّ ... بِّ بالصَّبِّ تظهِر الأسْرارَا والذي عقلُه غدا بيَدِ الغِي ... دِ أسيراً لا يستبدُّ اخْتيارَا كيف أرجو من الخُطُوب خَلاصاً ... بعد ما أنْشَبتْ بيَ الأظْفارَا أرْهَفتْ إذ عدَتْ عليَّ نِصالاً ... ليس ينْبو فِرِنْدُها وشِفَارَا قصَدتْ أن تسُومنِي الخَسْفَ ظُلْماً ... والبَرِيُّ الأبيُّ يأْبَى الصَّغارَا ما درَتْ أنني رُفِعتُ مقاماً ... بحِمَى أحمدٍ وزِدْتُ اعْتبارَا وهو أسْمَى في رُتْبةِ المجد من أن ... يُدرِك الضَّيْمُ لَمْحةً منه جَارَا سيِّدٌ ساد في البريَّةِ نُبْلاً ... وزكا عُنْصُراً وطاب نِجَارَا ماجدٌ نال رُتبةً في المعالي ... لم ينَلْها من قبلُ كِسرَى ودَارَا أرْيَحيٌّ إذا أراحَ لنَيْلٍ ... أرْسلتْ سُحْبُ راحِه الأمْطارَا السيد عبد الله بن الحسين أربى على الخلص من عتاة فن الأدب، فكان أجل من جد في تحصيله ودأب. رأيت له شعراً ينسي محاسن التقدم، ويترك المجتري على معارضته بغبن التندم. فلو منحه ابن الحسين لما تنبأ عجباً بالقريض بل كان تأله، أو سمعه أبو تمام لاتخذه تميمةً لعود عقله الذي تدله به وتوله. وها أنا ذا أتلو عليك منه قطعةً تستنزل الثريا، وتغنيك عن اجتلاء زهرات الروضة الريا. وهي قوله في الغزل: أتتْ تحمل الإبْرِيقَ شمسُ الضحىَ وَهْنَا ... ولو سَمحْت بالرِّيق كان لها أهْنَا حَكاها قَضِيبُ الخَيْزُرانِ لأنه ... يُشارِكها في اللِّين واللفظِ والمعنَى تُرِيني الضُّحَى والليلُ ساجٍ وما الضحى ... وطلْعَتُها من نُورِ طلعتِه أسْنَى مُهَفْهَفةُ الأعْطافِ حَوْراء خِلْتُها ... من الحُورِ إلا أنَّ مُقْلتَها وَسْنَا لها كَفَلٌ كالدِّعْصِ مِلْءُ إزارِها ... وقَدٌّ إذا ماسَتْ به تُخْجِل الغُصْنَا عليها بُرودُ الأُرْجُوانِ كأنها ... شَقائقُ أو من وَجْنتيْها غَدَا يُجْنَى ولا عَيْبَ فيها غيرَ أنَّ مَلِيكَها ... بَراها بخُلْقٍ يُعْقِب الحُسْنَ بالحُسْنَى تقوم تُعاطِينا سُلافَة ثَغرِها ... على وَجَلٍ نِلْنا به المَنَّ والأمْنَا هي الرُّوحُ والرَّيحان والرَّاحُ والمُنى ... علينا بها مُعْطِي المَواهب قد مَنَّا قصَرتُ عليها مَحْضَ وُدِّي فلم يكنْ ... سواهَا له في القلبِ رَبْعٌ ولا مَغْنَى السيد داود بن شافيز سيد شهم، للآمال منه نصيبٌ وسهم. استوطن في السيادة نجداً، وتوسد الجوزاء مجداً.

وله في الشعر بدائع كثيرة العيون، لم يتحمل لأجلها فكره الصقيل منة القيون. فقد ألان الله لطبعه الحديد الكلام، كما ألان الحديد لداود عليه السلام. وقد أوردت له ما لا يرى العيان مثله، ومن طمع في لحاقه فيوشك أن يصير في العالم مثلة. فمنه قوله في الغزل: أنا واللهِ المُعَنَّى ... بالهوَى شوقِيَ أعْرَبْ كلَّما غَنَّى الهوَى لي ... أرْقصَ القلبَ وأطْرَبْ وغَدا يسْقيه كاسا ... تِ صَباباتٍ فيشْرَبْ فالذي يطمَع في سَلْ ... بِ هوى قلبيَ أشْعَبْ قلتُ للمحبوبِ حتَّى ... مَ الهوى للقلْبِ ينْهَبْ وبمَيْدان الصِّبا واللَّ ... هوِ ساهٍ أنتَ تلعبْ قال ما ذنبْي إذا شا ... هدت خدّاً قد تلهَّبْ فهوَى قلبُك فيها ... ذاهباً في كلِّ مَذْهَبْ قلتُ هَبْ أن الهوى هَبَّ ... فألْقاه بهَبْهَبْ أفلا تُنقذ مَن يهْ ... واكَ من نارٍ تلَهَّبْ وقوله: طال في الحبِّ غرامِي ... إذْ رمى المُهْجةَ رامِ فأصابَ القلبَ مَجرُو ... حاً بمَسْموم السِّهامِ والهوى فوقي وتحتي ... وورائِي وأمامِي ويمِيني ويَسارِي ... وهْو لاشكَّ إمامِي قائداً قلبي إلى نا ... رِ هَوانٍ وهُيامِ قلتُ للمحبوبِ حتى ... مَ بِنيرانِ الغَرامِ من ضَرِيعِ الشوقِ والأحْ ... زانِ أُكْلِي وطَعامِي وشَرابِي من حَمِيم الْ ... هجرِ أغْرَى بي حِمامِي لا تُغنِّي في أرَاكِ الْ ... وصلِ في زَفِّ حَمامِ قال قِفْ واصبرْ على ... بَلْوَى الهوى صَبْرَ الكرامِ فعسَى تحْظَى بجَنَّا ... تِ وصالِي وسَلامِي السيد ناصر بن سليمان القاروني الخطيب النضيح، والشاعر الفصيح. قضى فأرضى، ونضى فأمضى. وفرع وأصل، وأجمل وفصل. وذهب في البراعة كل مذهب، وارتدى من النباهة بكل رداءٍ مذهب. فنظمه حظ الزمان، بل هو حظ الأمان. وسجع الحمام، بل سفح الغمام. وريق النحل، بل الخصب بعد المحل. وقد ذكرت له ما تحله قلبا، وتضم عليه شغافاً وخلبا. فمنه قوله: أيا مَن يُغالِي في القريبِ ويشْترِي ... قرابةَ إنْسانٍ بألْفٍ أبَاعِدِ تعالَ فإنِّي ليْتني لا قَريبَ لي ... أبِيعُك منهم كلَّ ألْفٍ بواحِدِ وقوله من مرثية: أيها النائمونَ والدهرُ يقَظْا ... نُ أصاحونَ أنتمُ أم سُكارَى طاَما نِمْتُم فهُبُّوا من النو ... مِ فداعِي المَنونِ يدعُو جِهارَا هو دَاعٍ إذا أهابَ بمَن في ... رأسهِ نَشْوةٌ أطار الخُمارَا هو داعٍ يُجيِبه مَن دعاه ... كارهاً للِّقاءِ أو مُختارَا هو ذا منزلُ الملوكِ برَغْمٍ ... لِرَغامٍ من الصَّياصِي اقْتسارَا هو هذا مُكَسِّرٌ عَظْم كِسرَى ... ومُدِيرٌ رحَى المَنُونِ بِدَارَا فبِداراً ليومِ عَيْشٍ عزيزٍ ... قبل أن يُذيع الرحيلُ بِدارَا وانْتهازاً لفُرصةٍ ليس تبْقَى ... قبل أن تُسلَبُوا عليها الخِيارَا السيد أحمد بن عبد الصمد أحد من اجتنى طري القول واهتصر، إلا أن طريقه إلى الأدب مختصر. له من الشعر بيتان، على جودة طبعه بينان. لم يسمع له غيرهما قط، من برى قلماً وقط. وهما قوله: لا بلَّغتْنِي إلى العلْياء مَعْرفتي ... ولا دَعتْنِي العُلاَ يوماً لها وَلدَا إن لم أُمِرَّ على الأعْداء مَشْربَهم ... مَرارةً ليس يصْفُو بعدها أبَدَا ماجد بن هاشم بن المرتضى بن علي بن ماجد خطيب شيراز وإمامها، ورئيسها المشار إليه وهمامها. ماجد جد فوجد، وارتقى مثلما ارتقى له أبٌ وجد.

نسبٌ من النبي مبتدى، وحسبٌ ببرد النباهة مرتدي. وقد شفع شرف النسب بمزية الكمال، وقرن إلى صدق الأقوال فضل الأعمال. وراء ذلك أدبٌ بلغ به الأرب، وملأ دلوه منه إلى عقد الكرب. فمن شعره الذي تقف دونه الأطماع، وتشنف به على السماع الأسماع. قوله في مليح قارىء: وتالٍ لآيِ الذِّكْرِ قد وقفتْ بنا ... تلاوتُه بين الضَّلالة والرُّشْدِ بلفظٍ يسُوق الزاهدين إلى الخَنَا ... ومعنىً يشُوق العاشقين إلى الزهدِ وقوله: وذي هَيَفٍ ما الوردُ يوماً ببالغٍ ... حُلَى وَجْنتيْه في احمرارٍ ولا نَشْرِ برِئْنا من العَلْياء إن سِيمَ وصلُه ... عليْنا بما فوق النفوسِ ولا نَشْرِي وقوله متغزلاً: حسناءُ ساءتْ صَنِيعاً في مُتيَّمِها ... يا ليتَها شفَعت حُسْناً بإحْسانِ دَنَتْ إليه وما أدْنتْ مَودَّتَها ... فما انتفاعُ امرىءٍ بالباخِل الدَّانِي جعفر أبو البحر بن محمد الخطي العبدي أحد بني عبد قيس الخط والحظ للخطى، وهذا من الجناس الخطي. فآثار قلمه زينة الصحائف، وأخبار أدبه حلية التحائف. وهو أحد الجلة المشاهير، وأوحد أولئك الجماهير. وله في البحرين حديثٌ فاح أريجه، وتدفق بالثناء نهره وخليجه، فأنشد لسان مجده: وهل يُنْبِتُ الخَطِّيَّ إلاَّ وشِيجُه فكم زمت إليه المطية، وركزت على رماحه الخطية. وقد أثبت له ما يسو على النيرين، ويحسد اتساقه ما يخرج من بين البحرين. فمنه قوله: عاطِنيها قبل ابْتسام الصباحِ ... فهْي تُغنيك عن سَنا المِصباحِ أنت تدْرِي أن المُدامة نارٌ ... فاقْتدِحْها بالصَبِّ في الأقداحِ فهْي تمحُو بضَوئها صِبْغةَ اللَّيْ ... لِ فيغدُو وجهُ الدجَى وهْو ضاحِ وإذا ما أحاط بِي وفْدُ هَمٍ ... مُهدِياً لي طرائفَ الأتْراحِ فارْسِلَنْها وَرْدِيَّة كدَمِ الظَّبْ ... يِ أسالتْه مُدْيةُ الذَّبَُّّاحِ فهي تُقْصِي إمَّا دَنتْ وارِدَ الهَمِّ ... وتُدْنِي شواردَ الأفْراحِ ألْحَفتْ في السؤالِ هل من فَكاكٍ ... لأسيرٍ ما إنْ له من بَراحِ مَزَجُوها فقيَّدوها فلو تُتْ ... ركُ صِرْفاً طارتْ بغير جَناحِ يا خليلِي ولا أرَى لي من النا ... سِ خليلاً إلاَّ فتىً غير صاحِ يتلقَّى عَذْلَ العَذُولِ بهَيْها ... تَ ويحْثُو في أوْجُه النُّصَّاحِ ألِفَ الرَّاحَ فهْو بين اغْتباقٍ ... لا يُنادَى وليدُه واصْطباحِ رُحْ على الرَّاس بي فليس على الأجْ ... سامِ عَيْبٌ في السَّعْيِ للأرواحِ واسْقِنيها صِرفاً فللنَّارِ نأتْ ... جانباً عن وِصال ماءٍ قَراحِ خيرُ ما يُشرَب المُدامُ عليه ... وجهُ خَوْد من الكَعابِ رَداحِ ذات قَدٍ تثْني الغصونُ عليها ... حين يهْفو بها نسيمُ الصباحِ فوقه طُرَّةٌ تُظِلُّ مُحَيّاً ... جائلاً ماؤُه مُضِيء النَّواحِي فهْي من نُورِ وجهِها وظلامِ الشَّ ... عرِ في حالتيْ مَساً وصَباحِ وثُغورٌ يُخَلْنَ في بارد الظَّلْ ... مِ حَباباً يطْفُو على وجهِ راحِ ما تَرى الدهرَ كيف رقَّتْ ليالي ... هـ فشقَّتْ عن أوْجُه الأفراحِ ولما دخل بأصبهان، اجتمع بالبهاء الحارثي، وعرض عليه أدبه، فاقترح عليه معارضة قصيدته التي مطلعها: سرَى البرقُ من نَجْدٍ فهيَّج تَذْكارِي ... عهوداًبحُزْوَى والعُذَيبِ وذي قارِ فعارضها بقصيدة طنانة، أولها: هي الدارُ تسْتسْقِيك مَدْمعَها الجارِي ... فسَقْياً فخيرُ الدمعِ ما كان للدَّارِ ولا تسْتضِع دمْعاً تُرِيق مَصُونَه ... لِعزَّته ما بين نَوْءٍ وأحْجارِ

فأنت امرؤٌ بالأمسِ قد كنت جارَها ... وللجارِ حقٌّ قد علمتَ على الجارِ عشوتَ على الَّلذَّاتِ فيها على سَنَا ... سَناءِ شموسٍ ما يغِبْن وأقْمارِ فأصبحتَ قد أنفقْتَ طَيِّبَ ما مضَى ... من العمرِ فيها من عُونٍ وأبْكارِ نواصِعُ بِيضٌ لو أفَضْن على الدجى ... سَناهُنَّ لاسْتغْنى عن الأنْجُمِ السارِي خرائدُ يقْصرن الأصولَ بأوْجُهٍ ... تغَصُّ بأمْواهِ النَّضارةِ أحْرارِ مَعاطيرُ لم تُغْمَس يدٌ في لَطِيمةٍ ... لهُنَّ ولا اسْتَعْقَبن جَوْنةَ عطَّارِ أبحَنْكَ مَمنوعَ الوصالِ نوازلاً ... على حُكْمِ ناهٍ كيف شاء وأمَّارِ إذا بِتَّ تستسْقي الثغورَ مُدامةً ... أتَتْك فحيَّتْك الخدودُ بأزْهارِ أموسمَ لذَّاتي وسُوقَ مآربي ... ومَجْنَى لُباناتِي ومَنْهب أوْطارِي سقْتك برَغْمِ المُزْنِ أخْلافُ مُزْنةٍ ... تلُفُّ إذا جاشتْ سُهولاً بأوْعارِ وفَجٍ كما شاء المجالُ حشَوْتَه ... بعَزْمةِ هَوَّالٍ على الهَولِ كَرّارِ تمرَّس بالأسْفار حتى تركْنَه ... لدِقَّته كالقِدْحِ أرْهفَه البَارِي إلى ماجدٍ يُعْزَى إذا انْتسب الورَى ... إلى مَعْشرٍ بِيضٍ أماجدَ أخْيارِ ومُضطلِعٍ بالفضْل زَرَّ قميصَه ... على كَنْزِ آثارٍ وعَيْبَةِ أسْرارِ سَمِيِّ النبيِّ المصطفَى وأمينهِ ... على الدِّين في إيرادِ حُكْمٍ وإصْدارِ به قام بعد المَيْل وانتصبتْ به ... دعائمُ قد كانت على جُرُفٍ هارِ فلما أناخَتْ بي على باب دارِه ... مَطايايَ لم أذمُم مغَبَّة أسْفارِي نزلتُ بمَغْشِيِّ الرُّواقيْن دارُه ... مَثابةُ طُوَّافٍ وكعبةُ زُوَّارِ فكان نُزولي إذ نزلتُ بمُغْدِقٍ ... على المجد فضلَ البِرِّ عارٍ من العارِ أساغ على رَغم الحواسدِ مَشرَبِي ... وأعْذَبَ وِرْدَ العيش لِي بعد إمْرارِ وأنقذني من قبْضةِ الدهرِ بعد ما ... ألَحَّ بأنْيابٍ عليَّ وأظفارِ جُهِلتُ على معروفِ فَضْلي فلم يكنْ ... سواهُ من الأقوامِ يعرف مِقْدارِي ولما انتهى إلى هذا البيت في الإنشاد، قال، وأشار إلى جماعة من سادات البحرين: وهؤلاء يعرفون مقدارك إن شاء الله تعالى. على أنه لم يَبْقَ فيما أظنُّه ... من الأرضِ شِبْرٌ لم تُطبِّقْه أخْبارِي ولا غَرْوَ فالإكْسِير أكبرُ شُهْرةً ... وما زال من جهلٍ به تحت أسْتارِ متى بُلَّ لي كفٌّ فلستُ بآسِفٍ ... على درهمٍ إن لم ينَلْه ودينارِ فيا ابنَ الأُلى أثْنَي الوَصِيّ عليهمُ ... بما ليس تَثْنِي وجهَه يدُ إنْكارِ بِصفِّين إذ لم يُلْفِ من أوْليائه ... وقد عَضَّ نابٌ للورَى غير فرَّارِ وأبْصر منهم جِنَّ حَرْبٍ تهافتُوا ... على النارِ إسْراعَ الفَراشِ إلى النارِ سِراعاً إلى داعِي الحروب يرَوْنَها ... على شُرْبِها الأعمارَ موردَ أعْمارِ أطارُا غُمودَ البيض واتَّكلُوا على ... مَفارِق قومٍ فارَقُوا الحقِّ كُفَّارِ وأرْسَوْا وقد لاَثُوا على الرُّكَبِ الحُبَى ... بُروكاً كهَدْيٍ أبْرَكوه لَجزَّارِ فقال وقد طابتْ هنالك نفسُه ... رِضاً وأقَرُّوا عينَه أيَّ إقْرارِ فلو كنتُ بَوَّاباً على بابِ جَنَّةٍ ... كما أفحصتْ عنه صَحِيحاتُ آثارِ

يشير إلى همدان، وهي قبيلة من اليمن، ينتهي إليهم نسب الممدوح، وكانوا قد أبلوا يوم صفين بلاءً حسناً، فروي أنهم في بعض أيامهم حين استحر القتل، ورأوا فرار الناس عمدوا إلى غمود سيوفهم فكسروها، وعقلوا أنفسهم بعمائمهم، وجثوا للركب، وبركوا للقتل، فقال فيهم أمير المؤمنين، كرم الله وجهه: لَهمْدان أخلاقٌ ودِينٌ يزِينُها ... وبأسٌ إذا لاقَوْا وحُسْنُ كلامِ فلو كنتُ بَوَّاباً على بابِ جَنَّةٍ ... لقلتُ لهَمْدان ادْخُلوا بسَلامِ وقال فيهم يوم الجمل: لو تمت عدتهم ألفاً لعبد الله حق عبادته. وكان إذا رآهم تمثل بقول الشاعر: ناديتُ هَمْدان والأبوابُ مُغْلقةٌ ... ومثلُ هَمْدان سَنَّى فتْحةَ البابِ كالهُنْدُوانِيِّ لم تُفْلَل مَضارِبُه ... وجهٌ جميلٌ وقلبٌ غيرُ وَجَّابِ ذكره ابن عبد ربه في العقد. وهمدان بسكون الميم، وبعدها دال مهملة، وأما همذان، بفتح الميم والذال المعجمة، فبلد من بلاد العجم، وهي أول عراق العجم، وإليها نسب بديع الزمان الهمذاني، صاحب المقامات التي اقتفى الحريري أثره فيها. ومن شعر صاحب الترجمة، قوله من قصيدة يمدح بها وزير البحرين محمود بن نور الدين، وهي أول قصيدة أثبتها في المدح، وأنشدها يوم عيد الفطر: ماذا يُفيدُك من سُؤالِ الأرْبُعِ ... وهي التي إن خُوطِبَتْ لم تسمَعِ سَفَهٌ وقوفُك في رُسومٍ رَثَّةٍ ... عَجْماءَ لا تدرِي الكلامَ ولا تعِي فذَرِ الوقوفَ على مَخافِي منْزلٍ ... عافٍ لمُختلِف الرِّياح الأرْبَعِ وامْسِك عِنانَ الدمعِ عن حَوْبائِه ... في دِمْنةٍ لم تحمْدَنْك ومَرْبَعِ اللهُ جارُك هل رأيتَ منازلاً ... عطِلتْ فحلَّتْها عقودُ الأدْمُعِ واسْتبْقِ قلبَك لا تَعيشُ بغَيْرِه ... وشعاعَ نفس إن يَغبْ لم يَطلُعِ واصرِفْ بصِرْفِ الرَّاح همَّك إنها ... مهما تفرَّق من سرورِك تجمْعِ كَرْمِيَّةٌ تذَرُ البَخيلَ كأنما ... نزَل ابن مَامةَ من يدَيْه بأُصْبُعِ فهي التي آلتْ ألِيَّةَ صادقٍ ... أن لا تُجاورها الهمومُ بمَوْضعِ مع كلِّ ساحرة اللِّحاظِ كأنها ... ترْنُو بناظِرتَيْ مَهاةٍ مُرْضِعِ وكأنما تَثْنِي على شمسِ الضحى ... إمَّا هي انْتقبَتْ حواشِي البُرْقُعِ إما مركبة من إن الشرطية، وما الزائدة، وأدغمت النون في الميم. وكأنما وُضِع البُرَى منها على ... عُشَر تعاوَره الحَيا أو خِرْوَعِ البرى هنا جمع برة، وهي الخلخال. والبيت وصفٌ لها بالطول وتمام الخلق. وتعاوره الحيا تأكيدٌ وتحسين لهذا الوصف. يا مَن يفِرُّ من الخُطوب وصَرْفِها ... أنَّى رآه يفِرُّ عنها يتْبعِ لُذْ بالوزير ابنِ الوزير فإنما ... تأْوِي إلى الكَنَفِ الأعزِّ الأمْنَعِ ملِكٌ رَقَى دَرْجَ الفخارِ فلم يدَعْ ... فيها لِرَاقٍ بعده من مَطْمَعِ وتناولَتْ كفَّاه أشْرفَ رتبةٍ ... لو قام يلْمِسُها السُّهَا لم يَسْطَعِ أنْدَى من الغيْثِ المُلِثِّ إذا اجْتُدِي ... أحْمَى من الليثِ الهِزَبْرِ إذا دُعِي التَّارِكُ الأبطالَ صَرْعَى في الوغَى ... فكأنهم أعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِ منقع من الاكتفاء، وله معنىً بدون الاكتفا؛ بأن يكون مأخوذاً من أقعى فرسه، إذا رده القهقرى، فيزادياءً، أو من أنقع الميت، أي دفنه، والمراد دفنها بعشية القتال. يذَرُ الجماجمَ في المَكَرِّ سَوَاقِطاً ... سَقْط الثِّمار من المَهَبِّ الزَّعْزَعِ أفْدِيه وهْو على أغَرَّ مُحجَّلٍ ... ظامِي الفُصوصِ سليم سَيْرِ الأكْرَعِ الفصوص: جمع فص، وهو ملتقى كل عظمين. وظامي الفصوص، كناية عن لطافة مفاصله. نَهْدِ المَراكل واللَّبان بعيدِ ما ... وُضِع العِنانُ به عَصِيٍ طَيِّعِ

فكأنه لمَّا اسْتقام تَلِيلُه ... مُصْغٍ تلقَّفَ نَبْأةً من بُرْقُعِ في جَحْفلٍ كالْيَمِّ إلاَّ أنه ... لا ماءَ فيه غيرُ لَمْعِ الأدْرُعِ حتى ترجَّل للصلاةِ ولم نجِدْ ... أسداً يُصلِّي قَبْلَه في مَجْمَعِ لو قال: أخشع خاشع متورع. لكان أنسب بأفتك فاتك. حُيِّيتَ يا كسرى الملوكِ تحيَّةً ... تُرْبى على كسرَى المُلوكِ وتُبِّعِ يا ابنَ الأُلَى جعلوا مراكز سُمْرِهمْ ... حَبَّ القُلوبِ بكل يومٍ مُفْظِعِ واستبْدلُوا لِلْبِيض من أغْمادِها ... في الحرب هامةَ كلِّ ليثٍ أرْوعِ النازلين من العُلَى في رتبةٍ ... هامُ السُّها منها بأدْنَى موضعِ ما حدَّثتْ نفسُ امرىءٍ ببُلوغِها ... إلاَّ ومات بغُلَّةٍ لم تُنْقَعِ وإليك من عُرْبِ الكلامِ خريدةً ... جاءتْك مُسْفِرةً ولم تتَبرْقَعِ عذراءَ أوّلُ ما جَناه لناظرٍ ... نَظْمِي وأولُ ما تلاه لِمَسْمَعِ مِن شاعرٍ ذَرِبِ اللسانِ مُفَوَّهٍ ... طَبٍ بترْكيب القوافِي مِصْقَعِ فاضمُمْ عليه يديك تَحْظَ بآخِرٍ ... أذْكَى من المتقدِّمين وأبْرعِ فَليُسْمِعنَّك إن بَقِي لك بعدها ... ما يسْتبين لديْه ذُلُّ الأشْجَعِ قلت: لله دره من فارس مجال هو على تناول المعاني أشجع من أشجع، وخطيب حفل كلماته أفيد من قائل أما بعد وأنجع. وقد انتهى ذكر أهل البحرين الذين ارتفع قدرهم وسما، وروت غررهم في رياض آدابها حديث النعمان عن ماء السماء. وهنا أذكر من نجم من بلاد العجم ممن وقع عليهم الاتفاق، وانهلت فوائدهم كالسحاب الدفاق. فمنهم: الحكيم أبو الحسين بن إبراهيم الطبيب الشيرازي فارس حكماء الشرق، المستوفي في السبق شوط البرق. بلغ وهو شاب مبلغ الشيخ فقضى له بالرياسة، وبرع في صناعة الطب براعة حكمت له بالاستيلاء على النباهة والكياسة. إلى أدب يتخيله الفكر فيشفى به عليله، وينطبع في الطبع فيشحذ به كليله. وحسن طلعةٍ تتعشقها الصور، ولطف علاجٍ لم يبق معه ما تشتكيه مرضى العيون إلا الحور. وقد وقفت له على شعر ألذ من العافية للسقيم، وألطف من بشرى الولد الكريم للشيخ العقيم. فأثبت منه ما هو غايةٌ في حسن الأسلوب، وكأنما هو دواءٌ لأمراض القلوب. فمنه قوله: كشف الصبحُ اللِّثامَا ... وجَلى عنَّا الظلامَا فأجِلْ لي الكأسَ ونَبِّ ... هْ أيها السَّاقي النُّدامَى عَلَّنا نقضِي كما رُمْ ... نا من الأُنْسِ المَرامَا ما ترى الوُرْقَ على الأيْ ... كِ يُجاوِبْنَ الحَمامَا وزُهورَ الروضِ أصْبَحْ ... نَ يفُتِّقْنَ الكِمامَا والحَيا يبْكِي عليهِنَّ ... فيَضْحكْنَ ابْتسامَا ووميضَ البَرْقِ قد سَلَّ ... على الأُفْقِ الحُسامَا وحبِيبَ النفسِ قد لا ... حَ لنا بَدْراً تِمَامَا أيُّ عُذْرٍ لك إن لم ... تصلِ الراحَ مُدامَا فاغْنَمِ الأُنْس وبايِنْ ... مَن لَحَى فيه ولاَمَا وهي عروض أبيات بلديه الشيخ سعدي، صاحب الكلستان، وهي: يا نَدِيمي قُمْ بليلٍ ... واسْقِني واسْقِ النُّدامَى خَلِّني أسهرُ ليلِي ... ودَعِ الناس نِيامَا اسْقِيانِي وهدِيرُ الرَّ ... عدِ قد أبْكَى الغَمامَا في أوانٍ كشفَ الوَرْ ... دُ عن الوجهِ لِثامَا أيها المُصْغِي إلى الزُّهَا ... دِ دَع عنك الكلامَا فُزْ بها من قبلِ أن يجْ ... علك الدهرُ عِظامَا قُل لِمَن عيَّر أهْلَ الْ ... حُبِّ في الحبِّ ولاَمَا لا عرفتَ الحبَّ هَيْها ... تَ ولا ذُقْتَ غَرامَا

لا تلُمْني في غُلامٍ ... أوْدعَ القلبَ سَقامَا فبِداء الحبِّ كم من ... سيِّدٍ أضْحى غُلامَا ومن رقيق شعره قوله في الغزل: مَن أوْدَع الشُّهْدَ والسُّلافَ فَمَهْ ... والجوهرَ الفَرْدَ فيه من قَسَمَهْ وواوُ صُدْغَيْه فوق عارضِه ... يا ليت شِعْرِي بالمِسْك من رَقَمَهْ ووافرُ الحُسْنِ والجمالِ به ... من دون كلِّ الحسانِ مَن رَسَمَهْ وخَدُّه الوردُ في تضرُّجِه ... ما ضَرَّهُ لو مُحِبُّه لَثَمَهْ دمِي ودَمْعِي بلَحْظِه سُفِكَا ... فلا شفَا منه رَبُّه سَقَمَهْ كم من قتيلٍ بسيفِ مُقْلتِه ... لم يَخْشَ ثاراً لمَّا أباح دَمَهْ كتمْتُ حُبِّي عن الوُشاةِ فما ... ظَنَّ به كاشحٌ ولا عَلِمَهْ وكم مُحِبٍ أعْيَتْ مذاهبُه ... أذاع سرَّ الهوى وما كَتَمَهْ وقوله، وأجاد في الجناس: قضَى وَجْداً بحُبّ أُهَيْل رَامَهْ ... وما نال الذي في الحبِّ رَامَهْ مُحِبٌّ لم يُطِع فيهم عَذُولاً ... ولا قبلتْ مَسامعُه المَلامَهْ نَهاهُ عن الهوى لاَحِيه سِرّاً ... فقال لها جِهاراً في المَلامَهْ فقولوا يا أُهَيْل الوُدِّ قولُوا ... على مَ هجرتُمُ المُضْنَى على مَهْ وقد أمسَى بهجرِكُمُ قتيلاً ... وحُبُّكُمُ له أضْحَى علامَهْ المنلا فرج الله الششتري أحد شعرائهم المفلقين، وأوحد لطفائهم الذيقين. شعره نظم الإحسان في لبة القريض، وأسمع فيه ما هو أطرف من نغم معبد والغريض. وشعره في الصنعة بردٌ مروي، وفي العذوبة حديث للشباب مروي. فمما انتخبته من شهيه، وألمعت به من بهيه. قوله من قصيدة، مستهلها: ما بين دِجْلَة والفُراتِ مَراتِعٌ ... هي للنفوسِ معارجٌ وسَماءُ ومنازلٌ هي للقلوب منازِلٌ ... لا جاوزَتْها دِيمةٌ هَطْلاءُ لا الْجِزْعُ يُسْلِيني ولا وادي الغَضا ... عنها ولا نَجْدٌ ولا الدَّهْناءُ لا رامَةٌ رَوْمِي ولا حُزْوَى ولا ... وادي النَّقا والخَيْفُ والخَلْصاءُ سَقَتِ الغوادِي رَوْضَها وفَلاتَها ... ورعَتْ بمَرْعاها مَهاً وظِباءُ أصْبُو إلى سُكانها طولَ المدَى ... لم تُلْهِني خَوْدٌ ولا هَيْفاءُ إنَّ الأماكنَ تُسْتحَبُّ لأهلِها ... أنا عُرْوةٌ وجميعُهم عَفْراءُ بهمُ أُشَبِّب لا بعاتكةٍ وكم ... في مُهْجتِي من بينهم بُرَحاءُ أسماؤُهم ملأتْ خُروقَ مَسامعِي ... لا مَيُّ تسْكنها ولا أسْماءُ للنَّازِلين على الفُراتِ مَواطِنٌ ... لهمُ بهنَّ عن الخيامِ غَناءُ وبِسُوحِهنَّ مراتعٌ ومَلاعبٌ ... الليلُ فيها والنهارُ سَواءُ قد تلطف في هذا، ومراده أنها لشدة اعتدالها تساوى فيها الليل والنهار، كما يكون ذلك في البلاد التي في خط الاستواء، أو في الربيعين اللذين هما أعدل الأزمنة. ووقع لي من قصيدة: قد لاح في خَدِّه العِذارُ ... فاعتدلَ الليلُ والنَّهارُ مُستوطنُ الآمال غاياتُ المُنَى ... للغانياتِ بها الغَداةَ ثُواءُ يرْتعْنَ بين ضُلوعِنا فكأنَّما ... أرْباعُها الألْبابُ والأحْشاءُ آرامُ أُنْسٍ للنفوسِ أوانِسٌ ... داءٌ ولكنْ للعيون دواءُ يُصْغِي إليهنَّ الجليسُ فينْثنِي ... وهناك لا خمرٌ ولا صهْباءُ حلَّ الربيعُ متى حَلَلْنَ بمنزلٍ ... فكأنهنَّ عوارضٌ وحياءُ وإذا ارْتحلْنَ ترى الديارَ كأنها ... من فَقْدِهنَّ سباسبٌ قَفْراءُ

كم من مناهلَ للفُراتِ ورَدْنَها ... وصَدَرْنَ وهْي لِعَوْدِهنَّ ظِماءُ لا تعجَبنْ إن لم يَفِينَ بمَوْعدٍ ... إن الغوانِي ما لهُنَّ وَفاءُ سُكانُ تلك الأرضِ كلُّهم لهم ... عندي هوىً وصداقةٌ وإخاءُ إن يسْلِبوا عنِّي السرورَ ببَيْنِهمْ ... فلِمُهْجَتِي بحديثِهم سَرَّاءُ فهمُ مَناطُ مَساءَتي ومسرَّتِي ... وهمُ لقلبِي شِدَّةٌ ورخاءُ أكبادُنا نارُ الغَضا من بعدهمْ ... تُذْكِي الأسَى وجفونُنا أنْواءُ الظَّاعِنون القاطنونَ قلوبَنا ... هم واصِلين وقاطِعين سواءُ وإذا المَحبَّةُ في الصدورِ تمكَّنتْ ... فقد اسْتوَى الإبْعادُ والإدْناءُ ألقتْنِيَ الأيامُ من أرضٍ إلى ... أرضٍ لها أرضُ العراقِ سَماءُ شتَّان ما بيْني وبين مَزَارِهمْ ... هيهات أين الهندُ والزَّوْراءُ كيف احْتيالِي في الوُصولِ إليهمُ ... إن الوصولَ إليهم لَرَجاءُ لا تركَبنْ ظهرَ الرجاءِ مَطِيَّةً ... إن الرجاءَ مَطِيَّةٌ عَوْجاءُ وكواذِبُ الآمالِ لا تُهدَى بها ... دَعْها فتلك هدايةٌ عَمْياءُ يا ساكنِي دارِ السلامِ عليكمُ ... مني السلامُ ورحمةٌ ودعاءُ أين الغَرِيُّ وأهلُه وضجِيعُه ... رُوحي له ولِمَا حَواه فِداءُ ومن مديحها قوله: الأحمدُ المحمودُ كلُّ فِعالِه ... ما شاءَه وقضى به فقَضاءُ فله يَدٌ وله أناملُ فِعْلُها الْ ... إحسانُ والإنعامُ والإعطاءُ لا كالبحارِ تظَلُّ تجمع ماءَها ... بل كالجبالِ يسيلُ عنها الماءُ مالَ الخلائقُ حيث مالَ كأنه ... شمسُ السَّما وكأنهم حِرْباءُ يعني أنهم يتلونون معه، ولا يستقرون من الطيش على حال، كما تتلون الحرباء ألواناً مع الشمس. والحرباء دويبة تسمى أم حبين، وتكنى أبا قرة. ويقال حرباء الهجري لما ذكر، وحرباء تنضب، كما يقال ذئب غضا، وهو شجر يتخذ منه السهام، جمع تنضبة. وفي شفاء الغليل للشهاب: الحرباء، جنس من العظاء، معرب حوربا، أي حافظ الشمس؛ لأنه يراقبها ويدور معها. وفي المثل: أحزم من حربا، لأنه مع تقلبه في الشمس لا يرسل يده من غصن حتى يمسك آخر. وإياه عنى التميمي في قوله: لنا صديقٌ له في الغانياتِ هَوىً ... وأيْرُه لا يزال الدهرَ طَرَّاقَا كأنما هو حِرْباءُ الهَجيرِ ضُحىً ... لا يُرسِل الساقَ إلا مُمْسِكاً ساقَا وهو تضمين، من قول بعض شعراء الجاهلية: أنَّى أُتِيحَ له حِرْباءُ تنْضُبَةٍ ... لا يُرسِل الساقَ إلاَّ مُمْسِكاً ساقَا وضربه بعض العرب مثلاً للألد الخصام، الذي كلما انقضت له حجة أقام أخرى. وضربه ابن الرومي مثلاً للقبيح. ويضرب به المثل في كثير التقلب. عادتْ عصافيراً بُزاةُ زمانِه ... وتصاغرتْ لجَلالهِ الكُبراءُ منها: حسْبي سُمُوّاً إن تكن بي عارفاً ... ما ضَرَّني أن يُنكِر الضعفاءُ لا غَرْوَ إن لم تُفْصِح الأيامُ بي ... الدهرُ ابنُ عَطا وإنِّي الرَّاءُ وبذا جرَى طبعُ الزمانِ وأهلِه ... دُفِن الكمالُ وأهله أحياءُ هب لي قُصورِي واغْفِرَنْ ذنبي فما ... أنا منه في هذا الهُذاء بُراءُ ما الجُود مخصوصاً ببَذْلِ المُقتنَى ... بل منه عندي العَفْوُ والإغْضاءُ هذا مديح من خُلوصِ عقيدةٍ ... معلومةٍ وتحيَّةٌ وثَناءُ قوله: الدهر ابن عطا وإني الراء يريد واصل بن عطاء المعتزلي، وذلك أنه كان ألثغ قبيح اللثغة في الراء، وكان يخلص كلامه من الراء، ولا يفطن لذلك؛ لاقتداره على الكلام، وسهولة ألفاظه، ففي ذلك يقول أبو الطروق الضبي: عليمٌ بإبْدالِ الحروفِ وقامِعٌ ... لكلِّ خطيبٍ يغلبُ الحقَّ باطلُهْ وقال فيه أيضاً:

فصل جعلته للمعربات قديما وحديثا

ويجعل البُرَّ قَمْحاً في تصرُّفهِ ... وخالف الرَّاءَ حتى احتال للشّعَرِ ولم يُطِق مَطَراً والقولُ يُعجِلُه ... فعاد بالغيْث إشْفاقاً من المطرِ ومما يحكى عنه، وقد ذكر بشار بن برد: أما لهذا الأعمى المكتني بأبي معاذ من يقتله: أما والله لولا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية، لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثم لا يكون إلا سدوسياً أو عقيلياً. فقال: هذا الأعمى، ولم يقل: بشاراً، ولا ابن برد، ولا الضرير. وقال: من أخلاق الغالية، ولم يقل المغيرية، ولا المنصورية. وقال: لبعثت، ولم يقل: لأرسلت. وقال: على مضجعه، ولم يقل: على مرقده، ولا على فراشه. وقال: يبعج بطنه، ولم يقل: يبقر. وذكر بني عقيل؛ لأن بشاراً كان يتوالى إليهم. وذكر بني سدوس؛ لأنه كان نازلاً فيهم. وكلف تأدية هذه العبارة، وهي: أمر أمير الأمراء أن يحفر بئرٌ على قارعة الطريق؛ ليشرب منه الوارد والصادر. فقال: حكم حاكم الحكام أن ينبش جبٌّ على الجادة؛ ليستقي منه الصادي والغادي. واستعمل الشعراء إسقاط الراء في أشعارهم. فمنه قول أبي محمد الخازن، من قصيدة يمدح بها الصاحب بن عباد: نعَم تجنَّب لا يوم العطاءِ كما ... تجنَّب ابنُ عطاءٍ لَثْغةَ الرَّاءِ وقال آخر، في محبوب له ألثغ: أجعَلتَ وصلِي الراءَ لم تنطِقْ بها ... وقطَعْتني حتى كأنَّك واصلُ وللمترجم في مليح ألثغ في الراء: أعِدْ لَثْغةً لو أنَّ واصلَ حاضرٌ ... فيسْمَعها لم يهجُر الراء واصلُ عرفي الشيرازي هو في أدباء فارس، لدر الكلم في روض الطوس غارس. وكان دخل الهند فجاس خلاله، وملأ بلاده جلالة. وحل به محل الماء من الصديان، والروح من جسد الجبان. فنشل ما في كنانته من المكنونات، ونثر ما في ذخائره من المخزونات. وبها دعاه الله إليه، فلا زالت سحائب الرحمات منهلةً عليه. ولم أقف له على شعر عربي تنقله الرواة، فعربت مفردات جعلتها حلى الأسماع والأفواه. فمنها: كلُّ عَزْمٍ حوَى الأنامَ هَباءٌ ... عند عَزْم العلاَّمةِ الأستاذِ لو يكن كفُّه وحاشَاه شَمْعاً ... جذَب النارَ من حشَا الفُولاذِ ومنها: وَيْلايَ قد وُجِدتُ بعد ما انْمَحتْ ... مراسِمُ الشَّبِيبةِ المأْهولَهْ فصرتُ شيخاً هَرِماً من قبل أن ... أُعاينَ الشبابَ والكُهولَهْ من هذا: وأرجُو أن يُعِيد رُوا شبابي ... زمانٌ غادَر الوِلْدانَ شِيبَا طالب الآملي شاعرٌ مراميه مصميةٌ لأغراضها، وجواهر كلماته خلصت من شائنة أعراضها. قبلة النفوس من جميع الجهات، فكل قضاياه إلى الصواب موجهات. وقد عربت له: لَوَ انَّ الجاهَ مخصوصٌ ... بأهل الجودِ والكرَمِ لَخُصَّ المسكُ بالغزلاَ ... نِ حول البيْتِ والحَرَمِ صائب واحدٌ معدودٌ بألف، جميع من تقدمه من شعرائهم متأخر مع الخلف. لا يوتر إلا رشق رشق صائب، وأشعاره عندهم أكاليل على الجباه وعصائب. رفعته ملوك أوانه، وباهت أهل داووينها بديوانه. وأوسعته رعيا، وأحسنت فيه رأيا. تييه الأقلام تحية كسرى، وتقف الآراء دون مداه حسرى. وقد تلاعب بالمعاني تلاعب الصبا بالبانة، والصبا بالعاشق ذي اللبانة. فكأنما قلمه مزمارٌ ينفخ الأهواء في يراعته، وعزيمةٌ تنطق مجنون الوجد من ساعته. وقد أوردت من معرباته ما تطيش عند تخيله الأذهان، وتبطل فيه رقى الهند وتزاويق الكهان. فمنه: مَن لي بمَن ألْقاه من إعْجابه ... بتَتابُع الأنفاسِ دَلاً يُحْدِثُ لولا فَنائِي عند كلِّ دقيقةٍ ... لحسِبْتني إن قلتُ آهاً ألْهَثُ ومنها: ما المُلْكُ بالمالِ ولا ... بالخيلِ ولا بالدَّرَقِ إسْكندرُ الدهر فتىً ... يملِك سَدَّ الرَّمَقِ فصل جعلته للمعربات قديماً وحديثاً فمن ذلك ما ذكره الباخرزي في دميته للكافي العماني: وصحراءَ ردَّتْها الظِّباءُ حفائراً ... بأظْلافِها أحْسِن بها من حفائرِ

فهبَّتْ رياحٌ للصَّبا فطَمَمْنَها ... بمسكٍ فعادتْ نُزْهةً للنواظرِ أبو علي العثماني: غدرتَ يا من وجهُه ... قد غَدَّر المَعمُودَا يحسُدك الصَّباحُ مذْ ... أرَيْتَه الخدودَا تخطُر في خدودِه البي ... ضِ خدوداً سُوُدَا وله: مُذ قرصْت الصُّدغَ فَوْ ... قَ عارضٍ كالبدرِ نقضْتُ ألفَ توبةٍ ... هتكتُ ألفَ سِتْرِ حسنُك باقٍ حالةَ الصّ ... حْوِ وحالَ السُّكْرِ في الصحوِ أبْهَى أنت أم ... في السُّكر لستُ أدْرِي وله: تحجَّبُ في وقتِ الحجابِ فلا تُرَى ... وتنُبت في وقتِ اللِّقاءِ من الأرضِ وتُصْبي المَوالِي ثم تبغِي مُرادَهمْ ... وذا غايةٌ في الظَّرفِ والخُلُقِ المُرضِي أبو محمد عبد الله الحمداني: لولا امْتِساكِي بصُدْغَيْها على عَجَلٍ ... حُمِلتُ يوم النَّوَى في عَبْرتِي غَرَقَا تعلُّقاً كاشْتعالِ النارِ في شمعٍ ... فلا أفُكُّ يداً أو تضربَ العُنُقَا قال الباخرزي: قلت، قد أخطأ حيث قال: أو تضرب العنق؛ لأن ضرب العنق ليس بعلة لانفكاك النار عن الشمع، بل يزيد ذلك في العلاقة، والصواب ما قال والدي: علِقْتُ بها كالنارِ بالشمعِ فهْي لا ... تكُفُّ يداً عنه ولو حُزَّ رأْسُها ولوالدي فيما يقرب من هذا المعنى، وكلهم قصدوا نقل المعنى على سبيل الترجمة من الفارسية: علِقتُ بها كاللَّظَى بالشموع ... تُميَّز عنها بإطْفائِها أبو نصر البكسارغي: بمَن شَغَفُ الرَّاحِ مُصْفَرَّةً ... تُراها عَراها الذي قد عَرانِي هَبِ المِسْكَ سَوَّغها عَرْفُه ... فأنَّى لها صِبْغةَ الزَّعْفَرانِ مثل مترجم: قالوا إذا جمَلٌ حانتْ منيَّتُه ... أطاف بالبئْرِ حتى يهلِك الجملُ وللطغرائي: إنِّي وإيَّاكَ والأعداءَ تَنْصُرهمْ ... وأنتَ منِّي على ما فيك من دَخَلِ مثلُ الغُرَاب رأََى نَصْلاً تركَّب في ... قِدْحٍ لطيفٍ قويمِ الحدِّ مُعْتدِلِ فقال لابأسَ إن لم يأْتِه مَدَدِي ... متى يكونُ له عَوْنٌ على العملِ فألْبَس القِدْحَ وَحْفاً من قوادمِه ... مَن ذا أَلُوم وحَتْفي كان من قِبَلِي قال الشهاب، في طرازه: قلت، هذا نظمٌ لما في بعض الكتب الفارسية، ذكر بعضهم أن غصون الأشجار رأت فأساً ملقاةً في الرياض، فقالت: ما تفعل هذه هنا؟ فأجاب بعضها بأنها لا تضر ما لم يدخل في استها شيء مني. وقد نظمه الشهاب، فقال: كلُّ شيءٍ له زوالٌ ونَقْصُ ... هو من جنة القريبِ يُصِيبُ لا يضُرُّ الأشجارَ فأسٌ إذا لمْ ... يكُ فيها من الرياضِ قضيبُ أحمد بن محمد بن يزيد، شاعر مرو. من معرباته: إذا وضعتَ على الرأسِ التُّراب فضَعْ ... من أعْظَم التَّلِّ إن التلَّ فيه نفعْ إذا الماءُ فوق غريقٍ طَمَا ... فقابُ قناةٍ وألْفٌ سَوَا إذا لم تُطِق أن ترْتقِي ذِرْوَةَ الجبَلْ ... لعَجْزٍ فقِفْ في سَفْحِه هكذا المثَلْ في كلِّ مستحسَنٍ عيبٌ بلا رَيْبِ ... ما يسلَم الذهبُ الإبْرِيزُ من عَيْبِ إذا حاكمٌ بالأمرِ كان له خُبْرُ ... فقد تَمَّ ثُلْثاه ولم يصعُبِ الأمْرُ ما كنتُ لو أُكْرِمتُ أسْتعصِي ... لا يهرُب الكلبُ من القُرْصِ طلَبُ الأعْظُمِ من بيت الكلابِ ... كطِلاب الماءِ في لَمْعِ السَّرابِ ادَّعى الثعلبُ شيئاً وطلَبْ ... قيل هل من شاهدٍ قال الذَّنَبْ من مثُل الفُرْسِ سار في النَّاسِ ... التِّين يُسْقَى بعِلَّة الآسِ هذا مرويٌّ عن كسرى، وقد نظمه أبو نواس في قوله: صرتُ كالتِّين يشربُ الماءَ فيما ... قال كسرَى بعِلَّة الرَّيْحانِ

وهو كثيرٌ في العربية، يقولون: بعلة الزرع يشرب القرع، وبعلة الورد يشرب العليق. وفي معناه: بعلة الورشان يأكل الرطب المشان. المشان، بالفتح: بلد الحريري. وبعلة الداية يقبل الصبي. تكلَّف إخْفاءً لِما فيه من عرَجْ ... وليس له فيما تكلَّفَه فَرَجْ ولأحمد بن محمد، أبي الفضل السكري المروزي مزدوجة، ترجم فيها أمثال الفرس. منها: مَن رام طَمْسَ الشمسِ جَهْلاً أخْطَا ... الشمسُ بالتَّطْيِين لا تُغطَّى أحسنُ ما في صفةِ الليل وُجِدْ ... الليلُ حُبْلَى ليس يُدْرَى ما تلِدْ من مثُلِ الفُرسِ ذوِي الأبْصارِ ... الثوبُ رَهْنٌ في يَدِ القصَّارِ نال الحمارُ بالسُّقوطِ في الوحَلْ ... ما كان يهْوَى ونَجا من العملْ نحن على الشرطِ القديمِ المُشْترَطْ ... لا الزِّقُّ مُنشَقٌّ ولا العينُ سقَطْ في المثلِ السائرِ للحمارِ ... قد ينْعَق الحمارُ للبَيْطارِ العَنْزُ لا يسمَنُ إلا بالعلَفْ ... لا يسمَن العنزُ بقولٍ ذِي طُرَفْ البحرُ غَمْرُ الماءِ في العِيانِ ... والكلبُ يَرْوَى منه باللِّسانِ لا تَكُ من نُصْحِيَ في ارْتيابِ ... ما بِعْتُك الهِرَّةَ في الجِرابِ مَن لم يكنْ في بَيْتِه طعامُ ... فما له في مَحْفِل مُقامُ كان يُقال مَن أتى خُوانَا ... من غير أن يُدْعَى إليه هَانَا ومما يتعين إلحاقه هنا، ما ذكره أبو هلال، من أن في الفارسية أمثالاً في معنى أمثال العربية، وأمثالاً لا تخالفها. فمن الثاني قولهم: " نه شاه أشنانه رودهم دوده "، والعرب تقول: جاور ملكاً أو بحراً. انتهى. قال الشهاب: أقول، لا مخالفة بينهما، فإن معنى المثل الفارسي: لا تقرب من السلطان وتصاحبه، ولا تجعل دارك ملاصقةً للبحر؛ فإن الملوك لا وفاء لهم، والبحر قد يغرق ملاصقه. ومعنى كلام العرب: لا تسكن غير بلدٍ لها سلطان يغدق على أهلها، أو عند بحرٍ تأتيه السفن بالتجارة والأرزاق. وبينهما فرق. ومعنى هم دوده الاتحاد في السكنى. وقد تقدم في هذا الكتاب معربات نصيت عليها في محالها، وسيأتي منها جانبٌ في تراجم متفرقة أنص عليها إن شاء الله تعالى. ومن أحاسنها قول الحسن البوريني، معرباً بيتاً لوحشي: أيا قمر قد بِتُّ في ليلِ هجرِه ... أراقبُ أسْرابَ الكواكبِ حَيْرانَا خَبأتُك في عينِي لتخفَى عن الورَى ... وما كنتُ أدرِي أن للعيْنِ إنْسانَا وزاد فيه الخفاجي، فحسنه حيث قال: خَبأتُك في العين خوفَ الوُشاةِ ... وكم شرَّف الدارَ سُكَّانُها ومن غَيْرةٍ خِفْتُ أن يفطُنوا ... إذا قيل في العينِ إنْسانُها ولمحمد بن المنلا الحبي رباعية: في الليلِ والنهار حَرَّى كبدِي ... مقْتولُ ضَنىً بجائرٍ ليس يدِي تَرشُّ عينِي جواهرَ الدَّمعِ على ... لُقْياه تظُنُّ أنها طَوْعُ يَدِي ومثله للقاسمي: لُقْياكَ سرورُ قلبيَ المَحْزُونِ ... والوحشةُ من نَواك لا تعْدونِي يا وَيْحَ عيونِي خشِيَتْ شِقْوتها ... منِّي فأتتْ بدُرِّا ترتشينِي ولبعضهم: وكنتُ لدَى الصِّبا غَضّاً وقَدِّي ... حكى ألِفَ ابنِ مُقْلَة في ال كتابِ فصرتُ الآن مُنْحنياً كأنّي ... أُفتِّش في التُّرابِ على شبابِي ومن أبدع البدائع تعريبٌ وقع لجدي القاضي محب الدين، وهو: حَكتْ قامتِي لاَماً وقامةُ مُنْيَتِي ... حكَتْ ألِفاً للوصلِ قلتُ مُسائِلاَ إذا اجْتمعتْ لامِي مع الألفِ التي ... حكَتْك قَواماً ما يصيرُ فقال لاَ وللشهاب الخفاجي: للرَّوْضِ أتى حبيبُ قلبي العانِي ... فاهْتزَّ لفَرْحةٍ قضيبُ البانِ لو كان لِسَرْوِ رَوضِنا ساقانِ ... ما فارق غُصْن قدِّه الفَتانِ واستعمله ثانياً في نبوية، فأجاد حيث قال:

الباب الخامس في لطائف لطفاء اليمن

قد مشَتْ نَحْوه على فَرْدِ ساقٍ ... شجرٌ حَثَّها له اسْتدعاءُ لو حَبَاها ساقيْن رَبُّ البَرايَا ... لم تكنْ للفِراقِ قطُّ تشاءُ وللسيد علي بن معصوم: سقَى صَوْبُ الغَمامِ عَرِيشَ كَرمٍ ... جَنَيْنا من جَناه العَذْبِ أُنْسَا فأمْسَى عاصرُ العُنْقودِ منه ... يُكسِّر أنْجُماً ويصوغُ شَمْسَا وللسيد محمد بن حيدر: إذا اصْطنعْتَ أمْراً فاحْفَظ له أبداً ... شَرْطَ الصَّنِيعة واجْهَدْ في مَنافعِهِ فالماءُ في صَوْنِه الأخشابَ عن غَرقٍ ... رعَى لها حيث كانتْ من صَنائعِهِ ولي: إذا كان الهوى لي تُرْجُمانَا ... يُعبِّرُ عن خَفِيَّاتِ الغرامِ فأقْنَعُ بالإشارةِ من حبيبي ... فما فيه مَحلٌّ للكلامِ ولي: قد هَوَّل الواعظُ في درسهِ ... أمْرَ الورى في مَوْقفِ الحشْرِ وهْو إذا حقَّقتَ ألْفَيْتَه ... كنايةً عن مَضَضِ الهَجْرِ الباب الخامس في لطائف لطفاء اليمن حلية الأرض ونقش فص الأماني، الواصلون في الروع خطومهم بكل رقيق الشفرتين يماني. ما منهم إلا كتب المسند، وحدث عن العلياء وأسند. وإذا طاول المدى جياد الشعر في الميدان، مسحوا منه بغرة أبلق ليس في حومة السبق من مدان. وخصوصاً أئمتهم الذين اعتلى بهم بيتٌ للإسلام ومنار، وكاد يضيء بهم ولو لم تمسسه نار. طالوا بسوقاً، وأحرزوا الحمد مطرداً منسوقاً. وهم من منذ كان عليهم احتواؤه، تنوسيت بهم أقياله وأذواؤه. ذكر بني القاسم الأئمة دعاة هذا الإقليم ورعاته، الذين حفظوه بعون الله من نكباته وروعاته. وهم الحسن، والحسين، ومحمد، وأحمد، وإسماعيل، الإخوة البدور، الذين أقروا العيون وشرحوا الصدور. الراسخون علوماً، الباذخون حلوماً. سَمَوْا للمَعالي وهمْ صِبْيةٌ ... وسادُوا وجادُو وهم في المُهودْ ونالُوا بجِدِّهمُ جَدَّهُمْ ... فإن الجدودَ عُلاً للجُدودْ تبحبحت أطرافهم في روضة الرسالة، وتهدلت أغصانهم على نبعة البسالة. وقد سخر الله لهم الفصاحة حتى انقادت في أعنتهم، ووهبهم البراعة حتى عرفت في أجنتهم. فأكبرهم: الحسن الحسن الروية والروا، الذي وسع جوده عامة الورى. فاستعاروا في مدحه الزهر من لفظه والبرد من صنعائه، متخيرين المسك من ثنائه، وعرف القول من دعائه. لئن حاز جُوداً لا تفارقُه يَدٌ ... فقد حاز شُكراً لا يُفارقُه فَمُ وهو الذي مهد البلاد، وأحكم أمر الطارف في مجدهم والتلاد. بجدٍ لو تعرف إليه الجماد لنطق متكلما، أو تظلم إليه النهار من الليل لم يدع شيئاً مظلما. وفضلٍ استعد له واعتد، ورأيٍ امتد به ساعده واشتد. يهز للمدح عطفا، وينساب مع الماء رقةً ولطفا. ومع هذا فهو في الحرب الليث الهصور، والشجاع الكرار فلا يحوم حوله التراخي والقصور. إذا مضت في الأعداء بواتره، تقدمتها في الظفر بوادره. أنهضه الله بطاعته، وزاد في قوته واستطاعته. فاستخلص اليمن من قومٍ فتكوا فيه وعاثوا، وطغوا على أهله حتى استغاثوا من شرهم فلم يغاثوا. وقبض على أناسٍ كانوا ممن توغل في حربه، ثم أطلقهم محتسباً بالعفو عنهم عند ربه. وذلك بعد حروبٍ كاد يعلق بشرها ذمامه، ويرشق إليه منها حمامه. حتى استقام له الأمر، وخمد ذلك الجمر. وتم له من المراد ما اقتراحه، ومن الزناد ما اقتدحه. فتمهدت له أخياف الهمم، وخضعت له عوالي القمم. فقام الناس إلى مشايعته، والتفيؤ بظل متابعته. فعاملهم أحسن معاملة، وأعطاهم محاملةً عوض مجاملة. ولما بان هدوه، وبان حاسده وعدوه. عمد إلى الجبل المسمى بضوران، فاختط به مدينةً أبدعها مساكناً وأوطانا، ودبجها رياضاً وغيطانا. واتخذ بها مساجد يتقرب بها المتقرب، ورباطاتٍ يأوي إلى ساحتها المتغرب. فوقعت في ذلك الموضع موقع العروس من منصتها، واقتطعت من الأفق السامي بمقدار حصتها. وله غيرها مما يدل على رأيه الصائب، وقوة فكره التي يفل به جيش المصائب.

وكل ذلك يشهد له بأنه أخذ الأمر بزمامه، وناداه الصواب من خلفه كما ناداه من أمامه. وبالجملة فهو حظ الزمن، والملك الذي تم به يمن اليمن. وأما أخوه: الحسين فهو صنوه في الإخا، وعديله في الشدة والرخا. كوكب رياسته الزهرا، التي جمل بها أولاده الزهرا، وأطلع في سماء سنائها، ورياض علائها، زهراً مضيئةً وزهرا. شموس السعادة من وجهه مشرقة، وعيون طوارق الغي عنه مطرقة. وكان له لفظٌ نشر به من الوشي الصنعائي حللاً وأبرادا، وخطٌّ أهدى للشمس من ضيائه إشراقاً ورادا. وآثار أقلامه لوائح بوادي، لم يتنحنح بمثلها شادٍ بمفازةٍ أو حادٍ بوادي. فمن شعره قوله في الغزل: مولايَ جُدْ بوِصالِ صَبٍ مُدْنَفٍ ... وتَلافِه قبل التَّلافِ بمَوْقفِ وارحمْ فُدِيتَ قتيلَ سيفٍ مُرْهَفٍ ... من مُقلَتيْكَ طعين قَدٍ مُرْهَفِ فامْنُنْ بحقِّك يا حبيبُ بزَوْرةٍ ... تُحْيي بها القلبَ القَرِيحَ فيشْتَفِي أعَلمْتَ أن الصَّدَّ أتْلف مُهجتِي ... والصدُّ للعشَّاقِ أعظمُ مُتْلِفِ عجباً لِعطْفِك كيف رُنِّح وانْثَنى ... مُتأوِّداً وعليَّ لم يتعطَّفِ أنا عبدُك المَلْهوفُ فارْثَ لذِلَّتي ... وارْفُق فَدَيْتُك بي لطُولِ تلَهُّفِي عرَّفْتني بهوَاك ثم هجرْتنِي ... يا ليْتني بهوَاك لم أتعرَّفِ يا مُهجتِي ذُوبي ويا رُوحِي اذءهبي ... من صَدِّه عنِّي ويا عينُ اذْرِفِي هل من مُعينٍ لي على طُولِ البُكا ... أو راحِمي أو ناصرِي أو مُنْصِفِي وإليك عاذِلُ عن مَلامةِ مُغْرَمٍ ... لا يَرْعَوِي عن ما يرومُ ولا يَفِي حاشايَ أن أسْلُو وأنْسَى عهدَ مَن ... أحبَبْتُه إنِّي أنا الخِلُّ الوَفِي قُل ما تشاءُ فإنني يا عاذلِي ... لا أنْتهِي لا أنْثنِي عن مُتْلِفي أنا عبدُه لا أكْتفِي عن مالكِي ... والعبْد عن مُلاّكِه لا يكْتفِي يا قلبَه القاسِي أما تَرْثي لمن ... قاسَى هَواك جَوىً وطولَ تأسُّفِ اعْطِف على قلبٍ سلبْتَ فؤادَه ... واسْتبْقِ منه بالنَّبيِّ الأشْرفِ الإمام محمد بن القاسم الذي قام بالإمامة، وتتوج بتلك العمامة. وألزمت له الناس هذا التنويه، ولم يحجم نفسه في هذا الأمر عما تنويه. فأصبح وهو مجتمع الكلمة في اليمن كلها، القائم بأعباء الأمور دقها وجلها. تكفلت بغنى الراجين منائحه، وأحصيت السيارة ولم تحص مدائحه. وكان له قوة حدسٍ تكاد ترد النار إلى الزند، وحسن سياسةٍ تثني الناس عليها ثناء النسيم على الرند. ولما دعاه الداعي الذي لا بد عن إجابته، ورماه قوس القضاء بالسهم الذي لا محيد عن إصابته. تقسمت الكلمة المجتمعة بين أحمد وإسماعيل الأخوين، ومحمد ابن أخيهما الحسن المتقدم آنفاً فتفرق القوم فرقا، وسلكوا من التشعب طرقا. وجرت بينهم حروبٌ للظهور قاصمة، ولعرى الحزم فاصمة. حتى ضاقت اليمن بأهلها ذرعا، وخامرتها النوائب أصلاً وفرعا. وإسماعيل محتسب في دفع تلك الغمة، متوكل على الله في تلافي أمر الأمة. وهو عالمٌ أن القلوب معه، والكلمة عليه مجتمعة. وأن الإمامة تسعى له باتفاق، وتتجاذبه أطرافها من بين تلك الرفاق. حتى صار علمه يقينا، واستسلم له القوم قائلين: نحن من شيعتك ما بقينا. علماً منهم أن ما هم فيه أمرٌ محظور، تقدم فيه بتسويل الأنفس حدٌّ محذور. فأصبح في تلك الدائرة قطبا وهم فلك، وناداه الدهر إن لم تكن لهم الإمامة فلك. فلقيت به الولاية حظاً، وأدارت كيف شاءت في الرفاهية لحظاً. واطمأنت أدانيها وقاصيها، وابتهجت أسرتها ونواصيها. وإسماعيل هذا هو الإمام المجلي، يقتدي به المصلي وغيره في ميدان السباق، وإذا جرى ذكره في البراعة استخدمها له القول بالموجب بنوعي المطابقة والطباق. ولئن كان من بين أخوته الأقل الأصغر، فيفديه العالم الأكثر من أصغر العالم والأكبر.

فهو أصلٌ نالت به قبائله من الشرف الأرب، كما أن إسماعيل أصلٌ تفرعت منه قبائل العرب. مد إلى جر المجرة باعا، واتخذ له فوق الأثير منازلاً ورباعا. لم يدر على مثله لنادٍ نطاق، ولم ير الدهر نظيره ولو شمر عن ساقه ما أطاق. تهابه النفوس إذا رمقته أبصارها، وتلجأ إليه الرياح إذا أرهقها إعصارها. فلو دعا السهم في الهواء لرجع من ساعته، أو نادى الدهر الأي لما أمكنه التخلف من طاعته. يسافر رأيه وهو دانٍ غير نازح، ويمضي تدبيره وهو ثاوٍ غير بارح. وهو في العلم فردٌ لم يختلف فيه اثنان، وجامعية فنونٍ ذات أصول وأفنان. وله شعر كقدره فوق أن يقال جليل، وكثير المدح في جنب معاليه قليل. كما قال القائل: كلامُ الإمامِ إمامُ الكلامِ ... وفُوه يفُوه بحُرِّ النِّظامِ مِزاجُ مَعانِيه في نَظْمها ... مِزاجُ المُدامِ بماءِ الغَمامِ فمن شعره قوله، من قصيدة أولها: في المُهجةِ أضْحَى معهدُهُ ... فلذَا في الغَيْبة تشهدُهُ فتَّانُ الحسنِ مُمَّنعهُ ... فِتْيان الصَّبْوةِ أعْبُدُهُ معسولُ الثَّغر مُفلَّجُه ... عَسَّال القَدِّ مُعربِدُهُ وافَى من بعدِ تجَنُّبِه ... ووفَى بالزَّورةِ موعدُهُ وسرىَ كالبدرِ فسُرَّ بهِ ... مسلوبُ كَرىً لا يرقُدُهُ وكتب إلى القاضي محمد بن إبراهيم السحولي: عجباً ما للأخِلَّهْ ... أعرضُوا من غير عِلَّهْ وتجافَوا عن كئيبٍ ... هائمِ القلب مُوَلَّهْ مستهامٍ عذَّبْتهُ ... من غزالِ الرَّملِ مُقلَهْ ذُو قَوامٍ مثلُ غصنِ الْ ... بانِ قد حُدَّ برَمْلَهْ ومُحَيّاً أوْرَث الأنْ ... جُمَ والأقمارَ خَجْلَهْ عَبْلةُ الساقِ رَداحٌ ... دُونَها في الحُسنِ عَبْلَهْ غادةٌ عادتُها للصَّ ... بِّ أن تُكثِر مَطْلَهْ جعلتْ هجْرَ المُعنَّى ... في الهوى دِيناً ومِلَّهْ حرَّمتْ من وصلِه ما ... خالقُ الخلقِ أحَلَّهْ وأحلَّتْ قتْلَه واللَّ ... هُ قد حرَّم قتَلهْ يا تُرَى في أيِّ يومٍ ... يصل المحبوبُ حَبْلَهْ وبه في طِيبِ عيشٍ ... يجْمَع الرحمنُ شَمْلَهْ وترى العاذلَ فيهِ ... تاركاً في الحبِّ عَذْلَهْ ويعودُ الصبُّ للمعْ ... هُودِ من دون تَعِلَّهْ فهمُ قومٌ سُراةٌ ... أرْيَحِيُّونَ أجلَّهْ ولهم في القلبِ وُدٌّ ... لا يرُوم الغيرُ نَقْلَهْ غيرَ أن الدهرَ أبْقَى ... منهم يبْلَهُ عَقْلَهْ صيَّر التشْهيرُ في وصْ ... لهمُ المطلوبَ غَفْلَهْ سَدَّ دُونَ الضَّاحِك السَّ ... عدِ طريقاً منه سَهْلَهْ فتناسَوْا عهدَ صَبٍ ... ذاهلِ اللُّبِّ مُدَلَّهْ وجَفَوْه فرسومُ الْ ... وُدِّ منهمْ مُضْمَحِلّهْ فمتى في الدهرِ نَلْقَى ... شيْخَه بدرَ الأهِلَّهْ عَلَّه يشكو إليه ... سَطْوةَ الدهرِ وفِعْلَهْ نَجْلُ إبراهيم عِزُّ الدِّ ... ين محمودُ الجِبِلَّهْ أعظمُ الأخْيارِ قِيلاً ... أكرمُ الأحرارِ خُلَّهْ أحسنُ الناسِ خِصالاً ... قاربَ الأكياسُ مِثلَهْ وهْو للطالبِ عِلْماً ... علَمُ زاهٍ وقِبْلَهْ يا جمالَ الدِّين مَن حا ... زَ خصالَ الفضلِ جُمْلَهْ هاك نظماً من مُحِبٍ ... لا يرَى غيرَك أهْلَهْ أوْجَدته فكرةٌ قد ... كرَّرتْها أيُّ شُعْلهْ يرْتجِي منك قبولاً ... لِنظامٍ جاء قَبْلَهْ مُسبِلاً من دُونِه سِتْ ... راً عن العيْبِ وِكِلَّهْ

دُمْتَ في أرْغَدِ عيشٍ ... راقياً أعْلَى مَحلَّهْ فأجابه بقوله: سامِحُوا المملوكَ لِلّهْ ... واصْفَحُوا عن كلِّ زَلَّهْ عَفْوُكم عنَّا دواءٌ ... نافعٌ من كلِّ عِلَّهْ والرِّضَا منكم زُلالٌ ... ناقِعٌ من كل غُلَّهْ ووَلاكم لي أمانٌ ... ببَراهِينِ الأدلَّهْ حبُّكم شَرْعِي ودِينِي ... وهْو عندي خيرُ مِلَّهْ وهْو لي خُلْق قديمٌ ... وطِباعٌ وجِبِلَّهْ ولقد مازَج رُوحِي ... وسوادَ القلبِ حَلَّهْ مَدَنِيُّ العيشِ إذا الْقلْ ... بُ ثَناه ساه وصلَهْ لا ولاَ وَلَّهنِي الحبُّ ... بمَن مثْلِيَ وَلَّهْ قمرُ الحسنِ واللحُسْ ... نِ بدورٌ وأهِلَّهْ لو رآه البدرُ أعْلا ... هُ مَحَلاَّ وأجَلَّهْ ضرب الحسنُ عليه ... قُبَّةً تزْهُو وكِلَّهْ ورآه الحُسْنُ قد حا ... زَ بديعَ الحسنِ كُلَّهْ فوَحَى في الخدِّ خَوفَ الْ ... عينِ حَصَّنْتُك باللهْ يا لَقومِي في كثيرِ الْ ... حُسْنِ حَظِّي ما أقلَّهْ يا رسولِي قُل له باللَّ ... هِ إن أحسنتَ قُلْ لَهْ كَيْ يُقضى الصَّبُّ عُمْراً ... فعَساهُ ولعَلَّهْ إن يكنْ لا يرْتجِي الْوَب ... لَ من الوصلِ فطَلَّهْ وعلى الحسنِ زكاةٌ ... ورَدتْ فيها أدِلَّهْ وهْو مسكينٌ فمنْعُ الصَّ ... رْفِ فيه مَن أحَلَّهْ لستُ أشكو الجوْرَ إلاَّ ... للأجلِّ ابنِ الأجِلَّهْ مَن له كثْرةُ أوْصا ... فِ العُلَى من غير عِلَّهْ من رقَى في المجدِ والفَخْ ... رِ إلى أعْلَى محلَّهْ ونَضَا مُنْصُلَ عَزْمٍ ... مُرْهَفَ الحدِّ وسَلَّهْ وسعَى في طلبِ العَلْ ... ياءِ من غير تَعِلَّهْ وسمَا في نَيْلِه الْفضْ ... لَ إلى أرْفَعِ قُلَّهْ ما أحلَّ اللهُ شخصاً ... في العُلَى حيث أحَلَّهْ يا سليلَ العِزِّ يا مَن ... رَدَّ عادِيه المُدلَّهْ وصَل المملوكَ وَصْلٌ ... منكمُ أعْلَى محِلهْ وكساهُ بُرْدَ فخرٍ ... زانَه بين الأخِلَّهْ عِقْدُ نظمٍ خِلْتُه وَرْ ... داً كساه الصبحُ طَلَّهْ أو هو الدُّرُّ تهادا ... هُ الغوانِي للأكِلَّهْ وتَودُّ الغِيدُ لو أنَّ ... لها منه أشِلَّهْ بل هو الفضلُ أدام اللَّ ... هُ للعالَم ظِلَّهْ فيه إعْزازٌ لقَدْرِي ... ولنظْمِي فيه ذِلَّهْ فاقبلُوا منِّي جواباً ... جاء في ضَعف وقِلَّهْ طال تقصيراً ولكنْ ... سامِحُوا المملوكَ لِلّهْ قوله: لله بحذف الألف بعد اللام، لغة، على ما نقله الإسنوي حكاية عن ابن الصلاح عن الزجاجي، فلا لحن فيه، كما قال البيضاوي. وفي التيسير أنه لغة جائزة في الوقف دون الوصل، والأفصح إثباتها وإن تملح به المولدون في أشعارهم كثيراً، كقوله: أيها المستبيحُ قتْلِي خَفِ اللهْ ... وانْهَ عينيك للدِّما مُتحِلَّهْ ومن شعر الإمام قوله: وشادنٍ أجْرَى دموعِي دَماً ... سفْحاً على الخدَّيْن لا يَرْقَا أخافُ مُسْوَدُّ عِذارِي به ... يبْيَضُّ من حُلَّته الزَّرْقَا وقوله: يا شادِناً قد فاق في حُسْنِه ... وعَزَّ عن شِبْهٍ وأمْثالِ لأنتَ في قلبِي وفي ناظرِي ... ألَذُّ من نَوْمةِ شَوَّالِ ولده السيد علي

هو تورد في خد الدهر، وبشرٌ في وجه الزهر. له عيون آثار أزهى من الخدود إذا اعتراها الخجل، ومحاسن أشعار تستوقف صاحب المهم وهو في غاية العجل. وهناك اللطائف مأمونةً من النظائر والأشباه، لا يعارض في قيامها بجوامعها النظر والاشتباه. إلى ألفاظٍ كأنها لآلىء في درج، أو كواكب في برج. ومعانٍ كأنها راحٌ في زجاج، أو روح في جسم معتدل له المزاج. فمن بدائعها التي تزرى بالعذارى تبرجت في الحلي والحلل، إذا لاحت من وراء سجفها تغبطها على الحسن أقمار الكلل. قوله من قصيدة يمدح بها أخاه الحسن: أكذا المُشتاقُ يُؤرِّقُهُ ... تغريدُ الوُرْقِ ويُقلقُهُ وإذا ما لاحَ على إضَمٍ ... بَرْقٌ أشْجاه تألُّقُهُ يُخْفِي الأشواقَ فيُظهرِها ... دمعٌ في الخدِّ يُرقْرِقُهُ آهٍ يا برقُ أما خَبَرٌ ... عن أهلِ الغَوْرِ تُحقِّقُهُ فيُزيلُ جوىً لأسيرِ هوىً ... مُضْنىً قد طال تشوُّقُهُ رِيمُ الهيجاءِ ورَبْرَبُها ... خمريُّ الثَّغرِ مُعتَّقُهُ ممشُوقُ القَدِّ له كَفَلٌ ... يتشكَّى العِطْفَ مُمَنْطقُهُ مُغْرىً بالعَذْلِ لعاشقهِ ... وبدِرْعِ الصبرِ يمزِّقُهُ يا ريمَ السَّفْحِ على مَ تُرَى ... تُرْضِي الواشِي وتُصدِّقُهُ رِفْقاً بالصبِّ فإنَّ له ... قلباً بهوَاك تعلُّقُهُ فعسى بالوصلِ تجودُ ولو ... في الليلِ خيالُك يطرُقُهُ أو ما تَرْثي لِشَجٍ قد زا ... دَ بطولِ الهجرِ تحرُّقُهُ وأراد الصدّ سيُخرجُه ... من أسْرِ الحبِّ ويُطْلِقُهُ فله نفسٌ تأْبَى كرَماً ... يأْتيهِ النَّقْصُ ويلحقُهُ ولِذاك سلَتْ بِتذكُّرِها ... لأخٍ بالمجدِ تخلُّقُهُ شرَفُ الإسلامِ وبَهْجتُهُ ... وخِتامُ الجُودِ ومُغْدِقُهُ وعِمادُ المُلكِ ومَفْخَرُه ... وسَنامُ الدِّين ومَفْرِقُهُ من دون عُلاه لرائدِه ... بُرْدُ الجَوْزاء ومَشْرِقُهُ حِلْمٌ كالطَّوْد لنائلِه ... جُود كالبحرِ تدفُّقُهُ اسمعْ مولايَ نظامَ أخٍ ... قد زاد بمدْحِك رَوْنَقُهُ وُدُّك قد صار يكلِّفُه ... بِمقالِ الشعرِ ويُنْطِقُهُ فاحفظْ وُدِّي لا تُصْغ لما ... يُمْلِي الواشِي ويُنمِّقُهُ وقوله، من قصيدة أولها: جَدَّ بي الشوقُ إلى الظَّبْيِ اللَّعُوبِ ... فتصابيْتُ به وقتَ المَشِيبِ رَشَأٌ مُدْمِنٌ هجرِي لم يزلْ ... قلبيَ المُشتاقُ منه في وُجوبِ يا أخِلاَّيَ بهاتِيكَ الرُّبَى ... وأُصَيْحابي بذَيَّاكَ الكَثيبِ مُذ نأيْتُم قد جَفَا جَفْنِي الكرَى ... وفؤادي والتَّسَلِّي في حروبِ خاننِي صبرِي وأوْهَى جَلَدِي ... حبُّ ذاتِ الدَّلِّ والثغرِ الشَّنِيبِ آهِ كم أكتُم في القلب الجوَى ... وإلى مَ الصبرُ عن لُقْيَا الحبيبِ ترجُ لي يا عاذِلي كَتْمَ الهوَى ... إنَّ كتْمانَ الهوى داءُ القلوبِ فاطَّرِحْ لَوْمِي فإنِّي مُغرَمٌ ... وأشِع ما شئتَ عنِّي يا رقيبي أنا من قومٍ إذا ما غضِبُوا ... أطعموا الأرْماحَ حَبَّاتِ القلوبِ وهمُ في السّلْمِ كالماء صَفَا ... لصديقٍ وحميمٍ وقريبِ فهمُ فخْرِي وفيهم قُدوتي ... وبهم نلْتُ من العَلْيا نصِيبي وبفضلِ اللهِ ربِّي لم أزلْ ... في مَراقِي العِزِّ والعيشِ الرَّطِيبِ ليس لي إلاَّ المَعالِي أرَبٌ ... فعلى كاهِلها صار رُكوبي إن دعا داعٍ إلى غيرِ العُلَى ... لا ترانِي لدُعاه من مُجيبِ وله مضمناً بيت ابن لؤلؤ الذهبي:

صَبٌّ يكاد يذوبُ من حَرِّ الجوَى ... لولا انْهمالُ جفونِه بالأدْمُعِ وإذا تنفَّستِ الصَّبا ذكَر الصِّبَا ... وليالِياً مرَّتْ بوادي الأجْرَعِ آهٍ على ذاك الزمانِ وطِيبهِ ... حيث الغَضا سكَنِي ومَن أهْوَى معِي وليالياً مرَّتْ فيا لِلّهِ ما ... أحْلَى وأملحَها فهل من مَرْجَعِ أحمامةَ الوادِي بشرقِيِّ الغَضَا ... إن كنتِ مُسعِدةَ الكئيبِ فرجِّعي إنَّا تقاسمْنا الغَضا فغُصونُه ... في راحَتيْكِ وجَمْرُه في أضْلُعِي وله، من قصيدة مطلعها: أيكتُم ما به الصَّبُّ المَشوقُ ... وقد لاحتْ له وَهْناً بُروقُ وهل يُخفِي الغرامَ أخو وُلوعٍ ... يُؤرِّق جَفْنَه البرقُ الخَفُوقُ ويسلُو عن أُهَيل الجِزْعِ صَبٌّ ... جرَى من جَفْنِ عيْنَيه العَقِيقُ إليكَ إليكَ عنِّي يا عَذُولِي ... فلستُ من الصَّبابةِ أسْتفيقُ فلي قلبٌ إلى بَاناتِ حُزْوَى ... طَروبٌ لا يمَلُّ ولا يُفِيقُ فإن سَمُومَها عندي نسيمٌ ... رَحِيقٌ في رحيقٍ في رحيقِ فلو ذُقْتَ الهوى وسلكْتَ فيه ... لما ضَلَّتْ إليه بكَ الطَّرِيقُ بعيْشِك هل ترى زمَني بِسَلْعٍ ... يعود وذلك العيشُ الأنِيقُ ويمْنحُني أُصَيْحابِي بوصْلٍ ... ويرجع بعد فُرْقتِه الرَّفيقُ فها قلْبي أسيرٌ في هواهمْ ... وها دمعِي لبَيْنِهمُ طليقُ وقد عارضه في هذه الأبيات جماعةٌ من أهل اليمن. وكتب إلى والده هذه القصيدة، يحثه فيها على الجهاد، لما أحصر الركب اليماني، وصد عن مكة، في سنة ثلاث وثمانين وألف: لَعَمرُك ليس يُدرَك بالتَّوانِي ... ولا بالعجزِ غاياتُ الأمانِي فما نيلُ المعالِي قَطُّ إلاَّ ... بِبيضِ الهند والسُّمْرِ اللِّدانِ وحَزْمٍ دونه الشُّمُّ الرَّواسِي ... وعَزْمٍ لم يكنْ أبداً يُوانِي ونفسٍ كلَّما جشَأت أرَتْه ... قرى نَعْمان ميلاً من عُمانِ تخُوض إلى المَعالي كلَّ هَوْلٍ ... وليس لها عن العَلْياءِ ثَانِ لها ثقةٌ بربِّ العرشِ حقّاً ... به الأقْصَى تَراه وهْو دانِ أميرَ المؤمنين وخيرَ مَلْكٍ ... تبوَّأَ في العُلَى أعْلَى مكانِ وتاجَ بَنِي النبيِّ ومُنْتَقاهم ... وأكرمَ مُعْتلٍ ظهرَ الحصانِ أترْضَى أن نرى في الدهرِ هُوناً ... ويتْبُو رُكنه في ذَا الأوانِ ويُمنَع وفدُ بيت اللهِ منه ... ويُضحِي الخوفُ فينا كالأمانِ ويملكُه العُلوجُ ويمْنعوه ... ويُصْرَف عنه ذا الوفدُ اليمانِي وأنتَ خليفةُ الرحمنِ فينا ... وأنتَ حُسامُه في ذا الزمانِ ونحن بنُو البَتُولِ ونَجْل طه ... وفينا أُنْزِلتْ آيُ القُرانِ ونحنُ به لَعَمْرُ اللهِ أوْلَى ... ونحن الشائدون به المَبانِي فلا تركبْ بنا ظهرَ الهُوَيْنا ... ولا تجنَحْ إلى ظلِّ الأمانِ وحولَك من بني المَنصورِ أُسْدٌ ... علَوْا في المجدِ هامَ الزِّبْرقانِ ومن أبْناء حَيْدرةٍ كُماةٌ ... لهم في المَكْرُمات أجلُّ شَانِ وإنَّ لَديْك من عَدْنانَ حقّاً ... ومن قَحْطان فرسانُ الطِّعانِ ليوثٌ إن دعوتهمُ أجابوا ... بكلِّ سَميْدَعٍ رَحْبِ الجَنانِ فشاوِرْهم ولاطِفْهُم وأحْسِنْ ... إليهم بالعطاءِ وباللِّسانِ ولا تجعلْ كتابَك للأعادِي ... سوى السيفِ المُهنَّدِ والسِّنانِ فأرْسِلْ نحوَ من نَاواكَ جيشاً ... أوائلُه بأرضِ القَيْرُوَانِ

تسيرُ جِيادُه في كلِّ قُطْرٍ ... إلى الأعداءِ مِرْ؛ اب العِنانِ فتعلُو هامَ مَن نَاواكَ قَسْراً ... وتُرْغِم بالمَواضِي كلَّ شَانِ فإنَّ اللهَ ربَّك قد توالتْ ... عوائدُه بعاداتٍ حِسانِ وعَوَّدَك الجميلَ بكلِّ خيرٍ ... وقد شاهدْتَ ذلك بالعِيانِ السيد الحسين بن الحسن ابن القاسم من تحائف الزمان وحسناته، وكأنه غرة في جبينه أو خالٌ في وجناته. ذو كمال في الأدب أحرزه، وإبريز أدبٍ على محك الانتقاء والانتقاد أبرزه. وله شعر بلغني منه بيتان، هما في ديوان الإجادة مثبتان. وهما قوله: في أفْرَقِ الثَّغْرِ كم أُقاسِي ... من عاذلٍ بالمَلامِ أفْرَقْ يلُوم جهلاً على حبيبٍ ... أذوبُ في حبِّه وأفْرَقْ السيد الحسن بن الحسين بن القاسم هذا الحسن، منشىء القول الحسن، ومبدي الفصاحة واللسن. قلبه قالب للمعاني قابل، وطل فضله عند الفضلاء وابل. تروت الأفكار بمنهل أدبه وسكوبه، وانتعشت الخواطر بروح زقه المملى وكوبه. له أشعار هي في بهجة الألفاظ ورونق المعاني، راحة المعنى وسلوة المعاني. فمنها ما كتبه إلى القاضي الحسين المهلا، وأصحبه رسالةً من مؤلفاته: هل في رُبوعٍ بجَرْعاءِ الحمى طَلَلُ ... يحُلُّه مَن له في حَيِّه شُغُلُ وهل لمَن لم ينَلْ في الدهرِ بُغْيَته ... من آل ليلَى وصالٌ ليس ينْفصلُ يا جِيرةً طاب بين الناسِ ذكرُهمُ ... لأجْلِكم تعبتْ ما بيننا الرُّسُلُ فعامِلونا بقَدْرِ الوُدِّ إنَّ لنا ... بشأنِكم هِمَّةً دانتْ لها الأُوَلُ وما انْتفاعُ أخِي الدنيا بعَزْمتِه ... إذا تحوَّلتِ الأحوالُ والدُّوَلُ فإن تقاعَد كان العجزُ غايتَه ... وإن تقاعَس أضْحى غابةَ الأسَلِ سيدنا الذي مقدمات قياسه بديهية الإنتاج، وموضوع محموله بحده الأوسط ظاهر الإندراج. تمثيل استقرائه حجةٌ يقينية، وترتيب دلائله أشكالٌ اقترانية. شرطياته الاتفاقية لزومية، وافتراض عكسه مسقط لعقم الجزئية. وكيف لا، وقد أشرقت به مدارس العلم وشرفت، وعمرت أركانها بمشيد أفكاره وما اندرست. فهو شرف الدين والشرف أجلى حدود الفلك، بل خلاصة اليقين واليقين أقوى أوصاف الملك. فأنهار علومه لا ينضب ماؤها ولا يفيظ، الحسين بن الناصر بن عبد الحفيظ. حفظه الله بالمعقبات من أمره، ولحظه بعين العناية في سره وجهره. أهدي إليه من السلام أتمه، ومن الإكرام والإنعام أوفره وأعمه. وإنه ورد إلي ما أنتجه طبعه السليم، وفكره المستقيم، من فوائد ذلك الشكل الكريم. فحملني على وضع هذه الرسالة مجاراةً لسوابق الأفاضل، ومباراةً لسهام المناضل. فإن جاءت مقبولةً فذلك ما كنت أبغي، وإن عادت مردودةً فمما أطرح وألغي. السيد إسماعيل بن محمد بن الحسن بن القاسم غصن من تلك الجنة، وخال في تلك الوجنة. إن عدت الأفاضل كان أولى من عقدت عليه الخناصر، وإن ذكرت الأماجد كان أحرى بأن تبتهج بفطرته العناصر. وهو أديب غاية في طول الباع، لو صور نفسه لم يزدها على ما فيه من كرم الطباع. وله شعر إذا تلاه المشغوف تفقد قلبه هل طار عن جسده، وإذا سمعه الحسود تمنى لو كان كل حسدٍ منضماً إلى حسده. صفي القول فيه وروقه، ودعا به القلب إلى الغرام وشوقه. فلو خوطبت به الصم لم تحتج أذنها إلى إذنٍ في استماعه، أو استنزل به العصم سارعت إلى التأنس بغرائب إلماعه. وها أنا أتلو عليك منه ما يغازل العيون النعس، وتشتهي لو مازجت سلافة لطفه الشفاه اللعس. فمنه قوله، من قصيدة: أتَرَى السَّلْبَ للقلوب الشجِيَّهْ ... لسَواجِي لحاظِها كالسَّجِيَّهْ أم رمَى غيرَ عامدٍ أسْهُمَ الهُدْ ... بِ ولم يَدْرِ أن قلبي الرَّمِيَّهْ فعلت بِيَ اللِّحاظُ شرَّفها اللَّ ... هُ تعالَى ما تفعلُ المَشْرَفِيَّهْ عرَّفتْني أسْحارَ بابلَ هارو ... تَ فكانتْ عندي هي البابليَّهْ

نصبتْ لي أشْرَاكَ هُدْبٍ فهلاَّ ... شافعِي واحدٌ من الزَّيْدِيَّهْ أنا شِيعيُّها وبالنَّصْبِ جَرَّتْ ... نِي إلى أن وقعْتُ في المَالكيِّهْ مَلكتنْي عيْناً وقلباً وحتى ... ملَكَتْني قولاً وفعلاً ونِيَّهْ ما نوَيْتُ الطُّموح للغيرِ إلاَّ ... حجَبتنْي الحواجبُ النُّونيَّهْ وبنار الأخْدُودِ ذاب فُؤادِي ... من خُدودٍ نَدِيَّةٍ عَنْدَمِيَّهْ أيُّ نارٍ لها اتِّقادٌ لماءٍ ... غيرُ نارٍ على الخدُودِ النَّدِيَّهْ يا لها فتْنة لها قدَّر اللَّ ... هُ فعادتْ عُشَّاقُها قَدَرِيَّهْ لا يرَوْن السُّلْوانَ ممَّا يُطيقو ... نَ ولا يدْفعون هذِي البليَّهْ حقَّق الجَبْرُ باعْتزالِهم اللَّوْ ... مَ فراحُوا لفِعْلهم رافِضيَّهْ فهمُ يَفْرَقُون من كلِّ شيءٍ ... أبداً في صَباحِهم والعشيَّهْ مثْلَما يفْرَق الشجاعُ إذا لا ... قَى إمامَ العصابةِ الحسَنيَّهْ الإمامُ القَوَّامُ للهِ بالحقِّ ... بإجْماعِ العِتْرةِ النبويَّهْ الأغَرُّ الأبرُّ عِزّ الهدى الها ... دِي البرايَا إلى الصِّراط السَّويَّهْ المُفِيدُ المُبيد شملَ الأعادِي ... بالمواضِي وبالقَنا السَّمْهَرِيَّهْ خيرُ مَن هزَّ صارماً يوم رَوْعٍ ... وعَلاَ صهوةَ الجِيادِ العَلِيَّهْ والذي قاد شارداتِ المَعالِي ... بالعَوالِي والهمَّةِ العلَويَّهْ والذَّكيّ الذي يُحلُّ من الإشْكا ... لِ ما يُفْحِم الفحولَ الذَّكيَّهْ والجوادُ الذي يسُوق إلى العا ... فِين سُحْباً من اللُّهَى عَسْجَدِيَّهْ والمَلِيك الذي يُدبِّر أعْما ... لَ نِظامِ الشريعةِ الأحمديَّهْ لم يزلْ في الأمورِ يَمْضِي برَأْيٍ ... هو أضْوَا من الشموسِ المُضِيَّهْ أحلمُ الناسِ أعلمُ الناسِ أذْكا ... همْ مَقاماً ومَحْتِداً وطَوِيَّهْ أيها الأوحدُ الذي ما رأيْنا ... لعُلاه مُماثِلاً في البريَّهْ والذي مَن أطاع ذا العرشِ جازا ... هُ فدانَتْ له الرِّقابُ العَصِيَّهْ والذي طاب نَشْرُ ذِكْراه حتى ... طاب منه أقْصَى الجهاتِ القَصِيَّهْ هاكَها بنتَ ليلةٍ حَبَّرتْها ... مع شُغْلٍ سَلِيقةٌ هاشميَّهْ دُرُّها تخْجَل اليواقيتُ منه ... ودَرارِي الكواكبِ العَلويَّهْ فاقْبَلِ النَّزْرَ من خطابِيَ واعْذُرْ ... عن خطابٍ جَليَّةً وخَفِيَّهْ إنما يحسُن النِّظامُ ويزْكُو ... حين تزْكُو العوارضُ النفسيَّهْ غيرُ خافٍ على أبي الفضلِ أنّ الضَّ ... يْمَ تأْبَى منه النفوسُ الأبيَّهْ وابْقَ ما مالتِ الغصونُ على الرَّوْ ... ضِ وغنَّت بأيْكِها قُمْرِيَّهْ وله القصيدة التي رثى بها والده، وأخاه يحيى، ومطلعها: هل أقال الموتُ ذا حَذرَهْ ... ساعةً عند انْتهاءِ عُمُرِهْ أو تَراخَى عن كَحِيلٍ رنَا ... فاق كلَّ الغِيدِ في حَوَرِهْ أو رثى يوماً لمُرضِعةٍ ... طِفْلَها ما دَبَّ في حُجَرِهْ أو تراهُ هائباً ملِكاً ... صائلاً قد عزَّ في نَفَرِهْ أو تناسَى من له نظَرٌ ... تصدرُ الأشياءُ عن نظرِهْ أو تحامَى رُوحَ سيدنا ... مصطفَى الرحمنِ في بَشَرِهْ وأبى السِّبْطيْن حَيْدرةٍ ... وكبارِ الآلِ من عِتَرِهْ

ذكر آل الإمام شمس الدين بن شرف الدين بن شمس الدين

بل دَهَى مَن كان منتظِراً ... قُرْبَه أو غيرَ منتظِرِهْ وسقاه كأسَ سَطْوتِه ... مُدْهَقاً من كَفِّ مُقْتدرِهْ ما ترَى عزَّ الأنامِ ثوَى ... حفرةً إذْ آبَ من سفرِهْ لم يقُمْ في قصرِه زمناً ... غيرَ وقتٍ زاد في قِصَرِهْ بعد ما قد كان عزَّتُه ... تُرشِد السَّاري إلى وَطَرِهْ وندَى كَفَّيْه مُنْهمِراً ... مُذْهِلاً للرَّوض عن مَطَرِهْ كان طَوْداً لا يُحرِّكُه ... أيُّ خَطْب جَدَّ في خَطَرِهْ كان بحراً طال ما الْتقط الطَّا ... لبُ المُحْتاجُ من دُرَرِهْ شاد رُكْنَ الدِّين ملتمساً ... لرِضَى الرحمنِ عن صِغَرِهْ وحوَى الدنيا ودَيْدَنُه ... طَلَبُ الأُخرى إلى كِبَرِهْ فسقَى الرحمنُ تُربتَه ... صَيِّباً ينْهَلُّ في سَحَرِهْ وعمادَ الدِّين أزْعَجه ... بعدَه يغْدُو على أثَرِهْ لم ينَلْ في العمرِ بُغيتَه ... لا ولا أفْضَى إلى وَطَرِهْ لم يذُقْ في دهرِه أبداً ... صَفْوَ عيْشٍ صِينَ عن كَدَرِهْ ما أراه الدهرُ مَطْلبَه ... ليْتَه أخْلاه من غِيَرِهْ رحم الرحمنُ مَصرعَه ... ووَقاه الحَرَّ من سَقَرِهْ كيف أنْسَى شمسَ مَفْخرِنا ... أو أرى السُّلْوانَ عن قَمَرِهْ فهُما قد أضْرمَا لَهَباً ... في فؤادِي طار من شَرَرِهْ وأسالا مَدْمَعاً بَخِلتْ ... أعْيُني دهراً بمُنهَمِرِهْ غيرَ أن الصبرَ شِيمةُ مَن ... صَوَّب الرحمنُ في قدرِهْ لينالَ الأجرَ منه إذا ... ذاق طعمَ الصَّابِ من صَبِرِهْ نسألُ الرحمَن خاتمةً ... برضَى الرحمنِ في صَدَرِهْ ذكر آل الإمام شمس الدين بن شرف الدين بن شمس الدين أصحاب كوكبان هؤلاء القوم شرفهم لا يدانيه شرف، ولا يتصور في المغالاة بوصفه سرف. كواكب مجدٍ مأمونةٌ من الطمس، فهم شمس الشرف وشرف الشمس. وبيتهم في الرياسة نطقت بفضله السور، وأرخت أيامه الكتب والسير. تألفت أجزاؤه من أوتاد البسالة وأسبابهان وتخلفت لعلوه السبع السيارة فما ظنك بالسبع المعلقات وأربابها. لا يدخله الزحاف إلا إلى الأعداء في معارك الحرب، ولا يعترضه التقطيع إلا في عروض المناوين له بالطعن والضرب. ما خرج منه إلا سيدٌ جمٌّ الشيم، فضائله يقل عندها قطرات الديم. أعيذهم من صروف دهرهم، فإنه في الكرام متهم. وقد أوسعت لذكر أشعارهم مجالا، فخير الشعر أشرفه رجالا. فمنهم: السيد عبد الله بن الإمام شرف الدين بن الإمام شمس الدين المهدي لدين الله أحمد بن يحيى بن المرتضى من سادات هذه الأسرة، المعقودة فضائله أكاليل على الأسرة. عرف الكرم في خلقته، حين لفته قابلته في خرقته. فهو باحة نوالٍ، مباحة للسؤال، وراحة جود في كدها راحة المنجود. مع فضلٍ ارتدى بضافي برده، وأدبٍ ارتوى بصافي ورده. وقد وافيتك من شعره بما ينشرح به الصدر، ويعرفك أنه كصاحبه عالي القدر. فمنه قوله: ناصيةُ الخيرِ في يد الأدبِ ... وسِرُّه في قرائح العربِ فاعكُفْ على النحوِ والبلاغةِ والآ ... دابِ تظْفَرْ بأرْفعِ الرُّتبِ وتعرفِ القَصْدَ في الكتابِ وفي السُّ ... ةِ من وَحْيِ خيْرِ كلِّ نَبِي بقَدْرِ عقْلِ الفتى تأدُّبُه ... وصورةُ العقلِ صورةُ الأدبِ وقوله: صَحا القلبُ عن سَلْمَى وما كاد أن يصحُو ... وبَان له في عَذْلِ عاذِله النُّصْحُ

ولا غَرْوَ في أن يَسْتبين رشادَه ... وقد بَان في دَيْجورِ عارِضه الصُّبْحُ شموسُ نهارٍ قد تجلَّتْ لناظرِي ... وأضْحَتْ لليلِ الغَيِّ في خَلَدِي تمْحُو إذا كان رأسُ المالِ من عمرِيَ انْقضَى ... ضَياعاً فأَنَّى بعده يحصُل الرِّبْحُ شبابٌ تقضَّى في شبابٍ وغِرَّةٍ ... وشيْخوخةٌ جاءتْ على إثْرِه تنْحُو ومن مقاطيعه قوله: سقتْني رُضابَ الَّغْرِ من دُرِّ مَبْسَمٍ ... برِقَّتِه واللهِ قد ملكَتْ رِقِّي ونحنُ بروضٍ قد جرى الماء تحتَه ... فساقيةٌ تجْرِي وجاريةٌ تَسْقِي ولده عز الإسلام محمد بن عبد الله بن شرف الدين هو في كرم العنصر، واحد الأزمنة والأعصر. إذا رام مسعاةً أدركها قبل ارتداد طرف، وإن سام منقبةً ملكها بغير إنضاء ضامر وحرف. فماء الفصاحة لا يجري في غير ناديه، وينابيعه لا تتدفق إلا من أياديه. كم حبر الطروس ففضحت أزهار الرياض، وجلت على الأبصار فلم تر أحسن من ذلك السواد والبياض. دُرَرٌ تناثَرُ من بديعِ كلامِه ... مُسْتغرِقٌ جُمَلَ المديحِ بوَصْفِهِ لا تعجبُوا من نَثْرِ أقلامٍ له ... دُرَراً وقد غاصتْ بلُجَّةِ كَفِّهِ وقد أثبت من ىثاره ما امتزج بالبراعة امتزاجا، وصار كلٌّ منهما لصاحبه غذاءً ومزاجا. فمن ذلك ما كتبه إلى والده: مطالعة المملوك طليعة باله، ولسان حاله، وترجمان بلباله. وحديث سره، وبيان خبيئة صدره. ومظهر غليل برحائه، ومصدر دخيل دائه. عبرة أجرتها عين جنانه، في عبارة لسانه، وزفرة صعدتها لوعة أشجانه، في إشارة بنانه. مهجةٌ أهدتها في أثناء سلامه، لهبة أوامه، وحشاشةٌ أسالتها نار غرامه، في لسان أقلامه، هي نفسٌ أودَعْتها نفَس الشَّوْ ... قِ وقلبِي تجْرِي به الأقْلامُ وهْي دمعٌ يفيضُ من لوعةِ البَيْ ... نِ ومن أدْمُعِ المَشُوقِ كلامُ بل هي رجع صدىً أو وسواس الشوق والنزوع، ومجرى الزفرات المرددة من وهج الضلوع. برهان ما أكن من الداء الدفين، وعنوان ما أجن من كلف الفؤاد الحزين، وهْي مرآةُ صفاتِي إنَّما ... أتَراءَى لك في مِرْآتِهَا وإذا ما شاهدتْها مُقْلةٌ ... شاهدتْ نَفساً على عِلاَّتِهَا مرآة نفسٍ رقت وجداً وكآبة، ولم تدع منها صبابة الفراق غير صبابة. فلو أنها عرض لكان جوىً في فؤاد مهجور، أو لوعةً في ترائب مصدور. ولو كان قلباً لثوى في جوانح عاشق، أو دمعاً لما جرى إلا من محاجر وامق. ولو أنه جرم لكان ياقوتة راح، أو جوهر لما كان إلا من جواهر الأرواح، رقَّ قلبِي ومَدْمِعي ... من جَوَى البَيْن والنَّوَى واسْتوَى قلبيَ المشو ... قُ وشِلْوِي من الجَوى أنا صَبٌّ على الصَّبا ... بةِ قلبي قد انْطَوى ساهرُ العيْن مُقْلتِي ... تُوهِن الصَّبْرَ والقُوَى لم يُشْقِني لِوَا الْعَقِي ... قِ ولا جِيرةُ اللِّوَى لا ولا غَرَّني الصَّبا ... بالحديثِ الذي رَوَى ما شجانِي هوَى الغزا ... لِ ولا البدرُ لي هوَى ليس بي ذابِلُ القَوا ... مِ إذا مال واسْتوَى لستُ أنْوِي هوَى المِلا ... حِ وللمرءِ ما نوَى إنما دائِيَ الذي ... قد تمادَى فلا دَوَا وغليلِي الذي إذا ... بَلَّه الماءُ ما ارْتَوى من فِراقي لكعْبةِ الْ ... عِلْمِ والحِلْم لا سِوَى أرْوَعٌ يبْهر الورَى ... حسَن السَّمْتِ والرُّوا ألمَعِيٌّ به يقو ... مُ من الأمرِ ما الْتوَى سيدٌ راح والفَخا ... رُ على رأسِه لِوَا بدرُ علمٍ يلُوح في ... أُفْقِ حِلْم فلا هَوَى قلبُه طَوْدُ حكمةٍ ... لا كمن قلبُه هَوَى

ذاك شمس الفضل المستوي على عرش الكمال، وقمر الفخر السابح في بحر السؤدد والفعال. مركز السماحة والحماسة، وقدوة الملوك الساسة. فتىً من طِينةِ المجدِ ... وما السؤددُ بالعَدِّ جواهرُ مجدِه انْتظمتْ ... نظامَ جواهرِ العِقْدِ كريمٌ عَزْفُ رَيَّاه ... يفوح بنفْحةِ النَّدِّ مَساعِيه مُشنَّفةٌ ... يواقيتٌ من المجدِ فمن حَيَّى بعِشْرتِه ... غدا بالكوكب السَّعْدِ ذكره أطيب من نفس الحبيب، وروحه أخف من تغيب الرقيب. ومفاكهته أشهى من رشف الثغر الشنيب، وأخلاقه أوسع من الفناء الرحيب. رحيبُ فِناء الصدرِ ليس بِضَيِّقٍ ... ولا حرَجٌ لكنْ يُعيد كما يُبْدِي ففيه مَجالٌ للتَّواضُع والعُلَى ... وفيه نصيبٌ للفُكاهة والجِدِّ نور العترة وفخرها، وملاك الأمة وسرها، وسيد الأسرة بأسرها ابن بجدتها، وأبو عذرتها. الطب اللب، السري الندب، الواضع الهناء مواضع النقب. الندس المهذب، الحول القلب. عذيقها المرجب، وحجرها المأوب. جنة الدهر، ودرة تقصاره الفخر. الرحلة، العلامة، الشهير. مصباح زيت النبوة، وسيد أرباب الفتوة. فحسبه صميم، ونسبه كريم. وآباؤه أهلة المحامد، وأقمار المشاهد، وشجا فؤاد الحاسد. فهم المجلون في حلبة العليا، والفائزون بالفذ والتوأم من أزلام الدين والدنيا، والمحلقون في فضاء العز غاية القصوى. قومٌ غَذَتْهم لِبانُ العزِّ والكرمِ ... مَشُوبةً بسُهادِ الحُكْم والحِكَمِ بِيضٌ بَهالِيلُ يُسْتسْقَى الغَمامُ بهمْ ... في المَحْلِ إن ضَنَّ يوماً هاطلُ الدِّيَمِ تبَوَّءُوا بيتَ مجدٍ مَن يلُوذ به ... فإنَّه من صُروفِ الدهر في حَرَمِ لا يدفعُ الخَطْبُ يوماً بحرَ ساحتهِ ... ولا يمُرُّ لدَيْه غير مُبْتسِمِ ولا يُدِير إليه عينَ حادثةٍ ... ولا يمُدُّ عليه كفَّ مُهْتضِمِ أُسْدٌ إذا لمَعتْ في جُنْحِ مُعترَكٍ ... سيوفُها أمْطَرتْها من عَبِيط دمِ مُدَرَّعون دِلاَصاً من شجاعتهمْ ... مُقَلَّدون بأسْيافٍ من الهِمَمِ قد أُلْبِسوا في دُرُوعِ الفخرِ أرْديةً ... تُجيرُها كرمُ الأخلاقِ والشِّيَمِ كادتْ تخِرُّ نُجومُ الأُفْق ساجدةً ... لهم وقد طلَعوا من مشرقِ الكَرَمِ يفُوح عَرْفُ المَعالي إن ذكرتَهمُ ... ويعْبَق الأُفْقُ مِسْكاً من حديث فَمِ أولئك أرومة سيد الأسرة، وجرثومة سرة السرة، من علماء العترة. غرة أبناء البطين، وناظورة أهل بيت الأمين، محيي الدين، المفضل عبد الله بن أمير المؤمنين، شرف الدين، بن شمس الدين، بن أمير المؤمنين المهدي لدين الله، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. سلسلةٌ من ذهبِ ... مَنُوطةٌ بالشُّهبِ ونِسْبةٌ تردَّدتْ ... بين وَصِيٍ ونَبِي سبحانَ مَن قدَّسها ... عن سيِّئاتِ النسَبِ لا برح نسبه تميمةً في أجياد الحسب، ولا انفك حسبه عقداً في لبات المكارم والأدب. وأدبه حليةً لعاطل الأدب، وجمالاً لشرف الأسماء والنسب. ولا برحت أردية العلياء محبرةً بمساعيه، وريطة الفضل معلمةً بأياديه، وركاب الفضائل والفواضل معكوفةً بناديه. ولا فتىء عاكفاً تحت سرادق الكرم، واقفاً في رواقٍ من حسن الشمائل والشيم تخفق عليه أعلام العلم، وتنشر أمامه ألوية الحلم. ما طلع نجمٌ في برجه، ونجم طالعٌ في مرجه. دام في روضةِ النعيمِ تُغنِّي ... هـ على أيْكةِ الهنا أفْراحُ لا خَلا من هلالِه فلَكُ المجْ ... دِ ولا غاب نجمهُ الوضَّاحُ فلجِيدِ العَلْياء منه عقودٌ ... ولِعطْف الفخار منه وِشاحُ فلا أصابته عين الكمال، ولا سلب الدهر بفقده ثوب الجمال. ولا برح كعبةً للجود، وعصمةً للمنجود، ونوراً يلوح في أبناء الوجود. أما بعد؛ فإنها لما فاحت نسمات الأشواق، ودارت على كئوسها دور الرفاق.

قدمت كتابي إلى الحضرة، ينهي إلى مولاي أن شوقي إلى مرآه البهي، ومحياه السني، شوق الغريب إلى الوطن، والنازح إلى السكن. والمهجور إلى العتاق، والممنوع عن الكاس الدهاق. والصديان إلى الماء القراح، والحيران إلى تبلج الصباح. ويحدثه أني من بينه فقيد الجلد، عميد الخلد، جديد الكمد، بالي الصبر والجد. يهزني إليه الأصيل، ويبكيني مباسم البرق الكليل، ويشجوني نوح الحمام على الهديل. وأني لاأزال من فراقه متلفعا بأبراد الضنى، متعلقاً بأذيال المنى، لا يجمعني والسلوان فنا، ولا يفرق بيني وبين الأسف إلا القرب واللقا. ما بِدْعةٌ إن جَرَّ حَيْنِي ... جَزَعِي وأجْرى المقُلتَيْنِ أمسيْتُ في الليلِ البَهِي ... م أعُضُّ أطْرافَ اليديْنِ طال النَّوَى والليلُ طا ... لَ وبِتُّ أرْعَى الفَرْقَدينِ ولقد شجانِي ما شجَا ... قلبي هَدِيلُ حمامتيْنِ يتناوَحان فيُفْرحا ... ن جوانِحي بالنَّغْمتيْنِ ما ناحَتا إلاَّ ومِلْ ... تُ تمايلُ الرُّمْحِ الرُّدَيْنِي أبكَى بُكاؤُهما العيو ... نَ وما أسالاَ عَيْنَ بَيْنِي جَمدت عيونُهما فقُلْ ... تُ إليكُما عَبَراتِ عَيْنِي وسمحْتُ بالدمعِ الغزي ... رِ وبُحْتُ بالسرِّ المصونِ لم يُبْكنِي سَفْحُ العُذَيْ ... بِ ولا رُسومُ الرَّقْمَتَيْنِ لكنْ فِراقُ مُهذَّب الْ ... أخلاقِ هَيْنِ الطبعِ لَيْنِ لِفراق عبد الله هِمْ ... تُ تشوُّقاً وهَمتْ عُيونِي ولعمري لولا علمي أن رأفة سيدي بولده، وعطفه على بضعة جسده، وفلذة كبده، قد فضل كل برٍ مألوف، وأربى على عطف كل أبٍ عطوف. لأرخيت عنان القلم في ميادين الشكوى، ونشرت دفين الألم الذي عليه قد أطوى. لكني زممت جناحه، وكسرت جناحه، وحظرت عليه مسرحه ومراحه. فرقاً أن تألم نفس سيدي ومولاي، وإشفاقاً أن يلتاح قلبه من حراي. وأمرته أن يرد فناء سيدي مسروراً فرحا، وأن يسحب ذيله في ساحته مرحا. وينشر طلاقةً وبشرا، ويفتر بمبسم خريدة عذرا. ملتثماً للأرض بين يديه، قاضياً بعض ما يجب من الثناء عليه. إذ ليس بممكن أداء الثناء بوجهه، ولا بلوغ غايته وكنهه. هيهات، هيهات، ذلك أعز من بيض الأنوق، وأبعد من العيوق، والأبلق العقوق. غير أن الحياء من عظمة تلك العقوة، والجلال لأبهة تلك الربوة. قد كسرت من نشاطه، لما ضربه بسياطه. فلم يقدم إلا مدهوشا فشلا، منوصا ناصيته خجلا. فها هو قد قدم ذلك الندى، وهو أحيى من هدى. ها قد أتى يسحبُ أذْيالَ الخجلْ يبسُط كفّاً للرجاء والأمَلْ يسأل خيرَ الناس طُرّاً عن كَمَلْ إسْبالَ أذْيالِ التَّغاضِي والكِلَلْ عمَّا حَوَتْ من خطأٍ ومن خَطَلْ فليصرف سيدي عن ذنبه صفحا، ويضرب عن تبعاته عفواً وصفحا. فقد جاء متلفعاً بالمعاذير، معترفاً بالقصور لا بالتقصير. وسيدي أكرم شنشنة، وأولى من ستر سيئة ونشر حسنه. فلعل سيدي أن تغمض عيناه على قذى التغاضي، ويلاحظ بعين محبٍ راضي. فإن الرضى عيونه عن العيوب حسيرة، كما أن عيون السخط بالعيوب بصيرة. والكريم من أقال عثرات الكرام، واللئيم على هفوات المقترفين تمام. والإنسان إلى شاكلته يجمح، وكل إناء بالذي فيه ينضح. ما كريمٌ من لا يُقِيل عِثاراً ... لكريمٍ ويستُر العَوْراءَ إنما الحُرُّ من يجُرُّ على الزَّلا ... تِ ذيلاً منه ويُغضِي حَياءَ وأنا أسال الله أن يجمع الشمل عن كثب، ويبلغنا أقصى الأمنية وقصارى الأرب. وأن يهدى إلى حضرة سيدي سلاماً لذيذ الورود، رقيق البرود، ألطف من ورد الخدود، وأحسن من رمان النهود. وأعذب من ماء البارق، وأرق من فؤاد العاشق. وأوضا من نور غيضة، وأبهى من بيضةٍ في روضة. وأبهج من خريدةٍ مشنفة، في حبرات مفوفة. وأنضر من الدهم المنوفة، والنمارق المزخرفة. وأحلى من رشف الثغور، وأسنى من الدرر في نحور الحور. سلامٌ لو تصور لكان مسكاً نافحاً، ونوراً لائحاً.

ولو كان نوراً لكان إيماناً في قلوب الصالحين، ويقينا في سرائر القوم المفلحين. سلامٌ له لَذَّةُ الوارداتِ ... يرِدْنَ على المؤمِن المُحسِنِ فلَو لاح كان سَناً يسْتسكِنُّ ... القلوبَ ويعلُو على الأعْيُنِ ولو كان نُوراً لكان اليقي ... نَ في سِرِّ كلِّ فتىً مُوقِنِ سلامٌ يفوح من مقعد صدقٍ قدسي، ويلوح من فوقه عرش كرسي. تهبط به السكينة، بأسراره المصونة. وتنزل به الملائكة والروح، إلى تلك الربوات والسوح. وتعتني بتلك النفس التي سمت على النفوس، بتقديرٍ من الملك القدوس. ويحيي بها عن الحي القيوم، بختام الرحيق المختوم. ورحمة الله سبحانه، تشفع روحه وريحانه. وليعلم سيدي أني قد أعفيت فواصلها، وعريت فقرها عن تفصيلها. بشعر ليس من قريحتي، وبنات فكرتي. وذلك أستر لثنائها، وأخفى لذمائها. فعساني لو أودعتها نتائج قرائح البلغا، وأفكار الفصحا. وسوائح روياتهم، وشوارد بدائهم. لأكون كمن نصب مناراً على عيبها، وأقام دليلاً على بهرجها وزيفها. أو كمن قلد شوهاء بعقود الدر المصون، ووشحها بأوشحة الإبريز المفصل باللؤلؤ المكونو. وألبسها أرجوانيات الإبريسم، وحبرات الوشي المعلم. وأكون كمن نظم حصاةً إلى شذرة، وأضاف فحمةً إلى درة. ومن المعلوم أن الطبع للتطبع يقهر، وأن فضل الضد عند ضده يظهر. وخسر من بدل دينار غيره بفلسه، والإنسان له بصيرةٌ على نفسه. أوضحت ذلك لمولاي كي ينسب عند افتقادها إلى سواي بهرجها وزيفها، أو يعزو إلى غيري خطلها وحيفها. فالسفيه جد السفيه، من يرمي بريئاً بعيبٍ هو فيه. والأمل طامح، أن يحملها سيدي على كاهل التسامح، ويقلها على خطوات التغاضي، ويمشي بها في جادة التجاوز، ويسلك بها سبيل التصفح عما تضمنته من العيوب. فسيدي قدوة أرباب العفو، وإمام أهل التجاوز، وقبلة ذوي السماح ودليل ألي الفضل للفضل. بعد السلام. وهو في كنف رعاية الله، وفناء حياطته، وظلال حفظه. فأجابه والده بكتاب، صدره بهذه الأبيات: رجوعُ شبابٍ أو وُرودُ كتابِ ... أزالاَ خُطوباً للنَّوى بخطابِي وأبْدَلَ ذهني قُوَّةً وأعادَ لي ... وقد كنتُ شيخاً عُنْفُوانَ شبابِي صدورٌ بها شَرْحُ الصدورِ وجدْتُها ... طَلاسِم قد جاءتْ بكلِّ عُجابِ تعلَّقْتَها عند الكروبِ تَمِيمةً ... لتفْريجِ همٍ أو لنَيْلِ طِلابِ وما ذاك نَفْثُ السحرِ إذْ هو باطلٌ ... وهذِي أتتْ مَلأَى بكلِّ صوابِ فأنَّى تُرى لي في الإجابةِ مَسْلَكاً ... يُناسِبها إن رُمْتُ رَدَّ جوابِ فبَسْطاً لعُذْري أيها الولدُ الذي ... بخفْضِ جَنابِي عنه رَفْع جَنابِي روضة بلاغة أنيقة، وحديقة فصاحةٍ غديقة. رشفت سماء المعالي أرض ألفاظها فزكا نباتها، وهبتها لواقح البيان، فنتجت في أحسن الصور أبناءها وبناتها. وتبختر فيها بديع زخرف أنواره، فاهتزت وربت بزاهي زواهر مكنونات أسراره فأوراقها من أوراق الجنة، وأزهارها ضاحكةٌ مفترةٌ مفتتنة. تفتر عن كل ثغرٍ بديع، وكل فصولها دائمة الفواكه دانية القطوف فكل فصلٍ منها ربيع. يتبارى فرسان نفائس المعاني على مضمرات مراكيب مراكبها من يكون المجلى والسابق، ويتنافس منظومها والمنثور في السبق إلى ما بين العذيب وبارق، فكلها مجلٍ هناك لا مصلٍ ولا لاحق. فقرٌ تبالغت في البلاغة إلى أن غدت الفرائد في أساليبها خوارق، موشحة بسموط نظم لها من نفسها معبد ومخارق. فرائض لم ترض همة منشئها بين أبكارها إلا ما هو مبتكرها، وأبت قريحة التزيين بعوادي العوادي فما حلا لذوقه مكررها. فبرزت للجنان جنان، حورها عينٌ لم يطمثهن إنسٌ قبلهم ولا جان. فلا ينفك المتنعم بها في كل آن، هو في شان، حتى ينتهي منها إلى ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على الأذهان. ولم لا تكون كذلك؟ ومنشئها ذو اليد البيضاء في معجزات البلاغة، الذي آنس من جانب الطور نارا، والضارب بقلمه بحرها فانفلق فلم يقبل الدر إلا كبارا. فلذلك رجع وهو من نفثة سحرها الكريم الكليم، فأصبح وعصا حجته تلقف ما صنع كل سحار عليم.

حتى ألقى سحرتها سجداً مؤمنين برب حديثها القديم، قد رأوا من آياته عجباً من أسرار كهفه والرقيم. لا بل هو قاموس البلاغة خاتمهم الأحمد المحمد، كيف لا يكون كذلك؟ وهو من العترة الطاهرة المحمدية ابن عبد الله محمد. فعليه من السلام، أسنى سلام السلام. ومن الإكرام، إكرام ذي الجلال والإكرام. ومن التحيات أحيى تحيات الحي القيوم، ومن الرحمة رحمة الرحمن الرحيم المدخرة لذلك اليوم المعلوم. ومن البركات أنمى بركات وأدومها وأزكاها، وأطيب الطيبات وأذكاها. وبعد: فإنم الولد الفذ البذ، المتخلق من أطيب الخلال بما طاب وعذب ولذ. نور مصابيح زجاجات القلوب، وروح الأرواح، وهز معاطف الأعطاف، ورنح أغصان الأشباح، وسر سرائر أسرار نفيس الأنفس بروح ريحان الارتياح. وشرح صدور الصدور، بنفائس عرائس حور تلك المعاني المقصورات من الأعجاز في القصور. اليت اقتعدت مقاعد الصدق من سطور تلك الصدور، التي كل مواضع مفرداتها ومركباتها من المنظوم والمنثور. بملاك مغانيها العزيزة، في مقاعد أعجاز العزيزة كلها صدور. فهي سماوات فضل دارت أفلاك فخرها بدراري أنوار فصل الخطاب، وأردان منيع رفيع قيمها بمصباح السليقة العربية التي اختارها الله لأفضل نبيٍ وأجل كتاب. فلا برحت قريحته السمحة السليمة عذيب بارق نضاح ينابيع الأدب، ولا انفكت بحلته حسن رداء لواحق آداب من تأدب. ذلك أنها أخذت بجميع مجامع أحاسن أجناس القول وفصوله، ولم تدع نوعاً من إحسان الإحسان إلا وأحاطت بذاتيه وعرضيه مقطوعه وموصوله. ولا غادرت بهيج زخرف بديعٍ، إلا وسحبت فواضل حبر حسنه في ميادين إيجاز الإعجاز وتطويله. محيطةً بفنون الافتنان فلذلك انتظمت في أساليب الحسن، كل فنٍ مفعمة بلطيف الإدماج المشيد بلطيف طريقه إلى استيعاب كل معنىً حسن. لم تترك طريقاً من البلاغة إلا طرقته، ولا معنىً ذا أسلوبٍ من البلاغة إلا خرقته. فلم تدع لمتكلم في قوس المعاني منزعا، ولا أبقت لمنطيقٍ من مواقع الإحسان موقعا. فبماذا يجيء من حاول الجواب للقول الجامع، وقد أخذ من جميع طرق المحاسن بالمجامع. إلا عسى بالإعادة تملى ما حوته من اللفظ والمعنى، والقنوع بهنات السرقات ومن ذا بالسرقات استغنى. ولو شاء موشيها لترك للإجابة طريقة، ووسع بمخاطبته في الإشفاء لمطارحته طريقه. فكم أردت ذلك فتبين بعد المناسبة بين بيانه وبياني، وكنت كلما حاولت ذلك يضيق صدري ولا ينطلق لساني. فلم أر في شرح البلاغة مجيزا، إلا أن أقابل بجديد فكري من ذهن منشئها ذهباً إبريزا. لكن لزوم الإجابة، أوجبها مع الإصابة وغير الإصابة. فلو استوى الابتداء والجواب في حسن المخاطبة، وأن لا يتفاوتا في كمال المناسبة. سمي رجع صدىً جوابا ولا عدت حركات الجواب وغمزات العيون بين الأحباب خطابا. لكن ذلك عجزٌ ملأ حوض سري سروراً حتى قال قطني، فلم أقرع على ما فاتني من الإحسان سني. إذا كان فخراً ممن يقول أنت شجري، وأقول له أنت ثمري. فغير بديع أن تفضل الثمرة الشجرة. فليجعل الولد أكثر منه بره أن يعذر في الإساءة أباه، فضلاً عن الإحسان فإنه أباه. ولكنه أعاد الفرح به شباب السرور، وشب نار الحياة في القلب فشبت في شبح الروح والحبور. فلا برحت عزتك في العلوم النون، ولسانك في البيان القلم، وصدرك اللوح وما يسطرون. والله سبحانه أسأل أن يجعلك ممن هو على خلق عظيم، وأجرٍ غير ممنون. وألا يقطع عنا وعنك المرغبات بمعقبات رعايته، إنه حميدٌ مجيد، صبور رشيد. وسلامٌ على المرسلين، وعلينا وعليك وعلى من لديك. وقد سر أباك ما حققت في كتابك الأخير، مما أنعم الله به عليك وعلى الوالد العلامة لقمان بن أحمد، من ختم ذلك الكتاب النبيل، الكاشف لخرائد نكت القرآن وبيان بيان التنزيل، والتلذذ بعرائس بدائع دقيقه والجليل. فليهنكم تلك النعم الكاملة، ونسأله أن يديم لكم ما خولكم من تلك الفواضل الفاضلة. والسلام. ومن شعر صاحب الترجمة، قوله في قصيدة، مستهلها: يا راقدَ الليلِ لم يشعُر بمَن سهِرا ... أسْهَرْتَ عينِي فعيْني لا تذُوق كَرَى تنامُ عنِّي وأجْفاني مُؤرَّقةٌ ... عَبْراءُ ما مَرَّها نومٌ ولا عَبَرَا

سلبْتَ عقلي وأوْدعْتَ الهوى كبدِي ... يا مُنيتِي وملكتَ السمعَ والبصرَا فأنْثني واضعاً كفّاً على كبدٍ ... حَرَّى وكفّاً يكفُّ الدمعَ حين جَرَى يُدنِي ليَ الوهمُ غُصْناً منك أعشقُه ... حتى أكادُ أُناجِيه إذا خَطرَا وأرفع الكَفَّ أشكُو ما أُكابِدُه ... أقولُ أنت بحالِي يا عليمُ ترَى أدعو إذا جَنَّنِي ليلٌ ولي مُقَلٌ ... تفِيضُ دمعاً وقلبٌ ذابَ واسْتعَرَا لا وَاخَذ الله مَ، أهْوَى بجَفْوتِه ... ولا مَلاَ مثلَ قلبي قلبَه شَرَرَا ولا ثَناهُ الهوى وَجْداً ولا اكْتحلتْ ... عَيْناه مثلَ عُيوني في الدُّجَى سهَرَا رَقَّ النَّسيمُ لتَبْرِيح الصَّبابة لي ... لمَّا انْثنَى ذيلُه من أَدْمُعِي خَضِرَا والبرقُ شَقَّ جُيوبَ السُّحْب عن كبدِي ... والرعدُ حَنَّ وأبكَى دمعِيَ المطَرَا يا صاحبي إن لي سِرّاً أُكاتمُه ... أخْفيْتُه من نسيم الرِّيح حين سَرَى إن كنتَ تضمنُ لي ألاّ تبُوحَ به ... سمعتَ مِن سِبِّي المَكْنونِ ما اسْتَتَرا شُوَيْدِنُ الحِلَّة الفَيْحاءِ أرْشَقني ... من لَحْظهِ بسهامٍ رَاشَها وبَرَا رَمانِيَ الرَّمْيةَ الأُولَى فقلتُ بلا ... عَمْدٍ رَمانِي فأصْماني وما شعَرَا وحين فَوَّق لي سَهْمَيْه ثانيةً ... بكيْتُ نفسِيَ واستْبكيتُ مَن حضَرَا هذا من قول مهيار: رمَى الرَّمْيَة الأُولَآ فقلتُ مُجرِّبٌ ... وكرَّرها أخرى فأحسستُ بالشَّرِّ بكيتُ نفسي لعِلْمي أن مُقْلتَه ... لا بُدَّ تقتُلني ظُلْماً وسوف تَرَى مُمَّنع الوصلِ لا يُرْجَى توَاصُلُه ... لو زَاره الصَّبُّ في طيْفٍ لما صَدَرَا لا تَستطيع صَبا نَجْدٍ إذا خطَرتْ ... تُهدِي إلى الصَّبِّ من أكْنافِه خَبَرا رَبيبُ مُلْكٍ كأنَّ اللهَ صوَّره ... ملَكاً وخيَّره بين الورى الصُّوَرَا مُهَفْهَف القَدِّ لا يُطفِي لَظَى كبدِي ... إلاَّ ارْتشافي لَماه الباردَ العطِرَا أغَنُّ يكسِر جَفْنيْه على حَوَرٍ ... يُذيبُ نفسِي ونفسي تعشقُ الحَورَا بدرٌ على غُصن بانٍ في مَحبَّتهِ ... أكاد أعشق غُصْنَ الْبانِ والقَمَرَا أُقبِّل الدُّرَّ من عِشْقِي لِمَبْسمِه ... لمَّا رأيتُ ثَنايَا ثَغْرِه دُرَرَا وأدَّنِي الْبانةَ الغَنَّا إلى كبدِي ... لمَّا حكتْ قَدَّه المَيَّالَ إذْ خطَرَا عليه كلُّ هلالٍ ينْحنِي أسفاً ... وكلُّ بدرٍ حَياً من وجهِه اسْتَتَرا والنَّرجِسُ الغَضُّ غَضَّ الطَّرْف حين رَنَاواحْمَرَّ وردُ الرُّبَى من خَدِّه خَفَرَا ذكرْتُه حين فاحَتْ لي مُعَنْبَرة ... رِيحُ الصَّبا وسرَى لي سِرُّها سَحَرَا يا أيُّها القمرُ السَّارِي إذا خطَرتْ ... إليك عَيْناه واستحْلَى بك السَّمَرَا أبلِغْه يا بدرُ قُل مُضناك أوْدَعنِي ... أُهدِي إليك سلاماً طَيِّباً عطِرَا يُمْسِي سَمِيرِي ويبكي من صَبابتِه ... شوقاً إليك ويَرْعَى الأنْجُمَ الزُّهرَا عسى أخوك إذا أخْبرتَه خَبَرِي ... يَرْثِي لحالِي فحالي شَجْوُ مَن نَظَرَا وقوله: يا طلعةَ البدرِ في دَيْجورِ أغْلاسِ ... ويا هلالاً على غُصْنٍ من الآسِ يا من كتمتُ الهوى صَوْناً له فإذا ... فَاهُوا بذكْرِ اسْمِه غالطتُ جُلاَّسِي يا مَن إذا ضُرِبت في حُبِّه عُنُقِي ... ما مالَ إلاَّ إليه مُسرِعاً رَاسِي يا مُنْية القلبِ ما عنِّي أتاك فقد ... أوْحَشْتنِي يا حبيبي بعد إيناسِ فقد أتاني حديثٌ منك أدَّبَنِي ... وزاد واللهِ في وَهْمِي ووَسْواسِي

أذاب نفسِيَ ممَّا جاء منك فلو ... لا أدمُعِي أحرقتْني نارُ أنْفاسي وحين عاينْتُ صبْرِي عنك مُمتنعِاً ... وبِتُّ أضربُ أخماساً بأسْداسِ كتبتُ والدمعُ يمحُو ما تخُطُّ يدي ... حتى بكتْ ليَ أقْلاَمِي وقِرْطاسِي فاعطِفْ على مُسْتهامٍ عاشقٍ دَنِفٍ ... بين الرجاءِ لطَيْفٍ منك والْياسِ ماذا الصدودُ الذي ما كنتُ آلَفُهُ ... متَى يلين لما بي قلبُك القاسِي لو أنَّ لي ساعةً أشكُو إليك بها ... حالي وقد نام حُسَّادِي وحُرَّاسِي مالي أُمَلِّك نفسِي مَن يُعذِّبها ... بالصَّدِّ عنِّي ومالي أذكُرُ النَّاسِي يا ناسُ هل لي مُجيرٌ من هوَى رَشأٍ ... مُهَفْهفٍ كقَضِيب الْبانِ مَيَّاسِ أذاب قلبي وسَلَّ النومَ عن مُقَلِي ... بفاتنٍ فاترِ الأجْفانِ نَعَّاسِ مَن لي بزَوْرَتِه جُنْحَ الظلامِ وقد ... غاب الرَّقيبُ ونامَتْ أعيُنُ الناسِ أُمسِي أُعانِقُه ضَمّاً إلى كبدِي ... ما في العِناق وما في الضَّمِّ من باسِ وأنْثني عند رَشْفِي خمْرَ مَبْسَمِه ... سُكْراً وأسكَر من مارِيقةِ الكاسِ عسى الذي قد قضَى بالحُبِّ يجمعنا ... يا طَلْعة البدرِ في دَيْجورِ أغْلاسِ وقوله: أفْدِي التي بِتُّ أبُلُّ الجوَى ... من رِيقها باللَّثْمِ والمَصِّ قالوا لها لمَّا رأَوْا خَدَّها ... وفيه أثرُ العَضِّ والقَرْصِ ماذا بخَدَّيْك فقالتْ لهم ... نِمْتُ ولم أشعُر على خِرْصِي يا حُسْنَ خَدَّيْها وعَضِّي على ... ناعمِ كَفٍ تَرِفٍ رَخْصِ كفَصِّ ياقوتٍ على دُرَّةٍ ... آهِ على الدُّرَّةِ والفَصِّ وكتب إلى ولد عمه عز الدين محمد بن شمس الدين بن شرف الدين، يعاتبه لكلامٍ بلغه عنه: أعاتُبه وهْو الملِيكُ المكرَّمُ ... وقبل افْتتاحي للِعتاب أُسلِّمُ سلامٌ على أخلاقِك الغُرِّ كلَّما ... تألَّق عُلْويُّ السَّنَا المُتبسِّمُ سلامٌ كزَهْر الروضِ صافحه الصَّبا ... وراح برَيَّا نَشْرِه يتنسَّمُ كماءِ الصِّبا يجْرِي بخدِّ خَرِيدةٍ ... فيزْهو بها وردُ الخدودِ المُنعَّمُ سلامٌ كأنفاسِ الحبيب اعتَنَقْتُه ... ففاح به ثَغْرٌ شَهِيٌّ ومَبْسَمُ على حَضْرة المَلْك الأَعزِّ الذي له ... على صَهواتِ النجْمِ خِيمٌ مُخيِّمُ له شرَفٌ يهوَى الدَّرَارِي لَوَ انَّها ... له شرَفٌ والشَّأْوُ أعلَى وأعظمُ وبيتُ عُلاً فيه زُرارةُ ما احْتَبَى ... ولا نَهْشَلٌ فيه سَمُوحٌ مُعجّمُ ولكنه بُنْيان مجدٍ يشِيدُه ... إمامٌ مُحِقٌّ أو مَلِيكٌ مُعظَّمُ قواعدُ مجدٍ للفَخار قديمةٌ ... تأخَّر عن أدْنَى مَداها المُقدَّمُ ليحْيَى أميرِ المؤمنين أساسُها ... وفيها لشمسِ الدين مَثْوىً ومَلْزَمُ وقَفَّاهما في رَفْع بيتِ عُلاهما ... فتىً وصْفُه في المَعْلوات له سَمُ مَلِيكٌ له تعْنُو الملوكُ مَهابةً ... فيَقْضِي عليهم ما يشاءُ ويحكمُ منها: صَبا قلبُه بالمجدِ والمجدُ دُمْيَةٌ ... وما مهرُها إلاَّ بمُعْتَرَكٍ دمُ ومَن عَشِق العَلْياء شاق فُؤادَه ... حسامٌ وخَطِّيٌّ وطِرْفٌ يُحَمْحِمُ منها: أمولايَ يا خيرَ الأنامِ نداءُ مَن ... مَودَّته ما عاش لا تتصرَّمُ نداءُ أخٍ ما زال يَسْدِي لسانُه ... عليك ثناءً كالعبيدِ ويُلْحِمُ ثناءٌ يُعِير الروضَ وهْو مُفَوَّفٌ ... ويَخْجِل منه الدُّرُّ وهْو مُنظَّمُ

ويفْتَرُّ عن زهرِ الفَرادِيس زهرُها ... وباكَرها دمعٌ من المُزْنِ مُنْجَمُ كأجْنحةِ الطاوُوسِ حُسْناً وبَهْجةً ... يدُلُّ له روضُ الربيعِ المُنَمْنَمُ ثناءُ فتىً شاقْته منك شَمائلٌ ... حلَتْ فيه شُهْداً ثملَتْ فهي عَنْدَمُ وطابتْ ففاحتْ عَنْبَراً وتنفَّسَتْ ... عَبِيراً فكادتْ في الوجوهِ تنَسَّمُ فما بالُها في وجهِ وُدِّيَ قَطَّبتْ ... وكاد مُحَيَّا بِشْرِها يتجهَّمُ وفيما أتاني عنك قلبِي بسيْفِه ... كَلِيمٌ وبعضُ القولِ كالسْيفِ يكلِمُ تبِيتُ له في القلبِ منِّي قوارِصٌ ... تُؤرِّقني والناسُ حَوْليَ نُوَّمُ يهيمُ ببَحْرِ الفكرِ منذ سمعتُه ... فؤادي إذا السُّمَّار نامُوا وهَوَّمُوا أقول أخي قد أصبح اليومَ واجِداً ... ووَجْد أخي يُشْجِي فؤادي ويُؤلمُ وكيف يظُنُّ السوءَ فيّ لنَيْربٍ ... نَماها إليه شيخُ سَوْءٍ مُذَمَّمُ وماذا الذي إن كان حقّاً كلامُه ... سيحْوِيه كفِّي ساءَ ما يتوهَّمُ فتبَّتْ يَداه كيف يعْزُو إليَّ في ... مَقامِك أمْراً ليس لي فيه مُلْزِمُ وبعضُ مُعاداةِ المُعادِين غِبْطةٌ ... بلَى عِلَّةٌ يُنْحَى عليها فتُحسَمُ كآدمَ إذْ عاداه إبليسُ عامداً ... وليس له ذَحْلٌ عليه ولا دَمُ سعَى بيَ واشٍ لا سعتْ قدمٌ به ... فزَخْرَف أقوالاً وقال وقُلْتُمُ أمَا قسَماً بالمُستجِنِّ بطَيْبةٍ ... وحِلْفيَ عن حِنْثٍ أُبِرُّ وأُكْرِمُ لئن كان قد بُلِّغْتَ عنِّي جنايةً ... لَمُبْلغُك الواشِي أغَشُّ وأظلمُ فرِفْقاً ورَعْياً للإخاء فإنني ... أخوك الذي يَلْوِ عليك ويَرأَمُ يصُون ويرْعَى سالفاتِ عوارفٍ ... ويُنْبِىءُ عن مَكنُونها ويُتَرْجِمُ فيا ملِكاً قد جاءني عنك أنّه ... تَمُرُّ بسمْعِي وهْو صابٌ وعَلْقَمُ يقول فلان أنتُم تعلمونَه ... وهل علمِوا إلاَّ الذي أنت تعلمُ وهل ذَمَّنِي إلا الحسودُ فإنه ... لَيعْلَم ما يُشْجيه عنِّي ويُرْغِمُ ولو جاز إطْرائِي لنفسي سمعتَه ... ولكنَّ مدَح النفسِ للنفس يرحُمُ عليك فسَلْ عن شِيمتِي غيرَ حاسدٍ ... يبُثُّ جميلَ الذِّكرِ لا يتلَوَّمُ يقُل هو لا جَعْدٌ على الوَفْرِ كفُّه ... إذا نالَه من بَذْلِه يتبرَّمُ ولا ضَرِعٌ إن فاقَةٌ فوَّقتْ له ... سهاماً وللنُّعْمَى ولِلْبُوسِ أسْهُمُ ولا هو إن نال الغِنَى قصَر الغنى ... على نفسِه بل وَفْرُه مُتقسِّمُ ولا هو مَن إن راح عُطْلاً من الثَّرَى ... يرُحْ وهْو عُطْلٌ من حُلَى الفضلِ مُعْدِمُ يكُفُّ جِماحَ القولِ لا عن فَهاهةٍ ... وإن قال لا عِيٌّ ولا هو مُفْحَمُ ويَأْتلِقُ النادِي بسِحْر بَيانِه ... كأنَّ سَناه في دُجَى الحظِّ أنْجُمُ وتهْوى الغَوانِي أن مَنْظومَ فكرِه ... ومَنْثورَه في حَلْيِهِنَّ يُنظَّمُ طغَى قلمي فاصفَحْ فإنك هِجْتَهُ ... بمَأْلُكَةٍ فيها عليَّ تحكّمُ تجنَّيْتَ لي ذنْباً لتعذِر جانياً ... كذِي العُرِّ إذ يَكْوي صَحِيحاً ويسلَمُ فلا غَرْوَ أن فار الإناءُ بمائِه ... ومِن تحته نارُ الغَضا تتضرَّمُ وإنَّ كَمالِي مُنْتَمٍ ونقِيصَتِي ... إليك وإن أثْلَم فإنَّك تثلَمُ

فعِرْضُ أخِي عِرْضِي وعرضِيَ عِرْضُه ... ولي لحمُه لحمٌ ولي دمُه دَمُ أمولايَ يا من خُلْقُه الروضُ ناضِراً ... برَوْح له يرْتاح من يتوسَّمُ أُعِيذُ كمالاً حُزْتَ خَصْلَ رِهانِه ... فجاوزْتَ شَأْواً دونه النجمُ يُحْجِمُ وحِلْماً تزول الرَّاسياتُ وركنُه ... شديدُ المَباني لا كمَن يتحلَّمُ وقلباً ذَكِيّاً مُشْرَباً ألْمَعيَّةً ... إياسٌ لديها أغْلُف القلب أفْدَمُ أعيذك أن يُصْغِي إلى قولِ كاشِحٍ ... يُحبِّرُ زُوراً وَشْيَه ويُسهِّمُ يُوافيك في بُرْدِ التَّمَلُّقِ كاذباً ... وتحسَب غُفْلاً بُرْدَه وهْو أرْقَمُ وكيف وأنت الفحلُ جاز مِحالُه ... عليك لَعَمْرِي أنت أذْكى وأحْلَمُ وهل في قَضايا العقلِ مولايَ أنه ... لديْك يُصدَّى صارمِي ويُكَهَّمُ أخي إن كَففْتَ الخيرَ فالشَّرَّ كُفَّه ... كَفافاً فكُن إن الكَفافَ لَمغْنَمُ فرفقاً بنفْسٍ من مقالِك أوْشكَتْ ... تذُوب وكادت حسرةً تتصَرَّمُ أقول إذا جاشَتْ عليه وأرْزمَتْ ... وعادتُها من جَفْوةِ الخِلِّ تُرْزِمُ هنيئاً مَريئاً غيرَ داءٍ مُخامرٍ ... لمَولاي منِّي ما يحِلُّ ويحرُمُ أمولايَ من يُرْضِيك كُلُّ خِلالهِ ... وأيُّ فتىً في الناسِ قِدْحٌ مُقَوَّمُ كفَى المرء نُبْلاً أن تُعَدَّ ذنوبُه ... فتُحصَى ومَن ذا من أذَى الناسِ يسلمُ وإنِّي على ما كان مُثْنٍ وشاكرٌ ... مدَى الدهر لا أشكو ولا أتظَّلمُ ولستُ بناسٍ ذِكْرَ أخلاقِك التي ... بها أنا مهما عِشتُ مُغْرىً ومُغْرَمُ فلا تحسَبَنِّي صادِفاً للثناءِ إنْ ... ثَناك من الواشِين ظَنٌّ مُرَجَّمُ وحقِّك إنِّي ما حيِيتُ لَوامِقٌ ... شمائَلك الحُسنَى مُحِبٌّ مُتيَّمُ وهل يقْلَع الإنسانُ مُقْلَة نفْسِه ... وإن يأْت من عَوْرائها لا يهُوِّمُ وليس انْتزاحي عن جَنابِك جاحِداً ... عوارفَ يدْرِي حقَّها اللحمُ والدمُ ولكنَّ إخواناً أبَوْا لي فِراقَهمْ ... فطاوعْتُهم والقلبُ بالشوقِ مُفْعَمُ ولا صارفاً وُدِّي لغيرك صادِفاً ... به عنك يأْبَى لي الوفا والتكرُّمُ فؤادَك أبْغِي أن يكون مَكانتِي ... به حيث لا يرضَى وُشاةٌ ولُوَّمُ إذا صَحَّ لي من قلبِك الوُدُّ وحدَه ... ظفِرتُ فلا آسَى ولا أتندَّمُ وما لي إلى ماءٍ سوى النِّيلِ حاجةٌ ... ولو أنه أستغْفرُ اللهَ زَمْزَمُ ومما يحسن من شعره، قوله: نفسِي الفداءُ لشادِنٍ ... مُرِّ الجفَأ حلوِ المَراشِفْ قاسِي الفؤادِ أعار أغْ ... صانَ النَّقا لِينَ المَعاطِفْ لهِبتْ بنارِ صُدودِه ... كبدِي ودمعُ العينِ ذارِفْ ومُمَنَّعٍ كالغُصنِ دُو ... ن لِقائِه خوضُ المَتالِفْ مِن وَصْلِه وصُدودِه ... أنا دائماً راجٍ وخائفْ فعَلتْ بنا ألْحاظُه ... ما تفعلُ الأسَلُ الرَّواعِفْ مُتجاهِلٌ عمَّا يُقا ... سِي فيه قلبي وهْو عارفْ وقوله: نَسَماتُ النسيم من نَعْمانِ ... وابْتسام الوَميضِ باللمَعانِ سَعَّرا نارَ مُهْجتي وأثارَا ... شَجْوَ قلبي وهَيَّجا أشْجانِي ذَكَّراني بعَصْرِ وصلٍ تقضَّى ... آهِ لَهْفِي لفَوْتِ ما ذكَّرانِي هاشَبابي مضَى وما نلْتُ وصلاً ... أين منِّي شبابُ عمرٍ ثانِي

يا خليليَّ خلِّيانِي فمابي ... من غرامٍ أذاب قلبِي كَفانِي ما تُحلاَّ باللَّوْمِ عِقْدَ عهودِي ... فاعذِراني باللهِ أو فاعْذِلاني فبسمعِي من ذلك اللومِ وَقْرٌ ... قد أجبْتُ الغرامَ لمَّا دعانِي قسَماً بالحَطِيم والحِجْر والبَيْ ... تِ العظيمِ المُقبَّلِ الأرْكانِ وبمَن حَلَّ عِقْدَ عهدي ومن قد ... حَلَّ منِّي هواه كلَّ مكانِ وبِعَصْر الشبابِ عُذْر التَّصابِي ... وعفافِي إذا وصلتُ الغوانِي وبِعصْيانيَ المَلامَ مُطِيعاً ... لغَرامِي وهذه أيْمانِي إنني قد حملتُ من مُثْقلاتِ الصَّ ... دِّ ما لا يُطِيقُه الثَّقَلانِ يا مُرِيدَ السُّوِّ لي كُفَّ عنِّي ... فعَنِ الحبِّ ليس يُثْنَى عِنانِي أنا حِلْفُ الهوى رضيعُ الصَّبابا ... تِ حِلْفُ الغرامِ والأشْجانِ بين قلبي وسَلْوتِي مثلُ ما بَيْ ... نَ حِسانِ الوُجوهِ والإحْسانِ فاسْتَرِحْ عاذِلي ودَعْنِي أُعانِي ... من تبارِيحِ لَوْعتِي ما أُعانِي لا تلُمْنِي ومثلَ نفْسِك عامِلْ ... نِي فإن الإنسانَ كالإنْسانِ أنت بدْرِي وإن تجاهلْت ما يفْ ... علُ وَجْدٌ بِذِي هَوىً وَلْهانِ لستَ لا والغرامِ تجهل شأْناً ... لِمُحبٍ وإن تجاهلتَ شانِي أنت إمَّا مُغالِطٌ لِي وإلاَّ ... فغَيورٌ أو حاسِدٌ أو شَانِي وجيه الدين عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب ابن علي بن شمس الدين بن شرف الدين بن شمس الدين بن أحمد بن يحيى. الوجيه نضر الله وجهه، وجعل وجهته للفلاح خير وجهة. من بين معادن الموجودات النضار أو العسجد، ومن بين جواهر الذوات درة التقاصير أو الزبرجد. فهو كنز النائل المستماح، ومطلب الكرم والسماح. له لب الفخار الأشب، وبحبوحة النسب والنشب. سامي السماك بعزمٍ للحساد مبيد وماحق، وسبق إلى غايات الفضل ولا بدع فليس للوجيه لاحق. وقد وقفت له على شعرٍ تلألأ غرة المجد في محياه، وتروق السقاة الأقمار كؤوسها من حمياه. فمنه قوله: قد طار قلبي إلى مَن لا أُسمِّيه ... وإن تناسَى الوفا فاللهُ يحْمِيهِ مُهَفْهَفٌ مادَ من تِيهٍ ومن جَذَلٍ ... فكاد قَدُّ قضِيب الْبانِ يَحْكِيهِ بدرٌ تكادُ بدورُ التِّمِّ تُشبِهُه ... والظَّبْيُ حاكاه لكنْ ما يُساوِيهِ ذُو مُقلةٍ يعرف السحرَ الحلالِ بها ... قلبي بها يتقلَّى في تَلَظِّيهِ كم أكتمُ الحبَّ في قلبي وأُضْمِرُه ... لكن مدامعُ عيْني ليس تُخْفيهِ أبِيتُ أرْعَى نُجومَ الليلِ مُنْزعِجاً ... ألْتاعُ شوقاً وفي قلبي الذي فيهِ لي نارُ وَجْدٍ واشواقٍ أُكابدُها ... للهِ قلبيَ فيه كم يُقاسِيهِ البرقُ يُذْهِلُه والرِّيحُ يُدهِشه ... والشوقُ ينْشُره والوجدُ يَطْوِيهِ ولده الحسين سيد هذه الأسرة بأسرها، والواقف على نكتة المسألة وسرها. أحد من تحدى بما أبدى، وأسكت كل منطيقٍ لما أدى. تصدر بالعلم وجلالة القدر، حتى شهد له الصدر بأنه الصدر. وكانت بلادهم مخضرة الأكناف من أندائه، فشمل بره كافة أصدقائه وأعدائه. فأصبح والهمم إليه نازعة، ولطاعته متنازعة. والقلوبُ بولائه صبة، وإلى ثنائه منصبة. افترت أيامه ضاحكات المباسم، واستوت فلك أمانيه على مراسم المواسم. حتى قام الإمام محمد بن أحمد بن الحسن قومته التي أرهبت ليوث الآجام، وهي بعد أجنةٌ لم تخرج من الأرحام. فما عقد أمانا، ولا وفى ضمانا. ولا أشهد على نفسه ثقة، ولا غلط يوماً بفرط متعة. ولبس لبس الأشرار، وخلع حلية الأحرار. ضربا بالسيوف البواتك، وطعنا بالرماح الفواتك. حتى لقيت اليمن منه العبر، ووقفت من خروجه على جلية الخبر. فبعض كبرائها ترك الوطن وجلاه، والبعض الآخر أسلمته إلى القيود رجلاه.

فكان الحسين ممن استبدل اليمن بالحرم الآمن، وأقام به وهو كالدرة في وسط الصدف كامن. فتلت الألسن سور أوصافه، واجتلت الأسماع صور اتسامه بالفضل واتصافه. وقد رأيته بمكة في يومٍ خرج به متنزها، وجوه يطلع صندلا، وممشاه يفوح مندلا. فرأيت ملكاً في صورة ملك، وبدراً طلع من فلك. عنوانه يدل على طرسه، ونور معاليه مبين طهارة غرسه. وطلبت به الاجتماع مع واسط له من أخصائه مادح، فاعتذر له بما اعتذر به عز الدولة ابن صمادح. وذلك ما حكى ابن اللبانة الشاعر، قال: ذكرته لأحدٍ ممن صحبته من الأدباء، ووصفته بما فيه من الصفات العلية، فتشوق إلى الاجتماع به، ورغب إلي في أن أستأذنه في ذلك. فلما أعلمت عز الدولة، قال: يا أبا بكر، أتعلم أنا اليوم في خمول وضيقٍ، لا يتسع لنا معهما، ولا يجمل بنا الاجتماع مع أحدٍ، لا سيما مع ذي أدب ونباهة، يلقانا بعين الرحمة، ويزورنا بمنة الفضل في زيارتنا، ونكابد من ألفاظ توجعه، وألحاظ تفجعه. يجدد لنا هماً قد بلي، ويحيي لنا كمداً قد فني، وما لنا قدرةٌ أن نجود عليه بما يرضى به عن همتنا، فدعنا كأننا في قبر نتدرع لسهام الدهر، بدرع الصبر. وهو كما تحققته في العلم أجل من انعقدت عليه عشرة أبناء الدهر، وأشهر من البدر في ليلة الرابع عشر من الشهر. وله في الأدب فرائد شنف بها آذان الزمان، وأطلعها أشف من قلائد العقيان، وعقود الجمان. وجميع ما أثبت له قد جردته من كتاب الطوق الذي جمعه يوسف بن علي الهادي من شعر بعض العصريين باليمن. قال فيه: لما بلغه تأليفي لهذا الطوق، وتكليف نفسي بمزاحمتها لأهل هذه الصناعة فوق الطوق. رغب الاطلاع عليه، وسأل مني ذلك فسيرت ما كان قد تحصل مني إليه. وسألت منه نظم شيء في الحمائم، ونقل ما أمكن من نظمه ونثره اللذين لم يكتم شهادتهما ومن يكتمها فإنه آثم. فعاد الرسول مصحوباً بقطعة منها هذا نظير، في وصول الطوق الذي لا يدخل تحت الطوق له نظير، يُوسُفِيُّ الجمالِ كم هام صَبٌّ ... في معانِي جمالهِ اليُوسُفِي ولما كمل له النظر فيما أرسلت إليه من هذا التأليف، أعاده إلي ومعه كراس فيها من معجز نظمه البديع الترصيف. افتتحها بأبياتٍ، مدح بها ما أودعته في هذا التأليف من الأبيات البينات. ولعمري: إن الإنصاف، من خلال الأشراف. والإنكار، من خلال الأشرار. والإنكار، من خلال الأشرار. وقبلها من قوله، ما لفظه: هذه الأبيات في تقريظه طوق الصادح، الذي لا يدخل حصر أوصافه تحت طوق المادح: لَعَمْرُك ما الروضُ المُوَشَّع بالزَّهْرِ ... ولا طلعةُ البدرِ الذي حُفَّ بالزُّهْرِ ولا الحُور قَلَّدْنَ النُّحورَ قلائداً ... تُضِيءُ من الدُّرِّ المفصِّل بالشَّذْرِ ولا ابنُ ذُكا يا ذا الذَّكاء ولا ولا ... بأبْهَج من هذا الكتابِ بلا نُكْرِ لقد أطربتْ ألفاظُه كلَّ سامعٍ ... فيا مَن رأَى طَوْقاً له نَغْمةُ القُمْرِي مَعانِيه أضْحتْ في المَهارِق تُجْتلَى ... كما يُجْتلي وَجهُ المَليحة في الخُمْرِ ولا عيبَ في ألْفاظِه غير أنَّها ... غَدَتْ لأُلِي الألْباب تنفُث بالسِّحْرِ على كُتب التّاريخ يفضُل يا فتَى ... كما فضَلتْ شمسُ النهارِ على البَدْرِ فما يُجْتلى وجهُ الخرِيدة بعدهُ ... وذَلَّ به قَدْرُ اليتيمة في الدهرِ ورَيْحانة المولَى وإن فاح عَرْفُها ... ففي طَيِّ ذا من رِيح يوسُفَ والنَّشْرِ فمن علَّم الوَرْقا بأنَّ محَلَّها ... به قد غدَا يعلُو على هَامةِ النَّسْرِ فقُل للذي جاءتْ بَنانُ بيَانِه ... بزُخْرُفِ لفظٍ قد سَبا كلَّ ذي حِجْرِ لئن ورَدَت نهرَ البَيان عصابةٌ ... فأنت الذي قد خُضْتَ من ذاك في بَحْرِ وإن هَبطتْ مصرَ البلاغةِ عُصبةٌ ... فيوسفُ قد أضْحَى العزِيرَ على مصرِ قال: هذا هو النظم الذي لو رامت البدور أن تحاكيه لظهر عليها أثر التكلف، أو دعيت الأقلام إلى رقمه لسعت إليه على رأسها وما جنحت إلى التخلف.

أو همت الراح أن تشابهه في تجديد اللذات لقلنا لها هذا مما لا يدركه العتيق، أو التمس أحدٌ شقيقاً للرياض لقالت له وأبيك ما لي غير هذا النظم من شقيق. أو تغلغل فكر ابن بحرٍ في طرفٍ من محاسنه غرقت فيه أواخره، أو تجلى طرسه للأفق غارت من شموس معانيه زواهره. فلله در ناظمه من فصيحٍ لم يزل الحلي السطور لا الصدور صائغا، ومن بليغٍ يكون الكلام دونه أجاجاً فإذا انتهى إليه تلقى طيبه فصار فراتاً سائغا. ومما جمعه من ثمر نظمه في تلك الأوراق، وأطلق براعته لرقممه فغدا مشكوراً على الإطلاق. قوله في ورقا، رقت من الدوح ورقا، ورقت لها القلوب لما رقت نفسها خوفاً من الجنون وما أكيس من رقى نفسه ورقى: ما للمَشُوق مُجِيبٌ في دُجَى الغَسَقِ ... سوى الصَّدَى وهَدِيلِ الوُرْق في الوَرَقِ يا قومُ لو كان للورَرْقا شُجونُ شَجٍ ... ما صَفّقتْ من سرورٍ طَلْعةَ الفَلَقِ ولو لها فقَدتْ إلْفاً لما خضَبتْ ... كَفّاً ولا جعلتْ طَوْقاً على العُنُقِ ولم تُحرِّكْ لنا عُوداً وتنشِد من ... ألْحانِ إسحاقَ أصْواتاً على نَسَقِ وهي التي دمعها ما زال مُحتبَساً ... والصَّبُّ من صَبِّ دمعِ العين في غَرَقِ وحَسْبُها أنها باتتْ مُعانِقةً ... غُصْناً وبتُّ لغُصني غيرَ مُعتنِقِ أبِيتُ ليلِي أُراعِي النجمَ مُكتئِباً ... لفَرْطِ ما بِيَ من وَجْد ومن أرَقِ ما أعجبَ الحبَّ يشْتاقُ العَمِيدُ إلى ... رِئْم الصَّريمِ وقد أرْداه بالحَدَقِ يا وردَ ذا الخدِّ دعْ إنكارَ قَتْلِ فتىً ... ما قَطُّ أبْقتْ له يُمنْاك من رَمَقِ في خَدِّك الشَّفقُ الْقاني بدَا وعلى ... قَتْلِ الحُسَينِ دليلٌ حُمرةُ الشَّفَقِ هذا الشعر أرق من مدام الطل في كؤوس الزهر، وأفتن ولا أقول أفتر من جفون الحور المكسورة على الحور. ولطيفة الشفق من مبتكراته، وبدائع مخترعاته. والقول بأن الشفق الأحمر لم يظهر إلا من بعد قتل الحسين بن علي وردت فيه أخبار. قال العلامة ابن حجر الهيتمي، في الصواعق المحرقة، في باب خلافة الحسين ما لفظه: أخرج الثعلبي، أن السماء بكت وبكاؤها حمرتها. وقال غيره: احمرت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله، ثم لا زالت الحمرة تردد بعد قتله. وأن ابن سيرين، قال: أخبرنا بأن الحمرة مع الشفق لم تكن قبل قتل الحسين. وذكر ابن سعد أن هذه الحمرة لم تر في السماء قبل قتله. قال ابن الجوزي: وحكمته أن غضبنا يؤثر حمرة الوجه، والجو تنزه عن الجسمية، فأظهر تاثير غضبه على قتل الحسين حمرة الشفق، إظهاراً لعظيم الجناية. انتهى كلام ابن حجر. قلت: للمقال مجال في هذه الأخبار، فقد قيل قيد الشارع صلى الله عليه وسلم انقضاء وقت المغرب بغيبوبة الشفق الأحمر، وجعلها حكماً من الأحكام ولا يكون ذلك إلا مع ظهوره في زمنه صلى الله عليه وسلم؛ فإن من البعيد أن يتعبدنا الله بحكم معدوم سيوجد. والحديث الوارد في تقييد انقضاء وقت المغرب بغيبوبة الشفق الأحمر مشهورٌ عن ابن عمر، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولفظه: " الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة ". أخرجه ابن عساكر، في غرائب مالك. وقال الدارقطني في السنن: قرأت في أصل أحمد بن عمرو بن جابر، قال: حدثنا علي بن عبد الصمد، حدثنا هارون بن سفيان، حدثنا عتيق بن يعقوب، حدثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، باللفظ المذكور أولاً. ورواه ابن عساكر أيضاً من حديث أبي حذافة، عن مالك، وقال: حديث عتيقٍ أمثل إسناداً. وقد ذكر الحاكم في المدخل حديث أبي حذافة، وجعله مثالاً لما ذكره المخرجون من الموقوفات. وقال ابن خزيمة في صحيحه: حدثنا عمار بن خالد، حدثنا محمد بن يزيد، هو الواسطي، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمر، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " وقت صلاة المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق ".. الحديث.

قال ابن خزيمة: وإن صحت هذه اللفظة أغنت عن جميع الروايات، لكن تفرد بها محمد بن يزيد، وإنما قال اصحاب شعبة فيه: نور الشفق مكان حمرة الشفق. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: قلت، محمد بن يزيد صدوق. انتهى. والتوفيق بين القولين صعبٌ جداً، وبالله التوفيق. ومما يتعلق بالشفق قول الشهاب: مُذْ نَحَرْتُ الأيامَ خُبْراً وكانت ... لي مَطايا قد أثْقلَتْها الأمانِي سلَختْ مُديةُ الهلال شُهوراً ... شفَقُ الأُفْقِ من دمِ السَّلْخِ قَانِي ومن شعر الحسين هذه القصيدة: لفؤادي في الهوى كَدٌّ وكَدْحُ ... ولطَرْفي بالدِّما سَحٌّ وسَفْحُ يا أخا التحْذيرِ أغْرَيْتَ وكم ... مُغْرم أغْراه من قد راح يَلْحُو قُل لِسَالٍ أسْنَد الوَجْد إلى ... نفسِه مَهلاً ففي الإسْنادِ قَدْحُ إن كسا الوَجْهُ حسيْناً ثوبَه ... فأحاديثُ الكِسا فيه تَصِحُّ عاذِلي كُن عاذِري في حُبِّ مَن ... فَرْقُه مَعْ فَرْعه صُبْحٌُ وجُنْحُ ظالمٌ مَأْواه في قلبي وما ... لذوِي الظُّلمِ من النِّيران بَرْحُ شَحَّ بالوصلِ وللرِّيم حكَى ... أَخُّ من شخصٍ كريمٍ فيه شُحُّ قَدُّه لا طَعْنَ في أوصافهِ ... عجباً لا طعن فيه وهْو رُمْحُ كلَّما ماسَ تغنَّى حَلْيُه ... فإذا للوُرْقِ فوق الغُصْنِ صَدْحُ أنْكرَتْ عيْناه قْتلِي وعلى ... وَجْنتيْه من دمِي نَضْحٌ ونَصْحُ بدمِي قد شهدتْ وَجْنتُه ... ولطَرْفي وَيْحَه في تلك جَرْحُ ليت شِعْري هل لقلبي سَلْوةٌ ... عنه كلاّ ما لِهذَا البابِ فَتْحُ لا يطِيبُ العيشُ إلاَّ للذي ... لم يكُن في طَرْفِه ما عاش طَمْحُ فعَذابي أصلُه من نَظْرةٍ ... رُبَّ جِدٍ جَرُّه للمرءِ مَزْحُ تالله ما هذا الإ روضٌ يسند لنا وجهه الطلق عن بشر بن بسام، وتتغنى حمائمه فيجر النسيم ذيله طرباً ويرقص الزهر والأكمام. وقوله: إن كسا إلخ، فيه إشارة إلى خبر مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات غداة، وعليه مرطٌ مرجل من شعر أسود، فجاء الحسين فأدخله، ثم الحسن فأدخله، ثم فاطمة فأدخلها، ثم عليٌّ فأدخله، ثم قال: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ". وفي رواية: " اللهم هؤلاء أهل بيتي ". وفي رواية أخرى أن أم سلمة أرادت أن تدخل معهم، فقال صلى الله عليه وسلم بعد منعة لها: " أنت على خيرٍ ". وفي رواية أنها قالت: يا رسول الله، وأنا! قال: " وأنت من أهل البيت العام ". بدليل الرواية الأخرى: وأنا؟. قال: " وأنت من أهلي ". وكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لواثلة، لما قال: يا رسول الله، وأنا؟ فقال: " وأنت من أهلي ". وفي حديث حسن، أنه صلى الله عليه وسلم اشتمل على العبا وبنيه، ثم قال: " يا رب، هذا عمي وصنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي، وخاصتي، فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي ". وقوله: " ظالم مأواه في قلبي ".. البيت. هو كقول ابن نباتة: شديدُ الظلمِ مسكنُه بقلبِي ... كذاك الظلمُ يُوقِع في السَّعيرِ إلا أن بيت صاحب الترجمة أكمل معنىً، وأروق لفظاً، وأصح مبنىً. وقوله: شح بالوصل.. البيت، هو كقول الصفي الحلي: مُبَخَّل يُشْبه رِيمَ الفَلاَ ... وأطْولُ شَوْقِي من بخيلٍ كريمْ وقوله: أنكرت عيناه قتلي..، والبيت الذي بعده، هما كقول القائل: أنكرتْ مُقلتُه سَفْكَ دمي ... وعلاَ وجْنته فاعْترفَتْ وقول الآخر: خدَّاك بقتْلي قد شهِدا ... فعلى مَ جُفونُك تجْحدُهُ ولكن فاتهما لطيفة النضح والنصح، وتورية الجرح التي لا أعدل ممن يشهد بحسنها من العدالة إلا العدول إلى القدح. وأما قوله: فعَذابي أصلُه من نَظْرةٍ فلا يخفى ما في وجه فصاحته من النضرة، التي تصبو إليها أبصار البصائر من أول نظرة. وإرسال المثل فيه هو الجمال البديع، والسحر المبين لأهل البديع. فسبحان المانح.

ومن قلائد أشعاره، وخرائد أفكاره. قوله في الغزل: خفِّفْ على ذي لَوْعةٍ وشُجونِ ... واحْفَظْ فؤادَك من عُيونِ العِينِ فلَكَمْ فؤاد وَاجِب من سَهْمِها الْ ... مسمومِ أو من سيْفها المَسنونِ واترُكْ مَلامةَ مُغْرَمٍ في حبِّ مَن ... أغنتْ مَ؛ اسنُه عن التَّحْسينِ رَشَأٌ أغَنُّ غَضِيضُ طَرْفٍ لم يزَلْ ... يأتِي بسحْرٍ مِن رَناه مُبِينِ ستَر الضحى من شعرِه بدُجىً كما ... كشفَ الدُّجى منه بصُبح جَبِينِ وتراه مُنتصِبَ القَوامِ ولم يزَلْ ... عن ضَمَّه ينْهَى بكسْر جُفونِ وإذا مشَى مَرَّ النسيمُ بعِطْفِه ... فيكاد يلْويِه لفَرْطِ اللِّينِ نابتْ عن الصَّهْبَا سُلافةُ رِيقهِ ... وخدودُه أغْنَتْ عن النَّسْرِين ما مال كالنَّشْوان تِيهاً عِطْفُه ... إلاّ وفيه ابنةُ الزَّرَجُونِ وترى الذي أرْداه صارمُ لَحْظِه ... يحيا برَشْفِ رُضابِه في الحِينِ فلِحاظُه فيها المَماتُ ورِيقُهُ ... ماءُ الحياةِ لمُغرَمٍ مَفْتونِ يا شادناً شاد الغرامُ كِناسَه ... في مُهْجتِي لا في رُبَا يَبْرينِ لك في فؤادِي مَرْبَعٌ وحُشاشتِي ... لك مَرْتَعٌ والوِرْدُ ماءُ عُيونِي يا مَن له الخَدُّ الأسِيلُ ومَن له الطَّ ... رفُ الكحِيلُ وحاجِبٌ كالنُّونِ ما زلتَ مُغْرىً بالخِلافِ لشافِعي ... يا مالكِي وتقول لا تُرْدِينِي وَيْلاه مِن لا في الجواب وكَرْبِها ... يا كربَ لا أرَضِيتِ قتلَ حسينِ لمَّا تحمَّلتُ الغرام وقام في ... جَفْنِي السَّقامُ وسال ماءُ جفونِي يا مَن يدومُ على البِعادِ أما ترى ... قد حَلَّ بي من ذاك ما يُضْنِينِي زفراتُ مُشتاقٍ ولوعةُ عاشقٍ ... وحنينُ مُدَّكِرٍ ودمعُ حزينِ ورضيتُ قتْلي في هواك ولم أقُلْ ... أكَذا يُجازَى وُدُّ كلِّ قَرِينِ قوله: وَيلاْه مِن لا في الجواب وكَرْبها هو كقول الفيومي، في مليح اسمه حسين: جعلتَ جَفْني واصلاً والكرَى ... رَاء فجُد بالوصل فالوصلُ زَيْنْ ولا تُجِبْني عن سُؤالِي بِلاَ ... فالقلبُ يخْشَى كَرْبَلاَ يا حُسَيْنْ لكن قول الحسين هو عند نقاد الأدب الدر الثمين، فإنه أبدع وأطرب، وأغرى على حب محاسنه وأغرب. ومن ظره بعين الإنصاف، رآه أسنى من البدر عند الإنصاف. ومن نظمه قوله مضمناً في شخص يلقب بأخي الحوائج: سُلْوان قلبي في هوَى من لقَّبوا ... بأخِي الحوائج ما إليه سبيلُ عجباً له ما مَلَّه ذُو مُقْلةٍ ... وأخو الحوائج وجهُه مَمْلولُ وقوله مضمناً مع زيادة التورية: ورِيمٍ غَرِيرٍ بالجميل مُولَّعٌ ... تناءيتُ عنه وهو يدْنُو ويقرُبُ فقبَّلْتُه في الخَدِّ سبْعين قُبْلةً ... وكلُّ امرىءٍ يُولِي الجميلَ مُحبَّبُ استعمال التحبيب بمعنى التقبيل عرف شائع لأهل اليمن، وبه حسنت التورية. وكتب إلى القاضي عماد الدين يحيى بن الحسين الحيمي ملغزاً: قُل لعماد الهدى الجليلِ ومَن ... كاد لفَرْط الذكاءِ يلْتهِبُ ما سابحٌ في البلاد ذُو قَلَقٍ ... ما إن له في وقوفه أرَبُ يُتابع الخِضْر في شريعتِه ... فاعْجَبْ له إنَّ أمرَه عجَبُ إذا ألْتقتْه السَّفِينُ يخْرِقُها ... وهو لعُمْر الغلام ينْتَهِبُ لكنه في الجدارِ خالفَه ... يُزَلْزِل الجُدْرَ وهو مُنْتَصِبُ ما زال ما سَار في تقلبُّبِه ... وهْو على ذاك ليس ينْقلِبُ فأجابه القاضي أبو الفضل محمد بن الحسن:

يا شَرَف المَكرُمات نظمُك قد ... وافَى إلينا وكلُّه نُخَبُ مُنْسَبِكَ النظمِ في فواصِلِه ... كأنما الشُّهُد فيه مُنْسكِبُ مثلُ عقُود الْجُمانِ في نَسَقٍ ... تعجزُ عن صَوْغ مثلهِ العرَبُ جاء على غِرَّةٍ فأذْعَرنِي ... كالسيلِ لكنَّ ضَرْبَه ضَرَبُ فهو الذي أخْرَب الجِدارَ كما ... إذا الْتقتْه السَّفِينُ تضْطرِبُ وهو الذي سار في البلادِ فلا ... يُنْتَجُ في موضعٍ له نُجُبُ وهو لعُمْرِ الغلامِ مُنْتهِبٌ ... أيضاً وللكهلِ ظَلَّ ينْتهِبُ وشِرْعةُ الخِضْرِ إذ يمُرُّ بها ... طريقُه إنَّ أمْرَه عَجَبُ وهْو مَدَى الدهرِ في تقلُّبِه ... وليس قلبٌ له إذا قلَبُوا ذكرت بهذا اللغز لغزاً لنصير الدين الحمامي كتبه إلى السراج الوراق وهو: لتُرشِدني شيئاً به تُرْشَد المُنَى ... له قلبُ صَبِّ كم فؤاد به صَبُّ إذا ركِب الهَيْجاء يُخْشَى ويُتَّقَى ... فلم يثْنِه طَعْنٌ ولم يثْنِه ضَرْبُ فقلتُ يهُدُّ الصَّخْرَ عند لقائهِ ... ومن أعْجَبِ الأشياءِ ليس له قَلْبُ ومن إنشاءاته التي إذا شدا بها اليراع وزهر طرسها أزرت بكل حديقةٍ غنا، أو عرفنا بها السحر المبين علمنا أنه لم يستتر وجه الصواب عنا. ما كتبه جواباً عن كتاب أنشأته إليه من عمى أوحد الكبرا، وأجمل الوزرا. ذي النظم الفائق، والإنشاء الرائق. عبد الرحمن بن الهادي، لا برح روض مجدٍ يقيد عين الرائي وعين جود يكرع منها الصادي. وهو: سماء بلاغة زهرت نجوم بروجها، وروضة فصاحةٍ نجمت زهور مروجها. وردت إلي بأنفاسها اليوسفية، ونسماتها الندية الندية. من مقام من اشتد بوزارته أزر الإمارة، وظهرت على محبته وصدق مودته الأمارة. ذلك الماجد المكرم، والسابق في حلبتي الأدب والنسك حتى أنسى بالكميت وابن أدهم. بهجة النادي وحدقة حديقة الوادي، وجيه الدين عبد الرحمن بن الهادي. لا زال مرتشفاً من النعم زلالها الصافي، متفيئاً ظلالها الظليل الضافي. ما ناحت الحمام على الهديل، وأطربت بهديرها والهديل. وبعد؛ فإنه ورد منه ذلك الكتاب، الذي أزال خطوب النوى بلطف ذلك الخطاب. فأقسم بالليل من سواد نقسه، وبالفجر من بياض طرسه. لقد تعطرت به الأرجاء وتمسكت، بالأكف التي تلمست به وتمسكت. ولقد شنف الأذان بما أودع من الجواهر والدرر، وفعل ذلك اللفظ اليوسفي في البصائر فعل القميص اليوسفي في البصر. فلله در منشىء ذلك الدر النظيم، ولولا ذلة اليتم لقلت اليتيم. ولعمري إن من أجل فوائد هذا السفر المفيدة، تطويقي بنفيس تلك الدرر الفريدة. وأسأل فالق الحب والنوى، أن يهبني أسباب الإياب ويقطع أسباب النوى. وقد قابلت بحصى هذا الجواب درر ذلك الابتدا، ولو لزم استواء لفظ البادي والمراجع لما سمي جواباً رجع الصدى. فعلى صاحب ذلك الكتاب وكاتبه، أزكى سلام الله وأطايبه. ودعاؤهم مستمد في آخر شهر الصيام، سيما بالتوفيق وحسن الختام. ومن غاياته التي لا تدرك، وآياته التي لا تشرك. ما كتب به جواباً عن قصيدة، كتبها إليه أوحد السادة، وسلسيل أكرم قادة. ضياء الإسلام والدين زيد بن محمد بن الحسن، وأرسلها على يد السيد عماد الدين يحيى بن أحمد العباسي. فأصحبها السيد المذكور أبياتاً منه تتضمن تصديرها إليه، فأجاب عليها بهذه الكلمات، وما بعدها من النظم الذي تنعقد خناصر المحبرين عليه: وهو: أبهى تحفٍ تحف بكل معنىً بديع، وأبهج كلمٍ يعجز عن تحرير مثلها الحريري والبديع. وردت إلينا من مقام من أضحت العلوم بأسرها في أسره؛ فهو ابن عباس عصره، وابن بسام دهره، يحيى الذي يحيا الفؤاد بذكره. أتحفه الله بسلام تتعطر الأرجاء بنشره، ويليق بعالي مقامه الرفيع وقدره. وبعد؛ فإنها وردت تلك المطالعة، التي طلعت بدورها بالأنوار الساطعة. متضمنة تصدير تلك الحدائق التي تروق الناظر، ويذوي لدى نورها النجم الزاهر، ويخفى عند نورها النجم الزاهر. من نظام فرع الدوحة القاسمية، وطراز العصابة الهاشمية.

فلعمري لقد نسج ببنان البيان برداً لم ينسج على منواله، وأثار برقه ذلك الغزل جوىً في حوائج كم من واله. فلما وصلت تلك الكلمة السنية، قابلها المحب بالإعظام والإجلال، ووضعها على العين والرأس، وقال: أهلاً بها فهْيَ أنفاسٌ ذَكِيَّاتُ ... نَدِّيَّةٌ ما لها نِدٌّ نَدِيَّاتُ هبَّت لنا من جهاتِ الشرقِ عاطرةً ... وإنها نسَماتٌ عَنْبَريَّاتُ جاءتْ تُذكِّر أيامَ العَقِيقِ فَصُبَّ ... تْ من الطّرْف في الخَدِّ الصُّباباتُ سقَتْ عهودَ لياليِه العِهادُ ففِي ... تلك الليالِي التي مَرَّتْ حلاواتُ أَعُدُّها من ليالي القَدْرِ حين غَدَا ... في جُنْحِها لنُزول الرُّوح عاداتُ مَن إن تثنَّى تغنَّى حَلْيُه فإذا ... لِلْوُرْقِ فوق قضِيبِ الْبانِ نَغْماتُ وقَدُّه ليس فيه مَطْعَنٌ أبداً ... فاعْجَبْ وقد شابهتْه السَّمْهرِيَّاتُ واعْجَبْ لألْحاظِه ما في الجمالِ يرَى ... حَدّاً لها قَطُّ وهْي المَشْرَفِيَّاتُ لجُملة الحُسْنِ أضحَى جامعاً فلذا ... إذا تبدَّى غدَا للناسِ سَجْداتُ عليك يا جامعَ الحُسْنِ الدموعُ غَدَتْ ... وَقْفاً فها هي جَوارٍ مُسْمِرَّاتُ يا مَن سَجَا طَرْفُه السَّاجِي ومَبْسَمُه الْ ... عاجِي صَبَا مَن له بالعشقِ سَكْراتُ وخيَّلتْ لكَلِيم القلبِ مُقْلتُه ... بالسحرِ أن حِبالَ الشَّعْر حَيَّاتُ وحُسْنُه أصْمتَ العُذَّالَ فيه وقد ... كانتْ تَنازَع فهْي الآنَ أمْواتُ الخمرُ بالنَّصِّ حلَّتْ في الجِنانِ فلِمْ ... يا جَنَّتي حُرِّمتْ من فِيك رَشْفاتُ يا ظالماً سُوحُه قلبِي ولا عجَبٌ ... فالظالمون لهم في النارِ سَاحاتُ قد أنْكرتْ مُقْلتاك اليومَ سَفْك دمِي ... فأكْذَبتْها بخَدَّيْك الأماراتُ في خَدِّك الشفَق الْقانِي وفيه على ... قتْل الحُسَينِ كما قالوا عَلاماتُ فهْو القتيلُ بلا ذَنْبٍ له ولِذا ... أضْحتْ تجَلَّى له في الأرض جَنَّاتُ من نَظْمِ من قد حَباهُ من بلاغتهِ ... بجَنَّة وجَنَى تلك الجناياتُ فأصبح الطيِّبُ مُذْ فاحتْ نَسائمُها ... في سُوحِنا وغَوالِيه رَخِيصاتُ ذاك الذي فيه أوْصافُ الكمالِ غدَتْ ... حقيقةً وهْي في قومٍ مَجازاتُ نَدْبٌ بصَارِمه المَسْنونِ قد وجبَتْ ... قلوبُ أعدائهِ وهْي المُباحاتُ سُلالةُ الملِك الهادي الذي عُقِدتْ ... له على الخلقِ في الأعْناق بَيْعاتُ مُرْدِي السيوف فما تشكُو الصَّدَى أبداً ... وكيف تشكُو الصَّدَى وهْي الصَّقِيلاتُ كم من رُءُوسٍ أبانَتْها صَوارِمهُ ... من العِدَى وهي آياتٌ مُبِيناتُ ما عمرُو ما مثلُ زيدٍ في الزمانِ له ... على سيادةِ من مَرُّوا زِياداتُ أبياتُه قد أتتْنا لا قصورَ بها ... كالزَّهْر لا بل هي الزُّهْر المُنِيراتُ وافتْ على يدِ من يحْيَا الفُؤاد به ... يحيى بنِ أحمد خَصَّتْه التحيَّاتُ مَن جاد بالدُّرِّ منظوماً ولا عَجَبٌ ... فالبحرُ حقّاً له بالدُّرِّ نَفثاتُ لو لم يكنْ آيةً في المَكْرُمات لمَا ... تلَتْه في طُرُقِ المعروف ساداتُ يا كوكَبْي فلكَ العَلْيا ومن سطَعتْ ... في كَوْكَبانَ بما قالا إناراتُ بدُرِّ نَظْمِكما للهِ دَرُّكما ... طَوَّقْتُماني ولي فيه مَقالاتُ لِذاك سَجَّعتُ في الأوراقِ مَدْحَكُما ... وللمُطَوَّق في الأوراقِ سَجْعاتُ

دامتْ لنا منكما يا مالِكَيَّ على ... مَرِّ الزمانِ مَودَّاتٌ مُؤدَّاةُ ما هبَّتِ الرِّيحُ والأرواحُ تُنْشِدها ... أهلاً بها فهْي أنفاسٌ ذَكيَّاتُ قوله: جاءت تذكر أيام العقيق. البيت فيه الاستخدام بالضمير، وهو استخدام حسن. وقوله: من إن تثنى ... البيت. هو كقول ابن نباتة: يتثنَّى وحَلْيُه يتغَنَّى ... هل رأيتَ الحَمامَ في الأغْصانِ وقوله: عليك يا جامع الحسن. هو كقول الأول: أجريْتُ واقِفَ مَدْمعِي من بعدِه ... وجعلتُه وقْفاً عليه جارِيَا وقوله: يا من سبى طرفه الساجي. فيه مراعاة النظير، وفيه التسجيح أيضاً. وقوله: كانت تنَازَع فهْي الآن أمْواتُ قد نازعني كأس هذه النكتة، وأنا السابق إليها بقولي: كم لي على حُسْنِه المطلوبِ من عُذَّلٍ ... قد نازَعوا وبغَيْظٍ منهمُ ماتُوا وقوله: الخمر بالنص ... البيت. فيه الاعتراض بجنتي، وهو من محاسن هذه القصيدة؛ لما اشتمل عليه من المعنى المبتكر البديع البعيد. وقوله: حقيقة وهْي في قومٍ مَجازاتُ ذكرت به قول القائل في مدح أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: أنت للعلمِ في الحقيقةِ بابٌ ... يا إمامُ وما سِواك مَجازُ وقوله: لو لم يكن هو آيةٌ من آياته، وفيه إثبات صفة غير ممكنة للموصوف، وهو كقول ابن نباتة: ولو لم تكنْ في الجودِ للناسِ آيةً ... لمَا كان مُنْهَلُّ الغَمام تَلاكَا وهذا النوع من البديع بديع، منه قول الخطيب الدمشقي: لو لم تكُنْ نِيَّةُ الجَوْزاء خِدْمتَه ... لمَا رأيتَ عليها عقدَ مُنْتطِقِ وقول التهامي: لو لم يكُنْ أُقْحُواناً ثَغْرُ مَبْسَمِها ... ما كان يزْدادُ طِيباً ساعةَ السَّحَرِ وقوله أيضاً: لو لم تكُنْ رِيقَتُه خَمْرةً ... لما تثَنَّى غُصْنُه وهْو صاحِ وقول أبي إسحاق الغرناطي: ولو لم يكُن رِيقُه سُكَّراً ... لمَا دار من حَوْلِه الشَّارِبُ ومن محاسن الحسين، قوله مضمناً ومورياً، لما استشهد أوحد الأمراء صفي الدين أحمد بن محمد بن الحسين، وكان لكثرة صمته تلقبه العامة بحجر: ودِدْتُ مَصرعَ مولانا الصَّفِيِّ ولا ... رجوعَ في سِلْكِ قومٍ بعد أن كسرُوا وصرتُ أُنْشِد من كَرْبٍ ومن أسَفٍ ... ما أطْيَبَ العيشَ لو أن الفتَى حَجَرُ السيد عيسى بن لطف الله بن المطهر بن الإمام شرف الدين هو من سادات هذه القبيلة، ونبغاء هذه الطائفة النبيلة. متعادل الشرفين، محبوك الجد من الطرفين. وله كلماتٌ من نفحة عيسى فيها نفخة، ومحاضرات في صفوة المدامة منها رشحة. وكان في كل العلوم مشاراً إليه، إلا أنه أكثر من علم النجوم فغلب عليه. فمن شعره هذه القصيدة، كتبها إلى الإمام القاسم، يتنصل مما ينسبه الناس إليه، وكان توجيهها من كوكبان إلى شهارة. وهي قوله: ما شاقَنِي سَجْعُ الحَمامهْ ... سَحَراً ولا بَرْقُ الغَمامَهْ كلاَّ ولا أذْكَى الجوَى ... ذِكْرُ العُذَيْب وذكرُ رَامَهْ ودموعُ عيني ما جرَتْ ... شَوفاً إلى لُقْيا أُمامَهْ هيْهات قلبي لا يمِي ... لُ إلى مليحٍ هَزَُّّ قامَهْ ما شاقَنِي إلاَّ الذي ... نفْسِي عليه مُستَهامَهْ بَرٌّ كريمٌ ماجدٌ ... حازَ الجَلالةَ والشَّهامَهْ وحوَى الفَخارَ جميعَه ... حتى غدا في الدهرِ شامَهْ لبِس الفضائلَ حُلَّةً ... فبدَتْ لها منه وَسامَهْ فردٌ تفرَّد بالعُلَى ... ولديْه للعَلْيا عَلامهْ أعْنِي أميرَ المؤمنِي ... نَ مُغِيثَ أرْبابِ الظُّلامَهْ القاسمَ المنصورَ مَن ... زان الخلافةَ والإمامَهْ

رُكن النُّبُوَّةِ شاده ... والبيْت ترفعُه الدِّعامَهْ عَرِّجْ بِمَرْبَعهِ الكري ... مِ ترَى به وَجْهَ الكرامَهْ وترَى جوَاداً دونَه ... في الجودِ طَلْحةُ وابنُ مامَهْ أعداؤُه شهِدتْ به ... بالفضلِ طُرّاً والزَّعامَهْ والفضلُ ما شهِدتْ به ال ... أعداءُ لا أهلُ الذِّمامَهْ أحْيا الجهادَ فكم له ... يوم حكَى يومَ اليمامَهْ واسْألْ بذاك سُيوفَه ... كم أذْهَبتْ في الجوِّ هَامَهْ فَطِنٌ يكون بِسَلْمِه ... بَدْراً وفي الهَيْجا في الجوِّ أُسامَهْ مولايَ يا قَمَر الهُدَى ال ... مذكورَ في قتِ الإمامَهْ يا مَن أرَى حُبِّي له ... أسْنَى الذَّخائرِ في القيامَهْ وجَّهْتُ نحوَك سيِّدي ... عِقْداً أجَزْتُ به نِظامَهْ عِقْداً من النَّظْمِ الذي ... سَلبتْ خَرائدُه قُدامَهْ يُهدِي إليك تحيَّتي ... ويُزيل عن سِرِّي لِثامَهْ أيضاً ويُوضِح حُجَّتِي ... والحقُّ مَسْلكُه أمَامَهْ لا تأخُذَنِّي سيِّدي ... بمَقالةٍ حازَتْ ذِمامَهْ وبقَوْلِ واشٍ قد حشَا ... لضعيفِ فِكْرته أَثامَهْ قد قال إنِّي قائلٌ ... بنُجومِ سعدٍ أو شَآمَهْ ونفَيْتُ صَنْعةَ ربِّنا ... ووثِقْتُ عمْداً بالنَّجامَهْ لا والذي جعلَ النُّجو ... مَ بلَيْلها تجلُو ظَلامَهْ ما قلتُ إلاَّ أنَّها ... للناسِ والأنْوا عَلامَهْ ولمن أتَى مُسْتغفِراً ... للهِ رَجْوَى في السَّلامَهْ مولايَ واسْأَلْ لائِمِي ... فلقد تهوَّر في المَلامَهْ ما صيَّر القمرَ التما ... مَ مُحقَّراً يحكِي القُلامَهْ ولِمَ الخسوفُ يُصِيبُه ... في الضَّعف إن وَافَى تمامَهْ والشمسُ والأفْلاكُ تُو ... ضِح لي بهيْئَتها كلامَهْ فبها عرَفتُ بأنها ... خَلْقُ الذي يُحْيي رِمامَهْ وعليك صلَّى خالقِي ... وحبَا رُبوعَك بالكَرامَهْ واسلَمْ ودُم في نعمةٍ ... يا خيرَ من رفَع العِمامَهْ ومن شعره ما قاله لما مر ببعض آثاتر جده المطهر: قلتُ لمَّا رأيتُ مُرْتبع المُلْ ... كِ بسُوحِ المُطهَّر المَلْك مُخْلَى أبداً تسْترِدُّ ما تهَبُ الدُّنْ ... يا فيا ليت جُودَها كان بُخْلا وأورد له ابن حميد الدين في كتابه ترويح المشوق هذه الأبيات: ظَبْيٌ على ظَبْيٍ سَطَا ... منه المُعَنَّى خلَّطَا يا هاجرِي كُن واصلِي ... فواصلٌ نَجْلُ عَطَا بَغَيْتَ بالصَّدِّ ولا ... أقُولُ أبْغَى الخُلَطَا لمَّا رأتْك مُقْلتِي ... قلتُ هلالٌ هَبطَا أردتُ منه وَصْلَهُ ... ورُمْتُ أمَراً فُرُطَا ورامَ صَبْرِي عاذِلي ... فقُلتُ رُمْتَ الشَّطَطَا قلبي عليه ذائبٌ ... ومنه ما قَد قَنِطَا إذا سلَوْتُ عِشْقَه ... فسَلْوتي عينُ الخَطَا أقْسمتُ ما أترُكُه ... ولو بشَيْبٍ وُخِطَا ولو إلى الموتِ دعا ... حثَثْتُ في السيرِ الخُطَا وربُّنا سبحانَه ... يغفرُ في الحبِّ الخَطَا ولده السيد جعفر أديبٌ شمائله مفترة عن النسيم، وأخلاقه منتسجة من الروض الوسيم.

يكاد للطفه يطير مع الهوا، لولا تجاذبه علائق الأهوا. وله شعرٌ يطرب المستمع، ويستشف صدق برقه الملتمع. فمنه قوله: في القلبِ من لَحَظاتِ الحبِّ أشْجانُ ... وفي الفؤادِ من الهجْرانِ نِيرانُ وكيف أفْتُر عن ذِكْر الحبيب وفي ... قلبي جوىً وسحابُ الجفْنِ هَتَّانُ وللفؤاد اشْتياقٌ في هوَى قمرٍ ... تُشْجِيه من نَغمات الطيرِ ألحانُ وكم تعلَّقتُ بالإعْراضِ عنه وكم ... بكيتُ حتى بكَى لي في الحِمَى الْبانُ وشَفَّني فيه وَجْدٌ لا أُطِيق له ... وكيف أصبرُ عنه وهْو فَتَّانُ حسِبتُ أنّ الكَرَى في العشقِ يُسْعِدني ... فصَحَّ لي فيه أن القَوْمَ خُوَّانُ قد كنتُ أملِك قَلبي قبل عِشْقتِه ... والآن قد رحلَتْ بالعقْلِ أظْعانُ يا مُحرِقاً لفؤادٍ أنت ساكنُه ... رِفْقاً فقد فتكَتْ بي منك أعْيانُ وكلُّ من لامَني في الحبِّ قلتُ له ... يكْفيك أنَّ عذابي فيه سُلْوانُ أحمد بن الحسين بن أحمد بن حميد الدين ابن المطهر بن الإمام يحيى شرف الدين ذو عارضةٍ لا تعارض، وسليقة لا تقارض. ونظم كالسحر إلا أنه حلال، ونثر كالماء إلا أنه زلال. جاء في ذلك بالمعجز، في الطويل منه والموجز. فيوجز لكنه لا يخل، ويطنب لكنه لا يمل، وكيف يمل، وتوفيق من أقاد العقول عليه يمل. وهو باليمن سرٌّ للنباهة، وفرد في جودة البداهة. وله الكتاب الذي سماه ترويح المشوق، ذكر فيه من نخب الأشعار ما هو ألذ من نظر العاشق في وجه المعشوق. جردت من أشعاره التي أثبتها فيه ما يهز المعاطف اهتزاز النشوان، وكأنما هو سقط الندى على الأقحوان. فمن ذلك قوله في وزان قصيدة يحيى بن مطروح، التي أولها: بأبِي وبِي طَيْفٌ طَرَقْ ... عَذْبُ اللَّمَى والمُعتنَقْ إيَّاك من سُودِ الحَدَقْ ... فهْي التي تكْسُو القَلَقْ لا يخْدعنَّك حُسْنُها ... فالأمْنُ يتْبعُه الغَرَقْ واحذَرْ مُلاطفةَ الغَوا ... نِي بالتذلُّل والمَلَقْ يا أيَّها المولى الذي ... أنا مِن مَوالِيه أرَقّ يا باخِلاً حتى بطَيْ ... فِ خيالهِ جُنْحَ الغَسَقْ للهِ وصلُك ما ألَذَّ ... وطعمُ هجرِك ما أشَقّ يا غُصنَ دُرٍ مائدٍ ... قد ضَنَّ عنَّا بالورَقْ جَمع المَلاحةَ والطَّرا ... وةَ والحلاوةَ في نَسَقْ كيف الخلاصُ لمُغرَمٍ ... لولا المَدامعُ لاحْترَقْ لولاك ما دار الغَيُو ... رُ ولا تشبَّثَ بالعُلَقْ يا أيها البرقُ الذي ... لخُفوقِه قلبي خَفَقْ ارفُقْ سفَحْتَ مَدامعِي ... اخْشَ عليَّ من الغَرَقْ أتظُنُّ أنك ثَغْرُه ... هيهات عنك الفَهْمُ دَقّ ما أنتَ جوهرُه النَّفِي ... سُ إذا تبسَّم أو نَطَقْ أقسمتُ من خَدَّيْك يا ... شمسَ المَلاحةِ بالشَّفَقْ ومن الجَبِين بِنَيِّر الْ ... قمرِ المُنيرِ إذا اتَّسَقْ ومن الغَدائرِ منك باللَّ ... يْلِ البَهِيمِ وما وَسَقْ لم أنْسَ لَيْلاتِ العُذَيْ ... بِ وطِيبَ ذَيَّاك الأرَقْ قصُرتْ ولكن طُوِّلَتْ ... أسَفاً بعاقبةِ الحُرَقْ يا عيْشَنا الماضي اللَّذي ... ذَ وأنت بالذِّكْرَى أحَقّ علِّي أراك عُلالةً ... ومن العُلالةِ ما صَدَقْ وقوله: يا رشأً أشْمَت بي العَواذِلاَ ... مالك جانبْتَ الوفاءَ عادِلاَ ما زلْتَ تُولِيني صُدوداً دائماً ... قد نصبَتْ لي هُدْبُك الحَبائلاَ أوْقَعْتنِي فيها فلَمَّا وقعْ ... تُ نفسِي ما حصَّلْتُ منك طائلاَ

كلَّفنِي هوَاك كلَّ كُلْفةٍ ... أكْسَبني صُدودُك البَلابِلاَ يا غاضِباً يا هاجِراً يا سائِغاً ... يا قابِساً يا رامِحاً يا نابِلا يا جائراً في نَهْيِه وأمْرِه ... يا قاسِياً يا فاتكاً يا قاتلاَ قد كنتُ خِلْواً قبل حَمْلي للهوى ... حتى رأيتُ أعْيُناً قواتِلاَ سَواحِراً يخْتِلْن أرْبابَ الهوَى ... والسحرُ أمْضَى ما يكون خاتِلاَ يا زمنَ الأثْلِ ومَن لي لو تَعِي ... نِدايَ أو تُرْجع عيْشِي قابِلاَ يا حَلْيَ لَذَّاتِيَ من بعدِك قد ... شاهدْتُ أجْيادَ المَهَا عَواطِلاَ هل تذكُرَنَّ ما تفضَّلْتَ به ... يا زمَناً قلَّدني الفَضائِلاَ أمْكننِي من بَدْرِ إنْسٍ آنِسٍ ... كانتْ له منازِلي منازلاَ تقْنَص آرامُ الظبِّا بعيْنِه ... فكم سَبا مَشادِناً مَطافِلاَ تُطرِبه إذا مشَى حُلَّتُه ... أستغفرُ اللهَ خَلا الخَلاخِلاَ يا بِأبِي بدرٌ على غُصْنِ نَقاً ... يُقِلُّه خَصْر كصَبْرِي ناحِلاَ يحمِل من أرْدافِه مثلَ الذي ... حَملْتُ كيْ أغْدُو له مُماثِلاَ كم لذَّةٍ قضَّيْتُها بحبِّه ... في روضةٍ تكْتنِف الخمائلاَ والنهرُ قد جُنَّ لفَرْطِ عُجْبِه ... فصارتِ الرِّيحُ له سَلاسِلاَ والنَّرجِسُ الغَضُّ يقول طَرْفُه ... لِيَهْنِك المُغازلُ المَغازِلاَ أُمْلِي عليه من كتابِ صَبْوتِي ... رسائلاً تُحقِّر الرسائلاَ لو أُنْشِدتْ رَضْوَى لرَقَّ صَلْدُه ... أو أُنْشِدتْ يَذْبُلَ عاد ذَابِلاَ فيا بَنِي الدنيا ويا أهلَ الهوى ... هذا هو العيشُ لنا تَطاولاَ لا وقفةُ الحائرِ في طُلولِه ... تسألُ مَغْناها حبيباً راحِلاَ وإنَّني أرجُو الذي مَرَّ لنا ... يُعِيده ربُّ السماءِ عاجِلاَ حتى تعودَ منه أبْياتُ الحِمَى ... أوانِساً تجمعنا أواهِلاَ وقوله: للهِ أيامُ الغَزَلْ ... ما بين مُعْترَكِ المُقَلْ أيامَ أرْكُض في مَيا ... دِين المَسرَّة والجَذَلْ والأحْوَرُ التَّيَّاه من ... حطَمتْ لَواحِظُه الأسَلْ بدرٌ بدا في الأَوْجِ مِن ... فَلَكِ الأزِرَّةِ واسْتَهَلّ مُتفرِّدٌ بالحُسْنِ قد ... حاز المَلاحةَ عن كَمَلْ ما فَوَّق السهمَ الذي ... في طَرْفِه إلاَّ قتَلْ يا خَصْرَه عجبَاً عليْ ... ك لِما حَملْتَ من الثِّقَلْ أيَقِلُّ منك الجَذْبُ يا ... وَاهِي القُوَى خَصْبَ الكَفَلْ يا أيُّها الرَّشأُ الذي ... أنا في مَحبَّته مَثَلْ نقَل الأراكُ بأن ثَغْ ... رَك ضَامنٌ لِشفا العِلَلْ يا حُسْنَ ما رفَع الأرا ... كُ عن الثغورِ وما نقَلْ خَبَرٌ نَماه إلى صِحا ... ح الجَوْهَرِيِّ فلا يُعَلّ مَن مُنْصِفي من جائرٍ ... شابَ الوَسامةَ بالبَخَلْ أفْدِيه من مُتلَوِّنٍ ... لا يستقِرُّ على عَملْ ياليْته صَدَّ الصُّدو ... دَ وليته مَلَّ المَلَلْ مُتحجِّبٌ بالرَّغْمِ من ... مَفْتونِه خَلْفَ الكِلَلْ وهو الذي في الرُّوح منِّي ... منذ حينٍ قد نزَلْ مافيه من عيْبٍ سوَى ... أن جار فيَّ وما عَدَلْ أو أنَّه نادَى فؤا ... دي بالصَّبابةِ وارْتَحَلْ والدمعُ ألْزمُه يَصُو ... بُ على المَنازِل وانْهَمَلْ

ناديتُ يوماً طَرْفَه ... اللهض في أمرٍ العَجِلْ فأجابني بجفُونِه ... السيفُ قد سَبق العَذَلْ وَاهاً له من مُدْرِكٍ ... فعَل الجِنايةَ واسْتدَلّ يا أثْلَ عِيسِ المُنْحنَى ... حَيَّتْك سُحْبُك بالبَلَلْ لم أنْسَ طِيبَك لا نَسِي ... تُ وطِيب أوْقاتي الأُوَلْ قد كنتَ جامِعَ لَذَّتِي ... بك كم حصُلْتُ على أمضلْ هل تعْطِفَنَّ برَجْعةٍ ... لي لستُ أرْضَى بالبَدَلْ أشكُو عليك من المُهَفْ ... هفِ سالبِ الظَّبْيِ الكَحَلْ يا مَا جرَى من بَعْدِ بُعْدِ ... كَ في العَمِيد وما حصَلْ فعَل العَزِيزُ بعبْدِه ... فِعْلاً يرِقُّ له الجبَلْ ما زلْتُ من أفْعالِه ... بين التَّدَلُّه والوَجَلْ قضَّيْتُ دهرِي في هَوا ... هـ مُوَلَّهاً بعسَى وعَلّ فاسْمَعْ لِما قال العَمِي ... دُ ولا تمَلَّ لِما أُملّ قد كنتُ كيتَ وذَيْتَ يا ... دهرِي القديمَ فلا تسَلْ فلقد قنِعْتُ إليك من ... شَكْوايَ منه بالْجُمَلْ واللهُ لي نِعْمَ الوَكي ... لُ فقد عجزْتُ عن الحِيَلْ وقوله: سقَى الأثْلَ كلُّ سَحابٍ مُطِلَّهْ ... عليه ولا برِحتْ مُستهِلْه رعَى اللهُ أيامَه السَّالفاتِ ... وحَيَّى مَحلَّتَه من محلَّهْ ولَيْلاتِ أفْراحِنا المُشْرِفا ... ت بأغْصانِ بَاناتِنا والأهِلَّهْ وكلّ فتاةٍ كأنَّ الهوى ... يُريد بها فتْنةَ الخَلْقِ جُمْلَهْ إذا عاقلٌ سامَها نَظْرةً ... على غِرَّةٍ أخذَتْ منه عَقْلَهْ وبي من كتمْتُ اسمَها غَيْرةً ... ومَن حُبُّها لفؤادي جِبِلَّهْ أُحاكِي في حُبِّها عَنْتَراً ... وتحْكِي وأستغفرُ الله عَبْلَهْ أُغالِط مِن أجلها عاذِلي ... وأشْتاق في باطنِ الأمر عَذْلَهْ وأكْنِي عن ثَغْرِها بالبُروقِ ... وبالرِّيم عن مُقْلتيْها تَعِلَّهْ رَبيبَةُ مُلْكٍ إذا ما انْثنتْ ... لإيقاعِ أقْراطِها والأثَّلهْ تحيِّر قَدّ قضِيب النَّقَا ... وتُظهِر في صَفْحةِ البدرِ خَجْلهْ وكم جاهلٍ قال لي قد سلَوْتَ ... هَواها فقُلتُ له حاشَ لِلّهْ يُؤنِّب والعُذْر من وَجهِها ... يُحرِّر لي نَيِّراتِ الأهِلَّهْ فيا لِيَ من عاذلٍ مُكثِرٍ ... ويا لِيَ من عَقْلِه ما أقَلَّهْ ومنزلها خَلَدِي والشِّغا ... فُ تحمَّلها حَلَّة ثم حَلَّهْ وإنَّ نَسِيبي لها وحدَها ... إذا نسَب الناسُ عُلْويَ ورَمْلَهْ وكتب إلى محمد بن إبراهيم بن يحيى الشرفي، من كوكبان، هذه الأبيات اعتمد فيها الجناس التام: أخْبارُ أيَّامِنا العَوالِي ... صِحاحُها نُجُلُ العَوالِي أيَّام سَلْعٍ وأين سَلْعٌ ... مَرَّتْ على أنها حَوالِي دهرٌ حَبانِي بكلِّ سُؤْلٍ ... وكان طَوْعِي وما حَوَى لِي وساحرُ الطَّرْفِ ضَنَّ عنِّي ... بالطَّيْف في عالَم الخَيالِ بنَى على الشَّكِّ في المعاني ... واستقْبل الجامعَ الخَيالِي هذا الجامع من محسنات علم المعاني، ومن مفتاح السكاكي في بحثه لطائف. قال: ذكر أن السيد العلامة صلاح الدين بن عبد الله المعروف بالحاضري، مضى إلى جامع صنعاء، فلقي بعض الطلبة خارجاً من الجامع، فسأله عن دخوله الجامع؟ فقال: للإعادة في التلخيص، فبدهه بعبارة القزويني: ولصاحب علم المعاني فضل احتياجٍ إلى معرفة الجامع. فليعجب من هذا الاتفاق، والبلاغة التي سلمت له بالوفاق. ما قَطُّ يلْوِي على شُجونِي ... من بين َحْبي ولا خَيالِي

أظهَر هجري بغير جُرْمٍ ... ولستُ أدري بما جَنَى لِي أرْخَص سِعر الدموعِ عجباً ... وهْي على غيرِه غَوالِي وضاع شِعْرُ العُبَيد لمَّا ... ضَاع شذَاه على الغَوالِي ضاع الشيء: فات، وضاع الطيب: ظهر. والشذا: الذكا. والغوالي: جمع غالية، نوع من الطيب. قال العسكري في الأوائل: أول من سمى الغالية غاليةً معاوية، شمها من عبد الله بن جعفر، فسأله عنها، فوصفها، فقال: إنها غالية. ويقال إن شمها من مالك بن مالك. وأنكر الجاحظ هذا، وقال: نحن نجد في أشعار العرب ذكر الغالية، وأنشد: أطْيَبُ الطِّيب طيب أم بان ... فَأرُ مِسْكٍ بعنْبرٍ مَسْحوقُ خلَطْته بزَنْبَقٍ وببَانٍ ... فهْو أحْوَى على اليديْن شرِيقُ ونسبهما إلى عدي بن زيد. ومعجونات العطر كلها عربية، مثل الغالية، والشاهرية، والخلوق، واللخلخة، والقطر، وهو العود المطرى، والذريرة. انتهى. وقد نقل أن الغالية وقع ذكرها في الحديث. وعن عائشة: كنت أغلل لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم. أرَجَف عني الوُشاةُ أنِّي ... في ثغْر سُلطانِه جَلالِي هيْهات أرْضَى بمِثلِ هذا ... أعاذَني اللهُ ذو الجلالِ قال: الشيء بالشي يذكر، ذكرت بالبيت الأول قول السيد العلامة الحسن بن أحمد الجلال، في الخال: ونازلٍ أظْلَم منه أسْوَد ... في مَنْزِل لم يكُ مُستَوْطِنَهْ مُذْ لاح للنَّاظر سُلطانُه ... عاد الجلالِيُّ إلى السَّلْطنَهْ قلتُ له مَرَّةً لماذا ... عاقْبتني جُرْأةً ولاَلِي وأنْت أعْتقْتني قديماً ... فقال أقْرَرْتَ والولاَ لِي إن كان في الناسِ من مُجيرٍ ... للصبِّ في دولةِ الجمالِ وقعتُ حالِي وما أُلاقِي ... فوراً إلى مَسْمَع الحجالِ عنَيْت قاضِي الأنام طُرّاً ... مَن امْتطَى غارِبَ الكمالِ تأخَّر السابقون عنه ... وبيَّن النَّقْصَ في الكمالِ هذا الكمال، عنى به محمد بن علي، المعروف بالزملكاني الدمشقي، وقد عقد ابن نباتة له ترجمة في سجع المطوق وأنشد: ما كان أحْوَجَ ذا الكمالَ إلى ... عَيْبٍ يُوقِّيه من العيْنِ إليك أرسلتُها تَهادَى ... كاملةَ الشَّكلِ والخَيالِ تنشُر طَيِّب الثناءِ نَشْراً ... عليك يا صادقَ الخيالِ فاقْبَلْ من المدحِ نَزْرَ قولٍ ... واستُرْ إذا ما رأيتَ قالِي أنت من الناسِ خيرُ خِلٍ ... غيرُ مَمْلولٍ وغيرُ قالِي فيا لَها فُرْجة أزالتْ ... عنِّي هُمومي وطاب بَالِي فاستعبدِ الدهرَ في سرورٍ ... والْبَسْه حتى يعودَ بَالِي فأجابه عنها بقوله: طالِعُ سَعْدٍ قضَى وفالِي ... أنَّ حبيباً حقّاً وفَى لِي وبُلْبُل الأيْك راح يشْدُو ... براحتِي وانْشِرَاحِ حالِي رافع صوتٍ بخفْضِ عيشٍ ... جدِيدُهُ صِينَ عن وَبالِ ذكَّرني إذ شدَا وغنَّى ... ما مَرَّ لي من حَمِيد حالِي ليالياً كُنَّ كالَّلآلِي ... سالفُ عيْشي بهِنَّ حالِي كم خوَّلتنْي ونوَّلتْني ... تلك الليالِي من النَّوالِ فليت أنِّي اتَّخذْتُ عهداً ... لا فوَّت البَيْن والنَّوى لِي ولا قضَتْ بافْتراقِ شَمْلِي ... وشَمْلِ مَيْمونةِ الشِّمالِ كم طَوَّقتْ جِيدَها الليالِي ... زَنْدُ يمينِي مع الشِّمالِ وكم سقتْنِي بما سقْتني ... من مُسْكِرٍ طاهرٍ حَلالِ لو بعده ذُقْتُ أيَّ حُلْوٍ ... أستغفرُ اللهَ ما حَلا لِي ذكرت بالبيت الأول قول ابن نباتة في خطبة سجع المطوق: وهذه أوراقٌ تثمر الشكر، وفواصل طاهرة إلا أنها تنتج السكر. للهِ عَيْشٌ خَلا وكُلٌّ ... كما قضَى ذُو البَقاءِ خَالِي

ليت الذي عمَّه جَمالٌ ... وخَصَّه حُسنُه بخَالِ رَقَّ لِرقٍ عزيز قومٍ ... أرْخَصَه الحبُّ وهْو غالِي ما رَقَّ لي مرَّةً صديقٌ ... ممَّا أُقاسِي ولا أوَى لِي ولم أجِدْ مثلَ واحدٍ في ... أواخِر الناسِ والأوَالِي طَوَّق جِيدي بعِقْدِ نَظْمٍ ... سُهْداً على الحالتيْن حَالِي يا واحداً في العُلَى فريداً ... وسابقاً ما تلاه تالِي وخيرُ مَن صام في نهارٍ ... وقائمٍ في الدجى وتَالِي إن مُسَمَّاك في اكتسابٍ ... لأحْمَدِ الحمدِ غير آلِ عليك أزْكَى السلامِ تتْرَآ ... بعد نَبي وبعدَ آلِ وكتب ابن حميد الدين إليه أيضاً، من محروس شبام، ونور الربيع يضحك عن حب الغمام قدِم الربيعُ وخيرُ مَقْدَمْ ... والغيثُ أنْجَم ثم أنْجَمْ يقال: أنجم المطر وأدجن، وأرث، وألث، فإذا قيل أقلع، قيل أنجم. وفي الكلم النوابغ: المرء يقدم ثم يحجم، والنوء ينجم ثم ينجم. وتقدَّم الأنْوَا فلو ... صَلَّى الوَلِي ورآه سلَّمْ والجوُّ ينشُر مِطْرَفاً ... لك فاخِتِيَّ اللونِ مُعْلَمْ والسُّحْبُ مَدَّ رُواقَ دِي ... باجٍ بساحتِنا وخَيَّمْ والروضُ نَمَّقَه الغَما ... مُ بحُسْنِ صَنْعته ونَمَّمْ فبَدا يرُوق الناظرِي ... نَ كأنه بُرْدٌ مُسَهَّمْ برد مسهم: فيه خطوط مستوية، ومن ثم سمى الإرصاد البديعي تسهيماً، أخذاً منه. وحقيقته أن يجعل قبل العجز من الفقرة والبيت ما يدل عليه، إذا عرف الروي. ومنه في التنزيل قوله تعالى: " وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ". والوردُ أبْدَى صفحةً ... من خدِّه فاشْتمَّ والْتمّ هذا هو العَيْشُ الذي ... يُصْبِي الحليمَ إذا تحلَّمْ قد كادت الدنيا تقُو ... لُ لساكِنيها لو تكلَّمْ هُبُّوا إلى فَيْءِ المُقلَّ ... صِ ظِلُّه فالفَىءُ مَغْنَمْ الغنيمة في هذا البيت نادرةٌ غريبة، وبعيدة الملك، وإن رآها الغبي قريبة. للهِ أنفاسُ الصَّبا ... ولطيفُ ما أهْدَتْه مِن ثَمّ يا طِيبَ رَيَّاها وإن ... أُغْرِي الشَّجِيُّ بها وأُغْرِمْ حَملت كلاماً سِرُّه الْ ... مكنونُ أن الشوقَ يُكْتَمْ ناديْتُها حتَّى م أحْ ... تملُ الهوَى العُذْرِي إلى كَمْ فتعثَّرتْ بذُيولها ... طَرَباً وقالتْ لا تظَلَّمْ لا رَأْىَ إلا الصبرُ وهْ ... ومع الرِّضا أسْلَى وأسْلَمْ فأجبْتُها سَمعاً لما ... حتَم الحبيبُ على المتيَّمْ فبِرُوحِيَ الأحْوَى وفي ... نَظْمِ الجِ، اس أقول أحْوَمْ الجناس بين أحوى وأحوم لاحق. وحقيقته أن يتباعد الحرفان في المخرج، وهو نقيض المضارع. ومن أمثلته في التنزيل: " ويلٌ لكل همزةٍ لمزةٍ ". بَدْرِيُّ وَجْهٍ كَمَّل الْ ... بارِي مَحاسِنَه وتمَّمْ ونَجِيُّ أسْرارِي وإنْ ... أكُ من لَواحظهِ مُكلَّمْ ذَهَبيُّ خَدٍ منه أثْ ... رَى صَبُّه والغيرُ أعْدَمْ ذُو مُقْلةٍ نَجْلاءَ أسْ ... حر مُقْلةٍ من فوق مَبْسَمْ لطيفة قال بعض قريش لرجل من بني عذرة، إذا علقتم المرأة تموتون، وهل هذا إلا خور!! فقال: لو رايتم الحواجب الزج، تحتها النواظر الدعج، تحتها المباسم الفلج؛ لاتخذتموها اللات والعزى. أنزلْتُه في المُنْحنَى ... من أضلُعِي واللهُ يعلَمْ رسلُ الخَيالِ إليه تَتْ ... رَى خِفْيةً والناسُ نُوَّمْ أن ليس أنْسَخُ وُدَّه ... بالهجْرِ منه فهْو مُحْكَمْ فاعجبْ لها من قِصَّةٍ ... يا أيها الحَبْرُ المكرَّمْ يا خيرَ تالٍ للأُلَى ... سَلفُوا وإن كان المُقدَّمْ

فائدة

عَرِّف حدودَ رُسومِها ... وامنَحْ برأْيٍ منك يُرْسَمْ علِّقْ غَرِيبَ حديثِها ... فمَحاسنُ الآدابِ تُرْقَمْ في هذا البيت إشارةٌ إلى قاعدتين من علوم الحديث. الأولى المعلق، وحقيقته ما سقط من مبادي سنده رجلٌ بعد التابعي أو رجلان، وهو من قسم المردود؛ للجهل بحال المحذوف. والثانية الغريب، وهو ما تفرد بروايته شخصٌ واحد في أي موضع من السند. وابعَثْ قرِيضَك عُوذةً ... لفؤادِ مُختبَلٍ مُهَيّمْ فالشوقُ أنْجَد فيه ل ... كنْ صبريَ المسكينُ أتْهَمْ وارْغَبْ إلى الوهَّاب في ... جَمْعٍ لفُرْقِتنا مُنظَّمْ وخِتامِ عُمْرٍ من شَذَا ... نَفحاتِه الأعمالُ تُخْتَمْ فأجابه بقوله: بأبِي وبِي عَيْشٌ تقدَّمْ ... كان المُنَى لو أنه تَمّ أيامَ أرْفُل في ثِيا ... ب شَبابِيَ الْهانِي المُنعَّمْ فائدة إنما سمي الغزل تشبيباً؛ لذكر الغريب فيه أيام الشباب، فما بكت الأعين شيئاً كما بكته، ولا رثت غائباً باشعارها كما رثته. ويروى أن منصور النمري لما أنشد هارون الرشيد أبياته العينية التي منها: ما تنْقضِي حسرةٌ منِّي ولا جزَعُ ... إذا ذكرْتُ شباباً ليس يُرْتَجَعُ ما كنتُ أُوفِي شبابِي كُنْه قِيمَتِه ... حتى مضَى فإذا الدُّنْيا له تَبَعُ استعبر الرشيد، وأجرى دمعه ذلك النشيد. وما أشجى قول ابن طباطبا: للهِ أيامُ الشسبابِ فإنَّها ... كانت لسُرعةِ مَرِّها أحْلامَا لو دام عَيْشٌ رحمةً لأخِي هَوىً ... لأقام ذلكم السرورَ دَوامَا يا عيْشَنا المفقودَ خُذْ من عيْشِنا ... عاماً ورُدَّ من الصِّبا أيَّامَا وأشجى منه قول ابن الأثير في المثل السائر، من رسالة: أعوامٌ تعد أياماً لقصر أعمارها، وشهورٌ لا يشعر بأنصافها ولا سرارها. فالأوقات بها أصائل، والمحاسن فيها شمائل، والمآرب في ساعاتها رياضٌ في خمائل. فما أدري أهي خيالات أحلام عزت، أم أحاديث أمانٍ مرت. والأحْورُ الأحْوَى ومعنى الْ ... عيشِ أحْوى الطرْفِ أحْوَمْ رَشَأٌ مُؤشَّرُ ثَغْرِهِ الْ ... بَرَّاق مَعْسولٌ مُوشَّمْ كأسٌ كخاتِم فِضَّةٍ ... أضْحَى بمِسكِ الخالِ يُخْتَمْ يُذْكِي الغرامَ مُبَرَّدٌ ... منه مليحُ الطعمِ والشَّمّ لو أشْرقتْ للبدرِ غُرَّ ... ةُ وجهِه صَلَّى وسلَّمْ من أجْلِه قد سَلْسلَتْ ... عيْنِي حديثَ الدمعِ عن دَمْ يا ليْته يوماً يَرِقُّ ... لحالِ مظلومٍ تظلَّمْ حتَّى مَ أشكُو واصْطبا ... رُ أخِي الهوى فَرْضٌ مُحتَّمْ للهِ مولىً مالكٌ ... أهْدَى ليَ الدُّرَّ المُنظَّمْ أهْدَى لِيَ الوردَ الجَنِيَّ ... وقالَ لي فاشْتَمَّ والْثَمْ يا مالكِي والمالكُ الْ ... مولَى جزيلُ الفضلِ يخدمْ شرَّفْتني ولك الفخَا ... رُ كما لَك الشرفُ المقدَّمْ بمُشَرِّفٍ لقُدومِه ... قدِم الربيعُ وخيرُ مَقْدَمْ فكحَلْتُ منه ناظرِي ... بالشمسِ والبدرِ المُتَّممْ والسبعةُ الأفلاكُ جا ... ءتْ في دقائِقه تنظَّمْ ما زلتُ أطْوِيه وأنْ ... شرُه وأمْسحُه وألْثَمْ هو نُصْبُ عيني مُذْ أتَى ... ما زال بيْن الفْتحِ والضَّمّ ما زلتُ أسْتشْفِي به ... ورسائلُ الأحبابِ مَرْهَمْ فرأيتُه لِجَوايَ أحْ ... سَنَ قاطعٍ لي وأحْسَمْ وشكرتُ أجملَ نعمةٍ ... من فضلِ مَولانا وأجْسَمْ ونظَمتُ حَصْباءَ التُّرا ... بِ ولم تكن ممَّا تنَظَّمْ

وغُرِرتُ أنِّي كنتُ أنْ ... ظِم في زمانٍ قد تقدَّمْ فاعذِر فهذا النَّظمُ يدْ ... فعُ في لَهازِمِه ويلْطِمْ ولأَنْت أكرمُ ساتِرٍ ... لعُيوب خادمِه وأرْحَمْ وإذا تكاملتِ المَودَّ ... ةُ يا صديقُ وأنت أعلَمْ طُوِيَ البِساطُ فلم أكُنْ ... ممَّن تَحاشَى أو تجهَّمْ والحمدُ للهِ الذي ... أعْلاكَ مِقْداراً وعلَّمْ واللهُ يجمعُ شَمْلَنا ... من فضْلِه جَمْعاً مُنَظَّمْ ومن بدائعه قوله: شوقٌ تَجنَّاه الحبيبُ بلا جُرْمِ ... ورئْمٌ غَرِيرٌ لا يُوافِي ولا يحْمِي وشوقٌ أن النارَ من قَدْحِ زَنْدِه ... فكيف يرُوم العاذلون له كَتْمِي وجَفوةُ نَشْوانِ المَعاطِفِ حالِيَ المَرا ... شِف بدرٌ تَمَّمَ البدرَ في التِّمِّ حلاَ مُرُّ حُسَّادِي عليه بذكرِه ... كأن المُسمُّى منه في صورةِ الإسْمِ وكم ليلةٍ بتْنا على غيرِ ريبةٍ ... تُطارحني نَظْماً فينْظِمُه نَظْمِي وأرْشُفُ رِيقاً علَّه يُطْفىءُ الجوَى ... ولم أدْرِ أن البردَ إفْراطُه يُظْمِي جِناسِي على رشْفِي لذاك مُحرَّفٌ ... ولا شَكَّ أن الظَّلْمَ نوعٌ من الظُّلْمِ على خَدِّه قد وقَّع الحُسْنُ أسْطُراً ... فيكتبُها دمعي ويخْتِمها لَثْمِي رمَى جُرْحَ أحشائي عليه صَبابةً ... وعهْدي به قد كان يُدْمِي ولا يَدْمِي أحِبَّتَنا كم من رقيبٍ عليكمُ ... أُدارِيه حتَّى في الدجَى مُقْلةَ النَّجْمِ سقى عهدَكم صَوْبُ العِهادِ ومُقْلتي ... فعهْدي بها من هجرِكم دِيمَةٌ تَهْمِي ألا ليت شِعْرِي هل أقولُ قصيدةً ... ولا أشْتكِي فيها إلى صاحبٍ هَمِّي ومَن ذا يُشكِّيني إذا جئتُ شاكياً ... وقاضِي الورَى دون الورَى كلِّهم خَصْمِي هو الماجدُ السَّباقُ في حَلْبة الوغَى ... نعمْ وكذا في حَلْبة العلمِ والحِلْمِ وما فيه من عَيْبٍ سوى أنَّ كُتْبَه ... تُعوِّذني من طارقِ الليلِ بالنَّجْمِ حكمتُ له بالسَّبْقِ في كلِّ غايةٍ ... وظنِّي به أن يُثْبِت الحكمَ بالحُكْمِ عسى المُبدِىءُ الخلاَّقُ يُرجِعُ سالفاً ... فيَرْجِعُ رُوح الأُنْسِ منِّي إلى جسْمِي ودونَكها عَذْراء كالشمسِ رِفعةً ... عَلا بيتُها عن عِلَّة الكشْفِ والخَرْمِ ومن غزلياته الرقيقة قوله: أشاقَك بَرْقُ نَعْمانِ ... فعُدْتَ مُدَلَّهاً عانِي رُوَيْدَك إنَّني يا صا ... حِبي في الحالِ سِيَّانِ تعالَ نذكُر الأحْوَى ال ... ذي أصْغَى إلى الشَّانِي وأطْعمنِي فلمَّا أن ... أنِسْتُ به تَجافانِي وأغْضَبنِي واصْلَح بيْ ... ن تسْهيدِي وأجْفانِي وما بالغتُ في ذِكْرِي ... له إلاَّ تَناسانِي فسَلْنِي كيْ أُحقِّق أنَّ ... دهرِي فيه يَوْمانِ فيومٌ يومُ تهْديدٍ ... وآخرُ يومُ هِجْرانِ أُراقبُ حاسدِيه له ... فأصْحَب كلَّ إنسانِ فسُكَّانُ الغَضا سكنُوا ... وأهلُ الأثْلِ جيرانِي أيا زمنِي على الأثْلِ ال ... خَصِيبِ وعيْشيَ الهانِي سَقاك من الغَمامةِ صَوْ ... بُ هتَّانٍ بهَتَّانِ لقد قلَّدْتني مِنَناً ... تُحقِّر كلَّ إحسانِ وكنتَ ليَ السرورَ فهلْ ... تُعِيد مَسَرَّتي ثانِي وتحفظُ حُرْمتي أبداً ... فيَرْعاها ويرْعانِي

أليس من العجائبِ أنَّ ... عَزْمِي ليس بالْوانِي وحظِّي كلَّما خالَلْ ... تُ من خِلٍ تعَدَّانِي وبَدْرِي حاضرٌ ناءٍ ... فقُل في غائبٍ دَانِي وما نَفْعِي بقُرْبِ الدَّا ... رِ مَعْ صَدٍ وحِرمانِ فرُبَّ قريبِ أوْطانٍ ... يُعَدُّ بِعيدَ أوطانِ أراني قد جُبِلتُ على ... هواكَ فلسْتَ تخْشانِي وقلبِي بالورَى قَلْبٌ ... وقلبُك فيه قَلْبانِ وقوله: مُصدِّق الكاشِح والشانِي ... ومُرسِ الدَّمعِ من الشَّانِ ذاك الي مُلْكُه مُهْجتِي ... من كلِّ يومٍ هو في شَانِ مَن أجمعَ الناسُ على حبِّه ... لم يختلفْ في وصْفِه اثْنانِ غُصْن من الدُّرِّ لذيذُ الجَنَى ... لكنَّه عَزَّ عن الجانِي حلُو التَّثَنِّي والثَّنايا التي ... أزْرَت على بارقِ نَعْمانِ أصْلَي فؤادِي نارَ هجْرٍ لنا ... مُقْتبَسٌ من خدِّه الْقانِي أُعِيذه باللهِ أن ينْتَحِي ... ظُلْمِ بلا واضحِ بُرهانِ إلاَّ على الشُّورَى التي أُودِعتْ ... إليه من زُخْرُفِ غَيْرانِ يا لِي من الواشِي الغَيُورِ الذي ... أغْراهُ بالزُّورِ وأغْرانِي لكنَّني لم أستمِعْ فيه قَوْ ... لَ الزُّورِ من إنْسٍ ولا جَانِ يا ساحرَ الطرفِ الكحِيل الذي ... أخْرَجني من أرضِ سُلْوانِ وكيف أسْلُو وغريمُ الهوى ... في كلِّ حينٍ يتَقاضانِي أشْكُوك حالاً أنتَ أدْرَى بها ... يَرْثي لها شامخُ ثَهْلانِ قد كِدْتُ أن أكتُمَها دائماً ... وإنَّما فِعْلُك ألْجانِي فما عَدا فيما بَدَا بيْننا ... حتى تهاوَنْتَ بأيْمانِي وأنْتَ قد أمَّنْتَنِي بعدَها ... سَطْوةَ إعْراضٍ وهجْرانِ أخْلَفْتني أوَّلَ وعدٍ فهلْ ... أطمَعُ في الثالثِ والثانِي ثَناكَ رِيحُ العَذْلِ عن وَالهٍ ... والرِّيحُ تَثْنِي غُصُنَ الْبانِ قد كاد من قبْلِك أن ينْثنِي ... وإنَّما حَظِّيَ أقْصانِي فهْو الذي أزْدادُ عِلْماً به ... يسْعَى لإقْصائِي وحِرْمانِي وهاك عَتْبِي فاحْتمِلْه وإنْ ... أسأتُ عاملْنِي بإحْسانِ وأنت في أوْسعِ حِلٍ ولا ... وَاخَذك اللهُ بأشْجانِي واحْكُم بما شئْتَ وما تَرْتضِي ... فكلُّ ما يُرْضِيكَ أرْضانِي وكلُّ أرْضٍ أنتَ ثَاوٍ بها ... تصيرُ من جُملةِ أوْطانِي أخوه محمد أديبٌ كما تقترح، له طبع طيعٌ وخاطر منشرح. اقتفى أثر أخيه في أسلوبه، فتم له ما جنح إليه على وفق مطلوبه. فمن رآهما عرف ابني صاعد، وقال كلا الفرقدين محلهما غير متباعد. فهما يدٌ وساعد في الاتصال، وجسمان والروح واحد لا يقبل الانفصال. وقد ظفرت لهذا بشعرٍ قليل، لكنه على ما قلته في وصفه أول دليل. فمنه قوله: حُثَّ الْمَطِيَّ إلى الأوْطانِ يا حادِي ... أما ترى السَّعْدَ قد نادَاك بالنَّادِي غدَتْ طَوالعُه بالسَّعْدِ تخبرُنا ... وجَوَّدتْه بإتْقانٍ وإسنادِ عَساك تبلُغ بي الأحْوَى الذي فتكَتْ ... ألْحاظُه وأهاجتْ نارَ أكبْادِي رمتْ فؤادِي على عَمْدٍ وما حفِظتْ ... عهدِي ولا أنْجَزتْ بالوصلِ مِيعادِي مَن لي برَشْفِ رُضابٍ من مُقَبَّلهِ ... يَرْوِي ظَما قلْبِيَ المُستأْسِر الصَّادِي

مَن لي بذلك في أمْنٍ وفي دَعةٍ ... من الوُشاةِ رَماهم سهمُ إبْعادِي باللهِ باللهِ يا ريحَ الصَّباءِ خُذِي التَّ ... حيَّةَ مِن ذا الرائحِ الغادِي وصِفْ هَواي وما ألْقاه من كَمَدٍ ... لِجيرةِ الجِزْعِ والباناتِ والْوادِي هم أصلُ دائِي ولولاهم لمَا طرِبتْ ... نفسِي إلى شادنٍ في الحيِّ أو شادِي ليت الغُوَيْر تُعِيد المُلتقَى لِشَجٍ ... كما مضَتْ وتساعِفني بإسْعادِي وعَلَّ ساكنةَ الأحشاء تُطلِقُه ... لِمُغْرَمٍ مالَه من أسرِها فادِي إبراهيم بن المفضل إمامٌ تحلى بحلية التقى، وبلغ في الزهادة غاية المرتقى. اجتهد في العبادة من عهد شبيبته واهتم، وسهر الليالي ثم قال لما يكره الله نم. ومع ذلك فهو في الأدب مجيدٌ ملء فمه، مطلع لأحاسن الشعر من طرف قلمه. وفي القول حقه، وادعى حر الكلام فاستحقه. وقد أوردت له ما تشتم منه نفساً عابقاً، ولا تجد عنه إلا بعد مناله عائقاً. فمنه قوله في الغزل: أورَث جَفْني الأرَقَا ... بجَفْنِه إذ رَمَقَا ظَبْيٌ يُعِير قامةً ... إذا انْثَنى غُصْنَ النَّقَا رشِيقُ قَدٍ سلَب الْ ... ألْبابَ لمَّا رشَقَا صارمُ لَحْظيْه بمُهْ ... جةِ المُعنَّى مَشَقَا صُبحُ جَبِينِه إذا ... أسْفَر جَلَّى الغَسَقَا داءُ هواه أعْجزَ الرَّا ... قِي فما تُغنِي الرُّقَى قد صار قلبي في هَوا ... هُ يا رِفاقِي مُرْتَقَى ودمعُ عيني لم يزَلْ ... مُذ صَدَّ عَنِّي مُطلَقَا وقوله: دَعْنِي أكابِدُ لَوْعتِي وأُقاسِي ... أين الشَّجِيُّ من الخَلِيِّ القاسِي باللهِ لا تُطلِ المَلامَ فإنَّ لي ... قلْباً عليلاً مالَه من آسِ في حُبِّ مَن يحْكِي الصخورَ بقلْبِه ... والقدُّ منه حكَى قَضِيبَ الآسِ يُخْفي الغزالة إن بَدا في حُسْنِه ... ويفُوق بدرَ التِّمِّ في الأغلاسِ شمس الدين أحمد، وبدر الدين حسين ابنا يحيى بن المفضل كوكبا كوكبان، اللذان ظهر فضلهما وبان. توافقا صبغة وصنعة، وتظاهرا نعمة ومنعة. فجمعا من المكارم ما به المجد يتأثل، وبمحاسنه الفضل يتمثل. يضمان يديهما على الفضة والذهب، فلا يمسيان إلا والفضة انفتضت والذهب ذهب. وقد ذكرت لهما ما لا يشبع منه الناظر، ولا يروى من الخاطر. فمن شعر الشمس النير الأكبر قوله، من قصيدة كتب بها إلى أحمد بن حميد الدين صاحب الترويح. ما ابتسمَ البرقُ ولا أبْرَقَا ... إلا وأشْجَى قلبيَ المُحْرَقَا ولا تغنَّتْ وُرْقُ بَانِ الحِمَى ... إلا جَرى دمعي الذي مارَقَا ولا سرَتْ نَسْمةُ رِيح الصَّبا ... إلاَّ وأهْدتْ عَرْفَ رِيمِ النَّقَا مُهَفْهَفٌ يُزْرِي بشمسِ الضَّحى ... ويُخْجِل البدرَ إذا أشْرقَا حاجِبُه المَقْرون عن مُقْلتي ... قد حجَب النومَ فلن يطرُقَا وطَرْفُه النَّعْسانُ من قوسِه ... بسَهْم ذاك اللَّحْظِ قد فُوِّقَا وخَدُّه الوردِيُّ قد حَفه ... زهرٌ ونَسْرِينٌ به نُمِّقَا وثَغْرُه قد زانَه مَنْطِقٌ ... للهِ ما أحسنَه مَنْطِقَا ورِيقُه الجارِي على دُرِّه ... يشْفِي جَوَى قلبي الشَّجِي لا الرُّقَى وجِيدُه السَّامي يفُوق الظُّبا ... فحقَّ أن أصْبُو وأن أعشَقَا وقَدُّه ما رُمْتُ تشبيهَه ... بالغُصْنِ إلاّ كان ذا أرْشَقَا ما خلَق الرحمنُ في خَلْقِه ... مِثلاً له كلاَّ ولن يخلُقَا ولا رأيْنا في الورَى مُشْبِهاً ... لمَّا غدَا في دهرِنا المُنْتقَى

شمسُ الهدى أحمدُ أعنِي الذي ... أحْيَى رُسوماً للعُلَى وارْتَقَى عينُ بني المُختارِ في عصرِنا ... العلَمُ الفَرْدُ حلِيفُ التُّقَى سعَى إلى العَلْيا بعزْمٍ له ... نال به المجدَ فلن يُلْحَقَا له فَخارٌ أصلُه راسخٌ ... في روضةِ العَلْياء قد أغْرقَا صِفاتُه غُرٌّ فصِفْه بما ... شئتَ فما أحسنَ ما أصْدقَا ما كان في رَبْعٍ ولا منزلٍ ... إلاَّ غدا من نُورِه مُشرِقَا في كَوْكَبانَ العِزُّ لمَّا بدا ... إليه شاهدْنا له رَوْنَقَا وزادَه حُسْناً إلى حسنهِ ... وجدَّد الوَجدُ له مَوْثِقَا أسعدَه اللهُ بأيَّامه ... ولطفه غرَّب أو شرَّقَا فأجابه بقوله: يا زمنَ الأثْلِ بوادي النَّقا ... سَقاك مُنْهَلُّ دموعِي سَقَا يا بهجةَ العُمرِ ووجهَ المُنَى ... قد كان بالَّلذَّةِ لي مُشْرِقَا أيامَ لا ألْوِي على صادقٍ ... مُناصِحٍ أو كاذبٍ صدّقَا أيامَ لا أصحَبُ رِيحَ الصَّبا ... ولا أُراعِي بارقاً أبْرَقَا وروضةُ الحسين لنا مَوْئِلٌ ... وغُصْنُها المَيَّاد قد أوْرَقَا عيشٌ مضَى فالجَفْنُ من بعدِه ... وقَّع سطراً بالبُكاء مُلحقَا هل لِي إلى جَنَّاتِه ساجِعٌ ... وهل أرى لي في الهوى مُشفِقَا يا جِيرةَ الروحِ بحقِّ الوفا ... لا تنْقُضُوا عهداً ولا مَوْثِقَا أتحسَبوني قد تناسيْتُ ما ... قد حلا قِدْماً بعصر اللِّقَا فلم أزَلْ إن عَنَّ لي ذِكْرُه ... مُفكِّراً في عَوْدِه مُطْرِقَا لي في هواكم مَذهَبٌ مُذْهَبٌ ... حقَّق فيه الدَّرْسُ ما حقَّقَا توْضِيحُه يُزْهِي بتنْقيحهِ ... تَلْوِيحه يُعْجِز من دَقّقَا سألتُ مَن حمَّلني بُعْدَكم ... يجعلُ لي من أمرِكم مِرْفَقَا ويعمرُ الفضلَ بإبْقاءِ مَن ... أكْسَبه في دهرِنا رَوْنَقَا قد رفع النظمَ فقلنا له ... نظمُك في الذِّرْوة يا مُنتقَى أحمدُ مَن حَمْدِي له دائماً ... ما سجَع الطيرُ وما صَفَّقَا يا ماجداً طَوَّقني مَنُّه ... أعْجزني أفْحَمنِي مَنْطِقَا بدأتَ بالفضْلِ وأنتَ الذي ... سبقتَ بالفخرِ فلن تُلْحَقا للهِ ما شنَّفْت سَمْعِي به ... من غَزَلٍ حَيَّرني أقْلقَا تَخِذْتُ صَبْرِي دونه جُنَّةً ... ثم ترقَّبْتُ لنَفْثِ الرُّقَى فما اهْتدَى قلبي إلى سَلْوةٍ ... ولا هذَي كَلاَّ ولا فرَّقَا ضَمَّنتُه ذِكْر اجْتماعٍ لنا ... كَمَّله اللهُ بطُولِ البَقَا كان ليَ الحظُّ به كُلُّه ... فلم أزَلْ مُغْرىً به شَيِّقَا ودونكم نَظْمِي الذي جاءكم ... مُجدِّداً للعهد مُستوثِقَا واعذِرْ سَرِيعي إن مشَى مُسْرِعاً ... يطلبُ من أفواهِكم فُسْتُقَا واستُرْ عليه إن تجِدْ عَثْرةً ... فإنه نَزْرُ كلامِ اللِّقَا وسَل لنا التوفيقَ والعفوَ والْ ... غُفرانَ فالفائزُ من وُفِّقَا وله: بالبِعاد تجْزِينِي ... يا غزالَ يَبْريِنِ هل لذاك من سَبَبٍ ... أم تُريد تَبْريني قد وَلِيت حُكْمَ شَجٍ ... في هواكَ مَفْتونِ ما تَخافُ يا أمَلِي ... من تِلافِ مسكينِ بالصدودِ تقْتُلني ... والهوانَ تُولِينِي

أيُّ حاكمٍ يُفْتِي ... يا حبيبُ بالْهُونِ هل يصحُّ ذاك ومَن ... بالجوازِ يُفْتينِي ليس ذاك يُوجَد في ... شِرْعةٍ ولا دِينِ كَمْ جمعْتَ من حَسنٍ ... كاملٍ بتحْسينِ اللِّحاظُ فاتِرةٌ ... بالسِّهامِ ترمينِي والخدودُ ناعمةٌ ... أزْهرَتْ بنَسْرِينِ والجبينُ حاجبُه ... في القِرانِ كالنُّونِ والقَوامُ مُعتدِلٌ ... كالغصُون في اللِّينِ والسَّقامُ من مُقَلٍ ... ناعساتِ تَسْبِينِي والدواءُ في شَنَبٍ ... كالأقاحِ مكْنونِ لَثْمُه شِفا أملِي ... والرُّضابُ يرْوِينِي كم أقولُ من شَغَفٍ ... فيك مَن لِمَفْتونِ مَن لِمُغرَمٍ دَنِفٍ ... بالجآذرِ العِينِ وله: جُدْ بوصلٍ يا ناعسَ الأجْفانِ ... وترفَّق بالمغرمِ الوَلْهانِ رامَ كَتْمَ الهوى فَنَمَّ عليه ... سُقْمُ جسمٍ له ودمعٌ قانِي قسَماً بالجفونِ والخدِّ والثغْ ... رِ وبالقَدِّ مُخْجل الأغصانِ ما يمُرُّ السلُوُّ في البالِ مذ غِب ... تَ ولا تعرِفُ الكرَى أجْفانِي كم وكم رُمْتُ سَلوةً في هواكم ... أين منِّي ما رمتُ من سُلوانِ لَحمامِ الربُوعِ شَجْوٌ ولكنْ ... في فؤادي تتابُعُ اللَّمعانِ أتمنَّى يقال في كلِّ حينٍ ... وإلى كم وَيْلاه منِّي الأمانِي هل سبيلٌ إلى الوِصالِ قريبٌ ... أم بعيدٌ وما إليه تَدانِي ضاق بي مذ غِبتمُ كلُّ رَحٍْ ... وتجافَيْتُ بعدكم أوْطانِي ذاب قلبي من لَوْعةٍ في فؤادي ... يا مُنايَ قد أشْعلتْ نِيرانِي إن تجنَّى في حبِّه فهْو عبدٌ ... وإلى المالكِ انْتهاءُ الجانِي فصِلوه جُوداً وإلا فصُدُّوا ... لا عدِمْناكمُ مَدَى الأزمانِ قلتُ للعاذلِ المُعنِّف فيه ... لسْت أُصغِي فليس شأنُك شانِي وصلاةٌ على الشفيعِ وآلٍ ... ما أمال النسيمُ غصنَ الْبانِ وللبدر من قصيدة، مستهلها: رُعيتمُ أهلَ جَيْرونٍ ونَعمانِ ... يا ساكنِي قلبِيَ الْعانِي وأعْيانِي ففيكمُ ساحرُ الألْحاظِ ذُو غَنَجٍ ... مُهَفْهَفُ القَدِّ لا يرْثِي لأشْجانِي يا سامِيَ الجِيد هل للهجرِ من سبَبٍ ... فالهجرُ والصدُّ والتْهدِيدُ أضْنانِي ارْحمْ مُحِبَّك من طولِ البِعادِ فقدْ ... حرَّمْتَ نومِي ولَذَّاتِي وسُلْوانِي اللهُ يجمع شَمْلي بالذين لَوَوا ... بالعهدِ فهْو كريمٌ خيرُ مَنَّانِ محمد بن إبراهيم بن يحيى من أفراد اليمن وفو حظٍ متقد، وسلاسة لفظٍ يجري من خاطرٍ منتقد. حاز قصب السبق نظاما، وأوسعه أهل خطته لفضله إجلالاً وإعظاما. فقصرت نظراؤه عن مجاله، وعلموا أنهم ليسوا من رجاله. وله نظمٌ إذا نعته فقد عبته، وإن وصفته فلعمري ما أنصفته. فمنه قوله، من قصيدة كتبها إلى محمد بن حميد الدين. مطلعها: سَقْياً لِبانِ المُنْحَنى وزَرُودِه ... وسُهولِ ذَيَّاك الحِمَى ونُجودِهِ ولذلك الزمنِ الذي طَلعتْ على ... باهِي مَنازِله نجومُ سُعودِهِ عيْشِي مضَى في بَهْجةٍ ونَضارةٍ ... وَاهاً لنَضْرته وخُضْرةِ عُودِهِ ذاك الزمانُ هو الزمانُ وغيرهُ ... لا فَرْقَ بين فَنائِه ووُجودِهِ أعَلَى الليالي لو تجودُ بعَوْدةٍ ... عَيْبٌ وهل أحدٌ يُعاب بجُودِهِ يا صاحبَيَّ ومَن يُلام إذا شكَا ... مَلَلَ الحبيبِ له وطولَ صُدُودِهِ عُوجا على ذاك المَلُولِ تلَطُّفاً ... وحَذارِ سَطْوةَ بِيضِه من سُودِهِ

لا تعْدُوَنْ ذا الرسمَ في تعْريفِه ... إن الغرام مُجاوِزٌ لحدودِهِ فعَساه يعطِف أو يرِقُّ لمُدْنَفٍ ... يا صاحبِي ويلِينُ بعد جُمودِهِ أمِن المُروءةِ أن أبِيتَ مُسهَّداً ... ويبيتُ بين هُجوعِه وهُجودِهِ وأنا الخليلُ ومن بموسَى ذا النَّوَى ... قلبي الكليمُ مُقيَّد بقُيودِهِ ما لي وللأشْواقِ لا ترْضَى سِوَى ... إلْهابِ قلبي دائماً ووَقُودِهِ ما لي وقلباً راح في الأُخْدودِ من ... نارَيْ صُدودِ حبيبِه وخُدودِهِ قِصَصُ المحبَّة زُخْرُفٌ واسْألْ به الشُّ ... عراءَ عن أوْصافهِ وقُيودِهِ ما أحلى قول ابن نباتة، في خطبة سرح العيون: وإن كنت من الشعراء فلست ببعيدٍ من القصص. فإذا انْتهَى معك المديحُ إلى هنا ... فاقصِدْ بذلك مُنتهَى مقصودِهِ وامدَحْ به لتكونَ أصدقَ مادحٍ ... ممدوحَ كلِّ مُفَوَّهٍ مقصودِهِ فخَرتْ به آباؤُه وجدودُه ... والفخرُ في آبائِه وجدُودِهِ مولايَ دعوةُ عبدِ رِقٍ يَرْتجِي ... بك نَفْحةً تأْتيه من مَعْبودِهِ فارْجِعْ يديْك إذا قرأْتَ قصيدةً ... تدعُو له في نيْلِ كلِّ قُصودِهِ وكمُلتَ لا أحدٌ يفُوقك في عُلاً ... فأتَى بكاملِ شِعرِه موجودِهِ الصدر يتضمن ثاني أبيات الأندلسي، في بحر الكامل، وهو مركب من متفاعلن متفاعلن، مرتين. عُذْراً إليك فإنه سلَب النَّوَى ... منظومَ ذاك الدمْع مع مَنْضودِهِ لكنْ تألَّق للجوارِح بارِقٌ ... في عارضٍ مُتلفِّعٍ ببُرُودِهِ ترك الفؤادَ لشوْقهِ وحَ، ِينِه ... يخْتال بين بُروقِه ورُعودِهِ عجز هذين البيتين متضمن بيت البحتري، مطلع قصيدة. من أين لي كالبُحْتُرِيّ قلائدٌ ... قامتْ له فيها عُدولُ شُهودِهِ لكنْ بكُمْ شِعري غدا وكأنَّه ... هو ذاك عند قِيامِه وقُعودِهِ وصدورِه عند الوُرود فسَلْه عن ... شَرْحِ الصُّدورِ وكيف حال وُرُودِهِ فكتب إليه، مراجعاً له: نَظمٌ كسِمْط الدُّرِّ نَظْمُ عُقودِه ... لاحتْ على نحْرِ الزمانِ وجِيدِهِ سِحْر هو السحرُ الحلالُ وإنما ... لأُعِيذه من نافثاتِ عُقودِهِ طِرْسٌ هو الرَّوض النضِيرُ نُضارُهُ ... يخْتال بين زُهورِه ووُرودِهِ وشَّتْ بطَرْز وَشْيه أثر الحَيا ... فشَجاك مُعْلَمه ونَسْجُ بُرودِهِ يا أيها الْحَبْرُ أبْقَى لنا الْ ... بارِي الذين تقدَّموا بوُجودِهِ يا كاشفَ الكشَّاف فينا مَن به ... يُتلَقَّن التفْسِير عن مَحْمودِهِ غَفْراً فما شِعْرِي لِشِعْرك مُشْبِهاً ... أيُقاسُ شِعْرُ لَبِيدِه ببليدِهِ شِعْر يعود حبِيبُ منه مُبغَّضاً ... ويفُوق نَظْم يزِيده ووَلِيدِهِ لكنه جُهْدُ المُقِلِّ وإنما ... يأتِي الفتى بالقُلِّ من مَوْجُودِهِ سابْقتني في الشوقِ مَهْلاً إنني ... وَحْدِي عمِيدُ القلب وابنُ عَمِيدِهِ وسألْتني بَذْلَ الدعاءِ لجَمْعِنا ... يا رَبِّ عجِّلْ باللِّقاءِ وعودِهِ إبلاغُ خيرٍ بعد مَدْحِك مُلْحَقٌ ... والنَّفْلُ بعد الفرضِ في تعْدِيدِهِ أشْكُو إليك نوىً تَطاوَل عُمرها ... وعجزتُ عن دفْع النَّوَى وجُنودِهِ وبِيَ الذي صِرْتُ الكلِيمَ بنارِه ... وهو الخليلُ وكيف لي ببَرُودِهَِ لولاه ما قال العمِيدُ صَبابةً ... سَقْياً لِبَانِ المُنْحنَى وزَرُودِهِ يا مُنْجِزَ الإِيعادِ في أفْعالِه ... ومُخالِفَ المرجُوِّ من مَوْعودِهِ ومُصدِّقَ العُذَّالِ في شَرْعِ الهوى ... من غير بُرْهانٍ له بشُهودِهِ

ذَا مَدْمَعٌ للوصلِ أضْحَى سائلاً ... لا تنْهرَنَّ الدمعَ في أُخْدودِهِ يا طَرْفَه السَّفاحَ لستُ بمُهْتدٍ ... هيْهات يا مُهدِي الهُدَى برَشيدِهِ لا تعْجلَنَّ فإنَّ عبدَك طائعٌ ... أوَ لستَ تنظُر منه في تسْوِيدِهِ مَن لي بوَقْفتِك الشَّهيرةِ مَرَّةً ... يرْثِي لها الصَّفْوانُ في جُلْمودِهِ بُعْداً يُرَى في العيْن مَيْلاً قُرْبُه ... ويطُول فَرْسَخُه كطُولِ بَرِيدِهِ هل نافعٌ لي عاصِمٌ يا مالكِي ... في سُورةِ الدعوَى وفي تجْوِيدِهِ يا كامل الأوْصافِ دونَك كامِلاً ... تُزْرِي ببَحْر طوِيلِه ومَديِديدِهِ مطهر بن صلاح الهادي أظن أن هذا الاسم لا يتخلف، وإنما اره يتحد مع مسماه ويتألف. فإن الأصل أصلٌ طاهر، واستفادة الكثرة من الفرع معنىً ظاهر. فهذا المطهر ازداد طهارة في الروح والجسم، واحتسى كأس المحبة من يد ساقي الغيب وما غير ذلك الاسم. وله شعر جرى فيه على ذائقة أهل التصوف، وملك به في حلبة الواصلين إلى المعرفة عنان التصرف. فمنه قوله: صار حُبِّي لأحبابِي سلِيقَهْ ... وهوَى الغيرِ اخْتلاقٌ لا خلِيقَهْ هكذا مَرَّ زماني معهم ... والهوَى فيه مَجازٌ وحقيقَهْ ففؤادِي لأحبابِي غدَا ... صادقاً يخْتارُه أهلُ الطريقَهْ لستُ ممَّن وُدُّه زُورٌ ولا ... أنا ممَّن بالنَّوَى ينْسَى حُقوقَهْ بل وِدادِي ذلك الوُدُّ الذي ... قد غدَتْ فيه عُرَى عهدِي وَثِيقَهْ ليتَ مَن أضْنَى فؤادِي حبُّه ... يتلافانِي بسُقْيا خَمْرِ رِيقهْ السيد لقمان ابن أحمد بن شمس الدين بن الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المعي هوى المعارف فحذقها، ولزم الحكمة فنطقها. كان يتراسل هو والسيد محمد بن عبد الله بن الإمام شرف الدين. فمما كتبه إلى السيد محمد بيتان قد طارا كل مطار، وزانا ببهتهما الأقطار. وهما: واسِطةَ العِقْدِ متى تأتِنا ... فعِقْدُنا أضْحَى بلا واسِطَهْ وحالُنا أضْحَت بلا صاحبٍ ... وجُملةُ الوصلِ بلا رابطهْ وكتب إليه السيد: إلى سيده وأخيه لقمان بن أحمد أبقاه الله حلياً لعاطل الزمن، وسناً لمحيا اليمن، وقد ذهب عني وأنا نائم فانتبهت وقمت، وأرسلتها إليه، وقد طلع إلى ذمار: مَن عَذِيرِي مولايَ منك فقد ... غادَرتْ قلبي لما به من غَرامِ رحْتَ عنِّي في نَوْمتي فتوهَّمْ ... تُ بأن اللِّقاءَ طيفُ مَنامِ وشَجَى نفسِيَ الفِراقُ فناجَتْ ... نِي إن الفِراقَ في الأحْلامِ زعمْتني وَسْنان وَجْداً ومالتْ ... بِي لما زَخْرفَتْ من الأوْهامِ وأنا الآن لستُ أدرِي أيْقظا ... نُ أنا أم مُهَوِّم لهيامِ سَكْرةٌ من جَوَى فِراقِك مَولا ... يَ ولا سَكْرةُ الرَّحِيقِ المُدامِ فأجابه بقوله: سيِّدي لا ترى عليَّ فإنِّي ... بطُلوعِي بادرتُ صَوْبَ الغَمامِ وثِيابِي كما علمتَ من الرِّقَّ ... ةِ قد أذَّنَتْ بصِدقِ انْصرامِ لو ترى السُّحْبَ قد أطلَّتْ لسالتْ ... فوق مَتْنِي أبِتْ لليْل التَّمامِ فابْسُط العُذْرَ يا أخي إنَّ فعلِي ... قد تجاوزْتُ فيه حَدَّ احْتشامِ ونِظامِي هذا فقيرٌ إلى سَتْ ... رِك فاسْتُرْ فأنت رَبُّ النِّظامِ بيت المهلا المهدوي الشرفي هذا البيت له نبأٌ يذكر، وحديث غير معلٍ ولا منكر. وبنوه في العلم والجاه، مآل الأماني والآمال المرتجاة. سمتهم توفيق وهدى، ومنذ التحموا في المعارف لم يدعوا شيئاً سدى. فمنهم: عبد الحفيظ بن عبد الله كبيرهم المنتقى، ورئيسهم الشامخ المرتقى. الورع المجتهد، والساهر المهجد. جلى وبرز، وحاز فضل السبق وأحرز. وقد أنار بصيرته، وجبل على الخير سيرته.

فأهل بلاده على كثرة مفاخرهم، مقرون بفضله التام عن آخرهم. وله في الأدب مرتبةٌ علية، وأشعاره بمثابة علمه واضحةٌ جلية. فمما بلغني من شعره، وقد أنشد بعضهم بيتي ابن حزمٍ الظاهري. وهما: إن كنتِ كاذبةَ الذي حَدَّثْتنِي ... فعليكِ إثمُ أبي حنيفة أو زُفَرْ الواثِبينَ على القياس تمرُّداً ... والرَّاغبين عن التسُّكِ بالأثَرْ فأنشد: ما كان يحسُن يا ابنَ حَزْمٍ ذَمُّ مَن ... حاز العلومَ وفاق فَضْلاً واشْتَهرْ فأبو حنيفةَ فضلُه مُتواتِرٌ ... ونظِيرُه في الفضلِ صاحبُه زُفَرْ إن لم تكنْ قد تُبْتَ مِن هذا ففِي ... ظَنِّي بأنك لا تُباعَد من سَقَرْ ليس القياسُ وقد تكون أدِلَّةٌ ... للحُكْمِ من نَصِّ الكتاب أو الخبَرْ لكنَّ مَعْ عَدَمٍ تُقَاسُ أدِلَّةٌ ... وبذاك قد وَصَّى مُعاذاً إذْ أمَرْ ابنه الناصر حامل راية الاجتهاد وناصرها، وقاطف أغصان البدائع وهاصرها. منظور بالمهابة والجلال، مدلٌّ بالخصال البارعة والخلال. وله الخاطر الوقاد بتلسن لهبه، والفكر النقاد لذهب القول ومذهبه. وكان استوزره الإمام المؤيد بالله فانتظم الأمر أيام وزارته، وتصرفت الأيام طوع إشارته. فأحسن الله له نيل وطره، وفخر بالظهور على من انحط خطره عن خطره. وهو صاحب رأيٍ سديد، وله في الأدب وأنواعه باعٌ مديد. وشعره صور محاسنه مجلوة، ونثره سور بدائعه متلوة. فمن شعره ما كتبه إلى السيد الإمام يحيى بن أحمد الشرفي، عاتباً عليه في تأخره عن الدرس؛ لشغلٍ عرض له: أحبابَنا ما لهذا الهجرِ من سَبَبٍ ... وما الذي أوْجَبَ الإعْراضَ واعَجَبَا يمْضِي الزمانُ ولا نحْظَى بقُرْبكمُ ... على الجِوارِ وكَوْنِ الجار ذَا قُرْبَى وليس شيءٌ على المُشْتاقِ أصْعبَ من ... بُعْدِ اللقاءِ إذا مُشْتاقُه قَرُبَا فصانَك اللهُ يا سِبْطَ الأكارمِ أن ... يكونَ وُدُّك للأحْبابِ مُضْطرِبَا هذا وإنِّيَ أدْري أن قَصْدَك لِي ... وأنت معْ ذاك شَيْخي عَكْسُ ما وَجَبَا لكنَّه لم يكنْ منِّي لحقِّكمُ ... جهلٌ ولكنَّ عُذْرِي عنك ما عَزُبَا وطلب السيد يحيى منه أن يرسل له مؤلفه المحرر في علم القراءات، فأرسله إليه وكتب معه: سلامُ اللهِ ما هَمر السحابُ ... ففاحَ عَبِيرُ زَهْرٍ مُستطابُ وإكرامٌ وإنْعامٌ على مَن ... له في المجدِ مَرْتبةٌ تُهابُ على يحيى الذي ما نال كَهْلٌ ... عُلوماً نالَها وكذا الشبابُ وبعدُ فإنَّ أشْواقِي إليكمْ ... كثيرٌ ليس يحصُرها كتابُ وتقْصُر ألْسُنُ الأقلامِ عن أن ... تقومَ بوَصْفِها وكذا الخطاُ فيا ابْنَ مَدينةِ العلمِ التي لمْ ... يكُن غيرُ الوَصِيِّ لتْلك بابُ ومَن حاز المَكارِمَ والمَعالي ... فمنه قل بَدا العجَبُ العُجابُ إليك أتى المُحرَّر في حَياءٍ ... لتُصْلِح منه ما العلماءُ عابُوا وتنظُرَه بعينِ البشرِّ حتى ... يزولَ إذا وجدْتَ به اضْطرابُ فمَن قد زارَ من بلدٍ بَعِيدٍ ... حَقِيقٌ أن يُلانَ له الجَنابُ ورَاجِعْ في عبارتِه أُصولاً ... لديْك بِحِفْظِها كُشِف الحِجابُ وإنِّي طالبٌ بَسْطاً لعُذْرٍ ... ويشملُني دُعاؤكم المُجابُ فما لي غيرُ شِعْبِ الآلِ شِعْبٌ ... وإن حسنُتْ بزَهْرتِها الشِّعابُ ودُمْ واسْلَمْ مُعافىً في نعيمٍ ... مُقيمٍ والقَرابةُ والصِّحابُ فكتب إليه السيد: سلامٌ لا يُحيِط به حِسابُ ... ولا يُحْصِي فضائِلَه كِتابُ ولو أنَّ البِحارَ له مِدادٌ ... ولم يبْرَح له الدهرَ اكْتِتابُ

سلامٌ مِن فَتِيت المِسْك أذْكَى ... ودُون مَذاقِ سَلْسَلِه الرُّضابُ سلامٌ حَشْوُه وُدٌّ مُصَفىً ... يرُوق فما بتكْديرٍ يُشابُ ورحمةُ ربِّنا الرحمنِ تُهْدَى ... مع البَركاتِ ما انْهَمر السحابُ إلى مَن لم يزَلْ للمجدِ خِدْناً ... ولم ينْفَكَّ بينهما اصْطِحابُ حَليفُ مَحاسنِ الشِّيَمِ الذي لم ... يُدنِّسْ مجدَه مُذ كان عَابُ سَلِيلُ أكابرِ العلماءِ مَن لم ... يكُن كنِصابِ فضلِهمُ نِصابُ حُماةُ شريعةِ المُخْتارِ مِن أنْ ... تُضامَ وأن يُخامِرَها اضْطِرابُ وأوحدُ أهلِ هذا العصرِ طُرّاً ... بما قد قُلْتُه لا يُسْتَرابُ أليْسَ مُقصِّراً عن نَيْل أدْنَى ... عُلاه الشِّيبُ منهم والشَّبابُ وَجِيهُ الدِّين ناصرُه فما إن ... يَزال له بنُصْرتِه احْتسابُ حَماه اللهُ من كَيْد الأعادِي ... وأرْغَم أنْفَهم عنه وخَابُوا وأبْقاه الإلهُ لنا مَلاذاً ... له في العِزِّ مَرتبةٌ تُهابُ وبعدُ فإنه قد جاء منه ... كتابٌ سَرَّني منه الخِطابُ بلغْتُ به من الفرَح الأمانِي ... وزايلنِي برُؤْيته اكْتئابُ وفَى بالدِّين والدنيا جميعاً ... فما لي غيرُ ما فيه طِلابُ وكيف فَطَيُّه مُلْك عظيمٌ ... يدُوم فما يُخافُ له ذَهابُ هو الذُّخْرُ الذي من لم يحُزْه ... ذخائرُه وإن كثُرتْ تُرابُ وذاك العلمُ أفْضلُ ما تحلَّتْ ... به نفسٌ وأفضلُ ما يُصابُ وقد أهديْتَ منه لنا نصِيباً ... به منَّا تطوَّقتِ الرِّقابُ جمعْتَ به المُحرَّر من علومٍ ... جَلاها أهْلُها طابتْ وطابُوا فنِلْتَ بما أنَلْتَ عظيمَ فضلٍ ... ومغفرةً ويهْنِيك الثَّوابُ ولا برِحتْ فضائلُك اللَّواتِي ... عَلوْنَ بها لنا يعلُو جَنابُ ودُمْتَ مُسلَّماً ما لاح مجدٌ ... وفاح عبيرُ نَشْرٍ يُسْتطابُ الحسن والحسين ابنا الناصر فرسا رهان وعدلا جمل، وصنوا جرثومة في علم وعمل. ينبت عزمهما الورد يانعاً في اللظى، ويطلع رأيهما الماء جارياً من صم الصفا. وكلٌّ منهما غيثٌ في كرم، وليثٌ في حرم. وبدر في أفق، وزهر في خلق. طوقا اليمن نبلاً ومجدا، وانتحلا بها المعالي انتحال من ملىء صبابةً ووجدا. في اقتبالٍ من العيش بهما كلف، وحظٍ من الأماني رائح إليهما مختلف. وكانا يتهاديان شعرا، فيتنافثان سحرا. ويقتدحان زندا، فيوريان عراراً ورندا. وشعرهما مثقف المباني، مرهف كالحسام اليماني. فمما كتبه الحسين إلى الحسن يعاتبه على القراءة في غيبته، وجعل أول كل بيت حرفاً من حروف المعجم: أذاب فؤادي بارقُ الغَوْرِ إذ سَرى ... بنَفْحة مِسْكٍ من حدائقها شَرَى بحقِّك خَبِّرْني عن الغَوْر إنه ... حديثٌ صحيحٌ ليس في القولِ مُنْكَرَا تأمَّل به تلك المغانِي تَلْقَ لي ... لطائفَ فاقتْ في المَحاسِن مَخْبرَا ثمِلْتُ وقد دارتْ رَحِيقةُ وَصْفِه ... فأنْهلنا التَّسْنيمُ من تلك سُكَّرَا جرَى ذكرُ أحْبابي برَوْضةِ قُدْسِها ... وقد كُسِيتْ بُرْداً من الوَشْيِ أخْضَرَا حَوَوْا من مليح الوصفِ كلَّ غريبةٍ ... كزُهْر سماءِ الأرض في حُسْنها تُرَى خليليَّ ما وافٍ بعهدِيَ أنْتُما ... إذا لم تَقُصَّا وصْفَها لي وتُخبِرَا دعَوْتكما كي تُفْهمانِي حقيقةَ الْ ... أحِبَّة فيها مُفْرقَيْن وتحضُرَا ذكرتُ لهم ذكرَ الصِّفات فهاجَ لي ... من الشوقِ ما ألفيْتُه مُتذكَّرَا

رأيْنا بها ما يملأُ العينَ قُرَّةً ... فروَّحتِ الأرواحُ من حُسْنِ ما نَرى زيارتُهم فيها لقلبي مَسَرَّةٌ ... غدَتْ مَورِداً للصالحاتِ ومصدَرَا سَلِي إن أردتِ اليومَ عنِّي وعنهمُ ... تَرَىْ ما يسرُّ الأولياءَ بلا مِرَا شَفَتْنا وأوْلتْنا فوائدَ عندها ... يُسهَّل للأحبابِ ما قد تعسَّرا صفَتْ عندنا تلك الصفاتُ التي علَتْ ... وفاقتْ وراقتْ للقلوب بلا امْتِرَا طوَيْنا لدى الأصحابِ كلَّ مَقالةٍ ... وقد كان في نفسِي مقالٌ تكثرَا ظفِرْنا بما نرجُو من الحسَن الذي ... يُفِيدك إن أقْرَا الفوائدَ أوْ قَرَا عليمٌ بأعْقاب الأمورِ كأنما ... لِما في غدٍ من قبل يأْتيه أبْصَرَا غدوْتُ عليه عاتباً حين أهْمل الْ ... أخُوَّةَ لمَّا ينْتظرْنِي ويذكُرَا فواعجَباً من فعْلِه حين غِبْتُ عنْ ... مَحافلِه هلاَّ لحقِّيَ آثَرَا قرأتَ حماك اللهُ لم تنتظِرْ لنا ... وعُذرِيَ أن السحبَ بالغيثِ أمْطرَا كفَى حُجَّةً بُرهانُها مُشرِقٌ بما ... فعلتَ على إهْمالِ حقِّي بما عَرَا لوَيْت عِنانَ الوُدِّ عنِّيَ عامداً ... وأُنْسِيتَ حقّاً للإخاءِ مُؤثَّرَا مَحلُّك فوقَ الشمسِ عندي وإنني ... لأبْنِي له فوق المَجرَّةِ مَعْمَرَا نَحَوتُكُم لمَّا تقشَّع سُحْبُها ... وسرتُ إلى سُوحِ المَعالي مُبكِّرَا وقد لاح في الصُّبْحِ الثُّريَّا كما ترَى ... كعُنْقُود مُلاَّحِيَّةٍ حين نَوَّرَا هو الصُّنْع إن تعْجلْ فخيرٌ وإن تَرِثْ ... بِعُذرٍ فكم رَيْث به عاد أكْبَرَا يقول لك القلبُ الذي ترَ الهوى ... إذا أنتَ راعيْتَ الإخاءَ المُقرَّرَا لأَعْظمِ من أوْلَى ووالَى صنِيعَهُ ... وحاز من الخيراتِ سَهماً مُوفَّرَا ألستَ من القومِ الذين وَلِيدُهمْ ... يُرَجَّى لإقْرَاءِ العلوم وللقِرَى بلغْنا السمَا مَجْداً وعزّاً وسُؤدداً ... وإنا لَنرْجو فوق ذلك مَظْهرَا تجرَّدْ لأخْذِ العلم عنهم فإنهم ... أئمَّتُها وارحَلْ إليهم مُشمِّرَا ثَباتُهم فيها عظيمٌ رُسوخُه ... وذِكْراه قد يُولِي الثناءَ مُعَنْبَرَا جزَى الله آبائِي عن الكلِّ خَيْرَه ... وأبْقاهمُ ماقيل نظمٌ وسُيِّرَا حَمَوْا بعَوالِيهم حِمَى الدِّين واستوَوْا ... على فلَك العَلْياءِ لمَّا تنوَّرَا عليك سلامُ الله ما انْهَلَّتِ السَّما ... بوَدْقٍ على روضٍ أرِيضٍ فأزْهَرَا فأجابه بقوله: أُسَرُّ إذا حقَّقت في النومِ معشَرَا ... وتكثُر أفْراحِي إذا كان أكْثَرَا بِنَاءً على أن امْرَأً باد عمرُه ... إذا كان في غيرِ العلوم تكثَّرَا تبيَّنْتُ أن العِزَّ في العلمِ والعُلَى ... وأن تِجَارَ العلم هم خِيرةُ الورَى ثنائِي عليهم لا على كلِّ مُهْمِلٍ ... يُجانبهم ممَّن عَتَا وتجبَّرَا جَنوا ثمراً من روضِ كلِّ فُنونِه ... وأعطاهمُ الرحمنُ حظّاً مُوفَّرَا حَرِيُّون بالتقْديم أقدامُهم على الثُّ ... ريَّا وأهلُ الجهلِ في أسْفلِ الثَّرى خَلاَ مَن غدَا في دهْرِه مُتعلِّماً ... ومستمِعاً ما فاق دُرّاً وجوهرَا دنا منهمُ فازداد فضلاً ورِفعةً ... وعاش حميداً في الورى مُتبصِّرَا ذكرتُ خِلالاً للحُسَين فسرَّني ... بأن أخي للعلمِ أضْحى مُشمِّرَا

رَضِيتُ له هذا طريقاً ومَسْلَكاً ... وصاحبُه فوق النجومِ كما ترَى زيادةُ مَن فوقَ البسيطةِ لم تكُنْ ... من العلمِ نْقصان وخُسْرٌ بلا مِرَا سمَا من له العلمُ الشريفُ وَسيلةٌ ... وما فازَ ذُو جهلٍ وخاب من افْتَرَى شَرَى نفسَه يبْغِي الرِّضا من إلهِه ... فيا فَوْزَه بالرِّبح من خيرِ ما شَرَى صَبُور على درسِ الدفاترِ مُقْبِلٌ سَرِيٌّ سرَى والصبحُ قد يُحمَد السُّرَى طويلٌ عليه الليلُ إن بات مُهمَلاً ... قصيرٌ إذا للدرسٍ بات مُؤثِّرَا ضَجِيعُ كتابٍ لا يفارقهُ ولا ... يُرافِق إلاَّ عالِماً مُتبحِّرَا ظفرتَ بما أمَّلْت فاشْكُر ولا تكنْ ... مَلُولاً فإن الصيدَ في باطِن الفَرَا على أنه وافَى نِظامُك عاتباً ... علينا ومنْظوماً نِظاماً مُحرَّرَا غدَوْتُ به في نعمةٍ لبلاغةٍ ... حَواها وألفاظٍ لها قد تخيَّرا فوا عجباً من عاتبٍ كان حقُّه ... بأن يُبْتدَى بالعَتْبِ فيما تحرّرَا قوافِيكَ أوْلَتْنا مَحاسِنَ عدها ... نقولُ وقد خاطبت مَن كان قصَّرَا كأنَّك لم تعلَمْ بمن سار أشهُراً ... ليحْظَى بعلمٍ ثم عاد مُطهَّرا له رِحْلةٌ معروفةٌ أنت أهلُها ... فواصِلْ دُروساً دَرْسُها لك يُسِّرَا مدَى الدهرِ لا تبْرَحْ على الدرسِ عاكفاً ... فما العلمُ في الأسواقِ بالمال يُشترَى نَبِيُّك لم يتركْ سوى العلمِ فاغتنِمْ ... وِراثتَه بالدَّرْسِ عن سيّد الورَى وأنتَ بحمْد اللهِ قد صِرْتَ علاِماً ... ولكنْ نظَمْنا ما تراه مُذكِّرَا هدانا إله الخلقِ نَهْجاً مُبلِّغاً ... إلى جنَّةِ الفِرْدوسِ فضلاً ويَسَّرَا لئن كنتَ تَرْعَى للحقوقِ فإنَّني ... لأرْعَى لها واسألْ بذلك مَن دَرَى يريد أخِي قلبَ العِتابِ فقُلْ له ... يحِقُّ لِمثْلي أن يغُصَّ ويصبِرَا إذا أنا لم أحمِلْ على النفس ضَيْمَها ... سَدَدْتُ طريقاً للثناءِ مُنوَّرَا بَدا لِيَ عُذْرُ الصِّنْو بعد جَفائهِ ... وذلك أن السحب دام وأمْطَرَا تَوَالت بذا الأسبوع فضلاً ونعمةً ... فرَام لهذا أن يُقال ويُعذَرَا ثلاثاً هجَرْتُم ثم زِدتُمْ كمِثلها ... لك اللهُ أرجو أن تُقِيل وتعذِرَا جرَى ما جرَى منكم من الهجرِ والقِلَى ... وفوق ثلاثٍ حَرَّم الظَّهر ما جَرَى عليك سلام اللهِ ما ذَرَّ شارِقٌ ... وأسْأر ذُو عَزْمٍ لعلمٍ وما سَرَى علي بن عبد الله بن المهلا بن سعيد النيساي الشرفي نخبة أهل العصر الغابر، وأفصح من استعمل الأقلام والمحابر. زجر طير البنان في أوكاره، وجاء بمعدن البيان من أبكاره. وكان الحسن بن الإمام القاسم يشهد بتقدمه، ويرى مجاريه منتهى قدمه. وله في مدحه أشعارٌ أعبق من نفحات الأنوار غب القطار، وأشهى من كأس المدامة في مغتنم فرص الأوطار. فمنها قوله من لامية، مستهلها: لا تحسَبُوه عن هواكم سَلا ... كلاَّ ولا فارقكُم عن قِلَى ولا ثَنتْ وَهْنانةٌ قلبَه ... هَضِيمةُ الكَشْحِ صَموتُ الحُلَى الوهنانة: اللينة الجسم، ناعمته، تكاد تسقط من النعومة. تفضح بالقَدِّ غصونَ النَّقا ... لِيناً وتحكي الشادِن الأكْحَلا نَشْوانةٌ ما شرِبت قَرْقَفاً ... سَحَّارةٌ ما عرفتْ بابِلاَ آهِلةُ الدارِ بأتْرابِها ... لا عَفَتِ اررِّيحُ لها مَنزِلاَ نسِيمُها حدَّث عن مِسْكِها ... فخَاله أهلُ الهوى مُرسَلاَ

دعِ التَّصابي في المَقام الذي ... فاق سناءً واقْصِد الأفْضَلا وقُلْ بأعلَى الصوتِ إن جئْتَه ... يا مَلِكاً حاز جميعَ العُلَى هُنِيتَ هذا الشرفَ الأطْولاَ ... فالمَفْخرُ الباذِخُ فوق المَلاَ أدركتَ مَجْداً عُشْرُ مِعْشارِه ... قد أعجز الآخِرَ والأوَّلاَ ما أنتَ إلاَّ آيةٌ أُنْزِلتْ ... تقمَع من حَافَ ومن أبْطَلاَ يشْهد ما في الأرضِ من علمِه ... أنَّك صِرْتَ الواحِد الأكْمَلا نورَ هدىً يُهْدَى به ذو التقى ... نارَ وَغىً حاميةَ المُصْطَلى وبحرَ علمٍ ماله ساحلٌ ... يزْخَر إن فَصَّل أو أجْمَلاَ دقيقَ فكرٍ ما رأَى مُشكِلاً ... إلا وحلَّ المُشكِلَ المُعضِلاَ يا ابنَ أميرِ المؤمنين الذي ... ما برِحَ النصرُ له مُقْبِلاَ رُمْحُك لا يألفُ إلا الحشَا ... سيفُك لا يعشَق إلا الطُّلاَ طَرْفُك يخْتاضُ دماءَ العِدَى ... كأنها كانتْ له مَنْهَلاَ مُنتَعِلاً في الرَّوْعِ هاماتِهمْ ... مُجلِّلاً أكبادَهم والكُلَى نهَدْتَ للتُّرْكِ وقد حَزَّبوا ... أجْنادَهم تملأُ عُرضَ الفَلاَ تغَصُّ قِيعانُ زَبِيدٍ بهمْ ... تَخالُ فرسانَهم أجْبُلاَ فدارتِ الحربُ وقد أمَّلُوا ... رَأْياً وقد يُعْكَس مَن أمَّلاَ وزاوَلُوا منك فتىً ماجِداً ... لا يرهَب الموتَ إذا أقْبلاَ يسْتحسِن الدِّرْعَ على جسمِه ... ثوباً ويسْتخْشِن ثوبَ المُلاَ سابِغةً تسْخَر بالبِيضِ في الْ ... هَيْجَا وتسْتزرِي القَنا الذُّبَّلاَ فَجُرِّعوا من بأسِه عَلْقَما ... مُعْتصَراً من شَجَراتِ البَلاَ واستبْدلُوا عن صهوات الذُّرَى ... والضُّمَّرِ الُجرْدِ بطونَ البِلَى فمنهمُ مَن جاء مُستسلِماً ... ومنهمُ مَن طار خوفاً إلىَ فهكذا فلتكُنِ الهمَّةُ الْ ... قعساءُ والفخرُ وإلاَّ فلاَ فانْقشعتْ تلك الغَياباتُ عن ... مُهذَّبٍ كالقمرِ المُجْتلَى عن فاطِمٍ ذِكْرُ أيامِه ... يفعلُ في السامِع فعلَ الطِّلاَ الحسنِ بن القاسم النَّدْبِ مَن ... غار على الإِسلامِ أن يُهْمَلا وشاد رُكْناً لبني هاشمٍ ... طاوَل مِن رِفْعتِه يَذْبُلاَ ساسَ من الشِّحْرِ إلى مَكَّةٍ ... إلى الحِمَى عُمْرانَها والخَلاَ ودَوَّخ الأرضَ فلو رام تَخْ ... تَ الشَّامِ بَلْه الرُّومَ والمَوْصِلاَ لأقْبلتْ بالطَّوْعِ مُنْقادةً ... لأمْرِه أسْرَعَ مِن لاَ ولاَ ونالَ منها كلَّ ما يبْتغِي ... وحازَها بالسيفِ أو بالجَلاَ وما هِيَ الأرضُ وما قَدْرُها ... عندك يا مَن قَدْرُه قد عَلاَ لو أنها عندك مجموعةً ... وهَبْتَها من قبلِ أن تُسأَلاَ ولو أمرتَ الشُّهْبَ إقْبالَها ... نحوك لا تلبَثُ أن تنزِلاَ وضَيْغمُ الأفلاكِ لو رُمْتَه ... جَعلتَ من قُرونِه أنْعُلاَ ولو نهَيْتَ الدهرَ عن فِعْلِه ... بالحُرِّ لاسْتعبَدَ واسْتمثَلاَ وإن يُرِدْ منه على بُخْلِه ... يُوليِه بِرّاً كاد أن يفعَلاَ دُمْتَ لدِين المصطَفى مَعْقِلاً ... ولِلهَّيِفِ المُعتفِي مَوْئِلاَ وقوله، من نونية، أولها: هام وَجْداً بساكِني نَعْمانِ ... حَسْبه من أحِبَّةٍ ومكانِ جِيرةٌ خَيَّموا فخَيَّم قلبي ... واستقلُّوا فهام بالأظْعانِ

ألِفَتْهم رُوحِي فهانتْ عليهم ... قَلَّما يسلم الهوى مِن هَوانِ الهوى شأْنُه عجيبٌ فكم مِنْ ... مُسْبِلس ماءَ شَأْنِه إثْر شانِ علِق القلبُ منهمُ بدرَ تِمٍ ... ساحرَ اللَّحْظِ فاتِرَ الأجْفانِ وافرَ الرِّدْفِ كاملَ الطَّلْعةِ الغَرَّا ... ءِ مُرَّ الصُّدودِ حُلْوَ اللِّسانِ مَن لقلبي بعَضِّ تُفَّاحِهِ الغَضِّ ... وتقْبيل خدِّه الأُرْجُوانِي فأُداوِي الفؤادَ من ألَمِ الحبِّ ... ليُشْفَى مُعذَّبُ الهِجْرانِ مالكِي ما تُرِيد أصلَحك اللَّ ... هُ بإتْلافِ مُطْلَقِ الدمعِ عَانِ نَمْ هنيئاً مِلْءَ الجفونِ فإن عا ... وَد طَرْفِي الكرى فقُل لا هَنانِي يَطَّبِينِي هوَى الحسانِ ولكنْ ... ما رآنِي رَبِّي بحيث نَهانِي بل تحامَى نفسِي القريضَ فَيُد ... نيها إليه تشبيهُها بالغَوانِي إِجماعٌ مع الصِّبا بعد ما لا ... حَتْ ثلاثٌ بيضٌ ثَنَيْنَ عِنانِي فاتنِي رَيِّقُ الشبابِ وأرْجُو ... عَوْدَه من أكُفِّ فَرْدِ الأوانِ يا أبا أحمدٍ بَقِيتَ فما غَيْ ... رُك يُدْعَى إذا الْتقَى الْجَمْعانِ ذُدْ عن الدِّين واحْمِه بالصِّفاحِ الْ ... بِيضِ والصَّافِناتِ والمُرَّانِ أنت مَهْدِيُّ هذه الأمة المَرْ ... جُوُّ إحْياؤُه عَقِيبَ الزمانِ زمِنَ الدهرُ عندما درَس الحقُّ ... فمُذ جئت عاد في العُنْفُوانِ غَبَن المُدَّعِي عُلاك لقد مَدَّ ... يَداً وَيْحَه إلى كِيوانِ يرْتجِي شَأْوَك الرَّفيعَ لقد ضَلَّ ... وغَرَّتْه نفسُه بالأمانِي رفع اللهُ منك رايةَ حَقٍ ... يتَّقي بأْسَها أُولو الطُّغْيانِ سَلْ زَبِيداً والنَّجْدَ نَجْد المُحَيْرِي ... بِ وقاعَ القِبابِ من سخَّانِ لو تصدَّى لها سواك إذاً آ ... لَ كَسِيرَ القَنا قتِيل طِعانِ ألِفَتْ خيلُك الوغَى فهْي من شو ... قٍ إليه تهُمُّ بالطَّيَرانِ كم جيوش غادرْتها للأعادِي ... جَزَراً للنُّسورِ والعُقْبانِ من رأى بأْسَك الشديد وإقْدَا ... مَك يوم الوغَى على الأقْرانِ مُعْلَماً يلْتقِي الكتائبَ فَرْداً ... حيث تُنْسَى مَوَدَّةُ الإخوانِ لا يرى غيرَ هامةٍ أو نَجِيعٍ ... أو قَتامٍ أو صارمٍ أو سِنانِ علِم الناسُ أن مالك ثانِي ... واسْتبانُوا أن الفَخار يَمانِي ذلك المَحْتدِ الرفيعُ وعَلْيا ... ك على الخلقِ ما لها من مُدانِي راق مَدْحِي فيمَن حوَى قصَب السَّ ... بْقِ ودانتْ لأمْرِه الخافقانِ ملِك يقْهر الجبابرةَ الصِّ ... يدَ ويْعنُو له ذَوو التِّيجانِ سَنَّ للناس مذهبَ الْجُودِ والْ ... باسِ فما زيدُ الخيلِ وابنُ سِنانِ نَشرَ اللهُ عَدْلَه في البرَرايا ... ليفوزُوا بالأمْنِ والإيمانِ وأعادَ الأعْياد تَتْرَى عليه ... أبداً ما تعاقَب المَلَوانِ أخوه محمد من ذوي اللسن الذلق، الموسومين بالأوجه الطلق. تعلق به النبلا، وتروي عنه الفضلا. وفيه تودد وألطاف، وله شعر تتمايل طرباً به أردانٌ وأعطاف. فمنه قوله: وأغْيَدَ مَعْسولِ الشَّنائبِ واللَّمَى ... يُسائلِني عن شَرْحِ جَمْعِ الجوامعِ فقلتُ له والعينُ تسكُب عَبْرةً ... نعم يا خليلي شرحُ جمعِ الجوَى مَعِي وقوله:

شريفٌ تِهامِيٌّ تعانَى وقال لي ... أُرِيد من المولى نَوالاً ونَامُوسَا فقُلتُ له ما الاسم قال أنا موسى ... فقلت لقد أُوتِيتَ سُؤْلَك يا مُوسَى أولاد الجرموزي الثلاثة الإخوة، الذين اجتمعت فيهم المروءة والنخوة. سلسلة مجدهم متساوٍ شرفاها، وهم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها. أما: الحسن حاكم المخا فهو لخزانة الفضل إقليد، لا يليق بغيره لحكمة تقليد. سمعت بخبره فعرفت كنهه، وزالت عني في مسلمات فضله كل شبهة. فما تلقيت بأحسن مما فهمت، ولا انتقيت إلا تعشقت فهمت. فروحي فدى مناقب، نجومها في سماء الفضل ثواقب. إن لم تكن بذاتها زينة النحور، فمنها تكتسب الرونق دراري البحور. وقد وقفت له على أشعار وفقت إليها، فرأيت الحسن جميعه وقفاً عليها. فمنها ما كتب به إلى شيخه القاضي محمد بن إبراهيم السحولي، وهو إذ ذاك في صنعا، وقد أمره بوظيفة الخطابة في جامع صنعا: حتَّى م تنْهلُّ البوادِرْ ... وإلى مَ أغدو الدهرَ ساهِرْ ويصُّدني رِيمُ الفَلا ... ةِ أمَا لذاك الصَّدِّ آخِرْ لا تعجبوا من فِتْنتِي ... بمُمَلَّكٍ في الحب جائرْ فالطَّرْفُ منه والقَوا ... مُ اللَّدْنُ فَتّاكٌ وساحِرْ أو ما تَرَوْنَ خُدودَه ... بدمِي أقرَّتْ فهو ظاهِرْ وترَوْنَ في الثَّغْرِ الأَنِي ... قِ سُموطَ دُرٍ بل جواهرْ يَهْدِينَ كالمِصباح إمَّا ... رْتَ في ظُلَم الدَّاجِرْ وتُنِيرُ أسْرَارُ البلا ... غةِ في البيانِ لكلِّ ناظِرْ فعلمتُ أن دلائلُ الْ ... إعجازِ من تلك المَحاجِرْ مُذْ صدَّني جَرَتِ الدُّمو ... عُ على الخدودِ من النَّواظِرْ فوَجْنتِي غُدْرانُها ... وعلى المُتُون له غدائرْ غادرْنَنِي فأفاضَ دمْ ... عِي بالعَقِيق من المَشاعِرْ وحكَتْ جُفوني المُعْصَرا ... تِ فدمعُها هامٍ وهامِرْ إلى أن قال في المديح: هزَّتْ وباهتْ فَرْحةً ... لِلِقاكَ أعْطافُ المَنابرْ وتبسَّمتْ صَفحاتُها ... عن طِيب أرْياحٍ عواطِرْ ما قُسُّ ما سَحْبانُ وا ... ئلِ في الخطابةِ من مُناظِرْ ما سِيبَويْه النحوِ ما الْ ... جَرْمِيُّ كَلاَّ وابنُ طاهِرْ ما الصاحِبُ الْكافِي أو الصَّ ... ابِي فكلٌّ عنه قاصِرْ حُزْتَ المَكارمَ والعُلى ... فلَك المَوارِدُ والمَصادِرْ واسلَمْ ودُمْ في خَفْضِ عَيْ ... شٍ ما زهتْ بك من دفاترْ وبقِيتَما إن غرَّد الشُّ ... حْرورُ مشكوراً وشاكرْ فأجابه القاضي محمد: بين المَحاجِر والمعاجِرْ ... فُتِن الأصاغِرث والأكابرْ وعلى الدُّمَى طُلَّتْ دِما ... ءٌ للأوائِل والأواخِرْ أمعلِّم الأغصانِ كيْ ... ف تَميلُ في الورَقِ النواضِرْ ومُعِيرَ آرامِ الظِّبا ... ءِ الحاجِريَّات المَحاجِرْ أعلمتَ وَسْنَانَ الجُفُو ... نِ بحال ساهٍ فيك ساهرْ يبكي فعيْنٌ دَمْعُها ... هامٍ وهذا العينُ هامِرْ إلى أن قال: إن راق فيك تغزُّلي ... وملأْتُ أوراقَ الدفاترْ ورآهُ بعضُ الحاسِدي ... ن من النَّقائصِ والجَرائرْ جهلاً بحُسْن سَرِيرتي ... واللهُ أعْلَمُ بالسَّرائرْ فلأمْحوَنَّ خَطِيئتي ... إن سلّمت واللهُ غافرْ بمديحِ مولانا الكري ... مِ ابنِ الكريم أخي الأطاهِرْ حسنٍ سليلِ مُطهَّرٍ ... نَسْلِ الغَطارِفة الأكابرْ إلى أن قال:

مولايَ أفْصحَ ناظمٍ ... في أهل جِلْدتِه وناثِرْ قابلتُ هاتيك الغصو ... ن بهذه الدِّمَنِ الدَّواثرْ عِلْماً بأنَّك كاملٌ ... وبأن بحرَ نَداك وافرْ وبأنَّ علْمَك عاذِرٌ ... فيما أتيْتُ به وساترْ وهي طويلة، أجاد فيها كل الإجادة. ومن شعره في الوعظ قوله مضمناً بيت ابن تومرت: فيا حجر النَّجْدِ حتى متى ... تسُنُّ الحديدَ ولا تقْطَعُ ألا انْهَمِري أيها الأدمعُ ... وذوبِي جَوىً أيها الأضْلُعُ ونُوحِي على من له أُوقِعتْ ... كِبارُ المَعاصِي التي تُصنَعُ فكم غاص جَهْلاً بحارَ العمَى ... ومِن عنده يُوجَد المَهْيَعُ على أنه واعظٌ إن رَقَى ... على مَتْن رَوْعٍ به يَرْدعُ فمثِّلْه إن شئتَ في حالِه ... بمثْل الذي قاله المُبدِعُ فيا حجرَ النَّجْد حتى متى ... تَسُنُّ الحديدَ ولا تقطعُ وله: باللهِ لا بسِواه ... من الأنامِ تَمسَّكْ فافْزَعْ إليه إذا ما ... خَطْبُ الحوادثِ مَسَّكْ تنَلْ بدُنْياك خيْراً ... وفي حُلولِك رَمْسكْ فإن وثِقْت بخَلْقٍ ... سواه ضَّيعْتَ نفسَكْ وله في التضمين: تجاوزتِ يا هندُ المليحة في الحدِّ ... غَنِيت عنه بما في حُسْنِك البَهِجِ وأغمدتِ سيْفَيْ مُقْلتيْك بمُهجتِي ... وهل يُجمَع السيفانِ أفديك في غِمْدِ وله: على مَ تتَّخذ الحَلَىْ النفِيس وقد ... غَنِيت عنه بما في حُسْنِك البَهِجِ الجِيدُ من فضةٍ والخَدُّ من ذهبٍ ... والثَّغْرُ من لُؤْلؤٍ والصُّدْغُ من سَبَجِ وله: بأبي من قد سَبانِي حُسْنُه ... وغدَأ قلبي به مُرْتهِنَا فالِقُ الإصْباحِ مِن غُرَّتِه ... جاعل الليل عليها سَكَنَا ثَمِل العشاقُ في عشْقتِه ... وأفاقُوا سَكْرةً إلاَّ أنَا الثاني منتزع من قول الباخرزي، في أبياته المشهورة: يا فالقَ الصُّبْحِ من لأْلاءِ غُرَّتِه ... وجاعَل الليلِ من أصْداغِه سَكَنَا بصورةِ الوثَن اسْتعْبدَتنِي وبها ... فتْنتنِي وقديماً هِجْتَ لي شَجَنَا لا غَرْو أن أحرقتْ نارُ الهوى كبِدِي ... فالنارُ حَقٌّ على مَن يعبُد الوثَنَا وله، وقد ذكرت بحضرته أبيات الأعشى، التي يقول فيها: وتسْخُن ليلةَ لا يستطيع ... نُباحاً بها الكلبُ إلاَّ هَرِيرَا وتبْرد بَرْدَ رِداء العرُو ... س ليلايَ ضَمَّخْن فيه العَبِيرَا أفْدِي الذي زِينةُ الدنيا مَحاسِنُها ... فلا مليحٌ على الدنيا يُدانِيهَا في البردِ حَرَّى ووقت الحرِّ باردةٌ ... وبُغْيةُ المُتمنِّي في مَعانِيهَا وله: للهِ ماءُ ثَناياكِ التي عَذُبتْ ... وحبَّذا قُبَلٌ فيه وتَكْرارُ لكنه بارِدٌ أذْكَى لَظَى كبِدِي ... فاْعجَبْ لماءٍ غدَتْ تُذْكَى به النارُ وله في معناه مضمناً بيت المعري: قد قال لي الحِبُّ مُذ قَبّلْتُه سَحَراً ... في الخدِّ لَمَاهُ الطِّيبِ العَطِرِ أتهجُر الماءَ يا مغرورُ مُغتبِطاً ... وتقصِد النارَ ذات اللَّفْحِ والشَّرَرِ فقُلتُ من خَصَرٍ مولايَ أهجرُه ... والعذبُ يُهْجَر للإفْراطِ في الخَصَرِ وله في الزنبق: انْظُر إلى الزّنْبَق الأنيقِ وقد ... أبْدَع في شَكْلِه وفي نَمَطِهْ يحكي قناديلَ فِضَّةٍ غُرِستْ ... شموسُ تِبْرٍ تُضِيءُ في وسَطِهْ وله: رِيمٌ تسُلُّ البِيضَ أجفانُه السُّ ... ودُ فتسْقينا كؤوسَ الحتوفْ جَردَّها عَمْداً وفي ظلِّها ... وردٌ على الخدِّ مَنِيع القُطوفْ

يا حبَّذا وَجْنتُه جَنَّة ... لكنَّها تحت ظِلالِ السيوفْ وهو من قول ابن الخطيب: انْظُر إلى عارضِه فوقه ... ألحاظُه تُرْسِل فيها الحُتوفْ تُشاهدِ الجَّنةَ في وجهِه ... لكنها تحت ظلالِ السُّيوُفْ وأما: جعفر فهو طيار الصيت في الآفاق، سيار الذكر بين الرفاق. خمرت طينته بالأدب كل التخمير، ودعي له بالفضل في الولاية والتأمير. فضرب لمخيم علاه على الأثير سرادق، ووعد جعفر فضله بسقي العلى فيا له من جعفرٍ صادق. وقد سمعت من مادحيه بعضاً يقول: إنه فرد الزمان، وبعضاً يقول: إن معه في التوحد توقيع الأمان. وله شعر كنور الأقاح كاد أن ينفتق، أو كنور الإصباح هم أن ينفلق. فمنه قوله من قصيدة يمدح بها جمال الإسلام علي بن المتوكل إسماعيل: هكذا شرطُ الهوى سَلْبُ القلوبِ ... وشروقُ الدمعِ من تلك الغُروبِ وجوىً نامٍ وصَبْرٌ ناقصٌ ... وزفيرٌ قد تعالَى بنَحِيبِ وجُفونٌ قد جفَتْ طِيبَ الكرى ... ما أعزَّ النومَ للصَّبِّ الكئيبِ ما لِعُذْرِيِّ الهوى عُذْرٌ وقد ... لاح كالصبحِ سَنَا وَجهِ الحبيبِ أهْيَفٌ مهما تَثنَّى أو رَنَا ... يا حياءَ الظبِْي والغُصْنِ الرَّطِيبِ شادِنٌ كالظَّبْيِ يرْعَى أبداً ... في رياض الحسنِ حَبَّاتِ القلوبِ عَنْبرِيُّ الخالِ مِسْكِيُّ الشَّذَى ... سُكَّرِيُّ الرِّيقِ دُرِّيُّ الشَّنِيبِ ساحرُ الألْحَاظِ فَتَّاك الرّنَا ... شَفَقِيُّ الخدِّ حُقِّيُّ الكُعوبِ لو رآه عاذِلي ما عادَ لِي ... سلَب الصبرَ عن القلْبِ السَّلِيبِ قَصِّرِ اللَّوْمَ عَذُولِي في الهَوى ... وأفِقْ باللهِ عنِّي يا رقيبي أنت لا تبْرحُ تلْقَى نَصَباً ... في حبيبٍ هو في الدنيا نَصِيبي وعلى أيَّةِ حالٍ فاسْترِحْ ... يا رقِيبي إنه غيرُ قريبِ هو مثلُ البدرِ بُعْداً وسَناً ... وجمالُ المُلْكِ مَعْدومِ الضَّرِيبِ وله في الغزل: برَّح الشوقُ فواصِلْ ... أنت عمَّا بِيَ غافلْ زُرْ فأيام المُحِبِّ ... ين كما قِيل قَلائلْ قد تركتَ القلبَ منِّي ... ذاهباً والعقلَ ذاهِلْ بأبي بدرٌ بدَا لي ... في سماءِ الحُسْنِ كامِلْ كلَّما فوَّق سَهْماً ... لم يُصِب إلاَّ المَقاتِلْ رِدْفُه للخَصْرِ منه ... ظالمٌ والقَدُّ عادلْ أقوامٌ ذاك أم غُصْ ... نُ نَقاً في الدَّوْحِ مائلْ وعيونٌ فاتراتٌ ... تلك أم أسْحارُ بابلْ وخدودٌ قَانياتٌ ... أو ورودٌ في غلائلْ قيَّدتْني عارِضاه ... لهواهُ في سَلاسِلْ قال لي لمَّا رآنِي ... مِن هواهُ في حبائلْ عارضِي المَقْرون نُونٌ ... وعِذارِي سالَ سائِلْ قد مضَى العمرُ ووَلَّى ... لم أفُزْ منه بطائلْ لستُ أُصغِي في هواه ... لوُشاةٍ وعواذِلْ إنَّ دينَ الحبِّ حَقٌّ ... وسُلُوِّي عنه باطلْ فدعِي العاذلَ فيه ... فلْيَقُلْ ما هو قائلْ هو لا شَكَّ لِما بي ... من جوىً في القلب جاهلْ أنْكَر العاذلُ وَجْدِي ... وعلى الوجدِ دلائلْ وكفَى السُّقْمُ دليلاً ... ودَمٌ في الخدِّ هامِلْ وله، في الغزل أيضاً: سُمْتَ الفؤادَ مَنالَ المَنْزَعِ السَّامِيسَوْمَ العِداةِ مَرِيرَ السَّوْمِ بالسَّامِ أذْكيْتَ نارَيْن فيه من هوىً ونَوىً ... كلاهما ذاتُ إضْرار وإضْرامِ

عذَّبْتَه يا وَقالك اللهُ ظالِمَهُ ... وهْو المُبرَّأُ عن ذنبٍ وإجْرامِ أقْوَتْ مدارسُ صبرِي مذ نأيْتَ عَفاً ... لم يبْقَ منها سوى نُؤْيٍ وآرامِ ظننتُ مَهْلاً غرامِي فيك وهْو معي ... كالحافِظَيْن ومِن خَلْفِي وقُدَّامِي صحِبْتُه والهوى بُرْدِي ومعهدُه ... عَهْدِي وحُلَِّته حَلِّي وإبْرامِي وإذْ لُباناتُ خِلِّي في الغرام لُبا ... ناتِي وأحكامُه في الحبِّ أحكامِي وكنتُ والكونُ مسروراً بمَأْرُبتِي ... ولا أخاف مَلاماً غِبَّ إلْمامِي أيامَ كنتُ ولا أخْشَى جَفاك ولم ... أحْفِل بتحْفيل عُذَّال ولُوَّامِ ويا زمانَ التَّصابِي لا عَداك من الْ ... وَسْمِيّ أغْدَق غيثٍ هامعٍ هامِي يسْقي مَعالمَ أُنْسٍ كم قطعتُ بها ... ساعاتِ دهري وأيَّامي وأعْوامِي واهاً على سالِفٍ منها ظفِرتُ به ... كأنه إذْ مضى أضْغاثُ أحْلامِ يقِلُّ منِّي عليه حين أذكرُه ... كَفٌّ يُعَضُّ وجَفْن دَمعُه دامِي ومُهْجةٌ حَشْوُها ممَّا أُكابدُه ... نارٌ وَقُودٌ وجسمٌ حِلْفُ أسْقام ويا رَبِيبةَ مُلْكِ الحُسْن ليس يُرَى ... في غير حُبِّك إسْرارِي وإحْرامِي ولا ورَبِّك ما إنْ عَنَّ في خَلَدِي ... سِوَى هواكِ ونعمَ الناشىءُ النَّامِي مُكِّنتِ منه مَحَلاً دون مَبْلغهِ ... صَدَّتْ نوازِعُ أفكارٍ وأوهامِ عَقِيلةَ الحيِّ مُلِّكتِ السَّنا وبه ... ملَكْتِ كلَّ رقيقِ القلبِ هَيَّامِ ضارعْتِ مثلَك في البَيْداء سالفةً ... أختَ الغزالةِ مَهْوَى قُرْطِك السَّامِي ومُقْلة ما شَبَا الهِنْديُّ يوم وَغىً ... منها أبَتُّ لأكبادِ وأجسامِ رَنَتْ فكم طار من حِجْرٍ لذي أدَبٍ ... طَيْرَ الحمامةِ خوف النَّابِل الرَّامِي ذاتَ الفِراخِ نأتْ عنها محلَّتُها ... وقد دَجَا الليلُ في ظلمٍ وإظْلامِ وقبلَ عَيْنيك ما إنْ دار في خَلَدِي ... أسْحارُ بابِلَ في ألْحاظِ آرامِ حَكمْتها في عذابِي فعْلَ غانيةٍ ... لم تعْرِف العدلَ في تصْريفِ أحْكامِ لولاكِ ما باتَ طَرْفِي غيرَ ذِي طَمَعٍ ... من المنامِ بإسْعافِ وإلْمامِ وقد ملكتِ فؤادِي فاسْمحِي كرَماً ... فإنه قلبُ ماضِي العَزْم مِقْدامِ وليس قبلَك يا أختَ الغَزال سَطَتْ ... بباسِلٍ في عَرِين الأُسْدِ صَمْصامِ إذْ كنتُ لا أتوَقَّى هَيْبَ نازلةٍ ... حتى بُلِيتُ بحبٍ منكِ قَصَّامِ كالشمسِ عُذْر محبٍ صار فيك لَقىً ... عن عَذْلِ كلِّ غليظِ القلبِ لَوَّامِ باتتْ إليك نجومُ الأفق شاخصةً ... تَحْديقَ طالبِ حُسْنِ منك مُسْتامِ والبدرُ لمَّا حكَى مَرْآكِ كان له ... معنَى الجمالِ وفيه بعضُ إيهامِ وما سرَى الرَّكْبُ في أرضٍ حلَلْتِ بها ... إلاَّ على ضوءِ ثَغْرٍ منك بَسَّامِ وأهْدَتِ الرِّيحُ منها مَنْدَلاً عطِراً ... ألْوَى بنَفْحة طِيبِ الهندِ والشَّامِ وقد ملكت كتابَ الحُسْن منفرداً ... ظفِرْت منها بأنْواعٍ وأقْسامِ وله من قصيدة يمتدح بها ضياء الدين إسماعيل بن محمد بن الحسن: ما غرَّد بُلْبُلٌ وغَنَّى ... إلاَّ وأضلَّنِي وعَنَّى في حبِّ مُهَفْهَفٍ غَرِيرٍ ... من حُسنِك يا هلالُ أسْنَى البدرُ يغَارُ إن تبدَّى ... والغصنُ يموتُ إن تَثنَّى والظَّبْيُ إذا رأى رَنَاهُ ... والجِيدُ يكاد أن يَحِنَّا لو شاهده العَذُولُ أضْحَى ... فيه قلِق الوِسادِ مُضْنَى

أهْواه ولا أُلامُ فيه ... ما أطيبَ عِشْقَه وأهْنَا أُشْفَى بجمالِه وأشْقَى ... أحْيَى بدَلالِه وأفْنَى الحبُّ مع الوصالِ إسمٌ ... والموتُ مع المِطالِ مَعْنَى أهْوَى وأوَدُّ لو تَراهُ ... يا عاذلُ كالهلالِ حُسْنَا كي تعذِر في الهوى مُحِبّاً ... قد صار من الخِلالِ أضْنَى يا مالِك مُهْجتِي ترَفَّقْ ... فضلاً وتَداركِ المُعَنَّى في حُبِّك قد بذلْتُ رُوحِي ... لا تحسبَنْه لَديْك رَهْنَا يا غصنُ أما لكَ انْعِطافٌ ... يا حُسْنُ أما لديْك حُسْنَى يا وردَ خُدودِه الزَّواهِي ... عهْدِي بك يا وردُ تُجْنَى يا بدرُ أما تزُور وَهْناً ... كالبدرِ إذْ يلُوح وَهْنَا ما ضَرَّك هل عليك عارٌ ... لو تُنْعِش مُغْرَماً تعَنَّى هَبْ عُذْرَك واضحٌ فقُل لي ... يا طَيْفُ كم الصدودُ عَنَّا لا أُشْرِك في هواكَ خَلْقاً ... ما وَحَّد مُسْلِم فثَنَّى بل أنتَ وأنتَ كلُّ قَصْدِي ... أغْنَى بصَبابتي وأفْنَى ومن مقطعاته البديعية قوله: عَاتْبتُهم حين حال وُدُّهُم ... عند انْعِكاس الزمان مُمْتحِنَا قالُوا فمن ذا تراه لم يكُ يَسْ ... تحيلُ بالانْعكاسِ قلتُ أنَا وله في الحمامة: وحمامةٍ غنَّتْ على ... غصنٍ يمِيل مع الرياحِ وَرْقاء تبْعثُ للقلو ... ب هوَى الصِّباحِ مع الصَّباحِ صَبْراً فلاحِي صَبْوتِي ... من قبل حَيَّ على الفَلاحِ وله فيها: يا صاحِبيَّ حمامةُ الْ ... وادي أهاجتْ لي غَرامَا غنَّتْ فغَنَّتْ مُغْرَماً ... فيهمْ وهَي جسْماً وهامَا قُلنا سلاماً تبْتغِي ... في سَجْعِها قالتْ سلامَا وكتب إليه الأديب حسام الدين ناصر بن سعد بن عبد الله، قبل المعرفة بينهما: لقد خطَب الوُدَّ منك امْرُؤٌ ... وأمْهَره المِثْل من وُدِّهِ فإن تَرْضَه يا رَضِيَّ الهُدى ... وإلاَّ فأحْسِن في رَدِّهِ فأجابه بقوله: خطبْتَ وِدادَ امْرِىءٍ لم يزَلْ ... مَودَّتُك الجُلُّ من قَصْدِهِ ومن يَحْظَ بالوُدِّ من ناصرٍ ... قد أحْرزَ الجَدَّ من سَعْدِهِ ومن شعره قوله: بعَيْشِك حَدِّثْني عن الْبانِ هل سَرَى ... به الركبُ أم مالوا إليه وخَيَّمُوا فلِي أبداً شَوْقٌ إليهم مُبَرَّحٌ ... ولِي أبداً قلبٌ عليهم مُتيَّمُ وقوله: تعانقَتْ أغْصانُ بانٍ بالحِمَى ... فأشبهتْ أعْطافَ أحْبابِي ومُذ صَبا قلبي صَبا صاحِبي ... آهٍ على الصَّاحِبِ والصَّابِي وقوله: يا غزالاً لم يزلْ ... وجدِي به أمراً عظيمَا جُدْتَ بالوصل فأحْيَيْ ... تَ أخا وَجْدٍ كَلِيمَا أتُرى ضمَّ كريماً ... منك أم ضَمَّك رِيمَا وقوله: ومليحٍ كالبدر وجهاً وكالظَّبْ ... يِ الْتفاتاً وكالقَضِيبِ اعْتدالاَ كلُّ شيءٍ منه مليحٌ وإن جا ... رَ وأما الهِجْران والاعْتدالاَ وقوله: بأبِي الذي ما شبَّ إلاَّ ... شَبَّ وجدِي فيه أكْثَرْ وإذا تعذَّر مالكِي ... فهناك صبْرِي قد تعذَّرْ وقوله في مليح به شرط: بي أحمرُ الوجْنَةِ مَشْروطُها ... لَدْنُ التثنِّي ناعِسُ المُقْلتْينْ لو لم تكنْ عيْناه مكسورةً ... ما فعلُوا من تحتهما خفْضَتيْنْ وقوله: قالتْ وقد أفْنَتْ جميعَ تصبُّرِي ... ونفَتْ لذيذَ النومِ عن أجفْانِي إن رُمْتَ منِّي زَوْرةً في ليلةٍ ... فاصبرْ وليس لَدَيَّ صبرٌ ثانِي وقوله: يا من إذا جاء يوماً ... يُتابع المَنَّ بالمَنّ

أحْرَقْتَ بالمَنِّ قلبي ... واحَرَّ قلباهُ ممَّنْ وأما: محمد فإليه الحديث يساق، ويخجل خبره العقد في تناسبٍ واتساق. فهو ممن اشتهر وبهر، وأضحى روضةً أطلت على نهر. وله القلم البابلي السحار، والكلم التي عطرت نسائم الأسحار. وقد ذكرت له ما تتنادم الألسن على ذكر مزاياه، وتستنشق الأرواح المسك الداري من عرف رياه. فمنه ما كتبه إلى الأديب حسين بن علي الوادي، وهو إذ ذاك بصنعا: السُّحْبُ أرْخَى أدمُعا لا يُفيقْ ... وألْبَس الأغصانَ ثوباً أنِيقْ ودبَّجَ الأرضَ فمِن أخصرٍ ... أو أصفرٍ أو أحمرٍ كالعَقِيقْ وكلَّما مرَّتْ بنا نَفْحةٌ ... أهدتْ من الأزهارِ مِسْكاً سَحِيقْ روَتْ حديثاً عادَ دمعِي له ... مُسَلْسَلاً بالوُدِّ لا يسْتقِيقْ أن الرّبَى قد كُلِّلتْ بالنَّدَى ... وانْتظَم المَنْثورُ بين الشَّقِيقْ يا أيُّها الوادِي الذي نَشْرُه ... قد ملأ الأرجاءَ نَشْراً فَتِيقْ بُعْدُك عنِّي والوفاءُ شِيمَتِي ... مَالي إلى السُّلْوانِ عنه طرِيقْ فأجابه الحسين بقوله: إن الذي صيَّرني حُبُّه ... دمعاً جرِيحاً وفؤاداً رَقِيقْ لا يكْتفي عن مُهْجتِي بالغضَا ... ولا عن العيْن بسفْحِ العَقِيقْ واحرَّ قَلْباه ومن نافعِي ... منه إذا يجْرح قلبي الحرِيقْ من قمرٍ يفْعل بالعقل مَرْآ ... هُ ولا فعلَ سُلافِ الرَّحِيقْ مُكَوْثَرُ الرِّيقةِ كم لي دَمٍ ... ومدْمعٍ في حبِّه قد أُرِيقْ مالي عن عشْقتهِ سَلْوةٌ ... ولا أرَى السُّلوانَ عنه يليقْ إلاَّ حديثاً في جُمانِ الهدى ... كأنما حُلَّ بمِسْكٍ سَحِيقْ وهي طويلة. ومن شعره فما كتبه إليه أيضاً: قُم يا رسولِي نحوَ دارِ الحسينْ ... وقُل له الوعْدُ شَبِيهٌ بدَيْنْ لا زلتَ تُدْلِي لي حبالَ المُنَى ... بوَقْفةٍ والأمرُ في ذاك هَيْنْ وأيُّ يومٍ نلْتقي لم تقُلْ ... غداً نُوافِيكم وما ذاك مَيْنْ فأرقُب السَّاعاتِ حتى مضَى ... ميعادُكم وأستخلِفُ الحَسْرتيْنْ يا ابنَ عليٍ أنت أطْرَبَتْنِي ... ولم أنلْ منك سوَى وَقْفتيْنْ للهِ وادِيكَ وما حازَهُ ... من نغمتٍ من كِلا الجانبيْنْ بُلْبُلُه بَلْبَلَ بالِي فلَم ... أزلْ أُراعِي في الدجَى الخافقيْنْ فأجابه بأبيات، منها: ذكرتَ أن الوعدَ ديْنٌ نعمْ ... الوعدُ عند الحرِّ لا شكَّ دَيْنْ وكيف يخفَى فيكم سائِلي ... وسائِلي قد مَلأَ الخافقيْنْ فهل سألتَ الرَّبْعَ عن وَقْفةٍ ... وقفْتُها فيه بلا وقْفتيْنْ وقلت للوادي هل جاءنا الْ ... وادي وفَيْناه فما الأمرُ هَيْنْ إن كان ذا مَطْلاً فنفسِي لَهُ ... صبرٌ جميلٌ يقبل الحالتيْنْ ومن جيد شعره قوله: قِفا حَدِّثا عن لَوْعتِي وغرامِي ... ففي القلب نارٌ أُجِّجَتْ بِضرامِ وعنِّي خُذَا الأشواقَ والوجدَ والهوى ... فليس دَعِيٌّ في الهوى كإمامِ وفي الجِزْعِ حَيٌّ كلَّما شاق ذكرَهم ... نسِيمُ اشْتياقٍ لا يلَذُّ مَنامِي جفَوا مُغرماً لم يُثْنِه عن هواهمُ ... سُلُوٌّ ولا أرْواهُ شُرْبُ مُدامِ ولا لَحْنُ شادٍ مَعْبَدِيٍ غناؤُه ... يُرجِّع ألْحاناً كسَجْعِ حمامِ إذا سَلْوة رامتْ إلى القلب مَسْلَكاً ... يقول لها الوجدُ ارْجعي بسلامِ وله في صنعاء: أرى المدائنَ شَوْها كلَّما ذُكِرتْ ... صنعاءُ والبابُ منها بابُ سيرانِ ما حلَّ فيها امْرُؤٌ إلاَّ وعايَنَها ... جَنَّاتِ عَدْنٍ عليها حُور رِضْوانِ وذيل عليهما صنوه السيد الحسن فقال:

إيَّاك إيَّاك أن تعدِل بها بلداً ... هيهاتَ ما الدُّرُّ والحَصْباء سِيّانِ تاهَتْ على الأرضِ ما نَهْرُ الأُبُلَّةِ والْ ... وادِي المُقدَّسِ أو ما شِعْبُ بوَّانِ السادة بنو الحجاف: السيد زيد بن علي أمير المخا، وخليفة المزن في السخا. من سروات الأشراف، كريم الأسلاف والأطراف. له خليقةٌ بذل المعروف ديمتها، وسجيةٌ نجدة الملهوف شيمتها. ولاه المتوكل المخا فكان بخا حظاً زائدا لا ينتقص، وحرماً آمنا لا يباح صيده ولا يقتنص. وله في أحكامه سيرةٌ رضية، وعزيمةٌ ما تخلفت بها عن حكمه قضية. وأما أدبه فروض نسام، كأنه في ثغر الدهر ابتسام. فمن شعره الذي لفظه بحره، وتزينت به لبة الزمان ونحره. قوله: ولي عَتْبٌ عل قومٍ أساءُوا ... مُعاملتِي وسامُوني اغْترارَا جنَوْا عَمْداً وما راعُوا حقوقاً ... وما اعْتذروا وسامُوني صَغارَا سأضربُ عنهمُ صَفْحاً وأُغْضِي ... مَخافةَ أن أُقلِّدهم شَنارَا ولو أنِّي ركبتُ مُتونَ عَزْمِي ... إذاً لَسقيْتُهم مُرّاً مِرارَا ولو أنِّي همَمْتُ بأخْذ حَقِّي ... لَولُّونِي ظُهورَهمُ فِرارَا فأجاه بعض أصحابه بقوله: لك العُتْبَى ومنك الصفحُ يُرْجَى ... إذا لم تسْتَبنْ مهم وَقارَا وإنَّهم جنَوْا عمْداً وجَهْلاً ... وما راعوا ولا طلَعوا اعْتذارَا فإن البدرَ لا يثنِيه شيءٌ ... من العجْما صِياحاً أو جُؤارَا وأنت على أذاهمْ ُُو اقْتدارٍ ... عَلِيٌّ أن تُسامَى أو تُبارَى فطِبْ نفْساً فكلُّهُم ذليلٌ ... لِعزَّتك اخْتياراً واضْطرارَا وله: أقول للوردِ لمَّا افْتَرَّ مبتسِماً ... صنَعتَ فيما أراه صَنْعةَ الأدبِ في فِيكَ لي صدقُ وُدٍ قد أضِنُّ به ... شَيْءٌ من الضَّرَبِ الحالِي مع الشَّنَبِ ومن بدائعه قوله: ومالِي وللهمِّ الذي أنا حاملٌ ... ولي صِلةٌ من لُطْف ربِّي وعائدُ إذا عادةُ اللهِ التي أنا آلِفٌ ... تذكَّرتُها هانتْ عليّ الشدائدُ فلا أتَّقِي هَوْلاً وأرْهبُ طارِقاً ... ولي ثِقةٌ باللهِ ما قام عابدُ السيد عبد الرحمن بن الحسن القاسمي صاحب يدٍ في القريض وساعد، وجدٍ إلى أفق النيرات صاعد. يزرع الدر في أرض الطروس، فيقتطف ثمارها طيبة المجنى والغروس. بعبارات عذبت فأغنت غناء الثنايا العذاب، وإشاراتٍ يذيب بصوغها القوافي فتؤدي رونق الذهب المذاب. وقد أثبت له ما يروق تطريزه، وينفق في سوق الأدب إبريزه. فمن ذلك قوله، من قصيدة: ألا أيُّها البرقُ الذي لاح من بُعْدِ ... فهيَّج أشْجاني وجدَّد لي وَجْدِي ومِيضُك من قلبي وغَيْثُك أدمُعِي ... ومن زفَراتي والبُكا حَنَّةُ الرعدِ وقد أنْحلتْ جسمي مَرارةُ مُهجتِي ... ومُنْهمرِ الأعْيان قد خَدَّ في خَدِّي عَساك إلى الأحْبابِ تُهْدِي تحيَّتي ... وتُخْبرني عن دارِ هندٍ وعن هندِ منها: ففِي مُهْجتي من طولِ ذا البعدِ والنَّوى ... بنارٍ وقد ذاب الفؤاد من الفقدِ فيا ليت أحبابِي لِما بِيَ شاهَدُوا ... ويا ليت شِعْرِي كيف حالُهُم بَعْدِي ومنها: مَنامِي طَرِيدٌ من فِراق أحبَّتِي ... وقلبيَ لا يقْوَى وُقِيتُم على الصَّدِّ فهل عندكم للعهدِ عند وَداعِنا ... وفاءٌ فإنِّي لا أحُول عن العهدِ وقوله: أولَى وأحْرَى بالمَلامةِ لُوَّمِي ... منّي وأجْدَى بالجِدالِ المُبْرَمِ لامُوا على أن ظلَّ دمعِي ذارِفاً ... والحقّ أن أبكى دُموعاً من دَمِ بل لو بكَيْتُ دماً لَقَلَّ لحادثٍ ... أضْحَى لديْه كلُّ ذي نظرٍ عَمِي السيد إسماعيل، والسيد يحيى، ابنا إبراهيم الحجاف غصنا كمال، وكوكبا جمال، وكلٌّ منهما يمين للمجد وشمال.

قد لانت أخلاقهما، وما بات إلا بالأدب اعتلاقهما. وكلاهما في حلبة الأدب من الفرسان، وفي شوطها ممن أحرز قصب الإحسان. ولهما شعر لا تنجاب ديمته، ولا تغلو بغير قلمهما قيمته. فمن شعر السيد إسماعيل، قوله من قصيدة يمدح بها المتوكل إسماعيل. أولها: أصبح الدهرُ طَيِّبَ الأوقاتِ ... كاملَ الحُسْنِ وافِرَ الحسَناتِ مُشْرِقَ الوجهِ باسمَ الثغر يزْدَا ... دُ بِمَرِّ الشهورِ والسَّنَواتِ كعَرُوسٍ من فوقه زادَها الْحَل ... يُ جمالاً إلى جمالِ الذَّاتِ غادة تسلُب العقولَ وتغْتا ... لُ قلوبَ الأنامِ باللَّحَظاتِ ينتُ سَبْعٍ وأربعٍ وثلاثٍ ... برَعتْ في السكونِ والحَركاتِ تتثنَّى فينْثني مِن وَراها ... خافِقُ القلبِ ساكبُ العَبَراتِ جَمْعت كلَّ مُفْرَدٍ من جمالٍ ... وتثَّنتْ غُصْناً من المائساتِ مُذ تولَّى أمرَ الخلافةِ فيه ... أوْحَدِيُّ الأفعالِ جَمُّ الصِّفاتِ ثابتُ الجأْشِ ثابتُ الرأيِ إسما ... عيلُ حِلْفُ الهدى حلِيفُ الهُداةِ هدوِيٌّ في نِسْبةٍ من أبيه ... قاسمِيٌّ في نِسْبةِ الأُمَّهاتِ تتلاقَى أطْرافُه في المَعالِي ... بين خَيْرٍ وخَيْرةِ الصَّالحاتِ منها: يا إمامَ الزَّمانِ قد أسْعَد اللَّ ... هُ أُناساً رأَوْك قبل المَماتِ شاهدُوا فيك من صِفاتِ عليٍ ... جُملةً أخْبرتْ عن الباقياتِ منها: بَّق الأرضَ جُود كفّيْك فيه ... وعَمرْتَ الورى بأسَنْى الهِباتِ يتبارَى كفاك والبحرُ جُوداً ... فأنافَا سَبْقاً على الذّارِياتِ صِفَةٌ من صفاتِ جَدِّك قد جا ... ء بمضْمونِها حديثُ الرُّواةِ وهي طويلة. وللسيد يحيى من كتاب إلى الحسين بن الناصر، وقد اطلع على كتابيه المواهب القدسية ومطمح الآمال، في إيقاظ جهلة العمال، من سنة الضلال. أما بعد؛ فإنه جاءني كتابٌ كريم، ومسطور أنشأه عظيمٌ عليم. حفظه الله، وأطال في عافيةٍ بقاه، وأهدى إليه سلاما طبق فضله وكفاه، وحباه برحمته وبركاته غدو عمره ومساه. فآنسني مجيئه وسر، ووصلني به منشيه وبر. وبهرني كماله الباهر، وملأ صدري إعظاماً له فضله وإفضاله الغامر. فدعوت الله أن يتولى مكافأته عني، ويجزيه أفضل ما جزى به المحسنين الواصلين نيابةً مني. والله تعالى يشكر مساعيه الحميدة، وعوائد نفعه العديدة. هذا، وقد طالعت مؤلفيه اللذين أحكمهما، فوقفت فيهما على علمٍ كبير، ووصلٍ خطير. أما شرح المنظومة فقد انطوى على علم غزير، وفقه كثير. وانتظم نظم المقارضة للفظ الأنيق، والجمع للزيادات مع أسلوبس رشيق. وأما كتاب مطمح الآمال، فلقد جمع على حصره، من أعيان الهداة، ومن شمائلهم وسيرهم، وأمثلة تقواهم لربهم وخشيتهم له ومراقبتهم، ما هو لباب المطولات، ومقصود المبسوطات. وتمم كماله ما ضمه إليه من مكاتبات العلما، ومباحثات الفهما. فصار مصباحاً للبصائر، ومفتاحاً لما انغلق من منهاج الأخائر. وإن فيما اشتمل عليه لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد. وإن طريق الحق لأبلج، لولا حب الدنيا فإنه رحيب المدخل ضيق المخرج. ومن شعره قوله: قد لاَمَنِي العاذلُ لمَّا رأَى ... صَبابتي في الشَّادِن الشارِدِ وقال مهلاً لا تَرُم وَصْلَه ... فقد غدا في شَرَكِ الصَّئدِ السادة النعميون السيد علي بن الحسن ذو النسب الطاهر، والحسب الظاهر. ليس له مدان، غير بني عبد المدان. فيه شمائل نسمات نجد، وله كلفٌ بالمعلوات ووجد. نشأ في بيت الفضل والنعمة، ونما على فرش اللين والنعمة. إلى سجية مرتاضة، وطبيعة فياضة. وثمة لفظٌ ألذ من حلاوة عدن، ومعنىً أشهى من العافية إلى البدن. فمن شعره، قوله في الزهر: سَرْحةُ الروضِ نُزهةٌ للنفوسِ ... وبها مَرْهَمٌ لداءٍ وبُوسِ

وهْيَ أشْهَى لإلْفِها من سُلافٍ ... قد أُدِيرتْ على نَدامَى الكؤُوسِ ولها صورةٌ بمَنْظر قلبِي ... هيَ أبْهَى من صورةِ الطاوُوسِ فاسْتمرُّوا في دَرْسِها فالمَعالي ... تتهادَى في حالكاتِ الدُّروسِ والمَعاني مُهورهُنَّ مَغانٍ ... وارداتٌ عن صَفْوةِ القُدُّوسِ وجليسٌ مُذاكِرٌ في رَشادٍ ... خيرُ خِلٍ وصاحبٍ وجليسِ فإذا لم يكُن فصُحْبةُ سَفْرٍ ... هي عند اللَّبِيبِ خيرُ أنِيسِ واسْتمِدُّوا فضلاً من اللهِ يأْتِي ... فيه نورٌ يفُوق نورَ الشُّموسِ واسْتعِينُوا بالصَّبْر كيْما تفُوزُوا ... بِخلالٍ عظيمةِ النَّاموسِ فسلامٌ عليكُمُ مُستمِرٌّ ... ما هَمَى عارِضُ الغمامِ الرَّجيسِ وله من رسالة كتبها إلى الفقيه أبي القاسم بن محمد أبي هم، في مسألة حصلة بينهما فيها نزاع: وقد كان الأولى رفع النفس عن مجاراتك في جهلك، والالتفات إلى فرطات عقلك. وكف اليد عن جوابك، وقطع المدى عن عتابك. غير أني أعلم أنك لم تعدني بالإعراض متكرما، ولا بالازورار عنك مستحكما. بل تقدر مع ذلك أنك قد أصبت معظم الصواب من هذا البحث، وأنك قد أخذت بمقالك الأقبح الأرفث. وأيضاً، فإن من محكم كلام الجليل: " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ". ومن قول حكيم الشعر. إذا أتَتِ الإساءةُ من وضيعٍ ... ولم أَلُمِ المُسِيءَ فمَن ألومُ وبعد هذا، فاعرف موضع قدمك قبل المسير، وتبصر في الأمور أيها الجاهل الغرير. وقف عند انتهاء قدرك، وانظر في إصلاح أمرك. فالأولى لك أن تكون متعلما لا معلما، وأن تكون متفهما لا مفهما. وليس لك فيما سلكت جملٌ ولا ناقة، ولا تذكر في مقدمة ولا ساقة. السيد محمد والسيد حسن، ابنا علي بن حفظ الله غرتان في جبهة الزمن، وشامتان في وجنة اليمن. أماطا عن وجه البلاغة البراقع، وطلعا كالنسرين الطائر والواقع. ولهما جمعية أدوات تعجز الإدراك، وانحيازه نزعات تأبى في سواهما الاشتراك. وشعرهما في غاية ما يكون، يحرك بالضرورة طرباً له كل ذي سكون. فمما يحمد لمحمد قوله، من قصيدة أولها: مَن لقلبٍ مِزاجُه الأهواءُ ... وعيونٍ أودَى بهِنَّ البكاءُ لِشَجِيٍ متيَّمٍ مُستهامٍ ... هَمُّه النَّوْحُ دَائباً والأساء يا خليليَّ بالبُكا ساعِداني ... في عِراصٍ ربُوعهنَّ خَلاءُ دارِ ليلى ودراِ نُعْمٍ وهندٍ ... وديارٍ تحُلُّها أسْماءُ وقِفَا بي هُدِيتُما لو فَوقاً ... فوُقوفِي على الطُّلولِ شِفَاءُ أيها الرسمُ هل تُجِيبُ سؤالاً ... لِمَشوقٍ أوْدتْ به البُرَحاءُ كائناً عن ودادِ ليلى بهندٍ ... وبنُعْمٍ وشوقُه أسْماءُ وكذا كلُّ مُولَعٍ بحبيبٍ ... يتكنَّى وهل تُفِيد الكُناءُ بُحْ غراماً إن كنتَ حِلْسَ ودادٍ ... وقُلِ اللومُ في الحسانِ هُذاءُ أنا حِلْفُ الغرام في كلِّ حينٍ ... وفؤادي من السُّلُوِّ هَواءُ كلَّما أزْمع الفؤادُ سُلُوّاً ... ذكَّرتْني وَهْنانةٌ هيفاءُ بعيونٍ فواترٍ ساجياتٍ ... رُسُلُ الموت بينها كَمْناءُ قائلاتٍ لمن تمنَّى هَواها ... لا بقاءٌ مع اللِّقا لا بقاءُ وقُدودٍ بمَيْلها تتثَّنى ... ظامِياتٍ أكْفالُهنَّ رِواءُ يُطمِع الصبَّ لِينُها في لِقاها ... وهْيَ للصبِّ صخرةٌ صمَّاءُ لم أنَلْها بالعين إلاَّ اخْتلاساً ... رَدَّ عيني عن الصَّفاةِ الضِّياءُ وعَدانِي عن ازْدِيارِ حِماها ... رُقَباها وصَدَّها الرُّقباءُ فتارني أهْوَى المَمات طماعاً ... لازْديارِي منها وبئس الرَّجاءُ

وأُرجِّي يوم النُّشورِ لِقاها ... وكثيرٌ من الرجاءِ هَباءُ إنما الحبُّ ذِلَّةٌ وغرورُ ... وسَقامٌ يكِلُّ عنه الدَّواءُ وقوله من أخرى، أولها: تيَّمتْني ذاتُ الخُدودِ الرّهافِ ... وبرَتْني ذاتُ القُدودِ اللِّطافِ طَفْلةٌ تفْضَح القضِيبَ قَواماً ... تُسْبِل الليلَ فوق رَمْلِ الحِقافِ صَوَّر اللهُ شَخْصَها من ضياءٍ ... ولُجَيْنٍ ولُؤْلُؤِ الأصْدافِ أعلَى مَن هوى لتلك مَلامٌ ... لا وربِّ الحديدِ والأحْقافِ وقوله أيضاً: سَمحتْ بوَصْل المُسْتهام العاشقِ ... هَيْفاءُ خُصَّت بالجمال الفائقِ بيضاءُ صامتةُ المُوشَّح طَفْلةٌ ... تُزْرِي القضِيبَ بلِينِ قَدٍ باسقِ من بَعْد ما شحَّتْ بِطيب وِصالِها ... نَحْوِي ولم تسمحْ بطيْفٍ طارقِ وافَتْ وثوبُ الليل أسودُ حالِكٌ ... في جسمِ عاشِقها وزِيِّ السارقِ باتتْ ذوائِبُها الحسانُ قَلائدِي ... ومُوسّدي فَعْم الذِّراعِ الرَّائقِ نشْكو الجوَى ونبُثُّ سِرَّ غرامِنا ... في غَفْلةِ الرُّقَبا ونومِ الرَّامقِ للهِ مِن وصلٍ هنالك نِلْتُه ... في جُنْح ليلٍ غَيْهَبِيٍ غاسِقِ من شادِنٍ غَنِجٍ أغَنَّ مُهَفْهَفٍ ... باهِي الجمال بديعِ صُنْعِ الخالقِ في ليلةٍ ظَلْما كأنَّ نجومَها ... في لُجِّ بَحْرٍ أُوثِقتْ بوَثائقِ ملك الفؤادَ بدَلِّه ودلالِه ... فجوانِحي كجَناحِ طيرٍ خافقِ تاللهِ لا أنْساه ليلةَ قال لي ... لا تَنْسَ منِّي مَحْضَ وُدٍ صادقِ واسألْ فؤادَك عن فؤادِي إنه ... يُنْبِيك عمَّا جَنَّ قلبُ الوامقِ ومما يحسن لحسن ما كتبه للحسين المهلا: لأنتَ لِمُدْلَهِمِّ الأمرِ بدرُ ... يضيءُ وشمسُ معرفةٍ وبحرُ وطَوْدُ مكارمٍ وسبيلُ حَقٍ ... لليلِ دُجىً من الشُّبُهاتِ فجرُ ونُورُ هدىً لمن يعْرُوه جهلٌ ... ويَمُّ نَدىً لمن فاجَاه فَقرُ بُيوتُ عُلاك شامخَةٌ طِوالٌ ... ورَوْض هُداك ناضِرُهُ يسُرُّ علومُك أصبحتْ عسَلاً مُصفّىً ... وفي أنهارِها لبنٌ وخمْرُ وحُورُ حِسانِها مُتبخْتراتٌ ... تدور بشأنها ولهُنَّ بِشْرُ وأشْبَهُ بالنسيم الرَّطْبِ شيئاً ... عِتابٌ فيه للمعْتوب عُذْرُ لتأْخير الرسائلِ منك عنِّي ... وذلك بين أهلِ الوُدِّ فَخْرُ وأنت حَميْت نُورَ سوادِ عيْني ... ورِقُّ وَلايَ تحت لِواك حِجْرُ عليك سلامُ ربِّك في تَحايَا ... تخصُّك ما أنار وضاءَ بَدْرُ وكتب إليه، يتشوق لمروره بمحله: مُنتظَرَ القلبِ متى وصلُكمْ ... فحالُنا شَقَّ به الانْتظارْ وشوقُنا لمَّا يزَلْ صالِياً ... جوانحَ القلبِ بجمرٍ ونارْ ورَبْعُنا تهْتزُّ أكْنافُه ... شوقاً إليكم يا خِيارَ الخِيارْ لا زلتُمُ للحقِّ قُوَّامَه ... وفي المعالِي قادةً والفخارْ فأجابه بقوله: يا بدرَ أُفْقٍ في الليالي أنارْ ... ومَن لأفْلاك المَعالي أدارْ يا رافعاً دار العُلَى في المَلاَ ... فدارُه أضْحى رفيعَ المَنارْ وساكناً أرْضاً به أصبحتْ ... غرَّاءَ بيضاءَ كشمسِ النهارْ ومَنْبَعُ السُّؤددِ والمجدِ في ... دارٍ له صار به خيرَ دارْ وافَى إلينا النظمُ كالُّلؤْلؤ ال ... مَنْظومِ في حَوْراءَ فيها حوارْ فهو لقلبي وفؤادي شِفَا ... وليَمِيني ويسَارِي يَسارْ وكتب لعلي بن الهادي المنسكي، معتذراً إليه في إبطاء كتبه عنه قوله:

ما بُعْدُ كُتْبي عن الأحبابِ نِسْيانُ ... وقَطْعُ وصلِي لهم واللهِ سُلْوانُ أو سَلْوةٌ بسِواهم لا وحقِّهمُ ... إنِّي على عهدِهم باقٍ وإن بَانُوا وكيف أسْلو وفي الأحشاءِ منزلُهمْ ... والقلبُ رَبْعٌ لهم والجسمُ أوطانُ ومَن إذا شِمْتُ بَرْقاً نحوَ رَبْعِهمُ ... بُلَّتْ من الدمعِ أرْدانٌ وأجفانُ ومَن إذا الطَّيْفُ منهم زارنِي عجِلاً ... يُشَبُّ في مُهْجتي جَمْرٌ ونِيرانُ وكتب إليه من إنشاءه جواباً عن كتاب: وقد جاء من تلقائه الكتاب الكريم الشافي، ووصل من نحوه المثال الفخيم الوافي. جلت طوالعه حنادس الهموم، وحلت نوازعه فوارس البلاغة في يومٍ مشهودٍ له الناس وذلك يومٌ معلوم. فما تنزل به روح أمانيه من بيان سماء بلاغته إلا لشفاء أوامي، ولا تدلي أمين يراعته على بيان بلاغته إلا لبرء أسقامي. فما أحلى ما شربت من زلاله المعين صافيا، وما ألذ ما ارتويت من برد نميره المغيث شافيا. وما أنور ما تبسم به ثغره عن لؤلؤ عتابٍ كريم، وما أعطر ما تنسم به فجره عن روح غفرانٍ من المولى وتسليم. السيد الحسن بن علي بن الحسن بن محمد سيد تحلى بالحلل السنية، وأربى على أجواد الأسرة النعمية الحسنية. بفضلٍ مرتوي النبت خصيب، وفكرٍ كيف ما سددته فهو مصيب. فهو بدرٌ في شيم، وبحرٌ في ديم. ونور وزهر، في شاطىء غديرٍ ونهر. وشعره قولٌ حسن، مسند إلى الحسن. فمنه قوله فيما كتبه إلى الناصر المهلا، على لسان محمد بن صلاح: ألا باللهِ يا نفسَ الخيالِ ... أعِدْ لي ذكر سالِفةِ اللَّيالِي وأتْحِفْني بذكْرِ أُهَيْلِ نجدٍ ... وما قد مرَّ في تلك الحِلالِ وهاتِ الكأسَ صِرْفاً صَرْخَدِيّاً ... بذِكْراهنَّ لي في كلِّ حالِ فإنِّي إن ذكرتُ زمانَ وَصْلِي ... وما قد مرَّ من حُسْن اتِّصالِي بمَن أهْواه في عيشٍ خصيبٍ ... وأيامٍ حُلاها قد حَلا لِي أكاد أذُوبُ من وَلَهِي عليه ... وأضربُ باليمين على الشِّمالِ وأصْبُو للرُّبوعِ وساكنِيها ... وأبْقَى في افتكارٍ واشتغالِ وأرجُو اللهَ يجمعُنا قريباً ... بذاتِ النفسِ لا طَيْفِ الخيالِ ونقْضِي للصَّبابةِ والتَّصابِي ... لُباناتِ التَّواصُل والوصالِ الحسن بن أحمد الحيمي رئيسٌ سامي المقدار، مشكور السيرة في الإيراد والإصدار. طلع في أفق البيت الحيمي بدراً تحرس مجده الثواقب، وزين من مجلس إفادتهم صدراً تحفظ طرفيه المناقب. فهم من ملقاه في ضياءٍ يسطع، ومن رأيه الصائب في حكمٍ يقطع. وكان معروفاً بعلو الهمة، مقصداً في الأمور المهمة. ولذلك أرسله الإمام إسماعيل المتوكل رسولاً إلى الحبشة فظهرت له اليد البيضاء في أغراضٍ عين لها، وقضاها بنظره على حالٍ ما تغافل عنها ولا لها. وقد رأيت له قطعةً من نظمه استجدتها، وطالما أبديتها لحسن ديباجتها وأعدتها. وهي قوله: فؤادٌ على نارِ الأحبَّة لا يقْوَى ... وكيف ورَبْعُ العامِريَّة قد أقْوَى وصبرٌ ولكنْ غالَه الهجرُ والنوَى ... فلا نَفْعَ للمهْجورِ فيه ولا جَدْوَى ولكنَّني قد ذُبْتُ في الوصلِ بالرَّجا ... وكم ذِي لُباناتٍ تمنَّعَ بالرَّجْوَى فيا أيُّها الخِلُّ الذي أنا صَبُّه ... عليك بآدابِ الحديث الذي يُروَى ومُنَّ علينا بالترسُّل إنَّني ... رأيتُ حديثَ المَنِّ أحْلَى من السَّلْوَى ولده القاضي بدر الدين محمد قاضٍ إذا التبس الأمران، عن له في تمييزهما رأيٌ يحسده النيران. ليس للماء صفاء فكره ولو تصلف، ولا لبدر السماء حسن وجهه ولو تكلف وكانت الأحكام بفضله مطرزة العواتق، والأيام بحسن تدبيره مأمونة الفواتق. وهو في كثرة الإحاطة بحرٌ له مشارع، جرى في الصواب على وفق مراد الشارع. وقد فصل الأدب بدائع فصول، فضل القاضي الفاضل عندها فضول. وأتى بفرائد منظوم ومنثور، يستهدن لديها كل منقول ومأثور.

فمن شعره قوله؛ من قصيدة كتب بها إلى يوسف بن علي الهادي صاحب الطوق. مطلعها: أعِدْ من حديثِ السالفاتِ لنا ذكْرَا ... فللَّه ما أحْلاه دهراً وإن مَرَّا وكرِّر على سَمْعِي قديمَ حديثهِ ... وقُل إن تُدِرْه ما ألَذَّ وما أمْرَا ويا ساجعاتِ الوُرْقِ لا هَزَّكِ الهوَى ... كما اهْتزَّ غصنٌ في الرُّبَى بعد ما اخْضرَّا ولا خُضِبتْ منك الأكُفُّ بعَنْدَمٍ ... كدمعٍ جرى من أسْوَدِ الطَّرفِ مُحمْرَّا ولا صفَّقتْ منك الجناحان صَبْوةً ... إلى أفْرُخٍ في شاهقٍ أُودِعتْ وَكْرَا إذا لم تبُثِّي ما كتمتِ من الهوى ... وأحسنُه ما طابقَ الخَبَرُ الخُبْرَا جفاكِ خليلٌ أم نَبَا بك مَنْزِلٌ ... فما بيننا يا وُرْقُ أن تكْتمِي سِرَّا وما أنتِ بدْعٌ في غرامٍ ولوعةٍ ... وما الحبُّ إلاَّ ما يُرَى سِرُّه جَهْرَا كِلانا على الأغْصانِ ناحٍ وإنما ... على قدرِ ما نَهوى تخالفتِ الآرَا وما أنا في ذِكْرِ العَقِيقِ وأهلهِ ... بأوَّلِ صَبٍ صَبَّ في جَفْنِه التِّبْرَا فلو سكبتْ عيْناي ما سكبتْ على ... بِقاعِ الدُّنَى وما رأى أهلُها قَفْرَا رعى اللهُ أيامَ العَقِيقِ وإن تكُنْ ... على بُعْدِه أجْرَتْه من مُقلتِي نَهرَا إذا استُخْدِمتْ عيني لساكنِه فلا ... عجِيبٌ فإنِّي لست أُدْعَى بهم حُرَّا ولا عجبٌ إن هِمْتُ في ساكِني النَّقا ... غَراماً فقد شَبُّوه في كبدي حُرَّا أبَى الحبُّ إلاَّ أن أكون له أخاً ... شقيقاً ولو أني أشُقُّ به الصَّخْرَا فما لدمُوعِي لا تُنَظّمُ عَسْجداً ... إذا عجزتْ في الحبِّ أن تنثُر الدُّرَّا بحُبِّ رَشاً ما خامَر العقل حُبُّه ... وأغْراه إلاَّ خِلْتُه خامرَ الخمْرَا له مُقَلٌ إن حُلَّ عِقْدُ نِقابِها ... فقد حلَّلتْ قتلاً وقد عقدتْ سِحْرَا إذا ما انْتضَى منها سيوفَ لِحاظِه ... فما أكثرَ القتْلَى وما أرخْص الأسْرَى وما مِلْتُ منه قِيدَ شِبْرٍ لسَلْوةٍ ... فمن أجلِ ذا العشاقُ تنظُرني شَزْرَا ومن أجلهِ أرْعَى النَّظير لقَدِّه النَّ ... ضيرِ فأهوَى الغصنَ والصَّعْدَة السَّمْرَا إذا ما بدتْ للطَّرْفِ غُرَّةُ وجهه ... رأيتَ بها الشمسَ البهيَّةَ والبدرَا وأعْجَبُ مِن ذا جَنَّةٌ في خدودِه ... فشاهد فيها الماءَ والنارَ والزَّهْرَا وأعْجَبُ من هذين يكسِر جَفْنُه ... عليَّ وما ضمَّيْتُ من قَدِّه خَصْرَا إذا قيل لي سَمِّيه قلتُ مُكنيِّاً ... هو الغايةُ القصوَى هو الآية الكبرى له خلُقٌ كالروضِ بل هو أعجبٌ ... وكيف يُساوِي الزَّهْرُ في خَلْقِه الزَّهْرَا أُنادِي بأعْلَآ الصوتِ قد حَلَّ يُوسفٌ ... بمصرَ من الآداب فلْتهْبِطوا مصرَا عليمٌ بأنواعِ البديع وهذه ... خزائنُه من فكرِه أُودِعتْ فكرَا حَبانِي بنظمٍ لو حُبِينَ بمثلهِ الْ ... غوانِي لِعفْنَ العِقْدَ والشُّنْفَ والشَّذْرَا إذا قيل لي في الخمرِ سُكْرٌ مُحرَّمٌ ... فمِن غير ذاك النظمِ لا أعرف السُّكْرَا وإن قيل لي في الروضِ زهرٌ مُنوَّعٌ ... فمِن غيره لا أعرف الروضَ والزَّهْرَا سطورٌ أتتْني منه وهْي قلائدٌ ... حلَيْتُ بها نحْراً شرحتُ بها صدرَا كأنِّيَ يعقوبٌ رأى بُرْدَ يوسفٍ ... فلا عجَبٌ إمَّا مُلِئتُ بها بِشْرَا

وهاك جواباً قلتُه مَعْ شواغلٍ ... وأشجانِ قلبٍ لا أُطِيق له حَصْرَا ولا تعْتِبنِّي فالوِدادُ مُحقَّقٌ ... وأنت به يا ذا الوفا في الورى أدْرَى ودُمْ في نعيمٍ لا انْقضاءَ لعُمْرِه ... تفُوق به فضلاً وتسمُو به قَدْرَا فراجعه بقوله: خُذَا إن رَنا من سِحْرِ مُقْلتِه الحَذْرَا ... فأيُّ فؤادٍ لا يبِيتُ به مُغْرَى وإيَّاكما من نارِ مُتْرَفِ خدِّه ... فلِمْ تركتْ أحْشاءَ رامِقِها حَرَّى غزالٌ إذا قُلنا حكى الليلَ شعرُه ... أبان لنا فَرْقاً مُبِيناً حكَى الفَجْرَا غَنِيُّ جمالٍ إن أتى مَعْشَرُ اللِّقا ... إليه بدمعٍ سائلٍ ردَّه نهرَا مُبَرَّدُ رِيقٍ للقلوبِ مُقاتلٌ ... بمكْحولِ جَفْنٍ منه لم ينْجُ مَن فَرَّا يعلِّم أغصانَ النَّقا كيف تنْثنِي ... قَوامٌ له يا قومُ ما عرف الهَصْرَا ويرْنُو فتُصْبِينا جفونُ عيونِه الْ ... مِراضِ وتُصْمِينا سهامٌ له تُبْرَى له اللهُ رِيمٌ ما أعزَّ نِفارَه ... وأمْلَحه شكلاً وأحْلاه إن مَرَّا يُحذِّرني من حبِّه كلُّ كاشِحٍ ... ولم يدْرِ جهلاً أن تحْذيرَه أغْرَى ولو لم يكنْ أعْلَى ذوِي الحُسْنِ رُتْبةً ... بما حازَه ما كنتُ أسكنْتُه الصدرَا مليحٌ بَراه اللهُ أحسنَ ما يُرَى ... فأرْدَف منه الرِّدْفَ واخْتصَر الخَصْرَا أطار فؤادِي نحوه ثم حَلّه ... ولم يرَ طَرْفٌ طائراً قد غدا وَكْرَا عجبتُ لدمعِي في الخدود مُسَلْسَلاً ... وما جَنَّ إلا القلبَ فهْو به أحْرَى ويعجُم عندي باللَّواحظِ مَنْطقِي ... فيُعرِب عنِّي مُهْمَلاً يُوضِح العُذْرَا ومِن عاذِلٍ بالصبرِ ما زال آمرِي ... وإنِّي مع الهجْران أسْتعذِب الصَّبْرَا لِيَهْنِ فؤادي أنه فيه نازلٌ ... وأُفْقُ العُلى أنى بَدرْتُ به بَدْرَا لِيَ الشرفُ الضَّافِي عليَّ دِلاصُه ... مع السُّؤْددِ الضخمِ الذي يطَأ النَّسْرَا ولِي قلمٌ فيه المَنِيَّةُ والمُنَى ... إذا خَطَّ أبْدَى الأنْجُمَ الزُّهْرَا والزَّهْرَا وكم حافظٍ ذِكْرَ ارْتفاعي بصَمْتِه ... وما هو إلاَّ ناصبٌ فُتُّه فَخْرَا ونِكْسٍ جهولِ رام يُدْركني وهل ... تُرَى يمكِن الزُّرْزُورُ يقتنِص الصَّقْرَا عَلَوْتُ كمالاً فالثُّرَيَّا إذا غدتْ ... ترَى منزلي والشمس فيه غدتْ تِبْرَا ألم ترَنِي فوق السماءِ كأنني ... أُنَظِّم في أقْوَالِيَ الأنْجُمَ الزُّهْرَا فأُثْنِي على قاضِي القُضاة محمَّدٍ ... فتَى النَّسَبِ الوَضَّاح مَن زَيَّن الدَّهْرَا منها: أخو الفضلِ فينا جعفرُ الجُودِ خالدُ الْ ... محامِد يُحيِي ذكرَه كلَّما مَرَّا إذا أرقَم القِرْطاسَ قَرْطَسَ أسْهُماً ... ترى العين منها في نُحور العِدى نَحْرَا هو البَرُّ في الأفعال والبحرُ في النَّدَى ... وأعْجَب ما شاهدتَ بَرّاً غدا بَحْرَا أرى العلمَ ألقَى منه في قُدْسِ صدرِه ... عَصا السَّيْرِ لمَّا أن رآه لها أحْرَى فتىً عمَّر الداريْن بالجودِ والتُّقَى ... وأحْرزَ من دون الورَى الفخرَ والأجْرَا هذا ما وجدته منها في مسوداتي، ولها تتمة غفلت عن إلحاقها. عبد الرحمن بن محمد الحيمي بحرٌ زاخر، لا يدرك منه آخر. تشنفت به الأسماع، وانعقد على فضله الإجماع. وهو في الأدب صاحب آيته، وواصل غايته. ونكتة مساءلته، وفارس محلته.

عليه في حل مشكلاته المدار، وله فيه نباهة المكانة والمقدار. فمن شعره، ما كتبه إلى أحمد بن حميد الدين، صاحب ترويح المشوق، وهو بكوكبان: عن أحمدٍ يروِي حديثَ العُلى ... شيْخان أعني قلمِي واللِّسانْ ذا بدرُ أُفْقٍ زائدٌ في السَّنا ... فاعْجَب لبدرٍ ضمَّه كَوْكَبانْ وكتب إليه أيضاً: سار دمعي منِّي إليك رسولاَ ... حين أخليْتَ رَبْعَه المَأْهولاَ وفؤادي اسْتقرَّ إذْ أنتَ فيه ... يَتراءَاكَ بُكْرةً وأصِيلاَ ونسِيمُ الصَّبا تحمَّ مِن وصْ ... فِ اشْتياقِي فيه حديثاً طويلاَ حبَّذا قُرْبُك الذي كان أنْدَى ... في فؤادِي من النسيم بَلِيلاَ قرَّب اللهُ عهدَكم من ليَالٍ ... لم أكُنْ لاقترابِهِنَّ مَلُولاَ أتلظَّى جوىً وفرْطَ حَنِينٍ ... إن تذكَّرتُ ظِلَّهُنَّ الظليلاَ وإذا ما احْترقتُ شوقاً فقَوْلِي ... ليتَ لم أتَّخِذ فلاناً خَلِيلاَ كنتُ أجنِي ثمارَ أُنْسِك فيهِنَّ ... فبُدِّلتُ بالنَّوَى تبْديلاَ فأجابه بقوله: طلب الشوقُ من فؤادِي كفيلاَ ... مُذ تَراءَى وجهُ النهارِ صَقِيلاَ ومشَى الغُصْنُ في المَطارفِ لمَّا ... عقَد الطَّلُّ فوقه إكْلِيلاَ صاحبي صاحَ بي لَواعِجُ شَوْقٍ ... يا أخا الصَّبْوة الرَّحِيلَ الرَّحِيلاَ آهِ والشوقُ ما تأوَّهْتُ منه ... لزمانٍ ذكرتُ منه الجميلاَ أيّ دهرٍ أسْدَى إليَّ جميلاً ... مُذ رآنِي ذاك الكريم الجليلاَ وخلِيلاً ما قلتُ لمَّا افْترقْنا ... ليت لم أتَّخذْ فُلاناً خليلاَ كان يومي به كلَمْحةِ طَرْفِ ... فَغَدا للفِراقِ حَوْلاً كَمِيلاَ لإمامٍ حاز العلومَ فروعاً ... باسِقاتٍ قد أيْنعَتْ وأُصولاَ كم أرتْنا فصولُه اللُّؤلُؤيَّا ... تُ إلى مُنتَهى الأُصولِ وصُولاَ حُجَّةٌ صَيَّر المَفاخر أوْضا ... حاً على طَرْفِ عَزْمِه وحُجولاَ راسِخٌ في العقول لو فاخر السَّيْ ... ف لأغْضَى في جَفْنه مَفلولاَ جمَع اللهُ شَمْلَنا وأرانا ... من أسارِيرِ وجههِ المَأمولاَ قلت: مراده بالسيف، الآمدي، صاحب الإحكام. محمد بن أحمد بن عز الدين السلفي جامع شمل الآداب، والصارف عمره على الاشتغال والتدآب. قصد بني القاسم متقياً بهم عارض الباس، مستسقياً روحاً معلقة بخيط الياس. فأحسنوا إجابته، وقابلوا بالقبول إنابته. فاغتدى من أجل شيعتهم، الشاربين من زلال شريعتهم. وانبسطت بالمواهب يده وباعه، وتموجت بذخائر العطايا رباعه. وشهرته ثمة شهرة الشمس والقمر، وأشعاره فيما بينهم عوض الأحاديث والسمر. على كل أذنٍ منها لؤلؤةٌ في قرط تترجرج، وعلى كل عطف بردٌ من عمل اليمن يتبرج. فمن شعره قوله يمدح السيد الحسين بن الإمام القاسم من قصيدة غراء. أولها: خَلا أنها تسْبِي العقولَ وما تدرِي ... وما عذرُها في ذاك إلا الهوى العُذْرِي وإلاَّ فما في العالَمين نظيرُها ... ويكْفيك وَصْفاً أنها غُرَّةُ الدهرِ سَرَى طَيْفُها ليلاً فذكَّرني الأسَى ... وعهداً بليلَى حيثُ ما طَيْفُها يَسْرِي فلولا التَّسَلِّي مِن هواها وعهدِها ... لأحْرقتِ الأهْوَا بحَرِّ الجوَى صدرِي ولكنه أنْسانِيَ اليأسَ أُنْسُها ... وقُلِّدتُ من نَعْمائها بحُلَى التِّبْرِ عَذُولَيَّ صَفْحاً عن مَلامِي وخَلِّيَا ... فأُذْنَايَ عنها فيهما أيُّما وَقْرِ سَلاَ هل سَلاَ قلبي إذا لم أزُرْهُمُ ... أم انْطَوتِ الأحشاءُ منِّي على جَمْرِ

هو الحبُّ إن يمْلِكْ فغيرُ مُدافَعٍ ... وإن تحتْكمْ أسبابُه في الفتى يَبْرَى ومَن شأنِه حَمْلُ الهوى مثلَ مذهبي ... فليس له غيرُ التجلُّدِ والصبرِ عسَاها يدومُ الوصلُ منها تكرُّماً ... ففي وَصْلِها بين الورى شرفُ القَدْرِ وما ليلةٌ يأْتيك عنها سفيرُها ... ببُشْرَى التَّلاقي غيرُها ليلةُ القدْرِ إذا شُبِّهتْ بالأنْجُم الزُّهْرِ أنْفُسٌ ... فما أُنْصِفتْ إن شُبِّهتْ هي بالبدرِ وإن أطْنبُوا في وصفِ بيضاءَ دُمْيةٍ ... فلا شكَّ يوماً أنها بَيْضةُ الخِدْرِ ألا لستُ لولا حبُّها أعرفُ الهوى ... وما كنتُ أدْرِي بالقَرِيض وبالشعرِ قِفَا فلأمْرٍ ما أُوَرِّي بذِكْرها ... على عادةِ التَّشْبيبِ بالنظمِ والنثرِ حَلاَ غَزَلاً فَنُّ القوافِي وأهلها ... كما حَلَتِ الغِزْلانُ في الحُلَلِ الخُضْرِ فأسْحَرْتُ في سَبْكِ المعاني بَواكراً ... كما بان لي بعضُ البياناتِ في السِّحْرِ وما علِق التَّشْبيبُ صدرَ شَبِيبتي ... سناءً ولا ذاتُ الخِمارِ ولا الخْمرِ ولكن مَدْحَ الطاهرِ الشِّيَمِ الذي ... كَسَا الناسَ ثوبَ الأمنِ في البَرِّ والبحرِ وأجْرَى ينابِيعَ الهوى والورَى معاً ... وأوْرَى زِنادَ المُلْك بالنَّهِي والأمرِ وأرْوَى السيوفَ المُرهَفات من العدى ... أُولِي الفِسق والفَحْشاء والبَغْيِ والنُّكرِ وجرَّد فيهم همَّةً نَبَويَّةً ... فأفناهُم بالجُرْدِ والبِيضِ والسُّمرِ هو الشرفُ الأعلَى هو الناسُ جملةً ... إذا قيل فيمن دونه أوحدُ العصرِ فيومُ الأعادي لم يزلْ منه باكياً ... دَماً إذْ له الأيامُ ضاحكةُ الثَّغْرِ إليك أبا يحيى أتْتك تحية ... تضَوَّعَ من أرجائها أرَجُ البِشْرِ تجُوب الفَيافِي نحو بابِك مثلما ... تؤُمُّون نحوَ البيت والرُّكْنِ والحِجْرِ لها شرفٌ يزهو بتقْبِيلها الثرى ... لديْك ومن سُوحِ العلى مثلُها يَثْرِي بكَرتُ لها فِكراً ومِن وصفِك الذي ... يزِين القوافي فيك ساعَدني فِكْرِي كما قيل في البانِي الذي وجد البِنَا ... فلا عجبٌ أن طال ما شاد من قَصْرِ وماذا يقول الواصِفون وهل أتى ... لغَيركمُ من هل أتى مُحكَمُ الذِّكْرِ وأثْنَى عليكم في المَثانِي دلائلاً ... جَلِيَّاتِ أحْكام تَجِلُّ عن الحَصْرِ وكان يولع بقصيدة ابن دريد اللامية، التي أولها: هل الْحُرُّ إلاَّ مَن أفاد فأفْضَلا ... وما المالُ إلا ما اسْتُفِيد ليُبْذَلاَ دعِيني لهذا المجد أرْعَى سَوامَه ... وإن لم أعِشْ إلا مَلُوماً مُعذَّلاَ وكان ينشدها مستروحاً بها. ونظم على وزانها قصيدة في السيد الحسن بن القاسم، أولها: كفَى المجدَ فخراً أنْ غدا لك مُرسلاَ ... وقد كان للماضين قبلَك مَوْئِلاَ السيد حاتم بن الأهدل حاتمٌ للأجواد خاتم، وبه فصل السخاء تم. فحاتم طيٍ طوى به ذكره، ومعن بن زائدة تجاذبه عنده جهله ونكره. فضائل قامت على الأساس المحكم، وفواصل تكاد تنطق لسان الأبكم. تخمرت طينته بالندى، وأفرغت في قالب الهدى. وله من الآداب كلها، ومن المحامد دقها وجلها. وشعره روض بالزهر مسكي الأردان، كلله الندى فكأنما هو لؤلؤ استخرج من حصاء الغدران. فمنه قوله من تشطيرٍ لفائية ابن الفارض: قلبي يُحدِّثني بأنك مُتْلفِي ... عجِّل به ولك البقا وتصرَّفِ قد قلتُ حين جهِلْتني وعرفْتني ... رُوحِي فِداك عرَفْتَ أم لم تعرِفِ

أنت القتيلُ بأيِّ مَن أحبَبْتَهُ ... فلك السعادةُ بالشهادةِ يا وَفِي ولقد وصفتُ لك الغرامَ وأهْلَه ... فاخترْ لنفسِك في الهوى مَن تصْطفِي وقوله، من تخميس عينية ابن النبيه المشئهورة: رقَم العَذُولُ زخارِفاً وتصنَّعَا ... وأشاع نقْضَ العهدِ عنك وشنَّعَا فأجبْتُه والنفسُ تقطُر أدمُعَا ... أفْدِيه إن حفِظ الهوى أو ضَيَّعَا ملَك الفؤادَ فما عسى أن أصْنَعَا حكم الغرامُ فلُذْ به وبحُكْمِه ... واثبُتْ على مفروضِ واجبِ رَسْمِهِ واخضَعْ لعَذْلِ الحُبِّ فيه وظُلْمِه ... من لم يذُقْ ظُلْمَ الحبيبِ كظَلْمِهِ حُلْواً فقد جهِل المَحبَّةَ وادَّعَى ومن فصل له في رسالة: يقصر عن جسم معاليك قميص الثناء فيفوت الرصاف، ويرفل زهواً إذا فصلت لمعانيك حلل الأوصاف. ويعترف بالعجز سحبان إذا سحب ذيول البيان، ويقر المعري بالتعري عن لفظك الحريري المشتمل على الجواهر الحسان. ويلحق القاضي الفاضل النقص في هذا الميزان، ويذوي بديع المعاني عند شمس معانيك البديعة التبيان. القاضي محمد بن إبراهيم السحولي قاضٍ قضي له بالبراعة مذ حلت عنه التمائم، وحاكم تصرف باليراعة مذ وضعت على رأسه العمائم. توج بالافتخار هام تهامة، وطار في أفقها بين نباهةٍ وشهامة. وهو في الأدب همام أوحد، وفضله فيه لا ينكر ولا يجحد. وله كل معنىً إذا تطابق مع لفظه كان أعلق بالقلب من فكره، وبالطرف من لحظه. فمن شعره قوله: تظُنُّ ما ألْقاه فيك باطلاَ ... فلا تُبالِي أن تكون ماطِلاَ مدَدْتَ حبلاً للجفاءِ طائلاَ ... فهل رأيتَ تحت ذاك طائلاَ لو مِلْتَ نحوي أو عطَفتَ مثلَما ... رأيتُ عِطْفَك الرشيقَ مائلاَ تحلُو لقلبِي إذ تمُرُّ حالياً ... قلبُك لي عن الحِجاءِ عاطلاَ رفعتُ قِصَّتي وقد مرَرْتَ بي ... تَجُرُّ ذيلاً للدَّلالِ ذائِلاَ وقد فتحتَ ناظِريْك ناظراً ... في قِصَّتي نصبْتَ لي الحبائلاَ فرُحتُ مقْتولاً وكان قاتِلي ... مَن لا يُبالي أن يكون قاتلاَ يا قاتَل اللهُ العيونَ ما لهَا ... من حاجةٍ في أن تُرى قواتلاَ نَواعِساً فواتراً فواطراً ... فواتكاً لا تُخطِىءُ المَقاتِلاَ تركْنَ إذْ فعَلْنَ قلبي دائماً ... فيا لَها تَوارِكاً فواعِلاَ تصولُ فينا بالجُفونِ تارةً ... وتارةً تُجرِّدُ المَناصِلاَ سقى الغَضا سقَى الحِمَى سقى اللِّوَى ... سقَى الحَيا تيَّالِك المَنازِلاَ منازلاً عهدْتُها أقْمارُها ... لم تُمْسِ عن بُروجها أوافِلاَ ولَّهننِي بلهنْنِي أذْهلْننِي ... صَيَّرْننِي بين الأنام باقِلاَ في كلِّ عامٍ أرْتجِيكَ مُقبِلاً ... نحوِي وإن لم أرْتجِيك قابِلاَ يا كم أرَى فيك الزمانَ لم يزلْ ... لجيشِ آمالِي فيك خاذِلاَ ما ضَرَّ لو أطعْتَنِي تفضُّلاً ... ولو عصيْتَ واشِياً وعاذِلاَ ولو ذكرتَ بالحِمَى ليالياً ... وطِيبَ أوقاتٍ مضتْ أصائلاَ كم قد أقمتَ في تثَنِّي قامةٍ ... من الدَّلالِ في الهوى دلائلاَ وليلةٍ غازلتُ منك في الدجى ... غزالَ إنسٍ يدُهِش المُغازِلاَ والشُّهْبُ من غيظٍ تَوَدُّ أنها ... تُوقِد لي من نارِها المَشاعِلاَ وطالما فُزْنا بقَصْرِ ليلةٍ ... وذا هو العيشُ فلِمْ تطاوَلاَ أحْلَى الهوى ما كان في عصرِ الصِّبا ... لو لم يكنْ حالُ الصباح حائلاَ وكتب إلى الإمام إسماعيل المتوكل: مولايَ إسماعيلُ لي طفلٌ بكمْ ... مُتبارِكٌ أدعُوه إسماعيلاَ

قد عِيل صبرِي من مُفارقتِي له ... لا بالرَّباب ولا بأسْما عِيلاَ مُنُّوا بإسْماعِي نعم حاشاكمُ ... أن تقطعُوا صِلتِي بإساماعِي لا ومن انسجاماته اللطيفة قوله: أتظُنُّها قمراً سَنِيَّا ... باللهِ أم بشراً سَوِيَّا هزَّتْ معاطِفَ قَدِّها ... عُصْنا ولَدْناً سَمْهَرِيَّا وطوَى مَدارُ نِطاقِها ... من خَصْرِها سِرّاً خَفِيَّا نَشْوَى بخمْرِ شبابِها ... ورُضابها لا بالحُمَيَّا تخْتال في حُلَلِ الدَّلا ... لِ تمَلُّقاً وتِتيه غِيَّا وتخالُها وُرْقَ الحَما ... مِ إذا انْثنتْ غُصْناً نَدِيَّا وتظُنُّ وَسْواسَ الحُلِيِّ ... عليه تَغْريداً شَجِيَّا عجباً لوَرْقاءِ الغُصو ... نِ لقد أتتْ شيئاً فَرِيَّا لا الغصنُ يعرِف عِططفُه ... حُلَلاً ولا ألِف الخَلِيَّا كلاَّ ولا ناط الجما ... لُ عليه عِقْداً عَسْجَدِيَّا ولئِن تبسَّم ثغرُه ... ما كان كأساً لُؤْلُؤِيَّا هبْ أنَّ فيه مَلْمَساً ... رَطْباً ونَشْراً عَنْبرِيَّا ولربَّما أبْدَى الحَيا ... بخُدودِه ورداً جَنِيَّا أيكون ذاك مُشبِّهاً ... ورداً يكون له سَمِيّا يوسف بن علي الهادي نكتة عطارد وتحفة الفلك، قالت محاسنه اليوسفية ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك. تناول راية البيان باليمان، فظهر فضله فيه ظهور الإيمان. وقد أوتي من الفصاحة ما لو سمعه سحبان لاستحيى ولم يتفوه، ومن البلاغة ما أعجز من نظرائه المرموقين كل مفوه. يجري الأدب في أزمته، فيأخذ منه الأمل برمته. إلى عجائب لطائفٍ أخذت بكل معنى، وتعطر بمشام ذكرها كل مغنى. وشعره مثل طبعه مصقول، ودهره راوية ما يقول. وقد أثبت من نثره ما هو أفوح من الزهرة تفتحت عنها الكمامة، ومن نظمه ماهو أبهج منظراً من صدر البازي وطوق الحمامة. قال: ولما طلع بدر عود شرف الإسلام الحسين بن وجيه الدين من المشرق كاملاً، ونهض منه إلى حضرة الإمام قافلاً. بعد أن فقر عليهم عدوان العدو أمما، وكاد لا يبسم لهم ذلك الغثر عن شنب الفتح فما. ففتقت لهم ريح الجلاد بعنبر النصر، واجتنوا زهرات الظفر بأنامل النجح الذي تند أوصافه عن الحصر. وكان وصوله إلى حضرة الإمام مقارناً لقدوم العيد، فكأنما كان هلاله صلت وجهه السعيد. فأورده الإمام ورد إكرامه الصاف، وأنزله ظل تبجيله وتعظيمه الضاف. وملأ بالثناء عليه أسماع الملا، وأجابه إلى الدعاء له بنجح الأرب ولم يتلق حسيناً بكربلا. كتبت إليه أهنيه بالفتح والعود والعيد، برسالةٍ وقصيدة لم ينسج على منوالهما البديع البعيد. وهما: يقبل الأرض التي أضحت مواطن التهاني ومواطئها، وصارت منازل الأماني المقرونة بالنجاح ومنازهها. وتطولت على ذوي التقصير ببرها المحمود في يوم العرض، وصيرت فضلها أبياً لمفارقة ذي الفضل فلو قيل له: اذهب عنا قال: لن أبرح الأرض. وأنشأت سحب جودها فرأينا الندى منها على الأوراق، وفتحت أكمام معارفها عن زهرات فوائدها فتمشينا فيها بالأحداق. وأطلقت للعفاة منحاً، وللعداة محنا. فغدت مشكورة في الأمرين على الإطلاق، وطوقت أجياد الأنام بالندى الذي يجيب قبل سماع الندا فانقادت إليها بالأطواق. وأشرقت الجو بنقع غبارها وأشرقت بنور البصر المبين فأضحت مشهورة في الحالين بالإشراق، وقادت ذوي الفضائل إليها بسلاسل الأشواق، لما نصبت لهم من تخيل محاسنها حبائل، فعلموا يقيناً أنهم لمن أمةٍ تقاد إلى الجنة بالسلاسل. وجعلت حماها مرابع النعم، لا مراتع النعم. وأوردت الصادي ماء عين كرمها الذي يشتاق إليه الرائي، فعين الله تعالى على ذلك الكرم. ونهت عن إعلاء قباب برها، وإغلاق باب عفوها. وذلك شأن من هو بالمعروف معروف، ورحبت لما ضاق صدر الفضاء بعفاتها فهم فيه كالبنيان المرصوص والعقد المرصوف.

وأمضت أمرها المستقبل وأرادت السيوف أن تحاكيه مضاءً فجاوز حدها، وأشرقت الأحرار بالإحسان فما منهم إلا من يقول لمن يدعيه بالحرية: لا تدعني إلا بيا عبدها. فأبقى الله حماها الذي ما من خائفٍ إلا هو له مأمن، وروض جنابها الذي عنعن عنه العنبري أحاديث ذكاء ضنت بصحتها عن أن. وصفا باطنها بأنهارها، وحلى ظاهرها بأزهارها. وملأ صحون ديارها المسكية الروائح من قطر الغوادي، ونسج لها من بيض خيوله حلةً خضراء يقول كل ناظرٍ إليها كأنما نسجت على مرادي: فإنها أرضٌ لمن لم يجِدْ ... لعَيْبِه عن مَنْهجٍ منهَجَا نَدْبٌ يُعيدُ الفرضَ أن لا يرى ... باباً له عن مُرْتجٍ مُرْتجَا وسيد أقامته المعالي والعوالي فلم يختلف في فضله اثنان، وهمامٌ أضحى المشتري لرتبةٍ رجحت من قبل أن يرصد الميزان. ومولىً صار نصيراً للخلافة فنعم المولى ونعم النصير، وصاحب أقلامٍ حطم عوالي الأعداء بترسل قصيرها قبل أن تقول بيدي لا بيديك يا قصير. وملكٌ إذا صلت صوارمه لم يبق للعدى غير التسليم، أو أراد تكليم المعاندين بألسنة أسنةٍ أذعنوا له قبل التكليم. أو عقد ألويته حل بالمخالف الوبال والتلف، أو وجف بخيله وركابه على الأعداء قيل جرى القلم بهلاكهم وجف. أو وصف لهم عزائمه وترسلاته ظنوا بأنهم عياله ألف صفٍ من عزائمه وصف أو وكف جود كفه أقلع السحاب عن مجاراته وكف. أو ملأ سمعنا أمالي لا قالي لها فهي المليحة المليحة، أو جادل طعن الخصم بعوالي أحاديثه الصحيحة. أنَّى تُجارِيه فرسانُ العلومِ ومِن ... غُبارِه في هَوادِيهنَّ ما نقَضُوا فهو رب السيف والطيلسان، والقلم الذي يزداد إفصاحاً كلما قطع منه اللسان. واليد التي لا تهرع الناس إليها فيفوزون بالخمسة الأشباح، وتدعو الأنام لها بالبسط فكم ظفروا من أناملها بأيادٍ تجل عن الإيضاح. وتحتقر الثريا أن تكون لتقبيلها فما، وتعوذ أناملها الخمس بالسبع الطباق فما. والنسب الذي هو كصدر الرمح إلا أنه لا مطعن فيه لجارح، ولا نقص في كمال بدره لمنتقصٍ ولا عيب في زند شرفه القادح. نسبٌ تحسَب العُلَى بحُلاهُ ... قلَّدتْها نجومَها الجَوْزاءُ ولم لا يكون نسبه النسب العزيز، والسلسلة المنوطة بالشهب المصوغة من الإبريز. وهو من قوم عجنت طينتهم بماء الوحي والنبوة، ونبتت نبعتهم في حديقة الفضل والفتوة. وترددوا ما بين الخلالة والإمارة اللتين لا يبلى على مر الجديدين شرفهما العظيم، وشهد بفضلهما الحديث النبوي والقرآن الكريم على رأي الأشعرية وما أجل من شهد بفضلهم الحديث والقديم. أضاءتْ لهم أحسابُهمْ ووجُوهُهمْ ... دُجَى الليلِ حتى نظَّم الجِزْعَ ثاقبُهْ شقيق روض الفضل والعليا، ولو أنصفته لقلت ريحانته لأنه سمي الحسين أحد ريحانتي الرسول من الدنيا. شرف الإسلام والمسلمين، الحسين بن عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن أمير المؤمنين. جمالُ ذا العصر كانوا في الحياةِ وهمْ ... بعد المماتِ جمالُ الكُتْبِ والسِّيَرِ لا زال آخذاً بآفاق سماء الفضائل والفواضل، فله أقمارها الطوالع ولغيره نجومها الأوافل. ولا برح سيداً إذا علت رتبةٌ أو جن دهرٌ كان لهما أفضل راق، ونبيلاً للقلوب وفاق، في أنه أفضل من ساد الأنام وفاق. وإماماً في العلوم تنبذ عند سماع حديثه العقيق، وهماماً نظره في الأمور كالسيف السريجي في الدقة والاستواء وكالسراج في البريق. منوطاً عمره بيوم التناد، مفسحاً في أيامه حتى لم يدر أهي أحادٌ أم سداس في أحاد. وبعد بذل أدعيةٍ بلغت إلى الأفق الأعلى ورحبت فوقه مظهرا، ومضى سلاحهن في كل من استقبل الحال بأمرٍ مكروه فأضحى مضمراً انكساره مظهرا. إذا رُفِعتْ يوماً لذِي العرشِ خَيْمةٌ ... لصِدْقِ وَلائي فيك بين السُّرادِقِ اعتماداً على ما أخرجه مسلم، من حديث أبي الدرداء عن أم الدرداء: " دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب مستجابةٌ، وملكٌ فوق رأسه يقول: آمين آمين، ولك بمثلٍ ". وعلى ما ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس سيد الصحابة، في أن دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب أحد الدعوات الخمس المستجابة.

ينهى والأليق بن تنتهي نفسه الأمارة، عن مكاتبة أهل الخلافة والإمارة. فإنه وإن كان من الكرام الكاتبين لهم فليس ذلك، وكيف يكاتب مالكه من هو مقرٌّ بالدخول تحت رقه وإنما المكاتبة من المالك. لكنه وإن كان دونهم فهو يعتقد عدم خروجه عنهم، اعتماداً على ما رفعه أبو رافع إلى سيد الأنبياء: " مولى القوم منهم ". على أنه إن تصرف في هذا إلا أنها الذي كل رقٍ لحر كلامه مفتون، فهو يعلم صحة إذنكم له ولا ينكر تصرف العبد المأذون. وورد خبر عودكم المقرون بالنجاح، بعد أن لاح لكم الظفر من مشرق الفلاح، وسفرت لكم شمس الظفر من خلف ستارة الصلاح، وأعربت عن رفع شأنكم بلادٌ بنتها على الفتح عزائمكم التي هي أمضى من بيض الصفاح، وابتسمت لكم ثغورها لما جليتموها من قلح العدى بمساويك الرماح. والفتح المشرق قد طلعت فيه شمس الخلافة بعد أن أفلت وانسد، وقلت في ذلك مادحاً لكم مقال من أنشأ وأنشد: لمَّا فتحتَ الشَّرقَ بالْ ... عَزْمِ الذي ما هاب سَدَّا طلعتْ به شمسُ الخِلا ... فةِ بعد أن أفلَتْ وسُدَّا وأقسم قسم من بر، إنه لشرقٌ أكثره شر. فكم أجرى الدمع من الغرب، وأوجب سلب نفوس القادمين إليه فأتى بالإيجاب والسلب. وأغرب لما أشرق نزيله بندمه، وأطلع بدر القتيل منه في شفق دمه. حتى جعلت لكم الكرة عليهم، وكانت لكم العودة إليهم. وحان منهم بآرائك وراياتك الحين، وقال النصر المبين حسين مني وأنا من حسين. وجردتم كل صارمٍ يفترس ذبابه الأسد، وأعملتم كل لهذمٍ يخشى ثعلبه الأطلس فيرى الفرار من الرأي الأسد. وصيرتم البيضاء من دمائهم حمرا، والزهراء من أقتام المعارك غبرا. وكثرت القتلى، ورخصت الأسرى. وغلى منهم النجيب، وعلا منهم النحيب، وذهل المحب عن الحبيب. فلم ينشد: ذَكرتُك والخَطِّيُّ يخْطُر بيْنَنَا ... وقد نهِلتْ منها المُثقَّفةُ السُّمْرُ وسخرتم بهم بعد أن كانوا ساخرين، وغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين. وصار: للسَّبْيِ ما نكَحُوا والقتلِ ما ولَدُوا ... والنَّهْبِ ما جمَعوا والنارِ ما زرعُوا والحمد لله الذي جعل فناهم في فناهم، وتدميرهم في تدبيرهم. وصدعهم بالزجاج، صدع الزجاج. وأراد تصغيرهم، بعد تصعيرهم. وأعادك في جمع سلامة وهو جيشك الذي لم يدخل واحده وهو أنت شيءٌ من العلل، ومر بهذا الفتح المبين الذي انسد به كل خلل جلل. والعود الذي هو بمنزلة الربيع، فكم جدد لنا أفراحاً أثنينا عليها بأحسن مما أثنى على كأسه الخليع: وكَسَا الأرضَ خِدمةً لك يا مَوْ ... لايَ دون الملوكِ خُضْر الحريرِ فغدتْ كلُّ رَبْوةٍ تشْتهي الرَّقْ ... صَ بثوبٍ من النبات قصيرِ فهي تختال في زبر جدة خضراء تغذى بلؤلؤ منثور، وإن لم تكونوا نزلتم في منازلكم التي هي مطالع السرور، ومعدن الخلافة التي لم تطور آيتها المرفوعة بيمين النصر إلى يوم النشور. ففي تقريب الجياد، تقريبٌ من البعاد. ومع ثنيكم لعنان الرجوع، تستقدمون إليه قدوم السيف إلى غمده، واليمن مشرقٌ من غربه، والسعد موقوفٌ على جده. وفي أمثال من غبر: لابد من صنعا وإن طال السفر. ووالله يهنينا هذا الرجوع الذي محا عنا بصبحه أصدافا، فأذهب أتراحا، وأهدى أفراحا، فاخذتا وأسدافا. ومن محاسنه المقرونة بالإحسان، اقترانه بهذا العيد الذي ختم به شهر الصيام فهما في الحقيقة عيدان. فإذا ذكرنا معهما هذا الفتح الذي أعرب عن رفع شأنكم بكسر الضد، قويت بتضاعفهما المسرات وعجبنا لاجتماع ثلاثة أعياد في شهر واحد. وليس ذلك بعجب، فكل أيام مولانا أعيادٌ ومواسم، وكل ساعاته غررٌ في جبهات الأيام ومباسم. ولقد أراد المملوك أن يهنيك بهذا العيد فقال فكره السليم انتبه، وتمثل له الصواب في مرآه عقله فهناه بك لا أنت به. وأما المملوك فلم ير أنه عيدٌ لعدم رؤيته لهلاله وهو جبينك السعيد، لكنه رأى اجتماع هذه الأمة وهي لا تجتمع على ضلالة فقام ينشده قول من تبلد عنده لبيد: عِيدٌ بأيَّةِ حالٍ عُدْتَ يا عِيدُ ... بما مضَى أم لأمْرٍ فيه تجْديدُ أما الأحبَّةُ فالبَيْداءُ دونَهمُ ... فليْتَ بينَك بِيداً دونها بِيدُ

فالله بيني وبين بيني عن هذا المالك الذي كان لفراقه علي ترة، والسيد الذي في عين الملك رجلٌ إذا كان غيره في عين الملك مرة. ولا كانت حوادث حدتنا على الوصل فهمزت بنا إلى الدهر فكانت همزة قطع، وغارت من التئام شملنا فاستعانت عليه بيد التشبيب فصدعته أي صدع. فلا وصل بعد ذلك، ولا مكاتبة فيه للملوك من المالك. إذا لم يكنْ يا غُصْنُ وصلٌ فإنني ... سأقْنَعُ بالأوراقِ منك على كَمَدْ فقد فقَد الطرْفُ القريحُ مَنامَهُ ... وقد هَتَن القلبُ الجريحُ وقد وَقَدْ وقد قد النوى لما غدوت سمي يوسف فؤادي من قبلٍ لا قميصي من دبر، وصيرني في سجن الهموم لما علم أني كنت من قومٍ هم على مفارقنك صبر. وأجمع رأيه أن يجعلني في غيابات جب الأحزان، بعد أن انثنى عن قتلي بسيف الأشجان. وجاء على قميصي من دموعي بدم، واسترقني لما استرقني وباعني ببخسٍ بيعاً لم يتبعه ندم. فأخرجني أيها الملك العزيز برأيك في الوصل والمكاتبة لا برؤياك، واجعلني على خزائن التلاقي إني حفيظٌ بودك عليم بالوفاء الذي يليق بعلياك. ووف غير مأمور لغير غادر، واحفظ عهد من أضاع فيك كلام العاذلين فأنت قادر. يا مَن أطعتُ بحبِّه ... مُخالِفاً مُعنِّفِي اللهَ في مُحافظٍ ... على الولاَ وفي وَفِي وأقسم بالله إقسام من لا يجعله عرضةً لأيمانه، وبحياة مولانا التي يعلم يودها المملوك لأنها أحد شروط إيمانه، وتحالفت، على إتلاف روحي، التي كدت أن أقول لها بعدك روحي، وما تخالفت. وما فؤادِيَ مُشتاقٌ بمفردِهِ ... بل كلُّ عضوٍ إلى لُقْياك مُشتاقُ فلذا سلسلت رواة الجفون أحاديث الدمع بعد أن رفع عنها أثر الكرى، وقالت للشوق المبرح وقد سال شأنه من شأنه أتسيل دمعةً ثم تسأل ما جرى. وأدمى جوارحي سجع الحمام الصادح، ولم أر صادحاً هو بسجعه للجوارح جارح. وجرى دمعي ذا ألوان، فقلت لأخي العجب منه هو رب الحزن فكل يومٍ هو في شان. فلا كان الفراق فلولاه ما باتت الجوانح تحترق، ولا صارت القلوب لاسترقاق الأشواق لها تحت رق. ولله أيام التداني، ففيها كل أمانٍ من الهموم وفيها نلت أماني. يا حبَّذا زمنُ التَّواصُل إنه ... زمنٌ كأحْلاَ ما يبُلُّ أُوامَا لكنه وَلَّى كأحْلامٍ فيا ... أسَفِي على زمنٍ حكى أحْلاَمَا وقد آن أن أقفي على هذا المنثور بالمنظوم، وأدير على سمع مولانا منه كاس رحيق بمسك الفصاحة والبلاغة مختوم. وأمدحه بطائية لو رآها الطائي لقال لا طاقة لي بهذه الطا، فهل من طا، أو أنشدت النجوم لطأطأت، وقالت لكل حرف من رويها طأ. على أني معترف بأن نظمي لا يقوم بنثر مولانا فإنه ذو النظم الأبي، وكيف يقوم نظمي بنظمه وإني لو كنت أبلغ من ابن النبيه في النظم لقيل لي: ما أنت كابن النبي. ولقد تطاولت إلى مدح مولانا بها مع القصور، وسولت لي نفسي بهذه الأبيات ظناً بأنها كالقصور. وإذا سكرتُ فإنني ... رَبُّ الخَوَرْنَقِ والسَّدِيرِ وإذا صَحوتُ فإنني ... رَبُّ الشُوَيْهَةِ والبعيرِ ولولا ودٍ حكم بتصديقه كل ذي منطق، ودل بالمطابقة والتضمن والالتزام على أنه في الصحة معرق. وأضحى حده جامعاً لشرو الصحة مانعاً لكل عللٍ مفسدة؛ لأن جنسه القريب الإخلاص وفصله التحقيق الذي يقصيه عن البطلان ويبعده. لأطْرَقْتُ إطراقَ الشُّجاعِ ولو رأَى ... مَساغاً لنابَيْه الشُّجاعُ لصَمَّمَا وقيدت أقدامك فكري عن الخوض في بحور القريض، ومنعت نفسي من وقوعها من انتقادات مولانا في الطويل العريض. لكنني أعلم أنك الحر الذي يجر على الزلات ذيل المسامحة، وتكسر الجفن عن الخطيئة كما تكسره يوم الوغى والمكافحة. ولو لم تهزه أريحية عودكم الذي خلع على الملك ديباجاً لا مرطا، لما قال مهنياً لكم مقال من أدار على أفواه المسامع من نظمه إسفنطا: دنَا مَزاراً بعد ما شَطَّا ... فصيَّر القلبَ له شَطَّا مُهَفْهَفٌ صارِمُ ألْحاظِه ... لم تنْبُ إن قَدَّ وإن قَطَّا كم عاذلٍ صوَّبَ عشْقي له ... لمَّا رأَى عارِضَه خَطَّا

تظهرُ في ألْحاظِه سَكْرَةٌ ... وما احْتسَى يا صاحِ إسْفَنْطَا كم تاهَ لمَّا أن غدَا مالِكاً ... للخافقيْنِ القلبِ والقُرْطَا قلتُ له يا طلعةَ المُشْترِي ... مَن باع منكَ القلبَ ما أخْطَا ظَبْيٌ رعَى منَّا ثمارَ الهوى ... وما رَعَى أثْلاَ ولا خَمْطَا أهْيَفُ حاكَتْ لِينَ أعْطافهِ ... سُمْرُ القَنا فاعتُقِلتْ سُخْطَا تجلُّدي شَكٌّ لدى سُخْطِه ... فمَن يَقِيني إن نوَى السُّخْطَا عرَّض الزَّوْرةِ من بعد أن ... طوَّل في الهِجْران واشْتَطَّا فجاءني مُنْتصِب القَدِّ قد ... جَرَّ من التِّيه به المِرْطَا في ليلةٍ أحببْتُ أن لا أرَى ... للصبحِ في مَفْرِقها وَخْطَا فلم يزلْ لي مشهداً جامعاً ... لِلَذَّتي تُوسِعني غَبْطَا حتى بدا الصبحُ لنا حاكياً ... وجهَ الحُسَين البَرِّ إن أعطَى سِبْطُ رسولِ الله أزْكَى الورَى ... أَرُومةً أكْرِمْ به سِبْطَا تألَّفتْ من دُرَرٍ ذَاتُه ... فصار في جِيدِ العُلَى سِمْطَا شؤْبوبُ إحْسانٍ وجُودٍ لنا ... وجودُه قد أعْدَم القَحْطَا يرفع للسَّارِين نارَ القِرَى ... فكم بصيرٍ أَمِن الخَبْطَا وارِي زِنادِ الرَّأْي كم حاذَرتْ ... أعداؤُه من نارِه سِقْطَا يُسْتحسَن الدِّرعُ لِباساً على ... جسمٍ لديه يسْتخْشِن الرَّيْطَا كم فَرَّ من ثَعْلبِ خَطِّيِّه ... لَيْثٌ حسِبْناه إذاً قِطَّا نرجُو له نَقْداً ونخشَى له ... نَقْداً أبى الإبْطالَ والإبْطَا لَمْقُ المُحَيَّا ظاهرُ البشْرِ لم ... يَزْوِ بنَوْءٍ خُلْقَه السَّبْطَا قد طاوَل الشمسَ فقُلْنا له ... طإ الدَّرارِي يا مليكاً طَا ذُو قلم يرْدِي ويُعْطِي فقد ... تجانَس الإعْطابُ والإعْطَا إن قَطَّ قَطَّ رءُوسَ العِدَى ... فما رأيْنا مثلَه قَطَّا ملِك مَهِيبٌ ليس يرضَى سوى ال ... جيشِ رسولاً والظُّبا قَطَّا سَجَّان قد ألْقَتْ ملوكُ الورَى ... إليه منها القَبْضَ والبَسْطَا أقرَّتِ الخَلْقُ بتفْضيلِه ... ولم تُطِقْ جَحْداً ولا غَمْطَا أدْرَك من شَأْوِ العُلَى أغْيدا ... ما فات عن ذي اللِّمة الشَّمْطَا لم يخْلُ من إقْراءِ وَفْدٍ ومِن ... إقْراءِ علم يحسِم الإبطا فيا أبا المجد اسْتمِع مِدْحةً ... خلَتْ عن الإِقْواءِ والإِيطَا ابْنَةَ يومٍ غَضَّةً لم يقُل ... مُنْشِئُها هل لك في شَمْطَا طائيَّةُ الحُسْنِ وطائِيَّتُه ... قصَّر عنها مَن غدا فُرُطَا وقال ما لي قَطُّ من طاقةٍ ... بهذه الطَّاءِ فهل مِن طَا إنْشاءُ من إن شاء شُهْبَ الدُّجى ... قوافياً أنْفَدَها لَقْطَا ما اشترطتْ قطُّ جزاءاً لها ... سوَى جوابٍ فاجْزِها الشَّرْطَا وكتب إلى القاضي محمد بدر الدين بن الحسن الحيمي، هذه الرسالة، والتزم فيها السين. وهي: سيدنا باسق غرس السماحة والحماسة، وسابق فرسان السيادة والسياسة، وشمس سماء الداسة والرئاسة. المستنيرة بسيارات سماء محاسنه سدف المجالس، والمستعيرة سيماه المقدسة سكان المدارس. من إن رسم القرطاس قرطس سهم حساده، أو سود سطور الطروس استنار دامس نقس سواده. أو سأل لسانه الإسفار للأسفار انسل حسامٌ ماسح، أو استرسل في الترسل فحسبك بقلمسها وسملقها سابح وسائح. أو حسن نسيباً أنسى الحسان، أو أرسل فرس لسنه أنسى لسبق سحبان، فسبحان مسوي إنسانه شمساً مسفرةً بحسبان. سمي الرسول، وسبط الحسن.

وبيهس خيس سراة الرآسة، ووسمي سحب سماح الحسن وسؤل مجالس سرر الدراسة. اتسق سناء سنائه الوسيم، وانبجس سري سائغ إحسانه القسيم. واستمر محتسياً كؤوس السعادة، محسوداً حسن السجايا والسيادة. مستقرياً السلام السلام، محروسةً نفسه سفينة الإسلام. دارساً لطرس، المستودع سريرة نفس. الدارسة أساس أنسها، والتسربل بسرابيل بؤسها. لافتراس سبع المحاسمة الأعبس، وسد شسوعه سبل التدناء إنسانه السمح الأحمس. واستبعاد سوحه السامي أساسه، وعسعاس تأنيسه الساطع نبراسه. وحسم تدارس خندريس منافسته ومجالسته، وخسوف سليقة مؤانسته ومراسلته. أستمنح القدس إسعادي باستدامة سنته، فلست أستعذب استمرار شسوعه وتناسي سنته: لستُ أنْساك ومَن ... ينْسَى سَجَاياك السنيَّهْ وسُوَيْدايَ لإنْسا ... نِك سَفْحٌ وسَرِيَّهْ يا سليلَ الحسَن السَّ ... مْحِ ومَعْسولَ السَّجِيَّهْ والحُسَام الماسِح الحُسَّ ... ادَ مَسْحَا بالسَّوِيَّهْ فاستمِعْ سِيرَة اسْتِي ... يحاش نفسٍ يُوسُفيَّهْ سَرَدْتْ سِيناً ولَيْ ... سَتْ بلسانٍ فارسيَّهْ واسْقِ سمعِي من رِسالا ... تكَ كأْساً سَلْسَلِيَّهْ والْبَسِ السُّؤْددَ لا مُسْ ... حَ السُّدُوسِ السُّنْدُسِيَّهْ حرَستْ نفْسَك شمسُ الدَّ ... رْدَبِيسِ الحِنْدسِيَّهْ وأسير سجاياه المستحسنة، أرسل الحسناء مستجلاةً في الألسنة. فاستشرها في الاستجلاء، واستقبلها بالاستحلاء. ولست أسأله سوى رسالته، يستغفر لشسوعه مواساته. وحسبنا السلام، وسلامه على رسوله سيد الإسلام. وقد سلك فيها مسلك الخطيب الحصكفي، في رسالته التي كتب بها إلى القاضي أبي علي سعيد بن أحمد بن الحسن بن إسماعيل: بسم السميع الساتر أسأل ممسك السماء، ومرسل السماء، الحسن الأسماء، حراسة مجلس سيدنا الرئيس، السيد النفيس. فنفسي سكرى بسلاف الأسى، متماسكة لشسوعه بسوف وعسى. تمارس أسفاً يسقم، وتستنجد سلواً يسلم. أسيرة سجون الوساوس، كسيرة مناسر الدهارس. السهد سميري، والدم سجيري. والسعير مسندي ووسادي، والتحسر مجسدي وجسادي. أسهر سهر السليم، وأتنفس استرواحاً بالنسيم. إمسائي سواء والسحرة، وسيان يساري والعسرة. وأقسم بسيبه الواسع، وسناء حسبه الساطع. وسموق سؤدده الباسق، وسبوغ إحسانه السابق. للاستسعاد بأسارير وسامته سولي، والطرس لمستولي السهر والسقم رسولي. إنساني مسلوب السنة، ولساني أخرس الألسنة. أستوحش بمؤانسة الجليس، وأستوجم بمجالسة الأنيس. يسامرني فأستثقله، ويسارني فأستوبله. أسمع وأسكت فيستريب بسمعي سائلا، وأسبل سبكاً يسفح سائلا، تحسب سجله للسحاب مساجلا. وحسبي بمساترة الحساد، ومساورة الآساد، يتوسلون بأسباب الفساد، ويسعون لطمس سبل السداد. سقياً لساعاتٍ بالمسرة سلفت، وبسعودها شموس النحوس كسفت. ساعفت بالمحاسن غروسها، وسرت فساء دروسها: عسى سامِكُ السَّبْع سبحانه ... يُسهِّل أُنْساً يسرُّ النُّفوسَا ويُسْقَى الحسودُ بإسْعادِنا ... كؤوسَ سمامِ أسىً ليس يُوسَى ويسْرِي نَسِيمٌ يُسَرِّي السَّمُومَ ... ويبْسَم سِنٌ يُنَسِّي العُبوسَا ويُؤنسني بسطورِ الرئيسِ ... سعيدٍ لتُمْسِي لسِرِّي غُروسَا سطورٌ حَنادِسُها كالشموسِ ... تُسْفِرُ حُسْناً وتُسْمَى طُروسَا ويسكُت حُسْنُ أبي سالمٍ ... لنرمسه ونحس التيوسَا فلستُ لسالفِ إحْسانِه ... بناسٍ ولستُ لبُوْسٍ بَؤُوسَا ومن مقطعاته قوله، فيمن اسمه حسين: لك يا أوْحدَ المحاسنِ طَرْفٌ ... أسدُ الْغابِ من سَطاه جبانُ كيفَ لم يخْشَ طَعْنةً منه نَجْلاَ ... ءَ وأنت الحسينُ وهْو سِنانُ سنان هو سنان بن الأشتر النخعي، وهو الذي طعن الحسين حتى أرداه، ثم احتز رأسه لشمر بن ذي الجوشن، لعنهما الله تعالى. فالتورية في سنان من مبتكراته النادرة. وقوله، وهو من الغايات:

كلَّ يوم يزيد عَذْلُ اللَّواحِي ... لك يا مَن به الفؤادُ عَمِيدُ فأطِعْني بالوصلِ إنِّي مُحِبٌّ ... واعْصِه يا حُسَينُ فهْو يَزِيدُ وقوله، وهو من نكته البديعة: دُكَّ شِمْراً في سُوءِ عَذْلِ اللَّواحِي ... بالتجلِّي للصَّبِّ لا جئتَ أمْرَا واخْشَه يا حسينُ إن رخَّموه ... واجتنِبْه فقد غَدا لك شِمْرَا فإن شمر هو ترخيم شمراخ، وقد تقدم أن شمر هو الذي احتز رأس الحسين. وقوله، وهو السحر السامري، والبرد السابري: خلَّدْتني في نارِ هجرِك لي ... يا مالكاً لم ألْقَ رِضْوانَهْ وسكَنْتَ قلي يا حسينُ فلِمْ ... يشكُو العذابَ وأنتَ رَيْحانَهْ عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن " الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا ". وعن مجاهد بن جبر صاحب ابن عباس، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم، بحائطٍ من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير ". ثم قال: " كان أحدهما لا يستنزه من البول، وكان الآخر يمشي بالنميمة ". ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين، فوضع على كل منهما كسرة. فقيل له: يا رسول الله: لم فعلت هذا؟ قال: " لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا " أو " أن ييبسا " أو " إلى أن ييبسا " انتهى. وقد تأسى بفعل النبي صلى الله عليه وسلم بريدة الصحابي فأمر بوضع الجريدة على قبره، وهو أولى أن يتأسى به. وأنكره الخطابي، وغيره. وقال: إنما هو ببركة يده صلى الله عليه وسلم، أو لأمرٍ مغيب، علل في قوله: " ليعذبان " إلخ. ولا يلزم من كوننا لا نعلم تعذيبه، أنا لا نتسبب في أمرٍ يخفف عنه العذاب. ولم يزل الناس على وضع الريحان ونحوه من الخضر على القبور. وقد ورد هذا في الأشعار، كقول العتبي، يرثي ولده: كان رَيْحانِي فأضْحَى ... وهْو رَيْحانُ القبورِ غَرَستْه في بَساتي ... نِ البِلَى أيْدي الدهورِ ففي قوله في البتين المتقدمين: وسكنت قلبي يا حسين فلم إلخ، العقد لقوله صلى الله عليه وسلم في الحسنين " هما ريحانتاي " الحديث، ولقوله صلى الله عليه وسلم: " لعله أن يخفف عنهما " الحديث، والإشارة إلى ما عليه عمل الناس إلى الآن، من وضع الريحان على القبور تسبباً في تخفيف العذاب. ومعنى البيت التعجب من القلب كيف شكا العذاب، وفيه ريحانة، مع أنها توضع على قبر المعذب للتخفيف، تأسياً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يخفى على ذي العرفان والذوق السليم، صحة هذا المعنى الذي يترك الحاسد الصحيح الذهن كالسليم. السيد علي بن صلاح الديلمي نسبةً إلى الإمام الناصر الديلمي، الذي دعا في الديلم، ثم خرج إلى أرض اليمن. صاحب بيت في الرياسة صميم، وفضل على المكرمات عميم. تميز من بين أكفائه بالكفاية، واحتف دون خلفائه بالحفاية. فظهر فضله الأبين، وبهر أدبه الأزين. وأشعاره لليراعة سوالٍ سوالب، وهي للصناعة جوالٍ جوالب. فمنها قوله في الغزل: صَبٌّ يُماطِل قلبَه الوَصْلاَ ... لم تسْلُ عن أهلِ الحمَى أصْلاَ ما انْهَلَّ في حَيٍ مَدامعُه ... إلاَّ ولم يجدُوا به مَحْلاَ وإذا شَدَا غنَّتْ مُطوَّقةٌ ... وتبادَرتْ لحَنِينِهِا الثَّكْلَى كم ضَلَّ يجْأر بالنِّدا كَلِفاً ... يا أهلَ سَفْح المُنْحنَى مَهْلاَ أللهَ في صبٍ أقامَ على ... نارِ الغرامِ وحَرَّها يَصْلَى ذابتْ حُشاشتُه فأرْسَلها ... مَثَلاً بصفحة خدِّه تُتْلَى وتباعَد الصبرُ الجميلُ كما ... بَعُدَ المَزارُ وقوَّض الرَّحْلاَ وخَريدةٍ لانَتْ مَعاطفُها ... وقسَتْ فؤاداً وانْثَنتْ خَجْلَى في جِيدِها هَيَفٌ وقامتُها ... رَيَّانةٌ للهِ ما أحْلَى تبدُو كما يبدُو الصباحُ إذا انْ ... جابتْ غدائرُهَا لتُسْتَجْلَى

فتُرِيكَ بَرْقاً من ثَنِيَّتِها ... لَمَعانُه يسْتهترُ العَقْلاَ وكلُؤْلُؤٍ أُلْقِي على صَدَفٍ ... رشحَ الجبِينُ وقدرُه أعْلَى يا سائِقَ الوَجْناء مُعْتسِفاً ... أدْركتَ من بُرَحائِك النَّبْلاَ كيف السبيلُ إلى مُواصلةٍ ... تُدْنِي الدِّيارَ وتجعُ الشَّمْلاَ بِي مثلُ ما بِك والنِّظائرُ في ... ما بينها تتعارفُ الحَمْلاَ فاحملْ أخاً قَعد الزمانُ به ... وعَدا عليه البَيْنُ واسْتولَى حتى تُبلّغه ذُرَا مَلِكٍ ... يهوى النَّوالَ ويمنحُ الجَزْلاَ ويرُوع جَيْشَ الهمِّ إن فتكَتْ ... بعُفاتِه ويسُومُها قَتْلاَ بكَرائمٍ لا يسْتقيم لها ... خَطْبُ النوائبِ قَلَّ أو جَلاَّ ومَكارمٍ تكسُو العُلَى حُلَلاً ... يبْلَى الزمانُ بها ولا تبْلَى من مَعْشرٍ سَلكُوا بسعْيهمُ ... في الصّالحاتِ طريقةً مُثْلَى ونَضَوْا لنصرِ الدِّين مُرْهَفةً ... أضْحتْ أعادِيه بها قَتْلَى حَسْبُ الليالِي أنها جَمعتْ ... بين الفَخارِ وأهلِه شَمْلاَ وأتتْ بمَلْكٍ جَلَّ عن شَبَهٍ ... مَلأَ البَسِيطةَ سيْفُه عَدْلاَ لا يَرْتضِي العَلْيَا سِواه لها ... في الأكْرَمِين جميعهم عِدْلاَ السيد محمد بن الهادي الديلمي القطابري شمس فضلٍ يضيء به الزمن البهيم، وبحر أدب تروى به العطاش الهيم. له من الفضل لب اللبان، ومن الأدب ما تصبو إليه أولو الألباب. وقد رأيت له قصيدةً على حرف العين، فقلت: عليها عين الله من العين. ثم أثبتها متنافساً فيها حسناً ولطفا، وهاهي كالخود الرداح تهتز من دلها ردفاً وعطفا. وقد كتب بها إلى الحسين المهلا. ومطلعها: عُجْ بالغَضَا ولَعْلَعِ ... ورَامة والأجْرعِ وقِفْ هناك مُعْلِناً ... بصوتِك المُرجَّعِ واسألْ أُهَيْلَ المُنْحنَى ... عن قلبيَ المُستودَعِ قلبٌ به نارُ الهوى ... والوجدُ بين أضْلُعِي مَن لامْرِىءٍ دموعُه ... في الخدِّ أيّ هُمَّعِ يبْكي اللُّوَيْلاتِ التي ... سلامُها تودُّعِي ليلاتُ وصلٍ عبَرتْ ... عُبورَ بَرْقٍ مُسرِعِ أيامَ لي ثوبُ الصِّبا ... وصَفْوُهُ تدرُّعِي سقى الحَيا زمانَه ... وعيشُنا ذاك رُعِي لَهْفِي على مواقفٍ ... مضَتْ بذاك المَرْبَعِ كنتُ بها في غفلةٍ ... ونِعْمةٍ لم تُنزَعِ وشادِنٍ جَفْوتُه ... نِبالُها لم تُدْفَعِ واصَلنِي تكرُّماً ... طبعاً لا تطبُّعِ فليت شِعْرِي مالَه ... شَطَّ على المُولَّعِ آهٍ على العيشِ الذي ... طال له توجُّعِي نُدِيرُ كاساتِ الطُّلَى ... بلفْظِ نَدْبٍ ألْمَعِي في حَيِّ حَيٍ كلُّهمْ ... كالبدر عند المَطلَعِ شموسُ علمٍ نورُهمْ ... ما زال ذا تشَعْشُعِ من آلِ طه مَعْشر ... ذوِي السُّيوفِ القُطَّعِ ليوثُ حربٍ إن دُعُوا ... لَبَّوا ببطْشِ الأنْزَعِ أكْرِمْ بهم من سادةٍ ... صدور كلِّ مَجْمَعِ وأنت يا سعدُ إذا ... نُودِيتَ يوماً فاسْمَعِ أبْلِغْ حُسَيناً مَن له ... في المجدِ خيرُ موضِعِ قاضِي القضاةِ يا لَه ... من عالمٍ وأرْوَعِ بُورِك للعالَم في ... حياتهِ والمَربَعِ فخَلِّني من غيرِه ... كم صنَمٍ مُلفَّعِ أكْرِمْ به من عَلَمٍ ... وعالِمٍ مُمَّتعِ

وباسِلٍ عرَفتُه ... بالكفِّ عارِي الأشْجَعِ إن صَرَف الدهرُ ولم ... يُجِرْ ولمَّا يَمْنَعِ يمَّمْتُه مُسلِّماً ... بحالةِ المُودِّعِ ومن جواب القاضي له: يا ابنَ الوَصِيِّ الأرْوعِ ... ونورَ كلِّ مَجْمَعِ نَجْلَ النبيِّ مَن له ... قال الإلهُ فاصْدَعِ ومَن غَدا بُرْهانُه ... في العلمِ أيَّ مَرْجِعِ وافَى إليَّ نَظْمُه ... كزهرِ روضٍ مُمْرعِ في جَنَّةٍ راقتْ لدَى ... فضلٍ بتلك مُولَعِ أنْهارُها كفضَّةٍ ... تجْري بتلك الأرْبُعِ ومنها: كأنما مَرَّتْ على ... سُوحِ العظيمِ الأرْوَعِ محمّدٍ مَن عِلْمُه ... في الناسِ ذُو تَنَوُّعِ وإن بَدَا في مَحْفَلٍ ... مُشَرَّفٍ مُمَنَّعِ رأيتَ بحراً زاخِراً ... أمْواجُه لم تُدْفَعِ يمْلي عُلوماً جَمَّةً ... لِمَسْمَعٍ ومُسْمَعِ يروِي الحديثَ مُسْنَداً ... وإن يُحدِّثْ يَرْفَعِ مُدبِّجاً ومُرسِلاً ... كالغيْثِ إمَّا يَهْمَعِ مُعَنْعنِاً مُعْضِلَه ... مُسَلْسِلاً لمَن يَعِي كم خبرٍ منه لنا ... غريبُه لم يرجعِ يُزِيلُ كلَّ مُنْكَرٍ ... موضوعُه لم يُسْمَعِ وهي طويلة. ومما كتبه إلى الحسين أيضاً، قوله: لئن صُرِفتْ عنِّي الهمومُ الطَّوارِقُ ... وساعَدني دهرِي وما عاق عائِقُ وأيَّدني ربُّ العباد بنصْرِه ... وتأييدِه لم أخْشَ ما قال فاسقُ وحَسْبُ الفتى أن يتَّقِي الله ربَّه ... وما غضبُ المخلوقِ إن يرضَ خالقُ فقُل للأُلى قد يحسدوني على العُلَى ... لُحِيتُم أمَا فيكم مدَى الدهرِ صادقُ تبِيتُ كأعْيان الغواني عيونكُم ... تمَلُّكمُ عند الخمُولِ النَّمارِقُ ولي مُقَلٌ سُهْرُ الجفونِ ومِفْرَشي ... سُروجُ المَذاكِي والحسامُ المُعانِقُ وسَرْدُ الدِّلاصِ الزُّعْفِ أشْرَفُ مَلْبَسٍ ... عليَّ وللنَّقْع الكَثِيفِ سُرادِقُ ولي عَزَماتٌ تسلُب الليثَ شِبْلَه ... وعزْمٌ له تعنُو الذُّرَى والشَّواهِقُ ورأيٌ إذا أعملْتُه في مُلِمَّةٍ ... يُفلُّ فِرِنْدَ السيفِ والسيفُ فالقُ سَجِيَّة آباءٍ كِرامٍ غَطارِفٍ ... إلى المجد سبَّاقٌ وإنِّي للاحِقُ نَمَتْهم إلى العَلْيا نفوسٌ كريمةٌ ... تخاف أَعادِيها وترجو الأصادقُ وما هيَ إلاَّ نعمةٌ قد تحدثَّتْ ... بها شفَتي والحرُّ بالحقِّ ناطِقُ أيا سعدُ عُجْ بالحسين الذي له ... علومٌ لها بحرٌ على الناسِ دافِقُ فتىً يُدْهِش الأبْصارَ رأْياً وحِكمةً ... وعلماً وحِلْماً فهْو للنفسِ خارِقُ ونادِ بنادِيه وقُل يا ابن ناصرٍ ... عليك سلامُ الله ما ذَرَّ شارِقُ لقد أرْعدتْ في الأرض من قبل صَبْوتِي اللّ ... ئامِ ولِلأوباشِ ثمَّ بَوَارِقُ وما صَوْلتِي لولا الإمام لقولِه ... فبُورِكَ قولاً فهْو للخير سابقُ أتتْ نحوه منك الطُّروسُ مُذكِّراً ... فَلبَّتْك منه بِيضُه والسَّوابقُ يقودهمُ مَن ليس للخَصْم مَدْخَلٌ ... عليه ولا للِقْرنِ إن ضاق مَأزَقُ فتىً شبَّ في نَصْرِ الخليفة جاهداً ... وشاب وما شاب الزمانُ الغُرانِقُ

وقام بأمرِ الحقِّ عن أمرِ قائمٍ ... هو العدلُ إن حار اللئيمُ المنافقُ وأنْفَذَ سُبْلاً للمساكينِ لم يزلْ ... بها مارِدٌ طاغٍ وما زال مارِقُ وجاء معي وجهٌ من الحقِّ أبْلَجٌ ... أضاءَ به الإسلامُ فالغمُّ زاهِقُ ولكنني أدْعوه دعوةَ وامقٍ ... ونَفْثةَ مَصْدورٍ به الصدرُ ضائِقُ ذَوِي البَغْيِ في الأصْفاد حرب وآخر ... له شُبُهاتٌ وهْو واللهِ سارقُ لعلَّ أميرَ المؤمنين يُحقق الّ ... ذي قلتُ أو يدْرِي لما أنا راشِقُ ومَن يعلم التَّمْليح غير خليفةٍ ... ولولاه ما في الخلقِ أرْوعُ حاذِقُ وكيف يصِحُّ الجسمُ والرأسُ مُوجَعٌ ... وكيف يُنِير العدلُ والجَوْر آنقُ إليك على بُعْدِ الديارِ نصيحةً ... لها الوُدُّ والإخلاصُ داعٍ وسابِقُ فإن نطقتْ عنِّي بحقٍ فأهلُه ... وإن كذبتْ فالمجدُ عنديَ طالقُ ويا أيها القاضِي الهِزَبْرُ وخيرَ مَن ... يُنادَى إذا ما الظلمُ للرِّفْقِ ماحِقُ سلامٌ عليكم بعد جَدِّي وآلهِ ... سلامَ امْرِىءٍ إن رُمْتَه لا يُنافِقُ تحية ذِي قلبٍ تحرَّق بالجوَى ... ولِمْ لا وقد قَلَّ الوَلِيُّ المُصادِقُ ولولاك في هذِي الرُّبَى للفيتها ... وأوحيتها ما لاح في الجوِّ بارِقُ وإخوتُك الصِّيدُ الكرامُ عليهمُ ... تحيةُ صَبٍ بالمَودَّةِ واثِقُ يقول إذا ما ضَمَّ شَمْلِي بشَمْلِكم ... فَرِيقا هوىً منا مَشُوقٌ وشائِقُ السيد محمد بن صلاح بن الهادي من سراة اليمن وأشرافه، يقطر ماء النباهة من أطرافه. له السبق في الجهاد، ونظم أعمال الجبال والوهاد وقد ولي الأعمال بأبي عريش وجازان، فزاد شرفهما بقدره وزان. وله في الأئمة بني القاسم مدائح قالها تحبباً لا تكسبا، وعمر بها مجالسهم تقرباً لا تحسبا. فحظي عندهم بأكرامٍ وإعزاز، ووضع ثوب نفاسته في يدي بزاز. وهو في الشعر ممن نشر وشياً محوكا، ونظم دراً محبوكا، ومنح ذهباً مسبوكا. وقد أثبت من عيون أشعارهذه العينية، وهي كما ترى روضةٌ تهدلت أغصانها بالثمار الجنية. وقد كتب بها إلى الناصر المهلا، ولم يبلغني منها إلا المقدار الذي كتبته: لستُ أنْسَى رقَّةَ العيشِ الذي ... زاد في الرِّقَّةِ حتى انْقطَعَا في رُبَى الشَّجْعَة كُنَّا جِيرةً ... وأخلاَّئي وأخْدانِي مَعَا جنةٌ عندي رُباهَا زُخْرِفتْ ... سِيَّما والكَرْمُ فيها أيْنَعَا وسقى اللهُ لُيَيْلاتِ الحِمَى ... وكلاه وحَماه ورَعا وصديقاً زارني من بعدِ ما ... بجَلابيبِ الظلامِ ادَّرَعَا قطعَ البَيْداءَ نحوِي مُسرِعاً ... والفَيافِي والمَوامِي قطَعَا زار كالطَّيْف اخْتلاساً ومضَى ... ثم ما سلَّم حتى ودَّعَا أوْدَع القلبَ أسىً إذْ ودَّعا ... فجميلُ الصبرِ منِّي امْتنَعَا وسعَى الحادِي به مستخْفِراً ... ليته يا قلبُ ما كان سعَى إن يكنْ لَذَّ لسَمْعِي خبرٌ ... بعد أن فارقْتكُم لا سمِعَا أو ظننْتُم أن جَفْنِي هاجِعٌ ... فلَعَمْرِي بعدكم ما هجَعَا عِيلَ صَبْرِي إذْ رحلْتُم جَزَعاً ... وفؤادِي ذاب فيكم وَلَعَا كان ينْهانِي الحيَا أن أشْتكِي ... فغرامِي لحيائِي منَعَا فاقْصِدا الناصرَ فضلاً إنه ... خيرُ بحرٍ للمَعاني جُمِعَا واسْألا لِي مَن نَداه دَعْوةً ... فهْو بَرٌّ ومُجابٌ إن دَعَا السيد يحيى بن أحمد بن صلاح بن الهادي الوشلي

فرعٌ من دوحة السيادة أورق وأثمر، وهلالٌ في أفق النجابة أمده النور الإلهي فأبدر وأقمر. وآباؤه صناديد ضراغم، طأطأ لهم السؤدد وهو راغم. لهم الشرف الذي أربى على كل شرف، واحتوى على أدوات المعالي من كل طرف. فكان فيهم سحبان يسحب ذيل فصاحته، وحاتماً يقيم رسم سماحته. وحسيبهم هذا كالمسند كلما كبر ساد، وكالذهب كلما سبكته السنون زاد. وله من الشعر بدائع ألطف من سلافة العصير، وروائع أشهى من ربيبات المقاصير. فمن جيده قوله، من قصيدة، أولها: حمَى النومَ بَرْقٌ جاء من جانبِ الحِمَى ... يلُوح فأبكَى العينَ لمَّا تبسَّما وحَرَّك أشْجاناً وهيَّج لَوْعةً ... وأوْدَع نِيراناً بقلبِي وأضْرمَا وذكَّرني عهْداً وما كنتُ ناسياً ... لعهدٍ مضَى بالرَّقْمَتيْن وإنَّما يُجدِّد ذِكْراً فوق ذكرٍ فأنْثنِي ... مُبِيحاً لما قد كان مني مُكتَّمَا رعَى اللهُ سُكَّانَ الحِمَى وحَماهم ... ولَذَّةَ عيْشٍ طاب فيه ومَعْلَمَا وأيامَ أُنْسٍ قد مضَتْ وليالياً ... تقضَّتْ به والضِّدُّ في عينِه عَمَى ورَوضاً أرِيضاً كم نعِمْنا بظلِّه ... وظلاً ظليلاً كان للصَّبِّ مَغْنَمَا سحَبنا به ذيْلَ المَسَّرةِ بُرْهةً ... من الدهرِ لا نَلْوِي على كاشحٍ رَمَى فللهِ من ظلٍ مَديدٍ ومَجْمَعٍ ... سعيدٍ ومن عيشٍ رغيدٍ تقدَّمَا وحَيَّى الحَيَا تلك المعاهدَ والرُّبَى ... هَنِيّاً إذا وافَى رَوِيّاً إذا هَمَى حدائقُ عَلْيا صافحتْها يدُ الصَّبا ... صَباحاً وزَارتْها الشَّمالُ مُعتَّمَا أُعلِّل قلباً بادِّكارِ مَواطنٍ ... فيزْدادُ وَجْداً بالتذكُّرِ كُلَّمَا وما بالُ قلبي خافق كُلَّما سَرَى ... نسيمٌ أمِنْه خَفْقَةً قد تعلَّمَا أقول إذا الحادِي ترنَّم شادِياً ... رُوَيْدَك قد هيَّجْتَ قلباً مُتَيَّمَا وإن جَدَّ ليلي زاد ما بِي من الجوَى ... فنومِي على الأجْفانِ إذ ذاك حُرِّمَا ولا غَرْوَ مَن يَلقى كوَجْدِي يرَى بما ... يُقاسِيه أسْقاماً ووَجْداً مخيِّمَا أحِبَّةَ قلبي هل لأيَّامنا التي ... مضتْ من إيابٍ أو تعود إلى الحِمَى وهل ذلك الروضُ الأرِيضُ وعَيْشُه الرَّ ... قيقُ كما قد كان فيما تقدَّمَا فشَوقي إلى ذاك الحمَى شوقُ صادِىٍ ... إلى الماءِ يوماً قد أضَرَّ به الظَّمَا ووجْدِي بهم وَجْدُ الحسين بنِ ناصرِ ب ... نِ عبد الحفيظ النَّدْبِ أفضل مَن سَمَا بِجَمْعِ المعالي من طَريفٍ وتالِدٍ ... نسِينا به أخبارَ من قد تقدَّمَا إذا قال لم يتْرُكْ مقالاً لقائلٍ ... فما قُسُّ في إبْداعِه إن تكلَّمَا وما ابنُ هلالٍ في مَلاحةِ خَطِّهِ ... وما ابنُ عميدٍ في البلاغة دَعْهُمَا له رتبةٌ قَعْساءُ ما قَطُّ نالَها ... سِواه ولو كان السِّما كان سُلمَا إذا زُرتَه شاهدتَ في الأُنْسِ روضةً ... وفي فضلهِ شَمْساً وفي العلمِ خِضْرِمَا لمجلسِ علمٍ لو تعدَّاه ضَيْغَمٌ ... تأدَّب إجْلالاً له وتحرَّمَا علومٌ طغَتْ أمْواجُها فتلاطَمتْ ... وصدرٌ رحِيبٌ كالخِضَمِّ إذا طَمَا منها: لقد ضلَّ مَن يبْغِي عُلاك جَهالةً ... ودون عُلاك النجمُ أقربُ مُرْتَمَى ولو بابْنِ حَيُّوسٍ دنَا منك وقتُه ... لعَاد بما تُوليه منك مُعظمَا وجاوَرَ لُقْماناً وشاهَد يُوسفاً ... وخاطَب سَحْباناً وأمَّ يَلَمْلَمَا فكم ليلِ شَكٍ قد جلَيْتَ ومَسْمَعٍ ... مَلَيْتَ وكم أوْضَحتَ ما كان مُبْهَمَا

وكم عُقَدٍ أحْلَلْتها وأحَلْتَها ... وكم نُوَبٍ أجْلَيْتَها مُتكرِّمَا وليس لِما أبْرمْتَ نعرفُ ناقِضاً ... ولا لمَقالٍ أنت تنقُض مُبْرِمَا السيد محمد بن أحمد بن الإمام المؤيد بن علي بن جبريل سيد بهر بحسن خلقه وخلقه، ولقد أطلق عنانه في المكارم فلم يدرك أحدٌ شأو طلقه. محاسنه سافرة القناع، ومحامده يتم بها وحدها الإقناع. ولاه المتوكل بندر المخا فأحمدت سيرته، وظهرت عن سر الكناية سريرته فأمده بالمعونة المتبينة، واستظهر له الرعاية المتعينة. فلم يزل حتى طوى من مسافة العمر المراحل، وانتهى من لجة بحر الحياة إلى الساحل. وقد أثبت له من شعره السهل الانقياد، ما استوفى الحسن جملةً فلم يبق فيه محلٌّ لازدياد. فمنه قوله: طرَبٌ يهِيجُ اليَعْمَلاتِ سَبالِ ... وجوىً بأطْباقِ الفؤاد ذَوانِي وتعَلُّلِي بَخِلتْ به رِيحُ الصَّبا ... وتصبُّرِي كَرُمتْ به أجْفانِي إن الحبيب وقد تناءتْ دارُه ... أغْرَى فُؤادَ الصبِّ بالأَحْزانِ لو زارني طَيْفُ الكَرَى مُتفضِّلاً ... بجمالِه وحديثِه لشَفانِي أو لو تفضَّل بالوِصالِ تكرُّماً ... أصبحتُ مِن قَتْلاه بالإحْسانِ يا عاذِلي دَعْنِي فلستُ بمُرْعَوٍ ... عَذْلُ العِدَى ضَرْبٌ من الهَذيَانِ من مديحها: لولا طلوعُ الشمسِ في كبدِ السَّما ... خِلْناه أشْرفَ مِن على كِيوانِ فكأنه السفَّاحُ منصورُ اللِّوَا ... جاءتْ صوارمُه على مَرْوانِ وكأنه الهادِي بنُورِ جَبِينِه ... وكأنني المَهْدِيُّ في إذْعانِي وكأن نُورَ جَبِينه من يوسُفٍ ... فأنا الرَّشِيدُ به إلى الإيمانِ يا أيها المأمونُ عند إلههِ ... والمُتْبِعُ الإحسانَ بالإحْسانِ والحاشرُ الماحِي المُؤمَّل للورَى ... تحت اللِّوَا ذُخْراً إلى الرحمنِ الجارُ والرَّحِمُ الذي أوصَى به ... ربُّ السما ودعاك بالإعْلانِ فاللهَ فيَّ أبا شَبِير وشَبَّرٍ ... كيلا أخافَ طوارقَ الحِدْثانِ محمد بن دعفان الصنعاني من آل أبي عمرو أساة القريض، وولاة الجاه العريض. وكانوا بصنعاء ممن بنوا للآداب منارها، ورفعوا نارها، وأطلعوا وردها وجلنارها. وهو من بينهم بحر النظام، وبقية الأعلام العظام. أبده من نطق ولفظ، وأنبه من نظر ولحظ. وقد وقفت له على أبيات من قصيدة، مدح بها الإمام القاسم مهنياً له بفتح صنعا. وهي هذه: هِمَمُ الخَطِير جليلةُ الأخْطارِ ... محمودةُ الإيرادِ والإِصْدارِ وتفَاضُل العَزَماتِ في أرْبابها ... يجرِي بحسَب تفاضُل الأقْدارِ والناسُ مُشتبهو الذَّواتِ وإنما ... ليس المَعادِن كلُّها بنُضارِ إنَّ اليواقيتَ الثمينة لم تكُنْ ... ممَّا تُقاسُ بسائرِ الأحْجارِ جاء ابنُ حمْزةَ في القياسِ بمُعْجِزٍ ... من جِنْسِ مُعجِزِ جَدِّه المُختارِ وأتى ابنُ بنتِ محمدٍ كمحمدٍ ... ما أشبهَ الآثار بالآثارِ كُنَّا عن المنصورِ نَرْجُو مُخْبِراً ... حتى بدَا يُغْنِي عن الأخْبارِ أحمد صفي الدين بن صالح بن أبي الرجال رأس مهرة علوم اللسان. وناسج صنعاء الحلل الحسان. توفرت آراؤه للصنائع الناجحة، واختص ميزان حسناته بالأعمال الراجحة. وله التاريخ الذي أبدع فيه وأغرب، وأطرب بحسن تعبيراته جد ما أطرب. استكمل فيه الفروع والأصول، واستوفى الأجناس برمتها والأصول. يأخذ الحق ويعطيه، ويرمي الغرض فلا يخطيه. وهو إلى ما يريد، أقرب من حبل الوريد. وله أدب دار به من رحيق البيان معتقه، وملأ الأكمام من زهر روضه مفتقه. وقد أخرجت من شعره قطعةً أنضر من الروض غصونه تعتنق، وأسحاره تتنسم وآصاله تغتبق. وهي قوله، في وصف روضة صنعاء الشهيرة: روضةٌ قد صَبا لها الصُّغْدُ شوقاً ... قد صفا ليلُها وطاب المَقِيلُ

جوُّها سَجْسَجٌ وفيها نسيمٌ ... كلُّ غصنٍ إلى لِقاه يميلُ صحَّ سُكَّانها جميعاً من الدا ... ءِ وجسمُ النسيم فيها عَليلُ إيهِ يا ماءَ نهرِها العذبَ صَلْصِلْ ... حبَّذا يا زُلالُ منك الصَّلِيلُ إيهِ يا وُرْقَها المُرِنَّةَ غَنِّي ... فحياةُ النفوسِ منك الهَدِيلُ رَوْضَ صنعاءَ فُقْتَ طبعاً ووصفاً ... فكثيرُ الثناءِ فيك قليلُ تِهْ على الشِّعْبِ شِعْبِ بَوَّانَ وافْخَرْ ... فعلَى ما تقولُ قام الدليلُ نهرٌ دافِقٌ وجَوُّ فَتِيقٌ ... زهرٌ فائقٌ وظِلٌّ ظليلُ وثِمارٌ قِطافُها دانِياتٌ ... يجْتنيها قصيرُنا والطويلُ لستُ أنْسَى ارْتعاشَ شُحْرورِ غُصْنٍ ... طَرَباً والقَضِيبُ منه يميلُ وعلى رأسِ دَوْحِه خاطَب الوُرْ ... قَ ودَمْعُ الغصونِ طَلاً يسيلُ ولسانُ الرُّعودِ تهْتِفُ بالسُّحْ ... ب فكأن الخفيفَ منها الثقيلُ وفَمُ السحبِ باسمٌ عن بُروقٍ ... مستطيرٌ شُعاعُها مستطيلُ وزهورُ الرُّبَى تعَجَّبُ مِن ذَا ... شاخِصاً طَرْفُها المَلِيحُ الجميلُ فانْبَرتْ قُضْبُها تَراقَصُ تِيهاً ... كخليلٍ سقاه خمراً خليلُ وعلى الجوِّ مِطْرَفُ الغَيْم ضافٍ ... وعلى الشَّطِّ بُرْجُ أُنْسٍ أَهِيلُ فيه لي رُفْقةٌ رِقاقُ الْحَواشِي ... كاد لِينُ الطِّباع منهم يسيلُ وهمُ في العلى أشدُّ من النَّبْ ... عِ إذا حَلَّ في الخُطوبِ الجليلُ أرْيَحِيُّون لو تسومُهم النَّ ... فْسُ لجادُوا فليس فيهم بخيلُ نَتهادَى من العلومِ كؤوساً ... طَيِّباتٍ مِزاجُها زَنْجبيلُ وغوانٍ من المَعانِي كِعابٍ ... ريقُها عند رَشْفِه سَلْسبيلُ طاب لي رَأْدُها وطاب ضُحاها ... كيف أسحارُها وكيف الأصيلُ ولما اطلع عليها القفاضي محمد بن إبراهيم السحولي، عارضها بقوله: لا زال وجهُ الجمالِ الجميلُ ... ولها منه غُرَّةٌ وحُجولُ وعليها من المَلاحة سِرْبا ... لٌ طِوالٌ أرْدانُه والذُّيولُ وخَلاخيلُ بهجةٍ وسُلُوسٌ ... وتَقاصِيرُ نَضْرةٍ وفُلولُ والذي أبرزَتْ من الحسنِ معلو ... مٌ ولكنْ أضْعافُه المجهولُ ولهذي الدعوَى براهينُ قد ... حُرِّر منها المَعقولُ والمنقول غيرَ أن المَجالَ يُسْتحسَن الإجْ ... مالُ فيه ويسمُجُ التفصيلُ جنَّةُ الأرْبعِ الجِنان الذي دَا ... نَ بتفْضيلِها عليها الرسولُ ومتى احْتاجتِ الغزالةُ في رَأْ ... دِ الضحى أن يُقام فيها الدليلُ ولِموضوعِ حُسْنِها في الحواشِي ... مُلحقَاتٌ بدائعٌ وفُصولُ كالرياضِ الغَنَّا إذا طاب فيها ... ليلُها والضحى وطاب المَقيلُ وبكى الغيمُ في رُباها فأضحى ... ضاحكاً منه ثغرُه المعسولُ وتغنَّى الهَزارُ في الوَرَقِ الأخْ ... ضرِ واصْفَرَّ كالنُّضارِ الأصيلُ وأتى مُرْسَلُ النسيمِ إلى الغُصْ ... نِ فيُوحِي إليه كيف يميلُ حبَّذا حبَّذا مُروج أحاطتْ ... ببرُوجٍ فيها البدورُ نُزولُ كجِنانِ الفِرْدَوْسِ ألوانُ ولْدا ... نٍ من النَّبْتِ في رُباهَا تجُولُ فَلِرَيْحانِها سرورٌ وقد را ... ق بلالاً خَدٌّ له مَبْلولُ وإذا اهتزَّ الغصنُ وانْتثرَ الطَّ ... لُّ بمَرْجانِه تبسَّم لُولُو

وإذا ما النسيمُ دبَّ على الما ... ءِ تَعاطاه جوهرٌ وقبولُ حَبَّذا نهرُها الذي المِسْكُ والكا ... فورُ والشُّهدُ فيه والزَّنْجبيلُ ما نَقِيبٌ ودِجْلةٌ والمُعلَّى ... وفُراتٌ ونِيلُ مصرَ المُنيلُ في البساتين كالثَّعابين تَنْسا ... بُ رأيتَ الحِبابَ كيف تسيلُ أو كما هُزَّ للمِصاعِ يَفاعٌ ... صَحْصَحانُ الأطرافِ سيفٌ صَقيلُ إن تُصلْصل حُماتُه حكم القا ... ضِي فمِن عادة السيوفِ الصَّلِيلُ كل ما مرَّ فهْو حالٍ ولكنْ ... لا تقُل فيه كلُّ حالٍ يحُولُ كم خلافٍ عنه له ثمراتٌ ... قد حَواها جميعَها المَحصولُ القاضي حسن بن العفيف الحضرمي شاعر تلك الخطة، وأديبها الذي أقدار أدبائها عنه منحطة. له شهرةٌ في تأليف الدراري بأسلاكها، كشهرة الكواكب طالعةً في أفلاكها. وقد رأيت له قصيدة فتعلقت بها وتمسكت، وتأرجت بروائحها العبقة وتمسكت. وها هي كالغانية، ضمخت بالغالية. فخذها مباركاً لك فيها، ومتع الفكر في ظاهرها وخافيها. وكان مدح بها المتوكل إسماعيل، وأولها: هو الرَّبْعُ سَلْه أو فقِفْ لي أسائِلُهْ ... أنُزَّالُه نُزَّالُه أم نَزائلُهْ فإنَّ هُدُوَّ القلبِ يُؤْذِن أنَّما ... به غيرُهم والدمعُ أشْكل سائلُهْ أرى القلبَ أهْدَى لي الصوابَ وربَّما ... غدا وهْو ذُو علم بما الطَّرْفُ جاهلُهْ فيا رَبْعُ نَبِّئْنَا أنُزَّالُك الأُلَى ... عَهِدنا فإنَّ الحقَّ ما أنتَ قائلُهْ فقال أجَلْ مَن قد عَهِدنا وذا الحِمَى الْ ... مسَمَّى وذاك المنْحَنَى وخَمائلُهْ وتلك لُبَينَى حيث تُقضى لُبانةُ الْ ... مُحِبِّ وحال الصَّبِّ تهْدا بَلابِلُهْ فقلتُ سُقِيتَ الغَيْثَ لم أجهلِ الذي ... علمتَ ولكنْ لاق عندي تجاهُلُهْ وليلٍ كتَأْميلِ المَشيبِ أرِقْتُه ... لهم ثم ليلُ الهَمِّ سار يُطاوِلُهْ كأنَّ به جَفْني لجَفْنِيَ عاشِقٌ ... وطَرْفِي رَقيبٌ حارسٌ لا يُواصِلُهْ إذا ما سَها وَقْتاً كَلاَ وكذا وَشَى ... من الدَّمْعِ نَمَّامٌ على السهوِ عادِلُهْ لِيَ اللهُ من ثاوٍ بجِسمٍ وطَيُّه ... طعِينُ فؤادٍ راحلُ الفكرِ قافِلهْ أُفكِّر أيَّ البِيد بالقُودِ أرْتَمِي ... إلى منزلٍ بالغُبْرِ طابتْ منازلُهْ وأيَّ خِضَمٍ بالسَّفِين أخوضُه ... إلى مثلهِ جُوداً تطامَتْ جداولُهْ وعاذلةٍ بين الجوانِح راعَها ... مُحاولُ حالٍ في عَنا مَن يُحاوِلُهْ تقول على مَ ذا التَّرامِي على النَّوَى ... ومُرِّ النوَى والرزقُ فاللهُ كافِلُهْ أقولُ لها قولَ امْرِىءٍ لم يَطِبْ له ... على دَعَةٍ من طَيَّبِ العيشِ خامِلُهْ ذَرِيني على أخلاقيَ الصمد التي ... هي الوَفْرُ أو شَرْبٌ تَرِنُّ ثَواكِلُهْ فلم أرَ عُذْراً للكريمِ بدون ما ... ينالُ الفتى أو بازْدِيادٍ يُزاوِلُهْ سأسْرِي كما يسْرِي الهلالُ بأُفْقهِ ... هو الحَظُّ إما مَحْقُه أو تكامُلُهْ وحقَّقَ نَيْلِي للمُنَى ووَسيلتي ... دعاءُ أميرِ المؤمنين ونائلُهْ فلا فضل إلا دون فضلِ ابن قاسمٍ ... ولا بَذْلَ إلاَّ دون ما هو باذلُهْ إذا قيل إسماعيلُ أبلغ جُنْدُه الْ ... هدى عُدَّةً والوصلُ طالتْ أناملُهْ إمامٌ وعاءُ الدهرِ يطْفحُ مُتْرَعاً ... به وكذا طابتْ قديماً أوائلُهْ

فضائلُه ضاق الزمانُ بكُنْهِها ... وفاضتْ على طُرْقِ الزمانِ فواضلُهْ إذا ما دعانا الخَطْبُ لُذْنَا بيُمْنِه ... فتُجْلَى به في الحال عنَّا جلائلُهْ وإن جال فرسانُ العلومِ فإنه ... يُحاذِرُ منه فارسَ القوم راجلُهْ فعمَّا تسائلُه فإنك سائلٌ ... لحَيْدَرة في علمِه إذْ تُسائلٌهْ تأمَّلْ إذا أمْلَى دقائقَ فِكْرِه ... وما ضُمِّنْته كُتْبه ورسائلُهْ فمسألةٌ كالشمسِ يزْهو ضَوْءُها ... كبدرٍ وكالزُّهْرِ النجومِ دَلائلُهْ أقول مَقالاً قيل قثبلي وإنَّما ... إلى خيرِها من شرِّها أنا ناقِلُهْ جَوادٌ يُنِيلُ الحمدَ جَذْلانَ باسماً ... ويزْدادُ بشراً كلَّما ازْداد آمِلُهْ علامةُ جودِ المرءِ بالطَّبْعِ بِشْرُهُ ... كجودِ الحَيا لَمْعُ البروقِ مَخائلُهْ أجلْتُ افْتكارِي في الكرامِ فما بهم ... سِواه كريمٌ كاملُ الجودِ شاملُهْ وكاملُ جودٍ جودُه غيرُ شاملٍ ... وشاملُه لكنّ ما هو شاملُهْ فلَّله بَرٌّ بَسْطةُ البحرِ كفُّه ... سَماحاً وبحرٌ ساحةُ البِرِّ ساحِلُهْ بلغْتَ بأُفْقِ الجودِ أفضلَ رُتْبةٍ ... فقِف ثم لا أعْلَى لما أنتَ طائلُهْ كأنك في الدنيا بجِسْمِك كائنٌ ... وبالزُّهْد فينا بائنُ القلبِ آفلُهْ تأملَّتَ إنِّي تارِكٌ فيكمُ وما ... يُضاهِيه عن خير الورَى ويُشاكِلُهْ فأنتَ به المقصودُ في العصر والذي ... يحُثُّ عليه في اتِّباعك حاصلُهْ كَلاكَ ووَالاك امْرُؤٌ فاز ناجِياً ... وعنك تولى مَن أُتِيحتْ مَقاتلُهْ وخُذْ شُكْرَ إحسانٍ تُوالِيه دائماً ... عليَّ ومَن لي أنَّ شُكْرِي مُقابِلُهْ فكم كُربةٍ فرَّجتَ عني وشِدَّةٍ ... كشفْتَ وحالِي ماحِلُ الحالِ حائلُهْ وقمتَ بنصْرِي والزمانُ مُحاربِي ... وأهْوِنْ به خَصْماً إذا أنت خاذِلُهْ أذُمُّ كشُكْرِيك الزمانَ وأهْلَه ... فساء وساءُوا فالقليلُ أَماثِلُهْ أسافِلُه فيه الأَعالي وشَرُّ ما ... لَقِيتَ زماناً والأعالِي أسافلُهْ إذا شئتُ رَفْعِي شاء خَفْضِي فدائماً ... يُماطِلني عمَّا أشَا وأُماطِلُهْ فيا ليت شِعْري والعجائبُ جَمَّةٌ ... لأَيَّةِ معنىً غاض في الدهرِ فاضلُهْ دَعِيّ كدُبٍ خُصَّ بالخَفْضِ عَيْشُه ... ونَدْب أدِيب أبْرَضَتْه مَآكلُهْ لَحَى اللهُ دهراً باقِلٌ فيه قُسُّهُ ... وقُبْحاً له إذ قُسُّه فيه باقِلُهْ وما قلتُ هذا جازِعاً من صُروفِه ... ولكنْ ليدْري منه ما هو غافِلُهْ ويعلم أنِّي بالإمام مُظفَّرٌ ... وإن ظافَرتْه من بَنِيه أراذِلُهْ تباركْتَ مَوْلىً لم يخبْ منك سائلٌ ... عظيماً ولم تعْظُم عليك مَسائلُهْ وحَسْبُ امْرِىءٍ وَافاك رأيُك في النَّدى ... وأن صِفاتِ الجُودِ فيك وسَائلُهْ وصلّى عليك اللهُ بعد نَبِيِّه ... وعِتْرتِه ما المُزْنُ أسْبَل وابِلُهْ مطهر بن علي الضمدي اسمه مطهر ومسماه طاهر، وفضله وادبه كلاهما زاهٍ وزاهر. وهو في العلم مشارٌ إليه، وفي حل المشكلات معول عليه. لم يدع فناً إلا أهداه، ولا معنىً مغلقاً إلا أبداه. وتفسيره الفرات النمير، في تفسير الكتاب المنير مفخر ذلك القطر إحساناً زائداً، وأجل أثرٍ لم يمنع من تلقي الفوائد النوادر رائداً.

كما قال في آخره: فدونك ما حوى من أصداف التفاسير لآليها، وأنار من مشكلات الأقاويل لياليها. ولن يسعد بحل رموزه، ويظفر بكشف كنوزه. إلا من برز في علم البيان، وأشير إليه في معرفه صحيح الآثار بالبنان، وراض نفسه على وفاق مقاصد السنة والقرآن. هذا، ومع لطافة جسمه فكم حوى من لطائف، ومع حداثة سنه فكم حدث بظرائف، ومع رشاقة قده كم رشق من مخالف. وكم مشكلٍ أوضحه قد أغفله الأولون، وكأيٍ من آية يمرون عليها وهم عنها معرضون. قلت: وقد حظي هذا التفسير في اليمن بالقبول، ومدحه كثيرٌ من علمائه بالمدائح السائرة مسرى الصبا والقبول. فمن جملة من مدحه السيد صلاح الدين بن أحمد بن المهدي المؤيدي، حيث قال: هذا الفُراتُ فَرِدْ مَشارِعَ مائِه ... تجِدِ الشرائعَ أُودِعتْ في بَحْرِهِ كَشَّافُ كلِّ غَوامضٍ ببيَانِها ... أسرارُ مُنْزَلِ ربِّنا في سِرِّهِ لا عيبَ فيه سوى وَجازةِ لَفْظِه ... مع أنه جَمع الكمالَ بأسْرِهِ حبسَ المعاني الرَّائقاتِ برَقِّهِ ... والحقَّ أطْلَق والضلالُ بأسْرِهِ وله نظم ونثر شهيران. فمن نظمه قوله: مَن شافعِي نحوكم يُحنِّفكُمْ ... إليَّ يا مالكِي فأحْمَدُهُ زَيَّدتني حين صِرْتَ مُعْتزِلِي ... وَجْداً كَحَرِّ الجحيمِ أبْرَدُهُ يا رافضِي أنت ناصبِي لهوىً ... ما كنتُ قبل الفِراقِ أعْهَدُهْ وقوله: تظنُّونِيَ مُرْتاحَا ... ومَن أيْن ليَ الرَّاحَهْ إذِ الراحةُ في الكيسِ ... وليس الكيسُ في الرَّاحَهْ وله: تزوَّجْ هُدِيتَ تِهاميَّةً ... ترُوقك في المِئْزرِ المِطْرَفِ ودَعْ عنك بيضاءَ نَجْديَّةً ... ولو برَزتْ في بَها يُوسُفِ عليها قميصٌ وسِرْوالةٌ ... وليستْ تَرِقُّ لمُسْتعطِفِ فأجابه السيد صلاح المؤيدي بقوله: أردتَ بها الذمَّ فَالْبَسْتَها ... سَرابِيلَ مَدحٍ لا تختفِي نعم هكذا شِيمةُ المُحْصَناتِ ... إذا شئْتَ تمدحُ مَدْحاً وَفِي قَساً في القلوبِ ولِينُ القُدودِ ... وخَدٌّ نَقِيٌّ وصوتٌ خَفِي وإن رام منها الْوَفا طارقٌ ... فليستْ ترِقُّ لِمُستعطِفِ حسن بن علي المرزوقي أديبٌ تعاطى الشعر جل بضاعته، وتوشية حلل الطروس معظم صناعته. مع رقة طبعٍ تحسدها القدود الرشاق، وعلاقة صبابة تتفانى عليها نفوس العشاق. وقد أوردت له قطعةً كلها غرر، ينقدح فيها من وجده الذي سكن لبه شرر. وهي قوله: تألَّق من نحو الكَثِيبِ ووَهْدِهِ ... برِيقٌ تَلاَلاَ في حَمائلِ بُرْدِهِ تَراءَى لِعَيْنٍ قد تقرَّحَ جَفْنُها ... وعُوِّض عن طِيب المَنام بسُهْدِهِ فهيَّج وَجْداً مُضْمَراً في سَرائرِي ... وأبْدَى مَصُوناً ما استطعتُ لِرَدِّهِ فبِت كئيباً وَالِهَ القلبِ شَيِّقاً ... بِيَمِّ غرامٍ بين جَزْرٍ ومَدِّهِ وما افْترَّ إلاَّ جاد بالدَّمْعِ ناظرِي ... وأذْكَر ماءً بالعُذَيْب ووِرْدِهِ ومَسْرَحَ غِزْلانٍ يرُحْنَ عَشِيَّةً ... بذاتِ اللِّوَى والأبْرَقَيْنِ وثَمْدِهِ ومَيَّادَ غُصْنٍ مُذ تثنَّى بعِطْفِه ... لَوَى عَقْرَبَيْ صُدْغَيْه خَفَّاقُ بَنْدِهِ كثيرُ التجنِّي والتَّجاوُزِ ظالمٌ ... جنَى سيفُ لَحْظٍ منه وهْو بغِمْدِهِ له حَدَقٌ صَحَّتْ بسُقْمِ جُفونِها ... ومِن عَجَبٍ تقْويمُ شيءٍ بضِدِّهِ وإنِّي إذا ما جَنَّ لَيلِي تخالُنِي ... أحِنُّ حَنينَ الثَّاكلاتِ لفَقْدِهِ ويُطربني صَدْحُ الحَمامِ بأيْكةٍ ... إذا صاح قُمْرِيُّ البَشامِ بِرَدِّهِ ورَنَّةُ شُحْرُورٍ يُرَدِّدُ شَدْوَهُ ... بِغُنَّةِ إدْغامٍ ولينٍ بِمدِّهِ

وترْجِيعُ صوتِ العَنْدَلِيب كأنه ... غدا رَاهباً فيه زعيماً بورْدِهِ وإن شُقَّ نَحْرُ الفجرِ ناحتْ حَمائمٌ ... تُسبِّح للهِ القديم بحمْدِهِ وإنِّي على وُدِّي مُقِيمٌ على الوفَا ... وما مِلْتُ بل باقٍ على حِفْظِ وُدِّهِ كأنِّي وما أرجُو كُثَيِّرُ عَزَّةٍ ... إذا حرْتُ أو بِشْرُ العَمِيد بهنْدِهِ ألا في سبيلِ اللهِ دهرٌ قضَيْتُه ... على ظَمَإٍ لم يَرْوِه ماءُ صَدِّهِ أبِيتُ على جَمْرِ الغَضا مُتقلِّباً ... وفي طَيِّ أحْشائِي تَلُظُّ بوَقْدِهِ محمد بن محمد العشبي شاعرٌ له قطع مستجادة، مسبوكةٌ في قالب الإجادة. أثبت منها ما تقل مؤونته، وتكثر لأديبٍ معونته. فمن ذلك قوله: سألتُ ذات الحُسْن لَمَّا رَنَتْ ... بمُقْلةٍ ساحرةٍ فاتنهْ عن الأحاديثِ وعن إسْمِها ... وهْي بوَكْرٍ للبَها صائنَهْ قالتْ خَفِ الرحمنَ يا سيِّدِي ... الطيرُ في أوْكارِها آمِنَهْ وقوله في مليحة اسمها كوكب: بدت كوكبٌ مثلَ بدرِ الدجى ... لِصَبٍ هوَى قلبُه واسْتعاذَا فأنْكَر شمسَ الضحى في الهوى ... فلمَّا رأى كوكباً قال هذَا وقوله: يا سائلِي عن وَصْفِ مَن ... مالتْ كغُصْنِ الْبانِ مَيْلاَ بالبدرِ هندٌ تُوِّجَتْ ... وتَبرْقَعتْ بالشَّعْرِ لَيْلَى وقوله: وقفْنا بالغَضاءِ فكلُّ قلبٍ ... مُصَلٍ في جوانحهِ مُعَنَّى وهِمْنا بالعَقِيق بكلِّ وَادٍ ... ونُحْنَا في حِمَى لَيْلَى ولُبْنَى وقوله: وأغْيَدٍ من تَعِزٍ بِتُّ أسألُه ... من أي حافاتِ سِرْبِ الخُرَّدِ الغِيدِ أجاب مِن حافةِ الهَزَّازِ قامته ... لكنَّ أعْيُنَه من حافةِ السُّودِ وقوله: ويُوسُفِيِّ جمالٍ زار عارضَه ... مُوسى فأصبح منه العبدُ مَأنُوسَا تفَرْعنَتْ في كَلِيم مُقْلةٌ سحَرتْ ... لعَقْرَبِ الصُّدْغِ حتى حَلَّه مُوسى وقوله: وقالوا اعْتمِدْ لك مُسْهِلاً ... إن كان داؤُك يعسُرُ فأجبْتهم في خَدِّ مَن ... أهْوَى دوائي يظهَرُ إهْلِيلَجٌ من خالِه ... ومن الثَّنايَا كَوْثَرُ أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الجابري الشحري أديب باهر، وأريب ماهر. له نظمٌ كما رق السحر، وعبق أريج الشحر ونثرٌ كما رق السحر، وصافح النسيم الشجر. وهو في النظم مقطع غير مقصد، فلله دره من مقتصر على الحسن مقتصد. وقد أثبت له ما يروق في المسامع، وتعجز عن إدراك مثله المطامع. فمنه قوله في التوجيه: قد تعشَّقْتُ غَزالاً ... فيه لي قولٌ ومَذْهَبْ طال مِنْهاجُ غرامِي ... في هوَى الظَّبْيِ المُهَذَّبْ وهو كقول التقي السروجي: تفقَّهتُ في عِشْقِي لمَن قد هَوَيْتُه ... ولي فيه بالتحرير قولٌ ومَذْهَبُ وللعينِ تنْبيهٌ به طال شَرْحُه ... وللقلبِ منه صِدُقُ وُدٍ مُهذَّبُ ومثله قول بعضهم: الروضُ والبهجةُ يا سيِّدِي ... في الخدِّ مجموعٌ له حَاوِي وقد غَوَى سالكُ مِنْهاجِه ... فامْنُنْ بِإرْشادك للْغاوِي وله: كتبْتُ على الخدودِ لفَرْطِ شَوْقي ... سُطوراً من دموعٍ مُستهِلَّهْ فلا تعجبْ لخَطٍ فاقَ حُسْناً ... وحقِّك إنَّه خَطُّ ابنُ مُقْلَهْ وله: ما هَبَّ نَشْرُ صَباً لنَحْوِي منهمُ ... إلاَّ وأحْيَى المُسْتهامَ عَلِيلُهُ فالقلبُ مصر وهْو منزلُ يوسفٍ ... والحسنُ رَوْضتُه ودَمعِي نِيلُهُ وله: شادِنٌ جار واقْتَدَرْ ... ورمَى القلبَ في الكَدَرْ دَرَّ دمعِي فليْتَه ... جاد بالوصلِ وَقْتَ دَرّ وله: زارني البدرُ لَيْلَةً ... وحَبانِي بكلِّ مَا

وبجسمٍ أباح لي ... مثلَ خَزٍ وأنْعَمَا وله: بروحِيَ بدرٌ في المَحاسِنِ مُفْرَدٌ ... إذا ما تثَنَّى للغصونِ قد انْتَمَى أدادَ بِخَدٍ إذ أتانيَ زائراً ... له مثل روضٍ في النَّعِيم وأنْعَمَا استعمل النعومة في وصف الروض، المفضل عليها نعومة الخد، وفيها خدش. وله مضمناً: فدَيْتُ من المِلاح غزالَ إنْسٍ ... له قَدٌّ تثنَّى كالرَّداحِ وخَدٌّ رائقٌ يزْهُو كوردٍ ... وثَغْرٌ زانَه حُسْنُ الأَقاحِ وإن فَخَر النهارُ بضوءِ صُبْحٍ ... فإنِّي بالثَّلاثةِ ذُو انْشِراحِ جَبِينٌ والمُقلد والثَّنايا ... صَباحٌ في صَباحٍ في صَباحِ وله: ومليحٍ بمُقْلتيْه سَبانِي ... وسَبا الشمسَ إذْ بدَتْ بمُحَيَّا غُلِب القلبُ في هوىَ ناظِريْه ... وضَعِيفان يغلبان قَوِيَّا وهو من قول ابن نباتة: ومليحٍ قد أخْجَل الغُصْنَ والبَدْ ... رَ قَواماً رَطْباً ووَجْهاً جَلِيَّا غُلِب الصبرُ في لِقَا ناظِرَيْهِ ... وضعيفان يغلِبان قَوِيَّا وله: رئمٌ رمانِي من ظباءِ الفَلا ... بسَهْمِ لَحْظٍ قد أتى مُرْسَلاَ فالشمسُ تروِي عنْ سَنَا وجهِه ... عن نورِه عَ، خدِّه المُجْتلَى وقد روى مَكْحولُ عن طَرْفِه ... لكنَّ ضَعْفَ الجَفْنِ قد أعْضَلاَ وله: بأبي أفْدِي غزالاً ... لم يزلْ باللَّحْظِ قاتلْ أزْهَرِيُّ اللَّونِ يروِي ... سيفَ لَحْظٍ عن مُقاتِلْ وله: لو لم يكنْ من بابلٍ لَحْظُهُ ... ما هَيَّمَ الصَّبَّ ولا بَلْبَلاَ أو لم يكنْ كالبدرِ في طَلْعةٍ ... ما كان ذا القلبُ له مَنْزِلاَ وله: بي ساحرُ الألحاظِ أطْلَق مَدْمَعِي ... والقلبُ منه مُقَيَّدٌ في حَبْسِهِ لا غَرْوَ أن همَلتْ عيوني إذْ رَنَا ... فلِكُلِّ شيءٍ آفةٌ من جِنْسِهِ الأصل فيه قول القاضي أمين الدين الطرابلسي: إنْ كان شَرْعُ هواكَ أطْلَقَ مَدْمَعِي ... فوكيلُ شَوْقِي عاجزٌ عن حَبْسِهِ أو كان منك الطَّرْفُ أسْهَرَ ناظِرِي ... فلكُلِّ شَيْءٍ آفَةٌ من جِنْسِهِ وللنواجي: ظَبْيٌ إذا لَمَحَ الغزالَ بطَرْفهِ ... فالرأيُ أن ينْجُو الغزالُ بنَفْسِهِ وتُقِلُّ بِيضَ الهندِ سودُ عُيونِه ... ولكلِّ شيءٍ آفةٌ من جِنْسِهِ وله: وبرُوحِي مُهَفْهَفُ القَدِّ ألْمَى ... ليت بالوَصْلِ للكئيبِ أعَانَا قد خَفِي الصَّدْرُ منه نهداً ولكن ... مُذْ تَبدَّى وماسَ بالقَدِّ بَانَا وله: برُوحِي رَشِيقٌ له قامةٌ ... يميلُ بها الريحُ من لُطْفِهِ فلولا جَوارِحُ ألْحاظِه ... لَغَنَّى الحمامُ على عِطْفِهِ وله في معناه: أفْدِيه من رَشَأٍ في حُسْنِ طَلْعتِه ... كأنه البدرُ يَسْرِي في غَمامتِهِ لولا جَوارِحُ ألْحاظٍ له صدَحتْ ... وُرْقُ الحممِ على مَيَّادِ قامتِهِ وله: إن ماس حِبِّي أو بدَا خدُّه ... أظهرتُ فيه كلَّ معْنىً دقيقْ فقَدُّه لابنِ رَشِيقِ انْتمَى ... وخدُّه الزُّهْرِي رَوى عن شَقِيقْ وله: يا صاحِ إن جُزْتُ أعلامَ العَقيقِ فَرُدْ ... دموعَ عَيْنِيَ منها الماءُ ينْسكِبُ وإن مررْتَ بأرْدافِ الحبيبِ دُجىً ... قِفْ بي عليها وقلْ لي هذه الكُثُبُ وله: تبدَّى العِذارُ بخدِّ الحبيبِ ... فقُلتُ ولم أخْشَ من لائِمي أمولايَ سُدْتَ مِلاح الورَى ... فأنتَ المُسوَّدُ في العالَمِ وله: أفْدِيه غُصْناً وبدراً إن بَدا ومشَى ... حذارِ منه إذا ما ماسَ أو سَفَرَا بنُورِ شمسِ جبينٍ صاد كلَّ فتىً ... ونَمْلِ زُخْرُفِ ليلٍ هَيَّم الشُّعَرَا

أفْدِي حبيباً عَزِيزَ الوصلِ تيَّمني ... في كلِّ ليلِي منه موعدٌ ونَبَا بزُخْرُفِ النَّمْل صادَ القلبَ عارِضُه ... وهامتِ الشُّعَرَا في هَلْ أتى وسَبَا وله: بأبِي مليحٌ لم أزَلْ في أسْرِهِ ... مُنذ ارْتشَفْتُ سُلافةً من ثَغْرِهِ وسبَا القلوبَ بنَمْلِ عارضِ زُخْرُفٍ ... من فوقِ شَمْسِ ضُحَى الجَبِينِ وعَصْرِهِ وله: وحبَّةِ خالٍ بخَدِّ الحبيبِ ... تلُوذ بعارِضِه السَّائِلِ تفانَى الرِّجالُ على حُبِّها ... فما يحصلُون على طائلِ وله: بثَغْرِه الدُّرُ شَبِّهُهْ ووجْنته ... حَمَّالة الوَرْدِ لا حَمَّالة الحَطَبِ رَشَقْتُ رِيقَتَه فازْدَدْتُ من عَجَبٍ ... إذْ بان لي جوهرٌ قد حُفَّ بالذَّهَبِ وله: يا شادِناً ملَك الفؤادَ بطَلْعةٍ ... شاهدت منها البدرَ ليلَ تمامِ عجباً لثَغْرِك بارداً في طَعْمِه ... وله غدا من سيفِ لَحْظِك حَامِي وله: ثَغْرُ الذي أهْوى له بارِقٌ ... قد لاح للصَّادرِ والوارِدِ مُبَرَّد في الثَّغْرِ عنه روَى ... وخدُّه يروِي عن الْواقِدِي من قول ابن الوردي: ومليحٍ إذا النُّحاةُ رأَوْه ... فضَّلوه على بديع الزَّمانِ برُضابٍ عن المُبرَّد يرْوِي ... ونُهودٍ تروِي عن الرُّمَّانِي وله: وربَّ ساقٍ كبدرِ التِّمِّ طَلْعتُه ... قد ضَنَّ بالرَّاحِ لمَّا غاب مَن عَشِقَا ولا يزال عفيف الذَّيْلِ يمطُلنا ... بالرَّاحِ واللَّثْمِ حتى زارَه فسَقَا أخذه من قول الحافظ ابن حجر: وساقٍ منَع السُّقْيَا ... وقد غاب الذي عَشِقَا وما زال عفيفَ الذَّيْ ... لِ حتى زارَه فسَقَا وله: بالرُّوح منِّي مُغَنٍ ... فيه تزايدَ عِشْقِي ملكْتُه بِشراءٍ ... فصار مَالِكَ رِقِّي وله: قال لي في الدَّوْحِ حِبِّي ... وبه الأنهارُ تجرِي قُمْ بنا في الرَّوْضِ نَغْدُو ... بين رَيْحانٍ ونَسْرِي أخذه من قول الدماميني: يقول مُصاحبِي والروضُ زَاهٍ ... وقد بسَط بِساطَ زَهْرِ تعال بنا إلى الرَّوْضِ المُفدَّى ... وقُم نَسْعَى إلى وردٍ ونَسْرِي وله: يا غائبين سَرَى لنحْوِي منكمُ ... ذاك النسيمُ وذيلُه مَبْلولُ فأتى إليَّ مع الصَّباحِ بعَرْفِكمْ ... وشَفا سقامَ الصَّبِّ وهْو عليلُ أخذه من قول ابن نباتة: يُداوِي أسَى العشَّاقِ من نَحْوِ أرضِكمْ ... نسيمُ صَباً أضْحَى عليه قبُولُ برُوحِيَ ذَيَّاك النسيمُ إذا سَرَى ... طبيبٌ يُداوِي الناسَ وهْو عليلُ علي بن نشوان بن سعيد الحميري جوادٌ سبق البلغاء في ميدان البراعة، ثم جاء على رسله وقد تناول قصب اليراعة. ولي الأعمال الكبار في أيام الإمام القاسم، فافترت له الأيام ضاحكة الثغور والمباسم. وباشر حروباً كثيرة، جلت عن همم عليه ومساعٍ أثيرة. فنشر ذكراً عاطر الريا، وتبوأ منزلةً فوق النسر والثريا. وهو إذا نظم فنظمه من النمط العالي، وإذا افتخر فقد أعلى مقدار النباهة والمعالي. وقد ذكرت له ما لا يمكن لحاقه، ولو تتوج به البدر ما أدركه محاقه. فمنه قوله على لسان الإمام، ليقي خاطره على النهوض: يا مُوقِدَ النارِ البعيدةِ أجِّجِ ... واشهِرْ بِمُضْرَمِها شِعار المَخْرَجِ أشْعِلْ وَشِيكاً جَذْوَةً بِبَراقِشٍ ... ليُضِيءَ ما بينَ العِراقِ ومَنْبِجِ إن الإقامةَ قد نقضْتُ شُرُوعَها ... ونسخْتُ أوقاتَ الضلالِ السَّجْسَجِ بِشَرَائعِ التَّهْجِيرِ والتَّغْلِيسِ والْ ... إسْئادِ حينَ أقول أَدْلِجْ أَدْلِجِ والكَرِّ بين الفَيْلَقَيْنِ وصَوْلَةٍ ... تحتَ العَجَاجِ وتحتَ كلِّ مُدَجَّجِ

ولقد سئمتُ من المُقامِ وظِلِّهِ ... وتَتَوَّقَتْ نفسي لظهْرِ الأعْوَجِي وَلموقفٍ حِصْنِي به سُمْرُ القَنا ... وشَبا الظُّبَا وقِرَى الْحِصانِ المُسْرَجِ فأمِتْ سُؤالِي حين أُنْشِدُ مُنْشِداً ... ألْجِمْ جِيَاداً يا غُلامُ وأسْرِجِ وأرِقْتُ من طَرَبٍ إلى غَزْوِ العِدَى ... ومُسابِقيَّ إلى الصَّرِيحِ المُزْعَجِ ذهَبَ السُّلُوُّ فوَدِّعَا طِيبَ الكَرَى ... وتتبَّعا أثَرِي وسِيرَا مَنْهَجي كَلَفِي بِطِرْفٍ لاحِقِيٍ مُضْمَرٍ ... نَهْدِ المَرَاكِلِ لا بطَرْفٍ أدْعَجِ وكَتيبَةٍ مَوْصُولةٍ بكتيبَةٍ ... تَخْتالُ في حَلَقِ الحديد المُدبجِ وتطَيُّبِي بعَجاجِ نَقْعٍ ثائرٍ ... ودمٍ لأثوابِ الكَمِيِّ مُضَرِّجِ ولقد شهدتُ الخيلَ تقْرع بالْقَنا ... في حافظٍ نَجْدِ الوَغَى مُتوهِّجِ ولقد شهدتُ الليل حتى خِلْتُ ما ... أيْقَنْتُ منه كالقميص المُدْمَجِ ولقد دخلتُ على السِّباع وِجارَها ... ووَلَجتُ غَيْل ضَراغِمٍ لم تُولَجِ ولقد وردتُ أنا وواس مَورِداً ... في مَسْلَكٍ من أُمَّةٍ لم تُخْرَجِ والشمسُ في وسطِ السماءِ مُظِلَّةٌ ... والجوُّ أقْتَمُ بالعَجاجِ المُرْهَجِ وكأن رَقْراقَ السَّرابِ بِقيعةٍ ... ذَوْبُ اللُّجَيْن هَرقْتَ من مُتَبرّجِ قُوما فشُدَّا لِي على أعْلَى الثَّرى ... غَرِدَ النَّسَا صافِي الأديم مُدمَّجِ نَهْدٌ أقَبُّ الأيْطَليْن إذا غدا ... في البِيدِ خِلْتَ مَمَّر رِيحٍ سَمْهَجِ درن يجاذبُ للوُثوبِ عِنانَهُ ... طَرَباً ويصْهَل عند صوت المُسْرِجِ وكأنه سَيْلٌ إذا ناقْلتُه ... وإذا مددْتُ له فبارِقُ زُرَّجِ وقال بالجوف، يحض قبائل همدان على الجهاد مع الإمام: أرِقْتُ وما طربتُ إلى الغوانِي ... فأبكي في الرُّبوع أو المَغانِي ولا عَدَت المُدامةُ لي ببالٍ ... فأسألُ عن مُعَتَّقةِ الدِّنانِ ولا طرِبتْ إلى الأوْتارِ نفسِي ... ولا سمع المُجونِ ولا الأغانِي ولكنِّي طربتُ لصَوْتِ داعٍ ... مِنَ الِ محمدٍ شهمِ الجَنانِ إمامٌ عادلٌ بَرٌّ ذَكِيٌّ ... أمينٌ لا يقولُ بقَوْلِ مَانِي له علمٌ ومعرفةٌ ودِينٌ ... يفُوه بذكْرِه أهلُ الزمانِ الحسين بن سليمان بن داود المرهبي صاحب التجنيس البديع الجنس، الذي ضرب به إلى الجن وهو من خيار الإنس. فتبارك معطيه، ولله متعاطيه. ما أطول باعه، وأحسن طباعه. ولقد سخر له هذا النوع من الكلام كل التسخير، ولعمري إنه لم يسمع بأحسن منه في الزمنين الأول والأخير. وقد أثبت له ما لو سمعه أبو منصور، لقال: التجنيس الأنيس على هذا مقصور. أو أبو الفتح لأعرض عن جناسه الذي كثر فيه أقواله، وعد التناصل من التورط في أمثاله أقوى له. فمن قوله، وقد اتفق له أنه رفع قصته للمتوكل، يعرض فيها شوقه إلى وطنه، ويستأذن منه في الذهاب إلى أهله، فوقع له تحت قصته بيتاً فقط: إذا يسَّر اللهُ أمراً أتاكَ ... وإن حاول الناسُ إبْطالَهُ فضمن هذا البيت في قصيدة. وهي: أُذكِّرُ مولايَ ما قالَهُ ... لعبدٍ أبَثَّك أحْوالَهُ شكَى ما يُعانِيه من دهرِه ... وأحْسَن في اللهِ آمالَهُ فكان جوابُ إمامِ الهدى ... أدام له اللهُ إجْلالَهُ بخطِّ يَدٍ خُلِقتْ للعطاءِ ... تُبارِي الغمامَ وتَهْطالَهُ إذا يسَّر اللهُ أمراً أتاكَ ... وإن حاوَل الناسُ إبْطالَهُ فجدَّد قولُك أسْمالَه ... وكان جوابُك أسْمَى لَهُ

وأشْفَى لقلبٍ وأطْفَى لَهُ ... لمن بَاتَ يذكُر أطْفالَهُ وبَشَّرتَه ببُلوغِ المُنَى ... وسكَّنْتَ بالوعدِ بَلْبالَهُ وأصبح يخْتالُ من تِيهِه ... ويسحبُ بالفخرِ أذْيالَهُ وهَنَّاه كلُّ صديقٍ وقَا ... ل طُوبَى له ثم طُوبَى لَهُ فأمْرَك في مُخْلِصٍ مُضْمِرٍ ... من الوُدِّ فوق الذي قالَهُ يَعُدُّك ذُخْراً ويخْشَى المَعادَ ... ونَشْرَ العبادِ وأهْوالَهُ ومَن يتولَّ إمامَ الزَّمانِ ... فقد أصلَح اللهُ أعْمالَهُ ومن يَكُ في النُّصْحِ أوْفَى له ... يُسَرُّ إذا ما رأى فَالَهُ ومن يَغْدُ في الغَيْثِ أحْمَى له ... يحُطُّ من الوِزْرِ أحْمالَهُ وذلك في الدِّين أقْوَى له ... يُسدِّد رأيُك أقْوالَهُ وامَّا الذي لا يَودُّ الإمامُ ... فتَعْساً له ثم سُحْقاً لَهُ ومَن كان في الناسِ أشْكَى له ... فلا أكثر اللهُ أفعالَهُ ومن يتهَزَّا فأفْعَى لَهُ ... ولا قبِل اللهُ أشْكالَهُ بَقِيتَ إمامَ الهدى والتقى ... تمُدُّ على الدِّين سِرْبالَهُ وتشْفِي للحقِّ أوْجالَهُ ... وتُرْدِي للشِّركِ أبْطالَهُ وجازاك ربُّك عن خَلْقِه ... وهَنَّاك مولاي أفْضالَهُ وكتب إلى الحسين المهلا، بداره الواسطة في الطور من المحابشة، وأرسلها إلى السجعة: يا فاضلاً أرْبَى على أقْرانِهِ ... وسمَا بمَفْخَرِه على كِيوانِهِ ومَلِيكَ عصرٍ لا يُرامُ مَحَلُّه ... إيوانُ كسرى غار من إيوانِهِ إن فَوَّق الأعْدَا سهامَ قِسِيِّهمْ ... أصْماهُمُ بلسانِه وسِنانِهِ ومُجَلِّياً إمَّا جرى في حَلْبَةٍ ... قد فاز يومَ سِباقِه برِهانِهِ سَبَّاقُ فضلٍ لا يُشَقُّ غُبارُه ... أنَّى لِمثْلي الجَرْيُ في مَيْدانِهِ حقّاً لقد شرَّفْتني بفوائدٍ ... يلْهُو بها المشْتاقُ عن أوطانِهِ من جَوْهرِ النَّظَّامِ بل أفْرادُه ... كالبحرِ جاد بدُرِّه وجُمانِهِ كالروضِ في إبَّانِه والوردِ في ... نِيسانِه والعُمْرِ في رَيْعانِهِ فالبيتُ ممَّا قُلتَه ونظمْتَه ... يزْهُو على الهَرَميْنِ في بُنْيانِهِ أهْدَيْتَ من دُرِّ العَرُوسِ نفائِساً ... صَلُحتْ لمَلْكِ الروم تِيجانِهِ خزَنْته سُمْرُ الطورِ إعْجاباً بهِ ... وتقلَّدْته البِيضُ في طلانِهِ فَرفلْتُ في السِّرْبالِ من داوُدِه ... وعلمتُ حُكْمَ الصَّمتِ من لُقْمانِهِ وروَيْتُ علم الفقهَ عن نُعْمانِهِ ... وقرأتُ حُرَّ الشِّعرِ عن حَسَّانِهِ ورأيتُ في الحِلْم ابنَ قَيْسٍ أحْنَفاً ... وإياساً المشهورَ في إتْقانِهِ وحقَرْتُ بطليموسَ دَارِس كُتْبِه ... ورفضْتُ رِسْطاليس في يُونانِهِ قلَّدْتني عِقْداً نفيساً فائِقاً ... قَدْرِي الحقيرُ يجلّ عن أثْمانِهِ وذكَرْت أخْلاقِي كبَغْلِي رَثَّةً ... في سَرْجِه وحِزامِه وعِنانِهِ من بعد ما كان النجومُ تَغار مِن ... قِطَعِ اللُّجَيْنِ مَنوطةً بِجِرانِهِ وعليه دِيباجُ الحريرِ مُصوَّراً ... والجُوخ يرفُل منه في ألْوانِهِ فكذلك الدهرُ الخَؤُونُ بأهلِه ... مَن ذا نَجَا من حادثاتِ زمانِهِ لم يُغْنِ عنها البَرُّ عن غِزْلانِهِ ... كَلاَّ ولا التَّيّارُ عن حِيتانِهِ فعَساكَ تُعْدِيني على حِدْثانِهِ ... وتُقِصُّنِي من كَفِّه وبَنانِهِ

جعل الإلهُ بكلّ يومٍ شارِقٍ ... بعظيم شَأْنِك في الورى مِن شَأْنِهِ ولده محمد خبيرٌ بأساليب الكلام، لم يقصر في شعره عن درجة الأعلام. وكيفما تفوه أطرى، وحيثما اقتدح أورى. مع حسن فهم، أوتي منه أوفر سهم. ونفسٍ تواقةٍ إلى الحسنى، وأوصافٍ تتحلى بها الكاعب الحسنا. وقد رأيت له قصيدةً أحكم فيها الرصف، فأثبت منها ما يستغني بنفسه عن كثرة الوصف. وكان كتب بها إلى السيد الحسن بن الإمام إسماعيل، وهو باللحية، مادحاً له، وشاكياً إليه من والده: عُوفِيتَ من كَلَفِي وفَرْطِ عَنائي ... يا شِبْهَ خُوطِ الْبانةِ الغَنَّاءِ أمَّا أنا فشُحوبُ جسمي شاهدٌ ... لي بالذي أُخْفِي من البُرَحاءِ ومدامِعي تُنْبِيكَ عن صُنْع الأسَى ... من بَثِّ نُورِ هواك في أحْشائِي فإذا امْتريْتَ فإن أيْكةَ حَاجرِي ... تدْرِي بواقعتِي مع الوَرْقاءِ حين امْتطَتْ فَنَنَ الأراكةِ وانْبَرتْ ... في النَّوحِ تُسمِعُه على أنْحاءِ فوقفتُ لا عيْني تُساعِدني على ... رَمْزٍ ولا كفٌّ على إيماءِ حَيْرانَ مسلُوبَ الجَنانِ مُقَرَّحَ الْ ... أَجْفانِ نِضْوَ هوىً وحِلْفَ بُكاءِ وعلى غِياضِ الوادييْن بلابلٌ ... عرفتْ لفَرْطِ ذكائها أنْبائِي كَلَفٌ به فَطِنَ الحمامُ فجائزٌ ... أن يُمْتَرى فيه لدَى العُقلاءِ أعَقِيلةَ الحيِّ الغيورِ هُمامُه ... ما بالُ قومِك أذَّنوا بتَناءِ نزلوا على نَشْرِ العَقِيقِ وإنّما ... كرِهُوا لأجْلِي سَرْحة الرَّوْحاء بَخِلُوا بوجهِك أن أراه يُقْظةً ... فلْيَمْنعوني الطّيْف في الإغْفاءِ أنَّى يُلِمُّ بنا الخيالُ ودوننا ... رَصَدٌ عليه لقومِها الغبراءِ يا راكباً شَدَنِيَّةً مِذْعانةً ... خَرْقاءَ تخْرِق مِطْرفَ البَيْداءِ مَوَّارةً تغْشَى الهواجِرَ جَسْرةً ... تُخْفِي الجوى وتُغِذُّ في الإعياءِ أقْرِرْ بها عينَ النَّباهة ضارباً ... بخِفافها في أخْدَع البَطْحاءِ وادفعْ بها في صدرِ كلِّ تنُوفةٍ ... غُفْلٍ عن الأعلامِ والخضْراءِ فإذا عَبرتَ عن اللّحيّة ضَحْوةً ... وشمَمْتَ رَوْحَ مُروءةٍ وسَخاءِ ورأيتَ أنْوارَ الإمامةِ من ذُرَا ... ملِكِ الزمانِ وخاتمِ الكرماءِ فانزلْ بأبْلَجَ من ذُؤابةِ هاشمٍ ... كاسٍ مَلِيءِ محامدٍ وثَناءِ والْثَمْ يَداً فيها بحورٌ خمسةٌ ... أغْنَتْ مَواقِعُها عن الأنْواءِ فهناك سِرٌّ للنُّبُوةِ مُضْمَرٌ ... حامتْ عليه خواطرُ العُلماءِ شرفَ الهدى يهَنْيك أنك سابقٌ ... فَرْدٌ عن الأشْباهِ والنُّظَراءِ ما زلتَ في دَرَجِ المحامدِ راقياً ... مُتوقِّل الهَضَباتِ في العَلْياءِ بالأمسِ في الأُمَرَا وأنت اليومَ في ال ... علما وأنتَ غداً من الخُلَفاءِ أشكُو إليك أبِي وذاك أخُو التقى ... لكنه غَمٌّ على الأبْناءِ وخَصاصةً بجوانِحي من كَرْبِها ... ما لم تسَعْه جوانحُ الدَّهْناءِ وصروفَ أيامٍ أقَمْنَ قِيامتِي ... بنوَى الخَلِيطِ وفُرقةِ القُرَناءِ وجفاءَ مَوْلىً كنتُ أحسَب أنَّه ... عَوْنِي على السَّراءِ والضَّراءِ ثَبْتُ العزيمةِ في العُقوقِ ووُدُّه ... مُتنقِّلٌ كتنقُّلِ الأفْياءِ يُقْفِي المَسرَّة فَرْحةً ويُسِرُّ في ... ذَيْلِ المَبرَّةِ منه غَوْلَ جَفاءِ

وخُلاصَةُ الأخبارِ عنه أنه ... مُتلَوِّنٌ كتلَوُّنِ الحِرْباءِ أخْدمْتُه نفْسِي النفيسةَ باذلاً ... نُصْحِي له في شِدةٍ ورخاءِ وكتبتُ عنه رسائلاً شهِد الورى ... بمَكانِ شِدَّتها على الأعداءِ ومدحْتُه بقصائدٍ زادتْ بها ... عَلْياه حُسْن صَباحةٍ وبَهاءِ ولو انَّها في الدهرِ سالمَ أهْلَهُ ... مِن حَرْبِه وحَنَا على الفُضَلاءِ وإلى أبي وله السَّلامَةُ يلْتقِي ... سَوْقُ العِتابِ فمنه أصلُ بَلائِي مال الزمانُ عليَّ حتى زادنِي ... بجَفائِه غَمّاً على غَمَّائِي لو كان سائِليَ الصَّغارَ وقاصدِي ... بالخَسْفِ غيرَ أبي رأيت إبائِي لكنَّه وله الكرامةُ مَن أتَى ... نَصُّ النَّبيِّ بحقِّه والآئِي فلأَصْبِرنَّ ولا أقُول له قِلىً ... قَدْكَ اتَّئِبْ أرْبَيْتَ في الغُلواءِ هذا وحاصلُ ما أُكابِدُ أنني ... قد ذُبْتُ غيرَ حُشاشةٍ وذَماءِ ولقد وَهَى جَلَدِي وعِيلَ تصبُّرِي ... ما بين حَرِّ هَوىً وحَرِّ هواءِ هل عَطْفةٌ أو لَفْتةٌ حَسنِيَّةٌ ... تُورِي زِنَادَ مَسَّرتِي ورُوائِي وتُحِلُّني في عَقْوةٍ مَلكيَّةٍ ... منها أحُلُّ مَراتبَ الخُلَصاءِ فأجابه والده بقوله، مع تمثله بقول المتنبي، وغيره من الشعراء: جاءتْ تمِيسُ كغادةٍ حسناءِ ... تخْتالُ بين غَلائلٍ وحُلاءِ منظومةً قد كُلِّلتْ بجواهرٍ ... تُزْرِي بحُسْنِ كواكِب الجَوْزاءِ فَضَّ الغلامُ خِتامَها فتنفَّستْ ... كتنفُّسِ الأزهارِ غِبَّ سَماءِ فكأنها من رِقَّةٍ وطَلاوةٍ ... تِمثالُ نُورٍ في أدِيمِ هَواءِ وكأنها لِعُذوبةٍ في لَفْظِها ... يُضْطَرُّ سامعُها إلى الإصْغاءِ شهدتْ لِمُنْشِئِها بحُسْنِ تصرُّفٍ ... في الوصفِ والتَّشْبيبِ والإِنْشاءِ للهِ دَرُّك يا محمدُ من فتىً ... أرْبَى على النُّجَباءِ والأُدَباءِ فَلأنتَ سَحْبانُ البلاغةِ ناثراً ... ولأنتَ في الشعرا حَبِيبُ الطَّائِي وإليك سِتَّةَ أذْرُعٍ مجموعُها ... جِيمٌ وواوٌ مُعْقَبانِ بِخاءِ وجوابَ والدِك الشَّفيقِ كما ترى ... مُتمثِّلاً برقائقِ الشُّعراءِ أعْزِرْ عليَّ بفُرْقةِ القُرباءِ ... وتَعَتُّبِ الأبْنا على الآباءِ فتفرُّقُ البُعَداءِ بعد مَودَّةٍ ... صعبٌ فكيف تفرُّقُ القُرَباءِ أمَّا أنا فأقولُ حاشَا للعُلَى ... ما حُلْتُ عن أُكْرومَتِي ووَفائِي ومَوَدَّةٍ أخْلصْتُها لك طَاقتِي ... في موضعِ الإِخلاصِ من سَوْدائِي فلقد كوَى كَبِدِي الجوَى وجوانِحي ... واغْتالَ حُسْنَ عَزائمي وعَزائِي وسلبْتني ثوبَ التحمُّلِ والأسَى ... وكسَوْتنِي ثوبَيْ أسىً وعَناءِ كم زَفْرةٍ ضَعُفتْ فصارتْ أنَّةً ... تمَّمْتُها بتنفُّسِ الصُّعَداءِ وجرى الزمانُ على عوائدِ كَيْدِهِ ... من قلبِ آمالِي وعكْسِ رَجائِي قُلْ للبَخِيلةِ إنَّ وجهكِ جَنَّةٌ ... يا مَنْ رأَى الجنَّاتِ للبُخَلاءِ طلع البشيرُ بأطْيبِ الأنْباءِ ... بُشْرايَ إن العامَ عامُ لِقاءِ وَعَدَتْ سعادُ بأن تزورَك فارْتقِبْ ... بُعْدَ السُّعاةِ وغَيْبةَ الرُّقَباءِ إن صحَّ ذاك ومَن بذاك فقد غدتْ ... رُؤْيايَ حَقّاً واستُجِيبَ دُعائِي ماذا عليك إذا اكتسبْتَ مَبَرَّةً ... تُجْزَى بها في الخُلْدِ خيرَ جَزاءِ

ورَحِمْتَ ضَعْفَ جوارحي وقُوائِي ... فحملتَ بعضَ الثُّقْلِ مِن أعْبائِي ووَصلْتنِي ممَّا لديْك ببَدْرةٍ ... مَعْدودةٍ من فِضَّةٍ بَيْضاءِ إن الأبَرَّ من البَنينَ يواصلُ الْ ... إحسانَ مُغتنِماً جَزِيلَ ثناءِ واسمعْ للقول ابن الحُسَين ويا لَه ... مِن شاعرٍ أرْبَى على الحكماءِ لأَبٌ قَطوعٌ جَافِيٌ مُتجهِّمٌ ... أحْنَى إذاً من واصلِ الأبْناءِ وله من قصيدة، مستهلها: لولا اشْتياقي حبيباً قَطُّ ما قَرُبَا ... لم أُلْفَ صَبّاً ضئيلَ الجسمِ مُكتئِبَا ولا شَجَتْني حمامُ الدَّوْح ساجعةً ... وهيَّجتْ لِيَ أرْواحُ الصَّبا طَرَبَا ولا أرِقْتُ لبَرْقٍ لاح مُبتسِماً ... يحْدُو ليَ الجِزْعَ سُحْباً بَات مُنْتحِبَا ولا رضيتُ سؤالَ الظُّعْنِ لِي خلفاً ... دون الشرِيفيْن أعني العلمَ والأدَبَا ولا سنَنْتَ وُقوفَ الصَّحْب في طَلَل ... ما كن يطمع قلبي فيه أن يَجِبَا فاعذُرْ عَذُولِي ولا تُنْكرْ ضَنَى جسَدِي ... وخَلِّ لَوْمي وحَمْلِي في الهوى التَّعَبَا ماذا أغاظك من شَجْوِي ومن قَلَقِي ... ومن نُحولِي ورَعْيي في الدُّجَى الشُهُبَا إن العذاب لَعَذْبٌ في الغرام وما ... غدا لِيَ الصَّابُ إلا في الهوَى ضَرَبَا في ذِمَّةِ اللهِ عينٌ ظَلَّ مَدْمَعُها ... وخاطِرٌ راح في حُبِّ الحِسانِ هَبَا ما بين جَفْنِي وبين النومِ فاصِلةٌ ... لم تُبْقِ للطيْفِ في أجْزَا الكَرَى سَبَبَا تاللهِ ما عَنَّ ذِكْر السفْحِ من إضَمٍ ... إلا ركبتُ من الأشواقِ ما صَعُبَا يا رَبْعَ سَلْمَى سلِمتَ المَحْلَ ما سلِمتْ ... ولا عَداك من الأنْواءِ ما عَذُبَا ما بالُ مَمْنوعِ حُزْنِي فيه مُنْصرِفاً ... وما لمخْفوضِ عَيْشِي فيك مُنْتصِبَا إن لم يُفِدْ ماءُ عيني فيك مُطَّرِداً ... فالقلبُ ما زال إلاَّ عنك مُنْقلِبَا سَقْياً لأوْقاتك اللاتِي قَضيْتُ بها ... من الحبيبِ ومن شَرْخِ الصِّبا الأرَبَا أيامَ لا كاشحٌ تُخْشَى غَوائلُه ... ولا عَذولٌ نُدارِيه إذا عَتَبَا وأهْيفِ القَدِّ عَبْلِ الرِّدْفِ مُقْتَبِلٍ ... ما ماسَ إلاَّ ذكرتُ الْبانَ والكُثُبَا يجُول ماءُ الصِّبا في صَحْنِ وَجْنتِه ... ويسْتحيلُ إذا حدَّثْتَه لَهَبَا حُلْوِ الفُكاهةِ إلاَّ أن مَطْعَمَه ... مُرٌّ إذا ما ثَنَى أعْطافَه غَضَبَا أدْنُو ويُبْعِدُه دَلُّ الشبابِ جَفا ... فكُلّما قلتُ قد جَدَّ الهوى لَعِبَا كم صِحْتُ من طَرْفِه الفَتاك وَاحَرَابي ... لو كان ينْفع قولُ الصَّبِّ وَاحَرَبَا قد صَدَّني عن نَسِيبٍ فيه أنْظِمُه ... مَديِحُ مَن طاب في هذا الورى نَسَبَا الحسين بن علي الوادي هو في الفضل صاحب مزايا بوادي، وأما في الأدب فإن شئت عده من عذبات وادي. يجاذبه نسيم اللطف من هنا وهنا، وإذا ساقط فلا يساقط إلا رطباً جنى. وقد أثبت من شعره ما يحرك العذب، ولم يسمعه صبٌّ إلا وإليه انجذب. فمنه قوله: نسيمَ الصَّبا في سُوحِنَا يتبخْتَرُ ... لك اللهُ ما هذا الأرِيجُ المُعَنْبَرُ أأنت رسولٌ يا نسيمَ الصَّبا وعن ... حُلولِ الحِمَى أم أنت عنهم مُبَشِّرُ فهمتُ الذي أودَعْته غيرَ أنني ... أُحِبُّ حديثاً منهمُ يتكرَّرُ لِما ألِفَتْه النفسُ منهم وعُوِّدتْ ... وإلاّ فعِلْمُ الغَيْبِ لا يُتقدَّرُ فكَرِّرْ على سَمْعِي أحاديثَ ذِكْرِهمْ ... عسى تَنْطفِي نارٌ بقلبي تسَعَّرُ

همُ اسْتَصحبُوك السِرَّ بيني وبينهم ... لأنك أبْدَى بالجميلِ وأبْدَرُ ومِثْلِي هداك اللهُ يا سارِيَ الصَّبَا ... يُسِرُّك والمعروفُ أجْدَى وأجْدَرُ وأبْلجَ أمَّا الخدُّ منه فأحمرٌ ... وأمَّا قَوامُ القَدِّ منه فأسْمَرُ وأمَّا ثَنايا ثَغْرِه حين يُجْتلَى ... فكأسُ جُمانٍ فيه خمرٌ وكَوْثَرُ يُغازِلُ عن عَيْنَيْ مَهاةٍ وشَادِنٍ ... يُلاحِظُنا منها سِهامٌ وأبْتَرُ هي البِيضٌ إلاَّ أنها حَنْدَسِيَّةٌ ... هي النَّبْلُ إلاّ أنها تتكسَّرُ هي السِّحرُ إلاَّ أن فيها خَصائصاً ... بها عالِمُ السِّحر الصِّناعِيّ يُسْحَرُ وفي خدِّه خالٌ يقولون إنه ... بِلالٌ له في جامعِ الحُسْنِ مِنْبَرُ بلَى ذلك الخالُ الصَّرِيحُ إشارةٌ ... عديمةُ مِثْلٍ لا بِلالٌ وعَنْبَرُ شكوتُ له من فَتْرةٍ في جُفونِه ... لِشِدَّةِ ما ألْقَى بها حين تفْتُرُ وما أنا فيه من هوىً وصَبابةٍ ... تبِيتُ بها الأحشاءُ تُطْوَى وتُنْشَرُ فأفْصَح عن لفظٍ توهَّمْتُ أنه ... جُمانٌ من الثّغْرِ الجُمانِيِّ يَبْهَرُ وقال نعم هذا لعَيْنِيَ مَذهبٌ ... وفِتْنةُ نفسِ المرءِ شيءٌ مُقدَّرُ برُوحِيَ أفْدِي جائِرَ اللّفظِ قَدُّه ... تحقّق فينا عَدلُه حين يخْطِرُ ألا إن عَدْلَ القَدِّ أكبرُ شاهدٍ ... عليك بجَوْرِ الحُكمِ واللهُ أكبرُ ورِقّةَ هذا الجسمِ منك بأنّني ... رقيقُ هوىً والشيءُ بالشّيء يُذْكَرُ فللهِ أزمانٌ تواصَل يومُها ... بلَيْلتها والعمرُ كالعَيْشِ أخضرُ وليلٌ عهِدناهُ وإن كان أسوداً ... كشَعرِ الصِّبا يشكُو سَواداً فيُشْكَرُ وأحبابُ قلبٍ لي إلاّ همُ المُنَى ... صَفاءُ ودادِي فيهمُ لا يُكَّدرُ دلائلُ عِشْقِي في هواهم صريحةٌ ... ومعرفتي في حُبِّهم ليس تُنْكَرُ ربِحْتُ هَواهمْ في زمانِ شَبِيبتي ... وشِبْتُ فلن أرْضَى بأنِّيَ أخْسَرُ فلا تُنْكرِوا أن أرْسَلَ الجَفْنُ دَمْعَه ... وقد جاء في رأسي من الشّيْبِ مُنْذِرُ ويعقوبُ أحْزانِي ويوسُف فِتْنتِي ... وصالحُ أعمالِي عَسانِيَ أُوجَرُ خليليَّ عَهْدُ اللهِ إن جُزْتُما الحِمَى ... وعاينْتُما قلبي ببَيْداه يَجْأرُ فدُلاّ عليه جِيرةَ الحَيِّ واذْكُرَا ... لهم من حديث الصَّبِّ ما يتيسَّرُ عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن مسعود الحوالي مشعشع سلافٍ في دنان، وواصف جؤذر وغصنٍ فينان. بألفاظٍ ملؤها تطرية، ومعانٍ كلها عن الحسن تورية. إلى طبعٍ يفيض فيه الغمام، وشعر كما بدت الزهرة من الأكمام. فدونك منه ما هو أشهى من ثغرٍ مبتسم، وأبهى من خطٍ في صفحة خدٍ مرتسم. فمنه قوله: عن سُعادٍ وحاجِرٍ حَدِّثانِي ... ودَعانِي من المَلامِ دَعانِي واذْكُرَا بُرْهةً من الدهرِ مَرَّتْ ... كنتُ أُدْعَى فيها صَرِيعَ الغَوانِي أنا لا أكْتفي بنَأْيِ رِئامٍ ... والرُّبوع الرِّحاب من نَعمْانِ قد سقَتْنِي بكأسِها من مُدامٍ ... هيَّم القلبَ لَوْنُها الأُرْجُوانِي عُتِّقتْ في الدِّنان من عهد كِسْرَى ... فهيْ تُنْمَى إلى أنُوشِرْوانِ بَهرتْ في الصِّفاتِ حَمْراءَ صَفْرا ... ءَ سُرورَ القلوبِ والأبْدانِ يا عَذُولِي ولستُ للعَذْلِ أُصْغِي ... غيرَ قلبي يهُمُّ بالسُّلْوانِ ولَوَ انِّي رُزِقْتُ حَظّاً لما صِرْ ... تُ أُعانِي من الهوى ما أُعانِي

ولآثرْتُ حاجةً في فؤادِي ... صُنْتُها عن فُلانةٍ وفُلانِ وقوله في رباعية: يا جُودَ حَياً على الجِنانِ الغَرْبِي ... قد أنْعَمه بواكِفاتِ السُّحْبِ أحْيَيْتَ الأرضَ في رُباهُ فمتى ... يَحْيَا بالوصلِ من حبيبي قَلْبِي أحمد بن سعد الدين بن الحسين بن محمد المسوري فتى إنابةٍ وعفاف، وله احتفافٌ بالفضائل والتفاف. وكانت دولة القاسم زاهيةً بطلعته، يتكلم في غرضٍ فتتحدر سيول البراعة من تلعته. وله في الأدب مقدار يتوسع فيه الشاكر، ويتفسح فيه الواصف والذاكر. ينظم بأقلامه، منثور الآثار من كلامه. وينسج بعباراته، وشايع مخاطباته ومحاوراته. فمن بدائعه، ما أجاب به الأمير الشريف الحسين بن أحمد الخواجى، صاحب صبيا، وقد كتب إليه كتابا، وأصحبه هدية: وصل الكتاب الذي هو جواب جوابي عليكم، مشتملاً على وجوهٍ من الخطاب، صيرت ما كان سبق مني من الإحسان بإجابة الكتاب الأول ذنباً، وما كنت أحسبه حمداً عند الله وعند خيار عباده سباً؛ إذ لم يقع مني ما صدر من البشير السابق لمن وصل الحضرة الإمامية من إخوانكم الشرفا، ثم جوابي عليكم في كتابكم الذي ابتدأ المولى به إلا رعايةً لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كنتم وأولئك الجماعة من أهل بيته، وممن ينسب إلى ذريته، ثم صيانةً لعرض مولانا أمير المؤمنين، ومحبة في أن يكون من في حضرته الكريمة من المكرمين، كما جاء في الحديث النبوي: " المؤمن إلفٌ مألوفٌ ". وكنت أظنكم رعاكم الله وأولئك الجماعة، ممن له في خوف الله نصيب، وممن قد أقلع عما يوجب البعد من القريب المجيب، وممن دعواه صادقةٌ، وأنه لا يريد إلا الله، ولا يسعى إلا في طاعته وتقواه؛ فخدعتموني في الله فانخدعت، ولو أخذت بالحزم الذي هو سوء الظن لما أبعدت، فحملتم تلك الحالة على ما زهدني والله وغيري من المؤمنين فيكم، ونبهني على الحذر والريب في كل ما يصدر من قولٍ أو فعلٍ عنكم؛ إذا أحللتموني محلاً لست من أهله. وكتبتم إلي بتصدير هديتكم، المردودة إليكم غير مشكورةٍ ولا محمودة، ولم ترها والحمد لله عيني، ولا لمستها والمنة لله علي يدي، أردتم خديعتي عن ديني، والتوصل بها إلى ما تريدون من أغراض الأهواء وإن أهلكني. وأكون كما قيل: بِتُّ كأنِّي ذُبالةٌ نُصِبَتْ ... تُضِيءُ للناسِ وهْي تحترقُ ومعاذ الله أن أكون ممن يبيع دينه بكل الدنيا، فضلاً عن عرضٍ منها هو أقل وأدنى، وأن يحبط أعماله، ويبطلها، بإماطة الأوساخ عن الناس ل " قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين ". وكيف إن بقي شيءٌ من المعقول آمر الناس بالبر وأنسى نفسي، وأتصدر لإمام الحق في إنشاء مواعظ يخطب بها على المنابر لنصيحة الخلق وأخونها، وهي أعز الأنفس عندي. على أني والمنة لله علي من فضل ربي، وفضل إمامي في خيرٍ واسع، ورزقٍ جامع، وأملٍ في كل بلاغ راتع. ثم إنه لا يسلك أحدٌ طريقةً إلا وله فيها سلف يقتدي بهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأولهم أمير المؤمنين علي، كرم الله وجهه، وهو يقول في خطبة له: والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا، أو أجر في الأغلال مصفداً، أحب إلي من أن ألقى الله تعالى ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، أو غاصباً لشيء من الحطام. وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها. والله لقد رأيت أخي عقيلاً وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور، غبر الألوان من فقرهم، كأنما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكدا، وكرر علي القول مرددا، فأصغيت إليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقاً طريقي، فأحميت له حديدةً، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنفٍ من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها. فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدةٍ أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نارٍ أضرمها جبارها لغضبه؟ أتئن من الأذى، ولا أئن من لظى؟ وأعجب من هذا طارقٌ طرقنا بملفوفةٍ في وعائها، ومعجونةٍ شنئها كما عجنت بريق حيةٍ أو قيئها. فقلت: أصلةٌ، أم زكاةٌ وصدقة؟ فذلك محرم علينا. أهل البيت. قال: لا ذا ولا ذاك، ولكنها هدية.

فقلت: هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني! أمختبط، أم ذو جنة، أم تهجر، والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرةٍ ما فعلته، وإن دنياكم هذه لأهون من ورقةٍ في فم جرادةٍ تقضمها، ما لعليٍ ونعيمٍ يفنى، ولذةٍ لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل، وقبح الزلل، وبه نستعين. وأقر أئمتي إمام عصري بعد والده أمير المؤمنين القاسم بن محمد بن علي رضوان الله عليهم، وهما من علم الخاص والعام سلوكهما تلك الطريق، وتمسكهما بذلك الحبل على التحقيق. ورفضهما الدنيا بعد ملك المشرق والمغرب، ورضاهما منها بأدناها مع نفوذ أمرهما في العرب والعجم، والبعد والقرب. والشمسُ إن تخْفَى على ذي مُقْلةٍ ... نصفَ النهار فذاك تحقيقُ العَمَى وأما آبائي الذين أنتسب إليهم، فأدناهم أبي الذي ولدني كان، والله، كما ورد في الحديث النبوي: يغضب لمحارم الله كما يغضب الجمل إذا هيج، لا تأخذه في الله لومة لائم. وكما قال الأول: القائلُ الصدقَ فيه ما يضُرُّ به ... والواحدُ الحالتين السر والعَلَن ثم أخوه عمي الذي أدبني، كان كما قال أمير المؤمنين عليٌّ كرم الله وجهه في صفة المؤمن: بشره في وجهه، وحزنه في قلبه. أوسع شيءٍ صدراً، وأذل شيءٍ نفساً. يكره الرفعة، ويشنأ السمعة. طويلٌ غمه، بعيد همه. كثيرٌ صمته، مشغولٌ وقته. شكور، صبور. مغمورٌ بفكرته، ضنين بخلته. سهل الخليقة، لين العريكة. نفسه أصلب من الصلد، وهو أذل من العبد. ثم أبوهما جدي سلمان أهل البيت، الذي لا نعلم أن إماماً من الأئمة مدح غيره بذلك، فقال الإمام شرف الدين لولده شمس الدين: جاءكم سَلْمانُ بَيْتِي ... فاعرِفَنْ يا شمسُ حَقَّهْ وبرَجْواك فحقِّقْ ... وببِشْرٍ فتَلقَّهْ وأنا، بحمد الله، لم أعرف غير سبيلهم، ولا ربيت إلا في حجورهم. وإني والناس لكما قال عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه: يقولون لي فيك انْقِباضٌ وإنما ... رأَوا رجلاً عن موقفِ الذُّلِّ أحْجَمَا أرَى الناسَ مَن داناهمُ هان عندَهمْ ... ومن أكرَمتْه عِزَّةُ النَّفسِ أُكْرِمَا ولم أقْضِ حَقَّ العلمِ إن كنتُ كلما ... بَدَا طَمَعٌ صَيَّرتُه لِيَ سُلَّمَا وما كُلُّ بَرْقٍ لاح لي يسْتفزُّنِي ... ولا كلُّ مَن في الأرضِ ألقاه مُنْعِمَا إذا قيل هذا مَشْرَبٌ قلتُ قد أرَى ... ولكنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تحتمِلُ الظَّمَا ولم أبْتذِلْ في خدمةِ العلمِ مُهْجَتِي ... لأخدُم مَن لاقيْتُ إلاَّ لأُخْدَمَا أأشْقَى به غَرْساً وأجْنِيه ذِلَّةً ... إذاً فاتِّباعُ الجهلِ قد كان أسْلَمَا ولو أنَّ أهلَ العلمِ صَانُوه صانَهُمْ ... ولو عظَّموه في النفوسِ لَعُظِّمَا ولكنْ أهانُوه فهَان ودَنَّسُوا ... مُحَيَّاه بالأطْماعِ حتى تجهَّمَا اللهم إني لا أقول ذلك افتخاراً على غيري، ولا تزكيةً لنفسي، ولكن لما شرعته من تجنب مواقف التهم. وأنا مع ذلك معترف بأني أحقر من أن أذكر، وأهون من قلامة الظفر، ولكن مظلومٌ رفعت ظلامتي إليك. وكما قال زين العابدين، عليه السلام: يا من لا تخفى عليه أنباء المتظلمة، ويا من لا يحتاج في قصصهم إلى شهادة الشاهدين، ويا من قربت نصرته من المظلومين ويا من بعد عونه عن الظالمين، قد علمت يا إلهي ما نالني من فلان. إلى آخر ما ذكره في الدعاء. وحسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرشي العظيم. هذا، ولولا تحريج أمير المؤمنين، بعد الشكوى عليه، في إعادة الجواب لما توجه مني بعد ذلك خطاب. وهذا بيني وبينكم آخر الكتاب. علي بن محمد بن أبي بكر الحكمي من بني مطير الذرية المختارة، والكواكب الدرية السيارة. مسكنهم بلد عبس من أعمال كوكبان، ولهم بها الشهرة التي حظها الأوفر قرى الركبان. وعلى هذا علمهم الذي تشير إليه الأصابع، وتبتهج به على الأفلاك العلوية المرابع. له مقدارٌ خطير، وأدب كأنه روضٌ مطير.

وقد وقفت له على نبوية، فقلت هذه علية علوية. وها هي كالخود تلوح، ومن أردانها مسك دارين يفوح: مُتَيَّمٌ إن سرتْ رِيحُ الشَّآمِ صَبَا ... ومُسْتَهامٌ إذا مَرَّتْ عليه صَبَا وذُو شُجُونٍ وما غنَّتْ مُطوَّقَةٌ ... تبْكِي على الإلْفِ إلا دمعُه سَكَبَا يبكِي ويندُب لو فَيَّاضُ أدْمُعِه ... من جُودِه جاد يوماً طَوْقَها سُلِبَا وإن تذكَّر أيَّاماً له سلَفتْ ... مع الأحِبَّةِ في أوطانِهم جُذِبَا روَى الرَّبيعُ مَغانِيهم ومَرْبَعَهم ... وعمَّم الغَيْثُ منها السَّهْلَ والجَدَبَا وأزْهَرَ الروضُ منها والحَمامُ غَدَتْ ... مُغَرِّداتٍ عليه تمْتَطي العَذَبَا وكلَّما رامَ يبْغِي نَحْوَهم طُرُقاً ... يعْمَى السبيلُ عليه أيْنَما ذَهَبَا سُبْحان من نفَذتْ فينا مَشِيئَتُه ... فما يُسَهِّلْ له يَسْهُلْ وما صَعُبَا ما زلتُ أقْرعُ أبوابَ الرَّجا ورَجَا ... نفسِي تفوزُ بجُودٍ شامِلٍ وحِبَا وعمَّنِي اللهُ بالإحسانِ مَرْحمةً ... فضْلاً من اللهِ لا فَرْضاً ولا سَبَبَا وإن تغلَّقتِ الأبوابُ عن أمَلِي ... قصَدتُ جاهَ الذي فاقَ الورَى رُتَبَا فهْو الذي ملأَ الأكْوانَ أجْمَعَها ... نُوراً وفتَّح فينا الشَّخْصَ والحِقَبَا يا مَن عَلاَ فوق مَتْنٍ للبُراقِ ويا ... خيرَ الخلائقِ قاصِيهمْ ومَن قَرُبَا منها: وكم مَعاجِزَ لا تُحْصَى بُعِثْتَ بها ... عنها نُجُومُ المَعالِي ضُمِّنَتْ كُتُبَا يا سيِّدَ الخلقِ يا مِفْتاحَ يومِ غَدٍ ... تُولِي الشَّفاعةَ يومَ الحشْرِ إذ صَعُبَا أنت الذي يوم بَعْثِ الخَلْقِ شافِعُنا ... سَبْقاً إذْ أُلْزِمُوا رَهَبَا عبد القادر بن محمد بن الحسين الذماري الهراني فردٌ في سرعة البادرة، وحيد في جودة النادرة. يطرب بكلماته، ولا طرب الموسيقى بنغماته. ويسحر بألفاظه، ولا سحر الرشأ الأغن بألحاظه. وقد ذكرت له ما هو أرق من ماء البارق، وألطف من طيف الحبيب الطارق. فمنه ما كتبه لبعض الأئمة، وهو قوله: يا حبَّذا الليلةُ مرَّتْ لَنا ... في هَجْرَةِ الشُّمِّ بني عُقْبَهْ رَعْياً لها من بلدةٍ ما لها ... مِثلٌ لها في هذه الغُرْبَهْ وحَبَّذَا الأدِيمُ من بلدةٍ ... صحيحةِ الأهْواءِ والتُّرْبَهْ وَاهاً لها واهاً لها إنَّها ... من جَنَّةِ الخُلْد لها نِسْبَهْ قُصورُها حُفَّتْ بجَنَّاتِها ... تجْرِي بها أنهارُها العَذْبَهْ وجَوُّها مُنْخَرِقٌ واسعٌ ... للقلبِ في السُّكْنَى بها رَغْبَهْ طابتْ بها أنفُسُنا فانْجَلتْ ... عنها غَمامُ الغَمِّ والكُرْبَهْ خَيَّم فيها عُصْبَةٌ دَأْبُهم ... أن يُكْرِموا الأضْياف في الغُرْبَهْ سَقى فرَوَّى صَيِّبٌ هاطِلٌ ... مِن الْحَيا أفْياءَها الرَّحْبَهْ فيا أميرَ المؤمنين الذي ... له سَمَتْ فوق السُّها الرُّتْبَهْ إِيذَنْ لنا باللُّبْثِ يوميْن في ... أوطانِهم أيَّتُها العُصْبَهْ وابْسُطْ لنا العُذْرَ وإن لم يكنْ ... فِراقُكم من مُقتضَى الصُّحْبَهْ لا زال مَلْكُ العصرِ في نعمةٍ ... ولا رأَى في دَهْرِه نَكْبَهْ سلامٌ ساطعٌ نوره، متضاحك نوره. أعذب من بارد سلسل الأنهار، وأطيب من رشف سلاف أفواه الأبكار. وأعبق من شميم الزهور الندية، وألذ من تقبيل خدود الخرائد الوردية. ورحمة الله المنفجرة عيونها، المثمرة شئونها. وبركاته الواسعة الأفياء، الكافلة ببلوغ المنى على مولانا أمير المؤمنين، الهادي إلى الحق المبين. أما بعد؛ فإنا لما سرنا من المخيم المنصور، والمقام المحجوج المزور.

وصلنا إلى هجرةٍ لا يحيط بوصفها المقال، ولا يبلغ إلى كنهها تصور الخيال. جمعت غرائب العجائب وعجائب الغرائب، وأبعدت عن المساوىء والشوائب، وحميت عن سطوات المحن والنوائب. رياضها مفترة، وغياضها مخضرة. وأنهارها متدفقة، وأحوالها منتظمةٌ متسقة. طيبة المثوى والمستقر، أنيقة المرأى والمنظر. فهي تنشد بلسان حالها مطربة، متبجحة ببديع مقالها معجبة: أنا خيرُ الأرضِ مالِي ... شِعْبُ بَوَّانٍ يُدَانِي لا ولا الغُوطَةُ مثلِي ... أنا من بعضِ الجِنَانِ فعُيوني جارياتٌ ... كلَّ حِينٍ وأوانِ وقُطوفِي دانِياتٌ ... يجْتنيها كلَّ جَانِ جانِبي أضحى مَنِيعاً ... فحُلولِي في أمانِ كلُّ مَن حَلَّ برَبْعِي ... فلقد نال الأمانِي نعم، وحين كانت هذه نعوتها أتحفنا المقام النبوي الإمامي بشرح شيءٍ من تلك الصفات، وذكر طرفٍ من هاتيك السمات. لما نعرفه من تطلعه أبقاه الله تعالى إلى مثل ذلك، وإن لم نستطع استقصاء ما هنالك. والمأمول من طوله أيده الله تعالى القبول والاحتمال، وستر ما يقف عليه من الاختلال. تفضلاً، وتكرماً وتطولا. وكتب إليه أيضاً، من شعره، قوله: يا أيُّها المولَى الذي شَأْوُه ... في المجدِ أسْمَى من مَدارِ الفَلَكْ أنت الذي مَن يمتثِلْ أمره ... يُهْدَى ومَن لم يمتثلْهُ هَلَكْ فأغِثْنِي إنِّي مُقِلُّ فقد ... أعْطاك مَن للأمر ذا أهْلَكْ وأوْفنِي منك الذي أرْتجِي ... فإنّ ما جَمّلنِي جَمْلَكْ واقْضِ دُيونِي يا مَلاذِي وقُلْ ... أبْشِرْ سنقضِي عنك ما أثْقَلكْ ولا تَدَعْنِي مُعْدِماً مُقْتِراً ... وقُلْ سنُعْلِي في الورَى مَنْزِلَكْ وإن يكُنْ ذاك ولي لائقٌ ... أولا فإنّ الأمْرَ والرَّأْيَ لَكْ السيد محمد بن عبد القادر المقاطعجي أحد من نطق فسحر، ورقت شمائله فكانت صباً تنفست في سحر. تجتلي به العيش في رغده، وتنتشي وأنت في يومه إذا وعدك بزورةٍ في غده. وله أدبٌ أنضر من الروض في شباب الزمان، وشعرٌ ألذ من مغالطة الساقي عند الندمان. فمنه قوله: أحْوَى حَوى الرِّقَّ منِّي ثَغْرُه الشّنِبُ ... ومَبْسَمٌ لاح في جِرْيالهِ الْحَبَبُ حُلْوُ التَثنِّي إذا رِيحُ الصَّبا عطَفتْ ... مَعاطِفَ القَدِّ منه تخجَلُ القُضُبُ مُهَفْهَفُ القَدِّ مَيَّاسُ القَوامِ إذا ... ما اهْتزّ كالغُصْنِ لِيناً هَزَّني الطَّرَبُ دَمِي مُباحٌ لِسَيْفٍ من لَواحِظِه ... إن كان غيرُ هَواهُ للحَشَا أرَبُ منها: لا تعذِلُوني إذا ما هِمْتُ من شَغَفٍ ... بِمَن سَبانِيَ منكُم أيُّها العَرَبُ قد بان عُذْرُ غرامِي في محبّتِه ... عَذْل العَذُولِ وشأْني في الهوى عَجَبُ حيدر بن محمد الرومي من شعراء العصر المتنوعين في الملاحة والملح، فإذا تأملت رأيت العالم على لطف خلقه وخلقه اصطلح. له طبعٌ كما حدثت عن العيش الأخضر، وودٍ كما تذكرت النعيم الأبيض الأخضر. إلى خطٍ كخطوط الغوالي في خدود الغواني، واشهى من تذكر الليالي الخوالي في الأيام الدواني. وشعرٍ كما زان الصّحابة حَيْدر ... إذا كان شِعْر الشَّاعِرِين مُعاويهْ فمنه قوله في الزنبق: وزَنْبَقٍ مُجْلَسٍ بين النُّدامِى ... كشيخٍ حاز لُطْفاً في وَقارِ يُرِيك إذا تلاَ إنَّا فَتحْنَا ... عَمودَ الفَجْرِ في ضَوءِ النَّهارِ وقوله: أمُعَلِّمَ الأزْهارِ إن خُدودَ مَن ... عَلَّمته مُغْنٍ عن الأزْهارِ هَلاَّ جعلتَ القلْبَ منزلةً له ... فالقلبُ خيرُ منازلِ الأحْرارِ وقوله، في غلام بديعٍ يدعى بتاج: ريمٌ من اللَّحظِ ومِن قَدِّه ... يُسْبِي بسَحَّارٍ ومَيَّاسِ لو زارني كنتُ مليكَ الورَى ... وقلتُ يا تاجُ على رَاسِي وقوله، وعجز كل بيت معكوس كلمات صدره:

زارني مَحْبوبُ قلبِي سَحَراً ... سَحَراً محبوبُ قلبِي زَارَنِي ينْثنِي كالغُصْنِ لِيناً قَدُّه ... قَدُّه كالغُصْنِ لِيناً ينْثَنِي سَرَّني لمَّا تبدَّى باسِماً ... باسِماً لمَّا تبدَّى سَرَّنِي خَصَّني من دون غيرِي باللِّقَا ... باللِّقَا من دون غيرِي خَصَّنِي أعْيُني قَرَّت بِخِلِّي مُذ أتَى ... مُذ أتى قَرَّتْ بِخِلِّي أعْيُنِي اجْتنِي يا طَرْفُ وَرْدي خَدِّه ... خَدُّه يا طَرْفُ وَرْدِي اجْتنِي اسْكُنِي يا نفسُ قد زال العَنَا ... الْعَنا قد زال يا نفْسُ اسْكُنِي عبد الصمد بن عبد الله باكثير شاعر اليمن، ونادرة الزمن. ينتهي في النسب إلى كندة، وهذا النسب كما عرفت تقف الفصاحة عنده. وكان كاتب الإنشاء لملك الشحر، السلطان عمر بن بدر، ونديمه الذي سما به قدره على كل قدر. وهو أديبٌ فسيح الخطى، وشاعرٌ مأمون العثار والخطا. وديوان شعره مشهور ومتداول، وبأكف الاعتناء والقبول متناول. فمن مختاره قوله من قصيدة، مستهلها: رَعْياً لأيامٍ تقضَّتْ بالحِمَى ... فُزْنا بها ووُشاتُنا غُفَلاءُ جاد الزمانُ بها وأسْعفَنا بمَنْ ... نَهْوَى ولم تشعُر بنا الرُّقَباءُ ومُنادِمِي بَدْرٌ على غصنٍ على ... حِقْفٍ له قلبِي العَمِيدُ خِباءُ عَذبُ المُقبَّلِ عاطرُ الأنْفاسِ دِرْ ... ياقُ النفوسِ شِفاهُهُ اللّعساءُ مُتبسِّمٌ عن أشْنَبٍ شَنَبٍ له ... مهما تبسَّم في الدجى لأْلاَءُ ما مِسْكُ دَارِين بأطْيَب نَكْهةً ... منه وقد ضاعتْ له رَيَّاءُ عبَر النسيمُ يجرُّ فضلَ رِدائِه ... فحبْته من كافورِها الأنْداءُ فتعطَّرتْ من طِيبِ فائحِ نَشْرِها ... أرْواحُنا وسَرَتْ لها السَّرَّاءُ فسقَى الإلهُ مَراتعَ الغِزْلانِ مِن ... وادِي النَّقَا وهَمَتْ بها الأنْواءُ وتهلَّلتْ برياضِها سُحْبُ الْحَيَا ... وسَرَتْ عليها دِيمةٌ وَطْفاءُ حتى يراها الطَّرْفُ أبْهَجَ روضةٍ ... فيروقُه الإصْباحُ والإمْساءُ والطيرُ عاكفةٌ بكلِّ حديقةٍ ... فكأنها بلُحونِها قُرَّاءُ والروضُ مُبتهِجُ الْحَيَا فكأنما ... روَّاه من عمر النَّدَى إيماءُ وقوله من أخرى، أولها: بنَشْرِ وادِي الغَضَا نَشْرُ النسيمِ سَرَى ... فأفْهَمَ الصَّبَّ عن أهلِ الحمَى خَبَرَا أهْدَى التحيَّةَ من أهلِ الخيامِ إلى ... حليفِ وَجْدٍ يُقاسِي الوجدَ والسَّهَرَا لكنَّه جَدَّ في وجدِي وأذْكَرَنِي ... تلك الرُّبوعَ وبانَ الحَيِّ والسَّمُرَا منها: ولِي من العُرْبِ ظَبْيٌ ما رأَى بَصَرِي ... شِبْهاً له في الورى بَدْواً ولا حَضَرَا كالبدرِ وَجْهاً ونَظْمِ الدُّرِّ مُبتسَماًوالظَّبْيِ جِيداً وغُصْنِ الْبانِ إن خَطَرَا كم ليلةٍ زارني فيها على وَجَلٍ ... مستوفِزاً خائفاً مستعجِلاً حَذِرَا يمْشِي الهُوَيْنَى حذارَ الكاشِحين وقد ... أرْخَى السُّتُورَ ظلامُ الليلِ واعْتَكَرَا قبَّلْتُ مَبْسَمَه عَشْراً على عَجَلٍ ... فقام منِّي إلى التَّوْدِيعِ مُبْتدِرَا فكدتُ أشْرَبُه لَثْماً وأهْصِرُه ... ضَمّاً وأثْنِي عِناقاً قَدَّه النَّضِرَا وقوله من أخرى، أولها: هَذِي المَرابعُ والكَثِيبُ الأوْعَسُ ... وظِبَا الخِيامِ الآنِساتُ الكُنَّسُ قِفْ بي عليها ساعةً فلعلَّ أنْ ... يبْدُو لِيَ الخِشْفُ الأغَنُّ الألْعَسُ فلَطَالَما عِفْتُ الكرَى عن ناظرِي ... شوقاً إليه ومَدْمَعِي يتبَجَّسُ ينْهَلُّ سَحّاً مِثلَ مُنْهمِر الْحَيَا ... فوق المَحاجرِ مُطْلَقاً لا يُحْبَسُ

وأغَنَّ ناعِسُ طَرْفِه سلَب الكرى ... عَنّي فطَرْفِي ساهرٌ لا ينْعَسُ أشْتاقُه ما لاح صُبْحٌ مُسْفِرٌ ... في أُفْقِه أو جَنَّ ليلٌ حِنْدِسُ يا عاذلِي دَعْنِي وشَأْنِي إنَّ لي ... قلباً بغيرِ الحُبِّ لا يَسْتأنِسُ لك قُدرةٌ أن لا تلومَ وليس لي ... صَبْرٌ به دون الورَى أتَلبَّسُ كيف السُّلُوُّ عن الأحِبَّةِ بعدما ... دارتْ عَلَيَّ من الصَّبابةِ أكْؤُسُ نقل الصَّبا نَشْرَ الحبيبِ وحبَّذا ... نَشْرٌ به رِيحُ الصَّبا يتنفَّسُ آهاً ولا يجْزِي التَّأوُّهُ والأسَى ... فالصبرُ أجْملُ والتجمُّلُ أكْيَسُ وقوله: عاذِلِي في الغرامِ مَهْلاً فقلبِي ... حَمَّلْته الأحبابُ ما لا يُطِيقُ كيف يُصْغِي إلى اللوائم صَبٌّ ... في حَشاهُ من الفِراقِ حَرِيقُ سلَبْته اللَّواحِظُ البابِلِيَّا ... تُ وأوْدَى به القَوامُ الرَّشِيقُ وسَباه أغَنُّ أحْوَى رَداحٌ ... يُسْنِد العِشْقَ حُسْنُه المَعْشوقُ قد كَفاهُ عن المُهَنَّدِ لَحْظٌ ... وعن الرُّمْحِ قَدُّه المَمْشوقُ رَوْضُ خَدَّيْه جَنَّةٌ لاح فيها ... جُلَّنارٌ وسَوْسَنٌ وشَقِيقُ وله مَبْسَمٌ يُضِيءُ سَناهُ ... عن شَتِيتٍ حَكاه دُرٌّ نَسِيقُ ظَلْمُه في لَماه شُهْدٌ مُذابٌ ... في سُلافٍ رَيَّاهُ مِسْكٌ فَتِيقُ خَصْرُه يشْتكِي من الرِّدْفِ فاعْجَبْ ... كيف يَقْوَى عليه وهْو رَقِيقُ وقوله من قصيدة، مطلعها: جَاد وَبْلُ الغَمامِ شِيحاً وضَالاَ ... ورِياضاً بالسَّفْحِ مَدَّتْ ظِلالاَ لا جَفاها الْحَيَا فلِي ثَمَّ رَبْعٌ ... لم أزَلْ مُكْثِراً عليه السُّؤالاَ تسْحبُ الغِيدُ في رُباه ذُيولاً ... تتَهادَى من النَّعِيمِ اخْتِيالا ورَشِيقِ القَوامِ ما ماسَ إلاَّ ... أخْجَلَ الغُصْنَ قَامةً واعْتِدالاَ ما تثَنَّى إلاَّ ثَنَى كلَّ قلبٍ ... نَحْوَه تابِعاً إذا مالَ مَالاَ صاد قلبي لمَّا تصدَّى لِقَتْلِي ... بِلِحاظٍ يَريشُ منها النِّبالاَ لَوْعَتِي في هَواه أذْكَتْ غَراماً ... وأعادتْ آناءَ لَيْلِي طِوالاَ كلَّما لاح بارِقٌ من زَرُودٍ ... فاض وَادِي العَقِيقِ دَمْعِي وسالاَ وقوله: أشْتاقُ من ساكِني ذاك الحِمَى خِيَماً ... لأجْلِها زاد شَوْقي في الحَشَا ونَمَا ولاعِجُ الشوقِ والتَّبْريحِ من كَمَدٍ ... أجْرَى من العينِ دَمْعاً يُخْجِل الدِّيمَا ما جَنَّ لَيْلِيَ إلاَّ بِتُّ من كَلَفٍ ... أرْعَى النجومَ بطَرْفٍ يسْتَهِلُّ دَمَا لولا هوَى شادِنٍ في القلبِ مَرْتَعُهُ ... ما اشتقْتُ وادِي النَّقَا والْبَانَ والعَلَما نفسي الفداءُ لظَبْيٍ وجهُه قمرٌ ... وبُرْجُه في سَما قلبِي العَمِيدِ سَمَا يُصْمِي فؤادِي بنَبْلٍ من لَواحِظِه ... عن قَوْسِ حاجبِه مَهْما رَنَا ورَمَى في ثَغْرِه الدُّرُّ منظوماً فيا لَكَ مِن ... ثَغْرٍ شَنِيبٍ يُرِيك الدُّرَّ مُنْتظِمَا جَلَّ الذي صاغَه بَدْراً على غُصُنٍ ... على كَثِيبٍ فأبْداه لنا صَنَمَا لم يَكْسُه الحُسْنُ ثَوْباً مِن مَطارِفِه ... إلاَّ كَسَا جَسَدِي مِن عِشْقِه سَقَمَا وقوله من أخرى، أولها: جاد الغَمامُ مَراتِعَ الغِزْلانِ ... ومَرابِعَ الرَّشَأِ الأغَنِّ الْغَانِي وجرى عليها كلُّ أسْحَمَ هاطلٍ ... غَدِقٍ يسيحُ بوابِلٍ هَتَّانِ

يُحْيِي رُبوعاً طال ما لعبتْ بها الْ ... غِيدُ الحِسانُ نَواعِسُ الأجْفانِ من كلِّ فاتنةِ اللِّحاظِ إذا رَنَتْ ... سلَبتْ بِسحْرِ اللَّحْظِ كلَّ جَنانِ فكأنّما الأقمارُ تطلعُ في دُجَى ... ليلٍ من المُسْترْسِل الفَيْنَانِ وكأنما تلك القُدودُ إذا انْثَنتْ ... قُضُبٌ تمايَلُ في رُبَى الكُثْبانِ وبمُهْجتِي خِشْفٌ أغَنُّ مُهَفْهَفٌ ... أصْمَى فُؤادِي إذْ رنَا فرَمانِي ظَبْيٌ مِن الأعْرابِ في وَجَناتِهِ ... قُوتُ القلوبِ وسَلْوةُ الأحْزانِ باللهِ ما طالعْتُ طَلْعةَ وجهِه ... إلاَّ ورُحْتُ براحةِ النَّشْوانِ ماءُ الشَّبِيبةِ فوق وَرْدِ خُدُودِهِ ... يجْرِي على مُتلَهِّب النِّيرانِ ذابتْ عليه حُشاشتي وَجْداً به ... وصَبابةً وجَفَا الكَرَى أجْفانِي لم أنْسَ أيامَ التَّواصُلِ واللِّقا ... والشَّمْلُ مُجْتمِعٌ بوادِي الْبَانِ ومُنادمِي مَن قد هويْتُ وبَيْنَنا الصِّ ... رْفُ الكُمَيْتُ تُدار في الأدْنانِ شمسٌ مَطالِعُها سُعودُ كُؤوسِها ... بين النَّدامَى في بُروجِ تَهانِي في روضةٍ مَفْروشةٍ أرْجاؤُها ... بالوردِ والمَنْثورِ والرَّيْحانِ يتراقَصُ النُّدَماءُ من طَرَبٍ بها ... بتراجُعِ النَّغَماتِ والعِيدانِ لم لا يُواصِلُني السُّرورُ ونحْن في الْ ... فردوسِ بين الحُورِ والوِلْدانِ وقوله، وعجز كل بيت معكوس كلمات صدره تَيَّمَنِي مَن هويْتُ وَاكَمَدِي ... وَاكَمَدِي مَن هَويْتُ تَيَّمَنِي حَيَّرنِي من سَناه حين بَدا ... حين بَدا من سَناه حَيَّرنِي ترشُقني بالنِّبالِ مُقْلَتُه ... مُقْلَتُه بالنِّبَالِ تَرْشُقنِي عَذَّبنِي بالصُّدودِ وَاتَلَفِي ... وَاتَلَفِي بالصُّدودِ عَذَّبنِي صَيَّرنِي في هَواه ذا قَلَقٍ ... ذَا قَلَقٍ في هَواه صَيَّرَنِي يُمْطِلُنِي باللِّقا ويُوعِدُنِي ... يُوعِدُنِي باللِّقا ويُمْطِلُنِي الحسن بن علي بن جابر الهبل شهمٌ ندب، روض أدبه ما طرقه جدب. افتن في الآداب، وسن فيها سنة ابن داب. وله شعرٌ كاسمه حسن، وفضلٌ يقصر عن وصفه كل ذي لسن. قال الصفي بن أبي الرجال، في حقه: لا عيب فيه سوى بعد بلاده، وقرب ميلاده. فالمَنْدَلُ الرَّطْبُ في أوطانِه حَطَبُ أما صغر الميلاد، فلله در أبي الطيب، حيث يقول: ليس الحَداثةُ من حِلْمٍ بمانعةٍ ... قد يُوجَد الحِلْم في الشُّبَّانِ والشِّيبِ وأما بعد الميلاد، فأمرٌ لا يعتبره الحذاق، وإن قالوا: القرب المفرط مانعٌ لإدراك الأحداق. وقال بعض الناس: عَذِيرِيَ مِن عُصْبةٍ بالعراقِ ... وقلبُهمُ بالجَفَا قُلَّبُ يرَوْنَ العجيبَ كلامَ الغريبِ ... وأمَّا القريبُ فلا يُطْرِبُ وعُذْرُهمُ عند تَوْبيخِهمْ ... مُغنيِّةُ الحيِّ لا تُطْرِبُ لكن العاقل الفاضل لا يجنح إلى التقليد، حتى في تفضيل الحصباء على لآلي الجيد. وإن الإنصاف، من أجمل الأوصاف. انتهى. وقد وقفت له على أشعارٍ شعشعها وروقها، واستدعى بها القلوب للصبابة وشوقها. فأثبت منها ما اتسق اتساق النزعات الوجدية، وانتسق انتساق النسمات النجدية. فمن ذلك قوله، من قصيدة أولها: لو كان يعلم أنَّها الأحْداقُ ... يومَ النَّوَى ما خاطرَ المُشْتاقُ جهِل الهوَى حتى غدَا في أسْرِه ... والحبُّ ما لأسِيرِه إطْلاقُ ما لي أُكَنِّي بالنَّقَا عن غيرِه ... وأقولُ شامٌ والمُرادُ عِراقُ يعجبني في هذا المعرض قول الحاجري: خُمارُ هواك قد أتَى بالقَدَحْ ... والوقتُ صَفَا فقُم بنا نَصْطَبِحْ

كم تكتُم سِرَّ حَالِك المُفْتضَحْ ... قُلْ علوة واكْشِفِ الغِطَا واسْتَرِحْ منها: إن قلتُ قد أشْرقْتَنِي بمَدامِعِي ... قال الأهِلةُ شَأْنُها الإِشْراقُ وقوله: حتَّى مَ عن جهلٍ تلومْ ... مَهْلاً فإنَّ الجهلَ لُومْ طَرْفِي الذي يشكُو السُّها ... دَ وقلبيَ المُضْنَى الكَلِيمْ إن الشَّقا في الْحُبِّ عِنْ ... د العاشقين هو النَّعِيمْ ما الحبُّ إلاّ عَبْرةٌ ... عَبْراءُ أو جسمٌ سَقِيمْ يا مَن أُكَتِّمُ حُبَّه ... واللهُ بي وبه عَلِيمْ وبَلابِلٌ بَيْن الْجَوا ... نحِ لا تنَامُ ولا تُنِيمْ ما لِي وما لِلوَائِمِي ... أعليكَ ذو عقلٍ يلُومْ يا هل تُراهُ يَعودُ لي ... بِكَ ذلك الزمنُ القَدِيمْ وهَنِيُّ عيشٍ باللِّوَى ... لَو أنَّ عيشَ هَناً يَدُومْ وبِرَامَةٍ إذ نِلْتُ مِن ... وَصْلِ الأحبَّةِ ما أرُومْ يا حَبَّذا تلك الرُّبو ... عُ وحَبَّذا تلك الرُّسومْ يا تاركينَ مبُهْجَتِي ... شَرَراً يذوبُ بها الجَحِيمْ طال المِطالُ ولم تهُبَّ ... لِصِدْقِ وعدِكمُ نَسِيمْ مَطْلُ الغَرِيمِ غَرِيمَهُ ... حاشَاكمُ خُلْقٌ ذَمِيمْ وقوله: يا مَن أطالَ التَّجَنِّي ... منك الصُّدودُ ومِنِّي مولايَ إن طال هذا ... عليَّ فاعلمْ بأنِّي أفْديك قُلْ ليَ ماذَا الّ ... ذي بدَا لك مِني تركْتَني مُستهاماً ... حَيْرانَ أقْرَعُ سِنِّي أشكُو إليك الذي بي ... وأنتَ تُعْرِضُ عنِّي ولم تَرِقَّ لِحالِي ... ولا رثَيْتَ لحُزْنِي وقوله: أصِخْ لِشَكِيّتِي وارْفُقْ ... بجسمٍ فيك قد نَحَلاَ وقُل لي مَن أحَلَّ دَمِي ... ومَن ذا حَرَّمَ القُبَلاَ وإن تُنْكِرْ ضَنَى جَسدِي ... ولم تعطِفْ عليَّ ولاَ فكُفَّ النَّبْلَ من عيْنيْ ... ك يكْفي بعضُ ما فَعَلاَ ولا تُطْلِعْ لنا خَدَّا ... كَ وَرْدَ رِياضِها الخَضِلاَ وقوله: ما زلتُ من دَرَنِ الدَّنايا صائناً ... عِرْضاً غدا كالجوهرِ الشَّفّافِ فإذا جَرَى مَرَحاً بمَيْدان الصِّبا ... مُهْرُ الهوَى أَلْجَمْتُه بعَفافِ وإذا همُ وصَفُوا مَحاسِنَ شادِنٍ ... مُسْتكمِلٍ لِمَحاسنِ الأوْصافِ أبْدَيْتُ فيه من النَّسِيبِ غرائباً ... ووصفْتُ فيه ما عدا الأرْدافِ وقوله: تغزَّلْتُ حتى قِيلَ إنِّي أخو هَوىً ... وشَبَّبْتُ حتى قيل فاقدُ أوْطانِ وما بيَ من عِشْقٍ وشوقٍ وإنما ... أتَيْتُ من الشِّعْرِ البديعِ بأفْنانِ وله في تعليل كسوف البدر، وفيه لزوم ما لا يلزم: لا بِدْعَ أن يُكْسَفَ بدرُ السَّمَا ... ذاك لِمَعْنىً قد تحقَّقْتُهُ لمَّا بدَا لي وجهُه مُشْبِهاً ... وَجْهَ حبيبي حين فارَقْتُهُ ذكرتُ مَحْبوبي فمِن أجْلِهِ ... صَعَّدْتُ أنْفاسِي فأحْرَقْتُهُ وله أيضاً: قالَ من قال أُكْسِفَ البدرُ قُلْنا ... لا تظنُّوا كُسُوفَه عن شِئانِ قد أخَذْنا سَناهُ عند التَّلاقِي ... وأعَرْناهُ حُلةَ الهِجْرانِ ومن بدائعه قوله: إذا شئْتَ أن نَتَسَلّى هواكَ ... ونَصْبِرَ لاَ كان مَن يصْبِرُ فقل لِقَوامِك لا ينْثنِي ... وقُلْ لِلِحاظِك لا تسْحِرُ وغَطِّ العِذارَ فمهْما بدا ... فإنّا على خَلْعه نُعْذَرُ وقوله: قد كتب اللهُ على خَدِّه ... بالمِسْكِ سَطْراً دَقَّ مَعْناهُ

فقلتُ للعُشَّاقِ لمَّا بَدَا ... صَبْرٌ على ما كتَبَ اللهُ وله في مليح يقرأ: وساتِرٍ خَدَّه بمُصْحَفِهِ ... قلتُ له والفؤادُ في قَلَقِ خِفْتَ على الوردِ من لَواحِظِنا ... يا غُصْنُ حتى اسْتترْتَ بالْوَرَقِ وله: لِفعْلِ الخيرِ تشْتُمُنِي ... وتَرْكِي بَثَّ أسْرارِكْ فقلْ ما شِئْتَ في ذَمِّي ... فإنِّي الفاعلُ التَّارِكْ وله في مليح خراز: وبرُوحِي أفْدِيه خَارِزُ جُلِّهِ ... يُخْجِلُ البدرَ في الليالِي السُّودِ يتراءَى للعاشقِين بسِكِّي ... نٍ تشُقُّ القلوبَ قبلَ الجلودِ وله، في جندي باع سلاحه بعد مرض: قام صلاحُ الدِّين مِن مَرَضِه ... واستقْبَل الدهرَ بعُمْرٍ جديدْ لا تعجَبوا أن باعَ أسْيافَه ... كلَّفَه التَّنْقِيةُ أكلَ الحديدْ وقوله: إياكَ لا تَضَعِ المَدي ... حَ ولا تُرَى مُتغزِّلاَ أتقول قافيةً وقد ... خَلتِ الدِّيار فلاَ وَلاَ يريد قول الغزي: خَلَتِ الديارُ فلا كريمٌ يُرْتجى ... منه النَّوالُ ولا مليحٌ يُعْشَقُ وله: صَدَّ وَصْلَ الحبيبِ عنِّي عَذُولِي ... راح يسْعَى إليه بالتَّفْنِيدِ ورقيبٍ كأنما هو شهر الصَّ ... ومِ عندي فِراقُه يومُ عِيدِ وله في مليح يعرف بالقاسمي: وَافَى فقلتُ وقد رأيتُ له سَناً ... قمراً على غصنٍ رَطِيبٍ ناعمِ يا قاسِمِي بحُسامِ فاتِرِ طَرْفِهِ ... ارْحَمْ بعِزِّك ذِلَّتِي يا قاسِمِي وله، وقد أرسل إليه السيد يحيى بن محمد بن الحسن كتاباً ودراهم: يحيى عمادَ الدِّين يا مَن له ... كَفٌّ يُنِيل السُّؤْلَ قبلَ السُّؤالْ عِطْفِي قد اهْتَزَّ يا سيِّدِي ... مذ جاءَنِي منك خطابٌ ومَالْ وله مضمناً: لمَّا رآني مَن أحَبَّ مُفكِّراً ... نادَى إليَّ مُداعِباً بتلَطُّفِ حدَّثتَ قلبَك بالسُّلُوِّ فقلتُ بلْ ... قلبي يُحدِّثني بأنّك مُتْلِفِي وله، رباعية: كم أكتُم لَوْعتِي وكم أُخْفِيها ... والدمعُ إذا جرَى وما يُبْدِيَها يا مالِكَ مُهْجتِي رُوَيْداً بشجٍ ... ها مُهْجَتُه لدَيْك فانْظُر فيها وله: لا تعتبرْ ضَعْفَ مالِي واعتبِرْ أدَبِي ... وغُضَّ عَن رَثِّ أطْمارِي وأسْمالِي فما طِلابِيَ للدُّنْيَا بمُمْتَنِعٍ ... لكنْ رأيتُ طِلاَب المجدِ أسمَى لِي وله: رُوَيْدَك من كَسْبِ الذنوبِ فأنتَ لا ... تُطِيقُ على نارِ الجحيم ولا تَقْوَى أترْضَى بأن تَلْقَى المُهَيْمِنَ في غدٍ ... وأنتَ بلا عِلْمٍ لَديْك ولا تقوَى وله: افْزَعْ إلى البارِي وكُنْ ... ممَّا جنَيْتَ على وَجَلْ وارْجُ الإلهَ فلم يَخِبْ ... راجِي الإلهِ علَى وجَلّ وقد سبق إلى هذا في قول الأول: كُنْ من مُدَبِّرِك الحكِي ... م عَلاَ وجَلَّ علَى وَجَلْ وله في الثقة بالله: ثِقْ بالذي خلق الورَى ... ودَعِ البَرِيَّةَ عن كَمَلْ إن الصديقَ إذا اكْتَفى ... ورأَى غَناءً عنك مَلّ وله: رضيتُ بربِّيَ عن خَلْقِهِ ... وعن هذه الدارِ بالآخِرَهْ سأسْعَى لطاعتِه طَاقَتِي ... وإن قصرتْ هِمَّتِي القاصِرَهْ وقال، وقد رأى شعرةً بيضاء في رأسه: شبابٌ غيرُ مذمومٍ تولى ... وشَيْبٌ قد أتى أهْلاً وسَهْلاَ مضَى عمرِي الطويلُ ومَرَّ عَيْشِي ... كأنِّي لم أعِشْ في الدهرِ إلاَّ الضد أقرب خطوراً بالبال عند ذكر ضده، فذكرت من قوله: رأى شعرةً بيضاء في رأسه ما حكى أبو الخطاب بن عون الحريري الشاعر، أنه دخل على أبي العباس الشامي المصيصي واجماً، ورأسه كالثغامة، وفي شعره واحدةٌ سوداء. فقلت: يا سيدي، برأسك شعرةٌ سوداء!

قال: نعم، هذه بقية شبابي، وأنا أفرح بها، ولي فيها شعرٌ. فقلت: أنشدنيه. فأنشدني: رأيتُ في الرَّأْسِ شَعْرةً بَقِيَتْ ... سوداءَ تهْوَى العيونُ رُؤْيتَهَا فقلتُ للبِيضِ إذْ تُرَوِّعُها ... باللهِ ألاَ فارْحَمْنَ غُرْبَتَهَا وقَلَّ لُبْثُ السوداءِ في وَطَنٍ ... تكون فيه البَيْضاءُ ضَرَّتَهَا ثم قال: يا ابن الخطاب، بيضاء واحدة تروع ألف سوداء، فكيف حال سوداء بين ألف بيضاء. أحمد اليبنبعي شهابٌ في سماء الفضل قد وقد، تنفث أقلامه في عقودٍ لا عقد. وضح في طريق المعارف وضوح النور الساطع، ومضى في تحصيل شواردها مضاء السيف القاطع. وله بديهة لم تعب في ميدان سبقٍ بتخلف، وأشعارٌ سلمت من وصمة تعقيدٍ وتكلف. فمنها قوله: سَبَى فؤادِي ومَن حاز الجمال سَبَى ... ظَبْيٌ من التُّرْكِ ألْهَى حُسْنُه العَرَبَا منها: والليلُ مشتمِلٌ بالغَيْم مُتّشِحُ ... بالبَرْقِ قد وضعُوا تاجاً له الشهُبَا والبرقُ مُسْتعِرُ الإيماضِ مُتَّصِلٌ ... كأنه قلبُ صَبٍ للنَّوَى وَجَبَا أو أنه ضَوْءُ مِصْباحٍ يُمثِّلُه ... ضَحْضَاحُ ماءٍ ولكن عندمَأ اضْطَرَبَا وله من أخرى، مطلعها: سَلُوا عن فؤادِي إن مَرَرْتُم على سَلْعِفعَهْدِي به لمّا الْتَقَى الرَّكْبُ بالجِزْعِ منها: كأنَّ حُروفَ العِيسِ في فاحِمِ الدُّجَى ... أحاديثُ سِرٍ أُودِعتْ جَيِّدَ السَمْعِ كأنَّ سُهَيْلاً غُرَّةٌ فوق أدْهمٍ ... يُجاذِبُه رَبُّ العِنانِ عن الرَّفْعِ وتنظُر في الغَرْبِ الهلالَ كأنه ... مِن الْعاج مُشْطٌ غاصَ في آخرِ الفَرْعِ هذا التشبيه محل نظر. إلى أن تجلّى عن دُجَى الليلِ صُبْحُهُ ... تَجلِّي أمير المؤمنين عن النَّقْعِ وله: شكى إلى آسِيهِ مِن رأسِه ... مَن قَدُّه يَهْزأُ بالآسِ قلتُ كِلانَا والهوى قد رَسَا ... في القلبِ نَشْكُو ألَمَ الرَّاسِ إبراهيم بن صالح المهتدي أحد من سبق وادعى، ورعى من حق الصنعة ما رعى. تبلغ بها على رواج سوقها، وانتحلها على توافر أمانيه من وثوقها. والإمام أحمد بن الحسن أول من استدناه، وبلغه من وفور المواهب مناه. فتهادته السيادة تهادي الرياض النسيم، وتنافسوا فيه تنافس الديار في العيش الوسيم. فنشأ خلقاً جديداً، وجرى طلقاً مديدا. وهو شاعرٌ كاتب، حقه واجب، وفضله راتب. وكلماته قلائد في طلى ولائد، وفرائد في أجياد خرائد. وقد أثبت له ما يبلغ الغاية في الإغراب، ولم يسمع بأجود منه من العرب والأعراب. فمنه قوله، من قصيدةٍ كتبها إلى الإمام إسماعيل، يحثه على الجهاد، لما أحصر الركب اليماني، في سنة ثلاث وثمانين بعد الألف: أظُلْماً عن البيتِ الحرامِ تُذادُ ... على مِثْلها الخلُ الجِياد تُقادُ وخَسْفاً يُسامُ الهاشِمِيُّون إنها ... لَفَادِحةٌ فيها الحتوفُ تُقادُ فلا نامتِ الأجْفانُ يا آلَ قَاسِمٍ ... وكيف وفيهِنَّ السيوفُ حِدادُ ولا حمَلتْكُم مِن نتائجِ دَاحِسٍ ... شَوازبُ ما لم تُسْتشَبَّ زِنادُ إذا لم يَصُنْ مجدَ الخلافةِ منكمُ ... فمِن أين مجدٌ طارِفٌ وتِلادُ تدافعتِ البِيدُ المَوَامِي بقومِكمْ ... تَدافُعَ ذُلٍ في دِماه ضِمادُ ورُدُّوا حيارَى خائبين بصفْقةٍ ... يُنالُ بها رِيحُ الرَّدَى وتُقادُ وقد شارَفُوا أرْجاءَ مكةَ وانْثَنَوْا ... بِفاقِرةٍ تَفْرِي الأَدِيمَ وعادُوا بنى القاسم المْنصور لا تحْسَبونها ... مُهنِّيةً لا بَلْ عَناً وعِنادُ فعَزْماً فأنتم أُسْرَةُ السُّؤْددِ الذي ... مَبَانِيه من فوقِ النُّجومِ تُشادُ

ألستمُ بأهلِ البيتِ والرُّكْنِ والصَّفَا ... بلَى وهْيَ أوطانٌ لكم وبِلادُ فلا تتركوا الأتْراكَ في جَنَباتِها ... على الغَيِّ قد سادُوا القُرومَ وشَادوا وصُولُوا مَصالاً يتْرُك البحرَ جَذْوةً ... وحَزْماً فما فوق الجَمارِ رَمادُ ويا آلَ قَحطانٍ ويا آلَ حاشِدٍ ... وآل بَكِيلٍ آنَ آنَ جهادُ يُذادُ عن البيتِ الحرامِ حَجِيجُكمْ ... كما ذِيدَ عن ذِئْبِ الفَلاةِ نِقَادُ فشُدُّوا حِزَامَ الحَزْمِ فالطِّرْفُ إن يُدَعْ ... مَشَدُّ حِزامٍ منه مال بَدادُ ألا أيْقظُوا نُجْلَ العيونِ عن الكَرَى ... فَليس بها إلاَّ قذىً وسُهادُ إذا فاتَها من أسْودِ الرُّكْنِ نظْرةٌ ... فلا دار في أحْداقِهِنَّ سَوادُ قليلٌ بأن تُشْرَى مِنىً بِمَنِيَّةٍ ... لَيالِي لِقاً تزْهُو بِهِنَّ سُعادُ وتَجْريعُ كأسِ الموتِ إن نَدَّ زَمْزَمٌ ... وأعْوزَتِ الوُرَّادَ منه ثِمادُ ونَحْرُ الفتى المذكورِ في عَرَفاتِها ... على وَقْفةٍ فيها الجِرارُ بِرَادُ ألَذُّ وأحْلَى لِلْكَمِيِّ مَذاقةً ... ألا انْتبِهوا يا قوم طال رُقادُ أتَقْذَى عيونٌ منكمُ بِمَذَلَّةٍ ... وتُغْضِي جفونٌ حَشْوهنَّ قَتادُ ويصْفُو على ذا الضَّيْم للحُرِّ مَشْرَبٌ ... وكيف وشِرْبُ الهُونِ فيه يُرادُ دعوتكُمُ هل تسمعون نِداءَ مَن ... يُحرِّض لكن لا يُجيبُ جَمادُ فيا سَيْفَ سيفِ الآلِ مِن حَسَنٍ أَجِبْ ... فقد لقِحتْ حَرْبٌ وثار جِلادُ أأحمدُ ماذا العَوْدُ منكم بأحمدٍ ... ولكن حديثُ الضَّيْمِ منه يُعادُ فثُرْ ثَوْرةً واغضبْ لربِّك غَضْبةً ... بعَزْمٍ له فوق النُّجُوم مِهادُ وقُلْ لأميرِ المُؤْمنين أفِقْ لنا ... يُذادُ بنا والمُقْرَبات جِيادُ لأَيَّةِ معنىً هذه الخيلُ تَدَّعِي ... وبِيضُ المواضِي والرِّماح صِعَادُ وفي مَ يجُرُّ الجيشُ وهْو عَرَمْرَمٌ ... لُهامٌ بها عُصْبٌ رُبىً ووِهادُ أغايتُه يوم الغَدِيرِ لِزِينَةٍ ... وغايةُ جُرْدِ الخيلِ منه طِرادُ أبَى اللهّهُ الدِّينُ الحَنِيفُ وصارمٌ ... على عاتقِ الإسْلامِ منه نِجادُ ويأبَى أميرُ المؤمنين وبأسُه ... وفي الثَّغْرِ والرَّأْيِ السَّدِيدِ سَدادُ فيا أيُّها المولى الخليفةُ عَزْمَةً ... فقد شاب فَوْدٌ واستطَار فؤادُ فلا تَبْرِ أقْلاماً سِوَى من لَهاذِمٍ ... لها من دماءِ المَارِقين مِدادُ ولا كُتُباً إلا الكتائبُ والظُّبَى ... ولا رُسُلاً إلا قَنَاً وجِيادُ دعا أحمدُ الهادي بمكةَ مُفْرَداً ... فمال ذَوُوه عن دُعاه وحَادُا وقام وجُنْحُ الكُفْرِ دَاجٍ عِرانُه ... وما الكونُ إلا ضَلَّةٌ وفَسادُ فلما تجلَّى صُبْحُ أسْيافِه انْجَلتْ ... حَنادِسُ غَيٍ واسْتنارَ رشادُ فسَيِّرْ أميرَ المؤمنين جَحافلاً ... لهُنَّ من السُّحْبِ الثِّقالِ مُرادُ وجَهِّزْ صَفِيَّ الدِّين يمضي بهِمَّةٍ ... بأشْراكِها نَسْرُ السماءِ يُصادُ وأيِّدْهُ بالأبْطالِ أبْناءِ عَمِّه ... وبابْنِك عِ. ِّ الآلِ يُبْنَ وِسادُ ولا تَطْوِ أحْشَاءَ الفَخارِ على جَوىً ... تُؤجَّجُ منه جَذْوةٌ وزِنادُ

أتُقْصَى عن البيتِ الحرامِ رِكابُنا ... ويُهْدَمُ مِن آلِ النَّبيِّ عِمادُ ألم تذكر الأتْراكُ غارةَ أثْلَةٍ ... وأنَّهم ذاقوا الوَبال وبادُوا ويا رُبَّ يومٍ أدركوا فيه مَصْرعاً ... وللوَحْشِ منهم مَنْهَلٌ ووِرادُ فعُودُوا عليهم عَودةً قَعْسَريَّةً ... تُصاب سَلِيمٌ عندها ومُرادُ إذا أحْرَمتْ بِيضُ السيوف تَجِلَّةً ... وناط بِخَيْفٍ أبْطَحٌ وجِيادُ هنالك يُشْفَى غَيْظُ نفسٍ كريمةٍ ... وقد حان من أهلِ الضَّلالِ حَصادُ ودونكم الحَرَّاءَ من قلبِ عارفٍ ... لها حِكَمٌ ما إنْ لَهُنَّ نَفادُ لقد أرسلتْ تِمْثالَها وترسَّلتْ ... فواصلُ فيها للعِداةِ صِفادُ أصِيخُوا لها سَمْعاً وعَزْماً يقولُه ... خطيبٌ بليغُ الواعظاتِ جَوادُ سلامٌ عليكم إن عملتُم بِحُكْمِها ... وإلاَّ فلا جاءَ الديارَ عِهادُ وقد وقفت لصاحبنا أديب الدهر، أحمد بن ابي القاسم الحلي على قصيدة وزانها، رد عليه فيها. وهي: دَعَوْتَ ولكن مَن دعوتَ جَمادُ ... ونَبَّهْتَ لكنْ مَن دَهاه رُقادُ وأسمعْتَ مَن أضْحتْ بأُذْنَيْه عِلَّةٌ ... فما لِمَواعيظِ الرَّشادِ رَشادُ كأنَّ أحاديثَ الذين تحلّفوا ... وصَدُّوا لآذانِ الرِّجالِ سِدادُ وحرَّضْتَ أصْناماً ظننْتَ شُخوصَها ... جُسوماً ولكنْ ما لهُنَّ فُؤادُ رأيتَ سَراباً لاح منهم بِقِيعَةٍ ... شَراباً فرِدْ إن الشّرابَ يُرادُ وآنسْتَ ناراً يُستطارُ شَرارُها ... وما هِيَ إلاّ إن كشفْتَ رَمادُ قَذىً حَلَّ في عينيْك حتى تصوَّرتْ ... لك الحُمْرُ أُسْداً والحمير جِيادُ وحتى البُروقُ الّلامعاتُ صَوارِمٌ ... وحتى الحصونُ المائلاتُ مَعادُ وحتى النجومُ الزَّاهِرات مَغَافِرٌ ... وحتى طِرادُ اللاعبِين جِلادُ وحتى ظَلُومُ الليلِ جيشٌ عَرَمْرَمٌ ... تضِيقُ به عند النُّزولِ بِلادُ وحتى السحابُ الجُونُ قامتْ تُثيرُه ... خيولٌ على السَّبْعِ الشِّدادِ شِدادُ وحتى الرُّعودُ المُزعِجاتُ صَهِيلُها ... إذا هيَ في اليومِ العَبُوس تُقادُ وحتى العَباءُ السُّودُ وهْيَ عليهمُ ... دُروعٌ لقد غَرَّ السوادَ سَوادُ أعِدْ نَظَراً فيما رأيتَ ولا تَمِلْ ... عن الحقِّ إنَّ المَيْلَ عنه عِنادُ ألم يعلموا أن النفوسَ نَفائِسٌ ... وأن مَذاقَ الموتِ ليس يُرادُ ألم يعلموا أن السَّلامةَ مَغْنَمٌ ... إذا حصَلتْ نالوا المُنَى وأفادُوا وهَبْ أنهم هَشُّوا لقولك هَشّةً ... وشدُّوا العِتاقَ السَّابقاتِ وقادُوا ألَيس قُصاراهم إذا قامتِ الوغَى ... ودارتْ رحَى الهَيْجا فَناً وشِرادُ أبَعْد افْتراشِ الخَزِّ تغدو من الثّرَى ... لهم فُرُشٌ مطروحةٌ ووِسادُ وبَعْد رُكوبِ الخيْلِ يغْدو رُكوبُهم ... على آلةٍ حَدْبا وعَزَّ مِهادُ وبعد لَذِيذات المَطاعمِ منهمُ ... يكون طعامٌ للسِّباعِ وزَادُ يعِزُّ عليهم يا أخا العَزْمِ والنُّهى ... يطُول لربَّاتِ الحِجَالِ حِدادُ بحقِّك قُلْ لي هل رأيتَ هَلاكَهمْ ... بإغْرائِهم كَيْما يُنال مُرادُ وهل في الحَشَا منكم كُلومٌ قديمةٌ ... فثَارَ لأخْذِ الثّأْرِ منك فُؤادُ كأنِّي بهم لو حاولوا أن يُزايِلُوا ... مَنازلَهم قادُوا الرِّقابَ نِجادُ

ولو خرجُوا منها لأوْشَك زَادُهمْ ... يكون له قبلَ الخُروج نَفادُ ولو جَنَحُوا للحربِ قَصَّ جَناحَهمْ ... وظَلُّوا بأيْدِي القاعدين يُصادُوا ولو فارقُوا أبْوابَ صَنْعا لفُرِّقتْ ... جُموعُهم أيْدِي سَبَاءَ وبادُوا ولو جاوزُوا غَرْسَ الغِراس هُنيئَةً ... لكان لهم يومَ المَعاد مَعادُ ومن بدائعه قوله، من قصيدة يمدح بها الإمام إسماعيل المتوكل. ومستهلها: نعمْ ما لربَّاتِ الحجُولِ ذِمامُ ... ولا لعُهودِ الغانياتِ دَوَامُ أعَزُّ إلى مَ البرقُ عندك خُلَّبٌ ... وحتى مَ سُحْبُ الوصلِ منك جَهام تقلَّص ظِلٌّ مِن وفائِك سابِغٌ ... ظَلِيلٌ وعاد الرِّيُّ وهْو أُوامُ تَخِذْتِ قِلالَ الصَّدِّ والبعدِ جُنَّةً ... مَلَلْتِ ألا إن المَلالَ مَلامُ وتلك لَعَمْرِي في الحِسانِ سَجِيَّةٌ ... وللشَّيْخِ في إلْمامِهِنَّ لِزامُ ولكنه في حَقِّهِنَّ مُمَدَّحٌ ... يحِلُّ وأما في الرجالِ حَرامُ قُصارَى جَمالِ الغِيدِ وَجْدٌ ولَوعةٌ ... لها بيْن أحشاءِ الثّناءِ ضِرامُ تعَصَّيْتِ حتى ما لمُضْناك حِصَّةٌ ... من الوصلِ إلاَّ مِن رَنَاكِ سِهامُ حسبْتِ بأن الحسنَ باقٍ وربما ... غدا يَنْعُه يا عَزُّ وهْو تَمامُ وكلُّ شبابٍ بالمَشيبِ مُروَّعٌ ... وإن لم يَرُعْك الشَّيْبُ راع حِمامُ ألم تعلمِي أن المَحاسنَ دولةٌ ... يَزولُ إذا زالتْ جَوىً وغَرامُ ولو دامتِ الدّولات كانُوا كغيْرِهمْ ... رَعايا ولكن ما لَهُنَّ دَوامُ إذا زِدْتِ بُعْداً أو أطلْتِ تجنُّباً ... رحلتُ وجسمِي لم يُذِبْه سَقامُ ومافَضْلُ ربِّ السيفِ إن فتكَتْ به ... جفونٌ كَلِيلاتُ المَضاءِ كَهامُ أينْصِبْن لي من هُدْبِهنَّ حُبالَةً ... وهل صِيدَ في فخِّ الغَزالِ حَمامُ ولي هِمَّة لا يطَّبيها صَبابةٌ ... وحَزْمُ فتىً بالخَسْفِ ليس يُسامُ وعَزْمةُ نَدْبٍ لا يذِلُّ فُؤادُه ... وجانبُ حُرٍ لن تراه يُضامُ هُيامِيَ في نَهْدٍ أقبَّ مُطَهَّمٍ ... إذا القومُ في نَهْد المَليحةِ هامُوا ولم يكُ عندي غيرَ كُتْبٍ نَفِيسةٍ ... ترُوق وإلاّ ذابِلٌ وحُسامُ ولي قلمٌ كالصِّلِّ أمَّا لُعابُه ... فسَمٌّ وأما نَفْثُه فَمُدامُ وإن أمَّنِي دهرِي الخَؤُونُ بحادثٍ ... فلي مِن أمير المؤمنين عِصامُ وله مناظرة بين القوس والبندق. قال فيها: الحمد لله المفيض كرماً ومنا، والصلاة على نبيه الراقي إلى قاب قوسين أو أدنى. المؤيد بخوارق آياتٍ هن أشد حكماً وأنفذ سهما، الذي أنزل عليه: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ". وعلى آله الذين تقوست بريهم ظهور النواصب، وأدركوا ببندق الإصابة كل غرض ناكب. وأقيمت لهم في الدين الحجج والأدلة، وتقاصرت بجودهم الشهور والأهلة. أما بعد: فهذه أرجوزة جمعت فيها غرائب من البديع، ووشعت بردها مفوفاً كأزاهير الربيع. وسميتها براهين الاحتجاج والمناظرة، فيما وقع بين القوس والبندق من المفاخرة. سلكت فرائدها ممتثلاً لمقترح مولاي السيد العلامة لسان المتكلمين، وترجمان الأئمة العارفين، سيف الإسلام والمسلمين، أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين. وطرزتها بفرائد من مديحه، الذي لا يقضي النظر مع تعارض الأدلة إلا بترجيحه. فهو المقصود أولاً وبالذات، والمقدم التالي في هذه الأبيات: جاءتْك تبْرِي أسْهُمَ الجفونِ ... عن قوسِ ذاك الحاجبِ المَقْرونِ تخْتالُ مثلَ الغُصُنِ الرَّطِيبِ ... في مِطْرَفٍ من حُسْنها القَشِيبِ

رَيَّانةٌ ظامئةُ الوِشاحِ ... سَكْراءُ من خَمْرِ الصِّبا يا صاحِ تفْترُّ عن دُرٍ بَدِيدِ الشّنبِ ... كأنه كأسٌ طَفَا بالحَبَبِ هِمْتُ بها وأعْجَبُ الإبْداعِ ... ذو طَيْلَسانٍ هام في قِناعِ كالليلِ داجي شَعْرِها إذا سجَى ... ووجهُها كأنه بدرُ دُجَى بيضاءُ بيْضا الْجُسَيمِ كاعِبَهْ ... تُضْحى بألْبابِ الرِّجالِ لاعِبَهْ كم مُغْرمٍ بحُبِّها مُدَلَّهَا ... بقلْبِه نحوَ الهوى مُدَّلَهَا جاءتْ إلينا كالأصِيل في الضُّحَى ... لو لَمَحَ البدرُ سَناها لَمَحَا وطَوْقُها يلوحُ فوق الجِيدِ ... كأنه شَكْلُ هِلالِ العيدِ على جَبِين الأُفقِ البَهِيِّ ... مُنْحدِرٌ في الجانبِ الغَرْبِيِّ قد خُطّ في طِرسِ السَّما كالنُّونِ ... كأنه قَوْسُ صَفيِّ الدِّينِ رامِي حَشَا البُخْلِ بِسَهمِ الجودِ ... وقاتلُ الإعْدامِ بالوجودِ يَمُّ العلومِ والنَّدَى المألوفِ ... وجُنَّةُ اللائذِ والمَلْهوفِ هو الحُسامُ في يَدِ الخليفهْ ... حامِي ذِمامِ المِلَّةِ الْحَنِيفهْ مَنْ جَلَّ مِقْداراً على السِّماكِ ... وقال للشمسِ أنا سَماكِ أحمدُ نَجْلُ الحسنِ بن القاسمِ ... ناهِيك في الهَيْجاءِ من مُصادِمِ مَن عرَّف الجندَ بلاَمِ الحربِ ... واللامُ للتَّعْريف عند العُرْبِ ما بين خَطِّيٍ وبين ماضِ ... ومِغْفَرٍ وسابغٍ فَضْفاضِ يتْلوهما تركشة في الرَّاسِ ... فُؤادُها من الحديدِ قاسِ وتركشُ النَّبْلِ وقَوسُ الرَّمْيِ ... من لازمِ المُدَجَّح الكَمِيِّ فالقوسُ قد عادتْ له أحكامُ ... وارتفعتْ لحُكْمِه أعْلامُ منذ أعاد الأحْمَدِيُّ أثَرَهْ ... وشَدَّ أيضاً بالسَّوامِ أثَرَهْ فصار بين الخافقَيْن مُشْتهَرْ ... وجا على البُنْدُقِ أيضاً يفْتخِرْ مُنْحَنِياً من الدّها مُترْكشَا ... مُقَذِّفاً لسَهْمِه مُرَيِّشَا يقول فَضْلِي ظاهرُ البيانِ ... بسُورةِ الزُّخْرُفِ لا الدُّخانِ يُرْجَى على ظهرِ الحصانِ الأعْوَجِ ... أنا الهلالُ لم يُعَبْ بالعِوَجِ قِدْحِي المُعَلَّى في ظهورِ السُّبَّقِ ... فأين مِن مَرْمايَ مُجْرِي البُنْدُقِ قَبيلتي بين الورَى كِنانَهْ ... راشِقةٌ حِرابُها طَعّانَهْ فهل ترى لبُنْدُقٍ قبيلَهْ ... سوى مقصّ شم أو فَتِيلَهْ وإن أتى وصوتُه مُجاشِعُ ... فإنما أصولُه قَعاقِعُ غِذاؤُه الباروتُ والرَّصاص ... كأنما في جَوْفِه قُرَّاصُ فأرْعَدَ البُنْدُقُ حتى أبْرَقَا ... بَرْقاً من الياقوتِ قد تألّقَا وقال إذْ قام على كُرْسِيِّهِ ... قد أُنْطِق الأخْرسُ بعد عِيِّهِ تمنْطَق القَوْسُ عليَّ وافتَخرْ ... وهْو مدَى الأيامِ في أسْرِ الوَتَرْ مُشدّدُ الأطرافِ كالمَوثُوقِ ... وقلبُه مُطَرَّحٌ في السُّوقِ يفْخَر والفاخرُ عُقْباه النّدَمْ ... مَعْ أنه مُحْدَوْدِبٌ من الهِرَمْ ليس له ذخيرةٌ يُنفِقُها ... إن ثار من نارٍ الوغَى مُحْرِقُهَا يجهْل ما بيْن الورَى تأْثيرِي ... ورَفْعَ كُرْسِيِّي على الصدورِ ولا أزال طالعاً في غاربِ ... أرْمِي الشياطِين بنَجْمٍ ثاقبِ أرُوعُ في الهَيْجا زئيرَ الأُسْدِ ... بصَرْخةٍ من رَمْيتِي كالرَّعْدِ

آكُلْ بالمِيزانِ أكْلَ الحِكْمَهْ ... فلستُ أخْشَى دائماً من تُخْمَهْ كفَاك منِّي خَبَرِي وخُبْرِي ... وحُسْنُ مَدْحِي من أديبِ العَصْرِ قد قال فيّ والبليغُ حُجّهْ ... وقولُه مُتَّضِح المَحَجّهْ ضئيلةٌ تَرْقِيشُها حسنُ الفرندْ ... جَوْهرُها في الرُّوم مَشْبوكُ الزّرَدْ أفْعاءُ في أجْوافِها النِّيرانُ ... يحْذَر منها الصِّلُّ والثُّعْبانُ وسَمُّها تَحْمِلُه جَنِينَا ... تُرْضِعُه من الرَّدَى علينَا بيْنَا تُرَى تحملُ منه طِفْلاَ ... حتى يصيرَ للحِمامِ كَهْلاَ ما تدْرِ ما تلْفَحُه وتضَعُهْ ... ومن أَفاوِيق الذُّعافِ تُرْضِعُهْ إلاَّ بِمقْدارِ اكْتحالِ النّاظرِ ... حتى يصير وهْو حَتْفُ الفَاجِرِ وَاهاً لها تلك مَخاضُ حُبْلَى ... أسْرَعُ ما تدْرأُ منه الحَمْلاَ فابْتَدرَ القوسُ بسهمٍ ووثَبْ ... وازْوَرَّ كالحاجبِ من فَرْطِ الغَضَبْ وصار يُبْدِي صَوْلة المِقْدامِ ... يسْحبُ أذْيالاً من السِّهامِ وقال ما أقْرَعُ في خِطَامِهْ ... والمرءُ قد يُقْذِعُ في إعْظامِهْ ما لِي وللْبُنْدُقِ يا أُخَيَّهْ ... أصْبَح يُعْلِي صَوْتَه عَلَيّهْ جوابُه أن لا يُجَابَ أبَدا ... فما يُجِيبُ صوتَه إلا الصّدَى لكنني مُنْتصِرٌ خَشْيَة أن ... يقول إنِّي قد رُميتُ باللَّكَنْ وكان أوْلَى عِنْدِيَ السُّكوتُ ... فإنما نَفِيثُه بارُوتُ مُسْتكْثَرٌ دُوَيْبقٌ في ثَمنِه ... أما تراه أبْخَرَ من نَتَنِهْ وقال لم تَعْلَقْه من تُخْمَهْ ... وإنما غذاؤُه بالحِكْمَهْ وكم له من بِطْنةٍ مبْغوضَهْ ... تَظَلُّ أحْشاهُ بها مَغْضوضَهْ كم آد مَن يحملُه من تَعَبْ ... وأخَّر الرَّامِيَ عن نَيْلِ الأرَبْ لثُقْلِه فجِرْمُه ثقيلُ ... إن الثقيلَ قُرْبُه مَمْلولُ ما أكثرَ التَّلْوينَ في دِيانتِهْ ... وأضْيَعَ الأسرارَ في خِزانتِهْ فَتِيلُه نارُ الفَرِيقِ في العَلَمْ ... فسْرُّ مَن يغْزُو به لا يُكْتَتَمْ كم دَرَّ بالصوتِ على رَاميهِ ... ونَمَّ في الليل على سَارِيهِ وأيْنَه منِّي وحِفْظُ سِرِّي ... ما زال مَحْنُواً عليه ظَهْرِي أُصِيب مَن أرْمِيه اغْتيالاَ ... حتى أكاد أرْشُق الخَيالاَ أصُونُ سِرِّي فهْو لا يبينُ ... مُقْتدِراً بقَوْلِه اسْتعينُوا إن يتبجَّحْ في عُلُوِّ الشَّانِ ... بمَدْحِه من شاعرِ الزَّمانِ فحُجَّتِي أرْجُوزةُ النَّباتِ ... ودُرَّةٌ من بَحْرِه الفُراتِ أعْنِي بذا فرائدَ السُّلوكِ ... في ذِكْرِه مَصائد المُلوكِ للهِ ما أعْذَبها مِنْ مُلَحْ ... قد قال إذْ طَرَّزَها مَن مَدَحْ يا حبذا مُجِيبةُ الوِصالِ ... قاطعةُ الأعمارِ كالهلالِ زَهْراءُ خضراءُ الإهابِ مُعْجِبَهْ ... ممَّا ثَوَتْ بين الرِّياضِ المُعْشِبَهْ كأنها حولَ المِياهِ نُونُ ... أو حاجِبٌ بما يشا مَقْروُنُ لها بَنانٌ بالمَنَى مَعْذُوقَهْ ... من نَبْعةٍ واحدةٍ مَخْلوقَهْ فاضْطرَب البُنْدُقُ واسْتثارَا ... وأظْهرتْ ذخيرةٌ شَرارَا وقال عندي خَبَرُ البُخارِي ... ولي حديثُ الرَّمْيِ بالجِمارِ يا قَوْسُ لا تدخُلْ في أحْكامِي ... فأنت عندي من ذَوِي السِّهامِ

ولا تقُل في مَتْنِك التَّعْصِيبُ ... فما له من قِسْمَتِي نَصِيبُ القوسُ يا قومُ لنَدْفِ القُطْنِ ... لا لاتِّخاذِ الرَّمْيِ يومَ الطَّعْنِ كأنه في مَسْجِدٍ مِحْرابُ ... أو راكعٌ من خشْيتي مُرْتابُ كم فُتِّتَ تحت الْبانِ كَبِدُهْ ... بِخِدْمةٍ حتى يُقاد أَوَدُهْ أنا الذي أُحْرِزَ في الإقْدامِ ... بآيةِ الكُرْسِيِّ صَدْرَ الرَّامِي وقال إنِّي لَثقِيلُ الجِرْمِ ... وليس يدْرِي أنَّ ذا من حِلْمِي ونَبْلُه من خِفَّةٍ يَطيشُ ... تحلُّه مع الرِّياحِ الرِّيشُ ما كلُّ من خَفَّ قِباً لَطِيفُ ... إن الخفيفَ عَقْلُه خَفِيفُ فحين زادتْ منهما المُفَاخَرَهْ ... واتَّصلتْ بينهما المُشاجرَهْ وكاد أن يُفْضِي إلى القتالِ ... بين رَصاصِ الرَّمْلِ والنِّبالِ تجرَّد السيفُ عن القِرابِ ... وجَرَّ حَدّاً منه غَيرَ نَابِي وانْسَلَّ ما بينهما إصْلاحَا ... وقال قد طَوَّلْتُما الكِفاحَا والرأيُ أن تصْطِرخَا في الحالِ ... وتذْهبا عن ظُلْمةِ الإشْكالِ إلى الصَّفِيِّ فَيْصلِ الأحْكامِ ... أحمدَ مَوْلى الحَلِّ والإبْرامِ فإنه قد قال وهْو الحاكمُ ... وحُكْمُه فيما يقولُ لازِمُ لابُدَّ للأصْيَدِ في الفرسانِ ... من مُرْهفٍ وذَابلٍ مُرَّانِ وتركش مُقْترِنٌ بالقَوْسِ ... كمن مضَى من خَزْرَجٍ وأوْسِ فراجِلٌ يمْشي بلا حُسامِ ... وبُنْدُقٍ رامٍ إلى المَرامِ كفارسٍ يبْرُز للنِّزالِ ... من غيرِ لا سيفٍ ولا عَسَّالِ فعند ذا فاءَا إلى الصُّلْحِ مَعا ... ونَحْوَ بابِ الأحْمَدِيِّ نَزَعَا لَيْثٌ له كَهْفُ الفَخارِ خِيسُ ... يرْتابُ من سَطْوتِه بِرْجِيسُ الجامعُ الَّلامَ فيومِ الْفاءِ ... في مَوْكبٍ يمْلأُ عَيْنَ الرَّائِي رَعِيلُ شُهْبٍ تَنتقِيه الشُّهْبُ ... وعنده نارُ العِداةِ تَخْبُو به تَمُور قُلَلُ الشَّهْباءِ ... وقَوْسُه في أُذُنِ الجَوْزاءِ أمِيرُه سيفُ الفتوحِ أحمدُ ... لِواؤُه في كلِّ نَصْرٍ يُعْقَدُ يا قمراً في أُفُقِ الخِلافَهْ ... دُونكَها مُجاجَة السُّلافَهْ تخْتالُ في بُرْدٍ من الطُّروسِ ... ماشِيةً كمِشْيةِ العَرُوسِ لها مَعانٍ للعقولِ ساحرَهْ ... فاخِرةٌ في حُلَلِ المُفاخَرَهْ وإن تراخَتْ في قضاءِ الواجبِ ... فعُذْرُها عُذْرُ زمانٍ غالبِ ثم الصلاةُ ما بدتْ غَزالَهْ ... على النبيِّ خاتِمِ الرِّسالَهْ وآلِه سفينة النَّجاةِ ... وصَحْبِه أكابرِ السَّاداتِ ومن أبدع بدائعه، قوله مخابطاً للإمام إسماعيل، وقد عرض عليه حصانان من كرائم خيله، أحدهما أسود، والآخر أبيض: وأدْهَمٍ قد زَهَى اسْوِداداً ... مع أبْيَضٍ زانَه اخْضِرارُ فأنتَ في رُتْبةِ المَعالِي ... يحْمِلُك الليلُ والنهارُ وقال، وكان الإمام أراد أن يدخل مكاناً له، فهوى قنديلٌ كان معلقاً، فانكسر: لا تعْجَبُوا إن هوَى القِنْدِيلُ مُنْكَسِراً ... فما عليه أُهَيْلَ الفَضْلِ من حَرَجِ رأَى الإمامَ كشمسٍ في مطالِعِها ... وعند شمسِ الضُّحَى لا حَظَّ للسُّرُجِ ومما يحاضر به، ما اتفق أن زجاجةً انشقت من ذاتها، في مجلس سلطان، فظهر منه تطيرٌ، فأنشد بعض الشعراء: ومجلسٍ بالسرورِ مُشْتمِلٍ ... لم يَخْلُ فيه الزُّجاجُ عن أرَبِ

سَرَى بأعْطافِه يُرنِّحُهُ ... فشَقَّ أثْوابَه من الطَّرَبِ ومن محاسنه قوله يخاطب بعض السادة: قُلْ للذين سَرَوْا والنارُ مُضْرَمةٌ ... وفيهمُ شَرَفُ الإسلامِ إذ ظَعنُوا لا تُشْعِلوا النارَ في مَسْراكمُ فلقد ... أغْناكمُ النَّيِّران البدرُ والحَسَنُ وله: يا عينَ فرسانِ بني هاشمٍ ... سبحانَ حامِيكَ من العَيْنِ صُلْتَ برُمْحٍ وبِعطْفٍ فقُلْ ... في فارسٍ جاء برُمْحَيْنِ وله: أقْبَلَ كالرمحِ له هزَّةٌ ... تحت قِباءٍ غيرِم َمزْرورِ كأن ذاك الخالَ في صدرِه ... حَبَّةُ مِسْكٍ فوق كافُورِ وله: حدِّثاني عن النَّقِيبِ حديثاً ... وصِفَا لي شُروطَه بالعَلامَهْ وارْوِيا لي عن جَوْهَرٍ لَفْظَ حُكْمٍ ... واجْعَلاه في جَبْهةِ الدهرِ شَامَهْ فيصِحُّ الحديثُ من غَيْرِ سُقْمٍ ... ما رواه إمامُنا عن أُسَامَهْ وله: كأنها والقُرْطُ في أُذْنِها ... بَدْرُ الدُّجَى قُورِنَ بالمُشْتَرِي قد كتبَ الحُسْنُ على وَجْهِها ... يا أعْيُنَ الناسِ قِفِي وانْظُرِي وله في حامل ساعة: ومليحٍ ملَك الحُسْ ... نَ جميعاً فأطَاعَهْ جاءَنا ساعة أُنْسٍ ... إذْ حَوَتْ يُمْناه سَاعَهْ وله في بانياني اسمه رامه: وَلِعْتُ ببانيانِي فيه حُسْنٌ ... تظَلُّ الشمسُ عاكفةً أمامَهْ كأن بِرِيمهِ لمَّا تبدَّى ... بريقَ الغَوْرِ في أكْنافِ رَامَهْ وله: قد انْقضَى الصومُ ووَلّى وقد ... أقْلَقهُ شَوَّالُ بالإرْتحالْ في الأرضِ تَرْميه مَجانِيقُنَا ... وفي السَّما يَرْمِيه قَوْسُ الهلالْ وله: طَيْلَسانُ المُهذّبِ بن عشيشٍ ... هَذَّبْته الشهورُ والأعْوامُ حاكَه مُجْتبَى النُّبُوَّةِ شِيثٌ ... هكذا قد رَوَتْ لنا الأهْرامُ وله: طَيْلَسانُ ابنِ عشيشٍ ذِي العُلَى ... قد بَراه الدهرُ في نَشْرٍ وطَيّ شَيِّقٌ يُذْكِر أيامَ الصِّبا ... ما له ممَّا بَراه الشوقُ فِيّ طيلسان ابن عشيش، كطيلسان ابن حرب، في قدم الزمان والاختلال. وطيلسان ابن حرب صاحب الشهرة على ألسنة الشعراء. وكان محمد بن حرب أهداه إلى الحمدوني، وكان خلقاً، فقال في وصفه قرابة مائتي مقطوعة، لا تخلو واحدةٌ منها من معنىً بديع، وصار الطيلسان عرضةً لشعره، ومثلاً في البلى والخلوقة، وانخرط في سلك حمار طياب، وشاة سعيد، وضرطة وهب، وأير أبي حكيمة. ومن نوادر ما قال فيه: يا ابنَ حَرْبٍ كَسَوْتنِي طَيْلَساناً ... أمْرَضْته الأوجاعُ فهْو سَقِيمُ وإذا ما رَفَوْتُه قال سُبْحا ... نَك مُحْيي العظامِ وهْي رَمِيمُ قلت: ومثله في الشهرة، ثوب المالقي، وفروة ابن نباتة، وصوف ابن مليك. السيد أحمد بن محمد الأنسي شاعر صنعاء المفلق، وشهاب أفقها المتألق. تعانى الأدب حتى سما بإحرازها، فإذا نشرت حللها الصنعائية فهو طراز طرازها. وكان له عند أئمتها قدرٌ لا يجهل، واعتناءٌ لا يكاد حقه يهمل أو يمهل. ثم قدم مكة ومدح شريفها، ونال من المفاخر تليدها وطريفها. فكان غرس نعمه، الذي سقاه كرمه سائغاً هنيا، فأثمر قولاً جنيا. وحسامه الذي حلاه، فأهدى إليه من حلاه. وحظي حظوةً ما زال في خيرها إلى الممات يتقلب، واشتهر شهرةً أنست شهرة أخي العرب قدم على آل المهلب. وقد أثبت من أشعاره ما يستغني في إحكام صنعته عن الحجة والبرهان، ويدل على أن قائله حاز في ميدان البراعة مزية الرهان. فمن ذلك رائيته المشهورة التي مدح بها الشريف زيدا، وبلغني أنه أجازه عليها ألف ذهبٍ، وعبداً، وفرسا: سَلُوا آلَ نُعْمٍ بعدَنا أيُّها السَّفْرُ ... أعندهمُ عِلْمٌ بما صنَع الدهرُ تَصَدَّى لِشَتِّ الشَّمْلِ بيني وبينها ... فمنزليَ البَطْحا ومَنْزلُها القَصْرُ

رآنِي ونُعْماً لاهِيَيْن فغالَنا ... فشَلَّتْ يدُ الدهرِ الخَؤُونِ ولا عُذْرُ فواللهِ ما مَكْرُ العَدُوِّ كمَكْرِهِ ... ولكنَّ مَكْراً صاغَه فهو المَكْرُ فقُولاَ لأحْداثِ الليالي تمَهّلِي ... ويا أيُّهذا الدهرُ مَوْعِدُك الحَشْرُ سلامٌ على ذاك الزمانِ وطِيبِه ... وعيشٍ تقضَّى لي وما نبَت الشَّعْرُ فتلك الرياضُ الباسِماتُ كأنّ في ... عَواتِقها من سُنْدُسٍ حُلَلٌ حُمْرُ تنَضّد فيها الأُقْحُوانُ ونَرْجِسٌ ... كأعْيُنِ نُعْمٍ إذْ يقابلُها الثَّغْرُ كأنَّ غصونَ الوردِ قُضْبُ زَبَرْجَدٍ ... تُخالُ من الياقوتِ أعْلامُها الحُمْرُ إذا خطَرْت في الرَّوضِ نُعْمٌ عَشِيَّةً ... تَفاوَح من فَضْلاتِ أرْدانِها العِطْرُ وإن سحَبْت أذْيالها خِلْتَ حَيَّةً ... إلى الماءِ تَسْعَى ما لأَخْمَصِها إثْرُ كَساهَا الجمالُ اليُوسُفُِّ مَلابِساً ... فأهْوَنُ مَلْبوسٍ لها التِّيهُ والكِبْرُ فكم تخْجَلُ الأغْصانُ منها إذا انْثَنتْ ... وتُغضِي حياءً من لواحِظِها البُتْرُ لها طُرَّةٌ تكْسُو الظَّلامَ دَياجِياً ... على غُرَّةٍ إن أسْفَرتْ طلعَ الفَجْرُ وجِيدٌ من البِلَّوْرِ أبْيضُ ناعمٌ ... كعُنْقِ غَزالٍ قد تكنَّفَها الذُّعْرُ ونحر يقول الدُّرُّ إن به غِنىً ... عن الحَلْيِ لكنْ بي إلى مثلِه فقرُ وحُقَّانِ كالكافورِ نَافَ عَلاهُما ... من النَّد مِثْقالٌ فنَدَّ به الصَّبْرُ قلت هذا الند ند عن الند. رُوَيْدَك يا كافورُ إن قُلوبَنا ... ضِعافٌ وما كُلُّ البلادِ هي المِصْرُ بَدا القَدُّ غُصْناً باسِقاً مُتأوِّداً ... على نَقَوَىْ رَمْلٍ يطوفُ به نَهْرُ يكاد يدُقُّ الخَصْرَ من هَيَفٍ به ... رَوادِفُها لولا الثَّقافةُ والهَصْرُ لها بَشرٌ مِثلُ الحريرِ ومَنْطِقٌ ... رَخِيمُ الحَواشِي لا هُراءٌ ولا نَزْرُ رأتْني سَقِيماً ناحِلاً وَالهاً بها ... فأدْنَتْ لها عُوداً أنَامِلُها العَشْرُ وغنَّتْ ببيتٍ يلْبَثُ الرَّكْبُ عنده ... حَيَارى بصَوْتٍ عنده يرقُص البَرُّ إذا كنتَ مَطْبوباً فلا زلْتَ هكذا ... وإن كنتَ مَسْحوراً فلا بَرِىءَ السِّحْرُ فقلتُ لها واللهِ يا ابْنَةَ مالكٍ ... لَمَا شَفَّنِي إلاَّ القطيعةُ والهجرُ رَمَتْنِي العيونُ البابِلِيَّاتُ أسْهُماً ... فأقْصَدنِي منها سهامُكمُ الحُمْرُ فقالتْ وألْقتْ في الْحَشَا من كلامِها ... تأجُّجَ نارٍ أنت من مُلْكِنا حُرُّ فواللهِ ما أنْسَى وقد بكَرتْ لنا ... بإبْرِيقِها تسعَى به القَيْنةُ البِكْرُ تدُور بكاساتِ العُفارِ كأنْجُمٍ ... إذا طلعَتْ من بُرْجِها أفَلَ البَدْرُ نَدامايَ نُعْمٌ والرَّبابُ وزَيْنَبٌ ... ثلاثُ شُخوصٍ بيْننا النظمُ والنثرُ على النَّأيِ والعودِ الرَّخِيمِ وقَهْوةٍ ... يُذكِّرها ذَنْباً لأقْدامِنا العَصْرُ فتقْتصُّ من ألْبابِنا وعقولِنا ... فلم نَدْرِ هل ذاك النُّعاسُ أو السُّكْرُ مُعتَّقةٌ من عهدِ عادٍ وجُرْهُمٍ ... ومُودِعها الأدْنانَ لُقْمانُ والنَّسْرُ مُشَعْشَعةٌ صَفْرا كأن حَبابَها ... على فُرُشٍ من عَسْجدٍ نُثِرَ الدُّرُّ إذا أُفْرِغتْ في الكأسِ نُعْمٌ وأخْتُها ... تَشابَه من ثَغْرَيْهما الرِّيقُ والخَمْرُ خَلا أن رِيقَ الثَّغْرِ أشْفَى لِمُهْجتِي ... إذا ذاقَه قلبي الشَّجِي بردَ الجَمْرُ

وأنْفَعُ دِرْياقٍ لمَن قتَل الهوى ... فهاتِ ارْتِشافَ الثَّغْرِ إن سَمَحَ الثَّغْرُ بهذا عرفْنا الفرقَ ما بين كأسِها ... وبين مُدامِ الظَّلْمِ إن أشكلَ الأمْرُ فواللهِ ما أسْلُو هَواها على النَّوَى ... بَل إن سلاَ بذْلَ النَّدَى الملكُ القَسْرُ أبو حسنٍ زيدُ المَكارمِ والتقى ... له دون أمْلاكِ الورى المجدُ والفخرُ إذا ما مشَى بين الصُّفوفِ تزَلْزَلتْ ... لِهَيْبتهِ الأمْلاكُ والعَسْكرُ المَجْرُ وترْجُف ذاتُ الصَّدْعِ خَوْفاً لِبأْسِهِ ... فَيْندكُّ أطوادُ المَمالكِ والقَفْرُ فلو قال للبحرِ المُحيط ائْتِ طائعاً ... أتاه بإِذْنِ اللهِ في الساعةِ البَحْرُ على جُودِه من وَجْهِه ولسانِه ... دليلان للوفْدِ البشاشةُ والبِشْرُ فما أحنفٌ حِلْماً وما حاتمٌ نَدىً ... وما عنْترٌ يومَ الحقيقةِ ما عَمْرُو هو الملِك الضَّحَّاكُ يوم نِزالِه ... إذا ما الجبانُ الوجه قَطَّبه الكَرُّ لقد قَرَّ طَرْفُ المُلْكِ منه لأنَّه ... لَديْه النَّوالُ الحُلْوُ والغضبُ المُرُّ أنِخْ عنده يا طالبَ الرِّزْقِ فالذي ... حَواه أنُوشِرْوانَ في عيْنهِ نَزْرُ ولا تُصْغِ للعُذَّالِ أُذْناً وإن دَنَوْا ... بأحْسابِهم منهم فما العبدُ والحُرُّ وهل يسْتوِي عَذْبٌ فُراتٌ مُرَوَّقٌ ... ومِلْحٌ أُجاجٌ لا ولا التِّبْنُ والتِّبْرُ فلو سمعتْ أُذْنُ العِدَى بهِباتِه ... إذا جاد لاسْتحْيتْ ولكنْ بها وَقْرُ مَلِيكٌ إليه الإنْتهاءُ وقَيْصَرٌ ... يُقصِّر عنه بل وكِسْرَى به كَسْرُ مَلِيكٌ له سِرٌّ خَفِيٌّ كأنما ... يُناجِيه بالغيْبِ ابنُ داودَ والحَبْرُ فإن كذَّبوا أعْداءُ زيدٍ فحسْبُه ... من الشاهدِ المَقبولِ قِصَّتُه البِكْرُ لَياليَ إذ جاء الخَصِيُّ وأكْثروا ... أقاويلَ غَيٍ ضاق ذَرْعاً بها الصَّدْرُ فأيْقظَه من نَوْمِه بعد هَجْعةٍ ... من الليلِ بيْتٌ زاد فَخْراً به الشِّعْرُ كأنْ لم يكنْ أمْرٌ وإن كان كائنٌ ... لكانَ به أمْرٌ نفى ذلك الأمْرُ وفي طَيِّ هذا عِبْرةٌ لأُلي النُّهَى ... وذِكْرَى لمن كانت له فِطْنةٌ بِكْرُ فيا زيدُ قُلْ للحاسدين تحفَّظوا ... بغَيْظِكمُ أن لا يُطيعَكمُ الصَّبْرُ فمَجْدِي كما قد تعلمون مُوثَّلٌ ... وكلُّ حَمامِ البَرِّ يقْنِصُها الصَّقْرُ مِن القومِ أرْبابِ المَكارم والعُلَى ... مَيامِينُ في أيْديهمُ العُسْرُ واليُسْرُ مَسامِيحُ في الأَوْلَى مَصابيحُ في الدُّجَى ... تَصافَح في مَعْناهمُ الخيرُ والشَّرُّ أسِنَّتُهم في كلِّ شرقٍ ومَغْرِبٍ ... إذا ورَدتْ زُرْقٌ وإن صَدَرَتْ حُمْرُ مَساعِيرُ حربٍ والقَنا مُتشاجِرٌ ... ويوم النَّدَى تبْدو جَحاجِحَةٌ غُرُّ وَلِيدُهمُ ألقَى الملوكُ لأمْرِه ... تقولُ لبَدْرِ التِّمِّ ما أنْصَف الشَّهْرُ بنِي حَسَنٍ لا أبْعَدَ اللهُ دارَكمْ ... ولا زال مُنْهَلاً بأرْجائِها القَطْرُ ولا زال صَدْرُ الدَّسْتِ مُنْشَرِحاً بكمْ ... فمنكم وُلاةَ البيتِ ينْشرحُ الصدرُ قلت: وقد ترجمه صاحب السلافة، وقال فيه: ورد مكة، فمدح سلطانها السيد زيدا، بقصيدةٍ طويلة الذيل، فأجازه عليها جائزةً سنية النيل. على أن نظام أبياتها غير مؤتلف، وانتساق معانيها يتفاوت ويختلف. فهي كما قيل: درةٌ وآجرة، وقحبة تجاورها حرة. ثم أورد المقدار الذي ذكره من القصيدة، مع التعقبات التي في أثنائها، والاعتراضات التي طمست من سناها لا سنائها.

فإن محاسن محاسنها أثر فيها ذلك القدح، وجلالة قدرها مشيدةٌ بمدح الشريف وشريف المدح. وأقول: كأن ابن معصوم لم يظفر من شعر الأنسي إلا بهذه القصيدة، التي أظهر فيها نقده. على أن شعره كثير، وفضله أثير، وجياد كلامه لنقع البلاغة لم تزل تثير. قال: قوله: فوالله ما مكر العدو.. إلخ هذا البيت ساقطٌ، ويتلوه ما بعده. يشير بذلك إلى الأبيات الثلاثة التي بعده. أقول: ليس في هذا البيت عيبٌ إلا تكرار لفظ المكر؛ فإن التكرار مخلٌّ بالبلاغة إن أدى إلى التنافر كما بينوه، وأما من حيث المعنى فهو مستقيم؛ لأنه لما ذكر أن الدهر معاندٌ له، أثبته عدواً، ونسب إليه المكر به، كما هو شأن العدو، وادعى أن مكره أشد من مكر العدو، على طريق المبالغة في وصفه بذلك. وقوله: هو المكر؛ أي هو الذي يستحق أن يسمى مكراً، كأن غيره بالنسبة إليه لا يسمى مكراً. وأما قوله: فقولا لأحداث الليالي.. إلخ، فلا يظهر وجه سقوطه؛ لا من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى، وهو خارج مخرج التظلم من الدهر. نعم قوله: فتلك الرياض ظاهر السقوط. قال: وهو ملحون القافية، إذ صوابها النصب. قوله: وإن سحبت أذيالها خلت حية، هذا من قبيح التشبيه، على ما فيه من الخلل. قلت: اعتراضه عليه ليس فيه خفاء. قوله: وصحنان خد. إلخ، ملحون أيضاً، وفيه تشبيه المثنى بالجمع. وقوله: وما كل البلاد هي المصر. قال: أدخل لام التعريف على مصر، وهي علمٌ للبلدة المشهورة وهو غير جائز. قوله: لها بشر مثل الحرير، هذا البيت من قصيدة ذي الرمة المشهورة، وقد انتحله من غير تنبيه على ذلك. قلت: بعد إثبات الشهرة لا يحتاج إلى التنبيه. وفي قوله: قد انتحله من غير تنبيه على ذلك، غفلةٌ، فإن من ينتحل شيئاً لا ينبه على انتحاله. قال: وإنما نبهت على ذلك كله لأن بعض أهل العصر يغالي في استحسانها، زاعماً أنها من أعلى طبقات الشعر، وليس كما توهم. قلت: يكفيها شهادته بأنها من أعلى الشعر، فهي شهادةٌ بعالٍ من علي، والحق أن حسن مساقها واضحٌ جلي. وقوله فيها: كأن لم يكن أمر وإن كان كائن. لهذا البيت قصةٌ، وهي: أنه كان ورد مكة رجلٌ يقال له بشير، ومعه أوامر من السلطان مراد، بأنه مطلق التصرف، وكان في ظنه أنه يعزل الشريف زيداً عن منصبه، فلما وصل إلى ينبع، ظهر خبر موت السلطان، فلم يتم له أمرٌ. وكان الشريف زيد: رأى في المنام، كأن شخصاً ينشده هذا البيت: كأنْ لم يكنْ أمْرٌ ... .........إلى آخره فانتبه، وكتبه بالسواك على رمل، في صحن نحاس، خشية النسيان. وكانت هذه الرؤيا في الليلة التي أسفر صباحها عن الخبر، فنظم الأنسي القصيدة، وأدرجه فيها. وله هذه الكافية، في مدح الشريف المذكور أيضاً، وأولها: مِن قبلِ رُؤْياك يا رَيَّا عَرفْناكِ ... أهْدَى النسيمُ قَبُولاً طِيبَ رَيَّاكِ ونَفْحة جابتِ الآفاقَ منكِ فلم ... يبْقَى على المِسكِ ذِكْرَى بعدَ ذِكْراكِ كم بَلْبَلَ البَالَ منها بُلْبُلٌ سَحَراً ... وهل مَغانيه إلا بعضُ مَغْناكِ وأطْربَ العِيس حَادٍ في مَفازَتِها ... تحت الدُّجَى حين غَنَّاها بمَغْناكِ حَلَلْتِ نَجْداً فطابتْ منكِ أرْبُعُهُ ... وأصْبحَ التُّرْبُ تِبْراً بعد مَمْشاكِ وخالطَتْ مَجَّةٌ منك العُذَيْب وما ... عِلْمِي به قبلُ لولا نَفْثُ مِسْواكِ عِمِي صباحاً مَغانِي الغانياتِ ولا ... تنْفَكُّ نعم تغذ أيدي نُعْماكِ أين العهودُ التي كانتْ مُؤكَّدَةً ... إيَّاك أن تنْقُضِيها بعدُ إيَّاكِ نعِمْتِ يا نُعْمُ بَالاً بعدَنا ولنا ... بالٌ يُبَلْبِلُه ذِكْرى مُحيَّاكِ إن كُنَّ أرْبُعِك الَّلاتي زهتْ وهَزَتْ ... بأرْبعٍ من جِنانِ الخُلْدِ مَأْواكِ فيهِنَّ عَيْنانِ من شُهْدٍ ومن لَبَنٍ ... نَضَّاخَتانِ فمِن عَيْنَيَّ عَيْناكِ والمُنْحنَى من ضُلوعِي لم يزلْ أبداً ... مَثْواكِ والقلبُ لا ينْفكُّ مَرْعَاكِ

لولاكِ ما قلتُ بيْتاً في النَّسيب ولا ... جَفا جُفونِي كَراها غِبَّ مَسْراكِ ولا لَقِيتُ من الوَجْدِ المُبرِّح ما ... يَرُضُّ رَضْوَى فهل باللهِ أرْضاكِ نَزلْتِ نَجْداً وأضْحَى مَنْزلي بمِنىً ... حتى متى يا تُرَى باللهِ ألْقاكِ ولي بَقايَا حُشاشاتٍ أضِنُّ بها ... عَسَى عَسَى تتلاقاها مَطايَاكِ وفي فؤادِيَ أسْرارٌ تضمَّنها ... من الصَّبا حبَّذا إيداعُها فاكِ لا وَاخَذ اللهُ أيْدِي العِيسِ قد جمَعتْ ... بعائدِ الصِّلةِ المَشْكُوَّ والشّاكِي يا ربَّةَ الخْالِ والخَلْخالِ طَيْفُ خَيا ... لٍ منك يشْفِي خليلاً وجْدُه ذَاكِ وبارِقٌ برَقتْ لي من ثَنِيَّتِه ... منك الثَّنايا فأضْحَى أيّ ضَحَّاكِ فمتِّعِيه به ما عاشَ وابْتَعِثي ... دِماه لا تعْدميه لا عَدِمْناكِ سقَى ورَوَّى وحَيَّى للرَّبابِ مُلِثٌّ ... للرَّبَابِ الرُّبى رَيَّا بذِكْراكِ حتى يُقال لمَعْناها لقد رَحِمَ الضَّ ... حَّاكُ يا قوم هذا العارِضَ الباكِي وحاكَ منها بُروداً ثم فَوَّفَها ... بكلِّ لَوْنٍ فأعْيَى وَضْعُها الْحَاكِي كأن زيداً أطال الله مُدَّتَه ... أمَدَّ بعضُ مُحَيَّاه مُحيَّاكِ فهْو الذي يدُه البَيْضا وصَنْعتُها ... نَسْجُ المَكارِم من إبَّانِ إدْراكِ ما بأسُ عمرٍو وما هَمُّ ابنِ ذي يَزَنٍ ... وما سياسةُ سَاسانٍ وإيناك ما زال لا زال يَطْوِي كلَّ مُنْتَشِرٍ ... من المَمالك في عُرْبٍ وأتْراكِ حمَى به الحَرميْن اللهُ فامْتنعَا ... عن مُلْحِدٍ وأثيمٍ بل وهَتَّاكِ فَأَمَّتِ الأُمَمُ البيتَ الحرامَ على اخْ ... تلافِها لم يَخفْ سِرْبٌ لنُسَّاكِ سِنانُه لم يزَلْ يُدْعَى وصارِمُه ... بفاطِرٍ وبسَفَّاحٍ وسَفَّاكِ هو الأمينُ ولكن ليس يخدمُه ال ... مأمونُ إن غَمزتْ عَيْنٌ لأفَّاكِ سَلْ عنه مكةَ هل مَلْكٌ تَسَلْطَنَ يحْ ... كي منه زيداً بها من قبلهِ حَاكِ وهل لطائرِه المأمونِ من مَثَلٍ ... فيمن تقدَّم سَلْ سَلْعاً وذي الداكِي كم طاب في طَيْبَةٍ رَبْعٌ لِمُرْتبِعٍ ... كَساه بُرْدَ ربيعٍ عَدْلُه الزَّاكِي إن ينْتقِلْ عنك جَوْرُ يَثْرِبٍ فلا غرْ ... وَفقد ثقلتْ من قبْل حُمّاكِ زيدٌ هو الجوهرُ الفَرْدُ الذي انْعَقدتْ ... له العِنايةُ في أثْناءِ شبَّاكِ منها: مَن لي برُؤْية زيدٍ مَن يُبلِّغنِي ... مَن لي ببَسْطِ يدٍ من قبلِ إدْراكِ أعوذُ باللهِ من عَجْزٍ يُحوِّلَ عن ... ازْديارِ مَن سَكَن الزَّوْراءَ نَهَّاكِ يا ربِّ بالبيتِ زِدْ زيدَ المكارمِ تَعْ ... ميراً وعِزّاً وصِلْ من حَبْلِيَ الوَاكِي ثم الصلاةُ على المختارِ من مُضَرٍ ... وآلهِ ما انْطَوَتْ أشْراكُ إشراكِ ولده أحمد سره الذي بدا، وأطل روضاً متروياً بطلٍ وندى. لقيته بمكة يصطبح الحظ ويغتبق، وثناؤه ما بين أدبائها عبق. وعندهم أشعاره ناطقةٌ بتبريزه، واستيلائه من معدن الأدب على إبريزه. وأنا على ذلك من الشاهدين، وما شهدت إلا وأنا من المشاهدين. وأما عشرتي معه فما زلت أذكرها، وبلسان الإخلاص أحمدها وأشكرها. فقد رأيت منه خلاً طبعه مصفى، ومشربه من ريق الشؤبوب أصفى. ومما خاطبته به، هذه الأبيات: أأحمدُ يا مَن صَحَّ عندِيَ وُدُّه ... ووُدِّي لديه صَحَّ عندِي ببُرْهانِ كِلانَا على أنِّي الغريبُ وأنك الْ ... غريبُ ولا دَعْوَى هناك برُجْحانِ

وإني وإيَّاك الحياةُ وجِسْمُها ... كِلانَا على الإخلاصِ مُتَّفقانِ عجبتُ لوُدٍ بيننا مَعْ تبايُنٍ ... فإنِّيَ قَيْسِيٌّ وأنتَ يَماني رفيقان شَتَّى ألَّفَ الدهرُ بيننا ... وقد يلْتقِي الشّتَّى فيأْتلِفانِ وقد أهدى إلي قصيدةً، يمدح بها كتابي هذا، وأنشدنيها ونحن في السردارية، المنتزه البهج، صحبة جماعةٍ صقلوا العشرة بطبعهم الرهج. وهي قوله: لشمسِ المَعالي والبلاغةِ إشْراقُ ... وللنظمِ من بعد التَّقَيُّدِ إطْلاقُ فريحانةُ المولى الخفاجِيّ عَرْفُها ... برَوْضٍ من الآدابِ والعلمِ عَبَّاقُ ويا حبَّذا ذيلٌ كساها مُحَمَّدٌ ... سُلالةُ فضل اللهِ مَن هُوَ سَبَّاقُ وذلك فضلُ اللهِ يُؤْتيه مَن يشَا ... وحَسْبُك أن الفضلَ والعلمَ أرْزاقُ لقد فاق مولانا الأمينُ مُؤرِّخاً ... لقومٍ لما تحْوِي التواريخُ قد فاقُوا بأوْراقِهِ زِينَتْ قُدودُ عُلاهُمُ ... كما زانتِ الأغْصانَ في الرَّوضِ أوراقُ وأحْكَم في تأْليفهِ مُتفنِّناً ... وأبْدَعَ حتى قيل ذلك إغْراقُ بإغْراقِه قد أصبح الغيثُ غارِقاً ... وللغيثِ إرْعادٌ هناك وإبْراقُ وفي بحرِه غار العُبابُ حَقارةً ... وهيهات للْبرقِ اليمانِيِّ إلْحاقُ فإن يُغْلِق الفتحُ بنُ خاقانَ بابَه ... فحُقَّ له من بعد ذلك إغْلاقُ به فارقتْ تلك القلائد جِيدَها ... وليس إلى ذكرِ الخريدةِ مشتاقُ ودَعْ عنك آدابَ السُّلافة بعده ... فليس لكاساتِ السلافة إدْهاقُ يحِقُّ لهذا الذيلِ إن قال تائِهاً ... أنا الرَّأْسُ والريحانة الخُفُّ والسَّاقُ كأن رِياضاً ما حَواه قِمَطْرُه ... فعَنْ طَيِّه نَشْرُ اللطائفِ خَفّاقُ كأن معانيه معانٍ لمَعْبَدٍ ... يُجاوبُه مهما ترنَّم إسْحاقُ كأن به هاروتَ ينْفُث سِحْرَهُ ... فلِلْقَوْمِ إصْغاءٌ إليه وإطْراقُ كأن ذوِي الآدابِ عند سَماعِه ... وقد ثمِلُوا صَرْعَى مُدامٍ فما فاقُوا كأن التَّواريَ والجِناسَ خرائدٌ ... تُشاهدها في موقفِ الأُنْسِ عُشَّاقُ كأن سَوادَ الحِبْرِ فوقَ بياضِه ... وقد زانَه سحرُ البلاغةِ أحْداقُ طَلاسِمُ أفكارٍ تخُطُّ لناظرٍ ... دَيابِيجُها حولَ التَّراجِم أَوْفاقُ تَداوَى به الأذْهانُ من داءِ عِيِّها ... وتلك لداءِ العِيِّ طِبٌّ ودِرْياقُ فقُلْ للأمين الأفضلِ السَّيِّد الذِي ... له في العُلَى قَدْران خَلْقٌ وأخْلاقُ لكَ اللهُ قد جُزْتَ الكواكبَ راقِياً ... وهل مجدُك السَّامِي لقَوْلِيَ مِصْداقُ وأطْلَعْتَ للآدابِ شمساً بنُورِها ... تبلّج من ليلِ الجَهالةِ آفاقُ وضَعْتَ لأبْناءِ الزمانِ قلائداً ... تُطوَّق منها للمفاخِرِ أعْناقُ ولا عَجَبٌ أن يُظهِر الفضلَ نَجْلُه ... وأن يقْذِفَ الدُّرَّ الذي فيهِ دَفَّاقُ ودونَك منِّي عن ذوِي الشِّعْرِ مِدْحةً ... سَبائكُها للجدِّ تاجٌ وأطْواقُ لقد زَانَ نَوْعُ الافْتتانِ نِظامَها ... وما فاتَها مَعْ رِقَّةِ اللفظِ إفْلاقُ أجَزْناك مَدْحاً يا فريدَ زمانِنا ... ليُقْضَى به حَقٌّ ويُحفَظَ مِيثاقُ وصلَّى على المُختارِ ما هبَّتِ الصَّبا ... وما باكَر الرَّوضَ المُفَوَّفَ غَيْداقُ وكتبت إليه أمدحه بقولي: بين النُّهُودِ ومَعْقِد البَنْدِ ... طعناتُ صائلةِ القَنا المُلْدِ فاحْذَرْ هنالك من رَنَا مُقَلٍ ... يصْرَعْنَ مَن يُبْصِرْنَ عن عَمْدِ

وأنا الفِداءُ لمَن بناظرِهِ ... وأنا السّقامُ مُجاوِر الحَدِّ طَوْعاً إذا ما رام سَفْك دَمِي ... لكنْ أخافُ يكون عن صَدِّ صَنَمٌ لبِستُ الغَيَّ فيه فلا ... أدْرِي أغَيِّي ضَلَّ أم رَشَدِي عَقَدَ النِّطاقَ وحَلَّ مُصْطَبَرِي ... فذهبتُ بين الحَلِّ والعَقْدِ قد أشْرقَتْ من نُورِ طَلْعَتِه ... شمسُ الضحى في طالعِ السَّعْدِ كُسِفتْ نجومُ الأُفْقِ حين بَدَا ... فنثَرْنَ خِيلاناً على الخَدِّ جسدٌ يذُوبُ لَطافةً وله ... قلبٌ بدَا في قَسْوةِ الصَّلْدِ أشكُو النُّحول لخَصْرِه غِلَظاً ... فيقول هذا كله عندِي مِن أضْلُعِي نارُ الغَضَا سكنَتْ ... في المُنْحَنَى والدمعُ في نَجْدِ لا تعجبِي يا سَلْمُ مِن حُرَقٍ ... أظْهَرْتُها خوفاً من البُعْدِ فالعَنْدَلِيبُ ينُوح حين يرَى ... عدمَ الوفاءِ له من الوَرْدِ شِيَمُ المَلِيحِ عَرفْتُها وأنا ... في كلِّ حالٍ ثابتُ العهدِ مَن كان يأمُل أن يُزهِّدَني ... فيه فإنِّي زاهدُ الزُّهْدِ إنِّي شُغِفْتُ به كما شُغِفَتْ ... بصفاتِ أحمدَ ألْسُنُ الحَمْدِ نَدْبٌ حوَى الفضلَ التَّمامَ وقد ... بلغَ العُلَى مُذ كان في المَهْدِ فَرْدُ الزمانِ فإن نظَرْتَ تَجِدْ ... كلَّ الفضائلِ منه في فَرْدِ إن عُدَّ فخرٌ كان أوَّلَ مَن ... عُقِجتْ عليه العَشْرُ في العَدِّ عَذْبُ الفكاهةِ في بَداهَتِه ... كَلِمٌ غدَتْ قطعاً من القَنْدِ وله بَنانٌ كلَّما كَتبتْ ... نظَمتْ دَرارِي الشُّهْبِ في عِقْدِ مِن كل سَطْرٍ كالعِذارِ إذا ... ما لاح فوق عَوارِضِ المُرْدِ لو عاينَ النَّظَّامُ أحْرُفَه ... لَدرَى وجودَ الجوهرِ الفَرْدِ مولايَ أنت أجَلُّ مَن نطقَتْ ... فيه المدائحُ من ذَوِي المَجْدِ خُذْها إليك كريمةً بلغتْ ... في الوصفِ أقْصَى غايةِ الجُهْدِ واعْذِرْ قُصورِي في المديح فما ... تُحْصَى رمالُ الأرضِ بالعَدِّ لا زلْتَ في عِزٍ وفي دَعَةٍ ... فبَقاكَ فينا غايةُ القَصْدِ وأنشدني أشعاراً كثيرة، منها هذه القصيدة، قال: كتب بها إلى علي بن أحمد ابن أبي الرجال: متى منك طِيبُ الوصلِ يدنُو ويقْرُبُ ... ويسهُل من لُقْياك ما كان يصْعُبُ وترحمُ صَبّاً صَبَّ صَبّاً دُموعَه ... لفَرْطِ الهوى من مَدْمَعٍ ليس ينضُبُ وما دمعُه الجارِي سوى قلبِه الذي ... بجَمْرِ الهوى قد ذاب وهْو المُذَبْذَبُ رُوَيْدكَ قد عذَّبتَ بالبَيْنِ مُهْجتِي ... وليس عَذابي لو ترفَّقْتَ يعْذُبُ بلِينِ قَوامٍ منك لِنْ لِمُتيَّمٍ ... فؤاداً وراقِبْ من لَطيْفِك يرقبُ وبالجِيدِ جُدْ بالوصلِ يا رِيمَ رَامةٍ ... فقد جَدَّ بي وَجْدٌ من النَّأْيِ مُتْعِبُ وباللَّحْظِ إلا ما تُرَى لي مُلاحِظاً ... وترحمُ قلباً في هَواكَ يُقلَّبُ ألا إنَّ فَنَّ الحبِّ فَنٌّ رَضِيتُه ... وقد صَحَّ لي فيه اعْتقادٌ ومَذْهَبُ وما كلُّ مَن يصْبُو مُصابٌ بدِينِه ... ولا كُلُّ مَن قال التَّغَزُّلَ يُثْلَبُ ولا كلُّ مَن يُنْشِي القَرِيضَ بشاعرٍ ... ولا كلُّ شِعْرٍ قيل شِعْرٌ مُهذَّبُ إذا لم يَحُزْ مَدْحاً لأحمدٍ الذي ... به المَثَلُ المشْهورُ في الناس يُضْرَبُ فتىً طاب إكْراماً وفَضْلاً وسْؤْدداً ... كما طاب في بَذْلِ النَّوالِ له أَبُ فأجبته بقولي: هو الدهرُ لا ما قيل في الكذبِ أشْعَبُ ... يُمَنِّيك بالإسْعادِ حِيناً ويكذِبُ

عَدِمْناه دَهْراً فيه قد عُدِمَ الوفَا ... فما ينْقضِي فيه لِذِي الحُبِّ مأْرَبُ يُكدِّرُ وِرْدَ العَيْشِ بعد صَفائِه ... وإنْ مَا كَسَا ثَوْباً من العِزِّ يسلُبُ ألم تَرَنِي بُدِّلْتُ بالأُنْسِ وَحْشةً ... فما راق لي من مَشْرَبِ الحُبِّ مَشْرَبُ تُنادِمني بعد النّدامَى نَدامَةً ... وأبْكِي على رَبْعِ الأحِبَّا وأنْدُبُ أهِيمُ هَوىً ما بين شَرْق ومغربٍ ... وجَفْنِيَ شَرْقٌ للدموعِ ومَغْرِبُ كواكبُ دَمْعٍ كلَّما انْقَضَّ كوكبٌ ... من الأُفْقِ بَارَاه من الدمعِ كَوْكَبُ يذكِّرني بدرُ الدجى مَن أوَدُّه ... وقد حفّه من فاحِم الشَّعْرِ غَيْهَبُ وأذكرُ بالبَرْقِ الّلموعِ ابتْسامَهُ ... فتحْكِي دموعِي سُحْبَه حين تسكُبُ فَمَرْجانُ دمعِي وهْو إذ ذاك أحْمَرٌ ... إذا سال في مُصْفَرِّ خدّك كَهْرَبُ وفيه مُراعاةُ النَّظيرِ لجَوْهرٍ ... فُتِنْتُ به من ثَغْرِه وهْو أشْنَبُ وما الْبانُ إلاّ ما حَواه قَوامُه ... له عَذَبٌ منها فُؤادِي مُعَذّبُ فما بسِوَى ذاك الغزالِ تغزُّلِي ... ولا بِسوى عهدِ الشّباب أُشَبِّبُ وإن تُطْرِبِ الألْحانُ غيري فإنني ... إلى لَفْظِه أصْبُو غَراماً وأْرَبُ لألْحاظِه في القلبِ صَوْلَةُ ضَيْغَمٍ ... فقُل فيه لَيْثٌ فاتِكٌ وهْو رَبْرَبُ بَهِيُّ المُحَيَّا قد حَلاَ لي جَمالُه ... ومَدْحُ جمالِ الدِّين أحْلَى وأعْذَبُ له الكلماتُ الرَّائقاتُ كأنها ... ثَنايا حَبِيبٍ أو جُمانٌ مُثقَّبُ إذا شاءَها كانت سُلافاً مُروَّقاً ... وما كأسُها إلا البديعُ المُرتَّبُ تقول إذا هَزَّتْ يَراعاً بَنَانُه ... أذلك رُمْحٌ أم حُسامٌ مُشَطَّبُ فكم رَاعَ جَيْشاً في الطُّروسِ يَراعُهُ ... وكم رَدَّ مِن خَطْبٍ إذا هو يخْطُبُ جمالَ الهدى مُذْ غِبْتَ عنِّيَ لم أزَلْ ... أُغالِبُ فيك الشوقَ والشوقُ أغْلَبُ ووُدُّك منِّي بالسَّوادَيْن نازِلٌ ... من القلبِ والعَيْنَيْن ثَاوٍ مُطنِّبُ وإن أوْجَب الحالُ التَّنائِيَ عنكمُ ... فإنِّي إليكم سوف أدْنُو وأقْرُبُ وما خَشْيتي ممَّا عرفْتَ وإنّما ... بِعادُ الفتى عن مَرْبَعِ الضّيْمِ أصْوَبُ وفي السَّودةِ الغَنَّاءِ قد طاب مَسْكَنِي ... وكلُّ مَحلٍ يُنْبِتُ العِزَّ طَيِّبُ أقمتُ بها في خَفْضِ عيشٍ ورِفْعةٍ ... لأخْفِضَ بالإنْشاءِ قَوْماً وأنْصِبُ سأبعثُ في أثْناءِ كُتْبِي كتائباً ... بأمْثالِها الأمْثالُ في الناسِ تُضْرَبُ سَلاهِبُ يتْرُكْنَ القوافِي قَوافِياً ... إذا كَرَّمنها مِقْنَبٌ جاشَ مِقْنَبُ وهاكَ لِسانُ الحالِ عَنِّيَ ناطِقٌ ... وعنْك بما قال الأديبُ المُجرِّبُ لَحَى اللهُ ذِي الدنيا مَناخاً لراكبٍ ... فكلُّ بعيدِ الهَمِّ فيها مُعذّبُ ألا ليتَ شِعْرِي هل أقولُ قصيدةً ... ولا أشْتكِي فيها ولا أتَعتَّبُ وبي ما يذودُ الشِّعْرَ عنِّي أقلُّه ... ولكنَّ قلبي يا ابْنَةَ القومِ قُلّبُ وخُذْها جواباً عن تَصَدِّي فكرةٍ ... فما مثلُها إلا الصِّباء المُجرَّبُ وأنشدني أيضاً، من قصيدة، أولها: في عَبْرتي لكَ من وَجْدِي عِباراتُ ... وفي الكِناياتِ عن وَصْفِي إشاراتُ بديعُ حُسْنِك يا مَن لا نَظِيرَ له ... ما فيه لِلْوالِه المُضْنَى مُراعاةُ

فطَرْفُه في انْسِجامٍ من مَدامِعِه ... وقلبُه فيه للوَجْدِ اسْتِعاراتُ مُستخْدَماً لك لكنْ ما اكتفيْتَ به ... بئس الجَزَا منك في الشّرْطِ الإساءاتُ فليت ليِتَكَ يَثْنِي الالْتفاتَ لكيْ ... تسْتدرِكَ الصَّبَّ منك الالْتفاتاتُ فهْو الذي قد غدَا في حُبِّه مَثَلاً ... وفَوَّفتْ نَظْمَه منك الجِناساتُ يَطْوِي وينشُر قلبِي من تَثَّنِتِه ... بَرْقٌ له من ثَناياك ابْتساماتُ ومِن خُفوقِ فؤادي بل ورِقَّتِه ... ونارِه ثَمَّ لِلْبَرْقِ ابْتساماتُ يا غايةَ السُّؤْلِ شَرْحِي في الغرامِ غَدَا ... مُطَوَّلاً ما له فيه نِهاياتُ وأنت كَشَّافُ ما أُلْقِي وبَهْجتُه ... فهَلْ لِمصباحِ وَجْدِي منك مِشْكاةُ حديثُ وَجْدِي قديمٌ والمَعاهِدُ لي ... فيها الشَّواهِدُ تُمْلِي والمَقاماتُ أنتَ الشِّفاءُ وما بيْن الشِّفاهِ له ... مَناهِلٌ عَذُبتْ فيها الرِّواياتُ عسَاك تسْمَحُ لي بالوَصْلِ مُنْعطِفاً ... فكم لِعِطْفِك يا غُصْنُ انْعِطافاتُ بيْني وبينك في التَّشْبيهِ تَسْويةٌ ... لولا اخْتلافٌ به تُفْضِي الصَّباباتُ وها نُحولِي شَبِيهُ الخَصْرِ منك وعنْ ... سقامِ جَفْنَيْك أخبارِي صَحِيحاتُ ولُؤْلُؤُ الدمعِ منِّي حين أسْكُبُه ... تَحْكِيه منك الثَّنايا اللُّؤْلُؤِيَّاتُ ونارُ خَدِّك في قلبي لها لَهَبٌ ... لولا عِذارُك من حَوْلَيْه جَنَّاتُ من أجلِ طَرْفِك أهْوى كُلَّ مُنْصَلِتٍ ... فكَم له صَوْلَةٌ فينا وفَتْكاتُ وكم أضَمُّ رِماحَ الخَطِّ حين حَكَتْ ... مَنْصوبَ قَدِّك وهْي السَّمْهَرِيَّاتُ لِقَتْلِ أهلِ الهوى قد صار مُنْكَسِراً ... يا لَلرِّجالِ لجَفْنٍ فيه كَسْراتُ نَقِيُّ خَدٍ إذا ما افْتَرَّ ضاحِكُه ... بَدَتْ لقلبي من الأفراحِ راياتُ رُوحِي الفداءُ لبدرٍ إن سَرَى فله ... في الطَّرْفِ والقلبِ أبْراجٌ وهَالاتُ لكنه إن تثَنَّى ذَابِلٌ وإذا ... رَنَا فظَبْيٌ له في الأُسْدِ سَطْواتُ لَئِنْ تضِلَّ به ألْبَابُنا فلها ... مَدْحُ الخليفةِ إن ضَلَّتْ هِداياتُ وأنشدني من أخرى، مطلعها: لو كان أنْصفَك الهلالُ لأنْصَفا ... لكن تكلَّف حُسْنَه فتكلَّفَا يا أيُّها الشمسُ التي أنْوارُها ... لولا اكْتسابُ البدرِ منها أُكْسِفَا كم رام صَبُّك أن يكون بحُبِّه ... بين المَلاَ مُتنكِّراً فتعرَّفَا صَبٌّ به صَبُّ المَدامعِ لم يزَلْ ... يُبْدِي من الوجدِ المُبرِّحِ ما خَفَى وأراه بعد اليومِ إن لم يشْتفِي ... بالوصل أو يُشْفَى يكون على شَفَا لا تسمعِ الشّانِي فشاني أدْمُعِي ... يُنْبيك عن شاني بوَكَّافٍ كَفَى لشُهودِ دمعي من لِحاظِك جَارِحٌ ... والسّقمُ يُثْبِتُ ما تقول وإن نَفَى أفْدِيك من مُتنوِّعٍ مُسْتمْنِعٍ ... في كلِّ مُمْتنعِ الغرام تَصَرَّفَا مِسْكينُ حُبِّك أيُّها الغَانِي غَدَا ... لصِلاتِ وَصْلِك في المَحبَّة مَصْرِفَا لولا ألِفْتُ لِقاكَ لم أكُ سائلاً ... إن لم يكنْ لك سائلاً فمؤلَّفَا بقَوامِك الأَلِفيِّ وهْو ألِيَّةٌ ... قد حاز للقَسَمِ الحروفَ وألّفَا وبواوِ صُدْغِك وهْو لو حَقَّقْتَه ... للعطفِ إلاّ ما وصلتَ تعطُّفَا كتب الجمالُ على مُحيَّاك الذي ... فَتَنَ العقولَ من المَحاسِنِ أحْرُفَا

نونُ الحواجبِ ثم مِيمُ الثّغْرِ مَعْ ... لامِ العِذَاريْن اللّذَيْن تألّفَا نَمْلٌ بها قد هامتِ الشُّعراءُ لَمَّ ... اسالَ سائِلُها وصارتْ زُخْرَفا سبحان مَن جعل الحديدَ فؤادَه ... والنُّورَ طَلْعته وذاك المُصْحفَا يَرْوِيك إذ يرْوِي مُبرَّد ثَغْرِه الضّ ... حَّاكِ عن عَذْبِ المَناهلِ بالشِّفَا منها: بِبَنانِه يحْكِي البَيانَ وكم حَكَتْ ... منه الجِناسَ إذا أشار مطرفَا وبِسِحْرِ مَنْطقِه البديعِ تظُنُّه ... في كلِّ فَنٍ في الفنونِ مُصنِّفَا وكأنه من نُطْقِه ونِطاقِه ... وُرْقٌ على وَرَقٍ أدارت قَرْقَفَا منها: خَضْرٌ تحمَّل منه رِدْفاً مُرْدَفاً ... ومن القَنا والقَدِّ رُمْحاً ثُقِّفَا مع خَصْرِه والرِّدفِ تنظر نَهْدَه ... فمُدققاً ومُحقَّقاً ومُحَقَّفَا بين السَّوالِفِ والسُّلافِ سَوالِفٌ ... سَلَفتْ أرَقَّ من النّسيمِ وألْطَفَأ هيْهاتَ لا أسَفٌ على ما قد مضى ... في الحالِ ما يُسْلِيك أن تتأسَّفَا وأبِيكَ قد عاد الغرامُ كما بَدَا ... فدعِ المَلامَ فلا أعِي مَن عَنَّفَا ورجعتُ عن نَظْمِ النّسِيبِ مُغالِطاً ... ومُكَنِّياً بالرُّمْحِ قَدّاً مُرْهَفَا وأنشدني هذه الرباعية: أهْوَى قمراً لِمُهْجتِي قد قَمَرَا ... أُغْفِي خَطَراً لقَدِّه إن خَطَرَا قد مَرَّ خَيالُه بطَرْفِي سَحَرَا ... أهْلاً بخَيالِ مَن لِطَرْفِي سَحَرَا وأنشدني في مليح توارى بين جوارٍ، قوله: أضْحَى يُوارِي نَفْسَه ... ليصيرَ من جِنْسِ الجوارِي باللهِ عنِّي قُلْ له ... دَعْ ذا الْجِناسَ مع التَّوارِي ما استعمل التواري أحسن من الشهاب، في قوله: يا مَن له من طَبْعِه ... شِعْرٌ من الإحْسانِ عَارِي ما ذاكَ إلاّ حُرْمَةٌ ... ولذاك أُولِعَ بالتَّوارِي وأنشدني قوله: إذا ما طال من أهْوَى ... فذاك الطُّولُ عن شَانِ مَعَاطِفُ حُسْنِه يَنَعَتْ ... فطال لِيْمنَعَ الْجانِي أخوه السيد علي عرفني أخوه مزاياه، حتى حسبته أباه أو إياه. وهو أديب بالكمال ملي، قدره فوق أن يقال: علي. شدت عرى أواخيه، بقوى أبيه أو أخيه. فإن طويت لآثارهما مطارف، فلقد تنشر لأخباره رفارف. وقد تلقيت من كلامه، وحسنات أقلامه. ما يأخذ من البلاغة باليمين، ويحتقر عنده الدر الثمين. فمن ذلك قوله من قصيدة، أولها: أعلَى سُطورِك أيُّها الرَّسْمُ ... سَحَبتْ فُضولَ ذُيولها نُعْمُ أم فُضَّ للمِسْكِ الذَّكِيِّ على ... تُرْبٍ ثَوَى بِك يا تُرَى حَتْمُ ما هذه النَّفَحات تُخْبِرُني ... إلا بأمرٍ شَرْحُه جسمُ خَبِّرْ هُدِيتَ عن الذين نَأَوْا ... فعَنِ العَمِيدِ الصَّبِّ لاَ كَتْمُ وأدِر سُلافاً من حديثِك عن ... ذاتِ الخَلاخلِ دونها الكَرْمُ هيْهات لا رَجْعٌ لِمَسْألتِي ... إلا صَدىً يهْفُو له الحِلْمُ إن قلتُ هل علمٌ أُسَرُّ به ... رَدَّ الجوابُ عليَّ هل علمُ يا نُعْمُ مالَكِ والصَّدودِ أمَا ... تَرْثَىْ لصَبٍ ذَلَّ يا نُعْمُ يُمْسِي سَمِيرَ النَّجْمِ من قَلَقٍ ... وأبيكِ رَقَّ لِمَا به النَّجْمُ وإذا ترنَّم طائرٌ سَحَراً ... أشْجاه منه الصَّدْحُ والنَّغمُ وَيْلاه من قلبٍ سَلاَ وخَلاَ ... عنِّي ومن قلبٍ هو الفَعْمُ وسقامِ طَرْفٍ قد كسَا جَسَدِي ... سُقْماً وأَنْحَلَ ذلك السُّقْمُ وردٌ ورُمَّانٌ وصافيةُ الْ ... خَدَّيْنِ والنَّهْدانِ والظَّلْمُ

الباب السادس في عجائب نبغاء الحجاز

بأبِي الذي كَتمتْ مَحبَّتُه ... مِنِّي الحَشا فعَليْه ينْضَمُّ لا لا أُصرِّح باسْمِه أبداً ... ويجِلُّ أن يُجْلَى له وَسْمُ وأقولُ يا نُعْمٌ وآوِنَةً ... سَلْمَى ولا نُعْمٌ ولا سَلْمُ يا عاذِلي إن كنتَ ذا رَشَدٍ ... آذانُ كلِّ مُتيَّمٍ صُمُّ أقْصِرْ فما عَذَلٌ بِمُتَّبَعٍ ... سِيَّان فيه القُلُّ والْجَمُّ إن رُمْتَ تَصْديقِي فلُمْ رَجُلاً ... في رَاحَتيْه يغْرَقُ الْيَمُّ وقوله، مضمنا: ورُبَّ فتىً في مَعْبَرٍ قد تَلاعَبَتْ ... به الرِّيحُ في شَرْقِ المَحَلِّ وغَرْبِهِ إذا ذهبَتْ ريحُ الشَّمالِ بسَمْعِه ... وبالبصرِ الرِّيحُ الجَنُوبُ وسَلْبِهِ يُناديهما ريحَ الجَنُوبِ وقد مضَتْ ... بما أسْأراه من بَقيَّةِ لُبِّهِ بعَيْشِكما لا تَتْرُكاه مُرَوَّعاً ... خُذا مِن صَبَا نَجْدٍ أماناً لِقَلْبِهِ وقوله، وفيه الإيداع: وَرْدةُ الخدِّ نَوَّرَتْ ... فاخْتشَى قَوْلَ هَاتِهَا فحَماها بجَمْرةٍ ... لم أكُنْ مِن جُناتِهَا يريد قول الأول: لم أكُنْ من جُناتِها شهِد اللَّ ... هُ وإنِّي لِحَرِّها صَالِي وله: شارِبُه المُخْضَرُّ مُذ لاح في ... مُحْمَرِّ ياقوتٍ له مُسْتَطابْ فحدَّه بالقَصِّ لمَّا غَدَا ... سَكْرانَ من خَمْرِ الثَّنايا العِذَابْ وله في مليح، يأكل قاتاً: أُشَبِّهُ ثَغْرَه والْقاتُ فيه ... وقد ذهبتْ بفِتْنتِه القلوبُ لآلٍ قد نَبَتْنَ على عَقِيقٍ ... وبيْنهما زُمُرُّدَةٌ تذوبُ آخر الجزء الثالث، ويليه الجزء الرابع، وأوله: الباب السادس في عجائب نبغاء الحجاز استدراك سقط أثناء الطبع في صفحة 574 بعد قوله: همتُ بها وأعجبُ الإبْداعِ ... ذو طَيْلَسانٍ هام في قِناعِ قوله: أفدي بقلبِ المُسْتهامِ دَلّها ... مَن ذا على قتْل النفوس دَلّهَا الجزء الرابع الباب السادس في عجائب نبغاء الحجاز هذا الباب ورب الكعبة، أعظم ما حوته الجعبة. وهو باب واسع الأطناب، والإيجاز فيه أولى من الإطناب. فإذا قل مدحي في أوصاف أهله نثيراً ونظيماً، فإن فكري يمر بنعتهم فيقف له إجلالاً وتعظيماً. فإن بسطت القول، مع هذه القوة والحول فعلى الصراط أحكم الأوصاف، وفي الميزان أتوفى الإنصاف. وغاية ما أقول إذا وجهت إلى الكعبة مجدهم صلوات التقديس والتعظيم، وزينت معاطفها بدر ثناء أبهى من در العقد النظيم: كفى شَرفاً قُطْراً به أهلُ مكةٍ ... على جسَدِ المجدِ الموثَّلِ رَاسُ وما الناسُ إلاَّ هُمْ وليس سواهُمُ ... إذا قال ربُّ الناسِ يا أيها النَّاسُ فأول من أبدأ به منهم آل البيت والمقام، ورؤساء النبعة التي تقرأ في صحائفهم فواتح الأرقام. وهم الأشراف بنو حسن بن أبي نمى أصحاب النسب الواضح، ونخبة قريش الأباطح. ورونق ضئضىء المجد وبحبوح الكرم، وسراة أسرة البلدة التي أكنافها حرم، وذؤابة الشرف التي مجاذبتها لم ترم. مون الفضل المبر، الذين سقوا شجر الكرم بغيث البر. أقول فيهم مقالة يحيى بن معاذ: طينةٌ عجنت بماء الوحي وغرست فيها أشجار النبوة، وسقيت بماء الرسالة والفتوة. فهل يفوح منها إلا مسك الهدى، وعنبر التقى، وهل تثمر إلا ثمار الندى، وتهدل إلا الأغصان الشامخة المرتقى؟ شرفٌ ضخمٌ ونائلٌ جزيل، وفخر شاهداه وحيٌ وتنزيل. يفتخر الزمان بوجودهم على ما مضى من الأزمنة وسلف، ويتوج الدهر بأيامهم الخضر رءوس سنية فيحصل لها بذلك غاية الشرف. الشريف إدريس بن حسن سلطان الأكياس، ومن سيرته سيرة ابن سيد الناس. رفعه الله مكاناً علياً، وأغدق عليه عهاد المجد وسمياً وولياً. فأبوابه كعبةٌ تطوف بها آمال العفاة، وتصلى بالقبل إلى أبوابها الشفاه.

وثم رأيٌ يختفي منه في غمده السيف، وصدرٌ يسع رحلة الشتاء والصيف. إذا سطا فالشهب من نصاله، وإذا فخر فالحمد أقل خصاله. فلو راع الهضاب لأنحلت معاقدها، أو تناول السماء لخوت فراقدها. إلى نعمٍ أنجدت على صدمات الزمان، واتخذت عقيدة الكرم كعقيدة الإيمان. فحضرته مقصد المنتاب، إذا حدت الحداة ذوات الأقتاب. وله أدب راق ورق، وشعرٌ رقيقه لحر العقول استرق. وقد وقفت له على ترجمة، ترجمه بها السيد محمد العرضي الحلبي، فلم أتمالك إلا أن ذكرتها. قال فيها: ذو الجبين المستنير بالعرفان، إذا غدا غيره جهولاً مقنعاً بقناع الذل والهوان. ماجدٌ احتبى بنطاق المجد كما احتبى السحاب ثهلان، وجواد أقسم جوده بيوم الغدير والنهروان. فأقسم برب البدن تدمى منها النحور، إنه الوارث منه وقفة الحجيج والوفادة، وسقايتهم والرفادة. وشهوده على ذلك منىً والمخيف، وصم الصفا والمعرف. كما قال الشاعر الرضي: له وَقفَاتٌ بالحَجيجِ شُهودُها ... إلى عَقِب الدنيا مِنىً والمُخَيَّفُ ومن مَأْثُراتٍ غيرِ هاتيك لم تزَلْ ... له عُنُقٌ عَالٍ على الناس مُشْرِفُ سار المذكور في أهل الحجاز بسيرة جده، من غير أن يغمد فيهم سيف حده. ومما أنشدت له من شعر الملوك المحمود، وإن قيل: شعر الهاشمي لا يكاد يجود. قوله في الاعتذار عن خضاب الشيب بالشباب المتلبس بالمعاد، والتسربل على موت الصبا بثياب الحداد: قالُوا خضبْتَ الشّيْبَ قلتُ لهم نعمْ ... ما إن طمِعتُ بذاك في رَدِّ الصِّبا لكنَّ عقلَ الشيبِ ما أحْرَزْتُه ... فخشيت أن أُدْعَى جَهولاً أشْيَبَا السيد أحمد بن مسعود بن حسن نابغة السادة، ومن له في الفضل صدر الوسادة. لم تنجب بمثله أم القرى، ولم تنضم على مثل وجوده الشريف العرى. نفذ في العز نفوذ السهم، وبلغ العليا بمعراج الفهم. وبرز في فرسان الكلام وشجعانه، وجاء من الشعر بما هو أنضر من عهد الصبا في ريعانه. فلله ما أقوم نهجه، وأوثق نسجه. وأسمح ألفاظه، وأفصح عكاظه. وأحمد نظامه ونثاره، وأغنى شعاره ودثاره. يجولُ بذهْنِه في كلِّ شيءٍ ... فيدركُه وإن عَزَّ المَرامُ تطوف ببَيْتِ سُؤْددِه القوافِي ... كما قد طاف بالبيتِ الأنامُ وتسجدُ في مَقامِ عُلاه شكراً ... ونعمَ الرُّكْنُ ذلك والمَقامُ وكانت له همة تجاوز الأفق مصعداً، ولا ترضى إلا فلك الأفلاك مقعداً. فلم يزل يقدر من نيل الشرافة ما أطال تعنيه، والأيام تعده بها وتمنيه. فلم يظفر منها بلحظة لحظ، " وما يلقاها إلا ذو حظ ". فاقتحم لطلبها بحراً وبراً، متوسعاً أينما حل رفاهيةً وبراً. قال ابن معصوم: وكان قد دخل شهارة، من بلاد اليمن، وامتدح بها إمامها محمد بن القاسم، بقصيدة راح بها ثغر مديحه وهو ضاحكٌ باسم. وطلب منه مساعدته على تخليص مكة المشرفة له، وإبلاغه من تحليته بولايتها أمله. وكان ملكها إذ ذاك الشريف أحمد بن عبد المطلب، فأشار في بعض أبياتها إليه، وطعن فيها بسنان بيانه عليه. ومطلع القصيدة: سَلا عن دَمِي ذاتَ الخلاخلِ والعِقْدِ ... بماذا استحلّتْ أخْذَ رُوحي على عَمْدِ فإن أمِنتْ أن لا تُقادَ بما جَنَتْ ... فقد قيل أن لا يُقْتَل الحرُّ بالعَبْدِ منها، وهو محل الغرض: أغِثْ مكةً وانْهَضْ فأنتَ مُؤيَّدٌ ... من اللهِ بالفَتْح المُفوَّضِ والجَدِّ وقَدِّمْ أخا وُدٍ وأخِّرْ مُباغِضاً ... يُساوِر طَعْناً في المُؤيَّد والمَهْدِي ويطْعن في كلِّ الأئمّةِ مُعْلِناً ... ويرْضَى عن ابن العاصِ والنَّجْلِ من هنْدِ فلم يحصُل منه على طائل، إلاّ ما أجازه به من فضل ونائل. فعاد إلى مكة المشرفة، ثم توجه إلى الروم. قلت: فمر على ساحل الشام، ونزل طرسوس، وبها عمل سينيته التي زفها خريدةً على أرائك الطروس، وعطر برياها أندية الأدب ولا عطر بعد عروس. وكان هام بالوطن، هيام ابن طالب بالحوض والعطن. وحن إلى تلك البقاع، حنينه إلى أثلاث القاع. والقصيدة هي هذه، وإنما ذكرتها بتمامها لمكانتها من القلوب:

حُثَّ قبل الصباحِ نَخْب كُؤوسي ... فهْي تَسْرِي مَسْرَى الغِذَا في النُّفوسِ وانتخِبْها بِكْراً فقد ثَوَّب الدَّا ... عي إليها من حانةِ القِسِّيسِ بِنْتُ كَرْمٍ إن تَلْقَ مَلْسُوعَ حَيٍ ... وهْو حِلْسٌ لن يرْتضِي بالجلوسِ كشفَتْ غَيْهَب الخُمارِ ولو تَرْ ... شحُ رَمْساً ردَّتْ بقَا المَرْمُوسِ غَرَستْها بين الحدائقِ في النَّوْ ... روزِ والشّطِّ كفُّ بَطْليموسِ فتلقَّ أمَّ المَسَرَّة طَلْقاً ... والنَّدامَى بمَهْرِ كَيْسٍ وكِيسِ واطْلِقِ النَّدَّ والكِبا الرَّطْبَ واسْتَجْ ... لِ عَرُوساً لا عِطْرَ بعد عَرُوسِ عانِسٌ في الدِّنانِ بالحْانِ لن تُطْ ... مثَ من عهد جُرْهُمٍ وجَدِيسِ نار أُنْسٍ يْعشُو الكَليمُ ويَصْبُو ... لِغناها بالذُّلِّ والتَّقديسِ حرقتْ حُلّةَ الجِنانِ وأبْدَتْ ... مُسْتطيرَ الصَّباح في الخَنْدرِيسِ زعم الجاهلون ظُلْماً بأن قد ... عصَرتْها قِدْماَ يَدَا عُبْدوسِ وهْي من لُطْفِها كشَكٍ نَفاهُ ... صادقُ العِلْم عند ذي تَوْسِيسِ فأدِرْها في كأسِها دون خَدَّيْ ... ك وفوق الشّقِيقِ من خَنْدَرِيسِ واسْقِ بالخَيْزَلَى النَّدامَى لتبدُو ... قُدرةُ اللهِ في المَقام النَّفِيسِ لترى أنْجُماً بفُلْكٍ وبَدْراً ... فوق غُصْنٍ يخْتال بين شُموسِ ولكلٍ إرْبٍ وما أنَا بالرَّا ... ئي شَرِيفاً في جَنْبِ وَجْهٍ خَسِيسِ لستُ من قبلها أُصدِّق أن الرّ ... احَ ظَلْمٌ في لُؤلُؤٍ مَغْروسِ ظَبْيةٌ رَخْوةُ العرِيكةِ تَغْتا ... لُ أُسودَ الشَّرَى بِدَهْيِ شُموسِ لَبِستْ من غلائلِ الحُسْنِ بُرْداً ... منه كلُّ العقولِ في تَلْبِيسِ تتهادَى فيه فتسْتقْبِحُ الرَّ ... وضَ أنِيقاً بحَوْزةِ التَّدْنيسِ لو رآها تَخْتالُ عُجْباً أبوها ... لَخَشِينا عليه دِين المَجُوسِ كلُّ خِلْوٍ منها اسْتجَدَّ رَسِيساً ... وقَديِمي فيها اسْتمدَّ نَسِيسي تركتْني نِضْواً على رسمٍ ... فيه دمعي خِلِّي وسُهْدِي جَلِيسي مُوحِشاً من هُنَيْدةٍ بعد أن كا ... نَ حَقِيقياً بالمرْبَعِ المأْنُوسِ طالَما قلتُ للعُذافِرِ واللَّيْ ... ث قد ألْقَى بها عصا السْيرِ هيسي لنَقْضي به حُقوقاً ونبْكي ... فيه وُرْقَ الحِمَى وثُكْلَ العِيسِ ونُرجِّي الآمالَ أن تبعثَ الرِّ ... يحُ أَرِيجاً من معهدٍ مَطْمُوسِ فرَعَى اللهُ بالأجارِعِ عَصْراً ... مَرَّ أمْسَتْ نجُومُه في طُموسِ حيث جَوُّ الشبابِ صَحْوٌ وبَحْرُ اللَّ ... هْوِ رَهْوٌ لم أُلْقِ فيه بِروُسِي ومَحَلِّي بين الأباطِحِ والقبَّةِ ... من طَيْبةٍ بسُوقِ الرَّسِيسِ أحمدُ الاسْمِ أحمدُ الخُلْقِ في اللَّ ... هِ غِياثُ المَنْجُودِ والمَلْبُوسِ شافعُ الأُمَّةِ التي جاء فيها ... كنتُمُ من مُهَيْمِنٍ قُدُّوسِ أوَّلُ الأنْبياء والخاتِمُ العا ... صِمُ من صَوْلِ صَيْلَمٍ دَرْدَبيسِ يتَّقِي حَيْدَرٌ وحمزةُ والفْا ... روقُ فيه إن جَاشَ قِدْرُ الوَطِيسِ وكذا في المَعادِ عِيسى وإسْحا ... ق وموسى الكَليم مَعْ إدْرِيسِ وبه يسْألون إن دَمْدَمَ الهَوْ ... لُ تجلِّيهِ في الزمانِ العَبوسِ

وهمُ الفائزون لكنْ لما طَمَّ ... على الخلقِ من عذابٍ بَئِيسِ مُهْطِعين الأعناقَ في موقفِ الرَّهْ ... بَةِ لا يُسْمَعَنْ لهم من نَبِيسِ فيُنادَى سَلْ تُعْط واشْفَعْ أيا خَيْ ... رَ شفيعٍ في مُسْمَهِرٍ طَبِيسِ أرْيَحيٌّ بقَصْدِه يَأْنفُ الأخْ ... مَصُ أن يحْتذِي شَواةَ الرُّءُوسِ نقَل الدَّهْرَ للجوامِعِ والأحْ ... كامِ بعد الأزْلام والناقُوسِ ترك الذئبَ والغَضَنْفَرَ والشَّا ... ةَ جميعاً من خَوْف غبّ الفَرِيسِ أيَّد الدِّينِ بالذَّوابل والشُّو ... سِ المَذاكِي تعدو بِبيضٍ شُوسِ كل ذِمْرٍ في السِّلمِ هَيْنٍ وفي الحَرْ ... ب أبِيٍ يشُقُّ أنْفَ الخَمِيسِ كعَليٍ وحمزةِ البِشْرِ إن بُدِّ ... لَ بِشْرُ الوجوهِ بالتَّعْبِيسِ بَيْهَسَىْ غابةِ الوَشِيجِ وطَوْدَيْ ... مَفْخَرٍ في مُؤثّل قُدْمُوسِ بهما والبَتُولِ والآلِ والسِّبْ ... طَيْنِ والمُخْتبيْن في التَّغليسِ الإماميْن بالنُّصُوص الشّهيدي ... نِ البريئيْن من صَدَا التَّدْنِيسِ فَرْقَدَيْ هالةِ السيادةِ وابْنَيْ ... من خص بالقَواضبِ التَّبخيسِ ما رعى فيهما رئيسٌ إلى الفِدْ ... يةِ إلاَّ فَضْلاً عن المَرْءُوسِ وبمن قام في مَقامك يُسْتسْ ... قَى به والمُحلّقِ الدَّعِّيسِ وبنَجْمَيْك صاحِبَيْك ضَجِيعَيْ ... ك ظَهريْك في الرَّخا والبُوسِ ذا رفيقٌ في الغارِ حِلْفٌ وذا يَنْ ... فِرُ من حَبْسِه شَبَا إبْليسِ وبِتِلْوِ الاثْنيْن جامعِ أشْتا ... تِ المَثاني بالرَّسْمِ والتدْريسِ لم يراقَب للهدى والجيشِ من غَيْ ... رِ فسوقٍ أتَى ولا تَدْليسِ أدرِكْ أدرِك ذَا غُرْبةٍ وانْفرادٍ ... وسُهادٍ ومَدْمَعٍ مَبْجُوسِ قد لَقي مِن حَصائدِ النَّفْي ما لاَ ... قَى كُلَيْبٌ فيها غدَاةَ البَسُوسِ الْوَحَي الْوَحي فذلك مَلْهُو ... فٌ يُناديك من وَرا طَرَسُوسِ يا نَبِيَّاه يا وَلِيَّاه يا جَدَّ ... اه يا غَوْثَ ضارعٍ مَوْطُوسِ أنت إن أعْضَلَ العُضالُ وأعْيَى ... كُلَّ آسٍ دَواهُ جَالِينوسِي وإذا ما الخِناقُ ضاق فلم أرْ ... جُ لكَرْبِي إلاّك للتَّنْفيسِ ولقد جرّد العقول إلى أن ... لبِسَتْ منه بِزَّةَ المَخْلوسِ فبِجَدْواك يقلِب السعدُ في الأزْ ... مةِ سَعْداً تحديقَ عَيْنِ النُّحوسِ يا خَفِيرِي إذا ارْتُهِنتُ ومالي ... غيرُ كُتْبي في مَضْجَعِي مِن أنيسِ أبِظُلمِ الحَوْبا أُقصِّر عن شَأْ ... وِ جُدودِي وأنت أصلُ غُروسي حاشَ للهِ أن يقصِّر مَن أفْ ... عم فيكم مَدْحاً بُطونَ الطَّروسِ فارْتبِطْها من الجِيادِ التي تسْ ... بقُ خَيْلَ الوليد وابن سَدِيسِ وأجْزِني بُرْداً من الأَمْنِ ما حِي ... كَ بصَنْعاَ حُسْناً ولا تِنِّيسِ إن أَرُحْ مُطلقاً من الذنبِ فالتَّغْ ... ريضُ وَقْفٌ مُسَلْسَلُ التَّحْبيسِ أو تناسَى به فَنِاءى وحَقِّي ... فعلى الحَظِّ دعوةُ المَبْخُوسِ فأغِثْنِي دُنْيا وأخرَى بمَوْلا ... كَ ليهَْدا روُعي ويقْوى رَسيسي لو تشفّعْتَ في سَبَا لعلِمْنا ... أنهم فائزون بالمَحْسُوسِ

فعليك الصلاةُ ما هَجَّر الركْ ... بُ وحَثَّ القِلاصَ للتَّعْرِيسِ ثم دخل حلب. قال العرضي: فنزل منها في صدرٍ رحيب، وقابلته بتأهيلٍ وترحيب. ثم انثالت إليه من أبناء الشهباء عيون أعيانها، من وجوه علمائها وأشرافها، الذين هم إنسان حدقة إنسانها. انثيال الدر، إلى الواسطة من عقد النحر، واحتفت به احتفاف النجوم بالبدر. ممن دعاه ناديه فلباه، وحظي بإقبال وجهه وطلعة محياه. فرأيناه يحاضر بأخبار الطالبين، الحسنيين منهم والحسينيين. سيما الشريف الرضي، من وجهٍ مذهبه في البلاغة وضي، وطريقه وهو أخو المرتضى مرضي. ويلهج كثيراً بأخباره، ويحفظ أغلب أشعاره. قال: فمدحته بقصيدةٍ، مطلعها: لِلهِ أكْنافٌ بخيفِ ... طابتْ وطال بها وُقوفِي إلى أن تخلصت إلى مديحه: وإذا طلبتَ عَرِيفَهم ... ولأَنْت بالفَطِنِ العَرِيفِ فهُو الشريفُ بنُ الشري ... فِ بن الشّريفِ بن الشريفِ فتمايل لدى إنشادها طرباً، وأظهر بها إعجاباً وعجباً. قائلاً: لا فض الله فاك، وكثر من أمثالك. فقلت: استجاب الله دعوتك هذه، كما استجابها من جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أنشده النابغة الجعدي: بلَغْنَا السماءَ مَجْدَنا وجُدودَنا ... وإنّا لَنرْجو فوق ذلك مَظْهَرَا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأين المظهر يا أبا ليلى "؟ قال: الجنة يا رسول الله. فقال: " قل إن شاء الله ". ثم قال: ولا خيرَ في حِلْمٍ إذا لم يكنْ له ... بَوادِرُ تَحْمِي صَفْوَه أن يُكَدَّرا ولا خيرَ في أمرٍ إذا لم يكن له ... حليمٌ إذا ما أوْرَد الأمرَ أصْدَرَا فقال له صلى الله عليه وسلم: " لا فض الله فاك ". فبلغ عمره مائة سنة، لم يتغير له سنٌّ، بل كان أحسن الناس ثغراً. ثم قصد الشريف أحمد دار السلطنة العلية، قسطنطينية المحمية، فلقي سلطان الوقت إذ ذاك السلطان مراداً بقصيدة فريدة، سأله فيها توليته مكة. أولها: ألا هُبِّي فقد بكَر النَّدامَى ... ومَجَّ المَرْجُ من ظَلْمِ النَّدَى مَا فقيل: إنه أجابه إلى ملتمسه ومراده، وأرعاه من مقصده أخصب مراده. ولكن مدت إليه يد الهلك، قبل أن ينال الملك. وقيل: بل أجزل عطاه فقط، فقد طمعه عما تمناه وقط. ولم يعد إلى مكة، وتوفي في تلك السنة، أو في التي تليها. وتتمة هذه القصيدة قوله بعد المطلع: وهيْنمتِ القَبُولُ فضاعَ نَشْرٌ ... روَى عن شِيحِ نَجْدٍ والخُزامَى وقد وضَعت عَذارَى المُزْنِ طِفْلاً ... بِمَهْدِ الرَّوضِ تَغْدُوه النُّعامَى فَهُبِّي وامْزُجِي خَمْراً بظَلْمٍ ... ليَحْيَى ما أماتتْ يا أُمامَا ومُنِّي بالحياةِ على أُناسٍ ... بشمس الرَّاح صَرْعَى والظّلامَا فكم خَفَر الفوارسُ في وَطِيسٍ ... فتىً منا وما خَفَر الذِّمامَا وكم جُدْنا على قُلٍ بوَفْرٍ ... وأعْطَيْنا على جَدْبٍ هِجامَا قوله: وقد وضعت عذارى البيت. المراد بالطفل هو النبت، واستعارة الأم المرضع للمزن، كما وقع في قول الباخرزي، من قصيدة: وترَعْرَعتْ فيه لَطِيفاتُ الكَلاَ ... رَضْعانَة ضَرْعَ الغَمامِ الغَادِي ومنه مطلع قصيدة يحيى بن هذيل التجيبي المغربي: نام طفلُ النَّبْتِ في حِجْرِ النُّعَامَى ... لاهْتزازِ الطَّلِّ في مَهْدِ الخُزامَى وهذا البيت مطلع قصيدة من المرقص والمطرب، بل مطلع شمس البلاغة وإن كان قائلها من المغرب. وبعده وسقَى الوَسْمِيُّ أغْصانَ النَّقَا ... فهَوتْ تلثمُ أفْواهَ النَّدامَى كحَل الفَجْرُ لهم جَفْنَ الدُّجَى ... وغَدا في وَجْنةِ الصبحِ لِثامَا تحسَبُ البدرَ مُحَيَّا ثَمِلٍ ... قد سقْته راحةُ الصُّبْحِ لِثامَا حوله الزُّهْرُ كؤوسٌ قد غَدتْ ... مِسْكةُ الليلِ عليهنَّ خِتاما

قوله: كحل الفجر. البيت، ما زلنا في تردد وشبهة في معنى هذا البيت؛ فإنه أسند التكحيل إلى الفجر، وهو لا يلائمه؛ لابيضاضه ونوره، وإنما يلائم التكحيل ما كان أسودَ مظلما، وبعض الأفاضل حمله على أنه في ليلة مقمرة، يغيب القمر فيها لدن طلوع الفجر، فتحدث حينئذ ظلمةٌ يستحق بها الفجر أن يستند التكحيل إليه. وهو معنى متكلف كما تراه، حتى وقفنا على قول ابن الظهير الإربلي: وكأنَّ الصباحَ مِيلُ لُجَيْنٍ ... كاحلٌ للظلامِ طَرْفاً كَحِيلاَ فكان قولاً شارحاً لبيت التجيبي، وصار التكحيل لا غبار عليه بوجه من الوجوه. وبيت ابن الظهير من قصيدة يصف فيها الفلاة: جئْتُها والظلامُ راهبُ دَيْرٍ ... جاعلٌ كلَّ كوكبٍ قنْدِيلاَ أو عظيمٌ للزَّنجِ يقدمُ جَيْشاً ... قد أعَدُّوا أسِنَّةً ونُصولاَ وكأنَّ السماءَ رَوْضٌ أنِيقٌ ... نَوْرُه بات بالنَّدى مَطْلُولاَ ليلةٌ كالغُدافِ لو لم يَرْعُها ... نارُ فجرٍ ما أوْشكتْ أن تَزُولاَ وتولَّتْ وأشْهَبُ الصبحِ يتْلُو ... أدْهمَ الليلِ وانِياً مَشْكُولاَ ومن تتمة القصيدة: فيا ملكَ المُلوكِ ولا أُحاشي ... ولا عُذْراً أسوقُ ولا احْتشامَا أنِفْتُ بأنني ألْقاك منهم ... بمنزلةِ الرِّجال من الأيامَى إلى جَدْواكَ كَلَّفْنا المَطايا ... دَواماً لا نُفارِقُها دَوامَا وجُبْنا أيها الملِكُ المَوامِي ... إلى أن صِرْنَ من هزلٍ هُيامَا وذُقْنا الشُّهْدَ في معنى التَّرَجِّي ... وذُقْنا الصبرَ من جُوعٍ طَعامَا صَلِينَا من سَموُمِ القَيْظِ نَاراً ... تكون بنُورِك السَّامِي سَلامَا وخُضْنا البحرَ من ثَلْجٍ إلى أن ... حسِبْناه على البِيدِ اللُّكَامَا وجاوَزْنا العَنان على عِنانٍ ... تسِيرُ بنا ولم تلبثْ شَآمَا نَؤُمُّ رَحابَك الفِيحَ اشْتياقاً ... ونأمُل منك آمالاً جِسامَا ومَن قصَد الكريمَ غدا كريماً ... على ما في يديْه ولن يُضامَا وحاشَا بحرُك الفَيَّاض أنَّا ... نُرَدَّ بُغلةٍّ عنه حِيامَا وقد وَافاك عبدٌ مُستَمِيحٌ ... نَدَى كَفّيْك والشِّيَمَ الضِّخامَا وحُسْنُ الظنِّ يقطعُ لي بأنِّي ... أنالُ وإن سَما منك المَرامَا فقد نزَل ابنُ ذِي يَزَنٍ طَريداً ... على كِسْرَى فأنْزله شَمامَا أتَى فَرْداً فآلَ يجُرُّ جيشاً ... كسا الآكام خيلاً والرَّغامَا به اسْتبْقَى جميلَ الذكِّرَ دَهْراً ... وأنت أجَلُّ من كِسْرَى مَقامَا وسَيْفٌ لو سَما دوني فإنِّي ... عِصامِيٌّ وأسْمُوه عِظامَا بفاطمةٍ مع ابْنَيْها وطه ... وحَيْدَرةَ الذي أشْفَى العِقُامَا عليهم رحمةٌ تُهْدِي سلاماً ... يكون لنَشْرِها مِسْكاً خِتامَا ومن تفاريق شعره، قوله من قصيدة، مستهلها: كيف العَزَا والفُؤادُ يلْتهبُ ... والحَيُّ زُمَّتْ لِبَيْنهِ النُّجُبُ والعينُ عَبْرَى والجسمُ مُمْتَقِعٌ ... والنفْسُ حَرَّى والعقلُ مُضْطربُ وهذه أرْبُعٌ بكاظِمَةٍ ... عَفَتْ قديماً فنَدْبُها يجبُ منها: وابْكِ زماناً مضَى بها أنُفاً ... عنِّي فقد أذْهَلتْنِيَ النُّوَبَ منها: وبالنَّقا غادةٌ إذا خطَرتْ ... تغارُ منها الأغصانُ والكُثُبُ كأنها في الأَثِيثِ إن سَفَرتْ ... بدرٌ بسَجْفِ الظلامِ مُحْتجِبُ وكان ابن عمه الشريف محسن بن حسين يطرب لأبيات الحسين بن مطير، ويعجب بها، وهي: ولي كبدٌ مَقْروحةٌ مَن يَبيعُني ... بها كَبِداً ليستْ بذاتِ قُروحِ أبى النَّاسُ وَيْبَ الناسِ لا يشْترونها ... ومَن يشْتري ذا عِلّةٍ بصحيحِ

أحِنُّ من الشوقِ الذي في جَوانِحي ... حَنِينَ غَصِيصٍ بالشَّراب قَريحِ فسأل السيد أحمد تذييلها، فقال: على سالِفٍ لو كان يُشْرَى زمانهُ ... شَرَيْتُ ولكن لا يُباعُ بِروُحِي تَقضَّى وأبْقَى لاَعِجاً يسْتفِزُّه ... تألُّق بَرْقٍ أو تنسُّمُ رِيحِ وقَلْباً إلى الأطْلالِ والضَّالِ لم يزَلْ ... نَزُوعاً وعن أفْياهُ غيرَ نَزُوحِ فليت بذاتِ الضَّالِ نُجْبُ أحِبَّتِي ... طِلاحٌ فنِضوُ الشوقِ غيرُ طَلِيحِ يُجشِّمُه بالأبْرَقَيْنِ مُنَيْزِلٌ ... وبَرْقٌ سَرى وَهْناً وصوتُ صَدُوحِ وموقفُ بَيْنٍ لو أرى عنه مَوْلِجاً ... وَلَجْتُ بنفسِي فيه غيرَ شَحيحِ صَرَمْتُ به رَبْعِي وواصلتُ أرْبُعِي ... وأرْضيْتُ تَبْريحِي وعِفْتُ نَصِيحي وبايَنْتُ سُلْواني وكلَّ مُلَوّحٍ ... ولاءَمْتُ أشْجانِي وكُلَّ مَلِيحِ وكلَّفْتُ نفسِي فوق طَوْقِي فلم أُطِقْ ... لِعَدِّ سَجايا مُحْسِنٍ بمديحِ ومما قاله في تغربه: أتَتْنِيَ سَلْمَى وهْي غَضْبَى أسِيفَةٌ ... تُساقِطُ ياقوتاً على فضةِ النَّحْرِ تقول أمَا هذا المُقامُ ببلدةٍ ... غريباً على سَخْتِ النوائبِ والسُّمْرِ أما تذكُر البَطْحاءَ والبيْتَ والصَّفا ... ومنزةَ الوُفَّادِ بين بني فِهْرِ فقلتُ لها والطَّرْفُ تَدْمَى كُلومُه ... وقلبِيَ من لَذْعِ الكَلامةِ في جمْرِ ألا فارْبَعِي عنِّي وعِي القولَ واسْمعِي ... وتُوجِعي المحزونَ باللَّوْمِ والهجْرِ إذا جاء نصرُ اللهِ والفَتْحُ بعدَه ... فتبَّتْ يدُ الأحْزابِ في زمنِ الكُفْرِ وإنِّي على بُعْدِ المَزارِ وقُرْبِه ... عزيزٌ على هامِ السِّماكيْن والنَّسْرِ وله: ألا ليت شِعْرِي هل أُلاقيكَ مَرَّةً ... وصوتَ: قبل الموتِ هل أنا سامعُ فيا دَهْرَنا للشَّتِّ هل أنت جامِعٌ ... ويا دهرَنا بالوصلِ هل أنت راجعُ وقال مخاطباً عمه الشريف إدريس، وقد رأى تقصيراً منه في حقه: رأيتُك لا تُوفِي الرِّجالَ حُقوقَهمْ ... توَهَّم كِبْراً ساء ما تتوهَّمُ وتزعُم أنِّي بالمَطامِع أرْتضِي ... هَواناً ونَفْسِي فوق ما نِلْتَ تزْعُمُ وما مَغْنَمٌ يُدْنِي لِذُلٍ رأيتَه ... فيُقْبَلُ إلاّ وهْو عنديَ مَغْرَمُ وأخْتارُ بالإعْزازِ عنه مَنِيَّةً ... لأنِّي من القومِ الذين هُمُ هُمُ المصراع الأخير صدر أبيات أبي الطمحان القيني، أورد المبرد في كامله، والشريف المرتضى في أماليه، وصاحب الحماسة البصرية منها أربعة أبيات. وهي: وإنِّي من القومِ الذين هُمُ هُمُ ... إذا مات منهم سيِّدٌ قام صاحبُهْ نجومُ سماءٍ كلَّما غابَ كوكبٌ ... بَدا كوكبٌ تأْوِي إليه كواكبُهْ أضاءتْ لهم أحسابُهم ووجوهُهم ... دُجَى الليلِ حتى نظَّم الجِزْعَ ثاقبُهْ وما زال منهم حيث كانُوا مُسوَّدٌ ... تَسِيرُ المَنايا حيث سارتْ كتائبُهْ وأورد أبو تمام، في حماسته منها ثلاثة أبيات. وهي: إذا قيل أيُّ الناسِ خيرٌ قبيلةً ... وأصبرُ يوماً لا تَوارَى كواكبُهْ فإنَّ بني لاَم بن عمرٍو أَرُومةٌ ... سمَتْ فوق صعبٍ لا تُنال مَراقبُهْ أضاءتْ لهم أحسابُهم.......... ... ..........................إلخ وله في الغزل: أفي المَضارب أسيافٌ وأجْفانُ ... تصولُ أم هيَ ألْحاظٌ وأجْفانُ أحَنَّتِ العِيسُ أم نَوْحُ الحمائمِ أم ... نسيمُ نَجْدٍ توالتْ منه أشْجانُ لا بل هو الشوقُ يدعو الصَّبَّ نحوَهمُ ... فيستجِيبُ لهم قلبٌ وجُثْمانُ

وكيف وهْو قَوِيُّ القلبِ لا سِيَمَا ... وجُنْدُه خُرَّدٌ غِيدٌ وغِزْلانُ طاب الزمانُ به والعَيْشُ وابْتجَتْ ... أوقاتُنا وكذا الأيامُ تَزْدانُ هُم الأحبَّةُ إن جارُوا وإن عَدَلُوا ... وهُم حُلولُ فؤادِي أينما كانُوا وله في مغنٍ: برُوحِيَ مَن غَنَّى ورَوضةُ خَدِّه ... مُخضَّبةٌ مُخضَلَّةٌ من دمِي غَنَّا وأهْدَى لنا وَرْداً وبَاناً ونَرْجِساً ... ولم يُهْدِ إلاّ القَدَّ والخَدَّ والجَفْنَا وله في روض: انْظُر إلى الروضِ كَساه الحَيَا ... مَطارِفاً ضاع شَذاها الأرِيجْ واهْتزَّتِ الأرضُ إلى أن رَبَتْ ... وأنْبتتْ من كلِّ زَوجٍ بَهِيجْ السيد عمار بن بركات بن جعفر بن بركات هو لأبنية المكارم عمار، ولمجتديه بمواهبه الدارة غمار. أصلٌ كعمود الصبح في الإنارة، وطبعٌ كالأغر المحجل في الإثارة. أحد فرسان الكلوم والكلام، وأحد حملة السيوف والأقلام. سمعت له أشعاراً هي غايةٌ في الحسن، يجلو رونق ديباجها القلب من الحزن. فعرفت أنه أحق حقيقٍ بأن يذكر، وأخلق في كل خليقٍ بأن تتلى آياته وتشكر. وكان دخل البلاد الهندية، وتفيأ ظلال أندية ملوكها الندية الندية. فما لبث أن تعلقت فيه خطاطيف الظنون، وطارت به عنقاء المنون. وقد أثبت له ما تستهل البراعة من براعة استهلاله، ويؤذن بالسحر الذي لا حرج في القول باستحلاله. فمنه قوله، مذيلاً بيت أبي زمعة جد أمية بن أبي الصلت ومادحاً النظام ابن معصوم: اشربْ هنيئاً عليك التَّاجُ مُرْتفِقاً ... في رأسِ غُمْدانَ داراً منك مِحلالاَ تسْعَى إليك بها هَيْفاءُ غانيةٌ ... مَيَّاسةُ القَدِّ كَحْلاَ الطّرْفِ مِكْسالاَ إذا تثنَّتْ كغُصْنِ الْبانِ من تَرَفٍ ... وإن تجلّتْ كبدرٍ زان تِمْثالاَ كأنها وأدام اللهُ بَهْجَتها ... شمسٌ على فَلَكٍ إشْراقُها طالاَ وكيف لا وهْي أمْسَتْ ساحِبَةً ... بِخِدْمةِ السيِّد المِفْضالِ أذْيالاَ ذاك الذي جَلَّ عن تَنْوِيهِ تَسْمِيةٍ ... شمسٌ عَلَتْ هل تَرى للشمسِ أمْثالاَ الباسمُ الثّغرَ والأبْطالُ عابِسَةٌ ... والباذلُ المالَ لم يُتْبِعْه أنْكالاَ عَارٍ من العْارِ كَاسٍ من مَحامِدِه ... لا يعرفُ الخُلْفَ في الأقوالِ إن قالاَ إن قال أفْحَم نَدْبَ القومِ مِقْوَلُهُ ... أوصال أخْجَل لَيْثَ الغابِ إن صَالاَ عَلاَ به النّسَبُ الوَضّاحُ مَنْزِلةً ... عن أن يُماثَل إعْظاماً وإجْلالاَ خُذْها رَبِيبةَ فِكْرٍ طالَما حُجِبتْ ... لولا عُلاك ووُدٌّ قَطُّ ما حالاَ واسْمَحْ بفضلِك عن تقْصيرِ مُنْشِئِها ... وحُسْنُ بِشْرِك لم يبرَحْ بها فَالاَ قلت: وقد عارض البيت المضمن بعض الشعراء، مخاطباً عبد الله بن طاهر، حيث قال: اشْرَبْ هَنِيئاً عليك التَّاجُ مُرْتَفِقاً ... بالشَّاذِياخِ ودَعْ غُمْدانَ لليَمنِ فأنتَ أوْلَى بتاجِ المُلْكِ تلْبَسهُ ... من هَوْذَة بن عَلِيٍ وابنِ ذِي يَزَنِ وقصر غمدان باليمن، بناه ليشرح بأربعة وجوه؛ أحمر، أخضر، وأبيض، وأصفر، وبنى داخله قصراً بسبعة سقوف، بين كل سقفين أربعين ذراعاً، وهو أحد الأبنية الوثيقة للعرب، يتمثل بها في الحصانة والوثاقة. وقال بعض شراح المقصورة الدريدية، عند شرح قوله: وسَيْفٌ اسْتعلَتْ به هِمَّتُهُ ... حتى رمَى أبعَدَ شَأْوِ المُرْتَمَى فجرَّع الأُحْبُوشَ سَمَّاً ناقِعاً ... واحْتَلَّ مِن غُمْدان مِحْرابَ الدُّمَى ما صورته: غمدان بناءٌ بصنعاء، لم يدرك مثله، هدمه عثمان بن عفان في الإسلام وله رسومٌ باقيةٌ إلى اليوم، والمحراب: الغرفة بلغتهم. وغمدان: قصر بناه النعمان بن المنذر.

والشاذياخ: اسم نيسابور، وقريةٌ بمرو، كذا في القاموس، ووجد على حاشية مكتوبٌ بخط بعض فضلاء الشام على هامش القاموس صورتها: بل اسم مدينةٍ بخراسان، قرب نيسابور وكانت بستاناً لعبد الله بن طاهر بن الحسين، ذكر في تاريخ نيسابور أنه لما نزل عبد الله بها، نزلت عساكره في دور أهلها، فرأى امرأةً حسناء تسقي فرس جندي، فقال: ما شأنك، لست أهلاً لهذا؟! فقالت: هذا فعل عبد الله بن طاهر. فغضب، ونادى في عسكره: من بات في المدينة حل ماله ودمه. وسار إلى الشاذياخ، وبنى بها قصراً، وبنى الجند حوله، فعمرت، وكانت من أطيب البلاد تربةً وهواء. وكتب إلى النظام المذكور، يخاطبه بقوله: زُرْتُ خِلاّ صَبيِحةً فحبانِي ... بسُؤالٍ أشْفَى وأرْغَم شَانِي قال لمَّا نظرتُ نُورَ مُحَيَّا ... هُ ونِلْتُ المُنَى وكلَّ الأمانِي كيف أصْبَحتَ كيف أمْسَيْتَ مِمَّا ... يُنْبِتُ الحُبَّ في قلوب الغَوانِي فتحرَّجْتُ أنْ أفُوه بما قد ... كان مِنِّي طَبْعاً مدَى الأزْمانِ يا أخا المَجْدِ والمَكارم والفَضْ ... لِ ومَن لا أرى له اليومَ ثَانِي أدْرِك أدْرِك مُتَيَّماً في هواكُمْ ... قبلَ تَسْطُو به يَدُ الحِدْثانِ وابْقَ واسْلَمْ مُمَتَّعاً في سُرورٍ ... ما تغنَّتْ وُرْقٌ على غُصْنِ بَانِ فراجعه بقوله: ليت شِعْرِي متى يكون التَّدانِي ... لبلادٍ بها الحِسانُ الغوانِي وبها الكَرْمُ مُثْمِرٌ والأَقاحِي ... ضحِكتْ عن ثُغورِ زَهْرٍ لِجَانِ والبساتينُ فائحاتٌ بِعِطْرٍ ... يُخْجِلُ العَنْبَرَ الذَّكِيَّ اليَمانِي وطيورٌ بها تَجَاوَبْنَ صُبْحاً ... وعَشِيّاً كنَغْمةِ العِيدانِ وبألْحانِها تُذِيبُ ذَوِي اللُّبِّ ... وتُحْيي مَيْتاً من الهِجْرانِ وتَمشَّى بها الظِّباءُ الْحَوالِي ... مائساتٍ كناعمِ الأغْصانِ كلُّ خَوْدٍ تسْطُو بلَحْظِ حُسامٍ ... وتَثَنٍ كما القنا المُرَّانِ وَجُهها الصبحُ لكنِ الفَرْعُ منها ... ليلُ صَبٍ من لَوْعةِ الحبِّ فانِ غادةٌ كالنُّجُومِ عِقْدُ طلاها ... ما الَّلآلِي وما حُلَى العِقْيانِ إنَّ ياقوتَ خَدِّها أرْخَص الْيا ... قوتَ سِعْراً وعاب بالمَرْجانِ كلُّ يوم يُقْضَى بقُرْبٍ لَديْها ... فهْو يومُ النَّوْروزِ والمِهْرجانِ منها: تلك مَن فاقتِ الظِّباءَ افْتناناً ... فلذا وَصْفُها أتى بافْتِنانِ ما لِمُضْنىً أُصِيب من أسْهُم اللَّ ... حظِ نجاةٌ من طارقِ الحِدْثانِ أذْكرتْني أيامَ تلك وأغْرَتْ ... أعْيُنِي بالبكاءِ والهَمَلاَنِ نَفَثاتٌ كالسِّحْر يَصْدَعْنَ في قَلْ ... ب مُعَنّىً من المَلامةِ عَانِ ومنها: كلماتٌ لكنَّها كالدَّرارِي ... وسطورٌ حَوَتْ بديع المَعانِي إذْ أتتْ من أخٍ شقيقِ المَعالي ... فائقِ الأصْلِ غُرَّةٍ في الزَّمانِ ضَافِيَ الوُدِّ صافِيَ القلبِ قَرْمٌ ... كعبةٌ قد عَلا على كِيوانِ ذاكراً لِيَ فيها تزايدَ شَوْقٍ ... ووُلوعاً بها مدَى الأزْمانِ ففهِمْتُ الذي نَحاهُ ولكنْ ... ليت شِعْرِي يَدْرِي بما قد دَهاني أنا قيسٌ في الحُبِّ بل هُو دونِي ... لا جميلٌ حالي ولا كابْنِ هانِي يا أخا العَزْمِ قد سَلِمْتَ ووَجْدِي ... طافحٌ زائدٌ بغيرِ تَوانِ فلِحَتْفِي أبصرتُ مَن قد رَماني ... وعَناءٌ تَصَيُّدُ الغِزْلانِ إن تشأْ شَرْح حالِ صَبٍ كئيبٍ ... فلقد قاله بديعُ المَعانِي مَرَضِي من مَريضةِ الأجْفانِ ... عَلِّلاني بوَصْلِها عَلِّلانِي

البيت الأخير مشهور، وهو مطلب قصيدةٍ للشيخ الأكبر، قدس الله سره الأنور. الإمام عبد القادر بن محمد الطبري إمام الإئمة، وعالم هذه الأمة. فضائله يقل عند عدها رمل يبرين، ومحامده يتضاءل لديها مسك دارين. وهو من الرتبة المكينة، والمهابة التي جملت الوقار والسكينة. في محلٍ اتخذ المجرة ممشى، والفلك الأطلس عرشا. ثم إذا اعتبر حاله من أرقامه، شهد الوصف بأن ذلك دون مقامه. وأما تصلبه في أمر الدين، فهو فيه من أعظم الراشدين والمرشدين. إلى بلاغة وبراغة، أعجز بهما فرسان اليراعة. وقد أثبت له ما يقوم بالحجة. فمن ذلك قوله من قصيدة يمدح بها الشريف حسن بن أبي نمى: بَدَتْ تجُرُّ ذُيول التِّيهِ والُخيَلاَ ... في روضةِ العُجْبِ حتى قلتُ حَيَّ عَلَى خَوْدٌ تُجرِّد بِيضاً من لَواحظِها ... فتتركُ الأُسْدَ في ساحاتِها قتلاَ وتنْثَني بقَوامٍ زَانَه هَيَفٌ ... فتُخْجِلُ الغُصْنَ تَعْدِيلاً كذا مَيَلاَ ما أطلْعتْ لِي هلالاً من مُبَرْقَعِها ... إلاّ وعايَنْتُه بَدْراً فلا أفَلاَ ولا رَنَتْ لي بلَحْظٍ فَتْرةً كَسَلاَ ... إلاّ وقد بعثتْ خوفَ الحشاَ رُسُلاَ يا حُسْنَها من فتاةٍ حَلَّ مَبْسَمُها ... ظَلْمٌ يفوق على لَذَّاتهِ عَسَلاَ ورَصَّعَتْه لآَلٍ حولَ مَنْبَتِها ... زُمُرُّدُ الوَشْمِ ياللهِ ما فَعَلاَ ناديتُها ورماحُ الحيِّ مُعْلَنةً ... يا ظَبْيةَ الحَيِ هل ما يُبْلِغُ الأمَلاَ لِوَالِهٍ عبثَتْ أيْدِي الغرامِ به ... أما تَرَىْ شأنَه أن يُبْدِعَ الغَزَلاَ قالتْ صدقْتَ ولكنْ ذاك تَوْطِئَةٌ ... لِمَدْحِ أفضلِ مَن في الأرضِ قد عَدَلاَ السيِّدِ الحسَنِ المَلْكِ الهُمامِ ومَن ... تراه بالحقِّ للجَوْزاءِ مُنْتعِلاَ سلطانُ مكّةَ حامِي البيتِ مَن شهِدتْ ... بعَدْلِه الأرضُ لمّا مَهَّد السُّبُلاَ مُؤيِّدُ الدِّين بالعَزْمِ الذي اقْتربَتْ ... به السَّعاداتُ في حالاتِه جُمَلاَ لَيْثُ الكتيبةِ مُرْوِي المشْرَفيَّةِ مِن ... دمِ العِدَآ مَنْهَلاً إذْ أرْعَف الأسَلاَ صادَ الصَّناديدَ يوم الحربِ ما بَطَلٌ ... رأَى عَجائبَه إلاَّ وقد بَطَلاَ كم ذا أبانَتْ عن العَلْياءِ هِمَّتُه ... وكم أبادتْ مَعالِي عَزْمِه رَجُلا وكم مَحا سيفُه أهلَ الفَسادِ وأرْ ... بابَ العِنادِ فجارَى سيفُه الأَجَلاَ فأصبحُوا لا تُرَى إلا مَساكنُهمْ ... بَلاقِعاً قد كَساها الذُّلُّ ثَوب بِبلى وليس بِدْعاً فهذا شأْنُ والدِه ... عليٌّ المُرْتَضى السامِي بفضْلِ وَلاَ فسَلْ حُنَيْناً وسَلْ بَدْراً وسَلْ أُحُداً ... والنّهْرَوانِ وسَلْ صِفَّينَ والجَمَلاَ فيا ابنَ طه عَلَوْتَ الناسَ قاطبةً ... وجَلَّ قَدْرُك أن تَحْكِي له مَثَلاَ هل أنتَ مَلْكٌ عظيمُ الخَلْقِ أم مَلَكٌ ... أبِنْ فأمْرُك هذا حَيِّرَ العُقَلاَ وقوله من أخرى يمدحه بها، وأولها: رَبْرَبُ الأخْدارِ من شَمَمِهْ ... لا يُراعِي النَّقْضَ في ذِمَمِهْ حجَب الأبْصارَ رُؤْيتُه ... وتجلَّى في خِبَا خِيَمِهْ وأرى أحْبابَ حَضْرتِه ... غَضَباً ما كان من شِيَمِهْ ما يراه حالَ نُفْرتِه ... غيرُ مَن بارَى بسَفْكِ دَمِهْ زُرْتُه والعَزْمُ يُسْعِفني ... آمِلاً منه ابْتسامَ فَمِهْ جُنْحُ ليلٍ مُسْفِرٌ بسَنَا ... طَلْعةِ المَأْمولِ عن ظُلَمِهْ فحَدانِي عَرْفُ ساحتِه ... وهَدانِي مُرْتقَى أَكَمِهْ فبدَا لي في الحجابِ فمِن ... فَرْقِهِ نُورٌ إلى قَدَمِهْ هو للرَّائِي مُعايَنةً ... مثلُ طَيْفِي مَرّ في حُلُمِهْ

هِمْتُ من حُبِّي له زَمَناً ... في رُبا نَجْدٍ وفي سَلَمِهْ أنْظِمُ الآدابَ من غَزَلٍ ... أُسْنِدُ الإعْجازَ عن كَلِمِهْ لِنَسِيبٍ في المديحِ يُرَى ... حَسَناً عند اجْتِنا نِعَمِهْ سَيِّداً من آل حَيْدرةٍ ... وعَرِيقاً باقْتِفَا عِصَمِهْ وحكيماً في مَمالكِه ... قَطُّ ما انحَلتْ عُرَى حِكَمِهْ فاق قُسّاً في فَصاحتِه ... وسَما الطَّائِيَّ في كَرَمِهْ وابْنُ سُعْدَى لو يُقاسُ به ... كان مَطْروحاً بمُلْتَزِمهْ هَزَّه للمَكْرُماتِ سَنَا ... عُنْصِرٍ منه انْتِها هِمَمِهْ كيف لا يهْتزُّ مُغْتبِطاً ... وكتابُ اللهِ في عِظَمِهْ وملوكُ الأرضِ قاطبةً ... كلُّهم واللهِ مِن خَدَمِهْ جَدُّه طه الشَّفيعُ لنا ... فَوْزُ مَن يأْوِي إلى عَلَمِهْ طِبْتَ نفساً يا مليكُ به ... في غَدٍ طُوبَى لِمُعتْصِمِهْ أُمُّك الزَّهْراءُ إبْتتُه ... وابوك السِّبْطُ من رَحِمِهْ أيَّد الرحمنُ قِبْلَتهُ ... بك واسْتَحْمَى حِمَى حَرَمِهْ وحَباك المجدَ أجْمَعه ... حيثما ذَبَّيْتَ عن حُرُمِهْ قَسَماً باللهِ يُقْسِمُه ... عبدُ بِرٍ بَرَّ في قَسَمِهْ إنَّك المَهْدِي وحُجَّتُه ... عَدْلُك المعدودُ مِن قسمِهْ يا أميرَ المؤمنين ويا مَن ... شاد بالعَلْيَا على أُطُمِهْ خُذْ مَديحاً كلُّه دُرَرٌ ... جاء يسْعَى نحو مُسْتَلِمهْ هَزأتْ بالفَجْرِ غُرَّتُه ... حيث لاحَتْ من دُجَى لِمَمِهْ نَظْمُ عبدٍ نَثْرُ مَدْحِك ما ... زال يُرْوَى عن حِجَى قَلَمِهْ دُمْتَ مولاه وسيِّدَه ... ما شَدا القُمْرِيُّ في نَغَمِهْ ووقف على قول البدر الدماميني: يا ساكني مكة لا زلْتُم ... أُنْساً لنا إنِّيَ لم أنْسَكُمْ ما فيكمُ عَيْبٌ سِوَى قَوْلِكمْ ... عند اللِّقا أوْحَشَنَا أُنْسُكُمْ فقال مجيباً: ما عَيْبُنا هذا ولكنَّه ... مِن سُوءِ فَهْمٍ جاءَ مِن حَدْسِكُمْ لم نَعْنِ بالإيحاشِ عند اللِّقا ... بل ما مضَى فابْكُوا على نَفْسِكُمْ وحذا حذوه ولده زين العابدين، فقال: يا مُظْهِرَ العَيْبِ على قَوْلِنا ... عند اللِّقا أوْحَشَنا أُنْسُكُمْ ما قَصْدُنا ما قد جَنَحْتُم له ... من خطأٍ قد جاء في فَهْمِكُمْ فقَوْلُنا المذكورُ جارٍ على ... حَذْفِ مُضافٍ غاب عَن حَدْسِكُمْ والقَصُدُ فَقْدُ الأُنْسِ فيما مَضَى ... لا ضِدُُّّه الواقِعُ في وَهْمِكُمْ فالأُنْسُ لم يُوحِش بلَى فَقْدُه ... هو الذي يُوحِش مِن مِثْلِكُمْ وبعد أن بان لكم فاجْزِمُوا ... بنِسْبةِ العَيْبِ إلى نَفْسِكُمْ ولما وقف على ما قالاه أحمد بن عبد الرءوف، قال مجيباً ومعتذراً عن الدماميني: صَوْناً مَوالِي الفضلِ بين الورَى ... للبدرِ أن تُدْرِكَه شَمْسُكمْ وجَلِّلوه بعَباءِ الإِخَا ... فإنه الأنْسَبُ من قُدْسِكُمْ فإنه الكنزُ وبُنْيانُه ... مُؤسَّسٌ قِدْماً على أُسِّكُمْ كأنه أضْمَر أن شَأنَكُمْ ... صِناعةُ الإِبْهامِ في لَفْظِكُمْ فاسْتعمَلَ النَّوَع الذي أنْتُمُ ... أدْرَى به كي يُجْتَنى غَرْسُكُمْ ولم يسَعْه كونهُ مُنْكِراً ... لِمثل هذا الحِذْقِ من مثلِكُمْ فإنَّ هذا سَائغٌ شائِعٌ ... بُرْهانُه أوْحَشَنا أُنْسُكُمْ ولده علي الإمام ابن الإمام، والقطر ابن الغمام. نشأ في كفالته بذاخ المربض والعري، شامخ الأنف بذلك الوالد أشم العرنين.

أرتعه معه في روضه، وسقاه بيده من حوضه. حتى بلغه رتبةً تتقاعس عنها رتبة التمني، واعتنى به فأوصلها إليه بغير مشقة التعني. فقام مقامه في الإمامة والتدريس، وانتصب للفتيا على مذهب الإمام محمد بن إدريس. وألف وصنف، وقرط الأسماع بلآليه وشنف. وهو في الأدب ممن سبق وفات، وجمع على أحسن نسقٍ كل متفرقٍ رفات. وله نظمٌ كانتظام الأحوال، ونثرٍ تعرف منه كيف تشتبه الجواهر بالأقوال. فمن نثره، ما كتبه إلى القاضي تاج الدين المالكي مسائلاً: سيدنا المقتدى بآثاره، المهتدى بأنواره. إمام محراب العلوم البديعة، وخطيب منبر البلاغة التي أضحت مذعنةً له ومطيعة. قمر سماء المجد الأثيل، فلك شمس فخر كل ذي مقام جليل. المميطة يد بيانه حواجز الأشكال عن وجوه المعاني، المعترف بمنطقه الفصيح القاصي من هذه الأمة والداني. عمدة المحققين قديماً وحديثاً، ملاذ المدققين تفسيراً وتحديثاً. الصاعد معارج العليا بكماله، المنشد في مقام الافتخار لسان حاله: لنا نفوسٌ لِنَيْلِ المجدِ راغبةٌ ... ولو تسَلَّتْ أسَلْناها على الأسَلِ لا ينْزِل المجدُ إلاَّ في مَنازِلنا ... كالنَّوْمِ ليس له مَأْوىً سِوى المُقَلِ والقائل عند المُجادلة في مَقام المباهلة: نحن الذين غَدَتْ رَحَى أحْسابِهمْ ... ولَها على قُطْبِ الفَخارِ مَدارُ المملوك يقبل الأرض التي ينال بها القاصد ما يؤمله ويرتجيه، وينهي أنه نظم بعض الجهابذة الأعيان بيتين في التشبيه. والسبب الداعي لهما، والمعنى المقتضى لنظمهما. أنه أبصرت العين ظبياً يرتع في رياضه، ويمنع بسيوف لحاظه عن ورود حياضه. يرى العاشق سيآته حسناتٍ جاد بها وأحسن، ويعترف له بالحسن كل حسنٍ في الأنام وابن أحسن. بدا وهو الجوهر السالم من العرض، وظهر وعليه أثرٌ من آثار المرض. فأراد المشبه تشبيهه في هذه الحالة، فشببه بغصنٍ ذابلٍ قائلاً لا محالة. ونظم ذلك المعنى، فشدا بما قاله صادح الفصاحة وغنى. وهو: بَدا وعليه أثْرٌ مِن سَقامِ ... كمكْحولٍ من الآرامِ ساهِي فخُيِّل لي كبدرٍ فوق غُصْنٍ ... ذوَى للبُعْدِ من قُرْبِ المِياهِ فاعترض معترضٌ عالم بالإصدار والإيراد، قائلاً: إن البيت الثاني لا يؤدي المعنى المراد. إذ القصد تشبيهه بالغصن الموصوف، وليس المراد تشبيهه بالبدر فالبدر لا يوصف إلا بالخسوف. فطالت بين المعترض والمعترض عليه المنازعة، ولم يسلم كل واحد منهما للثاني ما جادل فيه ونازعه. فاختارا القاضي الفاضل حكماً، ورضيا سيدنا حاكماً ومحكماً. فليحكم بما هو شأنه وشيمته من الحق، وليتأمل ما عسى أن يكون قد خفي عن نظرهما ودق. والأقدام مقبلة، وصلى الله على سيدنا محمدٍ ما هبت الريح المرسلة. فأجابه بقوله: سيدنا الإمام الهمام، الذي أضحى علم الأئمة الأعلام. الإمام المقتدى به وإنما جعل الإمام، الحبر الذي قصرت عن استيفاء فضائله الأرقام " ولو أنما في الأرض من شجرةٍ أقلام ". وارث الجلالة عن آبائه الذين زهت بذكراهم الأخبار والسير، المقيم من نفسه العصامية على ذلك أوضح دلالةٍ يصدق فيها الخبر الخبر. الحري بما استشهد به في شأن المملوك، السالك من الكمال طريقةً عز على غيره فيها لعزتها السلوك. يقبل المملوك الأرض بين يديه، ويؤدي بذلك ما هو الواجب عليه. وينهي وصول المثال العالي، الفائقة جواهر كلماته على فرائد اللآلي. يتضمن السؤال عن بيتي ذلك الجهبذ، في الشأن الذي قضى حسنه أن تسلب الأرواح وتؤخذ. ومنع حبه الكلام الألسن، وكان الدليل على ذلك اعتراف ابن أحسن. فإنه ذو النظر العالي المدرك حقيقة الكنه، فإذا تنور من أذرعات أدنى ما تنوره إلى قيد شبرٍ منه. فتأمل المملوك ما وقع من تلك المعارضة، التي أفضت إلى التحكيم والمفاوضة. فإذا المتعارضان قد مزجا في حلو فكاهتهما شدة البأس في البحث برقة الغزل، وأخرجا الكلام لبلاغتهما على مقتضى حال من جد وهزل. وجريا إلى غايةٍ حققا عند كل سابق أنه المسبوق، وأريا غبارهما لمن أراد اللحوق. وكان الأحرى بالمملوك ستر عوار نفسه، وحبس عنان قلمه أن يجري في ميدان طرسه.

لكن لما كان ترك الجواب من الأمر المحظور، لم يلتفت إلى ما يترتب على الواجب من المحذور. فقال حيث كان الأمر على ما أسنده مولانا عن الناظم وروى، من أنه قصد التشبيه في حال بقايا أثر السقام بغصنٍ ذوي. فعدل إلى سبكه في قالب صياغته، وسلكه في سلك بلاغته. فلا شك أنه أتى بما لا يدل على المراد دلالةً أولوية ظاهرة، وكان كمن شبه الأغصان أمام البدر ببنت مليكٍ خلف شباكها ناظرة. وحينئذ فإطلاق القول بأن البيت الثاني لا يدل على ما أريد، ربما تمسك الخصم في عدم ثبوت الحكم عليه بأنه إطلاقٌ في محل التقييد. كما أن للمعترض أن يتمسك في ذلك باستيفاء الدلالة الأولوية، فيكون المحكوم به هو المتعارض في القضية. وهذا أجدى ما رآه المملوك في فصل الخطاب، وأحرى ما تحرى فيه أنه الصواب. مع اتهامه نفسه في مطابقة الواقع في الفهم، لعلمه بدقة نظر مولانا إذا قرطس أغراض المعاني من فهمه بسهم. وتجويزه على نفسه العجز عن الوصول إلى مأخذ المولى ومدركه، واعترافه بأنه لا يجارى في نقد الشعر لأنه فارس معركه. انتهى. قوله في أثناء الجواب: كان كمن شبه الأغصان، أمام البدر، يشير به إلى قول الصلاح الصفدي: كأنما الأغصانُ لمَّا انْثَنتْ ... أمامَ بَدْرِ التِّمِّ في غَيْهَبِهْ بنتُ مَلِيكٍ خَلْفَ شُبَّاكِها ... تفرَّجتْ منه على موكِبهْ وله فيه أيضاً: كأنما الأغصانُ في رَوْضِها ... والبدرُ في أثْنائها مُسْفِرُ بنتُ مَلِيكٍ سار في مَوْكِبٍ ... قامتْ إلى شُبَّاكِها تنْظُرُ قال النواجي: لا يخفى ما في هذين البيتين، بل المقطوعين من ضعف التركيب، وكثرة الحشو، وقلب المعنى، وذلك أنه جعل الأغصان مبتدأ، وأخبر عنه ببنت المليك، وهو فاسد، وإن كان قصده تشبيه المجموع بالمجموع، إلا أن الإعراب لا يساعده. على أنه لم يخترع هذا المعنى، بل سبقه إليه القاضي محيي الدين ابن قرناص، فقال: وحديقةٍ غَنَّاءَ ينْتظِم النَّدَى ... بفُروعِها كالدُّرِّ في الأسْلاكِ والبدرُ مِن خَلَلِ الغصونِ كأنه ... وجهُ المليحةِ طَلَّ من شُبَّاكِ فانظر إلى حشمة هذا التركيب وانسجامه، وعدم التكلف والحشو، واستيفاء المعنى في البيت الثاني فحسب، والصفدي لم يستوف المعنى إلا في بيتين، مع ما فيهما. فلو قال في المقطوع الأول: كأن بدرَ التِّمِّ لمّا بدَا ... من خَلَلِ الأغصانِ في غَيْهَبِهْ بنتُ مَلِيكٍ خَلْفَ شُبَّاكِها ... تفرَّجتْ منه على موكِبهْ وفي المقطوع الثاني: كأن بدرَ التِّمِّ في روضةٍ ... من خلَلِ الأغصانِ إذْ يُسْفِرُ بنتُ مَلِيكٍ سار في موكبٍ ... قامتْ إلى شُبَّاكِها تنْظُرُ لتم له من غير تكلف. ومن شعر علي المذكور: هَذِي رياضُ الحُسْنِ أغْصانُها ... غَرَّد بالدّوْحةِ منه الهَزارْ يهْتزُّ فيها قَدُّ ذاتِ الرَّنَا ... رقيقة الخَصْر على الاخْتصارْ بِتُّ ونارُ الشوقِ قد أُضْرِمتْ ... بمُهجةٍ أحْرَقها الاسْتِعارْ رام عَذُولِي هَدَّ رُكْنِ الهوى ... يا كعبةَ الحُسنِ بكِ المُسْتَجارْ غَضّيْتُ ذاك الطّرْفَ عن ناظِرٍ ... هَيَّجه الوجدُ عَفِيف الإزَارْ وقول في فتاة اسمها غربية: ولي جِهَةٌ غَرْبيَّةٌ أشْرقتْ بها ... لِعَيْنِي شَمسُ الأُفْقِ من غيرِ لا حُجْبِ ولاح بها بدرُ التّمامِ لِناظرِي ... ومن عجبٍ شمسٌ وبَدْرٌ من الغَرْبِ وقوله فيها أيضاً: هَيْفاءُ كالشمسِ ولكنّها ... غَرْبيَّةٌ يا قومِ عند الشُّروقْ يفْتَرُّ منها الثّغْرُ عن لُؤْلُؤٍ ... رَطْبٍ ويبدُو منه لَمْعُ البُروقْ باللهِ يا عاذلُ عنِّي فذَا ... باردُه السَّلْسلُ فيه يَرُوقْ رِفْقاً فما في العَذْلِ لي طاقةٌ ... يُمْكِن منها لِعَذُولِي الطُّروقْ غِبْتُ عن العاذِلِ فيها فما ... هَزْلٌ وجِدٌّ لِذَواتِ الفُروقْ وقوله فيها أيضاً:

إنّ الإهِلّةَ إذ بدَتْ غَرْبيَّةً ... فالغَرْبُ منه ضِيَا المَسَرَّة يُشْرِقُ والشرقُ دَعْهُ فليس منه سِوَى ذُكَا ... تَحْتَرُّ في وَسَطِ النهارِ وتَحْرِقُ وقوله أيضاً، مشجراً: غزال كبدرِ التِّمِّ لاح بوجْهِه ... هلالٌ رأتْه العينُ من أُفُقِ الشمسِ رنَا طَرْفُه الفَتَّانُ يوماً لناظرٍ ... يهيمُ به من حيث يُصْبِحُ أو يُمْسي بَدَا لِيَ في خُضْرِ الرياضِ بأسمرٍ ... به سُودُ هاتيك الحدائقِ في لَبْسِ يُعلِّل بالتَّسْويفِ قلبي فليْته ... رأَى دَنِفاً ما زال يقْنَعُ باللَّمْسِ هَلكتُ جَوىً منه فَمن لِمُتَيَّمٍ ... غريبٍ عن الأوطانِ يدْنُو من الرَّمْسِ وكتب لبعض أحبابه في صدر رسالة: على الحَضْرةِ العَلْياءِ دام مَقامُها ... عَلِيّاً سلامٌ طيِّبُ النّشْرِ والعَرْفِ إلى نَحْوِها حَمَّلْتُه نَسْمةَ الصَّبا ... لتكْسِب وصْفاً من شَذَا ذلك الوَصْفِ محمد علي بن إسماعيل الطبري أحد تلك الجلة الكرام، أئمة الحرم الذين وجب لهم الاحترام. سما قدره فوق أعالي الجبال الشواهق، وبلغ غاية الكهول وهو في سن المراهق. منزلةٌ لا يكتنه كنهها، ولا يوجد في العالم شبهها. إلى فضلٍ ثنى إليه عنان الخطاب، وأدبٍ جنى به الثناء المستطاب. ووراء ذلك رويةٌ أحسن من كل روية، وبديهة أورى من كل فكرةٍ ورية. بلفظٍ ناهَبَ الحَلْىَ الغَوانِي ... وأهْدَى السِّحْرَ للحَدَقِ الصِّحاحِ وقد جئتك من شعره بما يعطر شام النور العبق، ويروق به كأسه المصطبح على ماء النهر والمغتبق. فمنه قوله من قصيدة، يمدح بها الشريف حسن بن أبي نمى. مطلعها: أسَرتْني بطَرْفِها الفَتَّانِ ... وبحُسْنٍ يفوقُ حُورَ الجِنانِ ذاتُ قُرْطٍ من طَوْقِها مطلع الشَّمْ ... سِ فِدَا حُسْنِها البديع جَنانِي ما تبدَّتْ تخْتال إلاّ أرَتْنا ... بدرَ تِمٍ يُقِلُّه غُصْنُ بَانِ ما حكاها في جَنَّةِ الخُلْدِ حُورٌ ... لا ولا في مَراتِعِ الغِزْلانِ قلّدتْها يدُ الجمال حُلِيّاً ... فاق حُسْناً قلائدَ العِقْيانِ بخُدودٍ مُورّداتٍ حِسانٍ ... ما حكتْها شَقائقُ النُّعْمانِ تَيَّمَتْنِي فَرَقَّ جسمِي نحُولاً ... مِن جَفاها فعَائدِي لا يَرانِي وأذابتْ قلبِي المُعنَّى وجارتْ ... وصَلَتْنِي لَواعِجَ الأشْجانِ ليْتَها بَعْدَ بُعْدِها وصَلتْنِي ... وكَفاها ما مَرَّ من هِجْرانِ أرَّقتْ مُقْلتِي فأذْرَيْتُ دَمْعاً ... كالغَوادِي دماً عَبِيطاً قَانِي لا تَسَلْ ما جَرى على الخَدِّ منها ... يا حبيبي فقد جرَى ما كَفانِي فجُفونِي على الدَّوامِ دَوَامٍ ... ودموعِي مَشارِعُ الغُدْرانِ قيل مَهْلاً فمَن صَبَا صَيَّرتْه ... مُوجِباتُ الصِّبا أسيرَ الغَوانِي حَبَّذا إن قَضيْتُ في الحُبِّ وَجْداً ... وقضى حاكمُ الهوى بهَوانِي ظَبْيةٌ تقْنِصُ الهِزَبْرَ فيُمْسِي ... وهْو لَيْثُ الشَرَى الأسِيرَ الْعانِي تتَّقِي الأُسْدُ في العَرِينِ سَطاهُ ... وهْو يخْشَى من فَتْرةِ الأجْفانِ كلمتْنِي بفَاتِراتٍ مِرَاضٍ ... سِحْرُ هارُوتِها قضَى بافْتتانِي جاوَز الحَدَّ لَحْظُها فمَلاذِي ... حَسَنٌ ذُو الفخار والسُّلْطانِ وقوله من أخرى في مدحه أيضاً، ومستهلها: أفْدِي مَهاةً تُلِينُ القوَل أحْيانَا ... فتسلُب العقلَ ممَّن كان أحْيانَا أماتَنا هَجْرُها المُولِي القلوبَ أسىً ... يُذيِب لولا رجاءُ الوصلِ أحْيانَا لا عاش مَن يتمَنَّى بعد نَشْوتِه ... مِن خمرةِ الحبِّ أن يصحُو ولا كانَا

بمُتْرَفِ الخدِّ جَنَّاتٌ لناظرِها ... لكنّها أجَّجَتْ في القلبِ نِيرانَا لولا سحائبُ جَفْنٍ سَحَّ وَابِلهُ ... أجْرَى بِحاراً فأطْفاها وغُدْرانَا تُرِيك من وجهِها الضّاحِي وقامتِها ... بدراً على غُصُنٍ يخْتال نَشْوانَا جارتْ على قلبِيَ المجروحِ مُقْلتُها ... وأتْلفتْه وما أضْمَرْتُ سُلْوانَا لا تُسْتمال وإن مالتْ مَعاطِفُها ... تحمَّلَتْ من رياضِ الحُسْنِ أفْنَانَا ترْنُو بفاترِ طَرْفٍ زاد صَارِمُه ... فينا عن الحَدِّ مَسْنوناً فأفْنانَا كأنما سيفُ بَدْرِ الدين أوْدَعَه ... من طَرْفِها الفاترِ الفَتَّانِ أجْفانَا ويحسَبُ الناسُ من أهلِ البَدِيعِ ومِن ... أهلِ السليميَّةِ الغَبْرَا ومعكانَا أو آلِ خالد من أهدى ضلالُهُمُ ... نُفوسَهم فغدوْا هَدْياً وقُرْبانَا وغرَّهم فيهمُ حتى غَدَتْ فِئَةٌ ... فَيْئاً وأخْرَى قضتْ لم تَرْجُ غُفْرانَا هذا مُكبَّلُ مَأْسُورٌ وذا ورَدتْ ... به القنَا مِن حِياضِ الموت طُوفَانَا وجرَّعتْهم كؤوسَ الحَيْنِ مُتْرَعةً ... وقائعٌ تتْرُك الوِلْدانَ شِيبانَا لو أنهم عَقَلُوا أمْراً لَما شَهَرُوا ... عَضْباً ولا اعْتقلُوا للحَرْبِ مُرَّانَا ولو يُرِيدون خَيْراً أو يُرادُ بهمْ ... كانوا على ما مضَى من قبلُ غِلْمانَا لكنْ قضَى اللهُ باسْتِئْصالِهم فبَغَوْا ... على نفوسِهمُ ظُلْماً وعُدْوانَا وشاهَدُوا جَحْفَلاً ذابتْ نفوسُهمُ ... مِن خَوْفِه مَلأَ الآفاقَ فرسانَا تَسُلُّ أسْيافَه أحلامُ نائِمهمْ ... عليه رُعْباً ويَلْقَى الموتَ يَقْظانَا هذا من قول أشجع السلمي: وعلى عَدُوِّك يا ابنَ عَمِّ محمدٍ ... رَصَدانِ ضَوْءُ الصبحِ والإظْلامُ فإذا تنبَّه رُعْتَه وإذا غَفَا ... سَلَّتْ عليه سيوفَك الأحْلامُ منها: له من الرُّعْبِ أنْصارٌ مُؤيِّدةٌ ... تُصَيِّرُ الليثَ مثلَ الضَّبِّ حَيْرانَا في الأمثال أحير من ضبٍ؛ لأنه إذا فارق جحره لم يهتد للرجوع. يحُفُّه من بَنِيه أُسْدُ معركةٍ ... تَرْوِي الْقَنا إن غَدا الضِّرْغَامُ ظَمْآنَا بيتُ النُّبُوةِ بيتُ اللهِ مَن ورَثُوا ... أمْرَ الخلافةِ سُلْطاناً فسُلْطانَا يَفْنَى المَديحُ ولا تُحْصَى مَحامدُهمْ ... فَدَعْ زُهَيْراً ودَعْ كَعْباً وحَسَّانَا محمد جمال الدين بن عبد الله الطبري مقدم في المقال وإن تأخر، وإذا كان غيره بحراً يفيض فهو بحرٌ يزخر. يتقدم حيث يتأخر الذابل، ويجود إذا ما ضن بجوده الوابل. فروض طبعه تسرح النواظر في فضاه، ومرعى بيانه أينع سعدانه ورف غضاه. وله ذكاء متطاير اللهب، وقريض يزري بقراضة الذهب. وقد أثبت له ما يعلق من كعبة البلاغة، ويعرف منه أنه لم يبلغ أحدٌ بلاغه. فمنه قوله، من قصيدة في المدح: مُذ لاح بدرُ الدُّجَى وأشْرَقْ ... أغْرقني مَدْمَعِي وأشْرَقْ ورُحْتُ من لَوْعتِي أُصالِي ... جَوىً لقلبِي الكئيبِ أحْرَقْ لا لَوْعَتِي تنْطفِي وحِبِّي ... فَرَّق شمْلِي وما ترفَّقْ ومنها: لمَّا رأيتَ الهوى هَواناً ... وأنني في يديْك مُوثَقْ وأن جَوْرَ الغرامِ عَدْلٌ ... وحاكمَ الحبِّ ليس يُشْفِقْ جاوَزْتَ في الحدودِ ظُلْماً ... ألستَ عَدْلَ الحسينِ تَفْرَقْ بدرُ الملوك الحُسَين مَن في ... نَدَى يديْه البِحارُ تَغْرَقْ ومَن له صَوْلةٌ وعَزْمٌ ... منها أُسودُ الحروبِ تُشْفِقْ ومنها: لو لَمَستْ رَاحتاهُ عُوداً ... أثْمَرَ في كفِّه وأوْرقْ

ولو ينال السحابُ فَيْضاً ... من بعضِ جَدْواهُ كان أغْرَقْ فلا تقِسْ بالحسين خَلْقاً ... فمثلُه ما أظنُّ يُخْلَقْ ومَن بنُورِ النبيِّ طه ... ضَمَّخَه ربُّه وخَلّقْ أعْظَمُ من قيصرٍ وكسرَى ... وتُبَّعٍ مَنْصِباً وأعْرَقْ وقوله في الغزل: أسيرُ العيونِ الدُّعْجِ ليس له فَكُّ ... لأنَّ سيوفَ اللّحْظِ من شأنها السَّفْكُ حَذارِ خَلِيَّ القلبِ من عَلَقِ الهوى ... وأوّلُها سُقْمٌ وآخرُها فَتْكُ ورُحْ سالماً قبلَ الغرامِ ولا تقِسْ ... عليَّ فإنِّي هالكٌ فيه لاشَكُ ألم تَرَنِي وَدَّعتُ يوم فِراقِهمْ ... حَشايَ لِعلْمِي أن ما دونه الهُلْكُ وكيف خَلاصِي من يَدَيْ شادِنٍ إذا ... بَدا ابْيَضَّ في الدَّيجُور من نُورِهِ الحَلْكُ وهيْهات أن تُرْجَى لِمثْلِي سَلامةٌ ... وقد سَلَّ بِيضَ الهنْدِ ألْحاظُه التُّرْكُ يقولون تَرْكُ الحُبِّ أسلمُ للفتى ... نعم صدقوا إن كان يُمكنُه التّرْكُ دَعُونِي وذِكْرِي بين بَاناتِ لَعْلَعٍ ... عُرَيْباً هواهم في المَواقِفِ لي نُسْكُ وإن رُمْتُمُ إرشادَ قلبي فكرِّرُوا ... أحاديثَ عشقٍ طاب في نَظْمِها السَّبْكُ أما والخدودِ العَنْدَمِيَّاتِ لم أحُلْ ... وكلُّ الذي عنِّي روَى عَاذِلِي إفْكُ وما بمَصُونِ الثّغْرِ من ماء كَوْثرٍ ... وكأسِ عَقِيقٍ خَتْمُه خالُه المِسْكُ لقد لَذّ لي خَلْعُ العِذارِ وطاب في ... هَوى الخُرَّدِ الغِيدِ الدُّمَى عنديَ الهَتْكُ قوله: لاشك قد يتوهم أن فيه لحناً، على أن لا نافيةٌ للجنس واسمها في ذلك منبيٌّ على الفتح. ولا لحن فيه، بل فيه وجهان: أحدهما، منع كونها نافيةً للجنس، بل عاملة عمل ليس، والخبر محذوف جوازاً، كقول الحماسي: مَن صَدَّ عن نِيرانِها ... فأنا ابْن قَيْسٍ لا بَراحُ والثاني؛ أن تكون نافيةً للجنس، إلا أنها ملغاة، والرفع بالابتداء، فلم يجب تكرارها، لجواز تركه في الشعر. وله تصدير وتعجيز لقصيدة ابن الفارض، وقفت منه على قطعةٍ، وهي: ما بين ضَالِ المُنْحَنَى وظِلالِهِ ... رَشَأٌ سَبَى الألبابَ عَنْبَرُ خالِهِ في ليلِ طُرَّتِه وصُبْحِ جَبينِهِ ... ضَلَّ المُتَيَّمُ واهْتدَى بضلالِهِ وبذلك الشِّعْبِ اليَمانِي مُنْيةٌ ... ما بين سَفْحِ طَوَيْلعٍ وجِبالِهِ مِن دونها حَتْفُ النفوسِ وبُغْيةٌ ... للصَّبِّ قد بَعُدتْ على آمالِهِ يا صاحِبي هذا العَقيقُ فقِفْ به ... واحرُس فؤادَك من لِحاظ غَزالِهِ فإذا وصلتَ الجِزْعَ طُفْ بِقبابِهِ ... مُتَولِّهاً إن كنتَ لست بِوَالِهِ وانْظُرْه عنِّي إن طَرْفِي عَاقَنِي ... ياقوتُه بصَفا لُجَيْنِ رِمالِهِ مارَام منه ذاك إلاّ صَدَّهُ ... إرْسالُ دَمْعِي فيه عن إرْسالِهِ واسْألْ غَزال كِناسِه هل عنده ... خبَرٌ بمَن أضْحَى قتيلَ نِزالِهِ أو عنده ممَّا أُلاقِي من أسىً ... عِلْمٌ بقلبِي في هَواه وحالِهِ وكتب إلى شيخه عبد الرؤوف بن يحيى الواعظ المكي، مسائلاً بقوله: يا أَيها الحَبْرُ يا مَنْ ... منه العلومُ تفجَّرْ ومُفَرَدَ العصرِ مَن قد ... لمسجدِ اللهِ أَزْهَرْ بالاشْتغالِ دَواماً ... بقُرْبِ بيتٍ مُطهَّرْ ما الحكمُ في كلِّ قاتٍ ... وكفتةٍ هو مُنْكَرْ أَم لا لنا فأبِينُوا ... لديكُم الصَّعْبُ يظْهَرْ أَنتم مَلاذٌ وأَمَّا ... في الحكم كُلٌّ تحيَّرْ فأجابه بقوله: الحمدُ لله حَمْداً ... أفرادُه ليس تُحْصَرْ

ومنه خيرُ ثَناءٍ ... لأحمدَ الطُّهْرِ يُنْشَرْ الحكمُ في ذَيْنِ حِلٌّ ... والتَّرْكُ للضُّرِّ أظْهَرْ عبدُ الرؤوف وَشاهُ ... يرجُو المَزلاّت تُغْفَرْ فضل بن عبد الله الطبري ذاته كاسمه، والفضل كله برسمه أجل قدراً من أن لا يعرف، وحاشاه أن يكون نكرةً فيعرف. وقد سمعت من يقول عنه: هو العلم الذي عرف العالم فضله، والفاضل الذي إذا اعتبر فغيره بالنسبة إليه فضلة. وله من الأشعار كل درةٍ فريدة، هي روي في طلا كل وليدة خريدة. فمنها قوله، من قصيدة يمدح بها الشريف زيد بن محسن، أولها: يا مَيُّ حَيَّى الحَيْاَ أحْيَا مُحَيَّاكِ ... هلاَّ بأعْتابِ عُتْبَى فَاهَ لي فَاكِ مَن لي إليك وقد أوْدَى صُدودُك بي ... ولا تَزالِين طَوْعاً لَيَّ أفَّاكِ يا هذه لم أزَلْ مِن بُعْدِها ودُنُوِّ ... السُّقْمِ من بَعْدِها مَوْثوقَ أشْرَاكِ تِيهِي أَطِيلي التَّجنِّي والجَفَاءَ وما ... أرَدْتِ فاقْضِيه بي فالُحسْنُ وَلاَّكِ رِفْقاً رُويْداً كأني بالعَذُولِ على ... تَطاوُلِ الصَّدِّ في ذا الصَّبِّ أغْراكِ منها: حَسْبي دليلاً على شوقي المُبرِّح بي ... أنِّي لَثَمْتُ عَذُولِي حين سَمَّاكِ والجَفْنُ في أرَقٍ والقلبُ في حُرَقٍ ... والعينُ في غَرَقٍ إنْسانُها باكِي يا مُهجةَ الصَّبِّ غير الصَّبْرِ ليس وقد ... جَنَتْ عليك بما لاقيتِ عَيْناكِ منها في المديح: قد زاد في شرفِ البَطْحاءِ أنَّك في ... جِيرانِها خَيْرُ فَعَّالٍ وتَرَّاكِ مُولِي الجميل ومَنْجاةُ الدَّخِيلِ ومَنْ ... حاةُ الخَذِيلِ سَرِيُّ عَيْنِ أمْلاكِ قوله في مطلع القصيدة: فاه لي فاك، جرى فيه على اللغة الضعيفة، وهي لزوم الألف للأسماء الخمسة في جميع الحالات، كقوله: إنَّ أبَاها وأبا أباهَا ومن شعره قوله: لا تُضيِّعْ سَبَهْلَلاً فُرَصَ الْ ... عمرِ بلا طاعةٍ ولا تتعلَّمْ سوف يَدْرِي الجَهْولُ عند انْقضا ... ءِ العمرِ سُدىً كيف ضاع فيَنْدَمْ عبد الرحمن بن عيسى المرشدي مفتي القطر الحجازي وعالمه، وصدره الذي قامت به معالمه. جواد قلمه في ميدان الطرس مرخي العنان، وشرح نموذج حاله أجلى وأظهر من العيان. سلم له من كل فنٍ أهل حله وعقده، وأذعن لبلاغته من كل صوبٍ جهابذة نقده. وألقت إليه الفصاحة مقاليدها، وكتبت رؤساء البراعة باسمه تقاليدها. وهو الطود رصانةً، والطور رزانةً. بعلمه يقتدى، وبحلمه يهتدى. وكان عصره يربو على العصور شرفاً، ويرتقي من المعالي فنناً وشرفاً. بضروبٍ من المآثر والمفاخر، ازدانت بها الأوائل والأواخر. يحديها حادي الرفاق، على مطالع الإشراقين من الآفاق. حتى سمعتها كل أذن صما، ورأتها كل عينٍ عميا. وكان حماه للقصاد قبلة، وما أظن أحداً بلغ مثل شأنه قبله. يعتقد الحجيج قصده من غفران الخطايا، وينشد ببابه تمام الحج أن تقف المطايا. وله من الآثار ما هو في مسامع النبغاء شنف، وفي مجامع البلغاء روضٌ أف. ومن خبره على ما نقل ابن معصوم، أنه لم يزل ممتطياً صهوة العز المكين، راقياً ذروة طود الجاه الركين. لا يقاس به قرين، ولا تطأ آساد الشرى له عرين. إلى أن تولى الشريف أحمد بن عبد المطلب مكة المشرفة، ورفل في حلل ولايتها المفوقة. وكان في نفسه من الشيخ المشار إليه ضغن، حل بصميم مهجته وما ظعن. فأمر أولاً بنهب داره، وخفض محله ومقداره. ثم قبض عليه قبض المعتمد على ابن عمار، وجزاه الدهر على يديه جزاء سنمار. إلاأن المعتمد أعض ابن عمار بالحسام الأبيض، وهذا طوقه هلال فترٍ من أنامل عبدٍ أسود، فجرعه كأس الموت الأحمر. وكان قد أبقاه في محبسه إلى ليلة عرفة، ثم خشي أن يسعى في خلاصه من أكابر الروم من عرفه. فوجه إليه بزنجيٍ أشوه خلق الله خلقا، وتقدم إليه بقتله في تلك الليلة خنقا. فامتثل أمره فيه، وجلله من برد الهلاك بضافيه.

فأقفرت لموته المدارس، وأصبحت ربوع الفضل وهي دوارس. وذلك في عام سبع وثلاثين والف. ومن الاتفاق أن الشريف المذكور قتل هذه القتلة بعينها، حين تقاضت منه الليالي ما سلفت من دينها. وفي الأثر: كما تدين تدان، وهذا حال الدهر مع كل قاصٍ ودان. وهذا حين أتلو من آياته، وأثبت ما يدل على بعد غاياته. فأعظمها قصيدته التي مدح بها الشريف حسنا، وابنه أبا طالب، مهنياً لهما بالظفر بأهل شمر، وهو جبل بنجد: نَقْعُ العَجاجِ لَدَى هَياجِ العِثْيَرِ ... أذْكَى لدَيْنا من دُخانِ العَنْبَرِ وصَلِيلُ تجْريدِ الحُسامِ ووَقْعُه ... في الْهامِ أجْدَى نَغْمةً من جُؤْذُرِ وسَنَا الأسِنَّةِ لاَمِعاً في قَسْطَلٍ ... أسْنَى وأسْمَى من مُحَيّاً مُسْفِرِ وتَسَرْبُلٌ في سابِغاتِ مُزَرَّدٍ ... أبْهَى علينا من قَباءٍ عَبْقَرِي وتتَوُّجٌ بقَوانِسٍ مَصْقولَةٍ ... أزْهَى علينا من سَدُوُسٍ أخْضَرِ وكذاك صَهْوةُ سابِحٍ ومُطهَّمٍ ... أشْهَى إلينا مِن أَرِيكةِ أحْوَرِ ولِقَا الْكَمِيِّ مُدَرَّعاً في مِغْفَرٍ ... كلِقَا الغَرِيرِ بمِقْنَعٍ وبِمخْمَرِ ألِفَتْ أسِنَّتُنا الورُودَ بمَنْهَلٍ ... عَلقتْ به عَلَقَ النَّجِيعِ الأحْمَرِ وسيوفُنا هجَرتْ جِوارَ غُمودِها ... شَوْقاً لِهامَةِ كلِّ أصْيَدَ أصْعَرِ فتَخالُها لمَّا تُجرَّد عندما ... هاج القَتامُ بَوارِقاً بِكَنَهْوَرِ وصَهِيلُ جُرْدِ الخيلِ خِيلَ كأنه ... رَعْدٌ يُزَمْجِرُ في الْجَدَى المُثْعَنْجِرِ ودمُ العِدَى مُتقاطِراً مُتدفِّقاً ... كالوَبلِ كالسيلِ الجُرافِ الْجِوَّرِ ورُءوسُهم تجْرِي به كجَنادِلٍ ... قذَفْت به مَوْجُ السيولِ الهُمَّرِ غَشِيَتْهُمُ في العامِ مِنَّا فِرقةٌ ... تركتْ فَرِيقَهم كسَبْسَبِ مُقْفِرِ أوْدَتْهُمُ قَتْلاً وأجْلَتْهم إلى ... أن حطَّم الهِنْدِيُّ ظَهْرَ المُدْبِرِ تركتْ صَحاراهُم مَوائِدَ ضُمِّنَتْ ... أشْلاءَ كلِّ مُسَوَّدٍ وغَضَنْفَرِ ودَعتْ ضُيوفَ الوحشِ تَقْرِيهمْ بما ... أفْنَى المُهَنَّدُ والوَشِيجُ السَّمْهَرِي فأجَابها من كلِّ غِيلٍ زُمْرَةٌ ... تحْدُو مَنارَ عَمَلَّسٍ أو قَسْوَرِ وأظلَّها ظُلَلٌ نِشَاصُ سَحابِها الْ ... مرْكومِ أجْنحةُ البُزاةِ الأنْسُرِ فبَراثِنُ الآسادِ تضْبثُ في الكُلَى ... ومَخالبُ العِقْبان تنشَب في المَرِي شكَرتْ صَنيعَ المَشْرَفيَّةِ والْقَنا ... إذْ لم تَضِفها الهُبْرَ غيرَ مُهَبَّرِ فغَدتْ قبورُهمُ بطونَ الوَحْشِ مِنْ ... ها يُبعَثون إذا دُعُوا للمَحْشَرِ وخلَتْ ديارُهمُ وأقْوَى رَبْعُهمْ ... وسَرى السَّريُّ مُشَمِّراً عن شمّرِ أنِفَتْ من اسْتقْصاءِ قَتْلِ شَرِيدِهمْ ... كَيْما يُخبِّرَ قائلاً مِن مَخْبَرِ فثَنتْ أعِنَّةُ خَيْلِنا أجْيادَها ... عن قَتْلِ كلِّ مُزَنَّدٍ وحَزَوَّرِ حتى إذا حان القِطافُ لِيانِعٍ ... من أرْؤُسٍ تُرِكتْ ولَمّا تُؤْبَرِ عصفَتْ بها رَيْبُ المَنُونِ فأُلْقِحتْ ... وتحرَّكتْ بزِعَازِعٍ من صَرْصَرِ فدعَتْ سُراةَ كُماتِنا لِقطافِها ... بأناملِ القصَبِ الأصَمِّ الأسْمَرِ فتجهَّزتْ لحَصادِها في فَيْلَقٍ ... لو يسْبَحون بزَاخرٍ لم يَزْخَرِ مَلأٌ تنُوق إلى الكفاحِ نُفوسُهم ... تَوَقَانها لِلِقَا الرَّداحِ المُعْصِرِ

يغْشَوْن أبْطال الخَمِيسِ بَواسِماً ... كالليثِ إن يَلْقَ الفَرِيسةَ يَكْشِرِ وتَخالُهم فوق الجِياد لَوابِساً ... سَدّاً يمُوجُ من الحديدِ الأخْضرِ فإذا همُ ازْدحمُوا بجِزْعٍ وانْثَنَوْا ... أوْرَى زِنادُ دُروعِهم ناراً تُرِي جيشٌ طَلائعُه الأوابِدُ إن تُصِخْ ... لوَجِيبِه من قِيدِ شَهْرٍ تنْفِرِ يقْتادُهُ الملك المُشِيحُ كأنه ... بين العَوالي ضَيْغَمٌ في مَزأَرِ مَلِكٌ تَدرَّع بالبَسالةِ فاغْتنَى ... يومَ الوغَى عن سابِغٍ وسَنَوَّرِ مَلِكٌ تتوَّج بالمَهابةِ فاكْتفَى ... عند الطِّعان لِقرْنِه عن مِغْفَرِ مَلِكٌ تُذكَرنا مَواقِعُ حَدِّه ... في الْهامِ وَقْعةَ جَدِّه في خَيْبَرِ مَلِكٌ إذا ما جال يومَ كَريهةٍ ... لم تَلْقَ غيرَ مجدَّلٍ ومُعَفَّرِ مَلِكٌ يُجهِّز من جَحافلِ رَأْيِه ... قبلَ الوَقيعةِ جَحفَلاً لم يُنظَرِ مَلِكٌ تسنّمَ ذِرْوةَ المجدِ التي ... مِن دونها المَرِّيخُ بل والمشْترِي الأشْرفُ الشَّهمُ الذي خضَعتْ له ... شُمُّ الأُنوفِ وكلُّ جَحْجاحٍ سَرِي الأفضلُ السَّنَدُ الذي أوْصافُه ... أنْسَتْ سُمَا الوَضَّاحِ وابنِ المُنْذِرِ الأكْرمُ المِفْضالُ مَن إحسانُه ... أرْبَى على كسرَى الملوكِ وقَيْصَرِ ذُو الهِمَّةِ العَلْيا الذي قد نال ما ... عنه تُقصِّر هِمَّةُ الإسكَنْدَرِ شَرَفاً تقاعَستِ الكواكبُ دونَه ... لو لم تُمَدَّ بنُورِه لم تُزْهِرِ هَبْها بمنطقةِ البُروجِ مَقَرُّها ... أمُناهِزٌ هذا بُنُوَّةَ حَيْدَرِ كَلاَّ فكيف بمَن حَواها جامِعاً ... نَسَباً سَمَا بأُبُوَّةِ المُدَّثِّرِ أعْظِمْ بها من نِسْبةٍ نَبَويَّةٍ ... عَلَويَّةٍ تُنْمَى لأصلٍ أطْهَرِ قد شُرِّفْت بَدْءًا بأشْرفِ مُرْسَلٍ ... ونِهايةً بالسيِّدِ الحسَن السَّرِي فَخْرُ الخلائقِ دُرَّةُ التَّاجِ الذي ... بِسواه هامُ ذوِي العُلَى لم يَفْخَرِ لم تَلْقَه يَوْمَيْ وَغىً وعَطاً سِوَى ... طَلْقِ المُحَيَّا في حُلَى المُسْتَبْشِرِ يعْفُو عن الذَّنْبِ العظيمِ مُجازياً ... جَازِيه بالحُسْنَى كأن لم يُوزَرِ يا سيِّد الساداتِ دُونَك مِدْحَةً ... نفَحت بعَرْفٍ من ثَناك مُعَطَّرِ قد فُصِّلتْ بلآلىءِ المَدْحِ التي ... يقفُ ابنُ أوْسٍ دُونها والبُحْتُرِي وَافتَكْ تَرْفُل في بُرودِ بلاغةٍ ... وبراعةٍ ببُرودِ صَنْعا تَزْدرِي صاغتْ حُلاها فكرةٌ قد صانَها ... شَمَمُ الإباءِ عن امْتداحِ مُقصِّرِ ما شَأْنُها كَسْب القَرِيضِ تكسُّباً ... لولا مَقامُك ذُو العُلَى لم تَشْعُرِ فورَدتُ مَنْهَلَها الرَّوِيَّ فلم أجِدْ ... أحَداً فنِلْتُ صَفاهُ غيرَ مُكدَّرِ فنَهلْتُ منه وعَلَّني بنَمِيرِه ... وطَفِقْتُ وَارِدَه ولمَّا أصْدُرِ خُذْهَا عَقِيلةَ كِسْرِ جَيْشِ فَصَاحةٍ ... سَفَرتْ نِقاباً عن مُحَيّاً مُسْفِرِ جمعتْ بَلاغةَ مَنطقِ الأعْرابِ مَعْ ... حُسْنِ البيانِ ورقَّةِ المُسْتَحْضِرِ لو سامَها قُسٌّ لمَا سُمِعتْ له ... بعُكاظَ يوماً خُطْبَةٌ في مِنْبَرِ شرُفتْ على مَن عارَضتْه بمَدْحِ من ... أضْحَى القَرِيضُ به كعِقْدٍ جوهرِي فاسْتَجلِها وَافتْ تُهنِّي بالذي ... نفَحتْ بَشائرهُ بمِسْكٍ أَذْفَرِ

نصرٌ تهُزُّ بُنودَه رِيحُ الصَّبا ... خفَقتْ على هامِ الأشَمِّ الْحَزْمَرِ هو نَجْلُك الْمنصور دامَ مُؤيَّداً ... بك أيْنما يُلْقِ العزيمةَ يظْفَرِ لا زلتُما في ظلِّ مُلْكٍ بَاذِخٍ ... وجنودُ مُلْككمُ ملوكَ الأعْصُرِ مُسْتمْسِكين بهَدْي جَدِّكم الذي ... بالرُّعْبِ يُنْصَر من مسافةِ أشْهُرِ أهْدَى الإلهُ صَلاتهُ وسلامه ... لجَنابِه في طَيِّ نَشْرِ العَبْهَرِ أخوه القاضي أحمد شهاب الدين الشهاب الساطع، والحسام القاطع. له المجد المضاعف، والأمل المساعف. والتباهي في التهذيب والتحليم، والتناهي في التجريب والتحكيم. وكان في أيام صدارة أخيه عضده الذي أزره به اشتد، ومضاهيه الذي تهيأ به لقيام تلك الحرمة واعتد. وولي حكم القضاء بالحرم فأضاءت العقد درةٌ وكانت واسطة، وامتدت يد من القوة وكانت بها باسطة. ولما قبض ابن عبد المطلب على أخيه، أردفه معه على ذلك الأدهم، حتى جرع أخاه تلك الكأس فألهمه الله في إفراجه ما ألهم. فنحي بعد ظنه أنه لم يكن ناحياً وسومح بالجناية التي اجترمت عليه وما أحسبه عد جابيا. فمتع الله به سائر أودائه، ونولهم بقاه إرغاماً لأعدائه. ثم انقضت دولة ابن عبد المطلب فانهش له الدهر وأراه وجهاً بسيطاً، وساعفه بعيد ذلك التواني فحباه عطفاً نشيطاً. وراش حاله، وأعاد منه ما غيره وأحاله فما برح في حالٍ حالية، وأيامه من النكد خالية. إلى أن انمحى رسم عيشه ودثر، وانفصم عقد أيامه المنظوم وانتثر. واتفق تاريخ وفاته صدر هذا البيت: مَن شاء بعدَك فَلْيَمُتْ ... فعليك كنتُ أُحاذِرُ وله شعر كرأد الضحى في التألق، وبهجة الروض الأريض في التأنق. أثبت منه ما به الكتاب عبق، وخاطر المترنح به علق. فمنه قوله من دالية مشهورة، مدح بها الشريف مسعود بن إدريس، ومستهلها: عوُجاَ قليلاً كذا عن أيْمَنِ الوادِي ... واسْتوقِفا العيسَ لا يحْدُو بها الحادِي وعَرِّجا بي على رَبْعٍ صحِبتُ به ... شَرْخَ الشَّبِيبةِ في أكْنافِ أجْيادِ واسْتعْطِفا جِيرةً بالشِّعبِ قد نزلُوا ... أعْلَى الكَثِيب فهمُ عزيِّى وإرْشادِي وسائِلاَ عن فؤادِي تبْلُغا أمَلِي ... إن التَّعلُّل يشْفِ غُلَّةَ الصَّادِي واسْتشفِعا تُشْفَعا نَسألْكُمُ فعسَى ... يُقدِّر اللهُ إسْعافِي وإسْعادِي وأحْمِلاني وحُطَّا عن قَلُوصِكما ... في سُوحِ مُرْدِي الأعادِي الضَّيْغَمِ العادِي مسعودُ عينُ العُلَى المسعودُ طالِعُهُ ... قلبُ الكتيبةِ صدرُ الْحَفْلِ والنَّادِي رأسُ الملوك يَمين المُلكِ ساعدُه ... زَنْدُ المعالي جَبِينُ الجَحْفلِ البادِي شهمُ السُّراةِ الأُلَى سارتْ عَوارِفُهمْ ... شرقاً وغرباً بأغْوارٍ وأنْجادِ نَرِدْ غِمارَ العُلَى في سُوحِه ونُرِحْ ... أيْدِي الرَّكائِب من وَخْدٍ وإِسْآدِ فلا مُناخَ لنا في غيرِ ساحتِه ... وجودُ كفَّيْه فيها رائحٌ غادِي يَعْشَوْشِب العِزُّ في أكْنافِ عَقْوتِه ... يا حَبَّذا الشِّعبُ في الدنيا لِمُرْتادِ ونجْتني ثَمرَ الآمالِ يانعةً ... من رَوْضِ مَعْروفِهِ من قبل مِيعادِ فأيُّ سُوحٍ يُرَى من بعد ساحتِه ... وأي قصدٍ لمقصودٍ وقُصَّادِ لِيَهْنِ ذا المُلكَ أن أُلْبِسْتَ حُلَّتَه ... تُحْيي مآثرَ آباءٍ وأجْدادِ لبسْتَها فكسَوْتَ الفخرَ مُرْسِلَها ... مُشهَّراً يبْهَرَ المصبوغَ بالجادِي عَلَوْتَ بيتاً ففاخرْتَ النُّجومَ عُلاً ... والشُّهْبَ فَخْراً بأسبابٍ وأوْتادِ ولُحْتَ بَدْراً بأُفْقِ المُلك تحسِده ... شمسُ النهارِ وهذا حَرُّها بادِي

وصُنْتَ مكةَ إذْ طهَّرتَ حَوْزَتَها ... من ثُلَّةٍ أهلِ تَثْليثٍ وإلْحادِ قد غَرَّ بعضَهم الإهمالُ يحسَبُه ... عَفْواً فعاد لإتْلافٍ وإفْسادِ فذُدْتهم عن حِمَى البيتِ الحَرامِ وهم ... من السَّلاسلِ في أطْواقِ أجْيادِ كأنهم عند رَفْعِ الزَّنْدِ أيديهَم ... يدْعُون حُبَّاً لمولانا بإمْدادِ وما ارْعَوَوا فشَهرتَ السيفَ مُحتسِباً ... يا بَرْدَ حَرِّهم في حَرِّ أكْبادِ غادَرْتَهم جَزَراً من كلِّ مُنْجَدِلٍ ... كأن أثوابَه مُجَّتْ بفِرْصادِ سعَيْتَ سَعْياً جَنَينْا من خمائلِه ... نَوْرَ الأمانِ لأرْواحٍ بأجْسادِ فكم بمكةَ من داعٍ ومُبْتهِلٍ ... ومن محبٍ ومن مُثْنٍ ومن فادِي وعاد كلُّ عَصِيٍ ذلَّةً وصَلَى ... وكان من قبلُ صَعْباً غيرَ مُنْقادِ نَفَى لَذيذَ الكرى عنهم تذكُّرُهم ... وقائعاً لك بين الخَرْجِ والوادِي أباح سَرْحَك أن يرعى منازِلَهم ... مُهمِّلاً كلَّ مُعْوَجٍ ومُنْآدِ مِن كلِّ أبْيضَ قد صَلَّتْ مَضاربُه ... لمَّا ترقَّى خطيباً مِنْبَرَ الهادِي وكلِّ أسْمَر نَظَّامِ الطُّلاَ وله ... إلى العِدَى طَفْرةُ النَّظَّامِ مَيَّادِ وصانَ وَسْمَكَ في حاشٍ مُخالطةٌ ... عن ربِّ غَزْوٍ تنضَّاه بأحْشادِ وأسْكَنتْ قلبَهم رُعْباً تذَكُّرُه ... يُنْسِي الشَّفُوقَ المُوالِي ذِكْرَ أولادِ أقْبلْتَهم كُلَّ مِرْقالٍ وسابحةٍ ... يُسْرِ عَنْ عَدْواً إلى الأعدا بأطْوادِ من كلِّ شهمٍ إلى العلياءِ مُنتسِبٍ ... بسادةٍ قادةٍ للخيْلِ أجْوادِ فهاكَ يا ابنَ رسولِ اللهِ مِدْحةَ مَن ... أوْرَتْ قَريحتُه من بَعْدِ إخْمادِ فأحْكمَتْ فيك نظماً كلُّه غُرَرٌ ... ما أحْرزَت مثلَه أقْيالُ بَغْدادِ أضْحَتْ قَوافِيه والآمالُ تَسْرَحُها ... روضَ البديعِ لإرْصادٍ بمِرْصادِ ترْوِيه عنِّي الثُّرَيَّا وهْي هازئةٌ ... بالأصْمَعِيِّ وما يرْوِي وحَمَّادِ وتسْتحِثُّ مَطايَا الزَّهْرِ إن ركَدتْ ... كأنها إبلٌ يحْدُو بها الحادِي وتُوقِظُ الرَّكْبَ مِيلاً من خُمارِ كَرىً ... والليل من طَوْقِ تَدْآبِ السُّرَى هادِي أتتْك تشْفَع إدْلالاً لِمُنشِئِها ... فاقْبَلْ تذلُّلَها يا نَسْلَ أمْجادِ وأسْبِلِ الصَّفْحَ سِتْراً إن بَدا خَلَلٌ ... تهتك به سِتْرَ أعداءٍ وحُسَّادِ وكتب إلى القاضي تاج الدين المالكي، من الطائف: لا هاج قلباً هام مِنْ ... بُرَحِ التَفَرُّقِ بانْصِداعِ غَيْمٌ أرَقُّ حَواشِياً ... مِن بُرْدِ ضافِيةِ القِناعِ زَجِلُ الرُّعودِ كأنها ... نَغماتُ آلاتِ السَّماعِ والهَمْعُ مثلُ الدمعِ مِن ... عَيْنَيْ مُراءٍ أو مُراعِ يَهْمِي ويسكُن كي يعُمَّ ... برِيِّهِ شَعَفَ التِّلاعِ والبرقُ يخفُق مثلَ قَلْ ... بِ الصَّبِّ في يوم الوَداعِ ونَسِيمُه قد رَقَّ مِن ... حَرِّ اشْتياقِي والْتياعِي لِفراق تاجِ الدِّين ما ... صِي الأمْرِ قاضِينَا المُطاع مَن جُمِّعتْ فيه العُلَى ... وتوفرتْ فيه الدَّواعِي ذِي الفضل بالمعنَى الأعَمِّ ... ولا أَخُصُّ ولا أُراعِي سبقتْ أنامِلُه الأنا ... مَ فأحْرزَتْ قَصَبَ اليَرَاعِ

لَخجلْتُ إذْ فاتحتْهُ التَّ ... رْسيلَ من سوءِ اصْطِناعِي مَن ذا يُبارِي ذَا البيا ... نِ بِرَاقِمٍ ويَدٍ صَناعِ إذْ حاك وَشْياً لا يحُو ... كُ بالابْتكارِ والاخْتِراعِ لا زال محمودَ الخِصا ... لِ ودام مشكورَ المَساعِي فإليْكها ابْنةَ خاطرٍ ... أصْفَى من الذهب المُماعِ تزْهُو على دُرِّ النُّحو ... رِ وتزْدرِي وَدَعَ الوَداعِي وعلى شهابِ الدِّين مَن ... يهْوى النُّزوعَ إلى النِّزاعِ منِّي تحيَّةِ شَيِّقٍ ... مَزَجَ الخلاعةَ بالخَلاعِ فراجعه بقوله: إن همَّ قلبُك صِينَ مِن ... بُرَحِ الفِراق بالانْصِداعِ فالقلبُ قد غادرْتُه ... شَذَراً بمُعْتَرَكِ الوَداعِ إذ هاجَ الزَّجِلُ الرَّعُو ... دُ سَرَى وأصبح في انْدِفاعِ وسمعت من نَغماتِهِ ... رَنَّاتِ آلاتِ السَّماعِ فلقد رحَلْتُ بمُقْلةٍ ... عَمْيَا وسَمْعٍ غيرِ وَاعِي ولئن يكُنْ رَقَّ النَّسِي ... مُ بما تُجِنُّ من الْتياعِ فبِزَفْرَتي اشْتَعل الهوَا ... ءُ من العَنانِ إلى اليَفاعِ كم قلتُ للقلبِ المُصَدَّ ... ع بالنَّوَى جُدْ بارْتجاعِ فأحالَ ذاك على انْتِظا ... مِ الشَّمْلِ في سِلْكِ اجْتماعِ عهدِي به لمّا أن اسْ ... تولَتْ عليه يدُ الضَّياعِ أضْلَلْتُه في موقفِ التَّ ... ودِيعِ من دَهَشِ ارْتياعِي ناشدْتكُم نُشْدانَه ... لي بيْن هاتِيك الرِّباعِ تحت المَواطىءِ مِن مَمَرّ ... صَديقيَ الخِلِّ المُراعِي يا سَيّدي وأخِي هَوىً ... وجَلالةً ويَدِي وباعِي مَن أصبحتْ شمسُ العُلَى ... بسَناه ساطعةَ الشُّعاعِ فخرُ القضاة وفَيْصلُ الْ ... أحكامِ في يوم التَّداعِي بحرُ العلوم فإن أفا ... دَ ترَى له سَعةَ اطِّلاعِ قُل للمُحاولِ شَأْوَه ... قَصِّرْ خُطَى هَذِي المَساعِي فانْظُر لمِرآةِ الزَّما ... نِ وقد غدتْ ذاتَ اتِّساعِ لا غيرَ صورةِ مَجْدِه ... فيها تراه ذَا انْطِباعِ يا مُحْرِزاً ببَنانِه ... قَصَبَ السِّباقِ بلا دفاعِ ومُوَشِّياً حِبَرَ البلا ... غةِ والبراعةِ باليَراعِ أنَّى يُحاكَى وَشْيُها ... بِحياكتِي ذاتِ الرِّقاعِ كان الحَرِيُّ بها اشْتما ... لِي ثوبَ صَمْتِي وادِّراعِي لكنْ أمَرْتَ بأن أُجي ... بَكَ وامْتثالُ الأمْرِ دَاعِي فأتْتك من خَجَلٍ تجرُّ ... الذَّيْلَ مُرْخِيةَ القِناعِ فانْشُرْ لها سِتْر الرِّضا الْ ... منسوجَ من كَرَمِ الطِّباعِ لا زال مجدُك كلّ وقْ ... في ازْديادٍ وارْتفاعِ وكتب يستدعي جماعةً من الفضلاء، وهم بجبل النور من المعلاة، وهو بمنىً: عليكمُ مِن مُحِبٍ حَشْوُ أضْلُعهِ ... وُدٌّ أرق إلى الظَّامِي من النُّطَفِ تحيّةٌ يرْتضيها الفضلُ إن نَفحتْ ... أرْبَتْ على نَفَحاتِ الرَّوضةِ الأُنُفِ حَواكمُ الجبلُ العالِي بكم شَرَفاً ... على المَعالِي التي تعلُو على الشّرَفِ نُظِمْتمُ فيه نَظْمَ العِقْدِ مُتّسِقاً ... على تَليِلِ كَعابٍ ظاهِر التّرَفِ وغادرتْ عقدَكم أيْدي مُؤلِّفهِ ... مُكَبَّلاً وحدَه في رَبْقةِ الصَّدَفِ مِنىً هي الصَّدَفُ المُومَى إليه مُنىً ... للنفسِ فيها وفي أفْنائِها الوُرُفِ

ولا أنيسَ له إلاّ مُماثِلُكمْ ... على ثَبِيرِ جميلِ السَّفحِ والشّعَفِ يُجيبُني بصَدَى صَوتي فأرفعُه ... مِن قِلّةِ الإلْفِ لا مِن كثرةِ الشّغَفِ فهل وَفِيٌّ مِن الخِلاَّن يُسْعِدُنِي ... في الفجر أو بعد ما صُلِّي مع الحَنَفَي يُجيبني أو يُجيب الغَيْرَ عنه وما ... يُجيبُني غيرُ مُحْيي الدِّين أو شَرَفِ كُفوانِ يرْضاهما الإحسانُ إن نَطَقَا ... أو أُرْعِفَ الدَّنُّ للأقْلامِ في الصُّحُفِ ومن بديع نظمه، ما كتبه في ديوان قصر ابن عقبة، في قرية السلامة، من أعمال الطائف، وهي قصيدة فريدة، لا يحضرني منها إلا قوله: قصرَ ابنِ عُقْبةَ لا زالتْ مواصِلَةً ... مني إليك التَّحايَا نَسْمةُ السَّحَرِ ولا عَدَتْك غَوادِي السُّحْبِ تسْحب في ... رِحابِك الفِيح ذَيْلَ الطَّلِّ والمَطَرِ كم لَذّةٍ فيك أرضيْتُ الغرامَ بها ... يوماً وأرْغَمْتُ أنْفَ الشمسِ والقمرِ وكم صديقٍ من الخِلاّنِ حاوَرَني ... أطْرافَ أخبارِ أهلِ الكْتبِ والسِّيَرِ ويعجبني من شعره قوله في مطلع قصيدة مدح بها السيد شهوان ابن مسعود، وهو: فَيْرُوزجٌ أو وِشامُ الغَادةِ الرُّودِ ... يبْدُو على سِمْطِ دُرٍ منه مَنْضُودِ وأعجب منها مخلصها، وهو: صَهْباءُ تَفْعلُ بالألْبابِ سَوْرَتُها ... فِعْلَ السَّخاءِ بشَهْوانِ بنِ مسعودِ ومن شعره قوله في البرقع الشرقي، المعروف عند أهل اليمن: وخَوْدٍ كبدرِ التِّمِّ في جُنْحِ مِصْوَنٍ ... حَماها عن الأبْصارِ بُرْقُعُها الشَّرْقِي سِوَى طُرَّةٍ مثل الهلالِ بَدَتْ لنا ... على شَفَق والفَرْقُ كالفجرِ في الأُفْقِ فقلتُ هلالٌ لاحَ والفجرُ طالعٌ ... من الغرب أمْ لاح الهلالُ من الشَّرْقِ وقوله في مثل ذلك: بالبُرْقِع الشرقيّ تح ... تَ المصْوَن الباهي الجمالْ أَبْدَت لنا شَفقاً وكيْ ... لاً لاحَ بينهما الهلالْ وقال معللاً تسمية القدح قدحاً: مُذْ صَبَّ ساقينا الطِّلاَ ... حتى تناثرَ وانتضَحْ خالوا شَراراً ما رأَوْا ... فلأَجْلِ ذا قالوا قَدَحْ وله في صوفية عصره: صُوفيَّةُ العصرِ والأوانِ ... صُوفِيَّةُ العَصْرِ والأوانِي فاقُوا على فعلِ قومٍ لُوطٍ ... بنَقْرِزَانٍ لِنَقْرِزَانِ وله، وهو معنى مبتكر: ألا انْظُر إلى هذا الصَّفاءِ لِبِرْكَةٍ ... تقول لِمَن قد غاب عنها من الصَّحْبِ لئِن غبْتَ عن عينِي وكدَّرْتَ مَشْرَبِي ... تأمَّلْ تجِدْ تِمْثالَ شَخْصِك في قَلْبِي حنيف الدين بن عبد الرحمن المنيف في دوحة النبل فرعه، الحنيف في ملة الفضل شرعه. قام مقام أبيه بعده، فصدق فيه الدهر وعده. بمرأى كالصباح إذا وضح، ووجهٍ لو قابله البدر في تمه افتضح. وفكرٍ أسرع في تدبر الأشياء من الوهم، ورأيٍ يفعل عزمه الشهم ما لا يفعله السهم. فاستقر في مركز أبيه مكملاً لكمالاته، وهو بدر سمائه ومن عادة البدر أن لا يخرج عن هالاته. فلم تنطق الأفواه بمدحه إلا وقفت وفيه كثرة الفكر، واستبقت السراة إلى سؤددٍ إلا تناهت وله محكم الذكر. وهو في الفضل، تجاوَز قَدْرَ المدحِ حتى كأنه ... بأحْسنِ ما يُثْنَى عليه يُعابُ وفي الأدب، تبوَّأ أسْمَى منزلٍ فازْدهَتْ به ... هضابٌ تسامَتْ للعُلَى وشِعابُ وله أشعار بحبر الرقة موشاة، كأن صحائفها بنقوش الزبرجد محشاة. فمنها قوله، مراجعاً عن لسان أبيه لبعض الأدباء: تبدَّى لنا بَرْقٌ بأُفْقِ رُبَا نَجْدِ ... فأذْكَرني عَهْداً وناهِيكَ من عهدِ وهَيَّمَنِي شوقاً وزاد بيَ الأسَى ... وأضْرَم لي نارَ الصَّبابةِ والوجْدِ وجدَّد لي ذكرَ الليالي التي خَلَتْ ... وطِيبَ زمانٍ بالحِمَى طَيِّبِ الوِرْدِ

زماناً جلاَ ذو الحسن شمْسَ جمالهِ ... علينا فشاهدْنا به الشمسَ في بُرْدِ وأبْدَتْ لنا ذاتُ الجمال جَبِينَها ... فأخْجَل بدرَ الأُفْقِ في طالِعِ السَّعْدِ هي الروضُ تبْدو للأنام بوَجْهِها ... فتقْطفُ زهرَ الوردِ من خَدِّها الوردِي وفاح لنا نَشْرُ الخُزامَى برَوضةٍ ... شَدَتْ وُرْقُها شوقاً على الأغْصُنِ المُلْدِ تغنَّتْ على غصنِ الأَراكِ بمَدْحِ مَن ... علا قَدْرُه السامِي على ذِرْوةِ المجدِ كمالُ قُضاةِ المسلمين إمامُهم ... ومُوضِحُ مِنْهاج الرَّشَادِ لِذي الرُّشْدِ عليه مَدى الأيام منِّي تحيَّةٌ ... تفُوق فَتِيتَ المِسْكِ والعُودِ والنَّدِّ وقال في مثل هذا الغرض: غنَّتِ الوُرْقُ في المَسَأ والبُكورِ ... ساجِعاتٍ على غُصونِ الزهورِ وتبدَّتْ من كَلَّةِ الحُسْنِ خَوْدٌ ... تُخْجِلُ الشمسَ مَعْ سَناءِ البدورِ قد تحلَّتْ من الجمالِ بِعقْدٍ ... جَلَّ في الحُسْنِ والبَها عن نَظِيرِ فاقْتطفْنا من خَدِّها زَهْرَ وَرْدٍ ... فاق نَشْرَ النِّسْرِين والمَنْثُورِ وارْتشَفْنا من ثَغْرِها العَذْبِ شُهْداً ... فانْتشَوْنا لا نَشْوةَ المخمورِ برَّدتْ بالوِصالِ قلبَ كَئِيبٍ ... كان فيه للهجرِ نارُ السَّعيرِ يا لَها عَذْبةَ الثَّنايا رَداحاً ... قد تبدَّتْ في زِيِّ ظَبْيٍ غَرِيرِ قد أتتْنا من عالِمِ العصرِ مَوْلىً ... قد تَسامَى على السُّها والأَثِيرِ قد أتاني مولايَ منك كتابٌ ... ذُو نظامٍ حكى عُقودَ النُّحُورِ فَفضضْتُ الخِتامَ عن كَنْزِ عِلمٍ ... حاز منه الغِناءَ كلُّ فقيرِ فتأمَّلتُ في رياضِ حِماهُ ... وتنسَّمْتُ ما به من عَبِيرِ فبَدا نَظْمُ طِرْسِه مع نَثْرٍ ... ذِي بَيانٍ فسُرَّ منه ضَمِيرِي دُمْتَ يا أوْحَدَ الزمانِ فريداً ... في أمانٍ بحِفْظِ ربٍ خَبيرِ ومن بديع شعره قوله: أمْسي وأصبح من تَذْكارِكم وَصِبَا ... يرْثِي له المُشْفِقان الأهلُ والولدُ قد خدَّد الدمعُ خدِّي من تذكُّرِكمْ ... واعْتادَنِي المُضْنِيان الوجدُ والكَمَدُ وغاب عن مُقْلتِي نومِي لغَيْبتِكم ... وخانَنِي المُسْعدِان الصبرُ والجَلَدُ لا غَرْوَ للدمعِ أن تجري غَوارِبُه ... وتحته المُظْلِمان القلبُ والكَبِدُ كأنما مُهْجتي شِلوٌ بمَسْبَعةٍ ... ينْتابُها الضَّارِيان الذئبُ والأسدُ لم يبْق غيرُ خَفِيِّ الرُّوحِ في جسدِي ... فِدىً لك الباقيانِ الرُّوحُ والجسدُ القاضي تاج الدين المالكي إمام الحرمين وقاضيهما، ولوذعي خلهما الذي سلم له المناظر والمناضل. فشرفه على سمك السماك مكان، ومجده كعبة أخلاقه لها أركان. وقد زين مدةً مراقي المنابر، وأمد الفضلا بخطبه التي تنافست في نسخها الأقلام والمحابر. وهو في الإنشاء تاج رأس أهله، والمقدم فيهم وإن كان جاء على مهله. فالصاحب على ذكره محشور، وكأن الصابي من طيب نشره منشور. وأما البديع فلو أدركه لكان بمنزلة غلامه، وعبد الحميد لو عاصره لكان بارياً لأقلامه. وآثار أقلامه حلية الآداب العواطل، إذا ذكرت كاثرت السحب الهواطل. وقد وقفت على رسائله التاجية فرأيت اللفظ المعجب، والقول المنجب. وشاهدت الفضل عياناً، وعاينت التاج قد نثر عقياناً. وأما نظمه فقد نظم في لبة الإحسان منه عقداً، كاد يتميز عليه سمط الثريا غيظاً وحقداً. وقد جئتك من بدائعه بما أشرق بدره في مطالع تمه، وأخذت أطرافه بأجل الحسن وأتمه. فمنه قوله من دالية عارض بها دالية أحمد المرشدي التي ذكرتها، وسيأتي معارضه ثالثة لهما، في ترجمة محمد بن حكيم الملك.

وصاحب الترجمة مدح بقصيدته الشريف مسعوداً أيضاً، ومطلعها: غُذِيتُ دَرَّ الصِّبا مِن قبلِ ميلادِي ... فلِمْ تَرُمْ يا عَذُولِي فيه إرْشادِي غَيُّ التَّصابِي رَشادٌ والعَذابُ به ... عَذْبٌ لداءٍ كبَرْدِ الماءِ للصَّادِي وعاذِلُ الصَّبِّ في شَرْعِ الهَوى حَرِجٌ ... يرومُ تبْديلَ إصلاحٍ بإفْسادِ ليت العَذُولَ حوَى قلبي فيعذِرُني ... أوليت قلبَ عَذُولِي بين أكْبادي لو شام بَرْقَ الثَّنايا والتَّثَنِّيَ مِن ... تلك العُقودِ انْثَنى عِطفاً لإسْعادِي ولو درَى هادِيَ الجَيْداء كان دَرَى ... أن اشْتياقَ الهُدَى من ذلك الهادِي كم بات عِقْداً عليه ساعِدِي ويَدِي ... نطاقُ مُجتمَعِ المَخْفِيِّ والْبادِي إذْ أعْيُنُ العِينِ لا تنْفكُّ ظامِئةً ... لوِرْدِ ماءِ شَبابي دون أنْدادِي فيا زمانَ الصِّبا حُيِّيتَ من زمنٍ ... أوْقاتُه لم نُرَعْ فيها بأنْكادِ ويا أحِبَّتَنا رَوَّى مَعاهِدَكم ... من العِهادِ هَتُونٌ رائحٌ غادِ مَعاهداً كُنَّ مُصْطافِي ومُرْتَبَعِي ... وكم بها طال بل كم طاب تَرْدادِي يا راحِلين وقلبي إثْرُ ظُعْنِهِمُ ... ونازِحين وهم ذِكْرِي وأوْرادِي إن تطلبُوا شرحَ ما أيْدِي النَّوَى صنَعتْ ... بمُغْرَمٍ حِلْفِ إيحاشٍ وإيحادِ فقابلُوا الرِّيحَ إن هبَّتْ شَآميةً ... تَرْوِي حَدِيثي لكم مَوْصولَ إسْنادِ وَالَهْفَ نفسِي على مَغْنىً به سَلفتْ ... ساعاتُ أُنْسٍ لنا كانتْ كأعيادِ كأنها وأدام اللهُ مُشْبِهَها ... أيامُ دولةِ صدرِ الدَّسْتِ والنَّادِي ذو الجود مسعودٌ المسعودُ طالِعُه ... لا زال في بُرْجِ إُقْبالٍ وإسْعادِ عادتْ بدولتِه الأيامُ مُشرِقةً ... تهزُّ مُختالةً أعْطافَ مَيَّادِ وقلّد المُلْكَ لمَّا أن تقلّده ... فخراً على مَرِّ أزْمانٍ وآبادِ وقام باللهِ في تدْبيرِه فغَدَا ... مُوَفَّقاً حالَ إصْدارٍ وإِيرادِ حَقٌّ لك الحمدُ بعد اللهِ مُفْتَرَضٌ ... في كلِّ آوِنةٍ من كلِّ حَمَّادِ أنْقذتَهم من يدِ الأعداءِ مُتَّخِذاً ... عند الإلهِ يداً فيهم بإنْجادِ دارَكْتَهم سُهَّداً رَمْقَي فعادَلهم ... غَمْضٌ لِجَفْنٍ وأرواحٌ لأجسادِ بُشْراك يا دهرُ حازَ المُلْكَ كافلُه ... بُشْراكَ يا دهرُ أخْرَى بِشْرُها بادِ عادت نجومُ بني الزَّهْراء لا أفلَتْ ... بعَوْدةِ الدولةِ الزَّهْرَا لمُعتادِ واخْضَلَّ رَوْضُ الأماني حين أصبحتِ الْ ... أجْوادُ عِقْداً على أجْياد أجْيادِ وأصبح الدِّينُ والدنيا وأهلُهما ... في حِفْظِ مَلْكٍ لظلِّ العدلِ مَدَّادِ يُبِيحُ هَامَ الأعادِي مِن صَوارِمِه ... ما اسْتَحْصدَتْ بالتَّعاصِي كلَّ حَصَّادِ فيهم أيادِي أيادِيهِ ونائلُه ... على الورَى أصْبحتْ أطواقَ أجْيادِ بَذْلُ الرَّغائبِ لا يعْتدُّهُ كرماً ... ما لم يكنْ غيرَ مَسْبوقٍ بِميعادِ والعَفْوُ عن قُدْرةٍ أشْهَى لِمُهْجتِه ... صِينَتْ وأشْفَى من اسْتيفاءِ إيعادِ مَآثِرٌ كالدَّرارِي رِفْعةً وسَناً ... وكَثْرةً فهْي لا تُحْصَى بعَدَّادِ فأنتَ مِن مَعْشرٍ إن غارةٌ عَرضتْ ... خَفُّوا إليها وفي النادِي كأطْوادِ

كم هَجْمةٍ لك والأبطالُ مُحْجِمَةٌ ... ووقفةٍ أوْقفَتْ لَيْثَ الشَّرَى العادِي بكلِّ أبيضَ مَعْضُودٍ لمُضْطَهدٍ ... وللمَرائرِ والمُرَّانِ قَصَّادِ وكل مجتمع الأطراف معتدل ... لدن لعرق فجيع القرن فصاد فَخْرَ الملوكِ الأُلَى فَخْرُ الزمانِ بهم ... دُمْ حائزاً مُلْكَ آباءٍ وأجدادِ ولْيَهْنِ حُلّتَهُ إذْ رُحْتَ لابِسهَا ... أن أصبحتْ خيرَ أثْوابٍ وأبْرادِ واسْتَجْلِ أبْكارَ أفكارٍ مُخدَّرةٍ ... قد طال تعْنِيسُها مِن فَقْدِ أنْدادِ كم رُدَّ خُطَّابُها حتى رأتْكَ وقد ... أتتْك خاطبةً يا نَسْلَ أمْجادِ أفْرغْتُ في قالَبِ الألفاظِ جَوْهرَها ... سَبْكاً بذهنٍ وَرِيِّ الزَّنْدِ وَقَّادِ وصاغَها في مَعاليكم وأخْلَصها ... وُدٌّ ضميرُك فيه عَدْلُ أشْهادِ يحْدُو بها العِيسَ حَاديِها إذا رزَحتْ ... مِن طُولِ وَخْدٍ وإرْقال وإسْئادِ كأنّها الرَّاحُ بالألْبابِ لاعبةً ... إذا شَدا بين سُمَّارٍ بِها شادِي بفضْلِها فُضَلاءُ العصرِ شاهدةٌ ... والفضلُ ما كان عن تسْليمِ أضْدادِ فلو غدَتْ من حبيبٍ في مَسامِعِه ... أو الصَّفِيِّ اسْتحالاَ بعضَ حُسَّادِي واستنْزَلا عن مَطايَا القومِ رَحْلَهُما ... واستوْقَفا العِيسَ لا يحْدُو بها الحادِي وحَسْبُها في التّسامِي والتقدُّمِ في ... عَدِّ المَفاخرِ إذ تغْدُو لعَدَّادِ تَقْريظُها عندما جاءتْ مُعارِضةً ... عُوَجا قليلاً كذا عن أيْمَنِ الوادِي وكتب إلى القاضي أحمد المرشدي، معتذراً عن وصوله إليه بعد وعده له؛ لعروض مانعٍ منعه: أيُّها المَعْشَرُ الذين إليهمْ ... وَاجباً أن يكون سَعْياً براسِي لا تظنُّوا تَرْكِي الوصولَ إليكم ... لِمَلالٍ وِدادَكم أو تَناسِي أو تَغالٍ عنكم وإن كان عُذْرِي ... هو أني شُغِلْتُ من بعض ناسِ فأجابه بقوله بديها: قد أتاني اعْتذاركم بعد أنِّي ... بِتُّ من هَجْرِكم عديمَ حَواسِي فتلقَّيْتُه بصدرٍ رَحِيبٍ ... ولصَقتُ الكتابَ عِزّاً بِراسِي غيرَ أنِّي لا أرْتضيه إذا لمْ ... تُنْعِموا بالوصالِ والإِيناسِ وأقِلْني العِثارَ في النظم إني ... قلتُه والفؤادُ في وَسْواسِ وكتب إلى صاحبين له استدعياه، فتعذر عليه الذهاب إليهما: يا خليليَّ دُمْتُما في سرورٍ ... ونعيمٍ ولذَّةٍ وتَصافِي لم يكن تركيَ الإجابةَ لمَّا ... أن أتاني رسولُكم عن تَجافِي كيف والشوقُ في الحُشاشةِ يقْضِي ... أنني نحوَكم أجوبُ الفَيافِي غيرَ أن الزمانَ للحظ مني ... لم يزَلْ مُولَعاً بحُكْمِ خِلافِي عارَض المُقتضِي من الشوقِ بالْما ... نِعِ والحكمُ عندكم ليس خافِي فسلامٌ عليكمُ وعلى مَن ... فُزْتُما مِن ثِمارِه باقْتطافِ وكتب إلى القاضي محمد بن دراز يستدعيه: رَقَّ النَّسِيمُ وذيلُ الغَيْمِ مُنسْدِلٌ ... على الوُجوهِ وطَرْفُ الدهرِ قد طُرِفَا فاغْنَمْ مُعاقرةَ الآدابِ واغْنَ بها ... عن المُدامِ وخُذْ من صَفْوها طُرَفَا وانْزَعْ إلينا لنجنِي من خَمائِلها ... وَرْداً ونجذبَ من مِرْطِ الوفا طَرَفَا ومن شعره قوله: غَنِيَتْ بحِلْيةِ حُسْنِها ... عن لُبْسِ أصنافِ الحُلِي وبدتْ بهيْكلِها البدي ... عِ تقولُ شاهِدْ واجْتلِ تجدِ المَحاسنَ كُلَّها ... قد جُمِّعتْ في هَيْكَلِي

ولما وقف عليها السيد أحمد بن مسعود ورآها، وشاها وشاها. وشيد كل بيت من أبياته قصرا، وابتز ذلك المعنى باستحقاقه قسرا. فقال: للهِ ظَبْيٌ سِرْبُهُ ... يزْهُو به في المَحْفَلِ قَنص الأُسودَ بغالِبٍ ... قَيْدِ الأوابدِ هَيْكَلِ وله الجَوارِ المُنْشِئا ... تُ جَوَى الحُشاشةِ للْخَلِي من كلِّ رُودٍ لَحْظُها ... يسْطُو بحَدِّ الْمُنَصُلِ مُشْتاقها من ثَغْرِها ... وأثيثُها في مُشْكِلِ فاق الغَوانِي حَالِيا ... تٍ عاطلٌ في هَيْكَلِي ما قال في ظَلْمائِه ... يا أيُّها الليلُ انجَلِ وحذا حذوهما القاضي أحمد المرشدي، فقال: يا ربَّة الحُسْنِ الجَلِي ... لمُؤَمِّلِ المُتأمَّلِ صدري ووجهي مُنْيَةٌ ... للمُجتنِي والمُجتلِي فالْحَظْ بديعَ مَحاسنِي ... من تحتِ أنواعِ الحُلِي تَجِدِ الهياكلَ والحُلِيَّ ... جمالها من هَيْكَلِي وكتب إلى بعض أصدقائه قوله: مَن كان بالوادي الذي هو غيرُ ذِي ... زَرْعٍ وعَزَّ عليه ما يُهْدِيهِ فلَيُهْديَنَّ من المُفاكهةِ التي ... تحلُو فواكهُها لكلِّ نَبِيهِ وله في غربية المتقدم وصفها: خالفْتُ أهلَ العشقِ لمَّا شَرَّقُوا ... فجعلتُ نحوَ الغربِ وحدي مَذْهَبِي قالوا عدَلْتَ عن الصوابِ وأنْشدُوا ... شَتَّان بين مُشرِّقٍ ومُغرِّبِ فأجبْتُهم هذا دليلي وانظُروا ... للشمسِ هل تسْعَى لغيرِ المغْرِبِ وله في المفاخرة بين الإبرة والمقص: فاخَرَتْ إبرةٌ مِقَصّاً فقالتْ ... لِيَ فضلٌ عليكمْ بَادٍ مُسَلَّمْ شأنُك القطعُ يا مِقَصُّ وشأْني ... وصلُ قطعٍ شَتَّان إن كنت تفْهمْ وأصله قول بعضهم: إنَّ شأنَ المِقَصِّ قَصُّ وِصالٍ ... فلهذا يَضِيعُ بين الجُلوسِ وترى الإِبرةَ التي تُوصِل الْ ... قَطْعَ بِعزٍ مغروسةً في الرُّءُوسِ وله في الفوارة: وفَوَّارةٍ من مَرْوةٍ قاما ماؤُها ... كَبزْ بُوزِ إبْرِيقٍ وليس له عُرْوَهْ بَدا ليَ لمَّا أن وردتُ صَفاؤُها ... ولا غَرْوَ أن يبدُو الصَّفاءُ من المَرْوَهْ ومن فوائده، أنه سئل عن قول الصفي الحلي: فلئن سطَتْ أيْدِي الفِراقِ وأبْعَدتْ ... بَدْراً تَحجَّب نِصْفُه بنَصِيفِ فلقد نَعِمْتُ بوَصْلِه في مَنْزِلٍ ... قد طاب فيه مَرْبَعِي ومَصِيفِي فأجابه بقوله: لا يخفى أن النصيف هو الخمار، فكأن الشاعر تخيل أن الجبين بدر تمامٍ كامل الاستدارة، ستر الجمال نصفه الأعلى، فلما تخيل ذلك قال: بدراً تحجَّب نصفُه بنَصيف ثم ضمنه بقوله: أفْدِي التي جلَب الخُمارَ جبينُها ... تحت الخِمارِ لقلبيَ المَشْغُوفِ فصَبا له لمَّا تحقق أنه ... بدرٌ تحَجَّب نِصْفُه بنَصِيفِ وقد سئل عنه أيضاً الإمام زين العابدين الطبري، فأجاب بما نصه: النصيف الخمار، وكل ما يغطي الرأس، والوجه هو البدر في التشبيه، فمراد الشاعر أنها تلثمت ببعض النصيف الذي على رأسها، فسارت بذلك، ساترةً لنصف وجهها الأسفل المشبة بالبدر، فصار نصيفا ونقابا. والنقاب ما تنقب به المرأة، كما في القاموس، وهو شاملٌ لما كان مستقلاً وبعض شيء آخر، كما يقال بمثله أيضاً في النصيف، فهو نصيف وإن غطى رأس الرأس مع الرأس. وهذا الذي ذكرنا هو عادة غالب النساء الحسان في قصور العرب؛ فإن الواحدة منهن تنتقب بفاضل خمارها، فتفتن العقول بما ظهر من لواحظها وأسحارها. انتهى. القاضي محمد جمال الدين بن حسن ابن دراز جملة جمال، وتكملة كمال. رتع في رياض الفنون فهصر أفنانها، وأجال جواد فكره في ميدان العلوم فملك عنانها. أما الشعر فهو منمنم حلته وناظم حليه، وأما النثر فهو مبدع زهره ومنمق وشيه. وكان فيصل أحكام، ومصدر إتقان وإحكام.

ولما دخل اليمن في دولة الروم، قام له حاكمها بكل ما يروم. فحلاه بحلية القضا، وأرهف حسام أمله بذلك المضا. ولم يزل مجتلياً وجوه أمانيه مشرقة، مجتنياً من رياضها أغصان حظوةٍ مورقة. إلى أن فجعه الدهر بمخدومه، وعاجله أمر القضاء والقدر بمحتومه. هناك انقلب إلى وطنه، شاكياً ما حل به من ضيق عطنه. ولقي بعد ذلك أحوالاً ركب صعبها وركوبها، وأهوالاً امترى أخلاف شآبيبها منهلها وسكوبها. كما أفصح عن ذلك في رسالة كتبها لبعض كبراء الحجاز، يقول فيها: ولما قفلت عائداً من اليمن، بعد وفاة سنان باشا وانقضاء ذلك الزمن. اخترت الإقامة في الوطن، بعد التشرف بمجلس القضاء في ذلك العطن إلا أنه لم يحل لي التخلي عن تذكر ما كان في تذكرة الخيال مرسوماً، وتفكر ما كان في لوح المفكرة موسوماً. فاخترت أن أكون مدرساً في البلد الحرام، وممارساً لما آذن غب الحصول بالانصرام. ولم يكن في البلد الأمين كفاية، ولا ما يقوم به الإتمام والوفاية. انتهى. وما زال مقيماً في وطنه وبلده، متدرعاً جلباب صبره وجلده. حتى انصرمت من العيش مدته، وتمت من الحياة عدته. وها أنا مثبتٌ من بديع إنشائه، ما يدعو لطرب اللبيب وانتشائه. وأتبعه من عالي نظامه، ما يغني عن مجلس الأنس وانتظامه. فصل من كتاب لبعض أصحابه: ينهى الملوك أنه لا يزال ذاكراً لتلك الأيام الماضية، شاكراً لهاتيك الأعوام التي حلت بفضل مولانا ولا أقوم مرت بمسراتٍ لا تزال النفس لدينها متقاضية. كم أردْنا هذا الزمانَ بذَمٍ ... فشُغِلْنا بمدحِ ذاك الزمان أقفر الصفا من إخوان الصفا، وخلا الحطيم من رضيع الأدب والفطيم. وأقوت المشاعر، من أرباب الإدراك والمشاعر. كأن لم يكن بين الحَجُونِ إلى الصَّفا ... أنيسٌ ولم يسْمُر بمكّة سامِرُ وكان علم مولانا محيطاً بحالي، إذ كنت آنس بأولئك الجلة وأرباب المعالي. فلم يبق من يدانيهم، فضلاً عمن يساويهم، ولا من يباريهم، فكيف بمن يماريهم. ولقد ذكرت هنا قول بعضهم: دجَا الليلُ حتى ما يبين طريقُ ... وخوَّف حتى ما يقَرّ فَرِيقُ وجَّردت يا بَرْقَ المنون مَناصِلاً ... لها في قلوبِ المُبْصرين بَرِيقُ وزَعْزعْتَ يا رِيحَ الرَّدَى كلَّ شاهِقٍ ... عليه لأنفاسِ النفوسِ شَهِيقُ سلامٌ على الأيام إنّ صَنِيعَها ... أساءَ فهل لي بالنّجاةِ لُحوقُ فصل، من كتاب إلى كاتب الحضرتين الشريفتين؛ الحسنية والطالبية عفيف الدين يعزيه بموت الشريف أبي طالب، في سنة اثنتي عشرة بعد الألف: كتبت إليك، كتب الله لك سعداً لا يزال يتجدد، ومجداً لا ينقطع بانقضاء ملك إلا واتصل بملك ملكيٍ مؤيد. وإنما كتبت بدم الفؤاد، وأمددت اليراع سويدائي وشفعها اللحظ بما في إنسانه من السواد. والكون، علم الله، كأنما هو بحرٌ من مداد، والقلوب، ولا أقول الأجساد مسربلة بلباس الحداد. لا يسمع إلا الأنين، ولا يصغي إلا لمن تفضح بنعيها ذوات الحنين. أضحى النقع من مثار النقع كليلةٍ من جمادى، وربات الخدود يلطمن الخدود مثنى وفرادى. وذو الحجى يغوص في لجة الفكر فيسمع له زفير، وليث العرين كاد من صدمة هذا المصاب أن يتفطر من الزئير. وشارف الحطيم أن يتحطم، وأبو قبيس أن يتقطم، وبيت الله لولا التقى لقلت ود أن يتهدم. وأخال أن الحجر أسف حيث لم يكن تابوتاً لذلك الجثمان وتندم. أي داهيةٍ دهياء أصابت قطان ذلك الحرم، وأي بليةٍ نزلت بلازمي أذيال ذلك الملتزم. " إنا لله وإنا إليه راجعون " كلمةٌ تقال عند المصائب ولم نجد المصيبة مثلاً، ولم تشاركنا فيها حزينةٌ ولا ثكلى. بأي لسانٍ نناجي وقد أخرسنا هذا النازل، بأي قلبٍ نحاجي وقد بلغنا هذا الجد الهازل. بينا نحن في سرور وفرح، إذ نحن في همومٍ وترح. أشكو إلى مخدومي ضحوة يومٍ شمسه كاسفة، " أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة ". أقبل نعش لابس أثواب المرحمة بعد الخلافة، المتلقى روحه الملائكة مع الحور على الأرائك تتحفه بالسلافة. والأيدي ممتدةٌ إليه تشير بالعويل، والحجاج وأرباب الفجاج يضجون بالنحيب الطويل. وكادت آماقنا والله أن تسيل، وأضحت جلاميد القلوب كضحاضح المسيل.

فلم نجد أحداً من الرعايا إلا وهو محرور، وذو قرابته في الحي مسرور. إنا لله من هذه الطامة، التي أدهشت العامة، وأذهبت الشامة. ليت شعري أبعده السلاهب تركب، أم الجنائب تجنب، أم المقربات تقرب، أم المنابر يتلى عليها غير اسمه ويخطب وَاحَرَّ قَلْباه ممَّن قلبُه شَبِمُ مضَى مَن أقام الناس في ظِلِّ عَدْلِه ... وآمن من خَطْبٍ تدُبُّ عَقارِبُهْ فكم من حِمىً صَعْبٍ أباحتْ سُيوفُه ... ومن مُسْتباحٍ قد حَمَتْه كتائبُهْ أرى اليومَ دَسْتَ المُلْكِ أصبَح خالياً ... أما فيكمُ مِن مُخْبرٍ أين صاحبُهْ فمَن سائِلي عن سائل الدمعِ لِمْ جَرَى ... لعل فؤادِي بالوَجيبِ يُجاوِبُهْ فكم من نُدوبٍ في قلوبٍ نَضِيجةٍ ... بنارِ كرُوبٍ أجَّجَتْهَا نَوادِبُهْ سقتْ قَبْرَه الغُرُّ الغَوادِي وجادَهُ ... من الغَيْثِ سَارِيه المِلثُّ وسَارِبُهْ فما كان إلا كلمحة طرف، أو حلول حتف. وقد وضع على الباب الشريف، وسمع من أجنحة الملائكة حفيف، وتليت ولكنت أود أن أكون المصلى ولا أقول التالي في جميع ذلك الترصيف. فما ترك الرئيس لقباً من الألقاب إلا وحلاه بدره، وعله بدره. حتى كاد النهار أن ينتصف، والمقل تسح بالدموع وتكف. ومن عدم إنصاف الدهر الخؤون، أن لم يطف به سبعاً وهو لمليك هذا البيت مسنون. ثم ازدحم على رفع جنازته قاضي الشرع والسادة، فذادوه عنها ورفعوه على أعناق السلاطين والقادة. وقلت في ذلك المقام، وعيناني تهمل ولا همول الغمام. يعز علي أن أراك على غير صهوة، وأن تنادي يا مرغم الأنوف ولا تجيب دعوة. وأن تحف بك الصفوة، ولا تدع لكرك فيها فجوة. فطالما ضرعت لك السلاطين، وخضعت لك الأساطين، وأرعدت الفرائص، وأوهنت القلائص. وحميت الحمى ولم يردعه جساس، واقتنصت حتى لم تدع شادناً في كناس، أو ليثاً في افتراس. فلله جدثٌ ضمك وقد ضاقت الأرض عن علاك، ولله لحدٌ علاك وقد اتخذت أنعلك من السماك. وكيف بك تحل في الثرى فبالأثير ملعب جردك، والسدرة مضمار أسلافك، والنبوة لحمة بردك. فلك بجدك في ارتقائك إلى العالم العلوي أسوة، ولنا بفقدك الجزع الذي لا يعقبه سلوة. فأنت لقيت الحبيب، ولقينا بعدك ما يلقى الكئيب. فلك البشرى بلقياك ربك، ولنا بك اللقيا على الكوثر وأنت فرحٌ بشرابك وشربك. ثم يا عفيف لا تسل عن نعشٍ حفه الوقار، وتقدمه الروح الأمين والملائكة الأبرار. فوائح المسك الأذفر تنفح من كل جانب، كأنما ينفض من غدائر خرعوبٍ كاعب. وبالله أقسم أن طيبه نفحني وأنا في الخلوة، وهم في تجهيز تلك الذات على هاتيك العلوة. وحاصل ما أقص عليك من القصص، أنا أودعنا في كنف الرحمن ذلك القفص. وعدنا ونحن كما يقال: شاهت الوجوه، حيارى لا نعلم من تؤمله وترجوه. وقد أظلم قتام العثير، ودجا النقع حتى خيل لم يكن قط صبحٌ أسفر. وحين هجوم هذا الخبر المهيل، كادت البلدة تدثر لولا تسهيل بعض ما صعب في التسهيل. والنداء من الحاكم بالعافية، والأعين قد امتلأت من الهاربين بالسافية. وغلقت الأبواب، وانقطعت الأسباب. حتى والله كأن القيامة قد قامت، وحقت كلمة " يوم يفر المرء " والأنفس قد حامت. وحال بيني وبين الخلوة طريقٌ طالما صاحب الربا، وسبيلٌ وبيل صرت أقطعه وثبا. فكل من لاقيته لا يجيب، ومن كان من ورائي فكأنما هو طريدٌ أو سليب. وبعد الدفن كثر القال والقيل، ونودي كما بلغكم وصليل السيوف منعنا المقيل. وزف المنادي عصبةً مشهورة القواضب، معنوقة الشوازب. والأسواق من السكان خالية، فكأنما هي خود أضحت عاطلةً بعد أن كانت حالية. ودور مكة كأنها وبالله أقسم دور البرامكة، وكأنها لم يتغزل فيها برهة كدار عاتكة. ولقد تذكرت فيها قينة الأمين، وقولها كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيسٌ غير الأنين. هذا وقد أطلت عليك ما ينبغي أن يقتصر فيه مع علو مكانك، ومشيد مبانيك في البلاغة وأركانك. والله تعالى يلهمك صبراً جميلاً على هذا المصاب، ويوليك أجراً جزيلاً على فقد ذلك المليك المهاب.

ولا يسمعنا وإياك بعدها صوت عزاء أحدٍ من الأعزا، ولا يحملنا ما لا طاقة لنا به من مثل هذه الأرزا، فوا الرحمن لهو الرزء الذي كل رزءٍ بالنسبة إليه أقل الأجزا. والسلام. وكتب إلى الإمام عبد القادر الطبري، يسأله عما يرد على كلامٍ للسبكي، ذكره في الطبقات الكبرى، في استخراج الملك العلقة التي في صدره صلى الله عليه وسلم: مولانا الإمام الذي إليه هذا الحديث يساق، الهمام الذي تشد إليه يعملات البلاغة ببدائع السياق. فله السلف الذين تتنازل الثريا دون مقاماتهم الرفيعة، وينحط الأثير عن مكاناتهم التي هي للفخار شفيعة. على أنه العصامي الذي به تفتخر الأبنا، وتتبختر في مطارف سؤدده الأعمام والأصنا. فالمزني لا يباري جود مزنه، والرازي أضحى في تقديمه منتظراً فضل منة. هدانا الله إلى سواء السبيل، وأغنانا بسلسال فوائده عن رقراق السلسبيل. قال السبكي: سمعت الوالد يقول، وقد سئل عن العلقة السوداء التي أخرجت من قلب النبي صلى الله عليه وسلم في صغره حين شق فؤاده، وقول الملك هذا حظ الشيطان منك: إن تلك العلقة التي خلقها الله في قلوب البشر قابلةٌ لما يلقيه الشيطان فيها، فأزيلت من قلبه صلى الله عليه وسلم، فلم يبق فيه مكانٌ قابلٌ لأن يلقي الشيطان فيه شيئاً. قال: هذا معنى الحديث، ولم يكن للشيطان فيه صلى الله عليه وسلم حظٌ قط، وإنما الذي نفاه الملك أمرٌ هو في الجبلات البشرية، فأزيل القابل، الذي لم يكن يلزم من حصوله حصول القذف في القلب. قال: فإن قلت فلم خلق هذا القابل في هذه الذات الشريفة، وكان الممكن أن لا يخلق فيها؟ قلت: لأنها من جملة الأجزاء الإنسانية، فخلقت تكملةً للخلق الإنساني، فلا بد منه، ونزعه أمرٌ رباني طرأ بعده. انتهى كلام السبكي. أقول: يعارض هذا بختانه صلى الله عليه وسلم، فخلقه تكملةٌ للخلق الإنساني، ولاشك أن بقاءه على تلك الفطرة الإنسانية، ثم إزالتها بعد ذلك، فيه تعليمٌ للخلق باتباعه. فإن قلت: ثم فارقٌ، وهو القابل الذي تؤثر فيه الوسوسة. قلت: الأكمل والأشرف عدم خلق القابل، كعدم خلق القلفة وسلامته من الانزعاج الذي حصل له عند شق الملك صدره الشريف صلى الله عليه وسلم، خصوصاً في سن الطفولية. فالمسئوول خلاصكم السبكي، والخلاص من شباك سيدنا السبكي. ولمولانا مناسبة بهذا الفن موروثة، وفي البقية دررٌ على طنافس الفضل مبثوثة. فأجابه الطبري بما نصه: مولانا الذي يهطل بواكفٍ ترفع لتلقيه الأكف المبسوطة، ويتألق عن بارقٍ يضيء به مظلم وجه الأرض البسيطة. ويرعد بما ينتجع إليه إذا سمع ثقةً بوعده، ويشرق بذكاء ذكاءٍ أكسبت البدر ساطع ضيائه وطالع سعده. ويرهف سمهري القلم في كتيبة الكتابة بالمداد الأسود والأحمر، ويرعف عضب اللسان في معرك المناظرة والمناضلة فنال ما لم ينله اللدن الأسمر. إمام البلاغة، رب الكمالات المصاغة. دامت فرائد فوائده عقوداً للنحور، واستمرت وطفاء غيثه ممدةً للبحور. وافي المشرف المشرف، المدبج المفوف. فوقفت له أقدام الأفهام حيارى، وأضحت تالية: " وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ". غير أنها داوت ما ألم بها بارتشاف سلسبيله، واستضاءت بمصباحه لسلوك سواء سبيله. فرأت بعد التكلف في التوفيق بين عبارة مولانا وبين مراده، أنه لا معارضة بما أشار إليه من ختان من منح الله تعالى الخلق بإسعافه وإسعاده. أما أولاً، فلأنهم اختلفوا في أنه هل ولد مختوناً أو أنه ختن بعد ولادته؟ وقد قال بكلٍ من القولين طائفة: فأما على القول الثاني فلا اعتراض بالمعارضة المذكورة. وأما على الأول فالكلام في جزءٍ من الخلقة البشرية، من الأجزاء الشريفة، التي لا تمكن الحياة بدونها في العادة، فإنها هي المكملة للخلقة في الحقيقة، وأما القلفة فهي كالأظفار والشعور، مما لا يترتب على وجوده ما يترتب على مثل العلقة المستكنة في ذلك الموضع بالنسبة إلى الحياة. وأيضاً الكلام فيما يترتب عليه الأحكام، فإن العلقة حيث كانت محل وسوسة الشيطان في البشر، ربما يترتب عليه عدم الإيمان، عياذاً بالله، ولا كذلك القلفة.

وأيضاً خلق القلفة وإزالتها بعد ذلك قد وقع لغيره صلى الله عليه وسلم، كابراهيم عليه السلام فلو وجدت فيه صلى الله عليه وسلم ثم أزيلت لم يكن في ذلك كبير مزية بخلاف الشق المذكور، وإخراج العلقة المذكورة. نعم، يرد على كلام السبكي، حيث قرر أنه لم يكن للشيطان حظ منه صلى الله عليه وسلم، وأن خلق العلقة فيه لتكميل الخلق، أنه لا معنى لإزالتها بعد ذلك، حيث لم تكن منه صلى الله عليه وسلم مظنةٌ له، فلا يتم حينئذ ما قرره على ذلك النمط. هذا ما لاح، ودعا إليه الفلاح قلت: فيه مناقشة أما نقله الاختلاف في كونه ولد مختوناً، فلم يكن إليه داع، إذ الإشكال إنما هو واردٌ على مقابله، فلا معنى لنفي الاعتراض. ودعوى كون العلقة من الأجزاء التي لا يمكن بقاء الحياة بدونها ممنوعة. وما أورد على كلام السبكي، ليس بواردٍ عليه، فإن في إزالتها مع منع الشيطان عنها حكمةً هي قطع وصوله إليه. ولقد أجاد الشهاب الخفاجي في تعليله الشق بقوله: شُقَّ منه صَدْرٌ فأُخْرِج منه ... عَلَقةٌ في صَمِيمِه سَوْداءُ وبه تَمَّ خَلْقُه وتَقَوّى ... قلبُه فِطْرَةً وزاد النّماءُ فلِذا حاز جُرْأةً في اعْتدالٍ ... وله حَبَّب الفتاةَ الفَتاءُ ما انْتفتْ هذه لتُكمْل خَلْقاً ... نُكْتةٌُ ما اهْتدَى لها الحُكماءُ فعلى القلبِ دِرْعٌ عَزْمٍ حَصِينٌ ... ولِلُبٍ عليه لاَمٌ وبَاءُ ومن شعر القاضي محمد قوله: سلامٌ على الدارِ التي قد تباعدَت ... ودمعي على طولِ الزمانِ سَفُوحُ يعِزُّ علينا أن تشِطّ بنا النَّوَى ... ولِي عندكم دُون البَرِيّةِ رُوحُ إذا نَسمتْ من جانبِ الرَّمْلِ نَفْحةٌ ... وفيها عَرارٌ للغُوَيْر وشِيحُ تذكّرتُكم والدمع يستُر مُقْلتي ... وقلبي مَشُوقٌ بالبِعاد جَرِيحُ فقلتُ ولِي من لاَعِجِ الشوقِ زَفْرةٌ ... لها لَوْعةٌ تَغْدُو بها وتَرُوحُ ألا هل يُعيد اللهُ أيَّامَنا التي ... نَعِمْنا بها والكاشِحون نُزُوحُ وقوله أيضاً، في جواب كتابٍ ورد إليه: هذا كتابُك أم دُرٌّ بمُتّسِقِ ... أم الدَّرارِي التي لاحتْ على الأُفُقِ وذا كلامُك أم سِحْرٌ به سُلِبَتْ ... نُهَى العقولِ فتتْلُو سورةَ الفَلَقِ وذا بيانُك أمو صهْباءُ شَعْشَعَها ... أغَنُّ ذو مُقْلةٍ مكحولةِ الحَدْقِ بتاجِ كلِّ مَلِيكٍ منه لامعةٌ ... وجِيدِ كلِّ مُجيدٍ منه في أُفُقِ رَوْضٌ من الزهْرِ والأنوارُ زاهيةٌ ... كأنْجُمِ الأُفْقِ في اللأّلاءِ والنّمقِ وذِي حمائمُ ألْفاظٍ سَجَعْنَ ضُحىً ... على الخمائلِ تحت العارِضِ الغَدِقِ رسالةٌ كفَراديسِ الجِنانِ بها ... من كل مؤتلق يلهى ومنتشق كأنما الالفات المائدات بها ... غصونُ بانٍ على أيْكٍ من الوَرِقِ تعْلُو مَنابرَها الهَمْزاتُ صادِحةً ... كالوُرْقِ ناحَتْ على الأفْنانِ من حُرَقِ مِيماتُها كثُغورٍ يبْتسِمْنَ بما ... يُزْرِي على الدُّرِّ إذْ يُزْهِي على العُنُقِ فطِرْسُها كبَياضِ الصُّبْح من يَقَقٍ ... ونِقْسُها كَسوادِ الليلِ في غَسَقِ يا ذَ الرَّسالة قد أرْسلْت مُعْجِزةً ... رَدَّت بلاغتُها الدَّعْوَى من الفرقِ ويا مَلِيكَ ذوِي الآدابِ قاطِبةً ... ويا إماماً هَدانا أوْضح الطُّرُقِ مَن ذا يُعارِض ما قد صاغ فكرُك مِن ... حَلْي البيَانِ ومَن يقْفوك في السَّبقِ أنت المُجَلَّى بمضْمارِ العلومِ إذا ... أضْحَى قُرومِ أُلِي التحْقيقِ في قَلَقِ صَلَّى أئمةُ أهلِ الفضلِ خَلْفَك يا ... مَوْلى المَوالي وربَّ المنطقِ الذّلِقِ

مُسلِّمين لما قد حُزْتَ من أدبٍ ... مُصدِّقين بما شُرِّفْتَ من خُلُقِ مَهْلاً فبَاعِي من التْقصيرِ في قِصَرٍ ... وأنت في الطّوْلِ والإحْسانِ ذو عُمقِ سبحان بارىءُ هذِي الذاتِ من هِمَمٍ ... سبحان فاطرُ ذا الإنْسان من عَلَقِ يا ليتَ شِعْرِيَ هل شِبْهٌ يُرَى لكمُ ... كلاَّ وربِّي ولا الأمْلاكُ في الخُلُقِ عُذْراً فما فِكْرتي صَوَّاغةً دُرَراً ... حتى أصُوغَ لك الأسْلاك في نَسَقِ واسْلَمْ ودُمْ وتعالى في مَشِيد عُلاً ... تسْتنْزِل الشُّهْبَ للإنْشا فلم تُعَقِ وقوله في صدر كتاب: بحقِّ الوفَا بالوُدِّ بالشِّيمةِ التي ... عُرِفْتم بها بالجودِ والكرمِ الجَمِّ بتلك الخِصالِ الأشْرفيَّاتِ بالنُّهى ... بِعزَّتك العَلْيا على قِمّةِ النّجْمِ بذاك المُحَيَّا الهَشِّ بالمنطِقِ الشَّهِي ... بما فيك من خُلْقٍ رضِيٍ ومن عَزْمِ أجِرْنِي من التكْليفِ واقْبِلْ تحيَّتِي ... بتقْبيل أرضٍ لم تزَلْ مُنْتهى هَمِّي فدهرِي من الإسْهابِ أمْنَعُ مانِعٍ ... ووقْتِي عن الإطْنابِ أضْيَقُ من سَمِّ وماذا عسَى في الوصفِ يبلُغ مِقْوَلي ... ولو مُدَّتِ الأقْلامُ من مَدَدِ اليَمِّ محمد علي بن محمد بن علان الصديقي علمٌ حديث فضله أحسن الحديث، وإليه انتهى في قطر الحجاز فن التحديث. فهو سباق غايته، حامل رايته، وحافظه الذي ملك جل روايته ودرايته. شرح الله لتحفظه صدره، وأعلى به في الخافقين قدره. فحدث إذا حدث عن البحر ولا حرج، وانظر روضةً من رياض الجنة طيبة الأرج. إلى ما حوى من فنون أربى فيها على حلفائه، وهناك حسن حالٍ مع الله ألحقه بأتقياء الدين وحنفائه. تتعظ به النفوس في التكلم والسكوت، ودعوته لا تحجب عن الملك والملكوت. وله تصانيف تشنف بها آذانٌ ومسامع، وودت صحائف الأذهان لو أنها لها دفاتر ومجامع. وله شعرٌ ربما أجاد فيه، فلم يحك مثاله من الزلال العذب صافيه. فمنه قوله: وزمزمَ قالوا فيه بعضُ مُلوحةٍ ... ومنه مِياهُ العَيْنِ أحْلَ وأمْلَحُ فقلت لهم قلبي يَراها مَلاحةً ... فما برِحتْ تحلُو لقلبِي وتمْلُحُ وقوله: يا ربِّ أنت حبسْتَ الحُسنَ في قمرٍ ... حُلْوِ الشَّمائلِ لا يرْثِي لمن عَشِقَهْ أكاد أدعو عليه حين يهجُرني ... لكنْ لِفَرْطِ غرامي تمنْعُ الشَّفقَهْ وقوله: يا مالِكاً رِقَّ قلبي ... رِفْقاً بنفْسِ رَفِيقِكْ اللهُ بيني وبين السَّ ... واكِ في رَشْفِ رِيقِكْ وقوله: يا مَن يلوم مُحِبّاً ... ولا يُراعِي الجمالاَ باللهِ دَعْنِي فإنِّي ... لقد فَنِيتُ انْتحالاَ وقوله مضمناً: كتَبْتُه ولهيبُ الشوقِ في كَبِدِي ... والدمعُ مُنْسَكِبٌ والبالُ مَشْغولُ وقلتُ قد غاب مَن أهْواه وَا أسَفِي ... بانتْ سعادُ فقلبي اليومَ مَتْبُولُ ومن زهرياته، قوله في عقد الحديث: إذا أمْسَيْتَ فابْتدِرِ الصَّباحَا ... ولا تُمْهِلْه تنْتظرُ الصِّياحَا وتُبْ ممَّا جَنَيْتَ فكم أناسٍ ... قَضَوْا نَحْباً وقد ناموا صِحاحَا ومما يعجب في هذا المعنى قول الشهاب: ألا أيُّها المغرورُ في نومِ غَفْلةٍ ... تيَقَّظْ فإن الدهرَ للناس ناصِحُ فكم نائمٍ في أوَّلِ الليلِ غافلٍ ... أتاه الرَّدَى في نَوْمِه وهْو صَابِحُ فشَقَّ عليه الليلُ جَيْبَ صَباحِه ... وقامتْ عليه للطيورِ نَوائِحُ وأنشد له بعضهم هذه الأبيات، وهي قوله: الموتُ بحرٌ مَوْجُه طافحُ ... يغْرَق فيه الماهرُ السابِحُ وَيْحَكِ يا نفسُ قِفِي واسْمعِي ... مَقالةً قد قالها ناصحُ ما ينفعُ الإنسانَ في قبرِه ... إلاّ التقى والعملُ الصالحُ

عبد الملك بن جمال الدين العصامي حفيد العصام الإسفرايني، رحمه الله رحمةً تبرد ضريحه، وتقدس روحه وريحه. المتصف بصفاته، الجاري على نهجه في مصنفاته. رسا أصله في الثرى، ورافق عزمه النجم في السرى. فلا مجد إلا إليه انتسابه، ولا جود إلا إليه انسيابه. وهو والفضل روح وشخص، وكل وصفٍ من أوصافه الكمال به مختص. عف السريرة طاهر الأثواب، مقسم الآنات بين الطاعة ونيل الثواب. وله من الآثار ما لا تزال الرواة تدرسه، والتواريخ على مدى الأيام تحرسه. فمنه قوله مضمنا: أُهْدِي لمَجلسِه الكري ... مِ فرائداً تُهْدَى إلَيْهِ كالبحرِ يُمْطِرُه السَّحا ... بُ وماله فضلٌ عليْهِ وهو من قول البديع الأسطرلابي: أُهْدِي لمجلسِه الكريمِ وإنما ... أُهْدِي له ما حُزْتُ من نَعْمائِهِ كالبحرِ يُمْطرُه السحابُ ومالَه ... فضلٌ عليه لأنه من مائِهِ وكتب إليه القاضي تاج الدين المالكي مسائلاً: ماذا يقولُ إمامُ العصرِ سيدُنا ... ومَن لدَيْه يَرَى التحقيقَ طالبُهُ في الدارِ هل جائزٌ تذْكيرُ عائدِها ... في قَوْلِنا مثلاً في الدارِ صاحبُهُ وفي إبانةِ هَمْز ابنٍ أراد فهلْ ... يكون موصوفهُ إسْما تُطالبُهُ أم كَوْنُه عَلَماً كافٍ ولو لَقَباً ... أو كُنْيةً إن أراد الحَذْفَ كاتبُهُ أفِدْ فما إنْ رأيْنا الحقَّ مُنْخفِضاً ... إلاّ وأنتَ على التحقيقِ ناصبُهُ فأجابه بقوله: يا فاضلاً لم يزَلْ يُهْدِي الفرائدَ مِنْ ... عُلومِه وتُروِّينَا سَحائبُهُ تأْنِيثُك الدارَ حَتْمٌ لا سبيلَ إلى التَّ ... ذكيرِ فامْنَعْ إذاً في الدارِ صاحبُهُ والابْنُ مَوْصوفةَ عَمِّمْ فإن لَقَباً ... أو كُنْيَة فارْتِكابُ الحَذْفِ واجبُهُ هذا جَوابِيَ فاعْذِرْ إن تجِدْ خَلَلاً ... فمصدرُ العَجْزِ والتَّقْصير كاتبُهُ لا زِلْتَ تاجاً لِهَاماتِ العُلَى عَلَماً ... في العلم يحْوِي بك التحقيقَ طالبُهُ ابناه: شرف الدين يحيى وبدر الدين حسين لما توفي أبوهما في المدينة قرا بها قرار أحدٍ وسلع، ورسخا رسوخ الباسقات ذوات الثمر والطلع. وهما قمران طلعا معاً فأشرقا، وروضان سقيا ماء النباهة فأورقا. وكلٌ منهما أديبٌ أريب، له في المعارف ضرائب ماله فيها ضريب. إلى أشعارٍ تروق كما راقتك عهود الشبائب، وتشوق كما شاقتك ذكرى الحبائب. فمما ظفرت به من أشعار شرف الدين، قوله وقد أهدى نبقاً وفلاً: أهديْتُ نَبْقاً لنبْقَى في الودادِ على ... صِدْقِ الوِدادِ وإرْغامِ العدى أبدَا ومَعْه يا سيِّدي فُلٌّ يبشِّرُكم ... بأنَّ فُلَّ مَن يَشْناكمُ كَمَدَا الفل: نوع من الياسمين، بلغة أهل اليمن، ذكي الرائحة. ولم يذكره أهل اللغة، فلعله مولد، وسماه ابن البيطار في مفرداته النمارق وكتب على سفينة شعر، لأديب يعرف بعارف، قوله: سفينةُ أشعارٍ هي البحرُ دُرُّها ... نتائج أفكارٍ وشَتَّى مَعارفِ بها اللفظُ كأْسٌ والمَعاني مُدامةٌ ... وما ذاق منها نشوةً غيرُ عارفِ وله: رأى سَقَمَ الكتابِ فمال عنه ... سَقيمُ الجَفْنِ ذو حُسْنٍ بديعِ فقلتُ له فَدَتْك الرُّوح هَلاَّ ... مُراعاة النَّظيرِ من البديعِ أين هذا من قول البعض في مليحٍ احمرت عيناه، وهو: ليس احمرارُ لِحاظِه من عِلَّةٍ ... لكنْ دمُ القتْلَى على الأسْيافِ قالوا تَشابَه طَرْفُه وبَنانُه ... ومن البديعِ تَشابُه الأطْرافِ وقوله معارضاً بيتي القاضي تاج الدين المالكي: وخَوْدٍ من الأعْرابِ لما تلثَّمتْ ... ببُرْقُعِها الشَّرْقِيِّ في مَعْشَرِ العِشْقِ وشَرَّق خَدَّيْها الحياءُ بحُمْرةٍ ... أرَتْنا هلالَ الأُفْقِ يبْدُو من الشَّرْقِ وله:

قالوا أضافَك يا يحيى لِخدْمتِه ... حبيبُ قلبِك في سِرٍ وفي عَلَنِ فقلتُ لمَّا رآني غيرَ مُنْصرِفٍ ... عن حُبِّه رام كَسْرِي فهْوَ يَجْبُرنِي وله موجهاً بأسماء الأنغام، فيمن اسمه حسين، وقد ورد المدينة من مكة: أقول لِمَعْشَرِ العُشَّاقِ لمَّا ... بدا رَكْبُ الحِجازِ وقَرَّ عَيْنِي أمِنْتُم من نَوَى المحبوبِ فاسْعَوْا ... له رَمَلاً وغَنُّوا في حُسَيْنِي وما ألطف قول ابن جابر الأندلسي، في مثل ذلك: يا أيها الحادِي اسْقنِي كأسَ السُّرَى ... نحوَ الحبيبِ ومُهْجتِي للسَّاقِي حَيِّ العِراقَ على النَّوَى واحمِلْ إلى ... أهلِ الحِجازِ رسائل العُشَّاقِ وله تأليف سماه أنموذج النجبا من معاشرة الأدبا تكلم فيه شارحاً لقول القائل: حاشا شَمائلَك اللَّطيفةَ أن تُرَى ... عَوْناً عليَّ مع الزمانِ الْقاسِي غير أنه لم يعرف قائله، فقال: ولعمري، إنه، وإن جهل بانيه، من البيوت التي أذن الله أن تسكن، فما اللفظ إلا بمعانيه، وإن كان قائله ألكن. ثم قال: وهذا البيت مما يكثر الاستشهاد به أهل الآداب، في محاضرة الأصدقاء والأحباب. وهو من أربعة أبيات معمورة بلطيف العتاب، وتنزيه شمائل الأنجاب، مبرورة بصدق المنطق واقتضاء الصواب. محاسنها غرر في جياد القصائد، ولمعاني البديع بها صلةٌ ومن مفرداتها عائد. تشرق شموس التهذيب في سماء بلاغتها، وترتشف الأسماع على الطرب من رقيق سلافتها. فما أحقها بقول القائل: أبياتُ شِعْرٍ كالقُصو ... رِ ولا قصورَ بها يليقُ ومن العجائبِ لَفْظُها ... حُرٌّ ومعناها رقيقُ وهي: إنِّي لأعْجبُ من صدودِكَ والجفَا ... من بعد ذاك القُرْبِ والإيناسِ حاشَا شمائلك اللطيفةَ أن تُرَى ... عَوْناً عليَّ مع الزمانِ القاسِي أو ثَغْرَك الصافِي يَرُدُّ حُشاشةً ... تشْكو لَهِيباً من لَظَى أنْفاسِي تاللهِ ما هذا فِعالُك في الهوى ... لكنْ حُظوظٌ قُسِّمتْ في الناسِ انتهى كلامه. قال ابن معصوم: قلت: وقد وقفت أنا بالديار الهندية على مجموع بخط أبي البقاء الوفائي الوداعي الحنفي قديمٍ، يقول فيه: القاضي علاء الدين علي بن فضل الله أبو الحسن، صاحب ديوان الإنشاء، أخو القاضي شهاب الدين أحمد العمري، وقف على بيتين للصلاح الصفدي. وهما: إني لأعجبُ من صُدودِك والجفَا ... من بعد ذاك القُرْبِ والإيناسِ حاشَا شمائَلك................. ... ..........................الخ فقال مُجِيزاً لهما: أو ثغرُك الصافي يرُدُّ حشاشتي ... ............ البيتين. انتهى. فعلم بهذا أن البيت الذي شرحه للصلاح الصفدي. وقوله: إنه من أربعة أبيات ليس بصواب؛ لإيهامه أن الأربعة الأبيات قائلها واحد، وقد علمت أنها لشاعرين. والله أعلم. عبد الملك بن حسين العصامي هو بمنزلة الغرة بين البصر والجبين، رمقته عين العناية منذ أطلق عليه لفظ الجنين. فنشأ متردياً من النعمة ثوباً سابغاًن ومتروياً من الرفاهة شراباً سائغاً. لا دأب له إلا توسم وفود الآداب في سوق عكاظها، ولا شغل له إلا استكشاف وجوه المعاني المخبأة تحت براقع ألفاظها. مشتملاً بحلي الكمالات وبرودها، رافلاً بين عقيق الفضائل وزرودها. حتى ظنت حصاة علاه، وعجزت حصاة حلاه. فما الدهر إلا من رواة معاليه، وما بديع الزمان إلا من خدمة معانيه. وناهيك بعصامي النفس والجد، وماجدٌ جد في المعالي فساعفه على نيله الحظ والجد. وقد صحبته أيام المجاورة، واغتنمت من نشوة المحاضرة والمحاورة. في أوقاتٍ لا أحسب من عمري غيرها، ولا أنسى مدة عمري خيرها وميرها. وقد أخذت عنه من بدعه، ومخترعه في محاسن الشعر ومبتدعه. ما تتوالد من غصون حضيرته ولدان القريض، وتقتطف أزهار الأدب الغض من غصون روضه الأريض. فمن ذلك قوله من قصيدة مدح بها الشريف سعد بن زيد، مطلعها:

سقى الغَيْثُ ذَيَّاك الأُبَيْرِقَ والسِّقْطَا ... فأنبتَ في أرْجائِه الرَّنْدَ والأرْطَا وحَيَّى رُبَا تلك المعاهد فاكْتسَتْ ... رياضٌ لها من نَسْجِ إبْرتِه بَسْطَا مَعاهدُ لَمْياءِ البَدِيدِ تعطَّرتْ ... دمائِثُ مَيْثاهَا بما تسْحب المِرْطَا لها بشَرٌ كالماءِ إذ قلْبُها صَفَا ... وناظرُها كالسيفِ لكنَّه أسْطَى إذا ما دجَا ليلٌ حكى لَيْلَ شَعْرِها ... وإن لاح نَجْمُ الأُفْقِ شِمْنَا به القُرْطَا رَدَاحٌ إذا لاحتْ فكالبدر أو رَنَتْ ... فكالظَّبْيِ أو ماسَتْ تُرِي الحَلَّ والرَّبطَا أراشَتْ لأحْشائي رَواشِقَ مُقْلةٍ ... ترى نَبْلَها يُصْمِي الفُؤادَ إذا أخْطَا منها: رَمَاها ومَرْباها مُلِثٌّ من الحَيَا ... ورَوَّى على أكْنافِها الأثْلَ والخَمْطَا فَوا شَوقَ أحْشائي للحَظْةِ لَحْظِها ... وأنَّى بها إذْ قد نأَتْ دارُها شَحْطَا بلَى قد نأتْ عنِّي ولا بَيْنَ بيننا ... وبُدِّلْتُ من عَيْن الرِّضا بالجَفَا سُخْطَا كذلك أخْلاقُ الغوانِي ومَن يَرُمْ ... بِهِنَّ الوفَا كالْمُبْتغِي في الإضَا قُرْطَا ومن لم يذُد دون التَّصابِي وشِرْبِه ... قُصاراه فيها أن يَذَلَّ وينْحَطَّا ويُمْسي صَرِيعَ العينِ لا ناصرٌ له ... سوى عَبْرةٍ يرْوِي تفجُّرُها سَبْطَا نعم لو نَحَا في كلِّ أمرٍ يؤُودُه ... مَليكَ الورى سَعْدَ بن زيدٍ لمَا شَطَّا مَلِيكٌ له من طِينةِ المجد جوهرٌ ... به ازْدانَتِ الدنيا وقِدْماً هي الشّمْطَا شريفُ العلَى والذّاتِ في الوصفِ مُنْتَمٍ ... إلى خيرِ أصلٍ طاب في قَنْسِه رَبْطَا منها: طويلُ البِنا رَحْبُ الفِنا مُنْهِل الغِنَىمُزِيلُ العَنَا مُولِي المُنَى لِلُّهَى سَفْطَا لقد حُطْتَ أكْنافَ الخلافةِ عَزْمةً ... وقُمْتَ بها حِفْظاً وشَيَّدْتَها ضَبْطَا منها: أبَى اللهُ إلاّ أن تحُلّ مَحَلّهُ ... بمَرْتبةٍ عَزَّتْ لغيرِك أن تُمْطَى فوَافاكِ بالتَّأْييد ما كان كامِناً ... من الأزَلِ العُلْوِيِّ ينتظِر الشّرْطَا فما خَطّ تقْليداً على الطِّرْسِ كاتبٌ ... ولكنْ قضاءُ اللهِ من قبلهِ خَطّا منها وهو آخرها: سأملأُ ديواني بمَدْحِك مِدْحةً ... لِشعْرِ لكي يستوجبَ الحمدَ والغَبْطَا فدُمْ وابْقَ واسْلمْ لا بَرِحْتَ مُؤيَّداً ... على العِزِّ مهما أن تحاوِلَه تُعْطَى وله من أخرى أولها: على مُهْجةِ المَعْمودِ والعاشقِ المُضْنَى ... أعِدْ نَظْرةً تَشْفِيه يا مَن له الحُسْنَى بدا قَدُّكَ الميَّاسُ في حُلَلِ الْبَها ... فألْبَسنِي جِلْبابَ سُقْمِيَ والحُزْنَا أجِيءُ إلى الأعْتابِ في غَسَقِ الدُّجَى ... وما خِلْتُه ألاّ يزيدَ بي الوَهْنَا لواءُ وَلائي تحت قَبْضِ يَمينِه ... وإن كان عن رِقِّي بغيرِي قد اسْتغْنَى وَدِدْتُ لخدِّي تحت نَعْليْه مَوْطِئاً ... فيا ليْته يَرْضَى وَضعتُ له الجَفْنَا أيُشبه غُصْنُ الْبانِ لين انْعطافِه ... فلا الصَّعدةُ السمراءُ تحْكِي ولا الغُصْنَا به في فؤادِ الصَّبِّ سُقْمٌ مُبَرِّحٌ ... فللهِ سُقمٌ ما ألّذ وما أهْنَا نَحيفُ قَوامٍ لا من السُّقْمِ رِقّةً ... بها صِرْتُ رِقّاً بالنُحُولِ له قِنَّا حريقُ فؤادي لا يزال مُؤجَّجاً ... ومَدْمَعُ جَفْنِي وابِلُ السَّحِّ لم يفْنَا سَماحُ مُحَيَّاه دليلٌ على السَّخَا ... فما بالُه بالوصلِ عن عَبْدِه ضَنَّا

نَبِيُّ جمالٍ مُعْجِزٌ بجمالِه ... ومُعْجِزُ لَحْظَيْه عن الكلِّ قد أغْنَى إليه إشاراتُ المحِبِّين حيثما ... تولّى وكلٌّ في هَواه به مُضْنَى به كلُّ أوصافِ الجمالِ تجمَّعتْ ... فمِن أجْلِه في الحبِّ صرتُ له رَهْنَا نَفَى وَسَنِي عنِّي وذَوَّبَ مُهْجتِي ... وحَنَّ فؤادي للوِصالِ وما حَنَّا عُبَيْدٌ له لا أبْتغِي العِتْقَ دائماً ... فيا ليْته يَرضَى حُلولِيَ في المَغْنَى له في حَشايَ منزلٌ ومَودَّةٌ ... مُشيَّدةُ الأركانِ مُحْكمةُ المبْنَى يَهيمُ به عقلي فسِرِّي تهتُّكِي ... ورُشْدِي ضَلالي في هواه ولا مَنَّا أبُثُّ له شوقي فيَلْوِي وينْثنِي ... بِتِيهِ تَثَنٍ يُخْجِلُ الذّابِلَ اللّدْنَا لماذا تُطيلُ الصَّدَّ يا غايةَ المُنَى ... ومُغْرَمُك الوَلْهانُ أفْنيْتَه حُزْنَا نَهتْنِيَ عُذّالِي وبي يتمَسْخَرُوا ... يقولون يا وَلْهانُ إرْعَ لنا الظّعْنَا زمانُك يا مجنون ضاع بحُبِّه ... ولم تر أهل العشق مثلَك قد جُنَّا يُصدُّ ويجْنِي في فِراقِك دائماً ... فقلتُ فعندي ذاك أطيبُ ما يُجْنَى إلى كم جفَا حتى متى تَرْض باللِّقا ... وتُطْفِي لَهِيباً لاعِجاً مُهْجةَ المُضْنى هنِيئاً لقلبي ما فيك مَحبَّةً ... بما يُرْضِي الرحمن والإِنْس والجِنَّا وما عَشْقتِي فيه قَبيِحاً ولا خَناً ... ولكنّها للهِ خالصةُ المعنَى وله من أخرى في الغزل، أولها: أمالَ عِطْفاً وطُلاه لَواهْ ... وأخْفَق الحسنُ عليه لِوَاهْ عِطْفٌ حكى الصَّعْدةَ في صَدْعِها ... والغُصن المائسُ يحْكي انْثِنَاهْ يتْلوه لَحْظٌ نافِثٌ تالياً ... سِحْراً فيا وَيْلاه ممَّا تَلاَهْ في كلِّ يومٍ منه لي آية ... لو أنّها للطّوْدِ حصَباً تَرَاهْ وكم به كلّمني إذْ مضَى ... فمذُ دَعاه القلبُ وَافَى وجَاهْ فدَيْتُها من لَحْظةٍ لي بها ... من المَنايا وشَهِيّ الحيَاهْ لا صبرُ لي عنها ولا طاقةٌ ... عندي لها والأمرُ فيه اشْتِباهْ من حَسِبها عَقْربَ صُدْغٍ بها ... قلبيَ مَلْدُوعٌ وما مِن رُقَاهْ دبَّتْ له دَبَّ لذيذِ الكرَى ... في مُقْلَةٍ أوْدَى بها الانْتباهْ ثم تحرَّتْ في سُوَيْداه أن ... تشُوكَه وَيْلاه وا ويْلتَاه بدرٌ ثنانِي حبُّه فاغْتدَى ... فكرِي بنَانِي دَيْدَناً في ثَناهْ ظَبْيٌ وعنه لم يزلْ ناهِياً ... كلُّ جَهُولٍ عارِياً عن نُهاهْ في ثَغْرِه العَذْبِ وسِلْكِ الجُمَا ... نِ الرَّطْبِ فانْظُر للحُلَى في حُلاَهْ وفي شِفاهُ اللُّعْسِ خمرٌ حَلاَ ... لكنَّ لَحْظَيْه هما حَرَّمَاهْ بمنطقٍ ذِي غُنَّةٍ خِلْتُها ... صَلِيلَ عَضْبٍ في حَشايَ فَرَاهْ لجِيدِهِ جُدْتُ برُوحِي وبالْ ... آباءِ والبيْتِ وما قد حَواهْ فتَاه بالحُسْنِ وما ضَرَّه ... لو أنَّ بالحُسْنِ يُواتِي فَتَاهْ لا غَرْوَ أن تَاه على مَن له ... ليلاً صَباحاً بالشّجَى أنَّتَاهْ لِمْ يا خليليَّ تلُوما لِمَا ... لُمَا جَهُولاً عاذَلِي عن لَماهْ كم ليلةٍ أمسيْتُ ذا جَذْوةٍ ... تسوءُ ظَني لا عِجِي لا عَجَاهْ وسيِّدي عَنِّىَ لاَهٍ ولم ... أُحِرْ سَداداً والحِجا فيه لاَهْ آهِ لقلبي آهِ آهاً له ... آهِ لقلبي آهِ آهاً وآهْ

ذا لُؤلُؤِي ثغْرِه جِسْمُه ... ولُؤْلُؤِيُّ الثَّوْبِ قلبي لَواهْ يا رَشَأً بالكُمِّ عنِّي أرَاهْ ... يسترُ لَحْظاً فاتِكاً بالكُمَاهْ أفْدِيكَ من خَجْلانَ لا عنك لي ... مُسْتَبْدَلٌ لا والعَلِي في عُلاهْ صَبْراً لهجْري إن به تَرْضَ لي ... يوماً فيوماً ثم مَاهاً فمَاهْ وهكذا يقْضِي زَمانِي به ... لا حولَ لي ما شاءَ ربِّي قضَاهْ تقي الدين بن يحيى ابن إسماعيل بن عبد الرحمن بن مصطفى السنجاري الاسم تقي والعرض نقي، والخلق رضي، والفعل بحمد الله مرضي. تميز بهذا الشأن على وفور حلبته، وفرع فيه البيان على سمو هضبته، وفوق سهمه إلى نحر الإحسان فأثبته في لبته. مع أدبٍ غاص في لجة بحره، فاستخرج درره وأثبتها في جيد الدهر ونحره. وقد أثبت له ما يغني عن ارتشاف ثغور الأقداح، ويكفي عن استنشاق عرف الرياض تفتح فيه الورد والأقاح. فمنه ما كتبه إلى القاضي تاج الدين المالكي، ملغزاً في نخلة: أيها المِصْقَعُ الذي شرَّف الدهْ ... رَ وأحْيَى دَوارِسَ الآدابِ والهمامُ الذي تسامَى فَخاراً ... وتناهَى في العلمِ والأحْسابِ والخطيبُ الذي إذا قال أمَّا ... بعدُ أشْفَى بوَعْظِه المُسْتطابِ والإمامُ الذي تهذَّب طِفْلاً ... وزَكا في العلومِ والأنْسابِ إن تُصحِّفْه كان فيه شفاءٌ ... وبه النَّصُّ جاءنا في الكتابِ ولك الفضلُ إن تُصحِّفْه أيضا ... بالعَطا لا بَرِحْتَ سامِي الرِّحابِ مُفْرَداً إن حذَفْتَ منه أخيراً ... صار جمعاً له بغير ارْتيابِ أو وصلتَ الأخيرَ منه بصَدْرٍ ... كان عَدّاً برأْيِ أهلِ الحسابِ وبثَانٍ إن ضُمَّ تالٍ إليه ... فهو خِلٌّ من أعظمِ الأحْبابِ وإذا ما صحَّفْتَه لَذَّ للنفْ ... سِ مَذاقاً في مَطْعَمٍ وشَرابِ خَلِّ نِصْفاً يُحَلُّ عنه وبادِرْ ... قَلْعَ عيْنٍ ما إنْ لها مِن حسابِ قلعَ اللهُ عيْنَ شَانِيكَ يا مَن ... قَدْرُه قد سَما عن الإسْهابِ وابْقَ في عِزَّةٍ وعِزٍ مَنِيعٍ ... ما حَدا بِالحجازِ حادِي الرِّكابِ فأجابه بقوله: يا إماماً صلَّى وسلَّم كُلٌّ ... خلفَه من أئمَّةِ الآدابِ وخطيباً رقَى فضمَّخ طِيباً ... مِنْبَر الوعظِ منه فَصْلُ الخطابِ لم يُنافَس لَدَى التَّقدُّم إلاّ ... قال مِحْرابُه هو الأحْرَى بِي أشْرقتْ شمسُ فضلهِ لا تَوارتْ ... عَيْنُها عن عِيانِنا بحِجابِ وأتى رَوْضُ فكرِه بعَرُوسٍ ... قد أُمِدَّتْ أنهارُها من عُبابِ تقْتضي مِنِّيَ الجوابَ وعُذْرِي ... في جوابِي حُوشِيَت أنَّ الجَوَى بِي شَبَّهُ في حَشايَ فَقْدُ فتاةٍ ... رحلتْ تمْتطِي مُتونَ الرِّقابِ وانْطَوتْ بعد بَيْنِها بُسْطُ بَسْطِي ... وانْقضتْ دولةُ الصِّبا والتَّصابِي ليت شِعْرِي بمن أَهِيمُ وشمسِي ... ما لها في أُفُولِها من إيابِ كيف أصْبُو ووردةٌ كان رَوْضُ الْ ... أُنْسِ يزْهُو بها ثَوتْ في التُّرابِ لا وعَيْشٍ مضَى بها في نعيمٍ ... لستُ أصْبُو من بَعْدِها لكَعابِ هاتِ قُلْ لي يا مَلْعَبَ السِّرْبِ ما لِي ... لا أر فيك ظبْيةَ الأتْرابِ قال سَلْ حاسبِ الكواكبَ عمَّا ... حار في دَفْعِه أُولو الألْبابِ أصبحتْ من بَناتِ نَعْشٍ وكانتْ ... بدرَ تِمٍ فهل تَرَى من جَوابِ فابْسُطِ العُذْرَ يا أخا الفضلِ فَضْلاً ... إن تجدْني أخْطأتُ صَوْبَ الصَوابِ

أتُصِيبُ الصوابَ فكرةُ صَبٍ ... يحْتسي كأسَ فُرْقةِ الأحْبابِ وتطَوّلْ وأسْبلِ السِّتْرَ صَفْحاً ... فهْو شأنُ الخِلِّ المُحِبِّ المُجابِ في جَوابٍ عن نَخْلةٍ قد أتتْنا ... بِجَنَى النحْلِ في سُطورِ الكتابِ أتْحفتْنا باللُّغْزِ في اسمِ أُخْتٍ ... لأبِينا خُصَّتْ بذا الانْتسابِ وكَساها المَرْوِيُّ من شَبَهِ المُؤْ ... مِن فَضْلاً في سائرِ الأحْقابِ وهْيَ ترْقَى من غير سَوْءٍ فطَوْراً ... يستحِقُّ الجانِي ألِيمَ العذابِ ثم طَوْراً وهو الكثيرُ يُرَى الجْا ... نِي عليها من أفْضلِ الأصْحابِ ولها إنْ تَشَأ تَصاحِيفُ منها ... مُفْرَدٌ فيه غايةُ الإغْرابِ جاء قَلْبُ اسمِ جِنْسِه وهْو لَحْنٌ ... لا تُنافِيه صَنْعةُ الإعرابِ ومُسَمَّى التصْحيفِ هذا إليه اللّ ... هُ أوْحَى سُبحانَه في الكتابِ وهْو ذُو شَوْكةٍ وجُنْدٍ عظيمٍ ... خَلْفَ يَعْسُوبِه بغيرِ حسابِ ذُو دَوِيٍ في جَحْفَلٍ يَمْلأُ الجَوَّ ... كرَعْدٍ في مُكْفَهِرِّ السحابِ حيوانٌ وإن تُصحِّفْ جَمادٌ ... مُفْصِحٌ عن مُرادِ سامِي الجَنابِ يا خليلِي بل يا أنا فاتِّحادِي ... بك يقْضِي بذا بغيرِ ارْتيابِ إنَّ صُنْعِي في حَلِّيَ اللُّغْزِ باللُّ ... غزِ بديعٌ فلا تَفُه بِعتابِ وابْقَ في نعمةٍ وفي جَمْعِ شَمْلٍ ... ببَنِيك الأفاضلِ الأنْجابِ ما سَرَتْ نَفْحةُ الأزاهرِ ترْوِي ... ضَحِكَ الروضِ بُكاءِ السحابِ وأعقب ذلك بنثرٍ صورته: المولى الذي إذا أخذ القلمَ ووَشَّى، وأرى غباره أرباب البلاغة والإنشا. لا يرى على من رماه الدهر بسهمه، ولعبت صوالج الأحزان بكرة فهمه. فمزج المدح بالرثا، وقابل النضر بالغثا. فقد بان عذره، واتضح فعل الزمان به وغدره. وقد كنت قبل إدراج هذا الرثاء في أثناء الجواب، أرقت ذات ليلةٍ من تجرع صاب ذلك المصاب. فنفثت القريحة، في تلك اليلة التي كاد أن لا يكون لها صبيحة: لقد كان رَوْضُ الأُنْسِ يزْهُو بوردة ... شَذَا كلِّ عِطْرٍ بعضُ نَفْحةِ طِيبِهَا فمَدَّ إليها البَيْنُ كَفَّ اقْتطافِهِ ... وأمْحَلَ ذاك الرَّوْضُ بعد مَغِيبِهَا ولم يصْفُ لي من بعدِها كَأْسُ لَذَّةٍ ... وكيف تلَذُّ النفسُ بعد حَبِيبِهَا فرَوِّي ثَراها يا سحائبَ أدْمُعِي ... ومَن لي بأن تَرْوَى بسَحِّ صَبِيبِهَا فقصدت أن أثبتها في ذيل الجواب وأخرياته، لما عسى أن يكون من محفوظات مولانا ومروياته. وقد طال هذا الهذا، وطغى القلم بما هو للعين قذى. فلنحبس عنانه، ونرح سمع المولى وعيانه. حفيدة علي بن تاج الدين فاضلٌ نشر أدبه فأدهش مخبره، وتنسم صبا خلقه فعطر المشام مسكه وعنبره. نشأ في حجر الكرم، متفيئاً ظل حرم المجد المحترم. فطلع وفق ما اقتضته العناية، ودلت عليه كلمة الفضل بالصريح والكناية. وقد رأيته وليس بينه والمنى حجاز، وحقيقة فضائله لا يطرقها مجاز. فاستضأت حيناً بمنظره البهي، وتمتعت آونةً بلفظه الشهي. ورأيت أدباً كالعمر في ريعانه، وسمعت شعراً كالشباب في رونقه ولمعانه. فمما تناولته من شعره، قوله من قصيدة أولها: على مِثْلِها من أعْيُنٍ كَحلُها السِّحْرُ ... يهُون الذي نَلْقَى وإن عَظُمَ الأمْرُ فعنِّي إلى غيري العداةِ عَواذِلِي ... فلي شِرْعةٌ في الحبِّ لستُمْ بها تَدْرُوا دَعُوني وما ألْقاه من حُبِّ شادِنٍ ... مَحاسنُه لي في الغرامِ به عُذْرُ مِن التُّرْكِ لَمَّا في الحِياصَة قد بَدا ... رأتْ هالةً عَيْنِي ومنه بها بَدْرُ

يُريك جَنِيَّ الوردِ من وَجَناتِه ... ويبسَم عن زَهْرِ الأقَأحِ له الثَّغْرُ تعلَّقْتُه بادِي النِّفارِ كأنه ... غزالٌ قد اسْتوْلَى على قلبِه الذُّعْرُ فما زلتُ أسْقِي قاسياً من طباعِه ... مُدامةَ لُطْفٍ مَزْجُ أكْؤُسِها التِّبْرُ فرَقَّ وقد رقَّتْ مَعانِي تغزُّلِي ... فلما رَنَا لم أدْرِ أيُّهما الشِّعْرُ عشِيَّةَ وافانِي على غيرِ مَوْعِدٍ ... وجُنْحُ الدُّجَى من دونِ حُرَّاسِه سِتْرُ فقبَّلْتُ منه راحَ كَفٍ أُجِلُّها ... عن الرَّاحِ حاشَ أن يُلِمَّ بها وِزْرُ وصارتْ يَميِني كالنِّطاقِ لخَصْرِه ... على رَغْمِ مَن قد قال بان له خَصْرُ وقال وقد رُمْتُ ارْتِشافَ رُضابِه ... متى بِحياتي قد أُحِلَّتْ لك الخَمْرُ فَلوْلاه ما كان الغرامُ بمُهْجتِي ... مُقيماً وقد سارتْ بأخْبارِه السَّفْرُ سَلُوا الليلَ عني كم سهِرْتُ ظَلامَه ... أُكابِدُ شوقاً دون حُرْقتهِ الجَمْرُ أرى نَجْمَه أدْنَى من الوصلِ مَأْخَذاً ... وأبْعَدَ من سَلْوايَ إن يمْحُه الفَجْرُ فما زلتُ أُزْجِيها مَطايا تصبُّرٍ ... بأرضِ الجَنَى حتى اسْتبان لِيَ البِشْرُ وقال لِيَ الوصلُ الذي أنا طالبٌ ... له مَرْحباً في الأمْنِ قد رحَل الهَجْرُ وأنشدني من لفظه لنفسه: إذا غاب كان المَيْلُ منِّي لغيرِه ... وإن لاح كان المَيْلُ منِّي له حَتْمَا كأنِّي هل في النحوِ والفعلَ حُسْنُه ... وكلَّ الورى إن لاح محبوبِيَ الأسْمَا يريد به ما ذكره النحويون، من أن هل مختصة بالفعل إذا كان في حيزها، فلا يجوز هل زيد خرج؛ لأن أصلها أن تكون بمعنى قد، كقوله تعالى: " هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر "، وقد مختصة بالفعل، فكذا هل، لكنها لما كانت بمعنى همزة الاستفهام، انحطت رتبتها عن قد في اختصاصها بالفعل، فاختصت به فيما إذا كان في حيزها؛ لأنها إذا رأته في حيزها تذكرت عهوداً بالحمى، وحنت إلى الإلف المألوف، ولم ترض بافتراق الاسم بينهما، وإذا لم تره في حيزها، تسلت عنه، وذهلت، ومع وجوده إن لم يشتغل بضميرٍ لم تقنع به مقدراً بعدها، وإلا قنعت به، فلا يجوز في الاختيار هل زيداً رأيت بخلاف هل زيداً رأيته. انتهى. القاضي محمد بن خليل الأحسائي أديبٌ لا يجارى في ميدان إحسان، ولا يبارى في صنعة يدٍ ولسان. وهو في علم العروض خليفة الخليل، وتحريره فيه الكافي عن شفاء العليل. وكان ولي قضاء الطائف فاكتست به جمالاً، وبلغت في أهلها مآرب وآمالاً. فكثر فيه المطري والمادح، وتفنن في وصفه الشادي والصادح. وقد وقفت له على شعرٍ بهر اتقاده، وصح على زيف الأنام انتقاده. فأثبت منه ما يقتطف زهراً جنياً، ويتخذ لتعليل النفس نجيا. فمنه قوله، مخاطباً للقاضي تاج الدين المالكي، وقد طلب شيئاً من شعره: لدَيْك أخا العَلْيَاء والفضلِ والعلمِ ... ومَن جَلَّ من بين الأجِلاَّء بالفَهْمِ تُحَلَّ رحالُ الظَّاعنِين ومَن غَدا ... إليك بَدا في حامِلي العلمِ كالنَّجْمِ لئن كان ربُّ الفضلِ كالرأسِ في الوَرى ... فأنتَ له تاجٌ يُضِيءُ بلا كَتْمِ طلبتَ من النظمِ البديعِ لآلئاً ... فدُونكَها كالعِقْدِ في الحُسْنِ والنَّظْمِ تُشنِّفُ أسْماعَ الرُّواةِ بدُرِّها ... وتقطع أفْلاذَ الغَبِيِّ من الغَمِّ فيا أيُّها القاضي المُولِّد طَبْعُه ... من العلمِ أفْناناً تجِلُّ عن العُقْمِ نوائبُ هذا الدهرِ غالَتْ قَرِيحَتِي ... ودقَّتْ عظامِي بعد تمْزيقها لَحْمِي فلو أن هذا الدهرَ يُبْدِي تَعطُّفاً ... لظَلَّ بديعُ النظمِ وَالنظمُ في سَهْمِ ولو أن جُزْءاً من هُمومي مُفَرَّقٌ ... على الخَلْقِ عامُوا في بحارٍ من الهَمِّ

وسامِحْ فمِنْدِيلُ القَرارِ مُقطَّعٌ ... ورِقَّ لقلبٍ لا يقَرُّ من العُدْمِ ودُمْ أبداً في نِعْمةٍ ضِدُّها لها ... يُطَأْطِىءُ رَأْساً في الرَّغامِ على الرَّغْمِ وكتب إلى القاضي أحمد بن عيسى المرشدي، يهنيه بزيارة النبي صلى الله عليه وسلم: زيارةٌ رفعتْها للقبولِ يَدٌ ... وسَفْرةٌ أسْفرَتْ في طَيِّها مُدَدُ يَهْنيِك زَوْرةُ خيرِ الخلقِ في رَجَبٍ ... يا مَن ربيعُ يديْه دائماً لُبَدُ اللهُ والشافِعُ المُخْتَارُ قد نَظرا ... إليك والرَّكْبُ إذ سايرْتَه سَعِدُوا أخْلَصْتَ للهِ في هذِي الزيارةِ إذْ ... شدَدْتَ وَجْنَاء لا تشكو إذا تَخِدُ وفُزْتَ في لَثْمِ أعْتابٍ مُقَرَّبةٍ ... إليه قومٌ بها في زِيِّهمْ حمدُوا نعمْ لكم ذِمَّةٌ منه بتَسْمِيةٍ ... يَهْنِى مُحمَّدَ من ذَا الحمْدِ ما يَجِدُ قد سِرْتَ للَّهِ سيرَ الصالحين إلى ... نَبيِّه وعلى الألْطافِ تعْتمِدُ قصَدتَ سُوحَ إمامِ الرُّسْلِ سَيِّدهم ... غَوْثِ العبادِ إذا في حَشْرِهم جُهِدُوا ورُمْتَ من فضلهِ فضلاً تَزِيد به ... فضائلاً هي في عَلْيائِك السَّنَدُ طابتْ بطَيْبةَ أوقاتُ الأُلَى قصَدُوا ... تقْبِيل تُرْبتِه والخيرَ قد وَجدُوا هبَّتْ عليهم نُسَيْماتُ الرِّضا سَحَراً ... فزال عنهم لَهِيبُ القلبِ والكَمَدُ زاروا جُسوماً وزُرْنا نحنُ أفئدةً ... في سَبْسَبِ الوجدِ والأشْواقِ تَطَّرِدُ بُشْراكَ يا زائرَ المُختارِ لا برِحتْ ... عليك منه مَبَرَّاتٌ سَمتْ تَرِدُ لا زلْتَ تقصِده ما سار زائرُه ... إليه في كلِّ عامٍ نَجْمُه يَقِدُ فأجابه بقوله: أذِي زهورُ رياضٍ زَانَها النَّضَدُ ... أمِ الدَّرارِي التي في أُفْقِها تَقِدُ أم ذِي جواهرُ تِيجانِ المُلوكِ بَلَى ... جواهرُ التَّاجِ إذْ قِيستْ بها تَأَدُ أم العقودُ أم المنظومُ من كَلِمٍ ... أعان نَأظِمَه التَّأْيِيدُ والمَدَد أم ذِي عرائسُ أفكارٍ مُحجَّبةٌ ... أماطَتِ السِّتْرَ عنها للأديبِ يَدُ يدٌ طويلةُ باعٍ في العلومِ لها ... في كلِّ ما يُعْجِزُ الأفهامَ مُنْتقَدُ كأنها حين وافتْنِي على غِرَرٍ ... أرْى قُتيلِ الهوى عَذْبِ اللَّمَى الصَّردُ قد أذْكرتْنِي أيَّاماً حَلتْ وَخَلَتْ ... واغْتال لَذَّتَنا في طَيِّها الأبَدُ وافتْ تُهنِّي مُحِبّاً لم يزَلْ قَلِقاً ... إلى لقائِكَ صَبّاً وهْو مُضْطَهَدُ وكان لما أتتْ أحْرَى بتهْنِيَةٍ ... بها لِمَا أطْفأتْ من حَرِّ ما يَجِدُ وقلت فيها وزُرْنا نحن أفئدةً ... مُعرِّضاً فانْجلَى ما جَنَّهُ الخَلَدُ فالحمدُ للهِ زار المُصطفى الجسدُ ... مع الفؤادِ وحُقَّ الأجرُ والرَّشدُ هذا وأنتَ على العِلاّتِ أجْمَعِها ... لَدَى المُحِبِّ لَموْمُوقٌ ومُعْتَمَدُ لأنَّ كلَّ اعْتدالٍ من سِواكَ يُرَى ... يفُوقُه منك عندي ذلك الأَوَدُ عليك منِّي تحيَّاتٌ مُضاعَفةٌ ... من المُهَيْمِنِ تَتْرَى مالَها أمَدُ عفيف الدين بن عبد الله ابن حسين الثقفي هذا من أهل الطائف، أديبٌ كثير اللطائف. ثقفي مثقف قناة المجد، جرى إلى آماد الفتوة فبلغها بالجد والجد. وقد أطرب بأناشيده من لم يكن يطرب، وأتى بما يسكر من سمعه وإن لم يكن يشرب. بعبارة مستغنيةٍ عن التصنع، وبديهة لم تشب بخطر التمنع. مصقولةٍ بلا تطرية واسطة، مجلوة بلا منة ماشطة. وكل كلامه عليه مسحة النضارة، وله ملاحة البداوة وهي تفوق الحضارة.

وقد جئتك من شعره بما يصف نفسه إذا لاح، وإذا ارتصفت درر عقوده تغايرة عليها لبات الملاح. فمنه قوله من قصيدة: سَقَى طَلَلاً بين الأجارِعِ واللِّوَى ... وحَيَّى زماناً لم نُرَعْ فيه بالنَّوَى ورَعياً لأيامٍ هناك سوالِفٍ ... قضيْنا بها عصر الشَّبِيبة والهَوى بظِلِّ جَنابٍ والنَّدامَى عِصابةٌ ... كرامُ المساعي تُرغم الخَصْمَ إن غَوَى على السَّفْحِ ما بين القُصَيرِ إلى الحِمَىإلى الحِصْنِ نَطْوِي الوُدِّ عنَّا وما انْطَوَى لياليَ لا تُخْطِي سهامُ رَمَّيتِي ... ولا عاقَنِي الوالي الغَيُورُ وإن زَوَى وأصبحتُ يَثْنيني الحِجَى عن هَوِيَّتِي ... ويمنعني دهرٌ تمادَى وما ارْعَوَى فللهِ كم من يومِ دَجْنٍ وصَلْتهُ ... بلَيلٍ على الرَّبْعِ الجنوبِي وما حَوَى وساعاتِ أُنْسٍ كلما عَنَّ ذِكْرُها ... يُهيِّجني فَرْط الصَّبابةِ والجَوى لكلِّ غَضِيضِ الطَّرْفِ أحْوى إذا رَنَا ... سَباكَ النُّهى والصبرَ واسْتأثر القُوَى إذا افْتَرَّ عن ثَغْرٍ حكى الدُّرَّ نَظْمُه ... وإن لاح قلت الشمسُ حَلَّتْ في الاسْتِوا يُشِيرُ فأدْرِي ما يقول برَمْزِه ... فأقْضِيَ على ما في هَواه بما نَوَى عليم بعِلاَّتِ الغَوانِي وطِيبِها ... ومُفْتِي النَّدامَى في مُحاورةِ الهَوَى وكتب إلى السيد علي بن معصوم: برُوحِيَ مَجْبولاً على الحبِّ طَبْعُه ... وقلبيَ مجبولٌ على حُبِّه طَبْعَا يُراقِبُ أيامَ المُحرَّم جاهداً ... فيُطلِعُ بدراً والمُحبُّ له يَرْعَى كلِفتُ به أيامَ دهرِيَ مُنْصِفٌ ... ووجهُ الصِّبا طَلْقٌ وروضُ الهوى مَرْعَى جنَيْنا ثمارَ الوصلِ من دَوحةِ المُنَى ... لياليَ لا وَاشٍ ولا كاشحٌ يسعَى فللهِ أيامٌ تقضَّتْ ولم تَعُدْ ... يَحِقُّ لعَيْنِي أن تَسِحَّ لها دَمْعَا فراجعه بقوله: بنفسِيَ مَن قد حاز لَوْنَ الدُّجَى فَرْعَا ... ولم يكفْهِ حتى تقمَّصه دِرْعَا بَدَا فكأن البدرَ في جُنْحِ ليلهِ ... تعلّم منه كيف يصْدعُه صَدْعَا نمَتْه لنا عَشْرُ المُحرَّم جَهْرةً ... يُطارِحُ أتْراباً تكنَّفنه سَبْعَا تبدَّى على رُزْءِ الحسينِ مُسوَّداً ... وما زال يُولي في الهوى كَرْب لا مَنْعا وقد سَلَّ من جَفْنيْه عَضْباً مُهنَّداً ... كأنَّ له في كلِّ جارِحةٍ وَقْعا هناك رأيتُ الموتَ تَنْدَى صِفاحُه ... وناعِي الأسَى يَنْعَى وأهلُ الهوى صَرْعَى وكتب إليه ابن معصوم في لا بس أسود مستجيزاً في عشر المحرم: لا تقُلِ البدرُ لاح في الغَسَقِ ... هذا سوادُ القلوبِ والْحَدَقِ إنسانُ عيني بدَا بأسْودِها ... فعاد لي إذْ رَمَقْتُه رَمَقِي يا لابِساً للسَّوادِ طِيبَ شَذاً ... ما المسكُ إلاّ من نَشْرِك العَبِقِ لبِسْتَ لَوْنَ الدُّجَى فسَرَّ وقد ... أغَرْتَ ضوءَ الصباحِ في الأُفُقِ حتى بدا وهْو فيه مُنْفَلِقٌ ... يشُقُّ ثوبَ الظلامِ عن حَنَقِ فأجازه بقوله: رُوحِي فِدَا مَن أعاد لي رَمَقِي ... لَمَّا بَدَا كالهلالِ في الشَّفَقِ يهْتزُّ كالغُصْنِ في غَلائلهِ ... ويرشُق القلبَ منه بالرَّشَقِ قلتُ له مُذْ بدَا يُعاتبنِي ... ويمزُج الهَزْلَ منه بالحَنَقِ لو أنْصَفَ الدهرُ يا شِفَا سَقَمِي ... ما بِتُّ أرْعَى النجومَ من أَرَقِ لكن عسَى عَطْفةٌ تُسَرُّ بها ... فيها سرورُ القلبِ والْحَدَقِ ومن شعره في النسيب قوله: للهِ دَرُّ ظِباءِ الهنْدِ كم ترَكتْ ... من ماجدٍ دَنِف الأحْشاءِ مُضْطَرِمِ

نَواعِسٌ كلَّما فَوَّقْنَ أسْهُمَها ... تركْن أُسْدَ الشَّرَى لَحْماً على وَضَمِ وقوله: قلتُ لمَّا بدَا يميسُ بقَدٍ ... جَلَّ مَن صاغ حُسْنَه وتَبارَكْ عَمِّرِ الوقتَ بالرَّجا أو بوَصْلٍ ... عَمَّر اللهُ يا حبيبي دِيارَكْ وقوله: لقد صار لي مَدْمعٌ بعدَكمْ ... يفيضُ على وجَنتِي كالعَقِيقْ لِتَذْكارِ أيَّامِنا بالحِمَى ... وتلك الليالِي بوادِي العَقِيقْ أحمد بن الفضل باكثير الفضل والده، وبه تم له طارف المجد وتالده. فمقداره في النباهة جليل، ومثل باكثير في الناس قليل. جيد النثر والنظام، كثير الارتباط في سلكه والانتظام. وله قريحةٌ سيالة، وطبيعة في الأفنان ميالة. وشعره بعيدٌ عن الكلف، نقيٌّ من النمش والكلف. فمنه قوله مصدراً ومعجزاً قصيدة المتنبي، يمدح بها السيد علي بن بركات الشريف الحسني: حُشاشةُ نفسٍ وَدَّعتْ يوم وَدَّعُوا ... وقلبٌ لأظْعانِ الأحِبَّةِ يَتْبَعُ وصبرٌ نَوَى التَّرْحالَ يومَ رحيلِهم ... فلم أدْرِ أي الظاعِنَيْنِ أُشَيِّعُ أشارُوا بتسليمٍ فجُدْنا بأنْفُسٍ ... تسيلُ مع الأنْفاسِ لَمَّا ترَفَّعُوا وسارُوا فظلَّتْ في الخدودِ عيونُنا ... تسيِلُ من الآماقِ والإسمُ أدْمُعُ حَشايَ على جمرٍ ذَكِيٍ من الهوى ... وصَدْرِيَ مُذْ بَانُوا عن الصبرِ بَلْقَعُ وقلبي لَدَى التَّوْديعِ في حَزْنِ حُزْنِه ... وعَيْنَاي في روضٍ من الحُسْنِ تَرْتَعُ ولو حُمِّلتْ صُمُّ الجبالِ الذي بنا ... من الوجدِ والتَّبْريح كانت تضَعْضَعُ وأكْبادُنا من لَوْعةِ البَيْنِ والنَّوَى ... غَداةَ افْترقْنا أوْشكَتْ تتصدعُ بما بيْن جَنْبَيَّ التي خاضَ طَيْفُها ... دُموعِي فَوافَى بالتَّواصُلِ يطمعُ تخَيَّل لي في غَفْوةٍ وجَّهتْ بها ... إليَّ الدَّياجِي والخَلِيُّون هُجَّعُ أتتْ زائراً ما خامرَ الطِّيبُ ثَوْبَها ... وخَمْرتُها من مِسْكِ دَارِينَ أضْوَعُ فقبَّلتُ إعْظاماً لها فضلَ ذَيْلِها ... وكالمِسْكِ من أرْدانِها يتضَوَّعُ فشَرَّد إعْظامي لها ما أتَى بها ... وفارقْتُ نَوْمِي والحشَا يتقطَّعُ وبِتُّ على جمرِ الغَضا لفِراقِها ... من النومِ والْتاعَ الفؤادُ المُفجَّعُ فيا ليلةً ما كان أطولَ بِتُّها ... سميرَ السُّها حِلْفَ الجوَى أتضرَّعُ يُجرِّعني كأسَ الأسى فَقْدُ طَيْفِها ... وسَمُّ الأفاعِي عَذْبُ ما أتجرَّعُ تذلَّلْ لها واخْضَعْ على القُرْبِ والنَّوَى ... لعلّك تحْظَى بالذي فيه تطمعُ ولا تأْنَفَنْ من هَضْمِ نفسِك في الهوى ... فما عاشقٌ من لا يذِلُّ ويخْضَعُ ولا ثَوْبُ مَجْدٍ غيرَ ثوبِ ابنِ أحمدٍ ... عليّ الذي أضْحَى له الفخْرُ أجْمَعُ عليه ضَفَا بالمَكْرُماتِ ولم يكُنْ ... على أحَدٍ إلاّ بلُؤْمٍ مُرَقَّعُ وإن الذي حَابَى جَدِيلةَ طَيِّءٍ ... بحاتمِهم وهْو الجوادُ المُمنَّعُ حَبَى بعَليٍ آلَ طه فإنّه ... به اللهُ يُعْطِي مَن يشاءُ ويمنعُ بذِي كَرَمٍ ما مَرَّ يومٌ وشمسُه ... بغيرِ سَناً منه تُضِيءُ وتَسْطَعُ ولا ليلةٌ تزْهُو به ونجومُها ... على رأسِ أوْفَى ذِمَّةٍ منه تطْلُعُ فأرْحامُ شِعْرٍ يتَّصِلْنَ لَدُنَّه ... فكم سِعْر شِعْرٍ في مَعاليِه يُرْفَعُ ومنها في الختام: ألا كُلُّ سَمْحٍ غيرَك اليومَ باطِلٌ ... لأنك فَرْدٌ للكمالاتِ تجْمَعُ

وكلُّ ثناءٍ فيك حَقٌّ وإن عَلاَ ... وكلُّ مَديحٍ في سِواك مُضَيَّعُ واتفق له أنه سمع وهو محتضر رجلاً ينادي على فاكهة: ودعوا من دنا رحيله فقال بديها: يا صاحِ دَاعِي المَنونِ وَافَى ... وحَلَّ في حَيِّنا نُزولُهْ وها أنا قد رَحلْتُ عنكم ... فودعوا مَن دَنَا رَحِيلُهْ محمد بن سعيد باقشير وحيد نسجه رويةً وإسراعاً، ونسيج وحده ابتكاراً واختراعا. بهر بمحاسنه التمائم، قبل أن توضع على رأسه العمائم. فانجلت به النواظر وقرت، وابتسمت به ثغور الأماني وافترت. وقد سلك في الشعر مسلكاً سهلاً، فقالت له غرائبه مرحباً وأهلاً. فلبس الشعر حلية الحلاوة، ووشاه برونق الرقة وطل الطلاوة. وقد أوردت له ما يطلع بدره في تمه، ويرقص زهره في كمه. فمنه قوله، من قصيدة في الغزل: ألآلٍ ما أرى أم حَبَبُ ... أم أقاحٍ لا ولكن شَنَبُ حُرِّمتْ وهْي حَلالٌ قد جرَى ... في خلالِ الطّلْع منها الضَّرَبُ ما ورَى بارِقُ ذَيَّاك اللَّمَى ... أن لي قلباً بها يلْتهبُ دَعْ لما قد نقَل الرَّاوي لنا ... عن لَماه ما رَوتْه الكُتبُ آهِ ما أعْذبه من مَبْسَمٍ ... وهْو لو جاد به لي أعْذَبُ ليت لو أنَّ مَنالاً منه لي ... غير أن البرقَ منه خُلَّبُ جُؤْذُرٌ يَرْنُو بعيْنَيْ أغْيَدٍ ... مِن مَهَا الرملِ أغَنُّ أخْلَبُ ومُحَيّاً كَلِف الحُسْنُ به ... فغَدا يُنْشِد أين المَذْهَبُ هَزَّ عِطْفيْه فلم يَدْرِ النَّقا ... أقناةٌ هزَّه أم قُضُبُ رَقَّ فاسْتعْبد أرْبابَ الهوى ... فله في كلِّ قلبٍ مَلْعَبُ يا لها من نِعْمةٍ في ضِمْنِها ... مَهْلَكٌ هان وعَزَّ المَطْلبُ وقوله، من قصيدة يمدح بها السيد أحمد بن مسعود، أولها: عَلِقاً أظُنُّك بالكَعابِ الرُّودِ ... أمْ والِهاً بهوَى الظِّباءِ الغِيدِ أسْبَلْنَ أمْثلةَ الغُدافِ غَدائراً ... سُوداً تطولُ على الليالِي السُّودِ وسفَرْنَ عَمَّا لو لَطَمْنَ بمثلهِ ... خَدَّ الظلامِ لَما بدا بالبِيدِ بِيضٌ يُرنِّحهُنَّ رَيْعانُ الصِّبا ... تِيهاً كخُوطِ الْبانةِ الأُمْلودِ عذَر العَذُول على الهوى فيها وقد ... عَنَّتْ لنا بين اللِّوى وزَرُودِ فطفِقْتُ أُنْشِده على تأْنِيبِه ... أرأيتَ أيَّ سَوالفٍ وخُدودِ تَرِبتْ يدُ اللُّوَّامِ كم ألْظَتْ حَشاً ... دَنِفٍ بأُلْهوبٍ من النَّفْنيدِ أو مَا دَرَوْا أن الجمالَ حَبائلٌ ... ما إن يُصاد بهِنَّ غيرُ الصِّيدِ ولرُبَّ مُخْطَفةِ الحَشَا بَهْنانةِ الْ ... مْتنَيْنِ مُفْعَمةِ الإزارِ خَرُودِ ترْنُو فتحسب أُمَّ خِشْفٍ ثارَها ال ... مِقْناصُ عن خَضْلِ الكَلاَ مَخْضُودِ للهِ أحْداقُ الحسانِ وفعْلُها ... في قلبِ كلِّ مُتَيَّمٍ مَعْمودِ ألْحَفْنَنِي البُرَحاءَ لكنِّي امْرُؤٌ ... وَزَرِي برُكْنٍ في الملوكِ شَديدِ وكتب إليه، يصف أمةً له سوداء مداعباً: أبَتْ صُروفُ القضا المَحْتومِ والقدرِ ... إلاّ إشابةَ صَفْوِ العيْشِ بالكَدَرِ وإنَّ مِن نَكَدِ الأيامِ أن قُربتْ ... دارُ الحبيب ولكن شَطَّ عن نَظَرِي بِي من سَطَا البَيْن ما لو بالجبالِ غدتْ ... عِهْناً وبالسبعةِ الأفْلاكِ لم تَدُرِ نَوى الأحِبَّة والشوق الشديد ولى ... جَوىً تُجدِّدُه مهما انْقضَى فِكَرِي وزادني الدهرُ همّاً لا يُعادِلُه ... هَمٌّ بسمراءَ ألْهتْني عن السَّمرِ

زَنْجِيةٌ من بنات الزَّنجِ تحسبُها ... حَظِّي تجسَّم جُثْمانا من البشرِ كأن قامَتها ليلِي ومِنْخَرَها ... ذيلي فيالَك من طول ومن قِصَرِ لها يدٌ ألِفَتْ خَطْفَ الكسارِ ولو ... باتتْ تُحوَّطُ بالهِنْديّةِ البُتُرِ تسْطو على القُرْصِ سَطوَى غيرِ ذي جُبُنٍ ... لو أنه بيْن نابِ الليثِ والظُّفُرِ كم غادرتْنِيَ من جوعٍ ومن سَغَبٍ ... حُزْناً أعَضُّ بَنانَ النادِم الحَصِرِ ورُبَّ يومٍ غدا مَوْتي يُجرِّعني ... كاساتِه فيه حتى عِيلَ مُصْطَبَرِي أرُوضُها تارةً عَتْباً وأزْجرُها ... طَوْراً فلم يُجْدِ تأْنيبِي ومُزْدَجَرِي وربما أفْحمتْنِي القولَ قائلةً ... وليس كلُّ مَقالٍ بالجوابِ حَرِي تخْشَى الرَّدَى وبُنودُ المجدِ خافِقةٌ ... على ابنِ مسعود فَرْعِ الفرعِ من مُضَرِ وله من قصيدة: بِذِي العَلمْين من شَرْقيّ حَاجِرْ ... تَوَقَّ أخا الغرامِ ظُبَا المَحاجرْ فكم برُبَه من صَبٍ عَمِيدٍ لسائلِ دمعِه الثَّجَّاجِ ناهِرْ به السُّودُ التي في السُّودِ منها ... فِعالُ السُّمْرِ والبيضِ البَواتِرْ فأيُّ حَشاً يمُرُّ به خَلِيّاً ... وقد رمَقتْه هاتِيك الجَآذِرْ به البِيضُ الرَّعابِيبُ السَّوافِرْ ... وآسادٌ بفَدْفَدِه قَساوِرْ لَعَمْرُك ما سيوفُ الهندِ يوماً ... بأمْضَى من بواترِها الفَواتِرْ عيونٌ ما مضنَحْنَ السُّقْمَ إلاَّ ... لقَدِّ القلبِ أو شَقِّ المَرَائرْ مَرِضْنَ وما مَرضْنَ سُدىً ولكنْ ... لسَلْبِ قلوبِ أربْابِ البَصائرْ بأُمِّي ثم بِي وأبِي رَبِيبٌ ... غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحولُ النَّواظِرْ نَحِيلُ الخَصْرِ عَبْلُ الرِّدْفِ أحْوَى ... أزَجُّ الحاجبيْن أغَرُّ نافِرْ يميِلُ بمِثْلِ غُصْنِ الْبانِ لَدْنٍ ... تُرنِّحه الصَّبا والغُصنُ ثامِرْ ويُسْفِرُ عن مُحَيّاً لو رآه ... صَباحاً ذو الهدايةِ ضَلَّ حائرْ ويبْسَم عن شَهِيِّ الظَّلْمِ عَذْبٍ ... تَرقْرَق فيه سَلْسَالُ الجواهِرْ جَفَا جَفْنِي الكرَى مُذ بان عَنِّي ... فجَفْنِي مُذْ نأَى سَاهٍ وساهِرْ وقال على مصطلح أرباب الحال، وهي قصيدة غريبة: ربَّما عاكفٍ على الخَنْدَرِيسِ ... رَافلٍ في مَلابس التَّلْبيسِ جَهْبَذٌ يملأُ الدفاترَ عِلْماً ... لم يُنَلْ باتَّقْريرِ والتَّدْريسِ أيُّما خُطَّةٍ أردْتَ تجِدْه ... قَهْرماَ المَعقولِ والمَحْسوسِ يعلَم السابقين من عَهْدِ طَسْمٍ ... ويُفِيدُ الطلاَّبَ عصرَ جَديسِ علَمٌ لم يكن على رأسِه نَا ... رٌ ولكنْ كالنورِ في الحَنْدُوسِ ماشياً عُمْرَه على نَهْجِ الصِّدْ ... قِ على ما به من التَّدْلِيسِ دُغَةٌ مَرَّةً وآونةً قُسٌّ ... وطَوْراً يُمْلِيك عن إبليسِ وعليمٌ بطِبِّ عِلَّةِ بقْرا ... ط ويهْزُو بجِدِّ جَالِينُوسِ ارْمِه حيثُ شئتَ تلْقَ أخَا النَّجْ ... دةِ من آدمٍ ومن إدريسِ لِعب الحبُّ منه بالجبَلِ الرَّا ... سِي وبالضَّيْغمِ الهَمُوسِ العَبُوسِ مِن هوَى رَبَّةِ الحِجالِ ومَن قد ... لعبتْ مِن دَلالِها بالنفوسِ والتي خيَّمتْ على كلِّ قلبٍ ... ورمَتْ كلَّ مُهْجةٍ برَسِيسِ وأبَتْ أن تُرَى بعيْنِ مُحِبٍ ... قَطُّ إلاّ في صورةٍ ولَبُوسِ لاح مِن نُورِها الأغَرِّ سَناءٌ ... فَتراءَى في نارِه للمَجُوسِ

قد بدَتْ للكليمِ ناراً ولكنْ ... لا بحَصْرٍ فغاب بالتَّقْديسِ وغَدا المَانَوِيُّ منها على رَأْ ... يٍ صحيحٍ لكن بلا تأسِيسِ والنَّصارَى ظلَّتّ على صُوَرٍ شَتَّى ... فضلَّتْ برأْيها المعكوسِ قيَّدُوا مُطلَق الجمالِ فباتُوا ... في قيودِ الشَّمَّاسِ والقِسِّيسِ كيف مَن قيَّدتْ تُقيَّد والإطْ ... لاقُ قيْدٌ والقَيْدُ غيرُ مَقِيسِ شَأْنُها في حِبِّها فَتُّها الأكْ ... بادَ من رائسٍ ومن مَرْءُوسِ رُبَّ قلبٍ قد تَاهَ فيها فلم يَدْ ... رِ حَسِيساص ولم يَمِلْ لِلْمَسِيسِ ظَلَّ فيها في جَحْفلٍ من سرورٍ ... وخَميسٍ يلْقَى الأسَى بخَمِيسِ كلَّما أسْفَرتْ له عن نِقابٍ ... وفَنِى في فِنائه المَأْنُوسِ أشْرقتْ مِن وراءِ ذاك لعَيْنَيْ ... هـ بِمَغْنَى حُسْنِ الجمالِ النَّفِيسِ فطوَى كَشْحَه على غُصَصِ الوَجْ ... دِ تُقىً بين طامعٍ ويَؤُوسِ ذكرت بمطلع هذه القصيدة، ما حكاه البهاء الحارثي في كشكوله، وهو أن تاجراً من تجار نيسابور، أودع جاريته عند الشيخ أبي عثمان الحيري، فوقع نظر الشيخ عليها، فعشقها، وشغف بها، فكتب إلى شيخه أبي حفص الحداد بالحال، فأجابه بالأمر بالسفر إلى الري؛ لصحبة الشيخ يوسف. فلما وصل إلى الري، وسأل الناس عن منزل الشيخ يوسف، أكثروا من ملامته وقالوا: كيف يسأل تقيٌّ مثلك عن بيت فاسق؟ فرجع إلى نيسابور، وقص على شيخه القصة، فأمره بالعود إلى الري، وملاقاة الشيخ يوسف المذكور. فسافر مرةً ثانية إلى الري، وسأل عن منزل الشيخ يوسف، ولم يبال بذم الناس له وازدرائهم به. فقيل له: إنه في محلة الخمارة. فأتى إليه، وسلم عليه، فرد عليه السلام، وعظمه. ورأى إلى جانبه صبياً بارع الجمال، وإلى جانبه الآخر زجاجةً مملوءةً من شيءٍ كأنه الخمر بعينه. فقال له الشيخ أبو عثمان: ما هذا المنزل في هذه المحلة؟ فقال: إن ظالماً شرى بيوت أصحابي، وصيرها خمارة، ولم يحتج إلى بيتي. فقال: ما هذا الغلام، وما هذه الخمر؟ فقال: أما الغلام فولدي من صلبي، وأما الزجاجة فخل. فقال: ولم توقع نفسك في محل التهمة بين الناس؟ فقال: لئلا يعتقدوا أني ثقةٌ، فيستودعوني جواريهم، فأبتلى بحبهن. فبكى أبو عثمان بكاءً شديداً، وعلم قصد شيخه. انتهى. وبهذه الحاية يظهر مغزى صدر هذه القصيدة، ويحصل الجمع بين ما في ظاهرها من المدح والقدح. والله أعلم. رجع. ومن شعر باقشير، وهو مختار من قصيدة له: أتعْذِلُ في لَمْياءَ والعُذْرث ألْيَقُ ... تعشَّقْتُها جهلاً وذو اللُّبِّ يعشَقُ ولا عيشَ إلاّ ما الصَّبابةُ شَطْرُه ... وصوتُ المَثانِي والسُّلافُ المُعتَّقُ وجَوْبُك أجْوازَ المَوامِي مُشمِّراً ... إلى المجدِ يطْوِيها عُذَافِرُ مُعْنِقُ وأن تَتهاداك النَّعائمُ مُعْلَماً ... تُضِلُّك أو تَهْدِيك بَيْداءُ سَمْلَقُ وأن تَرِدَ الماءَ الذي شَطْرُه دَمٌ ... فتسعَى برأيِ ابنِ الحُسَين وتُرْزَقُ وأسْوَغ ما بَلَّ اللَّهَى بَعْدَ عَيْمةٍ ... وأرْوَى من الماءِ الشَّرابُ المُرَوَّقُ فدَعْ لَجَجَ التَّعْنيفِ وابْكِ بذِي اللِّوَى ... دياراً كأنْها للتَّقادُمِ مُهْرَقُ أحالتْ مَغانِيها السِّنون فأصْبحتْ ... قِوَى لهَرِيق الوَدْقِ والرِّيح مَخْرَقِ وقفتُ بها والقلبُ بالوَجْدِ مُوثَقٌ ... كُفِيتَ الرَّدَى والجَفْنُ بالدمعِ مُطْلَقُ أُناشدُها بَيْنُونةَ الحيِّ عن جَوىً ... لقلبٍ إذا هَبَّ النَّسائمُ يخْفِقُ شَجٍ تتَصاباهُ الصَّبا وتلُوعُه ال ... جَنُوبُ ويشْجُوه الحَمامُ المُطَوَّقُ إلى اللهِ أفعالَ الليالِي بها وبِي ... لقد كنتُ منها دائمَ الدهرِ أفْرَقُ

فسِمْ سِمَةَ الصبرِ الجميلِ لعلَّها ... تُدِيلُ فإنْ لم تُغْنِ فالصبرُ أخْلَقُ فلو سلِمتْ من حادثِ الدهرِ دِمْنَةٌ ... تمَطَّى على هامِ الدهورِ الخَوَرْنَقُ ومن محاسنه، قوله في زيات بديع الجمال، وقد أجاد في التورية: أفْدِيه زَيَّاتاً رَنَا وانْثنَى ... كالبدرِ كالشَّادِنِ كالسَّمْهَرِي أحسن ما تُبْصِرُ بدرَ الدجَى ... يلعبُ بالمِيزانِ والمُشْترِي وقوله: كيف التخلُّصُ من حُبِّ المِلاحِ وقد ... تبادرَتْ لِقتالِي أعْيُنٌ سَحَرَهْ تغْزُو لَواحِظُها في العاشقِين كما ... تغْزُوا جيوشُ بني عثمانَ في الكَفَرَهْ أحمد بن محمد علي الجوهري جوهرٌ استخرجته أفكار الليالي من بحورها، والتقطته أبكار المعالي لنحورها. له ذاتٌ تخلصت من الكبر، وخلصت من الخيلاء خلوص التبر. وأما أشعاره فكلها قطعٌ من خالص الجمان، قلد بها صدور الأيام وشنف آذان الزمان. فإذا حدثت عن آثار قلمه، فارو الصحاح عن جوهري كلمه. وقد جئتك من كلماته بأنفس نفيس، فلا تذكر الدر بعدها إن كنت ممن يقيس. فمن ذلك قوله: ما شِمْتُ بَرْقاً سَرَى في جُنْحِ مُعْتكِرِ ... إلاَّ تذكَّرتُ بَرْقَ المَبْسَمِ العَطِرِ ولا صَبَوْتُ إلى خِلٍ أُسامِرُه ... إلاّ بكَيتُ زمانَ اللهوِ والسَّمَرِ شَلَّتْ يدٌ للنَّوَى ما كان ضائرَها ... لو غادرتْنا نُقضِّي العيْشَ بالوَطَرِ في خِلْسةٍ من ليالي الوصلِ مُسْرِعةٍ ... كأنما هي بيْن الوَهْنِ والسَّحَرِ لا نَرْقُبُ النجمَ من فَقْد النَّدِيمِ ولا ... نسْتعجلُ الخطْوَ من خوفٍ ومن حَذَرِ وأهْيَفَ القَدِّ ساقِينا برَاحتِه ... كأنه صنمٌ في هيكلِ البشَرِ مُنَعَّمين وشَمْلُ الأُنْسِ منتظِمٌ ... يربُو على نَظْمِ عِقْدٍ فاخرِ الدُّرَرِ فما انْتهيْنا لأمرٍ قد ألَمَّ بنا ... إلاَّ وبُدِّل ذاك الصَّفْوُ بالكَدَرِ لا دَرَّ دَرُّ زمانٍ راح مُخْتلِساً ... من بيْننا قَمَراً ناهِيك من قَمَرِ غزالُ إنْسٍ تحلّى في حُلَى بشَرٍ ... وبدرُ حُسْنٍ تجلّى في دُجَى شَعَرِ وغُصْنُ بانٍ تثَنَّى في نَقَا كَفَلٍ ... لا غصنُ بَانٍ تثنَّى في نَقَا مَدَرِ كأنَّ لَيْلِي نهارٌ بعد فُرْقتِه ... مِمَّا أُقاسِي به من شدَّةِ السَّهَرِ يا ليت شِعْرِيَ هل حالتْ مَحاسنُه ... وهل تغيَّر ما باللَّحْظِ من حَوَرِ فإن تكنْ في جِنانِ الخُلْدِ مُبْتهِجاً ... فاذْكُرْ مُعَنَّى الأمانِي ضائعَ النَّظَرِ وإن تأنَّسْتَ بالحُورِ الحسانِ فلا ... تَنْسَ الليالِي التي سَرَّتْ مع القِصَرِ وقوله: كيف أسْلُو مَن مُهْجَتِي في يديْهِ ... وفؤادي وإن رحَلتُ لدَيْهِ إن طلبتُ الشَّفاءَ من شفتيْهِ ... جادَ لي بالسّقامِ من جَفْنيْهِ إنَّ حِلْفَ السُّهادِ عينٌ رأتْهُ ... وجنَتْ وَرْدَ جَنَّتَيْ خَدَّيْهِ كلما رُمْتُ سَلْوةً قال قلبي ... لا تلُمْني على العكوفِ عليْهِ لستُ وحدِي مُتيَّماً في هَواهُ ... كلُّ أهلِ الغرامِ تصْبُوا إليْهِ وله مقاليع، سماها لآلىء الجوهري، منها قوله: كيف يرجو العِرْفانَ باللهِ مَن قد ... قيَّدتْه الذنوبُ طولَ حياتِهْ لا لَعَمْرِي أم كيف يُشْرِقُ قلبٌ ... صُوَرُ الكائناتِ في مِرْآتِهْ وقوله: إذا مضتِ الأوقاتُ من غيرِ طاعةٍ ... ولم تكُ مَحْزوناً فذا أعظمُ الخَطْبِ علامةُ مَوْتِ القلب أن لا ترَى به ... حَراكاً إلى تَقْوَى ومَيْلاً عن الذنبِ وقوله: إن حُزْتَ عِلْماً فاتَّخِذْ حِرْفةً ... تصُون ماءَ الوجهِ لا يُبْذَلُ

ولا تُهِنْه أن تُرَى سائلاً ... فشأْنُ أهلِ العلم أن يُسْئَلُوا وقوله: جانبِ اللهوَ والبَطالةَ واحْذَرْ ... مِن هوَى النفسِ إن أردتَ السَّعادَهْ واعبُد اللهَ ما استطعتَ بصدقٍ ... مَطْلبُ العارفين صِدْقُ العبادَهْ وقوله: قُلْ للذي يبْتغِي دليلاً ... من غير طُولٍ على المُهَيْمِنْ ما ذَرَّةٌ في الوجودِ إلاَّ ... فيها دليلٌ عليه بَيِّنْ وقوله في الغزل: ولقد سقتْنا البابِليَّةُ إذْ رأتْ ... أنَّا نُحدِّثُها لِنَسْبُرَ حُسْنَهَا خَمْراً أدارتْها العيونُ فأذْهَبتْ ... مِنَّا العقولَ ولم تُفارِقْ دَنَّهَا وقوله: لمَّا بدا البدرُ يجْلُو ... دُجَى الظلامِ وأسْفَرْ ذكرتُ وجهَ حبيبي ... والشيءُ بالشيءِ يُذْكَرْ وقوله: وأسْمَحُ الناسِ كَفّاً ... مَن لا يقولُ ويفعلْ وأعْذَبُ الشِّعْرِ بيتٌ ... يرْوِيه عَذْبُ المُقبَّلْ وقوله: لا تعذِلونِيَ في وقتِ السَّماع إذا ... طرِبتُ وَجْداً فخيرُ الناسِ مَن عَذَرَا حتى الجمادُ إذا غنَّتْ له طَرَبٌ ... أمَا ترى العودَ طَوْراً يقْطعُ الوَتَرَا وقف بعض أدباء عصره على هذين البيتين، فكتب إليه مقرظاً: وصل البيتان بل القصران فما ألفاظهما إلا الدر النظيم، فلا وحقك لم يفز بمثلهما العصران لا الحديث ولا القديم. فلله درك، ما أحفل درك، وأبهج في أسلاك المعاني درك. ولقد خاطبت بمعناهما عند سماعهما من عذل، وطربت لحسن سبكهما طرب من منح عند نشوته سبيك النضار وبذل. بل طرب لهما حتى الجماد، ومن ذا الذي سمعهما وما ماد. فالله تعالى يبقيك للأدب كهفاً يرجع إليه، وذخراً يعول عند اشتباه الألفاظ والمعاني عليه. وقد نظمت البارحة أبياتاً في العود، أحببت أن تلاحظها بملاحظتك لها السعود. وهي: وعُودٌ به عُودُ المَسَرَّةِ مُورِقٌ ... يُغَنِّي كما غَنَّتْ عليهِ الحمائمُ إذا حرَّكتْ أوتارَه كَفُّ غادَةٍ ... فسِيَّانِ من شوقٍ خَلِيٌّ وهائمُ يُرَنّحُ مَنْ يُصْغِي إليهِ صبابةً ... كما رَنَّحَتْهُ في الرِّياضِ النَّسَائِمُ فراجعه بقوله: يا مولاي الذي إن عد أرباب المجد عقدت عليه الخناصر، وإن ذكر أصحاب الفضل فلا يدانيه متقدم ولا معاصر. لو أمدني ابن العميد وأضرابه، والصاحب بن عبادٍ وأصحابه. ما استطعت تقريظ أبياتك الأبيات إلا منك، الممتنعات إلا عنك. فأنت فريد دهرك، ولا أقول في هذا الفن، ووحيد عصرك، وليس ذلك عن ظن. وقد دعتني داعية الأدب، إلى أن أقول إن العود يفوق آلات الطرب. فمدحته كما مدحته، ووصفته كما وصفته. وقلت: فاق كلَّ الآلاتِ في اللحْنِ عُودٌ ... حين تَعْلُو أصواتُهَا وتَرِنُّ فكأن الحَمام دهراً طويلاً ... علّمَتْهُ ألْحَانَهَا وهْوَ غُصْنُ قلت وهذا من قول أبي الفضل أحمد بن يوسف الطيبي: من أين للعُود هذا الصوتُ تأخذُه ... أطْرافُهُ بأطَاريفِ الأناشيدِ أظُنُّ حينَ نَشَا في الدَّوْحِ علَّمه ... سَجْعُ الحمائِمِ تَرْجِيعَ الأغارِيدِ ومثله قول معاصره الصفي الحلي: وعُودٍ به عاد السرورُ لأنهُ ... حَوى اللهوَ قِدْماً وهْوَ رَيَّانُ ناعمُ يُغَرِّبُ في تَغْرِيدِه فكأَنَّمَا ... يُعيدُ لنا ما ألَّفَتْهُ الحمائمُ ولبعضهم فيه: وعُودٍ له نوعانِ من لذَّةِ المُنَى ... فبُورِكَ جانٍ يجْتَنيهِ وغارِسُ تغنّتْ عليه وهْوَ رَطْبٌ حمامةٌ ... وغنَّتْ عليه قَيْنَةٌ وهْوَ يابسُ وأصله قول الوزير المغربي: وطُنْبُورٍ مَليحِ الشكلِ يحكي ... بنَغْمَتِهِ الصَّلِيبةِ عَنْدَلِيبَا رَوَى لما دَرَى نَغَماً فصيحاً ... حَواها في تقلُّبهِ قَضِيبَا كذا مَنْ عاشَرَ العلماءَ طِفْلاً ... يكون إذا نَشَا شَيْخاً أدِيبَا

ومن لآليه المذكورة قوله: لا تَجْهَلَنْ قَدْراً لنفسِكَ إنّها ... عُلْوِيَّةٌ تَرْقَى لما هو شِبْهُهَا والنفسُ كالمِرْآةِ يَصْقُلُهَا التُّقَى ... فَسْراً ويُظْلِمُ بالمعاصي وَجْهُهَا وقوله: في المَنْعِ والإعْطَاءِ كُنْ شاكِرَا ... واستقْبِلِ الكلَّ بوجهِ الرِّضَا فالخيرُ للعارفِ فيما جَرى ... ورُبَّ مَنْعٍ كان عينَ العَطا وقوله: إذا الْتَبَسَ الأمرانِ فالخيرُ في الذي ... تَرَاه إذا كلَّفْتَه النفسَ تَثْقُلُ فجانِبْ هَواها واطَّرِحْ ما تُرِيدُه ... من اللهوِ واللَّذَّاتِ إن كنتَ تعْقِلُ وهذا من قول الأحنف بن قيس: كفى بالرجل رأياً إذا اجتمع عليه أمران، فلم يدر أيهما الصواب، أن ينظر أعجبهما إليه، وأغلبهما عليه؛ فيحذره. وقريب منه قول أبي الفتح البستي: وإن همَمْتَ بأمرٍ ... ولم تُطِقْ تخْريجَهْ فقِسْ قياساً صحيحاً ... واحكُم بضدِّ النتيجَهْ ومن الحكم المروية عن أبي العلاء المعري: الخير كل الخير فيما أكرهت النفس الطبيعية عليه، والشر كل الشر فيما أكرهتك النفس الطبيعية عليه. ومن مقاطيعه في الغزل قوله: وظَبْيٍ نافرٍ ممَّا أراهُ ... يَذِلُّ لحُسْنِه الملِكُ المَهِيبُ عرفتُ مِزاجَه فانْقادَ طَوْعاً ... ومَن عرَف المِزاجَ هو الطبيب وقوله: وأهْيَفٍ كالسيفِ ألْحاظُه ... وقَدُّه العَسَّالُ كالسَّمْهَرِي أخْجَلنِي ثَغْرٌ له باسمٌ ... فاعْجَب لثَغْرٍ يُخْجِلُ الجَوْهَرِي وقوله: قال عَذُولِي إذْ رأَى ... أخَا الغزالِ الأعْفَرِ هذا الذي مَبْسَمُه ... فتَّتَ قلب الجَوْهَرِي وقوله: جرَح اللَّحْظُ خالَ خَدِّ غُلامٍ ... فضَح الْبَان قَدَّه باعْتدالِهْ فإذا ثار طاعِناً لفؤادِي ... قال خُذْها من طالبٍ ثَارَ خَالِهْ وقوله: تذكَّرتُ إذْ الحَجيجُ بمكَّةٍ ... ونحن وقوفٌ ننْظُر الرَّكْبَ مُحْرِمَا فصرْتُ بأرضِ الهندِ في كل مَوْسمٍ ... يُجدِّد تَذْكارِي لقَلبيَ مأْتَمَاَ وقوله: ولو أنَّ أرضَ الهنْدِ في الحُسْنِ جَنَّةٌ ... وسُكَّانَها حُورٌ وأمْلِكُها وَحْدِي لَما قِسْتُها يوماً بَبطْحاءِ مكةٍ ... ولا اخترتُ عن سُعْدَى بديلاً هَوى هندِ وقوله: وقالوا بالْمَخَا خيرٌ كثيرٌ ... فقلتُ صدقتمُ وبها الأمانُ ولكن حَرُّها يشْوِي البَرايا ... ولولا الرِّيقُ لاحْترق اللِّسانُ وقوله: شبَّهتُ أمواجَ بحرِ الهندِ حين رسَتْ ... به السَّفائنُ من هندٍ ومن صِينِ بأسْطُرٍ فوق قِرْطاسٍ قد انْتسقَتْ ... والسُّفْنُ فيه عَلاماتُ السَّلاطينِ وقوله: إذا تكنْ ناقِداً للرجالِ ... وصاحبْتَ مَن لا له تعرفُ فخالِفْه في بعضِ أقوالِه ... فإنك عن خُلْقهِ تكشِفُ أحمد بن عبد الله بن أحمد ابن عبد الرءوف بن يحيى الواعظ لوذعيٌّ وجه أدبه سافر، وخبر نباهته فيما بين الخافقين مسافر. له كلف بالفنون وعناية، مع ديانة ارتدى بردائها وصيانة. فمجده مشنف من عقد الثريا، ولديه من نسج السجية ما يهزأ ببرد الروضة الريا. وأما أدبه فله رواء الوجوه الحسان، وله شعرٌ أفرغ في قالب الحسن والإحسان. فمنه قوله من نبوية: يا صاحبِيَّ حَقِّقا مِيعادِي ... وانْطلِقا لأخْصَبِ الوِهادِ ولاحِظاني في السُّرَى فإنني ... نِضْوُ هوىً مُقرَّحُ الأكْبادِ قد ترك الجَفْنَ مَفازةً فلا ... يضْوِي إليه وافدُ الرُّقادِ وضَلَّ شَرْخُ العمرِ في بياضٍ ... اشْرَق من أشِعَّةِ الأفْوادِ فعرِّجا بمَسْرحِ السُّرْبِ الذي ... ليس له مَرْعىً سوى فؤادِي

وخفِّضا عليكما وخَلِّيا ... دمعِي السَّفِيحَ رائِحاً وغادِي يرْمُل في جَرْعائِها بعَسْفِها ... لا يعْترِيه وَهَنُ الوِخادِ ويجعل الحصْبَا عَقِيقاً أحمراً ... من النَّجِيعِ الأحمرِ الفِرْصادِ ويترك القاع له أعِقّةٌ ... يكْرَع منها كلُّ صَبٍ صادِي وزَفْرةٌ قد غُرِست بمُهْجتِي ... وطَلْعُها في لِمَّتَيَّ بادِي تتابعتْ حتى يُخالُ أنني ... من فَرَقٍ لِمُنْجِدٍ أُنادِي أذابت القلبَ سِوى ما أحْرزُوا ... ثم ثَوَى في وسَط الفؤادِ وعاذلٍ يعبثُ بي لَوَ انَّه ... يُمازِجُ التْشكيكَ باعْتقادِ كأنما يرقُم في كوثرٍ ما ... أفْرغ في الفؤاد من وِدادِ لا يقبلُ التَّعْنيفَ في الهوى سِوَى ... مَ، يقْتنِي غيرَ هوَى سُعادِ واحَرَّ قلباه وبَرْدَ المُشتهَى ... هيْهات كيف مَجمَعُ الأضْدادِ ذادُوا السيوفَ عن وُرودِ هائمٍ ... زادتْ على الأنْواءِ للُورَّادِ ما حَنَّ طَرْفٌ جاد إذ قد ضَنَّ نَوْ ... ءُ الطَّرْفِ أن يحمْي عن المِبْرادِ هيهات لم يبرحْ يرُوم نَظْرةً ... من حضرةِ الإسعافِ والإسْعادِ من حضرةِ المختار طه أصْلِ مَب ... نَى الكونِ في التَّعيين والإيجادِ مِن نُورِ ذي العرشِ الرفيعِ كُنْهُه ... تواترٌ قد جاء بالآحادِ في قولِ لولاك إشارةٌ ولا ... خَفاءَ للمُريدِ في المُرادِ يدْرِيه مَن يرى الشُّئونَ جُمِّعتْ ... في مُفْردٍ مجتمعِ الإفْرادِ فآدمُ الآبا وغيرُه له ... فرعٌ على معنىً جَلِيِّ الرَّادِ وذاك معنَى أنه أصلُ الوجو ... دِ أوّلٌ في البَسْطِ بالأعدادِ فاعْجَبْ له خَتْماً نَبِيّاً أوَّلاً ... قد جاء بالتحقيقِ في الإسْنادِ الواضحُ الحقَّ الصَّحيح حَسْبَما ... حَرَّره أئمَّةُ الإرشادِ وبعد أن زان جمالُ وجههِ ... وجودَه جاء الكمالُ هادِي فقام بالتَّوحيدِ داعِياً له ... وراقَب المُدْعَوْنَ بالمِرْصادِ ومَهَّد الشرعَ القديم للورَى ... مُبَيَّنَ المِيعادِ والإيعادِ وشَتَّ شَمْلَ الكفرِ بانْتظامِنا ... في سِلْكِه كالعِقْد في الأجْيادِ فابْتَهَج الكونُ بن نَضارةً ... وصدَحتْ في دَوْحِها الشَّوادِي وخفَقتْ ألْوِيةُ النصرِ على ... سكُونِ ريح الكفرِ والأعادِي وزَمْزَم الرعدُ على مَسْرَى الصَّبا ... وشقَّتِ السُّحْبَ ظُبَا الغَوادِي وأضْحك الرَّوضَ بُكاؤُها على ... مَسرَّةِ النِّتَاجِ والإيلادِ وأحْيتِ الأنْوا مَواتَ الجَدْبِ مِن ... مُرْتَبعِ التِّلالِ والوِهادِ ونُتِجتْ من صُلْبهِ أئمَّةٌ ... قادوا إلى الإيمان والرَّشادِ مِن مَظْهر الزَّهراء ذات الفَخْرِ في ... حظائر التَّقديس والإسْعادِ مِن حَيْدرٍ عليٍ الطُّهْرِ أمي ... ر المؤمنين سيِّد الأمجادِ قد أعْرَضوا عمَّا به الناسُ عُنُوا ... وصرَفوا الوجْهَ إلى المَعادِ تزهَّدوا وذاك مِن صِفاتِهم ... ذاتاً وهل يخْفَى شَمِيمُ الجادِي قد شرفوا على الورَى فحَسْبُهم ... نَصُّ الكتابِ عن حَصا التَّعْدادِ يا سيِّدَ الرُّسْل ويا خِتامَ من ... قد خُصِّصوا بوافرِ الأيادِي يا خيرَ مبعوثٍ على ظهرِ الثَّرَى ... بسَيْبه أخْضبتِ الأيادِي

يا مَن هو الأَوْلى بكلِّ مُؤْمنٍ ... من نفسهِ من سائرِ العبادِ أحْنتْ عليَّ حَوبةٌ جَنيْتُها ... قد جَرَّعتْني غُصَصَ البِعادِ وعرَّضتْني هدَفاً لأسْهُمٍ ال ... إعراضِ لا أخلُو من العَوادِي وأخْلَقتْ صَبْرِي وجَدَّ مَطْمَعي ... في أَن أُرَى في هذه النوادِي وضاق ذَرْعي فذَرِيعتي إلى ... رِحابِك الفَيْحاء شَوْقٌ حَادِي فحُلَّ عَقْدِي يا مَلاذِي مثلَما ... حَللْتَ عَقْدَ العُسْرِ بالإنْقادِ وأطْلِق القَيْدَ المُحيطَ عَلَّنِي ... في سُوحِكم أنْفَكُّ عن قِيادِي فأنت كَهْفُ المُلْحِفِين في الوَرى ... وغيرِهم من زُمَرِ القُصَّادِ وأنت بابُ اللهِ كلُّ مَن أتى ... مِن غيرهِ يُسامُ بالإبْعادِ فمن دنَا مِن سُوحِه مُلْتمِساً ... بادرَهُ العفوُ إلى المُرادِ وعَمَّه الفضلُ فقال شاكراً ... قد كثُرتْ ذخائرُ الفُؤادِ صلَّى عليك اللهُ ما تَلأْلأتْ ... صِفاتُك البِيضُ على السَّوادِ محمد بن أحمد المنوفي هو في المقام خليفة الشافعي، وكلامه في العلوم كافي المهم وشافي العي. وكان آيةً في قوة الحافظة، قائماً في الإفادة بوظيفتي المثابرة والمحافظة. ودخل الروم فقام الدهر بحقوقه، ولم يشب بره بعقوقه. فاخضرت بالإدرارات أكنافه، وتجملت أنواع رعيه وأصنافه. إلا أنه عارضه الأجل في طريقه، وأغصته إذ ساغت له أمانيه بريقه. فقبضه الله بالشام إليه، فلا زالت رحمة الله منهلة عليه. قال سبطه ابن معصوم: ولا يحضرني الآن من شعره غير ما رأيته منسوباً إليه بخط سيدي الوالد: عَتبْتُ على دهرِي بأفعالِه التي ... أضاقَ بها صدرِي وأضْنَى بها جِسْمِي فقال ألم تعلمْ بأن حَوادثِي ... إذا أشْكلتْ رُدَّتْ لمن كان ذا عِلْمِ وهذان بيتان لا يشيد مثهلما إلا من شاد ربوع الأدب، وسارع لاقتناص شوارد القريض وانتدب. وهما نموذج براعته وبلاغته، واقتداره على سبك إبريز الكلام وصياغته. وقد صدرتهما وعجزتهما، فقلت: عَتبْتُ على دهرِي بأفعالِه التي ... بَراني بها بَرْيَ السِّهامِ من الهَمِّ ليصْرِف عني فَادحاتِ نوائبٍ ... أضاق بها صدْرِي وأضْنَى بها جسْمِي فقال ألم تعلمْ بأن حَوادثِي ... وأخْطارَها اللاتي تُلِمُّ بذِي الفَهْمِ يضِيقُ بها ذُو الجهلِ ذَرْعاً وإنما ... إذا أشْكلتْ رُدَّتْ لمن كان ذا عِلْمِ ولده عبد الجواد فاضل البيت بعد أبيه النبيه، وأشبه من تصدر في مركز العزة فقيد المثيل والشبيه. اشتملت عليه دولة آل الحسن، اشتمال الفم على اللسان، والمقلة على الإنسان. وقامت فضائله في رياض محامدها تلو آية البيان، بما تردد بين السمع والعيان. وهو أديبٌ عرف بكمال الفطنة من حين المهاد، وله خلالٌ كلها روضٌ قريب العهد من صوب العهاد: فتىً صَفَتْ من القَذَى مَواردُهْ ... وانْتثرتْ في رَوضِه فَرائدُهْ مَبْذُولةٌ لوفدِه فوائدُهْ ... شاهدةٌ بفضلهِ مَشاهِدُهْ منظومةٌ من شُكْرِه قلائدُهْ ... يحمِدُهُ وَلِيُّه وحاسدُهْ وله شعر حسن الأسلوب، يرف على مائة ريحان القلوب. فمنه قوله، من قصيدة يمدح بها الأمير محمد بن فروخ أمير الركب الشامي. مستهلها: لأيِّ كَمالٍ من كمالِك أذْكُرُ ... وأيِّ جميلٍ من جميلِك أشْكُرُ ألِلسَّابقِ الآتِي به أنت لاحقاً ... أم اللاحقِ التَّالي له يتكرَّرُ تحيَّرتُ في هذا الكمالِ ولم أزَلْ ... أنا والنُّهَى في ذا البَها نتحيَّرُ جَمعتَ كمالاً في سِواك مُفرَّقٌ ... وأنت به فَرْدٌ وجمعُك أكثرُ

رفعتَ لِواءَ الدِّين حتى خَفْقتَها ... من الدُّونِ يوم النصرِ بالفتْحِ يظْهَرُ ألسْتَ الذي يوم ابنِ مَعْنٍ ونجْلِه ... تأزَّرْتَ مجداً عنه غيرُك يُزْجَرُ وصَوَّمْتَه فيه عن الفِطْرِ بالقَنَا ... وقلبُ السِّوَى منها بها يتفَطَّرُ ويمَمْتَ إذ يمَّمتَ للنصرِ مُسْرِعاً ... وجوهاً تَراها في الوَطِيسِ تَعفَّرُ وصَلَّيْتَهم من ذلك اليومِ مَشْهداً ... تأمَّمْتَ صَفّاً فيه أنت المُكبِّرُ وأوْردتَ منهم مَعْشراً مَشرعَ الوَغَى ... وأصْدرْتَهم والسيفُ بالدَّمِ يقْطُرُ فما السُّمْرُ إلاّ في الوَغَى كغُصونِه ... بهَامِ العِدَى سُمْراً من البِيض تُثْمِرُ ولا عجَبٌ هذا فآيُ محمدٍ ... تَدِينُ لها أهلُ الدُّنا حين تُذْكَرُ هو البطلُ الحامِي الذِّمارَ ومَن به ... تُهَدُّ حصونُ المارِقين وتُهْدَرُ فيا أيُّها الشَّهْمُ الهِزَبْرُ الذي إذا ... دَعاهُ امْرُؤٌ أغْناه إذْ هو مُفْقَرُ إليَّ فمالي غيرَ سُوحِك مُنْجِدٌ ... أمَسُّ بوجْهِي بابَه وأُعفِّرُ وقد ضاقتِ الدنيا عليَّ بأسْرِها ... وضِقْتُ بها ذَرْعاً وقَفْرِيَ مُقْفِرُ وأنت لنا غَيْثٌ إذا شَحَّ مَاطِرٌ ... وماسَحَّ يَرْوِي المُمْطَرين ويُمْطِرُ وأنت الذي قد عَمَّ وَاكِفُ كَفِّهِ ... بوَزْنِ نُضارٍ لا بمُزْنٍ يُدَرَّرُ وسائله نيلاً وسائله ترى ... مَقاصد عمَّن رامَها ليس تقصُرُ إليَّ وفرِّج ما انْطوَى في جَوانِحِي ... من الهمِّ حتى بعدُ لا أتأمَّرُ فكم لك في يومِ الوغَى من مَعارجٍ ... ومن فُرَجٍ فَرَّجْتها حين تَنْضُرُ وكم لك في الحُجَّاجِ آيٌ جميلةٌ ... يُقصِّر عنها في مُنَى الطَّوْلِ قَيْصَرُ وكم لك في ساداتِ مكةَ من يَدٍ ... ومن حسَناتٍ فضلُها ليس يُحْصَرُ وماذا عسى أُحْصِي صفاتِك والورَى ... بأجْمعِهم عن وَصْفِ فضلِك تقصُرُ ومن شعره قوله: أتزعُم أنك الخِدْنُ المُفدَّى ... وأنت مُصادِقٌ أعْدايَ حَقَّا إليَّ إليَّ فاجْعلنِي صديقاً ... وصادِقْ مَن أصادقُه مُحِقَّا وجانِبْ مَن أُعادِيه إذا ما ... أردتَ تكونُ لي خِدْناً وتَبْقَى وهو ينظر إلى قول الآخر: إذا صافَى صديقُك مَن تُعادِي ... فقد عاداك وانْفصلَ الكلامُ وله رسالة في شرح البيتين المشهورين: مِن قِصَرِ الليلِ إذا زُرْتِنِي ... أشْكُو وتشْكِين من الطُّولِ عَدُوُّ عينيْك وشانِيهما ... أصْبَحَ مَشْغولاً بمشْغولِ أحمد نظام الدين ابن الأمير محمد بن نصير الدين بن إبراهيم بن معصوم هذا النظام، به تم نظام النثار والنظام. فهو في حوزة المعالي ذو قدرٍ معظم، وفي صنعة النظم صاحب درٍ منظم. طلاع أنجدةٍ للمجد بواري زنده، مصقول شبا الفكر كالسيف مع فرنده. تبلغ بالفضل غاية الاشتهار، وبدا كما تبدو الشمس للمبصر في وسط النهار. حتى عشقت أوصافه الأسماع، وتوفرت للتملي من مشاهدته الأطماع. فاستدعاه الملك شاهنشاه صاحب حيدر أباد، فدخل إليه الديرة الهندية، متهيئاً لأن يتفيأ كما يستحقه ظلال دولته الندية الندية. فلما رآه الملك اعتد به واغتبط، وأكرم نزله بمواهبه فارتبط. ثم أملكه بنته، ورعى غرسه ونبته. فكثر رياشه، وحسن معاشه، وتولته العناية فعظم انتعاشه. فأقام وسوق الفضل به نافق، وحظ الكرام بملاحظته لهم موافق. إليه مطايا الأمل تزجى، ومن يده سحب المكارم ترجى. حتى ولعت بالملك يد الهلك، واستولى الميرزا أبو الحسن بعده على الملك. عند ذلك صدمه الزمن المتقلب، وانقلب عليه الدهر المتغلب. فقفبض عليه أبو الحسن وسجنه، وخلاه رهن قيده وشجنه.

ثم قبضه الله إليه، فانقبضت القلوب حزناً عليه. فتباً لدهرٍ لم يف بضمانه، ولم يصدق بأمانه. فيسترجع معاره، ويشن مغاره. وهكذا الدنيا دول، وما يغني الحول فيها ولا الخول. وقد وقفت له على أشعار نقشها فكره وزخرفها، وحبر وشيها في بلاد الهند وفوفها. فأثبت منها ما يعظم وقعه عند الاختبار ولا يقع عليه النظر إلا وقع عليه الاختيار. فمن ذلك قوله من قصيدة: مُثِيرُ غرامِ المُسْتهامِ ووَجْدِهِ ... وَمِيضٌ سرَى من غَوْرِ سَلْع ونَجْدِهِ وبات بأعْلَى الرَّقْمتيْن الْتهابُه ... فظلَّ كئيباً من تذكُّرِ عَهْدِهِ يحِنُّ إلى نحو اللِّوَى وطُوَيْلعٍ ... وبَاناتِ نَجْدٍ والحِجازِ ورَنْدِهِ وضَالٍ بذات الضَّالِ مُرْخٍ غُصونَه ... تفيَّأه ظَبْيٌ يَميِيسُ ببُرْدِهِ يَغار إذا ما قِسْتُ بالبدرِ وَجْهَه ... ويغضَب إن شبَّهتُ وَرْداً بخدِّهِ كثيرُ التَّجنِّي ذو قَوامٍ مُهَفْهَفٍ ... صَبِيحُ المُحيَّا ليس يُوفِي بوَعْدِهِ مَلِيحٌ تَسامَى بالمَلاحةِ مُفْرَداً ... كشمسِ الضُّحى كالبدرِ في بُرْجِ سَعْدِهِ ثَناياه بَرْقٌ والصَّباحُ جَبِينُه ... وأما الثُرَيَّا قد أُنِيطتْ بِعقْدِهِ فمِن وَصْلهِ سُكْنَى الجنانِ وطِيبُها ... ولكنْ لَظَى النِّيرانِ من نارِ صَدِّهِ تَراءَى لنا بالجِيدِ كالظَّبْيِ تالِعاً ... أسارَى الهوى مِن حُكْمِه بعضُ جُنْدِهِ روَى حُسْنَه أهلُ الغرامِ وكلُّهم ... يَتِيهُ إذا ما شاهدوا ليلَ جَعْدِهِ يُعَنْعِنُ علمَ السحرِ هاروتُ لَحْظِه ... ويَرْوِي عن الرُّمَّانِ كاعبُ نَهْدِهِ مَضاءُ اليَمانِيَّاتِ دون لِحاظِه ... وفِعْلُ الرُّدَيْنِيَّاتِ من دون قَدِّهِ إذا ما نَضا عن وجهِه البدرِ حُجْبَه ... صَبا كلُّ ذي نُسْكٍ مُلازِمُ زُهْدِهِ وأبْدَى مُحَيّاً قاصِراً عنه كلُّ مَن ... أراد له نَعْتاً بتَوْصِيفِ حَدِّهِ هو الحُسْن بل حسنُ الوَرى منه مُجْتدىً ... وكلُّهم يُعزَى لجَوْهرِ فَرْدِهِ وما تفْعل الرَّاحُ العَتِيقةُ بعضَ ما ... بمَبْسَمِه بالمُحْتسِي صَفْوُ وِرْدِهِ وقوله في مليح اعتل طرفه: يا جَوْهراً فَرْداً عَلاَ ... من أين جاءَك ذا العَرَضْ وعلى مَ طَرْفُك ذا المري ... ضُ أعَلَّهُ هذا المَرَضْ عهدِي به مِمَّا يُصِي ... بُ فكيف صار هو الغَرَضْ ها قلبيَ المَعْمودُ نُصْ ... بٌ للنَّوائب يَرْتكِضْ فاجْعَلْه يا كُلَّ المُنَى ... بَدَلاً لِمَا بك أو عِوَضْ فاسْلَمْ مَدَى الأيَّام يا ... ذَا الحُسْنِ ما بَرْقٌ وَمَضْ فمُذِ اعْتلَلْتَ أخا المَها ... في الطَّرْفِ جَفْنِي ما غَمَضْ ونَحِيلُ جسمي مُذْ وَنَيْ ... تَ وحَقِّ عَيْنِك ما نَهَضْ أنتَ المُرادُ وليس لي ... في غيرِ وَصْفِك من غَرَضْ وله مشجرا: خِلْتُ خالَ الخدِّ في وَجْنتِهِ ... نُقْطةَ العَنْبَرِ في جمرِ الغَضَا دامتِ الأفراحُ لي مُذْ أبْصَرتْ ... مُقْلتِي صُبْحَ مُحَيّاً قد أضَا يتمنَّى القلبُ منه لَفْتةً ... وبهذا اللَّحْظِ للعينِ رِضَا جاهلٌ رام سُلُوّاً عنه إذْ ... حظَر الوصلَ وأوْلاني الفَضَا هامتِ العينُ به لمَّا رأتْ ... حُسْنَ وجهٍ حين كُنَّا بالإِضَا وقال في الغزل: سلوا بطن مَرٍ والغَمِيمَ ومَوْزعَا ... متى اصْطافَها ظَبْيُ النَّقَا وترَبَّعَا وهل حَلَّ من شَرْقِّيها أرضَ هَجْلَةٍ ... وقد جادَها مُزْنٌ فسال وأمْرَعَا

سقَى تلك من نَوْءِ السِّماكيْن جَحْفَلٌ ... سحائب غَيْثٍ مَرْبَعاً ثم مَربَعَا تَظلُّ الصَّبا تحْدُو بها وهْي نُعّمٌ ... وتُنْزِلُها سَهْلاً وحَزْناً وأجْرَعَا فتلك مَغَانٍ لا تزال تحُلُّها ... خَدَلَّجةُ الساقْين مَهْضومةُ المِعَى رَبِيبةُ خِدْرِ الصَّوْنِ والتَّرَفِ الذي ... يزِيد على بَذْلِ اللَّيالِي تمنُّعَا تروَّتْ من الحسن البَهِيِّ خُدودُها ... وقَامَتُها كالغُصْنِ حين تَرَعْرَعَا قَطُوف الخُطَا مثلُ القَطَا حين ما مَشَتْ ... تقومُ بأرْدافٍ يُحَاكينَ لَعْلَعَا وكتب إلى محمد الحشري الشامي رقعةً، صورتها: يا مولانا عمر الله بالفضل زمانك، وأنار في العالم برهانك، سمحت للعبد قريحته، في رئم هذه صفته، بهذين البيتين: تَراءَى كظَبْيٍ خائفٍ من حبائلٍ ... يُشِيرُ بطَرْفٍ ناعِسٍ منه فاتِرِ وقد مُلِئتْ عيْناه من سُحْبِ جَفْنِه ... كنَرْجِسِ رَوضٍ جادَه وَبْلُ مَاطِرِ فإن رأى المولى أن يجيزهما ويجيرهما من البخس، فهو المأمول من خصائل تلك النفس، وإن رآهما من الغث فليدعهما كأمس. ولعل الاجتماع بكم في هذا اليوم قبل الظهر أو بعد العصر، لنحث من كؤوس المحادثة ما راق بعد العصر. والمملوك كان على جناح ركوب، بيد أنه كتب هذه البطاقة وأرسلها إلى سوق أدبكم العامرة التي ما برح إليها كل خير مجلوب. فأسْبِل السِّتْرَ صَفْحاً إن بَدا خَلَلٌ ... تهْتِك به سِتْرَ أعداءٍ وحُسَّادِ فكتب إليه بهذين البيتين بديهة: ولرُبَّ مُلْتَفتٍ بأجْيادِ المَهَا ... نحوِي وأيْدِي العِيسِ تنْفُث سمَّهَا لم يَبْكِ من ألَمِ الفِراقِ وإنما ... يسْقِي سيوفَ لِحاظه ليسُمَّهَا ثم نظم المعنى بعينه، فقال: ولقد يُشير إليَّ عن حَدَقِ الْمَهَا ... والرُّعْبُ يخْفِق في حَشاهُ الضَّامِرِ أسْيانَ يفْحَص في الحبالِ كأنه ... ظَبْيٌ يُخبِّط في حَبالةِ جاذر غشَّت نواظِرَه الدموعُ كأنها ... ماءٌ ترقْرَق في مُتُونِ ضَوامِرِ رقَّتْ شمائلُه ورَقَّ أدِيمُه ... فتكاد تشْربُه عيونُ النَّاظِرِ وقال أحمد الجوهري، معارضاً له: وظَبْيٍ غَرِيرٍ بالدَّلالِ مُحجَّبٍ ... يرى أن سَتْرَ العَيْن فَرْضُ المَحاجِرِ رَمانِي بطَرْفٍ أسْبَلَ الدمعَ دونه ... لِئلاَّ أرى عينيْه من دون ساتِرِ ولما وقف أدباء اليمن على بيتي النظام، تجاروا في مضمارهما بسوابق النظام. فقال السيد حسن الجرموزي: ورِئْمٍ فلا أصلُ المَحاسنِ فَرْعُه ... تبدَّى كبدرٍ في الدجَى للنَّواظِر سَبانِي بجَفْن أدْعج ماج ماؤُه ... فطرَّز شُهْبَ الدَّمْع ليلَ الغدائرِ وقال حسن بن علي باعفيف: وخِشْفٍ عليه الحسنُ أَوْقفَ حُسْنَه ... له ناظرٌ يحْمِيه عن كلِّ ناظرِ نظرتُ إليه ناثراً دُرَّ دَمْعِه ... فَنظَّام فكرِي هام في دُرِّ ناثِرِ وقال عبد الله الزنجي: وطَرْفٍ له فعلُ السيوفِ البَواتِرِ ... يُصِيب به مُسْتَلْئِما كلَّ حاسِرِ رمَى ورَنَا فانْهَلَّ بالدمعِ جَفْنُه ... كدُرٍ حَواه سِمْطُ نظمِ الجواهرِ وقال السيد علي بن النظام الناظم: وللهِ ظَبْيٍ كالهلالِ جَبينُه ... رَمانِي بسهمٍ من جُفونٍ فَواتِرِ جرَتْ بمآقِيه الدموع كأنّها ... مِياهُ فِرِنْدٍ في شِفاهِ بَواتِرِ ومن نظم النظام في الحماسة: إلى كم تقاضَاني الظُّبا وهْي ظامِيَهْ ... وتشْكُو العَوالِي جوعَها وهْي طاوِيَهْ وتُشْجِي الجِيادُ الصافِناتُ صَهِيلُها ... مُتَيَّمَ وَقْعاتٍ على الدَّمِ طافيَهْ فمن مُبْلِغٍ عني نِزاراً ويَعْرُباً ... أولئك قومٌ أرْتَجيهم لِمَا بِيَهْ

حُماةٌ كُماةٌ قادةُ الخيلِ في الوَغَى ... ضَراغِمُ يومَ الرَّوْع تَلْقاك ضاريَهْ بَهالِيلُ في الْبأْساءِ يومَ تَناضُلٍ ... إذا ما الْتَقى الجَيْشان فالعارَ آبِيَهْ ثِيابُهمُ من نَسْجِ داوُدَ سُبَّغاً ... وأوْجُههمْ تحكي بدوراً بِداجِيَهْ سَمَوْا لدِرَاكِ المجدِ والثأرِ والعُلَى ... ورَوّوا قَناهُم من دِما كلِّ طامِيَهْ وسارُوا على مَتْنِ الخُيولِ وسَوَّرُوا ... بذِي شُطُبٍ عَضْبٍ وسَمْراءَ عالِيَهْ عَلاءٌ لهم لم يبْرحُوا في حِفاظِه ... مدَى الدهرِ والأزْمانُ عنه مُحامِيَهْ فهم سادةُ الأقْوامِ شَرْقاً ومغرِباً ... وبَرّاً وبحراً والقُرومُ المُحاميَهْ فلا غَرْوَ أن كان النبيُّ محمدٌ ... إليهم لَيُنْمَى في جَراثيمَ سامِيَهْ به افْتخروا يوم الفَخارِ وقَوَّضُوا ... بِناءَ العُلَى عن كلِّ قومٍ مُضاهِيَهْ به كَسَرُوا كِسْرَى وفَلُّوا جُموعَه ... لكثْرتها في العَدِّ لم تدْرِ ما هِيَهْ ونافُوا على الأطْوادِ عِزّاً ورِفْعةً ... وزادُوا على الآسادِ بأْساً وداهِيَهْ بَلاغاً صريحاً واضحاً كاشفاً له ... قِناعَ المُحيَّا فَلْيُلبِّينَ داعِيَهْ وإيَّاهمُ والرَّيْثَ عن نَصْرِ خِدْنِهمْ ... ولا يأْمَنُوا الدنيا فليستْ بصافِيَهْ وقُلْ لهمُ يسْرُون فوق جِيادِهمْ ... خَفايَا كما تمْشِي مع السُّقْمِ عافيَهْ ولده السيد علي صاحب السلافة القول فيه أنه أبرع من أظلته الخضرا، وأقلته الغبرا. وإذا أردت علاوةً في الوصف قلت: هو الغاية القصوى، والآية الكبرى. طلع بدر سعده فنسخ الأهلة، وانهل سحاب فضله فأخجل السحب المنهلة. أخبرني السيد علي بن نور الدين بمكة المشرفة، قال: كان رفيقي في التحصيل، وزميلي في التفريع والتأصيل. والصبا ينزع أواخينا، والرغبة في الاستفادة تعقد في البين تواخينا. وكلانا في مبدأ صوب القطر من الغمامة، وباكورة خروج الزهرة من الكمامة. فكنت أشاهد من حذقه الغاية التي لا تدرك، ومن غرائب صنائعه المنزلة التي لا تشرك. هذا وليلُ الشبابِ الْجُونِ مُنْسَدِلٌ ... فكيف حين يجيءُ الليلُ بالسُّرُجِ ثم فارق البيت والمقام، ودخل الهند فنهض حظه بها وقام. وهو الآن متقلد خدم ملكها الشريفة، ومتفيءٌ في عهده ظلال النعم الوريفة. وقد ألف تآليف تهفو إليها الأفكار، وتجنح إليها جنوح الأطيار إلى الأوكار. منها كتابه المسمى بسلافة العصر، التي زف بها البكر ابنة الفكر، في هودجها الفرج، وجلبابها الأرج. تباطأ عنها السوابق، وتتطأطأ عن سموها السوامق. وجاء بها أصفى من ماء الشباب في غضارته، في زمن لم يبق منه إلا رديء عصارته. إلا أن الظنون مرجمة، وألسنة الانتقاد عنها مترجمة، والأقوال فيها كثيرة، والعبارات للازدراء مثيرة. وذلك لما بدا منه من أغراض، كان حقها أن تعامل بالإعراض. فهو في إيراد تلك الفصول، معرض بنفسه إلى وصمة الفضول. والحق أنه أحسن ماشا، وأبدع فيما أنشا ووشى. وكم أورد من نادرةٍ مستظرفة، وأبدع من فائدةٍ مستطرفة. وهو في الأدب بحرٌ ماله ساحل، إذا قصد أن يدنو منه طيف الفكر أصبح دونه بمراحل. وله شعر أرق من كل رقيق، وأحق بالقبول من غيره عند التحقيق. فمنه قوله من خمرية: لَمعتْ ليلاً فقالوا لَهَبُ ... وصفَتْ لَوْناً فقالوا ذهَبُ وإذا ما انْدفقَتْ من دَنِّها ... في الدُّجَى قالوا طِرازٌ مُذْهَبُ قهوةٌ رَقَّتْ فلولا كأسُها ... لم يُشاهِد جِرْمَها مَن يشْربُ وتراها في يدِ السَّاعي بها ... كوكباً يسْعَى بها لى كوكبُ ألْبَسَتْها الكأسُ طَوْقاً ذهَباً ... وحَباباً بالَّلآلِي الْحَبَبُ عجِبُوا من نُورِها إذْ أشرقتْ ... وشَذاها من سَناها أعْجَبُ

بِنْتُ كَرْمٍ كَرُمتْ أوصافُها ... أيُّ نَبْتٍ قام عنها العِنَبُ وقوله معارضاً قصيدة أبي العلاء المعري، التي أولها: هاتِ الحديثَ عن الزَّورَاءِ أوهِيتَا ... ومُوِقَدِ النَّارِ لا تكْرَى بتَكْرِيتَا وقصيدته هي هذه: يا حادِيَ الظُّعْنِ إن جُزْتَ المواقِيتَا ... فحَيِّ مَنْ بِمِنىً والْخَيْفَ حُيِّيتَا وسَلْ بجَمْعٍ أَجْمعُ الشَّمْلِ مَلتئِمٌ ... أم غالَه الدَّهرُ تفْرِيقاً وتشْتيتَا والْثَم ثَرَى ذلك الوادي وحُطّ به ... عن الرِّحالِ تنَلْ يا صاحِ ما شِيتَا عهْدِي به وثَراهُ فائحٌ عَبِقٌ ... كالمِسْكِ فتَّتَه الدَّارِيُّ تفْتِيتَا والدُّرُ ما زال من حَصْبائِه خَجِلاً ... كأنَّ حَصْباءَه كانت يَواقيتَا يؤُمُّه الوَفْدُ مِن عُرْبٍ ومن عجمٍ ... ويسبُرون له البِيدَ السَّبارِيتَا يطْوُون عُرْضَ الليالِي طُولَ ليلِهمُ ... لا يهْتدون بغير النَّجْمِ خِرِّيتَا من كلِّ مُنْخَرِق السِّرْبالِ تحسَبُه ... إذا تَسَرْبَل بالظَّلْماءِ عِفْريتَا لا يطْعَم الماءَ إلاّ بَلَّ غُلّتِه ... ولا يذُوق سِوى سَدِّ الطُّوَى بِيتَا يفْرِي جُيوبَ الفَلا في كلِّ هاجِرةٍ ... يُماثِل الضّبُّ في رَمْضائِها الحُوتَا ترى الحصَا جَمَراتٍ من تلهُّبها ... كأنما أُوقِدتْ في القَفْرِ كبْرِيتَا أجاب دَعْوةَ داعٍ لا مَرَدَّ له ... قَضى على الناسِ حَجَّ البَيْت تَوْقيتَا يرجو النَّجاةَ بيومٍ قد أهاب به ... في موقفٍ يدَعُ المِنْطيقَ سِكِّيتَا فسار والعَزْمُ يطْوِيه وينْشُره ... يُنازِل البَيْن تصْبِيحاً وتبْييتَا حتى أناخَ على أُمِّ القُرَى سَحَراً ... وقد نضَا الصبحُ للظّلْماءِ إصْليِتَا فقام يقْرَعُ بابَ العَفْو مُبتهِلاً ... لم يخْشَ غيرَ عتابِ اللهِ تبْكِيتَا وطَاف بالبيتِ سَبْعاً وانثنى عَجِلاً ... إلى الصَّفا حاذِراً للوقْتِ تفْوِيتَا وراح مُلْتَمِساً نَيْلَ المُنَى بِمِنىً ... ولم يخَفْ غيرَ حِلّ الْخَيفِ تعْنِيتَا وقام في عَرَفاتٍ عارفاً ودعَا ... رَبّاً عَوارِفُه عَمَّتْه ترْبيتَا وعاد منها مُفِيضاً وهْو مُزْدَلِفٌ ... يرْجُو من اللهِ تمكِيناً وتثْبِيتَا وبات للجَمَراتِ الرُّقْشِ مُلْتقِطاً ... كأنه لاقِطٌ دُرّاً ويَاقوتَا وحين أصْبَح يومَ النَّحرِ قام ضُحىً ... يُوفِي مَناسِكَه رَمياً وتَسْبيتَا وقرَّبَ الهَدْيَ تَهْدِيه شرائعُه ... إلى الهُدَى ذاكِراً لله تسْمِيتَا وملأَّتْه الليالي الْخَيفَ بَهْجتَها ... فَحجَّ للدِّين والدنيا مَواقِيتَا حتى إذا كان يومُ النَّفْرِ نَفّرَه ... وجَدَّ ينكُث في الأحْشاء تَنْكيتَا ثم اغْتدَى قاضِياً من حَجِّه تَفَثاً ... يرجُو لتزكيةِ الأعمالِ تَزكِيتَا وودَّع البيتَ يرْجو العَوْدَ ثانيةً ... وليْته عنه طولَ الدهرِ ما لِيتَا وأمَّ طَيْبَة مَثْوى الطّيِّبين وقد ... ثَنَى له الشوقُ نحْوَ المصطفى لِيتَا فواصَل السيرَ لا يلْوِي على سَكَنٍ ... أزاد حُبّاً له أم زاد تمْقِيتَا حتى رأى القُبَّة الخضراءَ حاكِيةً ... قصراً من الفَلَك العُلْوِيِّ مَنْحوتَا فقبَّل الأرضَ من أعْتابِ ساحتِها ... وعفَّر الخدَّ تعْظِيماً وتشْمِيتَا حيث النبُوَّةُ ممدودٌ سُرادِقُها ... والمجدُ أنْبَته الرحمنُ تنْبِيتَا مَقامُ قُدْسٍ يحارُ الواصِفون له ... ويرجِعُ العقلُ عن عَلْياه مَبْهوتَا

لو فاخَرَتْه الطِّباقُ السَّبْعُ لانْتكسَتْ ... وعاد كوكبُها الدُّرِّيُّ مَبْكوتَا تسْتوقفُ العَيْنَ والأبصارَ بَهْجتُه ... وتجْمع الفضلَ مَشْهوداً ومنْعوتَا يقول زائرُه هاتِ الحديثَ لنا ... عن زَوْرِه لا عَنِ الزَّوْراءِ أو هِيتَا وصِفْ لنا نُورَهُ لا نُور عادِيةٍ ... باتتْ تُشَبُّ على أيْدِي مَصالِيتَا مَثْوَى أجَلِّ الورَى قَدْراً وأرْحَبِهم ... صَدْراً وأرْفعِهم يومَ الثَّنَا صِيتَا نَبِيُّ صِدْقٍ هَدَتْ أنوارُ غُرَّتِه ... بعد العَمَى للهُدَى مَن كان عِمِّيتَا وأصْبحت سُبُلُ الدِّين الحَنِيفِ به ... عَوامِراً بعد أن كانتْ أمَارِيتَا أحْيَى به اللهُ قوماً قام سَعْدُهمُ ... كما أماتَ به قَوْماً طَواغِيتَا لَوْلاه ما خاطب الرحمنُ من بَشَرٍ ... ولا أبان لهم دِيناً ولاَهُوتَا له يدٌ لا نُرَجِّي غيرَ نائِلِها ... وقاصِدُ البحرِ لا يرْجُو الهَرامِيتَا فلو حَوَتْ ما حَوَتْه السُّحْبُ من كَرَمٍ ... لَما سمِعْتَ بها للرَّعْدِ تَصْوِيتَا فقُل لِمَن صَدَّه عنه غَوايتُه ... لو اهْتدَيْتَ إلى سُبْلِ الهدى جِيتَا ما رام حَصْرَ مَعالِيه أخُو لَسَنٍ ... إلاّ وأصبح بادِي العِيِّ صِمِّيتَا يا أشْرفَ الرُّسْلِ والأمْلاكِ قاطِبةً ... ومَن به شَرَّفَ اللهُ النَّواسِيتَا سَمْعاً لدعوةِ نَاءٍ عنك مُكْتَئِبٍ ... فكَمْ أغثْتَ كئيباً حين نُودِيتَا يرجوك في الدِّين والدنْيا لِمَقْصدِه ... حاشا لِراجِيك مِن بأسٍ وحُوشِيتَا أضْحَى أسيراً بأرضِ الهنْدِ مُغْترِباً ... لم يَرْجُ مَخْلَصَه إلاَّ إذا شِيتَا فنجِّنِي يا فَدتْك النفسُ مِن بَلَدٍ ... أضْحتْ لِقاحُ العُلى فيها مَفالِيتَا وقد خدَمْتُك من شِعْرِي بقافيةٍ ... نَبَّتُّ فيها بديعَ القَوْلِ تنْبِيتَا وزانَها الفِكرُ من سِحْرِ البيانِ بما ... أعْيَى ببابِلَ هارُوتاً ومَارُوتَأ جلَّتْ بمَدْحِك عن مثلٍ يُقاسُ بها ... ومَن يَقِيسُ بنَشْرِ المِسْكِ حِلْتِيتَا عليك من صَلَواتِ الله أشْرَفها ... وآلِك الطُّهْرِ ما حُيُّوا وحُيِّيتَا وقوله، من قصيدة أخرى، أولها: يا دار مَيَّةَ باللِّوَى فالأجْرعِ ... حَيَّاكِ مُنْهَمِلُ الْحَيَا من أدْمُعِي وسرَى نسيمُ الرَّوْضِ يسْحَب ذَيْلَه ... بمَصِيفِ أُنْسٍ في حِماكِ ومَرْبَعِ لو لمْ تَبِيتِي من أَنِيسكِ بَلْقَعاً ... ما بِتُّ أنْدُب كلَّ دارٍ بَلْقَعِ لم أنْسَ عَهْدَك والأحِبَّةُ جِيرَةٌ ... والعَيْشُ صَفْوٌ في ثَراكِ المُمْرِعِ أيَّامَ لا أُصْغِي لِلَوْمةِ لئمٍ ... سَمْعاً وإن تُغْرِ الصَّبابةُ أسْمَعِ حيثُ الرُّبَا تسْرِي برَيَّاها الصَّبا ... والرَّوضُ زَاهِي النَّوْرِ عَذْبُ المَشْرَعِ تحْنُو عليَّ عَواطِفاً أغْصانُها ... عند المَبِيتِ به حُنُوَّ الُرْضِعِ والوُرْقُ في عَذَبِ الغُصونِ سَواجِعٌ ... تشْدُو بمَرْأىً من سُعادَ ومَسْمَعِ كم بِتُّ فيه صَرِيعَ كأسِ مُدامةٍ ... حِلْفَ البَطالةِ لا أُفِيقُ ولا أًعِي أصْبُو بقلبٍ لا يزال مُوَلَّعاً ... في الحُبِّ بين مُعَمَّمٍ ومُقَنَّعِ مُسْتهْتَرٌ طَوْعُ الصَّبابةِ في هَوَى ... قَمَرَيْ جمالٍ مُسْفِرٍ ومُبَرْقَعِ ما ساءني أن كنتُ أوَّلَ مُغْرَمٍ ... بجمالِ رَبِّ رِداً ورَبَّةِ بُرْقُعِ يقْتادني زَهْوُ الشبابِ وعِفَّتِي ... فيه عَفافُ الناسِكِ المُتورِّعِ

للهِ أيامِي بمُنْعَرَجِ اللِّوَى ... حيثُ الهوَى طَوْعِي ومَن أهْوَى مَعِي لم أنْسَه والبَيْنُ ينْعَقُ بيْننا ... مُتصاعِدَ الزَّفَراتِ وهْو مُودِّعِي إن شَبَّ في قلبي الغَضا بفِراقِه ... فلقد ثَوَى بالْمُنْحَنَى من أضْلُعِي أتجَشَّم السُّلْوانَ عنه تكلُّفاً ... والطبعُ يغلِبُ شِيمةَ المتَطبّعِ وقوله من أخرى، أولها: بين العُذَيْبِ وبين بَرْقةِ ضاحِكِ ... غَرَّاءُ تبْسَم عن شَنِيبٍ ضاحِكِ في حبِّا للعاشقين مَصارِعٌ ... من هالِكٍ فيها ومن مُتهَالِكِ تسْطُو مَعاطِفُها وسُودُ لِحاظِها ... بِمُثقَّفٍ لَدْنٍ وأبْيضَ فاتِكِ لا تستطِبْ يوماً مَوارِدَ حبِّها ... ما هُنَّ للعُشَّاقِ غيرَ مَهالِكِ فتكَتْ بألْبابِ الرجالِ ولم تصِلْ ... بسِوَى فواتِن للقلوب فَواتِكِ يُرْدِيك ناظِرُها ويُغْضِي فاعْجَبَنْ ... من فاِسقٍ يحكي تعفُّفَ ناسِكِ هجَرتْ وما اتَّسعتْ مَسالِكُ هجرِها ... إلاّ وضاقتْ في الغرامِ مَسالِكِي ولقد أبِيتُ على القَتَادِ مُسهَّداً ... وتبِيتُ وَسْنَى في مِهادِ أرائِكِ لا تسْتعِرْ جَلَداً على هِجْرانِها ... إن كنتَ في دعوَى الغرامِ مُشارِكِي واتْرُكْ حديثَ المُعْرضِين عن الهوَى ... يا صاحبِي إن كنتَ لستَ بتاركِي وإذا دعاك لِبَيْعِ نفسِك سائمٌ ... في حبِّها يوماً فبِعْه وبارِكِ إن التي فتنتْك ليلةَ أشْرقتْ ... إشْراقَ شمسٍ في دُجُنَّةِ حالِكِ لا تصْطفِي خِلاً سوى كلِّ امْرِىءٍ ... صَبٍ لأسْتارِ التنسُّكِ هاتِكِ فاخلَعْ ثيابَ النُّسْكِ فيها واسْترِحْ ... من عَذْلِ لاَحٍ في الصَّبابةِ آفِكِ أو لا فدَعْ دعوى المَحبَّةِ واجتنِبْ ... نَهْجَ الغرامِ فلستَ فيه بسالِكِ وإذا بدَا منها المُحَيَّا فاسْتعِذْ ... من سافِرٍ لِدَمِ الأحبَّةِ سافِكِ كم من مُحِبٍ قد قَضَى في حبِّها ... وَجْداً عليه فكان أهْوَنَ هالِكِ ملكتْ نفوسَ أُلِي الغرامِ بأسْرِها ... هلاَّ اتَّقيْتِ اللهَ يا ابنةَ مَالِكِ حَسْبِي وُلوعاً في هواكِ ولَوْعةً ... إن تطْلُبِي قَتْلِي ظَفِرْتِ بذلكِ وله من نونية نبوية، أولها: تذكَّر بالحِمَى رَشَأً أغَنَّا ... وهاج له الهوى طَرباً فغَنَّى وحَنَّ فؤادُه شوقاً لِنَجْدٍ ... وأين الهندُ من نجدٍ وأنَّى وغنّتْ في فروعِ الأيْكِ وُرْقٌ ... فجاوَبَه بزَفْرتِه وأنَّا وطارحَها الغرامَ فحين رَنَّتْ ... له بتَنفُّسِ الصُّعَداءِ رَنَّا وأوْرَى لاعِجَ الأشواقِ منه ... بَرِيقٌ بالأبَيْرِقِ لاح وَهْنَا مُعَنى كلما هبَّتْ شَمالٌ ... تذكّر ذلك العيشَ المُهَنَّا إذا جَنَّ الظلامُ عليه أبْدَى ... من الوَجْدِ المُبرِّحِ ما أجَنَّا سقَى وادِي الغَضا دمعِي إذا ما ... تهلّل لا السَّحَابُ إذا ارْجَحَنَّا فكم لي في رُباه قَضِيبُ حُسْنٍ ... تفرَّد بالمَلاحةِ إذْ تَثَنَّى كَلِفْتُ به وما كُلِّفْتُ فَرْضاً ... فأوجَب طَرْفُه قَتْلِي وسَنَّا وأبْدَى حبَّه قلبي وأخْفَى ... فصرَّح بالهوى شَوْقاً وكَنَّا تفنن حسنُه في كلِّ معنىً ... فصار العشقُ لي بهَواه مَعْنَى بدا بَدْراً ولاح لنا هِلالاً ... وأشْرَق كوكباً واهْتَزَّ غُصْنَا وثنَّى قَدَّه الحسَنَ ارْتياحاً ... فهام القلبُ بالحسَنِ المُثَنَّى

ولو أن الفؤادَ على هَواهُ ... تمَنَّى كان غايةَ ما تَمَنَّى بكيْتُ دماً وحَنَّ إليه قلبِي ... فخضّب من دمِي كَفاً وحَنَّا ألا يا صاحبَيَّ ترفّقا بي ... فإن البَيْنَ أنْصَبنِي وعَنَّا ولم تُبْقِ النَّوَى لي غيرَ عَزْمٍ ... إذا حَفّتْ به المِحَنُ اطْمَأنَّا وأُقْسِم ما الهوى غَرَضِي ولكنْ ... أُعَلِّلُ بالهوى قلباً مُعَنَّى وأصْرِفُ بالتأنِّي صَرْفَ دهرِي ... وأعلمُ أن سيظْفَرُ مَن تأنّى وأدْفَعُ فادحاتِ الخَطْبِ عنِّي ... بتفْويضٍ إذا ما الخَطْبُ عَنَّا ولا واللهِ لا أرْجُو لِيُسْرِي ... وعُسْرِي غيرَ من أغْنَى وأقْنَى أخوه محمد يحيى غصن طيب النما، أشبه بأخيه من الماء بالما. فهو الرمح وأخوه سنانه، وكلاهما في حومة الأدب فارسٌ أطلق عنانه. وكان رحل إلى أبيه للهند، فأقام في كنفه يتأدب بآدابه، وكانت ملازمته من دابه. ولم يزل من كفايته في ظلٍ غير مقلص، ومن حفايته في موردٍ غير منغص. حتى غرب نجمه في إبان استنارته، وخسف بدره في بدء استدارته. فأضحى ناظر الأدب لفقده رمدا، وقلب الأماني لحينه متفجعاً كمدا. وقد ظفرت من شعره بما هو أغر من الصدغ المرسل، وأعذب من الرحيق السلسل. فدونك منه ما لا يجد خاطرك فيه تعسفا، غير أني أراك تكثر على قلته تأسفا: تذكّرتُ أيامَ الحَجِيجِ فأسْبَلَتْ ... جفوني دِماءً واستَجدّ بيَ الوَجْدُ وأيَّامَنا بالمَشْعَريْنِ التي مَضتْ ... وبالخَيْفِ إذْ حادِي الركاب بنا يحْدُو وقوله أيضاً: ألا يا زماناً طال فيه تباعُدي ... أما رحمةٌ تدْنُو بها وتجودُ لألْقَى الذي فارقتُ أُنْسِيَ مذ نأَى ... فها أنا مسلوبُ الفؤادِ فرِيدُ وقوله: ألا لا سقَا الله البعادَ وَجوْرَهُ ... فإن قليلاً منه عنك خطيرُ وواللهِ لو كان التَّباعُدُ ساعةً ... وأنت بعيدٌ إنه لكثيرُ وكتب إلى أخيه من قصيدة طويلة، أولها: أقِلْ أيُّهذا القلبُ عمَّا تُحاولُهْ ... فإنك مهما زِدْتَ زاد تَشاغُلُهْ دَعِ الدهرَ يفعلْ كيف شاء فقلَّما ... يرُوم امْرُؤٌ شيئاً وليس يُواصِلُهْ وما الدهرُ إلاَّ قُلَّبٌ في أمورِه ... فلا يغْترِرْ في الحالتيْن مُعامِلُهْ ويا طالَما طاب الزمانُ لِواجِدٍ ... فسَرَّ وقد ساءتْ لَدَيْه أوائلُهْ سقَى ورعَى اللهُ الحجازَ وأهلَه ... مُلِثّاً تعُمُّ الأرضَ سَقْياً هَواطِلُهْ فإن به داري ودارِي عَزِيزةٌ ... عليَّ ومهما أشْغَل القلبَ شاغِلُهْ ولكنَّ لي شوقاً إلى خُلَّتي التي ... متى ذُكِرتْ للقلبِ هاجتْ بَلابِلُهْ أبِيتُ ولي منها حَنِينٌ كأنني ... طَرِيحُ طِعانٍ قد أُصِيبَتْ مَقاتلُهْ هَوىً لكِ ما ألْقاه يا عَذْبةَ اللَّمَى ... وإلاّ فصَعْبٌ ما أتى اليوم حامِلُهْ أُكابِدُ فيك الشوقَ والشوقُ قاتِلي ... وأسألُ عمَّن لم يُجِبْ مَن يسائِلُهْ تَقِي اللهَ في قَتْلِ امْرِىءٍ طال سُقْمُه ... وإلاّ فإن الهجرَ لاشكَّ قاتلُهْ صِلِيه فقد طال الصُّطودُ فقلّما ... يعيش امْرُؤٌ والصدُّ ممَّا يقاتلُهْ حَزِينٌ لِمَا يْلقاه فيك من الجَوى ... فها هو مُضْنىً مُدْنَفُ الجسمِ ناحِلُهْ بلَى إن يكنْ لي من عليٍ وعَزْمِه ... مُعِينٌ فإنِّي كلَّ ما شئتُ نائِلُهْ فراجعه بقوله: إليك فقلبي لا تقَرُّ بَلابِلُهْ ... إذا ما شدَتْ فوق الغصونِ بلاَبلُهْ تُهيِّجُ لي ذِكْرَى حبيبٍ مُفارِقٍ ... زَرُودُ وحُزْوَي والعقيقُ مَنازلُهْ

سَقاهُنَّ صَوْبُ الدمعِ منِّي ووَبْلُهُ ... منازلَ لا صَوْبُ الغمامِ ووابِلُهْ يحُلُّ بها من لا أُصَرِّحُ باسْمِه ... غزالٌ على بُعْدِ المَزارِ أُغازِلُهْ تقسَّمه للحُسْنِ عَبْلٌ ودِقَّةٌ ... فَرَنَّ وِشاحاه وصُمَّتْ خَلاخِلُهْ وما أنا بالنَّاسِي لياليَ بالحِمَى ... تقضَّتْ ووِرْدُ العَيْشِ صَفْوٌ مَناهِلُهْ لياليَ لا ظَبْيُ الصَّرِيمِ مُصارِمٌ ... ولا ضاق ذَرْعاً بالصدودِ مُواصِلُهْ وكم عاذلٍ قلبي وقد لَجَّ في الهوى ... وما عادلٌ في شِرْعةِ الحبِّ عاذِلُهْ يلومون جَهْلاً بالغرامِ وإنما ... له وعليه بِرُّه وغَوائِلُهْ فاللهِ قلبٌ قد تمادَى صَبابةً ... على اللَّوْمِ لا تنْفكُّ تغْلِي مَراجلُهْ وبالحِلّةِ الفيْحاءِ من أبْرُقِ الحِمَى ... رَداحٌ حَماها من قَنا الخَطِّ ذابِلُهْ تمِيسُ كما ماس الرُّدَيْنِيُّ مائداً ... وتهْتزُّ عُجْباً مثلَما اهْتزَّ عاملُهْ مُهَفْهَفةُ الكَشْحَيْنِ طاويةُ الحَشَا ... فما مائدُ الغُصْنِ الرَّيِبِ ومائلُهْ تعلّقْتُها عَصْرَ الشَّبِيبةِ والصِّبا ... وما علِقتْ بي من زمانِي حَبائلُهْ حذِرْتُ عليها آجِلَ البُعْدِ والنَّوَى ... فعاجَلنِي من فادِحِ البَيْنِ عاجلُهْ إلى اللهِ يا أسْماءُ نفساً تقطَّعتْ ... عليكِ غراماً لا أزال أُزاوِلُهْ وخطبٍ بِعَادٍ كلَّما قلتُ هذه ... أواخِرُه كرَّتْ عليَّ أوائلُهْ لئن جار دهرٌ بالتفرُّقِ واعْتدَى ... وغال التَّدانِي من دَهَا البَيْنِ غائلُهْ فإنِّي لأرجُو نَيْلَ ما قد أمَلْتُه ... كما نال من يحيى الرَّغائبَ آمِلُهْ وخاطب أخاه أيضاً بقوله: وما شوقُ مَقْصوصِ الجناحيْن مُقْعَدٍ ... على الضَّيْمِ لم يقدِرْ على الطيرانِ بأكْثرَ من شوقِي إليك وإنما ... رَماني بهذا البُعْدِ عنك زَمانِي جمال الدين محمد بن أحمد الشاهد شاعر بيض وجه الصحائف بسواد نقسه، وكاتب أقام على فضله شاهداً كألف شاهدٍ من نفسه. فإذا أخذ القلم بيمينه، جاء من معدن الدر بثمينه. وكان في رونق حداثته، وملاحة نفاثته. حيث برد شبابه قشيب، ومسك ذوائبه لم يدر فيه كافور مشيب. حليف كأسٍ وأليف دن، وله التصابي شغلٌ والخلاعة ديدن. لا ينتقل من خمارٍ إلا إلى خمار، ولا يقلع عن هوى ذي عمامة إلا إلى هوى ذات خمار. حتى بدت الشعرات البيض، وأخذت تفرخ في العارض وتبيض. ولم يبق في إناء العمر إلا صبابة، يتدارك بها ما فات أيام لهو وصبابة. فأصبح شيخ سجادة ومحراب، بعد أن كان فتى دسكرةٍ وشراب. ومقتفى إنابة ودعا، بعد أن كان متروك إناءٍ للراح ووعا. قال السيد علي بن معصوم في سلافته: وبلغني أن الراح أورثت يده رعشة؛ لتعاطيه لها، فقلت: لا تحسَبوا الرَّاح أورثتْ يدَه ... من سُوئِها رَعْشةً لها اضْطَرابَا لكنه لا يزال يَلْمَسُها ... فالكَفُّ تهْتزُّ دائماً طَرَبَا ومما يقارب هذا قول الشهاب: أقولُ لِمُدْمِن الرَّاح الذي ارْتعشَتْ ... كَفّاه إذْ راح من ثَوْبِ التُّقَى عارِي كأن كفّك مَقْرورٌ برَعْشتِه ... وليس يصْلَى بغير الكأسِ من نارِ وأنا أقول: الأنسب أن ينشد بعد توبته ما اختلسته من قول البعض: لَعَمْرُكَ ما اهْتزَّتْ له الكفُّ رَعْشةً ... ولكنْ أرداتْ أن ينامَ خُمارُهُ على أنَّ فيها الكأسَ يرقُص فَرْحةً ... بذِكْرَى زمانٍ طاب فيها قَرارُهُ وقد ذكرت من شعره ما يشوق ويروق، وتحسده شمس الكأس وشمس الأفق في غروب وشروق. فمن ذلك ما راجع به السيد أحمد بن مسعود، وقد كتب إليه:

وشادِنٍ وافَى وكان خُلْسةً ... من بَعْدِ ما أرَّقني بمَطْلِهِ لمَّا بدا مُحْتجِباً بمِرْطِه ... كيْما يَنِمَّ ضَوْءُه لأهلِهِ قلتُ له البدرُ إذا الغَيْمُ غَشَى ... أنْوارَه ترجُو الورَى لِوَبْلِهِ فقال لي مُسْتضحِكاً يهْزأُ بي ... ما أحسنَ الشّاهِدَ في مَحَلِّهِ يا جمال العلم والأدب، والناس إليهما من كل حدب. أشرف على هذه الأبيات، وحل عاطلها بفوائد الصفات. وإن استدعيتنا إلى محلك ولا زال آهل، وكواكب أفقه بوجودك زاهرة ونجم أعدائك آفل. قلنا: ما أحسن الشاهد في محله، ولا بدع أن يرجع الفرع لأصله. والسلام. فأجابه بقوله: للهِ ما أبْدَتْ وماذا أبْدَعتْ ... من دُرِّ عِقْدٍ قد زَها مِن أهْلِهِ بَدِيهةٌ لواحدِ العصرِ ومَن ... حاز المَعالي نَاشِياً كأصْلِهِ نَظْمُ لآلٍ من مَلِيكٍ ماجِدٍ ... فاق الأُلَى هيْهات دَرْكُ مِثْلِهِ شرَّفني بقطعةٍ من نَظْمِه ... أحْلَى من الحِبِّ وَفَى بوَصْلِهِ أشار فيها أن يزُور منزلاً ... ما فيه إلاّ ما نَما من فضلِهِ ما هُوَ إلاّ روضةٌ أمْطرَها ... ما سَحَّ من هامِي مَطِيرِ وَبْلِهِ فإن يزُرْ شاهدَ معناه يقُلْ ... ما أحْسَن الشاهدَ في مَحَلِّهِ ثم أعقب تالأبيات بنثرٍ، قال فيه: ناظم درها، وناسج حبرها. وصلته الأبيات الشريفة، من الحضرة العالية المنيفة. فحير عقله ما حبر منشيها، وأدهش لبه ما دبج موشيها. فوالله لولا أن يقال غاليت، لكتبت تحت كل بيت: " فليعبدوا رب هذا البيت ". كيف لا ومفترع بكرها مفترع الأبكار البديعة النظام، الفائقة بتقديمها على من تقدمها من شعراء الجاهلية والإسلام. ليث بني هاشم الضراغم، واسطة عقد الأكارم ألي المكارم. وحين سرحت طرف الطرف في ميدان رياضها، ونشقت عنبر عبيرها من نشر غياضها. واكتحل ناظري بنير مدادها المرقوم، ورشف سمعي من رحيق معناها المختوم. أنشدت، ولا بدع فيما أوردت: فللهِ ما أدْرِي أزَهْرُ خَميلةٍ ... بطِرْسِك أم دُرٌّ يلُوح على نَحْرِ فإن كان زَهْراً فهْو صُنْعُ سَحابةٍ ... وإن كان دُرّاً فهْو من لُجَّةِ البحرِ وما لوح به سيدنا من زيارة العبد في الدار، التي هي وما فيها من بعض فضله المدرار. فلسان الحال، ينشد هذا المقال: قالوا يزورُك أحمدٌ وتزورُه ... قلتُ الفضائلُ لا تُفارِقُ مَنْزِلَهْ إن زارني فبفضْلِه أو زُرْتُه ... فلفضلِه والفضلُ في الحاليْن لَهْ أبو الفضل بن محمد العقاد ماذا أقول فيمن هو والفضل ابنٌ وأب، وقد تبلغ بالصنعة حتى فاق من درج ودب. لقبه عقاد وهو لمشكلات القريض حلال، فإذا تفوه أو كتب سحر لكن بسحرٍ حلال. دخل المغرب في عهد الملك المنصور، فنال حظوة يعترف لسان اليراعة عن حصر بواعثها بالقصور. فهو ممن غرب وأغرب، وأدب فهذب. وقابل تلك العصابة، بخاطرٍ قدح زند الإصابة، ورمى غرض الأماني فأصابه. فكتب اسمه في حسنات الأيام، كما كتب شعره في حسنات الأنام. فمن شعره الذي ناظر به نسيم الزهر في السحر، وباهى قضاء الوطر على الخطر. قوله من موشحٍ مدح به السلطان المذكور: ليت شِعْرِي هل أُروِّي ذا الظَّمَا ... من لَمَى ذاك الثُّغَيْرِ الألْعَسِ وترى عيْنايَ رَبَّاتِ الحِمَى ... باهياتٍ بقُدودٍ مُيَّسِ فقد طال بِعادِي والهوى ... ملَك القلب غراماً وأسَرْ هَدَّ من رُكْنِ اصْطِباري والقُوَى ... مُبْدِلاً أجفانَ عيني بالسَّهَرْ حين عَزَّ الوصل من وادِي طُوَى ... هَملتْ أدمعُ عينِي كالمطَرْ فعساكم أن تجودُوا كَرَماً ... بِلقاكم في سَودِ الحِندِسِ علّه يشفى كَلِيماً مُغْرَماً ... من جِراحاتِ العيونِ النُّعَّسِ كلَّما جَنَّ ظلامُ الغَسَقِ ... هَزَّني الشوقُ إليكم شَغَفَا

واعتراني مِن جَفاكم قَلَقِي ... وتذكَّرْتُ جِياداً والصَّفَا وتَناهتْ لَوْعتي من حُرَقِي ... كم أُعَزِّي الوجدَ بي والتَّلَفَا فانْعِمُوا لي ثم جُودُوا لي بما ... يُطْفِىءُ اليومَ لَهِيبَ الْقَبَسِ إنني أرْضَى رِضاكم مَغْنَماً ... لِبقا نَفْسِي ومَحْيَي نَفَسِي كنتُ قبلَ اليوم في زَهْوٍ وتِيهِ ... مَعْ أُحَيْبَابي بسَلْعٍ ألْعَبُ ومعي ظَبْيٌ بإحْدَى وجْنَتيْه ... مَشرِقُ الشمسِ وأخْرى مَغْرِبُ فرَماني بسهامٍ من يديْهِ ... قابِسُ البَيْنِ فقلبي مُتْعَبُ لستُ أرجُو لِلِقاهم سُلّماً ... غير مَدْحِي للإمام الأرْأَسِ أحمدُ المحمودُ حَقّاً مَن سَمَا ... الشريفُ بن الشريفِ الأكْيَسِ قلت: وقد حكى المقري، في نفح الطيب أنه ممن اجتمع بالحضرة المنصورية، أبو الفضل العقاد المكي المذكور، والشريف المدني، وهو رجل وافدٌ من أهل المدينة انتمى إلى الشرف، والشيخ إمام الدين الخليلي، الوافد على حضرته من بيت المقدس. فقال إمام الدين هذا للمنصور: يا أمير المؤمنين، إن المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، شد أهلها إليك الرحال. أحمد بن محمد الأسدي الشبل بن الليث، والوبل ابن الغيث، والتيار ابن البحر، والصباح ابن الفجر. اشتمل بالمجد الصراح، ولطفت ذاته لطف الراح. ولما رأى أن المخالطة، لا تثمر إلا محض المغالطة. انعكف في زاوية العزلة، وتفرد في حجرةٍ والعز له. وقد ذكرت من شعره ما تعوذه بالسبع، وتعلم منه رقة الطبع. فمنه قوله: دَعِ المُدامَةَ يعلُو فوقها الحَبَبُ ... رُضابُه وثَناياه لنا أرَبُ نَزِّه فؤادَك من رَاحِ الكئُوسِ وخُذْ ... راحاً من الثَّغْر عنها يعجِز العِنَبُ شَتَّان بين حلالٍ طيِّبٍ وحَرا ... مٍ حامضٍ يزْدرِيه العقلُ والأدبُ إذا تَغَزَّلت في خمرٍ وفي قَدَحٍ ... فما مُرادِيَ إلا الثَّغْرُ والشَّنَبُ لِلّهِ دَرُّ مُدامٍ بِتُّ أَرْشُفُهَا ... مِنْ فِي غَزَالٍ إلى الأتْرَاكِ ينْتَسِبُ مُهَذَّبُ اللَّحْظِ زَنْجِيُّ السَّوالفِ لم ... تَحْوِ الذي قد حَوَاه العُجْمُ والعَربُ منها: قالت مَبَاسِمُهُ للبرقِ حينَ سَرَى ... لقد حكيْتَ ولكن فاتَكَ الشَّنَبُ وبِتُّ أَشْدُو على الغُصْنِ الرَّطِيب كذا ... بيْني وبينك يا وُرْقَ الحِمَى نَسَبُ يقولُ لمَّا رأى دمعِي جَرَى ذَهَباً ... يا مَطْلَباً ليسَ لي في غيرِهِ أرَبُ تَبَّتْ يَدَا عاذِلِي عمَّنْ أُعَوِّذُهُ ... بالناسِ من نافث أو غاسقٍ يَقِبُ إنَّ الْمُحَرَّم سُلْوَاني لِطَلْعَتِهِ ... فقُل لشَعْبَانَ عنِّي إنني رجبُ كيف السُّلُوُّ وعيْني كلّما نظَرتْ ... لَوامِعَ البرقِ قالتْ زالتِ الحُجُبُ قوله: إن المحرم.. إلى آخر البيت، زاد فيه المحرم على قول القائل: وشادنٍ مُبْتسِمٍ عن حَبَبْ ... مُوَرَّدِ الخدِّ مَلِيحِ الشَّنَبْ يلُومُني العاذِل في حُبِّه ... وما درَى شعبانُ أنِّي رجبْ والمراد من شبعان: العاذل؛ ومن رجب: الأصم؛ لأن العرب كانت تسمي المحرم: المؤتمر؛ وصفر: ناجرا؛ وربيع الأول خوانا؛ وربيع الآخر: بصانا؛ وجمادى الأولى: الحنين، وجمادى الآخرة: الرنة؛ ورجب: الأصم؛ وشعبان: العاذل؛ ورمضان: الناتق؛ وشوال: وعلا؛ وذا القعدة: هواعا؛ وذا الحجة: بركا. وعلى ذكر أسماء الشهور، فلنذكر أسماء الأيام. وقد نظمها بعضهم، فقال: أُؤمِّل أن أعِيش وأن يَوْمِي ... بأوَّلَ أو بأهْوَنَ أو جُبَارِ أو التَّالِي دُبار فإنَّ فيها ... فمُؤُنِس أو عَرُوبة أو شِيَارِ ومن شعره قوله معارضاً قصيدة ابن المعتز التي أولها: سقَى المَطيرة ذات الظِّلِّ والشَّجَرِ ومستلهها قوله:

ما ماسَ بَانُ الحِمَى مِن نَسْمةِ السَّحَرِ ... إلاّ وقد أسْمَعْته طَيِّبَ الخَبَرِ باللهِ يا نَسْمةَ الأسْحارِ هل خَبَرٌ ... فإنني بالنَّبَا أَوْلَى من الشجرِ ليلِي بما طال لا آوِي إلى سَكَنٍ ... هذِي نجومُ السما تُنْبِيكِ عن سَهَرِي أباتُ أرْعَى السُّها في الليلِ مُكتئِباً ... وأدْمُعِي في الثرى ترْبُو على المطرِ أفْدِي الذين أذاقوني مَودَّتهم ... حتى إذا ما رأَوْني هائمَ الفِكَرِ ساروا بقَلْبِي وخَلَّونِي حَلِيفَ هوىً ... حَيْرانَ لا أهْتدِي وِرْداً من الصَّدَرِ واللهِ إنّ لهم في القلبِ مَنْزلةً ... ما حَلّها قبْلَهم شخصٌ من البشَرِ باللهِ يافَوْجُ صِفْنِي مُنْعِماً لهمُ ... واذْكُرْ لهم طِبْقَ ما شاهدتَ من خَبَرِ وقُل لهم قد غَدا في حُبِّكم شَبَحاً ... يكاد يخفَى على الرَّائيِنَ بالبصرِ لعلَّهم أن يرِقُّوا لي ويفْتكرُوا ... تلك الذِّمامَ التي في سالفِ العُمُرِ ويرْحَمُوا مُدْنَفاً صَبّاً بهم كَلِفاً ... أسيرَ حُبٍ لهم في عالَمِ الصِّغَرِ فاللهُ يُولِيهمُ عِزّاً ويحرُسهم ... مدَى الزمانِ من الأسْواءِ والغِيَرِ وله ملغزاً في اسم علي: أمَاتَ اصْطِبارِي حين أحيْى تولُّهِي ... رَشاً في رياضِ الحُسْنِ بالتِّيهِ يمْرَحُ ثلاثةُ أرْباعٍ لوَصْفِي هو اسمُه ... فيا ليته بالوصلِ لو كان يسمَحُ وله في يوم شديد الحر: ويومِ حَرٍ دَهانَا ... ما فيه طِيبُ هَواءِ قالوا نهارٌ قَوِيٌّ ... فقتلُ من غيرِ هاءِ وله: خَطُّ العِذارِ نَهانِي ... عن عِشْقِه حين دَبَّا واللَّحْظُ بالعشقِ يُغْرِي ... والسيفُ أصْدَقُ أنْبَا وله مضمنا: يا قلبُ غرَّك محبوبٌ كلِفْتَ به ... حتى طمِعتَ بوصلٍ دونَه الخَطَرُ وإن غُرِرتَ بمن تَهْوَى فلا عَجَبٌ ... ما أنت أولُ سارٍ غَرَّهُ قَمَرُ إبراهيم بن يوسف المهتار فرد الزمان في فنه، أطاعه الأدب إطاعة قنه. فحلق إلى الأوج بعد الحضيض، وحدق عن سر البلاغة جفنه الغضيض. إن ذكرت الرقة فهو سوق رقيقها، أو الفصاحة فهو الذي نشأ في سفح عقيقها. فلو سمع طرفة شعره الرقيق، صار له كأبيه العبد الرقيق. إلا أن الأيام تلاعبت به تلاعب العابث، واستطالت عليه استطالة العائث. فحمل من عقوقها ما ليس ينكر، وأقل من عثراتها ما ليس يذكر. وهو أديبٌ كما وصفته، وشاعرٌ عرفت قدره فأنصفته. فمن مختاره الذي أطلعه مورقاً جنيا، وألمع به لأهل الأدب مشرقاً سنيا. قوله: أرِحْ فؤادِي من العذابِ ... بالرَّاح والخُرَّدِ العِذابِ وعاطِنِيها عروسَ دَنٍ ... كالنارِ والعَسْجَدِ المُذابِ مِن كَفِّ لَمْياءَ إن تَبدَّتْ ... تَوارتِ الشمسُ بالحِجابِ دَعْجاءُ بَلْجاءُ ذاتُ حُسْن ... لكلِّ أهلِ العقولِ سَابِي على رياض مُدَبَّجاتٍ ... حاكت سُداها يدُ السَّحابِ بها القَمارِي مُغرِّداتٍ ... على الأفانِين والرَّوابِي فبادِرِ الأُنْسَ يا نَدِيمِي ... وقُمْ إلى اللهوِ والتَّصابِي أعْطِ زمانَ الشبابِ حَظّاً ... فَلذّةُ العيشِ في الشّبَابِ واجْسُرْ ولا تيْأسَنَّ يوماً ... من رحمةِ اللهِ في الحسابِظ وقوله في صدر قصيدة: قِفْ بالمعاهدِ من مَيْثاءَ مَلْحوبِ ... شَرقِيِّ كاظِمةٍ فالْجِزْعِ فاللُّوبِ واسْتلْمِحِ البرقَ إذْ تبْدُو لَوامِعُه ... على النَّقا هل سقَى حَيَّ الأعاريبِ يا حبَّذا إذْ بدا يفْتَرُّ مُبْتسِماً ... أعْلَى الثَّنِيَّةِ من شُمِّ الشّناخِيبِ

والجَوُّ مُضْطرِمُ الأرْجاءِ تحسَبُه ... بُرْداً أُصِيبَ حواشِيه بأُلْهوبِ يا بارِقاً لاح وَهْناً من دِيارِهمُ ... كأنه حين يهْفُو قلبُ مَرعوبِ أذْكَرتنِي مَعهداً كُنَّا بِجِيرتِه ... نسْتقصِرُ الدهرَ من حُسْنٍ ومن طِيبِ لم أنْسَ بالتَّلَعات الجُونِ مَوقِفنا ... والحَيُّ ما بين تقْويضٍ وتطْنِيبِ وقد بَدا لِعيونِ الصَّحْبِ سِرْبُ ظِباً ... حَفّتْ بظَبْيٍ ببيضِ الهند مَحْجوبِ لم تبدُ تلك الدُّمَى إلا لسَفْكِ دمِي ... ولا العِذابُ اللَّمَى إلا لتعْذيبِي ومن خمرياته: قُمْ إلى بِنْتِ الكُرومِ ... واسْقِنِيها يا ندِيمي ما ترى الليلَ تولّى ... وانْطفَا ضوءُ النجومِ وأضاء الصبحُ ما بي ... ن تصارِيفِ الغُيومِ وبَدا الطَّلُّ على الأغْ ... صانِ كالعِقْدِ النَّظِيمِ وشَدَتْ قُمْرِيَّةُ الأيْ ... كِ على الغُصْنِ القَوِيمِ وسَرتْ رِيحُ الخُزَا ... مى من رُبَى ظَبْيِ الصَّرِيمِ فأدِرْها خمرةً تُنْ ... بي عن العصرِ القديمِ واسْقِنيها لتُزيلَ ال ... يومَ عن قلبي هُمومي هاتِها لي قهوةً من ... عهدِ لُقْمانَ الحكيمِ وامْلأِ الكاساتِ إنِّي ... في الصِّبا غيرُ مَلومِ أيها النفسُ تَصابَىْ ... ثم في العِصْيانِ هِيمي وعن الذُّلِّ تَوَلَّىْ ... وعلى العِزِّ أقِيمي واكْثرِي الذنب فرَبِّي ... غافرُ الذنبِ العظيمِ وله من قصيدة: أذْكى بقلي لاعِجَ الأشْجانِ ... بَرْقٌ أضاء على رُبَا نَعْمانِ أجرى مَدامعَ مُقْلَتِي أوْرَى زِنَا ... دَ صَبابتِي أشْجَى فؤادِي الْعانِي ما شاقَنِي إلاّ لأنَّ وَمِيضَه ... برُبَا الهوَى ومَعاهدِ الخِلاّنِ يا بَرْقُ جُدْ بالدَّمْعِ في أطْلالِهم ... عني فسَحُّ الدمعِ قد أعْيانِي لم أسألِ الأجفانَ سَقْيَ عُهودِهمْ ... إلاّ وجادت لي بأحمرَ قانِ وَاهاً لأيامِ العُذَيْبِ إذِ اللِّوَى ... وطني وسكانُ الحِمَى جِيرانِي إذْ كنتُ طَوْعاً للهوى واللهو في ... ظُلَلِ الشَّبيبةِ ساحبَ الأرْدانِ تُشْجِينيَ الوَرْقاءُ إن صاحت على ... تلك الغصونِ بنَغْمةِ الألحانِ ويشُوقُني بانُ النَّقا وحُلولُ وا ... دِيهِ وحسنُ الدارِ بالسُّكانِ وله، موجهاً بأسماء الأنغام: سلامُ اللهِ من صَبٍ مَشُوقِ ... جَريحِ القلبِ باكي المُقْلتيْنِ على مَن حَلَّ من قلبي السُويْدَا ... لِعزَّتِه وحلَّ سوادَ عَيْنِي نأَى بالصبرِ لَمَّا بان عنِّي ... وخلّفني سَهيرَ الفَرْقَدَيْنِ فليت الرَّكْبَ قد وقفُوا قليلاً ... على العُشَّاقِ يوم نَوَى الحَسيْني ومن غزلياته قوله: جفَت حِلالُ المَنامِ مُقْلتيَّهْ ... مُذ حَلَّ حبُّ الجمالِ مُهْجَتيَّهْ وأحْرَق القلبَ حَرُّ نَارِ جَوىً ... وخَدَّد الخدَّ حَرُّ دَمْعَتيَّهْ فما تغنَّى الحمامُ في غُصُنٍ ... إلاّ وسال الدِّما بوجْنَتيَّهْ ولا تذكَّرْتُ جِيرةً نزلُوا ... بالشِّعْبِ إلاّ نسِيتُ صِحَّتيَّهْ يا جِيرة الشِّعْبِ هل لِبُعْدِكمُ ... حَدٌّ يُرَى أم يُطيلُ مُدَّتيَّهْ نأيْتمُ والحشَا به حُرَقٌ ... فقطَّر الدمعَ فَرْطُ حُرْقَتيَّهْ فما نسِيتُ العهود بعدكمُ ... ولا تحوَّلْتُ عن مَحبَّتيَّهْ ولستُ أسْلوكمُ وحقِّكمُ ... هيْهاتَ زال الهوى بسَلْوَتيَّهْ

أنا الذي صِرتُ فيكمُ مَثيلاً ... لاقَيْتُهُ بالغَرام مُدَّعِيَّهْ ورُبَّ ليلٍ طرقْتُ حَيَّكمْ ... أزورُ في الحيِّ رَبْعَ مُنْيِتيَّهْ مَن يسحرُ الطّرْفَ حُسْنُ بَهجتِها ... إذا بدت بالجمالِ مُرتدِيَّهْ خُرْعُوبةٌ بالمَهَا لها شَبَهٌ ... رُعبوبةٌ بالظِّباءِ مُزْدرِيّهْ مَعشوقَةُ القَدِّ غادةٌ وأرَى ... ألحاظَها في النفوس مُعْتدِيَّهْ أتيْتُها والعيونُ راقدةٌ ... وأنْصُلُ القومِ غيرُ مُنْتضِيَّهْ لمَّا رأتْنِي رَبَّ الجَوَى عَلمت ... غَدَتْ لَثْنِي الوِسادِ مُتَّكِيَّهْ قالتْ أما خِفْتَ قومَنا فلقد ... خاطَرْتَ لمَّا قصدْتَ زَوْرَتِيَّهْ فقلت إنَّ المُحِبَّ مُهْجتُه ... للحَيْنِ في الحبِّ غيرُ مُتَّقِيَّهْ فبِتُّ في ليلتي أُسامِرُها ... وبُسْتُ فَاها النَّقِيَّ عَشْرَمِيَّهْ حتى بَدَا صُبْحُها فَفرَّقنا ... لا كان صبحٌ بدَأ بفُرْقَتِيَّهْ ومن مقطوعاته قوله: طِفْلٌ من العُرْبِ أحْوَى ... خِدْنُ الصِّبا والبَطالَهْ بَدا بوَجْهٍ كبدرٍ ... في جِيدِه الطَّوْقُ هَالَهْ وقوله مقتبساً في مليحٍ فقير الحال: تَصُدُّ وكم تَصدَّى منك كَفٌّ ... لِمَن لم يدْرِ قَدَّكَ يا مُفَدَّى وصَدُّك عن أُلِي أدبٍ وأمَّا ... مَن اسْتغْنَى فأنْتَ له تَصَدَّى وقوله: ألا لا تغْضبَنَّ لمَن تَعالَى ... ولا تُبْدِ الودادَ لِمَن جفاكَا ولا تَر للرِّجالِ عليك حَقّاً ... إذا هم لم يَرَوْا لك مثلَ ذَاكَا وقوله: كم ذا أُغَمِّضُ عيْني ثُمَّ أفتحُها ... والدهرُ ما زال والدنْيا بحَالتِهَا فليت شِعْرِيَ ما معنَى مَقالتِهمْ ... ما بيْن غَمْضةِ عَيْنٍ وانْتباهَتِهَا وقوله: وظَبْيٍ رَمانِي عن قِسِيِّ حَواجِبٍ ... بأسْهُمِ لَحْظٍ جَرْحُها في الهوى غُنْمُ على نَفْسِه فلْيَبْكِ مَن ضاع عُمْرُه ... وليس له منها نصيبٌ ولا سَهْمُ قد أكثر الشعراء تضمين هذا المصراع في هذا المعرض، والذي أخذ بنصيبه وسهمه القيراطي، حيث ضمنه في رياض دمشق، ومنها محلان، يقال لهما النصيب والسهم: دمشقُ بِوديها رِياضٌ نَواضِرٌ ... بها ينْجلِي عن قلبِ ناظرِها الْهَمُّ على نفسِه فلْيَبْكِ مَن ضَاع عُمْرُهُ ... وليس له منْها نصِيبٌ ولا سَهْمُ وله: أسألُ الرحمنَ ذا الفضْ ... لِ إلهَ العَرْشِ رَبِّي حُسْنَ نَظْمِ الأرَّجانِي ... ثم حَظَّ المُتنبِّي ومما رأيته بخطه، وقد نسبه إلى نفسه، قوله في تشبيه الحجر الأسود: الحجرُ الأسودُ شبَّهْتُه ... خَالاً بخَدِّ البيتِ زَاهٍ سَناهْ أو أنه بعضُ مَوالِي بني ال ... عباسِ بَوَّابٌ لِبَابِ الإلهْ وله في قناديل المطاف: تراءتْ قناديلُ المَطافِ لِناظِرِي ... على البُعْدِ والظَّلْماءُ ذاتُ تَناهِي كدائرةٍ من خالِصِ التِّبْرِ وَسْطها ... فَتِيتةُ مِسْكٍ وهْي بيتُ إلهِي وله في المنائر في ليالي رمضان: كأن المَنائِرَ إذْ أُسْرِجَتْ ... قَنادِيلُها في دَياجِي الظَّلامْ عَرائِسُ قامتْ عليها الحُلَى ... لتنْظُرَ بيتَ إلهِ الأنامْ إبراهيم بن محمد بن مشعل العبدلي السالمي أرق لطفاء الحجاز، وأوحد ذوي الإعجاز بالتطويل والإيجاز. له طبع نقيٌّ متقد، وشعر يختاره كل منتقٍ منتقد. تناهبت محاسنه الشوادي والحوادي، فحثت بها المدامة في الحانات والمطايا في البوادي. وقد أوردت له ما يستخف من الطرب القدود، ويغني عن الوردين ورد الرياض وورد الخدود. فمن ذلك قوله: لا أرَّق اللهُ مَن بالسُّقْمِ أرَّقنِي ... ولا شَفَى سُقْمَ لَحْظٍ منه أسْقَمنِي

ولا طَفى جَمْرَ خَدٍ منه مُلْتهِباً ... وإن يكنَ بالجفا والصدِّ أحْرقنِي وزاد في ضِيق خَصْرٍ منه ضِقْتُ به ... ذَرْعاً وأنْحَلَه إذ كان أنْحلنِي ولا عَدَا لُعْسَ هاتِيكَ الشِّفاهِ لَمىً ... وإن حَمى رَشْفها عنِّي وأعْطَشَنِي ولا اخْتفتْ من ثَناياه بَوَارِقُها ... وإن بكيْتُ لها بالعارضِ الهَتِن وشَدَّ أقْواسَ تلك الحاجِبيْن وإن ... غدت بنَبْلِ العيونِ النُّجْلِ ترشُقنِي ولم تزلْ شمسُ ذاك الحسنِ مُشْرِقةً ... في وجهِه لو بدمعِ العينِ شَرَّقنِي ودام أهْيَفُ ذاك القَدِّ في مَيَدٍ ... ولو أطار الحشا إذ صار كالغُصُنِ وضاعَف اللهُ ذاك الحسنَ أجْمَعَه ... ولو رماني بِضْعف الضُّرِّ في البدنِ أبْقاه في دَوْلةٍ بالحُسْن زاهرةٍ ... ولو جميلُ اصْطِبارِي في هَواه فَنِي وزاد ذاك المُحَيَّا بهجةً وسَناً ... وإن حَمى عن جفوني لَذَّةَ الوَسَنِ يا مَن جميعُ مَعانيه فُتِنْتُ بها ... لا أخْمَدَ اللهُ ما تُبْدِي من الفِتَنِ أحْسِنْ بوجهِك فالإحسانُ أجمعُه ... يليقُ لا غيرُهُ من وجهِك الحَسَنِ وله معارضاً قصيدة المهتار الهائية: كم مُهْجةٍ بالغرامِ مُنْسَبِيَّهْ ... وما لمِن يقتل الغرامُ دِيَّهْ فلْيَحْذرِ الحبَّ كلُّ مُحْترِشٍ ... به ففيه الحُتُوفُ مُنْطوِيَّهْ وفي رُبَا شِعْبِ عامرٍ رَشَأٌ ... له عيونٌ بالسِّحرِ مُمْتلِيَّهْ في حُسْنِه اليومَ صار مُنْتهِياً ... وعَشْقتِي فيه غير مُنْتهِيَّهْ كم شمس حُسْنٍ عليه مُشْرقةٌ ... منها بدورُ التّمامِ مُخْتفِيَّهْ إذا بدا مُقْبِلاً ولاح فقد ... جعلتُ منه الجَبِينَ قِبْلَتِيَّهْ لي مُهْجةٌ غَرَّها بِغُرَّتِه ... آهاً له عن صِيادِ غُرَّتِيَّهْ وما هَدانِي بصُبْح طَلْعتِه ... إلاّ بلَيْلِ الشُّعورِ ضلَّنِيَّهْ فحَبَّذا ذلك الضلالُ به ... لِمُهْجةٍ بالضلالِ مُهْتدِيَّهْ وأغْيدٍ ذُبْتُ من مَحبَّتِه ... ونفسُه بالجمالِ مُلْتهِيَّهْ مُحَسَّنِ الخلقِ أحْوَرٍ تَرِفٍ ... خِلْقتُه بالكمالِ مُسْتوٍيَّهْ للحسنِ في وَجْنتيْهِ كلٌّ حَلاَ ... مَاءٌ ونارٌ أحارَ فِكْرَتِيَّهْ فلم أنَلْ ماءَ وردِ وَجْنتهِ ... ومِن لَظاها أحْشايَ مُلْتظِيَّهْ لا تعجَبُوا إن فَنِيتُ فيه هوىً ... فذاتهُ للهلاكِ مُقْتضِيَّهْ ووَجْنةٍ بالجمالِ زاهرةٍ ... بنَرْجِسِ المُقْلتيْنِ مُحْتمِيَّهْ ورُبَّ خِدْرٍ طَرَقْتُ بَيْضتَه ... والليلُ ظَلْماه غيرُ مُنْجَلِيَّهْ وحَوْلَها من حُماتِها أُسدٌ على اضْطرابِ الحروبِ مُجْترِيَّهْ فانْتبهَتْ من لذيذِ نَوْمتِها ... تقول مَن ذا يحُلُّ غَرْزَتِيَّهْ فقلتُ صَبٌّ أذبْتِ مُهْجتَه ... بالحُسْنِ يابُغْيتي ومُنْيَتِيَّهْ قالت لقد رُمْتَ مَطلباً خَطِراً ... مِن دونه الموتُ يا مُتيَّمِيَّهْ أمَا رأيتَ الأسودَ رابِضةً ... أما رأيت السيوفَ مَنْتضِيَّهْ فقلتُ إن المحبَّ مُهْجتَهُ ... بالموتِ فيمن يحبُّ مُرْتضِيَّهْ وحبَّذا يا ابْنةَ الكرامِ إذا ... بلغْتُ في مُنْيتِي مَنِيَّتيَّهْ فيما حياةَ النفوسِ أنا مَن ... أعْشَقُ في الغانِياتِ مِيتَتيَّهْ فقالت الآنَ مَرحباً بفتىً ... قد عشِق الموتَ في مَحبَّتِيَّهْ وأرْشفتْني رَحِيقَ رِيقتِها ... والنْفسُ منِّي لذاك مُشْتهِيَّهْ

فرُحْتُ نَشْوانَ من مُقبَّلِها ... ورِيقِها ما ألَذَّ سَكْرَتِيَّهْ وفي ثَنايا نَقِيِّ مَبْسمِها ... شُهْدٌ عليه النفوسُ مُحتوِيَّهْ وما اجْتنَى الشُّهْدَ قَطُّ من بَرَدٍ ... غيْرِي فيَامَا ألَذَّ جَنْيَتِيَّهْ فعند ذا أنْعمتْ وما بخِلتْ ... ورُحْتُ أُثْنِي على مَحَبَّتيَّهْ ومن مقطعاته قوله: شمسُ الطِّلا بدري غدا ... لم يصْحُ من تعْليلِهَا فالرَّاح قتلة قتْلتِي ... وأنا قتيلُ قَتِيلِهَا ومثله قول الأديب محمد البوني: يا لَقَوْمِي إنِّي قتيلٌ ببدرٍ ... هو أضحَى قتيلَ شمسِ العُقارِ عَلِمَ اللهُ أنَّ قتْلِي حرامٌ ... فاشْغَلَنْهُ بها لتأخذَ ثارِي محمد بن أحمد البوني كوكب مجدٍ أضاء سناه، وحل بيتاً من الفخر ربه وبناه. بوجهٍ أضاء نوراً، فملأ القلب فرحة وسروراً. وسجيةٍ وارية الزناد، ذكر علاها عطر كل ناد. وله شعر في الرتبة العالية، يرخص عند مسك مداده الغالية. أثبتت منه ما يفوح فوحة الزهر عبقا، ويتمتع به من كان معتلقا بالشعر الرقيق ومستبقا. ما دام كأسُ المُحَيَّا باسمَ الشَّنَبِ ... فتَرْكُ لَثْمِي له من قِلَّةِ الأدبِ فاسْتجْلِها بنتَ كَرْمٍ مع ذوي كَرَمٍ ... مِن كَفِّ ساقٍ ببُرْدِ الحُسْن مُحْتجِبِ كالبدر يسْعَى بشمسِ الرَّاح في يدِه ... فاعْجَبْ لبدرٍ سعَى بالشمسِ للَّهَبِ إذا رَنا قلت خِشْفٌ في تَلفُّتِه ... وإن تثنَّى فغُصْنٌ ماسَ في الكُثُبِ مَن لي بها وهْي تُجْلَى في زُجاجتِها ... ومِن سَنَا مُؤْنسٍ باللهوِ والطَّرَبِ مَعْ رُفْقةٍ كالنجُومِ الزُّهْرِ ساطعةً ... حازُوا جميعَ النُّهَى والذَّوْقِ في العربِ والوُرْقُ تشْدو على الأغْصانِ قائلةً ... باكِرْ صَبُوحَك بالكاساتِ والنُّجُبِ وكتب إليه إبراهيم المهتار قصيدة، مستهلها: بقلبِيَ سيفَ اللَّواحِظِ سَنَّهْ ... وأفْرَضَ وَجْدِي وهَجْرِيَ سَنَّهْ فأجابه بقصيدة، أولها: أجبْتُك مولايَ من غيرِ مِنَّهْ ... فذَوْقُك قد خَصَّني الفضُ مِنَّهْ وإنِّي مُطِيعُك فيما أمرتَ ... به ووِدادِي كما تَعْهدَتَّهْ منها: عجبتُ لسحرِ عيونِ الظِّبا ... تصيدُ القساوِرَ من غَابِهِنَّهْ وهُنَّ الدُّمَى الخُرَّدُ الآنِساتُ ... ومَن لهمُ الشِّعْبَ أضْحَى مِظَنَّهْ فكم دون أخْدارِها مَهْلَكٌ ... وكم حولَه من جِيادٍ مُعَنَّهْ بِبيضِ الصِّفاح وسُمْرِ الرِّماحِ ... وصُفْرِ القِسيِّ وزُرْقِ الأسِنَّهْ فحيَّى حِمَى الشِّعْبِ من عامرٍ ... حياً هَمُّه سَقْيُ أطْلالِهِنَّهْ فثَمَّ الغَوانِي المِلاحِ الصِّباحِ ... يَرِنُّ الوِشاحُ بأعْطافِهِنَّهْ إذا مِسْنَ ما بين تلك الخُدورِ ... تُحاكِي الْقَنا لِينَ قامتِهِنَّهْ فطيرُ الحَشَا لم يزَلْ واجِباً ... عليهِنَّ إن لُحْنَ في حَيِّهنَّهْ ومن ثَمَّ أحْوَى بديعُ الجمالِ ... حوَى اللُّطْفُ والظُّرْفَ مِن بَيْنِهنَّهْ رَشاً خَصْرُه مُضْمَرٌ ناحِلٌ ... إذا قام والرِّدْفُ ما أرْجَحَنَّهْ فوَجْنتُه منذُ دَبَّ العِذارُ ... حكَتْ يا ذَوِي العِشْقِ ناراً وجَنَّهْ قوله: فطير الحشا قد غدا واجبا، أحسن فيه وأجاد. وطيور الواجب المتعارفة عند أرباب القوس والبندق أربعة عشر، وهي: الكركي، والشبيطر، والعنز، والسوغ، والمرزم، والغرنوق. وهذه الستة يقال لها: قصار السبق. والنسر، والعقاب، والإوز، والتم، واللغلغ، والأنيسة، والكوى. ويقال لها: طوال السبق. وإنما قيل لها طيور الواجب؛ لأن الرامي كان لا يطلق عليه لفظ الرامي، إلا بعد قتله هذه بأجمعها بالبندق وجوباً صناعياً.

ومن مقاطيعه قوله: أنْحَلَ اللهُ خَصْرَ ذاتِ المِثالِ ... فهْي واللهِ لا ترِقُّ لحالِي وأراني ألْحاظَها في انْكسارٍ ... ولَظَى جَمْرِ خدِّها في اشْتعالِ وأصلُه قول ابن الرومي: أنْحَلتْني حبيبتي ... أنْحَلَ اللهُ خَصْرَهَا كسَرتْني جفُونُها ... ضاعَف اللهُ كَسْرَهَا ومثله قول إبراهيم بن مشعل: أضْعَفَ الجسمَ فاتِنِي ... ضاعَف اللهُ حُسْنَهُ سَقَمِي من جُفونِه ... لا عدا السُّقْمُ جَفْنَهُ وقوله: لا طفا اللهُ جَمْرَ خَدِّ حبيبٍ ... قد كَوانِي بهَجْرِه والصُّدودِ وحَماه من عارِض وأراني ... سُقْمَ عيْنيْه دائماً في مَزِيدِ فخر الدين أبو بكر بن محمد الخاتوني أديبٌ منطبع السليقة، متكافىء الخلق والخليقة. قلد الطروس فخراً بكلمه، وحشر الصواب بين بنانه وقلمه. وجرى طلقاً في ميدان القريض، فدلت على سبقه كلمة الكلمة بالتصريح والتعريض. وقد رأيت له قطعاً فذة، منازعها مستلذة. فمنها قوله في غربية المكية، وقد هام بها هيمان المعتمد بالرميكية. رُبَّ سَمْراءَ كالمُثقَّفِ لَمَّا ... خطَرتْ في الغلائلِ السُّنْدُسِيَّهْ غادةٌ تسلُبُ العقولَ ولا بِدْ ... عَ وأعمالُ طَرْفِها سِحْريَّهْ جُبِلتْ ذاتُها من المَنْدَلِ الرَّطْ ... ب ففاقتْ على الرِّياض الزَّكِيَّهْ مالَها في الغُصونِ نِدٌّ وليس النَّ ... دُّ إلاَّ من ذاتِها المِسْكِيَّهْ منها: هي للقلبِ مُنْيةٌ ولكم مِن ... صَدِّها الصَّبُّ ذاقَ طعمَ المَنِيَّهْ ذاتُ لَحْظٍ وَسْنانَ يَفْعل ما لمْ ... يفعلِ السيفُ في قلوبِ الرَّعِيَّهْ ومُحَيّاً مِن دونِه يخْسَف البَدْ ... رُ إذا لاح في الليالي البَهِيَّهْ حَوَتِ الحُسْنَ كلَّه فهْي ممَّا ... أبْدَعَ اللهُ صُنْعَه في البَرِيَّهْ شَبَّهوها عند التلفُّتِ بالظَّبْ ... يِ وهيْهات ما هُما بالسَّوِيَّهْ كلُّ شيءٍ يخْفَى إذا ما تبدَّتْ ... وهْي كالشمسِ لا تزال مُضِيَّهْ ليت شِعْرِي وأيُّ شمسٍ بشرقٍ ... لك تبْقَى إذا بدتْ غَرْبِيَّهْ وله يرثي السيد أحمد بن مسعود، لما بلغه خبرُ موتِه: على فَقْدِ بدر التِّمِّ أحمدَ لْتَجُدْ ... لعُظْمِ الأسَى من كلِّ نَدْبٍ شُئونُهُ وإلاَّ فمن يا ليت شِعْرِيَ بعدَه ... إذا هي لم تسمحْ تسِحُّ جُفونُهُ فتىً كان والأيامُ للجَدْبِ كُلَّحٌ ... إذا أمَّه العافِي أضاءَ جَبِينُهُ فتُبْصِرُ بدراً منه قد تمَّ حسنُه ... وتنْشَق روضاً قد تناهَتْ فُنونُهُ تجود وإن أوْدَى الزمانُ يَسارُه ... بما قد حَوَتْ من كلّ وَفْرٍ يَمِينُهُ فقُل للذي قد جَدَّ في طَلَبِ النَّدَى ... رُوَيْدَك إن الجودَ سارتْ ظُعونُهُ وقد غاب من أُفْقِ الكمالِ مُنِيرُه ... كما غار من بحرِ النَّوالِ مَعِينُهُ وأصبح وجهُ المجدِ للحُزْن كالِحاً ... كأنْ لم تكن من قبلُ قرَّتْ عيونُهُ سأبْكيه والآدابُ أجمعُها معي ... بدمعٍ تَوَدُّ السُّحْبُ يوماً تكونُهُ ولِمْ لا عليه الفخرُ يبْكي تأسُّفاً ... وقد حُقَّ منه البَيْنُ وهْو خَدِينُهُ فذاك الذي عن مِثْلِه يقْبُح العَزَا ... ويحسُن إلاَّ مِن هواه سكونُهُ عليه من الله التحيَّةُ ما وفَتْ ... بفُرْقتِه من كلِّ حَيِّ مَنونُهُ ورحمتُه ما حَنَّ أوْ ناحَ وَالِهٌ ... نأَى عنه من بعدِ التَّدانِي قَرِينُهُ وله في الفوارة: ألا مِلْ إلى روضٍ به بِرْكَةٌ زَهَتْ ... بفَوَّارةٍ فيها كفَصٍ من الْمَاسِ إذا ما أتاها زائرٌ قام ماؤُها ... فأجْلَسَه منها على العَيْنِ والرَّاسِ

علي بن القاسم بن نعمة الله المعروف بالمنلا وجده الرابع من آبائه الشيخ ظهير الدين، علامة شيراز في زمانه، وسر التحقيق الذي أظهره الدهر بعد كتمانه. وعلي هذا فرعٌ من فروع دوحته، بان فضله من حين جيئته وروحته. فظهر أوان الظهور وساد، وشاد من دعائم مجده المؤثل ما شاد. بهمةٍ إلى صرف العلى مصروفة، وشيمةٍ بإسداء المعروف معروفة. وأما فضله فالبراعة ميدان مجاله، والنباهة محل رويته وارتجاله. وله شعر سهل طريقه وساغ، فانساغ مع الرقة ألطف مساغ. فمنه قوله، مضمنا: ولمَّا أتتْني من جَنابِك نَفْحةٌ ... تضَوَّع من أنْفاسِها المسكُ والنَّدُّ وقفْتُ فأتْبعْتُ الرسولَ مُسائِلاً ... وأنْشدْتُه بيتاً هو العَلَمُ الفَرْدُ وحدَّثْتني يا سعدُ عنها فزِدْتني ... شُجوناً فزِدْنِي من شجُونِك يا سعدُ والبيت المضمن للعباس بن الأحنف، وبعده: هَواها هَوىً لم يعرِف القلبُ غيرَه ... فليس له قَبْلٌ وليس له بَعْدُ وله، وكتبه في صدر كتاب: أناخَ بسُوحِي جيشُ همٍ وإبْطالِ ... وأضحَى قَرِينَ القلب من بعدِ تَرْحالِ وما فَلَّ ذاك الجيشَ غيرُ صَحِيفةٍ ... تجِلُّ لَعَمْرِي عن شَبِيهٍ وأمْثالِ أتَتْ تسلُب الألبابَ طُرّاً كأنها ... رَبيبةُ خِدْرٍ ذاتُ سِمْطٍ وخَلْخالِ أتَتْ من خَليلٍ قثربه غاية المُنى ... ومنظرُه الأَسْنى غدا جُلَّ آمالي فلا زال مَحْفوظاً عن الحُزْنِ والأسَى ... ولا زال مَحْفوفاً بعِزّ وإجْلالِ ولده أحمد هو في هذه الأخلاف، يذكر بما يذكر به كبار الأسلاف. من تقوى تعمر بها ظاهره، ومن صيانةٍ تجملت بها مظاهره. وقد رأيته بمكة المعظمة، وفرائد آدابه بليت الزمان منظمة. وهو من النعمة في ظلٍ رطيب المطارح، ومن الكرامة في حمىً رحيب المسارح. فتناولت من مناظيمه قطعاً كحدائق الجنان، فدونك منها ما يتمتع به الطرف والجنان. فمنها قوله، من قصيدة أولها: يا أخِلاَّئي بجَرْعاءِ الحِمَى ... ما لِصافِي وُدِّنا عاد أُجاجَا وليالٍ بِمنىً قَضَّيْتُها ... مَعْ نَدِيمٍ لم يكنْ في الحب دَاجَا ومِليح كاملٍ في حُسْنِه ... يفضَح الأقمارَ حُسْناً وانْبِلاجَا فسعَى في شَتِّنا دهرٌ بَنَى ... بيْننا من فادِح البَيْن رِتاجَا فتنَاءَوْا وتبدَّلْتُ بهم ... فِتْنةً حادتْ عن الحقِّ اعْوِجاجَا وقوله من أخرى: سقى اللهُ رَبْعاً بالأجارعِ من هندِ ... وحَيَّى الحْيَا وادِي الأراكةِ والرَّنْدِ مَغانٍ بها كان الزَّمانُ مُساعدِي ... بأفْنانِ بِشْرٍ من أسِرَّتِه يُبْدِي ورِيمٍ إذا ما لاح ضوءُ جَبينِه ... بفَرْعٍ حكَى لَيل التَّباعُدِ من هنْدِ أرَانا مُحَيّاً كالغزالةِ في الضحى ... أو البدرِ في بُرْجِ التَّكامُلِ والسَّعْدِ له مُقْلةٌ وَسْناءُ ترشق أسْهُماً ... تُصِيب الحشَا قبلَ الجوارِحِ والجِلْدِ وثَغْرٌ إذَا ما ضاءَ في جُنْحِ دامِسٍ ... توهَّمْتَ دُرّاً قد تنضَّد في عِقْدِ يُدير به ظَلْماً كأنَّ مَذاقَهُ ... جَنَى الطَّلْعِ أو صِرْفُ السُّلافِ أو الشُّهْدِ وتالِعُ جيدٍ ما الغزالةُ إن عَطَتْ ... بمُنْعرجِ الجَرْعاءِ طالبةَ الوِرْدِ وصَعْدَةُ قَدٍ إن تُقل غُصُن النَّقَا ... يقول لها هيْهات ما ذاك من نِدِّي ورِدْفٌ تَشكَّى الخَصْرُ أعْباءَ ثُقْلِهِ ... فنَاء به حتى تضاءَلَ عن جُهْدِ فلله هاتيك الليالي التي خَلَتْ ... وعُوِّضْتُ عنها بالقَطِيعة والبُعْدِ وأصبحتُ والأحشاءُ يذْكُو لَهِيبُها ... ألِيفَ النوى حِلْفَ الجوى دائمَ السُّهْدِ

أروح وأغْدُو واجِداً بين أضْلُعِي ... لَهِيبَ جَوىً لم يخْلُ حِيناً من الوَقْدِ أعَضُّ بَنانِي حسرةً وتأسُّفاً ... وأنْدُب عصراً لم أبِتْ خالياًَ وحْدِي وأُرْسِلُ دَمْعاً كالغمَامِ إذا هَمَى ... فهيْهات أن يُغْني التأسُّفُ أو يُجْدِي إلى الله أشْكُو جَوْرَ دهرٍ إذا عَدَا ... على المرء حَاجَاه بألْسِنَةِ لُدِّ وقائلةٍ والعيْشُ يُزعِجُه النَّوَى ... وعَبْرتُها كالطَّلِّ يسقط في الوَرْدِ لبئس المُنَى أن تقطعَ البِيدَ بالسُّرَى ... وترْحلَ عن وادِ المُحصَّبِ للهِنْدِ فقلتُ لها ما القَصْدُ واللهِ مُنْيَةً ... ولا نَيْلَ سُؤالٍ من عَرُوضٍ ومن نَقْدِ ولكنْ لأقُضِي شُكْرَ سالِفِ نِعْمةٍ ... مُشيَّدةِ الأرْكانِ بالأَبِ والجَدِّ لأكْرَمِ مَوْلىً ألْبَستْ يدُه الوَرى ... مَطارِفَ نَعْماءٍ تجِلُّ عن الحَدِّ ومن شعره قوله مجيباً لصاحب السلافة، عن أبيات كتبها إليه، لغرضً عرض: أبا حسنٍ لا زال سَعْدُك غالباً ... وجَدُّكَ مَسْعوداً ونَجْمُك ثاقِبَا ولا زالتِ العَلْياءُ تُجْنَى ثِمارُها ... لَديْك وتَحْوِي في المَعالي الأطايِبَا أتاني قَرِيضٌ منك قد جرَّ ذيلَه ... على الأطْلَسِ الأعْلَى وفاق الكَواكبَا يُشِير إلى خِلٍ تغيَّر وُدُّهُ ... وأصبح من بعدِ التَّحابِي مُحارِبَا أبَى اللهُ أن يَثْنِي عِنانَ وِدادِه ... ولو مَطَرتْ سُحْبُ الغوادِي قَواضِبَا ولكنه يا مَفْخَرَ العربِ امْرُؤٌ ... يُجرَّع من هذا الزمانِ مَصائِبَا فجرَّد عَزْماً للتَّجافِي عن الورى ... وأصبح مُنْحازاً عن الخلقِ جانِبَا فصبراً لهذا الدهرِ إنَّ صُروفَه ... لَعَمْرُكَ تُبْدِي من قضاها عجائِبَا سيصْفو شرابٌ مَرَّ دهراً مُكدَّراً ... ويرضَى مُحِبٌّ ظلَّ حِيناً مُغاضِبَا فإن ضميرِي لا يزال مُنازِعِي ... بأنَّك تَرْقَى في المَعالي مَراتِبَا مَراتِبُ تسْمُو للسِّماكَيْن رِفْعةً ... تقُود بها خَيْلَ الفخار جَنائِبَا فذلك عندي عن تَقيٍ مُكَرَّمٍ ... صَدُوقٍ إذا ما قال لم يُلْفَ كاذِبَا وما زلتُ أرْعَى قولَه في مَواطنٍ ... فألْفيْتُه ثَبْتَ المَقالةِ صائِبَا ودُمْ رَاقِياً للمجدِ أرْفعَ رُتْبةٍ ... تُبيدُ الأعادي أو تُنيِل الرَّغائِبَا أحمد بن أبي القاسم الخلي من أولى الناس للمجد تفصيلا، وأحقهم للترجيح تكميلاً وتفضيلا. لم ترفع عن أحسن من محاسنه النقب، ولم تتشرف بأفضل من مآثره الحقب. ولقد منيت به في إحدى ثلاثة منى، وحصلت منه على ما كنت أتوقعه من أمنيةٍ ومنى. في هنيئة أقصر من رجعة طرف، وأخصر من كتابة حرف. فرأيت فاضلاً ألقى دلوه في بحر الأدب فنزفه، ومد إلى غصنه الفينان فقطفه. وأنشدني من شعره ما تحسد اتساقه الثغور، وتغزله شهب السماء فتغور. فمنه قوله من قصيدة: حَيَّى الْحَيَا مَراتِعاً بنَجْدِ ... قد طاب فيها صَدَرِي ووِرْدِي مَراتعاً كنتُ سميراً للدُّمَى ... بها وتِرْبَ ناهِدات النَّهْدِ من كلِّ هَيْفاءِ القَوام غادةٍ ... يبْسَم فَاها عن لآلِي عِقْدِ إذا انْثنَى بالدَّلِّ لَدْنُ قَدِّها ... فأين منه عَذَباتُ الرَّنْدِ ثقيلةُ الرِّدْفِ هضِيمةُ الحشا ... يحْكيهما تجلُّدِي ووَجْدِي ضعيفةُ الخَصْرِ ولكن فِعْلُه ... في القلبِ أبْلانِي بضَعْفِ الجُهْدِ كثيرةُ الخُلْفِ فما لِصَبِّها ... مَطْلُ وَعِيدٍ ونَجازُ وَعْدِ

مَيَّالةُ العِطْفِ لغيرِ عاشقٍ ... مَلُولةُ الإلْفِ لغيرِ الصَّدِّ رَيَّانةُ الجسمِ يظَلُّ شارِقاً ... دُمْلُجُها مِنها بماءِ الزَّنْدِ لها مُحَيّاً كالصباحِ أبْلَجٌ ... من فوقهِ ليلٌ أثِيثٌ جَعْدُ وناظرٌ أجْرَى دموعَ ناظرِي ... وَقْفاً على عامِلِ ذاك القَدِّ وحاجبٌ حجب عن جَفْنِي الكَرى ... كأنه مُوَكَّلٌ بالسَّرْدِ شكَوْتُ ما ألْقَى لِقاسِي قَدِّها ... هيهْات هل تعْطِف من صَلْدِ يا قلْبَها إن كنتَ صخراً إنني ال ... خَنْساءُ فارْحَمْ لَوْعتِي وسُهْدِي وقوله من قصيدة نبوية، مطلعها: مَن لصَبٍ في الحبِّ أفْنَى زمانَهْ ... وهو إلْفُ اسْتكانةٍ وزَمانَهْ قد بَراهُ الهوى فصار خيالاً ... لو أتَى عائدٌ لضَلَّ مكانَهْ لَذّ ذُلُّ الهوى وهو حُرٌّ ... فهْو يهوَى الهَوى ويهْوَى هَوانَهْ كلَّما هبَّتِ الصَّبا هام شوقاً ... لزَرُودٍ وهيَّجَتْ أشْجانَهْ يا رعَى اللهُ عصرَ أُنْسٍ تقضَّى ... بربُاها وما قضَيْتُ لُبانَهْ وسقَى صَيِّبُ الغمامِ ثَراها ... لا دموعِي ودِيمَةٌ هَتَّانَهْ أنا أخْشَى من دمعِ عيني عليها ... قد رأيتمُ يوم النَّوَى طُوفانَهْ يا خليلِي إذا أتيْتَ إليها ... وتراءَتْ تلك القِبابُ المُصانَهْ قِفْ بها ساعةً وسَلْ عن فؤادي ... سَاكِنِيها لعل تعرِفُ شَانَهْ أخذُوه يومَ الوَداعِ الأُحَيْبا ... بُ كأنَّ الفؤادَ عندي أمانَهْ تركُوني جسماً ولا قلبَ فيه ... ما حَياتي واللهِ إلاَّ مَجانَهْ يا عَذ ُولِي إليك عنِّي فلا قلْ ... ب أَراه فأرْتجِي سُلْوانَهْ أجنُونٌ أصاب عاذِليَ الغِمْ ... رَ وإلاَّ مثلي أضاع جَنانَهْ ما درَى أن عَذْلَه يُضْرِمَ الوَجْ ... دَ أجَلْ لو درَى لألْوَى عِنانَهْ أتُراه من بعد أن شِبْتُ في الْحُبِّ ... وأصبحتُ في الهوى تُرْجُمانَهْ ينتهي في صَرْف قلبي الأما ... ني فالأماني بُروقُها خَ، انَهْ كيف صَرْفُ الفؤاد قُلْ لي وهذا ... حُسْنُ ليلَى عَمَّ الوجودَ فزَانَهْ لو رآها رأى الذي يبْهر العقْ ... لَ وينْسَى الرَّائِي به أحْزانَهْ إنّ داعِي جمالِها قام يدعو ... مُوضِحاً للصِّبابها بُرْهانَهْ جَلَّ مَن صاغَها طريقاً إلى الرُّشْ ... دِ وأُنْمُوذَجاً يُرينا جِنانَهْ نُزْهةٌ للعيون ننْظُرُ فيها ... قمراً مُشرِقاً على خُوطِ بَانَهْ وجَبِيناً يحْكِي الهلالَ وفَرْعاً ... مثلَ لَيْلِي إذا انثنَتْ غَضْبانَهْ وعيوناً لا شكَّ عندي هي الدُّن ... يا أراها قَتَّالةً فَتَّانَهْ وثَنايَا كأنَّهُنَّ الَّلآلِي ... ورُضاباً أظنُّه خمْرَ حَانَهْ طالما أخمدَتْ به وَهَجَ القلْ ... بِ المُعَنَّى وأطْفأتْ نِيرانَهْ وأتتْني من غيرِ سابقِ وَعْدٍ ... تتهادَى كأنَّها نَشْوانَهْ فامْتزجْنا من العِناقِ وبِتْنَا ... في سرابيلِ عِفَّةٍ وصِيانَهْ نتَعاطَى من الحديثِ كؤُوساً ... هيَ أشْهَى من أكْؤُسٍ مَلآنَهْ ثم قالتْ خُذْ في مَدائِحِ طه ... عَيْنِ هذا الوجودِ بل إنْسانَهْ وله من موشح مستبدع، مستهله: حتَّى متَى هذا الرَّشا الأكْحَلْ ... بَاهِي الجَبِينْ غيري يَفِي وها أنا أُهْمَلْ ... الله يُعِينْ ما حِيلتِي قد زاد بي البَلْبَالْ ومُهْجتِي تقطَّعتْ أوْصالْ

وعَبْرتِي كالعارِضَ الهَطالْ قد شَتَّتا نَوْمِ وقد أبْطلْ ... حَوْلِي المتينْ مَن مُنصِفِي منه وما أعملْ ... يا مسلمينْ هَويتُه حلوَ اللَّمَى أرْعَنْ شَتِيتُه كاللؤلُؤِ المُثْمَنْ فليْته يُبيحُنِي مِن أنْ وَاحَسْرتَا إن كُنتُ لا أحْملْ ... مَن ذَا المُعينْ وينْطفي في القلبِ ما أشْعَلْ ... وَجْدِي سِنِينْ أصْمَى الْحَشا بطَرْفِه النَّبَّالْ وأدْهشَا لُبِّي وعقلي زالْ ولو يَشا ما صِرتُ في ذا الحالْ تفَّتتا قلبي بما حَمَلْ ... أنتَ الضَّمِينْ يا مُتْلفِي ظُلْماً وقد أجْمَلْ ... حَلَّ اليمِينْ ما بَراحٌ عن حُبِّه كَلاَّ ولا سَراحٌ عن عِشْقِه أصْلاَ إلاَّ امْتداحُ خير الورَى أصْلاَ من قد أتَى من ربِّنا مُرْسَلْ ... للعالَمينْ المُقْتفِي والسيِّدُ الأكْمَلْ ... طه الأمينْ وله من آخر: يا مَن لقتْلِي ظُلْماً أحَلاَّ ... والقلبَ حَلاَّ مَن لدمِ المسلمِ اسْتحلاَّ ... ما قَطُّ حَلاَّ جَفاك طَعْمَ المَنونِ حَلاَّ ... والصبرَ حَلاَّ لم يحْكِكَ الظَّبْيُ لو تجلَّى ... فأنتَ أحْلَى يا مُنْيةَ القلبِ كم تدورُ على هَلاكِي وكن تجورُ هذا من الدَّلِّ أم غرورُ جرَّدْتَ من مُقْلتيْكَ نَصْلاَ ... ورُشْتَ نَبْلاَ أثْخَنْتَ لمَّا أمِنْتَ عَقْلاَ ... نَهْباً وقَتْلاَ اللهَ في عاشقٍ غريبِ ... مُضْنىً كئيبِ أضْحَى من النَّوْحِ والنَّحيبِ ... كعَنْدَلِيبِ فارجِعْ إلى اللهِ من قريبِ ... وكُنْ مُجيبي وامْنَح المُسْتهامَ وَصْلاَ ... فالقلبُ يَصْلَى حُمِّلْتُ ما لا يُطاقُ أصْلاَ ... عَقْلاً ونَقْلاَ يا كاملَ الْحُسْنِ والجمالِ يا بارعَ الغَنْجِ والدَّلالِ يا فاضحَ الغُصْنِ والغزالِ أنت من النَّيِّريْن أعْلَى ... سَناً وأغْلَى وجْهُك للبدرِ لو تجلَّى ... به تَمَلَّى أضعْتَ عُمْرَ الشَّجِيِّ قَصْدَا ... هَجْراً وصَدَّا لم تَرْعَ لي يا مَلُولُ وُدَّا ... وخُنْتَ عَهْدَا وسِرْتَ تسْطُو عليَّ عَمْداً ... لم تَخْشَ حَدَّا حَلَفتَ من قبل ذاك أنْ لاَ ... تُسِيءَ فِعْلاَ نَسِيتَ لي ذِمَّةً وإلاَّ ... فاعْطِفْ وإلاَّ أخوه محمد هو لروضه شقيق، ومثله بالمدح حقيق. مشحوذ سنان البيان، مصقول أطراف البنان. وأنا وإن لم أتمل برؤية جماله، فقد استمليت طرفاً من خبر فضله وكماله. وقد أهدى إلي تحفاً من أشعاره الغضة، فأخذت من راحها بالمصة ومن تفاحها بالعضة. فمما جردته منها قوله: باللهِ يا ريحُ هُزِّي غُصْنَ قامتِه ... وحاذِرِي العارِضَ النَّمَّامَ في السَّحَرِ وشَوِّشِي رَوْضَ خَدَّيْه على عَجَلٍ ... ثم انْتَحِي نحو ذاك المَبْسَمِ العَطِرِ وضَمِّخِي الكونَ من رَيَّاه وانْتهِزِي ... لي فُرْصةً بين ذاك الوِرْدِ والصَّدَرِ وعانقِي قَدَّه الزَّاهِي فمما لِشَجٍ ... إلاَّكِ شافيةٌ قد جاء في الخَبَرِ وحدِّثيه بأنِّي في هَواه لَقىً ... قد حالفتْنِي يدُ الأسْقامِ والغِيَرِ مُبَلْبَلُ البالِ أرْعَى النجمَ مُكْتئِباً ... نَحِيلَ جسمٍ صَرِيعَ الدَّالِّ والحَوَرِ

كأنَّ عَيْنِيَ لا تَهْدِي بها رَمَدٌ ... وأن أهْدَابَها قُدَّتْ من الإِبَرِ لعل مَسْراكِ يُطفِي ما تضَمَّنَه ... قلبٌ تَقَّسم بين الوَجْدِ والفِكَرِ للهِ أنْتِ فكم طَوَّقْتِنِي مِنَناً ... سَحْبانُ في وَصْفِها يُعْزَى إلى الحَصَرِ لأشْكُرنَّكِ ما غَنَّتْ مُطوَّقةٌ ... على الغصونِ بذاتِ الضَّالِ والسَّمُرِ وما سرَى البَرْقُ وَهْناً من ديارِهمُ ... وما هَمَى العارِضُ الرَّجَّافُ بالمطرِ وقد عارض بها أبيات الطغرائي، التي أولها: بالله يا ريحُ إن مُكِّنْتِ ثانيةٍ ... من صُدْغِه فأقِيمِي فيه واسْتَتِرِي وقوله: ولقد ذكرتُك والنجومُ سَواهِمٌ ... والجَوُّ من نَقْعِ السَّلاهِبِ مُظلِمُ والْحَرْبُ تُسْعر بالحرُوب كُماتها ... والبِيضُ تُنْثَر والعَوالِي تُنْظَمُ وكأنما خُضْرُ الدُّروعِ مَجَرَّةٌ ... وسَنَأ المَغافرِ في سَنَاها أنْجُمُ فغدَوْتُ أقْتحِمُ المَعامِعَ إذْ حَكَتْ ... مَعْنىً لحسنِك أبْلَجاً يتبسَّمُ هذا الأسلوب استعمله الشعراء كثيراً. قال مجنون ليلى: ذكرتُك والحَجِيجُ له ضَجِيجٌ ... بمكةَ والقلوبُ لها وَجِيبُ مصعب بن زرارة: ولقد ذكرتُكِ والمَنِيَّةُ بيْننا ... تحت الخَوافِقِ والقلوبُ خَوافِقُ الوزير أبو الحسن بن القبطرنة: ذكرتُ سُلَيْمَى وحَرُّ الوَغَى ... بقلبِيَ ساعةَ فارقْتُهَا وأبصرتُ بين القَنا قَدَّها ... وقد مِلْنَ نَحْوِي فقبَّلْتُهَا أبو طالب الرقي: ولقد ذكرتُكِ والظلامُ كأنه ... يومُ النَّوَى وفؤادُ مَن لم يَعْشَقِ عطية السلمي: ولقد ذكرتُكِ والرِّماحُ تنُوشُنِي ... عند الإمامِ وساعدِي مَغْلُولُ ولقد ذكرتُك والذي أنا عبدُه ... والسيفُ بين ذُؤابتي مَسْلُولُ أبو حيان: ولقد ذكرتُكِ والبحرُ الخِضَمُّ طَغَتْ ... أمْواجُه والورى منه على حَذَرِ مثله لابن رشيق: ولقد ذكرتُكِ في السفينةِ والرَّدَى ... مثتوقَّعٌ بِتلاطُمِ الأمْواجِ وعلَتْ لأصحابِ السفينةِ ضَجَّةٌ ... وأنا وذِكْرُكِ في ألَذِّ تَناجِي الصفي الحلي: ولقد ذكرتُكِ والجَماجِمُ وُقَّعٌ ... تحت السَّنابِكِ والأكُفُّ تطِيرُ والْهَامُ في أُفُقِ العَجَاجةِ حُوَّمٌ ... فكأنَّها فوق النُّسُورِ نُسورُ فظَنَنْتُ أني في مجالسِ لَذَّتِي ... والرَّاحُ تُجْلَى والكؤوسُ تدُورُ وقال أيضاً: ولقد ذكرتُكِ والعَجاجُ كأنه ... مَطْلُ الغَنِيِّ وسوءُ عَيْشِ المُعْسِرِ فظننْتُ أني في صَباحٍ مُسْفِرٍ ... من ضَوْءِ وجهِك أو سَناءٍ مُقْمِرِ الطغرائي، وما أرق قوله: إنِّي لأَذْكرُكم وقد بلَغ الظَّمَا ... منِّي فأشْرَقُ بالزُّلالِ الباردِ وأقولُ ليت أحِبَّتِي عايَنْتُهمْ ... قبل المَماتِ ولو بيومٍ واحدِ أبو عطاء السندي الحماسي: ذكرتُكِ والخَطِّيُّ يخطِر بَيْنَنا ... وقد نهِلتْ مِنَّا المُثَقَّفَةُ السُّمْرُ مثله: وإني جُلْتُ في جيشِ الأعادِي ... برُمْحِي وهْو في فكرِ يجُولُ مجير الدين بن تميم: ولقد ذكرتك حين أنْكَرَتِ الظُّبا ... أغْمَادَها وتعارفَتْ في الْهامِ والنَّبْلُ من خَلَلِ الغُبارِ كأنه ... مُنْهَلُّ قَطْرٍ من فُروجِ غَمامِ فاسْتَصْغرَتْ عيْنايَ أفْواجَ العِدَى ... والموتُ خَلْفِي تارةً وأمَامِي ابن مطروح: ذكرتُكم والعَوالِي في الطُّلَى تَرِدُ ... في مَوْقفٍ فيه يَنْسَى الوالدَ الوَلَدُ وما نسيْتُكِ والأرْواحُ سائِلةٌ ... على السيوفِ ونارُ الحربِ تَتَّقِدُ وقال أيضاً:

ولقد ذكرتكِ والصَّوارِمُ لُمَّعٌ ... من حَوْلِنا والسَّمْهَرِيَّةُ شُرَّعُ وعلى مُكافحةِ السيوفِ ففي الْحَشَا ... شَوْقٌ إليكِ تَضِيقُ عنه الأضْلُعُ ومن الصِّبا وهَلُمَّ جَرّاً شِيمَتِي ... حْفْظُ العهودِ فكيف عنها أرْجِعُ عبد الله بن حسين بن محمد بن أحمد بن مبارك بن طرفة السالمي ابن طرفة طرفة طرف، لم يهجر منه للبراعة طرف. فهو الشاعر الظريف، الحائز من الكمال التالد والطريف. تجمل بأهداب الآداب، تجمل الأجفان بالأهداب. فأقلامه تصوغ الدراري، وقراطيسه يضوع منها الداري. بعباراتٍ عنبريةٍ، وإشارات عبيرية. فدونك منها أزهار رياضٍ بعرفِ النشق تتنسم، ولآلىء ثغورٍ عن ماء الحياة تتبسم. فمنها ما كتبه إلى أحمد الخلي المذكور آنفاً: مَن لقلبٍ دائمِ الحَزَنِ ... ليس يخْلُو الدهرَ من شَجَنِ ضاق ذَرْعاً بالهمومِ فهل ... ماجدٌ يُنْجِي من المِحَنِ يشْتكي الدهرَ عَلَّ عسَى ... يلْتجِي منه إلى سَكَنِ قد أضاعَ الوقتَ في نَفَرٍ ... كالرِّياضِ الخُضْرِ في الدِّمَنِ ظاهراً راقُوا وقد خَبُثُوا ... باطناً فَعْماً مِن الإحَنِ وغَنُوا بالمالِ عن أدَبٍ ... وبهم فَقْرٌ إلى الرَّسَنِ وغَدَوا عارِين من حَسَبٍ ... واكْتَسَوا بالقُبْحِ والدَّرَنِ فأنا ما بين أظْهُرِهمْ ... كغريبِ الدَّارِ والوَطَنِ صابرٌ عَلَّ الزمانَ يفِي ... بصديقٍ قَطُّ لم يَخُنِ وهْو في ظَنِّي ابنُ قاسم لا ... خَيَّبَ المَوْلَى به ظِنَنِي أحمدُ المحمودُ سيِّدُنا ... مالكُ الأفْضالِ والمِنَنِ من تسامَى أن يُحِيطَ به ... وَصْفُ مِنْطِيقٍ من اللَّسَنِ فاضلٌ لم يَأْلُ مجتهداً ... في طِلابِ المجدِ ليس يَنِي فاق في فضلٍ أُبُوَّتَهُ ... وجَرى منهم على السَّنَنِ وهمُ أبناءُ مَحْمَدةٍ ... فِعْلُهم يَرْوِي عن الحسَنِ شهدتْ في ذا فضائلهُ ... وعرَفْنا العِرقَ بالغُصُنِ يا شهابَ الدين صِخْ لفتىً ... وُدُّه باقٍ على الزَّمَنِ ليس يرجُو منك غيرَ وَفاً ... فاشْتَرِ عَبْداً بلا ثَمنِ بيننا في وُدِّنا نسَبٌ ... ليس يخْفَى ذا على فَطِنِ واحْتكِمْ ما شئتَ فيه على ... وَفْقِ ما ترضَى له تكُنِ وابْقَ واسلَمْ ما تفَنَّن في ... سَحَرٍ طيرٌ على غُصُنِ وأتبعه بنثرٍ صورته: يا سيدي الأعلى، وكنزي وشهابي الأسنى، وروضتي الغنا. دام علاك، وهدم بناء عداك. ولا زلت مأمون الغوائل، معتمد الوسائل، يوسفي الصباحة، حاتمي السماحة. فلكي التأثير، قمري التصوير. إبراهيمي الوفا، محمدي الأخلاق والصفا. أنت راءُ الرِّضا وعينُ العطايَا ... أنت تاءُ التقى وصادُ الصَّلاحِ أنت واوُ الوفا ومِيمُ المَعالِي ... أنت كافُ الكمالِ سينُ السَّماحِ الموجب لتسطير هذه الخدمة علمكم بأنه لابد للإنسان من خلٍ يسكن إليه، فيشكو إليه حزنه، وينتصر به على من ظلمه، ويتوصل به إلى ما يشق عليه بلوغه بمفرده. والمملوك قد تقرب إليك، وعول عليك، ورضي بك مالكاً فهل ترضى به مملوكاً، وتأخذ منه بذلك وثائق وصكوكا. يراك كالشيخ إجلالاً، وكالوالد إكراماً، والولد حنواً وإشفاقاً. ويلتمس منك ثلاثة أمور، وأنت الآمر بذلك لا المأمور: أولها؛ حفظ الود في الغيبة والحضور. ثانيها؛ عدم سماع كلام الواشي والغيور. ثالثها: رفع سجف الحشمة وطي بساط الكلف في القبض والسرور. هذا ما أحاط به علمك، فرب أخٍ لم تلده أمك. فكتب إليه مجيبا: ذكَّر الماضِي من الزمَنِ ... خَفَقانُ البارقِ الْيَمَنِي فَهمتْ من مُقْلتِي دِيَمٌ ... نِيْلُها أشْفقتُ يُغْرِقنِي

يا نُزولَ الصَّفْحِ من إضَمٍ ... بُعْدُكم أفْنَى قُوَى بَدَنِي حَبَّذا أيَّامُنا وبكم ... كانت الأقْدارُ تُسعِدُنِي حيث وجهُ الدهرِ مُنْبَلِجٌ ... وخيولُ اللهوِ ليس تَنِي وسَرابيلُ الصِّبا قُشُبٌ ... لم تُمزِّقْها يَدُ المِحَنِ ليت شِعْرِي والرَّجا طَمَعٌ ... بكم الأيامُ تجمعُنِي يا ديارَ الأُنْسِ جادَك مِن ... فَيْضِ دمعي هامِلُ المُزْنِ إن أكُنْ قد بِنْتُ لا بِرِضاً ... ففؤادي عنكِ لم يَبِنِ آهِ كم من ليلةٍ سلفَتْ ... فيك محفوظاً من الحَزَنِ ليس يُنْسيني تذكُّرَها ... غيرُ مَدْحِ المِصْقَعِ اللَّسِنِ فاضلُ العصرِ الذي يدُه ... حلَّتِ الأجْيادَ بالمِنَنِ مَن به الآدابُ قد فخرتْ ... وبدَتْ في منظرٍ حسَنِ يُدْرِك الأشْيا بفِطْنتِه ... وذَكاهُ وهْي لم تكنِ فِكْرُه كم حَلَّ مُشكِلةً ... وقَفتْ عنها ذَوُو الفِطَنِ عُمْدتِي في كلِّ نازلةٍ ... جَرَّدتْ نَ؛ ْوِي ظُبَا الفِتَنِ يا عَفيفِ الدِّين عبدُ هوىً ... بك لم يغدُرْ ولم يخُنِ قُمْتَ تدْعوه بمُفْرَدةٍ ... أصْبحتْ كالقُرْطِ في الأُذُنِ فاخْتبرْنِي يا أبا حسَنٍ ... تَرَنِي المْخبورَ بالحسَنِ وتقبَّلْ مِدْحةً برزَتْ ... مِن شَحٍ ناءٍ عن الشَّجَنِ جمُدتْ أفكارُه زمَناً ... فَرُمِي بالعِيِّ واللَّكَنِ رفَض الأشْعارَ عنه فلو ... وَزَنُوا الأمْوالَ لم يَزِنِ دُمْتَ سَمّاً للْعِدَى سنَداً ... لِيَ يا أطْرُوفةَ الزَّمنِ لو دَعانِي من غيرِ أرْضك داعٍ ... لغَرامٍ لكنتُ غيرَ مُلَبِّي وأما أنت أيها الأخ الشقيق. والصديق الشفيق. سمعاً لأمرك الواجبة إطاعته المفروضة إجابته، الممتنعة مخالفته، المستحيلة مجانبته. لو قيل تِيهاً قِفْ على جمرِ الغَضا ... لوقفْتُ ممتثِلاً ولم أتوَقَّفِ كيف وقد دعوتني إلى شيءٍ أتمنى حصوله، وأترقب وصوله. وكنت أرى نيله كالمستحيل للسائل، وطالما قلت: أين الثريا من يد المتناول. فظهر لي قيام الحظ بعد قعوده، وتبدل نحوسه الملازمة بسعوده. وطفقت أسحب ذيل الإعجاب مرحا، وتزايد بي السرور حتى بكيت فرحا. يا قلبُ قَرَّ فمن تُحِبُّ ... أتى على وَفْقِ المُرادِ فثق مني بخلوص ودٍ لا يشوبه غش الانفصام، حتى تفارق بعد العمر الطبيعي أرواحنا الأجسام. ألْقِنِي في لَظىً فإن غيَّرتْنِي ... فتيقَّنْ أني لستُ بالياقُوتِ والله المسئول أن يجعل عيون الحاسدين عنا نائمة، ويزرقنا والمسلمين حسن الخاتمة. وكتب إليه، وقد وعده بمشترى تمرٍ له: يا مالكَ الفضلِ ويا خِلَّ الأدبْ ... ويا كريمَ الأصلِ يا فخرَ العَرَبْ طال اشْتياقِي فاستمعْ مَقالِي ... لخضْمِ تمْرٍ كالزُّلالِ حالِي شبَّهتْهُ لم أعْدُ في تشْبيهِه ... طريقةَ القَصْدِ لَدَى مُرِيِدِهِ مَخازنٌ من العَقِيقِ نبتَتْ ... أقفْالُها من النُّضارِ جُعِلَتْ أو أُنْمُلاتٌ للغَوانِي طُلِيَتْ ... بالزَّعْفرانِ أعْجَبتْ وَفَتنتْ وأكُؤُساً من النضارِ الصَّافِي ... تشْربُها وخِلُّك المُصافِي كأنه خُلْقُك في حَلاوتِهْ ... ولفظُك الباهرُ في بَراعتِهْ يا حُسْنَه حين يُرَى في أَدَمِهْ ... يُوجِدُ شَخْصَ الجوعِ بعد عَدَمِهْ أحبَبْتُه حُبَّ الصغيرِ أُمّهْ ... ولا عجِيب حُبُّ ابنِ العَمَّهْ فانْعَمْ به دُمْتَ مدَى الدهورِ ... تسحبُ ذيلَ الانْسِ والحُبورِ

إلى مَعاليك العُلى ينْتسِبُ ... ومِن أياديك النَّدَى يُنْتَخَبُ نمِيلُ في مَطْلبِنَا علَيْكَا ... وتلتقِي آمالُنا لَدَيْكَا فكتب إليه: يا عُمْدتي في الصَّحْبِ والخِلاَّنِ ... وعدَّتِي إذا عَدا زَمانِي وطِبَّ دائي ودواءَ جُرْحِي ... وعينَ أعْيانِ ورُوْحَ رُوحِي وصَارِمِي الصَّارِمَ للأعداءِ ... وسَطْوتِي عند لِقَا الهَيْجاءِ يا مَنْهَلَ الفضلِ ويُنْبوعَ الأدَبْ ... وبَحْره المُلْقِي إليْنا بالعَجَبْ إليك ما كنتُ به وَعَدْتُ ... وإن أكُنْ أبْطأتُ ما أخْطَأْتُ فالعُذْرُ يا مولايَ ما رأيْتَا ... فكُن لعُذْرِي قابِلاً بقيتَا وهاكَها كوَجْنَةِ الحِسانِ ... في اللَّوْنِ أو كحُمْرةِ الدِّنانِ كأنه صِيغَ من العَقِيقِ ... وطَعْمُه كرِيقَةِ المَعْشُوقِ إذا شقَقْنا الظَّرْفَ عنه يبْدُو ... بَيْضٌ من النُّضارِ فيه نَدُّ من ذاقه عافَ مَذَاقَ الشُّهْدِ ... والضِّدُّ يبْدُو فضلُه بالضِّدِّ فكُلْ هَنيّاً يا شقيقَ رُوحِي ... وعِشْ مُعَمَّراً كعُمْرِ نُوحِ السيد محمد بن حيدر بن علي فرعٌ من أشرف نبعة، نمت في أشرف بقعة. فهو في بيت الشرف شمسٌ ذات إشراق، وفي روض الأدب غصنٌ تتفكه منه بثمار وتتفيأ بأوراق. فوجه أدبه سافر، وحظه من البراعة وافر. إذا جرى في مضمارٍ قصر مجاريه، وإذا برى أقلامه فلا أحد يباريه. مع ما خصه الله من شمائل، أرق من الشمول وألطف من الشمال، وخلائق أشهى من طيب الوصال، وأوقع من موافقة الآمال. وقد اجتمعت به فرعت عيني منه في مرعىً خصيب، واستطلعت نفسي منه مطلعاً له من الحسن أوفر نصيب. فشاهدت من نباهته ولطف رويته وبداهته، ما تملك قلبي، واستأثر في أن يخلب خلبي ويسلب لبي. وحباني من أشعاره بكل مقصدٍ نامي الغراس، وكل مخيلةٍ خامرت العقل لأنها جاءت من أكرم بيت راس. فمن ذلك قوله: نسيمٌ سرَى عن شِيحِ نَجْدٍ ورَنْدِهِ ... وبَرْقٌ شَرِى من غَوْرِ نَجْدٍ ونَجْدِهِ فذلك مُورٍ نارَ شَوْقِي بزَنْدِهِ ... وهذا مُثيِرٌ حَرَّ وَجْدِي ببَرْدِهِ وأذْكَرنِي صَوْبُ الغمامِ مَدامِعِي ... لتَجْرِي وذكرُ الشيء يجْري بنِدِّهِ ولولا الهَوى إن كنتَ تعلمُ ما الهوى ... لما زلْزلتْ قلبي زَماجِرُ رَعْدِهِ ووُدِّي لظَبْيٍ بالصَّرِيمةِ راتِعٍ ... وفي بعض أفْعالِي وَفَيْتُ بوُدِّهِ فيُنْبِتُ دمعي كلَّ بَقْلٍ برَوْضِه ... ويحْرِق مَرْعاه زَفِيرِي بوَقْدِهِ أُحِبُّ عَذُولِي حين ينْطِق باسْمِه ... وأُبْغِضُ مَرْآهُ وَفاءً بعَهْدِهِ وأُظْهِر من خَوْفِ الوُشاةِ سُلُوَّه ... وإن كان لي قلبٌ يُنادِي بضِدِّهِ وأقصِد بُعْدِي يَقْظةً عن مَزارِهِ ... وإن لم أُحِبَّ النومَ إلاَّ لِقَصْدِهِ ويلْهجُ نُطْقِي بالعُذَيْبِ وحاجِرٍ ... ويعْدِل عن ذِكْرِي حِماهُ بجُهْدِهِ وفي كلِّ عُضْوٍ لي لسانٌ مُوَلَّعٌ ... بذِكْراه في قلبِ المَزارِ وبُعْدِهِ فهذا وَفائي في الهوى بحُقُوقِه ... فهل أرْتجِي منه الوفاءَ بوَعْدِهِ وكم بالرُّبَى صَبٌّ صَبا بالذي سَبَا ... فؤادي ولم يمْنُنْ عليَّ برَدِّهِ من العُرْبِ طَفْلٌ دأْبُه اللهوُ عابِثٌ ... بطفْلِ سوادِ العينِ في مَهْدِهِ سُهْدِهِ وَهبْتُ له رُوحِي وأعلمُ أنه ... يصُدُّ لكي أحْظَى بلَفْتَةِ جِيدِهِ ونَيْلُ رِضاه مُنْتهَى ما أَرومُه ... وما عاشقٌ من لم يقِفْ عند حَدِّهِ

أقول هو المَوْلَى المُطاعُ مُمَنِّياً ... لنفسِي بأني عند رُتْبةِ عَبْدِهِ ووِرْدُ اللَّمَى المَعْسولِ عَزَّ وطالَما ... حَلاَ بفِمي طعماً تَخيُّلُ وِرْدِهِ وإن كنتُ في روضٍ تحَاشيْتُ أن أرى ... جَنَى وَرْدِهِ للإحْترامِ لخَدِّهِ وإن مال غُصْنٌ فيه أغْضَيْتُ هَيْبةً ... كفِعْلِي إذا ما ماس مائسُ قَدِّهِ وأقْطَعُ أن الروضَ إذْ كان فيه ما ... يُشهابِهُه يسْمو بطالِعِ سَعْدِهِ وذُلُّ الهوى عِزُّ الكريمِ وإن غَدَا ... مَلِيكاً جليلَ القدرِ ما بين جُنْدِهِ هو الحبُّ إن رُمْتَ المَخاضَ ببَحْرِه ... وإلاَّ دَعِ التَّيَّارَ واقْنَعْ بثَمْدِهِ وله معارضا: قُلْ للْمَلِيحة في الخِمارِ الأسْودِ قُلْ للمليحةِ في القِناعِ العُصْفُرِي ... يا شمسُ ها شَفَقُ الشروقِ فأسْفِرِي ولكِ الأمانُ من اللِّحاظِ إذا ارْتَمَتْ ... إن الشُّعاعَ يصُدُّ طَرْفَ المُبْصِرِ أوَما اكْتفيِت بوَرْدِ خدِّك رَوْضةً ... عن رَوْضِ وَرْدِيِّ اللِّباسِ المُزْهِرِ هذا القِناعُ سَما بفَرْقِك مَفْخَراً ... عن مِغْفَرٍ قد ضَمَّ هَامَةَ قَيْصَرِ وخَطرْتِ في مَوْشيَّةٍ ذهَبِيَّةٍ ... قد جانسَتْكِ بلَوْنِها في المَنْظَرِ وبديعُ حُسنِكِ قد تناسَب عندما ... راعَى نَظِيراً في المُحَيَّا الأنْضَرِ أرأيتِ حين خطَرْتِ في رَمْلِ الحِمَى ... ما بين بَانِ لِوَى الكَثِيبِ الأعْفَرِ فتأوَّدتْ أغْصانُه وتستَّرتْ ... بالأيْكِ من خَجَلٍ ولاتَ تسَتُّرِ كم أصْيَدٍ ملكَتْ يميِنُك رِقَّهُ ... فأتى إليك بذِلَّة المُسْتأْسِرِ مافي الحِمَى إلاّ مَوالِي طاعةٍ ... فتملَّكِي أو دَبِّرِي أو حَرِّرِي وله: جادتْ غَوادِي المُزْنِ رَبْوةَ لَعْلَعِ ... بهَواطلٍ تهْمِي بذاك المَرْبَعِ واخْضَرَّ رَوْضُ جَنابِها وتأرَّجتْ ... حُلَلُ النَُّّسِيمِ بنَشْرِه المُتضوِّعِ يا طِيبَ أوقاتٍ مضتْ بربُوعِها ... والشَّمْلُ مُلْتئِمٌ بها لم يُصْدَعِ حيثُ الزمانُ مُسالِمٌ ما راعَنا ... بِبعادِ خِلٍ أو فِراقِ مُوَدِّعِ وصُروفُه في غَفْلةٍ وصَفاةُ طِي ... بِ وِصالِنا بخُطوبِه لم تُقرَعِ يا سادةً بسِوَى عُقودِ عُلاهمُ ... ما نُظِّمتْ دُرَرُ الفَخارِ بمَجْمَعِ وبغيرِ أُفْقِ مديحهِم ما أشْرقَتْ ... شمسُ البلاغةِ بالسَّنَا المُتقشِّعِ إني لأعْجَزُ أن أَبُثَّكمُ من الْ ... أشواقِ ما ضُمَّتْ عليه أضْلُعِي قلبي من الصبرِ الجميلِ لبُعْدِكمْ ... أضْحَى خَلاءً كالديارِ البَلْقَعِ حَلَّ السُّهادُ بجَفْنِ عَيْني قاطِناً ... مُذْ سار عنه ظُعْنُ نَوْمِي المُزْمِعِ ولقد رَقمْتُ سطورَ طِرْسِ رسالتي ... وتكاد تمْحوها هَوامِي الأدْمُعِ وبعثْتُها لتفوزَ في تقْبيلِها ... أقْدامَكم بذَرَى المَحَلِّ الأرْفَعِ في طيِّها نَشْرُ الثَّناءِ يحُفُّه ... إهْداءُ مِسْكِيِّ السَّلامِ الأضْوَعِ وَافتْ تُهنِّيكم بُلوغَ مُناكمُ ... بزيارةِ الدَّاعِي الشفيعِ إذا دَعَا وبما حَوَيْتُم من جَزِيلِ الأجْرِ إذْ ... شمِلْتكمُ بركاتُ ذاك المَضْجَعِ دام الهناءُ لكم ودام لنا الهَنَا ... بكمُ ودُمْتمْ في النَّعيِمِ المُمْرِعِ وله من قصيدة، أولها: رِقِّي لِصَبِّكِ يا سعادُ ودارِكِي ... وَلْهانَ يندُب رسمَ دَارِسِ دَارِكِ

جُودِي عليه في المَنامِ بزَوْرةٍ ... إن لم تجُودِي يَقْظةً بوِصالِكِ هيهات يغْشَى النومُ جَفْنَ مُتيَّمٍ ... عُقِدتْ عُرَى آمالهِ بحِبالِكِ ما زال ذِكْرُك دائراً في بَالِهِ ... أتُراه يخْطِر ذِكْرُه في بَالِكِ اللهُ حَسْبُكِ كم تصُول بمُهْجتِي ... جَفْناكِ بالعَضْبِ الجُرازِ الفاتِكِ وتهُزُّ قامتُك القَويمةُ ذَابِلاً ... يسْطُو بطَعْنٍ في الْحَشَا مُتدارِكِ أو ما قنِعْتِ وبعضُ ما بي مُقْنِعٌ ... بِنَحِيلِ جسمِي والفؤادِ الهالِكِ يا رَبَّةَ الخِدْرِ التي تَهْفُو له ... في الحبِّ أفئدةٌ تنالُ منالَكِ هَلاَّ رحْمتِ وليس عندك رَحْمةٌ ... صَرْعَى هواكِ بنَظْرةٍ لجمالِكِ مالي ومالك كلَّما جذَب الهوى ... قلبي إليك صَدَدْتِ يا ابْنةَ مالِكِ حتَّى مَ أمْلِكُ كَتْمَ حبِّك في الحشَا ... وهُمولُ دمعي ليس بالمُتمالِكِ وإلى مَ ألهجُ بالعُذَيْبِ وبَارِقٍ ... وأغُضُّ طَرْفِي عند ذِكْرِ دِيارِكِ أنتِ المُرادُ برَغْمِ كلِّ مُعارِضٍ ... قَولاً صحيحاً لستُ فيه بآفِكِ قسَماً بمَنْظرِك الجميلِ وطَرْفِك الْ ... غَنِجِ الكَحِيلِ وسَلسَبِيلِ رُضابِكِ وبَوَرْدِ وَجْنتِك النَّضيرِ وبدرِ طَلْ ... عتِك المُنِيرِ بلَيْلِ فَرْعٍ حَالِكِ وبِدُرِّ مَبْسَمِكِ النَّظيمِ وكَشْحِكِ التَّ ... رِفِ الهَضِيمِ ومُسْتقيمِ قَوامِكِ وبذِمَّةِ العهدِ القديمِ وحُرْمةِ الْ ... وَدِّ المُقيمِ بقلبِيَ المُغْرَى بِكِ إني على عهدِ الغرامِ وشاهِدي ... ما تشْهديِنَ من السَّقامِ النَّاهِكِ قلبي بِحفظِ الوُدِّ قد عَوَّدْتُه ... فلِمَا تقرَّر فيه ليس بتارِكِ وله في الغزل: آهِ يا عبدَ الهوى ما أحْمَلَكْ ... هكذا يحكُم فاصْبِرْ مَن مَلَكْ وَيْكَ يا قلبُ تكلَّفْ جَلَداً ... رُبَّ قلبٍ رَقَّ عِشْقاً فهَلَكْ كيف لي فيك ومَن ينْفعُنِي ... آهِ لا بل فِيَّ قُلْ لي كيف لَكْ يا فؤادي لك عقلٌ عَاذِرٌ ... كنت صعباً والهوى قد ذَلَّلَكْ هَبْكَ في الدهرِ أرِيباً حازِماً ... أنا أدْرِي بالدَّهَا مَن خَتَلَكْ إنَّما غَرَّتْك أحْداقُ المَهَا ... نصرَ اللهُ بها مَن خَذَلَكْ يا عَذُولِي العشقُ داءٌ مُعْضِلٌ ... بالذي عافاكَ خَفِّفْ عَذَلَكْ الهوى رُشْدِي فدَعْ نُصْحَك لي ... فلقد أضْللْتَ فيه سُبُلَكْ لم تزلْ منذ زمانٍ جاهداً ... هل رأيتَ السمعَ يوماً قَبِلَكْ يا شقيقَ البدرِ يا تِرْبَ الْمَهَا ... مَن كَساك النُّورَ أو مَن كَحَّلَكْ إن يكُنْ يُشْبِهُك البدرُ سَناً ... فعلى مثلِك ما دار الفَلَكْ مَن بأشْراكِك قَسْراً صادَنِي ... أنتَ فاعْذِرْ عارِفاً ما سألَكْ إن تقُلْ إنِّي مَلِيكٌ في الهوى ... جارَ في الحُكْمِ أقُلْ أنَّي مَلَكْ قلتُ دَبِّرْنِي فإنِّي هالِكٌ ... قال من دَبَّر عَبْداً ما مَلَكْ وَيْحَ مَن كُلُّ مُناه وَصْلُه ... أيُّ وَادٍ في الأماني قد سَلَكْ أخذَ الرُّوحَ ووَلَّى بَرِماً ... أخْذُ رُوحِي لم يُهوِّنْ مَلَلَكْ يا أخا الصَّهْباءِ في رِقَّتِه ... مَن على قَسْوةِ صَلْدٍ جَبَلَكْ كان لي قلبٌ فأفْناه الجوَى ... أعْظَمَ اللهُ لِيَ الأجْرَ ولَكْ وله: لولا مُحَيَّاكَ الجميلُ المَصُونْ ... ما كنتُ أُجْرِي من عيوني عُيُونْ

ولا عَرفتُ السُّقمَ لولا الهوى ... ولا تَبارِيحَ الجوَى والشُّجونْ كم وقفَةٍ لي في طُلولِ الحِمَى ... رَوَّى ثَراهَا صَوْبُ دَمْعِي الهَتُونْ يا ربْعُ خَبِّرْ لا جَفاك الْحَيَا ... وَلْهانَ لا يعرِفُ غَمْضَ الجُفونْ هل كنتَ مَغْنىً للغزالِ الذي ... إليه أصْبُو والتَّصابي فُنُونْ وأشْرقتْ فيك شُمُوسُ الضُّحَى ... من فوقِ قاماتٍ تفُوق الغُصونْ مِن كلِّ غَيْداءَ إذا أسْفَرتْ ... يجْلُو مُحيَّاها ظلامَ الدُّجونْ سُيوفُ لَحْظيْها إذا جُرِّدتْ ... تُغْمَد من أحْشائِنا في جُفونْ وعَامِلُ الْقامةِ تسْطُو به ... فينا إذا ماسَتْ بأيْدِ المَنُونْ والشَّامةُ السَّوداءُ في خَدِّها ... تُعَلِّمُ الصَّبَّ فنونَ الجُنونْ مَنِيعةُ الحُجْبِ فَنيْلُ اللِّقا ... منها بَعِيدٌ عن مَرامِي الظُّنونْ حَسْبُكَ لَوْماً يا عَذُولِي اتَّئِدْ ... إنِّي لِعَهْدِي في الهوى لا أخُونْ لا تطْلُبِ السُّلْوانَ من وَامِقٍ ... فذاك شيءٌ أبداً لا يكونْ فدَعْ سُكارَى كأسِ خمرِ الهوى ... يا صاحِ في سَكْرَتهِمْ يعْمَهُونْ ظَنُّوا اتِّباعِي للهوى ضَلَّةً ... وهم لرُشْدِي فيه لا يعلمونْ أما ووَجْدِي يا أُهَيْلَ اللِّوَى ... وعهدِيَ الباقي وسِرِّي المَصُونْ وما لهم من مَنْزِلٍ عامرٍ ... بسَفْحِ قلبي هُمْ به نازِلُونْ وطِيبِ أوْقاتٍ مَضَتْ بالحِمَى ... لَفَقْدِها تَذْرِي الدموعَ العُيونْ لقد أطَعْتُ الحبَّ في حُكْمِه ... ومِلْتُ عن طُرْقِ الأُلَى يَعْذِلُونْ بذَلْتُ فيه مُهْجتِي طَائِعاً ... وبَذْلُها في الحبِّ عندي يَهُونْ ومن نتفه ومقاطيعه، قوله مصدراً ومعجزاً: لمَّا سرقْتُ بناظرِي مِن لَحْظِهِ ... خُلَساً من اللَّحظاتِ بالآماقِ وجَنَيْتُ حَدّاً إذْ جَنيْتُ برَوْضِهِ ... وَرْداً حَمَتْه صَوارِمُ الأحْداقِ قطَع الكرَى عن ناظِرِي مُتعمِّداً ... فوصَلْتُه بالمَدْمَعِ المُهْرَاقِ كيْلا يقولَ الناسُ إنَّك سارِقٌ ... والقَطْعُ حَدُّ جِنايةِ السُّرَّاقِ وقوله مصدراً أيضاً: ولمَّا رَقمْتُ الطِّرْسَ أشْفَق ناظرِي ... ومانَعَ من سَبْقِ الكتابِ إلى الوَصْلِ وقال لِيَ احْكُمْ أنتَ بالحقِّ بيْننا ... وقال لِخَطِّي سوف أمْحُوكَ بالهَطْلِ كِلانا سَوادٌ في بَياضٍ فما الذي ... يَميِزُكَ والأهْدابُ في مَوْضِعِ الشَّكْلِ وهل ما أُقاسِي من سُهادٍ ومَدْمَعٍ ... خُصِصْتُ به حتى تُشاهِدَهم قَبْلِي وقوله: وحقِّك يا كُلَّ المَرامِ أنا الذي ... جعلتُ له حِصْنَ اليَقينِ مُقامَا لأنك قد عَوَّدْتَه لُطْفَك الذي ... إذا زار لم يطْرُق كَراهُ لِمَامَا ولم يَكُ مَنْسِيّاً لديْك بِحالةٍ ... ولا منك يخْشَى غَفْلةً وسَآمَا فكم آيةٍ أظْهَرْتَها إثْرَ آيةٍ ... أيَعْمَى لها ذُو اللُّبِّ أو يَتَعَامَى ومَن كان ذا أرضٍ سقى بِذْرَها الْحَيَا ... فقد حاز مَحْصولَ الزُّروعِ وسامَا ومن يَكُ في مَهْدِ العِنايةِ وَادِعاً ... يَزْدْ عند تَحرِيك الخُطوبِ مَنامَا وقوله: وكأنما الثَّغْرُ الشَّهِيُّ رُضابُه ... ضِمْنَ الشِّفاهِ مع الوِشامِ الأخضَرِ دُرٌّ نَضِيدٌ ضِمْنَ حُقِّ زَبَرْجَدٍ ... وله غِطاءٌ من عَقِيقٍ أحْمَرِ وقوله: وباكيةٍ إذ وَدَّعْتنِي وقد بَدتْ ... بوَجْهٍ لهَتْكِي في المَحبَّةِ سافِرِ

جرى دمعُها لمَّا تألَّق نُورُهُ ... كذا البَرْقُ إذ يَسْرِي دليلُ المَواطِرِ هو الروضُ فيه نَرْجِسُ اللَّحْظِ ناثِرٌ ... على وَرْدِ خَدٍ دُرَّ طَلٍ مُباكِرِ وقوله: فتاةٌ لاطفَتْنِي بابْتسامِ ... ونال كلامَها قلبي الكَسِيرُ بَدا من ثَغْرِها دُرٌّ نَظِيمٌ ... ومن ألْفاظِها دُرٌّ نَثِيرُ فراعيْتُ النَّظيرَ دَمْعِي ... ولكن ذاك ليس له نَظِيرُ وقوله: بنُورِ مُحَيَّاك الجميلِ إذا انْجَلَى ... ونَوْرِ لأَلآءِ ثَغْرِك البارِدِ الظَّلْمِ أعُثْمانُ ذَا النُّورَيْنِ رِفْقاً بمَن غَدَا ... شهيدَ الْهوَى يشْكُو إليك من الظُّلْمِ وقوله في التنباك: أُحِبُّ الشُّرْبَ للتُّنْباكِ طَبْعاً ... وأُذْكِي نارَه أبَداً عليْهِ فلي قلبٌ حَرِيقُ جَوىً ووَجْدٍ ... وشِبْهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ وكانت المقادير جمعت بيننا في الطائف، بين روضٍ وغدير، فتمتعت بمؤانسته، واغتنمت أوقات مجالسته، وكتبت إليه في أثناء ذلك: يا رَوْنَق المُنْتسَبِ الشَّرِيفِ ... أفْدِيكَ بالتَّالِدِ والطَّرِيفِ شُكْراً لأيَّامي هذه التي ... فُزْتُ بها في ظِلِّكَ الوَرِيفِ أسمعُ من لفظِك ما يبْهَر مَن ... ينْطِق بالأسْماءِ والحروفِ من كلِّ زَهْراءَ لآَلِي لَفْظِها ... تُغْنِي عن العُقودِ والشُّنُوفِ وأجْتلِي من خَطِّك الرَّوْضَ الذي ... أبْدَعْتَ فيه صَنْعةَ التَّفْوِيفِ طابتْ مَجانِيهِ فأثْمارُ المُنَى ... في سُوحِه دَانيِةُ القُطوفِ دُمْتَ تُحلِّي الدهرَ فخراً وأنا ... وَصَّافُ حُسْنِ طَبْعِك المَوصُوفِ فراجعني بقوله: يا شمْسَ أُفْقِ الأدبِ المَوْصوفِ ... ويا فَرِيدَ عِقْدِه المَرْصُوفِ ويا جمالَ النَّسَبِ السامِي إلى ... عبدِ مَنافٍ بالسَّنا المُنِيفِ يا مَن حَبانِي مِن صَفاءِ وِرْدِهِ ... رَوْنَقَ ذاك الجَوْهرِ اللَّطِيفِ ومَن سَقانِي من نميرِ فضلهِ ... سُلافَ كَرْمِ رَوْضِه المَسْلُوفِ ومَن أراني مِن خِصالِ ذاتهِ ... مَحاسِناً زادَتْ على الألوفِ يا مُهْدياً إليَّ من أشْعارِه ... تاجَ عُلاً تَمَّ به تَشْرِيفِي إن زماناً بك قد جادَ لنا ... جَدَّد جُودَ حاتمِ المعروفِ أحْسَن إحْساناً نسينا عنده ... ما مَرَّ من سُلُوكِه المأْلوفِ قد كان ما مضَى من العمرِ سُدىً ... لا يُشْتَرى بالثمنِ الطَّفيفِ حتَّى حَبانا بك سَعْدٌ طالِعٌ ... يزْهُو بنَجْمِ مَجدِك الشَّرِيفِ فعاد باقِي العُمْرِ عَيْشَ خالدٍ ... في جَنَّةٍ دانِيَةِ القُطوفِ فاسْلَمْ ودُمْ دامتْ مَعالِيك تُرَى ... أوْصافُها للسَّمْعِ كالشُّنوفِ وبلغني من بعض السادة، أنه أنشأ محاكمة بين الغنى والفقر، فكتبت إليه أطلبها منه: بلغني خبر المحاكمة، التي أنشأها السيد مقامة، وأفاد بها أن لا أحد يساوي مقامه. فعرفت أنه أتى بالعجب العجاب، واستأثر بما هنالك من الإغراب والإعجاب. جرياً على ما يعهد من طبعه المهذب، وفكره الذي ينشىء الوشي المذهب. فكم لفظة منه بحر الفكر، أمثال هذا الجوهر البكر. فأطلع الكلام دراً، وبيان البنان سحراً. وصير بطون المهارق بوارق، وما بين مدب الأقلام خوارق. من قوافٍ تنير حنادس الأفهام، وتتلاعب بالأفكار تلاعب السحر بالأوهام. وفقرٍ أبهى من الغنى بعد الفقر، وأشهى من الوطن غب مقاساة وحشة القفر. فلله تلك البديهة النبيهة، والفكرة النزيهة. حيث أتت بمستبينة الإعجاز، مميزة للحق على الحقيقة والمجاز. فأنستْ بمحاسنها آثار المتقدم، وصيرت المجترى على مثلها كالمتندم. فلعل السيد يمتع بها طرفي وسمعي، ويجمع بسببها شمل فكري وطبعي.

فأغنى بها عن نديمٍ ومدامة، وأغدو من منادمتها في السلامة بلا ندامة. هذا وشوقي إلى ذلك المنظر البهج، واجتلاء بدائع منطقة اللهج، شوق القارظي إلى سكون وسكنى، والقيسي إلى لبونٍ ولبنى. واعتلاقي بوصفه الجميل، اعتلاق قفا نبك بالملك الضليل. وكيف لي بخلسةٍ أشد عليها يد الضنين، وتنسيني هذا التأوه والأنين. فإني من حين الاجتماع، والتلذذ بذلك الخطاب والاستماع، هجرت غيره من القول والإصغا، وجعلتهما في جانبٍ من الإزراء والإلغا. فحالي فيه كما قلت، وعن نهج وده ما حلت: يا سيِّداً من حين فارقتُه ... ما راقَنِي مَرْأىً ولا مَسْمَعُ لا تحْرِمَنِّي نَظْرةً أمْكنَتْ ... فليس لي في غيرِها مَطْمَعُ فكتب إلي مجيباً: مولايَ قد قلَّدْتني مِنَّةً ... يسْتغرِقُ الشكرَ حَياها العَمِيمْ أهْديْتَ لي نثْراً من الدُّرِّ بل ... من الدَّرارِي الزُّهْر طَيَّ الرَّمِيمْ بل نَفْحةً قُدْسِيَّةً عَطَّرتْ ... بِطيبِ أخلاقِك نَشْرَ النَّسِيمْ تمنْع أن يُعْكَس تَشْبِيه مَن ... يُشبِّه العِطْر بخُلْقٍ كريمْ لا بل قد اهْدَيْتَ لي في العُلاَ ... هِدايةً للمَنْهَجِ المُسْتقيِمْ تفْتح عَيْنَ القلبِ حتى يَرَى ... تبلُّجَ الدهرِ بلَيْلٍ بَهِيمْ واللهِ لا أمْلِكُ شُكْراً لها ... إلاَّ عُبودِيَّةَ قلبٍ سَلِيمْ يا مولانا الذي شرف مولاه بما أتحفه، وشفاه بطب الفضل من داء الجهل وقد أنحفه. ومدحه حتى فضله وقدمه، فشجعه حتى ثبت في معارك الأدب قدمه، وفهمه آداب السلوك وعلمه، حتى حق له أن يشهر لدى ملوك الكلام قلمه، وينشر في مواكبهم علمه. أقدم أولاً عذري في مقابلة الدر بالمدر، وحمل التمر بل الحشف إلى هجر، وجلب الدر بل الصدف إلى البحرين، وإهداء تبركات المساجد إلى أهل الحرمين. ثم ما ذكره مولانا عظم الله مقامه، من طلب ما أنشأته على لسان الغنى والفقر شبه مقامة. فإن المخلص بنى في ذلك وهدم، حتى كاد يحلم الأدم، ويعيد ما أخرجه للوجود إلى العدم، خوفاً من الإتيان بما يوجب عند أهل المعرفة إلى الخجل والندم. وإلى وقت وصول الرقيم، والفكر في تيه الحيرة مقيم. أيبرزه في قالب التمام، أم يستر الأدب ستر الشمس المنكسفة بالغمام؟ وما قرأته منه على بعض المخاديم الكرام، فقد نزلته منزلة أضغاث أحلام، عند الانتباه من المنام. لكن بعد أن أسعفه الطالع الميمون بإقبالكم، وأنار هلاله المشبه بالعرجون من شمس كمالكم. فقد جزم المخلص برفعه بعد خفضه، وإبرامه غب نقضه، وضم بعضه إلى بعضه. حتى يقوم شخصاً كاملاً، ويليق بأن يكون لديكم على قدم الخدمة ماثلاً. وبسَعْدِكم تلك المَخائِلُ تَرْتقِي ... بتكامُلٍ حتى تعود شمائِلاَ بشرط أن أصل أولاً إلى خدمتكم الواجبة وجوب الفرض، وأنهيه إلى نظركم الكريم بطريق العرض. ونبلغ مع التحلي بتهذيبكم، أمل التملي بكم. فوحق ورد ودكم الصافي من الأكدار، إن شوقي مع قرب الدار: كشَوْقِ ظامٍ بالحِبْالِ مُوثَقِ ... لماءِ مُزْنٍ باردٍ مُصَفِّقِ وأقول: بل هو شَوْقٌ باللِّقاء يَرْتَقِي ... يزْدادُ أن لا نَلْتقِي أو نلْتَقِي ونسأل الله أن ينيلنا تواتر التردد لديكم، كما أنالنا تظافر التودد إليكم. وأن يمتع جيد الدهر بعقد مجدكم الثمين، ويحرس حمى وجودكم الذي تهوى إليه الأفئدة كما تهوى إلى الحرم الأمين. وبعث إلي بالمحاكمة، وهاهي مثبتة منقولة من خطه: الحمد لله الحكيم القادر على الإطلاق، الباسط المقدر للأرزاق. الذي جعل الفقر والغنى آيتين من أبدع آياته، وغايتين في الحكمة من أبدع غاياته. يتفكر فيهما ذو الفطنة والاعتبار فيتلو: " ربنا ما خلقت هذا باطلاً "، ويجري إليهما العبد على جياد الأقدار حالياً بزينة العقل أو عاطلاً. فيسعد من يرشد للتسليم إيماناً وتصديقاً، ويبعد من ينشد وهو المليم: هذا الذي تركَ الأوْهَام حائرةً ... وصَيَّر العالِمَ النِّحْريرَ زِنْدِيقَا

والصلاة والسلام على نبيه المبعوث بالإسلام، محمد الهادي للخلائق إلى أقوم الطرائق، وأكرم الخلائق، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه الأغنياء بالله الفقراء إليه. وبعد: فقد وقفت على مقامة أنشأها بعض المتأخرين الأفاضل الأعاظم، ووشاها بدرر الفوائءءد هديةً لكل ناثرٍ وناظم. ابتدعها على لسان الفقر والغنى كالمفاخر بينهما والمفاضل، وأودعها من الحجج التي يفلح بمثلها المناظر والمناضل. فمد بها في العلوم باعه الأطول، وأمد الفهوم بمصداق كم ترك الأول. قاصداً بذلك رياضة العقول، في رياض المقول. وتبريض اللسان، بوقائع شآبيب البيان. وتعريض الإحسان، للقانع بالأثر عن العيان. فأيد فيها الفقر على الغنى، وشيد له في الفخر على البنا. وجعله سابق الحلبة مجليا، وأتلاه بالغنى بعد لأيٍ مصليا. حتى أقر له بالتقدم تسليما، وأخلص لوداده بعد التندم على عناده قلباً سليما. هذا وإن كان الفقر عند أبناء الدنا، ملياً باكتساب العنا، خلياً عن أسباب الغنى، حفياً في اقتضاب المنى، كفياً في سد أبواب الهنا. وبينه وبين النفوس، ما بين تغلب وبكرٍ غب غداة البسوس. وقد أوقع فيها من المكروه والمساءة، ما لم يوقعه قيسٌ بابني بدرٍ يوم الهباءة. وحطمها ولا تحطيم الإبل المجفلة، جيوش لقيطٍ يوم جبلة. ووسمها بالعار الباقي على الزمان، كما وسم به لبيدٌ الربيع بن زياد في مجلس النعمان. ونفورها عنه ولا نفور الغادة الفتية عن مقاربة الشيب، والشنشنة الأخزمية من مقارنة العيب. وبعدها عنه بعد العزائم اليقينية عن شبهات الريب، والكثائف الجسمانية عن إدراك محجبات الغيب. هذا وعقال العقول في تقييد صعاب النفوس محلول، وحسام الفكر المصقول عن قطع أعصاب الأهواء مغلول. والناسُ أكْيَسُ من أن يمدحُوا رجلاً ... ما لم يَرَوْا عنده آثارَ إحْسانِ فلا جرم كاد ينعقد الإجماع، كما لا يخفى على ذي نظر وسماع، على بغض الفقر وذمه، وقصده بالصد وأمه، وتواتر الدعاء بالهبل والثكل على أمه. ومَن يجعْلِ المعروفَ من دون عِرْضِهِ ... يَفِرْهُ ومَن لم يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ فكان ما اختاره رحمه الله من هذا الصنيع، معدوداً في فن المغايرة من البديع. وفيه تسلية لنفس البائس الفقير، وتقوية لقلب الآيس الحقي. وإعانةٌ للمبتلى بهذا الداء العضال، وإبانةٌ للغرض إن نشط للنضال. لكن حقيقة الحال أن هذا الفاضل لما كان من كبار الأتقياء الزاهدين، وخيار الصلحاء العابدين. ومعلومٌ أن غالبهم قد اختار التقشف الموصوف، وشيد بناء التزهد المرصوف. وهجر أنواع زخرف الدنيا وصنوفه، حتى قطع مسافتها وما بل بحرٌ صوفة. كانوا جمال زمانِهم فتصدَّعُوا ... فكأنما لبس الزمانُ الصُّوفَا فبنى رحمه الله تعالى على مقتضى طريقتهم، وفضل الفقر إذ كان مرتضى حقيقتهم. وهو الحق الذي لا ريب فيه، والإنصاف الذي يرتضيه الأريب ويصطفيه. ولا يعارضه في مراده، مفاد: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ". فإن من راد نفسه على حلول هذه الساحة، وخشي أن يغرق عند تلاطم الأمواج وإن كان متقناً للسباحة، لا يلزمه أن قال بالتحريم وعدم الإباحة. وأحْزَمُ الناسِ مَن لو مات من ظَمَأٍ ... لم يقربِ الوِرْدَ حتى يعرِفَ الصَّدرَا وأما أرباب العصمة، فهم البريئون من كل وصمة. فإنهم شاهدوا حظهم الأشرف الأسمى، فلم يثبتوا لما دونه رسماً ولا إسما. وقصروا نظرهم على الخالد الباقي، وأنفوا أن تطأ أقدامهم الأرض وهم في أعلى المراقي، ومن ورد البحر استقل السواقي. ولما تأملت تلك المقامة، بوأ الله منشيها دار المقامة. رأيت مبنى الأفضلية فيها على أن جعل الفقر أمهر في تحصيل العلوم والمعارف، وأكثر مقيلاً في ظلها الوارف. وأقدر على إبراز الصواب، عند السؤال والجواب. لا على إقامة الدليل والبرهان بالأفضلية، وجعل السابق في هذا الرهان صاحب الأولية. على أن هذا الميدان مجرى العوالي ومجرى السوابق، وفيه تزدحم كتائب فرسان الحقائق، وتلتحم مناكب النظارة من الخلائق. إذ الناس لعدم خلوهم من أحد الوصفين، ينقسمون إلى صنفين، وينتظمون في صفين. وكلٌ يحتج لصاحبه بالصفات الواقعية المرضية، لا المجازية الفرضية.

فأحببت أن أجول في هذا المجال، ولو بالمحال، وأنسج على هذا المنوال، على وهن القدرة وضعف المجال، وقصور عامل الفضل على التسلط على هذه المحال. اعترافاً مني بالتقصير، وإسعافاً بطلب المسامحة لباعي القصير. ومَن يَعْصِ أطْراف الزِّجاج فإنَّه ... يُطِيع العَوالِي رُكِّبتْ كُلَّ لَهْذَمِ فبنيت هذا المقصد على وضعٍ غريب، وترتيب يهش له الأديب والأريب، وأسلوبٍ يأخذه الطبع السليم عن قريب. وجعلت المفاخرة بينهما على حقائق الأوصاف، وذكرت ما يقال من الطرفين بنهاية الإنصاف. ثم أنهيت المخاصمة إلى التراضي بالمحاكمة، فحكمت بينهما مناط التكليف، ورباط الفضل الذي اختص به النوع الشريف. فحكم حكماً يقضي منه الفريقان مآربهم، ويعلم كل الناس مشربهم " كلٌّ في فلكٍ يسبحون "، و " كل حزبٍ بما لديهم فرحون ". والحق واضح الغرر والأحجال لقومٍ يعرفون، و " ماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ". حدث الغزل الرقيق، عن المديح الأنيق، عن السؤال الجميل، عن النوال الجزيل، عن الخاطر المطاع، عن كريم الطباع، قال: حضرت مجلساً من المجالس السرية، التي لم تزل تعقد بحضرة النفوس البشرية. وقد حضر وزيرها العقل، وحاجبها الحلم، وقائدها الفهم، وقاضيها العلم، وخازنها الحفظ، ومنشيها الفكر، وشاعرها الخيال، ونديمها الوهم. ومثلت للخدمة أعوانها المتظاهرة، وهي المدارك الخمسة الظاهرة. وانتظمت في مراتبها سائر القوى، وغاب بحمد الله عدوها الهوى. واتفق أن حضر المجلس الغنى والفقر، وهما الضدان المتناقضان، بل العدوان المتباغضان، والجوادان المتعارضان، بل القرنان المتناهضان. إلا أن النادي جمع بينهما، وقرب على سبيل الاتفاق بينهما. وخاض القوم في مجانح الحديث، من سوانح القديم والحديث. فأراد بعض من حضر، طراد جياد البحث والنظر. فتلطف بظرفه، ولحظ الغنى بطرف طرفه. وقال: إني أحفظ بيتين، ورد الأول منهما على روايتين. يبتني عليهما حكمٌ وأحكام، إذا تقرر مفادهما بإحكام. وأنشد: ولو أنِّي وَلِيتُ أميرَ جيشٍ ... لما قاتلتُ إلاَّ بالسؤالِ لأن الناسَ ينْهزِمون منه ... وقد ثَبَتُوا لأطْرافِ العَوالِي ثم قال: والرواية الأخرى، يعرفها من هو بإحراز شرفها أحرى. قال كريم الطباع، الراوي لهذه الأسجاع: فابتدر الغنى لجوابه، وقد استخرج دقيق التعريض من جرابه، فقال: إن بعض من أسعده الجد بخدمتي، وأيده الجد بعزمتي، وسدده المجد بهمتي. أنشده هذين البيتين بعض ندمائه، وجلاهما كالنيرين في سمائه. فتفطن ذلك الرئيس، لمعنىً فيهما نفيس. وأعاد إنشادهما في الحال، وقد وضع النوال موضع السؤال. فأظهر شمائل همته العلية، في دلائل عباراته الجلية. وسدد سهم الإصابة بساعد الكرم، فكنت قوسه ووتره ورمى مقاتل الفقر وما ظلم. فأرداه ووتره، وألبس البيتين حلى الملوك بعد أن كانا في أسمال صعلوك. حتى أشرق معناهما بالضياء المستفاد من شمسي، وأغدق معناهما بالأنواء الهاطلة من سماء يومي وأمسي. قال: ثم تنبه إلى أن هذا الكلام، من بليغ الكلام. وأنه بغى والبغي مرتعه وخيم، وأظهر دعوى الفضل، " وفوق كل ذي علمٍ عليم ". فكف من غربه، ورجع عن شرقه وغربه. واسترجع وسكت، وأطرق إلى الأرض ونكت. لكنه قال في أثناء ذلك: ما أراني أضللت المسالك، وأنا ما قلت وإن فخرت وطلت لعنان الحق مالك. وليس بملومٍ من نطق بالحق وصدع، وإن شق قلب المعاند وصدع، والحق أحق أن يتبع. وما المرءُ إلاَّ حيث يجعل نفسَه ... وإنِّي لها فوق السِّماكيْن جاعلُ قال الراوي: فاستشاط الفقر من الغيظ، وتلظت أنفاسه أحر من سموم القيظ. وأنف من الذل والاستكانة، إذ أنزله الغنى إلى هذه المكانة. وأنشد وقد أشعل نار الحمية تسعيرها: ونفْسَك أكْرِمْ عن أمورٍ كثيرةٍ ... فمالك نفسٌ بعدها تسْتعيرُهَا ثم انبرى للمقاومة مسترسلاً، بعد أن تضرع إلى الله تعالى متوسلاً، وقال متمثلاً: إحْدى ليالِيكِ فهِيسي هِيسِي ... لا تنْعَمِي الليلةَ بالتَّعْرِيسِ إلا أنه خاطب خطاب من قيد الحلم ألفاظه، وسدد العلم إيقاظه. فقال: أيها الغني لقد صرحت وما كنيت، وعجلت وما تأنيت، فبرحت إذ تجنيت.

وليتك حين صددت عن الإنصاف وأبيت، لم تعمر بيتاً بخراب بيت. أخبرني عن هذا الرئيس، الذي ملأت أنت له الكيس. فزعمت أنه إنما صار لما ذكرت قائلاً، من حيث كان في ظلك قائلاً. فلو كان ظامىء العود من مياه الكرم التي جرت فيه، جاف العنقود عن حلب سلاف البلاغة التي رشفت من فيه. أتراه كان يقول ما قال، ويتحمل ما يستلزمه نطقه من الأثقال؟ أو تراه لو كان مربوطاً بأشراكي، ومخروطاً في أسلاكي، محوطاً بأفلاكي. ثم كان ممن تشتق أفعال الكرم من مصدر طبعه، وتشق قسي الهمم من غروس نبعه. ألم يكن ينطق بما به نطق ويرشد إلى ما إليه أرشد، حين أنشد البيتين من أنشد. فلا تجهل علوم الأخلاق وأنت خبيرها، فما الجودُ من فقرِ الرِّجالِ ولا الغنَى ... ولكنه خِيمُ الرِّجالِ وخِيرُهَا وأما إزراؤك على الصعاليك، لتزيد بذلك في معاليك. فكفاهم فخراً في الدين، قول علم المهتدين: " رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره "، وما أشبه هذا مما طرق سمعك غير مرة. وأما باعتبار الدنيا، ورتبتها الدنيا. فإن فيهم من علا بالأوصاف قدره، وغلا للأضياف قدره، حتى أشرق من أفق الشعر بدره. ولكنَّ صُعْلوُكاً صحيفةُ وجهِه ... كضَوءِ شهابِ القَابِسِ المُتنوِّرِ إلى آخر الأبيات، المعلومة في الروايات. فيا أيها الغني، هلا إذ نطقت، تحملت ما أطقت. ورفعت نفسك من حيث لم تخفض سواك، وجلوت ثغرك بغير هذا السواك. فإن الشريف الكريم، ينقص قدراً بالتعدي على الشريف الكريم، وولع الخمر بالعقول رماها بالتنجيس وبالتحريم. قال: فنظر إليه الغني شزرا، وأعاره لحظاً نزرا. وخاطبه مخاطبة متحكم، ولاطفه ملاطفة متهكم، فقال: عذراً أيها المسكين، ورفقاً أيها المستكين، فما أنا بلغت عظمك السكين، ولست الذي أنزل شكلك هذا البيت من التسكين. إنما قلت في وفيك، ما كلانا به حقيق، ونسبت إلي وإليك، ما انعقد عليه الإجماع بالتحقيق. فاستمع مني بعض أوصافك، واردد جماح أنفتك بلجام إنصافك. وإن لم تصدق الناس ما أقول، فبرئت مني ذمة المعقول: ألست حائك شقق الهون والإذلال، وموشيها بوشي الكدية والسؤال، ومفصل أوصالها بمقراض الضجر والملال، وخائط تفاصيلها بخيوط الإلحاح الطوال، ومقدرها على قامات الرجال؟ فمفرغها عليهم للزينة والجمال! فاستجل فيهم هذا الوصف الشنيع، واستمل منهم شكر هذا الصنيع. واعفني من عتابك، فإني أربأ بنفسي عن خطابك. وإن حمى عزي المنيع المحرم، ومن لا يكرم نفسه لا يكرم. ثم إنك مع ذا أردت جلاء العين فزدت قذىً، وأنزلت معالي الهدى في مغاني الهذا. وتكلمت في حضرتي بشريف الآثار، كلام من يظن أنه فيها ذو استثيار، وأنت تعلم أني فارس نقعها المثار. واستشهدت ببعض الأشعار، فأشهدت أن لمعانيها في ذهنك أشعار، وكلٌ عارفٌ بأني لا أركب في مضمارها الفرس المعار، ولا أقنع في معرفة أسرارها بالدثار دون الشعار. وإن كنت تستطيع معي صبرا، فسأنبئك بما لم تحط به خبرا. حسبي وإياك صيتاً وذكرا، أن الله سماني خيرا وسماك شرا، " إن الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً ". وجعلني من نعمه التي ذكر بها عباده كثرا، " وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً ". بل يشمل سيد البشر هذا المعنى، " ووجدك عائلاً فأغنى ". وإن من دلائل فخري وسعدي، وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي. وجعلك من المحن التي تسكب عندها العبرات، ولا تقال في حزونها العثرات، " ولنبلونكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات ". وإن شئت خفضتك طبقةً أخرى، ورويت لك " كاد الفقر أن يكون كفرا "، وما جرى هذا المجرى. فأنت المبعد عن طاعة الخالق، لما تنزل بالخلائق، من الكرب والمضائق، وهي القواطع والعوائق. وأنا الذي أيسر لهم سني البضاعات، المتوقف عليها كثيرٌ من الطاعات. فلولا وجودي، ووجود جودي، لم يظفروا بثواب الزكوات والصدقات، وصلة الأرحام بالنفقات. ومن أعظم هذا المرام، حج بيت الله الحرام. وهل يستوي الإيسار والإفلاس، والله لم يدع إلى بيته سوى المياسير من الناس!

وتعلم كثرة دعاء الأنبياء، والمقتدين بهم من الأولياء، بالاستعاذة من جوارك، والاستقالة من عثارك، والتضرع إلى الله في محو آثارك. وأما الشعراء فقد هاموا بهجوك في كل واد، وقاموا بذمك على رؤوس الأشهاد. وأمروا للهرب منك بالتغرب في البلاد، ومقاساة الأين في ذلك والسهاد، حتى رأيتُ المُقامَ على الاقْتصادِ ... قُنوعاً به ذِلَّةٌ في العبادِ وحسبك بيتٌ سار مسير الأمثال في الورى، فسِرْ في بلادِ اللهِ والْتَمِسِ الغِنَى ... تَعِشْ ذا يَسارٍ أو تموتَ فتُعْذَرا وقال من أنف من قدرك الحقير: دَعِيني للغنى أسْعَى فإنِّي ... رأيتُ الناسَ شَرُّهم الفقيرُ ولو عقلت ما فاخرت الأقران، وقد نظموك والكفر في قران. ما أحْسَنَ الدين والدنيا إذا اجْتمعا ... وأقْبَحَ الكفرَ والإفْلاسَ بالرَّجُلِ وصعاليك اليهود، على هذا البيت من الشهود. ولولا ذم الإطرا وخوف الملام، وأن يقول بعض الفقراء مادح نفسك يقريك السلام؛ لأوردت عليك ما نظموه في من المدائح، وصيرت لك در الفرائد من أخلاف القرائح. وكيف لا وأنا علتهم الغائية في نظم مدائحهم المحبرة، ونعوتهم المحررة، وأغزالهم الرائقة، وتخيلاتهم الفائقة. وهل الممدوح إذا مثل المادح لديه، إلا المعهود الذي أقدره على إطلاق يديه. فخذ إليك غيضاً من فيض، ولمعةً من روض. وإن أردت زيادة الخوض، ملأت بهذا السجل لك الحوض. حتى تقول قطني، فقد ملأت بطني. قال الراوي: فاستجاش الفقر وازبأر، وزمجر وزأر، واستوفز وأثأر، وقال: كلا لا مفر " إلى ربك يومئذٍ المستقر ". الآن حمي الوطيس، والتف الخميس بالخميس. وتكلمت القلوب بألسنةٍ أحد من الصفاح، بل تكلمت ألسنة العذبات الحمر بأفواه الجراح. مَن صدَّ عن نِيرانِها ... فأنا ابنُ قَيْسٍ لا بَرَاحُ أيها الغني، أمثلي تذلل صعابه البرى، ويركب أعجاز الإبل وإن طال السرى. أقسمت بمن جعلني في خلقه آية، ورفع لي على الطاغين أشهر راية، وجعلني لمحق الباغين أشأم من ابن داية؛ لتسمعن مني ما يدعك تقرع بأنامل الندم الثنايا، وأنا ابن جلا وطلاع الثنايا. أيها الناعم في لباس العجب والتيه، والزاعم أنه مولى الفضل ومؤتيه، والنازع إلى أخلاق اللؤم والرداة، والمنازع رب الكبرياء رداه. لقد افتريت في وصفي ووصفك بمينك، وأبصرت القذاة في عيني ولم تبصر الجذع في عينك. وصدفت عن مناهج الحق ومشارعه، وحرفت الكلم عن مواضعه. ولو أنك شداد بن عاد، ثم متعك الله تعالى بإرم ذات العماد، وفرعون ذو الأوتاد، ثم نجوت من اليم بمن معك من الأجناد، وكليب بن ريبعة ولم يقدر عليك جساسٌ في الحمى، وأبرهة ولم ترمك طيرٌ أبابيل من السما، وزهير بن جذيمة ولم تأخذك يد خالد من قريب، وأبو جهل بن هشام ولم تسحب إلى القليب؛ لأنفت لك من هذا العجب والاستطالة، وضجرت منك إذ أطلت هذه الإطالة. لكن لا بدع في ذلك فإنك منبع الطغيان، بنص القرآن: " إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى "، " أن كان ذا مالٍ وبنين، إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ". وإن الذي جمع مالاً وعدده، وحسب أن ماله أخلده، منك استمد مدده، وبك أعد في الكفر عدده. وقد قالت أكابر قريش حين لفحتها ريحك العقيم: " لولا نزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم ". وقد علم مفضلك أو مساويك، إن لم يعمه حبك عن مساويك، أن الخلق بك يخسرون ولا يفلحون، وأنك من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. فكم قد اقتضى غي أهوائك، وعي أدوائك، وسكر شرابك، ومسكر سرابك أن يقطع السارق، ويقمع المارق، ويروع الخائن، ويصفع المائن، ويدفع الغاصب القاسط، ويتبع المحاسب المغالط. وأن يدنس بياض الأعراض، بسواد دنايا الأغراض، ويتحكم في صحاح العقول عضال الأمراض، من الأطماع الحقيقة بالإهمال والإعراض. ويفصح الحريص بالجريض، عند الحث على الجود والتحريض. وأن يرتكب الحازم، متون المآثم. يطيب الظنون، ويقدم السالك في المفاوز والمهالك على ريب المنون. وكم أوقعت فتنتك بين المرء وأبيه، وخليله وأخيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن في الأرض جميعاً ثم لا ينجيه.

ولعلك تقول: إن من ذكرت، وشنعت عليهم وأنكرت، منك هربوا فلاذوا بسابغ ظلي، وفي حماك أجدبوا فاستسقوا وبلي وطلي، فأنت الذي حملتهم على أن يرتكبوا ما ارتكبوا، حتى حادوا عن القصد ونكبوا، فعوقبوا ونكبوا. كلا، إن خرط القتاد، دوون هذا الإيراد. فمن المعلوم أن كثيراً ممن ظهرت غواياتهم، وبعدت في الفساد غاياتهم، قد يرضى لنفسه بسمة القباحة، مع كوني لم أطرق له ساحة. وإنما يقصد الزيادة من كيلك، أو التقويم لأودك عند ميلك، فتعشى عين بصيرته في ليلك. وأما من سواهم، وقليلٌ ما هم، فلو كان قصده بأفعاله الشنيعة، إفلاته من حوزتي المنيعة، لكنت تراه يكتفي بالطفيف الذي يبعده عني، ولا يتآكد مصاعد التمني والتعني. دليلُك أن الفقرَ خيرٌ من الغنَى ... وأن قليلَ المالِ خيرٌ من المُثْرِي لقاؤُك شخصاً قد عصى الله للِغنَى ... ولستَ ترى شخصاً عصى اللهَ للفقرِ ويؤكد هذه الأحكاك الجليلة، ما أثبتته الأدلة العقلية والنقلية، أن جمع الأموال، من وجوه الحلال، يكاد يدخل في المحال. أما تعلم أن من قابلني بالرضا، والتسليم للقضا. وكف نظره عن الطماح، وعامل هواه بالزجر لا بالسماح. ظفر بكنز القناعة، وطفر عن وهاد الذل والخناعة. وهجر كد الطلب ووباله، وفرغ بطاعة مولاه خاطره وباله. وتمسك بأوثق الوسائل، لتحصيل العلوم والفضائل. واستحق أن ينشد لسان افتخاره: غيرِي يُغيِّره فِعالُ الجافِي ... ويحُول عن شِيَمِ الكريم الوافِي ويرشد عند اختياره: إن الغَنِيَّ هو الغنيُّ بنفْسِه ... ولَوَ انَّه عارِي المَناكبِ حَافِي وأما من أبغضك وأحبني، ورفضك وقربني، وأبعدك وأنت قائمٌ في خدمته كبعض عبيده، وطردك وأنت باسطٌ ذراعيك بوصيده، فإنه رجل الدنيا وواحدها، وطالب الأخرى فواجدها. وحسبك بإبراهيم بن أدهم بعد نزوله من أعلى القصور، وعمرو بن عبيد وجلالة قدره عند المنصور. دع أهل هذه الطبقة وما حووه من المفاخر، واتل: " لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ". أليس قد ورد عنه صادق النبا، بأنه قد نشز عنك ونبا، وقد عرض عليه أن تصير معه جبال تهامة فضة وذهبا؟؟ ثم من العجب زعمك أنك العزيز وأنا الذليل، وأني الحقير وأنت الجليل. ولو كنت تساوي عفطة عنز أو قلامة حافر، لما متع الله تعالى بك الفاسق والكافر. وإن زعمت أن لك الفضل والنعمة، لأن مصاحبك يعد من ألي النعمة؛ فإن معك من المحن والأكدار، وهموم الخوف من طوارق الأقدار، وتوقي سوء السمعة في هذه الدار، ما لا ينقطع ولا ينتفي، ولا يستتر ولا يختفي. وَازنْتُ بين مَلِيحِها وقبيحِها ... فإذا الملاحةُ بالقباحةِ لا تفي وأني يهنأ بعي مستطاب، من يعلم أن حلالك حسابٌ وحرامك عقاب. وكيف يتحمل منك الإفضال والإنعام، من يسمع " يدخل فقراء هذه الأمة الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام ". فدونكها غارةً شعواء، تخبط في عجاجها خبط العشواء، وداهيةً دهياء، تحقق عندك أنك الداء العياء. تمنع الحدث الغر أن يصول، والهرم المجرب أن يقول: يا ليْتني فيها جَذَعْ ... أخُبُّ فيها وأضَعْ وتقرر في العقول، مفاد المثل المنقول: ما طارَ طيرٌ وارْتفَعْ ... إلاَّ كما طارَ وَقَعْ قد أصدرتها صيانة المروءة الشرعية، وحياطة حقوق النفس المرعية؛ لا بوادر القوة الغضبية، ونوادر النخوة والحمية. لتفيدك موعظةً حسنة، وتتلو: لا تستوي السيئة والحسنة. وتنشد البيت الدائر على الألسنة: الخيرُ يَبْقَى وإن طال الزَّمانُ بهِ ... والشَّرُّ أخْبَثُ ما أوْعَيْتَ مِن زادِ قال راوي الحديث: فما أتم الفقر مقاله، ورمى عن ظهره أثقاله؛ أقبل الغني على رأس المجلس وصدره، وشمس المحفل وبدره. وقال: أيها النفس الشريفة، مد الله تعالى بك ظلال العقل الوريفة، إن حال هذا الجاهل طريفة أي طريفه. لقد جهل الجهل المركب، وركب في غير سرجه هذا المركب. وقصد إذ شوه وجه جمالي، وأود غصن كمالي، أن ينشد حرٌّ كريم، أو ذو أدب قويم: كضَرائرِ الحَسْناءِ قُلْنَ لوجْهِها ... حَسَداً وبُغْضاً إنه لَذَمِيمُ

فيدخل بفحوى العموم في جملة أقراني، ويصعد بهذا المفهوم إلى أوج قراني. وهيهات هيهات، أين الثريا من يد المتناول، ومتى قال السها يا شمس أنت خفية، وقال الدجى يا صبح لونك حائل. ولو انثالت من جيوش الكلام هذه الجحافل، في أحقر الأندية والمحافل، لميز في الحال بين البطل الشجاع، والخنع اليراع، وأسقط سقط المتاع، عن رتبة سكاب الذي لا يعار ولا يباع. فكيف بهذا المجلس الذي انتشرت عليه غمائم الأدب والفضل، وشرت منه بوارق صوارم القول الفصل، وارتعدت بصواعق الجد فرائض الهزل، وهمرت سيول النفع والضر في شعاب التولية والعزل. وإني سأحبس عن القول عناني، ولا آخذ إلا فيما عناني، حتى تنحسم أباطيل الأماني، وتمحي عن صحائف الخواطر وساوس ماني، وأجازي بالشكر من عرف قدري فأسماني. قال: فبادر الفقر قائلاً: رب إني دعوت هذا الخصم للرشاد ليلاً ونهارا، ونصحته بالبيان المستفاد سراً وجهارا، فلم يزده دعائي إلا فرارا، وإصرارا على الجور واستكبارا. ثم لم يكتف بذلك حتى أخذ يمكر بي مكراً كبارا، ويتقرب للحضرة السلطانية استظهارا علي واستنصارا، ويظن أن سينال بذلك لديها إيثارا. كلا والله، تلك حضرةٌ شوط الباطل فيها قصير، وهي للحق وأهله نعمت النصير، ولا يتميز عندها للمتربع فوق السرير، على الجاثي على الحصير، وقد وقف الكلام بمنتهاه وغايته وصار إلى مصير. ثم أقبل على العقل، وقال: يا مولانا الوزير، أنت المدبر والمشير، والحاكم على كل مأمور وأمير. وأنت لسان الملك الناطق بلا اعتراض، ويده المتصرفة في سائر الأغراض، وطبيب أحكامه الشافي من كل الأمراض، ولك الأمر " فاقض ما أنت قاض ". قال كريم الطباع، الراوي لهذه الأسجاع: فلما سمع العقل ما قالاه، ورآى أنهما ألزماه الحكومة وإن عثر ما أقالاه، لبث هنيئةً ينتظر الإذن في الكلام، ويحرر من القول ما يخرجه عن الملام. إجلالا للحضرة السلطانية وتبجيلا، وعملا بما قيل: إن الكلامَ لَفِي الفؤادِ وإنما ... جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دليلاَ حتى حصلت له الإشارة، ووصلت نتائج أفكاره المستشارة. فاستعاذ من الشيطان الرجيم، وقال: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد؛ فإن الحكومة معيار الذمم، ومحك الهمم. وميزان الفضل والمعرفة، وميدان الأفكار المتصرفة. وممر أنهار البلاغة والفصاحة، ومقر أطواد الرصانة والرجاجة، ومصرع جنوب المودة والصداقة، لكن في معارك ذوي الجهل والحماقة والحق يأبى الجمع بين النقيضين، والعقل يحرص على الإصلاح بين البغيضين. والتوفيق عزير، وخير القول الجامع الوجيز. وبحر المدح والقدح لا تفنى عجائبهم ومَن ذا الذي تُرْضَى سَجاياهُ كُلُّها ... كفَى المرءَ نُبْلاً أن تُعَدَّ مَعايِبُهْ ومن هنا أيها الفقر والغني ينبغي أن تعلما أنكما أدخلتماني في أضيق من سم الخياط، وكلفتماني المرور على جهنم فوق الصراط، وأشق المسالك الشرعية باب الاحتياط. وأنا أستعين الله تعالى وأستهديه، وأسأله أن يوفقكما لقبول ما أبديه. فقد أجبت السؤال وأطعت، وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت. أما أنت أيها الغنى؛ فإنك المحمود المذموم، الميمون المشئوم؛ المحبوب المبغوض، المطلوب المرفوض؛ النافع الضار، المقيم الفار، المنبه الغار. وأما أنت أيها الفقر، فإنك العدو الصديق، المسعف الرفيق؛ المشقي المسعد، المهبط المصعد؛ الممرض المعافى، المعرض الوافي، المخل الكافي، الناقص الوافي. وأنا أفصل لكما هذين الإجمالين، وأرفع التناقض بين الاحتمالين، حتى تنزهاني عن الجهل والمين، وتنقلبا بحقائق الأمور عالمين. اعلما أن الله لم يخلق شيئاً عبثا ولعبا، " ولا يظلم ربك أحداً " أولاه راحةً أو تعبا. وجميع نعمه ونقمه، منتظمةٌ في أسلاك حكمه. وكل ما أودعه في عالم الكون والفساد، ذريعةٌ للعباد إلى كسب الفوز في المعاد. وملاك نتيجة كل قضية، ما يهدي الله إلى اختياره حضرة النفس الإنسانية. وقد أحلكما الله تعالى بين عباده في مواقع، يجوزها الشرع ولا يدافع، من أوفاها حقها ظفر بالعمل النافع، ومنقصر جوزي بعذابٍ واقع، ماله من دافع. فيكون الغنى منحةً استوجبها المطيع فحواها، أو مصلحةً لا يصلح العبد سواها. أو محنةً للاختبار والابتلا، أو فتنةً للاستدراج والإملا.

ويكون الفقر نقمةً طبق الاستحقاق المسطور، أو نعمةً لتنزيه النفوس الشريفة عن متاع الغرور. ويشارك الغنى في الابتلاء والاختبار، والمصلحة التي يعلمها الحكيم المختار. فحق المحبو بالغنى أن لا يألو جهداً، في أن يوالي شكراً وحمدا. وأن يتوصل به لاكتساب الأخرى، ويتصرف فيه بما هو الأولى والأحرى. ويتخرج من عهدة النوافل والحقوق، ويتحرج عن وصمة التغافل والعقوق. ويستعيذ بالله من إملائه وفتنته، ويحذر أن تغلب الغفلة على فطنته. وإياه ثم إياه، أن يشغله عن مولاه. وتحت هذا الإجمال تفصيلٌ طويل، الويل لمن أضرب عنه والعويل. وحق الممنو بالفقر أن يأخذ بالرضا والتسليم، ويقابل حكم الحكيم بقلبٍ سليم. ويكشره على آلائه، حيث اختصه بشعار أنبيائه وأوليائه. وينيب إلى باريه بالتوبة، ويستعيذ به من شؤم الإثم والحوبة. ويعتاض بعز القناعة والكفاف، ويرتاض على الزهد والعفاف. ويعتصم بحبل التقى، ويحذر من التخلص بالشفا من الشقا. ولا ييأس من روح الفرج، وإن عز في الضيق المخرج. ولا يدع التلطف في الحيلة، لتكلف المظاهر الجميلة. فهذه السنن المتبعة، مقنعة في الخرج من عهدة المواقع الأربعة. إذا علم هذا وتقرر، وثبت لديكما وتحرر، فاعلما أن كل واحدٍ منكما جاور من هذه صفاته، وحاور من لا تصدع بالجهل صفاته. فهو في معرك المفاخرة فارس الصفين، والحائز للقسم المحمود من الوصفين. وإلا فهو المتسم بالوصف الأخير، الحري وإن قدم بالتأخير. ثم إن أبيتما، إلا التمييز في الصفات بينكما، فأنت أيها الغني كالسيف الصقيل، يضيء حده في أعناق المعتدين والمهتدين، والجواد الأصيل يصلح حده لقطع السبل ولإعزاز الدين. فلك الفخر الذي يزاحم الكواكب بالمناكب، لكن بعد النظر إلى الضارب والراكب. وأنت أيها الفقر كالبحر الأجاج، يجري فيه الفلك مواخر، ويستخرج منه الدر الفاخر. والقفر العجاج، ينجو سالكه من طلب أعدائه، ويرجو عند انتهاء السير لقاء أودائه. فأنت الحائز للمفاخر، لكن باعتبار العواقب والأواخر. ثم إني أقول ولا أخشى ملامة، إن الفقر أدل على منهج الاستقامة، وأقرب إلى ساحل السلامة. وإن كان الغنى إذا كشف عن صاحبه الرين، ووفق على عزة التوفيق لأحمد الاختيارين، فهو الظافر بسعادة الدارين. وبهذا التأصيل الوثيق، والتفصيل المطابق للتحقيق، يرتفع التناقض بين ما أوردتماه من الحجج، وقلتماه عند الخوض في تلك اللجج. فتأملاه بعين البصيرة، وتناولاه بيدٍ غير قصيرة. وعلى كل حال فأنا الممتحن المبتلى بكما، والمرآة المجلى فيها شكلكما. ولم يكفكما تكليفي المشاق منفردين، حتى جئتماني مجتمعين، وحملتماني ما لو عرض على الجبال لأبين. وأنا أسأل الله تعالى أن يمنح حكمي القبول، ويوفق بينكما بالإصلاح وهيهات أن تتفق الدبور والقبول. قال راوي الحديث: فلما سمع الغنى والفقر ما جلاه العقل من الدلائل، وعلما أنه لم يبق مقالاً لقائل، ولا مصالاً لصائل، قاما حامدين للحكومة راضيين، وانطلقا لشأنهما كالسيفين الماضيين. وتفرق أرباب المجلس وكلٌّ يقول: هذا هو الحكم العدل، والمنطق الفصل، ولواهب العقل جزيل الحمد والمنة والفضل. محمد بن أحمد حكيم الملك بضم الميم وسكون اللام جواد لا يشق غباره، وكامل خلص من الزيف عياره. سرح في فنون العلم وسام، واجتلى وجوه خطاياه وهي نضرة وسام. وهو من بيت رياسةٍ وجلالة، وقومٍ لم يرثوا المجد عن كلالة. وكان لسلفه عند ملوك الهند آل تيمور، محلٌّ بندى أكفهم معمور، ومنزل بفائض عوارفهم مغمور. ولما ورد جده مكة المشرفة، قصد آل الحسن السادة، فأحلوه المحل الذي ينبيه أعين الحسادة. وولد صاحب الترجمة بمكة، فنشأ في بيت مجدٍ علا قدره، ورضع من ضرع ذلك المحتد فلله دره. فجمع بين تليد المجد وطريفه، وقال من ظل الرعاية في فسيحه ووريفه. قال ابن معصوم: ولم يزل متبعا تلك الدار، محمود الإيراد والإصدار. مع تمسكه من سلطانها الشريف محسن بالعروة الوثقى التي لا تنفصم، وحلوله لديه بالمكانة التي ما حلها ابن دؤاد عند المعتصم. حتى حصل عليه من الشريف أحمد بن عبد المطلب ما حصل، لما انحل عقد ولاية الشريف محسن منها وانفصل. فكان ممن نهب الشريف داره وماله، وقطع من الأمان أمانيه وآماله.

فالتجأ إلى بعض الأشراف، فأمنه على نفسه بعد مشاهدة الوقوف على الهلاك والإشراف. ثم سار مختفيا إلى اليمن، واستمر حتى قتل ابن عبد المطلب، فلم ير من شريف مكة السيد مسعود ما كان يأمله قبل، فتوجه إلى الهند فألقى بها عصاه، إلى أن بلغ من العمر أقصاه. انتهى. ومن شعره الذي أخذ بكل معنى، وتعطر بمشام ذكره كل مغنى. قوله: صَوادِحُ الْبانِ وَهْناً شَجْوُها بادِي ... فمن مُعِينُ فتىً في فَتِّ أكْبادِ صَبٌّ إذا غنَّتِ الورْقاءُ أرَّقهُ ... تَذْكيرُها نَغَمات الشادِنِ الشادِي فبات يرعُف من جَفْنيْهِ تحسَبُه ... يُرَجْرِج المَدْمَعَ الوَكَّافَ بالجادِي جافِي المضاجعِ إلْفُ السُّهْدِ ساوَرَه ... سَمُّ الأساوِدِ أو أنْيابُ آسادِ له إذا الليل وَارَاهُ نَشِيجُ شَجٍ ... وجَذْوةٌ في حَشاهُ ذاتُ إيقادِ سُمَّارُه حين يُضْنيه تَوَحُّشُه ... فيَشْرَئِبُّ إلى تأْسِيسِ عُوَّادِ وَجْدٌ وهَمٌّ وأشْجانٌ وبَرْحُ جَوىً ... ولَوعةٌ تتلظَّى والأسى سَادِي أضْناهُ تفْريقُ شَمْلٍ ظَلَّ مُجتمِعاً ... وضَنَّ بالعَوْدِ دَهْرٌ خَطْبُه عادِي فالعمرُ ما بين ضَنٍ ينْقضِي وضَنىً ... والدهرُ ما بين إيعادٍ وإبْعادِ لا وَصْلَ سَلْمَى وذاتِ الخالِ يرْقُبُه ... ولا يُؤمِّل من سُعْدَى لإسْعادِ أضْنَى فؤاديَ واسْتَوْهَى قُوَى خلَدِي ... أقْوَى مَلاعبَ بين الهُضْبِ والوادِي عَفَّتْ مَحاسنُها الأيامُ فانْدَرستْ ... واسْتبْدلَتْ وَحْشةً من أُنْسِها البادِي وعاث صَرْفُ الليالي في مَعالِمها ... فما يُجيبُ الصَّدَى فيها سِوَى الصَّادِي دَوارِجُ المَوْرِ مارتْ في مَعاهدِها ... فغادرَتْها عَفَا السَّاحاتِ والنادِي وصَوَّحتْ بالبِلَى أطْلالُها وخَلَتْ ... رِحابُها الفِيحُ من هَيْدٍ ومِن هادِي كأنها لم تكنْ يوماً لِبيضِ مَهاً ... مَراتِعاً قد خلَتْ فيهنَّ من هادِ ولم تظَلَّ مَغانيها بغانيةٍ ... تُغْنِي إذا ما رَدَى من بَدْرِها رَادِي ولا تثَنَّتْ بها لَمْياءُ ساحِبةً ... ذَيْلَ النعيم دَلالاً بين أنْدادِ فارقْتُها وكأنِّي لم أظَلَّ بها ... في ظِلِّ عَيْشٍ يُجلِّي عُذْرَ حَسَّادِ أجْنِي قُطوفَ فُكاهاتٍ مُحاضرةً ... طَوْراً وطوراً أُناغِي رُتْبة الهادِي هَيْفاءُ يُزْرِي إذا ماسَتْ تمايُلُها ... بأمْلَدٍ من غصونِ الْبانِ مَيَّادِ بجانبِ الجيدِ يَهْوِي القُرْطُ مُرْتعِداً ... مَهْواهُ جِدُّ سَحِيقٍ فوق أكْتادِ شِفاهُها بين حُقِّ الدُّرِّ قد خَزنتْ ... ذخيرةَ النَّحَلِ مَمْزُوجاً بها الجْادِي إذا نَضَتْ عن مُحَيَّاها النَّقابَ صَبَا ... مُسْتهْتَراً كلُّ سَجَّادٍ وعَبَّادِ وإن تجلَّتْ ففيما قد جَلَتْه دُجىً ... لنا به في الدَّآدِي أيُّما هادِي وَمِيضُ بَرْقِ ثَناياها إذا ابتسمتْ ... بعَأرضِ الدَّمْعِ مِن مَهْجورِها حَادِي وناظِرانِ لها يَرْتَدُّ طَرفُهما ... مهما رَنَتْ عن قتيلٍ ما له وَادِي وصُبْحُ غُرّتِها في ليلِ طُرَّتِها ... يَوْمايَ من وصلِها أو هجرِها العادِي تلك الربوعُ التي كانت مَلاعبُها ... أخْنَى عليها الذي أخْنَى على عادِ إلى مَلاعب غِزْلانِ الصَّرِيمِ بها ... يَحِنُّ قلبي المُعَنَّى ما شدَا شَادِي بُعْداً لدهرٍ رماني بالفِراقِ بها ... ولا سَقَى كَنفيْه الرّائحُ الغادِي

عَمْرِي لئن عظُمتْ تلك القَوادِحُ من ... خُطوبِه وتعدَّتْ حَدَّ تَعْدادِ لقد نسِيتُ وأنْسَتني بَوائقُه ... تلك التي دَهْدَهتْ أصْلاً وأطْوادِ مَصارِعٌ لِبَني الزَّهْرا وأحمد قد ... أذْكَرْنَ فَخّاً ومَن أرْدَى به الهادي لفَقْدِهم وعلى المَطْلولِ من دَمهِم ... تبكي السماء بمُزْنٍ رائحٍ غادِي وشَقَّ جَيْبَ الغمامِ البَرْقُ من حَزَنٍ ... عليهمُ لا على أبْناءِ عَبَّادِ كانوا كعِقْدٍ بجيدِ الدهرِ مُذْ فَرطَتْ ... من ذاك وَاسِطةٌ أوْدَى بتَبْدادِ وهو المَليكُ الذي للمُلْكِ كان حِمىً ... مُذْ ماسَ من بُرْدِه في خَزِّ أبْرادِ كانت لجيرانِ ببيتِ اللهِ دولتُه ... مِهادَ أمْنٍ بِسَرْحِ الخيفِ ذَوَّادِ وكان طَوْداً لِدَسْتِ المُلْكِ مُحْتبياً ... ولاقْتناصِ المَعالي أيَّ نَهّادِ ثَوَى بصَنْعا فيا للهِ ما اشْتملَتْ ... عليه من مجدهِ في ضِيقِ ألْحادِ فقد حَوَيْتِ به صَنْعاءُ من شَرَفٍ ... كما حَوَتْ صَعْدةٌ بالسيِّد الهادِي فحبَّذا أنتِ يا صَنْعاءُ من بلدٍ ... ولا تغَشَّى زياداً وَكْفُ رَعَّادِ مُصابُه كان رُزْءاً لا يُوازِنُه ... رُزْءٌ ومِفْتاحَ أرْزاءٍ وأسْبادِ وكان رَأْساً على الأشْرافِ منذ هوَى ... تتابَعُوا بعده عن شِبْهِ مِيعادِ لَهْفَ المُضافِ إذا ما أزْمَةٌ أزَمتْ ... من قطبِ نائبةٍ للمَتْنِ هَدَّادِ لَهْفَ المُضافِ إذا ما أقْلحتْ سَنَةٌ ... يَضِنُّ في مَحْلِها الطَّائيُّ بالزَّادِ لَهْفَ المُضافِ إذا كَرُّ الجِيادِ لدَى ... حَرّ الجِلادِ أثار النَّقْعَ بالوادِي لَهْفَ المُضافِ إذا ما يُسْتباحُ حِمىً ... لفَقْدِ حَامٍ بِورْدِ الكَرِّ عَوَّادِ لَهْفَ المُضافِ إذا جُلَّى به نزلَتْ ... ولم يَجِدْ كاشِفاً منها بمِرْصادِ لَهْفَ المُضافِ إذا نادَى الصَّرِيخُ ولم ... يجِدْ له مصرخاً كالغيثِ للصَّادِي لَهْفَ المُضافِ إذا الدهرُ العَسُوفُ سَطَا ... بضَيْمِ جارٍ لنُزْلِ العِزِّ مُعْتادِ بل لهفَ كُلِّ ذوِي الآمالِ قاطبةً ... عليهمُ خيرُ مُرْتادٍ لِمُرْتادِ كانتْ بهم تَزْدهِي في السِّلْمِ أنْدِيةٌ ... وفي الوغَى كُلُّ قَدَّادٍ ومُنْآدِ على الأرائِك أقْمارٌ تُضِيءُ ومِن ... تحت التَّرائِك آسادٌ لمستادِ تشكُو عِداهم إذا شاكِي السِّلاح بَدَا ... شَكَّ القَنَا ما ضَفَا من نَسْجِ أبْرادِ إلى النُّحورِ وما تحوِي الصدورُ وما ... وَارَتْه في جُنْحِها ظُلماتُ أجْسادِ جَنَى جَنىً قلقاً تحْوِي جَآجِئُها ... ممّا يُقَصِّد فيها كلُّ قَصَّادِ بَأدُوا فباد من الدنيا بأجْمعِها ... مَن كان فكَّاكَ أصْفادٍ بإصْفادِ وقد ذَوتْ زَهْرةُ الدنيا لِفَقْدِهمُ ... وأُلبِستْ بعدهم أثْوابَ إحْدادِ واجْتُثَّ غَرْسُ الأماني من فَجِيعتهم ... وأنْشَد الدهرُ تقْنيطاً لِرُوَّادِ يا ضيفُ أقفْرَ بيتُ المَكْرُماتِ فخُذْ ... في جَمْعِ رَحْلِك واجمعْ فَضْلَة الزَّادِ يا قلبُ لا تبْتئِسْ من هَوْلِ مَصْرَعِهمْ ... وعَزِّ نفسَك في بُؤْسٍ وأنْكادِ بمَن غدا خَلَفاً يا حبَّذَا خَلَفٌ ... في المُلْكِ عن خيرِ آباءٍ وأجدادِ بحائزٍ إرْثَهم حاوٍ مَفاخِرَهم ... كما حَوى الألْفُ من آحادِ أعْدادِ وذاك زيدٌ أدام اللهُ دولتَه ... وزاده منه تأييداً بإمدادِ

سمَا به النَّسَبُ الوَضَّاحُ حيث غدا ... طَرِيفُه جامعاً أشْتاتَ أتْلادِ لقد حوَى من رَفِيعاتِ المَكارمِ ما ... يكْفِي لمَفْخرِ أجْدادٍ وأحْفادِ أليس قد نالَ مُلْكاً في شَبِيبتِه ... ما ناله مًن سعَى أعْمارَ آبادِ أليس في وَهَجِ الهَيْجا مَواقِفُه ... مَشْكورةً بين أعداءٍ وأضْدادِ أليس أسْبَحَ في التَّنْعيمِ سابِحَه ... لُجَّ المَنايا ليُحْيِي فَلَّ أجْنادِ أليس يومَ العَطا تحْكِي أنامِلُه ... خُلْجانَ بحرٍ بفَيْضٍ التِّبْرِ مَدَّادِ أليس قد لاحَ في تَأْسِيسِ دولتِه ... من جَدِّه المصطفى رمزٌ بإرْشادِ دامتْ مَعالِيه والنُّعْمَى بذاك له ... يَصُونُها وهْو مَلْحوظٌ بإسْعادِ ما لاح بَرْقٌ وما غَنَّتْ على فَنَنٍ ... صَوادِحُ الْبلانِ وَهْنا شَجْوُها بادِي قوله: أليس قد لاح في تأسيس دولته، يشير به إلى ما وقع للشريف زيد، فإنه لما ورد الأمر السلطاني بولايته الحرمين، وكان إذ ذاك بالمدينة المنورة، قصد زياة النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد الخدم أن يفتحوا الباب، فوجدوه مفتوحاً، وكانوا قد أغلقوه من قبل، فعلم الناس أنه إشارةٌ إلى الفتح. ومن لطائفه قوله من كتاب: سقى الدمعُ مَغْنَى الوَابِليَّةِ بالحِمَى ... سَواجِمَ تُغْنِي جانِبَيْه عن الوَبْلِ ولا برِحتْ عيني تنُوبُ عن الْحَيَا ... بدمعٍ على تلك المَناهلِ مُنْهَلِّ مَغاني الغوانِي والشَّبيبةِ والصِّبا ... ومَأْوَى المَوالِي والعشيرةِ والأهلِ سَقاها الْحَيا من أرْبُعٍ وطُلولِ ... حكَتْ دَنَفِي من بعدهم ونُحولِي سَقا صَوْبُ الْحَيا دِمَناً ... بجَرْعاءِ اللِّوَى دُرْسَا وزاد مَحلَّكِ المَأْنُو ... سَ يا دار الهوَى أُنْسَا لئِن درَستْ رُبوعُك فالْ ... هَوى العُذْرِيُّ ما دَرسَا إنما المحافظة على الرسوم والآداب، والملاحظة للعوائد المألوفة في افتتاح الخطاب، لمن يملك أمره إذا اعتن ذكر زينب والرباب، ولم تحكم عقال عقله يد النوى والاغتراب. وليست لمن كلما لاح بارقٌ ببرقة ثهمد، فكأنه أخو جنة مما يقوم ويقعد. تتقاذفه أمواج الأحزان، وتترامى به طوائح الهواجس إلى كل مكان. فهو وإن كان فيما ترى العين قاطناً بحيٍ من الأحياء، يَوْماً بحُزْوَى ويوما بالعَقِيقِ وبالْ ... غُوَيرِ يوماً ويوما بالخُلَيْصاءِ لا يأتلي مقسم العزمات، منفصم عرى العزيمات. لا يقر قراره، ولا يرجى اصطباره. إن روح القلب بذكر المنحنى أقام الحنين حنايا ضلوعه، أو استروح روح الفرج من ذكر الخيف بمنىً أو مضت بوارق زفراته تحدو بعارض دموعه. مَن تمنَّى مالاً وحُسْنَ مآلٍ ... فمُنايَ مِنىً وأقْصَى مُرادِي فيا له من قلبٍ لا يهدأ خفوقه ولا تني لامعةً بروقه، ولا يبرح من شمول الأحزان صبوحه وغبوقه. يساور هموماً فما مساورة ضئيلةٍ من الرقش، ويناجي أحزاناً لو لابس بعضها الصخر الأصم لانهش، ويركب من أخطار الوحشة أهوالاً دونها ركوب النعش. يحن إلى مواضع إيناسه، ويرتاح إلى مواضع غزلان صريمه وكناسه، ويندب أيام يستثمر الطرب من أفنان أغراسه. أيامَ كنتُ من اللُّغوبِ مُراحَا أيامَ لا الواشِي يَعُدُّ ضَلالةً ... وَلَهِي عليه ولا العَذُولُ يُؤنِّبُ أيَّامَ ليلَى تُرينِي الشمسَ طَلْعتُها ... بعد الغروبِ بدَتْ في أُفْقِ أزْرارِ أيامَ شَرْخُ شبابِي رَوضةٌ أُنُفٌ ... ما رِيع منه برَوْعِ الشَّيْبِ رَيْعانُ أيامَ غُصْنِيَ لَدْنٌ من نَضارتِه ... أصْبُو إلى غيرِ جاراتِ وحاراتي ثم انْقضَتْ تلكَ السِّنُون وأهْلُها لم يَبْقَ منها لِمُشتاقٍ إذا ذكَرا ... إلاَّ لَواعِجُ وَجْدٍ تبعثُ الفِكَرَا

ولم يُبْقِ منِّي الشوقُ إلاَّ تفكُّرِي ... فلو شئتُ أن أبكي بكيْتُ تفكُّرَا لم أكن على مفارقة الأحباب جلداً فأقول وهي جلدي، وإنما هي تجلدي، مما حملت من النوائب على كتدي، وفتت صروف البين المشتت من أفلاذ كبدي. جرَّبتُ من صَرْفْ دهرِي كلَّ نائبةٍ ... أمَرَّ من فُرْقةِ الأحْبابِ لم أجِدِ فِراقاً قضَى أن لا تَأسِّيَ بعدما ... مَضَى مُنْجِداً صبرِي وأوْغَلْتُ مُتْهِمَا خليليَّ إن لم تُسْعِداني على البُكا ... فلا أنْتُما منِّي ولا أنا منكُمَا وحَسَّنْتُما لي سَلْوةً وتناسِياً ... ولم تذكُرا كيف السبيلُ إليهمَا حفيده صالح بن إبراهيم الحكيم روح الروح وثمرة الفؤاد، ومحله من الفضل محل السويداء من القلب والإنسان من السواد. وقد من الله تعالى في الحرم الشريف بلقائه، وكنت قبل ذلك أستروح نسيم الود من تلقائه. فاتخذته ثمة نجياً، وعاطيته ريحان الصداقة جنياً. أستشعر من جهته نفس العافية، وأتمسح منه باليد الشافية. فهو للقلب نجيٌّ وللروح سمير، ويكاد يؤكل بالمنى ويشرب بالضمير. يفاوح أرجه أزاهير الأدواح، ويبعث نسيمه طيب الحياة للأرواح. إلى طلعةٍ نورها في فلك القبول شارق، وطبيعةٍ إذا ذقت جناها وشمت سناها تذكرت ما بين العذيب وبارق. وله محاضرةٌ هي غرام كل صبٍ متيم، ومعاضدةٌ إذا مرضت حاجةٌ كان لها ابن مريم. وأما طبه فلو عالج الدهر لأمن في نفسه النقم، أو داوى الحياة لما طاف بها السقم. وقد تناولت من أشعاره ما هو شفاءٌ للصدور، وخفرٌ في وجوه البدور. فمن ذلك قوله من قصيدة: يا مخجِلَ البِيضِ البَواتِرْ ... بالسُّودِ من تلك النَّواظِرْ الفاتكاتِ القاتِلاتِ الذُّ ... بِّلِ الوُطْفِ الفَواتِرْ عَجبَاً لها تُمْسِي الأُسو ... د وهُنَّ أجْفانُ الجآذِرْ غازَلْتُ منها مُقْلةً ... غزلَتْ وحاكتْ كلَّ باتِرْ يرْنو بها الرَّشَأُ الأغَنُّ ... الأحْورُ الخِشْفُ المُنافِرْ ظَبْيٌ حَشايَ كِناسُه ... ومَقَرُّه حيث السَّرائِرْ قمرَ العقولَ بحُسْنِه ... أفْدِيه من قَمَرٍ وقامِرْ لَمَعتْ بَوارِقُ ثَغْرِه ... فانْهَلَّ مِن جَفْنَيَّ ماطِرْ بمَباسمٍ قد نُظِّمتْ ... في سِلْكِ مَرْجانٍ جَواهِرْ وبدا صباحُ جَبِينِه ... فانْجاب لي ليلُ الضِّفائِرْ واهْتزَّ غصنُ قَوامِه ... وغدا الفؤادُ عليه طائرْ والرِّدْفُ أخفَى خَصْرَه ... فلذا عليه الكَشْحُ دائرْ يا قلبُ مالك سَلْوةٌ ... كلاَّ ولا للوجدِ آخرْ عذَل العَذُولُ ومُذ رأَى ... بَاهِي المُحَيَّا عاد عاذِرْ أجْرَيْتُ وُقْفَ مَدامعِي ... وإلى لِقاهُ الطَّرْفُ ناظرْ وكذا نَجِيعُ نُضارِها ... بتصَعُّدِ الأنْفاسِ قاطِرْ هجرَ الحبيبُ وليْته ... لو كان للهِجْران هاجرْ أبْكِي فيضحكُ هازئاً ... ولسائلِ العَبَرات ناهِرْ يا رَبَّةَ الحُسْنِ الذي ... بجمَالِه بهرَ النَّواظِرْ رِقِّي لرِقٍ طَرْفُه ... يرعَى السُّها والطَّرْفُ ساهرْ ما شام بارِقَ لَعْلَعٍ ... إلاَّ غدا هامٍ وهامِرْ حيثُ الظِّباءُ سَوانِحٌ ... غِيدٌ حَبائلُها الغدَائرْ من كلِّ رُودٍ كَحَّلتْ ... بالسِّحرِ هاتيك المَحاجرْ سلَبتْ فؤادي غادةٌ ... مِنْهنَّ تلعب بالخواطِرْ أفْدِي مُحيَّاها الذي ... صُبْحُ الجَبِين عليه سافِرْ سدَلتْ عليه جَعِيدَها ... والليلُ للإصْباحِ ساترْ

لا تسْتُرِي قمراً بَدَا ... ليلُ المُحبِّ بغيرِ آخرْ وقوله من أخرى، أولها: سَلُوا الرَّكبَ عن سَلْمَى وأين بها شَطُّوا ... وهل خيَّمت بالجِزْع أم دارُها الشَّطُّ وهل عندها عِلْمٌ بما صنعَ النَّوَى ... وما جدَّد الشوقُ المُبرِّحُ والشَّحْطُ وهل نزَلتْ بالسَّفْحِ من أيْمَنِ اللِّوَى ... وغَرَّدها القُمْرِي وظَلُّلها الخَمْطُ وهل ذكَرتْ يوم الوَداعِ وأدْمُعِي ... بخدِّي حكاه الرَّسْمُ خَدَّده النَّقْطُ وهل بارِقٌ ما شِمْتُه أم تبسَّمتْ ... سُلَيْمَى فضاء الثَّغْرُ أو لمَع القُرْطُ رَدَاحٌ لها في كلِّ قلبٍ مُخَيَّمٌ ... وليس لمَفْتونٍ سوى حُبِّها قَطُّ أباح لها وَالِي الهَوى من قلوبِنا ... فمهما تَشا من ذي السُّوَيْداء تخْتَطُّ لها مَبْسَمٌ حُلْوٌ تَنظَّم دُرُّه ... على سِلْكِ مَرْجانٍ فضاءَ لنا السِّمْطُ كأن مُذابَ الشُّهْد في بَرَدِ اللَّمَى ... وفي ضِمْن هذا الألْعَسِ العَذْبِ إسْفَنْطُ تُسدِّد نحوي أسْهُماً من جُفونِها ... مُرَيَّشَةً حَبُّ القلوبِ لها لَقْطُ فتُصْمِي بها قَدّاً يميلُ به الصِّبا ... كغُصْنٍ أمالتْه الصَّبَا عندما تخْطُو وتضْفِر من ليلِ الجَعِيدِ ذَوائباً ... غدائر منها للنُّهَى الحَلُّ والرَّبْطُ عَقِيلةُ سِرْبٍ كالْمَها في الْتفاتِها ... تُعِير الظِّبا طَرْفاً وجِيداً إذا تَعْطُو من الأمْجريَّات اللَّواتِي سَبَيْنَنَا ... بشَرْطٍ من الحُسن البديع له شَرْطُ من الناعماتِ السُّمْرِ مَن عطَّر الحِمَى ... شَذاها إذا مَرّتْ به إثْرَها المِرْطُ فَدَيْتُ تجَنِّيها ولُطْفَ دَلالِها ... وإن راعَها مِنِّي بعَارِضِيَ الوَخْطُ أعَاذِلتي كُفِّي المَلامَ فليس لي ... على بُعْدِها صَبْرٌ ولو دُونَها الخَرْطُ ولم أدْرِ أن الحبَّ يقْدَح زَنْدَه ... لقلبِي وأن النار أوَّلها سِقْطُ سأركبُ مَتْنَ الصَّعْبِ في طُرْقِ وَصْلِها ... ولو أنها العَشْوا وسَيْرِي بها خَبْطُ وأغْشَى حِماها والمُهنَّدُ صاحِبي ... ولو أن في ذاك الحِمَى ينْبُت الخَطُّ وأرْوِي ظَمَا حَرَّي ببارِد رِيقِها ... وألْوِي عليها الزَّنْدَ لو مَسَّها الضَّغْطُ وأشكُو إليها ما لقِيتُ بحبِّها ... ومن فَرْطِ أشْواقي بها أدْمُعِي فُرْطُ وقوله من أخرى، مستهلها: مَغانِي الغوانِي لا عَدا الرَّبْعَ هَطَّالُ ... ولا زال مُخْضَلاَّ بكِ الشِّيحُ والضَّالُ ولا سجَعتْ وُرْقُ الحَمامِ على سِوَى ... غصُونك يا مَرْمىً به الغِيدُ نُزَّالُ سقاك وحَيَّاك وحَيَّى منازِلاً ... لقد كان لي فيهنَّ حَظٌّ وإقْبالُ أروحُ وأغْدُو بالكَثِيب ولي به ... رَداحٌ لها من آل يافِثَ أخْوالُ مُعَسَّلةُ الأنْيابِ أمَّا شَتِيتُها ... فدُرٌّ وأما رِيقُها فهو جِرْيالُ يجُولُ على تلك الَّلآلِي كأنه ... مُذابُ سَلِيل الشُّهْدِ أو هو سَلْسالُ حَمَى رِيقَها المعسولَ أبْيَضُ صارِمٌ ... من قَدِّها الممشوقِ أسْمَرُ عَسَّالُ تُعير الْمَها منها الْتفاتاً ونَظْرة ... وترْنو كما يرْنو إلى الخِشْفِ مِطْفالُ لها شَرْطُ حسنٍ فوق تُفَّاحِ خَدِّها ... ومِن فوق ذاك الشَّرْطِ مِسْكٌ هو الخالُ ورُمَّانتا نَهْدٍ على غُصن بَانةٍ ... به فَرْطُ حُبِّي إن تحقَّق عُذَّالُ

وتسْدِل من ليل الجَعِيدِ ذَوائباً ... يُجاذِبُ هاتيك الذَّوائبَ خَلْخالُ وتُقْعِدها عند النُّهوضِ رَوادِفٌ ... تَميل بغُصْنِ القَدِّ والقَدُّ مَيَّالُ فلا تهْجُرِيني إنَّ هَجْرِي ظُلامةٌ ... وجُرْحُ فؤادِي ماله اليومَ إدْمالُ عسى عَطْفةٌ يَحْيى بها مَيِّتُ الهوى ... رُبوعُ اصْطبارِي بعد بُعْدِك أطْلالُ ويغْفَى مُحِبٌّ دَأْبُه السُّهْدُ والبُكا ... كأن بعيْنيه المدامعَ أسْجالُ يبِيتُ على جَمْرِ الغَضا وهو فَرْشُه ... ويصْلَى بنار الحبِّ والحبُّ فَعَّالُ صِلينِي أنا الوافِي العهودَ على القِلَى ... وجَوْرُ الهوى عَدْلٌ ومَيْلٌ إذا مالُوا ولا الصَّبُّ إلاَّ ما يرى الصَّابَ شُهْدَه ... ويعلمُ أن الصبرَ حُلْوٌ إذا حالُوا فَدَيْتُ الجفا منها وإن كان ضَائِرِي ... وعشْقي سُلَيْمى لا محَالَة قَتّالُ أُكتِّم جُهْدِي حُبَّها وهو ناحِلِي ... ويفْضحني دمعٌ على الخدِّ سَيَّالُ أحِنُّ إلى سَلْمَى على قُرْبِ دارِها ... حَنِينَ فَقِيدِ الإلْفِ أضْناه بَلْبَالُ ويُنْشِد قلبي كلما ارْتاع للنَّوى ... وأضْناه تَذْكارٌ وحالتْ به حالُ أيا دارَها بالخَيْف إن مَزارَها ... قريبٌ ولكن دون ذلك أهْوالُ وكتب إلي هذه القصيدة، طالباً مراجعتي: قَوامٌ أنْبتَ الرُّمَّانَ نَهْدَا ... وغُصْنٌ ماسَ أم قَدٌّ تبدَّى وبَرْقٌ ما أرى أم دُرُّ ثَغْرٍ ... يُنظِّمه بديعُ الحسن عِقْدَا ووَجناتٌ على تُفَّاحِ خَدٍ ... متى أبْدَى لنا التفاحُ وَرْدَا وآسُ سَوالِفٍ ما خِلْتُ أم ذا ... صَفاءُ الخدِّ ظِلَّ الهُدْب مَدَّا ومالَكِ يا غَزالةُ من شَبِيهٍ ... سوى شِبْهِ الضُّحَى والبدرِ نِدَّا وأنك قد أعَرْتِ الظَّبْيَ جِيداً ... وعَيْناً والغصونَ الهِيفَ قَدَّا وما الحسنُ البديعُ وإن تَناهَى ... سوى مِن بعضِ مَعْناكِ اسْتمدَّا بمَن أَوْلاك مُلْكَ الحسن فينا ... وصيَّر كلَّ حُرٍ فيكِ عبدَا صِلِي حبلَ الودادِ بحبلِ وَعْدِي ... لقد جاوَزْتِ في التَّسْويفِ حَدَّا وما سَكَنِي سِوَى عَهْدِي قديماً ... وما أنا ناكِثٌ ما عِشْتُ عهدَا مُقِيمٌ بالعَقِيقِ وبالمُصَلَّى ... أُبَوَّأُ منهما بَاناً ورَنْدَا أُغازِلُ فيه أجْفانَ الغَوانِ ... وألثِم زينباً وأضُمُّ هِنْدَا وأرشُفُ من رُضابِ الغِيدِ رَاحاً ... تُعِيد لَهِيبَ ما أشكُوه بَرْدَا وأنْظِم من ثَناياها عقوداً ... كنَظْمِي مدحَ مولانا المُفَدَّى محمد الأمين ومَن تَسامَى ... شريفٌ قد علا كرماً ومَجْدَا من القومِ الذين بَنتْ مَعَدٌّ ... بهم فوق السِّماكِ ثَناً وحمدَا أعَزُّوا الدينَ بالسُّمْرِ العَوالِي ... وحازُوا الفَخْرَ شِيباناً ومُرْدَا وقادُوا العادِياتِ مُطَمَّهاتٍ ... على صَهَواتِها تحْمِلْنَ قَدَّا وَرِثْتَهمُ جمالَ الدين حقّاً ... عفافاً راسِخاً وتُقىً وزهدَا فضائلَ قد علَوْتَ بها الثُّرَيَّا ... وآداباً تبِعْتَ بهِنَّ جِدَّا بآراءٍ يَحارُ العقلُ فيها ... وأيُّ حِجاً يحُلُّ لهُنَّ عَقْدَا بِحلمٍ لا يُعادِلُه ثَبِيرٌ ... وفخرٍ ليس يُحْصَى أن يُعَدَّا وأخلاقٍ شَمائلُها شَمُولٌ ... يفُوح عَبِيرُها مِسْكاً ونَدَّا

تَوقَّدُ فِطْنةً وتسيلُ لُطْفاً ... جَمعْتَ بهنَّ يا مولايَ ضِدَّا ووَشَّيْتَ البديعَ بحُسْنِ نثرٍ ... كمُخْضَلِّ الربيعِ شَذاً وأنْدَى ودُرٍ أنت تَعْرِفُه كِبارٍ ... تُنظِّمه لِجيدِ الدهرِ عِقْدَا ذَكاءٌ لم يجُزْه إياسُ كَهْلاً ... وعَمْرٌو ما به يوما تَحَدَّى عظُمْتَ جَلالةً وعلَوْتَ قَدْراً ... فشاهدْنا الوقارَ لديْك أُحدَا أعُدُّك مصدرَ الأحكامِ فينا ... هُمامٌ مذ أجار عُلاك نَقْدَا وما للنَّقْدِ والذهبِ المُصفَّى ... لقد حقَّقْتَ في ذا النقدِ نَقْدَا أمولانا أتتْك عروسُ فكرٍ ... تمُدُّ لمُمْتطَى نعْلَيْك خَدَّا خَلَبْت شِغافَها بِنُعوتِ مجدٍ ... لذا أضْحَتْ لعَذْبِ لِقاكَ تَصْدَى لِيَهْنِ العرشَ رَبُّ العرشِ مَوْلىً ... به اتَّسقَتْ أمورُ الدين نُضدَا وتبْقَى صاعداً ذِرْواتِ عِزٍ ... بَنتْ أيدِي القضاءِ عليه سَدَّا نأَى غَمٌّ يؤرِّخ عامَ: م بلْ ... غنائمُ أنتَ مَعْناهنَّ قَصْدَا ولم تبْرح سِنيكَ ومن تَرَدَّى ... طِماعاً في لَحاقِك ما تَرَدَّى فراجعته بقولي: مُحِبٌّ في المَحبَّةِ ما تصدَّى ... لسُلْوانٍ وإن يكُ مات صَدَّا وهيْهات النجاةُ وما يُعانِي ... هَوىً أدْناه إن لم يُفْنِ أرْدَى أما وعيونِك الَّلاتي شَباها ... أبَى إلاَّ شِغافَ القلبِ غِمْدَا لأَنت مُنَى الحياةِ فإن تكُنْها ... فبعدَك للمُنَى سُحْقاً وبُعْدَا أيجمُل أن أُقضِّي فيك عمرِي ... وما عفَّرْتُ في مَمْشاك خَدَّا ولو أخْطرْتُ ذِكْرَك في خَيالِي ... خشِيتُ بأن يُؤثَّر فيك حِقْدَا فَدَيْتُكَ رَحْمةً لطريحِ عشقٍ ... إذا لم يقْضِ سُقْماً مات وَجْدَا تذكَّر عهدَه فصبَا وآلَى ... بغيرِك ما رعَى للحبِّ عَهْدَا إذا ما ليلهُ المُمتدُّ أرْخَى ... سَتائرَه طَواه أسىً وسُهْدَا يبِيتُ وفي الحَشا منه اشْتعالٌ ... إذا قدَحت رعودُ البَرْقِ زَنْدَا وليس له سميرٌ غيرَ مَدْحٍ ... يكون لصالحٍ شكراً وحَمْدَا فتىً قد ألْبَس العَلْياء بُرْداً ... ومثَّل شخصَه أدَباً ومجدَا له الفكرُ الذي إن شاء أنْشَا ... أفانِنَ الهوى وبها تحدَّى بدائعُ منه تُلْحَم بالمَزايا ... وبالسحرِ الحلالِ غدَتْ تُسَدَّى تعالى اللهُ قد أوْلاه طبعاً ... أغَضَّ من الرياضِ رُواً وأنْدَى وأنْبَتَ مِن أيادِيه ربيعاً ... يُنمِّق فيه رَيْحانا ووَرْدَا أنادِرةَ الزَّمان فَدَتْك رُوحِي ... ومَن لي أن تكون بها مُفَدَّى أتتْني منك خَودٌ من سَناها ... تمَنَّى البدرُ لو كان اسْتمدَّا رَبِيبةُ خِدْرِها في الصَّوْنِ تأْبَى ... يَدَيْ أملٍ إليها أن تُمَدَّا منَحْتَ بها الودادَ المَحْضَ خِلاً ... يرى لك وُدَّه فَرْضاً ورَدَّا وهاك ألُوكةً بثَناك تاهتْ ... وفاحتْ مَنْدِلاً رَطْباً ونَدَّا ولو وفَّيْتُ مَدْحَكَ بعضَ حَقٍ ... إذاً نظَّمْتُ فيك الشُّهْبَ عِقْدَا فعُذْراً إن أخْطارَ التَّنائِي ... بَنَتْ بيني وبين الفكرِ سَدَّا وهذي الأربعون بلغتُ منها ... أشُدّاً ساق لي خَطْباً أشَدَّا فلو كان الذي بي من سقامٍ ... على جبلٍ لأوْشَك أن يُهَدَّا وغيرُك لا أراك لدفْعِ ما بي ... فقد أعْيَى دَواه الدهرَ جُهْدَا

بَقِيتَ مُمَّتعاً في الفضلِ فَرْداً ... ولا لَقِيَتْ لك الأيامُ فَقْدَا وكتب إلي أيضاً: لا عَيْشَ إلاَّ في وِصالِكْ ... فامْنُنْ بطَيْفٍ من خَيالِكْ إن كان لي نَوْمٌ وإلاَّ ... ليس أبْعَدَ من مَنالِكْ يا هاجِرِي والهجرُ عَيْ ... نُ الوصلِ إن يكُ عن دَلالِكْ إلاَّ الملالَ فإنَّه ... حَتْفِي أجِرْنِي من مَلالِكْ يا مَن تمَلَّك مُهْجتِي ... لا تُفْنِها وارفُقْ بمالِكْ لا وَصْلَ أخطرُ لي سِوَى ... إخْطارِ تَذْكارِي ببالِكْ أنا في هَوانٍ من هَوا ... كَ ومن صُدودِك في مَهالِكْ تَلَفُ النفوسِ مُحقَّقٌ ... في بِيضِ سُودِك أو نِبالِكْ وكذا السِّهامُ فإنَّهُنَّ ... أخَذْنَ ذلك عن نِصالِكْ والحَتْفُ في سُمْرِ الْقَنا ... من مَيْلِ قَدِّك واعْتدالِكْ يا نُورَ إنْسانِ العيُو ... نِ تركْتَ حالِي فيك حَالِكْ نارُ الجوَى مِن وَجْنَتَيْ ... ك وذِي سُوَيْدايَ بِخَالِكْ وأرى الجمَال وإن تَنا ... هَى مُسْتعاراً من جمالِكْ هل من سبيلٍ لِلِّقا ... ضاقتْ عليَّ به المَسالِكْ يا بارداً من رِيقِه ... واحَرَّ قلبِي من زُلالِكْ أو يا مُحيَّاه الذي ... كالبدرِ سُقْمِي من هلالِكْ يا ذابلاً في الحُسْنِ بل ... سلطانَ أربابِ المَمالِكْ الشمسُ أقربث منك نَيْ ... لاً وهْي أبْعَدُ عن مِثالِكْ امْنُنْ عليَّ بنَظْرةٍ ... إنِّي وحقِّك فيك هالِكْ يا جَنَّتِي لا تُدْخِلَنِّ ... ي نارَ صَدِّك أنتَ مَالِكْ يا تاركِي شِبْهَ الخِلا ... لِ وما التَّجافِي من خِلالِكْ عَلِّلْ بوعدٍ كاذبٍ ... يحْلُو وأمْعِنْ في مِطالِكْ فإلى الشريفِ تَوجُّهِي ... وإليه أخْلُص من حِبالِكْ مَدْحِي محمداً الأمي ... نَ احْرَى وأوْلَى لي بذلِكْ الْبانِيَ الْمجدِ الأَثِي ... لِ على المَجَرَّةِ من هُنالِكْ صدرُ المَجالسِ قلبُها ... عينُ المَناصبِ والمَمالِكْ يا شمسَ أنْجُمِ كلِّ فَضْ ... لِ حين تطلُع في كَمالِكْ آياتُ فضلِك بَيِّنا ... تٌ في مَقالِك أو فِعالِكْ أمَّا القَرِيضُ فزهْرُ رَوْ ... ضٍ إن تُدَبِّجْ من مَقالِكْ وإذا تَنسَّم عن شَذاً ... كالمِسك يروِي عن خصالِكْ ورجالُ كلِّ فضيلةٍ ... قصُروا وليسوا من رجالِكْ مَن ذا المُناضلُ والمُنا ... ظِرُ في جِلادِك أو جِدالِكْ كذب الزمانُ بما ادَّعَى ... إن قال يُوجَد من مِثالِكْ كَرَمُ الطِّباعِ ولُطْفُها ... كلٌّ تَفيَّأَ في ظِلالِكْ وترى المَعالِي والمَكا ... رمَ أنْفقتْ من رأسِ مَالِكْ مولايَ إنِّي شاكرٌ ... لِمَزِيدِ فضلِك واحْتفالِكْ لا خِلَّ لي أصْبُو إليْ ... هِ سِوَى المَعالِي من خِلالِكْ لا زلتَ في أَوْجِ العلى ... والضِّدُّ في دَرْكِ المَهالِكْ مادام رَضْوَى راسِخاً ... يحْكي وَقارَك مِن جَلالِكْ فكتبت إليه جوابها قولي: ما بين مَيْلِكْ واعْتدالِكْ ... خَطَرُ الْتفاتِك أو دَلالِكْ فمَن السَّلِيمُ وكلُّنا ... منه توَرَّط في مَهالِكْ يا مُوتِراً قَوْسَ الحَوا ... جِبِ مَن لقلبي مِن نِبالِكْ أمْسِكْ فمَهْلَكُ مَن أرَدْ ... تَ يقِلُّ عن أدْنَى انْفعالِكْ

بأبِي لَواحِظُك التي ... أوْقَعْنَ قلبي في حِبالِكْ أتُرَى علمْتَ بحالتي ... فأخذْتنِي في جَنْبِ بَالِكْ لا والذي جعل ابْتدا ... عَ الجَوْرِ من أقْوَى اشْتغالِكْ كلُّ الخُطوبِ حسِبْتُها ... إلاَّ اجْتنابَك عن مَلالِكْ هل كنتَ يا ثَمِلَ الجُفُو ... نِ بعَثْتَ طَيْفاً من خَيالِكْ فيروزَ غَصَّانَ اللَّها ... ةِ دَواؤُه صافِي زُلالِكْ يا مَن تملَّك مُهْجتِي ... اللهَ في إتْلافِ مَالِكْ إن كنتُ أطمعُ في سِوا ... ك فلا بلغْتُ مُنَى مَنالِكْ مالي ولْلأُفُقِ المُضِي ... ءِ وعنه كافٍ من كمالِكْ فالشمس تطلُع من يَميِ ... نك والثُّرَيَّا من شِمالِكْ والبدرُ يُعْزَى للتَّما ... مِ إذا اسْتدار على مِثالِكْ أمَّا الهلالُ فما على ... مَن ظَنَّه إحْدَى نِعالِكْ وإذا تخيَّلتُ الرِّيا ... ضَ ذكَرتُ حسنَ رُوا خِصالِكْ فنسيمُها مهما سرَى ... مُتلطِّفاً أثَرُ اخْتيالِكْ وعَبِيرُها مِن شَمَّةٍ ... أهْدَيْتَها من مِسْكِ خَالِكْ هذا وثَمَّ إذا ذكر ... تُ حُلىً تجِلُّ وراءَ ذلكْ مِن أجْلها أنا شاعرٌ ... أجْرَى التغزُّلَ في جَمالِكْ ولأجْلِ مَدْحِي صالحاً ... يحْلو افْتتانِي في خِلالِكْ ذاك الذي أسْلُو بِعِشْ ... رتِه الحميدةِ عن وِصالِكْ مَولايَ أنت المُرْتجىَ ... للوُدِّ في حُسْنِ اقْتبالِكْ رجلُ المُروءَةِ أنت لا ... أحَدٌ وَحقِّك مِن رجالِكْ حُزْتَ المَعالِي قبل أن ... وُجِدت بَنُوها حَسْبَ حَالِكْ وملكْتَ كلَّ فضيلةٍ ... أفْدِيك من مَلكٍ ومالِكْ فيك المَكارمُ شِيمَةٌ ... والأرْيَحيَّةُ في فِعالِكْ فالطَّوْدُ يُلْفَى ذَرَّةً ... في جَنْبِ حِلْمِك واحْتمالِكْ والبحرُ بعضُ رَشاشِه ... بالطبعِ تُؤْثَرُ عن نَوالِكْ إنَّ الحَكِيميْن اللذيْ ... ن تظاهَرا فيما هُنالِكْ لو عاصَراك تنافَسا ... بأقَلِّ جَرْي في مَجالِكْ والبُحْتُرِيُّ أبو الفُتُوَّ ... ةِ لو تأمَّل في مَقالِكْ أتْحفْتنِي بقصيدةٍ ... غَرَّاءَ من بِدْعِ ارْتجالِكْ وبعثْتَ لي كلَّ المُنى ... فكفيْتنِي أدْنَى سُؤالِكْ قد كان جِيدِي عاطِلاً ... لكنْ حَلاَ بحُلَى احْتفالِكْ فإليْك رُوداً من بَنا ... تِ الفكر حَيْرَى في جَلالِكْ ترْتاحُ في مِرْطِ الثَّنا ... بصَباك زَهْواً أو شَمالِكْ واعْذِرْ فطبْعِي لا يُزي ... ل صَداهُ عنه سوى صِقالِكْ واسْلَمْ لبُغْيةِ آملٍ ... متفيِّىءٍ بذَرَى ظِلالِكْ فلأنتَ ظِلٌّ للمُنَى ... لا الْتاعَ قلبٌ من زَوالِكْ وأنشدني من نتفه قوله: ظَبْيٌ من التُّركِ له مُقلةٌ ... ضَيِّقةٌ تُمْعِن في قَتْلِي يبْخَل بالوصلِ على صَبَّه ... وضِيقَةُ العيْنِ من البُخلِ ملَّكتُه عيْني وأخْدمتهُ ... إنْسانَها لمَّا أبى وَصْلِي هذا كثير في الأشعار، منه قول ابن النبيه: يصُدُّ بطَرْفِه التُّرْكِيِّ عنِّي ... صدقْتُم إنَّ ضِيقَ العيْنِ بُخْلُ وقوله: بي ضَيِّقُ العيْنِ وإن أطْنَبُوا ... في الحَدَقِ النُّجْلِ وإن وَسَّعُوا وأصله قول البديع الهمذاني: أناديةَ الأعْرابِ أهْلَكِ إننَّي ... بناديةِ الأتْراكِ نِيطَتْ عَلائقِي

وأرضَكِ يا نُجْل العيونِ فإنني ... فُتِنْتُ بهذا الفاتِرِ المُتضايقِ السيد هاشم الأزواري سيدٌ عرقه طاهر، وفضله بين ظاهر. أبين من الكعبة للطائفين، وأظهر من المساجد للعاكفين. وهو أديب شاعر، له في مناسك الفضل مشاعر. أوتي من البراعة أحسن كلم من عارضها سلم لها ومن لم يعترض لها سلم. وكان في الغالب أيام المجاورة سميري، ومحله مني خلدي وضميري، ونديمي، ومكانه بين عظمي وأديمي. فتمليت منه مغتنماً حظ اليوم والغد، في عهدٍ أنضر من روق التصابي في العيش الرغد. وقد أهدى لي من طرفه قصيدة فريدة، لم تحظ بمثلها دمية ولا خريدة. وها هي ألذ من معاطاة الأحباب، كأس المعاقرة طفا عليها الحباب: ما لقلبي عنك سَلْوهْ ... ولا ولا عن رَبْعِ سَلْوهْ منزلٌ يجمعُ ما بَيْ ... نِي وما بينك ضَحْوَهْ قد تسمَّى بانْتظامِ الشَّ ... مْلِ فيه دارَ نَدْوَهْ كم به ليلة أُنْسٍ ... لِيَ مَرَّتْ بك حُلْوَهْ قد جلاَ طَلْعتَها البَدْ ... رُ لنا أحْسَن جَلْوَهْ وأرانا لِطلاهَا ... بالنُّجومِ الزُّهْرِ زَهْوَهْ ونهارٍ ألْبسَ الأُفْ ... قَ من السِّنْجابِ فَرْوَهْ وبلُطْفِ فيك عن جَيْ ... بِ الْحَيا المُزَوَرِّ عُرْوَهْ قد أخذْناه اغْتصاباً ... من يدِ الدهر بقُوَّهْ ووصلْناه برَوْحٍ ... وبرَيْحان وقهوهْ وبتوْقيع سَماعٍ ... ما نَحَا مَعْبَدُ نَحْوَهْ ومُديرُ الشمسِ بَدْرٌ ... بحُلَى الظَّرْفِ مُنَوَّهْ أفْلَجُ الثَّغْرِ نَقِيُّ الْ ... خَدِّ ألْمى فيه حُوَّهْ يزدَرِي بالْحُسْن لُبْنَى ... والصِّفَاتِ الغُرِّ عَلْوَهْ ذُو لِحَاظٍ هي والسَّيْ ... فُ على حَدٍ وسَطْوَهْ وقَوَامٍ هوَ والرِّدْ ... فُ كغُصْنٍ فوقَ رَبْوَهْ وعَجِيب لَيِّن العِطْ ... فِ وفي أحْشَاه قَسْوَهْ ما رآه الطَّرفُ إلاَّ ... وزَنَى منه بشَهْوَهْ لا تَلُمْنِي يا ابْنَ وُدِّي ... إنْ بَدَتْ مِنيَ هَفْوَهْ حيثُ لي من نفحة الرَّيْ ... حانة الغَضَّةِ صَبْوَهْ ولعقْلِي من شَذَاهَا ... بطِلاَ الْحانةِ نَشْوَهْ وأنا بينَ حبيبٍ ... وأبَارِيقٍ وخَلْوَهْ طابَ لي الشُّرْبُ مساءً ... من أيادِيهِ وغُدْوَهْ مِثْلَما طابَ مَدِيحِي ... وسمَا أرْفَعَ ذِرْوَهْ بأمينِ الفضلِ مَوْلاَ ... نا الذي في الفضلِ قُدْوَهْ الشَّرِيفُ المُمْتَطِي مِن ... صَافِنِ الرِّفْعَةِ صَهْوَهْ والسَّرِيُّ الشهمُ مَن لا ... يَرْتَضِي الْهَقْعَةَ حَبْوَهْ طَيِّبُ الأصلِ كريمٌ ... مُنْتَقىً من خيرِ صَفْوَهْ أفصحُ الأمَّةِ لفظاً ... يَزْدَرِي كلَّ مُفَوَّهْ فَيْصَلٌ في الشرعِ لا يَخْ ... فَى عليه أمرُ دَعْوَهْ كيف لا وهْو أمينٌ ... لم يَخُنْ في أخْذِ رِشْوَهْ جَلّ ذاتاً وصِفاتاً ... وحَياءً ومُرُوَّهْ وسَمَا عن أن يُداني ... هِ امْرؤُ القَيْسِ وعُرْوَهْ بحرُ فضلٍ ونَوَالٍ ... وكمالاتٍ ونَخْوَهْ من يَرِدْه وهْو ظَامٍ ... يرْتوِي عِلْماً وجَدْوَهْ ومتى نَوْءُ سحابٍ ... ضَنَّ نسْتمْطِرُ نَوَّهْ فبِه جَدْبُ الأراضِي ... عاد بالخِصْبِ مُمَوَّهْ مَاجِدٌ سيفُ حِجاهُ ... قَطُّ ما فُلَّ بِنَبْوَهْ

كم عَوَيصٍ فتح المُغْ ... لَقَ منه الرَّأيُ عَنْوَهْ مِصْقَعٌ طِرْفُ ذَكاهُ ... ما له في البحثِ كَبْوَهْ أحْرَزَ السَّبْقَ وأوْشَى ... في حَشَا الحُسَّادِ جَذْوَهْ وغَدَا كلُّ أديبٍ ... عَجزاً يطلب عَفْوَهْ ذُو يَراعٍ لي به في ... رِقَّةِ الألْفاظِ أُسْوَهْ قد بَراهُ الشوقُ مِثْلِي ... وحَشاه انْشَقَّ جَفْوَهْ فخَطَا وهْو نحيفٌ ... ولذَك الخَطْوِ خُطْوَهْ كعَمِيدٍ يشْتِكي بالصَّ ... رِّ في الأطْراسِ شَجْوَهْ كلُّما أثبتَ عنه الْ ... فِكرُ لا يُمْكِن مَحْوَهْ يا ربيعَ الفضلِ يا مَن ... فضَل الناسَ فُتُوَّهْ نَظْمُك الشُّهْدَ مُصَفّىً ... وسِواهُ فيه رَغْوَهْ أنا ما بين مَصِيفٍ ... من مَعانِيه وشَتْوَهْ فلسُقْمِي فيه بُرْءٌ ... ولضَعْفِي منه قُوَّهْ وإلى عَلْياك وافَتْ ... من عَرُوسِ الفكر فَحْوَهْ فتحتْ من كل قلبٍ ... مُرْتجٍ للبَسْطِ فَجْوَهْ وكَسَا وَصْفُك طِيبَ الْ ... عَرْفِ منها أيّ كُسْوَهْ لِصَفا وَجْهِك تَسْعَى ... وهي لا تطْرُق مَرْوَهْ تنْقُل الأقْدام تِيهاً ... خُطْوةً من بعد خُطْوَهْ ذاتُ حُسْنٍ بك أضْحَتْ ... ولها بالحُسْنِ ثَرْوَهْ فاسْتمِعْها فهْي بِكْرٌ ... وأنِلها منك حُظْوَهْ واسْبِل السِّتْرَ متى إن ... شِمْتَ في التركيبِ حَشْوَهْ قد لَعَمْرِي يغْلَط النا ... قدُ للدُّرِّ بحَصْوَهْ واشْتِباهُ الجِنْسِ أمْرٌ ... واضحٌ من غيرِ فَتْوَهْ وابْقَ واسْلَمْ ما تغنَّى ... عَنْدَلِيبٌ بعد هَدْوَهْ أو مُحِبٌّ قال يوماً ... لحبيبٍ بعد قَصْوَهْ أنا أهواكَ ورَبِّي ... ما لقلبي عَنْك سَلْوَهْ فكتب إليه جوابها، قولي: لا تُمَنِّ القلبَ سَلْوَهْ ... فلقد جُسِّمْتُ صَبْوَهْ واحْترِزْ من أعْيُنٍ تَرْ ... قُبُ للأخْذَةِ هَفْوَهْ فهْي في بابلَ دَهْراً ... سُقِيَتْ بالسِّحرِ قهوهْ وطِلاً أوْضحَ من شَمْ ... سٍ تجلَّتْ وقتَ ضَحْوَهْ مِن وَلُوعٍ بالتَّثَنِّي ... فَتْكةٌ منه وخُطْوَهْ سَلَّ سيفَ اللَّحْظِ لمَّا ... رامَ أخْذَ القلبِ عَنْوَهْ راكباً في دَرَكِ العِزَّ ... ةِ للعِزَّةِ صَهْوَهْ أتُرَى يسْمح منه اللَّ ... حْظُ لِي حيناً بحُظْوَهْ يُمْكِن الأمْرُ إذا أمْ ... كَنَ تَهْوِيمٌ وغَفْوَهْ أين ماثَمَّةَ إلاَّ ... بُغْيَةٌ قُصْوَى ونَبْوَهْ .............. ... ................. علي بن عمر بن عثمان المزداكي من أفاضل العصر، يضيق عن معاليه نطاق الحصر. رأيته بالشام بعد عودي من الحجاز، فرأيت شخصاً حقيقة فضله لا يتطرقها المجاز. وقد خرج من وطنه قاصداً باب المراد، وله أمانٍ أرجو أن لا تفوته في الإصدار والإيراد. وهو على كل حالٍ لم يزل في الإجادة مترقيا، ولشوارد المعاني من مكامنها متلقيا. وقد أنشدني من شعره هذا المقطوع: رَوِّ رَوْضَ الكرومِ يا قَطْر نَيْسا ... نَ وخَلِّ الأصْداف منك خَوالِي قَطَراتٍ تصيرُ خَمْراً أتَرْضَى ... عَمْرَك اللهُ أن تَصِيرَ لآلِي وقد تناوله من بيت السيد علي بن معصوم، عربه من الفارسية، وهو: يا قَطْر نَيْسَان والكَرْمُ مُكَرَّمةٌ ... ففي الحَبابِ غِنىً عن لُؤْلُؤِ الصَّدَفِ ولي ما هو منه، ولا يبعد عنه:

ما عَزَّ شيءٌ في شِبْهِه بَدَلٌ ... عنه وللعُسْرِ فُرْجَة اليُسْرُ في غُنْيةٍ من يَرى الحَبَاب إذَا ... مَا عاقَه عائقٌ عن الدُّرِّ وأنشدته هذين البيتين، وكان أنشدنيهما السيد هاشم الأزواري لنفسه، فتعارف عليهما، وألزمني أن لا أثبتهما إلا له، وهما قوله يمدح السيد عمرو بن محمد بن بركات، في ليلة عيد، بعد وفاة الشريف زيد: يقولون مات الجُودُ في كلِّ بَلْدةٍ ... عجيبٌ ولم يُشْهَد له أبداً قَبْرُ فقلتُ لهم أحْيَى الذي مات في الورَى ... بأُمِّ القُرَ من بعد زَيْدٍ لنا عَمْرُو السيد سالم بن أحمد بن شيخان هو الختم الوارث لجده سيد الأنام، وبه أرجو من الله سبحانه وتعالى حسن الختام. فأما العلم فهو من خضع له كل عالم، وأما الصلاح فحسبه أنه من كل ما يشين سالم. نسبته إلى الشرف نسبةٌ أولى، ويده في المكارم يدٌ طولى. تعترف به الأبصار والأسماع، وإن جحدت عارضها الإجماع. طلع في سماء العلوم بدراً مشرقا، وسارت مناقبه مغربا ومشرقا فالعلى فرع علائه، والثنا وقفٌ على آلائه. ليس يخْتَصُّ مَدْحُه بلسانِي ... مَدْحُ شمسِ الضُّحَى بكلِّ مَكانِ وله تعاريف عدة، هي لأهل العرفان أجل عدة. وأشعارٌ على لسان أهل الطريقة، تجتنى منها ثمار الحقيقة. فمنها قوله، مصدراً ومعجزاً: حُوَيْدِي الجمالِ إلى سُوحِكمْ ... وهادِي الرِّحال إلى مَن أُحِب رَفيقُ الهوَى وفَرِيقُ النَّوَى ... يحبُّ الجمَال ويهْوَى الطَّرَبْ ويسْعَى إليكم على رأسِه ... بشَوقٍ وتَوْقٍ عظيمِ الخَبَبْ ويطْوِي الفَيافِي بعَزْمِ قَوِيٍ ... ويقْضِي لكم في الهوى ما وَجَبْ ويُنشِدُ في حَقِّكمْ جَهْرةً ... ألاَ إنني عبدُ عالِي الرُّتَبْ أتيْتُ إلى سُوحِه خاضِعاً ... بدَمْعٍ جَرَى وبقلبٍ وَجَبْ سلامٌ عليكم أُهَيْلَ الحِمَى ... أيَا مَن به قد بلغْنا الأرَبْ إذا ما وقفْنا بأبْوابِكمْ ... وزال اللُّغوبُ بها والنَّصَبْ أنِيلُوا الغِنَى وأبِيدُو العَنَا ... فذاك لَديْنا أجَلُّ القُرَبْ إليكم بكم سادتي جئْتُكم ... بحُسْنِ الرِّضا وبصِدْقِ الطَّلَبْ ولا لي شَفِيعٌ سوَى حُبِّكم ... فلا تُهْمِلُوا مَن أساء الأدبْ وقولُوا عفَا اللهُ عَمَّا مَضَى ... جزاءُ المُحِبِّ لنا أن يُحَبْ فأنتم وجودُ الوفَا والعَطا ... وليس التفضُّل منكم عَجَبْ ومن مقاطيعه قوله: تراءَى بَدِيعُ الحسنِ في صُنْعِ خَلْقِهِ ... جميلاً فظَنَّ المظْهَر النَّاظِرُ القَذِي وما هُوَ إلاَّ اللهُ بالصُّنْعِ بارِزٌ ... على صِيَغِ التَّخْليقِ في الظَّاهرِ الذيِ وقوله: رَمَى العبدُ سَهْمَ الوَهْمش من قَوْسِ حُكْمِهفأدْمَى خيالاً في مِنَصَّاتِه السَّبْعِ وليس إذا حقَّقْتَ رامٍ سِوَى الذي ... أتاك بطَيِّ النَّشْرِ في الطَّبْعِ والوَضْع وقوله: كُنْ مُمْسِكاً بالصومِ عن كلِّ السِّوَى ... واذْكُرْ بفِطْرِك مَن أتَى مَعْروفُهُ وبفاطرٍ عن رُؤْيةِ الأغْيارِ صُمْ ... مَن صامَ عند اللهِ طاب خَلُوفُهُ وقد أنعم الله علي برواية مؤلفاته، عن ابنه المعمر السيد السند عمر، أحياه الله وحياه، ونور الدنيا بطلعة محياه. في أملٍ لا يبرح يطيعه، والحادثات فيه لا تستطيعه. فلله هو من سريٍ متواضعٍ على علوه، ممدوحٍ بإيغال المدح وغلوه. ماء لطفه يكاد يتقطر، وخلقه تتخلق به النسمات وتتعطر. إلى وجهٍ بالوضاءة متجلل، يبرق برق العارض المتهلل. وردت مراراً داره العامرة، وحصلت على نعمه الدارة الغامرة. أستنجد دعاءه المبارك، وأستمنح اعتناءه في كل حالٍ أن يتدارك. وعندي له من الولاء فيه ما ينقص ولاء زيادٍ في النعمان، ومن الحب لبيته العمري ما ينشد قول الأول: أحبه حب قريش عثمان.

وهنا أذكر لي شيخين، وعلمين في العلم راسخين. أخذت عنهما، واستفدت منهما. وهما: الحسن بن علي العجمي، وأحمد بن محمد النحلي. كلٌ منهما في ذلك الأفق قمرٌ باهر السناء والسنا، وقصده أسنى قصدٍ توخاه المدح والثنا. هدايته متكلفةٌ بإحياء علوم الدين، وغرشاده يتولى منهاج العابدين. ودعاؤه بظهر الغيب عدة وعدد، وبره حالي الظعن والإقامة معتمل معتمد، ومجال المعرفة بفضله لا يحصره أمد. وردت منهما حضرة الأنوار المفاضة، وجعلت قصدهما بحجة سفري طواف الإفاضة. فأرياني من الجد ما لو كان بظبة صارمٍ ما نبا له غرار، ومن البشر ما لو سال بصفحة البدر ما خيف عليه سرار. فلله هما قد خلصا للناقد، ورفلا في أزرٍ من الحمد طيبة المعاقد. وللعهد أنا لست أنساهما فأذكرهما، وإذا ذكرتهما فكلي ألسنةٌ تحمدهما وتشكرهما. وبهما أرجو من الله حسن المتاب، وأن أكون ممن تناول بيمينه الكتاب. أدباء المدينة المنورة لا برحت بحراسة الله من الأسواء مسورة السيد حسن بن شدقم الحسيني الحسن السمت، المستحسن الصمت. المرموق المعتنى والمعتلى، المعشوق المجتنى والمجتلى. تصدر من مركز السيادة في الرتبة المكينة، وبلغ في العلم رتبة أسلافه إلى أن ينتهوا إلى باب تلك المدينة. وكان قد دخل الهند في صباه، فأحبه بعض ملوكها وحباه، وعقد لسماع كلماته حباه. ثم أملكه كريمته فأردف تكريمه بتكريره، وأتبع توقيره بتوفيره. فاجتلى عرائس آماله في منصات نيلها، واستطلع أقمار سعده في نواشي ليلها. وكان من فعله الحسن ما قدره بحزمه، ودبره في تمشيه مآل حاله بقوة جزمه، إرساله في كل عام إلى بلده جملةً من المال، فاصطفيت له بها حدائق وقصورٌ على وفق ما جنح إليه ومال: ولما مات الملك أبو زوجه، وسقط قمر حياته من أوجه. انقلب بأهله إلى وطنه مصاحباً رفاهيةً زاهية، وأقام مدةً في عيشه بخويصة نفسه باهرةً باهية. إلا أن الرياسة التي فرخت في أم راسه، والمكانة التي شدت عراها بأمراسه. لم يجد عنهما عوضاً في وطنه، فانتهى إلى الهند شاكياً ضيق عطنه. فمن شعره ما قاله حين أنف من الإقامة في بلده: وليس غريباً مَن نأَى عن ديارِه ... إذا كان ذَا مالٍ ويُنْسَبُ للفضلِ وإني غريبٌ بين سُكانِ طَيْبةٍ ... وإن كنت ذا مالٍ وعلمٍ وفي أهْلِي وليس ذهابُ الرُّوح يوماً مَنِيَّةً ... ولكنْ ذهابُ الرُّوحِ في عَدَمِ الشِّكْلِ وهو من قول البستي: وإنِّي غريبٌ بين بُسْتَ وأهْلِها ... وإن كان فيها جيرَتِي وبها أهْلِي وما غُرْبةُ الإنسانِ في شُقَّةِ النَّوَى ... ولكنها واللهِ في عَدَمِ الشِّكْلِ ولابن معصوم في المعنى: وإنِّي غريبٌ بين قومي وجيرتِي ... وأهْلِيَ حتى ما كأنَّهُمُ أهلِي وليس غريبُ الدَّارِ مَن راح نائياً ... عن الأهلِ لكنْ مَن غدا نائِيَ الشِّكل فمن لي بخِلٍ في الزَّمانِ مُشاكلٍ ... ألُفُّ به من بعدِ طُولِ النَّوى شَمْلِي ومن شعر السيد حسن قوله: لابُدَّ للإنسانِ مِن صاحبٍ ... يُبْدِي له المَكْنونَ من سِرِّهِ فاصْحَبْ كريمَ الأصلِ ذا عِفَّةٍ ... تأمَنْ وإن عادَاك مِن شَرِّهِ ولده السيد محمد فرع دوحةٍ زكت مفارعها، وطابت بطيبة الطيبة مشارعها. له خبرٌ تتعطر به المجالس، ويتنادم عليه المنادم والمجالس. إلى ما تميز به من الشعر الرصين، الذي يباهي بتنميقه نقوش الصين. غرد به ساجع إطرائه وصدح، وأورى زناد البيان وقدح. فمنه قوله، مذيلاً بيت أبي دهبل مقتفياً للشريف المرتضى: وأبْرَزْتُها بَطْحاءَ مكةَ بعدَما ... أصاتَ المُنادِي بالصَّلاةِ فأعْتَمَا فأرَّج أرْجاءَ المُعَرَّف عَرْفُها ... وأضْوَى ضِياها الزِّبْرِقان المُعَظَّمَا وحَيَّي مُحيَّاها المُلَبُّون وانْتَشَوْا ... بنَشْرِ مُحيَّاها المُمَنَّع واللَّمَى ورَوَّض منها كل أرضٍ مَشَتْ بها ... تجُرُّ التَّصابي بين أتْرابِها الدُّمَى

هي الشمسُ إلاَّ أنَّ فاحِمَها الدُّجَى ... هي البدرُ لكنْ لا يزال مُتَمَّمَا تجُول مِياهُ الحُسْنِ في وَجَناتِها ... وتمْنَع سَلْسالَ الرُّضابِ أخَا الظَّمَا وتسلُب يَقْظانَ الفؤادِ رَشادَه ... وتكسُو رِداءَ الحُسْنِ جسماً مُنَعَّمَا مَهاةٌ يصِيدُ الأُسْدَ سَهْمُ لِحاظِها ... ومن عَجَبٍ صَيْدُ الغَزالةِ ضَيْغَمَا يُعلِّلني ذِكْرَ الحِمَى مُترنِّمٌ ... وما شَغَفِي لولا الغزالةُ بالحِمَى وأصْبُو لِنَجْدِيِّ الرِّياحِ تَعَلُّلاً ... ومَن فقَد الماءَ الطَّهُورَ تَيمَّمَا قال السيد المرتضى، في كتابه الدرر والغرر: ذاكرني بعض الأصدقاء بقول أبي دهبل: وأبْرَزْتُها.............. ... ..................الخ وسألني إجازة هذا البيت بأبياتٍ تنضم إليه، وأجعل الكناية فيه كأنها كناية عن إمرأةً لا عن ناقة، فقلت في الحال: فطيَّب رَيَّاها المَقامَ وضَوَّأتْ ... بإشْراقِها بين الحَطِيم وزَمْزَمَا فيا رَبِّ إن لَقّيْتَ وجهاً تحيَّةً ... فَحَيِّ وجُوهاً بالمَدينة سُهَّمَا تَجافَيْن عن مَسِّ الدِّهانِ وطالَما ... عَصَمْنَ عن الحِنَّاءِ كَفّاً ومِعْصِمَا وكم من جَلِيدٍ لا يُخامِرُه الهوى ... شَنَنَّ عليهِ الوَجْدَ حتى تَتَيَّمَا أهان لَهُنَّ النفسَ وهْي كريمةٌ ... وألقَى إليهنَّ الحديثَ المُكتَّمَا تسفَّهْتُ لمَّا أن مَرَرْتُ بدارِها ... وعُوجِلْتُ دُون الحِلْمِ أن أتحَلَّمَا فعُجْتَ تَقَرَّى دارِساً مُتنكِّراً ... وتسألُ مَصْروفاً عن النُّطْقِ أنْجَمَا ويومَ وقفْنا للوَداعِ وكلُّنا ... يَعُدُّ مُطِيعَ الشوقِ مَن كان أحْزَمَا نُصِرْتُ بقلبٍ لا يُعنَّف في الهَوى ... وعَيْنٍ متى اسْتَمْطَرْتَها قَطَّرتْ دَمَا قال السيد علي بن معصوم، في سلافته: وقلت أنا ناسجاً على هذا المنوال: وأبْرَزْتُها بَطْحاءَ مكةَ بعدَما ... أصاتَ المُنادِي بالصلاةِ فأعْتَمَا فَضَوَّأ أكْناف الحَجُونِ ضِياؤُها ... وأشْرَق بين المَأْزِمَيْنِ وزَمْزَمَا ولمَّا سَرتْ للرَّكْبِ نَفحةُ طِيبِها ... تغَنَّى بها حادِيهمُ وتَرَنَّمَا فتاةٌ هي الشمسُ المنيرةُ في الضحى ... ولكنَّها تَبْدُو إذا الليلُ أظْلَمَا تعلَّم منها الغُصْنُ لَفْتةَ قَدِّها ... وما كان أحْرَى الغُصْنَ أن يتعلَّمَا وأسْفَر عنها الصبحُ لمَّا تلّثمتْ ... ولو سفَرتْ للصُّبْحِ يوماً تَلثمَا إذا ما رَنَتْ لَحظاً وماستْ تأوُّداً ... فما ظَبْيةُ الْجَرْعا وما بَانةُ الحِمَى تَراءتْ على بُعْدٍ فكبَّر ذو التُّقَى ... ولاحتْ على قُرْبٍ فصلَّى وسلَّمَا وكم حَلَّتْ بالصَّدِّ قَتْلَ أخِي الهَوى ... وكان يُرَى قبلَ الصُّدودِ مُحَرَّمَا وظنَّتْ فؤادي خالياً فرمَتْ به ... هَوىً عاد دائِي منه أدْهَى وأعْظَمَا ولو أنها أبْقَتْ عليَّ أطَعْتُه ... ولكنها لم تُبْقِ لَحْماً ولا دَمَا قال: وأنشدني صاحبنا احمد الجوهري لنفسه: وأبْرَزْتُها بَطْحاءَ مكةَ بعدَما ... أصاتَ المُنادِي بالصلاةِ فأعْتَمَا فشاهدتُ مَن لو أبصر البدرُ وَجْهَها ... لَكان بها مُضْنىً وَلُوعاً ومُغْرَمَا ولو عرَضتْ رَكْبَ الحَجِيجِ تصدُّه ... لَلَبَّى لِمَا يَدْعُو هَواها وأحْرَمَا وعَرَّف بالكُثْبان مِن عَرَصاتِها ... وقال مِنىً لي دارُها حين يَمَّمَا فلا تعْذِلُوا في حُبِّ ظَمْياءَ إنها ... لها مَبْسَمٌ يشفى الفؤادَ مِن الظَّمَا

وأعْذَبُ من صَوْبِ الغَمامةِ مَرْشَفاً ... وأضْوَأُ مِن لَمْعِ البُروقِ تَبسُّمَا وأجْمَلُ من ليلى وسَلْمَى وعَزَّةٍ ... وسُعْدَى ولُبْنَى والرَّبابِ وكُلْثُمَا وكم مَلِكٍ في قَومهِ كان قاهراً ... فأضْحَى ذليلاً في هواها مُتَيَّمَا يَديِنُ بما تَهْوَى مُطِيعاً لأمْرِها ... وإن ظلمتْه لم يكُن مُتظلِّمَا تَظَلَّ الملوكُ الصِّيدُ تعثُر بالثَّرَى ... إذا قارَبُوا أو شاهَدُوا ذلك الحِمَى وممن ذيل عليها العارف بالله تعالى السيد حاتم بن الأهدل اليمني: وأبْرَزْتُها بَطْحاءَ مكةَ بعدَما ... أصاتَ المنادِي بالصَّلاةِ فأعْتَمَا وسَرَّحْتُ عينِي في رياضِ خُدودِها ... فشاهدْتُ رَوضاً كالربيعِ مُنَمْنَمَا سَقتْه مِياهُ الحُسْنِ فازْداد بَهْجةً ... وغادر قلبي بالحَطِيمِ مُحَطَّمَا حُسَيْنِيَّةٌ حَسْناءُ لَمْياءُ نَحْوَها ... تَ، جَّه قلبي بالغرامِ وأحْرَمَا سَعيْتُ إليها بالصَّفاءِ مُسلِّماً ... لِرُوحِي وقلبِي طاف سَبْعاً وزمْزَمَا غزالٌ يُعِيرُ الظَّبْيَ لَفْتةُ جِيدِها ... وعن قَدِّها المَيَّاسِ سَلْ بَانةَ الحِمَى فتاةٌ يُعيرُ الشمسَ بهجةُ وَجْهِها ... سَناها بغيرِ الحُسْنِ لن يتلَثَّمَا عَدَا خَصْرُها جِسْمِي سَقاماً وجَفْنُها ... تَعَدَّى على جَفْنِي وللنَّومِ حَرَّمَا إليها ثَنَتْ قلبي الثَّنايا صَبابةً ... فيا ما أُحَيْلى ذلك الثَّغْرَ واللَّمَى إذا حدَّثتْ فاحَ العَبِيرُ وأَظْهَرتْ ... برَمْزَتِها مِنِّي الحديثَ المُكَتَّمَأ وأما بيت أبي دهبل، المذيل عليه، فهو من قصيدة له يصف فيها ناقته، حدث به موسى بن يعقوب، قال: أنشدني أبو دهبل يوماً: ألاَ عَلِق القلبُ المُتَيَّمُ كُلْثُمَا ... لَجاجاً فلم يلْزَمْ من الحُبِّ مَلْزَمَا خرجْتُ بها من بَطْنِ مكةَ بعدَما ... أصاتَ المُنادِي بالصَّلاةِ فأعْتَمَا فما نام من رَاعٍ ولا ارْتَدَّ سامِرٌ ... من الحَيِّ حتى جاوزَتْ بي يَلَمْلَمَا ومَرَّتْ ببَطْنِ الليِّثِ تَهْوِي كأنها ... تُبادِرُ بالإدْلاجِ نَهْباً مُقسَّمَا وجازَتْ على البَزْواء والليلُ كاسِرٌ ... جَناحَيْن بالبَزْواء وَرْداً وأدْهَمَا فما ذَرَّ قَرْنُ الشمسِ حتى تبَيَّنتْ ... بِعُلْيَبَ نَخْلاً مُشْرِفاً أو مُخَيِّمَا ومَرَّتْ على أشْطانِ رَوْقَةَ بالضُّحَى ... فما حدَرتْ للماءِ عَيْناً ولا فَمَا وما شرِبَتْ حتى ثَنيْتُ زِمامَها ... وخِفْتُ عليها أن تُجَرَّ وتُكْلَمَا فقلتُ لها: قد نِلْتِ غيرَ ذَميمةٍ ... وأصْبح وادي البِرْكِ غَيْثاً مُدَيّمَا قال: فقلت: ما كنت إلا على الريح. فقال: يا ابن أخي، إن عمك كان إذا هم فعل، وهي العجاجة. هكذا رواه أبو الفرج الأصبهاني، في الجامع الكبير، وفي رواية البيت المذيل بعض تغيير كما رأيت، والروايات تختلف. السيد حسين بن علي بن حسن بن شدقم غصن بسق من روضة الفتوة، وأشبه أصله مجداً فحقق شواهد النبوة. ما شئت من فضلٍ سما باكتسابه، وفخرٍ ما زال يعلو بانتسابه. وجدٍ أطاعه أبيه وشامسه، وأدبٍ أنار به داجيه وطامسه. وهو ممن دخل الهند كجده، فعلا بها قدره فوق ما قدره بجده. وقد رأيت من شعره قطعتين، فأثبتهما له حسنتين. فالأولى قوله من قصيدة نبوية أولها: أقِيمَا على الجَرْعاءِ في دَوْمَتَيْ سَعْدِ ... وقُولاَ لحادِي العِيسِ عِيسَك لا تَحْدِي فإنَّ بذاكَ الحيِّ إلْفاً ألِفْتُهُ ... قديماً ولم أَبْلُغْ برُؤيَتِهِ قَصْدِي عسَى نَظْرةٌ منهُ أبُلُّ بها الصَّدَى ... ويسكُن ما ألْقَاه من لاَعِجِ الوَجْدِ

وإلاَّ فقُولاَ يا أُمَيَّةَ إنَّنَا ... تركْنَا قتيلاً من صُدُودِكَ بالهنْدِ يحِنُّ إلى مَغْنَاكِ بالطَّلْحِ والغَضَا ... ويصْبُو إلى تلك الأُثَيْلاَتِ والرَّنْدِ قِفَا ننْدُبِ الأطلالَ أطْلالَ عامرٍ ... ونبكي بها شَوْقاً لعلَّ البُكا يُجدِي إلى ذاتِ دَلٍ يُخْجِلُ البدرَ حُسْنُهَا ... مُرَنَّحَةِ الأعْطَافِ مَيَّاسَةِ القَدِّ سَقاها الْحَيَا ما كانَ أطْيَبَ يَوْمِنا ... بِمَوْرِدِها والحَيِّ وِرْداً على وِرْدِ وقد نَثَرَتْ أيْدِي الغَمامِ مَطَارِفاً ... كَسَتْها أدِيمَ الأرْضِ بُرْداً على بُرْدِ وقد رفَعَتْ فوق الْخُزُومِ سُرادِقاً ... من الشَّعْرِ والأضْيَافُ وَفْداً على وَفْدِ بَدَوْتُ لِحَيَّيْهَا وإلاّ فإنَّني ... مِنَ السَّاكنين المُدْنَ طِفْلاً على مَهْدِ ومِلْتُ إلى ماءِ البَشَامِ لأجْلِهَا ... وأعْرَضْتُ عن ماءٍ مُضَافاً إلى الْوَرْدِ وغادَرْتُ نَخْلاً بالمدينةِ يانِعاً ... ومِلْتُ إلى السَّرْحَاتِ من عارِضَيْ نَجْدِ وحَارَبْتُ أقْوَامي وصادقْتُ قَوْمَها ... وبالَغْتُ في صِدْقِ الوِدَادِ لهم جُهْدِي فلا إثْمَ لي في حُبِّهَا ولقومِها ... وإن يَكُ إن اللهَ يغفرُ للعَبْدِ ولا سِيَّما إن جئتُهُ مُتَوَسِّلاً ... بمُرْسَلِهِ خيرِ النَّبيِّينَ ذي المجدِ أبي القاسمِ المبعوثِ من آلِ هاشمٍ ... نَبِيَّاً لإرْشادِ الخلائقِ بالرُّشْدِ دَنَا فتدلَّى من مَلِيكٍ مُهَيْمِنٍ ... كما الْقابُ أوْ أَدْنَى من الواحدِ الفَرْدِ ألا يا رسولَ اللهِ يا أشرفَ الوَرَى ... ويا بَحْرَ فَضْلٍ سَيْبُهُ دائمُ المَدِّ لاَنْتَ الذي فُقْتَ النَّبِيِّينَ زُلْفَةً ... من اللهِ رَبِّ العرشِ مُسْتَوْجِبِ الحمدِ يُناجِيك عَبْدٌ من عَبِيدِكَ نَازِحٌ ... عن الدَّارِ والأوْطَانِ والأهْلِ والوُلْدِ ويسألُ قُرْباً من حِماكِ فَجُدْ له ... بقُرْبٍ فقُرْبُ الدَّارِ خيرٌ من البُعْدِ ليلْثِمَ أعْتاباً لمسْجِدِكَ الذي ... به الروْضَةُ الفَيْحَاءُ من جَنَّةِ الخُلْدِ فإنَّ له سَبْعاً وعشرين حِجَّةً ... غريبٌ بأرضِ الهِنْدِ يصْبُو إلى هندِ إذا الليلُ وَارَاني أَهِيمُ صَبابةً ... إلى طَيْبةَ الغَرَّاءِ طَيِّبَةِ النَّدِّ وأُسْبِلُ من عينَيَّ دَمْعاً كأنَّهُ ... عَقِيقٌ غَدا وادِي العَقِيقِ له خَدِّي سَمِيراه في لَيْلٍ غرامٌ وزَفْرَةٌ ... تُقَطِّعُ أفْلاَذَ الحشاشةِ كالرَّعْدِ عليك سلامُ اللهِ ما ذَرَّ شارِقٌ ... وما لاحَ في الخَضْرَاءِ من كوكبٍ يَهْدِي كذا الآلُ أصْحَابُ الكرامةِ حَيْدَرٌ ... وبِضْعَتُهُ الزَّهراءُ زاكيةُ المجدِ وسِبْطاك مَن حازا الفضائل كُلَّها ... وسَجَّادُهم والباقرُ الصادِقُ الوَعْدِ وكاظِمُهم ثم الرِّضا وجَوادُهم ... كذاك عليٌّ ذو المناقبِ والزُّهْدِ كذا العَسْكَرِيُّ الطُّهْرُ ذُو الفضْلِ والتُّقىوقائمهم غَوْثُ الورَى الحُجَّةُ المَهْدِي والقصيدة الثانية مطلعها: هوايَ لِرَبَّاتِ الخدُودِ العواتِقِ ... وخَيْلٍ جيادٍ صافِناتٍ سَوابِقِ وقَوْمٍ ظُهورُ العَادياتِ حُصونُهم ... ومِصْباحُهم لَمْعُ السيوفِ البَوارِقِ غَطاريفُ كم بَلَّ النَّجِيعُ ثِيابَهُمْ ... كُماةٌ غَداة الرَّوْع حامُو الحَقائِقِ أُسودٌ إذا ما زارهم ذُو تَهَوُّرٍ ... تَولَّى بقلبٍ بين جَنْبَيْهِ خافِقِ

بِضمَّ الْقَنا تَذْرِي جُسُومَ عِداتِها ... وتسْقِي ثَراها من دِماءِ المفارِقِ إذا أوْلجتْ نحوَ العَدُوِّ خُيولهمْ ... تبارَتْ ليوثُ الْغابِ شِبْه الخَرانِقِ تنازلُهم ما بين نَجْدٍ ويَثْرِبٍ ... جَنُوباً وشَاماً في رؤوسِ الشَّواهِقِ غُيوثٌ إذا حَلَّ النَّزِيلُ بأرْضِهم ... وإن أمَّها الْباغِي فهم كالصَّواعِقِ كِرامٌ يُجازُون الجميلَ بمثْلِه ... ويَرْعَونَ وُدّاً للْحَمِيم المُصَادِقِ مَنِيعُون إن لاَذَ المُخافُ بظلِّهم ... كَسَوْه بسِربالٍ من الأمْنِ فائِقِ وَدَدْتُهم إذ أشْبَهُوا بِفعالهم ... فِعال كريم طاهر الأصل صادقِ الخطيب عبد الله بن إلياس إمام المدينة وخطيبها، وعرفها الذي طاب وطيبها. أتهم في التحلي بشعار الإمامة وأنجد، وقام في حفل الفصاحة خطيباً يركع لإمامته ويسجد. وقد التحف الفضل برداً، وأصبح في الأدب علماً فرداً، مع خلقٍ جانبه لدن، وطبع حضرته جنة عدن. وهو إلى القلوب متحبب، وعما يسيء ويشين متجنب. وله نثرٌ ونظم، هذا تتضاءل له النجوم في أفقها، وهذا تتستر البدور حياءً منه في شفقها. فمن نظمه قوله في العروض: إن العَرُوضَ لَبَحْرٌ ... تعومُ فيه الخَواطِرْ وكلُّ منْ عام فيه ... دارتْ عليه الدَّوائرْ وبخط السيد محمد كبريت ما نصه: أنشدني إجازة لنفسِه سيدي العفيف عبد الله بن الخطيب إلياس، سلما من المكروه والباس: يا سيِّدي قُم لي ولا ... تَدَعِ الوقِيعة والعَتبْ كيْلا يُقال مُقَصِّرٌ ... فأكون فيه أنا السَّبَبْ فقلت وإن لم يبلغ الظالع شأو الضليع: لِمَ لا أقومُ لسيِّدِي ... مِن غيرِ أن أخْشَى العَتَبْ وهو الذي قامتْ له ... بثنائها عَلْيا الرُّتَبْ وقلت في المعنى، من بحر الخبب: أقُومُ على الرَّأسِ مَهْما بَدا ... جَمالُك لاجْتنابِ العَتَبْ ولِمْ لا أقومُ وأنت الذي ... لِعَلْياهُ قامتْ كِرامُ الرُّتَبْ ولبعضهم في المعنى: قِيامِي والعزيز لَدَيْكَ فَرْضٌ ... وتَرْكُ الفضلِ ما لاَ يسْتقيمُ فهل أحَدٌ له عَقْلٌ ولُبٌّ ... ومَعْرفةٌ يراك ولا يقُومُ وما ألطف قول بعضهم معتذراً عن عدم القيام: عِلَّةٌ سُمِّيَتْ ثمانين عاماً ... منَعتْني للأصدقاءِ القِيامَا فإذا عُمِّروا تمهَّد عُذْرِي ... عندهم بالذي ذكرتُ وقامَا وللشهاب المنصوري: ومَن ذهَبتْ بلُحْمتِه اللَّيالِي ... أيُمْكِنُ أن يكون له قِيامُ قيام الثوب، في كلام العامة: ما يقابل لحمته. وذكرت هنا، ما حكاه أرباب السير، عن الصاحب إسماعيل بن عباد، أنه لما كان ببغداد، قصد القاضي أبا السائب عتبة بن عبيد لقضاء حقه، فتثاقل في القيام، وتحفز تحفزاً أراه به ضعف حركته، وقصور نهضته، فأخذ الصاحب بضبعه، وأقامه، وقال: نعين القاضي على حقوق إخوانه. فخجل القاضي، واعتذر إليه. وبخط السيد محمد كبريت: كتبت إلى سدته العلية، يعني الخطيب: يا أيُّها المولى الذي فاق الورَى ... بِبيَان مَنْطقِه البديعِ الزّينِ هاتِ افْتِنا في زيدٍ المخْفوضِ في ... ما قامَ إلاَّ زيدٍ المسْكِينِ فكتب مجيباً: يا مَن بِشَمْسِ عُلومه زال الكرَى ... فعَدا بمصْباحِ الهُدى كالعينِ إنِّي أقولُ جَوابُكم وبيَ الجَوى ... في فَرْدِ بَيْتٍ زان في العَيْنَيْنِ زيدٌ تُصُوِّرَ جَرُّه بإضافةٍ ... لْلآلِ وهْو العهدُ للإثْنَينِ حاكته أيادي الوداد بأنامل الإخلاص، وسبكتها في قوالب الاتحاد فما حاكتها سبائك الخلاص. إلى الحضرة التي يحق لي أن أحن إليها وأشتاق، ويليق بي أن أطير مع حمائم البطائق لأفد عليها لو أن ذلك مما يطاق. تهدلت أغصان دوحة رياسته، وتهللت جباه جلالته ونفاسته. حبٌ موثوقٌ بالعرى، وقلبٌ منبوذٌ بالعرا.

أأتَّخِذُ العراقَ هَوىً وداراً ... ومَن أهواهُ في أرضِ الشَّآمِ بيد أن له في سعة الفضل رجا، وفي اجتماع الشمل ما تحار فيه عقول ألي الحجى. ولا يزال يتذكر سويعاتٍ مرت ما كان أحلاها، وأويقات ليس في يده إلا أنه يتمناها. فيا ما كان أحسْنه زماناً ... ويا ما كان أطْيَبَه ويا مَا وبعد كل حالٍ فسلامة المولى هي منتهى الطلب، إذا كان في صحةٍ فما أنا إلا فيها أتقلب. غرس الدين بن محمد الخليلي إمام العصر بروضة النبي، والمقدم في حلبة البيان على رغم المخال والأبي. بلغ من الوجاهة مبلغاً تفرد فيه، وقالت له الأيام حسب أملك ويكفيه. ما شئت من جدٍ يعجز النجم عن لحاقه، وأدب لو بلغه البدر ما شين قط بمحاقه. اقتنص بشرك بديهته متمنعات الأوابد الشوارد، وفجر من بلاغته وبراعته حياضاً عذبة المناهل والموارد. وله تآليف سلك فيها الطريقة السوية، وجنح برأيه إلى أحسن الروية. وشعره إن لم يكن كقدره في أعلى الدرج، فهو من خير الأمور المأمون قائله من الحرج. فمنه قوله في مدح القهوة: دَعِ الصَّهباءَ واشرب صِرْفَ قِشْرِ ... مُشعْشَعةً تدور بكفِّ بَدْرِ وإن شئْتَ الشفا بادِر سَرِيعاً ... إلى حانٍ لها قد حان بَدْرِي فما الياقوتُ في لونٍ نَضِيرٍ ... وما لَوْنُ النُّضارِ ولونُ تِبْرِ دَعِ الفاروقَ إن رُمْتَ التَّداوِي ... وخُذْها فهْي للأسْقامِ تُبْرِي كأنَّ حَبابَها الْمَنظومَ عِقْدٌ ... من الياقوت يُجْلَى فوق نَحْرِ سأسْعَى نحوَ مَرْوَتِها أُلَبِّي ... ليصْفُو بالصَّفَا صَدْرِي ونَحْرِي نَدِمتُ نَدامةَ الكُسَعِي عليها ... لِما قد فات من أيَّامِ عُمْرِي سأُدْمِنُ شُرْبَها ما دمتُ حَيّاً ... ولا أصْغِي إلى زَيدٍ وعمرِو وأجْلُو عَيْنَ أغْيارِي وهَمِّي ... بصَافِيها سُحَيْراً قبل فَجْرِ هي الرَّاحُ المُرِيحُ لكلِّ رُوحٍ ... ولم تُمْزَج ولم تُوجَد بعَصْرِ وكلُّ مُخالفٍ فيها فإنِّي ... أُسَفِّهُ قولَه من أهلِ عَصْرِي فقُل إن قال ساقِيها المُفَدَّى ... جَباً يا مَرْحباً واشْكُرْ لشُكْرِ وخُذْها من يديْهِ في حُضورٍ ... مع السَّاقي المَليحِ بغير سُكْرِ فلا غَوْلٌ ولا تَأْثِيمَ فيها ... وليستْ مُزَّةً بل طعمَ تَمْرِ وإن غالَى المُحِبُّ وقال أشهد ... أُجِيبُ نَعم إذا ما كان تمرِي ولولا مِدْحَتِي للبُنِّ قَبْلاً ... لَعُدْتُ له بهَجْوٍ ثم هَجْرِ لِيُبْس طِباعِه وسَوادِ قلبٍ ... له فهْو الحَرِيُّ بكلِّ هُجْرِ ومن لطائفه قوله مخاطباً الوزير الأعظم مصطفى باشا، يحثه على إزالة الخصيان من المسجد النبوي: يا مصطَفى بالمصطَفى العَدْنَانِ ... وبآيِ قُرآنٍ عظيمِ الشَّانِ لا تجْعَلَنَّ على المدينةِ أسْوداً ... شيخاً على حَرَمِ النبِي العَدْنانِي وكذلك الحُبْشانُ أيضاً منهمُ ... فهُمُ همُ لا خيرَ في الحُبْشانِ بل جاء في خبَرٍ رَواه بعضُهم ... ها لفظُهُ لا خيرَ في السُّودَانِ قومٌ لهم طَبْعٌ شَدِيدٌ زَائدٌ ... لا يشْبعون من الحُطامِ الْفَانِي لولا المَخافةُ منكمُ لأتاكمُ ... شاكُونَ من هَمٍ ومن أحْزانِ وإذا أرَدْتُمْ أنَّكم تسْتيْقِنُوا ... أحْوالَهم من غيرِ ما بُهْتانِ فلْتسألوا حَنَفِي أفندي عنهمُ ... يُخْبِرْكُمُ عن خُلْسةِ الغِرْبانِ ما كلُّ ما يُدْرَى يُقالُ وأنتمُ ... أدْرَى بَطيْشِ السادةِ الخِصْيانِ يسْتنْزِلون لأَخْذِ ما قد جاءَ من ... صَدقاتِ خيرٍ للفقيرِ الْعَانِي فَيصيبُ أهل الفضلِ من صَدَقاتِكُمْ ... ما ساءَهم من أسْهُمِ الحِرْمانِ

فانْظُر لنا شَيْخاً نَقِيباً صَالِحاً ... مُسْتَنْزِهاً عن ذَا الحطامِ الْفانِي إن لم يَجُزْ إلا خَصِيّاً أسْوداً ... فاخْصُوا لنا شَيْخاً من البِيضانِ يا وَيْحَكم إن لم تُراعُوا حَقَّنا ... يومَ الحسابِ بحَضْرةِ الدَّيَّانِ يوماً تكونُوا مثْلَنا ما إنْ لكمْ ... في الناسِ من أمرٍ ومن سلطانِ هَذِي نصيحةُ غَرْسِكم في رَوضةٍ الْ ... هادِي إلى الإسلامِ والإيمانِ يدعُو لسُلْطانِ الورى ولمصطفَى ... سيفِ الإلهِ وعاضِدِ السلطانِ وذكر القاضي أحمد بن عيسى المرشدي، في تذكرته: ورد علينا في أثناء عام خمسٍ وأربعين وألف الشيخ الأوحد الأكمل غرس الدين المقدسي، الخطيب والإمام بالروضة المشرفة، على صاحبها الصلاة والسلام، ولو يوافه أهل مكة، فقال معرضا: علماءُ مكةَ جاوَزُوا الأفْلاَكا ... عِزَّاً وحُقَّ لهم لعَمْرِيَ ذَاكَا لولا الريِّاسةُ في رُءُوسِ نُفوسِهمْ ... كانوا وحقِّك كُلُّهم أمْلاكَا وقال أيضاً: جِيرانُ مكةَ جِيرانُ الإلهِ لِذَا ... لا يَعْبَأُون بمَن قد غاب أو حَضَرَا لولا الطَّبِيعةُ عاقَتْهم لَكان لهمإسْراءُ رُوحٍ بِسرِّ رُوحٍ بِسرِّ السِّرِّ قد ظَفِرَا فقال بعض السادة الأشراف، المتصل محتدهم الزاكي بالمغيرة عبد مناف، فخر الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السما، أكرم به نسباً ومنتمى، على طريق الجواب عن الأولين: للهِ دَرُّكَ من أديبٍ بارعٍ ... بذَكائِه ما يُعْجِزُ الإدْراكَا أحْسَنْتَ إذ أتْحَفْتنا ببَدائعٍ ... بَهَرتْ وإن جادتْ فدون مَداكَا فَجَهابِذُ البيتِ الحرامِ مُذِيعةٌ ... بِأرِيجِ مَدْحٍ من بَدِيِعِ ثَناكَا وهمُ الجَحاجِحُ والذين سَمَوْا بمَن ... خَرَم السَّما واسْتخْدم الأمْلاكَا لا غَرْوَ أن جَازُوا الأَثِيرَ بفضْلِهمْ ... وعَلَوا بحَقِّ جَوازِه الأفْلاكَا وعن الثانيين: يا مُفْلِقاً لم يزَلْ في كلِّ غامِضةٍ ... يُبْدِي بها فَلَقاً بالحقِّ قد ظَهَرَا وبَحْرَ عِلْمٍ تَحلَّى من فَرائِدِه ... جِيدُ البَلاغةِ عِقْداً يفْضَحُ الدُّرَرَا أتيْتَ حقّاً وعينُ الفضلِ شاهدةٌ ... وأنتَ إنْسانُها الرَّائِي بغير مِرَا لكنْ إليك اعتذاراً منهمُ فذَوُو الْ ... أفْضالِ يعْذِر مَن قد جاء مُعْتذِرَا لم يتركُوك لإهْمالٍ ومَنْقَصَةٍ ... لكن حَجَبْتَهم فالذنبُ منك يُرَى وأجابه أيضاً القاضي تاج الدين المالكي، بقوله: جيرانُ مكةَ غَرْس الدَّين أيْنَع في ... قُلوبِهم باسِقاً يهْدِي الهُدَى ثَمَرَا سَقَوْه من أنْهُرِ الإخْلاصِ صَافِيهَا ... فاخْضَلَّ يُطْلِع من أكْمامِها زَهَرَا ومن يكُن رَوْضُ غَرْسِ الدِّين مُهْجَتَهُ ... أسْرَى وفازَ بسِرِّ السِّرِّحين سَرَى به قد اتَّحَدُوا إذْ كان بَيْنَهمُ ... تَواصُلٌ مَعْنَوِيٌّ مِن ألَسْتُ جَرَى فحيثُ دارتْ كؤوسُ الاتِّحادِ على الْ ... أرْواحِ مَا اعْتَبَرُوا الأشْباحَ والصُّوَرَا فأجاب الغرس معتذراً: يا شَهْمَ مكةَ يا تاجَ الرُّءُوسِ بها ... يا عُنْصُرَ الفضلِ قد بَكَّتَّ مَن عَذَرَا يا حَبْرَ عِلْمٍ يزيدُ الطَّالِبين بها ... يا بَحْرَ فضلٍ به نَسْتخْرِجُ الدُّرَرَا يا رَبَّ حِذْقٍ غَدا رَبُّ البَيانِ له ... عَبْداً وألْقَى عَصا التَّسْليمِ مُفْتقِرَا يا ألْمَعِيّاً أضاءتْ من لَوامِعِهِ ... مَشارِقُ الذِّهْنِ بالذَّوْقِ الذي بَهَرَا يا لَوْذَعِيّاً بلا عِيٍ يُمازِجُه ... أعْيَى وأفْحَم كُلاً قال أو شَعَرَا

يا رَبَّ ظَرْفٍ ولُطْفٍ كَسَّرا خَطَأً ... أغْصانَ غَرْسِي على بُعْدِ وما شَعَرَا هل تَرْفِيَنَّ الذي أخْلَقْتَ من حُلَلِي ... أو تقْبَلَنَّ الذي يأْتِيكَ مُعْتذِرَا فأجابه القاضي بقوله: كَلَّلْتَ إكْلِيلَ تاجِي بالثَّنَا دُرَرَا ... لمَّا بعثْتَ بِعقْدِ المدحِ مُعْتذِرَا مُضمّخاً طِيبَ شُكْرٍ عَرْفُ نَفْحتهِ ... كرَوضِ غَرْسِكَ حَيَّتْه الصَّبَا سَحَرَا غَرْسٌ روَى حين رَوَّى الفضلُ مَنْبِته ... للسَّمْعِ نَوَّارُه عن طِيبهِ خَبَرَا غَرْسٌ من المَبْدإ الفَيَّاضِ قد سُقِيَتْ ... أعْراقُه فسَمَا يهْدِي الهُدَى ثَمَرَا إنِّي عَقَدْتُ وقد عَرَّضْتَ مُعْترِضاً ... لِعِرْضِ قومٍ ثناهُم لم يزَلْ عَطِرَا هذا إلى ما هُوَ الأحْرَى بنَا وبهِ ... إذا اقْتَفيْنا طريقَ القَوْمِ والأثَرَا فخِرْقَةُ الفَقْرِ إن لم يُوفِ لاَبِسُها ... بشَرْطِها نَبَذَتْه كاسِياً بِعَرَا عَوْداً لبَدْءٍ فمِمَّ الاعْتذارُ ولم ... تُقِرَّ إذْ قلتَ بَكَّتَّ الذي عَذَرَا وقلتَ في حَقِّ مَن جَازَى وعَرَّض لم ... يشعُروا أغْصانُ غَرْسِي مُخطِياً كَسَرَا قد حَصْحَصَ الحقُّ فاعلمْ أنَّما كُسِرتْ ... أغْصانُ غَرْسِ الذي أخْطَا وما شَعَرَا أقْرِرْ بذنْبِك ثم اطْلُبْ تَجاوُزَهمْ ... عنه فَجحْدُكَ ذنبٌ غيرَ ما غَبَرَا قضى بما جَرَتِ الأقْلامُ منك بما ... جَرَى به القلمُ المَحْتومُ حين جَرَى يَكْبُو الجَوادُ ومَن يَعْثرْ يُقَلْ كَرَماً ... فنسألُ اللهَ غُفْرانَاً لمن عَثَرَا وقال المرشدي أيضاً: كان غرس الدين كتب إلى مولانا القاضي تاج الدين أبياتاً، ذكرني فيها مجرداً عن الناصب والجازم، بأن قال: وأحمدُ المُرْشِدِي في ذاك قد حَضَرا ثم اعتذر مني، فكتبت إليه ستة أبيات، وأردت أكملها، فأكملها السيد أحمد بن مسعود ستةً أخرى، وبعثها إليه، وهي: غَرَسْنا لغَرْسِ الدين في قلبنا الوُدَّا ... فأطْلَع من أكْمامِ أفواهِنا الوَرْدا فعطَّر لمَّا أن جَنَتْه يدُ الوَفَا ... وضَاعَ فأذْكَى عَرْفُه العَنْبَرَ الوَرْدَا سَقَيْناه من عَذْبِ التَّصافِي زُلالَه ... وما كَدَّرتْ مِنَّا له جَفْوَةٌ وُدَّا رعَى اللهُ مَن يَرْعَى أخاه إذا هَفَا ... ويوُسِعُه مِن أن يُقابِلَه حَمْدَا وذلك غَرْسُ الدِّين لا زال بَاسِقاً ... برَوْضةِ مَن يسْقِي غَرائِسَهُ المَيْدَا ويذكُر عَهْداً أحْكَمَتْ في قُلوبِنَا ... أَوَاخِيه أيْدِي الوُدِّ أكْرِمْ به عَهْدَا إمامٌ سَمَا فوق السِّماكِ بأَخْمَصٍ ... وجاوَزه حتى شَئَا الأيْنَ والحَدَّا وناظِمُ أشْتاتِ العلومِ بنَثْرِه ... فيَنْظِمه في جِيدِ أهلِ الحِجَى عِقْدَا وكاشِفُ ليلِ الجَهْلِ من صُبْحِ عِلْمِه ... بشمسٍ فتكْسُوه أشِعَّتُها بُرْدَا أتيْتَ بفَضْلٍ فاسْتحقَّيْتَ شاهداً ... لأحمدَ فاسْتَوْلَيْتَ عنِّي به مجدَا وأظْهَرْتَ بالإفْضالِ ما كنت مُضْمِراً ... فكنتَ به أحْرَى وكنتَ به أجْدَى ولا عَجَبٌ سَبْقُ الجِيادِ لأنها ... مُعَوَّدةٌ بالسَّبْقِ إن كُلِّفَتْ شَدَّا فأجابهما بقوله: أقول وقد غَلَّبْتُ خيرَكما جَدَّا ... وقاعدةُ التغْليبِ معروفةٌ جِدَّا حَمَدْتُ إلهي أن غَرَسْتَ لنا الوُدَّا ... أيا أحْمدُ السَّامِي سِمَاكَ السَّما حَمْدَا فأيْنَعَ غَرْسِي بعد ما كان ذَاوِياً ... وأطْلَع عن أكْمامِه الزَّهْرَ والوَرْدَا

وإن دامتِ السُّقْيا له مِن وِصالِكُمْ ... سيُثْمِر في رَوضِ الرَّسولِ لكم وُدَّا هنيئاً لغَرْسٍ صار أحمدُ ساقياً ... له من عُيونِ الوُدِّ كأسَ الصَّفا وِرْدَا فظَلَّ يُراعِي عَهْدَه في مَغِيبهِ ... ويبْنِي له في بيتِ مَحْتِدِه عِقْدَا وذكَّره عَهْداً أَواخِيه أَحْكمتْ ... يَدُ الوُدِّ في أرْواحِنا العَقْدَ والشَّدَّا فعُذْراً لأنِّي قادمٌ وتَراهُمُ ... يقُولون في الأمْثالِ والحقُّ لا يُعْدَى لِكلِّ غَرِيبٍ قادِمٍ دَهْشَةُ اللِّقا ... بها يَدْرَأُ الحُذَّاقُ عن رَبِّها الحَدَّا وهَبْنا تَجاوَزْنَا الحدودَ ألَسْتُمُ ... تُقِيلون مَن أخْطَا ومَن قد جَنَى عَمْدَا إذا لم تكونُوا هكذا فتخلّقُوا ... بأخْلاقِ مَوْلىً يملِك الغَيَّ والرُشْدَا لَعَمْرِيَ لو كنتُ البليغَ خِطابُهُ ... وأخْطَبَ مِن قُسِّ الإِيادِيِّ مَن عُدَّا ورُمْتُ بأن أُحْصِي فضائل أحْمَدٍ ... لما اسْتوْعبتْ نفسِي فضائِلَه عَدَّا هو ابنُ الرَّسولِ المُصْطَفى وذَوِي الصَّفَابني حَسَنِ الحُسْنَى الذين سَمَوْا مَجْدَا لهم حُرْمةٌ يَعْنُو لها كلُّ مُسْلمٍ ... بها أخَذ المولى عليْنا لهم عَهْدَا فللهِ آدابٌ بغيرِ تَطبُّعٍ ... ولكنّ مِن سِرِّ الرَّسولِ بها مُدَّا وأدَّبني ربي له منه قِسْمَةٌ ... بفَرْضٍ وبالتَّعْصِيبِ من إرْثِه مدَّا وللهِ شِعْرٌ جاوَز الشعر رِقَّةً ... وجاوَز للشِّعْرَى العَبُورِ بما أبْدَى ولا عَجَبٌ من ذاك عندي ورَبُّه ... بعِزَّتِه قد جاوَز الأيْنَ والحَدَّا وناظمُ عِقْدِ المَكْرُماتِ بكفِّه ... وينْثُره جُوداً فيُحْيِي به فَقْدَا وقد كان منك الفضلُ قِدْماً ومَقْدَماً ... بسابِقةٍ تسْتوجِب السَّعْيَ والوُدَّا فأظْهَرْتُ بالأبْياتِ ما كان مُدْغَماً ... ويمَّمْتُ بالإخْفاء بيتاً حَوَى عَوْدَا فشِمْتُ به تاجاً على الرأسِ مُشْرِقاً ... فعانَقْتُه حُبّاً وهِمْتُ به وجْدَا وداخَلنِي منه حَياءٌ ودَهشَةٌ ... لِمَا كان من وَهمٍ فأوْرَثنا حِقْدَا وقابلْتُه بالرُّحْبِ والبِشْرِ فَرْحَةً ... ولم نَرَ منه حين حان اللِّقَا صَدَّا ولا عَجَبٌ سَبْقُ الجِادِ فإنها ... مُعَوِّدةٌ بالسَّبْقِ ما كُلِّفَتْ شَدَّا ولَسْتُ بحمِصيٍ كما قال باهِتٌ ... ولكنْ خَلِيليٌّ اسْتَهْدَى وجَدِّي من الآباءِ فيما رُوِى أبو ... سعيدٍ هو الخُدْرِيُّ أكْرِمْ به جَدَّا وذاك من الأنصارِ أنْصارِ جَدِّكُمْ ... رسولٌ به نِلْنَا عُلاَ الجَدِّ والجِدَّا عليه صلاةُ اللهِ ثم سلامُه ... وآلٍ وصَحْبٍ والمُحِبُّ لهم جِدَّا أَجِدِّكَ هذا القَدْحُ فيمَن يُحِبُّكمْ ... ويَحْمَدُكم مَدْحاً ويمْدَحُكم حَمْدَا وما أصْلَتتْ كَفَّاكَ يا مُصْلِتاً على الْ ... أعادِي سَيْفاً بَاتِراً ماضِياً حَدَّا فحسْبيَ عِلْمُ اللهِ واللهُ عُدَّتِيوذِمَّةُ خَيْرِ الرُّسْلِ تكْفِي مَن اسْتَعْدَى ومن شعره قوله، من أبيات كتبها في صدر رسالة، إلى يوسف العسيلي القدسي: يا مَن إليه تشَوُّقِي وتَشَوُّقِي ... قلبي يُحَدِّثني بأنَّك مُتْلِفِي هل قد عَرفْتَ بأنَّني لك مُصْطَفٍ ... رُوحِي فِداكَ عَرَفْتَ أم لم تَعْرِفِ ولقد أقول لِلاَئِمي في حُبِّكمْ ... أيُلامُ مَن يهْوَى الجمالَ اليُوسُفِي

إن جئْتني مِصْراً فقد أسعَفْتَني ... يا خَيْبَةَ المَسْعَى إذا لم تُسْعِفِ ما حَبَّني بالصِّدقِ شَخْصٌ غيرَكم ... حَقّاً وكيف يُحِبُّ مَن لم يَعْرِفِ أوْفُوا لوَعدِي سُرْعةً من فضلِكمْ ... كَرَماً فإنِّي ذلك الخِلُّ الوَفِي لو قد وَهبْتُ مُبَشِّرِي بقُدومِكمْ ... رُوحِي وحَقِّ جَمالكم لم أُنْصِفِ ولقد كَلِفْتُ بحُبِّ أصْلِكمُ لِذا ... كَلَفي بكم خُلُقٌ بغيرِ تَكَلُّفِ ومن مقطعاته قوله: مَن يطلُبِ الإنْصافَ في عصرِنا ... فذاك من حُمْقٍ به مُنْكَشِفْ كيف وعَيْنُ الشرْعِ مَقْلُوعَة ... وشَمْسُه في أُفْقِه تَنْكَسِفْ مثله لعبد البر الفيومي: مَن رَام في ذا العصرِ إنْصافَهُ ... والشَّرْع من حُكَّامِه لم يُصِبْ قُضَاتُه قد قلَعُوا عَيْنَه ... فشَرُّهم من نَقْصِهم مُنْتصِبْ وقوله: إذا رأيتَ وَلِيّاً ... مُغْرىً بِحرْصٍ وبُخْلِ فليس ذاك وَلِيّاً ... للرَّبِّ بل عَبْدُ جَهْلِ وقوله: إني لأَعْجَبُ مِمَّا ... صار الزَّمانُ إلَيْهِ إذْ ما بكيْتُ لدهرٍ ... إلاَّ بكيْتُ عَليْهِ هذا كالاختصار لقول ابن المعتز: عَجَباً للزَّمانِ في حَالتَيْهِ ... وبَلاءٍ دُفِعْتُ منه إلَيْهِ رُبَّ يَوْمٍ بَكيْتُ منه فلمَّا ... صِرْتُ في غيرهِ بَكَيْتُ علَيْهِ السيد محمد بن عبد الله الهشير بكبريت مفرد قائمٌ بجمع، وله خبرٌ حلية فمٍ وسمع. أكثر من الرحلة والانتقال، وتحمل بنحلة أهل الحال الأعباء الثقال. طالباً نشيدة حقٍ يعقلها، وصيقلاً يفتح عن مرآته الصدئة ويصقلها. ثم رجع إلى وطنه واقام بها معتزلا، وقد تبوأ من رياسة العلم محلاً ومنزلا. وألف تآليف أحسن فيها ما شا، وأتى فيها من الغرائب بما مازج سلافة طربٍ وانتشا. فتنبه له حزبٌ رموه بشرر الانتقاد، وزعموا أنه قد أساء الاعتقاد. ونسبوا إليه كلماتٍ هو من اعتقاد ظاهرها بري، وأنا ما أتحققه إلا من كل سوءٍ عري. ومثل هذا فيه لا يقدح، فما زالت الأشراف تهجى وتمدح. وداعية ذلك ما قاله ابن معصوم، من أنه لم يكن له في سائر العلوم، رسوخ قدم معلوم. قال: وأخبرني الوالد بسماعه عنه، أن أستاذه خالف في تعليمه النظام، فنقله من الأجرومية إلى الكشاف، وأبدله النشاف من الارتشاف. انتهى. قلت: وهو في الأدب ممن سلم له أهله، وله شعرٌ يعرف منه منطبع القول وسهله. فمنه قوله: هَبُوا أنَّ ذاك الحسنَ عَنِّي مُحَجَّبٌ ... أليس بِرَيَّاهُ سَرَتْ نَسْمةُ الصَّبَا إذا رُمْتَ أن تُبْدِي مَصُوناتِ خِدْرِهِ ... فحدِّثْ بذاك الحيِّ عن ذلك الخِبَا وقوله: أرى مُطالَعَتي في الكُتْبِ ما نفَعتْ ... لعل وجهَك يُغْنِينِي عن الكُتُبِ فمن رأَى وَجْهَك الباهِي وطَلْعتَهُ ... فإنَّه في غِنىً عن كلٍ مُكْتَتَبِ وقوله: وإذا جلستَ إلى الرجالِ وأشْرقتْ ... في جَوِّ باطِنك المَعاني الشُّرَّدُ فاحْذَرْ مُناظَرةَ الجَهُولِ فرُبما ... تَغْتاظُ أنت ويسْتفيد فيحسُدُ وقوله مضمنا: ما لي ولِلْمَجْدِ والأيَّامُ عابِسةٌ ... والخَطُّ طُولَ الدهرِ في عَتَبِ ما أصْعَب الشَّيْءَ تَرْجُوه فَتُحْرَمُه ... لاسِيَّما بعد طولِ الجُهْدِ والتَّعَبِ وقوله: يُنازِعني شَوْقِي إلى الهنْدِ تارةً ... وأُخْرَى لأرْضِ الرُّومِ والشَّوْقُ لا يُجْدِي وما الهندُ من قَصْدِي ولكنْ بِسُوحِها ... رأَى قَصدَه فيها الفؤادُ من الوَجْدِ وقوله: يا مَن يُؤمِّل راحةً من دهرهِ ... صَبْراً على ما رُمْتَ من أمْرٍ عَسِرْ فكُنِ اسْمَ فعلٍ لا يُؤثِّر عامِلٌ ... فيه وإلاَّ فالضَّمِيرَ المُسْتترْ وقوله: يا لائِمي في حُبِّ مَنْ ... عَزَّتْ عليَّ رُبُوعُهُ

خَفِّضْ عليك وخَلِّنِي ... أحْلَى الهوَى مَمْنُوعُهُ وقوله: كم من يَدٍ قبَّلْتُها ... ولو اسْتطعْتُ قَطَْعتُها وَكم من يدٍ قبَّلْتُها لِتَقِيَّةٍ ... وكان مُرادِي قَطْعَها لو أُمَكَّنُ وقوله مضمناً: يا من يقول بأنَّ طَع ... مَ لَمَى الحَبائِبِ لم يَرُقْ وغَدا يُعنِّف في الهوى ... دَع عنك تَعنِيفي وذُقْ وقوله، مورياً في المولى عشاقي: قد قلتُ للمجدِ مَن تَهوى تُواصِلُه ... فكلُّنا لك ذو وَجدٍ وأشْواقِ فقال لي بِلسانٍ غيرِ مُعتذِرٍ ... لا أشْتَهِي أن أُوافى غير عُشَّاقِي وقوله: ليست على الحُرِّ الكريمِ مَشَقَّةٌ ... بأضَرّ من أن لا يَرَى أمثالَهُ ذاك الغريبُ وإن يكُنْ في أهلِه ... وَارَحْمتاهُ له لِمَا قد نَالَهُ وقوله مَن قال لا في حاجةٍ ... مَطلوبةٍ فما ظَلَمْ وإنما الظالمُ مَن ... يقول لاَ بعد نَعَمْ وأنشد لنفسه في رحلته مضمنا: فارقْتُ مكةَ والأشواقُ تجْذِبُنِي ... لها ويمَّمْتُ طه مَعْدِنَ الكَرَمِ فهل دَرَى البَيْتُ أنِّي بعد فُرْقَتِه ... ما سِرْتُ من حَرَمٍ إلاَّ إلى حَرَمِ وسبقه إليه العمادي، في قوله: فارقتُ طَيْبةَ مَشغُوفاً بطَيِّبِها ... وجئتُ مكةَ في وَجْدٍ وفي ألَمِ فهل درَى البيتُ أنِّي بعدَ رُؤْيتِه ... ما سِرْتُ من حَرَمٍ إلاَّ إلى حَرَمِ وله يفتخر: نشأتُ بفضلِ اللهِ في ظِلِّ دَوْحَةٍ ... سَمَتْ بنَبيٍ كنتُ من بعضِ عِتْرَتِهْ فإن شئْتُ في سَفْحِ العَوالِي وإن أشَا ... بدارِ الذي طابتْ وطالَتْ بِهْجْرتِهْ فهاتيكَ دارٌ للحبيبِ وهذه ... بها مَنْزَهِي يا صاحِ من حل حُجْرَتِهْ وقال في تفضيل العالية: أراك تُغالِي في العَوالِي وفي قُبَا ... وأنت على وَهْمِ الخيالِ تُعَوِّلُ إلى كَمْ تُرَى تَهْوَى الذي أنت سائرٌ ... إلى غيرهِ إذْ أنت عنه تحوَّلُ فكُن سائراً في لاَ مُقامَ فإنما ... تَقلَّب في شَأْنٍ لشَأْنٍ وتَرْحَلُ العالية: أرضٌ ذات رياض فائقة. قال في الوفا: هي من المدينة ما كان في جهة قبلتها من قباء وغيرها، على ميل فأكثر، وأقصاها عمارة على ثلاثة أميال وأربعة إلى ثمانية أو ستة، على الخلاف في ذلك. اننتهى. ووجه التسمية جلي؛ لأن السيول تنحدر من تلك النواحي العالية، إلى سوافل المدينة، فعلى ذلك يقال: نزلنا من العوالي إلى المدينة، وطلعنا إلى العوالي. وله في مدحها قطعٌ كثيرة غير هذه، فمنها قوله: فَضْلُ العَوالِي بَيِّنٌ ولأهْلِها ... فضلٌ قديمٌ نُورُه يَتهلَّلُ مَن لم يقُل إنَّ الفضيلةَ طَنَّبَتْ ... أرْضَ العَوالِي وهْو حَقٌّ يُقْبَلُ إنِّي قَضَيْتُ بفضْلِها وأقولُ في ... وَادِي قبَا الفضلُ الذي لا يُجْهَلُ وقوله: إذا كنتُ في أرضِ العَوالِي تشوَّفَتْ ... لأرضِ قُبَا نَفْسِي وفيها المُؤمَّلُ ولو كنتُ فيها قالت النفسُ ليت لي ... بأرض العَوالي يا خليلِيَ مَنْزِلُ فيا ليتَ أنِّي كنتُ شَخْصيْن فيهما ... وما ليْتَ في التَّحْقِيق إلاَّ تَعَلُّلُ وله من أبيات، قالها بالروم، يتشوق إلى معاهده: ما أطْيَبَ الأيامَ فيها تَنْقضِي ... والعَيْنُ قد قرَّتْ بوصلِ حَبِيبهَا ما العيشُ إلاَّ في حِمَاهَا ليت لي ... مَأْوىً ولو في سَفْحِها ورَحِيبهَا وله في الشام: وما الشَّام إلاَّ في البلادِ كشَامَةٍ ... وأقْمارُ وَادِيه الشَّمِيم تِمامُ فحَيَّى مُحيَّاها الإلهُ وزَانَه ... ولا زالَ بَرْقُ الحُسْنِ فيه يُشَامُ ومن روائعه قوله: الحمدُ للهِ على ما أرَى ... من ضَيْعَتِي ما بين هذا الوَرَى

صَيَّرني الدهرُ إلى حالةٍ ... يَرْثِي لها الشَّامِتُ مِمَّا يَرَى بُدِّلْتُ من بعد الرَّخَا شِدَّةً ... وبعد خُبْزِ البيتِ خُبْزَ الشِّرَا وبعد سُكْنَى منزلٍ مُبْهجٍ ... سكنْتُ بيْتاً من بيوتِ الكِرَا ولو تحقَّقتُ الذي نالَنِي ... لارْتفَع الشَّكُّ وزَال المِرَا أحمد بن عبد الله بن أبي اللطف البري البر الوصول، الزاكي الفروع والأصول. إذا قام على أريكة منبر، شهد ببلاغته العالم من فاجر ومن بر. فلو رآه سحبان لا ستحيى من أن يقول أما بعد، أو سمع ابن نباتة خطبه قال: هذا سعدٌ لم ينله بنو سعد. مع خطٍ يحسن ويروق، ولفظٍ تومض في حبره للمعنى الأصيل بروق. وهو عالي الإسناد ولا نظير له في العوالي، وأدبه مما تحلت به العصر القريبة وخلت عن مثله العصر الخوالي. وقد أوردت من شعره ما يتأرج في الآفاق شذىً طيبه، وتجتلى في ذروة الثناء بلاغة خطيبه. فمنه قوله من قصيدة أولها: قامتْ تُرِيكَ البدر إذ تخْطُرُ ... عَذْراءُ مَن هام بها يُعْذَرُ بديعةُ الأوصافِ عُذْرِيَّةٌ ... يَغار منها الظَّبْيُ والجُؤْذُرُ أَخالُ ذاك الخال في خَدِّها ... فَتِيتَ مِسْكٍ شَابهُ عَنْبَرُ إذا تبدَّتْ وَدَّ بدرُ الدُّجَى ... لو كان بالسُّحْبِ إذاً يُسْتَرُ عادت بها أعْيادُ عَصْرِ الصِّبا ... عَصْراً به تَفْتخرُ الأعْصُرُ أيَّامَ كان الأُنْسُ في قَبْضتِي ... يُصْغِي لما أنْهَى وما آمُرُ وكنتُ في اللَّذَّاتِ مُسْتَرْسِلاً ... والعَيْشُ غَضٌّ غُصْنُه أخْضَرُ أجُرُّ ذَيْلَ اللَّهْوِ لا أرْعَوِي ... ظَنّاً بأن الغُصْنَ لا يُهْصَرُ فلم أُفِقْ مذ كنتُ في عشْقتِي ... إنِّي على العُرْف بها المُنْكَرُ حتى أناخَ الشَّيْبُ في لِمَّتِي ... والشيبُ ضيفُ صار يُسْتَنْكَرُ فقلتُ للنفسِ أَلا فارْعَوِي ... فقد أنَاخَ الصَّارِخُ المُنْذِرُ وكان القاضي تاج الدين المالكي، توجه إلى المدينة، في سنة أربع وخمسين وألف، فمدح أهلها بهذه الأبيات: يا ساكِني طَيْبةَ فَخْراً فقدْ ... طابتْ فروعٌ منكمُ والأصولْ وآيةُ الأنْصارِ فيكم سَرَتْ ... كأنما المقصودُ منها الشُّمُولْ تُصْفُونَ مَحْضَ الوُدِّ مَن جاءكم ... فما عسى مادحُكم أن يقولْ ولْيَهْنِكُمْ ما قد خُصِصْتُم به ... فيا لَها خصيصة لا تزُولْ جاوَرْتُمُ المختارَ خيرَ الورَى ... وفُزْتُمُ في سُوحِه بالحُلولْ فأجابه البري بقوله: أعْظِم بأهل الركْنِ مِن سادةٍ ... في مَوْقِع العَلْياءِ جَرُّوا الذُّيولْ جِيرانِ بيتِ اللهِ مَن قَدْرُهمْ ... تَحارُ في دَرْك مَداه العُقولْ بمكَّة حَلُّوا فحَلَّوا بها ... جِيدَ المَعالِي حِلْيَةً لا تزُولْ مَن مثْلُهم والفضلُ حقّاً لهم ... ومنهمُ التاجُ إمامُ النُّقول رئيسُ هذا العصرِ مِن جِلَّةٍ ... سَمادِعٍ غُرٍ كِرامٍ فحُولْ أخْلاقُه كالرَّوْضِ مِن لُطْفِها ... ولُطْفُها تخجلُ منه الشَّمُولْ أكْرِمْ به إذْ قال مِن أجْلِنا ... طابتْ فروعٌ منكمُ والأُصولْ وآيةُ الأنْصارِ فيكم سَرَتْ ... لكنَّني بالإذْنِ منكم أقولْ يا نُخْبةَ الأنْصارِ منكُم لنا ... حتى شهِدْتُم وَصْفكُم لا يحُولْ وأنتمُ جِيرانُ ذاك الحِمَى ... والآن أنْتُمْ في جِوارِ الرَّسولْ جمعتُمُ فضلاً إلى فَضْلِكمْ ... فَسُدْتُمُ الناسَ وحَقّ المَقولْ فاللهُ ربُ العرشِ سبحانه ... يُولِيكمُ الحُسْنَى وحُسْنَ القَبُولْ

حتى تُوافُوا القَصْدَ في نِعْمةٍ ... تَتْرَى وعمرٍ في سُرورٍ يَطُولْ ودولةُ الأفْضالِ تَسْمُو بكمْ ... وتَزْدِهِي طَوْراً وطَوْراً تصُولْ ما غَرَّدت وَرقاءُ في روضةٍ ... غَنَّا وغنَّت حين طاب الدُّخولْ ومن لطيف ما وقع له مع القاضي تاج الدين المذكور، أنه رأى في المنام في العام المذكور، الذي زار فيه تاج الدين، كأنه في مجلس درسه بالروضة الشريفة، وإذا بالتاج داخل من باب السلام، وهو قاصدٌ الحضرة النبوية، فلما قضى الوطر من التحية والزيارة، جاء إلى المجلس وقعد، فأنشد البري بيتين بديهاً، وهما: أمَوْلايَ تاجَ الدِّين لا زِلْتَ ذا عُلاً ... على الْهامِ والأوْهامُ ليست لِذٍي فِطَنْ إذا كُنتُمُ في مجلسٍ كان أهلُه ... بأجْمَعِهم خُرْساً وأنت لك اللَّسَنْ ثم انتبه وقد حفظهما، ثم لم تكن إلا نحو عشرة أيام من هذه الرؤيا، حتى وصل التاج، وكان دخوله المسجد الشريف من باب السلام، والبري في مجلس درسه، على الصفة التي كانت في الرؤيا. ثم لم يلبث أن جاء إلى المجلس، فتلقاه، وجلس في الموضع الذي جلس فيه، وأشار باستمرار القراءة، فأنشده البري البيتين، ثم أخبره بالرؤيا، فقضى العجب، واستبشر، ثم بعد قيامه من المجلس أنشده معتذرا ومتشكرا: لئن كان قَدْرِي مِثْلَما قلتَ عندما ... تَواضَعْتَ إذ أطْبَقْت كُتْبَكَ في الْوَسَنْ فقد صحَّ بالأحْرَى اتِّصافُك بالذي ... وَصَفْتَ به المملوكَ من ظَنِّكَ الْحَسَنْ لأني وإن أحْرَزْتُ ذلك إنني ... لَدَيْك أخو صَمْتٍ وأنت لَكَ اللَّسَنْ إبراهيم بن عبد الرحمن الخياري هو للفضل خليل، ومقامه كمقام أبيه جليل. فهما من خيار الخيار، وبهما باهت مدينة النبي المختار. وكان أبوه سقى الله عهده، ووطأ في الفردوس مهده، علم علمٍ وفضل، وموطن رأيٍ أسد وقولٍ فصل. فلم يختر دار القرار، حتى وافاه توفية الصلحاء الأبرار. فطلع في جبهة الدهر غرة، يملأ عين بني الفضل قرة. وقعد مقعده بين كتاب الله يتلى، وحديث رسوله يروى. تؤثره الرتب على غيره، وتتباهى المعالي بحسن سيره. ونظراءه بنباهته تعترف، وكأنه بحرٌ منه الألباب تغترف. ثم عند لأمرٍ دعاه إلى الرحلة، فشد إلى جهة الروم رحله. ولا مطمح إلا منةٌ من الله تصوب، وعنايةٌ يسترد بها حق مغصوب. فورد دمشق، وأقام بها قليلا، ثم دخل الروم فنال بها حظاً جليلا. وأدرك أمانيه على العجل، وبرىء الدهر عنده مما كان فيه من الوجل. ثم قدم دمشق فهوت إليه القلوب مقبسةً من سناه، وتنافست الألسنة في إحراز مدحه وثناه. وكنت ممن أسرع إليه، وأوقفت أملي في الاستفادة عليه. فلزمته لزوم الظل للشبح، وأخذت عنه طرفاً من الطرف والسبح. سمعت القول الذاهب مذهب الطيف الوارد، وذقت الأرى الذائب خلال الجامد، من برد المفتر البارد. ثم رحل على مصر إلى دياره، وألقى بها بعد هنيئةٍ عصا تسياره. في حظٍ قد اكتمل، واطلاعٍ على أخاير الذخائر اشتمل. لكنه لم يستدرك ما فاته، حتى قدر الله تعالى وفاته. فلا برحت سحب الرحمة تحيي قبره وتجوده، حتى تتروى من ثراه تهائمه ونجوده. وقد أثبت من شعره بدائع تقتنى، وروائع بها على حسن الأسلوب يعتنى. فمن ذلك قوله من قصيدة، أولها: زارتْ على غَفْلةٍ من غيرِ مِيعادِ ... جَيْداءُ تسحبُ تِيهاً خيرَ أبْرَادِ كالشمسِ إن وضَحتْ والبدرِ إن لَمَحَتْ ... والوَرْدِ إن سمَحتْ في خَدِّها نَادِي حَوْراءُ ما حلَّلتْ لي نَظْرةً حَرُمَتْ ... لكنْ أذابتْ بَحرِّ الهَجْرِ أكْبادِي يا وَيْحَ قلبي بها كم ذاق مِن حُرَقٍ ... حتى لقد شَيَّبَتْ بالْبُعْدِ أفْوادِي أبْكِي وأكتُم دمعي كاتماً لأَسىً ... نِيرانُه في الْحَشَا آلَتْ لإِيقَادِ يا صاحِبَيَّ إذا ما رُمْتُما سَكَنِي ... عُوجَا قليلاً كذا عن أيْمَنِ الوَادِي أو رُمْتُما شَرْحَ حالِي في الهَوى فلقد ... غُذِيتُ دَرَّ الهوى من قبْل مِيلادِي

وصَادِحُ الْبَيْنِ إن يَخْفَى فلا عَجَبٌ ... صَوادِحُ البَيْنِ وَهْناً شَجْوُها بَادِي يا ضَرَّةَ الشمسِ يا مَن لا شَبِيه لها ... حُبِّيكِ أعْذَبُ من عَذْبٍ إلى صَادِي فإن يكنْ عَزَّ وَصْلٌ أو بَخِلْتِ به ... فعَلِلينا ولو طَيْفاً بِمِيعادِ وقوله، مشطراً ومعجزاً قصيدة البهاء زهير، المنسوبة لابن الفارض: غيرِي على السُّلْوانِ قادِرْ ... إن رام هِجْرانَ الْجَآذِرْ وأنَا الْوَفِيُّ بعَهْدِهِ ... وسِوايَ في العُشَّاقِ غَادِرْ لي في الغَرامِ سَرِيرةٌ ... أكْنَنْتُها وَسْطَ الضَّمائِرْ ومحبّةٌ أسْررتُها ... واللهُ أعلم بالسرائِرْ ومُشَبّهٍ بالغُصْنِ قَلَّ ... تَصَبُّرِي إذْ قيلَ نَافِرْ قَدِّي وقلبُك في الهوى ... بِي لا يزالُ عليه طائِرْ حُلْوُ الحديثِ وإنها ... لَمَحاسِنٌ تَسْبِي النَّواظِرْ حالٍ يَمُرُّوإنها ... لَحَلاوةٌ شَقَّتْ مَرائِرْ أشْكُو وأشكُر فِعْلَهُ ... بُعْداً ولَمَّا يَدْنُ زَائِرْ حالان لي أرْضاهُما ... فاعْجَبْ لشاكٍ منه شاكرْ لا تُنْكرِوا خَفَقانَ قَلْ ... بي إن بَدَا بدرُ الدَّاجِرْ كَلاَّ ولا تشْتِيتَ لُبِّ ... ي والحبيبُ لَدَيَّ حاضِرْ ما القلبُ إلاّ دارَهُ ... فلذاك بالأشواقِ عامِرْ ورُبُوعُه فلأجلِ ذا ... ضُرِبتْ له فيها البَشائِرْ يا تاركِي في حُبِّه ... كهلالِ شَكٍ في المَناظِرْ ومُصيِّري بين الورَى ... مَثَلاً من الأمثالِ سائِرْ أبَداً حديثِي ليس بالْ ... مَتْرُوكِ عند ذَوِي البصَائِرْ كَلاَّ وشَرْعِي ليس بالْ ... مَنْسوخِ إلاَّ في الدفاتِرْ يا ليلُ مالَك آخِرٌ ... فتظَلُّ تَرْقُبْه النَّواظِرْ لا فيك وَصْلُ مُعَذِّبِي ... يُرْجَى ولا للشوقِ آخِرْ يا ليلُ طُلْ يا شَوْقُ دُمْ ... إنِّي إلى المحبوبِ سائِرْ يا ليلُ أقْصِرْ أو فطُلْ ... إنِّي على الحاليْن صابِرْ لي فيك أجْرُ مُجاهدٍ ... أضْحَى لجيشِ الحبِّ ناصِرْ وثوابُ غازٍ فاتِكٍ ... إنْ صَحَّ أنَّ الليلَ كافِرْ طَرْفِي وطَرْفُ النَّجْمِ في ... بَاهِي جمالِك ظَلَّ حائِرْ والقلبُ والعَيْنانِ في ... كَ كِلاهُما سَاهٍ وساهِرْ يَهْنِيك بَدْرُك حاضرٌ ... مَالَتْ لبَهْجتِه الخَواطِرْ قد لاح بَدْرُك مُشْرِقاً ... يا ليتَ بَدْرِي كان حَاضِرْ حتى يَبيِن لناظرِي ... مَن منهما بَاهٍ وبَاهِرْ ويشيعَ بين مَعاشِرِي ... مَن منهما زَاهٍ وزاهِرْ بَدْرِي أرقُّ محاسِناً ... إذْ حُسْنُه للعقلِ سَاحِرْ كالليلِ أرْسَلَ شَعْرَه ... والفَرْقُ مثل الصبح ظاهِرْ ملكَ الجمالَ بأسْرِهِ ... كُلُّ المِلاحِ له عَساكِرْ سلطانُ حُسْنٍ قد سَما ... بحُسام ألْحاظٍ فَواتِرْ لا السُّمْرُ تَذْكَر عِنْدَها ... كَلاَّ ولا البِيضُ البَواتِرْ قد نُفِّذتْ بين الوَرى ... منه النَّواهِي والأوَامِرْ ما مَخْلَصٌ من فَتْكِهِ ... بظُبَا اللَّواحِظِ والنَّواظِر إلاّ امْتداحَ مُحَمَّدٍ ... خيرِ الأوائلِ والأواخِر وله مشطراً ومعجزاً نونية ابن سناء الملك: من ذا الذي مِن مُقْلَتيْه يَقِينِي ... فهي التي بسِهامِها تُصْمِينِي

يا مَن يظنُّ الشِّرْك في حُبِّي له ... هذا الذي أخْلَصْتُ فيه يَقيِنِي رِيمٌ له فِعْل الرُّماةِ وإنما ... يُصْمِي فؤادَ المدنَفِ المحزُونِ في القلب مَوْقِعُ سَهْمِه لكنه ... يَرمِي بقَوْسَيْ حاجبٍ وعُيونِ يَبْرى نِبالاً من فُتور لِحَاظِهِ ... ويريشُها بالهُدْبِ للتَّمْكِينِ ويُحيلُها بَارِي النُّفوس بحُكْمِهِ ... في القلبِ حَالةَ رَمْيها تَبْرِينِي يمشي فيدعوه القَضيبُ سَرَقْتَنِي ... قَدِّي فملْتَ ولا كَمَيْلِ غصُونِ وإذا بَدَا فالبدرُ قال ظَلَمْتَنِي ... وإذا رَنا قال الغَزالُ عُيُونِي ألِفُ ابنُ مُقْلَةَ في الكتابةِ قَدُّهُ ... حاشَا فَعاذِلُه سَمَا باللِّينِ والثَّغْرُ مِيمٌ كلُّنا صَادٍ له ... والصُّدْغُ مثلُ الواوِ في التَّحْسِينِ وعلى الْجَبِينِ بِشَعْرِه سِينٌ بَدَتْ ... سلَب العُقولَ بطُرَّةٍ وجَبِينِ قد أدْرَكتْ في الحُسْنِ غايتَه لذا ... حارَ ابنُ مُقْلَةَ عند تلك السِّينِ والْعَيْنُ مثلُ العَيْنِ لكنْ هذه ... نَجْلاءُ فاقتْ عيْنَ حُورِ العِينِ ولئن تبدَّتْ تلك مَن هي هذه ... كُحِلتْ بحُسْنِ وَقاحةٍ ومُجُونِ سبحان مَن خلقَ العيونَ بقَوْلِ كُنْ ... فبدَتْ لسَلْبِ نُفوسِنا في الحِيْنِ وتبادَرت أمْرَ الإله مُطِيعَةً ... فتكوَّنتْ في أحْسَنِ التَّكْوينِ سُودٌ رُقودٌ ما كُحِلْنَ ولا بها ... وَسَنٌ فَيَدْعوها لِفعْلِ سُكُونِ زُرْقٌ شُهِرْنَ وما ألَمَّ بِجَفْنِها ... نَوْمٌ ولكنْ قَصْدُها تَسْبينِي يا لَلرِّجالِ ويا لَها مِن فِتْنةٍ ... كم أَوْقَفَتْنِي في مَواقِفَ هُونِ حتى شَهِدْتُ بَديِعَ حِكْمةِ خالقٍ ... في وَضْعِ ذاك النَّقْطِ فَوْقَ النُّونِ في ثَغْرِه شُهْدٌ وتحت شِفاهِهِ ... بَرَدٌ أكادُ أُذِيبُه بأنِينِي وعلى الثَّنايا الدُّرُّ وَاشَغَفِي بها ... خَمْرٌ جَرَتْ من لُؤْلُؤٍ مَكْنُونِ كم قيل إن شِئْتَ الدُّجَى فغَدائِري ... فاقتْ على حَلَكِ اللَّيالِي الْجُونِ وإذا طلبْتَ البدرَ فانْظُر طَلْعتِي ... وإذا أرَدْتَ الصُّبْحَ فهْو جَبِينِي وإذا أرَدْتَ الرَّوْضَ فهْو بوَجْنَتِي ... مُتَنضِّدٌ مُتناسِبُ التَّكْوينِ يزْهُو بأبْيَضِه وأحْمَرِه لِذَا ... كم فيه من وَرْدٍ ومن نَسْرِينِ أنا لا أُرِيدُ تَنَزُّهاً في روضةٍ ... حازتْ جميعَ الحُسْنِ بالتَّعْيينِ بل إن بَدَا حِبِّي فحالِي أنني ... نَظَرِي إلى وَجْنَاتِه يكْفينِي لاقَيْتُه يوماً فقال أَما تَرَى ... ظَبْيَ الْفَلاَ قد زاد في التَّفْنِينِ والشَّمْسَ ظلَّتْ أن تُحاكِي فاسْتَمِعْ ... ما قد جرى منهم لقد ظَلَمُونِي طمِع الغزالُ بأن يُعارِضَ مُقْلَتِي ... حاشَا وكلاَّ أن يكون قَرِيني والغُصْنُ ظَنَّ بأن قَدِّي مِثْلُه ... والبردُ أيضاً رامَ أن يَحْكِينِي فأجَبْتُ إن فَعَلاَ فقد فُضِحا ولا ... يَصِلان منك لِظَاهِرٍ وكَمِينِ كَلاَّ فغَفْراً للذي فَعلا فلا ... يُؤْذِيك فِعْلُهما ولا يُؤْذِيني فافْتَرَّ مُبْتسِماً وأوْعَد باللِّقا ... وَهْناً فقَرَّتْ باللقاءِ عُيُونِي وثَنَى لنا عِطْفاً وجاد بوَصْلِهِ ... يوماً ولا ثِقَةً بوَعْدِ ضَنِينِ اللهُ أكبرُ مِن قَساوةِ قَلْبِه ... أنَّى يَميلُ لِمُدْنَفٍ مِسْكِينِ

يقْسُو فلا عَطْفٌ يُميِلُ غَصُونَهُ ... مع ما يُرَى في عِطْفِه مِن لِينِ علَّمْتُه بابَ المُضافِ تفاؤُلاً ... بوِصاله وطَمِعْتُ أن يُدْنيني فغَدَا يُعامِلني بضِدٍ مُذْ بدا ... ورَقِيبُه يُغْرِيه بالتَّنْوِينِ وله في الغزل: تَعطَّفْ بِمُضْنىً عليلِ المَقالْ ... ودَعْ عنك هذا الْجَفَا والمِطالْ أَما قد عَلِمْتَ بأني امْرُؤٌ ... أُحِبُّ الجميلَ وأهْوَى الجمالْ وأغْشَى المَغانِي إذا ما حَوَتْ ... لَطِيفَ البَنانِ حَلِيفَ الدَّلاَلْ بسَهْمِ اللِّحاظِ إذا ما رَنَا ... أصاب فؤادِيَ دُون النِّصالْ ووَرْدِيِّ خَدٍ إذا لاح لا ... هَمَى الطَّرْفُ منِّي بمثْلِ الّلآلْ ووجهٍ يُبِيدُ سَناهُ البدورَ ... إذا ما تَبدَّى بجُنْحِ اللَّيَالْ فصُبْحُ الجَبِينِ وليلُ الشُّعورِ ... بهذا الهُدَى وبهذا الضَّلاَلْ وجسمٍ حكَى الماءَ في رِقَّةٍ ... عليه من الثَّغْرِ مِثْل الظِّلالْ فخُذ ما صَفا لك مِن وُدِّهِ ... ولا تخْشَ عَاراً ولا أن يُقالْ فما كُلُّ وَقْتٍ يُبِيحُ الزَّمانُ ... لِقَدٍ عَاطِلٍ هُوَ بالحُسْنِ حَالْ ولا الدهرُ في كلِّ ساعاتِه ... يُغِيثُ الفقيرَ ببَذْلِ النَّوَالْ وإن لاح فاجْتَلِ أنْوارَهُ ... فما كلُّ يومٍ يلُوح الهِلاَلْ ولا تُمْهِلَنْ لَذَّةً أمْكَنتْ ... وباكِرْ صَبُوحَك قبَل الزَّوالْ ولهذا الشيخ ولدٌ اسمه: أحمد نبيلٌ نبيه، قائمٌ في وقتنا مقام جده وأبيه. وكنت قبل دخولي الحجاز سمعت بفضله، وبلوغه في المعالي مرتبة أصله. فسجدت لله شكراً، وما زلت أجدد له ذكراً. وأنا أشوق إليه من المحب إلى حبيبه، وأحن إليه من حنين المريض إلى طبيبه. حتى لمحته بالمدينة لمحةً كشرب الطائر الوجل، أو قبسة القابس العجل. لم تزل بها علة، ولا تروت بها غلة. وقد بلغني أنه الآن هو المشار إليه ثمة بالبنان، الحائز قصب السبق في ميدان البيان. أشرقت في سماء المجد مطالعه، ولم تتهيأ إلا لتحصيل الكمال مطامعه. فالله يعيذه من عين كماله، ويجعل أمامه مطاياه إلى آماله. ولم يبلغني له شعرٌ أنمق به الكتاب وأوشيه، وإذا بلغني لم آل من أني أذهبه به وأحشيه. إبراهيم بن محمد بن أبي الحرم فاضلٌ بلغ من المعالي مرتقاها، وله معارف تستقبلها النفوس بالقبول وتتلقاها. فمناطق الشكر له فصيحة اللسان، ومواهب الله تعالى به معهودة الإحسان. لم يزل في عيشٍ موشاةٍ حواشيه بسوابغ الكرم، وهو في ظلال حرمة نبيه آمنٌ من حرام الحرم. إلى أن انتقل إلى الدار الآخرة، فلا زالت تحيي قبره سحابة الرحمة الزاخرة. وقد أوردت له من درره ما ألف نظمه بالشذر في عنق فتاة رود، فإذ نظرت رأيت أي سوالفٍ وخدود، عنت بين اللوى فزرود. فمن ذلك قوله فيمن لبس بياضاً: لَمَّا بَدَا مُبْيَضّا ... والقلبُ مُشْتاقاً إلَيْهِ ناديتُ هذا قاتلِي ... والرَّايةُ الْبَيْضَا عليْهِ وقوله: صَادَفْتُه يجْلُو فَماً حَشْوُهُ ... شُهْدٌ ودُرٌّ وعَقِيقُ المُدامْ وقلتُ يا مولايَ هل مَشْرَبٌ ... مِن رِيقِك العَذْبِ لِحَرِّ الغَرامْ فقال جَوْرٌ منك أنت الذي ... تُدْعَى بإبراهيمَ طولَ الدَّوامْ والنارُ بَرْداً وسلاماً غَدَتْ ... عليك ماذا الحَرُّ قلتُ السَّلامْ وقوله: جاء يسْعَى إلى الصلاةِ مَلِيحٌ ... يُخْجِلُ البدرَ في لَيالِي السُّعُودِ فتمنَّيْتُ أنَّ وَجْهِيَ أرْضٌ ... حين أوْمَا بَوجْهِه للسُّجودِ قلت: ذكرت هنا ما يحكى عن بعض الظرفاء، أنه مر بغلامٍ جميل، فعثرت فرسٌ في طينٍ، أصاب وجه الغلام منه نزرٌ، فقال الظريف: " يا ليتني كنت تراباً "، فسمعه بعض المارين، فقال للغلام: ما يقول هذا؟

فقال: " ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً ". وقال السيد محمد كبريت، في كتابه نصر من الله وفتح قريب، في معرض كلامٍ: جرت عادة الفعال لما يريد في خلقه، أن كل بلدةٍ في الغالب تكون عوناً لغريبها، حتى على ساكنها، وعلى الخصوص المدينة المنورة. وكان المرحوم العلامة الشيخ إبراهيم بن أبي الحرم يقول: ليس من الرأي تعظيم الوارد إلى هذه الدار، إلا بحسب ما يقتضيه الحال، فإنه بتعظيمه يطأ غيره، ثم يتمرد على معظمه، فيطأه كذلك، وتكون إساءته عليه أكثر، وعلى الخصوص من لفظته القرى، وألف النوال والقرى، وقد اتفق لي شيءٌ من ذلك فكتب إلي بعض أصحابي في خصوص هذا المعنى: يا أهْلَ طَيْبةَ لا زالتْ شمَائلُكم ... بلُطْفِها في الوَرى مَأْمونَة الْعَتَبِ لكنْ رِعايتُكم للغُرْبِ تحْمِلُهمْ ... على تَجاوُزِهمْ لِلْحَدِّ في الأدبِ فكان الجواب عن ذلك بلسان الحال: مَوْلايَ إنَّ صُروفَ الدهرِ قد حَكَمتْ ... وأعْوَزَتْ أن يَذِلَّ الرأسُ للذَّنَبِ كم مِن مُقَبِّلِ كَفٍ لو تمكَّن مِن ... قَطْعٍ لها كان مِمَّن فازَ بالأرَبِ الأمير أبو بكر بن علي الأحسائي أمير كلام، وصاحب نفثات أقلام. نما في منبت النجابة، ودعا الأمل فأجابه. تحرسه عينٌ من الله واقية، وتحفظه آثارٌ أبد الآباد باقية. وله علمٌ وعقل، وضبطٌ لشوارد الفنون ونقل. إلى مفخرةٍ يتوشح بردائها، ومأثرةٍ يترشح لابتدائها. وقد فاز من الأدب بأوفر حصة، وغدت سمته به صفةً مختصة. وله شعر تتأرج في روض المعارف زهراته، وتجتني من أغصان السطور ثمراته. فمنه قوله، من قصيدة يمدح بها الشريف زيد بن محسن: عَزَّتْ بِعِزِّ مَقامِك العَلْيَاءُ ... وعليك فَضّتْ عِقْدَها الْجَوزَاءُ فالبدرُ كأسٌ والشموسُ عُقارُها ... فاشْرَبْ بكأسٍ شمسُه الصَّهْباءُ وحَبابُها نُجُمُ السَّما فكأنَّها ... ذاتٌ وذاك بشكْلِه الأسْماءُ وأتْك بِكراً قبَل فَضِّ خِتامِها ... يقْتادُها رَاوُوقُها وذُكاءُ خضعْت لعِزِّك فاسْتقِمْ في عَرْشِها ... يا ظاهراً لا يعْتريِه خَفاءُ وانْصُبْ لِوَاءَ الحمد مُنْتَشِرَ الثَّنَا ... قد ضُوِّعتْ بعَبِيرِه الأرْجاءُ يسْعَى بظلِّ أمَانِهِ بين الورَى ... ذُو البَأْسِ والأمْجادُ والضُّعَفاءُ فالدهرُ سَيْفُك فاتَّخِذْه مُجَرّداً ... مُتوشّحاً بالنصرِ وهْو رِدَاءُ وعُلاكَ قد شهِد العَدُوُّ بفضْلِه ... والفضلُ ما شهدتْ به الأعْدَاءُ وحِمَاكَ أَمْنُ الْخائفين تَؤُمُّه ... ششمُّ الأُنوفِ القادةُ الأكْفاءُ ولقد حَظِيتَ من الإلهِ بنَظْرةٍ ... أرْدَتْ مُريد الكَيْدِ وهْو هَباءُ وحُبِيتَ منه بما تقاعَسُ دُونَه ... هِمَمُ الملوكِ الصِّيدِ والعُظَماءُ فالله أظْهَرَ ذا الْجَنابَ بِنَصِّه ... فالخلقُ أرضٌ والشريفُ سَماءُ لو قيل لي مَن ذا أرَدْتَ أجَبْتُهمْ ... أوَ غَيْرَ زَيْدٍ تَمْدَحُ الشعَراءُ وإذا أُدِير حديثه في مَحْفَلٍ ... فلِمَسْمعِي مِن طِيبِ ذاك غذاءُ مَلِكٌ إذا وعَد الجميلَ وَفَى به ... وإذا تَوَعَّدَ شأنُه الإغْضاءُ فبِسَعْدِه أهْدَى الزمانُ إلى الورَى ... كأساً هَنِيّاً ليس فيه عَناءُ فالله يُبْقِي مُلْكَه السَّامي الذي ... قد كَلَّلَتْه بنُورِها الزَّهْراءُ وكتب إلى الشيخ الإمام عيسى بن محمد الجعفري الثعالبي، نزيل مكة، مادحاً بقوله: يا مَن سَما فوقَ السِّماكِ مَقامُهُ ... ولقد يَراك الكلُّ أنتَ إمامُهُ حُزْتَ الفضائلَ والكمالَ بأَسْرِهِ ... وعَلَوْتَ قَدْراً فيك تمَّ نِظامُهُ لو قيل مَن حازَ العلومَ جميعَها ... لأقول أنت المِسْكُ فيه خِتامُهُ

كم صُنْتَ مِن بكْرِ العلومِ خَرائداً ... عن غيرِ كُفْءٍ لم يجبْ إكْرامُهُ فاعلمْ بأنِّي غيرُ كُفْءٍ لائقٍ ... إن لم يكنْ ذا الفضلُ منك تمامُهُ ثم أتبعه بنثرٍ، صورته: لما أضاء نور المحبة في قناديل القلوب، صفت مرآة الحقيقة فظهر المطلوب. فاتضحت الرسوم الطامسة، وبانت الطرق الدارسة. فاكتحلت عين القريحة، فسالت في نهر النطق، فأثمرت بالمسطور، وهو المقدور. وأما المقام فهو أعلى من ذلك وأجل، وليس يدري ذلك إلا من وهل. وأما العبد فهو مقرٌّ أنه قد قصرت به الركائب عن بلوغ ذلك، وأعاقته عقبات الأسباب عن سلوك هذه المسالك. لكن حيث إن ثياب الستر من فضلكم على أمثاله مسبولة، فيرجو أن يهيىء الله له في ضمن الامتثال مطلوبه ومأموله. فأجابه بقوله: لِلّهِ دَرُّك يا فريد مَحامِدٍ ... أربَى على البدرِ التّمامِ تمامُهُ قد صُغتَ من سِرِّ البراعةِ مُفْرَداً ... فاق الفرائدَ نَثْرُه ونظامُهُ وكَسَوْتَه من جَزْلِ لفظِك سابِغاً ... وُشِيتْ بكلِّ لَطيفةٍ أكْمامُهُ وجَلَوتَه يخْتالُ تِيهاً آمِناً ... مِن أن يُشابَه في الوجودِ قَوامُهُ أعْرَبْتَ فيه عن اعْتقادٍ خالصٍ ... ومَكِين وُدٍ أُحْكِمتْ أحْكامهُ وصَبَوْت ذا شُكْرٍ بِبثِّ قصيدةٍ ... وبفَصِّ خاتمه العَلِي أسْوامُهُ أهْلاً به فَرْداً أتى من مُفْرَدٍ ... وحَبَا به ضيفاً يجلُّ مقامُهُ حَتْما عليَّ ولازماً تبْجِيلُه ... فَوْراً وحَقّاً واجباً إكْرامهُ لكنْ على قَدْري فلستُ بكُفءِ مَن ... وَطِئتْ على هامِ العلَى أقْدامهُ وإليكَها عَذْرَا على مَهَلٍ أتَتْ ... خَجْلَى لمْحتدِك العزيز مَرامُه فاصْفَحْ بفضلِك عن صَحِيفةِ نَقْصِها ... فالفضلُ مُؤتمٌّ وأنت إمامُهُ واسْحَبْ رداءَ المجدِ غير مُدافعٍ ... فلأنتَ عُنْصُرُه وأنت خِتامهُ ثم أتبعه بنثر، صورته: هذه دام جدك في صعود، ومجدك في سعود عجرفةٌ أبرزها فاتر الفكر الأعرج، وقاصر الذهن البهرج. تتعثر في مروط الخجل والوجل، وتتعارض لما بها من الخطأ والخطل. أتت سوح حضرتك الرحراحة الأرجا، وأملت أن تفوز من كمال صفحك عن زيفها بتحقق الرجا. فقابل إقبالها بالقبول والإغضا، وألحظها غير مأمورٍ بعين التقريب والرضا. فإنك مأوى الفضل ومخيمه، ومفتتحه ومختتمه. ولولا نافذ أمرك المطاع، وواجب تعظيمك المتمكن في الأفئدة والأسماع؛ لما تراءى لراءٍ عجرها ولا بجرها، ولا بان لسامع خبرها ولا مخبرها. ولكن عند الأكابر تلتمس وجوه المعاذير، ولدى أعيان الأفاضل يرتجى الصفح عن التقصير. والسلام. أحمد بن محمد مكي فاضلٌ توقد ذكاه، وتألق شهابه وذكاه. فبزغ واضح الغرة والجبين، ورفع عمود الصبح المبين. وكسي نصاحة الفصاحة، وتفتق عن رونق البشر والصباحة. فلله براعةً ملك، وطريق إجادةٍ سلك. قرت بها عيون أودائه، وملئت غيظاً صدور أعدائه. وكان للقلوب فيه ظنٌّ جميل، وللمعالي رجاءٌ وتاميل. إلا أن الأيام لم تفسح له مدى، فاقتطفت زهرة حياته في باكورتها يد الردى. وقد أثبت من بواكير طبعه المطبوع، ما يدل على نبله دلالة الماء على نظافة الينبوع. فمن ذلك هذه الأبيات، كتب بها إلى الأستاذ زين العابدين الصديقي: لُؤْلُؤُ الثَّغْرِ المُنَضَّدْ ... فيه جِريْالٌ مُبَرَّدْ بَسمَتْ عنه ثَنايَا ... رَشأٍ أحْوَى وأغْيَدْ أم رياضٌ عِقْدُ دُرِّ الْ ... مُزْنِ فيها قد تَبدَّدْ أم نجومٌ مُزْهِراتٌ ... مِن سَناها النُّورُ يُوقَدْ أم نَسِيمُ الصبح أبْدَى ... طَيِّب النَّشْرِ من الوَرْد لا ولكنْ ذا قَرِيضٌ ... لإمامٍ قد تفَرَّدْ سيِّدٍ حَبْرٍ هُمامٍ ... أوْحَدٍ من نَسْلِ أَوْحَدْ مَن له حَالٌ وقَالٌ ... بِهِما الساداتُ تشْهدْ

وله في المجدِ شَأْوٌ ... دونه النجمُ وفَرْقَدْ نَجْلُ أقْطابٍ كِرامٍ ... لهمُ غاياتُ سُؤْدَدْ كم كراماتٍ شهِدْنَا ... مالَها حَصْرٌ ولا عَدّ يعجِزُ الواصفُ عنها ... منهمُ جاءتْ بلا حَد مَلأَتْ شرقاً وغرباً ... وبدَتْ في كلِّ مَشْهَدْ عَبِقَ الكونَ ثَناهُم ... كعَبِيرِ المِسْكِ والنَّدّ وحكى لي صاحبنا الفاضل مصطفى بن فتح الله، قال: كنت بالمدينة نظمت قصيدةً في الغزل، فلامني عليها بعض الناس، وبلغ ابن مكي ذلك، فأتى إلى منزلي ليروحني، فلم يجدني، فكتب: أتيتُك من شوقِي إليك مُسَلِّماً ... وقد صار قلبي في وِدادِك ذا شُغْلِ فمِن سُوءِ حَظِّي ما تَمَلَّيْتُ ساعةً ... بمَرْآكَ يا رَبَّ الفصَاحةِ والنُّبْلِ فلا عَتْبَ لي إلاَّ عليه فإنه ... على نَيْلِ ما أهْواه في الدهرِ ذُو بُخْلِ فيا مَن له طبعٌ أرَقُّ من الصَّبا ... لقد ساءَني ما قد لَقِيتَ من العَذْلِ فلا تسْتمِعْ قولاً لِواشٍ وناصِحٍ ... ولا تَرْعَوِي عن حُبِّ ذِي الأعْيُنِ النُّجْلِ فما أنتَ في حُبِّ الْجَآذِرِ أوَّلاً ... أشَاعَ الهوى أسْرارَه يا أخا الفَضْلِ بِذا قد قضَى شَرْعُ الغَرامِ بأهْلِه ... فنصْبرُ في حُكْمِ الغرامِ على القَتْلِ إذا ما رَنَا مَن يُشْبِهُ الظَّبْيَ لَفْتَةً ... ومَاسَ كغُصْنٍ فوق دِعْصٍ من الرَّمْلِ وأظْهَر وَرْداً في شَقائِقِ خَدِّه ... وسار يجُرُّ الذَّيْلَ تِيهاً على مَهْلِ وفاح شَذَا مِسْكٍ على الْخَالِ عَمَّهُ ... مَحاسِنُ أوْصافٍ تَجِلُّ عن المِثْلِ وأبْسَمَ عن دُرٍ تنظَّم في طُلىً ... ألَذُّ وأحْلَى رَشْفُها من جَنَى النَّحْلِ فأيُّ فُؤادٍ ليس يصْبُو لِحُسْنِه ... ويشْتاق من ذاك الغَزالِ إلى الوَصْلِ ألا أيُّها العُذَّالُ إنَّ بَنِي الهَوى ... رَأُوا اللَّوْمَ في حُبِّ الحِسانِ من الجهلِ ففي مَعْرَكِ الأحْداقِ والمُهَج انْظُروا ... ولُومُوا ولِجُّوا بعد ذلك في العَذْلِ تَبارَك مَن حَبَّ الجمالَ وأهْلَه ... ومَن خلَق الإنْسانَ في أحْسَن الشَّكْلِ إليك أخا الأفْضالِ سارتْ شَقائقٌ ... مُداعِبَةٌ تَرُوْيِك بالجِدِّ والهَزْلِ فكُن فاتِحاً بابَ الرِّضَا لقبولها ... وأصْلِحْ مَعانيها من القولِ والفِعْلِ ودُمْتَ قَرِيرَ العَيْنِ في حِفْظِ ربِّنا ... ونَسْمعُ ما تَرْوِي ونكتُب ما تُمْلِي فكتب إليه مجيباً: يا أحمداً حاز المَكارمَ كُلَّها ... ويا فاضلاً مِن دونِه كُلُّ ذِي فَضْلِ ويا ماجداً يسْمُو على كلِّ ماجدٍ ... ويا مَن غدَا في الفَضْلِ مُمْتنِعَ المِثْلِ ويا نَجْلَ مَكِّيِّ الهُمامِ الذي له ... فضائلُ إنْ أعْدَدْتُها فهْي كالوَبْلِ على كلِّ حالٍ لستُ أُحْصِي ثَناكُما ... ولكنَّ بعضَ القولِ يكفي عن الكُلِّ بنفسِي أُفَدِّي منك لَفْظاً كلُؤْلُؤٍ ... وشِعْراً رقيقاً صار ذِكْراه لي نَقْلِي بعثْتَ بِخَوْدٍ يُخْجل البدرَ حُسْنُها ... عَقِيلةَ أتْرابٍ بها صِرْتُ ذا شُغْلِ سُلافِيَّةُ الألْفاظِ شَمْسيَّةُ السَّنَا ... مُدامِيَّةُ الأَلْمَى لحالش الشَجِي تُمْلِي فأفْرشْتُها خَدِّي وأوْسَدْتها يَدِي ... وصيَّرْتُها مِنِّي بمنزلةِ الخِلِّ وبِتُّ أُعاطِيها ثَنايَ مُعظِّما ... عليْك وجادتْ عند ذلك بالوَصْلِ وقبَّلْتُها ألْفاً وضِعْفَها ... فحيَّاك ربُّ العرشِ يا زَاكِيَ الأصْلِ

ذكرتُ بها عهدَ الصَّبابةِ والهوى ... وكنتُ تَناسيْتُ المَحبَّةَ بالفِعْلِ زَهَتْ بك يا قُسَّ الفصاحةِ طَيْبَةٌ ... فدُمْتُ قَرِيرَ العيْنِ مُجْتمِعَ الشَّمْلِ وقد زُرْتَ عَبْداً صادقاً في وِدادِهِ ... وشأنُ المَوالِي هكذا يا مُنَى السُّؤْلِ ولكنْ على حَظّي العِتابُ فإنه ... على جَمْعِ شَمْلِي بالأحِبَّةِ ذُو بُخْلِ وأعْلَمتْنِي أن قد شَفِقْتَ عليَّ مِن ... مَقالةِ عُذَّالٍ وليسوا ذَوِي عَدْلِ أبُثُّك حَالِي يا أخا الوُدِّ والوفا ... وَدَهْرِيَ أشْكُو وهْو منِّيَ في حِلِّ رَمانِي زماني بالصَّبابة والهوى ... وذلك تقْديرُ الذي جَلَّ عن مِثْلِ وقد كان ظنِّي الوصلُ مِن فَاتِنِي الذي ... تحكَّم في بعضِي هَواه وفي كُلِّي فعامَلنِي من غَيْرِ ذنبٍ بهَجْرِه ... فيا سيِّدي هل يستحقُّ الجَفَا مِثْلِي فمِن أجْلِ ذا قد ضاق صَدْرِيَ منهمُ ... ولم أتَجَرَّعْ بعدَ ذا غُصَصَ العَذْلِ على أنني لا أرْتضي الذُّلَّ في الهوى ... وإن كان أَوْلَى لي التَّحَمُّلُ للِذُّلِّ ولكنْ أمَرْتَ العبدَ يصْبِرُ للْقضَا ... فصَبْراً على أحْكامِ ذي الأعْيُنِ النُّجْلِ ودُمْ راقياً أَوْجَ الفضائلِ باقياً ... وتخْدُمك العَلْياءُ في الجِدِّ والهَزْلِ ومما وقفت عليه، معزواً إليه قوله: إيَّاك والبَغْيَ لا تَرْضَى به أبداً ... واتْرُكْ هوَى النفسِ تنْجُو مِن بَلا عَادِ وكُن بنفسِك مشْغولاً تُهذِّبُها ... فالنفسُ أعْدَى عَدُوٍ ذاتُ إفْسادِ ولا تكُنْ بمَساوِي الناسِ مُشْتغِلاً ... وراقِبِ الناسَ في خافٍ وفي بَادِي قد قال واصفُهم حَقّاً أخُو فِطَنٍ ... ممَّن يُجِيد فَصِيحَ النُّطْقِ بالضَّادِ الناسُ أحْلامُهم شَتَّى وإن جُبِلوا ... على تَشابُهِ أرْواحٍ وأجْسادِ للخيرِ والشَّرِّ أهلٌ وُكِّلُوا بهما ... كلٌّ له مِن دَواعِي نَفْسِه هَادِي وقوله: في طَيْبةَ كان لنا صاحبٌ ... تظنُّه النفسُ شَقِيقاً لَهَا مَنَحْتُه صَفْوةَ الإخَأ ... وخِلتُه يمنَحُ أمْثالَهَا فقابَل الوُدَّ بهَجْرٍ بلا ... دَاعٍ له تُوِب فَتْح اللَّهَا وكم عُقُودٍ للْوفَا بيْننا ... أطاع شانِينَا وقد حَلَّهَا فقلتُ يا نفسُ دَعِيهِ فذَا ... مثلُ الذي نقضَتْ غَزْلَهَا أحمد بن محمد علي المدرس لقيته بدمشق في خدمة قاضي القدس المولى خليل أجل من ولي القضا، وأعظم من ينقضي الدهر وليس لمدحه انقضا. وله عنده المنزلة المجلاة بالإنعام، والرتبة المشمولة بالإكرام بين الخاص والعام وكنت أعشق هذا الفاضل على السماع، فصغر الخبر الخبر به عند الاجتماع وطالما اقتطفت من أزاهر بستانه فاكهةً جنية، فتناولت الآن من صنعة بنانه تحفاً عن الإطراء في مدحها غنية. وهو كما بلغني قد بلغ مبلغ الرجال، وهو في سن الأطفال، وتميز بين أقرانه بالمزية التي تستدعى لها الاعتناء والاحتفال. بجدٍ لم يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، وجهدٍ لم يخل دقيقة ولا جليلةً إلا استقصاها. وقد فرحت به فرحةً أنستني كل فرحة، وباعدت بيني وبين كل مساءة وترحة. ثم اجتمعت به في القاهرة، فأشرقت علي بها فضائله الزاهرة. وتحققت من وده حالاً لم يلحقها انتقال، ولم يشنها اختلال، وتألفاً هو الفعل لم يدخله من شوائب النقص اعتلال. فالله يجعل تلك من الأحوال اللازمة، ويعصم هذا من الحروف الجازمة. فمما تناولت من شعره قوله: قَرِّبي الراحَ من حِمانَا وُدورِي ... بين غِيدٍ بها حِسَانٍ بُدورِ قَرِّبيها فهْي الدواءُ لِما قد ... حلَّ من دَائها بجسْمي الأسيرِ

الباب السابع في غرائب نبهاء مصر

قَرِّبيها وخَلِّ عنك أُناساً ... حَرَّمُوها يا مُهْجةَ المسْرورِ قَرِّبيها كالتِّبْرِ صفراءَ لَوْناً ... كاسُها كاللُّجيْنِ من بِلُّورِ منها: خمرة تترك الشحيحَ جَواداً ... باحْتِساها كحاتِم المشْهورِ وقوله: عَذهِّب بما شئْتَ أيُّها القمرْ ... إلاَّ الْجَفاء والصُّدودَ يا عُمَرْ مَن قد حَوى الماء في الخدودِ كذا ... نار بأحْشَاي حين تسْتعِرْ رُمْتُ سَلْوَى هواك يا أمَلِي ... من أين للقلبِ عنك مُصْطَبرْ أنت الذي كالسِّهامِ لَحْظُك قد ... رَمَى حَشايَ وما له وَتَرْ بِنْتُ عن الرُّوح يا سِرَاجُ ضَنىً ... كأنني يا مَلِيكُ مُحْتَضَرْ نَهَى عن الحبِّ عاذِلِي سَفَهاً ... فقلتُ ذا العَذْلُ يا فتى غَرَرْ إنَّ حبيبي كالغُصْنِ قامتُه ... له ثَنَايا كأنها دُرَرْ بدرٌ كمثْلِ المُدامِ رِيقتُه ... والقلبُ قاسٍ كأنه حَجَرْ يَسْبى البَرايَا بنثورِ طَلْعتِه ... وليس للخَصْرِ يَلْتقِي أثَرْ بَلْبَلَ قلبي دَلالُه أبداً ... وذاكَ شرطٌ في العِشقِ مُعْتَبَرْ كلَّمني طَرْفُهُ ومُقلتُه ... لذاكَ أصْمَى الحَشَا بها حَوَرْ له كعَيْنٍ عَيْنٌ وحاجِبُه ... نُونٌ وَفَاهُ مِيمٌ سَيَنْتَظِرْ نعيمُ دُنْيَايَ حُسْنُ صُورَتِهِ ... فوَصْفُها صَاحِ ليس يَنْحَصِرْ يَحارُ كُلٌّ في وَصْفِ خِلْقتِه ... وكم لَدَيْهِ محاسِنٌ أُخَرْ وقوله ملتزماً واوين في أول البيت وآخره: ووَادٍ به قد كان بالصَّحْبِ جَمْعُنا ... ولكنَّهم للقلب بالْبُعْدِ قد كَوَوْا ووَقَّد نارِي هَجْرُهم وبِعادُهم ... وللجسمِ منِّي يا خليليَ قد شوَوْا ووَاحَسْرةَ العُذَّالِ إنّي أعُدُّهمْ ... كلاباً فمنهم لا أُبالِي إذا عَوَوْا ووَرْقاءِ دَوْحٍ قد أثارتْ تَشَوُّقِي ... تقوم بأحْشايَ وقلبِيَ قد ثَوَوْا وَوْرِديَّةِ الخدَّيْنِ مَعْسولةِ اللَّمى ... وعُشَّاقُها للسُّقْم مَن صَدِّها حَوَوْا ووَسْناءِ طَرْفٍ كالغُصونِ اهْتزازها ... أسانيدُ عِلْم السِّحرِ عن طَرْفِها رَوَوْا ووَجْنتها يحْكِي دموعي احْمِرارُها ... ورَضْوَى مع الأرْدافِ منها قد اسْتَوَوْا وَاوات أصْداغٍ لها كعقاربٍ ... وكم لَسعتْ قوماً على حُبِّها انْطَوَوْا ووَالخَصْرِ منها ما تبدَّلْتُ غيرها ... ولم أَكُ من قومٍ لسُلْوانها نَوَوْا ووُدِّي لها من قبل آدم ثابِتٌ ... ولستُ كأقْوام إلى غيرها هَوَوْا وقد اقتفى أثر ابن زقاعة، في قوله: ووَرْدِيِّ خَدٍ نَرْجِسيِّ لَواحِظٍ ... مَشايخُ علم السِّحْرِ عن لَحْظِه رَوَوْا ووضاوَاتُ صُدْغَيْهِ حَكيْن عقارِباً ... من المسكِ فوق الجُلَّنارِ قد الءتوَوْا ووَجْنتُهُ الحمرا تلوحُ كجمرةٍ ... عليها قلوبُ العاشِقين قد انكَوَوْا ووُدِّي له باقٍ ولستُ بسامعٍ ... لقَوْلِ حَسُودٍ والعواذِلُ قد عَوَوْا ووَاللهِ لا أسْلو ولو صرْتُ رِمَّةً ... وكيف وأحْشايَ على حبِّه انطْوَوْا الباب السابع في غرائب نبهاء مصر في غرائب نبهاء مصر، لا زالت محروسةً عن طوارق كل همٍ وأصر. وهي أم الدنيا الولود، وكوكبها السعد الأكبر فلذا قوى بها طالع المولود. تبرجت تبرج العقيلة دون ساتر، فأوقفت الناظر دون محاسنها وهو باهتٌ حائر. فإن كان الهرمان نهدين في صدرها، فإن الخليج والعهد به منطقة في خصرها.

كل قطرٍ يشتاقها فهو يتمنى لو صدق فيها الخبر العيان، وكم هواءٍ صار لها رمالاً فهو إذا مر خط في رمل الكثبان. وناهيك ببلدةٍ فضلها الله ورعاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها. وأسعد مطالع أنوائها، فاهتزت وربت مساقط أندائها. إن بارت تجارةٌ فإليها تجلب، أو عزت نفيسةٌ فمنها تطلب. فلذا ترغب النفوس في جوارها، وتنفسح الآراء بين أنجادها وأغوارها. وقد جمعت ما ولد سام وحام، واشتد بها الالتحام والازدحام. واحتوت الآن على جل أبناء يافث، من كل صنديد في عقد الملمات نافث. فهي كرسي الأمراء والأعيان، وقرارة السادات الذين يكل عن حصر معاليهم نطاق البيان. وخزانة كتب العلوم، والآثار المنبثة عن أصالة الحلوم. إلى الأبنية المحاذية للأفلاك، والمراقي التي كاد أهلها يسمعون تسبيح الأملاك. وفيها المقاصر والقصور، والمقاعد التي عليها الحسن مقصور. ومن محاسنها الزاهرة المناهج، البرك التي استوعبت رونق المباهج. وخصوصاً إذا وفاها النيل حقها، ورأيت المناظر حولها وقد أحكمت نسقها. فهناك تقول: ما أبهجها، ويقول القائل: ماأحقها. انْظُر إلى بِرَكٍ في مصرٍ اتَّسَقَتْ ... بها المناظرُ كالأهْداب للْبَصَرِ كأنما هي والأبْصارُ تَرْمُقُها ... كواكبٌ قد أدارُوها على القَمَرِ وبالجملة فهي بالنيل تجر على البلاد الذيل والردن، ولها بذلك المزية التي ما نالها مدينةٌ من المدن. وأحسن محاسنه عشياته المذهبات، التي لم تزل لأحزان القلوب مذهبات. فمن رآه مال طرباً من غير مميل، وعرف سر قوله: ومما يزدهيني ضحك البدر في وجه النيل. إلى غير ذلك من المعاهد والغيطان، والفرج التي تنسي الغريب الأوطان. ومن عرف مقادير الأشيا، ونازل الأطلال والأحيا، عرف أن هذه البلدة واحدة بسيط الأرض، وحساب خيراتها الدارة لا ينفد إلى يوم الحساب والعرض. وقد خرج منها واحدٌ بعد واحد، شهرة فضله كالشمس لا تنكر ولا تجحد. فكأنه النير الأظهر، أو الجامع الأزهر. خلدت ذكرهم الدواوين المسطرة، وسرت في محامدهم الأنفاس المعطرة. فمنهم: شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي أول من عددت، وأجل من أعددت. أقول فيه لا مبالغاً، ولست لأداء بعض حقه بالغا: لأن تطاول السماء وتفرع، وتشبر البسيطة وتذرع، وتزاحم أفلاك الكواكب بالمناكب، ويتعرض لإحصاء القطرات الهوامل، بالأنامل، ويدرك جوهر الشمس، باللمس، وتعارض زخرة البحر، بالنحر، أسهل من أن تحصى صفاته، أو أن تقرع لفكرٍ صفاته. وهو الذي سار ذكره في العالم وانتشر، وخرج في إحاطته بالعلوم عن حد البشر. وناهيك بمن لم يخل زماناً من فائدة، ولا مكاناً من عائدة. وقد طال عمره، وما خمد جمره. فهو كلما أسن، شحذ مرهف طبعه وسن. مع سلامة نفسه في كل حالاته، وتوفر أمانيه من أسباب التحصيل وآلاته. وقد جمع من الكتب ما لا يدخل في ديوان حاسب، مع الاستعداد الذاتي الذي يأبى أن يكون باكتساب كاسب. فسرد آيات الفضائل وتلاها، وعن اقتناص شوارد الفنون ما تلاها. وسلمت مباحث فضله عن المعارضة والجدل، وكان الثناء له وحده فإن ذكر غيره فكالرابع المعهود في البدل. وصنف التصانيف التي تشهد بكل فضل، وحسبك منها عناية القاضي فإنها خيرٌ من شاهدي عدل. وأما الأدب فقد امتزج بلحمه ودمه، وكان به وجوده بعد أن أشرف على عدمه. فهو بدونه كالجسد بلا روح، واللفظ دون مشروح. أو كالروض لا يجاد، والعاتق بلا نجاد. فإذا شمر في البلاغة ساعده، نضا عن ساقه لخدمته ابن ساعدة. فأما منشآته فلا يتصور عن الإتقان خروجها، وأما أشعاره فقد حرست بالشهب بروجها. فإن ألم بها ماردٌ فاسترق، أتبعه طارقٌ فاحترق. وآثاره كما عرفت طويلة الذيل، تعرف مقدارها شواهد الليل. صقلتها تلك الفكرة المطيعة، وهي وإن كانت كثيرةً فصديقةٌ للطبيعة. فهو في الإنشا فعل الأفاعيل، وأهمل الصادين: إبراهيم، وإسماعيل. وهما إماما الصناعة، وهماما البراعة واليراعة. بهما فخر من نطق بالضاد، وبسببهما حسدت الحروف الصاد. وله كتاب الريحانة الذي ذيلت عليه، واقتبست نور الهدى بتوجه رغبتي إليه.

وما أنا بالنسبة لما أبدعه، ولما جئت به مما كان الأحرى بي أن لا أدعه، إلا كمن جارى الحصان بالأتان، وواجه الغزالة بالذبالة، وقارع الحسام بالعصا، وبارى الدر بالحصا. ذاك لا يستحسنه الإدراك، حتى تصاد الشهب بالشباك، وتتقدم الفكة على السماك. ولقد وصف كتابه بما أغناني عن وصفه، وهذه حالي معه إذا أردت التطرية أتيت ببدائع رصفه: فهذه ذخائر من خبايا الزوايا، فيما في الرجال من البقايا تنفس الدهر به عن نفحةٍ عنبرية، وهبت بها أنفاسٌ نديةٌ ندية، تنفس الروض في الأسحار، بأفواه العبير عن ثغور النور والأزهار. من كل شذرةٍ تهزأ بقلائد العقيان، وكل زهرةٍ لها من السطور أفنان. وكل فريدة يقر لها بالنفاسة الجميع، وكل منقبةٍ إذا وعى ذكرها السامع وعبق قيل: أمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ومما اقتضاني أن أثبته في وصفه، ما قاله البرهان الباعوني الشامي، في حق لسان الدين بن الخطيب والتنويه بقدره السامي، وقد رأى كتابه الريحانة، وهو به أشبه، وما أظن تقاربهما خفي أو اشتبه: صاحب كتاب الريحانة، آيةٌ من آيات الله سبحانه. لوجه أدبه طلاقة، وللسانه ذلاقة، وللقلوب به علاقة، وفي خطه غلاقة. قلت: وأي غلاقه يعرفها من عرف اصطلاحه بمطالعته، وينفتح له باب فهمها بتكرير مراجعته. فليتأمل الناظر إليه، والمقبل عليه، ما فيه من الجواهر، والنجوم الزواهر، بل الآيات البواهر. وليسبح الله تعجباً من قدرته جل وعلا، ومذاهبه التي عذب ماؤها النمير وحلا. وليقل عند تأمل دره النظيم، " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ". انتهى. وله ديوان شعر وقفت عليه بخطه، فأثبته بخطي، ولم يمكني على ما في من الملال التجافي عنه والتخطي. ويكفيك من شعرٍ لو سمعه النابغة ما نبغ، أو ابن صفوان لم يبلغ من صفاء وقته ما بلغ. ولو جاراه الجعدي لاعترف بالخرس، أو الأسدي لانصرف عن صفة الفرس. وأنا الآن قد قصرت النظر على آثاره، من نظامه ونثاره، وحسبي ذلك من منحة الحظ وإيثاره. فما على من بلغ من التملي بآدابه أربا، أن ينبت جسمه بعد أن يصير تراباً أدبا. وأسأل الله أن يجعله ممن فاز بالنجاة، ويهيىء له من خزائن فيوضاته رحمته المرتجاة. وهنا أورد من نثره العالي ما جمع الحسن أجمع، وأتبعه من شعره الغالي بما لم تر أجود منه ولا تسمع. فمن فصوله القصار، قوله: إن ساعداً زينته بسوار المنائح، يمرى لك ضروع الثناء والمدائح. ولك وارف ظلال، تقيل فيها الآمال. بها الألسن تقر، والأعين والقلوب تقر. كم موقد نارٍ بها احترق، ومحسن سبح اللجج فيها غرق. قال لي خليع: قبيحٌ مؤاجر، أحسن من مليحٍ خلف الستائر. شتان بين درهم النقد، ودينار الوعد. شجاعة الملوك صبرٌ وثبات، وشجاعة الجند إقدام وثبات. الكيس يفتح الكيس. في إغماض العين وإغماد اللسان عقاب العقلا، وبلسان السوط والسيف عقاب السفها. لكل قلبٍ هوى، كما أن لكل داءٍ دوا. فما اعتلال نسيم الصبا، إلا الحب زهور الربى. إذا خلت قلوب الأكياس، خلت من السرور قلوب الأكياس. لو هم الفلك الدوار برفعة ماجدٍ في الأبد، ما قدم الثور في منازله على الأسد. من باع الجزع بالاصطبار، فله على الزمن الخيار. ما سمي الزمن زمناً؛ إلا لأنه يقول لك اقعد. هدايا الأنام تجارة، وقبولها منهم خسارة. المعروف والصنيعة، عند الحر وديعة. ربما كان أمر من الدا، روائح العقاقير وشرب الدوا، وطول جلوس العواد الثقلا. قومٌ بلا روح في الصور والملابس، كالصور المنقوشة في الكنائس. قد يحتجب الحر لقلة اليسار، كما احتجب البدر عند السرار. إذا كان أعدى عدوك بين جنبيك، فصبرك عليه إحدى شجاعتيك. اللبيب أدبه، فضته وذهبه. إذا كانت الأراجيف ملاقيح الفتن، فانطلاق الألسن نتاج المحن. لو كان هذا الوجود أصلاً ما ولد العدم، ومن يشابه أبه فما ظلم. الحر لا يجازي كل من أسا، والأسد لا يفترس النسا. الدنيا بإقبالها، والدولة بأقيالها. ما كل وقتٍ يسعف بما تحب، فإذا أردت لبون فاحتلب. بين القواد والرقباء لاح بعض إحسان، فعرفت أن الشمس تطلع بين قرني الشيطان. من أبطأ رجاؤه، أسرع عناؤه. ومن الخلف داؤه، فالترك دواؤه.

وكتب مقرظاً على كتاب مدين القوصوني في الطب، الذي سماه قاموس الأطباء: ما طرزت حلل الثنا، ورنقت رياض البراعة بثمراتٍ غضة الجنا، إلا لتكون لباساً لأبكار المحامد، ومرعاً لأفكار شاكرٍ وحامد. فالحمد لمولى الحمد على ما أنعم من اللغات والبيان، وأحسن تبلقينها لأطفال الأرواح في مكاتب الأبدان. وألهمها استخراج در المعاني من أصداف الحروف، لتنظم منها في الصدور، وتعلق في الآذان أبهى عقودٍ وشنوف. وأزكى صلاةٍ وسلامٍ على أفصح من نطق بالضاد، فروى من عين فصاحته كل صاد. وشفى بطلب هدايته مريض كل قلب، وهدى بمفردات حكمته كل ذي جهل مركب. وعلى آله وأصحابه مدائن العلم والحكم، ورؤساء أطباء الأبدان والأديان من سائر الأمم. لاسيما الأربعة الذين ترياقهم العتيق، وفاروقهم حافظ صحة مزاج الدين بكل ماضي الشفرتين رقيق. ما دامت الدنيا دار الشفا، وصح مزاج الدهر من الأمراض واشتفى. هذا، وإن أخي شقيق الروح وقرة العين، وصفوة الحياة ومن كفاية محبته علي فرض عين، لما أتحفني في قدومي للقاهرة بكتابه قاموس الأطباء وجدته الدرة الفاخرة، والروضة التي تفتحت فيها عيون أنواره الزاهية الزاهرة. ظناً منه أني شعيب مدينته، وما أنا إلا سلمان بيته، بل اشعب موائد كرمه ومنته. فإذا هو بردٌ محبر، وروضٌ وعقد كله جوهر. وكتابٌ جميعه مفردات، ولغةٌ لو رآها الجوهري قال: هيهات العقيق هيهات. أو الخليل بعينه، فداه بعينه. أو جار الله لقال هذا هو الفائق، أو ابن البيطار ود لو طابقه مطابقة النعل بالنعل لما فيه من الدقائق. أو صاحب القاموس لقال: هذا المجد، الذي ارتضع در العربية ما بين تهامة ونجد. فلله در مصنفه فقد أرانا في الرجال بقايا، وفي الزوايا خبايا. وأنار فكره ظلمة الجهل وقد وقد، وروى ظمآن الفكر فيما ورد ورد، وحقق ما قيل: من دق الباب ولج ومن جد وجد. وقد قلت فيه ارتجالاً: دهرٌ يجودُ بمثْلِهِ ... أنْعِم به دَهْراً وَفِي رَوَّى بكأسِ عَلومِه ... وخِتامُه مِسْكٌ وفِي وكتب إلى بعض إخوانه وقد توعك: كفاك الله ما تخْشَى وغَطّى ... عليك بظلِّ نِعْمتِه الظلِيلِ أعز الله أنصار فياض الكرم والحسب، وحمى بعزته معالم العلوم والأدب. وأبقاه محروساً من هجوم الخطوب، محفوظاً بسور منيع من إحاطة القلوب. وأصوات حرس الدعاء مرفوعة، وسدته بحجاب الصنائع ممنوعة. والدهر وإن كان ذا غير، ومن تفكر اعتبر، فكيف يتسلط عليه بآلامه، وهو لا يتسلط على آيادي إكرامه. فإن هم به ونعمته متتابعة عليه، صدق قولهم: اتق شر من أحسنت إليه. أتُهْدِي له الأيامُ سُقْماً وإنما ... مَساعِيه في أعْناقِهِنَّ قَلائِدُ على أنه إن اعتل فقد اعتل المجد والكمال، وإن مرض فقد مرضت الأماني والآمال، بل القلوب والأرواح، فإذا دعونا له دعونا لأنفسنا بالصلاح. ورب مريضٍ لا يعاد، وإن كان لا يحرم الأجر مريض الفؤاد. ولا أقول كما قيل: يا ليت عِلَّتُه بي غيرَ أنَّ له ... أجْرَ العليلِ وأنِّي غيرُ مَأْجُورِ ولا كما قيل: وَفَيْناك لو نُعْطَى الهوَى فيك والمُنَى ... لكانتْ بك الشَّكوى وكان لك الأجْرُ وقد سمعتُ بفَصْدِه للْبَاسَلِيق، وأنه قد بكى دماً عرقه العريق. فهاك اعْتلالُك يبْكِي دَماً ... وتَضْحكُ في جِسْمِك العافيَهْ وكان قيل: عرق الصحة له في كل منبت شعرةٍ عينٌ باكية، تبكي بمدامع العرق على فراق العافية. وإن ببكاء عرق الصحة أضحك الله ثغور مسرته، كما ضحكت تباشير الهنا بصحته. وهنأ الله الوجود، بسلامة الكرم والجود. فلا زال كوكب سعده طالعاً في سماء الإقبال، فإن لكل زمانٍ غرةٌ وهلال. ومن فصلٍ له كتبه لبعض المغاربة يداعبه، وكان يقول بالظباء: مذهب مولاي تقديم الذكور على الإناث، وتطليق حور الجنان بالثلاث؛ لأن الرجل خيرٌ من المرأة بالاتفاق، فلذا تخلف عن الخلاق، وتقدم حيث الشقاق. كما قلت له أولاً: أديبٌ مَالَ عن حُبِّ الغَوانِي ... وبالأحْداثِ أصبح ذا اكْتراثِ وقال اخْتارَ ذا أهلُ المَعانِي ... فغلَّبَتِ الذُّكورَ على الإناثِ

وما سواه على خلاف القياس، ولا يخلو مثله عن لبسٍ والتباس. ومما خالف أهل المعاني، قول الأديب الأصفهاني: وأيْرانِ تحت لِحافٍ خَطَرْ والتغليب بابٌ واسع الموارد فلينظر الأديب في موارده، وليتسع في مصائده وأوابده. وكتب إليه الأديب يوسف المغربي، سؤالاً أدبياً، وهو: أيها الأخ الشفيق الشقيق، والرفيق الرقيق. والإمام الهمام، الهادي لسائله الأفهام، إذا اختلت في مهامه الأوهام. إنني أشكل علي قول أبي منصور الثعالبي، في اليتيمة: اتفق لي في أيام الصبا معنىً بديع، حسبت أني لم أسبق إليه، وهو: قلبِيَ وَجْداً مُشْتعِلْ ... وبالهمُومِ مُشْتغِلْ وقد كَسَتْنِي في الهَوى ... مَلبِسَ الصَّبِّ الغَزِلْ إنْسانةٌ فتَّانةٌ ... بدرُ الدُّجَى منها خَجِلْ إذا زَنَتْ عيْنِي بها ... فبالدُّموعِ تغْتَسِلْ هل استعارته لنظر الحبيب الزنا، مما يعد في الأدب معنىً حسنا، أو هو مما تجاوز الحد، فاستحق بالزنا الحد؟ فكتبت إليه مجيباً: أيها الأخ، قرة العين، وبدر هالة المجلس الذي هو لها زين. إنه من المعاني القبيحة، المورثة للفضيحة. وقد سبقه إليه ابن هندو في قوله: يقولون لي ما بالُ عَيْنِك مُذ رأتْ ... مَحاسِنَ هذا الظَّبْيِ أدْمُعُها هُطْلُ فقلتُ زَنَتْ عيني بطَلْعةِ وجهِه ... فكان لها مِن صَوْبِ أدْمُعِها غُسْلُ وهو معنىً قبيح، واستعارةٌ بشعة، ألا يرى ما قيل في الذم: أيها المُنْكِحُ بالعَيْ ... نِ جَوارِي الأصْدقاءِ وقول صر در، في قصيدته المشهورة وإن كان معنىً آخر: يا عينُ مِثْلُ قَذاكِ رُؤْيةُ مَعْشَرٍ ... عارٌ على دُنْياهُمُ والدِّينِ نَجَسُ العُيونِ فمُذ رأتْهُمْ مُقْلتِي ... طَهَّرْتُها فَنَزَحْتُ ماءَ عُيُونِي وكيف يتأتى لهؤلاء ما قالوه، بعد قول يزيد بن معاوية في شعره المشهور: وكيف ترى ليلَى بعَينٍ تَرى بها ... سِواهَا وما طَهَّرْتَها بالمَدامِعِ أُجِلّك يا ليلَى عن العَين إِنما ... أراكِ بقلبٍ خاشعٍ لك خاضِعِ ومنه أخذ العفيف التلمساني قوله: قالوا أتبكي من بِقَلْبِك دَارُهُ ... جَهِل العَواذِلُ دارُه بِجَمِيعِي لم أبْكِه لكنْ لِرُؤْيةِ وَجهِه ... طَهَّرْتُ أجفانِي بفَيْضِ دُموعِي وقال ابن رشيق، في كتابه البدائع: قال أبو علي الفارسي: ليس العجب من توارد الثعالبي مع ابن هندو، وإنما العجب من قوله: لم أقدر أني سبقت إليه، وأبو الطيب يقول في الحمى: إذا ما فارَقَتْنِي غَسَّلتْنِي ... كأنا عاكِفانِ على حَرامِ وهل هذا إلا ذاك بعينه، وأبو الطيب أحسن لفظاً، وأصح معنىً؛ لذكره ذكراً وأنثى يقع الزنا بينهما، خلاف ما ذكراه. وفي نقله تقرير تركناه، خوف الملل والسآمة. وهذا ما سنح للخاطر، والسلام. قلت: ومن النقد على الثعالبي في هذه الأبيات أيضاً قوله: إنسانة؛ فإنها عاميةٌ مولدة، وإن أورده صاحب القاموس وتشكك فيه، والإنسان يقال للذكر والأنثى، كذا قاله الشهاب في حاشية التفسير. وأما رجلة فقد ورد في شعر العرب، قال الشاعر: كلُّ جارٍ ظَلَّ مُغْتبِطاً ... غيرَ جيرانِي بني جَبَلَهْ خَرَّقُوا جَيْبَ فَتاتهم ... لم يُبالُوا حُرْمة الرَّجُلَهْ كذا في الكامل. وكتب إلى هذا المغربي يستدعيه: ولما نَزَلْنَا منْزِلاً طلَّه النَّدَى ... أنِيقاً وبُستاناً من النَّوْرِ حَالِيَا أَجَدّ لنا طِيبُ المَكانِ وحُسْنهُ ... مُنىً فتمَنَّيْنا فكنتَ الأمانِيَا فيا غاية الأماني، وسلوة الحزين العاني. قد دعانا الربيع بلسان النسيم، وصاحت القماري هلموا إلى النعيم المقيم. وعيون الأزهار شاخصةٌ إلى الطريق، وقلوب الأغصان واقفةٌ لانتظار الرفيق الرقيق. فبالله عليك إلا جعلت يومنا بك عيداً، وجددت لنا وللجديدين بك سروراً جديداً. وكتب على قول الشاعر، في وصف حمام:

للهِ يومٌ بحَمّامٍ نَعِمْتُ بهِ ... والماءُ من حَوْضِه ما بَيْننا جَارِ كأنَّه فوق مِسْقَاةِ الرُّخَامِ ضُحىً ... ماءٌ يسيِلُ على أثْوابِ قَصَّارِ بأن قائله عيب فيه، حتى قال بعضهم: وشاعرٍ أُوقِد الطَّبْعُ الذَّكِيُّ له ... فكاد يحْرِقه مِن فَرْطِ لأَلاَءِ أقام يُعْمِلُ أيَّاماً رَوِيَّتَه ... وشَبَّهَ الماءَ بعد الجَهْدِ بالْماءِ ثم قال: وقد يوجه بأن هذا الشاعر شبه الرخام في الحمام بشقة قصار بيضاء، جرى عليها الماء، ولم يرد تشبيه الماء، ولكن ما ذكر في الطرفين جاء بارداً، فأشار الشاعر إلى برودته بما ذكر. قلت: وقوله: شبه الماء إلخ قد تلاعبت به الشعراء، وتظرفوا فيه، ونقلوه إلى معانٍ لطيفة، فمنهم الشهاب الحجازي، حيث قال: أقول شَبِّهْ لنا جِيدَ الرَّشَا تَرَفاً ... يا مُعْمِلَ الفِكْرِ في نظمٍ وإنْشاءِ فظَلَّ يُعْمِل أيَّاماً قَرِيحَتَهُ ... وشَبَّهَ الماءَ بعد الجهْدِ بالماءِ ومنهم الصلاح الصفدي، حيث قال: أقول شَبِّهْ لنا كأساً إذا مَزَجَ السَّ ... اقِي طِلاهَا اهْتَدَى في لَيْلِهِ السَّارِي فظَلَّ يُجْهِدُ أيَّاماً قَرِيحَتَهُ ... وشَبَّهَ النارَ بعد الجَهْدِ بالنَّارِ وله: أتى الحبيبُ بوَجْهٍِ جَلَّ خالقُهُ ... لَمَّا بَراه بلُطْفٍ فِتْنةَ الرَّائِي فَلاح شَخْصُ عَذُولِي فوقَ وَجْنَتِهِ ... فقلتُ شَبِّهْهُ لي في فَرْطِ لأْلاَءِ فظَلَّ يُجْهِد أيَّاماً قَرِيحَتَهُ ... وفَسَّر الماءَ بعد الجَهْدِ بالْماءِ ومن نوادره ما ذكره في آخر كتابه الخبايا، قال: واتفق في عهدنا، أن قاضياً في بلاد الروم أخطأ في ثبوت شهر رمضان والعيد، خطأ ما مثله من مثله ببعيد. فضج الناس واستغاثوا من حياته بمماته، ولم يسترح أحدٌ في ذلك الوقت غير الملائكة الكاتبين لحسناته. إذ كسر طوق الهلال من جيد الدهر، ونقص من شهرٍ ما زاد في شهر. وسرق العيد، واختلس برده الجديد. كأن العيدَ أموالُ اليتَامى فقتل جبين الهلال من غير غرة، وسلخ ذلك الشهر سلخاً بلعن من غره. فلما اسودت الشمس كمداً بالكسوف، وتوارى القمر خلف مجنها خوف الحتوف، قال العيد: الله أكبر، على من طغى وتجبر. وجاء شوال باكيا، ورفع رقعةً للمليك شاكيا: قِصَّتي قد أتتْ إماماً هُمامَا ... تشْتكي الظُّلْمَ حين صرتُ مُضامَا رُقعةٌ في يدِ المَلِيك طَواهَا ... ليَراها المليكُ في العزِّ دَامَا أنا شَوَّالُك الفقيرُ الذي قد ... خُصَّ بالعِيدِ والصَّلاةِ دَوَامَا بعد شهرِ الصيامِ قد زُرْتُ قوماً ... جائعاً أبْتغِي بهم إكْرامَا ولِيَ العِيدُ حُلَّةٌ وهِلالِي ... لِيَ طَوقٌ من فوق جِيدٍ تَسامَى رمضانُ اعْتدَى عليَّ وأمْسَى ... غاضِباً ذاك لا يخافُ مَلامَا أخْتشِي ذَبْحَةً بنَصْلِ هِلالٍ ... ثم سَلْخاً له وتَرْكِي المُقامَا لا تُضَيِّع حَقِّي بشاهدِ زُورٍ ... هو أعْمَى بَصِيرةٍ أو تَعامَى جَبْهةَ الشَّاهِدِ اكْوِهَا فهْو وَسْمٌ ... لِكَذُوبٍ عن زُورِهِ ما تَحامَى إن كَيَّ الخُسوفِ للشمسِ ظُلْمٌ ... وكذا الدهرُ لم يزَلْ ظَلاَّمَا وكتب لرئيسٍ كان يمزح باليد: سيدي إن كان فيه دعابة؛ فراية مجده لم تر إلا في يمين عرابة. وإن فرط منه للمحافظة باللطام، فلطمه لطمة ابن جدعان ويفتقر لطم كفٍ يفيض بالإحسان والإنعام. ابن جدعان، هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، سيد قريش في الجاهلية، وفي داره حلف الفضول المشهور في السير. وكان قد أسرف في جوده لما كبر فأخذت بنو تيم على يده، ومنعوه أن يعطي من ماله شيئاً، فكان يقول لمن أتاه: ادن مني. فإذا دنا منه لطمه، ثم يقول: اذهب فاطلب القصاص مني أو يرضيك رهطي.

فترضيه بنو تيم بما يريد، وفي ذلك يقول عبد الله بن قيس الرقيات: والذي إن أشار نحْوَك لَطْماً ... تَبِع اللَّطْمَ نائِلٌ وعَطاءُ ونحو هذا ما يحكى عن بعض الأسخياء من الأمراء، أنه أفرط في الجود، فحجر عليه أهله، ومنعوه من أن يعطى شيئاً، فأنفذ إليه بعض الشعراء قصيدةً، فكتب إليه أن اذهب إلى القاضي، وادع علي بعشرين ألف درهم من جهة قرض، فأعترف لك، فإذا حبست وصلتك الدراهم من أهلي، فإنهم لا يدعوني أنام في الحبس. ففعل ذلك، وأخذ الدراهم منهم. ومن شعره المنتخب من ديوانه قوله من مقصورته النبوية، التي مطلعها: أيا شقيقَ الرَّوْضِ حَيَّاه الْحَيَا ... فاحْمَرَّ وردُ خَدِّه من الْحَيَا لأنتَ تِرْبُ الغُصْنِ نَشْوانَ إذا ... أدارت السُّحْبُ له خَمْرَ النَّدَى وامْتلأتْ كاسُ الشَّقِيقِ سُحْرَةً ... فاحْمَرَّ من خَجْلَتِه خَدُّ الطِّلاَ منها ف الغزل: شِفاءٌ وَجْدِي لَثْمُ خالِ خَدِّه ... والْحَبَّةُ السَّوْداءُ للدَّاءِ شِفَا يتْركُنِي تَرْكَ الظلِيمِ ظَلْمُه ... وهذه شِيمةُ آرامِ الْفَلاَ تعلَّمتْ منه الليالي غَدْرَها ... فأنْجَزتْ باليأْسِ مِيعادَ الرَّجَا ومن وصف السحاب في الروض: غَمائمٌ لُعْسُ الشِّفاهِ ابْتسَمتْ ... عن ثَغْرِ بارِقٍ إذا الثَّغْرُ بَكَا تفُكُّ مِن مَحْلٍ وجَدْبٍ أسْرَهُ ... وتنْثُرُ الدُّرَّ على هامِ الرُّبَى يسُوقها الرعدُ بصوتٍ مُذْهَبٍ ... من بَرْقِه وهْي بَطِيَّاتُ الخُطَا ومن وصف المهمه: لا يَلِجُ الطَّيْفُ إليه فَرَقاً ... وفيه ليستْ تهتدي كُدْرُ القَطَا بالتُّرْسِ تسْرِي الشمسُ فوق أُفْقِهِ ... والصُّبْحُ يلْقاه بعَضْبٍ مُنْتضَى ومن وصف المجرة: مَجَرَّةٌ في شَفَقٍ كأنها ... والزهرُ فيها ذاتُ مَنْظرٍ زَهَا نَهْرٌ به كَفُّ الشَّمالِ نثَرتْ ... وَرْداً ونَسْرِيناً جَنِيّاً قُطِفَا منها: على أغَرِّ أدْهَمٍ قد طلَعتْ ... مِن وجهِه في ظُلْمةِ الليل ذُكَا غُرَّتُه من تحت هُدْبِ شَعْرِهِ ... طُرَّةُ صُبْحٍ تحت أذْيالِ الدُّجَا من قول ابن نباتة في الغزل: قلتُ وقد أبْدَى جَبِيناً واضحاً ... وفوقه لَيْلَ دَلالٍ قد دَجَا أفْدِي الذي جَبِينُه وشَعْرُهُ ... طُرَّةُ صُبْحٍ تحت أذْيالِ الدُّجَى أدْهَمَ قيِّدِ كُلِّ وَحْشٍ شارِدٍ ... قبَّلَه الليلُ فكُلُّه لَمَى معنىً متداول، قال المتنبي: نَيْلُ المُنَى وحُكْمُ نَفْسِ المُرْسِلِ وعُقْلَةُ الظَّبْيِ وحَتْفُ المُثْقَلِ كأنه من عِلْمِه بالمَقْتَلِ عَلَّمه بُقْراطث فَصْدَ الأكْحَلِ وقد ألم المتنبي فيه بقول الطائي: كَواعِبُ أتْرابٌ لِغَيْداءَ أصْبحتْ ... وليس لها في الحُسْنِ شِكْلٌ ولا تِرْبُ لها مَنْطِقٌ قَيْدُ النَّواظِرِ لم يزَلْ ... يرُوحُ ويَغْدُو في خَفَارتِه الحُبُّ وأول من استأثر هذا المعنى امرؤا القيس في قوله: وقد أغْتدِي والطيرُ في وُكُناتِها ... بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوَابِدِ هَيْكَلِ منها: نجائِبُ قد طفِقَتْ أخْفافُها ... في الرَّملِ تُبْدِي لي ضمائرَ الثَّرَى منها في المديح: قد سترَ الجمالُ حُسْنَ وَجْهِهِ ... صَوْناً لأبْكارِ العُقول والنُّهَى من قول الرستمي: بُدورٌ زَهَتْهُنَّ المَحاسِنُ أن يُرَى ... لَهُنَّ نِقابٌ فالوُجوهُ سَوافِرُ والرستمي أخذه من قول عمر بن أبي ربيعة: ولما تنازَعْنَا الحديثَ وأسْفَرَتْ ... وُجوهٌ زَهاهَا الحُسْنُ أن تَتَقنَّعَا وهذا أحد التواجيه لبيت المعري: ويا أَسِيرةَ حِجْلَيْها أرى سَفَهاً ... حَمْلَ الحُلِيِّ بمَن أعْيَى على النَّظَرِ

فوقَف الحُسْنُ عليه حائِراً ... مُتيَّماً وَلْهانَ في ذاك الْبَهَا تَهْوَى الصَّبَا شَمائلَ اللُّطْفِ به ... فلا تُداوِي سُقْمَها أيْدِي الأُسَا إلاّ إذا ما لَمَستْ ضَرِيحَه ... فكم سَقامٍ من تُرابِه اشْتفَى سَرَى إلى السَّبْعِ الطِّباقِ جسمُه ... في صُحْبةِ الرُّوحِ الأمينِ ورَقَى إن قطَع الأفْلاكَ سُرْعَةً فلا ... بُعْدَ فإن ذاتَه شمسُ الضُّحَى حَوافِرُ البُراقِ مِن آثارِها ... قد ظهرَتْ فيه أهِلَّةُ السَّمَا يُغْنِي عن المدحِ رَفِيعُ قَدْرِهِ ... فيُمْدَح المدحُ به وما دَرَى كلُّ لِباسٍ للمديح قاصِرٌ ... عنه يُحَلَّ رَحْلُه دون المَدَى سال لُعابُ الشمسِ ممَّا تشْتهِي ... لَذِيذَ هاتِيك المَعاني إذْ حَلاَ وقد استعمل ابن سناء الملك هذا، في قوله يهجو الشمس: أنتِ عَجُوزٌ لِمْ تَبَهْرَجْتِ لِي ... وقد بَدا منك لُعابٌ يَسِيلْ فصاحةٌ ما الشِّعر منها بالغٌ ... ببَحْرِه قطرةَ وَصْفِ ذِي صَفَا لذلك قد قَطَّعَه الناسُ وقد ... دارتْ به دَوائرُ القومِ الأُلَى وما أحسن قوله في وصف المقصورة: بين يَدَيْها ابنُ دُرَيدٍ حاجِبٌ ... وألِفاتُ شِعْرِه مِثْلُ الْعَصَا ذَيْلُ الدُّجَى بِعَرْفِها مُمَسَّكٌ ... مُضَمِّخٌ خَلُوقُها بُرْدَ الضُحَى ومن همزيته النبوية، التي أولها: ما سُلَيْمَى ما هندُ ما أسْماءُ ... أنتَ مَعنىً وكلُّها أسْماءُ وهْو حِزْبِي ووِرْدُ كُلِّ لسانٍ ... ولَكم أخْصَبَتْ به الشَّهْباءُ ذاك حِزْبُ البحر الذي لا يُلاقِي ... من يُدِمْ ذِكْرَه عَناً وبَلاءُ منها: وجَدُوه دُرّاً يَتِيماً تَرَبَّى ... لم يُدْنِّسْهُ عُنْصُرٌ وهَبَاءُ الهباء: الأجزاء التي تؤلف منها العناصر، كما في الفتوحات. ذاك كَيْلا يكونَ مَنٌّ عَلَيْهِ ... لأُصولٍ له إليْها اعْتِزاءُ في حديث الراهب بحيرى، لما سأل أبا طالب: ما هذا منك؟ قال: ابني. قال: هذا لا ينبغي أن يكون أبوه حياً. فيه إشارةٌ إلى أن اليتم كمالٌ في حقه، وقد بين بأن الحكمة فيه أن لا يجب عليه طاعةٌ لغير الله، ولا يكون عليه ولايةٌ ولا منةٌ لغيره، ولا يتوجه عليه حقٌّ لمخلوق، ولا نسب لقطيعةٍ ولا عقوق. كذا في شرح تائية السبكي، لابن الهيتمي. منها: خُلُقٌ للصَّبَا شَقِيقٌ فمِنْها ... نَصْرُه والعِدَى لَها النَّكْباءُ مُذْ أظَلَّ الزَّمانَ منه وُجودٌ ... حسَدتْه الأزْمانُ والآناءُ وعليه إذا غارَ من عينِ شَمْسٍ ... ظَلَّلتْه سَحابةٌ وَطْفاءُ وبه زَهْرةُ الحياةِ رَبِيعٌ ... مُذ أظلَّت مَوْلُودَه الخَضْراءُ وغدَتْ أرضُه سماءً بفَخْرٍ ... فهْي خَضْراءُ ثُمَّ لا غَبْراءُ وله الأرضُ مَسْجِدٌ فجميعُ ... مَن عليها له به الاقْتِداءُ وسُطورُ الصلاةِ حُجَّةِ دِينٍ ... وبخَتْمِ النُّبُوَّةِ الإمْضاءُ وبه شُرَّفَتْ فكانت طَهُوراً ... وتساوَى البُلْدانُ والصَّحْراءُ منها: وله الضَّبُّ ناطِقٌ باعْترافٍ ... ومن السَّعْدِ تنْطِقُ العَجْماءُ مع ذَأ سَفَّه النِّفاقُ أُناساً ... ما لِضَبٍ من حِقْدِهم نافِقاءُ ليس فيهم سِوَى أَعِنَّةِ خَيْلٍ ... وقَنَا الخَطِّ في الوغَى سُفَهاءُ ومِراضُ القلوب قد قَصَدْتهم ... سُمْرُهُ حين حَمَّتِ الهَيْجاءُ ما سَقاهم إلاّ كُئوسَ المَنايَا ... ربَّ داءٍ له المماتُ دَواءُ هم ثِفالٌ إذا رَحَى الحرب دارتْ ... وبنادِيهمُ همُ الأرْجاءُ

تُغْمَدُ البِيضُ في طُلاهمْ بفَتْكٍ ... مُضَرٌ لُقِّبَتْ به الْحَمراءُ هذا من الأسرار العجيبة في اللغة العربية، وهو الإشارة إلى حال اللفظ أو جهة وصفه، كقول ابن الرومي: غارتْ عليهنَّ الثُّدِيُّ ... هناك مِن مسِّ الغَلائِلْ وإذا لبِسْنَ خَلاخِلاً ... كَذَّبْن أسماءَ الخلاخِلْ وقال الشريف الرضي: وغَيَّر ألْوانَ الْقَنَا طولُ طَعْنهمْفبالحُمْرِ تُدْعَى اليومَ لا بالْقنَا السُّمْرِ وقال: سُمِّيتِ الغَبْراءُ في عَهْدِهمْ ... حَمْراءَ من طُولِ قِطارِ الدَّمِ وقال الغزي: حيثُ القناةُ تُرَى قَناةً كاسْمِها ... من نَضْحِ عَيْنِ الطَّعْنَة الرَّشَّاشِ وقال ابن حازم: جعلُوا الْقَنا أقْلامَهم وطُرُوسَهمْ ... مُهَجَ العِدَى ومِدَادهنَّ دِماءَهَا وأظُنَّ أن الأقْدَمِين لِذا رَأَوْا ... أن يجعلوا خَطِّيَّةً أسْماءَهَا وقال المتنبي في الدنيا: شِيَمُ الْغانياتِ فيها فما أدْرِي ... لِذا أنَّث اسمها النَّاسُ أوْ لاَ وقال الشاب الظريف: أدُورُ لتَقْبِيلِ الثَّنايَا ولم أزَلْ ... أجُودُ بنَفْسِي للنَّدامَى وأنْفاسِي وأكْسُوا أكُفَّ الشُّهْبِ ثَوْباً مُذَهَّباً ... فمِن أجْلِ هذا لَقّبُونِيَ بالْكاسِ وقال الخفاجي: ما السِرُّ سِرٌّ إذا أظْهَرْتَه لِفَتىً ... سِواكَ والسِّرُّ لِلإخْفاءِ قد صُنِعَا منها تتمة: قد مَحاهمُ وطهَّر الأرْضَ منها ... ومع السَّيْلِ لا يَقَرُّ الغُثاءُ وبُطونُ الطَّيرِ أمْسَتْ قُبوراً ... لِلْعدى إذ تُمزَّق الأشْلاءُ ما سمِعْنا بالقبْرِ سار اشْتياقاً ... لِيُوارِي سَوْآتِ مَن قد أسَاءُوا رُبَّ من كان زِئْبَقاً فَرَّاراً ... صار عَبْداً لِرِقِّه اسْتعساءُ لم يَقِلْ والظِّلالُ صارتْ مِهاداً ... فَوْقَه الآلُ بُرْدَةٌ سِيَراءُ منها: هو نُورٌ فما لَه قَطُّ ظِلٌّ ... لاَحَ لولا بُرودُه والرِّداءُ إن نَفَى ظُلْمةً عَياءُ جَمالٍ ... فبِظِلٍ له يَعِزُّ البقاءُ صِينَ عن أن يُجَرَّ في التُّرْبِ ذَيْلٌ ... مِن ظِلالٍ له كما الأفْياءُ فَرَشَ الناسُ ظِلَّهم واحْتَذَوْهُ ... عندما قام للنّهارِ اسْتِواءُ كيف يبْدُو ظِلٌّ لِشَمْسٍ تَعالَتْ ... واسْتوَى الإسْتواءُ والإرْتقاءُ أتُراه يُصانُ عَن حَرِّ جَوٍ ... إذْ أظَلَّتْه سُحْبُه والْعَماءُ أمْ عليه تَغارُ مِن عَيْنِ شَمْسٍ ... مُدَّ مِن دونها عليه الْغِطاءُ لم تَرَ العَيْنُ مِثْلَه فلهذا ... يَنْمَحِي ظِلُّه إذا الناسُ فَاءُوا لَبِسَ الظِّلُّ مِن نَواهُ حِداداً ... فظِلالُ الورَى لِذَا سَوْداءُ من هذا يعلم قدرته على الكلام وتصرفه، وبالجملة فلم أر أحداً مثله أطاعته ألفاظ الكلام وأحرفه. وقد استعمل الظل في معنىً غير ما نظمه هنا من رباعية له: ما جُرَّ لِظلِّ أحْمَدَ أذْيالُ ... في الأرضِ كَرامةً كما قد قَالُوا هَذا عَجَبٌ ويا لَه مِن عَجَبٍ ... والناسُ بِظلِّه جميعاً قالُوا لَيْلةٌ أنْجَبتْ وقد حَمَلْته ... وبهذا ما أنْجَبتْ سَوْداءُ جَنَّةٌ كلُّ بُقْعةٍ حَلَّ فيها ... ليس فيها لَغْوٌ ولا شَحْناءُ وأهالِي الجنانِ ليس ينامُو ... ن لذا كان نَوْمُه الإغْفاءُ يَقِظُ القلبِ فالجفونُ هُجودٌ ... ومَحارِيبُ حاجِبَيْه قُباءُ فُوهُ لم ينْفَتِحْ بغير سَدادٍ ... لا تَمَطٍ له ولا ثَوْباءُ الثوباء: التثاؤب. قال ابن حجر في شرح الهمزية: جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم حفظ من التثاؤب، بل جاء أن كل نبيٍ كذلك.

وذكر المترجم، في شرحه على الشفاء، عند قوله: ومن دلائل نبوته أن الذباب كان لا يقع على ما ظهر من جسده الشريف، ولا يقع على ثيابه، ما ملخصه: وهذا مما قاله ابن سبع أيضاً، إلا أنهم قالوا: لا يعلم من روى هذا. وهذا مما أكرمه الله تعالى به؛ لأنه طهره من جميع الأقذار. وقد نظم هذا في رباعية، وهي: مِن أكْرَم مُرْسَل عظيم جَلاَّ ... لم تَدْنُ ذُبابةٌ إذا ما حَلاَّ هذا عَجَبٌ ولم يذُقْ ذو نَظَرٍ ... في الموجُوداتِ مِن حُلاه أحْلَى قال: وتظرف بعض الأعاجم ومراده به الملا جامي فقال: محمد رسول الله ليس فيه حرفٌ منقوط؛ لأن النقط يشبه الذباب، فصين اسمه ونعته عن النقط. ونظمه فقال: لقد ذُبَّ الذُّبابُ فليس يَعْلُو ... رسولَ اللهِ محموداً مُحَمَّدْ ونَقْطُ الحَرْفِ يُشْبِهُه بشكْلٍ ... لذاك الخطُّ عنه قد تجَرَّدْ صَمَّمُوا آراءَهم على الفَتْك فيهِ ... فتَوارَتْ لخَوْفِه الآراءُ ورأَوا نَفْيَه لِحَيٍ سِواهُمْ ... ولكم أثْبَتَ المِراءَ انتِفاءُ لم يُصِبْ نَصْبُهم مَكائدَ شَرٍ ... وتَساوَى التَّحْذِيرُ والإغْراءُ نَبْحُ كلبٍ بلَيْلةِ التِّمِّ بَدْراً ... لم يُفِدْه إلاَّ الْعَنَا والعُواءُ منها: ولِغَيْظٍ على سُراقةَ عَضَّتْ ... سُوقَ نَهْدٍ من تحتِه الدَّهْناءُ وعلى أمِّ مَعْبَدٍ نَالَ حتى ... بعُلاهَا تحدَّث الأحْياءُ ورَفِيعَ العِمادِ أصْبَح لمَّا ... أنْ حَوَى قَدْرَه الرَّفيعَ الْجَفاءُ وبيُمْنٍ منه له الشَّاةُ دَرَّتْ ... وهْي للهِ دَرُّها عَجْفاءُ وطَعامٌ لجابرٍ إذْ أتاه ... وبخَفْضِ الإضافةِ النَّعْماءُ كطعامِ الجِنانِ من غيرِ قَطْعٍ ... لجميعِ الأنامِ فيه اكْتفاءُ وله في وصف تلك الذات، التي وصفها أشهى اللذات، من قصيدة طويلة: تملَّك حَبَّاتِ القلوبِ لأجل ذا ... دَعاهُ حَبِيباً كلُّ صَبٍ مُتَيَّمِ ويوسُف لم يظْفَرْ بمَسْحةِ حُسْنِه ... على أنه رَبُّ الجمالِ المُكرَّمِ يقال: عليه مسحةٌ من كذا، أي أثر. قال: على وَجْهِ مَيٍ مَسْحةٌ مِن مَلاحةٍ وفي الحديث: " عليه مسحةٌ من ملكٍ "، وهي تعبيرٌ بليغ، وهو خاصٌ بالمدح. فأين النِّساءُ القاطِعاتُ أَكُفَّها ... وشَقُّ ابن مُزْنٍ صَدْرَه شَقَّ مُغْرَمِ ودُرٌّ يَتِيمٌ لم يُهَذِّبْه كافِلٌ ... وآدابُه ليست إلى الناس تَنْتمِي يقول أنا الأمِّيُّ في اللَّوحِ ناظِرٌ ... وفي مَكْتَبِ الأرْواحِ رَبِّي مُعَلِّمِي منها: إذا لاح في مَوْضُونَةِ السَّرْدِ خِلْتَهُ ... خِضَمّاً تَرَدَّى بالغَدِير المُنَسَّم أأعْداءُه خُشْبٌ مُسَنَّدةٌ ولم ... تَحِنَّ حَنِينَ الجِذْعَ حين التَّألُّمِ أم الصَّخْرُ إنَّ الصَّخْرَ سَلَّم إذْ بَدا ... وما سَلَّمتْ تسْليمَ أخْرسَ أعْجَمِ منها: فسَلْ يوم بَدْر حين لاحَتْ نُجومُه ... وشمسٌ بغَيْرِ النَّقْع لم تتثَلَّمِ بكُلِّ كَمِيٍ كان في بَطْنِ أُمِّه ... تعلَّم أن يُغْذَى ويُرْوَى من الدَّمِ لم أسمع في هذا المعنى أبدع من قول أبي بكر الإشبيلي المعروف بالأبيض، في تهنئة بمولود: أصاخَتِ الخيلُ آذاناً لِصَرْختِهِ ... واهْتَزَّ كلُّ هِزَبْرِ عندما عَطَسَا تعشَّقَ الدِّرْعَ مُذْ شُدَّتْ لَفائفُهُ ... وأبْغَضَ المهْدَ لمّا أبْصَرَ الْفَرَسَا تعلّمَ الرَّكْضَ أيَّامَ المخاضِ بِهِ ... فما امْتطَى الخَيْلَ إلاّ وهْو قد فَرُسَا وله من أخرى مستهلها: يا ليْتنِي ثانٍ لِحادٍ حَداكْ ... ورابعُ الكَهْفِ لِكَهْفٍ حَواكْ

وليت نَوْءَ الطَّرْفِ في رَوْضةٍ ... أنتَ بها رَغْماً لِنَوْءِ السِّماكِ أسْقِي بها مَثْواكَ يا مُنْيتِي ... هل تُسْكَبُ العَبَراتُ إلا هُناكْ يا ابْنَ الذبِيحَيْن وقد فُدِّيَا ... ليت جميعَ الخلْقِ كانوا فِدَاكْ فما اسْتحقّ العَنْبَرُ الرّطبُ أن ... يُحرَق إلا حين حاكى ثَراكْ ليت وُجوهاً لأعادِيكَ لو ... أمْسَتْ نِعالاً حَاجِباها شِرضاكْ لم تَحْكِكَ السُّحْبُ ولا البَحْرُ في ... جُودٍ ولا فاز بما في لُهاكْ فالبَرْقُ لم يَلْمعْ ولكنَّه ... يضْحَكُ من وَابِلِ غَيْثٍ حَكاكْ وله: أيُغْلَبُ من له الأَمْلاكُ جُنْدٌ ... ورَبُّ العَرْشِ قد أمْسَى مُعِينَا وقَبْلَ جُيوشِه هُزِمَتْ قلوبٌ ... برُعْبٍ خِلْتَه سَبَق المَنُونَا ولو ثَبَتُوا لَفَرَّ الْهامُ منهمْ ... وأرْوَاحٌ لهم كانتْ كَمِينَا وله: لِرَسُولِ الإلهِ أعْلَى مَقامٍ ... ليس يَدْرِي به جميعُ الْكَلامِ وله هِمَّةٌ وعَزْمٌ رفيعٌ ... جَلَّ عن أن يُرْتَضَى بمِلْكِ الحُطامِ فلذا لم يكُنْ له مِيراثٌ ... غيرَ شَرْعٍ وغيرَ عِلْمٍ سَامِي لو تكون الدُّنْيا له مِيراثاً ... مِثْلَ ما كان في جميعِ الأنامِ ما حَواهَا الصِّدِّيقُ في عَصَباتٍ ... وذَوِي الفَرْضِ من أُلِي الأرْحامِ وهْو حَيٌّ في قَبْرِه ورسولٌ ... لم يُوَرِّثْ حَيّاً ذَوُو الأحْلامِ فَدَكٌ قد قضَتْ عليْنا بهذا ... وحديثُ العَبَّاسِ والأعْلامِ فادْرِ هذا فإنه جَوْهَرٌ قد ... حَفِظتْه خَزائنُ الأفْهامِ لا يَغُرَّنَّك الذي قال قومٌ ... حين ضَلُّوا في مَهْمَهِ الأوْهامِ ومن أخرى: فالجِذْعُ حَنَّ وأنَّ مِن جَزَعٍ ... لِفِراقِ طه بَعْدَما خَطَبَا وغَدا غِراساً في الجِنانِ له ... ثَمَرٌ يَطِيبُ بِمَنْهَلٍ عَذُبَا والمُشرِكون قَسَتْ قلوبُهُم ... فطَغَوْا ولم يُصْغُوا لخيرٍ نَبَا فغَدَوْا وهم خُشُبٌ مُسَنَّدةٌ ... ستَراهمُ لِجَهَنَّمٍ حَطَبَا وله: لِوَالِدَيْ طه مَقامٌ عَلاَ ... في جَنَّةِ الخُلْدِ ودارِ الثَّوَابْ وقَطْرةٌ من فَضَلاتٍ له ... في الجَوْفِ تُنْجِي مِن ألِيمٍ العقابْ فكيف أرْحامٌ له قد غَدَتْ ... حامِلةً تَصْلَى بنارِ العذابْ وله: رُواةُ حَدِيثِ المصطفَى قد دعَا لهمْ ... بنَضْرةِ وَجْهٍ في المَسَرَّةِ لا تُحَدّ وإنِّيَ قِدْماً خادمٌ لحديثِهِ ... يَرَاعِي بمِحرابٍ الطُّرُوسْ له سَجَدْ فحَاشاهُ أن يَرْضَى بذِلَّةِ عَبْدِهِ ... ويهْدِمَ بُنْياناً عليه قد اعْتَمَدْ إليه اسْتِنادِي في جميعِ مَقاصِدِي ... وما خاب مَن كان الرسولُ له سَنَدْ وله في قصة عامرٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم وأربد: يا خُلَّبَ الْبَرْقِ الذي ... كالنَّصْلِ قد قطَع العَلائِقْ وَافَيْتَ أرْبَدَ بالرَّدَى ... للهِ دَرُّك أيّ بَارِقْ ما ذاك أوَّلَ شائِمٍ ... لِلْبَرْقِ أرْدَتْهُ الصَّواعِقْ وله: بِمَسِّ أقْدامِ النَّبِيِّ قد حَوَتْ ... طَيْبَةُ فخراً حَلَّ في أرْجائِهَا أَخَالُها مذ فَنِيَتْ بحُبِّهِ ... صَانَتْه لِلْغَيْرةِ في أحْشائِهَا وله مضمناً: وقالوا حَلَتْ بئرٌ بِرِيقِ مُحمَّدٍ ... وكم عاد صَخْرٌ بعد ما مَسَّه رَطْبَا ولو نال ماءُ البحرِ من فِيهِ قَطْرةً ... لأصْبَحَ ماءُ البحرِ مِن رِيقِه عَذْبَا لمجنون ليلى:

ولو تفلَتْ في البحرِ والبحرُ مالحٌ ... لأصبحَ ماءُ البحرِ مِن رِيقِها عَذْبَا وله: ما زَلْزَلَةٌ لها سقوطُ الإِيوانْ ... إذْ حان قُدُومُ فَخْرِ نوعِ الإنْسانْ إلاّ لِمَسَرَّةٍ تَهُزُّ الأكْوانْ ... إذْ بَشَّرها به اخْتِلاجُ الأعْيانْ وله: طه كَمُلَتْ صِفاتُه والخلُقُ ... مُذْ زُيِّن في الوجودِ له النَّسَقُ بحرٌ عَذُبَتْ مَوارِدُ الشُّرْبِ به ... لولاه لَما اسْتُخْرِج منه العَلَقُ وله: نِيرانُ فارسَ انْطَفَتْ لمّا بَدَتْ ... بُشْرَى النُّبُوَّةِ ساطِعاً بُرْهانُهَا سجَدتْ لِنِيرانِ المَجُوسِ عِصابةٌ ... سجَدتْ لأنْوارِ الهُدَى نِيرانُهَا وله: لَعَمْرُكَ جَبْهَةُ خيرِ الورَى ... جِراحَتُها آيةٌ للبشَرْ أرانا لها اللهُ حتى نَرَى ... بها كيف كان انْشِقاقُ القَمَرْ وله: قَصَرْتُ مَدائِحِي والقَصْرُ مِنِّي ... على طه وما لِلْقَصْرِ مَدُّ إذا كان الثَّناءُ له جميلاً ... هو الْحَمْدُ الذي في العُرْفِ حَدُّوا ولم يُرَ منه أجْمَلُ طَرْف عَيْنٍ ... فليس بِلائِقٍ لِسِوَاه حَمْدُ وله: خَلِيليَّ مُرَّا بِي على طَيْبَةَ التي ... بها مَضْجَعُ المُختارِ طه المُقَرَّبُ يفُوق ذَكِيَّ المِسْكِ عَرْفُ تُرابِها ... فمِن شَمْسِه نادأك صَلِّ عَلَى النَّبِي ألَمْ تَرَ أنِّي كُلَّما جِئْتُ طارِقاً ... وَجَدْتُ بها طِيباً وإن لم تَطَيَّبِ وله: لَعَمْرُكَ ما قلبُ النَّبِيِّ غَفَا ولاَ ... عيونٌ له في ظُلْمةِ الليلِ رَاقِدَهْ تَهجَّدتِ الأجْفانُ في ظُلْمةِ الدُّجى ... فبانتْ بِمحْرابِ الحَواجِبِ ساجِدَهْ وله في وصف الصحابة مضمناً: يُكبِّرُون إذا خاضُوا بُحُورَ رَدىً ... وما لَهُمْ عن حِياضِ المَوْتِ تَهْلِيلُ حياض: جمع حوض، وحياض الموت: المنية، استعارة منه، والتهليل: الانهزام والتكذيب، قال: أمْضَى وأعْنَى في اللِّقاءِ لَقِيتَهُ ... وأقَلُّ تَهْلِيلاً إذا ما أُحْجِمَا ومن لطائف المتأخرين: هَلُمَّ لوَصْلِ حَمَّامٍ بديعٍ ... يفُوق رُخامُه زَهْرَ الرِّياضِ لِبُعْدِك ماؤُه ما طاب قَلْباً ... وأمْسَى من فِراقِك في الْحِياضِ ومن تفاريق قصائده قوله: على النَّهْرِ دِرْعٌ من نَسِيمٍ حَبابُهُ ... له حَلَقٌ لمَّا رَمى وَبْلُه نَبْلاَ تكِلُّ سيوفُ الهندِ في لَحْظِ مُنْيَتِي ... فتعْذُب والتَّعْذِيبُ في السيفِ إن كَلاَّ منها: إذا طالَبْتنِي بالحُتُوفِ عَزائِمي ... أُماطِلُها حتى أُلاقِي لها أهْلاَ فيقْضِي اصْطِبارِي كلَّ دَيْنٍ على المُنَى ... قضاءَ مَلِيٍ لم يكنْ يعرفُ المَطْلاَ وإن صِرْتُ حِلْسَ الدَّارِ رِزْقِي يزُورُني ... فأصْطاد ما تَهْوَى الأمانِي من المِقْلاَ وقوله من قصيدة أولها: بِتُّ أرْعَى النجومَ والإلْفُ رَاقِدْ ... هل سميرُ الشِّهابِ غيرُ الفَراقِدْ منها: كلُّ زَرْعٍ زَرَعْتُه في شبابِي ... فله مِنْجَلُ انْحِنائِيَ حَاصِدْ أنا في الأرْضِ ضاربٌ كلَّ كَسْبٍ ... مِثْلَ ضَرْبٍ لِواحدِ في وَاحِدْ منها: وبجِيدِ الأيامِ عند تَصابٍ ... ليس غير الكُؤُوسِ فيها فَرائِدْ وقوله: وسَفْرِ مُنىً جازتْ بعَزْمِي ومالَها ... قناطرُ إلاَّ العِيسَ في أبْحُرِ الآلِ عَبَرْتُ بها دَاراً مُحِيلاً رُسُومُه ... ألَحَّ عليه كُلُّ أسْحَمَ هَطَّالِ إلى كعبةٍ أمْسَتْ تُزارُ ولم تَزُرْ ... يطُوف رجائي حولَها مُنْذُ أحْوالِ أقُول لها لمَّا تبَّدى لناظِرِي ... تَمِيسُ عُلاهُ لي مَلابِسِ إجْلالِ

أتيْتُك من كلِّ الوسائِلِ مُحْرِماً ... وألْبَسْتُ وَجْهَ الأرضِ سابِغَ أذْيالِ وقوله: وخِدْنٍ يرُوق الطَّرْفَ وَضَّاحُ وَجْهِهِ ... وقد تَرْجَمتْ باليُمنِ عنه قَوابلُهْ إذا غَصَّ بالسُّؤَّالِ نَادٍ يحُلُّه ... يَسُوغُ بماءِ الجُودِ يصْفُو مُسائِلُهْ وإن نَحَلتْ أقْلامُه لاشْتياقِها ... إليه حَنَتْ منه عليها أنامِلُهْ ويُزْهِر وَجْهُ الشمسِ غِبَّ لقائِه ... وتصْفَرُّ من خوفِ الفِراقِ أَصائِلُهْ فإن صَدَّنِي عنك الزمانُ لحادثٍ ... فأيْن من الغَرْقانِ في البحرِ ساحِلُهْ فإنك شمسٌ لا تُرَى السُّحْبُ عندها ... فلا تُنْكِرَنْ إن لم يَلُحْ ثَمَّ آفِلُهْ وقوله: خَدُّ الربيع من الحَياءِ تَوَرَّدَا ... خَجَلاً لِمَا أهْدَى إليه من النَّدَى وبَنَفْسَجُ الكُثْبانِ أطْرقَ رأسُه ... لَّما رأَى صُدْغَ الحبيبِ تجعَّدَا وأرى الخريفَ اشْتَمَّ أنْفاسَ الشِّتَأ ... فاصْفَرَّ مِنه خِيفَةً لمَّا بَدا ورأَى جيوشَ سُيُولِه قد أقْبلَتْ ... وعليه حُلَّةَ سُنْدُسٍ فتَجَرَّدَا والسُّحْب تنْثُر لُؤْلُؤاً وغُصونُه ... بأَكُفِّ أوراقٍ تُفَرِّقُ عَسْجَدَأ والنَّجْمُ كحَّلَه الظلامُ بإثْمِدٍ ... مُذْ خالَه في الجَوِّ طَرْفاً أرْمَدَا رَوضٌ تبَسَّم للوُفودِ بمَبْسَمٍ ... للرَّوضِ عَذْبِ المُجْتَنَى والمُجْتَدَى ما ذَاقَ فيه السُّهْدَ إلاَّ ناظِرٌ ... للنَّرْجِسِ الغَضِّ الشَّهِيِّ تَسَهَّدَا وقوله من غزلية: مُذ سَبانِي بدرٌ بقلبي مُقِيمٌ ... صار جسْمِي كخَصْرِه في المِحَاقِ حاكمٌ جُنْدُه المِلاحُ جميعاً ... ذُو لِواءٍ من شَعْرِه الخَفَّاقِ جامعٌ رِقَّةَ الحجازِ وسْحْرَ الشَّ ... امِ حُسْناً في سِلْكِ لُطْفِ العِراقِ سرَق الغُصْنُ لِنَهُ فلهذا ... لَزِمَتْهُ جِنايَةُ السُّرَّاقِ قام في جَنَّةِ الرِّياضِ بكأسٍ ... فأباح المُدامَ بين الرِّفاقِ بثلاثٍ مِنهُنَّ طَلَّق هَمِّى ... دون ما رَجْعَةٍ لذاك الطَّلاقِ في مجالٍ كالخَصْرِ فيه اخْتِصارٌ ... دارَ فيه النُّدْمانُ مِثْلَ النِّطاقِ ذُو عيونٍ لأجْلِها النَّرْجِسُ الغَضُّ ... اصْفَرَّ وأمْسَى من جُمْلةِ العُشَّاقِ ما رَثَتْ في الهوى لِسائِل دَمْعِي ... تحسَبُ الدَّمْعَ خِلْقَةً في المَآقِي وقوله: قامتْ تجُرُّ ذُيولَ التِّيهِ والجَدَلِ ... ووَجْنَةُ الشَّفَقِ احْمَرَّتْ من الخَجَلِ خَمِيلةٌ بثِمارِ الحَلْيِ مُثْقَلةٌ ... زُهورُها ما جَنَتْها رَاحةُ الأمَلِ تَسِيرُ رُسْلُ الصَّبَا تَرْتادُها سَحَراً ... في الْحَيِّ تعْثُر بين البِيضِ والأَسَلِ صَباً على سُقْمِها يُشْفَى السَّقامُ بها ... ورُبما صَحَّتِ الأجْسامُ بالعِلَلِ تخافُ تَجْرَحُ وَجْناتِ الحبيبِ لِذَا ... تخُوض مِن عَرَقِ الأنْداءِ في بَلَلِ وقوله: أتاركُ قلبي في لَظَى الوَجْدِ مَجْمَرَا ... وطِيبَ ثَناءٍ فوقه فَاح عَنْبَرَا ترفَّقْ فما ابْيَضَّتْ دموعِي بعدَكُمْ ... ولكنَّها شَابَتْ وصبرِي تعَذَّرَا فيَوْمِي كأيَّامِ القيامةِ طُولُه ... وأرْضِيَ أمْسَتْ لْلأعادِي مَحْشَرَا منها: وغُصْن قَوامٍ كلُّ غُصْنٍ لحُسْنِه ... بأوْراقِه من خَجْلةٍ قد تَسَتَّرا وعَيْن له قد أهْدَتِ السُّقْمَ والهوَى ... فأهْدَى إلى أجْفانِها طَرْفِيَ الْكَرَى من مديحها:

إذا طَرَّزَ القِرْطاسَ وَشْيُ بنَانِهِ ... تعَشَّق منه الطَّرْفُ خَدّاً مُعَذَّرَا وما كان لَوْنُ التِّبْرِ أصْفَرَ إنَّما ... لِخَوْف نَداهُ بالنَّدَى صار أصْفَرَا وقوله: مَسِيلُ الصبحِ طَمَّ على الكواكبْ ... وقد ظمِئتْ إلى السَّيْرِ النَّجائِبْ تقلَّص ذَيْلُ عَزْمِك في مَسِيرٍ ... له طَيْفُ العُلَى خِدْنٌ مُصاحِبْ بِوَرْيٍ أعْوجِيٍ قَبَّلَتْهُ ... بغُرَّتِهِ الأهِلَّةُ والكواكبْ جَرَتْ مِن خَلْفِهِ النَّسماتُ حتى ... سَرَتْ مُعْتلةً فيه الجَنائِبْ عليه مِن لَيالِ الوصلِ بُرْدٌ ... وقد أهْدَتْ له الغِيدُ الذَّوائِبْ إذا ما خَبَّ خِلْتَ الطَّيْفَ وَافَى ... لِجُنْحِ الليلِ مِن خَوْفِ المُراقِبْ مَعارِفُه كأهْدابٍ تَبدَّتْ ... لِوَجْه الأرْضِ تَدْنُو كالْمَراقِبْ عَلاهُ مُحدِّثٌ قد جَلَّ عنه ... لجارِيه تمائمُ في التَّرائِبْ بعَزْمٍ يَفْرَقُ الهِنْدِيُّ منه ... مَضَاءً قصَّرتْ عنه القَواضِبْ ورَأْيٍ زَفَّ بِكْرَ الفكرِ يَزْهُو ... لِتخْطُبهَا المَعالِي والمراتِبْ وقوله: وباسِلِ نارٍ عَزْمُه تَقِدُ ... كأنما حُمَّ خَوْفَه الأسَدُ أخْلاَقُه للنَّدِيمِ ضامِنَةٌ ... أن يُنْجِزَ الْجُودَ قبلَ ما يَعِدُ تنْقُل عنه الكرامُ مَأْثُرَةً ... حَدِيثُ عَلْيائِه لها سَنَدُ وقوله: زاد خَطُّ العِذارِ في الخَدِّ حُسْنَا ... فهْو حَرْفٌ قد جاء فيه لِمَعْنَى كلَّ حِينٍ داعِي الغرام يُنادِي ... رَحِمَ اللهُ كلَّ قلبٍ مُعَنَّى قُمْ خَلِيلِي نَبْكِي الديارَ سُحَيْراً ... لا يكونُ الحَمَامُ أطْربَ مِنَّا لا تَلُمْنِي إن ساء فيك ظُنونِي ... كُلُّ مَن ضَنَّ بالأحِبَّةِ ظَنَّا كم حَبِيبٍ إذا أردْتُ سُلُوّاً ... عنه قال الدَّلالُ مَهْلاً تأَنَّى وبَناتُ القلوب مُعْتِذراتٌ ... شافِعاتٌ له إذا الليلُ جَنَّا مُذْنِبٌ ليس يقْبَل العُذْرَ مِنِّي ... وإذا ما جَنَى عليَّ تجَنَّى كلُّ صَدٍ إن لم يكنْ عن مَلالٍ ... فهْو وَصْلٌ به الرَّقِيبُ تَعَنَّى إنما القلبُ دَارُه وهَواهُ ... دَاخِلٌ فيه ليس يطلُب إذْنَا عَلَّموا حَظِّيَ الصُّدودَ فَوَلَّى ... واخْتَفيْنَا فالهَجْرُ يسألُ عَنَّا لم تَذُقْ قَطْرةً من الوصلِ حِيناً ... وشَرِبْنَا الوِصالَ دَنّاً فَدَنَّا مِن قَضيبٍ يَميسُ في الرَّوْضِ تِيهاً ... لِيُرِي الغُصْنَ كَيْفَما يَتَثَنَّى أسْمَرُ الْقَدِّ منه ينْهزِم اللَّوْ ... مُ إذا جاد في الصَّبابةِ طَعْنَا وأرى المَنْزِلَ الخَرابَ إذا ما ... حَلَّ فيه الأحْبابُ رَوْضاً أغَنَّا وله، وهو معنىً بديع، في دعوة ضيف كريم: مَوْلايَ دارِي والذي قد حَوَتْ ... نَبْتٌ زَهَا من صَوْبِ أمْطارِهْ وإنَّني عَبْدٌ له حارسٌ ... بشُكْرِهِ رَوْضةَ آثارِهْ إذا دَعَوْناه لأجل القِرَى ... وأشْرَقتْ داري بأنْوارِهْ قالُوا طُفَيْليّاً عجِبْنَا له ... يُضيفُ رَبَّ الدارِ في دَارِهْ قال: وكمت قلته لما أعجبني قول إبراهيم بن المدبر، الذي أنشده له في الأغاني: سيِّدي كلُّ نِعْمةٍ هي عندي ... فهْي بعضٌ مِن فَيْضِ تلك الأيادِي فإذا زُرْتَنِي فإنِّي ضَيْفٌ ... سَاكِنٌ مِن ذَراكَ أكْرَمَ نَادِي فيَظُنُّونِيَ الطُّفَيْليَّ لَوْلاَ ... إرْثُ دَارِي مِن سالِفِ الأجْدادِ وله في معنى قول كثير عزة:

لَئِنْ ساءَني أن نِلْتنِي بِمَسَبَّةٍ ... لقد سَرَّنِي أنِّي خَطَرْتُ ببالِكِ يسُرُّنِي شَتْمُك إذْ كنتُ قد ... خَطَرْتُ في بَالِكَ دون اشْتِباهْ يحلُوا لِيَ الشَّتْمُ إذْ مَرَّ لِي ... اسمٌ على عَذْبِ اللَّمَى والشِّفَاهْ إن ذكَرَ اسْمِي لَذَّ لي ذِكْرُه ... كأنني قبَّلتُ بالوَهْمِ فَاهْ فيه لطف؛ لأنه يمكن أن يخرج على أن في اسمه حرفاً شفوياً، وكذا في لقبه. وقد استعمله ابن جرير، وكان اسمه محمداً، حيث قال: أنا في غَيْرةٍ عليْك من اسْمِي ... إنَّه دائِماً يُقبِّل فاكَا وله في قول بعض معتزلة النحاة: عدل عمر تقديري، يريد غير محقق: بِنُورِ المعاني أشْرَق اللفظُ فاكْتَسَى ... بثَوْبَيْهِ من حُسْنٍ بَديعٍ بلا زُورِ ففي عُمَرٍ من عالمِ الذَّرِّ عَدْلُه ... إلى اسْمٍ سَرَى من أجْلِ ذا قيل تَقْدِيري ومَن قال ذا التَّقدير غيرُ مُحَقَّقٍ ... فقد سار في ظَلْمَاءِ جهلِ بلا نُورِ وله: زمانُ السُّوءِ إن وَافَى بِرَيْبٍ ... صديقك والقريبُ له يَذِلُّ شَكَتْ رُسْلَ المنايا لِي طُيورٌ ... جَوارِحُ للسَّماءِ تظَلُّ تَعْلُو فقلتُ سَلُوا الْقَوَادِمَ والخَوافِي ... فلَوْلا رِيشُها ما طال نَبْلُ هذا كقول الأرجاني: يُعْطِينَ قتْلاها النُّسور جَوائِزاً ... إذْ كُنَّ طِرْنَ بما كَسَتْهُ الأنْسُرُ وله: أتَدْرِي السَّواقِي ما تقولُ وقد غدتْ ... تدُورُ وتَسْقي حين تعلُو وتنْزِلُ تقول لك المَمْلُوءُ يعْلُو وكلُّ ما ... تضَرَّع تَلْقاهُ مَدَى الدهرِ يسْفُلُ تُريدُ الورى تهْوَى الغَنِيَّ ولم تزَلْ ... تُعادِي فقيراً ما عليه مُعَوَّلُ فلا تُظْهِرَنَّ الفقْرَ ما دُمْتَ بينهم ... وأظْهِرْ غنىً عنهم فذلك أجْمَلُ وله: قد رأيْنا الملوكَ إن سار جيشٌ ... كثَّبُوا الكُثْبَ في الفَلا المطْرُوقِ فلذا سَنَّمُوا الترابَ على مَن ... ماتَ رَمْزاً لِفَهْم معنىً دقيقِ إن جيشَ الخُطُوب سار وهذِي ... سلبُه فاسْلكُوا سَواءَ الطَّرِيقِ وله: مُذ فُتِحَتْ أبوابُ نادي العُلَى ... فَتْحَ المُلاقِي لمعالِيهِ ما صَرَّت الأبوابُ بل رَحَّبتْ ... على مُرَجٍ لأيادِيهِ كذلك الأقلامُ في طِرْسِهِ ... صَرِيرُها شكرُ أَيادِيهِ والماء يشكُ، بخريرٍ له ... فِراقَه رَوْضةَ نَادِيهِ وله: يا حبَّذا نادٍ لنا ... حُفَّ بأُنْسٍ وطَرَبْ وخمرةٌ في كأسِها ... يلعبُ بالنَّرْدِ الْحَبَبْ فُصوص ألْماسٍ على ... بِساطِ خَزٍ وذَهَبْ وله: سَبَح الحبيبُ بِبرْكةٍ ... والقلبُ من وَلَهٍ يطيرُ فخشِيتُ من ماءِ اللَّطا ... فةِ فيه يشْربُه الغَدِيرُ وتَشابُه الماءِ الرقي ... قِ وجسمِه التَّرِفِ النَّضِيرِ لولا الذَّوائبُ لم يكنْ ... للنَّاظرين به شُعورُ وله: ما أقْصَرَ الليلَ الذي ... كحَّل أنْوارَ الحَدَقْ عانْقتُ فيه غُصُناً ... مِن حُلَلٍ فيه وَرَقْ إذ هَمَّ ثَغْرُ الصبحِ أنْ ... يُقَبِّلَنْ خَدَّ الشَّفَقْ ومما لا ينقضي منه الإعجاب، قوله من قصيدة: مَرَرْتُ على رَبْعِ الأحِبَّةِ دارِساً ... ففَاح به عَرْفُ الحديثِ المُتَمَّمِ وذكَّرنا عهدَ الصَّبابةِ والصِّبا ... هَدِيلُ حَمْامٍ في الرُّبَى مُترنِّمِ فقلتُ لِخِلِّي عُجْ بنا ساعةً عسى ... يُحدِّثنا رَسْمُ الهوى المُتقدِّمِ فعُجْنَا له عَطْفاً على موضعٍ به ... هَوانا فكان العَطْفُ عطفَ تَوهُّمِ

وعطف التوهم معروفٌ عند النحاة، وهو أن يجري في موضعٍ إعرابان، فيعرب بأحدهما، ويعطف عليه باعتبار الآخر، كما في قول الأخوص الرياحي: بَدَا لِيَ أنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى ... ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جَائيَا فإن لست يجر خبرها بالباء الزائدة كثيراً، فإذا نصب قد يعطف عليه مجرور نظراً إلى حالته الأخرى. وأما عطف المنصوب على المجرور، فهو العطف على الموضع، وإياه عنى محاسن الشواء، في قوله: هَاتِيكَ يا صاحِ رُبَا لَعْلَعِ ... نَاشَدْتُك الله فعَرِّجْ مَعِي وانْزِلْ بنا بين بُيوتِ النَّقَا ... فإنها آهِلَةُ المَرْبَعِ حتى نُطِيلَ اليوم وَقْفاً على السَّ ... اكِنِ أو عَطْفاً على المَوْضِعِ وهذه مقطعات له، على حروف المعجم: مَدْحٌ بوَجْهِ كُدْيَةٍ ... فيها كَمِينٌ لِلرَّجاءْ مِثْلُ المُرَقْرِقِ في الصَّبُو ... حِ يُسِرُّ حَسْواً في ارْتغاءْ فيه مثلان قديمان. وله: يشْتكي الخَصْرُ رِدْفَه كلَّ حِينٍ ... وأنِينِي يشْكُو من الرُّقَباءِ فكِلانَا في حالَتَيْه مُعَنَّى ... ذا عَياءٍ يشْكُو من الثُّقَلاءِ وله: لَئِن نكَسَّ الدهرُ حَظِّي فلِي ... لطَائفُ في الغَيْبِ تُحْيِي الرَّجَاءْ فرُبَّ شِهابٍ إذا نَكَّسُوه ... يَزِيدُ اشْتعالاً ويعْلُو سَنَاءْ وله: قال لي الأيْرُ لا أُهَنِّيك إن ... زارَك مَن قد هَويتَ في الظَّلْماءِ وأنَا منك لا يُهَنِّىءُ عُضْوٌ ... بالمَسَرَّاتِ سائرَ الأعْضاءِ وله: لا يكذبُ العاقلُ ما ... أمْكنَهُ صِدْقٌ يجبْ ففي المَعارِيضِ له ... مَنْدُوحةٌ عن الكَذِبْ وله: وبلدةٍ سُكَّانُها في لَظَى ... في الصَّيْفِ من حَرٍ لها ناصِبِ ترى بها الماشي بُعَيْدَ الضُّحَى ... مُنْتعِلاً نَعْلَ أبِي طالبِ يشير إلى ما ذكر أهل السير، من أن أبا طالبٍ لم يهتد للإيمان، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جواره، ولو أسلم لم يقبلوا جواره. ولما قالوا له: إن أبا طالبٍ كان يحبك ويحيك فهل ينفعه ذلك؟ قال: " يخفف عنه فجعل له نعلٌ من نارٍ يغلي منه دماغه ". رواه مسلم. وله: إذا شاب شَعْرُ المَرْءِ قَلَّ سُرورُه ... وزَارتْه مِن وَفْدِ الهمومِ المَصائبُ وشَابَ قَذَى الأكْدارِ صَفْوَ حَياتِهِ ... فمِن أجْلِ هذا قِيل للمَرْءِ شائبُ وله: قد تسْتوِي في الحَرَكات الورَى ... لكنْ لَدَى السَّبْقِ تَبِينُ الرُّتَبْ كم طار صَقْرٌ وغُرابٌ مَعاً ... لكنَّ ذا صَادَ وهذا هَرَبْ وله: قد خاب مَن كان في مُناهُ ... مُقصِّرَ الجِدَّ في الطِّلابِ فلا يَلُمْ غيرَ نَفْسِه مَن ... قد أرْسَل الْبَازَ في ضَبابِ وله: ظَنَنْتُ الصَّبا لَمَّا على النهرِ قد جَرَتْ ... وعَكْسُ ذُكاءٍ لاح فيه لِمُرْتَقِبْ شِباكاً بها صار النَّسيم غَزالةً ... ألَسْتَ تَراها دائماً فيه تضْطَرِبْ وله: على خَدِّه مُذْ لاح نَبْتُ عِذارِهِ ... جرَتْ أدْمُعِي في الخدِّ ذاتَ صَبيبِ إذا ما اسْتدارتْ دَارَةُ البَدْرِ حَوْلَه ... فإنَّ وُقوعَ القَطْرِ غيرُ عَجِيبِ وله: لَحَى اللهُ أيَّاماً تُعادِي أُولِي النُّهَىوتُسْعِفُ لُؤْماً كلَّ غُفْلِ المَناقِبِ تُقدِّم فيهنَّ الصِّغارَ كأنهم ... إذا ذُكرِوا عَقْدَ الْبَنانِ لِحَاسِبِ وله: إنما هذه الحياةُ مَنامٌ ... والأمانِي حُلْمٌ بها الْمَرْءُ صَبُّ فلهذا تأْتِي على العكسِ مِمَّا ... كَرِهَ النَّاسُ دائماً وأحَبُّوا وله: كُنِ ابنَ وَقْتٍ حاضرٍ تَجْنِي هَنا ... ولا تفُكِّرْ في غَدٍ وما ذَهَبْ

وإن وجدتَ سُكراً فانْعَمْ به ... ولا تَسَلْ عَمَّا جَرى على القَصَبْ وله: إذا ما غاب مَن أهْواهُ عَنِّي ... فإنَّ لِقاءَه عندي كِتابُ سَوادٌ في بياضٍ مِثْل عَيْنِي ... به ألْقَى الأحِبَّةَ حين غَابُوا وله: لَمَّا بَدَا في صُدْغِه خَالُه ... أذابَ قلبَ الصَّبِّ بالْحُبِّ فانْظُرْ إلى الْحَبِّ على فَخِّه ... ولا تَسَلْ عن طائرِ القَلْبِ وله: رَوضُ المُنَى أيْدِي الأماني به ... كم قد جَرَتْ لي ثمرَاً مُسْتطَابْ ما لَذَّةُ الدنيا إذا لم أكُن ... أخْطِر فيها بِردَاءِ الشَّبابْ وله: مُذ رأًى النَّهْرُ بَرْقَهُ سَلَّ سَيْفاً ... مُرْهَفَ الحَدِّ من قِرابِ السَّحابِ نَسجتْ فوقه الرِّياحُ دُرُعاً ... سَابغاتٍ قد سُمِّرَتْ بالحَبَابِ وله في الرد على ابن القيم: قالوا جَهَنَّمُ دارُ الخلدِ ساكنُها ... إذا تَطاوَلَ دهرٌ أَخمَدَ اللَّهَبَا أمَالِكٌ صار مِن عَجْزٍ لِذِي يَدِهِ ... لا يسْتطيعُ لفقرٍ يشْتري الحَطبَا وله: سُكَّانُ مِصْر كالنِّيل ما عَرَفُوا ... قَدْرَ شُيوخِ العلمِ والطَّلَبَهْ فَجَيِّدٌ فيه والرَّدِيُّ سَوَا ... كما اسْتَوَى الماءُ ثَمَّ والْخَشَبَهْ وله: كم أُناسٍ من الكرام تَوَلَّوْا ... في نعيمٍ وطِيبِ عَيْش مُواتِي قَطَفُوا وَردةَ الحياةِ سُروراً ... ورَمُوا الشَّوْكَ في طريقِ الآتِي وله: وبُحَيْرةٍ بِفنائِها سَمَرُوا ... واللَّهُو بالأحْزانِ قد شَمَتَا وكأنما عَكْسُ الشُّموعِ بها ... بَحْرٌ به المَرْجانُ قد نَبَتَا وله: أنا أصْبُو والتَّصَابِي حِلْيَةٌ ... لكريمِ العِرْضِ في صَبْوَتِهِ بعَفِيفِ الجَيْبِ لَدْنٍ ناعمٍ ... لم يُعانِقْهُ سِوَى حُلَّتِهِ وله: لحديثِ النَّبيِّ بعد كلامِ اللَّ ... هِ طِيبٌ يَحُثُّ شَوْقِي حَثِيثَا مُسْتَجِدٌّ على مُرورِ الجَديدَيْ ... نِ لِذَأ سُمِّيَ الحديثُ حَدِيثَا وله: غاب الحبيبُ وفؤادِي خافِقٌ ... مُنْتظِرٌ لذلك المَعْنَى البَهِجْ والنَّرْجِسُ الغَضُّ يُنادِي في الرُّبَى ... أبْشِرْ بما سَرَّ بعيْني تخْتلِجْ وله: ذُؤابتُه قد اشْتفَتْ ... مِن فَرَجٍ بلا حَرَجْ بابُ استْهِ لِصَبْرِه ... فاز بِمفْتاحِ الْفَرَجْ وله: وساحِر المنْطِقِ أظْهَر الطِّلاَ ... في مَجْلِسٍ يَسْعَى لِرؤْياهُ الْفَرَحْ رَتَّبَ شَكْلاً للسُّرورِ مُنْتِجاً ... الْجَرَّةَ الكُبْرى وصُغْراه الْقَدَحْ وله: إلى اللهِ أشْكُو الزَّمان الذي ... يُرَيِّشُ حَالِي بنَتْفِ الجَنَاحْ إذا سُمْتُه الصُّلْحَ قال اتَّئِدْ ... فبيْني وبينك سُوقُ السِّلاحْ وله: إذا رُمْتَ أمْراً فكُنْ طالباً ... برِفْقٍ ففي الرِّفْقِ نَيْلُ الصَّلاحْ ففي الرِّفْفِ والصبرِ للمُرْتَجِي ... لِقاحَ الصَّلاحِ جَناحُ النَّجاحْ وله: وزَانٍ بحُبِّ الزِّنا مُغْرَمٍ ... أمَاطَ رِداءَ الْحَيَا واطَّرَحْ يُقبِّلُ أولادهُنَّ الصِّغارَ ... ومَن عَشِقَ الدَّنَّ بَاسَ الْقَدَحْ وله: إن الصديقَ مَن إذا دَعَوْتَهُ ... لَبَّى الرَّجا بتَباشِيرِ الْفَرَحْ وإن تنَحْنَحَ الذي دَعَوْتَه ... لِحاجَةٍ مُلِمَّةٍ فقد تَنَح وله: كم من قريبٍ كِيلاَ لِي شَرُّهُ ... وخيرُه إن جاء أحْباب فخّ وكم أخٍ يملأُ لي صَدْرَه ... نَفثْةَ مَصْدُورٍ إذا قلتُ أَخْ وله: إذا رُمْتَ إكْسِيرَ نَصْرٍ فقُمْ ... بسيْفَك واضْرِبْ رقابَ العِدَى

تصُبُّ عليهم حديدَ النِّصالِ ... وتأخُذها في دَمٍ عَسْجَدَا قال بعضهم: قول ابن نباتة السعدي لم يسبق إليه: أبَوْا أن يُطِيعُوا السَّمْهَرِيَّة غِيرَةً ... فصُبَّتْ عليهم كاللُّجَيْنِ الْقَواضِبُ فعادتْ إلينا عَسْجَداً مِن دِمائِهمْ ... ألا هكذا فلْيَكْسِبِ المجدَ كاسِبُ ومنه أخذ الأَبيوردي قوله: وللهِ دَرُّ السيفِ يجلُو بَياضُهُ ... غَياهِبَ يومٍ قاتِمِ الجَوِّ أرْبَدَا بمُعْتَرَكٍ تَلْقَى به الموتَ لُجَّةً ... تَسِيلُ لُجَيْناً ثم تُغْمَدُ عَسْجَدَا قال: قلت: انظر هذا مع قولي أولا. وله: رأيْتُك طَوْداً قد لَجأْتُ لِظلِّهِ ... فلي مَعْقِلٌ منه إذا دهرِيَ اعْتَدَى إذا قُمْتُ في نَادِيه أُنْشِدُ مِدْحَةً ... أنا الطائرُ المَحْكِيُّ والآخَرُ الصَّدَى وله: رُقَى الفَقْرِ اسْمُه يدْعُوهُ دَاعٍ ... ورُؤْيةُ وجهِه سَعْدُ السُّعود دَعَانَأ نَحْو سُدَّتِه نَداهُ ... خَرِيرُ الماءِ يدعُو للوُرودِ وله: ويومٍ غَدَأ بارِداً جَوُّهُ ... بَدَا رَعْدُه من هَواً يَبْرُدُ ترى لهبَ النارِ من بَرْدِهِ ... بكَانُونهِ أبَداً ترعُدُ من بدائع الصلاح الصفدي، قوله من رسالة: لو ترى أحدنا وقد أخذه النافض، ونحاه القر بعامله الرافع والزمهرير الخافض، لرأيت شخصاً قد ركبت أعضاؤه من الزئبق فما تستقر، وجفت لهواته يبساً فما تستدر. لا يمد كفه ولو بايعه الناس على الخلافة، ولا يخرج يده ولو كان فقيراً إلى كيس ذهب أو نديماً إلى كأس سلافة. يكاد لذلك البرد حتى الكلام يتجسد، ويتمنى الإنسان لو أنه تحت رخام الحمام يتوسد. وله في مثلٍ معروف: أهْوِنْ بسيِّد فِتْيَةٍ نال الغِنَى ... بدَناءَةٍ مَنَعتْهُ فيهم رُشْدَهُ وعليه جُلْجُلُ سَبَّةٍ ولآَمَةٍ ... ستُشَدُّ لكن هل يُرَى مَن شَدَّهُ وله: كم جِئْتُه بِحاجَةٍ ... ومالَه عندي يَدُ فقال لي إلى غدٍ ... والدهرُ كلُّه غَدُ وله: أيِسْنَا من هُدَى الهادِي ... وإسْعافٍ وإسْعادِ وصار زمانُنا أعْمَى ... يُقدِّم كلَّ قَوَّادِ وله: قلتُ لِمْ تشتري الغلام كبيراً ... وصِغارُ الغِلْمانِ لِلَّهْوِ عُدَّهْ قال إنَّا لم نأْخُذِ اليومَ إلاَّ ... مَن وجَدْنَا مَتاعَنا اليومَ عِنْدَهْ وله: شيخٌ بسَعْدٍ وبِنَحْسٍ له ... كم قادَ أوْبَاشاً من السَّادَهْ مَتاعُ زُهْدٍ وَسْطَ سُوقِ الرِّيَا ... يُباعُ في حانوتِ سَجَّادَهْ وله: قد قلتُ إذ حَسَدُوا وما ... في العَيْشِ إذْ حسَدوا رَغَدْ خَسَّ الزَّمانُ وأهلُه ... وطِباعُهم حتى الحَسَدْ وله: ما نعمةٌ تخْلُو من الحسدِ الذي ... مِنْه تكَدَّر كلُّ وِرْدٍ قد وُرِدْ وأرى الخمولَ مع التَّواضُعِ نِعْمةً ... قد صانَها الرحمنُ من كَدَرِ الْحَسَدْ وله؛ في قول العوام: الورد من عرق النبي صلى الله عليه وسلم: ناضرُ الوردِ قيل مِن عَرَقِ المُخْتَا ... رِ قد لاح في حَدائِقِ خَدِّ وَرْدُ خَدَّيْهِ قبلَ ذلك زَاهٍ ... هل سمعتُم بالوَرْدِ من ماءِ وَرْدِ وله: فتَّح الوَردُ في الرِّياضِ صَباحاً ... عندما قبَّل النسيمُ خُدودَهْ بُلِّغَ الزَّعْفَرانُ فهْو لهذا ... ضاحِكٌ شَقَّ من سُرُروٍ بُرودَهْ وله، في قول أرباب الفلاحة: إن الحيات والهوام تهرب من شجر الرمان، ولذا يجعل بعض الطيور أوكارها فيه: إذا هَبَّتْ صَبَا الأسْحارِ يوماً ... وحَرَّكَتِ الذَّوائبَ في الخُدودِ فَحيَّاتُ الذَّوائبِ في اضْطِرابٍ ... وقد شَعَرتْ برُمَّانِ النُّهودِ وله: يسْمُو بخُلْقٍ ولِسانٍ حَلاَ ... مَن بِلِبانِ المجد قِدْماً غُذِي

فأدْوَأُ الدَّاءِ كما قد رَوَوْا ... خُلْقٌ دَنِيٌّ ولسانٌ بَذِي وله: بَقِيَّةُ عُمْرِ حُرٍ مُدَّ فيها ... يَتِمُّ بها المَسَرَّةُ والْفَخارُ ألسْت ترى الرَّبيعَ يَرُوقَ مَرْأىً ... وتأْتِي في الخريفِ له الثِّمارُ وله: رَوضةٌ جادَها الْحَيا بَلآلٍ ... قلدتْه جواهرَ الأزْهارِ ضاحِكاتٌ أطْفالُ أنْهارِها إذْ ... إذْ وَعَدتْها نَسائمُ الأسْحارِ قال: وقلت لما سمعت قول أبي بكر رضي الله عنه: من امتطى التغافل ملك زمام المروءة: تَغافَلْ إذا رُمْتَ وُدَّ الورَى ... يدُوم فتُصْبحُ لِلْعِزِّ جارَا زِمامُ المُروءةِ في كَفِّ مَن ... تَغافُلَه يمْتطِي حيثُ سَارَا وله: وَلَّى الشَّبابُ حَمِيداً حين وَرَّثَنِي ... مَجْداً وشِعْراً يُحاكي زَاهِيَ الحِبَرِ إن جاد طَبْعِي بشِعْرٍ راقَ رائِقُهُ ... لا تُنْكرُوا رِقَّةً في نَسْمَةِ السَّحَرِ وله: أوْصافُ مولانا سَقَتْ ... ظَمْآنَ سَمْعِي كَوْثَرَا كجَنَّةٍ مَعْشوقةٍ ... للناسِ قبلَ أن تُرَى وله: لي سيِّدٌ مُتواضِعٌ لِغُلامِهِ ... وعلى سِواهُ مُسْرِفٌ في كِبْرِهِ ينْقادُ للغِلْمانِ في خَلَواتِهِ ... مِثْلَ السَّفِينِ زِمامُه في دُبْرِهِ وله: وسارقٍ يسْرِقُ شِعْرَ الورَى ... ويُتْبِع المَنْظومَ بالنَّثْرِ ما اقْتَبسَ الآياتِ إلاَّ لِمَا ... يأْلَفهُ من سِرْقَةِ الشِّعْرِ وله: قالُوا لِشاعرِك الذي ... أهْدَى مَدِيحاً حَطَّ قَدْرَكْ جَدِّد وُضوءَك بعدَ ذا ... إنْ كان هذا الشِّعْرُ شِعْرَكْ وله: كلُّ الأمورِ لم تزَلْ ... تكْبُر من بَعْدِ صِغَرْ إلاَّ مصائبَ الورَى ... تصغُر من بَعْدِ كِبَرْ وله: ومُباحثٍ في العِلْمِ من نَفَرٍ ... لا يُدْرِكون مَباحِثَ النَّظَرِ أعْرَضْتُ عنه كأنه عَلَمٌ ... وتركْتُه بمَباحِثِ البَقَرِ العرب تقول: تركته بمباحث البقر، إذا لم يعرف مكانه، وتقول: تركته بملاحس البقر، إذا ترك بمكانٍ لا أنيس به، وملاحس البقر: المواضع التي تلحس فيها بقر الوحش أولادها. وله: في دَوْلةِ وَصْلِ مُنيَتِي والهَجْرِ ... قد حُقَّ لذا وحَقِّ رَبِّي شُكْرِي في الوصلِ حَلَتْ حياةُ نَفْسٍ وصَفَتْ ... والهجرُ به يُطِيلُ رَبِّي عُمْرِي ولي أنا من هذا: رمضانُ جاء فمَرْحباً بقُدومِهِ ... شهرٌ بلغْتق بفضْلِهِ المَأْمُولاَ وأُجِلُّ مِنَّتَه عليَّ بأن أرَى ... عُمْرِي النَّفِيسَ يزيدُ فيه طولاَ وله: إن يكنْ أخْلَقَ الشَّبابُ ورَثَّتْ ... جِدَّتي والنَّشاطُ في كلِّ أمْرِ كم لبِسْتُ الشبابَ غَضّاً جديداً ... ساحِبَ الذَّيْلِ في مَواسِمِ عُمْرِي وله: مَعْلُومِيَ المعلومُ يا سيِّدي ... يحْفظُه الدِّيوانُ والدَّفْتَرُ كأنه هَمْزَةُ وَصْلٍ بهِ ... يُرْسَم في الخَطِّ ولا يُذْكَرُ وله: قد كنتُ في كَنَفِ الخُمولِ مُنَعَّماً ... والآن أتْعَبنِي الْعَنَأ لمَّا حَضَرْ كالحَرْفِ فَرَّ من الْتقاءِ السَّاكنَيْ ... نِ لعُسْرِ نُطْقٍ في التَّلفُّظِ فانْكَسَرْ وله: أصبحتُ مَن يُبْصِرُني طَرْفُهُ ... بكلِّ ما أمْلِكُه يَدْرِي كسُلْحُفَاةٍ من مِيَاهٍ بَدَتْ ... بَيْتِي وما أحْوِي على ظَهْرِي وله: رأيتُك تُعْطِينا الهِباتِ كتارِكٍ ... لَدَى أهْلِهِ مُسْتَوْدَعاتِ الذَّخائِرِ ودائعُ في حِرْزٍ من الدهرِ سالمٍ ... وما ضاع جُودٌ مُودَعٌ عند شاكِرِ وله: يقولون إِن المَدَّ في أثَرِ الجَزْرِ ... لِنُورِ بَدْرِ العصرِ في ساحلِ البَحْرِ

فما بَالُ بَحْرِ الدَّمْعِ يزْدَادُ مَدُّهُإذا غاب بَدْرُ الحُسْنِ في ظُلْمةِ الهَجْرِ وله: صَرَف اللِّحاظَ عن الوُشَا ... ةِ إلى الكَئِيب وما يَسُرُّهْ أبداً يَميِلُ إليهمُ ... مَيْلَ المريضِ لِمَا يضُرُّهْ وله: وطُوفانِ ليلٍ مُذْ طَفًَا فيه مَوْجُهُ ... طَفَا زَبَدُ الدهرِ المُزَيِّنِ للْخَضْرَا تفَجَّر سَيْلُ الصبحِ من سَدِّ شَرْقِهِ ... فمِن أجْلِ ذا يُدْعَى الصباحُ بهِ فَجْرَا وله: غَطَّتْ بساعِدٍ كماءٍ يجْرِي ... وَجْهاً يفُوق الوَرْدَ تبَّ القَطْرِ كبدرِ تَمٍ عند نصفِ شَهْرِ ... غاب وقد لاحَ عَمودُ الفَجْرِ وله: قُل لِرَقيبٍ قد أتى لِصِببْيَةٍ ... أرَقّ مَعْنىً من نَسِيمِ السَّحَرِ باللهِ قُمْ لا تقْطَعَنْ حديثَهمْ ... وتعْترِضْ بين الصَّبا والزَّهْرِ وله: بكَر النَّدامَى للصَّبُوح ونَبَّهُوا ... أوْتارَهم تدْعُو لهم ضِعْفَ السُّرورْ فتمطَّتِ الأغْصانُ من نَفَسِ الصَّبا ... وتثاءبَتْ في الأرضِ أفْواهُ الزُّهورْ وله: مُذ زار مَن أهْواه في رَوضةٍ ... أرْشَفنِي ثَغْراً هو الخَمْرُ قالت لِي الأرْدافُ مِن خَلْفِه: ... اليومَ خَمْراً وغَداً أمْرُ وله: سرَق المَنام بطَرْفِه الْ ... فَتَّانِ ذُو الحُسْنِ الغَزِيرِ طِرَازُ حُسْنِ حاذِقٍ ... طَرَّ القلوبَ من الصُّدورِ وله: وحَقِّكُمُ مَدِيحِي في عُلاكمْ ... له نَشْرٌ ببُرْدِ الدهرِ عاطِرْ وعَرْفُ العُودِ يُخْبِر مَن رَآهُ ... بِطيبٍ فيه تنْقُله المَجامِرْ وله: رَقَّ مِسْكِيُّ حُلَّةٍ فوقَ جسمٍ ... رَقَّ حتى لَكاد باللُّطْفِ يجْرِي فيه طَرْفِي مُنَزَّهٌ حين أبْدَى ... بُرْدَ ظِلٍ على مَعاطِفِ نَهْرِ وله: رعَى اللهُ عَصْراً غاب عنِّي عَواذِلِي ... به فَسرقْتُ الوَصْلَ في غَفْلةِ الدهرِ أصائِلُ وَصْلٍ بَرَّدتْ بنَسِيمِها ... من الكَبِدِ المَلْهوفِ هاجِرَةَ الهَجْرِ وله: تعلَّق قلبي في الغرامِ بصُدْغِهِ ... فعَطْفةُ ذاك الصُّدْغِ وَقْفةُ خايِرِ تعلَّق قلبي ليس يدْرِي قَرارَهُ ... كأنّ فؤادِي في مَخالِبِ طائِرِ وله: كيف سُلُوِّي إذا تبدَّى ... بوَجْهِ مَعْشوقيَ العِذارُ والحُسْنُ في وَجْنتيْهِ غَضٌّ ... ما اخْتلَف الليلُ والنهارُ وله: دَعَوْتُك يا خليلي للحضُورِ ... فلا تبْخَل بتعْجيلِ السُّرورِ فعْمْرُ الالْتقاءِ غدا قصيراً ... فطَوِّلْهُ بأوقاتِ البُكورِ وله: يا صاحِ والشوقُ اسْتَعَرْ ... إن فَتَّق الجَفْنَ السَّهَرْ رَفَّاهُ خَيْطُ مَدْمَعٍ ... له من الهُدْبِ إبَرْ وله: ويمْنعُنِي تقْبيلَ خَدَّيْه أنني ... أخافُ إذا ما أبْصَرتْه النَّواظِرُ فعلمَني تقبيل رِجْليْه إذْ مَشَى ... وقد قبَّلتْ أقْدامَهُنَّ الضفَّائِرُ وله: فرَش الرَّبيعُ لنا خَمائِلَ سُنْدُسٍ ... مِن حولها غُدْرانُهُنَّ فَراوِزُ ومشَى بها سارِي الصَّبا مُتَسَلِّلاً ... وعليه أعْيُنُ نُورِه تَتَغامَزُ وله: مَحَا اللهُ أقْطاراً من الجُودِ أمْحلَتْ ... وكم قادرٍ فيها عَن الحَمْدِ عاجِزُ وعاقِرَ أرْضٍ ليس يُولَد نَبْتُها ... وكم وَلَدتْ فيها المَنايَا المَفاوِزُ وله: وكم ناسٍ بِمَوْتِ أُصولِهم قد ... رَقَوْا رُتَباً لها شَرَفٌ وعِزَّهْ كدُودِ القَزِّ أمْسَى في قبورٍ ... لصاحبِها بها حُلَلٌ وبِزَّهْ وله: مَلَكْتُ من القَنْعِ كَنْزَ الغِنَى ... وقال اصْطبارِيَ مَن عَزَّ بَزّ

فإن عَزّ ذو الجْاهِ من كِبْرِه ... فَجَاهُ القَناعةِ عندي أعَزّ وله: حسَدتُ كِتَابي حين لاقَى أحِبَّتِي ... بِعارِضِ خَطٍ دَبَّ في خَدِّ قِرْطاسِ فقال على الأقْدامِ تسعى وتبْتغِي ... مَقامِي وقد أمْسَيْتُ أسْعَآ على رَاسِ وله: الخَلْقُ سَفْرٌ والزمانُ مَراحِلٌ ... خَطَواتُه في سَيْرِهِ الأنْفاسُ والمَقْصِدُ الأسْنَى لهم دارُ الْبَقَا ... دخَلتْه من بابِ الفَناءِ الناسُ وله: مَن يبْغِ طُولَ العمرِ لم يضْجَرْ بما ... ساق الزمانُ له فكدَّر حُسْنَهُ مَن كان يخْتار الحياةَ وطُولَها ... فعلى النَّوائِبِ فَلْيُوَطنْ نَفْسَهُ وله: إن غاب مَن أهْوَى فلي مُسامِرٌ ... مِن الأماني لم يَغِبْ عن مَجْلِسي نِعْمَ الرَّفِيقُ أمَلي إن لم يَجُد ... بنَفْعِه فهْو لَعَمْرِي مُؤْنِسِي وله: لأشْعارِ مصر بالتَّوارِي سَخافَةٌ ... وكم لاح تَجْنِيسٌ بها وهْو تَنْجِيسُ يقولون في الألفاظِ مِنَّا حَلاوةٌ ... فقلتُ ولكن ذاك حَشْوٌ وتَلْبِيسُ وله: أفئدة الخلقِ على حُكْمِهِ ... له رَعايَا والسَّرِيرُ الْحَشَا مَلَّكه الحُسْنُ قلوبَ الوَرى ... واللهُ يُؤْتِي مُلْكَه مَن يَشَا وله: أيُّها الَّلائِمُ دَعْنِي واسْتَرِحْ ... مِن خليعٍ هو للنُّصْحِ عَصَى لا تلُم في اللَّهْوِ والسِّنُّ عَلاَ ... واقْرَعِ العُودَ ودَعْ قَرْعَ عَصَا وله: يا صاحِ تَوَقَّ من فَواتِ الفُرَصِ ... لا تَهْنَأُ عِيشَةُ امْرِىءٍ ذِي غصَصِ فالوُرْق وإن غَدَتْ بعَيْشٍ رَغَدٍ ... تبْكي وتنُوحُ دائماً في الْقَفَصِ وله: دهرُ سُوءٍ فيه ارْتفاعُ لَئيمٍ ... وبَنانٌ من المَكارِمِ تُنْفَضْ فَيَدِي قد غَسلْتُها من نَداهُ ... وفمُ الجَفْنِ بالدُّمُوعِ تَمَضْمَضْ وله: ومَوْلىً له بالمُرْدِ قلبٌ مُوَلَّعٌ ... يُصَرِّح طَوْراً بالهوَى ويُعَرِّضُ ومُذ قال إن الحبَّ عنديَ آفةٌ ... خَشِيتُ عليه أن يَمَلَّ فيُحْمِضُ وله: رعَى اللهُ عَوَّاداً إذا زار نادياً ... غَدا لِجُموحِ اللَّهْوِ في الحالِ رَائِضَا رأى طَرَبَ النَّدْمانِ أسْقَمه الهوَى ... فَجَسَّ له نَبْضاً من العُودِ نابِضَا وله: وقومٍ لِئامٍ ليس لي فيهمُ رِضاً ... وما فيهمُ شَيءٌ على قُبْحِه يُرْضِي أُسائِل عنهم كلَّ مَن قد لَقِيتُه ... سُؤالَ طَبِيبٍ ليس يعلمُ بالنَّبْضِ إنما يسأل عن القارورة والبراز، فهو كنايةٌ بديعةز وله: نَثِيرُ اليَاسَمِينِ من فوقِ بَدْرٍ ... لِمُحِبِّيه بالخَلاعةِ باسِطْ فحَسبْناه شَمْعةً أوْقَدُوها ... وعليها فَراشُ لَيْلٍ تَساقَطْ وله: للهِ ما ألْطَفَه من زامرٍ ... ينْشَق من عَبَقِ الإنْبِساطْ كأنَّ إسْرافيلَ قد وكَّلَه ... لِيبْعثَ الأرْواحَ من فَرْطِ النَّشاطْ وله: قلتُ لمَّا عَذَّبوه فَغَدا ... مَثَلاً يُسْرِعُ في خَيطِ اخْتلاطْ عُذْرُ مَولايَ الذي جاء به ... مِثْلُ ضَمِّ الاسْتِ من بعدِ الضُّراطْ وله: كم هِمَّةٍ عاليةٍ ... في الجدِّ لم تُفَرِّطِ لا تَرْتَضِي بوَسَطٍ ... فالدُّونُ جارُ الوَسَطِ وله: كتب الربيعُ على طُرُوسِ رِياضِهِ ... صُحُفاً من التَّوحيدِ ما فيها غَلَطْ وحَدَا السحابُ إِلى الحدائق قُدْرَةً ... نَقّاشُها في الرَّوْضِ نَقَّطَ ثم خَطّ وله: ومَوْلىً أمْطَرتْ كَفَّاه غَيْثاً ... لَدَى الأزَماتِ فهْو على اشْتِراطِ ومَن يُحْسِنْ وقد فات احْتِياجٌ ... كمن يقْضِي الصَّلاةَ على الصِّراطِ وله:

قيل فلانٌ يَدَّعِي كَرَماً ... ورِفْعةً والزمانُ فيه غَلِطْ فقلتُ مات الكِرامُ فهْو كمَنْ ... وَجَد البيتَ خالِياً فضَرَطْ وله: أمَوْلايَ كم من دُعاءٍ إلى ... نَداكَ دعاءَ مُلِحٍ مُلِظِّ تَخِذْتُك كَهْفاً لِمَا أرْتجِي ... فما نِلْتُ منك سوى يومِ حَظِّي وله: وسحابٍ فيه بَرْقٌ ... بعُيونِ النَّوْرِ تُلْحَظْ خِلْتُه لمَّا تَبَدَّى ... حَبَشِيّاً يتلَمّظْ وله: المَدُّ بعد الجَزْرِ قالوا إنه ... يأْتِي من البدرِ المُنِيرِ الطَّالِعِ صَدَقُوا فبَدْرِي في مَطالِعِ حُسْنِهِ ... قد أوْرَثَ الأجْفانَ مَدَّ مَدامِعِي وله: إذا لم ألْقَ في أمْرِي شَفِيعاً ... فتَرْكِي ما أُرِيدُ أجَلُّ شَافِعْ أأخْشَى ضِيقَ صَدْرٍ من لَئِيمٍ ... وصَدْرُ البِيدِ والطُّرُقاتِ واسعْ وله: لَعَمْرُك ما طال الوُقوفُ على الحِمَى ... لِحِيرةِ فكري من دُرُوسِ المَرابِعِ ولكنْ تمَشَّتْ في ذَراهُ عُيونُنا ... تجُرُّ على الأطْلالِ ذَيْلَ المَدَامِعِ وله: تَواضَعْ تكنْ ممَّا يَشِينُك سالِماً ... فكم جَرَّ نَفْعاً لِلَّبِيبِ التَّواضُعُ وللإسْمِ بالتَّصغير جَمْعُ سَلامةٍ ... وإن كان فيه قبلَ ذاك مَوانِعُ وله: أذْهَب نَقْدَ العمرِ حتى انْحنَى ... يطلُب في التُّرْبِ لِمَا ضَيَّعَا كأنما نَكَّسَ رَأْساً له ... يُعاقِبُ القلبَ الذي ما وَعَى وله: قد انْحنَى الشيخُ لعُظْمِ الذي ... حُمِّلَ مِن ذَنْبٍ له قد سَعَى كأنما سلَّم من فَرْحةٍ ... على رسولِ الموتِ إذ وَدَّعَا وله: مِيعادُك الفارغُ إن ساعَدَهُ ... قولهمُ مَن أجْدَبَ المَرْعَى انْتجَعْ أشْفِقْ عليه كم كذا تجُرُّهُ ... ما بين يَأْسٍ زاجِرٍ لي وطَمَعْ وله: قالُوا المَنَامُ لم يزَلْ ... بكلِّ تَأْويلٍ يَقَعْ على جَناحِ طائرٍ ... فهْو إذا قُصَّ وَقَعْ وله: أصْبَحْتُ في خَلَفٍ كجِلْدٍ أجْرَبِ ... وبِمُهْجتِي داءٌ دوائي ما ابْتَغَى حَلِم الأدِيمُ فليس يُجْدِي دَبْغُه ... حتى يعودَ الْقارِظان فيُدْبَغَا وله: لمَّا رأَى القلبُ أهْوالَ الزمانِ وما ... في اليأْسِ مِن راحةٍ بعد الْعَنَا فَرَغَا لم تُجْدِ شَكْوَايَ إلاَّ ذِلَّةً وعَنَا ... وليس أوَّلُ فَحْلِ أثْقَلُوا فَرَغَا وله: لا أطمعُ اليومَ وقد أصبحتْ ... للهِ عندي نِعَمٌ سَابِغَهْ لِرَأْسِ أطْماعِي تَبِيتُ المُنَى ... تَدْهُنُ من قارورةٍ فارِغَهْ وله: فَدَيْتُك إن النفسَ تأْنَفُ أن تَرَى ... رجائيَ في باب امْرِىءٍ مُتكفِّفَا وليس يتمُّ الجودُ للحُرِّ مُوسِراً ... إذا لم يكنْ في عُسْرِه مُتعَفِّفَا وله: أقول لِلَّهْوِ والصَّهباء قد مَنَعتْ ... صَفْواً على رَغْمِ أنْفٍ للخَلِيعِ عَفَا أغاب إبْلِيسُ مِن هذا المُصابِ لنا ... ما ذاك إلاَّ لِطُولِ العمر قد خَرِفَا وله: أيْرٌ ككلْبِ الدارِ لمَّا جَنَى ... وصار في فِعْلِ الْخَنَا ذا شَغَفْ يقُوم للطَّارِي عليه ولا ... يقومُ للإلْفِ الذي قد عَرَفْ وله: سقى اللهُ رَوضاً قد نَعِمْنا بظِلِّه ... ولا جارَ إلاّ نَهْرُه المُتدَفِّقُ إذا ما تغنَّتْ وُرْقُه وطيورُه ... غَدتْ طَرَباً أيْدِي المِياهِ تُصَفِّقُ وله: قد شِبْتُ وعُمْرُ صَبْوتِي عن طَوْقِي ... ما شَبَّ وطِفْلُه بمَهْدِ الشَّوْقِ في غُصْنِ نَقاً إذا بدا عُنْصُرُه ... في ماءِ مَشارِبِي حَلاَ في ذَوْقِي وله:

مِن تحت هَمْزةِ صُدْغِه ألِفٌ ... مِن عارِضَيْهِ تملكَّتْ رِقي عابُوه في حَلْقٍ لها عَبَثاً ... مع أنَّها من أحْرُفِ الحَلْقِ وله: هذه الدنيا مَمَرٌّ ... فيه للداخلِ طُرْقُ ليس بيْن الموتِ في الأوْ ... طانِ والغُرْبةِ فَرْقُ وله: شُجاعٌ إذا قام في مَعْرَكٍ ... يزِيدُ اشْتعالاً لَدَيْه العِراكُ فكم دَارِعٍ صادَه في الوغَى ... كأن الدُّرُوعَ عليه شِباكُ وله: لَعيدُ الزمانِ وعُرْسُ الفَلَكْ ... زمانُ كِرامٍ أضاءَ الحَلَكْ وإن زَمَاناً به قد وَلِيتَ ... لما تَمَّ دهرٌ بِبَخْسِ الفَلَكْ وله: إذا لُحْتَ قالتْ عيونُ الورَى ... أَذَا مَلِكٌ طالِعٌ أم مَلَكْ أرى زمناً كنتَ فيه العَمِي ... دَ عِرْسَ الكِرامِ وعيدَ الفَلَكْ وله: كِلاَ جَانِبَيْ هَرْشَي طَرِيقٌ لسالِكٍ ... إذا لم يكن يَرْضَ مُقاماً على ذُلِّ فإن كنتُ مأكولاً فكُنْ خيرَ آكِلٍ ... ولا تنْتهِبْنِي نِهْبَةَ الذئب للسَّخْلِ وله: فَدَيْتُ دِياراً للأحِبَّةِ لم تَزَلْ ... على القلبِ للقلبِ المُتَيَّمِ مَنْزِلاَ فليت تُراباً مَسَّها قَدَمٌ لهم ... أراه بأفْواهِ الجُفُونِ مُقَبَّلاَ وله: أمَلِي مُذ سَعى لِطُرْقِ المَعالي ... وله الحِرْصُ والغَناءُ دَلِيلُ قال يَأْسِي له اسْتَرِحْ فهْي طُرْقٌ ... ما على المُحْسِنين فيها سَبِيلُ وله: يُعْلِي مَقامَ المرءِ خِفَّةُ ظِلِّهِ ... وترى الثَّقيلَ مُحَقَّراً مَمْلولاَ أوَ ما ترى المِيزانَ يُرْفَع كلَّما ... قد خَفَّ فاحْذَرْ أن تكون ثَقِيلاَ وله: رأَى في طريقِ الرُّشْد شَبَّتْ بهامَتِي ... فأوْقَد فوق الرأسِ منِّي مَشَاعِلاَ يخُطُّ به راءً لَدَى كلِّ شَعْرةٍ ... تُنَفِّر عني كلَّ مَن كان وَاصِلاَ وله: ناديْتُ وقد هَجَرْتُمُ يا ليلى ... مُذْ طُلْتِ هَدَدْتِ بالتَّجافِي حَيْلِي والدَّمْعُ بمُقْلتي لِنَوْمِي أفْنَى ... والذَّنْبُ لنائمٍ بطُرْقِ السَّيْلِ وله: بجُودِه تغرق الآمالُ حين تَرَى ... مَوْجَ النَّدى سال في النَّادِي لِمن سَأَلاَ له مَوائِدُ إحْسانٍ إذَا بُسِطتْ ... تدْعُو الثناءَ إليها دَعْوة الْجَفَلَى دعوة الجفلى هي الدعوة العامة، يجفلون إليها، والنقري: خلافها، قال طرفة: نحنُ في المَشْتاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى ... لا تَرَى الآدِبَ فينا ينْتَقِرْ وله: أرى كلَّ ذي عَيْبٍ ونَقْصٍ لقد عَلاَ ... على كلِّ حُرٍ بالفضائلِ كُمِّلاَ كذلك عاداتُ الزمانِ لأجْلِ ذا ... صفاتُ عُيوبِ الخلقِ في الوَزْنِ أفْعَلاَ وله: ما فتح الوردَ بَنانُ النَّدَى ... ولا نَسِيمٌ سَحَراً ناسِمُ قراضةَ التِّبْرِ بِفِيهِ احْتَسَى ... فهْو لذا فَرِحٌ باسِمُ وله: قيل في اسْمِ السَّلامِ رُقْيَةُ رَاقٍ ... للأَفاعِي قد حَرّمْتها الأنامُ وأنا قد رأيتُ رُقْيةَ فَقْرِي ... حين ألْقاكَ أن أقولَ السَّلامُ وله: إنِّي إذا ما الْهَمُّ وَافَى إلىَ ... مَضاجِعٍ شَرَّدَ عنها المَنَامْ خَادعْتُ أيَّامِي بشُربِ الطِّلاَ ... فخِدْعَةُ الأيامِ شُرْبُ المُدامْ وله: مَن كان في الدهرِ له مَكْسَبٌ ... فلْيَجْعلِ العَقْلَ بَرِيدَ المَرامْ لكلِّ شيءٍ صَنْعةٌ أُحْكِمتْ ... وصنْعةُ العقلِ اخْتيارُ الكرامْ وله: كُن لِمَا لا ترجُو أشَدَّ رَجاءً ... وارْجُ رَبَّاً للعالمين كَرِيمَا إن مُوسَى راح يقْبِسُ ناراً ... كلَّم اللهَ رَبَّه تكْلِيمَا وله:

قالوا الزمانُ غَدا قَصِيراً هل مَضَتْ ... بَرَكاتُه أوْ زادتِ الآلامُ ما ذاك إلاَّ أنه قد فَرَّ مِن ... خَوفٍ وقد جارَتْ به الأحْكامُ وله: يتَبادَلان بِلاَ رِباً إذْ أحْكَمَا ... عِنْدَ المَحبَّةِ أيَّمَا إحْكامٍ قُبَلٌ فَماً لِفَمٍ وصَبٌّ دائمٌ ... ما بَيْن ذَيْنِ كفَرْدَتَيْ بَنْكامِ وله: ومُولَّعٍ بالدَّبِّ كَيْ ... يسْرِقَ لَيْلاً خاتِمَا وقد حكَى الطَّيْفَ فما ... يزُورُ إلاَّ نائما وله: أُغْلِقُ الجَفْنَ حين زار خَيالٌ ... منك كي لا يَفِرَّ من أجْفانِي فيظُنُّ العَذُولُ أنَّ مَنامِي ... زَارَني والمنامُ ليس يَرَانِي وله: صَبرتُ لخَطْبِ زمانٍ دَهانِي ... وأفْنَى الَّلآلِي شَيْدُ والِي المَبانِي فشَالَتْ نَعامتُهم بالرَّدَى ... وفَرَّخَ رُوعِي بوَكْرِ الجِنانِ وله: وكم فِتْيةٍ نَجَّيْتُ من نار فِتْنَةٍ ... وأنْقَذْتُهم من ظُلْمةِ الحَدَثانِ أضاعُوا حُقوقِي ثم غُرُّوا بِذِلَّتِي ... كأنِّي لديْهم خالدُ بن سِنانِ وله: ولم أنْسَ إذْ أهدَى النَّسِيمُ تحيَّةً ... رقصَتْ لها طَرَباً غصونُ الْبَانِ والسُّحْبُ قد نَسَجتَ رِداءً أدْكَناً ... والبَرْقُ مَكُّوكٌ من العِقْيانِ وله: مُذْ هَجَرْتُم هَجَر الطَّيْقُ ولِي ... نَاظِرٌ لم يَدْرِ ما طَعْمُ الوَسَنْ في هَواكم ألِفَ الْحُزْنَ فلو ... لم يجدْه مات من فَرْطِ الْحَزَنْ وله: أيها السَّائلِي عن النومِ إنِّي ... لم أذُقْه من بعد ساعةِ بَيْنِي أتَظُنُّ المَنامَ يدخُل جَفْنِي ... كيف هذا وحُسْنُه مِلءُ عَيْنِي وله في معنى قول الحسن: من ركب الليل والنهارفإنه يسار به وإن كان مقيماً: لا تَظُنَّنَّ ذَا حياةٍ مُقِيماً ... وهْو في رِحْلةٍ له بيَقِينِ مَن مَطاياهُ ليلُه ونهارٌ ... سائرٌ للفناءِ في كلِّ حِينِ وله: إذا غبتَ يا شمسَ المكارمِ والنَّدَى ... وأظْلَمَ من أُفْقِ التَّواصُلِ هِجْرانُ في كلِّ طَرْفٍ من خَيالِك صُورةٌ ... وفي كلِّ عَيْنٍ مثْلَما قيل إنْسانُ وله: العينُ تَوَدُّ في جميعِ الأزْمانْ ... لو تُبْصر طَرْفَه المريض الفَتَّانْ تشْكو سُهْدَ النَّاعِساتِ الأجْفانْ ... فالنَّومُ كما يقال حَقّاً سُلْطانْ وله: قالوا لِيَ اصْبِرْ لفادِح الأحْزانِ ... فالحُزْنُ وما يَسُرُّ كلٌّ فَانِي فارْقُبْ فَرَجاً فقُلتُ إنِّيَ أخْشَى ... يأْتي الفَرَجُ إليَّ لا يلْقانِي وله: زارَنا الوَرْدُ في أسَرِّ زَمانٍ ... فقَرَيْناه بابْنةِ الزَّرْجُونِ وبُعَيْدَ الرَّبيعِ أطْفالُ نَوْرٍ ... لَعِبت والخيولُ قُضْبُ غُصونِ وله مضمنا، فيمن علق على جبينه باقة نرجس: على وَجْه من أحْبَبْتُ أبْصَرْتُ نَرْجِساً ... غدا بَاهِتاً يرْنُو له بعُيونِهِ فيا حَبَّذا بلدرٌ بقلبِيَ نازلٌ ... كأنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقتْ في جَبِينِهِ وله: يا حابِسَ الكأسِ في يَدَيْهِ ... أنْعِمْ بِرَدٍ لِشارِبِيهَا فَحَبْسُها في يدَيْك ظُلْمٌ ... شَيَّبَ رأسَ الحَبابِ فِيهَا وله: حُسْنُ لِباسِ الفتى يدُلُّ على ... مُروءَةٍ طَبْعُه بها زَاهِي فبِزَّةُ المرءِ في تَجَمُّلِهِ ... عليْه عُنْوانُ نِعمةِ اللهِ وله: تَوَقَّ السُّؤالَ إذا ما حَجَجْتَ ... وفي جامعٍ تعْبدُ اللهَ فِيهِ فمَن يسْألِ الناسَ عند الكريمِ ... سواءٌ لَديْه ومَن يشْتكِيهِ وله: لمَّا رأيتُ الوزيرَ بالدُّنْيَا ... أجْمَعِها قام وهْو حَاوِيهَا

عَرفتُ أن الدنيا تقومُ على ... قَرْنٍ لِثَوْرٍ بإذْن بَارِيهَا وله: مَدحْتُه يوماً فنِلْتُ الغِنَى ... بالوعدِ والإحْسانِ مِن فِيهِ فقال لي لمَّا تَقاضَيْتُه ... كِذْبٌ بكِذْبٍ لا رِبَا فِيهِ وله: مَنْزِلٌ ضَيِّقٌ ولا حُسْنَ فيه ... غيرُ تَهْوِينِ ضِيقِ قَبْرٍ كَرِيهِ مثل حَبْسِ الأرْحامِ مَن يَنْجُ منه ... ما رأيْناه قَطُّ يدخلُ فِيهِ وله: قدَّر اللهُ أن أعِيشَ فريداً ... في ديارٍ أُساقُ كَرْهاً إليْهَا وبقلْبِي مُخَدَّراتُ مَعانٍ ... أُنْزِلَتْ آيةُ الحِجابِ عليْهَا وله: كلُّ الورى جُرْدٌ سَلُوقيَّةٌ ... لِصَيْدِ رِزْقٍ أبداً تَنْوِي ووثْبةُ الأرْنَبِ كم خَلَّفتْ ... كَلْباً على حِرْمانِه يَعْوِي وله: مَوْلىً إذا ما جئْتُ أبْوابَهُ ... وفَضْلُه أصْبح لي دَاعِيَا ظَلَّ أميرُ الشَّوْقِ لي آمِراً ... وحاجبُ الْهَيْبةِ لي ناهِيَا وله: أتَيْتُك يا مَوْلايَ أبْغِي زيارةً ... تسُرُّ على رَغْمِ الأعادِي الأمانِيَا فإن كنتَ لم تُصْبِحْ لِيَ اليومَ آذِناً ... فقد أذِنَتْ لي هِمَّتِي بارْتِحالِيَا وله: دَارِ الْبَرِيَّةَ إن تُرِدْ ... شَرَفاً ودَعْ عنك الْحَيَا إن الرِّياسةَ كاسْمِها ... فاسْمَعْ أوائِلُها رِيَا ومن مفرداته التي أجراها مجرى الأمثال: دَارِ الأنامَ صغيرَهم وكبيرَهم ... مَن لم يُدارِ المُشْطَ ينْتِفْ لِحْيَتَهْ أرْسِلْ إذا أرْسلْتَ خِلاَّ حاذِقاً ... إنَّ الرسولَ تُرْجُمانُ العَقْلِ يَطِيبُ عَيْشُ المرءِ في حَيِّهِ ... إن ترك التَّدْبيرَ والإخْتيارَا مَن يتَّبِعْ رَأيَ الأمانِي ... لم يَنْجُ مِن مَطْلِ التَّوانِي كفَى ناظِراً للعَبْدِ أنَّ عَدُوَّهُ ... يكون على حالٍ بها يَغْضَبُ الرَّبُّ مَن يَزْنِ في حُلْمٍ يكُنْ جَزاؤُه ... في حُكْمِ أهل الشَّرْعِ يُجْلَد ظِلُّهُ كلُّ الورى صائدٌ ولكنْ ... يختلفُ الفَخُّ والشِّباكًُ البَيْعُ بالنَّقْدِ خيرٌ ... وأوَّلُ السَّوْمِ رِبْحُ كم ناصحٍ وصَف الطريقَ لِمُدلِجٍ ... ويَنامُ عن سَنَنِ الطَّريقِ الواضِحِ ومن يقعُدْ على طُرُقِ الْقوافِي ... تَمُرُّ عليه قافيةُ الهِجاءِ لا تكُن مُمْسِكاً حَبابَ رَجاءٍ ... فالأمانِي بَضَائِعُ الْحَمْقَى ولا خيرَ في مُلْكٍ بغيرِ مُدَبِّرٍ ... تفرَّقت الأغنامُ إذْ ذَهَب الرَّاعِي تَسْبيحُ عِلْقٍ زارَهُ لائِطٌ ... أبْرَدُ أم سَجَّادةُ الزَّانِيَهْ كلُّ مَن قَصَّر عَمَّا ... نالَه الناسُ يَعِيبُهْ ما يطلُب المرءُ بغيرِ حاجةٍ ... تدعُو إليها الحالُ فَقْرٌ حاضِرُ بلُحومِ الأنامِ مَن يتغَذَّى ... ذاق جُوعاً من النَّدَى والمَعالِي إذا ما تَّيسعَ الخَرْقُ ... فأعْطِ الثَّوبَ رَافِيهِ يروغُ في مِشْيةٍ ثَعْلَبٌ ... ولو مَشى في رَبَضٍ خَالِي إن لم يكُنْ في منزلٍ مُؤْنِسٌ ... ما الفَرْقُ بين البيتِ والقَبْرِ أيها النَّافخُ يبْغِي أنَّه ... يُطْفِىءُ الشمسَ لقد أتْعَبْتَ فَاكَا لسانُ كلِّ عاقلٍ في قلبِه ... وقلبُ كلِّ جاهلٍ في فِيهِ إن نصَحْتَ الصديقَ فانْصَحْه سِرّاً ... كلُّ نُصْحٍ بين المَلاَ تَقْرِيعُ يا مَن سقَى مِن حَنْظَل عَسَلاً ... أرَقْتَ في غيرِ طائلٍ عَسَلَكْ

مَن صحِب الدهرَ طُولَ عُمْرِهْ ... لم يَخْلُ من خَيْرِه وشَرِّهْ إذا كنتَ في بَلْدِةٍ لم تُرِدْ ... مُقامَك فيها فأنتَ الأسيرُ مَن لا له حَبِيبُ ... فإنَّه غَرِيبُ خيرُ السِّلاح ما وَقَى ... إن الرشادَ في التُّقَى إنما أشْتَهي لقاءَ حَبِيبٍ ... أو لبيبٍ يشْفي الفؤادَ كلامُهْ قيل لا جُهْدَ بَلاءٍ نازلٍ ... مثلُ جارِ السُّوءِ في دارِ المُقامَهْ مَن يُهْدِ للناسِ ثمارَ الغنَى ... أهْدَوْا إليه ثَمَرَ الشكرِ إنَّ رِضَا المرءِ على نفسِهِ ... دليلُ سُخْطِ الخَلْقِ والخالقِ وإذا ما كنتَ يوماً مُخْطِئاً ... فاعْتِرافٌ بالْخَطَا عَيْنُ الرِّضَأ ربما كان سارقانِ على المْا ... لِ حَفِيظانِ مثلَ رَبِّ المْالِ مِن أفضلِ التَّصدُّقاتِ بِرَّا ... جُهْدُ مُقِلٍ لفقِيرٍ سَرَّا لقد قيل إن الكبرَ والعُجْبَ مِحْنَةٌ ... وذاك بَلاءٌ ليس يرحمُ صاحِبَهْ إذا جاد لْلقوم رَبُّ الطعام ... فماذا يكونُ امْتنانُ الطُّفَيْلِي قل لِمَن في الخيْر أبْدَى جُهْدَهُ ... الضِّمارُ اليومَ والسَّبْقُ غَدَا إن لم يكنْ بين القلوبِ تجاوُزٌ ... كان الجِوارُ قَرَابةَ الْحِيطانِ لا تَصْحبنْ إلاَّ امْرَءاً عاقلاً ... ينفع في الدنيا وفي الآخِرهْ رحم الله صاحباً لِيَ أهْدَى ... عَيْبَ نَفْسي قد كنتُ لستُ أَراهُ ومن نوادره منظومته في الأمثال، سماها ريحانة الندمان. منها: مَن ينتسِبْ إلى العظيمِ عُظِّمَا ... فالْجَأْ إلى اللهِ تكُن مُكَرَّمَا تُصانُ عن كَسْرٍ وعن إمَالَهْ ... مُجاوِراً سَعْداً وخيرَ حَالَهْ ورُبّما يُكْسَر لْلجوارِ ... ويُؤْخَذُ الجارُ بظُلْمِ الْجارِ في زمن فيه الفُحولُ صَرْعَى ... اسْتَنَّنتِ الفِصالُ حَتَّى القَرْعَى خُذْ عِظةً من الزمانِ كم وَعَظْ ... إن السعيدَ مَنْ بغيرهِ اتَّعظْ ليس الغَنِي إلاَّ إذا صَفَا الكَدَرْ ... هل ينظُر الغَرِيقُ في البحرِ الدُّرَرْ فامْدَدْ على قَدْرِ الكِساءِ رِجْلَكَا ... واقْطَعْ على طُولِ القَوامِ ثَوْبَكَا قد مات أمْسِ وتقَضَّى أمَدُهْ ... واليومُ في النَّزْع ولم يُولَدْ غَدُهْ اتْرُكْ فتىً أخلاقُه أخْلاقُ ... دَواءُ ما لا تشْتهي الفِراقُ كم آلِفٍ مَن لم يكُنْ قَرِينَهْ ... ضَرورةً كصُحْبةِ السَّفِينَهْ مَن خطب الشَرَّ تزوَّج النَّدَمْ ... ويسْتوِي منه الوجودُ والعَدَمْ مَن يزْرع العِتابَ يَحْصُدِ الفِراقْ ... وغِيرةُ الْحَمْقاءِ مِفْتاحُ الطَّلاقْ كم زارع لراقدٍ قد أكَلاَ ... ومُوقدٍ ناراً وغيرُه اصْطَلى مَنْ مَوْتُه عِتْقٌ من الآفاتِ ... فلْيُؤْثِرِ الموتَ على الحياةِ ما الخَطْبُ إلاّ للجَلِيلِ طارِقُ ... مِن الأعالي تنزلُ الصَّواعِقُ مَن لا يَقِيكَ غائباً أُذْناهُ ... ليس تَراكَ شاهداً عَيْناهُ وَسِّعْ عليك كلَّ شيءٍ يتَّسِعْ ... فإنه مَن صَارعَ الدنيا صُرِعَ قد يُنبِىءُ اللفظُ عن الضَّميرِ ... واللَّحْظُ عن لَفْظٍ بلا تَعْبِيرِ مَن نَفْسُه لِذلَّةٍ تُسلِّمُهْ ... لا أكْرَم الرحمنُ مَ، يُكَرِّمُهْ

رِضَا الأنامِ غايةٌ لا تُدْرَكُ ... أرْضِ الإله للسَّدادِ تَمْلِكُ إنَّ اقْتنَاءَ المجدِ والمَناقِبِ ... تكونُ في الصبرِ على العَواقِبِ إنَّ المِزاح مُلْقِحُ الأضْغانِ ... وكاسِفٌ مَهابةَ الإنْسانِ فَضْلُ الأيادِي في النَّدَى قُروضُ ... ووُدُّها في شَرْعِه فُروض لا يعدَمُ الكريمُ أن لا يُحْسَدَا ... والمالُ مَكذوبٌ عليه أبَدَا إذا تَلاقَى الخطْب والأقْدارُ ... يصْطلِحُ الغَرِيقُ والتَّيَّارُ يَتْعب مَن يُجاوِرُ الأعْلَى المَحَلَّ ... أما تَرَى الْخَصْرَ النَّحِيلَ والكَفَلْ ورُبَّ شِرِّيرٍ لِقَومٍ يُصْلِحُ ... إنَّ الحديدَ بالحديدِ يُفْلَحُ إنَّ الجبانَ حَتْفُه مِن فوقِه ... والثَّوْرُ يحمى أنفَه برَوْقِهِ لا يتْركُ الحزْمَ اللبيبُ الأكْيَسُ ... أن تَرِدَ الماءَ بماءٍ أكْيَسُ والْحِرْصُ في كلِّ زمانٍ عانِي ... والحِرْصُ والحِرْمانُ تَوْءَمانِ شَيبُ الشُّعورِ زُهْرُ النُّجومِ ... تُنْبِتُه غمائمُ الغُمُومِ إن لم يجُدْ بوَصْلِه الحبيبُ ... اصْطَلح العاشقُ والرَّقيبُ أعْطِ أخاك إن قَدَرْتَ تَمْرَهْ ... فإن أبى قبولَها فَجَمْرَهْ تُؤدِّب الأشْرافُ بالهجْرانِ ... ولم تُؤدِّبْ قطُّ بالحرْمانش لا تصْحبِ المجْدُودَ بعد الْياسِ ... فرُبَّما أعْداك بالإفْلاسِ السادات البكرية سادات الوجود، وأولياء النعم الذين عرفوا بالكرم والجود. بيتٌ كبيت العتيق يزوره من لبى وأحرم، ومن نال لثم عتبة بابه فقد ظفر بالحجر المكرم. ثبتت أوتاده وأطناهب، ووصلت بأسباب السماء أسبابه. لا زحاف فيه إلا في بيوت حساده، ولا يطأ إلا على رقاب أضداده. حرمٌ آمن ليس للحوادث عليه هجوم، ولا لشياطين البغي فيه استراقٌ فلذا تستريح شهبه من الرجوم. فهو نور الكون قبل أن يخلق النيران، وقطب الدائرة قبل أن تؤمر الأفلاك بالدوران. خالصة الله من عباده أهل الصلاح، وتراب نعالهم كحلٌ لعيون أهل الفلاح. ما منهم إلا فتىً لثوب العز ساحب، وللوقار من الصبا مصاحب، فإذا استوى على كرسيه فملكٌ عليه من المهابة قبل الحاجب حاجب. بحاارٌ ظمت وعلت القلل متعهدة صوب العهاد، فتوارت البحار خجلاً منها في منخفض الوهاد. ففي جيد الدهر من مدائحهم عقودٌ وقلائد، ليس إلا كلماتها شذرات وقوافيها فوائد. فمنهم: أحمد بن زين العابدين شهاب أفقهم الثاقب، الكثير المآثر والمناقب. رايات مشاهده على الآفاق مجلوة، وآياتٌ محامده بألسنة الإطلاق متلوة. فما فتحت المحابر أفواهها إلا لتنطق ألسنة الأقلام بما مدحته به الأنام، ولا حبر الحبر بياض العطروس بسواد السطور إلا ليشير إلى أن من جملة خدمه الليالي والأيام. إذا بدا للعيون أدهشها عن التملي حجابه المنيع، وإذا قابله الورد احمرت خدوده إذ أخجل الروض منه الصنيع. وقد عودته بسط الكف فواصله، فلو أراد قبضها لم تجبه أنامله. محاسن شيمه خلفها المعالي تسير، ومواطىء هممه كف الثريا إليها تشير. وإذا رقَى نَجْدَ المعالِي وَاطِئاً ... ثَهْلان مَجْدٍ في ذَرَاهُ فارِعَا لم يَحْكِه شَرَفاً ولا ظِلٌّ له ... فلذا يُعَفِّر منه خَدَّا ضَارِعَا وكان يسير سيل الملوك، ويقلد من الترفة بأزهى السلوك. في عزةٍ أشهر من مثل، وعن الملوك فلا تسل. وقد ولي قضاء مكة فانضم إلى كعبتها كعبة، وبسط يده في المواهب حتى صير كعباً لا يبلغ في الجود كعبه. فلا ينتهي من محمدةٍ حتى تكل الخواطر، ولا يرجع عن مأثرةٍ حتى تنقطع عن السير المطي الخواطر. وهو في الأدب روض توشى ببرده الأخضر من نباته، ونظم النوار قلائده من جيد الجداول في لباته.

وله أشعارٌ أنسق من لؤلؤ المزن في فم الأقاح، وأعبق من عبير ورد الخدود والتفاح. فدونك منها ما يسحب به الأدب ذيولا، وتأمن زهرات رونقه تغيراً وذبولا. فمنه قوله: صَبٌّ جَفاهُ هجُوعُه ... والآن زاد وُلُوعُهُ كتمَ الهوَى عن قَوْمِهِ ... فوَشَتْ عليه دُموعُهُ قالوا الحبيبُ مُمََّنعٌ ... أحْلَى الهوى مَمْنُوعُهُ لو ذاق رَضْوَى بعضَ ما ... يَلْقَى لَذابَ جميعُهُ فهو القتيلُ بحُبِّه ... مُلْقَى الغرامِ صَرِيعُهُ شيخُ الهوى بل كَهْلُه ... بل طِفْلُه ورَضِيعُهُ وقوله: وحَقِّ حُمْرةِ خَدٍ ... تُثِير بالقلبِ حُمْرَهْ تُطْفي لخَمْرةِ ثَغْرٍ ... بيْضاء في الكأسِ خُمرَهْ تجْلل لخَمْرةِ فضلٍ ... تُزِيلُ بالشُّرْبِ خَمْرَهْ ومن ألغازه: غَزالةٌ في بُرْدِها رافِلَهْ ... تقْتنِصُ الأُسْدَ مِن القافلَهْ في حَرَمِ الأمْنِ وقد خِلتُها ... قائمةً بالفَرْضِ وبالنَّافِلَهْ قلتُ لها: رِقِّي، فقالت لِمَنْ ... كأنها عن مَطْلَبِي غافِلَهْ ثم انْثَنتْ تُلْغِز لي باسْمِها ... لُغْزاً به أفكارُنا كافِلَهْ ما اسمٌ خُماسِيٌّ وتصْحِيفُه ... شِبْهُ بُدورٍ لم تكنْ آفِلَهْ في سُنَّةِ المُختارِ خيرِ الورى ... بَيانُه وهْي له شامِلَهْ في سِنَةٍ نَبَّهَ مُسْتيقِظاً ... وإن تَشَا في سَنَةٍ كامِلَهْ ومن نثره جواب لغزٍ في حوراء: أجدت أيها الجهبذ الهمام، وحليت بجواهر زواهر الدرر أجياد الكرام. واستجليت على منصة فكرتك حوراء الجنان، واستخليت بها في المقاصير الحسان. فافتر ثغر حنكها للقياك، وروت لك رواية بشرٍ عن الضحاك. فصابح الله صباحة وجهك بوجهها الحسن، ولا زالت تخدمك المعالي بأنضر فنن. وله في أشهب، كتبه إلى ابن عمه الوارثي، وكان مالكياً: ما علمٌ مفرد مركب، وضع لحيوانٍ يركب؟ إن رفعت رأس زمامه، دل على اسم جمعٍ ناريٍ في التزامه. وإن أتيت برأسه إلى أقدامه، فاستعذ بالله من سهامه. مع أنه على حقيقة الانفراد، إمامٌ تزيد فيه اعتقاد. وتقتدي بأمره ونهيه وعدله، وقد أقر العلماء بفضله. خصوصاً أهل مذهبكم الشريف، ولا يحتاج إلى تعريف. وله جواب لغزٍ أرسله إليه الوارثي: بقيت أيها العلامة المصون بلفظ الخالق، تكتحل بإثمد مدادك المكنون عيون الحقائق. وتسعى لديك جواريها جارية ولو جازت قصبات السبق، مطيعةً لأمرك في حالها وماضيها ومضارعها لاستقبال الحق. ينتظم منثورها لديك انتظام العقود، ويتشعب أريضها تشعب المغايرة في منهلها المورود. لأنك الفرد الذي زاد الله شرفه، ورقى في مراقي الكمال شرفه. وكتب إليه: ما قولكم في حرامٍ ورد بالنص، وهو حلالٌ لكل شخص. ومن أعجب العجاب، أن تفتخ به أولو الألباب. نزلت في شأنه آياتٌ بينات، وأقيم بوجه الحرمة فيه دلائل واضحات. ولا حد على من قال بحله، مع أن حده ثابتٌ بصحيح نقله. شهدت بتحريمه علماء الملل، واعترفوا بالحل ولا زلل. إن حذفت آخره تراه من الأوتاد، ويطلبه الزهاد والعباد. فأجابه بقوله: دُمْتَ مولايَ بالمَعارِفِ تُولِي ... صَحْبَك الفضلَ في بديعِ الكلامِ وعجيبٌ في النَّصِّ شيءٌ حَرامٌ ... وهو حِلٌّ وواجِبٌ في الحَرَامِ وهو في الْحَدِّ قائمٌ حيث يَحْمِي ... كلَّ مَن جاءَه لِحْفظِ الذِّمامِ هو بالنَّصِّ جائزٌ وحَرامٌ ... بل وحَاوٍ لسائِرِ الأحْكامِ وهو أيْضاً حقيقةٌ ومَجازٌ ... وطريقٌ لَنْيلْ كلِّ مَرامِ فيه أيضاً ثَوابُ سَاعٍ إليهِ ... بل وفيه وَسِيلةُ الإسْلامِ هَبْكَ بالقلْبِ تُخْلِصُ الوُدَّ فيه ... هو نزْرٌ فيما له من مُقامِ أخوه: الأستاذ محمد صاحب الحال والقال، ومن أعجز بوصفه فصحاء المقال.

فهو معدن الفضل الذي خلص عياره، وبحر العلم الذي لا يقتحم بسفن الأفكار تياره. خلق كما أرادته معاليه، وتمنته أيامه ولياليه. فلو صور نفسه في الوجود، لم يزْدها على ما فيه من الكرم والجود. فاشتهر شهرة الفجر الصادق في الظلام، وجده أبي بكر الصديق في أهل الإسلام. وهو خليفة الذي أسرع الأجواد لمحالفته ولم يستقم أمر خلافته مع مخالفته. فما انقطعت الأقلام في خدمة باريها إلا طمعاً في جنات مدحه فواظبت على الخمس، ولا رأى الهلال ما في نفسه من العوج إلا قال اعتذاراً له من أين لي وصولٌ إلى مطلع الشمس. على أن رأس الشمس شاب لانتظاره، والأنجم كلها مقلٌ منتظرةً لمحةً من أنظاره. وكان له نوادٍ غاصة، ومجالس عامة وخاصة. يستخلص فيها من رقت طباعه، وامتد فيما يليق بمكالمته باعه. فيصفي ألبابهم بمحصول خيره، ويسكن قلوبهم بيمن طيره، ويغنيهم ما عاشوا عن مخالطة غيره. في حضرةٍ تستنطق محاسنها الخرس، ونازلها متهيءٌ من موسمٍ إلى عرس. يتنسم في الطلوع والعبو عن عبير، ويثني المعاطف من الحبور في حبير. الرَّوضُ ما قد قِيلَ في أيَّامِه ... لا أنَّه وَرْدٌ ولا نَسْرِينُ والمِسْكُ ما لَثَم الثَّرَى مِن ذِكْرِهِ ... لا أنَّ كلَّ قَرارةٍ دَارِينُ فامتلأت أرجاء الوجود بأرج صفاته الملكية، وخضعت الصناديد الصيد لعتبة عزه الملكية. وشدت فحول الرجال، نحو سدته الرحال، وكحلت بثراه أعينها بلا منة الكحل والكحال. وأصبح للآمال ركناً ركيناً، وكهفاً تأوي إليه العفاة مسكينا. في خِلْعةِ الزَّاهِي لِمَن شامَهُ ... صَحِيفَةٌ عُنْوانُها البِشْرُ بطَلْعةٍ تمتْلِي العَيْنُ مِن ... إجْلالِها والقلبُ والصدرُ وكان في الأدب ممن سلم له المقاد، وله شعرٌ سلم من النقد فإن قائله أنقد النقاد. إذا ما قال شِعْراً تَاهَ عُجْباً ... به بين الخَلِيقةِ كلُّ شِعْرِ ولِلأْقلامِ كم قَصَباتِ سَبْقٍ ... حَواها في الرِّهان بيَوْمِ فَخْرِ فلم تُدْرِكْ غُباراً منه عَيْنٌ ... ولم تَلْحَقْ به خَطَواتُ فِكْرِ فمن شعره قوله، من قصيدة أرسلها إلى شيخ الإسلام يحيى المنقاري، أولها: أمِسْكيَّةُ الأنْفاسِ أم عَبْقَةُ النَّدِّ ... وناسِمةُ الأزْهارِ أم نَفْحَةُ الوَرْدِ ونَشْوانةُ الألْحاظِ أم رِئْم حاجِرٍوثَغْرُ الْقَوافِي الزُّهْرِ أم لُؤْلُؤُ العِقْدِ ومائِسَةُ الأعْطافِ أم خُوطُ بَانَةٍ ... ووَجْهُ الذي أهْواهُ أم قَمَرُ السَّعْدِ أعَزُّ بني الْعَلْياءِ قَدْراً ورِفْعةً ... ومَن فرَعَ الشَّمَّاءَ مِن رُتْبةِ المَجْدِ ومُقْتَعِدٌ مِن صَهْوةِ المجدِ سَابِقاً ... إذا ما دَنَا حَدُّ المُطَهَّمةِ الْجُرْدِ ومُعْتقِلٌ لِلْعِزِّ صَعْدَة عَزْمِةٍ ... أنَابِيبُها رَعَّافةٌ بِدَمِ الأُسْدِ ومُرْسِلُ أرْسالِ العَطايَا مُبارِياً ... بأيْسَرَها وُطْفَ الغمائِم في الرِّفْدِ أيا مُفْتِيَ السُّلْطانِ إنَّك واحدٌ ... كَمالاً وهذا لستُ أشْهدُه وَحْدِي وأنت ومَ يَهْواك في ذِرْوةِ الْعُلَى ... بفَخْرٍ ومن يَشْناكَ في وَهْدةِ الطَّرْدِ وإنَّك والرحمنِ حِلْفَةَ صَادِقٍ ... لأمْثَلُ مَن أُهْدِي له دُرَرَ الْحَمْدِ فلا زال أهْل العلمِ يَحْيا بفَرْعِكُم ... بفْضلِ إلهٍ فَيْضُه زادَ عن حَدِّ رعَى اللهُ أيَّاماً مَضَيْنَ كأنَّنا ... بها قد غَنِمْنا العَيْشَ في جَنَّةِ الخُلْدِ تولَّيْتَ فيها مصرَ تُوسِعُ أهْلَها ... نَوالاً يفُوق النِّيل في وَاسِعِ المَدِّ وعَزَّزْتَ فيها الشَّرْعَ آيةَ عِزَّةٍ ... بحَدِّ حُسامٍ سُلَّ بالعِزِّ عن حَدِّ فيا مَن له وُدِّي من الناسِ كُلِّهم ... ومَن هو لي من بَيْنهم غايةُ القَصْدِ

ومَن صِرْتُ في مَدْحِي عُلاهُ كأنَّني ... حَمامةُ جَرْعَا فَوْق مَيَّالَةِ المُلْدِ على أنَّني ما فُهْتُ يوماً لِماجِدٍ ... سِواه بشِعْرٍ لا بقُرْبٍ ولا بُعْدِ ولكنْ دَعانِي الشَّوقُ لَبَّيْتُ دَاعِياً ... وهذا وما أُخْفِيه بعضُ الذي أُبْدِي ألِيَّةَ مَحْنِيِّ الضُّلوعِ على الأَسَى ... تَحارُ الأُسَا فيما بَراهُ مِن الوَجْدِ له زَفَراتٌ من فؤادٍ تضرَّمَتْ ... بها نارُ شَوْقٍ دُونَها النارُ في الوَقْدِ لأَنْت الذي ما حَلَّ في القلبِ غيرُه ... ولا حَال حالِي فيه عن ذلك الْعَهْدِ ولم تَرَ عَيْنِي مثلَه بَعْدَه وهل ... يَمِيلُ إلى غَوْرٍ فتىً عاش في نَجْدِ وأعقبها بنثرٍ، صورته: اللهم إني أسألك بأسرار التنزيل التي فاقت البحر والنهر، ويسرت بمعالم تنزيلها المدارك لتسهيل السبيل كل سؤدد وفخر. وقضيت بكشف معارفها عن كشاف عوارفها لمن أصبح عادلاً وابن عادل، فما أفتى مفتٍ إلا وانفهق من من قلبه ينبوع الحياة وحصل منه الكمال بكمال الفضائل. وما أعرب عما أغرب بباسقات تبيانه إلا وكان الدر المنثور، وما أطنب بكل كلامٍ أطيب إلا بفتح الرحمن الكفيل له بتيسير الأمور. أن تمد حضرة مولانا شيخ الإسلام، الذي أحيى الله تعالى بوجوده مآثر العلماء الأعلام. نخبة أرباب العلوم، والمحلى لجيد الدهر بقلائد المنثور والمنظوم. صاحب المقامات الحسنة في ترغيبه وترهيبه من فعله الحسن، بادي الإرشاد بتنبيه الغافلين فيما ظهر وبطن. فالدرر المنيرة من مواهبه اللدنية، المتفق عند الثقاة على دلائله منهاج التوضيح من فتح رب البرية. ما اختلف في فضله اثنان، بل ائتلف على حبه كل إنسان. مرسل أوصافه مسلسلٌ بكل كمال، وحديث أفضاله متصلٌ بالخبر في الغدو والآصال. ضياء مشكاة أفكاره مشارق الأنوار، ومصابيح آرائه مضيئةٌ بالعشي والإبكار، بتنوير الأبصار والبصائر، المختار من خلاصة أهل العناية فلا أشباه له ولا نظائر. فالدر والغرر من كنز بحر علمه الرائق، الجامع المحيط بما يقصر عنه نهر الحقائق. الحائز من البداية أسرار الهداية، صدر الشريعة منشرحٌ بنقاية الوقاية وغاية النهاية. تنقيح عباراته يبدي درر بحاره، وتوضيح تلويح إشاراته يهدي إلى الإسعاف بمنتقى اللطائف. مجمع بحري العلم والعمل، ورمز الحقائق الموصل إلى خزانة الفقه بفيض الأزل. فجامع الفتاوى يضيء من جوهره لبه المنير، وفتاوى ابن نجيمٍ من بياته برسم بنانه الكاشف عن سرة السرير. منار الدين وصاحب الاستقصاء لفصول البدائع، بحر الأصول في المعقول والمنقول بل جمع الجوامع. منهاجه قويم، ونهجه مستقيم. وكيف لا وهو العضد وحاوي التحرير، أبكار أفكاره المستقصر من لب اللباب عند كل خبير. فالنقود والردود من أبحاثه حاصله، ومرقاة الوصول لذي الأصول واصلة. صاحب التمهيد والتجريد بالهداية إلى مواقف المقاصد، والمقامات العلية في آداب البحث لذوي العقائد. فكم له من محاوراتٍ يحصل بها الشفا، لبيان حكمة العين ممن كان في غموضها على شفا. قوي الطالع سامي العماد، سيدٌ في مطالع السعد على أولي الطوالع الأمجاد. له المحاكمات الشمسية في تهذيب جميل الفرائد، المنتظمة في سلك تقرير الملخص للفوائد. ذي المناهج الوافية بتحفة المودود، وطالع نظام السعد الذي هو أسنى المطالب في تحقيق المقصود. عباراته الشافية مراح الأرواح، المشرقة بسناء الإيجاز التعريف الفائض للمصباح عز الموالي فالمنسوب إليه عزي الأفاضل، الآتي بما لم تأت به الأوائل. لا غرو أنه مغني اللبيب، وتحفة الغريب. ألفاظه الكافية في تسهيل الصلاة والعوائد، وموارده الصافية لكل وارد لتحصيل خلاصة القواعد. ما قطر الندى إلا من بحر علمه البسيط، وجمع جوامع فوائده وافٍ محيط. المنهل العذب لوارديه، والكافي الشافي لمريدي الارتشاف وطالبيه. عصام الدنيا والدين، فوائده الضيائية عمدة أهل التمكين. مجيب الندا لراجي همع عوارفه، ومجلي ظلمات الردى بإشراق نجمه السعيد في سماء معارفه. عين أنموذج الكمالات، فكم أبدى كل ملحةٍ من عباب فكره الجامع لأشتات المكرمات.

عرائس أبار معانيه متحلية بشذور الذهب الخالص، المفضل بالدر النفيس الذي هو بعض ما فيه من الخصائص. فما عقود الجمان لعروس الأفراح إلا كالمثل السائر، وما مصاح الإصباح على زهر الربيع إلا دون أسرار بلاغته في الضياء لكل ناظر. فكل مطولٍ أو أطول في بيان فضائله مختصر، ودلائل شمائله لائحةٌ لكل منشٍ أراد الإطناب في مدحه البديع فاقتصر. فما كل فصيحٍ وإن نطق بلسان العرب، وارتقى بمحاسن الصفات وتهذيب الأسماء واللغات أعلى مراتب الأدب، إلا قطرةٌ من عبابها الذي ليس له نهاية، وشذرةٌ من عقد صحاحها الجوهري اللامع سناؤه لأبصار ذوي الفضل والدراية. ومجمل القول فيه أنه عين أرباب الفضائل، وتاج مصادر العرفان وصدر الأفاضل. لا زال صاحب الحماسة والسماحة، وقوله المغرب في نقد الشعر المطرب مرجعاً لأهل البلاغة والفصاحة. أما بعد؛ فإن الله تعالى عز وجل لما علم ما وهبكم من الكمالات السنية، واختار لكم من المقامات الزكية، خالط أرواح العلماء بمحبتكم، وجعل قوام أمزجتها مزيد مودتكم، حتى لقد كادت أشباحهم تسابق النسور إلى أعتاب عزتكم. خدمةً ومحبةً، وتوجهات قلوبهم لم تزل ملازمةً لأبواب سعادتكم شغفاً ورغبة. وعند المحب بما يعلم الله تعالى من الشوق، ما هو فوق الطوق. ما هبت شمالٌ وصبا، إلا مال إليها وصبا. على أن ملاك هذا الأمر كله سر التوالف بالعوارف المؤكدة، المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: " الأرواح جنودٌ مجندة ". ولده زين العابدين هذا الأستاذ في العباد، كمصر حرسها الله تعالى في البلاد. فكما هي محتويةٌ على العالم الأكثر، فهو وله الفضل منطوٍ على العالم الأكبر. وإذا حققت فما هي إلا عبارةٌ عن ناديه، وما أصابع نيلها إلا من فضل أياديه. محامده تخلدها أقلام الأقدار، بمداد الليل في قرطاس النهار. وترسمها حداة القطار، في مسالك الأقطار، وبتذهيب الأسفار. وزمانه هدية الفلك، ولطفه ينبىء عن خلق الملك. وناديه فائدة كل فؤاد، وجاره أمنع من جار أبي دؤاد. ألسنة الثناء بفضله منطلقة، وأيدي الرجاء بحبله معتلقة. وأياديه لا تزال تنشىء غض الأمل المقتبل، وأياديه عاليةٌ على الأيدي فلم يعلها من شيء إلا القبل. فما قبلت له الأفواه كفاً، إلا لرؤيتها بحراً تطلب منه رشفا. سقى اللهُ بَحْراً منه بالنَّيْل لم يزَلْ ... يَفِيضُ لِرَاجِيةِ نَدىً ورَغائِبَا وحَيَّي زماناً فيه غُرَّةُ وَجْهِه ... تَحيَّةَ صَوْبِ المُزْنِ يَرْوِي السَّحائبَا وكان قبل أن يشرف الشام بحلول قدمه، ويحييها بيمن طالعه الذي أضحت سعود الفلك من جملة خدمه. لم تزل أخباره حظ القلوب والمسامع، وآثاره حلية الأفواه ورونق المجامع. فتشتاق النفوس إليه شوقه لإسداء الجميل، وتشتهي لقاه شهوته سبق عطائه التأميل. إلى أن عزم على زيارة القدس الشريف، وحلها فكسا بقاعها حلة الابتهاج والتشريف. ثم عن له النهوض إلى دمشق لرؤية معاهدها، والتملي حيناً بمشاهدة مشاهدها. فجرت بهذا العزم ذيل الفرح، وتسربلت برداء الجذل والمرح. وودت أن يركب النجم السيار، ويمتطي الفلك الدوار. لتقرب حركته، وتعود عليها وعلى أهلها بركته. فابتدرت الفصحاء من أهاليها، تخطبه بفرائد الآثار من لآليها. وكنت ممن تطفل باستدعائه، وفكره مصروفٌ إلى ثنائه ودعائه. فكتبت إليه، أسبغ الله نعمه عليه: أوْرَتْ يدُ البَرْقِ في الرُّبَى زَنْدَا ... فَمِجْمَرُ النَّوْرِ ضوَّع النَّدَّا ونام مِن نَبْتِها رَضِيعُ نَدَى ... تهُزُّ أيْدِي الصَّبا له مَهْدَا والطَّلُ في زَهْرةٍ يُضاحِكُها ... لآلِىءُ ضِمْنَ مُدْهَنٍ يَنْدَى وجدولُ الماءِ في مُفاضَتِهِ ... قد سَردتْ دِرْعَه الصَّبا سَرْدَا وما أرتْنا الجِنانُ حُلَّتَها ... حتى أرتْنا في جِيدِها عِقْدَا فحبَّذا طَلْعةُ الربيع وقد ... ألْبَست الأرضَ وَشْيَها بُرْدَا وحبَّذا الشامُ أرضَ مُؤْتلَفٍ ... تُنْبِتُ حُبَّ القلوب والوُدَّا

إن أهْدَتِ الوردَ زَاهياً خَدّاً ... أطْلَعتِ البَانَ مائِساً قَدَّا من كلِّ قَيْدِ العيونِ مُمْتلِىءٍ ... لُطْفاً عن النَّدِّ حُسْنُه نَدَّا ترْتَع منه الأحْداقُ في نُزَهٍ ... لا يبلُغُ الوصفُ ضَبْطَهَا عَدَّا فانْتهِزِ العيشَ يا نديمُ فقد ... وفَتْ لك الشامُ بالمُنَى وَعْدَا انْظُر ترى الوقتَ صافياً وعَلَى ... تَتِمَّةِ الحَظِّ آخِذاً عَهْدَا ففي التَّباشِير أن يُزِّينَها ... زَيْنُ العبادِ الذي حَوَى المَجْدَا أجَلُّ مَن ينطِق اللسانُ به ... شُكْراً وأوْلَى كلِّ الورى حَمْدَا قد اسْترَقَّ النُّهَى بأنْعُمِهِ ... فكلُّ حُرٍ أضْحَى له عَبْدَا ما حَلَّ إلاَّ حَلَّ النَّدَى معَه ... وأثمر الدهرُ للمُنَى سَعْدَا مُذْ قِيل يَنْوِي للشَّامِ مُرْتَحَلاً ... كادتْ إليهِ تسْعَى بنا وَجْدَا وهَيَّأتْ في الثَّرَى لِمَوْطِئِه الْ ... أعْيُنُ فَرْشاً ومَرَّغَتْ خَدَّا فكُلُّنا رامِقُ البَشِيرِ لكيْ ... نَبْذُل أرْواحَنا له نَقْدَا النور وهو منير، والماء وهو نمير. والروض وهو ناضر، والسحاب وهو ماطر. والمراد وهو مريع، والزمان وهو ربيع. أمثالٌ أوردت وأشباه، والمقصود أنت بلا ريبٍ واشتباه. أنتَ المُرادُ ولا مُرادَ سِواكَا ... فجميعُ ما نَهْوَى يكون فِداكَا فأما النور فنور وجهك المضيء، وأما الماء فماء رونقك الوضيء. وأما الروض فروض شئيمك وأخلاقك، وأما السحاب فسحاب إنعامك وإغداقك. وأما المراد فمراد جبرك الذي تنعطف إليه القلوب، وأما الزمان فزمان خيرك الذي يتم به المطلوب. وإذا كنت والمُنَى فيك ... فما حاجةُ الورَى لْلأمانِي وقد بلغنا خبر الحركة، المقرونة باليمن والبركة، فمرْحباً بالأماني والأمان، وسَقْياً ورَعْياً لهذا الزمان. وذلك بمجرد بشارة، ومحض عبارةٍ في إشارة. وأما خبر الوصول والحصول، فموجب الذهول للعقول، فلا ندري عنده ما نقول. وبالجملة فحسبنا منك لحظة، ودعنا نوجم فلا نلفظ بلفظة. فالله تعالى لا يحرمنا منها، ويصرف جميع العوائق والموانع عنها. فلعمري إنها النعمة التي لا نقوم بشكرها، وما زلنا من حين الترعرع في طيب ذكرها. والدعاء. ثم ورد دمشق فدخلها في يومٍ أخذ زينته بزينه، ولم يبق ذو جسمٍ إلا والبشرى ملءُ قلبه والمهابة ملء عينه. فأشرقت بنوره أرجاؤها، وامتد به أملها ورجاؤها. وهرعت إليه أبناؤها من وجوه ناسها، يردون حضرةً احتوت من المحاسن على أنواعها وأجناسها. فيتفاءلون بتلك الطلعة التي تقرأ منها نسخة الحسن، وتلمع في أساريرها أشعة النجاح واليمن. فيبشرهم بابتسامه، قبل أن يبشرهم بكلامه. ويحييهم بالنجح بإشارته، قبل أن يترجم لهم بعبارته. فيشاهدون حظاً أقبل في معرض الكمال، وطالع سعدٍ قد طلع عليهم بنيل الآمال. وكنت أنا ممن سارع إليه، أسرع من الكرم لطرفيه. فاستخلصني لولائه اللازم واللازب، وربطني بإحسانه المتراكم المتراكب. فما توانت لي في قصده مدة الإقامة قدم، ولم يعطل لي مذ شاهدته في ثنائه قلم. وهو، حجب الله تعالى العيون عن كماله، وجعل اتفاق اليمن مقروناً بيمينه وانتظام الشمل معقوداً بشماله. سَقانا به اللهُ وَبْل الْحَيا ... فإنَّا إذا ما دَعَيْنَا سُقِينَا ثم انصرف والأهواء معه، والثناء يملأ سمعه. والأبصار على مرآه تزدحم، والأفواه على تقبيل يديه تقتحم. فالله يعضده بتوفيقه، ويجعل السعد حزبه ورفيقه. وقد وصلتني منه نسخة كتابٍ إثر وصوله، تقضيني الوفود عليه، والمثول لديه، وها هي: هل تناسَى عَهْدَ المَودَّةِ أهْلُهُ ... أو حَلِيفُ الجَوَى تَجافاه خِلُّهْ والهوَى الكامِنُ الذي مَلَك اللُّبَّ ... وما حالَ عن فؤادِي مَحَلهْ أتُراه يَرْعى اللهُ طِيبَ عَهْدِ لَيالٍ ... بحَبيبٍ يُجلُّنا ونُجِلهْ

ما أراها إلاّ كطَيْفِ خَيالٍ ... مَرَّ بي مُسْرِعاً وما شِيمَ مِثْلُهْ إن أبهى ما نطق به لسان اليراع، وأشهى ما تشنفت بدرره الأسماع، سلامٌ يخجل الربى في أويقات البكور، ويزري بما تحملته الصبا من نشر الزهور. أرق من دمعة المشتاق، وأصفى من الصهباء بما تضمنه من مكارم الأخلاق. وأشجى من لوعة العشاق، ريثما تطاولت الأعناق للعناق. وتحياتٌ زكية، ومحبةٌ صادقةٌ صديقية. أتحف بها ترجمان أهل الأدب، والبالغ أقصى غايات الكمالات في كل ما دأب. المنطيق الذي أعجزت فصاحته كل لسن، ذا التحقيق الذي هو بكل براعةٍ قمن. والذي يهدي برائع عبارته طيب الوصل بعد الهجران، ويلفى من براعاته روضاً أينعت منه الأزاهر بفينان وأفنان. كأنما مخانق الدرر خلصت من ترائب الآرام فألقيت في حدائق محاوراته، والحور العين برزت في غرر تلميحاته بتلميحات مطارحاته. لوذعي الفكرة الوقادة، ألمعي الفطنة المستجادة. من فاق قساً وأعجز المتنبي، حبيبنا السيد أمين المحبي. كان الله ظهيرا، وفي كل الأمور نصيرا. وبعد: فإنا لله الحمد والثنا، في صحةٍ وعافية وأرغد عيشٍ وأهنا. غير أنا ملوعوا الجوانح، متعلقةٌ آمالنا بالمطامع والمطامح. لورودكم لهذه الديار، والتملي بطلعتكم الحميدة المرأى والآثار. فنرجو من فيض فضل الله الغزير، أن يهيء لكم التأهب لهذه الديار إنه على كل شيء قدير. فكتبت إلى جنابه: كيف يَنْسَى عَهْدَ المَوَّدةِ خِلُّهْ ... وهْو عن كلِّ ما سِوِى اللهِ شُغْلُهْ يَرْتجِي به الرِّضا وحَقِيقٌ ... بانْتماءٍ إليه يَنْجَحُ سُؤْلُهْ يا رَعى اللهُ مَن بعَهْدِ هَواهُ ... لِيَ منه الإسْعادُ والعِزُّ كُلهْ بُغْيتِي منه أن أُمَرِّغَ خَدِّي ... بثَرَى نَعْلِه الرفيعِ مَحَلُّهْ فإذا أسْعَفتْ حُظوظِي فمِثْلِي ... مَن يُباهِي الأيَّامَ بالفَضْلِ مِثْلُهْ حضرة الأستاذ الذي حياتي بعهده مرتبطة، ونفسي بما يشتهيه مغتبطة. إن لم أكن عنده، فقد استخلصني عبده. فأنا أينما كنت، ما نقضت عهده ولا خنت. نعم كان الواجب من رعى ذمته، أن أكون في بابه حليف خدمته. فأسعى إلى سدته حبواً على القدم، وأستنهض في خطابه السان عوضاً عن القلم. ثم لا أرضى له بباعي القصير، وعبارتي الموسومة بالعجز والتقصير. حتى أكون استعرت ألسنةً تنطق حمداً وشكراً، واستنجدت أفئدةً توسع ثناءً وذكرا. فكأن القول ذو سعة، والمغالاة هنا سنة متبعة. وقد كان في حكم ما أولانيه الأستاذ من اعتنائه بشاني، واستدنائه لمكاني. تبصراً منه بصلته، ورغبةً في مراعاة وصلته، أن أدع جميع المآرب جانبا، وأكون لجميع المشاهد سوى مشاهدته مجانبا. لكن عدم الإمكان ثبطني عن هذا الغرض، وعاقني عن أداء هذا الواجب المفترض. فأقمت معتكفاً على دعاءٍ أتخذه في أوقاتي ورداً، ولا أخلو من أماني لقاء الأستاذ التي أسقى بها على ظمأٍ بردا. مقبلا بشفاه الأجفان مواطي نعاله، ذاكراً ما أسده لي من كرائم خصاله وجمائل فعاله. وإذا لاحظت شخصه الممثل، وتصورت وده الموثل، أستقيم وأنحني، وأذكر أيام الحمى ثم أنثني. وكانت لي حاجةٌ في ذمة زماني، ومأربةٌ بقيت في عهدة الأماني. وهو ورود كتابٍ من الأستاذ يحل عقدة لساني في بيان ما أجد لبعده، ويتلافى في بعض رمقٍ ما كنت أحسبه يبقى من بعده. حتى طلع كتابه فكان غيثاً كفى صيبه دعوة المستسقي، وماءً زلالاً روى بوروده ظمأ المستقي. فكان أحسن من طلوع السعد، وأحلى من إنجاز الوعد. فاتخذته مرتع ناظري، ومنتعش خاطري. ونقلي إذا شربت، وداعيني إذا طربت، ومحدثي إذا خلوت، وعروسي إذا جلوت. بل كان لي حظ الأماني من الزمان، وتوقيع النجاة من اليأس والحرمان. فالله تعالى يبقى يداً وشته وحشته، ويديم راحةً مسته وجسته. ثم فكرت في الجواب، وأنا متجرٍ جادة الصواب، فرأيت إن لم أجب، فما أديت ما يجب. فأقدمت إقدام مذعور، وقدمت مقدمة معذور. قائلاً: هذا ما انتهى إليه في العبارة جدي، وأنا على يقينٍ بأن هذا الشرط ليس من حدي. على أنني لو أوتيت جوامع الكلم، لست ممن تخيل حصر كرام أوصاف الأستاذ أو علم.

ولا ممن قال له اليم الملتهم، أنا مدادك الملتطم، وقال مكنونه أنا درك المنتظم. وأرجو من الأستاذ الصفح عن هذه الفرطة، والعفو عن الجناية التي ورطتني هذه الورطة. فمثله من يقبل الأعذار، ويقوم بوجوده عن ذنب الزمان الاعتذار. وأما مثولي بين يده، ووصولي بعد هذه المدة لديه، فبيني وبينه شهر الصبر، وأعزم لأحصل بمشيئة الله موسم الجبر. وقد نويت أني لا أفارق تلك الحضرة، أو يفارق الآس الخضرة. حقق الله سبحانه رجائي، وأمدني بإمدادات الأستاذ في علانيتي ونجوائي. وفلان أحسن الله بقاه، وحفظه من كل سوءٍ ووقاه، شوقني بخبره إلى نظره، وبسلامه إلى كلامه. فأنا أهدي إلى جنابه سلاماً كسلام أصحاب اليمين، وأودعه القلب على الثقة من أمين، إنه أمين، وعن الود لا يمين. ولما تعلقت إرادة الله تعالى بمسيري إلى القاهرة المعزية، كان أول من اجتليت بها طلعته الزاهية الزهية. فأنخت الراحلة في حماه، واقتصرت من أهاليها على التوسل برحماه. فنزلت من النيل وساكنيه بمجمع البحرين، ونظرت إلى وجهه وإلى البدر فرأيت القمرين. وفاتحته بقولي: حَسْبُ مصرٍ فَخْراً على البُلْدانِ ... وهْي أُمُّ الدنيا بشَيْخِ الزَّمانِ سيِّدٌ أشْتفِي بتُرْبَةِ نَعْلَيْ ... هِ إذا كت تقرَّحتْ أجْفانِي وألحقتها بهذه القصيدة: نُجْلُ العيونِ من الكَواعِبْ ... أوْقَعْنَ قلبي في المَتاعِبْ بأبِي غَوانٍ للنهَى ... تُدْعَى السَّوالِبَ والنَّواهِبْ الغَارِساتُ الْبَانِ في ... خَلَل الرَّوادِفِ والتَّرائِبْ والمُطْلِعاتُ البَدْرِ ما ... بيْن السَّوالِفِ والْحَواجِبْ هُنَّ الْقَواضِي بالرَّدَى ... لَمَّا يُجَرِّدْنَ القَواضِبْ من كلِّ رُودٍ إن بَدَتْ ... تَخْفَى لطَلْعتِها الكواكبْ تخْتالُ في مَرَحِ الصِّبَا ... رَيَّا المَسارِبِ والمَساحِبْ وتكادُ مِن لُطْفِ الأدِي ... مِ تَسِيل مِن كلِّ الجوانبْ ما أنْكَرتْ عهد الهوى ... لكنْ تُسامِح في الرَّغائِبْ وإذا أرادتْ طُول لَهْ ... فِ الصَّبِّ أرسلَتِ الذَّوائِبْ أبُثَيْنُ هل من عَطْفةٍ ... لِمُولَّهٍ قَلِقِ الرَّكائبْ حَمَّلْتِه ما لا يقُو ... مُ بحَمْلِه الصُّمُّ الرَّواسِبْ وأبَحْتِه لِعَنَا التَّغَرُّ ... بِ فاغْتدَى إحْدَى الغَرائِبْ رِفْقاً أيا قلبي بِقَلْ ... بي في مَ إغْضاءُ المُجانِبْ هَلاَّ أذِنْتِ بزَوْرَةٍ ... لِلطَّيِفِ في جُنْحِ الغيَاهِبْ فيروزُ مُضْنىً أقْلقَتْ ... فيه فَلا الْبِيد النَّوادِبْ ولقد رَعَيْتِ وما وَعَيْ ... تِ عُهودَ هاتِيكَ المَلاعِبْ أيَّامَ لم يَجْنِ الدَّلا ... لُ على الهَوى غَلَطَ المُعاتِبْ والعَيْشُ وَضَّاحُ السَّنَا ... والدهرُ سَمْحٌ بالمطالِبْ حتى اسْتحالَ وكُدِّرتْ ... تلك المَوارِدُ والمشارِبْ ونأَيتُ عنك ولِي حَشاً ... لم يَدْرِ ما مَضَضُ النَّوائِبْ أسْرِي وحُبِّي سائِقِي ... أيَّانَ شاءَ مِن المَذاهِبْ وأخُطُّ نُونَاتِ المُنَى ... بِمنَاسِمِ الغُرِّ النَّجائِبْ ورَجاءُ زَيْنِ العابدي ... نَ وَسِيلَتِي لِحمَى المَآرِبْ ذاك الهُمامُ أجَلُّ مَن ... تسْعَى لِسُدَّتهِ الرَّكائِبْ شَهْمٌ أحاط بكلِّ مَنْ ... قَبةٍ بها تَسْموُ المَناقِبْ مُتناسِقُ الأخْلاقِ بَا ... دِي البِشْرِ فَيَّاضُ المواهِبْ كم رَغْبَةٍ عَرَضتْ به ... ما أعْرَضتْ عنها الرَّغائِبْ فترُوض رَوْضَ فضائلٍ ... بالْجُودِ مُخْضَرَّ الجَوانِبْ

يحْبُوكَ مِن ثَمَرِ المُنَى ... غَضَّ الْجَنَى دَانِي الأطايِبْ وشمائلاً عَطَّرْنَ أرْ ... دِيَةَ الشَّمائِلْ والجَنائِبْ كالغَيْثِ بَرَّاقُ المخَا ... ثِل وهْو مُنْهَمِرُ الصَّوائِبْ نِعَمٌ بها يُنْشِي النَّدَى ... والرَّوْضُ تُنْشِيهِ السَّحائِبْ ولَكَمْ له من نائلٍ ... شَمِل الأقاربَ والأجانبْ كالشَّمْسِ في كَبِدِ السَّمَا ... تغْشَى المَشارِقَ والمَغارِبْ مَوْلايَ أنت وأنتَ أنْ ... تَ نِتاجُ مَفْخَرَةِ الحَقائِبْ يا نَجْلَ صِدِّيقِ النَّبيِّ ... وفَرْعَ زَهْراءِ المَناسِبْ لك مِن أُصولِك رُتْبةٌ ... فَخَرَتْ على كلِّ المَراتِبْ وهمُ الذين تَبَوَّءُوا ... في المجدِ هَاماتِ الثَّواقِبْ نَطق الكتابُ بِمَدْحِهمْ ... واسْتفْتحتْ بهم الكتائِبْ فمدائحُ الأقوامِ غَيْ ... رِهُمُ تُعَدُّ مِن المَثالِبْ وعَلَ عِداهُم في الورَى ... رَصَدانِ للقَدَرِ المُحارِبْ ما اسْتَيْقَظُوا إلاَّ رَما ... هُم بالمتاعبِ والمصاعِبْ وإذا غَفَوْا أمَرَ الحُلو ... مِ فَجَرَّدتْ لهمُ القَواضِبْ مَوْلاَي يا مَن أرْتَجِي ... هـ إذا تعسَّرتِ المَطالِبْ طَوَّقْتنِي نِعَماً بها ... أثْقلْتَ ظَهْرِي والمنَاكِبْ فَلأشْكُرنَّك شُكْرَ مَن ... جَعَلَ الثَّنا أسْنَى الرَّواتِبْ وإليك غانِيةً تَها ... دَى في مُصَنْدَلة الجَلائِبْ فاسْتَجْلِ منها حُسْنَ مُنْ ... عَطَفٍ لأسْرابِ السَّرائِبْ واسْلَمْ كما سَلِمتْ صِفا ... تُ عُلاكَ من كُلِّ المعائِبْ تزْهُو بِمِدْحتِك الورَى ... بيْن الأعاجِمِ والأعارِبْ ولك الأمانِي غَضَّةٌ ... والدهرُ مأمونُ العَواقِبْ وكنت في أثناء الإقامة سافرت إلى رشيد، ثم عدت إليه بالرغبة، وما عدلت عنه للرهبة. عود من عرف فضله، واستطاب ظله، ولم يحمد مباينته، ولا استوفق مجانبته. فطاب العود والإبدا، ورجوت أن يروي تلك النوادي الأندا. فإنه إذا كان أول من عرف تعبدي فجوده لعنان ثنائي ثاني، وإذا كان لي من ذراه مرابع فلي من خطابه مثالث ومثاني. فرأيته في الثانية كالأولى، وحاله على أجمل ما عوده الله وأولى. فالله يجريه على عادته الحسنى التي هي جبلةٌ نفيسة في نفسه، ويجعل كل يومٍ من أيامه مبشراً بالخير عن غده وزائداً فيه على أمسه. فخاطبته مرتجلاً بقولي: يا مَن هواهُم آخذٌ بأعِنَّتِي ... وهمُ لقلبي في الورَى المَطْلوبُ ذَنبُ الفِراقِ وقد ظفِرْتُ بقُرْبكم ... فعلَى يَدَيْهِ من الزمانِ أتوبُ وأخلق بمن جنح إلى الاعتراف والإقرار، ونزع عن التمادي والإصرار، أن تكون توبته مقبولة، وإنابته صحيحة غير معلولة. وشتان بين المتورط الناصر لورطته، وبين النازع الراجع عن غلطته. وقد اسْتطار إلى المعالِي مُدْرِكاً ... مَن أنْهَضَتْه لنَحْوِه العَلْياءُ طلَب النَّباهةَ في ذَراهُ فما لَهُ ... إلاَّ لَدَيْه تأمُّلٌ ورَجاءُ فكساني حلة فخارٍ وتجمل، وحملني من آلائه ما لم يبق لي معه تحمل. واحتاز فؤادي أجمعه، بأن لم يجعل لأحد علي يداً معه. فأنا عرافٌ بأن صرف الفكر لغيره عبثٌ ولهو، فإذا سجد يراعي لمدح سواه فسجدته سجدة سهو. وقد أخذت عنه من فضلٍ يراعه الموشى للأوراق، ومحاسن بدائع التي تخفى خجلاً منها الشموس عند الإشراق، ما يضيق عن إحاطة وصفه نطاق الأرقام، وتنصضب عنده ليقة المحابر وتحفى أقدام الأقلام. فمن ذلك كتابٌ كتبه إلى رئيس المنجمين، نادرة الفلك الدوار، وقطب فلك التحقيق الذي عليه المدار، المولى أحمد بن لطفي، حرس الله مهجته، وأدام رونقه، وبهجته:

الحمد لله أسمى الأسماء، العالم بمواقع النجوم والأنواء، الرحمن المتفضل بجلائل الآلاء، الرحيم بدقائق الإمدادات من الدرجات العلى. والصلاة والسلام والتحية والثنا، على مركز دوائر الاهتدا، المنزل عليه: " والنجم إذا هوى " صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما طلع نجمٌ وما ركبٌ سرى. والدعاء للدولة العثمانية، والسيرة العمرية، مواظبٌ من السلالة الصديقية، والحضرة الزينية، على ترادف الآنا. وبعد: فقد اعتبرت كيوان في مراقي الاعتلا، وتوسمت برجيس في إشراق السنا وعلو السنا، وبهرام في سلطنة قهره المنيع الذري، والنير الشمسي عند خط الاستواء، وعروس الدوران الزهرة الزهرا، والقمر المنزل لتقدير الاهتدا، فرأيت جميعها ممتثلاً أمر ربه الأعلى، مسخرةً لخدمة هذا الرئيس فرادى وثنا، مذعنةً له يصرف سعودها ويصرف نحوسها كيف يشا. فتثليث سعدها ينظر إليه من تربيع، وتسديس طالعها يطالعه من تسديس. فلن تحول الدوائر الكثيفة، ولم تحجب ذوي الظلال الوريفة، بينه والعلى كيف شاء وارتضى، فهو أولى بأن ينشد ويقصد: وقد عرفتْك فما بالها ... تراها تَراك ولا تنْزلُ ولو بِتُّما عند قَدْرَيْكما ... لَبِتَّا وأعْلاَكُما الأسْفَلُ وإذا فتح الله على هذا العالم الأصغر بإلهام الفراسة، وفتق له رتق الخاطر من الكياسة، لم ينطق عن الهوى، وكأنما هو وحيٌ يوحى. ولما قدر الله تعالى بالقران السعيد، واستقام سير هذا الرئيس على سمت سيرنا ونظرنا إلى طابع هذا الرئيس من تسديس، ولحظ مقامنا الرفيع من تربيع، نظرنا له خصائص سلك فيها طرقا، وإن لم يأت بها غيره تخلقا أتى بها هو خلقا. ونظرنا علمه الذي يطالع الغيب من وراء سترٍ رقيق، ويطلع على الضمائر من مكان لا سحيق. فيرى بفضل حسه وقياسه، ما لا يراه حاذقٌ بإحساسه. فقلنا: سبوح قدوس من شمسٍ تخجل شمس السنا، وتضاءل لها تضاؤل الإما، وتعلم أن ليس لها إلا المشاركة في الأسما. وقد رأينا به العالم في واحد، وعلمنا أن الدهر للناس ناقد. وأنه قد سعى أحمد سعى، وخدمه الجد ثم عاد إلى المحل الأعظم، والسدة العليا والمقام الأعصم. فوصل وصول حبيبٍ غائب، ووقع وقوع غيثٍ صائب. فاستقبلته دولةٌ كان فارقها ولم تفارقه، ولم نقل إنه وافقها ولم توافقه. وقد علم أن المحبة التفاتاتٌ إلى متوجهه، وتشوقاً إلى ورود أنباء تنبي عن مكتنهه. فمنها ما يفيد تجديد العهود السالفة، وما يفيد المودات المستقبلة الآنفة. وقد علم الداني والقاصي، والطائع والعاصي، فضل جدنا الأعلى، ومجدنا الأسمى، وتمسك الماضين من سلاطين بني عثمان بولائنا واعتقادنا. فشاع ذلك وذاع، وملأ الربوع والرباع، وعلمته الملوك والرعاع. وخصوصاً هو، فإنه ملأ باعتقادنا صدره، وعلم خبر مددنا وخبره. ثم إن سلطاننا الآن قان الدوران، وشهنشاه الزمان. من حاز فضيلتي العلم والعمل، وبلغ من مزايا الدنيا والآخرة أقصى ما يمتد إليه الأمل. ومما صح عنه بتواتر النقل، وشواهد العقل، محبة العلماء والفضلا، وإيثار النبهاء والنبلا. وله فؤادٌ أنتم جنانه، ولسانٌ أنتم ترجمانه، ورأيٌ وأنتم قهرمانه، ومجلسٌ خاصٌّ وأنتم حاضرته وقطانه. والملك يشتغل أحياناً في أن ينص، فيعذر أن لا يعم أو يخص. والرئيس قد تمكن من المكانة حتى صار شمس مطالعه، ومنتهى مطامعه. ولنا والحالة هذه به وصلةٌ تأكدت أسبابها، وتوثقت أطنابها. تبعثه على نجاز متعلقات أغراضنا من ذلك المقام الأشم من مذكرات، تفضي إلى مكاتبات، ومودات تسفر عن إمدادات. ولم ننبهكم أننا نبهنا غافلا، ولا استطلعنا آفلا. لكنها الذكرى تنفع المؤمنين، لا كمكن لبث بضع سنين. وهذه طلبةٌ لم نؤهل سواكم لأمثالها، ولا أطلعناه على مثالها. بل ثقتنا بكم حملتنا على أن نطلعكم على تلك السريرة، فالأسرار عند الأخيار ذخيرة. ولما بلغتنا مبالغكم العلية، قلنا نهنيكم بالدرجات السنية: أُعْطِيَتِ القوسُ مَن بَرَاهَا ... وبُوِّىءَ الدارَ مَن بَناهَا ألْقتْ عَصاها ثم اسْتقرَّتْ ... مِن بَعْدِ ما أبْعدَتْ نَواهَا مِنَصَّةٌ ما رقَى عليها ... مَن نال أمْثالَها شِفاهَا فما لها كافِىءٌ سِواهُ ... وما لَه كافىءٌ سِواهَا

يا مَن دَعَتْه العُلَى فَلَبَّى ... وما تَوانَى وما تَلاهَا هُنَّيتَ بالقَدْرِ والمَزايَا ... وما سِواهَا وما وَراهَا ومن شعره هذه المقصورة: أساءَ فَأحْسَن فيما أسَا ... لأنِّي أرى حالتيْه سَوَا وواصَلنِي هَجْرُه والسُّهادُ ... وهاجَرني وَصْلُه والكَرَى وأنَّى تُسِيىءُ حِسانُ الوُجوهِ ... حِسانُ القُدُودِ حِسانُ الرُّوَا ومَن يَكُ مِثْلِي قصيرَ اللِّسانِ ... فلِمْ لا يكون طويلَ الأسَى وهيْهات أذكُر إلاَّ الجميلَ ... وكيف أقولُ اسْتحال الضِّيَا وهل يُحْسِن الفعلَ إلاَّ المَلِيحُ ... وهَلْ يُذْهِب الداءَ إلاَّ الدَّوَا كَلِفْتُ به عَرَبيَّ اللِّسا ... نِ والوَجْهِ والأدبِ المُنْتقَى ولكنَّه جَرْكَسِيُّ النِّجارِ ... له ألْفُ خالٍ بأرْضِ الكفَا إذا قال نَظَّمَ عِقْدَ البَيانِ ... وإنْ جال فتَّتَ صُمَّ الصَّفَا وإنْ صَال سُلَّتْ مُتونُ الظُّبَا ... وإن خال كَلَّتْ جُفونُ الظِّبَا وإن مَالَ قلتُ لِخُوطِ النَّقَا ... إليكَ فلسْتَ بِخُوطِ النَّقَا ألسْتَ تَرَى صَعَداتِ الرُّبَى ... تَخِرُّ له سُجَّداً وهْي لاَ تُحرَّكُ أنت بهَبِّ الهَوَا ... وذاك يُحرِّك منِّي الْهَوَى ويهْتَزُّ عن ثَمَراتش الْجَنَا ... وتهْتَزُّ عن ثَمَراتِ المُنَى وأنتَ تَميدُ بريحِ الصَّبَا ... وذاك يَمِيلُ برَوحِ الصِّبَا وذلك يُورِق سُودَ الشُّعُورِ ... وأوراقُ مِثْلِك جَزْلُ الغَضَا وهيْهات هيْهات منك الْجفَا ... وهيهات هيهات منه الوَفَا ويبْعُدُ أن يجْتلِيكَ العِيانُ ... تَولَّدُ منه صُنوفُ الصَّفَأ ويا مَن رأَى طَيْفَهُ في المَنامِ ... وإن كان زُوراً كمَنْ لا يَرَى ويا سَعْدَ مَن باتَ في صَدْرِهِ ... إلى الصُّبْحِ من أُولَيَاتِ الْعِشَا يُغازِل منه عُيونَ الْمَهَا ... مُتَرْجمةً بحديثِ الْهَوَى ويجْنِي بِفِيهِ تُفَاحَ الخُدُودِ ... وإن رام غيرَ جَنَاها جَنَى يُقبِّلُه مِائَتَيْ قُبْلةٍ ... دُوَيْنَ اللِّثامِ وفوقَ اللِّثَى ويَرْشُفُ من ثَغْرِه قَرْقَفاً ... يُسمُّون ضَرَّتَها بالسُّلاَ وينْظِمُ في الجِيدِ تِقْصارةً ... فَرائِدَ مِن لَثْمِهش أو ثُنَا يُعانِقُ منه قَضِيبَ الْقَوامِ ... ويرشُفُ منه زُلالَ اللَّمَى يُبلُّ بماءِ الشَّتِيتِ الشَّنِيبِ ... ظَمَا كَبِدٍ أبداً في ظَمَا فطَوْراً يمُصُّ كَمَصِّ الكُؤُوسِ ... وطَوْراً بِرَشْفٍ كرَشْفِ الطِّلاَ يُباشِرُه مِن وراءِ الْقَمِيصِ ... مُباشَرةً مِثْلَ طَيْفٍ الخِبَا إذا ما وَلَي جِسْمُه جِسْمَهُ ... فقد قابَلتْ بَرْدَ طُوبَى لَظَى ويهْصِرُه مِعْطَفاً مِعْطَفاً ... لِذَاتِ اليَمينِ وذاتِ الشِّمَا ويُفْرِشُه زَنْدَ يُمْنَى يَدَيْهِ ... ويجْعَل يُسْراه مِثْلَ الْغِطَا فَماً لِفَمٍ مثلَ زَقِّ الْحَمامِ ... وهيْهات يُشْبِه زَقَّ الْحَمَا وصَدْراً لِصَدْرٍ ومن هَا هُنا ... يَلَذُّ العِناقُ إلى ههُنَا فثَمَّ احْتدَامُ وَطِيسِ الْغَرامِ ... وثَمَّ مُثارُ لَهِيبِ الْحَشَا وثَمَّ اغْتنامُ لذيذِ الوصالِ ... وثَمَّ تَشاكِي أليمِ الْجَفَا وبالصُّعَداءِ ووَضْعِ اليَدَيْنِ ... على الكَبِديْنِ ترَى الاشْتِكَا

وبِالْعَضُديْن يَطِيبُ الْعِناقُ ... وبالشَّفَتيْن يُبَثُّ الْجَوَى وبالْقَمريْن فَرَعْنا الظّلامَ ... وبالعُمَريْن عَرَفْنَا الْهُدَى وبالْحَسنَيْن وتلك الْبَتوُلِ ... وحَيْدرةٍ ثُمَّ أهْلِ الْعِبَا أولئك ما مَفْخَرٌ في الدُّنَا ... ولم يبْلُغوهُ ولا مُعْتلَى أولئكمُ قد رَقَوْا مُرْتَقىً ... تعالَى فما بَعْدَه مُرْتَقَى أولئك ما مَفْخَرٌ في الدُّنَا ... ولم يبْلُغوهُ ولا مُعْتلَى أولئكمُ قد رَقَوْا مُرْتَقىً ... تعالَى فما بَعْدَه مُرْتَقَى أولئك آباؤُنا الأقْدَمُونَ ... وأخْوالُنا وأُولاكَ الأُلَى تُخومُ الجبالِ وزُهْرُ النُّجُومِ ... مُتونُ الظُّبَا ورَوَاسِي الرُّبَى بَنُوهم بَنُو بِنْتِ أبْنَائِهم ... ونحن كذا أو بَنُونَا كذَا وهل تَلِدُ النُّجْبُ إلاَّ النَّجِيبَ ... وهل تُنْتَجُ اللَّيْثَ إلاَّ اللُّبَا أولئكمُ آلُ بَيْتِ النَّبيِّ ... نَبِيِّ الهدى وإمام التُّقَى أولئكمُ نَسْلُ خَيْرِ الأنامِ ... رئيسِ النَّبِيِّينَ والمُصْطَفى منها: وكيف تقول انْتَهى في الرُّقِيِّ ... ولا حَدَّ ثَمَّ ولا مُنْتَهَى ولكنه بلغَ المُسْتوَى ... ولم أدْرِ ما بلَغ المُتسْتَوَى وكَلَّمه وكَلامُ الإْلهِ ... كصَلْصَلةِ الماءِ فوقَ الصَّفَا وأوْحَى إليه وأوْحَى إليه ... يُفِيدُ السِّرارَ وما مِن مَدَى وثمَّ أمورٌ تُشِيب الوَلِيدَ ... وترْجِع بالأشْيَبِ القَهْقَرَى ولا تَقْفُ ما ثُمَّ لا تَمْشِ في ... ولا تُعْدُوَنْ عن وصابِرْ عَلَى ومَهْما أمَرْنا امْتثِلْ أمْرَنَا ... وغُضَّ جُفونَك عن أمْرِنَا فتلك شَناشِنُ أهلِ النُّهَى ... فقُم بشَناشِنش أهلِ النَّهَآ ولا تَعْدُ شُكْرَك إن كنتَ لا ... تقومُ بحَمْدِك حَدَّ الكَفَا وعن بابِنَا وإلى بابِنَا ... وفي بابِنَا وفي بابِنَا وإلى بابِنَا فنحن العِيانُ ونحن الْكِيانُ ... ونحن الأنامُ ونحن الورَى عَلاَ جَدِّنا من عُلاَ جَدِّنا ... فيا سَعْدَنا ثم يا سَعْدَنا ومن غزلياته قوله: أبداً إليك يَحِنُّ قلبي ... فعلى مَ تُؤذيني بعَتْبِ يا قاسِيَ القلبِ الذي ... فيه أذَبْتُ صَمِيمَ لُبِّي أمْ أيُّ أمرٍ فيك أوْ ... جَبَ طُولَ أعْراضِي وسَلْبِي لا سامَح اللهُ الهوَى ... فلَكْمْ يُصَوِّبني ويُصْبِي يدعُو القلوبَ إلى هَوا ... هُ فأيُّ قلبٍ لا يُلَبِّي يا أيها التَّيَّاهُ في ... زَهْوِ الهوى رِفْقاً بِصَبِّ يُذْرِي الدُّموعَ ولا دُمُو ... عَ تسِيلُ غيرَ مُذابِ قلبِي يا جسمَ نَاسُوتِي ويا ... رُوحِي ويا دائِي وطبِّي أغْرَاك وَاشِيك الرَّقِي ... بُ بطُولِ إعْراضِي وحَرْبِي لا كان مَن أغْراكَ يا ... مَوْلاي في قَتْلِ المُحِبِّ فارْفُقْ بقلبٍ فيك يَقْ ... لِبُه الهوَى جَنْباً لِجَنْبِ وابْقِ على رَمَقِي فما ... يَدْرِي بحالي غير رَبِّي أنا والهوَى فَرَسَا رِها ... نٍ فيك والأشْواقُ تُنْبِي تاللهِ ما قال العِدَى ... يا مُنيتِي بُهْتانُ كِذْبِ لم يَجْرِ مِنِّي غير دَمْ ... عٍ فاض من عَيْنِي بسَكْبِ يا أُمَّةً للحُسْنِ فِي ... هَا وَجْهُك الوَضَّاحُ نُبِّي

إن دام هذا الهجرُ والْ ... إعْراضُ عنه والتَّأبِّي في ذِمَّةِ اللهِ التَّقا ... ضِي منك يومَ العَرْضِ حَسْبِي وقوله: أما وانْعِطافِ الغُصْنِ مِن هَيَفِ القَدِّ ... وماءِ الْحَيَا والروضِ من جَنَّةِ الخُلدِ وأقْداحِ أحْداقٍ تُدارُ بخَمْرةٍ ... مُنَزَّهةٍ وَصْفاً عن الرَّسْمِ والحَدِّ أما والهَوى العُذْرِيِّ والصِّدْقَ إنَّهُ ... مُقيمٌ على تلك الصَّبابةِ والوَجْدِ بأنَّ غرامِي والعَفافَ تخَلَّفَا ... بلَغْتُهما قبلَ السُّكونِ إلى المَهْدِ وأنِّي أيا ذات الجمالِ تعبُّدِي ... بدِين الهوى التَّحْقيق مُعْتَقدٌ عندِي ومِن حَضْرةِ الإطْلاقِ كنتُ فتىً على ... يَقِينٍ بأنِّي مُطْلَقُ الحبِّ في القَصْدِ فَنائِي به عَيْنُ البَقاءِ وغَيْبتِي ... حُضورِي وغَيِّي في عَوَالِمِه رُشْدِي وذُلِّي به عِزٌّ وأوْجُ سيادتي ... إذا ما دَعانِي مَن هَويِتُ بيا عَبْدِي فلا تعْترِضْ مَن هامَ في الحبِّ وافْترِضْ ... عليك له التَّسْليمَ تسْلَمْ من الطَّرْدِ وإنِّيَ زَيْنُ العابدين ووالدِي ... محمَّدُ نَجْلُ الزَّيْنِ والصادقُ الوَعْدِ بصِدِّيقِ خير المُرْسَلِين وسِبْطِه ... بلَغْنا من الأنْسابِ واسِطةَ العِقْدِ ببابِ عَرِيضِ الجْاهِ أعْظمِ شافِعٍ ... وأكْرَمِ مَن أعْطَى وجادَ بما يُجْدِي مَرَدُّ جميعِ الكائناتِ بأسْرِها ... ومَعْنَى كمالِ الفضلِ من ذِرْوَةِ المجدِ مَدَى الدهرِ ما شمسُ المعارفِ أشْرقتْ ... مع الآلِ والصَّحْبِ الأئمَّةِ للرُّشْدِ وما أقْسمَ الصَّبُّ المَشُوقُ بقولِهِ ... أما وانْعِطافِ الغُصْنِ من هَيَفِ القَدِّ وقوله: شَرَّدْتَ من مُقْلتِي رُقادِي ... كحَّلْتني مِرْودَ السُّهادِ باتَتْ عِداك اللِّئامُ مِثْلِي ... ليس بَياتِي على مُرادِي بِتُّ كما تشْتهِي الأعادِي ... وُقِيتَ ما تشْتهي الأعادِي بِتُّ ويُسْرايَ تحت خَدِّي ... وأخْتُها مِن على فؤادِي كأنهم مَهَّدُوا فِراشِي ... على كَوادِي شَوْكِ القَتادِ كأنَّني عند وَضْع جَنْبِي ... بِتُّ على نِيَّةِ الجهادِ أبْكِي بما يخْلُف الغَوَادِي ... إن قشَّعتْ سُحْبَها الغَوادِي وقوله من خمرية: ورَوْضٍ حَلَلْنا سُوحَه ساعةَ الفَجْرِ ... ورِيحُ الصَّبا في صَوْبِ صَيِّبه تَسْرِي وأضْحَتْ عيونُ المُزْنِ تبكي فأضْحكتْ ... زُهورَ الرُّبَى منه فأهْدتْ شَذَا العِطْرِ وصار شَقِيقُ الأُقْحُوانِ بِمجْمَرٍ ... فأوْقَدَ نَدّاً فَوْجُه طَيِّبُ النشْرِ وأصْبَح صَوْتُ العَنْدَلِيبِ مُخَبِّراً ... هَلَمُّوا إلى دَاعِ الصَّبُوح بلا عُذْرِ ودُوروا مع النُّدْمانِ في حَانِ دُورِهم ... إذا جُلِيَتْ بِنْتُ المُدامِ من الخِدْرِ وفُضُّوا خِتامَ الدَّنِّ عنها لكي يُرَى ... على ساقِها مِن كأسِها عَنْدَمٌ يجْرِي قديمةُ عَصْرٍ وهْي عَذْراءُ إذْ بَدَتْ ... تُخَبِّرُ عمَّا كان في سالفِ الدَّهْرِ لقد أعْجَزتْ عن وَصْفِها كلَّ ناطقٍ ... لِسِرٍ بها قد قام يسْرِي من السِّرِّ فنُورٌ ولا نارٌ وكأسٌ ولا طِلاً ... شُئونٌ بها هامَ الكَلِيمُ مع الخِضْرِ فمِن طِبِّها عيسى بنُ مريمَ قد شَفَى ... لِمَن شَفَّه داءُ السَّقامِ بلا نُكْرِ وأهْدَى لنا هادِي الهُدَى من سَنائِها ... فهامَ بها السَّاداتُ نَسْلُ أبي بكرِ

فصارُوا جميعاً مِن ألَسْتُ بِرَبِّكم ... نَشاوَى سُكارَى هائمين إلى الحَشْرِ فخُذْ وَصْفَها منِّي وعنِّي فإنني ... خبيرٌ بأوْصافِ المُعتَّقةِ البِكْرِ فمَرِّيخُها في زُهْرَةِ الكأسِ إذْ بَدَتْ ... يُرِيكَ ضياء الشمسِ كالكوكب الدُّرِّي ودَوْرُ هلالِ البدرِ يُشْبِهُ جَامَها ... وفيها حَبَابُ الدُّرِّ كالأنْجُمِ الزُّهْرِ فهاك بها صِرْفاً وإن شئتَ مَزْجَها ... فمِن رِيقِ ساقٍ فهْو للسُّقْمِ قد يُبْرِي فدُونَكَها واقْبَلْ مَقالةَ صادقٍ ... ومَن جَدُّه الصِّديقُ في الغارِ للطُّهْرِ تسَمَّى بزَيْن العابدين وسِبْطُ مَن ... هو الشافِعُ المَقْبولُ للناسِ في الحَشْرِ عليه صلاةُ اللهِ ثم سلامُه ... كذا الآلُ والأصحابُ مَن هم أُولُوا الفَخْرِ وله: نحن قومٌ تُبيدُنا الأعْيُنُ السُّ ... ودُ على أنَّنا نُبِيدُ الأسُودَا تتَّقِي بَأْسَنا الصَّناديدُ الصِّ ... يدُ ونَخْشَى من الحِسانِ الصُّدُودَا ولنا رُتْبةُ السيادةِ لكنْ ... صَيَّرتْنا لها انْقياداً عَبِيدَا إن نَثَرْنا تساقَط اللُّؤْلُؤث الرَّطْ ... بُ فنَظَّمْنَه لَهُنَّ عُقودَا أو نَظَمْنا أوْصافَهُنَّ أنا ... شِيدَ أعَدْنَا بها لَبيداً بَلِيدَا ما عَرَفْنا التَّقْليدَ مُنْذُ رأيْنا ... هُنَّ يَمْنَحْنَ دُرَّنا التَّقْلِيدَا خُطَباء مَصاقِعٌ فإذا قُلْ ... نَ أمَلْنَا لهنَّ أُذْناً وجِيدَا ثم نَعْيَى فلا نُعِيدُ ولا نُبْ ... دِي وَقاراً لهنَّ قَوْلاً مُفِيدَا تَتحانَى لنا الظُّهورُ فإن لُحْ ... نَ غدَا ذلك الرُّكوعُ سُجودَا شَحَذتْ مُرْهفاتِنا الأعْيُنُ النُّجْ ... لُ فصَيَّرْنَهُنَّ بِيضاً وسُودَا وتمايَلْنَ والرِّماحُ بأيْدِي ... نا فقَصَّدْنَهُنَّ عُوداً عُودَا وتَلاَيَنَُّّ في الحرير فأدْمَيْ ... نَ قُلوباً لنا تُليِنُ الحديدَا وتَهادَيْنَ بالدَّلالِ فكم شِمْ ... تُ بإدْلالِهشنَّ صيداً صِيدَا وتمايَلْنَ مثلَ ما انْعطَف المُرَّا ... نُ لكنَّهنَّ أحْلى قُدودَا وتَبَرَّجْن فاجْتليْتُ حُلا ... هُنَّ ومَيَّزْتُهُنَّ رُوداً رُودَا ثم أهْوَيْتُ نحوَ واسِطةِ العِقْ ... دِ فقالتْ أرَى قِراناً سَعِيدَا فَتَرَشَّفْتُ ثَغْرضها الْقَرْقَفَ الحُلْ ... وَوعانقْتُ قَدَّها الأُمْلُودَا وبلغْتُ الذي على مِثْلهِ أعْ ... ذِرُ مِن حُسَّدِي اللسانَ الحَسُودَا وأنا ابنُ الصِّدِّيقِ جَدِّي ثانيَ اثْ ... نَيْنِ في الغارِ فالجُدودَ الْجُدودَا فالرِّضَا عنهمُ ومنهمْ وفيهمْ ... وعليهمْ لهمْ بهمْ تَأْكِيَدا وله: قُمْ فإن الصَّباحَ للتَّنْفيسِ ... ودَوَاعِيه قد سَرَتْ في النفوسِ ونسيمُ الصَّبا رسولٌ إلى الرَّوْ ... ضِ بِطَلٍ كَلْؤْلُؤٍ مَغروُسِ والشَّحارِيرُ كالمَزاميرِ تشْدُو ... كقُسُوسٍ تَدُقُّ بالنَّاقوسِ فاجْتَلِ الرّاحَ للنَّدامَى سُحَيْراً ... لترَى البدرَ طالعاً بشُموسِ وأدِرْها بدُورَ حَانِ التَّصابي ... من مُدامٍ عَتِيقةٍ خَنْدَرِيسِ عانِسٌ وهْي في الحقيقةِ عَذْرا ... ءُ عجوزٌ حديثُها في رَسيسِ تتلظَّى غَيْظاً فتثنتجُ بِشْراً ... حين أضْحَتْ تلُوحُ ضِمْنَ كُؤُوسِ هي داءُ الهمومِ فاعْجَبْ لداءٍ ... جالبِ الرِّيِّ مُذْهِبٍ لِلْبُوسِ

حدَّثتْنا من قبلِ أنْ يُخْلَقَ الكَرْ ... مُ حديثَ التَّنْويعِ والتَّجْنيسِ نارُ أُنْسِ الكَلِيمِ فاخْلَعْ نِعالاً ... في حِماها مَعْ كلِّ مَولىً رئيسِ فاز قومٌ بنُورِها وهُداها ... وعن النُّورِ ضَلَّ رَأْيُ المَجُوسِ كسَناها يهْدِي شَذَاها إلى الْحَا ... نِ مُشِيراً لا عِطْرَ بعدَ عَرُوسِ عاطِنِيها يَاقُوتةً بعدَ وَقْدٍ ... كضياءِ المرِّيخِ في الحِنْدِيسِ وهْي مِرْآةُ وَجْنتيْك لهذا ... شَفَقُ الخَدِّ ظاهرٌ في الكُؤُوسِ هاتِها بين فِتْيةٍ كبُدورٍ ... كهلالِ البَنانِ كي يجِلّ بُوسِي خمرةٌ شَأْنها تحلُّ بمْعنا ... ها خَبايا كنوزِ ما في النُّفوسِ بالَغتْ في صفاتِها القومُ ما ضا ... ق اتِّساقاً به مَجالُ الدُّروسِ بمَعانٍ تُشِير كالْحَدَقِ النُّجْ ... لِ بَياناً بسِحرِ رَمْزِ الطُّروسِ فاقْتَفيْنا آثارَهم مَعْ قُصورٍ ... وانْتظمْنا في سِلْكِ كلِّ رئيسِ فهْي بِكْرُ البَكْرِيِّ زَيْنُ عِبا ... دٍ سِبْطُ مُخْتارِ صفوةِ القُدُّوسِ فعليه الصلاةُ ما سار رَكْبٌ ... لِحِماهُ من فوقِ بُزَّلِ عِيسِ وعلى آلهِ الكرامِ وصَحْبٍ ... قد تعالَوا به رئيسَ الرُّءُوسِ وله: بينما أذْكُر الْقَا ... سِي وما منه أُقاسِي عَنَّ لي أن أشْربَ الرَّا ... حَ وأن أجْلُوَ كاسِي فتَماشيتُ إلى الدَّيْ ... رِ برَيْحانٍ وآسِ وبشَمَّاسٍ يُدير الْ ... كاسَ من غيرِ شِماسِ ونَدِيم يذكُر النَّا ... سُ به العهدَ النَّواسِ ومُغَنٍ يُذْهِل الْحَا ... سِي عن الخَمْسِ الحَواسِ قَرَنَ الخَمْسَ إلى تِسْ ... عٍ سُداسِي وخُماسِي صُورةٌ جَمَّلَها اللَّ ... هُ على كلِّ الأناسِي صُورةٌ جاءتْ من الحُسْت ... نِ على غيرِ قِياسِ وإذا احْتال النِّطاسِيُّ ... لها كَلَّ النِّطاسِي أحْمَرُ الخدِّ كَحِيلُ الطَّ ... رْفِ وَرْدِيُّ اللِّباسِ فاتِرُ الطَّرْفِ وقد يَنْ ... عَسُ من غيرِ نُعاسِ غُصْنُ بَانٍ خَنِثُ الْ ... أعْطافِ مَيَّاسٌ مُواسِ يجبرُ اللهُ به كَسْ ... رَ الأسَى من غيرِ بَاسِ يتلافَىالْبائِسَ الْعا ... نِي به من غيرِ بَاسِ يَمْلأُ الْجاماتِ من ... إسْفَنْطِه مَلْءَ الْعِساسِ فسَبَأْتُ الخمرَ مِن دَيَّ ... ارِهَا أبْلينآسِ وبذَلتُ العقلَ في الرَّا ... حِ له رأساً بِرَاسِ فَبِيَ اسْتَوْثِقْ ولا تُلْ ... قِ حِبالِي ومَراسِي ثم لا تَنْوِ مُناوَا ... تِي ولا تقصِدْ مِراسِي فأنا الفَرْعُ الذي وُطِّ ... دَ جَذْمِي وأسَاسِي وأنا الغُصْنُ الذي طَا ... ب نبَاتِي وغِراسِي وأنا الناسُ وما كُلُّ ... أُناسٍ بأناسي أنا لَيْنٌ حُلْوٌ هَيْ ... نٌ بَعِيدُ الغَوْرِ حَاسِي أنا لا قَاسٍ ول ... كنِّي إذا خُوشِنْتُ قاسِ رفَعوني فأنا رَأْ ... سِي كذاك الطَّودِ رَاسِ وعلى الجُودِيِّ في السَّا ... لِفِ ما تُلْقَى المَراسِي ولِجَدِّي يُذْعنِ الْقا ... سِي مِن شُمِّ الرَّواسِي أنا زَيْنُ الْعابِدِينض بْ ... نُ أبي بَكرِ المُواسِي ومن موشحاته البديعة، قوله معارضاً ابن سناء الملك، في موشح له:

انْظُروا تَعْدِيلَ قاماتِ الغُصونِ ... هذه بَانَهْ وهذِي خَيْزُرانَهْ وَحِّدُواالرحمنَ ذا العرشِ المجيدِ وأمِيطُوا اللَّبْسَ من خَلْقٍ جَديدِ وانْظُروا تَورِيدَ تُفَّاحِ الْخُدودِ واعْجَبُوا مِن حُسْنِ تَلْوينِ العُيونِ ... تِلْكمُ حَانَهْ وهاتيكم كِنانَهْ بِأَبي مُرُّ الجفَا بالدُّرِّ حَالِي قَدْرُه قد حَطَّ مِن قَدْرِ العَوالِي مَطْلبِي مِن ثَغْرِه كَنْزُ الَّلآلِي رَصَّع المَرْجانَ بالدُّرِّ المَصُونِ ... كلّ مَرْجانَهْ بأعْلاَها جُمَانَهْ حَبَّذا مَن خَلْقُه الغُصْنُ الْوَضِيُّ حبَّذا مَن خُلْقُه الغَضُّ الرَّضِيُّ حبَّذا مَن جِسْمُه الْبَضُّ الطَّرِيُّ حَبَّذا منه وُعُودٌ مِن جُفونِ ... غيرِ خَوَّانَهْ مَوَدَّاتِ الأمانَهْ أيُّها الَّلاحِي أما لِلْعَذْلِ عُذْرُ سَلِّمِ الأمرَ فإن الأمرَ أمْرُ ودَعِ الإنْكارَ فالإنكارُ نُكْرُ كيف تلْحانِي على زَاهِي جَبِينِ ... قَدُّه زَانَهْ وفُوهُ أُقحُوانَهْ كيف تَلْحَى فيه زَيْنَ الْعابِدينَا كيف تَلْحَى فيه كَنْزَ الطَّالِبِينَا كيف تَلْحَى فيه نَجْلَ الصَّادِقِينَا إنما عَذْلُك قلبي في شُجُونِ ... مِثْلُ صَفْوانَهْ هَوَتْ من أُسْطُوانَهْ أنا لي مَجْدٌ ولي جَدٌّ عَتِيقُ ابنُ صِدِّيقٍ صَدُوقٌ وصَدِيقُ ورَقِيقٌ أنا والشِّعْرُ رَقِيقُ وجَوَارِي قُصَّدِي قُبُّ البُطونِ ... كلُّ خَمْصانَهْ بألْفَيْ بَهْرمانَهْ وصلاةُ اللهِ والتَّسْليمُ تَتْرَى لِلنَّبِيِّ المُجتبَى كَنْزاً وذُخْرَا والرِّضَا عن صحبهِ دُنْيَا وأُخْرَى مَن له اللهُ بجبريلَ الأمينِ ... زاد سُلطانَهْ وقَوى عُنْفُوَانَهْ ومن مقاطيعه قوله: لا تسألِ الناسَ مُعادَاتِهمْ ... إن كنتَ لا تَرْضَى مُعاداتِهمْ وعِفَّ عن شُرْبِ شَراباتِهمْ ... مَن يسْألِ الناسَ شَراباً تُهِمْ وله: ولي حِلْمُ مَيّالٍ عن البَطْشِ قادرٍ ... على العَفْوِ لم يخطُر سِواه بِبَالِهِ إذا سَمحتْ بالمالِ يوماً يَمِينُه ... أسَرَّ عَطايَا جُودِه عن شِمالِهِ وقوله: هي الألْحاظُ فاحْذَرْها وإلاَّ ... دَهَتْك بَوابِلِ النَّبْلِ الهَتُونِ إذا قلتُ ارْحَمِينِي قال قلبي ... وهل في العِشْقِ يا أُمِّي ارْحمينِي ومن أبياته المفردة: الناس خوفَ الذُّلِّ في ذِلَّةٍ ... وخَشْيةَ أن يَتْعبُوا في تَعَبِ وله: الناسُ مثلُ الناسِ لكنَّهم ... طِباعُهم تُنْكرِها النَّاسُ أحمد الوارثي الصديقي رأس حمله الحديث والفرقان، وشهاب الملة الذي لا يمكن أن يرى الفلك نظيره في ألف قران. اشتهرت أحاديث فضائله فأصبحت رونق السير والأسمار، وظهرت أعلام علمه فلا تخفى إلا على أكمه لا يعرف الشموس والأقمار. فكان له في الشهرة الفضل المقدم، وأقر له مع التأخر السابق الأقدم. فرجع العلماء إليه رجوع الحديث إلى قتادة، وصدق الخبر الخبر فيما ألفه من الخير المحض واعتاده. فلو تقدم عصره نزلت آي القرآن شواهد بفضله وآثاره، أو لحق الصديق الأكبر لقال: هذا وراثي بصدقه وإيثاره. وهو من الأدب في مرتبة سنامه وكاهله، تحوم الآراء حول مراده فترتوي من مناهله. وله نظمٌ ونثركما انتظمت الأنوار، بعد ما انتثرت عليها الأمطار، أو كما انتظمت الأطوار، بعد ما انتثرت من تشتت المآرب والأوطار. فمن ذلك قوله: ماذا تقولين فيمَن شَفَّه سَقَمٌ ... مِن فَرْطِ حبِّك حتى صار حَيْرانَا قد لاَذَ في الحبِّ حتى صار مُكْتئباً ... والعشقُ أضْرَم فيه اليومَ نِيرانَا هل يشْتفي منك بالثَّغْرِ الرَّحِيق إذاً ... أو تتْركيه على الأدْنانِ نَدْمانَا وقوله: وإنِّي لَصَبٌّ بالقوافِي ومَدْحِها ... ويبلُغ بي حَدَّ السرويرِ بَليغُهَا

وأطْيَبُ أوْقاتي من الدهرِ ليلةٌ ... تُرِيع القوافِي خاطرِي وأُرِيعُهَأ وكم بلَغتْ بي هِمَّتِي بُعْدَ غَايةٍ ... يَعِزُّ على الشِّعْرَى الْعبُورِ بُلُوغُهَا فما سَرَّني إلاَّ كلامٌ أُسِيغُه ... بِمَسْمَع واعٍ أو مَعانٍ أَصُوغُهَا وكتب إلى بعض وزراء مصر: يا أيُّها المَوْلَى الوزيرُ ومَن له ... مِنَنٌ حَلَلْنَ من الزَّمانِ وَثاقِي مَن شاكِرٌ عنَّي يدَيْك فإنَّنِي ... مِن عُظْمِ ما أوْلَيْتَ ضاق نِطاقِي مِنَنٌ تَحِفُّ على يديْك وإنما ... ثَقُلَتْ مَواهِبُها على الأعْناقِ وله فيمن اسمه بدر: سَمَّوه بَدْراً وذاك لَمَّا ... أن فاقَ في حُسْنِه وتَمَّا وأجْمَع الناسُ مذ رَأَوْهُ ... بأنَّهُ اسمٌ على مُسَمَّى وله: وكم للهِ مِن نِعَمٍ ... يعُمُّ الكونَ مَاطِرُهَا تُذكِّرُنا أوائِلُها ... بما تُولِي أوَاخِرُهَا وله: رُمْتُ حالَ الوَصْلِ أنِّي ... لا أرَى للوصلِ آخِرْ فَحُرِمْتُ الوصلَ رَأْساً ... زاد بي الوجدُ فَحاذِرْ ولده: محمد إياسي الزكن، عريٌّ عن العي واللكن. رحب ذرعه، ودل على كرم أصله فرعه. فهو قريع فخامةٍ وجلالة، ووارث الفضل لا عن كلالة. ويرجع مع الأصل الأصيل، إلى أدبٍ لوصفه في فن الفضائل تفريع وتأصيل. وقد وقفت على ديوانه، الذي سماه نزهة الأبصار، وروض الأزهار، فجردت من أحاسن أبياته، ما استحسنته لتوشية الطروس بإثباته. فمن ذلك قوله: حبيبي في التَّلطُّفِ بي يُحاكِي ... مُطاوَعة الأَراكةِ للنَّسِيمِ نديمٌ قد تملَّكني رَقِيقاً ... وإنِّي عبدُ رِقٍ للنَّدِيمِ يُعاطِينِي الحديثَ وخَمْرَ ثَغْرٍ ... فَأسْكَر بالحديثِ وبالْقديمِ وإن رام السُّلُوَّ فإن قلبي ... صحيحُ الوُدِّ في جَسَدٍ سقيمِ أقمتُ بحُبِّه ومَضَى عَذُولِي ... فلا اجْتَمع المُسافِرُ بالمُقيمِ وقوله في الغزل: أُفَدِّي غزالي الذي غَزَا لِي ... بسَيْفِ لَحْظٍ وما رَثَى لِي هَزَّتْه رِيحُ الصَّبا سُحَيراً ... فمَاسَ كالغُصْنِ في دَلالِ وقام يجْلُو شمسَ الْحُمَيَّا ... من رِيقِ فِيهِ شُهْدِي حَلا لِي وجاء يهْتزُّ مثلَ غُصْنٍ ... وقد سَقاني وقد مَلاَ لِي فصرتُ أشكُو النَّوَى إليه ... وما نَوَى لي من المَلالِ وقلتُ باللهِ يا حبيبي ... انْظُرْ لِحالِي قد صار حَالِي يا بدرَ تِمٍ بأُفْقِ سَعْدٍ ... يا مُشْترِي القلبِ بالوِصالِ حمَّلْتني في هواك ما لا ... أفْدِيك خِلِّي بكُلِّ مَالِي ومُرْسَلُ الدمعِ سال فَيْضاً ... والقلبُ واللهِ ليس سَالِي ومَقْصِدي أن أراك يوماً ... ماذا على الدهرِ لو صَفَا لِي يا قامةَ الغُصْنِ في اعْتدالٍ ... يا طَلْعَة البدرِ في الكمالِ لا عِشْتُ إن لم أكُنْ مُحِبّاً ... أحْفَظُ وُدِّي ولا أُبالِي وأرْتضِي في هَواك هَتْكِي ... وأُنْفِقُ الرُّوَح ثم مَالِي وله: رُبَّ ساقٍ خَمْرةً مِن ثَغرِهِ ... وثَناياهُ كدُرٍ أو حَبَبْ أوْرَثَ العقلَ خَبالاً عندما ... أن تَبدَّى لي بكأسٍ مِن ذَهَبْ مَذْهبي فيه طِرازٌ مُذْهَبٌ ... واصْطبارِي في هَواه قد ذَهَبْ لَيِّنُ الأعطافِ قَاسٍ قلبُه ... واللَّمَى يحْكِي ضَرِيباً أو ضَرَبْ عَارِضاهُ أنْبتَبَا آساً وفي ... وَجْنتَيْهِ أصبحَ الوَرْدُ عَجَبْ وقوله: ألِفُ الْقَوامِ ولامُ عارضِ مَن سَبَا ... عقلي ومِيمُ الثَّغْرِ مَعْ صادِ المُقَلْ

إن جُمِّعُوا وغَدَوْا نَصِيبي مَرَّةً ... من فيه ذاك شِفاءُ قلبي مِن عِلَلْ فيه توليدٌ لطيف، وهذا النوع مما تظرف فيه الأدباء، ومنه قول بعضهم: كأنَّ مُقلتَه صادٌ وحاجبَه ... نونٌ وموضِعَ تَقْبِيلي له مِيمُ فصِرْتُ أعْشَقُ من عِشْقي له صَنمَاً ... وعاشِقُ الصَّنَم الإنْسِيِّ مَرْحُومُ قال الزكي بن أبي الإصبع، في تحرير التحبير: إن أغرب ما سمعت في التوليد: كأنَّ عِذَارَهُ في الخَدِّ لاَمٌ ... ومَبْسِمَه الشَّهِيَّ العَذْبَ صادُ وطُرَّةَ شَعْرِه ليلٌ بَهِيمٌ ... فلا عَجَبٌ إذا سُرِق الرُّقادُ فإنه ولد من تشبيه العذار باللام، وتشبيه الفم بالصاد، لفظة لص، وولد من معناها تشبيه الطرة بالليل وذكل سرقة النوم، فحصل توليدٌ وإغرابٌ وإدماج. وأستحسن أنا فيه قول بعضهم: تاللهِ ما لِمُعذِّبي في حُسْنِه ... شَبَهٌ فأيُّ حَشاً عليه لم يَهِمْ لاَمُ العِذارِ وميمُ مَبْسمِه على ... ما أدَّعِي من حُسْنِه بُرْهانُ لَمْ ولابن جابرٍ الأندلس، معتذراً عمن لم يسلم: لا تَعْتِبَنَّ على تَرْكِ السَّلامِ فقد ... جاءَتْك أحْرُفُه كَتْباً بلا قَلَمِ فالسِّيُن مِن طُرَّتِي والَّلامُ مَعْ ألِفٍ ... مِن عارِضِيَّ وهذا المِيمُ مِيمُ فَمِي وللوارثي: أقْبَلَ المَحبوبُ يوماً ... خاَطِراً نَحْوَ الْمُعَنَّى مُفْرداً في الحُسْنِ فاعْجَبْ ... منه فَرْداً يتَثنَّى غصبه من قول ابن نباتة: فريدٌ وهْوَ فَتَّانُ التَّثَنِّي ... فيالَلَّهِ من فَرْدٍ تَثَنَّى ومثله لابن العفيف: هو لا شَكَّ واحدُ النَّاسِ في الحُسْ ... نِ وإن كان قَدُّهُ يتَثَنَّى وله: بأبِي أفْدِي غَزالاً ... مُكْثِراً للهَجْرِ والْبَيْنِ عَارِضَاه صَيَّرانِي ... هِمْتُ من وَجْدِي بلا مَيْنِ من قول البدر الدماميني: لاَمَا عِذارَيْكَ هما أوْقَعَا ... قَلْبَ المُحِبِّ الصَّبِّ في الْحَيْنِ فَجُدْ له بالوَصْلِ واسْمَحْ له ... ففِيكَ قد هامَ بِلاَ مَيْنِ أبو الإسعاد يوسف الوفائي أحد السادات بني وفا، الذين اربى قدرهم على أهل الدنيا وأوفى. تميزوا في الأولياء تميز الملوك في الأجناد، وجردوا عزمهم فكان فرنده النقي وغمده تبسيم الأجياد. سقى عهودهم بالماء الطاهر، وتحلوا بحليتي الباطن والظاهر. فإذا اقتسم الفضل وشرف الخصال، فللناس منهما الأسماء ولهم الأفعال. وإن ذكر المدح والثنا، فكلهم يعرفون في الوصف الجميل بالكنى. فليت شعري بأي وصفٍ أصفهم، ولو جمعت جيوش البلاغة لم أكن أنصفهم: ولولا أنَّ في الأشْياءِ ما لاَ ... يُنالُ بكَدِّ نَفْسٍ واجْتهادِ كتبتُ ثَناءَهم بسَوادِ عَيْني ... مَخَافَةَ أن يُدَنَّسَ بالمِدادِ وأبو الإسعاد هذا رونق منتسبهم العالي، وبهجة منتداهم الذي أطلع ثمر المعالي. جمال عصره، ويوسف مصره. عطف سماحه مياس، ونيل كفه جارٍ بغير مقياس. فهو في الروض إذا ذوى ناضر العود، ولدى الحوض وإن خوى أسعد السعود. ولعين الرجاء نزهةٌ في روض مساعيه الخصيبة الرحاب، ولآثاره عليه ثناءٌ كثناء الرياض على غر السحاب. فتتشوق النفوس إلى تلك الشيم، تشوق الجدب إلى فيض الديم. والجود حسن السادة الكرام، كالحسن يدعو الناس إلى الغرام. فلله ما وهبه العز من تجمله به وتحليه، وتبرجه بآرائه وتجليه. بوجهٍ لا يحاسنه شيءٌ في الإشراق، ومعالٍ من ادعاها لزمته جناية السراق. فهو يثير بشيم اللطف، وينيل بالديم الوطف. ويهتز للأدب عطف بانه، ويضطرب لمجتديه كأنما نادمه ابن بانة. وله من رائق النظام، ما هو كالثريا في الانتظام. فمنه قوله: لَحِيِّ أهلِ الْوَفَاءِ سِرْ بِي ... فإن فيه غَزَالَ سِرْبِ مِلْ بي إلى نَحْوِهم وعُجْ بِي ... سَلِمْتَ مِن فِتْنةٍ وعُجْبِ

قومٌ بهم ما حَيِيتُ دَائِي ... وهم دَوَائِي وعَيْنُ طِبِّي وهم شموسُ العُلَى افْتخاراً ... بفَيْضِ كَسْبٍ وفَيْضِ وَهْبِ وهم سحَابُ الرَّجَا مَطِيراً ... إذا اشْتكَى الدَّهرُ عَهْدَ جَدْبِ ولاَحَ سِرُّ الوفاءِ منهم ... عَوْناً إذا سامَ دَفْعَ كَرْبِ فهم عِياذِي وهم مَلاذِي ... لكلِّ هَوْلٍ وكلِّ خَطْبِ وليس لي عنهُمُ غَنَاءٌ ... وهكذا حَالةُ الْمُحِبِّ وقد رَضَوا لي سَلْبِي سِواهُمْ ... فاشْهَدْ مَقامَ الرِّضا وسَلْ بِي لا نِلْتُ مِن قُرْبِكم وِصالاً ... إن لم أمُتْ فيكمُ بحُبِّي غَمَرْتُمونِي بكلِّ فَضْلٍ ... وقد عَمَرْتُم رُبوعَ قلبِي وهكذا تفعلُ الْمَوالِي ... إذا رَعَوْا ذِمَّةً لِصَبِّ وقوله: قَسَماً بكم يا سادتي وغَرامِي ... ما حُلْتُ عن عَهدِي لكم وذِمامِي وأنا المُقيمُ لكم على عَهْدِ الوفَا ... وعلى هَواكُم تَنْقضِي أيَّامِي غيري يُغَيِّرُه الجَفاءُ عن الهوى ... فيَمِيلُ نحوَ مَلامةِ اللُّوَّامِ وأنا الذي لو مُتُّ فيكم لم أحُلْ ... عنكمْ ولا يَثْنِي المَلامُ زِمامِ يا سادتِي عَطْفاً على عَبْدٍ لكم ... فعَسَاكمُ تحْنُوا على الْخُدّامِ فالقلبُ في نِيرانِ تَبْرِيحِ الجَوَى ... يَصْلَى وجَفْنِي مِن جَفاكُمْ دَامِي أرْضَعْتُموني دائماً ثَدْيَ الرِّضَا ... ويَشُقُّ من بَعْدِ الرِّضاعِ فِطامِي فعلى مَ أظْهَرْتُم إهانةَ عَبْدِكم ... مِن بَعْدِ ذاك العِزِّ والإكْرامِ ما زَلَّ بي قَدَمٌ وإن زَلَّتْ فكَمْ ... غُفِرتْ لَدَيْكم زَلَّةُ الأقدامِ قَسَماً بفضْلِكُمُ عَليَّ وإنه ... لِذَوِي المَعارِفِ أعظمُ الأقْسَامِ بسِواكمُ ما لِلْفُؤادِ تَعَلُّقٌ ... أنتم مَرامِي دونَ كُلِّ مَرامِ يا عَاذِلِي ذَرْنِي فإني كُلَّما ... زِدْتَ الْمَلامَ عليَّ زادَ هُيامِي كيف التَّسَلِّي عن هَواهُم بَعْدَمَا ... سَكَنَ الهوى في مُهْجَتِي وعِظامِي مَن رامَ فَضْلاً يَأْتِهِمْ مُتأدِّباً ... يَحْظَى بهم ويفوزُ بالإكْرامِ إنِّي لأَطْرَبُ من مَدِيحِ صِفاتِهمْ ... فأمِيلُ نَشْواناً بغير مُدَامِ إنْ أعْرضُوا فأنا الصَّبُورُ وإن أبَوْا ... فأنا الشَّكورُ بِخُلَّتِي وغَرامِي شُرِّفْتُ حين غَدَوْتُ مِن خُدّامِهمْ ... ورَقِيتُ في الإسْعادِ خيرَ مَقامِ ومن مطولاته قوله: حَيِّهِمْ إن جِئْتَهم يا سَعْدُ حَيّ ... فهمُ أهلُ الوفَا في كلِّ حَيّ عِشْ بهمْ صَبّاً ومُتْ في حُبِّهمْ ... مَن يَمُتْ في حُبِّ حَيٍ فهْو حَيّ هُم مُلوكُ الأرضِ سَاداتَ الورَى ... فاَرْوِ عنهم واطْوِ ذِكْرَ الْغَيْرِ طَيّ لم يزَلْ إحْسانُهم يغْمُرُنا ... مُطْلَقاً بالفَيْضِ في نَشْرٍ وطَيّ كم كذا ألْطَافُهم تَأْتِي بما ... فيه لِلْقَلْبِ شِفاءٌ ودَوِيّ لَفْظُهم والجودُ ذَا فيه شِفَا ... لِذَوِي السُّقْمِ وذا فيه رَوِيّ مِن كِلاَ هذين لا أبْرَحُ لي ... سَكْرَةٌ فارْوِ لهم عن سَكْرَتَيّ أنا منهمْ لم أزَلْ مُكْتسِباً ... كُلّ ما يُنْسَبُ في الخيرِ إلَيّ فسَناهُم لاَمِعٌ في فِكْرَتِي ... ونَداهُم هَامِعٌ في رَاحَتَيّ

طَرَقَتْنِي نَفْحة مِن سِرِّهم ... فكَسَا ضَوْءُ سَناهَا أصْغَرَيّ صَيَّرتْني مُنْشِئاً مُرْتَجِلاً ... كلُّ ما أطلُبه في قَبْضَتَيّ أسْعَدَ اللهُ بهم فِكرِي فلا ... يعْترِيِني قِصَرٌ في سَاعِدَيّ وَاجِبٌ عنديَ أنْ أسْعَى علَى ... بَصَرِي حَقّاً لهم لا قَدَمَيّ يا لِسانِي أدِمِ المَدْحَ لهم ... دائمَ الدهرِ ويا فكرِي تَهَيّ أنا واللهِ مُحِبٌّ لكمُ ... صَدِّقُوني ليس بعدَ اللهِ شَيّ مُخْتَفٍ حُبُّكمُ في مُهْجتِي ... عن جميعِ الخَلْقِ إلاَّ مَلَكَيّ لا يخفى أنه أراد المعارضة لابن الفارض، ولكنه بحكم عارض المحبة بقي تحت ذيل العارض، وبيت الفارضي: كان لولا أدْمُعِي أسْتغْفِرُ اللَّ ... هَ يَخْفَى حُبُّكم عَن مَلَكَيّ مُذ مَنَحْتُم بِوَفاً دون جَفاً ... فلذا أنْسَيْتُمونِي أبَوَيّ وسَقانِي كَفُّكم كأسَ نَدىً ... مِن رَحِيقٍ بَرْدُه وَسْطَ حَشَيّ دام مِنِّي المَدْحُ يأْتِيكُم علَى ... سائق الأظْعانِ يَطْوِي الْبِيدَ طَيّ عبد الرحيم الشعراني خلاصة جيله، الواجب أمر تعظيمه وتبجيله. وآل بيته الأخيار، رونق السير وطلاوة الأخبار. لهم نفوسٌ بالأسرار الروحانية عارفات، إذا كان لغيرهم منها عارفةٌ فلهم منهم عارفات. فما زالوا يطلعون من أخلافهم، ما يبقى به ذكر أسلافهم. وهذا الحبر العالم، زين الله به منهم المعاهد والمعالم. فنال حفلا به السعد اكتمل، وابتسم بمرآه ثغر المنى وامتد خطو الأمل. وهاجر إلى الروم لأمرٍ دعاه، فحمد عند أهل المشاهدة مسعاه. فأقام بها راتعاً من الجلالة في نضرها ولدنها، إلى ان انتقل من ظهرها إلى بطنها. يملأ الصدور انشراحا، ويعم الأرجاء أفراحا. ولا يألو وليه شكر منه الجسيم، كما شكر عارفة الروض لسان النسيم بوقارٍ كما تشتهيه العيون، ونصحٍ كما تقتضيه الظنون. يلهب الوجد الذي خمد، ويذيب الدمع الذي جمد. ووعظٍ يقيم الحرج، على الشيخ أبي الفرج. وله أشعارٌ مشتملة على حكم ووعظ، يتمتع بها القلب قبل اللفظ. فمنها قوله في عقد كلاٍم ينقل عن كسرى، كاتب به قيصر جواباً عن مكاتبة: كَاتَبَ في السَّبِق كسرى قَيْصَرُ ... بما اسْتقامَ مُلْككُم والظَّفَرُ فقال قد دامَ لنا الْولاءُ ... بخَمْسةٍ طاب بها الْهَناءُ إن اسْتَشَرْنا فَذَوِي العُقولِ ... وإن نُوَلِّي فذَوِي الأُصولِ وليس في وَعْدٍ ولا وَعِيدِ ... نُخالِفُ القولَ على التَّأْبِيدِ وإن نُعاقِبْ فعلى قَدْرِ السَّبَبْ ... مِن الذُّنوبِ لا على قَدْرِ الغَضَبْ ولا نُقَدِّمُ الشبابَ مُطْلَقَا ... على الشيوخِ في وَلاءٍ أُطْلِقَا وله في التوسل: يا سيِّدَ الرُّسْلِ ومَن جُودُهُ ... لكلِّ خَلْقِ اللهِ مُسْترسِلُ أنتَ الذي خَصَّك رَبِّي بما ... لم يُحْصِه المِزْبَرُ والمِقْوَلُ وإنِّني عبدُك مَنْ جُرْمُهُ ... لفِكْرِ ذي اللُّبِّ غَدَا يُذْهِلُ قد جئتُ أبْغِي توبةً يَنْمَحِي ... عنِّي بها الوِزْرُ الذي يُثْقِلُ والسَّتْرَ في دِيني وأهْلِي ومَن ... يَحْوِيه بَيْتي أو بهِ يَنْزِلُ فأنتَ بابُ اللهِ أيُّ امْرِىءٍ ... أتاه مِن غيرِك لا يَدْخُلُ هذا البيت مضمن من قصيدة الشمس البكري، التي أولها: ما أرْسَلَ الرحمنُ أو يُرْسِلُ ... مِن رحمةٍ تصْعَدُ أو تَنْزِلُ في مَلَكوتِ اللهِ أو مُلْكِهِ ... مِن كلِّ ما يخْتَصُّ أو يَشْمَلُ إلاَّ وطه المُصطَفى عبدُه ... نَبِيُّهُ مُخْتارهُ المُرْسَلُ وَاسِطةٌ فيها وأصْلٌ لها ... يعْلَم هذا كلُّ مَن يعقِلُ ولده: أبو السعود

هذا سعد السعود، الذي لو مس عوداً يابساً لعاد الماء في العود، حتى ينور خضرا، ويثمر غضاً نضرا. ولد في طالع السخا، وغذي في بحبوحة الرخا. ومارس المعارف ممارسةً كشفت له عن وجوه الحقائق، وأظفرته بفوائدها الجلائل، وفرائدها الدقائق. فقدمه في العلم راسخة عالية، والمسامع بمحامده مقرطةٌ حالية. وكانت أوقاته مقسمةً بين عارفةٍ ينيلها، وملمةٍ يزيلها، وفائدةٍ يبديها، وصنيعةٍ يسديها. ومجلسه أوله ثناء جميل، وآخره دعاءٌ جزيل، وبينها ترحيبٌ وتأهيل. ففخره يتقلده جيد الدهر وليته، وذكره يأرج له مسرى النسيم وهبته. وله أدبٌ يتنافس فيه بلا تطرية مادح، وشعرٌ ورى فيه زنده ولم يقدح فيه قادح. فمنه قوله مخمساً: يا حادِيَ العِيسِ إن حَفَّتْ بك الْكُرَبُ ... الْحقْ هُدِيتَ برَكْبٍ ساقَهُ الطَّرَبُ وقُلْ لِصَبٍ غَدَا بالشوقِ ينْتحِبُ ... لِمَهْبِطِ الوَحْي حَقّاً ترحَلُ النُّجُبُ وعندَ هذا المُرَجَّى ينْتهِي الطَّلبُ أعْنِي الرسولَ الذي قد شَرَّفَ الأُمَمَا ... ونال سائِلُهُ فوقَ الوَرَى قسمَا يَلْقَى العُفاةَ بما يَرْجُون مُبْتسِمَا ... به تحُطُّ رِحالُ السَّائلين فَمَا لِسائِلِ الدَّمْعِ ما يَقْضِيهِ ما يَجِبُ إن رُمْتَ كشفَ العَنَا والحَوبِ والنُّوَبِ ... كذا الخَلاصَ مِن الأكْدارِ والنَّصَبِ وأن تكونَ سعيداً غيرَ مُكتئِبِ ... قِفْ وِقْفَةَ الذُّلِّ والإطْراقِ ذا أدبِ فعندَ حَضْرتِهِ يُسْتَلْزَمُ الأدبُ يا مَن بِهِمَّتِه قد صار مُنطلِقَا ... وسكَّن الرُّوحَ منه بعدَ ما فَرَقَا ذاك الحبيبُ الذي مِن صَفْوةٍ خُلِقَا ... له الملاحةُ خَلْقاً والنَّدَى خُلُقَا والثَّغْرُ مُبْتَسِمٌ والكفُّ مُنْسكِبُ إنْ أزْمةٌ أوْهَنتْ قلبي كذا جسدِي ... أو كُرْبةٌ فَرَّقتْ جُنْدِي كذا جَلَدِي فليس لي نَاصِرٌ إلاَّك يا سَنَدِي ... يا سيِّدي يا رسولَ اللهِ خُذْ بيَدِي فأنتَ حَسْبِي ومنكم يُعْرَفُ الحَسَبُ سري الدين محمد الدروري المعروف بابن الصائغ ماجدٌ سرى، وفاضلٌ بكل مدحٍ حري. قد ضربت البراعة رواقها بناديه، ولم يزل داعي البلاغة من كثبٍ يناديه. مضى حيث يرتد العضب الصقيل وهو كهام، وبلغت هممه حيث تقصر عن مداركها خطا الأوهام. فقعد حيث كيوان بإزائه، وعقد له الفلك ذوائب جوزائه. إنَّ السَّرِيَّ إذا سَرَى فبنفسِه ... وابنُ السَّرِيِّ إذا سَرَى أسْرَاهُمَا فهو ظرف علم، ووعاء حلم، ومن عرف حاله من الإيثار عرف الحلي كيف يصاغ، والسلاف الرائق في الأفواه كيف يساغ. هو امْرؤٌ لا يصُوغُ الحَلْيَ تعملُه ... كَفَّاهُ لكنَّ فَاهُ صائغُ الكَلِمِ وقد أوتي من حلاوة الأخلاق والبيان، ما يزرع حب الحب في الصميم من الجنان. فنظمه جارٍ في بداعة الأسلوب على غير مثال، ونثره حقه أن يجعل كل فقرةٍ منه مثلاً من الأمثال. جميع الأمثال منه تطرب، ولكونها لا تلحقه تضرب. فمن نظمه قوله من قصيدةٍ، أولها: رَعَى الله عَهْداً بالغَرامِ تقدَّمَا ... أراه بثَوْبِ الدهرِ وَشْياً مُنَمْنَمَا وحَيَّى الْحَيَا منِّي ديارَ أحِبَّتِي ... وإن كان رَبْعُ الوُدِّ منهم تَهَدَّمَا وإن كان وُدَّا في الْحَقيقةِ غيرَ أنْ ... عَشِقْتُ وأوْهَمْتُ الحِجَى فتوَهَّمَا إلى كم أُضِيعُ العمرَ في أيْنَ هم غَدَوْا ... وحتَّى مَ يُسْليِنِي لعلَّ وأيْنَمَا أُطالِبُ دهرِي أن يجودَ بقُرْبهم ... فما زادَ بالبُطْلانِ إلاَّ تَبَرُّمَا وناشَدْتُه إلاَّ مُقاسمةَ الأذَى ... وصَفْوَ الليالي فاسْتقالَ وأقْسَمَا وما ضَرَّهم لو أن بَرْقَ الْتقائِهمْ ... أضاءَ إذا لَيْلُ القَطِيعةِ أظْلَمَا تبدَّتْ لِيَ الأيَّامُ في زِيِّ بَأْسِهِمْوسَلَّتْ بِكَفِّ الغَدْرِ للقَتْلِ مِخْذَمَا

وضحك مَشِيبي أنَّ عصرَ شَبِيبتِي ... يُودِّع جسماً ما أراه مُسَلِّمَا هبَطْتُ إلى أرضِ المَذَلَّةِ بالذي ... تَخِذْتُ لِصَرْحِ العِزِّ مَرْقىً وسُلَّمَا مما يتناسب معه قول الفاضل: وقيل اهْبِطُوا مِصْرَ وأيُّ فَضِيلةٍ ... لِمِصْرَ وبَاغِي الرِّزْقِ في مصرَ يَهْبِطُ وممَّا دَهانِي أنْ بَلِيتُ بأغْيَدٍ ... إذا إسْكارَ العقولِ تَبَسَّمَا وإمَّا رَنَا واهْتزَّ غُصْنُ قَوَامِهِ ... فوَيْلُ الْمَهَا منه وتَعْساً على الدُّمَى تَمَايَلَ وَسْنانَ الجُفونِ وما احْتسَى ... مُداماً وأصْمَانَا وما راشَ أسْهُمَا ووَلاَّه سُلطانُ الجمالِ نُفوسَنا ... ألستَ ترَى دِيباجَ خَدَّيْهِ مُعْلَمَا وما هو إلاَّ لاَنَ عِطْفَيْه جَانِباً ... فيَسْمَحُ لي في زَوْرَةٍ ثم يَنْدَمَا زَرعتُ بلَحْظِي الوردَ في رَوْضِ خَدِّهِ ... أما آنَ أن يُجْنَى بِفِيَّ أمَا أمَا وهَبْهُ حَمَى وَرْدِيَّهُ بِعذَارِهِ ... فمَنْعُ فَمِ العُشَّاقِ ذاك اللِّمَى لِمَا اللمى، مثلثة اللام: سمرةٌ في الشفة، لمى، كرضى: اسودت شفته، وهو ألمى، وهي لمياء. هذه عبارة القاموس. وأكثر ما يستعمله الشعراء، خصوصاً المولدون، في معنى الريق، ومما ينبغي أن ينبه عليه، أنه إذا وقع مع لم يستوجب أن يختار منه المكسور اللام، لقصد الموازنة، كما وقع هنا، وكما وقع في البيت الفارضي: صَدٌّ حَمَى ظَمَئِي لِمَاكَ لِمَاذَا فإن الموازنة بين الكلمات أمرٌ مستحسن عند النقاد البصيرين بموارد الكلام، فقد ذكر ابن جنى، عند الكلام على قول المتنبي: بَلِيتُ بِلَى الأطْلالِ إن لم أقِفْ بها ... وُقوفَ شَحِيحٍ ضاع في التُّرْبِ خَاتِمُهْ أنه قرأ البيت على المتنبي، ونطق بالتاء مفتوحة، فقال له المتنبي: اكسر التاء. فقال له أبو الفتح: أليس الفتح أفصح؟ فقال: ألا تنظر إلى حركات ما قبل الميم يعني في القصيدة كيف تجد الجميع مكسوراً. فعلم مراد المتنبي، وأثنى عليه. وأدل دليلٍ على التزام الموازنة قضية الازدواج المذكور، مع أن فيه عدولاً عن الأصل لأجل الموازنة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء المتبرجات في العيد: " ارجعن مأزوراتٍ غير مأجوراتٍ "، وقوله في عوذته للحسن والحسين: " أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطانٍ وهامةٍ، ومن شر كل عينٍ لامةٍ "، والاصل في مازورات موزورات لا شتقاقه من الوزر كما ان الاصل في لامة ملمة، لأنها فاعل من ألمت. وقالت العرب: الغدايا والعشايا. والأصل في الغدايا: الغدوات، وقالوا: هناني الشيء ومراني. والأهل في مراني: أمراني. وليس تغيير مبانيها إلا للقصد المذكور، ولهذا إذا استعملت شيئاً من هذه الألفاظ مفردة رددتها إلى أصولها. ومن منشآته قوله من كتاب: سيدي الذي سكن فؤادي، وسلب رقادي، واستأثر بودادي، وقصر على محبته والنزوع إلى رؤيته سويداي وسوادي. فيا من ملك زمام العلوم، من كل منطوقٍ ومفهوم، وساعده التوفيق، على أن جمع بين التحقيق والتدقيق. وإذا هُما اجْتمعَأ لنفسٍ مَرَّةً ... بلَغتْ مِن العَلْياءِ كلَّ مَكانِ أعيذ طبعك ذلك الغواص المواج، وصدرك ذلك البحر الثجاج، وفهمك ذلك السراج الوهاج، من أن ترضى بأن أصبر على الظما، وأن أبقى في ظلمة الهجر والنوى. ولم تغث مسرح بصيرتي بنوء، ومطمح نظري ببعض ضوء. وهو حفظه الله تعالى يعلم أن من مداده أمدادي، ومن سنا طبعه الوقاد هدايتي ورشادي. وعلمه محيطٌ بما في احتباس القطر من ضجر النفوس، وبما في خفاء الشمس من الوحشة والعبوس. وأنا أشكو تعطشي إليه، وأعرض حال وحشتي من بعده عليه. فهو حفظه الله تعالى إذا شاء أثلج بخطابه الأحشا، وأنا بكتابه ناظرٌ أصبح لغيثه أعشى. ومما ينسب إليه، في توجيه بيتٍ لأبي تمام، وهو: زَارَ الْخَيالُ له لا بَلْ أزَارَكَهُ ... فِكْرٌ إذا قامَ فِكْرُ الخَلْقِ لم يَنَمِ

قال: عاب الآمدي هذا، فقال: وإذا زاره بالفكر وقد زار فلا معنى للاستدراك، وحاصل ما اعتذر به أن الاستدراك صحيح؛ لأنه إذا قال: زار الخيال له لا بل أزار، احتمل زيادة الاختيار من غير بعث باعثٍ، واحتمل وقوع الزيارة عن حمل حامل، فأزال هذا الإبهام بقوله: لا بل أزاركه فكر. وقوله: لم ينم لم يرد حقيقة النوم، بل كما يقال: فلان لم ينم عن هذا الأمر. وقال: إذا نام فكر الخلق، يعني آخر الليل، ولم يقل: أوله؛ لأنه إنما أنه يسهره، وإنما يقوم في آخره تهويماً بتطرقه. وقيل: وجه احترازه أن الخيال لا يطرق في العادة إلا مع وجود النوم، وهذا إنما يكون في آخر الليل، مع استمرار النوم وطول زمانه. وقال أبو الطيب: لا الحُلْمُ جاد به ولا بمِثالِه ... لولا ادِّكارُ وَداعِه وزِيالِهِ إنَّ المُعِيدَ لنا الْمَنامُ خَيالَه ... كانتْ إعادتهُ خَيالَ خَيالِهِ يقول: المتمثل والمتخيل له في اليقظة إعادة خياله في المنام، كأن الخيال الذي في النوم خيال الخيال الذي تصور في اليقظة. وأظهر من هذا قول أبي تمام المتقدم، وإنما أخذه من قول جران العود: حَيَّيْتُ طَيْفَك مِن زَوْرٍ ألَمَّ بِهِ ... حَدِيثُ نَفْسِك عنه وهْو مَشْغُولُ فقوله: وهو مشغول، أي لم يزرك على الحقيقة، فبنى من قوله: ما زارك طيف الخيال وقوله: حديث نفسك قوله: ولكنك الفكر أزاركه. وقال الكميت: ولمَّا انْتهيْتُ وَجَدْتُ الْخَيالَ ... أمَانِيَّ نَفْسي وأفْكارَهَا عبد البر الفيومي جواب أقاليم، ومبدي صور تعاليم. زاحم العلماء بالركب، وانتضى إليهم كل مركب. ينتجع الأفكار، ويعتمد التذكار. ويباحث ويثابر، ويتأبطه اليراع والمحابر. ويحتفل بتحصيل الذخائر ويعتني، وسعيه البر لا يفتر عن مطلبٍ ولا يني. فبذل الطريف والتلاد، وتقلب في أعطاف البلاد. حتى استقر بالروم فاخضرت أكنافه، وتجملت أنواع بره وأصنافه. فبللغ من الفضل موارده، وجمع أوابده وشوارده. والتقط نفائس دره، وارتضع حلائب دره. وبها كانت رحلته إلى دار البقا، وصحيفة عمره بادية الجلاء والنقا. وهو روضةٌ بالفضل أنيقة، كتب الدهر له بتمليك الأدب وثيقة. وله من حسن البداهة والبيان، ما يسحب على سحبان ذيل النسيان. وقد أوردت من شعره ما تستغني به عن مجاجة الريق، وتستكفي به عن صرف الرحيق، الذي شغل الزجاجة والإبريق. فمنه قوله: حبيبٌ له جسمي وقلبيَ رَاغِبٌ ... ولي منه هَجْرٌ وهْو للوَصْلِ رَاهِبُ له مِن غرامي في فؤادِيَ أعْيُنٌ ... ولي مِن جَفاه والتَّباعُدِ حاجِبُ نَزِيلُ الْحَشَا لم يَرْعَ مَثْوىً به نَشَا ... وكيف انْتِشَا والوَجْدُ للصَّبِّ ناصِبُ وِلمْ طَبْعُه لم يكسب الْخَفضَ بُرْهَةً ... مِن الْجَفْنِ والوَلْهانُ للكسرِ كاسِبُ له في عُيوني مِن رَقيبيَ حارسٌ ... ومن خاطِري خِلٌّ وَفِيٌّ وصاحبُ قوله: له من غرامي أحسن منه قول الخفاجي: تنازَع فيه الشوقَ قلبي وناظرِي ... فأثَّر فيه الطَّرْفُ والقلبُ ناصِبُ وتنْظُره من قلبيَ الصَّبِّ أعْيُنٌ ... عليها لِمَحْنِيِّ الضُّلوعِ حَواجِبُ ومن تشبيهاته قوله: رأيتُ يوماً عَجَباً ... فيا لَهُ مِن عَجَبِ النُّورَ مُبْيَضّاً على ... مُحْمرِّ لَوْنِ القُضُبِ كخَيْمةٍ مِن فِضَّةٍ ... على عَمُودٍ ذَهَبِ ومنه قوله أيضاً: انْظُرْ إلى الزَّهرِ النَّضِيرِ العَسْجَدِ ... يدعُو إلى لَهْوٍ كوَجْهِ الأغْيَدِ فالوردُ في الرَّوضاتِ مُحْمَرٌّ على ... أغْصانِه الخُضْرِ الحِسانِ المُيَّدِ مُلاءَةٌ مِن ذَهَبٍ مَنْشورَةٌ ... من تحتِها قَوائِمُ الزَّبَرْجَدِ ومن غزلياته قوله: قام يَرْنُو بطَرْفِهِ حَوَرُ ... منه كلُّ الأنامِ قد سُحِرُوا قام مِن نَوْمِه على كسلٍ ... جَفْنُه بالنُّعاسِ مُنْكَسِرُ

كسَّر الجسمَ والفؤادَ فهل ... لِلْقتيلِ المُهانِ مُنْتصِرُ أطْلَع مِن جَيْبِه لِعاشقِه ... هَالَة البَدْرِ ثَوْبُه العَطِرُ سلَب العقْلَ مِن فَتىً دَنِفٍ ... مالَه مُذْ رآهُ مُصْطَبَرُ حائرٌ مُغرَمٌ به قَلِقٌ ... لم يطِبْ بعدَه له سَمَرُ خَصْرُه طَبْعُه فإن بَلَى الثَّوْ ... ب عليه فضِمْنُه قَمَرُ أصل هذا قول الأمير أبي المطاع بن ناصر الدولة: تَرَى الثِّيابَ مِن الْكَتَّانِ يَلْمَحُها ... نُورٌ من البَدْرِ أحْياناً فيُبْلِيَها فكيف تُنْكِر أن تَبْلَى مَعاجِرُهُ ... والبدرُ في كلِّ وقتٍ طالعٌ فيهَا وقد أخذه من قول ابن طباطبا: لا تَعْجَبُوا من بِلَى غِلالتِهِ ... قد زَرَّ أزْرَارَه على الْقَمَرِ وأخذه الرضي الموسوي، فقال من قصيدة: كيف لا تَبْلَى غِلالَتُهُ ... وهْو بَدْرٌ وهْي كَتَّانُ وللقمر خاصيةٌ في قرض الكتان؛ ولذلك قال من ذكر عيوب القمر: يهدم العمر، ويحل الدين، ويوجب أجرة المنزل، ويسخن الماء، ويفسد اللحم، ويشجب اللون، ويقرض الكتان، ويضل الساري، لأنه يخفي الكواكب، ويعين السارق، ويفضح العاشق الطارق. ومما يحسن له قوله: ألْقَى ذُؤابتَه فكانتْ حَيَّةً ... تسْعَى إلى إضْعافِ رِدْفٍ خَارِجِي وحَمَى مِن اللَّثْمَ الخُدَيْدَ بعَقْرَبٍ ... مَلْوِيَّةٍ من فوق جَمْرةِ مَارِجِ أخذ الأول من قول العسيلي: دَبَّتْ له ذُؤابةٌ ... كحَيَّةٍ مِن خَلْفِهِ تَحْمِي ضَعِيفَ خَصْرِهِ ... مِن خَارِجِيّ رِدْفِه واستعمله الفيومي في أبياتٍ أخر، ومحل الشاهد منها: ويحْمِي خَارِجِيَّ الرِّدْفِ منه ... بحَيَّاتٍ له ذاتِ اعْوِجاجِ قلت: والنسبة في خارجيٍ للمبالغة كدؤادي. قال ابن جنى، في سر الصناعة: وسموا كل ما فاق حسنه، وفاوق نظائره خارجياً، قال طفيل: وعارضْتُها رَهْواً على مُتتابِعٍ ... شدِيدِ القُصَيْرَى خَارِجِيٍ مُحَنَّبِ انتهى. وبهذا يتم حسن قول ابن النبيه: خُذُوا حِذْرَكم مِن خَارِجيِّ عِذَارِهِ ... فقد جاء زَحْفاً في كثيبته الخَصْرَا وله، وفيه التزام لطيف: مِن عَالَمِ الذَّرِّ لي إلْفٌ ومعرفة ... به فهل جائزٌ في الحُبِّ يُنْكِرنِي أبيتُ أذْكُره جُنْحَ الظَّلام فهلْ ... في ساعةٍ من لَيالِي الدهر يذْكُرنِي صَبْراً فأيُّ فَتىً أرْضَى بحُكْم رَشاً ... يَذُمُّنِي في الهوى يوماً ويشْكرنِي كما رَضيتُ بوَصْلٍ منه لي وقِلىً ... والحُبُّ والوَجْدُُ يُصْحِينِي ويُسْكِرنِي وله: تَبَدَّى مَلِيكُ الْحُسْنِ في مَجْلِس البَسْطِبِقَدٍ كغُصْنِ الْبانِ أو ألِفِ الْخَطِّ وأبْدَى على شَرْطِ المَحبَّةِ حُجَّةً ... مُسلَّمةً أحكامُها قَطُّ ما تُخْطِي ومِن شَرْطِه في الخَدِّ قُبْلةُ عاشقٍ ... فكان مِدادُ الْحُسنِ في ذلك الشَّرْطِ اختلسه من قول ابن حجة، في قصيدة قالها في مدح حماة: وقد جاء شَرْطُ الْبَيْنِ أنِّي أَغِيبُ عن ... حِمَاهَأ فقد أدْمَى فُؤادِيَ بالشَّرْطِ وله: بدرٌ من التُّرْكِ في ثوبٍ من الشَّفَقِ ... قد حَلَّ من رَوضةِ الأزْهارِ في أُفقِ عجِبتُ من أبيضٍ في أسودٍ حَلكٍ ... ولا عجيبَ فحُسْنُ البدرِ في الغَسَقِ يدُورُ بالرَّاح كالتِّبْرِ المُذابةِ في ... كأسٍ كدُرٍ نَضِيرٍ أبيضٍ يَقَقِ فبات يشْفِي ويسْقِي من مُدامتِه ... إلى الصباحِ فأحْيَتْ مَيِّتَ الرَّمَقِ وقد بَدَا سيفُ فَجْرِ الصبحِ مُرْتقياً ... أفْعَى الدَّياجِي ففَرَّتْ عنه من فَرَقِ وله: نَكْهَةٌ قد شَمَمْت من ذاتِ حُسْنٍ ... تلك مَكِّيَّةٌ وذِي تُرْكيَّهْ

وَجْنةٌ عُطِّرتْ بنُقْطةِ خَالٍ ... تلك وَرْدِيَّةٌ وذي مِسْكيَّهْ شاكَلتْ مُقْلتاهُ قَامةَ خَدٍ ... تلك قَتَّالَةٌ وذِي فَتْكِيَّهْ مثل قول ابن شمس الدين البصير، نزيل الخانقاه السرياقوسية: قلتُ لمَّا أدارَ مِسْكاً وخَمْراً ... ذُو دَلالٍ وأعْيُنٍ سَحَّارَهْ لكَ واللهِ نَكْهَةٌ ورُضابٌ ... تلك عَطَّارَةٌ وذِي خَمَّارَهْ ورأى في بروسة الحمام الخلقي، الذي يقال له: قبلجه، وهو ماء حارٌ يخرج من تحت جبلٍ عالٍ، فقال: وماءٍ له طَبْعُ الحرارةِ خِلْقَةً ... مِن الجبلِ الصَّلْدِ العظيمِ لقد سَلَكْ إلى كلِّ حَوضٍ مُسْتديرٍ مُوَسَّعٍ ... تراه مَدارَ الماءِ مَلْعبةَ السَّمَكْ تدُور به الوِلْدانُ طالعةً وقد ... تغِيبُ كشأنِ النَّيِّراتِ من الفَلَكْ وقال، وهو معنىً حسن: وحَوْضٍ كبير مستديرٍ وماءُه ... حَرارتُه بالطَّبْعِ للبردِ دافِعَهْ أحاطتْ به الأقمارُ مِن كلِّ جانبٍ ... ومِن أُفْقِه شمسُ المَحَاسنِ طالِعَهْ ومن لطائفه قوله: ولي حبيبٌ قد سالَماهُ ... عذبا وطَرْفَاهُ سَالماهُ فيا خليلي عُذْراً لصَبٍ ... جُوداً وإلاَّ فَسالِماهُ فالطَّرْفُ هَامٍ من التَّجافِي ... طُولَ الليالي قد سالَ مَاهُ وسَاكِنُ القلبِ مُذْ رَآهُ ... يَهِيمُ بالوَجْدِ سالَ مَا هُو الأول: ساء، بالهمزة مقصورٌ للشعر، ولماه: ريقه، فاعله، وإساءته: منعه لوارده. والثاني: ماضٍ، والألف للتثنية. والثالث: أمرٌ لاثنين. والرابع: من الإسالة، والماء قصر للضرورة. والخامس: من السؤال، سهلت الهمزة ضرورةً وما سؤالٌ على سبيل تجاهل العارف. وقد عارض بهذه الأبيات أبيات أحمد السنفي، المعروف بقعود وزاد عليه التصريع. وأبيات السنفي: يا صاحِبَيَّ اتْرُكَا مُعَنىً ... أو فاعْذُلاهُ وعارِضَاهُ فما تُطِيقانِ رُشْدَ غَاوٍ ... بما يُلاقِي وَعَى رِضَاهُ سَبَى حشَاهُ والعقلَ منه ... عَيْنَا غَزالٍ وعَارِضَاهُ يا جَمْعَ مَن صَيَّرَ التَّصابِي ... في الحُسْنِ عَاراً بالعارِ ضَاهُوا ومن مقاطيعه قوله: لقد كرَّم الرحمن وَجْهَ مُعَذِّبي ... بِعَشَّاقةِ حُسْنٍ وهْي زِينَةُ خَدِّهِ فتجْذِبُ حَبَّات القلوبِ لِحُبِّه ... بحَبَّةِ مِسْكٍ أذْفَرٍ عند صَدِّهِ وله: لمَّا بَدَا حولَ وَرْدِ الخَدِّ آسُ رُباً ... نَبَاتُه في رياضِ الحُسْنِ قد طَلَعَا لم يَرْضَ تَقْبِيلَه يوماً ولا عَجَبٌ ... فما خَراجٌ على غيرِ الذي زَرَعَا وقوله: فِكْرِي وعقلي عندكم وبكُمْ ... قد صِرْتُ في شُغْلٍ وفي سُكْرِ فاعْجَبْ لمَن كتبتْ أنَامِلُه ... خَطّاً بلا عَقْلٍ ولا فِكْرِ وقوله في معناه: قد قِيلَ إنَّ المالَ عقلُ الفتى ... به له التَّصْرِيفُ في النَّقْلِ فقلتُ لا تعجَبْ فكم في الورَى ... مِن عاقلٍ أضْحَى بلا عَقْلِ وقوله: ومُذْ رامَ الهلالُ وقد تَعَدَّى ... مُشابَهةً له من غيرِ قَابِلْ أجابَ قَلَمْتُ مِن ظُفْرِي شَبِيهاً ... له وطَرَحْتُه فوقَ الْمَزابِلْ تناوله من قول التقي الفارسكوري: وما في البدرِ مَعْنىً منه إلاَّ ... قُلامة ظُفْرِه مِثْل الْهِلالِ والتقي أخذه من قول ابن المعتز: ولاح ضَوْءُ هِلالٍ كاد يفضحُنا ... مثل القُلاَمةِ قد قُدَّتْ من الظُّفُرِ وابن المعتز أخذه من قول بعض العرب: كأنَّ ابنَ لَيْلتِها جانحاً ... فَسِيطٌ لَدَى الأُفْقِ مِن خِنْصَرِ وابن الليلة الهلال، والفسيط، بفتح الفاء وكسر السين المهملة: قلامة الظفر. ويروى: كأن ابن مزنتها، ومعناه حين انقشعت عنه السحابة بدا كقلامة الظفر.

وهنا فائدة، ذكرها ابن الأثير، في المثل السائر، قال: واعلم أن من التشبيه ضرباً يسمى الطرد والعكس، وهو: أن يجعل المشبه به مشبها، والمشبه مشبهاً به، وبعضهم يسميه غلبة الفروع على الأصول، ولا تجد شيئاً من ذلك إلا والغرض به المبالغة، فمما جاء من ذلك قول عبد الله بن المعتز وأنشد البيت ألا ترى إليه كيف جعل الأصل فرعاً، والفرع أصلاً، وذلك أن العادة أن تشبه القلامة بالهلال، وإنما فعل ذلك مبالغة وإيذاناً بأنه لما صار ذلك مشهوراً متعارفاً حسن عكس القضية فيه. قلت: فبيت التقي والفيومي جاريان على الأصل، والثانيان على العكس. وله: جاء المَليحُ بأسودٍ في أبيضٍ ... مِن قَهْوةٍ تَرْوِي عن المِسْكِ الذَّكِي فنظَرْتُها ونظرتُ حُسْنَ عُيونِهِ ... والفَرْقُ فيه احْتار ذو عقل ذَكِي كأنه نظر إلى قول الجمال العصامي: فِنْجانُ قَهْوةِ ذا المَلِيحِ وعَيْنُه الْ ... كَحْلاءُ حَارَتْ فيهما الألْبَابُ فسَوادُها كسوَادِها وبيَاضُها ... كبَياضِها ودُخانُها الأهْدابُ وله في الدولاب: إنما الدُّولابُ في دَوْرِهِ ... يَهُمُّ من شَوْقٍ وأشْجَانِ ينُوحُ حُزْناً ويُرَى باكِياً ... بأعْيُنٍ تَهْمِي على الْبَانِ قريبٌ من قول ابن عبد السلام المصري: ورَوْضة دُولابُها دائرٌ ... مُوَلَّهٌ مِن فَرْطِ أشْجانِهْ فكلُّه مِن وَجْدِه أعْيُنٌ ... تبْكِي على فُرْقةِ أغْصانِهْ وهذا المعنى كثير، وقد تقدم ما يغني عن ذكره. وله في دولاب العيد: دولابُ عِيدٍ دار بالمُنْحنَى ... لِطَلْعةٍ قامتُها ناضِرَهْ يَرْوِي لنا عن فَلَك نَاضِرٍ ... والشمسُ ما زالتْ به دَائِرهْ وله: شَبَّابَةٌ قامتْ بمَوْصُولِها ... وعَيْنُها جَارِيةٌ بَاكِيَهْ تُشِيرُ بالعَيْنِ إلى ذِي جَوىً ... بأنَّها مِن وَجْدِها شَاكِيَهْ مثله لابن الأزهري: يا حُسْنَها شَبَّابة لم ينْقطِعْ ... مَوْصولُها عِندي وذاك تَرَنمُ بالرَّمْزِ تُفْهِمني إشاراتِ الورَى ... أوَمَا تَرَاهَأ بالعُيونِ تَكلَّمُ شبابة، بالتشديد: قصبة الزمر المعروفة، مولدة. قال المشد: ومُطْرِبٍ قد رأيْنا في أَنامِلِهِ ... شَبَّابةً لِسُرورِ النفسِ أهَّلَهَا كأنه عاشقٌ وَافَتْ حبيبتُه ... فضَمَّها بيَدَيْه ثم قَبَّلَهَا ولشافع: شَغَفَتْنَا شَبَّابةٌ بِهَواهَا ... كلّ ما يُنْسَبُ الكئيبُ إلَيْهَا كيف والمُحْسِنُ المُقوِّلُ فيها ... آخِذٌ أمْرَها بكِلْتا يَدَيْهَا والمقول: الزامر، والعجم تقول له: قوال. وهل: ليلُ هَجْرٍ مَكانه سَنَةٌ ... أو مَسِيرٌ ناءَتْ مَراحِلُهُ صُبْحُه كالمَدِينِ مَاطَلَهُ ... رَبُّ دَيْنٍ غَدَا يُماطِلُهُ أحسن منه قول ابن الجزري: وليلٍ كأنَّ الصُّبْح فيه مَآرِبٌ ... نُؤَمِّلُ أن تُقْضَى وخِلٌّ نُصادِقُهْ وله في بعض المحتجبين: أتَيْتُ بابَ كبيرٍ عند نَائِبةٍ ... وجَدْتُه مُغْلَقاً قلتُ الفَتَى فَطِنُ فقال لي صاحبي ما الرَّأْيُ قلتُ له ... رَأْيُ ابنِ عُبْدُوسَ رَأْيٌ كامِلٌ حَسَنُ رأي ابن عبدوس قوله لنا قاضٍ له خُلُقُ ... أقَلُّ صِفاتِه الْفَرَقُ إذا جِئْناه يحْجُبنا ... فنَلْعنُه ونفْتَرِقُ وقد اقتدت الأدباء بهذا الرأي كثيراً، فمنهم ابن الخصال في قوله: جئْناك للْحاجةِ المَمْطولِ صاحبُها ... وأنت تَنْعَمُ والإخوانُ في بُوسِ وقد وقفْنا طَوِيلاً عند بَابِكُمُ ... ثم انْصَرَفْنا على رَأْيِ ابنِ عُبْدُوسِ ولمحمد بن بدر الدين القوصوني مثله من فصل: الرأي الصواب، في المتواري بالحجاب، رأي ابن عبدوس، وما سواه رأيٌ منحوس، بل عذابٌ وبوس. وله في الخضوع:

يا مَن له مُهْجتِي رِقٌّ ولِي شَرَفٌ ... بأنَّنِي عبدُه جَهْرِي وإسْرَارِي عَتَقْت قلبيَ من زَيْغٍ ومن زَلَلٍ ... وعِتْقُ ذِي سَفَهٍ فيما بَقِي سَارِي مَنَنْتَ باللُّطْفِ في الأُولى ولا عَجَبٌ ... أن تعْتِقَ الجسمَ في الأُخرى من النارِ منه قول البدر القرافي: منك البَداءةُ بالإحْسانِ حَاصِلَةٌ ... مَلَّكْتنِي الرِّقَّ فضلاً منك لي سارِي ألْهَمْتنِي بعدَه عِتْقاً لتُكْرِمَنِي ... فاخْتِمْ بخيرٍ به عِتْقِي من النارِ وللحافظ ابن حجر: يا رَبِّ أعْضَاء السُّجُّودِ عَتَقْتَها ... من فضلِك الوافِي وأنتَ الْوَاقِي والعِتْقُ يَسْرِي في الغِنَى يا ذا الْغِنَى ... فامْنُنْ علَى الْفانِي بعِتْقِ الْباقِي والأصل فيه قول ذي الرمة، قال الشريشي: وهو آخر شعرٍ قاله: يا رَبِّ قد أسْرَفتْ نَفْسِي وقد عَلِمَتْ ... عِلْماً يَقيناً لقد أحْصَيْتَ آثارِي يا مُخْرِجَ الرُّوحِ من نفسِي إذا احْتُضِرتْ ... وفارِجَ الكَرْبِ زَحْزِحْنِي عن النارِ وله من فصل في معرض شكاية من الزمن: قد كان الفضل في المراقي، من نصل عيون الدهر هو الراقي، والترقي في الأدب به التوقي من النصب والوصب، وكل هذا ذهب، وانحصر الدواء في الفضة والذهب. فالمفلحون بخبايا النقود قعود، والمفلسون في زوايا الخمول رقود. فدع فضل العلم والنسب، واسع أن يكون لك من المال خير نشب. فقد كان الأدب وديعةً واسترد، وصار الدرهم مرهماً ولبرء ساعةٍ استعد. ومن هذا القبيل قول زين الدين الجزري من مقامةٍ له: قد كان شراب الأصول يداوي العليل، والآن ليس في غير الدينار شفاءٌ للغليل. ألم تسمع أن الدراهم، لجروح العدم مراهم! وقد استردت الأيام، ودائع المكارم والكرام! يس الحمصي العليمي نزيل القاهرة منتمى بدع الفنون، ومنتدى نزه العيون. الذي بعث نفساً عاطراً إلى الإحسان، وأثبته عقداً نفيساً في جيد الكواعب الحسان. يتناول المعاني والألفاظ من مدىً قريب، وإن مد باعه فمن سحابٍ وإن اغترف فمن قليب. وحواشيه حواشي خدود، لا حواشي برود، وتخريجات أصداغٍ على وجنات، أو سوالف على خدود غانيات. وله أشعار تحل لها عقد الحبى، وتهتز لها النفوس كما يهتز تحت القطر الربى. وكان عهده قد جمع نضارة الورد إلى بقاء الآس، وافتر عن رقة المدامة في نقاء الكاس. وهو يرجع إلى شيمٍ دمثة، وهممٍ على الخير منبعثة. طالما هبت منه على طلبته نسمة المنى، فنبهت من أفواههم زهرة الثنا. وقد أثبت له ما إذا تلي وصف نفسه، وأطلع نهار طرسه شمسه. فمنه قوله: في لَحْظِه سِحْرٌ فلم أرَ صَارِماً ... في غِمْدِه يَفْرِي سِواهُ فمن يَرَى عَجَباً لغُصْنِ الْبانِ مَن أعْطافُه ... فوقَ الكثيب لبَدْرِ تِمٍ أثْمَرَا صَبَّرتُ عنه القلبَ فهو بصَبْرِهِ ... مَيْتٌ عسَى يَرْثِي لِمَيْتٍ صُبِّرَا وحدِيثُ دمعِي مُرسَلٌ لمَّا غَدَا ... منه الصُّدودُ مُسَلْسَلاً يا ما جَرَى فالرأسُ مُشْتعِلٌ بشَيْبِ صُدودِهِ ... والعَظْمُ أضْحَى وَاهِياً وقد انْبرَى والقَلبُ من مُوسَى لِحاظٍ قد غدَتْ ... مَرْضى كَلِيمٍ وهْو لن يتغيَّرَا إن رَامَ مَرْأىً مِن بَدِيع جمالِهِ ... جعَل الجوابَ له وحَقِّي لن تَرَى واللَّحْظُ مِنّي حين أبْصر خَدَّهُ ... فيه الربيعُ جَرَى عليه جَعْفَرَا يا ذا الذي قد زَارَ طيف خَيالهِ ... وأتى بَخِيلاً ما تأهَّل لِلْقِرَى بالطَّيْفِ قد مَنَّيْت لكنْ بالأذى ... أتْبَعْتَه فسلَلْتَ من عينِي الْكَرَى ما زار إلاَّكي يُعاتبَني على ... نَوْمِي فيُفْنِيهِ ويجْنَحُ للسُّرَى ولَرُبَّ ليلٍ طال حتى إنَّني ... قد قلتُ لو كان الصباحُ لأسْفَرَا لكنْ ذكرتُ بطُولِه وسَوادِهِ ... شَعْرَ الحِسانِ فطاب لي أن أسْهَرَا

قوله: في لحظة صدر الأبيات من قول بعضهم: كلُّ السيوفِ قَوَاطعٌ إن جُرِّدتْ ... وحُسامُ لَحْظِك قاطعٌ في غِمْدِهِ وقوله: يا ذا الذي إلى آخر الأبيات الثلاثة، هو معنى بيتي صردر: زار الخَيالُ بَخيلاً مثل مُرْسِلِهِ ... فما شَفانِيَ منه الضَّمُّ والْقُبَلُ ما زارنِي قطُّ إلاَّ كيْ يُعاتِبني ... عَلَى الرُّقادِ فيُفْنِيه ويَرْتحِلُ وهو مسبوقٌ إليه أيضاً، في قول بعضهم: طيفُ خَيالِ هَاجِرِي ... ألَمَّ بي فما وَقَفْ عاتَبَنِي على الْكَرَى ... ثُمَّ نَفَاهُ وانْصَرَفْ قلت: وهو إن تجارى مع غيره في ميدان تلك التحاسين، ف " قل هو الله أحدٌ " شريفة وليست من رجال " يس ". محمد الحموي نزيل القاهرة هو بين العلماء صاحب وجاهة، تستعير أولو الأخطار لدى الأزمة همته وجاهه. لين المهتصر والعود، أملس العرض مصقول شبا الوعود. تصدر تصدر الجهبذ النحرير، وأغنى الطلاب بما أبداه على المغنى من التقرير والتحرير، فأصبح الكل من أهل الإفادة، يتقربون إليه بالتلمذ والاستفادة. وكان فرد العلم في عصره، لا بل العلم الفرد بين مشايخ مصره. مع ذاتٍ بهية مطبوعة، وأداة فواكهها الحموية غير مقطوعة ولا ممنوعة. وقد أوردت له ما يبتهج ابتهاج الربيع ببرده، ويروق روق الريق في حلاوته وبرده. فمنه قوله، من قصيدة أولها: أوُجُوهُ غِيدٍ أم حِسانُ رُبوعِ ... وعيونُ آرامٍ تَزِيدُ وُلوعِي أم نَشْرُ زَهْرٍ ضاعَ فامْتلأَ الرُّبَى ... عِطْراً عَبِيراً أم رياضُ ربيعِ والماءُ قد صَقَل النَّسِيمُ مُتُونَهُ ... أم في جَداوِلِه مُتونُ دُروعِ والطَّلُّ قد زانَ الشَّقِيقَ بلُؤْلُؤٍ ... أم وَجْنةٌ مَطْلولةٌ بدُموعِ والقُضْبُ مِن لُطْفِ النسيمِ تَمايَلَتْ ... خَجَلاً فأبْدَتْ ذِلَّتِي وخُضوعِي والبدرُ أشرقَ في ثَنِيَّاتِ الدُّجَى ... سَهَراً وبُرْدُ الليلِ في تَوْشِيعِ سَفَرَ اللِّثَامَ فَلاح في وَجنَاتِه ... وَرْدُ الخدودِ فحارَ فيه بَدِيعِي سَاجِي اللَّواحِظِ فاتِكٌ بجُفونِه ... ذو خِبْرةٍ في صَنْعةِ التَّقْطيعِ ما نَمَّ مِسْكُ عِذارِه في خَدِّه ... إلاَّ لِيُظْهِر عُذْرَ كلِّ خَلِيعِ والثَّغْرُ قد حازَ العُذَيْبَ وبَارِقاً ... وجَوَاهِراً للدُّرِّ غيرَ مُضِيعِ يا قلبُ خَلِّ هَوى الحسانِ وخَلِّنِي ... مِن ذِكْرِ أحْبابٍ وذكرِ رُبوعِ واقْطَعْ أقاويلَ الْوُشاةِ فقَطْعُها ... سَبَبٌ لِوُصْلةِ حَبْلِنا المقْطوعِ ومن دره المكنون، بديعيةٌ على قافية النون، مستهلها: هَجْرِي عليَّ ولِي وَصْلٌ بأحْيَانِي ... أمَاتنِي الهَجْرُ جاءَ الوَصْلُ أحْيانِي قوله: أماتني من قول ابن الفصيح، صاحب السراجية في الفرائض: زارَ الحبيبُ فَحَيَّى ... بِحُسْنِ ذاك الْمُحَيَّا مِن صَدِّه كنتُ مَيْتاً ... مِن وَصْلِه عُدْتُ حَيَّا السيد أحمد الحموي جميع السادة منه في المنزلة، منزلة الكتاب من البسملة. وهو في المجد متعادل الوصفين، وفي السؤدد متكافىء الطرفين. صحيح المنتسب من القدم، فضلٌ كله من الفرق إلى القدم. فأصله عريقٌ وطبعه شريف، وروضه وريقٌ وظله وريف. تملا من لطفه، وسال الوقار على عطفه. فكأنما أخلاقه رضعت در النعيم، فجاءت والحمد لله كالصحة في جسم السقيم. فتدرج على درج النجح بأرجاء الرجا، وابتهج بمطلعه السعد المتألق بلألاء اللألا. مطوياً على نشر الكرم الفائق المستفيض، متبلجاً بأضواء المكارم الغر وأنوار الأيادي البيض. فألسنة الثناء بفضله منطلقة، وأيدي الرجاء بحبله معتلقة. وهو في ظلٍ من الأمن مديد، ورأيٍ بحل المشكلات سديد. فكم من فضلٍ افاد، وأدبٍ أحياه وقد باد. وله في الأدب ومضافاته، رتبةٌ يعرف مقدارها من مؤلفاته فيه ومصنفاته.

وشعره كمسعول الأماني في شباب الزمان، ومعتنق قدود الغواني في ظل الأمن والأمان. أوردت منه ما يعطر أنفاس النسائم في الهبوب، فهو إن لم يكن كثنائه العطر فكنفس المحبوب. فمنه قوله من قصيدة: ورَقِيقِ خَصْرٍ بالنُّحولِ مُمَنْطَقٍ ... قد رُيِّشَتْ بالهُدْبِ لي أجفْانُهُ غُصْنٌ على دِعْصٍ يميلُ مع الصَّبَا ... سَكْرانُ من خَمْرِ الصِّبا نَشْوانُهُ مَكْحُولُ أطْرافِ الجفونِ غَضِيضُها ... قد خُضِّبتْ بدمِ القلوبِ بَنانُهُ ما السِّحْرُ إلاَّ ما حَوَتْهُ جُفونُهُ ... والطِّيبُ إلاَّ ما حَوَتْ أرْدانُهُ ما الوردُ إلاَّ مَا حَوَتْه خُدُودُه ... وعِذارُه رَيْحانُه سُوسَانُهُ ما الصَّعْدةُ السَّمْراءُ تُشْبِهُ قَدَّهُ ... كلاَّ ولا غُصن النَّقَا فَيْنَانُهُ سلطانُ حُسْنٍ بالجمالِ مُتَوَّجٌ ... شَاكِي السِّلاحِ سِهامُه أجْفانُهُ قد حجَّبُوه بالأسِنَّةِ والظُّبَا ... كالبدرِ حُجِّب بالغَمامِ عيِانُهُ فهو العزيزُ ومِصْرُه قلبُ الشَّجِي ... وسَوادُ ناظِره به إيوانُهُ مَبْذولُ ما فوقَ اللِّثامِ لِنَاظرٍ ... مَمْنوعُ ما تحت الإزارِ مُصانُهُ قد زَارَنِي والليل قُلِّص ذَيْلُه ... والصبحُ قد طعَن الظلامَ سِنانُهُ والوُرْقُ تبْكِيه وتنْدُب فَقْدَهُ ... والدِّيكُ صاح وقد علَتْ أحْزَانُهُ في منزلٍ عَمَّ السرورُ رِحابَهُ ... والعُودُ يُفْصِح بالسرورِ لِسانُهُ والوَرْدُ والمَنْثورُ يَعْبَقُ نَشْرُه ... والنَّدُّ يسْطَع إذْ عَلاهُ دُخانُهُ وحَديثُنا قِطَعُ الرِّياض لِظِلِّها ... أنْدَا الرَّبيع وما أطَلَّ زَمانُهُ جاذَبْتُه هُدْبَ الحديثِ مُوَرِّياً ... عن فَرْطِ شَوقٍ قد زكَتْ نِيرانُهُ فأتاحَ ما تحتَ اللِّثامِ لناظرِي ... وأباحَنِي الثَّغْرَ النَّضِيدَ جُمانُهُ فلَثَمْتُه ورشَفتُ رِيقَةَ ثَغْرِهِ ... وسَقيْتُ قلباً شَفَّنِي خَفَقانُهُ وضَممْتُه وهَصَرْتُ بَانَةَ قَدِّهِ ... وعَفَفْتُ عَمَّا ضَمَّهُ هِمْيانُهُ وغَفَرْتُ ذَنْبَ الدهرِ ممَّا قد جَنَى ... وشكَرْتُ قَوْلاً عَمَّنِي إحْسَانُهُ ومن بدائعه قوله في معذر: لاح العِذارُ بِخَدِّ نَحْوِيٍ لنا ... كالَّلامِ أكَّدتِ الغرامَ وَفاءَا فسألتُ ما هذا السَّوادُ أجابَنِي ... حَرْفٌ لمعنىً بالمحَاسِنِ جاءَا وأحسن منه قول الشهاب: بلاَمِ عِذارِه قد زا ... دَهُ رَبُّ الورَى حُسْنَا وعادتُهم إذا ما زِي ... دَ حَرْفٌ زادَ في المعنَى ولام التأكيد وقعت في قول ابن نباتة: لامُ العِذَارِ أطالتْ فيك تَسْهيدِي ... كأنَّها لِغَرامِي لامُ تَوْكِيدِ ومثلها لام التعليل، كما في قول ابن الحنائي الرومي: ولائمٍ لامَ في حُبِّي لِذِي غَنَجٍ ... لمَّا رأَى في حَواشِي خَدِّه لاَمَا فقلتُ ذِي لامُ تعْليلٍ بوَجْنتهِ ... تُبِين عِلَّةَ مَن في حُبِّه هَامَا ولام الاستغاثة، كما في قول ابن رشيق: خَطَّ العِذَارُ له لاَماً بِعَارِضِهِ ... مِن أجْلِها تسْتغيثُ الناسُ بالَّلامِ واللام الموطئة للقسم كما في قول الخفاجي: غَزالٌ نَقَدْتُ له طاعتِي ... وعَجَّلْتُ للوَصْلِ ذاك السَّلَمْ وأقْسمتُ لا بُدَّ مِن وَصْلِهِ ... وبالهَجْرِ والوَصْلِ يأْتِي القَسَمْ ولامُ العِذَارِ على خَدِّهِ ... لَعَمْرِي مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمْ واللام الجارة كما في قول ابن الجابي وقد تقدم: في خَدِّه لامٌ تَجُرُّ إلى الهوَى ... فالقلبُ مَجْرورٌ بتلك الَّلامِ ولام الابتداء، كما في قول أبي الحسن علي بن الحسن الأندلسي:

قال العَذُولُ الْتَحَى فقلتُ له ... حُسْنٌ جَدِيدٌ قَضى بتجْدِيدِ أما تَرَى عَارِضَيْه فوقَهما ... لاَمُ ابْتداءٍ ولامُ تَوْكِيدِ ولام كي، في قول ابن نباتة: ومُسْتَتِرٍ من سَنَا وَجْهِهِ ... بشَمْسٍ لها ذلك الصُّدْغُ فَيّ كَوَى الْقَلْبَ مِنِّي بلاَمِ العِذَارِ ... فعرَّفني أنَّها لامُ كَيْ والبيت الأول كثيراً ما يشكل فهمه، وتبينه أنه أراد بسناء الوجه البياض، وبالشمس الحمرة. وعكس ابن غالبٍ وأبعد وأبدع في ذم العذار، فقال: سأصْنَعُ في ذَمِّ العِذارِ بَدائِعاً ... فمن شاء يقْضِي بالدَّليلِ كما أقْضِي ألا إنَّه كالَّلامِ واللامُ شَأْنُها ... إذا الْتصَقتْ بالإسمِ آلَ إلى الخَفْضِ فاجعله محتملاً لما شئت من الذم إن وجهت الخفض بانخفاضه للعمل المطلوب منه، وإن شئت انخفاضه انخفاض حاله. وقد رد عليه شرف الدين المناوي، بقوله: بَلَى إنها لامُ ابْتداءِ مَحبَّةٍ ... أو اللامُ للتأكيدِ ليستْ بذِي الخَفْضِ فلو أبْصَرَتْ عيْناك ذاك الذي بَدَا ... على خَدِّه الوَرْدِيِّ كنتَ إذاً تَقْضِي وللسيد المترجم: تبَدَّى ذا العِذارُ شَبِيهَ لاَمٍ ... على وَرْدٍ بهِ زهَتِ الخدودُ غَدَتْ كلُّ البَرَايَا فيه سَكْرَى ... لَدَى لامِيَّةِ الْوَرْدِي شُهودُ مثله لبعضهم: هوَيْتُه عَجَمِيّاً فوق وَجْنَتِهِ ... لاميَّةٌ عَوَّذْتها أحْرُفُ القَسَمِ في وَصْفِه ألْسُنُ الأقْلام قد نَطقتْ ... وطال شَرْحِي في لاميَّةِ العَجَمِ وله: بأبِي وغيرِ أبِي عِذارٌ سائلٌ ... كالمِسْكِ سالَ على بَياضِ الْعَاجِ أبداً أدِينُ بحُبِّه وبمدْحِه ... فلْيَلْحَنِي اللاَّحي ويهْجُو الْهَاجِي وله في غلام يشرب الدخان: وبديع حُسْنٍ بالدُّخانِ مُولَّعٍ ... ومِن الغَداةِ إلى العَشِيَّةِ يَشْرَبُهْ يُبْدِي الدُّخانُ بوجْهه سِتْراً لنا ... فتخالُ بَدْراً والغَمامُ يُحجِّبُهْ مثله لابن الجزري: كأنما دُخانُ غلْيُونِهِ ... لمَّا بَدَا من ثَغْرِه الدُّرِّي غَيْمٌ نَشَا من شَفِقٍ أحْمَرٍ ... مُحْتَجبٍ غَطَّى سَنَا الْبَدْرِ وكتب لشخصٍ من أهالي مكة، في صدر كتاب: سلامٌ كنَشْرِ الرَّوْضِ أو نَفْحةِ المِسْكِتَسِيرُ به أيْدِي الصَّبَا في دُجَى الحُلْكِ بَلِيلة أذْيالٍ بدَمْعِ تَشَوُّقٍ ... إلى خِيرَةِ البيتِ المُعظَّمِ بالنُّسْكِ يخُصُّ حبيباً أبْعَدَتْهُ يدُ النَّوَى ... وكان قريباً قُربَ جِيدٍ إلى السِّلْكِ وكتب إلى الأستاذ زين العابدين البكري وقد انقطع عن مجلسه أياماً بسبب كثرة الأوحال من المطر: لقد مَنع المَسِيرَ إلى حِماكُمْ ... تَوَالِي الغَيْثِ من ثَدْيِ السَّحابِ وأوْحالٌ بها الطُّرقاتُ سُدَّتْ ... فما أسْطِيعُ مَشْياً لِلذَّهابِ وقالوا رحمةٌ للناسِ عَمَّتْ ... ولكنْ لي بها فَرْطُ العذابِ فيا رَبَّاهُ حتى الغَيْثُ خَصْمِي ... يُمانِعُنِي دُنُوِّي واقْترابِي فعَجِّلْ بانْحِباسِ الغَيْثِ كَيْما ... أرَى ذاك الجمالَ بِلاَ حِجَابِ من الأمثال مطر مصر يضرب للشيء النافع، يتضرر به؛ لأن من عيوب مصر أنها لا تمطر، فإذا أمطرت كرهت أهلها ذلك أشد كراهةٍ؛ لما يقع فيها من الأوحال، قال الله تعالى: " وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته " يعني المطر، فهذه رحمةٌ مجللة لهذا الخلق، وهم لها كارهون، وهي لهم غير موافقة، ولا تزكو عليها ثمارهم. قال بعض الشعراء: وما خيرُ قومٍ تُجْدِبُ الأرضُ عندهم ... بما فِيهِ خِصْبُ العالَمين من الْقَطْرِ إذا بُشِّرُوا بالغَيْثِ رِيعَتْ قلوبُهمكما رِيعَ في الظَّلْماءِ سِرْبُ الْقَطَا الكُدْرِ

ومما يحسن موقعه في منع المطر عن الزيارة قول الشهاب مضمناً: أقولُ لِوَابلٍ عن دارِ حِبِّي ... أعَاقَ وقد بَدَا منه انْسِجامُ سلامُ اللهِ يا مَطَرٌ عليها ... وليس عليك يا مَطَرُ السَّلامُ وكتب جحظة إلى ابن المعتز: كنت على المسير إلى الأمير، فانقطع شريان الغمام، فقطعني عن خدمته. فكتب إليه: لئن فاتني السرور بك لم يفتني بكلامك. وقوله: شريان الغمام، من أحسن الكلام. ورأى تاريخ المقري، المسمى بنفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، فكتب إليه: مِن الغُصْنِ الرَّطِيبِ هَصَرْتَ غُصْناً ... ومن أثْمارِه أصْبَحْتَ جَانِي كَساهُ اللهُ من ورقٍ بُرُوداً ... مُطرَّزة بأزْهارِ الجِنانِ وكتب لبعض إخوانه يطلب منه كتاب قلائد العقيان: يا سيِّداً حاز خَصْلَ الفضلِ من كُتُبٍ ... بجدِّ عَزْمٍ وجَدٍ طاهر النَّسَبِ مِن القَلائِد جِيدِي عامِلٌ أبداً ... فابْعَثْ بها كي تُحَلِّي جِيدَ ذِي أدَبِ قَصْدِي المروُ عليها مُسْرِعاً عَجِلاً ... كما يمُرُّ نسيمُ الرَّوضِ بالْعَذَبِ وله يعتذر عن ترك التغزل: وقائلةٍ لِمْ لا تَغَزَّلُ في الظِّبَا ... وطَبْعُك مِن ماءِ اللَّطافةِ قد رَوِي فقلتُ لها قَدْرِي تَسَامَى عن الذي ... تَرُومِي لِشُغْلِي بالعلومِ وما رُوِي وله في الشباب والشيب: ليلُ الشبابِ نجومُ الشَّيْبِ فيه بَدَتْ ... فأحْرقتْ مِن شَياطينِ الهوَى زُمَرَا بدَتْ وأدْهَمُ لَهْوِي جَدَّ في مَرَحٍ ... فقيَّدتْهُ بِعقْدٍ يُشْبِهُ الدُّرَرَا معنى الأول ألم فيه بقول أبي طالب بن يعمر. نجومُ شَيْبِيَ في ليلِ الشبابِ بَدَتْ ... فبَصَّرتْ عينَ قلبِي مَنْهَج الدِّينِ فصِرْنَ راجِمةً شَيْطَان مَعْصِيَتِي ... إنَّ النُّجُومَ رَجُومٌ للشَّياطِينِ ومن فوائده ما كتبه على البيت المشهور: فَرَّقْنَ بين مَحَاجرِ ومَعَاجِرٍ ... وجمَعْنَ بين بَنَفْسَجٍ وشَقائِقِ قال: أجاب عنه البدر الدماميني، وصاحب التبيان، والبيت ثالث بيتين قبله، وهما: أنا الفِداءُ لظَبْيةٍ أحْداقُها ... مَوصُولةٌ مِن حُسْنِها بحدائِقِ لمَّا الْتقيْنا للوَداعِ وأعْرَبتْ ... عَبَراتُنا عنَّا بدَمْعٍ ناطقِ فَرَّقْنَ.....الخ وقد وجدت البدر أتى البيوت من أبوابها وأزال بنور قريحته ما أظلم من غيهب رحابها أما صاحب التبيان وإن كان من أئمة البيان، المشار إليهم بالبنان، فقد وقف من وراء البيوت، وهو من الحزن كظيم، وتأخر عنها وهو من الحياء سقيم، وراش سهام قريحته فأبعد المرمى، ولم يصب لحماً ولا عظماً. ولله در القائل: نَزَلُوا بمكة في قبائلِ مُكْثِرٍ ... ونزلت بالبَيْداءِ أبْعَدَ مَنْزِلِ فأتى بمعانٍ لا يخطبها خاطب، بل مما يحطبها في ليل سطورها الحاطب، وجهز بنات فكره بما لا يستروح لنشره؛ وليت شعري ما كان أغناه عن هذا الجواب وقصده، وما أكثر ما يهز المعاطف ولكن ببرده. وها نحن نذكر نص الجوابين، ليظهر لك ما قلناه بغير مين، ونذكر ما ظهر لنا من الجواب، الذي هو أمس رحماً بضوءٍ من الآداب. قال البدر: الظاهر أن الشاعر قصد أن عبراته في حال الوداع حجبت نظره عن رؤية الظبية الموصوفة، وحالت بينهما، فحصل بذلك تفريق العبرات المذكورة بين محاجره التي كان ينظر منها، وبين المعاجر التي كان ينظر إليها. وقد وصف بعض الشعراء الدمع بكونه حائلاً بين العين والرؤية، كقول بعضهم: وحالتْ دموعُ العَيْن بيني وبينه ... كأن دموعَ العين تعْشَقه مَعِي وقال ابن منهال، أحد شعراء إفريقية: إذا بَدَا حَالَ دَمْعِي دون رُؤْيتِه ... يَغارُ منِّي عليه فهْو بُرْقُعُهُ وقول أبي الحسين بن سقر، شاعر المرية، في دولة بني عبد المؤمن: وقَفَتْ وَقْفَةَ الوَداعِ وقالتْ ... ليت شِعْرِي متى يكون الرُّجوعُ فبكيْنا خوفَ الفِراقِ فحالَتْ ... بيْننا قبلَ أن نَبِينَ الدُّموعُ

وأما دمعها هي، فإنه إذا اختلط بكحل عينها، أشبه البنفسج من حيث اللون؛ وباعتبار جريانه على الوجنات حصل الجمع بين البنفسج وهو الدمع المذكور، وبين الشقائق وهي الخدود. وقد شبه بعض الأدباء البنفسج بالكحل الممتزج بالدمع، حيث قال: بَنَفْسَجٌ حُمِيَتْ أزْهارُه فحكَى ... كُحْلاً تشرَّب دَمْعاً يومَ تَشْتيتِ فلا بدع إذن في تشبيه الدمع، الذي هذه حالته بالبنفسج، ووجه الشبه ما قلناه. والملخص أن العبرات التي جرت من هذين في حالة التوديع، أوجبت حالةً اختص بها القائل، وهي التفريق المذكور، وحالةً تختص بالمقول، وهي الجمع على الصفة المذكورة، وهذا كله ظاهرٌ، متجهٌ، لا يرد عليه شيءٌ، إلا أن الشاعر لم يصرح في نظمه بأن المتغزل فيها كانت مكحولةً، حتى يشبه دمعها الممتزج مع الكحل بالبنفسج. وجوابه أن يقال: أحال الأمر في ذلك على ما يقتضيه الذوق السليم، وأشار إلى ذلك بالتشبيه المذكور، فيتلطف له في هذا القدر. هذا كلامه، وأما الطيبي فإنه قال: يحتمل أن المراد بالبنفسج والشقائق عارض الرجل وخد المرأة، ويحتمل أنها حين الوداع مزقت جلدها، ولطمت خدها، أي جمعت بين أثر اللطم، وهو شبيهٌ بالبنفسج، وبين لون الخد، وهو شبيهٌ بالشقائق، لكن الثاني أولى؛ لأن العارض إنما يشبه بالبنفسج عند طريان الخضرة، وليس في الشعر ما يدل على شباب الخضرة. انتهى. قال الدماميني: قلت: إنما أنشد في التبيان البيتين الأخيرين، ولم يتكلم على معنى التفريق بين المحاجر والمعاجر في الاحتمال الأول، ولم يتقدم في هذه الأبيات الثلاثة ما يصلح أن يكوم معاد الضمير في فرقن، وجمعن غير العبرات، وعليه فلا معنى لشيءٍ من الاحتمالين اللذين أبداهما الطيبي، وإنما غره في جعل الضمير للنسوة المودعات كونه لم يظفر بالبيت الأول، وغلا فلو وقف عليه لتبين أن العبرات هي مرجع الضمير قطعاً؛ فإنه لا وجه بعد ذلك لنسبة التفريق والجمع للنسوة التي لم يجر لهن ذكرٌ. إلى هنا كلامه؛ فإنك تراه كيف بين جهات الخلل في كلام صاحب التبيان، بما لا يمتري فيه من ذوي الفطرة إنسان. وهذا ما ظهر لنا من الجواب، الجاري على منهج الصواب، فنقول: إن المفلقين من الشعراء، والمصاقع من البلغاء، قد تغالوا في وصف الدمع بما تبتهج به النفوس، ويروق السمع، فأخرجوه عما هو معهود ومأهول، وجعلوه متصل الجري دائم الهمول، من غير فترةٍ في وقتٍ دون وقت، وادعوا فيه أنه كالمطر حتى سقوا به الديار الآنسة، والأطلال الدارسة، إلى غير ذلك من المبالغات الشعرية، التي لا تنخرط في سلك التحقيق، وادعوا أيضاً أن الدموع تبدلت بالدم، ومنه قول أبي تمام: وأجْرَى لها الإشْفاقُ دَمْعاً مُوَرَّداً ... مِن الدَّمِ يجْرِي فوقَ خَدٍ مُوَرَّدِ ومن هذا اتضح باب تشبيه الدمع بالعقيق والمرجان والياقوت، بمجرد حمرة اللون. ولما غلب استعمال الشعراء للدمع بالدم، وتداولت الأسماع وروده عليها، وألفت وقوعه فيها، صار حقيقةً عرفيةً عند الخاص والعام، وصار هو الأصل والدمع فرعاً عليه، حتى ادعى الشاعر أن المحبوبة أنكرت دمعه، وطالبته بالحجة والعذر عن بياضه، فقال: وقائلةٍ ما بالُ دَمْعِك أبْيَضاً ... فقلتُ لها يا عَزُّ هذا الذي بَقِي ألم تعْلمي أن البُكا طال عُمْرهُ ... فشابتْ دُموعِي مثْلَما شابَ مَفْرِقِي وقال الآخر: قالُوا ودَمْعِي قد صَفَا لِفِراقِهمْ ... إنَّا عَهِدنا منك دَمْعاً أحمرَا فأجَبْتُهم إن الصَّبابةَ عُمِّرتْ ... فيكم وشابَ الدَّمْعُ لَمَّا عُمِّرَا وقال بعضهم في الدمع الأسود: وقائلةٍ ما بالُ دمعِك أسْوداً ... وجسمُك مُصْفَرَّاً وأنتَ نَحِيلُ فقلتُ لها أفْنَى جَفاكِ مدامِعِي ... وهذا سَوادُ المقْلتيْنِ يَسِيلُ وقال الآخر في الدمع الأخضر: وقائلةٍ ما بالُ دمعِك أخْضَرا ... فقلتُ لها هل تفْهمين إشارَتِي ألم تعْلمِي أن الدُّموعَ تجفَّفتْ ... فأجْرَيتُها يا مُنْيَتِي من مَرَارتِي وقال الآخر في الدمع الأصفر: وقائلةٍ ما بالُ دمعِك أصْفرَا ... فقلتُ لها ما حالَ عن أصْلِ مائِهِ

ولكنَّ خَدِّي اصْفَرَّ من سَقَمِ الهَوى ... فسالَ به واللونُ لَوْنُ إنائِهِ إذا تقرر هذا، فنقول: الظاهر أن هذا الشاعر قصد أن عبراته هو اتصفت في حالة التوديع، وذلك المهيع الفظيع، الموجب لنحول الجسد، وحلول الكمد، وكسوف البال، وتغير الحال، وترادف الزفرات، وتتابع العبرات، واضطراب القلب، واضطرام الصدر، وانتهاب الصبر، بوصفين: أحدهما؛ أنها لفرط انصبابها، وتلاحق تساكبها، صارت حجاباً مانعاً، وستراً حائلاً بينه وبين رؤية ما هو بمرأى ومسمعٍ منه، فبهذا الاعتبار صح الحكم عليها بأنها فرقت بين محاجره التي كان ينظر منها، ومعاجر المحبوبة التي ينظر إليها، وهذا وصفٌ ممكن. والثاني؛ أن عبراته اتصفت بلونين متقابلين، وذلك أنه لفرط بكائه، وحزنه وعنائه، في تلك الحالة الحويلة، التي تخدع العقل وتسحره، وتملك اللب وتقهره، وتغلب القلب وتبهره، فاضت عبراته تارةً دماً أحمر، يشبه الشقائق في لونها، وهذا قريبٌ من الإمكان، على ما قيل: إن أصل الدموع الدم، وتارةً دماً مشرباً بزرقةٍ يشبه البنفسج في لونه؛ وهذا بعيدٌ من الإمكان عادةً، لأن مادة البكاء إنما تكون من فضولٍ تصعدت إلى الدماغ من الرطوبات المنفصلة عن هذا الجسم، وليس في لونها زرقة، ولكن هذا من المبالغات الشعرية، التي لا تنخرط في سلك التحقيق؛ لكونها مقبولةً عندهم، بل كلما زاد الشاعر في ادعاء غير الممكن كان الشعر مستحسناً، حتى قيل: لو صدق الشعر لما استحسن. غير أن هذا وإن كان بعيداً عن الإمكان، يقربه أن حالة التوديع توجب تغيراً في سحنة الوجه، بحيث يتراءى أن فيه زرقةً، فإذا فاضت عليه العبرات، تلونت بلونه؛ لكونه جوهراً شفافاً، يتلون بلون إنائه. وهذا له مساسٌ بمقاصد الشعراء وتخيلات البلغاء، خصوصاً والدمع قد تغالوا فيه، حتى أخرجوه عن سعة دائرة الإمكان، إلى أوسع مكان، ألا ترى إلى ما تخيله بعض الشعراء، في وصفه بالزرقة حيث قال مخبراً عن محبوبته: قالتْ وقد نظَرتْ لزُرْقةِ أدْمُعِي ... أكَذَا يكون بكاءُ صَبٍ شَيِّقِ فأجَبْتُها قد مات في جَفْنِي الكْرَى ... فَجرَت دُموعِي في الحِدَادِ الأزْرَقِ إذا تقرر هذا، ظهر لك صحة الحكم على عبراته بأنها جمعت بين البنفسج، وهو الدمع الموصوف بما ذكر، والشقائق، وهي الدمع الذي استحال دماً، فأشبه الشقائق في لونها، من غير نظرٍ إلى عبرات المحبوبة التي لم يكن في سياق الأبيات ما يدل على أنها كانت مكحولةً، كما اعترف هو به، وتكلف لها جواباً لا يسمن ولا يغني من جوعٍ. على أن الدمع المشرب بالكحل لا يحسن أن يشبه بالبنفسج، كما هو ظاهر، فإن البنفسج، إنما يشبه ما فيه زرقةٌ لا سواد. وهذا وجهٌ جميل، له من اللطافة ما ترى، وأنت إذا تابعت النظر يوشك أن يلوح لك وجهٌ آخر. تاج العارفين بن عبد العال تاج مفرق عصره، وغرة جبين مصره. من بيتٍ علمه منسجم الغمائم، عم نفعهم العالم، من منذ تتوجوا بالعمائم. وقد نبغ هو كما شاءت معاليه، فازدانت به أيامه ولياليه. مهابة تقدم لحظته، وبراعةً تتقد لفظته، ولطفاً ملىء به جسمه، وصفاءً قام به وسمه. فمناقبه غررٌ على أوجه الأيام تسيل، وشرفه لا يلحقه السابق ولا الرسيل. وله شعرٌ وإنشاء رائقان، وفي معارج اللطافة إلى فلك القبول راقيان. وقد جئتك منهما بما تشتم به نفساً ينسي السوسن المبلول، وتنفح منه نفحاً يهدي لك نور الربى المطلول. فمن ذلك ما كتبه إلى عبد الرحمن المرشدي، مفتي مكة: أذَكرْتَ رَبْعاً من أُمَيْمةَ أقْفَرَا ... فأسَلْتَ دمعاً ذا شُعاعٍ أحْمَرَا أم شاقَك الغادُون عنك بسُحْرَةٍ ... لمَّا سَرَوا وتَيَمَّمُوا أُمَّ القُرَى زَمُّوا المَطِيَّ وأعْنَقُوا في سَيْرِهم ... لِلّهِ دمعِي خَلْفَهم يا ما جَرَى ما قُطِّرتْ في السَّيْرِ أجْمالٌ لهم ... إلاَّ ودمعي في الرِّكابِ تقطَّرَا فكأنَّ ظَهْرَ الْبِيدِ بَطْنُ صَحِيفةٍ ... وقِطارُها فيه يُحاكِي الأسْطُرَا وكأنها بهَوادِجٍ قد رُفِّعتْ ... سُفُنٌ ودمعُ الصَّبِّ يحكي الأبْحُرَا

رحَلُوا وما عادُوا على مُضْناهمُ ... وَاهاً لحَظِّي ليت كنتُ مُؤَخَّرَا إن كان جسمي في الدِّيارِ مُخَلَّفاً ... فالقلبُ منهم حيث قالُوا أهْجَرَا أظْهرْتُ صبرِي عنهمُ مُتجلِّداً ... وكتَمْتُ وَجْدِي فيهمُ مُتسترَا وغدا العَذُولُ يقول لي مِن بعدِهم ... بَادٍ هواك صَبَرْتَ أم لم تصْبرَا أقسمتُ إن جادَ الزمانُ بِمطْلبِي ... وسَلكْتُ رَبْعاً بالمنَاسِكِ عُمِّرَا وشهدِتُ بَدْرَ الحيِّ بعد أُفُولِهِ ... مُذْ لاح مِن أفُقِ السعادةِ مُقْمِرَا أدَّيْتُ خدمةَ سيِّدٍ سَنَدٍ غَدَا ... مُفْتِي الأنامِ وِراثةً بين الوَرَى وكتبت إليه أيضاً: مَلَكتْ سَوْرةُ الرَّحِيلِ عِنانِي ... وأهاجتْ سَواكِنَ الأشْجانِ أتمنَّى أسْرِي وهل يملِك السَّيْ ... رَ طَرِيحُ النِّدَا أسِيرُ التَّدانِي يا خليليَّ وَقْفةٌ بالمُصَلَّى ... تُجْدِ حَمْدَ السُّرَى ودَرْكَ الأمانِي فاعْطِفا وانْزِلا وبُثَّا سَلامِي ... لِوَجِيهِ العُلَى فريدِ المَعانِي أنا بيْن لَوْعةٍ عَلِم اللَّ ... هُ وشَوْقِي له بِطُولِ الزَّمانِ أيْنَ منِّي الحَنِينُ من ذاتِ طَوْقٍ ... سَلَبَتْها النَّوَى غُصونَ الْبَانِ لو تُطِيقُ النِّياقُ شوقِي لما حَنَّ ... تْ خُضوعاً مِن تُرْبِها أجْفانِي وبقلبِي من الوَجِيبِ إليهِ ... مِثْلَما بالنِّياقِ مِن دَمَلانِ فَوَعَيْشِ الصِّبا وحيِّ التَّصابِي ... ولَيالِي الرِّضَا وأُنْسِ التَّدانِي إنَّ قَصْدِي لُقْياك لكنْ قِيادِي ... بيَدٍ ليس لي بها مِن يَدَانِ فأجابه بقوله: يا خليليَّ بالصَّفا أسْعِدَانِي ... وبوَصْلٍ من الإياسِ عِدانِي واحْمِلاَ بعضَ ما أُلاقِي وبُثَّا ... حالَ صَبٍ مُتيَّمِ القلبِ عَانِي جسمُه في جِيادَ والقلبُ منه ... في قُرَى مصرَ دائمُ الخَفَقَانِ لم يزَلْ شَيَّقاً وَلُوعاً دَواماً ... شَاخِصَ الطَّرْفِ سَاهِرَ الأجْفانِ يرقُبُ النَّجْمَ لَيْلَه وإذا أصْ ... بحَ أضْحَى مُناشِدَ الرُّكْبانِ هل رأيتمُ أو هل سمعتمُ حَدِيثاً ... عن قديمِ الإخَا عظيمِ المعانِي هو تاجٌ لِلْعارفين الذي قد ... نالَ إرْثاً عَوَارِفَ العِرْفانِ خُصَّ بالعِلْمِ والرِّياسةِ والوُدِّ ... وهَذِي مَواهبُ الرحمنِ فهو كنزٌ ومَجْمَعٌ لعُلومٍ ... قد حَواها بغايةِ الإتْقانِ وهو صَدْرُ الشريعةِ المَشْرَعُ العَذْ ... بُ البَسِيطُ الْمُحِيطِ والبُرْهانِ دام فينا مُبَلَّغاً ما يُرَجَّى ... من مُرادٍ ورِفْعةٍ وأمانِي ما تغَنَّى على الرِّياضِ هَزارٌ ... رَقَّص الغُصْنَ في رُبَا البُسْتانِ وكتب إليه أيضاً: اليومُ مثلُ العامِ حتى أرَى ... وَجْهَك والساعةُ كالشَّهرِ إن أبهى ما تجملت به السطور والطروس، وأشهى ما استعذبته الأنفس وتطلبته النفوس، دعاءٌ على مر الدهور لا ينقضي، وابتهالٌ بأكف الضراعة للإجابة مقتضي، أن يديم على صفحات الوجوه شامة دهرها، وواحد وقتها، وعالم عصرها. المستجمع لمكارم الأخلاق والشيم، والمنفرد بمزاياها عند الخلق والأمم. المشتهر عند العرب والعجم بأنه ملك من العلم زمامه، وجعل العكوف عليه لزامه. فانقاد إليه انقياد الجواد، وجرى في ميدانه بحسن السبق والفكر الوقاد. عالم الغرب والشرق، ومزيل ما تعارض من المسائل بحسن الجمع والفرق. الجامع بين رياستي العلم والعمل، والمانع بإخلاص السريرة من لحوق عوارض العلل. كنز العلوم والكشف، بحر الهداية الذي ارتوى منه بالعب والرشف. صدر الشريعة الغرا، وشيخ حرم الله بالإفتاء والإقرا.

من لا يمكن حصر وصفه بالتفصيل، فإن الإطناب فيه طويل، وإنما أحيل على ما قيل: أنت الذي وَقَفَ الثَّناءُ بسُوقِهِ ... وجَرَى النَّدَى بعُروقِهِ قبلَ الدَّمِ عبد الجواد بن شعيب الخوانكي شاعرٌ متسع الباع، معتدل الطباع في الانطباع. فهو ليس بالناسك البارد، ولا الفاتك المارد. ولا بالمتعفر المتقشف، ولا بالخليع المتكشف. يشوب الحصافة بالفصاحة، ويزين اللباقة باللياقة. ويجمع بين الجد المقبول والهزل المطلوب، ويستشف عما يقر العيون ويسر القلوب. وقد أوردت له ما محله الخلد، وإذا نقدته علمت أن قائله من نقد البلد. فمن ذلك قوله: وَيْلاهُ يهْجُرني عَمْداً بلا سَبَبِ ... وفي مَحَبَّتهِ الأمثالُ تُضْرَبُ بي ليت الصَّبابةَ ما كانتْ ولا خُلِقتْ ... فإن آخرَها يُفْضي إلى العَطَبِ شهراً ثلاثين يوماً لا أراكَ ولا ... عَيْنِي رأتْك فقلبي زائدُ الوَصَبِ ولا تخُطُّ كتاباً منك تُخْبِرُنِي ... أعَنْ رِضىً كان هذا الصَّدُّ أم غَضَبِ ولا يمُرُّ خيالٌ منك في حُلُمِي ... فأطْمئِنُّ وهذا غايةُ العَجَبِ وكيف يسْرِي خَيالٌ والكَرَى مَنعتْ ... بَناتُ نَعْشٍ به في أعْيُنِ الشُّهُبِ كأنه كان جِنِّيّاً يُسارِقُنِي ... فأحْرقَتْه فما أبْقتْ سِوَى اللَّهَبِ وقوله: سِرْبُ جِنَّانٍ في جِنَانٍ وبِي ... يمْشِي مع الغِزْلاَنِ في رَبْرَبِ يرْتَعُ في النَّرْجِسِ أو يرْتَقِي ... حَبَّةَ قلبِي بَدَلَ الزَّرْنَبِ تَرْفُل بالسُّنْدُسِ أعْطافُه ... أعْطافُ غُصْنِ الْبانةِ المُخْضَبِ في صَنْعةِ السِّحْرِ لأجْفانِه ... أشْياءُ عن هاروتَ لم تُكْتَبِ قد عقَد النَّوْمَ وغَلَّ الكَرَى ... مِنِّي ولا تسَلْ ما حَلَّ بي حُلْوُ الْجَنَى مُرُّ الْجَفَا قُرْطُه ... عَرَّفنِي مَنْزِلة الكَوْكَبِ وَرْدُ الرُّبَى يُقْطَفُ من خَدِّه ... والشُّهْدُ من مَعْسُولِه الأشْنَبِ أسْكَرنِي منه عُذَيْبُ اللَّمَى ... لو لم يكنْ ذا بَارِقٍ خُلَّبِ أطْمَعنِي في وَصْلِه مَرَّةً ... وقال يا أطْمَعُ من أشْعَبِ قوله: والشهد مبتدأٌ خبره الجملة، فلا يرد أن القطف في العسل غير لغوي، على أنه يمكن فيه ارتكاب التجوز، فيستعمل فيه كما استعمل في قطف الزهر، وأصله من قطف الكرم. ومن صنائعه قوله: ومن عَجَبٍ سَفْكُ الجُفونِ دماءَنَا ... وعَهْدِيَ أن السيفَ يقطَعُ لا الغِمْدُ وأعْجَبُ من هذا تُشَقُّ قلوبُنا ... ولا أوْضَحَتْ عَظْماً ولا خُدِشَ الجِلْدُ وأعْجَبُ من هذيْن تَجْنِي تَعَمُّداً ... ويُقْضَى لها أن لا قِصاصَ ولا حَدُّ وأعْجَبُ من تلك العجائبِ أنَّنِي ... بقْتلِيَ رَاضٍ وهْو يغضبُ من بَعْدُ وأعْجَبُ منها مرَّتيْن شِكايتِي ... وهل يملِكُ الشَّكْوَى من السَّيِّدِ العَبْدُ وأعْجَبُ منها مرَّتيْن ومَرَّةً ... يَصُدُّ فيدْعُوني لِطاعتهِ الصَّدُّ وأعْجَبُ من أضْعافِها قَوْلُ عَاذِلِي ... تسَلَّ ألاَ لو كان في عَاذِلٍ رُشْدُ وأعْجَبُ شيءٍ مُطْلَقاً أنه اجترَى ... ولم يَدْرِ مَن أهْوَى أزينبُ أم دَعْدُ أما والذي أبكى وأضْحَك لم يكُنْ ... لِيُخْلَق لولا خَدُّه الآسُ والوَرْدُ ومن شعره قوله من قصيدة، أولها: يا رَبَّة الْخَلْخالِ والقُرْطِ ... والمِطْرفِ الموْشِيِّ والمِرْطِ عَطْفاً فإنِّي لم أحِدْ يوماً ... عن حِفْظِ ذاك العهدِ والشَّرْطِ قِفِي انْظُرِي ما حَلَّ بي إنِّي ... قد ضَرَب الأمْثالَ بي رَهْطِي وغادةٍ بَيْضاءَ مِعْناقٍ ... قَوامُها كالأسْمَرِ الخَطِّي

لها رُضابٌ ولها ظَلٌ ... كالشُّهدِ مَمْزوجاً بإسْفَنْطِ رأيتُها في رَوْضةٍ يَوْماً ... تخْتالُ بين الأثْلِ والخَمْطِ فقلتُ ناشَدْتُك إلاَّ ما ... عَجِلْتِ لي من وَصْلهِ قِسْطِي فوجَّهتْ وَجْهَ الرِّضَا نَحْوي ... وأعْرَضتْ عن وِجهةِ السُّخْطِ وقوله: ما اصْطَفى قلبيَ إلاَّ مُصْطَفى ... هُوَ حَسْبي من حبيبٍ وكَفَى أسْعَدَ اللهُ تعالى طالِعاً ... حَلَّ فيه وأراه الشَّرَفَا ما عليه لو سَقانِي رِيقَهُ ... إنه الشُّهْدُ وفي الشُّهْدِ شِفَا إنْ وَفَى الدهرُ به في ليلةٍ ... فهْو عندي دائماً أهلُ الْوَفَا وكتب إلى صديقٍ له: قُلْ للذي أنا ثابتٌ في حُبِّه ... وهَواهُ وهْو مُبَدِّلٌ مِيثَاقِي إنِّي لأرْضَى أن تُنَوِّه بي ولو ... في آخِرِ القِرْطاسِ بالإلْحاقِ وله في الدخان: هل آيةٌ جاءتْ بتحْريمِهِ ... أو هل حديثٌ نَبَويٌّ وَرَدْ فقُم إلى الغابَةِ وانْهَضْ لها ... لا يقْرَبُ الْغابةَ إلاَّ أسَدْ عبد الباقي الإسحاقي شاعرٌ تجاوز في الرقة الحد، فكأنما تكون من سحر الجفن ورقة الخد. فشعره عليه رونقٌ باهرٌ من الحسن، وهو أفعل في القلوب من التفتير في الجفون الوسن. باختراع المعاني ذو صبابة، يرمي الغرض البعيد عن قوس الإصابة. وقد جاء في هذه الخطة أمةً وحده، فلم يجهل أحدٌ من أهل العصر رسمه وحده. فابن نباتة لم ينل حلاوة معانيه، وابن سكرة عزبت عنه عذوبة مبانيه. وقد أوردت له ما تتعاير على رونقه دراري البحور، وتتمايل له طرباً أغصان القدود المثمرة بثمار النحور. فمن ذلك قوله: تمشَّتْ لنا تُخْجِلُ الكَوْكَبَا ... فناديتُها مَرْحَباً مَرْحَبَا غزالةُ إنْسٍ لها طَلْعةٌ ... إذا خالَها الصَّبُّ حَقّاً صَبَا أدارتْ بحَضْرتِنا قَهوةً ... وطافتْ بكأسِ الطِّلاَ مُذْهَبَا رَنَتْ ورَمتْنِي بألْحاظِها ... وقد أذْكرتْنِي عهدَ الصِّبَا فلو أنَّ نَظْرتها كالظِّبَا ... لَهَانَ ولكنْ كحَدِّ الظُّبَا وغَنَّتْ لنا فطرِبْنَا لها ... فيا حُسْنَ ذاك الذي أطْرَبَا غَزالِيَّةٌ آنَسَتْ صَبَّها ... وأنْسَتْ مَحبَّتُها زَيْنَبَا فَهِمْنَا فَهِمْنا غَراماً بها ... وعن حالتِي حُبُّها أعْرَبَا وصبَّرتُ قلباً غَدَا هائماً ... وقد كاد في الحُبِّ أن يَذْهَبَا ففيه مَديحِيَ عَذْباً يُرَى ... وفي غيرِها المدحُ لن يَعْذُبَا سأجعلُ في وَصْفِها نُبْذَةَ ... وأركبُ في حُبِّها أشْهَبَا مدحتُ فقَصَّر قلبي المديحَ ... وكان مُرادِيَ أسْتَوْعِبَا وإنِّيَ في وَصلِها سيِّدي ... تَرانِيَ بين الورَى أشْعَبَا فباللهِ يا نَسْمةَ الْبانِ إنْ ... حَفَفْتِ على حَيِّ ذاك الرُّبى وجُزْتِ رِياضاً بها غَادتِي ... فهاتِ لنا عن حُلاهَا نَبَا أيا عاذِلِي في هَواها اتَّئِدْ ... حديثُك عنديَ مثلُ الْهَبَا سقى اللهُ رَوْضاً به سَادتِي ... من الوَبْلِ غَيْثاً به صَيِّبَا لأنِّيَ باقٍ على عهدِهمْ ... أرَى حُبَّهم مَذْهَباً مُذْهَبَا وقوله: أذْكَرْتِ أيَّتُها الحمامةُ غِيدَا ... ومَعاهِداً سلَفتْ لنا وعُهودَا وصَدَحْتِ فوق أراكةٍ فصَدَعْتِ قلْ ... بَ شَجٍ وحين صعَدْتِ ذا الأُمْلودَا ذكَّرْتِ أشْجاناً لنا ومَعاهِداً ... وصَفاً تقضَّى طارِفاً وتَلِيدَا هذا على أن الغرامَ إذا زكَا ... ظَلَّ الشَّجِي يتوقَّعُ التَّغْرِيدَا

للهِ أيامٌ نعِمْتُ بها وقد ... عقَد الغَمامُ على الغصونِ بُنودَا حيث الشَّجِي طَوْراً يُخَمِّشُ كاعِباً ... ومن الجَوى طَوْراً يُخَمِّشُ رُودَا حيثُ الشَّمالُ يُحرِّكُ العَذَباتِ إذْ ... يخْطُو ويخطِر في الرِّياضِ وبِيدَا حيثُ المَثانِي والمَثالثُ هذه ... تَرْنُو وذِي تُشْجِي تُحرِّكُ عُودَا هذا ومَعْ أنَّا ولو طفَحَت كُؤو ... سُ الرَّاحِ واشْتعل المُدامُ وَقُودَا ما حرَّكتْ مِنَّا الشَّمُولُ سِوَى الرُّؤو ... سِ كذا الشَّمالُ تُحرِّكُ الأُمْلُودَا أتَؤُوبُ هاتِيك اللُّوْيلاتُ التي ... فيها نظَمْتُ لآلئاً وعُقودا ولَرُبَّ خِلٍ حاز أنْواعَ الذَّكا ... ولِذَا غَدَا في المَكْرُماتِ فريدَا سَامَرْتُه وجَنَوْتُ من ألْفاظِه ... ما يُخْجِلُ الصَّهْباءَ والعُنْقودَا وجَلاَ عليَّ عَرائِساً من فِكْرِه ... حَسُنتْ طُلاً ومَعاطِفاً وقُدودَا وأفادنِي وأفَدْتُه والخِلُّ يح ... مَدُ أن يُفادَ مَعانِياً ويُفِيدَا فالعقلُ نَامٍ والعَفافُ بحالِه ... ومُجِيدُ فِكْرتِنا اسْتمرَّ مُجِيدَا يا عبدُ فابْقِ على اصْطباحِك واغْتبا ... قِك واصْحَبَنَّ العَهْدَ والمَعْهودَا ومن مطرباته قوله: رقص المجلسُ أُنْسَا ... فاجعلِ الجَرَّةَ كأْسَا واسْقنِي بالزِّقِّ والطَّا ... سِ فإنِّي طِبْتُ نَفْسَا وأقِمْ للَّهْوِ واللَّذَّ ... اتِ في حَانِيَ عِرْسَا قد غَرسْنا زَهْرَ حُبٍ ... فَجَنَيْنَا منه غَرْسَا فأمْلَ لِي حتى ترَى الأعْ ... رابَ في المَنْطِقِ خُرْسَا لا ولا تقْنَعْ بذا حَتَّ ... ى تَرَى النُّدْمانَ خُرْسَا ما بهم قَطُّ حَراكٌ ... لا ولا تسْمَعُ هَمْسَا حَبَّذا بِكْرٌ عَرُوسٌ ... قد حَكَتْ في اللَّونِ وَرْسَا هي عَذْراءُ عجوزٌ ... لم تكُنْ تَنْفُضُ لَمْسَا وعجيبٌ لعَرُوسٍ ... أدْرَكَتْ قُسّاً ورَسَّا وهي لِي سِتٌّ ولكنْ ... ملكتْ مِنِّيَ خَمْسَا قولهم: ستي بمعنى سيدتي خطأ، وهي عامية مبتذلة، ذكره ابن الأعرابي، وتأوله ابن الأنباري، فقال: يريدون يا ست جهاتي. وتبعه في القاموس، فقال: وستي للمرأة، أي يا ست جهاتي؛ كناية عن تملكها له، ولا يخفى أنه تكلفٌ وتمحل. وإليه أشار بهاء الدين زهير: برُوحِي مَن أُسَمِّيها بِسِتّي ... فتنْظُرُني النُّحاةُ بعَيْنِ مَقْتِ يرَوْنَ بأنَّني قد قلتُ لَحْناً ... وكيف وإنَّني لَزُهَيْرُ وَقْتِي ولكن غادةٌ ملَكتٌ جِهاتِي ... فلا لَحْنٌ إذا ما قلتُ سِتِّي كيف لا وتُرِينِي ... في دُجَأ الظَّلْماءِ شَمْسَا وتُقِيمُ المَيْتَ حَيّاً ... بعدَ ما جاوَرَ رَمْسَا فاتَّخَذْناها إلى الخَلْ ... وةِ في المجلسِ عِرْسَا واصْطَفيْناها إلى جَيْ ... شِ هُمومِ القَلْبِ تُرْسَا واتَّقَينا بظُباهَا ... في الْوَغَى جِنّاً وإنْسَا هاتِها من يَدِ ظَبْيٍ ... يُكْسِبُ النُّدْمانَ أُنْسَا وإذا عَزَّتْ سَقَى مِن ... لَحْظِه الأدْعَجِ نَطْسَا فيه أضْحَى القلبُ مُغْرىً ... مِثْلَما أصبح أمْسَى فإلى اللّذَّاتِ أشْكُو ... زَمَناً لِلَّهْو أنْسَى صار فيه القلبُ صَخْراً ... وغدا المَضْجَعُ حَبْسَا

ولقد عَمَّ مَعالي ... مَ الذَّكَا نَوْعاً وجِنْسَا ما ابنُ إسْحاقَ بأزْكَى ... منك أنفاساً ونَفْسَا إن تأسَّيْتَ تَسلَّيْ ... تَ فحَبْرٌ من تَأَسَّى وله في الغزل: يُحرِّكني إليك هَوىً مُطاعُ ... فأحمِلُ فيك ما لا يُسْتطاعُ وأركبُ مَرْكَباً في الحبِّ صَعْباً ... تضِيق به الأماكنُ والبِقاعُ فلِلْعَبَراتِ في الخدِّ انْدِفاقٌ ... وللزَّفَراتِ في الصَّدْرِ انْدِفاعُ وفي هذِي رُمِيتُ بكلِّ بَلْوَى ... تدَاوَل ذكْرَها الرَّهَجُ الرَّعاعُ وبَلْوَى الدهرِ تنزِل كلَّ يومٍ ... بكلِّ فتىً له في السَّبْقِ بَاعُ تطاوَل في المَكارِمِ منه طَولاً ... له في عالَمِ الغيبِ اطِّلاعُ فما ذَنْبي سوى أنِّي مُحِبُّ ... وفي كَبدِي من الحبِّ انْصِدَاعُ ولي فضلُ التَّقدُّمِ في انْقطاعٍ ... إليك وليس لي عنك انْقِطاعُ أضعْتَ مَودَّتِي ونسِيتَ عهدي ... وعهدي في المَحبَّةِ لا يُباعُ وكنتُ قنعْتُ بالكتْمانِ فيكم ... فأمَّا اليوم فانْكَشف القِناعُ وكنتُ إذا سمعتُ لكم حديثاً ... يُحرِّكني من الوَجْدِ السَّماعُ فإن تعْطِفْ على عبدٍ مُضاعٍ ... فإنِّي ذلك العبدُ المُضاعُ وقد طلَّقْتُ سَلْوتَكم ثلاثاً ... طلاقاً ليس لي فيه ارْتجاعُ على أني سأُنْشِد عند بَيْعي ... أضاعُوني وأيَّ فتىً أضَاعُوا ومن مطرباته قوله: امْلَ لي الكاسَ تَماماً ... واسْقِنِي جَاماً فجَامَا واجْعلِ الدُّرَّةَ كأساً ... وخُذِ التِّبْرَ مُدامَا تمِّمِ الكأسَ فإنَّ الْ ... كاسَ ما كان تَمامَا واتَّخِذْها سُلَّما لِلَّ ... هو يسْمُو أن يُسامَى وتوهَّمْ أنها الحِلُّ ... وإن كانتْ حَرامَا ثم أزْهَى موضعٍ في الرَّ ... وضِ فاخْتَرْه مُقامَا وإذا ما شئتَ أنْ تسْ ... كرَ فاسْتَدْعِ النَّدامَى ولْيَكُنْ خمْرُك عَا ... دِيّاً وساقِيك غُلامَا يمْلأُ الكاساتِ والألْ ... حانَ بُرْءاً وسَقامَا يملأُ القلبَ سروراً ... وانبِساطاً وغَرامَا عابِثاً بالغُصْنِ أعْطا ... فاً وبالزَّهْرِ ابْتِسامَا ومُحَلَّى بالطِّلا جِي ... داً وبالْعارِضِ لاَمَا وترَى منه القَوامَ الْ ... غُصْنَ والغُصْنَ الْقَوامَا وترى الأغْصانَ إجْ ... لالاً له هِيباً قِيامَا اسْقِني بالكُوبِ والكَا ... سِ فُرادَى وتُوَامَا ثم بالطّاسِ إلى أنْ ... تتَراءَى الْهامُ هَامَا ثم بالْجَرَّةِ فالْجَرَّ ... ةِ حتَّى أتَرامَى اسْقِني حينَئِذٍ بالزِّ ... قِّ حتى لا كَلامَا ثم بادَّنِّ فتلك الْ ... غايةُ القُصْوَى تمامَا ثم خُذْ عنِّيَ ما شِئْ ... تَ ولا تخْشَ أثامَا والْتَقِطْ مِنِّي الجُمانَ الْ ... فَرْدَ نَثْراً ونِظامَا وإذا لم يكُنِ الطَّا ... فِحُ بالكأسِ هُمامَا فاغْدُ واعْذِرْ وإذا رَا ... مَ خِطاباً قُلْ سَلامَا أبو السرور الهوي روض أدبٍ أزهاره لا تعرف ذوا، وله شعرٌ لطيف لمرض الشجون دوا. سلك من شعاب الفضل أقوم سبيل، وكرع من حياضه أعذب سلسبيل. فأطلع شعره أبهى من السرور، وألطف من الزلال على الكبد المحرور. وكان في عنفوان شبابه، ورواء أخدانه وأحبابه، حليف هوىً ولهو، وأليف وجدٍ وزهو. بين ندمانٍ طلعوا في أفق الحسن شموسا، وذللوا من مطايا الطرب حرونا وشموسا.

ولما رأى تلك الشموس هوت، ونجوم الآمال قد خوت، أعرض عن هواه، وداوى داء عشقه بدواه. وتحقق بالانقياد لمنهج الصواب، ونادى منادي الغيب فسمع الجواب. ولم يزل موفقا لإحراز مراضيه، وحال مستقبله خيرٌ من ماضيه. إلى أن انتقل إلى رحمة علام الغيوب، بريء الساحة من درن العيوب. فمن شعره، قوله من نبوية، مستهلها: حتَّى م يُقْصِيني بِعادِي ... عن حَيّ حَيِّ حِمَى سُعادِ وإلى متى يَثْنِي عَزَا ... ئمَ هِمَّتِي طولُ التَّمادِي وعلى مَ ذا شَرٌّ يَرُو ... جُ وكلُّ خيرٍ في كَسادِ ولَج النَّهارُ اللَّيْلَ في ... فَوْدِي وفي ظُلَمِ الغَوادِي ما آن إمْساكٌ بَدَا ... خَيْطُ البياضِ من السَّوادِ ما آن للسَّفَرِ الطوي ... لِ من التُّقَى تحْصِيلُ زادِ ما آن يا ذاتَ الْجِها ... تِ السِّتِّ لي جَمْع انْفِرادِ رَفْعُ النِّقابِ لينْجَلِي ... مَرْأَى وُجودِي عن مُرادِي ما آن أن تتذكَّرِي الْ ... عهدَ القديمَ من الوِدادِ ما آن أن تتعرَّفِي ... طالَ التنكُّرُ في بِعادِي أوَّاهُ قد كُشِفَ الحجا ... بُ وخاب في نَظَرِي سَوادِي والرَّكْبُ سار على الجِيا ... دِ بمن تزَوَّدَ خيرَ زادِ وقطعْتُ عُمْرِي في المَسِي ... رِ ولا بَرِحْتُ ببَطْنِ وَادِ ولقد ضلِلْتُ وليس لي ... إلاَّ دليلُ الخيرِ هادِي ذُو الجاهِ والباعِ الطوي ... لِ إذا تقاصَرتِ الأيادِي المُصْطَفى المُخْتارُ صَفْ ... وةُ مُجْتَبِيهِ من العبادِ مَاحِي الضَّلالةِ بالبنَا ... نِ وبالبيَانِ وبالفؤادِ شمسُ النُّبُوةِ في الشُّرو ... قِ وفي الغروبِ وذا اعْتقادِي يا أحمدُ المحمودُ في التَّ ... نْزِيلِ يا عالِي العِمادِ العَجْزُ عن إدْراكِ دَرْ ... كِك غايةٌ في الاعْتقادِ يا واحداً جَمع المَحا ... سِنَ كُلَّهُنَّ على انْفِرادِ يا كَنزَ إكسِيرِ الوِدا ... دِ لقلبِ أعْيانِ الأعادِي بذُنوبِ أهلِ الأرْضِ جِئْ ... ك مُسْلِماً ولك انْقيادِي وبك استغَثْتُ وأنتَ أكْ ... رمُ أن يَرُدَّ نَدَاك صَادِي والعفوُ أوسعُ من ذنُو ... بي والرَّجا مَحْضُ اعْتقادِي يا سَيِّداه ويا نَبِيَّ ... اهُ ويا غَوْثَ المُنادِي زَنْدُ الرَّجا والخوفِ أَوْ ... دعَ مُهْجتِي وَرْىَ الزِّنادِ إنِّي أنا المُضْطَرُّ والْ ... مُضْطَرُّ مقبولُ الجِيادِ إن النَّوائبَ شَتَّتَتْ ... شَمْلِي بأهْوالٍ شِدادِ إنِّي إلى المعروفِ أشْ ... وَقُ في الْوَفَا مِن طِيبِ زَادِ وإذا بسَطْتَ الكَفَّ جُو ... داً كَفَّ من عُدْمِ الأعادِي مَهْداً تبيَّنْت السُّرو ... رَ وفي الصِّبا حُزْنُ الفُؤادِ أجِزِ الجوائزَ بالقَبُو ... لِ فإنه أقْصَى مُرادِي فعَليْك ما ضَجَّ الْحجِي ... جُ وسار بالرُّكْبانِ حَادِي أزْكَى الصلاةِ مع السلا ... مِ مِن السَّلامِ بلا نَفادِ والآلِ والصَّحْبِ الذي ... ن قَضَوا جِهاداً في الْجِهادِ ما أحْسَنَ اللهُ الخِتَا ... مَ لحُسْنِ إصْلاحِ المَبادِي ومن مقطعاته قوله: رَامَ رِئمُ الحِمَى يُقَبِّلُ ظَبْياً ... فتلقَّى وُقوعَها في فِيهِ فانْثَنَى نافِراً وألْفَتَ جِيداً ... وعَجِيبٌ نِفارُه مِن أخِيهِ وقوله:

إخْوانُ هذا الزمانِ لمَّا ... تفرَّقتْ منهمُ القلوبُ توهَّمُوا أنهمُ أَصابُوا ... وما دَرَوا أنهمُ أُصِيبُوا محمد بن حجازي الرقباوي شاعر مكثار، إلا أنه مأمون كبوةٍ وعثار. دخل الحجاز واليمن، واتصل بولاتهما الذين ابتهج بهم الزمن. فأطال في مدحهم وأطاب، وملأ ذخائر أنعمهم الجمة الوطاب. ولله تعالى بقايا من عباده في بلاده، خلقهم لينعش بهم العاثر، ويحيى بمكارمهم المعالي والمآثر. فمن مدائحه في الشريف زيد، صاحب مكة، قوله من حاثية عارض بها الفتح بن النحاس، مطلعها: كلُّ صَبٍ مالَه في الخَدِّ سَفْحُ ... لم يَرُقْ في عينهِ نَجْدٌ وسَفْحُ ومتى يعلُو بشأنٍ في الهوى ... وله شأنٌ به فيه يَشِحُّ إنَّما الدمعُ دليلٌ ظاهرٌ ... إن يكنْ للحبِّ مَتْنٌ فهْو شَرْحُ والذي يصْبُو لأغْصانِ النَّقَا ... لم يكنْ عنها بغير الطَّرْفِ يَصْحُو يستْحِي من أن يُوافِيها الْحَيا ... وهْو أوْفَى مِنَّةً والغَيْمَ يَمْحُو كيف يسْتسْقِي لها ماءَ السَّما ... وله جَفْنٌ متى شاء يَسِحُّ رَوضةٌ لِلْغِيدِ كانتْ مَلْعباً ... وهي في لَبَّةِ جِيدِ الشرقِ وَضْحُ كلما نقَّطَها قَطْرُ النَّدَى ... رَشَف الطَّلَّ بها رَنْدٌ وطَلْحُ وإذا مَرَّتْ بها رِيحُ الصَّبا ... سَحَراً أرَّجَها بالمِسْكِ نَفْحُ وتغنَّتْ فوقها وُرْق الحِمَى ... ولِدَاعِي بُلْبلِ الأشواقِ صَدْحُ رُبَّ خَودٍ ذاتِ لَحْظٍ فاتِنٍ ... فاتِكٍ بالكَسْرِ والسَّقْمِ يَصِحُّ بَضَّةٍ قد غُمِستْ في حُسْنِها ... ولها في لُجَجِ الإحْسانِ سَبْحُ أتُراها اسْتَعْذَبتْ يومَ النَوَى ... لِعَذابِي كأسَ بَيْنٍ وهْوَ مِلْحُ ما لَها لا عَبَثَ الدهرُ بها ... لا تَرَى الهِجْرانَ يكْفِي وهْو ذَبْحُ كنتُ أشكُو صَدَّها مِن قبلِ أن ... تنْتوِي والآن عندي فيه شُحُّ يا نَوارُ اصْطنعِينِي باللِّقَا ... فلَكمْ قالَيْتُ مَن في العشقِ يَلْحُو إن تكُونِي شِمْت في ليل الصِّبا ... بَارِقاً فهْو لرَوْضِ الحُلْمِ فَتْحُ كم جلَيْتِ الشمسَ في غَرْبيَّةٍ ... وسَمَحْتِ وجَناحُ الفَوْدِ جُنْحُ فاجْعلِيه شافِعاً فيما بَدَا ... أيُّ لَيْلٍ ما لَه يا بَدْرُ صُبْحُ ولقد أعلمُ حَقّاً لم يكنْ ... منكِ عن ذَنْبِ ظُهورِ الشَّيْبِ صَفْحُ كم أُدارِي فيك عُذَّالِي وكم ... ساءَنِي فيك على التَّبْريحِ كَشْحُ وإذا فعل الغوانِي هكذا ... كلُّ ذي سُكْرٍ بهم لاشَكَّ يَصْحُو سأذُودنََّ فؤادِي رَاغِباً ... عن هوَى مَن جِدُّه بالصِّدْقِ مَزْحُ يا خليليَّ اعْذِرا بِي إنَّ لي ... نارَ وَجْدٍ ما لها بالعشق لَفْحُ خَلِّيانِي والذي ألْقاهُ مِن ... زَنْدِ شوقي مالَه بالغِيدِ قَدْحُ أنا عن ألْحاظِهم في مَعْزِلٍ ... وحَدِيثي ظاهرٌ وهْو الأصَحُّ قد نَسِينَا ما حَفِظْنا منهمُ ... ورأيْنا أن بعضَ العَذْلِ نُصْحُ لا أرَى العَيْشَ صَفَا ما لم أعِشْ ... وفؤادِي من حُروفِ اللَّهْوِ مَمْحُو وعن التَّشْبِيبِ ما أغْنَى ولي ... في عُلاَ زيدِ العُلَى شكرٌ ومَدْحُ قامِعُ الأقْرانِ في يومِ الوَغَى ... تحت ظِلِّ السَّمْرِ والحربُ تَفِحُّ أبيضُ الوَجْهِ إذا النَّقْعُ دجَا ... وَاضِحُ البِشْرِ إذا الفرسانُ كُلْحُ كم له يومَ فخَارٍ مُنْتَمىً ... ولِوَقْعِ البِيضِ بالْهاماتِ رَضْحُ

صبَّح الإقبال حرباً ولَكَم ... شرَّقتْ من خَيْلهِ حربٌ وصُبحُ يومَ أرْوَى بقَدِيحِ المُصْطلى ... قَدْحَ زَنْدٍ وَرْيُه بالفَوْزِ قِدْحُ وعلى العُمْرةِ أرْبتْ يَدُهُ ... وله في يومِها عَفْوٌ وصَفْحُ أذْكَر الصَّفّيْن إذْ ذاك بها ... يومَ صِفِّينَ وللْخَيْليْن ضَبْحُ ولَغَا عني ضَلالاً بعد ما ... طاشَ من تَصْحيفه في فِيهِ صَفْحُ ولَكَمْ سارَع بالخيْلِ على ... حَرَمِ اللهِ وللأَعْمارِ دَلْحُ مانعُ الْجارِ فلو لاَذَ الدُّجى ... بعَواليه لمَا جَلاّه صُبْحُ ولو انَّ الشمسَ تحْكِي نُورَه ... ما عَلاها في ظلامِ الليلِ جُنْحُ وَاهِبُ الأرْواحِ في يومِ الوَغَى ... لأَعادِيهِ الأُلَى بالمالِ شَحُّوا ولقد كان أبُوه هكذا ... ولِمَاءِ الوَرْدِ بعد الوردِ نَضْحُ أشْغلَتْ هَيْبتُه فِكْرَ العِدَى ... فهمُ في غَمْرةِ الإشْفاقِ طَرْحُ لو رَأَوْه في الكَرى لانْتبهُوا ... ولهم من خَوْفهِ بالرُّعْبِ قَزْحُ وإذا شَامُوا بُروقاً أيْقنُوا ... أنَّ أعناقَهمُ بالبِيضِ مُسْحُ وإنِ انْقضَّتْ نجومٌ في الهَوَا ... زَعمُوا أن مُطارَ الشهْبِ رُزْحُ بأبِي أفْدِيك يا بحرَ النَّدَى ... يا مُضِيءَ الرَّأْيِ إن أظلمَ قَدْحُ يا عَقِيدَ الخيلِ يومَ المُلْتقَى ... يا سَديدَ البَأْسِ والأقْرانُ طُلْحُ يا عَرِيضَ الْجاهِ يا حامِي الحِمَى ... يا مَلاذَ الكونِ إن لم يُغْنِ كَدْحُ يا جَمِيمَ الفضلِ والسَّيفُ له ... بفَدادِينِ الطُّلاَ حَصْدٌ ومَسْحُ خُذْ حَدِيثِي واسْتَمِعْ قَوْلِي فما ... كلُّ مَن قال قَرِيضاً فيه صُحُّ هاك نَظْمَ الدُّرِّ من مَعْدِنِهِ ... رائقَ المعنَى له بالمَدْحِ مَدْحُ واجْتَلِ الأبْكارَ في نُورِ الْوفَا ... واخْتَبِرها فهْي بالعِرْفانِ فُصْحُ ضَمِن الدهرُ لها التَّخْلِيدَ في ... صَفَحاتِ الكَوْنِ والأيَّامُ فُسْحُ وهْي كالجُرْدِ السَّلاهِيبِ لها ... بمجَالِ الشُّكْرِ في عَلْياك مَرْحُ حاصَرتْ ما شاد فَتْحٌ قبلَها ... وتلَتْ نَصْرٌ مِن اللهِ وفَتْحُ أحْرَزَ السَّبْقَ ولكن فُتُّهُ ... بك يا ابنَ الطُّهْرِ والآياتُ وُضْحُ لا يرُوقُ المَدْحُ إلاَّ في الأُلَى ... لهمُ الأنْسابُ كالأحْسابِ رُجْحُ أين مَن جَدَّاهُ طه المُصْطَفى ... وعَلِيُّ المُرْتضَى مِمَّن يُزَحُّ بَرزَ القالُ لها من مَنْطِقِي ... لك بالإيرادِ والإسْعادِ سُنْحُ وأنا منك أيا خَيْرَ الورَى ... لم يكُنْ صَوْنِي كما قيل أبَحُّ ولقد أغْنَيتْنِي عن مَطْلَبِي ... منك بَدْءاً ونَظِيرِي لا يُلِحُّ لو درَى النَّحَّاسُ أنِّي بعدَه ... أصْنَعُ الإبْرِيزَ لم يَمْسَسْه قَرْحُ أشكُر الأيامَ قد رَوَّيْتنِي ... وينَابِيعِي بأفْضالِك طُفْحُ لا أرَى الغُرْبَة ألْوَتْ سَاعِدي ... ولِبَاعِي بنَداك الجَمِّ سَبْحُ طَالِعِي بالسَّعْدِ وَضَّاحُ الحِجَى ... بك في بُرْجِ الْهَنا والرَّجْوُ ضِحُّ ولقد بلَّغْتَنِي كُلَّ المُنَى ... بأحاديثَ لها في النفسِ سَرْحُ نِعمةٌ منك علينا لم تَزَلْ ... يقْتفِي آثارَها فَوْزٌ ورِبْحُ دُمْتَ يا شمسَ الهُدَى ما ابْتسَمتْ ... بك أفْواهُ الدجى وافْتَرَّ صُبْحُ ما هَمتْ عَيْنُ الغَوادِي وبَدَا ... بك في وَجْهِ الزمانِ الغَضِّ رَشْحُ

محمد الطيلوني بعيد غور المدح، واري زناد القدح. مكانته في البداهة لا تزحم، وحجته البالغة لا تدحض ولا تفحم. فاز بمقاد الانتقاد، وأمسك عنان الافتنان، فما كلت له شفرة كلام، ولا برئت صحائفه من وقيعة أقلام. ولا صفا له ضمير، ولا بات ليلةً إلا وله المركروه سمير. والطبع كالزرع، لا يزكو حتى يصادف ثرىً طيبا، ومن التوفيق مطراً صيبا. ومن الأخلاق آفاقاً صافية، ومن المكارم أبراداً ضافية. فإذا لم ير إلا المكاره، حاد عن انطباعه وهو كاره. فيتخذ الذم عادة، ويراه أشهى من حياةٍ معادة. وكان يعادي القاضي عمر المغربي ويهاجيه، وكلٌّ منهما يسامر بريد خياله في ذم الآخر ويناجيه. والقاضي هذا شيخ بن أهرام الزمان، أعمر من نصر بن دهمان. مُعَمَّرٌ كأنه ... صالَح صَرْفَ النُّوَبِ قد انْقضَى الدهرُ وما ... كان به من عَجَبِ والناسُ جِسْمٌ واحدٌ ... وذاك عَجْبُ الذَّنَبِ ارتشف الكبر وارتضع، حتى إذا قيل استحكم اتضع. ولبس خلعة العجب والمآثم، فهو كالنعش لم يلبس خلعةً إلا وفي الحي نوائح ومآتم. فمما وقفت عليه مما دار بينهما، هذه الرسالة، كتبها إليه الطيلوني: سلامي على من استعار الليل من سواد خلقته، واستفاد طويس الشؤم من صورته، واكتسب النحسان من نحوسته، وانكدرت النجوم من عبوسته. لا زال مكتسياً تفاصيل الخزي والخذلان، متردياً أردية الذلة والصغار والهوان. ما نبحت كلاب المغرب، واستهانت عند من يهجو ويضرب. وبعد، فإن سألت عني أيها الخامل، الذي لو قدر على حمل الذكور لكنت أول حامل. فإني بحمد الله من العزة والعافية في أعلى رواق، ممدوحٌ بألسنة الوزراء فمن دونهم بالاتفاق. في عيشةٍ راضية مرضية، ونعمةٍ سابغة سنية. لا أرقع قميصا، ولا أبيت خميصا، ولا أستعمل خبيصا. ولا رهنت منذ عمري جوخةً ولا صوفا، ولا تطفلت على خوان أنتظر فيه لحمةً أو رغيفا. وإني بخيرٍ كما لا تحبون، وأرجو من الله ما لا ترجون. وأسأل الله تعالى أن لا تكونوا كذلك، وأن يوقعك في أضيق المسالك والمهالك. ومما أقرع به سمعك أعاره الله الصمم، وألم بعينيك وفيك العمى والبكم. أني كنت أضربت عن هجوك صفحا، وطويت على إشهار مثالبك كشحا. ورميتك ورائي ظهريا، وجعلتك نسياً منسيا، وإن كنت جئت شيئاً فريا. وقد سمعت أنه بلغ بك من الحسد والجهالة، أن لفقت من هذيانك وسرقاتك رسالة. وتعرضت فيها لذكر من لست له على بال، ولا تجول بخلده إلا إذا تغوط أو بال. وتوصلت ببعض المعاتيه، الغارقين في بحر الهيام والتيه. ليوصلها لصاحب الدولة، أدام الله له العزة والصولة. فحين رمقها مزقها كل ممزق، وتحقق أنك أكذب من المخرق. وكانت سبباً لسقوط نحسك، وازدياد عكسك وبخسك. فكنت كما قيل: كالجادع بيده مارن أنفه، والباحث على حتفه بظلفه. ولعمري قد تحككت العقرب بالأفعى، واستنت الفصال حتى القرعى. وإذا حان أجل البعير، حام حول البير. يا سالكاً بين الأسِنَّةِ والظُّبَا ... إنّي أشُمُّ عليك رائحةَ الدَّمِ وحيث أبيت إلا الإصرار، وأوقعت نفسك كالفراش في النار. وعبست وبسرت، وأدبرت واستكبرت. حينئذٍ أرسلت لك في هذا الكتاب بعض جوابك، وتعلم أنه ينزل الألم والجوى بك. فصواعقه لك محرقة خوارق، وزواجره على رأسك يا سندال كالمطارق. ارتجالي الاختراع، مربع الأسجاع. مرتب على حروف المعجم، فاسمع يا خامل الذكر وافهم. يا خط البهائي، يا حزان النشائي، يا إفلاس البيائي، يا تهمة التنائي. يا خروف أبي الطيب، يا يوم الزمهرير والصيب، يا خجلة العروس الثيب، يا ضرطة الغني المتهيب. يا أضحوكة الغنيات، يا حامل رزمة المغنيات، يا ثابت السجلات، خذ ما أتى واستعد لما هو آت. يا من لباسه رث، وحديثه غث، وتطفيله وجره بالكد والحث، ودأبه الانكباب في الأرض للبحث. يا ظلمة الليل إذا سجى، يا من لا يهاب ولا يرتجى، يا فاقد اللب والحجى، لا بلغت بك النوق النجا. يا كثير النباح، يا خائباً في الغدو والرواح، كأنك ثورٌ دائرٌ في الطواح، ملأت الجهات من البكا والنواح.

يا أسود سالخ، يا عفونة المسالخ، يا عصارة الكامخ، يا غضاضة الرامخ يا زلعة القيح والدود، يا كثير الآباء والجدود، يا قدار في ثمود، يا عاقر ناقة أخي هود. يا حانة النباذ، يا خندق بغداذ، يا من يضم الأفخاذ، على الغرمول من الالتذاذ. يا مرتع الأيور، يا منبع الفساد والفجور، يا يوم المفلس المهجور، يا خزانة الإفك والزور. يا است القزاز، يا فروة الأجذم النزاز، يا نقاعة الخراز، يا حبة الصيف على الخباز. يا أقرع الراس، يا نتن الأنفاس، يا حمار التراس، يا بغل ابن قلقاس. يا دستمان الفراش، يا ثوب النباش، يا جوخة قرواش، يا عمامة خطيب بهواش. يا صنة اللصوص، يا مبغض يا منقوص، يا من جحد النصوص، وأنكر ما في الفصوص. يا تارك السنة والفرض، يا من سعى بالفساد في الأرض، وتعرض للأعراض بالقرض، وتفرغ من العرض وامتلأ من العرض. يا منديل اللواط، يا بيت الوطواط، يا سائل اللعاب والمخاط، يا مكواة الخياط. يا عين الجاحظ، يا تمتمة اللافظ، يا سليب الحدس والملاحظ. يا بخر السبع، يا كشر الضبع، يا ثامن السبع، يا مرحاض الربع. يا خليج المدابغ، يا أشيخان المصابغ، يا ميلغة الوالغ، يا ماء الحوراء ورابغ. يا عريض القفا والأكتاف، يا زنبيل العلاف، يا خرج شوعة الصراف، يا من لم يحسن الفرق بين المنجم والعراف. يا ساعة الفراق، يا أوسع من العراق، يا شيبة بولاق، يا حليف الشقا والشقاق. يا دكان السماك، يا ثقالة الأراك، سعد من لا يراك، وخاب من قربك وأدناك. يا عش القمل، يا خشكليشة الدمل، يا ماء الشتاء المسيل، يا جامع ابن غراب المعطل. يا قفة المجذوم، يا عرق المحموم، يا صباح القرد والبوم، أنت بعينه الفاسق المحروم. يا بول الخصيان، يا رجيع الرهبان، يا مائدة العميان، يا مخزن الصديد والصنان. يا مهبط الدواهي، يا من خالف الأوامر والنواهي، وجد في التلاهي، وتبع الغي والملاهي. يا سمير البلوى، يا كثير الشكوى، يا أثقل من رضوى، إلى كم تسقي جحرك ولا يروى. يا صريع الدلا، يا من هو لا إلى هؤلاء ولا إلى، أينما تتوجه لا، ولم تزل مكباً على. يا خدن البغي والغي، يا جلدة الجرح والكي، يا زغمة القي، يا باقل الفهاهة والعي، فلا أنت ميتٌ ولا حي. وها قد نفدت الحروف، ولم تنفد معايبك يا خروف. وقد حذا فيها حذو أبي بكر الخوارزمي، في رسالته التي كتبها إلى البديهي ومن جملتها: يا غداة الفراق، وكتاب الطلاق. يا موت الحبيب، وطلعة الرقيب. يا يوم الأربعاء في آخر صفر، ويا لقاء الكابوس في وقت السحر. يا خراجاً بلا غلة، ودواءً بلا علة. يا أثقل من المكتب على الصبيان، ومن كرا الدرا على السكان. يا أبغض من لم ولم، ومن لا بعد نعم. يا بغلة أبي دلامة، وحمار طياب، وطيلسان ابن حرب، وضرطة وهب. يا نظرة الذل إلى البغيض، يا شرب الخمر على الحشف، يا وكف البيت الشتوي في كانون. يا ليلة الغربة، وجواب الغلظة. يا كمد المغموم، ودهشة المصبور. يا نظرة العنين إلى البكر وقد عجز عنها، واستشعر مخائل الغضب منها. يا قرع الغريم الباب، ومعه جريدة الحساب. يا وجه المانع وقفا المحروم، يا شخص الظالم في عين المظلوم. يا ألأم من اللؤم، وأشأم من الشؤم، وأقل من المعدوم. يا غم الدين، ووجع العين، ويوم البين. يا أوحش من زوال النعمة بعد كفرها، وأقبح من ارتجاع الصنيعة بعد شكرها. يا أثقل من منادمة الطفيلي على الندما، مقترح في الغدا، متشبه في العشا. مجمشٌ للساقي، مناظرٌ للباقي. يا أثقل من الحق عليك، يا طول الحجاب، وعبوس البواب. يا مهاجرة الصديق، ويا سوء القضا، وجهد البلا، ودرك الشقا، وشماتة الأعدا. وحسد الأقرباء، وطوارق الأرض والسماء. وملازمة الغرما، وعربدة الجلسا، وخيانة الشركا. وغش الأصدقاء، وملاحظة الثقلاء، ومسألة البخلاء، ومحادثة البغضاء، ومشاتمة السفهاء، ونصرة الضعفاء، وعداوة الأمراء، ومزاحمة السعداء، يا كرب الدواء. يا من لو كان اللؤم يلد كان أباه، ولو كان يولد كان أخاه، ولو شارك شريكاً لما عداه. يا بيع المتاع الكاسد، وجوار الجار الحاسد. يا ليلة المسافر، في كانون الآخر. يا خيبة من رأى السراب فظنه شراباً، وندامة من نظر إلى الخطأ فتوهمه صوابا.

يا من هو دليلٌ على أن الله تعالى جوادٌ حين أطعم مثله، وحين رزقه من بره فضله. يا من هو حجة الملحد على الموحد، في قوله: " الذي أحسن كل شيءٍ خلقه ". يا من احتماله أصعب من عد الرمل، ومن عدد النمل، والصبر عليه أشقَّ من الصعود إلى السما، والنظر إليه أبشع من النظر إلى نباش قبور الشهدا. وهذا الباب طويل الذيل، وقد بالغ فيه الأدباء وكثروا، ولم أر أجمع ولا أبلغ من قول الشهاب الخفاجي: يا سُخْرةَ الشيخِ بلا أُجْرَهْ ... وفَسْوةَ المَبْطونِ في السُّحْرَهْ ويا كِرا الدارِ على مُفْلِسٍ ... وسَلْحةَ المَطْرودِ في وَعْرَهْ وضَرْطَة السلطانِ في مَوْكبٍ ... به وُفودٌ تطلُب النُّضْرَهْ وضَيْعة الهِمْيانِ من عائلٍ ... قُبَيْل عِيدٍ أعْوَزَ الفِطْرَهْ ونَظْرةَ المَخْمورِ عَبْداً له ... قد كسَّر الأقْدَاح والْجَرَّهْ وحَسْرةَ العِلْقِ إذا أقْبلَتْ ... لِحْيتُه في آخِر الشَّعْرَهْ وحَكَّةَ المَقْطوعِ كَفاً له ... ودُمَّلاً يخرُج في الشَّعْرَهْ ونَظْرةَ الخِنْزِيرِ من خَارِىءٍ ... يَرْمِيه لَمَّا جاع بالصَّخْرَهْ ويا قَفَا المَهْزومِ من فارسٍ ... أدْرَكَه في ساحةٍ قَفْرَهْ وبَهْتةَ السَّكْرانِ من هَاجمٍ ... في ليلةٍ مُظْلمةٍ قِرَّهْ ويا نَعِيّاً جاءَ عن واحِدٍ ... إلى عَجُوزٍ ما لَها أُسْرَهْ ووَحْدةَ الحُرَّةِ في ليلةٍ ... مات بها الزَّوْجُ لَدَى الضَّرَّهْ وحُجَّةَ المُعْتزِليِّ الذي ... يسْمعُ نَصّاً ناقِضاً أمْرَهْ وطَلْعةَ الزِّنْدِيقِ في مَسْجدٍ ... يخافُ مِن جِيرانِه هُجْرَهْ ووَجْهَ تِمْساحٍ لَدىَ ساحلٍ ... أتاه غَرْقانُ رأى بَرَّهْ وُعرَّةً قد خَرِبتْ فوقَه ... ذُبابةُ الذُّلِّ غدا غُرَّهْ ومَن غدا في النَّظَرِ ابنَ الأُلَى ... في عَيْنِ إبْلِيسَ بهم قُرَّهْ كم تَدَّعِي الفضلَ ولا تَرْعوِي ... تُعِيد ما قال ذَوُو الخِبْرَهْ فهْو على تكْريرِ أقْوالِهم ... كالجَملِ المَشْغول بالْجَرَّهْ يا أيها الفَخَّار من أجْلِ ما ... طَوَّل رَبٌّ خَالِقٌ عُمْرَهْ هَل تصدُق الأمْثالُ في قَوْلِها ... ما كُلُّ يومٍ تسْلَمُ الْجَرَّهْ يا جُعَلَ الجهلِ إلى كم تُرَى ... مُدَحْرِجاً في طَرَفِ البَعْرَهْ وقد خرجت عن الصدد في شهوةٍ أطعتها، وصرفت حصة عمرٍ للاشتغال بما لا يعني استبدلت بها السخف لما بعتها. إذ ليس من شرط كتابي بذاءة، وأخشى من الذم أن أقف حذاءه. فإني كالدواء أستخرج الأذى، إذا كان غيري كالكأس يستبقى القذى. وأسأله سبحانه وطالما بلغ السائل منه سؤالاً ومأمولا، متاباً صادقاً على موضع الندم محمولا. عثمان التلاوي هضبة فضلٍ يقصر عنها المتطاول، وذروة معالٍ لا تنالها الثريا بيد المتناول. تصدر لإفادة العلوم، وصير المجهول منها في مرتبة المعلوم. فأطاعه أبيها وشامسها، وانجلى بنور فهمه غامضها وطامسها. وله أدبٌ كالبحر الزاخر، وشعرٌ كالحلي الفاخر. فمنه قوله من قصيدة في الغزل، أولها: مَن مُنْجِدِي من غَزالٍ فَرَّ من كِلَلِ ... وأسْلَم الفكرَ بعد الوصلِ لْلأمَلِ إذا انْثنَى فغُصونُ الْبانِ مُطْرقةٌ ... وإن رَنَا فظِباءُ البَرِّ في شُغُلِ يفْتَرُّ عن جَوْهَريْ عِقْدٍ وعن بَرَدٍ ... فالبدرُ في وَجَلٍ والشمسُ في خَجَلِ ما إن رأيْنا لهذا الظَّبْيِ من شَبَهٍ ... إلاَّ هِلالاً أرابَ الشمسَ في الْحَمَلِ يسْطُو شُجاعاً فمنه الصَّبُّ في خَبَلٍ ... يرْنُو غَزالاً فمنه القلبُ في جَذَلِ سَلْماً وحَرْباً أرانا من شَمائلهِ ... يا مَا أُمَيْلِحَ ما منه علَيَّ ولِي

وقوله من أخرى، مستهلها: أبَتْ هِمَّتي إلاَّ التَّزايُد في الوُدِّمَدَى الدهرِ للأحْبابِ في القُرْبِ والبُعْدِ أُلامُ على فَرْطِ المَحبَّةِ في الهوى ... وأُعْذَل أن كانتْ حُتوفِيَ في وَجْدِي سَرَتْ بي دَواعِي الحُبِّ سَيْراً لَو انَّه ... تكلَّفَه شُمُّ الشَّوامِخِ والصُّلْدِ لَشقَّ من التَّبْريح طَوْد رعاده ... وألقَى مَقالِيدَ المَحبةِ والوُدِّ فلي شِيمةٌ لم يُبْرزِ الدهرُ مِثْلَها ... إذا ما اعْتراها العَذْلُ يكْبُو ولا يُجْدِي وله: ألا ليت أُمِّي لم تلِدْني ولم أكُنْ ... تُراباً ولا شيئاً مع الخَلْقِ أُذْكَرُ فلا عُمْرَ مَصْروفٌ بخيرٍ وطاعةٍ ... ولا عِرْضَ مُبْيَضٌّ به المرءُ يُشْكَرُ ولا رَبُّ أحْسابِي يُصَانُ بلا أذَى ... ولا فِعْلُ معروفٍ مع الناسِ يُثْمِرُ الأمير عثمان المنفلوطي أميرٌ باهر السنا، أهل المدح والثنا. رقيق شملة الشمائل، طويل نجاد السيف رحب الحمائل. يمضي مضاء المشرفي بيمينه، وترف له البشرى في مسعاته رفيف البشر في جبينه. جمع من المعالي كل تليد وطارف، وهو إلى إسداء المعروف أحن من شارف فينوي كما طش عارضٌ حنان، ويطرب كما حن صادحٌ مرنان. فهو إنسانٌ منظور إليه بإحسانه، له موقعٌ من الناظر في جوف إنسانه. فلو قيل قدره من الطود أجل، نادى الصدى من شوامخه أجل. وَقُورٌ إذا فاضتْ أَيادِيه للورَى ... كطَوْدٍ تَسامَى واحْتبَى بالجَداولِ فألْقَى عَصا التَّسْيار إذْ بلَغ الْعُلَى ... وما قُرِعتْ تلك العصَا في مَحافِلِ وهو ممدوح الفتح بن النحاس، الذي يقول فيه من قصيدة: هو والفضائلُ دِيمَةٌ وحديقةٌ ... والناسُ عَيْنٌ نَحْوه ونِيام والحِلْمُ رَوْض خُلْقُه أنْوارُه ... والآخَرُون الرِّمْثُ والقُلاَّمُ والجودُ بحرٌ وهْو دُرُّ يَتِمِيهِ ... والمجدُ بَيْتٌ وهْو فيه قِوامُ وله من الكلام ما يزين صفوف الطروس بحسن روائه، ويدعو بلسان الحال إلى أن تكون أمراء الشعر تحت لوائه. فمنه قوله، من قصيدة في الغزل: ما القلبُ يَا رَّبَة الخَلْخَالِ والخْالِ ... مِن الصَّبابةِ لو طال الْمَدَى خَالِي طاوَعْتُ فيك الهوَى حتى عصَيْتُ أبِي ... ولا رَكنْتُ إلى عَمٍ ولا خَالِ يا ظَبْيةً ما رَعَتْ عهدَ الوفا ورَعَتْ ... حُشاشةَ القلبِ إني زاد بَلْبَالِي لِمْ تَرْفَعي خَبَراً في الحُبِّ مُبْتدَأً ... ولِمْ تُجريِّ القِلَى نَصْباً على الْحالِ يا صاحبِي إنَّها في مُهْجتِي حَكَمتْ ... فلا أَمِيلُ إلى أقْوالِ عُذَّالِي السيد أحمد بن القاضي شمس الدين المنصوري سيدٌ له الفضل نسب، إلا أنه صديان جدوى ونشب. فزحزحه الدهر عن بلده، وأبانه عن معاهد سبده ولبده. فطار بين سمع الأرض وبصرها، لا يدري ما يطأ من حجرها ومدرها. إلى أن استقر آخراً بمركز التخت العثماني، مؤملاً أن ينال من باب المراد كل الأماني. فما أم وجهة، إلا قابلت بالحرمان وجهه. حتى فل ماله، وقل مناله. وتفلست لهاه، وتقلست لهاه. وبقي في الغربة إلى أن تخلصت منه الظنون، ومن مات في قبضة الذل فقد أحسنت إليه المنون. وكان أنشأ سبع مقاماتٍ أطنب فيها وأطرب، وحاول طريقة من تقدمه فأعجب وأغرب. وذكر فيها مبتدأ حاله، وما لقيه من النصب في إقامته وترحاله. بعباراتٍ تعطف القلوب القاسية، وتزعزع الجبال الراسية. وعرضها على أقوامٍ يكاد يندى من أياديهم السحاب الجهام، فمنعه سوء بخته عن رشاشةٍ يبل بها صدأ الأوهام. فمما انتخبته من مقامته السادسة: قال أبو الحسن المصري: إني نشأت بمصر السعيدة، حامداً ربي على أيامها الحميدة. قرير العين، كثير العين. ليس لي حرفة ولا حيلة، إلا تتبع آثار ذوي الصنائع الجليلة. فجديت في الطلب، وما أخطأت الأدب. حتى علوت ذروة كل صناعة، وحويت رأس مال كل بضاعة.

فما رأيت من كل ذلك إلا النقصان، وما استفدت من المتاجر إلا الخسران. وكان من جملة ما خدمت أساتيذه، وتتبعت دلائله وأسانيده. الفنون الأدبية، والعلوم الفقهية. حتى صار لي ملكةٌ في الأخذ من الأسانيد والدلائل، وقدرةٌ على كتب الحواشي وتحرير الرسائل. خصوصاً فن الكتابة والإنشا، إذ بهما يكون للمرء ما يشا. ثم خلج في خلدي الرحلة إلى بلاد الروم، لأتمم بها طلب العلوم. فلما من الله تعالى علي بدخولها، واجتمعت بعلمائها وفحولها. فإذا هم غارقون في بحور النعم، معروفون بالجود والكرم. وكنت في بعض الأيام، أتردد على صدورها العظام. تارةً بما استطعت من قصيدةٍ نظمها بديع، وأخرى برسالةٍ عقود ترتيبها مرصعة بالدر الصنيع. وكان دأبي تتبع آثار المتقدمين، لأن ما قدموه لا يتهم ككلام المتأخرين. ومن العادة، أن أهل كل صناعة، يكرمون القادم عليهم من أهلها بحسب الاستطاعة. فأكرموني بحسب استطاعتهم، وجادوا علي بقدر مروءتهم. فأعطوني مدرسة، كانت عاقبتها علي فقرا ومنحسة. فكنت أكثر الأيام، لا أذوق الطعام. وغالب الأوقات، أحرم الأقوات. حتى نفد مالي، وتبدد حالي. وجار علي الزمان، بالذل والهوان. فبعت كتبي، وأنفقت ذهبي. كلما عرفت حالي تنكر، وعند ابتداء خروجي من عندهم لم يبق عندهم مني خبر. ففي يوم من الأيام كنت أكابد الجوع، وأصبر قلبي المسكين الموجوع. إذ مررت بباب بعض الأكابر، وكان يعرفني من مصر وأنا أبيع الجواهر. فناداني: ألست الجوهري؟ قلت: نعم، أنا الحسني المصري. فقال: يا من حضر، الحذر، كل الحذر، من حوادث الدهر فإنه ليس مأمون الخطر. يعز الذليل، ويذل العزيز، ويحط الجليل. يخفض المرفوع، ويغير الموضوع. ثم التفت إلي التفات الشفيق، وقال: إن كلام الشاعر بالتصديق حقيق. فيما ذكر من الأبيات، في شأن بعض الحكايات. رواية عن تاجر، أنه التقط شيئاً من الجواهر. وانتخب منها درة، تساوي بدرة. فبينما هو سائرٌ في بعض القرى، إذ سقطت الدرة في الثرى. ومكثت سنةً مكملة، في تلك المزبلة. فالتقطها أحد الأكارين، وباعها بدرهمين. فلما بلغ خبرها إلى الشاعر، الأديب الماهر. أنشد وقال، هذا المقال: رأيتُ بسُوقٍ دُرَّةً ذاتَ قيمةِ ... يُنادَى عليها بين قَوْمٍ أخِسَّةِ أبِيعتْ بِبَخْسِ السِّعْرِ من غيرِ أهْلِها ... فأصْبحتُ من غَيْظِي بهَمٍ وحَسْرةِ عجِبْتُ لِمَا شاهدْتُه من عجائبٍ ... وقلتُ لهم بَيْتاً به خيرُ حكمةِ أيا دُرَّةً بين المَزابِل أُلْقِيَتْ ... وجَوْهرةٍ بِيعتْ بأرْخصِ قِيمةِ فلما سمع الحاضرون كلامه، أظهروا الملامة، ووقفوا أمامه. وقالوا: لقد بالغت في وصفه، وأطنبت في نعت حاله ورصفه. فقال: من كان أديباً فليساجله، ويناقشه ويعامله. فما منهم إلا سأل وأجبته، وخاطبته الخطاب الوسط وما رهبته. فلما سمع مني صاحب الدار، أجوبتي الحاضرة عن أسئلة أولئك الحضار. وعدني بوعدٍ حسن، وأنا في انتظاره إلى هذا الزمن. فخرجت محتاجاً إلى ذرةٍ من درهم في صره، أو لقمةٍ من بره. فعجب القوم من مدحٍ يوجب الإحسان، وحرمانٍ يقتضي ذم ذلك الإنسان. محمد خفاجي الزيات غرةٌ في ناصية الدهور، وابتسام في فم الزهور. له أخلاق من لب اللباب، كما تبسم فم الكأس عن الحباب. فالراح بسلسلها ممزوجة، والرياض على منوالها منسوجة. وقد خلص كلامه من التهجين، كما تسل الشعر من العجين. أثبت له ما تظل الأفكار لحلاوة تعبيراته شائقة، كالشهد لأجل حلاوةٍ رغبت إليه كل ذائقة. فمنه قوله في الغزل: هامَ الفؤادُ وقد صَبَا بغَزالِ ... فضَح الغَزالةَ والغرامُ غَزا لِي سحَر العُيونَ ففي مَ عذَّب خاطرِي ... وسَبا القلوبَ ففي مَ غيَّر حالِي رفَع السَّقامُ لخَصْرِه بعضَ الذي ... يلْقى فقابلَه بنَصْبِ الْحالِ ما لِلْعَذُولِ إذا جَفَا بدرُ الدجى ... أو مَاسَ بالقَدِّ القويمِ ومَالِي أفْدِيه وهْو أجلُّ شيءٍ يُفْتَدى ... بالرُّوحِ منِّي لا أقُول بمَالِي

يا تارِكي بصُدودِه غَرَضَ الضَّنَى ... هَلاَّ رثَيْتَ لجسمِ صَبٍ بَالِي يَرْضى ولو بالطَّيْفِ تُرْسِلُه له ... في غَفْلةِ الرُّقَباء جُنْحَ ليالِي وقوله، من قصيدة أولها: رأَى ناظِري وَجْهاً يَرِقُّ أدِيمُهُ ... فأجْرى به دَمْعاً وقال أُدِيمُهُ وشاهَدَه في صفحةِ الخَدِّ لُؤْلُؤاً ... تَخالَط منه بالعَقِيقِ يَتِيمُهُ وأبْدَى حديثاً من قديمٍ مُعَلَّلاً ... فصَحَّ وبالأسْقامِ راح كَلِيمُهُ رَوَاه عن الزُّهْرِيِّ نْعمانُ خَدِّه ... وحَسَّنه من عارِضَيْه نَمِيمُهُ وبي لَوْعةٌ من صَدِّه ونِفارِهِ ... يَوَدُّ لها طُولَ الزمانِ سَلِيمُهُ لعلَّ له في مَوْقفِ الحشرِ والْجَزَا ... يطُول به المُضْنَى المُعَنَّى لُزُومُهُ وهيْهات ضاع الصبرُ عند لِقائِه ... وضاع به في الحيِّ عِطْراً شَمِيمُهُ ووَيْلاه من قَدٍ إذا هَزَّ عِطْفَه ... فما عَطْفُهُ يُرْجَى وإنِّي عَدِيمُهُ إذا رُحْتُ أشكو فالصَّدَى يشْتكي معي ... مُحالٌ لما أُبْدِي كأني غَرِيمُهُ كأنَّ النَّوَى لمَّا تخيَّل خَيْبتِي ... بمَن شَفَّنِي هاجتْ إليَّ جَحِيمُهُ إذا راح دَمْعِي يُشْبِهُ الدُّرَّ نَثْرُه ... شَجانِيَ مِن ثَغْرِ الحبيبِ نَظِيمُهُ يحيى الشامي أريبٌ جلت مزاياه، فكم من خبايا معانٍ في زواياه. ذكره كالزهر مفتر الكمامة، وخلقه كالروض جادته الغمامة. وكان مع طبعه المنقاد، ولطفه الذي يهب العين الرقاد. منفرداً انفراد البدر، متوحداً كليلة القدر. كأنه سهمٌ رشق عن قوس القضا، يضيق في عين تصوره رحب الفضا. وله شعرٌ رقيق المعاني، أثبت منه ما تتأنق برونقه المعاني. فمنه قوله، من قصيدة مستهلها: أمَا لأسيرِ الحبِّ فَادٍ من الأسْرِ ... ليرْبَحَ في المِسْكينِ شَيئاً من الأجرِ أما لِلْهوى شرعٌ وللحبِّ حاكمٌ ... فيسألَ عن حالِي وينْظُرَ في أمْرِي رهينُ فؤادِي في يَدَيْ مَن أُحِبُّه ... على غيرِ دَيْنٍ في الهوى مُفْلِس الصَّبْرِ وباع الْكَرَى إنْسانُ عَيْنِي بنَظْرةٍ ... فما رَبحَ المغرورُ بل عاد بالخُسْرِ يُطالِبُني العُذَّالُ بالعُذْرِ والهوى ... ولا عُذْرَ لي إلاَّ الهوى والهوى عُذْرِي وأبْكِي عن من يُشْبِهُ الصَّخْرَ قلبُه ... كما كانتِ الخَنْساءُ تبْكِي على صَخْرِ فلا نَظَرتْ عيني خِلافَ حَبِيبَها ... وإن زاد في الإعْراضِ والصَّدِّ والهَجْرِ وبالقلبِ منِّي والْجَوانِحِ كلِّها ... مَلِيحٌ يفُوق البدرَ في ليلةِ البَدْرِ بديعُ جمالٍ قد تطابقَ حُسْنُه ... حَوَى ثِقَلَ الأرْدافِ مَعْ خِفَّةِ الخَصْرِ إذا الْتفَّ في بُرْدٍ وفاح عَبِيرُه ... فما شئْتَ قُلْ في اللَّفِّ وفي النَّشْرِ أحانةُ خَمْرٍ أم سهامٌ رَواشِقُ ... قلوَب الْبَرايا أم ضُروبٌ من السِّحْرِ ولمّا عَرَتْنِي سَكْرةٌ من لِحاظِهِ ... وصِرْتُ صَرِيعاً لا أُفِيقُ من السُّكْرِ تدَاوَيْتُ مِن ألْحاظِه برُضابِهِ ... كما يتداوَى شاربُ الخمرِ بالْخَمْرِ وسكَّن نارِي ضَمُّهُ لجَوانِحِي ... وأجْفانُه أعْدَتْ فؤادِيَ بالسُّكْرِ وكان الهوى حُلْواً لَذِيذاً بوَصْلِهِ ... فغيَّر ذاك الحُلْوَ طعمُ النَّوَى الْمُرِّ شهاب الدين الديربي المالكي أحد السيارة في فلك الفضل، الموفي على أقرانه وله القول الفصل. قد ظهرت دلائل نبله، ورمى عن قوسه فأصاب لب الصواب بنبله. فأصبحت مآثره مدونة، وصحائفه بعنوان الخير معنونة. والفضْل في مِدْحتِه قائلٌ ... هذا لَعَمْري قد غدا مالِكي

فمن شعره قوله من قصيدة يمدح بها المفتي يحيى بن زكريا، وهو قاضٍ بمصر، وأولها: أوُرْقُ الرَّوْضِ تصْدَحُ أم تغَنَّى ... هَزَارُ الأُنْسِ بالإقْبالِ هَنَّا على قُضْبانِ بَاناتٍ ووَرْدٍ ... بألْحانٍ فُرادَى ثم مَثْنى أم الوَرْدُ البَهِيُّ زَهَا بنَوْرٍ ... سَناهُ عن سَنَا الأقمارِ أغْنَى أم ابْتَسم الزمانُ فَلاحَ بَرْقٌ ... فأبْكَى في رَوابي الأرضِ مُزْنَا وصفَّقتِ الرياحُ على أَكُفٍ ... من الأوْراقِ حتى قد دَهِشنَا وشُحْرورُ الرِّياضِ بها يُناغِي ... بأنْواعِ الغِناء به سُرِرْنَا وقام على الغُصونِ خطيبُ أُنْسٍ ... يُذكِّرُنا بما كُنَّا سَمِعْنَا ويَرْوِي من أحاديثٍ صحاحٍ ... حَدِيثاً صَحَّ إسْناداً ومَتْنَا بأن الحَبْر يحيى قام يُحْيِي ... رُسوماً للشَّرِيعةِ كُنَّ مُتْنَا قلت: هذا الشاعر إن لم يكن من العوالي، فربما ينظم السبج مع اللآلي. على أنه قد يُذْكَر في في البَيْن من يُجْعَل عُوذَةً تقِي شَرَّ العَيْن أبو بكر بن شهاب الدين قعود ماجدٌ قامت له البراعة على قدم، وبنى بصائب فكره من رسم البلاغة ما انهدم عجنت طينته بماء عوارف المعارف، فأضحى يجر على أبناء عصره أردية الفخر سابغة المطارف. وقد تأدب وفاق، ولم يحتج في ترويج حظه إلى حروفٍ وأوفاق. وله شعرٌ كأنه بنيانٌ مرصوص، وهو بمزية الوصف في حسن السبك عامٌّ مخصوص. فمنه قوله: إذا النفسُ سادَتْ في المعالِي طَرِيقها ... وليس عَظِيمُ الخَطْبِ عنها يَعُوقُها فلَهْفاً على نَفْسٍ إذا رُمْتُ عِزَّةً ... لها ذَلَّ حَوْزِ المطالِب سُوقُهَا رَمَتْ حَظَّها الأيَّامُ بالأسْهُمِ التي ... مُحالٌ لَعَمْرِي أن يعيشَ رَشِيقُها لقد قدّم الجَهْلُ الليالي وإنَّه ... لَمِن أعْظمِ البَلْوَى التي لا نُطِيقُهَا ولكنَّ حَسْبَ الحَبْر أنَّ عُلومَه ... تلُوحُ بآفاقِ الكمالِ بُرُوقُهَا سليم الشاعر رجلٌ سليم الضمير، ذو باطن أصفى من الماء النمير. جم الفائدة والآثار، طافح الشعر والنثار. كيله هيل، ونهره سيل. يجمع الغث والسمين، ويخلط الورد بالياسمين. وقد جئتك من منتخباته اللطاف، بقطعةٍ كباكورة الثمار جنية القطاف. وهي قوله: سَبَى مُهْجتِي ظَبْيٌ كَحيلُ النَّواظِرِ ... بديعُ جمالٍ حازَ حُسْنَ النَّواضِرِ فيا مُهْجتِي حَاكِي السَّعِير وشَابِهي ... بجسمِي ضَنَى خَيْط الرَّبابِ ونَاظرِي ويا كبدِي هَوْلَ الغرامِ تَجاسَرِي ... عليه كَقلبِي في هَواه وخاطرِي برُوحِيَ مَن نَاهِيَّ أصْبَح آمِرِي ... به وبِغَيٍ عاذلي فيه عاذِرِي وبي لِلمَاهُ أو لَمامِ دُنُوِّهِ ... تلَهُّفُ حَيْرانٍ ولَفْتةُ حائِرِ يجُور عل ضَعْفِي كما يحكُم الهوى ... بعادلِ قَدٍ منه في الحُكْمِ جائِرِ غرامِي صحيحٌ والرَّجا منه مُعْضِلٌ ... ومُرْسَلُ دمعِي منه جُرْحُ مَحَاجِرِي فقُرَّةُ عيني عنه عن حَسَنٍ رَوَتْ ... وعن صِلَةٍ لم تَرْوِ قَطُّ وجَابِرِ يَبيتُ ومنه الطَّرْفُ غَافٍ وغافلٌ ... وما الجَفْنُ منِّي غيرَ سَاهٍ وسَاهِرِ نَفَى النومَ عنِّي حين أعْرَض نافِراً ... فبِي منه أوْدَى صُنْعُ نَافٍ ونَافِرِ غَدَا جَازِماً بالهَجْرِ للنَّومِ رافعاً ... وناصبَ صَدٍ كاسِراً منه خَاطِرِي مَدِيدٌ تَجَنِّيهِ سريعٌ صُدودُه ... طويلُ جَفاً من صَدِّه المُتَواتِرِ تهتَّكْتُ فيه والهوى لم يزَلْ به ... ولو تُعْظِم الأحْجاءُ هَتْكَ السَّرائِر متى يَنْمَحِي منِّي وأُصْبِحُ تارِكاً ... مَخافاتِ لَهْوٍ عُمْرُه غيرُ عامِرِ سليمان الدلجي صاحب طبعٍ فياض، وشعرٍ كأنوار الرياض.

تتنافس بهاء آدابه، والشعر طريقته المثلى ودابه. فمن شعره قوله: حَسْبُ المُتَيَّمِ ما يلْقاه من ألَمِ ... وما يُقاسِيه من وَجْدٍ ومن سَقَمِ مُسَلْسِلاً دَمْعَه يَرْوِيه مُنْسكِباً ... ما بين مُخْتلِفٍ منه ومُلْتئِمِ ودَأْبُه حَمْلُ أعْباءِ المَلامِ على ... دِينِ الغَرامِ ولو أشْفَى على العَدَمِ في كلِّ وقتٍ له وَاشٍ يُرَوِّعُه ... وكاشِحٌ عاذِلٌ عند الطريق عَمِي لا لَهْوَ عن قَامةٍ أو مُقْلةٍ سَحَرتْ ... منها رِماحٌ وأسْيافٌ تُرِيقُ دَمِي أخْشَى عليها وإنّي خائفٌ وَجِلٌ ... مِن العِداةِ ومِن تَزْوِيرِ قَوْلهمِ بالقلبِ مَسْكنه لكنَّما جَزَعِي ... إعْراضُه عن مُحِبٍ ثابتِ الْقَدَمِ فذُو الصَّبابةِ لا يُصْغِي لِعاذِلِه ... إن المُحِبَّ عن العُذَّالِ في صَمَمِ فحسْبُه الله لا يَبْرَحْ أسِيرَ هوىً ... ومُدَّةَ الدهرِ والأيام لم تَنَمِ علي الصوفي فتى تورعٍ وتصوف، لم يكن له إلى غير الخوف تشوف. فهو صادق العزمة، مستغاثٌ به في الأزمة. بعيد القدم، من مخاضات الندم. أوتي بسطةً في العلم، ورسا طوداً في ساحة الحلم. وله كلماتٌ في الحكم باهرة اللمعان، بمثلها تحل أضغان وترحل أظعان. وشعره آخذٌ بأطراف المعارف، ماحٍ بأنوار البراهين شبه الزخارف. أثبت منه قطعةً تنور القلب وتشرح الصدر، وتدل على أن قائلها في المعرفة علي الهمة والقدر. وهي قوله: ومِن عَجَبِي أن الذين أُحِبُّهمْ ... أرَاهم بعَيْن القلبِ طُولَ المدَى مَعِي وتنْظُرهم عَيْني وهم في سَوادِها ... ويشْتاقُهم قلبي وهُم بين أضْلُعِي جعلتُ لهم حتى الدَّوام حُشاشَتِي ... وعن غيرِهم أصْلاً قطعتُ مَطامِعِي شكَوْتُ لقاضِي الحُبِّ جَوْرَ أحِبَّتِي ... جَفَوْنِي وقالوا أنت في الحُبِّ مُدَّعِي فخُذْ قِصَّتي واحكُمْ عليَّ ومنهمُ ... فإنِّي عليهم خائفٌ كيف أدَّعِي وعندي شُهودٌ أربعٌ يشْهدون لي ... سَقامِي ووَجْدِي واشْتياقِي وأدْمُعِي وإن طلَبُوا منِّي حُقوقَ هَواهمُ ... أقول فقيرٌ لا عليَّ ولا مَعِي وإن سَجنُونِي في سُجونِ هَواهُمُ ... دخلتُ عليهم بالنَّبِيّ المُشَفَّعِ محمد بن سلطان الحافظ الرشيدي الأفق الفاتح عن ضوء النهار، والروض النافح عن أرج الأزهار. استقل بالفائدة الجديدة، واستبدل بالآراء السديدة. فله في الجد همةٌ لا تني، وعزيمةٌ إذا انثنت الجبال لا تنثني. أمنت بحمد الله غوائله، وحدثت عن حسن اواخره أوائله. وله في القريض، باعٌ طويل عريض، وروض بلاغته مخصب أريض. فمن شعره قوله، في نظم أسماء الأنبياء، المصرح بهم في الكتاب العزيز: أتَى في كتابِ اللهِ أسْماءُ جُمْلةٍ ... من الأنْبياءِ المُتَّقِين ذَوِي الفَخْرِ فأبْدَيْتُ إحْصاءً بنَظْمٍ لِعَدِّهمْ ... بأسْمائِهم أحْلَى مَذاقاً من القَطْرِ ولم أرَ قبْلي مَن أتى بنِظامِهمْ ... فهاك عَرُوساً أُبْرِزتْ لك من خِدْرِ ولم ألْتزِمْ تَرْتيبَهم في وُجودِهمْ ... فقدَّمتُ خيرَ الخلقِ أحمدَ في الذِّكْرِ فقلتُ وإنِّي سائلٌ مُتوسِّلٌ ... إلى اللهِ في أن يرفعَ الوِزْرَ عن ظَهْرِي محمدٌ المُهْدَى إلى الناسِ رَحمةً ... وآدَمُ إدْريسٌ ونُوحٌ على الإثْرِ وهودٌ أخو عادٍ وصالحٌ الذي ... أتَى بالهُدَى من ربِّه لِذَوِي الحِجْرِ كذلك إبراهيمُ ذُو الصُّحُفِ الذي ... عليه ثَناءُ اللهِ في مُحْكَمِ الذِّكْرِ ولُوطٌ وإسْماعيلُ إسْحاقُ بعدَه ... أتى نَجْلُه يعقوبُ كالكوكبِ الدُّرِّي

شُعَيبٌ ومُوسَى ثم هارونُ صِنْوُهُ ... عليهم سلامُ اللهِ في السِّرِّ والْجَهْرِ ويونسُ إلْياسٌ وذُو الكِفْلِ كلُّهم ... من المُخْلَصِين الدَّائِمين على الشُّكْرِ وداوُدُ ذُو الأيْدِ سُلَيمان بَعْدَه ... وأيُّوبُ مَن قد فاقَ بالأجْرِ والصَّبْرِ ويوسُف لكنَّ المُسَمَّى بغَافِرٍ ... به الخُلْفُ تحْكِيه الرُّوَاةُ بلا نُكْرِ فقيل ابنُ يعقوبٍ وقد قيل غيرُه ... من الأنْبياءِ المُرْسَلِين ذَوِي الإصْرِ كذا زكريَّاءُ المُبشَّر بالنِّدَا ... ويحيى وعيسى فاعْتبِرْ يا أخا الفِكْرِ كذا يَسعٌ ثم الْعُزَيْرُ بتَوْبةٍ ... فسَلْ توبةً من مالِك الخلقِ والأمْرِ فقيل ابنُ إبراهيم أو هُوَ غيرُه ... من الأنبياءِ الطاهِرين أُولِي الصَّبْرِ فهذا الذي في الذِّكْرِ جاء مُصَرَّحاً ... به دُمْتَ مَسْعوداً إلى آخِر الدَّهْرِ فجُمْلتُهم يا صاحِ عشرون ثم زِدْ ... ثمانيةً نِلْتَ الشَّفاعةَ في الحَشْرِ به أرْتَجِي عَفْواً لِذَنْبٍ جَنَيْتُه ... عسى العُسْرُ يأتي بعدَه أجْملُ اليُسْرِ وتنْفَكُّ أقْفالُ القُيودِ بأسْرها ... وتُفْتَح أبْوابُ القَبُولِ بلا قَسْرِ عليهم صلاةُ اللهِ ثم سلامُه ... يَدُومانِ أحْقاباً إلى أمَدِ الدَّهْرِ قوله: ويوسف به الخلف في الخميس نقلاً عن الكامل، قيل: موسى هو موسى بن عمران بن يصهر بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم. وأم موسى يوخانذ. واسم امرأته صفوراً ابنة شعيب النبي. وكان فرعون مصر في ايامه قابوس بن مصعب بن معاوية، صاحب يوسف الثاني. وكانت امرأته آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد فرعون يوسف الأول. انتهى. وقال في محلٍ آخر: وقيل: كان الملك في أيام يوسف فرعون موسى وهو مصعب ابن الريان، أو ابن الوليد، بن مصعب. عاش أربعمائة سنة، وبقي إلى زمان موسى، بدليل قوله تعالى: " ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات ". والمشهور أن فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، من بقايا عاد، والآية من قبيل الخطاب للأبناء بأحوال الآباء. وقوله وذو الكفل في نبوته خلاف، قال البيضاوي: في سورة ص: ذو الكفل ابن عم يسع أو بشر بن أيوب، واختلف في نبوته. انتهى. ولم يحك هذا في سورة الأنبياء، بل قال: إلياس أو يوشع أو زكريا. وحكمة تأخيره على القول بأنه زكريا؛ لأن الله تعالى ذكره بعد ذي النون، بقوله تعالى: " وزكريا إذ نادى ربه "، فهذا يبعد القول بأنه زكريا. وقال الجلال المحلى، في سورة ص: اختلف نبوته، قيل: كفل مائة نبيٍ فرت إليه من القتل. انتهى. ويدلك على أن القول بنبوته ضعيف، قول الجلال المحلى أيضاً، في سورة الأنبياء: وسمي ذا الكفل، لأنه تكفل بصيام جميع نهاره، وقيام جميع ليله، وأن يقضي بين الناس ولا يغضب، فوفى بجميع ذلك، وقيل: لم يكن نبياً. انتهى. وإيراده له بقيل، مع تأخيره إشارة إلى الضعف. وفي تاريخ ابن الشحنة: وبعث الله تعالى ولد أيوب بشراً، وسماه ذا الكفل، وكان مقامه بالشام. انتهى. فهو والمؤيد، صاحب حماة، جازمان بأن ذا الكفل ابن أيوب، بعثه الله بعد أبيه. وقوله: كذلك إسماعيل فيه الخلاف المذكور في الأنعام: قيل غير ابن إبراهيم، والصحيح أنه ابنه؛ وإنما أخر في الذكر لأنه أبو العرب، ولم يكن أباً لبني إسرائيل، وإنما كان إسحاق بن إبراهيم، فلما ذكر إسحاق عد الأنبياء من أولاده، ثم عاد إلى ذكر إسماعيل. وفي تفسير اللباب: إشماويل بالعربية: إسماعيل، وهو متأخر عن أولاد إبراهيم بزمان طويل، وهو الذي داود وبقي إلى زمان شعيب بن غيفا، صاحب مدين الذي تزوج موسى بنته، وشعيب بن ذي مهدم، وإليه الإشارة بقوله عز وجل: " وكم قصمنا من قريةٍ كانت ظالمةً "، أي بقتلهم شعيباً هذا. محمد بن موسى الحسيني الجمازي معدودٌ من سراة الجحافل، مرموقٌ في السادة الذين زينوا المحافل. تتعطر أودية الشرف من رياه، وتتقطر مياه الترف من محياه.

فيبدي عن ماء النعيم رواؤه، ويزيل الصدى عن الأكباد الهيم إرواؤه. وله شعر كنسبة عالي، محله الغرة من جبهة المعالي. فمنه قوله لتمثال النعل الشريف: لِتْمثالِ النِّعالِ بلا ارْتيابِ ... فضائلُ أدْهشتْ أهلَ الحسابِ فيا شوقِي لِما وَطِئتْه رِجْلٌ ... علَتْ فوق العُلَى ودَنَتْ كقَابِ تُشرِّف لاَثِميها ثم تَشْفِي ... من الأوْصابِ بالقَصْدِ الصَّوابِ فخُذْها عُدَّةً من كلِّ هَوْلٍ ... تَراهُ لم يكن لك في حِسابِ وتبْقَى ما حَيِيتَ عظيمَ جَاهٍ ... وعِزٍ في أمانٍ مُسْتطابِ حَمَدْتُ اللهَ إذْ نظَرتْ عُيوني ... لها أشْكالَ حُسْنِ وانْتخابِ ومَرْجِعُها مع التَّكْرارِ فَرْدٌ ... إذا خَفَّفْتَ مع كَشْفِ النِّقابِ فجازَى الله مُهْديِها إليْنا ... جزاءَ الخيرِ مع حُسْنِ المَآبِ وقوله فيه أيضاً: لمَّا رأيتُ مِثالَ نَعْلِ المُصطفَى ... المُسْنَدَ الوَضْعِ الصَّحيحَ مُعَرَّفَا مِن حَضْرةِ الأعْلامِ زاد تشوُّقِي ... وتشَوُّقِي فازدَدْتُ منه تَرَشُّفَا مُذ باشَرتْ قَدَمَ الحبيبِ تشَرَّفتْ ... فانْحُ الشِّفاء بلَثْمِها تَجِدِ الشِّفَا يا طَالَمَا مَرَّ اللُّغُوبُ من الأذَى ... وأضَرَّ بالجسم الضَّعِيفِ تعسُّفَا وأصَابني داءُ الشَّقيقةِ مُؤْلِماً ... وبقِيتُ ممَّا نالني مُتخوِّفَا فمسحتُ وَجْهِي بالمِثالِ تبرُّكا ... فشُفِيتُ مِن وَقْتِي وكنتُ على شَفَا وظفِرتُ بالمطلوبِ من بَرَكاته ... ووجدتُ فيه ما أُرِيدُ مع الصَّفَا لِمْ لا وصاحبُه أتانا رحمةً ... الهاشميُّ الأبْطَحِيُّ المُقْتفَى صلَّى عليه اللهُ جلَّ جلالُه ... مع آلهِ الغُرِّ الكرامِ ذوِي الوفَا أحسن ما قيل في هذا المعرض قول بعضهم: مُذ شاهدتْ عَيْنَاي شكلَ نِعالِهِ ... خطَرتْ عليَّ خوَاطرٌ بمِثالِهِ فغدَوْتُ مشغولَ الفؤادِ مُفَكِّراً ... مُتَمَنيِّاً أنِّي شِراكُ نِعالِهِ حتى أُلامِسَ أَخْمَصَيْهِ مُلاطِفاً ... قَدَماً لمن كشَف الدُّجَى بجَمالِهِ يا عَيْنُ إن شَطَّ الحبيبُ ولم أجِدْ ... سَبَباً إلى تَقْرِيبِه ووِصالِهِ فلقد قنِعْتُ برُؤْيتِي آثارَهُ ... فأُمَرِّغُ الخدَّيْن في أطْلالِهِ وأصل هذا قول علاء الدين بن سلام: يا عينُ إن بَعُدَ الحبيبُ ودارُهُ ... ونَأتْ مَراتِعُه وشَطَّ مَزارُهُ فلقد ظفرْتِ من الزَّمانِ بطائلٍ ... إن لم تَرَيْه فهذه آثارُهُ ومثله قول لسان الدين بن الخطيب التلمساني: إن بان مَنْزِلُه وشَطَّ مَزارُهُ ... قامتْ مَقامَ عِيانِه أخْبارُهُ قَسِّمْ زمانَك عَبْرةً أو عِبْرةً ... هذا ثَراهُ وهذه آثارُهُ ولهذا الشاعر معاصرٌ اسمه محمد بن ضيف الله، ويعرف بالترابي، رشيدي التربة، له في وصف التمثال الشريف: لِمَن قد مَسَّ شكلَ نِعالِ طه ... جَزِيلُ الخيرِ في يومِ الثوابِ وفي الدنيا يكونُ بخير عَيْشٍ ... وعِزٍ بالهَناءِ بلا ارْتيابِ فبادِرْ والْثِمِ الآثارَ منها ... لَقصْد الفَوْزِ في يومِ الحسابِ فنعمَ القَصْدُ أشْرفُ شَكْلِ نَعْلٍ ... لقد وُضِعتْ على وَجْهِ التَّرابِ والذي جرى في ميدان هذا التماثل فلم يلحق الشهاب الخفاجي، حيث قال: لَعَمْرُك نَعْلُ المصطفى بَركاتُها ... يُشاهِدُها كلُّ امْرِىءٍ كان ذا عقلِ ولو أن في وُسعِي زِمامَ تصرُّفِي ... جعلتُ لها جَفْنِي مِثالاً بلا مِثْلِ وكان أَدِيمُ الوَجْهِ فوق أدِيمها ... يَقيِها غُباراً من تُرابٍ ومن رَمْلِ

أُفَصِّل من دِيباجَتيْهِ وِقايةً ... تُمَدُّ عليها حَذْوُكَ النَّعْلَ بالنَّعْلِ وقال: وحَقِّك تِمْثالُ النِّعَالِ مُكَرَّمٌ ... به اعْترفَ العقلُ المُدقِّقُ والفضلُ ونَعْلٌ لأقْدامٍ يَلِينُ لها الصَّفَا ... أيَقْسُو عليها القلبُ ممَّن له عَقْلُ تفاءَلتُ مِن تَقْبِيلها أنَّنا بها ... على كلِّ ذي قَدْرٍ رفيعٍ غَداً نَعْلُو موسى القلبيبي الأزهري كاملٌ في صنعة التأديب، لفظه الأزهري تهذيب التهذب. أحسن ما شاء في النظم والإنشا، وأفاض قليبه فملا الدلو وبل الرشا. ينادي الأدب إلى طاعته فلا يتوقف، ويلقي عصا سحره المصري فتتلقف. فمما اخترته من شعره المعسول، هذه القطعة من موشح قاله في التوسل بجاه الرسول. وقد كان أصابه رمد، فزال عنه بلطف القادر الصمد: يا إلهي بكريمِ الكُرَمَا ... طاهرِ الأنْفاسْ ألْطفِ الخلْقِ رحيمِ الرُّحَمَا ... سيِّدِ الأكْياسْ عَبْدُك المُختار من أُمِّ القُرَى ... لقيامِ الدِّينْ الحبيبُ المُجْتَبَى عالِي الذُّرَى ... صاحبُ التَّمكينْ عَرْشُ سِرِّ الله ما بين الوَرَى ... شامِخُ العِرْنِينْ رافعُ الخطب إذا مادَهَمَا ... دَافِعُ الأدناسْ أعلمُ الناسِ بما قد قَدِما ... قبل عصرِ الْياسْ نُقْطةُ التَّفْضِيلِ في الدَّوْرِ القديمْ ... مَظْهرُ اللاَّهوتْ ظاهرُ التَّفْضيل مِن قبْلِ الْكَلِيمْ ... باطنُ النَّاسُوتْ مُفْصِحُ التَّعْبِير عن أهلِ الرَّقِيمْ ... قامِعُ الطَّاغُوتْ تُرْجُمانُ الطِّلْسَمِ الغَيْبِيّ ما ... قال ربُّ النَّاسْ جاء جبريلُ به ممَّن سَمَا ... لجلاءِ الْباسْ الرسولُ المُقْتَفى ممَّن مَضَى ... مَهْبِطُ الأسْرارْ الصِّراطُ المُسْتقِيمُ المُرْتضَى ... صاحبُ المِقْدارْ شاهرُ السيفِ القويمِ المُنْتضَى ... مَاحِقُ الأغْيارْ كالِىءُ الإسلامِ حتى أن سَمَا ... كاسِرُ الأرْجاسْ شافعُ الخَلْقِ إذا اشْتدَّ الظَّمَا ... صافِعُ الوَسْواسْ قد توسَّلْتُ به أرْجُو الفَرَجْ ... فامْحُ آثامِي وأزِلّ عنِّي عَنائِي والحَرَجْ ... واجْلُ إجْرامِي وبلُطْفٍ منك بَرِّدْ مَا وَهَجْ ... واشْفِ أسْقامِي وتلطَّفْ يا إلهي كَرَمَا ... بضَعِيفِ الرَّاسْ وأغِثْنِي وأعذْنِي كلَّما ... وَسْوَسَ الخَنَّاسْ صلواتُ وَاصِلاتٌ كلَّما ... دارتِ الأفْلاكْ وسلامُ ورِضاً قَدْرُ ما ... سبَّحت أمْلاَكْ لحبيبٍ ونَبِيٍ قد حَمَى ... مِن عَمَى الإشْراكْ وعلى آلٍ وصَحْبٍ رحما ... عِتْرة الْعَبَّاسْ ما غُصَيْنٌ في رياضٍ قد سَمَا ... وبلُطْفٍ مَاسْ محمد المنوفي القاضي أديبٌ جيد التعبير، متقن التوشية والتحبير. والقاهرة أفقه الذي به أستهل، ومحل عيشه الذي شب فيه واكتهل. ثم ولي القضاء مراراً عدة، وتردد في نصب المناصب إلى أن استوفى المدة. وله شعر أطربت به قصب اليراعة، وابتهجت برونقه رياض البراعة. فمنه قوله من قصيدة في المدح، أولها: لئن ضاق ذَرْعِي أو تغيَّر حالِي ... وعَطَّل منِّي الدهرُ ما هو حَالِي

وأفْردنِي صِفْرَ اليديْن ونَاشَنِي ... بِمِخْلَبِه إلا شَفْى وفَرَّق بالِي فخيرُ الورَى ذُخْرِي وكَهْفِي وعُدَّتِي ... يُخلِّصُنِي منه بغيرِ سُؤالِ فهِمَّتُه زُهْرُ الكواكِب دُونَها ... ومجلسُه السَّامِي مَحِطُّ رِحالِي منها: إذا خَطَّ طِرْسٍ رأيتَ جواهراً ... تَنظَّمُ في سِمْطَيْ حَياً وجَمالِ وإن قال لم يتْرُك مَقالاً لقائلٍ ... وإن صالَ جالَ القِرْنُ كلَّ مَجالِ ولا عَجَبٌ من سَيْبِ سُحْبِ نَوالِهِ ... ومَبْسِمِه الأسْنَى وحُسْنِ فِعالِ ولكنْ عجيبٌ لا تَرَى بك وَحْشةً ... وأنتَ بدُنْيانا عَدِيمُ مِثالِ وكتب يهنيه بعيد النحر: تَهَنَّ بعيد النَّحْرِ يا واحدَ الدَّهْرِ ... ودُم في الْهنا والعزِّ والمجدِ والنصْرِ تُقلدنا فيه قلائدَ أنْعُمٍ ... وأحسنُ ما تبْدُو القلائدُ في النَّحْرِ فهذا زمانُ الأمْنِ واليُمْنِ والمُنَى ... وهذا زمانُ المدحِ والحمدِ والشكرِ ولمَّا حَطَطْتُ الرَّحْلَ دون عِراصِهِ ... أخذتُ أمانَ الدهرِ من نُوَبِ الدهرِ وما عَتْبُه إلاَّ بأني وَصفتْهُ ... وشبَّهتُه بالبدرِ والليثِ والبحرِ ومن يكُنِ الرحمنُ خَلَّد مُلْكَه ... وأثنَى عليه الله في مُحْكَمِ الذِّكْرِ يَحِقُّ له أن يبسُط الكَفَّ بالْعَطَا ... وينصُرَ مكسوراً من الفقرِ بالجَبْرِ قوله: تقلدنا فيه قلائد البيت، لما رأيته منسوباً إليه، استكثرت معناه البديع عليه. ثم ظفرت به في أشعار بلدية ابن نباتة، فعرفت أن التضمين ما فاته. ولابن نباتة بيتٌ قبله، وهو: تَهَنَّ بِعيد النحرِ وابْقَ مُمتَّعاً ... بأمثالهِ سامِي العلى نافِذ الأمْرِ وأصله قول زكي الدين بن أبي الإصبع، وفيه الاستتباع، تخيَّل أن القِرْنَ وَافاهُ سائلاً ... فقابلَه طَلْقَ الأسِرَّةِ ذا بِشْرِ ونادَى فِرِنْدَ السيفِ دُونَك نَحْرَهُ ... فأحْسَنُ ما تُهْدَى الَّآلِي إلى النَّحرِ وفي منشآت ابن نباتة: وصل المثال الأعظم فقبل المملوك الأرض أمامه مراراً، واسترسل سماء النعمة مدراراً. وعارض بقطرات مدحه البحر، وتقلد في هذا العيد قلادة الكرم وأحسن ما كانت القلادة في النحر. محمد بن معتوق المنوفي القاضي فاضلٌ قال من الفضل بظلٍ وريف، وكاملٌ حل من الكمال بين خصب وريف. حسن اللفظ وجوده، وبيض وجه البلاغة بما سوده. وله شعر ألذ من غمزات الألحاظ المراض، وأشهى من تلفت الظباء بعد الإعراض. أنشدني له بعض المصريين قوله: رمى رِيمُ النَّقا من أرْض رَامَهْ ... بلَحْظٍ في الْحَشَا يُذْكِي ضِرامَهْ فما ثُعَلٌ برامِيَةٍ نِبالاً ... إذا ما استَلَّ من لَحْظٍ حُسامَهْ شُعورِي ضَلَّ في داجِي شُعورٍ ... تُظلِّلُ وَجهَه من فوقِ هَامَهْ ألا فاعجَب لِظلٍ فوق شَمْسٍ ... وبدرٍ قد أظلَّتْه غمامَهْ وخِشْفٍ بالشَّمائِل والمَزايَا ... تراه يَصِيدُ مِن غَابٍ أُسامَهْ يمُرُّ مُسلِّماً صبٌّ عليه ... فلا يَرْضَى لعاشِقه سَلامَهْ ويقتُل مَن يهَيمُ به مَلُوماً ... وليس عليه في قتْلٍ مَلامهْ منها: أَخا الغزْلانِ رفْقاً بالمعَنَّى ... فمِن مَعْنَاك قد حَلَّى نظامهْ يُسامِي فكرُه الْعَيُّوقَ حتَّى ... يُسامِرَه ويُسْمِعه كلامَهْ علي بن موسى الأبيض قمر ذكاءٍ يلذ على طلعته السمر، وربيع فضلٍ يطيب منه النور والثمر. رأيته بمكة فرأيت شخصاً بحلية التقى متحليا، ومن هجنة الرياء متخليا. وهو ذو بيضاء نقية، فيه من نزقة الشباب بقية. وله شعر أعده من وساوس فكره، إلا أني لم أر بداً من ذكره. فمنه قوله، من قصيدة في الغزل: سَبتْني بحُسْنِ البَها والكَحَلْ ... إلى أن بَدَا الشيبُ عندي وحَلّ

وفتَّشْتُ قلبي وجسمي فلمْ ... أجِدْ فيهما لسِواها مَحَلّ وحالفْتُ سُهْدِيَ جُنْحَ الدُّجَى ... وخالفتُ يا صاحِ نَوْمَ المُقَلْ أيا عاذلِي دَعْ مَلامِي ولا ... تسَلْ عن غرامِي بها لا تَسَلْ أنا الْوالِهُ الصَّبُّ لا غَرْوَ أن ... لبِسْتُ ثيابَ التَّصابِي حُلَلْ رعَى اللهُ دهراً بها قد مَضَى ... بوَصْلٍ ومنها سُقِيتُ الْعَلَلْ وفيها صَفا باللِّقا خاطرِي ... وزالتْ كُروبِي بها والعِلَلْ وماسَتْ بأعْطافها وانْثَنتْ ... دَلالاً بقَدٍ يفُوق الأسَلْ وطافتْ بكأسِ الطِّلا في الدُّجَى ... كبدرٍ بِبُرجِ السُّعودِ اكْتَمَلْ وقالتْ ألا أيها المُجْتَبى ... تَهَيَّ إلى الوَصْلِ وانْفِ المَلَلْ سكِرتُ سكِرْتُ ووَقْتِي صَفَا ... ونَجْمِي بسَعْدِ السُّعودِ اتَّصَلْ ونِلْتُ المُنَى حين وَاصَلْتُها ... ومَصَّيْتُ ثَغْراً يُحاكِي العَسَلْ ونزَّهْتُ طَرْفِيَ في وَجْنةٍ ... غدا الوردُ مِن حُسْنِها في خَجَلْ وهِمتُ بأقداحِ أحْداقِها ... وتَيَّمنِي غَزْوُها والغَزَلْ فللهِ من أعْيُنٍ جَرَّدتْ ... سِهاماً وكم جَنْدَلتْ من بَطَلْ رَنَتْ لي بها بعدَ ما أنْشدَتْ ... على عُودِها نَغْمةً مِن رَمَلْ وأطْيارُ أُنْسِيَ قد غَرَّدتْ ... بمُعْربِ لَحْنٍ غَرِيبِ الْمَثَلْ وَلِعْتُ بها وخلَعتُ السِّوَى ... وسَمْسَمَنِي رِدْفُها والكَفَلْ فوُقِّيت في الحبِّ شرَّ العِدَى ... وفي كلِّ حالٍ بلغْت الأمَلْ محمد بن عمر الخوانكي أديبٌ خبره متمتع الأسماع، وعشرته سلوى الأماني وحظ الأطماع. لقيته بالروم والحال حالي، والعيش من كدر الأيام خالي. وأنا وإياه حليفا صبا، وأليفا شمولٍ وصبا. لم يشب مسك عارضينا بعارض، ولم يدر كافور التجارب منا في عارض. فكنت أتمتع من لفظه بما ينعش كل خافٍ خافت، ومن معناه بما يحرك كل هافٍ هافت. حتى غار القضا فأغار، واسترد مني ما كان أعار. فانفصم ذلك العقد الثمين، وتفرقنا ذات الشمال وذات اليمين. ثم رأيته بدمشق في سنة مائةٍ وألف، وقد عرض البياض لعارضه، كما صرح لي بعد معارضة. وصرنا في بردٍ من الشيب منهج، بعد أن كنا في بردٍ من العيش مبهج. فمما استتم السؤال عن كيفية الحال، حتى خاطبته على سبيل الارتجال: لا تَعِيبَنَّ صُفْرةَ اللَّونِ منِّي ... واحْمِرارَ الدموعِ في أجفْانِي فبَياضُ المَشِيبِ يُنْبِىءُ أنِّي ... غَيَّرتْنِي تَلوُّناتُ الزمانِ فأملى علي من فصوله القصار، قوله: الموت الأحمر في الحظ الأسود، والعدو الأزرق في بني الأصفر، والشيب الأبيض في عدم العيش الأخضر. وهذا كما تراه يعارض قول الحريري في المقامة الثالثة عشرة: فمذ اغبر العيش الأخضر، وازور المحبوب الأصفر، اسود يومي الأبيض، وابيض فودي الأسود، حتى رثى لي العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر. وقوله: العدو الأزرق يعني الشديد العداوة، أو الأزرق العين، يريد الروم؛ لأن أكثرهم زرق العيون، فبنو الأصفر على الأول بنو الذهب؛ وهم الدنانير، وعلى الثاني الروم. ومن الأول تعرف أن الحريري عبر بالمحبوب، فلحظ جانب مدحه، كما فعل في المقامة الدينارية، حيث مدحه فقال: أكْرِمْ به أصْفَرَ راقتْ صُفْرَتُهْ إلى أن قال: وحُبِّبَتْ إلى القلوبِ غُرَّتُهْ وأما هو فعبر بالعدو، ولاحظ جانب ذمه تبعاً للحريري، حيث ذمه، فقال: تَبّاً له من خادِعٍ مُماذِقِ ... أصْفَرَ ذي وَجْهيْن كالمُنافقِ والموت الأحمر هو موت الفجاءة، وقيل: هو الموت الشديد، وهو القتل بالسيف، وذلك لما يحدث عن القتل من الدم، وقد يكنى عن الأمر المستصعب بالموت الأحمر، ويقال: سنةٌ حمراء، أي شديدة، وقيل: الموت الأحمر الفقر.

وفي الحواشي الفنارية على المطول: الموت الأحمر يروي بالتوصيف وبالإضافة، فالأحمر على الثاني بالزاي المعجمة، قيل: هو حيوان بحري يشق موته، والظاهر أنه على الثاني، وعلى الأول بها أيضاً من الحمازة، وهي الشدة، وقيل: هو عليه بالراء المهملة، فيراد به موت الشهداء، والأول أقرب كما لا يخفى. انتهى. وجرى بيني وبينه ذكر بلوغ الأربعين من العمر، فقال: كيف ترى حالك، وقد بلغت الأشد؟ فقلت: قد فارقت الشدة، وبلغت الأشد، فأنا قد عدمت معه السداد فمن لي بالأسد. ما يُرجِّي من أرْذَلِ العمرِ شَيْخٌ ... مِن بلوغِ الأشُدِّ يلْقَى الأشَدَّا وأنشدني من لفظه لنفسه قوله مضمنا: ولا أخْتشِي إن مَسَّنِي ضُرُّ حادثٍ ... إذا كان عُقْباهُ ارْتفاعِي من الخَفْضِ ولا الدهرَ مهما إن أطال له يَداً ... فتلك يَدٌ جَسَّ الزمانُ بها نَبْضِي فإن عِشْتُ أدركتُ المَرامَ وإن أمُتْ ... وأسْرعَ أرْبابُ الودائعِ للقَبْضِ ولم تُشْفَ من ماء الحياةِ غَلائِلِي ... فللهِ مِيراثُ السمواتِ والأرضِ محمد المعروف بالصائغ الدمياطي صائغ القول صوغ الإبريز، ورب السبق في البراعة والتبريز. اتفق على فضله الجمع، وتغاير على محاسنه البصر والسمع. وقد ورد علي بالقاهرة وخاطري بنوادر التحف متولع، وناظري لأطارف الملح متطلع. فصادفت فيه المؤمل، ولعمري إنه كاملٌ مكمل. فامتزجت أنا وإياه على التآلف والتعطف، ولم أر مثله في كثرة التحبب والتلطف. وها أنذا شاكرٌ من ألطافه ما قل وما جل، والمودة فيما بيننا خالصةٌ لله عز وجل. وقد تناولت من أناشيده نثير الجمان، وأحمد الله على أن جمعني وإياه الزمان. فمما أتحفني به هذه القصيدة، مدح بها الأستاذ زين العابدين البكري: رفعتْ بأطْرافٍ رِطابِ ... عن وجهها طَرفَ النِّقابِ فعجبتُ كيف البدرُ يجْ ... لُو الشمسَ عن صَدَأِ السحابِ ورَنَتْ بمُقْلتِها التي ... هي فِتْنتِي وبها عذابِي فرأيتُ خمرَ الْجَفْنِ أسْ ... رعَ للمدَارِك بالذَّهابِ والسِّحرَ سِحْرَ العَيْن لا ... سِحْرَ العزيمةِ والكتابِ وتبسَّمتْ عن أشْنَبٍ ... يفْتَرُّ عن عَجَبِ عُجَابِ دُرٌّ ترصَّع في الشَّقِي ... قِ الغَضِّ بالشُّهْدِ المُذابِ والوردُ صان الثَّلجَ خَشْ ... يةَ أن يسيلَ من الرُّضابِ والأُقْحُوانةُ كيف تَنْ ... بُتُ في اليَواقيتِ العِذابِ وكأنه كأسٌ تَلوَّ ... نَ بالرَّحِيقِ وبالحُبابِ ونظرتُ آيةَ خَدِّها ... فقرأتُ عنوانَ الكتابِ وعلمتُ أنّ الموتَ دُو ... نَ وُرودِ مَبْسِمِها الشَّرابِ رَيّانةُ الأعْطافِ مِن ... ماءِ اللَّطافةِ والشبابِ صَلْدِيَّةُ الأحشاءِ حَاشا ... هَا ترِقُّ لذي تَبابِ تَزْهُو إذا رأتِ الصَّرِي ... عَ مُعفَّراً فوق الترابِ تزهو بخاتمِها وخِنْ ... صَرِها المُقَمَّعِ بالخِضابِ وتظَلُّ عابسةً كما ... يلْهُو المُفكِّرُ بالحسابِ إن أنْسَ لا أنْسى مَقا ... مَ رَحِيلها وعَداكَ مَا بِي زَمُّوا المَطِيَّ وزمَّلُوا ... حُمْرَ الهَوادِجِ والقِبابِ رحَلُوا فعزَّ القلبُ مِن ... صَدْرِي وما حُلَّتْ ثيابِي يا لائِمِي في الْحُبِّ دَعْ ... عَذْلِي فليس عليك عَابِي هَبْنِي ضَلِلْتُ فما عليْ ... كَ إلى الهدايةِ مِن حسابِ مَن لي بأن أُدْعَى حَلِي ... فَ صَبابةٍ ولَقَى تَصابِي أنا لَذَّ لي ذُلُّ الهوى ... وأرى خَطايَ به صوابي والعِزُّ يخدمُ ساحتِي ... والسَّعْدُ مُرْتبَطٌ ببابِي

بمديح زيْن العابدي ... نَ الْحَبرِ محفوظِ الجَنابِ ابنِ الْفَواتِحِ والخَوا ... تِم والْعَواصمِ والمَتابِ وابنِ الخلافةِ والإنا ... فةِ والإمامةِ والمَآبِ فَرْدُ الوجودِ ومَظْهرُ التَّ ... كْمِيلِ فَيَّاحُ الرِّحابِ طَلْقُ الْجَبِين إذا تصدَّ ... رَ للخُطوبِ أو الخِطابِ سهلُ الخلائقِ للعُفا ... ةِ وللعِدَى صَعْبُ الحِجابِ مِن بَأْسِه تَجِدُ الملو ... كَ الصِّيدَ مُرْتعِدِي الإهابِ إن تَلْقَهُ تَلْقَ المُؤَمَّ ... لَ للمَثُوبةِ والوِثابِ وإذا نظرْتَ الوجْه مِنْ ... هـ تَرَ الجمالةَ في المَهابِ وإذا اسْتمحْتَ يَمِينَهُ ... حُزْتَ اليَسارَ بلا حسابِ وإذا اسْتَغَثْتَ بجَاهِهِ ... فتُغاثُ منه بمُسْتَجَابِ طابتْ عناصِرُه وطا ... بَ الأصلُ منه بمُسْتَطابِ سَعِدتْ به الأيامُ وابْ ... تهجَ الزمانُ على الحِقابِ وعَلَتْ به رُتَبُ العُلَى ... فوق الثَّوابتِ بالثَّوابِ وبذِكْرِه تَرْتاح أفْ ... ئدةُ المَحامِدِ والمَحابِ مِن عُصْبةٍ طابتْ أَرُو ... مَتُهم بفخرٍ وانْتخابِ قومٌ لهم شَرَفٌ وحَقِّ ... اللهِ في أُمِّ الكتابِ حُبِّي بَنِي الصِّدِّيقِ دُخْ ... رِي للقيامةِ واحْتسابِي وبِه أرومُ الفَوْزَ في الدُّ ... نْيَا وفي يومِ الحسابِ وهُنا وعُمْرِ أبيك قد ... نَوَّخْتُ راحلةَ الطِّلابِ وجعلتُ مَدْحِي في بَنِي الصِّ ... دِّيقِ ما قد عِشْتُ دَابِي وأنشدني من لفظه لنفسه، قال: وهو مما قلته في الرؤية: كأنما الشمسُ في الإشراقِ طالعةً ... خَوْدٌ تَرِفُّ على أرْضٍ من الذهبِ وإن تدلَّتْ لنَحْوِ الغربِ مائلةً ... تجُرُّ من خَلْفِها ذيلاً من اللَّهَبِ وأنشدني قوله: للهِ قومٌ عهِدتُ حُبَّهمُ ... فرضاً عليَّ الغرامُ قد كتَبَا كأنما القلبُ عند ذكرِهمُ ... طَيْرٌ أحَسَّ الوُقوعَ فاضْطَربَا وقوله: أذِلُّ لِعزَّتِه يُعْجَبُ ... وأرْضَى فيُغْضِبُه فاعْجَبُوا وأسألُه العَفْوَ عمَّا جَنَى ... عليَّ كأنِّي أنا المُذْنِبُ وقوله: بالرُّوحِ أفْدِي عِذَاراً ... أبانَ للناسِ عُذْرِي أقول مِتُّ غرامَا ... يقول يا ليتَ شِعْرِي وقوله: تعلَّقتْ بك آمالي وأطْمعنِي ... فيك الوُثوقُ بأنِّي لم أُضَعِ فجُدْ بإنْجازِ وَعْدِ كي أفوزَ ولا ... تُمِتْ رجائِيَ بين الياسِ والطَّمَعِ وقوله: أرى الدنيا وإن رفَعتْ ... لأعْلَى ذِرْوة الفَلَكِ سترْمِي مَن يُغَرُّ بها ... لأدْنَى هُوَّةِ الدَّرَكِ فإن نصَبتْ حَبائِلَها ... فخَفْ من حَبَّةِ الشَّرَكِ وقوله: مَن كان باللهِ لا يُبالِي ... إن أكثرُوا اللَّوْمَ أو أقَلُّوا ومَن يكن همُّه سِواهُ ... فإنما حَظُّه الأَقَلُّ وقوله: لاَثَ على رأسِه عِمامَهْ ... فنال منه الجمالُ آمالَهْ كأنه وهْو تحتَها قمرٌ ... دائرةٌ فوق رأسِها هالَهْ وقوله: هُمُ هُمُ إن نأَوْا عنِّي وإن قَرُبُوا ... أحِبَّتِي حبُّهم منِّي كحُرِّ دَمِي فلا أقَرَّتْ يدي كأساً ولا جذَبتْ ... سيفاً ولا لعِبتْ بالرُّمْحِ والقلمِ ولا أسالتْ شَآبيبَ النَّدَى كرَماً ... إن كنتُ وَجَّهْتُ وَجْهِي نحوَ غيرِهِمِ وقوله في كاتب:

أكْرِمْ به كاتباً أفْدِيه بي وأبي ... وثَغْرُه عن ثَمِينِ الدُّرِّ يبْتسِمُ كأنه الشمسُ والقِرْطاسُ في يَدِه ... بدرٌ ومِنْطقة الْجَوْزَا له قَلَمُ وقوله: برُوحِي وأهلِي زَوْرة مِن مُمَنَّعٍ ... عليه تفَانتْ أنْفُسٌ وعيونُ فبات يُرِيني الغُصْنَ كيف انْعطافُه ... وبِتُّ أُرِيهِ الهَصْر كيف يكونُ ومِن دُونِه بِيضُ الصَّوارِم والْقَنَا ... قِبابٌ وأسْتارُ الجمالِ حُصونُ ولكنَّها الأقْدارُ تُسْعِفُ مَن تَشَا ... فيُدْرِكُ ما لم تحْتسِبْهُ ظُنونُ وقوله: أَسْعَدُ الناسِ مَن يرَى ... مِنَحَ الحقِّ في المِحَنْ والرِّضَا منه بالقَضا ... يُذْهِبُ الهمَّ والْحَزَنْ وله في تعزية بين الوفا، ونقلتهما من خطه: يَعِزُّ على لسانِي أن أُعَزِّي ... بساداتٍ همُ رَوْحُ الزَّمانِ وما فُقِدُوا من الدنيا لشيءٍ ... سِوَى أن زَيَّنُوا غُرَفَ الْجِنانِ مصطفى بن فتح الله النحاس لقيته بمصر شاباً ورده نبعي، وكلأه ربعي. وغصن شبابه لدن، وجنة نزهاته عدن. وسألته عن مسقط رأسه، فقال: دمشق البلدة التي لجيرتها على صفحات البدور مراسم، ولترائب تربها عقودٌ من درر المباسم. وهو ممن تميز في الأدب أو كاد، وللرجاء فيه مواعد إذا وفت قيل: تفوق أو زاد. وقد أهدى إلي من نظمه هائية، هاهيه: أما والغِيدِ تخْطِر في حُلاهَا ... وتطلُع كالأهِلَّةِ في سَناهَا وباناتِ القُدودِ إذا أبانَتْ ... برَوْضاتِ الخدودِ ضُحَى جَناهَا وتْغريدِ الصَّوادِحِ في الرَّاوَابِي ... تبُثُّ من الجَوانحِ لي هَواهَا ومَا فَعَل الغرامُ بقلبِ صَبّ ... يصُبُّ الدمعَ صُبْحاً أو مَساهَا ومُرْسَلِ فَتْرَةٍ لم يَنْبُ فَتْكاً ... وآيةِ حَسْرةٍ قلبي تَلاهَا وأوْقاتٍ خلعتُ مع العَذارَى ... عِذارَ العُذْرِ مُعْتنِقاً سبِاهَا لقد أَصبحتُ أمْرَحُ في الأمانِي ... وأنْسَرِحُ انْسِراحاً في رُباهَا وأصْبُو للعيونِ النُّجْلِ عُمْرِي ... وإن هي أغْمَدتْ قلبِي ظُبَاهَا وأرْتشِفُ المَباسِمَ والثَّنايَا ... وأنْتشِقُ المَناسِمَ مِن شَذاهَا ولي قلبٌ بلاَعِجَةٍ تَلظَّى ... وعَيْنٌ دَأْبُها أبداً بُكاهَا وظَبْيٍ في سُوَيْدايَ رَتُوعٍ ... تحلَّى بالمَلاحةِ وارْتداهَا كأن عِذَارَهُ زَرَدٌ نَظِيمٌ ... على خَدَّيْه مِن قُبَلِي حَماهَا رمَى عَمْداً بأسْهُمِ ناظِرَيْهِ ... أصابَ مَقاتِلي لمَّا رَماهَا رَشاً إن شاء يسْتلِبُ الْبَرايَا ... وإن ما شاء رَدَّ لها حِجَاهَا ومَن وَجنَاتُه سَرقتْ لِحاظِي ... فجازاها القطِيعةَ مِن كَراهَا دَرَى أنِّي أحِنُّ إلى لِقاهُ ... فعذَّب مُهْجتِي وعليَّ تَاهَا ولمَّا أن نأَى خلَّصْتُ مَدْحِي ... لخيرِ عصابةٍ من آل طه منها: إليك أخا الفضائلِ والمَعالي ... مَطايَا المجدِ قد حَثَّتْ سُراهَا لك الْباعُ الطويلُ يُرَى مَدِيداً ... ليبْسُطَ وافرَ العلمِ انْتباهَا رَتَعْنا في رياضِك وانْتهلْنا ... مَناهِلَ قلبُ عبدِك ما سَلاهَا أألْسِنةَ الْيَراعِ له اسْتَمِدِّي ... بَدائِعَ مِن مدائحَ لا تَناهَى ويا سُودَ المَراعفِ ضَرِّجِي من ... طُروسِ مَدِيحه الْبِيض الْجِباهَا ويا صُحُفَ المَديحِ نَشَرْتِ عَرْفاً ... له في الخافِقيْن زَكَا صَباهَا ويا نُدْمانَ رَوضتِه أقيمُوا ... بجامعِ فضلِه في مُشْتهاهَا ويا مَن مِن مَآثرِه اسْتزادُوا ... فلمْ يصِلُوا لغايةِ مُنْتهاهَا

ألم يَدْرُوا بما الأستاذُ أوْلَى ... من الآلاءِ إذ شكَر الإلهَا فهل بحرٌ يُرامُ له حدودٌ ... أم الجوزاءُ يُدْرَك مُرْتقاهَا وهل بالفَرْقَدَيْن يُرَى اقْتِرانٌ ... لغير عُلاه إذ هو قد تَباهَى له الشُّعَرَاءُ رَقَّتْ واسْتُرِقَّتْ ... وقد نشَرتْ بِمدْحتِه لِواهَا مَدَحْتُك مُغْضِياً والعُذْرُ أنِّي ... أراك تُقِيلُ عَثْرَة مُصْطفاهَا وتُغْضِي الْجَفنَ عن عَيْبٍ تَراهُ ... وتُسْبِلُ ذَيْلَ سِتْرِك عن خَطاهَا ومَن لي أن أكونَ لذاك أهْلاً ... وأجْلُو عن ضِيَا عَيْنِي قَذاهَا وأن أضَعَ النِّعالَ كعَبْدِ رِقٍ ... وأجْعَلَ كُحْلَ أجْفانِي ثَراهَا ولستُ بشاعرٍ لكن أُرَجِّي ... من الشعراءِ فيْضاً مِن نَداهَا وإنك سيدُ الشعراءِ حَقّاً ... لك البُلَغاءُ قد ألْقَتْ عَصاهَا وإني إن جعلتُ البحرَ نِقْساً ... لِتَعْدادِ المَدائحِ ما كفاهَا كذاك إذا نظَمْتُ الدِّرْعَ عِقْداً ... وإن بالَغْتُ لا أُحْصِي ثَناهَا كمُلتَ مَفاخراً وعلَوتَ ذَاتاً ... جُعِلتُ لذاتِك العُلْيَا فِداهَا فلا زالتْ لك الأمجادُ تَسْعَى ... على الأيامِ باسِطةً جِباهَا السيد عبد الرحمن الجيزي الطباطبي هو من نخبة سراة الأشراف، محله من قريش الروابي المشرفة أتم الإشراف. ورث الشرف جامعاً عن جامع، وازدهت برونق سيادته مواطن ومجامع. وقد جمعتني وإياه الأقدار، في أوقاتٍ أمنت فيها بفضل صحبته وصمة الأكدار. فعرفت وفور فضله، وشهدت كرم ذاته المنبي عن كرم أصله. وكتب يستجيز ذلك بهذه الرسالة، فأجبته سائلاً أن يحفظ الله به حشاشة النفاسة والبسالة. وهذه رسالته: حمداً لمن افترض على كل مسلم محبة أهل البيت، ورفع ذكرهم " في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه " بيتاً بعد بيت. ومنح أمينهم حقيقة السعادة وسهل طريقه إليها ومجازه، وخلع عليه من حلل السيادة خلع إنعامه وجعل مزيد النعم على شكره إجازة. وصلاةً وسلاماً على من آتاه الله جوامع الكلم وزاده مثوبةً وقربا، وعلى عترته الذين لا يكمل إيمان المرء إلا بحبهم وشاهده: " قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ". وعلى آله وأصحابه الألى هذبوا السنة الشريفة فكم خبرٍ منها جا، وكشفوا النقاب عن وجه فضل ذريته واتخذوا ودهم تأليفا ومنهاجا. فلله در تلك البنوة، الذين كفلتهم في حجرها النبوة. فهم للخير نجوم الهدى، ولا يتولى ولادتهم إلا شمس المعارف والاهتدا. وحسبهم فخراً أن لا صلاة كاملة إلا بالصلاة عليهم، وهاك ما رواه البيهقي عن الإمام الشافعي وهو نص مذهبه فيهم: يا آلَ بيْتِ رسولِ اللهِ حبُّكمُ ... فَرضٌ من اللهِ في القرآنِ أنْزَلَهُ كفاكُمُ من عظيمِ القَدْرِ أنَّكمُ ... مَن لم يُصَلِّ عليكمْ لا صلاةَ لَهُ جعلهم الله بركةً وذخراً، وملاذاً دنيا وأخرى. وأقامهم مقام جدهم في رفع العذاب، فوجودهم أمانٌ في الأرض من الخسف والمسخ والإرعاب والإرهاب. وكم من حديثٍ في هذا المعنى ورد عن صادق الوعد الأمين المأمون، وناهيك حديث: " النجوم أمانٌ لأهل السماء، وأهل بيتي أمانٌ لأهل الأرض، فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون ". وحديث: " مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوحٍ في قومه، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق ". فمن أخذ بهديهم ومحاسن شيمهم نجا من لجج ظلمات المخالفة وبالفائزين لحق ورقى الدرجات العلى بجنات النعيم، ومن تخلف عما ذكر غرق في بحر الكفران وهو في نار الجحيم. ولقد سبك الدماميني هذا المعنى، وأتى بنص الحديث ضمنا: لستُ أخْشَى يا آلَ أحمدَ ذَنْباً ... مع حُبِّي لكم وحسنُ اعْتقادِي يا بِحارَ النَّدَى أأخْشَى وأنتم ... سُفُنٌ للنَّجاةِ يومَ المَعادِ ومن خيرهم حبرٌ على أسرار العلوم أمين، وبحرٌ يتدفق بعجائب نظمه ونثره فإذا رمت الإفصاح عن حصر ذلك أمين.

وبرٌّ يطوق أعناق المشارق والمغارب بنفائس درر عقده الثمين، وكشاف أسرار البلاغة بحسن تأويلٍ يظهر الغث من السمين. بل هو رياض أدبٍ أينعت من ينابيع بديع ثمراته الأوراق، وسقت جداول مداد مديد كلمه أغصان روضات قلمه فأخرجت من كل الثمرات ما حلا ورق وراق. فهو الإمام ابن الهمام الذي لا يعلم فضيلة تحقيقه وتدقيقه إلا الأعلم، والخليل الذي نثر لآلىء البيان ونظم. فأهلاً به من مؤرخ أخيرٍ تتلفت إليه وجوه الأعصر الأول، وبخٍ بخ لبراعته التي يبيض سوادها صحف الأيام والدول. من نحا نحو منطقه، وارتضع ثدي معاني بيان بلاغته، كان في اللغة جوهري تنكيتها، بصحاح عبارات يحار من بلاغتها سكيتها وابن سكيتها. يتحدث لسان يراع براعته المخضب بمداد المعاني فلا يمين، ويقسم أنه يبرز دقائقه فيبر تكذيباً لمن قال: فليس لمخضوب البيان يمين. صدر الشريعة بل بحرها الذي يلتقط من ساحل الشام دره، شيخ الطريقة بل برها الذي يجيد صنائع المعروف فعلى الحقيقة لله دره. صاحب إتقان جامعٌ نافعٌ لأهل الرواية بدايته، ومغرب معرب عن أصول الهداية نهايته. محمدي الخصال الثابت غراس أصله في طينة المجد السامي، الثابت المتصل بطيبة ونجدٍ محتده الشامي. وحسبك ما جمع من الفضل والفصل، ونجابة الفرع الدال على عراقة الأصل. كيف لا وهو قطب دائرة الأفلاك العلوية، ومطلع شموس أملاك الدوحة النبوية، وعين أعيان خواص خلاصة البدعة المحمدية، وخير خيار الأخيار من السلافة المصطفوية. أشرف مولى بمناصب حكمه اتصل سند حديثه بالإمام الحاكم، فإذا ما نظر في الأحكام الشرعية كان في الفصل أعدل حاكم، وأجل عالم عامل ولا نكتم شهادة الله " ومن يكتمها فإنه آثم ". وماذا أقول في البيت الذي عمرته بالذكر الحميد أبناؤه، وغمرته بالذكر الحكيم أبناؤه. فتبارك من أظهر من أهله هذا السيد وجعل أغاريب البلاغة لألفاظه مذعنةً طائعة، وأعاجيب صياغة الألسنة عاصيةً سواه وله مطاوعة، وأبرز إبريز المعاني عن ذهنه السليم فأشبه مطبوعه طابعه. فلقد صنف تاريخا وأبدع في تصنيفه، وألف شتات الفضائل وجمع شمل ذكر علماء عصره في تأليفه. فجاء بحراً طويلاً مبسوطا بمداد أمداده ذكر السادة العلماء، محيطاً بكامل أسمائهم، ووافر أنسابهم. حتى صار بأسانيدهم علماً حاوياً لكل قولٍ محرر وجيز، شاملاً لخلاصة المعنى بموجز ألفاظٍ تعرف القادر منه بالتعجيز. لم لا، وقد تكلم فيه عن نكاتٍ يكاد المسموع منها لإشراقه أن يرى، وأتى بجوامع الكلم فكان الصيد كل الصيد في جوف الفرا. يدل على صحة إخبار مؤلفه عن علماء العصر طرا، أنه من أهل البيت أولي العلم والمجد وصاحب البيت أدرى. وينبه البحث باقتدار جامعه على تحقيق خبريته بمواقع الأخبار وتسهيل صعابها، أنه ورث علم هذه الصناعة عن أصله المكي وأهل مكة أعرف بشعابها. فلله من مؤرخ أحرز بالجمع عن الأواخر ما أحرز بالسمع عن الأوائل، وأبرز للجمع عن الأوائل أخاير الذخائر من فضائل الأفاضل. فصوص حكمه مشتملةٌ على أحسن الإشارات، وفتوحات حقائقه جاءت بالتلويحات إلى أفضل المقامات. فكم فيه من تنبيهٍ على كل معنى مستصفى، ومحكمٍ من أحكام الأحكام يهدي تحصيل الشفا من استشفى. وفصيحٍ من القول في إصلاح النطق، يقرب إلى أدب الكتاب، ومهذبٍ من اللفظ الفائق يقطف من روض المديح زهر الآداب. حتى رصع قلائد العقيان في نحر البلاغة مجملا، ونظم عقد درر الصحيحين وغرر الصحاح من نثره ونظمه مفصلا. ففي أبيات شعره قصور مشيدة، وفقر رسائله كل فقرةٍ منها معدودةٌ بقصيدة. وفي عنوان توفيقه قوت قلوب العارفين، وفي محكم إراشاده إحياء علوم الدين. فكسا الله مؤلفه من حلل العلوم ثياباً غير أخلاق، وجعله مجيزاً لكلٍ طالبٍ مروياته بمحاسن الإسناد ومكارم الأخلاق. وبلغه من الآمال والأماني أوفاها وأقصاها، ومد أمد مدته حتى لا يحصرها إلا الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها. لما قد نفعني الله بوجوده، وزاده من فضله وجوده. محروسة مصر القاهرة تشرفت، وبحلول ركابه تزخرفت. وفاح في رباها من روض بهجته نور نشرها الأريج، ورويت من رؤيته بصوب صوابه فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج. وبإشراق كوكب محياه في أفقها وافق الخبر الخبر، وأين السمع من المشافهة ومشاهدة النظر.

أحببت أن أخدمه بأبياتٍ طريحة، عنكبوتية النسج من جهة القريحة القريحة. وأطلب فيها الإجازة بجميع مروياته، إن كان يراني أهلاً لتلقي مستنداته. لأني لم أكن من فرسان هذا المضمار، ولا أهلاً لمعانقة أبكار الأفكار. فلهذا صرت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، وأقول: سلوك طريق الأدب مع مثل هذا الأستاذ أولى وأحرى. لأن مقامه عالي الذرى، وأين الثريا من الثرى. إلى أن رأيت بعض الإخوان ملأوا الأفواه في مدحه بدرر نثارهم، ونصبوا على مدارج سماع ذكرهم بيوت أشعارهم. وظفروا من كنوز المناهج بالسعد المنتظر، ونثروا على عقود جواهره اللآلي والدرر. وقصدوه وهو الغني من هذه الصناعة وهم بالنسبة إليه الفقراء البائسون، فتلقاهم بالقبول وفاح عليهم من رحيق ختام كلامه مسكٌ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وأنزلهم منازلهم في مجالس حكمه، وخلع على أعطافهم من حلل نثره ونظمه. فحملوا على عواتق شكرهم لواء الحمد الأزهر، وخفقت أعلام مدائحهم بثناء الفخر الأبهر. وهم يقولون في دقائق معارفه " إن هذا إلا سحرٌ يؤثر "، وإن فضله كالشمس لا ينكر، وإن ذكره الرفيع أبى الله أن لا يذكر. ثم وردوا علي واحداً بعد واحد، وطلبوا مني أن أستخرج من أبكار الفكر، بنات ذهنٍ مكللاً جيدها بعقود جواهر الفقر. فقلت: لساني يعجز في ترجمته عن بلوغ قدره، ولو قال مهما قال لم يقم بواجب حقه طول عمره. فقالوا: لا سبيل إلا أن تصيغ درر المعاني، عقداً نضيداً يبهر منه لب المعاني. وألزموني الحجة، ولم أر للمندوحة محجة. وقد شرعت فيما راموه، وجادت القريحة بما طلبوه. وقفيت مقاطيع هي عن الغاية كاسمها، وأبياتاً خاويةً ما تساوى الوقوف على رسمها. ولكن على عجزي وقدرته، وقلي وكثرته. أطمع في عفوه أنه ينضد لها من إبريز فضله سلكا، ويقابل أعمى الحظ الذي " عبس وتولى " " وما يدريك لعله يزكى ". وأسأله الصفح عند تصفحها، واستحضار الحلم ساعة يلمحها. وأن يمن عليها بالقبول، والستر الجميل المقبول. وهذه هي هدية العبد المولى، إلى السيد الأمين المولى. أمتع الله تعالى بفضائله التي تزري بالروض النضر، وتملأ أذن السامع وعين المنتظر: بَنُو المصطفَى أصلُ الوجودِ الأماثِلُ ... أكارمُ أهلِ البيت أينَ المُماثِلُ هم الناسُ في صِدْقِ المَقالِ لأنهم ... إذا صَدَعُوا بالحقِّ لم يَبْقَ باطلُ وهم رحمةٌ للعالَمِين وعِصْمةٌ ... وقد بَرْهَنتْ عمَّا أقولُ الدَّلائلُ وهم خيرُ خلقِ الله في الأرضِ نِعْمةً ... هُداةٌ لمن فيها أمانٌ مُواصِلُ ومِن بيْتهم جاءَ الكتابُ مُفصَّلا ... وشَرْعُ رسولِ الله بالحقِّ فاصِلُ أئمَّةُ هَدْيٍ هَذَّب الدِّينَ منهمُ ... إلى أُمَمِ الإسلامِ قومٌ أفاضلُ خُذُوا عنهمُ الحِلْمَ الشريفَ وحدِّثوا ... إلى فضل أهلِ البيت تُعْزَى الفضائلُ لقد عظَّم الرحمنُ في الدهرِ قَدْرَهم ... وأثْنَتْ عليهم بالفَلاحِ الأماثِلُ حُماةٌ سراةٌ لا يُضامُ نَزِيلُهم ... إذا ضَيَّعتْ عهدَ الجِوارِ القبائلُ سَمَتْ بمَعانيهم علومٌ رفيعةٌ ... وطالتْ بهم في الأكْرَمِين الطَّوائلُ ومِن خَيْرِهم حَبْرٌ حَوَى كلَّ سُؤدَدٍ ... حَسِيبٌ نَسِيبٌ أوْصلَتْه الحَمائِلُ أمِينُهمُ السامِي الفخارِ رَشيدُهم ... سَرِيُّهمُ الشَّامِي النِّجار الحُلاحِلُ خِيارُ الكرامِ الشُّمِّ من آل هاشمٍ ... خُلاصةُ أهلِ البيتِ نعْمَ التَّناسُلُ لفاطمةَ الزَّهْرا البَتُولِ انْتسابُهُ ... عَلِيُّ حُسَيْنِيٌّ له الأصْلُ كَافِلُ شريفٌ عفيفٌ مُسْتغَاثٌ مُهذَّبٌ ... كريمُ السَّجايا حازمُ الرَّأْيِ عاقلُ أصيل له مجْدٌ رفيعٌ مُوثَّلٌ ... عَرِيقٌ زَكَتْ أخلاقُه والشمائلُ هو السيدُ المحفوظُ من كلِّ زَلَّةٍ ... وشاهدُه في الذّكُرِ يتْلُوه فاضلُ

أبَى الله إلاَّ أن يكونَ مُطهَّراً ... فأذْهَبَ عنه الرِّجْسَ والفضلُ شاملُ لقد آنَسَ الله البلادَ وأهلَها ... وطابتْ به في الأرضِ مصرُ المناهِلُ وأشْرقتِ الآفاق من نُورِ فضلهِ ... وسارتْ به للسَّاِلكين رسائلُ وشاهَد أهلُ الحقِّ فيه عنايةً ... تَسامتْ بها أفْعالُه والعَوامِلُ تملَّك غاياتِ العلوم فلم يزَلْ ... ضَلِيعاً بأعْباءِ الهُدى منه كاهِلُ عَطوفٌ رؤوفٌ ذو حنانٍ ورحمةٍ ... تشَرَّف بالتوفيقِ منه المُواصِلُ إمامُ الهدَى غَيْثُ النَّدَى مُذْهِبُ الرَّدَى ... عن الناسِ إن صالتْ عليهم صَوائِلُ مُجَلِّي عَماياتِ الضَّلالِ بهمَّةٍ ... مُؤيَّدَةٍ يُصْمِي بها من يُجادِلُ ومُرْشِدُ أرْبابِ القلوبِ إلى الهدى ... بأفْضلِ رُشْدٍ منه تُشْفَى الغلائِلُ ومُسْقِي النَّدامَى من سُلافةِ سِرِّهِ ... شَراباً طَهُوراً للعقولِ يُثامِلُ فقاصِدُ سامِي سُوحِه غيرُ خائبٍ ... يبُثُّ الثَّنا لا يعْترِيه تَشاغُلُ وفي نَفَحاتِ الأُنْسِ عَيْنُ حَقيقَةٍ ... فمن أمَّه نالَ الذي هو آمِلُ تراهُ إذا يمَّمْتَه مُتهلِّلاً ... بأنْواعِ تَرْحابٍ لها البِشْرُ باذِلُ هو البحرُ إن حَدَّثْتَ عن مُعْجباتِه ... ضَعُفْتَ عن اسْتيعابِ ما أنت ناقلُ فأمْواجُه نحوٌ وصرفٌ ومنطقٌ ... ولُجَّتُه التاريخُ والشعرُ ساحلُ إذا صاغ شِعْراً جاء دُرّاً مُنضَّداً ... وخالصُ إبريز المَعانِي سَلاسِلُ هُمامٌ له في كلِّ فَنٍ مُؤلَّفٌ ... بأوْضح معنىً ليس فيه تداخُلُ وألَّف تاريخاً هَمَى جُودُ مُزْنِه ... على عُلَماءِ العصرِ كالغَيثِ هَاطِلُ وأوْدَعَ سِرَّ الجَمْع في طَيِّ نَشْرِه ... ففَاحتْ برَوضاتِ العلومِ الْمَنادِلُ لقد صار كَهْفاً للمشايخ شامِخاً ... بسَاحتِه للطَّالِبين مَنازِلُ وأفْصَح عن فَرْقٍ وجَمْعٍ وهيئةٍ ... به فزَهتْ غَداوتُه والأصائِلُ وأعْربَ عن أسْمائهم وصِفاتِهم ... وأنْسابهم والأخْذِ عمَّن يُخالِلُ وقد صَرَّحَ الأثْباتُ عن خُبْرِه بما ... يُحدِّث عن صِدْق الذي هو قائلُ ومن أعْجَبِ الأشياءِ صِحَّةُ نَقْلِه ... ولم يَرَهُم طُرّاً فكيف التَّواصُلُ وقد حارتِ الأشْياخُ في حُسْنِ صُنْعِهِ ... وكلٌّ لميثاقِ المَودَّةِ حامِلُ ولاَذَتْ به أهلُ الْعَروُضِ لأنه ... خبيرٌ بما قد دَوَّنتْه الأوائِلُ عَلِيمٌ بأقْسامِ الكلامِ مُؤرِّخٌ ... أمينٌ شريفٌ صادقُ الوعدِ عادلُ له شَرَفٌ يسْمُو السِّمَاكيْن رِفْعةً ... وأوْصافُ صدقٍ حار فيها المجادِلُ إمام له في كلِّ عِلْمٍ مَكانةٌ ... بصحَّةِ إسْنادٍ عن الثَّبْتِ ناقلُ وحَسْبُك في تحقيقِ ما أنا ذاكرٌ ... فعَن مثلِه في الناسِ تُرْوَى المسائلُ جميلُ المُحيَّا في نَضارةِ وجهِه ... مَشارِقُ منها تسْتضيءُ المحافِلُ حَمِيد المَساعِي قد تَسامَى مَقامُه ... محمدٌ المحمودُ فيما يُحاوِلُ بِدايتُه في كلِّ علمٍ نهايةٌ ... وما هُنَّ عن نَهْج الحقيقةِ عادلُ أمينٌ على الأسرارِ من دُرِّ كَنْزِه ... أتَى خيرَ ما دَلَّتْ عليه الدَّلائلُ ولا عَيْبَ فيه غير أنَّ سَبِيلَه ... لِسالِكه فيه الهدى والوَسائِلُ

خِيارُ ولاةِ الأمرِ أعدلُ حاكمٍ ... يُقِيمُ حُدودَ اللهِ والحالُ حائِلُ وَقُورٌ صَبُورٌ قلتُ فيه مُؤرِّخاً ... وَلِيٌّ تَقِيٌّ وافِرُ العِلْمِ كاملُ فيا رَبِّ زِدْهُ نِعْمةً وسعادةً ... وبَلِّغْهُ ما يرجُو وما هو آملُ وصُنْهُ من الأسْوَا وحَصِّنْه بالهدى ... وأيِّدْه بالتَّوفيقِ ما دَرَّ وَابِلُ وقائلُها الجِيزِيُّ مولايَ جَازِهِ ... بفضل فمنك الجُودُ للعبدِ واصلُ يُرَجِّي من المولَى الأمينِ إجازةً ... بما جاز أن يَرِْيه فالشَّرْطُ حاصلُ ومن فضلهِ يرجو قبولَ قَريضِهِ ... فقد حَاكَهُ واللُّبُّ بالشُّغْلِ ذاهِلُ سَمِيُّ ابنِ عَوْفٍ للطَّباطِبةِ انْتمَى ... وعُنْصُرُهم للمصطفَى الطُّهْرِ آيِلُ ثِمالِ الْيتامَى الأوَّلِ الآخِرِ الذي ... به افْتخرتْ آباؤُه والقبائلُ عليه صلاةُ اللهِ ما صَيِّبٌ هَمَى ... وأزْكَى سلامٍ مِن سَلامٍ يُواصلُ وآلٍ وصَحْبٍ ما بَدَا قَوْلُ قائلٍ ... بنو المصطفَى أصلُ الوجودِ الأماثلُ وهذا آخر ما انتظم في سلك القصور من مقاطيع أشعارٍ تشعر بعجز مؤلفها، وارتسم في صك العثور على خبايا مختلفها ومؤتلفها. وانتخبته القريحة من بنات فكره العاجز، وذهنه الذي بينه وبين الوصول إلى هذه الصناعة حاجز. ومن بضاعته مزجاة، لفظ لفظة وقيل: ما أنقاه، وسكت ونكث عليه أن فاه. فلذلك ترهبت بنات فكره إما من الخوف فطلبت صفحا، وإما من الكساد فلبست من المداد مسحا. ولكن إذا نظر إليها المولى بعين الرضا وسمع معانيهان جلت سعود السعود ورقى الدراري ذرى مبانيها. فعسى أن يوسم مرابعها بالوسمي ذلك الولي، ويجلي سواد حظها بنور فهمه الجلي. ويلحظها بلحظةٍ من لحظاته، ويعيد النظر في وهن عباراته، ويعودها بعائد صلاته. ويعيرها لمعةً من سواطع بديع جماله، ويتصدق عليها من زكاة أقواله. فإنها فقيرةٌ من فقر السجع نظما ونثرا، تاليةٌ و " سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً ". فرحم الله امرأً تطلع على عيبٍ فيها فستر، وآمن خوفها بحسن القبول والنظر، وعمل بقول أمير المؤمنين الشهاب ابن حجر: يا سيِّداً طالِعْهُ ... إنْ راقَ مَعْناه فعُدْ وافْتَحْ له بابَ الرِّضا ... وإن تَجِدْ عَيْباً فَسُدّ وها لسان اليراع يقول، راجياً حسن القبول: يا مَن دُعِي بيْن الورَى ... بأمينِ أسْرارِ الجليلْ انْظُر إليها بالرِّضا ... ثم اصْفَح الصَّفْحَ الجميلْ وقد آن للقلم أن يخلع ما اسود من بروده، ويرفع رأسه من ركوعه وسجوده. وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وشيعته ومحبيه وحزبه. وهذا جوابي إليه: أحمد من يجيز آمله، ويجيب بالقبول سائله وأنا سائله، به أعتضد وآمله. عليه أعتمد مستخيراً به وهو لا يندم مستخيره، ومستجيراً بعفوه وهو لا يخيب مستجيره. وأصلي على نبيه صاحب الرسالة المؤبدة، ومشرع الملة الباقية على الدهر والطريقة المؤيدة. أطهر الخلائق عنصرا، وأكرمهم خبرا ومخبرا. الباني بيوتاً علت شرفاتها، والناهج طرقاً سعدت غاياتها. وعلى آله خير آله، وأصحابه السعدا في المبدأ والمآل. ما روى راوٍ حديث فضلهم الحسن، وسعدت ببث محامدهم ألوا الفصاحة واللسن. وبعد؛ فلما تشرفت برؤية من كنت أود قربه، وأتخذ ولاه قربةً وأكرم بها من قربة. السيد الذي ابتهجت ببراعته الدنيا، ونزلت سيارة محاسنه بين السند فالعليا. عبد الرحمن الجيزي وفر الله من كل فضيلةٍ حظه، ولا أعدمه تتابع الزيادة ما أدار في نفيسه لحظه. تنتهي كليته حيث ينتهي ذكره، ويأتيه مناه فوق ما يناجيه فكره. وبقي ما بقيت الخضراء تظله، والغبراء تقله، والآراء تحترمه وتجله. فأعاد لي الدهر برؤيته الأثر عينا، ووفت لي الأيام بلقياه في ذمتها دينا.

ورأيت ما رأى النبي من زيد الخيل وحبيبٌ من أبي سعيد، فأنا إذا شاهدت طلعته أستفيد من العلى وأستزيد، ويزيد في إذا رأيته للثناء خلقٌ جديد. فأستجلي أخلاقاً عذبة المذاق، وطباعاً مفصحة عن كرم أعراق. إلى لطافةٍ تؤلف بين الوحشة والإيناس، وسيرة نظرت بها في سيرة ابن سيد الناس: فإن يَكُ مِن جِدٍ أتاهُ فإنَّه ... تَوارَثُه آباءُ آبائِه قَبْلُ وهل يُنْبِتَ الْخَطِّيَّ إلاَّ وَشِيجُهُ ... وتُغْرَسُ إلاَّ في مَنابِتِها النَّخْلُ وناهيك بشرف بيتٍ أسباب السيادة عمده، وفخرٍ لا يستوفى على أمد الأزمنة أمده. وقبيلٍ كريمةٍ فصيلته وشعوبه، ومحتدٍ كالرمح مطردةٍ أنابيبه وكعوبه. ضربت عليه السيادة سرادقها، وتفوح الشرف هام فروعها وباسقها. متصل خبرها المرفوع صحت أسانيده، ومرسل سيرها المقطوع به سلسلة رجاله الثقات وصناديده. فيا لها من سلسلةٍ إذا تحركت أخبارها في المحافل، علم أنها سلسلة قومٍ يقادون إلى الجنة بالسلاسل. ولعمري إن هذا السيد العظيم، حل من هذه النسبة الشريفة في صميم الصميم. فله بين السادة، صدر الوسادة. ومحله في الرجاجة، محل الرونق من الصباحة. رقي من الفضائل ذراها، وتمسك من المحامد بأوثق عراها. وخطب عرائس الكرم والوفاء، فبنى عليها بالبنين والرفاه. وهو في البراعة واليراعة أمثل القوم، بل هو المنفرد فيهما من عهد نشأته سقاها عهد الغمام وإلى اليوم. أحرز القصب إذ دأب، فكان أقل محرزاته أكثر الأدب. يفسح للبيان مجالا، ويوضح منه غرراً وأحجالا. ويشتار من جناه عسلا، ويهز من قناه أسلا. فإذا نسب انتسبت إليه الرقة، وفاز من اللطاقة بمرتبةٍ للنهى مسترقة. وإذا مدح اقتضب بعض صفاتٍ منه، ونعتها بنعوتٍ من الكمال تخبر عنه. وقد اتحدت معه اتحاد روحٍ بشبح، وتمتعت من مفاكهته بملح تطرفتها وسبح. مراعياً من حق النسبة ذمةً وإلا، وليس في محاسن تودده ما يستنثى بإلا. فشرفني لا زال شرف السادة شادخاً في يمينه، وقلم البراعة راكعاً وساجداً في محراب يمينه. برسالةٍ أخملت الخمائل، وعلمت الصبا لطف الشمائل. عرضها في حلي البيان، ونقشها في فص الزمان، ليختم بها الإحسان. وضمنها قصيدةً في مدح السادة الطهر، ألمع فيها بمناقب كالشمس وقت الظهر. فما ترك في بيت، توهماً للوٍ وليت. كيف وهم ممن لهم البيت والمقام، وإذا أخذ أحدهم القرطاس تسابقت إليه الدوي والأقلام. ولما اجتليت تلك البكر، أعملت في محاكاتها الفكر. فأدركني عن لحاقها التقصير، وعلمت أنه لا يجارى بحرها الطويل فعمدت إلى البحر القصير. وإني وإن قصرت فما قصرت، وإن اختصرت فلغصن تلك الشجرة اهتصرت. وغاية البليغ أن يعترف بالقصور في هذا الشان، ويعلم أن مدح بني المصطفى شرف المكان والزمان: حَقّاً بنُو المصطفىْ الأماثلْ ... ما إنْ لهم في العُلَى مُماثِلْ أهلُ الثنا عند كلِّ مُثْنٍ ... أخبارُهم بَهْجةُ المَحافلْ أسماؤُهم للعُلَى حُروزٌ ... من أجْلِ ذا كلُّها حَمائِلْ أقمارُ حُسْنٍ تُضِيءُ لكنْ ... لها قلوبُ الورَى مَنازِلْ إن أعْوَزَ الآملين أمْرٌ ... كانوا لها أنْفعَ الوسائلْ من كلِّ طَلْقِ الجَبِينِ سَمْحٍ ... تُثْقِل نَعماؤُه الكَواهِلْ يُحاربُ العُسْرَ منه شَهْمٌ ... على العدى بالنَّوالِ صائِلْ والكلُّ فَضْلٌ بلا انْتهاءٍ ... والفضلُ ما أنْتَج الفضائلْ منهم حَسِيبُ الزمانِ فَرْدٌ ... أرْبَى على السادةِ الأوائِلْ مُمْتَدُّ باعٍ إلى المَعالِي ... وفي بُرودِ الكمال رَافِلْ من كاملِ المُنْتقَى لَدَيْهِ ... في ثَنْيِ بُرْدَيْهِ ألفُ كامِلْ ذو منطقٍ لو يرُوم قُسٌّ ... يحْكِيه أعْيَى فصار باقِلْ يُبْدِي إذا نظَّم القوافِي ... سِحْراً به تَمَّ أمرُ بابِلْ يَراعُه إن سَقاهُ نِقْساً ... فالطِّرْسُ يُغْنِي عن الخمائِلْ والعَنْبَرُ الرَّطْبُ من لَهاهُ ... يقْذِفُه البحرُ للسواحِلْ

الباب الثامن في تحائف أذكياء المغرب

أهْدَى لنحوِي عَرُوبَ نَظْمٍ ... تزْهُو من الحسنِ في غلائِلْ أعْيَتْ على القائلين حتى ... لم يَبْقَ قولٌ بها لقائلْ مولايَ دُمْ في الورَى تُحَلِّي ... بالدُّرِّ جِيدَ المُنَى العَواطِلْ واعْذِرْ مُشَتَّ الخيالِ صَبَّاً ... بالرَّغْم من أرضِ مصرَ راحِلْ لولاك ما جادَ منه فكرٌ ... لم يحْتمِلْ مِنَّةَ الصَّياقِلْ واسْلَمْ مَدَى الدهرِ في نعيمٍ ... يبْقَى ببُقْياكَ غير زائلْ وقد أمرتني أن أجيبك وأجيزك، وأوزان بمثقال كلمي الحديد إبريزك. فتحيرت بين أمرين أمرين، ووقع ذهني السقيم بين داءين مضرين. إن فعلت ما أمرتني به فما أنا من رجاله، ومن أنا حتى أحرز شوطاً في مجاله. كيف والميلاد قريب، والسن قد أخذت من الصنب بنصيب. والرؤية ما تنقع الغلة، والرواية دون القلة. وإن منعت أسأت الأدب، وفوت من حسن الطاعة الأرب. ثم ترجح عندي الامتثال، وأجبت سائلاً منه تعالى توفيقي لصالح الأعمال. وأجزتك بجميع ما تجوز لي روايته، وتصح عني درايته. من مسموعٍ ومأثور، ومنظومٍ ومنثور. وإجازةٍ ومناولةٍ، ومطارحةٍ ومراسلةٍ، وقنلٍ وتصنيفٍ، وتنضيدٍ وتفويف. ولي بحمد الله رواياتٌ كثيرة، وأسانيد كالشمس راد الضحى منيرة. وأما مشايخي فلو كنت من شرح أحوالهم أنتصف، لقلت إن صحيفة العمر تضيق فيهم عما أصف. فذكرتهم سرداً لأن مثلي مقنوعٌ منه باليسير، ومعذور في قصر الباع وضعف المسير. وأي نسبٍ بيني اليوم وبين زخرف الكلام، وإجالة جياد الأقلام، في أوصاف الأعلام. بعد أن حال الجريض، بين الإنشاء والقريض، وشغل الجسم المريض. واستولى الكسل، ونسلت الشعرات البيض كأنها الأسل. تروع بمرط الحيات سرب الحياة، وتطرق بذوات الغرر والشيات عند البيات. والشيب الموت العاجل، وإذا ابيض زرعٌ صبحته المناجل، والمعتبر الآجل. وأسأل الله تعالى مفيض الآلاء أن يستعملني وإياك فيما يرضيه، ويلطف بنا وبالمسلمين فيما يجريه من أحكامٍ ويقضيه. ويجعلنا ممن ختم له بالحسنى، ويقربنا ممن جعل لهم المقام الأسنى. وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. الباب الثامن في تحائف أذكياء المغرب العُذر في تأخير هذا الباب واضح، كما أن فضلَ من ذكرتُه فيه لفضل غيرهمِ فاضِح. فإن شمسَ الأدب عندهم إيداعُها، وإن كان من نُوِر أسِرَّتهِم ظهورُها وابتداعُها ولهذا قيل: الغربُ خيرٌ وعند ساكنِه ... أمانةٌ تقتضِي تقدُّمَهُ فالشرقُ مِن نَيَّريْهِ عندهُم ... يُودِع دِينارَه ودِرْهَمَهُ وقد ذكرتُ من أهلهِ طائفةً ملأُوا بمَحاسنهم ما بين المغرب والمَشْرِق، ونَوَّرُوا ما بين البَسيطة والسّما بنورِهم المُشْرِق. فمنهم: علي بن الأَوْجَلِيِّ هُو من قَلْب سَلْطنةِ أوْجَلةَ الصَّمِيم، وراعِي عَرارِها الفائِح نَشْرُه والشَّمِيم. صاحبُ القول المُعْجِب المُغْرِب، الذي لم يَضُمَّ مثلَه المشرقُ والمغرب. كان نازعَهُ المُلْكَ ابنَ عَمٍّ له تغلَّب عليه، وكاد بقُّوَّةِ مالِهِ وأخْيالِه يسُوق الحَتْفَ إليه. فخرَج من دارِ مُلْكِه تَتراماه البلادُ تَرامِيَ الكُرةِ بالصَّوْلجان، وتزهُو به زَهُوَ الأيَّامِ بالنَّوْرُوزِ والمِهْرَجان. يُفاوِحُ زهرَ الرُّبَى مَسْراه، ويُنافِح نسيمَ الصَّبا في مَجراه. فإذا حَلَّ بنَادٍ اسْتقبلتْه الهَشاشة، وفُرِش له بين الذِّمَاء والحُشاشة. فمن أوْجلةَ الغَرْب إلى مصرَ إلى دِمَشْق إلى حلَب، وبها حَطَّ رَحْلَه على وَفْقِ ما اقْتَرح وطلَب. قال العُرْضِيُّ: فكتب إليه من كلمة طائيَّة: بُرُوقٌ أطالتْ من سَلاسِلها السَّقْطَا ... فها مِجْمَرُ النُّوَّارِ قد ضَوَّع القُسْطَا وفرَّخ في كَانُونِ قلبي سَمَنْدَلُ اشْ ... تياقِي لجيرانٍ أناخُوا بذي الأرْطا سقى الْبارِقُ النَّجْدِيُّ لا بارقُ الحِمَىوحَيَّي الْحَيَا من أَدْمُعِي الدُّرَّةَ الْوُسْطَى مَرابِعُ للغِزْلانِ كانتْ فأصبحتْ ... مَراتِعَها تَرْعَى بها الأثْلَ والخَمْطَا

يذُودُون عن رِئْمٍ هناك مُشَرَّدٍ ... ومِن عادة الآرام تعْطُو ولا تُعْطَى ولم أنْسَ إذْ عاطَيْتهُ أكْؤُسَ الهوى ... وبات يُعاطِيني رُضاباً بلِ اسْفَنْطَا وقام بلالُ الخالِ في صُبحِ جِيدهِ ... يُراعِي ثُرَيَّا قَرَّطُوه بها قُرْطَا بجِيدٍ مَسَحْتُ الدَّمْعَ فهو ابنُ مُقْلَةٍ ... تَناوَل طُوماراً وأعْجَمَه نَقْطَا لقد طَرَّزَ الرَّيْحانُ صَفْحَة خَدِّه ... طِرازاً على يَاقُوتِ وَجْنتِه اخْتَطَّا ثلاثٌ غدَتْ أمْضى شَباً من شَبا الْقَضَا ... وأجْرَى من الأقْدارِ في الحُكْمِ بل أسْطَى لَواحِظُ مَن أهْوَى وسيفُ ابنِ طالبٍ ... وأقْلامُ مولانا عليَّ إذا خَطَّا قد انْعَقدتْ للكاتِبين أناملٌ ... على أن باديه بباديه ذي الأَنْطَا ومَن رام في دُنْياه شَقَّ عَصاهُمُ ... فذاك الذي رام القَتادةَ والخَرْطا رَبيبُ سَرِيرِ المُلْكِ دُرَّةُ تَاجِهِ ... ومُوسَى زمانٍ ناصرٌ يُضْعِف القِبْطَا سقَى مِن يَراع العِلْم كلَّ قريحةٍ ... كما أن موسى مِن عصاه سَقَى السِّبْطَا لقد أطْلَعْتُه الغربُ شمسَ مَعارفٍ ... بأعْتابِه رَحْل الأفاضِل قد حَطَّا أمولايَ فكرِي مثلُ جسمِيَ صائمٌ ... عن الشِّعْرِ مذ رَبْعُ الحبيبِ به شَطَّا ولكنه لمَّا اسْتَهَلَّ هِلالُكم ... وكان له عِيدا سَلا الرَّبْعَ والشَّحْطَا وهاتيك أقلامي بدَتْ بمَدِيحكم ... وقد يظْهر التَّنْويرُ في الشَّمْعِ إن قُطَّا ورِفْعةُ ذِكْراكم بِشعْرِي توثَّبتْ ... فَعَفْواً لقد يُكْسَى شبابُ الفتى وَخْطاَ فأجاب، وتأخَّر الجواب إلى العيد، فضمَّنه تهنئةً به، فقال: غَدا لفُراتَ الرِّيق عارِضُه شَطَّا ... فباهَى مَقامات الْحرِيري وإسْفَنطَا وأنْبتَ في نار الخُدُودِ شَقائقاً ... وكيف ترى في النارِ نبْتاً ولو خَمْطَا وراعَى بِلَحْظِ الخدِّ بَاناً وقال لا ... تقولُوا مُراعاةُ النظيرِ من الإِبْطَا وسَالِفُه مَعْ ظَلْمِه بجهالةٍ ... يقول صِفُونِي بالشُّعورِ وما أخْطَا غزالٌ ولكن كيف ينْشَط طَرْفُه ... لقتْلِيَ وهُو الفاترُ الكاسِلُ الأَبْطَا على خَدِّه خالٌ به عُرِفَ الهوى ... ومن نُقْطِ شكلِ الحرفِ قد تعْرِفُ الخَطَا وفي ثَغْرِه الأحْلَى وفي صَلْدِه أرَى ... مُداماً مُصَفىًّ كالزُّلالةِ والحَوْطَا الحوط: لَوح من الذَّهب مكتوبٌ تضَعُه المرأة على صدرها. بروُحي فتىً أفْنَى بقتلِيَ رَهْطَهُ ... ومَعْ قَوْلهم بالقتلِ أكْرمهم رَهْطَا قَضَوا بِتلافِي في شريعةِ قَدِّهِ ... وكيف وفي الشَّهباءِ أقْضَى الورَى الأحْطَا هو السِّيدُ العُرْضِيُّ أعني محمداً ... إمام الهدى بل والنَّدَى العالِمُ الأَعْطَا أخو العلم بالمعقول أمّا ذكاؤُه ... فباهَى به اليُونانَ والرُّومَ والقِبْطَا وذو الحِفْظِ للمنقولِ أمّا نُصوصُه ... ففاق بها مَن حَصَّل الفِقْه والحلْطَا الحلط: كتاب في مذهب الإمام مالك، رحمه الله تعالى. به الجهلُ وَلَّى والعلومُ بِحَلْقِه ... كأمْواجِ بحرٍ قد تكنَّفتِ الشَّطَّا بحيث تَرَى جَوْزَ العلوم ونَسْرَها ... تلاها كخَود إثْرَها جَرَّتِ المِرْطَا وكان كثيراً ما يَلْهَج بذكرِ أوْجَلَةَ مُنْتَجَعِ شبابِه، ومُرْتَبَعِ أحْبابِه. فأنشدني هذين البيتَيْن، فأعجبتْني رِقَّتُهما، ولم أدْرِ هل هما له أم لا فخمَّسْتُهما وهما والتَّخْميس: بشَمْعَةِ كافورٍ من الجيدِ قد أضَتْ ... لَيالٍ برَيعانِ الشَّبابِ قد انقضَتْ

فلو قلت ما يُبْكِيك قلتُ كما قَضَتْ ... لَيالٍ وأيّامٌ تقضَّتْ أو انْقضَتْ فسالتْ لنا من ذِكرِهنّ دموعُ رعَى الُله عَيْشاً قد قطَعْناه غِرَّةً ... بدارٍ يُناغي طَيْرها القلب سُحْرَةً أدِرْ خمرةً وأنْشِدْ لتُطْفِيءَ جَمرة ... ألا هل لنا عَوْدٌ من الدهر مَرَّةً وهل إلى وَصْلِ البلادِ رُجوعُ ومن خَرائِد مِدَحِه، وفرائدِ سُبَحِه، ما امتدح به حضرةَ الأخ العزيز، يعني أبا الْوَفَا تراءتْ لعينِي وهْي بالشَّعْرِ تُحْجَبُ ... فخِلْتُ شُعاعَ الشمسِ يعلوه كوكبُ مَهاةٌ رعَتْ حَبَّ القلوبِ فما لها ... تَرُوعُ نِفاراً وهْي للإنْسِ تُنْسَبُ وكلَّمتِ الأحْشَا بمُوسَى لِحاظِها ... فأصبحتُ منها خائفاً أترقَّبُ وعذَّب قلبي دَلُّها بنعِيمِها ... ولم أدْرِ أنِّي بالنعيم أُعَذَّبُ وأبدلْتُ دمعَ العينِ في الخدِّ جوهراً ... ألم تَرَهُ بالهُدْبِ قد صار يُثْقَبُ وبي ساحرُ الأجفانِ أمَّا قَوامُه ... فلَدْنٌ وأما ثَغرُه فهو كوكبُ أعَدْ نَظَراً في خدِّه وعِذارِه ... ترى عَسْجداً باللازَوْرَدِ يُكَتَّبُ فَوَجْنتُه والثغْرُ نارٌ وكوكبٌ ... وطَلْعَتُه والشَّعْر صبحٌ ومغربُ كأن بها النِّسْرِينَ أقداحُ فِضةٍ ... بِتبْرِ المُحَيَّا للمُحَيَّا تُذَهِّبُ كأن بها الرِّيحانَ نقش أناملٍ ... تُطرَّفُ بالِمسْكِ الذّكِي وتخضَبُ كأن بها سَيْبَ الِمياه مَسائلٌ ... يُقرِّرُها العُرْضِيُّ والناسُ تكتُبُ إمامٌ وأعْنِيه المُسمّى أبا الوفا ... على أنه في العلمِ بحرٌ يُشَعَّبُ فَقِيٌه أُصُولِي مَنْطِقي مُتكلِّمٌ ... بَيانِي عَرُوضِيُّ وصُوفِيٌّ مُعْرِبُ له الْبَاعُ في التفسيرِ ضاهَى ابنَ عاَدِلٍ ... وحيث روَى الأخبارَ تدْعوه يَحْصُبُ إذا انْسابَ في تَقْريرِ نَصٍ تَرادَفتْ ... له فِكَرٌ كالوحْي أو هِيَ أقْربُ أقام صلاةَ العلمِ في مسجدِ الذَّكا ... ومِنْبَرُه الإدْراكُ والفهمُ يَخْطُبُ فصَانَ عن الجَهْليْن كُلَّ ثَنَّيةٍ ... وكيف يفوُهُ الجهلَ والعلمَ يطْلبُ وما كلُّ مَن ألقَى النُّصُوصَ مُحقِّقٌ ... ولا مَن نَضَا سيفَ الدّرايةِ يضْرِبُ جليلٌ له وَجْهٌ تهلَّل بالْحَيا ... كما انْهَلَّ من كَفَّيْه بالجُودِ صَيِّبُ وغَيْثٌ له في كلِّ أُفْقٍِ مَواهِبٌ ... تكادُ بها الأرضُ الجَدِيبةُ تُخْصِبُ أيا عالمَ الشَّهْبَاءِ يا كاملَ الورَى ... كما أنْت من كلِّ الكمالِ مُركَّبُ لك الُله يا مولايَ من عالمٍ غَدَا ... يَلينُ ويَسْطو فهْو يُرْجَى ويُرْهَبُ توفَّرْتَ جُوداً واسْتفضْتَ مَكارماً ... فأيْقَنْتُ أن الشُّهْبَ بالغَيْثِ تُسْكَبُ وحرَّكْتَ من اسمِ المكارمِ ساكناً ... لأنك بالأفْعالِ للفضلِ تَنْصِبُ سَجِيَّةُ آباءٍ كرامٍ وَرِثتْهَا ... وفِقْهٌ به للشافعيَّةِ مَذْهَبُ ونَحْوٌ به للفارِسِيِّ تَرَجُّلٌ ... ونُطْقٌ به للمَنطقيٍّ تأدُّبُ فدُمْ كاملَ العَلْيا فسَعْدُك مُشْرِقٌ ... وعَزْمُك منصورٌ وجَدُّك أغْلَبُ وشَانيكَ مَفْقُودٌ وأنت مُؤيَّدٌ ... وبابُك مقصودٌ وأنت مُحَبَّبُ ومما امْتدح به واسِطَة قِلادةِ العِلْم الشريف، المرحوم الشِّهابِيّ أحمد بن النّقِيب، طاب ثَراه:

قُمْ زَوِّجِ ابنَ غَمامٍ بنتَ زَرْجُونِ ... واجْعَلْ شُهودَك من وَرْدٍ ونِسْرِينِ فخاطِبُ الطيرِ نادَى في مَنابرهِ ... حَيَّ على الرَّاحِ ما بين الرَّياحينِ والرِّيحُ جرَّتْ على الأغصانِ إذ نصبتْ ... ذَيْلاً فأعْرَب عن مَدٍّ وعن لِين والرَّوضُ زَفَّ عروسَ الزَّهْرِ في حُلَلٍ ... قد أُبْرِزتْ بين تَدْبيجٍ وتلْوينِ والطَّلُّ يكتُب في طِرْسِ الرِّياضِ فهل ... أبْصَرْتََ خَطَّاً بلا حَدْس وتخْمينِ فاستجلِ بِكْرَ مُدامٍ زانَها حَبَبٌ ... كَلُؤْلُؤٍ من نَفِيسِ الدُّرِّ مكْنُونِ معْ غادةٍ لو بَدَا كافورُ مَبْسَمِها ... للشمسِ لاحْتجبتْ في عَنْبرِ الْجُونِ قد رَفَّ ماءُ الْحَيا في نارِ وَجْنتِها ... كالوَرْدِ رُشَّ عليه ماءُ نِسْرينِ تظلَّمتْ مُقلتاها وهْي ظالمةٌ ... فطَرْفُها فاتِنٌ في شكلِ مَفْتونِ بِي غادةٌ قَدُّها كالزَّهْرِ في تَرَفٍ ... والبدرِ في شَرَفٍ والغُصْنِ في لينِ سَنَّتْ لِحاظاً رأتْ قتلى فَرِيضتَها ... فمِتُّ منها بمفْروضٍ ومَسْنونِ أرجو لِقاها وأخْشى صَدَّها أبداً ... فلم أزَلْ بين مسرورٍ ومَحزُونِ يا نَسمْةً علَّلَتْ قلبي بصحَّتِها ... إذ حدّثتْ عن صَبَا جِيرانِ جَيْرونِ ما للذي سلَبتْ عقلي محاسنُه ... أضْحَى يُحذَّرني من حيث يُغْرِينِي وما لِبدرِ سَناءٍ فاق واضِحُهُ ... أضَلَّنِي بالذي قد كان يَهْدينِي هَبْ أنكم قد نَصحتُم كيف أقْبلهُ ... والبُعْدُ يَقْتلني والقربُ يُحْيينِي منها في المديح: شهابُ أُفقِ سماءِ السُّحبِ تحسَبُه ... شُهْباً تُكَفُّ به أيدِي الشياطينِ ومما امتدح به المنلا المدعو: بحاج حسين البَغدادِي، ّوهو رجل ذو ذَوق: نَبَّهَ الوَسْنانَ تَغْريدُ الحمامْ ... في ذُرَى الدَّوْحِ وقد فاح الخُزامْ ويَدُ الصبحِ من الأُفقِِ بَدتْ ... بِمياهِ الضوءِ في شكلِ الظَّلامْ وروَى في الأَيْكِ أخبارَ الهوى ... بُلْبُلٌ عن عَنْدَليبٍ عن إمامْ فيه أن العندليب هو البلبل، ولا معنى لرواية الشخص عن نفسه، إلا أن يُحمل على أشخاصِ نوعٍ واحد، روى بعضُها عن بعض، كما هو واقع في أشخاص النوع الإنسانِيّ. ولَوى الظلُّ على خَدِّ الضُّحَى ... سالِفاً حامَ على الأصْداغِ سَامْ وانْتضَى في الجوِّ سيفَ البَرقِ من ... غِمْدِه المَرْقوم من وَدَقِ الغَمامْ فتَسايَرْ مَعْ نجومِ الصبحِ في ... فَلَكِ اللهوِ وخُذْ واعْطِ المُدامْ لَهَفَتْ فهي هواءٌ وصفَتْ ... فهي ماءٌ أشعِلتْ فهْي ضِرَامْ قابَلَ الساقي بها وَجْنَتَهُ ... ليُرِينَا أنها منها تُقامْ يَقْرُب منه قولُ يزيد: دَعَوتُ بماءٍ في إناءٍ فجاءَنِي ... غلامٌ بها صِرْفاً فأوْسَعْتُه زَجْرَا فقال: هي الماءُ الْقَراحُ وإنما ... تجلّى له خَدِّي فأوْهَمك الخَمْرَا وأحْسَنُ مِنه قولُ ديكُ الجِنِّ: مُشَعْشَعٌَ مِن كَفِّ ظَبْيٍ كأنَّما ... تَناوَلها مِن خَدِّه فأدارَها عجباً فيها قرأنا عبساً ... في احتساها وهي منّا في ابْتسامْ من قول الناشِيء: تأتيكَ ضاحكةً وأنتَ عبوسُ وما أحسن ما ختم القصيدة بقوله في الدعاء للممدوح: وابقَ ما الرّوضُ تلت أزهارُه ... سُورةَ الفَتْحِ على سَمْعِ الكِمامْ قوله: " ولوى الظل " البيت من قول ابن النّبِيه: تبسَّم ثَغْرُ الرَّوضِ عن شَنَبِ القَطْرِ ... ودَبَّ عِذارُ الظِّلِّ في وَجْنةِ النَّهْرِ ومما امتدح به بعض البغداديين الأعيان: أَلسُهْدِ عيني في الهوى إغْفاءُ ... أم هل لنارِ جَوانحِي إطْفاءُ

يا مُتلفي بِسهامِ مُقْلتِه التي ... فيها الدَّواءُ ومِن دَواها الدَّاءُ أنْتَ الطَّبِيبُ وأنت دائي فاشْفِ ما ... عمِلتْ بقلبي المُقْلةُ الوَطْفاءُ أمُعنِّفِي في حُبِّ بدرٍ مُشْرِقٍ ... قسَماً لأنتَ العاذِلُ العَوَّاءُ ومِن الجهالةِ أن تُعنِّف من يَرى ... أنَّ المَلامَ على الهوى إغْرَاء بي مَن إذا ما لاح فالبدرُ انْجَلَى ... وإذا مَشَى فالصَّعْدَةُ السَّمْراء إن ضَلَّ قلبُ الصَّبِّ فيه بشَعْرِه ... فلقد هَوَتْهُ الطَّلْعةُ الغَرَّاءُ يسْعَى بِراحٍ في زُجاجتِه التي ... جَمَدَ النُّضارُ بها وقامَ الْماءُ أصلُ المِصْراع الأخير للمُتنبِّي، إِّلا أنه غيَّر بعضَ كلماتِهِ، وتصرَّف فيه تصرُّفاً حسناً على سبيل التَّضْمين، وسلَخه عن مَعْناه الأصْلِيّ. وبيتُ المتنبِّي هو قوله: وكذا الكريمُ إذا أقام ببَلْدَةٍ ... سال النُّضارُ بها وقام الماءُ رَاحٌ يطوف بها الحسانُ لذاك قد ... صَلَّتْ لِقِبْلةِ دَنِّها النُّدَماءُ رَقَّتْ ورَقَّ الكأسُ فامْتزجَا فلمْ ... تُعْلَمْ وحَقِّك أيُّها الصَّهْباءُ أصلُه قولُ الصَّاحب ابن عَبَّاد: رَقَّ الزُّجاجُ ورَقَّتِ الخَمْرُ ... وتشابَها فتشاكَلَ الأمْرُ فكأنَّما خمرٌ ولا قَدَحٌ ... وكأنما قَدَحٌ ولا خمرُ ومنها في المديح: قد قُلْتُ فيك بَدِيعَ شِعْرٍ فاق أن ... تَرْقَى إلى حُجُراتِهِ الشُّعَراءُ ولم يزل صاحبُ الترجمة مُقِيماً بحلب نحوَ العام، يمدح عُيونَ أعيْانها، ويسْتَدِرُّ برِقَّةِ شِعره رقيقَ لُبانِها. حتى رَمَتْه قِسِيُّ الأقْدار، إلى أرضِ العراق وَجوْبِ هاتيك القِفار. ونزل منها بدارِ السَّلام بغداد، وتزَوَّدَ من مَقامات الأولياء هناك أَطيبَ زاد. ثم منها إلى البصرة، وورَد من أميرها ابنِ أفْراسياب أكْرمَ حَضْرة. فَلِقيهُ بمديح غِبَّ مَدِيح، وروَى عنه خَبر واصِل بن عطاء خَبَرَاً مُسَلْسَلاً صَحيح. هذا ويدُ التَّأْميل تَعْرُك آذانَ عَزْمتِه، وتُوقِظ نارَ وَقْدٍ في ليل الاْغتراب من هِمَّته. والمرءُ ما أرْضى أمانِيه ... ينْقاد من لَغَبِ إلى جَهْدِ وتقول له بلسان الحال: أَحْدِث سَفَراً تُحْدِث رِزْقاً، ولم يَجْنِ ثمرةَ المأمول مَن لم يجْعل ثَنيَّاتِ الفَيافي لها دَرجاتٍ ومَرْقَى. فطار طَيَرانَ الرُّخِّ إلى رُقْعةِ خُراسان، فحوَّم بالنُّزُولِ على أصْفَهان، التي هي حضرة شاه العجم الآن. فما أحقَّه بقول الشاعر: خليفةُ الخِضْرِ من يَرْبَعْ على وطَنٍ ... يوماً فإن ظُهورَ الْعِيسِ أوْطاني وما أظُنُّ النُّوَى تَرْضَى بما صنعتْ ... حتى تُبَلِّغَني أقْصَى خُراسانِ وقد شرح ما عاناه من التَّمرُّغ في عَطَن الاغْتراب، وتقسُّم حاله بين الاكْتئاب والاضْطِراب، في قافِيَة قافِيَة، حيث يقول: لا وبَرْدِ اللَّمَى وحَرِّ الفِراقِ ... ما لقبي من لَسْعةِ البَيْنِ رَاقِي كيف يخْفى حَلِيفُ بَيْنٍ وشَوْقٍ ... صَيَّر الجَفْنَ دائمَ الإغْراقِ يا زماناً مع اسْمِنا في خلافٍ ... ومع اسْمٍ نَقيضِه في وِفاقِ أراد أن اسمَه عليّ، ونقيض اسمه دَنِيّ، والدهر شأنهُ عنادُ الأعالي ووُدُّ الأدانِي، أو أن الدهرَ بَخَس حَقَّ أوِّلِ من تسمَّى بهذا الاسم، أعني الإمامَ عليَّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهَه، وأسْعَدَ أضدادَه من معاوية وغيرِه، فصفَتْ لهم الخلافة، ودرَّت لهم أخْلافُ الإمامة، فيكون مَشْرَباً تشيُّعِيَّاً، كما قال الملك الأفضل نورُالدين عليّ بن السلطان صلاح الدين يوسف، لمَّا وَلِيَ دِمَشْقَ بعد أبيه، فلم تطُلْ مُدَّتُه، ثم حضر إليه عمُّه الملك العادل أبو بكر، وأخوه الملك العزيز عثمان، فأخْرَجاه من مُلْكِه بدِمَشْق إلى صَرْخَد، ثم جَهَّزاه إلى سُمَيسَاط، فكتب إلى الإمام الناصر ببغداد:

محمد المرابط بن محمد الدلائي عرف بالصغير

مولايَ إنَّ أبا بكرٍ وصاحبَه ... عثمانَ قد مَنَعَا بالعَضْبِ حق علِي فانْظُرْ إلى حَظِّ هذا الاسمِ كيف لَقِي ... من الأواخِرِ ما لاقَى من الأوَلِ قوله: " ومع اسم " بالتنوين، و " نقيضه " بدل منه، بناءً على جوازِ إبدال المعرفة من النكرة، كما في قوله تعالى " وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ " إلا أن جوازَ الإبدال المذكور مشروطٌ بتخصيص النكرة بمخصِّص مَّا كما في الآية المذكورة. كم أُنادِيك ضَرَّبِي ما دَهانِي ... كم أُناجِيك شَفِّنِي ما أُلاقِي كتَم الضَّيْمُ مَنْطِقي فوشَى بي ... نَاطِقُ الدمعِ صامِتُ الآماقِ يا فؤادي عن الأحِبَّة صَبْراً ... قد قضَى البَيْنُ بيْننا بالفِراقِ لا تكُنْ عندما تُصابُ جَزُوعاً ... ليس بعدَ الفِراقِ إلا التَّلاقي رَبِّ إنِّي من الزمانِ لَشاكٍ ... مَسَّنِي ضيمه وإِنَّكَ وَاقِي فأجِرْنِي من التَّغرُّب إنِّي ... كلَّ يومٍ لأجْلهِ في اشْتياقِ كم قَطَعْنَا بها لَياليَ وصلٍ ... في اسْتلامٍ ولَذَّةٍ واعْتِناقِ كم سَحَبْنَا بها وكم قَد رَكَضْنَا ... من رِماحٍ ومن خُيولٍ عِتَاقِ ليت شِعْرِي فهل لصُبْحِ اجْتماعٍ ... بعد ليلِ الفِراقِ مِن إشْراقِ كم تَبَدَّتْ فيه نجومُ صِحابٍ ... في سماءِ مَحاسِنِ الإغْساقِ ما أَحْسَن بُدُوَّ نجومِ الأصحاب، في ليل الفِراقِ والاغْتراب. فلقِيَ المذكورُ صاحب الترجمة المُجْتهد في تلك الدولة بقصائد، بل قلائد، فعرف الشَّاه مكانَتَهُ من الفضل والأدب، وأنه من بيت سَلْطنةٍ ومُلْك، إلا أن الدهر قعَد به عن مُناه، ودَعاه دَاعِي الاغْتراب فلَبَّاه. فأجازه الشَّاه مقْداراً من النَّوال، يبلُغ بِدرَةً من المال. كما قال أبو تَمَّام: بِدَرٌ أطاعتْ فيك بَادِرةَ الهوَى ... وشمُوسُ فَضْلٍ آذنت بغُروبِ محمد المُرابط بن محمد الدَّلائِيّ عُرِف بالصُّغَيَّر هو من بيت السَّلْطَنة في الدَّلا، وفي الأدب بحرٌ لا تُكدِّرُهُ الدِّلا. عهدُه من زماننا قريب، وخبرُه في الغَرْب عجيبٌ غريب. وذلك لكائنةٍ حصلت عليه وعلى أهل بيته من ملك الغرب، أضْحَوْا منها بعد عِزِّهم الأنْفَس أذِلاء الهَوان والكَرْب. فخوَى كوكبُهم، وهوَى مَرْقبهُم. وتفرَّقُوا أيادِي سَبَا، وفُرِّقوا من الأسِنَّة والظُّبا. بعدما انْتُجِعوا انْتجاعَ الأنْوا، واسْتُطْعموا في المَحْلِ والَّلأْوَا. وأمَّهم الناسُ من كلِّ مكانٍ سَحِيق، وخامَرَتِ النفوسَ مكارمُهم مُخامرةَ الرَّحيق. وكان المُرابط هذا يَزِيد عليهم في الفضل الباهر، زيادَة القمر على النجومِ الزَّواهر. صارمُ عَزْمِه لا يُفَلُّ غَرْبُه، وكوكبُ مَجْده لا يُخاف غَرْبُه. ومَعالِيه رسومُها واضحة، وفضائلُه للشُّموس فاضِحة. صنَّف وألَّف، وأحْرَز المَعالي وما تكلَّف. وآثارُه في عُقودِ الَّلآلئ دُرَر، وأشعارُه في جَبْهة المَعالِي غُرَر. فمن شعره قولُه في الغزل: شَجِيتُ إذْ وَمَضتْ للصَّبِّ عَيْناكِ ... وكِدْتُ أقْضِي هوىً من حُسْنِ مَرْآكِ يا مَن ثَمِلْتُ بَراحٍ مِن لَواحِظِها ... لِله ما فعلتْ فينا حُمَيَّاكِ أُفْرِدْتِ حُسْنا ًكما أُفْرِدْتُ فيك صَفَا ... وُدٍّ وحَاشاكِ من شِرْكٍ وإشْراكِ تكامَلتْ فيكِ أوصافٌ جَلِلْتِ بها ... عندي فسُبْحان مَن بالحُسْنِ حَلاَّكِ يا أُخْتَ ظَبْيِ النَّقَا دَلاَّ وفَرْطَ بَهَا ... رُدِّي ودائِعَ قد أوْدَعْتُها فَاِك ولا تَجُورِي فأنْتِ اليومَ مالِكةٌ ... ذَوِي الصَّباباتِ فاسْتَبْقِي رَعَاياكِ محمد الفاسِيّ المعروف ببَدِيع الزمان بقيَّةُ حَمَلةِ الأقلام، الذين فَتَنوا بسِحر الكلام. له طبعٌ من الضَّجَر مُبَرَّا، وله شِعْر كأنه الروضُ المُطَرَّى.

فلفظُه يُطْرِب، ومعناه يُعْرِب فيُغْرِب، وبلاغتُه تدلُّ على أنه آيةٌ لأن شمسَ كمالِها طَلعتْ من المغرب. فهو مُقدَّم في أدباء فاس، تقدُّمَ النَّصِّ على القياس. تردَّد على النُّبهاء تردُّدَ الكاسِ في الروض العاطِر، ودخل الروم فجرَى من أهْواهم مَجْرَى الماءِ في الغُصن المُتروِّي بالغمام الماطر. فصار شعرُه سَمَرَ النادي، وتَعِلَّةَ الحادِي، ومثَل الحاضرِ والبادي. ولما رجع اسْتأثر اللهُ به، ودعاه لما عنده من كرامته وتقرُّبِه. فعلى ما تضمَّنه من تُراب فاس، سلامُ الله تعالى بعددِ الأنفاس. وقد أثْبتُّ له ما يسْتعير فضلَ إشراقِه الصَّباح، وترْتاح للُطْفِ صَنْعته الأرواح في الأشباح. فمن ذلك ما كتبه إلى أبي المَعالي درويش محمد الطَّالُوِيّ، وقد اجتمعا في الروم: لدمعي بعدَ بَيْنهِمُ انْهِمالُ ... فكم عن حِفْظِ عهدِ الصَّبِّ مالُوا وحَلُّوا القلبَ داراً واسْتحلُّوا ... دَمِي عمداً وعن وُدِّي اسْتحالُوا وقال القلبُ مَعْ صبري وعَقْلي ... وأفراحِي لنا عنك ارْتحالُ وحانَ الحْينُ حِين الْبانُ بانَتْ ... مَطاياهم وأعْلاها الرِّحالُ وأبْقتْ لي النَّوَى جسْماً كأني ... لفَرْطِ السُّقْمِ حالٌ أو مُحالُ أُفَدِّيهم بأمْوالي ونفسي ... وهل لي في الهوى نَفْسٌ ومالُ أأسْلوهم مدَى الدنيا سَلُوهم ... ولو أصْلَوا فؤادي ثم صَالُوا شعاري حُبُّهم والمدحُ دِينِي ... لمولَى الفضلِ درويش بن طَالُوا هو النِّحْريرُ بحرُ العِلم مهما ... أهَمَّ الأمرُ أو أعْيَى السؤالُ ذكيٌّ ألْمَعِيٌّ لَوْذَعِيٌّ ... سَرِيٌّ ماله حقَّاً مِثالُ له علمٌ حَنِيفِيٌّ محيطٌ ... وحِلْمٌ أحْنَفِيٌّ واحْتمالُ وفكرٌ عند ذي التَّحقيقِ ذِكْرٌ ... بُشكْرِ اللهِ مُغْرَى لا يزالُ حوَى كلَّ المَعانِي والمَعالِي ... بعَقْل ما له عنه انْعِقالُ له نظمٌ كدُرٍّ في نحوُر ال ... غَوانِي دونه السِّحْر الْحلالُ فريدٌ في المَعالي دون نِدٍّ ... فدَعْ ما قيل أو ما قد يُقالُ فيَمِّمْ دارَه وانْزِلْ حِماهُ ... إذا جار الأعادِي واسْتطالُوا وقُلْ للمَدَّعِي هل حُزْتَ أصْلاً ... له بالطَّالُوِييِّن اتِّصالُ لَقيناه بإسْلامبولَ لمَّا ... عَدِمْنا فيه حُرَّاً يُسْتمالُ فوَالانا وأوْلانا بَشاشاً ... وبِشْراً دونه العَذْبُ الزُّلالُ وأنْسانَا بإيناسٍ أُناساً ... لهم في القلبِ حلٌّ وارْتحالُ ألا يا ابْنَ الأُلى قد حُزْتَ فخراً ... له في جَنّةِ الدهرِ انْتقالُ وسُدْتَ اليومَ أهلَ الأرضِ فاهْنا ... بعِزٍّ مالَه عنك انْتقالُ فخُذْها مثلَ خُلْقٍ منك سَهْلٍ ... على الأعداءِ صَعْبٌ لا يُنالُ كساها مَدْحُك المحمودُ حُسْناً ... لها فيه ازدِهاء واخْتيالُ فتُبْدِي تارةً دَلاًّ لديكم ... ويعْرُوها على الدنيا دَلالُ تُرَجِّي أن تُنِيلُوها قبولاً ... عسى يبدُو لها منك احْتفالُ فإن أحْسنتُ كان الأمرُ بِدْعاً ... وإلا منكمُ يُرْجَى الكمالُ ثم أعْقبَ هذا النظم بنثر، وهو: رضي الله عنك وأرْضاك، وأخْصَب في مَرَابِع المَحامد مَرْعاك. سلام عليكم ورحمةُ الله سلاماً يتَّخِذه البدرُ بَرْقَ مُحَيَّاه، وقام لإجْلاله سَنا شمسِ الضُّحَى وحَيَّاه. وافْتك حاسرة حَسِيرة، ونَزِهة يسيرة. يُشرِّفها ذكرُك، ويكرمُها شكرُك. والعذرُ واضح، وتفسير الواضِح فاضِح. فإن لي خاطراً متى تفكَّر تفطَّر، وإن راجَع وتدبرَّ القَدَرَ تصبَّر. والحُرُّ خِلٌّ عاذر، واللئيمُ خِبٌّ غادر. وِمثلُك يغُضُّ ولا يُغْضي، وحِلْمُك لا شكَّ إلى الرِّضا يُفْضِى.

محمد بن أحمد المكلاني كاتب الإنشاء بحضرة سلطان المغرب

وكتبه المُحِبُّ الأكبر، والفقير الأصغر. النائِي عن الأخوان، محمد المدُ وُّببدِيع بل بشَنِيع الزمان. وحكى الطَّالُوِيّ، أنه حَنَّ يوماً إلى وطنِه، حَنِين النَّجِيب إلى عَطَنِه، والمهجور إلى سَكَنِه. وقد ذكر مَسْقِط رأسِه، ومُشتَعل نِبْراسِه. وهي البلدةُ البيضاء أعني فاس، فتصاعدتْ منه لفُرقتِها الأنْفاس. حتى ذرَفتْ عيناه بالدموع، شوقاً إلى تلك المَنازل والرُّبُوع. فلما رأى الحاضرون حالَه، رَقَّ كلٌّ له ورَثَى له. فقلتُ عن لسان حالِه، وقد توجَّه إلى منزله ببَلْبَالِه، قطعةً سبقتْه إلى النادِي، وكانتْ عنده كبعضِ الأيادي. مع لُغْزٍ في اسم بلدة مَرّاكُش وكان قد جَرى شيءٌ من ذِكْرها، فنظمتُ ذلك أيضاً في إثْرِها: ربَعتْ على تلك الرُّبوعِ هَتُونُ ... وَطْفاءُ فيها للبُروقِ حَنِينُ مَسفوحةُ العَبَرات سَفْحَ مَدامعِي ... نحو الديارِ كأنَّهُنَّ عُيونُ فسقَى مَعالِمَ فاسَ حيثُ صَبابتِي ... وصِبايَ فيها صاحبٌ وخَدِينُ فارقْتُها وأنا الضَّنِينُ وربما ... يسْخُو الفتى بالرُّوح وهْو ضَنِينُ فعلَى مَعالِمها تحيَّةُ مُغْرَمٍ ... في قلبه لِهَوَى الديارِ شُجونُ وأما اللغز فهو: وما اسْمٌ خُماسِيٌّ مُسمَّاه بلدةٌ ... تركَّب من شَكَّينِ وهْو يقينُ فشَكٌّ تَراه العَيْن يبدُو بلا مِرا ... وشكٌّ بقلبٍ لا تراه عيونُ فكتب بسُرعة لمَّا وصلتْ إليه الرُّقْعة: ومازال العبدُ من حين مُفارقتكم لا يقَرُّ له قَرار، إلى أن ورد شَذَا نَظْمِكم المِعْطار. فقال طالباً للقبول، على استعجال من الرَّسول: مولايَ لازلتَ فَرْداً في المَكارمِ يا ... أبا المَعالي ودُمْ في أرفعِ الدَّرجِ ألْبَسْتَ فاساً وأهْلِيها ثيابَ عُلاً ... قد نَمَّقَتْها يَدَا تقريظك البَهِجِ لمَّا جرى ذكرُها في رَحْبِ خاطرِكم ... أنْشدتُها قولَ صَبٍّ بالهوى لَهِجِ لِتَهْن يا فاس واخْلَعْ ما عليك فقد ... ذُكِرْتَ ثَمَّ على ما فيك من عِوَجِ وأمَّا لُغْزُكم السَّهل المُمتنِع، فهو في بلدةٍ لقلبِ الصَّبِّ الحبيبُ المُمْتَنِع. وعاجلَنَي الرسول، على نظمِ بعض الفُضول. ولكن في غَدٍ إن شاء الله يقَعُ الإتْمام، عالِماً ومُقِرّاً أنَّ لي بساحةِ اقْتداركم إلْمام. فكتب إليه ثانياً: ما ذاتُ عُودٍ لها لَحْنٌ من الهَزَجِ ... باتت تغنَّي به في رَوْضِها البَهِجِ لها بدَعوةِ نوحٍ طَوقُ غانيةٍ ... على وِشاحٍ من الأزْهار مُنْتَسجِ مَخْضوبَةُ الكفِّ لا من عَنْدَمٍ خضَبَتْ ... ذاك البَنان ولكنْ من دَمِ الْمهَجِ مَدَّتْ قوادِمَ ليلٍ فيه لاح لنا ... بِيضُ الْخَوافِي كصُبْحٍ منه مُنْبَلِجِ يوماً بأحْسنَ مِن مَرْأَى نِظامِ فتىً ... بذكْرِ فاسَ ومَغْنَى رَبْعِها لَهِجِ محمد بن أحمد الْمَكْلانِيّ كاتب الإنشاء بحضرة سلطان المغرب زانتْ شمسُه ذلك الفلَك، وجلتْ أنوارُه ظَلْماء الحَلَك. فهو أديبٌ مُنْشِي، مُحبِّر مُوَشِّي. سريعُ البَنَان، بديعُ البيان. لا يحْبس عِنان قلمِه، أوينثر الدُّرّ من كَلِمه. ألفاظٌ كَالبُشْرَى مسموعة، وأزاهير الرِّياض مجموعة. ومَعانٍ كأنْفاس النَّسمات، عبقتْ في ثُغور الزَّهرات المُبْتسمات. فمن شعره ما كتبه على كتاب المَقَّرِيّ " زهر الرياض في أخبار عياض ": أهذه أدْواحُ هذِي الرِّياضْ ... أم هذه غُدْرانُها والحياضْ سالتْ بماءِ التِّبْر خُلْجانُها ... على سوادٍ زان منها البياضْ وأزْرَقُ الصبح بها قد جرَى ... تخالُه نَهْراً على الطِّرْسِ فاضْ تِمْثالُ نَعْلِ المصطفى شكلُها ... جعلتُ خدِّي تُرْبَه عن تَراضْ ففاخَر التُّرْبُ نجومَ السَّما ... فالشُّهْب من آفاقِها في انْقضاضِ تحسِده الزَّرقاءُ في لَثْمِها ... فالبرقُ من أحْشائها في ائْتماضْ

علي أبو الحسن الخزرجي المعروف بالشامي نزيل فاس

أذكُر في عُمرِي ديارَ الهُدَى ... فشَمْلُ دمعي أبداً في انفِضاضْ نَبِّهْ كَلِيمَ الوَجْدِ من شَوْقِه ... فجَفْنُه من وجدِه في اغْتماضْ وقُلْ له بالِله هَذِي طُوَى ... فاخْلَعْ وكُنْ في مِلَّةِ الشوقِ رَاضْ وانْتشقِ الأزْهارَ من رَوضِها ... واسْتشْفِ منها بالعُيونِ المِراضْ كم بات مُعْتَلُّ الصَّبا عندها ... يروِي أحاديث الشِّفا عن عِياضْ أيا إماماً جامعاً للعُلَى ... وبحرَ عِلْمٍ وِرْدُه العَذْبُ فاضْ أبْكارُ فكْري بين أبْوابكم ... تُنزِّه الأحْداقَ بين الرياضْ إليكمُ قد رفعتْ أمْرَها ... فاقْضِ على الأحْرارِ ما أنتَ قاض قد بايَعت بالحقِّ سُلْطانَكم ... تَوفية ً بالعَهْدِ دون انْتفاضْ علي أبو الحسن الْخَزْرِجيّ المعروف بالشامِيّ نزيل فاس أديب صَفَتْ من قَذَى الأوهام خلائقُه، وتشبَّثتْ بالفضل منذ منه كان عَلَقةً عَلائقُه. سقى روضَ آدابه صَيِّبُ البَيان فتروَّى، وأقْدام أوْصافِ فضلهِ على اقْتضاب مدائحه وما تُرْوَى. فهو رَوضُ أدبٍ أرِيض، وَمتْحِفُ الأسْماع بأحْسَنِ سَجْع وقَرِيض. وله شِعْرٌ يدلُّ على جَودِة طَبْعه المُرْتاض، دَلالةَ النسيم إذا هبَّ على زَهْرِ الرِّياض. فمنه قوله مُقرِّظا على " كتاب المقَّرِيّ في أخبار عِياض ": أبا العبَّاسِ أبْدَعْتُم طِرازاً ... نَثَرْتُم فيه أزهارَ الرِّياضِ ونَظَّمْتُم عُقوداً من لآلٍ ... لجِيد حُلَى المآثر من عِياضِ وأرْقَمْتُم غُصونَ عُلاه لمَّا ... سَقاها فِكْرُ كم سَقْيَ الحِياضِ ونمَّقتُم مَطارِفَ ما رأيْنا ... كطُّرَّتها سَواداً في بيَاضِ فدُم للدِّين والدنيا إماماً ... وبَحْرَ نَدىً علومُك في افْتياضِ وله في مَدْحِه أيضاً: أيا ناظراً مَتِّعْ عُيونَك ساعة ... بأزْهارِ هذا الرَّوضِ من حيث ما تَخْطُو وقِفْ مَوْقفَ الإذْلالِ لله واطْلُبَنْ ... بها نَفْحةَ الرِّضْوانِ إن رَاعَك السُّخْطُ فَلو لم تكنْ مَقبولةً عند رَبِّنا ... لما كان في هَذِي النِّعالِ بها وَخْطُ وله في مدح النّعْل الشريف: أيا نَعْلَ الرسول عَلَوْتَ قَدْراً ... وفخرُك غيرُ خافٍ لِلَّبيبِ أقولُ لمن بحُبِّي ذاب شوقاً ... وأعْيىَ داؤُه طِبَّ الطبيبِ تنَسَّكْ مِسْكَ أنْفاسٍ لتُشْفَى ... فهذا الطِّيبُ من عَرْفِ الحبيبِ وله فيه أيضاً: مِثالُ النَّعْل في القِرْطاسِ خَطَّا ... بسُمْرِ الشَّوْقِ في الأحْشاءِ خَطَّا ولمَّا أن لثمتُ نَدَى ثَراهُ ... وغَشَّى نُورُه جَفْنِي وغَطَّا شَمَمْتُ الوردَ من رَيَّاه يَنْدَى ... وسِمْتُ البدرَ من عَلْيَاهُ خَطَّا ففجَّر لي من العيْنيْن بحراً ... ونَثْراً من لآلِي الدمع سِمْطاَ ورَوَّى من سحابِ الْجَفْن جسمي ... وأوْرَى من زِنادِ الشَّوقِ سِقْطَا وله فيه من قصيدة: دَعُوا شَفَةَ المُشتاقِ من سُقْمِها تُشْفَى ... وترشِف من آثار تُرْبِ الهُدَى رَشْفَا وتلْثِمُ تمثالا لنَعْلٍ كريمةٍ ... بها الدَّهرَ يُسْتسْقَى الغَمامُ ويُستشْفى ولا تصرِفُوها عن مُناهَا وسُؤْلها ... بعَدْلِكُم فالعدلُ يمنعُها الصَّرْفا ولا تعْتِبوها فالعتابُ يزيدُها ... هُياماً ويسْقيها مُدامَ الهَوى صِرْفَا جَفَتْها بكَتْم الدمع بُخْلاً جُفونُها ... فمن لامَها في اللَّثْم فهوْلها أجْفَى عليّ بن ابراهيم بن أبي القاسم التُّونُسِيّ أديبٌ حُمِدَ مسْعاه، ولم يُجْدِب لرائدٍ مَرْعاه. ظَهر على البدر التَّمام، وجاد طَبْعُه جُودَ الغمام. فأطْلَع الكلام زاهِرا، وأثْبته للعقول باهِرا.

؟ أبو محمد الحسن بن أحمد الفيومي المراكشي

وقد أثْبَتُّ له ما تَشْتَمُّ عَرْفَ المسك من نَفْحِته، وترى الإحْسان مُرْتسِما في صفحته. فمنه قوله في النَّعْل الشريف: لِمِثالِ نعلِ الهاشميِّ محمدٍ ... جادتْ جُفوني بالدموعِ الذُّرَّفِ وبُكايَ مَن فَرْطِ الأسَى ولَوَ أنَّنِي ... أقْضِي وحَقَّ جَلالِه لم أُنْصِفِ أوْطَأْتُه خَدِّي وقلتُ تَعَزَّزِي ... ما شئْتِ يا نفسِي بهذا وأشْرُفِي وتمسَّكِي أبداً بحبِّ محمدٍ ... فعَساكِ أن تَنْجَىْ به في المَوْقفِ صلَّى عليه اللهُ ما جنَّ الدجى ... وبَدَا الصباحُ ولاح نجمٌ أو خَفي فهو الشفيعُ لمن تعاظَم ذَنْبُه ... يومَ الحسابِ ويومَ نَشْرِ المُصْحفِ ؟ أبو محمد الحسن بن أحمد الفَيُّومِيّ المَرَّاكُشِي أحدُ مشاهير الكُتَّاب بباب المنصور، الذين خدموا سنَاه الممدود والمقصور. تجمَّلتْ سُلْطَتُهُ بآثار مَلَكاتِه، حتى غدا نُخْبَتُها صَدَفاً لِلآلِي كَلِماتِه. فاشْتملتْ عليه اشْتمالَ الرَّوضِ على النسيم، وتبسَّمت أيامُه تبسَّمَ ثَغْرِ الأمل عن الوَجْهِ الوَسِيم. فاكْتسب بهذا الانْتماء أجَلَّ شُهْرَة، وأوْجَب عليه شُكْرَ هذه النعمة دَهْرَه. وهو إذا كتب باهَتْ رِقاعُه البدور، وحلَّتْ من الزمان مَحَلَّ العقود من الأجْياد والقلائِد من الصُّدور. وله لسانٌ يصِفُ بالعِيِّ لسانَ ابنِ الخطيب، وبَنانٌ كأنما تُمْلِي عن زَهْر الغصن الرَّطيِب. وشعرُه كالرَّوض طال رِيَّا، فطاب رِيَّا. فدونك منه قطعةً نَوْرُها نُورٌ تجسَّم، وكلُّ غصن منها ثُرَيَّا ترسم. وهي قوله، وكتبها في بعض مَبانِي الوزير عبد العزيز الفِشْتَالِيْ: أجِلِ المُعَلَّى من قِداحِ سُرورِي ... وأدِرْ كؤوسَ الأُنْسِ دون شرورِ خلَعتْ على عِطْفِ البهاءِ مَحاسِني ... فكسَتْ به الآفاقَ ثوبَ حُبُورِ وتناسَق الوَشْيُ المُفَوَّفُ حُلَّتِي ... نَسَقَ الشُّذُورِ على نُحورِ الحُورِ شاد القصورَ قُصورُها عن رُتْبةٍ ... لي بالسَّنا الممدودِ والمقصورِ في المُبْتنَى المَرَّاكُشِيّ وأُفْقِهِ ... أزْرَى على الزَّوراءِ والْخابورِ أعْلَى مَقامِي البارعُ الأسما الذي ... قد حاز سَبْق النَّظْمِ والمنثورِ فإذا أقَلَّ بَنانُه أقْلامَه ... نفَثتْ عقودَ السحرِ بين سُطورِ عبدُ العزيز أخو الجلالةِ كاتِبٌ ... سِرُّ الخليفةِ أحمدَ المنصورِ لا زال في أمْنٍ ويُمْنٍ ما شَدَتْ ... وُرْقٌ برَوضٍ بالنَّدَى مَمْطورِ؟ ؟؟؟؟ عمر بن علي فكرون نزيلُ القاهرة مصباحُ فهم مُتَّقِد، وبُرهان عِلم لكل مُعانِد مُنْتقِد. ازْدَهتْ بعصرِه الأعصار، وباهتْ به مصرُ جميعَ الأمصار. إذا قدَح زَنْدَ فكرِه أوْرَى بشررٍ يحرِق الجهل، وإن طَما بحرُ خاطرِه عَمَّ الجبلَ والسَّهْل. مع نزاهةٍ الْتفَّ بِكساها، ونَباهةٍ ألْغَى بها نباهةَ جِيله وأنْساها. وله أدبٌ واسِعٌ مداه، رِيَّان كالرَّوض بللَّه نَداه. وشعر كماء العنقود في جامِه، وقطرِ النَّدَى في حُسْن انْسِجامِه. فمنه قوله من قصيدة: طلَع الهلالُ وأُفْقُه مُتهلِّلُ ... فمُكَبِّرٌ لطلوعِه ومُهلِّلُ أوفَى على وَجْهِ الزمان بغُرَّةٍ ... فغدا الصباحُ بنُورِها يتحمَّلُ وزَهتْ غصُون البانِ في رَوْضاتِها ... وافْتَرَّ من ثَغْرِ الأَقاح مُقَبَّلُ والوُرْقٌ غَنَّتْ في الرِّياضِ وغرَّدتْ ... لحْنَاً بمُعْرِبه الفؤادُ مُبَلْبَلُ منها في المديح: بحرُ التَّفضُّلِ والتكرُّمِ والنَّدَى ... وله كمالٌ مُجْمَلٌ ومفصَّلُ جعل العدالةَ شأنَه وشِعارَه ... والسعدُ يُمْضي ما يقول ويفعلُ نطَق الزمانُ بمَدْحِه وبحمْدِه ... وبذاك ألْسِنَةُ الورى لاتَغْفَلُ ابراهيم بن محمد السُّوسيّ الإنْسِيّ ظَرْفُ رَشاقةٍ وظَرْف وحَبَّةُ فؤادٍ وإنْسانُ طَرْف.

محمد بن يوسف التاملي

فهو نُور حَدَقة الناظِر، ونَوْر حديقة الغُصْن الناضِر. رَوَّح طَبْعَه برَوْح الشَّمُول والشَّمال، فنَبغ وله الفضلُ أحْسَن ما صوَّر صُورتَه الكمال. وله في الشِّعر أفانين، أطْرَب من رَنَّاتِ القوانين. فمن شعره قوله في الغَزَل: يا مَن رَمانِي بسهمِ اللَّحْظِ فِيَّ مَضَى ... أوْحَشْتِني وحَشَوْتَ القلَب جمرَ غَضَا كسَرتَ قلبي بتكْسِير الجُفونِ كما ... نصَبْتَ حالِي لأسْهامِ الجفَا غَرَضا فكم نَصبْتُ لك الأشْراكَ في حُلُمٍ ... لعلَّ طَيْفَك وَهنْاً في الكرى عَرَضَا وأُضْرِمُ النارَ بالذكرَى على عَلَمٍ ... من مُهْجتِي يهْتدِي بالنارِ حيث أضَا إنْ قِسْتُ وجهَك بالبدرِ المنير على ... غُصْنٍ على كُثُبِ الجَرْعاءِ ذاتِ أَضَا للِه ظَبْيٌ حَشَا بالسِّحْرِ مُقْلتَهُ ... فكم جَلَيْتُ به أسْتارَه حَرَضَا في فِيهِ عَيْنٌ وعَيْنٌ فيه جَوهرةٌ ... من الحياةِ وبَرْقٌ للمُنَى وَمَضَا وقوله: لا غَزْوَ إن كنتَ تَجْفُو الإنْسَ يا رَشَأٌ ... فمن خِصالِ الظِّبا أن تنْفِر الْبَشَرَا يا لْيتني كنتُ وَحْشِيَّاًّ أُنَزِّهُ في ... مَفْتونِ وجهِك في سِقْطِ اللِّوَى نَظَرَا وكتب إليه بعض الأدباء: يا أبا إسحاقَ قُلْ لي مُوجِزاً ... أيُّ شيءٍ مُبْرِد حَرَّ النَّوَى قد أبَتْ إلا سُهاداً مُقْلتِي ... وانْسكابَ الدَّمْعِ شَوْقاً لِلِّوَى فأجابه بقوله: زَارنِي رَوْضُ بَيانٍ سَحَراً ... جامِعٌ بين رُواءٍ وروَى تتهادَى في الحَشَا نَفحْتُه ... طلبتْ منِّي دَوَا داءِ النَّوَى قلتُ عن طِبٍّ وما يُعْزىَ لمن ... جرَّب الأمر عليه بالدَّوَا عِرْقُ وَصْلٍ ونَباتُ الصَّدْرِ مِن ... ماءِ ثَغْرٍ أشْنَبٍ كلٌّ سَوَا فاسْحَقَنَّها بمَهاريسِ اللِّوَى ... وأشْرَبَنْها بكُؤوسٍ مِن هَوَى فْهو تِرْياقٌ لأمْراضِ النَّوَى ... مُطْفِئٌ بيْن الْحَشا جَمْرَ الْجَوَى محمد بن يوسف التّامليّ من أعْيان المغرب عِلْماً ونَفاسَةً، إذا ذُكِر سَناؤُه عطَّر نسيمَ الرياض بعَرْفِه أنْفاسَه. مَرامِيه الآخذة للقلوب مُصْمِية لأغراضِها، وعُيونُ أشْعارِه مادَّةُ الفُتونِ في صِحاحِ الأجْفان ومِراضِها. أُوتِيَ نَصاعةَ المُقْتَرَح وطَلاوةَ اللَّسَن، فوقف البيانُ حائراً على كلامِه لمَّا رآه جامعَ القولِ الحَسن. وقد ذكرت له ما تهْفُو إليه القلوبُ والضُّلوع، وتَسابَقُ إليه الخواطرُ وبَواعِثُها التَّوَلُّه والوُلوع. فمن ذلك كتاب كتبه إلى أبي العبَّاس المَقَّرِيّ: إلى السَّيد الذي وقَع على مَحَّبتهِ الاتِّفاق، وطلَعتْ شموسُ معارفِه في غاية الإشْراق، وصار له في مَيْدان الكمال حُسْنُ الاسْتباق. إمامُ العصر، بجميع أدواتِ الحَصْر. سَلامٌ من النَّسِيم أرَقّ، وألطَف من الزَّهر إذا عَبِق. وبعد؛ فأخبارُكم تَرِدُ علينا، وتَصِلُ دائماً إلينا، بما يُسرُّ الخاطِر، ويُقِرُّ الناظِر، مع كلِّ واردٍ وصادر. كتبتُ إليكم من الحضرة المَرَّاكُشِيَّة مع كثرة أشْواق، لا تَسَعُها الأوراق. كتبَكُم الُله فيمن عنده، كما جعلكم ممَّن أخْلصَ في مُوالاة الحقِّ قَصْدَه. ووُدِّي إليكم غَضُّ الحدائق، مُسْتَجْلٍ في مَطْلَع الوفا بمَنْظَرٍ رائق، لا يُحِيلُه عن مركز الثُّبوت عائق. وحَقِيقٌ بمَوَدَّةٍ ارْتبطتْ في الحق ولِلْحَقِّ مَعاقِدُها، وأُثْبِتتْ على المَحبَّة في الله قَواعدُها؛ أن يزيدَ عَقْدُها على مَرِّ الأيام شِدَّةً، وعَهْدُها وإن شَطَّر المَزارُ جِدَّة، وأن تُدَّخَر للآخرة عُدَّة. وإنِّي لَمَن يعتقدُ مُوالاتكم عَمَلاً صالحاً يُقرِّب إلى الِله ويُزْلف إليه ويعْتمدُها أَزْراً يُعوِّل في الآخرة يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه عليه. فإنكم وَاليْتُم فأخلصتم في الْوَلا، وعَرفْتُم الله فقُمْتُم بحقوقِ الصُّحْبةِ على الوَلا.

مُعْرِضين عن غَرَض الدنيا وعَرَضها، مُعَرَّفين بشروطِ نَفْلها ومُفْتَرَضهِا. إلى أنْ قَضَى اللهُ بافْتراقكم وحُقوقُكم المُتأكِّدة دَيْنٌ علينا، والأيامُ تمْطِل بقضائها عنا وتُوَجِّهُ المَلامَ إلينا. فآوِنَةً أقِفُ فأقْرَعُ السِّنَّ على التقْصير ندَما، وآوِنةً أسْتَنيمُ إلى فضلِكم فأتقدَّم قُدُما. وفي أثناء هذا لا يخطُر بالْبال حَقٌّ لكم سابِقٌ، إلا وقد كَرَّ عليه فيكم آخَرُ لاحِق. حتى وقفتُ مَوْقِفَ العَجْز، وضاقت عليَّ العبارة عن حَقيقةِ مَقامِكم في النفس فكِدْتُ لا أتكلَّم إلا بالرَّمْز. إجْلالاً لحقِّكم الرَّفيع، وإشْفاقاً من التَّقْصير المُضِيع. إلى أن قال: وبالجملة ففُؤادي لمَجْدِكم صحيحٌ لا سقيم، واعْتدادِي بودِادِكم مُنْتَج غيرُ عَقِيم. واللُه تعالى يجعلُ الحبَّ في ذاتكم الكريمة، ويقْضِي عن الأحِبَّة دينَ المَحبَّة فيُوَفِّي كلُّ غَرِيمٍ غَرِيمَه. وصحبة هذا الكتاب قطعة أرجوزة هي قوله: لِلّهِ دَرُّ العالِم الجَيَّانِي ... كأنما ينْظُر بالعَيانِ لِلْمَقَّرِيِّ العالِم المِفْضالِ ... مُنَظِّراً بأحْسَنِ المِثالِ وعالِمٌ بأنَّني من بَعْدِه ... أُشِيرُ في نِظامِنا لقَصْدِهِ وها أنا بالِله أسْتعينُ ... مُضمِّناً ورَبُّنَا يُعِينُ بالشَّطْرِ من ألْفيَّةِ ابنِ مالكِ ... أيَّدَنا اللهُ لنَسْجِ ذلكِ قال محمدٌ عُبَيْدُ المالكِ ... وسالكُ الأحْسَنِ من مَسَالِكِ نُشِيرُ بالتَّضْمِين للنِّحْرِيرِ ... الْمَقَّرِيِّ الفاضل الشهيرِ ذاك الإمامُ ذُو العَلاءِ والهِمَم ... كعلَم الأشخاصِ لَفْظاً وهْوعَمّ فلن ترَى في عِلْمِه مَثِيلاَ ... مُسْتَوْجِباً ثَنائِيَ الْجميلاَ ومَدْحُه عندِيَ لازمٌ أتَى ... في النظمِ والنثرِ الصحيح مُثْبَتَا أوْصافُ سيِّدي بهذا الرَّجَزِ ... تُقرِّبُ الأقْصَى بلَفْظٍ مُوجَزِ فهْو الذي له المَعالِي تَعْتزِي ... وتبسُط البَذْلَ بوَعْدٍ مُنْجَزِ رُتْبَتُهُ فوق العُلَى يا مَن فَهِمْ ... كلاَمُنا لفظٌ مفيدٌ كاسْتقِمْ وكم أفَادَ دَهْرَه مِن تُحَفِ ... مُبْدِي تأوُّلٍ بلا تَكلفِ لقد رقَى علَى المَقامِ الطَّاهِرِ ... كطاهرِ القلبِ جميلِ الظَّاهرِ وفَضْلُه للطَّالبِين وُجِدَا ... على الذي في رَفْعِه قد عُهِدَا قد حصَّل العلمَ وحَرَّرَ السِّيَرْ ... وما بإلاَّ أو بإنَّما انْحَصَرْ في كلِّ فَنٍّ ماهرٍ صِفْهُ ولاَ ... يكونُ إلا غَايَةَ الذي تَلاَ سِيرتُه جَرَتْ على نَهْجِ الهُدَى ... ولا يَلِي إلاَّ اخْتياراً أبَدَا وعِلْمُه وفَضْلُه لا يُنْكَرُ ... مِمَّا به عنه مُبِيناً يُخْبِرُ يقول مَرْحَباً لقاصدِيه مَنْ ... يصِلْ إليْنا يَسْتَعِنْ بنا يُعَنْ صَّدِّقْ مَقالاتِي وكُنْ مُتَّبِعَا ... ولم يكُنْ تصْرِيفُه مُمْتنِعَا وانْهَضْ إليه فهْو بالمُشاهَدَهْ ... الْخَبَرُ الجُزْءُ المُتِمُّ الفائِدَهْ والْزَمْ جَنابَهُ وإيَّاك الْمَلَلْ ... إنْ يُسْتَطَلْ وَصْلٌ وإن لم يُسْتطَلْ واقْصِدْ جنَابَهُ تَرَى مَآثرَهْ ... والُلهُ يقْضِي بهِباتٍ وَافِرَهْ وانْسِبْ له فإنه ابنُ مُعْطِى ... ويَقْتضِي رِضاً بغير سُخطِ واجْعَلْهُ نُصْبَ العَيْنِ والقلْبِ ولا ... تَعْدِلْ به فهْو يُضاهِي المَثَلاَ قد طال ما أفادَ عِلْمَ مالكِ ... أحْمَدُ رَبِّى اللَه خيرَ مالكِ

حسن بن مسعود اليوسي المراكشي

وحاسِدُ ومُبْغِضٌ له زَمِن ... وهالِكٌ ومَيِّتٌ به قَمِنْ وليس يُشْفَى مُبْغِضٌ له أُعِلّ ... مَعْنىً وفي هَراوةٍ جُعِلْ يقولُ عبدُ رَبِّه مُحَمَّدُ ... في نحوِ خَيْرِ القولِ إنِّي أحْمَدُ وهو بدَهْرِه عظيمُ الأمَلِ ... مُرَوَّعُ القلبِ قليلُ الْحِيَلِ فادْعُ له وسَادَةً قد حَضَرُوا ... وافْعَلْ أُوافِقْ نَغْتبطْ إذ تَشْكُرُ واجْبُرْهُ بالدُّعَا عَساه يَغْتَنِمْ ... فَجَرُّه وفَتْحُ عَيْنِه الْتُزِمْ أنشَدْتُ فيكم ذا وقال قائلُ ... في نحوِ نِعْمَ ما يقولُ الفاضِلُ أدْعُو لكم بالسِّتْرِ في كلِّ زَمَنْ ... لِكَوْنه بمُضْمَرِ الرَّفْعِ اقْتَرَنْ مَآثرٌ لكم كثيرةٌ سِوَى ... ما مَرَّ فاقْبَلْ منه ما عَدْلٌ رَوَى قد انْتَهَى تعْرِيفُ ذا الْمُعَرَّفِ ... وذُو تَمامٍ ما بِرَفْعٍ يَكْتَفِي لأنْتُمُ تاجُ الأئِمَّةِ الأُوَلْ ... ومَا بجَمْعِهِ عُنِيتُ قد كَمَلْ فاللهُ يُبْقِيكم لَدَيْنَا وكفَى ... مُصلَّياً على الرسولِ المصطفَى تَتْرَى عليه دائِماً مُنْعطِفَا ... وآلِه المُستكْمِلين الشَّرَفَا حسن بن مسعود اليُوسِيّ الْمَرَّاكُشِيّ شيخٌ حسَن السَّمت، سليمُ الطَّبْع عن العِوَج والأَمْت. تلقَّيْتُ خَبَرَه من الرُّواة، فرأيتُ له ثَناءً حَسنا يُعطِّر الأسْماع والأَفواه. هم مُسْتَغْنٍ في حَدِّ ذاته عن زيادة الأوصاف، وله شِعْرٌ نَعْتُه بالحُسن من مُراعاةِ الإنْصاف. فمنه قوله، لما دخل فاس فلم يَلْق فيها مَبَرَّة، ولم يَرَ من أهلِها إلاَّ تَهَلُّلَ أسِرَّة. فبَقِيَ فيها مَثْلولَ العَرْش، بل أقَلَّ من هَمْزِوَرْش: مَا أنْصَفَتْ فاسٌ ولا أعْلامُها ... قَدْرِي ولا عرفُوا جلالةَ مَنْصِبي لو أنْصَفُوا لَصَبَوْا إليَّ كما صَبَا ... رَاعِي سِنِين إلى الغمامِ الصَّيِّبِ أشار إلى قول الشاعر: وحديثُها كالقَطْرِ يسْمعُه ... رَاعِي سنِينَ تتابَعتْ جَدْبَا فأصاخَ يرْجُو أن يكون حَياً ... ويقول مِن فَرَحِ هَيَا رَبَّا فصل لِلْمِيكالِي: ّ أنا أَوْلَى بالحمدِ وقد لَحَظْتُ مَواقِعَ أناملِه، وشقَقْتُ بَوارِقَ فضائلِه، مِن راعِي القَفْرِ وقد رأى القَطْرَ سَكْباً، بعد سِنِين تتابعتْ جَدْبا. فأصاخ يرْجُو أن يكون حَياً ... ويقول مِنْ فَرَحٍ هَيا رَبَّا ولِلْيُوسِيّ: على رِسْلِكم يا أهْلَ فاسَ فإنني ... فَتىً لستُ بالفَدْمِ الغَبِيِّ ولا الغِمْرِ أنا الصَّارمُ الماضِي ويا رُبََّّ نافِثٍ ... يُخلِّق في البَحْثِ الأدِيمَ ولا يَفْرِي يحيى بن محمد الشاوِي الجَزَائريّ نزيلُ مصر مُنْتهى الكلام، وخاتمة الأعلام. الجِهْبِذُ النَّحْرِير، مالكُ أَزِمَّةِ التَّقْرِير والتَّحرير. فاق أهلَ الآفاق، وانْعَقد على تفرُّدِهِ الوِفَاق. فهو المُقرَّر ببرهان التَّطْبيق توحيدُه، فلا تَمَانُعَ فيه إلاَّ مِن مُعانِدٍ عُلِمَ مَرْجِعُهُ عن الحقِِّ ومَحِيدُه. فكل مَنْهَلٍ ينضُب إلاَّ مَنْهله الزَّاخِر، وكلُّ قدرةٍ تلْتقي طَرَفاها إلاَّ قدرة بَنانِه التي أعْيَى الأوَّلُ منها الآخِر. إذا اسْتخْدم القلمَ أبْدَى سِحْرَ العقول، وإن جرتْ على لسانِه الحروفُ وَفَّق بين المعقول والمنقول. وعلى الجملة فهو كما قيل: لو باراه سَحْبان سَحَبَ ذيلَ الخجل، أو مَاراه صَعْصَعةٌ تَصَعْصَعَ قَلبُه من الوَجَلْ. أو بارَزه الفرزفرز سحرُهُ، أو جارَاه ابن بَحْر غاضَ بَحْرُهُ يُخِلُّ لسانَ الخليل في عَيْنه، ويُدرِّدُ ابْنَ دُرَيد بإظْهار مَيْنِه. ويُوهِي سِيبَويْه نَحْوُه، ويطفيءُ نَارَ نِفْطَويْه مَحْوهُ. ويهْشِم أنْفَ أبي هاشمٍ في اعْتزاله، ويتجنَّب الجُبَّائيُّ صَوْلَةَ انْخِزالِه.

خاتمة

مُرْهَف طَبْعِه مُشْجَذٌ قاطِع، ووجهُه إقْبالُه كأنَّما صُوِّر من نُورٍ ساطِع. يلْمَع نُورُ العلم في جبِينه، وفضلُه لا يخفى على مُسْتبِينه. سريعُ الجواب، ظاهرُ الصَّواب. مُعْجِزٌ ببَيانه، مُفِيد في كلِّ أحْيِانه. إلا أن طَبْعَه أحَرُّ من القَيْظ، وإذا غضِب يكاد يتميَّز من الغَيْظ. وله تآليف هطَلتْ سُحبُ إفادِتها الذَّوارِف، فأضحى بها وهو العَلَمُ الفَرْدُ أعْرَفَ المَعارف. وهو أجَلُّ مَن أخذتُ عنه العلوم، واقتبَستُ من فوائده ما ترسَخُ به طائِشاتُ الحُلوم. وذلك بالرُّوم حين ورَدها ثانيا، وأنا مقيمٌ بها أسامِر آمالاً وأمانيا. ولَديَّ شوقٌ يطيرني إليه، ووَجْدٌ يقْتضي أن أرْمِي لَهْفتِي عليه. فَغَنِمتُه بُرْهةً من الدهْر، أتْلُو سُوَرَ مدائحه في السِّرِّ والجَهْر. وقد كتب لي إجازةً بخطِّه، هاهي مُزيَّنة بضَبْطِه: الحمدُ لله الحميد، والصلاةُ والسلام على الطاهِر المجيد، وعلى آله أهل التَّمْجيد، أجَزْتُ الإمامَ الَّلوْذَعِيَّ المُعبِّرَا ... أمِينَاً أمينَ الدِّين رُوحاً مُصوَّرَا سلِيلُ مُحِبِّ الدِّين بيتُ هدايةٍ ... وبيتُ مَنَارِ العلم قِدْماً تقرَّرَا بإقْرائه متنَ البُخارِي الذي به ... تقاصَر عنه مَن عَداهُ وقَصَّرَا مُوَطَّا شِفاءٌ والشِّفاءُ كمُسْلِمٍ ... إذا مُسْلِماً تُقْرِيه حَقَّاً تصدَّرَا وباقي رجالِ النَّقْلِ حَقَّاً مُبَيّناً ... وتفسيرُ قَوْلِ الله في الكُلِّ قدَّرَا أجَزْتُ المُسَمَّى البدر في الشَّرْعِ كُلّه ... كما صَحَّ لي فاتْرُكْ مِراءً تكدَّرَا وعلمَ كلامٍ خالياً عن أكاذبِ الْ ... فلاسفةِ الضُّلال والعَدْلُ نُكِّرَا أقول لكلِّ فَلْسَفِيّ يَدِينُهُ ... ألا لَعْنةُ الرحمنِ تعلُو مُزَوِّرَا أجبريلُ فَلَكٌ عاشِرٌ يا عِداتنا ... أعادِيَ شَرْعِ الله نِلْتُمْ تَحَيُّرَا بأيِّ طريقٍٍ قلتُم عَشْرَ عَشْرَةٍ ... ونَفْىَ صِفاتٍ والقديمُ تَحَجَّرَا حكمتُم على الرحمنِ حَجْراً مُحَجَّراً ... ومَنْعُكُمُ خلقَ الحوادثِ دَمَّرَا أُبَرِّي الحبيبَ الَّلوْذعيَّ عن الرَّدَى ... مُجازاً بدِينِ الشَّرع كُلاً مُحرَّرَا ولكنْ عليه النُّصْحُ والْجِدُّ والتُّقَى ... وإن نَالَه أمْرُ القضاءِ تَصبَّرا حَماهُ إله العرشِ من كلِّ فتنةٍ ... ونَجَّاهُ من أسْواءِ سُوءٍ تَسَتَّرا وصَلِّ وسَلِّم بُكْرةً وعَشِيَّةً ... على مَن به حَيُّ القلوبِ تحَيَّرَا خاتمة وهنا وقفتْ بي مَطِيَّةُ السَّير، وختمتُ الكلامَ راجياً من ربِّي خاتمةَ الخير. ولما فرغتُ من جَمْعِه، وجعلتُه هديَّةً لناظر الدهر وسَمْعِه. التفَتُّ إليه فشاقنِي، وحَدَا بي نحو الإعجاب وساقنِي. فأقول كما قال ابنُ الخطيب، لا بَرِح ذكرُه يَعْبَق ب " عرف الطِّيب من غُصُن الأندلس الرَّطيب ": لما رأيتُ من ذُكرِ فيه قد تخلَّدتْ آثارُهم، وشَنَّف أُذُنَ الزمان نِظامُهم ونِثارُهم، نافستُهم في اقْتحام تلك الدُّور، وقنِعت باجْتماع الشَّمل ولو في خلال السُّطور. وحرِصْتُ على أن أنال منهم قُرْبا، وأخذتُ أعْقابَهم أدَباً رَحْباً، كما قيل: ساقِي القومِ آخرُهم شُرْبا. والله ُسبحانه يُدبِّر أمْري، ويُحْسن بفضله آخِرَ عمري. ويسْتُرني في هذه البَقِيَّة، ويجعلني من خُلَّص هذه البَيْضاء النَّقيَّة. فقد بَقِي في إناءِ العمر صُبابة من شَراب، فلعلِّي لا أُرِيقها في يومِ هاجرةٍ لِلَمْعِ سَراب. وإذا نزل بي الموت، وفات في أجَلِي الفَوت، لا يُعْدِمني من يترحَّم عليَّ؛ ويُهْدِي ثوابَ فاتحتِه إليّ. فمبدأُ حالِي، وما أفْضىَ إليه نُزولِي وارْتحالي، قد صرَّحتُ به تارة وعرَّضْتُ أخرى، فرأيتُ تَرْك التَّعرُّض له هنا أوْلى وأحْرَى. وإنما أذكُر هنا بعضَ فضولِ الكلام، قصدتُ أن أنْسلِك بها في سِلْك هؤلاء الأعلام.

فهي إن لم تكنْ ممَّا يخطُبه الخاطب، فلْتكُن مما يحْتطِبُه في ليلِ سُطورِه الحاطب. فمن ذلك فُصولِي القِصار، وقد ذكرتها مُقتصراً على زُبدِها غاية الاقْتصار: في الأحاديث صحيحٌ وسقيم، ومن التَّراكيب مُنْتِجٌ وعقيم. للنفوس صَبابةٌ بالغرائب، وإن لم يكنْ من الأطايب. قال بعضُ أهل العرفان: إذا قَصُرت يدُك عن المكافأة فليَطُلْ لسانُك بالشُّكْران الرْوضُ إن لم يشكر الغَمام بعَرْفهِ، ففي وجهِه شاهدٌ من عُرْفِه. شفاعةُ اللِّسان، أفضلُ زكاةِ الإنسان. إذا ما سقَط الرَّجا، فالناس كلُّهم أكْفا. للِه ألطافٌ غنيَّةٌ عن البيان، وهو مع تنزُّهِه عن الحوادث كلِّ يوم في شَان. وللدهرِ نُسْخة تعرب عن الأقْدار، وحُجَّةُ القضاء بيننا هي مُسوَّدةٌ بالليل نَراها مُبَيَّضة بالنَّهار. فبيْنا تراه كلَيالِي المِحاق لا شموس ولا أقمار، أعْقب لياليَ مُقْمِرَةً وأياماً مُشْمِسَةً تسُرُّ القلوبَ والأبصار. مَن تواضَع رَقِيَ لمراتبِ السَّلف، فإن التَّواضُعَ كما قيل سُلَّمُ الشَّرَف. العِلْمُ مع المُنخفِض والآبِي، كالماءِ مع الوِهادِ والرَّوابي. مَن لم يكنْ بالفضلِ ذَا رُجْحان، يميل بالخِفَّةِ مثلَ المِيزان. إذا زاد قَرِينُك في التَّرَقِّي، فزِدْ أنت مِن شَرِّهِ في التَّوَقِّي. ليست الأذْنَابُ كالأعْراف، ولا الأنْدالُ كالأشْراف. إذا صحِبْتَ فاصْحَب الأشراف تَنَلِ التَّشْريف، فإن المُضافَ يكْتسب من المضاف إليه التَّنْكِير والتعريف. السِّلْعة على قَدْرِ الثَّمن، والحركةُ على قَدْرِ تنْشيط الزَّمَن. أعوذُ بالله من الكساد، فإنه أخو الفساد. إنْجازُ وعْدٍ بإنْجاحِ النَّدَى، أحْسَنُ من نَوْرٍ يفتحه النَّدى. تمْتلِي الغُدْرانُ إذا هَمَى السحاب، فكأن الغُدُرَ فَذْلَكةٌ والسَّحاب حِساب. تتَبُّعُ الأمرِ بعد الفَوات تَغرِير، وتَرْكُه إذا أقْبَل عَجْزٌ وتَقْصِير. إذا ساعد الدهرُ على سُرورٍ فَواتِهْ، واغتنمْ منه وقتاً سَرَّ قبل فواتِه. السُّرور إذا دعَوْتَه يَنْجاب، والكَدَرُ ما إِن دَعَوْته أجاب. أعمارُ الكرام مُشاهَرة، وأعمار اللِّئام مُداهَرة. للوُدِّ حَقّ، يُدَّعَى به الباطلُ فيُسْتَحَقّ. وللخُلَّةِ ذِمام، تتأخَّر به الَمعْدَلةُ وهي أمام. قيامُ النُّفوس بالوِداد، أوْلَى من قيام الأجساد للأجساد. ما مَن يُعانِد الحقَّ ببُهْتانه، إلاَّ كمن يُسابِق العِتاق بأتانِه. ليس لإرْشادِ البهائم سبيل، والحمير لا تعرف طعْم الزَّنْجِبيل. أعجبُ الأشياء فاسق يبحث في الحلال والحرام، وآلَمُها للقلْب مُجالسةُ اللِّئام للكرامِ. إخوانُ هذا الزمن عَراهم الخَلَل، وكانوا على صِحَّةٍ فداخَلتْهم حُروف العلَل. أكثرُ أبْناء الزمان أحْداث، وهم مع أحْداثِه أحْداث. في أولاد الزِّنا كَثْرة، ولعيْن الزمان نَظْرة. حالي مع أبْناء الدهر كمُودِع الرِّيح في أكمام العُرْيان، وواضعِ المِصْباح في رُواقِ العِمْيان. أنا وإن بقيتُ في خَلَفٍ أجْرَب، فإني بالصبر جُذَيْلُها المُحَكَّك وعُذَيْقُها المُرَجَّب. نامَ بمَهْدِ الخُمول حَظُّ زماني، فليْته كان يحلُم بطَيْف الأمانِي. على الأيام من حُزْني عن قَدْح العَزَمات سلامٌ حملتْه مُرْسلات النَّسمات. لمَّا برَدَ قلبي أيْقنتُ بالنُّجح، ودَلَّني ذلك كما دَلَّ بَرْدُ النَّسيمِ على الصُّبْحِ. الأكْمامُ تبشِّر بالأزهار، والفجر يجيءُ طَلِيعةً للنهار. نِسْبَةُ الكريم إلى الكرام، نسبة الرِّياض إلى الغَمام. الضامِنُ غارِمٌ، وعِداتُ آلى السَّماح مَغارِم. الْجُود حارسُ الأعراض، والبخلُ غارِسُ الأغْراض. الكريمُ تُثْنِي عليه وُفودُ الرَّكائب، ولو سكتُوا أثْنتْ عليه الحَقائب. السَّخِيُّ مَن إذا تَبَّرع، عَفَّ مالَ الورَى وتَوَرَّع. الرِّزقُ من الكريم تَسْخير، وله وقتٌ يأْبَى التَّقديم والتأخير. رِزْقُ أهلِ الفصاحة مَسْجون، وحديثُ قِلَّةِ حَظَّهم شُجونُ المَشْجون. يمسَح قَذَى العِرْضِ النوال، ومَنادِيلُ الأعْراض الأموال. لا فضيحةَ أخَسُّ مِن تَقْطِيب الخاذِل، ولا عِزّ أحسنُ من أرْيحِيَّة الباذِل. الكرمُ أشرفُ الأحساب، والمَودّةُ أقربُ الأنْساب.

السخاءُ من خُطوبِ الزمن نِعْم الواقِي، وخيرُ الجزاءِ للمرءِ هو الباقي. خيرُ العَرُوض وِقايةُ الأعراض، وقد تصدُق المَفاهيم إذا صدَقت الأغْراض. لولا خِلالٌ سَنَّها الشِّعْر للأكارِم، لم يَدْرِ بُغاةُ النَّدى طريقَ المَكارم. أكثرُ الكنوز في الْخَراب، والتِّبْرُ مطروحٌ مع التُّراب. الاقْتصاد أسلمُ لذي المال القليل، والبُخلُ خيرٌ من سُؤال البَخِيل. مَن افْتقر احْتقرَه الناس، والجودُ سُكْرٌ خمارُه الإفْلاس. ما طال لسانُ المَعذِرة، إلاَّ لمَّا قصُرت يدُ المَقدرة وليس هذا بمَحَلِّ الكِتْمان، ورَقْصِي على مِقْدار إيقاعِ الزمان. غيرُ مَلُومٍ في الجُود مَن ضاق يَدَا، فإن الغِناء كما قالوا أخُو النَّدَى. جُهْدُ المُقِلِّ في الزمان الجَدْب، أحسنُ من عُذْرِ المُخِلِّ العَذْب. رَضِيتُ بالقضاء إذْ ضَنَّ دهري بالكَفاف، لأجُوز بَحْرَ الخُطوب من جِسْرِ الصِّيانةِ والعَفاف. الاعْتدال في الْجُود، أحسنُ من الاعْتداء على المَوجود. ومن أمْثال الأطِبّا: مَن لَزِم القَصْد، اسْتَغْنى عن الفَصْد. إنما تُضِيءُ دَياجِي الخُطوبِ إذا تمرَّطَتْ منها المَناكب، بنُجومِ المعالي المُشرقةِ في سماءِ المَناقب. مَقامُ القُطَّان في الأوطان، مَقامُ الأرْواح في الأبدان. قلَّما تَصِيد في أوكارِها الطَّير، والأهِلَّةُ لا تصيرُ أقماراً إلاَّ بالسيْر. قيل: دون الغيب أقْفال، لا يفتحها الزجرُ والْفال. قلتُ: للغيب أقْفال، مَفاتيحُها التَّيَمُّن والْفال؛ لقولهم: ألْسِنةُ الخلقِ أقْلام الحَقّ. المرءُ يُكلَّف بالاجْتهاد في المَطالب، وليس عليه ضمانُ العواقب. رُبَّ شخصٍ قُرْبُه نَفْع لا يخْشَى الإنسانُ معَه ضَيْرا، وقلبُه مَشْحونٌ بنِيَّة الخيرات فمن يَخْطُرْ ببالِه يَلْقَ خيرا. لم يَنْتَبِه مِن نومِه، مَن لم يستغْفِر لأمْسِه من يَوْمِه. لا تقلْ لذاهبٍ قد ذَهَب، لكن رَدَدْتُه إلى مَن وَهَب. بَقاءُ الأعمار مَبْنِيٌّ على الأنفاس، والبقاءُ الذي يكون على الرِّيح إن تأمَّلْتَه بغيرِ أساس. وَلَّى عصرُ النَّشاط والشَّبِيبَة، فاغْتنِمْ بَقِيَّةً مع الحبيب والحبِيبَة. ولا تنَمْ بعد ذاك العصر عن الفُتون، فالنومُ بعد العصر كما قيل جُنون. الشَّيْب نَذِيرٌ للجسم بانْهِدام بِنائِه، كابْيضاضِ مُخْضَرِّ النَّبات دليلُ استحصَادِه وفَنائِه. إذا كانت الأجسادُ بالقُوَّة فانِيَة، والآجالُ مع الساعاتِ مُتَدانِيَة، فكلُّ حَيٍّ يُفْقَد حين يُولَد، ويُعدَم حين يُوجَد. فأيُّ أُنْسٍ لنفسِي ولا صَفْوَ إلاَّ إلى كَدَر، ولا عَيْنَ إلاَّ إلى أثَر. إذا وافَى الأجَل، اصْطَلح الظَّنُّ والأمَل. رُبَّ مَجْدٍ في رَجا مُطالِبه، ومِن خَلْفِه الآجالُ تسْخَرُ بالمِطالِ بِه. المرءُ طوعُ المقادير، والاجْتهاد إبْلاءُ المَعاذير. كلُّ امْرِئٍ بوَقْتِه مَرْهُون، ولابُدَّ يوماً أن تُفَكَّ الرُّهُون. من قال: عيونُ الحوادثِ نِيام، فلْيَخْشَ أن يُوقِظَها له قَدَرٌ لا ينام. الدهرُ تَعْرِفُ أنَّ اللُّؤمَ من أوْصافِه، فإن شئتَ الحُظْوةَ به كُنْ مِثْلَه أو صَافِه. الدهرُ أقْصَر من أن يُقَصَّر بالعِتاب، ويا لَهْفَتاهُ على عُمْرٍ يُكدَّر بالهجر والاجْتناب. إيَّاك أن تتورَّط بالأهْواء إلى الْعَنَا، فإن الغِنَا كما قيل رُقْيةُ الزِّنا. رُبَّ أملٍ في طَيِّ يأسٍ مُدْرَج، ومحبوبٍ في ضِمْنِ مكروهٍ مُدْمَج. ما كُلُّ خُوطَةٍ رَطْبةُ المِهَزّ، ولا كلُّ ثمرةٍ تُجِيبُ دَاعِيَ الهَزِّ. إذا أعْوَز الزُّلالُ البارد، اسْتَقى من الكَدَرِ الظَّمْآن الوارِد. وربَّما ساق الدهرُ أحرارا، إلى تناوُلِ المَيْتِ اضْطرارا. ما دامت الأفْلاكُ دائرة، فقد دارتْ على الزمانِ الدَّائرة. الزمانُ واهِبٌ وناهب، والوجودُ جاءٍ وذاهِب. لو على الاخْتيار دارتِ الأفلاك، لم يكنْ سوى الحسانِ الخَلْقِ والخُلُق فيه من الأمْلاك. كثيراً ما يزولُ العَشْقُ بجِنايات الصُّدود، والزِّيادةُ في الحَدِّ نُقْصانٌ في المَحْدود. العاشقُ مَن يستعذبُ الهوَى ويلَذُّه، فإن العشْقَ كالخمرِ أمَرُّه ألَذُّه. إذا لم يتوارَد القلبان على مَوْرِدٍ واحد، فالعاذِلُ يضربُ في حَديدٍ بارد.

أمْرانِ مِن غيرهما أمَرَّان، لُؤم كحَدِّ السِّنان، ولَوْم كوَخْزِ المُرَّان. من لَحَظنِي بنَظَرٍ شَذْر، بِعْتُه بثمنٍ نَزْر. ما اغْتابنِي في غَيْب، إلاَّ ذُو عَيْب. ولا ذَمَّ مِنِّي حُسْنَ طَبْع وخِيم، إلاَّ مَن هو صاحب طَبْعٍ وَخِيم. غِيْبَةُ الأنام، مُضْغةٌ لَفَظها الكِرام. واللَّئِيمُ مَن لا يُحْسَد ولا يُسْتغاب، فإنه لا يُمْضَغ إلاَّ ما طاب. إذا وَعَظْتنِي فلم أنْتبِهْ، فلعلَّك تَنْتَبِهُ أنْتَ بِه. يخلُص من الشِّرَك، مَن عقلُه بالهوى غيرُ مُشْترَك. مَن كذَب فيما قال، فهو للحقِّ والصِّدق قال. من لم يفْهَم ما يُريد، فكيف يفهم ما تُريد. أكثرُ مَن يرغبُ في زيادةِ الوَصْف، تراه يكبُر مِن وراء الصَّفّ. مَثَلُ ما يرُوج من الأشعار، عند مَن لا يَدْرِي ميزانَ الأسْعار، مثلُ الأعاريب لم يَرَوا خُبْزَ الْحِنْطة فيُكْبِرون خُبْزَ الشَّعِير، والقومِ لم يَرَوا لُجَّةَ البحرِ فهم يُعَظِّمون ماءَ الغَدِير. المادحُ فيما يُتْعِبُ فكرَه فيه من الأشْعار، كالمِجْمَرة تُعطِّر غيرَها وتتأذَّى هيَ بالنار. مَن ذا الذي يسمعُ ما قضَيْته من الشِّدَّة والألم، ولا يقْذِف القِرْطاسَ والدَّواة والقلَم. ما مِثْلُ مَن رَجَوْتُه يحرِم القُصَّاد، وإنَّما نَحْسُ السُّؤَّال قد يُعدِي الأجْواد. ما بي إذا أحْرَمنِي مِن نَوالِه بَأس، إلاَّ أنه أشْمَتَه في رَجائِي منه اليَأْس. رُبَّ شخصٍ أمْضَى مِن عُسْر بعد يُسْر، لا تَعْرِف أنه إنْسان إلاَّ بأنه في خُسْر. وَعْدُه يُنْهِك بانْتظارِه قُوَى الأمَل، ويُحقق أنه ليس بإنسانٍ لأن الإنسان خُلِقَ من عَجَل. كم سمَح بَيْتَه بالزَّاد نعم، لكنْ ليس لما يفْعله طعم. إذا بَدَا شَكْلُه للعُيون، فهو أقْبَحُ مِن وَثيقةِ المَدْيون. رُبَّ رجلٍ يُعْجِب الناسَ وهو صامِت، فإذا نطَق فكلُّ حَاسِدِيه شوامِت. السكوتُ عن غيرِ الصَّوابِ صواب، وتَرْكُ مماراةِ الجاهلِ جَواب. لسانُ المرءِ عن عقلِه تَرْجُمان، فمن زَلَّ عقلُه زلَّ لسانُه. ليس الفضلُ كُله في الجُمود، حتى يلْتبِس الإنسانُ بالجُلْمُود. إذا صدرَ القولُ عن عربيٍ فلا يضرُّهُ عجْمة ناقل، فما يضُرُّ مَحاسنَ سَحْبان أن تجريَ على لَهْجةِ باقِل. ما كل زَنْدٍ زَنْدُ أبي لَهَب، ولا كلُّ مَوْزونٍ هو الذهب. ليس لرَجلٍ حطَّه اللُهُ رافِع، ولا لأمرٍ شاءه في الخَلْقِ دافِع. تخليصُ المَتاب، ينْفي خُبْثَ العتابَ، وحسنُ الاعتراف، يمْحُو سوء الاقْتراف. وكتبتُ إلى بعضِ المَوالِي بعد اجْتماعٍ وتَوَدُّد: حضرة المولى، الذي نَرَى شُكْرَه من كلِّ شكرٍ أحَقَّ وأَوْلَى. مَن ابْيَضَّت بغُرَّةِ إِقْبالِه الأيام، وأخْجَل وَشْيُ براعتِه النجومَ فَتَلفَّعتْ بأرْديةِ الغَمام. لا زالت الألْطافُ الرَّبانيَّةُ تغْشَى بابَه، والسعادةُ الأبديَّة تملأُ رِحابَه. ألْثِم بأهْدابِ مُقلتِي مَواطِىءَ أقْدامِه، وأُقَبِّلُ بشَفتيَّ باسِطةَ موارِد خُدَّامِه. وألُوذُ بسُدَّته لَياذَ المُشْفِق الشَّفُوق، وأعوذُ بأنْوارِ طَلْعتِه مِن ظُلُمات التَّقصير والعُقوق. فارقْتُه ولي فؤادٌ يُبْغِض الْجَفا كما يُبْغِضُ الناسُ الأعْدا، ويعشَق الوفا كما يعشَق الناسُ الأوِدَّا. وخاطِرٌ مَمْلوءٌ بالمَحبَّة التي لا تُجاوِرها الغُمَّة، وناظرٌ زهَد عن النَّظِر بعدَه إلى أحدٍ من الأُمَّة. وفي عُنُقِي من نِعَمِهِ طَوق، مالي بأداءِ شُكرِه طَوْق. وأنا الآن في عافيَةٍ لا عَيْبَ فيها إلاَّ فقده، ونِعْمةٍ لا وَصْمةَ فيها إلاَّ بُعْدُه. لكنْ لي من ذِكْرِه مَرآةٌ أرَى وجهَه فيها، وأُطالِع مِن صُورةِ إقْبالِه ما يشْفِي القلوب التي عنده أمانِيها. وبين ضُلوعِي وَلاءٌ تشْتَكُّ أواصِرُهُ والأنساب مُنْفَصِمة، وتُشْرِق صَفحاتُه وأسِرَّةُ الشمس مظلمة. فما اسْتفْتحتُ إلاَّ بذِكْرِه، ولا خَتَمْتُ إلاَّ بشُكْرِه. وما بين ذلك أُجِيبهُ بالدُّعا، وأُباهِي به بين المَلا. وإني لأذكُر عهدَه، ومُقامِي عندَه. في ليالٍ نُجيلُ فيها للأُنْسِ قِداحا، ونَتهادَى الأحاديثَ إن لم نَتَهادَ أقْداحا. حتى تكونَ الألْسِنةُ بوَصْفِها تُغْرَى، وترتشِف دُجاهَا لَمىً وصُبْحَها ثَغْرا.

فأشْتُم حَظِّي في فِراقِه وأَقْذِفُه، وألْوُمُ دهرِيَ الخَؤونَ وأُعنِّفُه. وقد كان في حُكْمِ ما أوْلانِيه من فضلِه المعروف، وإحْسانِه الذي اسْتوعَب صُنوفَ الصُّنوف، أن يكون في كُلِّ وقتٍ عنده كتاب، ولكنْ على الأيام وعَوادِيها العِتاب. فلولا ما عَرض، من مُقابلةِ الجوهرِ بالعَرَض، لمَا أَغْفلتُ خِدْمة مولاي مِن رسائلَ أسْتجْلِبُ بها شَرَفا طارِفا، كما اسْتفَدْتُ في الفَوْزِ بخدْمتِه الجليلة مَفْخراً سالِفا. ولا اسْتحقَّيْتُ سُخْطَه الذي حَرُّه يُذِيب، ودونَه التَّعْذيب، بل النارُ والجحيم، والعذاب الأليم. وأسألُ الله تعالى أن يَمُنَّ عليَّ برِضاه، حتى يكون سَببَا لإحْرازِ دُعاه. وفيه الكَوْثَرُ والتَّسْنِيم، والنَّعِيم، المُقِيم. وليس هو إلاَّ الجَنَّة، لكلِّ نفسٍ به مُطْمئنَّة. وقلت في غرض اقْتضاه الحال: جَرى القلم، بما فيه أَلَمٌ أَلَمّ. وذلك أن بَلَوُت شخصاً من الكُتَّاب، باقْتضاءٍ مِن قَضَاءِ مُنزِّلِ الكِتاب. فخالطتْهُ عن قلب سليم، وفَارقتُه لا عن رضاءٍ وتسْليم. لمَّا رأيتهُ يزْعُم أن العِشْرة مُحاسبة لا مُناسَبة، ومُوارَبة لا مُقارَبة، ومُلاكمةٌ لا مُكارمة، ومُحامَلةٌ لا مُجامَلة. فالعطيَّة معه خَطِيَّة، والمنيَّة هَنيَّة. والعنايةُ جِناية، والسلامةُ مَلامة. يُباعِد فما يُقارِب، ويُعانِد فما يُراقِب. تَبَلَّدّ طّبْعُهُ، وتكدَّر نَبْعُهُ. فخاطرُه ينْبُو، وقلمُه يكْبُو. فيسْهُو ويُبْطِي، ويسقُط وهو يُخْطي. بِخَطّ مُنْحَطّ، كأرْجُلِ البَطّ على الشَّطّ. وأنامِلِ السَّرَطان، إذا مشَى على الحِيطان. وله قلم، ظُفْرُه لا يُقلَّم. ويَراع، به الفكر يُراع. يَخْدِش به القِرْطاس، وينْقُش الأنْقاس، ويأخُذ بالأنْفاس. وحِزْبُه جماعة، أخَذتْهم حُمَيَّا مَجاعة. ما فيهم إلا خَبيثُ نَفْس، من قَبِيل البُسْتانُ كلُّه كَرَفْس. فوُجودُه بينهم فَذْلَكَة، للنَّواِئب الُمْهِلكة. فيا أبْطأَ من غُراب نُوح، وأخطأ من غَيْمةٍ على بُوح. ما أغْراك بما يَغُرَّك وأضْراك بما يضُّرُّك. أتظُنُّ أن ستترَك سُدى، أم لا تُحاسَب غَدَا. كلاَّ إنَّ حسابَك هَيِّن، وعقابَك مُتَعيِّن. وقلتُ، من تهنِئةٍ بنُصولٍ من مرض: بلغني شِكايتُك فارْتَعْت، ثم عرفتُ ارْتياحَك فارْتَحت. فالحمدُ لله الذي جَعَلَ عافيَتَك عاقِبَتَك فيما تشكِّيْت، وسلامتَك التي ألْبَسَتْك من الأجرِ لأَْمَتَك عِوَضاً عما عاينْت وعانَيْتَ. فشُفِيَتْ منذُ شُفِيتَ الأجسام، وأقبلَتْ نُصْرةُ الشِّفَاء ففَرَّ الهمُّ وتَبِعَتْه الآلام، ولم يَبْقَ بحمد الِله مَريضٌ إلاَّ الجُفونُ السِّقام. ومن نَظْمِي قولي من مقصورتي الَّنبوية ومُستهلُّها: دَعِ الهوى فآفةُ العقلِ الهوَى ... ومَن أطاعَه من المجد هَوَى وفي الغرامِ لَذَّةٌ لو سَلِمْت ... من الهَوانِ والمَلامِ والنَّوَى وأفضلُ النُّفوسِ نفْسٌ رغِبتْ ... عن عَرَضِ الدنيا وفتنةِ الظِّبَا والعشقُ جهلٌ والغرامُ فتنةٌ ... ومَيِّتُ الأحياءِ مُغْرَمُ الدُّمَى قالوا لنا الغرامُ حِلْيَةُ الحِجَى ... قُلنا لهم بل حليةُ العِقل التُّقَى وهل رأيتُم في الورَى أذَلَّ من ... مُعذَّبٍ تلْهو به أيْدِي الهَوى أو أحَداً أغْبَنَ من مُتَيَّمٍ ... تقُودُه شَهوتُه إلى الرَّدَى ولِلْغوانِي فتنةٌ أشدُّ مِن ... قَتْلِ النفوسِ والفَتَى مَن ارْعَوَى وما على ساجِي الجُفونِ راقدٍ ... من دَنِفٍ يَبِيتُ فاقدَ الْكَرَى ومَن أعَدَّ للشِّتَا كافاتِه ... فلا تُرِيعُه بُرودَةُ الْهَوا مَظِنَّةُ الجهلِ الصِّبا وإنما ... مَفْسدةُ المرءِ الشَّبابُ والغِنَى والنفسُ ما علِمْتَها فإن تجدْ ... ذا عِفَّةٍ فزُهْدُه من الرِّيَا والناسُ إمَّا ناسِكٌ بجَهْلِه ... أو عالمٌ مُفَرِّطٌ أو لاَ ولاَ

كأنهم أفيالُ شِطْرَنْجٍ فلا ... يُظاهِر المرءُ أخاه في عَنَا وإن خَفِيتَ بينهم عَذَرْتَهم ... فشدَّةُ الظهورِ تُوِرُث الْخَفَا منها: وليلةٍ بِتُّ أعُدُّ نَجْمَها ... والدمعُ قاني الصِّبْغ مَحْلولُ الوِكَا ولم يطُلْ لَيلِي ولكنَّ الجوى ... يُعِيدُ ليلَ الصيفِ من ليل الشِّتَا والشوقُ كالليلِ إذا الليلُ دَجَا ... والليلُ كالبحرِ إذا البحرُ طَمَا كأنما المرِّيخُ عَينُ أرْمدٍ ... أو جمرةٌ من تحت فَحْمَةِ الدُّجَى كأنما السُّها أخو صَبابةٍ ... يكاد يُخْفِيه السَّقامُ والضَّنَى كأنما سُهَيْلُ راعِي نُعُمٍٍ ... أو فارسٌ يقْدُم جيْشاً للْوغَى كأنما الجَوزاءُ عِقْدُ جوهرٍ ... أو سُبْحةٌ أو مَبْسِمُ العَذْبِ اللَّمَى كأنَّ مُنْقَضَّ النُّجُوم شَرَرٌ ... تثِيرُه الرِّياحُ من جَمْرِ الْغَضَا كأنما السُّحْبُ سُتورٌ رُفِعتْ ... أو مَوجُ بحرٍ أو شَوامِخُ القِلاَ كأنما الرَّعْدُ زَئيرُ ضَيْغَمٍ ... قد فَقد الشِّبالَ أو صوتُ رَحَى كأنما البَرْق حُسامُ لاعبٍ ... يُديره في يَدِه كيف يَشَا كأنما القَطْرُ لآلٍ نُثِرتْ ... على بساطِ سُنْدُسٍ يومَ جِلاَ منها: كأنما الْهَمَّ غَرِيمٌ مُقْسِمٌ ... أن لا يَغِيبَ لَحْظةً عن الحشَا كأنما القلبُ مكلَّفٌ بأن ... يحمِل منه ما تحمَّل الوَرَى كأنما وَجْهُ البَسِيطِ شُقَّةٌ ... لا تَنْطوِي ولا لحدِّها انتهَا كأنَّني مُوكَّلٌ بِذَرْعِها ... من قِبَلِ الْخِضرِ بأذْرُع الْخُطَا لا أسْتقرُّ ساعةً بمنزلٍ ... إلا اقْتضَى أمرٌ تجدُّدَ النَّوى ولا تَراني قطُّ إلاَّ راكباً ... في طلب المجدِ وتحْصِيلِ العُلَى والحُرُّ لا يرضَى الهَوانَ صاحباً ... وليس دارُ الذُّلِّ مَسْكنَ الفَتَى والعقلُ في هذا الزمانِ آفةٌ ... وربما يقْتُل أهلَه الذَّكَا وذو النُّهَى مُعذَّبٌ لأنه ... يريد أن تَرى الأنامُ ما يَرَى والناسُ حَمْقَى ما ظفرت بينهم ... بعاقلٍ في الرأي إن خطبٌ دَهَى وكلَّما ارْتَقَى العُلَى سَرِيُّهم ... كَفَّ عن الخيراتِ كَفَّاً وطَوَى يهْوَى المديحَ عالِماً بنَقْدِه ... ودون نَقْدِه تناوُلُ السُّهَا وإن طلبْتَ حاجةً وَجدْتَه ... كمِشْجَبٍ من حيث جِئْتَ فهوْلا إن أوْعَدُوا فالفعلُ قبلَ قَوْلِهم ... أو وَعَدُوا فإنهم كالشُّعَرَا والآن قد رَغِبْتُ عن نَوالِهم ... وتُبْتُ من مَدِيحهم قبلَ الْهِجَا لا ينْبَغي الشِّعْرُ لذي فضيلةٍ ... كيف وقد سُدَّتْ مذاهبُ الرَّجَا وخابتِ الآمالُ إلاَّ في الذي ... حِماهُ مَلْجَأُ العُفاةِ الضُّعَفَا منها: يا خيرَ مَن يشْفَع في الحَشْرِ ومَن ... أفْلَحَ قاصِدٌ لِبابِه الْتَجَا كُنْ لي شفيعاً يومَ لا مُشَفَّعٌ ... سِواكَ يُنْجي الخائفين مِن لَظَى قد عظُم الخوفُ لِمَا جَنَيْتُه ... والعفوُ عند الأكْرمين يُرْتجَى وليس لي عذرٌ سوى توكُّلِي ... على الكثيرِ عَفْوُه لمن عَصَى لولا الذُّنوبُ ضاع فيْضُ جُودِه ... ولم يَبِنْ فضلُك بين الشُّفَعَا وها كَها خَرِيدةً مقصورةً ... على مَعاليك ومَهْرُها الرِّضَا

إن قُبِلْتَ فيالها من نِعْمةٍ ... وهل يخافُ واردُ البحرِ الظَّمَا صلَّى عليك ذو الجلالِ كلما ... صلَّى عليك مُخْلِصٌ وسَلَّمَا وبَاكَرتْ ذاك الضَّرِيحَ سُحْرةً ... حَوامِلُ المُزْن يُحثُّها الصَّبَا ما سُلَّ عَضْبُ الفجرِ من غَمْدِ الدُّجَى ... وما سَرَى رَكْبُ الحجازِ مُدْلِجَا وهذه أُرْجوزة في الأمثال: أحسنُ ما سارتْ به الأمثالُ ... حَمْدُ إلهٍ مالَه مثالُ فالحمدُ لِله على إسْدائِهِ ... فضلاً يكِلُّ النُّطْقُ عن إحْصائِهِ ثم الصلاةُ للنبيِّ المُحْتَرمْ ... مَنْبَعِ أسْرارِ العلومِ والحِكَمْ وآله وصحبِه الكرامِ ... مَن فهِموا مَزِيَّةَ الكلامِ ما تُلِيتْ مَحاسنُ الألْفاظِ ... فشَنَّفتْ مسامِعَ الحُفَّاظِ وهذه تَحائفٌ أُهْدِيها ... من حِكَمٍ لمن وَعَى أُبْدِيهَا سَمَّيْتُهَا برَاحةِ الأرْواحِ ... جَالبةِ السرورِ والأفْراحِ قالتْ لها الأمثالُ حزْتِ السَّبْقَا ... إذْ أنتِ في حِفْظِ اللبيبِ أبْقَى إنَّ اللَّبيبَ يعرِف المَزايَا ... وكم خَبايَا لُحْنَ في الزَّوايَا ورُبَّ جاهلٍ لقد تعلَّما ... لا يَأْيَسَنَّ نائمٌ أن يغْنَمَا من غَنِم الفرصةَ أدْركَ المُنَى ... ما فاز بالكَرْمِ سوى الذي جَنَى الناسُ إخوانٌ وشَتَّى في الشِّيَم ... وكلُّهم يجمعُهم بَيْتُ الأدَمْ فالبعضُ منهم كالغذاءِ النافعِ ... والبعضُ كالسَّمِّ الزُّعافِ الناقِعِ وهكذا بعضُ الذَّواتِ رُوحُ ... والبعضُ منها في الحشَا قُروحُ ورُبَّ شخصٍ حسنٍ في الخَلْقِ ... وهْو أشدُّ من شَجىً في الحَلْقِ والدهرُ صَرَّافٌ له تصْريفُ ... يرُوج فيه النَّقْدُ والزَّيُوفُ لذاك ضاعتْ خُلَّصُ الأحرار ... كضَيْعَةِ المصباحِ في النهارِ تَعادُلُ الفاضلِ وَالمفْضولِ ... عَرَّ فنا الفضلَ من الفُضولِ والاعْتدالُ في الأمور أعْدَلُ ... والمَسْلَك الأوسطُ فيها أمْثَلُ هي المُنَى مَجْلَبَةُ التَّعَنِّي ... كم عاشقٍٍ أهَّلَه التَّجَنِّي قد تُحْرَمُ الآمال حيث الرَّغْبهْ ... وتسقُط الطيرُ لأجلِ الحَبَّهْ المرءُ تَوَّاقٌ إلى ما لم يَنَلْ ... وكلُّ شيءٍ أخْطأَ الأنْفَ جَلَلْ مَن كان يهْوَى مَنْظَراً بلا خَبَرْ ... فماله أوْفَقُ من عِشَقِ القَمَرْ مَضى الصِّبا فأين منه الوَطَرُ ... هيْهات هيهات الجَنابُ الأخْضَرُ مِيعادُ دمعِي ذِكْرُ أيامِ الصِّبا ... وجُلُّ شَجْوِي عند هَبَّةِ الصَّبَا مضَى نَشاطِي إذْ تولَّى الصَّحْبُ ... ما أعْلَمَ الموتَ بمَن أُحِبُّ صَبْراً على الهمومِ والأحزانِ ... فإنَّ هذا خُلُقُ الزمانِ ثِقْ بالإله كم له صُنْعٌ حَفِي ... وهْو إذا حَلَّ البَلاَ لُطْفٌ خَفِي خُذْ فُرْصةَ الإمْكانِ في إبَّانِهِ ... واسْجُدْ لقِرْدِ السّوءِ في زَمانِهِ إن فاتَكَ الغَدِيرُ فاقصِدِ الوَشَلْ ... يرْضَى بِعِقْدِ الأسْرِ من أوْفى الثَّلَلْ حَدُّ العفافِ القَنعُ بالكَفافِ ... ما ضاق عيْشٌ والإلهُ كافِي مَن لم تكن أنتَ له نَسِيبَا ... فلا تُؤمِّلْ عنده نَصِيبَا والناسُ إن سألْتَهم فَضْلَ القُرَبْ ... حاوَلْتَ أن تجْنِي من الشَّوكِ العِنَبْ

هذا زمانُ الشُّحِّ والإقْتارِ ... مضَى زمانُ الجُودِ والإيثارِ من كلَّف النفوسَ ضِدَّ طَبْعِهَا ... أعْيَى بما لا يُرْتجَى مِن نَفْعِهَا وإنَّ مَن خَصَّ لئيماً بنَدَى ... كان كمن رَبَّى لِحَتْفٍ أسَدَا قد يبلُغون رُتَبَاً في الدنيا ... لكنَّهم لا يبلُغون العَلْيَا إنَّ المعالِي صَعْبةُ المَراقِي ... مِن دُونها الأرواحُ في التَّراقِي لا تسْتوِي في الرَّاحةِ الأناملُ ... ورُبَّ مَأْمولٍ عَلاهُ الآمِلُ قد تُورِدُ الأقْدارُ ثم تُصْدِرُ ... وتُدْبِرُ الأقمارُ ثم تُبْدِرُ بالجُودِ يَرْقَى المرءُ مَرْقَى الحمدِ ... إن السَّخاء سُلَّمٌ للمَجْدِ وعَوِّذِ النَّعْما من الزَّوالِ ... بكَثْرةِ الإحسانِ والنَّوالِ يضُوع عَرْفُ العُرْفِ عند الحُرِّ ... وإنه يَضِيع عند الغِمْرِ وإنما المعروفُ والصَّنِيعهْ ... تُعْرَف عند أهلِها وَدْيعهْ الرأيُ كلّ الرَّأْيِ في تَرْكِ الكُلَفْ ... فقد مضَى عليه ساداتُ السَّلَفْ ومن تغُرُّ عَقْلَه السَّلامهْ ... تخدمُه ألْسِنةُ النَّدامَهْ من لزِم السِّلْمَ من الحرب سَلِمْ ... ومَن أبَى إلاَّ هوَى النفسِ نَدِمْ يأْرَجُ بالنَّسِيم عَرْفُ الرَّنْدِ ... والقَدْحُ أصلٌ في ثُقوبِ الزَّنْدِ لكلِّ قلبٍ في طِلابِه هوَى ... وقِسْ عليه الدَّاء يحْتاجُ الدَّوَا مَن طلَب الدُّرَّ بقَعْرِ البحرِ ... لم يَخْلُ مِن شُرْبِ الأجاجِ المُرِّ دَعْ في الأمورِ الحَدْسَ والظُّنونَا ... لابُدَّ للمقْدورِ أن يكونَا ما قِيمةُ الآمالِ للقُصَّادِ ... والموتُ للإنسانِ بالمِرْصادِ إذا بَقِي من الجَدَى ما قانَكْ ... فلا تكُنْ تَأْسَى على ما فاتَكْ ربَّ اجْتهادٍ دونه الجِهادُ ... في راحةٍ مَن لا له مُرادُ ما ينْفعُ التَّدْبيرُ والتَّقديرُ ... ينْبِضُ قَوْسُه ولا تَوْتِيرُ قَراقِعٌ ما تحْتهُنَّ طائِلُ ... إلاَّ مِحَاقُ العُمْرِ والغَوائِلُ قد ذهبتْ مَكارمُ الأخلاقِ ... إلاَّ من الأمثالِ والأوْراقِ تغيَّر الإخوانُ واخْتلَّ الزَّمَنْ ... فلا صديقَ غيرُ صِحَّةِ البَدَنْ لا تكْتُمنَّ دَاءَك الطَّبِيبَا ... ولا الصديقَ سِرَّك المَحْجوبَا هذا إذا كانَا عسى وعَلَّما ... وما أظنُّ الدهرَ يسْخو بِهِمَا كفى عن المَخْبَرِ مَنْظَرٌ أطَلّ ... في حُمْرةِ الخَدِّ غِناً عن الخَجَلْ مَنْظَرُ كلِّ ماجدٍ مِعْيارُهُ ... إنَّ الجوادَ عَيْنُه فُرَارُهُ مَن سابَق الجَوادَ بالحِمارِ ... جَنَتْ يداه ثمرَ العِثارِ قد تُسعِف الأقدارُ بالسُّعودِ ... فتُلْحِق المَحْدُودَ بالمَجْدُودِ كم قد نصَبْتُ للأماني مَرْمَى ... مُفَوِّقاً منِّي إليه سَهْمَا فلم يكُن لي عنده نَصِيبُ ... ما كلُّ رامِي غَرَضٍ يُصِيبُ والسَّعْدُ إنْ ما كان حيناً أبْطَا ... فلا تقُلْ بأنه قد أخْطَا إذْ ربما قد عَوَّقتْه الأقْدارُ ... وكلُّ شيءٍ عنده مِقْدارُ في يَدكِ الحُزْنُ متى تشاءُ ... فاغْنَمْ سُروراً تَرْكُه عَناءُ ما كلُّ وقتٍ مُسْعِفٌ بما يُحبّ ... فإن يكُن دَرَّتْ لَبُونٌ فاحْتَلِبْ

مَن يطلُبِ الخَلاصَ نالَه الأسَى ... وفي خُطوبِ الناسِ للناسِ أُسَى حُبُّ الثَّنا طبيعةُ الإنسانِ ... والشكرُ مَوْقوفٌ على الإحسانِ الجُودُ بالمَوجُودِ عُنْوانُ الشَّرفْ ... ومَن أضافَ لم يُبالِ بالسَّرَفْ من يتلقَّى الجُودَ بالجُحودِ ... عَرَّض نُعْماهُ إلى الشُّرودِ لِلْوِدِّ عَقْدُ ذِمَّةٍ لا تُهْمَلُ ... وللرَّجاء حُرْمَةٌ لا تُجْهَلُ سَالِفُ ما كان من الحُرُماتِ ... يسْتوجِبُ العَفْوَ عن الزَّلاَّت بالفَحْصِ عن خَواطِر الأحِبَّهْ ... يُنْسَجُ بُرْدُ الوُدِّ والمَحَبَّهْ إنَّ الرَّقيب يمنعُ التَّراضِي ... كالخَصْمِ قد يرضَى ويأْبَى القاضِي حتى متى أصْبُو ورأسِي شُمْطُ ... أحسَبُ أن الموتَ باسْمِي يغْلَطُ ليس على فَقْدِ الحياةِ من نَدَمْ ... قد اسْتَوى الوُجودُ فيها والعَدَمْ كلُّ نَعِيم فإلى فَناءِ ... وكلُّ عَيْشٍ فإلى انْقِضَاءِ عليك يا هذا الفتى بالتَّوْبَةِ ... فانْجُ بها قبلَ انْتهاءِ النَّوْبَةِ ومن نَفَثاتِي قَوْلِي: للقلب ما شاء الغَرامْ ... والجسم حِصَّتُه السَّقامْ وإذا اخْتبرْتَ وَجَدْتَ مِحْ ... نةَ مَن يُحِبُّ هِيَ الحِمامْ عجَباً لقلبي لا يَمَلُّ ... جَوًى ويُؤْلِمه المَلامْ وأبِيك هذِي شِيمتِي ... من مُنذ أدْركنِي الفِطامْ إنِّي أغار على الهوَى ... من أن تُؤمِّلَه الأنامْ وأرُومُ من حَدَقِ الظِّبا ... نَظَراً به حَتْفِي يُرامْ أفْدِي الذي منه يَغا ... رُ إذا بَدَا البدرُ التَّمامْ فَعَلتْ بنا أحْداقُه ... ما ليس تفعلُه المُدامْ إن شَطَّ عنك خيالُه ... فعلى حُشاشتِك السلامْ أأُخَيَّ مَن يَكُ عاشقاً ... فعلى مَ يجْفُوه المَرامْ إنِّي بُليتُ بمَحْنةٍ ... هانتْ بها النُّوَبُ العِظامْ حتى لقد عَمِيَتْ عليَّ ... مَسالِكي ودَجَا الْقَتامْ صاحبْتُ ذُلِّي بعد أنْ ... قد كان تفخرُ بي الكِرامْ والمرءُ يصعُب جُهْدُه ... ويُلِين صَعْدَتَه الصِّرامْ لا تتْهمنَّ تَذلُّلي ... فالتِّبْرُ مَعْدِنُه الرَّغامْ وإذا جَفانِي مَن هَوِي ... تُ صبَرتُ حتى لا أُضامْ فعُبوسُ أرْديةِ الْحيَا ... عُقْباه للرَّوضِ ابْتسامْ ولئِنْ وَهَتْ لي عَزْمَةٌ ... فلربَّما صَدَِي الحُسامْ فعسَى الذي أبْلَى يُعِي ... نُ وينقضِي هذا الخِصَامْ وقولي: بأبِي وإن كان الأبِيَّ صَمَيْدَحَا ... خُلِقتْ يَداهُ للشجاعةِ والنَّدَى ملَكٌ كريمٌ كالنسيمِ لَطافةً ... فإذا دَجَا خَطْبٌ قَسَا وتمرَّدّا راجعْتُه في أزْمةٍ فكأنما ... جَرَّدْتُ منه على الزَّمانِ مُهَنَّدَا كالبحرِ يُنْعِم بالجواهرِ ساكناً ... كَرَما ًويأْتِي بالعجائب مُزْبِدَا والْهَامُ تسجُد خَشْيةً من سيفِه ... لمَّا أبَتْ أرْبابُها أن تسجُدَا لا تعجبوا إن لم يَسِلْ منهم دَمٌ ... فالخوفُ قد أفنَى النفوسَ وجَمَّدَا وقولي: مُذْ قَعْقَعتْ عُمُدٌ لِلْحَيِّ وانْتَجَعَتْ ... كِرامُ قُطَّانِه لم ألْقَ مِن سَنَدِ مضى الأُلَى كنتُ أخْشَى أن يُلِمَّ بهم ... رَيْبُ الزمانِ فلا أخْشَى على أَحَدِ فأفْرَخ الرَّوعُ أن شَالَتْ نَعامتُهم ... وأفْسَد الدهرُ منهم بَيْضةَ البَلَدَ ومن المُقَطَّعات قولي:

وشَادِنٍ قَيْدُ العقولِ وَجْهُهُ ... وصُدْغُه سِلْسلةُ الآراءِ شَامَتُه حَبَّةُ قلبٍ مذ بَدَتْ ... جَنَتْ بها الأحشاء بالسَّوْداءِ وقولي: لا بِدْعَ أن شاعَ في البَرايَا ... تهتُّكِي في الرَّشَا الرَّبيبِ عِشْقِي عجيبٌ فكيف يخْفَى ... وحُسْنُه أعْجَبُ العجيبِ وقولي: بِي مَن إن عايَنَتْهُ مُقْلَتِي ... يَنْمَحِي جسمي ويفْنَى طَرَبَا أيُّ شيءٍ رَاعَهُ حتى انْثَنى ... هارباً منِّي ووَلَّى مُغْضَبَا وقولي مُعمِّياً باسم أحمد: وَارَحْتما لِمُعذَّبٍ قَلِقِ الحشَا ... بهُمومِه قد بان عنه شبابُهُ دَمُ قلبِه ما سَاقطتْهُ جفونُه ... يومَ النَّوَى لمَّا نأتْ أحبابُهُ وقولي: وليس سقوطُ الثُّريَّا إلى ... نِداءِ المَوالِي من المُنْكَراتِ فإن الشمُوسَ إذا أسْفَرتْ ... فلا حَظَّ للأنْجُمِ النَّيِّراتِ وقولي من الرُّباعَيّ: قد قلتُ لِسِحْرِ طَرْفهِ إذْ نَفَثَا ... من شاهدٍ إذا في أهلِه مَا لَبِثَا إذ يكْسِر جَفْنَيْه لكي يَعْبَثَ بي ... سُبْحانَك ما خلقْتَ هذا عَبَثَا وقولي: للهِ صَبٌّ مدْحُ مَعْشوقِهِ ... دَِيْدنُه مُتَّبِعٌ نَهْجَهْ يفْرح إن وَافاهُ في مَحْفَلٍ ... كَمُذْنِبٍ قامتْ له حُجَّهْ وقولي في دَعوة ماجد: بَيْتِي وكلِّي مِلْكُ مَن يَدُه ... فوق الأيادي دَأْبُها المِنَحُ فإذا انْتدَبْتُ لأمرِ دَعْوَتِهِ ... قالوا طُفَيْلِيٌّ ويقْتَرِحُ وقولي: قد جئتُ دارَك زائراً بَهِجاً ... يا مَن به قد أشْرق النادِي رِجْلِي إليك مَطِيَّتِي ولها ... قلبِي دليلٌ والثَّنا حَادِي وقولي: للرَّوضِ رُواً طَلْقُ المُحَيَّا نَضِرُ ... لو تَمَّ بكم كما رَجوْنَا وَطَرُ فالوردُ إلى الطريقِ أصْغَى أُذُناً ... والنَّرْجِسُ عَيْنُه غَدَتْ تنْتظِرُ وقولي: مضى الأُلَى برائِقِ اِلشِّعْرِ وما ... أبْقَوا لنا في كأْسِنَا إلاَّ العَكِرْ تمتَّعُوا بحَشْوِ لَوْزِينَجِهمْ ... وقد حُرِمْنَا نحن مِن حَشْوِ الأُكَرْ وقولي: وظَبْيٍ أُفكِّر في تِيهِهِ ... فلا يحْظُر الوصلُ في خاطِرِي حَبانِي مُجَرَّدَ وَعْدٍ له ... كَلَيْلِي عليه بلا آخِرِ وقولي: إذا النسيمُ جَرَّرَ ذَيْلَه علَى ... ساحةِ رَوضٍ فُتِّحتْ أزْهارُهُ فنَشْرهُ مِن الثَّناءِ نَفْحةٌ ... يُثْنِى على المُزْنِ بها نُوَّارُهُ وقولي: جاء الربيعُ الطَّلْقُ فانْهَضْ مُحْرِزاً ... صَفْوَ نَعِيمٍ حَقُّه أن يُحْرَزَا وانْظُرْ بِساطاً من نَسِيجِ نَبْتِهِ ... مُنَبَّتَاً بوَشْيهِ مُطَرَّزَا وقولي: إن يكنْ قَطَّر من رِيِقِه ... ماءَ َوْردٍ لحياةِ الأنْفُسِ فلقد أبْدَى لنا من وَجْهِهِ ... عَرَقُ الْفِتْنةِ عِطْرَ النَّفَسِ عطرُ الفتنة: من العِطْرِيَّات المَجْلوبات من الهند. وقولي: وشادِنٍ أزْهَى من الطَّاوُوس ... في عِشْقِه مَنِيَّةُ النُّفُوسِ أبْدَى لنا مِن الثَّنايا فَمُه ... سِيناً عسى تكون للتَّنْفيسِ وقولي: ألا لا تَخْشَ من صَفْعٍ ... ولا يأخُذْكَ إيحاشُ تَنَلْ شَاشاً بِعشْرتِنا ... فشَاشٌ قَلْبُه شَاشُ وقولي: كم حِيلةٍ أعْمَلْتُها فلم تُفِدْ ... لكنْ دَعَتْنِي للهُدُوِّ والرِّضَا إذا مَطايا العَزْمِ أَخْلَتْ بُرْهةً ... سَلِّمْ زِمامَها إلى يَدِ الْقَضَا وقولي: كانت بِقَلْبِي غُلَّةٌ ... حَرَّاءُ للرَّشاء المُمَنَّعْ حتى دَنَوتُ لثَغْرِه ... فرَشفْتُه والرَّشْفُ أنْقَعْ

الرَّشْفُ أنْقع: مثلٌ، أي أن الشَّراب الذي يُرْتَشَف قليلا قليلا أقْطَعُ للعَطَش وأنْجع، وإن كان فيه بُطْءٌ. وقولي: مِن صَفْوةِ الخَلْقِِ مَلِيحٌ وَجْهُه ... جامِعُ حُسْنٍ مُتْقَنُ الصِّناعَهْ قد خُطَّ مِحْرابان في قِبْلَتِهِ ... لمَّا اقْتضَتْه كثرةُ الجماعَهْ وقولي: في الرَّوضِ جَرَى زُلالُ ماءٍ ... عن أحْسَنِ مَنْظَرٍ يَشِفُّ أحْداقُ لُجَينِهِ عليها ... أهْدابُ زَبَرْجَدٍ تَرِفُّ وقولي: مَن كان مَذْكوراً بعِشْقِ الظِّبا ... بلا خلافٍ للنُّهَى حَالَفَا ومن يكُنْ خالَف في أمْرِه ... فَغَيْرُ مذكورٍ وإن خَاَلفَا وقولي: كم شِدَّةٍ حَملْتُ ثِقْلَ خُطوبها ... ليستْ لِمَحْمِلِها الجبالُ تُطِيقُ ما كنتُ أضْبِطُ للزَّمان نَوائِباً ... أيَعُدُّ أمْواجَ البحارِ غريقُ وقولي: وإذا قصدتُ حِماكَ يدْعونِي إلى ... سَاحاتِ نائِلِه النعيمُ المُخْضَلُ أمْشي بقلْبِي لا برِجْلِي إنَّما ... تمشِي بحيثُ هَوَى القلوبِ الأرْجُلُ وقولي في تهْنئةٍ بدارٍ لماجد: مَولايَ يَهْنِيك ما أثَّرْت من أثَرٍ ... أعْطاك ربُّك فيه غايةَ الأمَلِ بَنَيْتَ دُنْياك في دارٍ جمعتَ بها ... كلَّ الخلائِق من عَلْياكَ في رَجُلِ وقولي: وكم ليَ من رَوضِ فَضْلٍ لقدْ ... تَفيَّأتُ فيه ظِلالَ الكَرَمْ تَعرَّفتُه بِثَناءِ النَّدَى ... وعَرِّفْتُه بنسيمِ النِّعَمْ نسيم النِّعَم: هو الشكرُ. وهو من مُبْتدَعات البُحْتُريّ، وكان الصاحبُ يسْتحسِنُه. وقولي: غَنِيتُ وقد شاهدتُ أحسنَ مَنْظَرٍ ... من الرَّوضِ عمَّا يصْطفِيه جِنانُ فأزْهَارُه وَشْيٌ وسَلْسَلُ مائِه ... سُلافُ كُؤوسٍ والطيورُ قِيانُ وقولي: ثقِيلُ رُوحٍ أنْكَرُوا وَطْأَهُ ... نَرْجِسَ رَوضٍ حُفَّ بالسَّوْسَنِ فقلتُ غُضُّوا الطَّرْفَ عن وَضْعِهِ ... فإنَّه يَمْشِي على الأعْيُنِ وقولي: شِعْرِي إذا أبْدَيْتُه لعِصابةٍ ... تَلْقاهُم لنَشِيدِه لا يُحْسِنُوا كالعِطْرِ تجلِبُه لأنْطاكِيَّةٍ ... فَتَراهُ يفسُد رِيحُه بل يُنْتِنُ ذكر هذا الثَّعالِبيُّ، في الباب السادس والأربعين، من ثمرات القلوب، عند ذكر نِعْمة المدينة، ونَصُّ عبارته نَقْلاً عن الجاحظ: " ورأيتُ بلدةً يسْتحيل فيها العِطْر ويفْسُد، وتفسُد رائحتُه، كقَصَبة الأهْواز وأنْطاكِيَة ". وقولي: أنْعِمْ صَباحاً في ظِلالِ رَوضةٍ ... تدعُو إلى النَّشْوةِ حُسْناً وبَهَا لمَّا غَفَا فيها النَّباتُ سُحْرَةً ... دَغْدَغَهُ نَسِيمُها فانْتَبَها وقولي: أهْوَى تَباعُدَه والفكرُ يُدْنِيهِ ... ضِدَّانِ ما جُمِعا إلاَّ لِتَمْويهِ فما تُقرِّبُه منِّي مَحاسِنُه ... ولا تُبَعِّدُه عنِّي مَساوِيهِ وقولي: نَفَرٌ في الدِّين مُذ عَبَثُوا ... بَعُدُوا عن خَيرِهِ الزَّاهِي فهُمُ ما بين أظْهُرِنا ... فَضَضٌ مِن لَعْنةِ اللهِ رُوِيَ عن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها، أنها قالت لمروان: " أنتَ فَضَضٌ مِن لَعْنةِ الله ". وقولي: أرى جسمِي تَحُطُّ به البَلايَا ... وما شارَفْتُ مُعْتَركَ المَنايَا فإنْ أبْقانِيَ المَولَى فأرجُو ... بَقَايا منه في عُمْرِي نَقايَا مُعْترَكُ المَنايا: هو ما بين السِّتِّين إلى السَّبعين، مِن سِنِي أعْمارِ الناس، لأن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: " أكْثَرُ أعْمَارِ أمتي ما بين السِّتِّينَ إلى السَّبْعِينَ ". ومن مفرداتي: ما كلُّ دارٍ آنسَتْ دارُ الحِمَى ... أو كلُّ بيضاءِ الطُّلى أسْماءُ وقولي: ولي ألْفُ وَجْهٍ في مُخالَطةِ الورَى ... ولكنْ بلا قلبٍ إلى أين أذْهَبُ وقولي:

وليس عجيباً ما بجسمِي من الضَّنَى ... ولكن حياتي يا ابْنةَ القومِ أعْجَبُ وقولي: إن الكرامَ إذا اخْتشَوْا نَدَّ العُلَى ... جَعَلُوا لها سِمْطَ القَرِيضِ قُيودَا وقولي: وما الدهرُ من أصلِه فاسدٌ ... ولكنْ فسادُ الورَى أفْسَدَهْ وقولي: قل للذي هَمُّهُ الفَخارُ ... من دون ذا ينْفَق الحمارُ وقولي: إذا تَناءتْ قلوبٌ ... لا كان قربُ ديارِ وقولي: ما خُصَّ ذو الجهلِ الدَّنِيِّ برُتْبةٍ ... إلاَّ كما خُصَّ الخِتامُ بخِنْصَرِ وقولي: نعيمُ المرءِ ثوبٌ مُسْتعارُ ... وفي الماضي لمن يبْقَى اعْتبارُ وقولي: مَن رام مِن حُسَّادِهِ نُصْرَةً ... كان كمَن في النارِ يُطْفِي الأُوَارْ وقولي: مَحْصولُ وُدِّك في رِضاك مُحَصَّلٌ ... شَرْحُ القصائدِ في الوُجوهِ مُلَخَّصُ وقولي: غُصَصُ الحياةِ كثيرةٌ ولقد ... تُنْسِي الحوادثُ بعضُها بَعْضاَ وقولي: إن زاحَمتْك نوائبٌ ... زَاحِمْ بِعَوْدٍ أو دَعِ وقولي: عَيْنٌ أصابتْ شَمْلَنا لا رأَتْ ... شَمْلاً على طُولِ المَدامِعِ يُجْمَعُ وقولي: كلامُه في وعيدِي ليس يجْرحُنِي ... إن الوعيدَ سلاحُ العاجِز الحمِقِِ وقولي: لك الوُدُّ والإخلاصُ من قلبِ صادقٍ ... وأبعَدُ ما حاولْتَ قلبُ الحقائقِِ وقولي: صدَقُوا ولكن لستُ ممن يقْبلُ ... ليس المُخاطَبُ في الورَى مَن يعْقِلُ وقولي: ومَن لم يشكرِ النَّعْماءَ يوماً ... وأنْكَرها فقد رَضِيَ الزَّوالاَ وقولي: ولا خيرَ فيمن غَيَّرَ البُعْدُ قلبَه ... ولا في وِدادٍ غَيَّرتْه العَوامِلُ وقولي: لا شيءَ أجْرَى لدموعِ عاشقٍٍ ... من فُرْقةِ الأحبابِ والمَنازلِ وقولي: مَطلتْنِي ثم أدَّعيْتَ السَّخا ... والمَطْلُ مولودٌ من البُخْلِ وقولي: أنا والمَنِيَّةُ في وَجَلْ ... مِن سِحْرِ هاتيك المُقَلْ وقولي: إذا لم أذُقْ غَيْرَ هَجْرِ الظِّبا ... فمِن أين أعرفُ طَعْمَ الوِصالْ وقولي: كنتُ مُسْتأنِساً إلى كلِّ شخصٍ ... فأنا الآن نافِرٌ من خَيالِي وقولي: بين اللَّواحِظِ والمُتونِ ذِمامُ ... سَبَبٌ لأن تَفْنَى به الأجْسامُ وقولي: كلُّ نارٍ غيرَ نارِ الْ ... عشْقِِ بَرْدٌ وسَلامْ وقولي: الشيءُ يَظْهَر في الوجودِ بضدِّهِ ... لولا الضرورةُ ما اسْتبانَ المُنْعِمُ وقولي: تكتُّمُ المُغْرَمِ لا يُمْكِنُ ... وسَلْوةُ العاشقِ لا تَحْسُنُ وقولي: ما كلُّ ما تحْذرُ بالكائِنِ ... قد ينْزِلُ المكروهُ بالآمِنِ وقولي: لا عذَّب اللُهُ مُتَيَّماً بما ... لَقِيتُه مِن كثْرةِ التَّجَنِّي وقولي: إن الرجالَ لهم وسائلُ للمُنَى ... ووَسِيلتِي حُبُّ النبيِّ وآلِهِ وقولي: إن تكنْ صُحْبتِي تنفَيْتَ عنها ... أيَّ أُحْدوثَةٍ تُحِبُّ فكُنْهَا وقولي: بالصبر يَرْقَى المرءُ أوْجَ العُلَى ... إن التَّأنِّي دَرَجٌ للرَّقَا وهنا جَفَّ القلَم، وقد أدَّى ما عليه فلم يُلَم. وقد رأيتُ أن أختم الكتاب بهذين البيْتَيْن، وأنا مُسْتشْفِعٌ في إصْلاحِ أحْوالي بصاحبِ القِبْلَتَيْن. وهما: لئِنْ ضاقتْ بيَ الأيامُ ذَرْعاً خَلَصْتُ من الأماني في حياتي

§1/1